عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - جــودت هوشـيار

صفحات: [1]
1
مهنة الكتابة بين الإلهام والصنعة
جودت هوشيار
ويليام زينسر ( 1922- 2015 ) كاتب ، وناقد ، واستاذ جامعي أميركي ، مؤلف 19 كتابا في موضوعات شتى (الموسيقى ، البيسبول ، الرحلات ) والعديد من الكتب المقروءة على نطاق واسع حول فن الكتابة . وفي مقدمتها كتابه الشهير" كيف تكتب جيداً ؟ " الذي صدر في طبعات متلاحقة بلغت ثلاثين  طبعة باللغة الإنجليزية في أميركا وحدها ، وبلغ إجمالي عدد النسخ المباعة منها اكثر من مليون ونصف المليون نسخة ،  ناهيك عن ترجمتها الى العديد من اللغات الأجنبية .
ذات مرة دعي ويليام زينسر من قبل احدى المدارس الثانوية في ولاية ( كونيتيكت ) لمناسبة ( يوم الفن ) للحديث عن الكتابة كمهنة . وعندما حضر الى المدرسة اكتشف وجود كاتب آخر ، وجهت له الدعوة للحديث عن الكتابة كهواية مسلية. كان هذا الأخير طبيباً جراحاً ( يسميه زينسر ، الدكتور بروك ) ، بدأ بالكتابة منذ فترة قصيرة ، ونشر عدة قصص قصيرة في المجلات الأميركية . جلس الضيفان على المنصة جنبا الى جنب ، أمام قاعة غصت بالتلاميذ ، وأولياء الأمور، والمدرسين .
كان الطبيب الجراح يرتدي سترة حمراء صارخة ، ما أضفى عليه بعض المظاهرالبويهيمية ، التي يفترض أن يتسم بها الكاتب . ولهذا فان السؤال الاول كان موجها البه :
- ماذا يعني أن تكون كاتباً ؟
أجاب الجراح :
- ان الكتابة متعة لا تضاهى. عندما أعود الى البيت مرهقاً ، بعد يوم مُتْعِب في المستشفى سرعان ما اجلس الى طاولة الكتابة . وما أن أشرع بالكتابة حتى يزول كل التعب المتراكم. وتنسكب الكلمات على الورق بسهولة ويسر . أنه أمر سهل للغاية
أما زينسر فقد أجاب عن السؤال ذاته قائلاً :
- ان التأليف عمل شاق ، وليس ممتعا دائما . عمل ينجزه الكاتب وحيداً ، والكلمات نادرا ما تنساب على الورق مثل السيل المتدفق .
ثم سألوا الدكتور بروك :
- هل تنقح وتضبط ما كتبته ؟
- هذا ليس ضروريا على الاطلاق . ان العبارات  في شكلها الأصلي تعبرعلى نحو طبيعي عن افكار الكاتب.
اما زينسر فقد علق قائلاً :
- ان تنقيح المسودة هو العمل الرئيسي للكاتب ، فالكتّاب المحترفون يعيدون الصياغة  مراراً وتكراراً ، حتى الوصول الى صيغة مرضية
ثم سألوا الدكتور بروك :
- ماذا تفعل عندما لا يسير العمل بشكل جيد ؟
فأجاب قائلاً :
- بكل بساطة أتوقف عن الكتابة ، واضع ما كتبته جانباً لبضعة ايام او اكثر
حتى تسير الامور على ما يرام
اما زينسر فقد اجاب عن السؤال ذاته قائلاً :
- ان على الكاتب المحترف ان يضع جدول عمل لنفسه ، وان يلتزم به بكل دقة ، يوما بعد يوم . الكتابة فن وحرفة ، وان الشخص الذي يهرب من حرفته بسبب نقص أو غياب الإلهام ، يخدع نفسه ، ولن يكون قادرأ على كسب قوت يومه  من كتاباته .
وسأل احد التلاميذ :
- ماذا لو كنت منزعجا أو مكتئباً ، هل سبؤثر هذا في نتيجة عملك ؟
قال الدكتور بروك :
- ربما نعم . اذهب لصيد السمك ، أو للنزهة
قال زينسر ردا على نفس السؤال :
- ربما لا . اذا كانت وظيفتك هي الكتابة كل يوم ، فيجب أن تعتاد على القيام بها مثل أي وظيفة أخرى .
وسأل تلميذ آخر :
- هل الاختلاط بالأوساط الأدبية مفيد للكاتب؟
  رد الدكتور بروك ، بأنه مسرور بصورته الجديدة كشخص مبدع . وذكر عدة قصص عن  لقاءاته بناشره ووكيله الادبي ، وقضائهم وقتا طيبا في مطاعم مانهاتن الراقية ، حيث يجتمع الكتاب والمحررون.
 وقال زينسر :
- لكتاب المحترفون يعملون بجد وهم وحيدون ، ونادرًا ما يرون كتّابًا آخرين.
سئل زينسر :
- هل تستخدم الرمزية عندما تكتب؟
أجاب قائلاً :
-  أحاول أن لا أفعل ذلك . طوال حياتي لم أتمكن مطلقاً من فهم المعنى الخفي لعمل فني واحد في الأقل ، سواء كانت قصة أو مسرحية أو فيلماً , وعندما أشاهد الرقص أو التمثيل الايمائي ، فأنا لا ادرك حتى ما يحاولون الايحاء به .
وصاح  الدكتور بروك :
- أنا احب الرموز جدا
 ووصف بحماس كيف انه يجد متعة بالغة في استخدام الرموز في كتاباته .
قد تبدو اجابات الكاتبين متناقضة من الوهلة الاولى . ولكنني أرى ان اجابتهما تكمل إحداهما الاخرى ، وترسم صورة شاملة لمهنة الكتابة .
زينسر يتحدث عن تجربته ككاتب غير خيالي ( نون فيكشن ) ، وهذا النوع من الكتابة يعتمد على سعة اطلاع الكاتب وثقافته ، وأنتقاء المعلومات ومعالجتها في المقام الأول ، ويختلف الى حد كبيرعن الكتابة الابداعية ، كالرواية والقصة القصيرة .
الدكتور بروك تحدث عن تجربته في كتابة القصص ، التي يلعب الخيال فيها الدور الأهم . ولهذا فان كلاهما على حق .
يعتقد البعض ان الكتابة عمل سهل يمكن ان يمارسه  أيّ مثقف، ولكن عندما يوغل في تجربة الكتابة ويزداد وعيا بها ،  فأنه يتأنى ويتباطأ في سكب كلماته على الورق بشكل تلقائي ،  بعد ان يكتشف أن الكتابة الجادة ليس بالأمر الهين ، بل عمل شاق يزداد صعوبة ومشقة كلما ازداد خبرة الكاتب ومعرفته بأسراره بمضي الزمن ،  وان الكتابة المزاجية السهلة ، غير الجادة ، تكون سطحية في معظم الأحيان  ولا قيمة حقيقية لها ، لذا يجهد نفسه  لكي ينتج نصّا جيدا وناضجا . ويدرك ان العمل الأبداعي كدح ومعاناة وعملية بناء تحدث على مهل ينجزها الكاتب وحيدا في خلوته
النجاح في الكتابة سواء كانت خيالية او غير خيالية يعتمد على عاملين اساسيين – الموهبة،  والعمل الدؤوب المنظم . الكاتب الجاد لا يكون راضيا عن عمله ابدا . ويعتقد ان عمله غير مكتمل وغير جيد بما فيه الكفاية ، ويحلم بمستوى اعلى مما يستطيع ، وهو لا يحاول ان يكون افضل من أسلافه أومعاصريه ، بل أفضل مما هوعليه الآن . ويتعلم الكتابة على نحو أفضل يوما بعد يوم . ويتعلم من أخطائه . هذه هي الطريقة الوحيدة لتعلم الكتابة الجيدة .
الهام وصنعة
يقول الكاتب الفرنسي ستندال (1783- 1842م )  : " لم أبدأ الكتابة الا في عام 1806 ، حين احسست في نفسي العبقرية . لو كنت قد افضيت الى انسان راجح العقل بخططي الأدبية ونصحني : " اكتب يوميا لمدة ساعتين ، سواء كنت عبقريا أم لا " عندئذ لم اكن قد اهدرت عشر سنوات من حياتي في انتظار الألهام".
مقولة ستندال صحيحة الى حد كبير ولكن لا بد من هاجس يحرك العملية الأبداعية كلها من بدايتها. ان بذرة الكتابة أو النص وشحنته الأولى، قد تأتي المبدع في أي وقت، وفي أي مكان، وليس في موعدٍ محدَّد ، أوفي طقوس معينة، ثم بعد ذلك يأتي دور الصنعة في تعديل النص وتهذيبه وتشذيبه وصولا الى صيغته النهائية .
وبصرف النظر عن الأسم الذي نطلقة على ( الهاجس ) أو ( الدافع ) الذي يقف خلف احساس الكاتب الداخلي ، أعتقد أن من الصعب أن  يبدأ الكاتب بالعمل اذا لم تكن ( فكرة ما )  قد نضجت في ذهنه ، واستولت على تفكيره ويتلهف للتعبير عنها وتجسيدها.
يقول فكتور هيجو :" ان الإلهام هو بمثابة الطائر الذي يخرج من البيضة ، فلو لم يتم إحتضان البيضة ، والرقاد عليها ، لما أفرخت وخرج منها الطائر . "
والحق ان لكل كاتب طريقته في العمل ، منهم من لا يبدأ العمل الا وقد استحضر في ذهنه فكرة ما  ، وآخر يجلس الى منضدة الكتابة وهو خالي الذهن من أي أفكار مسبقة . ولكن تجارب كبار الكتاب تثبت أن 90% من الكتابة الأبداعية صنعة يتم أتقانها بالمران والممارسة الطويلة ، والشخص الذي يهرب من عمله لعدم وجود ( الهام )  يخدع نفسه بنفسه .
وقد عرف الكاتب الأيطالي البرتو مورافيا ( 1907 – 1990م ) مورافيا بأنضباطه الصارم . ويقول في هذا الصدد  : " منذ فترة طويلة جدا ، وانا اكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي انام فيها وآكل يوميا . لقد أصبحت الكتابة جزءا عضويا في ايقاعي البيولوجي . "
 قال الروائي التركي أورهان باموق في محاضرة نوبل (2006) : " إنّ سرّ مهنة الكاتب في نظري لا يكمن في إلهام مجهول المصدر، بل في المثابرة والصبر. ويبدو لي أنّ التعبير التركي الجميل "يحفر بئرا بإبرة " قد اخترع من أجلنا ، نحن معشر الكتاب."
 



2
لماذا أكتب كثبرا عن الأدب الروسي؟

جودت هوشيار 

يعتز المثقفون الروس - أيما إعتزاز - بالأدب الروسي الكلاسيكي ، ويقولون ان هذا الأدب العظيم ، هو الإسهام الروسي الحقيقي في تطور الثقافة العالمية . فالأدب الروسي يحتوي على عدد من الروائع التي تعد من أعظم الأعمال الأدبية في الأدب العالمي ، خاصة في مجالات الرواية ، والقصة القصيرة ، والشعر .وهذه حقيقة يعترف بها كل متذوق للأدب الرفيع أتيح له الدخول الى العالم السحري للروائيين والشعراء الروس العظام ، عالم العواطف الجياشة والمصائر التراجيدية ، والزاخر بالقيم الإنسانية المشتركة بين البشر ، مجسداً في أعمال عمالقة الأدب الروسي : غوغول وتورغينيف وتولستوي ودوستويفسكي ، وتشيخوف. وهو أدب مفهوم من الجميع وممتع للجميع .
عندما اطلع القاريء الغربي على الأدب الروسي الكلاسيكي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وقع في عشق هذا الأدب الباحث عن معنى الحياة والوجود . ولم يمض وقت طويل حتى أخذ نقاد الأدب في الغرب يكتبون دراسات ومقالات عن هذا الأدب الرائع، وأخذ عدد كبير من الكتاب الغربيين يتعلمون منه تقنيات الكتابة .
وكان القرن الماضي بأسره، قرن الأدب الروسي في الأدب العالمي . ولم يستطع أي أدب قومي او وطني في ابعد زاوية من عالمنا الفسيح أن يتجنب تأثير هذا الأدب . ويكفي ان نقول ان روايات تولستوي ودوستويفسكي وقصص تشيخوف ترجمت الى معظم اللغات الحية في العالم ، وما زالت تحظى بمقروئية واسعة في الشرق والغرب ، و حولت مئات المرات الى مسرحيات وافلام سينمائية ناجحة في هوليوود ، وفي بقية انحاء العالم ، وخاصة روايات " الحرب والسلام " و " آنا كارينينا " و " الجريمة والعقاب " و" الأخوة كارامازوف " وغيرها كثير .
وعندما كنت طالبا في موسكو في الستينات من القرن الماضي رأيت أن عددا كبيراً من الطلاب الغربيين ، وخصوصا من الولايات المتحدة الأميركية يدرسون اللغة الروسية في جامعة موسكو والجامعات والمعاهد الروسية الأخرى . استفسرت منهم عن سبب اختيارهم دراسة اللغة الروسية ،قالوا أنهم جاؤوا ليتعلموا هذه اللغة – رغم صعوبتها - من اجل قراءة روايات تولستوي ودوستويفسكي وقصص تشيخوف وشعر بوشكين وماياكوفسكي ، وتسفيتايفا ، وأخماتوفا ، ويسينين باللغة التي كتبت بها . فقراءة الأعمال الإبداعية بلغتها الأصلية شيء ، وقراءة ترجمتها في أي لغة أخرى ، مهما بلغت درجة اتقان الترجمة شيء آخر ..
النصوص الإبداعية ، وخاصةالشعرية منها تفقد ايقاعها وكثيراً من رونقها وحرارتها في الترجمة .
الأدب السوفيتي
مهما كان رأينا في النظام السوفيتي السابق ، الا أننا لا يمكن أن ننكر ان هذا النظام قام بتجديد كل مناحي الحياة الروسية وكان له ابلغ الأثر في الثقافة والأدب ، على الرغم من أنه حاول خلق لون من الادب يتفق مع اغراضه وبرامجه . كانت الفترة من عام 1917 حتى سنة 1921 عهد تحلل في التقاليد الادبية الروسية وعهد اضطراب في المناقشات التي جرت بين المذاهب الادبية ، ومع اشتداد قبضة ستالين على السلطة ازدادت الرقابة الأيديولوجية المفروضة على الأنتاج الفكري والثقافي صرامة .
و تعرّض الكتاب الاحرار الى شتى انواع المضايقات والقمع والأرهاب الا أن الحقبة السوفيتية ، رغم ذلك شهدت بروز أدباء عباقرة في كل المجالات الأدبية . وكانت روسيا محط أنظار العالم ، وهي تخوض تجربة هائلة جديدة – لم يعرف لها التأريخ مثيلاً - لخلق ليس نظام جديد للحكم ومنهج مختلف للحياة فقط ، بل الأهم من ذلك هو خلق انسان جديد ومستنير حيث تم القضاء على الأمية تماما ,كانت الدولة تصرف بسخاء على نظام التربية والتعليم ، كما تصرف بسخاء أيضاًعلى الدعاية . ورغم التضييق الشديد على حرية التعبير، الا ان الشعب الروسي قدم للعالم كتابا وشعراء موهوبين يشار اليهم يالبنان بينهم عدد كبير من الكتاب الأحرار الذين حاولوا الكتابة بأساليب جديدة وحافظوا على حريتهم الداخلية . وبسبب ذلك ، راح عدد من خيرة الكتاب والشعراء والمفكرين الروس ضحية للأرهاب الستاليني . وعلى أية حال لا يمكننا أن نشطب على الأعمال الأدبية السوفيتية ، فقد انتج حتى الكتاب المؤمنون بالثورة والاشتراكية أعمالا أدبية رائعة .
وكان العالم طوال العهد السوفيتي يتابع بشغف أعمال الكتاب والشعراء الروس الطليعيين مثل زامياتين ،وبابل ، وبيلنياك وزوشينكو ،وايرنبورغ وبلاتونوف و باوستوفسكي ،وتسفيتايفا ، وأخماتوفا وباسترناك وسولجنيتسن وبرودسكي وغيرهم .



3
 
موسيقى الروح في قصص سيرغي دوفلاتوف
جودت هوشيار
اضطر العديد من الأدباء الروس الأحرار خلال الحقبة السوفيتية ، الى مغادرة وطنهم ، بعد اسقاط الجنسية السوفيتية عنهم ، أو تهديدهم بالاعتقال ، أو تضييق الخناق عليهم ، او حظر نشر اعمالهم . ومن هؤلاء سيرغي دوفلاتوف ( 1941-1990) الذي يعد ظاهرة فريدة في الأدبين الروسي والعالمي . وهو واحد من الادباء الروس الأكثر شهرة في الغرب ، الى جانب بوريس باسترناك ، والكساندر سولجنيتسن ، وجوزيف برودسكي .
عاش دوفلاتوف حياةً قصيرة ، ولكنها زاخرة بالأحداث الدراماتيكية . غيبه الموت ، وهو في ذروة نضجه الإبداعي . منع من النشر عندما كان يعيش في بلاده . ومنذ عام 1975 اخذ يرسل ما يكتبه من قصص الى المجلات الادبية الروسية الصادرة في المهجر ، مثل" كونتينيت " و " فريميا" ، . ما أثار غضب السلطات السوفيتية ، وادى الى فصله من اتحاد الصحفيين السوفيت .
أسباب الهجرة
كانت زوجة الكاتب ايلينا قد هاجرت بالفعل الى أمريكا عام 1978 مع ابنتهما كاترينا . ورفض دوفلاتوف في البداية مغادرة وطنه . وحاول اقناع زوجته بالعدول عن قرارها، ولكن دون جدوي . قالت ايلينا :
- لقد تعبت من الوقوف في طوابير من اجل جميع انواع السلع التافهة . تعبت من المشي في جوارب ممزقة . تعبت من أن أفرح بشراء نقانق اللحم البقري . ما الذي يعيقك عن السفر معي ؟. البتولا ؟
- كلا . لا أهتم بالبتولا على الاطلاق
- اذن ، لماذا ؟
- اللغة . في اللغة الأجنبية نفقد ثمانين بالمائة من هويتنا . نفقد القدرة على المزاح والسخرية . هذا وحده يرعبني . قرائي هنا. من يحتاج قصصي هناك في شيكاغو ؟
- ومن يحتاجها هنا ؟
- الجميع . الناس لا يعرفون عني شيئا حتى الآن
- سيكون الأمر هكذا دائما
- أنت مخطئة
تنبأ دوفلاتوف بمجده الأدبي ، حتى وهو في حالة من اليأس التام . كأنه كان يسمع إشارات من المستقبل بأن قصصه مطلوبة من الجميع . وعندما جاء وقت الاعتراف به كاتبا متفردا كبيرا ، قارنه النقّاد الجادون بدوستويفسكي .
غادرت الزوجة والابنة الى أميركا . دوفلاتوف رافقهما الى المطار . وعاد الى بيته والحزن يعتصر قلبه ، فأغرق نفسه في شرب الفودكا . وفوق ذلك بدأ يتعرض الى مضايقات رجال الأمن السري بحجج واهية .
. في 18 يوليو عام 1878 تم القبض على دوفلاتوف في لينينغراد ، وادرك من خلال التحقيق معه ان امامه خياران لا ثالث لهما أما الهجرة أو السجن ، فاخنار الهجرة على مضض .
في 24 اغسطس عام 1978 غادر دوفلاتوف وطنه الى الأبد . وقد رافقته في سفره والدته نورا دوفلاتوفا .وتوجها في البداية الى فيينا  في انتظار حصولهما على تأشيرة الدخول الأميركية . وتقول ايرا كوروبوفا ، صديقة دوفلاتوف في مذكراتها عن هذا اليوم :" في قاعة الانتظار بدا دوفلاتوف مرهقا جدا ، وبدت والدته حائرة ومرتبكة . كان دوفلاتوف الاخير في طابور المسافرين المتجهين الى الطائرة ، ويقف وراءه مباشرة رجل امن مسلح رافقه الى المطار . كل الركاب صعدوا الى الطائرة ، ماعدا دوفلاتوف، ورجل الأمن المسلح . فقد وقف دوفلاتوف بقامته المديدة في منتصف السلم ، وظهره الى مدخل الطائرة ورفع يديه الى الاعلى لتحية مودعيه . كان رجل الأمن يحاول برعونة دفع دوفلاتوف نحو مدخل الطائرة ، ولكن دون جدوى . رجل الأمن كان صغير الحجم ، ضئيلا أمام دوفلاتوف العملاق . ثم استدار دوفلاتوف وصعد الى الطائرة ، ووقف لحظة والتفت نحو الجمهور، رافعا يديه الى الأعلى ".
تحدث دوفلاتوف لاحقا عن اسباب هجرته قائلا : " كنت خائفا من مثل هذه الخطوة الخطيرة ، التي لا رجعة فيها .إنه مثل الولادة من جديد ، حتى لو كانت الهجرة بمحض ارادتك ". وبعد عدة سنوات من هجرته ، وخلال لقاء صحفي مع مجلة " سلوفا " الروسية :" سأله الصحفي ، ان كان قراره بالهحرة صائبا ، ويستحق المخاطرة بمصيره  ، فرد قائلاً :" كان الامر يستحق ذلك في الاقل لأن البقاء في البلاد بالنسبة لي وللكثيرين من أصدقائي لم يكن آمناً ، بالاضافة الى ذلك ، كنا انا واصدقائي محظورين من النشر ، خاصة ما كنا نكتبه بصدق وجدية . غادرت لأكون كاتباً ، وأصبحت كاتباً . كان عليّ أن اتخذ قرارا بشأن الاختيار بين السجن ونيويورك . كان الهدف الوحيد من هجرتي هو الحرية الابداعية ، ولم تكن لديّ أي أفكار أخرى ، ولم تكن لديّ أي شكاوى بشأن السلطات . لم اكن اشكو من شح الأغذية والملابس ، وطالما كانت المعكرونة تباع في المتاجر ، لم اكن افكر في لقمة العيش . لو سمحت الرقابة لي بالنشر داخل البلاد لما هاجرت " .
صحيفة " الأمريكي الجديد "
في 26 فبراير 1979 وصل دوفلاتوف الى نيويورك ، وبذلك التم شمل عائلته ، حيث استقر في حي المهاجرين الروس في منطقة " فورست هيلز " وبعد فترة قصيرة من وصوله اسس مع عدد من أصدقئه الأدباء والصحفيين صحيفة اسبوعية ليبرالية باللغة الروسية وهي صحيفة " الأمريكي الجديد ". وعلى الرغم من وجود صحف روسية عديدة في أميركا ، الا أن " الأمريكي الجديد " اصبحت خلال فترة وجيزة الصحيفة الروسية الأولى ، واوسعها انتشارا بين المهاجرين الروس ، الذين تدفقوا بالالوف الى الولايات المتحدة في اواخر السبعينات .
كانت الصحيفة تنشر موضوعات لصيقة بحياة هؤلاء المهاجرين ، الذين يعذبهم الحنين الى وطنهم الأم .
لم يتأقلم دوفلاتوف قط مع الحياة الأميركية ، ولم يكتب باللغة الانجليزية ، كما فعل فلاديمير نابوكوف وصديقه المقرب جوزيف برودسكي. وكانت تناقضات الحياة في أميركا وظواهرها الغريبة تثير دهشته وكتب يقول : " أشعر كأنني في متجر العاب للاطفال . حيث اسمع اصوات اطلاق نار بشكل غير متوقع".
عندما اطلق  الشاب جون هينكلي النار على الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1981 ، لجذب انتباه  امرأة غريبة . تصدرت صورة المجرم الصفحات الأولى لجميع الصحف الاميركية . هتف دوفلاتوف :" يا الهي ، قل لأميركا أن تفكر ! دعها تعقل ، متجاوزة تجربتنا الكابوسية ، دعها تكتسب الحكمة ، وتنجو من مأساة الاشتراكية . اغرس فيها غريزة الحفاظ على الذات . واجعلها تضع حدا للاهمال الكارثي ".
وفرت امريكا لدوفلاتوف حرية الابداع ، والحياة الكريمة بسخاء . وكان ممتناً لها على ذلك وقال في مقابلة صحفية :" ان الشخص لا يختار مهنة الكتابة ، بل هي تختاره . ولا يمكن للكاتب أن يتخيل وجوده من دون العملية الابداعية ".
أعمال دوفلاتوف
اعتاد دوفلاتوف ان يصدر رواية او مجموعة قصصية في السنة في امريكا ، واحيانا في أوروبا .وبلغ اجمالي عدد كتبه ،التي اصدرها في غضون اثني عشر عاما اكثر من 13 كتابا . وكانت تترجم الى الانجليزية على الفور . هذا الى جانب عمله في اذاعة " صوت امريكا " الناطقة بالروسية  ، حيث كان يتحدث الى مواطنيه في الاتحاد السوفيتي عن الأدب الروسي ، بعيدا عن السياسة . ولا يمكن القاء اللوم على دوفلاتوف بسبب عمله في تلك الاذاعة ، لأن ذلك كان االسبيل الوحيد لأيصال صوته وآرائه في الأدب الى أبناء وطنه .
في أعمال دوفلاتوف يتشابك الواقع الأمريكي مع ذكريات الحياة في لينينغراد . لم يستطع دوفلاتوف الإنفصال عن ماضيه . ومعظم روائعه الأدبية  لا علاقة لها بامريكا ، منها روايات "" المنطقة " و " الحقيبة " , " هضاب بوشكين " و" أهلنا "  وغيرها. ولا توجد في هذه الأعمال أي حبكة تقريباً ، ولكننا نسمع فيها موسيقى روح دوفلاتوف . نثره الايقاعي الفريد .
 كان سحر شخصية دوفلاتوف طاغياً . ونحن نفهم لماذا وقعت النساء في حبه . ولماذا تحمّلت زوجته " حياته البوهيمية ". فقد بدا جميع الرجال الآخرين مملين الى جانب دوفلاتوف .
افتتح دوفلاتوف صفحة جديدة من النثر الاعترافي ، والمحادثة المباشرة مع القارىْ . حيث يعطي المؤلف انطباعا بالبساطة ، ىويفهمه كل القراء من الغفير الى الوزير .
كان دوفلاتوف سعيدًا عندما كان الناس يعيدون سرد قصصه ، كما لو انها حدثت في الواقع فعلاً . ولكن قصصه لم تكن أبدا إستنساخا للواقع ، على الرغم من أن ابطاله يحملون اسماء شخوص من اصدقائه وزملائه في العمل ، وفي الوسط الأدبي .
بعد وفاة سيرغيه دوفلاتوف في 24 أغسطس عام 1990 في نيويورك ذاع صيته في روسيا على نحو مفاجيء ، وكنت ترى كتبه في أيدي القراء في كل مكان في موسكو ، والمدن الروسية الأخرى . وقد اثار ذلك دهشتي ، فهذه هي المرة الأولى التي يكتسح فيها كاتب الساحة الأدبية الروسية فجأة وبقوة ، ليصبح بين ليلة وضحاها أشهر كاتب في البلد بين ابناء جيله ، في حين أنه لم يكن معروفا بالأمس سوى في الولايات المتحدة الأميركية ، والى حد ما في أوروبا ، و لحلقة ضيقة من الأصدقاء في روسيا .
ترجمت أعمال دوفلاتوف الى أكثر من ثلاثين لغة في العالم . ويكفي أن نقول انه الكاتب الروسي الوحيد الذي نشرت له مجلة " نيويوركر " الثقافية المرموقة في امريكا عشر قصص خلال بضع سنوات . وهي مجلة النخب الأميركية المثقفة ، التي يحلم كل كاتب شاب واعد بالنشر فيها . ويمكن القول ان اغلب الكتّاب الأمريكيين الذين حصلوا على جائزة " بوليتزر " ، أو جائزة نوبل في الأدب ، نشروا أولى أعمالهم الأدبية في هذه المجلة تحديداً .
اسلوب دوفلاتوف
البساطة والوضوح ، والإيجاز الخالي من التزويق ، والجمل القصيرة ، والدقة في اختيار الكلمة المناسبة ، والإيقاع الفني ، من أهم سمات اسلوب دوفلاتوف . كل جملة من كتاباته تبدو بسيطة لأول وهلة ، ولكنها تحمل في الواقع فيضاً من المعلومات ، التي تعطي مساحة لخيال القارىْ  ، ولا تعيق قدرته على الاستيعاب والادراك ، ولا تشتت انتباهه .
ومقولة موباسان تنطبق على كتابات دوفلاتوف أكثر من أي كاتب آخر : " أياً كان الشيء الذي نريد قوله ، فإنه لا توجد إلا كلمة واحدة للتعبير عنه ، وفعل واحد للحديث عنه ، ونعت واحد لوصفه . علينا إذن البحث حتى نصل الى هذه الكلمة ، وهذا الفعل ، وهذا النعت ، وألا نكتفي أبداً بالتقريب ، وألا نلجأ الى الغش أو التزييف ، حتى لو كان للتجميل . ولا للمحاورات اللغوية لتجنب الصعوبات .
والسمة المميزة الأخرى لأسلوب دوفلاتوف هي قدرته الفائقة على السرد الممتع الساخر والدعابة المرحة ظاهريا ، ولكن ما ان يتأمل القارىْ هذه السخرية ، وتلك الدعابة المرحة حتى ينتابه حزن شفيف ، ويدرك بعمق عبثية الواقع السوفيتي ، ذلك الواقع الذي يشكل المضمون الرئيسي لمعظم أعمال الكاتب .
ذكرى دوفلاتوف
دوفلاتوف هو الكاتب الروسي الوحيد الذي اطلقت بلدية نيويورك اسمه على احدى شوارعها قريبا من المنزل الذي كان يقيم فيه . وفي وطنه اقيمت له عدة تماثيل في مدينته لينينغراد ، بطرسبورغ حالياً . وثمة جائزة أدبية بأسمه . ويقام في يوم مولده الموافق للثالث من سبتمبر من كل عام مهرجان دوفلاتوف في بطرسبورغ لمدة ثلاثة أيام ، والذي يتضمن فعاليات كثيرة : محاضرات عن حياته وأعماله الأدبية ، وعرض افلام سينمائية ومسرحيات عن حياته أو المستوحاة من رواياته وقصصه . وفعاليات اخرى كثيرة.
وليس من قبيل المصادفة ان الجيل الجديد من القراء الشباب الروس اطلقوا على دوفلاتوف اسم " الكاتب المحبوب ". وهذا شرف لم يحظ به أي كاتب روسي آخر من جيله .
 


4

  " معطف " غوغول وتمرد الانسان المقهور
د. جودت هوشيار         
 
" المعطف " رواية قصيرة للكاتب الروسي نيكولاي غوغول ، شكلت نقطة تحوّل مفصلية بالغة الأهمية في الادب الروسي ، وامتد تأثيرها الى مجمل الأدب العالمي ، فقد كانت جديدة في موضوعها واسلوبها الساخر الكوميدي – المأساوي ، والأهم من ذلك انها كانت اول قصة عن " الأنسان المقهور" - من حيث موقعه في السلم الاحتماعي بصرف  النظر عن صفاته الشخصية -  وما يعانيه من ظلم اجتماعي وانتهاك لكرامته الانسانية ، في حين كان الادب السردي الروسي قبل " المعطف " يتناول في المقام الأول ، حياة ومشاغل الطبقة المرفهة من الأقطاعيين والنبلاء ، واصحاب السلطة والنفوذ في المجتمع .
في " ألمعطف " تهكم لاذع ، وانتقاد شديد للقيم الأجتماعية الزائفة ، التي كانت سائدة في المجتمع الروسي في العهد القيصري . وتوحي القصة بفكرة الحاجة الى بنية اجتماعية أكثر انسانية وعدالة . ولهذا اصبحت الأفكار والصور ، التي تزخر بها قصة " المعطف " معينا لا ينضب للكتاب الروس الآخرين ، وفي وقت لاحق للعديد من الكتّاب الأجانب في شتى انحاء العالم .
قصة " المعطف " بضمير المتكلم ، والراوي على دراية جيدة بحياة الموظفين . بطل القصة اكاكي اكاكفيتش باشماتشكين- موظف صعير باحدى ادارات سانت بطرسبورغ . وهو شخص بائس  وذليل .ويقول غوغول ان أكاكي أكاكيفتش:" رجل قصير القامة ، مجدور الوجه، بشعر مائل الى الاحمرار ، ضعيف البصر. له صلعة صغيرة في مقدمة رأسه ، وتجاعيد على خديه.
وكان زملاء العمل ، بستخفون به  استخفافا يقابله بلا مبالاة ، وردًا على اي اهانة توجه اليه ، كان يكرر عبارة واحدة لا تتغير: " دعني وشأني ، لماذا تسيء إليًّ؟ . حتى الحراس في الدائرة كانوا ينظرون اليه كمكان فارغ حين يمر امامهم ، كما لو أن ذبابة حلقت عبر غرفة الاستقبال. وكان هناك شيء غريب في كلماته وصوته – كان فيه شيء ما يدعو الى الشفقة. .
البناء السردي في "المعطف" مبتكر ، حيث تتحول الصورة الهزلية لـاكاكي اكاكفيتش تدريجيا الى صورة مأساوية ً.
الخياط الذي قام بترقيع المعطف مرات عديدة، رفض ترقيعه مرة أخرى ، لأنه أصبح رثا باليا ، بحيث لم يعد بالإمكان إصلاحه. ونصح اكاكي اكاكافيتش بتفصيل معطف جديد له ، ولكن الموظف الصغير البائس ، لم يكن يملك أي مال ، ففرض على نفسه حالة من التقشف الصارم  لكي يستطيع تامين ثمن المعطف الجديد : في المساء لا يشعل الشموع ، لا يشرب الشاي. ، يمشي في الشوارع خفيفا وبعناية شديدة ، "تقريبًا على أطراف أصابعه" ، لكي لا "يمسح الحذاء سريعا ، ولم يعد يعطي ملابسه المتسخة لغسالة الملابس الا نادراً . ويقول غوغول : " في البداية كان من الصعب إلى حد ما أن يعتاد اكاكي اكاكافيتش على مثل هذه القيود ، ولكن بعد ذلك اعتاد عليها بطريقة ما ، وتكيّف معها بسلاسة ؛ حتى أنه كان معتادًا تمامًا على الجوع في المساء ، ولكنه كان يتغذى روحيا ، حاملاً في ذهنه الفكرة الأبدية للمعطف المستقبلي. يصبح المعطف الجديد حلمًا ، ومعنى لحياة اكاكي اكاكافيتش.
هذا هو المعطف الجديد جاهز الآن . ولهذه المناسبة يقيم زملاؤه مأدبة على شرف المعطف . اكاكي اكاكفيتش السعيد لا يلحظ أنهم يسخرون منه . وفي الليل عندما كان في طريقة الى مسكنه ، هاجمه اللصوص وانتزعوا منه معطفه الجديد . سعادة هذا الانسان لم تدم سوى يوما واحداً ، عندما ارتدى معطفه الجديد . في اليوم التالي جاء اكاكي اكاكافيتش الى مقر عمله شاحب الوجه مهموما ، وهو يرتدي معطفه القديم المهلهل ، الذي اصبح رثا وباليا أكثر من السابق . ثمّ ذهب الى مركز الشرطة طلبا للمساعدة ، ولكن لم يلتفت احد الى شكواه . فلجأ الى " مسؤول مهم " لعله يساعده في استعادة معطفه الجديد ، ولكن المسؤول طرده شر طردة ، ورفض سماع شكواه . أثرت هذه الصدمات المتلاحقة في نفس اكاكي اكاكفيتش  لدرجة أنه لم يستطع تحملها . وسرعان ما مرض ومات. "اختفى الى الأبد مخلوق لم يكن محميا من أحد . ولا عزيزاً على أي أحد ، ولم يهتم به أحد . ولم يشعر بالسعادة في حياته ، إلا حين أضاء المعطف الجديد حياته الكئيبة ليوم واحد ".
ويقول غوغول ان موت " انسان صغير " لم يغير شيئا في القسم الذي كان يعمل فيه ، وسرعان ما حلّ موظف آخر محله ببساطة.
رغم ان " المعطف " قصة نموذجية لحياة رجل مقهور في مدينة كبيرة ، الا انها تنتهي بشكل خيالي . فبعد وفاة اكاكي اكاكفيتش يظهر شبح هائل الحجم في شوارع سانت بطرسبورغ ليلا ، ويقوم بانتزاع معاطف المارة . البعض شبه الشبح باكاكي اكاكفيتش والبعض الاخر لم يجدوا أي شيء مشترك بين الشبح السارق وبين الموظف الخجول المتوفي .
ذات ليلة التقى الشبح "المسؤول المهم" وجها لوجه وقام بتمزيق معطفه  . واثار الرعب والهلع في نفسه الى درجة انه خشي من آثار هذه الواقعة على صحته . بعد هذا الحادث بدأ هذا المسؤول في التواصل ي مع الناس على نحو أفضل .
تشيرنهاية القصة الى ان المؤلف. يتعاطف مع مصير " الانسان المقهور ". ويدعونا إلى أن نكون منتبهين لبعضنا البعض ، وكأنه يحذر من أن الشخص المسيء سيكون مسؤولا في المستقبل عن اساءاته للناس .
قصة المعطف تعكس ثنائية التعاطف والسخرية في اسلوب غوغول ، وتؤكد ان الموظف الصغير المقهور قادر على التمرد والأنتقام .
" الانسان المقهور " في آداب الشعوب   
منذ نشر قصة " المعطف " تناول معظم الكتّاب الروس ثيمة " الانسان المقهور " على نطاق واسع . ويمكن القول أنه لا يوجد كاتب روسي – منذ نشر معطف غوغول - لم يتناول " الانسان المقهور " في أعماله وفي مقدمتهم ايفان تورغينيف ، وفيودور دوستويفسكي وانطون تشيخوف ، وميخائيل زوشينكو .
لقد اعتاد الباحثون والتقّاد الروس على اقحام اسم أمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين في كل صغيرة وكبيرة في الأدب الروسي ، والاشادة  بريادته في كل ما احرزه هذا الأدب من انجازات عظيمة. وهم يقولون ان بوشكين هو اول من صوّر الانسان المقهور – ويسميه الروس – الانسان الصغير – في قصة " ناظر المحطة " . اجل ثمة " رجل صغير" في هذه القصة ، ولكنه ليس مسحوقا ولا متمردا ، ولا علاقة بين" ناظر المحطة " وبين رائعة غوغول " المعطف " واسلوبه المتفرد ، الذي يمتزج فيه التعاطف والشفقة بالتهكم والسخرية . ناظر المحطة لم يتمرد على واقعه البائس ، ولم يفكر في الانتقام من الضابط الذي أغوى ابنته ، وحرمه من رؤيتها . تخطى تأثير قصة " المعطف " حدود روسيا الى الآداب الأخرى . وأصبح " الانسان المقهور " البطل المفضل لمئات الكتاب الآخرين في أنحاء العالم جيلا بعد جيل .
ويبدو تأثير قصة " المعطف " واضحا في الكثير من قصص كبار الكتّاب الغربيين والعرب ، منهم فرانز كافكا ، وشيروود اندرسون ، وجيمس جويس ، ونجيب محفوظ وغيرهم..
قارن الكاتب الروسي –الأميركي فلاديمير نابوكوف – خلال محاضرة له في احدى الجامعات الأميركية – بين قصة " المعطف " لنيكولاي غوغول ، وقصة " التحول " لفرانز كافكا . انسانية بطل القصة في كلتا الحالتين تفصله عن الناس الآخرين من القساة ، عديمي الضمائر والشفقة .، حيث نجد البطل يقوم بتمزيق شرنقته ،ويتخطى حدود الهوية المفروضة عليه  ،  ليتحول الى شبح هائل 
قال غابريل غارسيا ماركيز : " ان الواقعية السحرية لأميركا اللاتينية مدينة الى حد كبير لقصة "المعطف" لغوغول ".
قصة نجيب محفوظ " المقابلة السامية " – المنشورة في مجموعته القصصية " الجريمة " تتناول مشكلة الموظف الصغير المنسي ، الذي يعمل في قسم الأرشيف ، ويعاني من نظام بيروقراطي ظالم ، يسود فيه التسلسل الهرمي للسلم الوظيفي والاجتماعي ،. هذا السلم الذي يقضي على احلام الانسان المقهور في مجتمع يفتقر الى العدالة الأجتماعية .
حاول موظف الأرشيف مقابلة مديرعام المصلحة، ولكن ساعي السكرتير الخاص ، لم يسمح له بالدخول ، ونصحه ان يكتب حاجته على عرضحال تمغة وارسالها بالطريق الاداري المتبع. .
مرت مدة طويلة ، تابع موظف الارشيف خلالها  سير شكواه دون جدوى ، واخيرا تمًّ حفظ الطلب . ولكنه لم ييأس ، واخذ يتحرى مواعيد المدير العام وحركاته وسكناته ، وقرر ان لا يذعن للقوة الباغية ، ولا للأوامر المكتبية العمياء . واراد عرض طلبه على المدير العام مباشرة لدى خروجه من المصلحة في نهاية الدوام الرسمي ,
يقول موظف الارشيف :" وعندما حاذاني في سيره بسملت ثم وثبت نحوه لأجثو بين يديه مستعطفا .
وصاح رجل :
- المجنون .. حذار يا صاحب السعادة
ووقع اضطراب شامل وضوضاء عالية ".
لم يدرك ما حدث فقد حوصر تحت ضغط غشرات من الأيدي القوية ، ووجهت اليه تهمة الاعتداء على المدير العام  انتقاما لحقظ طلبه .
وقد تعلم في السجن حرفة النجارة ، وفي ميدانها يكدح اليوم لتربية الأولاد ؟
كما نجد تأثير قصة " المعطف " واضحا في رواية أحمد سعداوي " فرانكشتاين في بغداد ". حيث يقوم بطل الرواية هادي العتاك " بائع عاديات من سكان حي البتاويين وسط بغداد بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية ، التي حدثت في اعقاب الاحتلال الأميركي للعراق ، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من الأرهابيين  القتلة ".
وثمة اليوم مئات القصص المشابهة في آداب شعوب العالم .
لو لم يكتب نيكولاي غوغل سوى قصة " المعطف " الرائدة ، لكان ذلك كافيا لخلود إسمه في تأريخ الأدب العالمي .
د . جودت هوشيار
 
 

5

انجذاب ونفور بين عملاقي الأدب الروسي
جودت هوشيار
عاش الكاتبان العظيمان ليف تولستوي وفيودور دوستويفسكي في عصر واحد ، وينتميان الى جيل أدبي واحد تقريبا، فقد ولد تولستوي في عام 1828 ، وولد دوستويفسكي في عام 1821 ، وتزامن نشاطهما الادبي ما يقرب من ثلاثة عقود ، وكان لديهما العديد من الأصدقاء المشتركين ( نيكراسوف ،تورغينيف ، اوستروفسكي ، غونشاروف ، ستراخوف ) .وكان من المنطقي أن يلتقيا ذات يوم في حياتهما ، ولكن هذا لم يحدث قط ، ويبدو أن كلا منهما كان يتوق الى لقاء الآخر، وفي الوقت نفسه يتوجس خيفة من ان يتحول اللقاء المرتقب الى صدام .
.كان تولستوي يقيم معظم الوقت في ضيعته المسماة " ياسنايا بولينا " الواقعة جنوب موسكو ، واحياناً في منزله الموسكوي . أما ودوستويفسكي فقد كان يقيم في بطرسبورغ ، أو في خارج البلاد. ولكن تولستوي كان يتردد أحيانا على بطرسبورغ لبعض أشغاله . كما كان العديد من الأدباء الروس يزورون تولستوي في ضيعته أو في منزله الموسكوي . فكيف لم يخطر ببال أحد الأصدقاء المشتركين ان يجمع بين اشهر كاتبين معاصرين ! . أو ان يبادر احدهما لزيارة الآخر للوقوف على آرائه في الأدب والفن والحياة . لكم كان ذلك - كما يبدو ظاهرياً - جميلاً وعظيما ً. كلا لم يتقابلا على الإطلاق ، على الرغم من سنوح الفرصة لذلك أكثر من مرة .
في العاشر من مارس عام 1878 سافر تولستوي الى بطرسبورغ لسماع محاضرة الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف ، الأستاذ الجامعي .والمنظر الفلسفي للرمزية الروسية ، حيث كان دوستويفسكي حاضرا ايضا مع زوجته آنّا غريغوروفنا  في القاعة ذاتها .
كما كان صديقهما المشترك والمقرّب منهما ، الفيلسوف نيكولاي ستراخوف حاضراً ايضا. وكان من المنطقي ان يبادر ستراخوف الى تقديم الكاتبين الى بعضهما البعض ، واللذان ارادا ذلك منذ فترة طويلة. ولكن ستراخوف لم يفعل ذلك . وتقول زوجة دوستويفسكي ، آنّا غريغوروفنا ، في مذكراتها ، ان تولستوي طلب من ستراخوف ان لا يقدمه الى احد . ويبدو هذا التبرير منطقيا ، لأن تولستوي كان يشعر بنفسه غريباً في هذه المدينة .
وفي الأسبوع الأخير من مايو 1880 حضر دوستويفسكي الى موسكو للاشتراك في احتفالية ازاحة الستار عن تمثال بوشكين ، قبل موعد الاحتفال بعشرة ايام ، من اجل السفر الى ياسنايا يوليانا لزيارة تولستوي والعودة الى موسكو قبيل بدأ الاحتفال . لكن الاشاعة المنتشرة في الوسط الادبي حول حالة تولستوي النفسية جعلته يعدل عن السفر. وكتب دوستويفسكي في رسالة الى زوجته في 28 مايو ، يقول فيها ، انه سمع من بعض الادباء ان تولستوي قد اصيب بالجنون .
في 6 يونيو 1880 جرت ازاحة الستار عن تمثال بوشكين . وفي 8 يونيوعقد اجتماع لجمعية عشاق الادب الروسي ، القى فيه دوستويفسكي كلمته الشهيرة عن بوشكين والتي هزت مشاعر الحضور. كان جميع الكتاب المشهورين حاضرين باستثناء تولستوي ، على الرغم من ان تورغينيف سافر الى " ياسنايا بوليانا " خصيصا لاقناعه بالمجيء . ولكن تولستوي اعتذر عن الحضور .كان هذا في ذروة أزمة تولستوي الروحية ، حيث اعتبر جميع انواع النصب والتماثيل غرورا دنيويا .
 آراء تولستوي حول أعمال دوستويفسكي
 كان تولستوي ، طوال حياته الأبداعية ، يقرأ أعمال دوستويفسكي بشغف كبير ، ولكن انطباعاته عنها كانت متذبذبة ومتناقضة . فهو ينبهر بها حيناً ، وينفر منها حينا آخر ، وقد يحدث الأمران معا في وقت واحد . فقد كان ينتقد اسلوب دوستويفسكي والشكل الفني لأعماله ، وفي الوقت نفسه يقول ان تلك الاعمال تتضمن صفحات رائعة ومذهلة :" أنت تقرأ ويتملكك شعور بأن المؤلف يريد أن يقول لك افضل ما لديه، ويعبر عما نضج في روحه ".
وكتب الطبيب والعالم النفساني الكساندر لازورسكي يوم 10 يوليو 1894 في مذكراته يقول ، انه زار تولستوي ذات مرة  ،وجرى الحديث خلال الزيارة عن دوستويفسكي . وقال تولستوي :"  عندما تقرا لدوستويفسكي عليك الغوص عميقا في كتاباته ، ونسيان عيوب الشكل الفني لديه ، من اجل العثور على الجمال الحقيقي تحته ".
ويقول بيوتر سيرغيينكو – كاتب سيرة تولستوي - في مذكراته ، ان تولستوي ينظر الى دوستويفسكي على انه مفكر، ويكن له احتراما عظيما . وكان يعتبر " الجريمة والعقاب " عملا أدبيا مذهلا ، حتى ان عدة صفحات من هذه الرواية ، التي لم يعني مؤلفها بشكله الفني كثيرا تعادل عنده العديد من مجلدات اعمال الكتاب المعاصرين الآخرين. في حين ان دوستويفسكي كان يقدر تولستوي كفنان اكثر من  كونه مفكرا.
وفي محادثة مع الكاتبة والمترجمة الروسية ليديا فسيايتسكايا قال تولستوي :" اينما فتحنا اي عمل من اعمال دوستويفسكي ، نرى بوضوح افكاره ومشاعره ونواياه واحاسيسه ، وكل ما تراكم في روحه ، وفاض طالبا الخروج ". .
كان تولستوي يختفظ بمكتبته المنزلية في " ياسنايا بوليانا " باعمال دوستويفسكي الكاملة المؤلفة من 13 مجلدا الصادرة عام 1882 ، بعد فترة وجيزة من وفاة دوستويفسكي . وقد قرا تولستوي " الاخوة كارامازازوف " اكثر من مرة ، واثارت في نفسه مشاعر متباينة من الانبهار الى الرفض . ولكن كانت ثمة قوة غامضة تجذب تولستوي الى هذا العمل . وجاء في رسالة تولستوي الى زوجته صوفيا اندرييفنا في الثاني من نوفمبرعام 1892 :" قرأنا الاخوة كارامازوف بصوت عال مرة اخرى وقد اعجبتني جدا ". أي ان تولستوي كان يتلو هذه الرواية على مسامع زواره في ذلك الوقت . .
كانت " ياسنايا بوليانا " قبلة لاهل الفن والادب والفكر من مختلف الاتجاهات الفنية والادبية ، ولم يكن الجدل فيها ينقطع حول دوستويفسكس .وكان تولستوي يستمع اليهم ، ولكنه كان يحتفظ برأيه حول الشكل الفني لأعمال دوستويفسكي ، ومع ذلك ، لم يشكك يوما في اهمية ابداع دوستويفسكي الأخلاقية والفلسفية للوجود الأنساني ومصير العالم وقيمة
في سبتمبر 1880 كتب تولستوي رسالة الى ستراخوف يقول فيها :" لم تكن صحتي على ما يرام في الأيام الأخيرة . قرات " البيت الميت " . لقد نسيت الكثير ، واعدت القراءة . لا اعرف كتابا افضل من هذا في الادب الجديد بأسره ، بما في ذلك بوشكين . ليست النبرة ، ولكن وجهة النظر ، فهي مذهلة ، صادقة ، طبيعية ، مسيحية . انه كتاب تنويري جيد . لقد استمتعت به بالأمس طوال اليوم ، كما لم أستمتع منذ فترة طويلة ".
آراء دوستويفسكي حول أعمال تولستوي
عندما قرأ دوستويفسكي رواية " الحرب والسلام " عام 1869، تركت في نفسه انطباعا قويا. وأخذ يفكر في تولستوي باستمرار. وفي عام 1870 كتب دوستويفسكي رسالة الى ستراخوف يقول فيها ": لطالما اردت ان اسالك : هل تعرف تولستوي شخصيا ؟ .اذا كنت تعرف ، اكتب لي ، أي نوع من الأشخاص هو ؟ أنا مهتم للغاية بمعرفة أي شيء عنه . لقد سمعت القليل عنه كشخص .
وفي رسالة الى القارئة كريستينا الجيفسكايا عام 1876 ، كتب دوستويفسكي يقول ": على الكاتب الفني ان لا يكتفي بمعرفة الشعر فقط ،  بل ايضا الواقع التأريخي والمعاصر بأدق تفاصيله .في رأيى لدينا كاتب واحد لامع في هذا المجال وهو الكونت تولستوي.
في عام 1877 كتب ستراخوف رسالة الى تولستوي يعلمه فيها بنجاح " انا كارينينا " في سانت بطرسبورغ :" دوستويفسكي يحييك ويصفك ب" اله الفن ". ونشر دوستويفسكي مقالا في " يوميات كاتب " مخصصا لهذه الرواية ، اعرب فيه عن اعجابه بالمستوى الفني الرفيع لهذا العمل الأدبي ، بما تتضمنه من مشاهد عبقرية . وجاء في المقال ان رواية " آنا كارينينا " هي الكمال بعينه ، ولا يوجد في الأدب الأوروبي عمل فني يمكن مقارنته بهذه الرواية... تولستوي موهبة ضخمة  وعقل جبار ، وهو يحظى باحترام عظيم بين المثقفين الروس . ويختم مقاله بالقول :" ان اشخاصا مثل مؤلف " انا كارينينا " هم معلمو المجتمع ونحن طلابهم فقط . " ومع ذلك لم يخلو المقال من بعض الملاحظات السلبية.
رد فعل دوستويفسكي على" أزمة تولستوي الروحية "
في نهاية السبعينات وبعد ان أنهى كتابة رواية " آنّا كارينينا " اصيب تولستوي بأزمة روحية هزت كيانه ، ونجد في اعترافاته التفصيلية والصادقة المسار الكامل لافكاره حيث أخذ يتساءل ": ما الجدوى مما افعله الآن ؟ وما الذي سأفعله غداً ؟ وما حصيلة حياتي كلها ؟ . وبتعبير آخر هل لحياتي معنى لن يدمره الموت الحتمي الذي ينتظرني ؟ ".
وبحث في كتب العلم والفلسفة والدين على ما يمكن ان يساعده في العثور على اجابات لتساؤلاته  ولكن خاب أمله ، فأخذ يحاول ان يفهم نفسه ويجد الحقيقة الأقرب الى قلبه.
 كانت الكونتة الكساندرا تولستايا (1817-1904) كاتمة أسرار ليف تولستوي الروحية . وثمة رسائل كثيرة متبادلة بينهما ، يبث فيها تولستوي، ما يفكر فيه ،وكانت على دراية كاملة بأزمة تولستوي الروحية ، وآرائه الجديدة في الفن والدين والحياة . ولها علاقات صداقة بابرز الكتاب والشعراء الروس المعاصرين . وقد تعرفت على دوستويفسكي عن قرب في شتاء عام 1881 ، قبل وفاة االأخير بعدة اسابيع،  وجاء في  رسالة لها الى تولستوي عن لقائها بدوستويفسكي :" انه يحبك جدا ، وقد سألني عنك كثيراً ، لأنه سمع الكثير عن اتجاهك الحالي ، وسألني أخيرا ان كان لدي أي شيء مكتوب عن ذلك، حيث يمكنه التعرف بشكل افضل على هذا الاتجاه الذي يهتم به بالغ الاهتمام ". وقد قدمت له احدى رسائلك الموجهة لي عام 1880 ".
وكتبت الكساندرا في مذكراتها تقول :" حتى الآن أرى دوستويفسكي وهو يمسك برأسه ، ويكرر بصوت يائس : " ليس هذا ، ليس هذا " . ولم يتعاطف مع أي فكرة من افكار تولستوي . هكذا كان رد فعل دوستويفسكي تجاه أزمة تولستوي الروحية .
 تولستوي يبكي دوستويفسكي
في فبراير 1881 كتب ليف تولستوي رسالة الى نيكولاي ستراخوف  جاء فيها :" كم كنت أود لو استطعت أن أقول كل ما أشعربه تجاه دوستويفسكي ... أنا لم أر هذا الشخص قط ، ولم تكن لي أي علاقة مباشرة به ، ولكن فجأة عندما مات ، أدركت انه كان اقرب انسان اليًّ ، وأعز انسان على قلبي ، وأكثر من كنت بحاجة اليه  . لقد كنت أديباً ، وكل الأدباء مغرورون ، وحسودون . وأنا - في الأقل - أديب أيضاً . لم يخطر ببالي إطلاقا ان أقارن نفسي به . لأن كل ما كان يبدعه ، من أدب جيد وحقيقي يعجبني ، ويجعلني أفضل حالا . الفن يثير غيرتي ، والعقل أيضاً . . ولكن الفن لا يشيع في القلب الا الفرح . لقد اعتبرته صديقاً ، ولم افكر بخلاف ذلك . وكنت أظن إننا سنلتقي ، ولكن ذلك لم يحصل . وفجأة - وانا أتناول وجبة العشاء وحدي لتأخري - وقع نظري على نبأ وفاته . ذهلت ، واتضح لي ، كم كان عزيزا عليّ ، وبكيت ، وأنا الآن أبكي ".
ندم بعد فوات الأوان
وقد أوردت،  آنّا غريغورييفنا دوستويفسكايا ، زوجة دوستويفسكي في مذكراتها نص المحادثة التي دارت بينها وبين تولستوي بعد وفاة زوجها . قال تولستوي :
-  أنا نادم للغاية على عدم لقاء زوجك  -
- لقد شعر زوجي ايضا بندم عميق . حقا كانت ثمة فرصة للقاء – كان هذا عندما جئتم الى بطرسبورغ لسماع محاضرة سولوفيوف - حتى أنه عاتب ستراخوف ، لعدم إخباره بوجودك في المحاضرة . وقال زوجي حبنها :" كنت سالقي عليه نظرة في الاقل ، اذا لم تكن الفرصة سانحة للتحدث معه .
- - حقاً ّ. اكان زوجك في تلك المحاضرة ؟ لماذا لم يخبرني ستراخوف يذلك . انا آسف جداً  فقد كان دوستوبفسكي بالنسبة اليّ شخصا عزيزا . وربما كان بوسعي ان اسأله عن امور كثيرة ويجيبني عنها . أخبريني أي نوع من الاشخاص كان زوجك ؟ وكيف هي الصورة التي يقيت عنه في روحك، وفي ذاكرتك ؟
وتقول زوجة دوستويفسكي :" لقد تأثرت جدا بالنبرة المخلصة الصادقة التي تحدث بها عن فيودور ميخائيلوفيتش . فقلت بحماس :" كان زوجي العزيز مثالا ساميا للأنسان ، ويتحلى بكل الصفات الأخلاقية والروحية التي تزين الانسان . تلك التي كانت تظهر عند زوجي بأعلى درجة . فقال الكونت ليف نيكولايفيتش بنبرة متأملة صادقة :" هكذا كان تصوري عنه دائما
كانت رواية " الأخوة كارامازوف " آخر كتاب قرأه تولستوي قبيل مغادرته ياسنايا بوليانا ، ووفاته في محطة للسكك الحديد ، في نوفمبر 1910.
.
 
 
 

6
ماذا حدث للأدب الروسي المعاصر؟

د. جودت هوشيار
 
ألغيت الرقابة على المطبوعات في روسيا منذ حوالي ثلاثين عاما. وكان المتوقع أن يشهد هذا الأدب ازدهارا حقيقيا في أجواء الحرية والليبرالية، ولكن حدث العكس تماماً. حيث قلّ عدد القراء بشكل حاد، وعانت المجلات الأدبية (السميكة) المرموقة من انخفاض شديد في مبيعاتها، ولم تعد الأعمال الأدبية تنشر بعشرات أو مئات آلاف النسخ، كما كان الأمر في الحقبة السوفيتية، بل بعدة آلاف من النسخ في أفضل الأحوال .فما الذي حدث ؟
يقول البعض ان السبب يعود الى شيوع الأنترنيت، ووسائل الترفيه الجديدة . وهذا صحيح الى حد كبير . ولكني أعتقد أن السبب الرئيسي يكمن في إلغاء دور النشر الحكومية الرصينة، وإنشاء دور النشر الخاصة التجارية في روسيا، والتي باتت تتحكم بكل ما يتعلق بطباعة الكتب ونشرها وتوزيعها وإشهارها. ولم تعد تنشر الا الكتب الرائجة تجاريا، وهي في معظمها كتب خفيفة لا تتسم بقيمة فكرية وفنية كبيرة، وتنتمي الى أدب الرعب والجريمة أو المغامرات، أو الروايات النسائية لتسلية ربات البيوت، او روايات الحب الرخيص ، التي تجد اقبالا من المراهقات . كتب تُقرأ مرة واحدة  لقضاء الوقت ثم تُرمى غالبا في حاويات القمامة .
دور النشر الروسية اليوم حصرت الأدب في دائرة ضيقة من المؤلفين، وهي تقوم بتسليط الضؤ عليهم وإشهارهم بكل وسائل الدعاية المتاحة. وتلتف حول كل دار نشر كبيرة مجموعة من (النقاد) العاملين لصالحها، والذين يحاولون تلميع صور هؤلاء المؤلفين بكيل المديح عليهم وعلى اعمالهم . وهؤلاء النقاد بدورهم – كرؤساء أو أعضاء في لجان التحكيم - يتحكمون بآليات منح الجوائز الأدبية الى من تختارهم تلك الدور. ويوجد اليوم في روسيا عدد كبير من الجوائز الأدبية، يصعب حصرها ،  منها جوائز مجزية  مثل جوائز ( ، الكتاب الكبير ، كتاب العام ، البوكر في نسختها الروسية ، الكتاب الأكثر مبيعا ) وأخرى معنوية ،وتحمل في العادة أسماء كبار الكتّاب الروس . وتمنح الجوائز في احيان كثيرة لكتب راكدة، من اجل زيادة مبيعاتها .
 جائزة البوكر الروسية - التي تعد جائزة مستقلة الى حد ما عن سلطة دور النشر الروسية ّاب الروس الغربية الحديثة ، ولا صلة لها بالتراث الأدبي الروسي العظيم ..
أما الأدباء الذين لا يكتبون للسوق (حسب الطلب) فقد أصبحوا على هامش المشهد الثقافي، مهما كانت مواهبهم عظيمة، وأعمالهم متفردة ورائدة . وهذا لا يعني عدم وجود دور نشر رصينة، تهتم بالأدب الرفيع، ولكنها دور نشر صغيرة ذات موارد وامكانيات شحيحة، وطرق الإشهار شبه موصدة أمامها. وبذلك أصبح الكتاب سلعة في السوق، وليس مصدرأ للثقافة والمعرفة والمتعة الجمالية الحقيقية ، كما كان الأمر في الماضي .
 أن الأعمال الأدبية الروسية المعاصرة ، الصادرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والمترجمة الى اللغات الاحنبية ، تطبع بنسخ محدودة ، ولا يقبل عليها القراء العاديون ، بل اساتذة وطلبة أقسام الآداب السلافية . ويقوم معهد الترجمة في موسكو بتكليف مترجمين أجانب لترجمة الأعمال الأدبية الروسية الى اللغات الأجنبية ، وتنشر تلك الأعمال على نفقة المعهد لدى دور النشر الغربية . ويلجأ بعض نجوم الأدب الأستهلاكي الروسي الى نشر مؤلفاتهم في الغرب ، وتحمل تكاليف الترجمة والطباعة والتوزيع .
 
مائة صنف من السجق وفكرة واحدة

اجرت الصحفية والمترجمة الفنلندية (كريستينا روتكيرش) – التي تكتب باللغتين السويدية والفنلندية – لقاءات صحفية مع احد عشر كاتبا روسيا مشهورا تحدثوا خلالها عن سيرهم الذاتية واعمالهم واساليبهم وتجاربهم في الكتابة (بوريس اكونين)، (يفجيني غريشكوفيتش)، (أدوارد ليمونوف)، (يوري ماملييف)، (فيكتور بيليفين)، (لودميلا بيتروشيفسكايا)، (نينا سادور)، (فلاديمير سوروكين)، (تاتيانا تولستايا)، (لودميلا اوليتسكايا)، (ميخائل شيشكين). وقد جمعت (روتكريش) نصوص هذه اللقاءات في كتاب صدر قبل بضع سنوات في ستوكهولم باللغة السويدية بعنوان ” لقاءات مع أحد عشر كاتبا روسياً “، ثم قامت بترجمة الكتاب الى اللغة الفنلندية ونشره تحت عنوان ” مائة صنف من السجق وفكرة واحدة ".
 
عنوان هذا الكتاب تهكم لاذع على الادب الروسي المعاصر .روسيا البوتينية تسعى الى بناء
اقتصاد السوق ، وتجد في متاجرها اليوم أصنافاً كثيرة من السجق، الذي كان شحيحاً في الحقبة السوفيتية. ولكن الأدب الروسي تحوّل الى أدب محلي ، ويعاني من ندرة المواهب الكبيرة ، وشحة الأفكار الملهمة .. وبين احد عشر كاتبا لا يوجد من يكتب الأدب الحقيقي سوى (شيشكين)، و(اوليتسكايا). وهذه الأخيرة يعرفها القاريء العربي بعد ترجمة روايتها الممتعة (سونيشكا) الى اللغة العربية. وهي روايتها الأولى التي نشرت في موسكو عام 1992 وترجمت الى العربية بعد حوالي ربع قرن ...
شحة الأفكار والبؤس الإبداعي لنجوم الأدب الأستهلاكي هي نتيجة طبيعية لأنعزالهم عن الواقع الأجتماعي. هذا الواقع الحافل بالتناقضات الحياتية والإنسانية التي يمكن أن يستمد منها الكاتب الروائي والقصصي آلاف الحبكات الممتعة. ولكن للسوق قوانينها، وهذا هو الحال في كل بلد يتحول فيه الأدب الى سلعة في السوق، ولا يقتصر الأمرعلى روسيا وحدها
 
 


7
أرتسيباشيف ... مونيه الأدب الروسي
د.جودت هوشيار
ميخائيل ارتسيباشيف (1878–1927) من انبغ أدباء روسيا ، وأحد الكتّاب الأكثر شعبية في العصر الفضي للادب الروسي ، ولكنه يكاد يكون مجهولاً اليوم في العالم العربي - ليس بين القراء فحسب ، بل حتى لدى اهل الاختصاص - كالعديد من الادباء الروس المعروفين ، الذين هاجروا من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 . وكانت الهجرة في عرف البلاشفة تعني الحكم بالاعدام الأدبي على الكاتب – ان صح التعبير- اي حظر نشر وتداول اعماله ، وشطب اسمه اينما ورد في البحوث والدراسات ، واسقاطه من الأدب الروسي تماما.
بعد عقود من الحظر والتجاهل والصمت ، عاد ارتسيباشيف الى القاريء الروسي مع من عاد اليه من الكتّاب والشعراء الروس الكبار المضطهدين : نيكولاي غوميلوف ( زوج الشاعرة آنّا أخماتوفا )، اوسيب ماندلشتام ، اسحاق بابل ،بوريس بيلنياك ، مارينا تسفيتايفا ، آنّا أخماتوفا ، أندريه بلاتونوف  وعشرات غيرهم من الأدباء المعدومين أو المضطهدين أو المحظورين في العهد السوفيتي .
الآن يمكننا ان نقرأ مؤلفات ارتسيباشيف ، التي تصدر في طبعات متلاحقة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى اليوم. ونطلع على منجزه الابداعي ، وعالمه الروحي .
من هو ارتسيباشيف ؟ وهل الموضوعات التي عالجها، والافكار التي طرحها في مؤلفاته ما تزال تحتفظ بقيمتها الفكرية والفنية ؟. وهل هي قريبة منا ومن عصرنا الراهن ؟ وما هي اهم خصائص اعماله الادبية ، التي كانت مثار جدل صاخب داخل روسيا، وخارجها ، خلال الربع  الأول من القرن العشرين؟
من هو ارتسيباشيف ؟
ولد ارتسيباشيف في 5 نوفمبرعام 1878 في بلدة (ارخيتر) التابعة لمحافظة خاركوف الاوكرانية ، في عائلة من صغار النبلاء ، و كان والده ضابطا في الجيش القيصري ، ووالدته ربة بيت بولندية الأصل .
كان ارتسيباشيف محظوظا بان يولد ويعيش طفولته ومراهقته في منطقة هادئة ، رائعة الجمال ، والتي وصفها في اعماله الادبية وصف عاشق متيّم بسحر الطبيعة الخلابة فيها ، حيث المساحات الخضراء والغابات ونهر (فورسكلا ) . درس ارتسيباشيف خمس سنوات في المدرسة الثانوية ( جمناسيوم ) في ارخيتر ، وفصلا دراسيا واحدا في مدرسة الفنون التشكيلية في خاركوف ( 1897 – 1898 ) ، وحاول الالتحاق باكاديمية الفنون في بطرسبورغ العاصمة ، ولكن تم رفض طلبه لعدم حصوله على الشهادة الثانوية .
في عام 1897، اقدم ارتسيباشيف على محاولة انتحار باطلاق النار على نفسه . وكان لهذا الحادث المأساوي تأثير كبير في كتاباته المستقبلية ، وفي ادراكه لهموم الجيل الجديد ، ولمعنى الحياة.
ويقول الفنان يفغيني اغافونوف  في مذكراته عن صديقه وزميله في الدراسة  ارتسيباشيف :" كانت محاولة الأنتحار بسبب دراما عائلية مؤلمة. وحالته حرجة ، وميئوس منها تقريبًا ، فقد تغلغل الضماد عميقا افي الجرح مما ادى الى التهابه . وكانت ثمة مخاوف من تسمم الدم ، ولكنه نجا من الموت بإعجوبة " .
ويضيف اغافونوف فائلاً : " تعرّفت على ارتسيباشيف شخصيا عام 1897 في مدرسة خاركوف للفنون التشكيلية . كان مظهر الطالب الجديد مميزاً : فتى ضعيف البنية ، شاحب الوجه ، محدودب الظهر ، طويل الشعر ، ذو لحية سوداء ، ويرتدي دائماً  قميصا اسود . وكان أشبه بجثة  متحركة ".
 ومنذ ذلك الحين كان ارتسيباشيف مريضاً طوال حياته ، ولم يعد ذلك الشاب الحالم ، بل اصبح شخصا منطويا على ذاته . وفي ما بعد كتب في سيرته الذاتية يقول : " كنت في التاسعة عشر من عمري عندما يئست من الحياة ، وحاولت الانتحار باطلاق النارعلى نفسي ، ولكن جرحي التئم بعد ثلاثة اشهر .ونهضتُ وقررتُ ان لا اطلق النار على نفسي مرة اخرى مهما كان السبب .
قضى ارتسيباشيف في مدرسة الفنون فصلا دراسياً واحداً ، أثبت خلاله أنه طالب موهوب ومتفوق . ومع ذلك ، كان وحيداً تماماً، وميالاً الى  العزلة وصموتا، ربما بسبب الصمم ، الذي أصيب به منذ طفولته .
حياته الأدبية
بدأ أرتسيباشيف حياته الأدبية في عام 1894 بنشر مقالات في الصحف المحلية بمدينة خاركوف. وفي 27 يناير 1895 نشر قصته الاولى في صحيفة  " يوزني كراي " عن انتحار تلميذ مدرسة ثانوية . وفي القصة ، وصف رهيب لمشاعر التلميذ بأدق تفاصيلها لحظة الانتحار . يقول ارتسيباشيف في سيرته الذاتية متهكماً على نفسه :
" في طفولتي  كنت أريد أن أكون صيادًا ، لكني لم اكن أمانع أن أكون ضابطًا ، ثم حلمتُ ، لفترة طويلة جدًا أن أصبح فنانًا ، بيد انّي أصبحت كاتبا بشكل غير متوقع . حدث ذلك لأن إحدى الصحف في خاركوف دفعت لي ثمانية روبلات لقاء قصة قصيرة ، اشتريت بها اصباغًا للرسم ، ثمّ اردت الحصول على المزيد من المال ، فواصلت الكتابة ، وعند ذلك بدا لي الرسم مملاً، فتحولت الى الأدب .
انتقل ارتسيباشيف عام 1998 من خاركوف الى العاصمة بطرسبورغ . واخذ ينشر مقالات نقدية ، وملاحظات عن المعارض الفنية المقامة في العاصمة ، وقصصا مرحة ، ورسوما كاريكاتيرية في بعض المجلات الثقافية.
تزوج ارتسيباشيف في السنة ذاتها من فتاة طويلة القامة ، قصيرة الشعر، وصموت . كانت تبدو وكأنها تراقب زوجها طوال الوقت، وقد انجبا طفلا في عام 1899 سمّياه بوريس . ولكن هذا الزواج لم يدم سوى ثلاث سنوات حيث انفصلا عن بعضهما بسبب اختلاف شخصيتيهما ومنذ عام 1902 تفرغ ارتسيباشيف للأدب تماماً .
القصة الأولى (الجادة) التي اعتبرها آرتشيباشيف بداية  لمسيرته الإبداعية هي "باشا تومانوف" . كتبها في عام 1901 وارسلها إلى إحدى المجلات الادبية المرموقة ، وهي مجلة "روسكي بوغاتستفا " ، ولكن الرقابة رفضت نشرها، ورأت النور بعد ذلك بعامين في مجلة أخرى هي ، "اوبرزفانيا". بحلول هذا الوقت ،كان الكاتب الشاب قد نشر العديد من القصص القصيرة ،منها  " كوبريان "  و " حامل الراية " و" الضحك " المنشورة عام 1902 وغيرها ، التي جمعها ونشرها في كتاب من مجلدين صدرا بين عامي 1904-1905  في بطرسبورغ . وقد لفتت هذه  المجموعة نظرالأوساط الأدبية في روسيا ، ورحبت كبريات المجلات الادبية بظهور اسم جديد مثير للاهتمام في الأدب الروسي . كما اعتبرت روايته " موت لاندي " (1904)  بمثابة حدث ادبي مهم . ومع ذلك ، كان عدد قليل من الناس يعرفون ان للكاتب مخطوطة رواية أخرى بعنوان " سانين" جاهزة للنشر منذ عام 1902 وستثير عند نشرها ضجة  أدبية كبرى ..
رواية " سانين "
نشرت لأول مرة في مجلة "سوفريميني مير" بعددها الصادر في سبتمبر 1907. واقبل القرّاء الروس عليها اقبالا عظيما، واعتبرها معظم النقّاد  ذروة اعمال الكاتب، في حين ندد بها عدد من النقاد والقراء المتزمتين الذين اتهموا الكاتب بالترويج للعدمية والاباحية . ولفتت الرواية انظار الأوساط الأدبية في العديد من بلدان العالم المتقدم ، وسرعان ما ترجمت الى عشرات اللغات الاجنبية بما فيها اليابانية .
كانت حبكة الرواية وافكار المؤلف مثيرة الى درجة انها تسببت في رفع دعاوى قضائية ضد ناشر الترجمة قي المانيا ، وضد مترجم الرواية في المجر .وتمت مصادرة الطبعة الثانية من الرواية في روسيا . وفي نهاية المطاف تم الأفراج عن الكتاب وتبرئة المتهمين بالترويج للاباحية - وهذه التهمة تبدو اليوم مضحكة لو قارنا بعض المشاهد الايروتيكية لرواية " سانين " مع ما تصدر اليوم في الشرق والغرب من روايات جنسية فاضحة -  وتجدر الاشارة الى ان الكاتب المصري الراحل ابراهيم عبدالقادر المازني قد ترجم رواية " سانين " الى العربية نقلا عن الانجليزية ونشرها تحت عنوان  " سانين أوابن الطبيعة " عام 1922 ، ولكن البعض اتهم المازني بالإنتحال ، وانه كتب رواية " ابراهيم الكاتب " تقليدا لرواية " سانين ، حيث تجد صدى آراء " سانين " واضحة في " ابراهيم الكاتب ". وهذه مسألة تستحق وقفة طويلة ، لسنا بصددها الآن .
كانت رواية " سانين " تعبيرا عن آراء الكاتب وتجسيدا لشخصيته تجسيدا فنيا رفيعا . ويبدو ان " سانين " - وهو لقب البطل الرئيسي للرواية - قد حجب ارتسيباشيف ، وكأن ارتسيباشيف ليس هو الذي كتب سانين ، بل ان سانين هو الذي كتب ارتسيباشيف وخلقه على صورته ومثاله .
الفكرة الرئيسية للرواية هي ان كل انسان بحاجة الى تلبية احتياجاته ورغباته الطبيعية . ولا يمل بطل الرواية فلاديمير سانين من تكرار القول : " ان الرغبة هي كل شيء ، والانسان يموت عندما تموت الرغبة في اعماقه. ومن يقتل رغباته انما يقتل نفسه ". يثمن سانين الشخصية الانسانية حسب قدرتها على تنمية الفرح والمتعة ، ويرى إن من لا يعرف كيف يستمتع بالحياة ، ويسعد الآخرين لا قيمة له . .
انصار الكاتب قالوا ان سانين هو" بطل زمانه " حيث وجدوا فيه ملامح الفكر الحي وصدق تصوير الحياة ، واسسوا جمعيات حملت اسم " السانينيون".
عبّرت الرواية بقوة عما نضج في المجتمع الروسي في اوائل القرن العشرين من احتجاج على جميع انواع القيود الاخلاقية والسياسية، وعلى المعتقدات والاغلال التي كانت تحد من حرية الانسان . ووجهت ضربة مؤثرة الى المعايير التقليدية لتقييم الشخصية الانسانية ،  والى الذين اعطوا الحق لانفسهم في اصدار احكام قطعية حول الخير والشر ، وعما هو رفيع او وضيع ، والى الأحكام المسبقة للنفاق الاجتماعي التي فرضت على الكتّاب والمفكرين على مدى قرون عديدة ، ما يجوز وما لا يجوز اظهاره من خبايا النفس البشرية . وكانت تلك الاحكام تتجاهل حقيقة ان الانسان ليس تجسيدا لما هو مقدس ونقي وسام فقط ، بل انه في الوقت نفسه يحمل في اعماقه الشر والخطيئة ، حيث تتعايش الروح السامية مع الرغبات الجسدية .
ثم كتب ارتسيباشيف عدة روايات قصيرة لعل اهمها " بقعة دم " و" الموجة البشرية" و " العامل شيفروف " حيث يصوّر فيها الناس البسطاء الروس خلال التغيرات الاجتماعية والسياسية في البلاد .
وتناول الكاتب في اعماله اللاحقة موضوعا ساخنا في المجتمع الروسي ، له صلة بسيرته الذاتية . وهو موضوع الانتحار. وكان اهم هذه الاعمال ، رواية بعنوان " عند الخط الاخير"( 1912) ، التي تعكس اليأس والاحباط وخيبة امل الناس في الشعارات الثورية ، وتعطشهم للسلام ، والتنوير الروحي ، عقب الأحداث الدموية التي رافقت الثورة الروسية الأولى عام 1905 . 
اما رواية " امرأة واقفة في الوسط " فقد اثارت ايضا جدلاً حامياً بين القراء عموما والنقّاد والكتّاب على وجه الخصوص. كانت الآراء كالعادة متباينة وأحياناً متناقضة . قال البعض انها رواية تفضح المرأة ، وقال آخرون انها عن دناءة الرجال وبؤسهم الروحي ، وملحمة محزنة عن ضعف النساء . وانهيار الافكار الرومانسية النبيلة عن الحب .
موضوع المرأة لم يقتصر على هذه الرواية ، بل عالجه الكاتب في العديد من رواياته وقصصه القصيرة ، لعل اهمها " السعادة " و"المنتقم" و " قصة حب امرأة صغيرة " و" الغيرة ".
اثبت أرتسيباشيف في هذه الأعمال جدارته العالية ككاتب رفيع المستوى. وقال بعض النقاد أن ارتسيباشيف هو ( مونيه ) الأدب الروسي . ومونيه كما نعلم هو رائد المدرسة الانطباعية في الرسم .ثمة في اعمال ارتسيباشيف : الضؤ والهواء ، والورود والزهور، ونضارة الالوان ، و الشمس الساطعة ، خالقة الحياة ، الشمس التي تحوّل الطبيعة الى عالم من الالوان .
ارتسيباشيف كاتبا مسرحيا وسينمائيا
كتب ارتسيباشيف العديد من المسرحيات وسيناريوهات الافلام السينمائية . فقد حققت المسرحية الاولى التي كتبها عام 1913 وهي " الغيرة " نجاحا هائلا ، وفي العام التالي تم انتاج فيلم سينمائي مستوحاة من هذه المسرحية. وتوالت مسرحياته " الحرب " ( 1914) ،  "قانون الوحشية " (1915) و" الاعداء " (1916) . و" الشيطان" (1925) ، التي  بشجب فيها سفك الدماء . وكتب سيناريو فيلم " الروح " الذي شهد اقبالا واسعا ، الا ان الرقابة سرعان ما منعت الاستمرار في عرضه . ومن سيناريوهات الأفلام التي كتبها ارتسيباشيف ، " يوميات الاغواء" ، و " عار الفجور" ، و" المنتقم" ، و" الخط الأخير ".
ارتسيباشيف والبلاشفة
ما كان مقبولاً ورائجا من اعمال ارتسيباشيف في العهد القيصري،  لم يعد كذلك بعد ثورة اكتوبر1917. فقد بدأت الأفكار الفلسفية لاعماله الأدبية تتناقض مع الخط الأيديولوجي والسياسي للبلاشفة ، الذين اتهموا الكاتب ببث روح  التشاؤم والانحطاط في الأدب . ووصفوا اعماله بانها غير اخلاقية ، وان أفكار المؤلف تسبب أضراراً اجتماعية لا يمكن إصلاحها.
عارض آرتسيباشيف النظام البلشفي . ولم يقبل التكيّف مع الوضع السياسي والاجتماعي الجديد ، ورفض ان يكتب ما لا يشكل خطرا عليه . وسرعان ما تم حظر مؤلفاته داخل روسيا ، كالعديد من الكتاب المعروفين الذين رفضوا الخصوع لإملاءات البلاشفة . وبعد ست سنوات من حظر أعماله وتضييق الخناق عليه ، اضطر الى الهجرة الى بولندا وطن والدته . وكان معروفا على نطاق واسع لدى الجمهور البولندي من خلال أعماله الروائية والمسرحية المترجمة الى البولندية ، واصبح شخصية معروفة في الاوساط الثقافية البولندية وفي المجتمع المخملي في وارشو . وأصدر ارتسيباشيف فور استقراره في وارشو - بالتعاون مع كتّاب روس مهاجرين آخرين - صحيفة " من اجل الحرية ". وكانت لسلسلة مقالاته المناهضة للنظام البلشفي صداها الكبير لدى المهاجرين الروس في بولندا وفي البلدان الاوروبية عموما .
توفى ارتسيباشيف في الثالث من آذار عام 1927 بمرض السل المزمن الذي اصيب به منذ فترة طويلة . ولما كان الكاتب محظوراً في الاتحاد السوفيتي ، فقد نشرت مجلة " اغنيوك " -  وكانت اوسع المجلات السوفيتية انتشاراً - خبر وفاته على النحو التالي : " مات في المهجر ميخائيل بتروفيتش ارتسيباشيف . ومن غير المرجح أن يحزن أي قاريء روسي لوفاة هذا الكاتب الروسي االمعروف  في زمن ما ". ولكن الحقيقة هي ان الأوساط الأدبية الروسية تلقت خبر وفاة الكاتب بحزن بالغ ، وحتى الكتاّب الذين كانوا ينتقدون ارتسيباشيف قبل الثورة ، عبروا عن حزنهم العميق لرحيله ، وفي مقدمتهم مكسيم غوركي ، وأشادوا به ككاتب كبير وموهوب. ورغم الأجواء القمعية السائدة في البلاد ، اقام عدد من الأدباء الروس المعروفين حفلا تأبينيا للكاتب الراحل . وأصدرت احدى دور النشر الخاصة مختارات من أعماله الروائية والقصصية في ثلاثة مجلدات .
ارتسيباشيف كاتب اجتاز امتحان الزمن . وهو يحتل اليوم مكانة رفيعة بين كتاب العصر الفضي في الأدب الروسي .
 


8
آنّا أخماتوفا.. ملكة ذات طابع مأساوي
د. جودت هوشيار
في عام 1912 كانت آنّا أخماتوفا في الثالثة والعشرين من عمرها . إمرأة جميلة، مفعمة بالأنوثة والبراءة ، وشاعرة رقيقة ذات موهبة عظيمة ، وتحب النزول في وقت متأخر من الليل الى قبو مقهى " الكلب الضّال" في العاصمة بطرسبورغ ، وعلى كتفيها شال ، وفي جيدها عقد من اللؤلؤ .وكانت قصائدها تعكس عمق شخصيتها ، وتنطوي على حقائق نفسية ووجدانية قوية ، تثير رغبات حسية دفينة وموجعة ، عبر شكل شعري متألق ، بوسائل لغوية بسيطة . كانت الأحلام ما تزال ممكنة التحقيق ، ولم يدر بخلدها في ذلك الحين ، إن المستقبل محمّل بالمصائب .
ولدت آنّا اخماتوفا في 23 يونيو عام 1889 في إحدى ضواحي مدينة أوديسا . وكتبت في سيرتها الذاتية تقول :" ولدت في العام ذاته الذي ولد فيه تشارلي شابلن وصدرت رواية تولستوي ( كريتزر سوناتا ) ، وبني برج إيفل ."
كان والدها أندريه غورينكو مهندساً بحريا متقاعدا ، ووالدتها اينّا ستوغوفا سليلة عائلة تترية عريقة ، وينتميان الى الطبقة العليا في المجتمع . ولكن العائلة انتقلت الى العاصمة بطرسبورغ بعد سنة واحدة من ولادتها . قضت طفولتها ومراهقتها في بطرسبورغ وكييف ، وتعلمت الفرنسية في سن مبكرة ، وكتبت أولى قصائدها عام 1904. درست اللاتينية والتأريخ والقانون
وفي عام 1910 تزوجت الشاعر نيقولاي غوميلوف ( 1886-1921) ، وسافرا الى باريس لقضاء شهرالعسل.، وقامت برحلة أخرى الى باريس عام 1911، وزارت ايطاليا عام 1912 . وقد التقت خلال رحلتيها الى باريس بالفنان والنحات الإيطالي اميديو موديلياني ( 1884-1920) الذي خلدها في 16 لوحة فنية رائعة بعضها بالألوان وأخرى تخطيطية . كانت تلك فترة ذهبية في حياتها
وعندما بدأت بنشر اعمالها عام 1911 اختارت الشاعرة لنفسها " أخماتوفا " كاسم فني - بدلاً من لقب والدها غورينكو - اعتقاداً منها أن أحد أسلافها " احمد خان " كان اميراً تترياً ينتمي الى سلالة " جنكيز خان .
في عام 1912 أنجبت ابنها ليف ، ونشرت أول ديوان لها بعنوان " المساء " .وسرعان ما ذاعت شهرتها في الأوساط الأدبية الروسية . وقال النقّاد الروس عنها ، إن موهبة جديدة قد ظهرت في الشعر الروسي . وقد تعززت مكانتها الأدبية بصدور عدة دواوين شعرية لها في السنوات اللاحقة .
لم تكن الحياة تنبأ بعد بأية مصائب . كتبت الشعر ، وسهرت الليالي ، وشربت الشمبانيا ، ولكن الحرب الاهلية التي رافقت ثورة اكتوبر ، وضعت حداً لكل هذا. اللوحات ضاعت أو احترقت خلال الحرب الأهلية .ولم تبق لدى الشاعرة سوى لوحة واحدة فقط ، كانت تعلقها على أحد الجدران في غرفة نومها حتى آخر يوم في حياتها .
وتقول أخماتوفا إن موديلياني كان يعيش في فقر مدقع ، حتى انه لم يكن قادراً ، على دعوتها الى أحد المقاهي ودفع ثمن فنجانين من القهوة . ومع ذلك فقد كانت السعادة تغمرها بصحبة العبقري الايطالي الوسيم الذي توفي بعد ذلك بسنوات قليلة ، وترك ندبة لا تندمل في قلب اخماتوفا. ففي أيامها الأخيرة كتبت في مذكراتها : " كانت حياة موديلياني قصيرة ، وحياتي طويلة "
في اغسطس عام 1918 انفصلت الشاعرة عن زوجها الشاعر نيقولاي غوميلوف ، أبرز أعضاء " ورشة الشعراء " الشهيرة ، ومؤسس مدرسة " الأكميزم " أو " الذروة الروحية " في الأدب الروسي ، والذي أعدم في عام 1921 بتهمة الانضمام الى تنظيم سري للضباط ( البيض) ، فقد كان غوميلوف ضابطاً لامعاً في العهد القيصري .
وفي ديسمبر من العام ذاته تزوجت فلاديمير شيليكو ، العالم المتخصص في حضارة وادي الرافدين ، وأول مترجم لملحمة جلجامش الى اللغة الروسية. ولكن هذا الزواج لم يدم سوى ثلاث سنوات ، فقد كان شيليكو يضيّق الخناق عليها ، ويقيّد حريتها الشخصية .
وفي عام 1922 تزوجت المؤرخ نيقولاي بونين . وكان زواجاً موفقاً ، ولكنه اعتقل في عام 1938 وحكم عليه بالسجن خمس عشرة سنة ، وقضى نحبه من الانهاك الجسدي في أحد معسكرات العمل الاجباري الشاق.. وكان ابن الشاعرة الوحيد ، ليف غوميلوف سجيناً أيضاً في هذا الوقت .
خيّم الظلام والوحدة والياس على حياتها وظهر في شعرها ( المحظور من النشر والتداول منذ منتصف العشرينيات ) صرخات الألم والشعور بالوحدة . وعاشت دون أن يلوح لها في الافق بارقة أمل . شعرها في هذه الفترة كان يعبرعن الحب الأنثوي المأساوي ، حيث تمتزج العاطفة والحزن بالأمل .
قوة شخصية الشاعرة وثباتها ، سمحت لها بالبقاء على قيد الحياة في سنوات القمع الرهيبة ، رغم فقدان زوجها واعتقال إبنها ، وحظر نشر قصائدها .
 
قداس جنائزي
في عام 1935 بدأت بكتابة قصيدتها الطويلة الرائعة " قداس جنائزي" وهي قصيدة سيرة ذاتية وتعكس معاناتها الداخلية . هنا تجلت عظمة أخماتوفا كشاعرة مبدعة . هذه القصيدة ، التي قضت الشاعرة حوالي عشر سنوات في كتابتها ، هي دليل على نضجها كشاعرة . كانت تعيش في فقر مدقع ، تعاني من الجوع والبرد ، وتشعر بالنفور من الواقع الكئيب ،الذي كان يعج بالمخبرين السريين ، لكنها لم تفقد احترام الذات. في هذه الظروف الصعبة كانت تكافح ضد الواقع المرعب بسلاح الشعر: " وقفت آنذاك مع شعبي وتقاسمت معه محنتي " . "
لم تحاول الهجرة إلى إحدى الدول الغربية ، كما فعل العديد من الأدباء الروس المعروفين من أصدقائها ، وظلت في الاتحاد السوفيتي ، وأحرقت جزءاً كبيًرا من أرشيفها ،الذي كان الإحتفاظ به يعرض حياتها للخطر ، لكن الناس حفظوا أشعارها عن ظهر قلب ، وكانوا يتذكرون صوتها وقصائدها .
في عام 1945 زارالفيلسوف والمفكر والدبلوماسي البريطاني السير أشعيا برلين ( 1909-1997) الشاعرة في مسكنها بمدينة لينينغراد ، عندما كان سكرتيراً أول في سفارة بلاده لدى موسكو . وخلال المحادثة الطويلة التي استغرقت عدة ساعات ، تحدثت اخماتوفا خلالها عن حزنها وعدم موافقتها على النظام القائم ، ودفعت ثمناً غالياً لحديثها مع " جاسوس أجنبي " حسب زعم السلطة ، حيث اعتقل ابنها مرة أخرى، وحكم عليه بعشر سنوات سجن مع الأشغال الشاقة. وتم وضع الشاعرة تحت مراقبة الشرطة السرية وعندما كانت تطل من الشباك الوحيد لشقتها المؤلفة من غرفة واحدة ، ترى عدة مخبرين سريين جالسين على مصطبة مقابل مدخل العمارة لمراقبتها . ولكنها لم تستسلم لليأس والقنوط .
وقد كتب اشعيا برلين لاحقاً عن لقائه بالشاعرة العظيمة ، وكيف إنه لاحظ بإعجاب شديد صمودها وانشغالها بعملها الإبداعي ، ووصفها بأنها " ملكة ذات طابع مأساوي " .
كتبت أخماتوفا قصيدة " قداس جنائزي " بلغة مجازية للغاية. بدت وكأنها أجزاء انتزعتها من نفسها من أجل إدخالها في نص القصيدة. وقد واجهت في هذه الفترة أشد المحن . حيث فقدت زوجها . وكان ابنها ما يزال سجيناً. وتحملت كل أعباء حياتها بكرامة ، ولم تجد العزاء سوى في الأدب .
في مقدمة قصيدة " قدّاس جنائزي " كتبت أخماتوفا عما دفعتها الى كتابتها: " طوال سبعة عشر شهراً في زمن يزوف الرهيب ( الذي كان وزيراً للامن والمخابرات بين عامي 1937، 1938) كنت أقف في طوابير طويلة من أجل السماح لي بزيارة السجن في لينينغراد . امرأة مزرقة الشفاه من البرد ، لم تسمع عني من قبل قط ، خرجت من حالة الذهول التي كنا فيها جميعاً ، وسألتني همسا :
 
هل يمكنك الكتابة عن هذا ؟
أجبت : نعم
حينها ارتسمت شبه ابتسامة على هذا الذي كان يوماً ما وجها .
بعد سنوات من التضييق والصمت والتجاهل ، نشرت قصيدة " قداس جنائزي " في ميونيخ عام 1963 ، في كتاب صدر عن دار نشر "فيرلاج " الألمانية ..
. بعد أسابيع قليلة من النشر تحولت القصيدة إلى صرخة حزن ليس فقط للشاعرة نفسها ، ولكن أيضًا لملايين النساء الروسيات اللائي عشن كل أهوال النظام الذي حطم حياتهن ، وحياة أزواجهن وأبنائهن .
" اليوم لدي الكثير لأفعله: يجب قتل الذاكرة حتى النهاية ، ويجب أن نجعل الروح لا تابه ، ويجب أن نتعلم كيف نعيش مرة أخرى " .
 
جائزة جمعية الكتّاب الأوروبيين
 
في أواخر ديسمبر 1964 أقيم احتفال مهيب في مدينة تاورمينا الواقعة بجزيرة صقلية الايطالية ، تم خلاله تقليد الشاعرة جائزة جمعية الكتّاب الأوروبيين في مجال الشعر، بحضور جمع كبير من الكتّاب والشعراء من معظم البلدان الأوروبية . ألقت اخماتوفا مختارات من قصائدها ، التي قوبلت بحماس عظيم ، ونهض الحضور وقوفا لتحيتها ، رغم أن معظمهم - باستثناء الوفد السوفيتي – لم يكن يعرف اللغة الروسية - وكان ذلك تحية لملكة الشعر وللأدب الروسي العظيم .
شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة اكسفورد
في 5 يونيو 1965 منحت جامعة أكسفورد شهادة الدكتوراه الفخرية في الأدب لآنا أخماتوفا
ولأول مرة في تاريخ الجامعة ، كسر البريطانيون التقليد الأكاديمي الراسخ: لم تصعد آنا أخماتوفا الدرج الرخامي لأستلام شهادتها من يد رئيس الجامعة ، على النحو المعتاد ، بل إن رئيس الجامعة هو الذي نزل اليها .كما أن اخماتوفا اعتذرت عن وضع القبعة التقليدية على رأسها لأنها – كما قالت - لا تلائمها ، ووافق رئيس الجامعة على استثناء ملكة الشعر من هذا التقليد الراسخ أيضاً .
في اليوم التالي كتبت الصحف البريطانية : إن جامعة اكسفورد منحت شهادة الدكتوراه الفخرية 
إلى "أعظم الشعراء الروس المعاصرين - آنا أخماتوفا البالغة من العمر 76 عاماً ، والتي يعكس شعرها ومصيرها ، مصير الشعب الروسي" –
توفيت اخماتوفا بنوبة قلبية في مصحة بالقرب من موسكو في 5 مارس 1966 . لكن عملها استمر في العيش والقتال
أخماتوفا وجائزة نوبل في الأدب
دأبت أكاديمية العلوم السويدية – مانحة جوائز نوبل – على الحفاظ على سرية وثائقها الأرشيفية لمدة خمسين عاماً . وكما يتضح من الوثائق المنشورة في ينايرعام 2016 أن اخماتوفا كانت ضمن لائحة المرشين لنيل جائزة نوبل في الأدب عام 1965
وجاء في تلك الوثائق أن رئيس لجنة نوبل " أندرس أوسترلوند " قال خلال تقييم قصائد أخماتوفا : " لقد تأثرت كثيراً بالإلهام القوي للشاعرة ، وتأثرت أكثر لمصيرها وارغامها على الصمت الاجباري لسنوات طويلة " . وقد ذهبت الجائزة في ذلك العام الى مرشح الدولة السوفيتية " ميخائيل شولوخوف " ، بعد أن حشّد الاتحاد السوفيتي تأييد الأوساط الأكاديمية ، والفائزين بجائزة نوبل من الكتّاب والشعراء اليساريين .، ومارس ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية على السويد . وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن شولوخوف لم يكن يستحق الجائزة .
كما تشير وثائق الاكاديمية السويدية التي كشف النقاب عنها عام 2017 أن اخماتوفا كانت من أبرز المرشحين لنيل الجائزة عام 1966 . ولكن وفاة ألشاعرة في مارس من ذلك العام أدى الى صرف النظر عن ترشيحها.
ذكرى أخماتوفا
يتمتع إبداع اخماتوفا بتبجيل عظيم في بلادها ، وفي العالم الغربي . وقد خلدت روسيا ذكرى الشاعرة بطرق شتى. فهناك متحف اخماتوفا في بطرسبورغ ، وتمثال أو جدارية لها في كل مدينة روسية عاشت فيها ولو لبضع سنوات ، منها ثلاثة تماثيل في مدينة بطرسبورغ وتمثال في موسكو. وفي كل مدينة من تلك المدن شارع يحمل اسمها . كما أطلق الفلكيون الروس اسمها على كويكب اكتشف عام 1982 ، وعلى فوهة بركان في كوكب الزهرة . إضافة الى عدد من المكتبات العامة وحتى بعض البواخر السياحية . وثمة العديد من لوحات البورتريه للشاعرة رسمها كبار الفنانين الروس ، وأفلام سينمائية تصور حياتها المليئة بالأحداث الدراماتيكية .
كما حولت قصائدها الى أوبريتات وباليهات وأغان يصعب حصرها . وكتبت عنها عشرات الكتب والأطروحات العلمية . وتحتفل روسيا في 23 يونيو من كل عام بذكرى ميلاد الشاعرة حيث تقام فعاليات ثقافية جماهيرية ، يلقي خلالها أشهر الممثلين والممثلات الروس قصائدها الوجدانية التي تهز المشاعر بصورها الفنية المدهشة .
 


9
أدب / الحرية لثلاث دقائق
« في: 20:10 02/12/2019  »
الحرية لثلاث دقائق
 
قصيدة للشاعر يفغيني يفتوشينكو
 
ترجمة : د.  جودت هوشيار عن الروسية

 
أهدى يفتوشينكو هذه القصيدة الى ذكرى البطل الوطني الكوبي خوسيه انطونيو أتشيفاليري ، وكان إسمه السري " مانسانا" ويعني باللغة الإسبانية " التفاح "
 
كان شاب اسمه مانسانا
عيناه صافيتان كينبوع
وروحه صاخبة كسطح مأهول
يعج بالحمام والجيتارات واللوحات التي لم تتم
كان يحب كيزان الذرة
والبيسبول
والأطفال
والأشجار
والطيور
وعيني فتاته المعجزتين
حين تشرقان من تحت اهدابها
وتلتقيان عفوا بعينيه و...
وقد التهبت رقصة الباتشانجا
كان مانسانا أشبه بطفل
لكن نفوراً صارماً كان يومض في عينيه
عندما يرى النفاق والكذب
كان الكذب في كوبا يرتدي أفخر الثياب
ويذرع ردهات القصور
ويجلس في سيارة الرئيس
مضطجعا كأنه في منزله
وينشر الهراء في جميع الصحف
ويبدأ نهاره بالصياح
 
ومن وقت لآخر
بستبدل بالصياح الروك آند رول
وينفخ في الراديو الأبواق
وقرر الشاب الصغير مانسانا
أن يستولي هو وأصدقاؤه على محطة الإذاعة
لا من أجل المجد
وإنما من أجل الجميع
ولكي تعرف كوبا الحقيقة
وهكذا
هجم وفي يده المسدس
وانتزع الميكروفون من المغنية
واخذ يقول للشعب الحقيقة
كصوت كوبا ، والشجاعة ، والإيمان
لمدة ثلاث دقائق فقط !
ثلاث دقائق لا أكثر
ثمّ ... طلق ناري
وبعده لم يسمع شيء
أصبحت رصاصة باتستا نقطة
في خطبة مانسانا التي لم تكتمل
ومن جديد دوى الروك آند رول بانتظام
اما هو فلم يعد يمكن أن يقهر
بعد أن أعطى حياته مقابل ثلاث دقائق من الحقيقة
وأغفى بوجه سعيد شاب
فيا شباب العالم
حينما يحكم الزيف بلدا ما
وتأخذ الصحف في الكذب بلا سأم
تذكروا مانسانا
أيها الشباب
هكذا يجب أن تعيشوا
لا تشغلوا أنفسكم بالتفاهات
واجهوا الموت
ناسين الراحة
والهدوء
وقولوا الحقيقة
ولو لثلاث دقائق
ثلاث دقائق فقط
وبعد ذلك فليقتلوكم


10
آلامُ بوريس باسترناك
                                             
د.جودت هوشيار
 في منزل باسترناك
قبل عدة اسابيع ، زرت منزل ( الآن متحف ) الشاعر بوريس باسترناك في ( بريديلكينا ) ، بلدة الكتّاب في العهد السوفيتي ، الواقعة في ضاحية موسكو الشمالية. هنا عاش الشاعر بين عامي 1939-1960 . وهنا تلقى نبأ فوزه بجائزة نوبل في الأدب لعام 1958 . وهنا توفي في 30 مايو 1960.
منزل خشبي من طابقين مثل كل منازل البلدة . غرفة نوم ، ومكتب الشاعر ومكتبته الشخصية الثمينة في الطابق الثاني . اثاث البيت متواضع ، ولكن البيانو الأسود العائد لوالدته ، روزاليا باسترناك ، واللوحات الفنية الرائعة ، والصورالمعلقة على جدران غرفة المكتب والصالة – وهي من ابداع والده الفنان الشهير ليونيد باسترناك - تدل على ان الشاعر نَشَأَ وَشَبَّ في اجواء فنية راقية، حيث كان يتردد على منزل العائلة العديد من كبار الفنانين والادباء وبضمنهم الكساندر سكريابين وليف تولستوي.
جلستُ في المكتب الذي كتب فيه الشاعر قصائده الرائعة ، ورواية " دكتور زيفاغو " وغرقت في الحزن والأسى . يا الهي ، كم تعذّب الشاعر ، وكيف سممت السلطة حياته بعد فوزه بجائزة نوبل ؟. وكم نشر في الدول الغربية من أساطير وأكاذيب حول ما سمي بقضية باسترناك ؟ ، وكيف تم تسييس القضية خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي ؟ . وكم كتب في العالم العربي من مقالات وتعليقات عن باسترناك وروايته إستناداً الى مصادر غربية متحيزة ؟.
أعتقد أنه قد آن الأوان لألقاء الضؤ على قضية باسترناك - بعيداً عن الأوهام ، والإثارة الاعلامية - أستنادا الى الوثائق الرسمية الروسية ، ووثائق الأكاديمية السويدية – مانحة الجائزة - التي كشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة .
 
طريق باسترناك الشائك الى جائزة نوبل
 
يخطيء من يظن أن منح جائزة نوبل في الادب لعام 1958 الى بوريس باسترناك ، كان فقط بفضل رواية " دكتور زيفاغو " التي أثارت فور نشرها في ايطاليا عام 1957 ومن ثم ترجمتها في الأشهر اللاحقة الى اكثر من عشرين لغة ، ضجة أدبية وسياسية في روسيا والعالم ، لم يسبق لها مثيل .
باسترناك واحد من أعظم شعراء القرن العشرين ، واحتل مكانة راسخة في الأدب العالمي قبل كتابة هذه الرواية بسنوات طويلة . وكما يظهر من وثائق لجنة نوبل ، التي نشرت عام 2008 بعد مرور خمسين عاما على منح الجائزة ، أن باسترناك كان، مرشحا بارزاَ لنيل هذه الجائزة المرموقة في عام 1946 أي قبل أحد عشر عاما من نشر رواية "دكتور زيفا غو". وقد قام بترشيحه سيسيل موريس باور ، وهو عالم انجليزي ضليع في اللغات السلافية، وباحث بارز في الشعر الروسي . ولكن الجائزة ذهبت في تلك السنة الى الكاتب الألماني هيرمان هيسه . ولم يختف إسم باسترناك من لائحة المرشحين للجائزة خلال اعوام ( 1947، 1948 ، 1949 ).
ثمة تقليد درجت عليه اكاديمية العلوم السويدية ( مانحة الجائزة ) وهو أن يوم 31 يناير من كل عام ، هو آخر موعد لقبول الترشيحات . وفي هذا اليوم يحق لكل عضو في الأكاديمية تقديم مرشحه لنيل الجائزة . وكان عضو الأكاديمية الناقد الأدبي ( مارتن لام ) قد رشح باسترناك للجائزة عام 1948 ، وكرر ترشيحه عام 1950 .
توقفت محاولات ترشيح باسترناك للجائزة عندما أصبح من الواضح الخطر الذي قد يهدده في بلاده ، بعد ان تعرض الى نقد لاذع بسبب حفاظه على حريته الابداعية بعيدا عن شعار حزبية الأدب . وظهر اسمه مجددا ضمن قوائم المرشحين بعد وفاة ستالين . ففي عام 1954 ، تردد اسم باسترناك كمرشح لنيل الجائزة ، ولكن لجنة نوبل قررت منحها الى ارنست همنغواي .
 
رواية " دكتور زيفاغو "
 
بعد انتصار الجيش الاحمر في الحرب الألمانية السوفيتية ( 1941- 1945 ) ، التي يطلق عليها الروس إسم " الحرب الوطنية العظمى " كانت الآمال تراود الشعب السوفيتي بفتح آفاق جديدة للتطور وحرية التعبير . وفي هذا المناخ الذي كان يوحي بالتفاؤل ، شرع باسترناك في خريف عام 1946 بكتابة الفصول الأولى من رواية " دكتور زيفا غو " والتي لم تكتمل الا في عام 1855 .وكان باسترناك نفسه يعتبر هذه الرواية ذروة ابداعه النثري .
ترسم الرواية لوحة عريضة لحياة المثقفين الروس على خلفية الفترة الممتدة من اوائل القرن العشرين وحتى الحرب الوطنية العظمى . وتتسم الرواية بشعرية رفيعة ، وتتناول مصير المثقفين في الثورة ، وتتضمن قصائد باسترناك الرائعة المنسوبة الى البطل الرئيسي للرواية ، يوري زيفاغو ، وهو شخص مبدع يفسر الواقع المحيط به فلسفياً .
كان لتقرير خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956 ، الذي أدان فيه الستالينية تأثير كبيرفي الرأي العام السوفيتي. وظهرت امام باسترناك فرص جديدة ، وكان قد انتهى قبل ذلك بفترة وجيزة من كتابة رواية "دكتور زيفاغو"، فقدّم بعض النسخ منها لأدباء من أصدقاءه ، وعرضها على مجلتين ادبيتين مرموقتين هما " نوفي مير - العالم الجديد و" زناميا - الراية ". وكان هناك أمل حقيقي في نشرها . -
أثار تقرير خروتشوف  اهتمام العالم بما يحدث في موسكو ، وأدى الى تعزيز الإتصال الثقافي بين الاتحاد السوفيتي والعالم الخارجي . وفي هذا الاطار زارت وفود أدبية من بولندا وتشيكوسلوفاكيا بلدة الكتّاب في " بيريدلكينا " والتقت باسترناك . وقد تمكن رئيس اتحاد الكتّاب البولندين ، زيموفيت فيديتسكي من الحصول على نسخة من رواية "دكتور زيفا غو" لنشر ترجمتها البولتدية في مجلة " اوبينين "  الأدبية التي كان الإتحاد يتهيأ لإصدارها قريباً . وبحث باسترناك أيضاً امكانية نشر الترجمة الجيكية للرواية.
في مايو 1956، قدم باسترناك نسخة من " دكتور زيفاغو" للصحافي الإيطالي سيرجيو أنجيلو ، الذي وصل بناء على طلب دار نشر فيلترينيللي الى بلدة بيرديلكينا مع زميله في إذاعة موسكو ف. فلاديميرسكي. وقالا لباسترناك : " إذا كانت الرواية ستنشر في موسكو ، فلماذا لا نسرع في اتخاذ قرار بشأن نشرها في دول أخرى؟ "
واكد باسترناك اكثر من مرة ، أن يعض نسخ الرواية ، كانت تنتقل علانية بين أصدقائه الأدباء ، وان كانت ثمة شكوك حول ردود فعل المجلات السوفيتية ، التي تماطلت على نحو مثير للريبة في نشر الرواية ، وافصح باسترناك عن هذا الأمر صراحةً لانجيلو ، ملمحاً الى المخاطر التي سيواجهها إذا رفضت المجلات السوفيتية نشر روايته . وقال لأنجليو مودعاً :" سأدعوك إلى عملية إعدامي ."
 في سبتمبر 1956 ، أرسل باسترناك الرواية إلى إنجلترا ، وفي فبراير 1957 ، إلى فرنسا. واثار ذلك ، قلق قسم الثقافة في اللجنة المركزية للحزب الحاكم ، والذي حاول بشتى الطرق  عرقلة نشر الرواية في البلدين ، واصفا رواية باسترناك بأنها "معادية للسوفيت". وصدر توجيه حزبي الى مجلة "نوفي مير" برفض نشرها. بذريعة عدم ادراك المؤلف لدور ثورة أكتوبر ومشاركة المثقفين فيها .
 
باسترناك يتصدر لوائح الترشيح لجائزة نوبل من جديد
 
في 31 يناير عام 1957 ، تكررالأمر نفسه ، حيث، اقترح عضو آخر في الأكاديمية السويدية ، وهو الشاعر السويدي هاري مارتينسون ، ترشيح باسترناك للجائزة . وكان هذا الشاعر قد التقى باسترناك عام 1934 في موسكو في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتّاب السوفييت.
وذكر لويس مارتينيز مترجم دكتور زيفاغو الى الفرنسية ، انه عندما كان يعيش مع البير كامو في قرية صغيرة ، يقوم باطلاعه على فصول الرواية المترجمة اولا باول . وفي 8 فبراير عندما اكتملت ترجمة الرواية ناقش مع كامو امكانية ترشيح باسترناك لجائزة نوبل . وقام بريس لويس من دار نشر غاليمار بتشجيع كامو على ترشيح باسترناك للجائزة ، وان ذلك سيكون افضل حماية يقدمها الغرب الى الشاعر المضطهد .
وقد وصف البير كامو – في الخطاب الذي القاه في حفل استلام جائزة نوبل في الادب لعام 1957 – باسترناك بالشاعر العظيم ، وانه مثال الشجاعة والشرف ، وان الفن في بعض البلدان مسألة خطرة وعمل بطولي .
في عام 1958 ، تم ترشيح باسترناك للجائزة من قبل خمسة أساتذة أكاديميين في آن واحد: إرنست سيمونز (جامعة كولومبيا) ، هاري ليفين ، ريناتو بوجيولي ، رومان جاكوبسون (جامعة هارفارد) وديمتري أوبولينسكي (جامعة أكسفورد) . واخيرا وقع اختيار لجنة نوبل على بوريس باسترناك ، وكان ضمن المرشحين الأقوياء في هذا العام ( ازرا باوتد ، البرتو مورافيا ) اضافة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوحوف .
في 23 أكتوبر 1958، أعلن أندريس أوستيرلينغ ، السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية ، منح جائزة نوبل في الأدب لذلك العام الى بوريس باسترناك  " لإنجازاته الكبيرة في الشعر الغنائي الحديث ، ومواصلته لتقاليد الرواية الملحمية الروسية العظيمة " .
وفي اليوم نفسه بعث باسترناك برفية جوابية الى  أندريس أوستيرلينغ يقول فيها : " ممتن للغاية ، متأثر ، فخور ، مندهش ، مرتبك " .
توجه عدد كبير من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء العالمية الى بلدة الكتّاب " بريديلكينا " لمقابلة باسترناك . وجاء الكاتب كورني جوكوفسكي جار باسترناك وصديقه وقدّم له التهاني الحارة لهذه المناسبة . وشرب الجميع نخب الكاتب ، متمنين له المزيد من النجاح . ولكن لم يمض سوى اقل من نصف ساعة حتى ساد الوجوم وجه الكاتب الفائز بأرفع جائزة أدبية . فقد جاء أحد جيرانه ، وكان من الكتّاب السوفيت المشهورين في ذلك الحين ( والمنسي تماما حالياً ) وهو كونستانتين فيدين ، وقال لباسترناك بلهجة صارمة - دون ان يهنئه بفوزه بالجائزة – وكأنه قد ضبطه بالجرم المشهود :" من اجل تجنب العواقب الوخيمة ، يجب عليك رفض الجائزة طوعاً، وان ( بوليكاربوف ) مسؤول القسم الثقافي في اللجنة المركزية للحزب موجود الآن في منزلي ينتظر جوابك" . ولكن باسترناك رفض الحديث مع فيدين ، ولم يذهب معه لمقابلة بوليكاربوف .
 
تظاهرة إجبارية !
 
وفي مساء اليوم نفسه أسرع بعض الطلاب الدارسين في معهد الأدب العالمي في موسكو – من عشاق شعر باسترناك – الى إبلاغه بأن إدارة المعهد تعد تظاهرة معادية له تخرج غدا وترفع شعارات تطالب بطرده من الاتحاد السوفيتي ، ورسوم كاريكاتيرية تسخر منه . وقد ابلغتهم ادارة المعهد ، إن من يتخلف عن الحضور سيجري فصله من المعهد على الفور. ،وعلى جميع الطلبة التوقيع على رسالة موجهة الى الصحيفة الأدبية " ليتراتورنايا غازيتا" - وهي أهم صحيفة أدبية مركزية في البلاد - تتضمن إستنكار الطلاب للعمل ( المشين ) الذي قام به باسترناك . معظم الطلبة اختبأوا في دورات المياه ، ولم يذهب الى التظاهرة الا حوالي مائة طالب اي اقل من ربع العدد الاجمالي لطلبة المعهد .وكان الشعار الرئيسي للتظاهرة : " نطالب بطرد يهوذا باسترناك من البلاد ".
وفي يوم السبت ، 25 أكتوبر صدرت " الصحيفة الأدبية " ، وتصدرها مقال افتتاحي طويل ، ورسالة من اعضاء هيئة التحرير وعشرات الرسائل الغاضبة ، التي زعمت الصحيفة أنها تلقتها من أنحاء الإتحاد السوفيتي . وهي كلها تندد بباسترناك ،وتصفه بأشنع النعوت ( خائن الوطن ، عميل الغرب ، عدو الشعب الروسي ، انسان تافه ، كاتب شرير ) وما الى ذلك من أوصاف وشتائم تزخر بها اللغة الروسية أكثر من أي لغة أخرى في العالم .
وفي اليوم التالي اعادت كل الصحف السوفيتية نشر ما جاء في " الصحيفة الادبية " من مواد معادية لباسترناك . ومن حسن الحظ ان باسترناك لم يكن يقرأ الصحف في تلك الأيام ، ولم يطلع على ما نشرته من مقالات تحريضية بحقه .
 
محاكمة ادبية
 
في السابع والعشرين من اكتوبر 1958 تقررعقد اجتماع موسع للكتّاب السوفيت في مبنى نادي السينما حضره أبرز الكتاب السوفيت المعروفين ، وذلك للنظر في قضية باسترناك . كان كل شيء معدا على نحو دقيق : من يتحدث في الاجتماع ؟ وماذا يقول في اطار ادانة باسترناك. وقد وجهت الدعوة الى باسترناك نفسه لحضور الاجتماع ، ولكنه علم ان الغرض من عقده هو اصدارقرار بفصله من اتحاد الكتاب . وهذا يعني حرمانه من السكن في منزله  الذي تعود ملكيته الى الاتحاد ، ومنعه من النشر ، وحظر كتبه ، أي قطع مورد رزقه ، حيث كان يعيش هو وعائلته على ما يستلمه من مكافآت لقاء أعماله .
في الصباح الباكر لذلك اليوم غادر باسترناك منزله الريفي ، وتوجه الى موسكو للتشاور مع ملهمته ( اولغا ايفينسكايا ) وصديق مقرب منهما هو الأديب والعالم الفيلولوجي فيجيسلاف ايفانوف ، حول اجتماع اتحاد الكتاب ، وهل ينبغي لباسترناك حضور هذا ( الاجتماع – المحاكمة ) وتعريض نفسه الى سيل من الاتهامات والاهانات والتهديدات ، أم الامتناع عن الحضور ؟ وكان ايفانوف اول من قال انه لا يجوز حضور باسترناك هذه المحاكمة الأدبية بأي حال من الأحوال . وكان هذا رأي ايفينسكايا أيضاً .وافق باسترناك على هذا الرأي وتوجه الى غرفة اخرى في الشقة ليكتب رسالة الى سكرتير اتحاد الكتّاب السوفيت كونستانتين فورونكوف . وبعد فترة وجيزة خرج باسترناك من الغرفة وبيده رسالة موجهة الى اتحاد الكتاب السوفيت ، وطلب من ايفانوف الاتصال هاتفيا بفورونكوف لأبلاغه بأن باسترناك مريض ولن يحضر الاجتماع , وانه قد كتب رسالة الى الاتحاد سيتم ايصالها اليه في الحال .وجاء في الرسالة : " تلقيت دعوتكم وكنت عازما على الحضور، ولكنني عرفت أنه ستكون هناك تظاهرة شنيعة لذا ارفض الحضور، و لن يجبرني اي شيء على رفض شرف ان اكون الفائز بجائزة نوبل ، لكنني مستعد ان اتبرع بمبلغ الجائزة الى مجلس السلم العالمي . انني لا اتوقع منكم عدلاً. يمكنكم اعدامي ، او ابعادي الى الخارج ، او اتخاذ  اي اجراء آخر بحقي . ولكن من فضلكم لا تتسرعوا . لأن ذلك لن يضيف اليكم لا سعادةً ، ولا مجداً ". وقام ايفانوف بايصال الرسالة الى الاتحاد قبل بدأ الاجتماع .
تحدّث في الاجتماع عدد كبير من الأسماء المشهورة في عالم الفن والأدب ، واتهموا باسترناك بأسوأ الخطايا البشرية ، وبين من اتهموا باسترناك أصدقاءه بالامس ، والذي حز في نفس الشاعر كثيرا. وقد برر هؤلاء ، في ما بعد ، موقفهم المتخاذل هذا بأن الامتناع عن انتقاد باسترناك ، كان يعني فصلهم من عضوية اتحاد الكتّاب السوفيت ،او حتى اعتقالهم بتهمة التضامن مع كاتب مغضوب عليه من قبل السلطة ، لذا لم يجرؤ أي كاتب على التصويت ضد قرار الفصل . الكاتب الوحيد الذي رفض حضور الاجتماع هو ايليا ايرنبورغ . ففي تلك الايام ، وكلما اتصل به احد ، اسرع ايرنبورغ بنفسه للرد فائلا : " ايليا غريغوريفيتش "خارج البيت ولن يعود قريبا " ثم يغلق الهاتف .كان هذا موقفا جريئا للغاية في ذلك الوقت.
 
أنا لم قرأها ، ولكنني ادينها
 
في اليوم التالي 28 اكتوبر 1958 ظهرت " الجريدة الادبية " وعلى صدر صفحتها الاولى مانشيت ضخم : " تصرف عضو اتحاد الكتاب السوفيت بوريس باسترناك لا يتفق مع لقب الكاتب السوفيتي " وتحت المانشيت بحروف اصغر نص قرار فصل باسترناك من عضوية الاتحاد .
ثمّ عقدت اجتماعات لفروع اتحاد الكتاب في جميع انحاء البلاد ، حيث ادان الكتاب باسترناك بسبب سلوكه ( الغادر ) الذي وضعه خارج الأدب السوفيتي وخارج المجتمع السوفيتي ، رغم أن اياً منهم لم يقرأ رواية " دكتور زيفاغو"
وجرت اجتماعات الاتهام والادانة في اماكن العمل : في المصانع والمزارع ، والأدارات الحكومية ، والمنظمات الجماهيرية  ، والمعاهد والجامعات ، تم خلالها رفع رسالة باسم الحاضرين موجهة الى الجهات العليا تطالب بمعاقية الشاعر. وكان المثقفون يسخرون من هذه الحملة بترديد عبارة تقول :" أنا ألم قرأها ، ولكنني ادينها . "
  و ازاء هذه الحملة الشرسة والتهديد بطرده الى خارج البلاد واسقاط الجنسية السوفيتية عنه اضطر باسترناك – وهو الذي كان يعتبر نفيه الى الخارج أسوأ من الموت -  إلى رفض الجائزة ، وابرق الى الاكاديمية السويدية قائلاً : « أراني مضطراً إلى رفض الجائزة التي منحت لي بسبب المعنى الذي فهم من هذا المنح في المجتمع الذي أعيش فيه، أرجو ألا تحملوا رفضي على ملمح سيئ . "
 
ايفينسكايا تمنع باسترناك من الإنتحار
 
ثمّ اسرع باسترناك الى مقابلة اولغا ايفينسكايا ، وهو يحمل في جيبه قارورة تحوي كمية من مادة ( سيانيد البوتاسيوم ) تكفي لقتل شخصين ، واقترح عليها الانتحار معا ، وان هذا سيكون ابلغ رد على القرار المجحف لاتحاد الكتّاب ، ولكن اولغا – وهي لارا بطلة رواية دكتور زيفاغو- عارضت ذلك بشدة ، قائلة ان ذلك يعد هروبا لا يليق به . واستطاعت اقناعه بوجهة نظرها . ونجد اليوم العديد من الباحثين المتخصصين في ابداع باسترناك يثنون عليها ، لأنها انقذت شاعرا عظيما من موت محقق . حدث كل هذا في اوج ما يسمى بفترة ذوبان الجليد ومحاربة عبادة الفرد ، الا ان اساليب الأمن السري في تجنيد المخبرين للتجسس على المواطنين السوفيت وخاصة المثقفين منهم لم تتغير . كان قسطنطين فيدين – كما اسلفنا - كاتبا شهيرا وجارا لباسترناك في ( بريديلكينا ) ، ولكن هذا لم يمنعه من رفع تقرير سري الى جهاز الأمن السري حول نية باسترناك الانتحار ، مما سيؤدي الى اثارة ضجة في الغرب والحاق ضرر كبير بسمعة الاتحاد السوفيتي في الخارج  .
 ورغم فصل باسترناك من اتحاد الكتّاب السوفيت ، الا انه ظل عضوا في صندوق التكافل التابع للاتحاد . وعلى الفور ارسل جهاز الأمن السري طبيبة متخصصة بمعالجة حالات التسمم مع كمية من الأدوية الى منزل باسترناك ، وزعمت الطبيبة انها جاءت بناء على تكليف صندوق التكافل للاعتناء بصحة باسترناك . وقد صدّق الشاعر كلام الطبيبة ، لأنه سبق له ابلاغ قيادة الاتحاد بأنه مريض .
شغلت الطبيبة غرفة صغيرة في المنزل ، ونشأت شكوك قوية لدى افراد عائلة باسترناك حول المهمة الحقيقية للطبيبة ، وهي منع الشاعر من الانتحار واسعافه عند الحاجة ، وكذلك مراقبة ما يدور من احاديث داخل المنزل ، وربما كانت تحمل معها جهاز تسجيل .
وكان عدد من رجال الامن السري بملابس مدنية يحيطون بالمنزل ويراقبون كل صغيرة وكبيرة وخاصة من يتردد على الشاعر من الأدباء والاصدقاء .
 
باسترناك ضحية الصراع الحزبي
 
تشير الوثائق المنشورة في روسيا مؤخرا الى ان باسترناك كان في خضم هذه الاحداث ضحية الصراع الداخلي في قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي . فقد كان الحرس القديم في الحزب يحاول حرف خروتشوف بعيداً عن النهج الليبرالي . وبايعاز من منظر الحزب ميخائيل سوسلوف - عضو المكتب السياسي - أعد القسم الايديولوجي تقريرا من 35 صفحة تتضمن اقتباسات معادية للثورة من رواية " دكتور زيفاغو "  تم اختيارها بمهارة ، وقد تم تقديم هذا التقرير الى اعضاء المكتب السياسي للحزب .كما نجحوا في تنظيم حملة اعلامية صاخبة تحت مسمى " السخط الشعبي " على الرواية ومؤلفها ، مع ان احدا سواء داخل الحزب او خارجه لم يقرأ الرواية . وعلى هذا النحو تم جعل باسترناك وروايته لعبة سياسية داخل البلاد وخارجها . كان الغرب اكثر ذكاءً من النظام السوفيتي ، لانه بدا اكثر انسانية كمدافع عن الشاعر المضطهد . اما النظام الذي حظر الرواية فقد كان اشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى . ولكن البيروقراطية الحزبية لم تهتم بما تبدو عليه البلاد  في نظر الراي العام العالمي ، فقد كانت بأمس الحاجة الى البقاء في السلطة .وكان هذا ممكنا مع الاختلاق المستمر لاعداء السلطة السوفيتية .
 
حملة عالمية دفاعا عن باسترناك
 
بينما كان باسترناك هدفا لحملة شرسة وواسعه تستهدف النيل منه وتشويه سمعته تمهيدا لأسقاط الجنسية السوفيتية عنه ونفيه الى خارج البلاد ، كان ابرز الأدباء في العالم يشيدون به وبمنجزه الابداعي وشجاعته ، بينهم عدد كبير من الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب ( برتراند راسل ، فرانسوا مورياك ، البير كامو ، اندريه موروا ، جون شتاينبك ، بيرل باك ، بابلو نيرودا ، توماس اليوت ) ومئات الكتّاب والشعراء والفلاسفة المعروفين الآخرين ، منهم (سومرست موم ، غراهام جرين ، ألدوس هكسلي ، جارلز سنو ، هوارد فاست)
وقد انضم لحملة الدفاع عن باسترناك رئيس الوزراء الهندي ، جواهر لال نهرو ، حيث اتصل هاتفيا بالزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف طالبا منه ايقاف الحملة على باسترناك وعدم اسقاط الجنسية السوفيتية عنه ، كما كلّف السفير الهندي في موسكو بالاتصال بالسلطات السوفيتية وابلاغها ، ان الحملة على باسترناك تسيء الى سمعة الاتحاد السوفيتي . وكان لموقف الزعيم الهندي – الذي كان يحظى بإحترام كبير لدى خروتشوف - الأثر الحاسم في تخلي النظام السوفيتي عن فكرة طرد باسترناك الى خارج البلاد .
 
عودة "دكتور زيفاغو " الى القاريء الروسي
 
بعد ثلاثين عاما من الحظر ، نشرت رواية " دكتور زيفاغو" عام 1988 في أهم مجلة أدبية روسية وهي مجلة " نوفي مير – العالم الجديد " ، مما سمح للجنة نوبل بأن تعتبر رفض باسترناك للجائزة قسريا وباطلاً . وفي صيف ذلك العام ارسلت اكاديمية العلوم السويدية دبلوم جائزة بوريس باسترناك الى موسكو عن طريق الشاعر اندريه فوزنيسينسكي - الذي كان مدعوا الى السويد لالقاء قصائده امام عشاق الأدب - كما تم تسليم الميدالية الى الابن الأكبر لباسترناك ، يفغيني باسترناك ، في احتفال مهيب جرى في ستوكهولم عام 1889
واليوم يحتل باسترناك مكانة رفيعة في الأدب الروسي ، حيث تصدر طبعات جديدة من مؤلفاته الكاملة ، وتقام له تماثيل ، وتنشأ متاحف في الأماكن التي عاش فيها ، وتنشر عشرات الكتب عن سيرته الحياتية والأبداعية ، وعن ذكريات المقربين منه ، وثمة عشرات الباحثين المتخصصين في ادب باسترناك في الجامعات الروسية . لقدعاد الشاعر العظيم الى القاريء الروسي مكللا بالمجد الأدبي والأخلاقي ، ومثالا للصمود امام عواصف الزمن الرديء .
 
.
 


11
الغموض في الأدب الحديث بين الافتعال والأصالة

د. جودت هوشيار             
 
ينشأ الغموض في الأدب، عندما يخفق الكاتب في صياغة عمله الادبي على نحو يسمح للجمهور المتلقي باستيعابه وتذوقه. وبذلك يفقد العمل الأدبي معناه، ومبررات وجوده، ويصبح عاجزا عن التأثير في القارئ، أو النهوض بأي وظيفة من وظائف الفن . وربما ليست ثمة صدمة أكبر بالنسبة الى الكاتب، من هذه النتيجة البائسة لجهوده، خاصة إذا كان يعي جيدا دور الأدب في حياة الناس وعوالمهم الروحية .
قد يكون الغموض في العمل الأدبي ناجماً عن الكسل والإهمال عندما لا يجهد الكاتب نفسه بالتفكير من اجل التعبير عن أفكاره بجلاء، أو أن أفكاره مشوشة وغير واضحة، ولا يستطيع التعبير عنها بدقة، فتأتي كتاباته غامضة، أو أن أداة الكاتب ضعيفة الى الحد الذي لا يفي بمتطلبات التعبير عن افكاره ومشاعره من دون لبس او ابهام .
ثمة كتاب رائع للكاتب الانجليزي " سومرست موم " تحت عنوان " حصيلة حياتي " ويقول موم في هذا الكتاب: " لم أكن أطيق كتّاباً يطلبون من القارئ أن يدرك بنفسه ما يرمون هم إليه. هناك نوعان من الغموض تجدهما عند الكتّاب، أحدهما يعود إلى الإهمال، والآخر مقصود، فهناك من يكتنف الغموض كتاباته، لأنه لم يتعلم كيف يكتب بوضوح، وسبب آخر للغموض هو أن الكاتب غير متوثق من معانيه، فشعوره بما يريد الكتابة عنه ضعيف، ولا يستطيع أن يكوّن في ذهنه تعبيراً دقيقاً عنه، إما لضعف تفكيره أو لكسله، وهذا يرجع إلى أن الكاتب لا يفكر قبل الكتابة وفي هذا خطر ".
ولا شك أن أسوأ أنواع الغموض هو الغموض المصطنع الذي يلجأ اليه من يحاول عن طريقه تغطية فشله الفني الناجم عن عدم تكامل أدواته التعبيرية، وافتقاره الى ملكة الخيال، والأهم من ذلك كله، ان مثل هذا الكاتب يفتعل تجربة عقيمة وهزيلة، ويتعمد التعمية عن طريق استخدام الصياغات اللغوية الملتوية، وغير المفهومة، والاستغراق في التهويمات والشكليات اللغوية الفضفاضة، دون ان يكون لديه اية تجربة حقيقية، نمت وتطورت نتيجة التفاعل الحي بين ذات الكاتب وواقعه الاجتماعي .
وقد بلجأ الفنان الى افتعال الغموض في بداية حياته الفنية من اجل مجاراة الاتجاهات الحداثية والشكلية الرائجة . ويحدث هذا للفنان في العادة قبل ان يكتسب صوته الخاص ورؤيته الفنية والفكرية المتميزة .
غير ان الكاتب الموهوب حقاً والصادق مع نفسه وجمهوره سرعان ما يتجاوز هذه المرحلة إذا كان لديه ما يقوله للناس. غير أن هذا الانتقال لا يحدث على نحو عفوي، بل عبر عمل دؤوب ومتواصل ليحقق ما يصبو اليه من الوضوح والشفافية .
يقول الشاعر الروسي الكبير الكسندر تفاردوفسكي (1910-1971) في سيرته الذاتية : " في عام 1934 قدمت مجموعة من قصائدي الى أحد مدرسي الأدب طالبا منه ابداء رأيه فيها . قال المدرس :
" لا يجوز كتابة الشعر الآن على هذا النحو. قصائدك في غاية الوضوح ومفهومة تماما . ينبغي ان نكتب الشعر بشكل لا يستطيع أحد أن يفهمه، مهما حاول ذلك وبذل من جهد. هذا هو احد متطلبات الشعر المعاصر. ثم أراني عدة مجلات أدبية كانت تحوي نماذج للقصائد التي كانت تنشر في ذلك الحين. ولقد حاولت بعدئذ أن تكون قصائدي عصية على الفهم، ففشلت في تحقيق ذلك لمدة طويلة. واحسست حينئذ – وربما لأول مرة في حياتي – بالشك المرير في قابليتي الشعرية، واذكر انني كتبت بعد محاولات طويلة قصيدة غامضة، لا استطيع ان اتذكر الآن موضوعها او أي سطر من سطورها . "
واذا كان تفاردوفسكي قد استطاع بفضل موهبته وذائقته الجمالية الرفيعة ان يتخلص من شرك الغموض المفتعل، فكم يا ترى من دعاة الغموض عندنا لهم الجرأة الكافية ليصرحوا بأن لعبة الغموض التي مارسوها خلال السنوات التي وقع فيها الفن والادب في بلادنا فريسة للاتجاهات الشكلية، لم تكن سوى عملية تجريب ساذجة ومفتعلة، ولهذا لم تصمد امام التيار الواقعي الذي اخذ يشق طريقه وسط ركام هائل من النتاجات الشكلية، التي كانت تقليدا للصرعات الأدبية التي تظهر وتختفي في المشهد الثقافي الغربي .
ان المتلقي الذي يتمتع بإحساس جمالي، وذائقة فنية لم يتعرضا الى التشويه، لا بد أن يرفض هذا النوع من الغموض، لأنه يحول عملية الخلق الفني الى لعبة فارغة، ولأنه ضد طبيعة وقوانين الأدب، والأهم من ذلك أنه يلغي وظيفة الأدب الأساسية .
فالأدب، ليس ترفاً فكريا لنخبة من المتحذلقين، ولا لعبة شكلية كما يزعم البعض. لأن للأدب وظائف بالغة الأهمية في حياة الناس، والمجتمعات المعاصرة، لا يمكن أن ينهض بها أي شكل آخر من أشكال المعرفة الإنسانية.
الأدب سجل عظيم للحياة البشرية، وهو عالم البحث والمعرفة من خلال الكلمات والصور الفنية ويعتمد على الإيماء والرمز، وعلى التلويح دون التصريح .
الأدب في الوقت الذي يلبي حاجة الانسان الى اللذة الجمالية فانه يتيح له المجال ليزداد معرفة بنفسه وعالمه الروحي وعوالم الآخرين. وهو ليس شكلاً من أشكال المعرفة الإنسانية فحسب وباعثا على المتعة الفنية فقط، ولكنه في الوقت ذاته وسيلة لتجديد الحياة وتغييرها، أي أن له وظائف جمالية واجتماعية.
الغموض بين المبدع والمتلقي
في ضوء هذا التصور يفضل دائماَ،ان يكون الأثر الأدبي واضحا بقدر الامكان . ولكن هل الغموض يكمن دائما في الأثر الأدبي ذاته ؟ الا يمكن ان يكون ثمة غموض موهوم لا يتسم به الاثر الأدبي، ولكنه ينشأ لظروف وعوامل موضوعية او نتيجة لتفسيرات خاطئة للأعمال الأدبية ؟
كيف؟
اذا تحدثنا بلغة علم السيبرنيتيك، واستخدمنا بعض مفاهيمها لتوضيح فكرتنا، فإن بوسعنا ان نقول ان العلاقة بين الفنان والواقع تتكون من عدة حلقات متصلة وهي :
الواقع الاجتماعي – الكاتب – الأثر الأدبي – الجمهور المتلقي .
وينشأ الغموض، أو اللا تواصل على وجه الدقة، اذا انفرط عقد هذه الحلقة أو تلك لأي سبب كان، وفي أي مرحلة من مراحل الخلق الفني وتقديمه للمتلقي . وهذا يعني أن اللا تواصل قد يحدث بفعل عوامل ذاتية، أشرنا الى بعضها فيما تقدم أو بفعل عوامل موضوعية وثيقة الصلة بطبيعة ومضمون الأثر الأدبي، وبالشكل الجديد الذي يصوغ به الكاتب أو الشاعر تجربته. فالمحتوى الجديد يتطلب صياغة جديدة وشكلا جديدا، مما يستدعي بذل جهد اضافي من قبل المتلقي لاستيعابه وتذوقه.
ويمكن القول اذن ان هذا النوع من الغموض النسبي له علاقة بالمستوى الثقافي والجمالي السائد، وهو لا يكمن في الاثر الادبي، بل في ذهن المتلقي.
ان الفنان وهو يحاول إدراك الحقيقة الموضوعية، والكشف عن الملامح الأساسية في الواقع، والتعبير عنها، لا بد أن يقوده احساسه الفني – ان كان كاتبا اصيلا وصادقا الى اكتشاف العلاقات الصحيحة بين الاشياء. وهو يسبق فهم المتلقي بمسافات زمنية بفضل تمتعه بشيء من نبوءة الرائد واستشرافاته المستقبلية.
الغموض في الأدب الجديد
ان تأريخ الثقافة العالمية حافلة بأمثلة توضح بجلاء، كيف أن الأدب الجديد حقاً في مضمونه وشكله والمعبر أصدق تعبيرعن هموم زمانه، قد عانى هو الآخر من هذه المشكلة المحورية من مشاكل الأدب، مشكلة العلاقة بين المبدع والمتلقي . وسنكتفي هنا بمثال واحد فقط:
كان الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في العشرين من عمره، عندما القى قصيدته الطويلة الشهيرة " غيمة في بنطلون " لأول مرة في خريف عام 1913 في مقهى " الكلب الضّال " في بتروغراد، اثارت القصيدة هيجانا لم يسبق له مثيل . كانت اصوات الشجب والاستنكار تتعالى في ارجاء المقهى، فطلب الكاتب الروائي ميخائيل فولكوفسكي - وكان شيخاً مهيباً بلحيته البيضاء الكثة - الكلام للتعقيب وقال : " انا عندكم هنا لأول مرة، ولم التق بكم سابقا . لقد القى الشاعر الشاب قصيدة غير تقليدية. ولولا بعض الكلمات الخادشة في نهايتها لكانت قصيدة رائعة. هذا شعر جديد وأصيل، وغير مألوف، لذا فأنه أثار غضبكم. ولكن مهلا، أنه شاعر موهوب وستتعودون على مثل هذا الشعر، وكل جديد يثير لغطا في البداية لينتهي الى الاعتراف بموهبة شعرية أصيلة."
حقاً ان الغموض لم يكن كامناً في قصيدة ماياكوفسكي، بل في اذهان فئة من المثقفين الذين افسدت الثقافة الرجعية اذواقهم الجمالية والمتمسكين بالقيم البالية. ولم يكن الأدب والفن لدى هؤلاء السادة ضرورة عميقة وملحة، بل وسيلة لهو وتسلية، ومصدراً للكسب المادي والشهرة.
ونحن نجد اليوم ان قصائد ماياكوفسكي مفهومة لدى عشرات الملايين من القراء في جميع انحاء العالم.
يخلط كثير من الباحثين ونقاد الأدب في بلادنا بين الغموض المتعمد أو التعمية والابهام من جهة وبين الإيحاء والتلميح من جهة ثانية.
ثمة اعمال ابداعية تتسم بقدر من التعقيد -مثل بعض أعمال جيمس جويس، وشعر بوريس باسترناك، وهي ليست مثيرة لاهتمام القارئ الباحث عن القراءة المسلية . بل تجذب اهتمام القارئ المثقف، الذي يمتلك ذائقة جمالية رفيعة، ويقرأ ما بين السطور.
نظرية الجبل الجليدي
احتل ارنست همنغواي مكانته الرفيعة في الأدب الحديث بفضل اسلوبه الواضح والبسيط ظاهريا، الذي سمّاه بالجبل الجليدي، فهو يقول الكثير باستعمال القليل الموجز من الكلمات ويكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة. نصوص تتألق معانيها العميقة ضمنياً. ويلعب القارئ هنا الدور الاساسي في فهم النص وتفسيره. ويفهمه كل مثقف حسب وعيه وثقافته وادراكه لمضامينه واحساسه بجمالياته. أي أن ثمة مستويات عديدة للفهم والاستيعاب.
وكان همنغواي يقول:" القصة الجيدة، هي تلك التي يحذف منها اقصى ما يمكن حذفه. واذا كان الكاتب يكتب بنصاعة، فإن بوسع القارئ فهم ما هو مخفي بسهولة.
ولقد جسّد همنغواي نظرية "الجبل الجليدي" على نحو رائع في قصته القصيرة "تلال كالفيلة البيضاء". القصة على شكل حوار بين رجل أمريكي وفتاة تُدعى جيغ، ويحاول فيه الرجل اقناع الفتاة بإجراء عملية ما دون ان يفصح عن نوع العملية، ربما كانت اجهاضاً.
لا توجد في القصة أية اشارة الى ان الفتاة حامل، ولكن القارئ يفهم أن الأمريكي لا يريد ان تنجب الفتاة طفلا، ويؤدي ذلك الى تهاوي علاقتهما، ويشعران ان افتراقهما أصبح امراً حتمياً.
استطاع همنغواي في بضع صفحات وباستخدام الحوار فقط، ان يصف التأريخ الكامل للعلاقة بين الرجل الأمريكي والفتاة. ولكن القارئ يقرأ ما هو مضمر في هذه القصة الرائعة بكل سهولة.
وصفوة القول إن الغموض من ملامح القصور الفني أو العجز الابداعي، إذا لم يؤدِّ غرضًا فنيًّا صرفًا، في حين ان الغموض الذي يستدعيه الفن هو ميزة ايجابية.
 


12

تأريخ السيرة الذاتية واشكالية الحديث عن الذات
د. جودت هوشيار
 
أشار العديد من الباحثين الذين تناولوا موضوع " السيرة الذاتية " الى أن جان جاك روسو هو أول من كتب سيرته الذاتية تحت عنوان " اعترافات " وهذا وهم ناجم عن عدم الإطلاع على تطور هذا الفن عبر تأريخ الفكر اليوناني والروماني والنهضة الفكرية في أوروبا .
يمكن اعتبار يوميات الأمبراطور الروماني السادس عشر ماركوس اوريليوس التي كتبها في السبعينات من القرن الثاني الميلادي تحت عنوان " الى نفسي" أو " بيني وبين نفسي " أول محاولة لكتابة السيرة الذاتية وهي تأملات تركز في المقام الأول على عالمه الروحي .
ولعل واحدة من اشهر السير الذاتية في العصور القديمة المتأخرة ( حوالي عام 400 ميلادي) هي التي كتبها الفيلسوف والكاتب والمفكر الأسقف أوريليوس أوغسطين ( 354-430) تحت عنوان " اعتراف ". وتحدث فيه بالتفصيل عن طفولته وشبابه وعائلته ومدرسته وهواياته . وهي من أوائل كتب السيرة الذاتية .
مَثَلُ اوغسطين في البحث عن الذات ، عبر سعيه الروحي لم يقدر له الانتشار في العصور الوسطى بسبب التزمت الديني ، فحراس الفضيلة كانوا بالمرصاد لكل من يجرؤ على البوح
بدخيلة نفسه على رؤوس الأشهاد ، فحتى الأعترافات الدينية كانت سرية ويحظر تدوينها .
وبعد ستة قرون من نشر السيرة الذاتية لأوغسطين . كتب الفيلسوف والعالم اللاهوتي الفرنسي بيتر ابيلار ( 1079-1142) ، مؤسس جامعة باريس ، والشعلة التي الهبت عقل اوروبا اللاتينية في القرن الثاني عشر ، كتب سيرته الذاتية تحت عنوان " تأريخ بؤسي" . واذا كان اوغسطين تحدث عن حياته الروحية واهتدائه الى الأيمان ، فأن ابيلار تحدث صراحة وبالتفصيل عن حياته الخاصة ، وحبه لتلميذته ايلواز ، وعن المحن التي حلت بالعاشقين التعيسين . قصة " حب ابيلار وايلواز" أصبحت واحدة من أهم قصص الحب الحزينة في الثقافة العالمية . وخلافا لـقصة "حب تريستان وايزولد " الأسطورية ، وقصة " روميو وجولييت "، فان ابيلارد وايلواز كانا شخصين حقيقيين . وظلت قصتهما في ذاكرة الأجيال المتعاقبة بفضل السيرة الذاتية لأبيلار .
الإتجاهات الفلسفية لعصر النهضة الأوروبية وضعت الإنسان في قلب العالم ، ورفضت فكرة الخطيئة وعدم أهمية الفرد ، واخذت في تمجيد الأنسان وعقله وجماله وقوته وابداعه العلمي والفني ، وليس من قبيل المصادفة ان " فن البورتريه " قد ظهر في هذا العصر تحديدا ، كما شهد الشعر الغنائي تطوراً لم يسبق له مثيل ، حيث سعى الناس حثيثاً في هذا العصر الى التعبير العميق عن دواخلهم الدفينة علانية ، بكل ما فيها من طيبة أو خبث ، وكأنهم يتطهرون من عبئها .
ومن الملفت للنظر ان الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك ( 1304- 1374 ) الذي يعد احد الآباء البارزين للنهضة الأوروبية ، ساهم أيضا في تطوير فن السيرة الذاتية . كتب بترارك سيرته الذاتية في كتابين هما " سري الخاص " ، " مشاهير الرجال " يتضمن الكتاب الأول ما سماه بترارك " رسائل الى الأحفاد " تحدث فيه عن الأحداث المؤثرة في حياته . اما الكتاب الثاني فهو على شكل حوار بين الشاعر والقديس أغسطينوس ( 354-430) . السيرة الذاتية لبترارك تتناول حياته الروحية ، ووصف تطوره الأخلاقي ، وصراعه الداخلي مع نفسه .
وابتداءا من هذا العصر ، عصر النهضة اصبحت الشخصية الإنسانية وعالمها الداخلي ذات أهمية كبيرة .
تعد السيرة الذاتية التي كتبها الصائغ والنحات الإيطالي الشهير بنفينوتو تشيليني من أبدع اعمال السيرة الذاتية ، والتي تروي الكثير عن عصر النهضة الادبية والفنية في إيطاليا - أو عصر الانبعاث . كتب تشيليني رائعته في شيخوخته والتي تتضمن الوصف الدقيق لحياته العاصفة كلها تقريبا . وبلغة ناصعة ، واسلوب شائق ومشرق : عن مغامراته العاطفية ، والسنوات التي قضاها في خدمة البابا والملك الفرنسي ودوق فلورنس ، وعن مآثره العسكرية وهواياته ، وعن فترة سجنه في قلعة " الملاك المقدس " ورحلاته ، وبطبيعة الحال عن عمله الإبداعي .
لم يلتزم تشيليني بحقيقة الأحداث أحيانا ، فقد لجأ الى التباهي والمبالغة . بيد أن هذا لم يقلل من قيمة الكتاب ، بل على النقيض من ذلك أسهم في رواجه وذيوعه . كتب تشيليني سيرته باللغة الإيطالية ، وليس باللغة اللاتينية ، كما فعل الفلاسفة والقساوسة الإيطاليون من قبل ، وذلك لإتاحة الفرصة للجمهور العام لقراءة سيرته بلغة سلسة واضحة . نشر الكتاب في عام 1728 ، واكتسب على الفور شعبية واسعة ، وترجم الى أهم اللغات الأوروبية . ولعل الأهمية البالغة للكتاب ، هي التي دفعت بشاعر المانيا العظيم يوهان غوته الى ترجمته الى الألمانية بنفسه .
أسهمت السيرة الذاتية لتشيليني وشخصيته المتفردة ، وعمق تصويره لمغامراته ، واسلوبه المشرق ، في تطور فن السيرة الذاتية .
أما السيرة الذاتية الفلسفية ، فان الفيلسوف الفرنسي  ميشيل دي مونتين (1533-1592) يعد الرائد الأول لهذا النوع من السير . ومونتين واحد من أكثر الكتّاب والفلاسفة المؤثرين في عصر النهضة . كتب مونتين سيرته الذاتية في سبعينات القرن السادس عشر - خلال العزلة التي فرضها على نفسه - واطلق عليها " تجارب " ، ونشرت لأول مرة في عام 1580 . وتحولت " تجارب " الى واحدة من اكثر الكتب مقروئية في ذلك العصر .
تكمن أهمية " تجارب " مونتين ، ليس في حديثه عن نفسه وعن مصيره المتشابك مع احداث عصره ، بل حقيقة أنه بخلاف من سبقوه في كتابة سيرهم الذاتية ، أكد ، وأمعن في التأكيد ، على أنه فرد عادي . وكتب يقول : " اعرض حياتي أمام الأنظار وهي حياة عادية ليس فيها أي تميز أو تألق " . وعلى هذا النحو ظهرت لأول مرة في الثقافة العالمية الفكرة التي صاغها وهي " ان كل شخص لديه كل ما هو مميز للجنس البشري بأسره ". وافترض ان سيرته كانسان عادي يمكن ان تكون ممتعة للقراء .
كل السير الذاتية التي ظهرت في القرون اللاحقة يمكن تقسيمها الى نوعين :
النوع الأول يقتدي بسيرة تشيليني الذاتية ، ويؤكد اصالة وتفرد اصحابها . والنوع الثاني يسير على هدى مونتين الى هذا الحد أو ذاك . وكان بعضهم صادقا في تواضعه و البعض الآخر تظاهر بذلك. وكانوا على ثقة بأن الحياة العادية تجذب انتباه القراء العاديين .
اعترافات " جان جاك روسو   "
كانت السيرة الذاتية للكاتب والمفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( 1712-  1778) مرحلة مهمة في تطور فن السيرة الذاتية ، و مصدرا للتقليد من قبل الآخرين . روسو مؤسس مدرسة ال( سنتمنتاليزم ) أو التيار العاطفي في الأدب . لعب دورا مهما في تطور الفلسفة والأدب العالمي . وكان من دعاة تقديس الطبيعة والبساطة ، وتمجيد الاحساس بدلا من العقل ، ومثالية الحياة البسيطة في احضان الطبيعة . وهذه كلها امور ولدت الأهتمام بالحياة الداخلية للأنسان . معظم اعمال روسو مكرسة لدراسة مشاعر الأنسان . وكان من الطبيعي أن تقوده النظرة المعمقة الى الطبيعة الأنسانية الى وصف حياته الخاصة .
بين عامي 1766 ، 1769 كتب روسو اعترافاته ، وقام بتعرية قلبه وكشف دخيلة نفسه في بعض المقاطع .لم تكن السير الذاتية حتى ذلك الوقت تتميز بمثل هذه الصراحة المدمرة ، وربما حتى يومنا هذا . فهو لم يحاول قط اخفاء نزواته وحماقاته واخطائه ، بل تفاخر بها .وفي الوقت ذاته فان هذه ( الاعترافات ) – قصة شعرية عن الانسان وعلاقته بالآخرين ، وبالمجتمع والطبيعة . وليس من قبيل المصادفة ان يكرس روسو العديد من الصفحات في للتغني بالطبيعة ، وسرد مغامراته العاطفية الحميمية ، التي تتناوب مع الافكار والصور المثالية . ولم يتوانى من اتخاذ اعترافاته فرصة لمهاجمة أعدائه الحقيقيين والمتخيلين .
كان صدق الاعتراف وحدة الجدال ، قويان الى درجة ان الكتاب لم ينشر خلال حياة المؤلف بل بعد وفاته ، حيث نشر في الفترة بين عامي 1782 ، 1789 ، في حين ان روسو نفسه اعتبر اعترافاته غير كافية فكتب في السنوات الاخيرة من حياته عدة حوارات منها " روسو يحاكم جان جاك " ( 1775-1776) و" نزهات حالم وحيد ( 1777- 1778) .
تكتسب " اعترافات " روسو أهمية بالغة لانها الهمت الرجال الآخرين الرغبة في كتابة سيرهم الذاتية على غرارها . ولكن روسو كتب يقول : " أنا أفعل شيئأ لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده "
لقد حاول روسو ان يكون صادقا ، ولكنه بالغ في التذلل ، حين وصف نفسه - وهو يتحدث عن حياته في مقتبل العمر -  بالريفي الصغير البليد . وعندما نقارن اعترافاته بسلسلة رسائله الشخصية التي كتبها في تلك الفترة ، نجد أن رسائله تنم عن ذكاء ثاقب ، وعن مستوى عال من عزة النفس ، مما يخلق انطباعا بأنه كتب بعض اعترافاته في اطار استعراضي .
يوهان غوته :" الشعر والحقيقة "
لعبت السيرة الذاتية للشاعر الالماني يوهان غوته ( 1749-1832) المعنونة " الشعر والحقيقة في حياتي " التي كتبها بين عامي 1811 ، 1833 دورا لا تقل أهمية عن ( اعترافات ) روسو في تطوير فن السيرة الذاتية . تحدث غوتة في مذكراته عن سنوات شبابه وبداية رحلته الابداعية المرتبطة بالتيار الادبي المسمى " العاصفة والهجوم ". وقد أصبحت عبارة " الشعر والحقيقة " شائعة ، وهي غالبا ما تستخدم لوصف تناسب الخيال والواقع
في الأعمال الأدبية . وكان غوته صادقا ،عندما اطلق هذا الاسم على سيرته الذاتية "
، لأن حياتنا خليط من الشعر والحقيقة ، وهي أثمن ما لدينا ، واحداث حياتنا مهما كانت  بسيطة وعادية مهمة بالنسبة الينا، بل اكثر أهمية من أي شيء آخر في العالم ، وهي التي تلهمنا المشاعرالجميلة للحظات نادرة من الكمال ، وعندما لا توجد في الحياة مثل هذه اللحظات ، فاننا نعمد الى خلقها ، أي اننا شعراء بكل معنى الكلمة .
وكان غوته يعتقد ان المهمة الاساسية للشاعر او الكاتب الذي يكتب سيرته الذاتية هي وصف علاقته بزمنه ونظرته الى العالم والناس ، وكيف انعكس كل ذلك على نتاجاته ، حيث يمتزج فيها الشعر والحقيقة .
 في القرنين التاسع عشر والعشرين ظهرت سير ذاتية كثيرة ، لأبرز الكتّاب والشعراء منها  « قصة حياتي » لجورج صاند ، و "البحث عن الزمن الضائع "لمارسيل بروست ، و"صورة الفنان في شبابه " لجيمس جويس ، و" حصيلة حياتي " لسومرست موم ، وكَتَبَ وينستون تشرتشل سيرتين ذاتيتين ، إضافة الى مذكراته في ثلاثة مجلدات.
وثمة في الأدب العربي العديد من كتب السيرة الذاتية لعل أهمها :
"الأيام" لطه حسين، و" أنا " لعباس محمود للعقاد، و" حياتي" لأحمد أمين، و" تربية سلامة موسى" لسلامة موسى، و" اوراق العمر " للويس عوض ، و" ماذا علمتني الحياة " لجلال أمين" .
ليس من الضروري ان يكون كاتب السيرة الذاتية شخصية عظيمة أو مؤثرة ، أو نجماً شهيراً من نجوم المجتمع في السياسة أوالفن أوالأدب أو العلم. أو أن يكون قد التقى في مسيرة حياته بعض الناس المشهورين ، فكل شخص في هذه الدنيا متميز ، ولديه ما يستحق أن يروى .
ااشكالية الحديث عن الذات
لا شك ان كل شخص يعرف عن أحداث حياته اكثر مما يعرفه أي شخص آخر . وقد يتبادر الى الذهن ان أي واحد منا هو خير من يكتب عما يعتبره أكثر أحداث حياته أهمية ودلالة . هكذا يبدو الأمر لأول وهلة ، ولكننا حين نشرع بالكتابة ، نكتشف ان ثمة العديد من الصعوبات تعترض طريقنا ، لأننا سنعتمد على ذاكرتنا في استرجاع الماضي ، والذاكرة أداة خادعة تخزن بعض الأشياء، وتهمل أشياء أخرى جد كثيرة ، وان كانت مهمة في حياتنا ، ثم أن الذاكرة تصبح خاملة وكثيرة النسيان كلما تقدم بنا العمر ، والناس يكتبون سيرهم الذاتية – في العادة – في سنين العمر المتأخرة .
وثمة الرقابة الذاتية التي يمارسها العقل على كل ما يسيء الينا ، أو كان كريها أو غير مستحب في حياتنا . اننا نتذكر ما نرغب في استعادتها ، ونودع في طيات النسيان كل ما يؤلمنا أو نخجل من التصريح به .
 مَنْ مِن الرجال يمتلك الشجاعة للحديث الصريح عن حياته الجنسية ؟ ان ضرورات الاحتشام لا تسمح بذلك . ولا يوجد انسان عاقل وسوي قادر على التصريح بكل شيء عن دخيلة نفسه وعن اسراره الحميمية .
مَنْ بوسع أي انسان الاعتراف بارتكاب عمل دنيء . وهل ثمة من لم يرتكب عملا دنيئا في يوم ما ؟
كما اننا لا نستطيع قول الحقيقة كلها عن حياة اولئك الذين شاركونا الأعمال التي نصفها ، خاصة اذا كانوا ما يزالون على قيد الحياة . واذا فعلنا ذلك ، نخسرهم الى الأبد ، او ندخل معهم في منازعات نحن في غنى عنها .
الحديث عن النفس امر غير مستساغ ، الا بكياسة ولباقة بعيدا عن الاعتداد بالنفس. كما ان وصف المنجزات الشخصية ، وابراز الجوانب الايجابية للكاتب، قد يعدّ غرورا مستهجناً ، رغم أن ذلك ضروري لتقديم عرض متكامل لحياة صاحب السيرة الذاتية ، اذا كانت الجوانب السلبية قد ذكرت .
لا يمكن لأي انسان أن يقول كل شيء عن نفسه ، بصدق وشفافية ونزاهة ، ويعترف بالحقيقة كاملة ، مما يجعلنا نعتقد باستحالة كتابة سيرة ذاتية حقيقية .
 
 
 


13
المنبر الحر / أدب عصي على الموت
« في: 20:54 14/11/2018  »
أدب عصي على الموت
جودت هوشيار       
كان الأدب في روسيا يحظى دائما ، بشعبية كبيرة ومكانة سامية في نفوس وقلوب القراء ، خصوصاً المثقفين منهم. وكان ينظر الى الكاتب كنبي، او معلم للشعب قادر على التأثير في النظام القائم وتغيير المجتمع . وكان دور الكاتب في روسيا عظيما الى درجة انه كان من غير اللائق أن يتفاخر أحدهم بنفسه أمام الآخرين ويقول: " أنا كاتب "، وكأنه يقول " أنا عبقري " أو" أنا انسان عظيم " .
أصبح الادب الروسي منذ عصره الذهبي ، في القرن التاسع عشر، شبيهاً بالدين ، يحمل عبئًا أخلاقيًا هائلًا ، ومثل الفلسفة ، أخذ على عاتقه التفسير الفكري للعالم المحيط ، وتحول الأدب من ظاهرة فنية- جمالية الى كتاب الحياة.
شهدت السنوات العشرين التي سبقت ثورة اكتوبر 1917 - وهي الفترة الإنتقالية من العصر الذهبي بمعطياته الفكرية والفنية الكلاسيكية الى عصر جديد بتياراته الحداثية وتنوعه الشعري والنثري، التي اصطلح على تسميتها ب" العصر الفضي " - إزدهاراً أدبيا تمثل في تيارات الحداثة والإتجاهات الأدبية المتنوعة وبخاصة في الشعر ( الرمزية ، المستقبلية ، التصويرية ، التكعيبية  وغيرها) التي تعايشت وراحت تتنافس فيما بينها. واذا كان ثمة شيه إجماع بين مؤرخي الأدب الروسي حول بداية " العصر الفضي " وهي أواخر القرن التاسع عشر ، فإن الخلاف ما يزال قائماً بينهم حول نهاية هذه الفترة التي يرى البعض أنها انتهت بوفاة الشاعر الكسندر بلوك وإعدام الشاعر نيكولاي غوميلوف عام 1921 ( مؤسس مدرسة الأكميزم في الشعر الروسي ، زوج الشاعرة آنّا أخماتوفا ) ، بينما يرى البعض الآخر ان هذه الفترة انتهت بإنتحار الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في عام 1930 .
غالبية كتّاب " العصر الفضي " عارضوا النظام البلشفي وقرروا مغادرة البلاد الى اجل غير مسمى ولكنها أصبحت بالنسبة الى معظمهم هجرة بلا رجعة ، حيث أنشأوا في الدول الغربية مراكز ثقافية، ودور نشر روسية، وأصدروا صحفا ومجلات للقراء الروس في مدن اوروبية عديدة ولا سيما في باريس وبرلين ، وظهر في السنوات اللاحقة ما يسمى بالأدب الروسي في المهجر .
وضعت ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا حداً للحريات الديمقراطية ،لكنها لم تستطع أن تغيّر على الفورالحياة الثقافية ، ومنذ عشرينات القرن العشرين ، أخذت ظاهرة ثقافية  جديدة تتبلور في البلاد ، اطلق عليها مصطلح " الأدب السوفييتي " . وجرى تقييم االكتّاب من حيث موقفهم من السلطة السوفيتية ،التي كانت تريد منهم الإشادة بالثورة ، وإبراز مزايا النظام الجديد ، مقارنة بالنظام الرأسمالي ، وليس إنتقادها أو التحليق خارج السرب .
ومع حلول اوائل الثلاثينات سيطرت الدولة على المطابع والصحافة  وأغلقت دور النشر الخاصة ، والغت كل الجمعيات الأدبية - التي كانت تضم آلاف الأعضاء وتصدر مجلات طليعية - وذلك بموجب قرار اللجنة المركزية للحزب بإعادة بناء الجمعيات الأدبية والفنية .  وذلك تمهيداً للمؤتمر التأسيسي لإتحاد الكتّاب السوفيت الذي انعقد في أغسطس عام 1934 ، وقرر المؤتمر إعلان " الواقعية الإشتراكية " المذهب الأدبي والفني الوحيد المعترف به في البلاد،ومحاربة الإتجاهات ( البورجوازية والشكلية ) في الأدب والفن .
(الواقعية الإشتراكية ) مصطلح غريب ،وكأن ثمة في الأدب العالمي واقعية رأسمالية أو إقطاعية  وقد أصبح هذا المذهب ملزماً لكل الكتّاب والشعراء والنقاد والباحثين والفنانين .
لعب المؤتمر دوراً سلبيا في الحياة الثقافية ، وأسهم في تدميرالقيم الروحية والجمالية والتقاليد الأدبية للأدب الروسي . وأنتاب القلق والتوجس كتاباً مشهورين ومنهم اسحاق بابل الذي أعلن في المؤتمر مازحاً أنه ابتكر جنساَ أدبياً جديدا اطلق عليه جنس " الصمت" أي التوقف عن النشر الى أجل غير مسمى . 
أصبح عامل البناء أو المنجم أو مصنع الصلب أو فلّاح التعاونية الزراعية ، البطل الرئيسي الإيجابي في الأدب السوفيتي . وتم حظر نشر الأعمال الأدبية ، التي لا تعكس توجهات الحزب الايديولوجية والصراع الطبقي وانجازات بناء الاشتركية..ولجأ العديد من الأدباء الى تناول الموضوعات التأريخية تهرباً من الحاضر الخانق .أو حرصوا على الإحتفاظ بنتاجاتهم الجديدة بعيداً عن الأنظار في ادراج مكاتبهم انتظاراً لزمن أفضل .
وبعد تصفية المعارضة داخل الحزب الشيوعي في النصف الثاني من الثلاثينات وهيمنة ستالين المطلقة على السلطة ، تم تشديد الرقابة الأيديولوجية المتزمتة على المجلات الأدبية ( السميكة )، وعلى دور النشر والمسرح والسينما ، التي اصبحت كلها حكومية في عموم الإمبراطورية السوفيتية المترامية الأطراف. وبدأت الحملات الصحفية الظالمة ضد كل من يخرج عن الطاعة ويكتب ما لا يعجب السلطة .وشرع الحزب البلشفي بإتباع اسلوب الإشراف المباشر على الحركة الثقافية وادارة الأدب وتوجيهه.
وفي هذا الإطار جرى تهميش الكتّاب الذين لم يتحمّسوا للنظام الشمولي، وإختفى أي أثر للرأي الآخر، وتحول الأدب السوفيتي الى أداة لتخدير الوعي الجمعي وتضليل الجماهير وتعبئتها للتنافس على تنفيذ الخطط الخمسية في الأقتصاد بوتائر عالية .
كان الأدب المؤدلج يدعو الى التضحية بمباهج الحياة ، وتحمل الصعوبات والظروف المعيشية ، مهما كانت قاسية وبائسة في سبيل بناء " الجنة الشيوعية " الموعودة للأجيال القادمة . وان على الناس أن يعيشوا من أجل تحقيق هذا الهدف ( النبيل ) ، ويتحملوا في سبيله ، كل انواع الضيم والفاقة ، لا أن يعملوا من اجل توفير متطلبات االعيش او يهتموا بحياتهم الخاصة .
لم يعد بوسع أي كاتب أن ينشر عملاً ابداعيا يعبّر عن عالمه الداخلي ورؤيته الخاصة للحياة ، وعمّا يجول بخاطره ، ويشعر به في نفسه . وادرك كل مبدع حقيقي أن الكتابة الأدبية أصبحت مهنة خطرة للغاية .
مصائر أفضل الكتّاب الروس في الحقبة السوفيتية –أولئك الذين يشكلون اليوم مجد وفخر الأدب الروسي الحديث – تراجيدية ومفجعة. فقد انتهت حياة العشرات منهم في ساحات الأعدام ، وقضى الآف آخرين نحبهم في معسكرات الإعتقال والأشغال الشاقة في أقاصي سيبيريا من الجوع ، والمرض وإنعدام الرعاية الصحية ، وتكيّف المنصاعون لتوجيهات الحزب الأيديولوجية مع الوضع الجديد . ولم يتم ملاحقتهم او اعتقالهم، بل ظلوا يكتبون وينشرون في اطار المذهب المفروض عليهم ، ولكنهم انتهوا ككتاب مبدعين ولم تعد لكتاباتهم قيمة فنية تذكر. وفي ظل هذه الممارسات القمعية ، وتقييد الحريات العامة والخاصة ، والمناخ الثقافي الخانق ، استطاع جهاز المخابرات السوفيتية تجنيد أعداد غفيرة من الأصدقاء والمعارف المقربين من الكتّاب، للتجسس عليهم ، وكتابة التقارير السرية عنهم حتى وإن كان هؤلاء الكتّاب ، قد إختاروا الصمت الإجباري أو الإختياري ،
ولم تقتصر تقارير المخبرين على أهل الأدب والفن ، بل شمل كل العاملين في أجهزة الحزب والدولة . وقد تبين من الوثائق المنشورة بعد تهاوي النظام السوفيتي ان العدد الاجمالي لتقارير المخبرين عملاء الأمن السري قد بلغ حوالي اربعة ملايين تقرير .
وتتضمن لوائح اتهام الكتّاب من قبل المدعي العام ، التي تليت خلال محاكماتهم ،  تقاريرسرية كثيرة كتبها مخبرون من أقرب الناس الى الكتّاب المتهمين  . وهي تقارير عن أحاديث هذا الكاتب أو ذاك مع أصدقائه وزملائه في انتقاد بعض سلبيات الواقع السوفيتي  .
لجأ النظام السوفيتي منذ تولي ستالين مقاليد الأمور الى سياسة الترهيب والترغيب في التعامل مع الكتّاب ، ففي الوقت الذي كان فيه الكتّاب الأحرارعرضة للأعتقال أو الإعدام أو النفي ، ومنع تداول أعمالهم  ، وشطب أسمائهم وأي إشارة اليهم أينما وردت ، في ظل حكم ستالين ، لجأ النظام السوفيتي في عهدي خروشوف وبريجنيف  الى اسقاط الجنسية السوفيتية عنهم وطردهم من البلاد أو ادخالهم الى المصحات النفسية والعقلية ، كان الكتّاب المنصاعين للتوجيهات الحزبية  يتم تكريمهم ماديا ومعنويا بمنحهم الجوائز الأدبية والأوسمة التقديرية والشقق السكنية ومنازل في الضواحي كمكاتب لهم بعيداً عن ضجيح المدينة. والأهم من ذلك انهم كانوا يحسبون على الطبقة الحاكمة المسماة " نومنكلاتورا " بإمتيازاتها الكثيرة في السكن الفاخر والمعالجة الطبية المتميزة ، وابتياع ما يحتاجونه من سلع في متاجر خاصة ، وتشر مؤلفاتهم بمئات آلاف النسخ ومنحهم مكافئات نقدية سخية للغاية ، توفر لهم حياة رغدة ، بعيدا عن شقاء ملايين الكادحين الذين كانوا يعيشون في منازل جماعية طويلة اشبه بعربات القطار مكتظة بالسكان حيث تخصص غرفة واحدة لكل عائلة ، ويضطرون يوميا للوقوف في طوابيرطويلة  من اجل الحصول على أبسط السلع والخدمات .
نوافذ في الستار الحديدي
خفت موجة قمع الكتّاب المغضوب عليهم في فترة " ذوبان الجليد " أي عهد نيكيتا خروشوف (1955- 1964) حيث تمّ فتح نوافذ في الستار الحديدي- الذي كان يعزل المعسكر الإشتراكي عن بقية العالم - وأخذت رياح التغيير تهب على البلاد، وبدأ التبادل الثقافي مع الدول الغربية، واتباع سياسة التعايش السلمي بين النظامين الأشتراكي والرأسمالي  ولم تعد المحاكمات سرية كما كانت في عهد ستالين . ومع ذلك فأن العقل الأيديولوجي الجامد ،لم يكن يقبل أي خروج على نمط الأدب الذي كانت تروج له الدعاية السوفيتية . وظلت أفضل الأعمال الأدبية حتى للكتّاب المشهورين حبيسة الأدراج في مكاتبهم ، بعد رفض المجلات الأدبية السميكة ودور النشر الحكومية نشرها .
هذه الأجواء الخانقة طوال عدة عقود ، كانت كافية للقضاء على الإبداع الأدبي . ولكن الأدب الروسي كان عصياً على الموت . ففي أول فرصة سانحة - حين لم يعد شبح الموت أو الزج في السجون واقفا بالمرصاد لكل من يفكر بطريقة مغايرة ، لا تتوائم مع التوجهات الحزبية- لجأ الكتّاب الروس الأحرار الى تجاوز الأشراف الحكومي على الأدب وإيجاد مسارات بديلة لنشر نتاجاتهم ، لا تخضع للرقابة الرسمية ، ومن أهم هذه المسارات :
1- سام ايزدات ، أي (النشر الذاتي) ، وهي كتب ومجلات كانت تطبع بأعداد قليلة على ورق رديء ورخيص في الأقبية بعيدا عن أنظار الشرطة السرية ، وأحيانا من قبل مغامرين عاملين في المطابع الحكومية ،وتوزع باليد على القراء الموثوق بهم ، وتنتقل النسخة الواحدة ، من يد الى يد الى ان تبلى تماماً . كانت مطبوعات ( سام ايزدات )  تنشر النتاجات الأدبية من نثر فني وقصائد شعرية ، والمذكرات الشخصية ، ودراسات في الفلسفة والتأريخ ، التي لا تجد طريقها للنشر العلني، وتعيد نشر النتاجات المحظورة من قبل السلطة. وكانت مطبوعات " سام ايزدات " تعكس الأدب الروسي الحقيقي ، بتنوعاته الفكرية والفنية  ، وأساليبه الأدبية المختلفة، وتناغمه مع الأدب العالمي المعاصر ، وتلقى إقبالاً عظيماً ،في وقت كانت فيه أطنان من كتب الأدب المؤدلج تتكدس في متاجر الكتب والمكتبات العامة بآلاف النسخ دون أن يهتم بها أحد من القراء .
2- تام ايزدات ، أي( انشر هناك ) ويقصد يه تهريب مخطوطات النصوص الأدبية والفكرية لنشرها في الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية . وتم عن هذا الطريق نشر نتاجات عشرات الكتّاب والشعراء ، وما زال جيلنا يتذكر الحملة الإعلامية السوفيتية ضد بوريس باسترناك حين فاز بجائزة نوبل في الآداب لعام  1958 ،عن رواية " دكتور زيفاغو "  وما أعقب ذلك الفوز من إجراءات تعسفية ضده ( الفصل من إتحاد الكتّاب ، التهديد بالنقي الى خارج البلاد واجباره على اخلاء مسكنه العائد للدولة في قرية الكتّاب " بيريديلكينا ") ، وقد اضطر باسترناك الى رفض الجائزة . وكانت هذه الحملة الظالمة سببا في تردي صحته ووفاته في عام  1960 .
وفي عام 1963، بدأت ملاحقة الشاعر جوزيف برودسكي ، فاستدعي للتحقيق أكثر من مرة ووضع في مصحة عقلية مرتين. وفي عام 1964 وجهت إليه تهمة التطفل بحجة أنه لا يعمل، وحكم عليه بأقصى عقوبة، وهي العمل في منطقة نائية مدة خمس سنوات، فنفي إلى محافظة أرخانغيلسك ، وبعد انتهاء مدة نفيه ، تمّ حرمانه من الجنسية السوفيتية ، وطرده الى خارج البلاد ، حيث إستقر في مدينة نيويورك ، وعمل محاضراً في جامعة مشيغان ، ونال جائزة نوبل في الآداب لعام 1987، وجائزة الأكليل الذهبي الأميركية عام 1991 ..
وفي عام 1966 حكم على أندريه سينيافسكي بسبع سنوات ، وعلى يولي دانيال بخمس سنوات بتهمة نشر أعمال أدبية بأسماء مستعارة في الخارج مسيئة الى سمعة البلاد وقد أثارت محاكمتهما ضجة في الغرب ، وأصبحت بداية لحركة الإنشقاق في الإتحاد السوفيتي .
- 3- نتاجات الكتاب الروس في المهجر ، التي كانت تتسرب الى داخل البلاد ، وتستنسخ بأعداد كبيرة وتنتشر بسرعة فائقة . .
من المعروف ان ثمة ثلاث موجات من هجرة الكتّاب الروس الى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، اولى هذه الموجات كانت عقب ثورة اكتوبر1917 ، واستمرت الى اواخر العقد الثالث ، وهي أكبر الموجات ، حيث شملت غالبية النخب المثقفة . والثانية كانت خلال سنوات الحرب السوفيتية – الألمانية وحتى منتصف عهد " ذوبان الجليد" ( 1941- 1960) ، والموجة الثالثة الأخيرة كانت بين عامي ( 1986-1961) . وبلغت هذه الموجة ذروتها عندما سمحت السلطات السوفيتية بهجرة المواطنين اليهود الى اسرائيل . ولكن  معظمهم استغلوا هذه الفرصة للهجرة الى بلدان أوروبا الغربية ، والولايات المتحدة الأميركية .
كانت السلطةالسوفيتية تراقب هذه المسارات الثلاثة بعين يقظة ، وتتخذ اجراءات بحق الأدباء المتمردين على الرقابة الرسمية. ولم يعبأ الكتاب الأحرار بهذه الإجراءات التعسفية وواصلوا نشر كتاباتهم سرا داخل البلاد أو في الدول الغربية .
وقد تم التخفيف من الرقابة على المطبوعات ، ومن ثمّ الغائها نهائياً في فترة " البريسترويكا " ، ومنذ عام 1986 سمحت  السلطات بنشر الأعمال الأدبية والفكرية ، التي كانت محظورة طوال السبعين سنة الماضية من الحكم السوفيتي  وسميت هذه الظاهرة " بالأدب المستعاد ، أي نتاجات الكتّاب من ضحايا الأرهاب الستاليني ، وتلك الأعمال الأدبية التي ظلت في أدراج مكاتب الكتاب البارزين ، ولم يغامروا بتقديمها للنشر في الحقبة السوفيتية، ، وكذلك أعمال الأدباء الروس في المهجر . وقد اتسعت هذه الظاهرة لتشمل نشرالوثائق الرسمية ذات العلاقة بالكتّاب المضطهدين والكثير من خفايا الحكم السوفيتي .
وبعد تفكك الإتحاد السوفيتي الى جمهوريات مستقلة ، تمّ في الإتحاد الروسي ، حل كافة دور النشر الحكومية وتأسيس دور النشر الخاصة ، التي حولت الكتاب الأدبي الى سلعة في السوق ، كما هو الحال اليوم  في معظم بلدان العالم .
 
 

14
هل الكاتب المبدع كائن غريب ؟
جودت هوشيار                
كلما رأيت كاتباً مبدعاً يرتدي ملابس غريبة ، صارخة أو متنافرة الألوان ، وقد اطلق شعر رأسه ،على طريقة الهيبيز، وترك لحيته تنمو لتغطي معظم وجهه . أقول كلما رأيت مثل هذا الإنسان ، تساءلت بيني وبين نفسي : هل هذه هي علامات النبوغ أو العبقرية حقاً ، أم أن في الأمر التباساً ما ؟
لم تدرس شخصية الكاتب وعملية الخلق الفني إلا قليلاً . ويبدو الكاتب في نظر الآخرين كائناً غريباً ونادراً. الناس يعتقدون أن الكاتب المبدع يجب أن يشذ عن أعراف وتقاليد مجتمعه ، ويتمرد على محيطه بكسر التابوهات، أو يعاني من اضطراب عقلي طفيف ، ويرى الحياة بنظرة غير مألوفة ؛ ويكون غريب الأطوار والسلوك .
في الواقع، ليس الأمر على هذا النحو ، فالكتّاب المبدعون مختلفون عن بعضهم البعض، في مظهرهم وسلوكهم ومنهج حياتهم ،وتتباين حظوظهم من الموهبة ، والذكاء والثقافة، والخبرة، والصحة النفسية، ولكن السمات الشخصية التي تساعد على الكتابة الإبداعية موجودة. ويدرسها علم سيكولوجية الإبداع  الذي يساعد على الكشف عما هو مفيد حقا  في شخصية الكاتب.
دوافع الكتابة
الكاتب الحقيقي لا يستطيع الا أن يكتب مدفوعاً بهاجس داخلي لا يمكن له مقاومته أو فهمه ، ولا يكتب من أجل المال ، أو المجد والشهرة . الكتابة الحقة تنبع من داخل النفس ، ولا تفرض من الخارج .
الكتّاب يعرفون ان الكتابة في موضوع معين بناء على تكليف هذه الجهة أو تلك ، ليس عملا مملا فقط ، بل يلحق الضرر بقدراتهم الإبداعية لأنه يقحم في عالمهم شيئا غريبا . وبعد تكرار مثل هذه الكتابات يلاحظون هبوط قدراتهم الأبداعية في التخييل وخلق الصور النابضة بالحياة .القلم المتفرد يختنق في الواقع الحياتي ويفقد ما يبدعه الخيال . من الأفضل للكاتب أن يعمل في غسل السيارات من أن يكتب بناءً على تكليف دار نشر أو مجلة ما . 
 نظرة متميزة الى الحياة والعالم
الناس يوجهون اللوم الى الكاتب المبدع، لعدم اهتمامه بأخبار الساسة أو النجوم ، أو التسوّق ، أو الرياضة او الأغاني الأستعراضية أو صرعات الموضة. الكاتب يعيش في عالم آخر ويتحدث أحياناً عن النجوم وضؤ القمر وعن اشياء عديمة الفائدة للناس. ويمكن النظر الى هذا النوع من اللوم كمجاملة للكاتب. لأن مهنة الكتابة تتطلب العزلة وصفاء الذهن والتأمل من اجل التحليق على أجنحة الخيال، وخلق عالم آخر افتراضي في ذهن الكاتب المبدع . وهذه العملية تؤدي الى الإنفصال عن العالم الواقعي مؤقتاً ، والتفرغ للكتابة وإزاحة كل ما يعيقها وتوجيه كل قوى الكاتب نحوها .
 الإنغماس في صعوبات الحياة اليومية  قد يحرم الكاتب من التركيز على عمله والحد من زخم الطاقة المطلوبة لخلق عمل أدبي ممتع ومتفرد
الميل إلى الحوار الداخلي
نقد آخر يوجه في العادة الى الكاتب المبدع، وهو إنغماسه في حوارات داخلية صامتة بينه وبين نفسه أوالحديث في بعض الأحيان إلى نفسه بصوت مسموع. قد ينظر البعض الى هذا الأمر على أنها علامة مبكرة من أعراض الإختلال العقلي والنفسي . ولكن الحوار الداخلي بالنسبة الى الكاتب  - إحدى الطرق الرئيسية لإنشاء النص.  وتفسير ذلك ، أن أفكار الشخص البالغ تتشكل عن طريق الكلمات أولاً ، ومن ثمّ  الصور.الكاتب حين يحدّث نفسه بالحوار الداخلي ويصف المشاعر والأحاسيس انما يصوغ انطباعاته بالكلمات ، التي قد تتحول الى صور فنية حية اذا كان يمتلك مهارة الكتابة الإبداعية
الدقة
مع الحوار الداخلي ترتبط عادة أخرى مفيدة للكاتب ، وهي السعي للحصول على التعريف الصحيح الدقيق لما يحدث. والبحث عن الكلمة التي تصف الواقع بأكبر قدر ممكن من الدقة ، وهذا الإحساس المرهف بالكلمة وإيقاعها في سياق الجملة ،قد يكتسب طابع الوسواس القهري. لأن ما لا يمكن وصفه بالكلمات لن يكون له وجود قطعاً
ان النص الفني الذي نقرؤه في سهولة ويسر ، شديد الصعوبة في كتابته . فالكاتب يتخير كل لفظ بدقة ليؤدي معنى معينا يحيث لا يمكنك ان تحذفه أو تكتب لفظا آخر بدلاً عنه . لذلك قد يكتب الكاتب الجملة الواحدة مرات عديدة حتى يصل الى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى . بمعنى آخر أن النص الفني الحقيقي يتميز بطلب الحتمية والدقة والوضوح .
حب الأستطلاع
حب الاستطلاع خاصية يتميز بها الكاتب المبدع الذي يتلهف لرؤية اماكن جديدة وتسجيل انطباعاته عنها . وبعد كل زيارة يعود ليكتب بطاقة جديدة مدفوعا بما تركت الزيارة  في نفسه من آثار قوية
تشيخوف سافر الى منطقة (ساخالين ) في اقصى الشمال الروسي وقام برحلة طويلة مرهقة استغرقت عدة أشهر ، من أجل الإطلاع على ظروف الحياة في هذه المنطقة النائية الموحشة ، وأوضاع المعتقلين والمبعدين فيها ، وعاد ليكتب كتابه القيم " ساخالين " الذي أثار ضجة كبيرة ، اضطرت معها السلطة القيصرية الى تحسين ظروف الحياة في المعتقلات والمنافي . اسحاقل بابل عقد صداقة غريبة مع مسؤول المخابرات السوفيتية ، وعندما سأله الشاعر اوسيب ماندلشتام عن سبب دخوله الى " عش الزنابير " وخطورة ذلك على حياته ، أجاب بكل بساطة : " أريد أن أشمّ رائحة مطبخ القمع " .
حب الإستطلاع وراء كل عمل إبداعي ، لذا يسعى الكاتب الى الحصول على المادة الخام لأعماله الأدبية ، وهذا السعي يختلف عن فضول الفرد العادي الذي يتسمع ما يتحدث به جيرانه وراء الجدار أو مراقبة شجارفي الشارع من خلال نافذة في المنزل .

15
يوم في ضيافة انطون تشيخوف
جودت هوشيار      
تلقيت دعوة كريمة من منظمي المؤتمر العلمي العالمي المكرس لإبداع أنطون تشيخوف - الذي سيعقد في موسكو من 29 يناير ولغاية 1 فبراير2019 - للمشاركة في المؤتمر، بقراءة ورقة في موضوع يتعلق باحد جوانب حياة وأدب هذا الكاتب ، الذي يحظى بمكانة سامية في الأدب العالمي.
تشيخوف يبدو اليوم بعد أكثر من قرن على رحيله ، كاتبا معاصراً لنا ، وما زالت كتبه تطبع ويعاد طبعها في بلدان كثيرة ، ،ويلتقي المشاهد بأبطاله على مسارح موسكو وبطرسبورغ ونيويورك وطوكيو ولندن وباريس وبيونس ايرس وغيرها من المدن .
وقلما نجد كاتبا قصصيا او مسرحيا منذ تسعينات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا لم يتأثر بفن تشيخوف . وثمة عدد هائل من الكتب والبحوث والأطاريح العلمية المكرسة لإبداعه ، كما أن الكثير من مؤلفاته أخرجت سينمائيا وتلفزيونيا .
وتحتوي اللغة الروسية الحديثة على العشرات من العبارات والأقوال السائرة الذكية واللاذعة ، التي دخلت هذه اللغة عن طريق مؤلفاته ، ويستعملها الروس في حياتهم اليومية دون ان يفطنوا انها لم تكن موجودة في لغتهم قبل تشيخوف.
ولهذا يبدو لاول وهلة ، ان من الصعب على اي باحث أن يأتي بجديد عن ابداع تشيخوف ، الذي اشبعه الكتّاب والنقاد والباحثون دراسة وتحليلاً . وبعد تأمل الموضوع قلت في نفسي :" ان لكل باحث قراءته الخاصة لأعمال أي كاتب كبير. وأنا عندما أعيد قراءة روائع تشيخوف بين حين وآخر ، اكتشف فيها جديداً في كل مرة . إلا أن هذه القراءة لن تكتمل من دون قراءة رسائله ودفاتر يومياته وزيارة الأماكن التي عاش وكتب فيها ، من اجل فهم أعمق وأفضل لأعماله الأدبية . ولم اكن اول من يفعل ذلك ، فقد اعتاد العديد من المخرجين والممثلين المسرحين في روسيا زيارة الأماكن، التي كتب فيها تشيخوف أعماله المسرحية ، للعيش في أجوائها ولو لفترة قصيرة فبل تجسيدها على المسرح .
عزبة تشيخوف في ميليخوفو
  في فبراير 1892  كتب نشيخوف رسالة الى صديق له يقول فيها :" إن كنت طبيباً ، فإنني بحاجة الى مرضى ومستشفى ، وإن كنت أديباً فعليّ أن أعيش في وسط الناس ، لا في زقاق مالايا ديمتروفكا ... إنني في مسيس الحاجة الى (قطعة) من الحياة السياسية والإجتماعية . وأما هذه الحياة بين جدران أربعة ، حيث لا أناس ولا وطن ، ولا صحة ولا شهوة ، فهي ليست حياة ، وإنما هي الموت بعينه .
وفي آذار من السنة ذاتها ابتاع  تشيخوف عزبة صغيرة في قرية " "ميليخوفو ". وكان ذلك إختياراً موفقاً. فهي قريبة نسبياً من موسكو ، حيث يمكنه زيارة أصدقائه من الكتّاب والفنانين  والتواصل مع الناشرين ورؤساء تحرير المجلات الادبية ، وهي في الوقت نفسه تقع في منطقة خضراء ساحرة في عمق الريف الروسي بعيداً عن صخب العاصمة ، ومكان هاديء ومثالي للتفرغ للكتابة .
انتقل تشيخوف الى هذه العزبة مع أسرته المؤلفة من والديه وشقيقه الأصغر ميخائيل وشقيقته ماريا  في آذار عام 1892 ، ولم يكن قد تزوج بعد . كانت العزبة مهملة وبحاجة الى ادخال تحسينات شاملة عليها، وزراعة الأشجار المثمرة واحواض الزهور فيها .
واعترف تشيخوف في احدى رسائله ، انه لا يفقه شيئا في امور الزراعة . ولكن لم يمض سوى وقت قصير حتى شرع افراد اسرة تشيخوف في احياء المزرعة المهجورة . فقد تولّى والد تشيخوف بافل ايغوروفيتش تمهيد المماشي والإعتناء بالأشجار ، وبادرت ماريا بافلوفنا ، شقيقة تشيخوف الى زرع أصناف فرنسية من الخضراوات في ركن سمّتها " ركن فرنسا " . وكان تشيخوف يمضي معظم وقت فراغه في الحديقة ، وخلال السنة الأولى غرس اكثر من 240 شجرة بينها عدد كبير من اشجار التفاح وشجيرات الكرز والليلك . وكان يجد لذة حقيقية في زرع الورود ورعايتها.وقال في ما بعد مازحاً:" يبدو لي أنني لو لم أكن كاتباً ، لكنت بستانياً " .
عاش أنطون تشيخوف في ميليخوفو سبعة اعوام  ( 1892- 1899 )  ، حيث كتب خلالها  اكثر من اربعين مؤلفاً ،  منها مسرحية "النورس" وقصص "الراهب الأسود" و"العنبر رقم ستة".  " البيت ذو العلية " و "الطالب " تناول فيها الحياة اليومية بسخرية لاذعة و صوّر مشاهد عائلية ،وروى حكايات ابطالها من التجار و الطلاب و الموظفين . وتعد هذه الفترة من أنضج وأخصب فترات حياته الإبداعية . وقال أنه كتب هنا أفضل أعماله .
في عالم تشيخوف
وصلتُ الى العزبة – التي تحولت الى متحف تشيخوف الرئيسي - بالسيارة في صباح يوم صيفي جميل في منتصف شهر أغسطس 2018 . وكان أول ما لفت نظري هو الأجواء الإحتفالية فيها . ثمة المئات من الزوار القادمين من مختلف أنحاء روسيا والعالم ، وباصات مدرسية تنقل مئات التلاميذ من الجنسين بصحبة معلميهم لزيارة المكان الذي تدور فيه أحداث العديد من قصص ومسرحيات تشيخوف ، التي تدخل في المناهج الدراسية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي .
تجولت في كافة زوايا وجنبات المتحف للتعرف على كل ما يرتبط بحياة الكاتب، وقضيت ساعات أتمعن في الجو الذي عاش وكتب فيه تشيخوف أعماله الرائعة.
يضم المتحف أكثر من 20 ألف قطعة أثرية جمعت من الأدوات والأشياء التي كانت تحيط بالكاتب ، بينها لوحات الفنانين من أصدقائه، وصور التقطت له ولأفراد أسرته ، وسريره ومكتبه ، ورسائله ومخطوطاته ، ومعطفه ونظارته ، والطبعات الأولى لكتبه ، والمجلات الروسية القديمة الصادرة في موسكو وبتروغراد، التي نشرت قصصه ومسرحياته . وضمن مكتبته المنزلية - التي تعكس اهتماماته الأدبية والفلسفية والتأريخية –حوالي 400 كتاب نادر من القرن الثامن عشر .
يحافظ المكان على كل لحظة من تاريخ حياة الكاتب في ميليخوفو ويوفر للزائر الفرصة لكي  يعيش في الجو نفسه الذي عاش فيه تشيخوف في نهاية القرن قبل الماضي . وقد أحسست به قريباً مني أكثر من أي وقت آخر.
بضم المتحف عدة بنايات اكبرها  المبنى الرئيسي -الذي كان يقيم فيه تشيخوف مع افراد اسرته ويحتوي على الجزء الأكبر من الأشياء التي تخصهم .
كانت ماريا ، شقيقة تشيخوف ، معلمة وفنانة تشكيلية بارعة وما يزال العديد من لوحاتها معلقة على جدران غرفتها .وتدور في كواليس المتحف حكايات عن علاقة حب بينها وبين الكاتب ايفان بونين ، وعندما تقدم الأخير لخطبتها ، سألت شقيقها انطون عن رأيه في بونين وهل تتزوجه أم لا ؟ فقال لها قرري ذلك بنفسك . وكان أن رفضت ماريا الزواج من بونين .
في قصة " ابريق القهوة الثاني " التي ترجمناها عن الروسية ونشرت العام الماضي يتحدث بونين عن الفنانة ماريا ويقول بأنها لم تكن فنانة موهوبة . ويبدو ان ماريا تركت ندبة لا يندمل في قلب بونين .
أما ميخائيل ، شقيق تشيخوف الأصغر ، فإن مذكراته عن شقيقه العظيم ، أصبحت مصدراً مهما لدراسة حياة تشيخوف عموما وعن فترة ميليخوفو خصوصاً .
هنا استقبل الكاتب الأصدقاء القادمين من موسكو. وكان سعيدا دائما لرؤية الضيوف ، وكتب في احدى رسائله : " ان كل مثقف يمر بالقرب من عزبتي يرى من الضروري أن يزورني " . وتحت نافذة المنزل شرفة رحبة كان يفضل شرب الشاي  فيها مع ضيوفه .  ولكن تدفق الزوار على عزبته كان يشغله عن التفرغ لعمله الإبداعي .
وفي عام 1894 بنى بيتا صغيرا منفصلا يحتوي على غرفتين صغيرتين : مكتبه وغرفة نومه . وتوجد لوحة معدنية بقرب باب المبنى تفيد بان تشيخوف كتب هنا مسرحيته الشهيرة " النورس " .
وتوجد في العزبة بناية كان يستقبل فيها مرضاه ، ويقدم الأدوية اللازمة لهم مجاناً وكان يضطراحياناً لقطع عشرات الكيلومترات للوصول الى مريض في حالة حرجة يإحدى القرى .
وثمة بناية أخرى، يقول عنها المرشدون أنها المدرسة التي أنشأها تشيخوف لأطفال الفلاحين وتوفير كل مستلزمات الدراسة فيها على حسابه الخاص .
أغلب الظن أن تشيخوف – كما قال أحد زملائه الأطباء – قد أصيب بمرض التدرن منذ شبابه . ولم يتم التأكد من ذلك الا في عام 1897 ، عندما تردى صحته كثيرا . وكان نيكولاي تشيخوف احد أشقاء الكاتب قد توفى بهذا المرض قبل ذلك بعدة سنوات . وحين تفاقم مرض تشيخوف عام 1899 ، أدرك - وهو الطبيب المتمرس -ضرورة الإنتقال الى مكان لطيف المناخ ، فباع العزبة وقلبه يعتصر ألماً ،، لأنه كان يحب الإقامة في (ميليخوفو) ، فاختار مصيف ( يالطا ) الساحلية الجميلة في شبه جزيرة القرم ، وابتنى فيه منزلا اطلق عليه أصدقاؤه إسم ( البيت الأبيض ) .
 انتقلت العزبة بعد ذلك من يد إلى يد. وانهار المنزل الرئيسي فيها وتفكك بالكامل ، وظلت العزبة مهملة الى عام 1940 ، حين قررت الحكومة المحلية إنشاء متحف تشيخوف في ميليخوفو . والروس يعتبرون هذا التأريخ عام تأسيس المتحف ، رغم أن العمل الفعلي لم يبدأ في إنشاء المتحف إلا في 29 حزيران عام 1950 ، حيث تم الشروع باعادة بناء منزل تشيخوف وأسرته ، كنسخة من المنزل الأصلي ، ولم تنته أعمال الترميم والإصلاح في ارجاء العزبة الا مع حلول الذكرى المئوية لميلاد الكاتب في 29 يناير عام  1960 .
في عام 2006 تم افتتاح مسرح " ستوديو تشيخوف " وقد اطلعت على ريبورتوار (برنامج ) المسرح ورأيت ان المسرح يقدم عروضاً مستمدة من قصص تشيخوف : " السيدة " و" الدب" , "المرضى النفسيين " وغيرها .
والى جانب ذلك ثمة  مدرسة تشيخوف المسرحية ، حيث يقوم ممثلون ومخرجون مشهورون بالإشراف على " ورشة الإبداع المسرحي "لطلاب المعاهد المسرحية. ومنذ عام 1982 يقام هنا مهرجان مسرحي دولي يحمل اسم " ربيع ميلوخوفو " .
( العزبة – المتحف ) مؤسسة كاملة تابعة لوزارة الثقافة الروسية ويعمل فيها  123 منتسباً بينهم 11 من الباحثين العلميين والمرشدين الذين يقدمون للزوار معلومات مفيدة وشيقة عن تأريخ العزبة وحياة الكاتب واسرته فيها ، ويزورها سنويا حوالي 150 ألف شخص . وهناك كافتريا واكشاك لبيع منتجات الصناعة الشعبية المحلية والهدايا التي تذكرنا بتشيخوف.
هل كان تشيخوف جيكياً ؟
كان الكسندر اسماعيلوف ( 1921-1873) أول من نشر عام 1914 كتاباً عن السيرة الحياتية والإبداعية لتشيخوف ، ذكر فيه أنه لم يتم العثور على وثائق أو أدلة تشير الى أصل لقب " تشيخوف " ، ولكن أجداد تشيخوف كانوا يقولون أنهم من أصل " جيكي او " تشيكي "بالروسية ،  وان الجد الاكبر لتشيخوف كان جيكيا لجأ الى روسيا بعد ملاحقته في بلاده لأسباب دينية . وقد تم عن طريق الفحص الجيني إثبات صلة القرابة بين أفراد سلالة تشيخوف القاطنين في كل من روسيا وجيكيا ، وكانت نتائج الفحص مطابقة الى حد كبير ، وشكلت مفاجأة يفضّل الباحثون الروس عدم التطرق اليها.
سبب وفاة تشيخوف
توفى أنطون تشيخوف توفي يوم 15 يوليو 1904 في فندق بمنتجع  بادينويلر في ألمانيا . وكان الإعتقاد السائد الى وقت قريب انه توفى نتيجة لمرض التدرن ، الذي اصيب به منذ شبابه ،  ولكن التحاليل الكيميائية الدقيقة ، التي اجرتها مجموعة من العلماء البريطانيين في أواخر العام الماضي لقميص كان يرتديه الكاتب ، كشفت بقدر كبيرمن اليقين تحديد سبب الوفاة. على القميص توجد بقع فيها بالإضافة إلى بكتيريا السل، مادة بروتينية، وهذا بالذات ما يدل على احتمال تشكل تخثر في دمه وحدوث انسداد في الأوعية الدموية ونزيف في الدماغ ..
عندما غادرت المتحف ، الذي تحول الى أحد أحب الأماكن لدى الشعب الروسي ، كانت ألوان الشفق تنعكس على صفحة بركة الماء التي كان تشيخوف يربي فيها انواع منتقاة من الأسماك الجميلة ، ومئات الناس من مختلف الجنسيات يغادرون العزبة ،  وعلى وجوه الزوار الروس مسحة من الحزن المشوب بالزهو ، لأن روسيا أنجبت واحدا من أنبغ الكتاب على مدى التأريخ .


16
آخر كلمات إسحاق بابل : دعوني اكمل عملي !

جودت هوشيار         
           
إسحاق بابل ( 1894 – 1940 ) واحد من أنبغ الكتاب الروس في النصف الأول من القرن العشرين ، لمع نجمه في سماء الأدب الروسي في العشرينات والثلاثينات بعد الأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد ( الثورة ، والحرب الأهلية ) . أثارت أعماله الإبداعية أهتماماً واسعاً، في روسيا وخارجها، حيث صدرت (35 ) طبعة من كتبه بين عامي (1926-1921) واهتم أشهر النقاد الروس بنتاجاته ، حيث بلغ حجم ما كتب عن نتاجاته خلال الفترة ذاتها أضعاف حجم ما صدر من مؤلفاته . وحظى خلال حياته ،ولا يزال يحظى – رغم مرور(78)سنةعلى رحيله المأساوي ، بشهرة عالمية واسعة كأحد أساتذة فن القصة القصيرة .وهو يشكل مدرسة جديدة في فن القصة ، مختلفة عن مدارس اسلافه العظام : موباسان وتشيخوف وبونين ، و يجسّد عبقرية الإيجاز والدقة والتجديد
ومهما كانت الموضوعات التي يعالجها فهو يخضع موضوعه لأسلوبه ، ويجعل الموضوع ثانويا بعد فنه في الكتابة ، فهو من هذه الناحية أشبه بفلوبير ..
ترجمت اعمال بابل ، منذ منتصف العشرينات الى أهم لغات العالم ، ومنها الأنجليزية ، والفرنسية ، والألمانية، والإسبانية ، والصينية ، ولغات أخرى عديدة
أشاد بفنه وتأثر به عدد من  أشهر الكتاب الغربيين وخاصة كتاب القصة القصيرة الأميركيين . ولا يزال هذا التأثير مستمراً ، سواء من خلال أعماله الإبداعية أو العدد المتزايد من البحوث الأكاديمية والنقدية عن حياته وأدبه  . ورغم الإعتراف العالمي به ، فإن معاصريه يتذكرونه كأحد أكثر الشخصيات غموضاً في الحداثة الأدبية الروسية . .
لم يكن بابل يشبه احدا ، ولم يكن بوسع احد ان يتشبه به .فقد ترافقت موهبته مع تكنيك الكتابة الابداعية المبتكرة. وقبل ان يجلس الى طاولة الكتابة ، كان عليه أن يعايش عن قرب ما يكتب عنه ويتعمق فيه . وهذا لا يعني أنه كان يحاكي الواقع ، بل كان يقول : " لا حاجة أن تكون القصة المحبوكة جيدا شبيهة بالحياة . الحياة تسعى بكل طاقتها ان تكون شبيهة بقصة خيالية جيدة " .
تتألف أعماله المنشورة من ثلاث مجموعات قصصية، ومسرحييتين ، وعدة سيناريوهات سينمائية ، وعدد كبير من الرسائل ودفتر واحد من يومياته  ،نجا باعجوبة ، لأن صديقة أوكرانية احتفظت به ، أو بتعبير أدق أخفته عندها طوال عدة عقود ، وهي يوميات كتبها بابل عندما كان مراسلا حربيا في جبهة القتال الروسية - البولندية خلال الحرب الأهلية الروسية ،  إضافة الى عدد من القصص القصيرة التي رفضت الرقابة الرسمية على المطبوعات  نشرها في العشرينات والثلاثينات  بذريعة أنها لا تتفق مع أهداف وبرامج الحزب الحاكم .
صوّر بابل في أعماله مسيرة البلاد نحو المجتمع الجديد بكل ما رافقه من سفك دماء ومن دموع  وآلام  وفواجع : ثورة اكتوبر ، والحرب الأهلية الدموية الشرسة ، والتصفية الوحشية للبورجوازية، والعمل الجماعي الإجباري ، حيث حل النظام الشمولي محل النظام الإقطاعي .
تعرّف العالم الغربي على الحياة في مدينته الأم " أوديسا " من خلال مجموعته القصصية " حكايات أوديسا "، وعلى الحرب الأهلية في روسيا من خلال سلسلة قصص" الفرسان الحمر"  رغم أن العديد من الكتاب الروس المشهورين من أبناء أوديسا ، من امثال " باوستوفسكي " و " اليوشا " و " ايلف " والشاعر باغريتسكي ، قد كتبوا الكثير عن أوديسا  المشمسة ، عروسة البحر الأسود .
كانت له علاقات واسعة ليس بالكتاب والفنانين والمسرحيين فقط بل أيضاً ببعض رجال الدولة مما أتاح له ادراك تناقضات ومفارقات المجتمع الجديد .
كان حاد الذكاء ، يرى الواقع السوفييتي على حقيقته ولم ينخدع بالدعاية االستالينية ،ولا بأوهام الجنة الموعودة ، التي تشبث بها كتّاب آخرون . احس على نحو عميق بتغيرات الزمن الدراماتيكية .
كل شيء في قصص بابل غير عادي : ليس الأبطال ودوافعهم وسلوكهم فقط ، بل الحالات غير المتوقعة وجوانب الحياة اليومية ،التي لا يراها الآخرون  والبناء القصصي المحكم والحوار الفعال .
 كانت لديه قوة تصوير هائلة : الأبطال السلبيون كانوا سلبيين حقاً ، يقفون امامنا وكأنهم أحياء بطول قاماتهم كل ذلك بكلمات قليلة مقتضبة .وهو مثل موباسان ، وتشيخوف ،خلق القصة القصيرة خلقا جديدا ، ولكن بابل يتميز عنهما بتكثيف النص الى اقصى درجة . وعندما تقرأ قصة قصيرة له لا تتجاوز بضع صفحات تشعر وكأنك قرأت رواية طويلة .
  وكل مجموعة من قصصه ، يوحدها الطابع العام والسخرية والتهكم ، والعنف ، والجنس . التشبيه والأستعارة في قصصه مبتكرة . ولو فتشت في كل قصص بابل فلن تجد فيها كليشة أو عبارة مستهلكة واحدة . قصصه تنبض بالحياة المتدفقة بكل مفارقاتها وتناقضاتها . 
بابل شبه مجهول في العالم العربي ، إذ أن دور النشر التجارية العربية لا تنشر غالباً ، الا تلك الأعمال التي تثير  ضجة في الغرب لأسباب سياسية . وما ترجم من الأعمال الأدبية الروسية الى اللغة العربية خلال أكثر من مائة عام  لا تعكس صورة صادقة عن الأدب الروسي - بشقيه الكلاسيكي والحديث - وتطوره عبر أكثر من قرنين من الزمن .
لم يترجم من قصص بابل الى اللغة العربية – حسب متابعتنا المستمرة -  سوى ثلاث قصص فقط مع بضع مقالات قصيرة عابرة ، لا تتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة .والتي لا تستند الى المصادر الروسية الأصيلة ، بل الى كتابات نقاد غربيين ، لا يخلو كتابات بعضهم من اخطاء وهفوات ، واحيانا من تحريف حسب أهواءهم . او بسبب الحساسية تجاه كل ما هو روسي . إن الجهل بأدب بابل لا يقل غرابة عن الجهل بأدب فلوبير أو موباسان او تشيخوف اوهمنجواي أو فوكنر .
اعدم بابل بتهم ملفقة في 27 يناير عام 1940 بعد محاكمة صورية لم تستغرق سوى عشرين دقيقة . وكانت آخر كلماته : " دعوني اكمل عملي ! " .

17
الأمتحان غداً ولكن قلبي ليس حجراً
جودت هوشيار              
كل شيء في حياتي الموسكوبية يبدو لى الآن - بعد كل هذه السنين - رائعاً وسعيداً ، ولم ادرك أو يخطر ببالي آنذاك انني اعيش اجمل سنوات عمري . بل كنت أتذمر أحياناً من بعض مظاهر الحياة السوفيتية .
كنا ثلاثة طلاب ، جئنا من ثلاثة بلدان متباعدة ، ونسكن في غرفة واحدة ، متوسطة الحجم . أنا القادم من بلاد الرافدين، وديفيد الكاميروني ، وفيكتور الأوكراني . ثلاثة غرباء ، لهم طبائع مختلفة ، ومن ثقافات متباينة ، فرض عليهم العيش المشترك في غرفة ليس فيها سوى ثلاثة اسرة مع كومودينو صغير الى جانب كل سرير ، وطاولة دائرية في الوسط ، يستعمل للمذاكرة والكتابة والأكل والشرب ، ودولاب واحد للملابس ، وإبريق واحد لتحضير الشاي ، ومصباح كهربائي عار يتدلى من نهاية سلك ، أشبه بالمشنوق .
وكان ينبغي أن يكون أحد الطلاب الثلاثة طالبا سوفيتيا وعضواً في منظمة الكومسومول ، والذي كان يتم إختياره بعناية فائقة من بين المتفوقين دراسياً ، والناشطين في المنظمة ، من اجل مساعدتنا نحن الطلبة الأجانب في تعلم اللغة الروسية ، حسب ادعاء عمادة الكلية. ولكنننا كنا نعلم ان الغرض الأساسي من ذالك هو مراقبتنا باستمرار ، وليس مساعدتنا فقط على سرعة تعلم اللغة الروسية ، رغم أنه لم هناك ما يستدعي المراقبة على الإطلاق . ولكن العقل الأيديولوجي المريض كان يرى في كل أجنبي شبح عدو ينبغي عدم التغافل عنه أبداً . وكان ثمة هدف آخر ، غير معلن ، هو تعزيزالروح الأممية ، والمباديء الإشتراكية في نفوس الطلاب الأجانب . ولكن السحر كان دائما ينقلب على الساحر ، فبدلا من تأثر الطالب الأجنبي بالنظام الإشتراكي، كان الطالب الروسي هو الذي يطلع لاول مرة في حياته على حقائق الحياة خارج الإتحاد السوفيتي ، والتي لا تتحدث عنها الدعاية السوفيتية .
كان هناك مطبخ مشترك فيها عدة مواقد غازية ، ودورات مياه ومغاسل مزودة بالماء الحار في كل طابق . البنات في الطوابق العليا والطلاب في الطوابق الوسطى . وفي الطابق الأرضي كان هناك حمام عمومي - يوم للذكور ويوم للإناث طوال أيام الأسبوع -  والبوفيت وادارة الدار والمخزن. كنا نخضع لنظام متبع في جميع دور الطلبة .كان علينا ، أن ننظف غرفنا بأنفسنا ، ونرجع الى الدار قبل الحادية عشرة مساءً . ولكن ديفيد لم يكن يتقيد بأية تعليمات ، لا يشاركنا في تنظيف الغرفة ، ولا يرتب فراشه حين يغادر الى الكلية . وأحياناً يأتي في ساعة متأخرة من الليل ،غاضباً من شيء ما ، أو مخمورا بصحبة صديقته، فتمنع المناوبة الفتاة من الدخول  فينفجر ديفيد صارخاً بوجه المناوبة
! أنتم البيض عنصريون وتكرهوننا -
كنا أنا وزميلي الأوكراني نجامل ديفيد ، ونتعامل معه بلطف . والحق أن ديفيد كان إنساناً صادقاً – وأكاد أقول بريئاً - وطيب القلب رغم بعض مظاهر الطيش الشبابي في سلوكه ، فهو لا يكل ، ولا يمل من اتهام الكل بالعنصرية .ونحاول في كل مرة أن نطيّب خاطره .
أمّا فيكتور فقد كان شاباً مجداً وذكيا ، ومثالاُ في الدماثة واللباقة : يصحح لنا ألفاظنا الروسية ، اذا لم ننطقها على الوجه الصحيح ، أو يفسر لنا معاني بعض الكلمات النادرة في اللغة الروسية الجميلة ، الباذخة الثراء . ويبدو انه كان من اهل الريف ، فقد كان يتلقى في فصل الشتاء بين حين وآخر قطعة كبيرة  من الشحم الأبيض ، يلفها في قماش من الكتان الأبيض ، ويخفيها تحت سريره داخل حقيبته الجلدية . وحين يعود من الكلية ، يقطع شريحة وردية من الشحم، ويأكلها مع الخبز الأسود ، ونادراُ ما يشرب الشاي . كنت حين أعود للغرفة مساءً ، أسأل فيكتور ان كان في الإبريق بقايا شاي ؟
- نعم . شاي طازج من الأمس فقط !
ولكن فيكتور كان يتحول الى شخص آخر لا نعرفه ،عندما يجتمع في الغرفة مع عدد من أصدقائه ، ويحتفلون على طريقتهم . أي شرب الفودكا القوية من أرخص الأنواع مع مزة من مخلل الخيار. كان فيكتور المخمور يسألني :
- هل تحترمني ؟
- بالطبع يا صديقي
- اذن اشرب معي كأساً.
 وكان الضجيج يتصاعد كلما شربوا كؤوسا جديدة من الفودكا ، ثم يرفعون عقيرتهم بالغناء . أغاني طلابية شائعة ، لا أحد يدري أسماء مؤلفيها أو ملحنيها .كان زملاؤنا السوفيت يرددون غالبا أغنية جميلة ، يزعم كل من الشاعرين اناتولي سوبوليف وبوريس كوزنيتسوف ، أن نصها يعود لهما . تقول الأغنية :
ظل الأكاسيا يغريني
للتنزه ولو لبرهة
وأعرف أن الإمتحان غداً
لكن قلبي ليس حجرًاً .
في هذه الليلة القمرية
يبدو ان الطالب سيموت
بسببك
أيتها الصبية الجميلة
 
الآن ليس وقت
هذا الفستان بشرائط ملونة
وكأنك خرجت للمداعبة
جئتِ من الحلم
وانا اتطلع اليك بحذر
لا تمشي بجانبي
ولا تسحرني بنظراتك الحانية
لا تقفي الآن حائلا
امام اصعب امتحان
لا ارجوك .
في هذه الليلة القمرية
يبدو ان الطالب سيموت
بسببك
أيتها الصبية الجميلة
 
 
 
 

18
المنبر الحر / شكسبير بالكردية
« في: 13:17 17/07/2018  »
شكسبير بالكردية
جودت هوشيار               
كتب وليم شكسبير ( 1564 – 1616 )  شاعر الإنجليزية الأكبر 38 مسرحية ، و 158 سونيته ، وقصتين شعريتين ، وبعض القصائد الشعرية .  وهي كلها شعر ، ويندر أن نجد فيها من النثر ، إلا صفحات معدودات من حين الى حين . مزايا هذا الشعر وخصائصه ، والتغيير الذي احدثه شكسبيرعلى مفهوم المسرحية - حيث انتقل بها من عالم البطولات والخوارق في المسرحيات الاغريقية، الى العالم الحقيقي في عصره ، بشخوصه من الناس العاديين - هي التي جعلته يتبوأ مكانة رفيعة في الأدب العالمي ، ويصبح أدبه جزءاً مهماً من التراث الإنساني .
الذين قرءوا أعمال شكسبيرفي اصلها ، باللغة التي كتبت بها ، يدركون مدى صعوبتها ، ويعرفون إن ترجمتها الى أية لغة أخرى مجازفة ، لا يقدم عليها - أو ينبغي أن لا يقدم عليها - إلا من كان صاحب موهبة شعرية ، ومتمكناً من لغة شكسبير ، التي تختلف إختلافاً بيناً عن اللغة الإنجليزية المعاصرة ، لذا فإن معرفة اللغة الإنجليزية الحديثة ، لا تؤهل صاحبها للتصدي لترجمة أعمال شكسبير ، إذا لم يكن قادراً على فهم لغة عصر شكسبير ومصطلحاته ، والكتابة بلغة ذلك العصر ، لا بلغة عصره هو .
قد يلجأ المترجم الى الحذف المتعمد لبعض العبارات والمصطلحات في اللغة التي يترجم عنها لعجزه وعدم فهمه لها ، أو لإعتبارات إجتماعية أو دينية أو أخلاقية أو سياسية ، ولكن الأمانة لا تبيح الحذف ، حيث لا قيمة لترجمة لا تكون صورة صحيحة للأصل . وهذا يقتضي ترجمة الأصل كما هو، دون حذف أو تلخيص . وللمترجم بعد ذلك أن يسجّل ملاحظاته وتعليقاته في حواشي الكتاب الذي يترجمه  .
يمكن تقييم درجة نجاح أي مترجم لأعمال شكسبير بمدى اقترابه من روح شكسبير الشعرية .  وكل مترجم يترك بصماته ، وبصمات زمنه على الترجمة ، وهي بصمات تختلف من مترجم الى آخر . فالترجمات العربية مثلاً تتباين تباينا كبيرا في مدى التزامها الدقة والامانة ونقل روح المؤلف . بعضهم  ترجم مسرحيات شكسبير في قالب من الشعر الموزون المقفى . وآخرون ترجموها نثراً  مع الحفاظ على لغة المؤلف ، بما تشتمل عليه من صور واستعارات وتراكيب .
.
 
 
ولا تختلف الترجمات الروسية في تباينها ومدى توفيقها في نقل روح النص الشعري الشكسبيري ، وقد ترجمت مسرحية " هاملت " الى الروسية أكثر من عشرين مرة ، لعل أشهرها هي ترجمة بوريس باسترناك لهذه المسرحية شعراً ، دون الألتزام بالأصل ، ودون تمكن من اللغة الإنجليزية بالقدر الذي يؤهله لهذا العمل . لا شك أن باسترناك شاعر عظيم . و لكنه تصرف بالنص الانجليزي الى حد كبير ، واضاف اليها ما لم يرد في الاصل .وقد اعترف باسترناك ان عمله " خيال حر حول موضوع هاملت "، وليست ترجمة دقيقة .وكل من يقارن " هاملت " باسترناك بالأصل الإنجليزي ، يرى أنهما عملان شعريان مختلفان .
ترجمت أعمال شكسبير الى كل اللغات الحية في العالم . وكان الشاعر والروائي صلاح بابان أول من تصدى لترجمة اعمال شكسبير الى اللغة الكردية .
ثمة العديد من الأشخاص الذين يحملون اسم ( صلاح بابان ) ، ولكن صلاح بابان المقصود هنا ،هو الأستاذ الدكتور صلاح بابان ، الذي يقيم في المملكة المتحدة منذ حوالي 47 عاما ، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة برمنجهام ، وعمل أستاذا في الجامعة ذاتها لحوالي ثلاثين عاما ، وهو في الوقت ذاته شاعر وروائي ، ومترجم كفء ، وعاشق كبير للأدب الكلاسيكي الأنجليزي والروسي .
المنجز الإبداعي لصلاح بابان
صلاح بابان رائد كبير ، وقد ترجم أهم أعمال شكسبير الى اللغة الكردية شعراً ، ترجمة أمينة ودقيقة ،واظهر شكسبير بمعانيه وتعبيراته ، وبصوره واستعاراته ، دون أي تحوير أو حذف أو إضافة ، وبذلك قدّم للأدب الكردي خدمة لا تقدر بثمن . ونشير هنا الى أهم مسرحبات شكسبير التي ترجمها الى الكردية شعراً ، ما عدا مسرحية " ما كبث " التي ترجمها مرتين ، الأولى شعراً ، والثانية نثراً فنياً ، وهذا ثبت بترجمات صلاح بابان لأعمال شكسبير :
1-ماكبث ، مطبعة كاك فلاح ، السليمانية ، 2007
2-هاملت ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2009
3- روميو وجوليت ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2010
4-ماكبث ( ترجمة بالنثر الفني ) ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2010
5-الملك لير ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2011
6-عطيل ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2012
7-يوليوس قيصر ، مطبعة آراس ، أربيل ، 2013
وهو مستمر في ترجمة أعمال شكسبيرالأخرى الى اللغة الكردية. وقد أنجز نرجمة مسرحية " انطوني وكليوباترة ، وهي جاهز للنشر. ولعل أفضل تقييم لجهوده في نقل اعمال شكسبير الى الكردية ، هو قيام " المجلس البريطاني " بإختيار ترجمة صلاح بابان لمسرحية " ماكبث " كأفضل ترجمة لهذه المسرحية الى اللغة الكردية .
وإضافة الى ترجمة أعمال شكسبير صدر لصلاح بابان باللغة الكردية  الأعمال التالية :
1-ملحمة شعرية تحت عنوان " هل تتذكرين عندما كنا صغاراً " ، مطبعة كردستان ، السليمانية ، 2017
2- دوستويفسكي : حياته وأدبه ، دار الزمان ، دمشق ، 2018
3-رواية " منيرة " وهي جاهزة للنشر .
وله دراسات فكرية عديدة عن حياة واعمال عدد من مشاهير الأدب ، والعلم ، الذين لعبوا أدواراً مهمة في حياة البشرية ، وعن بعض الأديان مثل الزرادشتية والكونفوشيوسية ، لعل من اهمها ما يلي :
شكسبير ، بوشكين ، ليناردو دافنشي ، جارلز ديكنز ، ماركوس توليوس سيسيرو ، ارخميدس ، كوبيرنيكوس ، زرادشت والدين الزرادشتي ، كونفوشيوس ( كون فو تسي )
صمت جليل لمبدع كبير
يعمل صلاح بابان ، في صومعته الفكرية بصمت ومثابرة يثيران الإعجاب ، كأي مبدع كبير وحقيقي ، بعيداً عن الضوضاء والضجة الإعلامية ، فهو لا يحاول تسويق نفسه كما يفعل عديمو الموهبة. لا يقيم حفلات توقيع لكتبه ، ولا يظهر على شاشات الفضائيات ، ولا يدلي بتصريحات لوسائل الإعلام ، ولا يروج لكتبه بالوسائل التي يتقنها تجار الكلمة . أنه طراز نادر من الأدباء ، نكاد لا نصادفه في أيامنا هذه ، طراز يهمه في المقام الأول الإبداع ، والإسهام في إغناء الأدب الكردي والثقافة الكردية .
صلاح بابان هو الذي جعل شكسبير ينطق بالكردية شعراً . وكرّس لهذا العمل الهائل حوالي خمسة عشر سنة من عمره . وهو عمل تعجز عنه مؤسسة ثقافية كاملة . تذكروا هذا الإسم ، الأستاذ الأكاديمي ، والشاعر المرهف ، والروائي القدير ( صلاح بابان ) ، فهو جدير بأن يقام له تمثال في كلية الآداب بإحدى جامعات كردستان، أو في مقر إتحاد الأدباء في السليمانية أو أربيل .
 

19
الثلوج تذوب في غرفة التدخين
جودت هوشيار            
كنا في عصر " ذوبان الثلوج " حيث فتحت نوافذ في الستار الحديدي لتهب منها رياح التغيير والتجديد في المجتمع السوفيتي . التغيير والتجديد كنت تحس بهما في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو تحديدا ، أكثر من أي مكان آخر في الإمبراطورية السوفيتية ، حيث تجد فيها آخر إصدارات الكتب والمجلات الأجنبية ب(140) لغة أجنبية ، وأرشيف ضخم للأدب العالمي والمعرفة الإنسانية .
كنت أزور هذه المكتبة كلما سمح لي الوقت بذلك . وكنت أنتهز يوم التأهيل العسكري للطلاب السوفيت - وهو يوم واحد في الأسبوع كان يخصص بأكمله للمحاضرات النظرية والتدريبات الحربية لزملائنا السوفيت ، ولم يكن يشمل الطالبات السوفيتيات والطلبة الأجانب ، وكنا نعتبره يوم عطلة لنا - لزيارة المكتبة ، واقضي فيها ما لا يقل عن ثلاث أو أربع ساعات في كل مرة ، طوال فترة إقامتي في عاصمة الثلج والأدب والفن والحب .
لهذه المكتبة جاذبية هائلة لا تقاوم بالنسبة الى كل من يود الإطلاع على أفضل ما أنتجته العقول البشرية من إنجازات فكرية في مجالات الأداب والفنون والفلسفة والتأريخ ، والإقتصاد. وتدور في أوساط المثقفين الروس أساطير كثيرة حول نشأة المكتبة ودورها التنويري والفكري والروحي .
قي عام 1921 استطاعت فتاة في الحادية والعشرين من عمرها اسمها (مارغريتا إيفانوفنا رودومينو من مقابلة وزير التعليم أناتولي لوناشارسكي – وكان مثقفاً من طراز رفيع - وأثبتت له الحاجة إلى فتح مكتبة للأدب الأجنبي في موسكو . وقد وافق الوزير على إقتراحها ، وأصبحت مارغاريتا رودومينو أول مديرة لها . وكانت المكتبة في البداية تحتل بناية صغيرة فيها حوالي ( 100) كتاب أدبي فقط ، هي كل ما كانت تمتلكها مارغاريتا ، ثم تطورت تدريجيا وانتقلت الى بناية أكبر في شارع رازين قريبا من كاتدرائية فاسيلي الرائعة والكرملين والساحة الحمراء ، قبل أن تنتقل في عام 1967 الى بنايتها الواسعة الجميلة الحالية في شارع نيكولويامسكايا.
لقد سعت ادارة المكتبة طوال تأريخها الى الحصول على افضل ما ينشر في شتى انحاء العالم من كتب ودوريات . وهي تسير وفق مبدأ يقول : " كثير من القشطة ، وقليل من الحليب ،ومن دون قطرة ماء واحدة ". بمعنى السعي للحصول اولاً بأول على " زبدة الفكر الإنساني " المعاصر ،التي تستحق القراءة ، من بين ملايين الكتب والدوريات التي تصدر في أنحاء العالم .
كانت موسكو – وهي مدينة هائلة ، نابضة بالحياة ، وعظيمة بمعالمها الحضارية ، وحياتها الثقافية النشطة ، المتعددة الجوانب تقدم لي – إذا شئت - الوانا بهيجة من التسلية البريئة والمتع الحسية ، وكل ما يحلم به ويتمناه شاب شرقي جاء من مجتمع مغلق ومكبوت ، ولكنني كنت أفضل قضاء أوقات فراغي في هذه المكتبة على كل ما عداها .ليس فقط لأنني كنت اطالع فيها أفضل ما ينشر من أعمال أدبية عربية وغربية ، وآخر وأفضل ما يصدر من مجلات ثقافية مصرية ( الهلال ، الثقافة ، المجلة ) ولبنانية ( الآداب ، الأديب ، حوار ، شعر ) وغيرها . بل أيضاً لقضاء بعض الوقت في غرفة التدخين في المكتبة .
. قد يستغرب القاريء لهذا القول ، ولكن استغرابه سرعان ما يزول اذا عرف أن غرفة التدخين كان مكانا فريدا ليس في هذه المكتبة فقظ ، بل في موسكو كلها .
لم تكن مجرد غرفة تدخين ، بل مكانا مثالياً للتواصل والتعارف ، وتبادل آخر الأخبار والإشاعات والنكت . كانت فيها مصطبتان طويلتان للجلوس بحذاء حائطين متقابلين.
جو الغرفة بارد ولطيف حتى في أشهر الصيف ، فهناك ساحبة هواء قوية . هنا رجال ونساء من شتى الفئات العمرية . منهم باحثون يجمعون المواد لأطروحاتهم ، بينهم من قدم من الجمهوريات السوفيتية الأخرى .، وشباب من الجنسين جاءوا لقراءة ما لا يمكن الحصول عليه من كتب ومجلات في متاجر الكتب ، وأكشاك الصحف في موسكو .
كانت هذه الغرفة تحديداً هي المكان الوحيد - بالنسبة الى طالب أجنبي - الذي يتسنى له فيها للحصول على بعض آخر إصدارات " سام ايزدات " أي أدب " الأندر غراوند " السرية للكتاب والشعراء الروس المغضوب عليهم ، والتي تطبع وتستنسخ بوسائل بدائية ، وتوزع على المثقفين الموثوق بهم بعيداً عن أنظار الرقابة احكومية – الحزبية المتزمتة .
تجلس وجها لوجه مع مثقفين من ذوي الاهتمامات والمستويات المختلفة . بينهم عدد كبير من الجنس اللطيف وقد تتعرف على واحدة منهن ، وتلتقي بها في خارج المكتبة اذا كانت اهتماماتكما مشتركة .
لم ألتقِ في هذه المكتبة الفريدة ، بأي باحث أو طالب عراقي ، إلّا نادراً .
واليوم كلما سنحت لي الفرصة ، فإن أول مكان أقصده في موسكو الرأسمالية ، هو مكتبة الأدب الأجنبي . ولكن بناية المكتبة الجديدة الواسعة ، فقدت شيئاً من جاذبيتها . لم تعد الدولة تصرف عليها بسخاء كما كان الأمر في الماضي ، ولم يعد هناك " أدب الأندرغراوند " بعد إلغاء الرقابة على المطبوعات .والأهم من ذلك ، ليس في غرفة التدخين الحالية أية مصاطب . اختفت الوجوه الباسمة الجميلة ، وفقدت الغرفة جوها الحميم العاطر
نسيت أشياء كثيرة في حياتي ، ولكني لم أنس قط ، ولن أنس أبداً، الساعات التي قضيتها في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو . حقاً إن الحياة لا تقاس بعدد الأيام التي عشتها ، بل بتلك التي تتذكرها جيداً

20
التجربة والإبداع الأدبي
جودت هوشيار                                
الحياة أولاً
التجربة الحياتية بما فيها من معاناة ، وآلام ، وأفراح هي ينبوع الكتابة الحق، ولا تقل أهمية عن الموهبة الفطرية ، والقدرة على التخيّل.
ليس بوسع اي كاتب ان يكتب عن اي شيء ، وعن اي انسان . فهو ليس مطلق الحرية في اختيار موضوعاته وابطاله , مهما كان موهوبا ، لأن له حدودا لا يستطيع تجاوزها , والتي تتحدد بالمجتمع الذي يعيش فيه ، وخبرته الذاتية ، والدروس التي تعلمها من الحياة ، لذا على الكاتب أن يكتب عما يعرفه بتجربته الخاصة ، وهذه التجربة مطلوبة بقدر ما تكون مدخلاً لتجربة فنية ، يعبّر فيها الكاتب باسلوبه المتميز ، عن عالمه الروحي ، ونظرته الى الأشياء.
ان العمل الأدبي اذا لم يكن نابعاً من ذات الكاتب ، و لم ينفعل به فانه لن يكون عملاً مؤثراً وناجحاً على الرغم من ان المؤلف  قد كتبه بحسن نية . لان مثل هذا المؤلف لا يعرف ابطاله ولا يفهمهم .
ربما ثمة امكانية لتوالد بعض الصور المضببة في ذهن كاتب يعيش في جزيرة مقفرة , ولكن لن يكون لدىه اي حافز لتأليف رواية ، ذلك لأن الكاتب انما يكتب عن الناس وللناس , لقد كتب الروائي الفرنسي مارسيل بروست رواياته داخل غرفة ذات جدران صماء لا تخترقها الاصوات . ولكن بروست كان قد عاش بين الناس ، ودرس المجتمع الفرنسي الأرستقراطي لمدة طويلة ، قبل أن يسجن نفسه في غرفة معزولة ..
ان خيال الكاتب الروائي أو القصصي قادرعلى تغيير تناسب الظواهر والاحاسيس وملامح  الشخوص  وانماط سلوكهم ، ولكن ليست ثمة رواية سواء كانت خيالية ام طوبائية لا ترتكز على الواقع , ان وصف سكان كوكب المشتري في رواية ولز او (سكان سالاماندر) في رواية جابك ليس الا هجاء للمجتمع الانساني .
ربما يقال أن للخيال الدور الأكبر في بعض أنواع القصص ، وهذا صحيح ، ولكن الخيال  ينبغي أن يكون مقنعاً وصادقاً ومنطقياً ، أي خيالاً يمكن أن يحدث في الواقع . فالمؤلف ليس إلهاً حتى يستمر في فرض شطحات خياله على القاريء ، وثمّة خطر جسيم يلازم نسج الأكاذيب ، فقد لا يصدّق المتلقي ما يقرؤه .
أدب الكتب وأدب الحياة
ان أغلب الروائيين المعاصرين هم من خريجي التخصصات الأدبية أو اللغوية في الجامعات ، وهم يعملون في مكاتبهم بين رفوف الكتب التي تحاصرهم ، ولا يريدون النزول الى الشارع والإختلاط بالناس ، والخوض في الحياة العملية واكتساب التجارب التي لا غنى عنها لفهم الآخرين .
 الجامعات لا تعلّم سوى الأدب الكلاسيكي ، وأنه ينبغي أن تكتب الرواية استنادا الى التجارب الشخصية . وهذا أمر جيد من حيث المبدأ . ولكن كم رواية بإمكان شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن يكتبها عن نفسه ؟ قد يكتب رواية واحدة جيدة اذا كان صاحب موهبة  ، ولكن الرواية الثانية ستكون عن شاب كتب رواية ناجحة ، ولا يملك الآن نقودا ، وليس لديه صديقة أو حبيبة ، ويتبهدل يوميا في وسائط النقل العام . وهذا أمر غير ممتع على الإطلاق .
. لو كان ديكنز قد عمل حسب هذا المبدأ ، لكتب رواية " ديفيد كوبرفيلد " فقط . تولستوي كان قد خدم في الجيش وخالط علية القوم ، وحرث الأرض قبل أن يكتب " الحرب والسلام " و" آنّا كارينينا " .
في عام 1916 نشرت مجلة " ليتوبيس " أي " الوقائع " التي كان يصدرها مكسيم غوركي في العاصمة الروسية القيصرية بطرسبورغ قصتان قصيرتان لإسحاق بابل .
أثارت القصتان اهتمام القراء والنقاد، وأصبح اسم بابل معروفًا إلى حد ما. وواصل الكاتب الشاب كتابة قصص جديدة، حيث كان يكتب قصة واحدة كل يوم ويعرضها على غوركي، الذي كان يقرأ القصة بتمعن، ثم يقول: إنها غير صالحة للنشر. وتكرر ذلك مرات عدة. وأخيرًا تعب كلاهما. وقال غوركي بصوته الجهوري الأجش: «إنك تتخيل أشياء كثيرة تقريبية؛ لأنك لا تعرف الحياة بعد. عليك التوجه إلى الناس، ومعرفة الواقع، واكتساب تجربة ذاتية تساعدك على فهم الحياة، قبل أن تكون قادرًا على كتابة قصة جيدة .
أفاق بابل في صباح اليوم التالي ليجد نفسه -بمساعدة غوركي بطبيعة الحال- مراسلًا لصحيفة لم تولد بعد، مع مئتي روبل في جيبه. لم تولد الصحيفة قط، لكن الروبلات المنعشة كانت ضرورية له. استمرت رحلة بابل في خضم الحياة سبع سنوات (1917: 1924م) كان في أثنائها جنديًّا في الجبهة الروسية – الرومانية إبان الحرب العالمية الأولى، ومراسلًا حربيًّا في فرقة «الفرسان الحمر»، وموظفًا في مفوضية التعليم، ومديرًا لدار نشر في أوديسا، ومندوبًا لبعض الصحف في بطرسبورغ وتبليسي. قطع كثيرًا من الطرق، وشاهد كثيرًا من المعارك. وكان طوال تلك السنوات يكتب ويطوّر أسلوبه. ويجرب التعبير عن أفكاره بوضوح واختصار. وبعد تسريحه حاول نشر نتاجاته، وتسلّم من غوركي رسالة يقول فيها: «ربما الآن يمكنك أن تبدأ .
وليس من قبيل المصادفة ان لكل كاتب عظيم تجربته الحياتية الثرية والمتنوعة التي تشكل منهلا لا ينضب لأعماله الأدبية . همنجواي كان مراسلا حربيا في الحرب العالمية الأولى والحرب اليونانية – التركية ، وخبر عن قرب مآسي الحرب وانطباعاته عنها أصبحت جامعته الأولى ، وانعكست في كل أعماله المبكرة، التي تعتبر مواقف ولحظات من سيرته الذاتية  ، وكان شاهدا على الأزمة الأقتصادية في بلاده ، وزار العديد من البلدان المختلفة .وعاش معظم حياته خارج وطنه  الولايات المتحدة الاميركية ولم يكتب عنها الا الشيء القليل نسبيا .
جون شتاينبك عمل مراسلا لصحيفة "سان فرنسيسكو نيوز " ليس لأنه كان بحاجة الى المال ، بل لأنه أراد أن يخوض في أعماق الواقع الإجتماعي ويجمع المادة الأولية لروايته عن هذا الطريق  ، العمل كمراسل قادته الى معسكر العمال الوقتيين المهاجرين . هكذا ظهرت رواية " عناقيد الغضب " . أما " دوس باسوس " فقد جاب البلاد بحثاً عن المادة الأولية لرواية " مانهاتن " وثلاثية " الولايات المتحدة الأميركية " .
في لقاء صحفي أجراه الشاعر والكاتب الفلسطيني عزالدين المناصرة مع نجيب محفوط عام (1970) في القاهرة. سأله المناصرة : لماذا لم يكتب رواية واحدة عن القضية الفلسطينية؟. ولم يتهرب نجيب من الإجابة، بل قال بوضوح: "هذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة ومعايشة"
وهل التجربة الحياتية ضرورية لكل عمل أدبي؟
نجيب: نعم – يجب أن يعيشها الكاتب معايشة واقعية .
كبار الروائيين أمثال بلزاك  وفلوبير وتولستوي ودوستويفسكي  وغوركي ، واندريه موروا ، وترومان كابوتي ، ونورمان ميلر وغيرهم ،  خاضوا في أعماق الحياة ، قبل الجلوس امام طاولة الكتابة.
حقائق الحياة المؤثرة ثمينة بحد ذاتها حتى بمعالجة أدبية بسيطة. ولكن الأدب ليس أثنوغرافيا ، أو تأريخا ، أو علم اجتماع . معرفة شيء ممتع أوشائق والكتابة عنها مهمة الصحفي وليس الكاتب . ثمة ( كتّاب ) تنقلوا بين مهن كثيرة وشاهدوا الكثير من الحوادث الغريبة  وكتبوا عنها ، ولكنهم فشلوا في كتابة عمل فني ناضج. لأن استنساخ الواقع  عجز عن الأبداع . الكاتب المبدع لا يجمع المواد لعمله الأدبي ، بل يعيش في داخل هذه المواد ، ويتفاعل معها ليحولها الى تجربة روحية  يعرض فيها شيئا لم يكن بمقدور القاريء أن يراه لو كان في مكان الكاتب
يبدأ الإبداع عندما يصمم الكاتب في ذهنه نموذجا للموقف  . يرسم صور الشخصيات ، ويطور الفعل . ويملأ الهيكل باللحم والأعصاب . وهنا يتطلب الخبرة الحياتية أين ومتى عاش الأبطال ، ما هي ملامحهم ، وماذا يعملون ، وماذا يلبسون ، وكم يكسبون من نقود ، ويتنقلون بأي واسطة نقل ، وماذا يحيط بهم . الكاتب يتوجه الى ذاكرته وخبرته . وتظهر ملامح الورشة  ، التي عمل فيها في وقت ما ، والأماكن ، التي استجمّ فيها .
فهم المادة الحياتية يعني القدرة على ادراك معنى كبير في حقيقة صغيرة . على الروائي ان يتعمق في جوهر الأشياء ، ولا يكتفي بوصف مظاهرها الخارجية فقط .
 

21
مكسيم غوركي ... نهاية مأساوية لكاتب عظيم

جودت هوشيار

  نال مكسيم غوركي ( 1868 – 1936) شهرة عالمية في اوائل القرن العشرين ، وهو لما يزل شابا في حوالي الثلاثين من عمره وأصبح واحداٌ من الكتّاب الأكثر مقروئية في روسيا والعالم  .

 وفي العهد السوفيتي اطلق اسمه على المدن والشوارع والمصانع والجامعات والمكتبات والمسارح والمتنزهات وحتى بعض السفن والطائرات ، ربما يتبادر الى الذهن اسماء بوشكين وجوجل وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف . حقا كان هؤلاء الأدباء هم الأكثر شهرةً وأسماهم مكانةً في الادب الروسي ، ولكن لم يطلق اسماؤهم على المدن , ولم يتم اقامة تماثيل لهم، ولم تدرّس أعمالهم في المدارس والجامعات،عندما كانوا على قيد الحياة .

اذكر جيدا عندما كنت ادرس في موسكو، في الستينات من القرن الفائت ،كان الشارع الرئيسي في قلب العاصمة ، وبارك الثقافة الرحب البديع ، ومسرحين اثنين ، ومعهد الأدب العالمي ، ومحطة مترو ، يحمل اسم غوركي ، وينتصب تمثاله شامخاً أمام محطة قطار " بيلاروسكايا" . أما اليوم ، فاننا لا نجد في موسكو شيئاً يذكرنا بالكاتب العظيم ، ولا حتى زقاقا ضيقاً يحمل اسمه  . فمنذ عهد البريسترويكا حاول العديد من النقاد الروس الجدد ، العاملين في خدمة دور النشر والإشهار التجارية النيل من مكانة غوركي الرفيعة على خارطة الأدب الروسي والعالمي ، والبحث عما يزعم من ازدواجية شخصيته أو غموضها ، وعن اسراره الشخصية الموهومة ، انسجاما مع التوجه السياسي العام في البلاد.

وفي الوقت نفسه  أخذ غوركي يستعيد مكانته السابقة في الغرب بظهور العديد من البحوث العلمية عن حياته الحافلة بالإنجازات الإبداعية والأحداث المثيرة . كيف يمكن تفسير هذا التناقض بين النظرتين الروسية والغربية الى غوركي وتراثه ؟

لم تكن شهرة غوركي مصطنعة أبداً ، ولا نتيجة للدعاية السوفيتية ، وانما جاءت على نحو طبيعي وسريع بعد خطواته الأولى في المجال الأدبي في العهد القيصري . فقد نشر النقاد والباحثون خلال العقد الاول فقط  من نشاطه الادبي ( 1892- 1902 ) ما يقرب من 2000 مقال وبحث عن اعماله. لم يكتب مثل هذا العدد من البحوث عن اي كاتب روسي آخر خلال تلك الفترة . وكان محل اعجاب وتقدير كبار الأدباء وبضمنهم تشيخوف وكورولينكو وليونيد اندرييف .وبلوك وتسفيتايفا ، والنخب المثقفة والقراء العاديين على حد سواء.

انتخاب مكسيم غوركي عضوا في اكاديمية العلوم الروسية عام 1902، أثار حفيظة القيصر نيكولاي الثاني وأمر الأكاديمية الغاء هذا الأنتخاب . وقدم انطون تشيخوف وفلاديمير كورولنكو استقالتهما من الأكاديمية احتجاجا على ذلك .

فقد كان تشيخوف يقدّر عالياً موهبة غوركي ، وقال في احدى رسائله عام 1902 : " إن غوركي موهبة كبيرة وحقيقية ، وهو مصنوع من عجينة الفن .

وقال في رسالة أخرى مؤرخة في عام 1903 : " غوركي كاتب كبير . وهو أول من كتب بازدراء واشمئزازعن ( البورجوازية الصغيرة ) في روسيا والعالم ، في وقت كان فيه المجتمع مهيئا للأحتجاج . سيأتي زمن تنسى فيه أعمال غوركي  ، ولكنه هو نفسه من غير المرجح ان ينسى حتى بعد ألف عام ".

غوركي كاتب استثنائي وجاء "في الوقت المناسب" تماما، ولا اقصد بذلك شعبيته الواسعة ، بل ان اعماله عبّرت عن تناقضات الواقع و عن هموم الكادحين والتطلعات الانسانية والآمال الدفينة للشعب الروسي في العصرالذي عاش فيه، وهذا العصر هو الذي مجّد غوركي واكسبه شعبية هائلة .

عندما كان غوركي في المهجر في مدينة كابري الأيطالية كان يدعو الى ثورة اشتراكية انسانية ، والى احترام الأديان لا محاربتها ، كما كان ينادي بذلك لينين . وكان هذا مبعث خلاف شديد بين الصديقين لينين وغوركي .ولكن الخلاف بينهما لم يصل الى حد القطيعة ذلك لأن كل منهما كان بحاجة الى الآخر. كان الحزب البلشفي بحاجة الى سلطة غوركي المعنوية الكبيرة في روسيا وأوروبا ، وعلاقاته الواسعة مع خيرة الأدباء الغربيين . وكان غوركي بدوره يعتقد ان الحزب البلشقي هو الحزب الوحيد القادر على احداث التغيير في المجتمع الروسي .

ورغم أن غوركي لم يكن عضواً في الحزب البلشفي ، الا أنه قدّم للحزب مساعدات مالية كبيرة من دخله الشخصي ، تقدّر بمئات ألوف الروبلات . وكان هذا مبلغاً ضخماً في ذلك الحين .في وقت كان الحزب يمر فيه بفترة عصيبة في العهد القيصري ، وكان الكاتب يتوقع أن تحقق الثورة آمال الجماهير العريضة ، ولكنه أصيب بخيبة أمل ،. فبدلا من الحرية والمساواة وصيانة الكرامة الأنسانية وصوغ انسان جديد لا يعرف الأنانية ونزعة التملك ويعمل من اجل اسعاد الشعب ، رأى في ثورة اكتوبر1917 "تمردا روسيا شرسا لا يعرف الرحمة ولا معنى له " .

و بين عامي 1917 –1918 نشر غوركي في صحيفة ( نوفايا جيزن ) التي كان يصدرها سلسلة مقالات تحت عنوان " أفكار في غير أوانها " ينتقد فيها البلاشفة نقداً لاذعاً . واطلق على البلاشفة اسماء من قبيل "المتعصبون العميان" و "المغامرون "، وأدان بشدة العنف الفوضوي والقتل المجاني ، والاعتقالات  ،التي لا معنى لها. ودعا المثقفين الى توعية الشعب ، كطريق وحيد للخلاص من العنف اللامبرر . وقد جمع غوركي هذه المقالات في كتاب صدرعام 1918 . ولم تظهر طبعة جديدة منه ،  الا في عام  1990

ورغم الوضع الاقتصادي المتردي واصل غوركي عمله التنويري في تأسيس دور نشر تتولى ترجمة ونشر " الأدب العالمي " . النفوذ المعنوي الهائل للكاتب انقذ عشرات الأدباء والعلماء المبدعين من الإعدام ومئات غيرهم من الإعتقال أو النفي . ولكن محاولاته كانت تصطدم احياناً بعناد السلطة ، فقد أخفق في انقاذ الشاعر " غوميلوف " زوج الشاعرة " آنّا أخماتوفا "من الأعدام ، ولم ينجح في اقناع السلطة بالسماح للشاعر العظيم الكساندر بلوك بالسفر الى ألمانيا للعلاج .وكانت نهاية بلوك المفجعة - الموت مرضا وجوعا - مؤلمة للكاتب الإنساني .

الموقف الذي اتخذه الكاتب في السنوات التي تلت ثورة اكتوبر ، وخاصة دفاعه المستميت عن الأدباء والعلماء المضطهدين ،أثار استياء البلاشفة  وفي مقدمتهم لينين الذي نصح غوركي عام 1921 بالسفر الى الخارج للمعالجة الطبية .وأضاف مازحاً: " وبعكسه سنرحلك " . وادرك غوركي معنى "نصيحة " لينين وغادر البلاد على اثرها .

وكان غوركي يعتزم العودة في غضون بضعة أشهر، ولكن الأمور جرت على نحو مختلف وتأخرت عودته أكثر من عشر سنوات .

عاش في البداية في المانيا . وفي عام 1924 سافر الى ايطاليا واستقر في بلدة (سورينتو) الجنوبية المشمسة .

عندما توفي لينين عام 1924 طلب غوركي أن توضع على النعش نيابة عنه باقة ورد كتب عليها " وداعاً يا صديقي " . ثم شرع بكتابة مذكراته عن لينين تحت عنوان " الأنسان الكبير " وخضعت المذكرات لرقابة شديدة في روسيا قبل ان تنشر في عام 1924. ورد في المذكرات الكثير من التفاصيل المؤثرة. وطيلة اقامته في الخارج ( في ايطاليا اكثر الوقت ) لم ينضم الى المهاجرين الروس ، ولم يهاجم النظام السوفيتي ، بل أخذ موقفا ايجابيا من التحولات الجديدة ومحاولات البلاشفة لتحديث نواحي الحياة في روسيا . لذلك لم يفقد شعبيته في روسيا ولم تعتبره السلطة السوفيتية من المنشقين ، بل بالعكس وجهت اليه دعوات كثيرة من منظمات ثقافية ومهنية للعودة الى البلاد . وجاء غوركي في زيارة الى روسيا عام 1929 لجس النبض والأطلاع على الأوضاع العامة فيها . وقوبل بحفوة شديدة واحتفلت البلاد بالذكرى الستين لمولده بحماس كبير ، واطلق اسمه على الفرع الادبي لجامعة موسكو وانتخب عضوا في الاكاديمية الشيوعية وما الى ذلك  من مظاهر الترحيب والتقدير

خلال هذه السنوات عمل على استكمال الثلاثية المستوحاة من سيرته الذاتية "الطفولة" و"في معترك الحياة" و"جامعاتي" ، كما كتب رواية " قضية أرتامونوف " (1925)، ومسرحية "إغور بوليشيف وآخرون " " (1932)

حاولت السلطة السوفيتية استمالته واغراءه للعودة الى الوطن . وقد زار غوركي روسيا ثلاث مرات في أعوام ( 1928، 1929 ، 1831 ) ، و نظمت السلطة له خلالها جولات الى مواقع انشاء المشاريع الجديدة ، ولكنه لم يزر قط معسكر الإعتقال في جزر" سولوفيتسكي" . كما زعم لاحقاً الكسندر سولجنيتسن في روايته " أرخبيل غولاغ " . وهذه الفرية وأكاذيب مفبركة أخرى شاعت على أقلام سماسرة ( النقد) الأدبي العاملين في خدمة دور النشر والإشهار التجارية بعد تفكك الإتحاد السوفيتي ، من أجل تشويه سمعة غوركي . ولا مجال هنا للخوض في كل الأوهام والأساطير التي تنسج اليوم لأبعاد الجيل الجديد من الأطلاع على أدب غوركي الإنساني ..

وفي يونيو 1933 عاد بشكل نهائي وقام بالاشراف على اصدار سلسلة من الكتب بعنوان "مكتبة الشاعر"، ومجلتين "إنجازاتنا" و "الدراسات الأدبية". ساهم غوركي في الأعمال التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لأتحاد الكتّاب السوفيت الذي انعقد في عام  1934. وضعت السلطة السوفيتية على الكاتب العالمي آمالاً كبيرة بوصفه شخصية قادرة على لمّ شتات التيارات الأدبية العديدة وتوحيدها في منظمة واحدة . في حين أن الكاتب نفسه كان بعيداً عن التفكير في السيطرة الشاملة على  النشاط الأدبي .

كانت علاقة غوركي مع ستالين معقدة ،. ولم يثر الزعيم الجديد إعجابه الذي شعر به ازاء  لينين.، وفي الوقت نفسه ، من الواضح أن غوركي بدوره لم يحقق آمال ستالين ..

خصصت الحكومة السوفيتية قصرا لغوركي في موسكو كان يعود الى احد النبلاء الذين استولت البلاشفة على ممتلكاتهم ، كما خصص له منزلا صيفيا للاستجمام على ساحل شبه جزيرة القرم .استغرب العديد من الناس من الفخامة والرفاهية التي احيط به الكاتب البروليتاري ولكن المنازل الفاخرة كانت في الحقيقة " قفصاً ذهبياً " .

كان غوركي في العهد القيصري تحت مراقبة الشرطة، ولكن كان بامكانه  التواصل مع الجميع . والأحتجاج عبر الصحافة ونشر كتبه ومجلاته . اما في العهد السوفيتي ، فأن اقرب اصدقائه لم يكن بوسعهم زيارته دون الحصول على موافقة امنية مسبقة وقد احيط قصره بحراسة مشددة ومنع الناس من الأقتراب منه كمنطقة محرمة .

في عام 1934، توفي ابنه الحبيب مكسيم، بشكل غير متوقع - كان السبب الرسمي المعلن للوفاة هو الالتهاب الرئوي المزمن، ولكن العديد من افراد عائلته ، بمن فيهم غوركي نفسه، لم يصدقوا ذلك ، وأيقنوا أن موته كان مدبرا . وان هذا تحذير للكاتب الذي رفض كتابة رواية عن ستالين أو سيرته الذاتية .

 ومنذ بداية عام 1935، كان غوركي قيد الإقامة الجبرية عمليا بذريعة "ضمان سلامة الكاتب البروليتاري العظيم " ..

وكان هذا العزل تمهيدا لقتله . وفي عام 1935 طلب غوركي السماح له بالسفر الى المانيا أو ايطاليا للعلاج ولكن ستالين رفض ذلك بشدة .

من قتل غوركي ؟

في 6 يونيو 1936 اعلنت الحكومة السوفيتية تردي صحة غوركي منذ بداية الشهر ، ولكن التقارير اليومية  الصادرة عن الحالة الصحية للكاتب كانت سخيفة ومشوشة ومتناقضة وحافلة بالثغرات والكذب الصريح من اجل تهيئة الراي العام لقبول فرضية الوفاة الطبيعية للكاتب الشهير، التي اعلنت في 18 يونيو  1936.

. تم تشريح جثة غوركي على عجل فور مفارقته الحياة ، وعلى طاولة الطعام في بيته الريفي . تم استخراج الأحشاء وخياطة الجثة بخشونة ، وتمّ رمي دماغ المتوفي في دلو و نقله الى معهد الدماغ في موسكو .تقرير التشريح يشير الى ان الوفاة نجم عن التهاب حاد في الفص السفلي من الرئة اليسرى . تم حرق ما تبقى من الجثة وحفظ رمادها. كان ستالين في مقدمة من شارك في مراسم جنازة الكاتب وحمل نعشه ،وقد تم دفن الرماد في جدار الكرملين على خلاف وصية غوركي بدفنه بجوار ضريح إبنه في مقبرة " نوفي ديفيتشه" في موسكو .

في مارس عام 1938 اتهمت الحكومة السوفيتية رسميا اعداء الشعب  - الجناح التروتسكي داخل الحزب - بقتل غوركي . حيث جرت محاكمتهم والحكم عليهم بالاعدام . مرافعة المدعي العام السوفيتي خلال المحاكمة تضمنت تفاصيل (اعترافات) المتهمين وتحليلا للأسباب التي دفعت المتهمين الى قتل غوركي  ووصفا لطريقة القتل .

المدعي العام كان متناقضا في مرافعته حول كيفية قتل الكاتب ، فقد قال مرة انه  قد تم تسميمه ، ومرة اخرى قال ان الطريقة الخاطئة المتعمدة ، التي عولج بها هي التي سببت المضاعفات  وادت الى وفاة الكاتب .وأشار الى خلاصة  تقرير خبراء دون أن يسميهم بان غوركي مات نتيجة حقنه بجرعة كبيرة من المورفين  وفي النهاية تم اعدام عدد من الذين كانت لهم علاقة بمعالجة الكاتب – ثلاثة قياديين في جهاز المخابرات بضمنهم رئيس الجهاز يهوذا واثنين من الاطباء المعالجين .

بعد وفاة الكاتب بدأ البحث عن أرشيفه الإيطالي. وكان يتضمن مراسلاته السرية المتبادلة مع عدد من قادة الحزب والأدباء البارزين المعارضين لستالين ، الذين تمت تصفيتهم . كان الارشيف يقلق ستالين فقد كان هناك رسائل من بوخارين، وريكوف ، وكامينيف وآخرين من قادة الجناح التروتسكي في الحزب .

ماريا بودبيرغ سكرتيرة الكاتب في سورينتو بايطاليا ، التي كانت امراة قريبة من غوركي بكل المعاني ، جلبت هذا الارشيف الى موسكو بتكليف من جهاز المخابرات . وخلال تشييع جنازة غوركي كانت تسير وراء ستالين مباشرة.

وظل لغز موت غوركي غلمضا الى نهاية القرن العشرين عندما تم نشر الوثائق السرية ذات العلاقة بغوركي المحفوظة في ارشيف الرئاسة السوفيتية .

وقد توصلت " لجنة اعادة الإعتبار الى أولئك الذين تعرضوا للقمع بطريقة غير مشروعة في عهد ستالين " الى براءة بعض الأطباء المعالجين لغوركي من التهم الموجهة اليهم ، ولكن اللجنة لم تبرأ يهوذا والمختبر البايولوجي السري التابع لجهاز المخابرات . تم حقن الكاتب المريض بمصل دم ملوث بالبكتريا ، تم جلبه من المختبر المذكور ، وهو مصل لم يكن خطيراً بالنسبة الى الأصحاء ، ولكنها كانت قاتلة بالنسبة الى رجل مسن مصاب بمرض السل المزمن منذ سنوات عديدة .

كتب رجل الأمن المسؤول عن حماية قصر غوركي قي مذكراته يقول : " ان العديد من الأطباء أبدوا استعدادهم لمعاجة الكاتب المريض ، ولكن طلباتهم رفضت كلها. وأن الأمبولة التي أرسلها القنصل الروسي في باريس وزعم أنه اكتشاف جديد وباهر بشفاء المريض . ولكن هذا المصل هو الذي أدى الى تفاقم حالة غوركي الصحية وموته" .

 ترى لمصلحة من كان ازالة غوركي ؟ هل قام يهودا بهذا العمل بناءً على أوامر ستالين أم من دون علم الأخير ؟ يزعم بعض الباحثين أن المعارضة التروتسكية داخل الحزب البلشفي هي التي قامت بتصفية غوركي ، ولكن ذلك يناقض الواقع ، ذلك لأن قادة التروتسكيين الذين تمت ادانتهم والحكم عليهم بالأعدام كانوا من أصدقاء غوركي مثل كامينيف الذي انقذه غوركي من النفي قبل ذلك بسنوات . ونرى أن السبب الحقيقي لتصفية غوركي وازالته هو التمهيد للحملات القمعية الشهيرة والمحاكمات الصورية بين عامي 1937 -1838 التي كان ستالين يستعد عن طريقها تصفية المعارضة لحكمه الدكتاتوري المطلق سواء داخل الحزب أو في أوساط المثقفين . ويقول تقرير رسمي أعده جهاز المخابرات بناء على طلب خروشوف بعد وفاة ستالين ، ورفعت السرية عنه في سنوات البريسترويكا : "أن معدل عدد المعدومين بتهمة معارضة النظام بلغ خلال عامي 1937-1938 حوالى الف شخص يوميا ". ولا شك أن السلطة المعنوية الهائلة للكاتب الإنساني العظيم كانت ستقف عائقا امام ستالين لتنفيذ مخططه الدموي ، نظراً لمعارضة الكاتب الشديدة لكل أنواع العنف اللامبرر .

كان ستالين يحاول استغلال اسم الكاتب وهيبته ونفوذه المعنوي الهائل لكسب الرأي العام ، وليس كشخص له رأيه الخاص في ما يجري في البلاد. لقد ظل غوركي لمدة اربعين عاما سلطة اخلاقية حتى بالنسبة لأولئك الذين كرهوا حلفائه السياسيين .

كانت اعمال غوركي قوة دافعة لحركات التحرر في العالم بأسره ، وخاصة في البلدان التي كانت شعوبها ترزخ تحت أنظمة حكم رجعية ومنها العراق . وحتى اليوم نجد أن ثمة مئات العراقيين الذين يحملون أسماء بعض أبطال روايات غوركي مثل بافل وإيفان وغيرهما

رشح غوركي خمس مرات لنيل جائزة نوبل في الاداب .وكان من ضمن المرشحين لنيلها عام 1933 ولكن الجائزة ذهبت ذلك العام الى الكاتب الروسي ايفان بونين – والأخير كاتب كبير بلا شك ويستحق الجائزة عن جدارة - ولكن العديد من الكتاب والشعراء الروس كانوا يرون ان غوركي احق من بونين لنيل الجائزة  .وكتبت الشاعرة العظيمة مارينا تسفيتايفا تقول " أنا لا أحتج، ولكني فقط غير موافقة ، لأن غوركي كاتب اهم من  بونين ، وأكثر إنسانية، وأكثر فرادة ، وأكثر ضرورة . غوركي هو عصر بكامله ، وبونين هو نهاية عصر. ولكن هذه هي السياسة، لأن ملك السويد لا يمكن أن يمنح الجائزة إلى كاتب بروليتاري " .



22
المنبر الحر / ورش قتل المواهب
« في: 08:07 09/04/2018  »
 

ورش قتل المواهب

جودت هوشيار                 

               

انتشرت في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة ظاهرة إقامة الورش ( الإبداعية ) لتعليم فن الكتابة السردية لمن يطمح أن يكون كاتباً قصصياً أو روائياً . والحق أن فكرة إقامة مثل هذا النوع من الورش تعود الى البلاشفة الروس الذين أرادوا –في السنوات التي تلت ثورة اكتوبر 1917  - تعليم العمال والفلاحين الشباب ، من خريجي المدارس الإعدادية تقنيات الكتابة الأدبية وخاصة النثر الفني ، ليحلوا محل الأدباء (البورجوازيين ) حسب زعمهم .ولكن هذه التجربة فشلت فشلاً ذريعاً ولم تخلق أي روائي أو قصصي مبدع حقيقي ، الا من كان في الأصل صاحب ( موهبة ) أدبية .

الموهبة –فطرة مطبوعة تظهر في سنوات الشباب المبكرة  وتصقل مع اكتساب الخبرة ، وقد تتحول بإدمان المزاولة وطول العلاج الى مهارة لا يمكن لمعظم الناس الوصول إليها ، وهي تسمح لصاحبها تحقيق أكبر قدر من النجاح في مجال تجليها. قد يكون الشخص موهوبا في عدة مجالات من النشاط الأنساني ، ولكن الموهبة غالباً ما تقتصر على مجال أو نشاط واحد .

واصل كلمة موهبة ( تالينت ) في اللغتين الأنجليزية والفرنسية و( تالانت ) في اللغة الروسية ، يرجع الى اسم عملة فضية يونانية قديمة (حوالي 400 سنة ق.م) .  وفي العهد الجديد ( الجزء الثاني من الكتاب المقدس لدى المسيحيين ) مثال عن العبيد الثلاثة الذين أعطاهم مالكهم عددًا من (المواهب الفضية ) قبل سفره ، وطلب منهم التصرف بها خلال فترة غيابه . دفن أحد العبيد موهبته في الأرض ، وتمكن الثاني والثالث – من استثمارها في زيادة رؤوس أموالهما. وبعد عودة المالك ، سأل عبيده الثلاثة عما فعلوا بمواهبهم . استخرج العبد الأول موهبتة الوحيدة من تحت الأرض ،فعاقبه المالك بإستعادة الموهبة منه وأعطاها لعبد آخر ، كان قادرا على مضاعفة مواهبه أكثر من أي شخص آخر.. وقدم العبدان الآخران موهبتهما مع أرباحهما ، فأشاد بهما المالك ووعد بتكليفهما بمهمة الإشراف على الكثير من ممتلكاته لكونهما مخلصين. وفي العصور الحديثة انتشرت كلمة "الموهبة" بالمعنى المجازي: كهبة ربانية، او فرصة ينبغي عدم اهمالها ، بل السعي للأستفادة منها في سبيل خلق  شيء جديد.

الورش ( الإبداعية ) لا طائل فيه لمن لا يجد الموهبة في فطرته . وهي لا تصنع كاتباً مبدعاً، لأن الإبداع يعني التفرد والخلق . وقد يتعلّم البعض تقنيات الكتابة النمطية الى هذا الحد أو ذاك في مثل هذه الورش ، ولكن الكتابة النمطية هي عجز عن الإبداع الحقيقي ، ان لم تكن قتلاً للموهبة عن طريق توجيهها الى كتابة نمطية لا قيمة لها . فالإبداع هو أن تخلق عالمك الإفتراضي الخاص الذي لا يشبه أي عالم آخر . وأسلوبك المتميز الذي لا يمكن تقليده . وكما يقول ( بيفون ) الأسلوب هو الإنسان ..

ذات مرة كان الكاتب سنكلير لويس يحاضر عن المهارات الأدبية في احدى الورش (الأبداعية) ووجه سؤالاً الى الطلبة المتدربين :

- هل أنتم جادون في أن تصبحوا كتاباً ؟

فأجابوا بصوت واحد : أجل

فرد عليهم سنكلير قائلاً: اذن لماذا أنتم هنا ولستم في بيوتكم لتكتبوا !

 


23
زوشينكو .. الساخر الحزين
*جودت هوشيار        
في ديسمبر عام 1921 ، ضجّ المنضّدون بالضحك ، عندما كانوا منهمكين في طباعة أول مجموعة قصصية ساخرة، لكاتب ناشيء اسمه ميخائيل زوشينكو ، تحت عنون :" حكايات نزار ايليتش - السيد سليبريوخوف ". وقال مسؤول المطبعة : " لم أسمع طيلة عملي في هذه المطبعةعمالنا يغرقون في الضحك هكذا، هذا الكتاب سيلقى نجاحاً ".
صدر الكتاب في اوائل عام 1922 وتحققت نبؤءة مسؤول المطبعة ،ونفد الكتاب من السوق خلال عدة أيام ، وأخذت دور النشر والمجلات تتسابق في نشر نتاجاته الجديدة . ولكنها عجزت عن ملاحقة الطلب المتعاظم عليها ، فقد كان الناس يتلقفون كتاباته ويشغفون بقراءتها ، ويجدون فيها لذة ذهنية لا تعدلها لذة ، وترى كتبه في أيدي القراء في كل مكان : في المقاهي ، وعربات القطار، وحافلات الترام . ويتحدث الناس عن قصصه التهكمية الساخرة ، و يَرْوُونَها لبعضهم البعض ، وكأنها قصص حقيقية حدثت فعلاً . ذاع صيت زوشينكو في انحاء البلاد ، وبحلول منتصف العشرينات اصبح من أحب الأدباء الى الجمهور القاريء، وأكثرهم شهرةً وشعبية في روسيا.
ولم تقتصر شهرة زوشينكو على روسيا ، فقد أصبح معروفا في الدول الغربية أيضا منذ أن نشرت مجلة " القرص الأحمر" البلجيكية قصته المعنونة " فكتوريا كازيميروفنا" مترجمة الى اللغة الفرنسية في عام 1923 . وكان ذلك أول عمل أدبي ( سوفيتي ) ينشر في الغرب بعد ثورة اكتوبر. 1917 . ثم تتابعت ترجمة أعماله الى أهم اللغات الحية في العالم .
إستطاع هذا الكاتب أن يبدع لنفسه اسلوباً خاصاً يميزه عن غيره من الأدباء ، وانفرد بينهم  بروح الفكاهة الساخرة وبالتهكم الشديد اللاذع الذي لا يضارعه احد في هذا الفن  في الأدب الروسي حتى يومنا هذا ..
وخلال خمسة أعوام (1926-1922) صدر لزوشبنكو 25 مجموعة قصصية ، بمعدل خمس مجموعات سنوياً ، وصدرت من كل مجموعة خمس او ست طبعات متلاحقة . وبلغ إجمالي عدد طبعات كتبه 130 طبعة خلال تلك الفترة .
أثارت أعمال زوشينكو إهتمام الأوساط الأكاديمية . وصدر اول كتاب نقدي عن إبداعه في عام 1928 .ضمن سلسلة ( أساتذة النثرالمعاصر ) .وفي الفترة من 1929 إلي 1932 صدرت أعماله الكاملة في ستة أجزاء .
أسلوب زوشينكو
وصف زوشينكو في اعماله الحياة اليومية ، بمفارقاتها المضحكة ،ولا معقوليتها ، وظلمها ، بلغة ووجهة نظر انسان شبه مثقف ، طحنته سنوات الثورة والحرب الأهلية الروسية . بطل جديد، لم يقرأ نيتشة أو يسينين ، وتحدث بلغة هجينة هي خليط من اللغة العامية والكليشيهات البيروقراطية للنظام القائم ، والتي تترك اثرا سخريا مضحكا بسبب التنافر الصارخ بين الحقيقة والخطاب الحماسي المستخدم في نقلها .
تقع بعض احداث قصص زوشينكو في الشقق المشتركة بين عدة عوائل ، حيث تسكن كل عائلة في احدى غرف الشقة . وثمة حمام واحد ومطبخ مشترك بين تلك العوائل ، مما يؤدي الى مشاجرات كثبرة بينها لأتفه الأسباب ، وتقع قصص اخرى في اماكن عامة مثل عربات القطار أو الترام أو المسرح أو المستشفى . وهذه القصص تشكل بمجموعها بانوراما واسعة وشاملة لكل جوانب الحياة اليومية في روسيا خلال العشرينات من القرن الماضي .
لا نجد بين ابطال وشخصيات قصص الكاتب ، قادة الحزب و بناة (الجنة ) الإشتراكية المزعومة ، وغيرها من الموضوعات الرائجة في اتلك السنوات  ، وهي الموضوعات التي كتب عنها زملاؤه في جمعية " اخوان سرابيون " فسيفولد ايفانوف ، فيدين ، تيخونوف .في حين ان شخصيات قصص زوشينكو بعيدة عن ايديولوجيا الثورة .
في مقاله "عن الكوميديا في أعمال تشيخوف"، صاغ زوشينكو مفهومه عن السخرية : " السخرية من الأكاذيب والغباء والنفاق والخنوع والغطرسة .
سخّر زوشينكو في اعماله من البيروقراطية والفساد والنفاق .وقد قدّر القاريء العادي اسلوب زوشينكو  التهكمي هذا ، وابدت النخب الفكرية القديمة والجديدة اعجابها بدقة تصوير الكاتب للواقع الجديد ، الذي تراجعت فيه مفاهيم الانسانية والرحمة لآماد طويلة قادمة ،  في حين راى فيه البلاشفة خطراعلى نظامهم الأستبدادي ..
لغة جديدة وبطل جديد
جرى خلال سنوات الحرب الأهلية  تغيير ديموغرافي لم يسبق له مثيل نتيجة لنزوح السكان بأعداد غفيرة من منطقة الى أخرى بحثا عن الأمان ولقمة العيش ، وادى ذلك الى اختلاط اللهجات وظهور لغة هجينة . وكان زوشينكو أول من لاحظ ذلك بنظرته الثاقبة .
أيطال قصص زوشينكو هم أصدق ممثلي الأمة الروسية الجديدة ، التي أخذت تتشكل بعد ثورة اكتوبر1917 ، وتتكلم بلغة تختلف كثيراً عن اللغة التي كانت سائدة في العهد القيصري.
في روسيا القيصرية كان لكل شريحة اجتماعية خصائصها ومعاييرها الثقافية والأجتماعية المميزة –  النبلاء ، العمال، الفلاحون ، العسكريون ، رجال الدين – وكان المنتمون الى كل شريحة من هذه الشرائح ، يتحدثون بلغتهم أوالفاظهم الخاصة ،التي تميزهم عن غيرها ، كما نلاحظ ذلك في الأدب الروسي الكلاسيكي ، الذي سجل هذا التمايز بدقة مذهلة.
كانت هذه الشرائح تتعايش قبل الثورة ، ولكنها تحافظ على اعرافها واساليب حياتها ، ولا تندمح بغيرها . وما ان تسمع الواحد منهم يقول بضع عبارات حتى تعرف الشريحة التي ينتمي اليها : هل هو فلاح ام اقطاعي ، عامل ام رجل دين ؟ . ولكن هذه الشرائح المغلقة على نفسها ، والمعزولة عن بعضها البعض اختفت سريعا بعد انتصار الثورة البلشفية وتشكل – في الظروف الجديدة - مجتمع شبه متجانس اجتماعيا وثقافيا ولغويا..
ابطال زوشينكو - مهما تباينت انتماءاتهم الاجتماعية والمهنية - يتحدثون جميعا بلغة واحدة جديدة في تكوينها المعجمي ، وهي تختلف عن لغات الشرائح القديمة ، فهم يتحدثون بلغة مشتركة زاخرة بالألفاظ العامية الشائعة والعبارات الجاهزة الدخيلة عليها من القاموس الحماسي الدعائي للبلاشفة ، وهذه اللغة هي لغة الراوي الذي هو البطل الرئيسي في أغلب أعمال زوشينكو .
مشاركة الكاتب في الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية ، والمهن العديدة التي مارسها قبل تفرغه للأدب ، ساعدته على معرفة الأوساط الأجتماعية المختلفة و خصائصها اللغوية والثقافية وعاداتها واعرافها وقيمها الأخلاقية والروحية ،
الكل لاحظ  لغته غير العادية والغريبة . وقال الكاتب زمياتين : " أن زوشينكو يستخدم اللغة المحكية بمهارة في بناء الجمل : ترتيب الكلمات ، وصيغ الأفعال ، واختيار المترادفات – كل هذا من دون أي خطأ " . وقد شبه مكسيم غوركي لغة زوشينكو ب" خرز معجمية متنوعة ".
أدب الفقراء
في عام 1927 وبناء على طلب ادارة مجلة "بيغيموت " الفكاهية الساخرة كتب زوشينكو سيرته الحياتية الحافلة بالتهكم ويقول فيها  : " هناك وثيقتان مختلفتان عن مكان وتأريخ ولادتي ، ويبدو ان احداهما مزيفة ، ولكن يصعب معرفة أيهما حقيقية ،لأن الوثيقتين كلتاهما رديئتان. وجوابا عن سؤال حول اكثر المهن المثيرة للأهتمام ، التي مارسها في حياته يقول : " مدير البريد والتلغراف ، مربي الأرانب والدجاج ، شرطي الحراسة ، والآن أمارس مهنة متواضعة وهي الكتابة ، ويبدو أنها المهنة الأخيرة في حياتي . واشعر بالأسى لأنني توقفت عندها ، فهي مهنة سيئة جداً ... اللعنة ... انها المهنة الأسوأ من بين اثنتي عشر مهنة مارستها لحد الآن ".
ينحدر زوشينكو من عائلة نبيلة ، إيطالية الجذور ، وان كانت غير ميسورة . وسعى الى الإنسلاخ عن طبقته، وكان يشعر – على نحو حاد - بذنب لم يرتكبه . وجاء في رسالة له الى مكسيم غوركي :" عندما اجلس الى طاولة الكتابة احس بذنب ما او ذنب ادبي – ان صح التعبير- انني اتذكر الادب القديم ادب ما قبل الثورة . شعراؤنا كتبوا عن الزهور والعصافير، في وقت كان ثمة ملايين الناس الأميين البؤساء ... كل هذا يرغمني على إعادة النظر في عملي من جديد ، وأتجاهل وضعي المريح والمحترم " .
هكذا ولد نثر زوشينكو ، الذي أطلق عليه خصومه اسم  أدب الفقراء . وجاء في مقال له بعنوان " عن نفسي ، وعن النقد ، وعن عملي " : " ثمة راي يقول ان المطلوب اليوم هو تولستوي الاحمر ، الذي يروج له بعض دور النشر غير الحذرة ، ولكن الوسط الذي يعيش فيه الكاتب الان – يتطلب بالطبع ليس تولستوي الاحمر . المطلوب اليوم شكل ادبي جديد صغير، ارتبط في السابق بتقاليد ادبية سيئة " . أي أن زوشينكو يطالب ليس بكتابة روايات حماسية طويلة  لتجميل الواقع البائس ، على النحو الذي يريده البلاشفة ، بل نصوصاً قصيرة مكتوبة باسلوب سهل يفهمه القاريء العادي ، ولكن القصص القصيرة التي كانت تنشرها الصحف الروسية في العهد القيصري لم تكن تحظى بإحترام النقاد والنخب الثقافية الى أن جاء تشيخوف ورفع القصة القصيرة الى مصاف الفن الرفيع . الأسلوب الجديد فرض على زوشينكو متطلبات لغوية مبتكرة . كتب زوشينكو ذات مرة يقول :" أنا أكتب بإيجاز جدا" وبعبارات قصيرة، مفهومة من قبل الفقراء . ربما هذا هو السبب  ان لدي الكثير من القراء .
زوشينكو والنقد الأيديولوجي
على الرغم من الشعبية الواسعة لزوشينكو ، التي لم يكن يحظى بها أي كاتب روسي آخر والتقييم الأيجابي لأعماله ، والأعتراف بموهبته الكبيرة من قبل كبارالأدباء ، الا أنه اصبح منذ منتصف العشرينات هدفا للهجوم والأساءة والتجريح ، حين شرع ستالين بتشديد قبضته على السلطة وتضييق الخناق على حرية التعبير وفرض الرقابة على المطبوعات .
كان الرقباء والنقاد البلاشفة ، يقيّمون النص الادبي من حيث الاهمية الاجتماعية – السياسية ، حسب المنظور البلشفي ، وليس حسب قيمته الفنية والجمالية . وكان غياب ايديولوجية واضحة لدى زوشينكو قد أتاح لهؤلاء مبرراً لتخوينه ووضعه في خانة أعداء الثورة والبناء الإشتراكي. وربما كان أقوال زوشينكو نفسه ، هو الذي شجع النقاد الماركسيين على التمادي في الأستخفاف بنتاجاته والصاق التهم به . فقد كتب زوشينكو في سيرته الذاتية المنشورة في عام 1922 تحت عنوان " عن نفسي ، وعن الأيديولوجيا وعن بعض الأشياء الأخرى " يقول : " لست شيوعياً ، ولا أنتمي الى أي حزب ، وليست لدي أية أيديولوجيا " .
االموضوعات الصغيرة عن الحياة اليومية ، وتصوير الانسان الغارق في مستنقع الحياة البائسة ومشكلاتها ، مع التركيز على جوانب الحياة القبيحة والسلوك الأنساني المتخلف أدى أن يرى النقد الرسمي في اعماله ارتباطا بأعداء الثورة . ومقارنة الراوي في قصصه بالأنسان الصغير بمعناه السلبي . كتب زوشينكو معظم قصصه بضمير المتكلم (أنا) ، وكان ضيق افق الراوي يفسر كتطبيق فني لمزاج المؤلف المعادي للثورة وتتناقض مع الشعارات الثورية عن اعادة بناء العالم وصوغ انسان جديد. واتهمه النقد الرسمي بتشويه الواقع واصطناع لغة لا يتكلم بها أحد في المحتمع السوفيتي .
رسائل الى الكاتب
ورداً على هذه المزاعم نشر زوشينكو في عام 1929 كتابا فريدا في بابه اطلق عليه اسم  " رسائل الى الكاتب " . كان الكاتب يتلقى بومياً عشرات الرسائل من القراء . وقد اختار من بينها حوالي خمسين رسالة لنشرها في هذا الكتاب مع تعليقاته عليها .وكانت هذه الرسائل – بصرف النظر عن تباين أصحابها من حيث الموقع الأجتماعي والمهنة ، مكتوبة باللغة التي يكتب بها زوشينكو، والتي اعتبرها النقاد البلاشفة لغة غريبة عن الانسان السوفيتي الجديد . وكتب زوشينكو في هذا الصدد يقول : "  انهم يفكرون في العادة – يقصد النقاد البلاشفة -  انني اشوه اللغة الروسية الجميلة لجعل الجمهور المحترم يضحك .انني اكتب باللغة التي يتحدث ويفكر بها رجل الشارع ".
الساخر الحزين
في عام 1926 جاء مريض شاحب الوجه ، منهك القوى ، الى عيادة طبيب نفسي مشهور . كان المريض يشكو من كرب لا يعرف سببه، ومن اللامبالاة، ويعاني من الأرق وفقدان الشهية للاكل. بعد فحصه، نصحه الطبيب بقراءة القصص الفكاهية ، وخاصة قصص زوشينكو ، لأنها أفضل علاج لحالته . وأضاف الطبيب يقول : " ربما سيبدو لك كاتباً بروليتارياً بسيطا  لكنه كاتب فكاهي كبير. تنهد المريض بحزن وقال  : " دكتور – أنا زوشينكو ".
قال الشاعر والكاتب الروسي كورني تشوكوفسكي ( 1969-1882) لزوشينكو  : "ميشا - أنت أسعد رجل في الإتحاد السوفيتي . لديك الشباب ، والشهرة ، والموهبة ، والمال. وعلى 150 مليون شخص هم سكان البلاد ان يشعروا بالحسد منك ". كان زوشينكو محل إعجاب النساء بوسامته وأناقته ومجده الأدبي ،ولم يكن بوسعهن مقاومة سحره الجذّاب ، وسلوكه المهذب كجنتلمان من طراز رفيع . ولكن الرجل الساخر الذي أسعد  ملايين القراء لم يكن سعيدا في حياته قط ، وعانى من الاكتئاب المزمن بعد أن فشل في التأقلم مع الواقع السوفيتي المرير .
ثمة بين مؤرخي الأدب الروسي من ارجع كآبة زوشينكو الى حرمانه من العطف والحنان بعد وفاة والده وهو ما يزال صبيا يافعا ، وحياة الفاقة التي عاشها مع والدته ، وثمة من يرى ان سبب كآبته هو تسممه بالغاز السام حين تعرض الوحدة العسكرية التي كان يقودها الى هجوم ألماني بالغاز السام خلال احدى معارك الحرب العالمية الأولى. تصرف زوشينكو خلال هذا الهجوم يدل على حرصه على سلامة جنود وحدته أكثر من اهتمامه بسلامته الشخصية  حيث نبه الضابط الشاب جنوده بضرورة ارتداء الواقيات في حين أنه نسى نفسه ، وترك الغاز السام أثراً بالغاً على صحته ،واعفي على اثرها من الخدمة العسكرية في الجيش القيصري . ولكننا نرى أن كآبته ناجمة عن بؤس الواقع السوفيتي الذي لا مكان فيه لمثقف يفكر ، ولا لكاتب يكشف عن زيف البروباغاندا السوفيتية عن الحياة السعيدة في دولة العمال والفلاحين . وقد جاهد زوشينكو للتغلب على كآبته وكتب يقول : " حاولت تغيير المدن والمهن. أردت الهروب من هذا الكرب الرهيب. شعرت أنه سوف يدمر حياتي " . "
قال الشاعر العظيم اوسيب ماندلشتام - الذي عرف بالنقد اللاذع لزملائه الأدباء ، ولم يسمع منه أحد مديحاً لكاتب أو شاعر ، ولم يستثن من نقده الجارح حتى الشاعرة الكبيرة آنّا أخماتوفا ، قال ماندلشتام عن زوشينكو : " لدينا الكتاب المقدّس عن العمل والشغيلة ( يقصد أدب زوشينكو ) ولكننا لا نقدره ، وندوس على مؤلف الكتاب باقدامنا في الوحل . إنني أطالب بإقامة تمثال لزوشينكو في كل مدينة ، وفي كل بلدة ، او في الاقل تشييد نصب تذكاري له في الحديقة الصيفية ، كالنصب الذي اقمناه لجدنا كريلوف .
 كان يبحث باستمرار عن طرق للعلاج من الحزن الثقيل الذي كان جاثماً على صدره . والحياة التي عاشها " سبد الضحك " لم تكن سعيدة قط ، بل مأساة إنسانية مؤلمة .
لم تكن الكآبة تفارق زوشينكو الا عندما يندمج بكل جوارحه في أجواء القصة التي يكتبها . كان الضحك سلاحه لمواجهة الحزن والكرب ومقاومة الوسط المحيط به . وصف زوشينكو في يومياته كيف غرق في ضحك شديد عندما شرع ذات ليلة ً بكتابة قصة " الحمّام العمومي " وكتب يقول :
" منذ السطور الأولي غرقت في نوبة ضحك شديدة ، واخذت أضحك بصوت أعلى فأعلى ، الى ان وقع القلم والدفتر من يدي . وشعرت بألم في بطني من شدة الضحك . جاري أخذ يدق الحائط الفاصل بيننا . أنه موظف حسابات وعليه أن يستيقظ في وقت مبكر غدا . ويبدو أنني أيقظته من النوم . صرختُ معتذراً : عفواً بيوتر الكسيفيتش ! . مرة اخري تناولت القلم  والدفتر وواصلت الكتابة . وضحكتُ مرة أخرى وأنا أدفن وجهي في المخدة . وبعد عشرين دقيقة كنت قد  أنهيت كتابة القصة . وأنا آسف لأنني كتبتها بهذه السرعة . اجلس وراء طاولة الكتابة لأعيد كتابتها بخط جميل ، وانا لا أزال أضحك . وغداً عندما أقرأ القصة في مكتب تحرير المجلة، لن أضحك . بل سأكون كئيباً ومتجهماً " .
البحث عن علاج للكآبة
في عام 1927 تمت مصادرة احد اعداد مجلة " بيغيموت " بسبب نشرها قصة زوشينكو المعنونة " حكاية مزعجة" التي تتحدث عن الرعب الذي ساد جو حفلة عائلية ، بعد أن اتصل احد اصدقاء العائلة من تلفون عمومي مدعيا انه يتحدث من الكرملين . كانت تلك مزحة ثقيلة، أفسدت جو الحفلة ، وأخذ المدعوون ، يغادرون الحفلة خفية الواحد بعد الآخر ، تاركين صاحبة الشقة نهباً للقلق والخوف ، ولم يعد أحد منهم يسأل عنها أبداً خوفاً من الشبهة .
مع اشتداد الرقابة الأيديولوجية الصارمة على المطبوعات تم االإغلاق التدريجي لمعظم المجلات الفكاهية، التي كان الكاتب ينشر فيها ، ولكنه لم ييأس ، بل واصل العمل بهمة ونشاط . في هذا الوقت كان قد أصبح كاتبا معروفا في الغرب . ولكن كان لذلك جانبه السلبي  أيضاً ، فالسلطة السوفيتية كانت تنظر بعين الريبة الى كل كاتب أو شاعر ينشرُ له نتاج ما في الغرب الرأسمالي ، رغم أن كتب زوشينكو المترجمة الى الألمانية دخلت في القائمة الهتلرية السوداء ، وأحرقت ضمن الكتب الأخرى في القائمة . 
في عام 1933 نشرت مجلة " اكتوبر" النصف الأول  من روايته المعنونة " الشباب المستعاد " وهي قصة عالم روسي من علماء الفلك لم يظهر عاطفة نحو الاشتراكية  القائمة بالبلاد دون ان يدري سببا لذلك . كان هذا العالم يرنو الى شبابه ، ويريد ان يستعيد صحته وحيويته ونشاطه في سن الشباب. وبذل حهودا كبيرة في هذا لسبيل ، واخيرا وفق في ذلك كله بفضل قوة ارادته . في هذه الرواية وضع زوشينكو امامه مهمة  التغلب عل كآبته وتعليم الآخرين كيف يفعلون ذلك . وقد أثارت الرواية جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية ، أسهم فيه بعض كبار العلماء الروس.
طريقة للتحرر من الخوف والعبودية
" قبيل شروق الشمس " من أجمل وأعمق مؤلفات زوشينكو ، وتعد نقطة تحول في إبداعه الأدبي ، تخلى فيها عن أسلوبه التهكمي الساخر ، وأخذ يكتب بأسلوب جاد ومختلف عن كل نتاجاته السابقة . وكان الكاتب نفسه يعد هذه الرواية أهم ما كتبه خلال حياته الإبداعية ، وحاز على إعجاب كل من اطلع عليها من اصدقائه المقربين فبل نشرها. كتبت الرواية في خضم الحرب العالمية الثانية عندما كان الإتحاد السوفيتي يخوض الحرب ضد ألمانيا الهتلرية . ولكن هذه الرواية ليست عن الحرب ، بل  كيفية إنقاذ البشر من الخوف والعبودية ، واستبعاد إحتمال نشوب حروب جديدة . نشرت الفصول الأولى من الرواية في مجلة " اكتوبر" عام 1943 ، وتم منع نشر فصولها اللاحقة ، ولم تنشر الرواية كاملة الا في عام 1972
. " قبيل شروق الشمس" هي قصة اراد فيها المؤلف فهم بواعث الخوف والقلق والكآبة التي يصاب بها الإنسان عندما يكون غريبا في الوسط المحيط به ، وفي حالة مقاومة مستمرة له . الأنظمة الشمولية تستعبد الأنسان ، ولكن الشخص الذي يقرأ كتابه، سيتحرر من الخوف ولا يمكن أن يكون عبداً، بل سيكون حراً، وقادرا على السيطرة على نفسه، والتحكم في لاوعيه وغير قابل للتضليل  الدعائي .
الجزء الأكبر والأفضل من الكتاب فصول صغيرة عن سيرة حياة المؤلف . قصص الهزائم المأساوية التي تعرض لها، هزائم الحب، والفشل المهني ، وطائفة من القصص المذهلة عن الحرب العالمية الأولى حيث كان ضابطا برتبة ملازم اول . نصوص رائعة تكشف عن سبب مخاوفه اليوم. وهذا ما اغضب السلطة ،لأن زوشينكو ينخرط في تحليل معاناته في وقت تخوض فيه بلاده حربا ضارية ضد المانيا الهتلرية .ولكن الكاتب يرى ان الأنسان الحر هو الذي بوسعه الحاق الهزيمة بالعدو، وليس العبد الخائف. حقا كانت هناك هوة شاسعة بين نثر زوشينكو العبقري وبين ما كان ينشر خلال سنوات الحرب من أعمال أدبية هزيلة ذات طابع دعائي .
تم منع نشر الجزء الثاني من الرواية بأمر من ستالين شخصيا . وشنت الصحف المركزية حملة شعواء ضد الكاتب اتهمته بالجبن والتهرب من الحرب . رغم أنه تطوع في الجيش السوفيتي منذ اليوم الأول للعدوان النازي على بلاده ، ولكن طلبه رفض ، لعدم لياقته للخدمة العسكرية . ولم يتهرب من الحرب قط طوال حياته ، فقد سبق وأن حصل على أربعة أوسمة حربية لشجاعته الفائقة خلال الحرب العالمية الأولى ، ولم يشفع له حتى إنضمامه الى الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية ( 1920-1918) . كما أنه كتب عشرات المقالات المناهضة للهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية . وكان من ضمن الأدباء والفنانين الذين أجلتهم السلطة من لينينغراد المحاصرة الى مدينة ( ألما – آتا ) في عام 1941 ، وهي المدينة التي قصفتها الطائرات الألمانية ووقعت قنبلة على البناية التي كان يسكنها ونجا من الموت بأعجوبة .
المقاتل السوفيتي الذي خرج من الحرب منتصرا ، خيل اليه أنه قد تحرر من الخوف ، ولكن مثل هذا الشخص الحر لم يكن مرغوبا فيه على الإطلاق من قبل النظام الشمولى .
القراء الأذكياء الذين يقدرون الأدب الرفيع يقولون أن رواية " قبيل شروق الشمس " افضل ما انتجه زوشينكو ، حيث سبق زمنه بمائة عام ، كما هوالحال دائما مع الأعمال الأدبية العبقرية .
حكاية القرد الذي اغضب ستالين
في عام 1946 اعادت مجلة " زفيزدا" الأدبية نشر قصة زوشينكو المكتوبة للاطفال " مغامرات قرد  " بدون موافقة المؤلف . وكانت القصة قد نشرت قبل ذلك بعام في مجلة فكاهية للاطفال بموافقة الرقابة ، ودون أن تثير الأنتباه أو النقد. ولكن اعادة نشر القصة ، أثارت هذه المرة موجة عارمة من المقالات التحريضية ضد الكاتب في كبريات الصحف والمجلات المركزية . مقالات أشبه بتقارير المخبرين السريين . فما الذي حدث ؟
الشعب الروسي المستاء من الإجراءات القمعية الستالينية ، لم يجد أمامه سلاحاً سوى التذكير بماضي " القائد العظيم ، أبو الشعوب " .واطلق الروس على ستالين لقب " ماسح الاحذية "  فقد كان ستالين في يفاعته يمارس هذه المهنة – وليس في ذلك غضاضة – ولكن أن يكون "ماسح الاحذية " زعيما مطلقا للأمبراطورية السوفيتية ، فهذا أمر يثير السخرية . وكان كل من ينعت ستالين ب" ماسح الاحذية" يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين خمس الى عشر سنوات .
" قصة " مغامرات قرد " تسرد حكاية قرد هرب من حديقة للحيوانات ،عندما قصفت الطائرات الألمانية تلك الحديقة ودمرت القفص الذي كان يحتجز فيه قرد صغير، فهرب القرد ليقع بين أيدي البشر، الذين أذاقوه من العذاب والألم ما جعله يتمنى العودة الى القفص . وقد وردت في القصة فقرة اثارت غضب ستالين :" هذا هو الكلب جالس ، صغير الحجم ، بني اللون على غرار ماسح الأحذية " . وليس من الواضح ان كان الكاتب قد فعل هذا عن قصد أو بدون قصد ، ولكنه تطابق مصادفة مع ما هو شائع بين الناس ". وعلى اية حال فقد كانت تداعيات ذلك مدمرة لزوشينكو . حيث تم حظر نشر اي نتاج جديد له ، وفصل من اتحاد الكتاب السوفيت ، ومر الكاتب بفترة عصيبة من حياته ، لأن منعه من النشر لم يكن مجرد قطع مورد رزقه ، بل الحكم عليه بالموت ككاتب. واعتزل الحياة في منزله في ضواحي لينينغراد ، ثم استبدله بشقة صغيرة ليعيش من فرق السعر ولو الى حين .
كانت معاقبة زوشينكو  وسيلة لترهيب كل من تسول له نفسه نقد النظام ، او حتى التفكير في ذلك . وجمع ستالين أبرز الأدباء في اجتماع حاشد ،انتقد فيها ما سماه بالأنحراف عن الخط الأيديولوجي للحزب والدولة في مجال الآداب والفنون ، واستشهد بنتاجات زوشينكو كأبرز دليل على هذا الإنحراف وقال : " لا ينبغي على المجتمع ان يعيد بناء نفسه وفقا لزوشينكو ، بل على زوشينكو ان يكيّف نفسه وفقا للمجتمع ، وان لم يفعل ذلك ، ليذهب الى الجحيم .! " . ثم صدر في اغسطس 1946 قرار من الحزب – أعده سيء الصيت جدانوف ، مسؤول القسم الأيديولوجي في الحزب - بتشديد الرقابة على المطبوعات ، وتضمن القرار وصفاَ مهيناً وجارحاً لزوشينكو ، أدي الى تردي حالته النفسية وتحطيمه معنوياً . وربما يتساءل البعض ، لماذا لم يقم ستالين بتصفية زوشينكو ، كما فعل مع بيلنياك وكولتسوف وبابل وماندلشتام وعشرات غيرهم من كبار الكتاب والشعراء ؟ . أعلب الظن أن شعبية زوشينكو كانت كاسحة ، وإعدامه كان سيقابل بأستنكار واسع في الداخل والخارج . لذا قضّل ستالين تصفيته بالتجويع وتحطيمه معنويا ، وقد وفق في ذلك الى حد كبير .
زوشينكو والطلاب الأنجليز
بعد وفاة ستالين تم قبوله مجددا في عضوية اتحاد الكتاب السوفيت في 23 حزيران 1953
وكان يمكن أن يسترجع حياته المهنية ، ولكن وقع حادث عابر لم يكن بالحسبان ، قلب حياته رأساً على عقب . كانت الرقابة الأيديولوجية المتزمتة شديدة كالسابق . ففي 5 مايو 1954 تم دعوة زوشينكو والشاعرة آنّا أخماتوفا  الى لقاء مع  عدد من الطلبة الأنجليز في مقر فرع اتحاد الكتاب في لينينغراد . سأله احد الطلبة عن رأيه في الأتهامات الموجهة اليه ، والى الشاعرة " آنّا أخماتوفا " في قرار الحزب لعام 1946 ، فأبدى زوشينكو عدم موافقته على الإتهامات الموجهة اليه . وأجابت آنا أخماتوفا أنها تؤيد هذا القرار ، وكانت مضطرة الى ذلك لأن ابنها الوحيد كان معتقلاً في سيبيريا . .
وبدأت مرحلة جديدة من اضطهاد زوشينكو وتضيق الخناق عليه ، ففي 28 مايو 1954 نشرت صحيفة ، "لينينغرادسكايا برافدا" تقريرا عن اجتماع عقده فرع الحزب في لينينغراد جرى فيه توجيه نقد لاذع الى زوشينكو لمعارضته العلنية لقرار حزبي . وفي 15 يونيو عقد في مقر اتحاد الكتاب اجتماع لمحاسبة زوشينكو ، وطلبوا منه الأعلان عن ندمه على ما صرح به للطلبة الإنجليز ، وطلب العفو من الحزب واتحاد الكتاب ،  ولكن الكاتب المعتز بنفسه وكرامته القى كلمة ، دافع فيها عن نفسه وفند الأتهامات الموجهة اليه بشجاعة ، وقال أنه على استعداد لتحمل عواقب اعتراضه على ما جاء من وصف مهين لشخصه وأعماله في قرار الحزب لعام 1946 . وكان لكلمته تأثير بالغ في نفوس معظم الحضور ما عدا قادة اتحاد الكتاب الذين تربعوا على منصة ادارة الجلسة – المحاكمة . وساد الصمت في القاعة للحظات ، وكان من الواضح أن زوشينكو قلب الطاولة على من أرادوا اذلاله ، وان معظم الحضور يتعاطف معه . وهنا قطع  رئيس الجلسة " قسطنطين سيمونوف " الصمت وقال : " يبدو أن زوشينكو يستدر العطف " ولم يحقق الاجتماع الغرض الذي انعقد من اجله . وكان نتيجة ذلك ، اشتداد الحملة الصحفية الرسمية ضد زوشينكو ومنعه من النشر وحرمانه من راتبه التقاعدي . ولم تقتصر الحملة الجديدة غل الصحف والمجلات بل ساهمت فيها ايضا الأذاعة السوفيتية . وهي الأذاعة الوحيدة التي كانت متاحة للمواطنين السوفيت بعد مصادرة أجهزة الراديو من السكان مع بدأ الحرب الروسية الألمانية في منتصف غام 1941 . وبطبيعة الحال كانت هذه ضربة عنيفة وجهت الى زوشينكو . ثم اختفى اسم الكاتب تماما . ولكن أصدقاؤه القدامي من الكتاب (تشوكوفسكي ،  تيخونوف ، ايفانوف ، كافيرين ) دافعوا عنه ,وتمكن زوشينكو بشق الأنفس من  نشر كتاب واحد يضم مختارات من أعماله في ديسمبر 1957 . وقد تعمدت دار النشر الحكومية التي نشرت الكتاب استبعاد روائع زوشينكو واختيار اعماله الأقل جودة ، لأعطاء فكرة خاطئة عنه للجيل الجديد . 
فضى زوشينكو السنوات الأخيرة من حياته مريضا ومحطما نفسيا وفي فقر مدقع بعد حرمانه من راتبه التقاعدي ، وبطاقته التموينية ، وكان معظم أصدقائه القدامى يخشون من زيارته مخافة الشبهة ، ولولا صديقه الوفي كورني تشوكوفسكي  لمات جوعا .  ونظرا لمنع كتاباته اضطر الى ترجمة روايات أجنبية عديدة على امل الحصول على ما يسد رمقه ، ولكن دور النشر اشترطت عليه أن لا يذكر اسمه كمترجم على اغلفة تلك الروايات . واضطر الى ممارسة مهنة صنع الأحذية التي تعلمها في شبابه . وعندما توفى في تموز 1958 رفضت السلطات في لينيتغراد دفنه في مفبرة الكتّاب، فتم دفنه في مقبرة الضاحية التي سكنها في سنواته الأخيرة.
زوشينكو اليوم
كان الظن ان أعمال زوشينكو ، التي رسمت صوراً ساخرة عن مناحي الحياة اليومية السوفيتية ، ستذهب مع انهيار الإتحاد السوفيتي ، فالحياة في روسيا اليوم تغيرت تماما منذ ذلك الحين . ولكن هذا لم يحدث .وما زال زوشينكو أحب الكتّاب الى الجمهور ، ويقبل الناس على قراءة رواياته وقصصه إقبالاً لا يجده كاتب آخر من الكتّاب المعاصرين ، وتصدر بين حين وآخر طبعات جديدة من أعماله الكاملة ، متضمنة يومياته ورسائله المتبادلة مع الكتّاب الروس ومع أصدقائه وأقاربه ،كما تصدر عشرات الكتب الجديدة ،التي تتحدث عن ذكريات الأشخاص الذين التقوا به في مراحل حياته المختلفة . اضافة الى اطروحات دكتوراه عديدة عن الخصائص الفنية لأبداعه . وقد ترجمت أعماله الى أهم لغات العالم ، واجتازت إمتحان الزمن ، وهذا شأن كل أدب عظيم ، فهو جديد أبداً.
 
 * كاتب عراقي
 
 
 

24
إروين شو الذي لا نعرفه

جودت هوشيار                
                   
لا أميل الى قراءة أدب الحرب، أو مشاهدة الأفلام الحربية ، فقد أتخمنا بمئات الروايات والأفلام عن الحروب ، التي لم تتوقف يوما في التأريخ البشري ، ولكنها باتت أكثر بشاعة ، مع تطور آلة القتل .  وضاع عمر جيلنا في أجواء الحروب ، ما أن نخرج من حرب ، حتى تداهمنا حرب جديدة أشد ضراوة من سابقتها ، وليست ثمة حروب جيدة ، وأخرى سيئة ،  كما تزعم البنتاجون ، فهي كلها مآسي ودماء ودموع .
كانت رواية " الأشبال" هي اول ما وقع في يدي من نتاجات الكاتب الأميركي " اروين شو"
و" الأشبال " عنوان ، لا تشمّ منه رائحة الحرب ، ويتبادر الى الذهن ، أنها ربّما رواية عن الحيوانات ، أو الصيد في مجاهل أفريقيا. ولم أكن أعرف أن شو ، أعد لنا – نحن الذين لا نقرأ أدب الحرب – مقلباً ذكياً ومثيراً . فما أن تبدأ بقراءة الصفحات الأولى منها ، حتى تج د نفسك أمام شخصبة جذّابة - فتاة أميركية جميلة تظهر في الفصل الأول من الرواية ، ثم تصحبك  من جديد في بعض الفصول الأخرى ، لتجد نفسك في أجواء أشرس معارك الحرب العالمية الثانية ، وتتابع بشغف مصائر الشخصيات الرئيسية للرواية، وهم ثلاثة جنود –أميركيان اثنان وثالث ألماني .
ولد شو في عام 1913 في نيويورك في اسرة مهاجر أوكراني. وهو ينتمي الى الجيل التالي لجيل الكتاب الاميركيين العظام : فيتزجيرالد ، وهمنغواي ، وفوكنر ، وتوماس ولف ، ودوس باسوس . ويمكن القول إن شو ، ووليم سارويان ، والكاتب الزنجي ، ريتشارد رايت ، والكاتب المسرحي ليليان هيلمان ، وروبرت بين أورين ، هم في طليعة الكتّاب الأميركيين  ، الذين بدأوا حياتهم الأدبية في النصف الثاني من الثلاثينات ، ومن اكثرهم موهبة وشهرة .كانت الولايات المتحدة تعاني في هذه الفترة من الآثار العميقة للأزمة الأقتصادية ، التي هزت البلاد في أوائل الثلاثينات . وهي سنوات زاخرة بالأحداث الجسام ، ليس في حياة المجتمع الأميركي فحسب ، بل وفي حياة المجتمعات الأوروبية أيضاً . كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يخطط لنهج سياسي جديد . وفي أوروبا كانت النازية الألمانية تحلم بالمجال الحيوي ، وبوادر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق – في مثل هذا المناخ بدأ شو حياته الأدبية ، وسرعان ما لفت اليه انظار النقاد والقراء على حد سواء ، ككاتب مبدع يمتلك وعيا عميقاً وحسا مرهفاً ازاء التناقضات الإحتماعية وهموم الملايين من الناس البسطاء .
لقد أثبت شو منذ خطواته الأولى في عالم الأدب ، أنه صاحب اسلوب متفرد ، وموهبة أصيلة  وذلك عندما نشر في عام 1936 مسرحية ذات فصل واحد تحمل عنوان " ادفنوا الموتى " ، التي سلطت الأضواء على الكاتب، وترجمت في السنة ذاتها الى اللغة الروسية ونشرت في مجلة " نوفي مير " السوفيتية الشهيرة . وهي احدى المسرحبات التي اختارها الناقد المسرحي والمنظر الجمالي الاميركي "جاستر" ونشرها ضمن كتاب " أفضل عشرين مسرحية معاصرة "
كتب شو هذه المسرحية ، في وقت اخذ فيه شبح الحرب القادمة يخيّم على اوروبا. وتدور أحداث المسرحية حول خمسة من الجنود القتلى ،الذين يرفضون الموافقة على دفنهم. وهي إدانة قوية للحروب على مر العصور. وقد شرح " اروين شو " هدفه من كتابتها في مقال نشره فى جريدة " النيويورك تايمز " قال فيه :
"هذه أول مسرحية يكتبها شاب لا يريد أن يقتل ، ويعتقد أن هناك عدداً كبيرا من الشبان يشاركونه الرغبة نفسها، ويتمنى لو أثرت فيهم هذه المسرحية ، لأنه سيأتى وقت عما قريب يطلب فيه من هؤلاء الشبان أن يغامروا بحياتهم في قتال محفوف بالمخاطر ، سينتهي بأن تقضى عليهم أجهزة الحرب الضخمة التى أعدت اعدادا ممتازا" . المؤلف يعبّر هنا ،عن موقفه الرافض للحرب بلسان الجنود القتلى الثائرين الذين يخاطبون الجمهور في صالة المسرح .
وفي عام 1937 نشر شو مسرحية " الحصار " وهي مسرحية مناهضة للفاشية . ثم جاءت مسرحية " حياة بروكلين الرغيدة " (1939) لتوطد مكانة شو ككاتب مسرحي مرموق . ولقد إقتفى شو في هذه المسرحية أثر الكاتب الأميركي " دشيل هاميت " الذي نشر في أوائل الثلاثينات عدة روايات سيكولوجية حادة وفاضحة عن عالم الجريمة المنظمة ، منها " صقر مالتا " (1930) و " المفتاح الذهبي" (1931)  .
وفي الفترة ذاتها اخذ اروين شو ينتزع الاعتراف به كقاص موهوب ، فإمتدت شهرته وازدادت مكانته الأدبية رسوخاً ، فأخذت كبريات المجلات ىالأميركية في ذلك الوقت مثل مجلة " نيويوركر " ومجلة " اسكواير " ترحب بنشر قصصه القصيرة . وفي عام 1939 جمع شو هذه القصص في كتاب أصدره تحت عنوان " بحار من بيرمن " وبعد ثلاث سنوات اصدر مجموعته القصصية الثانية " مرحباً بالقادمين الى المدينة الكبيرة " وفي السنة ذاتها التحق شو بالجيش الأميركي كجندي بسيط ، ثم أصبح مراسلاً حربياً ، وقام بتغطية سير معارك الحرب العالمية الثانية في شمال افريقيا ، وفي انجلترا وفرنسا وألمانيا .
لقد تركت هذه الحرب الطاحنة آثاراً بالغة في حياة وأدب شو وأمدته بتجارب خصبة أصبحت مادة أولية لروايته الأولى " الأشبال " ( 1948) التي احتلت فور صدورها ، رأس قائمة الكتب الأكثر رواجاً ، وقوبلت بإهتمام عظيم ، لا يقل عن الإهتمام الذي حظيت به رواية نورمان ميلر " العراة والموتى " (1948) . ويمكن القول ان هاتين الروايتين بالإضافة الى الى رواية د. جونس " من هنا الى الأبد " (1951) ورواية د.هولر الساخرة " المصيدة -22" (1961) تعتبرمن أفضل الروايات التي كتبت عن الحرب العالمية الثانية . .
وقد قارن البعض رواية " الأشبال " برواية ليف تولستوي " الحرب والسلام " مما أثار غضب النقاد والأدباء الأميركيين وبضمنهم همنغواي ، الذي سخر من هذه المقارنة واطلق على شو – في احدى رسائله – اسم " تولستوي بروكلين " . فرد عليه شو قائلاً : بابا همنجواي لا يعجبه من يدخل الى ساحته الأدبية ، التي يعتبرها من ممتلكلته الخاصة " . ويقصد شو بها التعليق أن همنغواي كتب ايضا عن الحرب ، ولا يريد أن ينافسه أحد في هذا المضمار .
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتنافس فيها الكاتبان . فقد قال همنغواي أنه حرّر فندق " رتس " في باريس خلال الحرب العالمية الثانية. أما شو فقد كان يتفاخر بأنه حرّر مقهى " تيب توب " في مونتي كارلو " وانه  اول من دخل " موناكو " مع وحدة من الجنود الأمبركببن في سبتمبر عام 1944 . وقبل ذلك بعدة أشهر، عندما كانت لندن تتعرض الى قصف الطائرات الألمانية كان شو يمر بتجربة حب حميمة مع المراسلة الحربية " ماري ويلش " ، ففي أيار عام 1944 عندما كان شو ، وويلش في احد مطاعم لندن ، اقترب همنغواي منهما ، وطلب من شو تقديمه الى صديقته الشقراء الساحرة  . وسرعان ما وقع همنغواي في غرامها ، وبعد أن تحررا من ارتباطاتهم الزوجية السابقة ، توّجت هذه العلاقة بالزواج عام 1946 ، وأصبحت زوجته الرابعة والأخيرة . وفي وقت لاحق صوّر شو شخصية ويلش بسحرها المدهش في رواية " الأشبال" تحت اسم لويز .
شو- كاتب بالغ الثراء والخصوبة فقد كتب خلال الخمسينات والستينات أربع روايات أخرى هي : " الهواء المضطرب" (1950) و" لوسي كراون " ( 1956" و" اسبوعان في مدينة أخرى " (1960) و"اصوات يوم صيفي " ( 1965) . وعشر مجموعات قصصية أصدرها في الفترة ذاتها تقريباً منها : " جماعة مختلطة " ( 1950) و " رهان على ميت " (1957) و" حب في شارع مظلم " (1965) 
في عام 1951، غادر اروين شو الولايات المتحدة إلى أوروبا، حيث عاش لمدة 25 عاما، لا سيما في باريس وسويسرا. وكتب شو العديد من السيناريوهات لأفلام ناجحة انتجت في هوليوود رشح بعضها لجائزة الأوسكار .
" رجل غني ، رجل فقير " من أفضل روايات اروين شو ، وقد صدرت عام 1970 ، وتتناول قصة عائلة مهاجر ألماني الى الولايات المتحدة الأميركية ، دمّر أفرادها انفسهم ، لأنهم آمنوا بالمثل الأميركية والقيم الزائفة ، وظنوا أن المال يجعلهم سعداء . وقد حوّلت الرواية الى مسلسل تلفزيوني ناجح في اميركا عام 1976 وفي ليتوانيا عام 1982 .
وبعد صدور هذه الرواية الرائعة ، كتب شو ست روايات اخرى " مساء في بيزنطة " (1973) ، " عمل ليلي " ( 1975) ، " و " اللص المتسول " (1977)  و" قمة التل " (1979) , " خبز فوق الماء " ( 1981" ، و" الخسائر المقبولة " ( 1982" ولكنها قوبلت ببرود من قبل  النقاد رغم نجاحها الجماهيري . ويمكن القول أن النقاد لم يكونوا منصفين مع شو أحياناً ، فهم ينتقدونه لأفتقاد هذه الروايات الى العمق السايكولوجي المطلوب ، رغم اعترافهم باسلوبه الشائق وقصصه المتقنة البناء .
 وينبغي ان لا ننسى بأن القراء هم الذين يحددون مصائر الكتب ، لا النقاد أو الأكاديميين .أعمال شو كانت وما تزال تلقي رواجا كبيراً في العالم الغربي واوروبا الشرقية ، وترجمت الى ثلاثين لغة من أهم لغات العالم ، وصدرت مؤلفاته الكاملة في ثمانية أجزاء مترجمة الى اللغة الروسية ، إضافة الى طبعات متفرقة لرواياته ومجاميعه القصصية . وبلغ اجمالي ما تم بيعه من كتبه أكثر من 14 مليون نسخة في أنحاء العالم ، وعرضت مسرحياته على مسارح واشنطن وباريس وموسكو والقاهرة .
ان نتاجات شو متفاوتة القيمة والمستوى من الناحية الفنية ، وربما كانت القصة القصيرة ، هي أكثر الأجناس الأدبية التصاقاً بموهبته ككاتب . أما رواياته الطويلة فإنها لا تخلو أحياناً من بعض النبرات الميلودرامية ، والترهل اللفظي ، والإغراق في التفاصيل . بيد أن هذه المآخذ لا تقلل كثيراً من قيمة رواياته، ذلك لأن ما يشغل بال الكاتب دائماً هو القضايا الأساسية التي يواجهها الإنسان المعاصر ، وخاصة في مجتمع متطور كالمجتمع الأميركي . : دور المواطن الأميركي العادي في النضال ضد الفاشية في " الأشبال " والزيف السياسي والروحي للمكارثية في " الهواء المضطرب " ومسؤولية الفنان ازاء المجتمع وإزاء موهبته في " اسبوعان في مدينة أخرى " .
وتتميز قصص شو القصيرة بمستوى فني رفيع ، ودرجة عالية من الرهافة والشفافية . وليس من الصعب على القاريء أن يلحظ ان شو يستخدم هنا تجربته المسرحية على نحو بارع : الحبكة المتماسكة ، والتناسب الهندسي الدقيق ، والحوار المتقن ، ولهذا السبب بالذات نجد ان كثيرا من قصصه القصار قد حولت الى افلام سبنمائية ناجحة . ويفضل شو – شأنه في ذلك شأن الكثير من الكتاب الأميركيين المعاصرين ، اسلوب " الجبل الجليدي" الموضوعي . فالمؤلف لا يتدخل مطلقاً في القصة ، بل يترك المواقف والشخصيات لتعبر عما يريد الكاتب أن يصوره لنا. وتمتلك النماذج ، التي يصورها الكاتب ، دفء الحضور في عالم مليء بالتناقضات ، وبالقلق والحزن والتوتر أحياناً ، وان كان لا يخلو من أمل غامض . وهذا الأمل هو الذي يضفي على نتاجات شو ، ذلك التفاؤل الذي يساعد ابطال قصصه ورواياته ومسرحياته على التماسك والإستمرار في الحياة بالرغم من كل شيء. .
حاز ارون شو على العديد من الجوائز منها: جائزة أو. هنري، التي فاز بها مرتين ،وجائزة الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب . وتوفى في دافوس بسويسرا عام  1984 .
كلمة أخيرة
إروين شو : يكاد يكون مجهولا للقاريء العربي . وقد كنا أول من ترجم احدى قصص هذا الكاتب في منتصف السبعينات ، وهي قصة " الضفاف المشمسة لنهر الزمن " التي نشرت عام 1975 في العدد (14) من مجلة " الأديب المعاصر" الفصلية ، الصادرة عن إتحاد الأدباء في العراق. وهي قصة طويلة نسبيا ، وتعد من أجمل قصص شو ، التي تحرك مشاعر القاريء وتدفعه الى تأمل الحياة بنظرة جديدة .
ومنذ نشر تلك القصة وحتى يومنا هذا ، لم يترجم الى العربية سوى كتابين فقط - من اجمالي خمسين كتابا نشره شو خلال حياته الأدبية – وهما :
1 - مسرحية " ادفنوا الموتى " التي ترجمت الى اللغة العربية تحت عنوان " ثورة الموتى " وصدرت عن وزارة الثقافة المصرية في اواخر التسعينات ،وتم اخراجها وعرضها على احد مسارح القاهرة في ذلك الحين ، وأعيد عرضها،في ديسمبر عام 2017 على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية في القاهرة .
2 - رواية " خبز فوق الماء " ترجمها الأستاذ نبيل وهبي ، وصدرت عن دار علاءالدين عام 2007 . 
ونكاد نجزم - استناداً الى التتبع الدقيق لما كتب ويكتب عن الأدب الأميركي في العالم العربي - أن مقالنا هذا أول محاولة لتقديم صورة شاملة عن إروين شو ومجمل أعماله الى القاريء العربي .
 
 



25
ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونين

جودت هوشيار
نبذة عن حياة وأعمال بونين
إيفان بونين (1870 ـ 1953) أحد الأعلام البارزين في الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد بدأ حياته الأدبية شاعراً ، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره حين نشرت مجموعة أشعاره الأولى، التي نال من أجلها " جائزة بوشكين "، ثم منح الجائزة ذاتها للمرة الثانية حين ترجم عن الشاعر الأمريكي (لونغفيلو) ملحمته الشعرية " هياواثا "
بيد أن بونين معروف في المقام الأول ككاتب نثر ممتاز، ويعد أهم كاتب للقصة القصيرة بعد تشيخوف. ويتميز أسلوبه بالثراء اللغوي والعمق السيكولوجي. بونين شأن تشيخوف يأسر القارىء في قصصه بوسيلة أكثر من أي متعة أخرى، إن قصصه مواقف آسرة وشخوص فريدة، فالكاتب يجذب إنتباهنا فجأة لما هو عادي تماماً ومألوف عندنا في خبرتنا اليومية والحياتية، ولما مررنا به في الماضي مرات عدة دون أن تصيبنا الدهشة لولا ذاكرته الفنية.
في عام 1909 ـ عندما كان في التاسعة والعشرين من العمر ـ منحته أكاديمية العلوم الإمبراطورية الروسية لقب أكاديمي تقديراً لإبداعه الأدبي، وهو شرف لا يحظى به، إلا القلة من العلماء والمبدعين.
نال بونين جائزة نوبل في الآداب لعام 1933، عقب صدور روايته " حياة ارسينيف " . و كان أول كاتب روسي يحصل على هذه الجائزة. وجاء في نص قرار منح الجائزة ما يلي: " بقرار من الأكاديمية السويدية تمنح جائزة الآداب لإيفان بونين لقاء الموهبة الفنية الحقة التي تمكن بواسطتها من إعادة خلق الشخصية الروسية بقالب نثري جميل " .
عندما تقرأ قصص بونين لا يمكنك إلا أن تفكر في لغز الوجود الإنساني ومواجهة الإنسان لمصيره المحتوم .
ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونين
ثنائية الحياة والموت ، كانت واحدة من اهم الثبمات الرئيسية في ابداع ايفان بونين . وقد عالجها الكاتب بطرق مختلفة ، ولكنه في كل مرة توصل الى إستنتاج مفاده أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة.و ليس للأنسان عزاء أو سلوى ، لا في العمل ، ولا في الحياة الأسرية . الحياة اليومية روتينية ومملة، والعمل مرهق ، والناس غرباء بعضهم عن بعض . عندما يأتي الإنسان الى الحياة ، فأنه يندفع على الفور الى نهايته . العالم – هاوية ، مستنقع ، والموت مسألة صدفة . حياة الأنسان لا شيء بالمفارنة مع العالم . والانسان نفسه عاجز وضعيف بصرف النظر عن موقعه في السلم الأجتماعي .كل شيء في العالم زائف ووهمي ، والحقيقة الوحيدة هي الموت . ويرى بونين ان الحب هو مقاومة للموت وتجسيد للحياة  . ولكننا اذا تمعنا عن كثب في قصصه عن الحب ، نجد مفارقة واضحة ، وهي ان الحب السمة الرئيسية للحياة : من يحب ، يعيش حقاً . ولكن الموت يترصد للأنسان دائما في كل لحظة ، وفي كل مكان. ويرى بونين ان الحب العميق الجارف كونه تركيز للحياة واللحظة الاكثر توترا في الوجود الانساني ينتهي بالموت في أكثر الأحيان .
يأتي الإنسان الى هذا العالم ، عالم الفوضى ، لفترة جد قصيرة من الزمن ، والحياة توهب له لأسباب غير مفهومة لا يعلمها ، الا الله . والموت ينهي هذه الحياة على نحو مأساوي . وكل شيء يحدث مصادفة . وثمة ارتباط وثيق بين الحياة والحب والموت .
في مجموعة قصص بونين الرائعة " الدروب الظليلة " - التي اطلق عليها النقاد اسم  موسوعة الحب -  نجد إن النهاية التراجيدية امر طبيعي ، لأن الحب الحقيقي الجارف يقتل العشاق حتماً ، مما ينقذهم من خيبة الأمل . ولهذا لا نجد في " في الدروب الظليلة قصة واحدة تنتهي بالزواج . الزواج يحمل معه العادة التي تقتل الحب عاجلا ام آجلاً .
في العالم الذي صوره بونين في اقصوصة " اسطورة " شخصان : هو وهي . هي ميتة ، وهو على قيد الحياة ، ولكنه يعرف أنه سيموت أيضا في يوم ما . و سيأتي آخرون الى هذا العالم ، وهو يأمل أن يعد هؤلاء بدورهم الزمن الذي عاش فيه ، اسطورياً.
وتعد هذه الأقصوصة ، التي ترجمناها عن الأصل الروسي ، نموذجاً لنظرة بونين الى العلاقة ، التي لا تنفصم بين الحياة والموت .
أسطورة
على أنغام الأورغ والغناء - كان الكل يغني على وقع الأورغ أغنية  حلوة ، حزينة ، ومؤثرة  تقول : " ما أطيب الوقت معك يا الهي !" . على ايقاع الأورغ والغناء رأيتها فجأةً بجلاء واحسست بها .لا أدري من أين انبثق طيفها في خيالي بشكل مباغت وغير متوقع ، شأن كل ما يفاجئني  به خيالي في الحالات المماثلة ، على نحو يجعلني أفكر في الأمر طوال اليوم .
أعيش حياتها وزمانها . لقد عاشت في تلك الأيام الغابرة التي نسميها  العصور القديمة . ولكنها رأت هذه الشمس ذاتها التي أراها الآن ، وهذه الأرض التي أعشقها  ، وهذه المدينة القديمة ، وهذه الكاتدرائية ، والصليب الذي ما زال يسبح بين الغيوم ، كالعهد به في العصور القديمة . وسمعتْ الغناء نفسه الذي اسمعها الآن . كانت فتية ، تأكل ، وتشرب . وتضحك وتثرثر مع جاراتها ، وتعمل ، وتغني . كانت فتاة شابة ، فعروساً ، ثم أماً . ماتت قبل الأوان ، مثلما تموت النساء الرقيقات المرحات في ريعان الشباب غالباً . في هذه الكاتدرائية أقيم القداس على روحها . وها قد مرت قرون عديدة على رحيلها عن العالم الذي شهد منذ ذلك الحين كثيراً من الحروب الجديدة ، والبابوات الجدد ، والملوك والتجار والقساوسة والفرسان . في حين ان عظامها النخرة  ، جمجمتها الصغيرة الفارغة راقدة تحت الأرض ، كما رفات الآخرين . كم عددها في الأرض هذي العظام وهذي الجماجم ؟ ان كل الماضي البشري وكل التأريخ الإنساني حشود غفيرة من الموتى ! وسيأتي يوم سأنضم فيه الى جموعهم . وسأبث أنا أيضاً الرعب بعظامي وجثتي في مخيلة الأحياء ، كما فعلت تلك الحشود الغفيرة من الجيوش التي ستغرق الأرض يوم الحشر .. ومع  ذلك  سوف يعيش أحياء جدد بأحلامهم عنا نحن الموتى ، وعن حياتنا القديمة وزماننا القديم الذي سوف يبدو لهم رائعاً ، وسعيداً ، واسطورياً . .
           



26
التوظيف السياسي للأدب الكلاسيكي في روسيا

جودت هوشيار
             
لعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ، إن الأدب الكلاسيكي الروسي ، هو الإسهام الروسي الحقيقي في تطور الثقافة العالمية . فهو يحتوي على عدد كبير من الروائع الأدبية ، التي لا زالت تحتل مكانة مرموقة في الأدب العالمي . وهذه حقيقة يعترف بها كل متذوق للأدب الرفيع ، أتيح له الدخول الى العالم الساحر لعمالقة الأدب الروسي ، عالم  العواطف الجياشة والمصائر التراجيدية ، الزاخر بالقيم الإنسانية ، والأخلاقية ، والروحية المشتركة بين البشر ، بصرف النظر عن العرق والدين والثقافة ، لذا فهي مفهومة وممتعة لجميع محبي الأدب الحقيقي في العالم حتى يومنا هذا .
عندما اطلع القاريء الغربي على الأدب الروسي الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وقع في عشق هذا الأدب. ولم يمض وقت طويل حتى شرع نقاد الأدب في أوربا ومن ثم في أميركا ، يتناولونه بالبحث والدراسة، وأخذ عدد كبير من الكتاب الغربيين يتعلمون منه تقنيات الكتابة .
كان  القرن الماضي ، قرن الأدب الروسي الكلاسيكي  في الرواية ،والقصة ،والمسرح ، والسينما. قرن تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ، ولم يستطع أي أدب  قومي ، او وطني في ابعد زاوية من عالمنا الفسيح ، أن يتجنب تأثير هذا الأدب الملهم ، الذي ترجمت روائعه الى أكثر من (170) لغة من لغات العالم مرات عديدة ، وصدرت في طبعات متلاحقة ، وحولت الى افلام سينمائية ناجحة في هوليود وفي بقية انحاء العالم. ويكفي ان نقول ان السينما العالمية أنتجت ( 234 ) فيلماً ، مستوحاة من قصص ومسرحيات أنطون تشيخوف، منذ ظهور السبنما الصامتة وحتى اليوم .
الأدب الكلاسيكي الروسي ، هو أدب " الموضوعات الأزلية " ، فقد حاول الكتّاب الروس الإجابة عن أسئلة الوجود الأساسية : معنى الحياة ، وطبيعة الإنسان ، والخير والشر ،  ووجود الخالق . وحاول كل منهم الأجابة عن تلك الأسئلة بطريقته الخاصة ، وتجسيد البطل النموذجي لزمانه .
لن نستطيع أن نفهم روسيا ، وكيف وبماذا يفكر الروس ، من دون أن نقرأ لهؤلاء ولغيرهم من كبار الكتّاب الروس . حقاً لقد تغيّرالواقع السياسي ، والأقتصادي ، والأجتماعي ، والثقافي في روسيا كثيراً منذ ذلك الحين ، نتيجة للأحداث العاصفة ،التي شهدتها خلال تأريخها الحديث ، ولكن ( الروح الروسية ) بقيت تقريباً كما كانت في العصر الذهبي للأدب الروسي في القرن التاسع عشر .لأن تغيير الأنسان أصعب من تغيير الواقع المادي .
الإنسان – أي إنسان -   لا يتغير ، الا ببطأ شديد . فقد أخفق البلاشفة في خلق انسان سوفيتي وفق مقاييسهم القيمية طوال (73) عاما من التلقين الأيديولوجي . ولن نفهم روسيا اليوم ، ولا الروح الروسية ، الا بالرجوع الى الأدب الروسي الكلاسيكي ، وهذا صحيح الى حد كبير بالنسبة الى بقية شعوب العالم ، فالأدب الحقيقي يعكس العالم الروحي لأي شعب وثقافته .
كان الأدب الروسي هو المعبر الحقيقي عن الواقع الروسي ، وعن تطلعات الجماهير وطموحاتهم وآمالهم . وعن أفكار العصر التقدمية ، ولعب دوراً اساسياً في تشكيل وعي جمعي  يناهض الظلم ، ويسعى الى الحرية والعدالة الإجتماعية . وهو الذي هيأ المناخ العام للثورتين الروسيتين في شباط ، واكتوبر 1917) . ولعل ابلغ دليل على ذلك هو أن زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين ، كتب قبل ثورة اكتوبر أربع مقالات عن أدب وآراء ليف تولستوي ، ودوره المؤثر في الأدب الروسي والعالمي ، وفي تنوير وإستنهاض المجتمع الروسي ، وبضمنها مقاله الشهير تحت عنوان " تولستوي كمرآة للثورة الروسية ". وكثیرا ما كان لينين يھاجم خصومه عن طريق مقارنتھم بشخصیات غیر محبوبة وأحیانا ھامشیة استمدھا من الأدب الروسي .
كان الكتّاب الروس دوما معلمي الشعب ، و" مهندسي الروح البشرية ". وكانت أعمالهم الأدبية بمثابة غذاء فكري وروحي للنخب الثقافية . ولما كانت المعارضة السياسية ، وكل وسائل التعبيرعن الرأي ، تقمع بشدة في ظل الأنظمة الروسية المتعاقبة ، فإن الأدب أصبح المتنفس الوحيد للمثقفين. ولعل هذا الدور العظيم الذي نهض به الأدب الروسي هو الذي دفع تلك الأنظمة الى توظيف الأدب كسلاح سياسي لخدمة مصالحها وأهدافها .
 كان القياصرة الروس وحكام الكرملين قراءاً نهمين للأعمال الأدبية – ليس لأنهم كانوا من هواة القراءة – بل من اجل فرز الأعمال ( المضرة ) بالنظام القائم - من وجهة نظرهم - عن تلك التي يمكن توظيفها لترسيخ وتعزيز هيمنتهم على السلطة . وحاولوا تحويل الادب الى اداة سياسية قوية ، وسنرى في الفقرات اللاحقة كيف جرى التوظيف السياسي لأهم الأعمال الأدبية الروسية الكلاسيكية .
القيصر رقيباً على شعر بوشكين
لم يكن أمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين ( 1799 - 1837 ) على وفاق مع السلطة القيصرية ، بسبب تأييده لأنتفاضة ( 14 ) ديسمبر 1825 ، التي ّ تحدت تنصیب القیصر نیكولاي الأول . ومارس هذا الأخير شخصيا ، بعد توليه السلطة دور الرقيب على نتاجات بوشكين، ومنع نشر بعضها . وعانى الشاعر من النفي والتضييق . ويقال ان السلطة كانت وراء مصرعه في مبارزة خطط لها القصر الإمبراطوري بذكاء للتخلص منه.
النظام السوفيتي ثمّن عالياً قصائد بوشكين ، التي تغنى فيها بالحرية والعدالة ، منتقداً النظام القيصري : " أيها الحاكم المتغطرس أكرهك وأكره عرشك " وتأييده للديسمبريين ( ثوار انتفاضة ديسمبر 1825 ) ، كما أشاد البلاشفة بملحمته الشعرية الرومانسية " غافريليادا" التي كتبها الشاعر في عام 1821 ، عندما كان في ريعان الشباب ، وهي محاكاة ساخرة ولطيفة لبعض الأحداث الواردة في الكتاب المقدس حول (حواء وآدم ) و( السيدة العذراء ) ، وفيها مقاطع إيروتيكية رائعة عن الحب والجمال الأنثوي . وكان هدف النظام السوفيتي من هذه الإشادة هو الإيحاء للقاريء بأن بوشكين كان ملحداً ، وهذا تفسير مغرض لهذه الملحمة البديعة بصورها الأخاذة ، وطابعها المرح اللطيف، حيث تتجلى فيها عبقرية بوشكين المبكرة . أما قصائده الوطنية، التي يمجّد فيها روسيا القيصرية مثل قصيدة " الى المفترين على روسيا " و قصيدة " رجاء المجد والخير " فكان النظام السوفيتي يزعم ان الشاعر قد كتبها تحت ضغط الرقابة القيصرية .
وفي عهد بوتين نجد  تقييماً  يناقضً تماماً ، التقييم السوفيتي للمنجز الشعري لبوشكين ،حيث يرى النظام الحالي ان قصائد بوشكين الوطنية ، التي مجّد فيها روسيا العظيمة ،هي انجازاته الشعرية الحقيقية . أما مناداته بالحرية والعدالة، والدفاع عن الثوار الديسمبريين ، وعن المضطهدين في روسيا والعالم ، ومحاكاته للكتاب المقدس ، فهي في نظر النظام الحالي ، من طيش الشباب ، ومن أخطاء الشاعر الفظيعة. ويزعمون ان الشاعر نفسه قد ندم على كتابتها .
القيصر ليف تولستوي
كتب الكاتب والناشر أليكسي سوفورين (1834 – 1912 )  في دفتر يومياته بتأريخ 29 أيار 1902  يقول "  لدينا قيصران : نيكولاي الثاني ، وليف تولستوي . أيهما أقوى ؟ . إن نيكولاي الثاني ، لا يستطيع ان يهز عرش تولستوي ، ولا أن بفعل شيئاً ضده ، في حين أن تولستوي قادر بكل تأكيد على هز عرش نيكولاي وسلالته . انهم يلعنون تولستوي . والسينود ، أي ( المجلس المسكوني) غاضب عليه . ولكن بوسع  تولستوي ان يرد عليهم بمنشور سرعان ما يتلقفه الناس في روسيا ، وينشر في الصحف الأجنبية . جربوا ! من يستطيع أن يمس تولستوي بشعرة ؟
ان التأثير الطاغي لعملاق الأدب الروسي ، لم يقتصر على الشرائح المتنورة في المجتمع ، بل شمل معظم افراده . حتى الفلاح البسيط  ، الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة ، كان يعرف ان تولستوي كاتب عظيم ومصلح اجتماعي مهيب .
كانت علاقة تولستوي بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية سيئة . وكان يقول أن " ان الدين نبع ماء صاف ، ولكن رجال الدين يلوثونه ، ثم يقولون للناس تعالوا أشربوا من هذا الماء " .
كشف تولستوي زيف رجال الدين ، والكنيسة ، التي اتهمها بعدم مناصرتها للفقراء والوقوف مع القياصرة والظلم . فكفرته الكنيسة وأبعدتهُ عنها وأعلنت حرمانهُ من رعايتها عام 1901 .
وبطبيعة الحال فإن السلطة السوفيتية اعتبرت هذه العلاقة السيئة أمرأً ايجابياً . اما اليوم فأن نظام بوتين – المتحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية - يرى عكس ذلك تماماً ، ويعد موقف تولستوي من الكنيسة أمراً سلبياً للغاية . ولعل ابلغ دليل على محاولة بوتين التقرب من الكنيسة، هو ان الدولة تجاهلت الذكرى المئوية لوفاة تولستوي (1910 – 2010 ) انصياعاً لموقف البطريكية الأرثوذكسية ، التي رفضت عودة تولستوي اليها ، رغم اعترافها بعبقريته .
دوستويفسكي بين ستالين وبوتين
كان ستالين قارئاً نهماً ، ويقال أن مكتبته الشخصية في الكرملين كانت تضم نحو (30) ألف كتاب ، ومكتبته في بيته الريفي نحو (10) آلاف كتاب في شتى حقول المعرفة ، بينها أهم الأعمال الأدبية الكلاسيكية الروسية والعالمية . وكان يردد غالباً اقتباسات من نصوص الكتاب والشعراء الروس العمالقة ، ولكنه لم يكن بوسعه أن يغفر لدوستويفسكي رواية " الشياطين ". وهي رواية صدرت عام 1872 ، وترجمها سامي الدروبي الى العربية نقلاً عن اللغة الفرنسية في الستينات من القرن الماضي ، تحت إسم "الموسومون ". ويشير الاسم إلى السياسيين المهوسين بالعنف ، ويشبههم الكاتب بالذين أصابهم مسٌ شيطاني
تعد " الموسومون " من أفضل الروايات السياسية ،التى تتناول علاقة التنظيمات الثورية المعارضة بالطبقة الاستقراطية الحاكمة في الإمبراطورية الروسية ، حيث يصور فيها دوستويفسكي بعمق  سايكولوجي لا نظير له ، مدى توغل الأفكار اليسارية في المجتمع الروسي ، والصراع المرير بين طبقات الشعب. رواية تدين سفك الدم ، وإحراق المنازل من اجل احداث التغيير . وتسخر من المعارضة والليبراليين . وتعد هذه الرواية نبؤة تستشرف سلبيات الثورة البلشفية قبلَ وقوعها، ولهذا مُنعت الرواية وصودرت في الإتحاد السوفيتي ودول المعسكر الأشتراكي .وقد حاول البلاشفة بكل السبل ، التعتيم على عظمة دوستويفسكي ، وعدم اعادة نشر هذه الرواية والعديد من اعماله الادبية الأخرى .
كما منع البلاشفة نشر ( يومياتب الكاتب ) ، التي تتضمن هجوماً عنيفاً على الراديكالية الثورية . ولقيت رواية دوستويفسكي " مذكرات من البيت الميت " ، إنتقاداً شديداً ، لأن المعتقلات القيصرية كان يذكّر القراء بالمعتقلات السوفيتية . 
كان مما يقلق دوستويفسكي ، الألحاد والاباحية والانحلال ، لذا كان مؤلف " الجريمة والعقاب " يعد رجعيا في نظر الحزب الحاكم ،ومصيره التجاهل والاهمال . وكانت التهم الموجهة اليه ، هي : التشاؤم، الموقف العدائي من الثورة  ، اللاعقلانية ، والتدين . وهي الاسباب ذاتها التي تجعل من دوستويفسكي اليوم الكاتب المفضل لدى بوتين .
ان " الجريمة والعقاب " و العبيط " و" الشياطين " و" الأخوة كارامازوف " ليست مجرد روايات ، بل مؤشرات على ما يمكن أن يحدث لروسيا اذا لم تعد الى جذورها ، الى ما قبل عهد بطرس الأكبر .
التوظيف السياسي لآفكار دوستويفسكي
لا تمتلك روسيا البوتينية أيديولوحية عالمية مغرية وجاذبة ، كالتي كان الأتحاد السوفيتي يواجه بها الغرب الرأسمالي ، لذا فإنها تستعين بأفكار وآراء عدد من الكتّاب والفلاسفة الروس ، التي يمكن استخدامها لغايات سياسية .
يبدو بوتين أمام الكاميرات وفي لقاءاته مع الكتاب والشعراء الروس – على النقيض من ستالين - مفتونا بدوستويفسكي ، ويحاول استغلال رواية " الموسومون " في محاربة المعارضة ، الليبرالية منها واليسارية على حد سواء ، وضمان تأييد الناخبين الروس الذين ما زال أغلبهم يبجلون عمالقة الأدب الكلاسيكي .
وهذا الأفتتان الظاهري بدوستويفسكي ، هو الذي جعل الساسة والصحفيين في الغرب يعتقدون ان فلاديمير بوتين يؤمن بأفكار دوستويفسكي . ولكننا نرى أن الأمر مجرد استغلال لبعض جوانب أعمال هذا الكاتب العظيم لخدمة النظام الحالي في روسيا ، وهي الجوانب ذاتها التي إنتقدها النظام السوفيتي . حيث كان الكاتب العظيم يعتقد ان لروسيا رسالة سامية ، وهي تحرير الشعوب السلافية ، وتوحيدها بزعامة روسيا . بوتين يحاول اليوم تحقيق هذا الهدف بمعونة الكنيسة الأرثوذكسية ، وبالترويج لبعض آراء وأفكار دوستويفسكي ، التي تنسجم مع سعي بوتين من اجل استعادة روسيا لدورها كدولة عظمي في العالم .
خلال الحرب الروسية التركية (1877- 1878 )، أكد دوستويفسكي أن الحرب قد تكون ضرورية ، إذا كان من وراءها الحرية والخلاص. وأعرَب عن أمله في استعادة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية.
. و ذكر دوستويفسكي في مُذكَراته ،أن الشعب والقيصر يجب أن يكونا صفّاً واحداً: "بالنسبة للشعب، القيصَر ليس سلطة خارجيّة، أو سُلطة لبعض الناس ... بل هو قوّة وسلطة للجميع، ولتوحيد جميع الناس ".
ان ما يجذب بوتين في دوستويفسكي ليس العمق السايكولوجي لروايات الكاتب العظيم ، بل إفتتانه بدوستويفسكي البيزنطي، الذي طوّر في" الأخوة كارامازوف " وجهة نظر التصوف الأرثوذكسي، الذي يحلم بانتصار الكنيسة، والقضاء على الالحاد الثوري ، الذي يهدد دور ونفوذ الكنيسة في المجتمع .
ذات مرة وفي اجتماع عقده الرئيس بوتين مع محافظي الأقاليم في الإتحاد الروسي ، أوصاهم بضرورة قراءة روايات دوستويفسكي . وقال : " عليكم بتصفح كتابات دوستويفسكي حول العامل الافرو آسيوي في السياسة الروسية ، فهي ممتعة للغاية ، وكأنها كتبت اليوم . " وقد تبدو هذه النصيحة غريبة للغاية . ما علاقة مضامين تلك الروايات – التي كتبت قبل حوالي قرن ونصف - بإدارة الأقاليم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ؟ . لقد كان لدوستويفسكي حسساسية بالغة ازاء التيارات الليبرالية والعدمية التي اجتاحت الثقافة الروسية والغربية ، ونصيحة بوتين دعوة صريحة لعدم التسامح مع مثل هذه التيارات في ايامنا هذه .
لا يشير بوتين الى تولستوي لا نادراً ، ويركز على أقوال دوستويفسكي ، الذي كان يؤمن بالتفوق الروسي . وهذ يناقض تماماً اعتقاد تولستوي بعالمية التجربة الأنسانية ، بغض النظر عن القومية ، والثقافة ، والدين . بوتين اختار دوستويفسكي ، الذي كان يعتبر روسيا أكثر الدول المتطورة روحياً  . ولا يقتصر تركيز بوتين على أفكار دوستويفسكي ، بل غالباً ما يشير في خطبه الى أقوال الفلاسفة الروس مثل سولوفيوف ، وبيردايف ، وخاصة ايلين ، الذين وقعوا تحت تأثير أفكار دوستويفسكي القومية .
أما تولستوي فقد كان وطنياً أحب شعبه دون مغالاة ،أو إحساس بتفوق الروس على الشعوب الأخرى  كما هو واضح في " الحرب والسلام ". وآمن بأن لكل شعب من شعوب العالم ثقافته المتفردة.

27
أدب / في أغسطس
« في: 19:54 27/10/2017  »
في أغسطس

قصة لإيفان بونين

ترجمها عن النص الروسي : جودت هوشيار


 رحلت الفتاة التي كنت احبها ، دون أن أقول لها شيئاً عن حبي ، ولأنني كنت آنذاك في الثانية والعشرين من عمري ، فقد خيل اليَّ أنني أصبحت وحيداً في الدنيا بأسرها . كان ذلك في نهاية شهر أغسطس، حيث كنت أعيش في مدينة روسية صغيرة. كان هناك هدؤ قائظ . وفي يوم السبت عندما غادرت بعد الدوام  ورشة صنع البراميل حيث كنت أعمل .  بدت الشوارع مقفرة الى حد أني ، عدلت عن الذهاب الى منزلي ، واتجهت صوب الضواحي لا ألوي على شيء .. سرت على الأرصفة بمحاذاة متاجر يهودية مغلقة وأروقة التسوق القديمة .
 دقت اجراس الكاتدرائية في حين سقطت من الدور ظلال طويلة دون ان تخف وطأة الحر . وهذا ما يحدث عادة في المدن الجنوبية في اواخر اغسطس ، حين تلفح أشعة الشمس الحدائق الغبراء طوال الصيف . كنت حزيناً حزناً لا يصدق ،  في حين كان كل ما حولي قد جمد من ملء السعادة - في الحدائق والسهوب والبساتين ، وحتى في الهواء ذاته  وفي أشعة الشمس الكثيفة .
في الساحة المتربة ، قرب حنفية الماء كانت تقف أمرأة اوكرانية جميلة  وجسيمة , ترتدي قميصا ابيض مطرزا ، وتنورة من قماش محلي ، سوداء ضيقة ، تبرز وركيها  وترتدي حذاءاً بأربطة على قدميها العاريتين .أمرأة تشبه فينوس، من بعض الوجوه  ، اذا كان بمقدورنا أن نتخيل   فينوس سمراء مدبوغة بأشعة الشمس . عيناها عسليتان بهيجتان ،  جبهتها صافية ناصعة ،  نصاعة لا تتسم بها سوى النساء الاوكرانيات والبولونيات .
ملأت الدلو  بالماء وعلقته على كتفها من حامله الخشبي المقوس ، وأقبلت نحوي مباشرة  - رشيقة على الرغم من ثقل الماء الذي كان يتساقط  وهي تتثنى في مشيتها قليلا وتدق الرصيف الخشبي بكعب حذائها.أذكر أنني انتحيت جانبا في اجلال لأفسح لها الطريق , ونظرت في اثرها طويلا .
وفي الشارع الممتد من الساحة الى طرف منحدر الجبل كان ثمة وادي شاسع هاديء الزرقة لنهر، ومروج وغابات ، ووراءها رمال سمراء ذهبية تمتد حتى الافق الجنوبي الرهيف .
ويبدو أنني لم أحب روسيا الصغرى قط  ، كما أحببتها في ذلك الحين ، ولم أعشق الحياة ، كما في ذلك الخريف ، الذي لم أكن اتحدث فيه الا عن صراع الحياة . ولا أعمل شيئا سوى التدريب على حرفة صنع البراميل .
والان وأنا أقف في الساحة قررت زيارة مريدي تولستوي الذين يعيشون في الضاحية , أنحدرت نحو اسفل الجبل وصادفت في طريقي العديد من سائقي العربات الذين كانوا منهمكين جدا  في نقل الركاب القادمين في قطار الساعة الخامسة الواصل من  شبه جزيرة القرم .
الخيول الضخمة تتسلق الجبل ببطأ  وتجرعربات مثقلة بالصناديق والبالات والبضائع الفواحة والسائقين والغبار والناس القادمين من مكان ما لابد أنه بهيج  . كل هذا أخذ  يعتصر قلبي مرة أخرى ، فينقبض من أمنيات حزينة وحلوة .
التفتُ الى ممر ضيق بين الحدائق ، ومشيت لفترة طويلة نحواحدى الضواحي ، التي يقطنها العمال والحرفيون والكسبة ، الذين كانوا في العادة  يخرجون الى الوادي في ليالي الصيف ، ويغنون بصوت عال ووحشي ورائع كجوقات الكنيسة ، أغاني قوقازية جميلة وحزينة . اما الآن فهم يطحنون . وهناك في الاطراف حيث الاكواخ  الخشبية الزرقاء والبيضاء بين الحدائق في بداية الوادي ، كانت سلاسل الطواحين تلمع ، ولكن في أعماق الوادي كان الجو قائظاً كما في المدينة . وسارعت إلى تسلق التل، نحو السهل المفتوح ، الذي كان ساكناً وواسعاً . كان السهل  كله على مدى البصر وأكوام القصب السميكة العالية تبدو ذهبية. وكان الغبار الكثيف يغطي  الطريق اللانهائي العريض , ويخيل للمرء  كأنه يرتدي حذاءين مخمليين , وكان كل شيء من حولي يشع ببريق خاطف   من أثر قرص الشمس المسائي الواطيء - الطريق والهواء والحصيد ، مرّ كهل اوكراني اسود من-لفحة الشمس , بحذاءين ثقيلين ، وبرتدي قبعة جلدية ، ويحمل لفة بلون حبوب الجاودار . وكان العكاز الذي كان يتكأ عليه يلمع كما لو كان زجاجيا . وكانت أجنحة الغربان المحلقة فوق الحصيد لامعة ومشرقة أيضاً ، ولابد من اتقاء هذا الحر والبريق بحوافي القبعة الساخنة . وبعيداًعند الافق تقريباً ، كان يمكن تمييزعربة يجرها زوج من الثيران بتثاقل وبطأ ، وكوخ حارس حقل بطيخ... آه لروعة هذا  الصمت والرحابة , ولكن روحي كانت تهفو نحو الجنوب ، وراء الوادي ، الى حيث رحلت هي
على مبعدة نصف ميل من الطريق كان ثمة منزل ريفي ، ذو سقف من القرميد الأحمر . هو عزبة الأخوين ( بافل وفيكتور تيمجينكوف )، مريدا تولستوي .توجهت الى هذا المنزل فألفيته خاليا. تطلعت من النافذة ، فلم أر أحداً ، بل سمعت طنين الذباب ، اسراب من الذباب على الزجاج وتحت السقف ، وعلى أواني الزهور الموضوعة على بسطة النافذة .
كانت ثمة زريبة للحيوانات ملحقة بالمنزل ، ولكني لم أجد فيها أحداً . كانت بوابتها مفتوحة ، والشمس تلفح الفناء الغارق في السماد . وعلى حين غرة سمعت صوتاً أنثوياً يسأل .
-        الى أين أنت ذاهب ؟
التفتُ ، فرأيت زوجة زوجة تيمجينكوف الأكبر أولغا سيميونوفنا ، جالسة على  الجرف المطل على الوادي ،على حافة حقل البطيخ . ودون أن تنهض مدت لي يدها ، فجلست بجوارها  ، وقلت وأنا أنظر في وجهها مباشرة:
- هل أنت ضجرة ؟
          اطرقت رأسها ، وجعلت تنظر الى قدميها العاريتين .أمراة صغيرة مدبوغة بأشعة الشمس ، في قميص متسخ  و تنورة بالية مصنوعة من قماش اوكراني محلي الصنع .         كانت أشبه ببنت صغيرة أرسلوها لحراسة  اشجار الكستناء  ، وقضت قي حزن يوما مشمساً طويلاً ، وكان وجهها أشبه بوجه فتاة مراهقة من قرية روسية .ولكني لم أستطع أبدا أن اعتاد على ملابسها ، وعلى حقيقة أنها تخوض في الروث والحصيد الجاف حافية القدمين ، حتى أنني خجلت من النظر الى قدميها .وهي نفسها كانت تضمهما وتختلس النظر الى اظافرها التالفة . وكانت قدماها صغيرتين وجميلتين .
-       ذهب زوجي الى الطاحونة  القريبة ، ورحل فيكتور نيكولايظيج  .., أعتقل بافلوفسكي مرة اخرى لرفضه الالتحاق بالجيش . 
-       هل تتذكر بافلوفسكي ؟
-       قلت على نحو آلي :
-        - أتذكر
-       وصمتنا ونظرنا لفترة طويلة الى زرقة الوادي ،والى الغابات والرمال ، والى الأفق الذي يدعونا بكآبة .
-       وكانت الشمس ما تزال تدفئنا ،وتدفأ أيضاً ثمارالبطيخ المستديرة الثقيلة الجاثمة بين سيقانها الصفراء الطويلة الملتفة  كالثعابين .
-       
أبتدرتها :
-       - لم لا تصارحينني  وتكبتين مشاعرك ؟
-        أنت تحبيني
-       تكورت , وسحبت ساقيها و أغمضت عينيها ، ثم ازاحت خصلات شعرها عن خدها وقالت  بنبرة حاسمة وهي تبتسم :
-       - أعطني سيجارة .
-       اعطيتها السيجارة، فسحبت نفسين عميقين ، ثم سعلت ورمت السيجارة بعيدا وقالت وهي تفكر :
-       _ أنا جالسة هنا   منذ الصباح , يأتي الدجاج لتنقرالبطيخ هنا , لا أدري لم يخيل اليك أن هذا المكان ممل ,أنه يروقني للغاية .
-       فوق الوادي على مبعدة ميلين من القرية توقفتُ عند الغروب . نزعتُ قبعتي , وأخذتُ من خلال الدموع أتطلعُ الى الافق ... الى مكان ما بعيد , تراءت لي مدن جنوبية قائظة  ومساء أزرق وصورة أمرأة ما  تتداخل مع صورة  الفتاة التي أحبها , بيد أني اضفت على الصورة  في سري ، ذلك الحزن الطفولي الذي كان في  عيني تلك المرأة الصغيرة  في تنورة من قماش محلي الصنع .
-         


28
في أحد الشوارع المألوفة

قصة قصيرة للكاتب ايفان بونين
ترجمها عن النص الروسي وقدم لها : جودت هوشيار
كلمة تقديم
هذه القصة فريدة من نوعها ، حيث يتداخل فيها النثر الفني والشعر، على نحو لا يمكن الفصل بينهما ، دون الأخلال بسياقها ، وبنائها ، وقيمها الجمالية العالية .
قصص بونين أشبه بالشعر المنثور، بجمال لغتها ، ومعمارها الفني المحكم  ، بحيث لا تستطيع أن تحذف كلمة واحدة من أي نص سردي له دون أن يترك فراغاً  ، أو تستبدلها ، دون أن يتشوه المعنى .
 ولا ننسى أنه بدأ حياته شاعراً مجيدا ، ونال أهم جائزة أدبية روسية في العهد القيصري ، وهي جائزة " بوشكين " في عام 1903 عن ديوانه " سقوط أوراق الشجر " ، ونال الجائزة ذاتها للمرة الثانية في عام 1909 عن الجزئين الثالث والرابع من مجموعة مؤلفاته الكاملة .،وانتخب على إثرها عضواً فخرياً في اكاديمية العلوم الروسية . وظل طوال حياته الأبداعية يكتب الشعر أحياناً ، ولكنه معروف في المقام الأول ككاتب قصصي من طراز رفيع . ويشكل مدرسة متميزة في فن القصة القصيرة ، كسلفه العظيم أنطون تشيخوف . 
إن الحب العارم، لا يمكن أن يدوم طويلاً ، أو يكون له نهاية سعيدة . واذا إنتهى بالزواج –على أحسن الفروض – يكون حال الزوج ، كما جاء في المثل الفرنسي : " من يتزوج عن حب ، تكون لياليه طيبة وأيامه تعيسة ". وهذا ما كان يؤمن به بونين ، وقال - في أكثر من مرة – إن الحب الحقيقي ، هو ذروة التوهج
العاطفي . ولا يمكن للأنسان البقاء في هذه الذروة لفترة طويلة ، فظروف الحياة يمكن أن تفرق بين الحبيبين في أي لحظة ، وقد ينقلب الحب بمرور الزمن الى ملل وكآبة ورتابة . وكما يقول بايرون " غالباً ما يكون من الأسهل الموت من أجل الحبيبة ، من العيش معها ".
في هذه القصة ، كما في العديد من أعماله الفنية، وخاصة مجموعته القصصية الرائعة " الدروب الظليلة " مشاهد ايروتيكية ، ولكن بونين يعرف ، كيف يختار كلماته المعبرة عن الحب اللاهب ، دون ان ينزلق الى مهاوي الأبتذال .، ويعرف جيداً الحد الفاصل بين " الأيروتيكا" الراقية وبين " البورنوغرافيا " الرخيصة ، التي لا تتطلب موهبة حقيقية ، أو مهارة فنية .
بطل القصة – وهو مغترب روسي مسن ، يتذكر- وهو يمشي على رصيف بولفار باريسي -  قصة حب عارم بينه وبين فتاة فقيرة من عامة الشعب ، قبل عدة عقود من الزمن ، عندما كان طالباً في موسكو . ويبدو من وصف البيت الخشبي والجرس المربوط بالسلك ، والفنارات ، أن البطل يعود بذاكرته الى العهد القيصري ، في أواخر القرن التاسع عشر . ومن الواضح أنه يستعذب ذكرياته  الحميمة ، ويجد فيها سعادة حقيقية ، يفتقدها ، في شيخوخته في بلاد الغربة. فهي ( الذكريات ) سعادة قصوى. لأن ذكرى الماضي تنير روح البطل وتسمو بها .
عندما كتب بونين هذه القصة في عام 1944 كان في الرابعة والسبعين من عمره ويعيش في مدينة بجنوب فرنسا ، مختبئاً عن عيون رجال الجستابو ، خلال الأحتلال الألماني لفرنسا ، ويمر بضائقة مالية شديدة ، ولم يكن قد بقي شيء يذكر من قيمة جائزة نوبل في الآداب ، التي حصل عليها في عام 1933 . وكان يعيش على دخل شحيح يأتيه من كتبه المترجمة الى الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى . ان المعنى الحقيقي لهذه القصة ، هو أن البطل انما يحاول التغلب على مصاعب الحياة بأستعادة أسعد لحظات حياته .
القصة
في ليلة خريفية باريسية ، كنت أمشي في بولفار خافت الضؤ ، داكن من الخضرة الكثيفة النضرة ، حيث الفنارات تحتها تشع ببريق معدني - وانا أحس بالشباب والبهجة ، وأردد بيني وبين نفسي :
في شارع مألوف
اتذكر منزلا قديماً
فيه سلم عال معتم
 ونوافذ مسدلة الستائر
ابيات  رائعة ! ومن عجب ، ان كل هذا قد حدث لي ايضا في زمن ما .
موسكو . منطقة بريسنيا . شوارع مثلوجة مقفرة . بيت خشبي صغير ،  وانا الطالب ، ذلك الأنا ، الذي لا اصدق الان له وجوداً .
كان هناك ضوء غامض
يومض حتى منتصف الليل
وفي البيت الخشبي ايضا ، كان ثمة ضوء يومض وعاصفة ثلجية تهب ، والريح تجرف الثلوج من على سطوح البيوت الخشبية ، فتلتف كالدخان المتصاعد ، وتضيء ما وراء الستارة القطنية الحمراء .
آه ، يا لها من فتاة معجزة ،
 تهرع للقائي في ذلك البيت
في ساعة أثيرة
محلولة الجدائل
وهذا ايضا حدث لي. إبنة شماس في مدينة سيربوخوف ، تركت عائلتها الفقيرة وجاءت الى موسكو للدراسة ... وها أنا اصعد الى الشرفة الخشبية الأمامية المغطاة بالثلوج ، وأسحب حلقة الجرس . الممدود نحو المدخل . الجرس يرن وراء الباب .اسمع وقع خطوات متقافزة تنزل من السلم الخشبي الشديد الانحدار .تفتح الباب ، فتهب عليها رياح العاصفة ، وعلى شالها ، وبلوزتها البيضاء ... كنت أهرع الى تقبيلها وأحضنها وأصد الرياح عنها . ثم كنا نركض الى الاعلى في البرد القارس ، وعتمة السلم ، الى غرفتها الباردة ايضا ، المنارة بمصباح نفطي ، شاحب الضؤ . الستارة الحمراء على النافذة ، وتحتها منضدة عليها هذا المصباح.  قرب الحائط  سرير حديدي كنت القي عليها معطفي وسترتي ، كيفما إتفق ، وأخذها عندي ، واجلسها على ركبتي ، وانا جالس على السرير ، واحس من خلال التنورة بجسدها ، وبعظامها .
لم تكن ضفائرها محلولة ، بل كان لها شعر أشقر مجعد ، ووجه فتاة من عامة الشعب ، شفاف من الجوع , وعيناها ايضا كانتا  شفافتين فلاحيتين ، وشفتاها رقيقتين، كالتي تكون عادة عند الفتيات الواهنات .
تلتصق بشفاهي
ليس على نحو طفولي
بل متوقدة كالناضجات
وتهمس في أذني مرتعشة
أسمع !  دعنا نهرب  !
نهرب ! الى اين  وممن ؟ يالروعة هذه السذاجة الطفولية " نهرب ! " .
 نحن لم يكن لدينا " نهرب " بل شفاه واهنة ، هي احلى شفاه في الدنيا . ودموع تطفر من عيوننا من فيض السعادة . وبسبب الاجهاد المضني للجسدين الفتيين كان كل واحد منا يضع رأسه على كتف الآخر . وكانت شفتاها تشتعلان ، كما في القيظ . عندما كنت أفك أزرار بلوزتها , وأقبل الصدر الحليبي البكر بحلمتيها الصلبتين , غير الناضجتين ... وعندما تستعيد وعيها ، تقفز وتشعل الطباخ الكحولي ، وتسخن الشاي فنشربه، ونحن نأكل الخبز الأبيض مع الجبنة ذات الغلاف الاحمر ، ونتكلم دونما نهاية عن مستقبلنا ، ونحس كيف  إن الرياح الباردة المنعشة تهب وراء الستارة ، ونسمع تساقط الثلوج على النافذة :
 " في شارع معروف أتذكر منزلاً قديماًً ".
ماذا أذكر ايضا ؟  أذكر أنني ودعتها  في ربيع تلك السنة في محطة قطار كورسك . كيف اسرعنا الى الرصيف مع سلتها المصنوعة من الصفصاف ، وبطانيتها الحمراء الملفوفة والمشدودة بالأحزمة  , ركضنا بمحاذاة القطار الطويل ، الذي كان على وشك التحرك, اذكر كيف صعدت أخيرا الى مدخل احدى العربات ، ونحن نتحدث قبل الوداع ، ونقبل ايدي بعضنا البعض ، وكيف وعدتها باللحاق بها في سيربوخوف بعد أسبوعين . لا أذكر أي شيء بعد ذلك . ولم يكن هناك شيء بعد ذلك أبداً .

29
كيف رسمت المس بيل خارطة العراق ؟

جودت هوشيار                   
             
عندما تم تقسيم الأمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى بموجب اتفاقية سايكس -بيكو، ووضع العراق تحت الانتداب البريطاني ، كتبت المس (غيرترود بيل) مستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس ، رسالة الى والدها في عام 1920 تقول فيها " كان عملى لهذا اليوم جيداً ، فقد قمت برسم الحدود الغربية ، والجنوبية الغربية للدولة ( العراقية ) المرتقبة ".
إن كل من يلقي نظرة على خارطة العراق الحالية سيلاحظ على الفور، أن الحدود العراقية مع كل من سوريا والأردن والسعودية هي خطوط مستقيمة تماماً رسمت بالقلم والمسطرة من قبل المس بيل  .
ويعتقد عدد كبير من المؤرخين و الباحثين و المفكرين  من جنسيات مختلفة ، أن خارطة الشرق الأوسط  الحالية بحاجة الى تصحيح ، وأن الأحداث العاصفة التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة وتداعياتها المتسارعة ، قد تؤدى الى أعادة رسمها من جديد ، بما يرفع الظلم الذى وقع على الشعب الكوردي.                                   
ان معظم الدول العربية فى المنطقة ، هى كيانات سياسية ، ظهرت الى الوجود فى خارطة العالم ، ليس نتيجة لعمليات ديموغرافية طبيعية ، ولم تكن تعبيرا جغرافيا  لما هو موجود على أرض الواقع ، بل فرضت بالقوة ، بعد أنتصار الحلفاء فى  الحرب العالمية الأولى وأنهيار الأمبراطورية العثمانية ، حيث قام اللاعبان الرئيسيان فى المنطقة وهما بريطانيا و وفرنسا  برسم خارطة الشرق الأوسط وتشكيل دول جديدة ورسم حدودها ، بما يضمن مصالحهما فى المقام الأول ،  دون الأخذ بنظر الأعتبار التمايز الأثنى و الدينى والتأريخى والثقافى لشعوب المنطقة.
لم تكن لهذه الدول المصطنعة وجود فى الأمبراطورية العثمانية ، حتى على شكل ولايات أو وحدات أدارية - جغرافية منفصلة . فعلى سبيل المثال ، كانت المساحة التى تشغلها  سوريا حاليا مقسمة .الى اربع وحدات ادارية منفصلة تأخذ بعين الأعتبار الأختلافات الواضحة بين مكوناتها  . وبعد الأحتلال الفرنسى في العام 1919 ، تم توحيدها كمحمية فرنسية واستقلت فى عام 1946 ، رغم وجود تناقضات كثيرة فيها .. أما لبنان ،فأنه ،  خليط صاخب من المسلمين الشيعة والسنة والمسيحيين المارونيين و الدروز والأرمن والكورد وغيرهم  ، ويعيشون فى جيب لا يتجاوز مساحته 10 آلاف كيلومتر مربع ، و يحاولون حل ما لا يمكن حله وهو تقاسم السلطة في ما بينهم.
اما تأريخ تشكيل دولة الأردن كوحدة سياسية مستقلة ، فأنها أكثر غرابة و تتناقض مع شروط عصبة الأمم ، التى تم بموجبها وضع فلسطين تحت الوصاية البريطانية . هذه المملكة أخترعت على عجل للعائلة الهاشمية القادمة من الحجاز .أما الغزو البريطانى للعراق ومن ثم تشكيل الدولة العراقية ، فأنه يمثل بحق قمة الغطرسة الأمبريالية بأسوأ صورها والأستهانة بالحقوق المشروعة للشعب الكوردى .
في 12 آذار سنة 1921 ، عقد مؤتمر في القاهرة واستمر أسبوعين برئاسة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل. وحضره كبار الضباط والاداريين الانكليز العاملين في مناطق الانتداب. وناقش المؤتمر « تحديد مستقبل الولايات الثلاث في ما كان يعرف بـ" ما بين النهرين " وهى البصرة وبغداد والموصل، وأختيار شكل النظام السياسي ورئيسه، وبتعبير آخر، كان على بريطانيا إعادة تنظيم علاقاتها السياسية والمالية والعسكرية مع العراق العربي وكردستان الجنوبية الواقعين ضمن انتداب "ما بين النهرين " 
كان وزير المستعمرات ونستون تشرشل يخشى من تجاهل مشاعر الكورد ، واضطهادهم على يد حاكم شريفي مدعوم بجيش عربي ، ونادى بفكرة كردستان جنوبية منفصلة سياسيا عن الدولة العربية في بغداد, وقرر المؤتمر عدم إلحاق كردستان الجنوبية بالدولة العربية، وان يدار الإقليم كحزام أستراتيجي من قبل المندوب السامي ، عبر موظفين ميدانيين حتى الوقت الذي يستطيع فيه الكورد ، تحديد مصيرهم السياسي في المستقبل . وقد صادق رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج على قرارات مؤتمر القاهرة بخصوص كردستان الجنوبية.
فى عام 1921  تشكلت الدولة العراقية من ولايتين عثمانيين منفصلتين هما ولايتى بغداد والبصرة فقط ، ولكن حكومة المحافظين الجديدة ، التي تشكلت بعد فترة وجيزة من انتهاء مؤتمر القاهرة ، تخلت عن قرارات المؤتمر المذكور وعملت بحلول سنة 1923 على الحاق ولاية الموصل ( كردستان الجنوبية ) بالدولة العراقية ، ، بعد أدراكها أهمية نفط كركوك ومنافعها الأقتصادية لبريطانيا والدولة الوليدة في آن معاً ، خاصة ان النفط لم يكن مكتشفاً ،حتى ذلك الحين سوى في موقعين أثنين هما كركوك وخانقين وكلاهما كانتا ضمن ولاية الموصل المتنازع عليها بين بريطانيا وتركيا .
بقع النفط كانت  ظاهرة على سطح الأرض في منطقة ( بابا كركر)  منذ زمن سحيق ، مما سهل عمل خبراء الجيولوجيا الذين جلبتهم بريطانيا ، من فنزويلا ، والمكسيك ، ورومانيا ، والهند الصينية ، لأغراض الأستكشاف والتنقيب وتحديد اماكن حفر الآبار . وفي 14 اكتوبر/ تشرين أول سنة 1927 تدفق النفط بغزارة من اول بئر نفطي الى علو 43 متراً ، وتم انتاج حوالي ( 100 ) آلف برميل خلال عشرة أيام . ومنذ ذلك التأريخ ، اصبح نفط كركوك جزءاً من المعادلة السياسية  في العراق . وتحدد في الوقت نفسه مصير مدينة كركوك ولو الى حين .
  واجهت الدولة الوليدة مشاكل جمة حيث لم يألف سكان الولايات العثمانية الثلاث ( الموصل ، بغداد، البصرة) كيانا سياسيا متماسكا من قبل ، وكانت الولايات الثلاث تتميز بخصائص اثنية وطائفية خاصة تختلف كل منها عن الأخرى. وكان الإسلام هو الرابط الرئيس بين هذه الولايات الثلاث ولكن الدين وحده لم يكن كافيا في ذلك الوقت لتوحيدها . وتتجلى هذه الخصائص المتميزة بين العراق العربي وبين كردستان الجنوبية بشكل صارخ ، فأصل الكورد ولغتهم وتأريخهم وثقافتهم ، لا علاقة لها بالساميين العرب و تنتمي لغتهم الى عائلة اللغات الهندو - أوروبية ، وتشكل نمط حياتهم وثقافتهم على مدى التأريخ في ظروف مختلفة . و يقول بعض المستشرقين ، أن ثمة تشابه بين الكرد والأرمن فى التقاليد و فى الموروث الشعبى عموما  أكثر بكثير من التشابه بين الكورد والعرب..
ويجد المتتبع لتأريخ تلك الفترة الحاسمة في تأريخ العراق، أن الكورد عارضوا الحاق كوردستان الجنوبية بالدولة العربية الجديدة ودعا زعماؤهم الى إنشاء دولة كوردية مستقلة .
  يتبين مما تقدم ان الدول والكيانات المصطنعة  من قبل الحلفاء ، لم تكن  قادرة على الأستمرار فى الحياة والمحافظة على حدودها الحالية الا بوجود نظم دكتاتورية قمعت الشعوب الخاضعة لها بالحديد و النار  .
بعد مائة عام  تقريبا على ابرام تفاقية سايكس - بيكو ، الشرق الأوسط يغلى من جديد ، ولن يشهد الأستقرار المنشود ، الا بعد تحرر شعوبها وحصولها على حقوقها المغتصبة . فالشعوب غير العربية ، ليست أقليات فى الشرق الأوسط ، بل شعوب عريقة تعيش فوق أراضى الآباء و الأجداد . ومن يعيش على أرضه ، لن يكون أقلية ، حتى اذا تم ضمه بالقوة الى شعوب أكثر عددا .
الواقع الجديد يفتح الأبواب على مصاريعها ، لتهب منها رياح التغيير ،التى لن يستطيع أحد بعد اليوم ، الوقوف أمام تيارها الجارف . وقد حان الوقت لأعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط  حسب مصلحة شعوبها وليس الأستعمار الذي لم يعد له وجود .
 


30
كامارغ *
 قصة ايفان بونين**
ترجمها عن النص الروسي
جودت هوشيار


صعدت الى عربة القطار في محطة صغيرة تقع بين مارسيليا وأرل . وسارت في ممشى العربة وهي تتلوى في مشيتها , فيرتج جسدها الغجري – الأسباني كله . جلست بجوار النافذة على مقعد منفرد ، وكأنها لا ترى أحدا ، ثم أخذت تكرّز الفستق المحمص .وبين حين وآخر ترفع طرف تنورتها السوداء العليا لتدس يدها في جيب التنورة الداخلية البيضاء البالية.
العربة ملأى بالناس البسطاء ولا توجد فيها قمرات منفصلة بل صفوف متراصة من المصاطب , وكان عدد من الجالسين قبالتها يحدقون فيها من وقت لأخر بنظرات نافذة.
كانت شفتاها تنفرجان فتكشفان عن صفين متناسقين من الاسنان البيضاء النضيدة . وفوق شفتيها زغب خفيف ضارب الى الزرقة يتكثف عند زاويتى فيها , كان وجهها الاسمر الغامق , الدقيق التقاطيع ،الذي يضيئه الق اسنانها بدائياً ووحشياً ، وعيناها اللتان تميلان الى الأستطالة كانتا في لون اللوز المشوب بالصفرة الذهبية ونصف مفتوحتين ، تحت جفون بنية غامقة , تنظران بطريقة ما الى داخل ذاتها بعين فاترة ذابلة في استرخاء بدائي لذيذ .
شعرها الفاحم السواد الذي كان مفصولا بمفرق يتدلى بجدائل مجعدة على جبهتها الواطئة وبمحاذاة جيدها كانت الاقراط الفضية الطويلة تلمع ، وشالها الباهت الأزرق ، مسدلا على كتفيها المستديرتين بعقدة جميلة على صدرها . كانت يداها اليابستان الهنديتان ذات أنامل موميائية وأضافر فاتحة اللون , وظلت تقشر حبات الفستق بسرعة وحذق القرود بحيت أتت عليها كلها. نفضت القشور عن ركبتيها ، ثمّ أغمضت عينيها ،ووضعت ساقا على ساق ، واستلقت على ظهر المقعد , ومن تحت تنورتها المطوية بدا قدها الاهيف المشدود بالغ الروعة ، وردفاها بارزتين كنتؤين صلبين بخطوط منسابة , كانت تنتعل خفا مصنوعا من قماش أسود ومشدودا بشرائط ملونة ، زرقاء وحمراء ، وتبدو من خلالها ، قدمها النحيفة العارية المدبوغة بالسمرة .
غادرت العربة قرب محطة ارل , قال جاري بحزن - لسبب ما - وهو يودعها بنظراته :
- أنها كامارغية
كان جاري رجلاً من بروفانس ، ضخم الجسم ،ً وقويا كالثور ، وقد احتقنت خداه بالد م .
..............................................
* كامارغ : منطقة رائعة في دلتا الرون ، فيها العديد من البحيرات المالحة والمراعي الخلابة، وبعض من أروع الشواطيء في جنوب فرنسا .
** إيفان بونين ( 1870 – 1953 ) روائي وقصصي كلاسيكي عالمي ، وأول كاتب روسي يحصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1933

31
هل مات الأدب الروسي ؟ 

جودت هوشيار                              

تراجع الأدب الروسي - بعد تفكك الاتحاد السوفيتي - عن موقعه المتقدم في العالم عموما ، وفي العالم الناطق بالإنجليزية خصوصاً. ويقال ان القاريء الأميركي - من الجيل الجديد - يكاد يجهل هذا الأدب تماماً ، ولا يستطيع أن يذكر اسم كاتب روسي معاصر واحد. والسبب الرئيسي لهذا التراجع هو ان الادب الروسي اصبح اليوم ادباً محلياً بكل معنى الكلمة .
الأدب المحلي الذي يكون مفهوما وقريبا من شعب واحد فقط  ، وغير ممتع بالنسبة الى بقية االشعوب ، يتحول – في أفضل الأحوال -  الى مجرد مصدر لعلماء
الأنثروبولوجيا ولا يهم القاري الأجنبي . أما الأدب المحلي ، الإنساني الطابع ، الذي بعبر عن روح العصر ، ويثير أحاسيس مشتركة بين البشر وتجاوباً فكرياً يتفاعل في  كل بيئة مجردة من المكان والزمان ،فهوالذي بجذب انتباه القاريء بصرف النظر عن العرق والمعتقد واختلاف الثقافات .
نتائج غير متوقعة لألغاء الرقابة
مما يثير الدهشة حقاً ، ان الغاء الرقابة واطلاق حرية التعبير والنشر ، في اواخر حقبة (البريسترويكا ) لم يؤد الى ازدهار الأدب الروسي المعاصر، كما كان متوقعاً  ، بل على النقيض من ذلك أدى الى شيوع أدب التسلية الجماهيري الإستهلاكي ،  وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الرقابة أمر مفيد ، لأن ثمة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية  وراء ظاهرة الأدب المحلي الأستهلاكي وفي مقدمتها عزوف السواد الأكبر من الشباب عن قراءة الكتب الجادة المطبوعة وتفضيل الكتب الألكترونية أو سماع تسجيلها الصوتي عبر الأجهزة الذكية ، فالسماعات لا تفارق الشباب الروس حتى في عربات المترو في موسكو وسان بطرسبورغ .
الأدباء الذين كانوا ينشرون نتاجاتهم سراً داخل البلاد ( أدب الأندر غراوند ) كما  يسميه الروس ، لم يعد لديهم ما يعارضون به العهد الجديد ، وأدب ( الواقعية الأشتراكية ) عفا عليه الزمن ، وطوى النسيان أغلب كتّابه البارزين ،الذين كانوا نخبة صغيرة مرفهة في العهد السوفيتي ، تتمتع بامتيازات شبيهة بامتيازات القادة السياسيين في المكافآت والسكن والمعالجة في مستشلفيات خاصة ، وارتياد المنتجعات الجميلة على البحر الأسود صيفا ، ودور الراحة في المناطق المشمسة ذات المناخ المعتدل في جنوب البلاد شتاءاً . وكانت كتبهم المنشورة بأعداد هائلة تدر عليهم عائدات كبيرة . وبعد تعويم ( الروبل ) في عام 1992 فقدوا كل مدخراتهم التي تحولت الى أوراق لا قيمة لها. فعلى سبيل المثال كان الشاعر السوفيتي الشهير يغور إيسايف (1926 – 2013 ) - الحائز على أرفع جائزة أدبية سوفيتية لمرتين ، وهي جائزة ( لينين ) ، وعلى وسام بطل العمل الإشتراكي –له نفوذ كبير في اتحاد الكتّاب السوفيت ، وعضوا في هيئات تحرير كبريات المجلات الأدبية ، ولكنه وجد نفسه على حين غرة من دون عمل في العهد الجديد ، ومرّ بضائقة مالية شديدة ، بعد انهيار سعر الروبل ورفض دور النشر الخاصة الجديدة – التي حلت محل دور النشر الحكومية السوفيتية - نشر أي ديوان جديد له . كما أن المكافآت لقاء نشر قصائده في المجلات الأدبية أصبحت ضئيلة وتافهة ، لا تكفي لشراء كغم واحد من اللحم ، وعانى الأمرين في تحصيل ( لقمة العيش ) ، فلجأ الى تربية الدجاج في مزرعته في إحدى ضواحي موسكو لكسب ما يمسك عليه حياته وحياة اسرته . وتوقف عن كتابة الشعر .
ان مصير أغلب كتّاب الواقعية الأشتراكية لا يختلف كثيراً عن مصير الشاعر إيسايف ، وقد طواهم النسيان ، وأصبحوا في ذمة التأريخ .
 الادباء المهاجرون اخذوا ينشرون نتاجاتهم داخل روسيا ايضا ،وعاد العديد منهم الى الوطن بعد غيبة طويلة ، ومنهم الأدباء الذين اسقطت عنهم الجنسية السوفيتية. ولكن سرعان ما  زال سحرهم في العهد الجديد ، ،فإلإمبراطورية ، التي كانوا يحاربونها ، لم تعد لها وجود .
وجاء جيل جديد من الأدباء الشباب ، ضائع لا يعرف ماذا يريد ، وتحولت مهنة الكتابة الأستهلاكية الخفيفة الى تجارة رابحة ، لأولئك الذين يبحثون عن اسهل الطرق للحصول على المال ، و كانوا في السابق يمارسون مهناً اخرى ، ولا يفكرون يوما في إتخاذ الكتابة الأدبية مهنة لهم . ونزل الى الميدان الأدبي ضباط بوليس ورجال مخابرات متفاعدون ، يستمدون من خبراتم الوظيفية وتجاربهم الحياتية ، حبكات رواياتهم البوليسية والتجسسية  ولم يقتصر الأمر على الجنس الخشن ، بل اقتحمت صحفيات ونساء من شرائح ومهن شتى، وحتى ربات بيوت مجال الادب بسلاسل من الروايات الغرامية والبوليسية والخيالية ، التي لقيت رواجاً كبيرا لدى الجمهور الباحث عن ادب اللذة .
وفي الوقت الذي كان فيه الجمهور القاريء في الحقبة السوفيتية يتابع الإصدارات الجديدة لعدد محدود من الأدباء المعروفين ، ، ثمة اليوم مئات الأدباء من الجنسين - معظمهم في مدينتي موسكو و سان بطرسبورغ – وقد تحوّل كل منهم الى آلة لأنتاج رواية كل شهر أو شهرين للحصول على أكبر قدر من المال . وهم أعضاء في عدة  إتحادات جديدة للأدباء تشكلت بعد إلغاء اتحاد الكتاب السوفيت. وهي ( الإتحادات الجديدة )  تتناحر اليوم فيما بينها على ممتلكات الإتحاد السابق من بنايات ودور سكن في قرية الكتّاب (بريديلكينا) في ضواحي موسكو .
أدب الـ( غرافومانيا ) 
لم يعد للأدب الروسي صلة بالواقع ويتسم بطابع  شديد الغرابة بالنسبة الى القاريء الأجنبي ، وتسود فيه ما تسمى الـ( غرافومانيا ) ، أي هوس الكتابة السطحية التي غالبا ما تكون فضفاضة ومملة،  حول أحداث عادية وأبطال لا يتميزون بشيء .
البعض من اشهر الكتاب الأستهلاكيين الروس المعاصرين لا يجيدون حتى اللغة الأدبية الروسية ، ونتاجاتهم مكتوبة بلغة سوقية أسوأ من لغة الصحافة الصفراء ، مما ينم عن ذوق فاسد . ولولا البهارات الأيروتيكية مثل الوصف التفصيلي للعلاقات الحميمة وشتى أنواع التجارب الرذيلة لما قرأ أحد كتاباتهم .
أما الأدب الروسي الخالي من البهارات الأيروتيكية والعبارات الفاحشة – الذي يمكن إعتباره إمتداداً للتقاليد الأدبية الروسية -  فإنه يتناول عددا من القضايا ، التي لم تعد تهم القاريء الغربي. مثل التعصب القومي الروسي ، أو  العيش وفق معايير الكنيسة الأرثوذكسية ، أو الإنسان في مواقف استثنائية ( الحرب ، و المعتقل ) . ويقصد بالحرب هنا المعارك الطاحنة التي جرت بين الجيشين الأحمر والهتلري خلال الأعوام الأربعة الأخيرة (1941-1945) من الحرب العالمية الثانية ، التي يطلق عليها الروس اسم ( الحرب الوطنية العظمى ) . وقد كتب عنها عدد لا يحصى من الروايات والدواوين الشعرية في العهد السوفيتي . أما وصف جحيم المعتقلات ، ومعسكرات العمل الأجباري الشاق فلم يعد فيه أي جديد بعد روايات سولجنتسن و" حكايات كوليما"  لفرلام شالوموف.
وتحتل موضوعة تفكك الإتحاد السوفيتي والحنين الى المجد الأمبراطوري الغابر مساحة واسعة في الأدب الروسي الجديد - فما زالت الإمبراطورية حية في الأذهان ، وحتى في الروايات الخيالية -
لأن روسيا مرّت في العقدين الأخيرين بسنوات عصيبة، تغيرت فيها ، ليس اسلوب الحياة فقط ، بل المعايير الأجتماعية والقيمية والجمالية أيضاً .ولا أحد اليوم يعرف بمن يثق ، وبماذا يتفاخر ، وماذا يفعل ، وكيف يحيا لاحقاً. وثمة ثلاثة إتجاهات في هذا المجال :
- محاولة فهم ووصف ما حدث وما يحدث الآن ، على أنقاض الإمبراطورية المنهارة .
- التعبير الفني عن مجتمع استهلاكي وضياع المثل العليا التي كانت تستشرفها النخب المثقفة .
- الإنسان الروسي الجديد ، الذي يتعلق بأذيال المطامع المادية و لديه المال ووسائل الترفيه ، ولكن حياته كئيبة . وأخذ يتساءل من جديد – السؤال الروسي التقليدي - ما العمل ؟.
تراجع وانعزال
تشير الأحصاءات الحديثة  الى أن ما يترجم من الأدب الروسي الى اللغة الإنجليزية لا يتجاوز 3% من اجمالي الأعمال الآدبية الأجنبية المترجمة الى هذه اللغة الأساسية في عالمنا المعاصر . ويكفي أن نقول أنه خلال العقدين الأخيرين لم يدخل أي كتاب روسي الى قائمة جائزة  افضل كتاب أجنبي مترجم   .(Best Tpanslated Book Award)
في حين حصل عليها اعمال ادبية مترجمة الى الانجليزية من آداب بلدان اوروبا الشرقية الأخرى التي تحتل مكانة متواضعة في الأدب العالمي . 
وعموما فإن نصيب الأعمال الأدبية الروسية من الجوائز الأدبية العالمية والأوروبية – منذ انهيار الإمبراطورية - جد قليل ، رغم ان مشاهير الأدباء الأستهلاكيين الروس يحصلون بإستمرار على الجوائز الأدبية الروسية المتعددة  التي ، يصعب حصرها لكثرتها ،وتتحكم فيها دور النشر والإشهار الروسية الكبرى .
الروايات الروسية المعاصرة تنشر في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بأعداد قليلة من قبل دور النشر الصغيرة أوالجامعية ،وليس دور النشر الشهيرة  مثل ( بنجوين أو راندوم هاوس ، أو فارار وجيرو ) ،  ولا تعرض في المكتبات والمتاجر الشهيرة– ما عدا بعض روايات لودميلا  اوليتسكايا وميخائيل شيشكين – والأخير يقيم بشكل دائم في سويسرا -  بل في المكتبات الجامعية او على مواقع الأنترنيت  مثل موقع امازون .
أحياناً يمكن العثور على بعض روايات الخيال العلمي للكاتبين ( الروسيين ) بوريس اكونين وفيكتور بيليفين في هذه المكتبة او تلك ، ولكن ليس ثمة رواية روسية واحدة ضمن قوائم الكتب الأكثر رواجاً. والعالم لا يتابع نتاجات الكتاب الروس المعاصرين – كما كان الأمر في الماضي -  ولا يسوق كل النسخ المطبوعة منها رغم محدوديتها .
يقول اصحاب دور النشر  الروسية ، والكتاب الروس انفسهم ان ذلك ناجم عن ضعف الدعاية والترويج للأدب الروسي المعاصر في الدول الغربية. ولكن هذا الزعم غير دقيق بدليل ان الكتاب الروس الأستهلاكيين يقومون بتكليف المترجمين الغربيين بترجمة نتاجاتهم الى الأنجليزية ، كما يقومون بحملات دعائية مكثفة في الدول الغربية لترويج وتسويق نتاجاتهم ، ولم يبق في جعبتهم من سبيل الا وسلكوه لأغراء القاريء الغربي ، دون ان يحرزوا تقدما كبيرا في هذا المجال ، لأنهم يلحون عليه اقتناء وقراءة ما لا يحتاج اليه .
النقاد الروس - الذين يدورون في فلك دور النشر الروسية الكبرى – يعزون سبب ذلك الى السياسة ، ويقولون أن روسيا لم تعد عدوة أو منافسة للغرب ، ولهذا فالأدب الروسي المعاصر لا يحظى بإهتمام كبير في الغرب ، ولكن هذا تضليل متعمد ، الغرض منه الأيحاء بأن الأدب الروسي اليوم بخير ، وان السياسة الغربية الحالية ازاء روسيا هي التي تمنع انتشار الأدب الروسي في الغرب ، ولكننا نعلم أنه لا توجد أي رقابة على الأعمال الأدبية في الغرب ، لا يالنسبة الى الأدب الروسي ولا أي أدب آخر.، فمن يرتاد متاجر الكتب في العواصم الغربية يجد الكثير من الطبعات الحديثة للأعمال الأدبية لعمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي ( تولستوي ، دوستويفسكي ، تشيخوف ، تورغينيف ) . وكذلك العديد من الكتب المكرسة لتحليل الوضع السياسي الراهن في روسيا البوتينية . وهذا يقودنا الى استنتاج جلي وهو أن القاريء الغربي ما يزال مهتما بما يحدث في روسيا اليوم ، ولكنه لم يعد يهتم بالادب الروسي الإستهلاكي ، الذي لا يعبر عن الواقع الروسي الراهن .
بعد برودسكي وسولجنتسن لا يوجد كاتب أو شاعر روسي واحد يحظى بنفس القدر من أعجاب القراء في الغرب . الجمهور الذي يقرأ الأدب الروسي ، حتى اليوم ، يتألف أساساً من المهاجرين والمغتربين الروس في الدول الغربية ، وحفنة من المهنيين في كل بلد غربي ، ومعظمهم من أساتذة وطلاب أقسام اللغة الروسية أو الأدب الروسي ، وكذلك الأجانب من خريجي الجامعات والمعاهد الروسية. . 
يقول اصحاب دور النشر الغربية أنهم يريدون روايات روسية عن الواقع الروسي ، ولكن مثل هذه الروايات نادرة في الأدب الروسي المعاصر . ولم يظهر في روسيا خلال العقدين الأخيرين أي عمل أدبي ممتع ورفيع المستوى فناً وفكراً  ، يمكن أن يجذب انتباه القاريء الغربي العادي ، ويثير اهتمام النقاد الغربين ويدخل ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً ، كما هو الحال مع الأعمال الأدبية الخالدة  لعمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي.
مائة صنف من السجق وفكرة واحدة
اجرت  الصحفية والمترجمة  الفنلندية كريستينا روتكيرش – التي تكتب باللغتين السويدية والفنلندية - لقاءات صحفية مع احد عشر كاتبا روسيا مشهورا تحدثوا خلالها عن سيرهم الذاتية واعمالهم واساليبهم وتجاربهم في الكتابة ( بوريس اكونين ، يفجيني غريشكوفيتش ، أدوارد ليمونوف ، يوري ماملييف ، فيكتور بيليفين ، لودميلا بيتروشيفسكايا ، نينا سادور ، فلاديمير سوروكين ، تاتيانا تولستايا ، لودميلا اوليتسكايا ، ميخائل شيشكين )  . وقد جمعت روتكريش نصوص هذه اللقاءات في كتاب صدر قبل بضع سنوات في ستوكهولم باللغة السويدية بعنوان " لقاءات مع أحد عشر كاتبا روسياً "، ثم قامت بترجمة الكتاب الى اللغة الفنلندية ونشره تحت عنوان " مائة صنف من السجق وفكرة واحدة " . ان عنوان هذا الكتاب هو ( باروديا ) أي محاكاة ساخرة وتهكم على روسيا ، التي تسعى لبناء اقتصاد السوق . حيث تجد في متاجرها اليوم أصنافاً كثيرة من السجق ، الذي كان شحيحاً في الحقبة السوفيتية .ولكن الأدب الروسي يعاني اليوم من ظاهرة الـ( غرافومانيا )،  وشحة الأفكار الملهمة .. وبين احد عشر كاتبا لا يوجد من يكتب الأدب الحقيقي سوى شيشكين ، و اوليتسكايا ، التي يعرفها القاريء العربي بعد ترجمة روايتها الممتعة " سونيشكا" الى اللغة العربية . وهي روايتها الأولى التي نشرت في موسكو عام 1992 وترجمت الى العربية بعد حوالي ربع قرن . ولأولتسكايا روايات وقصص كثيرة ، وتحظى أعمالها بشعبية واسعة في روسيا والعالم حيث ترجمت الى أكثر من 25 لغة أجنبية ، وحصلت على عشرات الجوائز الروسية والأوروبية ، بينها جائزة " البوكر " في عام 2001.  .
شحة الأفكار والبؤس الإبداعي لنجوم الأدب الأستهلاكي هي نتيجة طبيعية لأنعزالهم عن الواقع الأجتماعي . هذا الواقع الحافل بالتناقضات الحياتية والإنسانية التي يمكن أن يستمد منها الكاتب الروائي والقصصي آلاف الحبكات الممتعة . ولكن للسوق قوانينها ، وهذا هو الحال في كل بلد يتحول فيه الأدب الى سلعة في السوق ، ولا يقتصر الأمرعلى روسيا وحدها.
 


32
مفارقات المشهد الأدبي الراهن في روسيا
جودت هوشيار        
كانت الدعاية السوفيتية لا تمل من تكرار مقولة مفادها ، ان الشعب السوفيتي  يتصدّر قائمة الشعوب القارئة في العالم ، في حين إننا نعلم  أن معدل القراءة في الولايات المتحدة الأميركية وانجلترا وفرنسا واسبانيا وألمانيا وايطاليا كان أعلى من الإتحاد السوفيتي قبل انهياره و من روسيا حالياً . ولكن يمكن القول ان الشعب الروسي – وليس السوفيتي -  كان اكثر الشعوب القارئة للأدب الجاد وإهتماماً بالثقافة العالية والفنون الجميلة . وربما كانت  ندرة أدب التسلية والخيارات الترفيهية الأخرى أحد أسباب هذا الأهتمام  ، ولكن ليس السبب الرئيسي بأي حال من الأحوال
كان الأدب  الرفيع دائماً أحد أهم روافد تكوين الشخصية الروسية ، والأدباء العمالقة من شعراء وكتّاب كانوا معلمي الشعب ، ويلعبون دوراً كبيراً في تشكيل القيم الروحية والفنية والجمالية للجمهور القاريء . وهذا الدور هو الذي دفع الشاعر يفغيني يفتوشينكو الى القول ان" الشاعر في روسيا أكثر من شاعر " . و هو عنوان قصيدة شهيرة  له ذهب مثلاً يتناقله الأدباء والمثقفون الروس كثيراً . ويمكن القول أن الكاتب في روسيا كان أيضاً أكثر من كاتب .
لقد اتيح لي أن أعايش ذلك عن قرب عندما كنت طالباً في موسكو في الستينات من القرن الماضي . كانت قيمة أي شخص تقاس الى حد كبير وخاصة عند الجنس اللطيف بمدى عمق ثقافته العامة واطلاعه على روائع الآداب والفنون الروسية والأجنبية ، وكان من الصعب نيل اعجاب أي فتاة أو سيدة اذا لم يكن  المرء مطلعا على النماذج الرفيعة للآداب والفنون . وتحضرني في هذا السيلق طرفة حقيقية بطلها زميل عراقي كان يواصل دراسته في موسكو . فقد سمع هذا الزميل أن أفضل طريقة لكسب اعجاب الفتيات الروسيات هي ان تحدثهن عن انهماكك في قراءة الروائع الأدبية ومناقشة مضامينها معهن . تفاخر زميلنا امام صديقته الجديدة  بأنه يعكف الآن على قراءة رواية " آنّا كارينينا " لليف تولستوي . والمعروف أن الكاتب العظيم استهل هذه الرواية  بالفقرة الشهيرة التالية: “كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها " وبطبيعة الحال فإن الفتاة كانت قد قرأت هذه الرواية الرائعة ، ربما أكثر من مرة ، لأنها ( الرواية ) كانت ضمن مادة " الأدب " في المرحلة الثانوية . قالت الفتاة على أمل أن تعرف انطباع الطالب الأجنبي عن رائعة تولستوي:
كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها"”
قال الطالب العراقي :
 - لم أصل بعد الى هذه الصفحة!
نظرت الفتاة اليه في دهشة وارتياب وتركته الى غير رجعة .
وقد اتسع نطاق الأهتمام بالأدب الجاد في الحقبة السوفيتية ليشمل الملايين من العمال والفلاحين الذين تعلموا القراءة والكتابة بعد فرض التعليم الألزامي .
ولكن النظام الشمولي كان يقمع المبادرات الشخصية وكان الادب عموما والمحظور منه خصوصاً بديلاً عن المعارضة السياسية الى حد كبير،  و يشكل عالما موازياً من الخيال أكثر رحابة، يستمتع القاري بالتجوال فيه و نسيان ما يعانيه من ضغوط نفسية وقمع للحريات الشخصية . و كان كل شخص شغوف بالقراءة  يتابع الأصدارات الثقافية الجديدة ، ويحاول بشتى السبل الحصول على نسخة من أي كتاب قيّم روسي أو أجنبي محظور ، ويلجأ أحياناً الى شراء الكتاب من السوق السوداء بأضعاف ثمنه الرسمي . فعلى سبيل المثال كانت نتاجات " فرانز كافكا " محظورة تماماً وغائبة عن الساحة الثقافية الروسية حتى سنة 1965 حين صدر مجلد يضم مختارات من رواياته وقصصه القصيرة المترجمة الى اللغة الروسية . وقد شاع خبر صدور الكتاب في موسكو بسرعة البرق . وفي اليوم المقرر لعرض الكتاب للبيع ،اصطف منذ الصباح الباكر طابور طويل من الراغبين في اقتناء نسخة منه امام كل متجر للكتب في موسكو . كان سعر الكتاب حوالي روبلين ، وقد نفد عشرات الألوف من النسخ خلال بضع ساعات .ومن حسن الحظ أنني  استطعت الحصول على نسخة منه بسهولة وان كان بثمن باهظ . كنت أعرف فتاة تعمل بائعة في " بيت الكتب " وهو اسم  أهم وأكبر متجر للكتب في وسط موسكو ، وكانت هي وسيلتي الرئيسية للحصول على الكتب الجديدة لأهم الكتاب والشعراء الروس والأجانب . قالت الفتاة أنها تستطيع الحصول على نسخة من كتاب كافكا بعشرين روبلاً ،  اذا كنتُ  راغباً في ذلك . دفعت الروبلات العشرين  وأنا سعيد وممتن  للفتاة ، واليوم كلما ممدت يدي الى هذا المجلد في مكتبتي الشخصية تذكرت على الفور (صديقتي) الجميلة بائعة الكتب في قلب موسكو.
   الرقابة الأيديولوجية والتحدي للمحظور
الرقابة الأيديولوجية المتزمتة على المطبوعات كانت – ويا للمفارقة –  تشكل الذائقة الأدبية لملايين القراء في روسيا ، و تقدم خدمة مجانية لمؤلف أي كتاب  تقوم بمنعه من النشر . فيلجأ صاحبه الى نشره في احدى الدول الغربية ، مما يؤدي الى حظر تداوله في روسيا وتوبيخ الكاتب ، وربما زجه في أحد المصحات العقلية أو النفسية أو طرده من البلاد ، وإسقاط الجنسية السوفيتية عنه . وفي الوقت نفسه كان هذا الحظر أفضل دعاية مجانية لكتابه. كانت النسخ المتسربة من الكتاب الى داخل البلاد  تعاد طباعته على الآلات الكاتبة اليدوية أو تستنسخ سراً بوسائل بدائية حسب تقنيات الأستنساخ في تلك الفترة ، كنوع من التحدي للمحظور ، وتنتشر انتشار النار في الهشيم . لأن القراء كانوا يعتقدون أن الكتاب المحظور لا بد أن يكون جيدا أو مثيرا في الأقل . وكانت النسخة الواحدة تنتقل من يد الى يد بين عشاق القراءة حتى تبلى تماما .
الأدب والصدمات الأقتصادية
في زمن التحولات السياسية العاصفة ، والفترات الإنتقالية المضطربة تتوحش المجتمعات ، وينعكس ذلك بشكل كارثي على حال الثقافة والأدب ومدى الأقبال على القراءة ، حيث يعزف الناس – ما عدا قلة من المحترفين  - عن قراءة الأعمال الأدبية ، ويصبح الأمن والخبز الشغل الشاغل للغالبية العظمى منهم وليس شراء وقراءة الكتب  . وهذه حقيقة صارخة تتجلى بأوضح صورها في كل بلد تعرّض الى تغيرات دراماتيكية في انتقال السلطة أو أزمات اقتصادية خانقة ، وروسيا ليست استثناءاً من هذه القاعدة.
بعد تفكك الإتحاد السوفيتي شهدت روسيا في مطلع التسعينات العصيبة  ضائقة اقتصادية خانقة  ، وانخفاضاً في مستوى معيشة عموم المواطنين ، ما عدا فئة قليلة من الأثرياء الجدد ، الذين تفننوا في الأستيلاء على ثروات البلاد وممتلكات الدولة بأسم الخصخصة . كان هذا في عهد يلتسن، الذي شهد تجربة العديد من الصدمات الأقتصادية الفاشلة، والإتجاه نحو اقتصاد السوق ، وفي الوقت نفسه كان زمن اطلاق حرية التعبير الى حد كبير ، وإلغاء الرقابة الأيديولوجية على المطبوعات  ، وإلغاء دور النشر الحكومية  ، وتأسيس دور نشر خاصة ، وقد تحولت هذه الدور بمضي الزمن الى مؤسسات لا يقتصر عملها على نشر الكتب وتوزيعها فقط ، بل الترويج على نطاق واسع لمنشوراتها عبر وسائل الأعلام ، والأنشطة ( الثقافية ) .
 الأسعار المرتفعة لأصدارات تلك الدور في ظروف الأزمة الإقتصادية أدى الى تدني معدل القراءة . وتشير الأستبيانات الحديثة الى أن 40% من الروس لا يقرؤون الكتب قط، و50% منهم لا يشترونها ، و 34% منهم ليس في بيوتهم ولو كتاب واحد ، و80% من المواطنين لا يقرؤون الصحف والمجلات الورقية . ويفض الجيل الجديد القراءة الخفيفة والسريعة على صفحات مواقع التواصل الأجتماعي . وفي كل عام يتقلص عدد متاجر الكتب في موسكو والمدن الأخرى وما تبقى منها تقوم ببيع اللوحات الفنية والهدايا والقرطاسية الى جانب الكتب ، التي ما زالت تشغل مساحة كبيرة  فيها بطبيعة الحال ، وأحياناً نجد أن جزءا من المتجر قد تحول الى مقهى مزود بخدمات ( الواي فاي ) .
الأدب الأستهلاكي
  عندما يزور المرء اليوم  متاجر الكتب الرئيسية في موسكو سيرى صفوفا طويلة منتظمة من الكتب الجديدة على الرفوف ، مما يوحي – لأول وهلة -  بغزارة الأنتاج الفكري والأدبي ،  وخاصة الروايات - ذات ألأغلفة الملونة اللامعة ، والعناوين الجذابة -  التي تحمل صور حسناوات في اوضاع مثيرة ، و مصاصي دماء ، ورجال عصابات يطلقون النار . أغلفة وعناوين لا تعكس في أغلب الأحيان مضامين تلك الروايات الرديئة، التي لا علاقة لها بالأدب الحقيقي بأي شكل من الأشكال. فهي تضم بين دفاتها قصصاً ملفقة عن ( بطولات ) عصابات الجريمة المنظمة ، أو مغامرات  بوليسية أو جاسوسية أو حكايات ايروتيكية عن مغامرات  نسائية في المنتجعات الصيفية . كتابات تهدف الى إثارة الفضول والدهشة بلغة سوقية متدنية.  ،وتتضمن الكثير منها وصفاً لشتى أنواع العنف والشذوذ الجنسي والإنحراف السلوكي والإختلال النفسي والعقلي ، وشتى اشكال الغرائبية الفجة ، البعيدة كل البعد عن الواقعية السحرية لأدب بلدان أمريكا اللاتينية. ومعظم ما تنشره دور النشر والإشهار الروسية اليوم هو من هذا النوع السطحي من الأدب الأستهلاكي  . والمشكلة لا تكمن في وجود مثل هذا النوع من الأدب، فقد كان موجوداً طوال تأريخ الأدب ، وهو موجود اليوم في كل أنحاء العالم ، بل ويتصدر المبيعات ، وخاصة الروايات الشعبية ( البوب أرت )  التي يقبل عليها الناس لتمضية الوقت في صالات الإنتظار ، وفي عربات السكك الحديد ، وعلى شواطيء البحر ،  ثم يرمونها في سلة المهملات . وفي العادة لا يهتم النقاد كثيراً بهذا النوع من الأدب ، رغم رواجه ، بل يتركز اهتمامهم على الأدب الجاد . ولكل من هذين النوعين جمهوره .  أما في روسيا فلا يوجد ما يقابل طوفان الأدب الرخيص ، فقد أخذ كل من هب ودب يؤلف القصص والروايات الهابطة كأسهل طريقة للحصول على المال  . ونظراً لقة الإقبال على القراءة فقد انخفض عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب ، بحيث لا يتجاوز عدة آلاف نسخة . وتدفع دور النشر الى المؤلف مكافأة  متواضعة تبلغ حوالي  (1000)  دولار عن رواية من مائة الف كلمة مثلاً . لذا يضطر المؤلف الأستهلاكي الى كتابة رواية كل شهر أو شهرين لسد نفقات معيشته وكثيرا ما يشتغل في مهن أخرى لا علاقة لها بالأدب . ما عدا شلة من نجوم الأدب الهابط الذين تتبناهم  دور النشر والإشهار التجارية الكبرى ، وتحولهم بفعل فنون الترويج والتسويق والتواصل الى ماركات رائجة في السوق .
جناية دور النشر على الأدب
أشهر كتاب الرواية في الأدب الروسي اليوم هم من صنع دور النشر الكبرى ،  التي يهيمن خبراؤها على لجان التحكيم للجوائز الأدبية ،  وتعمل ليل نهار حملات دعائية واسعة النطاق ، وعبر كل السبل لعدد قليل من الروائيين الإستهلاكيين والإحتفاء بهم ، ونشرالمقالات ( النقدية) المدفوعة الثمن عن أعمالهم ، واجراء المقابلات الصحفية  معهم . وقد اتقن هؤلاء(الكتّاب ) أنفسهم لعبة ( صنع كاتب شهير ) كماركة تسويقية رائجة ، فأخذوا يشاركون في االإحتفالات  والمهرجانات بالقاء كلمات أمام عدسات وسائل الإعلام ، ويلتقون بالجمهور القاريء في القاعات والنوادي وحفلات توقيع الكتب الجديدة ، وتقوم متاجر الكتب بوضع صورهم في واجهاتها ، كل هذا الجهد الدعائي الهائل يهدف الى تضليل المتلقي، والإيحاء له بأن هذا النوع من الأدب الرديء هو الأدب الحقيقي. فالميديا بشتى وسائلها الفعالة والمغرية هي سيدة الموقف ، تصنع الكتّاب المشهورين وتقدمهم طعما للقاريء الساذج . والروس اناس طيبون يثقون بالدعاية  التجارية المغلفة بمهارة .
ويلعب التلفزيون الروسي دوراً ممائلاً أو مكملاً  لدور دور النشر والإشهار ، فقد أصبحت قنواته العديدة ميدانا يصول ويجول فيه نجوم الأدب الأستهلاكي و النقاد المنافقون ،الذين تستضيفهم تلك القنوات ليتحدثوا عن أشياء ( مثيرة ) :  كيف يمضون أوقاتهم ، وماذا يأكلون ويشربون ، وأي الأزياء – من الماركات العالمية 
يرتدون . وكيف أن الحياة حلوة في المجتمع الإستهلاكي  . اما الذي لا يستطيع السكوت ويقول الحقيقة فلا فرصة امامه للظهور في التلفزيون .
التقد الأرتزاقي
من يطلع على مقالات ( النقاد ) الروس العاملين في خدمة دور النشر والإشهار ، ربما يتساءل بينه وبين نفسه : أيهما أسوأ الأدب الروسي الأستهلاكي أم النقد الإرتزاقي  المصاحب له  ؟ 
يفتقر المشهد الأدبي الروسي اليوم الى النقد الأدبي الحقيقي الذي خلق ليواكب الإبداع ، فهناك عدد كبير من تجار النقد الدعائي ، الذين يقومون بتدبيج مقالا ت في مديح فئة من الكتّاب المزيفين وتلميع صورهم بتكليف من تلك الدور . ليس في مقالات هؤلاء ( النقاد ) لا عرض لمحتوى العمل الأدبي ، ولا تحليل لمضمونه واسلوبه ، ولا تقييم لجوانبه الأيجابية والسلبية ، بل  كليشيهات مستهلكة من قبيل : " رواية رائعة " و " كاتب عبقري" و " اسلوب جديد " وما الى ذلك من العبارات الجاهزة، التي فقدت معناها الحقيقي في مثل هذه المقالات . ولا يوجد في  .روسيا اليوم سوى قلة نادرة من النقاد الذين يقومون بعرض موضوعي للأصدارات الجديدة.وتحليل مضامينها، وأساليب كتابتها . وهو نقد بنّاء يساعد القاريء في اختيار ما يستحق القراءة ، في هذا البحر المتلاطم من الأدب  الرديء.
ومثل هذا النقد البنّاء ، رغم ندرته يلقى ترحيباً من الجمهور القاريء الواعي الذي يميز بين الأدب الجاد والأدب الأستهلاكي  ، ولكن أصوات النقاد الحقيقين الهادئة تضيع  بين  ضجة الأصوات الصاخبة - للنقاد المزيفين ، والكتبة الأستهلاكيين أنفسهم - التي توهم القاريء بإن هؤلاء الكتبة ، هم الذين يمثلون الموجة الجديدة ( المبدعة ) في الأدب الروسي المعاصر . ولكن من هم أبرز ممثلي الموجة المزعومة ؟ . انهم مجموعة صغيرة لا يتجاوز عديدها عدد أصابع اليدين  بين  حوالي 750 روائيا وقاصا ينتجون الأدب الأستهلاكي . هؤلاء الكتبة المحظوظون يحملون  اسماء غير روسية ( بريليبين ، بيليفين ، أكونين ، وغيرهم ) من الطارئين على الأدب ، وهم يتفاخرون أنهم لا يقرؤون الأدب الكلاسيكي ، بزعم انتهاء صلاحيته ، بل انهم لا يمتلكون ناصية اللغة التي يكتبون بها ،  ولهذا تجد أن نتاجاتهم زاخرة بالأخطاء المضحكة - التي لا يرتكبها حتى تلميذ في المرحلة الإعدادية. من قبيل : " انفصل عن زوجته ، وأخذ يتعشى على معاش أمه " أو " أفرز الفلاح العرق بأعداد لا حصر لها " هذا ما كتبه  " زخار بريليبين " احد اشهر الكتاب الاستهلاكيين في روايته المعروفة  " سانكا ". ويزعم النقد المزيف أن نتاجات هذا الكاتب تعكس " فوضى الواقع " في حين انها لا تتعدى فوضى الكتابة كيفما أتفق  .
 هناك كاتب آخر أكثر مهارة من بريليبين اسمه فلاديمير سوروكين ولا يقل شهرة عن زميله صاحب " افراز العرق بأعداد لا حصر لها ".
سوروكين يشكل رواياته من مشاهد متنافرة ومتناقضة، و يستخدم قاموساً متدنياً لفظياً ومعنوياً يتضمن أحط الألفاظ والنعوت والشتائم ، وعلى نحو لا يختلف كثيراً عن الكتابات التي يدونها المراهقون على حيطان دورات المياه العامة. وهو مهتم فقط  بالنصف السفلي من جسم الإنسان ولا علاقة له  بالنصف العلوي أي بالعقل والقلب والعاطفة .
ثمة مثل روماني قديم يقول ان الورق يتحمل كل شيء ، ولكن مهما حاولت أن أنقل هنا مقاطع من كتابات سوروكين ، كأمثلة على انحداره الشائن ، و خوائه وضحالة فكره  ، فإن  قلمي لا يطاوعني . لأن كتاباته البورنوغرافية البذيئة  تفوح منها رائحة نتنة ومقززة تثير الغثيان .  اما بقية الشلة من نجوم الأدب الرديء  فهم لا يختلفون كثيراً عن بريليبين وسوروكين ..
أوجه الأختلاف بين الأدب الحقيقي والأدب المزيف
الكاتب الحقيقي يخلق عالمه الخاص ، والأدب الحقيقي يستمد قيمته من جماليته و تعبيره عن عوالم الأعماق ، وكونه شهادة إنسانية عابرة للزمان والمكان ، ففي أساس كل ادب حقيقي هناك سعي لفهم الحياة وادراك قضايا الوجود الأنساني وايجاد الشكل الملائم لأيصال ذلك الى الجمهور القاريء. اما اساس الأدب الأستهلاكي فهو انتاج سلعة قابلة للبيع والتسويق . وثمة فرق جوهري آخر بين هذين النوعين من الأدب  يكمن في اختلاف الدافع للكتابة ، الذي يحدد علاقة المؤلف بالجمهور القاريء . الكاتب الحقيقي صادق مع نفسه ومع الجمهور القاريء .ويقول الحقيقة دائماً  ويصطدم بالسلطة أحياناً .
 يزعم اصحاب دور النشر والإشهار الروسية  ان الأدب الجاد لا يلقى رواجاً تجاريا ، وهذا ادعاء باطل، لأن ثمة العديد من الكتاب الروس المشهورين لمعت اسماؤهم بعد نشر نتاجاتهم في الغرب وترجمتها الى عدد من اللغات الحية في العالم .
إن الدافع الأساسي لتغليب الأدب الهابط واكتساحه للمشهد الأدبي الروسي هو تخدير وعي الجماهير ، وإلهاء الناس عن همومهم الحياتية ، وزرع الأنانية في النفوس  وتحويل المجتمع الروسي الى مجتمع مادي استهلاكي ، لا يعنى كثيراً بالقيم الأنسانية والأخلاقية والجمالية ،
. الأصوات العالية اليوم في الساحة الأدبية الروسية،  ليس أصوات الكتاب المجيدين الذين لديهم ما يقولونه ، بل أصوات من تتاح لهم فرصة القول .، ولهذا السبب تحديدا ، فإن الأدب الأستهلاكي الروسي أشبه بأرشيف مستشفى للأمراض العقلية ، على حد وصف كاتبة و ناقدة روسية معروفة هي سفتلانا زامليلوفا . .
 الأدب الروسي الحقيقي المعاصر يقبع الآن في السراديب والأقبية ،أو ينشر في الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة .ولا يمكن القول أبداً ،ان ليس ثمة أدب حقيقي أو أدباء كبار في روسيا اليوم ،  فثمة العشرات منهم ، لكنهم وحيدون ومعزولون ومغيبون ، ليس اختياراً ، بل بفعل سياسة دور النشر الإحتكارية ، التي لا تهتم سوى بنجوم أدب التسلية ، ولكن تلك مسألة وقت فقط ، فروسيا زاخرة كالعادة باصحاب المواهب الأدبية الكبيرة الذين يحترمون ذواتهم ويربأون بأنفسهم عن مجاراة دور النشر التجارية وتقديم مواضيع محل الطلب . ويعملون  بكل جد لخلق أعمال أدبية جديرة بالتأريخ المجيد للأدب الروسي العظيم .
 


33
المنبر الحر / الشرفنامه
« في: 18:39 20/06/2017  »

الشرفنامه
بقلم المؤرخ زبير بلال إسماعيل
                 
ترك المؤرخ البارز زبير بلال اسماعيل (1938-1998) ارشيفا بالغ الثراء من المؤلفات والدراسات التأريخية القيمة، التى تنتظر التحقيق والنشر، وقد كتب مؤرخنا الجليل هذا المقاال لمناسبة مرور (400) عام على تأليف اهم مصدر عن تأريخ الكرد وكردستان على الأطلاق وهو كتاب ( الشرفنامة ) . وكان ضمن ارشيفه العلمى ، وليس لنا من جهد فى هذا الصدد ، سوى طباعة المقال ونشره ، ونأمل ان نكون قد وفينا جزءا يسيراً من فضل استاذنا ومؤرخنا الجليل ، الذي عمل بنكران ذات قل نظيره لخدمة التأريخ الكردي  ، ملتزما بالحياد العلمي والموضوعية في مؤلفاته القيمة . تحية وفاء وعرفان بالجميل الى روحه الطاهرة ... جودت هوشيار
......................................
الشرفنامه
بقلم المؤرخ زبير بلال إسماعيل
 
            المكتبة التاريخية الكردية متواضعة بصورة عامة ، لان معظم تاريخ الكرد لم يدون. وينطبق ذلك على تاريخ الكرد القديم والوسيط والحديث . فالتأريخ القديم يعتمد في الاساس على المكتشفات الآثرية والمادية وعلى ما كتبه الكتاب اليونان والرومان حول العصور القديمة المتأخرة , ولم يؤلف لذلك العصر بالنسبة الى الكرد سوى كتب قليلة وما ورد في تضاعيف وثنايا مدونات الرحالة والأثريين .
    أما بالنسبة الى التاريخ الوسيط الذي يلعب فيه الاسلام أبرز دور في تأريخ كردستان، بل والعالم , فقد ورد ذكر الكرد وأحداث متصلة بهم في المؤلفات العربية في التأريخ وفي كتب الرحلات والبلدانيين المسلمين , وهنا لا نجد ايضا" كتابا" قائما" بذاته منفردا" في الموضوع .
    ومع بداية العصر الحديث نرى عناية متزايدة بالكرد وبلادهم , فظهرت مؤلفات خاصة في تأريخهم وأهمها كتاب ( الشرفنامه ) لمؤلفه شرف خان البدليسي المتوفي سنة 1603م وهو باللغة الفارسية وقد ظهر بعد حوالي 600 عام بعد ( الشاهنامه ) أي أنه كتب بين عامى ( 1597 – 1599 م ) وقد أتم شرف خان الجزء الاول من كتابه في سنة 1005هـ / 1597م .
    ويبحث كتاب الشرفنامه في تاريخ الدول والامارات الكردية في العصور الوسطى والحديثة الى نهاية القرن السادس عشر الميلادي ، وفيه تراجم لملوك وسلاطين وأمراء وحكام من المستقلين والتابعين , ويعتبر أهم مصدر في تأريخ الكرد في تلك العصور المشار اليها . وقد استفاد منه المؤرخون الذين جاءوا بعد شرف خان مثل كاتب شلبي ، واوليا شلبي . والأخير رحالة تركي شهير الف كتاب ( سياحتنامه ) في سنة 1065 هـ وفيه قسم خاص بالكرد ترجمه الى الكردية الاستاذ سعيد ناكام
    نال كتاب الشرفنامه أهتمام الباحثين والقراء من الاجانب والكرد على حد سواء وكذلك أهتمام المعنيين بتاريخ الشرق , وفي الكتاب معلومات مهمة عن البلدان والقبائل واللهجات الكردية والدور المهم الذي لعبه الكرد في تأريخ الشرق الاوسط .
والشرفنامه اسم الكتاب منسوب الى شرف خان بن شمس الدين البدليسي ( 1542 – 1603 م ) المعروف بالامير شرف حاكم أمارة بدليس الكردية , وبدليس اسم مدينة و منطقة كبيرة تقع في غرب بحيرة ( وان ) وتتبعها مدن : مرش وكنج سعرت . وكانت ( بدليس ) مركزا" لإمارة توالى على حكمها امراء اسرة شرف خان فكان مؤلف الكتاب هو الامير الخامس المعروف بهذا الاسم من الاسرة الحاكمة، وكان من الامراء النابهين المصلحين , عنى عناية خاصة بالعمران والمعرفة ، وقد نشر كتاب الشرفنامه من بعده مرات عديدة وترجم الى لغات كثيرة .
    ترجم ( الشرفنامه ) الى اللغة الكردية الملا محمود بايزيدي في حوالي سنة 1858م ,والذى أراد ان يقلد شرف خان ويسلك طريقه فبدأ فيما توقف عنده شرف خان , فوضع في سنة 1274هـ / 1857م كتابه ( تاريخ كردستان الجديد ) المكون من ألف صفحة تقريبا" , ويمكن اعتبار هذين الكتابين بداية طيبة للمدرسة التأريخية الكردية . وبعد أقل من قرن جاء محمد أمين زكي فوضع كتابا " شاملا" في تأريخ الكرد وكردستان وأعتمد فيه على المصادر الاسلامية المختلفة وعلى أحدث ما توصلت اليه دراسات المستشرقين حول الكرد وبلادهم .
    لقد لقي كتاب ( الشرفنامه ) عناية خاصة من لدن المؤرخين والمستشرقين في اوروبا عامة وفي روسيا خاصة من لدن القسم الكردي في معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم في لينينغراد حيث بدأت ( يفغينيا فاسيليفا ) بترجمة الشرفنامه الى اللغة الروسية واتمت الجزء الاول منه وصدر في سنة 1967 وانهمكت بعد ذلك في ترجمة الجزء الثاني .
    وقد ذكر الدكتور كمال مظهر بان الكاتبة المذكورة استعرضت تاريخ إهتمام الباحثين بالكتاب فأشارت الى أن أول من ذكر شرفنامه هو ( هيربيلو ) في سنة 1776م في كتابه ( المكتبة الشرقية ) أو القاموس العام ، بالفرنسية . وكان هذا قد عرف الكتاب عن طريق احدى كتابات السائح التركي الشهير في القرن السابع عشر كاتب شلبي ومن بعده كان ( جون مالكولم 1769 – 1833 م ) الدبلوماسي البريطاني الذي عمل في الهند وإيران وهو أول أوروبي تمكن من الحصول على نسخة مخطوطة من الشرفنامه مع مخطوطات أخرى خلال اقامته في ايران .
 وبعد عشرين سنة نقل المؤرخ الفرنسي ( كاترمير ) كثيرا" من المعلومات من الشرفنامه الى كتابه المعنون ( تأريخ مغول ايران ) الذي ألفه في سنة 1836م .وكان ( خ. د. فرين ) أول روسي ذكر في سنة 1826م في احدى جرائد بطرسبرغ بأن الشرفنامه مصدر تأريخي هام . وبعد ثلاث سنوات دعا الى ترجمته الى إحدى اللغات الاوروبية . ويرى ( قناتي كوردو ) الباحث الكردي المعروف في كتابه ( كوردناسي ) الذي الفه عن الشرفنامه والمخطوطات القديمة المحفوظة في خزائن لينينغراد (بطرسبورغ حاليا ) وصدر عام 1972م في لينينغراد ( ص 386 – 387 ) بأن : ( م فولكوت ) هو اول من رأى و وصف هذه المخطوطات في عشرينات القرن التاسع عشر في عدة صفحات وان ( خ. د. فرين ) أول شخص في حوالي هذه الفترة تحدث أيضا" عن أهمية نشر وترجمة (الشرفنامه) .
    واستطاع المستشرق الروسي ( زيرنوف ) عضو الاكاديمية الروسية في ( بطرسبورغ ) أن يصدر الجزء الاول من الشرفنامه في سنة 1860 بلغته الفارسية ، وقدم لهذا الجزء بمقدمة ضافية باللغة الفرنسية ، ثم أصدر الجزء الثاني الذي قدمه أيضا" بمقدمة فرنسية في سنة 1862 م. ويقع جزءا الكتاب المطبوع" في حوالي الف صفحة .
    ونسخ الشرفنامه المخطوطة تبلغ ( 22 ) نسخة موزعة في مكتبات العالم المعروفة ، وحسب المعلومات التي جمعتها ( فاسيليفا ) : ان أقدم وأهم واكمل نسخة مخطوطة منه هي تلك النسخة التي دونها شرف خان بخط يده تحت اسم ( شرفنامي تاريخي كوردستان ) وهي محفوظة في مكتبة ( بودليان ) في اكسفورد وتقع في ( 246 ) صفحة , واكملها مؤلفها سنة 1005هـ 13 آب 1597م . واكمل الجزء الثاني من الكتاب في مايس 1599م . والنسخة الاخرى المهمة من الكتاب هي النسخة المخطوطة المحفوظة في المكتبة العامة في لينينغراد ويرجع تأريخها الى سنة 1598 م حيث إطلع المؤلف بنفسه عليها و وضع عليها ختمه .
    وهذه النسخة غنمها الجيش الروسي سنة ( 1826 – 1828م ) في حربه مع الفرس حيث نقل من أردبيل من مكتبة الصفويين الى بطرسبورغ وكانت الشرفنامه أحدى مخطوطات هذه المكتبة .
    ترجمات الشرفنامة
    إن اقدم ترجمة للشرفنامه كان الى اللغة التركية ، حيث ترجم مرة مختصرا" واخرى بصورة كاملة . والترجمة الاولى قام بها ( محمد بك بن احمد بك ميرزا ) في سنة 1078هـ 1667 – 1668م , والثانية قام بها سامي في ثمانينات القرن السابع عشر .
    وبعد حوالى (200 ) سنة ترجم الملا محمود البايزيدى الجزء الاول من الكتاب الى اللغة الكردية وذلك في سنة 1858 – 1859م بتشجيع من المستشرق المختص بالدراسات الكردية( الكسندر ذابا ) الذي تمكن عن طريق البايزيدي الحصول على كثير من المخطوطات الكردية المحفوظة الآن في المكتبة العامة بلينينغراد .
    وفي هذا الوقت تقريبا" ترجم الكتاب في فينا ( النمسا ) الى اللغة الالمانية من قبل ( ك. آ. بارب ) ونشر بصورة متسلسلة في سنوات 1853 – 1859 م ، ثم جاء البروفيسور ( ف. ب. شارموا ) وترجم الكتاب بكامله الى الفرنسية بين سنة ( 1868 – 1875 م ) . وقد بذل جهدا" كبيرا"وكان يعتبر من اكبر المختصين في الدراسات الايرانية في اوروبا في عهده ، وقد اعتمد على نسخة ( زيرنوف ) الفارسية بالدرجة الاولى وعلى نسخ خطية أخرى من الكتاب , وأصدر الكتاب في أربعة أجزاء .
    وقد حصل العالم الاذربيجاني ( د. محمد شمسي ) على درجة الدكتوراه برسالته المعنونة ( شرفنامه شرف خان البدليسي كمصدر لتاريخ الشعب الكردي ) وكتبها باللغة الاذرية ثم نشر سلسلة مقالات حول الكتاب أي الشرفنامه و مؤلفه .
    أما في الوطن العربي فقد طبع الشرفنامه في مصر في سنة 1930م من قبل الناشر الكردي فرج الله زكي باللغة الفارسية . وقد اعتمد الناشر على ثلاث نسخ هي : ( النسخة الروسية التي نشرها زيرنوف ) و ( نسخة ثريا بدرخان باشا ) و ( نسخة المدرسة العثمانية في حلب ) ووضع الاستاذ الراحل محمد علي عوني حواشي الكتاب المطبوع . وترجم الكتاب الى اللغة العربية لاول مرة الاستاذ ( ملا جميل روزبياني ) ونشره في بغداد في سنة 1953 م بمساعدة المجمع العلمي العراقي , وهذه الطبعة المترجمة غنية بحواشيها وتعليقاتها التي أضافها المترجم للكتاب . ثم قام المرحوم محمد علي عوني بترجمة الشرفنامه الى العربية ايضا" في مجلدين نشر بعد وفاته من قبل وزارة التربية والتعليم في مصر بأعتناء الاستاذ الراحل الدكتور يحيى الخشاب الذي قدم الكتاب بمقدمة مهمة في حوالي ( 50 ) صفحة إستعرض فيها تأريخ الكرد حتى العصر الحديث . وصدر الجزء الاول منه في سنة 1958م .
    وأخيرا" قام المرحوم ( عبدالرحمن موكرياني - هزار ) بترجمة الكتاب من الفارسية الى اللغة الكردية , وصاغه بلغة كردية جميلة بمضامينه النثرية والشعرية وطبعه المجمع العلمي الكردي على حسابه في سنة 1972 م. ويقع هذا الكتاب المطبوع في ( 840 ) صفحة فضلا" عن ( 176 ) صفحة هي مقدمات الكتاب وتتضمن كلمات تقريظ ومقدمة الطبعة الروسية ومقدمة الطبعة المصرية الفارسية لمحمد علي عوني ومقدمة الطبعة المصرية العربية ليحيى الخشاب ومقدمة المترجم وتراجم لبعض المؤرخين الكرد الذين خدموا التاريخ والادب الكردي , والحواشي الكثيرة وشجرات الانساب لعدد من الاسرات الكردية الحاكمة .
    هذا هو كتاب الشرفنامه : المصدر التاريخي الهام القديم والجديد الجامع , لم يؤلف في موضوعه ما يماثله في غزارة المعلومات وشمولية البحث الى يومنا هذا . فكان لشرفخان الريادة في كتابة تأريخ الكرد .
     
 


34
إسحاق بابل : الكاتب الذي سحر أدباء أمريكا
                                                   
جودت هوشيار        
القاريء العادي لا يتفاعل أو لا يستوعب غالباً الأعمال الأدبية الجادة ، ويفضّل قراءة أدب التسلية العابرة ،أو أدب اللذة ،  الذي قد لا ينطوي على أي قيمة فكرية أو فنية ، وقد وصفه الزيات بأنه " كل أدب يلذ ولا يفيد ويسوغ ولا يغذي ويشغل ولا ينبه" . في حين لا يأخذ الكاتب المبدع ، مثل هذا الأدب مأخذ الجد ، ويفضل قراءة الأعمال الأدبية  المتميزة. ولكن ثمة أعمال أدبية رائعة لكتاب مجيدين تحظى بمقروئية عالية لدى القاريء العادي والكاتب الجاد في آن واحد ، وهي الروائع الأدبية الكلاسيكية ، التي اجنازت إمتحان الزمن ، ومنها نتاجات اسحاق بابل ( 1894 – 1940 )، .
بابل عرف الشهرة المدوية اثر نشر مجموعته القصصية الأولى الرائدة " الفرسان الحمر " في منتصف العشرينات من القرن العشرين .وقد ايقن الجميع كتابا ونقاداً بأن أدبا جديداً قد ولد ، ولا يشبه الأدب الروسي الكلاسيكي ( أدب بوشكين وغوغول وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ) .وسرعان ما ترجمت المجموعة الى أكثر من عشرين لغة أجنبية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية . وقال أحد النقاد الأمريكيين : " ما كان يكتبه تولستوي في 24 ساعة ، يكتبه بابل في ساعتين فقط "  وكان ذلك خير وصف لأسلوب بابل الكثيف والجميل ، الذي سحر كبار الكتّاب الأميركيين .
في عام 1930  وجهت مجلة " نوفي مير " الروسية - التي كانت وما تزال أشهر وأرقى مجلة أدبية روسية -  سؤالا واحدا ومحددا الى عدد من الكتاب الغربيين : "من هو  في رأيكم أهم كاتب روسي معاصر ؟ . ولم تكن اجاباتهم مفاجأة لأحد : فقد تصدر اسم " إسحاق بابل "عن جدارة قائمة الكتاب المفضلين لدى تلك النخبة المختارة من خيرة كتاب ذلك العصر .
قال ارنست همنجواي في رسالة مؤرخة  12 كانون الثاني 1936 الى مترجم أعماله الى اللغة الروسية ايفان كاشكين ( 1899 – 1963 ) :" عرفت بابل  منذ ان قرأت الترجمة الفرنسية لمجموعته القصصية  " الفرسان الحمر " .  تعجبني أعماله جدا . عنده مادة قصصية مدهشة ، ويصوغها على نحو ممتاز ".قصص بابل مضغوطة اكثر من قصصي ومضامينها ثرية. وهذا دليل على قدراته الفنية ."
وعندما إلتقى إرنست همنجواي مع ايليا اهرنبورغ في مدينة مدريد المحاصرة عام 1937 قال همنجواي معبراً عن إعجابه بفن بابل : " يلومونني لأنني أكتب بإيجاز ، ولكنني وجدت أن بابل يكتب بشكل جيد وعلى نحو أكثر كثافة من كتاباتي . ولم اكن اعرف ان للسرد القصصي علاقة بعلم الحساب . أي أنه من الممكن أن يكتب المرء بكثافة أكثر ، مثل الجبن الذي تم عصره بشدة ليخرج منه الماء تماما ".
أما الكاتب الأميركي ريموند كارفر ( 1925 – 2015 ) ، والذي يعد من أشهر كتاب القصة القصيرة في النصف الثاني من القرن العشرين – فإنه كان مبهوراً بفن بابل القصصي واسلوبه الى درجة  انه يحفظ بعض قصص هذا الكاتب الروسي عن ظهر قلب. وقال أنه تأثر ببابل وتشيخوف أكثر من غيرهما .
واعترف كاتب أميركي بارز آخر وهو  جيمس سولتر ( ولد عام 1959)  بأنه تأثر بأدب بابل ، وذلك خلال محاضرة له في احدى الجامعات الأميركية ونصح تلاميذه بدراسة قصص بابل واسلوبه الساحر، لأنهم سيتعلمون منه الشيء الكثير . وقال ان بابل اكثر الكتاب الروس تفردا وغنى ، وأكثرهم إثارة وجدة .
المكانة الرفيعة التي احتلها بابل لدىالكتّاب الغربيين تجلت بأوضح صورة عند إنعقاد مؤتمر باريس للدفاع عن الثقافة سنة  1935 ، وذلك عندما اكتشف منظمو المؤتمر أن الوفد السوفييتي لا يضم إسحاق بابل مؤلف " الفرسان الحمر " ، ولا الشاعر الكبير بوريس باسترناك ،  وقرروا على الفور مطالبة السفارة السوفيتية في باريس بضم هذين الأديبين الى الوفد السوفييتي . أبرقت السفارة الى القيادة السوفيتية حول ضرورة ايفاد  بابل وباسترناك الى باريس على وجه السرعة. كان باسترناك مريضا في ذلك الوقت . كما ان كلاهما (بابل وباسترناك ) لم يكونا يملكان بدلات مناسبة للظهور امام مثل هذا الحشد الثقافي العالمي ، فتم على الفور خياطة بدلتين جديدتين لهما  لدى أشهر خياطي موسكو ، واصدار جواز سفر بأسميهما. ونقلوهما الى باريس بطائرة خاصة . كان باسترناك يشكو لبابل ولطاقم الطائرة طوال الرحلة بأنه مريض ودرجة حرارته مرتفعة ، ولكن لا أحد كان يصغي اليه ، فأوامر ستالين كانت تنفذ دون نقاش . وصلا باريس في اليوم الثالث للمؤتمر.
 ألقى بابل كلمة باللغة الفرنسية – التي كان يتقنها وكتب بها اولى قصصه في بداية حياته الأدبية -   استغرقت 15 دقيقة ، وكما يذكر ايليا أهرنبورغ في مذكراته الشهيرة " الناس ، والأعوام ، والحياة " ، فان كلمة بابل تضمنت عبارات ساخرة أثارت موجات من التصفيق والضحك . سحر بابل الحضور بلغته الفرنسية الجميلة ، ، واسلوبه المرح ، وأفكاره المعمقة حول دور الكاتب في الدفاع عن القيم الإنسانية . . 
في عام 1954 كتب الناقد الأميركي الكبير ليونيل تريلينغ ( 1905 – 1975 ) مقدمة لمجموعة قصص بابل " الفرسان الحمر " يقول فيها أنه دهش لأسلوب بابل الكثيف والتهكمي الساخر ، المشحون بما يمكن تأويله على أكثر من وجه.
ولعل أبلغ دليل على استمرار تأثير بابل في الكتاب الأميركيين هو المقال الذي نشره الكاتب الأميركي المعاصر ( بين نادلير ) تحت عنوان:( قصص نحبها " مكافأتي الأولى " لإسحاق بابل )  في احد الاعداد الاخيرة  لمجلة " فيكشن رايترز ريفيو "  .
 يقول نادلير : في اغسطس الماضي قررت السفر الى تبليسي عاصمة جمهورية جورجيا مع صديقتي ( أوكسانا ) . سألني أصدقائي :لماذا نحن- أنا و صديقتي – نريد  قضاء عطلتنا السنوية الوحيدة في غرفة علوية ضيقة في درجة حرارة تبلغ مائة فهرنهايت في مدينة صغيرة من مدن الاتحاد السوفييتي السابق . قلت لهم اشياء كثيرة  :
 رحلة لا تكلف كثيرا ، واريد أن أشرب النبيذ الجورجي الحلو زجاجة تلو زجاجة  ، وأن جورجيا هي أجمل بلد في العالم ، وأن (أوكسانا ) تريد زيارة المدينة التي عاش فيها جدها ،  بطل الحرب العالمية الثانية ، وزيارة ضريحه في المقبرة الروسية المهملة . كانت كل هذه الأسباب الثانوية صحيحة،  ولكن السبب الحقيقي لسفري الى تبليسي  يكمن في الفقرة الأولى من قصة اسحاق بابل " مكافأتي الأولى " :
" إن كنت تعيش في تبليسي في فصل الربيع ، وأنت في العشرين من عمرك ، ولم تكن محبوبا ، فتلك مصيبة .. مثل هذه المصيبة حدثت معي " .
 ويضيف نادلير :
 " كانت لهذه القصة أعمق الأثر في كتاباتي السردية ، وأردت أن اعيش في اجواءها  ، ولو لأيام معدودة . لقد استفدت من هذه القصة أكثر من ورش الإبداع العديدة التي حضرتها في بداية حياتي الأدبية " 
القصة التي أشار اليها نادلير كتبها بابل عام 1822 ورفضت الرقابة السوفيتية المتزمتة نشرها بدعوى أنها ايروتيكية ، ولا تمت الى الواقع السوفيتي بصلة ، و ان الأدب يجب أن يخدم الأهداف التربوية للنظام البلشفي . اعاد بابل صياغة هذه القصة من جديد سنة 1928 ، وحذف منها ما اعترضت عليه الرقابة ، ومع ذلك لم تقبل اي مجلة روسية نشرها داخل الإتحاد السوفيتي باللغة التي كتبت بها وهي الروسية ، وبعد أكثر من اربعة عشر عاما أي في عام 1936 ،  نشرت الصيغة المعدلة للقصة في  مجلة " الأدب السوفيتي " الصادرة باللغة الأنجليزية والموجهة للخارج لأغراض دعائية  .
 وعندما القي القبض على بابل في 15 أيار 1939 صادرت المخابرات السوفيتية كل أعماله الأدبية  المخطوطة . ومن حسن الحظ أن قصة " مكافأتي الأولى " نجت بإعجوبة  من المصادرة ، فقد كان من عادة بابل أن يقرأ أي نتاج جديد له ، على مسامع أصدقائه المقربين ، قبل نشره ، قائلاً أنه يريد معرفة رأيهم فيه . ولكن الحقيقة هي أنه كان مهدداً بالإعتقال في أي لحظة . لذا كان يتعمد قبل أن يغادر المكان أن يترك نسخة من القصة هناك . وبعد اعتقاله احرق معظم أصدقائه والمقربون منه أعمال بابل التي بحوزتهم ، بإستثناء البعض منهم . فقد منع النظام البلشفي منعا باتا الإحتفاظ بالأعمال الأدبية أو الفكرية لـ(أعداء الشعب )  ، وكان المخالف يعرض نفسه لعقوبات صارمة عند اكتشاف ( فعلته ) .وكان الوشاة في كل مكان ، ولم يكن أحد يثق بأحد ولو كان من أقرب المقربين اليه. لذا فإن الإحتفاظ بعمل أدبي لكاتب من ( أعداء الشعب ) يمكن إعتباره بطولة حقيقية في ذلك العهد المرعب .
تعرض بابل في السجن الى تعذيب وحشي ، وحكم عليه بالإعدام بعد محاكمة صورية جرت يوم 26 كانون الثاني 1940 واستغرقت أقل من عشرين دقيقة , واعدم رميا بالرصاص في فجر اليوم التالي. ولقد تبين لاحقاً من خلال الوثائق التي نشرت في فترة ( البريسترويكا ) زيف وبطلان كل التهم المفبركة الموجهة اليه . وكانت آخر كلماته قبل اعدامه : " دعوني اكمل عملي " . وتشير تلك الوثائق الى أن ستالين قد وقع على أمر اعدام بابل قبل عدة اسابيع من انعقاد المحكمة .
 نشرت الترجمة الإنجليزية الكاملة للصيغة الأولى (1922)  لقصة " مكافأتي الأولى " في الولايات المتحدة عام 1963 ، والنص الروسي في الإتحاد السوفيتي عام 1967 بعد 13 عاماً من رد الإعتبار الى بابل عام 1954 . وكان بذلك أول كاتب يعاد اليه الإعتبار بعد موت الطاغية ستالين  بفضل متابعة أرملته المهندسة العبقرية " انطونينا بيريزكوفا " ، مصممة العديد من أجمل محطات المترو في موسكو، ومنها محطة " ماياكوفسكايا " التي تعد تحفة هندسية في غاية  الفخامة والجمال . 
قصة "مكافأتي الأولى"
راوي القصة شاب غرير ، في مقتبل العمر ،  يمارس عملاً بيروقراطيا مملاً كمدقق لغوي في مطبعة عسكرية محلية . ويسكن في غرفة علوية اسـتأجرها من زوجين شابين تزوجا حديثاً . الزوج يعمل جزاراً في السوق الشرقية في مدينة تبليسي  . ومن خلال الحاجز الفاصل بينهما  كانت تصل اليه آهات الحب، كما لو كانت أصوات اسماك كبيرة محصورة في حوض زجاجي .ذيول هذه الأسماك التي فقدت ذاكرتها كانت تصطدم بالحاجز. وفي الليل كانت الاصوات تختفي ويحل صمت مطبق يخترق قلبه. لم يبق أمام الشاب سوى البحث عن الحب ، والذي وجده سريعا ، ولكن لسؤ أو لحسن حظه كانت بائعة هوى اسمها ( فيرا ) . إمرأة مديدة القامة ، بيضاء الوجه ، في الثلاثين من عمرها  . وفي مساء كل يوم كان الشاب يتبعها في الشارع الذي تمر به دون ان يجرؤعلى مكالمتها ..لأنه لم يكن يملك المال ولا يعرف كلمات الحب الرخيصة .
 ومنذ يفاعته كانت كل طاقته مكرسة لتأليف القصص والمسرحيات في الخيال دون ان يدونها على الورق . نسج  ألف قصة كانت تقبع على قلبه مثل سلحفاة على حجارة . لم يكن يريد ان يكتبها على الورق لأنه كان يعتقد إن من العبث أن يكتب المرء على نحو أقل جودة من ليف تولستوي . كان يختلق القصص الخيالية لتكون سلواه وتنسيه ما يعانيه من حزن . كان يخجل أن يبكي ، ولا يتقن فن السعادة . وذات مساء استجمع شجاعته وكلّم (فيرا) و اضطر ان يدفع لـها مقدماً عشرة روبلات ذهبية من راتبه الشحيح.
. وقبل أن ينام معها ، اضطر الى مرافقتها في جولة وسط تبليسي، فقد كانت فيرا امرأة عملية ، ولديها مشاغل لا تنتهي ، و معروفة لدى كثير من رواد الملاهي والمطاعم . ولم يصلا الى الفندق الذي تعيش وتعمل فيه الا في منتصف الليل . وتركته ينتظرها في الغرفة  ، وذهبت الى بهو الفندق لتودع زميلة عجوز مسافرة الى البلدة التي يعيش فيها ابنها . كانت الغرفة كئيبة يحوم فيها الذباب ، ثم يسقط في اناء الحليب ويموت .
..ويقول الراوي : " لقد تعبت من الجولة الطويلة في المدينة الى درجة بدا لي حبي عدوا لدودا  لصق بي . ومن الممر كانت تأتيني ضحكات صاخبة لحياة أخرى غريبة  . وأخيرا جاءت فيرا  وقالت : "  هل تعبت من الإنتظار ؟ لا بأس ، انتظر قليلا ."
 كانت تحضيراتها أشبه بتحضيرات طبيب يتهيأ لأجراء عملية جراحية .أشعلت موقد الكيروسين ووضعت عليه وعاءاً مملؤا بالماء . وعلقت منشفة على ظهر الفراش .
قالت  :
-تعال جنبي الى ان يغلي الماء  .
ولكن الشاب لم يتحرك من مكانه . واضافت :
- لعلك تتحسر على  نقودك ! 
- أنا لا أتحسر على نقودي
- ولم لا تتحسّر ، لا بد انك لص أو تخالط اللصوص ؟
- لست لصاً . أنا ولد
- ارى انك ولد وليس بقرة !   
  استلقت على الفراش وسحبته الى جانبها .وأخذت تعبث به 
إشمئز الشاب مما يراه  وأصابه اليأس والإحباط  وقال لنفسه : " لم استبدلت وحدتي بهذه الغرفة البائسة الكئيبة . ما اعظم الفرق بين هذا الحب المصطنع المزعج  وبين آهات الحب اللاهب الصادرة من غرفة مضيفي ."
 ومن اجل التخلص من الموقف الحرج الذي وضع نفسه فيه ،اخترع الشاب قصة ملفقة عن حياته وشذوذه  يزعم فيها أنه كان حبيب رجل ارمني في باكو , وتنظر فيرا اليه كأنه زميل مهنة . وعندما كان الشاب بلاحظ فتور اهتمام فيرا بما يسرده ، كان يعدّل مسار القصة لإثارة اهتمامها . ويقول الراوي " لو كنت كاتبا كسولاً ، وأقل اهتماما بالمستوى الفني لقصتي  لسردت عليها حكاية مبتذلة عن طرد رجل ثري مستبد لابنه من البيت وعن ام مسكينة معذبة ، ولكنني لم أرتكب هذا الخطأ ."
ويقول الراوي : " خمس سنوات من عمري – من الخامسة عشر الى العشرين – قضيتها في اختلاق  القصص الخيالية .. وحدتي حركت واحدة منها ووقعت على الأرض . ويبدو أن القدر جعلت من مومس تبليسية أول قارئة لي .قضينا الليل وهي تعلمني اسرار مهنتها التي لن تعرفوها ، وجربت فنون الحب التي لن تجربوها ابدا ".
 وفي الصباح تقوم ( فيرا ) بارجاع القطع الذهبية العشر اليه ، لأنها لا تعتبره زبونا  ، وتخاطبه بصيغة ( اختي ) . ويعتبر الشاب هذه الروبلات العشرة أول مكافأة له عن القصة التي اخترعها وكانت (فيرا ) اول قارئة لها .
وفي صباح اليوم التالي يجلسان في مقهى تركي قريب ويحتسيان الشاي (القرمزي ) الحار الشبيه بالدم المسفوك توّاً.
ويختم الراوي قصته بالقول: " لقد مرت سنوات عديدة منذ ذلك الحين . وخلال هذه  المدة تلقيت مرات عديدة مكافئات من رؤساء التحرير، ومن دورالنشر . لقاء انتصارات كانت هزائم ، ولقاء هزائم اصبحت انتصارات ، من اجل الحياة ، ومن اجل الموت  . دفعوا لي مبالغ تافهة ، أقل بكثير مما استلمته في شبابي من قارئتي الأولى   ولكنني لا أشعر بالغضب وأعرف أنني لن أموت قبل أن انتزع من أيدي الحب مكافأة ذهبية أخرى  ، وستكون المكافأة الأخيرة."
درس بليغ لكتّاب القصة القصيرة
استخدم بابل في سرد هذه القصة ، كما العديد من قصصه القصيرة الأخرى ضمير المتكلم  . وقد يظن القاريء انها قصة تستند الى تجربة الكاتب الحياتية ،  ولكن الحقيقة هي انها قصة خيالية  ، ولا صلة مباشرة لها بوقائع حياته . وقد سئل بابل عن سبب استخدامه  الضمير الاول ، فقال ان السرد بهذه الصيغة يعفيه من وصف البطل وكل ما يتعلق به ، من اجل تكثيف النص. فالقصة في رأي بابل يجب ان تكون مكثفة ومقتضبة مثل أمر عسكري أو شيك مصرفي .
يقول الراوي في مطلع الصيغة الأولى لهذه القصة :"ان الحب هو الذي جعل منه كاتبا. وهذه مفارقة غريبة ، لأن محبوبته كانت بائعة هوى غير جميلة وتكبره بعشر سنوات،  وإمرأة غير رومانسية على الإطلاق ، بل عملية جدا. وتبدو القصة وكأنها استفزاز للذائقة الأدبية السائدة ، وتتعارض تماما مع كل صور بائعات الهوى في الأدب الكلاسيكي الروسي . ومنها قصص " شارع نيفسكي " لغوغول ، و " رسائل من تحت الأرض " لدوستويفسكي " والبعث "  لتولستوي ، و"النوبة"  لتشيخوف ، وغيرها كثير. في كل هذه القصص ثمة مثقف عاطفي يلتقي ببائعة هوى ، ويحاول انقاذها من الحضيض الذي وصلت اليه  ، حتى انه على استعداد أحياناً  للإقتران بها  .وهو يرى فيها ليس بائعة هوى بل ضحية . وكل بطل من أبطال هذه القصص يحاول حل المأزق النفسي الذي يواجهه بطريقته الخاصة  .
بطل قصة غوغول  بيسكاريوف - المرفوض من بائعة هوى ، لا تريد تغيير نمط حياتها ،  يقتله الإدمان على  المخدرات . بطل دوستويفسكي يتصور نفسه رجلا  شهما ، ولكنه في الواقع يهين المومس ( ليزا ) حين يجعل منها متنفسا لأزمته الروحية . ولكن ليزا تنتمي الى نمط قوي من النساء الروسيات ، وهي التي تترك البطل  ، وترفض أخذ النقود.
اما فيرا في قصة بابل " مكافأتي الأولى " فإنها ليست بحاجة الى انقاذ ، وليست متلهفة للقاء عميل جديد "  وهي التي تبادر الى سؤال  الشاب عن حياته – وفي العادة فأن العميل المثقف هو الذي يهتم ويسأل المومس كيف وصلت الى هذه الحالة. بطل قصة بابل يصاب بخيبة أمل ، ويشعر بالتقزز ، ولا يحس قط أنه مستعد للقيام بما جاء من اجله. " وردا على استفسارات فيرا يبدأ البطل بإختلاق قصة مثيرة عن حياته ، ويضفي عليها تفاصيل مثيرة. وعندما يلاحظ فتور اهتمام (فيرا) بقصته  يبدأ بتعديلها.  فيرا تقتنع تماما بالقصة وتعتقد بإنها حقيقية . القصة كانت متقنة الى درجة ان الشاب نفسه أخذ يصدّقها وكأنها قصة حياته ،ويشعر بالشفقة على نفسه ويعتصر قلبه ألماً  . وبذلك ينتزع اعترافها به ككاتب .
في هذه القصة النجاح اللفظي يفضي الى الجنس . وتجري مقايضة متكافئة بين فن الكلمة والجنس. القصة بأسرها – تمجيد لفن الكلمة ، وقدرته على التأثير في الحياة . البطل يحول أمرأة مترهلة في الثلاثين من عمرها الى حبيبة عاطفية ، ويشحن نفسه بالحماس للجنس . العلاقة بين االعميل والمومس ، تأخذ شكل العلاقة  بين عاشقين متكافئين .
وليست هذه هي القصة الوحيدة لبابل التي تتم فيها مثل هذه المقايضة . ففي قصته المشهورة " جي دي موباسان " التي كتبت عام 1937 ، وتعد من أفضل وأجمل قصص بابل ، وإحدى روائع الأدب العالمي ، نجد البطل يقوم بمساعدة سيدة ارستقراطية في ترجمة قصص موباسان الى اللغة الروسية  . كانت السيدة قد ترجمت نصوص موباسان ترجمة أمينة من دون أي أخطاء لغوية ، ولكن البطل وجد أن هذه الترجمة ميتة ، وليس فيها روح موباسان واسلوبه الأنيق المتميز ، فيقوم باعادة صياغة تلك القصص على نحو لا تقل روعة عن الأصل الفرنسي . وتصاب السيدة بالدهشة ، وتنبهر بموهبة البطل في الصياغة الأدبية الرفيعة . الإعجاب المتبادل يفضي الى علاقة حميمة بينهما . أي إننا مرة أخرى أمام مقايضة من النوع نفسه : فن الكلمة مقابل الجنس .
قال بابل عام 1915 ، في بداية حياته الأدبية ،  في مقال له بعنوان " أوديسا " ، أنه يحلم  بالكتابة على نحو مختلف عن الكلاسيكيين الروس ( غوغول ، تولستوي ، دوستويفسكي ، تشيخوف) . وهذا ما فعله في " مكافأتي الأولى " وفي " جي دي موباسان " حيث قلب راساً على عقب كل ما كتب عن العلاقة بين المثقف والمومس ..البطلة  ليست بحاجة الى انقاذ ، ولكتها بحاجة الى الغزو الأدبي مثل قارئة ساذجة. وشرب الشاي بدلا من النبيذ وصفة تقليدية لمنقذي المومسات في الأدب الروسي . ولكن الشاي في هذه القصة قرمزي وحار كالدم المسكوب . فيرا على غير العادة لا تأخذ النقود ، ليس بسبب التعالي ، بل بسبب الحب .
 


35
المنبر الحر / أقصر قصص في العالم
« في: 18:41 12/04/2017  »
أقصر قصص في العالم
جودت هوشيار                
 
أقرأ بمزيد  من الدهشة والإستغراب ما نشره عدد من النقاد والكتّاب العرب من كتب ودراسات عن " القصة القصيرة جداً " ، وكأنها جنس أدبي جديد ظهر في الأدب العربي المعاصر في  التسعينات من القرن الماضي ، إستجابةً  لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المستجدة في المنطقة والعالم ..
ووصل الحماس بالبعض الى حد المطالبة بإدخال هذا ( الجنس )الإبداعي الجديد الى المناهج الدراسية في شتى مراحل التعليم الثانوي والجامعي . وهم يتحدثون عن خصائصها  الفنية بإسهاب . ويسترسلون في الأطناب التنظيري لها. ويحددون اركانها ، وشروطها ، ومعاييرها  . ويقولون أن القصة القصيرة جداً قصة او حكاية تتسم بالجرأة والوحدة والتكثيف والإقتضاب ، والمفارقة والسخرية ، وطرافة اللقطة ، والإدهاش وفعلية الجملة ، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والأيهام ، والأعتماد على الخاتمة المتوهجة ، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها ، وما الى ذلك من خصائص لا تقتصر على القصة القصيرة جداً، بل هي خصائص متجذرة في فن القصة القصيرة ، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر . وتتجلى بأوضح صورها في قصص أقطاب كتّاب القصة القصيرة في العالم .
واذا كان المعيار الأساسي هو حجم النص ، فإنه لا يوجد تحديد واضح ومحدد لحجم النص القصصي الذي يمكن اعتباره قصة قصيرة جداً ، ويحتفظ في الوقت ذاته بكل العناصر الأساسية للقصة القصيرة . ووفقاً للتقاليد الأدبية الإتجليزية ، يحدد هذا الحجم بـما لا يزيد عن (300 الى 1500 ) كلمة . وفي الأدب الروسي يقاس بعدد الأحرف أو الصفحات ، حيث يعتبر النص الذي يقل عن 2000 حرفا أو ثلاث صفحات قصة قصيرة جداً. ويطلق الروس على القصة القصيرة جداً مصطلح " النثر المصغر " أو الـ" منمنمة " . وتوجد في الأدب الروسي الكلاسيكي نماذج كثيرة لنصوص قصيرة للغاية ، يقل عن نصف صفحة .
ومع شيوع استخدام شبكة الإنترنت اصبح من المريح اعتبار النص قصيرا جدا اذا لم يكن المتصفح بحاجة الى التمرير العمودي للنص على الشاشة . ومن الواضح  أن مثل هذا التعريف ليس دقيقا ، لأنه لا يأخذ في الاعتبار الاختلاف في ابعاد الشاشة و حجم الحروف .
 الجذور التأريخية للقصة القصيرة جداً 
 والحق أن " القصة القصيرة جداً"  ليس فناً او جنسا ادبيا جديدا ، ولا يعود ظهورها الى التسعينات من القرن الماضي . بل هي نصوص أدبية تتسم بالإيجاز البليغ ، وتتوافر فيها البراعة القصصية وأحيانا ، كل العناصر الفنية  للقصة القصيرة الناجحة  ، ونجدها في الأدب الغربي لدى جمهرة من كتّاب القصة القصيرة .منذ أكثر من قرن من الزمان .ولا أحد من النقاد الغربيين يربطها بالتغيرات السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية ، التي شهدتها مجتمعاتهم ، أو بالظواهر الدولية أو الكونية ، بل بنظرون اليها كلون لطيف من ألوان  الأدب القصصي المركز  ، ساهمت شبكة الإنترنيت في شيوعه وترسيخه .
يعد ايفان تورغينيف ( 1818-1883 ) أول من كتب النصوص النثرية القصيرة وذلك في اواخر السبعينات من القرن التاسع عشر ، وتحتفل روسيا سنويا بما يسمى مهرجان " النثر المصغر "  تخليدا لذكرى هذا الكاتب الروسي العظيم ، الذي يعد المؤسس الحقيقي لهذا النمط المقتضب من القصة القصيرة . وقد صدرت في روسيا أنطولوجيا " النثر المصغر " تخليدا لذكراه ، وتضم مختارات من نتاجات الكتاب الروس المعاصرين البارزين في هذا النمط الإبداعي ، وهي لا تختلف عن القصة القصيرة جداً  ، وان اختلفت التسمية . كما ان العديد من الكتّاب العالميين كتبوا نصوصاً قصصية قصيرة للغاية ، وفي مقدمتهم أنطون تشيخوف ( 1860 – 1904 ) وايفان بونين ( 1870 – 1953 ) ، وفرانز كافكا ( 1880 – 1924 ) ، و أو. هنري ( 1862- 1910) ، وهوارد لوفكرافت ( 1890- 1937) ، وارنست همنجواي ( 1899- 1961) ومن الكتاب الأميركيين المحدثين راي برادبري ( 1920 – 2012) . وفي بريطانيا آرثر كلارك ( 1917- 2008) . وفي اليابان ياسوناري كاواباتا ( 1899 – 1972 ) . وفي الأرجنتين مايسترو (القصة القصيرة والسرد القصير ) خوليو كورتاثر ( 1914- 1984) . 
وفي البلدان الناطقة بالإسبانية برز في هذا المجال الكاتب آوغوسطو مونتيروسو ( 1921-2003) الذي كتب احدى اقصر القصص في الادب المدون بالاسبانية. و خورخيه لويس بورخيس (1899-1986 ) و اغناسيو مارتينيس كافيرو، ورومون غوميس ، وخوسيه مارينو ، وخوان ميلياس .
ويقول الناقد والكاتب الكوبي من اصل ايطالي ايتالو كالفينو (1923-1985 ) أنه كتب في هذا النمط السردي مستلهما تجربة  بورخيس ، وكذلك الكاتب ادولف بيئوي كاساريسا ، وهو الذي قال ان بأن مونتيروسو كان أفضل الكل ، وانه نفسه كتب تحت تأثير هذا الكاتب ..
ويتناسى منظرو وكتّاب القصة القصيرة جداً في العالم العربي ، ان نجيب محفوظ هو اول كاتب عربي كتب العديد من المنمنمات القصصية ، ولم يدر بخلده أن يقول أنه ابتدع جنساً أدبياً جديداً ، مع أن تلك المنمنمات  ترتفع بمستواها الفكري والفني الى مصاف اجمل ما كتب في هذا النمط الابداعي . ورب قائل ان جبران خليل جبران كان اسبق من نجيب محفوظ في كتابة هذا اللون القصصي ، ولكن تجارب جبران كانت أقرب الى " الخواطر " منها الى المفهوم الحديث للقصة القصيرة جداً .
نماذج من القصة القصيرة جدا في الادب العالمي 
في أواخر القرن التاسع عشر أجرت احدى المجلات الأميركية مسابقة للقصة القصيرة جداً ، شريطة أن لا تتجاوز 55 كلمة ( في اللغة الأنجليزية )  ، وتتوافر فيها كل عناصر القصة من بداية ، وذروة ، ونهاية ، وحبكة . وقد فاز في المسابقة الكاتب الأميركي الشهير  أو.هنري ( 1862- 1910 ) .
    " كان سلئق سيارة يدخن عندما أنحنى ليرى مستوى البنزين المتبقي في خزان الوقود . كان  الفقيد في الثالثة والعشرين من عمره "
 وكتب فرانز كافكا مجموعة كبيرة من القصص القصيرة جدا . وقد سبق لنا ترجمة طائفة من هذه القصص الى اللغة العربية ، ونشرت في بعض المجلات والصحف البغدادية في أوائل السبعينات ، في وقت لم يكن شيء من اعمال كافكا  قد ترجمت الى اللغة العربية ، ما عدا قصة " التحول " التي ترجمت تحت عنوان " المسخ " . وهذه ثلاثة نماذج من القصص القصيرة جداً لفرانز كافكا التي قمنا بترجمتها ونشرها قبل أكثر من أربعة عقود .
الأشجار : " ما دمنا نحن مثل أشجار مقطوعة في الشتاء ، فإن هذه الأشجار  تبدو لنا وكأنها قد تدحرجت على الثلوج ببساطة ، وإننا ما أن ندفعها قليلاً ، حتى تتحرك . كلا ليس بمقدورنا أن نفعل ذلك  ، لأنها تجمدت ، فالتصقت بالأرض . اقترب منها وجرب ، وسترى ان هذا ما يخيل اليك فحسب .
القرية المجاورة : " كان جدي يقول أحياناً – ما أقصر الحياة ! حينما أتذكر حياتي الماضية ، فان  كل شيء فيها يبدو متراصاً ومتلاحقاً على نحو يجعل من الصعب عليّ أن أفهم كيف يتجاسر شاب على السفر ولو الى قرية مجاورة ممتطياً جواده ، ولا يتملكه الخوف  - ليس فقط من كارثة في الطريق ، بل من أن حياة اعتيادية ، ولو كانت موفقة لا تكفيه ابدا للقيام برحلة كهذه " .
 الفساتين : " حينما أرى الفتيات الحسان  وقد ارتدين الفساتين الجميلة ، التي زينت بالكشاكش والثنايا الفخمة ، وطرزت بالنقوش المتنوعة ، يتبادر الى ذهني ، ان الفساتين لن تحتفظ بمظهرها وشكلها لمدة طويلة : الثنايا تنكمش ، ولا يمكن إستعادة شكلها الأصلي ، والنقوش يكسوها الغبار، ولا يمكن تنظيفها . وليست ثمة إمرأة واحدة ترضى أن ترتدي من يوم الى يوم ، ومن الصباح حتى المساء ، الفستان الفاخر نفسه ، لأنها تخشى أن تبدو بائسة ذليلة ، بيد أني أرى فتيات جميلات ، رشيقات القوام ، ناعمات البشرة ، لهن شعر كثيف باهر ،  يظهرن بذات الأقنعة التي وهبتها الطبيعة لهن ، ويريحن وجوههن المعتادة على الأديادي ذاتها . ولكن في بعض الأحيان فقط ، عندما يعدن الى بيوتهن في وقت متأخر من المساء ، بعد حفلة راقصة ، ويتطلعن الى أنفسهن في المرآة ، يخيل اليهن أن وجهاً مغبراً ، منتفخاً ، مهلهلاً  ينظر اليهن . وجه اعتاده الجميع وبلي الى حد كبير " .   
أما ارنست همنجواي المعروف بأسلوبه الذي وصفه بنفسه أنه أشبه بجبل الجليد ، الذي لا يرى منه سوى ثمنه ، اما الأجزاء السبعة فهي مغمورة في الماء . فقد كتب اقصر قصة قصيرة مؤثرة في تأريخ الأدب العالمي وهي تتألف من ست كلمات فقط :  ”  For sale: baby shoes , never used “
" للبيع : حذاء أطفال ، لم يستعمل قط "
وثمة قصة قصيرة للغاية لمونتيرّوسو ، وهي تحت عنوان: “الدّيناصور” وهي مؤلفة من سبع كلمات : “عندما إستيقظ، كان الديناصور ما زال هناك…”
قصة من مائة كلمة  Drabble” "
ثمة نمط متميز من الوان القصة القصيرة جدا ، انتشر في المملكة المتحدة  منذ العام 1980 تحت اسم " درابل فلاش فيكشن ". ومن أهم شروط قصص "درابل" ان تكون القصة في مائة كلمة بالضبط ( ما عدا العنوان ) ، وتتوافر فيها العناصر الأساسية المعروفة للقصة القصيرة .وهو نمط صعب يتجلى فيه قدرة المؤلف على التعبير عن فكرة ذات معنى بشكل مقتضب في عدد محدود من الكلمات .
.ولدت قصص"درايل " في جامعة برمنغهام كشكل من أشكال اللعب اللفظي ، قبل ان  تتخذ شكل المسابقة الأدبية .
واللعبة مستوحاة من كتاب ساخر يحمل عنوان " كتاب مونتي بايثون الكبير الأحمر " الصادر في لندن سنة 1971 ، لمجموعة مؤلفين - تهكماً بكتاب ماو " الكتاب الأحمر الصغير" . يصف المؤلفون في الكتاب الكبير "لعبة كلمات"  حيث يجتمع عدد من الأصدقاء حول موقد النار ، يحتسون البراندي ، ويتبادلون الأحاديث الممتعة ، ويتنافسون فيما بينهم ، في تأليف قصة قصيرة جداً ، لا يتجاوز عدد كلماتها مائة كلمة بالضبط ، ويعتبر فائزاً اول من ينتهي من تأليف القصة ،مهما كان موضوعها او اسلوبها .
صدرت منذ ذلك الوقت العديد من مجموعات قصص "درابل" لكتاب معروفين في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ، وأميركا اللاتينية والعديد من دول العالم .
قصة من 55 كلمة
  في عام 1987 عدّل ستيف موس ، رئيس تحرير مجلة " نيو تايمز " شروط كتابة قصص (درابل )، واعلن عن مسابقة أدبية جديدة لكتابة قصة قصيرة جداً ، لا يتجاوز طولها 55 كلمة . وكانت شروط المسابقة عديدة وصارمة ، ولكن يمكن ايجازها في ما يلي : " ينبغي كتابة قصة قصيرة جدا تتوافر فيها العناصر الأساسية للقصة القصيرة ، وذات حبكة واضحة ،وبطل واحد او اكثر ، ونهاية غير متوقعة " .وقد استلمت المجلة عددا هائلا من القصص القصيرة جداّ ، و فازت في المسابقة قصة الكاتب الأميركي  جون دانييل .التي تحمل عنوان " الغيتار"
"  "عندما كنت طفلاً ، كانت زوجة أخي الأكبر تشتكي لي دائما بأن زوجها لا يعيرها أي أهتمام  حين ، يعزف على الغيتار . وكانت تقول ، أنني متأكدة أنه يحب غيتاره أكثر مني . وبعد بضع سنوات انفصلا عن بعضهما . أعتقد بأن هذا كان الحل الأفضل لحالتهما " .
ان اهم شرط لنجاح مثل هذه القصص ، سواء كانت مؤلفة من (100) أو ( 55) كلمة ، هو أن ان ينسى الكاتب تماماً ما يحدث في الواقع ، ويطلق العنان لخياله ، وان تكون القصة ممتعة ، يقرأها المتلقي بشغف في أقل من دقيقة ،
مثل هذه القصص قد تكون خيالية ، أو بوليسية ، أو عبثية ، أو مرعبة ، أو مؤثرة . أي ببساطة قصة غير عادية .
وقد اختار موس افضل القصص المشتركة في المسابقة وأصدر انطولوجيا تحت عنوان " اقصر القصص في العالم ". وكتب للأنطولوجيا مقدمة ضافية حدد فيها أهم عناصر وخصائص هذا النوع من القصص ..
لم يتوقع موس أبداً أن تدخل القصة القصيرة جداً المؤلفة من (55) كلمة فقط الى المناهج الدراسية ، واستلم عدد كبيراً من الرسائل من الأساتذة والطلبة يشيدون بجهوده المبذولة في هذا المجال ويشكرونه ، لأن تجربة كتابة قصص من هذا النوع تعلّم الطلبة التعبير عن الأفكار بوضوح ودقة ، وتدربهم على إعادة النظر في النص مراراً وتكراراً ، وعلى اكتساب المهارة في استخدام تقنيات الكتابة .
هذا اللون الإبداعي مفيد أيضاً لكتّاب القصة القصيرة و الرواية ، حتى المعروفين منهم ، لأنه يعلّمهم الأقتصاد في الكلمات  . وثمة اليوم في معظم دول العالم كتاب مشهورون يمارسون كتابة هذا اللون اللطيف من القصص المختصرة الى جانب القصة القصيرة والرواية ، ومنهم الكاتبة الروائية الأميركية ليديا دافيس ( ولدت عام1947 ) التي إشتهرت بقصصها القصيرة جداً ، ونالت عنها جائزة البوكر الدولية لعام  2013 . وهي جائزة تمنح كل عامين للأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الأنجليزية أو المترجمة اليها . وقال رئيس لجنة التحكيم لجائزة البوكر الدولية  السير كريستوفر ريكس في الإحتفال الذي اقيم في 22 أيار من ذلك العام في متحف ( فكتوريا والبرت ) بلندن تكريماً للكاتبة :
"يمكنكم اطلاق اسم " المنمنمات ، أو المشاهد ، أو المقالات ، أو الحكايات ، أو الأمثال، أو الملاحظات ، أو حتى الخرافات ، أو الأدعية ، على هذه النتاجات " .
أي أن مفهوم " القصة القصيرة جداً " في الأدب العالمي أرحب بكثير مما يتصوره
اولئك الذين يميلون الى وضع هذا اللون الإبداعي في خانة ضيقة وتقنين شروطه ومواصفاته .
 


36
مصير الرواية في العصر الرقمي
جودت هوشيار   
حق التجربة في الفن – حق مطلق ومقدس ، ومن دون ذلك ، يتحجر الفن في قوالب جامدة ومحنطة ، ويصبح عاجزاً عن الوفاء بحاجة التعبيرعن هموم اللحظة الحضارية ، والكشف عن التناقضات الجوهرية للواقع الإجتماعي ، والنفاذ الى أعماق الحياة ،  دائمة التغيّر والتحول .
الفن لا يصدر من معاناة قوية للواقع فقط ، بل لابد له أيضاً من اكتساب شكل موضوعي ملائم .وما يبدو من حرية الفنان وسهولة أدائه ، إنما هو نتيجة لتحكمه في مادته . وهذا التحكم ، إن هو الا ثمرة لتجارب إبداعية مضنية ، و إبتكار أشكال جديدة لأحتواء المضامين الجديدة ، التي لا تستوعبها الأشكال المستهلكة .وربما لا نجانب  الصواب ، إذا قلنا انه ليس ثمة فن عظيم بلا تجارب عظيمة وجريئة على صعيد الأشكال الفنية ، والأساليب ، والأدوات التعبيرية .
كان تطور الفن الروائي – كأي فن آخر – مرتبطاً دوماً بتجارب إبداعية  جديدة ورائدة. ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد تجارب الروائيين الكلاسيكيين الروس والفرنسيين ، وتجارب الروائيين المحدثين : " يوليسيس" لجيمس جويس ، و" البحث عن الزمن الضائع " لمارسيل بروست ، والروايات الثلاث " القصر " و " المحاكمة " و " أميركا " لفرانز كافكا ، وروايات اخرى كثيرة .
 ولكن بعض التجارب الشكلية العقيمة في الأبداع الروائي ، التي يصعب قراءتها – ليس لأنها جديدة على صعيد الشكل والمضمون ،  بل لأنها -على النقيض من أنواع الروايات الإبداعية - أجزاء مفككة ، وليس فيها حبكة سردية واضحة ، ويغيب عنها منطق السبب والنتيجة ، ولا يعرف القاريء من هو البطل ، حيث يتركز الإهتمام على الأسلوب أو الشكل والهيكل . وهي تجارب صاحبتها ضجة اعلامية هائلة ، وأصابت القراء – حتى المثقفين منهم ، المتابعين لكل ما هو جديد حقاً في الأدب العالمي - بخيبة أمل شديدة.
قال  جان- بول سارتر على إثر أفول موجة " الرواية الجديدة "  : "ان الرواية قد وصلت الى طريق مسدود ، وانها في طريقها الى الزوال ، وهي الآن تحتضر ، وتفقد يوما بعد آخر أهميتها ومكانتها ، ولن يمضي زمن طويل حتى تحل محلها الألوان الفنية والأدبية الجديدة الأكثر قدرة على التعبير عن روح العصر ، وعلى التواصل والتأثير .وإن الادب الوثائقي او التسجيلي هو ادب المستقبل ، لأنه أكثر إستجابة لمتطلبات المجتمع ، وحاجات العصر ". كان سارتر على حق حين تنبأ ببروز الرواية الوثائقية ، التي احتلت في السنوات اللاحقة  مكانة بارزة  في الأدب الروائي ، ولعل منح جائزة نوبل في الآداب لعام 2015 الى الكاتبة البيلاروسية  سفيتلانا الكسيفيتش خير دليل على ذك  ، وهي التي لم تكتب خلال رحلتها الأدبية التي ناهزت ثلاثين عاماً ، سوى الروايات الوثائقية . الكسيفيتش تلتقي مئات الأشخاص  وتستمع الى مئات القصص الموجعة التي تمزق القلب ، وتنتقي الحوادث والحقائق الأكثر أهمية ، وتعيد صياغتها بشكل فني ، ورواياتها لا تقل روعة وتأثيراً عن أي رواية كلاسيكية جيدة.
الرواية بشتى أنواعها ، وخاصة الرواية الخيالية لم تصل الى طريق مسدود ، على خلاف توقعات سارتر . وهي عصية على الموت .ولكنها تأثرت الى حد بعيد بالتطورات العاصفة التي حدثت في وسائل الإتصال الجماهيري ( السينما ، والإذاعة ، والتلفزيون ، والإنترنيت ، والوسائط المتعددة ) التي أصبحت مصادر أساسية لتقديم المعلومات وتلبية الحاجات الجمالية والثقافية للأنسان .ذلك لأن هذه الفنون الجديدة – وهي وليدة التورة المعاصرة في العلم والتكنولوجيا – تتميز عن الفنون الكلاسيكية ، وفي مقدمتها الرواية بعدة خصائص بالغة الأهمية . فهي قبل كل شيء فنون تتمتع بحيوية فائقة ، وسرعة عظيمة تجعل الفاصل الزمني بين خلق الأعمال الفنية ، وبين تقديمها الى المتلقي قصيرا للغاية ، بينما كان هذا الفاصل ، وما يزال طويلاً الى حد كبير بالنسبة الى الرواية  الورقية  المطبوعة . لنقارن مثلاً بين نقل أحد العروض المسرحية عن طريق التلفزيون ، وبين دفع الرواية المخطوطة الى المطبعة ، والمدة الزمنية التي تستغرقها عملية الطباعة والنشر والتوزيع ، وأخيراً إقتناء الرواية من قبل القاريء، وتفرغه لقراءتها .
ويمكن القول ان هذه الفنون قد ساعدت على إشاعة الديمقراطية الثقافية  ، وأتاحت الفرصة لملايين البشر للأطلاع على النتاجات الفنية ، بعد أن كانت هذه النتاجات حكراً على فئة صغيرة من المثقفين . وعلى الرغم من الزيادة  المضطردة في أوقات
الفراغ التي وفرها التقدم العلمي – التكنولوجي ، الا ان وسائل الاتصال والاعلام الحديثة مثل التلفزيون والإنترنيت ، وخاصة مواقع التواصل الإجتماعي ، تستحوذ على الجزء الأكبر من أوقات الفراغ لدى الجمهور الواسع - رغم أنها وسائل سلبية ، لا تترك أثراً في النفس ، ولا حاصلاً في الذهن -  ذلك لأن هذه الوسائل لا تتطلب الا جهداً ضئيلاً لأستيعاب البرامج ، التي تقدم من خلالها. وهذا أمر مهم للغاية ، لأن الحياة المعاصرة تميل الى التعقيد والتشابك ، وتفرض على الإنسان ضريبة باهظة من ذهته وأعصابه ، وتحاصره ، وتسلب حواسه ووقته بشتى الوسائل . ولهذا السبب تحديداً نجد الإنسان المعاصر لا يملك الوقت الكافي للقراءة ، الا في فترات قصيرة وعابرة ( في القطار أو الباص أو الطائرة أو قاعات الإنتظار). وقلما نجد اليوم شخصاً يخصص أمسية كاملة لقراءة رواية ما - اذا استثنينا بطبيعة الحال محترفي الأدب ، ونحن نتحدث هنا عن المتلقي العادي . ولم يحدث في التأريخ قط أن مارس فن من الفنون تأثيراً عظيما كالذي تمارسه اليوم وسائل الإتصال الحديثة .
لم يعد القاريء يبحث اليوم في الرواية عن الجوانب الغامضة لحياة الفرد او المجتمع في هذا البلد او ذاك ، أي انها لم تعد المصدر الوحيد للمعلومات ، كما كانت في الماضي . فثمة وسائل أخرى كثيرة أكثر قدرة على التوصيل الآني السريع . كما أن الرواية تخلت عن القيام بالوظائف التي أصبحت اليوم مادة لبعض العلوم الإنسانية كعلم النفس مثلاً . ولكن للرواية وظائف أخرى لا يمكن أن تنهض بها العلوم الإنسانية ، ولا الوسائل الإعلامية ، ولا الفنون الأخرى مجتمعة .
. ومن هذه الوظائف وصف وتحليل النفس البشرية في أدق خلجاتها وأوعى أحاسيسها ، والتي تختلف عن أية نفس بشرية أخرى .
ان وظائف ، الرواية كما الفنون الأخرى لا بد أن تكون فردية ، ممعنة في الفردية ، على العكس من وظائف العلوم الإنسانية ، التي تميل بطبيعتها الى التعميم . كما أن الرواية تقوم في الوقت ذاته بتحديد المعايير الجمالية والأخلاقية ، والبحث عن معنى الحياة ، ومصير المجتمع الإنساني . لهذا فإن الرواية لا يمكن أن تموت أبداً. فليس ثمة مجال علمي واحد يمكن أن ينهض بهذه الوظائف جميعاً.
ان الباحث العلمي – بصرف النظر عن المجال الذي يعمل فيه – يحاول الإلتزام بأقصى درجات الموضوعية ، وذاتيته المتفردة تخضع لمنهج البحث وأهدافه . أما الكاتب الروائي فإنه يحاول التعبير عن ذاته المتفردة  بأعماله الإبداعية . ولهذا فان هذه الأعمال تعبرعن علاقة الكاتب الذاتية بعالم  الحقائق والقيم والأفكار ، التي تتكون منها الحياة الإنسانية. ولهذا السبب تحديداً ، نجد أن النصوص العلمية تفقد أهميتها بمرور الزمن ، أما روائع الآثار الفنية فانها خالدة . فالحقائق العلمية الجديدة تنفي سابقاتها ، أو تصححها ، أوتعمقها. ولكن لا يمكن لأية حقائق جديدة أن تسلب الآثار الفنية قيمتها وأهميتها.
حقا ان الروايات العظيمة تشكل مصدرا مهما للمعلومات عن العصور التأريخية ، كرواياتت تولستوي ومسرحيات شكسبير على سبيل المثال . ولكن القيمة الفنية لهذه الأعمال لا تتضاءل مع تعاظم معلوماتنا عن نابليون أو ريتشارد الثالث عن طريق المصادر التأريخية الموثوقة . وثمة مجالات فكرية وثقافية واسعة –تعالجها الرواية - ليس بوسع السينما أو التلفزيون أو أي وسيلة فنية أخرى أن تقتحمها . ولكن وجود هذه المنافسة يجب ان يكون حافزا للبحث عن اشكال جديدة لأحتواء المضامين الجديدة. وهذا يعني ان كتابة الرواية اليوم هي أصعب من أي وقت مضى .
لا يمكن للروائي المعاصر أن يكتب روايته ، كما كان يكتبها تولستوي او بلزاك أو فلوبير ، أو حتى جويس أو بروست أو كافكا . لأن الأدب الروائي كأي نشاط فكري وفني آخر للبشر وثيق الصلة بالظروف التأريخية . وان القوانين والأساليب والأنماط الإبداعية في أي مجال من مجالات النشاط الفكري الإنساني دائمة التغيّر والتطور . ولكن اذا كانت مهمة الرواية  قد أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدا ، فإن ذلك يجب ان لا يقود الروائي الى التخلي عن المحاولات الإبداعية التجريبية . وليس ثمة طريقة أخرى لأحتفاظ الرواية  بمكانتها المتقدمة بين الأجناس الأدبية ، وإزدهارها في العصر الرقمي ، سوى البحث عن أشكال تعبيرية جديدة أكثر قدرة على التوصيل .
 


37
صواريخ حكومات حزب الدعوة واقمارها الصناعية
جودت هوشيار *         
اعتادت حكومات حزب الدعوة الأربع المتعاقبة ، التي تسلطت على رقاب الشعب العراقي خلال السنوات العشر الأخيرة ، أن تستخف بعقول العراقيين وتتحايل عليهم بالبيانات المضللة والأنجازات الموهومة . ولكن لنبدأ الحكاية من أولها .
في اوائل حزيران 2011 أعلنت وزارة الأتصالات العراقية أن " الحكومة الايطالية ستقوم بتأهيل مهندسين فضائيين عراقيين في نهاية العام المذكور لغرض صناعة أول قمر صناعي عراقي وعربي . "
ويبدو ان القمر الصناعي - الذي طال انتظاره – أصبح الشغل الشاغل لكل قادم جديد لشغل منصب وزير الإتصالات ولحاشيته المختارة من الخبراء الأفذاذ .، حيث دأب كل وزير جديد ، هو والمقربون منه على اطلاق التصريحات واصدار البيانات الرنانة حول القمر الصناعي الموعود " الذي يأتي ولا يأتي " على حد قول الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي . وهم يعتقدون انهم بذلك سيجعلون الناس تصدق حكاية القمر الموهوم ، ايماناً بمقولة وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز " أكذب ، ثم اكذب ، الى أن يصدقك الناس " ( راجع على سبيل المثال بيانات الوزارة - حول قرب اطلاق القمر المزعوم - الصادرة في ( أيار /مايو 2012 ، كانون الثاني / يناير 2013 ، نيسان/أبريل 2013 ، أيار/ مايو 2013 )
ويبدو ان وزير الأتصالات ، السيد حسن كاظم الراشد يريد أن تتوج  انجازات حكومات حزب الدعوة الأربع  بأنجاز تكنولوجي مبهر ، بعد ان تحول العراق الى واحة للأمن والأمان ، وجزيرة للأستقرار والأزدهار الإقتصادي ، والعلمي – التكنولوجي. و لم يتبقى سوى العمل على اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة . !  فقد أعلن الوزير الهمام ، أن العراق على أبواب إطلاق قمر صناعي سيادي ! وذلك  في كلمته خلال حفل افتتاح معرض جيتكس الثاني في ( 16-2-2017 ) على ارض معرض بغداد الدولي. وان القمر سيحقق للعراق قفزة علمية كبيرة في ولوج عالم الفضاء ". وليس من الواضح ما هو المقصود بالقمر السيادي ؟ هل يعني ذلك ان القمر المزعوم  سيصنع بأيدي عراقية مائة بالمائة ، أم أن العراق سيكون بمقدوره التحكم في مسار القمر واستخداماته . على أية حال سيبقى للسيد الوزير ريادة اطلاق مصطلح ( السيادي ) على  نوع جديد من الأقمار الصناعية التي يتم توجيهه بالريموت كونترول من وزارة الإتصالات .
والمصطلح الجديد جميل ، ويؤكد ان السيادة العراقية مصانة حتى في الجو بعد تأمينها على البر والبحر ، وان الإنتهاكات المزعومة للسيادة العراقية من قبل دول الجوار ، مجرد اشاعات وأقاويل لا قيمة لها .
السيد الوزير يرى ان تصنيع واطلاق أو قمر صناعي عراقي ( سيادي ) من المهام العاجلة لوزارته . واذا كانت الدول المتخلفة تلجا الى الدول الصناعية المتقدمة مثل روسيا أو فرنسا لوضع أقمارها الصناعية فى الفضاء الخارجى و تأمين الأتصال معها ، فأن خبراء الوزارة فى مجال تصميم وتصنيع  الصواريخ وعلمائها في مجال تقنية الفضاء قادرون لوحدهم من دون أي مساعدة خارجية على تخطى كل الصعوبات الفنية التى تقف أمامهم بعزيمة لا تلين من اجل وضع أول قمر صناعى عراقى ( سيادي ) فى مدار حول الأرض في القريب العاجل.
والحق ان خطط الوزير الهمام  فى مجال غزو الفضاء ، تتسم بأبعاد ستراتيجية مهمة ، ولا تقل أهمية عن خطط وزير النقل السيد كاظم فنجان الذي كشف النقاب عن أول مطار في التأريخ تم إنشائه في الناصرية قبل آلاف السنين وعن سفن الفضاء السومرية .وان وزارته عازمة على احياء أمجاد الأجداد الفضائية . واذا تركنا جانبا بالونات التصريحات الهوائية والمصطلحات المبتكرة وتحدثنا بلغة العلم والتكنولوجيا نقول :
ان تصنيع الأقمار الصناعية -  يا سيادة وزير المواصلات - يتطلب  قبل كل شيء قاعدة صناعية متطورة ، كالتي تمتلكها الدول الصناعية المتقدمة . ويبدو ان العراق قد أنشاء مثل هذه القاعدة الصناعية في صمت وهدؤ ، لتكون مفاجئة للقاصي والداني من حسّاد العراق .
اما المرحلة الثانية ، فهي أنشاء محطات الأتصال بالأقمار الصناعية لغرض التحكم في مسارها واستخداماتها . وهذه المرحلة – كما يبدو من تصريحات السيد الوزير قد انجزت بسرعة قياسية وهي جاهزة للعمل ، في نفس الموقع الذي كان السومريون يطلقون منه سفن الفضاء .
أما المرحلة الثالثة ، فهي صنع القمر الصناعي ذاته.
هذه المراحل الثلاث - ايها السيد الوزير – هي مراحل متعاقبة ومترابطة ، وضرورة حتمية لكل من يود اطلاق قمر صناعي مهما كان نوعه او الغرض من تصنيعه
. ومن المستحيل اطلاق قمر صناعي مهما صغر حجمه من دون انجاز هذه المراحل كاملة والقيام بتجارب ميدانية مضنية للتحقق من نجاحها . فالحديث عن اطلاق قمر اصطناعي من دون وجود قاعدة صناعية متطورة ، ومن دون تصنيع الصواريخ الحاملة له ، ومن دون إنشاء محطات الإتصال  ، ينم عن جهل فاضح ، إن لم يكن تضليلاً متعمداً .
ونزيد السيد الوزير علماً ، إن إنجاز هذه المراحل بنجاح يمهد لأنتاج صواريخ أرض – ارض . وأنه لا توجد فروق جوهرية . بين صواريخ إطلاق الأقمار الصناعية وإطلاق الصواريخ البالستية ، فالصاروخ الذى يحمل قمرا صناعيا ، يمكنه بتعديلات تصميمية وتكنولوجية صحيحة، ومجربة ، ان يحمل رأسا حربيا تقليديا أو كيمياويا أو نوويا ، و لذلك فأن أمتلاك صواريخ اطلاق الأقمار الصناعية ، يخدم اكثر من هدف ستراتيجي واحد . 
ويبدو ان تصنيع منظومة متكاملة لأطلاق الأقمار الصناعية ( الصواريخ ، محطات الأتصال ، القمر الصتاعي ) أسهل على خبراء وزارة الإتصالات من تصنيع جهاز بسيط  لكشف المتفجرات ، لا يزيد سعره على عشرين دولاراً ً
كان الله في عون الشعب العراقي المبتلى بـتلاميذ غوبلز ، الذين لا يملّون من الإستخفاف بالعقول ، والضحك على الذقون . لأنهم لا يتقنون مهنة سواها .
....................
جودت هوشيار : مهندس استشاري وكاتب
 



38
أشهر وصية في التاريخ أَوقصة جوائز نوبل
                                                   
جـودت هوشيار             
الفرد نوبل – عبقرية علمية فذة ، يرتبط اسمه في المقام الأول باختراع الديناميت ومتفجرات اخرى  فتاكة ,وان كان له عدد كبير من الإختراعات المهمة الأخرى ، التي لا علاقة لها بالأنتاج الحربي ، ولكن اسم نوبل يقترن ايضا في اذهان المعاصرين وعلى نحو راسخ بجوائز نوبل العالمية ذات المكانة الرفيعة ،  والتي تأسست بناءاً على وصيته الشهيرة . ولا يعرف سوى عدد ضئيل من الناس كيف طرأت فكرة هذه الجوائز في ذهن نوبل , ذلك لأن حياته ظلت الى عهد قريب تكتنفها الاسرار ويلفها  الغموض . ورغم ان اختراعاته المثيرة قد جلبت له مجداً عريضاً وثروةً طائلةً , فقد كشفت الدراسات التي أجريت مؤخرا , انه ظل الى اخر يوم في حياته يعاني من الوحدة والعزلة , وسنحاول في الفقرات اللاحقة القاء الضوء على حياته المليئة بالانجازات العلمية الباهرة من جهة والحزن والاحباط واليأس من جهة اخرى ، أضافة الى تصحيح بعض الآراء الخاطئة الشائعة عن أسباب قيامه بتخصيص ثروته الطائلة في سبيل التقدم العلمي والثقافي وتوطيد السلام في العالم ، هذه الاراء ، التي لا تمت الى الحقيقة بصلة , من قبيل الرأي السطحي القائل ان نوبل قد شعر بالندم للنتائج المرعبة التي ترتبت على اختراعاته العلمية ، فقرر التكفير عن (ذنوبه) بتأسيس الجوائز المعروفة بأسمه , ان الحقيقة أعمق من ذلك  بكثير , فقد أقدم الفرد نوبل على هذه الخطوة بعد معاناة طويلة على امتداد سنوات عديدة وجاءت كمحصلة طبيعية لفلسفته ونظرته الى الحياة واِلى مستقبل الجنس البشري .
المليونير الحزين
في ربيع العام 1876م نشرت احدى صحف فينا اعلاناً مثيراً بمقاييس ذلك العصر : "رجل كهل ، مثقف وثري  يقيم في باريس ويتقن عدة لغات اوربية , يبحث عن إِمراة في منتصف العمر للعمل بصفة سكرتيرة ومديرة منزل , وقد أستجابت لهذا الاعلان سيدة نمساوية أرستقراطية جذابة تبلغ من العمر (33) عاما ¸هي " بيرتا كينسكي" ، التي كانت في ذلك الوقت مضطرة للعمل كمديرة منزل لكسب قوتها .
 ربما أحست برتا بين السطور مدى الوحدة التي يعاني منها هذا السيد الكهل , وتبين ان الشخص الذي نشر الاعلان كان صادقا تماما , فقد كان ثريا ومثقفا فعلاً ، ويتقن عدة لغات اوربية , وإِن كان من الصعب وصف رجل في الثالثة والاربعين من عمره بالكهل . وحين التقيا في باريس ادركت بيرتا انه يبحث عن ما هو أكثر من مجرد سكرتيرة ، ربما عن زوجة , ومما يؤسف له ان بيرتا كانت تحب رجلاً آخر , وقالت ذلك لنوبل بصراحة , عندما سألها ان كان قلبها خاليا . وبعد اسبوع واحد من مباشرتها العمل عادت الى فينا ولكنها لم تسنطع ابدًا ان تنسى الباريسي الكئيب ، الذي كان من المحتمل أن تقترن به , لو شاءت ذلك وظلت صورة نوبل عالقة بذهنها : رجل لبق ومتواضع الى حد يكاد ان يكون تدميراً للذات , متقلب المزاج بشكل حاد وفجائي – من الانبهار الشديد الى الحزن العميق او اليأس .
لم يكن نوبل يشبه الاخرين من معارفها ،  وظلا صديقين طوال حياته وحتى لحظة وفاته , التي واجهها - بعد عشرين عاما من لقائهما فى باريس -  وحيدا في فيلته بايطاليا , كانت الفيلا فى البداية  تسمى " العش " و هى كلمة  توحي بوجود زوجين , وحينئذ اطلق على الفيلا أسم " نوبل" .  وعلى هذا النحو لم يتزوج ابدا , وأصبحت بيرتا التي لقبت فيما بعد بــ "البارونة فون زوتنر" كاتبة معروفة وداعية ناشطة في حركة السلام الاوربية , وربما كان ذلك  احد الاسباب التي دفعت نوبل الى تخصيص جائزة للسلام ، علاوة على الجوائز المكرسة للأنجازات العلمية والادبية , والتي تمنح سنويا تنفيذا لوصيته.
 في العام 1905م منحت جائزة السلام الى بيرتا ، التي وصفت نوبل بأنه : ( رجل قصير القامة , له لحية سوداء ناعمة وملامح  وجه دقيقة , وعيناه الزرقاوان تلمعان بحيوية تحت حاجبين كثيفتين عندما كان في عنفوان شبابه , وبمضي الزمن اصبح تعبير وجهه ذاهلا ، ويكاد يكون حالما .  لم يكن يحب قط ، الوقوف أمام عدسات المصورين , ويتجنب لقاء الصحفيين ويبتعد عن الاضواء  ويحافظ دوما على مسافة بينه  وبين شركائه ومرؤوسيه , وبفضل أختراعاته الخطيرة , إِستطاع ان يجمع ثروة طائلة , كانت  تعتبر من أكبر الثروات خلال القرن التاسع عشر , هذه الثروة أصبحت أساس الجوائز الشهيرة التي أسسها . كان نوبل انسانا مجاملا ومرهف الحس ، ومحل أعجاب كل من عرفه تقريبا . وكانت امه شديدة التعلق به . ولكن شيئا ما في قرارة نفسه كان يجعل حياته  مليئة بالمرارة والاسى ، ويبعث على عدم الرضا عن نفسه , حيث لم يعرف الهدوء في حياته قط ، وليس أدل على ذلك من السيرة الذاتية المقتضبة التي كتبها نوبل :
-         الفرد نوبل : كان على الطبيب الذي أشرف على ولادته ان ينهي وجوده رحمةً به .
-         فضائله الرئيسية : عدم تكوين أسرة , رداءة هضم الطعام .
-         امنيته الوحيدة : ان لا يدفن حيا .
-         الحوادث المهمة في حياته : لا توجد .
لم تكن حياة الفرد نوبل تافهة  على الاطلاق , كما تبدو من هذه السطور الطافحة بالتهكم واليأس ،  بل انها كانت في الواقع محاطة بالدفء والحنان من قبل الاقارب وحافلةً بالانجازات العلمية ، التي أتاحت له جمع ثروة ضخمة ونيل شهرة مدوية . ولكن من طبع اي عبقري ان لا يرضى عن نفسه ابدا , اما الانسان النرجسي فعلى العكس من ذلك يتبجح بفضائله الموهومة ويكيل المديح لنفسه ان لم يجد احدا يفعل ذلك نيابة عنه .
عائلة نوبل
في العام 1827م  اقترن عمانوئيل نوبل (1801 – 1872م ) بكارولين اندرييتا السيل (1803-1889م) وانجبا اربعة اولاد : روبرت ( 1829م) لودفيك ( 1831م ) والفرد (21-10- 1831م واخيرا اميل (1842م ) .
 كان عمانوئيل نوبل مخترعاً موهوباً ورجلاً طموحاً ومغامراً ، وحياته مليئة بالانجازات العلمية والاختراعات المدوية والكوارث , اما كارولين اندرييتا السيل , فقد كانت امرأة قوية العزيمة ومرفأ العائلة في الاوقات العصيبة والشدائد .
وحين أفلس عمانوئيل في السويد , قررت هذه السيدة المكافحة فتح حانوت صغير لبيع المواد الغذائية مما ساعد على توفير الحد الادنى من متطلبات الحياة للعائلة , وأراد عمانوئيل نوبل ان يجرب حظه في بلد اخر , فسافر الى فنلندا في العام  1837م ولكنه لم يلق النجاح،  فشد الرحال في العام 1842م الى بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية, حيث نجح في أقامة وتشغيل مصنع لأنتاج المكائن البخارية وانواع اخرى من المعدات .وكان اهم نجاح حققه في روسيا هو توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية لتجهيز الجيش الروسي بانواع الاسلحة والأعتدة ، ولكن القدر تدخل هذ المرة ايضا , فقد انتهت حرب القرم (1853-1856م ) بين روسيا  والدولة العثمانية بانتصار روسيا ، وبذلك أنتفت الحاجة الى السلاح الذي كان يورده عمانوئيل نوبل , وقامت وزارة الدفاع القيصيرية بالغاء العقد الموقع  معه , وأضطر عمانوئيل للعودة الى السويد .وهنا في ستوكهولم انهمك بحماس شديد في اجراء التجارب ودراسة امكانية الاستخدام الستراتيجي للنتورجلسيرين وكانت هذ المادة قد أكتشفت  قبل ذلك ب (14) عاما , ولكن لم يتم الاستخدام العملي لها .
نشأ الفرد نوبل طفلا عليلا يعاني من آلاّم في العمود الفقري وامراض اخرى ، ولك ذلك لم يمنعه من أظهار موهبة فائقة في سن مبكرة لتعلم اللغات الاجنبية .وقد تلقى تعليما ممتازاً على ايدي أساتذة متخصصين في بطرسبورغ ثم واصل دراسته لمدة سنتين (1850-1852م ) في كل من فرنسا وايطاليا . وقام بجولة في عدة دول اوربية منها المانيا , كما زار الولايات المتحدة الأميركية , وأكتسب خبرة عملية واسعة . وعلى الرغم من اعتلال صحته فقد كان دؤوباً  محباً للعمل ، وكان والده عمانوئيل  نوبل يسميه (الفرد اللبيب الدؤوب ). ومع مضي الزمن أصبح  يقدر العمل  أكثر فأكثر ، حيث كان يقول :" إن العمل يجعل كل شيئ رائعا " . كان يكره الدعة والخمول والكسل ويدرك على نحوعميق بأن كل ما ينجزه الانسان هو بفضل العمل الواعي الموجة نحو تحقيق غاية معينة وهدف محدد لذلك كان يخطط لكل خطوة يخطوها ويعرف ما يريد بالضبط .
الشاب اليافع أدرك ان الحياة ليست عملاً فقط  ،وأحس بذلك بقوة في باريس على وجه الخصوص.  وعرف (الفرد) سعادة الحب في هذه المدينة ، ولم يدم حبه طويلا . الذكرى الوحيدة عن هذا الحب هي قصيدة قصيرة ، فقد كان نوبل في مقتبل حياته يكتب الروايات والمسرحيات ويجرب الشعر , ومن المحتمل انه كان سينعم بمباهج ومرارة الحياة الزوجية ، ولكن حبيبته ماتت فجأة وتركت لوعة في نفس الفرد ، فقرر العدول نهائيا عن فكرة الزواج والعزوف عن مباهج الدنيا ليكرس حياته للأهداف النبيلة .
انجازات وكوارث
 في خمسينات القرن التاسع عشر تدرب وعمل (الفرد ) في مصنع والده في سان بطرسبورغ مع اخويه لودفيك وروبرت , لقد ظل الشبان الثلاثة في روسيا لبعض الوقت حتى بعد عودة والدهم الى السويد. ولقد كُلّف الفرد – بسبب معرفته اللغتين الانجليزية والفرنسية- بمهمة في كل من انجلترا وفرنسا , مهمة حساسة كتب لها الفشل مسبقا وهي الحصول على قرض مالي .
وفي هذ الفترة تقريبا اخذ ( الفرد ) يبدي اهتماما بعلم الكيمياء حيث تمكن من تسجيل براءة اختراع لأول مرة في عام  1857م وشرع باجراء التجارب بالاشتراك مع والده على مادة النتروجلسرين , وكان النجاح حليفهما اوعلى وجه الدقة حليف الفرد نوبل ، الذي بذل جهوداً مضنية وطويلة لأثبات ان الاختراع يعود اليه وليس لوالده , لقد كانت القوة التدميرية للنتروجلليسرين معروفة قبل ذلك ولكن لم يتمكن احد من تحقيق استخدامها العملي .
 ان توصل الفرد نوبل الى اختراع كبسولة التفجير، التي يمكن بواسطتها احداث تفجير في حاوية مملؤة بالنتروجلسيرين السائل كان على جانب عظيم من الاهمية .وقرر الفرد اشراك شقيقه الاصغر اميل – وكان مايزال تلميذا في المدرسة الثانوية – في هذه التجارب وتمكن الشقيقان من انتاج عدد محدود من هذ الكبسولات في مختبر صغير قرب مدينة ستوكهولم .
كان ذلك في عام 1863م  , وكانت هذه التجارب محفوفة بالمخاطر العظيمة ولكنهما واصلا عملهما دون كلل.  وبعد عام واحد وفي ساعة مبكرة من الصباح عندما كان الفرد في رحلة عمل خارج ستوكهولم ووالده مايزال يتناول طعام الافطار ،حدث انفجار هائل في المختبر ادى في الحال الى وفاة أميل وأربعة أشخاص اخرين , ولكن الفرد كان واثقا من النجاح ولم تثبط هذه الكارثة عزيمته ولم يتخل عن مشاريع اقامة مصانع في وطنه السويد وفي المانيا .وكان بعيد النظر سواء خلال الفترة الحرجة او في السنوات اللاحقة , عندما أنشأ مصانع في بلدان اوربا واميركا ,حيث تخلى عن حقوق براءة الاختراع لقاء مشاركته في ارباح المصانع المقامة في داخل وخارج وطنه , كان الانفجار في ستوكهولم  بداية لسلسلة طويلة من الكوارث المفجعة ،  التي كانت كافية – على ما يعتقد – للأقلاع عن فكرة انتاج النتروجلسرين على نطاق صناعي قبل ان يبدأ مثل هذا الانتاج فعلا , ان خزن ونقل النتروجلسرين كان أخطر مما كان يتصوره الفرد نوبل نفسه , ففي عام 1866م  تناثرت في الهواء قرب سواحل بنما باخرة محملة بالنتروجليسرين وأدى الحادث الى مقتل (74) شخصا وبعد أقل من شهر واحد قتل (14) شخصا في انفجار مخزن في سان فرانسسكو ودمر انفجار هامبورغ المصنع الذي أقامه الفرد نوبل بعد مرور عام واحد فقط من الانتاج فيه . وحدثت انفجارات مماثلة في كل من نيويورك وسدني .
وعاد الفرد نوبل الى المختبر لإيجاد حل يضمن نقل وتداول وأستخدام النتروجليسرين بشكل اّمن . كان يبحث عن مادة صلبة على شكل مسحوق او الياف تمتص النتروجليسرين مما يزيل قابلية هذه المادة للأنفجار تلقائيا .واخيرا استقر رأيه على مادة تسمى (Kiese Lgur) ، التي تكون مع النتروجليسرين مادة أقل خطورة في التداول .  وأطلق نوبل على هذه المادة الجديدة أسم (ديناميت) وهي كلمة مشتقة من (ديناميك) اليونانية وتعني القوة . وعلى الفور تحولت مادة الديناميت الى اوسع المواد المتفجرة انتشارا في العالم , وأقام نوبل وشركاؤه المصانع في كل من النرويج , فنلندة , فرنسا , ايطاليا , النمسا , اسبانيا , الولايات المتحدة الامريكية , وبكلمة مختصرة في كل مكان يستخدم فيه المهندسون التفجير في حفر المناجم وشق الانفاق وكانت الارباح هائلة .  فعلى سبيل المثال لا الحصر دفعت شركة (بريتش ديناميت) الى المساهمين وبضنمهم الفريد نوبل أرباحا سنوية تتراوح ما بين 12% - 20% طوال (10) سنوات .
وارتفع انتاج الديناميت من 11 طن عام 1867م  الى 3120 طن عام 1874م . و كان تسجيل واستصدار شهادات براءات الاختراع وأبرام  عقود المصانع الجديدة يستنزف الكثير من وقت الفريد نوبل , ولكنه كان مهتما اكثر من اي شئ آخر بتجاربه المختبرية , كان رجل الافكار الجديدة ويبدو سعيدا حينما ينهمك في اجراء التجارب فقط ولا يغادر المختبر الا في وقت متاخر من الليل , وكان يقول "اذا طرأت في ذهني الف فكرة خلال عام واحد ، وتبين ان فكرة واحدة فقط من هذه الافكار ذات قيمة أكون راضيا ".
ولكن الواقع يثبت ان نتائج أعماله كنت مثمرة اكثر من ذلك بكثير ، حيث بلغ عدد الاختراعات التي توصل اليها خلال حياته (355) اختراعاً .
وبعد فترة قصيرة توصل الى مادة متفجرة أقوى سماها (الجيلاتين المتفجر) . وفي الثمانينات حصل على براءة اختراع مسحوق بدون دخان وتهافتت الجيوش الاوربية لشراء هذه المادة الجديدة , ان اهتماماته العلمية كانت اوسع من نطاق المواد المتفجرة .كان يقوم بتجارب كثيرة لأيجاد بدئل صناعية للحرير والجلد والمطاط وتجارب في مجالات اخرى .
نوبل المواطن العالمي
كان نوبل بطبعه وبحكم الضرورة مواطنا عالميا , ويتقن ست لغات اوربية اساسية , كان يحس كأنه في وطنه وبيته في معظم العواصم الاوربية , ففي بداية حياته العملية كان يقطن في هامبورغ ، ثم عاش فترة طويلة في فيلا انيقة في باريس. وفي اواخر حياته اقتنى فيلا كبيرة في أيطاليا وسكن فيها , كان دائم التنقل بين مدن اوربا في رحلات تتعلق بعمله ، وكذلك للمعالجة في المصحات .وأمضى الصيف الاخير من حياته في بيته في فيركبورن بالسويد , وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو اسم (المليونير المتشرد) . وحين تقدم به العمر ، كان نوبل يشكو من الثمن الغالي الذي أضطر لدفعه ثمنا لحياته في التنقل الدائم , قال ذات مرة " انا أجدف بلا مقود أو بوصلة ، بقايا سفينة محطمة في عرض البحر".
 وفي رسالة الى خطيبته كتب نوبل يقول : " لم أكوّن أسرة . هذا المرفأ الحياتي الذي لا يقدر بثمن وليس لي اصدقاء يمكن ان احبهم ، ولا اعداء يمكن ان أكرههم " , كان نوبل يهوى سباق الخيل ، ولكنه كان جد معتدل في مراهاناته ، لم يكن يطيق التدخين والكحول ولعب القمار وكان أشبه بالناسك في عاداته .
كان يحاول دائما ان يستقبل ضيوفه بسخاء منقطع النظير .قال احد معارفه عن الولائم التي كانت تقام في بيت نوبل " أنها مأدب كبيرة تتيح لك أوسع الفرص لأختيار الاطباق وأنواع الخمور , كان أبو الديناميت لا يطيق الضوضاء , لذا فأن عجلات عربته كانت مغطاة بالمطاط كي لا تحدث أي قرقعة ."
نوبل العصامي كان يعتمد على نفسه في كل شي ، وينشد الاستقلال في آارائه ووجهات نظره , التي كانت تختلف عما هو تقليدي او سائد , كان ينظر نظرة شك وريبة الى كافة انواع الحكومات في اوربا وامريكا ، وحين تقرأ مؤلفاته العديدة يبدو لك انساناً يحاول ان يخفي اوهامه ، متوقعا ما هو أسوأ ويأمل - برغم لك – في مستقبل افضل , أما الموضوع الذي كان يشغل باله طوال حياته فهو بحثه المتواصل عن الحب ولكن دون جدوى . وبوسع عالم النفس ان يفترض ان أمه قد حجبت عنه النسوة الأخريات , كان الفريد وأمه أندرييتا متعلقين ببعضهما , وليس أدل على ذلك ان نوبل كان يحرص أشد الحرص ان يحضر الى السويد سنويا في يوم ميلاد أمه , وحين توفيت  كان عمره (56) سنة .وحسب قول نوبل : " كانت تحبني على نحو يعجز عنه الناس هذه الايام ، حيث ان الحياة الصاخبة تعمى كل الاحاسيس " ويتسم موقف نوبل تجاه المرأة بشئ من التناقض فقد كان مسحورا ومبهورا بالنساء ، وفي الوقت ذاته ينفر منهن .وهو الذي كتب عن المرأة يقول : " الجنس اللطيف ولكن المفزع ", وبرغم خجله المعهود فقد كان دائما مهتما بالنساء .
ملك الموت
أتيحت لألفريد فرصة نادرة ليقرأ نبأ وفاته وهو حي يرزق . حدث ذلك عندما توفى شقيقه لودفيك ، الذي جمع ثروة كبيرة من أستخراج النفط من الحقول الغنية قرب مدينة باكو الأذربيجانية, وقد التبس الامر على الصحفي الفرنسي الذي كتب مرثية للفقيد ، وظن ان المتوفي هو الفريد نوبل وأطلق عليه الصحفي أسم " ملك الموت ". ويعتقد البعض ان هذا التنبؤ المشؤوم قد عزز الى حد كبير ميل الفريد نوبل نحو مناهضة الحروب عن طريق النضال السلمي ، فقد أخذ يبدي أهتماما كبيرا بقضايا السلام  العالمي , وعلى مدى سنوات طويلة دافع نوبل عن اختراعاته امام نفسه وامام المجتمع .
لقد كان طوال حياته مناهضا للحرب ووصفها بانها " أكبر وأفظع جريمة " ولكنه في الوقت نفسه كان يؤكد ان الضحايا الانسانية حتمية عند أستخدام اي نوع من المتفجرات حتى لو كان ذلك من أجل هدف نبيل .
ولقد أيد اسهام (بيرتا فون زوتنر) في حركة السلام الاوربية برغم انه كتب اليها يقول " ان مصانعي تقرب نهاية المعارك على نحو أسرع من مؤتمراتكم , ومن  المحتمل جدا انه في اليوم الذي تظهر فيه امكانية لدى جيشين متقاتلين في افناء كل منهما الاّخر خلال ثوان معدودة ، فأن كل الامم المتحضرة تدير ظهرها للحرب ."
في العام 1891 غادر نوبل فرنسا الى ايطاليا بسبب سخط الفرنسين العارم واحتجاجهم ضد قيامه ببيع المسحوق عديم الدخان الى البلدان الاخرى , وفي أيطاليا ، واصل تجاربه على الالياف الصناعية والمواد المتفجرة في فيلته الواقعة قرب ساحل البحر في سان ريمو ، رغم أصابته بمرض القلب , وفي عدد من رسائله الموجهة الى معارفه تنبأ نوبل بموته ورسم صورة قاتمة للحظة وفاته : ( بين خدم غرباء حين لا يكون في جواره انسان قريب وحميم ) وفي أكتوبر 1896 أصيب بنزيف في الدماغ وخلال ثلاثة ايام لم يكن يستطيع الكلام الا بصعوبة شديدة وباللغة السويدية التي لم يكن احد من خدمه يفهمها , وفي العاشر من كانون الاول من العام 1896 وجده احد الخدم وقد فارق الحياة .
 وصية الفريد نوبل
ربما كانت وصية الفرد نوبل اشهر وصية في التاريخ فهي وصية فريدة ، ويمكن اعتبارها أهم اختراع توصل اليه حيث لم يسبق لأحد ان كرس امواله الطائلة لغرض نبيل ، هو تطوير العلم العالمي وتوطيد السلام وتكريم الادباء .
في العام 1895 أي قبل وفاته بعام واحد قام الفرد نوبل ودون الاستعانة بالمحامين بكتابة وصيته .
كان يعتقد ان الثروة الموروثة تؤدي الى زيادة العاطلين والكسالى ولهذا لم يخصص في وصيته سوى جزء صغير من ثروته ، لأقاربه وللمقربين منه ، أما بقية المبلغ فقد اوصى بإيداعه في البنك وتخصيص أرباحه  السنوية كجوائز تمنح كل عام لاولئك الاشخاص الذين قدموا خلال العام المنصرم أافضل الخدمات للإنسانية  . وتوزع جوائز نوبل – حسب الوصية – على خمسة حقول هي ( الفيزياء ، الكيمياء ، الطب أو الفسلجة ، ،\الآداب ، السلام ) . وفي عام 1968 الجهات المانحة للجوائز تخصيص جائزة سادسة في حقل الإقتصاد بناء على إقتراح بنك السويد لمناسبة مرور (300) سنة على تأسيسه .
ان طريقة اختيار المرشحين ومنح الجوائز تختلف قليلا عما جاء في وصية نوبل , حيث تمنح الجوائز ليس للأعمال المنجزة خلال العام المنصرم ، بل تلك المنجزة في الاعوام السابقة , اذا ظهرت اهميتها فيما بعد.  وهذا امر مريح للجهات المانحة والمجتمع الدولي , حيث تتيح هذه الطريقة حرية أوسع في أختيار الابحاث والانجازات الاكثر أهمية خلال فترة زمنية مفتوحة .
نشرت الوصية لأول مرة في أوائل كانون الثاني العام 1897 وأثارت ردود فعل متباينة في السويد والدول الاوربية الاخرى، سرعان ما تحولت الى ضجة حقيقية ، فقد  أتهمه القوميون السويديون بأنه قد خذل ابناء جلدته ، في حين أكد نوبل في وصيته بان تمنح الجوائز لأكثر الناس جدارة واستحقاقاً بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والحدود الجغرافية .
 استمرت الضجة التي أثارتها هذه الوصية , طوال فترة المحاكمات الطويلة بصددها ،والتي شهدت مشادات حادة بين الاطراف المتنازعة ( الجهات المانحة للجوائز وأقارب نوبل) حيث زعم البعض ان الوصية غامضة وغير قانونية  , في حين زعم البعض الاخر بأنه لا يحق لنوبل ان يتصرف بثروته على هذا النحو , ولم تهدأ الضجة التي أثارتها الوصية الا بعد حوالي أربع سنوات .وبحلول عام 1900 كانت كافة الاجراءات التحضيرية لعملية اختبار الفائزين الاوائل قد أستكملت , وقد تحددت اسماؤهم  بعد ذلك بعام واحد.
كان نوبل مالكا للعديد من الشركات ومساهماً في شركات صناعية اخرى ، وذاع صيته في الاوساط العلمية وبين رجال الاعمال والمال والسياسة في اوربا , ولكن شهرته العالمية الحقيقية جاءت مع اختراعه الاهم وهو وصيته , ولكن هذه الوصية لم تكن تنفذ لولا جهود راغنر سولمان - معاونه وسكرتيره وأحد أثنين أوكل اليهما نوبل تنفيذ وصيته .وعلى أية حال فقد حسمت المحاكم امر الوصية وتحقق حلم نوبل بأنشاء  صندوق لتمويل الجوائز المسماة بأسمه . وتولى سولمان رئاسة الصندوق اعتبارا من 1901 .
 وصندوق التمويل هذا ، منظمة غير حكومية ومستقلة ، تتلخص مهمتها الاساسية في تمويل الجوائز وضمان حقوق الجهات المانحة لها ، واخيرا اعداد اجراءات واحتفالات تسليم الجوائز للفائزين .
ان الجوائز تعكس ميول نوبل نفسه : العلوم التطبيقية , الادب , السلم  , كما تعكس نزعته الكوسموبوليتية , ان السمعة الممتازة لهذه الجوائز ربما تفسر بان الجوائز تعبر أصدق تعبير عن افكار نوبل النبيلة واهدافه واحلامه في الوصول الى "مجنمع عالمي يسوده الانسجام الذي لم يخلق بعد ، ولكنه سوف يتحقق حتما , كما يقول المؤرخ المعروف دونالد فلمنغ.
عملية الترشيح والاختيار لجوائز نوبل
 تبدأ عملية الترشيح للجوائز في خريف كل عام . حيث تقوم لجان  نوبل المتخصصة بتوجيه رسائل الى مئات العلماء والى الحائزين على جوائز نوبل في السنوات السابقة ، والى المراكز العلمية المتخصصة في شتى انحاء العالم تطلب منهم ترشيح الاسماء لجوائز العام المقبل , وتوجد (6) لجان لجوائز نوبل ثلاث منها في حقول الفيزياء والكيمياء والاقتصاد لدى الاكاديمية الملكية السويدية للعلوم ولجنة واحدة للطب والفسلجة لدى معهد كارولينا وأخرى للأدب في الاكاديمية السويدية ، وثالثة للسلام في البرلمان النرويجي , تتكون كل لجنة من (5) أشخاص تعينهم الجهة المختصة , ولكن من حق اللجان الاستعانة بخبراء مستقلين من ذوي الكفاءة العالية في مجالات تخصصاتهم .
 وفي شهر شباط تباشر لجان نوبل  بدراسة وتحليل الترشيحات الواردة أليها . و تعقد لهذا الغرض جلسات عديدة و مطولة ، و لكن يمنع منعا باتا ًتسجيل محاضرها . و تعد اللجان تقارير مسهبة عن أبرز المرشحين و ترفع توصياتها الى المراجع المعنية للبت فى الأختيار النهائى .
و تعلن أسماء الفائزين فى يوم ميلاد الفرد نوبل ، المصادف للحادى و العشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر ، و لا تعلن أسماء المرشحين الذين لم يقع عليهم الأختيار . و تتسم أعمال اللجان فى مراحلها الأساسية بالسرية التامة ، و يتم تقليد الجوائز للفائزين فى يوم و فاة نوبل ، المصادف للعاشر من شهر كانون الأول / ديسمبر. و يجرى تسليم جائزة السلام فى العاصمة النرويجية أوسلو بحضور ملك النرويج أو من ينوب عنه من أفراد العائلة المالكة .
أما بقية الجوائز ، فأنها تسلم الى الفائزين بها من قبل ملك السويد فى قاعة الحفلات للفيلارمونيا السويدية فى أجواء أحتفالية مهيبة .
الأنتقادات الموجهة الى لجان جوائز نوبل
تعرضت لجان جوائز نوبل – منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا – الى انتقادات لاذعة ، واسعة النطاق . و فى مقدمة الأنتقادات الموجهة الى هذه اللجان ، أنها تمنح الجوائز لشخصيات أدبية و علمية بارزة ، خلفوا أنجازاتهم الرئيسية ورائهم . و كما قال " برنارد شو " الحائز على جائزة الآداب لعام 1925 م ، ان الجائزة بمثابة طوق النجاة يرمى للسابح المهدد بالغرق بعد صوله الى الشاطىء بسلام ، فى حين أن نوبل ذكر فى وصيته بوضوح ، ان الهدف من منح الجوائز هو مد يد العون الى صفوة الموهوبين الواعدين .
 
 
 
                                           


39
أشهر وصية في التاريخ أَوقصة جوائز نوبل
                                                   
جـودت هوشيار
             
الفرد نوبل – عبقرية علمية فذة ، يرتبط اسمه في المقام الأول باختراع الديناميت ومتفجرات اخرى  فتاكة ,وان كان له عدد كبير من الإختراعات المهمة الأخرى ، التي لا علاقة لها بالأنتاج الحربي ، ولكن اسم نوبل يقترن ايضا في اذهان المعاصرين وعلى نحو راسخ بجوائز نوبل العالمية ذات المكانة الرفيعة ،  والتي تأسست بناءاً على وصيته الشهيرة . ولا يعرف سوى عدد ضئيل من الناس كيف طرأت فكرة هذه الجوائز في ذهن نوبل , ذلك لأن حياته ظلت الى عهد قريب تكتنفها الاسرار ويلفها  الغموض . ورغم ان اختراعاته المثيرة قد جلبت له مجداً عريضاً وثروةً طائلةً , فقد كشفت الدراسات التي أجريت مؤخرا , انه ظل الى اخر يوم في حياته يعاني من الوحدة والعزلة , وسنحاول في الفقرات اللاحقة القاء الضوء على حياته المليئة بالانجازات العلمية الباهرة من جهة والحزن والاحباط واليأس من جهة اخرى ، أضافة الى تصحيح بعض الآراء الخاطئة الشائعة عن أسباب قيامه بتخصيص ثروته الطائلة في سبيل التقدم العلمي والثقافي وتوطيد السلام في العالم ، هذه الاراء ، التي لا تمت الى الحقيقة بصلة , من قبيل الرأي السطحي القائل ان نوبل قد شعر بالندم للنتائج المرعبة التي ترتبت على اختراعاته العلمية ، فقرر التكفير عن (ذنوبه) بتأسيس الجوائز المعروفة بأسمه , ان الحقيقة أعمق من ذلك  بكثير , فقد أقدم الفرد نوبل على هذه الخطوة بعد معاناة طويلة على امتداد سنوات عديدة وجاءت كمحصلة طبيعية لفلسفته ونظرته الى الحياة واِلى مستقبل الجنس البشري .
المليونير الحزين
في ربيع العام 1876م نشرت احدى صحف فينا اعلاناً مثيراً بمقاييس ذلك العصر : "رجل كهل ، مثقف وثري  يقيم في باريس ويتقن عدة لغات اوربية , يبحث عن إِمراة في منتصف العمر للعمل بصفة سكرتيرة ومديرة منزل , وقد أستجابت لهذا الاعلان سيدة نمساوية أرستقراطية جذابة تبلغ من العمر (33) عاما ¸هي " بيرتا كينسكي" ، التي كانت في ذلك الوقت مضطرة للعمل كمديرة منزل لكسب قوتها .
 ربما أحست برتا بين السطور مدى الوحدة التي يعاني منها هذا السيد الكهل , وتبين ان الشخص الذي نشر الاعلان كان صادقا تماما , فقد كان ثريا ومثقفا فعلاً ، ويتقن عدة لغات اوربية , وإِن كان من الصعب وصف رجل في الثالثة والاربعين من عمره بالكهل . وحين التقيا في باريس ادركت بيرتا انه يبحث عن ما هو أكثر من مجرد سكرتيرة ، ربما عن زوجة , ومما يؤسف له ان بيرتا كانت تحب رجلاً آخر , وقالت ذلك لنوبل بصراحة , عندما سألها ان كان قلبها خاليا . وبعد اسبوع واحد من مباشرتها العمل عادت الى فينا ولكنها لم تسنطع ابدًا ان تنسى الباريسي الكئيب ، الذي كان من المحتمل أن تقترن به , لو شاءت ذلك وظلت صورة نوبل عالقة بذهنها : رجل لبق ومتواضع الى حد يكاد ان يكون تدميراً للذات , متقلب المزاج بشكل حاد وفجائي – من الانبهار الشديد الى الحزن العميق او اليأس .
لم يكن نوبل يشبه الاخرين من معارفها ،  وظلا صديقين طوال حياته وحتى لحظة وفاته , التي واجهها - بعد عشرين عاما من لقائهما فى باريس -  وحيدا في فيلته بايطاليا , كانت الفيلا فى البداية  تسمى " العش " و هى كلمة  توحي بوجود زوجين , وحينئذ اطلق على الفيلا أسم " نوبل" .  وعلى هذا النحو لم يتزوج ابدا , وأصبحت بيرتا التي لقبت فيما بعد بــ "البارونة فون زوتنر" كاتبة معروفة وداعية ناشطة في حركة السلام الاوربية , وربما كان ذلك  احد الاسباب التي دفعت نوبل الى تخصيص جائزة للسلام ، علاوة على الجوائز المكرسة للأنجازات العلمية والادبية , والتي تمنح سنويا تنفيذا لوصيته.
 في العام 1905م منحت جائزة السلام الى بيرتا ، التي وصفت نوبل بأنه : ( رجل قصير القامة , له لحية سوداء ناعمة وملامح  وجه دقيقة , وعيناه الزرقاوان تلمعان بحيوية تحت حاجبين كثيفتين عندما كان في عنفوان شبابه , وبمضي الزمن اصبح تعبير وجهه ذاهلا ، ويكاد يكون حالما .  لم يكن يحب قط ، الوقوف أمام عدسات المصورين , ويتجنب لقاء الصحفيين ويبتعد عن الاضواء  ويحافظ دوما على مسافة بينه  وبين شركائه ومرؤوسيه , وبفضل أختراعاته الخطيرة , إِستطاع ان يجمع ثروة طائلة , كانت  تعتبر من أكبر الثروات خلال القرن التاسع عشر , هذه الثروة أصبحت أساس الجوائز الشهيرة التي أسسها . كان نوبل انسانا مجاملا ومرهف الحس ، ومحل أعجاب كل من عرفه تقريبا . وكانت امه شديدة التعلق به . ولكن شيئا ما في قرارة نفسه كان يجعل حياته  مليئة بالمرارة والاسى ، ويبعث على عدم الرضا عن نفسه , حيث لم يعرف الهدوء في حياته قط ، وليس أدل على ذلك من السيرة الذاتية المقتضبة التي كتبها نوبل :
-         الفرد نوبل : كان على الطبيب الذي أشرف على ولادته ان ينهي وجوده رحمةً به .
-         فضائله الرئيسية : عدم تكوين أسرة , رداءة هضم الطعام .
-         امنيته الوحيدة : ان لا يدفن حيا .
-         الحوادث المهمة في حياته : لا توجد .
لم تكن حياة الفرد نوبل تافهة  على الاطلاق , كما تبدو من هذه السطور الطافحة بالتهكم واليأس ،  بل انها كانت في الواقع محاطة بالدفء والحنان من قبل الاقارب وحافلةً بالانجازات العلمية ، التي أتاحت له جمع ثروة ضخمة ونيل شهرة مدوية . ولكن من طبع اي عبقري ان لا يرضى عن نفسه ابدا , اما الانسان النرجسي فعلى العكس من ذلك يتبجح بفضائله الموهومة ويكيل المديح لنفسه ان لم يجد احدا يفعل ذلك نيابة عنه .
عائلة نوبل
في العام 1827م  اقترن عمانوئيل نوبل (1801 – 1872م ) بكارولين اندرييتا السيل (1803-1889م) وانجبا اربعة اولاد : روبرت ( 1829م) لودفيك ( 1831م ) والفرد (21-10- 1831م واخيرا اميل (1842م ) .
 كان عمانوئيل نوبل مخترعاً موهوباً ورجلاً طموحاً ومغامراً ، وحياته مليئة بالانجازات العلمية والاختراعات المدوية والكوارث , اما كارولين اندرييتا السيل , فقد كانت امرأة قوية العزيمة ومرفأ العائلة في الاوقات العصيبة والشدائد .
وحين أفلس عمانوئيل في السويد , قررت هذه السيدة المكافحة فتح حانوت صغير لبيع المواد الغذائية مما ساعد على توفير الحد الادنى من متطلبات الحياة للعائلة , وأراد عمانوئيل نوبل ان يجرب حظه في بلد اخر , فسافر الى فنلندا في العام  1837م ولكنه لم يلق النجاح،  فشد الرحال في العام 1842م الى بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية, حيث نجح في أقامة وتشغيل مصنع لأنتاج المكائن البخارية وانواع اخرى من المعدات .وكان اهم نجاح حققه في روسيا هو توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية لتجهيز الجيش الروسي بانواع الاسلحة والأعتدة ، ولكن القدر تدخل هذ المرة ايضا , فقد انتهت حرب القرم (1853-1856م ) بين روسيا  والدولة العثمانية بانتصار روسيا ، وبذلك أنتفت الحاجة الى السلاح الذي كان يورده عمانوئيل نوبل , وقامت وزارة الدفاع القيصيرية بالغاء العقد الموقع  معه , وأضطر عمانوئيل للعودة الى السويد .وهنا في ستوكهولم انهمك بحماس شديد في اجراء التجارب ودراسة امكانية الاستخدام الستراتيجي للنتورجلسيرين وكانت هذ المادة قد أكتشفت  قبل ذلك ب (14) عاما , ولكن لم يتم الاستخدام العملي لها .
نشأ الفرد نوبل طفلا عليلا يعاني من آلاّم في العمود الفقري وامراض اخرى ، ولك ذلك لم يمنعه من أظهار موهبة فائقة في سن مبكرة لتعلم اللغات الاجنبية .وقد تلقى تعليما ممتازاً على ايدي أساتذة متخصصين في بطرسبورغ ثم واصل دراسته لمدة سنتين (1850-1852م ) في كل من فرنسا وايطاليا . وقام بجولة في عدة دول اوربية منها المانيا , كما زار الولايات المتحدة الأميركية , وأكتسب خبرة عملية واسعة . وعلى الرغم من اعتلال صحته فقد كان دؤوباً  محباً للعمل ، وكان والده عمانوئيل  نوبل يسميه (الفرد اللبيب الدؤوب ). ومع مضي الزمن أصبح  يقدر العمل  أكثر فأكثر ، حيث كان يقول :" إن العمل يجعل كل شيئ رائعا " . كان يكره الدعة والخمول والكسل ويدرك على نحوعميق بأن كل ما ينجزه الانسان هو بفضل العمل الواعي الموجة نحو تحقيق غاية معينة وهدف محدد لذلك كان يخطط لكل خطوة يخطوها ويعرف ما يريد بالضبط .
الشاب اليافع أدرك ان الحياة ليست عملاً فقط  ،وأحس بذلك بقوة في باريس على وجه الخصوص.  وعرف (الفرد) سعادة الحب في هذه المدينة ، ولم يدم حبه طويلا . الذكرى الوحيدة عن هذا الحب هي قصيدة قصيرة ، فقد كان نوبل في مقتبل حياته يكتب الروايات والمسرحيات ويجرب الشعر , ومن المحتمل انه كان سينعم بمباهج ومرارة الحياة الزوجية ، ولكن حبيبته ماتت فجأة وتركت لوعة في نفس الفرد ، فقرر العدول نهائيا عن فكرة الزواج والعزوف عن مباهج الدنيا ليكرس حياته للأهداف النبيلة .
انجازات وكوارث
 في خمسينات القرن التاسع عشر تدرب وعمل (الفرد ) في مصنع والده في سان بطرسبورغ مع اخويه لودفيك وروبرت , لقد ظل الشبان الثلاثة في روسيا لبعض الوقت حتى بعد عودة والدهم الى السويد. ولقد كُلّف الفرد – بسبب معرفته اللغتين الانجليزية والفرنسية- بمهمة في كل من انجلترا وفرنسا , مهمة حساسة كتب لها الفشل مسبقا وهي الحصول على قرض مالي .
وفي هذ الفترة تقريبا اخذ ( الفرد ) يبدي اهتماما بعلم الكيمياء حيث تمكن من تسجيل براءة اختراع لأول مرة في عام  1857م وشرع باجراء التجارب بالاشتراك مع والده على مادة النتروجلسرين , وكان النجاح حليفهما اوعلى وجه الدقة حليف الفرد نوبل ، الذي بذل جهوداً مضنية وطويلة لأثبات ان الاختراع يعود اليه وليس لوالده , لقد كانت القوة التدميرية للنتروجلليسرين معروفة قبل ذلك ولكن لم يتمكن احد من تحقيق استخدامها العملي .
 ان توصل الفرد نوبل الى اختراع كبسولة التفجير، التي يمكن بواسطتها احداث تفجير في حاوية مملؤة بالنتروجلسيرين السائل كان على جانب عظيم من الاهمية .وقرر الفرد اشراك شقيقه الاصغر اميل – وكان مايزال تلميذا في المدرسة الثانوية – في هذه التجارب وتمكن الشقيقان من انتاج عدد محدود من هذ الكبسولات في مختبر صغير قرب مدينة ستوكهولم .
كان ذلك في عام 1863م  , وكانت هذه التجارب محفوفة بالمخاطر العظيمة ولكنهما واصلا عملهما دون كلل.  وبعد عام واحد وفي ساعة مبكرة من الصباح عندما كان الفرد في رحلة عمل خارج ستوكهولم ووالده مايزال يتناول طعام الافطار ،حدث انفجار هائل في المختبر ادى في الحال الى وفاة أميل وأربعة أشخاص اخرين , ولكن الفرد كان واثقا من النجاح ولم تثبط هذه الكارثة عزيمته ولم يتخل عن مشاريع اقامة مصانع في وطنه السويد وفي المانيا .وكان بعيد النظر سواء خلال الفترة الحرجة او في السنوات اللاحقة , عندما أنشأ مصانع في بلدان اوربا واميركا ,حيث تخلى عن حقوق براءة الاختراع لقاء مشاركته في ارباح المصانع المقامة في داخل وخارج وطنه , كان الانفجار في ستوكهولم  بداية لسلسلة طويلة من الكوارث المفجعة ،  التي كانت كافية – على ما يعتقد – للأقلاع عن فكرة انتاج النتروجلسرين على نطاق صناعي قبل ان يبدأ مثل هذا الانتاج فعلا , ان خزن ونقل النتروجلسرين كان أخطر مما كان يتصوره الفرد نوبل نفسه , ففي عام 1866م  تناثرت في الهواء قرب سواحل بنما باخرة محملة بالنتروجليسرين وأدى الحادث الى مقتل (74) شخصا وبعد أقل من شهر واحد قتل (14) شخصا في انفجار مخزن في سان فرانسسكو ودمر انفجار هامبورغ المصنع الذي أقامه الفرد نوبل بعد مرور عام واحد فقط من الانتاج فيه . وحدثت انفجارات مماثلة في كل من نيويورك وسدني .
وعاد الفرد نوبل الى المختبر لإيجاد حل يضمن نقل وتداول وأستخدام النتروجليسرين بشكل اّمن . كان يبحث عن مادة صلبة على شكل مسحوق او الياف تمتص النتروجليسرين مما يزيل قابلية هذه المادة للأنفجار تلقائيا .واخيرا استقر رأيه على مادة تسمى (Kiese Lgur) ، التي تكون مع النتروجليسرين مادة أقل خطورة في التداول .  وأطلق نوبل على هذه المادة الجديدة أسم (ديناميت) وهي كلمة مشتقة من (ديناميك) اليونانية وتعني القوة . وعلى الفور تحولت مادة الديناميت الى اوسع المواد المتفجرة انتشارا في العالم , وأقام نوبل وشركاؤه المصانع في كل من النرويج , فنلندة , فرنسا , ايطاليا , النمسا , اسبانيا , الولايات المتحدة الامريكية , وبكلمة مختصرة في كل مكان يستخدم فيه المهندسون التفجير في حفر المناجم وشق الانفاق وكانت الارباح هائلة .  فعلى سبيل المثال لا الحصر دفعت شركة (بريتش ديناميت) الى المساهمين وبضنمهم الفريد نوبل أرباحا سنوية تتراوح ما بين 12% - 20% طوال (10) سنوات .
وارتفع انتاج الديناميت من 11 طن عام 1867م  الى 3120 طن عام 1874م . و كان تسجيل واستصدار شهادات براءات الاختراع وأبرام  عقود المصانع الجديدة يستنزف الكثير من وقت الفريد نوبل , ولكنه كان مهتما اكثر من اي شئ آخر بتجاربه المختبرية , كان رجل الافكار الجديدة ويبدو سعيدا حينما ينهمك في اجراء التجارب فقط ولا يغادر المختبر الا في وقت متاخر من الليل , وكان يقول "اذا طرأت في ذهني الف فكرة خلال عام واحد ، وتبين ان فكرة واحدة فقط من هذه الافكار ذات قيمة أكون راضيا ".
ولكن الواقع يثبت ان نتائج أعماله كنت مثمرة اكثر من ذلك بكثير ، حيث بلغ عدد الاختراعات التي توصل اليها خلال حياته (355) اختراعاً .
وبعد فترة قصيرة توصل الى مادة متفجرة أقوى سماها (الجيلاتين المتفجر) . وفي الثمانينات حصل على براءة اختراع مسحوق بدون دخان وتهافتت الجيوش الاوربية لشراء هذه المادة الجديدة , ان اهتماماته العلمية كانت اوسع من نطاق المواد المتفجرة .كان يقوم بتجارب كثيرة لأيجاد بدئل صناعية للحرير والجلد والمطاط وتجارب في مجالات اخرى .
نوبل المواطن العالمي
كان نوبل بطبعه وبحكم الضرورة مواطنا عالميا , ويتقن ست لغات اوربية اساسية , كان يحس كأنه في وطنه وبيته في معظم العواصم الاوربية , ففي بداية حياته العملية كان يقطن في هامبورغ ، ثم عاش فترة طويلة في فيلا انيقة في باريس. وفي اواخر حياته اقتنى فيلا كبيرة في أيطاليا وسكن فيها , كان دائم التنقل بين مدن اوربا في رحلات تتعلق بعمله ، وكذلك للمعالجة في المصحات .وأمضى الصيف الاخير من حياته في بيته في فيركبورن بالسويد , وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو اسم (المليونير المتشرد) . وحين تقدم به العمر ، كان نوبل يشكو من الثمن الغالي الذي أضطر لدفعه ثمنا لحياته في التنقل الدائم , قال ذات مرة " انا أجدف بلا مقود أو بوصلة ، بقايا سفينة محطمة في عرض البحر".
 وفي رسالة الى خطيبته كتب نوبل يقول : " لم أكوّن أسرة . هذا المرفأ الحياتي الذي لا يقدر بثمن وليس لي اصدقاء يمكن ان احبهم ، ولا اعداء يمكن ان أكرههم " , كان نوبل يهوى سباق الخيل ، ولكنه كان جد معتدل في مراهاناته ، لم يكن يطيق التدخين والكحول ولعب القمار وكان أشبه بالناسك في عاداته .
كان يحاول دائما ان يستقبل ضيوفه بسخاء منقطع النظير .قال احد معارفه عن الولائم التي كانت تقام في بيت نوبل " أنها مأدب كبيرة تتيح لك أوسع الفرص لأختيار الاطباق وأنواع الخمور , كان أبو الديناميت لا يطيق الضوضاء , لذا فأن عجلات عربته كانت مغطاة بالمطاط كي لا تحدث أي قرقعة ."
نوبل العصامي كان يعتمد على نفسه في كل شي ، وينشد الاستقلال في آارائه ووجهات نظره , التي كانت تختلف عما هو تقليدي او سائد , كان ينظر نظرة شك وريبة الى كافة انواع الحكومات في اوربا وامريكا ، وحين تقرأ مؤلفاته العديدة يبدو لك انساناً يحاول ان يخفي اوهامه ، متوقعا ما هو أسوأ ويأمل - برغم لك – في مستقبل افضل , أما الموضوع الذي كان يشغل باله طوال حياته فهو بحثه المتواصل عن الحب ولكن دون جدوى . وبوسع عالم النفس ان يفترض ان أمه قد حجبت عنه النسوة الأخريات , كان الفريد وأمه أندرييتا متعلقين ببعضهما , وليس أدل على ذلك ان نوبل كان يحرص أشد الحرص ان يحضر الى السويد سنويا في يوم ميلاد أمه , وحين توفيت  كان عمره (56) سنة .وحسب قول نوبل : " كانت تحبني على نحو يعجز عنه الناس هذه الايام ، حيث ان الحياة الصاخبة تعمى كل الاحاسيس " ويتسم موقف نوبل تجاه المرأة بشئ من التناقض فقد كان مسحورا ومبهورا بالنساء ، وفي الوقت ذاته ينفر منهن .وهو الذي كتب عن المرأة يقول : " الجنس اللطيف ولكن المفزع ", وبرغم خجله المعهود فقد كان دائما مهتما بالنساء .
ملك الموت
أتيحت لألفريد فرصة نادرة ليقرأ نبأ وفاته وهو حي يرزق . حدث ذلك عندما توفى شقيقه لودفيك ، الذي جمع ثروة كبيرة من أستخراج النفط من الحقول الغنية قرب مدينة باكو الأذربيجانية, وقد التبس الامر على الصحفي الفرنسي الذي كتب مرثية للفقيد ، وظن ان المتوفي هو الفريد نوبل وأطلق عليه الصحفي أسم " ملك الموت ". ويعتقد البعض ان هذا التنبؤ المشؤوم قد عزز الى حد كبير ميل الفريد نوبل نحو مناهضة الحروب عن طريق النضال السلمي ، فقد أخذ يبدي أهتماما كبيرا بقضايا السلام  العالمي , وعلى مدى سنوات طويلة دافع نوبل عن اختراعاته امام نفسه وامام المجتمع .
لقد كان طوال حياته مناهضا للحرب ووصفها بانها " أكبر وأفظع جريمة " ولكنه في الوقت نفسه كان يؤكد ان الضحايا الانسانية حتمية عند أستخدام اي نوع من المتفجرات حتى لو كان ذلك من أجل هدف نبيل .
ولقد أيد اسهام (بيرتا فون زوتنر) في حركة السلام الاوربية برغم انه كتب اليها يقول " ان مصانعي تقرب نهاية المعارك على نحو أسرع من مؤتمراتكم , ومن  المحتمل جدا انه في اليوم الذي تظهر فيه امكانية لدى جيشين متقاتلين في افناء كل منهما الاّخر خلال ثوان معدودة ، فأن كل الامم المتحضرة تدير ظهرها للحرب ."
في العام 1891 غادر نوبل فرنسا الى ايطاليا بسبب سخط الفرنسين العارم واحتجاجهم ضد قيامه ببيع المسحوق عديم الدخان الى البلدان الاخرى , وفي أيطاليا ، واصل تجاربه على الالياف الصناعية والمواد المتفجرة في فيلته الواقعة قرب ساحل البحر في سان ريمو ، رغم أصابته بمرض القلب , وفي عدد من رسائله الموجهة الى معارفه تنبأ نوبل بموته ورسم صورة قاتمة للحظة وفاته : ( بين خدم غرباء حين لا يكون في جواره انسان قريب وحميم ) وفي أكتوبر 1896 أصيب بنزيف في الدماغ وخلال ثلاثة ايام لم يكن يستطيع الكلام الا بصعوبة شديدة وباللغة السويدية التي لم يكن احد من خدمه يفهمها , وفي العاشر من كانون الاول من العام 1896 وجده احد الخدم وقد فارق الحياة .
 وصية الفريد نوبل
ربما كانت وصية الفرد نوبل اشهر وصية في التاريخ فهي وصية فريدة ، ويمكن اعتبارها أهم اختراع توصل اليه حيث لم يسبق لأحد ان كرس امواله الطائلة لغرض نبيل ، هو تطوير العلم العالمي وتوطيد السلام وتكريم الادباء .
في العام 1895 أي قبل وفاته بعام واحد قام الفرد نوبل ودون الاستعانة بالمحامين بكتابة وصيته .
كان يعتقد ان الثروة الموروثة تؤدي الى زيادة العاطلين والكسالى ولهذا لم يخصص في وصيته سوى جزء صغير من ثروته ، لأقاربه وللمقربين منه ، أما بقية المبلغ فقد اوصى بإيداعه في البنك وتخصيص أرباحه  السنوية كجوائز تمنح كل عام لاولئك الاشخاص الذين قدموا خلال العام المنصرم أافضل الخدمات للإنسانية  . وتوزع جوائز نوبل – حسب الوصية – على خمسة حقول هي ( الفيزياء ، الكيمياء ، الطب أو الفسلجة ، ،\الآداب ، السلام ) . وفي عام 1968 الجهات المانحة للجوائز تخصيص جائزة سادسة في حقل الإقتصاد بناء على إقتراح بنك السويد لمناسبة مرور (300) سنة على تأسيسه .
ان طريقة اختيار المرشحين ومنح الجوائز تختلف قليلا عما جاء في وصية نوبل , حيث تمنح الجوائز ليس للأعمال المنجزة خلال العام المنصرم ، بل تلك المنجزة في الاعوام السابقة , اذا ظهرت اهميتها فيما بعد.  وهذا امر مريح للجهات المانحة والمجتمع الدولي , حيث تتيح هذه الطريقة حرية أوسع في أختيار الابحاث والانجازات الاكثر أهمية خلال فترة زمنية مفتوحة .
نشرت الوصية لأول مرة في أوائل كانون الثاني العام 1897 وأثارت ردود فعل متباينة في السويد والدول الاوربية الاخرى، سرعان ما تحولت الى ضجة حقيقية ، فقد  أتهمه القوميون السويديون بأنه قد خذل ابناء جلدته ، في حين أكد نوبل في وصيته بان تمنح الجوائز لأكثر الناس جدارة واستحقاقاً بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والحدود الجغرافية .
 استمرت الضجة التي أثارتها هذه الوصية , طوال فترة المحاكمات الطويلة بصددها ،والتي شهدت مشادات حادة بين الاطراف المتنازعة ( الجهات المانحة للجوائز وأقارب نوبل) حيث زعم البعض ان الوصية غامضة وغير قانونية  , في حين زعم البعض الاخر بأنه لا يحق لنوبل ان يتصرف بثروته على هذا النحو , ولم تهدأ الضجة التي أثارتها الوصية الا بعد حوالي أربع سنوات .وبحلول عام 1900 كانت كافة الاجراءات التحضيرية لعملية اختبار الفائزين الاوائل قد أستكملت , وقد تحددت اسماؤهم  بعد ذلك بعام واحد.
كان نوبل مالكا للعديد من الشركات ومساهماً في شركات صناعية اخرى ، وذاع صيته في الاوساط العلمية وبين رجال الاعمال والمال والسياسة في اوربا , ولكن شهرته العالمية الحقيقية جاءت مع اختراعه الاهم وهو وصيته , ولكن هذه الوصية لم تكن تنفذ لولا جهود راغنر سولمان - معاونه وسكرتيره وأحد أثنين أوكل اليهما نوبل تنفيذ وصيته .وعلى أية حال فقد حسمت المحاكم امر الوصية وتحقق حلم نوبل بأنشاء  صندوق لتمويل الجوائز المسماة بأسمه . وتولى سولمان رئاسة الصندوق اعتبارا من 1901 .
 وصندوق التمويل هذا ، منظمة غير حكومية ومستقلة ، تتلخص مهمتها الاساسية في تمويل الجوائز وضمان حقوق الجهات المانحة لها ، واخيرا اعداد اجراءات واحتفالات تسليم الجوائز للفائزين .
ان الجوائز تعكس ميول نوبل نفسه : العلوم التطبيقية , الادب , السلم  , كما تعكس نزعته الكوسموبوليتية , ان السمعة الممتازة لهذه الجوائز ربما تفسر بان الجوائز تعبر أصدق تعبير عن افكار نوبل النبيلة واهدافه واحلامه في الوصول الى "مجنمع عالمي يسوده الانسجام الذي لم يخلق بعد ، ولكنه سوف يتحقق حتما , كما يقول المؤرخ المعروف دونالد فلمنغ.
عملية الترشيح والاختيار لجوائز نوبل
 تبدأ عملية الترشيح للجوائز في خريف كل عام . حيث تقوم لجان  نوبل المتخصصة بتوجيه رسائل الى مئات العلماء والى الحائزين على جوائز نوبل في السنوات السابقة ، والى المراكز العلمية المتخصصة في شتى انحاء العالم تطلب منهم ترشيح الاسماء لجوائز العام المقبل , وتوجد (6) لجان لجوائز نوبل ثلاث منها في حقول الفيزياء والكيمياء والاقتصاد لدى الاكاديمية الملكية السويدية للعلوم ولجنة واحدة للطب والفسلجة لدى معهد كارولينا وأخرى للأدب في الاكاديمية السويدية ، وثالثة للسلام في البرلمان النرويجي , تتكون كل لجنة من (5) أشخاص تعينهم الجهة المختصة , ولكن من حق اللجان الاستعانة بخبراء مستقلين من ذوي الكفاءة العالية في مجالات تخصصاتهم .
 وفي شهر شباط تباشر لجان نوبل  بدراسة وتحليل الترشيحات الواردة أليها . و تعقد لهذا الغرض جلسات عديدة و مطولة ، و لكن يمنع منعا باتا ًتسجيل محاضرها . و تعد اللجان تقارير مسهبة عن أبرز المرشحين و ترفع توصياتها الى المراجع المعنية للبت فى الأختيار النهائى .
و تعلن أسماء الفائزين فى يوم ميلاد الفرد نوبل ، المصادف للحادى و العشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر ، و لا تعلن أسماء المرشحين الذين لم يقع عليهم الأختيار . و تتسم أعمال اللجان فى مراحلها الأساسية بالسرية التامة ، و يتم تقليد الجوائز للفائزين فى يوم و فاة نوبل ، المصادف للعاشر من شهر كانون الأول / ديسمبر. و يجرى تسليم جائزة السلام فى العاصمة النرويجية أوسلو بحضور ملك النرويج أو من ينوب عنه من أفراد العائلة المالكة .
أما بقية الجوائز ، فأنها تسلم الى الفائزين بها من قبل ملك السويد فى قاعة الحفلات للفيلارمونيا السويدية فى أجواء أحتفالية مهيبة .
الأنتقادات الموجهة الى لجان جوائز نوبل
تعرضت لجان جوائز نوبل – منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا – الى انتقادات لاذعة ، واسعة النطاق . و فى مقدمة الأنتقادات الموجهة الى هذه اللجان ، أنها تمنح الجوائز لشخصيات أدبية و علمية بارزة ، خلفوا أنجازاتهم الرئيسية ورائهم . و كما قال " برنارد شو " الحائز على جائزة الآداب لعام 1925 م ، ان الجائزة بمثابة طوق النجاة يرمى للسابح المهدد بالغرق بعد صوله الى الشاطىء بسلام ، فى حين أن نوبل ذكر فى وصيته بوضوح ، ان الهدف من منح الجوائز هو مد يد العون الى صفوة الموهوبين الواعدين .


40
اسطورة كردية في قصة للكاتب العالمي إيفان بونين
جـودت هوشيار        
مقدمة
للشعب الكردي تراث فولكلوري هائل، لم يدون منه الأ الشيء القليل، وثمة عدد كبير من المستشرقين والرحالة ورجال الفكر الذين زاروا كردستان وأحتكوا بالشعب الكردي في أعماق الريف الكردستانى،
    فوجئوا بضخامة هذا التراث وتنوعه وثرائه الباذخ، لذا ليس من الغريب أطلاقا أن تستأثر الحكايات والأساطير الكردية بأهتمام عدد من أبرز أدباء وفناني عصرنا . مثل الشاعر التركي ناظم حكمت والموسيقار الأرمني أرام خاتشاتوريان والكاتب الروسي العالمي أيفان يونين، الذي أستلهم أحدى الأساطير الكردية واستمد منها مادة لأحدى أقاصيصه المشهورة وهي " الشباب والشيخوخة " التي تقدم فيما يلي ترجمة لها من اللغة الروسية مباشرة . وهذه الاسطورة تدخل ضمن الأساطير التي أصطلح على تسميتها بأساطير الخلق والتكوين والتي تصور خلق الكون والأنسان وتطور الحياة على وجه الأرض، وليس من العسير على المرء أن يلاحظ أن الكثير من الحكايات والأساطير للشعوب المختلفة تتشابه في مضامينها وأن تنوعت في أشكال صياغتها وفى تفاصيلها .
     أيفان بونين - الذي يكاد يكون مجهولا في بلادنا – كاتب وشاعر عالمي ويعتبر بأجماع النقاد الروس من خيرة كتاب القصة القصيرة في روسيا وأكثرهم موهبة ونبوغا وشهرة الى بعد تشيخوف، وبفضل هذين الكاتبين العظيمين بلغت القصة الروسية القصيرة أوج نضجها وأكتسبت الملامح المميزة لها ومايزال تأثيرهما قويا على كتاب القصة القصيرة على الصعيدين الروسي والعالمي .
    ولد بونين في مدينة (فورونيش) عام 1870 فى عائلة أرستقراطية نبيلة أنجبت العديد من الفنانين والمفكرين، ولقد بدأ حياته الأدبية شاعرا ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة حين نشر مجموعة أشعاره الأولى، نشرت هذه المجموعة في وقت أحتل فيه الأدب الروسي مكان الصدارة في الأدب العالمي ، حيث قدمت روسيا للعالم في وقت قصير للغاية العديد من الكتاب والشعراء والفنانين العباقرة مثل تولستوي وتورغيتيف وتشيخوف ويلوك وأندرييف وغوركى وريمسكي –كارساكوف وجايكوفسكي وشاجال وكاندينسكي وغيرهم الذين عرفوا بـ" النخبة الجبارة " .
  لقد كانت روسيا في اّواخر القرن الماضي رغم التطور الصناعي الضعيف فيها مركزا للأشعاع الفكري والفني والثقافي، ظهر يونين في وقت كان هؤلاء العظام في اّوج مجدهم، وكانت نجومهم ساطعة في سماء الفن والأدب الروسيين، غير أن هذا لم يقف حائلاً أمامه في شق طريقه بسرعة وقوة وثقة في الأدب الروسي، حيث قوبلت مجموعته بكثير من الأستحسان والأطراء من قبل اكبر نقاد ذلك العصر، ومنح على اثرها جائزة بوشكين. وكانت هذه الجائزة تعتبر أرفع وسام أدبي في روسيا القيصرية على الاطلاق، ثم منح الجائزة نفسها حين ترجم للشاعر الامريكي (لونجفيلو) قصته الشعرية (هياواثا) كما ترجم العديد من قصائد بيرون وغيره من شعراء الغرب. .
    وفي سنة 1909 أنتخب عضوا في الأكاديمية الروسية، ورغم أنه ظل طوال حياته يكتب الشعر حتى أن أحد النقاد قال عنه: أن بونين لو لم يكتب في حياته الا تلك القصائد التي نشرها ، فأنه كان سيظل علما بارزا في تاريخ الأدب الروسي، غير أن بونين كاتب متعددد المواهب ، فهو معروف ككاتب نثر من الطراز الاول، كتب الكثير من القصص القصيرة والروايات ، التي تعد من أروع وأجمل ما كتب في الأدب الروسي من قصص في النصف الأول من هذا القرن .
    ولقد أحدثت روايته (القرية) بوجه خاص دويا هائلا في الأوساط الادبية حين نشرها في عشية ثورة أكتوبر1917 ، لم يتقبل بونين الثورة البلشفية فاّثر الهجرة الى باريس عام 1920 وعاش فيها الى اّخر أيام حياته حيث توفي في عام 1953 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين . التي
نال بونين جائزة نوبل للآداب عام 1933 عن روايته الرائعة  " حياة أرسينيف " التي كان قد  نشرها في السنة ذاتها ، وكان بذلك أول روائي روسي يحصل على هذه الجائزة، وخلال أقامته في باريس نشر أضافة الى هذه الرواية المشهورة العديد من المجاميع القصصية من أشهرها مجموعة " المماشي الظليلة " الرائعة التي نشرت في نيويورك عام 1943 في ظروف الحرب العالمية الثانية العصيبة، وقصص هذه لمجموعة وان كانت جميعها تقريبا تتحدث عن الحب، الا أن اسلوب بونين الشاعري المركز والدقيق أتاح له الكشف عن أعمق أعماق النفس البشرية .
غير أن بونين شأنه في ذلك شأن أي فنان واقعي أصيل لم يعزل الحب قط عن تناقضات النظام الأجتماعي.
     أن قصص بونين مترجمة الى العشرات من أهم لغات العالم ، كما نشرت مجموعة مؤلفاته الكاملة مرات عديدة في باريس وبرلين وموسكو، وتحظى قصصه بشعبية هائلة داخل روسيا وخارجها حيث تحول العديد منها الى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ، وعروض مسرحية فى بلدان كثيرة ومنها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية ، ونشرت عنه ، وعن نتاجاته عشرات الكتب ، والأطروحات العلمية والدراسات بالعديد من اللغات العالمية. .
    و تحتفل الأوساط الثقافية الروسية كل عام بذكرى مولده على نطاق واسع وتخصص المجلات الأدبية مساحات واسعة لأحياء ذكراه والأشادة بفنه الرفيع وموهبته الخلاقة ودوره فى تطوير الأدب الروسى .
    ، أما هذه الأقصوصة التي رأينا من الضروري ترجمتها من اللغة الروسية مباشرة، فقد كتبها بونين في باريس عام 1936م ونشرت في نفس العام في مجلة "روسيا المصورة" الصادرة في باريس ، ثم أعيد طبعها ضمن مجاميعه القصصية المختارة ومؤلفاته الكاملة . ولقد قامت مجلة (اوغونيوك) الروسية ، واسعة الأنتشار ،التي تصدر في موسكو عن دار ( برافدا) للطبع والنشر بأعادة نشرها عام 1956
    و هذه القصة – شانها فى ذلك شان معظم قصص بونين الأخرى – تبحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشر جميعا بشكل دائم وبخاصة المبدعين والمفكرين منهم حول معنى الحياة والغاية من خلق الإنسان .
قصة " الشباب والشيخوخة " بقلم بونين
     أيام الصيف الرائعة .البحر الأسود هادئ، السفينة مثقلة بالمسافرين والأمتعة . ليس هناك موطئ قدم على ظهرها من المقدمة وحتى المؤخرة . الابحار طويل وفي أتجاه دائري – القرم، القفقاز، سواحل الأناضول، القسطنطينية.
    الشمس لاهبة، السماء زرقاء، والبحر بنفسجي، تختلط فيه جلجلة السلاسل المدوية بشتائم البحارة وصراخهم - الى الأعلى ! الى الأسفل.
    قمرات الدرجة الأولى خالية ، وفسيحة ، وتشع بالنظافة . القذارة والضّيق بين الكتل البشرية من ذوي الجنسيات المختلفة ،الذين يشغلون الدرجات الأخرى على ظهر السفينة . وقرب المكائن الساخنة ، والمطبخ الفواح. في الزوايا وتحت المظلات، بين الحبال والسلاسل الممتدة على سطح مقدم السفينة، تنتشر رائحة قوية وكثيفة، هي ساخنة وطيبة حينا، ودافئة وكريهة في أحيان أخرى، ولكنها ابداً مثيرة بالدرجة ذاتها . رائحة السفينة، ممزوجة بطراوة البحر . .
    هنا فلاحون روس وفلاحات روسيات، هنا الأوكرانيون والاوكرونيات، وقساوسة من أفون، هنا الكرد ، والجورجيون واليونانيون .
    الجورجيون يمرحون طوال الوقت ، فهم أما يغنون ، أو يرقصون أزواجا في غنج ودلال ، وقد شمروا عن سواعدهم ،وأخذوا يتقافزون بين الجمهور في خفة . الحجاج الروس المتوجهون الى فلسطين لا يكفون عن شرب الشاي. ثمة فلاح روسي، طويل القائمة غائر الكتفين، ذو لحية صغيرة صفراء ، وشعر مسترسل يقرأ في الكتاب المقدس ، وأمرأة وحيدة قرب المطبخ لا تكف عن التحديق فيه في تحد وأصرار. وهي تلبس بلوزة حمراء ، وتلف شعرها الأسود الخشن بإيشارب أخضر خفيف.
رست السفينة في حوض للسفن عند المضيق . نزلت الى الساحل وعندما رجعتُ رأيت على السلم مجموعة من الكرد المسلحين، يصعدون الى ظهر الباخرة يتقدمهم شيخ ضخمم الجسم، عريض المنكبين، في الملابس الكردية، يتمنطق بحزام مشدود حول قده النحيل بقوة ، ومرصع بقطع فنية. الكرد الذين كانوا معنا على ظهر السفينة، هبوا لأستقباله ، وأفسحو له مكانا بينهم، وبدأت حاشية الشيخ بفرش المكان بالسجاجيد العديدة، ووضعت عليها المخدات، جلس الشيخ في المكان المهيئ له في عظمة وهيبة، كانت لحيته بيضاء ناصعة ، ووجه أسمر غامق لفحته الشمس. كانت عيناه العسليتان تشعان ببريق مدهش، أقتربت منه ، وجلست القرفصاء، وحييته ثم سألته بالروسية :
    - - هل أنتم من القفقاز؟
    - - بلادنا أبعد من القفقاز ، نحن كرد
     سألته عن وجهته ، فرد علي في تواضع ولكن في زهو وأعتداد :
- الى أسطنبول .. للقاء الباديشاه نفسه، لاقدم له شكري ، وأسلم له هديتي وهي عبارة عن سبعة مجالد، كان لي سبعة أبناء أرسلهم الباديشاه كلهم الى الحرب، الواحد تلو الاّخر، لقد مجّدني الباديشاه سبع مرات.
    كان بيننا شاب يوناني من مدينة كورجي، ممتلىء الجسم، بالغ الأناقة، يعتمر طربوشا دمشقيا ،  ويلبس بدلة رصاصية وصدرية بيضاء، وينتعل حذاءا براقا ذو أزرار جانبية . تضاحك الشاب /
    :   تسى، تسى، تسى !  ثم أردف قائلا-
   - عجوز وبقى هكذا وحيداً .
     نظر الشيخ الى طربوش الشاب الوسيم وقال له ببساطة :
 - ما أغباك ! أنت ستشيخ وتصبح عجوزاً، أما أنا فلن يحدث هذا معي أبدا، أتعرف حكاية القرد ؟   
     فإبتسم الشاب الوسيم في ريبة وقال :
     - أي قرد؟
  - إذن ، فأصغى الى ما سأقوله :
  – لقد خلق الله الأرض والسماء، أتعرف هذا؟
    - - حستاً أعرف هذا ثم ماذا؟
    ثم خلق الله الأنسان وقال له : أنت أيها الإنسان سوف تعيش على الأرض ثلاثين عاما، حياة سعيدة هانئة، سوف تفرح ، ويخيل اليك أن كل شيء على الأرض قد خلق من أجلك، أمسرورا أنت بهذا؟
    وفكر الإنسان في نفسه: ما أجمل هذه الحياة ! ولكن هل أعيش على الأرض ثلاثين عاما فقط ؟ وقال :
     – آه ، ما أقصر هذا العمر !
وسأل الشيخ الشاب الوسيم في سخرية:
- أتسمع؟
فأجابه الشاب:
 أجل -
– ثمّ خلق الحمار وقال له :
– سوف تنقل البشر ، والأمتعة الثقيلة ، ويهدك التعب ،ويضربك الناس على رأسك بالأعواد الغليظة ، فما العمر الذي تريده؟
وأجهش الحمار بالبكاء وأرتفع نحيبه وقال :
هذا عمر طويل يا إلهي ! أعطني نصفه فقط . -
وتوسل الإنسان الى الرب ، وطلب أضافة نصف عمر الحمار الى عمره، وأستجاب الرب لألتماسه، وهكذا أصبح عمر الأنسان خمسا واربعين عاما، وسأل الشيخ الشاب الوسيم وهو يرمقه بنظراته :
–كان الأنسان محظوظا، أليس كذلك؟
ورد الشاب دون أن يدري ما يرمي أليه الشيخ بهذه الكلمات :
– نعم  . لا بأس بذلك، ثم أضاف الشيخ قائلا :
- ثمّ خلق الكلب وأعطاءه من العمر ثلاثين عاما وقال له :
- ستعيش طوال عمرك حانقا، سوف تحرس أموال سيدك، ولا تأمن جانب أي أنسان غريب، سوف تنبح في وجوه المارة، ولا تنام الليل، بل سوف تظل ساهرا من القلق . أتدري؟ لقد ولول الكلب وبكى وقال :
-  آه يا الهي ! يكفيني نصف هذا العمر، وأخذ الأنسان مرة أخرى يطلب أضافة هذا النصف أيضا الى عمره، فأستجاب الرب لرجائه :
- - كم أصبح مجموع عمرالأنسان الاّن؟
فأجاب الشاب وقد بدأ السرور على وجهه أكثر من السابق :
– ستين عاما 
- ثم خلق الله القرد ومنحه من العمر ثلاثين عاما .وقال له أنه سوف يعيش بلا عمل، بلا هموم، ولكن سوف يكون قبيح الوجه، أتدري ! وجه عار، ملىء بالتجاعيد، الحاجبان منحرفان نحو الجبين، سوف يحاول هذا المخلوق أن يلفت الأنظار، غير أن الناس سوف يسخرون منه، وهنا سأل الشاب الوسيم :
- إذن فالقرد رفض أيضا نصف العمر الممنوح له؟
نهض الشيخ من مكانه وتناول مبسم النرجيلة من يد أحد رجاله وقال :
 – أجل رفض القرد أيضا نصف عمره، وأضيف هذا النصف الى عمر الأنسان .
  ثم عاد الى مكانه بعد أن أخذ نفسا من النرجيلة، وصمت وأخذ يرنو ببصره الى شيء ما أمامه، وكأنه نسى ما حوله تماما، وقال دون أن يوجه كلامه الى أحد.
- عاش الأنسان على الأرض ثلاثين عما من عمره كأنسان . أكل وشرب وحارب، رقص في الأعراس، أحب النساء الجميلات . أما الخمسة عشر عاما من عمر الحمار فقد أشتغل وجمع المال. وقضى الخمسة عشر عاما من عمر الكلب يحرس ماله ويحافظ عليه، يعوي في وجوه الاّخرين ساخطا ويسهر الليالي قلقا، ثم أصبح مكروها وعجوزا مثل ذلك القرد . والناس من حوله يهزون رؤوسهم ويسخرون منه. ثم وجه كلامه الى الشاب الوسيم وهو يحرك مبسم النرجيلة بين شفتيه :
- كل هذا سيحدث معك
وسأله الشاب :
- ولكن لماذا لم يحدث هذا معك ؟
- أجل . لم يحدث هذا معي
- ولكن لماذا ؟
– فأجابه الشيخ بصرامة :
-  الناس الذين هم مثلي , نادرون , لم أكن حماراً , ولم أكن كلباً , فلماذا أكون قرداً , لماذا أكون عجوزاً !
--------------------
أيفان بونين: مجموعة المؤلفات الكاملة في تسعة أجزاء . الجزء السابع (الدروب الظليلة) دار نشرالأداب ، موسكو 1966 ،  ص292-295


41
فاسيلي أكسيونوف : الرائد المؤسس للأدب الروسي المعاصر
جودت هوشيار
كما خرج الأدب الروسي الكلاسيكي من " معطف " جوجل ، فإن الأدب الروسي المعاصر قد خرج من سترة جينز أكسيونوف - الكاتب يفجيني بوبوف
لقاء مع أكسيونوف :
في مساء يوم خريفي ممطر من عام 1964 ، كنت في موقف  الترام المقابل لمدخل جامعة هندسة الطاقة - التي كنت أدرس فيها- أنتظر تحت المظلة قدوم الترام المتوجه الى المنطقة التي اسكنها ، حين اقتربت مني فتاة شابة ، وسألتني ان كنت أنا فاسيلي أكسيونوف . قلت : كلا ، ولكن لماذا تعتقدين أني فاسيلي أكسيونوف ، هل هناك وجه شبه ؟.
قالت : لم التق بأكسيونوف قط ولم أره في حياتي .
- وكيف تنتظرين شخصاً لا تعرفينه ؟
- كلفتني لجنة الكومسومول في الجامعة أن أستقبله هنا ، في موقف الترام في هذا الوقت تحديدأً. وقيل لي أنه يلبس معطفا مطرياً ، في مثل لون معطفك الرمادي .
قلت : إن لم يكن سراً ، هل هو تحقيق معه ، أم ماذا؟
- أبداً ، فاغلب أعضاء ( الكومسمول ) من قراء اكسيونوف ، ومن المفترض أن أصحبه الى القاعة الكبرى في بناية الجامعة ، حيث سيلتقي في تمام الساعة السابعة مساءاً ، أي بعد عدة دقائق من الآن ، بطلبة الجامعة للحديث عن أعماله الأدبية ومشاريعه المستقبلية ، ويرد على اسئلة الحاضرين .
قلت : اذن انتظري قدومه هنا ، وأنا سأذهب الى القاعة لأحجز لي مكاناً قريبا من المنصة ،لأنني أيضاً من المعجبين برواياته الشيقة .
 ولكن يبدو أنني تأخرت قليلاً  ، فالقاعة الكبرى التي تتسع لأكثر من ألف شخص ، كانت تغص بطلبة الجامعة واساتذتها وحتى موظفيها ، ووقف الكثيرون على جانبي المدخل وخلف المقاعد وفي الممرات. وبعد دقائق حضر اكسيونوف واستقبل بعاصفة من التصفيق . لم أجد أي شبه بيني وبينه ، فهو أسن مني .ولا يوجد أي شبه بيننا .
 كانت عيناه الزرقاون تشعان وهو يلقي نظرة فاحصة على القاعة . كان يلبس بدلة جينز. وكنت أعرف أنه من هواة موسيقى الجاز ، ويمارس رياضة الجودو وكرة السلة ، ويعيش على نحو مختلف عن الكتّاب الآخرين .
 قرأ شيئا من رواية لم تكتمل بعد ، وردّ على الأسئلة، التي كانت تتعلق كلها بمضامين رواياته الشهيرة التي يمتزج فيها تجربته الحياتية بالخيال ..
ولد اكسيونوف في 20  أغسطس 1932 في مدينة كازان . كان والده بافل فاسيلوفيج عمدة المدينة وعضواً في الجنة المحلية للحزب في منطقة تتاريا ، ووالدته يفجينيا غينسبورغ مدرسة في معهد كازان التربوي ، ومن ثمّ رئيسة لقسم الثقافة في صحيفة " تتاريا الحمراء ".
 في عام 1937 كان فاسيلي اكسيونوف في الخامسة من العمر حين اعتقلت السلطات والدته ، ومن ثمّ والده ، وحكم على كل منهما بالسجن لمدة عشر سنوات مع النفي بعد إنتهاء مدة محكوميتهما . وقد ارسلت السلطات الصبي فاسيلي الى ملجأ لأطفال (اعداء الشعب ) . وفي عام 1938 نجح عمه في العثور عليه في ملجأ للأيتام يقع في بلدة كوستروم ، وتمكن من استحصال موافقة الأمن على أخذ الصبي معه للعيش لدى احدى قريبات والده حتى عام 1948 .
والده لم يعد من المعتقل ،وقضت والدته يفغينيا غينسبورغ 18 عاماً في معتقلات ( كوليما ) في أقاصي سيبيريا ، قوسنوات أخرى طويلة أخرى في منفاها ببلدة ( ماغادان ) . وقد نجحت بشق الأنفس في الحصول على الموافقة الرسمية على إقامة إبنها فاسيلي معها .وفي فترة ( ذوبان الجليد ) عندما عادت الى موسكو من منفاها أصدرت مذكراتها في كتاب بعنوان " الزوبعة " لقي نجاحا عظيما . وتناولت فيه الحياة المهينة في معسكرات الإعتقال الستالينية ، كما وصفت لقاءها المؤثر بإبنها . لعبت هذه المذكرات دوراً عظيماً في تشكيل الموقف المضاد لعبادة الفرد لدى الإنتليجينسيا الروسية في السبعينات – الثمانينات من القرن الفائت ، وكانت أول كاتبة تكشف مآسي المعتقلات ، قبل سولجينيتسن وشالاموف . أمّا أكسيونوف فقد كتب ايضاً لاحقا عن لقاءه بوالدته في رواية مشهورة له يحمل عنوان "حرقة ".
 في عام 1956 تخرج في كلية الطب في لينينغراد، وكان من المفترض ان يعين طبيبا على سطح باخرة نقل للتجارة الدولية ، الا أنه حرم من الحصول على الوظيفة بسبب ما نسب الى والديه من تهم ، وعين  طبيبا في ( كاريليا) بأقصى الشمال، ثمّ عمل في الميناء التجاري بلينينغراد ، وفي مستشفى السل بموسكو.
كنت قد قرأت في مجلة " يونست " كل ما نشره اكسيونوف من قصص وروايات ، كما شاهدت الأفلام السينمائية المقتبسة منها. نتاجاته كانت نوعاً جديدا من الأدب ، لا يشبه الأدب السوفيتي التقليدي الملتزم بـ" الواقعية الإشتراكية " ذات النظرة التفاؤلية الزائفة، بل يصوّر حياة الجيل الجديد من المثقفين ، التي تختلف تماماً عن حياة  الجيل المخدر بالبروباغاندا الستالينية والحالم ببناء الجنة الشيوعية الموعودة . أدب جديد بلغة مشرقة ،وسخرية لطيفة ، ومرح يتسلح به الشباب للتمرد على الحياة السوفيتية الرتيبة ، وعلى البيروقراطية . كانت ملابسهم غير التقليدية ، وسلوكهم البوهيمي وتعلقهم بنمط الحياة الغربية ، نوعا من الإحتجاج على الواقع السوفيتي الكئيب . ولقد أتيح لي خلال دراستي الجامعية بموسكو في الستينات ، أن أتعرّف عن قرب على الطلبة الروس ، وأقاسمهم الخبز والملح ، لذا فأن ما أكتبه عنهم حقائق لمستها بنفسي ، فقد كنت معهم معظم الوقت : في الدراسة وفي السفرات الطلابية  ، وفي منتجعات البحر الأسود خلال العطل الصيفية . ونشأت بيني وبين عدد منهم صداقات أعتز بها .
قبل أكسيونوف كانت ثمة نوعان من الموضوعات في الأدب السوفيتي : أولهما - حياة العمال والفلاحين ، وثانيهما-  وقائع الحرب ضد ألمانيا الهتلرية . أما موضوعات روايات وقصص اكسيونوف فقد كانت مختلفاً تماماً . شباب لا يبنون الشيوعية ، ولم يتطوعوا يوماً في الحملات الخروشوفية الكبرى لأستصلاح الأراضي البكر في الجنوب .ولا يريدون العمل في المصانع ، ، بل يرغبون في الألتحاق بالجامعة للدراسة ، ويلبسون الجينز ، ويعشقون موسيقى الجاز . روايات تعبر أصدق تعبير عما يفكر فيه الشباب وما يحلمون به . وقد أطلق النقاد على هذا الأدب الجديد ، اسماء شتى منها ( الأدب الساخر ، النثر الجديد ، نثر الشباب ، نثر المدينة ) .
 شق اكسيونوف طريقه الى الأدب الروسي بسرعة خاطفة من أوسع أبوابه ، واكتسب شهرة مدوية في عموم  البلاد خلال فترة وجيزة ،  اثر نشر روايته الأولى" الزملاء " في عام 1960 ، التي تلقفها القاريء الشاب بشوق ولهفة  ، وبفضل هذه الرواية البديعة ، الجديدة كل الجدة في مضمونها وفي اسلوبها ولغتها ، ارتفعت مبيعات مجلة " يونست " التي نشرت الرواية الى مستوى لم يسبق له مثيل . وسرعان ما تم انتاج فيلم سينمائي مقتبس من الرواية ، والذي لقي بدوره  إقبالاً واسعاً ، ثم كتب اكسيونوف مسرحية بالأسم ذاته عرضت على إحد مسارح موسكو . وفي السنة ذاتها استقال من وظيفته للتفرغ لأعماله الإبداعية .و ترسّخ موقعه في الساحة الأدبية بصدور رواياته اللاحقة " بطاقة الى النجوم " و " برتقال مغربي " و " حان الوقت يا صديقي ، حان الوقت "".
أما قي الشعر فقد فقد برز شعراء شباب موهوبون ، يكتبون شعراً حقيقيا رائعاً ، وهم لا يختلفون عن اكسيونوف  في نظرتهم الى الحياة . شباب تتراوح أعمارهم  بين 27 ، 28 سنة ( يفتوشينكو ، فوزنيسينسكي ، روجديستفنسكي ، أحمدولينا ) الذين حملوا راية التجديد في الشعر الروسي في الستينات . كان هولاء الشعراء أصدقاء حميمين لأكسيونوف،  شكلوا معاً ظاهرة فريدة في الأدب الروسي في ذروة فترة (ذوبان الجليد ) ، حيث فتحت بعض النوافذ على الغرب لتهب منها نسائم نمط جديد من الحياة يستهوي الشباب .
لا يمكن تصور اكسيونوف خارج دائرة من الاصدفاء ،الذين سادت في حياتهم وابداعهم حرية الفكر والتعبير ، التي كان الواقع السوفيتي يفتقدها .والتي تجسدت في سلوك وحياة وأعمال هذه النخبة من المبدعين .
ابداع اكسيونوف ، وأصدقائه الشعراء ، اصبح رمزا للصحوة والهواء النقي بعد الزمن الستاليني الخانق . كان هذا الإبداع يعبر عن رومانسية الحياة والحرية. ولم يكن عشق موسيقى الجاز ، وموضات الملابس ، مجرد تقليعات جديدة تستهويهم ، بل احتجاجا على فرض اسلوب حياة موحد ، ممل ورتيب على الجميع ، خاضع لخط أيديولوجي واحد
السلطة التي كانت تغض الطرف عن هذه النخبة المتمردة في أوائل الستينات ، لم تعد تحتمل أعمالهم ، التي أحدثت إنقلابا في نظرة المثقفين الشباب الى الواقع والمستقبل . وحاولت تهميشهم والتضييق عليهم . وما زلت أتذكر كيف أن خروشوف - الذي جمع الأدباء في أحدى قاعات الكرملين في عام 1963 - هدد هؤلاء النوابغ الخمسة بالطرد من الإتحاد السوفيتي أن لم يتراجعوا عن مواقفهم ( المضرة والمنحرفة ) . البعض منهم تراخى ، واخذ يكتب بحذر ، في حين أن أكسيونوف إزداد قناعة بمواقفه الصائبة ،التي تجلت في أعماله اللاحقة ، على نحو أكثر وضوحاً. 
في منتصف الستينات ، كان يفكر في اسباب فشل مرحلة  " ذوبان الجليد "  التي علقت عليها الأنتليجينسيا الروسية آمالها في التغيير . كان الطابع النقدي لنتاجاته يزداد قوة وعمقا . ففي رواية " "أكياس التغليف المكدسة " ( 1968) انتقل الكاتب الى " الهجاء الشامل " وعكس بقوة تناقضات الحياة السوفيتية ، ذات الطابع السوريالي . بعد انقلاب اكتوبر 1964 وعزل خروشوف ، عاد الخط الحزبي المتشدد الى ممارسة سياسة اضطهاد المنشقين، ومحاكمتهم او ادخالهم الى المصحات النفسية ، وشهدت هذه الفترة محاكمة الكاتبين  سينيافسكي ودانيال . كل ذلك إنعكس في أدب اكسيونوف.ففي رواية " حرقة " (1976) يعرض اكسيونوف حياة المثقفين الروس خلال الستينات – السبعينات من القرن العشرين .وفي رواية "جزيرة القرم " يفضح على نحو لاذع  الواقع السوفيتي ، و في الوقت نفسه يحلم بالعدالة الاجتماعية .
  وبطبيعة الحال لم يعد النظام يتحمل هذا الأدب ، الذي كان يمارس تأثيراً عظيماً على عقول المثقفين الروس . ولجأ الى منع نشر نتاجات اكسيونوف الجديدة بذريعة أنها معادية للنظام السوفيتي.
في عام 1979 أصدر أكسيونوف مع كل من أندريه بيتوف ، و فكتور يروفيف ، و فاضل اسكندر ، ويقغيني بوبوف ، و ببلا أحمدولينا مطبوعة سرية في أميركا، لا تخضع للرقابة بعنوان" ميتروبول" واثار ذلك غضب السلطة السوفيتية .وفي كانون الاول 1979 قدم استقالته من اتحاد الكتاب السوفيت احتجاجا على فصل زميليه فيكتور يروفيف ويفغيني بوبوف من الاتحاد .
في عام 1980 سافر اكسيونوف مع زوجته مايا الى أميركا ، فجردته السلطة السوفيتية هو وزوجته من الجنسية السوفيتية . وعمل استاذا للأدب الروسي في عدة جامعات أميركية  ، وأصدر أهم أعماله " جزيرة القرم "  وثلاثية " ملحمة موسكوفية " .  ومع حلول فترة البيريسترويكا بدأت مرحلة جديدة في حياة اكسيونوف ، حيث أخذ يزور وطنه كثيراً ،وينشر أعماله الأدبية المحظورة  في الحقبة السوفيتية السابقة..
في عام 2004 كان اول كاتب روسي ينال جائزة " البوكر" في نسختها الروسية ، عن مؤلفه " الفولتيريون والفولتيريات "  وهي رواية تأريخية تخييلية تسرد حكاية لقاء بين فولتير وقيصرة روسيا كاترينا الثانية ،صديقة فلاسفة عصر التنوير .وعام 2005 حصل على وسام الأدب والفن من فرنسا .
اصيب الكاتب في عام 2008 بسكتة دماغية ، ونقل الى المستشفي وخضع خلال عام ونصف لعدة عمليات جراحية حرجة  حتى وافته المنية في السادس من يوليو 2009 . 


42
الطريق الى الموت والخلود : قصيدة ماندلشتام التهكمية بستالين
                                                                   
جـودت هوشيار
عام ماندلشتام :
        إحتفلت روسيا رسمياً هذا العام – الذي سمّته بعام ماندلشتام – بحلول الذكرى ( 125 ) لميلاد واحد من أبرز رواد الحداثة الشعرية في روسيا والعالم ، وهو أوسيب ماندلشتام ، الذي ولد في 15/1/1891 ، وتوفي في احد المعتقلات الستالينية الرهيبة في أقاصي سيبيريا في 27/12/1938 ، في ظروف غامضة. وما يزال سبب وفاته ومكان دفنه مجهولاً ، رغم الأستقصائات الميدانية التي قام بها عدد كبير من الباحثين المتخصصين في حياة وأدب هذا الشاعر الذي تحول الى اسطورة ، حتى قبل اعتقاله ووفاته . .
شملت الإحتفالات اقامة المهرجانات ،  وإزاحة الستار عن تمثال جديد له في موسكو واطلاق اسمه على احد شوارعها  ، والقاء محاضرات عن حياته التراجيدية ، وشعره الرائع  ، وإنتاج فلم وثائقي عنه ، واجراء لقاءات في القنوات التلفزيونية مع العديد من الشعراء والكتاب البارزين عن نتاجاته وتأثيره في جيله والأجيال الأدبية اللاحقة ، وإعادة إصدار مؤلفاته الكاملة ، ونشركتب عن سيرته ، ومذكرات معاصريه من الأدباء عنه ، وغير ذلك من الفعاليات الثقافية ، التي استمرت لأشهرعديدة .
كانت حياة ماندلشتام  عذاباً دائما وقلقا مقيما ، فهو لم يمتلك مسكناً مستقلا، بل تنقل بين مساكن جماعية كثيرة ، تعج بالوشاة ، في كل من موسكو وبطرسبورغ وفورونيج ، وعانى من شظف العيش ، لعدم وجود مورد ثابت له ، يكفي لسد رمقه ورمق زوجته . كان انساناً رقيق المشاعر ، ولم يكن بوسعه ان ينظر الى ما يجري حوله بهدؤ ولامبالاة . ويتألم لما يعانيه هو وشعبه من حياة بائسة ، ومن إنتهاك لكرامة الإنسان، وقمع لحرية التعبير، ولكنه كان يتظاهر بالمرح ، من أجل عدم الكشف عن رؤيته التراجيدية للواقع السوفيتي ، وحجبها عن الجميع ، وخاصة عن نفسه ، لكي لا تكون الحياة مرعبة جداً .
شعر ماندلشتام يتسم بطابع انتقادي مضمر ، زاخر بالرموز ، التي تتألق معانيها العميقة ضمنيا .ً.
انعكس في شعره عصر بكامله : زوال الحكم القيصري ، الثورة ، والزمن الستاليني . وتعرض  كغيره من المبدعين الأحرار الى التجويع والمضايقات ، وافتراءات المنافقين من الكتّاب الرسميين .
نفي واعتقال وتعذيب :
في تشرين الثاني 1933  كتب ماندلشتام واحدة من اشهر قصائد القرن العشرين تحت عنوان " جبلي الكرملين " ، وهي قصيدة تهكمية يسخر فيها من الطاغية ستالين . لم يحاول الشاعر قط انكار نسبة القصيدة اليه ، بل قرأها على جمع من الأصدقاء ، والمعارف من الكتاب والشعراء ، يقال ان عددهم كان 18 شخصاً .وبعد عدة أيام ، كان ماندلشتام يتجول مع صديقه الشاعر بوريس باسترناك في شوارع موسكو وعندما وصلا الى شارع مهجور في الضاحية قرأ ماندلشتام القصيدة ذاتها على مسامع باسترناك ، الذي قال بعد أن استمع الى القصيدة جيداًً : " هذه ليست حقيقة ادبية ، بل عمل انتحاري ، لا أوافق عليه ، ولا أريد أن اشارك فيه . أنت لم  تقرأ عليّ شيئا ، وأنا لم اسمع شيئاً ، وأرجو منك أن لا تقرأ هذه القصيدة لأي شخص آخر " . وبطبيعة  الحال كان ماندلشتام يدرك جيدا خطورة ما اقدم عليه ، لذا احتاط مسبقاً لإحتمال إعتقاله ،وحفظ القصيدة عن ظهر قلب ، كما حفظتها زوجته ناديجدا ، فقد كان الأعتقال في عهد ( أبو الشعوب ) يشمل ليس ( المتهم ) فحسب، بل زوجته أيضا ، لذا طلبت ناديجدا من صديقة موثوقة حفظ القصيدة أيضا . وبعد ذلك  مزق ماندلشتام الورقة التي دون فيها القصيدة ..
ويبدو أن البعض وشى به لدى الأمن السري. ومن الصعب - رغم نشر العديد من البحوث والمذكرات الشخصية حول هذا الموضوع في السنوات الاخيرة - معرفة هذا البعض، فقد كان ثمة عدد كبير من المشتبه بهم المحتملين . كان الموت يقترب منه حثيثاً . وفي ليلة 13 على 14 أيار 1934 ، اقتحمت ثلة من عناصر الـ(غولاغ) شقته والقوا القبض عليه ، ورغم التفتيش الدقيق لم يعثروا على نص القصيدة .
وقد حاول كل من باسترناك واخماتوفا  التوسط لدى المسؤولين لأنقاذه من الإعدام أو تخفيف الحكم عليه ولكن محاولتهما لم تكلل بالنجاح . كان القيادي البارز في الحزب نيكولاي بوخارين يحترم ماندلشتام ومعجباً بشعره . فكتب رسالة الى ستالين يشرح فيها الأزمة النفسية التي يمر بها الشاعر، ويناشده أخذ حالته بنظر الإعتبار . وكان جواب ستالين عجيباً ، فقد قد كتب هامشا على الرسالة ، لم يوجه الى شخص بعينه،  يقول فيه : " من  تجرأ على اعتقال ماندلشتام ، يا للقباحة ". ولكن غالب الظن أن ستالين قرر بينه وبين نفسه تأجيل تصفية ماندلشتام، لسببين :
 أولهما – انه رأى في القصيدة اعترافاً بسطوته وسلطاته المطلقة  ،ودليلاً على الخضوع .
 الـ"جبلي " الذي خرج من قاع المجتمع ووصل الى قمة السلطة في دولة عظمى ، اعتبر الخوف الذي عبر عنه الشاعر بالقول :"  نعيش دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا " اطراءا له ، وبرهاناً على نجاحه في اللعب على وتيرة الرعب .وكذلك استحسن ستالين الوصف الدقيق لقدراته الشمولية، ومن المحتمل ان التصوير الكاريكاتيري للمحيطين به نال اعجابه .
وثانيهما : لأن المؤتمر التأسيسي لإتحاد الكتاب السوفيت كان على الأبواب ، وقد دعي لحضوره عدد من أشهر الأدباء الأوروبيين .وأراد ستالين أن لا يبدو قاسياً ، بل مسامحا كريما أمام الأجانب . حيث صدر حكم على الشاعر بالنفي ثلاث سنوات الى مدينة جيردين. وقد رافقته زوجته ناديجدا الى منفاه الإجباري .أيضاً ، ولكنها لم تسكت أو تستسلم ، بل كتبت رسائل الى كبار المسؤولين وبضمنهم بيريا، وزير المخابرات ، تطلب فيها السماح لماندلشتام بأختيار منفاه في احدى مدن الأقاليم. وقد أثمرت جهود نيكولاي بوخارين عن السماح للشاعر باختيار منفاه في احدى مدن الأقاليم ، ما عدا 12 مدينة كبيرة بضمنها ، موسكو ولينينغراد وكييف .فاختار مدينة فورونيج . كانا  يعيشان في فقر مدقع بعد انقطاع مورد رزقه ، فلجأ الشاعر الى اصدقائه القدامى - الذين تخلى معظمهم عنه - ولم بستطع الحصول منهم ، الا على النزر اليسير من المال . هنا كتب ماندلشتام سلسلة قصائده الخالدة المعنونة " دفاتر فورونيج ".
 بعد انتهاء مدة نفيه  في مايو 1937، حصل على إذن بمغادرة فورونيج ، هو وزوجته عائدين لفترة وجيزة إلى موسكو. أما اتحاد الكتّاب السوفييت الذي كان ماندلشتام عضواً فيه ، فقد قام رئيس الإتحاد ستافسكي  بأرسال كتاب تحريضي ضد الشاعر الى وزير الداخلية (يزوف )، طالباً معاقبة ماندلشتام  ، لأن قصائد "فاحشة و تشهيرية " وقال في الكتاب ان ماندلشتام قام بزيارة موسكو ، وسكن  لدي اصدقائه ، خلافا لضوابط نفيه الى فورونيج ، وأنه يتظاهر بالفقر والمرض محاولا التاثير في الراي العام ، وان العناصر المناهضة للسلطة  في الوسط الأدبي استغلوا ماندلشتام في اغراضهم الدعائية المعادية و جعلوا منه ضحية  ونظموا حملات جمع المال له بين الكتاب .وإن كلا من  جوزيف براوت وفالنتين كاتاييف يدافعان عن ماندلشتام . انتظر ( يزوف ) شهراً كاملاً قبل أن يتخذ اجراءاً بحق الشاعر، ويبدو أنه أراد معرفة رأي ستالين أولا .ً
في اوائل شهر آذار عام 1938، انتقل الزوجان إلى منتجع صحي للنقابات في ضواحي موسكو . هناك في ليلة 1 /2 أيار 1938 اعتقل ماندلشتام للمرة الثانية ، واقتيد إلى سجن (بوتيرسكايا ) في موسكو ، وهناك عذب تعذيبأً وحشيا وحرم من الطعام والنوم . وفي الثاني من آب 1938 حكم عليه بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة . وبعد اسبوع واحد ، تم ترحيله الى مخيم الإعتقال المؤقت في فلاديفوستوك، في الطريق الى احد المعتقلات في سيبيريا . وهنا كتب الشاعر آخر رسالة الى أهله ، يقول فيها أن صحته قد تردت كثيراً ، واصابه الهزال الى درجة يصعب التعرف عليه
.الفرضيات حول ايامه الاخيرة في المعتقل كثيرة ،ولعل أقربها الى الحقيقة ،هي أنه توفى في 27 كانون الأول 1938 في المخيم المؤقت ، وان جثته مع جثث الموتى الآخرين ، بقيت في العراء حتى ربيع 1939 ، ثم تم دفنهم في مفبرة جماعية . كان الإعتقاد السائد أن الشاعر توفي بمرض التيفوئيد ، ولكن الوثائق الرسمية التي كشف عنها النقاب في السنوات الاخيرة ومنها شهادة وفاته ، تؤكد أنه توفي بسبب نوبة قلبية في 27 كانون الأول  1938 .
قصيدة " جبلي الكرملين " :
شعر ماندلشتام عصي على الترجمة ، فالمعنى عنده لا يظهر على السطح ، بقدر ما هو وراء الكلمات , لذا وقع العديد من الشعراء الأجانب ،في اخطاء عديدة ،عند ترجمة هذه القصيدة من لغة وسيطة في معظم الأحيان الى لغاتهم ، واخذوا بالمعانى الظاهرة للكلمات ، واضافوا الى القصيدة المترجمة ما هو غريب عنها من كلمات او عبارات. لذا سنحاول تقديم ترجمتنا لهذه القصيدة من اللغة الروسية مباشرة . ومن ثمّ تصحيح الأخطاء التي وقع فيها أولئك المترجمون .
نعيش دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا
 أصواتنا لا تسمع على بعد عشر خطوات
في أي حديث عابر مهما ابتسر
 جبلي الكرملين لا بد أن  يذكر
 أصابعه الغليظة  دهنية مثل الديدان
 كلماته فصيحة وثقيلة كعيار الميزان
 وشارباه الصرصوريان يضحكان
  جزمته اللامعة تخطف البصر
 ومن حوله رعاع من القادة بأعناق نحيلة
 وهو يتلاعب بخدمات أنصاف الرجال
 واحد يصفر ، وآخر يموء ، وثالث ينوح
 هو وحده يقصف ويجرح
 كما الحدوة يقذف بوجوههم مرسوما اثر مرسوم
 يصيب هذا في الفخذ ،وذاك في الجبين
 وآخر في الحاجب ، ورابع في العين
  كل اعدام عنده – مالينا
 وصدر الأوسيتي جد عريض .
جاءت القصيدة كرد فعل على الواقع السوفيتي المرعب في فترة الثلاثينات . ماندلشتام يصف بدقة  ملامح ذلك الزمن . دولة كبيرة تفضل الصمت:"  كلامنا لا يسمع على بعد عشر خطوات ". كانت كل كلمة لا تعجب السلطة ، يمكن أن  تؤدي الى الإعتقال أو الأعدام . مناخ الرعب هيمن على الإتحاد السوفيتي . في قصيدة " الجبلي"  رسم الشاعر بورتريه  ستالين بدقة ، ولم يذكر اسمه بشكل صريح ، بل اشار اليه بـ " جبلي الكرملين" .
الأصابع الغليظة للطاغية تقارن بالديدان ، وشارباه بالصراصير . ويلمح ماندلشتام الى ماضي " أبو الشعوب " بكلمة ( مالينا) الدارجة المستخدمة في عالم الجريمة المنظمة ، والشاعر يشير هنا الى المرات الست التي حكم فيها على ستالين ، وكانت خمس منها بسبب السرقة والسطو ، ومرة واحدة فقط  بسبب نشاطه السياسي . وليس من قبيل المصادفة الإشارة الى صدر الأوسيتي العريض ، لأن ستالين ولد في بلدة غوري ، في  جنوب اوسيتيا. وصور الشاعر ،انصاف البشر ، من القادة الرعاع  غير القادرين على الكلام بحضوره ، وهم يلعب بخدماتهم : "واحد يصفر ، وآخر يموء ، وثالث ينوح .
ملاحظات على الترجمات الغربية للقصيدة :
أشرنا آنفاً أن قصيدة " جبلي الكرملين " ترجمت الى أهم لغات العالم ، ولكن لدى مراجعتنا للترجمات الإنجليزية ، تبين لنا أن العديد منها، لا تعبر عن روح النص الروسي. فقد ترجمت كلمة ( مالينا) الروسية الى ( التوت ) وهي ترجمة صحيحة لغوياً ، ولكنها خاطئة تماما في هذه القصيدة . لأن الشاعر لا يقصد بكلمة ( مالينا) التوت ، بل الماضي الأجرامي للطاغية . ولم يكتشف هؤلاء المترجمون المعنى الحقيقي للفظة ( مالينا ) وبعضهم أضاف اليها  كلمة الأحمر. فقد جاء البيت ما قبل الأخير في ترجمة  الشاعر الأميركي المعروف روبرت لويل على النحو التالي :" بعد كل إعدام ، يضع كأي قبلي جيورجي / توتاً أحمر في فمه ". ولا وجود للشطر الأول من هذا البيت في القصيدة . أما ف دبليو أس ميروين فيقول:" يدحرج الإعدامات على لسانه كثمرات عنبية / متمنيا معانقتهم مثل اصدقاء من الوطن .
ولا أدري من أين أتى ميروين بالثمرات العنبية ، وبالشطر الأخير. بل ان بعض المترجمين حلقوا بعيدا عن الأصل بقولهم : " كل اعدام مأدبة/ وكبيرة هي شهية الجورجي " وبعضهم قال ان التوت يرمز للدم بلونه الأحمر ، وآخرون قالوا ان التوت يعبر عن الرخاء والإتشراح..


43
الجيل الضائع في الأدب الروسي الحديث
جـودت هوشيار       
الأدباء الشباب ضحايا الأدب المستعاد :
 
بعد تخفيف الرقابة على المطبوعات في فترة البيريسترويكا ( إعادة البناء ) ، شهدت روسيا بين عامي ( 1986 - 1989) إنفجاراً ثقافياً حقيقياً ، تمثلت في نشر كم هائل من الأعمال الأدبية والفكرية المحظورة طيلة الحقبة السوفيتية السابقة لطائفة كبيرة من اشهر الكتاب الروس الذين ينتمون الى عدة اجيال متعاقبة . والكثير من هذه الأعمال تم كشف النقاب عنها لأول مرة . وهذهi ظاهرة فريدة ، اطلقت عليها إسم " الأدب المستعاد " الذي أقبل عليه القاريء الروسي بنهم شديد ، لنهل النصوص الإبداعية التي تكشف الحقيقة عن ثورة اكتوبر 1917 والحرب الاهلية واحداثهما الدراماتيكية ، والأساليب التي اتبعها البلاشفة لبناء (العالم الجديد) المزعوم .
 
وقد تسابقت المجلات الأدبية المركزية - التي يسميها الروس ب"المجلات السميكة " - في نشر " الأدب المستعاد"، وامتنعت  تماماً عن نشر نتاجات الجيل الجديد من الكتاب والشعراء الروس. وقد يستغرب القاريء اذا قلنا ان تلك المجلات هي التي تقرر مصير أي موهبة أدبية جدبدة في روسيا، بصرف النظرعن النظام القائم ، هكذا كان الأمر في كل العهود منذ صدور أول مجلة من هذا النوع في روسيا وهي مجلة " بيبليوتيكا دليا جتينيا " أو " مكتبة للقراءة" في عام 1834 .
إن نشر اي نص ابداعي في مجلة ادبية مركزية يعد اشهارا للمبدع الناشيء واعترافا بموهبته في الوسط الأدبي والثقافي ، ولدى دور النشر ، أما النشر في المجلات الهامشية فإن مصيره الأهمال والنسيان وان كان المبدع ذا موهبة . هذا تقليد أدبي راسخ في روسيا . كل الكتّاب الكلاسيكيين الروس ، والكتاب السوفيت ظهروا لأول مرة على صفحات مثل هذه المجلات. .
 
 سجلت المجلات (السميكة) أرقاماً قياسية في مبيعاتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر بلغ عدد النسخ المطبوعة من مجلة " يونست " في تلك الفترة حوالي خمسة ملايين نسخة .وهذا رقم قياسي في تأريخ الصحافة  الأدبية الروسية والعالمية . كانت هذه المجلة المتخصصة في نشر أعمال الأدباء الشباب ، المنبر الرئيسي دائماً لنشر وإشهارالأعمال الأدبية المتميزة للجيل الجديد  من الكتّاب والشعراء والنقاد. اما في فترة البيريسترويكا  فقد توقفت تماما عن نشر مثل هذه الاعمال ، وكرست صفحاتها لـ"لأدب المستعاد ". وربما كانت المجلة محقة في ذلك . فقد كان القاريء الروس متشوقا لقراءة الروائع الأدبية ، التي دفع مبدعوها حياتهم من أجلها ، وليس الأطلاع على نتاجات الأدباء  الشباب الذين يحاولون شق طريقهم في عالم الادب.
 .
كان البلاشفة في العهد القيصري ينادون بحرية التعبير والعدالة الأجتماعية ، ولكنهم بعد وصولهم الى السلطة شرعوا تدريجياً بالقضاء على كل الحريات العامة والخاصة ، ومنها حرية التعبيرعن الرأي بشتى أشكاله ، وفرضوا رقابة صارمة على المطبوعات ، التي اصبحت كلها حزبية وحكومية ، بعد الغاء دور النشر والصحف والمجلات الخاصة ، ومنعوا نشر أو عرض أي نتاج ابداعي لا يتوافق مع الأيديولوجية الشيوعية . الرقابة البلشفية كانت أكثر قسوة بكثير من الرقابة القيصرية.
أثارت الأساليب البلشفية المتطرفة في استئصال ( البورجوازية ) ومصادرة أموالها وممتلكاتها استياء معظم الكتّاب والشعراء المعروفين ، وقد فضّل الكثير منهم الهجرة الى العواصم الغربية . اما الأدباء الذين ظلوا في داخل روسيا ، فقد انقسموا بين مؤيد ورافض للنظام البلشفي . وأدرك  الرافضون بعد حين ، إن ما يكتبونه قد لا يرى النور قي روسيا أبداً . وصدق ظنهم ، فقد امتنعت المجلات " السميكة " ودور النشرالسوفيتية عن نشر نتاجاتهم ، أو ظلت حبيسة الأدراج المخفية عن أنظار المخبرين لدى الأقارب أو الأصدقاء الحميمين أو تم تهريبها لنشرها في الخارج . وكان كل عمل ادبي روسي ينشر في الخارج ، يعتبر عملاً معاديا للثورة ، و للنظام الجديد في نظر قيادة الحزب الحاكم ، ويحظر نشرها أو تداولها في داخل البلاد.
 .
يتضمن " الأدب المستعاد" عدداً كبيراً من الأعمال الإبداعية ، لطائفة من خيرة الأدباء الروس من كتاب وشعراء ، الذين اعدموا أو سجنوا لسنوات طويلة ، بعد انتزاع اعترافات كاذبة عنهم وادانتهم في محاكمات صورية بتهم ملفقة . وكان الحكم عليهم ينص ايضاً على ازالة اسمائهم ومؤلفاتهم اينما وردت ، قي الموسوعات والكتب والبحوث والمقالات ، ومنع أي اشارة اليهم في المناسبات الثقافية . وكانت ( جريمتهم ) أنهم لم يكونوا يكتبون كما يشتهي القسم الأيديولوجي في الحزب ، بل يكتبون الحقيقة ، ويصورون الواقع فنيا دون تزييف أو تلميع. ومن هؤلاء اسحاق بابل (1894- 1941)  . وتعد مجموعة قصص " حكايات اوديسا " (1925) ورواية " فرقة الخيالة " (1931 ) من أهم أعماله الإبداعية . وبعد اعتقاله في عام 1939 اختفت اعماله وكتاباته ، ومات في المعتقل في ظروف غامضة .
أما أعمال أندريه بلاتونوف (1899 – 1951) الروائية بأجوائها التشاؤمية ،  فقد ظلت ممنوعة من النشر حتى عام 1987 .ومنها  " الحفرة " و "تشيفنغور" ، " وصبايا البحر " التي تعد من أهم أعماله الإبداعية ..
.تروي " الحفرة " (1931)  قصة عمل فريق من العمال في اقامة مبنى سكني يخصص للبروليتاريا ، وكان هؤلاء العمال يتوجهون بين فترات العمل الى القرية المجاورة لتطهيرها من الفلاحين الأغنياء أو الملاكين ثمّ يرمون  جثامينهم في عرض البحر . هكذا يصور المؤلف بداية العمل الجماعي في روسيا .
لم ينجز من المشروع سوى الحفرة ، التي تحولت في نهاية المطاف الى مقبرة جماعية. ومعنى القصة واضح وهو استحالة بناء الجنة الشيوعية على معاناة الضحايا الابرياء.
أما الشاعر أوسيب ماندلشتام ( 1891- 1938 )-  وهوأحد أعظم الشعراء الروس في القرن العشرين - فقد ضحّى بنفسه من أجل قصيدة تهكمية بستالين بعنوان " جبلي الكرملين " لم تر النور الا في في عام 1986  ، وترجمت على الفور الى عشرات اللغات الأجنبية من قبل شعراء غربيين معروفين . وهي أشهر قصيدة تهكمية في القرن العشرين .
 
أما ميخائيل بولغاكوف (1891 – 1940)  فقد شجب الثورة في روايته القصيرة " قلب الكلب " التي كتبها في عام 1925 ، ونشرت في الخارج في الستينات ، بعد وفاة الكاتب بحوالي عشرين عاماً ، ولم تنشر في روسيا الا في عام  1987 ، فقد كان من الكتّاب المغضوب عليهم  ، ومنع من النشر تماماً في السنوات الأخيرة من حياته . القاريء يعرف بولغاكوف من خلال روايته الرائعة "المعلم ومرغريتا" ، المترجمة الى اللغة العربية . ومن أهم أعماله الأخرى رواية " الحرس الأبيض "، و مسرحية " أيام آل توربين" وهو يعد من أهم الكتاب الروس في النصف الأول من القرن العشرين .
لم يقتصر الحظر والتضييق على هؤلاء المبدعين فقط ، بل شمل مبدعين روس آخرين من ألمع الشعراء والكتّاب ، ومنهم اهم شاعرتين روسيتين في القرن العشرين وهما تسفيتايفا وأخماتوفا اللتان منعتا من نشر العديد من  اعمالهما  والشاعر بوريس باسترناك الذي تم حظر نشر روايته " دكتور زيفاكو " في داخل روسيا حتى عام  1987. وشمل الحظر حتى بعض أعمال مكسيم غوركي . والقائمة طويلة. ولا نرى جدوى من ذكر أسماء الكتّاب والشعراء ،الذين تعرّضوا للأضطهاد ممن لم يترجم أي عمل من أعمالهم الإبداعية الى اللغة العربية .
 
أدب المعتقلات :
 
ثمة العديد من أهل الفكر والقلم ، الذين قضوا سنوات طويلة في معتقلات العمل القسري الشاق ، لعل أشهرهم فارلام شالاموف (1907- 1982) ، الذي صور بعمق معاناة المعتقلين في مجموعته القصصية  الشهيرة " حكايات كوليما " . وكوليما شبه جزيرة تقع في اقصى حدود سيبيريا قضى فيها شالاموف سبعة عشر عاما ( 1936-1953) . وقد لقيت " حكايات كوليما " عند نشرها لأول مرة خلال فترة  البيريسترويكا  رواجاً عظيما . شالاموف يعتقد ان الظروف اللاانسانية في تلك المعتقلات الرهيبة لا يطهّر الانسان  بل يفقده آدميته ويحوله الى كائن آخر فاقد لكل ما يميز الأنسان من قيم .
 أما الكسندر سولجينيتسن (1918- 2008) فقد حكم عليه بالسجن ثمان سنوات مع الاشغال الشاقة بتهم مفبركة ، ولم يشفع له ميداليات الشجاعة التي نالها في حينه عن اشتراكه في معارك الحرب الوطنية العظمى ضد الجيش الهتلري . واعيد اليه الاعتبار بعد وفاة ستالين حيث ، عمل مدرسا ، وكتب روايته الشهيرة " يوم واحد من حياة ايفان دينيسوفيج " ، التي يصف فيها يوما واحدا من حياة بطل الرواية في المعتقل . وقد تدخل خروشوف شخصيا للسماح له بنشر الرواية . اما رواياته اللاحقة ومنها رواية " أرخبيل غولاغ " فقد كتبها وبسرية تامة، ولم تنشر الا في عام 1987.وكان سولجينيتسن على النقيض من شالاموف يرى أن المعتقل يسهم في تطهير الانسان من النوازع الدنيوية وقد دخل في سجال طويل مع شالاموف حول هذا الموضوع .
 .
نتاجات الروس المهاجرين والأجانب :
 
كان  الاعلام السوفيتي يزعم ان الطاقة الابداعية للكتاب والشعراء الروس المهاجرين قد خمدت ، ولكن الحقيقة هي انهم قد أبدعوا اعمالاً قيمة نشرت في بلدان اللجؤ ،  وظلت محظورة في روسيا حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين . وعندما  أخذت أعمالهم طريقها الى المجلات الأدبية المركزية،  أصيب القراء بدهشة كبيرة ، حين إكتشفوا أن ثمة أدباً روسياً في الخارج ، متنوع الإتجاهات والأساليب ، لا يقل روعة عن أعمال كبار الأدباء الروس المغضوب عليهم في الداخل.  اعمال هؤلاء المبدعين المهاجرين سمحت بتكوين صورة كاملة للهزات التأريخية التي تعرضت لها روسيا في النصف الأول من القرن العشرين . ونكتفي هنا بمثالين بارزين فقط من هذه الأعمال.
 
- كتاب " الأيام الملعونة " لأيفان بونين ( 1870 – 1953 ) يتضمن يومياته عن احداث عامي 1918- 1919 و الكارثة القومية التي عصفت بروسيا في أعقاب ثورة 1917.وقد اجمعت الاوساط الثقافية في الدول الغربية على الاشادة بالكتاب عند نشره في باريس عام 1936، بل ان البعض  من الباحثين الأجانب اعتبره ذروة ابداع بونين.
كان  المثقفون في الداخل يعرفون وجود هذا الكتاب . بعد ان ظهرت بعض التعليقات النابية عن الكاتب في الصحافة السوفيتية ، ولكن الكتاب ظل ممنوعا من النشر والتداول في روسيا حتى عام 1987 .
يصف بونين في هذا الكتاب الحياة المدمرة في المدن والقرى ، حيث تركت الاراضي الزراعية مهملة ولم يزرع او ينتج أي شيء طيلة خمس سنوات :ويتساءل الكاتب : " كم من الناس يسيرون اليوم في ملابس منزوعة من جثامين الموتي ؟ " . بونين يصدر حكماً قاسياً ليس على الثوار فقط ، بل على الشعب الروسي أيضاً ، لأنه سمح لفئة من المتعصبين أن يتحكموا في حياته ومصيره ، وهو يندد في يومياته - التي كتبها  إثر الأحداث الساخنة يوماً بيوم -  بإحتكار الحقيقة من قبل الثوار . ويصرخ : " نحن أيضاً بشر "  ويطالب بتطبيق معيار أخلاقي واحد على " نحن " و "هم" مدافعاً عن القيم الإنسانية المشتركة .
 
.ويقول ان كل ما يقترفه الثوار من افعال مسموح ومغفور لهم ، في حين انهم انتزعوا من "البيض"  كل شيء : "  الوطن ،و الآباء ، والأخوات ، والأقارب ، والمهود ، والمقابر  .لأنهم – حسب الثوار - ليسوا بشراً ولا يمكن أن يكون لهم رأي في ما يحدث في بلادهم.
في " الأيام الملعونة " يروي بونين قصة أثارت دهشته ، حيث أقدم الثوار خلال نهب منزل أحد الملاكين ، على نتف ريش الطواويس ، وتركها مدماة تنتفض من الألم في الفناء .الطاووس المسكين لم يكن يعرف أنه طير بورجوازي ".
 
- ويصف كاتب مغترب آخر هو ايفان شميليوف في رواية " شمس الموتى " المجاعة الرهيبة في شبه جزيرة القرم ، حيث كان هو شخصيا شاهداً وضحية لها . شخصيات الرواية أناس حقيقيون ، من سكان مدينة " آلوشتا " الساحلية . ويمتد زمن الرواية عاماً واحداً ، من الربيع الى الربيع التالي . وهي  وثيقة فنية – تأريخية مدهشة لتلك الحقبة .
في ظل النظام الجديد تحولت اراضي القرم الخصبة الى صحراء محروقة . البلاشفة الذين نجحوا في انتزاع السلطة ، لم يحاولوا تنظيم الناس للعمل المنتج ، ولم يكن لهم همّ سوى فرض العقوبات على السكان ، وسلب ما لديهم من مال وممتلكات . اسم الرواية يشير الى الانتصار التام للموت على الحياة . الناس يترنحون من الجوع عند المشي . المجاعة دفعت الناس الى اكل كل ما تقع في أيديهم من حيوانات وطيور ونباتات . السلطة الجديدة لا تلتفت الى معاناة السكان ولا تهتم بمصائرهم وتركتهم يموتون من الجوع . شميليوف يصور كيف ان الجوع يدمر اخلاق الانسان . الجيران الان يكره بعضهم البعض الاخر ، وبوسعهم سرقة آخر قطعة خبز . انه زمن الجنون بعينه.
 
ولم يقتصر الحظر في الحقبة الستالينية على الأدباء الروس المغضوب عليهم ، بل شمل أيضاً نشر  أو تداول الأعمال الأدبية والفكرية لعدد كبير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة الأجانب، بذريعة انها مضرة ، وتتنافى مع الأيديولوجية الماركسية . ومنها نتاجات جيمس جويس واورويل وكافكا ، وكتب فرويد ، ونيتشة ، وسارتر ، وغيرهم ، التي اطلع عليها القاريء الروسي بعد عشرات السنين من صدورها  .
ونرى على هذا النحو ، كبف أن الحرية لها بعض الجوانب السلبية أحياناً ، مثلما حدث في روسيا خلال سنوات البيريسترويكا .، عندما حجب " الأدب المستعاد " النصوص الإبداعية للأدباء الشباب ، وحرمتهم من النشر لسنوات عديدة . ولم تبدأ المجلات الأدبية المركزية ودور النشر بالإهتمام بإبداعاتهم الا منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين .


44
من هو الكاتب الذي ركعت مارلين ديتريتش على ركبتيها لتحيّته ؟
جــودت هوشيار      
الكاتب الذي سحر مارلين ديتريتش :
قرأت في عام 1963  – وانا طالب في موسكو – نتائج إستطلاع للرأي بين القراء الروس عن أحب كاتب الى قلوبهم . وكم كانت دهشتي عظيمة ، عندما تصدر الكاتب الروسي  قسطنطين باوستوفسكي القائمة ، التي كانت تضم أشهر كتاب روسيا والعالم.
كنت قد سمعت بأسم هذا الكاتب أول مرة من مدرسة اللغة الروسية في الكلية التحضيرية بجامعة موسكو ، وغلب على ظني حينئذ انه من الكتاب الذين يحظون بمباركة رسمية . ونسيته بعد ذلك تماما . وقد دفعني هذا الإستطلاع الى البحث عن أعماله الروائية والقصصية في متاجر الكتب بالمدينة ، ولكن دون جدوى ، لأن كل كتاب جديد له كان ينفد بعد أيام من عرضه للبيع ، رغم صدوره في مئات الآلاف من النسخ . فما كان مني الا أن أبحث في المكتبة العامة القريبة من مسكني عن نتاجاته . وما أن شرعت بقراءة أعماله حتى سحرني أسلوبه وعالمه القصصي ، الذي يشغل فيه وصف الطبيعة الساحرة لروسيا الوسطى جانباً كبيراً منه ، وهو لا يقص أحداثاً خطيرة أو وقائع عظيمة ، بل يجعل الأحداث الصغيرة ، والأشياء العادية مثيرة للأهتمام .
قسطنطين باوستوفسكي (1892- 1968) كاتب غزير الأنتاج ، كتب عشرات الروايات والقصص الرائعة ، كما كتب للأطفال مجموعة من الحكايات الجميلة ، وحولت السينما الروسية العديد من قصصه ورواياته الى أفلام سينمائية ناجحة .
وقد استوقفتني روايته الرائعة " الوردة الذهبية " ( 1955 )  المكرسة لجوهرالكتابة الإبداعية. وهي على شكل فصول مستقلة ، وكل فصل مكرس للحديث عن تجربة ابداعية معينة للمؤلف .وكما يقول في مقدمة الكتاب ، فأن هذه الرواية ليست بحثا في قواعد كتابة الرواية او القصة ،مؤكداً أنه لا وجود لمثل هذه القواعد . بل يدعو القاريء الى الدخول في مختبره الإبداعي. وفي الفصل المعنون " ندوب على القلب " يتحدث عن خلفية كتابة أشهر قصة قصيرة له وهي " البرقية " عندما قضى عدة اشهر في دار امرأة عجوز مريضة ببلدة ريفية ، وتفرغ فيها للكتابة .ولكنه ازال نفسه من القصة ، التي كتبها بالضمير الثالث ،واضاف اليها شخصيات من وحي الخيال . والقصة اعمق واغنى من الواقع بكثير.   قرات قصة " البرقية " بتمعن ،واعدت قراءتها المرة تلو المرة ، وأنا مأخوذ بأناقة لغة الكاتب  وجمال اسلوبه ، وعمق تصويره السايكولوجي  ، الذي يحرك مشاعر القاريء ويترك في نفسه أثراً عميقاً، ويدفعه الى تأمل الحياة من حوله برؤية جديدة .
ويبدو أنني لم أكن وحدي من هزته هذه القصة السايكولوجية ، فقد كرست المغنية والممثلة الألمانية -   الأميركية الشهيرة مارلين ديتريتش ، اسطورة هوليود ، صديقة همنجواي وريمارك ، فصلاً كاملاً
في كتاب لها بعنوان " تأملات" (1985)، للحديث عن هذه القصة وكاتبها باوستوفسكي ولقائها بالكاتب في موسكو عام 1964 ، عندما أحيت عدة حفلات غنائية على مسرح " دار الكتّاب ".
 تقول ديتريتش : " ذات مرة قرأت قصة لباوستوفسكي – الذي لم اسمع به من قبل - بعنوان " البرقية " تركت في نفسي انطباعا قويا ، وجعلتني لا أنسى القصة ولا اسم كاتبها مدى الحياة . لم أعثر على  أعمال أخرى لهذا الكاتب المدهش. وعندما سافرت الى روسيا في جولة فنية ، ووطأت قدماي أرض مطار موسكو، أخذت أسأل عن باوستوفسكي . 
كان هناك مئات الصحفيين الذين لم يوجهوا لي أي أسئلة غبية من قبيل الأسئلة التي ابتليت بها في البلدان  الأخرى . وكانت اسئلتهم مثيرة للأهتمام . استغرق حديثنا أكثر من ساعة ، وعندما وصلت الى فندقي ، كنت أعرف كل شيء عن باوستوفسكي . كان مريضا، وراقدا في المستشفى في ذلك الوقت . وقد قرأت لاحقاً  كلا المجلدين لسلسلة رواياته المعنونة " قصة حياة " وكنت منتشية بنثره الفني . قدمنا عدة حفلات للكتّاب ، والفنانين ، والممثلين . واحياناً كنا نقدم أربع حفلات يومياً. وفي أحد هذه الأيام وأنا خلف الكواليس ، أستعد للظهور على خشبة المسرح ، جاءت مترجمتي (نورا) ، وقالت . ان باوستوفسكي موجود في القاعة . لم اصدق ذلك ، وقلت هذا مستحيل ، فهو يرقد الآن في المستشفي بسبب نوبة قلبية ، كما قيل لي في المطار. ولكن (نورا) أكدت : نعم أنه هنا برفقة زوجته . كانت الحفلة جيدة ، ولكنك لن تحقق ما تنشده ، عندما تحاول بكل جهدك أن يكون أدائك على أفضل وجه . طلبوا مني البقاء على المسرح، بعد انتهاء الحفلة. وفجأة صعد باوستوفسكي الدرج الى خشبة المسرح . ذهلت عندما رأيته شاخصاً أمامي ، وانعقد لساني ، ولم أستطع ان اتفوه بكلمة واحدة بالروسية . ولم أجد طريقة أخرى للتعبير عن اعجابي به سوى الركوع على ركبتي امامه. كنت قلقة على صحته ، وأريد أن يعود الى المستشفي حالاً . ولكن زوجته طمأنتني : " هكذا سيكون أفضل له . لقد بذل جهدأ كبيراً لكي يأتي لرؤيتك " . وقد توفي بعد ذلك بوقت قصير . بقيت لدي كتبه وذكرياتي عنه . كَتَبَ باوستوفسكي برومانسية ، ولكن بوضوح ، ومن دون تزويق . لست على يقين أنه معروف في أميركا ، ولكنهم سيكتشفونه يوماً . أنه من أفضل الكتاب الروس الذين أعرفهم . لقد التقيت به في وقت متأخر جدا.
ويروي بعض الكتاب الروس الذين حضروا الحفلة ذكرياتهم عن هذا الحادث  .وهم يختلفون في بعض التفاصيل ، ولكنهم يجمعون ، بان الجمهور أصيب للحظات بالذهول ، وساد القاعة الكبيرة صمت غريب ، ثم صرخت فتاة داخل القاعة بكلمات مبهمة ، دوّت بعدها عاصفة من التصفيق المتواصل . ويقول هؤلاء الشهود بأن ديتريتش ارتمت على المسرح جاثية على ركبتيها وأخذت تقبّل يد المؤلف الذي كتب قصة " البرقية " ثم وضعت يده على خدها المبللة بالدموع . كانت ديتريتش ترتدي فستاناً ضيقاً ابيض اللون ،وكان من الصعب عليها النهوض فساعدها بعض الحضور على ذلك ، ثم  خاطبت الجمهور قائلة : " كنت أحلم بلقاء باوستوفسكي ، من اجل سداد دين له في عنقي ، وانا في غاية السعادة لأن حلمي قد تحقق ." ، كان في القاعة العديد من المصورين ، ولكنهم كانوا في حالة ذهول ولم يفطن احد منهم لألتقاط صورة لهذا المشهد النادر سوى احد الحضور ،الذي التقط صورة واحدة ، نشرت فبما بعد في الصحف السوفيتية .
قصة " البرقية " :
تتناول القصة الأيام الأخيرة في الحياة لأمرأة عجوز مريضة تدعى كاترينا بتروفنا ،التي ، تعيش وحدها في في دار بناها والدها الفنان التشكيلي الراحل في بلدة ( زابوريا )  بعد عودته من العاصمة الروسية القديمة بتروغراد .
كانت كاترينا في شبابها في غاية الجمال والنشاط والحيوية ، زارت باريس مع والدها وعاشت فيها عدة أشهر، وشاهدت جنازة فيكتور هوجو ، وكانت لعائلتها علاقات اجتماعية واسعة بالفنانين والكتاب والشعراء ، اما اليوم فأنها تقضي ايامها في استعادة صور الماضي ، ولولا  بنت الجيران " مانوشكا " التي تأتي لأداء الأعمال المنزلية، ولولا عامل الإطفاء ، الذي يهيأ لها الحطب للشتاء الروسي القاسي ، لماتت في غرفتها من البرد والجوع دون أن يدري بها أحد . ادارة البلدية حجزت على الدار بذريعة انها تراثية وعلى اللوحات الفنية الثمينة فيها . لكنها لا تبدي أي اهتمام ، لا بالدار ولا بصاحبتها .
ناستيا الإبنة الوحيدة لكاترينا بتروفنا تعيش في لينينغراد ، المرة الأخيرة التي جاءت فيها لزيارة امها كانت قبل ثلاث سنوات . لم تكن كاترينا بتروفنا تراسل إبنتها الا ما ندر، فهي لم تكن راغبة في التدخل في حياة إبنتها، ولكنها كانت دائمة التفكير فيها .. ناستيا ايضاّ لم تكن تكتب اية رسائل لأمها ، وتكتفي بأرسال حوالة مالية لها بمبلغ مائتي روبل كل شهرين أو ثلاثة اشهر .
في اواخر اكتوبر، وفي ساعة متأخرة من الليل،  سمعت كاترينا بتروفنا دقات على باب الحديقة ، وذهبت لتفتح الباب ولكن لم يكن هناك احد . في تلك الليلة كتبت رسالة لأبنتها ترجوها ان تأتي لزيارتها.
كانت ناستيا تعمل سكرتيرة لأتحاد الفنانين التشكيليين ، وكان الفنانون يسمونها " سولفيك " لشعرها الأشقر وعيونها الوسيعة الباردة .عندما استلمت رسالة امها كانت جد مشغولة بتنظيم معرض للوحات فنان موهوب ومغمور اسمه تيموفييف ، ولهذا فإنها دست الرسالة في حقيبتها لتقرأها فيما بعد . الرسالة طمأنتها بأن امها ما زالت على قيد الحياة ما دامت قد كتبت لها رسالة.
عند زيارتها لمرسم الفنان تيموفييف كان ثمة تمثال نصفي لجوجول وخيل اليها بأن جوجول يحدق فيها بنظرة تهكمية ساخرة . انشغلت ناستيا اسبوعين كاملين في تنظيم المعرض . وخلال حفل الافتتاح جلبت ساعية البريد برقية عاجلة لها بتوقيع تيخون :" كاتيا تحتضر". لم تفهم فحوى البرقية على الفور، الى أن قرأت اسم بلدة ( زابوريا ) التي صدرت عنها البرقية .. وكاتيا هي اختصار لأسم كاترينا . كوّمت ناستيا البرقية في قبضتها ، وخيل اليها مرة اخرى ان جوجل ينظر اليها نظرة عتاب وتقريع. وفي مساء اليوم نفسه قررت السفر الى ( زابوريا ) .توجهت الى محطة القطار مشيا على الأقدام ، كانت الريح المثلوجة تضرب وجهها ،ولكنها لم تكن تبالي بها .
كانت كاترينا بتروفنا طريحة الفراش منذ عشرة ايام وظلت "مانوشكا" الى جانب المريضة لليوم السادس . ذهب تيخون الى دائرة البريد في البلدة واخذ استمارة برقية ، وفكر طويلا قبل ان يكنب شيئا ما على الاستمارة ،ثمّ جلبها لكاترينا بتروفنا وقرأ في رهبة : " انتظرني .انا في الطريق . اظل إبنتك المحبة دائما . ناستيا " شكرت كاترينا بتروفنا تيخون لكلماته الطيبة واستدارت تحو الحائط وكأنها قد غلبها النعاس.
تم تشييع كاترينا بتروفنا في اليوم التالي والذي حضره العجائز والصبيان . وفي الطريق الى المقبرة شاهدت المعلمة الشابة في مدرسة البلدة  النعش، فتذكرت امها العجوزالتي تركتها وحيدة في المدينة. اقتربت المعلمة من النعش وقبلت يد كاترينا بتروفنا الصفراء الجافة.
وصلت ناستيا الى ( زابوريا ) في اليوم الثاني لدفن امها . ووجدت بدلا منها كومة تراب على قبرها ، وغرفة فارغة باردة ومظلمة ظلت تبكي فيها طوال الليل .ومع حلول الفجر غادرت (زابوريا ) خلسة لكي لا يشاهدها او يسألها أحد . وخيل اليها ان لا احد يستطيع ان ينزع عنها ثقل الذنب ،الذي لا يمكن اصلاحه سوى امها الراحلة.
هذه هي القصة التي ابكت الكثيرين . وهي قصة كالجبل الجليدي ، لا يظهر منها على السطح سوى جزء بسيط والبقية بين الاسطر وما ورائها . باوستوفسكي مثل تشيخوف وهمنجواي يترك القاريء ليكمل القصة ينفسه كل على طريقته الخاصة،  اما الكاتب فيكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة . ومن هذه التفاصيل ان الفنانين كانوا يطلقون على ناستيا اسم "سولوفيك " وهو اسم  بطلة مسرحية " بير جينت " للكاتب النرويجي هنريك ابسن.ومن قرأ هذه المسرحية يعرف المقصود ب" سولفيك ".
ومن هذه التفاصيل ايضا ان كاترينا بتروفنا كانت تحمل دائما حقيبتها اليدوية، وتفتحها بين حين وآخر لتتطلع الى صورتها وهي شابة والى صورة ابنتها ، والى بعض  الاوراق الرسمية يداخلها . وهذا تلميح إلى أن زوج كاترينا، الذي تجاهل المؤلف الاشارة اليه ربما يقبع في المعتقل وهذه الاوراق تخص قضيته . وثمة تلميح آخر وهو ان كاترينا ، حين خيل اليها ان احدا يدق باب الحديقة ، في وقت متأخر من الليل و ذهبت لتفتح الباب ولم تجد احدأ ، انما كانت تنتظر عودة زوجها. والقصة زاخرة بهذه التفاصيل الموحية .
باوستوفسكي أحد الكتّاب القلائل الذين حافظوا على استقلاليتهم وحريتهم الداخلية في ظروف بالغة القسوة في ظل النظام الستاليني الشمولي . لم ينتم الى الحزب الشيوعي ، ولم يكن عضوا في مجلس السوفييت الاعلى ،كما العديد من زملائه الكتّاب . بل أنه لم يكن عضوا قيادياً حتى في اتحاد الكتاب السوفييت. لم يكتب كلمة واحدة في مديح ستالين أو النظام البلشفي ، ولم يحاول التسويق لنفسه بالتملق لذوي النفوذ . وظل ضميره حياً ، يقظاً ، ونقياً . واستطاع أن يحافظ على سمعته ككاتب صادق وانسان نزيه.
لم  يترجم شيء يذكر من أعمال باوستوفسكي الرائعة الى اللغة العربية ، رغم أنه ومنذ الخمسينات معروف عالميا ، وترجمت أعماله الى اهم لغات العالم ، وكان في مقدمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب لعام 1965 ، بل أن لجنة نوبل أتمت كل التحضيرات لأعلان فوزه بالجائزة ، ولكن الأتحاد السوفييتي مارس ضغطاً  دبلوماسياً واقتصادياً هائلاً على السويد ، لصرف النظر عن منح الجائزة لباوستوفسكي . وفعلاً أثمر ذلك عن منح الجائزة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوخوف.


45
مأساة الكتّاب الروس
جــودت هوشيار
الشعب القاريء :
خلال دراستي في موسكو في الستينات ، لفتت نظري ظاهرة ، نادراً ما نجدها في بلد آخر ، على هذا النحو الصارخ ، وهي أن الروس رجالاً ونساءاً ، شيباً وشباناً ، يقرأون الكتب والصحف بنهم لا نظير له. ليس في المكتبات العامة والبيوت ، والمدارس والجامعات ، أو المكاتب فحسب ، بل في كل مكان : في وسائط النقل ، وفي طوابيرالأنتظار في المتاجر. وفي المنتجعات . وكان الروس يتفاخرون عن جدارة بأنهم الشعب الأكثر قراءة في العالم . ولا تهدف القراءة عندهم الى تمضية الوقت أو التسلية ، بل أن المثقفين منهم يعتبرون الكتب  زاداً فكرياً وروحياً لا غنى عنه للأنسان . ولا زلت أذكر العبارة المنقوشة فوق بوابة " قصر الثقافة " التابعة للجامعة التي درست فيها : " تذكر أيها الطالب ان عليك التزود بالثقافة ، لأنك لن تصبح إنساناً متكاملاً بالعلم والتكنولوجيا فقط " . كما أن المناهج الدراسية في شتى مراحل التعليم تتضمن قراءة وتحليل أهم ما أنتجه الفكر الإنساني من آداب وفنون . والروس مغرمون بتشبيه معارفهم وأصدقائهم بأبطال القصص والروايات من حيث طبائعهم وملامحهم . وهم يتخذون الكتّاب والشعراء مثلاً في حياتهم الروحية ، ويتابعون كل ما يتعلق بنتاجاتهم ويومياتهم ورسائلهم وعلاقاتهم الأدبية والشخصية ، سواء الأحياء منهم أم الأموات . ويزورون المتاحف التي كانت يوما ما مساكن لهم ،والتي تضم أعمالهم الأدبية المنشورة والمخطوطة ومسودات نتاجاتهم ، ومراسلاتهم ، وصورهم في مختلف مراحل العمر ، وكل ما يتعلق بهم . وهم يصغون باهتمام بالغ الى آراء الكتاب والشعراء ، ويوجهون اليهم الأسئلة حول نتاجاتهم  خلال اللقاءات ، التي تجري معهم سواء في قاعات الأحتفالات أو في وسائل الإعلام .
رحيل أي كاتب أوشاعر معروف على المستوى القومي يعد خسارة عظمى عند الروس ، لأنهم يعتبرون الكاتب أو الشاعر معلماً للشعب. لذا فأن السلطة السياسية  كانت وما تزال تتوجس من الكتاب كثيراً وتراقب أعمالهم .
الحالات التي نوردها ، في الفقرات اللاحقة عن مصائر عدد من ألمع الكتّاب والشعراء الروس المعروفين لدى القاريء ، تعد  غيضاً من فيض ، ولكنها تكفي للأبانة عن حال الأدب والأدباء في روسيا في  الماضي القريب .   
الموت واحد وان تنوعت اشكاله :
جرت العادة في روسيا عبر التاريخ أن يكون الشعراء من المعذبين في الأرض لأن الشاعر في روسيا هو أكثر من مجرد شاعر. لذا نتحدث أولاً عن تلك الفواجع ، التي ألمّت بالشعراء الكبار.
الكساندر بوشكين ، أعظم شاعر روسي ، على مر العصور ، تم نفيه مرتين ، واصيب بجروح بليغة خلال مبارزة غامضة مع البارون جورج دي غيكّرن في 27 يناير 1837 ، وتوفي بعد ذلك ببضعة أيام .
   ميخائيل ليرمنتوف ، احد أهم الشعراء الروس بعد بوشكين. له العديد من الروائع الأدبية نثراً وشعرا . كتب وهو متأثر بمصرع بوشكين قصيدة احتجاجية رائعة بعنوان " مصرع شاعر " ، هزت روسيا من أقصاها الى أقصاها . وحفظها ورددها المعاصرون مما أثار غضب السلطات التي قررت اعتقاله ونفيه إلى منطقة القوقاز . كانت حياته قصيرة خاطفة كالشهاب ، حيث قتل خلال مبارزة مع نيكولاي مارتينيف في 27 أيلول 1841 ، عن عمر بلغ 27 عاماً. ويعتقد على نطاق واسع أن ليرمنتوف قتل برصاصة أخرى غير رصاصة مارتينيف . وعندما سمع القيصر نيكولاي الأول بمصرع الشاعر، قال شامتاً : " الكلب  لا يستحق سوى ميتة الكلاب " . وثمة شكوك بأن بوشكين وليرمنتوف قتلا بأمر القيصر تحت ستار المبارزة .
اما فيودور دوستويفسكي فقد حكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد النظام القيصري ، ثم تم تخفيف الحكم في آخر لحظة الى السجن مع الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات ، تلك السنوات التي راحت هدراً ،من دون كتابة . ولا يزال سر موته المبكر لغزا.ً
بعد ثورة اكتوبر 1917 هاجر عدد كبير من خيرة المثقفين الروس من علماء ومفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين الى خارج البلاد . ومارس النظام الستاليني ضد من بقي منهم في البلاد  شتى صنوف الترهيب والترغيب والترويض والإغراء . 
مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد ان  رفضت البلاشفة السماح له بالسفر الى الخارج لتلقي العلاج .
الشاعر سيرغي يسينين شنق نفسه في فندق ( انكليتير) في لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا) يوم 31 كانون اول 1925 وهو في الثلاثين من العمر . ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع التكهنات بضلوع ستالين في قتله ، وهو الشاعر الأكثر شعبية والقريب الى قلوب الروس ، الذين يحفظون شعره العاطفي المؤثر . و قد ترك في الغرفة التي شنق نفسه فيها قصيدة مكتوبة بالدم ، لأنه لم يجد حبراً فجرح معصمه وكتب قصيدته ، التي يقول فيها: " ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت / وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش " . وكان لرحيله ،وهو في ذروة إبداعه الشعري أصداء هائلة في روسيا ، فقد وصفه بوريس باسترناك قائلاً : "  لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر محلية ، وأكثر عفوية ، مَن هو أكثر وطنية و أفضل توقيتاً ، مما هو سيرغي يسينين . وقال مكسيم غوركي :إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خلق من اجل الشعر حصرا. إما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه: إن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها من أعماقه.
 وعقب انتحاره انتشرت بين الشباب الروسي موجة من حوادث الإنتحار ، فشنت السلطة حملة ضد ما سمي باليسينينية (بالروسية - يسينينشينا ). وما يزال انتحار الشاعر أو مصرعه الغامض مثار جدل بين الباحثين والمثقفين الروس .
كتب الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي قصيدة اثر انتحار يسينين يقول فيها : " في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت / أن تصوغ الحياة أصعب بما لا يقاس ". ماياكوفسكي اطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهداة اليه من مخابرات الكرملين . ويقول المنظر الأدبي الروسي البارز فيكتور شكلوفسكي : " ان ذنب الشاعر ليس في انه اطلق الرصاص على نفسه ، بل أنه اطلقها في وقت غير مناسب " .
مكسيم غوركي  مات في ظروف غامضة بعد رفض السلطة السماح له بالسفر الى الخارج لغرض المعالجة . ويقال انه جرى تسميمه ، وان ستالين شخصياً كان ضالعا في قتله، لأن الكاتب الثوري الكبير كان مستاءاً مما يرى حوله من بؤس وظلم .
الشاعرة العظيمة مارينا تسفيتايفا ، انتحرت في 31 اغسطس  1941. ولم يسترعي هذا الأنتحار الأهتمام ، لأنه حدث  في بداية الحرب الدموية بين الأتحاد السوفييتي والمانيا الهتلرية .. وكانت قصائدها ممنوعة من النشر حتى اواسط الخمسينات ، وهي تحتل اليوم مكانة بارزة في الأدب الروسي وتحظى بمقروئية عالية ، خاصة بين النخب المثقفة .شعرها مشبع بالعواطف الجياشة حتى الثمالة ، وكم رأيت من شاعرات روسيات يقرأن شعرها وهن يذرفن الدموع . 
- الشاعر اوسيب  مندلشتام  اعتقل بسبب قصيدة كتبها تحت عنوان " متسلق جبال في الكرملين " وتوفي في السجن. والشاعر كلوييف مات تحت التعذيب ، اما الكاتبان المعروفان بيلنياك واسحاق بابل فقد حكم عليهما بالأعدام ونفذ فيهما الحكم سريعاً
عندما نقرأ عن هذه المصائر التراحيدية نتذكر قول فولتير : " اذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فان العطف الأبوي يدفعني الى ان الوي عنقه "
كان ستالين يقرأ أهم الأعمال الأدبية المنشورة ، ويشاهد المسرحيات، التي تحظى بإقبال جماهيري . وقد شاهد مسرحية  " أيام توربين " من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف  عدة مرات ، حين عرض على المسرح الفني في موسكو ، ثم أصدر حكمه القاطع : " هذه المسرحية سُخرية من النظام وبولغاكوف ليس مِنا ". مات بولغاكوف بعد تعاطي جرعة كبيرة من المورفين .
عندما قرأ كتب ستالين في عام 1931 مسرحية ( في المخزن ) للكاتب أوليغ بلاتونوف في احدى المجلات الأدبية قال : " كاتب موهوب ولكنه وغد "  وارسل الى ادارة المجلة رسالة وصف فيها المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا ، كتبت من اجل تشويه الحركة الكولخوزية "
في عام 1934 أنشأ ستالين ( اتحاد الكتاب السوفيت ) بعد حل كل الأتحادات والجمعيات  الأدبية الأخرى. وفرض الإتحاد الجديد على جميع أعضاءه الألتزام بما يسمى (الواقعية الإشتراكية )  وهو مصطلح عجيب - هل ثمة واقعية رأسمالية أو مسيحية ، لتكون هناك واقعية إشتراكية ؟ . وكانت حصيلة هذه السياسة البلهاء هي قتل (182 ) عضواً - أي ثلث اعضاء المؤتمر التأسيسي للأتحاد - في السجون والمعتقلات خلال السنوات القليلة التي أعقبت المؤتمر .
 كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس إتحاد الكتّاب، و كان مؤمنا بالأشتراكية ،وشديد الأخلاص للحزب ولستالين شخصيا ، ويؤمن بأن كل ما يفعله ستالين هو لخدمة المستقبل الإشتراكي للبلاد . وبعد المؤتمر العشرين للحزب في عام 1956 ، حين اتضح له الحقائق المروعة عن جرائم ستالين ،  لم يتحمل الضغط  النفسي الشديد. وبات دائم القلق ، معذب الضمير . و يتمنى أن يموت اليوم قبل الغد ، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح كما جاء في الرسالة الموجهة الى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبيل إنتحاره .
الكتاب والشعراء الروس في فترة " ذوبان الجليد " :
قضية الشاعر بوريس باسترناك ، الحائز على جائزة نوبل لللآداب في عام 1958 عن روايته " دكتور زيفاكو "  ما زالت طرية في أذهان جيلنا . حيث تعرض الى حملة تشهيرية واسعة ، أصبح بعدها انسانا محطما ، وسرعان ما اصيب بسرطان الرئة الذي لم يمهله طويلاً ، وتوفي في عام 1960 .
اما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر اعماله في الخارج ، وتم احتجازه  في مستشفى للأمراض العقلية .ثم حكم عليه  بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات . وفي 12 أيار 1972 طردته السلطات الى خارج البلاد بعد نزع الجنسية السوفيتية عنه . وهو شاعر موهوب نال جائزة نوبل لللآداب لعام 1987 ، وكان عمره آنذاك 47 عاماً أي اصغر أديب حاصل على هذه الجائزة الرفيعة .
في عام 1968  حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايتيه  "الدائرة الأولى" و " جناح السرطان " في الخارج  ، وصفته وسائل الإعلام السوفيتية ب( الخائن ) . وعلى اثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 1870 ، فصل من اتحاد الكتاب السوفييت، وفي عام 1974 ، نزعت عنه الجنسية السوفيتية وطرد الى خارج البلاد .
قال سولجينيتسن خلال لقائه بأحد الكتاب الروس الرسميين: " انتم تعاتبونني لأن كتاباتي تنشر في المجلات السرية ، ويجري استنساخها . والناس يقرأونها باهتمام ، وتنتقل من عائلة الى أخرى ،ولكن من منكم يستطيع ان يتفاخر ان كتبه التي تطبع على حساب الدولة بآلاف النسخ ، تقرأ من قبل الجمهور وتنتقل من عائلة الى أخرى ؟ لا أحد . هل تعرف لماذا ؟. أنا أقول لك : لأنكم تكتبون حسب الإيعازات من فوق ، ولكن الكاتب الحقيقي لا يكتب بإيعاز من أحد ، بل بإيعاز من روحه وعقله ، وضميره ".
وأخيراً أين هم الآن الكتاب السوفييت من مدرسة الواقعية الإشتراكية؟ لا أحد يتذكرهم ، ولا أحد يقرأ لهم في روسيا اليوم .


46
المنبر الحر / تشيخوف الأميركي
« في: 20:04 31/08/2016  »
تشيخوف الأميركي
جــودت هوشيار
اليوم الفاصل بين حياتين :
ريموند كارفر (1938-1988)– قاص وشاعر أميركي ، يعد واحداً من أساتذة القص الأميركي الحديث ، وأكثرهم  شعبية. وقد ترجمت أعماله الى أكثر من عشرين لغة أجنبية ،و تم تحويل العديد من قصصه الى أفلام سينمائية ناجحة. و قبيل وفاته ، كان يحب أن يردد : " أنا انسان سعيد . فقد أتيح لى أن أحيا حياتين ". وحدد كارفر بدقة التأريخ الفاصل بينهما ، أي نهاية الحياة الأولى وبداية الثانية ، وهو الثاني من حزيران 1977 . كان هذا اليوم بالنسبة اليه يوما مشهودا ومخيفا في آن واحد– وكان في ذلك الحين كاتبا وشاعرا معروفا الى حد ما – ففي هذا اليوم وقع في حالة غيبوبة دماغية نتيجة إفراطه في شرب الكحول. وفيما بعد قال وهو يتذكر هذا اليوم: " كأنني وقعت في قاع بئر عميقة جدا ".وقد تمكن الأطباء من اعادة كارفر الى الحياة . ومنذ ذلك اليوم ترك شرب الكحول نهائياً .
 حياة كارفر الثانية لم تدم سوى 11 سنة ، فقد توفى في الثاني من أغسطس 1988 بمرض سرطان الرئة . كان يصارع المرض الرهيب ويعلم أن الوقت المتاح له قليل جداً ، لأن نهايته قريبة ، ومع ذلك كان يردد دوماً أمام اسرته  واصدقائه  : " انني في كل يوم أشعر بنعمة ربي . وفي كل يوم أشعر بدهشة بهيجة لحياتي المستقرة "
حقاً أن حياة كارفر الثانية كانت أكثر انتظاما واستقراراً من حياته الأولى ، والأهم من ذلك أن طاقته الإبداعية لم تتضاءل ، بل على النقيض من ذلك ،أصبحت أقوى وتجسدت ببراعة في العديد من المجاميع الشعرية والقصصية الجديدة . وحصل على المجد الأدبي والشهرة العريضة عن جدارة ، وعلى الرفاه المادي ،   وعرف الحب الحقيقي ،حيث تزوج من الشاعرة تيس غلاغر، بعد أن انفصل عن زوجته الأولى .
وعندما كان يتحدث عن السعادة التي غمرته في نهاية رحلة العمر، لم ينس حياته الأولى الشاقة ولم يشطب عليها ، لأنها كانت في الوقت ذاته مدرسة كبيرة تعلم فيها الكثير .
مدرسة الحياة :
ولد كارفر في 25 ايار 1938 في بلدة كلاتسكيني الصغيرة في ولاية اوريغون، في شمال غرب الولايات المتحدة. وأمضى طفولته في ياكيما ( ولاية واشنطون ) ، حيث تتركز فيها  الصناعات الخشبية ، كما هو الحال في العديد من المدن الأخرى في تلك المنطقة .
في ياكيما استطاع الاب ان يجد لنفسه عملا في منجرة بصفة عامل شحذ المناشير . كان دخل الأسرة قليلاً ، ولهذا لم يتمكن ريموند من مواصلة التعليم الجامعي بعد تخرجه في المدرسة الثانوية في العام 1956 . وقد تزوّج وهو في سن الثامنة عشرة من زميلته في المدرسة الثانوية ماريان ، التي كانت تصغره بعامين وحاملاً ، وكان عليه أن يعمل طوال الوقت . وتنقل بين العديد من المهن، من اجل تأمين لقمة العيش . فقد عمل ساعياً للبريد ، وحارسا ليليا ، وعاملاً في محطة لتعبئة الوقود ، ومضمدا  في المستشفى . وقد ازدادت الأوضاع تعقيدا عندما انجب الشابان طفلين ، ومع ذلك فقد واصل الكتابة وقرأ كثيراً ، وكان شغوفا بالعمل الادبي ، وحريصاً على ان يذهب الى الورشة الإبداعية التابعة لكلية جيكو لتعلم تقنيات الكتابة. وقد لعب لقائه بالروائي الأميركي جون غاردنر (1933-1982 ) الأستاذ في تلك الورشة ، دوراً مهما في حياته  الأدبية.
غاردنر هو الذي عرّف كارفر على أسماء وأعمال العديد من اساتذة فن القصة . وقال كارفر لاحقا وهو يتذكر استاذه : " كان غاردنر يشير في محاضراته دائما الى الكتاب الذين كنت أجهل اسمائهم : كونراد ، بورتر ، اسحاق بابل ، تشيخوف " . كان غاردنر يتمعن باهتمام بالغ في ما يكتبه تلامذته من اعمال ادبية ، و يولي كارفر اهتماما خاصاً . لم يكن يفرض رأيه عليه  بل يقدم له المشورة اللازمة ، ويغرس الثقة في نفسه والأيمان يقدراته الإبداعية.
وفي العام 1961 سافر كارفر مع زوجته ماريان وطفليهما الى كاليفورنيا ، وسكنت العائلة بالقرب من سان فرانسيسكو في مدينة أركاتا، أولا. وبعد ذلك في كوبرتينو ، ولكن العلاقة الزوجية أخذت تتوتر بينهما على نحو متزايد: ربما لأنهما تزوجا في وقت مبكر جدا، أو بسبب اختلاف شخصيتيهما ، ولكن على الأرجح بسبب الظروف المادية الصعبة  ،التي لم تسمح لكارفر بالتركيز على الابداع ، وحاول الهروب من الهموم اليومية بالإفراط في شرب الكحول. لم يكن كارفر وحده يعمل لتأمين معيشة الأسرة ، بل ماريان أيضاً ، التي عملت نادلة مطعم وعاملة لتعليب الفواكه ، اضافة الى عملها كربة بيت . ويبدو انها كانت ذات دخل اكبر من زوجها ، وهي التي أدخرت شيئا من المال لشراء أول آلة طابعة له .
بعد حوالي عشر سنوات تمكن كارفر من نشر عدة مجموعات شعرية لاقت نجاحاً ملحوظاً ،وتميزت ببساطة لغتها وجمال صورها الفنية على خلفية قصائد الشعراء الآخرين المعقدة ، التي ينفر القاريء العادي من لغتها الملتوية ورموزها الغامضة .
ولكن موهبة كارفر الحقيقية تجلت في النثر الفني وفي القصة القصيرة تحديداً . مجموعته القصصية الأولى " ضع نفسك مكاني " (1974) لم تحظ بإهتمام يذكر.
أما مجموعته الثانية " هلا هدأت من فضلك " (1976 ) فقد لاقت نجاحاً ملحوظاً وأرغمت النقاد على الحديث عن موهبة قصصية جديدة في الأدب الأميركي .  وقد اتسمت المجموعة بدقة التعبير والأختزال اللغوي والعمق السايكولوجي ، وقدرة الكاتب على اثارة قلق القاريء بثيماتها المتصلة بالحياة الأميركية المعاصرة : ادمان الكحول ، والفقر، والإغتراب الأنساني ، وتصوير الناس العاديين - وأغلبهم كادحون او موظفون صغار يعانون من خيبات الحياة - في مواقف بائسة .
 وتتابع صدور مجموعاته القصصية الجديدة : " عمّا نتحدث حين نتحدث عن الحب " ( 1981)  ، و"الكاتدرائية" (1983) ، و" من أين أتصل " (1987 ) ، التي رسخت مكانته الأدبية ، ، وأدت الي ذيوع صيته في العالم ، واعتبرها النقاد احياءاً وتنشيطاً للقصة القصيرة في الآداب المدونة بالأنجليزية ، حتى انهم وصفوه بأنه أهم كاتب للقصة القصيرة منذ ايام همنجواي.
تلميذ تشيخوف وهمنجواي :
تشيخوف هو الأستاذ الحقيقي لكارفر ،و كلاهما يجسد عبقرية الإيجاز في فن القصة القصيرة ، لذا ليس من الغريب ان يقارن النقاد دائما بين الكاتبين .قصص كارفر ، تصور الحياة اليومية للناس العاديين ، اقتداءً بأثر تشيخوف ، وقد استحق من أجلها لقب " تشيخوف الأميركي " عن جدارة . كارفر نفسه ابدى اكثر من مرة انبهاره بمهارة تشيخوف الفنية ، وقال انه يشعر بالقرابة الروحية معه ، عند قراءة قصصه او ما كتب عنه . ويتجلى هذا الإنبهار في قصة " رسالة شفوية "  التي نشرت ضمن مجموعته القصصية الأخيرة (1987 ) . حيث وصفه فيها بطريقة لا لبس فيها بأنه’ أعظم كاتب قصة قصيرةعلى مدى التأريخ . وهذا اعتراف صريح بمدى تأثره بفن  تشيخوف . ومع ذلك نجح كارفر في تجنب الوقوع في فخ التقليد ، وقد أثبت من خلال قصصه البديعة أنه كاتب متفرد الموهبة.
نثر كارفر الفني يسحر القاريء منذ البداية ببساطته وخلوه من اي نوع من انواع التعقيد أوالوصف المفصل الممل ، والزخرفة اللغوية : الحوارات القصيرة المتبادلة بين الشخصيات تتالف من من الكلمات والعبارات الأكثر شعبية في اللغة العامية الأميركية . وهي مصدر ممتاز لتعلم هذه اللغة .
قصص كارفر تتحدث عن امور عادية في الحياة اليومية ، مثل الأفراح العائلية اوعلى العكس من ذلك ، عن الخلافات بين الزوجين ، أو فقدان الوظيفة ، أو الأنتقال من مدينة الى أخرى ، أو حوادث الطرق أو بيع الحاجيات المنزلية القديمة ، وهي ليست مثيرة لأهتمام القاريء الباحث عن القراءة المسلية . بل يجذب القاريء المتمعن ،الذي يقرأ ما بين السطور ، ويبحث عن المضمر الخفي في القصة .
كارفر بين الإختزالية والواقعية ( القذرة ) :
وصف العديد من النقاد داخل أميركا وخارجها اسلوب كارفر بأنه اختزالي ينتمي الى تيار الـ( مينيماليزم) ،الذي انتشر في الموسيقى والفنون التشكيلية والأدب منذ نهاية السبعينات . وأهم ما يميز أعمال الأختزاليين هو الوضوح ، والإيجاز ، و الإقتصاد في استخدام  الوسائل التعبيرية ، والتخلي عن كل انواع البهرجة اللفظية ، والميل الى اسلوب يشابه اسلوب همنجواي البرقي . وهذا الأخير هو احد الكتاب المفضلين لدى كارفر .
 ويرى آخرون ، ان التركيز على بعض الجوانب السلبية للحياة اليومية ، مثل الإدمان على الكحول والإفلاس والبطالة ،  يجعل ادب كارفر قريبا من تيار الواقعية الجديدة او "الواقعية القذرة " وهو تيار ظهر جلياً في مطلع الثمانينات من القرن الماضي . ولكن من الخطأ الفادح تفسير ابداع فنان كبير مثل كارفر من خلال هذا المصطلح أو ذاك . فأدب كارفر بحاجة الى تعمق أكثر لأستجلاء خصائصة المتفردة ، التي لم تكتشف بما فيه الكفاية لحد الآن .
قصص كارفر، التي يتناول فيها الجزئيات والتفاصيل المتصلة بالعلاقات الأسرية والحياة  اليومية ، والتي تبدو بسيطة للوهلة الأولى ، تسحرنا بعمقها ،– كما قصص همنجواي القصيرة – التي تشبه الجبل الجليدي .ولا تظهر الا قمته فقط في العمل الأدبي ..
ان المعنى الأعمق لقصص تشيخوف وهمنجواي وكارفر لا يكون واضحاً على السطح ، بل يتألق ضمنياً من خلالها ، فهناك تحت البساطة الظاهرية عالم مخفي بمهارة يتخيله كل منا على نحو مختلف عن الآخرين ، ومن هنا فأن القاريء يكمل عمل المؤلف.
ويقول كارفر :" في القصص التي اكتبها ، احب ان يكون هناك خطر ما غير ملموس ، لكن يمكن ان نستشعره وهو يطوف حولنا ليحدث ما يمكن ان يصيبنا بشر ما . لا بد ان يكون هناك  توتر في الهواء "
 لنأخذ على سبيل المثال قصة كارفر المعنونة " الحمّام ". انها قصة عن هشاشة الحياة الانسانية . وخاصة حياة الاطفال ، التي يهددها حتى الاصطدام البسيط نسبيا بسيارة متحركة . وهذا ما حدث لطفل في الثامنة من العمر ، وسبب له رجة دماغية افقده الوعي وأثّر في حياة وسلوك الوالدين اللذان لا يملكان من وسيلة لمجابهة ما حل بهما من مصيبة ، الا الأستحمام بالماء الساخن ، لعله يخفف من وقعها عليهما ، ويمكن تفسير القصة أيضاً ، بأن الحياة تستمر رغم ما يصيب الأنسان من نكبات.
تطرح هذه القصة عن الحادث الذي وقع للصبي وهو في طريقه الى المدرسة في يوم ولادته ، وكيف واجه والداه هذه المصيبة  ، الكثير من الأسئلة ، وكل قاريء يجيب عنها حسب رؤيته ، لأن لكل واحد منا خبرته ورد فعله ازاء ما يحدث في الحياة .
كارفر يتمعن في حياة الناس العاديين ، فقد خبر مثل هذه الحياة وهو قادر على تصوير الجو الذي تجري فيه القصة ، والمزاج السائد فيه ،والقلق الذي ينتاب الشخصيات ، بسبب ما يسميه ب(تآكل) العلاقات الإنسانية : انفراط عرى العلاقة العائلية ، و الأغتراب المتزايد ، والكآبة ، والتوحد ، والعلاقات الشكلية ، حتى بين اقرب الناس بعضهم من بعض .
 
 
 
 


47
المنبر الحر / إله الكتابة
« في: 21:59 18/08/2016  »

إله الكتابة
جــودت هوشيار          
     
شهد الفضاء الثقافي العربي في السنوات الأخيرة موجة لافتة للنظر من الأدب الإيروتيكي النسوي ، وخصوصاً في مجال الرواية ، منها رواية "نساء عند خط الاستواء" لزينب حفني ، و" على فراش فرويد " لنهلة كرم ، و" أنا هي أنتِ " لألهام منصور ، و“خارج الجسد” لعفاف البطاينة ، و“مرافئ الوهم” لليلى الأطرش ، و “أصل الهوى " لحزامة حبايب ، و"برهان العسل" لسلوى النعيمي ، و “صمت الفراشات” لليلى العثمان ، و “الغلامة” و" المحبوبات "  لعالية ممدوح ، وغيرها كثير. هذه الموجة لا ترتبط بتطور المجتمعات العربية - التي تشهد تضييقاً شديداً على حرية المرأة وهضم حقوقها و فرض الحجاب والنقاب عليها بالقوه بإسم الشريعة.ولو قارنا بين العهدين الملكي والحالي في العراق ، لرأينا بوناً شاسعاً بينهما في مدى الحرية الممنوحة للنساء .
 في العهد الملكي كانت المرأة العراقية حرة وسافرة تعمل وتبدع الى جانب الرجل ،في  شتى مجالات الحياة  ، اما في العهد الحالي ، فقد تفشى الفكر الغيبي المتخلف في المجتمع العراقي واتسع نطاق المحرمات والمحظورات ، التي الصقت بالدين الأسلامي الحنيف ظلماً وبهتاناً.
 ولم يقتصر هذا التراجع الحضاري على العراق ، بل شمل حتى مصر الكنانة ،مصر قاسم أمين وهدى شعراوي ، مصر الحضارة والتمدن . فقد رأينا بالأمس مباراة الكرة الشاطئية للسيدات، التي جمعت بين منتخب مصر ونظيره الألماني في أوليمبياد ريو 2016  ،  ظهرت خلالها لاعبات منتخب مصر، يرتدين الحجاب وبنطلون وتيشيرت بأكمام طويلة، فيما كانت الألمانيات يرتدين «البيكيني» وهو الزي المعتاد في مثل هذه الرياضة . كان الفرق صارخاً بين ثقافتين مختلفتين تماماً. كل ذلك يدل دلالة قاطعة على زيف الأدب الإيروتيكي النسوي المفتعل التي تنشرها دور النشر العربية التجارية لكاتبات الستريبتيز ، وتطرحها في السوق كسلعة بورنوغرافية لتحقيق اقصى الأرباح ، تحت مسميات شتى ، مثل تمرد الأنثى على القيم الذكورية ، وانتزاعها لحريتها ، وانطلاقتها الجديدة ، ولا أدري عن أي تمرد وحرية وانطلاق تتحدث دور النشر العربية في ظل الأنظمة الظلامية ،  فالواقع يكذّب هذه المزاعم جملةً وتفصيلاً .
 الكتابة عن الجسد والعلاقات العاطفية الحميمة بين الجنسين ، لا ضير فيها ،إذا ما وظفت لخدمة الفن ، ففي الأدب العالمي نماذج راقية من الأدب الإيروتيكي . ولكن ثمة حد فاصل بين الفن واللا فن ، وبين الإبداع والإفتعال ، وبين عمق تصوير عاطفة الحب السامية ، وبين السرد الجنسي المباشر، و وصف ما لا ينبغي وصفه .في روايات كبار كتاب العالم مقاطع ايروتيكية رائعة. فالكاتب الجاد يعرف حدود الفن ولا يلجأ الى المباشرة والإبتذال أبداً.
معظم قصص ايفان بونين هي عن الحب العارم بين الرجل والمرأة ، بشتى تنويعاته وأشكاله وصوره ، حتى نعنه بعض النقاد بـ( موسوعة الحب ) ، ولا نغالي اذا قلنا اته لا يوجد في الأدب العالمي نظير له في عمق وجمال تصوير الحب الحقيقي اللاهب . يكفي أن تقرأ بعض قصصه مثل " ضربة شمس " و " في باريس" لتتأكد أن الكاتب المبدع يستطيع أن يصور كل الإنفعالات البشرية الروحية والحسية والجسدية بعمق أخاذ ولغة شاعرية وجمال استيتيكي دون أن ينزلق الى حضيض الأدب المكشوف .
ولدي دليل بليغ وقاطع في الفرق بين الأدب الحقيقي وأدب الإثارة الزائف . ففي شهر ايلول من العام الماضي وخلال زيارتي لمعرض الكتاب الدولي في موسكو ابتعت كتاباً رائعاً بعنوان " دروس الحب الروسي " وهو كتاب ضخم يتألف من 600 صفحة من القطع الكبير . ويضم مقتطفات عن الحب في مائة قصة روسية . لعدة أجيال من الكتّاب الروس ، من عمالقة الأدب الروسي وصولاً الى الروائيين الروس المحدثين ، وكتاب ما بعد الحداثة ، بينها قصص عاطفية لعدد من الكاتبات الروسيات. قصص شديدة التنوع من حيث المضامين  والأساليب الفنية ، ولكنها تتصف جميعاً بسمة الإبداع الحقيقي. ومهما حاولتَ البحث بين دفتي هذا الكتاب الضخم عن وصف مكشوف أو فاضح ، فلن تجده أبداً  ، فهي مقاطع  تلمح ولا تصرح ، وتشف ولا تكشف . في حين تتمتع المرأة الروسية بحرية شخصية مطلقة في حياتها ، والمساواة التامة مع الرجل في كل الحقوق والواجبات ، وفي تناول موضوعة الحب في نتاجاتها ، ، ولا يمكن مقارنة وضعها بوضع المرأة في المجتمع العربي .
الروايات الإيروتيكية النسوية في الأدب العربي المعاصر ، زاخرة بالمشاهد الصريحة غير المألوفة في أدب النساء ، وتتسم بالبؤس الإبداعي والخيالي ، وضعف التقنيات الفنية ،وركاكة اللغة  والضحالة الفكرية ، حيث يتخذن من الفضائحية طريقاً للشهرة . هذا النوع من السرد الروائي والقصصي يستهوي المراهقين فكرياً وثقافيا ، وهو تقليد أعمى لما يسمى "ادب اللذة " الذي ظهر في الأدب الغربي عقب الحرب العالمية الثانية ، وشاع بعد الثورة الجنسية في الستينات من القرن الماضي . روايات خفيفة مسلية للباحثين عن الإثارة يطويها النسيان فور الإنتهاء من قراءتها ، ولا أحد من النقاد والباحثين في مجال الأدب يعتبرها أدباً جاداً ، فهي ولدت لتموت سريعا . وثمة عدد كبير من كتاب ( الرواية ) في العالم ، تخصصوا في انتاج هذا النوع من الروايات ، وتطرح دور النشر الغربية المتخصصة عدداً هائلاً منها في السوق كل عام ، فهي كتابة تلفيقية سهلة ، لا تتطلب ثقافة أو جهداً كبيراً، بل وسيلة للحصول على المال من اسهل الطرق .
كاتبات الإيروتيكا العربية يستخدمن لغة فاحشة لا تجدها حتى في أكثر الروايات الجنسية الغربية إبتذالاً ، فهن يلجأن الى كل ما هو غريب ومنحرف في السلوك البشري من اجل إاثارة الإهتمام وولوج الأدب من أسهل أبوابه .
ومن الطريف ان ثمة في بريطانيا والولايات المتحدة جوائز لمثل هذه الكتابات تحت اسم ( أسوأ وصف ايروتيكي ) . ولا شك في ان اي رواية إيروتيكية نسوية عربية حديثة، ستفوز بهذه الجائزة حتماً لو ترجمت الى اللغة الإنجليزية .
لأستجلاء الفرق بين الفن الإيروتيكي الراقي - كما في روايات كبار كتّاب الرواية في العالم وبين الوصف الإيروتيكي السطحي الفاجر ، مثل الروايات التي أسلفنا الإشارة اليها فيما تقدم ، نتناول بإيجاز قصة رائعة للكاتب الروسي بوريس  بيلنياك ( 1896- 1938)  بعنوان " اله الكتابة " عن حكاية حب مؤثرة بين إمرأة روسية وضابط أجنبي . ففي أوائل العشرينات من القرن الماضي عندما كانت اليابان تحتل بعض مناطق الشرق الأقصى الروسية وبضمنها مدينة فلاديفوستوك الواقعة على ساحل المحيط الهاديء ، وقع تاغاكي – وهو  ضابط ياباني ، رفيع المستوى ، ويتقن اللغة الروسية -  في حب صوفيا فاسيليفنا غينديغ ، وهي  شابة روسية تعمل معلمة في المدينة . وبعد اسبوع واحد من اعلان خطبتهما ،غادر الى بلده بعد ان ترك لها مبلغاً من المال لتغطية كلفة سفرها بالباخرة من ميناء  فلاديفوستوك الى مينا تسوروغا اليابانية .وفور وصولها تزوجا رسمياً ، وبذلك خالف هذا الضابط قانون الخدمة العسكرية في بلاده ، مما أدي الى فصله من الجيش وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزل والديه على ساحل بحر اليابان. كان الضابط ينحدر من اسرة ارستقراطية عريقة . وقد أثار زواجه من امرأة عادية غضب معظم أقاربه،  فقطعوا علاقتهم به .، بسبب إنتهاكه لتقاليد الساموراي الموروثة. . وبذلك أصبح خارج شريحته الاجتماعية ، ولم يعد بوسعه الإختلاط  حتى بمعارفه ومعارف عائلته السابقين ، عاش الضابط وزوجته في منزل الأسرة على سفح جبل يطل على البحر.
كانا يمضيان كثيرا من الوقت في قراءة الكتب ، وكان الزوج مشبوب العاطفة ، يتقن فنون الحب التي وصلت اليه عبر ثقافة الأجداد ، تلك الثقافة الغريبة عن الأوروبيين . ففي اليوم التالي لزواجهما قدمت لها ام زوجها صوراً ايروتيكية مطبوعة على الحرير .
كانت صوفيا تحب وتحترم وتخشى زوجها في آن واحد  : تحبه لأنه كان قوياً ، ونبيلاً ، وصموتا ، ومثقفاً واسع المعرفة ، ولتضحياته من اجلها . كانت تحبه وتخشاه – من اجل حبه الجارف المهيمن ، الذي كان يتعبها ويتركها منهوكة القوى ، في حين أنه لم يكن يتعب قط . وخلال النهار كان صموتاً ومهذباً وحانياً في نبل صارم . والواقع انها لم تكن تعرف عنه وعن عائلته الا القليل  ، وقد تناهى الى سمعها أن والده يمتلك ، في مكان ما مصنعا لغزل الحرير .
كان زوجها رجلا مثقفا لديه حاجة روحية - جمالية ، فقد كان يقضي امسياته في غرفته منهمكاً بالكتابة . وبعد عدة أسابيع من إنتهاء مدة إقامته الحبرية ، حدث أمر مثير ، ، حيث تدفق الصحفيون الى المنزل على حين غرة ، وأخذوا يصورونها وزوجها و كل شيء يخصهما. وشاهدت صوفيا على صفحات المجلات اليابانية صورها وصور زوجها : صورتهما معا في داخل المنزل وقرب المنزل ، وخلال نزهتهما على شاطيء البحر ، وامام المعبد . هي في الكيمونو الياباني، هو في اللباس الأوروبي .
وقد اخبرها الصحفيون أن زوجها كاتب مشهور ، فقد كتب رواية تصدرت قائمة المبيعات ، وحصل على مردود مالي كبير ، كما انها ( الزوجة ) اصبحت مشهورة على مستوى اليابان
 كانت قد تعلمت اللغة اليابانية قليلاً ، واعتادت على دور زوجة الكاتب الشهير ، ولم تلحظ في نفسها ذلك التغير الغامض الذي حدث لها ، فلم تعد تخشى الناس الغرباء من حولها . واصبح من المألوف لديها ان هؤلاء على استعداد دائما لتقديم أي خدمة تطلبها.واصبحت لديها طاهية في المنزل ، وتسافر الى المدينة في سيارة فارهة ، وتصدر الأوامر للسائق باللغة اليابانية ، وعندما جاء والد زوجها لزيارتهما انحنى لها على الطريقة اليابانية اكثر مما انحنت هي تحية له .
كانت صوفيا امرأة صموت، وقد اكتسبت خلال السنوات التي قضتها في اليابان رزانة الساموراي ، وقررت ان تسأل  زوجها : ما الذي حدث ؟. لم تكن تتقن اللغة اليابانية الفصحى على نحو يسمح لها بقراءة وفهم الرواية ، لذلك  سألت زوجها  عن محتوى الرواية ، ولكنه لاذ بالصمت في أدب جم ، ونسيتْ أن تسأله مرة أخرى ، لأن ذلك في الواقع لم يكن بهمها كثيراً ..
ذات مرة جاء الى منزلهما مراسل صحيفة تصدر في طوكيو .وكان يتكلم الروسية . لم يكن زوجها موجودا ، فأخذا يتنزهان على ساحل البحر القريب من المنزل ويتحدثان  حول موضوعات شتى ، وخلال حديثهما وجهتْ سوالاً الى الصحفي عن سبب رواج رواية زوجها ، وما الأمر المهم فيها ؟ وعرفت منه ان الرواية هي عن حياتها بالذات .
وخلال الأيام والأسابيع اللاحقة انكبت على قراءة الرواية ولكن ببطأ شديد وبعد عدة أسابيع اكتشفت ان زوجها كان يراقبها في المنزل ويسجل كل خطواتها وحركاتها وعاداتها ، وان الرواية بأسرها هي عن حياتها بأدق دقائقها : كيف تأكل ، وكيف تنام أو تغتسل ، وحركاتها الدالة على الأستمتاع بمباهج أنوثتها ، وارتعاشات جسدها البض ، والأصوات التي تصدر عنها في ذروة لقاءهما الحميمي .
لم تكن بوسعها ان تغفر له فضح ادق تفاصيل حياتها الشخصية الحميمة . وعرضها للبيع . لملمت حوائجها  الضرورية فقط وصرفت ما كان لديها من نقود مدخرة لشراء بطاقة العودة بالباخرة الى مدينتها فلاديفوستوك . وفيما بعد تجاهلت رسائله الكثيرة اليها  !
ويمضي بيلنياك الى القول : " أن الثعلب شخصية مخاتلة في الفولكلور الياباني . الثعلب مطبوع على المكر والغدر و الخيانة . واذا سكن روح الثعلب في الأنسان أصبح ملعوناً  . الثعلب - إله الكتابة .

48
الأدب العالمي ... مفهومه وقضاياه
جــودت هوشيار
توطئة :
ما هو الأدب العالمي ؟ وهل ثمة مضمون حقيقي لهذا المفهوم ؟ . قد يتصور البعض ان النتاج الأدبي الرائج في بلد ما ، والذي يترجم بعد فترة وجيزة الى عدد من اللغات الأجنبية يدخل على الفور الى الرصيد الذهبي للأدب العالمي ، وهذا وهم وقع فيه كثير من المبدعين والنقاد في بلادنا . المسألة ليست بهذه البساطة ، بل أعقد من ذلك بكثير ، وهي مثار جدل بين الباحثين الغربيين منذ عشرات السنين ولم تحسم حتى يومنا هذا .
ورد مصطلح " الأدب العالمي " لأول مرة على لسان غوتة ، الذي قال خلال حديث مع صديقه ايكرمان في العام 1827: " أنا مقتنع بأن أدباً عالمياً أخذ يتشكل ، وأن جميع الأمم تميل الى هذا . .. اننا ندخل الآن عصر الأدب العالمي . وعلينا جميعاً الأسهام في تسريع ظهور هذا العصر ".  وفيما بعد عاد غوتة أكثر من مرة الى تناول هذه المسألة . 
ولكن ولادة هذا المصطلح لم يأت من فراغ ، فقد كان دانتي قد أشار في دراسة له بعنوان «حول الملكية» الى وجود حركة ثقافية عالمية ، كما تحدث العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء  الألمان والفرنسيين عن التجربة الأنسانية المشتركة . تحدث شيللر عن مفهوم " التأريخ العالمي " وهيجل عن مفهوم " الروح العالمية "
 نظر شيلر  الى عصره ( القرن الثامن عشر ) كبداية لتمازج الأمم المختلفة في مجتمع انساني واحد واعتبر نفسه مواطناً عالمياً .وقد أثرى ممثلو الرومانسية ( بايرون ، شيلي ، وكيتس ، وورد  زورث )  مفهوم " الأدب العالمي " . وتعزز هذا المفهوم وتعمق في القرن العشرين ، عندما توسعت الأتصالات الأدبية بين الأمم، وبدا واضحاً وقائع التأثير المتبادل ، والتماثل الطوبولوجي في العملية الثقافية على مستوى العالم .
على مدى زمن طويل ، كان ثمة محيط خاص ولغة خاصة للأدب العالمي . أما الآداب المدونة باللغات القومية فقد كانت تحتل مواقع هامشية . وكانت اللغة اللاتينية وريثة شرعية لجدة أغنى هي اللغة اليونانية ، التي كانت بدورها وعبر عهود طويلة تقوم بدور  اللغة الأدبية العالمية . وكان مفهوم الأدب العالمي بالنسبة الى اللغتين اليونانية واللاتينية يعني المظاهر الروحية ذاتها التي ينطوي عليها مصطلح" الأدب العالمي " اليوم 
مفهوم الأدب العالمي :
مصطلح الأدب العالمي ، يتسم بالغموض ، وليس له تعريف محدد أو مفهوم واضح متفق عليه بين الباحثين.. ولو راجعنا الموسوعات العالمية بحثا عن مفهوم هذا المصطلح ، لوجدنا إختلافا كبيراً بين موسوعة وأخرى. ومع ذلك يمكن القول ان ثمة اربعة تفسيرات اساسية لهذا المفهوم وهي :
            الأول : المحصلة الكمية للآداب القومية لكافة الشعوب طوال التأريخ البشري ، بصرف النظر عن المستوى الفني والجمالي لنتاجاتها . بيد أن هذا التعريف يجعل من الأدب العالمي شيئاً غامضاً وفضفاضاً ، لا يمكن حصره ويصعب دراسته .
الثاني : جماع النماذج الأبداعية المختارة ، التي ابتدعتها البشرية بأسرها. وبهذا المعنى فأن مفهوم الأدب العالمي لا يشمل النتاجات متوسطة القيمة أو الظواهر السطحية الشائعة في الآداب القومية ، وإنما يقتصر على الآثار الإبداعية ذات القيمة الفنية والجمالية العالية . ولكن ها هنا تنهض مسألة أخرى : هل يمكن القول ان الأعمال الأدبية الرفيعة لكافة شعوب الأرض تنتمي الى الأدب العالمي . يرى بعض الباحثين الأوروبيين ، ان الأدب الأوروبي الكلاسيكي والمعاصر هو الذي يمثل الأدب العالمي . وأنصار هذا الرأي لا يتحدثون عن أوروبا كمفهوم جغرافي ، بل يتصورونها كمفهوم روحي . وهذا يعني بالضرورة ان الأدب العالمي هو الأدب المشبّع ب" الروح الأوروبية " وان هذا الأدب لا يمكن تمثله الا من خلال منظور الثقافة الأوروبية . وهذه وجهة نظر أوروبية ضيقة . ويرى هؤلاء ، ان آداب الشعوب الشرقية تقع خارج نطاق الأدب العالمي ، لأن نتاجاتها لم تصبح بعد في متناول أيدي البشرية بأسرها . ويرى البعض الآخر منهم إن الآداب ( الهمجية ) الغريبة لا تنتمي الى الأدب العالمي . ويدعو الى نبذ الفلكلور وطرحه خارج نطاق روائع الأدب العالمي . و لا شك أن مثل هذه المزاعم مرفوضة تماماً . صحيح ان الفلكلور لا يدخل  في الأدب العالمي على نحو مباشر ، ولكن مما لا ريب فيه ان شعراء مثل هايني وبيرنس ويسينين  قد ترعرعوا فوق تربة الفولكلور وان نتاجاتهم جزء من الأدب العالمي .
الثالث : عملية التأثير والإثراء المتبادل للآداب القومية ، والتي تظهر في مرحلة متقدمة من التطور الحضاري للبشرية . وهذا ما نلمسه بوضوح في اشارة غوتة الى الدور الذي يلعبه  الأدب العالمي في توطيد أواصر العلاقات المتبادلة بين الشعوب . يقول غوتة : " اننا نود أن نعيد الى الأذهان من جديد ان مسألة توحيد العقليات الشعرية امر مستحيل . فالحديث هنا يدور حول تعريف الشعوب بعضها ببعض ، وليس عن أي أمر سواه . وحتى اذا اخفقت الشعوب في اقامة علاقات محبة متبادلة فيما بينها ، فإنها ستتعلم في الأقل كيف تتحمل بعضها بعضاً
ان التقدم التكنولوجي ، وخاصة في مجال الأتصالات ووسائل الأعلام الحديثة قد ساعد في تقريب ثقافات الشعوب المختلفة وآدابها وفي النضج السياسي والتكامل الروحي على نحو متسارع بمضي الزمن ،.ولا نعني بذلك زوال الحدود الجغرافية أو ابتذال القيم  وضياعها ، بل التفاعل الهارموني لكافة القيم .إن الشخص الذي لا يرى في الأدب العالمي سوى سلسلة من المؤلفات الشامخة ، سيدهش للفكرة التي مؤداها إن أدب كل شعب ينبغي أن يجد مكانه ضمن الأدب العالمي
الرابع : الصفات العامة التي يتسم بها تطور آداب مختلف الشعوب والمناطق في جميع العصور : كان مكسيم غوركي أول من أشار الى وجود مثل هذه الصفات حين كتب يقول " انه لا يوجد ادب عالمي لأنه لا توجد لحد الآن لغة مشتركة بين جميع شعوب الأرض ، ولكن الأعمال الأدبية لجميع الكتاب "مشبعة بوحدة المشاعر والأفكار والآراء  الإنسانية العامة . وبوحدة الآمال لأمكانية تحقيق حياة أفضل . ولعل هذا التفسير هو الأقرب إلى الفهم الحديث للمصطلح. ونحن ندرك اليوم بجلاء ان القيم الشعبية والقومية الحقيقية هي في الوقت ذاته قيم انسانية شاملة.
الأدب بين القومية والعالمية :
إن النماذج الأبداعية تصب في شرليين منظومة الأدب العالمي بطرق ووسائل شتى . النتاجات التي تتميز بسماتها الفكرية والفنية العالية ،  تتجاوز الحدود الفاصلة بين الشعوب وتصل الى حمهور القراء في البلدان الأخرى ، الذين لم يسبق لهم قراءتها ، والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية . الباحثون الألمان ادركوا عظمة شكسبير وشرعوا في الترويج لها على نحو أكثر توفيقاً من زملائهم الأنجليز .ولم يقرأ الناس شعر عمر الخيام - الذي أدهش العالم - الا بعد ظهور ترجمة فيتزجيرالد .
 إن معظم الأعمال الأدبية تصل الى القراء عن طريق الترجمة ، وثمة علاقة واضحة بين الأتصالات الأدبية الدولية النشيطة في أيامنا هذه وبين الأهتمام الساخن بالقضايا النظرية للترجمة الفنية . ولا شك ان النتاجات الأصيلة قد تفقد شيئاً من بريقها بعد ترجمتها ، بيد أن هذا الخطر يظل قائماً في الحالات التي تقرأ فيها من قبل قراء لا يتقنون اللغة التي كتبت بها . ولا شك ان مبدعي الأدب في كل بلد هم الكتاب والمترجمون على حد سواء .
ثمة نتاجات تصبح جزءأ من الأدب العالمي بعد مضي فترة وجيزة من نشرها ، ونتاجات أخرى لا تصبح كذلك ، الا فيما بعد ، وأحياناً في زمن متأخر للغاية ، والبعض منها ينتظر دوره في الوصول الى المجد العالمي ، ولكن دون جدوى ، لأن الوصول الى العالمية يتوقف على أمور كثيرة . ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ باللحظة التي يصبح فيها هذا الأثر الأدبي أو ذاك جزءا من الأدب العالمي . ومن السذاجة ربط هذه اللحظة ببعض الحقائق ، كظهور ترجمة لعمل أدبي ما  في خارج البلاد أو الإشارة الى الكاتب في هذه المناسبة أو تلك خارج بلاده . وهذه تفصيلات قد تتفاعل وتشكل بداية لولوج الكاتب ساحة الأدب العالمي حين تكون نقطة  انطلاق لعملية عضوية حية ولا تظل مجرد حقائق عرضية. في هذه اللحظة فقط يمكن اعتبار العمل الأدبي جزءاً من الأدب العالمي .
ان الوصول الى العالمية لا يعني البقاء فيها الى الأبد .فعلى سبيل المثال نرى أن اناتول فرانس دخل الأدب العالمي منذ البدء ، بينما نراه في العقود الأخيرة يلفظ خارجاً ليحتل المرتبة الثانية . وكذلك  جورج ويلز ، الذي لم يلق في بداية الأمر صعوبة في دخول الأدب العالمي ، ولكن أين موقعه اليوم ؟ أنه في الواقع خارج إطار هذا الأدب . وعلى هذا النحو نرى ان مدى الإعتراف بكاتب ما قد يتعزز أو يتراخى ، بل وقد ينقطع لفترة قصيرة أو الى الأبد . الكاتب الذي يظل حياً في الأذهان هو الذي تصمد أعماله الأبداعية أمام الزمن وتعاقب الآراء والأجيال واجماعها على قوة هذه الأعمال وفرادتها .
ومما لا ريب فيه ان عزلة الأدب القومي عن الآداب الأخرى  يؤدي الى تأخره ، والنجاحات التي حققتها الآداب القومية عبر التأريخ كانت بفضل اعتمادها على الإقتباس من الخارج واستيعاب وهضم وتمثل هذا الإٌقتباس من اجل تحقيق أكبر قدر من التعبير الذاتي بمعونة الآداب الأخرى أو في الصراع ضدها .
ان مكانة الدولة في العالم ونفوذها السياسي والأقتصادي وعدد سكانها ومدى انتشار لغتها ، تلعب دوراً كبيراً في الأعتراف العالمي بكتابها الذين يعكسون حياتها الروحية في نتاجاتهم. أما آداب الشعوب الصغيرة واللغات قليلة الإنتشار ، فإنها تحتل مواقع أسوأ بكثير نسبياً من آداب الشعوب الكبيرة ، واللغات واسعة الإنتشار من حيث الأعتراف العالمي بها .
ليست ثمة آداب عالمية متعددة ، بل أدب عالمي واحد على الرغم من ذيوع رأي خاطيء يقول بوجود هوة بين ما يسمى " الروح الأوروبية " من جهة وبين " الروح الآسيوية " أو " الروح الأفريقية " من جهة أخرى . ان الذين يعتنقون هذا الرأي يعالجون وضعاً تأريخياً معيناً ويتناولونه كوضع ثابت لا يتغير بمضي الزمن .وبالطبع فان هذا لا يعني ان الأدب العالمي وحدة يسودها الأنسجام ، فثمة أمر واضح هو تشابه آداب مجموعة من البلدان من حيث التعبيرعن العالم الروحي اشعوبها . فعلى سبيل المثال نجد ان آداب بلدان أوروبا الشرقية أكثر تشابهاً فيما بينها من الآداب الأخرى . والآداب الأوروبية الغربية أو الأميركية الشمالية أو الأسترالية ، هي اليوم أكثر قربا بعضها من بعض من آداب المناطق الأخرى. وكذلك آداب بلدان أمريكا الجنوبية  المدونة باللغة الأسبانية ، فإنها تتأثر كثيراً ببعضها البعض, وهذا التأثير أعمق من القشرة اللغوية . بيد أن تباين ظروف الحياة يؤثر أيضاً وعلى نحو شديد في نحت ملامح كل أدب من هذه الآداب ، وتحديد السمات التي يتصف بها .
ان اهتمام الجماهير في شتى أرجاء العالم بنتاجات اتجاه أدبي معين -  كالواقعية السحرية مثلاً - أو بظاهرة سياسية ما - كالإسلاموفوبيا في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية –يمارس تأثيراً قوياً في عالمية الأدب ، ونعني بذلك ، الدور الملهم للنجاح في التعبير الفني القوي عن روح العصر .
 

49
الخطأ القاتل لقادة الأنقلاب العسكري التركي الفاشل
جــودت هوشيار
كل إنقلاب عسكري يبدأ بالأستيلاء السريع على البث المركزي للأذاعة والتلفزيون . هذا هو المبدأ التقليدي للأنقلابات العسكرية سواء في تركيا أو غيرها من بلدان الشرق الأوسط والعالم . وقد اتبع قادة المحاولة الأنقلابية الأخيرة في تركيا هذا المبدأ ، حيث اقتحمت قواتهم مركز البث التلفزيوني الحكومي في انقرة وأجبروا العاملين فيه على اذاعة بيانهم الأول الذي تضمن خبراعتقال اعضاء الحكومة التركية واعلان منع التجوال في أنحاء البلاد . وقد ارتكب قادة الإنقلاب خطأً فادحاً بعدم قطع الأتصال بشبكة الأنترنيت ونسوا أو تجاهلوا قدرة مواقع التواصل الأجتماعي على حشد الجماهير، حبث ظلت الشبكة تعمل بإنتظام. وكان ذلك أحد العوامل الرئيسية في اخفاق المحاولة الأنقلابية .
 كان إردوغان في هذا الوقت في منتجع مرمرة. واستغل توافر وسيلة الأتصال عبر شبكة الأنترنيت للحديث الى الشعب . وهي مفارقة ملفتتة للنظر ،  لأن الرئيس التركي، وجه انتقادات حادة لشبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية خلال المظاهرات المناهضة للحكومة في عام 2013، وهدد  مراراً بقطعها ، ولكنه اضطر هذه المرة إلى استخدامها، بعد ان فقد الأتصال بقادة جيشه الذين أحتجزهم الأنقلابيون. ولعبت الشبكات الاجتماعية، جنبا إلى جنب مع مكبرات الصوت في المساجد، دوراً رئيسياً  في جلب الآلاف من الناس الى الشوارع. اردوغان على خلاف قادة الإنقلاب الفاشل أدرك تماما ومن خلال تجربته المريرة الأخيرة ، كيف يستغل وسائل الاتصال الحديثة لصالحه ، تلك الوسائل التي كان يتهمها بالترويج للأهداف المعادية لتركيا .
في لحظة تأريخية فارقة استطاع أردوغان أن يلقي خطابا موجهاً للأمة عبر خدمة اتصال بالفيديو وظهر على شاشة هاتف محمول ذكي لمذيعة في قناة (سي.إن.إن ترك) والتي رفعت هاتفها أمام الكاميرا في الاستوديو حتى يتسنى للمشاهدين أن يروا إردوغان.
أهاب أردوغان في خطابه بالمواطنين النزول الى الشوارع ، وطلب منهم احتلال الميادين الرئيسية واخراج الأنقلابيين من المطارات ومقاومتهم . وقد استجاب آلاف من أنصاره لهذا النداء وتدفقوا الى شوارع استانبول وأنقرة والمدن التركية الأخرى .كما طلب اردوغان من قوات الأمن والشرطة الموالية له التصدي الحازم للمحاولة الأنقلابية ، ولكن الجماهير هي التي لعبت الدور الحاسم في إخماد التمرد ، فقد تصدى أنصاره للدبابات بالأحجار التي امطروا بها الجنود المتمردين ،و تمكنوا من ابعادهم عن مطار اتا تورك وميدان تقسيم حيث وقعت مجابهات بين الطرفين
المواطنون الأتراك أنجزوا ما عجزت عنه قوات الأمن و الشرطة وأفشلوا الأنقلاب العسكري. وربما هذه هي المرة الأولى في تأريخ الأنقلابات العسكرية يستطيع فيها مواطنون عزل من التصدي للدبابات او إخماد تمرد عسكري. وبعد استعادة السيطرة على الوضع وجه اردوغان خطاب شكر الى المواطنين الذين ساندوه في لحظة تأريخية حرجة .
ولا أحد من المراقبين يشك اليوم في الدور المهم الذي لعبته مواقع التواصل الأجتماعي ووسائل الأتصال الحديثة في قمع التمرد المسلح في تركيا.
ومع ذلك، فإنه من غير الواضح ان كان اردوغان سيغير موقفه من الشبكات الاجتماعية في أعقاب هذه الأحداث أو على العكس من ذلك، سيحاول تضييق الخناق عليها . وثمة مخاوف حقيقية من اتخاذ أردوغان للمحاولة الأنقلابية ذريعة لتصفية  نشطاء المعارضة في الداخل والخارج . وتجلت هذه المخاوف في مناشدات الرئيس الروسي بوتين والمستشارة الألمانية ميركل ، ووزير الخارجية الأميركية جون كيري بضرورة أتباع الطرق الدستورية في محاسبة قادة الأنقلاب العسكري الفاشل .
 
 


50
أوجه الإختلاف والتشابه بين الصحافة والأدب
جــودت هوشيار          
إستهلال :
لا أحد يعرف على وجه الدقة ، هل الأدب أقدم من الصحافة ، أم الصحافة أقدم من الأدب؟ . بعض المؤرخين الغربيين يطلقون على الصحافة اسم ( ثاني أقدم مهنة في التأريخ) ، ويجزمون ان مهنة (بيع الهوى) ، هي أول وأقدم مهنة عرفها الجنس البشري .  ولكن لا توجد شواهد أثرية أو تأريخية تؤكد هذه المزاعم ، في حين توجد أدلة قاطعة على ممارسة الأنسان البدائي – ذكراً كان أم أنثى - لحرف ومهن حياتية وعملية ، ضرورية لأستمرار الحياة ، ولم يكن بينها ،هاتان المهنتان .
الأدب قديم قدم الأنسان ، ويحدثنا علماء الآثار والأنثربولوجيا عن نصوص أدبية يعود تأريخها الى  اربعة آلاف سنة قبل الميلاد ، مثل التراتيل الدينية والأساطير والملاحم ، ومن ابرزها ملحمة جلجامش ، في بلاد الرافدين . وكتاب الموتى ، وأناشيد الرعي والأستسقاء والعبادة والغزل في مصر الفرعونية . والذاكرة الإنسانية حافلة بالأعمال الأدبية الخالدة مثل  " الألياذة " و" الأوديسا " لهوميروس ،  ناهيك عن قصص ألف ليلة وليلة ، وكتاب كليلة ودمنة . كل هذه النتاجات الأدبية كتبت  قبل أن يظهر للوجود أبسط شكل من أشكال الصحافة البدائية .
يقال بأن أول (صحيفة) في العالم صدرت في روما سنة 85 قبل الميلاد ،بأسم ( الأعمال الرسمية )  أسسها الأمبراطور يوليوس ، الذي أمر كبار موظفي دولته أن يدونوا جميع أعمالهم على لوح يعلق في الميادين عامة ، ثم صدرت (صحيفة) أخرى كانت اكثر انتشارا لأنها كانت تنشر أخبار الخاصة والعامة .
الصحافة في بداية ظهورها لم تكن منتظمة الصدور، ولم تنشأ أول صحيفة دورية ، الا في سنة 1631  في فرنسا . اما في العالم العربي ، فقد نشأت الصحافة على أيدي الأدباء والنقاد الرواد. ويكفي إلقاء نظرة على تأريخ الصحافة العربية ، وتراجم روادها الأوائل ، في كل من مصر ولبنان والعراق ، وفي سائر البلدان العربية ،  لأثبات هذه الحقيقة الموثقة.
الصحافة والأدب نوعان من الإبداع اللفظي . ولكنهما يستخدمان أدوات تعبيرية مختلفة ، وأساليب لغوية متباينة ، وقد أخذا منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي يقتربان من بعضهما من حيث استخدام التقنيات الكتابية والمادة الخام ، ويمكن تلخيص أهم وجوه الأختلاف والتشابه بينهما، في نقاط محددة وواضحة ، على النحو التالي : 
أوجه الأختلاف :
1- تقوم الصحافة على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور وغالبا ما تكون هذه الأخبار متعلقة بمستجدات الأحداث على الساحة الداخلية والخارجية ، أوتتناول شتى جوانب الحياة السياسية والأقتصادية والثقافية والأجتماعية والرياضية وغير ذلك. وأغلب ما يكتبه الصحفي يستند الى وقائع وأحداث حقيقية واناس حقيقيين . الصحفي المحترف هو في خضم الناس والأحداث دائماً ،ومثل   الجندي في خندق القتال ، في حالة استنفار دائم . اما الأديب فأنه يعمل ، في عزلة وهدؤ ، عندما يأتيه الألهام ويكتب في تأمل وروية في البيت أكثرالأحيان ، وان كان بعض كبار الروائئين والشعراء اعتادوا الكتابة في المقاهي أيضاً .
2- الصحفي العامل في الصحافة اليومية أو الأذاعة أو التلفزيون ، لديه مواعيد محددة لأنجاز ما كلف به من أعمال .وكلما اسرع في عمله كان ذلك افضل . فهناك المنافسة والسبق الصحفي ، وليس لديه الوقت الكافي لأعادة كتابة المادة الصحفية أكثر من مرة . أما الأديب فأنه يصرف الجزء الأكبر من وقته  ليس في كتابة النص الفني فحسب ، بل في صقله على هواه ، فهو يقدم ، ويؤخر ، ويضيف ويمحو ، ويغيّر هذه الكلمة أو الجملة أو تلك  ، وفي معاودة النظرفيه اكثر من مرة ، فهذا هو عمله الأساسي. من يصدق أن عبقرياً مثل ليف تولستوي كان يعيد كتابة فصول رواياته الطويلة مرات عديدة ، وكذلك هيمنجواي الذي أعاد كتابة بعض فصول رواياته عشرات المرات ، وهي ظاهرة شائعة لدى معظم الأدباء الروائيين . أما في الشعر ، وكان الشاعر الرائد والمبدع بدر شاكر السيّاب يقول ، أن مهمة الشاعر الرئيسية هي الحذف والأختصار . واذا كان المقال الصحفي يمكن كتابته – اذا لزم الأمر –  خلال بضع ساعات ، فأن الرواية قد تستغرق  كتابتها عدة سنوات.الصحفي عندما يتناول الصحيفة في الصباح فأنه يرى ثمرة عمله بالأمس ،. اما الكاتب فأنه ينتظر احياناً سنوات لأصدار كتابه الجديد.
3- يبدو لي ان الفرق الجوهري بين الصحفي والأديب . هو درجة الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل منهما . الصحفي لا يمكنه أن يكتب حسب  هواه ، بل يلتزم بالسياسة التحريرية للصحيفة التي يعمل بها ، ان لم يكن هوشخصيا مالك الصحيفة . أما الأديب فلا رقيب عليه سوى عقله وضميره وذوقه الفني .
- 4 - الشيء الرئيسي في الصحافة هوالمحتوى الموثوق ، ولكنه يتقادم بسرعة . فعمر المادة الصحفية هو المسافة الزمنية التي تفصل بين صدور عددين من الجريدة أو المجلة .  أما الأدب فلا يتقيّد بالحاضر ، بل لا يتقيّد بزمان ولا مكان ، وقيمته الحقيقية تكمن في مستواه الفكري والفني . وما يبدعه الأديب يظل حياً ومقروءا لعشرات وربما لمئات السنين.
5- الصحافة ، بمفهومها الحديث حرفة أو مهنة لها اصولها وقواعدها ويمكن تعلمها ، في كليات ومعاهد الصحافة أو خلال العمل الصحفي . أما الأبداع الأدبي ، فإنه موهبة فطرية ، يتمتع بها قلة نادرة من الناس .  بذرة الموهبة يمكن تنميها بالمرانة ومعاودة النظر ، ولكن من يفتقر الى هذه البذرة لا يمكنه خلق نتاج إبداعي حقيقي .
6- لغة الصحافة واضحة وبسيطة ومرنة تنبض بالحياة ، والصحفي يحاول اجتناب الغموض ويتوخى مرضاة القاريء ، ولهذا فأن المواد الصحفية في متناول الجمهور العام . أما الأدب فأنه يمتاز بلغته العالية وأسلوبه الرفيع ، ويوجه في المقام الأول للنخب الثقافية التي تتذوق الأدب وتنشده ، وتستمتع به . بعض الكتاب عندما يكتبون مقالات صحفية بأسلوبهم المعهود في الأدب ، لا يدركون ان القاريء ليس لديه وقت لأستخراج الحقائق والمعلومات من عباراتهم الأنشائية الملتوية الغامضة .
7- الصحفي في بلادنا  يمكن أن يكسب لقمة عيشه من عمله ، أما الأديب - الذي ليس لديه مهنة أخرى يعتاش منها -  فأنه يعاني أشد المعاناة في حياته الخاصة وفي نشر نتاجه الأبداعي – شعراً كان أم نثراً فنياً - وتوزيعه الذي يستنزف الكثير من الوقت والجهد والمال ، ويعجز عن تأمين حياة كريمة له ولعائلته اذا كان ما يبدعه فوق مستوى الجمهور ولا يلقي رواجا في السوق . .
8- الصحافة أداة فعالة وقوية في التأثير ليس في الرأي العام فقط ، بل أيضاً في السلطات الثلاث (الحكومة ، والبرلمان ، والقضاء ) . ولهذا يطلق على الصحافة مسمى " السلطة الرابعة " . الأدب لا يمكنه ان يمارس مثل هذا التأثير المباشر والسريع .
أوجه التشابه :
          1 - الصحافة مدرسة نافعة للأديب ، يستفيد من خبرة العمل فيها في ادامة وتعزيز اتصاله بالناس وتوسيع آفاق رؤيته للحياة والعالم ، مما يشكل معيناً لا ينضب لتجربته الأدبية . وقد عمل العديد من كبار الأدباء في العالم كمراسلين صحفيين لسنوات طويلة . منهم هيمنجواي ، الذي اتاح له عمله في ميادين القتال ، ان يكون شاهد عيان على مآسي الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الأسبانية ، وانعكس كل ذلك في رواياته وأقاصيصه . كما أن الكثير من الكتاب الكلاسيكيين عملوا في الصحافة  ومنهم أنطون تشيخوف ، ومارك توين ، و ريمارك ، واورويل الذي ظل طوال حياته يمارس كلا النوعين من الأبداع ، وقال عنه النقاد أنه أعظم كاتب مقالات في الصحافة الغربية الى جانب كونه روائيا كبيراً.
          2- يقال ان «كل أديب صحفي، وليس كل صحفي بأديب". ولكن هذه المقولة ليست دقيقة . صحيح ان الصحافة  قامت على أكتاف الكتاب  ولكنها  لم تعد كذلك منذ زمن طويل. بل تحولت الى صناعة ،  في حين أن الشهرة الأدبية للعديد من الأدباء ترجع الى عملهم الصحفي ، وقد خدمتهم الصحافة في استكشاف إمكانات التعبيرعن أنفسهم وتحسين  اسلوبهم وتطوير لغتهم نحو مزيد من المرونة والوضوح
•         3- العلاقة المتداخلة بين الصحافة والأدب .ليس وليدة اليوم بل قديمة ، ويمكن اعتبار العديد من نتاجات الكتاب الكلاسيكيين روايات وثائقية بنيت على وقائع واحداث حقيقية . وقد أخذت  هذه العلاقة تتعمق وتتسع منذ الستينات من القرن الفائت ، ونجد اليوم ان الكثير من الروايات العالمية مبنية حول أشخاص حقيقيين وأحداث حيّة وواقعية . انهم يكتبون ما حصل في الواقع ، لتتخذ نتاجاتهم شكل الوثيقة ، وهذا النوع من الأدب يمكن تسميته بالأدب الفني - الوثائقي ، أو الأدب غير الخيالي . وبذلك أخذت الحدود بين الصحافة و النثر الفني تتلاشى . وهذا ما أقرت به  لجنة نوبل حين منحت جائز الآداب لعام 2015 الى الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش ، التي تنتمي رواياتها الست الصادرة لحد الآن الى هذا النمط غير الخيالي . وليس من السهل على الناقد الأدبي اليوم ، ان يميز بين القصة الخيالية وغير الخيالية ، ناهيك عن القاريء العادي .
4-  لا ينبغي لنا أن نتساءل بعد اليوم أيهما أهم ،وأكثر التصاقاً بالحياة : الصحافة أم الأدب ؟ بعد أن أصبحت الفنون الصحفية والسردية متداخلة . الصحافة توظف اللغة الأدبية في المقال والأعمدة والتحقيقات الصحفية ، والأدب يستمد مادته مما يحدث على ارض الواقع  ويغتني بالفنون الصحفية . ولقد ظهرت في البلدان الغربية في الآونة الأخيرة روايات مستوحاة  من الصحافة الألكترونية وما توفره من معلومات ووسائل تفاعلية ، ولم تصل هذه الموجة الينا بعد ، كما لم تصل من قبل الرواية غير الخيالية، المتعددة الأصوات رغم مرور ستة عقود على ظهورها في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.   
 


51
عبدالوهاب البياتي في موسكو ... ملاحظات وإنطباعات
                                                             
جـودت هوشيار

أنا لست موظفاً ، أنا شاعر !

لم يكن قد مضى على وجودنا في موسكو في نوفمبر 1959 – نحن الوجبة الأولى من طلبة البعثات العراقية -  سوى بضعة أسابيع حين سرى بين الطلبة خبر ( مفرح ) ، مفاده ان الشاعر عبدالوهاب البياتي قد وصل موسكو ملحقاً ثقافياً في السفارة العراقية . كان المزاج اليساري طاغياً بين الطلبة العراقيين ، وكان البياتي في ظنهم هو رائد الشعر العراقي ( التقدمي ) الجديد ، أي الشعر المكرس للدفاع عن الفقراء والمظلومين . ولكنني تلقيت الخبر بحذر وتوجس . لأنني لم أكن يوما معجباً بشعر البياتي أو  بشخصيته
كانت قصائد ديوان البياتي الأول " ملائكة وشياطين " من الشعر العمودي العادي الذي كان مثله ، بل أفضل منه بكثير ، ينشر في الصحافة الأدبية العراقية وفي دواوين شعراء الخمسينات . أما شعره المنشور في دواوينه الخمسة اللاحقة الصادرة حتى ذلك الحين ، فقد كان من نمط شعر التفعيلة ، ولكنه كان شعراً مباشرا أشبه بالشعارات ، ولا يمت الى الشعر الحقيقي بصلة . لم يكن الشعر هو الذي كان يهم معظم الطلبة ، بل البياتي نفسه ، لأنه كما كانوا يقولون ( منا وبينا )  . لم يكن أي طالب يحفظ ولو بيتاً واحداً من شعره ، رغم بساطة هذا الشعر ، الذي لا يتطلب أي جهد لفك ألغازه المغلفة بالكلمات الثورية . وكان واضحاً أن أدوات البياتي الفنية بائسة ، وشعره لا يرقي الى مستوى شعر بدر شاكر السيّاب . ولكن السياب كان مكروها من هؤلاء الطلبة ، وعندما كنت أبدي اعجابي به ،كانوا يقولون في استنكار : (ما الذي يعجبك  في قصائد هذا " الخائن " ؟) . والمعروف ان " الخائن " عنوان قصيدة للبياتي يهجو فيها السياب بأقذع الألفاظ  ، ونشره في حينه في بعض الصحف( التقدمية )  لركوب الموجة اليسارية السائدة ، واشغال المكان الذي تركه السيّاب خالياً  بعد  ابتعاده عن هذه الموجة .
نظمت رابطة الطلبة العراقيين في موسكو لقاءًا مع البياتي في احدى قاعات الكلية التحضيرية التابعة لجامعة موسكو ، حضره معظم الطلبة العراقيين الدارسين في العاصمة السوفيتية ، الذين استقبلوا البياتي استقبال الأبطال ، ولم تهدأ عاصفة التصفيق الا بأشارة من منظمي اللقاء . اعتلى البياتي المنبر ، وهو منفوش كالطاووس ، وأجال بصره في انحاء القاعة ،قبل أن يتحدث بصوته المبحوح  عن الصداقة العراقية – السوفيتية وأشياء أخرى من هذا القبيل .وأخذ الطلبة يطرحون عليه أسئلة تتعلق بمشاكلهم  الدراسية والمعيشية . استمع الى كل هذه الأسئلة بتأفف ، ثم صرخ في وجوههم : " أنا لست موظفاً ، أنا شاعر " . والغريب في الأمر أن أحداً لم يقل له : " اذن ما هي مهمتك في موسكو ،  اذا كنت لا تريد حتى سماع مشاكل الطلبة الذين  لولاهم لما كنت اليوم في عاصمة العمال والفلاحيين الذين تتغنى بهم دوماً " ؟
انتهى اللقاء وودع الشاعر بمثل ما استقبل به من حفاوة . ولكني لا أدري لماذا تشاءمت من هذا اللقاء وقلت في نفسي ، هل أرسلته بغداد لمتابعة قضايا الطلبة وتعزيز العلاقات الثقافية مع الشعب السوفييتي الصديق أم للأستجمام على حساب الدولة ؟
بعثة جمهورية مهاباد :
كانت لدي مشكلة تتعلق بتخصصي الدراسي . كنت أرغب في دراسة الهندسة الكهربائية ، ولكن ظهر اسمي ضمن المقبولين في الهندسة المدنية . كنا سنقضي في الكلية التحضيرية سنة دراسية كاملة وكان لدي الوقت لمعالجة المشكلة ولكن كيف ؟ هذا ما كنت أفكر فيه دوماً  ولكن الحل جاء من حيث لا أحتسب.
ذات أمسية طرق باب غرفتي شخص يسأل عني . وبادر الى التعريف بنفسه ، وقال بلغة كوردية رائقة وصوت رخيم : - أنا الدكتور م. س. طبيب القلب .
-  قلت: تفضل على الرحب والسعة
جلس حول الطاولة الوحيدة في الغرفة - التي كنا – أنا وزميلي الأوكراني -  نستخدمها لأغراض شتى: للأكل والمطالعة والكتابة وكي الملابس.
- قلت : يا دكتور لدي شاي سيلاني جلبته معي ، وسأحضر لك شايا أصيلا خلال بضع دقائق . عندما رجعت من المطبخ كان الدكتور يتبادل الحديث مع زميلي الأوكراني ، ثم قال له: معذرة لأننا سنتحدث مع زميلك بالكردية لو سمحت .
ثم خاطبني قائلاً : قد تتساءل من أكون ولماذا جئت أبحث عنك وعن زملائك الكرد ؟
وحكى قصة اول بعثة دراسية أوفدتها حكومة جمهورية مهاباد الى الأتحاد السوفييتي قائلاً : "  كنا خمسة طلاب جئنا لدراسة الطب ، ولم نكد ننهي السنة التحضيرية حتى أنهارت الجمهورية بعد صفقة النفط المعروفة بين ستالين ورئيس الوزراء الأيراني على حساب الشعب الكوردي . بقينا بلا مورد ومقطوعين عن أهلنا ووطننا ، وقد  تحملنا الكثير من المشاق والمتاعب حتى انهينا دراستنا بنجاح ، ونحن نعمل اليوم في مستشفيات موسكو . ويسرني أن ادعوك الى تناول العشاء في شقتي غداً . وأخرج قلما وورقة من حقيبته وكتب العنوان بالروسية وبخط واضح ، ورسم  طريق الوصول الى مسكنه ..
كانت شقة جميلة في عمارة شاهقة تقع بالقرب من محطة مترو " جامعة موسكو " وكان الدكتور متزوجاً من طبيبة روسية شقراء ، في غاية الطيبة والرقة  . وفي هذه الجلسة شرحت للدكتور مشكلتي فوعدني خيراً . وذات يوم قال لي ان الملحق الثقافي في السفارة العراقية صديقي وسيعالج المشكلة التي حدثتني عنها . لم أكن متفائلا ولكن الدكتور بدد مخاوفي وقال : ان البياتي سيهتم بمشكلتك  لأنه منذ أن علم بأنني طبيب ناظم حكمت ، أخذ يلح عليّ ، أن ارتب له لقاءًا مع الشاعر التركي ، ، ولكن ناظم مشغول دوماً ،  فهو ما أن يرجع من رحلة حتى يغادر من جديد الى بلد آخر بدعوة من أصدقائه ومترجمي وناشري شعره في كثير من بلدان العالم .
 جاءني الدكتور يوماً ليقول لي أنه رتب كل شيء ، وسينتظرني غداً في الثامنة صباحا قرب باب الدخول الى محطة المترو القريبة من الجامعة للذهاب الى السفارة العراقية .
كانت الملحقية تشغل جناحا صغيراً في بناية السفارة . وبعد أن رحب البياتي  بنا . قال الدكتور : هذا صديقي الذي حدثتك عنه. وبعد أن شرحت مشكلتي للبياتي ،قال : قدم طلبا وسنرى . سألته وماذا اكتب في الطلب . قال :  اكتب نظراً لرغبتي الشديدة في دراسة الهندسة الكهربائية ... الخ . أخذ الطلب وقال سأحاول الحصول على موافقة مديرية البعثات في بغداد .
 كنت التقي الدكتور وزملائه الأطباء الكورد الآخرين الذين كانوا يقيمون الولائم للطلبة الكرد بسخاء . بعد بضعة أسابيع وفي احدى لقاءاتنا قال الدكتور:.
  - ما أن عاد ناظم حكمت من سفرته الأخيرة ، حتى ذهبت الى شقته للأطمئنان على صحته ، فقلبه عليل وهو لا يهتم بصحته كثيرا .ً قلت له : ان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي متلهف للقاءك ويتصل بي هاتفيا يوميا ، ويسألني ان كا ن بوسعك مقابلته!
قال ناظم : لقد التقيت البياتي في أحد المؤتمرات الأدبية . الشعراء المناضلون اخوتي . وهذا شاعر ثوري حكم بالأعدام مرتين من قبل السلطة الرجعية في بلاده ، ولكن الشعب العراقي هاج وخرجت مظاهرات حاشدة في بغداد والمدن العراقية الأخرى  ترفع شعار " الحرية للبياتي " وقد اضطرت السلطة الى اطلاق سراحه فهرب من العراق ، كما هربت أنا من تركيا بعد قضاء سبعة عشر عاما في السجن . فكيف لا أقابله !
قلت للدكتور : هذه أول مرة أسمع فيها هذه الحكاية .! وفهم الدكتور مغزى كلامي ولكنه لم يعلق عليه. بل اضاف :
  عندما اخبرت البياتي بترحيب ناظم لأستقباله في مسكنه شكرني ، وقال : سأحاول تحقيق رغبة صديقك الطالب الكردي،  فمدير البعثات الدكتور صلاح خالص لا يرفض لي طلباً .
بعد حوالي عشرين يوما ، جاءني الدكتور هاشاً باشاً ليقول لي : بغداد وافقت على طلبك . ينبغي أن نحتفل بهذه المناسبة ونشرب نخب نجاحك.
- قلت : بل نخب ناظم حكمت الذي وافق على مقابلة البياتي ، ولولا هذه الموافقة لكان ( ملحقنا الثقافي )  قد رمى طلبي في سلة المهملات ، فهو شاعر وليس موظفاً !.
لقاءات عابرة :
السنوات التي قضاها البياتي في موسكو ( أواخر 1959- 1964 ) كانت سنوات ذهبية للشعر الروسي ، فقد كان الشعراء الشباب ( يفتوشينكو ، فوزنيسينسكي ، أخمدولينا وغيرهم ) يوقدون حماس الشباب بقصائدهم الجديدة الرائعة .ولم يكن يمر اسبوع دون ان يقام اكثر من لقاء شعري مع جمهورالشباب في الجامعات والمعاهد ، وفي المعامل وقصور الثقافة ، وفي ستوديو لينين الرياضي الذي كان يتسع لثلاثين الف متفرج جاءوا ليستمعوا الى  آخر قصائد الشعراء المعبرين عن همومهم وتطلعاتهم وآمالهم في التغيير . ولكن رغم ترددي الدائم على مثل هذه اللقاءات لم أر البياتي يوما في أي لقاء شعري . لا مشاركاً ولا مستمعاً ، ولا اعلم السبب .هل لأن ان شعره غير صالح للألقاء ، أم أن العلة في صوته.وطريقة القائه  ربما يقول البعض انه الخجل ، ولكني لا أعتقد ذلك . لأن البياتي لم يكن خجولا ،بل صامتا معظم الأحيان ، ينفث دخان سيكارته في وجهك ، ثم يأخذ نفساً عميقاً و يحدق في المجهول ..
 ويبدو أنه لم يكن لديه وقت يضيّعه في مثل هذه اللقاءات ، فقد كانت هناك لقاءات أجمل وأمتع ! .كم مرة رأيته واقفا في نواصي الشوارع وقرب مداخل محطات المترو يتطلع الى الجهة التي ستأتي منها سيدة المساء. والغريب في الأمر أن مغامراته النسائية لم تنعكس قط في شعره ، كما انعكس  في شعر زميلنا في الكلية التحضيرية حسب الشيخ جعفر مثلاً . الذي كتب قصائد كثيرة وعدة روايات استمد مادتها من علاقاته العاطفية وان كان قد بالغ مبالغة عظيمة في سردها ، كأنه دون جوان ترتمي الحسناوات على قدميه أينما حل .
أن الشعراء قي العادة هم من أرق الناس وأكثرهم انبهاراً بالجمال الأنثوي . ولا يوجد شاعر مهما كان حجم موهبته ، لم يذب عشقا وهياما في حضرة المحبوبة . ولكن يبدو ان البياتي لم يكن يحب أحداً. لا الشعراء ، ولا النساء .
بعد انقلاب الثامن من فبراير 1963 وفصله من الوظيفة ، أتخذ البياتي من مقهى يقع في لوبي فندق ( موسكو ) الشهير في قلب العاصمة السوفيتية .، مقراً دائماً له . كان الطلبة العراقيون يتجمعون حوله وينقلون له آخر ما تتناقله الوكالات وما يقول الناس الهاربون من جحيم البعث. لم تكن الصحف العربية تصل الى موسكو ما عدا صحيفة ( النداء ) اللبنانية وأحيانا ( الأهرام ) القاهرية ، وكان  البث الأذاعي العربي بالكاد يسمع  في موسكو وسط (ضجيج) صاخب ..
كان البياتي ومعه عدد من الطلبة العراقيين قد حولوا المقهى الى سوق هرج. يشربون قدحا من الشاي أو القهوة ويجلسون ساعات طويلة تتخللها مناقشات سياسية صاخبة . كانت نادلات المقهى فتيات جميلات  بتنانير قصيرة ( ميني جوب ) التي كانت موضة تلك الأيام  ومريلات بيضاء تكاد لا تصل الى ما فوق الركبة . كن يتأففن وهن يطردن الدخان الكثيف من امام وجوههن وتكاد عيونهن تدمع  من أثر سحابة سكائر ( كيم ) الكوبية الرخيصة. ضاقت ادارة الفندق ذرعا ، وأقفلت المقهى ، ولسان حالها يقول ( عليّ وعلى أعدائي ). ! ولكن البياتي ومعه الشلة الطلابية انتقلوا هذه المرة الى ( بار ) يقع بجانب الفندق المواجه للساحة الحمراء . وكان الزبائن يصعدون اليه بسلم من المرمر الصقيل . ولم يكن بالأمكان البقاء ساعات عديدة هنا ، لأن معظم المقاعد كانت عالية ، دائرية الشكل وبدون مساند ، والى جانب ذلك عدة طاولات وكرسي خشبية خشنة لا تقارن بالأرائك الجلدية الفاخرة والوثيرة للوبي الفندق ، ثم أن الأزدحام كان شديدا في البار الصغير، وليس ثمة مجال  للجلوس لساعات طويلة والدخول في مناقشات لا نهاية لها. وعلى هذا النحو انحلت شلة البياتي تلقائياً . وغاب البياتي عن الأنظار لأشهر عديدة ، وفي عام 1964 غادر موسكو متوجها الى القاهرة . 
لم يتعلم ( ملحقنا الثقافي ) اللغة الروسية رغم اقامته في موسكو لحوالي أربع سنوات ، في حين اني رأيت طلاباً أجانب من أوروبا الغربية وأميركا جاءوا الى موسكو لتعلم اللغة الروسية من أجل قراءة الروائع الأدبية الروسية بلغتها الأصلية التي كتبت بها .
ثمة اشاعة - روجها البياتي بنفسه بعد اقامته في القاهرة – مفادها أنه عمل استاذاً في جامعة موسكو وباحثا علميا في معهد الأستشراق . ولكن هذا كان بنداً ضمن برنامجه الدعائي ، الذي تصدره قصائد سياسية مباشرة وتقريرية  في مديح عبدالناصر .
ان الزمن هو الحكم الفصل في فرز الصالح عن الطالح . والأبداع الحقيقي يبقى حياً ومقروءا  مهما طال الزمن ، ولكن لا أحد اليوم يحفظ أو يقرأ شيئاً من شعر البياتي . ولكي أكون دقيقاً أذكر أنني سمعت منذ عدة سنوات في بغداد أحد الشعراء الشباب وهو يردد ضاحكاً بيتا واحدا من شعر البياتي ورد في مطلع قصيدته المسماة " الأميرة والغجري " وهو بيت ( شعري ) عجيب ، هذا نصه  " أدخل في عينيك -  تخرجين من فمي "


52
حوار مع زميلتي البولندية
   
                                 
جـودت هوشيار

هناك كتب تستحق أن يذوقها القاريء ، وكتب تستحق أن يلتهمها ، وكتب تستحق أن تمضغ وتهضم - فرنسيس بيكون
 
         لم أكن أتصور قط أن ألتقي بكريستينا ، زميلتي في جامعة الطاقة  بموسكو ، بعد حوالي ربع قرن من تخرجنا . المصادفة المحض هي التي قادتني الى اللقاء بها مجددأً. كانت المنشأة التي أعمل فيها قد تعاقدت على استقدام عدد من الخبراء البولونيين ، وكنا نحن المهندسين العراقيين نعمل معهم ، وقد تبين أن العديد من هؤلاء الخبراء قد تلقوا تحصيلهم العلمي في الجامعات الروسية. وكان بينهم خبير اسمه  فيكتور نوفاك.
ذات يوم ونحن نتناول طعام الغداء في مطعم المهندسين في المنشأة ، قال فيكتور دون مقدمات : ان زوجتي خريجة كلية الهندسة الكهربائية في جامعة الطاقة أي الكلية ذاتها التي درست فيها أنت ، وحين ذكرت لها أسمك صاحت : " يا الهي ما اصغر هذه الدنيا ؟ " .  وكانت مناسبة أن أدعوهما الى تناول المسقوف في مطعم يطل على نهر دجلة في بغداد . كان لقاءاً حارأ ومر الوقت سريعا ونحن نتذكر أيام الدراسة، وزملاءنا الروس والأجانب ، منهم من تولى مسؤوليات كبيرة في بلده ، ومنهم من هاجر الى الغرب . ساد الهدؤ للحظات وخيم علينا نحن الثلاثة سكون أشبه بالحزن . وقطعت كريستينا الصمت لتقول: بحثت في متاجر الكتب في بغداد عن كتب باللغتين الروسية والبولندية ، ولكن دون جدوى. وكما تعلم فأن في عواصم الدنيا مكتبات ، أو أجنحة خاصة بالكتب الأجنبية . أما هنا فلا تجد شيئا الا بعض الكتب الأنجليزية بشق الأنفس . وأنت تعلم أنني درست اللغة الفرنسية ، وانجليزيتي المتواضعة لا تسمح لي بقراءة وفهم الكتب بهذه اللغة . 
وأضافت بصوت خفيض : هل يمكن ان القي نظرة على مكتبتك ،وأن استعير منك بعض الروايات  الروسية أو المترجمة الى الروسية ،  فقد كنتَ تتحدث كثيراً عن روايات فلوبير ، وستندال ، وكافكا ، و بروست ،  وهيمنجواي ، وبونين وشعر لوركا ، وايلوار ، ويسينين ، وغيرهم .
قلت : يسرني ذلك ما رأيكما في تناول القهوة في بيتي هذا المساء .
وقفت كريستينا للحظات في عتبة باب غرفة مكتبتي المنزلية ، وأخذت تجيل عينيها على رفوف الكتب التي تغطي الجدران .وبادرتني بسؤال لم أكن أتوقعه ابدا. قالت بنبرة تشي بالشك والدهشة : هل قرأت كل هذه الكتب ؟
  قلت : كلّا ... لم أقرأ لحد الآن الا الجزء اليسير منها .
            فأزدادت دهشتها . وقالت اذن هل هي للزينة أم ماذا ؟
 قلت : كلا ليست للزينة ، ولكن الكتب بالملايين وعمر الأنسان قصير .
 – اذن لم كنت تبحث في مكتبات موسكو ، وربما تبحث اليوم في مكتبات بغداد عن هذا الكتاب او ذاك وتحاول الحصول عليه ولو بسعر مرتفع . لماذ هدرت وقتك ومالك على هذه الكتب – واشارت بيدها الى صفوف الكتب المتراصة على الرفوف -  اذا كنت لا تقرأها ؟.
            سيدتي:  أعتقد أن الكتب ثلاثة أنواع : كتب ينبغي أن تقرأ جزئيا . وكتب خفيفة تقرأ من دون الحاجة الى تركيز أو اهتمام كبير. وكتب – وهي قليلة ان لم تكن نادرة دوما وفي كل العصور - يجب أن تقرأ ، كما كتبت ، بتأن وأهتمام وتركيز ..
.أنني أنتقي الكتب بعناية ، ومع ذلك اقتنيت كتبا خدعتني عناوينها وأسماء مؤلفيها ، و كانت رائجة في حينها ، ويتحدث عنها الناس ، ويكيل النقاد لها المديح ، ولكنها كتب لا تستحق القراءة الجادة. وما اكثر الكتب التي طويتها الى الأبد لأن الصفحات الأولى منها لم تعجبني  ، بينها كتب لأدباء مشهورين ، فأنا احكم على النص واسلوبه ولا يهمني ان كان المؤلف شهيرا او مغمورا . قيمة الكتاب ليس في رواجه ولكن في قيمته الفكرية والفنية . ولحسن الحظ فأن عدد الكتب من هذا النوع محدود في مكتبتي .
- تقول ان الكتب القيمة قليلة ، وان مكتبتك لا تحوي سوى عددا محدودا منها ، ولكن أرى أمامي مئات الكتب ، ربما أكثر من ألفي كتاب ؟
- كما ترين فأن لديّ عدد كبيرنسبيا  من الكتب العلمية ، التي لا أحتاج اليها الا نادراً ، لأنني عند الحاجة أقرأ آخر الأصدارات في موضوع علمي معين يهمني الأطلاع عليه وليس الكتب الصادرة في السنوات الماضية ، التي تبلى جدتها ، وتتقادم مع الزمن. كما أن ثمة هنا الكثير من الكتب الجغرافية والموسوعات والمعاجم والأدلة والخرائط ، والكتب المصورة التي تتضمن اللوحات الفنية لهذا الرسام أو ذاك ، أو فترة تأريخية معينة لبلد ما ، مثل بلاد الرافدين أو مصر القديمة ، تلك الأوراق التي تنكرت على شكل كتب . واذا استثنينا هذه الكتب لن يبقى سوى نصف عدد الكتب الصالحة للقراءة والتي تتألف من كتب الآداب ، والفنون ، والفلسفة . و لم يتسنى لي قراءة القسم الأكبرمنها، بسبب طريقتي الخاصة في القراءة .
- انا لا افهمك . ثم التفت الى زوجها وسألته : هل فهمت شيئا يا فيكتور.
- سيدتي لا تتسرعي في الحكم ، دعيني اشرح لك طريقتي في القراءة . الكتب لا حصر لها ، ومشاغل الحياة ومتاعبها كثيرة ، وحتى لو تفرغ المرء طوال حياته الواعية للقراءة  ، فلن يستطيع أن يقرأ ويهضم سوى النزر اليسير مما هو منشور ومتاح من الكتب الجادة .  إن القراءة التي أقصدها ليست هي مجرد الأطلاع السطحي ، بل القراءة العميقة . انني أقرأ بتمعن وتركيز مجموعة مختارة  من الكتب ، الأكثر تحريكا للمشاعر ، تلك التي صمدت امام الزمن و ظلت مقروءة عبر العصور منذ ان وجدت الكتابة وحتى يومنا هذا ، واعيد قراءتها  مثنى وثلاث ورباع ، باقبال متزايد ، واكتشف فيها الجديد في كل مرة ، حتى يصبح ما أقرؤه جزءا من نفسي . وهذا الأسلوب لا يسمح بقراءة الكثير من الكتب ، لأن من المتعذر الجمع بين القراءة العميقة والقراءة الكثيرة الواسعة . " .
لو قرأنا عددا محدودا من الكتب بهذه الطريقة  أصبح من العسير علينا أن نطلع – الى جانب ذلك – على هذا الكم الهائل من النتاج الفكري والأدبي الذي تضخه المطابع ليل نهار . هذا الفيض الذي يزعم بعض المثقفين انهم قرأوه وتعمقوه . انا لا اشتت قراءاتي ، لذا فأن كل ما قرأ  يصبح ملكا لي واستخدمه في سهولة ويسر كلما دعت الحاجة اليه .
كان فيكتور يستمع الى حوارنا ، أنا وكريستينا ،ولم يتدخل كثيراً في النقاش . ولكن يبدو انه كان يرى الأمر من زاوية جديدة .وقال بصوت حاول ان يكون وديا ولبقاً: أن وتيرة الحياة المعاصرة تتسم بالسرعة ، والوقت لا يسمح بأستيعاب المطولات والمجلدات. ولا افهم كيف يمكن للمرء أن يقضي أياماً عديدة وربما أسابيع في قراءة رواية طويلة من عدة أجزاء ، مثل "الحرب والسلام"  في حين ان الحياة من حولنا  لا تقل متعة .
قلت : أعتقد ان الحياة ينبغي أن تكون مملوءة بالكتب النابضة بالحياة ، تلك التي تخفف من وطأة الحياة وتسرع في ادراكها ولا تكون بديلاً عتها ، فالكتاب للحياة وليس العكس. ان الكتب لا تغني عن تجارب الحياة ، لأننا نحتاج الى قسط من التجربة لكي نفهم الكتب حق الفهم . كما أن التجارب لا تغني عن الكتب ، لأن الكتب هي خلاصة مركزة لتجارب البشرية خلال آلاف السنين ، ولا يمكن ان تبلغ تجربة الفرد الواحد اكثر من عدة عقود ..
ان القراءة الواعية العميقة ، أو القراءة الفاعلة يكون في الوحدة والسكون .ربما قرأتما  رأي مارسيل بروست في اسلوب القراءة ، حيث يرى : " ان الكتاب أفضل من الصديق وأنفع من حديث الحكماء ، ذلك لأن السكون الذي يحيط بنا عند القراءة يحفظ علينا تفكيرنا قويا سليما بعيدا عن مؤثرات المتحدث فالسكون اذن ضروري لكل ما يثير فينا الفتنة والتفكير والاعجاب ، كما أن اللوح الفني لا نستطيع ادراك اسراره الا اذا تأملناه منفردين " . القراءة العجلى لا تترك أثراً في النفس ، ولا تلتصق بالذهن لفترة طويلة ، ولا تغير نظرتك للحياة ، أما الطريقة الواعية المتأنية فهي الوسيلة المثلى للمعرفة والثقافة ، لأنها تمتع النفوس وتغذي العقول وتحقق للأنسان انسانيته ، وتطور تفكيره وتعبيره ، وتزيد الحياة عمقاً
كان فيكتور وكريستينا ، يصغيان بأنتباه الى الحجج التي أسوقها لتبرير العدد المحدود من الكتب التي قرأتها . ثم التفت كريستينا نحوي وهي تقول : والآن دعني أستعير منك  بعض الكتب ان سمحت .
- هل لي أن أقترح عليكِ بعض الكتب التي أحبها ؟
- يسعدني ذلك!
- ما رأيك في رواية فلوبير " مدام بوفاري " التي أعتقد أنها أفضل رواية كلاسيكية فرنسية .   ورواية ستندال " الأحمر والأسود " ورواية ارويل " 1984 " و" مائة عام من العزلة " لماركيز ، وهي كلها مترجمة الى اللغة الروسية ، ترجمات ممتازة ومتكافئة.
قالت : هذه كتب قرأتها مترجمة الى اللغة البولونية . ثم تقدمت من الرفوف محاولة قراءة العناوين . قلت :
أني انظم مكتبتي حسب الحقول ( علوم ، آداب ، فنون ، فلسفة ، تأريخ ،... الخ ) بصرف النظر عن اللغة ، واذا كنت تبحثين عن الروايات والقصص فعليك معاينة حقل الآداب .
- هل لديك رواية " المعلم ومارغريتا " لبولغاكوف .
- أجل ولكنني قرأت الجز الأول منها فقط ، لأنها لم تعجبني كثيراً .
اختارت  كريستينا  رواية " المعلم ومارغريتا " و" المماشي الظليلة " لبونين  " و "امرأة في الثلاثين " لبلزاك ، والمؤلفات الكاملة للشاعرة الروسية العظيمة (تسفيتاييفا ). وقالت أنها معجبة بتسفيتاييفا ، أيما إعجاب ، لأن قصائدها رائعة ، وكل ما كتبته من شعر ونثر فني ومقالات ويوميات ورسائل لا نظير لها من حيث عمق الأفكار وروعة التصوير وصدق الأحاسيس وجمال الأسلوب .
- نِعمَ الأختيار سيدتي ، وأريد رأيك في " المعلم ومارغريتا " بعد قراءتها بطبيعة الحال، لأن الروس يعتقدون أنها أفضل رواية روسية في القرن العشرين ، وأنها البداية الحقيقية لأدب ( الواقعية السحرية ).  وأنا لا أصدق ذلك ! .


53
سحر الإستهلال الروائي الجاذب

جـودت هوشيار
               
الرواية الجيدة ، والممتعة حقاً ، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة ، أو مدهشة ، أو مرحة ، أو حزينة  ، ولكنها قادرة على أن يجذب إنتباه القاريء وتحفيزه على مواصلة القراءة . الدراسات النقدية العربية ، التي عنيت بالأستهلال الروائي قليلة جداً، وان وجدت فهي شكلية في معظمها ، لا تعبر عن خصوصيات  الأستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي . بعض النقاد العراقيين ، الذين عالجوا موضوع الأستهلال الروائي ، أخذوا يبحثون عما قيل في الأستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة ، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الأستهلال في المؤلفات والمصنفات عموما ، وليس عن الأستهلال الروائي . فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص ،ويقول النقاد الغربيون ان الرواية - كجنس ادبي مستقل - خرجت من رحم رواية سيرفانتس " دون كيشوت "، التي نشر جزئها الأول في العام 1605 . انتقل فن الرواية الى الثقافة العربية مع ما انتقل اليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية .
 الأستهلال في الرواية ( فيكشن ) شيء وفي غيرها من كتابات ( نون فيكشن ) شيء آخر تماماً ، وان كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية،أو كتاب أو دراسة أو مقال .
مفتتح الرواية أمر حيوي ، وبالغ الأهمية ، ويجب ألا يضجر القاريء بالعبارات المأثورة المبتذلة ( الكليشيهات ) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أوالوصف الممل أوالأستطراد غير الضروري ، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو احدى الشخصيات الرئيسية فيها  وأن يكون مركزاً ، وقصيرا وواضحا ، وضرورياً في سياق الرواية ، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الأهتمام والفضول ، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للأختيار من بينها . الأستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الأنطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ. .
من الخطأ استهلال الرواية بمفتتح درامي من اجل جذب انتباه القاريء ، لأن القاري لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية ، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها اذا كان لا يعرف شيئا عن المواقف والشخصيات .
ليس المهم في الرواية المعاصرة ،أن يكون الأستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً ،أو فكرة جديدة أو حقيقة ما ، بل أن يكون قوياً ومثيرأ .  ومن العبث تصنيف الأستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة ، فلكل رواية استهلال خاص بها لا علاقة له بأي استهلال في أي رواية أخرى .
الأستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية ، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الأستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة . يقول غابريل غارسيا ماركيز: " المشكلة الرئيسية تكمن في البداية . الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص ، ونطاقه ، و نبرته ، وايقاعه ، واسلوبه . أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى .ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بأنسيابية وسهولة . في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية – تحدد الموضوع والأيقاع .  لقد يحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية " خريف البطريق " طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها ، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها . "
وكتب ايفان بونين ، يقول : " الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية . حقاً ان الجملة الأولى لها الدور الحسم ، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل . واذا لم تنجح في العثور على  الصوت الصحيح ، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات .
اما ليف تولستوي ، فقد بدأ روايته الشهيرة " آنّا كارينينا بالجملة التالية الشهيرة ، التي دخلت الى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم  : " كل الأسرالسعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها ". ثم أضاف " كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي " . وبعد كتابة هاتين الجملتين اسرع ليقول لأهل بيته : " لقد أنجزت الرواية " . حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية امام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق ، ما الذي سيحدث لاحقاً ، وكيف سيكتب الرواية ؟
الجملة الأولى المثالية ، ليست مجرد استهلال ، أو بوابة للولوج الى عالم الرواية ، بل يرسم العمل اجمالاً ، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة .  وكما قال وليم بليك "أن نرى العالم في حبة رمل". السطر الأول في رواية فرانز كافكا " التحول " التي  ترجمت الى العربية تحت عنوان " المسخ " يحتوي على مجمل مضمونها : ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة ، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول الى حشرة عملاقة ." يمكننا أن نرى في هذا الأستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف .
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القاريء في سياق الرواية ، على سبيل المثال، " رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء " ، هذه هي الأشارة الوحيدة الى الجارة ،في رواية روسية حديثة  ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة . في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القاريء ، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن  يلتقي بها في النص ، ولو مرة واحدة . وكما قال أنطون تشيخوف : " لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، اذا لم تكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً "
لا ينبغي ان تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة اسباب منها ان القاريء لا يحب المواعظ وان الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية . ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل : ما العمل اذن !.
أحيانا يكون الأستهلال صورة حية يسهل تحويله الى لقطة سنمائية . صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية ، لذا فأن الأستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا الى المشاهد الأخرى . صورة تستخدم فيها الأضاءة والنبرة ، لنقل المزاج السائد في الرواية الى القاريء .
لكل استهلال صوته المنفرد . نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن ، والأستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة ، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير اسئلة . القاريء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو . اذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك ان تحقق هدفك ، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق ؟
لتقرأ هذا الأستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته " مائة عام من العزلة " التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين : " بعد سنوات طويلة ، وأمام فصيل الأعدام ، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ، عصر ذلك اليوم البعيد ، الذي اصطحبه فيه أبوه ، لكي يتعرف على الجليد " . " .
الأستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الأنفتاح . لماذا يواجه الكولونيل   حكما بالأعدام رميا بالرصاص ؟ وأين كان يعيش ، ومتى أخذ أبنه ليكتشف الجليد ؟
ماركيز يمسك بتلابيب القاريء من الجملة الأولي . لنقرأ معاً هذا الأستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة :" رحلة موفقة ، سيدي الرئيس : " جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزه المهجور ، متأملاً الوز ذي اللون المغبر ، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه ، وراح يفكر بالموت "
القاريء يسأل : من هو هذا الرجل ، ولماذا  يفكر بالموت ؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي الى ما ينتظر الرجل في ايامه التي أوشكت على النهاية .
قد يكون الأستهلال محاكاةً ساخرة ، كما في رواية " كبرياء وهوى " لجين أوستن ، "حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة "
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية " غاتسبي العظيم "  بالفقرة  التالية الموحية بما سيأتي:  " في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح  لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس" ..
قد يكون الأستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القاريء بنبرته وايقاعه . كما في رواية " لوليتا " لنابوكوف ، التي  تبدأ بالجملة التالية : " لوليتا ضؤ حياتي ، والنار المتوقدة في عروقي . لوليتا خطيئتي، وروحي . لو- لي- تا ، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق ، ليدق ثلاثاً فوق اللسان ، لو – لي – تا " . هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي .
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي ، فقد افتتح روايته " البلد الجميل " ( بالجملة التالية : " نود أغنيتي التي رحلت . نصف تفاحتي ، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي ، كلمتي التي اكررها مرارا. " وليس من الصعب للقاريء ان يلاحظ التطابق في الأيقاع بين "لوليتا" و"البلد الجميل" رغم اختلاف الكلمات .
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الأستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به .
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية " الحب في المنفى " بمقطع شاعري جميل ومركز ، وكأنه دعوة للقاريء للدخول الى عالم الرواية ، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف ، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير : " اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً ، كخوف الدنس بالمحارم . كانت صغيرة وجميلة ، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً . لم يطرأ على بالي الحب ، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن إشتهائي . لكنها قالت لي فيما بعد : كان يطل من عينيك " . وكما نرى فأن الخيال الممتع يسري خفيفا لطيفا في ثنايا الرواية منذ البداية ، بطريقة تثير حب الأستطلاع إثارة متصلة ، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القاريء وتغريه بمواصلة القراءة .
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة  أن ، الأستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة ،  وليس ثمة أي قواعد لكتابته . والواقع أن لكل رواية  جيدة استهلال خاص بها ، ينطبع فيى الذاكرة اذا كان قوياً ومؤثراً ،وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الأٍستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتا أطول مما يتصور .
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الأستهلال البارع ، بأستثناء البعض منهم وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي ، حيث لم اجد في معظم تلك الروايات أي استهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة ، فالرواية العراقية الحديثة ،غالبا ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة ، أوحقيقة معروفة ، او وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القاريء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً  وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن اقتناء الروايات العراقية وقراءتها ، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبيا  ًفي العراق  .
 


54
حيّوا معي هذه السيدة العظيمة

                                                             
جودت هوشيار
هذه السيدة إحدى أقوى المرشحات لنيل جائزة نوبل للسلام لعام 2016 ، وهي ليست ، لا سياسية بارزة ، ولا شخصية شهيرة ، ولا تشغل أي منصب حكومي ، بل إمرأة عجوز عمرها 85 عاما ، ولكنها عظيمة بكل المقاييس ، لأنها قررت أن تكرس حياتها لأنقاذ المهددين بالهلاك ، الذين لم تلتق بهم قط في حياتها ، ولكنها تحس أنهم أخوة لها في الأنسانية المعذبة ، أولئك الذين اجبروا على ترك أوطانهم والبحث عن بقعة آمنة في هذه الدنيا المضطربة .
اسم هذه السيدة (اميليا كامويزي) من جزيرة ( ليسبوس ) اليونانية ،وقد غادرت منزلها وتقيم منذ سنة تقريباً في خيمة على ساحل البحر . تستقبل اللاجئين القادمين من تركيا ، الذين استطاعوا الأفلات بشق الأنفس من بحر ايجة والوصول الى الجزيرة في حالة يرثى لها . تحتضنهم وتقدم لكل منهم بطانية وشطيرة من الجبن ، وتحرص على اعطاء الأطفال الرضع الحليب الدافيء .
 تحدثت ايميليا الى مندوب صحيفة ( لا ريبوبليكا) الأيطالية عن ذلك اليوم الذي وصلت فيه سيدة منهكة القوى مع طفلها الرضيع الى ساحل الجزيرة ، وهي مبتلّة مع طفلها من قمة رأسيهما الى أخمص القدمين . أخذت اميليا الطفل و اسرعت لجلب الملابس الناشفة . أخذ الطفل يبكي ، وعندها ركضت صديقتها ( ماريتسا ) لأحضار الحليب ، ولكن الطفل رفض شربه ، لأن الحليب كان ساخنا جداً . قامت اميليا بتبريد قنينة الحليب في مياه البحر ، وعندئذ شربه الطفل في لحظة واحدة .
 هل فكرت هاتان السيدتان  يوما انهما ستكونان مرشحتين لنيل جائزة نوبل للسلام . تقول اميليا لقد تصرفت كأنسان . عندما يصل أي قارب الى الشاطي – وهي تأتي بالمئات يوميا - ، أنت لا تسأل نفسك ، ان كان اللاجئون وأطفالهم لديهم وثائق صحيحة ، ولا من أين قدموا ، ولماذا ؟ . انك تفكر في أحفادك، الذين هم في العمر نفسه . وحتى لو بلغت الخامسة والثمانين من العمر ، وتتكيء على عصاة عند المشي ، فإنك تعمل ما في وسعك ، لكي تقدم المساعدة الى من هم بأمس الحاجة اليها .
وعن الأتفاقية الأخيرة بين الأتحاد الأوروبي وتركيا ، التي تهدف الى وضع حد لتدفق اللاجئين الى أوروبا ،  قالت اميليا : " انهم فقط نقلوا المشكلة من مكان الى آخر  . ينبغي وضع حد للحرب في سوريا . وعلى أوروبا أن تفتح الأبواب وليس غلقها بوجه اللاجئين  . أمي وأم ( ماريتسا ) سلكتا الطريق نفسه قبل مائة سنة تقريبا ، هاربتين ، من جحيم الإبادة الجماعية في مدينة أزمير الساحلية التركية ، ووصلتا الى هذه الجزيرة على قارب صيد خشبي محمل بالبشر فوق طاقته .
 ذات مرة،  قبل عدة أسابيع ، عندما غرق قارب محمل باللاجئين قرب الساحل ، قدر لأمرأة النجاة بأعجوبة ، وفور بلوغها الشاطيء وقعت في حضني . فكرت في أمي ، التي وصلت الى هذا الساحل قبل سنوات طوال . في تلك اللحظة خيل اليّ أنني أعانق أمي ."



55
من هو الكاتب الحقيقي ؟
جــودت هوشيار               
منذ أن كتب مؤلف مجهول ( ملحمة جلجامش )  في القرن الثامن عشر قبل الميلاد - وهي أقدم قصة كتبها الإنسان - وحتى شيوع الأنترنيت قبل حوالي عشرين عاماً ، كان كتّاب النثر الفني قلة نادرة من أصحاب المواهب ، والمعرفة الموسوعية ، والخيال الخصب ، والحس الجمالي ، والأفكار الجديرة بالقراءة والتأمل . والى عهد قريب كان مثل هؤلاء الكتاب في العالم العربي محل اعجاب واحترام المثقفين الذين يتابعون أعمالهم الجديدة بشغف . وقد قيل (القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ) . رغم ما في هذه المقولة من اجحاف بحق بيروت الرائدة دائما في مجالات الفكر والأدب والفن . أما بغداد فلم تعد تقرأ كثيرا هذه الأيام ،رغم تكاثر الكتّاب كالفطر بعد المطر ، بحيث بات من الصعوبة بمكان فرز الكتّاب الحقيقيين عن الأدعياء ، الذين لا أثر في كتاباتهم  لأي فكرأو ابداع . ولم يعد الجيل الجديد يهتم بالنتاجات الأبداعية الأصيلة فكراً وفناً ، فهو يبحث في الأنترنيت وفي المجلات الخفيفة المزوقة عن توافه المعارف ، وغرائب الحوادث ، وطرائف النوادر وهي كلها أشبه بـوجبات (الفاست فود ) لا تترك أثراً في النفس ولا حاصلاً في الذهن . ثمة سمات يتصف بها الكاتب الحقيقي من خصائص نفسية ومعايير فنية وجمالية وأخلاقية  يلتزم بها ، على خلاف الكاتب الأستهلاكي السطحي الذي لا يهمه سوى تسويق نفسه و( كتاباته ) كأي سلعة في السوق . والفروق بين الأثنين جذرية ،لعل أهمها ما يلي :
                      1 – دوافع الكتابة
الكاتب الحقيقي لا يكتب من اجل المال ، او المجد ، او الشهرة ، أو بدافع آيديولوجي معين ، بل لأنه مصاب بـ(مرض) الكتابة ، ويشتعل حماساً للتعبيرعما يختلج في ذاته ويشعر بضرورة ملحة في البوح للناس بما لم يكتبه أحد من قبل ، ولكونه قد التقى اناسا وتملكته احساسات ليس بوسعه ان لا يعبر عنها , هكذا تظهر للوجود النتاجات الأبداعية الممتعة.
سأل احدهم ليف تولستوي ذات مرة : كيف يستطيع الانسان ان يكتب بشكل جيد . فقدم له الكاتب نصيحتين ثمينتين :
اولا :  على الكاتب ان لا يكتب مطلقا عن موضوع غيرشائق بالنسبة اليه شخصيا. 
ثانيا : اذا اراد الكاتب ان يكتب عملا ابداعيا ما ولكن كان بوسعه ان لا يكتبه فمن الافضل ان يتخلى عن فكرته .

2 - الموهبة :
الموهبة الأدبية  وحدها ، أو الميل الى التعبير عن الأفكار والأحاسيس عن طريق الكتابة ،  غير كافية لخلق كاتب متمكن من أدواته ، الموهبة  قد تظهر في مجال الموسيقى والشعر في سن مبكرة ( موتسارت ، رامبو ، يسينين ). أما في القصة والرواية ، فأنها تحتاج الى الصقل والعمل الدؤوب لتنتج أثراً ذا قيمة
لو كانت الموهبة الفطرية وحدها كافية لكتب تولستوي " الحرب والسلام " و فلوبير " مدام بوفاري " و ستندال " الأحمر والأسود " في مقتبل العمر ، رغم ان هؤلاء الثلاثة يعدون من العباقرة الأفذاذ في فن الرواية .   تاريخ الأدب العالمي لا يقدم لنا مثلاً واحداً على ظهور رواية عظيمة لكاتب يافع . .
كان ميخائيل شولوخوف في الثالثة والعشرين من العمرفي عام 1928 حين نشر الجزء الأول من رواية " الدون الهاديء ". وقد شكك النقاد على الفور في ان يكون شولوخوف مؤلف هذه االرواية حقا ، لأن شابا يافعاً من أعماق الريف ، لم يشترك في الحرب الأهلية ، ولم يتلقى تعليما يعتد به ، ولا يمتلك الا القليل من  التجربة الحياتية لا يمكن أن يؤلف رواية طويلة وعظيمة كـ( الدون الهاديء ) ، وقد صدق حدسهم فقد تبين لاحقاً ، بعد البحث والتدقيق ، أن مخطوطة  الرواية تعود لضابط روسي قتل خلال الحرب الأهلية ، واستولى شولوخوف على المخطوطة واعاد كتابتها بخط يده . وقد سخر الكاتب الروسي سولجنيتسن الحائز على جائزة نوبل في الأداب لعام 1970 ، من شولوخوف قائلاً : " بالطبع فإن ميشا ( تصغير اسم ميخائيل ) ليس مؤلف  الدون الهاديء قطعاً ."
3 – العمل الشاق :
أن العباقرة لا يولدون ، بل يصبحون كذلك ، عن طريق العمل اليومي الدؤوب المثابر على مدى فترة طويلة من الزمن  والأصرار على تحقيق الأهداف .
لا نجد بين كبار الكتاب من أصبح معروفا بين ليلة وضحاها . كل الكتاب العظام كانوا في البداية  يجربون طاقاتهم وادباء غير معروفين ، وكانت نتاجاتهم رديئة ودون مستوى النشر وتطورت فطرتهم الأبداعية بالممارسة والتجريب وومحاولتهم التعلّم لأكتساب التقنيات والأدوات ، وادمان المزاولة وطول العلاج.  الذي لا يكتب يوميا – وان كان كاتبا جيدا - يجف قريحته وينضب تدفق افكاره وما يكتبه بين حين وآخر يكون غثاً .
ليست الكتابة ، هواية يمارسها الكاتب بين حين وآخر حسب المزاج ،ولا طريقة لتزجية الفراغ والتسلي ولا مهنة عادية كسائر المهن ، بل عمل شاق يلتهم حياة الكاتب وينهك قواه . فهو يعيش حياتين – حياة عادية كالآخرين ، وحياة ابداعية مرهقة تستنزف طاقاته وتختلف كثيراً عن حياة الناس العاديين .
الأدب يملأ حياة الكاتب وليس خلال الساعات التي يكتب فيها فقط . الأدب يزيح كل الأعمال الأخرى . ليكرس نفسه ووقته وطاقته للأدب .
الكاتب الحقيقي يراجع ما كتبه أكثر من مرة . فالكتابة عموما ، والفنون السردية خصوصاً  تتطلب ارادة قوية ، وأقوى الأرادات هي التي تنتج أفضل النصوص . قد يقول بعض الكتّاب انهم يكتبون بسهولة ويسر ، ويقصدون بذلك الكتابة السطحية الرائجة التي يقبل عليها من يريد الأستمتاع بالقصص الميلودرامية أو روايات الحب الخفيفة ، التي لن تصمد أمام الزمن.
سئل الكاتب الأميركي مارك توين : كيف تُكْتَبُ الكتب الرائجة ؟ 
- أوه ... !  أنه أمر جد بسيط . خذ قلما وورقة واكتب الأفكار التي ترد الى ذهنك . ولكن المهم في الأمر هو نوع الأفكار التي تكتبها .
الأفكار موجودة عند كل الناس ، ولكن ليس عند الكل القدرة على التعبير عن أي فكرة بوضوح وسلاسة وكثافة في جملة واحدة موجزة ، وكما قال تشيخوف فأن " الأيجاز صنو الموهبة . ".
الكاتب الحقيقي  من يجيد التعبير - الواضح والجميل في آن واحد عن افكاره وعواطفه  وعن زمانه ، ورؤيته للحياة والعالم ، ويمتلك حساسية مرهفة قادرة على تحويل الكلمات المألوفة الى كلمات يبعث على التفكير أو يلهب العاطفة والشعور.. 
4 – تقنيات الكتابة :
ليس للأدب – كأي فن آخر - قواعد محددة ولكن استيعاب تجارب الكتاب الكبار والتقنيات الفنية المستخدمة في نتاجاتهم ضرورية للكاتب – أي كاتب ، فالروائي او القاص الذي لم يدرس  التقنيات السردية من خلال تحليل الأعمال الأدبية الخالدة لكبار الكتاب ، كأنه يبدأ من الصفر . وكل كاتب حقيقي هو قاريء نهم ومتميز بالضرورة ،  لا يكتفي بقراءة النتاج الأدبي لمرة واحدة كأي قاريء عادي ، بل يعيد قراءته أكثر من مرة ليعرف : " كيف تمت صناعته ". واذا لم يكن عنده وقت للقراءة فلا يمكن أن يكون كاتبا .ً   
يقال بأن التقنيات الفنية يمكن تعلمها – الى حد ما - عن طريق التعليم أيضاً  وهذا يفسر انتشار الورش الأبداعية في أنحاء العالم التي يتحدث فيها كبار الروائيين عن تجاربهم ويقدمون النصح والأرشاد للمبتدئين في عالم الأدب . ولكني لا أعتقد بأن مثل هذه الورش يمكن أن تخلق كاتباً مبدعاً ، ما لم يتوافرعلى بذرة الموهبة وهوس الحكي . ثمة طريقة واحدة لتكون كاتبا جيدا ان تجلس وتكتب وتجرّب الى أن تكتب نصاً ذا قيمة فنية .
كان الروائي الأميركي الشهير سنكلير لويس (1885-1951) أول كاتب أميركي يحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1930 ، وقد دعي ذات مرة  ليحاضر أمام مجموعة من الطلاب حول حرفة الكاتب والمهارات الأدبية . وقف على رأس الصف وسأل: “كم من الموجودين هنا لديه رغبة جادة في أن يكون كاتباً؟” وارتفع أمامه أيادي الحاضرين المشهرة. وعندئذٍ تساءل لويس : “حسنٌ، لماذا لا تعودوا جميعاً إلى بيوتكم لتكتبوا؟” قالها ثم خرج من القاعة
الكاتب يتعلم من  محاولاته وتجاربه الشخصية في المقام الأول وممارسته الدؤوبة للكتابة يوما بعد يوم ، لأن ترك الكتابة لفترة طويلة يؤدي الى جفاف القريحة ونضوب الطاقة الأبداعية تدريجياً . . ان القاعدة الذهبية للنجاح تكمن في أن يطور الكاتب نفسه ويتعلم من انجازاته ومن أخطائه ايضاً ، لأن من المهم له أن يعرف أيضاً ، ما لا ينبغي كتابته ، وأن يعيد كتابة نتاجه المرة تلو المرة . من يصدق أن عبقرياً مثل تولستوي كان يعيد كتابة نتاجاته وتعديلها وتنقيحها عشرات المرات أحياناً .
يقول ايليا اهرنبورغ في محاضرة القاها في معهد الأدب العالمي في موسكو عام 1949 : " عندما انجز رواية ما اعيد النظر فيها : احذف واعدل وانقح وبالنتيجة يتقلص حجم الرواية الى أقل من نصف حجمها الأولي . ولا أنشرها الا بعد أن أكون راضياً عنها " . "
5 – العزلة :  
الحكمة تولد في الصمت والأفكار تتدفق والمخيلة تنشط في العزلة الأيجابية المنتجة ، ولهذا فأن سمة مهمة أخرى للكاتب الحقيقي – العزلة أو الأختلاء بالنفس . وبطبيعة الحال فإننا لا نقصد بذلك العزلة عن حياة المجتمع   ، بل الأبتعاد عن المشاغل اليومية وعدم هدر الوقت الثمين وايجاد الوقت الكافي للكتابة. وثمة قول لفرانز كافكا ورد في احدى رسائله  يقول فيها : " أن كل أعمالي هي نتاج الوحدة " . "  .
قد يقول البعض ان ثمة العائلة وزملاء العمل والأقارب ، والأنشطة الأجتماعية  . كل هذا يمكن ان يكون موجودا . العزلة الحقيقية التامة – هي في الداخل . انها احساس لا يفارق الكاتب أبداً وطوال حياته يتعلم كيف يستخدمها على نحو صائب وصحيح . يتعلم النظر الى الاشياء من زاويته الخاصة حيث يرى فيها ما لا يراه الآخرون .
  6 – الأسلوب والصوت :
لا يقتصر مفهوم الأسلوب على الطريقة التي يسلكها الكاتب للتعبير عن أفكاره وعواطفه ، ففي العمل الفني ، تؤدي الكلمة وظيفتان ، اولهما حمل معلومة معينة ، وثانيها التأثير الجمالي في القاريء من خلال الصور الفنية ، وكلما كانت الصور أكثر اشراقاً ، كان تأثيرها أعمق وأقوى .
الكاتب الجيد يمتلك أسلوبه الخاص وصوته المتميز ، ولا يقلد كاتبا آخر ، لأن لكل شخص تجربته ورؤيته للعالم .. على الكاتب أن يعتمد على تجربته الخاصة . كتب جون براين – مؤلف رواية غرفة على السطح: “إذا كان لصوتك أن يُسمع وسط آلاف الأصوات، وإذا كان لاسمك أن يعني شيئاً بين آلاف الأسماء، فسيكون السبب الوحيد هو أنك قدمتَ تجربتك الخاصة صادقاً . قال الشاعر الروسي سيرجي يسينين : " لا تقلد صوت الكروان بل غني بصوتك ولو كان أشبه بصوت الضفدعة " .
الكاتب الذي لا يتميز بأسلوبه وموضوعاته وافكاره ،لن يحظى بأعجاب القاريء واهتمامه ويطويه النسيان ان عاجلاً أم آجلاً .
.
 


56
عودة مدهشة للروائية الأميركية هاربر لي
جــودت هوشيار
     
عادت الكاتبة الأميركية ( هاربر لي ) الى الأضواء من جديد بعد مضي 55 عاماً على نشر روايتها الأولى " أن تقتل طائراً محاكيا " في عام 1960 ، واعتزالها في بلدة ( مونروفيل ) الصغيرة بولاية الاباما . ففي مساء يوم 14 تموز 2015 تدفق عشاق الأدب على متاجر الكتب في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من اجل إقتناء روايتها الثانية  " فلتعين لنفسك حارساً "  بعد الأعلان عن عرضها للبيع في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً . وفي الوقت نفسه عرضت في العديد من دول العالم ، الترجمات الألمانية والأسبانية والهولندية والدنماركية والنرويجية والسويدية والفنلندية والكورية للرواية الجديدة . وقالت دار النشر ( هاربر كولينز ) أن عدد نسخ الطبعة الأولى الأنجليزية قد بلغ مليوني نسخة ، ونفدت في فترة وجيزة . وتصدرت مبيعات الكتب في الولايات المتحدة لتصبح حدثاً أدبياً مشهوداً .
ومن اجل فهم سبب هذا الأقبال منقطع النظير على الرواية الجديدة " فلتعين لنفسك حارساً " لا بد من القاء بعض الضؤ على السيرة الحياتية والأبداعية للكاتبة ، والأهم من ذلك أن القاريء لن يفهم ولن يستطيع أن يقيًم الرواية الجديدة من دون قراءة الرواية الأولى . لأن أحداث الرواية الثانية تجري في الأمكنة نفسها ، كما ان معظم الشخصيات نعرفها من الرواية الأولى وان تغيرت حياتها في فترة زمنية لاحقة . أي اننا امام ( ثنائية روائية ) . والقاري الذي سبق له قراءة الجزء الأول من هذا العمل الأبداعي الكبير ، سيشعر بالصدمة حين يكتشف ان المحامي اتيكوس فينتش ،الذي تصدى للتمييز العنصري في الرواية الأولى سيبدو عنصرياً في الرواية الجديدة .
ولدت نيلي هاربر لى، فى28 نيسان 1926 ، في بلدة مونروفيل الصغيرة الجميلة في الجنوب الغربي من ولاية الاباما في عائلة بروتستانتية متدينة. وكانت الأبنة الصغرى للمحامي (اماسا كولمان لي والسيدة فرانسيس كانينجهام). كانت نيلي الأبنة الصغرى في عائلة لها اربعة اطفال ، ولد وثلاث بنات. عمل (اماسا كولمان لي ) فترة موظفا حكوميا ، ثم أصدر جريدة كان هو صاحبها ورئيس تحريرها قبل أن يتفرغ لممارسة مهنة المحاماة.
كانت نيلي في الخامسة من عمرها في عام 1931 عندما جرت في  بلدة سكوتسبورو ( ولاية الاباما) محاكمة تسعة شبان سود بتهمة إغتصاب امرأتين بيضاوتين ، ورغم التقرير الطبي الذي اثبت ان المرأتين لم تتعرضا الى الأغتصاب ، فأن المحكمة التي تشكلت من البيض حصراً ، حكمت على جميع المتهمين بالأعدام بإستثناء فتى قاصر كان في الثالثة عشر من العمر . وعلى مدى السنوات الست التالية نظرت محاكم الأستئناف في الطعون المقدمة ضد الحكم الأولي ، ونتيجة لذلك تم سحب معظم التهم والأفراج عن المتهمين ما عدا واحدا منهم . تركت هذه المحاكمة اثراً لا يمحى في نفس الصبية نيلي .
بعد أن أكملت دراستها في المدرسة الثانوية في مونروفيل التحقت بكلية هانتينجون للبنات في مونتغمري ، وكانت لمدة عام رئيسة تحرير مجلة فكاهية تصدرعن الجامعة . ثم درست الحقوق  في جامعة الاباما ولكنها تركت الدراسة ،  رغم أنها كانت طالبة واعية وناضجة التفكير . ثم قضت عدة أشهر في جامعة اكسفورد في انجلترا . لتعود بعدها  للأقامة في نيويورك والعمل كموظفة حجز في شركة طيران حتى نهاية الخمسينات، وكانت لديها شقة خاصة متواضعة في نيويورك .  وفي هذا الوقت نشرت عدة قصص قصيرة وكانت تسافر بين حين وآخرالى مونروفيل لتقضي بعض الوقت في منزل العائلة ، للأعتناء بوالدها المريض .
 وذلت يوم من شهر كانون الأول 1956 ، تلقت من صديقيها- مايكل براون ، ووليام براون -  مغلفا فيها صك بمبلغ يعادل اجمالي راتبها السنوي مع رسالة يقولان فيها : " لديك اجازة لمدة سنة كاملة ، تستطيعين خلالها أن تكتبي ما تشائين . عيد ميلاد سعيد " .
في هذا الوقت كان ابن بلدتها وصديق طفولتها ترومان كابوتي قد أصبح كاتباً معروفاً. وقال لها والدها ذات مرة : " لعلك تدركين أنه لا يمكن لبلدة صغيرة مثل مونروفيل أن تخرج كاتبين مشهورين في آن واحد . ولم تضيّع هاربر لي فرصة التفرغ لمدة سنة ، فقد كتبت خلالها روايتها الأولى " أن تقتل طائراً محاكياً " وتعالج فيها الكاتبة قضية الفصل العنصري التي عاصرتها في طفولتها ببلدتها (مونروفيل ) .أحدثت الرواية ضجة عند نشرها في عام 1960 ،أي في الوقت المطلوب تماماً ، عندما أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل للرأي العام الأميركي .. وهذا أمر نادر الحدوث بالنسبة لعمل أدبي .
 لقي الكتاب ترحيبا حاراً من ألمع نقاد الأدب ، وبقى 848 أسبوعاً على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وحازت هاربر لي في عام 1961 عن هذه الرواية على أعلى جائزة أدبية في أميركا وهي جائزة ( بوليتزر).
في العام التالي( 1962 ) حقق الفيلم المقتبس من الرواية نجاحاً مذهلاً . وبعد عرض الفيلم هرع حشد من الشبان للألتحاق بكليات الحقوق في الجامعات الأميركية ، فقد أرادوا أن يصبحوا بعد التخرج على غرار الرجل الشهم والنبيل المحامي أتيكوس فينتش ( بطل الفيلم ) . وأصبح اسم أتيكوس النادر شائعاً في أميركا منذ ذلك الحين . وفاز الفيلم بثلاث جوائز أوسكار بضمنها جائزة أفضل ممثل حصل عليها غريغوري بيك عن دوره في القيلم حيث جسد فيه شخصية المحامي أتيكوس فينتش .ويعد هذا الفيلم واحداً من أعظم الأفلام في تأريخ السينما . كما احتل غريغوري بيك  – عن دوره في تجسيد شخصية اتيكوس فينتش - الموقع الأول في اللائحة التي اعدها معهد السينما الأميركي عن أفضل الممثلين الذين قاموا بأدوار البطولة في السينما الأميركية .
وقد صرحت هاربر لي  في عام 1964  ، بأنها لم تكن تتوقع لروايتها النجاح ، قائلة: "كنت آمل لها موتاً سريعاً ورحيماً على يد النقاد، لكن فى الوقت ذاته تمنيت أن تعجب شخصًا ما، بشكل كاف حتى يشجعنى، تمنيت القليل ونلت الكثير جداً، وبشكل ما كان هذا مرعباً ، مثل ذلك الموت السريع والرحيم الذى توقعت .
 ما الذي يميز هذه الرواية الرائعة ، التي يتوهم البعض أنها رواية للأطفال ، لأننا نرى فيها عالمنا بعيون الأطفال . وهي ليست رواية سيرة ذاتية ، بل أنها تصوّربعمق وبأسوب أدبي جميل محاكمة فتى زنجي بريء متهم بإغتصاب إمرأة بيضاء. وتروي أحدى مآسي الفصل العنصري في ولاية الاباما . وكانت للرواية تأثير هائل في الرأي العام الأميركي واصبحت اداة في النضال ضد شتى أشكال التمييز العنصري،وما زالت تحظى منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا بمقروئية عالية في كل أنحاء العالم . .
المجتمع الأميركي في الثلاثينات من القرن الماضي كان يقسم الناس الى بيض وسود أي الى أخيار وأشرار ، ولكن محاكمة توم روبنسون التي نراها في الرواية بعيون الأطفال - وخاصة الطفلة جان لويز -  شكلت نقطة تحول في النظر الى قضية التمييز العنصري .رؤية الأطفال لسير المحاكمة ، تعكس بجلاء موقف المؤلفة من هذه القضية . كان الجميع على قناعة تامة ، ان الدفاع عن الفتى الأسود توم روبنسون قضية خاسرة مسبقاً . وكان بطل الرواية ، المحامي ( اتيكوس فينتش ) يعرف هذا . ولكنه مع ذلك صمم على القيام بواجبه الأخلاقي والدفاع عن العدالة بدفاعه عن توم ، ورد الأعتبار اليه . قتل توم بينما كان يحاول الفرار . ولكن الفكرة التي نراها مجسدة في الرواية هي أن الناس عموماً أخيار وإن كان بينهم قلة نادرة من الأشرار . وهذه الفكرة هي التي تسبغ على كلمات أتيكوس قوة مؤثرة : " الشجاعة – هي ان تعلم مسبقاً إنك ستخسر، ومع ذلك تصمم على أداء واجبك حتى النهاية .لأن النصر ممكن أحياناً ، رغم أن ذلك يحدث نادرا "
ًيعبر إسم الرواية " أن تقتل طائراً محاكياً " عن فكرتها الرئيسية . الطائر المحاكي – على درجة من الوَداعة لا مثيل لها ، لا ينقر الثمار في الحديقة ، ولا يبني عشاً على شجرة ، وهو غريد متميّز بقدرته البارعة على محاكاة أصوات الطيور الأخرى ، وادخال السرور الى قلب الأنسان بغنائه الشجي ، لذا فإن قتل هذا الطائر الفريد  – خطيئة. أتيكوس فينتش حاول إنقاذ حياة الطائر المحاكي – توم روبنسون البريء ، والدفاع عن حقه في الحياة وعن كرامته ، والتصدي للكراهية والتمييز بين البشر ، والدعوة الى المحبة والعدالة.
الرواية حركت الرأي العام الأميركي " للوقوف بوجه كل أشكال التفرقة العنصرية . وصدرت في طبعات جديدة متلاحقة بين فترة وأخرى . وما زالت منذ ذلك الحين تلقى رواجاً عظيماً في شتى بلدان العالم ، حيث بيع منها منذ صدورها لأول مرة وحتى الآن حوالي ثلاثين مليون نسخة . وحسب استبيان أجرته مجلة ( المكتبة ) الأميركية بين القراء تبين أن " أن تقتل طائراً محاكياً " هي أفضل رواية في القرن العشرين " .
نالت هاربرلي شهرة غير متوقعة وصاخبة الى درجة أنها هربت منها الى بلدتها الأم مونروفيل في ولاية الاباما .، والتي وصفتها بشكل رائع في روايتها ، حيث عاشت فيها معظم حياتها .
وكان الناس يعتقدون أنها توفيت منذ زمن طويل ولكن كاتب سيرتها الذاتية تشارلز شيلدز قال في مقابلة صحفية عام 2006 أنها على قيد الحياة ,وتشارك بنشاط في الأعمال الخيرية لكنها ترفض لقاء الصحفيين , ولا تشارك في الحياة العامة ولم تجر أي مقابلة صحفية منذ عام 1965 . وطوال أكثر من نصف قرن لم تكتب هاربر أي اعمال ابداعية جديدة ، ما عدا بعض المقالات في اوائل الستينات . ولهذا فوجيء الجميع بالأعلان عن ظهور رواية ثانية لها تحت عنوان " فلتعين لنفسك حارساً ". ويرى معظم النقاد انها ليست رواية جديدة تماماً ، لأنها كتبت في عام 1957 . وهي على الأرجح مسودة الرواية الأولى. ولكن من يقرأ الرواية الجديدة بامعان سيكتشف أنها جزء مكمل لرواية " أن تقتل طائراً محاكياً ".
في الفصل الأول من " فلتعين لنفسك حارساً "  نرى جان لويز  شابة تبلغ من العمر 26 عاماً – تصل بالقطار  الى مسقط رأسها مدينة ( ميكومب ) ، من اجل التأثير في والدها – اتيكوس فينتش ، الذي يرفض أن يتقاعد  على الرغم من تقدمه في السن . صديقها هنري كلينتون – شاب يسعى لخطبتها -  يستقبلها في محطة القطار. "عانقها بقوة بين ذراعيه المفتولتين ووضعها امامه . أخذ يقبلها في البداية في شفتيها ، ثم بلطف في خذها . قالت جان لويز وهي تحاول إغاظته ، انها لا تمانع أن يكون صديقاً لها ، ولكنها لا توافق على الأقتران به . كانت تحبه تقريباً . " كلا هذا غير ممكن – فكرت بينها وبين نفسها – أنتِ إما مغرمة به أو غير مغرمة . الحب – الشيء الوحيد الواضح في هذا العالم . بالطبع هناك أنواع مختلفة من الحب ، ولكن مهما كان شكله . فان الحب اما ان يكون أو لا يكون " .
هنري كلينتون احدى الشخصيات الجديدة في " فلتعين لنفسك حارساً "  ، في حين اختفت من الرواية  بعض الشخصيات الأخرى . فعلى سبيل المثال (جيم) ، شقيق جان لويز ، وهوً احد الأبطال في رواية " أن تقتل طائراً محاكياً " مات مبكرا في الرواية الجديدة  ، ومع ذلك فأن أقوى صدمة للقراء هي التغيير الذي جرى في شخصية البطل الرئيسي في الروايتين ( اتيكوس فينتش )البالغ من العمر 72عاماً ، الذي أحبه القراء في الرواية الأولى ، لأنه كان انساناً مبدئياً ومثالياّ ، يؤمن ايماناً راسخاً بالعدل والأنصاف . أما في الرواية الثانية" فلتعين لنفسك حارساً " فأنه يبدوعنصرياً . فهو يقول مثلاً " الزنوج  المحليون كشعب ما زالوا في مرحلة الطفولة ". أو أنه يسأل ابنته : " هل أنتِ على استعداد لقبولهم في عالمك ". وجان لويز العائدة من نيويورك الى الجنوب تجد ان وجهات نظر والدها وصديقها هنري كلينتون حول مشكلة العنصرية تختلف اختلافا كبيرا عن وجهة نظرها .
" فلتعين لنفسك حارساً " عنوان مقتبس من أحد نصوص الكتاب المقدس ، بمعنى " أن كل انسان هو حارس ضميره ، ولا يوجد أي ضمير جمعي " وهذا ما قاله احد أبطال الرواية ( جيم ) لجان لويز . والذي يلخص معنى الرواية تماماً .
وقد نشرت صحيفة ( نيويورك تايمز) الأميركية الفصل الأول من الرواية الثانية . وحسب الحجوزات المسبقة في شركة ( امازون ) تصدرت  " فلتعين لنفسك حارساً "  مبيعات الكتب . وفي بلدتها الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 5300 نسمة فان متجر الكتب فيها تلقى طلبات لحجز 7000 نسخة منها. ولأول مرة منذ سنوات طويلة أجرت هاربر لي لقاءا صحفيا وسمحت بتصويرها وتلقي التهاني.
في عام 2007 اصيبت هاربر لي يجلطة في الدماغ ، وشقيقتها الكبرى اليسا التي كانت تديرشؤونها توفيت في نهاية عام 2014عن عمر  ناهز 103 سنة، بعدها لم تتواصل هاربر لي مع العالم الخارجي . واعلنت بلدية مونروفيل عن وفاتها في 19 شباط 2016. رحلت الروائية التي اسرت قلوب الملايين من قراء رائعتها " أن تقتل طائراً محاكياً ".  وما يزال الجدل محتدما في الأوساط الأدبية في أميركا وأوروبا واليابان ودول أخرى حول الرواية الثانية . هل هي مسودة الرواية الأولى ، أم تكملة لها ، ولماذا  دب الخلاف بينها وبين صديقها وابن بلدتها الكاتب ترومان كابوتي بعد فوزها بجائزة ( بوليتزر ) في عام 1961 .  وماذا يقول القراء العاديون في انحاء العالم  عن الرواية الثانية . هذه مسائل يضيق عنها المجال هنا ، وقد نعود اليها في مقال قادم .
 


57
مناورة بوتين الذكية
                                                               
جــودت هوشيار
       
           يدرك الرئيس السوري بشار الأسد أن بقاءه في السلطة رهن بالدعم الذي تقدمه له روسيا ، ولكن هذا الدعم هولحماية المصالح الروسية وليس الحفاظ على نظام الأسد . قرار بوتين المفاجيء في الثلاثين من أيلول الماضي بالتدخل العسكري في سوريا أدى الى تغيير ميزان القوى لصالح الأسد ، حيث سيطرت قواته على عدة مناطق ستراتيجية في البلاد ، واضعف الى حد كبير ، قوات المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة. ولكن لماذا قرر بوتين وعلى نحو مفاجيء أيضاً الأنسحاب من سورياً ؟
أن الأنسحاب الروسي محدود ، فقد سحبت موسكو جزءاً من الطائرات القاصفة والمروحيات ولكنها أبقت على قواعدها العسكرية ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة وعلى الطائرات ، متعدد المهام ، التي يمكن استخدامها في أي وقت لضرب الأهداف الأرضية ، على غرار ما يفعله ( التحالف الدولي ) في استخدام الطائرات المماثلة ،. وكل هذا قوة عسكرية كبيرة ، يجري استخدامها لحد الآن ولكن في نطاق أضيق . وتستطيع موسكو العودة الى سوريا في أي وقت تشاء .
أن انتصار الأسد على المعارضة بشكل كامل لا يصب في مصلحة روسيا على الأطلاق . فقد كان هدف روسيا من وراء تدخلها العسكري هو انقاذ الأسد من السقوط الوشيك ، واتاحة الفرصة له لتعزيز موقفه والأنتقال من الدفاع الى الهجوم المضاد ، ولكن ليس الى درجة يمكنه فيها استعادة السيطرة على البلاد بأسرها . روسيا مهتمة بالأبقاء على الوضع غير المستقر في سوريا ، مما يتيح لها لعب الدور الحاسم فيها بوسائل قليلة وبدون الألتزام بشيء . لو انتصر الأسد انتصارا حاسماً لأدى ذلك الى اضعاف الدور الروسي في سوريا خصوصاً والمنطقة عموماً ، ولأسهم هذا الأنتصار في تعزيز الدور الأيراني . ويمكن مقارنة هذا الموقف ، بقضية البرنامج النووي الأيراني . عندما كانت المفاوضات مستمرة ، بين ايران والغرب كانت روسيا لاعباً مهماً لجميع الأطراف . كان بوسع روسيا عرقلة المفاوضات أو الأسهام في نجاحها . ولكن عندما تم التوصل الى الأتفاق النووي بين الطرفين ، لم يعد أي منهما بحاجة الى روسيا ، ولم تعد بلدان الشرق الأوسط تحسب لها حساباً . التدخل العسكري في سوريا منحت روسيا أداة ضغط قوية قادرة على التأثير في سير الأحداث في سوريا والمنطقة .
التدخل الروسي أدى كذلك الى تعزيزموقف الكرد في سوريا ، حيث سيطروا على مناطق جديدة وهم اليوم طرف مهم في المعادلة العسكرية والسياسية في البلاد ، ولا توجد في سوريا قوة بأمكانها القضاء على ما حققوه من مكاسب على الأرض ، أما تركيا المعزولة حالياً فإنها لن تغامر بتدخل عسكري واسع في سوريا للقضاء على الكيان الكردي فيها ، خاصة بعد التغييرات العاصفة التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة وأدت عملياً الى إنهاء معاهدة سايكس – بيكو ، التي لم يعد لها وجود الا على الورق. .
السلطة السورية تخدع نفسها عندما تعتبر الكيان الكردي جزءاً من سوريا ، كما تفعل حكومة بغداد عندما تعلن ان أقليم كردستان العراق ما يزال خاضعاً لها وجزءاً من الدولة العراقية .
كرد سوريا لا يشاركون في مفاوضات جنيف ، ولكن لا يمكن لهذه ا لمفاوضات ان تنجح من دونهم ، خاصة أن ثمة اتفاق سري بين موسكو وواشنطن ، ينص على انسحاب جزئي للقوات الروسية من سوريا والتخفيف من حدة التوتر فيها عن طريق وقف اطلاق النار مقابل تقديم الأميركان ضمانات للأسد بالبقاء في السلطة مؤقتاً مع مواصلة الضغط عليه لأنجاح المفاوضات وأجراء انتخابات حرة بعد عدة أشهر. القرار الروسي جاء للضغط على الأسد لتليين موقفه وهو ما جرى فعلاً . كما شجع الأتفاق المذكور كرد سوريا على اعلان النظام الفدرالي في مناطقهم. أما رفض الفصائل السورية المعارضة لهذا الأعلان فلا قيمة له على أرض الواقع لأن العملاقين هما اللذان يحددان اليوم وغداً مستقبل سوريا والمنطقة عموماً . وهذه الفصائل التي تدين بالولاء للدول الراعية لها وتغيّر ولاءاتها بين حين وآخر ، لن يكون لها صوت مسموع خارج اطار التفاهم بين العملاقين الأميركي والروسي.

58
ترومان كابوتي ... العبقري الذي جنى على نفسه

جودت هوشيار

يقال أن ثمة كاتبان فقط يعرفهما الشارع الأميركي وهما  ارنست همنجواي ، وترومان كابوتي . واذا كان معظم نتاجات همنجواي قد ترجم الى اللغة العربية ، فأن نتاجات كابوتي ، لم تحظ بالأهتمام ذاته في العالم العربي ، رغم حضوره الدائم في المشهد الثقافي العالمي بعد أكثر من ثلاثة عقود على وفاته ، وصدور مئات الطبعات الجديدة من أعماله الأدبية ،، و كتب عن سيرته الحياتية والأبداعية والعديد من الأفلام السينمائية المستوحاة من رواياته " افطار في تيفاني " و" بدم بارد " وغيرهما ، والتي فاز بعضها بجائزة الأوسكار.وكابوتي هو الكاتب المؤسس الحقيقي لجنس أدبي جديد يعرف بـ" الرواية غير الخيالية"
ولد كابوتي في نيو اورليانز العام  1924 . وكان في الرابعة من عمره عند طلاق والديه ، وارسلته امه الى خالته (  ناني فولك ) في مونوروفيل ( ولاية الاباما ) . انتقلت فولك بصحبة الصبي الى نيويورك في عام 1931 ،ثم تزوجت رجل الأعمال الكوبي ( جوزيف غارسيا كابوتي ) الذي تبنى ترومان . .
تعلم كابوتي الكتابة في سن مبكرة ، ومنذ الثامنة من عمره بدأ بكتابة القصص القصيرة ، وفي الحادية عشرة من عمره ، كان يكتب من ست الى تسع ساعات يوميا . وقد تم في الآونة الأخيرة العثور على عدة كراريس مكتوبة بخطه في أرشيف (مكتبة نيويورك) تتضمن أقاصيص كتبها في سنوات المراهقة . وقالت صحيفة " نيويورك تايمس " أن هذه المسودات التي تحفل بتصحيحات على الهوامش ، تبدو مثيرة للدهشة ، لأننا نرى فيها عبقريا صغيراً يعمل ، وتكشف عن موهبتة المبكرة ورؤيته للعالم .
التحق ترومان بكلية "ترينيتي " ولكنه ترك الدراسة عندما كان في السابعة عشرة قائلاً : " أن الدراسة في هذه الكلية مضيعة للوقت ولم اتعلم فيها شيئا . والتحق للعمل كموظف بسيط في صحيفة (النيو يوركر).
كان العام 1945 سعيدا في حياة كابوتي ،فقد نشر عدة أقاصيص ، وتنبأ له النقاد بمستقبل واعد . وتعرف على الكاتبة الموهوبة ( كارسون ماكّاليرس ( 1917-1967) مؤلفة رواية " القلب – صياد وحيد " الصادرة عام 1940 ، و توثقت العلاقة بينهما ، فقد رأت كارسون في كابوتي روحاً قريبة من روحها واسلوب كتابتها ( التهكم ، السخرية ، أجواء القلق ، والشعور بالوحدة ) . واطلق النقاد على هذا الأتجاه الأدبي اسم " القوطية الجنوبية " ،حيث تتسم نتاجاتهما بخلفية جنوب البلاد.
وفي اكتوبر 1945 وقع كابوتي عقدا مع دار نشر كبرى هي " راندوم هاوس " لنشر روايته الأولى " اصوات أخرى ، غرف أخرى " ، وفي ربيع العام 1946 فاز بجائزة ( أو. هنري ) ، ورحل الى مدينة الكتّاب " يادو " للتفرغ لكتابة الرواية .ونشرت مجلة " لايف " في العام 1947 مقالاً عن الكتّاب الشباب في الولايات المتحدة الأميركية تصدرته صورة لكابوتي شغلت ثلثي الصفحة . وتحت الصورة النص التالي " ترومان كابوتي ابن (نيو اورليانز) يكتب قصصا لا تنسى" .
نشرت رواية " اصوات أخرى ، غرف أخرى " في خريف العام ذاته . والرواية حكاية صبي يبحث عن والده فيجد نفسه . وبعد سنوات من نشر هذه الرواية قال عنها كابوتي " أنها كانت محاولة عفوية ولا واعية لطرد الشياطين ، ولم أكن أدرك ان هذه الرواية – بأستثناء الوصف وبعض الحوادث – شبيهة بسيرتي الذاتية . وعندما أعيد قراءتها الآن أجدها خداعا للنفس لا يغتفر . "
تحدث النقاد عن الكتاب الأول لـ"الكاتب الأمريكي الأشهر." وقالوا عن الرواية انها (مثلية) وحداثوية منحطة ، وشبهوا كابوتي بفولكنر ، وأوسكار وايلد ، وادغار بو . وتصدرت الرواية قائمة أكثر الكتب رواجاً لمدة تسعة أسابيع ، حسب لائحة صحيفة ( نيويورك تايمز ). وكانت لها أصداء واسعة وأخذت رسائل القراء من كل أنحاء البلاد تنهال على المؤلف . وخصصت ( نيويورك تايمز) حقلا تحت عنوان " زاوية كابوتي " تنشر فيها آخر أخبار الكاتب الشاب مرة في الأسبوع .واذا لم تكن ثمة أية أخبار كانت الجريدة تقول : " كابوتي : لا شيء جديد عنه هذا الأسبوع ."
وكانت صورة كابوتي على الغلاف الأول للكتاب هي الأكثر إثارة للإعجاب: فتى وسيم ، وأنيق ، جالس على أريكة فكتورية الطراز ، ونظرته تعطي انطباعاً عن رجل عليم بكل شيء . وقد سمع المصور هارولد هالم - الذي التقط الصورة -  محادثة دارت بين سيدتين كانتا تتطلعان الى صورة كابوتي في واجهة متجر للكتب . قالت الأولى : " أقول لكِ أنه فتى يافع " . فردت الثانية : " وأنا أقول اذا لم يكن يافعاً فأنه خطر"
كان  ( اندي وارهول ) في العشرين من العمر ويعيش في (بيتسبرغ). وعندما رأى هذه الصورة تملكته رغبة عارمة في رؤية صاحبها والتعرف عليه ، وانهالت رسائله على كابوتي ، ثم جاء الى نيويورك ورابط عند باب منزل كابوتي ليلقي عليه نظرة عند خروجه. وفي نهاية المطاف أصبحا صديقين . كان وارهول رساما وقد أقام معرضه الفني الأول على قاعة " هيوج غاليري " في نيويورك في حزيران – تموز 1952 . وعرض فيه 15 لوحة فنية مستوحاة من قصص ترومان كابوتي .
شهرة كابوتي سبقته الى أوروربا ، التي زارها لمتابعة الأصدارات الجديدة من : "أصوات أخرى ... غرف أخرى " في فرنسا وانجلترا . وأجرت المجلات والصحف الفرنسية مقابلات معه ، وأصبح معروفا في الشارع الفرنسي ، حيث كان الناس يتعرفون عليه عندما كان يتجول في شوارع باريس .
كتب كابوتي ذات مرة : " كنت دائما اريد أن أكون كاتباً مشهوراً وثرياً " . وعندما التحق بكلية خاصة ، كان يكره الطلبة الأغنياء لأنهم لم يكونوا " ذوي أذواق جيدة " وكان معجباً بالأشخاص العصاميين الذين نجحوا في الحياة .  وكل من عرف كابوتي شخصيا يقول أنه كانت لديه قابلية مدهشة في كسب الأصدقاء من أول نظرة ، وفي أول لقاء . واستغل هذه القابلية في كسب قلوب النساء الشهيرات في المجتمع النيويوركي المخملي  . كلهن كن جميلات ، وثريات ، يلبسن وفق آخر صرعات الموضة . بينهن مارلين مونرو والزابيث تايلور.
في كانون الأول 1965 سافر كابوتي الى الأتحاد السوفييتي مندوباً عن النيويوركر لتغطية فعاليات فرقة فنية أميركية زائرة . وقد اصدر كابوتي في العام التالي كتابا عن زيارته تحت عنوان " الألهام يسمع " وهو كتاب يتصف بالسخرية المرحة والوصف البديع . وكان هذا تجربته الأولى في كتابة الرواية غير الخيالية . رفض ان يكتب تحقيقا صحفيا تقليديا وتعامل مع مادة الكتاب وفق تقنيات الفن الروائي . وبذلك سبق روّاد الصحافة الجديدة في استخدام التقنيات الفنية في الصحافة . وقال عن هذا الكتاب لاحقاً : " الألهام يسمع" وجه أفكاري في اتجاه آخر .اردت أن أكتب رواية صحفية ، واصنع شيئا هائلاً يتسم بقوة الحقيقة المقنعة ، وبتأثير مباشر ، مثل أي فيلم جيد، أو نثر حر ومعمق ، ودقيق كالشعر ."
 ولكن لم يكن الوقت قد حان لمثل هذه الرواية ، ذلك لأنه كان يعمل في كتابة روايته المشهورة " إفطار في تيفاني " (1958) . بطلة الرواية – هولي غولايتلي فتاة غريبة أخرى ، كان كابوتي يهوى الكتابة عنها وعن  فتيات يشبهن الأولاد . اللواتي من الصعب التخلص منهن ، وإن كان من السهل فقدانهن . كانت هولي تأمل أن تتناول وجبة إفطار في تيفاني يوما ما . وتيفاني اسم  ورد في نكتة تقول –  إن بحاراً لم يكن على دراية بالماركات الحديثة ، وسمع بأسم تيفاني ، وظن أنه اسم مطعم فاخر ،  وتملكته رغبة في تناول وجبة افطار في هذا المطعم ، ولم يكن يعلم أنه ( تيفاني ) هو اسم مخزن مجوهرات .. بعد صدور الرواية قال نورمان ميلر ان ترومان كابوتي أفضل كاتب في جيلنا . "
في العام 1961 أنتجت هوليود فيلما بالعنوان ذاته . وكان كابوتي يرغب في قيام صديقته مارلين مونرو بدور البطولة فيه ولكن المخرج اختار أودري هيبورن . وجرى ادخال تعديلات كثيرة على الرواية . فعلى سبيل المثال البطل في الرواية كاتب ناشيء يعامل هولي بلطف ، ولم يرتبط بها ، اما في الفيلم فقد توجت علاقتهما بالزواج . ولقي الفيلم نجاخاً مذهلاً .
ولكن الشهرة المدوية لكابوتي في أميركا ومن ثم في العالم بأسره ، جاءت مع نشر روايته " بدم بارد " ولم تكن هذه الرواية العظيمة ستظهر ، لولا المصادفة المحض ،ففي عام 1959 قرأ كابوتي خبراً عن جريمة قتل عائلة من المزارعين في كانساس ،. في البداية اقترح كابوتي على صحيفة الـ(نيويوركر) ، أن يقوم بكتابة ساسلة مقالات عن هذه الحادثة المروعة . وبعد سفره الى بلدة هولكومب التي وقعت فيها الجريمة ، استولت عليه فكرة تأليف رواية عنها ، وقضى ست سنوات ، يحقق في هذه الجريمة الوحشية - التي كانت بلا معنى ، حيث لم يجد القتلة في المنزل أي مال ولم يسرقوا شيئاً – ويحلل كابوتي الظروف الأجتماعية والخلفية السيكولوجية التي دفعت القاتلين ديك هيكوك وبيري سمث الى اقتراف ما اقترفا . وأحدث نشر الرواية في العام 1965 ضجة كبرى ، وظلت لعدة أسابيع حديث الأوساط الثقافية والرأي العام الأميركي ، وسرعان ما تم تحويلها الى فيلم سينمائي في هوليود . وبلغت حصة كابوتي من ارباح الكتاب والفيلم معاً حوالي ستة ملايين دولار . ولقيت الرواية اهتماما مكثفا من النقاد ومن وسائل الأعلام . وقيل أنها رواية رائعة . وتوجه كتّاب كثر لتقليد كابوتي في صنيعه ومنهم نورمان ميلر .
قرر كابوتي الأحتفال بهذا النجاح الكبير على طريقته ، وأقام حفلاً هائلاً على شرف صاحبة صحيفة (واشنطن بوست ) كيت غراهام – أقوى إمرأة في الولايات المتحدة الأميركية – في 28 تشرين الثاني العام 1966 في فندق ( بلازا هوتيل) ،  ودعى الى الحفل (500) شخصية بارزة من وجوه المجتمع الأميركي. وكان الفنان الأميركي الشهير ملك ( البوب – آرت )  أندي وارهول ( 1928-1987) من ضمن المدعوين في حينه. وقال لاحقاً : "  عندما وصلت الى : بلازا "  اصبت بدهشة عظيمة . لم أر في حياتي مثل هذا العدد الكبير من المشاهير. أعتقد ان هذا كان أكبرتجمع للمشاهير في تأريخ العالم . "
وعلى العموم فأن هذه الأيام الذهبية لم تستمر طويلاً ، ذلك لأن كابوتي لم يكن سعيداً في حياته الخاصة قط , وسرعان ما انغمس في نمط العيش البوهيمي ، وأدمن الكحول والمخدرات والحبوب المنومة  . ومع ذلك كان يتهيأ لتفجير قنبلة أدبية أخرى – رواية " الدعوات المستجابة" ، وتعاقد مع دار نشر " راندوم هاوس " على نشر الكتاب عند اكتمال تأليفه . وباع الى هوليود حقوق تحويله الى فيلم سينمائي . ولكن العمل لم يكن يسير كما خطط له . وتأجل الموعد النهائي  لأكمال الرواية عدة مرات . وخلال عامي 1975-1976 نشر عدة فصول من الرواية في مجلة " اسكواير " . وكان الراوي أو سارد القصة ، جونز طفلاً يتيما ومن ثم كاتباً منحلاً ، شبيها بالمؤلف نفسه . أما الشخصيات النسائية في الرواية ، فقد كان من السهل التعرف عليهن، رغم تغيير أسمائهن ، فقد كن من نجوم هوليود أو صديقات المؤلف من سيدات المجتمع المخملي . وقد كشفت الرواية غسيلهن واسرارهن الشخصية على الملأ .
يقول كابوتي " ان أبطال الرواية هم أشخاص حقيقيون ، ولم أخترع أياً منهم . ولم تكتب كرواية عادية ، حيث تقدم الحقائق على أنها متخيلة ، بل أن نيتي كانت - على النقيض من ذلك -  نزع الأقنعة ، وليس صنعها ." نزع كابوتي الأقنعة عن الوجوه حقاً ، ولكن دفع ثمناً غالياً لذلك . انتحرت زوجة محافظ  ، وأدار الآخرون ظهورهم له . ونشرت مجلة " نيويورك " كاريكاتيراً على غلافها يصور كابوتي على هيئة كلب يعض يد سيدة مجتمع . والنص المصاحب يقول : " كابوتي يعض اليد التي تطعمه"
كان كابوتي أيضاً غاضباً: "يخيل اليهم أنني أعيش وفق قيمهم . أنا لم أعش هكذا أبداً . " ويبكي عندما يشرب ويقول نادماً : " لم أقصد الأساءة الى أي أحد ." . ولم يكمل كابوتي كتابة هذه الرواية أبداً ، فقد كان من الصعب عليه التركيز على عمله الأبداعي.
في عام 1979 قرر كابوتي بدأ حياة جديدة ، لا تعكرها اللهو الفاضح والأدمان ، وأصدر كتاب " موسيقى الحرباء "  الذي يتألف من بورتريهات لشخصيات أجرى معها حوارات من بينها مارلين مونرو ، وحوار مع نفسه يعلن فيه :" أنا مدمن كحول ومخدرات ، أنا عبقري " ، وقصة وثائقية تحت عنوان " نعوش محلية الصنع " . " موسيقى للحرباء " ظلت لمدة 16 اسبوعا على رأس قائمة الكتب الأكثر رواجاً ، وهذا حدث نادر بالنسبة لىكتاب خليط من القصص القصيرة والذكريات والتحقيقات .
في أوائل العام 1980 تحسنت صحته وفكر في مشاريع جديدة ولكنه لم يستطع أن يترك شرب الكحول وشم المخدرات ، رغم أنه كان يكرر دائماً أنها مضرة . دخل المصح عدة مرات وكان فيما مضى ، يبقى صاحيا بعد خروجه  لمدة عدة أشهر ، أما في سنواته الأخيرة فلم تكن صحوته تدوم لأكثر من يوم أو يومين ليعود بعدها الى تدمير نفسه . وكان يخيل اليه أن ثمة أشباحا تلاحقه في كل مكان في نيويورك. وقرر الأختباء في لوس انجلوس في منزل جوان كارسون حيث توفي في 25 أغسطس العام 1984 من التليف الكبدي ، ليتحول بعدها الى اسطورة دائمة الحضور في المشهد الثقافي في العالم ، حيث يعود الى الأضواء في كل مرة ينشر فيها شيء من نتاجاته غير المنشورة  أو مذكرات الآخرين عنه ، أوالكتب الجديدة عن سيرة حياته .
 


59
المنبر الحر / الصحافة الجديدة
« في: 21:20 17/02/2016  »
الصحافة الجديدة

                                                     
جــودت هوشيار

في أوائل الستينات من القرن الفائت توصل عدد من الصحفيين الشباب في الولايات المتحدة الأميركية  -خلال عملهم كمراسين ميدانيين لعدد من الصحف والمجلات الأميركية  الشهيرة التي تخاطب النخب المثقفة - الى إكتشاف مهم مفاده أن المقال أو التحقيق الصحفي - الذي ينطلق من الواقع -  ينبغي أن يصاغ على نحو يمكن قراءته مثل قصة مشوقة. وأنه يمكن في الصحافة وفي النثر غير الفني ( نون فيكشن ) استخدام  كل التقنيات الروائية وبضمنها الوصف ، والحوار، وتيار الوعي ، وتطبيق هذه التقنيات في وقت واحد ، أوالواحدة تلو الأخرى ، مما يضفي على النص جاذبية تثير إهتمام القاريء وتدفعه الى التفكير.
 
لم تكن تجارب هؤلاء الصحفيين تقليداً لفن الرواية ، بل محاولة للتعبير عن الظواهر الجديدة في المجتمع الأميركي على نحو صادق وجذاب يترك اثرا عميقا في نفس القاريء ، وبذلك اتسعت الحدود التقليدية للصحافة والنثر الفني ( الرواية، والقصة ) في آن واحد . وعرف هذا الأتجاه الجديد بـ( الصحافة الجديدة ) وأعقب هذا الأكتشاف المثير ظهور جنس أدبي جديد اطلق عليه اسم ( الرواية غير الخيالية  - نون فيكشن نوفيل ) وهي بصفة عامة ، تصور شخصيات حقيقية وأحداث واقعية من الحياة ، باستخدام تقنيات السرد القصصي . وهوجنس مرن ،يقع على تخوم الصحافة والأدب أو بتعبير أدق يمزج بينهما . .ويطلق عليه أحياناً الأسم الدارج ( فاكشن ) من الكلمتين الأنجليزيتين (فاكت - حقيقة أو واقعة) و ( فيكشن – رواية أوخيال) .
 
لم يتعمد روّاد الصحافة الجديدة استعارة التقنيات الروائية عن قصد ، بل اكتشفوا هذه التقنيات بتلقائية عند محاولتهم تناول القضايا الساخنة وجعل المادة الصحفية صادقة الى أقصى حد ممكن ومثيرة ، برسم صورة حية لما يحدث في الواقع ومنح القاريء شعورا بالأندماج فيه بكل أحاسيسه.
ازدهرت الصحافة الجديدة بين عامي (1962(- 1973 ) أي في العقد الصاخب الذي حدثت فيه تغييرات عميقة في المجتمع الأميركي ، تجلت في تطور نمط الحياة ومظاهره الجديدة . كان ذلك زمن الأحتجاجات والتظاهرات الحاشدة  ضد الحرب في فيتنام ، وزمن الثورات ( الطلابية ،والجنسية ، والعرقية) ، وحركة اليساريين الجدد ، وظاهرة الهيبز ، أو بأختصار زمن الثقافة المضادة.
(الصحفيون الجدد) الذين تبنوا الأتجاه الجديد لم يكونوا يكتبون مقالاتهم وتحقيقاتهم الصحفية من وحي الخيال ولا يستقون المعلومات من هذا المصدر أو ذاك ، بل كانوا يكتبون ما عايشوه في مواقع الأحداث ، بعضهم سافر الى الفيتنام ليس مراسلا صحفيا عاديا ، بل مشاركا بجبهات القتال والبعض الآخر عمل في في هذه المهنة أو تلك ، أوانخرط في مجموعة معينة  من اجل دراستها من الداخل مثل ( الهيبز ، أو تجار المخدرات.. الخ )  ،ومثل هذه الحالات  كثيرة للغاية . أى أن الصحفي الجديد كان مشاركاً فعالاً في ( القصة ) التي يكتبها أو شاهدا عليها في الأقل .,
 لم يكن الكاتب والصحفي الأميركي الشهير (توم وولف – ولد عام 1931 ) أول من أطلق مصطلح ( الصحافة الجديدة ) على هذا الأسلوب الصحفي  المثير للجدل  - كما يعتقد البعض - ، فهو يقول أنه قرأ في عام 1962 في مجلة ( اسكواير ) مقالا للكاتب (هاي تاليس) تحت عنوان " جو لويس – ملك في عنفوان الشباب "  يختلف تماماً عن المقالات الأخرى في اسلوب صياغته وكان أشبه بسرد قصصي  من حيث احتوائه على مشاهد عاطفية وحوارات حميمة بين رجل وزوجته في المطار. ويضيف وولف : " اذا غيّرنا هذا المقال قليلا ستكون لدينا قصة قصيرة متكاملة الأركان ". كان انطباع (وولف) الأول ان المقال غريب ، والحوار متصنع ، وحتى المَشاهد يمكن ان لا تكون لها اي علاقة بالواقع ، وان الكاتب لا يعرف كيف يكتب مقالاً جيداً ! .وكان هذا رأي عدد من الكتاب والصحفيين أيضاً . لأن الصحافة وفن السرد القصصي - في رأيهم - على طرفي نقيض .
ثم كتب( جيمي بريسلين ) في عموده الصحفي انطباعاته عن حادثة كان شاهدا عليها- بأسلوب قصصي ، ولم يكن حظه أفضل من حظ سلفه . ويعلق وولف على ذلك قائلاً : " ان النظرة التقليدية الى الفن كالنظرة الى الدين أو إلى  شيء مقدس . والروائي الفنان ، صاحب المعجزات المقدسة هو الذي يأتيه الألهام مثل ومضة خاطفة تنير ذهنه فيبدع عملا فنيا ..هكذا كان يعمل عمالقة الرواية في العالم .اما الصحافة فلا شأن لها بالألهام ولا بالعبقرية ". ولكن رغم هذه النظرة التفليدية ومحاولات النيل من الأسلوب الصحفي الجديد ، فأنه حقق نجاحا باهراً بين القراء وحرك المياه الراكدة في الصحافة الأميركية " .
 وتتابعت المقالات والتحقيقات الصحفية وفق الأسلوب الجديد الممتع وأخذ هذا الأتجاه الصحفي يترسخ وينتزع الأعتراف حتى من المعارضين له في بداية ظهوره . وفي الفترة ذاتها ظهرت روايات وثائقية  ذات قيمة فنية عاليه ، لعدد من الروائيين الأميركيين المشهورين ، منها رائعة ترومان كابوتي " بدم بارد " الصادرة في عام 1965  ورواية نورمان ميلر " جيوش الظلام " في عام  1967.
 أنطولوجيا الصحافة الجديدة :
 في عام 1973  نشر (توم وولف ) كتاباً  تحت عنوان (أنطولوجيا  الصحافة الجديدة) ، يتضمن دراسة تؤرخ لهذه الأتجاه الطليعي في الصحافة الأميركية ، ومقتطفات  من روايات ( نون فيكشن ) - أختارها بالتعاون مع زميله ( أ . جونسون ) لعدد من الروائيين الأميركيين المعروفين ( كابوتي ، هانتر تومبسون ، نورمان ميلر ، هاي تاليزي ، جون ديديون ) وغيرهم .
يقول وولف في دراسته : " ان الرواية الأميركية في الستينات وصلت الى طريق مسدود لأن الكتّاب أداروا ظهورهم للواقعية الأجتماعية , وانغمسوا في الفرويدية ، والسوريالية ، والكافكاوية ، وفي عالم الأساطير .بدلاً من أن يكتبوا على غرار زولا وديكينس وثاكري، وبلزاك ".
ويضيف قائلاً : " تخلى الروائيون عن الحياة الاميركية الجديدة ، ولم يبق امام الصحفيين الا  أن يملأوا الفراغ باستخدام تقنيات الرواية الواقعية الأجتماعية ، واصبح واضحا ان الصحفين امتلكوا ناصية تقنيات الكتابة بمستوى الروائيين القديرين . والصحافة الجديدة كانت تلبي متطلبات العصر واكثر امتاعا للقاريء ".
 ويشرح وولف في دراسته التقنيات الأربع الفعالة  التي اكتشفها هو وزملاؤه الرواد، وهي حسب أهميتها:
1 – تسلسل المشاهد : تنظيم النص الصحفي  بشكل متسلسل والأنتقال من مشهد الى آخر من دون فواصل استطرادية.
2 – الحوار : تمكن رواد الصحافة الجديدة أن يكونوا مشاركين أو في الأقل  شهودا مباشرين على هذا الحدث أو ذاك في حياة شخوصهم وكتابة حواراتهم كاملة . الصحفيون ، كما الروائيون في بداية حياتهم الأدبية اكتشفوا عن طريق التجربة والخطأ ،  أن الحوارات الواقعية غير المنقحة التي لا تخلو من كلمات عامية وأصوات مثل ( آه ، أوه )  تجتذب القاريء بشكل أقوى بكثير من اي مونولوجات وهي تصور الشخوص على نحو اكمل واسرع من اي وصف .
كان بوسع ديكينس أن يصوّر البطل على نحو يخيل للقاريء أنه يراه شاخصاً امامه ، رغم أن هذا الوصف لم يكن يتعدى ، جملتين أو ثلاث  ، والجزء الأكبر من تشكيل صورة البطل كان عن طريق الحوار) . اما عند الصحفيين الجدد فأن الحوار كان طبيعياً للغاية وصريحة ، في حين أن الروائيين كانوا يحاولون جعلها غامضة ومبطنة . .
3 – وجهة النظر : عرض الحدث أو الأحداث من وجهة نظر الشخص الثالث (هو). وكل مشهد يقدم من وجهة نظر احدى الشخصيات التي بوسع القاريء بسهولة ان يضع نفسه مكانها . وبفضل هذا يشعر  كأنه يرى بعينيه ما يحدث . ولكن الضمير (هو) لا يستطيع النفاذ الى دواخل الشخصيات.
 الصحفيون الجدد كتبوا أيضاً بالضمير الأول ( أنا )  الذي يعد أكثر الضمائر قدرة على الكشف عن مكنونات الذات – كما في السير الذاتية والمذكرات وبعض الروايات .ولكن احيانا كانت تظهر مواقف حرجة  نتيجة لأستخدام الضمير الأول .  كان على القاريء أن ينظر الى ما يجري بعيون الراوي أي الصحفي نفسه – ولكن مثل زاوية النظر هذه كانت تبدو غير مناسبة وغير مقبولة . كيف استطاع الصحفي كاتب النص غير الخيالي ان يتغلغل بكل هذا العمق في افكار شخص آخر ؟ . الجواب بسيط ، حسب رأي وولف : ينبغي معرفة الدوافع التي تحركهم ، وبماذا يفكرون عن طريق توجيه الأسئلة الى الشخص بحيث يتسنى معرفة أفكاره وشعوره واشياء اخرى .
4 –تفاصيل الحالة : ويتلخص في وصف ما يميز الشخص من إيماءات وحركات وعادات وطبائع ، واسلوبه في الحياة ، وعلاقاته في العائلة وفي محل العمل ، وآرائه ومعتقداته وغير ذلك مما يميزه عن  الآخرين . النص الزاخر بهذه التفصيلات ليس من اجل غاية جمالية ، بل لأنها تعطي للواقعية قوة مثل التقنيات الأخرى . وهذا يفسر قدرة بلزاك على خلق الشعور بمشاركة القاريء في ما يجري . قاريء روايات بلزاك يشعر بالقرب الشديد من الشخوص. لماذا ؟ لأن  بلزاك كان يستخدم هذا الأسلوب مراراً وتكراراً . ففي روايات بلزاك الناضجة كل تفصيل يدل على الشخصية ، مما يجعل القاريء يفكر بوضعه ومكانته في المجتمع وتطلعاته وطموحاته ومخاوفه وانجازاته واخفاقاته . هكذا يستولى بلزاك على اهتمام القاريء .
والميزة الأساسية للشكل الصحفي الجديد – حسب وولف – أن القاريء يعلم ان ما يتحدث عنه الصحفي قد حدث فعلاً في الواقع ، وان هذا ليس ثمرة خيال الكاتب .
الصحافة الجديدة في الميزان :
ان معظم النصوص التي اشتملت عليها " أنطولوجيا الصحافة الجديدة " ممتعة حقاً ( نتاجات ترومان كابوتي ونورمان  ميلر وهانتر تومبسون ) . ولكن لا يمكن القول أنها مكتوبة وفق التقنيات أوالقواعد الأربع التي تحدث عنها (وولف ) في دراسته ، وبضمنها نصوص (وولف) نفسه .
 صحيح أن وولف يؤكد أنه لا توجد أية قواعد مقدسة للصحافة الجديدة ، ولكن ثمة بون واضح بين النتاجات المنشورة في الأنطولوجيا وبين القواعدالمذكورة. والغريب أن وولف سمح لنفسه في  الملاحظات التي كتبها في ( الأنطولوجيا )  حول نصوص كل من كابوتي وميلر ،أن  يوجه لهما نصائح حول كيفية كتابة قصة ناجحة ! رغم أن هذين الكاتبين العملاقين كانا ، يتصدران الصف الأول من الروائيين الأميركيين في النصف الثاني من القرن العشرين . ويقال بأن وولف كان متأثراً برواية كابوتي الوثائقية " بدم بارد " سواء خلال عمله في الصحافة أو بعد اتجاهه لكتابة روايات من هذا النوع . ثم أن الكثير من الكتاب الذين ساهموا في الأنطولوجيا لم يعتبروا أنفسهم من الصحفيين الجدد ، ولم يكن العمل الصحفي بالنسبة الى كابوتي أوميلر عملاً اساسيا بل نشاطا جانبيا ، فهما روائيان قبل أن يكونا صحفيين. يقال أحياناً ان اسلوب الصحافة الجديدة لا يصلح للموضوعات السياسية والأقتصادية ، والعكس هو الصحيح ، لأن العديد من الصحفيين الجدد كتبوا نصوصا واقعية بأسلوب أدبي حول الحرب في الفيتنام وعما يحدث في عالم البزنس .
خلال العقود اللاحقة تخطت الصحافة الجديدة حدود الولايات المتحدة الميركية وأخذت تنتشر في الصحافة الأوروبية وفي صحافة العديد من بلدان العالم  . ويطلق على (الصحافة الجديدة ) أحياناً في ايامنا هذه اسم ( الصحافة السردية ) أي صحافة التحقيقات والنصوص الوثائقية الطويلة نسبياً ، المصاغة باسلوب أدبي ذي وضوح وجمال  والتي تنشر في العادة في المجلات التي تخاطب المثقفين . وثمة مجلة روسية اسمها ( ستوري – القصة ) متخصصة في هذا المجال .  ورغم ظهور الأنترنيت والصحافة الرقمية  - التي تنشر النصوص القصيرة الواضحة بعيدا عن التقنيات الأدبية - الا أن الصحافة الجديدة أو السردية تشهد في أيامنا هذه ازدهاراً ، مما يدل على ان هذا الأسلوب أو النمط الصحفي ، لم تكن ظاهرة عابرة أو نزوة لعدد من الصحفيين ، بل اثراء للصحافة الجادة والأدب الواقعي في آن واحد .


60
أشهر الأخطاء المطبعية في تأريخ الصحافة العالمية
جــودت هوشيار

الأخطاء المطبعية قديمة قدم الطباعة نفسها ، وهي طريفة في معظم الأحيان وتدخل المرح الى نفوس القراء  بتغيير الكلمات واعطائها معاني جريئة وجديدة . ففي عام 1648 نشر البروفيسور ( فلافيني ) اطروحة لاهوتية ، ورد فيها نص مقتبس من إنجيل متى: "وأنت ترى القذى في عين أخيك، ولا تشعر بالخشبة التي في عينك " . كانت الجملة منقولة نصاً باللغة اللاتينية . ولكن كلمة ( العين ) ocular تحولت بعد الطباعة الى كلمة كلمة culo التي لا تعني العين على الأطلاق في اللغة الأيطالية ، بل هي قريبة من الكلمة اللاتينية culus بمعنى العجيزة . ولم ينقذ فلافيني سوى الأعتذار العلني الذي أقسم فيه بأغلظ الأيمان ، أنه لم يحاول قط تحريف نص مقدس. وظل البروفيسور يلعن منضد الحروف حتى وهو على فراش الموت .
ولكن أخطاء الطباعة في الكتب مهما كانت غريبة وشنيعة وتحرج المؤلف ، وقد ينتابه الغضب أو الأمتعاض ، ولكنها تكون أحياناً ، مصدر مرح وترفيه للقراء ، اذا كانت المعاني الجديدة طريفة ومسلية ، ولكن مع ذلك  يظل تأثيرها محدوداً بالقياس الى الأخطاء المطبعية ، التي رافقت الصحف الأوروبية منذ ظهورها في القرن السابع عشر.ولم تختف حتى اليوم ،بعد إستخدام مكائن الطباعة الرقمية والكومبيوتر في العمل الصحفي.. ويمكن القول أنه لا توجد صحيفة ، مهما كانت شهيرة ويعمل فيها صحفيون أكفاء ، بمنجى عن الأخطاء المطبعية التي تحدث في العادة ، من جراء الأندفاع في العمل من اجل صدور الصحيفة في موعدها المقرر . وغالبا ما تحدث هذه الأخطاء نتيجة  تبديل أو حذف احد الحروف في كلمة ما ويؤدي الى افساد المعنى أو تغييره .
أخطاء الطباعة في الصحف والمجلات ،  شديدة التنوع ، متباينة التأثير ، والكثير منها أخطاء طريفة مثيرة للضحك أكثر من أي نكتة يمكن أن يتخيلها انسان ، وأخرى مزعجة أو مؤلمة لصاحب الشأن ، وبعضها يؤدي الى تداعيات ، قد تكون وخيمة ، خاصة اذا حدث عند تغطية أخبار أحد الملوك أوالرؤساء أو سياسي متنفذ. في الفقرات اللاحقة عينات مختارة من الأخطاء المطبعية الشهيرة التي وقعت فيها كبريات الصحف الغربية  والروسية .
في نهاية عام 1880 نشرت احدى الصحف الألمانية مقالاً سياسياً يتحدث عن سعي الأمير أوتو فون بسمارك للحفاظ على علاقات جيدة مع كل القوى المؤثرة . ولكن كلمة  (Machten) التي تعني القوى المؤثرة بالألمانية تم تبديلها خطأً بكلمة (Madchen)  التي تعني فتاة شابة أومراهِقة . أي أن السياسي العجوز الذي كان قد تجاوز السبعين عاما يسعى للحفاظ على علاقت جيدة مع كل المراهقات .
في الفترة ذاتها نشرت احدى الصحف الفرنسية  خبرا عن الحالة الصحية لسياسي فرنسي شهير - ، تقول فيه : " تحسنت الحالة الصحية للسياسي السيد (N) وانفتحت شهيته للأكل ونأمل أن تكون الرعاية التي يلقاها فخر دولتنا كفيلة باستعادة صحته وقوته " . ولكن بدلا من كلمة الرعاية (soin) طبعت كلمة (foin ) التي تعني ( القش ) باللغة الفرنسية . أي ان صحة السيد (N) تحسنت بضل تناوله القش في فترة النقاهة .
ولعل أشهر وأطرف خطأ مطبعي في تأريخ الصحافة هو ما حصل في نهاية القرن التاسع عشر ، عندما نشرت احدى الصحف الفرنسية اعلاناً عاديا عن تأجير مزرعة ، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان ، بعد أن حل حرف (f)  محل حرف (r) في كلمة المزرعة (ferme ) وبذلك تحولت الى ( femme) التي تعني ( المرأة ) باللغة الفرنسية ، واكتسب الأعلان معنى جديداً تماماً بصيغته الجديدة  " إمرأة جميلة للأيجار أو البيع ،عند التعامل معها بشكل صحيح خصبة للغاية "
(«Belle femme a vendre ou a louer; tres productive si on la cultive bien»)
وقد ورد ذكر هذا الخطأ المطبعي في كل طبعات موسوعة لاروس (Larousse) الفرنسية الشهيرة .
وفي الفترة نفسها كتبت جريدة ال(تايمز) اللندنية الشهيرة مقالاً عن الميول الدينية لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك غلادستون تقول فيه أنه يؤمن ايماناً راسخاً بالمذهب الأنجليكاني (anglican)  .ولكن يبدو أن ذهن المنضد كان مشغولاً فطبع كلمة أفغاني ( afghan) بدلاً من كلمة ( anglican) ولم يفهم أحد من القراء ما هو هذا المذهب الأفغاني !.   
في عام 1940  كان الرأي العام الأميركي قلقاً على صحة الرئيس روزفلت ، ونشرت صحيفة ( الواشنطن بوست ) الأميركية خبراً على صدر صفحتها الأولى وبمانشيت كبير تقول فيه أن ( فرانكلين ديلانو روزفلت  في الفراش بسبب نزلة برد ) مع اختصار اسم الرئس : FDR IN BED WITH COLD. ، ولكن ما ظهر على الصفحة كان شيئاً مختلفاً تماما : FDR IN BED WITH COED   ( الرئيس في الفراش مع طالبة ) . ويقال أن الخبر كان مسلياً للرئيس روزفلت الذي اتصل بأدارة الجريدة طالباً ارسال مائة نسخة من الجريدة لغرض توزيعها على أصدقاءه . ولكن الرئيس لم يحصل ولا على نسخة واحدة ، فقد بادر مكتب التوزيع في الجريدة الى شراء كافة نسخ هذه الطبعة واتلافها ، وصدرت الجريدة في اليوم ذاته بطبعة جديدة بعد تصحيح عنوان الخبر بطبيعة الحال .
أكثر الأخطاء المطبعية خطورة على رؤساء التحرير ، تلك التي تمس الملوك والأباطرة ورؤساء الدول ، وهي بطبيعة الحال أخطاء عفوية غير متعمدة ، ومن أطرف وأخطر هذه الأخطاء ، ما حدث في أوائل القرن العشرين .- وهي السنوات الأكثر ليبرالية في تأريخ روسيا -  عندما نشرت صحيفة ( كيفسكايا ميسل) خبرأ عن زيارة الأمبراطورة الأرملة ماريا فيودوروفنا ( والدة الأمبراطور ) الى فنلندا ، في صدر صفحتها الأولى و تحت عنوان " مكوث الأمبراطورة الأرملة ماريا فيودوروفنا في فنلندا "ولكن حدث خطأ في كلمة (prebivaniya– الروسية وتعني مكوث) حيث حل حرف (o) محل حرف ( r) فتحولت كلمة مكوث الى كلمة (مُجامَعَةُ ) مما أثار الضحك في بعض الصالونات الأرستقراطية، وتم جمع ما تبقى من النسخ من الأسواق وصدرت الجريدة في اليوم التالي وفيها اعتذار شديد من العائلة المالكة ) .
كان الخطأ فظيعا ، وتم تقديم رئيس التحرير الى المحاكمة بتهمة إهانة العائلة المالكة . ولكن القصر الأمبراطوري الروسي أدرك بسرعة أن عرض القضية على المحكمة سيجعل هذا الخطأ على كل لسان وتلحق ضررا معنوياً فادحا بالأمبراطورة الأم ، لذا تم التكتم على الخطأ ، وصرف النظر عن المحاكمة . وكان ذلك عين العقل ومر الأمر بسلام ، ولم يتحول الى فضيحة مكشوفة تلوكه الألسن ، بفضل حكمة العائلة المالكة .
واذا كانت الأمبراطورة الأم لم يلحق بها أذى يذكر ، فأن شارل لويس بونابارت (إبن شقيق نابليون بونابارت )  اضطر أن يتعايش مع الخطأ المطبعي الذي لصق به طوال حياته .
 فقد اعتلى عرش فرنسا في عام 1852 ، بعد عودة الملكية الى فرنسا واتخذ اسم عمه الشهير ،  كوريث لسلالة نابليون . وفي الأيام التي سبقت حفل التتويج ، عملت المطابع الفرنسية بأقصى طاقاتها من اجل طباعة آلاف المناشير لأعلام المواطنين الفرنسيين بيوم تتويج ملك جديد على فرنسا . كان عنوان المنشور بالبنط الكبير " يحيا نابليون !!! " ولكن منضد الحروف – اليدوية في ذلك الوقت - لم يفهم   الخطوط العامودية المتجاورة الثلاث (!!!) ، وهي علامات التعجب وطبع بدلاً منها رقم واحد بالأرقام الرومانية  ثلاث مرات (I I I) .
في يوم التتويج جلس على العرش من عرفته فرنسا بأسرها بأسم نابليون الثالث ، رغم أنه لم يكن ثمة نابليون الثاني في التأريخ الفرنسي .
وقد حاول  البعض تبرير هذه التسمية بالقول ان لويس بونابرت اقترح أن يطلق عليه اسم بونابرت الثالث احتراما لذكرى ابن نابليون الذي كان يمكن من الناحية النظرية أن يحمل اسم نابليون الثاني لو امتد به العمر واسترد عرش والده ، ولكن المؤرخين لم يصدقوا هذا الزعم ، لأن الحقيقة لا تخفى .
ستالين وأخطاء الطباعة "
كل الصحف في الأتحاد السوفيتي كانت تنطق بأسم الحكومة أو الحزب أو المنظمات والأتحادات الخاضعة لهما ، ولم تكن هناك  صحيفة مستقلة واحدة . وكان جهاز المخابرات السوفيتي في عهد ستالين لا يتسامح مع أبسط خطأ مطبعي في المطبوعات الدورية وخاصة تلك التي لها علاقة بستالين. كان ثمة تعميم رسمي موجه لرجال الأمن بضرورة أن يكونوا في أقصى درجات اليقظة في النضال ضد العدو الطبقي الذي يحاول التسلل الى الصحافة ونشر الدعاية المعادية للسلطة السوفيتية تحت ستارالأخطاء المطبعية .
 ففي منتصف الثلاثينات من القرن الفائت نشرت جريدة ( ازفيستيا ) السوفيتية خبراً عن استقبال ستالين للسفير البولوني ، وقالت أن اللقاء كان ناجحاً . ولكن حدث خطأ عند طباعة كلمة السفير (росол ) بالروسية ، حيث سقط الحرف الأول وتحولت الكلمة الى (  осол) أي ( الحمار ) .
ولكن عندما قدّم رئيس جهاز الرقابة على المطبوعات تقريره عن الحادث الى ستالين ، إنزعج الأخير بعض الشيء ، وقال : "  لا تعاقبوا كادر الصحيفة لأنها قالت الحقيقة . فالسفير يستحق هذا الوصف فعلاً " .
واذا كان ستالين قد سمح لتحويل سفير الى حمار ، الا أنه لم يكن يتسامح مع أقل خطأ في طباعة اسمه ، مهما كان هذا الخطأ بسيطاً . ففي ذات مرة ورد اسم ستالين في صحيفة اقليمية بصيغة ( ستادين ) ، وكان جزاء العاملين في الصحيفة الفصل الجماعي . وفي حالة أخرى طبعت احدى الصحف المركزية  اسم ستالين بصيغة ( سالين ) فحكم على رئيس التحرير بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة . 
ولكن أفدح خطأ في اسم القائد الملهم أرتكبته صحيفة تنطق بأسم منظمة الحزب في مقاطعة ( ماخاجكالينسكايا ) حيث جاء اسم ستالين بصيغة ( سرالين ) وهي كلمة بذيئة في اللغة الروسية العامية .
وأود أن اختم هذا المقال بعيداً عن كل ما يذكرنا بجوزيف فيساريونوفيتش جوغاشفيلي الذي عرف بأسمه المستعار ( ستالين ) .
في أواخر القرن التاسع عشر تسلل عدد من طلبة جامعة اوكسفورد الى مطبعة محلية تطبع كراساً عن حفلات الزواج . وكانت اللائحة تتضمن سؤالاً تقليدياً يوجهه الكاهن الى العروسين عند عقد قرانهما ، وهذا السؤال لم يتغير حتى يومنا هذا : هل يلتزم كلاكما بأن يحب ويحترم الآخر ما دمتما على قيد الحياة ؟ so long as you both shall live
 وقام الطلبة بتبديل حرف (v) في كلمة (live) بحرف (k)  فتغير معنى السؤال تماماً وأصبح كالآتي : (so long as you both shall like (  أي ما دام كل واحد منكما يحب الآخر .وكانت فضيحة سجلتها كتب التأريخ اللاهوتي .


61
مكتبـة  سربستي .. صفحة مشرقة من تاريخ أربيل الثقافي

جــودت هوشيار        
 
متاجر الكتب ، أو المكتبات  ليست محلات تجارية وحسب ،بل  تلعب ايضاً دوراً تنويريا مهماً بتوفيرها الكتب والمطبوعات الأخرى ، التي تعد المصدر الأساسي للمعرفة والثقافة .وكلما زرت بلدا جديدا  احرص أن أجول داخل متاجر الكتب فيها .والتي تشغل أحياناً بنايات كبيرة ، وبعضها متعددة الطوابق ، وذات تصاميم وديكورات فنية رائعة ، تحوي عشرات الألوف من العناوين ، المرتبة حسب الحقول المعرفية ،  وبعضها يحتوى على مطعم أو مقهي ، وفيها مقاعد وأرائك للجلوس وتصفح الكتب من قبل الزبائن قبل اقتنائها ، وقد جهزت هذه المكتبات في الآونة الأخيرة باجهزة رقمية ، تستطيع من خلالها البحث عن الكتاب المنشود، فتحصل على نتيجة البحث على الفور . فأن كان الكتاب موجوداً ، ترى على الشاشة خريطة المكتبة والقسم ورقم الرف الذي يوجد فيه الكتاب المطلوب . وثمة مكتبات لا تقل أبهة وان كان اصغر حجما ومتخصصة في حقل معين من حقول المعرفة ( الطب ، الهندسة ، العلوم الصرفة ، الفن ... الخ ) .
اجواء هذه المكتبات رائعة ، حيث عبير الكتب الفواح وشذى أصص الورد العبقِ ، وتشعر فيها بعظمة العقل الأنساني وأنت تمشي بين رفوف الكتب وتتطلع اليها بحثأ عما يروق لك .
 وقد ظهرت في الآونة الأخيرة في البلدان المتقدمة ما يسمى بالتسوق الألكتروني ، حيث توجد الكثير من المكتبات الألكترونية التي تستطيع من خلالها شراء الكتاب - أي كتاب – لتصلك بعد بضع ساعات أو أقل اذا كنت في المدينة ذاتها  . ربما سأنسى  يوماً ما ، أسماء هذه المكتبات – الحقيقية منها والأفتراضية -   ولكني لن أنسى ما حييت إسم مكتبة " سربستي " ، العزيزة على قلبي وروحي ، أتذكرها كلما مددت يدي الى احد رفوف الكتب في مكتبتي المنزلية ، لأتناول كتاباً قديما وثمينا اقتنيته من هذه المكتبة الصغيرة مساحةً ، والكبيرة دوراً وتأثيراً في الحركة الثقافية في اربيل خلال خمسينات القرن الماضي ، أقول الخمسينات ، لأن ما سأتحدث عنه في الفقرات اللاحقة يرجع الى الفترة بين عامي (1954-1959 ) حيث سافرت في أواخر عام 1959 الى الخارج في بعثة دراسية ، وأنقطعت أخبار المكتبة عني .
  كانت مكتبة " سربستي " لصاحبها الطيب الذكر ، رؤوف معروف  لا تزيد مساحتها على عدة أمتار مربعة ، ولكنها كانت مركز الأشعاع الفكري والثقافي في مدينتنا العريقة أربيل ، خلال أواخر العهد الملكي وأوائل عهد ثورة 14 تموز . " سربستي " فتحت لنا بابا  رحباً الى عالم العلوم والثقافة. هذه المكتبة كانت جامعتي الأولى وجامعة معظم مثقفي أربيل في تلك الفترة .
الدور الثقافي والوطني لمكتبة " سربستي " :
تأسست المكتبة عام 1947 ، وكانت تقع مقابل مطبعة " كيو مكرياني " في قلب المدينة. وأول مكتبة في أربيل يحمل اسماً كورديا بالغ الدلالة ، يعبر عن طموحات الشعب الكوردي الى الحرية  .صحيح ان هذه المكتبة لم تكن الأقدم عمراً في أربيل ، فقد كانت ثمة عدة مكتبات أخرى ، بعضها أسبق منها  ، مثل مكتبة " هولير " لصاحبها شيخ محمد المعروف ب "شيخه شه ل"  وكانت متخصصة في بيع الصحف اليسارية والأصدارات الماركسية وتشغل دكانا أو ركنا صغيرا مستقطعا من أحد الدكاكين الملاصقة لبدن القلعة وأعتقد أنها كانت اشبه بوكر – تحت يافطة مكتبة -  للحزب الشيوعي السري المحظور في العهد الملكي،  اكثر من كونها مكتبة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة . ومكتبة”العسكري" لصاحبها الضابط المتقاعد” فاروق عبد الرحمن ، ومكتبة”الجهاد“ لصاحبها عبد الوهاب الصائغ ، وهو من اهالي الموصل ، ومكتبة الأخوة الأسلامية - المقر المقنّع لتنظيم " الأخوان المسلمين " – حيث كنت تجد فيها كتب حسن البنا وسيد قطب ومنظري التنظيم الآخرين . هذه المكتبات الأربع الأخيرة لم تنهض بدور يذكر في اجتذاب المثقفين بالمقارنة مع مكتبة " سربستي " ذات الشهرة المدوية ، بفضل صاحبها ، الرجل الذكي، والنشيط في توفير ما يلبي حاجة القراء حقاً وبسرعة يحسد عليها ، كان يمكنك  اقتناء كتب المؤلفين العراقيين والصحف والمجلات العراقية في اليوم التالي لصدورها ، والمطبوعات المصرية واللبنانية بعد بضعة أيام ، وكان عدد المشتركين في الصحف والمجلات عن طريق " سربستي " كبيرأً.
" سربستي " كانت سباقة في عرض آخر الأصدارات الكوردية من كتب ومطبوعات دورية -على قلتها في ذلك الوقت-  ومنها دواوين الشعراء الكورد " حاجي قادر كويي ، بيره ميرد ، دلدار ، بي كه س ،  كوران ، هردي ، " وبعض الصحف الكردية مثل " زين " الصادرة في السليمانية ..
 المجلات والصحف الصادرة باللغة الكوردية في بغداد ، لم تكن تدوم طويلا في ظل النظام الملكي القمعي ، ولو راجعنا دليل الصحافة الكوردية نجد ان هذه الدوريات في السنوات التي نتحدث عنها ، كانت تحتجب بعد صدور بضعة أعداد منها اما بألغاء اجازاتها أو بمنع الأعلانات عنها ، هذا المنع كان يؤدي الى تعذر استمرارها في الصدور ، وكانت غالبيتها تعود الى شخصيات اجتماعية أو ثقافية كوردية . وربما الأستثناء الوحيد هو مجلة " كلاويز " التي دامت حوالي عشر سنوات ، لأنها كانت مجلة أدبية في المقام الأول وتتجنب الخوض كثيراً في غمار السياسة أو انتقاد السلطة القائمة بشكل مباشر وان كانت تنشر العديد من المواد القيمة المتعلقة بتأريخ الكورد ولغتهم وثقافتهم . وللتعويض عن شحة الكتب والدوريات الكوردية . كانت " سربستي " توفر الصحف اليسارية والوطنية التي تولي اهتماماً ملحوظاً بالقضية الكوردية ، وتنشر مقالات ونتاجات الكتاب والشعراء الكورد
" سربستي " كانت قبلة المثقفين في أربيل . ففيها كنت تجد  آخر الأصدارات من الكتب العربية ( العراقية ، المصرية ، اللبنانية ) لمؤلفين مشهورين مثل العقاد ، والمازني ، وطه حسين ، وسلامة موسى ، ونجيب محفوظ ، ومحمود تيمور ، وميخائيل نعيمة ، والشعراء شوقي ، والجواهري ، واحمد ناجي ، ومحمود طه المهندس ، والرصافي ، والزهاوي ... والقائمة تطول ) . وكان صاحب المكتبة يضع الأصدارات الجديدة على واجهة المحل . كما كانت المكتبة بمثابة الموزع الرئيس للمجلات الثقافية العربية مثل ( الهلال ، الثقافة ، الرسالة ) المصرية ، و( الآداب ، الأديب ، الطريق ) اللبنانية ، ( والثقافة الجديدة  قرندل ، الوادي ) العراقية  وكذلك المجلات المصرية العامة والفتية مثل (  روز اليوسف ، آخر ساعة ، المصور ، الأثتين ، الكواكب ، حواء ) وبعض المجلات الطبية مثل مجلة ( طبيبك ) السورية والعلمية مثل مجلة ( العلوم ) اللبنانية وغيرها .
كان صاحب المكتبة رجلاً وطنيا ، ولم يكن من السهل عليه الحصول على رخصة للمكتبة بهذا الأسم في زمن كان النظام الملكي يضيق الخناق على المطبوعات الكوردية من كتب ومجلات وجرائد . واسم المكتبة يدل على اتجاه صاحبها السياسي ، لذا كانت تحت رقابة أجهزة الأمن ، خاصة ، انه كان الموزع الرئيسي لصحف الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها جريدة " الأهالي " الناطقة بأسم الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة المرحوم كامل الجادرجي . وقد تعرضت " الأهالي " للحجب والألغاء عدة مرات . وكان الجادرجي يلجأ في كل مرة الى طلب الحصول على امتياز جديد للجريدة تحت اسم آخر قريب من اسم الجريدة الملغاة ( صوت الأهالي ، صدى الأهالي ) وتعاود الصدور من جديد . وكانت الرقابة في بغداد تحذف أحياناً بعض مواد الجريدة ، مثل المقال الأفتتاحي ، ولكن الجريدة تترك المساحة التي كانت تشغلها تلك المواد فارغة بيضاء ،  كشكل من أشكال الأحتجاج على الرقابة الحكومية . أجهزة الأمن في اربيل كانت تراقب المكتبة عن كثب لتحديد من يشتري الصحف اليسارية يوميا . والى جانب هذه الجريدة كانت هناك جريدة الزمان الرصينة ، وجريدة ( الشعب ) الموالية للحكومة . ولكن اغلب المثقفين في أربيل كانوا يتابعون بشغف ما تنشره جريدة الجادرجي ، الذي كان دائماً الى جانب الشعب الكوردي في النضال من اجل حقوقه القومية المشروعة . وتمتاز " سربستي " بميزة أخرى ، لم تستطع أية مكتبة أخرى في أربيل  مجاراتها ،  وهي انها كانت تقوم  بتوصيل الصحف والمجلات للمشتركين سواء في أربيل أو ضواحيها وفي تلك السنوات  رأيت السيد صالح – شقيق صاحب المكتبة – وهو يتنقل بين مصايف أربيل لأيصال المطبوعات الى المشتركين أو بيعها ، خاصة في شقلاوة خلال فصل الصيف حيث كان هذا المصيف الخلاب تزدحم بالمصطافين من الموصل وكوكوك وبغداد والمدن الأخرى  .
كانت المطبوعات من كتب ومجلات شهرية أو أسبوعية وصحف يومية تصل أربيل عن طريق خط قطار (بغداد – كركوك – أربيل) في حوالي الساعة العاشرة من صباح كل يوم ، وكنت ترى المثقفين الشغوفين بالقراءة أو متابعة الأحداث السياسية يتجمعون أمام مكتبة سربستي ويبلغ الزحام اشده في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا ، حين يصل السيد صالح ، قادما من محطة القطار ومعه رزم الكتب والمجلات والصحف الصادرة حديثاً. فترى القراء يتسابقون الى أقتناء ما يعجبهم من هذا الغذاء الروحي الدسم . كنت في هذه المرحلة في المدرسة الثانوية ، وأحرص على اقتناء ثلاث مجلات هي الآداب اللبنانية والهلال المصرية والثقافة العراقية ، اضافة الى اصدارات دار الهلال الأخرى مثل سلسة ( روايات الهلال ) ،  وما زالت اعداد هذه السلسلة  في مكتبتي الشخصية أحتفظ بها ليس لمجرد الذكرى ، بل لأنها تضم خير ما في الأدب العالمي من روايات وقصص بشهادة الزمن .كما تمتاز ترجمة هذه السلسلة بمستوى رفيع ، يفتقر اليه من يتصدى لترجمة الروايات والقصص الأجنبية في أيامنا هذه .
القراءة بين الأمس واليوم :
تصدر في اقليم كوردستان اليوم مئات الكتب باللغة الكوردية سنويا في شتى حقول المعرفة ، والأدب والفن ، إضافة الى مئآت المطبوعات الدورية ومعظمها باللغة الكوردية أيضاً ، وفي العاصمة أربيل وحدها عشرات المكتبات ( متاجر الكتب ) الزاخرة بالأصدارات الحديثة ذات الطباعة الفاخرة ، ولكن هذه المكتبات تشكو من قلة روادها وشحة مبيعاتها ، رغم أن اسعار الكتب في أربيل - وخاصة اصدارات دور النشر الحكومية أو شبه الحكومية أو الصادرة عن المنظمات والجمعيات والأتحادات وبضمنها أصدارات الأكاديمية الكوردية واتحاد الأدباء الكورد – زهيدة بالقياس الى الدول المجاورة ، الا أن الأقبال على القراءة  ، أضعف مما كان في الماضي . وقد يبدر الى الذهن أن السبب يعود الى الأزمة المالية التي يمر بها الأقليم . ولكني أعتقد أن السبب الرئيسي لا يكمن في القدرة المالية للقراء بقدر ما يعود الى توافر وسائل الأعلام المختلفة ، الأكثر تشويقاً وجذباً وخاصة لفئة الشباب  ( الأنترنيت ، القنوات الفضائية ) ووسائل التسلية والترفيه العديدة . كما أن  الحياة المعاصرة وتعقيدها ،التي تتسم بدرجة عالية من التوتر النفسي  والأجهاد العصبي   لا تترك فسحة كافية من الوقت للقراءة الجادة - الوسيلة الفعالة لأكتساب المعرفة وتحصيل الثقافة -  وبأستثناء القيصرية الخاصة بالمكتبات في سفح قلعة أربيل التأريخية ، قلما تجد من يرتاد المكتبات الأخرى ( مقابل المدرسة الأيوبية ) أو يتابع صدور هذه المجلة أو تلك ، ربما بأستثناء مجلة " صوت الآخر " التي تنفد أعدادها من السوق فور طرحها للبيع في أربيل أيام الخميس . وهذه ليست مجاملة للمجلة التي أنشر فيها مقالاتي ، فأنا لا آجامل أحداً على حساب الحقيقة . وعلى الجملة يمكن القول أن معظم رواد قيصرية المكتبات اليوم هم من الكتاب والشعراء والأعلاميين أنفسهم ، على النقيض من جيل " سربستي " الذي كان يبحث عن الغذاء الروحي والثقافي ويتابع بشوق ولهفة كل اصار جديد في المجال الذي يستهويه ، دون أن يفكر يوما بالكتابة والنشر ، الا ما نذر .
الظاهرة التي أتحدث عنها لا تقتصر على اقليم كردستان ، بل هي ظاهرة عالمية الى هذا الحد أو ذاك .
المثقفون الأحياء من الجيل القديم – أطال الله أعمارهم – خريجي جامعة " سربستي " هم اليوم قلة نادرة ، يلوذون بصومعاتهم وينهلون من عصارة عقول عظماء الفكر والثقافة . هل ثمة زاد أثمن من هذا الغذاء الروحي ؟
 
 


62
ثمن إستفزاز الدب الروسي !
جــودت هوشـيار
           
في عام 2012 ، عندما اسقط السلاح الجوي السوري طائرة تركية من نوع اف-4 انتهكت المجال الجوي السوري ، قال اردوغان غاضبا " ان الطائرة كانت تقوم بتدريبات وان انتهاك الطائرة للمجال الجوي السوري لم يدم سوى عدة دقائق ، وان ذلك لا يمكن ان يكون مبررا لاسقاط الطائرة" .
الطائرة الحربية الروسية التي أسقطتها السلاح الجوي التركي ، لم تشكل أي خطر على تركيا ، وكانت تحلق في الأجواء السورية وربما حلقت في المجال الجوي التركي على الحدود مباشرة لعدة ثوان فقط ، خاصة أن ثمة – كما يقول الخبراء العسكريون الروس – لسانا ضيقاً من الأرض التركية تمتد داخل سوريا لعدة كيلومترات ، ويضيفون بأن الصاروخ التركي الذي اسقط الطائرة قد أصاب ظهر الطائرة ،مما يعني ان الطائرة لم تكن متجهة الى داخل الأراضي التركية ، وكانت روسيا قد اقترحت على تركيا في وقت سابق ، التنسيق المباشر بينهما لتجنب أي اشتباك في الجو ولكن تركيا لم تتجاوب مع الأقتراح الروسي.
إرتكبت تركيا خطئاً فادحاً بأسقاط الطائرة الروسية في وقت عززت فيه روسيا قدراتها العسكرية في السنوات الأخيرة واستعادت مكانتها كقوة عظمى ، وتحولت الى لاعب أساسي في السياسة الدولية وخاصة في الشرق الأوسط ، وبسطت نفوذها على عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة ،وابتلعت ابخازيا بعد فصلها عن جمهورية جورجبا واحتلت نصف اوكرانيا ،  دون ان تتخذ الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الناتو أي خطوة جادة للحد من أطماعها ، خاصة بعد تراجع الدور الأميركي في هذه المناطق بسبب تجنب ادارة أوباما الأحتكاك بروسيا أو الأقدام على أي خطوة من شأنها زيادة التوتر بين البلدين ، واكتفاء الدول الغربية  بفرض عقوبات اقتصادية غير مؤثرة كثيرا على روسيا . وفي مثل هذه الظروف على تركيا الآن أن تواجه وحدها التداعيات العسكرية والأقتصادية لهذا الحادث الخطير .
الأحساس بعظمة روسيا ومجدها الأمبراطوري متجذرة في الوعي الفردي والجمعي الروسي، وهو ليس وليد اليوم ، فطالما  تغنى به الشعراء الروس العظام ، من بوشكين وليرمنتوف الى ماياكوفسكي ويفتوشينكو . وكما يبدو من تصريحات المسؤولين والبرلمانيين الروس وتعليقات الصحافة الروسية ، فأن ردود الفعل الروسية العنيفة على الحادث ناجمة عن اعتقاد الروس ان تركيا قد جرحت الكبرياء الروسي وأنها لهذا السبب لن تفلت من العقاب .
ولا احد يشك اليوم في أن تركيا ستدفع غالياً ثمن فعلتها غير المبررة ، فقد اتخذت روسيا خلال الايام القليلة الماضية ساسلة اجراءات أدت الى شبه قطيعة تجارية بين البلدين ، إضافة الى الغاء أو تجميد كل المشاريع الأستثمارية المشتركة بينهما ومنها خط الغاز المسمي ب" السيل التركي " الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية الى أوروبا . وتركيا نفسها  تعتمد على روسيا في سد حوالي ثلاثة أرباع احتياجاتها من الغاز الطبيعي . كما تشمل الأجراءات الروسية ايقاف العمل في إنشاء أول محطة نووية في تركيا ، وفرض تأشيرات دخول على المواطنين الأتراك ، بعد عقد من الغاء التأشيرات بين البلدين وايقاف الرحلات الجوية الى تركيا ، وعدم السماح للمواطنين الروس بالسفر اليها، ، مما يفقد الخزينة التركية مليارات الدولارات سنوياً الى حين عودة العلاقات الطبيعية بين الجارتين .
 وربما كانت التداعيات الأقتصادية لهذه الحادثة أهون بكثير ، من عواقبها العسكرية في سوريا  وتداعياتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط . المغامرة التركية سواء أكانت متعمدة أم عفوية ستؤدي الى نتائج عكسية تماما لكل ما سعى اليه أردوغان طوال السنوات القليلة الماضية . لن يستطيع بعد اليوم من اسقاط النظام السوري ، خاصة بعد قرار روسيا تعزيز وجودها العسكري في سوريا . كما ان الأقتراح التركي بنشاء منطقة عازلة بين تركيا وسوريا ، لم تعد على طاولة البحث بعد اليوم .
اردوغان فعل الكثير لأزاحة الرئيس السوري عن السلطة ، عن طريق دعم قوى المعارضة السورية الموالية لتركيا وغض النظرعن تدفق آلاف الجهاديين عبر اراضيها الى سوريا للألتحاق بداعش  ، وفتح مستشفياتها لمعالجة جرحى التنظيم . وكانت الشرطة التركية قد اعتقلت في يوم الحادث صحفيين اثنين من جريدة جمهورت التركية بعد ان كشفا النقاب عن شحنة اسلحة تركية ارسلتها المخابرات التركية الى سوريا. وربما كان السبب المباشر لأسقاط الطائرة الروسية هو أنها كانت تقوم بقصف الطابور الطويل من صهاريج نفط داعش المتوجه الى تركيا .
أردوغان لم يدخر جهداً في منع قيام كيان كردي في شمال سوريا ، ولكن حادثة اسقاط الطائرة الروسية أدت الى مطالبة العديد من البرلمانيين والخبراء والمحللين السياسيين الروس للرئيس بوتين بتقديم الدعم السياسي والتسليحي الى الشعب الكردي في تركيا وسوريا . وفي حالة استجابة الحكومة الروسية لهذه النداءات فأن الكيان الكردي ستظهر للوجودعلى نحو أسرع مما يتصوره الرئيس التركي .
في يد الرئيس الروسي أوراق ضغط كثيرة أخرى منها تأييد أرمينيا في صراعها مع أذربيجان – المقربة من تركيا – حول عائدية منطقة قره باغ ، والتذكير بالمذابح الأرمنية في المحافل الدولية ، والقاء الضؤ على قمع حرية التعبير في تركيا ومنها غلق الصحف المعارضة واعتقال محرريها . وبوسع موسكو دعم الأحزاب المعارضة لحكومة حزب العدالة والتنمية .
جادثة الطائرة لن تؤدي الى مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا بأي حال من الأحوال ، كما يتصور البعض ، رغم أن عواقبها السلبية شديدة التأثير على تركيا ، ويبدوأن الرئيس التركي أدرك ذلك ، فأخذ يتراجع عن مواقفه المتشددة ، ويعرب عن أسفه لأسقاط  الطائرة الروسية عن طريق الخطأ ، لأعتقاد الطيارين الأتراك بأنها طائرة سورية ، ويتعهد بعدم تكرار ذلك  مستقبلاً .روسيا تريد ليس أقل من اعتذار تركي علني وموثق وتعويض الخسائر الناجمة عن الحادثة .
الأعتذار التركي الرسمي قد يزيل التوتر الشديد القائم بين البلدين حالياً ، ولكن عودة العلاقات الروسية التركية الى سابق عهدها ، قد يحتاج الى أشهر وربما سنوات ، في وقت تعاني فيه تركيا من أزمات داخلية وخارجية ، وعزلة أقليمية ، واستياء غربي بسبب تدفق الجهاديين الى سوريا ، واللاجئين الى أوروبا عبر اراضيها ، وعدم احترامها لحقوق الأنسان ، وانتهاكها لجميع أشكال حرية التعبير ، في بلد يطمح في نيل عضوية الأتحاد الأوروبي .


63
رائعة بونين : الفجر طوال الليل

جــودت هوشيار

قصة " الفجر طوال الليل " رائعة أخرى من روائع أيفان بونين ترجمناها من الأصل الروسي ولم يسبق نشرها باللغة العربية . قصة تعد نموذجاً لا يجارى في فن القصة القصيرة . ليس ثمة كاتب آخر استطاع أن يعبر بعمق ورهافة عن المشاعر المتناقضة التى تنتاب فتاة شابة والأحلام التي تراودها في ليلة مصيرية من حياتها ، كما عبّر عنها بونين الفنان .
هذه القصة تعكس الفجوة العميقة بين الرغبات والأحلام وبين الواقع لبطلة القصة ( ناتاليا) ، فهي خلال ليلة صيفية واحدة قضتها وحدها في أحضان الطبيعة - عندما يظل الليل مضيئا حتى الصباح - تغيّر رأيها وتتوصل تدريجياً الى قرار حاسم برفض الزواج من خطيبها (سيفرس) . بينما كانت حتى الأمس تميل الى الأقتران به ، ولكنها مع حلول الصباح باتت تعلم جيدا وتدرك في قرارة نفسها أنها سترفض هذا الزواج ، فهو لم يكن فارس احلامها في يوم من الأيام .
المؤلف هنا يبين ليس تقلبات الشباب ، بل قرار البطلة المستقل ويرجع ذلك الى صدق احساسها الداخلي الذي أيقظ روحها ومشاعرها الشخصية العميقة الدفينة . هذه الحالة لا يمكن تفسيرها بكلمات بسيطة ، أي كيف إعتادت البطلة تدريجياً ومنذ الصغر على فكرة أنها ستصبح زوجة ( سيفرس ) ، ثم تقرر فجأة أن ترفضه .
يصوّر بونين الحالة العاطفية للبطلة من خلال عالم الطبيعة المحيط بها. هنا – كما هو الحال في معظم قصص بونين - يبرز قدرة المؤلف الفائقة على التعبير الشعري عن مشاهد الطبيعة ، التي ساعدته على الكشف عن العوالم الداخلية لأبطال أعماله وعن تنوع مشاعرهم .
عنوان القصة قد يبدو غريبا للقاريء العربي : كيف يمكن أن يكون الفجر طوال الليل ، حتى لوكانت ثمة ليال مضيئة في الصيف الروسي ؟ ولكننا نرى أن هذا العنوان رمزي الى حد بعيد ويشير الى النور الذي أضاء ذهن البطلة وأيقظ  روحها بعد قضاءها ليلة في أحضان الطبيعة مما ساعدها على إدراك الحقيقة وهي أن ( سيفرس )  ليس فارس أحلامها على الأطلاق .
------------------------------------
الفجر طوال الليل
قبيل الغروب هطل المطر غزيراً ، صاخباً ،  ورتيباً في الحديقة المحيطة بالدار.وعبر النوفذ المفتوحة في الصالة تسرّب عبير النباتات الربيعية الخضراء منعشاً ندياً .. وفوق السطح تصاعد دوي الصواعق والرعود المشحونة , المشربة بالحمرة ، بعد أن أنطفأ وهجها ، وتلبدت السماء  بالغيوم الداكنة .. ثم عاد الفلاحون من الحقل وقد بلل المطر معاطفهم وأخذوا بفصل أربطة الجياد من المحراث القذر قرب الزريبة ، ودفع قطيع الماشية الذي ملأ العزبة كلها بخواره وثغائه ، وفي الفناء كانت الفلاحات يركضن خلف الخراف وقد  شمرن أطراف أثوابهن فالتمعت أقدامهن البيضاء  فوق العشب . كان الصبي الراعي يطارد الابقار وهو يرتدي ملابس بالية ويعتمر قبعة عريضة الحوافي . وكان غريقا في الأعشاب البرية ، حتى قمة رأسه ، حين أخذت بقرة تصخب وتقفز الى الدغل .. هبط المساء وانقطع المطر ولكن أبي الذي كان قد ذهب الى الحقل منذ الصباح لم يعد بعد . .
 كنت وحيدة في البيت ، بيد أني لم أشعر حينذاك بالسأم قط ،  لأنني لم أكن بعد ، قد استمتعت لا بدوري كربة بيت ولا بحريتي بعد التخرج في المدرسة الاعدادية . كان أخي باشا قد التحق بالمدرسة العسكرية وأختي انيوتا ، تقيم في كورسك ، وكانت قد تزوجت  حين كانت أمي لا تزال على قيد الحياة . لقد أمضينا أنا ووالدي شتاءني الريفي الأول في شبه عزلة . ولكنني كنت شابة قوية البنيان , جميلة الى حد أنني كنت معجبة بنفسي لمجرد أنني أتنفس وأتحرك وأعدو بخفة وأؤدي هذا العمل المنزلي أو ذاك  أو أعطي توجيهاتي للخدم . وفي أثناء عملي في البيت كنت اترنم ببعض الالحان من تأليفي  فأتأثر بها وعندما أتطلع الى نفسي في المرأة أبتسم بلا وعي . ويبدو أن كل ما كنت أرتديه من ملابس يلائمني على الرغم من بساطتها .
وما أن توقف المطر حتى أرتديت تنورتي وألقيت الشال على كتفي وركضت نحو المطبخ حيث كانت الفلاحات يحلبن البقر . سقطت عدة قطرات من السماء على رأسي الحاسر ولكن السحب الخفيفة المجهولة المعلقة في الاعالي كانت قد تبددت . كان  ثمة ضوء خافت شاحب غريب يشيع في فناء الدار ، كما يحدث عندنا دائما في أمسيات أيار . ومن الحقول كانت تهب نسائم مشبعة بطراوة العشب الندي مختلطة برائحة الدخلن المنبعث من مدفأة غرف الخدم . تطلعت للحظة الى الغرفة , فرأيت الفلاحين الشباب الذين كانو يرتدون المعاطف الجلدية البيضاء , جالسين حول المائدة وأمامهم أطباق الحساء , حين ظهرت في عتبة الغرفة نهضوا واقفين  أقتربت من المائدة وأنا ألهث من أثر الركض وسألت باسمة :
- أين أبي ؟ هل كان في الحقل ؟
  قالوا في صوت واحد :
.كان هناك لفترة وجيزة , ثم رحل مع السيد سيفرس في عربة نقل خفيفة -
- وهل  جاء  سيفرس ؟
 كنت على وشك أن أقول هذا وأنا مبهورة بزيارة سيفرس المفاجئة ولكنني صمتّ في اللحظة المناسبة ولم أقل شيئا , أومأت برأسي وأسرعت عائدة الى البيت .
حين أنهى سيفرس أكاديمية بطرس التحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية الألزامية  . ومنذ طفولتي  كانوا يقولون أنني خطيبته ، ولهذا لم يكن في ذلك الوقت يروقني  قط . ولكن فيما بعد أخذت أفكر فيه كخطيبي المقبل , في شهر أب سافر للألتحاق بوحدته ، ثم جاءنا وهو يرتدي الزي العسكري ، والشارات الحربية تزين صدره ، وأخذ يتحدث عن ابداع نائب ضابط ، قصير القامة . .
.
وأخذت أعتاد على فكرة أنني سأصبح زوجته. شاب مرح ، أسمر ، وقد اصطبغ وجهه بالأسمرار لتعرضه الى أشعة الشمس ، وكان النصف الأعلى من جبهته فقط ناصع البياض , كان في نظري أنسانا ظريفا للغاية .
فكرت بانفعال : (ذن فقد أخذ اجازة !) . سرني ذلك ، فقد كان من الواضح انه جاء من أجلي وفي الوقت ذاته شعرت الضيق الشديد .
. عدت الى البيت على عجل لكي أهيىء طعام العشاء لأبي ولكنني ما أن دخلت البيت حتى رأيت أبي يذرع الغرقة جيئة وذهابا , ووقع خطاه يرن في أرجائها , ولسبب ما فرحت به على نحو غير مألوف , كانت قبعته مرفوعة نحو قمة رأسه ولحيته مشعثة وحذاؤه لطويل الساق وسترته ملطخان بالاوحال  , غير أنه بدا في تلك اللحظة تجسيدا للوسامة والرجولة .
 سالته ؟
             - لماذا لم تشعل النور ؟
انني يا تاتا – ناداني بالأٍسم  الذي كان يناديني به في طفولتي – لن أتعشى الليلة ، بل سأنام ، فقد هدني التعب ، ثم هل تعرفين كم الساعة الان ؟ ثم أن الليل الآن فجر ،وسيلتقي الفجر بالفجر ، كما يقول الفلاحون وأضاف ساهما :ً
             - - كالحليب .
 مددت يدي نحو المصباح , ولكنه أوما برأسه ورفع كأسه وأخذ يتطلع من خلاله الى ضوء الشفق كي يستوثق من عدم وجود الذباب فيها . بدأ يشرب الحليب، فيما كانت البلابل تغرد في الحديقة وعبر النوافذ المفتوحة على الجانب الشمالي – الغربي رأيت السماء البعيدة الخضراء  ، الفاتحة اللون فوق السحب الربيعية الرقيقة الحمراء ، جميلة التقاطيع . كان كل شيء على الارض مجهولا والسماء  ناعمة في العتمة الليلية الخفيفة . كان من الممكن رؤية كل شيء في الشفق الشاحب الذي لا ينطفىء  ؟ كنت أجيب على أسئلته حول شؤون البيت في هدوء , ولكن حين قال فجأة أن سيفرس سيزورنا غدا أحسست أنني أحمرّ، غمغمت :
             - لماذا ؟
            ،سيطلب يدك ، شاب لا بأس به ، ذكي ووسيم ، وسيكون زوجاً ناجحاً لقد شربنا نخب خطوبتكما
              لا تقل هذا يأبي – قلت ذلك وطفرت الدموع  من عينيّ  -
تطلع اليّ أبي طويلا , ثم قبل جبهتي وأتجه نحو باب غرفته وأردف باسما :
الصبح أكثر حكمة من المساء
2
كان الذباب الناعس الذي أثاره حديثنا , يطن على السقف  بخفوت وهو يغفو رويدا رويدا  . دقت الساعة أحد عشر دقة رنانة , حزينة . (الصبح أكثر حكمة من المساء ) , خطرت في ذهني كلمات أبي المهدئة ومن جديد  تملكني شعور بالراحة والحزن السعيد . نام أبي وساد الهدوء غرفته منذ وقت طويل ونام كل من في العزبة , كان ثمة شيء ما عذب في هدأة الليل بعد المطر , وفي  أغاريد البلابل وشيء ما رائع يشيع  في ضوء الليل الخافت البعيد . .
شرعت بترتيب المائدة بهدوء ، محاولة أن لا أثير أي جلبة وأنا أتنقل على أطراف أصابعي من غرفة الى أخرى . وضعت الحليب والزبدة والعسل في المدفأة الباردة في الممر وغطيت أدوات الشاي بمنشفة رقيقة وأتجهت نحو غرفتي دون أن أفارق الشفق والبلابل .
كانت نوافذ غرفتي  المجاورة لصالة الاستقبال مغلقة ولكنني كنت أرى الضوء الخافت في الصالة من خلال الباب المفتوح , حللت ضفائري وأسدلت شعري ثم جلست على فراشي لوقت طويل  جاهدة أن يستقر رأي على قرار ما ,   أغمضت عيني  وأنا أتكيء على الوسادة  بمرفقي  وسرعان ما غلبني  النعاس .
 قال  شخص ما فوق رأسي :  ( سيفرس ) . أرتعشت فجأة فأفقت , سرت فكرة زواجي كرعدة باردة , حلوة وفظيعة في جسدي كله , لبثت فترة مستلقية  دون أن أفكر ، وكأنني  في غيبوبة , ثم خيل الي أنني وحيدة في العزبة بأسرها ومتزوجة , وفي ليلة ما كهذه الليلة يعود زوجي من المدينة ويدخل البيت ثم يبدأ بخلع معطفه في الممر ، فأنتبه ، ودون أن يسمع وقع خطواتي  أظهر في عتبة  غرفة النوم , فيرفعني على يديه الى الأعلى بفرح عارم.
خيل الي أنني أحبه , أنا لم أعرف سيفرس الا معرفة طفيفة , أما الرجل الذي أمضيت الليل معه في خيالي فلم يكن يشابهه  ورغم ذلك فقد بدا لي انني أفكر بسيفرس ، الذي لم أره منذ فترة عام تقريبا والليل أضفى على صورته جمالا ، وجعله مرغوبا . كنت مستلقية ما أزال في أعماق العتمة  والهدوء وأنا أفقد الاحساس بالواقع أكثر فأكثر   : (شاب لا بأس به ذكي ووسيم ) كنت أبتسم وأتطلع الى ظلام العيون المغمضة حيث تتراقص وجوه وبقع مضاءة .
وفي الوقت ذاته كنت احس بحلول اعمق ساعات الليل . ماذا لو كانت (ماشا) في البيت لذهبت اليها الان وتحادثت معها طوال الليل . ولكن كلا ،  قلت لنفسي مرة أخرى ،  من الافضل أن أظل وحيدة ، سآخذها معي  حين أتزوج . 
تناهي الى سمعي من الصالة صوت واهن لتكسر شيء ما, تنبهت وفتحت عيني : بدت الظلمة في الصالة أكثر كثافة . كل شيء فيّ وفيما حولي تغيّر وأخذ يحيا حياة جديدة , حياة ليلية  خاصة ، تلك التي لن تكون مفهومة في الصباح . صمتت البلابل  ماعدا بلبل واحد كان قد بنى عشه في الشرفة هذا الربيع ، أخذ ينقر على مهل , البندول يتكتك بدقة وحذر ورنانة في الصالة والسكون في البيت كأنه أصبح أكثر توترا, أرهف السمع الى كل  نأمة وحفيف , أعتدل في  فراشي وأحس أنني في قبضة هذه الساعة الغامضة التي وجدت للقبل ،للمعانقات المختلسة  , وأخذت أكثر الافتراضات ، بعيدة الاحتمال تبدو لي طبيعية تماما , تذكرت فجأة أن  سيفوس كان قد توعدني مازحا  انه سيتسلل ذات ليلة الى حديقتنا  للقائي . ماذا لو كان جادا في كلامه ولم يكن يمزح ؟ ما ذا لو أقترب من الشرفة بإحتراس دون أن يشعر به أحد . وأخذت أحدق في الظلمة الواهنة  بثبات وأنا أتكيء على الوسادة بمرفقي واتصور بتلذذ كل ما كنت سأقول  له بصوت هامس خافت يكاد لا يسمع . أفتح باب الشرفة و أنا أتلذذ بفقدان السيطرة على نفسي 
 وأسمح له أن ينقلني الى أعماق الحديقة الندية عبر رمال الممشى الرطب .
3
انتعلت حذائي وألقيت الشال على كتفي وحين خرجت بأحتراس الى  صالة الاستقبال  توقفت بجوار باب الشرفة وقلبي يخفق بشدة  وبعد أن أيقنت أن  الهدوء يخيم على البيت وأنه ليس ثمة  سوى دقات الساعة  الرتيبة وصدى شدو البلبل  , أدرت المفتاح في القفل دون ضجيج ،وللتو أصبحت أغاريد البلابل الصادحة في الحديقة مسموعة وأختفى السكون المتوتر . أخذت أتنفس ملء صدري وأعبّ بحرية النسائم الليلية الطرية المتبقية في الممشى بين أشجار البتولا الفتية .
سرت على رمال الممشى الرطبة في الظلام الخافت للغسق الداكن من أثر غيوم الشمال  . في أقصى الحديقة كانت ثمة عريشة  ليلك وسط أشجار الحور , كان الجو هادئا الى درجة كنت أسمع صوت تساقط قطرات الندى الباردة المتساقطة من الأغصان   المعلقة . كان  كل شيء غافيا يستمتع بغفوته , البلابل وحدها كانت تستعذب أغانيها الحلوة , وفي كل ظل كان يتراءى لي هيئة أنسان , وفي كل  دقيقة كان قلبي يجمد , وأخيرا حين أحتوتني عتمة العريشة واجهتني رائحة دفئها ، كنت واثقة تقريبا أن ثمة أنسان ما وسيعانقني بقوة وصمت ولكن لم يكن هناك أحد ... ووقفت وأنا أرتعد من الانفعال وأرهف السمع الى الحفيف الرقيق لاشجار الحور , ثم جلست على المصطبة الرطبة .كنت لاأزال أنتظر شيئا ما وأختلس النظرات الخاطفة الى الفجر الشاحب أحيانا  , ولمدة طويلة أحسست عن قرب وفي غموض بعبير السعادة من حولي ، ذلك الشيء الهائل المخيف - الذي نواجهه جميعا في هذه اللحظة او تلك على عتبة الحياة  مسنّي فجأة - ربما فعل ماكان ينبغي أن يفعل ، أن يمسي ويختفي , أذكر ان كل تلك الكلمات الرقيقة التي كانت نفسي مفعمة بها , قد أثارت أخيراًً الدموع في عيني. كنت وانا استند الى جذع شجرة حور رطبة التقط عزاء شخص ما وحفيف الاوراق الذي ينبعث ثم يموت ، وكنت سعيدة بدموعي الصامتة .
راقبت ذلك التحول الحميم عندما ينبلج الفجر من الليل
 رايت من خلل أشجار الكرز ، كيف أن الظلام أخذ يشحب وكيف أحمرت الغيمة الضاربة الى البياض في الشمال
أصبح الجو نديا , لففت الشال حول جسدي وأخذت السماء الرحيبة تضاء ، فبدت في العيون أكبر وأعمق .
 
 تضاء فبدت في العيون  أكبر وأعمق ,قطرات الندى الصافية ترتعش على زهرة .
كنت أحب شخصاً ما ، وكان حبي في كل شيء ، في برد الفجر وعبيره ، في طراوة الحديقة الخضراء ، وفي نجمة الصبح هذه . ها أنني أسمع قرقعة عربة نقل المياه المارة قرب الحديقة والمتوجهة الى النهر . ثم صياح شخص ما في فناء الدار ، صوت صباحي أجش . تسللت من العريشة ووصلت الشرفة بسرعة ، وفتحت الباب بخفة وهدؤ
 وركضت على أطراف أصابعي الى العتمة الدافئة لغرفة نومي . في الصباح كان سيفرس يصطاد الغراب في حديقتنا وخيل اليّ أن الراعي دخل الفناء وشرع بضرب القطيع بالسياط بيد أن هذا لم يمنعني من النوم العميق . وحين أفقت كانت الصالة تضج بالأصوات ورنين الأواني . ثم أقترب سيفرس من باب غرفتي وصاح بي : من المخجل أن تنامي الى هذا الوقت المتأخر يا تتيانا الكسييفنا ..
أحسست بالخجل حقاً . الخجل من مواجهته ، والخجل من رفض طلبه ، .أنني ادرك هذا الآن على نحو راسخ . أرتديت ملابسي على عجل ، تطلعت في المرآة الى وجهي الشاحب .
أجبته بكلمات ترحيب مازحة ، هي أول ما تبادرت الى ذهني ، ولكن صوتي كان واهناً الى درجة انه ربما لم يسمعه على الأرجح . .
 
 
 

64

ماذا يفعل الروس في بغداد ؟
جــودت هوشيار
                   
نفى وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري في تصريح صحفي أدلى به في نيويورك علمه بوجود خبراء عسكريين روس في العراق. ربما كان الرجل صادقا في كلامه ، نظراً لغياب التنسيق بين أجتحة السلطة في بغداد ، رغم ان وجود الخبراء العسكريين الروس في بغداد  ليس بالأمر الجديد ، فمنذ حوالي سنة يعمل في بغداد أكثر من( 60 ) خبيرا روسيا ويقيمون في فندق الرشيد داخل المنطقة الخضراء المحصنة .. ولم تقتصر مهمتهم على تدريب الضباط والطيارين العراقيين على استخدام الأسلحة الروسية وخاصة المروحيات القتالية من طراز (مي-35) التي إشتراها العراق من روسيا بالدفع الآجل .بل قاموا أيضاً  بإنشاء مقر مشترك بالتعاون مع الخبراء الأيرانيين من اجل التنسيق في مجال تجهيز الأسلحة والمعدات الحربية الروسية للعراق.
والغريب في الأمر ، أن كلام الجعفري جاء بعد الأعلان في كل من موسكو أولاً ومن ثم في طهران ودمشق وأخيراً في بغداد ، عن تشكيل ما سمي المركز المعلوماتي الرباعي المشترك في البيان الصادر عن قيادة العمليات المشتركة العراقية . وكشف وزير عراقي، فضل عدم نشر اسمه ، في تصريح صحفي لصحيفة عربية لندنية ، ان ثلاثة ضباط روس من رتب عالية وصلوا بغداد في الخامس عشر من الشهر الحالي، بالتزامن مع تواجد ضباط كبار من قوات الباسيج الإيرانية وعناصر استخبارات سورية، وباشروا عملية تأسيس غرفة معلومات مشتركة، تقع داخل مقرّ استخبارات وزارة الدفاع العراقية الكائنة في مطار المثنى مقابل حديقة الزوراء".
وأضاف الوزير : أن رئيس الوزراء العبادي لم يكن على علم بالإعلان المفاجئ لقيادة العمليات المشتركة العراقية، ولم تتم استشارته بهذا الخصوص على الإطلاق. .
وتقول القناة التلفزيونية الأميركية ( فوكس نيوز ) استناداً الى التشكيلات الأستخبارية الغربية في بغداد ، انه قد تم تشكيل ( مجلس تنسيقي ) بين روسيا وايران وسوريا للعمل المشترك مع ميليشيات الحشد الشعبي التي تقاتل ضد ( داعش ) وان هذا المجلس قد باشر العمل فعلاً. .
وعلى الصعيد نفسه كشفت الصحف الروسية المتخصصة في الشؤون العسكرية . إن المهام الرئيسية لهذا المجلس أو المركز أوسع وأخطر بكثير مما جاء في بيان قيادة العمليات المشتركة وفي تصريحات المسؤولين في دول التحالف الرباعي الجديد .وتتلخص هذه المهام في ما يلي : :
1 - مراقبة الوضع العسكري والسياسي في منطقة الشرق الأوسط وتسيير طائرات استطلاع روسية في الأجواء العراقية ، حيث أن واجبات جميع الأطراف المعنية لا تقتصر على جمع وتبادل المعلومات فقط حول ما يجري في المنطقة ، بل أيضا تحليلها والتداول بشأنها للخروج بنتائج محددة ومشتركة ، كما أن وجود قدرات استخبارية وتحليلية فائقة لدى كل من روسيا وايران ، يؤدي بالضرورة الى أتخاذ توصيات تصب في مصلحتهما. .
2 - التخطيط لاستخدام الوحدات  القتالية للدول الأربع ، وتنسيق أعمالها. – وهذه تمثل المهمة الرئيسية التي تشكل المركز من أجلها-  عن طريق أنشاء ما يشبه هيئة أركان أو إدارة عمليات مشتركة للتحالف الرباعي الجديد الموازي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية .
  3 - ضمان التعاون بين سلطات دول التحالف الرباعي وحل جميع القضايا المتعلقة بتحهيز القوات المقاتلة بالأسلحة والتجهيزات ، والتوصل الى موقف سياسي موحد تجاه الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط. .
ان هذه المهام الثلاث تعني إدخال موسكو على خط المواجهة مع تنظيم داعش عبر البوابة العراقية ، وتصاعد التأثير الروسي – الأيراني في العراق .
أما موقف واشنطن تجاه هذه التطورات فيمكن وصفه بالضعيف ، ذلك لأن ثمة اتجاه سياسي وعسكري قوي في الولايات المتحدة الأميركية ، سواء على صعيد الرأي العام أو البيت الأبيض والبنتاغون يسعى لتفادي الدخول في الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ، وقد انتهزت موسكو هذه الفرصة الذهبية للعودة الى المنطقة ، بذريعة محاربة الأرهاب . مما يضع ما تبقى من سيادة العراق في " مهب الريح " .
 .
 


65
كابوس أوباما السوري

جــودت هوشيار 
     

يبدي الأعلام الأميركي هذه الأيام إهتماماً كبيراً بالدعم الروسي المتزايد لنظام بشار الأسد ، حيث تشير المعلومات الأستخبارية المسربة الى وسائل الأعلام الى قيام الروس ببناء قاعدة جوية بجوار مطار اللاذقية وإنشاء دور جاهزة  تستوعب حوالى الف شخص ومحطة لمراقبة حركة الطائرات ، كما تقوم طائرات النقل الروسية والبواخر بنقل اسلحة ومعدات عسكرية الى سوريا. وليس من الواضح النية الحقيقة للكرملين ، ولكن كبار المسؤولين الأميركيين عبًروا عن مخاوفهم من أن يؤدي التصرف الروسي الأنفرادي الى صدام مع قوى التحالف الدولي المناهض لداعش . ويتهم بعض المحللين السياسيين الأميركيين الرئيس أوباما باللامبلاة تجاه ما يحدث في سوريا وبغياب العزم و الأرادة في مراحل مختلفة من الصراع في هذا البلد ـ ويشيرون الى خيارات عديدة كانت متاحة للبيت الأبيض في المراحل المبكرة للأزمة ،  لم يتم استغلالها لحسم الصراع الدموي ومنع الأنزلاق الى الفوضي . ومن هذه الخيارات:
- إنشاء منطقة ملاذ آمن للاجئين.
- تدميرطائرات النظام على الأرض وفي الجو .
- تقديم الدعم الفعال للجيش السوري الحر.
هذه الخطوات الثلاث كانت كافية لتغيير مسار الحرب في سوريا ولكن  حسابات أوباما ، غير الواقعية بإمكانية التفاهم والتنسيق مع موسكو للتوصل الى تفاهم يضع حداً للصراع ادى الى نتائج عكسية والى استمرار الصراع حتى اليوم .
من المرجح ان بوتين يرى الآن في الضعف الأميركي فرصة لتحقيق عدة أهداف :
- ترجيح كفة الميزان العسكري لصالح الأسد.
- منع أي مبادرة أميركية في المنطقة في حالة عدم التنسيق المسبق مع الكرملين.
-  إنشاء حلف مناهض للولايات المتحدة في المنطقة  يضم  روسيا وايران والعراق وسوريا عن طريق ارسال الأسلحة وعقد صفقات الطاقة وابداء الأستعداد  لأرسال قوات بحجة الدفاع عن الحلفاء .
- تلميع صورة روسيا القوية مقابل اميركا الضعيفة.
واستغلال كل هذا لأستعادة النفوذ الروسي في المنطقة واحتلال المكانة التي كان يحتلها الأتحاد السوفييتي سابقاً. لذا فأن روسيا لا تريد لهذا الصراع أن ينتهي وتحاول التشبث بموطيء قدم لها في المنطقة ، وفي الوقت نفسه تدرك خطورة المستنقع السوري لذا فأن همها الأكبر اليوم هو حماية ذلك الجزء من الأراضي السورية ، الذي يضم دمشق وحمص والساحل السوري .
بعد حرب اكتوبر عام 1973 اقترح بريجنيف ارسال قوات روسية محدودة الى منطقة النزاع للفصل بين الجانبين المصري والاسرائيلي ولكن الرئيس الاميركي نيكسون رفض هذا الاقتراح رفضا قاطعا وادرك ان ذلك يعني اضفاء الشرعية على الوجود العسكري السوفييتي الدائم في المنطقة .وها هي روسيا تعود اليوم الى المنطقة دون ان تستطيع واشنطن فعل أي شيء يحول دون ذلك . الخطوة الروسية الغامضة تحولت الى كابوس يؤرق كبار المسؤولين في واشنطن وفي مقدمتهم الرئيس اوباما .
خطوة موسكو الحالية أشبه بالخطوة الأميركية الأولى في الحرب الفيتنامية . ففي البداية أرسلت اميركا عددا محدوداً من المستشارين والمدربين العسكريين ،ولكن الواقع الميداني أرغم واشنطن على ارسال المزيد ثم المزيد منهم بمضي الزمن ، وفي نهاية المطا ف اضطرت الى إرسال  قوات برية لحماية نظام سايغون الآيل للسقوط  ، ولم يؤد ذلك الا الى إراقة المزيد من الدماء وتكبيد الولايات المتحدة خسائر بشرية ومادية جسيمة واهتزاز مكانتها في العالم .
 
 
 


66
حلف الناتو يعاقب أردوغان


جودت هوشيار

في اكتوبرعام 2012 لجأت تركيا الى حلفائها في حلف شمال الأطلسي ( الناتو) لمساعدتها في حماية حدودها بعد أن سقطت بضع قذائف عشوائية من سوريا على مناطقها الحدودية في ذروة التوتر بين أنقرة ودمشق . وقد استجاب الحلف للطلب التركي وقامت كل من الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا في كانون الثاني / يناير 2013 بنشر ست بطاريات صواريخ باتريوت – بطاريتين من كل دولة - مع الوحدات العسكرية المكلفة بتشغيلها ، على طول الحدود التركية مع سوريا في مناطق قهرمان مرعش وشانلي اورفا وأضنة .
 وقبل عدة أيام قررت كل من الولايات المتحدة والمانيا سحب صواريخهما مع طواقمها من تركيا وعزت ذلك الى انتفاء الحاجة اليها .
ما الذي حدث ؟ ولماذا يسحب حلف الناتو صواريخه من تركيا ؟
تقول واشمطن وبرلين في بياناتهما الرسمية ان تركيا لم تعد بحاجة الى تلك الصواريخ ، لأن احتمال قيام النظام السوري - الغارق قي ازمته الخانقة - بمهاجمة تركيا جد ضئيل، كما لا يوجد اي
تهديد جدي من اطراف اخرى في المنطقة
هذا هو التبرير العسكري المعلن من قيل واشنطن وبرلين  ، ولكن السبب الحقيقي ليس عسكريا ، بل  سياسي في المقام الأول ، ويكمن في استياء الولايات المتحدة والمانيا وبقية دول حلف شمال الأطلسي من أزدواجية السياسة التركية الخارحية ومن تنصل أنقرة من عملية السلام مع الكرد .وان تركيا لا تحارب اليوم داعش على نحو جاد ، بل تشن حربا شعواء على حزب العمال الكردستاني وتستخدم القوة المفرطة ، التي تؤدي الى وقوع ضحايا بين المدنيين وتشريد مئات العوائل في المناطق الكردية في تركيا واقليم كردستان. أما تنصل تركيا من عملية السلام مع الكرد فأنه يعود الى أسباب انتخابية ويهدف الى الأيهام للناخبين بأن حكومة حزب العدالة والتنمية تحارب الأرهاب على جبهتين لحشد التأييد  الجماهيري الذي فقدته في الأنتخابات التشريعية الأخير التي جرت في السابع من حزيران / يونيو الماضي .
والحقيقة أن أنقرة تحارب حزب العمال الكردستاني فقط ولا تتحرش يتنظيم ( داعش ) الا لذر الرماد في العيون ، رغم أن القوات الكردية هي القوة الأكثر كفاءةً ومقدرة وشجاعة في قتال داعش ، وتحمي المنطقة وأوروبا من خطر هذا التنظيم الأرهابي ، وهي حقيقة ناصعة تؤكدها التصريحات المتكررة للعديد من الزعماء والقادة الغربيين من مدنيين وعسكرين .
سحب منظومة صواريخ باتريوت يدل دلالة قاطعة على فقدان الثقة بزعماء الحزب الحاكم في تركيا ، فالحلف لم يسحب منظومات صواريخ الباتريوت من أي بلد آخر في المنطقة ، رغم أن تركيا وهي العضو في حلف الناتو ، لا تمتلك منظومة صواريخ باتريوت او ما يناظرها ، قادرة على رصد وتدمير الصواريخ الباليستية في الجو ، بخلاف عدد من الدول العربية التي تمتلك صوارخ باتريوت  ( مصر ، السعودية ، الأردن ، الأمارات ، الكويت )
قرار ( الناتو ) – المغلف بعبارات دبلوماسية -  عقاب علني لحكومة حزب العدالة والتنمية التي فقدت مصداقيتها في نظر حلفائها الغربيين ، كما ان سياستها الخارجية التي تتصف بالأزدواجية ، أدت الى عزلة تركيا عن معظم دول الشرق الأوسط .

67

لعبة أردوغان المزدوجة

جــودت هوشيار
 
أشرنا في مقال سابق ان العملية الأرهابية التي وقعت في بلدة برسوس الكردية وذهب ضحيتها عشرات الشباب الكرد ، ربما كانت مدبرة من قبل أحد الأجهزة الخاصة التركية لأتخاذها ذريعة لأستئناف الحرب ضد حزب العمال الكردستاني . وصدق توقعنا ، فقد استغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه العملية للتنصل من وعوده بأيجاد حل سلمي للقضية الكردية الملتهبة في تركيا.
 
السكان الكرد في تركيا وثقوا بأردوغان حين وعدهم بالسلام .وصوتوا لصالحه في الأنتخابات الرئاسية التي جرت في عام 1914 . ولكن تبين أن حزمة الأصلاحات التي وعد بها الكرد فارغة .كما أن تساهل الحكومة التركية مع تنظيم داعش في أثناء حصار مدينة كوباني الكردية البطلة في خريف العام الماضي  ، خيب آمال الكرد ،  وأزالت الغشاوة عن أعين من صدّق وعوده المعسولة وكشفت عن نوايا أنقرة الحقيقية .
الكرد الغاضبون أدلوا بأصواتهم في الأنتخابات البرلمانية الأخيرة في حزيران الماضي لصالح حزب الشعوب الديمقراطي ، الذي حصل على 80 مقعداً في البرلمان وبدد حلم أردوغان بتعديل الدستور والحصول على صلاحيات واسعة  تحوله الى حاكم مطلق . وفقد الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية.
في مثل هذه الظروف ، يحاول أردوغان إعاقة تشكيل حكومة إئتلافية  واللعب بورقة التهديد الإرهابي للوطن ، على أمل  إثارة موجة من الوحدة الوطنية حول شخصه .
 
أردوغان يحاول إستمالة القوميين الأتراك المعارضين لأي حل سلمي للقضية الكردية في تركيا وتخويف المواطنين الأتراك من خطر قيام كيان كردي في سوريا ، ومن الخطر المزعوم الذي يشكله حزب العمال الكردستاني - الذي كان حتى الأمس شريكاً رسمياً في ( عملية السلام ) .
أردوغان يحاول إسترضاء الحلفاء الغربيين ويتحدث عن محاربة داعش ، ولكن هذا مجرد سحابة دخان ومحاولة لخلط الأوراق ، لأن عدداً من الغارات الجوية وبضع مئات من المعارضين السوريين الذين تحتضنهم تركيا لا قيمة لها ولا تشكل خطراً على أقوى تنظيم إرهابي في العالم ، هذا التنظيم الذي كانت تركيا – وربما ما زالت - تقدم له شتى أنواع الدعم المادي واللوجستي .
 
 وبقدر تعلق الأمر بالعملية الأنتحارية في بلدة برسوس في العشرين من الشهر الفائت ، التي أودت بحياة 32 شاباً كردياً كانوا قد تطوعوا لإعادة بناء مدينة كوباني ، فأن ثمة شكوك عميقة حول   الرواية التركية عن العملية والنضليل الذي أعتادت الشرطة التركية على ممارسته ، ذلك لأنه لم يبق أي أثر لجسد الأنتحاري المزعوم القائم بالعملية ، ما عدا ما يزعم أنها  الهوية الشخصية ، التي سلمت تماماً وبأعجوبة من الحريق الهائل الذي شب عقب الأنفجار ، والأغرب من ذلك كيف تمكن هذا الأنتحاري من التسلل الى داخل البناية في حين أن الشرطة التركية كانت تطوقها وتقوم بتفتيش دقيق وشامل للداخلين اليها .
وتزعم الشرطة  - ويا للمصادفة العجيبة - إن جميع كامرات المراقبة كانت عاطلة في ذلك الوقت .
وأخيراً فأن تنظيم داعش الذي عودنا على التهليل لكل عملية أرهابية يقوم بها ، لم يتبن العملية اطلاقاً. كل هذه الدلائل تشير الى أن العملية كانت من اجل استفزاز حزب العمال الكردستاني ،  وإعطاء أنقرة ذريعة لوقف عملية السلام.
تأريخ تركيا حافلة بالمؤامرات التي حاكتها المخابرات التركية و تلاعبها بالرأي العام ، من الأبادة الجماعية للأرمن الى المذابح اليونانية في أعوام ( 1950 – 1960) .
وتدل عملية أغتيال الناشطات الكرديات الثلاث في باريس في كانون الثاني عام 1913 ، على أن الأجهزة الخاصة التركية لا تتورع عن القيام بعمليات مماثلة في قلب أوروبا .
 
ولكن الغرب  بدلا من شجب عمليات ( ارهاب الدولة ) من هذا القبيل هرع لدعم أنقرة في المعركة ضد حزب العمال الكردستاني .
الأعتقالات الجماعية ، القصف الجوي لما يزعم أنه معاقل لحزب العمال الكردستاني في اقليم كردستان والذي ذهب ضحيته العشرات من المدنيين العزل المسالمين من الرجال والنساء والأطفال . وملاحقة النواب الكرد بتهمة ( دعم الأرهاب ) كل هذا يثير المخاوف من العودة إلى أعوام التسعينات السوداء.
دول الأتحاد الأوروبي وبخاصة ألمانيا أعربت عن قلق عميق بصدد ما يجري في تركيا اليوم من أحداث دراماتيكية .
لا يوجد حل عسكري للقضية الكردية في تركيا وعلى انقرة استئناف الحوار والأعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الكردي، كما تفعل هي نفسها ( تركيا)  بالنسبة الى 200 ألف مواطن تركي في قبرص .
 
 
.


68
الرواية بين الإبداع والصنعة

جــودت هوشـيار                 
         
قال أحد الروائيين الكورد - وهو يقدم لي نسخة من روايته الجديدة - أنه أخرج خلال السنوات القليلة الماضية أكثر من عشرين رواية ، بينها عدة روايات مترجمة من اللغة العربية . وكانت مناسبة للتعرف على عالمه القصصي  وتجربته الروائية ( الخصبة ) . ووجدتني أقول :
- كيف تكتب روايتك ، وهل تشكل تجربتك الذاتية وهمومك الروحية والأنسانية مادة أولية لها ، وما دور الخيال في العملية الروائية وخاصة في خلق الشخصيات ؟
- لا علاقة لتجاربي الذاتية وعالمي الروحي  بما أكتبه من روايات  ، فأنا أجمع لكل رواية المعلومات المطلوبة ، خلال ثلاثة أشهر من المصادر المختلفة وبضمنها أجراء مقابلات مع الناس الذين يمكن أن يقدموا لي معلومات جديدة عن موضوع الرواية .وأكتب روايتي الجديدة خلال الأشهر الثلاثة التالية ، أي أنني اخرج رواية جديدة كل ستة أشهر .
 
وفكرت للحظات ، ان هذه الخصوبة نادرة بين كتّاب الرواية في العالم ، ويبدو انه يسير على خطى  الروائي جورج سيمنون ، الأغزر إنتاجا  في تأريخ الرواية ، والذي كتب 450 رواية، ولست على يقين إن كان الروائي الكوردي قد قرأ شيئاً لسيمنون "  .مع فرق جوهري ان سيمنون لم يكن يجمع المعلومات من هنا وهناك ، بل تأخذ العملية الأبداعية لديه شكل الإلهام . وبذلت جهداً حتى لا يشعر صاحبي بما يدور في ذهني ولكي يستمر الحوار بيننا ، قلت :
- هل تتبلور عناصر الرواية بشخوصها وأحداثها في ذهنك قبل المباشرة بكتابتها ؟
- لا أفكر في  الرواية قبل كتابتها  ، بل أن كل جهدي ينصب على تنظيم المعلومات التي جمعتها من مصادر عديدة وإعادة ترتيبها وتنظيمها ,واوابتكار مواقف وحوارات  لشخصيات تنطق بهذه المعلومات.
لم أقل له ، اذن ما الفرق بين المقال والتحقيق الصحفي وبين الرواية اذا كان الجهد الأساسي للكاتب ينحصر في جمع المعلومات وتنظيمها ؟ . إن أغلب الروائئين الكبار في الأدب العالمي يؤكدون عند الحديث عن تجاربهم الروائية ، ان ولادة الشخصيات الحية ، هي أهم وأصعب ما صادفهم في العملية الروائية ، لأن الشخصيات الروائية ، ليست دمى يحركها ويستنطقها الكاتب كما يشاء .
 
قلت : لمن قرأت من الروائيين الكلاسيكيين ، مثل فلوبير وستندال وتولستوي ودوستويفسكي وغيرهم ؟
 
-  لم أقرأ ولن أقرأ أي رواية كلاسيكية ، فهؤلاء الذين ذكرتهم يصيبونني بالضجر والكآبة ، ولا أطيقهم . فالبيئة التي كتبوا فيها وشخوص رواياتهم لا تهمني في شيء !
نظرت اليه في دهشة واستغراب ، لأنني أعتقد ، إن من يرغب في كتابة الرواية لا بد له  أن يكون بالدرجة الأولى، قارئاً نهماً.  و يقول الروائي الأميركي ستيفن كينغ: " إن لم يكن لديك وقت للقراءة، يعني أنك لا تملك الوقت أو أدوات الكتابة "
 أيعقل أن يتجاهل كاتب روائي قراءة روائع الأدب العالمي . ؟
 
وخلال  لحظات الصمت الذي ساد بيننا ، حاولت أن أجد له عذراً ، وقلت في سري لعله على صواب ، فالكاتب الروائي ينبغي أن ينسى كل ما قرأه ، ليكتب روايته . ولكن ماذا عن التقنية الروائية ! وكيف يمكن لأي روائي أن يتجاهل تجارب من سبقوه من اساتذة هذا الفن الصعب ؟
 
صحيح ان  ثمة مئات الطرق للبناء الروائي والسرد القصصي ، ولكن من لم يطلع على التجارب السابقة في الفن الروائي ، كمن يبدأ من الصفر ، او كأنه يكتب اول رواية في تأريخ الأدب .
 
وسألته أخيراً : اذن لمن تقرأ من الروائيين المعاصرين ؟ ومن هو الروائي المفضل لديك ؟
- أنا أقرأ الروايات العربية الحديثة ، وخاصة روايات الكاتب العراقي ... وقد ترجمت بعض رواياته الى اللغة الكوردية .
 لم أكن قد قرأت شيئاً لهذا الروائي الذي ذكره صاحبي . قلت له :
- لا استطيع أن أحكم على القيمة الفنية  لروايات لم أقرأها .
 
وفي معرض الكتاب الأخير في أربيل .اقتنيت كل ما وقع عليه نظري من روايات هذا الكاتب العراقي ، وقرأتها بأمعان ، وكلها من ذلك النوع الخفيف ، الذي يستهوي الجمهور العام – وليس الكتّاب أو المثقفين -  لما فيه من أحداث ومواقف مثيرة ، غير أنها ليست ذات قيمة فنية ،  روايات خفيفة لا تستحق الوقت الذي يهدر في قراءتها .  وأشبه بالوجبات السريعة  ( الفاست فوود ) . (يبتلعها) القاريء بسرعة وينساها بسرعة أكبر ، ،  ولا تصلح سوى لقضاء الوقت في المنتجعات وعلى شواطيء البحر ، وعربات القطار أو المترو . فقد عثرت ذات مرة على العديد من الروايات التي تركها أصحابها بعد الفراغ من قراءتها على مقاعد القطار المتوجه من بلدة ( بيتربرو  ) الى لندن.  كما أن أن القراء الأميركيين ، يفعلون الشيء ذاته ، ولا يحتفظون بمثل هذه الروايات بعد الفراغ من قراءتها  .
 
ولكن ما كتبه هذا الكاتب العراقي على الأغلفة الأخيرة لرواياته لأجتذاب القراء ، كان شيئا لا يصدق ، ولا علاقة له بمضامينها ، فهو يقول أنها روايات فلسفية واستكشاف للواقع العراقي بأسلوب متفرد وحديث.
ودفعني حب الأستطلاع الى قراءة سيرته الأدبية في موقع (ويكيبيديا، الموسوعة الحرة) ، وهي سيرة مطولة من عدة صفحات طافحة بالأدعاءات . ومن يقرأ ما كتبه عن نفسه ، يعتقد أن عبقرية جديدة قد ظهرت في العراق ، لا يقل شأناً عن عمالقة الأدب العالمي . والأغرب من ذلك هو تأكيده في كل مرة ، أن رواياته قد ترجمت الى اللغات الأجنبية ، وحازت على جوائز أدبية رفيعة . وقد حاولت عن طريق البحث في ( جوجول ) أن اعثر على رواية له مترجمة الى احدى اللغتين الأنجليزية أوالروسية ( وهما اللغتان اللتان أقرأ من خلالهما الأصدارات الجديدة في الخارج ) غير أني لم أعثر على ترجمة أجنبية لأي رواية لهذا الكاتب،  في حين أن عددأ من رواياته قد ترجم فعلاً الى اللغة الكوردية.
 
ويقول في سيرته الذاتية ،  إن رواياته ، تنتمي الى ما يعرف بروايات ( ما بعد الحداثة )  وتنطوي على افكار فلسفية ، وأنه أول من إستخدم الأسلوب البرقي في الكتابة الروائية  !
 
لنترك الفلسفة جانباً ، لأنه لا علاقة لرواياته  بها ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، ولكنني أتساءل إن كان قد قرأ روايات هيمنجواي واهرنبورغ وعشرات الروائيين الغربيين ، الذين استخدموا الأسلوب البرقي في الكتابة الروائية ، قبل أن يولد هو بعشرات السنين .كما أن مضامين رواياته وبنائها الفني واسلوبها السردي ، لا تنتمي بأي شكل من الأشكال الى رواية ( ما بعد الحداثة ) ولا الى الرواية الحديثة بأشكالها المتنوعة  ،. والأسوأ من ذلك ان رواياته أشبه بتقارير وتحقيقات صحفية مطولة  ، لا نرى فيها شخصيات نابضة بالحياة ولا القدرة على الدخول في أعماق النفس البشرية ورسم  ما تجيش به من لواعج وأهواء ومن طموحات وصراعات مستترة في العادة وراء مظاهر الحياة الخارجية .
 
ان الكتابة الأبداعية إن لم تكن نابعة من ذات الكاتب وتجربته ورؤاه ، واذا لم ينفعل بها فانها تكون مملة ، لأن مثل هذا المؤلف لا يعرف ابطاله ولا يفهمهم . ليس بوسع اي كاتب ان يكتب عن اي شيء وعن اي انسان . فهو لا يمتلك سوى حرية محدودة في اختيار  موضوعاته وابطاله , لان لكل كاتب مهما كان موهوبا حدودا لا يستطيع تجاوزها , ان ابداع الروائي يتحدد بالمجتمع الذي يعيش فيه . وبتجربته الماضية وخبرته الحياتية وشخصيته .
 
سأل احدهم الروائي  الروسي  ليف تولستوي( 1828 – 1910 )  ذات مرة : كيف يستطيع الانسان ان يكتب بشكل جيد . فقدم له نصيحتين ثمينتين :
 يتعين على الكاتب ان لا يكتب مطلقا عن موضوع غيرشائق بالنسبة اليه شخصيا:أولاً
ثانيا - اذا اراد الكاتب ان يكتب عملا ابداعيا ما ولكن كان بوسعه ان لا يكتبه ،  فمن الافضل ان يتخلى عن فكرته.
وفي مناسبة أخرى قال تولستوي "على المرء أن يكتب فقط حينما يترك قطعة من لحمه في المحبرة في كل مرة يغطس قلمه فيها" أي حينما يشعر بعمق شعوراً حقيقياً.
ا
   الرواية عمل إبداعي ولكل كاتب رؤيته الخاصة المتفردة , فهو يكتب الرواية ، لأنه يشعر بضرورة ملحة في البوح للناس ، بما لم يكتبه أحد من قبل ، ولأنه مصاب بمرض الكتابة ولكونه قد إلتقى أناساً وتملكته احسلسات ليس بوسعه أن لا يعبر عنها. .
هكذا تظهر للوجود الروايات الممتعة التي تستحوذ على مشاعر القراء .
اذا تجاهل اي روائي نصائح تولستوي وكتب رواية دون ان يحس انها ضرورة روحية له وانه  كان بوسعه أن لا يكتبها  ،فأن نتاجه سيكون فاشلا و لن يستحوذ على مشاعر القراء , وسنجد بين ايدينا رواية يتوافر فيها شكلياً كل عناصر الرواية ولكنها تفتقر الى الحرارة الوجدانية ولا تحمل أي قيمة للقاريء .
 
يتميز الكاتب عن الاخرين بحساسيته المرهفة وحبه للناس واهتمامه بهم ولكن من السذاجة الاعتقاد انه قادر على فهم اي انسان , فالناس دونما استثناء- وبضمنهم الكتّاب يحسون بمعاناة الآخرين إتطلاقاً من تجاربهم الذاتية.
 
 ان الاحاسيس الغريبة على الكاتب , تلك التي لا تربطها وشيجة بطبيعة نفسيته  لا تستوقفه , واذا اراد الكاتب برغم ذلك ان يصفها, فإن مثل هذه النتاجات ستكون ضعيفة من حيث التعبير الفني , تشيع فيها البرودة .
ان عملية الشروع في كتابة الفصل الاول من الرواية تسبقها  ليس شهور الاعداد لها فحسب , ولكن ايضا آلام الكاتب وافراحه وحياته المفعمة بنجاحاته واخفاقاته وعلاقاته بالناس  .
 وهذا لا يعني ان الكاتب لا يصور في روايته سوى تلك الحوادث التي مرت به , بل على العكس من ذلك ، فالمؤلف يغير في العادة ليس فقط معاناته الشخصية وتجربته الذاتية فحسب ولكن ايضا مشاهداته , بيد انه يصف دائما الناس الذين يستطيع ادراك افكارهم واحساساتهم , ولكي يكون بمقدروه ادراك معاناة شخصيات الرواية يتعين عليه ان يكون هو شخصيا قد عانى من تجربة تمهد له الطريق لادراك هموم انسان اخر.
 
يرى كولن ويلسن ان : "  الفن، والرواية خصوصاً مرآة يرى فيها المرء وجهه بالذات. ذلك أن الكاتب عندما يجلس أمام حزمة من الأوراق وقلمه بيده، فإن السؤال الذي يواجهه ليس ببساطة ماذا أكتب؟ بل من أنا ؟ وماذا أريد أن أكون؟ وهدفه من الكتابة مرتبط بإحساسه بالذات. ...
 
كان جوستاف  فلوبير (1821 – 1880)  في بداية حياته الأدبية يؤمن ، بأن الراوي العليم بكل شيء ، يجب أن يكون موضوعيا في السرد القصصي ، وأن لا ينحاز الى أي شخصية من شخصيات روايته أو قصته .
وكتب يقول : " بوسعك أن تصور الخمر ، والحب ، والنساء ، شريطة – يا عزيزي –أن لا تكون سكرانا ، أو رجلاً ، أو جندياً. اذا تدخلت في الحياة ، فأنك لن تراها جيداً ، أو تعاني بسببها جدا  او تستمتع بها كثيرا ". هذه الكلمات كتبها فلوبير في عام 1850.
 
ولكن  عندما شرع بكتابة روايته العظيمة " مدام بوفاري " ، التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها ،  أدرك أن الكاتب لا يمكن أن يكون موضوعيا وباردا ، فهو لا يكتب تقريرأ ، بل قصة   نابضة بالحياة ، فيها كل ما قال تولستوي أنه ضروري للكاتب الحقيقي ."
وبصدد شخصية بطلة الرواية (إيما بوفاري ) كتب  فلوبير الى احد اصدقائه يقول : " ان ايما هي- أنا ". وقد يبدو هذا الزعم سخيفاً لأول وهلة . ما الذي يجمع بين عازب كهل , متشائم , دائم التأفف , أشيب الشعر ، يمتلك ثقافة جمالية واسعة , وبين امرأة قروية طائشة , متهورة ، وسيئة السمعة ؟ . والحق ان فلوبير قد أضفى على شخصية ايما الكثير من العناصر الذاتية ، التي كان يمتاز بها هو شخصيا , وتدل على ذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين اصدقائه , والمنشورة بعد وفاته . "
 
إن المبدأ الذي سمح للرواية بأن تكتسب الطابع الأنساني هو النظر الى الأشياء نظرة ذاتية وجعل الأشياء مثيرة للأهتمام . فهذا المبدأ ، هو الذي يجعلنا نقرأ الرواية مبهوري الأنفاس عن شيء ، هو في حد ذاته قليل الأهمية . "
 
 
 

69

خفايا الموقف التركي من داعش ؟

جــودت هوشـيار
 
هل العملية الأرهابية ، التي وقعت في مدينة برسوس الكردية مؤخراً ، يمكن أن تضع حداً للتفاهم  الضمني بين تركيا وتنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) ؟ أم أن جهات أخرى داخل تركيا لها ضلع في العملية . على المراقب أن يكون حذراً ، لأن الوضع في تركيا يكتنفه الغموض في ظل حكومة أوغلو الحالية القلقة  . وليس مستبعداً أن تكون عملية برسوس في مصلحة بعض مؤسسات الدولة التركية  ، خاصة تلك التي تعارض الحل السلمي للقضية الكردية .
السلطة تتفادى المواجهة المباشرة مع قوى الأسلام السياسي الراديكالي داخل تركيا  ، فبعد مرور شهر واحد على العملية الأرهابية المزدوجة في دياربكر ، التي ذهب ضحيتها (5) شهداء وإصابة أكثر من (100) آخرين بجروح ، قام ناشط داعشي علانية بألقاء خطاب ناري في جمهرة من المتشددين في ضواحي استانبول . وبعد عملية برسوس طاردت مجموعة دينية راديكالية جموع المتظاهرين الكرد في شوارع المدينة مع صيحات ( الله أكبر) وبمباركة رجال الأمن.
 
الجيش التركي يعارض التدخل العسكري في سوريا، لأن من شأن مثل هذا التدخل أن يؤدي الى  تأجيج النزاعات الداخلية ،على نحو  يصعب السيطرة عليها . والحقيقة أن الدولة التركية – على حد وصف أحد الباحثين الفرنسيين – عملاق واقف على ساقين من الطين .، والسلطة تحاول إخفاء ذلك بكل الوسائل .
 
الغرب يعرف القنوات السرية والعلنية للعلاقة بين تركيا وداعش ، ولكنه لا يريد أن يصدق إن دولة عضو في حلف الناتو تمارس لعبة مزدوجة ضد الغرب . فثمة  قنوات للأتصال والتعاون بين الأسلاميين الراديكاليين الأتراك  وبين داعش ، يتم عن طريقها ، تقديم المال والتجهيزات الطبية لدولة الخلافة المزعومة وتجنيد المتطوعين للأنضمام الى صفوفها. إضافة الى ما هو معروف عن تسلل الجهاديين عبر تركيا الى سوريا ، ومعالجة جرحى داعش في المشافي التركية . وتقوم السلطات التركية بين حين وآخر ، من أجل ذر الرماد في العيون ، بإعلان القبض على بعض الأشخاص الذين حاولوا عبور الحدود الى سوريا . ولا ينبغي تجاهل دور الأجهزة الخاصة التي لها اليد الطولي في تجارة النفط  السوري الذي يستخرجه داعش بطرق بدائية .
 
حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم تدعم المجموعات الجهادية التي تحارب النظام السوري .وتحتضن علناً عدداً كبيراً من الجهاديين المطلوبين للعدالة وتمتنع عن تسليمهم الى الشرطة الدولية ( الأنتربول ) . ومع أن موقع ويكيليكس قد نشر قبل فترة وثائق تشيرالى قنوات التعاون التركي مع داعش ، ولكن البعض يحاول التقليل من شأن هذه الوثائق . وهنا يبرز تساؤل منطقي ، اذا كانت ثمة تعاون بين تركيا و ( داعش ) ، فما الهدف منه !. وهل داعش حليف مفيد لتركيا ، في التعاطي مع القضية الكردية ؟
سياسة الحزب الحاكم الأٌقليمية  تتسم بالغرور كدولة كولونيالية سابقة في الشرق الاوسط ، ويرى الحزب ان ما من أحد يمكن ان يشكك في الدور القيادي لتركيا في المنطقة  ، وان على تركيا توجيه الحركات والجماعات الأسلامية العربية بما يخدم المصالح التركية . وهذا الوهم أدى الى خطأ ستراتيجي فادح . وهو غض النظرعن الخلايا النائمة لداعش في تركيا  وعن كل ما يقوم به هذا التنظيم المتطرف من فظائع وتحريضه لمحاربة الكرد في سوريا.
 الانتصارات الباهرة ، التي حققها المقاتلون الكرد على تنظيم داعش في الآونة الأخيرة وجهت ضربة الى ىسياسة الحزب الحاكم الذي يعتبر إقامة أي كيان كوردي في سوريا تهديدأً لأمن تركيا. وهذا ما صرح به أردوغان مراراً ، في حين أنه يتحاشى إنتقاد داعش لأعتبارات داخلية واقليمية ويتجاهل الخطر الحقيقي الذي يشكله على أمن المنطقة والعالم .
العملية الأرهابية في برسوس اثبتت فشل ستراتيجية المصالحة مع داعش . وكما قال تشرتشل : " صانع السلام الزائف هو من يطعم التمساح على أمل أن يكون آخر من يفترسه ( التمساح ) ".
وفي غياب أي ضغط دولي قوي على تركيا ، فأن الأخيرة ستواصل التعاون مع داعش من أجل إبعاد خطره عن تركيا ولو الى حين  . . وترى السلطات التركية ان أي ستراتيجية أخرى في الوقت الراهن لن تكون سوى دواءً أسوأ من المرض.



70
وزراء أجانب للحكومة العراقية

جــودت هوشيار            
 
ليس المقصود بهذا العنوان ، الوزراء العراقيون ، الذين يحملون الجنسيات الأجنبية ، بل وزراء أجانب تكنوقراط ، يمكن أن يصلحوا حال البلد في مجالات الطاقة والأقتصاد والصحة والخدمات ومجالات أخرى .
وزراؤنا الذين يحملون الجنسيات الأجنبية عاش معظمهم في الدول الغربية لسنوات طويلة ، وتلقوا المعونات الأجتماعية من رواتب وسكن وضمان صحي وعاشوا على حساب دافعي الضرائب الغربيين ( الكفار ) ، وعادوا الى البلاد ، كما ذهبوا ، دون تصقلهم الحضارة الغربية أو ينهلوا من ثقافات الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها ، عادوا  بعد أن مهد لهم الأجتياح الأميركي فرصة ذهبية للأثراء على حساب المال العام وشقاء المواطن العادي .
أما الوزراء التكنوقراط الأجانب ، فأنهم لا يرتبطون بالأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ. وليس لهم أقارب أو مقربين لتعيينهم في الوزرارات ولا يرتبطون بعلاقت عمل مع مقاولين او رجال اعمال محليين ، وهم سيؤدون واجباتهم ويتخذون القرارات الصحيحة بصرف النظر عن المصالح الحزبية والشخصية .
وحال أوكرانيا اليوم لا تختلف كثيراً عن حال العراق ، فأن مساحات واسعة من أراضيها ( شبه جزيرة القرم ،  والمناطق الشرقية من البلاد ) محتلة ، والفساد المستشري ، يستنزف ميزانية الدولة ، وينخر ويدمر كل مفاصل الحياة .
هذه الأعتبارات هي التي دفعت الرئيس الأوكراني بيتر يوروشينكو الى استحصال موافقة البرلمان لتعديل التشريعات ذات العلاقة والتي تسمح بأشغال المناصب الوزرارية من قبل خبراء تكنوقراط أجانب ، وفعلاً تم تعديل تلك التشريعات ومنح الجنسية الأوكرانية للوزراء الأجانب في التشكيلة الحكومية الأخيرة في أوكرانيا ، حيث أنيطت حقيبة وزارة المالية الى المواطنة الأميركية ( ناتاليا يلريسكو ، التي عملت سابقاً خبيرة مالية في وزارة الخارجية الأميركية ، وحقيبة وزارة الأقتصاد الى رجل الأعمال اللتواني آيفاراس ابراموفيج ، ووزارة الصحة الى المواطن الجورجي الكساندر كفيتا شفيلي ، وزير العمل والصحة السابق في جمهورية جورجيا . . وجرى الأمر ذاته على مستوى وكيل الوزير في عدة وزارات ، وكذلك تم تعيين تكنوقراط أجنبي لرئاسة ( مكتب مكافحة الفساد )  . وقد برر الرئيس يوريشينكو هذا التعيين الأخير أمام البرلمان الأوكراني  قائلاً : " لا توجد للمرمشح أي علاقات مع النخبة السياسية الأوكرانية ، فهو ليس صهراً أو نسيباً أو أخاً لأحد في اوكرانيا ، ويقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية في البلاد ، ويضمن العمل الفعال للمكتب . "
العراق بمسيس الحاجة الى وزراء تكنوقراط أجانب ،لأصلاح ما خربه وزراء المحاصصة ، خبراء  لهم رؤية اقتصادية مدروسة وواضحة للنهوض بالأقتصاد العراقي ، واعادة بناء وتطوير البنى التحتية و توفير الخدمات العامة . وزراء لا يرتبطون بمافيات المقاولات والعقود  ، وليس لهم أقارب لتعيينهم في وزاراتهم .
ولكن ثمة عدة عقبات تقف حائلاً للأقتداء بالتجربة الأوكرانية :
  فالجارة العزيزة ايران الأسلامية ستعترض حتما على الأستعانة بالكفار لتمشية أمور بلد اسلامي كالعراق ، كما اعترضت على السفير السعودى  المعين في العراق  .
كا أن اعطاء عدة حقائب وزارية للأجانب سيكون على حساب القوى السياسية المشاركة في حكومة حزب الدعوة الحالية . لا شك ان صراعا مريراً سينشب بين تلك القوى . ليس ثمة في عراق المحاصصة كتلة سياسية يمكن أن تضحي بحقيبة – اكاد أقول بقرة حلوب - وزارية من حصتها خدمة للصالح العام . ، ولو افترضنا جدلاً ان الجارة العزيزة ستغض النظر عن الأستعانة بتكنوقراط (كفار) لأدارة بعض الوزارات في منطقة نفوذها ومجالها الحيوي ، وقامت  الأحزاب السياسية بتغليب المصلحة العامة على مصالحها الحزبية والفئوية والمذهبية ولو مرة واحدة في حياتها  ، ومع ذلك فأن ثمة عقبة كأداء أخرى تقف في وجه تحقيق هذا الحلم وهي : هل يوجد تكنوقراط أجنبي كفؤ ورفيع المستوى يقبل العمل في العراق في ظل الأمن المفقود و تسلط الميليشيات على الحكم و الملف الأمني .؟
أقول هذا الكلام عن تجربة ، فقد وجهت الدعوة (المترجمة الى اللغة الأنجليزية من قبل مكتب ترجمة  مرخص قانوناً والمصدقة من كاتب العدل ) الى كاتب روسي صديق لزيارة أقليم كردستان. وجرت الأمور بسلاسة ، وقبيل مغادرته لموسكو توجه لحجز مقعد على احدي الطائرات المتوجهة الى أربيل عبر تركيا ، ولكن موظف المبيعات في شركة الطيران المعنية ، رفع حاجبيه دهشةً واستغراباً ، ً وقال   : هل تمزح ؟ مجنون من يسافر الى العراق هذه الأيام . قال الصديق : ولكنني اسافر الى اقليم كردستان وهي منطقة آمنة . فما كان من موظف المبيعات الا أن قاطعه قائلاً : اليس الأقليم جزءاً من العراق ؟  أنت حر . لأ انصحك بالذهاب الى العراق والمخاطرة بحياتك ، ان لم تكن مضطراً الى ذلك .وعدل صديقي عن السفر واعتذر عن قبول الدعوة : قائلاً ، فكرت في مكتب الطيران ، بعائلتي الصغيرة ، زوجتي و ابنتي .
ما يشاهده المواطن الأجنبي يومياً على شاشات الفضائيات ما يجري في العراق من مآسي انسانية  وحوادث دامية ، لا يترك مجالاً للشك أن السفر الى العراق محفوف بالمخاطر .
اذن حتى لو وافق التكنوقراط الأجانب على اشغال مناصب وزارية في العراق : يبقي الؤال : من يضمن أمنهم في عاصمة الرشيد التي تحولت الى عاصمة للميليشلت تصول فيها وتجول ، وتفعل ما تشاء دون حسيب أو رقيب .
 



71
احسان فؤاد .. الشاعر الذي كان يحلم بالدولة الكوردية

جــودت هوشيار
 
ثمة بين اهل الفكر والثقافة اسماء مشهورة مدوية ، غزيرة الأنتاج ، تتفنن في تسويق نفسها بشتى الطرق . تتحدث عنها الناس ووسائل الأعلام . ولكن عندما تلتقي ببعض هؤلاء – ولا أقول كلهم - وجها لوجه وتتبادل معه حواراً ، سواء في مجال تخصصه ، أو أي موضوع فكري أو ثقافي ، يتغير الأنطباع -الذي  تركته لديك قراءة مؤلفاته ،  وترى ان نتاجاته أقوى تأثيراًمن شخصيته  بكثير ، فهو لا يمتلك أي سحر شخصي جذّاب ، ولا يؤثر فيك ، ولا يترك لديك ما يذكرك به .

وعلى النقيض من ذلك ، هناك مبدعون آخرون ، يعملون بصمت بعيداً عن الأضواء تتحدث عنهم انجازاتهم الأبداعية ، وان لم تكن غزيرةً، ، و يتمتعون  بسحر شخصي ، وحضور قوي ، تود أن  تصغي اليهم بشغف وهم  يتحدثون عما يشغل بالهم  أو ما يتطلعون اليه ، ويسعون لتحقيقه .وتترك كلماتهم المتوهجة والبليغة انطباعاً قوياً في نفسك ، لا يمحى عبر السنين .
 
الأكاديمي والمربي الكبير الراحل الدكتور أحسان فؤاد ( 1935– 2008 ) ، كان من الصنف الثاني ،شخصية جذابة  ، وحضور قوي ، ولكنه كان مقلاً في أنتاجه . ولكن اجيالاً من الشباب المتعلم قد تخرج على يديه ، كأستاذ للأدب الكردي وعميداً لكلية الآداب ، ومساعداً لرئيس جامعة السليمانية  في فترة معينة من حياتي ، سعدت بمعرفته وصداقته ، شاعراً رقيقاً ووطنياً يلتهب حماساً للقضية الكوردية .
، وقد احتفظت في ذاكرتي بصورته كشاعر موهوب وحالم ، وانسان رائع ، ظل طوال حياته يدافع عن القيم الأنسانية والروحية والثقافية  ، التي كان يؤمن بها بصدق واخلاص نادرين . هذا الشاعر الرقيق كان  يتحول الى مناضل شجاع عند الضرورة  ويخوض غمار الحياة بأرادته القوية .
يقال ان الأديب ، الذي يحيا في عالم الفكر والأدب والفن ، ويتأمل الحياة الأنسانية ومعناها ، يصبح أكثر انسانية من الآخرين ،وهذا ينطبق تماماً على الراحل الكبير  ولكن،عندما تتعرض تلك القيم التي يؤمن بها الى أي انتهاك ، فأنه يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وشجاعة . وهذا المزج بين الرقة حيناً و الصلابة حيناً آخر ، سمة بارزة لكل كاتب وشاعر وفنان حقيقي .
 
البداية :
 
كان ثمة عدد لا بأس به من الطلبة الكورد بين طلبة البعثات التي وصلت الى الأتحاد السوفييتي منذ أواخر عام 1959 ، وفي بداية عام 1961 جاءت مجموعة من طلبة الدكتوراه الكورد ( احسان فؤاد ، كاوس قفطان ، كمال مظهر ، عزالدين مصطفى رسول  ، أحمد عثمان ، نسرين فخري ) ولم تمض على وصولهم سوى ايام معدودة حتى تم عقد اجتماع للطلبة الكورد ، من اجل تأسيس فرع في الأتحاد السوفييتي لجمعية الطلبة الكورد في أوروبا . كان المد اليساري طاغياً بين الطلبة العراقيين في موسكو وكان ( اتحاد الطلبة العام ) هو الذي ينوب عن الطلبة العراقيين في الأتصال بالسلطات السوفيتية ذات العلاقة في الجامعة وفي وزارة التعليم العالي والسفارة العراقية . وكان الأتحاد يعارض تأسيس كيان طلابي خاص بالطلبة الكورد ويهدد بفصل أي طالب ينتمي الى جمعية الطلبة الكورد في أوروبا . ورغم ذلك فقد نجح الأجتماع المذكور في حشد الطلبة الكورد وراء جمعيتهم وتأسيس فرع الجمعية في موسكو ً، وكان للراحل احسان فؤاد الفضل الأكبر في نجاح الأجتماع والبدء في الأجراءات العملية  لأنشاء فرع الجمعية ، الذي أخذ يمارس نشاطه ، وعن طريقه كانت تصل الينا النشرة الصادرة عن المقر الرئيسي للجمعية في المانيا بعدة لغات أوروبية وفيها آخر أخبار كردستان والقضية الكوردية و مقالات عن النضال التحرري الكوردي .. وقد تفرق طلبة الدكتوراه الكورد – بعد اجتيازهم السنة التحضيرية – في كل من موسكو ولينينغراد وباكو . ولم أعد التقي بالراحل الكبير -لأنني كنت في موسكو وهو في لينينغراد - الا في المؤتمرات السنوية لجمعية الطلبة الكورد في أوروبا والتي كانت تعقد في ألمانيا في أغلب الأحيان .
 
لقاءات في بغداد :
 
بعد استكمال دراساتنا في روسيا وعودتنا الى العراق - حيث عمل الفقيد مدرساً للغة الكردية في كلية الأداب بجامعة بغداد وبعده رئيساً للقسم -  شاءت المصادفة المحض ان نسكن في شقتين متجاورتين في الطابق نفسه في عمارة حديثة على شارع السعون ، قريبة من أبو نواس . وكنا نلتقي بشكل شبه يومي ، و كانت أحاديثنا تدور حول الأدب والفن ، والوضع السياسي في العراق وآخر أخبار الثورة الكوردية . وتعد هذه الفترة من أخصب فترات حياة الراحل الكبير . فقد صدر له أول ديوان شعر تحت عنوان ( الزهرة البرية ) ( كولي كيوي ) ، كما قام بتحقيق رواية الشاعر أحمد مختار جاف ( مسألة ضمير ) ، التي كتبها بين عامي ( 1927 – 1928 ) . ويرى بعض النقّاد أنها أول قصة كوردية طويلة (  نوفيلا ) وكلا النتاجين طبعهما على نفقته الخاصة .
 اتذكر جيدا أنه كان معجبا للغاية بالدراسة التي كتبها ليف تولستوي ( ما الفن ) وكتب عنها ، فيما بعد عدة مقالات شائقة ، تنم عن ذهن متوقد وادراك عميق للمعنى الحقيقي للفن وأهميته في حياة الناس . وكلمة الفن هنا بمعناها الشامل ، أي الآداب والفنون جميعاً . ، كما أنه كان يتحدث كل اسبوع من  القسم الكوردي في اذاعة بغداد ، حول موضوع أدبي أو فكري كوردي . وقبيل بيان الحادي عشر من آذار  1970 لعب دوراً محورياً في تأسيس اتحاد الأدباء الكورد ، الذي بدأ أعماله  في 10/2/1970 وعقده مؤتمره الأول في 23 و24 حزيران 1970 في بغداد، وأقامت مهرجانات شعرية وملتقيات للقصة الكوردية وندوات أدبية في مدن كوردستان.
 
في عام 1973 تولى الراحل منصب المدير العام للثقافة الكردية ، وبذل جهداً عظيما في استقطاب خيرة المثقفين الكورد في بغداد للعمل في المديرية وأصدر صحيفة ( روشنبيري نوي - المثقف الجديد ) الأسبوعية ، الناطقة باسم المديرية ، التي سرعان ما أصبحت قبلة للكتاب والشعراء الكورد في بغداد وفي أرجاء كوردستان ، وكانت معظم صفحاتها باللغة الكوردية مع أربع صفحات داخلية باللغة العربية .
طلب مني الراحل الأسهام في تحريرها ، وكانت صحيفة رصينة وشيقة . وقد نشرت الجريدة لي 23 موضوعا خلال السنة الأولى من عمر الجريدة ، وكان من ضمن تلك الموضوعات ترجمة عدد من روائع القصص الأجنبية ، منها على سبيل المثال لا الحصر ، قصة ( ضربة شمس ) لأيفان بونين ، وكانت  أول قصة لهذا الكاتب العظيم تترجم من اللغة الروسية مباشرة وقصة ، ( ذكريات قرد ) لفرانز كافكا ،التي تتحدث عن قساوة البشر  ومقالات عن الأدب الكوردي في جمهوريات ما وراء القفقاس .وغيرها .
فى احدى جلساتنا على شاطيء دجلة ، سمعته يتحدث بأنبهار عن رواية ( الساعة الخامسة والعشرون ) للكاتب الروماني فيرجيل جيورجيو، وبطل الرواية يمثل أنموذجاً حقيقياً للإنسان المعاصر ، الذي يحيا بين فكي الآلة وتسارع الوقت والأحداث. في رواية جيورجيو صور لملايين الناس وهم يقتلون بوحشية في الحروب ، التي كانوا وقوداً لها ولا يعلمون كيف ولماذا ومن أشعلها.؟ وهي أحدى أهم الروايات التي تدين الحروب وما ينجم عنها. إنها إدانة للظالمين والفاسدين، وعطف على المضطهدين والمقهورين. هي لوحة من واقع تخللته ألوان الطبائع المختلفة .
 
كان الراحل شاعراً حالماً رقيقا ، يهز الشعر الجميل روحه وكيانه ، ويردد على مسامعي قصائد لعبدالله كوران وشعراء كورد آخرين . و كان غالبا ما يتحدث عن الشاعر حاجي قاري كويي – وهو موضوع اطروحته لنيل الدكتوراه - و يقول ان حاجي قادري كويي هو أحد ابرز الشعراء القوميين ، وكنت أقول له ان احمدي خاني قد سبق كويي في هذا المجال ، فيردعليّ ، ان ذلك صحيح ولكن الحس القومي يطبع معظم شعركويي أكثر من أي شاعر كوردي آخر .
 
هل الكورد أقلية في العراق ؟:
 
ذات يوم رأيته منفعلاً يقول لي في صوت متهدج : هل تدري ماذا يقول هؤلاء الشوفينيون في وزارة الثقافة ؟. قلت ، اهدأ اولاً ، ثم حدثني بالتفصيل عما جرى اليوم  ، وأخذ يسرد محتوى الجدل الساخن الذى جرى بينه وبين أحد المدراء العامين في الوزارة .
كان هذا المدير الجاهل ، يقول أن الكورد أقلية في العراق ! فرد عليه الراحل  أن شعب كوردستان يعيش على أرضه التأريخية وأي شعب على ارضه لا يمكن أن يكون أقلية ، مهما كان عدد نفوسه قليلاً أو كثيراً ، ولو ضم - ضد رغبته - الى بلد آخر أكثر سكاناً.
 
 قلت له يا صديقي : " محاولتك لن تجدي نفعاً مع هؤلاء ، لأنهم مصابون بالجمود العقائدي،  وشعارات الحزب القائد وأقوال زعمائه ، هي كل رصيدهم من الثقافة،  وان كانوا مدراء عامين في وزارة الثقافة .هناك يساريون يعطفون على القضية الكوردية ، بل أن بعضهم يقر شفاهاً  ، ان من حق الشعب الكوردي تقرير مصيره  بنفسه  ، ولكن ما ان تصل الأمور الى  منح الكورد بعض حقوقهم ، حتى يرفعون في وجه الكورد الشعارات الديماغوجية عن الوحدة الوطنية والعراق الموحد والنضال ضد الأمبريالية . واذا كان هذا ديدن اليسار ، فما بالك بالقوى القومية الشوفينية واليمينية الرجعية . الحرية يا صديقي تنتزع ولا تمنح . في الدولة المتعددة القوميات يتغني الحكام وهم في العادة – من القومية الأكبر في البلاد -  بالوحدة الوطنية لغمط حقوق القوميات الأخرى .
"
وهناك موقف شجاع آخر لهذ الشاعر الذي كان يحلم بالدولة الكوردية المستقلة ، فقد بذل جهدا عظيماً لأقامة المهرجان الثقافي الكوردي الأول في بغداد في عام 1974 ، وكان مهرجانا ثقافيا رائعا قدمت فيه عشرات المسرحيات وأبدعت الفرق الموسيقية والغنائية الكوردية في امتاع الجمهور البغدادي بأعذب الألحان الكوردية الأصيلة ، اضافة الى معارض الفن التشكيلي للفنانين الكورد وغيرها من الفعاليات الثقافية والفنية. وهذا المهرجان كان الأول والأخير من حيث أصالتها وتأثيرها الأيجابي ، وتوقيتها الصحيح واقامتها في قلب بغداد .صحيح ان وزارة الثقافة في الأقليم أقامت عدة مهرجانات ثقافية خلال السنوات العشر الماضية ، الا أنها كانت متواضعة جداً قياساً الى المهرجان الثقافي الكوردي الأول .
عقد المهرجان في وقت عصيب ، حينما كانت الأمور في شباط عام 1974 تتجه الى التأزم بين القيادة الكوردية وبين حزب البعث الفاشي . فقد القى الراحل الكلمة الأفتتاحية للمهرجان بحضور كبار قادة الحزب والدولة . وكانت كلمة رصينة ورائعة ، تتحدث عن أمجاد الكورد وتراثهم الثقافي والفني بأعتداد بالنفس وايمان راسخ بالهوية الكوردية المتميزة واستجلاء للتراث الثقافي الكوردي من عاشق لهذا التراث الثري .
والحق أنني كنت قلقاً عليه أشد القلق : من كان يتجاسر في ذلك الوقت العصيب البالغ التوتر حيث الأعصاب مشدودة ومتوترة ،والشعب الكوردي يترقب ما تؤول اليه الأمور بأنتهاء السنوات الأربع ، ومن ثم التطبيق المفترض للحكم الذاتي لكوردستان في الحادي عشر من آذار  1974 . ونحن نعرف  جيداً ، ماذا حدث في يوم انتهاء المدة المقررة ، حيث أصرت القيادة البعثية الفاشية عل اعلان الحكم الذاتي الكارتوني لمنطقة كوردستان .
وصدق حدسي ، فقد احيل الراحل الكبير على التقاعد بعد فترة وجيزة من انتهاء المهرجان . وحمدت الله لأن الأمر اقتصر عل الأحالة على التقاعد وليس ما هو أسوأ منه بكثير . !
 
ألقد اعتدنا نسيان خيرة مبدعينا وعلمائنا بعد رحيلهم وغمط حقوقهم ونسيان ما قدموه لشعبهم من خدمات جليلة .
هل فكرت جامعة السليمانية مثلاُ بأطلاق اسم الراحل الكبير على احدى قاعاتها أو تسمية احدى دفعات التخرج من الجامعة بأسمه ، وهل تقوم بلدية السليمانية بأطلاق اسمه على احد شوارع المدينة .أنه جدير بكل هذا وأكثر من هذا .
في الغرب ترى اسماء المبدعين والعلماء تنقش على لوحات من المرمر أو الرخام أو البرونز ، وتعلق على الجدران قرب ابواب المنازل والشقق التي كانوا يسكنون فيها ، وترى انصابا لهم في الميادين و شوارع بأسمائهم . وكما يقول الروس:" ان الكتاب والشعراء هم معلمو الشعب " ، ونحن نناشد – من هذا المنبر الرصين - الجهات المختصة ان تلتفت الى هذه المسألة ، ففي نهاية المطاف الشعب ،  يعرف بمبدعيه في كافة مجالات النشاط الأنساني .
أيها الراحل الكبير : هذا غيض من فيض ، مما امتلأ به قلبي وروحي من مشاعرعن تلك الفترة الخصبة ، التي كنا فيها نعيش في عالم الأدب والفن ونحلم بالغد الأفضل ، وكنت بجهودك تقرّب ذلك اليوم العظيم ، يوم الحرية والكرامة الأنسانية ، عندما يتولى الشعب الكوردي زمام اموره بنفسه ويعيش على ارضه التأريخية حراً مستقلاً . في ذلك اليوم العظيم سأردد اسمك بين اسماء كثيرة ناضلت وضحت من اجل اليوم الأغر المنشود .
ملاحظة : هذه السطور جاءت عفو الخاطر ، في الذكرى السابعة لرحيل هذا الأنسان الرائع المصادف الثاني من حزيران 2015 .
 
 


72
دميرتاش ، النجم الصاعد في السياسة التركية

                                                                     
جــودت هوشيار
 
في الأنتخابات التشريعية التركية، التي جرت في عام  2011 ، تمكنت ثلاثة أحزاب فقط من تخطي عتبة 10% ، بينها حزبان معارضان ، و هما ( حزب الشعب الجمهوري ) ( 26% ) و(حزب الحركة القومية ) ( 13%) .
حزب الشعب الجمهوري ، علماني ويساري معتدل ، ويعد نفسه ممثلاً لتراث ( أتا تورك ) والنخبة العلمانية وطراز الحياة الغربي . ويصوت له في العادة ،  الناخبون في المناطق الغربية ، التي تعد الأكثر تطوراً صناعياً في البلاد .ولكن الحزب أخذ يفقد تدريجياً تأييد الناخبين له حتى في هذه المناطق . وفي كل دورة أنتخابية جديدة ، يحصل على نسية أصوات أقل من الدورة التي سبقتها . 
 
أما ( حزب الحركة القومية ) اليميني ، فأنه يرفع شعار ( تركيا للأتراك ) و( العالم التركي الموحد من البلقان حتى ياكوتيا ) ، وهي الشعارات الطوبائية نفسها التي كان يؤمن بها  ( أنور باشا ) ولم يعد لها في عالم اليوم أي معني. ويستغل الحزب ، المشاعر السلبية لقطاع من المجتمع التركي ازاء القضية الكوردية ، ولسياسة الحكومة التصالحية في القضية الأرمنية ، لتوجيه النقد الى أردوغان  وهذا القطاع الصغير نسبيا هو الذي يدعم الحزب في الأنتخابات .
 
وهذان الحزبان اللذان يقفان موقف المعارضة السلبية للحزب الحاكم ، ليس لديهما أي برنامج ايجابي ، ومن المؤكد أنهما سوف يظلان في المعارضة لأمد طويل ، دون أن يلوح في الأفق أي أمل بوصولهما الى الحكم في ظل المتغيرات الحالية في تركيا والمنطقة .
 
وهذا الوضع ، الذي يلائم أردوغان تماماً لن يستمر بعد الآن . فقد ظهر في المشهد السياسي التركي  ، حزب يساري من نمط جديد ، يحاول وضع حد لحرمان الكورد من الوصول الى البرلمان ، ومشاركتهم في العملية السياسية على نحو علني وقانوني .
المعدل العالي للنمو السكاني للكورد أدي الى زيادة ملحوظة في عددهم  ، مما هيأ الأرضية المناسبة لتجاوز الحزب الجديد عتبة 10(% ) و انتهاد عهد عزل الكورد عن العملية السياسية في البلاد .
في الأنتخابات السابقة صوت عدد كبير من الكورد من ذوي الأتجاهات الأسلامية ( اتباع الطرق الصوفية ) لصالح حزب أردوغان
ولكن سياسة أردوغان الكوردية التي تمثلت في ( دفع تنظيم داعش لمهاجمة مدينة كوباني ، ورفض استقبال اللاجين الكورد النازحين من مناطق القتال ، وعدم السماح لكورد تركيا بنجدة أخوانهم ومشاركتهم في قتال داعش ) ، أدت الى تردي شعبية أردوغان ، ليس بين السكان الكورد فحسب ، بل في عموم تركيا بسبب قمع حرية الرأي والتعبير ومحاولة اسلمة المجتمع التركي والدخول في نزاع علني على النفوذ مع الداعية فتح الله غولن. ، الذي يحظى بتأييد واسع في البلاد وبخاصة لدى الأوساط المحافظة . كما أن واندلاع حركات الأحتجاج ضد سياساته اسهمت الى حد كبير في تخلي شرائح معينة من المجتمع التركي عن تأييده والتصويت لحزبه في الأنتخابات المحلية والتشريعية ..
 في ظل هذه الظروف ظهر نجم جديد في السياسة التركية ، يتمتع بسحر شخصي وكاريزمية طاغية ، والقدرة الفائقة في التأثير في الجماهير ، عن طرق الخطابة البليغة باللغتين الكوردية والتركية .
 
هذا النجم الصاعد في السياسة التركية ، هو صلاح الين ديمرتاش ( 42 ) عاماً . محام شاب يتزعم حزب الشعوب الديمقراطي _ الذي تشكل بأندماج الأحزاب والحركات الكوردية ، وضم أطرافاً غير كوردية من الفئات الأجتماعية والقومية والمذهبية المهمشة تأريخياً في الجمهورية التركية .
 
 لقد أدرك ديمرتاش ضرورة كسر طوق العزلة بين المجتمعين التركي والكوردي وأجتذاب قطاع لا يستهان به من الأتراك للتصويت لصالح حزبه. .
 
لقد تمكن ديمرتاش من تشكيل ائتلاف واسع وانتشال السياسة الكوردية من محيطها الضيق نسبيا الى رحاب تركيا بأسرها
ورغم ان دميرتاش معروف بعلاقاته الطيبة مع كل الحركات والأحزاب الكوردية اليسارية وبضمنها حزب العمال الكوردستاني ، الا أنه أدرك ان من الصعب تخطي عتبة 10% ودخول البرلمان والأسهام في العملية السياسية من دون جذب شرائح من المجتمع التركي للنصويت لصالح الكورد . ديمرتاش الكاريزمي توجه الى قطاعات واسعة من الشباب التركي ، ذوي الميول الليبرالية الغربية اليسارية ، والى حاملي راية الدفاع عن حقوق الأنسان والحرية الشخصية ، وحقوق المرأة ، وحقوق الأقليات القومية والدينية والجنسية ) .
قاد  ديمرتاش حملة انتخابية منظمة بمهارة وذكاء ودعا كل من تعرض الى التمييز للتصويت لصالح حزبه.
 شعارات حزب الشعوب الديمقراطي وكلمات وصور زعيمه الكاريزمي كانت تملا ميادين المدن التركية بأسرها وليست المناطق الكوردية فقط، .  ففي أنقرة مثلاً  كانت ثمة ملصقات عليها صورة البرلمان مع حزب الشعوب الديمقراطي والى جانبه صورة أخرى من دون هذا الحزب . واستناج بليغ يقول :
 
 " صوّت لحزب الشعوب الديمقراطي ، ولا فأن كل شيء سيبقى على حاله ، وعندما نفوز ستكون هناك حكومة ائتلافية .

الحملة الأنتخابية الناجحة أثمرت عن فوز حزب الشعوب الديمقراطي بنسبة تجاوز 13 % من الأصوات ، وحصوله على 80 مقعداً في البرلمان المؤلف من 550 عضواً ، وبذلك يمكن للحزب عرقلة مشروعات أردوغان لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية .
وقد صرّح ديمرتاش بعد إعلان النتائج أن حزبه لن يشكل تحالفاً مع الحزب الحاكم، مشدداً على أن الجدل حول النظام الرئاسي قد انتهى
وأعتقد أنه لم يكن بوسع ديمرتاش الأعلان عن نيته في الأشتراك في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية ، في حين أنه يدين – الى حد كبير - بنجاحه في تخطي عتبة 10% الى الشباب الليبرالي المعادي لأيديولوجية الحزب الحاكم .
 
قد يكون تصريح ديمرتاش ، وسيلة للضغط على أردوغان لأنتزاع مزيد من التنازلات منه لصالح الفضية الكوردية من جهة ، وحقوق الأقليات ، و الحرية الشخصية ، وحرية الرأي والتعبير ، واطلاق سراح معتقلي الرأي والضمير في تركيا من جهة أخرى .
 
  المستقبل المنظور حبلى بالمفاجآت ،  ولا يمكن التكهن بما تؤول اليه الأمور بعد تصريح ديمرتاش ، ذلك لأن حزب العدالة والتنمية ، رغم كل شيء ، هو أقرب الأحزاب التركية ، الى حزب الشعوب الديمقراطي .
 
 



73
ايليا اهرنبورغ وقوة الكلمة الصادقة

جــودت هوشيار         
 
من الصعب أن نجد بين الكتاب الروس– بعد جيل العمالقة ، غوغل ، نولستوي ، تورغينيف ، دوستويفسكي ، تشيخوف ، بونين -  كاتباً أكثر شهرة في داخل روسيا وخارجها ، وأعمق تأثيراً في الأدب  الروسي في القرن العشرين من ايليا أهرنبورغ ( 1891 – 1967) .فقد كان طوال حياته الأبداعية  خالقاً للأشكال الشعرية والروائية الجديدة ، وجسراً ثقافيا، مهماً – ان لم يكن وحيداً - بين روسيا وأوروبا .
 
لم تترجم من أعمال اهرنبورغ الى العربية سوى عدد محدود من رواياته ، ذائعة الصيت ، التي كتبها  في الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين ( سقوط باريس ، العاصفة ، الموجة التاسعة ،أقوى من الموت ، وذوبان الجليد وغيرها ) التي ترجمت الى العربية  - ليس من اللغة الروسية مباشرة ، بل من اللغتين الأنجليزية والفرنسية - وصدرت منها طبعات عديدة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى عهد قريب ، ولكنني  ، أكاد أجزم ان الجيل الجديد من قراء العربية لا يعرفون عنه شيئاً يذكر ، مع أنه وحسب احصائية لمنظمة اليونسكو في أوائل الستينات من القرن الماضي ، كان الكاتب الأكثر شهرة في العالم ويحتل مكان الصدارة بين الروائيين العالميين من حيث مقروئية رواياته المترجمة الى عشرات اللغات الأجنبية .
 
 دور النشر اليسارية في العالم العربي ، قدمته ككاتب سوفييتي من مؤيدي النظام القائم . وجاء هذا الأنطباع الخاطيء لأن رواياته الرائعة فكراً وفناً ، حازت على أرفع جوائز الدولة السوفيتية وهي جائزة ستالين من الدرجة الأولى  ثلاث مرات ، ولأن دور النشر العربية المحسوبة على التيار اليساري ، هي التي قامت بترجمة ونشر رواياته ، مما ولد انطباعاً خاطئاً ، ان اهرنبورغ من مؤيدي الستالينية .
 
والأسوأ من ذلك أن بعض المترجمين العرب، العاملين في دور الترجمة والنشر في موسكو - تلك الدور التي لم تكن تنشر في العهد السوفييتي سوى النتاجات التي كانت تتفق مع ايديولوجية الحزب الحاكم  ً و" الواقعية الأشتراكية " - حاولوا التقليل من شأن اهرنبورغ  وخيل اليهم ، ان كل من كان يحتل مكانة بارزة في العهد السوفييتي من كبار الكتاب والشعراء والفنانين ،ويحظى بتقدير واحترام الدولة السوفيتية فهو من كتاب السلطة ، غير جدير بالدراسة والتقييم. وهذه نظرة ساذجة وسطحية الى أبعد الحدود . فهم لا يعرفون شيئاً عن عذابات الكتّاب الروس الكبار وصراعهم الدائم مع السلطة واجهزتها الرقابية والأمنية ، ولا يعرفون شيئاً عن محنة اهرنبورغ وعذاباته على وجه الخصوص  ، حيث كان سيف السلطة مسلطاً عليه طوال وجوده في الأتحاد السوفييتي .
 
الروايات التي حظيت بأهتمام اليسار العربي كانت ، تلك التي كتبها في فترة معينة من  حياته ، حين أحس – قبل غيره –بخطر النازية الألمانية على بلاده وعلى العالم ، فكتب روائعه ليس دفاعاً عن النظام القائم ، بل لفضح الفاشية بشتى صورها ، والوجه الآخر القبيح للرأسمالية ، التي خبرها ، حيث عاش في فرنسا وألمانيا وبلجيكا ، لسنوات طويلة ، وأكثر مما عاش في الأتحاد السوفييتي . روايات أهرنبورغ تصوّر ايضاً الواقع  السوفييتي الجديد بكل ما تحمله من آلام ومعاناة ومن بطولة الناس السوفييت وتفانيهم ، رغم كل المصاعب ، في بناء مستقبل أفضل .
أهرنبورغ كتب أكثر من مائة كتاب في مختلف أنواع الأدب من رواية ، وقصة ، و نقد ، وبحث .كما كتب الآف المقالات النارية خلال الحرب الألمانية -الروسية (1941-1945 ) تلك المقالات التي الهبت حماس المقاتلين السوفييت في جبهات القتال ,
اهرنبورغ حظي بمكانة عالمية ، وكان صديقاً مقرباً لأشهر أدباء وفناني العصر ، وكان حتى أوائل الثلاثينات من أشد معارضي النظام الشيوعي ، وكان يسخر من هذا النظام في رواياته الطليعية ومقالاته اللاذعة ، ولكن بعد استيلاء هتلر على السلطة في ألمانيا شعر بالخطر المحدق ببلاده وبالعالم الديمقراطي  وكان أمامه طريقان اما الأنحياز الى شعبه ووطنه والدفاع عنهما بقلمه الجبار أو الصمت ، فأختار الطريق الأول.
 
وحسب علمي لم ينشر في العالم العربي أهم رواياته التي كتبها في العشرينات من القرن الماضي وهي اخصب فترة في تأريخه الأبداعي .
وما عدا بعض التعليقات المتناثرة هنا وهناك في الصحافة العربية لم أقرأ شيئا ذا بال عن هذا المبدع الكبير الذي كان الضمير الناطق لعذابات البشرية بايمانه الراسخ بالقيم السامية التي تعد القاسم المشترك لثقافت شعوب العالم . لقد عاني أهرنبورغ من النظام السوفييتي ، أشد المعاناة ومنع من النشر عدة مرات ، بسبب نقده اللاذع لكل النظم الشمولية ودفاعه هن الثقافة الأوروبية وعن كبار كتاب وفناني العالم  الذين منعت نتاجاتهم في الأتحاد السوفييتي في العهد الستاليني ، ومنهم هيمنجواي ومالرو وكافكا وبيكاسو ومودلياني وعشرات غيرهم.
 
البداية :
 
شاعر مبدع ،كتب قصائد عاطفية رائعة ، ولكنه لم يشتهر بشعره ، بل برواياته وقصصه ، التي لفتت اليه الأنظار ، وأثارت جدلا واسعا  بين النقاد والقراء داخل البلاد وخارجها في آن ، منذ العشرينات من القرن الماضي .
 
نثره الفني غطى على شعره الى الذي طواه النسيان تقريباً . ناثر رقيق وغزير الأنتاج ، وفي الوقت نفسه كاتب مقالات تعد نماذج رفيعة لأدب المقال . مقالاته أصبحت روائع في باب المقال الصحفي . وفي نثره الفني أخذ يحس على نحو متزايد بضغط الحداثة والأحداث الآنية الساخنة .
في الرابع عشر من حزيران عام 1940 دخلت القوات الألمانية باريس ، وفي ايلول 1941 شرع اهرنبورغ بكتابة رواية " سقوط باريس " حيث صدر الجزء الأول من الرواية في ربيع عام1941
 
اسلوب اهرنبورغ :
 
كانت رواياته تجريبية لم يألفها النقاد والقراء السوفييت : مزيج من الأجناس الأدبية , وكان ذلك اسلوباً جديداً تماماً  في بناء الرواية حينذاك .
وتتجلى في تلك الروايات ، القدرة الأبداعية الفائقة والموهبة الصحفيّة العاليّة، إذ تبدو بعض فصول رواياته مزيجاً من النثر المشرق والتقارير الفنية ، بالغة الجمال . ورغم ذلك اعتبر بعض النقاد هذا الشكل الروائي مثلبة في معمار الرواية ، في حين اعتبره البعض الآخر ميزة مهمة .
ومن يطلع على آخر الأصدارات الروائية في الغرب في أيامنا هذه سيجد ان المزج بين الأجناس الأدبية ضمن الرواية الواحدة أمر شائع . وقد قرأت في الأيام الماضية ، رواية جديدة لكاتب عراقي ، كتب على الوجه الثاني لغلاف الرواية ، أنه لجأ الى المزج بين الأجناس الأدبية ضمن روايته ، واعتبر ذلك ابتكاراً جديدأً في الفن الروائي ، ولم يكتف بذلك ، بل زعم أن روايته هي آخر صيحة في رواية " ما بعد الحداثة " وأنه الرائد الأول لهذا الشكل الروائي في العالم العربي . وهذه مزاعم لا تستحق الوقوف عندها ، وقد أشرنا اليها لنبين ريادة أهرنبورغ لهذا النوع من الروايات .
ويمتاز نثر اهرنبورغ بما يسمى " الأسلوب البرقي " أي الجمل القصيرة الفعالة والمؤثرة .
وهو اسلوب ، سرعان ما أنتشر بين الروائيين بفضل اهرنبورغ وصديقه ارنست هيمنجواي .
 
ذوبان الجليد :
 
كان اهرنبورغ على دراية واسعة وعميقة بالثقافة الأوروبية وبكل الأتجاهات الفنية الحديثة في الغرب. وقد سمح له السوفييت بالأقامة في الخارج مراسلا لجريدة الأزفيستيا . ورغم ذلك لم يكن ستالينيا في يوم من الأيام .ولم يسمح لنفسه كتابة كلمة مديح واحدة للدكتاتور . فبعد أشهر قليلة من وفاة ستالين ، كتب روايته ، ذائعة الصيت " ذوبان الجليد " في عام 1953 ، وقد دخل مصطلح " ذوبان الجليد " ليس الى اللغة اليومية فقط بل الى العلوم السياسية والأجتماعية في كل أنحاء العالم ، بصفة مصطلح يرمز الى العهد السوفييتي الجديد ، المنفتح نسبياً.هذا المصطلح ما يزال يستخدم على نطاق واسع حتى يومنا هذا .
" ذوبان الجليد "  رواية تراجع الفترة الستالينية وكل ما جاءت به من تدمير للثقافة والمثقفين . ويقول بعض النقاد أن اهرنبورغ عبقري العناوين ، بمعنى أنه يختار عناوين نتاجاته لتعبر عن روح واجواء الفترة التي كتبت فيها ، فقد اطلق هذا المصطلح " ذوبان الجليد " على الفترة التي أعقبت وفاة ستالين وما تميزت به من قدر لا بأس به من حرية التعبير ، والخلق الأدبي والفني .

الناس ، والأعوام ، والحياة
:
 
خلال السنة الثانية من فترة دراستي في موسكو( 1960 – 1967 )  . لفت نظري جدال واسع وساخن على صفحات المجلات والجرائد الروسية ،  حول الجزء الأول من مذكرات أهرنبورغ المعنونة " الناس والأعوام والحياة " الذي صدر في عام 1961 . وقد استطعت بشق الأنفس الحصول على نسخة من الكتاب . ومنذ ذلك الحين أخذت أتابع كل ما ينشره أهرنبورغ وما ينشر عنه في الصحافة الروسية .كما تسنى لي الحصول على نسخة من روايته الذائعة الصيت " ذوبان الجليد ". وقد يستغرب القاريء ، ما الصعوبة في أقتناء نسخ من أي كتاب صادر حديثا . وأقول ان الشعب الروسي من أكثر شعوب العالم عشقاً للقراءة وأي كتاب جدير بالقراءة – وان كان بمئات الألوف من النسخ -  ينفد فور صدوره ، ولا يمكن الحصول عليه الا بسعر مضاعف في السوق السوداء أو عن طريق ( الواسطة ) اذا كان لديك معارف يعملون في متاجر الكتب المنتشرة في المدينة التي تسكن فيها .
ذات مرة سأل صحفي غربي اهرنبورغ ،عما فعله الكتّاب السوفييت خلال ربع قرن من قيام الاتحاد السوفياتي فقـال: «لقد ربينا جيلاً من القراء».
 
لقد توّج اهرنبورغ نشاطه الأبداعي بصدور مذكراته ، التي تعد  ، سجلاً حقيقياً  وصادقاً لوقائع العصر و مصدراً مهماً للغاية لفهم الكوميديا البشرية التي يطلق عليها اسم التأريخ ، وهي مذكرات تقرأ بشغف واهتمام ، لما تتضمنه ، من التأمل الفلسفي لوقائع الحياة العاصفة التي احياها الكاتب وسط الأحداث الخطيرة للقرن العشرين ولعلاقاته بكبارالساسة في الغرب وبرجال الدولة في بلاده وبأهم كتاب العصر وفنانيه ، في النصف الأول من القرن العشرين . ولعل من أمتع فصول هذه المذكرات ، تلك التي كرسها الكاتب للسنوات الأولى من حياته في باريس ، وسط الأجواء البوهيمية لمقهى ( روتوندا ) الشهير ، بين الكتاب والشعراء والفنانين الشباب – في ذلك الوقت -   حيث تعرف فيها على مبدعين كبار في شتى مجالات الآداب والفنون ، وأصبح العديد منهم ،  اصدقاء العمر بالنسبة اليه .. وهو يخصص فصلا كاملا لكل مبدع ، كما يتحدث عن معاناة الكتاب والفنانين والمسرحيين الروس في ظل النظام الستاليني .
 
كتاب الطاولة :
يطلق الروس مصطلح " كتاب الطاولة " على الكتاب الذي تضعه في متناول يدك على الطاولة وتقرأ فيه بين آونة وأخرى ، كلما احتجت اليه أو رغبت في اعادة قراءته ، لشدة حاجتك اليه أواعجابك به . وبالنسبة اليّ فأن كتاب طاولتي هو" الناس ، والأعوام ، والحياة " ففيه دروس بليغة لكل المثقفين ، ولكل من يعتز بثقافات الشعوب دون تمييز ، وبالقيم الأنسانية النبيلة .
. كان اهرنبورغ يعتقد بأن غياب الدين عن الحياة الأجتماعية في الأتحاد السوفييتي ، قد ترك فراغاً روحياً هائلاً، لن تملأه سوى الثقافة وبخاصة الآداب والفنون ، وهذه الفكرة يتحدث عنها في مواضع عديدة من مذكراته الرائعة ، التي كانت التربة الخصبة ، التي نبتت ونمت فيها حركة " المنشقين الروس " منذ الستينات وحتى تفكك الأتحاد السوفييتي .
 
قوة الكلمة الصادقة :
 
كان خطر الأعتقال والتصفية محدقاً بأهرنبورغ طوال فترة حكم ستالين . وكان كمن يسير على حبل مشدود . يقول بين الأسطر ما لا يمكن أن يبوح به صراحة ً ، فهو كان يوازن بين التعبير عما يفكر  فيه ويشعر به في ظروف النظام الشمولي المغلق ، وما يتوق اليه من أدب قادر على التأثير في الجمهور العام القاريء ، وبين قيود الرقابة التي كانت مفروضة على حرية التعبير ، وعلى نشاطات المبدعين والعلماء وعموم المثقفين . وكان يعتقد أن قول جزء من الحقيقة راهناً ، افضل وأقوى تأثيراً من قول كل الحقيقة بعد عشرين أو ثلاثين عاماً . لم ير اهرنبورغ سنوات " البريسترويكا " فقد غيبه الموت قبل ذلك بعشرين عاماً تقريباً ، ولكن كتاباته المؤثرة ، التي كان المثقفون الروس يتلقفونها بشغف ويطيلون التفكير فيها ،  أسهمت الى حد بعيد في التشريح الفكري للنظام السوفييتي الشمولي البائد .
اسم اهرنبورغ سوف يبقى حياً في ذاكرة الأجيال الروسية الصاعدة وفي سجل الثقافة العالمية ، وليس من قبيل المصادفة أبداً ، أن العديد من الكتب قد ظهرت في الغرب في السنوات الأخيرة عن حياة وأبداع هذا الكاتب الأنساني الكبير.
 



74
أيها العبادي التأريخ لا يرحم ، فكن على مستوى المسؤولية

جــودت هوشـيار
 
سقطت حكومة جمبرلن ، فى العاشر من شهر أيار 1940، في أحلك أيام الحرب العالمية الثانية ،عندما كانت لندن تتعرض يومياً الى الضربات الجوية الألمانية المدمرة ، وأصبح  ونستون  تشرتشل رئيسا للوزراء . وفى الثالث عشر من الشهر نفسه ، أي بعد ثلاثة ايام من توليه الحكم ، وقف تشرتشل فى مجلس العموم البريطاني  يخاطب رئيس وأعضاء المجلس ويطلعهم على الحقائق المرة للوضع السيء في جبهات القتال . وفي ختام كلمته التأريخية قال تشرتشل : "
" أود أن أقول لكم ، وكما اخبرت زملائى اعضاء الحكومة ، لا يوجد ما اقترحه عليكم سوى الدم والدموع والعرق والعمل . تسألون ماهى سياستنا ؟ اقول لكم انها النصر ، النصر بأى ثمن ، النصر رغم الأرهاب كله ، النصر مهما كان صعبا والطريق اليه طويلة ، لأنه لا حياة لنا من دون النصر .
أما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ، الذي خيب الآمال المعقودة عليه ، فلم يكن صريحاً مع شعبه ، عندما خاطب العراقيين في كلمته المتلفزة يوم الخامس عشر من هذا الشهر ، بعد يوم واحد من سقوط الرمادي .
قال العبادي ، أن ( التراجع ) الحاصل في الرمادي أمرعابر ، وان المبادرة ما تزال بيد قواتنا المسلحة البطلة ، وان داعش قد أصيب في الآونة الأخيرة بهزائم متلاحقة ، ولم  تبق في صفوفه سوى أعداد قليلة من الأرهابيين ، الذين سيتم القضاء عليهم خلال الساعات القليلة القادمة.
 صدق العبادي في حكاية ( الأعداد القليلة ) ، فعناصر داعش الذين استولوا على مدينة الرمادي ، كان تعدادهم لا يتجاوز ( 150 ) عنصراً . يقابلهم أكثر من ( 6000 ) عنصر من الجيش والشرطة مزودين بأحدث الأسلحة من دبابات وصواريخ ومدافع ولديهم كميات هائلة من الذخائر . كل هذه الأسلحة اصبحت لقمة سائغة لـ( داعش ) ، وتكررت انتكاسة الموصل مرة أخرى ، وطوى النسيان مسألة تحرير الموصل الى أجل غير مسمى
كانت كلمة العبادي العصماء غطاءاً تجميلياً لواقع مرير تعيشه القوات المسلحة العراقية والشعب العراقي بأسره .وتقول صحيفة " صنداي تايمز " البريطانية : "القوات العراقية أصبحت عديمة الجدوى تماماً، ولا تتمتع بالروح المعنوية، ويتم إرسال الجنود إلى ميادين القتال دون طعام أو ماء، مع قليل من الذخيرة، ويطلبون منهم التزود بالذخيرة من رفاقهم القتلى."
الجيش العراقي الحالي تشكل من دمج الميليشيات الحزبية ،غير المنضبطة . ولعل ظاهرة " الفضائيين " خير دليل على استشراء الفساد بين القادة العسكريين الجدد – الذين منحوا رتباً عسكرية عالية لا يستحقونها . ويقال أن حصة الأسد من رواتب الفضائيين ، كانت تذهب الى مكتب القائد العام للقوات المسلحة ، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي .
البيانات العسكرية الصادرة عن وزارتي الدفاع والداخلية وقيادة عمليات بغداد ، ما هي الا قنابل دخانية في محاولة للتغطية على الحقائق ،التي يعرفها ابسط جندي في ارض المعركة . ولو قمنا بأحصاء تقريبي - استناداً الى تلك البيانات ، لعدد قتلى داعش منذ معارك الفلوجة ،قبل نحو سنة ونصف وحتى يومنا هذا ، نجد أن العدد الأجمالي لقتلى ( داعش ) قد بلغ حوالي ستين ألف قتيل في محافظات الأنبار وديالى والموصل وبغداد وكركوك  .
ولما كان عدد الجرحى في الحروب ، هي خمسة أضعاف عدد القتلى تقريباً ،فأن عدد جرحي داعش  بموجب هذه البيانات كان ينبغي ان يصل الى (300) ألف جريح ، لنتذكر الخسائر الأميركية في العراق ، والتي بلغت أقل بقليل من خمسة آلاف قتيل وحوالى ثلاثين الف جريح . واذا علمنا أن أعلى تقدير لعدد مسلحي ( داعش ) لا يتجاوز ( 50 ) ألف عنصر، لأدركنا مدى المبالغة في البيانات الرسمية العراقية .
الجيش العراقي لم يتمكن من تطهير بلدة الفلوجة من ارهابيي داعش رغم عشرات المحاولات التعرضية والقصف الجوي بالصواريخ والبراميل والغارات الجوية التي تشن على المدينة يومياً طوال حوالي ثمانية عشر شهراً .كما أن الجيش العراقي عجز عن الأحتفاظ بالمناطق المحررة ( مصفاة بيجي ، الكرمة ، ناحية البغدادي .. الخ ) .
وصفوة القول ان الجيش الحالي المترهل ، الذي يقوده جنرالات الدمج - والذي عجز تماماً عن الأستفادة حتى من الضربات الجوية لقوات التحالف الدولي ،   لن يحقق النصر على داعش ،اذا ظل على وضعه الحالي ،  ولا بد من اعادة هيكلته والتركيز على  التدريب واكتساب المهارات القتالية ، وتعزيز القدرات الأستخبارية واختيار القادة الكفوئين .
ثم أن تنظيم داعش ليس مجموعة ارهابية صغيرة ، ولو كان الأمر كذلك ، لكانت الشرطة العراقية وحدها كفيلة بالقضاء المبرم عليه في وقت وجيز ، بل جيش مدرب ومنظم أقوى من القوات البرية لمعظم الجيوش العربية .
كفى خداعاً أيها السادة : لتكن لديكم شيء من شجاعة تشرتشل وحكمته وارادته القوية .!
 آن الأوان لمكاشفة الشعب بالحقائق ، وتوفير كل مستلزمات النصر على داعش ليس بالبيانات والتصريحات والخطب الرنانة وتبرير الهزائم وتزوير الوقائع ، بل بقرارات صعبة وحاسمة ، تفتح الطريق أمام مصالحة وطنية حقيقية وتضع حداً لسياسة احتكار السلطة الفعلية والنفوذ والمال من قبل مكون واحد ، وتجارب الشعوب ( في يوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا مثلاً ) تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يمكن في بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب أن يدوم حكم مكون واحد ،مهما كان حجم هذا المكون .
وتقع على رئيس الوزراء ،القائد العام للقوات المسلحة ،  صانع القرار الأول في العراق -  الذي منحه الدستور صلاحيات واسعة تكاد ان تكون مطلقة- المسؤولية التأريخية في تصحيح الأوضاع الشاذة في البلاد .
أيها العبادي ، كن على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقك ،  فالتأريخ لن يرحم الحاكم الذي يتقاعس أو يعجزعن القيام بما هو مطلوب منه ، خاصة في الظروف العصيبة ، كالتي يمر بها العراق اليوم .


75
الصاخبة بين باريس وموسكو  حياة ايليا اهرنبورغ


                 

جــودت هوشيار
 
 
تبوأ ايليا اهرنبورغ ( 1891 – 1967 ) مكانة بارزة وفريدة في الأدب الروسي ،وفي الثقافة الأوروبية عموماً في القرن العشرين ، لا يدانيه فيها أي كاتب روسي آخر ، من المعاصرين له ، فقد كان الكاتب الروسي ، الأكثر شهرة في الغرب ، طوال أكثر من نصف قرن من حياته الأبداعية الخصبة ، أنتج خلالها أكثر من مائة كتاب في شتى أنواع الأدب ، من رواية ، وقصة ، ونقد ، وبحث ، ولكنه يعد في المقام الأول ،روائياً رفيع المستوى . ترجمت أعماله الى أهم اللغات الحية في العالم ومن بينها اللغة العربية . وكان له- كخالق للأشكال الأدبية الجديدة في الشعر ، والرواية ، وأدب المقال - تأثير واضح في كتّاب وروائيين  وشعراء طليعيين من جيله والأجيال الروسية اللاحقة. ويعتقد بعض النقاد الروس ، أن اهرنبوغ أسهم أكثر من أي أديب آخر في تشكيل الأدب الروسي المعاصر بصورته الحالية ، وأنه لا يمكن فهم تأريخ هذا الأدب ، ولا التأريخ السوفييتي عموماً من دون اهرنبورغ .
 
بداية المشوار – من السجن الى باريس
 
ولد ايليا اهرنبورغ في كييف في27 كانون الثاني سنة1891 ،في عائلة روسية متنورة ، من اصول يهودية ، تنتمي الى الطبقة الوسطى ،  وبعد أربع سنوات ، أنتقلت العائلة ( الوالدان مع ايليا وشقيقاته الثلاث ) الى موسكو ، حيث عمل والده مديراً لأحد مصانع البيرة . أما أمه فقد  كانت ربة بيت هادئة وحانية ولكن معلولة الصحة ، سافرت الى ألمانيا عدة مرات  للعلاج مستصحبة معها ابنها الوحيد.
 واجه ايليا الصعوبات في مقتبل العمر، حيث فصل من المدرسة الأعدادية واعتقل في ايارعام 1908 ، بسبب انتمائه الى الحزب البلشفي ونشاطه الثوري ، بتأثير مباشر من صديقه (نيكولاي بوخارين ) الذي كان يكبره بثلاث سنين . وبعد أن أمضى في السجن ستة أشهر ، اطلق سراحه بكفالة والده ، وغادر الى فرنسا - وليس الى ألمانيا ، كما أرادت أمه -  ولم يحضر الى المحكمة عند النظر في قضيته ، في أواخر تلك السنة ،  واستقر في باريس . هنا عاش ابن السابعة عشرة ، الرقيق الحالم في أجواء مدينة الحب والجمال والموجات الجديدة في الأدب والفن.
 
التقي اهرنبورغ في مقهى" روتوندا " في مونبارناس - الذي كان معظم رواده من الكتّاب والشعراء والفنانين والمهاجرين من جنسيات شتى ، بينهم العشرات من اللاجئين السياسيين الروس - بفلاديمير لينين  ، وزاره في بيته عدة مرات . ولكن سرعان ما خاب ظنه في  البلاشفة ، الذين وصفهم ، في ما بعد ، بأنهم كانوا حوالي اربعين مهاجرأ ، ارتسمت على وجوههم الحزينة ، علامات البؤس والملل والكسل.
كان بطبعه انسانا ساخراً ، يتمتع بموهبة فريدة في التقاط المواقف العبثية سواء لدى الساسة او الثوار المهاجرين ، أو من يلتقي بهم في باريس ، وقد تجلت موهبته في المجلة الساخرة ، التي  اصدرها بعنوان " الناس السابقون " في نهاية عام 1909 ، والتي لم تدم طويلاً ، ثمّ أصدر بعدها مجلة ساخرة أخرى بعنوان " الأسرة الهادئة " . كانت معظم صفحات المجلتين تتضمن كتابات وكاريكاتيرات ، تتهكم على الجوانب السلبية للحياة فيما حوله . ، مما أثار استياء لينين . وكان ذلك بمثابة القشة التي فصمت علاقة اهرنبورغ بالحزب البلشفي ، خاصة بعد أن سمع من تروتسكي كلاماً أثار سخطه الشديد ، عن توظيف الأدب والفن لخدمة اهداف سياسية ، في حين ان الشاب الحالم ، كان يعتقد ، أن الثقافة أسمى من أن يستخدم لأي غرض كان . فالثقافة – كما كان يرى - هي التي تسمو بالأنسان وتقرّب بين البشر بصرف النظر ،عن الجنس ، والعرق ، والدين ، واللون ، وهي جسر حقيقي للتقريب بين الشعوب . وقد ظل طوال عمره متمسكاً بهذا الرأي وواجه جراء ذلك في بلده خلال السنوات اللاحقة الكثير من المصاعب والمحن .
أصبحت باريس مدينته المفضلة ، وعاش في الحي اللاتيني ، وتعرف في مقهى " روتوندا " على العديد من المبدعين الشباب ، أصدقاء العمر ، الثائرين على الأساليب التقليدية  في الأدب والفن ، الذين أصبحوا،  في ما بعد من أهم كتاب وشعراء وفناني القرن العشرين ( غيوم أبولينير ،ماكس جالوب ،   أندريه موروا ، بيكاسو ، موديلياني ، ليجيه ، ريفيرا، مارك شاغال ،وغيرهم ) .
 
كان حياة اهرنبورغ في باريس بائسة وشاقة مادياً ، وثرية فكرياً وروحياً . كان مفلساً وجائعاً في أغلب الأحيان ، يقرأ كثيراً، ويزور المعارض والورش الفنية لأصدقائه الفنانين ، ويكتب الشعرالعاطفي والفلسفي ، في أجواء "روتوندا " البوهيمية الصاخبة ، حيث يجلس لساعات طوال ،الى أن تأتي شاعرة فرنسية ناشئة ، كان يترجم شعرها الى اللغة الروسية ،  لتدفع ثمن كوب القهوة التي شربها . وعندما يستلم مبلغاً من المال ، الذي كان والده يرسله ، بين حين وآخر ، يصرفه على الفور مع أصدقائه المفلسين والجائعين مثله .ويقول عن هذه الفترة من حباته : " كانت رائحة الطعام ، المنبعثة من المطاعم الباريسية – التي كنت أمر أمامها – تصيبني بالدوار ".
 
وفي عام 1911 أصدر ديوانه الشعري الأول تحت عنوان " أنا أعيش ". وكان ينشر بمعدل ديوان واحد كل عام . ولعل أهم ديوان أصدره في هذه الفترة ، هو " قصائد عن العشايا "،في عام 1916  ، الذي لفت اليه الأنظار، وأشاد به كبار الشعراء الروس ( بريوسوف ،غوميلوف، غوروديتسكي، ) وكان له صدى واسع  في الصحافة الأدبية الروسية . كانت قصائد اهرنبورغ نوعا جديدا من الشعر الحر ، قلده عدد من الشعراء الشباب من جيله. وكتب الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك مقالاً تحت عنوان " الروسي المدهش " يقول فيه عن شعر اهرنبورغ أنه أصبح موضة . وكان في الوقت ذاته ، يكتب مقالات هجائية لاذعة يسخر فيها من البلاشفة ومن النظام الرأسمالي في آن ، ويترجم الى الروسية قصائد الشعراء الفرنسيين الشباب بينهم صديقه ، غيوم أبولينير (1880 ـ 1918) .وقد جمع اهرنبورغ هذه الترجمات في انطولوجيا الشعر الفرنسي ، الذي أصدره في باريس عام 1914 تحت عنوان " شعراء فرنسا بين عامي 1870 –1913"  وضمت هذه الأنطولوجيا (74 )  قصيدة لـ ( 29 ) شاعراً ، من مالارمي الى دورسينيوس . 
خلال الحرب العالمية الأولي  ، عمل مراسلاً حربياً في الجبهة الفرنسية – الألمانية لعدة صحف روسية ، واسعة الأنتشار ، وسافر الى الجبهة الغربية وشهد ، سفك الدماء والموت والقسوة غير المبررة ، واستخدام الغاز السام لأول مرة في تأريخ الحروب . وادرك أن الحرب تعد مصدراً لمآسي وويلات جماعية ، وظهرتأثير هذه الحرب الدموية، في ما بعد في نتاجاته .
 
العودة الى روسيا :
 
بعد ثورة شباط 1917 ، التي سبقت ثورة اكتوبر ، صدر عفو عام عن السجناء السياسيين والمهاجرين ، وعاد اهرنبورغ الى روسيا في يوليو من السنة ذاتها . وكان الوضع معقداً للغاية ، والأحداث تتلاحق بسرعة ، وقدر له أن يكون شاهداً على أندلاع ثورة اكتوبر 1917البلشفية ، التي استقبلها بأمتعاض شديد ، ووصفها بأنها ( كارثة بالنسبة الى روسيا ) ، وانعكس ذلك في مجموعته الشعرية  " الصلاة لروسيا " التي اعتبرتها السلطة السوفيتية معادية للثورة ، خاصة أنه نشر في الوقت ذاته ، مقالات ، ينتقد فيها بشدة النظام البلشفي والعنف المفرط المستخدم ضد شرائح واسعة من المجتمع الروسي ، و ضد  الأنتلجنسيا الروسية على وجه التحديد ، مما أرغم عدداً غفيراً من العلماء والمفكرين والفلاسفة والكتاب والشعراء والفنانين الروس اللجوء الى الدول الغربية وبعضهم الى تركيا  ..
 
حاول اهرنبورغ العودة الى باريس ولكنه أخفق في الحصول على جواز سفر سوفييتي يسمح له بمغادرة البلاد ، حيث كان البلاشفة قد منعوا السفر الى خارج روسيا ، الا للأغراض الرسمية .
وفي عام 1918 سافر الى مدينة ( بولتافا ) حيث كانت أمه تحتضر . وبعد وفاتها استقر في مدينة كييف ، مسقط رأسه. وكان الوضع الأمني قلقاً في المدينة ، التي كانت  تنتقل من يد الى يد ، في الحرب الأهلية الضروس بين الجانبين المتحاربين ( البلشفيك والبيض ).
 وفي عام 1919 استولى البلشفيك على المدينة ولكن ذلك لم يدم طويلاً ، حيث وقعت بعد فترة وجيزة ، تحت سيطرة القوات البولونية ، ورافق كل ذلك قتل عدد كبير من اليهود ونهب  وسلب ممتلكاتهم ، على أيدي المحتلين ، وكتب أهرنبورغ مقالاً في جريدة ( كيفسكايا جيزن ) أي ( حياة كييف ) يقول فيه : " لو كان الدم يشفي ، لكانت روسيا اليوم دولة مزدهرة ، ولكن الدم لا يعالج ولا يشفي ، بل يشحن الحياة بالغضب والشقاق ."
 
تزوج اهرنبورغ في كييف فنانة تشكيلية موهوبة اسمها ( لوبوف كوزنيتسيفا) ، التي أثر ابداعها  الفني كثيراً في ذائقته الجمالية . وفي عام 1920 رحل مع زوجته الى موسكو عن طريق شبه جزيرة القرم ، وكان السفر في ظروف الحرب الأهلية محفوفاً بالمخاطر ، وبعد وصولهما ، عانيا من صعوبات معيشية جمة . وواصل اهرنبورغ نقده اللاذع  للبلاشفة، وضاقت السلطات ذرعاً به ، حيث اعتقل مرة أخرى ، بعد بضعة أشهر من عودته الى موسكو ، ولم ينقذه من السجن والنفي الى أصقاع سيبيريا ، سوى زميله في المدرسة الأعدادية  وصديقه " بوخارين"  الذي كان قد أصبح أحد القادة البارزين في النظام الجديد ، وأوسعهم علماً وثقافة ، ونشر بعد الثورة عدة مؤلفات قيمة في الأقتصاد .( تم اعدام بوخارين من قبل ستالين بتهم مفبركة بعد محاكمة صورية عام 1938)   
 
في عام 1921 تمكن اهرنبورغ ، بشق الأنفس وبمساعدة (بوخارين ) من الحصول على جواز سفر والعودة الى أوروبا ،بشكل شرعي هذه المرة . عاش في البداية في فرنسا وبلجيكا ، ثم انتقل الى برلين - التي هاجر اليها عدد كبير من المثقفين الروس - وأقام فيها لمدة ثلاث سنوات حافلة بالنشاط الأبداعي ،أصدر خلالها  كتاب " وجه الحرب " ( مقالات عن الحرب العالمية الأولى ) ، ثم روايته  الأولى الرائعة " المغامرات غير العادية لخوليو خورينيتو وتلاميذه " التي نشرت في برلين عام 1922, وفي موسكو عام 1923, وكتب بوخارين مقدمة  جميلة للرواية . ويرى مؤرخو الأدب الروسي الحديث ، ان هذه الرواية الطليعية الفلسفية الساخرة ، هي خير ما كتبه اهرنبورغ من روايات ، و احدى أفضل الروايات الروسية في الربع الأول من القرن العشرين .أنها حقاً رواية مدهشة من حيث المضمون والبناء والأسلوب ، لأديب حر في عالم غير حر ، حيث يسخر فيها الكاتب من النظم التي كانت قائمة في أوروبا آنذاك ، وبخاصة من النظام البلشفي .وعندما نقرأ هذه الرواية سنفهم ماذا يعني أن يكون الأنسان حراً .! .
ومن الملفت للنظر ان الكاتب وصف لينين  في هذه الرواية بأقذع الأوصاف وأقساها ، ومع ذلك فأن لينين عندما قرأ الرواية أعجبته للغاية – كما كتبت زوجته ( كروبسكايا ) في مذكراتها -  وقال لها : أتذكرين ذلك الشاب الأشعث ؟
 
ظهور رواية  " خوليو خورينيتو " أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية الروسية . بعض النقاد  أتهم المؤلف بالعدمية وبعضهم الآخر بالتشاؤم . اهرنبورغ نفسه أعتبر الرواية ، بدايةً لمسيرته ككاتب ، وكتب في مذكراته يقول : " منذ ذلك الحين اصبحت كاتباً ، وألفت حوالي مائة كتاب  في شتى الأجناس الأدبية ( روايات ، دراسات ، مقالات ، ووصف رحلات ، وغيرها . هذه الكتب مختلفة من حيث النوع ( الجنس ) الأدبي  . لقد تغيرت أنا  وتغير الزمن أيضاً . . ومع ذلك أجد شيئاً مشتركاً بين " خوليو خورينيتو " وبين آخر كتبي . لقد حاولت منذ مدة طويلة أن أمزج العدالة والشعر من دون أن أعزل نفسي عن العصر . حاولت فهم الطريق الكبير لشعبي ، والدفاع عن حق كل انسان في شيء من السعادة . "
 
قدّم اهرنبورغ في " خوليو خورينيتو " صورة فسيفسائية ممتعة ومشوقة للحياة في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى وفي روسيا البلشفية ، ولكن الأهم من ذلك – عرض مجموعة مذهلة  من التنبؤات المستقبلية الدقيقة ، التي تحققت في العقود التالية لصدور الرواية ، ومن هذه التنبؤات ، وصول النازيين الى السلطة في ألمانيا ،والفاشيين في ايطاليا ، واختراع القنبلة الذرية .
 لم تكن تلك التنبؤات مجرد مصادفات – بل كان ثمة عقل جبار وادراك سريع للظواهر الجديدة في أوروبا ، اللذان سمحا للكاتب الشاب ، التقاط الملامح الأساسية لشعوب بأكملها وتوقع مسارات تطورها اللاحق، خلال العقود اللاحقة .
وتجدر الأشارة الى ما حدث في أثناء احدى ندوات الكاتب مع القراء في موسكو، حيث حاول صحفي ياباني ،ان يعرف من اين حصل هرنبورغ في عام 1921 ( زمن كتابة الرواية ) على معلومات حول القصف الذري القادم لهيروشيما وناغازاكي ؟ .
 
كتب اهرنبورغ ذات مرة يقول : " ما أن يقول الكاتب شيئاً  قبل حدوثه بخمسين عاماً أو بيوم واحد  ، قبل أن يصبح حقيقة معروفة للجميع ، حتى ينهال عليه الأنتقادات . ان الكتّاب الذين يرددون بعناية بديهيات معروفة ، ليسوا سوى طفيليات عادية."
 
وقال أيضاً : " أن ترى الحقيقة قبل الآخرين ، أمر مفرح ، حتى لو تعرضت الى اللوم . وليس ثمة ما هو أسهل من ارتكاب الخطأ مع الآخرين ."
 
واصل اهرنبورغ خلق روايات جديدة بموازاة عمله الصحفي مراسلاً لجريدة ( ازفستيا ) السوفيتية ، حيث أصدر في عام 1923 رواية " حياة وموت نيكولاي كوربوف " . بطل الرواية يفقد فرديته ، ويتحول الى برغي صغير في الماكنة الثورية ، وينهي حياته بالأنتحار ،بعد صراع نفسي طويل ، بين اخلاصه الرومانسي للمرأة الحبيبة وبين المهمات القاسية المكلف بها من قبل المخابرات السوفيتية . وعلى هذا النحو أسهم اهرنبورغ في التشريح الفني للنظام الشمولي البلشفي ، على غرار الكاتب الروسي " يفغيني زامياتين " في روايته " نحن " .
في عام 1924 زار اهرنبورغ الأتحاد السوفييتي ، حيث ألقى محاضرات عن الثقافة الأوروبية . وفي العام نفسه غادر الى باريس ، التي أصبحت ، في واقع الأمر ، مكان اقامته الدائمة الى عام 1940 . وخلال هذه الفترة كان يزور موسكو بين حين وآخر ، محتفظاً بالجنسية السوفيتية .
ربما كانت هذه السنوات من أخصب مراحل حياته ، اصدر خلالها العديد من الروايات والمجاميع القصصية والدراسات ، منها رواية " مجموعة شركات اي دي " التي  كان لها صدى كبير. ثم روايات " صيف عام 1925 " و " ممر التدفق " و" اليوم الثاني " و" الحياة العاصفة للازيك رويتشفارتنز " و " قصة حب جين ناي " و " الأنتهازي " ،ومجموعة  قصصية تحت عنوان " ثلاثة عشر غليونا " وهي مجموعة " نوفيلا " أي القصة الطويلة القصيرة حسب المصطلح العربي ، وهي ، تدهش القاريء ، بسعة نطاقها وتشابك المصائر البشرية فيها وفهم التأريخ والطبيعة البشرية ، كما اصدر في الفترة ذاتها مجموعة مقالات عن الفن  تحت عنوان " ومع ذلك فأنها  تدور" . وكتاباً تأريخياً تحت عنوان " مؤامرة المتساوين " المكرس للمؤامرة التي تزعمها الشيوعي الطوبائي ( غراكخ بابيف 1760 - 1797 ) في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر .
 
وكما فعل غوركي عندما كان يقيم في أوروبا ، بذل اهرنبورغ جهودا كبيرة لنشر هذه الكتب في روسيا ،حيث جمهوره الواسع من القراء ، وأفلح في ذلك أحياناً بفضل جهود " بوخارين " ، وفي الوقت ذاته ، تم نشر معظمها  في أوروبا أيضاً مترجمة الى اللغات الفرنسية والألمانية والأنجليزية. وحسب علمي ، لم تترجم ، هذه النتاجات الى اللغة العربية لحد الآن .
 
موقف اهرنبورغ من معاداة السامية
 
في العديد من نتاجاته ثمة اشارات الى أصله اليهودي ، رغم جهله للغة العبرية وعدائه الواضح للصهيونية ، كشكل من اشكال العنصرية . ففي عام 1927 نشر مقالاً تحت عنوان " ملعقة من القطران " لفت انتباه القراء والنقاد ، أشاد فيه بالتشاؤم كأهم محرك للتطور الثقافي في المجتمع اليهودي ، الحامل على الدوام روح الشك والبحث ، وهذا هو السبب الرئيس لأسهام اليهود العظيم في الثقافة العالمية .
كان اليهود أبطال روايتيه " ممر التدفق " و " الحياة العاصفة للازيك رويشفانيتس "  ومن اللافت للنظر ان تنقل " لازيك " في اراضي الأتحاد السوفييتي ، كانت تلك الخلفية ، التي سمحت للكاتب ، استخدام قلمه الهجائي اللاذع ،للسخرية من النظام البلشفي ، وكل من يمثل هذا النظام  بشتى أصنافهم - البيروقراطيون ، ومنتسبي القضاء ، الذين مارسوا الأضطهاد بحق الأبرياء من اجل مصالحهم الشخصية ، وأخيراً الكتّاب والنقاد ،المنافقين ،  المهتمين بسلامتهم  الشخصية والحصول على فتات الموائد .
 
احساس مبكر بالخطر النازي الداهم :
 
في أوائل الثلاثينات ، راقب اهرنبورغ بقلق عميق ، كيف يتوثب الفاشست الألمان للقفزالى السلطة ، وكيف تتراجع الأحزاب الديمقراطية أمام ضغطهم الشديد ، وكيف يقع الشعب الألماني العظيم – الذي منح العالم روائع الثقافة والفكر والفلسفة والموسيقى والأنجازات التكنولوجية ، التي اسهمت في تقدم البشرية – على نحو متزايد ، تحت رحمة قوى الظلام والهمجية ، ومعاداة السامية .
وأحس ،قبل غيره ، بخطر النازية الداهم , وكان أمامه  خياران احلاهما مر : اما البقاء في باريس في ظل مستقبل مجهول محفوف بالمخاطر ،أوالرجوع الى الوطن. لم يدم تردده طويلاً ، خاصة أن نظام ستالين لم يكن قد كشر عن أنيابه ولم يكشف عن طبيعته الدموية بعد . وكان الكاتب كدأبه ، يتطلع نحوالمستقبل ، الذي يبذل الشعب الروسي العرق والدماء في سبيل بنائه ، مضحياً بمباهج الحياة .
 
زار اهرنبورغ موسكوفي اواخرعام 1931، وقام  في صيف وخريف عام 1932 بجولة في ارجاء روسيا ، زار خلالها مواقع المشاريع الأنشائية والصناعية العملاقة في مدن كوزنيتسك ، وسفردلوفسك ، ونوفوسيبيرسك ، وتومسك  ومنها مشروع بناء الطريق السريع موسكو – دونباس .ورأى كيف ان الشعب الروسي الكادح  يتحمل عبء الحياة ومتاعبها ، ويضحي بكل شيء ، بما يفوق طاقة البشر ، في سبيل بناء المستقبل الجديد الموعود .
صوّراهرنبورغ كل ذلك في رواية " اليوم الثاني " التي كتبها خلال عامي 1933 ، 1934. وفي الفترة نفسها انشغل بتأليف عدة كتب غير روائية ، عن الحياة الجديدة للشعب الكادح : " خبزنا اليومي " و" دون التقاط الأنفاس " و" كتاب للبالغين " .
 
أسلوب اهرنبورغ البرقي :
 
ربما كان اهرنبورغ أول من استخدم الأسلوب البرقي في الكتابة ،  وتجلى ذلك بكل وضوح في رواياته ومقالاته ، خصوصاً في كتابيه " خبزنا اليومي " 1932 و "  باريس مدينتي " 1935 . هذا الأسلوب الجديد تعرض الى نقد شديد في الصحافة السوفيتية ، لأنه يتناقض مع اساليب  الكتاب الكلاسيكيين الروس ، الذين اعتادوا على استخدام الفقرات الطويلة للتعبيرعن فكرة ما ، والتي تظل مع ذلك غير واضحة للقاريء . الفكرة الذكية ، لا ينبغي تغليفه بغطاء سميك من الفقرات ، لأن ذلك يربك القاريء ، والفكرة تبدو تقريبية وغير دقيقة ، في حين ان الأسلوب البرقي ، والجمل القصيرة الفعالة ، التي تعبر عن فكرة واضحة بكل دقة ، أكثر تأثيراً في القاريء .
أخذ عدد من الكتاب الروس الشباب يقلدون الأسلوب البرقي . خاصة بعد اطلاعهم على هذا الأسلوب لدى كتاب غربيين ايضاً وفي مقدمتهم ارنست همنغواي . 
 
اما كتاب " باريس مدينتي " فأنه فريد في نوعه ،و يتألف من صور باريسية بارعة التقطها اهرنبورغ بكاميرته الشخصية ، دون أن يحس به أحد ،. ويصاحب كل صورة ، نص ذكي ، بالأسلوب البرقي ذاته . المزج بين الصورة والنص ، كشف عن المبدأ الرئيس للمؤلف في هذا الكتاب : كل الصور جانبية ، ولم يكن أحد من الذين ظهروا في الصور ، يعلم أن العدسة موجهة نحوه . وهذا الأسلوب في التصوير ، يعرف في ايامنا هذه بالكاميرا الخفية ..
 
أما " خبزنا اليومي " فأنه مبني على مبدأ مماثل . ويعتمد على الحقائق والوقائع ، منها مثلاً  - كما يقول المؤلف – " ان في الغرب الغارق في النعم والرفاهية ثمة أناس يموتون من الجوع.".
 
اهرنبورغ في اسبانيا :
 
كان اهرنبورغ ، أحد أنشط منظمي القطار الأممي المتوجه الى اسبانيا والذي حمل عدداً كبيراً من أشهر كتّاب وشعراء وفناني وصحفي العالم بينهم ( أندريه مالرو ، وجورج أورويل ، هيمنغواي ، وبابلو نيرودا، وغيرهم .) وذلك للألتحاق بالجمهوريين ومقاتلة قوات فرانكو الفاشية بالبندقية والقلم في آن واحد .
ومن اسبانيا أرسل اهرنبورغ تقارير وريبورتاجات وحوارات ومقالات صحفية ، تتحدث عن بطولات المقاتلين الوطنيين ، ومآسي الحرب الأهلية ، وتعد – حتى اليوم - نماذج رفيعة المستوى للفن الصحفي ، بجدة مضامينها ، وعمق أفكارها وجمال لغتها ، والأهم من ذلك بحرارتها  العاطفية المشبوبة ، وقد جمعت هذه المواد في وقت لاحقً في عدة كتب منها " تأشيرة الزمن ". ويقول ناقد روسي ان لا أحد يكتب اليوم على غرار اهرنبورغ ، لأنه لا أحد يمكن أن يصل الى مستواه .
 
 وبموازاة عمله الصحفي كتب في عام 1937  مجموعة قصص قصيرة بعنوان " خارج الهدنة " ورواية " ما الذي يحتاجه الأنسان "الذي ترجم الى العربية تحت عنوان " اذا أردت أن تعيش "..
 
بعد هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية الأسبانية ، انتقل اهرنبورغ الى باريس ، وشهد الأحتلال الألماني لفرنسا في عام 1940 . وكاد أن يقع في ايدي الجستابو الألماني ، فقد كان كاتباً وصحفيا معروفاً ، شجب في تقاريره الصحفية ، النظام الفاشي بشتى صوره ( الأسبانية والألمانية والأيطالية ) ، ولكنه استطاع  الأفلات واللجؤ الى السفارة السوفيتية في باريس والأختباء فيها. ويقول  أهرنبورغ ، عن الأيام الأولى للحرب، أنه كان يعمل لساعات طويلة ، اكثر من أي وقت مضى ، حيث كان يكتب ثلاث أوأربع مقالات في اليوم الواحد للصحف السوفيتية ، وبعد عدة اسابيع من اختبائه ، استطاع بمساعدة السفارة العودة الى بلاده.
 
كان سقوط باريس كارثة شخصية حقيقية لأهرنبورغ ، باريس المدينة الرائعة ، التي احبها بعمق وقضى فيها أفضل سنوات عمره ، مدينة السحر والجمال والفنون والآداب والفكر والعلم تقع تحت أقدام الفاشست ! يا لها من مأساة مروعة !. وفور عودته الى موسكو شرع بكتابة رواية عظيمة تحت عنوان ( سقوط باريس ) ، التي صدرت عام 1942 . وتصدرت على الفور قائمة الكتب الأكثر رواجاً في بلدان التحالف المناهض للنازية ، وسرعان ما ترجمت الى اللغة الأنجليزية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ، والى الفرنسية في موسكو وباريس والعديد من اللغات الأوروبية والآسيوية ، بضمنها اللغة العربية .
في عام 1944 عندما زار الجنرال ديغول موسكو ، التقي اهرنبورغ وأنعم عليه بوسام جوقة الشرف  .
 
من المعارضة الى تأييد الجوانب الأيجابية للحياة السوفيتية
 
منذ أوائل الثلاثينت ظهرت بوادر تأييد أهرنبورغ للجوانب الأيجابية من الحياة السوفيتية ، وتعززت هذه البوادر في السنوات اللاحقة ، ولكن دون التضحية بأستقلالية الكاتب الروحية – السياسية ، ودون اللجؤ الى كيل المديح للنظام أو لستالين شخصياً ، كما كان يفعل معظم الكتّاب السوفيت .اهرنبورغ ركز على مناحي الحياة المثيرة لأهتمامه وتجاهل المناحي الأخرى عن عمد ، لكي لا يصطدم بالنظام الأستبدادي والذي يؤدي حتما ، ليس فقط الى منعه من النشر ، بل حتى تصفيته جسديا ، كما حدث لأصدقائه من رجال الدولة والكتاب والشعراء الفنانين الروس الكبار (بوخارين ،  بابل ، ماندلشتام ، ايزنشتين ، وغيرهم ) .
ورغم حذره الشديد ، فأنه اصطدم أكثر من مرة بالرقابة الحكومية المتمثلة ليس فقط ، في الرقباء الرسمين على النشر ، بل برؤساء تحرير الصحف ودور النشر ، والأهم من ذلك بالقسم الأيديولوجي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي . وكان في كل مرة يعتقد أن نهايته قد قربت وان ( زائر الفجر ) سيدق باب منزله قريباً ، ويصادر كل ما هو موجود في مكتبه  من نتاجاته غير المنشورة وأرشيفه الثري ، واللوحات الفنية الرائعة ، المهداة اليه من أصدقائه الفنانين ( بيكاسو ، شاغال ، مودلياني ، ليجيه ، وريفيرا ، وآخرين . وانه سيرمي في زنزانة مظلمة وخانقة ، ويقوم الجلادون ، بأنتزاع الأعترافات منه بالتعذيب الوحشي ، الذي تفننت فيه المخابرات السوفيتية . ولم يكن يهمه سلامته الشخصية بقدر ما كان يخشى عار الأعترافات المفبركة والكاذبة ،التي ستنتزع منه ، كما حدث مع أصدقائه .
 
الحياة علمت اهرنبورغ أن يكون دبلوماسياً مراوغا  ، وكان في كل مرة يصطدم فيها بأيديولوجي الحزب وممثلي السلطة ، يلجأ الى المخاطرة بحياته وكتابة رسالة خطية الى ستالين نفسه ، يشرح فيها موقفه ، و كان يعرف نفسية الطاغية ستالين ، أكثر من علماء النفس ، ويعرف كيف يقنعه برأيه ، ويكسبه الى جانبه . ومن يقرأ هذه الرسائل ، لا بد أن يدهش لجرأة هذا الأنسان الحر ومخاطرته بحياته اكثر من مرة . وينبغي القول هنا أن كل رسالة من هذه الرسالة قطعة من الأدب السياسي الرفيع ، حيث كان أهرنبورغ يشير الى اخطاء بعض ممثلي الحزب والسلطة وتداعياتها السلبية ويقترح البدائل للمضي قدماً في بناء ما يتطلع اليه الشعب الروسي . لقد أصبحت رسائله الى ستالين مادة دسمة للباحثين ومؤرخي الأدب الروسي الحديث .
بعد تفكك الأتحاد السوفييتي ، عاد من بقي على قيد الحياة من النقاد الذين كانوا يعتاشون على فتات موائد الستالينية ، الى نشر سمومهم ، ولكن هذه المرة ليس اتهام اهرنبورغ بمخالفة تعاليم ستالين و الواقعية الأشتراكية ، بل ألحوا في التساؤل : كيف بقي أهرنبورغ على قيد الحياة ولم يقم ستالين بتصفيته كما فعل مع العديد من زملاءه وأصدقاءه من الكتاب والشعراء والمسرحيين ؟
أعتقد أن اهرنبورغ نجا بأعجوبة من مقصلة ستالين ، لأن الطاغية كان بحاجة اليه ، كممثل للأدب السوفييتي في الغرب ، وعلاقاته الواسعة مع الأنتلجنسيا الأوروبية .
 
 أما اهرنبورغ نفسه فأنه كتب في ختام مذكراته يقول :
 
  " اريد أن أقول مرة أخرى للقراء الشباب ، أنه لا يمكن شطب الماضي . خلال ربع قرن من تأريخنا حوّل شعبنا روسيا المتخلفة الى دولة حديثة قوية . ولكن مهما كان فرحتنا بنجاحاتنا ومهما أثارت القوة الروحية لشعبنا الموهوب اعجابنا ، ومهما كان تقييمنا لعقل وارادة ستالين ، لم نتمكن من العيش في وئام مع ضمائرنا وحاولنا عبثاً عدم التفكير في أشياء كثيرة ."
 
مقالات أقوى تأثيراً من البنادق
 
مع بداية الهجوم الألماني على الأتحاد السوفييتي في 21 حزيران 1941 ، أخذ يكتب المقالات النارية من جبهات القتال ضد الفاشستية الهتلرية ، للصحف والأذاعات السوفيتية  ، مقالات تلهب حماس المقاتلين والتي وصفها أحد قادة الجيش الأحمر، بأنها كانت أكثر فعالية من البندقية الآلية . وكان الضباط يقرأون كل مقالة جديدة للكاتب لجنودهم قبيل خوض المعارك .
ومن الطريف أن الجنود السوفييت ، الذين لم تكن السكائر متوفرة  لديهم ، كانوا يلجأون الى تدخين اللف المصنوع من أوراق الجرائد .وقد أصدرت قيادة احدى الفرق العسكرية أمرأ موجها الى منتسبيها تقول فيه ،  أنه يسمح بتدخين اللف المصنوع من ورق الجرائد ماعدا تلك ، التي تحتوي على مقالات أهرنبورغ . ويعلق الكاتب السوفييتي الشهير قسطنطين سيمونوف على هذا الأمر قائلاً : " هذا أقصروأفضل تقييم سمعته في حياتي ، والذي يغمر قلب أي كاتب بالفرحة ". .
في سنوات الحرب كان اهرنبورغ غالباً ما يلقي المحاضرات على المراسلين الحربيين الجدد . وقال في محاضرة له : " يا زملائي الجدد ، تذكروا ، ليس بوسع أي شخص أن يصبح  صحفيا . كما ان سنوات من المثابرة لا تجعلك صحفيا ، اذا لم تكن لديك الموهبة والأحتراق الروحي الداخلي ، ولم تعشق هذه المهنة الرائعة ، الأكثر تعقيدا ، وشمولاً .. جامعاتي لا تتعدى ست سنوات في الأعدادية  والناس ، والكتب ، والمدن ، والبلدان ، والجبهات ، والطرق ، والقطارات ، والبواخر ، والدراجات ، والكراسي ، والمتاحف ، والمسارح، ، حياة النباتات , والسينما . ستعودون الى وحداتكم العسكرية قريباً، وسيبدأ عملكم في الصحافة الجبهوية . اعلموا انكم ستعانون من ضيق الوقت دائماً ، ولكن قبل اعطاء أي مادة للنشر ، سواء كانت - مقالة ، أو حواراً ، أو قصة  ، أو معلومات -  الى يد رئيس التحرير المجهد ، أقرأوا المادة  بعناية مرة أخرى ، وفكروا ، هل سينشرها ويقدمها ، ًكمشروب منعش ، الى الجنود المرابطين في الخنادق. تجنبوا في نتاجاتكم الشعارات الصارخة غير المبررة –كل شعار ينطوي على مناشدة ، ينبغي ان يصاغ دائما في قالب أدبي وبشكل مركز ووجداني.
 
كان اهرنبورغ غزير الأنتاج ويكتب يوميا أكثر من مقال مؤثر ومشحون بالعواطف الجياشة  ، وهي بمجملها تبلغ أكثر من 1500 مقال ، يفضح فيها الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات هتلر في الأراضي السوفيتية المحتلة ، ولعل أشهر هذه المقالات هي سلسة ( فريتس ) اللاذعة ، التي يسخر فيها من الجنود النازيين . وقد أصدر هتلر أمراً حربيا موجها الى جيشه يأمر فيها بأعدام أهرنبورغ ، فور القاء القبلض عليه بعد ( احتلال ) موسكو . ولكن موسكو صمدت ، ولم تتمكن القوات الهتلرية من دخولها. وقبل بضع سنوات صدرت هذه المقالات في ثلاثة مجلدات .وهي لم تفقد اهميتها حتى اليوم
 
في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية نشرروايتان ، هما " العاصفة " ( 1946) و" الموجة التاسعة " ( 1950 ) اللتان أثارتا جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية السوفيتية ، وتزامن صدور الرواية الثانية مع بدأ حملة ستالين الدموية ضد "الكوسموبوليتية " التي ذهب ضحيتها عدد كبير من خيرة الكتاب والشعراءالروس . شظايا هذه الحملة كادت أن تودي بحياة أهرنبورغ ، حيث قام عدد من النقاد  الأنتهازيين ، بما زعم أنه " فضح "لمحتوى أدب اهرنبورغ المودرنزمي ، وأعادوا الى الأذهان رواياته القديمة الحداثوية ومنها على وجه الخصوص  " قصة حب جين ناي " و " حياة لزيك رويتشفانتس الصاخبة " و كتابه عن الرمزيين والمستقبليين الروس " صور الشعراء الروس " و" بيان للدفاع عن البنائية في الفن " .
 
محاكمة أدبية :
 
في الأجتماع الشائن ،الذي عقد في مقر اتحاد الكتّاب السوفييت عام 1949، لأدانة اهرنبورغ ، شن عدد من كتّاب السلطة هجوماً عنيفا على الكاتب وأنحوا عليه باللائمة في كل شيء ، ووصل الأمر حتى الى شجب مقالاته المناهضة للفاشست .
 قام أولئك الكتّاب ، بأستجواب أهرنبورغ ،بطريقة أشبه بالمحاكمة . ونحن ننقل هنا محضر ذلك الأجتماع - الذي تم كشف النقاب عنه في زمن البريسترويكا وبعد سنوات طويلة من وفاة اهرنبورغ . وثيقة قاسية من العهد السوفييتي القريب ، حينما كانت المدارس السوفيتية تعلم تلامذتها أن يكتبوا في دفاترهم بخط كبير : " نحن لسنا عبيداً ، نحن لسنا عبيداً " .
لم يكن من السهل تلقي ضربات المصير في ظل نظام شمولي ، وكان على الكتاب الأحرار أن يكونوا بصلابة الفولاذ ، لكي يتمكنوا من تجاوز المحن ، ومن كان يمتلك مثل هذه الصلابة هم وحدهم  ، الذين لم يخونوا ضمائرهم وحافظوا على كرامتهم الأنسانية ، وهم يخاطرون بحياتهم . وكان بين هؤلاء أو بتعبير أدق في مقدمة هؤلاء الكاتب الأنساني ايليا اهرنبورغ . هذا المحضر مادة نفسية مثيرة .  ويحمل عنوان :" النظر في النشاط الأدبي للكاتب غير الحزبي ، ايليا غريغورييفيج أهرنبورغ "
 
نص المحضر
 
 سيتحدث في الأجتماع كل  من سوفرونوف ، غريباتشيف ، سوروف ، كوجيفنيكوف ، والناقد يرميلوف .
 
 أناتولي سوفوروف : " أقترح فصل الرفيق أهرنبورغ من اتحاد الكتاب السوفييت بسبب النزعة الكوسموبوليتية في نتاجاته . " .
نيكولاي غريباتشيف : " أيها الرفاق ، هنا ،  قيل الكثير عن اهرنبورغ ، ككاتب بارز ، خلال الحرب الوطنية ( يقصد الحرب العالمية الثانية ) وكتب مقالات مطلوبة وضرورية للجبهة الداخلية ولجبهات القتال .  ولكن في روايته ، المتعددة الأوجه " العاصفة " ، دفن ليس فقط البطل الرئيسي للرواية ، ¬بل ايضاً  كل الأبطال الأيجابين الروس من شخوص الرواية.
الكاتب اعطى الأفضلية على نحو متعمد للفرنسي مادو . ويستنتج القاريء على نحو عفوي : دع الناس الروس يموتون ، والفرنسيون يستمتعون بالحياة.
انني أؤيد الرفيقين سوفوروف و يرميلوف ، ان المواطن اهرنبورغ الذي يحتقر كل ما هو روسي ، لا يمكن ان يكون له مكان في صفوف " مهندسي الروح البشرية "  هكذا علمنا معلمنا الحكيم جوزيف فيساريونوفيج ستالين .".
 
ميخائيل شولوخوف : " اهرنبورغ – يهودي ! الشعب الروسي غريب عنه روحياً ، ولا يهمه اطلاقا ، هموم الشعب الروسي وتطلعاته . وهو لا يحب ولم يحب روسيا قط . الغرب الموبؤ ، الغارق في القيء ، أقرب اليه . انا اعتبر ان اهرنبورغ لا يستحق  المديح الذي اغدق عليه لمقالاته في زمن الحرب . الأدب الروسي المقاتل ، ليس بحاجة الى هذه الحشائش الضارة ، بالمعنى الحقيقي لهذه  لهذه الكلمة ."
 
ايليا غريغوريفيج اهرنبورغ : " أنتم للتو – بحدة وقحة ، لا  يقدر عليها ، سوى اناس حاسدون -حكمتم بالموت ليس على روايتي " العاصفة " فقط ، ولكن حاولتم أن تمرغوا بالوحل ، كل نتاجاتي الأبداعية دفعة واحدة..
 ذات مرة في سيفاستوبول جاءني ضابط روسي ، وقال لي لماذا اليهود هم هكذا أذكياء؟، على سبيل المثال كان ( ليفيتان ) قبل الحرب يرسم المناظر الطبيعية ، ويبيعها للمتاحف ولهواة الفن التشكيلي لقاء مبالغ كبيرة ، ولكنه في أيام الحرب بدلا من أن يلتحق بالجبهة ، عمل مذيعاً في اذاعة موسكو . وعلى خطى الضابط الشوفييني الجاهل يسير أكاديمي شبه جاهل ومتحذلق . ومما لا شك فيه أن أي قاريء ، له الحق أن يتقبل أو يرفض أي كتاب .اسمحوا لي أن أن اقدم تعليقات
بعض القراء على تلك الرواية . وأنا أتحدث عن ذلك ، ليس من أجل استمالتكم للعفو عني ، بل
من أجل أن اعلّمكم ، أن لا ترموا في وجوه الناس كومة اوساخ . اليكم مقتطف من رسالة المعلمة نيكولايفسكويا من فيرخويانسك البعيدة : " قتل زوجي وثلاثة من أبنائي . خلال الحرب . بقيت وحيدة . يمكنكم ان تتخيلوا،  مدى عمق  حزني ؟ . لقد قرأت روايتكم " العاصفة "  . هذا الكتاب ، عزيزي ايليا غريغوريفيج ، ساعدني كثيرأً . صدقوني ،، فأنا لست في عمر يسمح لي أن اهدر  كلامي في المجاملات . شكرا لكم ، لأنكم تكتبون مثل هذه النتاجات الرائعة . "
 
وهذه سطور من رسالة الكساندر بوزدنيكوف  : " أنا معوق من الدرجة الأولى . نجوت من حصار  مسقط رأسي ، مدينة سانت بطرسبورغ ، واصبت في الحرب عام 1944 . في المستشفي بتروا كلتا ساقي . امشي على ساقين اصطناعيين . في البداية كان ذلك صعباً ، ثم عدت الى مصنع كيروف ، الذي عملت فيه منذ يفاعتي . كنا نقرأ  روايتكم " العاصفة " بصوت عال في الأمسيات ، وخلال استراحة الغداء ، وفي فواصل التدخين . بعض الصفحات كنا نعيد قراءتها مرتين. " العاصفة "  رواية صادقة حقاً . في المصنع عمال قاتلوا ضد الفاشية في صفوف المقاومة الفرنسية الباسلة . لقد كتبتم ما كان يجري فعلا ، ومن اجل هذا ننحني لكم احتراماً . " .
وهذه رسالة أخرى ، وهي الأكثر أهمية بالنسبة اليّ : " عزيزي ايليا غريغوريفيج ! لقد قرأت للتو روايتكم الرائعة " العاصفة " . شكراً لكم. مع خالص الأحترام . ي .ستالين . "
 
نهض جميع الحضور وقوفاً ودوّت عاصفة من التصفيق المتواصل .
 
حصل اهرنبورغ على ارفع جائزة أدبية في الأتحاد السوفييتي وهي جائزة ستالين من الدرجة الأولى ثلاث مرات ، عن رواياته ( اليوم الثاني ) و ( سقوط باريس ) و ( العاصفة ) )
 
ويمكن القول ان اهرنبورغ ، كان عبقري العنوان – ان جاز التعبير – والدليل على ذلك هو  روايته الشهيرة " ذوبان الجليد " . ليس العنوان هنا مجرد مصادفة موفقة ، بل يعبّر عن القدرة على رؤية الظواهر الجديدة في المجتمع ، والأحساس الآني السريع بالتغيرات التي تحدث فيه والتعبيرعنها قبل الآخرين .
لقد أصبح هذا الأسم عنواناّ لعصر بأكمله في التأريخ الروسي .ويقصد به فترة حكم نيكيتا خروشوف ، التي تميزت بحد معقول من الحرية الفكرية والسياسية ، ومن المؤسف ، ان انقلاب القصر على خروشوف في عام 1964 حول الجليد الذائب الى كتل صماء من جديد .
 
الدفاتر الفرنسية :
 
كتاب اهرنبورغ الموسوم " الدفاتر الفرنسية " الصادر عام 1957 ، أثار اهتمام القراء وأصبح حدثاً مهماً في الحياة الثقافية في روسيا ، بمعلوماته الغزيرة الجديدة ، والذي تناول فيه الانطباعية في الفن التشكيلي ، وتحدث عن سيزان ورينوار ومانيه وبيكاسو...ودافع عن ابداع تشيلر وكونجالوفسكي وساريان...وترجم  مختارات من الشعر الفرنسي ، وأكٌد على ضرورة تنوع الاشكال في الفن .
أثارالكتاب ، رد فعل غاضب في القسم الأيديولوجي للحزب الشيوعي ، الذي أصدر قراراً بشجب فيه آراء الكاتب واعتبارها " مضرة ايديولوجياً " .وكان ذلك ايذاناً ببدأ حملة  جديدة ضده ، شارك فيها نقاد يأتمرون بأوامر الحزب . ، ولكن بعض أصدقاء الكاتب في الغرب وبخاصة في فرنسا ، هبّ  للدفاع عن اهرنبورغ وكتابه ومنهم أراغون . واليوم لا أحد يتذكر النقد الموجه للكاتب ، في حين ان تحليله الذكي للفن الفرنسي ما يزال يحتفظ بكل قيمته .
لم يكن هدف الكاتب التعريف بالثقافة الفرنسية فقط ، بل التعبير عن آرائه في الأدب والفن ، التي لا تتفق بأي حال من الأحوال مع " الواقعية الأشتراكية " التي تبدو غريبة وغير منطقية على الأطلاق : هل يمكن أن نكون هناك واقعية رأسمالية أو بورجوازية ، أو مسيحية ، أو أية واقعية أخرى ، لكي تكون هناك " واقعية اشتراكية " ؟ .
 كان اهرنبورغ الجسر الثقافي الذي كان يربط بين روسيا وفرنسا ، طوال خمسة عقود تقريباً ( 1908 – 1967 )، سواء بعلاقاته الواسعة مع الكتاب والشعراء والفنانين الفرنسيين ، أو بنتاجاته المتنوعة الأشكال ، التي كرسها للثقافة الفرنسية .
 
الناس ، والأعوام ، والحياة :
 
رغم ان اهرنبورغ أخرج ما لا يقل عن مائة كتاب أدبي وفكري وسياسي ، الا أن عمله الأبداعي الأهم وأروع ما كتبه في حياته بشهادة النقاد ، هو مذكراته الموسومة " الناس والأعوام والحياة " ، وهي مذكرات بآلاف الصفحات كتبت بين عامي 1859 – 1967 ، وتتألف من ستة أجزاء ، ولم تصدر دفعة واحدة ، بل ان الكاتب كان يدفع جزءاً واحداً للنشر في كل عام ، غير أن الرقابة كانت تضع عراقيل كثيرة مع محاولة الكاتب نشر جزء جديد منها ، وتشترط عليه حذف هذا الفصل أو ذاك أو تعديل فقرات معيتة ، غير ان اهرنبورغ قاوم وعاند ، وكادت الضغوط  ان تصيبه بالأحباط ، لولا أرادته القوية ، ومن جهة أخرى ، فأنه كان يدرك ان الأصرارعلى موقفه ، يعني بكل بساطة منع نشر أهم نتاج له في روسيا ، لذا وافق على حذف ( أو بتعبير أدق تأجيل نشر بعض الفصول ) و لجأ الى تعديل أية فقرة تعترض عليها الرقابة ، ويعيد صياغتها على نحو جديد أجمل واحكم من الفقرة السابقة ، وتنطوي على المعنى نفسه تلميحاً أوبين السطور، بيد أن الرقباء الحزبيين بجهلهم المركب ، لم يكتشفوا الخدعة ، ومرت عليهم مرور الكرام . ومن الفصول المحذوفة ، الفصل المكرس لرجل الدولة البارز " بوخارين ". كما أن فصولاً أخرى ارتأى عدم نشرها ، خلال حياته ، وذكر ذلك في مقدمة مذكراته قائلاً : " ان بعض الفصول تتعلق بشخصيات لا زالت على قيد الحياة ولم تصبح جزءاً من التأريخ بعد ." ..
 
كان من اليسير عليه نشر كتبه ومذكراته في الخارج ، كما فعل آخرون ولكنه لم ير ذلك امرا ًصائبا ً، لأن النشر داخل البلاد كان أمراً بالغ الأهمية بالنسبة اليه ،وان كانت كتبه تترجم الى اللغات الأجنبية فور صدورها في موسكو . فقد أراد بمذكراته ، التأثير في الوعي الجمعي الروسي ، والكشف عن حقائق مذهلة عن النظام الستاليني.
 
مذكرات أهرنبورغ  تختلف من حيث المضمون والشكل والأسلوب عن تلك التي يكتبها المشاهير في خريف العمر . فقد فتح في هذه المذكرات امام القاري، المشهد الثقافي العالمي على مدى حوالي ستين عاماً  وعالماً بأكمله – عالم العباقرة والمبدعين في الأدب والفن والفكر والعلم  في النصف الأول من القرن العشرين ، بينهم من الفنانين  ( بيكاسو ، موديلياني ,ليجيه ) ومن الشعراء ( ابولينير ، ايلوار ، نيرودا ،  باسترناك ، تسفيتايفا ) ومن الكتّاب ( موروا ، وجيد ، وهيمنغواي ) ، ومن العلماء ( اينشتاين وجوليو كيوري ) ، الذين عرفهم عن كثب ، وكانوا من أصدقائه المقربين .
 
والأهم من ذلك أنه كشف النقاب لأول مرة عن حياة ونتاجات عدد من الكتاب والشعراء الروس الكبار ، وفي مقدمتهم (  بابل ، وزوشنكو ،  ماندلشتام ، كولتسوف  و المخرج المسرحي ايزنشتين وغيرهم) ، الذين أعدمهم ستالين بعد محاكمات صورية بتهم ملفقة .وبعد تصفيتهم سحبت كتبهم من المكتبات وتمّ منع تداولها وازيلت  اسمائهم ونتاجاتهم من المناهج الدراسية ومنع عرض المسرحيات التي اسهموا في كتابتها أو اخراجها .
 
 كما كشف اهرنبورغ عن عدد آخر من المبدعين الروس ، الذين حجبت نتاجاتهم عن الجمهور العام بأوامر من الرقابة ، لأنهم حافظوا على استقلاليتهم ورفضوا أن يتحولوا الى ابواق للدعاية وأن يكتبوا وفق أيديولوجية الحزب. كل هؤلاء سواء المعدومين منهم أو الممنوعين من النشر ، 
لم يكن الجيل الجديد من القراء الروس مطلعاًعلى نتاجاتهم ولم يسمع عنهم شيئاً ، الا عن طريق هذه المذكرات ،  وبعد مرور سنوات طويلة على رحيلهم عن الحياة  ، حين كشف اهرنبورغ النقاب عنهم بكل موضوعية وجرأة ، واطلع القراء للمرة ألأولى على  اسماءهم وسير حياتهم ، و جرى البحث عن كتب ودواوين الكتاب والشعراء الذين تحدث عنهم اهرنبورغ ، وتداول نتاجاتهم المستنسخة سراً ، بين المثقفين الروس . ويمكن القول بكل ثقة ان  " الناس ، والأعوام ، والحياة "  أصبحت التربة الفكرية ، التي انبثقت عنها حركة ( المنشقين ) الروس .
 
كانت لمذكرات اهرنبورغ أصداء واسعة ، في داخل البلاد وخارجها وتلقفقتها الأيادي ونشرت عنها مئات المقالات النقدية ، معظمها تثمن عالياً بانوراما الحياة والثقافة التي رسمها اهرنبورغ وتشيد بشجاعته الأدبية .
غير ان البعض ممن في قلبوبهم مرض ، اخذوا يحرضون السلطة ضد الكاتب . ولكن مكانته العالمية منعت السلطات من حجب نتاجاته أو المساس به شخصياً ، وان كانت تضيق عليه الخناق بين آونة وأخرى . فالزمن تغير وتغير القادة أنفسهم الى حد كبير ، وأخذوا العبرة من الضجة التي اثيرت في العالم الغربي عام 1958 ، عندما اضطر باسترناك الى رفض جائزة نوبل ومنعت السلطات السوفيتية  نشر روايته " دكتور زيفاكو " داخل البلاد . ولم يتم نشر مذكرات اهرنبورغ كاملاً وبضمنها الأجزاء المحذوفة ، الا في عام  .1990
 

76
المنبر الحر / زوبعة في فنجان
« في: 20:05 14/05/2015  »
زوبعة في فنجان

جــودت هوشيار
             
في اوائل السبعينات من القرن الماضي ، كان لي صديق عزيز ، مهندس من مدينة الحلة ، المدينة ، التي قدمت للعراق ، عدداً كبيراً من خيرة العلماء والمفكرين والأختصاصيين في شتى حقول المعرفة . درسنا وتخرجنا معاً في الكلية ذاتها ، . كنا من عشاق المسرح ، وحين عدنا الى العراق  عملنا معاً في بناء القاعدة الصناعية للبلاد ، ضمن عدد كبير من المهندسين من خريجي الجامعات  الأجنبية . لم يضعف عشقي للمسرح في زحمة العمل ، وكنا نذهب سوية لمشاهدة المسرحيات ، التي تعرض على مسارح بغداد . ولكنني بعد فترة قصيرة ، قلت لصديقي أنني لم أعد اطيق هذه المسرحيات المفتعلة ، التي يعلو فيها صراخ حمورابي ، أو يتحول فيها هاملت الى مهرج يلقي المواعظ . ومنذ ذلك الحين ، ما زلت في حيرة من أمر المسرح العراقي . العراقيون ، أو لنقل ، الكثير منهم ، ممثلون بارعون في الحياة اليومية ، ولكنهم عندما يعتلون خشبة المسرح يتحولون الى مهرجين ، لو شاهدهم  مخرج مسرحي غربي لمات من الضحك .
قلت لصديقي ذات مرة ، وكنا قد شاهدنا تواً احدى المسرحيات الهزيلة على خشبة ( المسرح الوطني ) :
- لماذا لا يستطيع الممثلون العراقيون تقمص أدوارهم في حين أنهم ممثلون ، بارعون في الحياة.؟
قال صديقي لأن التمثيل عل المسرح يتطلب صدق المشاعر ، وقدرة الممثل على التعاطف والمشاركة الوجدانية مع الشخصية التي يمثلها .
ليس المقام في هذا الطرح الدخول في مناقشة حول المسرح العراقي ، بل تشريح المسرحية  ( السياسية ) الفاشلة والزاعقة، التي تعرض هذه الأيام على شاشات الفضائيات العراقية الرسمية وغير الرسمية ، التي تنفذ اجندة غيرعراقية تعمل على تعميق التقسيم الفعلي للعراق .
 
 حديثنا اليوم عن الضجة المفتعلة المثارة في بغداد ، حول تصريح رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور اوربان عن تأييد بلاده لأستقلال كردستان . الساسة الذين  يتبارون في بغداد اليوم في اصدار البيانات والأدلاء بالتصريحات الديماغوجية ، عن حرصهم على العراق ( الواحد الموحد ) ويعتبرون تصريح رئيس الوزراء الهنغاري تدخلاً في الشؤون الداخلية العراقية ، لم يعترضوا يوماً على التصريحات ، التي أدلى بها مسؤولون كبار في الجارة ايران ، وهي تصريحات تعد  انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة العراقية ، وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية .
 
 بعض هؤلاء صرح بأن بغداد أصبحت عاصمة للأمبراطورية الفارسية ، والبعض الآخر أعلن بأن طهران تحكم اليوم خمس دول ( عربية ) في الشرق الأوسط في مقدمتها العراق ، والأخطر من هذا كله هو تصريح أحد المسؤولين الأيرانيين ، بأن الخط المار على بعد 40 كم من الحدود داخل الأراضي العراقية ، هو الخط الدفاعي الأمامي الأيراني .
ولا يقتصر التدخل في الشأن العراقي على التصريحات الرسمية الأيرانية ، فبغداد نفسها باتت اليوم في قبضة 43 ميليشيا تعمل وفق الأجندة الأيرانية ، ورئيس الوزراء حيدر العبادي ، يتجنب الأحتكاك بهذه الميليشيات  ويحاول كسبها الى جانبه بمدها بالسلاح والعتاد بسخاء ، سواء من رصيد الجيش العراقي أو المرسلة من قبل دول التحالف الدولي الى العراق لمحاربة داعش .
اعلان رئيس الوزراء الهنغاري ، ليس تدخلاً في الشأن الداخلي العراقي ، لأن حق الأمم في تقرير مصيرها ، كبيرها وصغيرها ، مبدأ تقره الشرعية الدولية وتنص عليه قررات الأمم المتحدة .
المتباكون في بغداد اليوم على وحدة العراق ، هم الذين عملوا كل ما في وسعهم على تقسيم العراق بشتى الطرق ، وهم الذين يحاولون اليوم  ، تقديم السنة قرابين على مذبح ( داعش ) ويحاولون منع العوائل السنية من العودة الى المناطق المحررة ، تحقيقاً لسياسة التغيير الديموغرافي. وهم الذين دأبوا على القيام بمحاولات خائبة لخنق اقليم كردستان المزدهر اقتصادياً ، الذي أصبح نموذجاً ناجحاً وفريدا في المنطقة ، يفضح عجزهم وفسادهم وأدائهم السيء .
الشعب الكردي ماض في طريقه ، والعالم المتحضر يقف الى جانبه ، لأنه أصبح الواحة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يسودها الوئام والسلام بين مختلف قومياته وأديانه ومذاهبه ، دون أقصاء أو تمييز . العالم المتحضر يدرك أهمية ذلك ، كما يدرك أن قوات البشمركة البطلة تدافع اليوم ليس عن كردستان والعراق فقط ، بل عن العالم بأسره .
 
 لنتخيل للحظة ماذا كان سيحدث لو لم تقف قوات البشمركة سداً منيعاً ، امام تقدم ( داعش ) وتمدده ؟ ، قوات البيشمركة هي التي أنقذت كردستان والعراق من دولة الأرهاب الداعشية.
كان الأجدر باصحاب الضجة المفتعلة ، أن يقدموا الشكرلقوات البيشمركة ، التي مكنتهم من الأستمرار في حكم العراق .

 دول التقسيم فشلت في قهرارادة الشعب الكردي المطالب بحقوقه المشروعة ، طوال مائة عام في الأقل ،من عمر الحركة التحررية الكردية ،وصمد الشعب الكردي ، أمام الموجات العاتية  من التتريك والتفريس والتعريب .، وقدم تضحيات بشرية ومادية جسيمة لم يقدمها أي شعب آخر في المنطقة ، وهو لن يفرط اليوم في حقه في تقرير مصيره بنفسه ، ولن تستطيع أي قوة ان تمنعه من التمتع بهذا الحق .
الشعب الكردي اليوم ليس وحده في الميدان ، بل معه كل أحرار العالم . ثم أن العالم تغيّر وتحوّل الى قرية كونية يعلم كل من فيه ، كل ما يجري فيه ، وأصبح من المستحيل تكرار حماقات صدام ، لأننا نعيش اليوم في زمن يؤمن فيه المجتمع الدولي المتحضر بمباديء  التعايش السلمي والحوار وباحترام ارادة الشعوب وحقوق الأنسان .
 .
الضجة المثارة في بغداد ، حول تصريحات (اوربان ) ليست سوى ( زوبعة في فنجان ) . وهذه الحقيقة يعرفها حق المعرفة أصحاب هذه الزوبعة قبل غيرهم . واوربان ليس وحده من يعترف بحق الشعب الكردي في الأستقلال ، بل أن ثمة عدداً كبيراً من رؤساء الدول  والساسة والمفكرين الغربيين ،الذين  لا يقلون حماساً عن اوريان في تأييد حق الشعب الكردي في العيش حراً في وطنه. 
 
على أولي الأمر في بغداد أن يدركوا قبل فوات الأوان ، ان زمن فرض هيمنة مكون واحد على كردستان والعراق ، قد ولى الى الأبد ، وعليهم مراجعة سياستهم الخاطئة ، التي جلبت الويلات للعراق  ، وكلما كان ادراكهم لضرورة هذه المراجعة أسرع ، كان ذلك في مصلحة العراق عموما ومصلحة الأخوة الشيعة العراقيين في المقام الأول .



77
فرصة العراق الأخيرة

                                           
جــودت هوشيار

لم يحدث في التأريخ الحديث قط ، أن تعامت الطبقة الحاكمة في بلد ما عن رؤية الحقائق الصارخة على ارض الواقع ، مثلما يحدث في عراق اليوم ، فهي تتحدث عن دولة موحدة اسمها العراق ، في حين أن هذه الدولة لم يعد لها وجود على الأرض ، بل توجد فقط على خرائط سايكس – بيكو ، التي عفا عليها الزمن . فالعراق يتألف اليوم من ثلاث دول ، تربطها خيوط واهية وعلاقات هشة . ولا يقتصر الأمر على ساسة العراق ، بل ان بعض الدول الكبرى ، تتظاهر بالحرص على وحدة العراق وتتمسك بهذا الوهم ، الذي لا تؤمن به ،من اجل تشجيع بغداد على اتباع سياسة جديدة قائمة على المصالحة الوطنية الحقيقية والمساواة في الحقوق والواجبات وعدم تهميش أي مكون من مكونات العراق. ولكن لا يبدو أن تلك الدول  ستنجح في مسعاها ، لأن العقلية التي قادت العراق الى ما آل اليه اليوم ، لم تتغير كثيراً ، أو لنقل أنها تغيرت شكلياً فقط . والوقائع اليومية تثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك .
 
 واذا كانت هذه الدول تنطلق من مصالحها الحيوية ، فأن الطبقة الحاكمة في بغداد ، حريصة على مصالحها الخاصة ، وليس مصالح الطائفة التي تدعي تمثيلها ، فالأستخدام السياسي للطائفية  ورفع شعاراتها ،يهدف الى صرف انظار الجماهير المسحوقة عن واقعها الأليم  ونسيان بؤسها ومعاناتها وحرمانها من ابسط متطلبات الحياة .، بمعنى آخر أصبحت الطائفية أفيونا لتخدير المخدوعين بها ، في حين تستأثر فئة صغيرة بالسلطة وثروات البلد .
 
 ولكي لا يتهمنا أحد بالمغالاة أو الأنحياز ، لندع الساسة والخبراء الأجانب ، يصفون لنا حالة بلد يتفكك أمام أنظار العالم .
في عام 2006 طرح الباحث السياسي الأميركي ليزلي غيلب مشروع الفيدرالية في العراق  ، ومن ثم انضم اليه السناتور جو بايدن ( نائب الرئيس الأميركي حالياً ) ، يتم بموجبه نقل السلطات الأساسية الى الحكومات الأقليمية ، على أن تتولى الحكومة الأتحادية  ، ثلاثة اختصاصات  محددة ، وهي حماية الحدود الخارجية ، وتوزيع عائدات النفط ، والشؤون الخارجية . ورداً على ملاحظة منتقدي المشروع ،ان الفيدرالية من شأنه أن يؤدي الى التطهير العرقي ، اشار غيلب بحق الى أن التطهير العرقي في العراق قد أصبح بحكم الأمر الواقع ، ويجري هذا التطهير ،  بأكثر الطرق وحشيةً وقساوةً .
 
وفي خريف عام 2014 عاد ليزلي غيلب  ليؤكد : " ان العراق قد تفكك فعلاً . الكرد تحرروا الى حد كبير ، رغم اعتراضات بغداد ، والسنة يؤيدون ( داعش ) الى هذا الحد و ذاك ، أو ببساطة  يتجاهلون بغداد ، والشيعة يسيطرون على بغداد والمنطقة الجنوبية ، ولم يعد للعراق الموحد وجود . انهم يتظاهرون بأن في بغداد حكومة مركزية ، رغم أنها حكومة مركزية بالأسم فقط ، وليس لها سلطة حقيقية على وسط وشمال البلاد . جروح السنوات الأخيرة والكراهية المزمنة لا يمكن تجاوزها بسهولة . كما تعلمون، فأن العراق  لم يكن قادراً على البقاء ضمن حدوده  الحالية الا بأستخدام القوة المفرطة  في شتى العهود من الأتراك الى الأنجليز ، ثم في عهد صدام . اما الآن فلا توجد قوة يمكنها ابقاء العراق دولة موحدة . "
 
أما البروفيسور غاريث ستانفيلد، المختص بسياسات الشرق الأوسط في جامعة إكستر ، فقد أشار في مقال له تحت عنوان " العراق يتفكك " الى أن البديل عن تفكك العراق على أسس عرقية ودينية هو حرب أهلية كارثية تهدد بأنتقال لهيبها الى المنطقة بأسرها . ويرى أن الدولة الأسلامية التي تتخذ من مدينة الرقة عاصمة لها ، تسيطر على مناطق شاسعة في العراق ، وسيسود الشيعة في بغداد والجنوب بدعم من ايران ، ولا يستبعد ستانفيلد ظهور دولة كردستان . ويضيف قائلاً : "  في ضؤ هذه الدينامية القوية ، فأن الدعوة  الصادرة عن الولايات المتحدة وبريطانيا ،  الى الوحدة الوطنية في العراق ، معزولة عن الواقع تماماً ، لأن أية محاولة للحفاظ على وحدة العراق ستؤدي إلى خلق فرانكشتاين- مسخ يتسم بطبيعة لا يمكن التنبؤ بها .
ويؤكد ان التفكك يجري اما انظارنا ، وحيث تجري عدة عمليات طاردة لبعضها البعض  ، وقسمت البلاد الى ثلاث مناطق : الدولة الأسلامية ، كردستان ، والمعقل الشيعي في بغداد والجنوب . وفي هذا الصدد، ينبغي الاعتراف بالواقع وليس التظاهر بأن العراق الموحد لا يزال موجودا لحد الآن .
ان فكرة وجود ثلاث دول مستقلة ، هي معقدة للغاية ، ولكن فكرة دمجها معاً مرة أخرى ، هي أسوأ بكثير .
 
ووفقا لديفيد بولوك، المستشار السياسي السابق لوزارة الخارجية، يصبح الاستقلال الكردي واقعا للمرة الأولى ومع ذلك، يعتقد بولوك ، ان الكرد لن يصروا على الاستقلال التام، لأنهم يعلمون  ان هذه الخطوة ستجابه بأعتراض شديد من قبل تركيا وايران . وعلاوة على ذلك فأن اقتصادهم يعتمد على حصتهم من  عائدات النفط ، التي تشرف حكومة بغداد على توزيعها .  ومع ذلك،فأن التهديد الذي تشكله " الدولة الأسلامية " قوية الى درجة أنه يلقي بظلاله على جميع المشاكل الأخرى في العراق.
وقال  وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في أعقاب زيارة له الى العراق أواخر اكتوبر 2014
ان الحرب ضد داعش ، هي بالفعل فرصة العراق الأخيرة كدولة قومية
 
أن التطورات السياسية والأمنية  في العراق والمنطقة والحرب ضد داعش ، وما رافقها من تغيير ديموغرافي وانتهاك لحقوق الأنسان في المناطق المحررة من محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وأعمال القتل على الهوية في بغداد  ، قد خلقت واقعاً جديداً في العراق وأدت الى تعميق الشرخ المجتمعي ، ولم يعد النظام الفيدرالي ( حتى في حالة تطبيقه فعلياً  أي تأسيس أقاليم جديدة ، وتوزيع الصلاحيات ، كافياً لتعافي العراق من أزماته واعادة الثقة المتبادلة بين مكوناته .
أن الحل الوحيد لأزمات العراق – بعد تطهيره من داعش – هو التخلي عن سياسة هيمنة مكون معين على السلطة وعلى مقدرات البلاد واقرار النظام الكونفدرالي بكل جد وأمانة واخلاص ، بما يتوافق مع الشرعية الدولية و حق الشعوب في تقرير المصير .
والمفارقة الكبرى هنا ، هي أن الكثير من ساسة العراق ومثقفيه ، يلعنون أتفاقية سايكس – بيكو  الأستعمارية ، وفي الوقت ذاته يتمسكون بالحدود ، التي رسمت للعراق تنفيذاً لتلك الأتفاقية .
ومن حقنا أن نتساءل  : لماذا لا يبدو وجود أكثر من عشرين دولة عربية سنية مستقلة أمراً غريباً ، وهي لا تختلف عن بعضها البعض ، لا في القومية ، ولا في الدين ، ولا في المذهب ، في حين لا يمكن لهؤلاء ، تصوّر وجود ثلاث دول مستقلة مختلفة القومية والدين والمذهب ، ولو ضمن اتحاد كونفيدرالي ؟
قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ، في الكلمة التي ألقاها في جامعة الدفاع الوطني في العاصمة واشنطن يوم التاسع من نيسان 2015 : " ان العراق بحاجة الى أكثر بكثير من النظام الفدرالي ( الحالي ) ، ولم تكن هذه العبارة زلة لسان ، بل تعبّرعن السياسة الرسمية لواشنطن التي ( عجنت وخبزت العراق على مدى اثني عشر عاماً ) .
ولكن لا يبدو في الأفق ما يشير الى أن ساسة بغداد قد استخلصوا الدروس والعبر من تجارب السنوات الأخيرة ، فهم ماضون في تضييع الفرصة الأخيرة لأنقاذ العراق .



78
الكاريكاتير : الفن الي يعبّر عن جوهر الأشياء

جــودت هوشيار          
   
الكاريكاتير– شكل من أشكال فن الرسم الأكثر جذباً ،القائم على المبالغة بالخطوط والريشة ، من خلال تحريف الملامح الطبيعية وخصائص شخص مشهور – مع الأحتفاظ ببعض أوجه الشبه به - أو ظاهرة اجتماعية أو حدث سياسي بهدف التهكم والسخرية او النقد الأجتماعي والسياسي.
 
على خلاف المقال الذي يتناول موضوعاً ما- وان كان ساخراً ولاذعاً - فان الرسم الكاريكاتيري المعبرعن المعنى ذاته ، مفهوم من الجميع ، بصرف النظرعن فئاتهم الأجتماعية ومستواهم الثقافي ، لما يتميز به من بساطة في الطرح وعمق في التأثيرالجماهيري. ومن هنا يستمد فن الكاريكاتير قوته كأداة صحفية ساخرة وناقدة في آن ، لها القدرة على النقد ، بما يفوق الكتابات الساخرة ، مهما كانت لاذعة.
 
ويتضمن الكاريكاتير في العادة حواراً أوتعليقاً قصيرا ً، أو يكون بدون نص ، ويعتمد على المفارقة البصرية، وهذا الأسلوب الأخير كان شائعا في أوائل ظهور الكاريكاتير .
 
 ويرتبط الكاريكاتير السياسي – وهو الأكثر شيوعا والأبلغ تأثيراً من أنواع الكاريكاتير الأخرى -  بحدث سياسي مهم او بشخصية في السلطة ، لجذب الأنتباه الى موضوع يشغل الرأي العام مثل الفساد أو الجريمة أو ارتفاع الأسعار وغيرها . وفي العادة فأن الشخص المعني يشعر بالأمتعاض أو عدم الرضا ، رغم ان جعل أي شخص مشهور موضوعا للسخرية يبرهن على أهميته ودوره في العملية السياسية .
 
المقال اوالخبر الذي يمس شخصا ما ، يمكن الرد عليه ، اما الكاريكاتير فان ، الشخص المعني يقف عاجزا عن الرد ، لذا يشعر بالحنق والغضب دون ان يستطيع ان يفعل شيئا ، ربما بأستثناء اللجؤ الى القضاء في الأنظمة الديمقراطية . .
 
ولكن ليس كل الساسة أو المشاهير يمتعضون من الرسوم الكاريكاتيرية ، التي تتناولهم بالنقد والسخرية ، فبعضهم قادرعلى الضحك على نفسه. والحق ان القدرة على السخرية من النفس تعني دائما مستوى عاليا من الثقافة ، والناس الأصحاء روحياً وذوي الشخصيات القوية هم وحدهم القادرون على الضحك على أنفسهم ..
 
الكاريكاتير يكشف لنا عن انفسنا والعالم من حولنا على نحو بارع ومرح وغير متوقع ، وفوق ذلك فأن نوع الفكاهة أو الدعابة يشير الى مستوى الثقافة الروحية لأي شعب أو مجتمع أوعصر.
فن الكاريكاتير ، يعكس جوهر الاشياء ، وهو فن تطبيقي جد مهم للمجتمع السليم . ليس المهم دائما محتوى الرسم الكاريكاتيري فقط ، بل ايضا ردود الفعل ، التي تحدثه في المجتمع.
من أجل تقبل او فهم الكاريكاتير عليى الانسان ان يمتلك شيئا من روح الدعابة والفكاهة ويكون مستعدا للابتسام ، أو الضحك ، وهو ما يميز الأنسان عن الحيوان . والقصص الفكاهية البارعة للكتاب الساخرين يكشف عن ذلك بكل عمق وطرافة .
-
الكاريكاتير عبر ألتأريخ :
 
ثمة التباس واضح في الكتابات العربية عن هذا الفن ، فالباحثون في هذا المجال يخلطون بين الرسوم البدائية على الصخور، لسكان الكهوف في العصر الحجري أوعلى أوراق البردي والمسلات الفرعونية أو الرسوم المبالغ بها أو المشوهة بعض الشيء ، للأنسان والحيوان في العهود السومرية والآشورية والبابلية ، وبين الكاريكاتير بالمعني الحقيقي لهذا المصطلح بوصفه فناً مستقلاً  . ان كل تلك الرسومات تنتمي الى الفن التشكيلي البدائي ، غير أن بعض الكتاب يحملون هذه الصور معاني لم تخطر ببال راسميها ، كالسخرية أوالتعريض بالحاكم المستبد .
 
كان الأعتقاد السائد بين مؤرخي الفن ، حتى منتصف القرن التاسع عشر، أن أقدم رسم كاريكاتيري يعود الى زمن الفراعنة ، وهو مرسوم على ورق البردي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة . ويصور أسداً  يلعب مع ظباء ، لعبة تشبه الداما . وكان هؤلاء المؤرخون يقولون أن الأسد يمثل  الفرعون رمسيس الثالث.
 
ولكن في وقت لاحق ظهرت شكوك حول الشخصية التي يمثلها الأسد ، ذلك لأن أحداً لم يكن يتجاسر على السخرية من فرعون مصري معبود ، وقد ثبت في ما بعد ، ان عهد رمسيس الثالث لا  يتزامن مع التاريخ التقريبي لهذا الرسم . وبالإضافة إلى ذلك، فأن صورةالأسد والظباء ليست سوى جزءاً من صورة أكبر، تتضمن أيضاً صور حيوانات أخرى. وربما تعكس هذه الصورة روح الدعابة ولا تنطوي على أية سخرية من أحد .
 
وهناك رسم مصري قديم آخر ، والذي يمكن أن يعتبر نموذجاً بدائياً للكاريكاتير ، فعلى جدار معبد   حتشبسوت ثمة صورة تمثل الملك والملكة وهما يستقبلان وفداً مصرياً .وتمتلك الملكة المرسومة بالنحت الغائر ، شكلا جميلا مثيرا للإعجاب، في حين أن الحمارالمرسوم على جدار قريب والمخصص لحمل زوجات الملك صغير يكاد يكون قزماً .وقد انجز هذا الرسم بين عامي  ( 1458 – 1479 ) قبل الميلاد . ويعد أقدم رسم ساخر يمثل شخصية تأريخية حقيقية .
 
الكاريكاتير، اسم مشتق من الكلمة الأيطالية " كاريكير" وتعني " يبالغ " أو" يحمّل ما لا يطيق "
 في عام 1590 أطلق أنيبالي كاراتشي الأيطالي وشقيقه  أغوستينو  هذه اللفظة على رسومات البورتريه ، التي رسماها على نحو مبالغ فيه .
 
وقد جاء في الشرح الذي تركاه ، انهما ارادا بتلك الرسوم  ، التهكم على النظريات الفنية التي درساها في الأكاديمية البولونية .وقد ظل الكاريكاتير شكلاً فنيا ايطاليا رغم ظهور الفنان بيتر بروغل الأب ( 1525 – 1569 ) وآخرون معاصرون له في أوروبا الشمالية ، الذين أستخدموا اسلوب المبالغة في لوحات البورتريه ..
 
البعض يعتقد ان ليوناردو دا فينشي،هو الاب الحقيقي لفن الكاريكاتير، في اشارة الى الرسوم   المشوهة ، البشعة الشكل ، التي رسمها هذا الفنان العظيم . .
 
وبطبيعة الحال فأن الرسوم الكاريكاتيرية الأولى لا تشبه كثيراً الرسوم التي يمكن ان نشاهدها اليوم ، فأغلب تلك الصور كانت لرجال برؤوس كبيرة واجسام صغيرة بصورة غير متناسبة .
 
كان رسام الكاريكاتير في الماضي يمتلك سلطة تفوق سلطة الكاتب كثيراً ، ولم تكن الرسوم مصحوبة بالكلمات النصية حيث لم تكن ثمة ضرورة لذلك ، لأن المتعلمين كانوا قلة في المجتمع . ولعل أبلغ مثال على هذا النوع من الفن الجرافيكي الساخر،هو الرسم الكاريكاتيري الذي رسمه الفنان البريطاني جيمس غيلاري ( 1756- 1815 ) وصور فيه نابليون بونابرت ( 176- 1821) قصيراً جداً ومثيراً للسخرية بقبعة كبيرة الحجم . اليوم، ونتيجة لذلك ، فأن نابليون يخيل الينا حتى اليوم ، أقصر مما كان عليه في الواقع .
.
أنتشر الكاريكاتير بعد اختراع يوهان جوتنبرج لآلة الطباعة في عام 1447، وظهور حركة الأصلاح الديني ، حيث شرع الفنانون البروتستانت في القرن السادس عشر برسم صور كاريكاتيرية للتعريض ببذخ البابا وثرائه ومقارنته بزهد يسوع المسيح ، كما في سلسلة الرسوم الثنائية ، من قبيل : "يسوع يغسل أرجل تلاميذه" - "الزوار يقبلون حذاء البابا " و"يسوع يضع على راسه تاجاً من الشوك "-"على راس البابا  ثلاثة تيجان ذهبية "وغيرها كثير.
 وكان بين رسامي الكاريكاتير البروتستانت ،  فنانون كبار مثل البريخت  دورر ولوكاس كراناتش الأكبر ولم تمر هذه الرسوم الساخنة بسلام ، دون ملاحقة واضطهاد مبدعيها .
 
في فرنسا ازدهر فن الكاريكاتير خلال الثورة الفرنسية ، وكان موجها اساسا ضد السلطة الحاكمة ، فعلى سبيل المثال ظهرت رسوم تصور الملك لويس السادس عشرعلى هيئة خنزير سمين والملكة انطوانيت على شكل ذئبة أو خنيمة ( أنثى النمر ) .ولم تمر هذه الرسوم بسلام فقد شنت السلطة حملة ضد فناني الكاريكاتير . وكان ذلك أمراً متوقعاً ، لأن عدة دول أوروبية أخرى أصدرت منذ أوائل القرن السادس عشر مجموعة متنوعة من القوانين والمراسيم ، التي  تحظر نشر وتوزيع  الصور التشهيرية ..
لم تكن فرنسا استثناءً ، فالرقابة فيها لم تلغ ،الا بحلول عام 1789 ، ثم صدر قرار في عام 1791 يمنع نشر الرسوم التحريضية ضد السلطة ، وبعد ذلك بعام واحد ، تم اعتبار مثل هذه الرسوم جريمة خطيرة .
كانت انجلترا اكثر تسامحاً مع فناني الكاريكاتير ، ولم تكن ثمة رقابة فعلية على " فن الطبقات الأجتماعية الدنيا " وخاصة بعد معاهدة أميان للسلام ( 1802 ) بين انجلترا وفرنسا . وقد انتشرت الرسوم الكاريكاتيرية في انجلترا خاصة خلال فترة شيوع البروباغاندا المعادية لنابليون ، اذ حظيت بدعم حكومي .
 
 كان رد فعل نابليون على الصور المسيئة له ، المنشورة في انجلترا يتسم بالعصبية ، حيث طلب من ملك انجلترا اعتباراصحاب تلك الرسوم من الفنانين الانجليز قتلة ينبغي محاكمتهم .
 
وفي الولايات المتحدة الأميركية ، انتشر الكاريكاتير الصحفي على نطاق واسع بالتزامن مع الدول الأوروبية تقريبأ . ومع حلول بداية القرن العشرين أصبح لكل صحيفة أو مجلة أميركية رسام كاريكاتير واحد في الأقل بين العاملين فيها . ومنذ عام 1922 حصل البعض من فناني الكاريكاتير على جائزة " بوليتزر" المرموقة في مجال الصحافة . ومع ذلك فأن الكاريكاتير الأميركي في ذلك الوقت يختلف عن الكاريكاتير الأوروبي الحديث .حيث كان الفنانون الأميركيون يبالغون ليس فقط في تجسيد افعال الأشخاص الحقيقيين ، بل ايضاً في التهكم والسخرية من اعاقاتهم الجسدية . وفوق ذلك كانت الصور ذات قوالب نمطية وطابع عنصري من حيث التركيزعلى خصائص معينة لكل مجموعة بشرية ، وهو أمر مرفوض في وقتنا الراهن لدى الشعوب المتحضرة في النظم الديمقراطية .
أما في العرق
 
الكاريكاتير بأستخدام البرامج الجرافيكية :
 
ومنذ شيوع هذا الفن في أوروبا وأميركا ، بعد اختراع آلة الطباعة وظهور الصحف والمجلات الورقية ، لم يتغير محتواه كثيرا ، وانما الذي تغير هو الأداة المستخدمة : الفحم ، القلم الرصاص ، قلم الحبر ، الأقلام الملونة السائلة أو الناعمة .  أما اليوم فأن رسامي الكاريكاتير يستخدمون البرامج الجرافيكية الكومبيوترية ، مثل :
 Adobe Illustrator   ،Corel Painter
، كما أن برنامج الفوتوشوب ادى الى نشؤ نوع من الكاريكاتير البارع الذي يركز على تحريف ملامح الشخصيات المشهورة ، ويلقى الكاريكاتير المرسوم بأستخدام هذا البرنامج شعبية كبيرة .
 
الكاريكاتير فطرة مطبوعة :
 
فن الكاريكاتير ، كسائر الفنون ، فطرة مطبوعة لا خبرة مكسوبة ، ومن حاول تعلم هذا الفن بطول  المزاولة والممارسة أو بالتحصيل الدراسي وهو لا يجد أصله في فطرته ، أضاع جهده ووقته من دون طائل . وحتى الموهبة وحدها غير كافية ، خاصة بالنسبة الى فنان الكاريكاتير السياسي .
 فهذا الفن لا يتأتى الا لمن يمتلك نظرة ثاقبة الى الأمور وقدرة على النفاذ الى جوهر الظواهر والأحداث والأشخاص. صحيح ان الواقع هو الملهم لكل الفنانين ولكن الواقع وحده لا يخلق فناناً ، لأن فن الكاريكاتير يتطلب امتلاك موهبة المزج المبدع بين الواقع والخيال ، والتفرد بأسلوب خاص ومميز لكل فنان . ويبقى هذا الفن في اطار المبادرات الفردية أكثر منه دراسة أكاديمية .
 
ما الفرق بين الكاريكاتير والرسوم المتحركة ( الكارتون )؟
 
الرسوم المتحركة في العادة هي صور تخطيطية لشخصيات خيالية ، وقد ظهرت لأول مرة في
القرن التاسع عشرعلى يد الفنان السويسري رودولف توبفير ( 1899 – 1846 )في محاولة لخلق طريقة جديدة ورائدة في رواية القصص المرحة سواء في كتب الفكاهة المصورة الحديثة ، أو نشرها في الصحف اليومية .
كانتمثل هذه الرسوم تنجز بسرعة مع بذل جهد قليل .على النقيض من الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة أوالهجائية ، التي كانت تبذل من اجل انجازها جهوداً مضنية وتلون باليد وتطبع على ورق صقيل. وفي العادة ،  فأن الكاريكاتير الملون ينجز بحرفية عالية ، من اجل توضيح  المادة الصحفية المنشورة على نحو أفضل من الرسوم المتحركة .وما يزال هذا الأختلاف قائماً حتى اليوم  .
 وبالطبع لا شيء يبقى على حاله ، فمع اختراع فن الكومبيوتر ، قام رساموا الرسوم المتحركة بتوسيع نطاق هذا الجنس الفني من خلال خلق صور كرتون متطورة ، معقدة للغاية ، لا سيما ، الخيالية منها .
 
    الفنان البريطاني جايلز (1916-1995)، الذي نال شهرة واسعة ، بفضل عمله في صحيفة ديلي اكسبريس،ابتدع الكارتون السياسي مقابل الكاريكاتير ، وخلق ما يسمى " اسرة الكرتون الخيالية " التي تهيمن عليها الجدة المبهمة والتي تعد مثالا على هذا النوع من الكارتون .
كانت " الجدة المبهمة " تعلق في كثير من الاحيان على السياسة البريطانية والعالمية المعاصرة، ولكن ضمن بيئة خيالية ولم ينجز أى كارتون لأشخاص  من واقع الحياة. وعلى الرغم من هذه الاختلافات الواضحة، فإن مصطلح "الرسوم المتحركة" لا يزال يستخدم  كمرادف شائع  لمصطلح " الكاريكاتير ".
 
 

79
ثقافة التسامح والتعايش ضرورة أنسانية ووطنية

جــودت هوشيار
 
تغيّرالعالم الذي نعيش فيه كثيراً في العقود الأخيرة ، في ظروف العولمة والتطور المتسارع لثورة الأتصالات والمعلومات ، مما ساعد على تخطي الحدود الجغرافية وتقريب المسافات بين البشر والتواصل الفعال بين أنماط الحياة والثقافات المختلفة . وباتت ثقافة التسامح ضرورة  وطنية وانسانية ملحة ، ومطلوبة أكثر من أي وقت مضى ، سواء داخل المجتمع المتنوع أثنياً و دينياً أوعلى صعيد العلاقات الدولية .
 
 لقد كان الناس حتى عهد قريب يعيشون ، كما لو كانوا في عوالم مختلفة  ، وقد وجدوا أنفسهم فجأةً جنبا إلى جنب ، في ظل عالم واحد تحول الى قرية كونية ، وأخذ العالم ينحو حثيثاً نحو التجانس والتناغم  .
 
ننتمي – نحن البشر -  الى أعراق وثقافات شتى،  ولدينا  ملامح وسمات وخصائص مختلفة . نرى أنفسنا والحياة والتأريخ على نحو مختلف .لا يشبه احدنا الآخر وننظر اليه ، كما ننظر الى الغريب .وقد لا نفهم  نمط حياته وقيمه جيداً. اذن كيف يمكننا أن نعيش معا؟  حيث لم يعد ممكناً أن نستمر في العيش منعزلين كما لو كنا وحدنا .
 
. ليس ثمة مفر من البحث عن الفهم المتبادل ، وعن ما يوحدنا ، وعن اساليب جديدة للتعايش المشترك ، لأن الزمن لا يعود الى الوراء . والبحث عن اجابة مقنعة وشافية لهذا السؤال هو الذي أدي الى شيوع وتعزيز ثقافة  التسامح 
 
معنى التسامح لغةً واصطلاحاً : 
 
تطور مفهوم التسامح على مدى قرون عديدة، وهذه العملية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا .
والشعوب المختلفة تفهم هذا المصطلح بأشكال مختلفة وتعبرعنه في لغاتها بصيغ متنوعة ،على النحو الذي تحدده التجربة التأريخية لكل شعب وثقافته .
 في اللغة الأنجليزية التسامح يعني "الأستعداد والقدرة على تقبل شخص أو شيء ما برحابة  صدر."
في اللغة الفرنسية يقصد به " احترام حرية الشخص الآخر،  وطريقته في التفكير، وسلوكه ، ومعتقداته السياسية والدينية. " 
في اللغة الصينية التسامح يعني ،" السماح أو التصريح وان يكون الانسان  كريما مع الآخرين "
وفي اللغة العربية ، هو " التَّسَاهُلُ ، والحِلْمُ ، والعَفْوُ ، والصفح ،  والمغفرة ."
وفي اللغة الفارسية يقصد به " الصبر والتسامح والقدرة على التحمل، و المصالحة."
 
ثمة تعاريف كثيرة لمصطلح التسامح ، وبطبيعة الحال فأن مفهوم التسامح اكثر ثراءا من اي تعريف .ولعل اكثر التعاريف شمولا هو ما جاء في " اعلان مباديء التسامح " الصادر عن منظمة اليونسكو في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1995 والموقع من قبل 185 دولة : " التسامح ، هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال تعبيرنا الذاتي  وطرق تجلي التفرد الأنساني ،  ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية التعبير والضمير والمعتقد  .
التسامح - هو الحرية والتناغم  في التنوع. وهو ليس واجبا اخلاقيا فحسب ولكنه حاجة سياسية وقانونية .
التسامح فضيلة تيسر تحقيق السلام ويسهم في احلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب."
 
التسامح – منظومة ثقافية متعددة الأوجه والمعاني ، ويتضمن جوانب دينية وسياسية  واجتماعية وثقافية وتربوية ، وتعد من أهم الضرورات الأنسانية والأخلاقية في عالم اليوم . التسامح  ليس مجردالصفح عن أخطاء الآخر، بل التعايش معه ، واحترام عقيدته ومواقفه وأفكاره، والذي يسمح بتعددية الرؤى والأتجاهات المختلفة ، استناداً الى مبدأ المساواة ، الذي يمنح الناس جميعاً حق اتخاذ مواقف متباينة من القضايا التي تحتمل الخلاف ،  وعلينا ادراك نسبية حقائقنا الصغيرة  ،  ففي نهاية المطاف ، وراء جميع التصورات المختلفة عن العالم ، مهما بدت لنا صحيحة أو خاطئة ، يقف البحث الأزلي ذاته عن معنى الحياة، وعن الله والمصير ، وهذا ما يوحد البشر جميعا.ً
 .
في الواقع ان كل اعتقاد ، سواء كان دينيا أو سياسياً أو ثقافيا يمكن أن يؤدي الى التعصب ، اذا كنا نعتقد ان آرائنا التي نؤمن بها ، صحيحة دائما ، وأن آراء الآخرين خاطئة.
 
التسامح تجاه الناس الذين يختلفون عنا بمعتقداتهم وعاداتهم، يتطلب ادراك ان الحقيقة لا يمكن أن تكون بسيطة، بل ان لها العديد من الوجوه، وأن هناك وجهات نظر أخرى يمكنها تسليط الضوء على هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحقيقة
 
لمحة تأريخية :
 
كان التعصب بين الجماعات البشرية المنتمية الى اصول واديان ومذاهب مختلفة وراء اندلاع الكثير من الحروب والنزاعات الدينية عبرالتأريخ البشري . وشهدت اوروبا في القرن السادس عشر ، موجة مرعبة من التناحر والتقاتل الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت وخاصة في فرنسا وايطاليا واسبانيا.
 
جاء مفهوم التسامح تحت تأثير حركة الأصلاح الديني ، ليؤكد الحاجة الى علاقات اجتماعية جديدة بين الطوائف المسيحية المختلفة ، تستند الى الأعتراف المتبادل بحق الأختلاف في المعتقد . ،
 وقدمت بولندة  نموذجًا فريدًا للتسامح وتعدد الأديان وعدم التمييز العرقي، فقد أكدت رسميًا على مكانتها "كمأوى لمن تعرض الى الأضطهاد الديني والطائفي ، حين أصدرت أول قانون للتسامح الديني في أوروبا عام 1573 .
 
 وفي فرنسا اصدر الملك هنري الرابع ما يعرف بمرسوم نانت في 13 ابريل عام 1598 . وكان ذلك أول اعتراف رسمي فرنسي بالتسامح الديني ، التي منحت للبروتستانت الفرنسيين الذين ، يُطلق عليهم اسم الهوغونوت ، حرية المعتقد والعبادة والمساواة الاجتماعية والسياسية مع الأغلبية الرومانية الكاثوليكية.
وكان قانون التسامح البريطاني لعام 1689 الحصاد السياسي للجهود المبذولة من قبل واضعي النظريات حول فكرة التسامح في القرن السابع عشر،  كما كان هذا القانون أيضًا ضرورة سياسية أفسحت المجال لتطور مفهوم التسامح الذي ساهم بدوره في تحقيق مزيد من الاستقرار السياسي في الجزر البريطانية، هذا على الرغم من النطاق المحدود الذي كفله هذا القانون للتسامح
 
جاء ظهور مفهوم التسامح  والأعتراف به وسن القوانين لأقراره وترسيخه ، كمظهرمن مظاهرالحل الوسط للصراع الديني الكاثوليكي -البروتستانتي الدامي ، وبعد أن ادرك الأوروبيون ان  فرض مذهب ديني واحد بالقوة سواء داخل البلد الواحد أوعلى الدول الأخرى ،  لن يسفر سوى عن التدمير والخراب وتأجيج العداوة والكراهية داخل المجتمع المتنوع دينياً ومذهبياً ونشوب حروب دموية بين الدول المتصارعة .
 
لقد ظهر التسامح في أوروبا ومن ثم في امريكا ،  ليس فقط كمبدأ نظري بل كحل عملي  للخروج من دوامة الحروب الأهلية والنزاعات الدينية الدامية ، عندما كلن التشتت يهدد وحدة المجتمع المتنوع دينيا . واتضح للجميع ، أن السلم الأهلي في المجتمع سيكون اكثر رسوخا ، حين يتم التخلي عن محاولات فرض الوحدة الدينية بالقوة .
 
وقد قام جون لوك ( 1632 - 1704 بدور بارز في الدفاع عن التسامح الديني ووضع اللبنات الأولى لنظرية التسامح .
في مقاله "رسالة في التسامح"  1667  وكتابه "رسالتان في الحكم"1689، أكد أن الإيمان لا يفرض بالقوة ؛ وأن التسامح هو وحده الذى يكفل تحقيق السلام بين البشر. ونادى بضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة أو بين السلطة الدينية والسلطة المدنية ، " فلكل سلطة اختصاصاً معيناً لا دخل للأخرى به ، فهدف الكنيسة هو الحياة السماوية الأخروية وهدف الدولة هو الحياة الأرضية الدنيوية،  أى تنظيم شئون الناس فى الحرية والملكية والحياة ( فى الصحة والأرض والمال والمسكن ووسائل الترفيه وما شابه ذلك ) . ولذلك فليس للدولة أن ترعى العقيدة الدينية فى التشريع ، ويجب أن تظل قوانين الدولة فى استقلال كامل عن الإيمان الدينى ، فلا محل للقول بدولة مسيحية . "
 
مبدأ الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية ،  شكل لاحقاً حجر الأساس لليبرالية الحديثة .
وكان لوك يقصد بالتسامح الدينى : أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية ". ولهذا فإن " فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين الحق " . ومعنى ذلك أن التسامح الدينى يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن " خلاص النفوس من شأن الله وحده .ثم إن الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً . ثم إن قوة الدين الحق كامنة فى اقناع العقل ، أى كامنة فى باطن الإنسان .".
 
هذا وقد شارك فلاسفة وكتاب عصر التنوير، وعلى رأسهم فولتير ( 1694 – 1778 ) في تأصيل  وتطوير نظرية التسامح . ويقول : ان المبدأ الأول الطبيعة هو التنوع وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود . واقترب فولتير كثيراً من المفهوم المعاصر للتسامح حين قال : " أ نا لا أوافقك الرأي ولكني مستعد أن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك الخاص،" - وهذا القول المأثور يعبر أصدق تعبيرعن النظرية الكلاسيكية للتسامح ، التي تطورت في القرن التاسع عشر لتشمل ، ليس التسامح الديني فقط ، بل حرية الفكر والرأي والتعبير . 
ونرى على هذا النحو ، أن مشكلة التسامح ظهرت لاول مرة في الحضارة الغربية على المستوى الديني، الذي وضع الأساس لجميع الحريات الأخرى التي تم تحقيقها في المجتمعات  الغربية لاحقاً .
 
التسامح ضمان للسلم الأهلي والتعايش المشترك :
 
التسامح انجاز صعب ونادر لسبب بسيط وهو ان اساس المجتمع  هو الوعي الجمعي بالأنتماء الى مجتمع واحد مع أولئك الذين يشاركوننا معتقداتنا، أو أولئك الذين يتكلمون نفس اللغة التي نتكلم بها  أو لهم نفس الثقافة التي لنا أو أولئك الذين ينتمون إلى نفس المجموعة العرقية .
أما الأختلاف ، فأنه يمكن ان يكون في أي مستوى من مستويات الواقع البيولوجي والثقافي أو السياسي .
 
كل الأمم الحديثة  أكثر تعددية دينيا ، وسياسيا من المجتمعات التقليدية ، التي حافظت على وحدتها بفضل التقاليد الأساسية في الثقافة أو الدين .
التعددية الثقافية والدينية التي تطورت في العالم الغربي ، بعثت الى الحياة التسامح الضروري لإنشاء المجتمع في ظروف التعددية . . كان التسامح، من جهة، ناتجا عن هذه التعددية، ومن ناحية أخرى ، شرطا لتطوره اللاحق ..
 
التسامح ضمان للسلم الأهلي والعيش المشترك المتناغم بين المكونات او الطوائف التي تختلف عن بعضها البعض في العديد من المعالم والمظاهر ، ويعد ا بمثابة الحصانة وضمان اللاعنف تجاه مختلف الأقليات واضفاء الشرعية على أوضاعها ، في ظل سيادة القانون  . وفي الوقت نفسه فأن التسامح  يحد من مظاهر الكراهية وردود الفعل السلبية او استبدالها بالأيجابية ويوجه العلاقات بين افراد المجتمع نحو المساواة والاحترام والحرية، ويعد اساسا لتطبيع الجو النفسي في المجتمع وتعزيز التواصل بين أفراده .
 
 التسامح – سمة اخلاقية خاصة تعكس الموقف الاجتماعي الفعال والاستعداد النفسي للتفاعل الإيجابي مع أشخاص آخرين أو مجموعات من بيئات عرقية ودينية واجتماعية  أخرى ووجهات النظر الأخرى والفلسفات، وأساليب التفكير والسلوك ..
 
التسامح يختلف تمام الأختلاف عن عدم الأكتراث أو اللامبالاة أو التنازل لشخص ، ذلك لأن التسامح لا يعني أن نتفق ً في الرأي حتماً مع الجميع وفي كل شيء  وهذا على وجه التحديد هو احد ابرز مزايا التسامح : كل شخص له الحق في التعبير عن رأيه الخاص ولكن ليس من الضروري ان نتفق مع وجهة نظره ، بل يكفي اظهار الأحترام له ولرأيه ، وهذا هو الأسلوب الوحيد للتوصل الى توافق في الآراء والخروج من أي حالة .
 قد لا نتقبل أفكار شخص ما أو لاتعجبنا طباعه أو لا نستسيغ أفعاله ولكن الأنسان لا يمكن أن يكون غريبا عنا . وعلينا أن ندرك هذا ونبحث عن قواسم مشتركة تجمعنا او توحدنا دون أن نغير جلدنا أو نخسر خصائصنا وهذا هو المعنى الحقيقي للتسامح .
 
لهذا السبب نحن بأمس الحاجة إلى التسامح لضمان مستقبل سعيد وآمن لأطفالنا ليعيشوا في عالم لا يوجد فيه مكان للحروب والصراعات، حيث يستند حل كل القضايا على الاحترام والتراضي.
 
حدود التسامح :
 
يرى كثير من الفلاسفة أن التعامل مع الغير لا ينبغي أن يدفع المجتمعات إلى هجر أوعدم حيازة وسائل الردع، لكل ما يهدد الدولة .
وضع " جون لوك " عدة ضوابط واضحة للتسامح لا ينبغي تجاوزها بأي حال من الأحوال ، لأن من شأن ذلك ان يهدد السلم المجتمعي وأمن الدولة ،  وفي مقدمة هذه الضوابط ، عدم الترويج لمعتقدات وأفكار متطرفة تهدد أمن المجتمع أو أية أفعال تهدف الى تدمير الدولة أو التعدي على حقوق وأموال الآخرين . والدولة بحسب لوك ملزمة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية والفلسفية ، بشرط أن الا تؤدي هذه المعتقدات الى اشاعة الأضطراب أو الفوضى في الساحة العامة للمجتمع .
 
اما فولتير فقد جعل للتسامح حدودا لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشؤون الدولة السياسية .
 
ورغم أن سبينوزا قد دعا إلى الدفاع عن الحق لكل فرد في التفكير فيما يشاء وقول ما يفكر فيه، إلا أنه دعا في نفس الوقت إلى محاربة كل الأفكار الخاطئة وغير العقلانية التي لا يمكن البرهنة عليها، أو لا يمكن أن تكون موضوعا للتواصل ، عكس الأفكار العقلانية التي لا تحتاج إلى أي سلطة خارجية ما عدا سلطتها الداخلية، بما تتضمنه من معقولية. يرى سبينوزا أن التسامح هو اعتراف بحرية الآخر. يقول : لا يتمثل التسامح في اعتبار أن أي رأي صحيح، ولكن الاعتراف بالحرية الكاملة للغير في التفكير بذاته والتعبير عن آراءه.
 
التسامح لا يعني  ان يتخلى المرء عن مبادئه وآرائه ، أو يمتنع عن اظهارها والدفاع عنها  ، وانما  يعني ايجاد ارضية مشتركة للتعايش والأحترام المتبادل مع الآخر الذي نختلف معه في آرائه ومعتقداته ، ولكن هذا لا يعني أن نتسامح في كل شيء لأن التسامح اللامحدود يدمر التسامح .
 
التسامح بأطلاق ، يعني قبول الخطأ والآراء أو الأفعال المضادة للتسامح ، التي تهدف الى تقويض حقوق الآخرين أو إلغاء حرية التعبير .فعدم التسامح مع الأفكار غير المتسامحة يحمي التسامح نفسه من الأنحراف .
 
أن المرء كي يكون متسامحا يجب أن يرسم حدودا لما لا يمكن التسامح معه. لا يمكننا مثلا وانطلاقا من المبادئ الديمقراطية نفسها أن نقبل الأفكارغير الديمقراطية سواء لليمين المتطرف في الغرب اوللأرهابيين والمتعصبيين في العالم الأسلامي بشتى فصائلهم ومذاهبهم .
 



80

ماذا قال خبير اتصالات عن لقائه أبو بكرالبغدادي في عشاء عمل ؟

جــودت هوشيار
       
ربما كان أبو بكر البغدادي أشهر شخص مطلوب للقضاء  في عالم اليوم ، بسبب زعامته لتنظيم أرهابي لم يعرف التأريخ له مثيلاً في الوحشية وتعطشه للدم ، ومعاداته للحضارة البشرية ولكل ما هو انساني وجميل في الحياة .
 تحيط بشخصية هذا الأرهابي غموض متعمد وهالة كاذبة من صنع وسائل الأعلام وخاصة مواقع التواصل الأجتماعي ،التي يستغلها التنظيم الأرهابي مجاناً ، لبث الخوف والرعب في النفوس والدعاية لدولة الخلافة المزعومة واستقطاب المتشددين من كافة أنحاء العالم. 
منذ تسليم مدينة الموصل الى تنظيم ( داعش ) بأمر أنسحاب رسمي في العاشر من حزيران 2014  ، نشرت عن البغدادي آلاف الأخبار والتقارير والمقالات ، ولكنها كلها لا تعادل مقابلة حية معه وجهاً لوجه . ولم يتمكن أي سياسي أو اعلامي أوأي شخص آخر  لحد الآن من التعرف عليه شخصياً أو اجراء حوار معه ، ربما جرت مثل هذه اللقاءات في السر وبتكتم شديد ولكن لم ينشر عنها شيء لحد الآن ، ما عدا ما كشف عنه خبير " الأتصالات الأستراتيجية في حالات الأزمات "  ديفيد بيلومو ، الذي قال في حوار مع صحيفة ال(تيمبو ) الأيطالية ، أنه التقى البغدادي وجهاً لوجه . وحسب هذا الخبير ، فأن البغدادي لا يفكر الا بمصالحه الشخصية ، وهو انسان فظيع بكل معنى الكلمة: أناني ، وسكير ، ومثلي الجنس .
 جرى هذا اللقاء قبل حوالي ثمانية أشهر في أثناء عشاء عمل في سوريا ، حضره أشخاص آخرون الى جانب الخبير وزعيم التنظيم الأرهابي .
ويقول بيلومو: "  حضرت  بناءً على دعوة تلقيتها من التنظيم لتقييم تطور وضع معين . انهم ( الدواعش )  يعملون ليل نهار في مجال الأتصالات . والأرهاب اليوم هو اتصالات . أنهم يختارون مواقع العمليات الأرهابية بعناية ويخططون لها مسبقاً ، ثم يقيّمون النتائج على مستوى الأتصالات . و بذلك يتاح لهم الحصول على النتائج المنشودة ، من دون تكلفة مالية . وهم يعملون كأي شركة  تجارية من أجل : أقصى الأرباح بأقل التكاليف . " ويضيف الخبير " على أية حال ، لم أكن غريباً بالنسبة الى صاحب المأدبة ، فقد كان هناك أشخاص آخرون أيضاً من غير المسلمين. "
ويؤكد الخبير: ان المدعوين من دون استثناء وبضمنهم البغدادي كانوا لا يتحرجون عن تناول  المشروبات الكحولية . لقد كانت مأدبة عمل صرف . واذا كان تنظيم ( داعش ) – مجرد بيزنس ، فأنه كذلك بالنسبة الى زعيمهم ايضاً .
ويكشف بيلوموعن سر خطير وهو أنه قد تم أقصاء البغدادي عن زعامة التنظيم من قبل زملائه في القيادة. ويشير الى أن البغدادي كان غائباً لمدة 15 يوماً .وقيل أنه مات ، ولكن الحقيقة هي أنه جرى اقصائه من الزعامة .وربما كان وراء ذلك ، الأستياء المتزايد في قيادة التنظيم من تصرفاته . ومن المحتمل أن سبب الأستياء هو أن البغدادي لا يفكر الا بمصالحه الخاصة ، والآخرون ايضاً  يريدون مصالحهم الخاصة و لكل منهم مصالحه الأقتصادية . البغدادي ليس رمزاً ، وليس مثالياً ، بل مجرد رجل أعمال سكير ومنحرف .



81
هل حان الوقت لأعادة رسم خارطة الشرق الأوسط ؟

                                   
جــودت هوشيار

يعتقد عدد كبير من المؤرخين و الباحثين و المفكرين ، من جنسيات مختلفة ، أن خارطة الشرق الأوسط  التى رسمت بعد الحرب العالمية الأولى بموجب اتفاقية سايكس –بيكو ، بحاجة الى تصحيح ، وأن الأحداث العاصفة التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة وتداعياتها المتسارعة ، قد تؤدى الى أعادة رسمها من جديد ،  بما يرفع الظلم الذى وقع على الشعب الكوردي.                                   
ان معظم الدول العربية فى المنطقة ، هى كيانات سياسية ، ظهرت الى الوجود فى خارطة العالم ، ليس نتيجة لعمليات ديموغرافية طبيعية ، ولم تكن تعبيرا جغرافيا  لما هو موجود على أرض الواقع ، بل فرضت بالقوة ، بعد أنتصار الحلفاء فى  الحرب العالمية الأولى وأنهيار الأمبراطورية العثمانية ، حيث قام اللاعبان الرئيسيان فى المنطقة وهما بريطانيا و وفرنسا  برسم خارطة الشرق الأوسط وتشكيل دول جديدة ورسم حدودها ، بما يضمن مصالحهما فى المقام الأول ،  دون الأخذ بنظر الأعتبار التمايز الأثنى و الدينى والتأريخى والثقافى لشعوب المنطقة.
 
لم تكن لهذه الدول المصطنعة وجود فى الأمبراطورية العثمانية ، حتى على شكل ولايات أو وحدات أدارية – جغرافية منفصلة . فعلى سبيل المثال ، كانت المساحة التى تشغلها  سوريا حاليا مقسمة .الى اربع وحدات ادارية منفصلة تأخذ بعين الأعتبار الأختلافات الواضحة بين مكوناتها  . وبعد الأحتلال الفرنسى في العام 1919 ، تم توحيدها كمحمية فرنسية واستقلت فى عام 1946 ، رغم وجود تناقضات كثيرة فيها .. أما لبنان ،فأنه ،  خليط صاخب من المسلمين الشيعة والسنة والمسيحيين المارونيين و الدروز والأرمن والكورد وغيرهم  ، ويعيشون فى جيب لا يتجاوز مساحته 10 آلاف كيلومتر مربع ، و يحاولون حل ما لا يمكن حله وهو تقاسم السلطة في ما بينهم.
 
 اما تأريخ تشكيل دولة الأردن كوحدة سياسية مستقلة ، فأنها أكثر غرابة و تتناقض مع شروط عصبة الأمم ، التى تم بموجبها وضع فلسطين تحت الوصاية البريطانية . هذه المملكة أخترعت على عجل للعائلة الهاشمية القادمة من الحجاز .أما الغزو البريطانى للعراق ومن ثم تشكيل الدولة العراقية ، فأنه يمثل بحق قمة الغطرسة الأمبريالية بأسوأ صورها والأستهانة بالحقوق المشروعة للشعب الكردى .
في 12 آذار سنة 1921 ، عقد مؤتمر في القاهرة واستمر أسبوعين برئاسة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل. وحضره كبار الضباط والاداريين الانكليز العاملين في مناطق الانتداب. وناقش المؤتمر « تحديد مستقبل الولايات الثلاث في ما كان يعرف بـ" ما بين النهرين " وهى البصرة وبغداد والموصل، وأختيار شكل النظام السياسي ورئيسه، وبتعبير آخر، كان على بريطانيا إعادة تنظيم علاقاتها السياسية والمالية والعسكرية مع العراق العربي وكردستان الجنوبية الواقعين ضمن انتداب " ما بين النهرين "
 
كان وزير المستعمرات ونستون تشرشل يخشى من تجاهل مشاعر الكورد واضطهادهم على يد حاكم شريفي مدعوم بجيش عربي ونادى بفكرة كردستان جنوبية منفصلة سياسيا عن الدولة العربية في بغداد, وقرر المؤتمر عدم إلحاق كردستان الجنوبية بالدولة العربية، وان يدار الإقليم كحزام أستراتيجي من قبل المندوب السامي عبر موظفين ميدانيين حتى الوقت الذي يستطيع فيه الكرد ، تحديد مصيرهم السياسي في المستقبل.(1) وقد صادق رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج على قرارات مؤتمر القاهرة بخصوص كردستان الجنوبية.
فى عام 1921  تشكلت الدولة العراقية من ولايتين عثمانيين منفصلتين هما ولايتى بغداد والبصرة فقط ، ولكن حكومة المحافظين الجديدة ، التي تشكلت بعد فترة وجيزة من انتهاء مؤتمر القاهرة ، تخلت عن قرارات المؤتمر المذكور وعملت بحلول سنة 1923 على الحاق ولاية الموصل ( كردستان الجنوبية ) بالدولة العراقية ، ، بعد أدراكها أهمية نفط كركوك ومنافعها الأقتصادية لبريطانيا والدولة الوليدة في آن معاً ، خاصة ان النفط لم يكن مكتشفاً ،حتى ذلك الحين سوى في موقعين أثنين هما كركوك وخانقين وكلاهما كانتا ضمن ولاية الموصل المتنازع عليها بين بريطانيا وتركيا . 
بقع النفط كانت  ظاهرة على سطح الأرض في منطقة ( بابا كركر)  منذ زمن سحيق ، مما سهل عمل خبراء الجيولوجيا الذين جلبتهم بريطانيا ، من فنزويلا ، والمكسيك ، ورومانيا ، والهند الصينية ، لأغراض الأستكشاف والتنقيب وتحديد اماكن حفر الآبار . وفي 14 اكتوبر/ تشرين أول سنة 1927 تدفق النفط بغزارة من اول بئر نفطي الى علو 43 متراً ، وتم انتاج حوالي ( 100 ) آلف برميل خلال عشرة أيام . ومنذ ذلك التأريخ ، اصبح نفط كركوك جزءاً من المعادلة السياسية  في العراق . وتحدد في الوقت نفسه مصير مدينة كركوك ولو الى حين .
 
واجهت الدولة الوليدة مشاكل جمة حيث لم يألف سكان الولايات العثمانية الثلاث ( الموصل ، بغداد، البصرة) كيانا سياسيا متماسكا من قبل ، وكانت الولايات الثلاث تتميز بخصائص اثنية وطائفية خاصة تختلف كل منها عن الأخرى. وكان الإسلام هو الرابط الرئيس بين هذه الولايات الثلاث ولكن الدين وحده لم يكن كافيا في ذلك الوقت لتوحيدها . وتتجلى هذه الخصائص المتميزة بين العراق العربي وبين كردستان الجنوبية بشكل صارخ ، فأصل الكورد ولغتهم وتأريخهم وثقافتهم ، لا علاقة لها بالساميين العرب و تنتمي لغتهم الى عائلة اللغات الهندو – أوروبية ، وتشكل نمط حياتهم وثقافتهم على مدى التأريخ في ظروف مختلفة . و يقول بعض المستشرقين ، أن ثمة تشابه بين الكرد والأرمن فى التقاليد و فى الموروث الشعبى عموما  أكثر بكثير من التشابه بين الكورد والعرب..
ويجد المتتبع لتأريخ تلك الفترة الحاسمة في تأريخ العراق، أن الكورد عارضوا الحاق كوردستان الجنوبية بالدولة العربية الجديدة ودعا زعماؤهم الى إنشاء دولة كوردية مستقلة .
 
يتبين مما تقدم ان الدول والكيانات المصطنعة  من قبل الحلفاء ، لم تكن  قادرة على الأستمرار فى الحياة والمحافظة على حدودها الحالية الا بوجود نظم دكتاتورية قمعت الشعوب الخاضعة لها بالحديد و النار  .
بعد مائة عام  تقريبا على ابرام تفاقية سايكس – بيكو ، الشرق الأوسط يغلى من جديد ، ولن يشهد الأستقرار المنشود ، الا بعد تحرر شعوبها وحصولها على حقوقها المغتصبة . فالشعوب غير العربية ، ليست أقليات فى الشرق الأوسط ، بل شعوب عريقة تعيش فوق أراضى الآباء و الأجداد و من يعيش على أرضه ، لن يكون أقلية ، حتى اذا ضم بالقوة الى شعوب أكثر عددا .
الواقع الجديد يفتح الأبواب على مصاريعها ، لتهب منها رياح التغيير ،التى لن يستطيع أحد بعد اليوم ، الوقوف أمام تيارها الجارف . وقد حان الوقت لأعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط  حسب مصلحة شعوبها وليس الأستعمار الذي لم يعد له وجود .
 



82

لماذا يجب أن نقرأ الكتب ؟

جــودت هوشيار
 
لم يعد الجيل الجديد يقرأ الكتب ، الا نادراً ،  .ويعتقد البعض ان عزوف الشباب عن القراءة عموماً وقراءة الكتب خصوصاً ، يرجع الى عدة أسباب ، لعل في مقدمتها ، ظهورالأنترنت ، ووسائل الأعلام المتعددة ، وضيق الوقت،  ومشاغل الحياة اليومية ، وارتفاع أسعار الكتب . ولكن هذه الأسباب لن تقف حائلاً أمام من يحرص على القراءة كطقس دائم من طقوس حياته .
 وربما كان السبب الرئيس وراء العزوف عن قراءة الكتب الجادة ، هوعدم شعور الشباب  بالحاجة الى القراءة . وهذا أمر مؤسف ، ربما لأنهم لا يعرفون قيمة الكتب في حياة الناس وتطور المجتمعات وفي تأريخ البشرية ، فالقراءة  احدى سمات المثقف الواعي والأمم المتحضرة  ، يحث عليها علماء النفس ، ولا يمل  المربون من تأكيد ضرورتها لكل الفئات العمرية ، فهي وحدها تفتح امام القاريء عوالم لا نهائية من العلم والمعرفة والمتعة ، وهي مفتاح الثقافة والحصارة والتقدم .
 
وكل كتاب جيد – خبرة جديدة وتواصل مع العقول الذكية ، عقول العظماء ، الذين يدفعون بالقاريء الى التفكير في امور لم تخطر بباله ، او لم يكن يعرف عنها كثيراً ، ولا يحسن التعبير عنها .. كما يجد فيها القاريء وصفا لتلك المواقف والمشاكل الحياتية التي قد تواجهه، وأجوبة عن الأسئلة التي تعذبه .
اننا عندما نتحدث عن قراءة الكتب ، لا نعني بذلك هواية اقتناء الكتب لغرض تزيين رفوف المكتبة البيتية أوصالون الأستقبال ، من اجل التباهي بثقافة صاحب الدار ، فثقافة المرء لا تقاس بعدد الكتب التي يمتلكها ، بل بعدد الكتب الكلاسيكية الخالدة والكتب الجديدة القيمة ، في شتى ميادين المعرفة  والثقافة ، التي قرأها بتمعن وتمحيص وتفاعل مع مضامينها  وأطال التفكير فيها واستخلص منها ما هو مفيد له في الحياة ، وما يعينه على بلوغ مرتبة أعلى من الأنسنة ،  ان صح التعبير .
 يتباهى البعض بكثرة الكتب لديه وبضخامة المكتبة التي يمتلكها ، وعندما تتحدث اليه ، لا تشعر على الأطلاق بأنه استفاد حقاً ولو قليلا من الكتب التي قرأها ، والأرجح أنه لم يقرأ معظم ما يمتلكه من كتب ، أو أنه قرأها بلا مبالاة ودون التعمق في معانيها ، ولم يتفاعل معها قط ، حيث لا يظهر شيء من أثر القراءة المعمقة في ثقافته وسلوكه واسلوبه في الكلام .
 
قراءة أفضل الكتب بتمعن شيء ، وقتل الوقت بالقراءة السطحية شيء آخر تماماً . في هذا المبحث القصير نتحدث عن القراءة الجادة ، التي ترتقي الى مستوى التفاعل مع آراء المؤلف وأفكاره.  مثل هذه القراءة لها فوائد معرفية وثقافية وصحية واجتماعية عديدة ، نحاول ايجازها في نقاط محددة :
 
ماذا وكيف نقرأ ؟  :
 
قراءة الكتب بتمعن مفيدة في مختلف مراحل العمر ، والمهم ،  هو ماذا نقرأ ؟ من المشكوك فيه ان تلعب القراءات الخفيفة المسلية أي دور في اثراء معلوماتنا أو تنمية عقولنا . من الممكن أن نقرأ لغرض الترفيه عن النفس وتمضية الوقت أو لمجرد حب الأستطلاع ، ولكننا اذا قرأنا شيئاً من روائع الأدب الكلاسيكي ونتاجات الفكر الأنساني ، فأننا نعتاد عليها ولا يمكننا الأقلاع عنها بسهولة.
الكتب الخالدة عبر التأريخ الأنساني ، تتضمن عصارة الفكر ونتاج العلم وخلاصة الفهم ودوحة التجارب وعطية القرائح وثمرة العبقريات على حد وصف ( تريستان تزارا ) ، ينبغي لكل مثقف أن يقرأها.  مثل هذه النتاجات لن تفقد قيمتها العظيمة  بمرور الزمن أبداً ، رغم تغير الأجيال ونظم الحكم ، والتقدم الحضاري .
 
قراءة الكتب العلمية عن نشوء الكون ونظام المجموعة الشمسية تؤدي الى توسعة مداركنا ومخيلتنا وتحسن تصوراتنا وفهمنا لقوانين الطبيعة . و الكتب الثقافية والتأريخية تزيد من معلوماتنا  ، وقد نستخلص منها العبر والدروس لبناء حاضرنا ومستقبلنا.
 أما قراءة  كتب السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية ، فأنها  تتيح لنا الأطلاع على خلاصة التجارب الحياتية لشخصيات مثيرة للأهتمام ، أسهمت في صنع التأريخ أو كانت شاهدة عليها. 
ويمكننا بكل تأكيد الأستفادة من تجاربهم وخبراتهم الحياتية ، التي قد تفيدنا مستقبلاً في حياتنا العملية .
وصفوة القول ان قراءة الكتب القيمة سواء كانت تخصصية أو ثقافية عامة ، لا غنى عنها لكل انسان يعرف قيمة التراث الأنساني العظيم في العلم والفكر والثقافة. الأنسان الذي لا يقرأ يعيش حياة واحدة فقط ، هي حياته ، أما من يطلع على تجارب الآخرين،  فأنه يعيش حيوات كثيرة .
 
الكتاب ومصادر المعلومات الأخرى :
 
كانت النخبة المثقفة تقرأ كثيراً حتى الى عهد قريب ، ربما بسبب عدم وجود مصادر كثيرة للمعلومات ، والتسلية والترفيه  . لم يكن هناك أنترنت ولا الهواتف الذكية ، أما قنوات التلفزيون فقد  كانت محلية وعددها محدوداً وتقدم برامج بريئة بالقياس الى ما تعرضه القنوات الفضائية راهناً .
 
العزوف عن القراءة ظاهرة عالمية غير مقصورة على بلادنا ، وربما يظن البعض من المثقفين الكورد ،  ان قراءة الكتب في الدول الغربية هي اليوم  في أوج ذروتها وأزدهارها ، وهذا  أمر يثير الأستغراب حقاً ،  وينم عن عدم الأحاطة  بمدى تراجع قراءة الكتب في تلك الدول . صحيح ان الأقبال على قراءة الكتب في الغرب لا يزال كبيراً ، ولكنه انخفض كثيراً منذ ظهور الأنترنت .  الجيل الجديد في كل أنحاء العالم ، يبحث عن بدائل أخرى للكتاب عبر المدونات والمنتديات  ومواقع التواصل الأجتماعي .ولكن لا شيء يمكن أن يكون بديلاً للكتب الجيدة . هي وحدها تزودنا بالمعارف المتعمقة وتؤثر في تشكيل رؤيتنا للحياة والعالم . .
ان المستوى الثقافي  للمجتمع لا يتحدد فقط بمدى شيوع ثقافة القراءة فيه ، اومعدل عدد الكتب التي يقرأها المواطن سنوياً ، بل أيضاً ،  بمدى توافر حرية التعبير .
 في المجتمع العلماني المفتوح ،  الذي يحترم عقل الأنسان  ويتيح الفرصة للأطلاع على ثقافات شعوب العالم ثمة امكانات أكثر لتطور شخصية الأنسان.
 
الكتاب بخلاف التلفزيون حر من الأغراض النفعية . التلفزيون يعتاش على الأعلان وكثيراً ما يدفعنا الى شراء هذه السلعة أو تلك ،  ومشبع أحياناً  بـ( البروباغاندا) السياسية والأيديولوجية ،. أما مؤلف الكتاب ، فلا حاجة له لوضع الأعلانات بين السطور ، من اجل الحصول على مال أكثر, .
الحياة المعاصرة تتيح للأنسان امكانات كبيرة للتراخي الذهني ، اكثر من التفكير العميق والتأمل.
اذا كان المرء يكتفي بمشاهدة برامج التلفزيون وتبادل الآراء والصور في العالم الأفتراضي ، فهذا شيء عابر لا يلبث في الذهن طويلاً ولا يلعب دوراً يذكر في تنمية الثقافة الحقيقية ، اما الكتاب الجاد ، فأنه يسهم في تربية الأنسان و يقدم له غذاءاً للتفكير في حياته وفي العالم من حوله.
ويوصي الخبراء بتخصيص ساعتين في اليوم لقراءة الكتب الأدبية الجيدة ، وهم على قناعة تامة ان الكتاب المقرؤ ، افضل من الفيلم المقتبس من الكتاب ذاته ، والسبب يكمن في حقيقة أن القراءة لا يحد الخيال البشري . ولهذا السبب تحديداً ، وكقاعدة عامة ، فأن الفيلم المأخوذ من رواية ما ، لا يلبي توقعات الجمهور الذي رسم في ذهنه صورة مغايرة لمحتوى الكتاب
 
ومما يؤسف له ان عدد الناس الذين يشعرون بالحاجة الى قراءة الروايات العظيمة يتضاءل بأستمرار ، فهم يفضلون مشاهدة برامج التلفزيون والأنغماس في ألعاب الكومبيوتر ، التي تعرقل تطور الذكاء. 
لن تختفي الكتب بطبيعة الحال ولكن الأشكال الجديدة لمصادر المعلومات تضيّق دون ريب المساحة التي كانت تشغلها الكتب في حياة الناس .كتاب المستقبل سوف يصبح أفضل طباعة وأجمل اخراجاً . ، وقد يكون صالحاً لتقديمه كهدية ،  تسر العين وتزين رفوف المكتبة البيتية ،  أكثر من كونها مصدرأ للمعرفة ، لأن الجمهور القاريء في الأنترنيت أو في الأجهزة المخصصة لخزن وقراءة الكتب ، في تزايد مستمر.
 
القراءة تمرين ذهني :
 
قامت الباحثة ( نتالي فيليبس) من جامعة ( اوكسفورد ) بتجارب علمية لدراسة عمل الدماغ الأنساني خلال عملية القراءة  وبرهنت ، ان القراءة الجادة  تحفز العقل ، وتدفعه للعمل بنشاط وتركيز ، وتنظم التفكير،  وتعمل على تطور الذكاء البشري ، بالأضافة الى فوائدها المعرفية  . واثبتت الباحثة ان القراءة لا تقل فائدة عن التمارين الرياضية ، لأنها ( القراءة )  تمرّن الدماغ بأسره .
واتضح من خلال التجربة أنه عند الأنتقال من القراءة السطحية من اجل تمضية الوقت الى الأستيعاب النقدي للمعلومات ،  يجري في الدماغ تغيير حاد في نوع النشاط العصبي ، وفي الدورة الدموية .
 القراءة تؤثر في الدماغ البشري بآليات مختلفة ، حسب طريقة قراءة الكتاب. وتشير نتائج تلك التجارب الى أن كل نوع من الحمل العصبي يفيد الدماغ ويمرّنه على نحو مختلف .
 عند القراءة يتدفق الدم الى  اجزاء الدماغ المسؤولة عن القدرة على التركيز والأستيعاب المعرفي . في حين ان مشاهدة التلفزيون وعملية اللعب الكومبيوتري ، ليس لهما مثل هذا التأثير .
ومن اجل الحفاظ على وضوح العقل في جميع مراحل الحياة ، لا بد من التمرين المتواصل للدماغ ، ولعل واحدة من أفضل الطرق للقيام بذلك – هي القراءة بشكل منتظم ومدروس .والناس الذين يفضلون القراءة لديهم فرص أفضل لبناء مستقبل مهني ناجح، وعلاقة أفضل في الأسرة.
 ومن المعروف علمياً أن جسم الأنسان يشيخ على نحواسرع ،  عندما يشيخ الدماغ . القراءة تجبرالدماغ على العمل المتواصل ، وبذلك تتأخر الشيخوخة ويبدو الأنسان أصغر سناً من عمره الحقيقي ويعيش حياة أطول .
 
زيادة الحصيلة اللغوية :
 
قراءة كتب المؤلفين ، الذين يمتازون بجمال اللغة ، تعمل على تحسين قدرات الأنسان اللغوية وتطويرها ويساعده على التعبير عن نفسه بشكل أفضل وتجعله متحدثا ا أكثر إثارة للاهتمام في عيون الآخرين .
ولعل ( الجاحظ ) قد سبق الجميع في بيان مدى تأثير القراءة في شخصية القاريء و تجويد لغته : " والكتاب هو الذي ان نظرت فيه اطال امتاعك ، ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوّد بيانك ، وفخّم الفاظك ...  ان الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ، ويحفظون احسن ما يكتبون ، ويكتبون أحسن ما يسمعون.
لذا لا عجب ان يقول العلماء : ان الناس صنفان : أولئك الذين يقرأون الكتب ، وأولئك الذين يستمعون الى الذين يقرأون .
 
التأثير النفسي للقراءة :
 
أثبتت تجارب علمية عديدة ان عملية القراءة  تهديء الأعصاب وتزيل التوتر والقلق
وتخفض من مستوى الأجهاد ، على نحو أسرع من الأستماع الى الموسيقى أو ممارسة رياضة المشي .
فالقراءة رياضة نفسية مريحة للأعصاب ، ومتعة في متناول الجميع ، وتزود العقول بمواد المعرفة وخبرات  البشرية ، وتعلمنا ، أن نحب وأن نغفر ونتعاطف مع الآخرين .
 القراءة قادرة على التأثير الفعال في الحالة العاطفية للأنسان ، ويمكن ان تكون وسيلة ناجعة للتغلب على الأكتئاب .  فهي تبعدنا  عن صراعاتنا  النفسية الداخلية ، الناجمة عن المشاكل الخارجية وتعزلنا مؤقتاً عن الواقع بكل توتراته ومشاكله وتساعدنا على الأسترخاء والهدوء.
 
القراءة تساعد على التواصل مع الآخرين :
 
القراءة  تنمي ثقافة القاريء وتساعده على ايصال أفكاره للآخرين ،  والتعبير الجيد عما يود قوله وتجعله قادراً على فتح موضوع مع أي كان ، مما يساهم بشكل كبير في نجاح علاقاته مع الآخرين ويحظى بأهتمامهم وتقديرهم .وقد دلت البحوث الميدانية ، ان من يقرأ كثيرأ يشارك اكثر من غيره في الفعاليات الثقافية والأجتماعية .
وبطبيعة الحال فأن ثقافة الأنسان لا تتوقف على مقدار ما يقرأ ، بل على عدد الكتب الجيدة التي فهمها واستوعبها واستفاد منها في حياته العملية . وكلما قرأ الأنسان أكثر اصبح أقل شبهاً بالآخرين .
 




83

صاحب نوبل للآداب الذى لن يحصل عليها أبداً

جــودت هوشيار.
 
تصدرت صورة  للروائي الفرنسي الشهير ميشيل ويلبيك الغلاف الأخير لـمجلة  "شارلي إيبدو" قبل الحادث ، للتنويه بصدور روايته الجديدة " الخضوع "، التي تنبأ فيها بوصول حزب إسلامي إلى سدة الحكم في فرنسا عام ٢٠٢٢ الأمر الذي أثار موجة كبيرة من الجدل في أوساط المثقفين قبل أيام قليلة من صدورها.
ويقول ويلبيك ساخرا في تنبؤاته ، «سأخسر أسناني في عام 2015»،  و«سأصوم رمضان في عام 2022»
وكانت تسريبات كثيرة قد سبقت صدور الرواية  ، حتى  ان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند صرح في مقابلة مع قناة " فرانس انتر  " التلفزيونية ، أنه سيقرأ الرواية حتماً عند صدورها ، لأن " الناس تتحدث عنها " وأضاف الرئيس ، " ان مهمتي تقتضي أن أن أقول للناس ، اننا يجب ان لا نفقد رؤوسنا ، رغم الوضع المشحون بالعواطف ، وان بلدنا يمتلك مثل هذه التجربة ".
 
 تبدأ الرواية بنهاية الولاية الثانية للرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا أولاند في عام 2022 .  يتخيل ويلبيك تحالفا سياسيا سيظهر في دورة الإعادة في الانتخابات ، يجمع بين حزب أسماه " الأخاء   الأسلامي " وأحزاب أخرى، بهدف الوصول إلى سدة الحكم، وتنتهي الانتخابات بفوز المرشح الأسلامي  الكاريزماتي محمد بن عباس، ويعين فرنسوا بيرو، مؤسس حزب الحركة الديمقراطية، رئيساً للوزراء.
ويرسم ويلبيك صورة مثيرة لما يمكن ان يحدث في فرنسا في ظل حكم الأسلام السياسي المعتدل 
: في العام 2022، ويقول أن فرنسا  تواصل انهيارها التدريجي البطيء
وتدرس جامعاتها الطلاب القرآن وتجبر النساء على ارتداء الحجاب وتسمح للرجال بالاقتران باكثر من زوجة واحدة.
ورغم أننا نتحدث عن رواية أدبية  متخيلة،  ولكن الصورة التي يرسمها الكاتب لفرنسا عام 2022 غير واقعية على الأطلاق ، وتدعم طروحات اليمين المتطرف ، فهو يزعم أن 20% من المقترعين سيصوتون للمرشح المسلم  محمد بن عباس ، زعيم حركة " الأخاء الأسلامي " . ولكن نسبة المسلمين في فرنسا اليوم هي حوالي 10% فقط ، والكثير منهم غير متدينين أولا يتوجهون الى صناديق الأقتراع في الأنتخابات . لذا لا يمكن التحدث عن المجتمع الإسلامي بفرنسا باعتباره فصيلا واحدا، بل يتسم بالتعددية، وينقسم بين ممارس للعبادات وغير ممارس، كما أن قطاعا كبيرا من الفئة الأخيرة يتأقلمون مع العادات العلمانية الفرنسية ومع ذلك ، فأن الكاتب يزعم أنه قدم صورة للواقع المرير ..
والى جانب شخصيات الرواية المتخيلة ،  ثمة شخوص حقيقيين : رئيس الجمهورية الحالي فرانسوا هولاند ،  وزعيمة حزب الجبهة الوطنية  ماريان لوبان ، وساسة فرنسيون آخرون .
ابطال الرواية يقتبسون العديد من مقولات نيتشة ، وباكونين، وستالين، وتروتسكي ، والنخبة الروسية الجديدة ، والأمراء السعوديين ، والكتاب والشعراء الفرنسيين أو بشيرون اليهم في أحاديثهم .ولكن كل هؤلاء الشخصيات الحقيقية  ، لا تدل على حقيقة ما يجري ، بل على الجذور الفكرية المتشابكة في المشهد الفرنسي . .
ثمة سؤالان عذبا المثقفين الروس في الماضي وحاول اعظم الكتاب والمفكرون الروس الأجابة عنهما : ما العمل ؟ ومن المذنب ؟ . ويلبك تجاهل السؤال الأول.  ، أما أجابته عن السؤال الثاني ، فأنه في الحقيقة تشكل محتوى روايته .
ويلبيك يرى ان المذنبين هم المثقفون اليساريون ، والجمهور العام المدلل المنحل ،وغير المهتم بمصير البلاد ، والساسة الذين تعودوا على اللعب بالديمقراطية الحزبية ، والتحالفات التجارية لأشغال المناصب الوزارية ، ووسائل الأعلام ، قصيرة النظر ، التي تهتم بترضية اذواق القراء .المسحورين بنجوم السينما والرياضة وبصرعات الموضة . ووسائل الأعلام الشريكة في خلق النظام الجديد .
ويلبيك  يتعامل مع النموذج الاجتماعي والسياسي في أوروبا الغربية بكل قسوة ، فهو يرى ان الأحزاب الأشتراكية وحضارة العالم الغربي الى غروب وأفول . وان الأنتخابات مجرد تنافس بين قوى شريرة .
 
بعض عناصر سياسة الرئيس المسلم  - كما تبدو لأول وهلة – تنعكس ايجاباً على حياة فرنسا عام 2022 . فعلى سبيل المثال،  فأن المعونات المالية السخية التي قررتها الحكومة لربات البيوت ، تدفع بالنساء الى ترك العمل وملازمة بيوتهن لتربية الأطفال ، من اجل الحصول عليها ،
مما يؤدي الى توفير فرص عمل كثيرة والى خفض نسبة البطالة المرتفعة . ولكن المعونات المالية لربات البيوت تموّل من الأموال المخصصة في الخزينة العامة لقطاع التعليم. ويتم تقليص مدة الدراسة الألزامية الى ست سنوات فقط ، ولكن اغلبية المجتمع الفرنسي المغلوب على أمره والمستسلم لمشيئة الأقدار - لا تهتم بهذا
 
بطل الرواية  فرنسوا ( الراوي ) شخصية نموذجية بالنسبة الى ويلبيك ، بروفيسور النقد الأدبي في جامعة السوربون ، عازب قلق ومتقلب في منتصف العمر ، يشتري وجبة الغداء الجاهزة من السوبرماركت القريب ، ويسخنها  بنفسه في  فرن المايكوويف ، ينظر الى الأسلام شزرا ، رغم أنه يعجبه السماح - في ظل حكم بن عباس -  بتعدد الزوجات ،  وهو لا يهتم بشيء ،  قدر اهتمامه بالتنانير القصيرة والركب العارية للطالبات. وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي يأسف له ، عندما أصبحت السوربون جامعة اسلامية وارتدت  الطالبات المحجبات الملابس الطويلة .
ليس لدى فرانسوا عائلة ، والداه على قيد الحياة ، ولكن انقطع علاقته بهما منذ عشر سنوات ، ولا توجد لديه  ثوابت اسرية او اخلافية . ما يزال لديه بعض المعايير المعنوية  ولكنه ليس ثوابت ، بل مجرد شكليات لا ترقى الى مستوى المعايير الأخلاقية الحقيقية .
ومن المثير للأهتمام ان بطل الرواية  متخصص في أعمال الأديب الفرنسي من القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين ، جوريس – كارل هيوسمانس  ، الذي يشير ويلبيك كثيرأ الى اسمه وخاصة  الى روايته ( النقيض ) التي تعد بمثابة مانيفيست لأدب الأنحطاط الأوروبي .
 
وبقدر تعلق الأمر بأبن عباس ،  فهو ليس جهادياً ، ولا متعصباً ، ولا دكتاتوراً ، ولا يشبه أي زعيم  للأسلام السياسي وحتى أردوغان . فهو علماني وسياسي معتدل في أقواله وأفعاله ، وعلى استعداد دائماً لتقديم التنازلات ، عن طيب خاطرفي سبيل التوصل الى حلول وسط للمشاكل القائمة . صحيح ان ويلبك يتذكر على حين غرة ،  الوضع في جمهورية فايمار في ثلاثينات القرن الماضي ، والمثقفين والساسة الذين كانوا يعتقدون في البداية ،  ان هتلر سيعود الى رشده في نهاية المطاف ، ويلبيك يحذر ان ما حدث في جمهورية فايمار ، يمكن  ان يتكرر في جمهورية بن عباس.
.
 لا يقتصر الحديث في الرواية على فرنسا ، فبحلول عام 2022 تدخل الأحزاب الأسلامية في الائتلافات الحكومية في بريطانيا وهولندا وألمانيا . أما في بلجيكا ، فأن الحزب الأسلامي يصبح القوة السياسية الرئيسية في البلاد،  لأن زعماء القوميتين ( الفلمنك و الوالون )  فشلوا في التوصل الى اتفاق لتشكيل الحكومة.
 
انقسام المجتمع وتحوله الى الراديكالية والأشتباكات العرقية المسلحة وفي نهاية المطاف وصول رئيس مسلم الى قصر الأليزيه ، كضامن للوحدة والأستقرار- كل هذا لم يحدث فجأة . ويتهكم  ويلبيك بسخرية لاذعة : " ان الكثير من المثقفين في القرن العشرين ساندوا ستالين وماو وبول بوت ،  ولم يأخذ أحد هذا على محمل الجد ، ولم يتم أدانتهم قط . المثقفون الفرنسيون ليسوا ملزمين بأن يشعروا بالمسؤولية ، لأن هذا ليس من طبعهم . " ويكرر ويلبيك هذا المعني في نهاية روايته قائلا على لسان بطله المحبب : " ليس لدي ما يدعو للأسف ! "
هل " الخضوع " رواية مستفزة ؟ :
 
. يعيش في فرنسا اليوم ما بين 4-6 مليون مسلم. أغلبهم جاء من الجزائر والمغرب ثم تركيا .  الكثير من الفرنسيين يخشون ان مثل هذا الوجود الاسلامي  الكثيف ، سيؤدي الى تغيير التوازن السياسي والأجتماعي  والديني في الجمهورية العلمانية. وكان من الطبيعي في مثل هذه الأجواء أن  تتباين الآراء حول الرواية ،  بين من يرى في ويلبك كاتباً عظيماً ، يقوم  بدور الفنان الذي يحمل مرآة ويجبر العالم على رؤية الحقيقة - الحقيقة المبالغ بها ربما ولكنها تروى بامانة وعمق و يتصدى لقضايا تتظاهر النخبة الباريسية التي تميل نحو اليسار بأنها غير موجودة اساسا .
 
 وبين من يعتقد ان الرواية عمل استفزازي ، يصب الزيت على النار المشتعلة حول قضايا  اللجؤ والأندماج في المجتمع . أما ويلبيك نفسه ، فأنه حاول البحث عن حل وسط .ففي حوار صحفي مع مجلة " لي جورنال دو ديمانش " الأسبوعية قال الكاتب : " انه لا يعرف ممن يخشى أكثر : من المسلم أم من الفرنسي القومي العنصري ؟ ولكنه واثق من أمر واحد وهو ان " الأسلاموفوبيا ليس شكلاً من أشكال العنصرية."
اهتمام اعلامي غير مسبوق :
صدرت الرواية في يوم الحادث وفي وقت تجري فيه مناقشات محمومة في فرنسا حول موضوعي الاسلام والهوية الوطنية ، وقد اهتمت وسائل الإعلام الفرنسية، بصدور الرواية، ما اعتبره محللون حلقة في سلسلة أعمال تندرج فيما يعرف بظاهرة «الإسلاموفوبيا»، أو الخوف المرضي من انتشار الإسلام فى الغرب.
وخصصت صحيفة «لو فيجارو»، افتتاحية ، عن الكاتب، واعتبرته « صاحب نوبل للآداب الذى لن يحصل عليها أبداً»، وقالت إن ويلبيك « يتصفح المخاوف المعاصرة، وفي المقام الأول المخاوف المتعلقة بالإسلام » ما يلومه عليه البعض «لأنه ينفخ فى النار». وأضافت الصحيفة " ان ويلبيك .
يرد على منتقديه ، الذين وصفوه بالعنصرية بأنه يكتب رواية أو « متخيل سياسي مستوحى من الواقع »
.
ودافعت الصحيفة عن ويلبك، قائلة « أى تهمة يمكن توجهيها لكاتب يقدم رؤيته عن المستقبل، ويوجد بها بعض المظاهر الكابوسية، لكنه لم يجعل منها مأساة، حتى أن بطله يتكيف معها  » . ونشرت الصحيفة الفرنسية، أيضاً تنويهاً لصدور الرواية فى صفحتها الأولى، ورأت أنها ستسبب إزعاجاً، فيما ناقشت صحيفة «فان مينيوت»، مدى «خطورة الكتاب»، متسائلة عن تأثير ما أعتبرته أفكار مزعجة تنقلها الرواية دون شك، وقالت أن الكاتب يظن أن أفكاره لن يكون لها أى تأثير جديد، خاصة أن اعتبار الإسلام المتطرف تهديداً ، أصبح في مركز اهتمام وسائل الأعلام .
لا شك ان لرواية " الخضوع " بعداً سياسياً واضحاً ، وبعد انحسار الضجة الأعلامية سينظر الى الرواية بوصفها تمثل لحظة حاسمة في تاريخ الافكار وهي اللحظة التي دخل فيها اليمين المتطرف ( او عاد) الى الاعمال الادبية العظيمة .
وقد وصف الفيلسوف وعضو الاكاديمية الفرنسية الان فينكيلكراوت ويلبيك بأنه اعظم روائي يستشرف ما قد يحصل في المستقبل."
 
ويمضي للقول "باثارته موضوع اسلمة فرنسا في نهاية المطاف، اثار ويلبيك المواجع وجعل التقدميين يصرخون من الالم."
 ويلبيك يغّير نظرته الى الأسلام :
 
قال الروائي تعليقاً على الضجة  ، التي رافقت صدور روايته الجديدة . " إن فكرة قيام حزب اسلامي بتغيير وجه السياسة الفرنسية فكرة معقولة جدا" ولكنه اقر بأنه قلص المدة التي يمكن ان يحدث فيها ذلك.
 
وقال ويلبيك لمجلة  " باريس ريفيو" ، "حاولت ان اضع نفسي مكان شخص مسلم، وتيقنت انه في الحقيقة انهم (المسلمون) واقعون في وضع فصامي لا يحسدون عليه .."
إن المسلمين محافظون بطبيعتهم، ولا يمكنهم التأقلم مع اليسار خصوصا بعد ان تبنى هذا زواج المثليين. ولكنهم يشعرون ايضا بالتهميش من جانب اليمين الذي يرفضهم.
واذا اراد مسلم ان يصوت في الانتخابات، ماذا عساه ان يفعل؟ هو في الحقيقة في وضع صعب جدا إذ ليس لديه اي تمثيل بالمرة.
 
ويؤكد ويلبيك إن موضوع كتابه الحقيقي يتمحور حول عودة الدين الى قلب الوجود الانساني واضمحلال افكار التنوير التي سادت منذ القرن الثامن عشر.
وإن عودة الدين ظاهرة عالمية وهي موجة عاتية لا فرار منها. إن الالحاد حزين جدا. اعتقد اننا نشهد الآن نهاية حركة تاريخية انطلقت منذ عدة قرون في نهاية العصور الوسطى.."
وان الاسلام يوفر حلا افضل من الفراغ الوجودي الذي يعاني منه الانسان المتنور.
 
   



84

لقاء مع المستشرق لازاريف وحوار حول القضية الكوردية

                                                         
جـــودت هـوشيار

المصادفة المحض ، هي التي قادتني الى التعرف على مؤلفات  المستشرق البارز ميخائيل لازاريف (2010 - 1930 ) ، عندما كان يخطو أولى خطواته في  دراسة التأريخ الكوردي  . كان ذلك في عام 1964  ، عندما كنت طالباً في موسكو ، وأسكن بالقرب من أكاديمية العلوم  السوفيتية  ، وكان هناك متجر للكتب يحمل اسم " الكتاب الأكاديمي " غالبا ما اتردد عليه للأطلاع على الأصدارات الجديدة للأكاديمية في شتي حقول المعرفة  . وفي احدى زياراتي للمكتبة وقع نظري على كتاب باللغة الروسية  يحمل عنوان " كوردستان والقضية الكوردية  " لمؤلف لم أكن قد قرأت له شيئاً من قبل ...  وفي أول فرصة سانحة شرعت بقراءة الكتاب بتمعن ، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما أكتشفت ، ان منهج لازاريف  العلمي في البحث والتحليل والأستقراء التأريخي ، لا يشبه بأي حال من الأحوال ، ما قيل وما كتب الاف المرات عن الكورد ، وأقصد بذلك المعلومات العامة السطحية عن الكورد وكردستان التي دأب الكثير من المستشرقين  الغربيين والكتاب الشرقيين على ترديدها ، وكأن الكورد يعيشون في بقعة مجهولة ويأتي مؤرخ أو كاتب مزعوم ليعرفنا بهم . وتتصف كتابات هؤلاء الباحثين المزعومين ،  بطابع عمومي ،  دون التعمق في دراسة  القضية الكوردية .
مثل هذه الكتب لا تساوي قيمة الورق الذي طبعت عليه ، اما كتاب لازاريف فقد كان مختلفاً تماماً ، ويتناول بالبحث المعمق الجاد ، فترة محددة من التأريخ الكوردي ويمتاز بثراء مصادره الأصيلة وغزارة معلوماته وبمنهج علمي ينم  عن عمق فكري وموضوعية يفتقدها القاريء لدى الآخرين ، والأهم من ذلك ، أن لازاريف  ينظر الى الشعب الكردي نظرة صديق ، يحاول فهم محنته ويستشعر الظلم الذي لحق به ، ويؤشر مواطن القوة والضعف في مسيرته النضالية على مدى عقود ، من أجل أنتزاع الأعتراف بهويته وأثبات وجوده ونيل حقوقه القومية والأنسانية والثقافية المشروعة في العيش الكريم على أرضه التأريخية حراً ، مستقلاً . شعب يتطلع الى الحرية و العدالة والكرامة الأنسانية اسوة بشعوب الأرض كبيرها وصغيرها .
 
يؤكد لازاريف في مقدمة كتابه القيم :  ان زمن الكتب ذات الطابع العام عن الكورد و كوردستان قد انتهى وولى الى غير رجعة ،  بصدور كتابي فلاديمير مينورسكي ( 1877 – 1966 )  وفاسيلي نيكيتين ( 1885 - 1060 ) عن الكورد ،  ولم تعد ثمة فائدة من اجترار المعلومات العامة ، وحان وقت دراسة التأريخ الكوردي على نحو علمي معمق تتناول فترة زمنية معينة .
 ورغم مضي نصف قرن على هذا التأكيد ،  فأن دور النشر العربية والكوردية ماضية لحد الآن في طباعة و نشر كتب ذات طابع عام عن الكورد وتأريخهم وثقافتهم ، وكأنهم أمة مجهولة ـ يتم كشف النقاب عنها. ومثل هذه الكتب فيها تكرار ممل للمعلومات التأريخية،  ولا تستند الى أي وثائق رسمية او مراجع علمية رصينة ، بل تعبر عن رأي هذا المؤلف او ذاك ، الذي لا يخلو أحياناً من تشويه وتحريف .
 كتاب لازاريف ،  الذي استمتعت بقراءته ، كان كتاباً يبحث في " القضية الكوردية " خلال الفترة بين عامي  1891- 1917 ،   وهو كتاب يستند - في المقام الأول - الى الحقائق وتحليل آلآف الوثائق الرسمية المحفوظة في ارشيف السياسة الخارجية الروسية وعلى رسائل الدبلوماسيين والقادة العسكريين الروس الذين أحتكوا بالشعب الكوردي في كوردستان نفسها ، أضافة الى  الوثائق البريطانية ( الكتاب الأبيض ) ومئات المصادر الأخرى عن القضية الكوردية .
ومنذ ذلك الوقت ، رحت اتتبع كل ما ينشره لازاريف عن الكورد والقضية الكوردية باللغة الروسية ، ولا أعتمد على الترجمات  العربية التجارية ، ولا على الترجمات الكوردية المبتسرة لمؤلفاته.
 
في عام 1972 صدرت طبعة منقحة وموسعة من الكتاب السابق تحت عنوان " القضية الكوردية  بين عامي  1891 – 1917 " وقد نال لازاريف عن بحثه الموسع هذا شهادة ( دكتوراه العلوم ) في التأريخ ، وهي شهادة أعلى شأناً بكثير من شهادة الدكتوراه العادية ( ph.D ) .
كتاب لازريف الموسع والمنقح ،  يربو على 400 صفحة بالبنط الروسي الصغير نسبيا ، ولو ترجم الى اللغة العربية فأن عدد صفحات الكتاب لا يمكن أن يقل عن 800 صفحة مع الملاحق والمراجع .
بعد عودتي الى العراق شرعت بترجمة الكتاب ترجمة أمينة ونشرته كحلقات متساسلة  ابتداءاً من عام 1976 في مجلة " شمس كوردستان " التي كانت تصدرها " جمعية الثقافة الكوردية " في بغداد . وخلال زيارتي لموسكو في شهر آب/ أغسطس1977 حملت معي نسخ المجلة  لتقديمها الى لازاريف ومقابلته والحديث معه عن الكورد والقضية الكوردية ..
 
لقاء لا ينسى :
 
كان صباحا مشرقا وجميلاً من صباحات خريف موسكو الندية ، حين توجهت الى معهد الأستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية الواقع في زقاق الأرمن ، وهو شارع يقع في قلب موسكو وقد احتفظ بأسمه القديم حتى يومنا هذا .
عندما دخلت من البوابة الرئيسية رأيت أمامي بناية تأريخية جميلة ومهيبة على الطراز الكلاسيكي تزين المنحوتات والنقوش البارزة واجهتها وجدرانها ً، وأمامها حديقة غناء . كانت  اوراق الأشجار والورود تتلألأ بعد أن غسلتها مياه الأمطار ، ولاحظت فوراً نصبا تذكاريا من الغرانيت الرصاصي الغامق كتب على قاعدته  اسم وتأريخ ميلاد ووفاة صاحبه ، وكان النصب يعود ( ويا للمصادفة ) الى شخص يحمل لقب لازاريف أيضاً.
 
لم اكن اعرف رقم هاتف لازاريف ، أخبرت موظفة الأستعلامات بأنني قادم من العراق وأود مقابلة البروفيسور لازاريف . وبعد مكالمة هاتفية سريعة قالت : تفضل معي وقادتني الى مكتب لازاريف .، الذي نهض لأستقبالي وعلى وجهه ابتسامة ود وطيبة . وما ان جلست على المقعد المواجه لطاولته ، حتى بادرت الى بيان سبب الزيارة .
 قلت له: أنني ترجمت كتابكم الأخير ونشرته على حلقات في مجلة " شمس كوردستان " الصادرة عن جمعية الثقافة الكوردية ببغداد  . والحق أني شعرت ببعض الخجل وأنا أقدم له أعداد المجلة المطبوعة  طباعة بدائية رديئة على ورق أصفر باهت وصورته المنشورة مع كل حلقة بالأبيض والأسود كانت منقطة وغير واضحة المعالم تماما ، غير أنه على  نقيض ما كنت أتوقع ، قال أنه سعيد لأن الكورد أنفسهم شرعوا بالأهتمام بتأريخهم وترجمة ما ينشر في روسيا والدول الأخرى في هذا المجال .
 
قلت : قبل ان نواصل حوارنا أود أن أسألكم : لمن هذا النصب التذكاري الذي يحمل لقبكم .؟
 ابتسم هذه المرة ابتسامة عريضة وقال أن النصب لأرستقراطي أرمني قام بتشييد هذه البناية في سنة 1758 لتكون مقرا لمعهد الثقافة الأرمنية .
 قلت :  ولكن كنيته روسية .
لازاريف :  نعم ان ابناء القفقاس من ارمن ويهود وغيرهم يتخذون القابا روسية بعد اقامتهم في روسيا .
وساد بيننا لحظات صمت .
 قلت: اعرف ان حقوق المؤلف في بلادكم ، كما في البلدان الأخرى المتقدمة ، محفوظة ، لذا أعتذر ، لأنني ترجمت كتابكم دون الحصول على أذن مسبق منكم .
لازاريف : يسرني ترجمة أعمالي ، وأنا سعيد لأن الكورد أنفسهم أخذوا اليوم زمام المبادرة في دراسة تأريخهم بأنفسهم . 
قلت : هل لي أن أعرف شيئاً عن مسيرتكم العلمية . ؟ 
لازاريف :  لقد تخرجت في كلية التأريخ في جامعة موسكو عام 1952 متخصصا في تأريخ الأمبراطورية العثمانية ودرست اللغة التركية ، ثم واصلت دراستي العليا في الكلية ذاتها وكانت اطلروحتي للدكتوراه – التي دافعت عنها في عام 1955 -  تحمل عنوان . " سقوط الهيمنة التركية في المشرق العربي (1914- 1918)  " وبعد فترة قصيرة ، قمت باعادة كتابة هذه الأطروحة وحولتها الى كتاب  صدر في موسكو عام 1960 ، و لا شك انك لاحظت خلال ترجمتك للكتاب ، ان الكورد قد لعبوا دوراً فعالاً وبالغ الأهمية في تأريخ تركيا.
 
* ومتى شرعتم بدراسة التأريخ الكردي ؟
لازاريف: بعد ثورة 14 تموز في العراق أصبحت القضية الكردية ، قضية مهمة وساخنة في العراق والشرق الأوسط  . وكان لا بد من التعمق في دراسة تأريخ القضية وتطورها. وكان كتابي الأول يتناول "القضية الكردية " بين عامي (1891-1917) ،  أي منذ اشتداد الصراع الأمبريالي على كردستان وحتى ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا ، وكان هذا الكتاب الى جانب كتاب خالفين " الصراع على كردستان " باكورة الأعمال الأستشرقية السوفيتية في هذا المجال . وأود ان أقول ان دراسة القضية الكوردية مثيرة للاهتمام علميا  وموضوع في غاية الأهمية سياسيا ، وهي مهمة نبيلة ، لأن جوانب مختلفة لهذه القضية لم تدرس على نحو جاد.
 
قلت : رغم ان الكتاب يتحدث عن القضية الكوردية خلال فترة تأريخية محددة ولكن لاحظت انكم تتحدثون عن القضية الكورية في الوقت الراهن أيضاً .
 
لازاريف : لأن تركيا منذ سقوط الأمبراطورية العثمانية وحتى يومنا هذا تتبع سياسة الصهر القومي للكورد، ولا تعترف بالحقوق القومية الكوردية ، ويحاول  البعثيون اليوم (1) في العراق أيضاً سلوك نفس السياسة الهوجاء .واصبح مادة هذا الكتاب بعد توسيعه وتطويره اساساً لأطروحتي لنيل شهادة  دكتوراه علوم في التأريخ  ، والذي صدر – بعد اعادة النظر فيه -  ككتاب في عام 1972 تحت عنوان " القضية الكردية بين عامي 1891-1917 " ، وقد واجهتني في حينه بعض الصعوبات في قبول اطروحتي لأن احدى الجهات المقيّمة للأطروحة وهي " اكاديمية العلوم في ارمينيا " حاولت عرقلة ذلك لبعض الوقت.
 
قلت : ما السبيل الأفضل لحل القضية الكردية في رأيكم  ؟
 
لازاريف : اعتقد ان حل القضية الكوردية يجب ان يكون ضمن كل دولة من الدول التي تتقاسم كردستان الكبرى ، لأن ظروف الكورد في كل دولة مختلفة عن الأخرى .ولا شك انك لاحظت ان الجزء الأكبر من كتا بي يتناول  القضية الكوردية  في تركيا ، لأن اعتراف الدولة التركية بحقوق الكرد ، سيساعد على حل هذه القضية ككل .
 
لم أكن أود أن اثقل على لازاريف من اللقاء الأول ، لذا أخذت الملم أوراقي التي سجلت عليها بعض الملاحظات . قلت وأنا أتهيأ للمغادرة  اشكركم لأتاحة الفرصة لي لمقابلتكم وأجراء حوار معكم حول القضية الكوردية.
لازاريف : وانا ايضا أشكركم  بدوري على جهدكم المبذول في ترجمة كتابي ، ويسرني ان أقدم لكم نسخة من البحوث والمقالات التي نشرتها في المجلات العلمية ، بعد صدور كتابي الأخير  في عام  1972 .
 وتناول لازاريف من أحد الرفوف بجانب طاولته ، نسخاً من تلك البحوث والمقالات . وقال وهو يقدمها لي : أقرأها ، لأنه يهمني رأي الكورد في ما أكتب(2) .
قلت : ان كتاباتكم تحظى بتقدير واعتزاز المثقفين الكورد وسأحاول ترجمتها الى اللغة العربية ، لأنه يندر أن تجد كتابا أو دراسة موضوعية عن القضية الكوردية باللغة العربية .
قال بأقتضاب : لك أن تترجم ما تشاء من أعمالي ، ذلك أمر يسعدني . وأرجو أن اوفق في دراسة القضية الكوردية في الفترات التي تلت عام 17 19. (3) .
غادرت المعهد وأنا اشعر ببالغ الأمتنان لهذا العالم الفذ ، والأعجاب بتواضعه الجم ، وهو تواضع يتصف به كل عالم حقيقي ، الذي يهمه المعرفة أولاً وأخيراً وليس الشهادات ومغانمها .
 
ان ثلاثية لازاريف ، التي تتناول القضية الكوردية في العلاقات الدولية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، هوعمل علمي رفيع المستوى ، ولا نظير له. وبهذا العمل الذي ذاع في الأوساط الأستشراقية والأكاديمية في العالم ، أثبت لازاريف ان الأمة الكوردية ، جديرة ، بالأستقلال الناجز . و قدم للكورد خدمة عظيمة تعجز مؤسسة علمية كاملة عن النهوض بها ، لأن الزمن لا يجود بالعلماء الأفذاذ من أمثال لازاريف ، الا نادراً .
انني ، من منبر هذه المجلة الغراء ،  أناشد بلدية أربيل أطلاق اسم لازاريف على احد شوارع العاصمة ، كما أدعو  المؤسسات العلمية الكوردستانية لأقامة الندوات العلمية حول أعماله العلمية . وأعتقد ان من أولى المهام التي ينبغي لوزارة الثقافة في الأقليم أن تقوم بها ، هي ترجمة الأعمال الكاملة لهذا العالم الجليل الى اللغتين الكوردية والعربية ، وهذا أضعف الأيمان .
هوامش :
-------------
1-     جرى هذا الحوار – كما اسلفت – في  صيف عام 1977 ، عندما كان حزب البعث يحكم العراق وتمر القضية الكوردية بمرحلة بالغة الصعوبة .
2-     ثمة  عرف جميل في الصحافة الروسية ، وهو طباعة الدراسة المنشورة لأي كاتب بشكل منفصل ايضا– على شكل ملزمة صغيرة ، ترسل عدة نسخ منها الى المؤلف ،
3-     تابع لازاريف ، دراسة القضية الكوردية ، حيث أخرج في السنوات اللاحقة  كتابان مهمان ، وهما :
- " الأمبريالية والقضية الكوردية ( 1917 – 1923 " ، موسكو ، دار نشر " العلم "  1989
- " كردستان والقضية الكوردية ( 1923 – 1945 " ، موسكو ، دار نشر " الآداب الشرقية " 2005
 
 



85
الجذور التأريخية لنظرية القوة الناعمة

جـــودت هوشيار
 
عندما يجري الحديث عن مفهوم " القوة الناعمة " بمعنى أستخدام التأثير الفكري والثقافي والأعلامي  لتحسين وتلميع صورة بلد ما ، وتعزيز نفوذه في الخارج ، يقفز الى الذهن على الفور اسم المنظر السياسي الأميركي الشهير جوزيف ناي ، وكأن هذا المفهوم كان الهاما أو وحيا هبط عليه في لحظة معينة ، أو ان التأريخ الأنساني لم يعرف استخدام القوة الروحية والمعنوية لأستمالة عقول وقلوب وعواطف الناس،  قبل أن يعلن ( ناي ) عن نظريته ،  وهذا وهم، ان لم يكن ضلالاً أو تزويراًّ  لتأريخ الفكرالسياسي ..
 
صحيح أن ( ناي ) هو أول من بلور وصاغ هذا المفهوم في أوائل التسعينات من القرن الماضي في صورة نظرية مقنعة ، محكمة البناء ، ولكن القوة الناعمة الروحية والمعنوية التي تجسدت في الأديان   والثقافة والقيم الأنسانية ، ثم في الأيديولوجيات ، على مدى التأريخ البشري ، كانت تحمل أسماء أخرى في أقوال وكتابات الفلاسفة والسياسيين القدماء مثل ( التأثير،  والإقناع ،  والقدوة،  والنموذج،  والهيمنة الثقافية )
 
القوة الناعمة في التأريخ : 
 
كان الفلاسفة الصينيون ، أول من نادوا بأستخدام القوة الناعمة لتعزيز السلطة السياسية ومنهم ( لاو تسزي - القرن السابع ق.م.) الذي قال : " لا يوجد في الكون مادة أنعم وأضعف من الماء ولكنه قادر على تفتيت أكثر المواد صلابة ." كما أن جاذبية الجمال الأنثوي ، هي أوضح مثال على " القوة الناعمة " ،وقد لعبت دوراً كبيراً في التاريخ الأنساني.
 
تعاليم ( كونفيشيوس) وأتباعه،التي  تتمحور في مجملها حول الأخلاق والآداب، والعلاقات الاجتماعية وطريقة إدارة دفة الحكم  بالحكمة والفضيلة. أثرت في منهج حياة الصينيين، وحددت لهم أنماط الحياة وسُلم القِيم الاجتماعية، كما وفرت المبادئ الأساسية التي قامت عليها النظريات والمؤسسات السياسية في الصين. ثم  انتشرت هذه التعاليم انطلاقاً من الصين في كوريا، واليابان وفيتنام، وأصبحت ركيزة ثابتة في ثقافة شعوب شرق آسيا.
 
الديانة البوذية نشأت في شمالي الهند في القرن السادس قبل الميلاد وانتشرت تدريجياً بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية بفضل مبادئها الأخلاقية التي تدعو إلى المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف وحمل النفس على التقشف .والجاذبية التي تمتلكها هذه المباديء السامية ،هي التي أدت الى انتشارها  السلمي الواسع ...
 
الأنظمة السياسية والثقافة السائدة اليوم في فيتنام وكوريا واليابان ودول أخرى ،  تشكلت وتبلورت من خلال تعاليم الفلسفة الكنفوشيوسية والديانة البوذية . كما يعد الأنتشار السريع  للأديان السماوية – وخاصة المسيحية، والإسلام - خارج البلدان التي ظهرت فيها ،  تجسيداً للقوة الناعمة.
 .
التفاعل الخصب بين الحضارات المختلفة في الماضي شكل من أشكال القوة الناعمة .فعلى سبيل المثال لا الحصر تناولت المستشرقة الألمانية  زيغريد هونكة في كتابها الذائع " شمس العرب تسطع على الغرب " تأثير الحضارة الأسلامية في الحضارة الغربية فى مجالات العلوم المختلفة. وهذا التأثير تجسيد للقوة الناعمة لتلك الحضارة . وقد انعكست الآية في العصر الحديث   
فالحضارة الغربية أخذت تنتشر في العالم الأسلامي وبضمنها المنطقة العربية  منذ بواكير ما يسمى  "صحوة الشرق " ، بفعل جاذبيتها الهائلة . وهذا التأثير تعزز بمضي الزمن وقبل ظهور نظرية " القوة الناعمة " بزمن طويل .
 
القوة الناعمة في القرن العشرين :
 
في ثلاثينات القرن الماضي صاغ الفيلسوف والمفكر الأيطالي  أنطونيو غرامشي  ( 1891 – 1937م )  نظرية ( الهيمنة الثقافية ) في مؤلفه الفلسفي المهم ( دفاتر السجن ) - الذي تأثر به أجيال من الأنتليجينسيا  الغربية وخاصة المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا - حيث أكد ان هيمنة الرأسمالية لا تستند الى القوة والمال والسلطة فحسب، بل على عامل القبول الذي تكونه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس،  وأن هنالك  صراعاً ثقافيا بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي تتطلب استنهاض قنوات مختلفة، كوسائل الإعلام، والمؤسسات التربوية والفكرية، بهدف إنتاج ثقافة بديلة مواجهة لثقافة الهيمنة النابعة من قيم وفلسفة الرأسمالية
 
وحتى في الولايات المتحدة الأميركية نفسها ، لم يكن جوزيف ناي ، أول من نادى بأستخدام جاذبية القوة الناعمة بدلاً من التهديد العسكري أو شن الحروب ، بل سبقه مفكرون ودبلوماسيون أميركيون ومنهم الدبلوماسي المحافظ ثقافياً  ، جورج كينان ،  الذي تحول لاحقا إلى مؤرخ، حيث كتب يقول  : " يمكن للأميركيين أن يكون لديهم ما يقولونه للناس في أي مكان آخر، وربما يصيرون أيضا مصدر إلهام للآخرين ."
 
ويمكن اعتبار السبناتور الأميركي الشهير جيمس وليام فولبرايت ( 1905 – 1991 م)  - الذي  كان  رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الامريكى لمدة ثلاثين عاما ( 1945- 1975 ) ومؤسس برنامج فولبرايت للمنح التعليمية والتبادل الطلابى عام 1946 ، الذي يحمل اسمه - هو الأب الشرعي  لما يسمى اليوم بـ" القوة الناعمة " .  فقد  دعا بألحاح منذ أربعينات القرن الماضي ، سواء في خطبه داخل الكونجرس أو في الكتب التي ألفها أو في مقالاته ولقاءاته الصحفية ، دعا الى ان تكون الولايات المتحدة قدوة للعالم ليس بأستخدام القوة العسكرية ، بل في مجالات القيم السياسية والأنسانية والعلوم والثقافة وحقوق الأنسان .  ومما قاله في هذا الصدد :
" تحدث أشياء كثيرة بأماكن كثيرة، وهي إما أنها لا تخصنا أو تعنينا أو هي على أي حال خارج نطاق قوتنا أو مواردنا أو حكمتنا». لقد مضى وقت طويل جدًا بالنسبة للولايات المتحدة لتكرّس نفسها فقط لفعل الخير في العالم، سواء بالجهود المباشرة أو بقوة القدوة والمثال الذي تقدمه. وأن تتخلى عن فكرة التبشير الحافلة بمزاعم كونها شرطيَّ العالم ."   
 
أما  كريستوفر لاش ، الذي قضى عشرات السنين في تشريح الثقافة الأميركية فقد كتب يقول « ان الوعد الحقيقي الذي تقدمه الحياة الأميركية نجده في الأمل في أن تكون الجمهورية التي تمثل مصدرا لإلهام بقية العالم أخلاقيًا وسياسيًا، وليست مركزا لإمبراطورية العالم الجديدة " ."
.
وعن دور الثقافة يقول ( كريستوف موشر)، المتحدث الإعلامي ورئيس قسم الاتصال بمعهد غوتة: "تلعب الثقافة دوراً كبيرا، إذ تعتبر رسمياً منذ سبيعنات القرن المنصرم، إلى جانب السياسة والاقتصاد، الركن الثالث في السياسة الخارجية الألمانية''. ويضيف موشر بأن ألمانيا "تعتمد على شبكة العلاقات الناتجة عن معهد غوتة ومؤسسة دويتشة فيله وغيرها من الفاعليين في هذا الحقل."
وعن جاذبية ألمانيا بالنسبة الى الشعوب الأخرى ،  يقول موشر : "
 
"الشخصية الألمانية منضبطة بالنظام والقانون ومُحبة للعمل لدرجة العبادة. ألمانيا خلية نحل لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً. شعب تضبط الساعة عقاربها على مواعيده، وحكومة تملك إحصائية لكل شاردة وواردة. بالإضافة لما سبق، تعتبر قيم الحكم الرشيد والحرية والعدالة مصانة دستورياً ومطبقة ومعاشة في الحياة اليومية. بعكس النظام الرأسمالي "المتوحش"، يقوم "اقتصاد السوق الاجتماعي" على تكافؤ الفرص، والتكافل الاجتماعي، والضمان الاجتماعي والصحي للموطنين جميعا. الدولة هي الأب الحنون للجميع؛ تكافئ المجد وفي الوقت عينه لا تترك طبقتها السفلى المعدمة تنام على أرصفة الشوارع. حقوق النبات والحيوان مصانة، وحقوق الإنسان مقدسة. خارجياً، تعمل الدولة على تعزيز ثقافة السلام ودعم عملياته، لاعبةً أحيانا دور الوسيط في حل النزاعات، فضلاً عن الدفع باتجاه الحوار بين الحضارات وخصوصا بين الغرب والعالم الإسلامي".
 
القوة الناعمة في السياسة الخارجية :
 
" القوة الناعمة " بوصفها ظاهرة برزت كأداة للسياسة الخارجية منذ زمن طويل وقبل ان يتمكن العلماء من تعريف مفهومها وتحديد مصادرها وآلياتها وقنوات تأثيرها .
. ويرتبط ظهور هذه الأداة مع أنتشار وسائل الأعلام وتأثيرها في الوعي الجمعي ، وهذه الوسائل معروفة حسب التسلسل التأريخي لظهورها وهي :  الصحف ، والأذاعة ، والتلفزيون ، واخيراً الأنترنيت ) .ويلاحظ أن توسع نطاق استخدام "القوة الناعمة"،كأداة في السياسة الخارجية  تزامن مع  فترة الحرب الباردة وخاصة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، مع تفاقم المواجهة الإيديولوجية، بين المعسكرين الغربي والشرقي ، ، رغم أن النهج المتبع من قبل كل معسكر  في هذه المواجهة الأيديولوجية كان مختلفا  بعض الشيء..
 
. كان الاتحاد السوفياتي يعمل على نشر الأيديولوجية السوفياتية، التي تتركز على ازدهار الدولة . ، اما الولايات المتحدة الأميركية فقد كانت تعمل في مجال الترويج للحلم الأميركي ورفاهية الأنسان . ومع انتشار تقنيات القوة الناعمة ، بدأت القوة الصلبة ، العسكرية والأقتصادية تفقد تدريجياً مكانتها الأحتكارية السابقة كأداة رئيسية في السياسة الخارجية ..
 
الاختلاف الجوهري بين القوة الصلبة والقوة الناعمة هو كالفرق بين الأحتلال العسكري المباشر لبلد ما وبين الهيمنة على عقول وميول النخب الحاكمة فيه بوسائل الأستمالة والترغيب. .
تجارب التأريخ القريب تؤكد ان استخدام " القوة الصلبة " كالتدخل العسكري والعقوبات الأقتصادية  لم يعد مقبولاً لدى قطاع كبير من الرأي العام العالمي. .
الأتحاد السوفييتي أحتل هنغاريا عام 1956 ، وجبكوسلوفاكيا عام 1968 ، ولم يجن من وراء ذلك سوى زرع الكراهية له ولأيديولوجيته في العالم عموماً وفي الدول الغربية خصوصاً ، ، كما أن الأحتلال السوفييتي لأفغانستان عام 1979 أدى الى التضحية بحياة الآلاف من ضباط وجنود الجيش الأحمر وخسارة فادحة في الأسلحة والمعدات والأموال وادانة المجتمع الدولي لتدخله العسكري ، وفي نهاية المطاف اضطر الكرملين الى سحب قواته عام 1989 بعد الفشل الذريع الذي مني به في تحقيق أي هدف من أهداف هذا التدخل .
ويمكن القول الشيء ذاته عن التورط الأميركي في حرب فيتنام ( 1956 – 1973م ).
، حيث لاقت هذه الحرب معارضة قوية من الرأي العام الأميركي والعالمي ، واضطرت الأدارة الأميركية في نهاية المطاف الى وضع حد لهذه الحرب المأساوية وعدم التورط مستقبلاً في النزاعات العسكرية ، الا عند الضرورة القصوى وعلى نطاق ضيق ، بداعي محاربة الأرهاب حصراً في عدد من بلدان الشرق الأوسط وافريقيا ،مع تجنب الأصطدام العسكري المباشر مع  الدول النووية المنافسة لها على الساحة العالمية مثل روسيا والصين  .
يتضح مما تقدم أن مفاهيم " القوة الناعمة " متجذرة في ثقافات العالم في الماضي والحاضر ، وان النخب العلمية والفكرية والثقافية في أرجاء العالم دعت - منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية في الأقل وما تزال تدعو حتى يومنا هذا -   الى التعايش السلمي والتفاعل الخصب بين الثقافات المختلفة والى ضرورة التخلي عن لغة القوة وتغليب ما يعرف اليوم ب" القوة الناعمة " على " القوة الصلبة " في العلاقات الدولية.
 
 


86
بعض ما كتب عن المؤرخ زبير بلال اسماعيل

                                                         
جــودت هوشيار

حظي المؤرخ زبير بلال اسماعيل ( 1938 –1998م ) بأهتمام العديد من المؤرخين والكتاب
 والباحثين والشعراء ، الذين أشادوا بدوره الكبير في أستجلاء تأريخ الكرد وكردستان وخاصة مدينته العريقة " أربيل " الحضارة والمبدعين الكبار في شتى ميادين العلم والأدب والتأريخ والثقافة ، وقيموا عاليا مؤلفاته الريادية ، التي فتحت أبوابا واسعة أمام المؤرخين الآخرين من جيله و الجيل اللاحق ويمكن القول أن معظم من كتب عن التأريخ الكردي القديم والثورات الكردية والمعاهدات الدولية المتعلقة بالقضية الكردية عموما  وتأريخ أربيل خصوصا في العقود الأربعة الماضية قد نهل من مؤلفات مؤرخنا الشيء الكثير .
كرس العديد من الباحثين والكتاب دراسات ومقالات عن أعماله العلمية ، كما كتب بعض الشعراء قصائد في  الثناء عليه  وسنتطرق في ما يلي لبعض ما كتب عن المؤرخ الراحل:
 
1 – الشاعر الشهيد مهدي خوشناو
 
كتب الشاعر الشهيد  " مهدي خوشناو " مقالا رائعا ومؤثرا عن المؤرخ الراحل في جريدة " خبات " بعددها الصادر في 16-12-1998 أي في اليوم التالي لوفاته ، يقول فيه انه كان احد الطلاب الذين درّسهم المؤرخ الراحل مادة ( التأريخ )  في معهد المعلمين في أربيل ، ويتحدث عن مناقب الفقيد ومآثره واخلاقه السامية و تواضعه الجم ، هذه الصفة الحميدة التي هي صفة كل عالم حقيقي ، وقال ان أربيل وزبير بلال اسماعيل تؤمان لا ينفصلان ، واننا عندما نذكر مدينة أربيل نذكر معها دائما مؤرخها الكبير زبير بلال أسماعيل .
وفي عام 2001  نشرالشاعر الشهيد،  ملحمة شعرية تحت عنوان " "هه ولبره كه م" أي " هوليري " في جريدة " خبات " الغراء ، تحدث فيها عن عراقة أربيل وحضارتها في أوج ازدهارها ودورها الكبير في الحركة التحررية الكردية ، وقد رسم الشاعر في هذه الملحمة صورة قلمية مؤثرة  للمؤرخ الراحل ووطنيته الصادقة والخدمات التي قدمها لأربيل والحركة التحررية الكردية بأستجلاء تأريخ الكرد وكردستان .
 
2 – د.زينب جابي
 
كتبت  د. زينب جلبي عدة دراسات مهمة عن المؤرخ الراحل ، منها :
- لمحات عن حياة و مؤلفات المؤرخ الكبير زبير بلال أسماعيل
- المؤرخ زبير بلال إسماعيل: رحلة العطاء والتعب
 - المؤرخ زبير بلال اسماعيل فى ذكرى متجددة
- المؤرخ زبير بلال اسماعيل : الرائد الأول والأبرز في تدوين تأريخ أربيل
- أربيل فى أدوارها التأريخية " نقطة أنعطاف فى دراسة التأريخ الكردى "
وتقول د. جلبي في الدراسة الأخيرة :
 
مصائر الكتب مثل مصائر البشر، حيث لا تقاس أهمية أى مفكر أو مؤرخ أو عالم بكثرة مؤلفاته القيمة فحسب ، بل بمدى تأثيره فى جيله والأثر الذى يتركه بعد رحيله . ومؤرخ الكرد وكردستان الكبير زبير بلال أسماغيل ( 1938- 1998) م أحد أبرز رواد  كتابة التأريخ الكردى فى النصف الثانى من القرن العشرين، كان له أبلغ الأثر فى تحديد مسار كتابة تأريخ الكرد وكردستان الحافل بالأحداث الجسام .. وفتحت مؤلفاته آفاقا جديدة للمؤرخين من جيله والأجيال اللاحقة . كان الراحل العظيم يخوض فى بحر من المجهول، حيث ان تأريخ الكرد وكردستان  ، كان يكتنفه الغموض الى حد كبير . وما دونه (المؤرخون) العرب عن الشعب الكردى -عن بعد -  كان مجرد أوهام وخرافات لا يصدقها أى عاقل . ولم يكتبوا شيئاً ذا قيمة، أضافة الى ان تلك الكتابات كانت ملاحظات عابرة ومشتتة فى ثنايا مؤلفاتهم المكرسة أصلا لتأريخ شعوب أخرى
 
3 – د.جواد كاظم البيضاني
 
الدكتورالبيضاني باحث عراقي  جاد يتسم اسلوبه بالموضوعية والرصانة العلمية ، وقد أولى اهتماما ملحوظا يالثقافة الكردية والنتاج الفكري الكردي . وكتب دراسة قيمة تحت عنوان " زبير بلال اسماعيل أول مؤرخ كردي يهتم بدراسة التاريخ القديم "
تحدث البيضاني في هذه الدراسة القيمة عن السيرة الحياتية والعلمية للمؤرخ الراحل وأهم مؤلفاته ومنهجه التأريخي . يقول البيضاني " سلك المؤرخ زبير بلال منهج الاثاريين في تدوين التاريخ فهو يعتقد ان الآثار الملموسة والوثيقة هي الوسيلة التي تمكن المؤرخ من الوصول الى غايته ،والحقيقة فأن هذا المنهج في التصنيف عمل به كبار المؤرخين العراقيين امثال طه باقر ، وجواد علي ، وفاضل عبد الواحد وآخرون وكان اول كتبه التي صنفها بهذا الاسلوب العلمي الرصين كتاب ( اربيل في ادوارها التاريخية ) والذي جمع فيه بين منهج المؤرخ في التدوين واسلوب وطريقة الاثاري بالاستقصاء في البحث والاستسقاء ،  والحقيقة ان هذا الكتاب مثل تحولا كبيرا في كتابة التاريخ الكردي ، فقد جمع مؤرخ هذا لكتاب تاريخ مدينة اربيل لفترة اربعة الاف عام أي من المرحلة الاكدية وحتى الاحتلال الانجليزي وهي فترة طويلة .
هذه المزايا دفعت البعض للاعتقاد ان كتاب ( اربيل في ادوارها التاريخية ) هو افضل ما كتب عن تاريخ هذه المدينة . يقع الكتاب في ( 382 )صفحة  وقد صدرت طبعته الاولى عام 1971 م . ويبدو ان فترة العشر سنوات التي قضاها بين تخرجه وصدور هذا الكتاب قضاها في تاليف هذا المصنف المهم ، فأي باحث يتناول تاريخ هذه المدينة لابد من اعتماده كمصدر ضمن قائمته فهو بحق موسوعة لتاريخ اربيل جمع فيه من المعلومات ما لم نجدها في كتاب اخرسبقه .
وفي عام 1984 صدرت له دراسة تحدث خلالها عن علماء اربيل واثرهم في التاريخ الاسلامي . وما يؤسف له ان هناك كتابا له لا يزال مخطوطا يتحدث فيه عن علماء اربيل واعلامها اضافة الى اعلام الكرد يقع هذا المخطوط في ثلاثة اجزاء . كما ان له كتابا اخر تحدث خلاله عن مدينة اربيل حمل عنوان ( تاريخ اربيل ) صدر هذا الكتاب في عام 1999 اما كتاب ( اربيل بين الماضي والحاضر ) والذي صدر عام 1987 فهو لا يقل اهمية عن باقي كتبه التي تحدثت عن مدينة اربيل
لقد تميزت كتب المؤرخ زبير بلال الخاصة بمدينة اربيل بالاعتماد على الوثائق التاريخية والآثار والشواهد المادية وهو بذلك يبتعد عن منهج معظم المؤرخين القائم على اساس الاخبار والروايات ولعل سبب ذلك يعود الى الغموض بالكتابه التاريخية في بعض المراحل خاصة غير المدونه منها وهذا لايعني ان هذا المؤرخ ابتعد عن الموروث الكتابي .
بيد انه قام بتتبع حلقات الخبر والرواية التاريخية لاكتساب منهجية اكثر دقة ورصانه في التدوين
 
4-محمد مصطفي الصفار
 
- زبير بلال اسماعيل .. مؤرخ مدينة اربيل حياته ونتاجه الفكري
 
- المؤرخ زبير بلال اسماعيل و دوره فى تدوين تأريخ الكرد وكردستان
 
5 - كريم شارزا
 
المؤرخ والباحث الآثاري الكوردي زبير بلال اسماعل
يتحدث الكاتب في هذا المقال الذي نشر اولاً في جريدة " خبات " ثم في صحف ومجلات ورقية ومواقع الكترونية ومنها موقع ( ويكيبيديا ) الشهير ، عن دور مؤرخنا في أحياء التأريخ الكردي وعن مؤلفاته والمخطوطات التي تركها بعد رحيله . وقد استند الأستاذ كريم شارزا في مقاله الى معلومات موثقة وشهادات بعض المثقفين من زملاء المؤرخ الراحل .
 
6 -  صبحي ساله يى
 
زبير بلال اسماعيل
كتب الكاتب والصحفي الكردي المعروف الأستاذ صبحي ساله يي مقالاً مركزاً وجميلاً عن مؤرخنا يقول فيها : تذكرت الاستاذ الذي علمني اكثر من حرف، تذكرت الاستاذ الذي رحل في الخامس عشر من شهر كانون الثاني 1998 والذي كرس حياته من أجل تدوين تأريخ أمتي ووطني على أسس علمية دقيقة.
 
تذكرت الراحل زبير بلال اسماعيل الذي فاجأ الاوساط الثقافية الكوردستانية والعراقية في عام 1971 عندما اصدر (اربيل في ادوارها التأريخية) والذي اعتبره البعض في حينه موسوعة تأريخية. كما تذكرت كتابه الشهير (تأريخ اللغة الكوردية) و(علماء ومدارس في أربيل) الذي ضم تراجم لعدد كبير من علماء اربيل واشهر مدارسها، ولعل من المفيد هنا ان نذكر بأن وزارة الثقافة في حكومة أقليم كوردستان اصدرت قبيل وفاة استاذنا كتابه القيم (تأريخ اربيل)، ذلك الكتاب الجديد في المضمون والمختلف عن بقية كتب التاريخ.. وحيث كانت القضية الكوردية والحركة التحررية الكوردستانية من أولى اهتمامات مؤرخنا العلمية والتأريخية، فقد نشر العشرات من الدراسات وصدر له وبعد وفاته بوقت قصير كتاب (ثورات بارزان) الذي تناول فيه وبالتفصيل وبكل دقة وحيادية تأريخ تلك الثورات.
 وذاعت شهرته في الاوساط الاستشراقية حتى اصبح مرجعاً للكثير من طلبة الدراسات العليا والباحثين في مجالات التأريخ الكوردي، ويشهد الجميع على وقفة الراحل بكل صلابة امام الذين حاولوا المساس بقلعة اربيل التأريخية، حينما اراد عملاء النظام الصدامي هدم بيوت قلعة اربيل حيث ارسل، مع عدد اخر من المثقفين، برقية الى السلطات يطالب فيها بوقف فوري لعملية الهدم والتخريب
 
7 - د. محسن محمد حسين
 
- حول قلعة اربيل ـ وفاءً للراحل الكبير زبير بلال اسماعيل
كتب د. حسين مقدمة جميلة للدراسة العلمية التي كتبها المؤرخ زبير بلال اسماعيل  عن قلعة أربيل وقدمت الى السلطات المختصة في اقليم كردستان عام 1996 بأسم " هيئة انقاذ قلعة أربيل " التي كان مؤرخنا عضواً فيها ، عندما فكرت بعض الجهات في استقطاع جزء من بدن القلعة لأنشاء دكاكين ومحلات تجارية على حساب أهم أثر تأريخي في كردستان ، حيث بين المؤرخ الراحل في دراسته أهمية الحفاظ على القلعة كاملة ومصانة وعدم التفكير في المساس بها بأي شكل من الأشكال . ونتيجة لهذه الدراسة الرصينة والمقنعة صرفت السلطات النظر عن المشروع المطروح آنذاك لأستقطاع جزء من جسم القاعة .
 
8 - شيرزاد هيني
 
كتب الروائي الكردي المعروف شيرزاد هيني رواية تحت عنوان " هولير -  ابن المستوفي " جعل من مؤرخنا أحد أبطالها الرئيسيين ، ويذكر الروائي على لسان أحد شخوص الرواية انه كان الأجدر وضع تمثال للمؤرخ زبير بلال أسماعيل في باب قلعة أربيل لأنه جدير بذلك ، ربما أكثر من أبن المستوفي .
 
9–أدرجت جامعة بغداد  ضمن خطتها البحثية لعام 2013 بحثاً لـ( أ . د. نداء نجم الدين احمد ) تحت عنوان ( من علماء اربيل العالم والمؤرخ والاثاري زبير بلال اسماعيل )
 
11- كتبت عشرات الدراسات و المقالات عن مؤلفات المؤرخ الراحل  منها :
 
11/ 1- 1مقال آزاد عبيد صالح
- حول كتاب " تأريخ اربيل ) ، مجلة رامان ، العدد50 ، 5أغسطس 2000
                                                                                               
11 / 2 -  جريدة عراقنا اليوم
زبير بلال اسماعيل  : الأختام الاسطوانية .. تراث عراقي قديم
11/3-  روست نوزاد
12-  معالم من مدينة أربيل ..جامع الشيخ جولي .. مركز ديني خيري وثقافي
 
13- تم اعتماد مؤلفات مؤرخنا كمصادر رصينة عن التأريخ الكردي في العديد من  الرسائل العلمية في داخل العراق وخارجه وكذلك في البحوث والدراسات والمقالات التي تتناول التأريخ الكردي وخاصة تأريخ مدينة أربيل ومعالمها وآثارها التأريخية وعلماءها ودور العلم والعبادة فيها .
 


87
كيف اصبحت الصورة القوة المحركة للصحافة ؟

جـودت هوشيار
 
يقول المثل الروسي : " من الأفضل ان تشاهد مرة من ان تسمع مائة مرة ". ويقابله في المعني ، المثل الأنجليزي (A picture paints a thousand words) أي ان "  صورة واحدة تساوي الف كلمة " .
 
الصورة في الصحافة الورقية :
 
الصورة في الصحيفة ليست مجرد صورة ، بل طريقة أخرى لسرد النص المصاحب لها  وتأكيده. . لذا على الصحيفة الأهتمام بجودة الصور واختيار الأفضل منها والتي التقطت بذوق فني رفيع ومهارة حرفية
الصورة وسيلة رائعة لجذب الأنتباه ولكن هذا لا يعني ان تكون لأي نص منشور صورة مصاحبة له ، بل تكون مصاحبة للمواضيع الساخنة أو المواد التي تعالج قضايا مهمة .
الصور التي تظهر الحركة هي دائما مثيرة للاهتمام اكثر بكثير من اللقطات الساكنة المملة لذا فان صور الناس على خلفية الاحداث افضل دائما . وينبغي على المصور الصحفي ان يظهر تداعيادت الحدث او الظاهرة او المشكلة التي يغطيها  وتاثيرها على الناس العاديين
 
  هكذا كان الأمر منذ نشر اول صورة فونوغرافية بدائية في الصحافة الورقية التقليدية  وحتى يومنا هذا، التي بلغت فيه تكنولوجيا التصوير درجة عالية من الدقة والأتقال والجمال . ومنذ ظهورالصحافة الشعبية وصحافة التابلويد وصحافة الأثارة ، اخذت  الصورة  تحتل مكان الصدارة فيها ،  فهي تعتمد – الى حد كبير -  على الصور المثيرة الجذابة ،  المليئة بالحركة والحيوية للفت الأنظار ، لأن القاريء ، يطالع اول ما يطالع من صحيفته العناوين والصور.
 
ان العنوان  المصاحب للصورة يؤدي دوره كاملا اذا كان لا يكرر المعلومات التي يمكن استخلاصها من الصورة وحدها ا بل  يضيف اليها معلومات جديدة  اوتعليقات ذكية لماحة. .وعلى أية حال فان على المراسل او المحرر المسؤول ، ان يضمن العنوان اقصى ما يمكن من المعلومات المركزة .
اما الصورة المصاحبة لاي تغطية اخبارية  او مقال فأنها تكون غامضة من دون وجود عنوان لها ومن دون الاجابة على الأسئلة ، التي قد تطرا في ذهن القاريء – المشاهد . من ؟ ،  أين ؟  ، متى ؟ ، كيف ؟ ، ولماذا ؟ .لأي سبب ؟ وغيرها ، والتي تعجز حتى أكثر من صورة الأجابة عنها.
 
ان طبيعة  العلاقة بين الصورة والنص والمساحة التي يشغلانها في الصحيفة تعتمد بطبيعة الحال على نوع المطبوع والهدف من النشر ..
ان صورة بعينها يمكن تأويلها على نحو مختلف حسب النص المصاحب لها و تصميمها الجرافيكي او طريقة  نشرها في هذه الوسيلة الأعلامية أو تلك .
 
الصورة في الصحافة الألكترونية :
 
 وبظهور الصحافة الألكترونية أكتسبت  الصورة اهمية متزايدة وتلعب دورا لا يقل عن دور المعالجة الصحفية النصية   ، في توضيح المحتوى وأغناءه . فالمتصفح يمر بعينيه على المقال او الخبر محاولا ادراك ان كان يسنحق القراءة. لذا من الضروري للصحيفة الألكترونية اجتذاب انتباه المتصفح على الفور بشيء ما ، واكثر الوسائل فعالية – هي الصورة الجذابة المثيرة للأنتباه .
 والصورة أشد وقعا وأكثر فعالية من مقطع ( الفيديو ) ، لأن المتصفح يصرف في العادة حوالي 15 – 20 ثانية في الأقل قبل ان يتمكن من مشاهدة بداية المقطع ، ثم  ليقرر ان كان سيستمر في مشاهدته حتى النهاية . هذا اذا كانت سرعة الأنترنيت كافية لمواصلة المشاهدة دون انقطاع اوعدم الأنتظار لتحميله . ولكي يتحمل المتصفح كل ذلك يجب ان يكون مقطع الفيديو مهما وممتعا ، اما الصورة فأنها تتحدث عن نفسها بنفسها ولا تحتاج من المتصفح بذل أي جهد يذكر.
 
ولدي مقارنة الصورة بالنص ، نرى ان كتابة النص الجيد تتطلب موهبة وخبرة متراكمة على المدى الطويل ومعرفة بدقائق اللغة واسرارها او معرفة القواعد اللغوية والأملاء في الأقل , فى حين ان التقاط الصورامر في غاية البساطة والسهولة . وفي وقتنا الراهن اصبح من الممكن  التقاط الصور ذات النوعية الممتازة بواسطة الهواتف الذكية ،  التي تسهل ايضاً عملية ارسال او تبادل الصور ، فهي دائمة الأتصال بالشبكة التي توفر هذه الخدمة.
 
كما ان شبكة الأنترنت خلقت فرصا كثيرة للتفاعل ولنشر الصور فمواقع التواصل الأجتماعي وبضمنها موقع ( تويتر ) كانت في بداية تطورها  تعتمد في المقام الاول على النص . واصبحت الصورة ركنا من اركان اقتصاد هذه المواقع بعد ظهور الهواتف الذكية وانتشارها والتي تتوافر فيها امكانية التقاط صور ذات نوعية ممتازة .
وثمة اليوم  مواقع للتواصل الأجتماعي متخصصة في نشر وتبادل الصور مثل موقع (Instagram)
 
الصورة اكثر الوسائل بساطة وشمولية لنقل رسالة معينة على الفورالى اكبر عدد ممكن من الناس ،  في حين يتطلب رسالة نصية معرفة اللغة واحيانا حتى الترجمة . ولهذا فأن الصورة هي الانسب للانترنت المفتوح على العالم بأسره ،  والصورة مفهومة دون الحاجة الى معرفة اي لغة. والمواقع التي تعتمد على الصورة والتطبيقات المتعلقة بها مربحة اقتصاديا ً أيضاً . 
 
قراءة النص المكتوب على الشاشة عملية متعبة احيانا وتتطلب الأنتباه من قبل المستخدم .أما الصور فيمكن تقليبها ومشاهدتها الواحدة بعد الأخرى لساعات من دول ملل أو كلل .ومن دون التفكير طويلا حولها .كما ان المستخدمين يرسلون للمواقع صورا لنشرها من دون أي مقابل مادي.
 
لغة التصوير :
 
 الصور التي يرسلها المستخدمون من كافة انحاء العالم الى المواقع الألكترونية المختلفة وفي مقدمتها موقع ( الفيسبوك )  تشكل صورة عالمنا اليوم بكل ما فيه من انماط الحياة في لحظة معينة .وثمة ظاهرة جديدة تمتاز بها عصرنا وهي  ظاهرة الـ(سياف - self) التي تعكس احدى سمات عصرنا الاناني .فعندما يلتقط الشخص لنفسه صورة بكامرته فأنه يود تقديم نفسه وشخصيته المختلفة عن الآخرين الى العالم .
ونظراً للدور المتعاظم الذي تلعبه الصورة في العمل الصحفي ، يتساءل العديد من خبراء الأعلام عما اذا كان من الواجب على الصحفي ان يتقن مهارة التصوير أيضاً ولا يكتفي بالمعالجة الصحفية النصية .
وخلافا للوصف النصي او الكلامي الداخل الى الوعي الانساني بتسلسل منطقي متتابع وببطأ نسبي فأن المعلومة المرئية ( الصورة )  بفضل وضوحها وخصوصيتها تنطبع في الذهن على الفور ، فهي قادرة على التاثير بقوة عاطفية كبيرة في القاريء – المشاهد وعلاوة على ذلك من المعروف جيدا ان الصورة الستاتيكية ( المستقرة ، الثابتة ) تمتلك خاصية الانطباع على نحو عميق ولزمن طويل في الذاكرة البشرية.
ويبدو ان هذه المميزات وغيرها دفع البعض من منظري الاعلام الى القول ان لغة التصوير لغة عالمية لجميع الشعوب والبلدان .
 
وثمة مقولة مشهورة للمصور الاميركي المشهور ادوارد ستيجين -Edward Steichen  (1879- 1973(يؤكد فيها " ان صورة واحدة يمكن ان تحل محل عشرة الاف كلمة بشرط ان يكون مصحوبا بعشر كلمات "
ان وجود نص الى جانب الصورة يساعد على قراءة الموضوع واستيعابه على نحو اعمق وافضل . بأستثناء الصور الفنية المعبرة الملتقطة من قبل مصورين محترفين على درجة عالية من المهارة والأتقان والتي تعبر عن الفكرة من دون الحاجة الى اي  نص تفسيري .
 
انتهاك وحدة المعني بين النص والصورة :
 
تاريخ الصحافة زاخرة بامثلة على اللبس والغموض  وسؤ الفهم الناجم عن انتهاك وحدة المعني بين الصورة والنص المصاحب له وبتعبير آخر، بين ما توحي به الصورة من معنى وبين محتوى النص المصاحب له , والأسوأ من ذلك تزوير معنى الصورة على نحو متعمد عن طريق نص مصاحب لها يختلف في معناه عما توحي به الصورة .ولدينا مثل صارخ على هذا الأنتهاك : يقول المفكر الراحل ادوارد سعيد في كتابه " تغطية الأسلام " :
 "  خصصت مجلة " تايم " موضوعها الرئيسي للاسلام بتاريخ 16 ابريل 1979 وزينت غلافها بلوحة للفنان الفرنسي جيروم تصور مؤذنا ملتحياً يقف على مئذنة  ويدعو المؤمنين بوقار الى الصلاة ، ، وكانت اللوحة تتميز بالتنميق الشديد والمبالغة الصارخة مثل جميع فنون الاستشراق التي شهدها القرن التاسع عشر ، ومن دلائل التناقض الزمني ان تكون هذه اللوحة الوقورة مزينة بكلمات لا علاقة لها بها وهي " احياء الأسلام " ولم اجد افضل من هذا الغلاف للدلالة على الفرق بين موقف اوروبا وموقف امريكا تجاه موضوع الاسلام ، اذ حولت المجلة لوحة هادئة  زخرفية ، كانت تعتبر في اوروبا جزءاً من الثقافة العامة لا اكثر ، الى صورة قادرة – بفضل الكلمتين المضافتين – على الدلالة على ما يشغل العقل الأمريكي لحد الهوس ."
لذا فأن النص المصاحب للصورة يمكن ان يؤدي الى تغيير او حتى قلب معنى الصورة الحقيقية التي لا تشوبها شائبة .
والى جانب التضليل المتـعمد ،  ثمة التحيز النـاجم عن كيفية اختيار لـحظة وزاويـة  التصوير او تحريف الصورة بالرتوش او المونتاج عن طريق الفوتو شوب ،
 
صحف بلا صور :
 
قبل بضع سنوات اعتقلت السلطات الجورجية ثلاثة مصورين مشهورين بتهمة التجسس لحساب الأستخبارات الروسية ،  بينهم المصور الشخصي للرئيس الجورجي السابق سكاشفيلي . واحتجاجا على هذا الأعتقال صدرت صحف المعارضة في اليوم التالي وهي خالية من الصور ، وظلت المساحات المخصصة لها خالية ، على غير العادة ، وادرك القراء أهمية الصور في الصحافة ، لأن تلك الصحف بدت غريبة الشكل وكأن شيئا ما ينقصها ، وغياب الصور قللت حتى من أهمية النصوص المنشورة فيها .
وقد تكررت هذه التجربة في صحيفة " ليبارسيون " الفرنسية التي حجبت كل الصور من عددها الصادر في 14 اكتوبر سنة 2013  احتجاجا على هضم حقوق المصورين وعدم تقييم جهودهم على النحو المنشود . وكما كان الأمر في جورجيا أظهرت الأطارات الفارغة مدى اهمية الصور في الصحافة ، سواء كانت صحافة ورقية أم الكترونية .
jawhoshyar@yahoo.com
 
 



88
خصائص المحتوى الأعلامي الجاذب للقاريء

                                                     
جودت هوشيار

 ما هي أهم خصائص المحتوى الأعلامي الأكثر جذباً للقريء في أي وسيلة اعلامية . ؟ ما الذي ينبغي توافره في  المحتوى لكي يدفع القاريء ، ليس الى مجرد الأهتمام به ، بل الرغبة في أشراك الآخرين في متعة قراءته ؟ هل يبحث القاريء عن الفائدة أم المتعة ؟
 هذه أسئلة  ظلت محيرة ومبهمة الى وقت قريب ، رغم انها اثارت اهتمام  العديد من الفلاسفة والمفكرين والكتّاب ، الذين حاولوا تفسير انجذاب القاريء أو السامع الى محتوى معين  ومنهم أرسطو ، الذي بين في سنة ( 350 ق.م. )  ان الخطبة – وهي المحتوى الذي كان شائعا  في ذلك الحين – لكي تكون مقنعة  للسامعين وتترك انطباعا قويا لديهم وتدفعهم الى الرغبة في روايتها  للآخرين ،  ينبغي ان تتوافر فيها ثلاث خصائص في آن معاً وهي " الأخلاق والمنطق والعاطفة " . واذا كان خطاب المتكلم يتسم بهذه الخصائص ، فمن المرجح أنه سيكون قادرا على التأثير في الجمهور المتلقي للرسالة واقناعهم  بآراءه ووجهة نظره .
وما يزال استنتاج أرسطو يتمتع بأهمية قصوى في ايامنا هذه ، وينطبق الى حد كبير على أي محتوى بشتى صوره في وسائل الأتصال والأعلام المتنوعة .
 و من اجل التأكد من صحة استنتاج ارسطو  ، يمكن للقاريء أن يلقي نظرة على المواقع الألكترونية لأهم الصحف والمجلات العالمية ومواقع التواصل الأجتماعي - التي أتاحت الفرصة للقاريء لتمرير المقال ، الذي حاز على أعجابه الى من يريد من أصدقائه ومعارفه بمجرد الضغط على زر واحد أو التعليق على المقال وأغناءه -   ليرى بنفسه أن المقالات والمواد الصحفية المختلفة ، الأكثر قراءة وارسالا وتعليقاٌ ، تتوافر فيها هذه السمات الثلاث ،  التي حددها ارسطو بنظرته الثاقبة وتحليله المعمق لخطب الساسة والقادة في زمانه .
تجربة عملية :
 قام البروفيسور جونا  بيرغر (Jonah Berger ) أستاذ التسويق في كلية وارتون لإدارة الأعمال في جامعة بنسلفانيا ، بدراسة عملية تبادل المحتوى الأعلامي بين القراء. وحلل نحو 7000 مقالة ، منشورة في الموقع الألكتروني لجريدة (  The New York Times) خلال ثلاثة أشهر متتالية ، في محاولة منه لمعرفة أهم الخصائص ،التي تتسم بها المواد الأكثر تداولا بين الجمهور المتلقي .مع الأخذ بنظرالاعتبار عدة عوامل منها تأريخ النشر وعدد القراء والجنس وحجم النص ودرجة تعقيده .
اكتشف بيرغر سمتين اساسيتين تحددان مدى نجاح المقال ،وهما ،  مدى ايجابية فكرة المقال الرئيسية . و مدى قوة المشاعر الأيجابية ،  التي تثيرها لدى القاريء ، مثل ( الفرح، والفخر، والأهتمام  والعاطفة) على النقيض من المقالات ، التي المشاعر السلبية (الغضب، الاحتقار ،  والاشمئزاز). ولكن اذا كان المقال مثيرا ويتعلق بفضيحة مدوية ، فأنه ينتشر بسرعة رغم أنه قد يثير مشاعر الغضب أو القلق .
ولكن ينبغي أن نتذكر ان ما يبعث على الفرح او الفخر  لدى الناس الذين ينتمون الى فئات عمرية او شرائح اجتماعية او مهن  او ثقافات أو أديان متباينة ، يكون في اغلب الأحيان مختلفا . لذا ينبغي للكاتب الصحفي أن يعرف الجمهوره المستهدف جيداً ولمن يوجه الخطاب ومن دون معرفة ذلك لن يلقى أي اهتمام بما ينشره من مواد .
 وللتحقق من صحة استنتاجاته قام  بيرغر بتجربة عملية وعرض على طلابه  محتويات أعلامية شتى وطلب من كل واحد منهم  أختيار ما يروق له من محتوى  ويود ارساله الى أصدقائه ، وقد تبين أن الطلاب كانوا أكثر استعدادا لتبادل القصص والصور المضحكة ، التي تثير المشاعر الايجابية من المقالات الجادة ، كما تبين انهم تبادلوا غالبا مقالات تثير الغضب والسخط  أو الأنزعاج من المقالات حول نفس الموضوع، ولكن مكتوبة بلهجة أكثر هدوءاً.
ومن المثير للاهتمام، ان بيرغر عندما حاول التلاعب في  صياغة العناوين، وتغييرها من السلبية إلى الأيجابية وجد أن العناوين الأيجابية أكثر جذبا للطلاب .
ويقول بيرغر في كتابه
المعنون  (Contagious: Why Things Catch On? – العدوى :  لم الأشياء تجذب ؟)
 ان النتائج التي توصل اليها تنطبق ليس فقط على الأفكار والآراء فقط ،  بل أيضاً على الترويج الأعلامي  للسلع و المنتجات الصناعية . ويبدو أن هذا هو الهدف الأساسي من كتابه أي مساعدة الشركات في الترويج لمنتجاتها . ولكننا نعتقد أن الأفكار والآراء أو المواد الصحفية وبضمنها المقالات شيء والدعاية للمنتجات شيء آخر . كما أن ( بيرغر ) ينظر للموضوع من وجهة النظر النفسية والعاطفية للمتلقي الغربي ، التي قد لا تنطبق على المتلقي الشرقي . ولا شك أن آراء ( بيرغر ) مثيرة للجدل ، فهو لا يعير أي أهمية لمدي جودة المقالات التي تم ارسالها ، من حيث القيمة الفكرية وأسلوب المعالجة وصياغة المضمون  أو باختصار السمات ، التي تتصف بها للمقالات التي تابعها على مدى ثلاثة أشهر .
 ولكي نوفي الموضوع حقه من الدراسة ، سنتناول في السطور اللاحقة ، أهم الخصائص التي تتميز بها المقالات الأكثر اثارة لأهتمام القاريء .
 
المقال بين المتعة والفائدة :
 
 ان حلم كل كاتب وكل صحفي  هو الأنتشار الواسع والسريع لكتاباته  بين الجمهور القاريء ، ولكن ينبغي له ،  قبل كل شيء ان يعرف هذا الجمهور جيداً ، لأن ما يعجب المثقفين ، قد لا يعجب من يبحث عن المقالات الخفيفة الممتعة ، التي لا تضيف شيئا الى  ما يعرفه القاريء . واذا نظرنا  حولنا  سنجد أن الشباب من الجيل الحالي يقبلون على الأعلام الجديد – الذي  أصبح جزءاً من حياتنا اليومية – بشغف ويتفاعلون معه بحماس ،  مما يوحي للوهلة الأولى  بأنهم  مهتمون بالقراءة ،  فهم لا يفارقون ( الآيباد ) و ( اللآيفون ) او الأجهزة الذكية الأخرى ، ولكنهم في الحقيقة ، لا يبحثون عن المعرفة ، بل عن المتعة . وما يقرؤنه لا يلبث في الذهن .
 قبل أكثر من ثمانين عاماً  ، كتب احمد حسن الزيات ،  مقالاّ بعنوان " أدب الللذة " وكأنه يصف ما يقرأه الشباب هذه الأيام .  يقول الراحل الكبير  " انه الأدب الذي يلذُّ ولا يُفيد، ويَسوغ ولا يُغذي، ويَشغل ولا ينبِّه، كالذي تقرأه في أغلب الصحف وفي بعض الكتب مِن غرائب الأخبار، وطرائف النوادر، وتوافه المعارِف، مما يَجذبكَ عَرضُه ويلذُّك تصويره، ويُلهيك موضوعه، فإذا فرغتَ مِن قراءته وصحوتَ مِن خِدره، لا تجد له أثرًا في نفسك، ولا حاصلاً في ذهنِك."
 
نحن نعيش اليوم في عصر الثورة الرقمية ، ولا أحد يقرأ المقالات الجادة الرصينة ، سوى عدد محدود من المثقفين ، الذين يجذبهم مضمون المقال و اسلوب معالجته وحسن صياغته ويلبي حاجاتهم الداخلية واهتماماتهم الفكرية .
نعود فنسأل  : اذن ما هي أهم خصائص المقال الجيد الذي يجمع بين الفائدة والمتعة وينبه الذهن ولا يخدره ، ويلبث في الذاكرة لمدة قد تطول أو تقصر ؟
المقال الجيد لا يثير الأعجاب فقط ، بل ينبه الذهن ويحرك قطاعا عريضا من القراء ، الذين لهم وجهات نظر مختلفة  حول الموضوع الذي يتناوله .
لكل مقال سريع الأنتشار عدة خصائص فريدة تميزه عن المقالات الأخرى المكرسة للموضوع ذاته ، نوجزها في ما يلي :
 
1 –  حسن اختيار الموضوع :
 
 لا قيمة لمقال لا يضيف جديدا الى ما يعرفه القاري عن الموضوع ولن يهتم به عندما لا يشبع رغبته ، أي ان الكاتب يجب أن يكون ملما تماما وبعمق بالموضوع الذي يتحدث عنه في مقاله ،  اما اذا عجز عن ذلك فله أن يبين وجهة نظره حول موضوع ساخن في هذه اللحظة أو مثير للجدل ولا يوجد حوله اتفاق في الرأي ويمكن تناوله من جوانب عديدة  .
2 – الحفاظ على الوحدة بكافة مظاهرها :
 ينبغي ان يتضمن المقال – أي مقال – فكرة رئيسية واحدة فقط  وليس فكرتين أو ثلاث وعدم الأستطراد أو التطرق الى ما ليس له علاقة بهذه الفكرة  لكي لا يؤدي ذلك الى تشتيت أفكار القاريء . ولا تقتصر الوحدة على الفكرة الرئيسية ، بل يشمل أيضاً ، وحدة الزمان (أختيار صيغة الماضي أو الحاضر أو المستقبل )  ووحدة المكان ان تطلب الأمر . ووحدة طابع المقال هل هو جاد أم ساخر تهكمي  أم فكاهي . ووحدة ايقاع النص وعدم القفز من ايقاع الى آخر . لأن لكل نص جيد ايقاع معين ، ومن لا يحس بأيقاع النص الذي يكتبه لا يمكن اعتباره كاتباً .
3-  العنوان الجاذب :
 يلعب عنوان المقال دوراً بالغ الأهمية وأحياناً دوراً حاسما في مدى اجتذاب القاري و اثارة فضوله ، وهو من أهم المعايير التي تحدد له ، ما يقرأ ، وما لا يقرأ . وينصح خبراء الصحافة بأن يكون العنوان واضحاً وصريحا يدل على مضمون المتن ، ولكننا نعتقد ان هذا الرأي قد عفا عليه الزمن . ولو راجعنا اليوم عناوين المقالات المنشورة في أهم الصحف العربية والعالمية ،  نرى أن كل عنوان ينطوي على بعض الغموض المحبب الذي يدفع القاريء لأستجلاءه من خلال قراءة المقال .
4–الفقرة الأفتتاحية أو الاستهلالية :
 الفقرة الافتتاحية ( بالإنجليزية: lead أو lede paragraph) وتكتب بحروف متميزة وبارزة تحت عنوان المقال وتسبق النص الرئيسي ، والهدف منها ، هو اعطاء القارئ الفكرة الرئيسية التي يدور حولها المقال أو دعوة موجهة اليه لمعرفة المزيد عن الموضوع ، وينبغي ان لا تزيد الفقرة الأفتتاحية  عن عدة جمل ، يقرأها المتلقي ويقرر بينه وبين نفسه ان كان سيواصل قراءة المادة بكاملها . وهناك العديد من الطرق للأستهلال الجيد ، الذي يوحي للقاريء بأنه سيفقد كثيراً ان لم يواصل القراءة حتى النهاية .ومثل هذاالأستهلال ،  يجب أن يتضمن حقائق مشوقة ومثيرة للأهتمام  ، أو يطرح سؤالاً ما ، أو يطلب من القارئ أن يتخيل شيئا مما يثير أهتمامه –وهو سيفعل ذلك لا شعوريا، ومن ثم يريد أن يعرف ما هو القصد من ذلك .
5– العرض الشيق :
 القدرة على عرض الموضوع على نحو منسق وصياغته بعناية وبشكل سلس وجميل ، متضمناً العنوان الواضح والأستهلال الجاذب ، وتقسيم المادة الى فقرات ذات معنى ووضع العناوين الفرعية لها أو ترقيمها ، كل ذلك كفيل بنجاح المقال ولفت الأنظار اليه لأن القاريء المعاصر لم يعد يتحمل قراءة عدة صفحات دون فواصل وسرعان ما ينتقل لقراءة مواد أخرى أو يغادر الموقع الألكتروني أو يطوي الصحيفة الى غير رجعة .
6 - حل المشكلة :
 المقال الجيد يحل مشكلة معينة . والكاتب أو الصحفي الذي يدرك أهمية التواصل مع الجمهور المستهدف ، يحاول التعرف على حاجات الناس وتلبيتها وبتعبير آخر عرض مشاكل المجتمع   واقتراح الحلول لها .
7– أضافة مسحة من الفكاهة على النص :
 المقال الرتيب يمل منه أصبر الناس ،  والكتابة المتجهمة او اليابسة اوالمكتوبة بلغة المواعظ ، منفرة للقاريء . يفضل اضافة قليل من الفكاهة أو المرح الى المقال والأستعانة ببعض الصور والمقارنات أوالنوادر او أبيات الشعر أو الأقوال المأثورة أو الحكم والأمثال  وحتى بعض النكات ، كل هذا يضفي على النص جمالا ويخفف من عناء القراءة .
8 -  التوقيت الصحيح لنشر المقال :
 المقال الساخن المرتبط بحادث معين أو مسألة آنية ،يفقد قيمته ويتقادم اذا نشر بعد فترة وجيزة قد لا تتعدى عدة أيام أو أسبوع واحد على أكثر تقدير ، لأن الأحداث تتلاحق ووتيرة الحياة أصبحت سريعة  في المجتمعات الحديثة وهي في تغير متواصل  ، وهذا ينطبق ليس على المقالات فقط بل أيضاً على  الأخبار والتقارير والأستطلاعات والتحقيقات والحوارات الصحفية . أما المقالات التحليلية وخاصة الفكرية منها ، فأنها تحتفظ بقيمتها لفترة أطول بكثير .
 9 – حسن الخاتمة :
 الخاتمة لا تقل أهمية عن الأستهلال . ولكن ينبغي اجتناب تلخيص الفكرة الأساسية للمقال في نهايته  ، لأن القاريء الذكي ، الذي قرأ المتن ، لا يحتاج الى مثل هذا التلخيص ، الذي  يفسد عليه متعة القراءة ، وربما خير ما يختتم به أي مقال هو اقتباس قول مأثور أو حكمة بليغة  يتناغم مع مضمون المقال الذي يبقى عالقاً بذهن القاريء لبعض الوقت  . واذا كان النشر في موقع الكتروني له حقل للتعليقات ، فأن الخاتمة الجيدة يشجع القاريء للتعليق على المقال  وربما أرساله الى الأصدقاء والمعارف .
 
جــودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com



89
العلاقة الملتبسة بين الأعلام والأرهاب
جــودت هوشيار
 
تستغل التنظيمات الأرهابية وسائل الأعلام  الألكترونية وعلى رأسها شبكات التواصل الأجتماعي ، التي نعرفها ( فيسبوك ، تويتر، يوتيوب ) كمنصات لبث أفكارها وأخبارها وتنفيذ أجندتها ، بسبب الأنتشار الواسع لهذه الشبكات وسهولة استخدامها وامكانية تخطى الحواجز السياسية والجغرافية في عملية الأتصال المجاني الفوري  بين اعضاء التنظيمات الأرهابية والتنسيق فيما بينهم والكم الهائل من المعلومات التي يمكن تبادلها  .
التنظيمات الأرهابية تتسلح بالأعلام الجديد عموماً والأجتماعي منه خصوصاً من اجل تحقيق عدة أهداف في آن واحد وهي :
 
1- الوصول إلى الرأي العام والترويج لأيديولوجيته والدعاية لفكره الظلامي المتطرف 
2 - استعراض قوته واضفاء هالة مزيفة على فعالياته الأجرامية وتضخيم قدراته واظهارها بشكل أكبر من حجمها الحقيقي .ونشر أجواء الخوف والرعب بين الجماهير المستهدفة .
 3  بث اليأس والأحباط بين عناصر قوى الأمن .وكشف ضعف اوعجز الحكومة المستهدفة عن حماية مؤسساتها ومواطنيها وعن ضمان الأمن والأستقرار .
4- حشد المناصرين وتجنيد الشباب من مختلف أنحاء العالم لديمومة بقاءها .
5-  نشر ارشادات تشرح وسائل الاتصالات السرية وطرق صنع المتفجرات وتفخيخ السيارات وزرع الألغام والأسلحة الكيمياوية .
6 – جمع التبرعات عن طريق الأنترنيت من المستخدمين ذوي الميول المتطرفة او من الآخرين بأساليب الخداع والأحتيال .
وتختلف الجماعات الأرهابية في اعطاء الأولوية لهذا الهدف او ذاك ، فعلى سبيل المثال نرى ان تنظيم داعش يركز على استعراض قوته وصدم الناس وترويعهم بوحشيته وأساليبه الدموية والنيل من معنويات القوات الأمنية العراقية واستدراج الشباب المسلم أينما كان وغسل عقولهم وحشوها بالغيبيات والخرافات والأباطيل من قبيل ترغيب وتحبيب الموت اليهم كطريق لدخول الجنة حيث سيغنم كل واحد منهم  باربعين حورية وعد بهن .
 ويتميز تنظيم داعش بحرفية عالية في توظيف الأعلام الأجتماعي لأغراضه  ويمتلك قدرات تكنولوجية تسمح له بالمناورة في حالات المنع والحجب وازالة المحتوى الأعلامي، الذي يبثه ،  بفتح حسابات جديدة بأسماء مستعارة .
 
دور الأعلام العربي في الترويج لداعش:
 
يسهم قطاع عريض من الأعلام العربي ، في بث سموم داعش ،  عندما يقوم  بنقل أخبار التنظيم على نحو غير موضوعي وبث ما تنتجه ماكنة البروباجاندا الداعشية من مواد دعائية منحازة  مثل الصور ومقاطع الفيديو عن قطع الرؤوس وقتل المدنيين العزل وتدمير المعابد والأضرحة  . ونحن لا نقصد هنا الأعلام الناطق بأسم الجهات  المساندة لداعش فقط ، التي تشن حرباً اعلامية هدفها اشاعة اليأس والأحباط في النفوس ،   بل أيضاً اعلام الأثارة التجاري ، الذي يهدف الى الحصول على المال ولا يهتم كثيراً بالتأثير النفسي السيء لما ينشره من اشاعات ، أو ما يروج له من محتوى اعلامي عنيف والذي يوحي للمشاهدين والقراء ان داعش غول  قوي وغني  وخطير يصعب او يستحيل القضاء عليه ، في حين رأينا كيف ان حماة  بلدة صغيرة مثل  كوباني البطلة تصدوا لداعش ودباباته وصواريخه ومدافعه وسلاحه الكيمياوي بأسلحة بسيطة وعزم لا يلين  وألحقوا بعناصره وآلياته خسائر فادحة  ، ذلك لأن المعنويات العالية للمقاتلين لا تقل أهمية عن الأسلحة المستخدمة في أرض المعركة . اذن فأن داعش ليس ذلك التنظيم الخرافي الذي  لا يقهر ، بل تنظيم ارهابي يمكن دحره عسكريا في ميادين القتال واعلاميا على نفس الشبكات التي يبث عليها داعش دعايته المسمومة ودحض أفكاره  الظلامية ومنهجه التدميري بفضح دوافعه و اساليبه المجردة من كل القيم الأنسانية والأخلاقية وخنقه أعلاميا بعدم التركيز على ما يقوم به من جرائم بشعة تقشعر لها الأبدان .
 
لا معنى للأرهاب من دون وسائل الأعلام :
 
إن تأريخ الإرهاب الدولي حافل بأمثلة كثيرة تد ل على أن الهدف الأول للإرهابيين هو الوصول إلى وسائل الأعلام والتأثير النفسي في الجمهور العريض والإعلان عن أنفسهم ونقل مطالبهم وتهديداتهم إلى الجهات المعنية في استعراض رخيص لسلاحهم الوحيد وهو الخطف والقتل والذبح دون اى اعتبار للقيم الدينية إلى يزعم الإرهابيون أنهم (يجاهدون في سبيلها ) .
 وقد لوحظ إن التخطيط لعملية الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، قد جرى بشكل يتيح الفرصة لعدسات مصوري التلفزيون ووسائل الأعلام الأخرى لتسجيل كيفية اختراق الطائرة الثانية لناطحة السحاب الثانية،كما إن العديد من الإرهابيين الذين قاموا باحتلال السفارات أو مقرات المنظمات الدولية أوخطف الطائرات واحتجاز المدنيين ، قد اعترفوا بأن هدفهم الأول كان الظهور على شاشات التلفزيون من اجل نشر بياناتهم ومطالبهم وقد استسلموا بعد عقد مؤتمر صحفي سريع أو الإدلاء ببيان إلى وسائل الأعلام,
 
البحوث والدراسات العلمية التي اجريت في معاهد متخصصة في الغرب تؤكد ان " لا معنى للإرهاب من دون وسائل الأعلام " ، ذلك لأن عرض ما تنتجه ماكنة الدعاية الأرهابية  وخصوصاً ما ينشره داعش على نحو متعمد من بيانات ومقاطع فيديو بشعة تركز على الأجساد الممزقة والأشلاء المتناثرة والآليات المحترقة ، يعد اسهاما مجانياً مباشراً في الحرب النفسية التي يشنها هذا التنظيم الأرهابي وتشجيعاً على ارتكاب المزيد من الجرائم بهدف التأثير في الرأي العام وارباك بعض مفاصل الحياة في البلد المستهدف .
 
 ( داعش ) لا يفتقر الى منصات اعلامية تقليدية مثل الصحف الورقية ولا الى فضائيات تروج للفكر العنيف ، وثمة العديد من الصحف والفضائيات العربية القومية والأسلاموية ، التي  تسهم بشكل مباشر أو مستتر في الدعاية لداعش عن طريق التركيز على فعالياته وابراز وتهويل انتصاراته الحقيقية والموهومة ،  ولكن تأثير الصحف الورقية ، لم يعد كما كان في الماضي بل آخذ في التضاءل يوماً بعد آخر مع الأنخفاض المستمر لعدد قراءها ، والفضائيات ليست منصات ملائمة لتجنيد الجهاديين أوالتواصل بين أعضاء التنظيم ، لذا فأن ستراتيجية داعش الأعلامية قائمة على  استغلال الأنترنيت و شبكات التواصل الأجتماعي والهواتف الذكية للوصول إلى الناس والتنسيق بين الأرهابيين ، على شتى المستويات .
الأبواق الإعلامية لبعض الدول الأجنبية ،التي عارضت التدخل الأميركي في العراق عام 2003  وتضررت مصالحها بعد سقوط النظام الدكتاتوري ، تسهم أيضاً على نحو فعال في تهويل ما يجرى في العراق اليوم وتتحدث عن الغزو الداعشي ليس لأظهار وحشيته بل تشويه صورة الأسلام ، وبذلك تسهم هذه الأبواق في تضليل الرأي العام المحلى والعا لمى وهى مهتمة بمصالح الدول الناطقة بأسمها ،  أكثر من اهتمامها بأمن واستقرار العراق و حياة ومصير شعبه.
 
ولا شك إن حجب حسابات الأرهابيين أو ازالة المحتوى الألكتروني، الذي يبثونه  في الفضاء الأعلامي الألكتروني ، ستعرقل الى حد كبير  تنفيذ أجندتهم وسيؤدى إلى حصر الآثار النفسية للعمليات الإرهابية في نطاق ضيق وتفويت الفرصة عليهم لتحقيق مخططاتهم الشريرة.
 
وتشير بعض البحوث الأعلامية الجديدة التي اجريت في الغرب  ، إن الحرب النفسية التي تشنها الزمر الإرهابية، تفقد تأثيرها، عندما لا تهتم بها وسائل الأعلام. وفى الوقت نفسه فأن التركيز المتعمد والعرض المتكرر للمشاهد الدموية لعمليات القتل والذبح والتي تثير الرعب والأسى لأول وهلة، يعتاد عليها المشاهد تدريجيا ويفقد اهتمامه بالآم الآخرين وتعاطفه الأنسانى مع الضحايا إلى حد بعيد ويركز على أمنه الشخصي وأمن عائلته و يظل نهبا للقلق والهواجس لأنه يخشى إن يتعرض لحادث ارهابى في اى مكان من المدينة التي يسكن فيها، وهذا ما يهدف إليه الأرهابييون،اى نسيان آلام الضحايا وعذاباتهم والاستهانة بالأرواح البشرية .
 
يتضح مما تقدم ،إن العنصرالضرورى لأية سياسة فعالة ضدالأرهاب والحد من مخاطره يكمن في منع استغلال وسائل  الأعلام من قبل زمر الإرهاب والتزام هذه الوسائل بالموضوعية والحيدة و المعايير المهنية في تغطيتها للعمليات الإرهابية.
 
الأرهاب وحرية الأعلام :
 
ربما يقول البعض إن منع داعش من استغلال وسائل الأعلام وتجاهل بياناته وما يبثه من مقاطع فيديو يتعارض وحرية الأعلام وان من حق المواطن الحصول على المعلومات الوافية عن الحوادث التي تقع في البلاد ولها مساس بحياته ومستقبله ولكن من جهة أخرى من حق المجتمع أيضا إن يحمى نفسه من الآثار السلبية الخطيرة للحرب النفسية إلتى تستهدف أمنه واستقراره ومستقبله .
و من المفيد إن نستذكر هنا الوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي (فرانلكين روزفلت ) لشعبه عند توليه السلطة ، بضمان الحريات الأساسية ومنها التحرر من ( الخوف). ولكن عرض المشاهد المروعة للعمليات الإرهابية يتعارض تماما مع التحرر من الخوف ، ولحل هذا التناقض ، لا بد من التوصل إلى توازن بين وقاية المجتمع من الخوف وبين حرية الأعلام ، ذلك لأن أية سياسة فعالة لمكافحة الإرهاب والحد من مخاطره وتأثيراته النفسية البالغة تستدعى إن يكون الأعلام  عونا للمجتمع ، لا سلاحا يستخدمه الإرهابيون ضده.
 
يزعم بعض  الإعلاميين إن المتلقي نفسه يرغب في مشاهدة صور العنف،ولكن هذا الزعم غير صحيح، لأن دراسات كثيرة أخرى أشارت إلى إن وسائل الأعلام هي التي تخلق مثل هذه الرغبات لدى الجمهور المشاهد وان الاستمرار في خلق رغبات سلبية--إن صح التعبير—يلحق الأذى بالمجتمع وان من حق المجتمع أيضا الرفض القاطع لتحويل الرعب إلى سلعة تتاجر بها وسائل الأعلام وتجنى من ورائها إرباحا طائلة ويكفى إن نشير إلى إن شريطا يتضمن بيانا للبغدادي أو الزرقاوى أو مشاهد للمقاتلين الملثمين وهم ينحرون او يقتلون ضحاياهم  ،لا يستغرق عرضه سوى بضع دقائق ( والتي تحصل عليها بعض القنوات التلفزيونية بطرق مشبوهة وتحتكر ملكيتها) يباع للفضائيات الأخرى ووكالات الأنباء العالمية بسعر يتراوح بين (150-250 ) إلف دولار،اى إن المنفعة المادية متبادلة بين الأرهابين والقنوات التلفزيونية، التي لا تبالي بالنتائج المترتبة على عرض مثل هذه الأشرطة. وبطبيعة الحال ، فأننا لا ندعو إلى الحد من حرية الأعلام ، ولكننا نرى ضرورة الألتزام بالمسؤولية الأجتماعية وتجنب كل ما يلحق الضرر بالمجتمع والأمن الوطني .
 
اخلاقيات المهنة في التعامل مع أخبار الأرهاب :
 
نعتقد إن الالتزام بأخلاقيات المهنة والشرف الصحفي وتغطية الحوادث بأسلوب حضاري، بعيدا عن الإثارة الصحفية والاستغلال التجاري للماسي البشرية لا تتعارض أبدا مع حرية الأعلام وحق المواطن في معرفة الحقائق التي لها مساس بحياته ومستقبله.
وثمة درس بليغ قدمته الفضائيات الأميركية الأكثر شهرة وانتشارا، عندما قررت بعد أيام معدودة من حوادث الحادي عشر من أيلول عدم إعادة عرض الريبورتاجات عن هذه الحوادث ، و ماعدا بعض الاستثناءات القليلة، امتنعت هذه الفضائيات عن عرض صور الناس الذين كانوا يرمون بأنفسهم من نوافذ ناطحتي السحاب في نيويورك .
 
وكانت هذه الخطوة ( التي أقدمت عليها تلك الفضائيات بمحض إرادتها) مثالا جيدا على الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع ، ذلك لأن عرض الريبورتاجات المصورة عن هذه الحوادث، خلال وبعد حدوثها مباشرة ألحق ضررا بالغا بالحالة النفسية لملايين الأميركيين وأدى إلى رفع معنويات الأرهابين، وبعد إدراك هذه الحقيقة المرة، قامت بعض الفضائيات الأميركية بعرض بعض اللقطات المتفرقة الثابتة ( غير المتحركة ) ومن دون صوت. وامتنعت عن عرض كل ما يلحق الضرر بأميركا والأميركيين .
 
ولا شك في إن وسائل الأعلام الأميركية تتمتع بمساحة واسعة من الحرية تفوق ما تتمتع به وسائل الأعلام العربية، ومع ذلك ، فأن امن المجتمع الأميركي والمعايير المهنية والأخلاقية هي أكثر أهمية لديها من مصالحها الضيقة، فمتى تستيقظ ضمائر المسئولين في الفضائيات العربية وبعض الفضائيات (العراقية) المشبوهة ويحترمون أخلاقيات المهنة ومشاعر المواطنين العراقيين وامن واستقرار العراق، أكثر من اهتمامهم بالإثارة والانتشار والمال.
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com




90
التراجيديا الأنسانية الكبرى للكرد الأيزيديين والأعلام العربي

                                             
جــودت هوشيار

التراجيديا الأنسانية الكبرى التي تعرض لها عشرات الآلاف من الكرد الأيزيدية في (جبال سنجار) تذكرنا بمآسي "  الأنفال وحلبجة و سراييفو ولينينغراد  "  فقد كانت وما زالت كارثة انسانية ، عميقة الغور وفجيعة  قاسية ،  بالغة الألم ،  يستحيل على أي مؤلف تصويرها مهما كان خصب الخيال  وتفوق في وحشية مجازرها وفظائعها  المرعبة كل ما عرفناه في الحياة وما قرأناه في الكتب من تراجيديات  :  آلاف الرجال والنساء والأطفال سقطوا فوق أحجار الجبال الجرداء القاحلة ، بعد ان هدهم التعب واصيبوا بالأنهاك الجسدى خلال مسيرة طويلة ومضنية ، لا قطرة ماء ولا كسرة خبر في جو حار ومغبر . مئات الأطفال والنساء والرجال  قضوا بسبب العطش والجوع  ، ناهيك عن  المسنين والمرضى الذين كانت رحلة المعاناة والتعب فوق  طاقتهم ، وفي داخل سنجار نفسها أباد العدو المتوحش مئات العوائل برجالها ونسائها وأطفالها  واختطف آلاف النساء والفتيات وعرضهن للبيع في الموصل والرقة ومدن أخرى .   .
 
مسيرة  الآلام الأيزيدية نحو الحرية هزت الضمير العالمي  وهبت دول غربية عديدة ومنظماتها الخيرية  لمشاركة البيشمركة في نجدة الأيزيديين المنكوبين وأقامت جسورا جوية  لألقاء قناني  الماء ووجبات الطعام الجاهز بمئات الأطنان من الجو على المحاصرين في جبل سنجار ، وكانت الولايات المتحدة الأميركية السباقة الى مد يد العون والأنقاذ الى المنكوبين ، تبعتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا . خاطر عشرات الأطباء الكرد بحياتهم وذهبوا لأنقاذ اخوتهم المحاصرين في ( جبل سنجار )
وقالت شبكة  (CNN) ان قوات البيشمركة قامت  بمهمة إنقاذ درامية وبطولية  لتقديم المساعدة لآلاف الأيزيديين المحاصرين في جبال سنجار وتمكنت من اختراق حصار ( داعش ) وأنقذت حوالي 20 ألف نازح من موت محقق .
. أما الحكومة العراقية الجديدة ، التي تتغنى بـالوحدة الوطنية و( الشمال الحبيب ) فلم تحرك ساكنا ، ولم تنجد مشردي سنجار وزمار  في محنتهم الأليمة ولم تقدم لهم أي عون بعد نزوحهم الى مدن أقليم كردستان الأخرى . أما المبالغ المخصصة للنازحين وبضمنهم الأيزيديين ، فقد ذهب معظمها الى جيوب الحيتان الكبار في لجنة المطلك .
 
حظيت هذه التراجيديا المستمرة ،  منذ حدوثها وحتى يومنا هذا ،   بأهتمام وسائل الأعلام  وخاصة في الدول الغربية وأصبحت مثار اهتمام دول وشعوب العالم ،  التي سارعت الى نجدة  المحاصرين والنازحين ، وكالعادة فأن الدول والشعوب العربية والأسلامية ،  لم تفكر ، مجرد تفكير في مد يد العون والمساعدة الى المنكوبين  وتجاهلت كل ما حدث وكأن الأمر لا يعنيها ، لا من قريب ولا من بعيد  . والجامعة العربية سكتت سكوت ابو الهول وظلت خرساء ، لم تصدر بيانا لأدانة الجريمة النكراء ولا لحث الدول العربية على انقاذ المحاصرين أومساعدة  النازحين .
 
الأعلام العربي لم يبد ، أي تعاطف انساني مع المنكوبين ، بل على النقيض من ذلك أخذت بتشويه التراث الأيزيدي الأصيل والثري والحديث عنه كقصة مسلية ، ولم يكتف بذلك بل وقف في حقيقة الأمر – ويا للعجب – الى جانب أرهابيي داعش ، عن طريق تهويل قدراتهم التدميرية  وتهويل  وبث ( سيكولوجية الرعب ) - التي تشكل الأداة الرئيسية لداعش في حربها القذرة ضد شعوب المنطقة  -  وتحريف وتشويه الحقائق وفبركة الأخبارعن انتصارات داعش المزعومة وبذلك تحول عدد لا يستهان به الفضائيات والصحف الورقية والألكترونية الى منصات اعلامية للـ" بروباجاندا " الداعشية بشكل مقصود أو غير مقصود ، متجاهلاً كل المعايير الأخلاقية والمهنية للعمل الصحفي.
.
وكما قالت د. زينب جلبي في مقالها الرائع " من يقف وراء الحرب النفسية ضد الكرد ؟ "  فأن الشعب الكردي عموما وفي أقليم كردستان الناهض خصوصاً ،  يتعرض منذ بدأ المعارك ضد ( داعش ) وحتى يومنا هذا  الى حرب اعلامية – نفسية شرسة  ، ابرز اسلحتها نشرالتقارير الكاذبة وقلب الحقائق و الترويج للأشاعات المغرضة والتطاول على القادة الكرد بأسلوب مبتذل ورخيص ، هذه الحرب القذرة تهدف الى التأثير على المعنويات العالية للشعب الكردي وبيشمركته الأبطال الذين يخوضون اليوم  معارك ضارية ضد عدو شرس مجرد من كل القيم الأنسانية والأخلاقية .
ولكن الشعب الكردي كالعنقاء ينهض بعد كل كبوة أو محنة  وهو أكثر قوة وأشد عزما وأصراراً على  دحر الأعداء وبناء كردستان الجديدة ، كردستان التسامح الديني والمذهبي والقومي والسلم الأهلي والخير والتقدم ، ، بما يؤمن الحرية والعيش الكريم  للشعب الكردي التواق الى اللحاق بالركب الحضاري المعاصر للأمم المتقدمة .
 



91
ستالينغراد الكردية

                                   
جودت هوشيار

يتساءل كثير من الأعلاميين والمحللين السياسيين المحسوبين على الدول والقوى الراعية لتنظيم داعش الأرهابي ، عن سبب أنشغال العالم بمدينة كردية صغيرة بحجم حي صغير من أحياء بغداد مثلاً ولا تهتم بمدن اكبر منها حجما مثل الموصل وتكريت والرمادي والرقة . هؤلاء السادة يتجاهلون حقيقة ساطعة كالشمس وهي ان هذه البلدة الجميلة الباسلة ، تتصدى بنجاح لوحدها - ومن دون أي مساعدة خارجية سواء كانت عسكرية أو أنسانية - منذ 16 أيلول /سبتمبر الماضي وحتى يومنا هذا  لكل هجمات جحافل داعش المدججة بالأسلحة الأميركية المتطورة ، التي استولت عليها من الجيشين العراقي والسوري ،  في حين أن مدنا عراقية كبيرة وعديدة سقطت بيد داعش،  الواحدة تلوالأخرى بسرعة قياسية ودون أي مقاومة تذكر رغم وجود أكثر من ست فرق عسكرية عراقية جرارة فيها .
هؤلاء السادة الذين تفور دمائهم حقداً على الشعب الكردي ، يتجاهلون عن عمد ، الحديث عن المقاومة الأسطورية التي تبديها أبناء وبنات كوباني  دفاعاً عن بلدتهم الصغيرة ، رغم الفارق الهائل في السلاح بينهم وبين أرهلبيي داعش .
صمود كوباني أصبح على كل لسان في أنحاء العالم بأسره . وأخبارها تحتل منذ حوالي ستة أسابيع الصفحات الأولى في صحف العالم وتتصدر نشرات الأخبار في الفضائيات العالمية ، ويتحدث عنها زعماء العالم وقادة الجيوش الغربية بأنبهار مقرون بأحترام شديد لأبطال وبطلات كوباني .
تأريخ الحروب لا يعرف مثيلا لكوباني ، رغم وجود مآثر بطولية لعدد من المدن الكبيرة خلال الحرب العالمية الثانية مثل ستالينغراد ووارشو . وقد أطلق بعض الأعلاميين الغربيين والروس على كوباني اسم " ستالينغراد الكردية " ربما لأن معركة ستالينغراد كانت نقطة تحول في الحرب العالمية الثانية ، كما هو الحال مع كوباني ، التي ستكون  نتائج المعركة الدائرة فيها اليوم ، نقطة تحول خلال الحرب التي يخوضها التحالف الدولي ضد داعش ،  رغم ان معركة ستالينغراد كانت بين جيشين متكافئين في العدد والعدة والتسليح في حين ان معركة كوباني هي  بين جهتين غير متكافئتين ، ففي الوقت الذي يمتلك فيه داعش كميات هائلة من احدث الأسلحة الأميركية المتطورة ، لا يمتلك المقاتلون والمقاتلات من حماة كوباني سوى الأسلحة الخفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة ، ولكن شتان بين المعنويات العالية لحماة كوباني وبين همجية ووحشية وخسة قطعان داعش الأرهابي . حماة البلدة الكردية الباسلة أثبتوا للعالم كفاءتهم القتالية ، ما دفع التحالف الدولي الى أعتبارهم  مع اخوتهم البيشمركة البواسل في أقليم كردستان  القوة الفعالة الوحيدة على الأرض التي  تتصدى لداعش نيابة عن العالم المتحضر بأسره ، وتقف حاجزاً منيعاً امام تمدده وانتقال هذا السرطان الى البلدان الأخرى .
كوباني وحدت الكرد في جميع أنحاء كردستان رغم الحدود المصطنعة القائمة اليوم والتي رسمها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى   ، فالمعركة مصيرية وأهم بكثير من أية اختلافات في وجهات النظر بين القوى السياسية  الكردستانية .
كوباني صفحة مجيدة في النضال التحرري الكردي  وجزيرة الحرية والكرامة الأنسانية معمدة بالدم الطاهر لشهداء الوطن المفدى .
حماة كوباني  أبرزوا جدارة البسالة الكردية وقبروا للأبد سيكولوجية الرعب الداعشية التي أستخدمها التنظيم الأرهابي .وأصابوا حسابات القوى الأقليمية المساندة لداعش  بالأضطراب .فهذه القوى توارت خجلاً وراء التحالف الدولى وتتظاهر اليوم بأنها ضد الأرهاب وهي التي خلقت داعش وأمدته بأسباب البقاء والتمدد .
قوات الدفاع عن كوباني ، كما قوات البيشمركة البطلة في أقليم كردستان دفعت بالقضية الكردية خطوات الى أمام وأنتزعت المزيد من أعتراف العالم بالقضية الكردية العادلة  , وبهذا الصدد قالت صحيفة (Slate ) الفرنسية في عددها الصادر في 21/10/2014 " كوباني البطلة سمحت لنا بمعرفة الكرد على نحو أفضل "
نتائج معركة كوباني ستكون لها بالغ الأثر في حسابات العديد من دول المنطقة وستغيرميزان القوى فيها ، وقد أدركت الولايات المتحدة الأميركية هذه الحقيقة قبل غيرها وأخذت تتراجع عن مواقفها السابقة وتدخل في مفاوضات مباشرة مع القوى السياسية الرئيسية في كردستان سوريا وتعترف بها وتساعدها في حماية كوباني بالضربات الجوية وتلقي لهم شحنات الأسلحة التي أرسلتها حكومة أقليم كردستان. وعلى الدول الأخرى ادراك حقيقة أن الكرد هم العنصر القتالي الفعال على الأرض في محاربة داعش والدفاع عن العالم المتمدن بأسره وقيمه الأنسانية والأخلاقية .



92
مفارقات الحرب ضد داعش

                                                   
جودت هوشيار
 
المفارقة الرئيسية في  الحرب ضد داعش هي ان الدول التي ساعدت هذا التنظيم الأرهابي في الماضي ،  الى هذا الحد أو ذاك ،  باتت اليوم  تشعر بمدى الخطر الذي يشكله على أمنها وأستقرارها . وهذا ما أشار اليه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن .
لم يكن تصريح بايدن زلة لسان ، ولم يكن الرجل متسرّعا ولا مشوش الذهن لا يدري ما يقول ، بل كان في غاية الوعي ويقظة الضمير،  ويعني ما يقول  كسياسي محنك ورجل دولة يمتلك من الأدلة الدامغة والشجاعة الأدبية ما يكفي لكي يعلن في محاضرة له امام جمهور من العلماء والباحثين ، ما كان الى وقت قريب اسرارأ تحتفظ  بها الأجهزة الخاصة للدول الراعية لداعش  اواستنتاجات لخبراء السياسة الدولية أو المحللين السياسيين .
أما اعتذار بايدن اللاحق لكل من تركيا و الخليج ، فلم يكن سوى مجاملة دبلوماسية  لدول يشارك معظمها اليوم في التحالف الدولي ضد داعش .
 بعض هذه الدول ساعدت داعش بالسلاح والمال العام اوغض الطرف عن التبرعات المالية من قبل  الساسة ورجال الأعمال المحليين ، الذين يشاطرون التنظيم  رؤيته السلفية المتطرفة ، والبعض الآخر عن طريق فتح الحدود أمام تدفق الجهاديين من شتى بقاع الأرض للأنضمام الى التنظيم الأرهابي ، .
 بعد احداث الموصل وتكريت ، أدركت هذه  الدول ، مدى خطورة الوحش ، الذي لا يتورع عن مهاجمة من كان وراء ظهوره ومده بأسباب البقاء والنمو والتمدد .
 
الولايات المتحدة الأميركية تدفع اليوم ثمن أخطائها في العراق ومنها سحب قواتها من العراق قبل استقرار الأوضاع الأمنية فيه واستكمال تدريب الجيش العراقي  ، تلك التي  كانت حصاد سياسات المحافظين الجدد وأوهامهم في تحويل الشرق الأوسط الكبير الى واحة للديمقراطية .
 دولة الخرافة الداعشية وريثة الفصاءل  المسلحة التي حاربت القوات الأميركية في العراق وناصبت العداء للحكومات العراقية المتعاقبة التي تشكلت بمباركة الدولتين المتنافستين على الساحة العراقية  ( الولايات المتحدة وايران )  . واليوم يجد الرئيس اوباما نفسه مضطراً لمعالجة أخطاء سلفه في البيت الأبيض جورج بوش الأبن .رغم انه ( أوباما )  أنتخب في عام 2008 بفضل برنامجه الأنتخابي الذي ركز على وضع حد للحرب في العراق وأفغانستان .
 
و يعتقد بعض المراقبين في الغرب ، ان اوباما يدفع اليوم أيضاً ،  ثمن تردده في ضرب النظام البعثي السوري في العام الماضي بعد ان ثبت  استخدامه للأسلحة الكيمياوية ضد السكان المدنيين ، في أنتهاك صريح وخطير للخط الأحمر الذي حدده أوباما بنفسه قبل ذلك بأسابيع معدودة .
. تخلت ادارة اوباما عن فكرة  توجيه ضربات جوية الى النظام الأسدي رغم توصيات عدد من  القادة العسكريين في البينتاغون  ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون وأعضاء بارزين في الكونغرس الأميركي ، واستعداد فرنسا المشاركة في الحملة .
 لم يكن أوباما راغبا في الأنجرار الى مستنقع الشرق الأوسط مجددا . ووافق على الأقتراح الروسي المريب بعدم ضرب النظام الأسدي ، لقاء اتلاف ترسانة الأسلحة الكيمياوية السورية ، وفي الوقت نفسه خضع الرئيس الأميركي لضغوط رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ،  الذي كان يعارض استخدام الضربات الجوية ضد النظام السوري تنفيذا لقرار اتخذه مجلس العموم البريطاني .
 
لم يكن ثمة ضمان بأن الضربات الجوية لمواقع الجبش السوري النظامي كانت ستسمح بتحسين وضع قوى المعارضة المعتدلة وخاصة الجيش السوري الحر وتمنع هيمنة الجهاديين على الثورة السورية . ومما زاد الطين بلةً تردد الغرب طويلاً في تسليح الجيش السوري الحر ، الذي وقع بين ناري  النظام وارهابيي النصرة وداعش .
 
يقول المثل الروسي " أن تفعل الشيء متأخراً خير من أن لا تفعله أبداً " وكما يبدو فأن الأدارة الأميركية قد استخلصت بعض الدروس والعبر من أخطاءها السابقة وشرعت بتوجيه ضربات جوية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا  لمنع تمدده  ، سرعان ما انضمت اليها العديد من دول العالم بينها بعض الدول العربية التي تشارك للمرة الأولى في تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة . منذ تحرير الكويت في عام 1991. صحيح أن الضربات الجوية وحدها من دون وجود  قوات قتالية على الأرض غير كافية لحسم الحرب ضد داعش ، ولكن ذلك  لا يقلل بأي حال من الأحوال من أهمية الضربات الجوية الدقيقة الفعالة ، رغم أن الحاجة ما زالت ماسة الى قوات برية  في ساحة المعركة ، تستثمر الغطاء الجوى لسحق العدو والتقدم الى أمام وتطهير المناطق المحررة ومسك الأرض .
 
التحالف الدولي يعتمد اليوم اساسا على القوات الكردية البرية  ( البيشمركة ) التي أشاد بها الكثير من قادة الدول الغربية وفي مقدمتهم الرئيس أوباما وكذلك القادة العسكريون الغربيون .
 قوات البيشمركة تتصدى لداعش منذ أكثر من شهرين و تقاتل ببسالة نادرة على طول جبهات القتال من ربيعة الى جلولاء ، ولكن فارق التسليح بينها وبين داعش ما يزال كبيراً، حيث استولى التنظيم الأرهابي على أسلحة خمس فرق عسكرية عراقية  بالكامل - وهي اسلحة اميركية متطورة تم تجهيزالجيش العراقي بها خلال السنوات العشر الماضية -  اضافة الى الأسلحة التي غنمها التنظيم بعد سيطرته على بعض القواعد العسكرية السورية . ولهذا فأن تقدم قوات البيشمركة وان كان متواصلاً ً الا أنه بطيء بعض الشيء حيث ، تنقصها الأسلحة النوعية المتطورة التي يمتلكها العدو الداعشي  .
 
 
يعتقد الكثير من الخبراء والقادة العسكريين الأميركيين والبريطانيين ، إن الضربات الجوية ضد تنظيم داعش لا يمكن لها حسم الحرب معه، وهم يؤكدون وجوب أن تشارك وحدات عسكرية غربية بالمعركة البرية لدعم القوى التي ستقاتله على الأرض . ويصرحون بأستحالة تحقيق النصر الكامل على داعش عبر الضربات الجوية وحدها ، ويقول الجنرال ديفيد ريتشاردز، القائد السابق للقوات المسلحة البريطانية " قوانين الحرب واضحة ومعروفة، لا يمكن الفوز بالحرب عبر الضربات الجوية وحدها، وهذا أمر بالغ الأهمية إذ لا يمكن لطيار في طائرته السيطرة على الأرض والاحتفاظ بها، لا بد للقوات البرية أن تفعل ذلك."
 
القادة العسكريون الأميركيون يأملون في اعادة هيكلة الجيش العراقي على نحو يجعله قادراً على التصدي لداعش والحاق الهزيمة به وتطهير المناطق التي يحتلها التنظيم حاليا في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وأطراف بغداد . ويقول رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي الجنرال مارتن ديمبسي " ان الحاق الهزيمة بداعش في العراق بحاجة الى ( اعادة تدويرالجيش العراقي )  لتحويله الى جيش نظامي ومهني  ، ولما كان هذا التدوير واعادة تشكيل جيش جديد يستغرق عدة سنوات ( وهذا يفسر قول اوباما بأن الحرب ضد داعش قد تستمر لفترة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات ) ، فأن الضرورة تقتضي ارسال  قوات برية أميركية أو غربية مساندة للجيش العراقي لألحاق الهزيمة بداعش سريعا ، لأن انتظار ما لايقل عن ثلاث سنوات يعني ببساطة بقاء داعش في المناطق التي يسيطر عليها حاليا وربما تمدده من جديد ، مما يشكل خطراً داهما على مستقبل العراق كدولة مستقلة . لهذا سوف تضطر الولايات المتحدة أو بعض دول التحالف . - ان عاجلا ام آجلا - الى ارسال قوات برية اضافة الى المستشارين والمدربين الموجودين في العراق حاليا .
اوباما ما يزال يرفض زج القوات البرية الأميركية في المعركة ضد داعش ولا يميل الى التنفيذ العاجل لتوصيات قادة جيشه ويحاول بكل السبل تجنب التورط مجدداً في المستنقع العراقي ، ولكن سيأتي يوم لن يبقى أمامه خيار آخر سوى ارسال المزيد من القوات البرية ،  وهذا اليوم آت دون ريب وربما اسرع مما يتوقعه البعض .
 



93
هل تراجع الدور الكردي في بغداد ؟

                                               
جودت هوشيار

التشكيلة الغريبة المترهلة لحكومة الدكتور حيدر العبادي ، التي ضمت عددا من الساسة الذين اوصلوا العراق الى ما هو عليه اليوم  ،  واختيار الوزراء الكرد من دون الرجوع للكرد أنفسهم والبرنامج الوزاري الذي جاء محبطاً ومخيبا للآمال  واشبه ما يكون ، بشعارات ووعود أنتخابية خالية من الألتزامات والتوقيتات الزمنية المحددة ، والتلاعب في صياغة ومضمون المطالب الكردية ، كل ذلك دفع بعدد من الساسة والأعلاميين الكرد الى القول ،  ان دور الكرد في العملية السياسية في العراق  قد تراجع كثيراً عما كان عليه في عام 2010 ، حين توافد قادة الكتل السياسية وممثلي الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة وايران على مدينة اربيل ، عاصمة اقليم كوردستان ، انتظاراً لمبادرة كردية لحل ازمة تشكيل حكومة جديدة ..حيث  تكللت جهودهم  بتوقيع ( اتفاقية أربيل ) لتقاسم السلطة.  في حين ان حكومة العبادي تشكلت ونالت ثقة البرلمان حتى قبل اتخاذ قرار من قبل القيادة السياسية الكردية بالمشاركة في الحكومة الجديدة من عدمها ،  وقبل حضور نواب التحالف الكردستاني الى قاعة البرلمان .
 
حكومة العبادي  تشكلت في ظروف بالغة الخطورة والتعقيد وتحت ضغوط داخلية وخارجية شديدة ، فقد أصرت الولايات المتحدة الأميركية على تشكيل الحكومة الجديدة ضمن الفترة الدستورية  المحددة ،  وأن تكون جامعة شاملة لا تقصي أحدا ، وتمهد لمصالحة وطنية حقيقية تهدف الى استمالة العشائر والقوى السياسية السنية وعزل داعش ودحره عن طريق تكثيف الضربات الجوية وتقديم الدعم العسكري اللازم للعراق  ، وحشد التأييد الدولي لعمل عسكري في العراق وسوريا .
وربطت الولايات المتحدة مساعدتها للعراق بتشكيل حكومة وفاق وطني ، تتبع نهجا سياسياً مختلفا عن النهج الكارثي لحكومة نوري المالكي .
ومن جانب آخر مارست ايران ضغطاً شديدأ لا يقل عن الضغط الأميركي على أطراف التحالف الوطني وعلى العبادي شخصيا من اجل تشكيل حكومة تحفظ المصالح الأيرانية ونفوذها القوي في العراق.
وفي الوقت نفسه حاول المالكي سواء بممارسة الضغوط على أطراف التحالف الوطني الأخرى أوعن طريق الشبكات الموالية له ، التي زرعها في مؤسسات الدولة الحساسة وضع العراقيل أمام تشكيل حكومة العبادي ، بما يضمن له التأثير في صنع القرار من وراء الستار .
نحن هنا لا نبرر دوافع التشكيلة الغريبة لحكومة العبادي التي جمعت الأضداد ، ولكننا نشير فقط الى العوامل التي أدت الى ولادة الحكومة الجديدة على النحو الذي رأيناه ، ولم يكن أمام القوى السياسية المشاركة في الحكومة الجديدة الا الرضوخ للأمر الواقع ، ما عدا الكرد الذين منحوا العبادي مهلة ثلاثة أشهر لتنفيذ مطالبهم الدستورية وحل المشاكل العالقة بين بغداد وأربيل .
 
شارك الكرد في حكومة العبادي  بتحفظ شديد ، لأنها لا تختلف كثيراً عن حكومة المالكي فهي تضم ممثلي المكونات الرئيسية الثلاثة في البلاد ، ولم يتغير شيء يذكر من الناحية العملية لحد الآن بالنسبة للكرد في الأقل ، حيث لم تطلق الديون و المبالغ المالية المستحقة لأقليم كردستان ،  ، وظلت المشاكل العالقة مع اربيل على حالها .
أما المالكي فقد تحصن وراء منصب نائب رئيس الجمهورية ، بعد أن أسند مناصب حساسة في الدولة لأعوانه في سبيل ضمان نفوذه السياسي وتجنب مساءلته عن الأنتهاكات الصارخة للدستور و قمع الحريات العامة والخاصة وتصفية الخصوم السياسيين وزرع وتأجيج العنف الطائفي  والتستر على الفساد والفشل الذريع في أداء مهامه كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة .
لم يعلن العبادي لحد الآن ادانته لممارسات المالكي  ونهجه السياسي الطائفي، ولم يشر مجرد أشارة الى الأخطاء القاتلة ،التي ارتكبها المالكي ،  ما يجعل من الصعب  الأعتقاد بأن القائمة الطويلة من الوعود التي قطعها العبادي في برنامجه امام البرلمان وبضمنها وعوده بخصوص حل المشاكل التي أفتعلها المالكي مع اقليم كردستان ، ستترجم الى خطوات عملية على ارض الواقع .
 
وزير النفط الجديد السيد عادل عبد المهدي المعروف بعلاقاته الحسنة مع الكرد ، أقام هذا اليوم - الذي أكتب فيه هذه السطور - دعوى قضائية في الولايات المتحدة لمنع بيع شحنة جديدة من نفط كردستان . اذن ما الذي تغير في وزارة النفط  لحد الآن ؟
هيمنة مكون واحد على الحكومة لم تضعف بل تعززت عن السابق .
المالكي لا يزال على راس حزب الدعوة الذي ينتمي اليه العبادي . ومن الناحية العملية فأن حزب الدعوة استطاع ان يضمن اسناد رئاسة الوزراء الى مرشحه الجديد .كما ان  وزراء التحالف الوطني اسندت اليهم الحقائب المهمة ، التي تتيح لهم مواصلة السياسة السابقة .
 
لم تقدم حكومة العبادي المساندة العسكرية اللازمة لقوات البشمركة ، التي قال عنها القادة العسكريون الغربيون أنها القوة الوحيدة على الأرض ،  القادرة على مقاتلة داعش في العراق .
ولم يكتف العبادي بذلك بل نسب كل انتصارات قوات البيشمركة على داعش في جبهات القتال الى الجيش العراقي الذي لم يصمد امام عدة مئات من عناصر داعش في الموصل وفشل في  استعادة معظم  المناطق التي يحتلها التنظيم الأرهابي ،  رغم التصريحات الرسمية المتفائلة للناطق الرسمي بأسم القيادة العامة للقوات المسلحة ، والتي – لو صح الأرقام الواردة فيها عن خسائر داعش – لكان هذا التنظيم الأرهابي قد  أنتهي منذ عدة أسابيع .
 
ولكن ما يبعث على الأطمئنان حقا – هو التوازن الحقيقي الجديد  للقوى على ارض الواقع في العراق والشرق الأوسط . وهذا التوازن يتجه لصالح الكرد ، ففي بداية تصدي قوات البيشمركة لداعش كان الفارق في التسليح هائلا بين طرفي الحرب ، سلاح روسي خفيف ومتوسط وعتيق بيد قوات البشمركة مقابل اسلحة أربع فرق عسكرية عراقية أستولى عليها داعش ، وهي أسلحة أميركية متطورة وفعالة ،  كما أن قوات البشمركة لم تكن  قد خاضت معارك حربية حقيقية منذ أنتصار أنتفاضة آذار 1991 المجيدة في أقليم كردستان .
واليوم بعد تدفق الأسلحة الحديثة على قوات البيشمركة وبعد أن خاضت هذه القوات الباسلة  معارك ضارية ضد داعش واكتسبت خبرات قتالية كبيرة ، أصبحت قوة مرهوبة الجانب ، قادرة على حماية أقليم كردستان والأنجازات الحضارية لشعبه بمكوناته التي تسود بينها روح التسامح والعيش المشترك ، مما أكسب هذا الشعب المتطلع نحو الحرية والديمقراطية والأزدهار أحترام العالم المتحضر بأسره .
تحية الى أرواح شهداء البيشمركة  الأبرار. وننتهز هذه الفرصة لنرفع الى جكومة الأقليم أقتراحا بأقامة نصب تذكاري للجندي المجهول في العاصمة أربيل يليق بمكانة الشهيد الكردي  السامية والعزيزة على قلوب الكردستانيين جميعاً .
 
جــودت هوشيار
Jawhoshyar@yahoo.com
 



94
كتالونيا ـ الدولة القادمة في اوروبا

                                                     
جــودت هوشـيار

اقليم كتالونيا– الواقعة في شمال شرق اسبانيا – يمر بلحظة تأريخية فارقة ، فقد أقر برلمان كتالونيا في 23 يناير/ كانون الثاني  2013 وثيقة الاستقلال ، ونصت الوثيقة على « تقرير المصير من خلال استشارة سكان كتالونيا » عن طريق اجراء استفتاء بين سكان الأقليم ، في التاسع من نوفمبر / تشرين الثاني من عام 2014. وسيكون لاستقلال كاتالونيا  تاثير بعيد المدى على الأتحاد الأوروبي بأسره .
 
يعارض حزب المحافظين الحاكم في اسبانيا ،  بقيادة رئيس الوزراء  ( ماريانو راخوي ) والحزب الاشتراكي المعارض، إجراء الاستفتاء. ولكن كل محاولات الحكومة الأتحادية في مدريد والبرلمان الأسباني فشلت في تغيير موقف الحكومة الكتالونية وعرقلة اجراء الأستفتاء ، الذي يعده قادة وشعب كتالونيا ،الطريق السليم والمشروع  لتقرير المصير واعلان الأستقلال على غرار ما تم في  كوسوفو  وسلوفانيا  ، ودول بحر البلطيق ودول اوروبية أخرى ، كما ان اسكوتلندة عازمة على اجراء استفتاء مماثل في 18 سبتمبر / أيلول من هذا العام حول استقلالها عن المملكة المتحدة.
 
تبلغ مساحة كتالونيا حوالي 32 ألف كم مربع وتعداد سكانها  5 .7 مليون نسمة ويعتبر سادس أكبر منطقة من حيث المساحة في إسبانيا وتتكون من أربع مقاطعات.. أكبرها وأشهرها برشلونة والتي تمثل مدينتها عاصمة الإقليم. ويزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة.
اللغة الكتالونية هي اللغة  الرسمية في الأقليم بالإضافة إلى اللغة الإسبانية ، التي هي لغة إسبانيا. وينتشر استخدام اللغة الكتالونية في عدد من المقاطعات الأسبانية الأخرى (
جزر البليار ،  بلنسية ، الجزء الشرقي من منطقة أراغون ) وأجزاء من بعض الدول الأوروبية ( أندورا، حيث تعتبر اللغة الكتالانية اللغة الرسمية للدولة ، البرانيس الشرقية في فرنسا ، مدينة ألغيرو في إيطاليا .)  يبلغ مجموع الناطقين بهذه اللغة 11.5 مليون نسمة.
 
برلمان كتالونيا يتألف من 135 نائباً يمثلون المقاطعات الأربع التي يتشكل منها الأقليم .
في 25  نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012 جرت انتخابات البرلمان الكتالوني حيث  حصل ( ائتلاف التقارب والاتحاد ) على أكبر عدد مقاعد يليه ( حزب اليسار الجمهوري الكتالاني ) الذي دخل في تحالف مع «التقارب والاتحاد» على أن يدعم سياسته الانفصالية عن إسبانيا. حصلت الأحزاب المؤيدة لتقرير المصير والأستقلال على اكثر من ثلثي عدد مقاعد البرلمان . 
 
لمحة تأريخية عن القضية الكتالونية :
 
فقدت امارة كتالونيا استقلالها السياسي في عام 1714 بعد ضمها قسراً الى مملكة الملك الأسباني  فيليب الخامس ، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف شعب كتالونيا من المطالبة  بالأستقلال عن اسبانيا .
وقد اتيحت لكتالونيا فرصة تأريخية للأنفصال عن المملكة في عام 1871 ، ولكن الأخيرة تمكنت من الأحتفاظ بكتلونيا وابقاءها جزءأ منها بعد مفاوضات طويلة  ووعود بتلبية مطالب أهل الأقليم .
مرت كتالونيا بأوقات عصيبة في الثلاثينات من القرن الماضي ، عندما تحالفت مع الحكومة الجمهورية المركزية وخاضت قواتهما حربا ضروس ضد جيش فرانكو . وبعد هزيمة القوات الجمهورية والكتالونية في الحرب الأهلية ، مارس النظام الدكتاتوري الفرانكوي أبشع أنواع الأضطهاد و القمع الجماعي  ضد أحرار كتالونيا والتضييق على  الثقافة الكتالونية ومنع استخدام اللغة الكتالونية كلغة رسمية أوتدريسها في المدارس وانكار الهوية الكتالونية المتميزة . وأدى هذه الأجراءات التعسفية الى انتشار وتصاعد النزعة الأستقلالية في الأقليم .وعلى مدى أكثر من أربعة عقود لم يتوقف المناضلون الكتالونيون عن المطالبة بالأستقلال ، سواء في داخل اسبانيا او في المحافل الدولية .
 
كتالونيا بعد سقوط النظام الدكتاتوري :
 
في عام 1979 أثمر نضال الشعب الكتلوني عن الحصول على الحكم الذاتي ، الأمر الذي أدى تلقائيا إلى الاعتراف الرسمي  بهذا الشعب ولغته وثقافته وهويته المتميزة .
 
يتمتع اقليم كتالونيا بصلاحيات واسعة وأشكال من الممارسة الإستقلالية عن الحكومة المركزية تتمثل في ما يلي :
 
-  تشكيل حكومة وبرلمان كتالونيا.
 
-  تشكيل قوى أمن كتالونية خاصة.
 
-  إدارة الصحة والتعليم والثقافة والبيئة والمواصلات وغيرها في الإقليم.
 
- مشاركة الحكومة المركزية  في صنع القرارات.
 
-  الأعتراف بالهوية الكتالونية كأمة مستقلة لها علمها الخاص ونشيدها الوطني
- الحصول على الأستقلال الأقتصادي في عام 2006
 
ومع ذلك لم  ينس شعب كتالونيا حلمه الكبير في تأسيس دولته المستقلة
كل خطوة نحو الأستقلال وكل  نصر صغير يحرزه الشعب الكتلوني يعزز رغبته في الأنفصال عن أسبانيا وفي الوقت نفسه ، يزيد التوتر في العلاقة بين برشلونة ومدريد .
واليوم بات حلم الكتلونيين بتأسيس دولتهم المستقلة أقرب الى الواقع من أي وقت مضى  ولم تبق سوىالخطوة الأخيرة وهي اجراء الأستفتاء ، الذي يمكن التكهن بنتائجه مسبقا والتي تتمثل في موافقة الأغلبية الساحقة من الكتلونيين على الأنفصال عن اسبانيا .
في عامي 2009 ، 2010 جرى في الأقليم  أستفتاء الأستقلال مرتين  بشكل غير رسمي ، وقد صوت أكثر من 90% من سكان الأقليم في كليهما لصالح تأسيس دولة كتلونيا المستقلة .
كما شهدت كتلونيا قبل حوالي سنتين تظاهرات حاشدة تحت شعار "  كتالونيا ـ الدولة القادمة في اوروبا " شارك فيها نحو مليون ونصف المليون مواطن في شوارع برشلونة  .
 
أقتصاد مزدهر وجمال ساحر :
 
يتمتع إقليم كتالونيا باقتصاد قوي ومتنوع بتنوع مصادر قوته من الصناعة والسياحة والزراعة والتجارة حيث يبلغ دخل الفرد السنوي في الإقليم 30 ألف يورو سنوياً وهو مساو لدخل الفرد في بريطانيا مثلاً.
ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي السنوي للإقليم 250 مليار يورو وهو الناتج الأعلى بين جميع الأقاليم الإسبانية .
هذه الأرقام مدهشة بالنسبة لأقليم صغير غير نفطي عند مقارنتها ببلدان أكبرمنها بكثير   ، فعلى سبيل المثال ،  نرى ان الناتج المحلي الأجمالي  لكتلونيا يبلغ أربعة أضعاف الناتج المحلي العراقي ، الذي تشكل العائدات النفطية حوالى 96% منه ، رغم الفرق الشاسع بينهما من حيث المساحة وعدد السكان
 
لميناء برشلونة الدولي أهمية ستراتيجية كبرى ، ويوفر للبلاد دخلا سنويا يقدر بمليارات الدولارات ، أما المدينة نفسها فهي قبلة أنظار السائحين من شتى دول العالم يقصدون اليها للتمتع بجمالها الساحر ومعالمها التأريخية الرائعة .
وتعد العاصمة برشلونة  من أكبر المدن المزدهرة على مستوى أوروبا كلها
 
ماذا  سيحدث لفريق برشلونة اذا اسشتقلت كتالونيا :
نادي برشلونة ممثلاً بفريقه لكرة القدم هو أقوى الأسلحة التي تحاول من خلالها كتالونيا إيصال رسالتها بالاستقلال معتمدة على شهرة هذا الفريق عالمياً وشهرة نجومها الكتلان أيضاً.
منتخب كتالونيا هو أحد هذه الوسائل أيضاً ولو بأهمية أقل لكن يبقى هذا المنتخب حاضراً عبر المباريات الودية لمواصلة إيصال رسالة الإستقلال التي يحلم بها كل كتلوني .
ولكن ماذا سيحدث لفريق نادي برشلونة الشهير اذا استقلت كتلونيا ؟
ثمة تكهنات عديدة لعل أقربها الى الواقع ما ذكرته مجلة ( انترفيو ) الأسبانية أن فريق نادي   برشلونة قرر أن يشارك في الدوري الفرنسي اذا ما تحقق حلم الأستقلال
ويعتبر الفريق أن هذا الأمر ليس بالغريب حيث تعد ولاية موناكو منفصلة وتتمتع بحكم ذاتي بينما يشارك فريق ناديه في الدوري الفرنسي منذ سنوات عديدة بدون أي مشاكل.
وفي ظل مساعي الانفصال عن إسبانيا دائما ما كان الجمهور يتعجب إذا ما كان الفريق سيستمر في الدوري الإسباني أو يتم تأسيس دوري كتالوني حتى ظهرت المجلة التي وضحت ما ينوي الفريق القيام به.
جــودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com



95
هل يمكن تجاوز التحديات الوجودية بتوزيع الحقائب الوزارية ؟

                                     
جــودت هوشـيار

خلال مراسيم تكليف الدكتور حيدر العبادي تشكيل حكومة شراكة وطنية ، خاطب الرئيس فؤاد معصوم ، العبادي قائلاً : العراق أمانة في عنقك ! .
 يا لها من عبارة بليغة ومركزة تختصر كل ما شهده العراق من مآسي انسانية وما عاناه شعبه  من ظلم واضطهاد وقتل وتهجير ، وتلمح الى المخاطر الوجودية التي تهدد مستقبله - بسبب سياسات رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي -  والآمال المعقودة على حكومة العبادي المقبلة في انقاذه من الأوضاع المأساوية التي يعانيها اليوم .
 
ومن اجل طي صفحة الماضي الأسود وفتح صفحة جديدة مع القوى الفاعلة في العملية السياسية والتعاون الوثيق بين حكومتي بغداد وأربيل للقضاء على تنظيم داعش الأرهابي وحصر السلاح بيد القوات الأمنية واقامة نظام ديمقراطي تعددي اتحادي على اسس الشراكة الوطنية الحقيقية لكافة مكونات الطيف العراقي في الحكم والأدارة وصنع القرار ، من اجل كل هذا ، لاقي تكليف العبادي تشكيل حكومة وطنية جامعة شاملة لا تقصي احدا ، وقادرة على مواجهة التحديات الوجودية التي يتعرض لها العراق حالياً ، ترحيبا محليا واقليميا ودوليا غير مسبوق . ولم يكن  هذا الترحيب النادر من اطراف شتى ، لشخصية العبادي نفسه  ، بقدر ما كان تعبيرا عن استياء شديد وعميق من  سياسة المالكي الكارثية ، التي الحقت أفدح الأضرار بالسلم الأهلي والأمن والأستقرار في العراق والشرق الأوسط ، على أمل  ان ينجح رئيس الوزراء الجديد في النهوض بالمهام الثقيلة والمعقدة الملقاة على كاهله .
 
تغيير النهج السياسي أهم من الحقائب الوزارية !
 
منذ تلكليف العبادي وحتى اليوم  يدور الحديث فقط عن توزيع الحقائب الوزارية بين الكتل السياسية ، وكأن العراق لا يواجه اي تحديات تهدد وجوده  أو أزمات خانقة يعاني منها شعبه  وان كل شيء في العراق على ما يرام وان محنة العراق يمكن تجاوزها بتوزيع الحقائب الوزارية.
كلا أيها السادة . !  ان توزيع الحقائب الوزارية  لن يغير شيئا في واقع العراق المؤلم .
فعلى سبيل المثال لا الحصر لن يؤدي اشغال الدكتور صالح المطلك  لمنصب نائب رئيس الوزراء الى الأشتراك الحقيقي للمكون السني في الحكم ، في حين ان القادة الذين يمثلون المكون السني ، مطاردون في الخارج أوملاحقون في الداخل أو يقبعون في السجون بسبب معارضتهم للنهج الطائفي لحكومة المالكي .
 
ما قيمة الحقائب الوزارية اذا بقي مكتب رئيس الوزراء  وجهازه الأداري الضخم المؤلف من عشرات المستشارين والهيئات واللجان تتدخل في كل صغيرة وكبيرة  من أعمال الوزارات وتتحكم في شؤون البلاد ورقاب العباد ؟. واذا كان أعلى قائد في الجيش لا يستطيع تحريك أي قوة وان كانت صغيرة من دون أمر مباشر من القائد العام للقوات المسلحة .
واذا استمرت هيمنة مكتب رئيس الوزراء على الهيئات المستقلة ومنها هيئة النزاهة التي لم تعد قادرة على محاربة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة بسبب التدخل المباشر في شؤونها والتستر على الفساد والمفسدين .
قبل توزيع الحقائب الوزارية ينبغي لحكومة حزب الدعوة المقبلة ، نبذ النهج السياسي التمييزي - الأقصائي للحكومة السابقة المتمثل في سياسة تصفية المعارضة السياسية والمحاولات المستميتة لتحجيم اقليم كردستان الناهض ، المنطقة الوحيدة  الآمنة والمستقرة أمنيا والمزدهرة اقتصاديا  في العراق الأتحادي .
الدروس والعبر المريرة المستخلصة من اتفاقية أربيل ( 2010 ) التي دفنها المالكي في الجلسة  الأولي لمجلس النواب في دورته الثانية  ، تستوجب الأتفاق المسبق على  برنامج عمل واضح  للحكومة المقبلة يلبي مطالب السنة والكرد والمكونات الأخرى عن طريق تنفيذ اصلاحات جذرية شاملة ، من خلال آليات فعالة وضمن توقيتات زمنية محددة تكفل تجاوز المحنة العراقية الراهنة ، وتعهد حكومة بغداد بأتباع سياسة تنسجم مع روح ونص الدستور العراقي الذي ضربه المالكي عرض الحائط  والفصل التام بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية واحترام استقلال القضاء وعدم تسييسه وأحياء دور البرلمان التشريعي والرقابي وهذا أضعف الأيمان .
 



96
المنبر الحر / الصحفي والسياسة
« في: 20:13 25/08/2014  »
الصحفي والسياسة

                                   
جـــودت هوشـيار

 
يمكن القول أنّ ثمّة اليوم ثلاث مدارس في الصحافة العالمية حول علاقة الصحفي بالسياسة :
 
الأولى : " المدرسة الأميركية " التي ترى عدم جواز الأنحياز السياسي للصحفي الى درجة أن
العديد من المؤسسات الاعلامية الأميركية تمنع الصحفيين العاملين فيها من الكشف عن ميولهم السياسية خارج اطار العمل بهدف الحفاظ على موضوعية واستقلالية المؤسسة وبحسب مجلة " النيويوركر" الأميركية ،  فان العديد من الصحف  في الولايات المتحدة لا تسمح للصحفيين بالتعبير عن آرائهم العامة أو المشاركة في تظاهرات أو تعليق رموز انتخابية أو ملصقات على خلفية سياراتهم ،  وترى ان على الصحفي التزام جانب الحياد عندما يغطي مظاهرة او مؤتمرا جزبيا او اي نشاط سياسي آخر و ان يكون متوازناً وينشر الآراء المختلفة لأنه لو أنحاز الى جهة ما فأنه يفقد مصداقيته وقراءه  من ذوي الأنتماءات السياسية الأخرى .
ولقد بالغ رئيس تحرير صحيفة ( الواشنطن بوسط - Washington Post) في هذا الأمر كثيراً الى درجة أنه رفض الأدلاء بصوته في الأنتخابات الرئاسية  لكي لا ينتهك مبدأ عدم الأنتماء السياسي للصحفي ، مؤكداً ان الدور الاعلامي الذي يلعبه الصحفي يحول بينه وبين الأنحياز السياسي ليوفر لنفسه ولقراءه  فرصة أوسع من التحليل الموضوعي لشتى الأحداث والمواقف من غير تدخل الميول والمزاج السياسي .
وترى هذه المدرسة ،  ان العمل الأعلامي هو أحد ميادين التحليل والحكم الدقيق وهو عالمي ووطني اكثر مما هو فئوي أو أيديولوجي ، فهو كالقضاء المستقل بطبيعته الداخلية يرفض ان يتماهى مع الأنتماء السياسي المحدود .
 
الثانية : "المدرسة الأوروبية " التي لا تمانع أن يكون للصحفي  انتماء سياسي خارج اطار العمل ، على ان يلتزم بالمعايير المهنية للصحافة المستقلة ، لأن الكثيرين من أفراد المجتمع - اي مجتمع  -  لديهم ميول سياسية ، ولا ضيران يكون للصحفي أيضاً رأي سياسي أو حتى انتماء سياسي ولكن العيب والخطا هو أن يتم تغطية الاخبار والاحداث ليس كما تقع على ارض الواقع ، وانما كما يهوى الصحفي وما يحقق من خلال تغطيته للجهة التي ينتمي اليها او للوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها ، فالمطلوب اذن وعي الصحفي لأدوات ومعايير العمل الصحفي وأدراكه لدور الصحافة والتزامه بالمصداقية والحيادية أي ان يكون الانتماء السياسي خارج العمل الاعلامي المهني.
 
الثالثة : هي" مدرسة عالمية " تقسم الصحافة الى  نوعين ،
الأول : صحافة بلا موقف سياسي : وهي الصحافة ، التي لا تعبر عن اتجاه سياسي معين ، أو تتبنى أيديولوجية بعينها ، وأنما تفتح صفحاتها لكل الآراء والأتجاهات السياسية ، والأجتماعية ولكل أصحاب الرأي على أختلاف رؤاهم . وتركز على الموضوعات التي تهم القاريء العادي وتخاطب عواطفه بالدرجة الأولى  ، كالجرائم  والجنس والرياضة وأخبار المجتمع وفضائح المشاهير والأحداث الطريفة والغريبة والمسلية .
 
والثاني : صحافة ذات موقف سياسي :
 
لكل صحيفة بصرف النظرعن حجم انتشارها سياسة ما ،. ويلعب تمويل الصحيفة دورا في تحديد سياستها التحريرية  ومواقفها من قضايا المجتمع  ، وتنتمي غالبية الصحف الصادرة في أوروبا الشرقية والبلدان النامية الى هذا النوع من الصحافة تحديدا ، على خلاف الصحف الغربية ذات الأتجاه السياسي ، التي  تتسم بالمهنية ولا تخلط بين الصحافة والسياسة ، بل تلتزم بأخلاقيات العمل الصحفي  ، وفي مقدمتها  صحافة النخب المؤثرة في المجتمع ، التي تتسم موضوعاتها بالدقة والموضوعية  وتتصف معالجتها للأحداث  بالأتزان وتميل الى التحليل المعمق للأحداث السياسية المحلية والدولية وتتجنب نشر الفضائح ، الا اذا كانت لها أهمية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ،  ولعل خير مثال على هذا النوع من الصحف، صحيفة " الغارديان " البريطانية ، التي يرى خبراء الصحافة ، أنها الجريدة الليبرالية الأولى في العالم ،  الا أنها أنتقدت بشدة الأدارة الأميركية الليبرالية عند نشرها وثائق " سنودين " وجسدت بذلك القيمة الأكثر أهمية في العمل الصحفي وهي الأمانة المهنية .. وأنها على استعداد لإلحاق الضرر بالتيار الذي تمثله باسم الحقيقة. وهي تدافع ليس عن المصالح السياسية لحلفائها ، بل عن المساءلة والشفافية في الحكومة ، وتوازن السلطة  و حق الشعب في أن يعرف مع الحرص على عدم أنتهاك الخصوصية الشخصية .
 
الحياد الأعلامي :
 
صفة الحياد مبدأ أساسي من مباديء الصحافة المستقلة ، تماما كالجهاز القضائي ، فالقاضي  المنحاز لأحد طرفي القضية تنتفي صفة الحياد منه و يعتبر غير جدير بممارسة مهنة القضاء ، لأن هدف القاضي هو التحري عن الحقيقة واقامة العدل وانصاف المظلوم .
الأخلاقيات المهنية تتطلب تطبيق القيم الأعلامية الرئيسة بمصداقية ودقة لضمان تغطيات محايدة تعكس  تنوع الآراء  ووجهات النظر المتعددة وعلى نحو متوازن والتحقق من عدم وجود جهة  لم يتم عكس آرائها بشكل منصف . وتجنب ما يسيء الى قسم من الجمهور المتلقي ، والتعامل بأمانة  مع مصادر المعلومات واتاحة الفرصة للرد من قبل من يمسهم الموضوع.
واذا اراد الصحفي   أبداء وجهة نظره الخاصة  حول مسألة سياسية  فأن المجال مفتوح أمامه من خلال مواد الرأي الحرة أو الموجهة التي قد تكون على شكل مقالات أو أعمدة صحفية تتيح لكاتبها حرية أضفاء مواقفه الأيديولوجية وانطباعاته الشخصية على الحدث .
 
ولكن الممارسات الصحفية في شتى أنحاء العالم تثبت با لا يدع مجالا للشك ان هذا المبدأ يكاد أن يكون غير قابل للتطبيق من الناحية العملية ، حتى ان بعض منظري الأعلام ينفي وجود الحياد الإعلامى أصلاً . وكما أشرنا آنفاً ، فأن لكل وسيلة إعلامية سواء كانت حكومية أو حزبية او خاصة سياستها التحريرية التى تعبر عن مصلحة مالكها أو الجهة الممولة لها .  والحياد لايمكن توافره  في ظل وجود مصلحة مادية أو سياسية .
وبقدر تعلق الأمر بالصحفي نفسه ، الذي يغطي الأحداث السياسية  ، ليس من السهل عليه أن يكون محايداً دائما .افهو ليس مجردا من الحس الأجتماعي والرؤية السياسية ، وليس بانسان آلي يقوم بنقل الأخبار فقط ، بل هو شخص يعايش الحدث أكثر من الآخرين .
 
وفي الوقت نفسه فأن الحياد الأعلامي المنشود وثيق الصلة بمدى الحرية التي يتمتع بها الصحفي في تغطيته للأحداث أو تناول أي موضوع يراه مهما ، فهو لا يمكن ان يكون حياديا عند تغطيته للأحداث السياسية ، مع وجود خطوط حمراء لا يمكنه الأقتراب منها أو مصلحة تفرض عليه حجب بعض الحقائق .
هل عفا الزمن على قاعدة (  الخبر مقدس والرأي حر) ؟
 
في نظرية الأعلام قاعدة تقول أن ( الخبر مقدس والرأي حر ) ويتبغي الفصل التام بينهما .
،فالخبر يكتسب  صفة القدسية ، من واقعيته ، وحقيقة حدوثه ، ولا بد من  التحري الدقيق قبل نشره  ، لأن دور الصحفي هو تغطية الخبر بصدق وأمانة و ايصاله للمتلقي دون تشويه او تحريف  او محاولة تطويعه  لسياسة الوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها ، فطالما هناك حدث ، مهما كانت درجة خطورته أو تأثير تداعياته ، يجب ان يعرفه المواطن ، فهذا حق من حقوقه ( المواطن )  وواجب الصحافة في آن واحد  .
ولكن البعض يجادل بأن هذه القاعدة قد عفا عليها الزمن وأصبحت بالية  في عصرنا الراهن  ولا يتقيد به معظم الأعلاميين حاليا ، بل على النقيض من ذلك ،  كل الأخبار تحمل اليوم رأياً ، وان الحدث الواحد يعرض في وسائل الأعلام  بصيغ مختلفة ، وكل  صيغة تستبطن رأياً أو توجها تسوس الخبر حسب رؤية الوسيلة الأعلامية للحدث .
 

والحق ان الخبر الذي لا يحمل رأيا لا يجذب الأنتباه  ، لأن الجمهور غير متجانس في ميوله السياسية ، وتوجهاته الفكرية ،  وخلفياته الثقافية وغير محايد كما وسائل الأعلام ،فهو يبحث عن الوسيلة الأعلامية التي تدعم ميوله السياسية ، وتتفق مع توجهاته الأيديولوجية. وأي وسيلة اعلام تعمل بمبدأ الحياد ستلقى الأعراض من الجمهور وتكون بضاعتها كاسدة .
 
إن تجريد الخبر عن قدسيته لصالح الرأي يتجلى بأوضح صورها في البرامج النقاشية للقنوات الفضائية ، عبر استضافة المحللين السياسيين الذين تنسجم  توجهاتهم السياسية والفكرية مع سياسة تلك القنوات ، حيث نرى كل واحد منهم يتناول الخبر الواحد من زاوية معينة ، وقد يصل الأمر بهم الى التقليل من اهمية الخبر مدار الجدل أو حتى التشكيك في صحته . ،. ونرى على هذا النحو ان الرأي يطغى على الخبر ، وتضيع  الحقيقة  في خضم التحليل  .  والفضائيات تمنح للرأي مساحة ووقتاً أكبر بكثير من مساحة ووقت عرض الخبر ، وبذلك تعبرعن وجهة نظرها في الحدث على نحو غير مباشر .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 



97
كيف اصبح اقليم كردستان محط أنظار العالم ؟
                                           
                                                           
جــودت هوشـيار

بين ليلة وضحاها أصبح أقليم كردستان محط أهتمام العالم وشاغل أنظاره ، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى  استثنائيا ،  ونادر الحدوث ، حيث لم يحدث قط  منذ الحرب العالمية الثانية اجماع اقليمي ودولي حول قضية او بلد ما مثل ما يحدث هذه الأيام من تأييد المجتمع الدولي بأسره لأقليم كردستان في تصديه لأرهابي تنظيم ( داعش ) أقوى وأغنى و أخطر تنظيم ارهابي في العالم  . ولكن لهذا الأهتمام أسباب موضوعية تتعلق بأمن واستقرار الشرق الأوسط  ومصالح الدول الغربية والقيم التي يؤمن بها المجتمعات المتحضرة .
 
لا يخفي على المتتبع لتطور اقليم كردستان في كافة مجالات الحياة الأنسانية وتحديث المجتمع الكردستاني  في السنوات الأخيرة ، ملاحظة قيم التسامح العرقي والديني والمذهبي المتجذر في الثقافة الكردية ، وهذا ما أشار اليه الرئيس أوباما في كلمته التأريخية عندما أجاز تقديم المساعدة العسكرية العاجلة لقوات البيشمركة لصد قطعان ( داعش ) وردعهم عن المساس بأمن وحرية كردستان .
 
 صحيح ان التراجيديا الأنسانية الكبرى التي تعرض لها الأيزيدييون الكرد في مدينة سنجار والحصار الذي فرضه ارهابي داعش على النازحين الى المنطقة الجبلية القريبة منها، كان احد العوامل الأساسية التي دفعت البيت الأبيض الى اتخاذ قرار عاجل بتوجيه ضربات جوية فعالة الى مواقع الأرهابيين  بعد أقل من 36 ساعة من هجوم مسلحي( داعش ) على حدود الأقليم ودون انتظار قرار من مجلس الأمن الدولي كما  كان الأمر في بعض المناطق الساخنة الأخرى في العالم التي تدخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية عسكريا ( البوسنة ، ليبيا ) ثم اتخذ الرئيس اوباما قرارات لاحقة   بمد البيشمركة بالأسلحة الحديثة وزيادة عدد المستشارين الأميركيين في أربيل  والقاء المياه والطعام الجاهز الى العالقين في جبل سنجار . وحذت دول الأتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة الأميركية في تقديم الدعم العسكري المباشر لقوات البيشمركة  والمساعدة الأنسانية العاجلة لمنكوبي  سنجار وابدت دول كثيرة تأييدها ومساندتها للأقليم في تصديها لعدوان دولة داعش الأرهابية  نيابة عن العالم بأسره .
 
ولكن ثمة عوامل أخرى فرضت نفسها على البيت الأبيض في اتخاذ القرار التأريخي بمساندة الكرد ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
 
1 – دفعت الولايات المتحدة الأميركية ثمنا غاليا للأخطاء التي ارتكبتها ادارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش حيث بلغت خسائرها البشرية حوالي ( 5000 ) ضابط وجندي واصيب أكثر من ( 35000 ) آخرين بأعاقات دائمة وأنفقت مئات المليارات من الدولارات على المجهود الحربي ، لتترك العراق بعد انسحاب قواتها منه في نهاية عام 2011 في وضع لا يحسد عليه . أي ان كل الجهود الأميركية ذهبت هباءاً ، ما عدا استثناء واحد هو أقليم كردستان المستقر أمنيا والمزدهر أقتصاديا.
التجربة الديمقراطية والتنمية المتسارعة في الأقليم  نموذج ناجح حيث أثبت الكرد انهم أقرب شعوب الشرق الأوسط  الى القيم الديمقراطية والأخلاقية والثقافية للحضارة الغربية واكثر استعدادا وكفاءة لتحديث مجتمعهم من أي مكون آخر من مكونات العراق .
 
لقد أصبح اقليم كردستان واحة للأمن والأمان المادي والديني والسياسي في العراق المضطرب وفي الشرق الأوسط عموماً  وسوقا واعدة ذات بيئة استثمارية جاذبة  للشركات العالمية   وملاذا لكل العراقيين النازحين والمضطهدين .
 هل يوجد في الدنيا بأسرها كيان آخر بحجم اقليم كردستان وبعدد نفوسه يحتضن  أكثر من مليون وربع المليون لاجيء من مناطق العراق الأخرى المتوترة ومن شتى الأعراق والأديان والمذاهب ، اضافة الى حوالي ربع مليون لاجيء  سوري معظمهم من الكرد .
الكثير من اللاجئين ينتشرون في العديد من  بلدات الأقليم كضيوف أعزاء يحميهم القانون وتقاليد الضيافة الكردية التي أشاد بها المستشرقون كثيراً في الماضي وكل من زار الأقليم في السنوات الأخيرة من العرب والأجانب .
 
2–  يتمتع أقليم كردستان الغني بالموارد الطبيعية -  كالنفط والغاز اضافة الى المعادن الثمينة التي لم تستثمر بعد -  بقيمة جيوستراتيجية كبيرة وهامة على المستوى الأقليمي والدولي  لوقوعه في قلب الشرق الأوسط ، وهو اليوم ، كما كان الأمر في الماضي ممر بالغ الأهمية  للتجارة بين بلدان المنطقة . ان  وصول داعش الى داخل اقليم كردستان كان سيؤدي الى عدم الأستقرار في العراق ومنطقة الشرق الأوسط ويشكل خطرا على تركيا -  العضو في حلف الأطلسي  - وايران وعلى الشرق الأوسط عموما  .
 
3– لعبت وسائل الأعلام الأميركية والرأي العام الأميركي دورا ضاغطا على البيت الأبيض  وفي لفت الأنظار الى مأساة الأيزيديين والأهمية القصوى لأقليم كردستان كحجر أساس لأستقرار الشرق الأوسط  ، وطالب العشرات من اعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي  بنجدة الكرد ومد قوات البشمركة بالأسلحة الثقيلة الحديثة اللازمة لدحر داعش وتطهير كردستان والعراق  من رجس هذه التنظيم المتوحش ، المجرد من كل القيم الأخلاقية والدينية والأنسانية .
ويقول الصحفي الأميركي البارز فريد زكريا في آخر مقال له ان الشعب الكردي  قوة ديمقراطية في الشرق الأوسط  و صديق موثوق للولايات المتحدة الأميركية .
 
وخلال كتابة هذا المقال أتصل بي صديق مسيحي عزيز ،  هاجر الى الولايات المتحدة قبل حوالي ( 40 ) عاما ، وهو اليوم  يحمل الجنسية الأميركية  ورجل اعمال ناجح وعضو بارز في الحزب الجمهوري الأميركي  . نقل لي هذا الصديق آراء ومشاعر المواطن الأميركي العادي ازاء اقليم كردستان . قال انه استطلع آراء عدد كبير من أعضاء الحزب الجمهوري الذين أبدوا اعجابهم بالتقدم المتسارع في الأقليم الذي تحول خلال سنوات قليلة الى بلد يسعي للحاق بالحضارة العالمية واصبح واحة للأمن والأستقرار والأزدهار . وان الولايات المتحدة لن تسمح أبداً لأحد كائنا من يكون ، المساس بهذا النموذج الناجح . كما أشاد الأميركيون بشجاعة البيشمركة وصمودهم البطولى امام الهجمة البربرية لقطعان داعش .
 
 4 – انتهجت القيادة الكردية سياسة متوازنة مدروسة ومرنة في التعامل مع الجارتين الكبيرتين تركيا وايران ، حيث استطاعت تأسيس علاقات حسن الجوار والأحترام المتبادل والحرص على المصالح المشتركة معهما  في آن واحد ، مع الحفاظ على استقلالية القرار الكردي  . وهوانجاز بارز لسياسة الأقليم الخارجية ، اذا علمنا ان تركيا وايران كانتا  على مدى مئات السنين وما زالتا  تتنافسان لبسط نفوذهما على كردستان والعراق .
كما نجحت القيادة الكردية في التعريف بالقضية الكردية وكسب كثير من الأصدقاء للشعب الكردي والمناصرين للقضية الكردية  في اوساط النخب السياسية المؤثرة في الغرب واجتذاب الأهتمام الدولي المتزايد بأقليم كردستان الناهض ولا أدل على ذلك من وجود أكثر من ( 30) ممثلية دبلوماسية في العاصمة أربيل . ولدى الأقليم اليوم علاقات متعددة الجوانب مع عدد كبير من دول العالم .
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت التجربة الديمقراطية في أقليم كردستان والأستقرار الذي ينعم به نموذجا يحتذى في وسط منطقة مضطربة وبالغة الأهمية بالنسبة الى المجتمع الدولي  ، وجعلت الدول الديمقراطية العريقة تسارع الى نجدة الشعب الكردي وقواته المسلحة في صراعه الدامي مع دولة الأرهاب الداعشية ، هذا الصراع الذي يتوقف على نتيجته مصير الشرق الأوسط بأسره .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


98
المالكي ينصب فخاً جديداً للكرد

                                 
جــودت هوشـيار

اذا كان الساسة العراقيون ماهرين في أخفاء نواياهم الحقيقية تحت غطاء الكلمات المنمقة ، التي قد لا تعني شيئاً مهما في معظم الأحيان ، فأن الوعي الجمعي العراقي ، أكثر ذكاءاً ويقرأ الممحي كما يقول العراقيون . فقد اطلق الشارع العراقي على السياسيين السنة الذين أستطاع رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي من تدجينهم بالترغيب والترهيب , اسم " سنة المالكي " وهو وصف دقيق للغاية ويعبر عن حقيقة هؤلاء الساسة ، الذين خانوا الأمانة وخذلوا من صوت لهم في الأنتخابات البرلمانية الأخيرة .
 ولعل أبرز هؤلاء هو صالح المطلك ، الذي تشبث بمنصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الخدمات  وامتيازاته رغم الهوان الذي لقيه على يد المالكي ،  والمنصب ، الذي يشغله اليوم - اذا جردناه من امتيازاته - لا قيمة عملية له ، لوجود لجنة خاصة للأشراف على الخدمات في مكتب رئيس الوزراء .
 
 ومن سنة المالكي سليم الجبوري ،  الذي يتردد اسمه كثيرا هذه الأيام كمرشح لمنصب رئيس البرلمان ، وسبب انحيازه للمالكي هو الخوف من القاء القبض عليه ومحاكمته وفق المادة 4 أرهاب ، حيث صدرت مذكرة قضائية عن مجلس القضاء الاعلى لرفعِ الحصانة عنه وفق قانون الارهاب . وجاء في كتاب التغطية الموقع من رئيس مجلس القضاء الاعلى مدحت المحمود والموجه الى مجلس النواب " اَن محكمةَ التحقيق تنتظر رفع الحصانة عن النائب  سليم الجبوري لاتخاذ الاجراءات القانونية بحقه وفقا لاحكام المادة الرابعة/اولا من قانون مكافحة الارهاب لعام 2005 "
 . وكان المالكي قد هدد – في وقت سابق -  بالكشف عن اسماء النواب المتهمين بالأرهاب . ويبدو ان الجبوري ونواب آخرون قد خضعوا لأبتزاز المالكي ، . كما استطاع المالكي استمالة عدد آخر من النواب السنة عن طريق المغريات المادية وقطع الوعود لهم بمنحهم مناصب رفيعة في التشكيلة الحكومية الجديدة .
وينتمي الجبوري زعيم كتلة ( ديالى هويتنا ) الى الحزب الأسلامي العراقي الذي  انتهج سياسة الرفض العلني والتأييد السري  للولاية الثالثة وشق الائتلافات المعارضة للمالكي
 
وكشفت مصادر موثوقة أن «رئيس الحزب الإسلامي أياد السامرائي التقى قبل أيام نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون الطاقة والقيادي في ائتلاف دولة القانون حسين الشهرستاني حيث قدم السامرائي عرضا يتضمن موافقة 35 نائبا من قوائم سنية متعددة على منح المالكي الولاية الثالثة مقابل شروط حملها تتعلق بتوزيع الوزارات ومعالجة ملفات بعض الساسة المتهمين بالإرهاب والفساد .
وانا اكتب هذه السطور نقلت وسائل الأعلام خبرا مفاده ان ( قضاء المالكي ) قد برأ  ساحة سليم الجبوري من التهم الموجهة اليه ، واصبح الباب مشرعا أمامه للترشح لمنصب رئيس مجلس النواب .
لقد دأب التحالف الشيعي على المماطلة والتسويف في اختيار مرشحه لرئاسة الحكومة لأنه في حقيقة الأمر لا يوجد أي مرشح آخر لدى التحالف  غير المالكي  وكل ما يشاع عن ترشيح طارق نجم أو عادل عبدالمهدي أو أحمد الجلبي هو لذر الرماد في العيون ، لأن قرار ترشيح رئيس الوزراء يعود الى طهران وليس لأحزابها في العراق.
وعلى خلاف ما يذاع وينشر فأن كل الدلائل تشير الى أن  المالكي هو رجل ايران المفضل ولا يتجاسر أي حزب أو تيار شيعي على اتخاذ موقف يخالف موقف طهران .
ولا يخامرني أدنى شك ان المالكي قد أحكم هذه المرة حبك  خيوط الفخ الذي نصبه لمنافسيه وخصومه بما يملكه من مقدرات الدولة العراقية واحتكاره لكل السلطات. ومن اجل التغطية على هذا الفخ وخلط الأوراق ،  سرب اعلام المالكي خبرا مفبركا مفاده ان بعض اطراف التحالف الشيعي لا يؤيد أنتخاب الجبوري لرئاسة مجلس النواب وهذا غير صحيح ، لأن التحالف الشيعي سيصطف الى جانب المالكي في نهاية المطاف .
 
اذا تم أنتخاب الجبوري رئيسا لمجلس النواب من دون الأتفاق المسبق على الرئاسات الثلاث بين الكتل البرلمانية الرئيسية ، فأن ذلك يشكل كارثة حقيقية للعراق في هذا الظرف العصيب . دققوا معي في هذا السيناريو الجديد : بعد أنتخاب الجبوري سيتم أنتخاب شخصية كردية لرئاسة الجمهورية تحظى بتأييد ايراني ، وسيصوت الكرد لمرشحهم من دون أدنى شك وسيكلف رئيس الجمهورية  بدوره زعيم الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة الجديدة ، وقد مهد المالكي لهذا الأمر وطلب اليوم من المحكمة الأتحادية أعتبار ائتلاف دولة القانون ، الكتلة البرلمانية الأكبر ،
الفخ الذي نصبه المالكي للكرد ولكل المعارضين الحقيقيين للولاية الثالثة يبدو بريئا في ظاهره ولكنه خطير في واقع الأمر .  والضمان الوحيد لتجنب الوقوع في هذا الفخ المحكم ، هو الأصرار على أنتخاب الرئاسات الثلاث دفعة واحدة .واحلال بديل للمالكي يحظى بالأجماع الوطني ،من اجل انقاذ العراق من الأخطار المحدقة به بسبب سياسات المالكي الطائفية والأقصائية  ,
 



99
خفايا صفقة طائرات السوخوي

                                   
جودت هوشيار

بعد تلكؤ الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ العقد المبرم مع حكومة نوري المالكي لتزويد العراق بمقاتلات (  16 F- ) بسبب خشية البنتاغون من وقوع هذه الطائرات بيد ايران  ، سارع المالكي الى مفاتحة روسيا لتزويده بمقاتلات حديثة من اجل القضاء على الفصائل السنية المسلحة بذريعة محاربة ( داعش ) . وقد استغلت روسيا حاجة المالكي الشديدة الى الطائرات المقاتلة لتفرض عليه شروطاً قاسية  ، من حيث نوع الطائرات وأسعارها الباهضة . وقد نشرت مجلة ( شبيكل ) الألمانية - واسعة الأنتشار والتي تتميز بمصادرها الموثوقة –بعض تفاصيل الصفقة في عددها الأخير ، وأكدت ان الطائرات العشر التي تعاقدت علها حكومة المالكي مع روسيا  هي من طراز(  SU-24) و (  SU-25)  القديمة المستعملة ، وأن قيمة هذه الصفقة تبلغ ( 365 ) مليون يورو وليس جزءاً من صفقة قديمة كما تدعي بغداد ، ولم يكن أمام المالكي سوى الرضوخ للشروط الروسية والقبول بهذه الصفقة غير المتكافئة .
 
وقد ظهرت خلال المباحثات بين بغداد وموسكو حول تفاصيل العقد ،  مشاكل جادة عديدة ومنها : من سيقود هذه الطائرات ؟
 مدير مركز التحليل الستراتيجي والتكنولوجي الروسي روسلان بوخوف صرح  لصحيفة ( نيسافيسفايا غازيت ) الموسكوفية ، ان العراق يفتقر الى طيارين مدربين على قيادة طائرات السوخوي  رغم ان عددأً كبيراً من الطيارين العراقيين قد تدربوا على استخدام هذا النوع من الطائرات خلال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ولكن لا أحد منهم يخدم اليوم في سلاح الجو العراقي ، بعد قتل أو أغتيال عدد كبير منهم من قبل الميليشات الطائفية المتطرفة وهجرة ما تبقى منهم الى خارج البلاد أو التحاقهم بالفصائل المسلحة . واقترحت روسيا الأستعانة بالطيارين الأيرانيين أو السوريين المدربين على قيادة طائرات السوخوي ، او التعاقد مع طيارين من أوكرانيا أو أي بلد آخر . ولكن العراق رفض هذا الأقتراح وأصر على استخدام طيارين روس لقيادة الطائرات المشتراة وقد وصل الى العراق فعلاً عدد من الطيارين الروس ، كما هبطت الدفعة الأولى من طائرات السوخوي ، في احد المطارات الحربية العراقية في جنوب البلاد بعيدا عن جبهات القتال وليس في غربي بغداد كما صرح الناطق بأسم القائد العام للقوات العراقية السلحة قاسم عطا .
 .
وكشفت بعض الصحف الروسية المعارضة للرئيس بوتين ومنها صحيفة ( نوفايا غازيتا ) التي يمتلك الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف أكثر اسهمها ، أن صفقة الأسلحة الجديدة الموقعة بين العراق وروسيا تتضمن أيضاً تزويد العراق بطائرات مروحية من طرازMIG-28) ) و( MIG – 35) .
السؤال الذي يطرحه المعلقون الروس هو الى أي مدى تريد روسيا أن تكون طرفاً في حرب المالكي ضد الثورة السنية في العراق ؟
يتبين من الحوار الذي أجراه المحلل السياسي الروسي سيرغي بريلوف مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لصالح قناة ( فيستي ) الحكومية الروسية ، ان روسيا لن تكون متفرجا خارجيا على ما يحدث في العراق ولن تقف مكتوفة الأيدي تجاه المخاطر التي قد تتعرض لها أمنها الوطني ومصالحها في المنطقة .
وحذر لافروف من تفكك العراق ،  الذي يؤدي – حسب رأيه -  الى تفجر الوضع في المنطقة بأسرها ،  وان حالة عدم الاستقرار سوف تستمر لسنوات عديدة  وتشمل تداعياتها ليس الشرق الاوسط  وشمال افريقيا فقط  بل المناطق المجاورة لهما  ايضا .
 ويمكن تفسير كلام لافروف ان روسيا قلقة على احتمال تغلغل الفصائل الأسلامية المتطرفة الى جمهوريات جنوب القفقاس وآسيا الوسطى الأسلامية المتاخمة لحدودها الجنوبية ، اضافة الى المناطق الأسلامية في روسيا ذاتها مثل الشيشان وتاتارستان وغيرهما .
 
ولا شك ان روسيا تتخذ من حرب المالكي ضد الفصائل السنية المسلحة ذريعة لأستعادة نفوذها المفقود في العراق . ولكن الى أي مدى يرغب قادة الكرملين في اقحام روسيا في المستنقع العراقي ؟
يبدو ان ثمة تنسيقا من نوع ما بين الولايات المتحدة الاميركية وايران وروسيا ، لأن المالكي لم يكن يتجاسر على أغضاب واشنطن في وقت هو بأمس الحاجة الى  المساعدة العسكرية الأميركية من اجل القضاء على الثورة السنية التي يشكل تنظيم داعش جزءأً ً منها .
 
وتقول صحف المعارضة الروسية ، ان طهران قد ارسلت الى العراق فعلاً طائرات تجسسية بدون طيار وثمة عدة كتائب من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الأيراني تقاتل في ديالى وسامراء الى جانب جيش المالكي وميليشياته ، وان القوات الأيرانية تشغل الآن  قاعدة الرشيد - وهي اكبر قاعدة عسكرية في العراق- أما الجنرالات الأيرانيون  ، الذين يوجهون قوات الماكي ، فقد أتخذوا من دار الأذاعة القديمة في الصالحية ببغداد مقراً لهم .
 
حملة استعادة تكريت التي  تم الأعداد لها بالتعاون مع المستشارين الأميركان لم تحقق أهدافها الرئيسية المتمثلة في رفع معنويات الجيش العراقي وتعزيز موقف نوري المالكي في الأحتفاظ بمنصبه لأربع سنوات أخرى قادمة . وان الحرب ضد الفصائل المسلحة ستستمر الى امد غير معلوم اذا اصر المالكي على استخدام القوة للقضاء عليها .
 
طائرات السوخوي المدمرة وتورط روسيا المباشر في الحرب  لن تؤدي الا الى تعقيد الأزمة العراقية  وقتل المزيد من سكان المناطق الساخنة ، من دون الحاق الهزيمة بالمسلحين ، ولو كان الحل هو القصف الصاروخي والمدفعي والبراميل المتفجرة ، لكانت سيطرة المسلحين على الفلوجة قد انتهت منذ أشهر . ولكن هذا لم يحدث ولن يحدث وطائرات السوخوي لن تجدي نفعا في الحاق الهزيمة السريعة بهم   كما تدل على ذلك التجربة السورية طوال السنوات الثلاث الماضية
. معالجة الأزمة العراقية تكمن  في ايجاد حل سياسي يلبي طموح الأغلبية الساحقة من المكون السني العربي الذي يشكل أكثر من ثلث سكان البلاد وبذلك يتم عزل داعش والقضاء عليه بمساعدة ثوار العشائر أنفسهم وعلى المالكي ادراك هذه الحقيقة وليس صبت الزيت على النار المشتعلة ...
 
جـــودت هوشـيار
Jawhoshyar@yahoo.com
 

 


100
بين صحافتين جيدة وسيئة

                                   
جــودت هوشيار

في سنة 1852 كتب رئيس تحرير جريدة " التايمز" اللندنية يقول : " ان الواجب الأساسي للصحافة هو الحصول على أحدث وأدق المعلومات عن الأحداث ونشرها على الفور ، بحيث تصبح ملكاً للأمة بأسرها ." ورغم مرور ( 162 ) سنة على هذه المقولة فأنها ما زالت صحيحة وتشكل حداً فاصلاً بين الصحافة المهنية الناضجة وبين أنواع أخرى عديدة من  الصحافة اللامهنية ، وأصبحت أكثر أهمية في عصر عولمة الأتصالات ، التي أتاحت نشر أحدث المعلومات لحظة بلحظة عبر وسائل تقنية متطورة .
 فالمحك الحقيقي لأية صحافة ، هو مدى دقة ومصداقية المعلومات المنشورة ، فالصحافة الجيدة ، تتحرى الحقائق وتتأكد من مصادرها ، وتثقف جمهور القراء بما تنشره من تحليلات وآراء وتحقيقات وأستقصاءات  .
 
الصحافة المهنية وصحافة البروباغاندا :
 
الصحافة المهنية بمفهومها الحديث ،  هي  تلك التي تلقي الأضواء على ما يحدث في المجتمع والعالم من احداث وتطورات أولاً بأول وبكل موضوعية وتراقب الأداء الحكومي  وتكشف عن مكامن الخلل فيه ، ليس من أجل النيل منه ، بل في سبيل لفت أنظار الحكومة والرأي العام  اليها وتنشر التحليلات المتعمقة والمفيدة لوجهات نظر متباينة وليس لوجهة نظر واحدة  ، صحافة شفافة تحترم جمهورها وتلتزم بالمعايير الأخلاقية والقانونية للعمل الصحفي وتراجع أعمالها وتصحح مسارها اذا دعت الحاجة الى ذلك .
الصحافة المهنية وليدة الديمقراطية ، نشأت وتطورت مع نشؤ وتطور الديمقراطية الغربية  وفصل واستقلال السلطات التنفيذية ، والتشريعية ، والقضائية عن بعضها البعض . ومن دون وجود هذه السلطات الثلاث المستقلة  لا يمكن تصور وجود صحافة مهنية حرة ومستقلة.
 هذا الفصل بين السلطات  أمر جوهري للغاية . ففي النظم الشمولية هناك سلطة واحدة فقط هي السلطة التنفيذية ، التي تهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية ولا توجد صحافة حقيقية ،  وان وجدت فهي ( بروباغاندا ) أو دعاية سياسية لرأس النظام وللحزب الحاكم .
هكذا كان الأمر في ألمانيا الهتلرية و روسيا الستالينية والعراق الصدامي وليبيا القذافي، وهذا هو حال الصحافة اليوم في معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة  وفي روسيا البوتينية نفسها.
الصحافة بالمفهوم العلمي لهذا المصطلح لا يمكنها ان تعيش الا في أجواء الحرية والشفافية والعلنية.
.
ففي ظل النظام السوفييتي كانت ثمة ( صحف ) تتباهي بأنها تطبع وتوزع ملايين النسخ يومياً ومنها صحيفة ( البرافدا ) أي ( الحقيقة ) التي كانت تعتبر نفسها الصحيفة الأكثر توزيعاً في العالم . وعندما كنت في موسكو خلال الستينات من القرن الماضي وفي زياراتي التالية لها،  كنت أرى وأسمع غالبا كيف يتهكم القراء الروس على صحيفة ( البرافدا – الحقيقة ) قائلين : ان " لا حقيقة في صحيفة الحقيقة " ولم تكن الصحف السوفيتية الأخرى الا تنويعاًت على ما تنشره ( البرافدا ) ولا أحد من الصحفيين السوفييت – وبينهم عدد كبير من الصحفيين الشرفاء المخلصين لمهنتهم والذين بلغوا مرتبة رفيعة من الأحترافية  - كان قادراً على قول الحقيقة كما هي ، وان فعل ذلك ، يفصل من وظيفته أو يلقى به في غياهب السجون . وفي أفضل الأحوال كان مصير ما يكتبه الى سلة المهملات .
 ولم تكن صحافة صدام أفضل من ( الصحافة ) السوفيتية .، ان لم تكن أسوأ بكثير .
في الثمانينات من القرن الماضي  ، قال لي صديق  بولوني مثقف كان مديرا لمكتب شركة ( بول سيرفس ) البولونية في العراق -  وهي الشركة التي وضعت التصميم الأساسي لمدينة بغداد -  وكان يتابع  بحكم وظيفته ما تنشره الصحافة العراقية ، قال لي هذا الصديق : " أنا لا أفهم لماذا لا تصدر الحكومة صحيفة يومية واحدة فقط توفيراً للجهد والمال ، لأن الصحف اليومية الخمس التي تصدر الآن ، متشابهة المحتوى تماما ولا تختلف الا من حيث الشكل والأخراج ، وكلها تتحدث عن صدام و تزين صفحاتها الرئيسية بصوره.
 
 وصفوة القول ان التعددية السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير ضرورية للصحافة المهنية  كالهواء للأنسان ولا قيمة لصحافة لا تستطيع قول الحقيقة  .
 
صحافة ( البروباغاندا ) بكافة أشكالها وصورها ، صحافة  تعتاش على التضليل المتعمد للجمهور وحجب او تشويه الحقائق وتجميل النظام الشمولي الحاكم  وتلميع صورة القائد الضرورة أو الأخ الأكبر- حسب اورويل -  وتبرير افعاله مهما كانت شنيعة .
هذا النوع من الصحافة ليست  مقصورة على الصحافة الرسمية للأنظمة الشمولية ، بل تشمل الصحافة الأهلية المنحازة وصحافة المعارضة المؤدلجة خاصة في بلدان الشرق الأوسط ، عندما تنتهج خطا ايديولوجيا واحدا ومحدأً وتفسر كل شيء بمقتضاه ، ولا تنشر الا ما يؤيد وجهة نظرها ، متجاهلةا الآراء الأخرى .  وتنتقد السلطة بأستمرار وتتحامل عليها  ولا ترى الا جانباً واحداً من اعمالها ، وهو الجانب السلبي.
 
مثل هذه الصحافة تدعي الأستقلالية بذريعة أنها غير تابعة للدولة .  ولكن استقلالية الصحافة لا تعني فقط عدم تبعيتها للدولة او جهة ما  ، بل عدم انحيازها في سياستها التحريرية.
ونرى أحيانا ان الصحافة الحزبية الجادة ، أكثر موضوعية من بعض الصحف التي تدعي الأستقلالية ، لذا فأن تقسيم الصحافة الى صحافة حكومية أو حزبية وصحافة أهلية (مستقلة) ، أمر غير صائب ،  لأن المحك الحقيقي للصحافة هي مدى الألتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية للصحافة .
 
الصحافة الجادة والصحافة الشعبية :
 
يرى بعض خبراء ومنظري الصحافة أن ثمة نوعين من الصحافة هما :
  الصحافة الجادة أو الرصينة والصحافة الشعبية أو صحافة التابلويد (  Tabloid ) أ و الصحافة الصفراء  .وهذه الألوان  الثلاثة الأخيرة ، متقاربة ومتشابهة من حيث المحتوى   وان أختلفت في أخراجها ودرجة ( اصفرارها ) .
 
تتميز الصحافة الجادة  بغلبة المعالجات الصحفية التحليلية ( المقالات ، تقارير المراسلين ، النقد الأدبي والفني ، عرض الكتب ، التلعليقات . وهذا لا يعني أنها لا تهتم بآخر الأخبار ، فتقارير المراسين تكون في العادة من مواقع الأحداث مباشرة ، أضافة الى  ما تبثه وكالات الأنباء العالمية ، وهي تلتزم المعايير الأخلاقية للعمل الصحفي وتتوجه أساساً الى أفراد النخبة الواعية  في المجتمع - وهم في الأغلب الأعم من المثقفين والساسة ورجال الأعمال والمديرين ... الخ -  حيث تقدم لهم  نظرة متعمقة للظواهر والأحداث تستند الى معلومات موثوقة تساعدهم  في تشكيل قناعاتهم وآرائهم وتسمح لهم بأتخاذ قرارات صائبة في مجالات عملهم وفي حياتهم اليومية وتساعدهم في تكوين قناعاتهم خلال الأنتخابات والأستفتاءات.
 
النخب المثقفة في الدول الأوروبية المتقدمة وخاصة في بريطانيا تحرص على اقتناء الصحف الجادة  وليس صحف التابلويد ،  حتى لا تصنف نفسها ضمن الباحثين عن ثقافة الإثارة.
وتعد صحيفة ( الغارديان ) البريطانية نموذجاً رفيعاً للصحافة الجادة الى جانب صحف أنجليزية أخرى .
وفي فرنسا هناك صحيفة   لوموند (  Le Monde) الرصينة التي حازت ثقة الأوساط الثقافية والأكاديمية بما تنشره من معلومات موثوقة وما تتميز به تحليلاتها من موضوعية ومهنية رفيعة  ، الى درجة ان أساتذة وطلبة الجامعات الفرنسية يستخدمون موادها المنشورة كمراجع دراسية ، كما تتسم خصائصها الطباعية واخراجها الصحفي بمستوى عال من الحرفية الفنية وهي تفضل غالباً التعليقات النصية على الصور المثيرة وتصدر بحجم (  А2)
 
أما  الصحافة الشعبية أوصحافة التابلويد او الصحافة الصفراء ، فأنها تهدف في المقام الأول الى تحقيق أقصي ما يمكن من أرباح بصرف النظر عن المعايير الأخلاقية الصحفية وتتميز بسياستها التحريرية الهابطة ولغتها الصحفية المبتذلة وهي تتميز بقطعها وشكلها المستطيل غالباً، وتصميم أخراجها وحروفها المطبعية الكبيرة ، بحيث يعرفها القارئ من النظرة العجلى ،  صحافة تدغدغ مشاعر القراء وتكثر من نشر الصور الملونة الجذابة للمشاهير  والعناوين الخادعة واستعمال المختصرات ، وتميل إلى معالجة الموضوعات المثيرة. وهي موجهة أصلا الى الجمهور العام الذي ينشد الترفيه وتجذبه فضائح المشاهير والجرائم الشاذة وغرائب الأخبار ، و طرائف النوادر ، وتوافه المعارف .
 
وقد تطور هذا النوع من الصحف بمرور الزمن واصبح أصغر حجماً من اجل اجتذاب مسافري السكك الحديد وقطارات الأنفاق والحافلات لأن الصحف التقليدية تأخذ حيزاً كبيرا  بين يدي القارئ وربما يضايق بذلك الآخرين في المقاعد المجاورة أو يثير فضولهم لقراءة الصحيفة التي أقتناها الراكب لنفسه .
 
صحافة جيدة ... صحافة سيئة :
 
يرى الصحفي البريطاني  البارز ديفيد راندال "  David Randall " في كتابه القيم " الصحفي الشامل " إن هناك نوعين فقط من الصحافة : جيدة وسيئة . ويقول في هذا الصدد " ليست هناك صحافة غربية او شرقية ، ولا صحافة أميركية أو روسية أو فرنسية أو بريطانية أو بولونية أو عربية.
 كما لا توجد صحافة ليبرالية أو ماركسية او محافظة أو جمهورية أو ديمقراطية ، ثمة فقط صحافة جيدة وأخرى سيئة ، وكلتاهما عابرة للقارات ولا تعرف حدوداً جغرافية ويمكن أن تكون بأية لغة من لغات العالم .
 
ومقابل كل صحفي جيد ، مخلص لمهنته وملتزم بالمعايير الأخلاقية للعمل الصحفي ، ثمة صحفي ينتقي الأخبار والمعلومات ويعالجها بما يرضي رؤسائه لا الحقيقة ً ، وكلاهما يتسم بطابع عالمي ، أي انهما  موجودان في كل أنحاء العالم .
 
وبطبيعة الحال فأن لكل شعب ثقافته وتقاليده ولكل لغة صوتها المميز . ولكن ما يوحد الصحفيين الجيدين في جميع أنحاء العالم أكثر عمقاً وأهميةً مما يفرقهم
 
أن  ظروف عمل الصحفيين تتباين في البلدان المختلفة ومن بلد الى بلد  ، ففي الأنظمة الشمولية يعمل الصحفيون في ظل الرقابة الحكومية على وسائل الأعلام وبضمنها الصحافة الورقية ولا يحصلون على المعلومات الحقيقية  الا بشق الأنفس ، كما استخراج حبات الذهب من رمال النهر .
، في حين أصبحت الرقابة في الدول الديمقراطية من تراث الماضي ،  حيث التدفق الحر الهائل للمعلومات من دون قيود أو حدود .
 
البعض يكتب في صحيفة تصدر بأربع صفحات والبعض الآخر في  صحيفة تصدر بمائة صفحة مع الملاحق ،  ينؤ القاريء بحملها ناهيك عن قراءتها . ... ولكن الصحفيين الجيدين ، أينما كانوا يسعون دائماً الى ان تكون صحفهم ، صحافة مهنية ذكية مبنية على الحقائق : صحافة صادقة المقصد وتخدم هدفاً واحداً : الحقيقة دون تحريف أو تشويه أو مبالغة .صحافة تخاطب القراء أيا كانوا ، ومهما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم .
 
هذا الهدف العام يجمع الصحفيين الجيدين ويوثق بينهم أواصر الزمالة الحقة أكثر من أي شيء آخر مثل محل الولادة أو الأقامة . ويستثني من ذلك الذين يتعجلون الحكم بدلاً من اكتشاف الحقيقة، هؤلاء لا يبحثون الا عن مصالحهم بدلا من مصالح القراء . اولئك الذين يفضلون التعليق والتأويل على المعلومة الدقيقة والتهكم والأنانية وخرق المعايير المقبولة على المثل والمبادئ .، والمعالجة الصحفية الضحلة  على العمل الشاق والمتعب في البحث عن الحقيقة
.
ان الصحافة الجيدة  ذكية وممتعة ، وموثوقة في معلوماتها  ولا تخدم سوى الحقيقة ، وبغض النظر عن القراء ، والثقافة ، واللغة ، والظروف . أما الصحافة السيئة فهي كل ما عداها من أنواع الصحافة ،  سواء أكانت صحافة (البروباغاندا ) أو صحافة الترفيه والتسلية بشتى مسمياتها  .
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
 



101
من يدفع ثمن الولاية الثالثة للمالكي ؟

                                     
جــودت هوشيار

في خضم هستيريا التجييش الطائفي وأحتدام المعارك وغياب الأمن والنزوح الجماعي الهائل الذي يشهده العراق الآن  ، لا احد من الساسة العراقيين يتحدث  عن الأستحقاقات الدستورية وضرورة مصادقة المحكمة الأتحادية بشكل كامل على نتائج الأنتخابات التشريعية التي جرت في الثلاثين من أيار/ مايو الماضي ، حيث ان ثمة اربعة نواب  لم تصادق المحكمة على فوزهم لحد الآن ومن دون المصادقة الكاملة على النتائج  لا يمكن عقد جلسة اولى للبرلمان الجديد وأنتخاب رئيس البرلمان ونائبيه ورئيس الجمهورية الذي يكلف زعيم الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة الجديدة .
 
الكل يعرف ان المحكمة الأتحادية خاضعة لهيمنة المالكي وينفذ كل رغباته ولا يرد له طلباً . وهذا التأخير المتعمد مسبس من دون أدنى شك ، ليتسنى للمالكي رمي نتائج الأنتخابات في سلة المهملات والأستمرار في السلطة ومواصلة سياسة تمزيق العراق في غياب السلطة التشريعية بدعوى محاربة الأرهاب .
حتى الولابات المتحدة الأميركية - التي نصبت المالكي رئيساً للوزراء لدورة ثانية في عام 2010 بمباركة ايرانية ومنعت تولي زعيم القائمة العراقية الفائزة في الأنتخابات أياد علاوي  رئاسة الوزراء –قالت ان تقديم الدعم العسكري لحكومة بغداد مرهون باتخاذ المالكي خطوات لإشراك المزيد من الطوائف في حكومته التي يهيمن عليها الشيعة وهو تحرك من غير المرجح أن يتخذه المالكي ، ودعت  القادة العراقيين إلى الوحدة الوطنية وأن يسموا فوق خلافاتهم وإلى اتحاد السنة والشيعة والكرد والأتفاق على آليات محددة للخروج من الأزمة الحالية
 
وتظاهر المالكي بتلبية الرغبة الأميركية وسارع الى الدعوة لعقد أجتماع يضم زعماء القوى السياسية الرئيسية في البلاد ، وقد تم عقد مثل هذا الأجتماع قبل بضعة أيام برئاسة ابراهيم الجعفري رئيس التحالف الشيعي . وفي بداية الأجتماع أصر المالكي على أن يقتصر البحث على موضوع واحد فقط وهو محاربةالأرهاب. ومفهوم الأرهاب لدى المالكي مطاطي يتغير حسب مقتضى الحال ، فهو يشمل كل من يعارض سياسته الأقصائية والطائفية وولايته الثالثة ولا يشمل الميليشيات الطائفية المدعومة من قبل الحكومة والتي ارتكبت وما زالت ترتكب يوميا جرائم بشعة تقشعر لها الأبدان وآخرها اعدام العشرات من المعتقلين في أحد سجون  محافظة ديالى .
 ضم الأجتماع عددا من زعماء الأحزاب والحركات السياسية  وغاب عنه زعماء لهم الثقل الأكبر في العملية السياسية مثل رئيس أقليم كردستان مسعود بارزاني وزعيم كتلة ( الوطنية ) أياد علاوي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر . وخرج المجتمعون ببيان مطول صاغه  كتبة المالكي مسبقا حول سبل مكافحة الأرهاب ( قل انقاذ المالكي ) والبيان لا قيمة فعلية  له داخليا ، لذا لم يحمل الساسة العراقيون محتوى البيان محمل الجد ولم تعبأ به الولايات المتحدة الأميركية التي أدركت أنه مناورة من المالكي للأيحاء بأن كل القوى السياسية تقف خلفه وتساند حكومته، وان ما حدث في الموصل مجرد مؤامرة  أو خديعة.
واذا كان المالكي يرفض الأفصاح عن الجهة التي تقف وراء المؤامرة المزعومة ، فأن لكل قيادي في حزب الدعوة الحاكم نظريته الخاصةعن ( مؤامرة ) سقوط الموصل وتكريت . فالبعض منهم يقول انها " مُدبرة سلفاً بين رئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي وشقيقة محافظ نينوى أثيل النجيفي ورئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني . ويقول البعض الآخر أنها من تدبير الزعماء السنة وأردوغان .وهناك من يؤكد انها مؤامرة سعودية – قطرية . وثمة من يعتقد ان المخابرات السورية - التي خرجت داعش من رحمها -  هي التي دفعت داعش للهجوم على الموصل ومدن عراقية اخرى بهدف توريط الولايات المتحدة في المستنقع العراقي لأن الأخيرة  ملزمة بالدفاع عن العراق بموجب الأتفاقية الأمنية بين البلدين .
 ومهما تعددت نظريات المؤامرة فأنها كلها تهدف الى تبرئة  المالكي والتستر على الهزيمة النكراء التي مني بها جيشه المهلهل .
ان حكاية المؤامرة وتأكيد المالكي على ضرورة حشد كل الطاقات المادية والبشرية لدحر داعش ليس جديدأ ، فقد لجأ كل طاغية معزول عن شعبه قبل المالكي  الى خلق عدو خارجي او داخلي وتأكيد ضرورة القضاء عليه من اجل التفاف الشعب حوله وتعزيز سلطته القمعية .
 
مناورة المالكي صفحة جديدة من صفحات سيناريو الفوز بولاية ثالثة وربما البقاء في السلطة مدى الحياة وهذه الصفحة الجديدة هي أشغال الشعب العراقي وقواه السياسية بمعضلة داعش  ونسيان كل ما يمت بصلة الى موضوع تشكيل الحكومة الجديدة وبكل خطايا وأخطاء المالكي القاتلة  .
 
العراق يعيش اليوم أسوأ ايامه بعد نزوح مليون عراقي من مدن وبلدات محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى وحتى من بغداد الى المناطق الآمنة نسبيا وخاصة أقليم كردستان .
 
مئات العراقيين يقتلون يوميا سواء في جبهات القتال أو بالكواتم أو نتيجة للعمليات الأرهابية داخل العاصمة بغداد والمدن الأخرى .
 اجهزة المالكي الأمنية والميليشيات المسعورة التي قطعت شوطا بعيدا في التطهير العرقي والمذهبي  في  العاصمة بغداد خلال السنوات الثماني الماضية  ، تواصل اليوم بالتهديد والقتل والأختطاف تهجير ما تبقى من المكونات غير الشيعية وتحويل بغداد لأول مرة في تأريخها الى مدينة مكون واحد ومذهب واحد .
 
عراق المالكي تحول الى جحيم حقيقي فوق طاقة البشر ،  ليس فقط بسبب الأقتتال الداخلي والأعتقالات العشوائية  ، بل أيضاً  نتيجة لتدهور الوضع الأقتصادي ، فالسوق كاسدة والمواصلات شبه مقطوعة و خدمات الأتصالات والأنترنت مقطوعة ( بأستثناء اقليم كردستان ) ولهيب أسعار المواد الأساسية  أتي على معظم مدخرات الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي ، والأثرياء سفروا عائلاتهم الى خارج البلاد ويواصلون تحويل المليارات المسروقة الى البنوك الأجنبية .
ليس بوسع احد أن يصف ما يعيشه اليوم العراقيون من تراجيديا أنسانية تفوق كل ما تخيله الروائيون من مآسي ومصائب ونكبات .
هذا هو الثمن الذي يدفعه الشعب العراقي من اجل رغبة المالكي الجامحة  في الفوز بولاية ثالثة ، ثمن مدفوع بالدم والدموع والآلام وأنتهاك الحريات والحرمات . يا له من  ثمن باهظ  لكرسي لا يدوم .
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
.

102
غزوة المالكي الموصلية

                                 
جــودت هوشـيار

 
سقوط مدينة الموصل بيد المسلحين من تنظيم ( داعش )  أمر جلل ، خطير ، غريب ومريب. لم يخطر ببال أحد حتى وان كان مؤلفاً  للقصص الخيالية ومهما كان خياله خصباً .  الموصل الحدباء احدى أهم وأرقي المدن العراقية شعباً وحضارة وثقافة .ولكن الأمر الأكثر غرابةّ هي  تسليم هذه المدينة العظيمة الى داعش من دون قتال والهروب المخزي لأشباه العسكريين من جنرالات الدمج وترك أهلها لمصير مجهول .
 
تخيل أيها القاريء الموقف العسكري في مدينة الموصل في الساعات الاولى من فجر يوم الأثنين التاسع من حزيران الجاري : ثلاث فرق عسكرية جرارة مجهزة بأحدث الدبابات  والمروحيات الهجومية المقاتلة والصواريخ والمدافع الثقيلة وأنواع أخرى من شتى صنوف الأسلحة الفتاكة واحدث وسائل الاتصال ، جيش لا يقل تعداده عن (45) ألف منتسب  وفرقة واحدة للشرطة الاتحادية قوامها (30) الف منتسب مع (30) الف منتسب من الشرطة المحلية، فضلا عن وجود فوج لقوات سوات وقوات طوارئ". كل هذه القوات ،  التي سامت الشعب العراقي الذل والهوان . أسرعت بالهروب وأطلقت سيقانها للريح  تاركة وراءها كل معداتها وأسلحتها ومن دون أي مقاومة على الأطلاق وتركت المدينة العزلاء من دون أي دفاع وأتاحت لبضع مئات من المسلحين المجهزين بأسلحة خفيفة ومتوسطة السيطرة السريعة على مدينة واسعة ،  مترامية الأطراف كالموصل بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية بما فيها مقرات الجيش والشرطة ومخازن الأسلحة وطائرات وآليات ومعدات حربية تم نقل معظمها على الفور الى سوريا تحت أنظار الحكومة المركزية التي سحبت قوات الجيش من الحدود العراقية السورية والعراقية الأردنية وتركتها مفتوحة. لتنقل ( داعش ) بين البلدين المنكوبين العراق وسوريا .
 
يقول محافظ الموصل السيد أثيل النجيفي في حديث متلفز أنه توجه -  مع عدد من خيرة ضباط الجيش العراقي السابق ( المتقاعدين حاليا ) والذين يمتلكون خبرة ممتازة في حرب المدن - الى  مقر قائد العمليات المشتركة الفريق اول ركن عبود قنبر . ويضيف النجيفي بمرارة : وجدت قنبر  ( مرتاحا )  وكأن الأمر لا يعنيه  ولم يحدث شيء على الاطلاق رغم أن الغزاة كانوا على مبعدة كيلومتر واحد فقط من المقر .وسألت قنبر : ماذا أنتم فاعلون ؟
 
قال قنبر بكل قنبر بكل هدؤ : لا شيء ،  نحن بأنتظار أمر القائد العام للقوات المسلحة ( يقصد نوري المالكي ) .
 
وعبثا حاول النجيفي حثه والقادة الآخرين الذين كلنوا بمعيته على مقاومة الغزاة واضعا كل امكانات المحافظة وكل خبرات عدد من  المع ضباط الجيش العراقي السابق تحت تصرفه.
 
ظل قنبر ( مرتاحا )  ولامباليا وقال أنه بأنتظار أمرالقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي  . ونحن نعلم الآن والعالم يعلم أي أمر أصدره المالكي الى قادة الجيش الكبار : " أنسحبوا وأتركوا كل شيء ورائكم . "  هربت تلك القيادات ، في عملية مريبة لم تحدث في تأريخ الحروب في العصر الحديث وأشبه بعملية تسليم وأستلام .
 
القدة العسكريون الكبار  (قائد القوات البرية الفريق اول ركن علي غيدان وقائد العمليات المشتركة الفريق اول ركن عبود قنبر وقائد عمليات نينوى الفريق الركن مهدي الغراوي) نزعوا ملابسهم العسكرية وارتدوا ملابس مدنية وهربوا بأتجاه أقليم كردستان وسلموا أنفسهم للبيشمركة
وقد عرضت القنوات الفضائية بزات عسكرية لرتب عالية ( فريق ركن ، لواء ركن وعميد ركن ) مرمية تحت الأقدام في منافذ الدخول الى أقليم كردستان عندما تزاحم قادة جيش المالكي للهروب الى الأقليم . هذه القيادات الدونكيشوتية التي  طالما هدد المالكي يها اقليم كردستان  والمحافظات المنتفضة.
 
بالله عليكم الا تشبه هذه المسرحية المبتذلة ،  سيئة الأخراج نكتة بايخة لا تضحك أحداً .
قلت في مقال لي نشر قبيل الأنتخابات البرلمانية الأخيرة ، تحت عنوان ( سيناريو المالكي للفوز بولاية ثالثة ) : أن الهدف من أستدراج تنظيم ( داعش ) حليف بشار الأسد وايران الى داخل المدن المنتفضة  هو خلط الأوراق وأفراغ تلك المدن من سكانها وتشريدهم لمنعهم من الأدلاء بأصواتهم في يوم الأقتراع ، وكنت أقصد بذلك سكان مدن محافظة الأنبار في المقام الأول وبعض مدن وبلدات محافظتي صلاح الدين وديالى . ولكني لم أتخيل يوما أن المالكي سوف يسلم محافظة نينوى بكاملها  الى ( داعش ) لأن هذا الأحتمال لم يكن ليخطر على بال احد مهما كان رأيه في المالكي الفاشل وحكومته الفاسدة
 
أطل علينا المالكي يوم الأربعاء من على شاشة قناة العراقية ليقول : "  أن ثمة مؤامرة أو خديعة قد حصلت وأنه لا يعرف من أصدر أمر الأنسحاب الى القادة العسكريين." وبطبيعة الحال فان المالكي كدأبه دائما يكذب على الملأ دون أن يرف له جفن . فجنرالات الدمج ، الذين لجأوا الى أربيل يقولون أن أمر الأنسحاب أصدره المالكي شخصياً ، وهو الآن يتنصل من المسؤولية ويرميها على آخرين ( مجهولين ) حيث لم يتهم المالكي جهة معينة بتدبير المؤامرة أو الخديعة المزعومة .
ما حدث في الموصل جاء تتويجا لعمليات مماثلة أقل شأنا منها أنسحاب الجيش من مدن الأنبار وتسليمها الى ( داعش ) والتواطؤ مع ( داعش ) في عملية اقتحام سجن ابوغريب واطلاق ما يزيد على الف من عتاة الارهابيين، وهروب القيادات والحراس، وانسحاب المهاجمين من دون خسائر.
أراد المالكي أن يحول الموصل الى فلوجة ثانية ويتخذها مبرراً لقصف أحيائها السكنية بذريعة محاربة الأرهابين داخل المدينة ، وأغلب الظن ،  أن أمر المالكي كان ينص على أنسحاب الجيش الى أطراف مدينة الموصل و قصف المدينة من هناك بالصواريخ وقذائف الهاون ، ولكن تخبط جنرالات المالكي وخشيتهم من الوقوع في أسر عناصر ( داعش ) أفسد الأمر كله .
 
 وبعد هروب القادة دب في صفوف  جيش المالكي فوضى عارمة وحاول كل ضابط وجندي الأقتداء  بالقادة الهاربين . وبذلك فشلت خطة المالكي فشلاً ذريعا في تحقيق أهدافها  وخرجت الموصل عن السيطرة تماما . وهكذا أنقلب السحر على الساحر ، ومع سيطرة ( داعش ) على مدن أخرى في طريقها الى بغداد أصيب المالكي بالهلع وأخذ في أنشاء جيش ميليشياوى جديد ، ليس للدفاع عن العراق وتحرير المدن المحتلة وطرد الغزاة بل لحماية الأضرحة المقدسة .
 
 جيش الدمج :
 
يطلق العراقيون على جيش المالكي اسم ( جيش الدمج ) لأنه تكوّن نتيجة دمج عدة ميليشيات ( عراقية) متنافسة فيما بينها على الغنائم وان كانت كلها موالية لأيران ، وقام المالكي بمنح  الرتب العسكرية العالية لقادتها ومن ثم  تعيين عدد كبير من المتطوعين المدنيين العاطلين عن العمل ، أرغمتهم الظروف القاسية على التطوع في الجيش لتأمين لقمة العيش . وكل هؤلاء لا يجمعهم أي هدف مشترك وليس لديهم أي خبرة قتالية في ظروف الحرب. وهم غير مؤهلين لخوض أي معركة حقيقية ، لأن قتل المدنيين العزل بدم بارد  شييء وقتال المسلحين شيء آخر تماماً .
هذا الجيش قادر فقط على مهاجمة المتظاهرين والمعتصمين المطالبين بالخبز والكرامة ، كما حدث في ساحة أعتصام الحويجة قبل عام تقريبا حيث أطلقت قوات المالكي النار على صدور المعتصمين وسحلتهم ومثلت بجثامينهم . وبلغ عدد ضحايا هذا الهجوم الأجرامي الغادر ستين قتيلاً ومئات الجرحي . وكما حدث في بلدة ( بهرز ) الجميلة ، بلدة البرتقال والبساتين الخضراء ، حيث وجه المالكي قطعان ما يسمى ( عصائب أهل الحق ) و( ميليشيا بدر) ، لمداهمة البلدة وكسر أبواب منازلها  وجر الرجال والشباب المتبقين فيها الى وسط البلدة واعدامهم وتعليق جثامينهم على أعمدة الكهرباء  ومن ثم أغتصاب النساء وسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه .
قوات المالكي ( الأمنية  ) أو بتعبير أدق ( جستابو المالكي )  تخصصت أيضاً في تعذيب السجناء واغتصاب السجينات وتهديد واعتقال المدنيين الأبرياء لأقل شبهة وأشهار السلاح بوجوههم وابتزازهم تحت التهديد بانتهاك أعراضهم . هذه هي ( بطولات ) جيش الدمج . ماذا يتوقع الأنسان من جيش يقوده جنرالات كارتونية مشغولين بسرقة المال المخصص لأرزاق الجنود ؟  ، حتى الأجازات المستحقة للضباط والجنود لا تمنح الا لقاء  رشى . ومنذ مذابح الفلوجة لا يعود أي ضابط أو جندي الى وحدته بعد أنتهاء أجازته . وبلغت نسبة الهروب من الجيش أكثر من 30 %. بعد أستشهاد أكثر من ستتة الآف وأصابة ما لا يقل عن ( 25 ) ألف جندي وضابط بجروح وعوق دائم .
 تصور أيها القاريء الكريم (300) ألف جندي وضابط يفضلون البطالة وفقدان لقمة العيش على البقاء ضمن جيش مهزوز ينخره الفساد .
 
بيت القصيد :
 
 الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء في العراق واسعة جدا ، وفوق هذا احتكر المالكي الملف الأمني وهيمن على السلطة القضائية بعد شراء ذمم كبار القضاة ، وضيّق الخناق على البرلمان الذي لم يعد قادرا على ممارسة دوره التشريعي والرقابي . كما سيطر المالكي على الهيئات المستقلة ،  ومع ذلك يطلب الآن  من البرلمان الموافقة على اعلان حالة الطواريْ ، أي ايقاف العمل بالدستور والغاء المحاكم المدنية  بعد أن تيقن أنه لن يحصل على أغلبية الثلثين في مجلس النواب الجديد لأختيار رئيس الجمهورية - كما ينص الدستور العراقي -  والذي يقوم  بدوره بتكليف زعيم الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة الجديدة . ولكن رهان المالكي خاسر لا محالة .، لأن البرلمان لن يحقق مأرب المالكي المريب ولن يوافق على اعلان حالة الطواري التي يريدها المالكي ، لسحق المعارضين للولاية الثالثة . بقاء المالكي في سدة الحكم هو الخطر الأكبر المحدق بالعراق اليوم .
 
jawhoshyar@yahoo.com
جـــودت هوشـيار
 

103
المنبر الحر / فوز بطعم الخسارة
« في: 19:12 27/05/2014  »
فوز بطعم الخسارة

                                                                                                              جــودت هوشيار
 
اذا كانت ماكنة الـ( بروباغاندا ) المالكية تحاول قلب الحقائق وتضليل الرأي العام بحكاية فوز ( مختار العصر ) في الأنتخابات التشريعية الأخيرة ، فأن الأرقام المعلنة  تكذب مزاعمها ، والأرقام كما نعلم ويعلم الجميع ، أدلة دامغة لا يمكن حجبها أو الألتفاف عليها وعصية على الذين اعتادوا الكذب والدجل  .
في الأنتخابات البرلمانية لعام 2010 حصل ائتلاف دولة القانون على 89 مقعداً ، أما في أنتخابات عام 2014  وبعد انضمام ميليشيا (عصائب اهل الحق ) ومنظمة ( بدر ) ،  فأن عدد مقاعد ( دولة القانون ) لا يتجاوز 94 مقعدأ ، أي بزيادة مقعد واحد فقط عن الدورة السابقة رغم تسخير امكانات الدولة ومواردها المالية والبشرية لصالح حملة المالكي الأنتخابية . ، حيث حصل حزب الدعوة الحاكم على 13 مقعداً فقط من مجموع 328 مقعدا أي أقل من ( 3 % ) من مقاعد البرلمان ،  وجاء في ذيل قائمة ائتلاف دولة القانون رغم التلاعب بالأصوات خلال عملية العد والفرز لصالح المالكي ، وحرمان مئات الآلوف من النازحين من أهالى الرمادي والفلوجة وأبو غريب من التصويت .
 والأهم من ذلك أن تغيراً جذريا قد حصل  في تناسب القوى داخل ( دولة القانون ) لصالح ، كتلة المستقلين, وكتلة بدر ,وتنظيم العراق. ، مما جعل المؤتلفين مع المالكي يرفعون سقف مطالبهم  وأدى الى نشوب خلافات شديدة داخل ائتلاف دولة القانون وعلى المالكي تقديم تنازلات كبيرة الكتل المؤتلفة معه للحافظ على تماسك الائتلاف الهش .
وفي الوقت نفسه يواجه المالكي معارضة شديدة  داخل حزبه بسبب ادارته الفاشلة للحزب
وتحويله الى حزب عائلي وتجاهل قادة الحزب التأريخيين .
 
وشهد شاهد من أهلها :
 
أقطاب حزب الدعوة يتحدثون بألم ومرارة عن تحول حزب الدعوة من حزب عقائدي الى تجمع نفعي فاسد يقوده ويعول في نجاحه الانتخابي على شخص رئيسه ،  الذي أخذ يعتمد أكثر فأكثر– شأنه في ذلك شأن صدام – على أفراد اسرته واقاربه على حساب قياديين بارزين في الحزب  ناضلوا في صفوفه لسنوات طويلة وكانت النتيجه الطبيعيه هزيمه الحزب ومرشحيه في الانتخابات الاخيرة .
فقد حمل القيادي في حزبِ الدعوة وليد الحِلي رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي مسؤولية سقوط الحزب المدوي في الانتخابات.
وقال الحلي في تصريح صحفي اِن حزبَ الدعوة هو الخاسر الأكبر في الانتخابات بعد سقوطِ كثير من قياداتِ الحزب لصالح المالكي ومُقربين له من خارج الحزب.
مشيرا إلى أن الانهيارَ الذي تعرض له مرشحو الحزب وقياداته يتحملها المالكي وحده بسبب تجيير مؤسسات الدولة لشخصِ رئيس الوزراء وصهريه وأقاربه  على حساب تضحيات آلاف الشهداءِ من حزب الدعوة، واضاف الحِلي اَن المالكي يَعتقد أن ابعاد منافسيه من حزب الدعوة واسقاطَهم انتخابيا سيجعله الخيار الوحيد لتولي منصب رئيس الوزراء وأمانة الحزب وهذا أمر لن يتم السكوت عنه.
 
وأعلن قيادي آخر  في حزب الدعوة, وهو حسن السنيد في تصريح متلفز, إن الفرحة الكبيرة التي حدثت لأنصار وقيادات ائتلاف دولة القانون بعد إعلان نتائج الإنتخابات النيابية لم تخل  من منغصات.
وذكر إن أبرز المنغصات هي عدم حصول الأغلبية التي كنا نتوقعها, وسقوط صقور حزب الدعوة وعدم ترشحهم للبرلمان الجديد.
وأضاف السنيد إن المنغص الثالث والطامة الكبرى هي حصول حزب الدعوة الإسلامية على "13" مقعدا  فقط ضمن ائتلاف دولة القانون بعد كتلة المستقلين برئاسة حسين الشهرستاني "33" مقعد, وكتلة بدر "22" مقعد ,وتنظيم العراق "16" مقعد.
وفي نهاية حديثه قال السنيد  بالرغم من حصول المالكي على المركز الأول لكنه يتوقع أن تكون الولاية الثالثة صعبة المنال بسبب إجماع الكتل على رفضها , ما لم تتدخل امريكا وإيران كما حصل في عام 2010. .
 
من الفائز الحقيقي في الأنتخابات التشريعية الأخيرة ؟
 
رب قائل يقول  أن المالكي فاز بأكبر عدد من الأصوات ( حوالي 700 ألف صوت) وهذا ليس بالأمر الغريب بعد الرشى التي قدمها الى الناخبين سواء بتوزيع قطع الأراضي على سكان العشوائيات أو تعيين آلاف العاطلين في الجيش والشرطة خلال الحملة الأنتخابية وفرض مقداد الشريفي مديرا للدائرة الأنتخابية وفصل 17 من المديرين العامين في مفوضية الأنتخابات وتعيين آخرين من حزبه بدلاً عنهم وتهديد القادة العسكريين بالفصل والأقصاء في حالة عدم تصويت منتسبيهم للمالكي .
 
ان الفائز الأول الحقيقي في هذه الأنتخابات لم يكن المالكي، بل الدكتور أياد علاوي رئيس قائمة ( الوطنية ) الذي حصل لوحده على حوالي ربع مليون صوت في بغداد ، رغم أنه خارج السلطة ولا يمتلك جيشا ولا اجهزة قمعية ولا ميليشيات أرهابية  وليست تحت يديه موارد الدولة الهائلة ولا يتمتع بأية صلاحيات تنفيذية ولم يوزع قطع الأراضي ولم يرش أحداً ولم يكن بمقدوره تعيين حتى أصغر موظف في المفوضية أو أي مؤسسة حكومية .
وقد ذكرت النائب انتصار علاوي في حديث متلفز ان احد أعضاء مجلس المفوضين ( أعلى سلطة في مفوضية الأنتخابات ) قد أتصل بها هاتفيا وأخبرها أن قائمة ( الوطنية ) التي يتزعمها الدكتور أياد علاوي قد حصل على عشرة مقاعد في بغداد بعد فرز ثلثي ألأصوات ويتوقع أن ترتفع عدد مقاعد ( الوطنية ) الى 14 مقعد وطلب ( 600 ) ألف دولار لقاء الحفاظ على أصوات ( الوطنية ) . وبطبيعة الحال فأن أنتصار علاوي رفضت بشدة  هذا العرض الشائن . وقالت ساخرة اذا كان الحفاظ على الأصوات بـ( 600) ألف دولار ، فبكم ( التزوير ) أذن ؟
والمكالمة مسجلة ويمكن تقديمها الى المحاكم الدولية والأمم المتحدة كدليل دامغ على التزوير الفاضح ، الذي حدث في الأنتخابات الأخيرة .
 
مساومات لشراء الذمم ومعضلة الثلثين :
 
صحيح أن أئتلاف دولة القانون فاز بالمركز الأول ولكنه فوز بطعم الهزيمة ، لأن الأغلبية التي كان يحلم بها المالكي (حوالي 120 مقعد ) لم تتحقق ولم يتبقى امامه سوى اللجؤ الى تقديم أغراءات لذوي النفوس الضعيفة من الكتل الفائزة الأخرى ( مليون دولار نقداً مع سيارة لكل نائب) والتلويح لهم بمناصب وزارية لكسبهم الى جانبه ،  بعد أن وجد نفسه وحيدا خارج السرب .
 
كما يعول المالكي على عدد من النواب الفائزين من الكتل الأخرى  ، الذين سبق أن صدرت بحقهم أوامر ألقاء قبض أو متهمين بقضايا فساد حيث سمح لهم بخوض المعركة الأنتخابية شريطة الأنضمام الى كتلته في حالة فوزهم. وقد ينجح المالكي في تشكيل كتلة من  165 نائبا ومع ذلك سيواجه معضلة كبرى وهي أن أنتخاب رئيس الجمهورية بحاجة الى أغلبية الثلثين من أصوات أعضاء مجلس النواب ، ومن دون أنتخاب رئيس الجمهورية لا يمكن تكليف المالكي أو غيره بتشكيل الحكومة الجديدة .
 
وسواء نجح المالكي او فشل في مسعاه ، فأنه سقط من أعين الجميع وبضمنهم قادة حزبه ، ناهيك عن الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي ،  وسيكون فوزه بولاية ثالثة بداية تفكك العراق ، لأن الكرد والسنة قد توصلوا الى قناعة تامة بأنه يستحيل التعامل مجددا مع المالكي .
واستقلال الكرد و أنفصال السنة مسألة وقد لا أكثر ،  وهي النهاية المنطقية والحتمية لسياسات المالكي الرعناء التي قادت العراق الى حافة الهاوية.
 
ما الذي يمنع تفكك العراق ، اذا كانت دول عديدة أهم وأقوى من العراق ،  قد  تفككت خلال العقدين الأخيرين ( الأتحاد السوفييتي ، يوغسلافيا ، تشيكوسلوفاكية ، السودان … الخ ) ؟.
 
وهذا التفكك حبلى بتداعيات ستؤدي الى وضع نهاية للمالكي كحاكم وحتى كسياسي في ما سيتبقى من العراق  ، لأن الشعب العراقي لن يسامحه بعد  كل ما صنعت يداه وما أراقه من دماء وما بدده من ثروات،  والمحاكم الدولية بأنتظاره ولن يكون مصيره أفضل من مصائر الطغاة الذين أذاقوا شعوبهم مر الحياة ، وان غداً لناظره قريب .

104
جوهر الثقافة ووظائفها الأساسية

                                                                                                    جــودت هوشـيار
 
ترسخت في الوعي الجمعي فكرة مبتسرة عن الثقافة بأعتبارها تقتصر على مجالات  الآداب والفنون حسب ولا علاقة لها بالحياة اليومية . وليس من قبيل المصادفة أن ثمة وزارة للثقافة في العديد من بلدان العالم تتركز وظيفتها الأساسية على الأهتمام بتلك المجالات حصراً  ورعاية المبدعين من الأدباء والكتاب والشعراء والفنانين .
كما شاعت في السنوات الأخيرة أستخدام  مصطلح الثقافة استخداما ضيقا ، للدلالة على  جانب من جوانب العلم مثل ( ثقافة طبية أو قانونية أو بيئية ) أو احد جوانب الحياة الفكرية والمعنوية   من قبيل ( الثقافة الديمقراطية ،  ثقافة الحوار ،  ثقافة الحرية ،ثقافة التسامح ،  ثقافة الأعتذار ، ثقافة التحريم ) وذهب البعض ابعد من ذلك باضافة كلمة الثقافة الى امور لا تمت للثقافة بصلة  مثل ( ثقافة الأستبداد ، ثقلفة التخلف ) . ويكفي القاء نظرة على عناوين المقالات التي تنشر هذه الأيام على المواقع الألكترونية على وجه الخصوص ،  لنكتشف كيف يسيء البعض استخدام كلمة الثقافة على نحو يثير الدهشة ، ان لم نقل ، الأشمئزاز ، مثل ( ثقافة الفقاعة العراقية ) ،  وهذا الأخير عنوان مقال لكاتب عراقي نشر مؤخراً في احد المواقع . كما لا تغيب كلمة الثقافة عن عناوين الأخبار الفتية والرياضية وغيرها ، وقد قرأت خبراً رياضيا في احدى الصحف الخليجية كان عنوانه ( سعوديون ينشرون ثقافة التنقل بالدراجة الهوائية ) .  أياً كانت تلك  المسميات ، الا أنها جميعا ، لا تدل على جوهر الثقافة بمفهومها العلمي . لأن الثقافة ظاهرة تشمل كافة جوانب الحياة البشرية والسلوك الأجتماعي ولا يمكن اختزالها وحصرها في مجالات محددة .
 
ما الثقافة ؟
 
الثقافة أساس الحياة الأنسانية ، نشأت وتطورت مع تطورالأنسان ، وتجسدت فيها كل ما يميز الأنسان نوعيا عن جميع الكائنات الحية الأخرى وعن الطبيعة بشكل عام . ولكن الأهتمام بدراسة الثقافة وتفسيرها امر حديث نسبيا .
 
ظهرت كلمة ( الثقافة ) لأول مرة في روما القديمة ، وكانت تعني استصلاح الأراضي والزراعة. وقد اختفى هذا المعنى الأصلي تدريجيا وحل محله معنى آخر ، يشير الى التنمية الروحية وتحسين المهارات الفردية للأنسان عن طريق التربية والتعليم
 
وفي القرن الثامن عشر ، الذي دخل التأريخ بأعتباره عصر التنوير ،اقتصر  مفهوم الثقافة من حيث الجوهر على الثقافة الروحية. وكانت تعني في المقام الأول ، مستوى الشخص التعليمي والتربوي . وكانت للمعرفة الدور الحاسم في تحديد هذا المستوى ، وان كان من الواضح في تلك الفترة   ، ان التعليم شرط ضروري ولكنه غير كاف ليكون الشخص مثقفا ، ومع ذلك لم تكن الثقافة بعد ،  موضع دراسة معمقة و شاملة ، حتى القرن العشرين ، حيث بدأ الأهتمام الجاد  بدراسة الثقافة على نطاق واسع ، كما يتضح من عدد متزايد من تعريفات مفهوم الثقافة .ووفقا للباحثين بلغ عدد التعريفات  في اوائل القرن العشرين حوالي 10 وفي منتصف القرن العشرين بلغ 150 تعريفا وفي ايامنا هذه ثمة اكثر من 500 تعريف لمفهوم الثقافة .
العديد من فلاسفة عصر التنوير كانوا يفهمون الثقافة على انها درجة الأنسانية في الأنسان والكمال البشري ، وكانوا يقصدون بذلك الثراء الروحي الداخلي .
 
 كان كتاب ( الثقافة البدائية ) لعالم الاجناس البريطاني ادوارد  تايلور ( 1832- 1917) ،   الذي صدر في العام 1871 من اوائل الكتب المكرسة للثقافة  . وقد عرف تايلو الثقافة بأنها         ( مجموع المعارف والفنون والعقائد والقيم والمثل العليا والقوانين والعادات وغيرها من القدرات والمهارات  التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع .)
 
وكان. فريدرخ نيتشه ( 1844 – 1900 ) يفهم الثقافة بوصفها  طريقة حياة مجموعة من الناس .
 
اما عالم الاجتماع الأمريكي ( دانيال بيل – المولود في 1919) ،  فقد عرف الثقافة بأنها  ( منظومة الآراء الجمالية ، والقيم  الأخلاقية وأسلوب الحياة ،  كوسيلة للحفاظ علىالهوية الذاتية الفريدة .)
 
الثقافة في اوسع معانيها هي كل ما خلقه وابدعه واكتسبه الانسان على المدى الطويل ، أوهي  " طبيعة ثانية " ، من خلق الأنسان  نفسه و تشكل عالم الإنسان بكل ما فيه من معتقدات وأتجاهات وقيم ومثل العليا .
ان ثقافة شعب ما  تميز نمط حياته عن أنماط الشعوب الأخرى ، من دون أن تعزله عن ثقافات تلك الشعوب .
 
تقسم الثقافة عادة إلى مادية وروحية. ويعود هذا التقسيم إلى الكاتب والخطيب الروماني  شيشرون ( 43 – 106 ق.م.) ، الذي لاحظ لاول مرة ان ثمة ثقافة روحية اضافة الى الثقافة المادية بمعنى الزراعة .
تشمل الثقافة المادية الأنتاج الصناعي والأسكان والبنى التحتية والمستلزمات المنزلية والملابس واي انجاز مادي آخر، أما الثقافة الروحية فانها تشمل : الأديان ، الفلسفة ، الأخلاق ، العلوم ، الفنون ، الآداب  الخ .كما ينظر الى العلم  باعتباره اساس الثقافة الفكرية والتكنولوجية .
 
تشكل الثقافتان  المادية والروحية وحدة لا تنفصم . فهما نتيجة للنشاط البشري ، وتنطلقان  مما هو روحي ، أي من الأفكار الأبداعية ، التي تتجسد ،  بعد تطبيقها ،  في شكل مادي .
 
الشكل المادي مطلوب ليس فقط لشتى فروع الصناعة والتكنولوجيا ، ولكن أيضا للأعمال الفنية والأدبية ، وما إلى ذلك .ومن أمثلة  الوحدة العضوية بين الثقافة المادية والثقافة الروحية الأعمال المعمارية ، فهي تعد اعمالا فنية ولكنها تخدم في الوقت ذاته اهدافا عملية ( البنايات ، المسارح ،  المعابد ، الفنادق ، المساكن )
ومع ذلك ، فأن بين الأنتاج المادي والأنتاج الروحي اختلافات كبيرة .
 
في العمل الفني أو الأدبي ،  نرى ان الغلاف المادي والمحتوى الروحي ( الشكل والمضمون )  كلاهما يتمتع بنفس الاهمية، في حين من الصعب للغاية  اكتشاف ما هو روحي في الأبداع التكنولوجي . وفي بعض الحالات نجد انهما متعارضان أو  متناقضان.
 
ومنذ القرن التاسع عشر وخصوصا في القرن العشرين ، أصبحت الثقافة المادية تهيمن على نحو متزايد على الثقافة الروحية.
ونرى على هذا النحو ان الثقافة في جوهرها هي التي  تشكل البعد الأساسي  للحياة  البشرية وتجسد  طريقة أو أنماط  حياة الشعوب و الأمم ..
 
الثقافة تشمل كل الظواهر البشرية التي لا تعد كنتائج لعلم (الوراثة البشرية )  بصفة اساسية  بل نتيجة نبوغ القدرة الأنسانية في التعبير عن الخبرات والتجارب بطريقة رمزية والتصرف على هذا الاساس بطريقة ابداعية خلاقة .
وبفضل الثقافة  يتغلب الانسان على الغرائز ( الحيوانية ) ويكتسب  الصفات ( الأنسانية ) ذات الطابع الأجتماعي .
 
ويرى سيغموند فرويد (1856 - 1939) ،  ان الثقافة تشمل كل ما تسمو به الحياة الانسانية  فوق الحياة  الحيوانية او ما يميزها عن الحياة البدائية الفطرية .. وهذا هو جوهر المقولة المعروفة : الأنسان – هو الثقافة  .
 
وظائف الثقافة :
 
الثقافة تلعب دورا مهما في حياة الفرد بصفته عضوا في المجتمع ،  فهي تخلق وعيه وتصوغه وننحكم بسلوكه ،  فهو نتاجها واكتسب منها طبيعته الثانية. ويتجلى هذا الدور في مجموعة من الوظائف، التي بدونها يستحيل تحقيق الرقي الفكري و الأدبي و الأجتماعي للأفراد والجماعات .
 
1 -  وظيفة التنشئة الاجتماعية :.
 
ان تميز الأنسان عن الطبيعة وصياغته اجتماعيا ،  حدث حنبا الى جنب مع نشؤ وتطور الثقافة. المولود الجديد لا يمكن ان يصبح انسانا خارج الثقافة .ولقد وجد ان  الطفل الصغير،  الذي ينتزع من الحياة الانسانية العادية ويعيش عدة سنوات مع الحيوانات في البرية  – كما حدث ذات مرة – يبقى متوحشا ولا يمكنه تعلم اي لغة انسانية أو أي عنصر آخر من عناصر الثقافة بعد اعادته الى حضن المجتمع .
 
لا يمكن للانسان ان يمتلك  الخبرة الاجتماعية المتراكمة عبر الأجيال و يصبح عضوا كاملا في المجتمع.الا من خلال الثقافة التي تتجسد في المعارف و القيم والمعايير والمهارات و العادات والتقاليد والطقوس واللغة والرموز وغيرها .
ثقافة المجتمع تنتقل من جبل الى آخرعبر التنشئة الاجتماعية ، حيث يكتسب افراده الجدد او الاطفال خلال مراحل نموهم الذوق العام للمجتمع ، أي ان الثقافة هي بمثابة نوع من " الوراثة الاجتماعية " ، وهذا يعني أن دورها لا تقل عن دور " الوراثة البيولوجية. "
 
2 – الوظيفة المعرفية والمعلوماتية :
 
وهي، ترتبط ارتباطا وثيقا بالوظيفة الأولى، فالثفافة قادرة على مراكمة كم هائل من المعارف والمعلومات - التي تحدد لأفراد المجتمع تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم . باعتبارها الذاكرة الاجتماعية و الفكرية للجماعات البشرية والشعوب والأمم  . واستخدام هذا الخزين المعرفي في الممارسة الإنسانية عبر التربية والتعليم .
 
3 – الوظيفة التنظيمية والرقابية :
 
وتتعلق في المقام الاول بتنظيم شتى جوانب وأنواع الأنشطة الأجتماعية والشخصية . فهي تؤثر  في مجالات العمل والحياة اليومية والعلاقات الأجتماعية بشكل أو بآخر في سلوك الناس وتنظم  تصرفاتهم وحتى اختيارهم للقيم المادية والروحية .  تنجزهذه الوظيفة في المقام الأول من خلال مراعاة عدة منظومات قانونية وأخلاقية ، ضرورية للوجود الأنساني  و التعايش المشترك بين افراد المجتمع  .
 
4 – الوظيفة الأتصالية :
 
ترتبط  الوظائف الثلاث المذكورة ،  ترابطا وثيقا وبالوظيفة الأتصالية ، التي تتم في المقام الأول من خلال اللغة باعتبارها الوسيلة الرئيسية للاتصال بين الناس .
جنبا إلى جنب مع اللغة الطبيعية فأن مجالات محددة من الثقافة – العلم ، الفن ، التكنولوجيا، الخ -لها لغاتها الخاصة ، التي لا غنى عنها لأستيعاب الثقافة ككل . كما ان معرفة اللغات الأجنبية تفتح الطريق إلى الثقافات الأخري .
 
5 – الوظيفة القيمية :
 
وهي تعزز ما يحتاج اليه  الشخص من التوجهات القيمية ، وتسمح  له التمييز بين الحق والباطل، الخير والشر ، الجميل والقبيح . المعيار لمثل هذه الاختلافات والتقديرات هي القيم الأخلاقية والجمالية في المقام الأول .
 
6 – الوظيفة الأبداعية :
هي خلق المعرفة الجديدة والقيم والمعايير و القواعد والتقاليد والعادات ، بأستخدام التفكير النقدي، وتطوير وتحديث الثقافة القائمة.
 
7 - الوظيفة الترفيهية التعويضية :
 
 وترتبط  باستعادة أو تجديد  القوى البدنية والعقلية للانسان عن طريق الانشطة الترفيهية والتنفيس  النفسي . وما إلى ذلك  . وتكتسب هذه الوظيفة في عصرنا اهمية متزايدة ، لأنها غالبا ما تكون على حساب الوظائف الأخرى
 
الوظائف التي اسلفنا الاشارة اليها وغيرها يمكن حصرها اجمالا في امرين اثنين ، اولهما نقل التجربة الأجتماعية المتراكمة من جيل لآخر ، وثانيهما الأنشطة النقدية الأبداعية .
 
وترتبط هاتان الوظيفتان مع بعضهما ارتباطا وثيقا ويصعب الفصل بينهما .
لأن اختيار التجربة  الأكثر قيمة وفائدة  من كل ما هو متاح، يتطلب تفكيرا نقديا ومقاربة خلاقة .
 
وبدورها فان الوظيفة الابداعية تعني في المقام الاول جميع عناصر وآليات والثقافة، التي تؤدي إلى خلق شيء جديد.
 
الثقافة هي خاصية ملازمة للانسان،  ولكن تصور من يجب ان نعتبره مثقفا حقا امر قد يكون محل جدل ونقاش .
 
المثقف لدى الرومان القدماء  كان الشخص الذي يعرف كيف يختار أصحاب السفر والأشياء و الأفكار - سواء في الماضي او الحاضر . وفي العصور الوسطى كان الشخص المثقف هو الذي يستطيع أن يقرأ الكتاب المقدس.
وكان الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم فريدريش هيغل ( 1770- 1831) يعتقد أن الشخص المثقف هو القادر على القيام بكل ما يفعله الآخرون .
 
لقد عرف التأريخ البشري شخصيات عظيمة كانت على درجة عالية من الثقافة   وكانت معارف  الكثيرين منهم موسوعية واعمالهم في غاية الأهمية والدقة والكمال  مثل ليوناردو دافنشي ( 1452 - 1519 )، الذي كان عالما عظيما  ومهندسا فذاً و فنانا عبقريا في عصر النهضة .
 من الصعب جدا في ايامنا هذه  أن نجد عمليا ، شخصيات موسوعية  ، رغم الزيادة المضطردة في امكانات وفرص اكتساب المعرفة وخلق المثقف على نحو لم يسبق له مثيل ،  وتكمن هذه الصعوبة في أتساع المعارف والمعلومات التي  تتزايد  بوتائر متسارعة  في عصرنا الراهن بحيث باتت تتضاعف كل عشر سنوات .
ولكن  الخصائص الرئيسية للمثقف لا تزال هي نفسها : المعرفة المعمقة الواسعة اضافة الى .التربية الأخلاقية والجمالية ، ومراعاة قواعد السلوك المقبولة اجتماعيا ، ومعرفة اللغات الأجنبية.
ولكن صورة المثقف المعاصر لن تكتمل من دون الألمام بمهارات تكنولوجيا المعلومات بما فيها  أستخدام  الكمبيوتر والأنترنت و الأجهزة الرقمية الذكية .
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com



105

في يوم الصحافة الكردية

جـــودت هوشـيار
 
يعود الفضل في تحديد يوم الصحافة الكردية والأحتغال به في الثاني والعشرين من شهر  نيسان من كل عام الى الأكاديمي الراحل الدكتور معروف خزندار ، الذي عثر في أوائل السبعينات من القرن الماضي على نسخة أصيلة من جريدة " كردستان " التي صدرت في العاصمة المصرية  القاهرة  في ( 22-4- 1898 ) من قبل مقداد مدحت بدرخان كأول جريدة كردية في  التأريخ ، وكانت تطبع بأربعة الآف نسخة ، وهو رقم كبير حتي بالنسبة للصحف الكردية في يومنا هذا .
 
لعبت الصحافة الكردية منذ ظهورها فى أواخر القرن التاسع عشر دورا تأريخيا مجيدا فى ايقاظ الوعى القومى وبلورة أهداف الحركة التحررية الكردية والتعبير عن الأمانى القومية والتطلعات ألأنسانية لأمة مجزأة ومضطهدة (بفتح الهاء) والدعوة الى اشاعة الديمقراطية، كما اسهمت على نحو مؤثر وفعال فى نشر المعارف الحديثة والأفكار الأصلاحية مثل العدالة الأجتماعية والمساواة وضمان الحريات الأساسية وسيادة القانون ، وتوسيع قاعدة التعليم المجانى والدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وتحديث المجتمع فى كافة مجالات الحياة .
 
ان الرسالة الوطنية والأنسانية التى نهضت بها الصحافة الكردية خلال قرن ونيف ، كانت تستدعى ان تكون صحافة رأى فى المقام الأول ، شأنها فى ذلك ، شأن الصحافة المعبرة عن طموحات وتطلعات الشعوب المناضلة الأخرى من اجل نيل حقوقها المشروعة و على النقيض من الصحافة الغربية التى نشأت وتطورت كصحافة خبر .
 
كانت الصحف والمجلات الكردية فى بداية نشأتها وحتى عهد قريب بسيطة فى تحريرها واخراجها، تهتم بالرأى قبل المظهر والشكل وتعبر بصورة مباشرة عن رأى الجهة التى تمثلها او تنطق بأسمها او رأى ناشرها الذى كان فى معظم الأحيان احدى الشخصيات السياسية او الأجتماعية او الثقافية الكردية المعروفة ( أبناء الأمير بدرخان ، بيره ميرد ،الأخوين حزنى وكيو موكريانى...الخ )، وكان عدد لا بأس به من الأدباء المتطوعين ، يعملون فى تلك الصحف والمجلات او يسهمون فى تحريرها من دون أجر او مكافأة وكان العمل الصحفى جهادا حقيقيا من اجل نشر المبادىء والتعبير عن وجهات النظر المختلفة ، التى كانت غالبا ما تتعارض مع السياسات الرجعية والشوفينية لحكومات الدول التى تتقاسم كردستان ، لذا فقد تحمل الصحفيون الكرد الرواد مخاطر المهنة بكل جدارة وقدموا التضحيات الجسام وتعرضوا الى الملاحقة والقمع وشتى صنوف الترهيب. وعلى الرغم من ان مقص الرقيب كان مسلطا على الصحافة الكردية فى معظم الأحيان، و كانت الرقابة مزاجية ، حيث تسمح او تمنع نشر ما تشاء ، الا ان مصير كثير من تلك المطبوعات الدورية ، كان الغلق لفترات مختلفة او الغاء الأمتياز.
 
لذا ، ليس من قبيل المصادفة ان الجريدة الكردية الأولى ( كردستان ) تأسست فى المنفى ،وفي مدينة ( القاهرة ) تحديدا واضطرت تحت ضغط السلطات العثمانية التعسفية الى نقل مقرها من العاصنة المصرية الى جنيف اولا ثم الى مدن اوروبية اخرى ، حيث كانت السلطات العثمانية تلاحق الجريدة من دولة الى اخرى مستخدمة نفوذها السياسى والدبلوماسى لدى الدول المضيفة للجريدة الكردية الأولى .
 
واذا كان ال بدرخان قد استطاعوا وبشق الأنفس اصدار (31) عددا من جريدتهم الرائدة، الا ان ثمة عشرات الصحف والمجلات الكردية، التى لم يصدر منها سوى عدد واحد او بضعة اعداد ، بسبب ضعف الأمكانات المادية او محاربة السلطات لها وندرة الكوادر الصحفية المؤهلة لأدارتها.
وغنى عن البيان،ان الصحافة الكردية ولدت وتطورت فىخضم الحركة التحررية الكردية وعبرت اصدق تعبير عن مبادىء هذه الحركة واهدافها ، وكانت دائما فى خدمة قضايا الشعب والوطن ، ورغم الظروف الشاذة ، التى رافقت نشأتها وتطورها، الا انها أدت دورا تأريخيا بالغ الأهمية .
اما اليوم ، فأن التجربة الديمقراطية التى يمر بها شعبنا فى كردستان العراق والتطور الملحوظ فى تقنية الصحافة و تغير مفهوم الرسالة الصحفية، قد أدى الى وضع صحافتنا أمام تحديات جديدة وجادة، فقد تغير العالم من حولنا كثيرا فى العقدين المنصرمين وحدثت تطورات مذهلة فى وسائل الأتصال الجماهيرى وظهرت وسائل جديدة ، فى مقدمتها البث التلفزيونى الفضائى والأنتريت و الصحافة الألكترونية ، التى تستقطب اليوم اهتمام المشاهدين و تستحوذ على الجزء الأكبر من اوقات راحتهم و تنافس وسائل الأعلام التقليدية ومنها الصحافة المقرؤة وتتفوق عليها من حيث القدرة على النقل الآنى الحى للحدث لحظة وقوعه .
 
هذه الوسائل الجديدة التى تنقل المضامين والأفكار والأحداث عن طريق الصوت والصورة فى ان معا وبسرعة الضؤ، متخطية الحواجز الجغرافية والسياسية ، حولت كوكبنا الى قرية عالمية – حسب تعبير العالم الكندى مارشال ماكلوهان - وجعلت من الأعلام السمعى – البصرى قوة مؤثرة تسهم فى تكوين وتغيير قناعات الرأى العام وأداة ضغط هائل على الحكومات و صانعى القرارات ووسيلة من وسائل الديمقراطية المباشرة ( التى تتميز بأستخدام التلفزيون الفضائى والأنترنيت فى استجلاء اراء الناس وردود فعلهم ازاء الأحداث المهمة والقضايا القضايا الحساسة واتخاذ القرارات فى ضؤ ذلك .
 
وقد اضطرت الصحافة المطبوعة فى الدول المتقدمة الى تغيير سياساتها وتوجهاتها تحت تأثير التطور التكنولوجى وظروف ومتطلبات العصر الراهن ، واستطاعت ان تتكيف مع التطزرات الجديدة فى مجال الأتصال الجماهيرى بأتباع وسيلتين :-
 
الأولى : اللجؤ الى التخصص ، حيث اخذ كل مطبوع دورى – سواء اكان على شكل جريدة او مجلة –يخاطب جمهورا معينا له هوايات واهتمامات محددة او يتوجه الى فئة معينة – من حيث الجنس والعمر – او اصحاب مهن متشابهة – مثل الأطباء ، المهندسين ، المحامين ، رجال الأعمال – اويتخصص فى مجال معين من مجالات العلوم والتكنولوجيا ، وما الى ذلك .
والثانية : التركيز على الأحداث والوقائع المحلية المهمة وعلى الأخبار ، التى تهم القراء والمعلومات التى تساعدهم على تكوين وبلورة ارائهم وقناعاتهم بأساليب ومعالجات تتسم بالحيوية والتشويق وقادرة على اثارة فضولهم ، بما تقدمه من تفسيرات تفصيلية للوقائع الأنية على درجة عالية من الدقة والموضوعية ، وبذلك اصبحت الصحافة المطبوعة عنصرا مكملا للأذاعة والتلفزيون ، حيث تعزز ما تبثه المحطات الأذاعية والقنوات التلفزيونية من اخبارو برامج مختلفة .
 
و تشهد الصحافة الكردية المطبوعة اليوم انتعاشا كبيرا وتعمل فى اجواء مختلفة تماما عن العهود السابقة ، ويتمثل ذلك فى هذا الكم الهائل من الصحف والمجلات الدورية الصادرة فى الأقليم التى باتت محط انظار زوار كردستان ، كما يتجلى فى تقنية الطباعة الحديثة نسبيا واساليب التصميم الفنى والأخراج الصحفى ، وان كان هذا التطور متواضعا قياسا الى التطور الحاصل فى الدول المتقدمة وعدد من دول المنطقة وبخاصة دول الخليج ولبنان ، ولكنه تطور ملحوظ اذا اخذنا بعين الأعتبار ندرة الكوادر الكردية الفنية المؤهلة فى مجال تقنية الصحافة المتقدمة .
 
بيد ان هذا التوسع الأفقى والتطور التقنى لم يتحولا بعد الى تطور نوعى فى المستوى المهنى للصحافة الكردية ، فهى ما تزال أسيرة التقاليد الصحفية القديمة والأراء الجاهزة ، اى انها صحافة رأى او بتعبير ادق صحافة مقالات ، قبل ان تكون صحافة خبر ، فى زمن اخذ هذا النوع من الصحف والمجلات يتراجع بل يختفى حتى فى الدول النامية - ناهيك عن الدول المتقدمة - لأن صحف الرأى اصبحت عاجزة عن استقطاب اهتمام الجمهور القارى والتفاعل معه ء ، و غير قادرة على منافسة وسائل الأعلام السمعية – البصرية .
 
يقال احيانا ان التطور اللاحق للصحافة الكردية ، يرتبط بظهور الصحافة الأهلية المستقلة       ( صحافة القطاع الخاص ) فى الأقليم ، الى جانب الصحافة الرسمية والحزبية ، ولكن علينا ان لا ننسى ان الصحفيين فى الغرب ناضلوا طويلا من اجل التحرر من سيطرة رأس المال الموظف فى الصحافة وان القيود التى كانت تفرضها الجهات الممولة للصحف على ما ينشر فيها من مواد ، لم تكن بأى حال من الأحوال اهون من قيود الصحافة الموجهة من قبل الحكومات القمعية والأنظمة الأستبدادية ، ولقد اثمر نضال الصحفيين فى الغرب عن مكاسب مهمة ، لعل فى مقدمتها ، مساهمة الصحفيين فى ادارة المؤسسات الصحفية واستقلال هيئة التحرير عن الأدارة واصحاب الصحف. وقد ادى ذلك الى تغيير مفهوم حرية الصحافة التى لا تقتصر على حرية التعبير وابداء الرأى ، بل يشمل ايضا ضرورة اعلام المواطن على اكمل وجه ممكن بكل ما يمس حياته ومستقبله وتوفير المعلومات التى تمكنه من الوصول الى قناعات محددة بشأن قرارات السلطة والتعبير عنها عبر شتى الوسائل وبضمنها الأنتخابات العامة الحرة النزيهة ، وهذا تحول بالغ الأهمية من مبدأ حرية الصحافة الى مبدأ حق المواطن فى الأعلام ، وهو حق يعكس الرغبة المتزايدة فى معرفة الوقائع ، كل الوقائع المهمة ، وفى ضوء هذه الحقائق يمكننا ان ندرك الأسباب الحقيقية وراء عزوف القارىء الكردستانى عن معظم ما ينشر فى صحافتنا المحلية ، ما عدا بعض الحالات المحددة ، عندما يكون هناك احداث بارزة او قرارات لها علاقة بهمومه وحياته اليومية وبخاصة ما يتعلق منها بالخدمات والسكن والتعليم والأسعار وانظمة الخدمة والتقاعد وما شابه ذلك .
 
ان التقنية الحديثة وحدها غير كافية لجعل الصحافة الكردية المطبوعة ، صحافة مقروءة على نطاق واسع . والبعض من اهل الصحافة والمثقفين الكرد ، يعزو ذلك الى قلة الكوادر الصحفية المؤهلة والمتخصصة وتدنى القدرة الشرائية للمواطنين عموما والمثقفين منهم على وجه الخصوص ،  الذين يشكلون الجمهور القارىء الأكبر لصحافتنا المطبوعة ، وهذا صحيح جزئيا وبقدر تعلق الأمر بندرة الكوادر الصحفية المؤهلة ،  أما القدرة الشرائية فقد أرتفعت اليوم كثيراً في السنوات الأخيرة ومع ذلك لا نجد أقبالاً كبيرأ على قراءة ومتابعة الصحف عموما ما عدا بعض الصحف ، واسعة الأنتشار فى الأقليم التي  تستقطب اهتمام القراء ، خاصة حين تنشر بعض الأخبار والموضوعات المحلية الساخنة ، ذات المساس المباشر ببعض جوانب الحياة اليومية للمواطنين او ما يثير اهتمامهم وفضولهم ، فيى حين ان الكثير من الصحف والمجلات الأخرى تتكدس فى الأكشاك والمكتبات دون ان تثير اى اهتمام لدى القراء ، ومع ذلك ، فهي  مستمرة بالصدور ، وهذا الأمر يثير تساؤلات عن مصادر تمويلها ! ويقال ان البعض منها صحف حزبية تدعي الأستقلالية .
 
القارىء الكردستانى قارىء ذكى ونهم ، وله اهتماماته الفكرية والحياتية وارائه الخاصة فى كل ما يتعلق بحياته اليومية ومستفبله وفى ما يجرى من حوله وفى العالم من احداث ، لذا فأن المواد الصحفية المملة والبعيدة عن ميوله وهمومه ومشاكله لا تهمه كثيرا ، كما ان ، الوسائل الأعلامية الأخرى ( الأذاعة ، التلفزيون ، الأنترنيت ) قادرة على تغطية الأحداث الخارجية بشكل اسرع واكثر تشويقا وجاذبية من الصحافة المحلية المطبوعة . لذا فأن القارىء على حق دائما ، لأنه حين يقتنى اى صحيفة او مجلة محلية ، يتوقع ان يجد فيها ما يثير اهتمامه ويشبع فضوله ومايسهم فى اعطاء صورة حفيفية للواقع المعاش .
 
صحيح ان صحافتنا الكردستانية تتطور اليوم بخطى حثيثة نحو مزيد من التطور النوعى وتعمل فى اجواء هادئة ومستقرة الى حد كبير وفى اطار المصلحة العامةوالقيم العليا للمجتمع الكردستانى ولا تخضع لأية رقابة او قيود رسمية ، ولكنها صحافة تغلب عليها الصفة الحكومية او الحزبية ، ولا توجد الا صحف اهلية قليلة مستقلة فعلاً ، ولا يرجع ذلك الى اسباب سياسية ، بل الى اسباب تجارية فى المقام الأول ، لأن الصحف الأهلية صحف خاسرة تجاريا ( من دون الدعم الحزبي ) ، ، ولكن مع ذلك ، فأن الصحافة الكردية ما زالت وفية لتقاليدها الوطنية والنضالية المجيدة ، ولكننا نطمح ان تكون ايضا صحافة معاصرة – صحافة خبر ورأى فى ان معا واداة فعالة للرقابة الشعبية المستقلة على نشاطات السلطة التنفيذية وان تنهض بدور أكبر فى تطوير التجربة الديمقراطية فى كردستان .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@ yahoo.com



106
الكابوس الذي اقض مضاجع المالكي

                                   
جـــودت هوشـيار

الوثائق الرسمية والأدلة الدامغة ، التي قدمها وفد المعارضة السورية الى مؤتمر  ( جنيف -2 )  لا يدع مجالا للشك ان ( داعش ) هي صنيعة النظام السوري . وهذا ما أكده المفكر السوري البارز الدكتور صادق جلال العظم في لقاء مع صحيفة " المدن " اللبنانية . يقول العظم " متخوف من "داعش" ويجب التخلص منها. إلا أنني أعتبرها امتداداً للنظام وسترحل مع رحيله. "داعش" هي صنيعة النظام، سواء الإسلاميين الذين تم الإفراج عنهم، أو المجرمين والمرتزقة. هذا لا ينفي وجود أجانب استقطبهم "الجهاد". إلا أنني أعتبر "داعش" العدو المفيد للنظام. استفاد منها ولم تقاتله. اكتفت حتى الآن باصطياد النشطاء والمعارضين، أي أنها حتى اليوم تقاتل أعداء النظام."
 
نعرف ويعرف كل عراقي ، ان نظام المالكي حليف ستراتيجي للنظام السوري ، يمده بالمقاتلين والأموال وبسهل عليه انتهاك العقوبات الدولية المفروضة عليه . وقد أقحم المالكي نفسه والشعب العراقي  بأسره في حرب أستنزاف طويلة مع " داعش" وهو يقامر اليوم بمصيره ومصير العراق  من اجل الفوز بولاية ثالثة ، فقد قام  بأستدراج " داعش " الى داخل مدن محافظة الأنبار بعد أن كان محصورا في وادي " حوران " قرب الحدود السورية . وقد خيل اليه انه بلعبته هذه سيحقق ثلاثة اهداف ستراتيجية دفعة واحدة .
 
الأول : الأستقطاب الطائفي
 
أراد المالكي حشد تأييد الشيعة واستمالتهم الى جانبه عن طريق الأيحاء اليهم ان الأرهاب الذي يحصد أرواحهم وارواح  العراقيين كل يـوم وكل سـاعة يتمثل في   " داعش "  والسنة العراقيين ودول الخليج وخاصة السعودية وقطر ، ( لا حظ خلط المالكي المتعمد بين داعش والسنة ودول الخليج ). وليس ادل على ذلك من تصريح النائبة عن دولة ( القانون )  ، حاملة هوية (صديقات صدام )  ( الماجدة ) حنان الفتلاوي ، حين قالت في لقاء متلفز " ينبغي قتل سبعة من السنة مقابل سقوط سبعة شيعة ، وهو تحريض علني على قتل السنة وأرهاب دولة بأمتياز لأن الفتلاوي تكاد ان تكون ناطقة رسمية  بأسم دولة ( القانون ) .
ولم يصدر عن المالكي وحزبه أي شجب لهذا التحريض الطائفي لحد الآن رغم ادانة الشعب العراقي بكل مكوناته وشجبه واستنكاره لهذا التصريح الذي ينطبق عليه المادة الرابعة من قانون مكافحة الأرهاب . كما لم تتخذ مفوضية الأنتخابات أي اجراء ضد الرفيقة الماجدة  ، بل على العكس من ذلك استبعدت من الأنتخابات كل صوت حر  فضح سياسات المالكي الكارثية وفساد حكومته أو فرضت عليه غرامة مالية كبيرة ( مها الدوري مثلاً ) .
 
الثاني : اضعاف الزخم الأنتخابي
 
خيل للمالكي، ان أنتهاء أزمة الأنبار ( بعد فض الأعتصام مقابل تلبية مطالب المعتصمين المشروعة )  واجراء الأنتخابات البرلمانية المقبلة في اجواء هادئة نسبيا يعني ان أهل المحافظات المنتفضة سيدلون بأصواتهم بكثافة وحماس الى ممثليهم الحقيقيين الذين سيشكلون كتلة برلمانية كبيرة ..
و لو قدر لهذه الكتلة الجديدة ان ترى النور فأنها كانت ستتشكل من سياسيين حاول المالكي - منذ الأنسحاب الأميركي من العراق - تصفيتهم سياسياً بأبعادهم عن المناصب الحكومية والبرلمان ومعنويا بملاحقتهم بتهمة الأرهاب وجسديا في السجون والمعتقلات او بالكواتم وغيرها .
ان ظهور كتلة قوية معارضة في البرلمان المقبل كان يعني قطع الطريق أمام المالكي للفوز بولاية ثالثة ، لأن معظم ان لم يكن كل القوى السياسية الأخرى تعارض تولى المالكي رئاسة الوزارة مجددا . فالتحالف الوطني تفكك عمليا والتململ من سياسات ( مختار العصر ) وصل الى داخل حزب الدعوة . وقد اقض احتمال ظهور مثل هذه الكتلة البرلمانية مضاجع المالكي
 
لذا اصبح افراغ اكبر مدينتين في محافظة الأنبار ( الفلوجة والرمادي ) هو الهدف الآني والشغل الشاغل   للمالكي ولم يجد طريقة أفضل لتحقيق هذا الغرض  من أستدراج " داعش " الى داخل هاتين المدينتين ،  ليتسنى له تحويلهما الى ساحة حرب و قصف أحيائهما السكنية بالمدافع الثقيلة والصواريخ لأجبار سكانهما على الرحيل والنزوح  ولقد بلغ عدد الأصابات لحد الآن  في مدينة الفلوجة  وحدها أكثر من (1000) قتل وجريح حسب بينات مستشفى الفلوجة العام .
 
وتشير  احصاءات وزارة التخطيط العراقية ان عدد سكان محافظة الأنباريبلغ  حوالى مليون ونصف المليون نسمة ، نزح منهم لحد الآن حوالى 600 ألف نسمة وما تبقى منهم لا يستطيعون التوجه  الى مراكز الأقتراع والأدلاء بأصواتهم تحت القصف المدفعي والصاروخي والأشتباكات المسلحة ،حتى لو كانت مثل هذه المراكز موجودة فعلاً . وقد اعترفت  مفوضية الأنتخابات أنها عاجزة عن اقامة مراكز للأقتراع العام في الفلوجة والبلدات التابعة لها ، ولم تكن للمفوضية مراكز تسجيل الناخبين في الفلوجة أصلاً ولم تزودها ببطاقات الأقتراع الألكترونية مما يعني حرمان هذه حرمان سكانها من الأشتراك الفعلي في الأنتخابات .
 
ولم يكتف المالكي بأفراغ مدن وبلدات محافظة  الأنبار من قسم كبير من سكانها ومنع البقية من الأشتراك في الأنتخابات المقبلة ، فأخذ بتسريب عناصر  " داعش " بكل ما تمتلكه من آليات ثقيلة وأسلحة متطورة الى بلدات وقصبات المحافظات السنية الأخري ( الموصل ، صلاح الدين ، ديالى  ) ويبدو ان جهود حلفائه الجدد من (  الداعشيين )  لم تكن كافية لذا أستعان بميليشيات ( بدر ، واهل الباطل )  لأرتكاب مجزرة دموية بشعة في بلدة ( بهرز ) الجميلة وأرغام سكانها على الرحيل.وافتعال معارك جانبية في طوزخورماتو وسليمان بك وبلدات أخرى والغرض أصبح واضحا وضوح الشمس وهو افراغ هذه المناطق من سكانها جزئيا ومنع ما تبقى منهم من التوجه الى صناديق الأقتراع .
 
ثالثاً : اعلان حالة الطواريء
 
منذ بدأ العمليات الحربية فرض المالكي تعتيما اعلاميا كاملا على أنباء المعارك والبيانات الصادرة عن الوزارات الأمنية او قادة الجيش ، لا تعكس بأي حال من الأحوال حقيقة خسائر طرفي ( النزاع ) ، فلو صدقنا البيانات الحكومية لأنتهت الحرب قبل أسابيع من الآن .ففي كل يوما نقرأ عن قتل العشرات من عناصر " داعش " بينهم قادة ميدانيين . ولكن الحقيقة هي غير ذلك لأن حكومة المالكي تتستر على ضحايا القوات المسلحة التي قدرها نائب من الأنبار بين ( 5000 – 6000 ) قتيل ، وأعلن النائب بهاء الأعرجي قبل حوالي شهر عن اعطاب " داعش " لأكثر من ( 70 ) مدرعة للجيش. 
وفي العاشر من الشهر الجاري ( نيسان 2014 ) دعا العالم الديني السيد حسين الحكيم الى اتباع الشفافية في الكشف عن الاعداد الحقيقة لضحايا الاعمال العسكرية الجارية في بعض مناطق العراق. وقال الحكيم في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي " الفيس بوك " " قبل قليل تشرفت بزيارة الامام أمير المؤمنين عليه السلام ولاحظت - مع كون الوقت في حوالي الحادية عشر ليلا - كثرة جنائز شبابنا من شهداء القوات المسلحة، بعضهم استشهد في الموصل وبعضهم في الفلوجة وبعضهم لم يتيسر لي ان أعرف اين سفك دمه المهدور".
 
واضاف السيد الحكيم " ان لم يكن في الاموال وضوح وشفافية فهل الدم رخيص الى هذا الحد بحيث يعتم عليه وتخفى المعلومات الحقيقية لعدد شهدائنا من شبابنا الغيور على دينه ووطنه".
وليس لنا تعليق على ما كتبه  السيد الحكيم سوى المطالبة بكشف المستور  ووضع حد لحرب الأستنزاف هذه ، الذي اكتوى العراقيون والعراقيات بنارها ، ونخشى ان تصل النار الى المنطقة الجرداء التي يتحصن فيها المالكي ، وربما هذا ما يريده المالكي لأتخاذه ذريعة لأعلان حالة الطواري واعلان نفسه حاكما اوحد مدي الحياة والبدأ بمجازر دموية جديدة أشد فظاعة من مجازر 8 شباط الأسود عام  1963 .
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


107
نصيحة يوليوس قيصر للمالكي

                                                                                                           جــودت هوشـيار
 
سألت عدداً من الأصدقاء،  الذين عرفوا جواد ( نوري ) المالكي عن قرب خلال فترة لجوئه الى كردستان المحررة في منتصف التسعينات من القرن الماضي ،  عن شخصية  هذا الرجل ، وكانت اجاباتهم متشابهة وتكاد أن تكون متطابقة . قالوا جميعاً : " ان المالكي كان انساناً عاديا ومتواضعاً ، منطوياً على نفسه ، قليل الكلام ، ويتجنب الدخول في أي نقاش أو سجال سياسي ، ربما لكي لا يكشف عن آرائه الحقيقية ، التي قد لا تعجب الآخرين ، ولم يكن يتمتع لا بالجاذبية الشخصية ولا بسرعة البديهة ولا أو أي ملمح من الملامح القيادية او الكاريزمية .
 اذن كيف تغير هذا الأنسان العادي المتواضع الى أنسان آخر ، متغطرس ونرجسي وانفعالي ، والى حاكم مستبد ، حكر السلطات بيده واستفرد بالقرارات المصيريه وقمع صوت كل ناقد وناصح ، كيف تحول هذا الأنسان العادي  الى سييف مسلط على شعب العراق ، وآلة جهنمية للقمع والتصفيات الجسدية والمعنوية ، وحول العراق الى ضيعة له ولأقاربه وحاشيته . لم أجد جواباً عند أصدقائي على هذه التساؤلات . ومن اجل فك  لغز هذا التحول الذي طرأ على شخصية وسلوك المالكي ، كان لا بد من الرجوع الى البحوث النفسية والأجتماعية عن تأثير السلطة على الشخص غير المؤهل للقيادة ، عندما يجد نفسه في قمة السلطة .
 
وكانت النتيجة مذهلة !
 
فقد تبين ان علماء النفس والأجتماع في الجامعات الغربية قد أجروا العديد من التجارب المختبرية  على اشخاص عاديين عن طريق اشراكهم في  تجربة  اسمها " لعبة الدكتاتور " حيث تمكنوا من الأيحاء اليهم انهم اصبحوا يمتلكون قوة قاهرة ، وبعد تقمصهم  شخصية الدكتاتور ، تحولوا الى اشخاص آخرين تماماً ، قساة متكبرين ، يستمتعون بالعنف وبأيذاء الآخرين  وبقدرتهم على التحكم في مصائرهم .
كما درس هؤلاء العلماء في السنوات القليلة الماضية ،الأنحراف النفسي المرضي لدى طغاة العصر ( هتلر ، ستالين ، بينوشيت ، بول بوت ، شاوشيسكو ، صدام حسين ، القذافي وغيرهم ) وقارنوا بين سلوكهم وأفعالهم وتصرفاتهم قبل تولي السلطة وبعدها  وأشبعوا هذه المسألة دراسة وتحليلا وكشفوا خفايا " مرض السلطة " . وسأحاول وبتركيز شديد الحديث عن أهم استنتاجات هؤلاء العلماء ، عسى ان يدرك كل عراقي نزيه وشريف وكل من لم يصب  بلوثة الطائفية ، مدى خطورة بقاء المالكي في سدة الحكم ، على مصائر البلاد والعباد .
يقول هؤلاء العلماء :ان الصفات القيادية للزعيم الكاريزمي من جاذبية ،  و حضور طاغ  ،  وسحر شخصي  وتأثير ايجابي على الآخرين ) هي صفات  فطرية تتحكم فيها ( الجينات ) والأشخاص الذين يتمتعون بهذه الصفات هم في العادة أشخاص لهم القدرة على تشخيص وتحليل وحل المشاكل وتقدير المواقف ومواجهة التحديات بهدؤ واتزان واتخاذ القرارات الصحيحة لمصلحة بلادهم ومستقبل شعوبهم .وهم في العادة وصلوا الى سدة الحكم عن طريق أنتخابات حرة نزيهة وفي اجواء ديمقراطية .
أما الأشخاص الذين لا يتمتعون بهذه الصفات و يجدون أنفسهم في سدة الحكم بالصدفة ، فأن تغيرات هيكلية وهرمونية تطرأ على أدمغتهم .
يقول الباحث  أندي ياب ( Andy Yap) من جامعة كولومبيا : " عندما يجد شخص عادي نفسه في سدة الحكم يشعر بالقوة التي تمنحه السلطة ،  ويخيل اليه أن بوسعه الآن التأثير في الآخرين والتحكم في مصائرهم .
 
ثمة مقولة مشهورة للمؤرخ الأنجليزي لورد أكتون (1834 - 1902): " السلطة مفسدة والسلطة المطلقة ، مفسدة مطلقة "
ولكن الباحث جوي ماغي ( Joe Mgee) من جامعة نيويورك يفسر مقولة اللورد أكتون على نحو أعمق فيقول : بأن السلطة تمنح صاحبها الكثير من المزايا و تكشف القناع عن طبيعته الذاتية وتحرره من القيود والضغوط الخارجية ، فتتحرر ذاته  وتخرج الي السطح ويطلق لنفسه العنان من قيود الحياة. فالأنسان عندما يكون خارج الحكم يعيش في اطار الأعراف الأجتماعية ، ففي مكان العمل مثلا يتعرض لضغوط رؤسائه ويضطر للتكيف مع زملاءه ومع من يتعامل معهم ولكن عندما يحصل على السلطة يتحرر من هذه الضغوط ومن كثير من القيود التي كان مضطرا الى عدم تجاوزها . .
 
ويتجلى هذا التحرر  بعدة اشكال ، فقبل كل شيء ، صاحب السلطة المستبدة لا يقيم وزناً لآراء الآخرين  ولا  يأبه بنصائحهم  ، ويتخذ قرارات خطيرة من دون التفكير في المخاطر المحتملة ، التي قد يصادفه في طريق الوصول الى  الاهداف التي يقصدها ، بسبب ارتفاع مستوى هرمون الهيمنة (تستوستيرون) وانخفاض مستوى هرمون الكورتيزول ( هرمون الإجهاد) لديه  .
 
فتنطلق قواه المكبوتة من عقالها ويتحرر سلوكه وتصرفاته من الخوف وتغكيره من من ادراك رعواقب الأمور . وقد ثبت من الناحية البيولوجية ان نشوة السلطة مشابهة تماما للنشوة التي يحس بها الأنسان عند تناول ( الكوكايين ) حيث يستهين بالصعوبات والمخاطر ويخيل اليه أنه حر وطليق و قادر على  تخطي كل الصعوبات .
 
مثل هذا الحاكم يعتاد على السلطة ويعشقها ويدمنها ويحاول التمسك بها الى آخر نفس ، كما مدمن ( الكوكايين ) . وهو على استعداد لأرتكاب أي جريمة من اجل الأحتفاظ بالسلطة .
 
ان السلطة في يد  انسان يعاني من مركب النقص تنطوي على مخاطر اهمها امكانية انزال العقاب بالآخرين.
ان ثنائية العقاب والعفو . والتحكم بمصائر الآخرين – امر مغر كثيرا ، واذا كان الحاكم يستمتع بهذا ، فأن البلد يتعرض الى مآسي وكوارث لا تنتهي .
 
ما الذي يدفع مثل هؤلاء المغامرين  الى التكالب على  السلطة بهوس مرضي . ؟ انه قبل كل شيء حب الذات والطموح و احيانا الرغبة في الأثراء  .
وقد لاحظ بعض علماء النفس ، ان مثل هذه السلطة المنفلتة من عقالها تقترن دائما بالنفاق . فالحاكم يدعي النزاهة ولكنه لا يفوت فرصة لأستغلال نفوذه لمصلحته الشخصية . فهو يأخذ كل ما يرغب فيه ، لأن بوسعه ان يفعل ذلك دون الخشية من المحاسبة او العقاب ، وعقله الباطن يوحي اليه ان له الحق في هذا التصرف .
 
التأريخ يعلمنا ان ما من مغامر أو مدمن سلطة أستطاع تحقيق التقدم لبلاده  والسعادة لشعبه والسبب هو ان نمط الحياة ، الذي يتصوره الحاكم المغامر والمستقبل ، الذي يحلم به لبلده  ،  يختلفان  تماما عما يتطلع اليه شعبه . وهذا امر مرعب  حقا ، لأن الحاكم المغامر  يبدا بفرض الواقع الذي يتخيله بالقوة ، بالقمع والأضطهاد وتصفية المعارضين ، رغم معارضة اغلبية الشعب لأحلامه المريضة .  .
 
كان الأمبراطور يوايوس قيصر حريصاً على أن يكون الى جانبه رجل حكيم ، يردد على مسامعه يومياً : " تذكر ، انك مجرد أنسان لا أكثر"
فهل بين مستشاري المالكي والمقربين منه ، رجل حكيم وجريء  ، قادر ان يقول له ولو مرة واحدة " يا مالكي تذكر انك مجرد انسان لا اكثر !
 
جـــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


108
هل تصلح الأطروحة كتاباً ؟
ً
                                                 
جودت هوشيار

      اطروحة الدكتوراه ليست سوى نقل العظام من مقبرة الى أخرى .
 
الكاتب الأميركي جيمس فرانك دوبيه
 
بلجأ كل من يحصل على شهادة الدكتوراه- والماجستير أحياناً - في العراق عموماً وفي أقليم كوردستان خصوصاً الى نشر رسالته العلمية او اطروحته  بصفتها كتابا ، من دون أجراء أي تغيير يذكر على شكل ومضمون الأطروحة . وهذا أمر غريب ، لأن الاطروحة والكتاب  شيئان مختلفان كثيراً من وجوه عديدة ،ويمكن القول عموما ،  أن الأطروحة في الأصل ،  ليس نصاً مخصصاً للقراءة من قبل الجمهور العام   وهي غير صالحة للنشر .   
، لذا لن تجد في الدول الغربية ، دار نشر واحدة تقبل نشر أي أطروحة  علمية ، وان قبلت أحياناً ، فأنها تشترط  أجراء تغييرات جذرية و شاملة عليها. وهذا لا يعني ان الكتاب – أي كتاب -  افضل من الأطروحة ، أو ان الأطروحة أقل شأنا من الكتاب ، ، بل لأنهما متباينان من حيث الهدف والهيكل البنائي والشكل  والأسلوب واللغة وطريقة عرض المعلومات والأهم من ذلك مدى الحرية التي يتمتع بها كل من صاحب الأطروحة ومؤلف الكتاب .وسنحاول في الفقرات اللاحقة ، استجلاء الفروق الأساسية بينهما ومتطلبات تحويل الأطروحة الى كتاب قابل للنشر .
 
الفروق الأساسية بين الأطروحة والكتاب :
 
1 – الهدف :

 
يختار طالب الدراسات العليا موضوعا لأطروحته في تخصص معين، بتوصية من الأستاذ
المشرف في كثير من الأحيان ، وهو ليس حرا في كتابة الأطروحة  على النحو الذي يرغب فيه ، بل يلتزم بالقواعد العامة لكتابة الأطاريح وبتوجيهات الأستاذ المشرف .
 
الأطروحة تكتب من اجل اثبات قدرة الطالب البحثية وجدارته العلمية أمام لجنة مناقشة متخصصة ومحدودة العدد تضم في العادة عدة أشخاص ، وهي في الحقيقة لجنة امتحان للطالب المدافع عن اطروحته ، واذا أجتاز صاحب الأطروحة هذا الأمتحان وحازعلى  موافقة اللجنة يمنح الشهادة  أو الدرجة العلمية .
 
 والأطروحة في العادة – هي  أول عمل للطالب ويسبق خبرته العملية  ، في حين أن الهدف من الكتاب هو أيصال أفكار المؤلف ومشاعره الى القاريء العام بأسلوب واضح وشائق . ويعتمد على آراء المؤلف وليس أستعراض آراء الآخرين ومناقشتها والتعليق عليها ,.
 
  2 – الشكل :
تكتب الأطروحة حسب تسلسل تقليدي ، يبجأ بشرح مبررات أختيار الموضوع ، ثم أستعراض المراجع والمصادر وعرض المشكلة وسرد تفاصيلها ومناقشة أفكار الآخرين ، من اجل التوصل الى استنتاجات محددة . واذا كانت هذه الصيغة التقليدية الراسخة هي المطلوبة في الأطروحة ،فأن لكل كتاب صيغته الخاصة التي تتلائم مع محتوى الكتاب واسلوب المؤلف ، الذي يميزه عن المؤلفين الآخرين
 الاطروحة حتى اذا كانت تشابه الكتاب ظاهريا ولكن لن يخاطر الناشر – اي ناشر – على نشرها بصورتها الأولية ، لانها لن تستوفي معايير النشر المهنية ومتطلبات السوق .
 
3 – المؤلف :
 
طالب الدراسات العليا ، باحث مستجد ،  لم يسبق له في- معظم الأحيان – خوض غمار التأليف وليس لديه خبرة عملية سابقة ، ويخضع لتوجيهات الأستاذ المشرف وللتقاليد المتبعة في هذا الشأن وفي مقدمتها منع كاتب الأطروحة من ان يقول اي شيء من عنده دون أسانيد مرجعية ، لذا فأن الأخير،  بالغ الحذر ويتخذ موقف الدفاع أمام لجنة المناقشة .
 والأطروحة بشكلها التقليدي  يبعث الملل والسأم  في نفس القاريء العام  بكثرة احالته  الى الهوامش والمراجع في كل ما يعرضه من آراء وحقائق . في حين أن مؤلف الكتاب لديه حرية أختيار الموضوع الذي يتناوله والمنهج الذي يتبعه والزمان والمكان اللذين يختارهما للكتابة والأسلوب الذي يعرض به مادة الكتاب .. ومؤلف الكتاب في العادة أكثر خبرة في أسرار الكتابة المشوقة .
 
4– الوسط المتلقي :
 
ثمة اختلاف في الوسط المتلقي  ونوعية الجمهور القاريء ، حيث أن قراءة ومناقشة وتقييم الأطروحة  تقتصر على عدد محدود من الأساتذة  الأكثر علما وخبرة من الطالب ، في حين ان مؤلف الكتاب أكثر علما بموضوعه من القاريء العام . وهو مثل دليل سياحي غير مرئي للقراء ،  او راو لنتاج ابداعي وليس محاضرا واقفا على منصة يلقي الدروس على طلبته ,
واذا كان صاحب الأطروحة يريد جمهورا اكبر ، عليه ان يعيد النظر في اطروحته واسلوب معالجتها  وصياغتها جذريا. غير أنه يعتقد ان القيمة العلمية لاطروحته كفيل ان يفنح له باب النشر ولكن للناشرين راي آخر وهو قناعتهم المسبقة ان الأقبال على قراءة الأطروحة المنشورة سيكون ضعيفا أو معدوما و لن تلقى رواجا ولا تبرر المال الموظف لطباعته  وتوزيعه .
 
5–  اللغة :
 
لغة الأطروحة  جافة وغير واضحة للقاريء العام ومثقلة بالمصطلحات في حين ان لغة الكتاب واضحة وسهلة ، تخلو من المصطلحات ، الا ما هو ضروري أو عام .
 
6– التركيب :
 
الأطروحة غالبا متدرجة في تقديم المعلومات في مسار طولي يشبهه البعض بخطوط سكة الحديد  ، في حين أن الكتاب وحدة عضوية يربط بين أجزاءها نسيج سردي محكم ، والمؤلف حر في اختيار الهيكل البنائي الذي يلائم محتوى الكتاب .
تجربة جامعة ( اوكسفورد ) :
 
وهنا يتبادر الى الذهن فكرة ، قد تبدو معقولة  للوهلة الأولى ، لماذا لا يلجأ الطالب ، منذ البداية  الى محو هذه الفروق  وذلك بكتابة أطروحته على نحو قابل للنشر ككتاب . وفعلاً قامت واحدة من أشهر جامعات العالم ، وهي جامعة ( اوكسفورد ) البريطانية  بتجربة فريدة في هذا الباب . ففي التسعينات من القرن العشرين اصدرت قواعد جديدة لكتابة اطاريح شهادة الدكتوراه تنص على أن تكون الأطروحة بعد انجازها والدفاع عنها بنجاح  قابلة للنشربوصفها كتاباً.
ولكن  مدير دار النشر التابعة للجامعة ( كولينج وود ) كان مضطرا الى رفض نشر اغلب الاطاريح المكتوبة وفق تلك القواعد ، لأنها ببساطة كانت لا تصلح للنشر العام.
 واضطرت الجامعة الى تعديل تلك القواعد  لاحقا ًبحيث لا يشترط ان تكون الاطروحة قابلة للنشر . وهذه التجربة تؤكد وجود اختلاف كبير بين الاطروحة العلمية  والكتاب الأعتيادي . اما اوجه التشابه بينهما فانها خادعة . الاطروحة تبدو ظاهرياً مشابهة للكتاب من حيث تسلسل الفصول ووجود مقدمة وخاتمة والتغليف والعناوين  والمواصفات الشكلية الأخرى  . ولكنها في معظم الاحيان لا تقرأ ككتاب . وبالنسبة الى الناشر والقاريء هذا التباين له اهمية حاسمة .
 
مراحل تحويل الأطروحة الى كتاب :
 
ينصح طالب الدراسات العليا بأختيار ومعالجة فصل او فصلين من لب اطروحته وتحويلها الى مقالات يمكن نشرها في مجلات متخصصة او عامة حسب طبيعة المادة ، وذلك من اجل اكتساب الخبرة في هذا المجال .وقبل تحويل الاطروحة بتمامها الى كتاب قابل للنشرالعام .
وينبغي النظرالى الأطروحة كمسودة أولية للكتاب المنشود  . وينصح العديد من الأساتذة - الذين أشرفوا على اعداد ومناقشة الأطاريح في الجامعات العالمية -  صاحب الأطروحة بأن يضعها  جانبا لفترة من الزمن قبل اجراء التغيير عليها ، ليتسنى له بعد فترة زمنية قد تمتد من ستة أشهر الى سنة واحدة ، فحصها وتقييمها ، على نحو موضوعي والنظر اليها وفق نظرة نقدية تحليلية ، وهي عملية صعبة لأن صاحب الأطروحة لا يمكن أن يكون موضوعيا بما يكفي لأعادة تقييم أطروحته كخبير محايد .
لكي تتحول الأطروحة الى كتاب جيد ، فأنها بحاجة الى اعادة تنظيم وصياغة وكتابة  الأجزاء الأكثر أصالة فيها . وقد يستغرق هذا التحويل وقتا لا يقل عن المدة المصروفة على اعداد الأطروحة . لأن المؤلف حين يكتب بوحي من ذاته ، وبحرية من دون قيود أو توجيه ، تنثال عليه الأفكار على نحو غير متوقع . وله ان يضيف الى كتابه افكارا جديدة لم ترد في اطروحته .
ويشبه البعض الأطروحة بجوهرة خام يمكن عن طريق تقطيعها وتنعيمها وصقلها ، تحويلها الى جوهرة رائعة .
 
ثمة نقاط عديدة ينبغي اخذها بنظر الاعتبار عند أعادة صياغة الأطروحة لتصبح كتاباً مقروءاً نوجزها في ما يلي :
 
1– ينبغي التمعن في الأطروحة وهل توجد فيها مادة كافية لتحويلها الى كتاب ؟ . ما الاشياء المفيدة فيها وما الذي يجب ان يضاف اليها او اعادة كتابتها .
2 - الفصلان  الاول والاخيرهما اكثر الفصول اشكالية في اي اطروحة . الفصل الاول يتضمن في العادة اسباب اختيار موضوع البحث واهميته واستعراض المصادر والمراجع ، التي يراد  به اقناع لجنة المناقشة  بأن الطالب  قد قرأ البحوث السابقة ذات العلاقة ،  وهي ليست طريقة جيدة  لتقديم الكتاب الى جمهور واسع من القراء ، لذا فأن مؤلف الكتاب – أي كتاب – لن يلجأ اليها ، بل يقدم كتابه على نحو آخر وبأيجاز .
 ويتضمن الفصل الاخير للأطروحة  الاستتاجات التي توصل اليها الطالب والقضايا التي ما تزال عالقة وتتطلب أجراء بحوث أخرى حولها . لذا ينبغي تطوير و تلخيص الأستنتاجات والأشارة اليها  في ثنايا الكتاب وليس في نهايته .
3 - يجب كتابة مقدمة جديدة تتضمن الأشارة الى فكرة الكتاب الرئيسية .
4 - الاستغناء أو التقليل إلى حد كبير من الأشارة الى الأدبيات والأقتباسات وكذلك الرسوم البيانية أو الجداول ان وجدت .
5 - عدم الاشارة الى ان الكتاب كان في الأصل اطروحة ، لا في المقدمة ولا في المتن ، لأن ذلك سيكون سببا كافيا للأعراض عن قراءة الكتاب .
6 - ثمة اشياء  تعرفها لجنة مناقشة الاطروحة  ولا يقوم الطالب بتوضيحها ،  في حين ان اغلب القراء يجهلونها لذا ينبغي شرحها لهم .
 
 


109
الأمية الألكترونية

                                         
جــودت هوشـيار
الفجوة الرقمية :
 
نحن نعيش اليوم في عصر العولمة وثورة الأتصالات والمعلومات ، حيث  أصبح التعميم الرقمي في شتى جوانب الحياة أحد أهم العوامل الرئيسية لتحديث المجتمعات وتقدم الأمم  . وفي الوقت ذاته ، أخذت ( الفجوة الرقمية - (Digital Divide  تزداد اتساعا ، بين الدول المتقدمة ، التي تستخدم أنجازات الثورة الرقمية على أوسع نطاق في الحياة اليومية وفي البحوث العلمية وميادين الأقتصاد والصحة والتعليم ومجالات عديدة أخرى ، وبين الدول المتخلفة ، التي أخفقت لحد الآن في توظيف هذه الأنجازات وفق خطط علمية مدروسة في تطوير مجتمعاتها.
 
.وعلاوة على ذلك ، ثمة فجوة رقمية أخرى داخل كل مجتمع. ففي الدول الصناعية المتقدمة ، نجد أن الأغلبية الساحقة من السكان تمتلك مهارة أستخدام الكومبيوتر والبرامج والتطبيقات المتصلة بها ، وتتوفر لها امكانية  الدخول الى الشبكة العالمية للمعلومات ( الأنترنيت ) بكل يسر وسهولة ودونما أنقطاع وفي شتى الظروف والأمكنة مع وجود أقلية ضئيلة لا تحبذ الدخول الي الشبكة لأسباب سنتطرق اليها في الفقرات اللاحقة .
 
الأمية الألكترونية :
 
أما في الدول النامية ، فأن استخدام الكومبيوتر الشخصي والدخول الى الأنترنيت يقتصرعلى فئة محدودة من الطبقة المتعلمة الميسورة  ، أما اغلبية السكان فأنها وان كانت تستخدم الهواتف النقالة على نطاق واسع ، الا أنها ما تزال تعاني من ( الأمية الألكترونية ) وقطاع لا يستهان به من هذه الأغلبية يعاني أيضا من ( الأمية الألف بائية ) ، وبتعبير آخر ،  فأن مفهوم الأمية اليوم لا يقتصر على من يجهل القراءة والكتابة ، بل يشمل أيضاً من لا يعرف استخدام الكومبيوتر والأنترنيت .
 
الأمية المركبة  :
 
(الأمية المركبة ) بشقيها الألف بائي والألكتروني ،  لم تعد مقبولة في العالم الرقمي الجديد ، ولدى منظمة اليونسكو والمنظمات الدولية الأخرى ذات العلاقة ،  برامج طموحة للقضاء على (الأمية المركبة )  التي تعرقل تقدم البلدان النامية ، في زمن اصبحت فيه تكنولوجيا المعلومات القاعدة الأساسية لمجتمع المعرفة . ولم يعد أستخدام الكومبيوتر مع بزوغ الألفية الثالثة ترفا ، بل اصبح ضرورة ملحة وعنصرا اساسيا لا غنى عنه في الحياة . وعلى كل انسان معاصر يعيش في عصره وليس في الماضي ،  أن يمتلك مهارة أستخدامه ، وبعكسه يعد في عداد الأميين الذين لا يتيسر لهم الأستفادة من ثورة المعلومات ، وكأنهم خارج عصرنا الرقمي الجديد .
 
الأمية الوظيفية :
 
في عالم اليوم  ، نرى ان الأنشطة الأقتصادية والتخصصات العلمية والمهن الهندسية والطبية وغيرها  ، تتطلب الى هذا الحد او ذاك امتلاك مهارة استخدام برامج الكومبيوتر واجادة  التعامل مع الانترنيت . وكل خريج  معهد أو جامعة أو أي شخص آخر  يأمل في الحصول على عمل او وظيفة في تخصصه العلمي  أو المهني ، عليه معرفة  المباديء الأساسية لهذا الأستخدام ,وقد ظهر في السنوات الأخيرة ، مصطلح آخر - شاع أستخدامه لدى الباحثين في الغرب -  لا يختلف في مفهومه كثيرا عن ( الأمية الالكترونية )  وهو مصطلح ( الأمية الوظيفية - Functional illiteracy )  و يشير الى وجود  فئة من الموظفين في مؤسسات الدولة – أي دولة -  لا تمتلك المعارف والمهارات الضرورية ، التي لا غنى عنها للأداء الوظيفي الجيد على وفق المعايير الحديثة في هذا المجال .
وتشير البحوث الميدانية الي ان أكثر من نصف وقت العمل الوظيفي  في المجتمعات المتطورة يصرف على معالجة ونقل وخزن  المعلومات  ، بمعنى أن الخريجين الجدد من الجامعات والمعاهد ليس في الغرب فقط ، بل حتى في بلادنا ،  لن يجدوا وظيفة اوعملا ذهنيا او حتى  كتابيا من دون اتقان التعامل مع الكومبيوتر والأنترنيت وينتهي بهم الأمر اما الى البطالة أو القبول بأي عمل جسدى بعيد عن تخصصاتهم .
 
 وكان رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفييف -  وهو من أشد المنادين بضرورة التعميم الرقمي في جميع مفاصل الحياة – قد حث موظفي الدولة على  وجوب الألمام بأساسيات ( تكنولوجيا المعلومات ) قائلا : " ينبغي الأستغناء عن خدمات الموظفين ، الذين لا يعرفون أستخدام الكومبيوتر ؟ ان الموظف الذي لا يستطيع انجاز وثيقة بشكلها الألكتروني أو الذي يخشى أستخدام الكومبيوتر ينبغي ان يستغنى عن خدماته في دوائر الدولة .اننا لا نعين موظفين اميين في المؤسسات الحكومية واستعمال الكومبيوتر اصبح جزءا مهما من معرفة القراءة والكتابة الجديثة.
 
باحثون في بركة سباحة :
 
ان الأسباب الكامنة وراء ( الأمية الألكترونية ) و ( الأمية الوظيفية ) عديدة ومتباينة لدى الفئات العمرية المختلفة ، وقد دلت التجارب العلمية أن قدرة وامكانيات الأنسان في التعلم تقل تدريجيا  بتقدم العمر وان كبار السن يجدون  صعوبة في تحصيل علوم واتقان مهارات جديدة وبضمنها  اساسيات تكنولوجيا المعلومات وأستخدام الكومبيوتر ,
لذا  نجد في بلادنا كما في البلاد الأخرى ان عددا كبيرا من كبار السن المتعلمين ،  بينهم عدد لا يستهان به من أصحاب الشهادات العليا وحتى اساتذة الجامعات ، لا بستطيعون استخدام  الكومبيوتر والأنترنيت للحصول على المعلومات التي تهمهم اويحتاجون اليها  سواء في حياتهم اليومية او اعمالهم او في بحوثهم ، .وان كان كل هؤلاء شأنهم في ذلك شأن الأميين ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وأشباههم من أنصاف المتعلمين  يستخدمون الهواتف النقالة بفعالية .
 
الفئة الأكبر سنا من  المشتغلين بالأعمال الفكرية والذهنية تعتقد ان الكومبيوتر والأنترنيت لهو ولعب لا يليق بها وان من مستلزمات الوقار والهيبة هو الأبتعاد عن هذه البدع ، التي يعجز معظم أفرادها عن فك رموزها .وتفضل اللجؤ الى مصادر المعلومات التقليدية ( الكتب و المطبوعات الدورية والوثائق الورقية )  للحصول على المعلومات، التي تتطلبها أعمالهم وبحوثهم  ،
واذا كانت المصادر التقليدية للمعلومات حوض سباحة  أو حتى بحيرة صغيرة ، فأن مصادر المعلومات الجديدة ونعني بها الشبكة العالمية للمعلومات بحر لا نهاية له .
 
أسباب أخرى لمقاطعة الأنترنيت :
 
 ثمة شرائح في المجتمع لا يثيرالأنترنيت أهتمامها ،  نظراً لأسلوب حياتها  ، حيث ان طريقة عيشها  تستند الى التقاليد والعادات والأعراف ، وهي في العادة تتمتع بمكانة اجتماعية وظروف مستقرة ولديها علاقات اجتماعية واسعة  ووثيقة  ولا يلعب الأنترنيت دورا ملحوظا في حياتها اليومية .
 
كما لا يشكل الأنترنيت ضرورة حياتية لدى سكان الأرياف في البلدان النامية ،  الذين لا يتطلب نشاطهم العملي وطريقة حياتهم ونمط ثقافتهم أستخدام الأنترنيت ،وهذه الظاهرة تشمل سكان الأرياف حتى في بعض البلدان المتطورة ولكن بدرجة أقل بطبيعة الحال ، بعض هؤلاء يريد العيش بالطريقة التقليدية ويرفض استخدام الأنترنيت بمحض أرادته ، والبعض الآخرلا تصل اليه خدمة الأنترنيت ، لأن شبكات الأتصالات لا تغطي مناطقهم .أي ان السبب تكنولوجي وليس شخصي .
 
ووفقا لدراسة حديثة شملت ( 185 ) بلداً بما فيها العراق ،  فأن متوسط سرعة الأنترنيت متفاوت من بلد ألى آخر وحتى داخل البلد الواحد ، ففي الوقت الذي بلغ متوسط سرعة الاتصال بالإنترنت 49.2 ميغابايت في الثانية في هونغ كونغ مثلا – وهي أسرع خدمة إنترنت في العالم – نجد ان العراق قد حل كالعادة في ذيل القائمة وفي المرتبة 179 بسرعة تنزيل بلغت 0.75 ميغابايت في الثانية.
 وعلى اية حال لا ينبغي المبالغة في اهمية سرعة الأنترنيت ، لأنها ليست الا سببا ثانويا في عدم أنتشار الأنترنيت على نطاق واسع ،  سواء في العراق أو في أي بلد آخر في العالم . والأهم من ذلك هو العلاقة بين (الأمية الالف بائية ) و ( الأمية الألكترونية ) ، لأن استخدام الأنترنيت يتطلب معارف يحصل عليه الأنسان في مقتبل عمره خلال دراسته  ، في حين أن استخدام الهواتف النقالة أبسط  بكثير ولا يتطلب تعليما مسبقاً .
 
 ان الأفتقار لأنظمة تعليمية حديثة تواكب الأتجاهات الرئيسية للتقدم العلمي – التكنولوجي المعاصر ، هو السبب الرئيسي  لـ ( الأمية الألكترونية )  وليس تردي الأوضاع الاقتصادية او العادات والتقاليد الاجتماعية فقط . ومن أجل أشاعة الوعي المجتمعي بأهمية تكنولوجيا المعلومات ، لا بد من تدريس أساسيات هذه التكنولوجيا ، منذ المراحل الدراسية الأولي ، كما هو معمول به في الدول المتقدمة . حيث يتم  تدريسها كمقرر أساسي الى جانب العلوم الأخرى .
 
حركات وتيارات مناهضة للأنترنيت :
 
وصفوة القول، أن استخدام تكنولوجيا المعلومات من مقومات تحديث المجتمعات ولكن ثمة دائما أشخاص لا يستخدمون الأنترنيت . فهل يعني هذا أنهم  معزولين عن العالم ؟
لا شك أن مثل هؤلاء ينتمون الى اوساط  معينة –لا يشكل فيها الانترنيت قيمة عالية ، وهي أوساط ما تزال موجودة في كل انحاء العالم .
وعلاوة على ذلك ، ثمة نخب فكرية وثقافية ، في البلدان المتقدمة ، ترفض العالم الأفتراضي عن وعي وادراك وقناعة ، وقد ظهرت في تلك البلدان - التي  لن تجد فيها بقعة ليس فيها خدمة الأنترنيت السريع ، الا ما ندر– حركات اجتماعية وتيارات فكرية تدعو الى  مقاطعة الأنترنيت ، الذي يستحوذ على اوقات الراحة ويحرم الناس من التواصل الأجتماعي الحي مع الأقارب والمعارف وزملاء الفكر والمهنة و يسبب  أحياناً العزلة عن المجتمع أوالكآبة  . كما ان قضاء ساعات طويلة أمام الكومبيوتر يؤدي الى قلة الحركة ، التي تشكل – كما يقول الأطباء – احدى الأسباب الرئيسية للأصابة بأمراض شتى وفي مقدمتها أمراض القلب .
ورغم الأنتشار الواسع والشامل للأنترنيت ، الا أنه  ليس مفتاح السعادة والنجاح دائماً،  رغم ان الشركات التي توفر خدمة الأنترنيت تحاول أقناع الناس على النقيض  من ذلك .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


110
سيناريو المالكي للفوز بولاية ثالثة

                                                                                                          جــودت هوشـيار
 
من يعتقد ان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ، يفتقر الى  الدهاء فهو واهم ، وأذا كان الرجل  يفتـقرالى صفات الزعيم الكاريزمي من جاذبية ،  و حضور طاغ  ،  و سحر شخصي  وتأثير ايجابي على الآخرين ، فأنه يتمتع من دون شك بدهاء في مجال حبك  خيوط الدسلئس وشق الصفوف وخلط الأوراق وألهاء الناس بالأزمات المفتعلة المتتالية .
 
واذا كان العراقيون مختلفين في كل شيء ،  الا أنهم مجمعون اليوم على فشل حكومة المالكي الفاسدة ، التي بددت عائدات النفط  الهائلة طوال ثمان سنوات عجاف ،  من دون تحقيق أي انجاز يذكر ، بل على النقيض من ذلك  ،نجد أن الأوضاع العامة في العراق في الوقت الراهن ،   أسوأ بكثير مما كان عليه في عام 2006 حين تولى المالكي الحكم لأول مرة .  ولعل أبلغ دليل على هذا الفشل تكبد حزب المالكي هزيمة نكراء في أنتخابات المجالس المحلية الأخيرة التي جرت في العام 2013 ، حيث فقد هيمنته على العديد من الحكومات المحلية في وسط وجنوب البلاد . وشهد بذلك شاهد من أهلها ، فقد بعث أنصار حزب الدعوة الأسلامية في خارج البلاد ،  عقب تلك الأنتخابات برسالة الي زعيم الحزب يعبرون فيها عن خيبة أملهم لعدم حصول الحزب سوى على ( 13) مقعدا ، حيث جاء ترتيبه في ذيل قائمة ( التحالف  الوطني ) .
 
ولما كان المالكي لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ولا يفكر بالتخلي عنها ، مهما كانت الظروف ، ويتبع سياسة تصفية من يعارض سياساته الهوجاء ، التي قادت البلاد الى حافة الهاوية . وبما أن الأغلبية الساحقة من العراقيين ،  بشتى أنتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية  لم تعد تصدق وعوده ، بعد ان سقطت ديماغوجيته المكشوفة تحت أقدام المتظاهرين والمتظاهرات في يوم 25 شباط  2011، لهذا كله ،  لم يتبق أمام المالكي سوى اللجؤ الى تدبير مكائد وفق سيناريوهات معقدة ، متعددة الصفحات ، تؤمن له الفوز بولاية ثالثة ، ولو أدي ذلك الى أزهاق أرواح آلاف الناس الأبرياء من رجال ونساء وأطفال . وآخر هذه السيناريوهات ،  ( سيناريو الأنبار ) ، الذي حيكت خيوطها بمهارة ومكر ودهاء .
 
لتوضيح ابعاد هذا السيناريو لا بد ان نرجع قليلا الى الوراء وتحديدا الى اليوم الذي اتفق فيه المالكي مع شيوخ ووجهاء الأنبارعلى فض الأعتصام في مدينة الرمادي ، حيث لم يكن أمامه من سبيل آخر ولم يكن بوسعه  مهاجمة ساحة الأعتصام بقوة السلاح أمام أنظار العالم
 في مساء ذلك اليوم  تم تنفيذ هذا الأتفاق بكل  بهدؤ ، وقد  تفاخر به المالكي نفسه حين  صرح أن فض الأعتصام تم من دون أراقة نقطة دم واحدة .
 
 وكان من الممكن ان تعود الأمور الى طبيعتها في مدينتي الفلوجة والرمادي ويعم الأمن والأستقرار فيهما لو التزم المالكي بتنفيذ الفقرات الأخرى من الأتفاق المذكور وأهمها تلبية المطالب الدستورية للمعتصمين ,وليس دفنها في أضابير اللجان ، كما فعل طوال عام كامل. ولكن الرجل تنصل من الأتفاق كعادته ، لأن السيناريو المعد للأنبار لم يكن يهدف الى توفيرالأمن والأستقرار ، بل الى  شق صفوف زعماء العشائر وتأجيج الخلافات بينهم  وتصفية قادة الأحتجاجات ، لضمان حرمان أهل المحافظة من أيصال ممثليهم الحقيقيين الى البرلمان .
و لهذا السبب تحديدا ، شرع بعد فض الأعتصام وعلى الفور ، بتطبيق الصفحة الثانية من السيناريو المعد مسبقاً . ففي ساعة متأخرة من تلك الليلة  هاجمت قوة من ( سوات ) بكل ما تيسر لها من اسلحة خفيفة ومتوسطة منزل النائب أحمد العلواني وقتلت شقيقه وعدداً من أفراد حمايته ، ونحن لا نناقش هنا مبررات هذا الهجوم وكون العلواني نائبا يتمتع بالحصانة البرلمانية ولامدى صحة التهم الموجهة اليه ، فهذا شأن القضاء – ان كان في العراق قضاء مستقل -  ولكننا نتحدث عن التوقيت الدقيق لهذا الهجوم ، الذي أدي الى غضب العشائر العارم والهاب مشاعر السخط لدى عموم سكان المحافظة  وتردي الوضع الأمني وهذا ما كان يريده المالكي تحديدا ، لأن من ينشد الأمن لا يلجأ الى صب الزيت في النار ، واختلط  الحابل بالنابل . وتنصل ( مختار العصر والظهر ) من تنفيذ بقية بنود الأتفاق ..
 
وبدأت الصفحة الثالثة من السيناريو ، حين أنسحب الجيش من مدن الأنبار  ، وعلى نحو فسح المجال لتسلل عناصر تنظيم ( داعش ) اليها . وتشير الأدلة الدامغة التي قدمها وفد المعارضة السورية في مؤتمر (  جنيف – 2 ) الى  العلاقات الوثيقة بين هذا التنظيم و مخابرات النظام الأسدي من جهة وبأيران من جهة ثانية ، وكلاهما من حلفاء المالكي ، كما هو معلوم .
 
أما الصفحة الرابعة وهي أخطرها ، فأنه يهدف الى أفراغ مدينتي الرمادي والفلوجة من السكان  عن طريق القصف العشوائي للأحياء السكنية فيهما وأجبار آلاف العوائل على النزوح الى مناطق أكثر أمناً . وما يصاحب ذلك من مآسي أنسانية وتداعيات سياسية .
 
 ولا ندري مدي دقة المعلومات عن سيطرة ( داعش ) على مدينة الفلوجة وجزء من مدينة الرمادي . فقد كان الجيش يحارب ( داعش )  في (  وادي حوران )  أي على بعد مئات الكيلومترات من  مدينتي الرمادي والفلوجة،  وسيناريو المالكي ، هو الذي أتاح لعناصر ( داعش ) الدخول الى المدينتين ، وأدى الى شق صفوف زعماء عشائرالأنبار ، الذين حاربوا القاعدة في الماضي صفاً واحداً  وطهروا المحافظة الشاسعة من الأرهاب . أما اليوم فالوضع مختلف :الأجواء مشحونة ومتوترة والنفوس ثائرة وهائجة   وهذا – ويا للمفارقة – ما يريده تنظيم ( داعش ) أيضاً ، لأن هذا التنظيم لم يكن بوسعه دخول المدن في أجواء التعاون الوثيق بين الحكومة وزعماء العشائر .
 
هذا السيناريو يحقق هدف المالكي الأهم والأكبروهو الفوز بولاية ثالثة عن طريق بتأجيل الأنتخابات البرلمانية في المناطق الساخنة أي محافظات ( الأنبار ، نينوى ، وربما صلاح الدين وديالى أيضا ) بذريعة أختلال الوضع الأمني فيها .  وهي أهم  المناطق المؤهلة لأيصال عدد كبير من النواب المعارضين للمالكي الى الدورة البرلمانية القادمة . أو أجراء الأنتخابات في أجواء لا تسمح بالمشاركة الكثيفة فيها أو اجبار سكان بعض تلك المحافظات – الأنبار ونينوى -  على مقاطعة الأنتخابات ، وهذه الأحتمالات هي في صالح المالكي بكل تأكيد  ، ويتيح  له اجتناب ما حدث في الأنتخابات التشريعية السابقة في عام 2010 ،عندما  أصيب بصدمة كبيرة بعد فوز القائمة العراقية ب( 91 ) مقعدا وتفوقها على قائمة التحالف الوطني .ولم يكن بوسع المالكي البقاء في الحكم لولاية ثانية لولا التأييد الأيراني – الأميركي ، الذي أرغم الأطراف المتصارعة على القبول الضمني ، بقرار غريب وعجيب من ( القضاء العراقي ) - الخاضع لهيمنة المالكي والذي يفسر بنود الدستور حسب أهواء الحاكم ومصلحته -  يقول القرار ان الائتلاف الفائز في الأنتخابات هو الائتلاف الذي الذي يتشكل بعد الأنتخابات لا قبلها وهو أمر لا سابقة له ، ليس في العراق فقط ، بل في العالم بأسره  . و قد تنفس العراقيون الصعداء بتوقيع ( أتفاقية أربيل ) بعد ثمانية أشهر من أزمة خانقة محفوفة بالمخاطر ولكن ( مختار العصر) تنصل منها كعادته بعد تكليفه بتشكيل الحكومة ونيل ثقة مجلس النواب .

 وعودة الى صلب موضوعنا نقول :  أن صفحات هذا السيناريو لم تنته بعد ، وستكشف الأيام القادمة ما تبقى منها ،  وهي كلها تهدف الى تحقيق هدف المالكي الرئيسي وهو سحق القوى المعارضة لنهجه الدكتاتوري  وتصفيتها الواحدة بعد الأخرى واعادة المساسل الكارثي لدكتاتورية صدام ، على نحو آخر لا يختلف من حيث الجوهر عنها وأن اصطبغ هذه المرة بصبغة أخرى حسب مقتضى الحال .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


111
 
الكهرباء في مزاد الأنتخابات

                                       
المهندس الأستشاري جودت هوشيار

لم يعد احد يصدق تصريحات المسؤولين في بغداد ، والتي تفتقر دائما الى الصدقية والشفافية ،  فهي تصريحات  تصب في خانة الدعاية للحزب الحاكم وتتسترعلى الأخفاق المريع  للأداء الحكومي والفساد المستشري في مؤسسات الدولة - ان كانت ثمة دولة في العراق تستحق هذه التسمية حقاً - وتتحدث عن انجازات موهومة لا يلمسها المواطن العادي في حياته اليومية  وعن وعود براقة يعرف أصحابها - قبل غيرهم - أنها لن تتحقق .
هل نسينا الوعود العسلية للمائة يوم التأريخية ؟ .وهل نسينا التصريحات الرنانة ان العراق سيصدر الكهرباء بحلول عام 2009 ؟ ، وان انتاج النفط  سيتضاعف خلال بضع سنوات ؟  ولكن انتاج النفط في عام 2013 كان أقل من عام 2012.
 
العراق يعاني منذ سنوات من تدني القدرة الأنتاجية لمحطات توليد الطاقة الكهربائية وأهمال صيانة محطات التوليد والمحطات الثانوية وشبكات التوزيع .. والآن يأتي  المتحدث الرسمي باسم وزارة الكهرباء مصعب المدرس ليعلن في بيان له اليوم  "  ان الوزارة ستقوم بتجهيز المواطنين بالتيار الكهربائي على مدى  [24] ساعة بدءًا من الأسبوع المقبل. وان الوزارة تمكنت من تجهيز العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى، بساعات كهرباء يومياً قدرها من [20] ساعة الى [24]، مقارنة بالعام الماضي الذي بلغت ساعات التجهيز في نفس الفترة بين [8] الى [12] ساعة يومياً".وبين ان هذا التجهيز جاء بالرغم من استمرار المواطنين بالاستهلاك المفرط للتيار من خلال استعمالهم المدافئ الكهربائية".
 وأضاف المدرس ان "الزيادة في التجهيز بلغت [12] ساعة، حيث ان الوزارة لم تصل الى ذلك منذ سنوات"، مشيرا الى ان "إنتاج المنظومة الحالي بلغ [12100] ميكاواط، في حين بلغ الطلب على الطاقة [14100] ميكاواط".
 
هذا البيان - واترك جانباً ركاكة صياغته -  زاخر بالمغالطات وأستخفاف بعقول المواطنين وتستر على واقع الكهرباء الأليم .
ولكي تكتمل الصورة لا بد ان نرجع الى الوراء قليلا ، ففي عام 1990 وقبيل اندلاع حرب الخليج الاولى  ، كانت القدرة الانتاجية لمحطات توليد الكهرباء تصل الى (12000) ميغا واط   بينما معدل الاستهلاك يصل الى ( 5800 ) ميغا واط  مع حمل ذروة يصل الى( 7500 )  ميغا واط   وبما يلبي احتياجات منظومة الاستهلاك لعدة سنوات قادمة .
 
وقد تعرضت محطات التوليد الى التدمير الجزئي لبعضها  والكلي للبعض الآخر،   ولكن الكوادر الفنية العراقية المؤهلة ، تمكنت من أصلاح كافة محطات التوليد ومنظومة التوزيع خلال فترة قياسية لا تتجاوز العام الوحد .
 
 وكان العراق بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة في عام 1996 ملزما بتقديم تقارير دورية كل ستة اشهر عن احتياجاته  الى لأمم المتحدة بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 986، لعام 1995؛ المسمى برنامج النفط مقابل الغذاء (   (Oil for Food Program.وهو برنامج كان  يسمح للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لشعبه، تحت إشراف الأمم المتحدة. وقد  جاء في آخر تقرير قدمه العراق الى الأمم المتحدة في أواخر عام 2002 " ان انتاج الطاقة الكهربائية قد بلغ( 12000 ) ميغاواط  ، وان الحاجة الفعلية تبلغ ( 15000 ) ميغا واط، ، اعد هذا التقرير في وقت كانت فيه مئات المنشآت الصناعية الحكومية و آلاف المصانع الأهلية تعمل وتنتج وتصدر الكثير من منتجاتها الى الدول الأخرى ، في حين ان كل تلك المنشآت والمصانع متوقفة الآن وقد تحولت الى ( خردة ) كما هو معلوم .
 .  لقد دأبت وزارتا التخطيط والكهرباء الحاليتين - كلما جرى الحديث عن مشكلة الكهرباء - على ترديد رقم آخر لأنتاج الكهرباء في العراق عند سقوط النظام السابق وهو (3409 )  ميغاواط. ويبدو ان من يحمل شهادة دراسية  مزورة يسهل عليه تزوير الأرقام الواردة في وثائق رسمية وتقارير محفوظة في الوزارتين المذكورتين وفي الأمم المتحدة .
 
اما الأدعاء بأن القدرة الأنتاجية لمحطات التوليد حالياً  تبلغ ( 12000 ) ميغا واط  فهو مغالطة مقصودة من دون أدنى شك ، حيث ان ما يستورده العراق من دول الجوار يبلغ حوالي ( 1200 )  ميغا واط  ونسبة الطاقة المفقودة عبر شبكات التوزيع تقدر بـ(3000 ) ميغا واط ، ما يجعل نسبة الطاقة الحقيقية لا تتجاوز (  7800 ) ميغا واط في احسن الأحوال .
 
ادعاء وزارة الكهرباء بان أزمة الكهرباء قد أنتهت وولت الى غير رجعة ، تكذبه الحقائق على أرض الواقع . ففي اليوم نفسه الذي زفت فيه وزارة الكهرباء البشرى السارة الى الشعب العراقي بتجهيز الكهرباء على مدار ( 24 ) ساعة في اليوم  ، أشتكى مجلس محافظة كركوك من تقليص حصة المحافظة من الطاقة الكهربائية بمقدار ( 150 ) ميغا واط ، كما  نقلت ( شفق نيوز ) تصريحا للسيد اركان الطرموز ، عضو مجلس محافظة الأنبار ،  يؤكد فيه إن "المحافظة تعاني من ازمة في الوقود، وأزمة في الكهرباء، وأزمة في المواد الغذائية".
 
ومن اجل الكشف عن عدم دقة الأرقام الواردة في بيان وزارة الكهرباء الأتحادية  ، نقول ان انتاج الطاقة الكهربائية في أقليم كردستان يبلغ حاليا حوالي ( 3400 ) ميغا واط  ،  وهي لا تغطي الأحتياجات الفعلية لـ( 5 ) مليون نسمة ، هم سكان المحافظات الثلاث ،  التي يتشكل منها اقليم كردستان حاليا ً ، فكيف يمكن لـ(7800) ميغا واط أو حتى ( 12000 ) ميغا واط ان يسد احتياجات بقية انحاء العراق ،  التي يسكنها ما لا يقل عن ( 26 ) مليون نسمة.؟
 ومن الواضح ان حكومة بغداد لم تكن لديها في السنوات السابقة ولا تمتلك اليوم خطة مدروسة لتلبية الأحتياجات المتزايدة  الى الطاقة الكهربائية نتيجة للنمو السكاني .
بيان وزارة الكهرباء ضحك على الذقون ودعاية مكشوفة وأوهام  في مزاد الأنتخابات البرلمانية وستكشف الأيام القادمة ، ان مصير هذا البيان لن يكون أفضل من البيانات السابقة حول تصدير الكهرباء ومضاعفة انتاج النفط  وتوفير الخدمات واطلاق الأقمار الصناعية العراقية .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


112
المنبر الحر / السلطة الخامسة
« في: 19:26 22/01/2014  »
السلطة الخامسة

                                                                                                                            جــودت هوشـيار
 
المدونات والمنتديات وشبكات التواصل الأجتماعي منابر حرة للتعبير عن الرأي والتواصل مع الآخرين ،  لكل من يتعامل مع الكومبيوتر ولديه أتصال بالأنترنيت ، ووسيلة للنقل الفوري لأخبار الحوادث من مواقعها مباشرة بجميع الوسائل التعبيرية المتاحة على الإنترنت ( نصوص، صور، مقاطع صوتية، مقاطع فيديو ) ، أو بهذه الوسائل مجتمعة . واحيانا يسبق المدون او المواطن الصحفي  وسائل الاعلام التقليدية في نقل الأخبار .
 التدوين وسيلة اعلامية جديدة غير تقليدية لا تخضع للرقابة ولا تعرف الخطوط الحمراء أو التابوهات ، سوى الرقابة الذاتية التي يضعها المدون بنفسه لنفسه ، أو التي تفرضها عليه قوانين بلده .
 
اذن . اين هو الحد الفاصل بين المدونين الهواة ونشطاء الأنترنيت وبين أولئك الذين جعلوا نقل الأخبارمهنة لهم أي الصحفيين ؟ . وهل هذا الحد موجود فعلاً ؟ .
 
لقد جرت ازاحة الصحافة التقليدية عن عرشها  بخطوات تدريجية ولكن متسارعة ومتواصلة .
 قبل حوالي عشر سنوات كان الأنترنيت لعبة غالية الثمن للميسورين ، ولم يكن أحد يتصور بأنها ستكون منافسة جادة للصحافة الورقية والراديو والتلفزيون ، ولكن كلما تطورت تكنولوجيا الانترنيت ،  اصبح الدخول الى الشبكة اسهل واسرع وأرخص وجرى الاعتماد اكثر على  مصدر عالمي جديد للمعلومات لا يحده حدود او رقابة ، ودخلت الصحف والمجلات  وقنوات التلفزيون والاذاعة الى الشبكة بتأسيس مواقع الكترونية لها  . ولكن ظهور مساحات مفتوحة للتعبير عن الرأي في المدونات و المتديات المستقلة ومواقع التواصل الأجتماعي ، اخذت تنتزع شيئاً فشيئاً من وسائل الاعلام التقليدية قسما من الجمهور. وجاء مشروع (web 2.0 ) ليسدد  ضربة أخرى لوسائل الأعلام التقليدية وأخذ يحتل قمة احصاءات المشاهدة على الشبكة العنكبوتية .
 
 وهذا المشروع بتكون من مجموعة من التقنيات والتطبيقات الشبكية الجديدة ،  التي أدت إلى تغيير سلوك الشبكة العالمية وذلك بالسماح للمستخدم  بأمتلاك قاعدة بينات خاصة به على الموقع بالإضافة إلى قدرته على التحكم بها وتزويده بأنظمة تفاعلية تسمح بمشاركته في تفاعل اجتماعي واسع النطاق مع المدونين والمتصفحين الآخرين ، وميزات أخرى عديدة لا نرى حاجة للخوض فيها .
 
بظهور هذه التقنيات اهتزت الصحافة التقليدية ، وكأنها أنتقلت الى المرتبة الثانية . وهي تحاول اليوم التعويض عن خسائرها بأستمالة الجمهور بوسائل شتى ، مما حدا بكثير من منظري الأعلام والعاملين فيه طوال السنوات العشر الماضية ،  الى التنبؤ بأنتهاء عصر الصحافة الورقية وموتها التدريجي خلال العقود القريبة القادمة وبزوغ فجر الوسائط المتعددة.
ولكننا لا نعتقد بأن هذه التنبؤات سوف تتحقق بحذافيرها وبالسرعة التي يتصورها البعض، لأن الصحافة التقليدية عصية على الموت ،  وأخذت تتكيف مع الواقع الأعلامي الجديد بوسائل شتى ، منها الأنتقال الى الشبكة العنكبوتية كلياً او اصدار نسخ الكترونية بموازاة نسخها الورقية أو التحول الى صحافة مجانية تعتمد على الأعلانات في ديمومتها او التحول الى صحافة التابلويد ، التى ما زالت تلقى هوى ورواجاً  لدى القراء .
واذا كانت الصحافة التقليدية فقدت بعض مواقعها ، فهل هذا يعني ان التدوين سيحل محلها وهل يستطيع المدون ان يحل محل الصحفي المهني ؟ . وما الفرق الرئيسي  بين التدوين والصحافة.؟
 
 التدوين هواية لمعظم المدونين  ومهنة لعدد جد قليل منهم لحد الآن .
المدون لا يحتاج الى دراسة الصحافة كما هو الحال بالنسبة الى الصحفي المحترف . اي شخص يمكن ان يكون مدوناً . بصرف النظر عن امتلاكه الحد الادنى من  موهبة الكتابة والقدرة على التعبير السليم الطلق عن آرائه  . كل ما يحتاجه  هوالاشتراك في احد المواقع التي تتيح المجال للمدونين بالكتابة والبدأ بكتابة شيء ما بين آونة وأخرى  ، لأن المدونة ليست سجل مذكرات او يوميات عادية بل نشرات الكترونية غير دورية، والأمرالمهم هنا هو ان يكون ما يكتبه المدون متاحا لمتصحفين آخرين . ولا يمكن أعتبار من يكتب لنفسه فقط  مدونا ً .
 
المدونة شكل اعلامي غير تقليدي والمدون من الناحية العملية حر في ما ينشره ولا يمكن التحكم فيه أو توجيهه أو فرض أي قيود عليه .
 
ولا يلتزم المدون بجدول زمني معين لأوقات الكتابة فهو يكتب في أي وقت يشاء ، ولا احد يفرض عليه شروطا او يقيّم محتوى المدونة . واذا كانت هناك تعليقات على ما يكتبه فأن له الخيار في نشر أي تعليق أو حجبه ،  أما الصحفي المهني فأنه ملزم بمراعاة المواعيد الدورية لصدورالصحيفة التي يعمل فيها ، وتنفيذ التوجيهات الصادرة اليه من رئاسة تحرير الصحيفة .
 
المدون غير ملزم بالكتابة وفق شكل معين او التفكير بسلامة لغته واناقة اسلوبه , ولا يسأل عن محتوى ومصداقية  ما يكتبه . وهو حر في سرد كل ما يحلو له ، وحتى فضائح او وقائع لم تثبت صحتها.
المدون يمكن ان يصرف وقتا طويلا في التدوين ولكنه حتى وان تطرق الى موضوع  اجتماعي مهم فأنه يفعل ذلك بمحض ارادته ، لأن لا احد يدفع له مالا لقاء عمله وهو ينغمس في التدوين لان ثمة هاجس شخصي يدفعه لنشر ما يهمه ويشغل باله  من اجل اطلاع الآخرين عليه ويحس بالمتعة من  وراء ذلك .
 
اما الصحفي فأن عليه ان يثبت قدراته المهنية وان يكون لديه تحصيل دراسي في الصحافة  ومعارف اساسية في المجال الذي يعمل فيه . صحيح اننا نجد في صحافتنا وصحافة البلدان الأخرى ،  العديد من أبرز الصحفيين ، الذين، لم يتلقوا تحصيلا دراسيا في مهنتهم ومع ذلك  أصبحوا صحفيين مشهود لهم بالكفاءة والمهنية العالية ،  ولكن هذه الحالات تظل استثناءا من القاعدة . الصحفي  الحقيقي حتى لو لم يكن حاصلا على شهادة في مهنته فأن لديه في معظم الأحيان شهادة دراسية في تخصص ما وقابلية  للكتابة الصحفية بمستوى جيد .. ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال ان أي شخص حاصل على شهادة جامعية في تخصص آخر يصلح ان يكون صحفيا ً . لأن الصحفي ينبغي له ان يمتلك أضافة الى الشهادة ، ما اسميه ب(هاجس الصحافة) وعندما يتوفر عنده هذا الهاجس الدائم فأنه يكتسب مهارات كتابية بالجهد والتعب من خلال تجربته الطويلة في العمل الصحفي  .
 
 ولكن اذا كان الشخص بطبيعته ضيق الأفق ومتواضع الثقافة  أو لا يستطيع شرح افكاره  بيسر أو الكتابة بوضوح وسلاسة وايجاز او غير قادرعلى التعامل المرن مع الناس من اجل الحصول على المعلومات المطلوبة للمعالجة الصحفية  او لا يبدي  اهتماماً بكل ما هو مهم وممتع في هذا الكون ، فأنه لن يكون صحفيا ناجحا ً .
 
العمل الصحفي في  العصر الرقمي يفرض على الصحفي ليس فقط ان يكون مثقفاً ، واسع المعرفة ولكن ينبغي له ان يعرف لغة اجنبية واحدة في الأقل و يتقن التعامل مع الكومبيوتر والأنترنيت .
 
الصحفي -  بخلاف المدون -  ليس حراً في الكتابة عن أي موضوع يخطر بباله أو عن  أي قضية يشاء ( ربما بأستثناء كتاب الأعمدة الصحفية ولكن حتى هؤلاء يلتزمون في العادة بسياسة الصحيفة ولا يحاولون تجاوزها ).
 
 الصحفي يعمل في حقل او قسم معين أو يكلف بأجراء حوارات  او القيام بتحقيقات صحفية محددة  وغير ذلك من أشكال العمل الصحفي وهي كلها تتم بتكليف من رئاسة تحرير الصحيفة التي يعمل فيها والتي تحدد الموضوعات المهمة او الساخنة ، التي ينبغي تغطيتها في العدد الجديد .
 
ثم ان الصحفي مسؤول عما يكتبه وعن مصداقية المعلومات التي يتضمنها المادة المنشورة . وهو مسؤول ليس فقط امام الوسيلة الاعلامية التي يعمل فيها بل ايضا امام القراء  وامام الناس الذين يتحدث عنهم في ما ينشره .
 
 بطبيعة الحال فأن من حق الصحفي ان يكون له رأيه الخاص ،  ولكن ينبغي له ان يكون موضوعيا في كتاباته ، ولا يحق له ان يؤكد شيئا او يتهم احدا جزافا . كل الاستنتاجات التي يتوصل اليها ينبغي ان تكون مدعومة بالحقائق و الادلة . أي اهمال او عدم جدية في تنفيذ مهامه يكلفه والصحيفة التي يعمل فيها غالياً. والحديث لا يدور عن الاضرار المعنوية فقط بل الاضرار المادية ايضا . حيث ان اي شخص يعتبر ما نشرعنه مساسا به ، يمكن ان يقاضي الصحفي ورئاسة تحرير الصحيفة  ويربح الدعوى وتحكم له المحكمة بتعويض مالي كبير .
 
يتضح مما تقدم  ، ان الصحفي اقل حرية من المدون .و يبذل جهودا أكبر ولديه التزامات وعليه مسؤوليات اجتماعية واخلاقية ، لذا فأن من حق الصحفي أن  يستلم راتبا او اجرا لقاء عمله ، والذي قد لا يتناسب دائما مع الدور الذي يلعبه في المجتمع ,
 
الصحفي الحقيقي  يتعلم مهنته طوال حياته والصحافة بالنسبة اليه ، أكثر من مهنة  ، أنها رسالة .
وصفوة القول ان الصحافة مهنة والتدوين هواية  .  المدون يمكن ان يتوقف عن الكتابة بمحض ارادته ، اما الصحفي فقلما نجد صحفيا متقاعدا لانه يكتب مدى الحياة .
ومن الطريف ان نذكر ملخصا عن  بعض السجالات التي دارت على المدونات ومواقع التواصل الأجتماعي بين المدونين الهواة والصحفيين المهنيين .
يعتقد الصحفي ان المدون يجهل اساسيات مهنة الصحافة  وان ما يدونه لا تتوفر فيه شروط المعالجة الصحفية الصحيحة ،   أما المدون فأنه  يعتبر الصحفي موظفا لدى مالك الصحيفة أو تابعاً لصانع القرار  الرأسمالي أو السياسي..، أي ان أحدهما لا يعترف بالآخر ، وهذا أمر مؤسف ، لأن التعايش بين صحافة المدونات والصحافة الأحتراقية المهنية يسمح للجمهور الحصول على معلومات شاملة  أكثر اكتمالا عن الأحداث .
 
 التدوين والصحافة وجهان للأعلام المعاصر واذا حذفنا احدهما لأصبح الأعلام أفقر وأقل حيوية وتفاعلاً  الى حد كبير .
قد يكون للصحفي مدونته الخاصة التي ينشر فيها ما لا يستطيع نشره في الصحيفة التي يعمل بها ، فقد أستخدم صحفي مخضرم مدونته  للتفوق على صحيفته. ففي الندوة التي عقدت مؤخرا في المركز الصحفي لمجلس الأتحاد الأوروبي في بركسل تحت عنوان " أثر وسائل الأعلام الأجتماعية في الصحافة " قال الصحفي جان كواتريمرالذي يعمل مراسلا  لصحيفة ليبراسيون الفرنسية في بوكسل : " أستطيع أخذ مواد ونشرها على مدونتي ، ثم في الفيسبوك وتويتر ، لأثبت لصحيفتي أن الناس يرغبون بالقراءة حول هذا الموضوع ."
وأضاف كواتريمر أن مدونته ألهمت في بعض الأحيان صحيفته على نشر مقالات عن مواضيع كانت الصحيفة قد رفضتها أولا .كما ان التفاعل مع القراء والمعلقين على المدونة يعطيه افكارا لمقالات ويساهم في عمله .
 
اذا كانت صاحبة الجلالة الصحافة سلطة رابعة تراقب وتقيّم أداء السلطات الثلاث الأخرى وتنشر ما يسهم في تطوير هذا الأداء وتنقل المعلومات التي تهم المجتمع ، فأن التدوين قد أصبح بحق سلطة خامسة تراقب السلطات الأربع مجتمعة بصراحة وشفافية وجرأة .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com


113
في مشقة الكتابة .... وطقوسها

                                                                                                                       جــودت هوشـيار
 
" الورق لا يستحي"  مقولة تنسب الى الكاتب والخطيب الروماني  شيشرون ( 43 – 106 ق.م.) كما وردت في رسائله " الى الأصدقاء "، بمعنى ان المرء يمكن أن يكتب على الورق ما يستحي أو يشعر بالحرج من التعبير عنه شفهيا . وفي موضع آخرمن هذه الرسائل جاءت المقولة بصيغة  " الورق يتحمل كل شيء "  أي أن الورق يتقبل كل ما يكتب عليه :  ألغث والسمين ، اوالجيد والرديء . في مقالنا هذا سنتحدث عن مشقة الكتابة الرصينة الجادة وطقوسها ، ذلك لأن الكتابة الرديئة لا تتطلب مشقة أو جهداً كبيراً .
 
متي يأتي النضج الفني :
 
يعتقد البعض ان الكتابة عمل سهل يمكن ان يمارسه  أيّما شخص كان ، ولكن عندما يوغل في تجربة الكتابة ويزداد وعيا بها ,خاصة اذا كان يدرك خطورة الكلمة ومسؤوليتها ،  فأنه يتأنى ويتباطأ في سكب كلماته على الورق بشكل تلقائي بعد ان يكتشف أن الكتابة الجادة ليس بالأمر الهين ، بل عمل شاق يزداد صعوبة ومشقة كلما ازداد خبرة الكاتب ومعرفته بأسراره بمضي الزمن وان الكتابة المزاجية السهلة ، غير الجادة ، تكون سطحية في معظم الأحيان  ولا قيمة حقيقية لها ، لذا يجهد نفسه  لكي ينتج نصّا جيدا وتاضجا  .
 
 كان انطون تشيخوف ( 1860 – 1904 م )  في بداية حياته الأدبية يعمل طبيبا في القرى والأرياف  ويتنقل طوال اليوم ،  من قرية الى أخرى لمعالجة مرضاه ، ويقطع مسافات طويلة في طرق غير معبدة ، وحين يعود في المساء الى بيته وعائلته مرهقا ، يأخذ قسطا من الراحة ، ثم يتحين الفرص للجلوس الى طاولة الكتابة ليكتب بسهولة ويسر ،  ودونما جهد أوعناء قصصا ساخرة وينشرها في المجلات الفكاهية  تحت أسماء مستعارة ومنها أسم ( أنتوشا تشيخونتي.
 
 وقد أعترف تشيخوف في ما بعد ،  أنه كان يكتب قصة فكاهية واحدة كل ليلة .  وقد جمع هذه القصص القصيرة  ونشرها في كتاب صدرعام 1884 بأسمه المستعار ( أ. تشيخونتي ) وليس بأسمه الحقيقي  . وكان العديد من النقاد  قد نصحوه عدم تبديد موهبته الفذة في نتاجات خفيفة لا ترقي الى مستوى الأدب الرفيع ولن تصمد أمام الزمن.  وأقترحوا عليه تأليف رواية أو قصة طويلة جادة ، اذا أراد البقاء لكتاباته .  ولكن تشيخوف مضي يكتب أقاصيصه ولكن في الوقت نفسه دأب على أستخلاص الدروس من تجربته الأبداعية . وعندما أقتنع بقيمة ما يكتبه ، أخذ ينشرنتاجاته بأسمه الحقيقي   أنطون تشيخوف  .
 
 ،  و بعد عدة سنوات  ، عندما ظهرت أولى رواياته الناضجة فكراً وفناً ، ونال أستحسان النقاد  كتب الى صديق له يقول : "  حسناً فعلت حين لم استمع الى نصائح النقاد ، لأن النضج الفني لا يأتي حسب رغبة الكاتب ، بل بالنضج التدريجي ."
 
حقاً ان الكاتب - أي كاتب – لا يتعلم من تجارب الآخرين بقدر ما يتعلم من تجربته الشخصية
  ومر الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي  الكسندر دوماس  (1802- 1870 م) والكاتبة الأنجليزية  أغاثا كريستي ( 1890) -1976م ) وعشرات غيرهما من مشاهير الكتاب بتجارب مشابهة لتجربة تشيخوف الأدبية ،  لأن العمل الأبداعي كدح ومعاناة وعملية بناء تحدث على مهل ينجزها الكاتب وحيدا في خلوته .
الهام وصنعة :
 
يقول الكاتب الفرنسي ستندال (1783- 1842م )  : " لم أبدأ الكتابة الا في عام 1806 ، حين احسست في نفسي العبقرية . لوكنت قد افضيت الى انسان راجح العقل بخططي الأدبية ونصحني : " اكتب يوميا لمدة ساعتين ، سواء كنت عبقريا أم لا " عندئذ لم اكن قد  اهدرت عشر سنوات من حياتي في انتظار الألهام . "
 
مقولة ستندال صحيحة الى حد كبير ولكن لا بد من هاجس يحرك العملية الأبداعية كلها من بدايتها. ان بذرة الكتابة أو النص وشحنته الأولى، قد تأتي المبدع في أي وقت، وفي أي مكان، وليس في موعدٍ محدَّد وفي طقوس معينة، ثم بعد ذلك يأتي دور الصنعة في تعديل النص وتهذيبه وتشذيبه وصولا الى صيغته النهائية .
 
وبصرف النظر عن الأسم الذي نطلقة على ( الهاجس ) أو ( الدافع ) الذي يقف خلف احساس الكاتب الداخلي ، أعتقد أن من الصعب أن  يبدأ الكاتب بالعمل اذا لم تكن ( فكرة ما )  قد استولت على تفكيره ويتلهف للتعبير عنها وتجسيدها. أو لديه الرغبة في الكتابة عن موضوع ما في الأقل . والحق ان لكل كاتب طريقته في العمل ، منهم من لا يبدأ العمل الا وقد استحضر في ذهنه فكرة ما  ، وآخر يجلس الى منضدة الكتابة وهو خالي الذهن من أي أفكار مسبقة . ولكن تجارب كبار الكتاب تثبت أن 90% من الكتابة الأبداعية صنعة يتم أتقانها بالمران والممارسة الطويلة ، والشخص الذي يهرب من عمله لعدم وجود  ( الهام )  يخدع نفسه بنفسه .
 
وقد عرف الكاتب الأيطالي البرتو مورافيا ( 1907 – 1990م ) مورافيا بأنضباطه الصارم ويقول في هذا الصدد  : " منذ فترة طويلة جدا وانا اكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي انام فيها وآكل يوميا . لقد أصبحت الكتابة جزءا عضويا في ايقاعي البيولوجي " 
 
كان الكاتب الأنجليزي  انطوني ترولوب (1815 ـ 1882م) يكتب يوميا عددا محددا من الكلمات . أما الكاتب والمسرحي والفيلسوف البلجيكي موريس ميتيرلنك ( 1862 – 1949 ) فقد كان يجلس وراء منضدة الكتابة صباحا  في ساعة معينة يوميا ولم يكن يغادرها الى منتص النهار ، حتى اذا لم بستطع كتابة  جملة واحدة . الروائية الفرنسية جورج صاند ( 1804 – 1876م )  كانت تعمل لمدة 8 ساعات يوميا .
 
العمل اليومي المنظم يتطلب تنظيم مكان العمل ( المكتب ) بشكل صحيح . يمكن الكتابة صباحا أو مساءءاً . يمكن الكتابة وراء طاولة او متكئا على أريكة  .، في مكان محدد أو في أي مكان آخر . وعموما فأن لكل كاتب طريقته في العمل . منهم من يعمل بشكل يومي منتظم ، ويواصل عمله الي حين الأنتهاء منه ومنهم من يعمل على نحو متقطع حسب الوقت المتاح لديه او عندما ينتابه الهاجس مرة أخرى .
 
يقول المفكر الفلسطيني العالمي الراحل أدوار سعيد ( 1935 – 2003 م )  أن كتابه المشهور    " الأستشراق " هو الكتاب الوحيد الذي أنجزه بنفس واحد ، ولا يعني النفس الواحد هنا أنه انجز الكتاب بجلسة واحدة ، بل ان الموضوع لم يفارقه خلال أكثر من عام من العمل اليومي المنظم ، ولم يشغل ذهنه خلال كتابته بموضوع آخر.
 
 وثمة كتاب آخرون لا يمكنهم مواصلة العمل على هذا النحو المنظم . بعضهم يتوقف فجأة عندما يصطدم بعقبة ما  ولا يستأنف الكتابة في موضوعه الا بعد فترة طويلة . ولعل خير مثال على ذلك  هو الكاتب الأميركي الساخر مارك توين ( 1835 – 1910م) .  فقد كان يبدأ كل كتاب من كتبه في فورة حماس وعندما ينجز ربع الكتاب يصطدم بعقبات ويجد مشقة في مواصلة الكتابة ويتوقف لمدة 5-6 اعوام ينشغل خلالها بكتابات أخرى ،  ثم يرجع بعد هذه الفترة وبحماس أيضاً  لاستكمال ما تبقي من  الكتاب .  وعندما كان يخرق هذه القاعدة احيانا  تحت الحاح الناشرين ويضغط على نفسه من اجل مواصلة الكتابة نرى ان بداية الكتاب رائعة  وعندما نمضي في قراءة بقية الكتاب نشعر بأنها ليست ممتعة ومحكمة مثل بداياتها ولا ترقي الى المستوى الذي نعرفه عن توين .
 
طريقة عمل أي كاتب يتوافق مع خصائصه السيكولوجية ولا يمكن تعميم تجربة اي كاتب على اي كاتب آخر .
 
اهمية التركيز في العمل :
 
التركيز امر في غاية الأهمية لأي عمل كان وخاصة  للعمل الفكري أو الأبداعي . اذا كانت بيئة العمل في أي مهنة أخرى -  يتلقي فيها المرء التوجيهات من رؤسائه -  تساعد على التركيز على العمل المكلف بأدائه ولو كان هذا العمل كتابياً . أما الكاتب فأنه ينشد الخلوة والأنعزال عن الآخرين من أجل التركيز الذهتي الأندماج الكامل في العمل والأنغماس فيه ، وهو يتمتع بحرية واسعة ،  حيث لا أحد يوحهه او يحدد له وقت أنجاز العمل ، وربما هنا يكمن سحر العمل الأبداعي أو الفكري .
 
كتب فرانز كافكا ( 1880 – 1924م )  ذات مرة في يومياته يقول : " إن كل ما كتبته في حياتي انما هو نتاج الوحدة".   ولكن لكي تكون هذه الوحدة مثمرة على الكاتب تجنب الأنشغال بأمور جانبية لا علاقة له بصميم عمله . بعض الكتاب يلجأ الى غلق الراديو والتلفزيون في أثناء الكتابة  وعدم الأنشغال بالأنترنيت – وليس غلق  الكومبيوتر الذي أعتاد معظم الكتاب اليوم على أستخدامه في الكتابة -  أو بأستقبال الضيوف . الكتب أيضا يمكن أيضا أن  تعرقل العمل اذا كانت لا تمت بصلة للموضوع . كما ان كل ما يحتاجه الكاتب  ينبغي ان يكون تحت يديه . ومن الأهمية بمكان تنظيم مكان العمل .  شاهدت في متحف تولستوي في ( ياسنايا بالانا )  الغرفة التي كان يكتب فيها الكاتب العظيم  روائعه الخالدة : طاولة وكرسي وحزمة أوراق وأقلام  وكتب يستعين بها كمصادر لموضوعه ولا شيء آخر على الأطلاق .
 
ليس ثمة ما يعرقل عمل الكاتب مثل الصراع مع الوقت . ويقول الكاتب فيليب كلوديل  ( 1962 - )  " أكتب في أوقات أو في أمكنة قد لا تخطر على بال أحد. لا يهمني أن اؤمن طقوس الكتابة فقط بل يجب أن أكون في وضع نفسي يحملني على الكتابة: في المنزل، في الطائرة والأهم أنني لا أكون أعيش صراعاً مع الوقت، بل أكون خارج كل توقيت."
 
طقوس وعادات الكتابة :
 
 لكل مبدع طقوسه الخاصة ، التي تضعه في جو الكتابة ومناخها . كان مارسيل بروست (1871- 1922م )  حريصا على العزلة والهدوء التام  . جدران مكتبه كانت مغطاة بالفلين ،  وحتى في مثل هذه العزلة التامة كان عاجزا عن العمل خلال ساعات النهار خشية الضوضاء ، ويقال أنه أستأجر ذات مرة عدة غرف متلاصقة في أحد الفنادق لكي لا يتسرب اليه أصوات الجيران .
غوتة كان ثريا وقد حول قصره المنيف الى متحف : اثاث فاخر و تحف نادرة ورياش غالية ولكن غرفة الكتابة كانت تبدو متواضعة للغاية ولم يكن فيها ما يشتت أفكاره أو يصرف انتباهه
عن الكتابة .
وقد أعتاد كل من كان كارل ماركس ( 1818 – 1883م) وفلاديميرلينين ( 1970 – 1924م )  الكتابة وهما غارقان في أفكارهما في المكتبات العامة حيث تتوفر المراجع و الأجواء المناسبة للعمل في هدوء ودون مقاطعة  ولا يزعجمها أي شيء .
 
اناتول فرانس ( 1844 – 1924م )عندما كان يكتب كتابه ( جان دارك ) أحاط نفسه بعدد كبير من الأشياء من القرون الوسطى وبعد انجاز الكتاب بدت له هذه الاشياء كريهة الى درجة انه طلب من اصدقائه ان يساعدوه في التخلص منها . وخلال كتابة رواية ( تاييس )  كانت غرفته اشبه بـ (متحف للثقافة القديمة ) حيث كانت ثمة كتب نادرة وتحف ومقتنيات اخرى قيمة  وكان يمكنك تصور العالم الذي يعيش فيه بمجرد دخولك الى مكتبه .
 
اماعالم النفس السويسري كارل يونج ( 1875 - 1961م)  فقد كان يكتب على ضوء الشموع المعلقة على جمجمة بشرية . ان العمل الأبداعي محاط دائما بأنواع من الطقوس والعادات التي تتلائم وطبيعة الكاتب واسلوبه في العمل .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com


114
المنبر الحر / من هو الصحفي ؟
« في: 01:03 24/12/2013  »
من هو الصحفي  ؟

                                                                                                                           جودت هوشيار
 
قد يبدو هذا التساؤل ساذجاَ في نظر البعض ومستغرباَ في نظر البعض الآخر . ولكن أرجو من القاريء ان لا يسارع الى اصدار حكمه و يسمح لي بأن أبدي رأياَ قد لا يوافقني عليه الصحفي الذي يعتقد ،  ان مهنة الصحافة هي سيدة المهن ولا تدانبها أي مهنة أخرى . و دعنا نتساءل أولاَ ،، ماهي الوظيفة الأساسية للصحفي(1)  ؟ وهل هي أكثر أهمية من سائر الوظائف والمهن الأخرى ؟
 
المهندس يصمم وينفذ أبنية جديدة لشتى الاغراض من أبسط  بيت سكني الى اعلى برج أو ناطحة سحاب أو يصنّع منتوجات جديدة أو يبتكر الات أو أجهزة تخدم الأنسان  ، والطبيب يعالج المرضى ، والمعلم يعلّم ويربى الجيل الصاعد ..الخ . أذن ما هي وظيفة أو مهمة الصحفي بصرف النظر عن الوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها ؟
 
الوظائف والخدمات التي تنهض بها الصحافة و المهام التي يؤديها الصحفي - المواكب للتطور الأعلامي المتسارع في العالم -  تتوسع يوما بعد آخر ،الا أننا يمكننا القول ان الوظيفة الأساسية للصحفي والتي تغطي كل ما يتبادر الى الذهن من وظائف و مهام وخدمات ،  هي العمل كوسيط  بين المجتمع وبين مصادر المعلومات عن هذا المجتمع وما يحدث فيه  , أي أن مهمة الصحفي هي جمع ونشر المعلومات عن الأحداث الراهنة ، والاتجاهات وقضايا الناس وعمل ريبورتاجات و تقارير لنشرها او إذاعتها في وسائل الإعلام المختلفة مثل الصحف والمجلات الورقية والألكترونية  والتلفزيون والإذاعة. وبتعبير آخر ان يسرد  للناس عن أنفسهم وكل ما له اهمية في حياتهم او ما يثير اهتمامهم . و قد يتساءل البعض لماذا على الصحفي ان يفعل ذلك  ؟ فنقول ، لأن المعلومات الصادقة يساعد الناس في تشكيل آرائهم واختيار توجهاتهم في الحياة . وتجنب ارتكاب الأخطاء يقدر الأمكان وتحقيق النجاح . ولكن، لماذا يعتبر الصحفي وسيطاّ ؟
صحيح ان الصحافة هي مهنة المتاعب أحيانا عندما يتعلق الأمر بتغطية الأحداث الساخنة ميدانيا أو العمل في مجال الصحافة الأستقصائية . ورغم ان بعض الصحفيين يميل الى المغالاة في تقييم دوره في المجتمع  بالقول أنه حامل رسالة سامية أهم من أي رسالة أو مهنة أو وظيفة أخرى . ولكن في واقع الأمر فأن المهمة الأساسية للصحفي هو الحصول على المعلومات ومعالجتها وتقديمها أو عرضها للقراء أو المستمعين أو المشاهدين عل شكل نتاج اعلامي وفق شروط  وخصوصيات الوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها.
 
ومن أجل استجلاء المهام التي يقوم بها الصحفي – حسب مجال عمله – لا بد من دراسة الوظائف الأساسية للصحافة أو وسائل الأعلام  في المجتمع ،  مما  يساعد على فهم اوضح لدوافع اطلاع المتلقي على ما تقدمه الصحافة .
 
في عام 1948 حدد  هارولد لاسويل ( lasswell) (2)  ثلاث وظائف  اساسية تقوم بها وسائل الاعلام في المجتمع .
أولاَ- ابقاء الجمهور على علم بالتطورات من خلال مراقبة البيئة المحيطة .
 
ثانياَ –عرض الاجزاء المختلفة للبيئة المحيطة والذي يساعد المستهلكين على فهم بنيتها ككل ويتيح لهم ربط  تلك الاجزاء وتكوين صورة اوضح لتلك البيئة .
 
ثالثا –نقل التراث الاجتماعي الى الاجيال الجديدة من المستهلكين ، وهي وظيفة في غاية الأهمية ، لأنها السد المنيع امام الغزو الثقافي أو فرض اسلوب حياتي خارجي على مجتمع معين يتناقض مع تراثه الأجتماعي وهويته الثقافية .
 
وقد أشار عدد من الباحثين الغربيين الى وظائف أخرى مثل التوجيه والتوعية والترويج للسلع والخدمات التجارية  ( الوظيفة الأعلانية ) .ولا نريد الأسترسال في عرض هذه الآراء  ، بل نفضل تلخيصها في الوظائف الرئيسية التالية :
 
1 – الوظيفة الأعلامية والأخبارية :
 
 تزويد المتلقي بالأخبار والتقارير عن الأحداث المحلية والخارجية مع مراعاة معايير الموضوعية والأمانة. وهذه الوظيفة لم تعد حكرا على الصحافة التفليدية ، بل ان الصحافة الرقمية الجديدة أسرع في تقديمها - مجانا في معظم الأحيان - وبالصوت والصورة قي آن واحد
 
2 – الوظيفة التنويرية أو ﺍﻟﺘﻮﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻮﺟﻴﻪ :
 
 تقديم جوانب شتى من المعرفة والآراء و الأتجاهات الفكرية والسياسية  ووجهات النظر التي تساعد القاريء على  تثقيف ذاته وزبادة معلوماته في شتى المجالات .
 
3 – ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﻓﻴﻪ :
 
. وهي وظيفة مهمة تدل على ان العديد من افراد المجتمع يستخدم وسائل الاعلام  للأستمتاع والترويح عن النفس ووسيلة لتحقيق التوازن النفسي والعقلي لهم .
 
 الترفية والتسلية هي الوظيفة الرئيسية ،  وربما الوحيدة لـ( الصحف الشعبية) وصحف ( التابلويد) ، ناهيك عن(الـصحف الصفراء) ولكن هذا لا يعني ان هذه الوظيفة تقتصرعلى هذه الأشكال من الصحافة الخفيفة ،  التي لا تتطلب جهدا ذهنيا من المتلقي ، بل ان الصحافة الجادة والرصينة تقدمها أيضاً ولكن بجرعات محددة لا تغطي على وظائفها الأعلامية والتنويرية .
 
4 – الوظيفة الأعلانية  :
 
 وهي الوظيفة الرئيسية للصحافة التجارية ( الأعلانية ) أو لللقنوات التلفزيونية الترفيهية  ، التي تسعي لتحقيق اقصى ما يمكن من مردودات مالية . واحدى وظائف الصحف الرصينة
ففي ظروف اقتصاد السوق ، لا يمكن لأي صحيفة مثلاً  أن تعيش الا اذا كانت  تلقى الرواج ولها موارد كافية من الأعلان الذي ﻳﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻐﻄﻴﺔ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ أصدارها ، ﻟﺘﺼﻞ ﺍﻟﻲ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﺑﺴﻌﺮ ﻳﻘﻞﻋﻦ ﺗﻜﻠﻔﺘﻬﺎﺍﻟﻔﻌﻠﻴﺔ. ولولا الأعلان لأختـفى من الوجود معظم الصحف والقنوات التلفزيونية الخاصة غير المدعومة مالياّ من الدولة أوأي جهة أخرى .
 
ولكن أداء أي وظيفة من هذه الوظائف أوالعمل الصحفي يتطلب جمع المعلومات ومعالجتها بموضوعية وأمانة وشفافية  ومن ثم تقديمها كنتاج صحفي في نمط معين من أنماط الصحافة
 
العمل الصحفي الحقيقي يتطلب موهبة و أحيانا شجاعة عند التغطية الميدانية للأحداث في المناطق الساخنة او القيام بتحقيقات صحفية أستقصائية. ومع ذلك فأن مصطلح " الصحفي " مرن ورحب .فالمذيعة التي  تقدم عرضا لحالة الطقس أو أسهم الشركات أو أخبار الرياضة  من حقها ان تقول انها صحفية أيضأ ، فالمهنة الصحفية واسعة متنوعة المجالات والتخصصات والأشكال .
ولكن ماذا عن مصطلح " السلطة الرابعة " التي تطلق على الصحافة ؟
 
حقا ان من الصعوبة بمكان ان تتناغم السلطة مع دور الوسيط  . وارى ان سلطة الصحفي ووسائل الاعلام عموماً هي التأثير في الرأي العام والأسهام في تشكيله و النفاذ الى قلوب وعقول الناس و يا لها من مهمة نبيلة . ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال للصحفي ان يفهم مصطلح " السلطة" بالمعنى الفعلي للكلمة . لأن الصحفي لا يمتلك سلطة أو أليات من أجل تحويل كلماته الى أمر واقع .
 
الهوامش :
 
(1)   المقصود بمصطلح ( الصحفي ) هنا ، المعنى الواسع له أي الذي يمارس العمل الصحفي في أي وسيلة من وسائل الأعلام ..
 
(2)   هارولد دوايت لاسويل (Harold Dwight Lasswell) عالم اجتماع أمريكي (13 فبراير 1902-18 ديسمبر 1978) درس تأثير أجهزة الإعلام على تكوين الرأي العام,


115
ظاهرة نيلسون مانديلا

                                                                                                                             جودت هوشيار
 
تحول نيلسون مانديلا الى اسطورة حية ،عندما كان ما يزال على قيد الحياة و قبل رحيله بمدة طويلة ، وهذه حالة نادرة في التأريخ البشري تستحق الوقوف عندها طويلاً ,
 
 زعماء العالم من الولايات المتحدة الأميركية الى الصين ومن بريطانيا الى اليابان ، ومن كندا الى روسيا و كثيرون غيرهم من  القادة والزعماء والمفكرين نعوا نيلسون مانديلا  كشخصية فريدة وظاهرة لن تتكرر في هذا العصر وربما حتى في العصور اللاحقة .
 
مانديلا لم يكن وطنيا ومناضلا عنيدا وحسب -  أسهم بقسط وافر في القضاء على نظام " الأبارتهيد " وانقاذ شعبه من براثن التمييز العنصري  الظلم والبؤس والشقاء -  بل أيضا زعيما سياسيا أخلاقيا تحلى بأسمى الصفات الأنسانية في زمن غابت فيه الأخلاق عن السياسة ، فلم تسكره نشوة الأنتصار للأنتقام من جلاديه ، بل انه بذل أقصى جهوده بعد وصوله الى السلطة في الدعوة الى قيم التسامح ونبذ الكراهية والمصالحة  في تناغم لم تعهده البشرية من قبل .
 
تخلى مانديلا عن السلطة و أعتزل السياسة بمحض أرادته وهو في أوج شعبيته وبعد أن حقق لبلاده وشعبه انجازات كبيرة في شتى جوانب الحياة . . فعلى سبيل المثال لا الحصر تم خلال فترة حكمه بناء ( 500 ) مستشفي وأكثر من  ( 750 ) ألف دار سكنية  . وبفضل انجازاته الأقتصادية واصلاحاته الأجتماعية ونضاله ضد سياسة التمييز العنصري حصل مانديلا على الأعتراف به كزعيم اصلاحي من طراز فريد على المستويين المحلي والعالمي .
 
ولد مانديلا في عام 1918 وتخرج في كلية الحقوق بجامعة جنوب افريقيا عام 1942 وانضم الى المؤتمر الوطني الأفريقي عام 1944 وتدرج في السلم الحزبي حتى اصبح بحلول عام 1949 احد قادة الحزب المرموقين واشتهر بنضاله الدؤوب ضد سياسة الفصل العنصري .اعتقل مانديلا في عام  1962وحكم عليه بالسجن سبع سنوات ، بيد أنه لم يتوقف لحظة عن النضال حتى من وراء اسوار السجن . وقد أتهمته السلطات بقيادة المقاومة الشعبية والكفاح المسلح واعيدت محاكمته مجددا  فصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد عام 1964 .
 
اكتسب مانديلا خلال فترة سجنه شهرة واسعة ونظمت في جمهورية جنوب افريقيا وفي ارجاء العالم حملات جماهيرية واسعة النطاق تطالب باطلاق سراحه واصبح بطلا قوميا ورمزا لكفاح الأغلبية السوداء في بلاده ، وقد أضطرت حكومة " دي كليرك " تحت ضغط المقاومة الشعبية والرأي العام العالمي الى اطلاق سراح مانديلا في 11 / 2 / 1990. وبعد خروجه من السجن بحوالي شهر واحد انتخب نائبا لرئيس الحزب ، ثم رئيسا للحزب في ايلول عام 1990 .
 حصل مانديلا في عام 1993 على جائزة نوبل للسلام ، وفي عام 1994 أنتخب رئيسا لجمهورية جنوب أفريقيا بأغلبية ساحقة.
 
 بعد أنتهاء فترة ولايته الأولى في عام 1999 رفض ترشيح نفسه لدورة ثانية وفضل الأبتعاد عن المعترك السياسي وتفرغ لحياته الخاصة .
زار مانديلا في أوائل عام 2000 السجن الذي أمضى فيه سنوات طويلة في جزيرة " روبين " وأشعل شمعة في الزنزانة الأنفرادية التي سجن فيها ، وعقب مغادرته المكان صرح للصحفيين قائلا : " كان القرن الماضي مخيبا للآمال "
 
شخصبة متعددة المواهب :
 
كان مانديلا خطيبا مفوها يسحر السامع بفصاحته وكلامه البليغ. ويكفي الأطلاع على كلماته المؤثرة التي ألقاها دفاعا عن نفسه وحقوق شعبه عند محاكمته في عامي 1962 و1964 للأقتناع بأن مانديلا  كان أحد المع الخطباء في عصرنا الراهن . كما كان صاحب أفكار أصلاحية رائدة  تجلت في مؤلفاته ، وفنانا  مرهف الحس ، يبدع حتى في ظروف بالغة القسوة وهو في زنزانته الأنفرادية في سجن جزيرة " روبين " الموحشة .
 
مؤلفات مانديلا :
 
  الأعتقاد الشائد ان السياسة والثقافة على طرفي نقيض ولكن ظاهرة مانديلا تثبت ان السياسي الأخلاقي  يمكن أن يكون في الوقت ذاته مفكراُ ومبدعا وأنسانيا الى أبعد الحدود .
اصدر مانديلا العديد من الكتب التي لقيت وتلقى رواجا كبيرا ، ولا أعرف على وجه الدقة عدد الكتب التي ألفها مانديلا ولكن  شاءت المصادفة أن أطلع على ثلاثة منها وهي كالآتي :
الكتاب الأول " ليس ثمة طريق سهل الى الحرية " ( 1965 ) والثاني " أنا على استعداد للموت " (1979 ) .اما الكتاب الثالث ، فأنه يتضمن مذكراته التي نشرها عام (  1994) تحت عنوان " رحلة طويلة نحو الحرية " .
 
مانديلا الفنانً :
 
في اكتوبر عام 2002 أقيم في لندن معرض فني تحت عنوان " الأسود والأبيض " عرضت فيه اللوحات الفنية التي رسمها مانديلا خلال السنوات الطويلة التي قضاها في السجن ( 1962 – 1990 ) .
 اللوحات جمبعها مرسومة بالفحم أو القلم الرصاص وتوجد بينها عدة لوحات تمثل المشهد الذي كان مانـديلا يطل عليه من خـلال شياك زنزانته عندما كان سجينا في جـزيرة  " روبين "  ، حيث قضى الجـزء الأكبرمن فترة سجنه . وقد خصص ريع المعرض لمساعدة اطفال جنوب افريقيا . وكان عنوان المعرض حافلا بالدلالات  ويمكن تفسيره على وجوه شتى ، علاوة على معناه المباشر ، الذي يشير الى ان اللوحات المعروضة مرسومة باللونين الأسود والأبيض أو بتعبير أدق ، باللون الأسود فقط .
 
مانديلا الرمز والقدوة :
 
رغم تخليه عن السلطة بمحض ارادته وتفرغه لحياته الخاصة وتقدمه في السن ، الا أنه كان دائب النشاط في سبيل السلام العالمي وخير البشرية  واسهم بفعالية في العديد من المؤتمرات والندوات العالمية والتي كانت تكتسب اهمية خاصة عند مشاركته في اعمالها ,
حظي مانديلا بأحترام العالم بأسره وتجلى ذلك بأبلغ صورة في مظاهر الحفاوة والتكريم التي قوبل بها في كل مكان , .وقد اغدقت عليه العديد من الدول الأوسمة الرفيعة ومنحته عدد من  أشهر جامعات العالم شهاداتها الفخرية . ولمانديلا  مكانة خاصة في قلوب الكنديين . وقد منحته الحكومة الكندية لقب المواطن الفخري في احتفال خاص اقيم في متحف الحضارة في هيلي بمقاطعة كيوبيك واطلقت وزارة التربية الكندية اسمه على احدى مدارس تورينتو , ومنحنه جامعة تورينتو شهادة الدكتوراه الفخرية في القانون .
كما أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2009 يوم  18 فبراير من كل عام  بوصفه" يوم مانديلا " العالمي .
 
أصبح مانديلا موضوعا خصبا للعديد من الأعمال الأبداعية وانتجت عنه  افلام وثائقية وروائية ومنها فيلم  (  الذي لا يقهر ، بالإنجليزية ،  Invictus) وهو فيلم دراما تم إنتاجه في الولايات المتحدة سنة 2009 ويتناول محطات في سيرة حياة  مانديلا  ، ويصوّر محاولته لجعل لعبة الركبي والرياضة لغة عالمية مضادة للغة التمييز العنصري والعنف في بلد أنهكه النزاع العنصري . ولأن الاختيار وقع على جنوب إفريقيا كي تستضيف اللعبة عام 1995، في محاولة لجلب البيض والسود الى مكان واحد تجمعهم لعبة رياضية بعد عقود من الفصل العنصري. فإن الفيلم يظهر كيف استثمر مانديلا هذا الحدث في مشروعه المناهض للعنصرية مع سرد استعادي سينمائي لمراحل من حياة المناضل الافريقي .
 
ظاهرة فريدة :
 
مانديلا ظاهرة فريدة في عصرنا ، فقد تخلى عن السلطة بعد أن نجح في انهاء الفصل العنصري وزرع روح الوئام و الأنسجام بين شعوب جنوب أفريقيا وحقق لشعبه ما كان يصبو اليه من حرية وديمقراطية وأستقرار وسلام  . وأعترف العالم بمواقفه  المشرفة من قضايا الشعوب المناضلة من اجل حقوقها المشروعة ، .لهذا كله حظي بأحترام العالم بأسره .
 وعندما كتب " أنا على أستعداد للموت " كان على يقين أن المباديء السامية التي ضحى من اجلها لن تموت أبداً .
 
من أقوال مانديلا :
 
قلنا في ما تقدم ان مانديلا كان خطيبا مفوها لا يجارى ولم يكن يلقي الكلام على عواهنه ـ بل ان خطبه ومؤلفاته  كانت زاخرة بالحكم البليغة التي تعبر عن تجربته السياسية والنضالية والحياتية وفي ما يلي باقة من كلمات مانديلا الخالدة :
 
1 – أنا لا أستطيع أن أنسى ولكن أستطيع أن اسامح وأغفر .
2 -  ناضلت ضد هيمنة البيض كما ناضلت ضد هيمنة السود .
3 – لا احد يولد وهو يكره انسانا آخر بسبب لون الجلد او الأصل او الدين , الناس يتعلمون الكراهية ،  واذا كانوا قادرين على تعلم الكراهية ، ينبغي السعي لتعليمهم الحب ، لأن الحب أقرب الى قلب الأنسان .
4 -  المساواة الحقيقية أمام القانون تعنى حق الأسهام في وضع القوانين التي تعيش بموجبها ، ووجود دستور يضمن الحقوق الديمقراطية لكل الشرائح الأجتماعية ، والحق في اللجؤ الى المحكمة لطلب الحماية او المساعدة في حالة انتهاك الحقوق التي يكفلها الدستور ، وكذلك الحق في المشاركة في ادارة العدالة بصفة قاض او محام او ادعاء عام او أي صفة رسمية أخرى .
5 – عالمنا ، عالم الآمال و والتطلعات ، ومن ناحية أخرى هو عالم المعاناة والأمراض والفقر
6 – ان تستاء وتغضب ، مثل ان تشرب السم على امل أنه سوف يقتل أعدائك .
7 – يجب علينا استخدام الوقت بحكمة وان نتذكر ان القضية العادلة يمكن البدء بها في اي وقت .
8 – ان تكون حراً لا يعني  ان تنزع عن نفسك السلاسل فقط ولكن ان تعيش وانت تحترم وتعزز حرية الآخرين .
9 – لا ينبغي ان نتوقع من الناس المحرومين من حق التصويت الأستمرار في دفع الضرائب لحكومة لا تمثل امامهم للأستجواب .
10 – ليس المهم ان لا تصاب بكبوة ، بل ان تنهض بعد كل كبوة .
11 – اداء الواجب بصرف النظر عن العواقب هو احد الانجازات السامية للانسان
12 – ليس من الصعب ان تغير المجتمع بل ان تغير نفسك
13 – لا يمكن ان تكون الحرية جزئية
 14 -من السهل جدا ان تحارب وتدمر . ولكن البطل الحقيقي ، هو الذي يصنع السلام ويشرع بالبناء.
15 – عندما تصعد جبلا عاليا تنفتح امامك عدد هائل من الجبال التي ينبغي عليك الشروع بالصعود اليها .
-------------
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


116
الطريق الى القاريء يبدأ من العنوان !

                                                                                                                       جــودت هـوشــيار
 
العنوان يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص ، وفهم ما غمض منه ، اذ هو المحورالذي يتوالد ويتنامى ويعيد انتاج نفسه ، فهو ان صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد .
                                                                         الكاتب المغربي محد مفتاح

 
في خضم التغييرات المتسارعة للتكنولوجيا الرقمية والتدفق الأعلامي المتواصل ، لم يعد لدى القاريء العادي متسع من الوقت لقراءة ولوجزء يسير من المقالات المنشورة ، سواء في الدوريات الورقية المطبوعة أوعلى المواقع الألكترونية وبضمنها مواقع التواصل الأجتماعي على شبكة الأنترنيت.ولم يعد حتى القاريء المتخصص في الأعلام أو الكاتب السياسي ، ناهيك عن القاريء العادي ، يقرأ الصحيفة من الغلاف الى العلاف ، كما كان الأمر قبل العصر الرقمي ، بل يمر على صفحاتها بعينيه ولا يستوقفه الا العنوان المثير للأنتباه او الجذاب أو الصارخ ، الذي يتلائم مع خلفيته الثقافية وآرائه الفكرية وذائقته الأدبية ونطاق أهتماماته  ويقرر بينه وبين نفسه ، أي مقال يستحق القراءة ، فيختار ما يناسبه  ويهمل بقية المقالات .
 
وتشير نتائج الأستبيانات الصحفية لعدد من مراكز البحوث الأعلامية في العالم الى ان القاريء العادي  يقرأ نص مقال واحد من بين كل خمس مقالات ويمر مرور الكرام على عناوين المقالات الأخرى ، ليس بسبب ضيق الوقت فقط ،أو لأنها غير جديرة بالقراءة ، بل لأن عناوينها لا تشجع على قراءة نصوصها ،  فهي تبدو له اما ركيكة أومملة خصوصاً في المواقع الألكترونية ، التي لا تظهر على صفحاتها الرئيسية سوى عناوين المقالات أو بضع جمل افتتاحية لها، وينبغي النقر على العنوان لقراءة المتن في صفحة جديدة .
 
العنوان واجهة المقال أو بطاقته التعريفية ومفتاح الدخول الى النص والمدل بكلماته وصياغته على مضمونه.. من هنا يتبين لنا ان وظيفة العنوان الرئيسية هي استمالة القاريء وتحفيزه على قراءة المقال ، وينبغي ان تكون بدايةَ المقال أيضاَ جذابة وشائقة ومغرية ، وهي اكثر أهمية من مئات الكلمات التي تليها ، لأن البداية السيئة ، التي لا تقدم للقاريء فكرة أو معلومة جديدة أو رأياُ جديداُ كالعنوان الممل ، كلاهما لا يشجع على الأستمرار في قراءة المقال .
 
اذن فأن نجاح أي مقال يعتمد الى حد كبير على العنوان المثير للأنتباه والبداية الشائقة ، حيث يخيَل الى القاريء ان نص المقال سيكون شائقاً وقيماَ. ولا شك ان جودة النص يعتمد على موهبة الكاتب وسعة ثقافته ورشاقة أسلوبه . وينبغي ان يكون النص جيدا مثل عنوانه . اما اذا كان النص مخيباً لظن القاريء فأن الأخير يفقد ثقته بالكاتب والصحيفة في آن واحد .
 
في الصحف العربية والكردية تتولى "  هيئة التحرير " أختيار عناوين الأخبار والتقارير والتحقيقات  و تترك عناوين المقالات لكتابها ، أما في الصحف الغربية الكبرى ، فثمة اتجاه يرى ضرورة أن يكون هناك محرر متخصص في العناوين مهمته قراءة الموضوعات ووضع عناوين لها ، وهو في المعتاد  صحفي متمرس . لأن مهارة اختيار العناوين لا تأتي من فراغ ولكن وليدة تجارب وخبرات  طويلة في المعالجة الصحفية .
 
اختيار عنوان المقال :
 
يلعب العنوان دوراً مهماُ وأساسياً في تحقيق النجاح لأي معالجة صحفية وبخاصة مقالات الرأي وهو يعكس ذائقة الكاتب الصحفي ومهنيته ، والعنوان الصحفي الجاذب هو الذي ليس فيه تكرار للصفات والأحوال وحروف الجر ، التي ليس لها داع  أو لا تضيف بعداً معلوماتياُ وجمالياً الى المتن. ولكل كاتب طريقته الخاصة في كتابة المقال وأختيار العنوان المناسب له .
 فالبعض يختار العنوان اولا ، ثم يشرع في كتابة المتن .  أي ان العنوان يحدد للكاتب الأطار العام لمقاله وهو اطار مقيد لحرية الكاتب وتدفق أفكاره بأنسيابية وسلاسة ، رغم أنه ( أي الأطار ) يساعد الكاتب في التركيزعلى الفكرة الأساسية للمقال وعدم خروجه عنها بأستطرادات زائدة عن الحاجة .
والبعض الآخر يشعر بصعوبة اختيار العنوان قبل الأنتهاء من كتابة النص بأكمله .وقد يغير العنوان مرات عديدة قبل ان يستقر رأيه على عنوان محدد !
 
 ولكن كتابة مقال جيد عملية طويلة نسبيا وقد تستغرق من بضعة أيام الى عدة أسابيع . ولهذا السبب من المفضل ان يختار الكاتب عنواناً ( مؤقتاُ )  لكي لا تتشتّت أفكاره ويفقد تركيزه على الموضوع ، ثم يشرع بكتابة مقاله وكلما طرأت في ذهنه فكرة جديدة يدونها ، ثم يستمر في عمله وبعد الأنتهاء من كتابة المقال وصياغته،  يدقق محتوى النص ويستخلص الهدف منه، والرسالة التي يود ايصالها الى القاريء ، ويتمعن في مدى ملائمة العنوان( المؤقت )  للمتن ، ويلجأ الى تغيير العنوان الأولي مرات عديدة  قبل ان يستقر رأيه على عنوان محدد من بين بدائل عديدة ، شريطة ان يكون العنوان مدلاّعلى ما في داخل المتن . وهذه الطريقة تجمع محاسن الطريقتين الأولى والثانية .
 
ولكن في كل الأحوال ينبغي ان يتسم العنوان بالجاذبية والأثارة ، ولتحقيق هذا الهدف يجب ان يكون مختزلاً ومكثفاً ، يعبرعن محتوى الموضوع  في أقصر صيغة ممكنة ولا يتجاوز بضع كلمات .
 
أنواع العناوين التحريرية في الصحافة التقليدية أو الرصينة :
 
العنوان الجيد يجب أن يعطي القارئ غير المتخصص فكرة عن محتوى المقال بسهولة ويسر
 
أو يحمل معلومات جديدة عن الموضوع المصاحب له ويتصل بالفكرة الأساسية للمقال .
 
ثمة أنواع كثيرة من العناوين ، سنتطرق ألى اهمها في ما يلي :
 
1 – العنوان التعريفي : ويستخدم عموما في المقالات والدراسات والبحوث ويعبر عن الفكرة الأساسية للنص أو يلخص استنتاجاته النهائية.
 
2 – العنوان الوصفي : وصف مركز للموضوع ، بحيث يجذب الأنتباه لقراءة المتن .وهو النوع الأكثر شيوعا في المجلات بشتى أنواعها .
 
3 – العنوان الأستفهامي : أقل شيوعا ، ويعرض الموضوع في شكل سؤال مهم ومثير ويهم الجمهور .
 
4 – العنوان النقدي : ويشير الى اتخاذ الكاتب موقفاّ من الأحداث ويستخدم في المعتاد في الحوارات والتحقيقات الصحفية والمقالات النقدية .
5 -  العنوان المقارن : ويكون على اساس المفاضلة بين الافكار والاراء ، ويعتمد على عنصر المقابلة بين حقيقتين او اكثر من الحقائق المتصلة بالموضوع .
 
6– العنوان المثل او الحكمة : ويكون على شكل  حكمة معروفة اومثل معروف لدي القاريء ، شريطة أن ينسجم وطبيعة المضمون الذي يحمله المتن .
 
8– العنوان المقتبس : ويستخدم في المعتاد للحوارات والمقابلات الصحفية  ويكون مقتبساُ من تصريح المسؤول او الشخصية  التي يتم اجراء الحوار معها.أو اختيار جملة معبرة من نص المقال كعنوان له ، وهذا الأختيار له محاسن عديدة ، لعل أهمها ان العنوان في الوقت الذي يشف محتوى النص ، تكتنفه غلالة خفيفة من الغموض المحبب أحياناً ,
 
7 – العنوان الطريف : ويهتم بالجانب الطريف في الموضوع  بحيث يثير ذلك اهتمام القراء وجذبهم للقرءة.
 
ما ينبغي تجنبه في أخنيار العناوين :
 
1 – الكليشيهات التي تتردد بكثرة في الكتابات والمعالجات الصحفية .
 
2 - العنوان الطويل ويفضل الا يزيد العنوان عن سطر واحد او عشر كلمات كحد أقصى .
 
3-  "  العنوان الأعمى " وهو العنوان الغامض ،  الذي لا يدل على مضمون المقال ولا يفهم منه الموضوع الذي يتحدث عنه الكاتب . مثل (رسالة إلى الخبراء ) .
 
4 – تضمين العنوان معلومات و معاني أكبر مما يتضمنه نص المقال .
 
4 - العنوان الرنان الذي يدعو القاريء لاكتشاف ما يريد كاتب المقال أن يوصله للقراء من رسائل،مثل " هبة من السماء " أو " درة يغداد" وما شابه ذلك .
 
5 –الكلمات التي تعطي أكثر من دلالة .


117
صحافة الأثارة بين اختراق التابوهات وتزييف  الواقع

جـودت هـوشــيار
 
" الصحافة الصفراء "  تعبير يتردد كثيراّ على ألسنة الناس, قد يقصد البعض بذلك " صحافة الإثارة "  سواء كانت الإثارة سياسية أو دينية أو اجتماعية أو جنسية ،  وقد يُقصد البعض الآخر " الصحافة الشعبية " أو صحف " التابلويد ". وهي ثلاثة أشكال من الصحافة " الخفيفة " يصعب وضع حدود فاصلة بينها ، لأنها تتشابه الى حد كبير من حيث المضامين والأخراج الفني .
 
أيا كانت المصطلحات و المفاهيم فإن الجميع يكاد يتفق على أن " الصحافة الصفراء "  تفتقر الى الصدقية والموضوعية والمصادر الموثوقة ولا يكلف العاملون فيها أنفسهم عناء التحقق من المعلومات المنشورة ولكنها – رغم ذلك -  تلقى هوى ورواجا لدى القراء.
 
يرى معظم  الباحثين ، ان " الصحافة الصفراء "  ظهرت للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأميركة على يد ( Ervin Wardman ) ، حين أصدر صحيفة ( New York Press ) في أواخر عام ( 1896م ) . ولكن "  الصحافة الصفراء "  لم تلد عن طريق المصادفة ، بل ان جذورها تمتد الى الفترة التي شهدت فيها أوروبا  تحولات أقتصادية وأجتماعية وثقافية كبرى عقب الثورة الفرنسية ( 1789 – 1799 م) ، ومنها دمقرطة المجتمع والصحافة اثر أنتشار الصناعة ونشؤ مراكز التجمعات  العمالية  وتقدم تكنولوجيا الطباعة والأنتاج الصحفي  وارتفاع مستويات الدخل وظهور الطبقة الوسطى  والقضاء على نسبة كبيرة من الأمية . كل هذه العوامل مجتمعة ادت الى ظهور قطاعات عريضة من أشباه المثقفين وأنصاف المتعلمين الذين لم تعد الصحافة التقليدية الرصينة قادرة على تلبية رغباتهم واذواقهم ، مما مهد لظهور ما تسمى " الصحافة الشعبية ".التي تعكس الحوادث من وجهة نظر القاريء من الطبقة الوسطى . وتوقفت قراءة الصحف أن تكون  حكراً وأمتيازاً للنخب السياسية والأجتماعية والثقافية ،  ولكن القاريء العام – وهو قاريء محدود الثقافة وضيق الأفق -   لم يكن يتقبل المقالات الجادة للصحف الرصينة ، التي كانت تبدي اهتماما مكثفا بوظائف الصحافة الأساسية في المقام الأول ، في حين كان الجمهور يرغب في الترفيه والتسلية..
 
 ومنذ ذلك الحين عرف تأريخ الثقافة عموماُ وتأريخ الصحافة على وجه الخصوص ،  اتجاهين متفاعلين ومتداخلين في أحيان كثيرة وهما " الأتجاه المعرفي " و" الأتجاه الترفيهي " .وتميل " الصحافة الصفراء " الى تغليب الأتجاه الترفيهي على حساب الوظيفة الأعلامية .
لقد تطور هذا النمط الجديد من الصحافة في الفترة اللاحقة و أكتسب ملامحه وسماته المتميزة
في التجربة الصحفية الأميركية منذ العام ( 1850م) ، وأهم ما تمتاز به  هذه التجربة توسع " وظائف الصحافة " وعدم اقتصارها على الوظيفة المعرفية والأعلامية  ، والأهتمام المتزايد بالوظائف الجمالية و الأبداعية و الترفيهية ، التي تسهم في تلبية رغبات القاريء وأمتاعه واسترخاءه  وهروبه من مشاكله الشخصية وتأمين المشاركة الفردية في عملية الأتصال .
 
تسعى " الصحافة الصفراء " الى أستمالة وجذب اكبر عدد من القراء بنشرمواد صحفية خفيفة تتسم  بعناصرالأثارة والتشويق اوالطرافة والغرابة والتركيزعلى المحرمات ( التابوهات ) والأخبار المجهلة والشائعات والفضائح والجرائم والقصص الخبرية الملفقة والعناوين الصارخة أو المضللة  ، وليس ثمة ما يثير اهتمام القاريء وتلهغه أكثر من الأشاعات والأقاويل والفضائح و تفاصيل حميمة من حياة المشاهير. وبطبيعة الحال ينبغي ان يكون في مثل هذه الصحف الكثير من الجنس والوقائع الساخنة والعنف. فعلى سبيل المثال يشعر القاريء بالفرح حين يكتشف ان هذه الجريمة أو تلك المأساة  لم تحدث معه شخصيا .
 
وتتميز هذه الصحافة  باستخدام اساليب جذابة في التحرير و الأخراج الفني بما يتلائم واذواق واهتمامات الجمهور العام . وهي صحافة رخيصة الثمن ، تبذل كل امكانياتها من اجل أستمالة الجمهور وزيادة التوزيع الذي يكون دافعا للحصول على عوائد اعلانية ضخمة ودون النظر لعائد بيع نسخ الصحيفة ذاتها .ويمكن القول ان " الصحافة الصفراء " أسهمت في تحول " الصحافة " الى " صناعة "
 
والحق ان غالبية الناس لا تهتم كثيراً بالسياسة العالمية ولا بالوضع الاقتصادي الداخلي وتركز في الأساس على المواضيع الشخصية المثيرة. وقد استفاد رجال الأعمال من هذا التغيير لجني الأرباح ، كما أستفاد منه رجال السياسة الذين دروا الأموال على أصحاب القلم لكتابة مقالات تزور الحقائق وتقلب المعلومات رأس على عقب بهدف النيل من هذه الشخصية السياسية أو تلك.
 
في يومنا هذا لا توجد حدود فاصلة وواضحة بين " الصحافة الصفراء "  و" الصحافة الرصينة "  ، حيث تظهر بعض ملامح الصحف الصفراء الى هذا الحد او ذاك  في "  الصحف الرصينة " التي تخاطب المثقفين .وقد تثير الصحف " الرخيصة "  احيانا مشاكل  اجتماعية خطيرة.
 
صحف الأثارة فى العراق وأقليم كردستان :
 
"الصحافة الصفراء" في الغرب  صناعة متطورة  تدر مليارات الدولارات سنوياً وتتمتع بحرية واسعة في ظل الأنظمة الليبرالية  وبوسعها تناول شتى الموضوعات  المثيرة وفي مقدمتها العلاقات الحميمة للمشاهير ونجوم المجتمع وتصيَد أخبارهم وأسرارهم عن طريق التلصص على حياتهم الخاصة ونشركل ما يلهب خيال القاريء ، محدود الثقافة. ومن خلال متابعتنا للصحافة العراقية والكوردية نرى عدم وجود " صحافة صفراء " بالمعنى الدقيق للمصطلح في العراق و أقليم كوردستان في الوقت الراهن ، وانما هناك بعض العناصر والملامح الصفراء، التي لم تأخذ مداها الكامل نظرأ للبيئة الشرقية المحافظة، التي تحول دون أختراق التابوهات أو تجاوز العادات والتقاليد والأعراف الراسخة للمجتمع .
ولعل من أبرز هذه  الملامح الصفراء - التي تقتصر على عدد من الصحف الأهلية أو الخاصة - شيوع ظاهرة الخبر المجهل أو الخبر غير محدد المصدر واحياناُ الخبرغير الصحيح أو الكاذب .ومن تلك الملامح أيضاً اللجؤ الى التهويل والمبالغة في المعالجة الصحفية .وكذلك استخدام العناوين المضللة للأخبار والتقارير وتضمينها معلومات اكبر مما تمتلكه الصحيفة  ، أي ان العناوين الصارخة  – التي تحتل مساحات كبيرة في  مقدمة الصفحة الأولى وحتى في الصفحات الداخلية  – قد لا تكون له الا علاقة طفيفة أو واهية بمضامين المواد المنشورة .
وعلى اية حال فأن  هذه العناصر والملامح التي أخذت تطغي تدريجيا  على الصحافة الخاصة العراقية والكوردية من اجل زيادة أرقام توزيعها ومردوداتها المالية دليل واضح على تدني الأحترافية المهنية لها قبل أن تكون  تقليداً غير ناضج  للصحافة الصفراء في الغرب .
 
جــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com


118
المنبر الحر / مهزلة العقل العفوي
« في: 19:53 03/11/2013  »
مهزلة العقل العفوي

                                                                                                                             جودت هوشيار
 
فى عام ( 1962م )  احتفل العراق بمرور( 1200) عاماً على بناء بغداد ، حيث نظمت
احتفالات مهيبة وفعاليات علمية وثقافية رعاها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم شخصياً ، وبضمنها عقد مؤتمر علمى شارك فيه جمهرة من خيرة المؤرخين المتخصصين بتأريخ المدينة وعدد كبير من أبرز المفكرين والأدباء العرب و لمستشرقين  الأجانب ممَّن قدموا دراسات قيمة حول الدور الحضاري الذى  نهضت به بغداد فى  عصر أزدهارها و ما تعرضت له من أحداث جسام عبر التأريخ  .
 
في العام الماضي (2012م ) مرت ذكرى مرور ( 1250) عاماً على بناء  بغداد ،. و كانت مناسبة جديرة بالأحتفال أكثر من أية مناسبة تأريخية  أخرى ، ولكنها مرت في صمت مطبق وتجاهل متعمد على المستوى الرسمي .ولم يكن ذلك أمراً مستغرباً . كيف يتذكر تأريخ هذه المدينة العريقة ،  الزاخرة بالمفاخر و الأنجازات الحضارية حكام غرباء عنها وعن أمجادها  ولا يهمهم أمرها و لا علاقة لهم بتأريخها ولا بالحضارة التى تمثلها .
 
وفي هذا العام احتفلت أمانة بغداد ا يوم السبت (  2/ 11 / 2013 )   في حدائق متنزه الزوراء  بما أسمته " يوم بغداد " ( أي اليوم الذي وضع فيه الخليفة أبو جعفر المنصور حجر الأساس لمدينته المدورة ، مدينة السلام .)  وهذا التأريخ الذي تتمسك به أمانة بغداد سنوياً مغلوط ولا يستند الى أي مرجع رصين وينم عن جهل فاضح بتأريخ المدينة ، وكان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قد شكل  لجنة رفيعة المستوى  ضمت كبار العلماء والمؤرخين لتحديد اليوم الذى وضع فيه " المنصور "  حجر الأساس لعاصمته الجديدة وأستناداً الى توصية اللجنة ، صدر قانون من مجلس الوزراء يوم(  1962 /11/17)  عندما كان هذا المجلس هو السلطة التشريعية فى البلاد بتحديد الأيام الأول و الثانى و الثالث من شهر كانون الأول عطلة رسمية لمناسبة ذكرى تأسيس بغداد والذكرى الألفية للفيلسوف الكندى . وهذا القانون لم يتم الغاؤه او تعديله و ما يزال سارى المفعول .
 
على هامش احتفالية يوم بغداد هذا العام  القى امين عام مجلس الوزراء علي العلاق، كلمة يقول فيها بالحرف الواحد : " بغداد تختزل تاريخ العراق وتشكل محطات تاريخية بما تزخر به بأحداث كبرى ومنعطفات حادة وبكل ما ضمت بين محلاتها وأزقتها من أعراق شتى ومكونات عدة"." كلام جميل ولا شك ولكن أين كان الحزب الحاكم في العام الماضي عندما تجاهل الأحتفال بمرور (  1250 ) سنة على بناء مدينة المنصور وأم الدنيا ومركز الأشعاع الحضاري في عصور أزدهارها .
 
لم يكتف السيد العلاق بتصريحه ( التأريخي ) الخطير ، بل زاد الطين بلة عندما تحدث عن أمور لا يفقه فيها شيئاً ! فقد اكد " ان الحكومة لاتريد بناء (ناطحات سحاب ) في بغداد وانها تريدها "بسيطة وعفوية"، وتحتوي على "محطات نتنفس فيها عبق الماضي وذكرياته" .
 
ونحن من حقنا أن نتساءل هل أختفت ( محطات التنفس وعبق الماضي وذكرياته ) عن باريس ولندن وبرلين وفيينا وجنيف وروما  وموسكو وطوكيو وكوالا لامبور ومئات المدن الأخرى عندما تم بناء ناطحات السحاب فيها ؟ الا تتجه المدن الكبرى في الشرق والغرب الى البناء العمودي لمزاياه العديدة .الا يحتوي التصميم الأساسي لمدينة بغداد ( الذي أعده الخبراء البولونيون منذ ثمانينات القرن المنصرم وقبرته حكومة سياسي الصدفة) على خطط لبناء المركز المدني في وسط بغداد بما ينسجم مع الطراز المعماري العباسي ويعيد أحياء أهم وأشهر معالمها التأريخية ؟ وكيف يمكن توفير الخدمات العامة لمدينة مترامية الأطراف مثل بغداد التي توسعت افقيا بشكل عشوائي وعلى نحو يثقل كاهل امانة بغداد ويسبب مشاكل جمة في التنقل داخل المدينة ، حيث يخسر البغداديون افضل ساعات أيامهم في الأختناقات  المرورية والسيطرات التي لا تقيم وزنا لهم وتمتحن صبرهم يومياً بالمعاملة المهينة .
 
ولكن السيد العلاق لم يبتعد عن الحقيقة حين أكد ان : " الحكومة لاتريد بناء "ناطحات سحاب" في بغداد وانها تريدها "بسيطة وعفوية "  فكل شيء يجري اليوم  بعفوية  في عراق الجهل والفساد .
وتردي الخدمات والفوضى التي نشاهدها الآن في بغداد ،  ناجمة عن هذه العقلية العشوائية  وعن الأرتجال في صناعة القرار و تسيير امور البلاد والعباد . اليست هذه العقلية هي الفوضوية بعينها ، التي لا تؤمن لا بالعلم ولا بالتخطيط ، ولا ترى من حولها كبف يتقدم العالم بخطى متسارعة ومذهلة في التطور العلمي – التكنولوجي وكيف يضفي الأبداع الهندسي المعماري جمالاً أخاذاُ على المدن العصرية ويوفر للأنسان حياة لائقة و بيئة صحية ومريحة .
 
 حقاً ان العقلية العفوية الجاهلة أشد فتكاُ بالشعوب من الغزو الخارجي ومن الكوارث الطبيعية والأوبئه ،  حين تقذف بها المصادفة العمياء الى سدة الحكم  ، وكلام  السيد العلاق مضحك ومحزن في آن واحد ، مضحك ويثير السخرية  لأنه بعيد عن العلم والمنطق ومحزن لأنه ينم عن نمط تفكير يعيد البلاد الى عصور الظلام و يؤدي بها الى التخلف ان لم يكن الى  التهلكة ، وهذا التفكير العفوي هو الذي اوصل العراق الى ما هو عليه اليوم .
 
جــودت هوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com


119
كيف تؤثر تكنولوجيا المعلومات في قدرة الأنسان على التفكير ؟

                                                                                                                            جــودت هـوشــيار                
 
التغير المستمر لوسائل الأعلام تحت ضغط ثورة تكنواوجيا المعلومات ، يؤثر ، ليس فقط في طرق الحصول على المعلومات ، بل في عملية التفكير أيضاً . واذا رجعنا الى الوراء قليلا ، نجد ان اختراع آلة الطباعة سنة 1450م ، من قبل يوهان غوتنبرغ ( 1398- 1468م). قد غير أسلوب تفكير المجتمع بأسره . واجبرالناس لأول مرة على التركيز على افكار محددة . والذي كان  سابقاً حكراً على النخب العلمية والثقافية ورجال الدين ، اما بعد ظهور الطباعة فقد أصبح ذلك ميسورا لكل المجتمع .آلة الطباعة لعبت دورا بالغ الأهمية في تطور نماذج تفكير جديدة غيرت المجتمع في القرون اللاحقة .
واليوم نجد ان شبكة الأنترنيت تلعب دورا لا يقل أهمية عن اختراع الطباعة في تغيير المجتمع .
ان أهم ما تتميز به شبكة الأنترنيت عن وسائل الأعلام الأخرى مثل الراديو والتلفزيون، ليس نقل الصوت والصورة فقط ، بل انتاج النص ايضاً .والنص المكتوب يلعب دوراً جد مهم في التطور الفكري والثقافي للأنسان . وحتى وقت قريب كان النص ينتشر بشكله المطبوع ، وكان القاريء يغرق في عالم المؤلف و يتأمل أفكاره ، وبظهور الأنترتيت أخذ النص ينتشر بشكله الألكتروني ، كما الصوت والصورة ، وبهذا رجع الأنسان الى عادته القديمة أي الى التفكير العشوائي ، وتلقي المعلومات على نحو سريع وسطحي .

               لماذا يحدث كل ذلك ؟ يقول العلماء ان دماغ الأنسان يتمتع بمرونة عالية  ويستطيع التكيف مع الظروف المستجدة ٠وكان عالم وسائل الاتصال الجماهيري -الكندي -مارشال ماكلوهان(1911 ـ 1980م) اول من بيَن كيف أن التكنولوجيا يغيَر وعينا ببطأ ولكن بثبات .

وقد أجريت  خلال السنوات الأخيرة بحوث كثيرة حول تأثير التكنولوجيا الحديثة وبخاصة الإنترنيت في الدماغ البشري وظهرت كتب عديدة من بينها ، كتاب " المياه الضحلة The Shallows  " لنيكولاس كارر . ويعد العلماء هذا التأثير مسألة مهمة وجادة لسببين
 - الأول ، تعاظم قدرة البحث عن المعلومات وتلقي كم هائل منها ومعالجتها ،عن طريق محركات البحث  في الإنترنيت ( غوغل ، ياهو ، اوبرا ، يانديكس وغيرها كثير ).
 وثانيا ، أصبحنا قادرين على القيام بعدة مهام في آن واحد بأستخدام الكومبيوتر و الأجهزة الذكية ، مثل  كتابة وصياغة نصوص ،إجراء حوارات عبر الشات في الفيسبوك ، تبادل الرسائل عبرالإيميل ، وقراءة آخر الأخبار في  التويتر . ولكن في الوقت نفسه ، نفقد معظم قدراتنا علي الأنتباه و التركيز والتأمل والتحليل المعمق ، .ولن يكون بوسعنا التفكير بهدؤ حول  أمر محدد واحد ،ومن يعيش في العالم الأفتراضي أو يقضي ساعات طويلة في تصفح المواقع الألكترونية ونوافذها الكثيرة وروابطها المتعددة ، لن تكون لديه الرغبة في قراءة الكتب  الجادة و تأمل محتواها .
 
ان الحصول الفوري على المعلومات و تدفق تيارات غزيرة ومتنوعة منها ، عبر نوافذ كثيرة - عن طريق محركات البحث  - قد ادى الى انخفاض القدرة على تذكرها وحفظها لمدة طويلة . ولم يعد لدى المتصفح الوقت الكافي والرغبة  في قراءة النصوص المطولة ، ولهذا السبب لجأ بعض المواقع الألكترونية الأجنبية الى نشر  نصوص لا يزيد طول احداها عن ( 400 ) حرفاً . ومع كل هذا التأثير السلبي لتكنولوجيا المعلومات ، فأن من الصعب العيش بمعزل عن شبكة الأنترنيت  ، التي أخذت تقتحم كل مجالات الحياة و أصبحت النافذة التي يطل منها الأنسان المعاصر على ما يحدث في العالم من حولنا في شتى المجالات الفكرية و العلمية والثقافية والسياسية و الأجتماعية ، ناهيك عما توفره الشبكة من شتى أشكال التسلية والترفيه .
القدرة على التفكير تعني في المقام الأول استخدام المعارف المتوفرة للتوصل الى استنتاجات منطقية أكثر تعقيداً ، واذا أردنا تبسيط الأمر ، يمكننا  القول ان نوعية الأستنتاجات الفكرية هي حاصل ضرب للمعرفة  في القدرة التفكيرية . وبتعبير آخر لا يمكنك الحصول على استنتاجات صحيحة ، الا بأستخدام كلا العاملين معاً على حد سواء ،  وحتى اذا كانت لديك معرفة واسعة فأنك  لن تكون قادراً على تنظيمها بشكل صحيح من دون القدرة على التفكير بنفس المستوى ، وفي نهاية المطاف تحصل على كومة مواد  مهضومة الى هذا الحد او ذاك ولكن مكدسة في كومة غير متجانسة  ، ومن جهة ثانية مهما كانت قدراتك العقلية عظيمة فأن عملك الفكري لن يكون اكثر من مجرد تعبير عن الرأي ،  اذا لم يستند الى المعرفة .
الثورة الصناعية الأولى  وفرت للأنسان وسائط نقل جديدة مثل القطار والسيارة وأدت الى اضعاف قدرات الأنسان الجسدية والحركية  والى تغيير مظهره الخارجي ، وقد انتبه الناس الى  التأثير السلبي لهذه الوسائط على أبدانهم و لجأ الكثير منهم الى ممارسة رياضة المشي والركض لتدريب الجسم والتغلب على الضعف الذي لحق به . ما يحدث اليوم نتيجة لثورة تكنولوجيا المعلومات ، ربما أشد خطورة ، لأنه يحرمنا القدرة على التركيز والتفكير ، وبعد سنوات قليلة ستكون الحاجة ماسة الى وسائل جديدة لتدريب الدماغ الأنساني .
 
جــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


120
جائزة نوبل لقاء انتحال مبادرة
                             
                                                                                                                            جــودت هوشــيار
 
هل يستحق جائزة نوبل للسلام ، من ينتحل لنفسه  مبادرة قدمها آخرون ؟ الجواب .. كلا  .. بطبيعة الحال ، ولكن هذا ما حدث بالفعل مع المبادرة الأسكندنافية لوضع ترسانة الأسلحة الكيمياوية السورية تحت رقابة أممية .
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين   نسب المبادرة لنفسه . ومنذ منتصف الشهر الماضي انشغل الأعلام الروسي بالأشادة بمناقب صاحب المبادرة وفطنته ودهائه  والمطالبة بمنحه جائزة نوبل للسلام لقاء جهوده في منع نشوب حرب مدمرة جديدة في الشرق الأوسط  ، لا أحد يستطيع التكهن بتداعياتها الخطيرة التي قد تهدد السلام العالمي !
 ومن اجل ترسيخ هذه الفكرة – فكرة ترشيح الرئيس بوتين لجائزة نوبل للسلام – أجرت وسائل الأعلام الروسية - ومعظمها اما تابعة للحكومة او تردد ما ترغب الحكومة في سماعه ، اذا كانت مملوكة للقطاع الخاص -  مقابلات مع شخصيات سياسية وثقافية وفنية منتقاة بعناية بالغة ، من معسكر المؤيدين للسلطة ،  من اجل الحصول على تصريحات وتحليلات تشيد بـ( المبادرة السلمية الروسية ) ، و تصب في نهاية المطاف لصالح ترشيح بوتين  لجائزة نوبل للسلام ، تلك الجائزة ، التي يسخر منها الأعلام الروسي غالبا ويتهكم عليها وعلى حامليها .
ولم يقتصر الأمر على الشخصيات الروسية ، بل جرى أيضاً الحصول على تصريحات ( ايجابية ) من شخصيات أجنبية ، بينها بعض رؤساء الدول كالرئيس الفنزويلي  نيكولاس مادورو، الذي اشاد بدور «بوتين» في تجنب الحرب في سوريا.
وقال مادورو، في تصريحات نقلها عنه، موقع «روسيا اليوم»، مساء يوم الثلاثاء الماضي ، "إذا كان هناك من يستحق جائزة نوبل للسلام في هذه اللحظة التاريخية، فإنه الرئيس فلاديمير بوتين، الذي ساعد على وقف الحرب ضد الشعب السوري".
كما أن ما تسمى بـ( الأكاديمية الدولية للوحدة الروحية ) أعلنت ترشيحها للرئيس الروسي لنيل جائزة نوبل للسلام .
ولكن هل المبادرة السلمية ( الروسية ) هي روسية حقاً ؟
قبل حوالي شهر واحد جرى عقد ( كونفرانس فيديوي ) أشترك فيه  وزراء خارجية الدول الأسكندنافية ودول بحر البلطيق  . وقد تمخض الـ( الكونفرانس ) عن الأتفاق على تقديم فكرة مشروع قرار أممي الي كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لوضع ترسانة الأسلحة الكيمياوية السورية تحت أشراف دولي ، واتلافها أو نقلها الى بلد آخر بحلول منتصف عام 2014.
وقد أدلى وزير الخارجية الفنلندي (اركي تيميوجا - Erkki Tuomioja ) بتصريحات صحفية نشرتها الصحف ووكالات الأنباء  الفنلندية الرئيسية وبضمنها  ( , Turun   YLE, ,Iltalehti  ) في الثاني عشر من سبتمبر/ ايلول الماضي أكد فيها  صحة ما نشرته الصحف النرويجية  ومنها صحيفة  (  Verdens) ان المبادرة السلمية  حول سوريا ومن ثم فكرة مشروع القرار الأممي تعودان الى وزير الخارجية النرويجي (اسبن بات ايده) ونظيره السويدي  ( كارل بيلدت ) اللذان طرحا هذا الموضوع  للنقاش خلال الكونفرنس الفيديوي الذي اشرنا اليه فيما تقدم  ، وقد اتفق الجميع على تقديم فكرة المبادرة السلمية ومشروع القرار الأممي الى الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته المتوقعة الى السويد بعد بضعة ايام من عقد الكونفرنس والى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف .
 وتقول صحيفة  ( Verdens) النرويجية ان الوزيرين النرويجي والسويدي لم يتمكنا من الأتصال بلافروف ، ولكن زميلهما الفنلندي ( اركي تيميوجا ) نجح في الأتصال بالوزير الروسي وطرح عليه  فكرة مشروع القرار الأممي بأسم وزراء خارجية الدول الأسكندنافية ودول بحر البلطيق , ولكن لافروف أعلن عن هذه المبادرة ونسبها الى  نفسه   ولم يشر لامن قريب ولا من بعيد الى الدول الأسكندنافية صاحبة المبادرة السلمية وفكرة مشروع القرار الأممي .
وكان من السهل على لافروف أقناع نظيره الأميركي جون كيري  بالمبادرة بعد موافقة أوباما الضمنية المسبقة .
ان نجاح مباحثات جنيف بين الوزيرين جون كيري وسيرغي لافروف يعود الى تردد الرئيس اوباما في خوض حرب ترفضها غالبية الشعب الأميركي بعد تجربة العراق المريرة.
ويمكن القول ان المبادرة كانت في المقام الأول طوق النجاة للرئيس الأميركي ،  الذي تنفس الصعداء ، لأنه لم يكن راغبا أصلا في مهاجمة سوريا ، بعد ان فشل في الحصول على موافقة بريطانيا وفرنسا في شن ضربات جوية ضد مواقع سورية محددة ، كما أظهرتنتائج  الأستطلاعات ان حوالي 91 يالمائة من الأميركيين كانوا ضد التورط في حرب جديدة في الشرق الأوسط .
لقد عززت هذه المبادرة مكانة روسيا  في منطقة الشرق الأوسط وفي العلاقات الدولية عموما وفي الوقت نفسه تعد ذروة النجاح المهني للافروف وأبرز انجاز له منذ توليه منصبه الوزاري .
وكما قيل فأن الحيتان الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة .
المبادرة السلمية حول سوريا ،  اسكندنافية والموافقة غربية ، فمن الذي يستحق جائزة نوبل للسلام ، وزير الخارجية النرويجي (اسبن بات ايده ) ونظيره السويدي  ( كارل بيلدت ) أم الرئيس فلاديمير بوتين ؟
 
جــودت هوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
 


121
المعارضة الكردية ما لها وما عليها

جودت هوشيار                               

    اهمية المعارضة السياسية :                         
 لا يستقيم النظام الديمقراطي في اي بلد من دون وجود معارضة سياسية شرعية وقانونية معترف بها من قبل الدولة . والمعارضة السياسية تنشأ في العادة لوجود تناقضات داخلية لا يخلو منها أي مجتمع، .لذا فأنها  ضرورية للتوازن بين القوى و الحركات السياسية المتنافسة وللتقدم الأجتماعي عموماً  ، ولا يمكن الأستغناء عن مثل هذه المعارضة ، من دون أدخال البلد، مهما كان نظامه السياسي ، في دوامة الأزمات.
المعارضة لا تقوم فقط بمراقبة أعمال السلطة التنفيذية و متابعة سياستها و نقدها من اجل تصحيح مسارها ، بل هي ضرورية ايضا كآلية  للتواصل بين المواطنين و مؤسسات السلطة السياسية.  ولكي تكون المعارضة فعالة لا تكفي ان تشخص المشاكل العالقة و تنتقد مؤسسات الدولة فقط ، فالمعارضة الحقيقية  ينبغي ان تمتلك رؤيتها الخاصة وبرامجها المعلنة  ، التي تختلف عن رؤية وبرامج الحكومة لسبل التنمية والتطور و التقدم الأجتماعي
المعارضة الكردية الناشئة :
لا شك ان ظهور معارضة سياسية شرعية و علنية في أقليم كردستان في السنوات الأخيرة ، ظاهرة صحية وضرورية  ، ولكن ثمة اختلاف جوهري بين المعارضة السلمية العلنية ، التي تعمل لكسب الرأي العام و الفوز في الأنتخابات التشريعية و المحلية  وبين الحركات و التنظيمات السرية و شبه السرية التي تعمل في الخفاء و تستخدم وسائل غير ديمقراطية و تلجأ للعنف ،لتغيير النظام القائم و الوصول للسلطة .و مثل هذه المعارضات تنشأ في ظل الأنظمة التسلطية و لا مكان لها في فضاء الديمقراطية الحقيقية .
  المعارضة لا تعني على الأطلاق معارضة أي أجراء أو قرار حكومي و ان كان يخدم المجتمع ، ولا تعني تضخيم السلبيات ، التي قد تتحمل الحكومة مسؤوليتها الى هذه الدرجة او تلك ، كما لا تعني السكوت عن الأيجابيات و الأنجازات و المكاسب و النظر اليها من زاوية المنافسة الحزبية وليس من زاوية خدمة المجتمع و مستقبل القضية الكردية ، التي لم تحل لحد الآن ، رغم تمتع أقليم كردستان أو بتعبير أدق " كردستان الجنوبية " بوضع أشبه بالأستقلال ، و لكن الطريق ما يزال طويلاً امام الكرد في أجزاء كردستان الأخرى و حتى في كردستان الجنوبية نفسها للوصول الى ما يتطلع اليه الشعب الكردي من أستقلال و حرية وتطور في شتي مجالات الحياة ومواكبة التطور الحضاري العالمي الراهن و ضمان حياة كريمة لكافة شرائح المجتمع .
الخطاب السياسي للمعارضة الكردية و بخاصة فصائلها الرئيسية الثلاث ( حركة التغيير ، الأتحاد الأسلامي الكردستاني ، الجماعة الأسلامية ) خطاب أنتقادي لاذع على الدوام ، يبحث عن السلبيات وهي سلبيات لا أحد يشك في وجود البعض منها أو حتى الكثير منها فى الواقع الكردستاني اليوم . و لكن من حقنا أن نتساءل : الا يوجد أي ايجابيات في أقليم كردستان ؟ و اذا كان الجواب بالنفي ، أذن  كيف تحققت هذه الأنجازات، التي يلاحظها القاصي و الداني ، في البناء و العمران و في شتى جوانب الحياة في الأقليم . لم اسمع لحد الآن من الأعلام المعارض كلمة حق حول أي انجاز أو تطور شهده الأقليم في السنوات الأخيرة .
 والأهم من ذلك ان مكاسب الشعب الكردي في الأقليم تحققت بفضل تضحيات سخية و أنهار من الدماء الزكية و نضال طويل ودام على مدى مائة سنة في الأقل ، وليس من حق أحد – كائناً من كان – ان يجازف بها أو ينال منها على ساحة المنافسة الحزبية من اجل جني  امكاسب سياسية .
ما تحقق لحد الآن من حقوق مشروعة للكرد  كان بفضل أنتفاضة آذار 1991  المجيدة وصمود شعب كردستان بوجه الحصار المزدوج ومن ثم الأسهام الفاعل في أسقاط النظام الديكتاتوري السابق ، هذه الحقوق ، و لا أقول المكاسب ، أنتزعت أنتزاعا ً من الحكومات المركزية المتعاقبة بالنضال البطولي الدامي ، و ليس من حق أحد التفريط بها ، اذا كان حريصاَ حقاً على حاضر ومستقبل الكرد وكردستان ..
توحيد البيت الكردي :
  يخوض الشعب الكردي اليوم في اقليم كردستان نوعا آخر من النضال وهو النضال السلمي ( السياسي و الدبلوماسي ) وحقق في هذا السبيل خطوات كبيرة الى الأمام وفي مقدمتها ، أنتزاع المزيد من الأعتراف الدولي بقضيته العادلة ، حيث تتعامل الدول مع الأقليم على اساس العلاقات الثنائية و المصالح المشتركة ووجود أكثر من 30 قنصلية أجنبية في أربيل يعد في حد ذاته أعترافأ بخصوصية كردستان و حق شعبها في العيش في وطنه على قدم المساواة  مع مكونات العراق الاخرى ضمن عراق فدرالي ،  ديمقراطي ، تعددي . شعبنا لن يقبل العيش في ظل نظام تسلطي جديد مهما رفع من شعارات براقة و زائفة . العقلية التسلطية المتخلفة  السائدة اليوم لدى الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد لا تختلف من حيث الجوهر عن العقلية الصدامية ، ولا يقل خطراُ عن النظام الصدامي ، اذا سنحت له الفرصة لفرض ارادته على القوى السياسية الأخرى .
الصراع السياسي و الأقتصادي الذي يخوضه الأقليم  مع نظام يحاول اعادة عجلة التأريخ الى الوراء ، صراع مفصلي في تأريخ الحركة التحررية الكردية . ومن واجب المعارضة الكردية الوقوف الى جانب حكومة و شعب الأقليم عندما يتعرض مصير الأقليم و مكاسب شعبه للخطر و هذا أضعف الأيمان .
 و لكن ما نجده اليوم من مغازلة بعض أطراف المعارضة للقوى السياسية الشوفينية التي تحاول تحجيم دور الاقليم وعرقلة تطوره ، أمر يدعو الى التساؤل عن مدى حرص هذه المعارضة على مكاسب الشعب الكردي و مستقبله .واذا كانت هذه القوى تعامل أبناء جلدتها في القومية و الدين بمثل هذه المعاملة اللاأنسانية القاسية و بمثل هذا التمييز الطائفي  ، فهل يكون تعامله مع الشعب الكردي أفضل !. أن أي عاقل لا يمكن ان يتوقع خيراً من نظام يضطهد شعبه و يهدر ثرواته و يصادر حرياته . و ها هو العراق بعد عشر سنوات من سقوط النظام السابق يئن من فقدان الخدمات العامة و تفشي الفساد و الفقر و التخلف  في كافة جوانب الحياة . ماذا تتوقع المعارضة الكردية من مثل هذا النظام ؟
في النظام الديمقراطي ،الحكومة والمعارضة تعملان يدا بيد  عند إتخاذ القرارات المهمة ،لأن الأهداف الإستراتيجية دات العلاقة بحياة الناس ومستقبل البلاد ومصالح الوطن العليا ،اهداف مشتركة بينهما وإن إختلفت الرؤى حول  طرق واساليب تحقيقهاْ.
لقد آن الأوان للمعارضة الكردية ان تغير نهج عملها وخطابها السياسي وتضع مصالح الشعب الكردي ومستقبله فوق المصالح الحزبية الضيقة  التي تتركز علي إنتزاع السلطة  بأي وسيلة كانت ،للتمتع بمغانمها ومباهجها ٠ولكن السلطة في النظام الديمقراطي أداة لخدمة الشعب وليست هدفا بحد ذاتها . و في هذه المرحلة الدقيقة ينبغي علي المعارضة الكردية أن تلجأ للحوار البناء لان توحيد البيت الكردي
 مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى ، حيث يمر الأقليم بظروف محلية و أقليمية في غاية التعقيد وتواجه تحديات تتطلب التكاتف من اجل تجاوزها بسلام

جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo,com


122
عبء جديد على " الرجل الأبيض "

 جودت هوشيار

دعا وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارىء الأخير " المجتمع الدولي " الى التدخل لوضع حد لإراقة الدماء في سوريا ، في الوقت الذي تقف فيه الجامعة مكتوفة اليدين ولا تحرك ساكنا ٠ وقد سخر المؤرخ والكاتب والصحفي الفرنسي ٌ بينوا رايسكي - Benoit Rayski من هذه الدعوة في مقاله المنشور في صحيفة (Atlantico) تحت عنوان " لماذا لا تتدخل الدول العربية نفسها في سوريا؟ " ويرى " رايسكي " إن مصطلح " المجتمع الدولي " يتردد كثيرا في خطب رؤساء الدول ومانشيتات الصحف ، ولكنه  بلا معنى ٠ ويتساءل  ماذا يعني " المجتمع الدولي " هل المقصود به ُ - ملاوي ، ليختنشتاين ، مولدوفا ، زيمبابوي ، النيجر ، جزر المالديف ،  البوسنة ، أو لاووس ؟ أم منغوليا ، والجبل الأسود ؟ هل كل هذه الدول أعضاء ، على قدم المساواة،  في الأمم المتحدة ؟ كلا بالطبع ! .  واذا نزعنا عن هذا المصطلح الجميل قشرته اللفظية ، لأصبح من الواضح  تماما  إن المقصود به ، الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تحديدا.
  كل النداءات والمناشدات الداعية إلى التدخل العسكري في سوريا توجه ال هذه الدول حصرا ٠ربما هذا عبء جديد علي ً  الرجل الأبيض  ٌ الذي تحدث عنه - كيبلينغ - ذات يوم  . آوليس لسوريا جارات شقيقات على مرمى حجر من المواقع التي ترتكب فيها جرائم تقشعر لها الأبدان ؟ ألم تكن سوريا عضوا  في جامعة الدول العربية الى وقت قريب؟ حتى هذه الجامعة ، التي اعتادت التفرج على المشاهد الدموية ،قالت إن النظام السوري تجاوز الخط الأحمر٠
ويمضي " رايسكي " الى القول إن السعودية تمتلك أقوى سلاح جوي في المنطقة يليها مصر ، والأردن لديها قوات برية ممتازة   ،ولا تحتاج الا لعبور الحدود الفاصلة بين البلدين ،حيث يسيطر الجيش السوري الحر  الحليف على الجانب الآخر من الحدود٠ أما قطر، التي لا تعاني من نقص الموارد العسكرية فإنها تفضل إنفاق المليارات على تدريب مقاتلي المعارضة .
أوليس من الأفضل ارسال قوات عربية من قطر والأردن ومصر والسعودية ؟ الى سوريا  ما هذا الهراء ؟  ليس هذا هو المطلوب ، إنما على الغرب أن يبادر الى التدخل بمباركة الجامعة العربية الكسولة والمنافقة . الجيوش العربية لا تحارب بعضها البعض بل تحارب رعاياها فقط . الجيش السوري يسجل كل يوم إنتصارات جديدة على المدنيين العزل .
الجيش العراقي في زمن صدام  إستعرض قدراته القتالية ً في إبادة الكرد والشيعة .
جيش القذافي تفنن في أساليب  إراقة الدماء.
الجيش الأردني قمع -  قبل عقود - إنتفاضة الفلسطينيين .
ولا يبدو ألأمر مختلفا كثيرا في مصر ، حيث لم ترتعش أيدي الجنود المصريين حين وجهوا فوهات بنادقهم نحو أبناء جلدتهم .
ينبغي إقامة نصب تذكاري للمنافق " ترتوف " في كل عاصمة عربية.

لقد حرصت على تلخيص أهم ما جاء في مقال ً رايسكي ً ليس لأن كل ما كتبه صحيح ، فهويقدم صورة مشوهة  للوضع المتأزم في المنطقة ويقلب بعض الحقائق رأسا على عقب ، بل لأنه يعبر بصراحة متناهية عن رأي قطاع عريض من الرأي الغربي ، حيث يشير آخر استطلاع للرأي ، إن الأغلبية الساحقة من الأميركيين و الأوروبيين يعارضون التدخل العسكري الغربي في سوريا ، ولا يريدون ً عراقا آخر ً  أو ما هو أسوأ  وأخطر .وهم لا يعارضون التدخل حرصا على الأرواح البشرية التي ستزهق أو لأن دافعي الضرائب لا يريدون تبديد الأموال في حروب عبثية ، بل لأنهم على قناعة تامة ان شعوب هذه المنطقة متخلفة حضاريا ولا أمل في إصلاحها عن طريق التدخل العسكري أو تقديم المساعدات لها ، وان الإستعمار الغربي حاول عبثا إنتشال هذه الشعوب من التخلف والجهالة ،وأنه لا ينبغي تحميل ً عبء جديد على الرجل الأبيض ُ .
هذا هوالأعتقاد السائد لدى معظم الغربيين عموما و الأوروبيين منهم على وجه الخصوص ، وهو اعتقاد لم يطرأ عليه تغير جوهري منذ عصر ً كيبلينغ ً وحتى اليوم .
---------------------------------------------
هوامش :

(1) جوزيف روديارد كيبلينغ (Joseph Rudyard Kipling) ، ولد يوم 30 كانون الأول/ديسمبر من عام 1865 في بومباي وتوفي في لندن يوم 18 كانون الثاني/يناير من عام 1936 وهو شاعر وكاتب وقاص بريطاني.
وتعتبر أفضل أعماله "كتاب الأدغال" و"كيم" و"اناشيد متنوعة" والعديد من القصائد. وكان كيبلينغ أول بريطاني يحصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1907.
 روديارد كبلينغ هو مؤلف القصيدة الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»
وكان حتى آخر يوم من حياته يتفاخر بإنتمائه الى المحفل الماسوني.

(2) «المنافق أو الدجال» مسرحية شهيرة  لموليير (  1622 - 1673) كتبها في عام 1664 وفيها أدان ازدواجية بعض رجال الدين الذين يظهرون الورع ويخفون عكسه.وقال إنهم يستخدمون الورع الظاهري لاستجلاب عطف الناس عليهم واحترامهم لهم، وكذلك لنيل الزكوات والأموال. فرجال الدين أكثر مكراً ودهاءً مما نظن. وهم يخفون مآربهم تحت ستار من التقى الظاهري.

123
ما قل ودل* :عـش ودع غيرك يعيش !

                                                                                                                     جـــودت هـوشــيار
 
الأنسان السوى بمسيس الحاجة الى  ظروف ملائمة ، يتمكن فى ظلها من أظهار قدراته ومواهبه  و تحقيق ذاته فى المجال الذى يختاره . و هذه الظروف هى أساس المجتمع الديمقراطى .
 من  الأقوال التى أبتذلت لكثرة تكرارها  : ان الديمقراطية هى  سيادة القانون و الأنتخابات الحرة النزيهة و التداول السلمى للسلطة و حرية التعبير بشتى أشكالها و هذا كله صحيح و لا غبار عليه ،  و لكننا نعتقد ان الأهم من ذلك هو الألتزام بقواعد السلوك التى توفر حياة مريحة و كريمة للأنسان فى مجتمع يعتبر الأنسان أهم ما فى الوجود . و فى نهاية المطاف فأن الديمقراطية هى ثقافة الحرية المسؤولة .
فى عراق اليوم الكل ديمقراطيون متحمسون قولا و لكن المؤمنين بالديمقراطية الحقيقية فعلا وعملا  قلة نادرة .
يقال ان الشعب العراقي لم يعرف الديمقراطية وتقاليدها ، طوال تأريخه المعاصر العاصف ، الحافل بالأحداث الجسام ويفتقر الى الثقافة الديمقراطية ،  ولا يمكن دمقرطة العراق .
 أعداء الديمقراطية لا يتوقفون عن التكرار الممل لمقولات مبتذلة و مضللة من قبيل الزعم بأن الديمقراطية نبتة غربية لا تلائم مجتمعنا العراقى ؟ و لكن لا تلائم من ؟.   انها حقا لا تلائم من حول العراق الى بقرة حلوب له و لأعوانه و حاشيته و حزبه و طائفته !
 الديمقراطية و الفساد على طرفى نقيض . و الديمقراطية لا تلائم من يتلاعب بمشاعر الجماهير البسيطة المسحوقة و المخدوعة فى الوقت ذاته  بالشعارات الدينية التى حولت ايام العراقيين الى مصائب و نكبات و احزان لا تنتهى .
 
و بعيدا عن المقولات الجاهزة ، نقول ان الديمقراطية الحقيقية ينطلق من مبدأ حياتى بسيط : عش و دع غيرك يعيش ! و لا يوجد فى هذا ما هو غربى . يوجد فقط  تطلع انسانى عام الى نظام عقلانى للحياة و العدالة .
 
ان ما يميز الأنظمة الديمقراطية في الدول الغربية  هو أن الجميع  فى تلك الدول- المؤسسات الرقابية في الدولة وبضمنها ،  البرلمان ، المعارضة ، القضاء ، المجتمع المدني ، الأعلام ، وحتى المواطن العادي  -  يراقب مدى الألتزام بالنظام السياسي المعترف به من قبل الجميع .
 
من اجل تحويل حاكم يحترم نفسه و شعبه الى أنسان آخر لا يحظى بثقة شعبه ، ينبغى بذل جهود متواصلة و كبيرة . وهى جهود تحتاج الى أناس من صنف خاص ، الى خبراء ومستشارين . أنهم موجودون دائما الى جانب الزعيم و يحيطون به كالحلقة . مثل خلية النحل ، يحولون النحلة العاملة العادية الى ملكة و يحيطونها بالرعاية المتواصلة ، و يطعمونه وفق نظام غذائى خاص . و لكنهم يعملون في الوقت نقسه ما يحلو لهم من دون كلل او ملل  .
 
---------------------------------
" ما قل و دل " عنوان عمود صحفي كنت أكتبه علي مدي سنوات ، في صحيفة " خبات " الأسبوعية ، الصادرة في مدينة " أربيل " باللغة العربية ، حتي حوالي منتصف العام 2003 ، و لحين انتقال الصحيفة الي بغداد - بعد سقوط النظام السابق - و تحولها الي صحيفة يومية ، هي صحيفة " التآخي " الغراء . و ها أنا اليوم ، أواصل كتابة هذا العمود و لكن في الصحافة الرقمية ، التي يشتد عودها يوما بعد يوم و تكتسح في طريقها الصحافة الورقية المطبوعة ، معلنة بزوغ فجر اعلامي جديد في عالم يعرف كل من فيه كل ما يجري فيه لحظة بلحظة . وخير الكلام في عصر السرعة : ما قل و دل.
 
جـــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com


124
فلك الدين كاكايي كما عرفت

                                                                                                               جــودت هـوشــيار
 
كان ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي ، عندما التقيته للمرة الأولى . كنت انشر مقالاتي في المجلات والصحف البغدادية وفي مقدمتها جريدة " التآخي " التي كانت تشغل بناية صغيرة قديمة من عدة طوابق في منطقة السنك في شارع الرشيد ببغداد (بناية مطبعة التايمس، حيث تطبع الجريدة ).لم يكن في البنابة مصعد كهربائي وفي كل مرة كان على ان اصعد سلما ملتويا للوصول الى غرف الأدارة والتحرير . في اول زيارة لي توجهت الى غرفة التحرير وانا احمل معي مقالا طويلا عن كتاب " اربيل في أدوارها التأريخية " للمؤرخ الراحل زبير بلال اسماعيل ( 1938 – 1998 ) الذي كان قد صدر للتو ( 1971 )  في النجف الأشرف وأثار سجالا حارا على صفحات " التآخي " وبعض الصحف الأخرى .  كانت الغرفة واسعة ولكنها متواضعة الأثاث ،. ولم أكن أعرف أيا من الجالسين وراء مناضد حديدية صغيرة ، وتبين انهم كل من (  فلك الدين كاكائي ، ومحمد الملا كريم ، بدرخان السندي ) . ولا أدري لماذا توثقت العلاقة مع كاكائي دون الآخرين . ربما لأنه كان  بشوشا يستقبلك بوجه باسم ويحاورك بصوت هاديء وخفيض . قدمت له المقال ، فقرأه بتمعن و تركيز ، ثم قال سننشره في القريب العاجل .وفي زيارتي التالية ، قدم لي نسخة من روايته البكر" بطاقة يانصيب " الصادرة في بغداد العام 1967 باللغة العربية مع اهداء لطيف .
 
كان حزب البعث الحاكم قد تنكر عمليا لنص وروح اتفاقية آذار 1970 وكان الوضع السياسي يزداد توترا كلما اقترب نهاية السنوات الأربع التي كان من المفترض ان يتم تنفيذ بنود اتفاقية آذار خلالها ، وخلال الأشهر الأخيرة المتبقية من عمر الأتفاقية  كانت جريدة " التآخي " قد انتقلت الى بناية في شارع السعدون و تخوض نضالا اعلامياً ،  لا يقل اهمية عن اشكال النضال الأخرى وبضمنها الكفاح المسلح. وكان المقال الأفتتاحي للجريدة   هو المعبر الحقيقي ليس عن موقف الحركة التحررية الكردية فقط بل عن الوضع العام في البلد .وكانت " التآخي " الجريدة المعارضة الوحيدة في العراق في تلك الفترة واوسعها انتشارا.
وفي تلك  الظروف العصيبة واظب كاكائي على كتابة عموده الصحفي قي الصفحة الأخيرة من الجريدة بتوقيع ( أ. برشنك ) وكان في غاية الجرأة ، يلتقط فيه حقائق عن زيف ادعاءات البعث وعدم جديته في تنفيذ الأتفاقية وتصميم الشعب الكردي على نيل حقوقه مهما بلغت التضحيات .
 
بعد انتفاضة آذار المجيدة العام 1991 ، لعب كاكائي دوراً محوريا في المشهد الثقافي الكردستاني ، ورغم أنه كان قيادياً في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الا أنه كان مثقفا  موسوعيا من طراز فريد ، واستطاع في عمله التوفيق بين مجالين  على طرفي نقيض  هما ( السياسة والثقافة ) ونجح في الحفاظ على شخصيته الثقافية والفكرية المتميزة وهو امر في غاية الصعوبة ونادر الحدوث ,. وكان دائما يتحدث كمثقف ولا تشعر انه قيادي حزبي . حتى عندما استلم مسؤولية وزارة الثقافة والشباب .
 
ثمة عادة لا استسيغها في اقليم كردستان وهي زيارة الوزير الجديد وتقديم باقات الزهور اليه . فترى عددا كبيرا من معارف الوزير وأصدقائه وممثلي احزاب و منظمات ، محشورين فى غرفة السكرتارية ، ينتظرون دورهم في الدخول الى الوزير لتهنئته بمنصبه الجديد . هذه الزيارات لا تنقطع لمدة شهر او أكثر، أي انهم لا يدعون الوزير يمارس مهامه كل هذه المدة . كنت اتحرج من حشر نفسي بين هذه الجموع وان كنت اعرف كاكائي عن قرب ، ربما أفضل من الباقين .لذا لم ازره الا بعد عدة أسابيع من استيزاره وذكرني الراحل بايام االتآخي " في بغداد .
 
. وخلال زياراتي المتقطعة له لم نكن نتحدث عن السياسة قط ، بل كان يحدثني عما يشغل فكره في تلك الأيام . اذكر انه تحدث طويلا ذات مرة عن " العولمة " وانه شديد الأهتمام بهذا الموضوع لأهميته البالغة . وكان يتابع كل ما يستجد على الساحة الثقافية  في المنطقة والتيارات الفكرية في الغرب .
 
 في يوم الجمعة 5/4/2002 احتقل العاملون في جريدة " خه بات " في فندق " جوار جرا "  بالذكرى الثالثة والأربعين لصدور جريدتهم بصورة علنية لأول مرة ، حيث صدر عددها الأول في بغداد يوم 4 نيسان 1959 وكنت  من ضمن المدعويين الى الحفلة وتصادف جلوسنا على ماائدة واحدة ، ووجدت نفسي وجها لوجه امام كاكايي وكان بين الحضور الصحفي الصديق الراحل طارق ايراهيم شريف و الدكتورة خيال الجواهري ( كريمة الشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ) وقرينها الأعلامي والمسرحي صباح المندلاوي .ودهشت عندما رأيت كاكايي يتحدث عن الموسيقى العربية والعراقية  وابرز نجومها في الماضي والحاضر ، وكان شديد الأعجاب بعازف العود "  نصير شمه " و تطرق الحديث الى انجازات الأخير الموسيقية ونشاطه الدائب للتعريف بالموسيقى العراقية .
 
خلال الأيام الأخيرة نشر العديد من المقالات في وسائل الأعلام العربية والعراقية والكردية عن الفقيد والتي تتحدث عن الطابع الفريد لكتاباته ، الذي يتجلى قي المزج بين الماركسية والقومية والصوفية وهو أمر تطرق اليه الفقيد نفسه في مقابلاته الصحفية ،  ولكن لم ينتبه أحد الى المقالات الأفتتاحية لجريدة " خه بات " الأسبوعية الصادرة في اربيل باللغة العربية والتى كان الفقيد يتولى رئاسة تحريرها حتى العام 2001  . كانت معظم تلك الأفتتاحيات تعالج القضايا الآنية الملحة للمجتمع الكردستاني ، فعلى سبيل المثال لا الحصر كتب الفقيد مقالين افتتاحيين تحت عنوان " التكنولوجيا في خدمة كردستان " في العددين 910 ، 911 الصادرين في 5 ، 12 /2 /1999 على التوالي . وربما كانت هذه هي المرة الأولي في تأريخ الصحافة الكردستانية التي يجري فيها الحديث على نحو جاد عن هذا الموضوع المهم. كما كرس الفقيد عدة افتتاحيات لظاهرة استغلال الوظائف العامة للمنافع الشخصية  و ضرورة ابتعاد المسؤولين عن ممارسة النشاط التجاري .
 
كان للفقيد حضور ثقافي دائم ويحرص على حضور الندوات والمحاضرات الثقافية  والأسهام فيها بمداخلات قيمة ..
رأيت كاكايي للمرة الأخيرة  في الندوة التي اقامها اتحاد الأدباء الكرد في اربيل قبل عدة اسابيع للدكتورة شكرية رسول ، حول "  التراث الشعبي الكردي" . وتحدث كاكائي في هذه الندوة حول موضوع في غاية الأهمية وهو توثيق التعاون والتكامل الثقافي بين اجزاء كردستان الكبرى .
 
كرس الفقيد اجمل سنوات عمره للنضال في صفوف الحركة التحررية الكردية ، بالبندقية والقلم في آن واحد ، ولم تكن الوظيفة بالنسبة اليه الا وسيلة لخدمة شعبه .وكان يحلم بالتفرغ لأعماله الفكرية  وقد تحقق ذلك في السنوات الأخيرة . ويبدو ان هذا التفرغ كان  مثمرا للغاية ، حيث صرح مرارا انه انجز عدة مؤلفات جديدة وهي جاهزة للطبع . والمهم الآن هو جمع تراث الفقيد واعادة طبعه والحفاظ على أرشيفه الثري واعداد مخطوطاته للطبع  تحت اشراف لجنة علمية متخصصة عالية المستوي ، كما هو متبع في الدول المتقدمة .
جـــودت هوشـــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
 


125
أيطاليا تحتفل بمرور ‏500‏ عام على كتاب " الأمير " لنيكولو مكيافيللي

                                                                                                                         جودت هوشيار
" عام الأمير " في ايطاليا :
 
تحتفل أيطاليا طوال هذا العام ( 2013 ) الذي أطلق عليه أسم " عام الأمير "  بمرور ( 500 ) عام على تأليف أهم وأشهر كتاب في التنظير السياسي الواقعي وهو كتاب " الأمير " للسياسي والمفكر الأيطالي  نيكولو مكيافللي ( 1469- 1527) ، وذلك بأقامة المعارض لكتبه ومخطوطاته ورسائله ، من بينها  معرض كبير افتتح مؤخراً في  متحف فيتوريانو   في وسط العاصمة الإيطالية . وضم العديد من الأعمال الفنية المهمة, ومخطوطات نادرة ورسائل شخصية , وقطع قديمة أخذت من مجموعات خاصة وعامة مختلفة مثل أرشيف فلورنسا ومتحف النهضة في روما ومتحف الفاتيكان.
 
وأضافة الى  المعارض ، التي تستعيد  قصة ونجاح نتاجه الرئيسي «الأمير» عبر الأجيال ، يتضمن برنامج الأحتفال ألقاء المحاضرات وأقامة الندوات ، التي دعي اليها نخبة من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين ، الذين تخصصوا أو أسهموا  في دراسة حياة مكيافيللي  وأعماله ، وكذلك نخبة من نجوم السينما والمسرح ،الذين أشتركوا في افلام سينمائية وعروض  مسرحية عن حياته أو مستوحاة من  نتاجاته الفكرية والمسرحية .وللمناسبة ذاتها ، صدرت طبعة جديدة وراقية من مجموعة مؤلفات مكيافللي الكاملة ، ضمن سلسلة " المكتبة الحديثة " في الولايات المتحدة الأميركية ،  وهي سلسلة قيمة ، رفيعة المستوى  وتقتصر على عيون النتاجات الفكرية والأبداعية في تأريخ الحضارة البشرية .
 
 أحتفالات أيطاليا هذا العام ، متعدد الجوانب والأشكال  ، فثمة فعاليات وأنشطة تهدف الى تربية الجيل الأيطالي الجديد وغرس حب الوطن ورموزه التأريخية ، وفي مقدمتهم مكيافللي في القلوب و الأذهان ، وذلك  بتنظيم رحلات الى الأماكن ،التي عاش فيها مكيافللي أو التي شهدت ولادة مؤلفاته أو المحطات المهمة في حياته الشخصبة ، الحافلة بالنجاحات الباهرة وايضاً بالهزائم المريرة والبؤس والفاقة والحرمان .
 
ايطاليا ترى في مكيافللي رمزاً وطنيا ناضل من اجل توحيد أيطاليا ومستقبل أفضل لشعبه .
.وقد يتعجب القاريء ، كيف يمكن الأحتفال بذكرى تأليف كتاب " سيء الصيت " مثل كتاب " الأمير " ؟ .
ولكن لم العجب ، اذا كانت  دولة  منغوليا  في عهودها المتعاقبة (  من ملكية وشيوعية وديمقراطية ) ، كانت وما تزال تعتبر  جنكيز خان  رمزاً وطنياً !! " و تحتفل بذكرى ميلاده وتقيم المهرجانات و المؤتمرات لتمجيده .!!
 
ولكن شتان بين مكيافللي السياسي البارز والوطني المخلص والمفكر اللامع لعصر النهضة الأوروبية ، وبين  جنكيزخان  الدموي ، الذي لم تعرف عنه صفة حميدة واحدة ، ولا اية اعمال مفيدة ، ناهيك عن المصائب والكوارث التي نجمت عن غزواته البربرية .
 
مكيافللي السياسي والدبلوماسي :
 
تأسست جمهورية فلورنسا في عام (1492) بعد طرد آل مديتشي منها . وبعد فترة وجيزة من حكم  سافونارولا   ، انتخب مكيافللي – و قد كان في العام  التاسع والعشرين من عمره -   مديرا لمكتب البريد ، ولكن لم يمر سوى شهر واحد ، حتى أكتشف رئيس الجمهورية  بييرو سوديريني  معرفة مكيافللي الواسعة والمدهشة في اللغات ، فأصبح أحد الأعضاء العشرة لمجلس وزارة الحربية وكانت الحرب دائما قاب قوسين أو أدنى : أسبانيا ، فرنسا ، روما ، كانت ترسل جيوشها الى أسوار دويلات المدن الضعيفة، التي كانت في نزاع مستمر فيما بينها ( ميلانو، جنوا ، فلورنسا ، نابولي ..وغيرها ) ، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها.
 
كان مكيافيللي يسرج جواده ويحشو السرج بالكتب و ينطلق للدفاع عن مصالح جمهوريته في بلاط ملك فرنسا لودفيك الثاني عشر او الأمبراطو ماكسيميليان أو البابا يوليوس الثاني . وقد أبلي بلاءاً حسناً في هذه المهام الدبلوماسية – كمبعوث رفيع المستوى -  بذكائه وفطنته ورجاحة عقله وفصاحة لسانه .
 
حدّد مكيافللي مهمته الدبلوماسية كما  جاء في احد تقاريره على النحو التالي  : " لا يكفي  ان تدرك نية الحاكم ، بل ينبغي معرفة رغباته الحقيقية ، ولا يكفي معرفة خططه فقط  ، بل ادراك في اي اتجاه يعمل عقله... عليك استطلاع  ، ما يمكن ان يجبره على المضي قدما الى أمام ،  وما يرغمه على التراجع " .
 
ولم يقتصر عمل  مكيافللي على المهام الدبلوماسية ، بل شمل قضايا عملية بحتة للحفاظ على الجمهورية . كانت مهمة الدفاع عن المدينة قبل مكيافللي مناطة بالمرتزقة ، الذين كان من السهل على العدو أستمالتهم بالمال، ولكن مكيافللي وأقتداءاً بـ ( سيزار بورجيا ، دوق رومانيا) أسس قوات الشرطة المؤلفة من مواطني فلورنسا . فقد أدرك ان الدفاع عن المدينة بالنسبة اليهم ، ليس مجرد خدمة ، بل عمل شخصي له علاقة مباشرة  بحياتهم و مستقبلهم . ولكن قوات الشرطة هذه كانت قليلة العدد والخبرة ، و بعد  أحراز عدة أنتصارات صغيرة ، غير حاسمة ، تراجعت في نهاية المطاف أمام ضغط قوات مديتشي المتفوقة و المتعطشة للأنتقام ، التي احتلت المدينة ، ونكلت بالجمهوريين البارزين  وبضمنهم مكيافللي ، الذين كان مصيرهم الهرب  الهرب أو الأعتقال ..
 
 في هذا الوقت العصيب الذي كان فيه مكيافللي مهدداً بالأعتقال ، قام بعمل جريء لا ينسجم مع طبعه وصورته . فقد تم الكشف لأول مرة عن وثيقة في غاية الأهمية ، نشرها الكاتب والمترجم (  بيتر كونستانتين  ) باللغة الأنجليزية ضمن كتابه " المؤلفات الأساسية لمكيافللي  The Essential Writing of Machiavelli" . وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة خطية وجهها مكيافللي الى  حكومة " مديتشي " الجديدة  ،  دافع فيها بحرارة عن زعيم الجمهورية  ( سوديريني  Soderini )  الهارب من المدينة أثر سقوطها بيد قوات  مديتشي، وكان هذا الأخير يحاول بكل السبل تلطيخ سمعة "  سوديريني "  ويعتبره من ألد أعدائه .
 
وكالعادة حاول مكيافللي ان يصوغ رسالته باسلوب دبلوماسي ، حيث كتب يقول :
 " ان حكومة مديتشي تضعف نفوذها عندما تهاجم شخصاً لم يعد بأمكانه الحاق اي ضرر بالحكومة الجديدة " .
 ولكن دبلوماسية مكيافللي أخفقت هذه المرة في تحقيق هدفها ، وأعقبها اعتقال مكيافللي نفسه.
مكيافللي في السجن ! :
 
كان ذلك في عام 1513 في فلورنسا ، في أيام النهضة الأوروبية ،التي شاعت فيها طريقة  ستراابادو Strappado  لتعذيب للسجناء ( من الكلمة اللاتينية strappare- السحب أو الجر ) ، حيث يقيد السجين من معصميه بالحبل وراء ظهره و أحياناً تربط أثقال على قدميه ويسحب بهذا الحبل الى الأعلى  ، ثم يترك ليهوي على أرضية صخرية لمرات عديدة الى ان يعترف بما هو مطلوب منه .وكانت " حفلة " التعذيب هذه تنتهي بأصابة السجين برضوض أوالتواء أو خلع مفصل أو أكثر وأحياناً بشلل اليدين .
 
ولكن ما كاد مكيافللي يعود الى زنزانته بعد  ست مرات من الـ" سترابادو " حتى يطلب القلم والورق على الفور ،  ليكتب " سوناتا " مكرسة  لـ( جوليانو دي ميديتشي ) الرائع ، أحد حكام فلورنسا ،  الذي تم سجن مكيافييلي  بأمر مباشر منه .ومع ذلك فأن"  السوناتا "  لم تكن فقط تمجيدأ لـ( ميديتشي ) ، بقدر ما كان فيها من جرأة وتهكم لاذع وفكاهة :
"  على جدار زنزانتي قمل بحجم الفراشة ، اما الألهام ، فأنه  بدلاً من ان يخدم الأنسان المقيد بالسلاسل ، يمنحه ركلةً . هكذا يعامل الشعراء عندنا ."
 
ربما يظن القاريء ان مكيافيللي كان شخصاً أنتهازيا وماكراً وقد أذل نفسه بطلب العطف والرحمة  والغفران من عدوه اللدود . ولكن هذا الظن في غير محله ، لأن اسلوبه يحتمل تأويلات كثيرة كأي مفكر عظيم .ولا أحد يعرف هل قرأ  راعي الفنون ( جوليانو مديتشي " السوناتا ) المهداة اليه أم لا ؟ ،  ولكنه – على أي حال -  لم يطلق سراح مكيافللي من السجن حتى العفو العام الذي اصدره لمناسبة اختيار الكاردينال ( جيوفاني مديتشي ) لمنصب بابا الفاتيكان  .
 
الأقامة الجبرية في مزرعة الأسرة:
 
ذكرت جريدة الـ( تلغراف ) البريطانية مؤخراً ،  ان البروفيسور ( ستيفان ميلنر ) من جامعة ( مانجستر ) عثر في مدينة  فلورنسا على  أمر القاء القبض على مكيافللي . اكتشف العالم البريطاني بمحض المصادفة هذه الوثيقة ، التي يعود تأريخها  الى عام ( 1513 ) خلال دراسته للأوامر التي أصدرتها السلطات في فلورنسا خلال الفترة ( 1470 – 1530) .
ويرى ميلنر أن هذا الأمر كان بداية لتسقيط وأزاحة أحد المع الساسة في عصر النهضة وكان ذلك أحد الأسباب التي ادت الى وفاته في ظروف الفاقة والبؤس .
ويقول ميلنر ، انه جرى اولاً احتجاز مكيافللي في المدينة تحت حراسة مشددة لفترة قصيرة  ومن ثم تم نقله الى مزرعة في الريف وفرض عليه الأقامة الجبرية .وهنا كتب مكيافللي معظم ، ان لم يكن كل مؤلفاته . وبضمنها ( الأمير ، المطارحات ، تأريخ فلورنسا ، فن الحرب ، والعديد من الأعمال الأبداعية من مسرحيات وقصائد وغيرها كثير )
 
المزرعة التي يتحدث عنها  ميلتر  كانت مزرعة الأسرة في ضواحي فلورنسا ، حيث نقل اليها مع زوجته وأطفاله الخمسة . كانت المزرعة مهملة وخربة ، والأهم من ذلك أن مكيافللي حرم من التواصل الفكري – العزيز على قلبه وروحه – مع أصدقائه المثقفين ، الذين كانوا في رسائلهم اليه  يمازحونه  ويطلبون منه ابلاغ تحياتهم الى دجاج المزرعة !!
 
كانت حياة مكيافللي في عزلته الأجبارية في الريف قاسية ومثمرة فى آن واحد : حياة رتيبة وباهتة في النهار ، ومشرقة وضاءة في الليل ، حيث يلجأ الي صومعته ويعيش ساعات بين العظماء  والمفكرين ، في تأمل وتألق فكري جدير بالعباقرة من أمثاله .
 
في رسالة لـصديقـه " فرانسيسكو فيتوري "  مؤرخة في الثالث عشر من سبتمبر( 1513) - التي تعد احدى الرسائل الأكثر شهرة في عصر النهضة -  ذكر مكيافيلي تفاصيل  حياته في المزرعة – المنفى ، فبعد أن وصف حياته اليومية مع عائلته والجيران، كتب يقول :
«عندما يحل المساء أعود إلى البيت، وأدخل إلى المكتبة، بعد أن أنزع عني ملابسي الريفية التي غطتها الوحول والأوساخ وتفوح منها رائحة الروث ، ثم أرتدي ملابس البلاط ، وأبدو في صورة أنيقة، أدخل إلى المكتبة لأكون في صحبة هؤلاء الرجال الذين يملأون كتبها، فيقابلونني بالترحاب وأتغذى بذلك الطعام الذي هو لي وحدي، حيث لا أتردد بمخاطبتهم وتوجيه الأسئلة لهم عن دوافع أعمالهم، فيتلطفون علي بالإجابة، ولأربع ساعات لا أشعر بالقلق، وأنسى همومي، فالعوز لايخيفني والموت لايرهبني، لقد تملكني الإعجاب بأولئك العظام، ولأن دانتي قال: «يُحفظ العلم الذي يأتي بالتعلم». ولقد دونتُ ملحوظاتٍ من محاوراتهم، وألفت كتاباً عن الإمارات، حيث أنكبُ جاهدا في التأمل والتفكر بما يتعلق بهذا الموضوع، مناقشة ماهية الإمارات، وأنواعها، وكيفية امتلاكها، ولماذا تٌفقد.
 
وبحلول نهاية عام 1513 ، كان قد أنتهى من تأليف كتاب صغير تحت عنوان " الأمير "
وقد وصف فيه على حد قوله ، شخصيات تأريخية وأفعالهم في الواقع، وليس كما يبدو لأنفسهم أو أنصارهم .
 
كتاب " الأمير "
 
مصائر الكتب مثل مصائر البشر ، يذهب أغلبهم من دون أن يتركوا أثراً عميقاً في الحياة ، وآخرون لا يشكل الموت الا لحظة عابرة في ذكراهم الخالدة ، وتظل صورهم حية  في الأذهان وتظل أبداعاتهم في شتى جوانب المعرفة والفنون باقية ويظل تأثيرهم متواصلاً في الأجيال الجديدة . ومؤلف كتاب " الأمير " من هذا النوع الأخير ، مهما كان رأينا في شخصيته وأعماله سلباً أو أيجاباً .
 
جاء أول ذِكرِ لهذا العمل في رسالة مكيافللي  إلى صديقه (  فرانسيسكو فيتوري ) المؤرخة في 10 ديسمبر 1513 ،  يقول فيها أن الكتاب يتكون من إهداء و (26) فصلاً مختلفة الأحجام، وقد ضمنه عصارة تجربته وبعثه كأهداء الى أمير فلورنسا الجديد  ( لورانزو دي ميديشي)
 
لم يكن كتاب " الأمير " الوحيد الذي ألفه مكيافللي ، و لا يتضمن كل آرائه في  قواعد وأساليب الحكم ، الا أنه الأشهر . وكان  يوزع على شكل مخطوط ونسخ عنه ، قبل ان يتم طباعته ،  بعد خمس سنوات من وفاة مكيافللي سنة (1532) . وعنه يقول صاحبه :
 
 " لم أحاول تزويق كتابي بالجمل الطويلة ، ولا بالزخارف اللفظية الطنانة ، ولا بالحلي الجذابة المصطنعة ، التي يلجأ اليها الكثير من الكتاب لتنسيق مؤلفاتهم ، لأني لا أطلب مجداُ لكتابي أكثر مما يستحقه بفضل جدة موضوعه ورزانته ".
 
أنقض النقاد على الكتاب حتى قبل طباعته في عام (1532) ، وقد وصف كاردينال أنجليزي  مكيافللي بـ (عدو للجنس البشري). وتبارى الكتاب والمؤرخون في اطلاق أسوأ الألقاب عليه وعلى أهم أعماله ، كتاب " الأمير "   من قبيل ( محامي الشيطان ) و ( انجيل الطغاة ) وما الى ذلك من اسماء و ألقاب تنطوي على اتهامات مسبقة  ضده وتحميله مسؤولية  كل ما أرتكبه أشهر الطغاة  خلال القرون الخمسة الماضية من مذابح وجرائم وقمع وأرهاب وبضمنهم (  ايفان الرهيب ، هنري الثامن ، كاترين مديتشي ، كاليكولا ، ستالين ، هتلر  ، موسيليني ، صدام حسين ... والقائمة تطول ، ومن حقنا أن نتساءل :  ولكن من الذي ألهم الطغاة على مرالعصور  قبل مكيافللي (  جنكيزخان ، كاليجولا ، نيرون ، الملك الأسباني فرديناند  وغيرهم ؟ ) .
 
رغم كل الأنتقادات اللاذعة التي وجهت الى كتاب " الأمير " ومؤلفه ، الا أنه  لقي  نجاحاً مدوياً منذ ظهوره  لأول مرة ،  ليس فقط بفضل جدة واهمية  مضمونه  ، ، بل لأسلوبه الواضح وصراحة المؤلف المتناهية أيضاً  : الكثير من مقولات المؤلف البليغة  ساعدت على ايصال أفكاره للجمهور العام بكل يسر وسهولة .و خلال المائة عام التالية على طبعته الأولي أعيد طبعه مائة مرة في ايطاليا وحدها
 
ترجم " الأمير " الى معظم اللغات الحية فى شتى بلدان العالم ، وتفوق أعداد النسخ المطبوعة  منه أي كتاب آخر منذ أختراع الطباعة ( ما عدا الكتب الدينية المقدسة ) . ومع ذلك ، ما زال الغموض يكتنف مكان حفظ المخطوطة الأصلية بخط مكيافللي ،  ولا أحد يعرف عنها شيئاً. ومن مئات المخطوطات المستنسخة عن الأصل ، لم يتم العثور سوى على29 مخطوطة .
 
يرى البعض ان النجاح المدوي لهذا النتاج الفريد يرجع الى كونه تجسيداً لتمجيد الأستبداد  وفكرة أنتزاع السلطة وتقويتها والبقاء فيها بكل السبل لأطول فترة ممكنة ، و دليل عمل للطغاة في كل مكان .
ولكن على النقيض من ذلك ثمة بين علماء التنظير السياسي والفلاسفة والمؤرخين ، من يرى ان الكتاب فضح أساليب الطغاة في الحكم ، وساعد الشعوب المناضلة في التخلص منهم . وكان فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) اول من أشار الى هذه الحقيقة حين قال عن مكيافللي : " نحن مدينون له ولأمثاله ممن كتبوا عما يفعله الأمراء فعلاً ، وليس عما يجب أن يفعلوه " .
 
واذا كان كتاب " الأمير " قد تعرض للشجب و الأدانة من قبل علماء الأخلاق وخاصة في بريطانيا وفرنسا ، فأن علماء السياسة يرون ان للسياسة قيمها و أخلاقيتها الخاصة ، التي تختلف عن الأخلاق والقيم السائدة في المجتمعات وخاصة  المتحضرة منها ، وقد تتعارض معها في أغلب الأحيان ، وان مكيافللي هو المؤسس الحقيقي لعلم السياسة.
الفجوة بين السياسة والأخلاق والقيم الأنسانية ، لا يمكن تجاهلها ويعود الفضل في ذلك الى مكيافيللي ، الذي فتح عيون الناس على  ما في السياسة من حقائق مرعبة .
 
ان ما يتميز به كتاب "الأمير " هو ان كل شخص يمكن ان يفسر مضمونه على هواه ويجد فيه ما يشاء من الآراء و المباديء والقيم المختلفة من التضليل والخداع الى الأسس الأولية لّليبرالية ، ومن تعاليم للطغاة الى مباديء النظام الجمهوري .
 
اعادة تقييم مكيافللي :
 
لم يسبق لكاتب أو مفكر - لا قبل مكيافللي ولا بعده – ان جسَد بكل هذا الوضوح : كيف يمكن ان تكون الحقيقة خطرة . " الأمير " لقي رواجاً هائلاً ، كما أسلفنا ، لأن  القراء شعروا بمزيج من الأنبهار و الأشمئزاز . الأنبهار أمام بصيرة المؤلف الثاقبة ، والأشمئزاز من الأساليب المرعبة التي يتبعها الساسة على ارض الواقع .
 يقول مكيافللي " الأمير لا يمكن ان يسمح لنفسه أن تكون له صفات الأنسان الجيد من اجل الحفاظ على وحدة وسلامة البلاد ، وكثيرا ما يضطر إلى القيام بأعمال تخالف المثل العليا ( الرحمة والولاء والإنسانية والأستقامة ) حتى انه غير ملزم بتنفيذ الوعد الذي قطعه اذا كان في غير مصلحته  " .
 
 وكتب الفيلسوف الأنجليزي( بيرتران راسل) عن مكيافللي في كتابه " تأريخ الفلسفة الغربية " يقول :
"استعاد الفكر السياسي لليونان وروما فعاليته مجدداً في ( الأمير) و( مقالات في العشرة كتب الأولى لـ تيتوس ليفيوس - Discourses on the First Ten Books of Titus Livius ) الذي سمي فيما بعد بـ ( المطارحات - The Discourses ).
 مكيافللي مفكر بارز ، وهو رهيب أحياناً ولكن كان يمكن أن يتقاسم هذا المصير كثيرون لو تحرروا من الباطل .أنه يعلّم تحقيق الهدف سواء اكان جيدا او سيئا – واحيانا يثير وسائله الأدانة . ولكن عندما يصف أهدافه ، فأنها دائما جديرة بأستحسان الجميع ".
 
وذهب المؤرخ الروسي ( ايغور يفيموف ) أبعد من ذلك في كتابه " السر المخزي للامساواة " حيث يؤكد ان كل من قرأ مؤلفات مكيافللي وخاصة " الأمير" ، لم يكن بوسعه تجاهل ما فيها  من هجاء .
 
لا ننسى ان مكيافللي كان له اسلوب فريد ويعرف كيف يخفي أفكاره ونواياه لخداع الأمراء الحاقدين ومعهم كثير من القراء ، ولكن الذين يرون في كتاب " الأمير " ليس هجاءأً ، بل مرشدأ تعليمياً للحكام ، محرجون بسبب اهميته الراهنة .
 
أقترن اسم مكيافللي طيلة قرون  ، كما يقترن  مصطلح  المكيافيللية  اليوم ( رغم اختلافهما الشاسع ) ، بالتسلط و الأستبداد والأنانية وتغليب المصالح الذاتية على المصلحة العامة والممارسة السياسية منزوعة الأخلاق والتنصل من الوعود و المواثيق واللجؤ الى التصفيات الجسدية للخصوم السياسيين وينسب اليه العبارة الملعونة " الغاية تبرر الوسيلة " .
 
ولكن كما حدث مع شخصيات تأريخية أخرى ، فان الأجيال اللاحقة ، اختارت من كتابات واقوال مكيافللي وعلى نحو أنتقائي ، تلك النتف الأكثر أثارة للجدل والأدانة والأستياء .، للأستشهاد بها و انتقادها وشجبها .كما  اختار معظم الحكام من آراء ميكافيلي ما كان يناسبهم، وهم في العادة كانوا يتجاهلون الشروط والضوابط الكثيرة التي كان مكيافللي يشدد عليها بحماسة وعن ايمان مطلق، وهذه هي الميكافيلية بعينها.مما خلق صورة مشوهة لمكيافللي مختلفة تماما عن شخصيته الحقيقية .
يقول الكاتب المصري علي سالم في مقاله الممتع " نصيحة مكيافيللي.. وحكاية الصدفة في التاريخ "
« تخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم » واحدة من أشهر نصائح مكيافيللي للأمير، وهي كما ترى للوهلة الأولى تتسم بالسفالة والانحطاط. لا أحد يتخلص ممن أوصلوه إلى الحكم إلا في حالة واحدة، هي أن يكون وغدا ناكرا للجميل. غير أني أطلب منك الترفق بأفكار الرجل، كما أطلب منك أن تنسى أنه مفكر سياسي وغد، ولو لعدة دقائق. عندها ستكتشف أن هذه النصيحة أخلاقية تماما، لأنها تتفق والمصلحة العامة؛ من المستحيل أن تجيد أصول الحكم وهناك من يطالبك في كل لحظة بتسديد دين كبير عليك، دين لا تعرف ولن تعرف مقداره. لو لم تتخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم، فستفشل حتما في مهمتك، لأنك في كل لحظة ستجد نفسك مطالبا بإرضائهم وسد أفواههم وتغذية أطماعهم ومطامعهم والاستجابة لما يقدمونه لك من أفكار.
 
ستكون مضطرا لتمييزهم عن الآخرين، وبذلك تخلق لنفسك أعداء جددا في كل لحظة بلا ضرورة أو مبرر. هكذا ينصرف مجهودك أو الجزء الأكبر منه إلى الدفاع عن نفسك ضد أولئك الأعداء الذين يتكاثرون كالفطر، فلا تجد وقتا لإقامة العدل بين مواطنيك، أو حمايتهم من أعداء الداخل والخارج .... أي ستفشل كحاكم وأنت تعرف بالطبع عدد الحكام الفاشلين الذين علقوا على أعواد المشانق، أو كانوا محظوظين فتم سجنهم أو نفيهم فقط. هكذا ترى - يا عزيزي القارئ - أن نصيحة ميكيافيللي كانت أخلاقية تماما إذا تأملناها من منظور رجل الدولة.
( جريدة " الشرق الأوسط " 9 ديسمبر 2012 العدد 12430 )
 
الدراسات العلمية الجادة التي نشرت مؤخراً في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وروسيا تشير الى ان الصورة المرسومة في أذهان الكثيرين عن أحد ألمع العقول تألقا وعمقا في عصر النهضة الأوروبية ،  لا تشبه صورته الحقيقية  ، التي تعرضت كثيراً الى التشويه والتحريف ، ليس فقط من قبل خصومه السياسيين خلال حياته وبعد وفاته ، بل حتى على أقلام العديد من الباحثين في علم السياسة والفلسفة والتأريخ ، الى درجة بات من الصعب التعرف على شخصيته وآرائه ومواقفه الحقيقية .
وأخيراً لا بد من التنويه  ان عبارة ( الغاية تبرر الوسيلة ) لا تعود الى مكيافللي . البعض يقول انها لـ(أسكوبار) اليسوعي، والبعض الآخر ، على العكس من ذلك يقول أنها ، تعود للبروتستانت ، كأدانة لليسوعيين ، ولكن على ما يبدو ، ان اول من نطق بهذه العبارة هو الكاتب المسرحي اليوناني سوفوكليس في مسرحية "إلكترا" و كان ذلك في عام ( 409) قبل الميلاد .
 
جـــودت هوشـــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


126
المشهد المصري لن يتكرر في العراق !

                                                                                                      جـــودت هـوشــيار
  1- الثورة الشعبية في مصر والمثقفون العراقيون :
   من يتابع ردود فعل الكتاب والمحللين السياسيين والمدونين العراقيين على شبكة الأنترنيت وتغريداتهم على صفحات مواقع التواصل الأجتماعي ، خاصة " فيسبوك " و" تويتر " ، يرى انهم - رغم أختلافهم في التفاصيل- يجمعون على أمر واحد وهو وجود أوجه تشابه بين حكم " الأخوان " في مصر و حكم " حزب الدعوة " في العراق ، وان الوضع في العراق أسوأ بكثير مما هو عليه في مصر ، لذا فأنهم يتوقعون ، او يأملون ان تحدث في العراق ثورة شعبية سلمية عارمة كالتي شهدتها مصر ، ومما يعزز هذا الأعتقاد لديهم ، ان كلاهما "الأخوان ، الدعوة " حاول أقامة نظام تسلطي رغم فشله فشلاً ذريعا في أدارة دفة الحكم أو معالجة أزمات البلاد ، ولجأ الى ملأ المناصب الحكومية العليا بأنصاره ، ممن يفتقرون الى النزاهة و الخبرة والكفاءة وأعاد البلاد الى عصور الظلام و التخلف والفساد والفوضى . ولكننا نعتقد ان الملحمة الأسطورية ، التي سطّرها الشعب المصري فى لحظة تأريخية فارقة ، لن تتكرر في العراق للأسباب التالية :
  2 - الهوية الوطنية :
  الشعب المصري ، شعب متجانس عرقيا و تأريخياً واجتماعياً وثقافياُ ونفسياُ ،وحتي دينياً حيث يتكون من أغلبية مسلمة واقلية مسيحية ، ولم تشهد مصر في تأريخها العريق والطويل صراع مذاهب ، كالتي يشهدها عراق اليوم ، والمواطن المصري يعتز بهويته الوطنية ،مهما كان اتجاهه السياسي أو انتماؤه الأجتماعي و الديني .وقد تجلى ذلك بوضوح خلال ثورة 30 يونيو التصحيحية ، التي اطاحت بالرئيس المعزول مرسي العياط ونظام حكم المرشد . الشعب المصري ، لم يتمرد ، لأن حكم الإخوان المسلمين كان طائفياُ ، حيث لم يكن هناك تعارض مذهبي بين الشعب وحاکمه، بل لأن الرئيس المعزول لم يحقق ما كان يتطلع إليه المصريون بعد ثورة 25 يناير من العيش الكريم والحرية والعدالة الأجتماعية والكرامة الأنسانية ، حيث شهد عهد مرسي تردي الوضع الأقتصادي و تصاعد الفقروالبطالة والجريمة وانهيار النظام العام وتعطل الخدمات الاجتماعية. أما العراق فالوضع فيه مختلف تماما ، وكما قال باني الدولة العراقية ، الملك فيصل الأول في مذكرته الشهيرة " انه لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد كتلات بشرية ، خالية من أية فكرة وطنية ، متشبعة بتقاليد واباطيل دينية ، لا تجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ميالون للفوضى ....، فنحن نرى ، والحالة هذه ، ان نشكل من هذه الكتل شعبــاً نهذبه ،وندربه ، ونعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف ، يجب ان يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل . هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي " .
  ورغم مضي أكثر من ثمانين عاماُ على مقولة الملك ( الحكيم ) ما زال المجتمع العراقي خاضعاً لأعراف وتقاليد وقيم عشائرية بالية ، ولم تتبلور في العراق بعد هوية وطنية ، حقيقية ، بل أزداد الأمر سوءاُ ، خاصة خلال عهد حزب الدعوة ، الذي يعتمد على النعرة الطائفية لبقائه في الحكم . و في الظروف الراهنة ، ليس ثمة ما يمكن ان يوحد العراقيين و يؤدي الى تضامنهم و تكاتفهم من اجل تحقيق هدف وطني سام كالذي حدث في مصر أخيراً . الهوية الوطنية ، لا يمكن أن تتشكل في ظل نظام المحاصصة و التمييز المذهبي والحزبي والطبقي و العشائري.
  3 –اختلاف التطور التأريخي بين البلدين:
  العراق رغم عمقه الحضاري وتأريخه العريق ، لم يشهد نهضة حضارية حديثة ، كالتي شهدتها مصر منذ عهد محمد علي باشا ولم تسنح الفرصة للشعب العراقي للأحتكاك المباشر والواسع بالحضارة الغربية في زمن مبكر، مثلما اتيح للشعب المصري ، الذي نال الأستقلال الحقيقي قبل العراق بأكثر من مائة عام ، ولم يشهد المجتمع العراقي تيارات وحركات سياسية أصلاحية وتجديدية يقودها زعماء ومصلحون ومفكرون عظام ، كما شهدتها مصر خلال القرنين الماضيين وادت الى احداث ثورة فكرية واجتماعية في المجتمع المصري وترسيخ اسس الدولة المدنية والمجتمع المدني . وهذا لا يعني ان العراق لم ينجب مصلحين ومفكرين كبار ، ولكن الفرق بين مصر والعراق ، هو ان أصوات من نادى بالأصلاح والتغيير في العراق ، لم يكن لها تأثير قوي ومباشر على المجتمع العراقي . ولعل أبلغ دليل على ما نقول هو ان أحزاب الأسلام السياسي استطاعت بالتضليل وبنشر الفكر الظلامي من اعادة المجتمع العراقي بسهولة ويسر الى عهود التخلف ، وفي هذا الصدد ، يمكن مثلاً مقارنة الحريات الشخصية في العراق بين زمنين ، قبل وبعد الحكم الظلامي الحالي .
 
4 - اختلاف مستوى الوعي السياسي :
 
رغم فشل الطبقة الحاكمة في العراق ، سياسيا وامنيا وخدميا ، والفساد ، الذي ينهش كل مفاصل الدولة – اذا افترضنا وجود دولة حقيقية في عراق اليوم - ، ورغم ان المآسي التي شهدها المجتمع العراقي منذ تولى حزب الدعوة حكم البلاد ، هي أشد قسوة وايلاماً ومرارة من تداعيات الأزمة الأقتصادية في مصر ، الا أن الغيبيات والطقوس والخرافات المخدرة للوعي السياسي و الأجتماعي والثقافي الجمعي في العراق ، تجعل قيام الجماهير المسحوقة بالثورة أمراً بعيدالأحتمال ، ليس لأنها أفضل حالا كثيرا من مثيلاتها في مصر ، بل لأنها مهمشة وخارج اللعبة السياسية في البلاد ، ويقتصر دورها – في أفضل الحالات على التوجه الى صناديق الأقتراع ، للأدلاء بأصواتها ، حسب فتاوى و بيانات المرجعية و الأنتماء العشائري ، في انتخابات شكلية لا تتوافرفيها معايير النزاهة والشفافية وغالبا ما يجري التلاعب بنتائجها خلال عدة اسابيع من العد اليدوي ، كأننا نعيش خارج العصر الرقمي .
  و بدلاً من التوعية والتربية وتحسين الأوضاع المزرية لفقراء العراق على وجه الخصوص ، فأن النظام القائم ، حاول جاهداً طيلة ثمان سنوات تسخيرامكانات الدولة لزيادة جرعات التخدير وتعميق مشاعر الحزن والأحباط واليأس في عقول وقلوب العراقيين ومحاربة كل ما يبعث الفرحة في القلوب وكل ما هو انساني و نبيل في الحياة وخاصة الفنون الجميلة يشتى صورها وأشكالها .
  5 - فساد النخب السياسية في العراق :
  زعماء المعارضة المصرية رجال ناضلوا من اجل تحقيق اهداف ثورة 25 يونيو المجيدة وقادوا ثورة 30 يونيو التصحيحية العارمة وكانوا على رأس الجماهير المنتفضة في ميدان التحرير وفي كل ميادين المدن المصرية ، ليس من أجل المناصب ، فالكثير منهم رفض الأشتراك في الحكومة الأنتقالية الجديدة ليفسح المجال للتكنوقراط لأدارة دفة الحكم في هذه المرحلة الحرجة من تأريخ مصر .
 أما في العراق فلا توجد معارضة وطنية مخلصة ونزيهة ، لها رؤية واضحة وبرنامج عمل مدروس ، بل ان الهم الأول والأخير لزعمائها ، هو الوصول الى السلطة للتمتع بامتيازاتها ومغانمها ، وهذه سمة بارزة للساسة العراقيين سواء في الحكم او المعارضة ، لذا نرى المعارضة تضع رجلا في الحكومة واخرى خارجها ، وكم من وزير ينتمي الى كتلة معارضة ، تمرد على قرار كتلته بالأنسحاب من الحكومة وظل متمسكا بكرسي الوزارة العزيز على قلبه ،والذي يدر عليه وعلى أقربائه و أصدقائه وعشيرته الربح الوفير. هل يتوقع احد من مثل هذه المعارضة ان تنتصر للشعب .
هل رأيتم وزيراً عراقياً معارضاً ،  رابط في الأعتصامات أو شارك في تظاهرات احتجاجية لأيام واسابيع مثل زعماء المعارضة المصريين الذين ضحوا براحتهم – رغم وجود الكثير من كبار السن بينهم - من اجل ازاحة الكابوس الأخواني عن كاهل الشعب المصري .
  6- الفرق بين الجيش الوطني وجيش الدمج :
  الجيش المصري ، جيش مهني حديث ولاؤه للوطن وللشعب ، وليس للطوائف والأحزاب ولديه تقاليد ومواقف مشرفة في تأريخ مصر الحديث . وكان لموقفه المناصر لثورة 25 يناير ، الدور الحاسم في اجبار الرئيس السابق حسني مبارك على التنحي عن الحكم ، وها هو اليوم ينتصر مجددا لأرادة الشعب . أما الجيش العراقي الحالي ،فأنه ليس جيشاً بالمعني المتعارف عليه ، بل حصيلة دمج ميليشيات لها اجندات خارجية وساهمت في قتل العراقيين على الهوية ، ويحمل قادته رتباً شكلية او مزورة في الواقع ، لأنها اكبر من خدمتهم الفعلية وكفاءتهم و قدراتهم العسكرية .. ولا يتوقع احد من هذا الجيش المترهل والخامل - الذي يقضي أكثر من نصف عناصره أيامهم في بيوتهم أو يمارسون اعمالاً اخرى بعد رشوة آمريهم - أن يتحول بين ليلة وضحاها الى جيش وطني يستشعر معاناة الشعب ويهب لنجدته في الأوقات العصيبة . هذا الجيش المليوني - الذي يقوده عملياً شخص لا يفقه شيئأً في الشؤون العسكرية - لن يستجيب لرغبات الشعب العراقي ، لأنه غريب عن هذا الشعب ، وقد رأينا ما حدث يوم 25 شباط 2011 حين ضرب واعتقل الشباب الأعزل في ساحة التحرير ولاحقهم في الأزقة والشوارع وقتل منهم سبعة شهداء بدم بارد ، أما في " الحويجة " ، فقد شاهد العالم كيف أقدمت قوات " سوات " سيئة الصيت على أعدام ( 50 ) شهيدا مدنيا أعزل ، وجرح أكثر من ( 200 ) آخرين . ولا نريد الأسترسال في الحديث عن " بطولات هذا الجيش " فقد شاهدتم بأم أعينكم على شاشات الفضائيات مؤخراً تهشيم رأس مدرب فريق كربلاء الرياضي من دون سبب"..
 لن يتحرك هذا " الجيش " المسيس في يوم من الأيام للدفاع عن الشعب ، بعد ان تحول الى أداة للقمع والبطش والتنكيل .
  7- نقمة النفط :
  العراق بلد غني بالثروات الطبيعية وعدد سكانه لا يشكل سوى حوالى ثلث سكان مصر ، وميزانيته السنوية اكثر من ضعف ميزانية مصر ، ولكن ثمة فرقاً جوهريا هو ان واردات مصر تأتي من كد وعرق جبين شعبها ، من الصناعة والزراعة والسياحة وتحويلات المصريين المغتربين ورسوم قناة السويس ولكن الزيادة السكانية - وهي من أعلى المعدلات في العالم - تؤدي بأستمرار الىتآكل الموارد الأقتصادية .وزيادة معدلات البطالة والفقر والتضخم . اما في العراق ، فلا صناعة ولا زراعة ولا سياحة ولا أستثمارات ولا أنتاج حقيقي في أي مجال من مجالات الحياة ، بل يعتمد الأقتصاد العراقي على واردات النفط فقط ، التي تملأ خزينة الدولة بالأموال الوفيرة من دون بذل أي جهد حقيقي . ورغم ان فئة صغيرة تستأثر بالجزء الأكبرمن أموال النفط ، الا أن الجزء الآخر يصرف كرواتب واجور و اعانات اجتماعية ، وهي أعلى من مثيلاتها في مصر . اضافة الى الأموال الطائلة التي تصرف لشراء الضمائر واستمالة العشائر .
  8– القضاء:
  القضاء المستقل ،الركيزة الأساسية لأي مجتمع متمدن ينشد العدالة و المساواة و تطبيق القانون على جميع أفراد المجتمع، مسؤولين ومواطنين من دون أدنى محاباة أو تمييز . والقضاء المصري المستقل قلعة حصينة للقانون ، هذا القضاء له تأريخ مشرّف ومواقف شجاعة في أحلك الظروف ، ولم يتجرأ اي حاكم مصري من الضغط عليه أو تسييسه . ورأينا كيف أصطدم رأس مرسي العياط بجدار القضاء المصري الصلد والشامخ ،وادى في نهاية المطاف الى سقوطه وتقديمه للعدالة . اما في عراق المالكي ، فحدث ولا حرج ، حيث اصبح " القضاء العراقي " مطية الحاكم يستخدمه في استصدار الأحكام والقرارات لصالحه وفي تصفية الخصوم السياسيين والأنتقام من كل معارض. وتفنن المحققون الجلادون في ابتكار وسائل تعذيب جديدة ، والتهديد بأستخدامها ضد كل معتقل ، لا يدفع الرشوة المطلوبة .( ومن يريد معرفة المزيد نحيله الى مقالنا الموسوم " تجارة التعذيب في العراق " . .
  ومما يثير السخرية حقاً ، ان الائتلاف الحاكم في العراق بزعامة حزب الدعوة أتخذ من " دولة القانون " اسما له و يضم في صفوفه ، قياديين متهمين بالفساد ، دون ان يتجرأ " القضاء" على محاسبتهم ومساءلتهم .
 عندما ينهار القضاء في أي بلد و يتحول الى اداة سياسية لتنفيذ رغبات الحاكم مهما كانت مخالفة للدستور والقوانين المرعية والقيم الأنسانية ، لا احد يمكن ان يتوقع منه ان يتخذ موقفأ مستقلاً انتصاراً لحقوق الشعب المسلوبة.
 جـــودت هـوشــيار
 jawhoshyar@mail.ru
 
 
 
 





127
جوزيف ناي ونظرية القوة الناعمة

                                                                                                                              جودت هوشيار
 
مصطلح «القوة الناعمة»:
 
 معظم المصطلحات، التي نستخدمها في كتاباتنا وأحاديثنا، مثيرة للجدل من حيث منشأها وظهورها لأول مرة وتعريفها وفحواها الدقيق، ناهيك عن أول من استخدمها في كتاباته.
أما مصطلح «القوة الناعمة» فإن الكل يعترف بأن المنظّر السياسي والمحلل الأستراتيجي « الأميركي «جوزيف ناي» هو أول من أستخدمه ضمن كتابه « وثبة نحو القيادة Bound to Lead « الصادر عام 1990، ثم أعاد استخدامه في كتابه « مفارقة القوة الأميركية The Paradox of American Power « عام 2002، حيث وضعه كعنوان فرعي صغير لفصل قصير شمل أربع صفحات، وإن كان قد استخدم المصطلح في أكثر من مكان في كتابه هذا.
 
ثم طوّر ناي الأفكار الواردة في  كتاباته السابقة وتوسع فيه، وأصدر كتابه الشهير « القوة الناعمة  Soft Power » عام 2004 وهو كتاب بالغ الأهمية والجدة، ينم عن تألق فكري وعمق تحليلي، قلما نجدهما عند منظري «علم السياسة» الآخرين.
وقد تصدر الكتاب فور صدوره قائمة اكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية، واصبح ما يسمى بكتاب المنضدة، الذي لا يفارق المحللين السياسيين ومصدراً لا غنى عنه لكل المهتمين بأتجاهات السياسة العالمية والتغييرات في جوهر وتركيب السلطة المعاصرة في جوانبها المتعددة وخاصة، في السياسة، الأقتصاد والثقافة.
ويعرّف ناي القوة الناعمة بأنها « القدرة على تحقيق الاهداف المنشودة عن طريق الجاذبية أو السحر اوالأقناع بدل الأرغام أو دفع الأموال».
 
اصبح مفهوم «القوة الناعمة» اليوم جزءاً لا يتجزأ من لغة القادة السياسيين ومنظري علم السياسة والكتاب والإعلاميين، والمثقفين عموماً في كافة أنحاء العالم.
 
من هو جوزيف ناي؟
 
جوزيف ناي (ولد عام 1937)، أستاذ في جامعة هارفارد، عضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، مدير سابق لمعهد بحوث مشاكل الأمن الدولي، كان رئيساً للمعهد العالمي للبحوث الأستراتيجية، مثل الولايات المتحدة الأميركية في لجنة قضايا نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة.
شغل مناصب رسمية عليا، فقد كان بين عامي (1977- 1979) مساعداً لنائب وزير الخارجية لقضايا الأمن والعلوم والتكنولوجيا، ورئيساً لفريق الأمن القومي لقضايا نزع السلاح النووي. وبين عامي (1993– 1994) رئيساً للمجلس القومي للمخابرات، كما شغل بين عامي (1994 – 1995) منصب مساعد وزير الدفاع لقضايا الأمن الدولي. اصبح عمل «ناي» السياسي والدبلوماسي وخبرته العملية معينا لا ينضب لكتاباته النظرية حول قضايا السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأميركية والعلاقات الدولية، والتي تنشر على صفحات «The Washington Post» و»New York Times» و»International Herald Tribune». وهو عضو هيئة تحرير عدة مجلات متخصصة في السياسة الخارجية، منها  «Foreign Policy» و»International Security» كما أن القنوات النلفزيونية الأميركية  ,CNN CBS, ABC وغيرها, تقوم غالباً بأجراء مقابلات معه حول القضايا الدولية الملحة.
في عام 2005 تم اختياره كواحد من افضل عشرة مفكرين في العالم في مجال العلاقات الدولية. ويمكن القول أن ناي هو المنظر الرئيسي للقوة الناعمة.
 
مفهوم القوة الناعمة :

 
تعني القوة الناعمة أن تكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم الذي تقدمه في مجالات حقوق الإنسان والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره, وغالبا مايطلق هذا المصطلح على وسائل الإعلام الموجهة أو مايسمى بالإعلام المكرس لخدمة فكر ما .
القوة الناعمة اداة فعالة جدا لتحقيق مصالح الدولة – اي دولة – في الخارج وهذا يلبي مطلب العصر، حيث التنافس على المصالح ما زال قائما في العالم، ولكن طرق العنف الخشنة مثل استخدام القوة العسكرية او التهديد بها او الحصار الأقتصادي والأبتزاز... الخ على خلاف الأزمنة السابقة، اصبحت سيئة في نظر الرأي العام في كل مكان..
 
وموارد القوة الناعمة لأي بلد هي ثقافته، اذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية وقيمه السياسية عندما يطبقها بأخلاص داخليا وخارجيا، اضافة الى السياسة الخارجية.
وعلى هذا النحو فإن الحديث لا يدور حول إرغام الآخرين على العمل لصالحك ولكن تحفيزهم لتأييد افعالك طوعا لانها تستجيب لمصالحهم ايضا واقناعهم بالتوجه اليك.
 
القوة الناعمة خلال الحرب الباردة :
 
القوة الناعمة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، كأداة للسياسة الخارجية قبل أن تتشكل كنظرية في علم السياسة على يد «جوزيف ناي». وكانت لهذه الاداة علاقة مباشرة بازدياد تأثير وسائل الإتصال الجماهيري واشتداد الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والأشتراكي، رغم أن الموارد المولدة للقوة الناعمة في هذا الصراع كانت مختلفة. المنظومة الإشتراكية كانت تمتلك قوة معنوية هائلة في تأثيرها وفعاليتها، متمثلة في النظرية الماركسية والنظام غير الطبقي والقضاء على الفقر والبطالة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة والتنمية بوتائر متسارعة وغيرها، اما النظام الرأسمالي فقد كان يمثل الديمقراطية والرخاء الإقتصادي والحرية الشخصية وحرية التعبير وغيرها من السمات، التي تتصف بها الأنظمة الليبرالية الغربية، وهي سمات كانت وما زالت تشكل قوة جذب هائلة لشعوب أوروبا الشرقية رغم تفكك المنظومة الإشتراكية.
 
في حرب فيتنام كانت لاميركا قوة ضخمة وكان القادة الاميركان يعتقدون أنهم سيحققون النصر بالقوة العسكرية وحدها ولكن الواقع انهم لم يستطيعوا تحقيق النصر وهذا ينطبق على الشرق الاوسط اليوم. لأن السياق الذي يتستخدم فيه القوة الصلبة، يتغير باستمرار ومدى فعالية القوة تعتمد دائماً على السياق النظام السوري يمتلك قوة صلبة كبيرة (الجيش والشبيحة وحزب الله والمقاتلين العراقيين) ولكنه يفقد تأثيره داخل سوريا وخارجها يوماً بعد آخر لاقتصاره على نوع واحد فقط من القوى ولا تأثير لقوته الناعمة على أغلبية السكان لأن النظام فقد جاذبيته منذ زمن طويل.
 
صورة الدولة في الخارج :
 
تتشكل صورة الدولة من مجموعة كبيرة من العناصر، التي تكون عادة مرتبطة بعوامل وطنية وتأريخية واعلامية وثقافية.
وبطبيعة الحال فإن واقع الدولة ينعكس على صورتها في اذهان مواطني الدول الأخرى. البلد اللاديمقراطي ذو الأقتصاد المتخلف لا يمكن ان يعكس صورة مزدهرة، حتى لو أستأجرت أغلى وكالات العلاقات العامة لتلميع صورتها.
الديمقراطية كقوة ناعمة لا يمكن استنباتها بشكل مصطنع بمعزل عن الواقع. ربما يكون ذلك ممكنا الى حد ما في الدول المنغلقة. ولكن مثل هذه الدول في العالم لا يزيد عددها اليوم على عدد اصابع اليدين وحتى هذه الدول واقعة تحت ضغط اعلامي شديد وتحاول حجب شعوبها عن العالم الخارجي.
القوة الناعمة للدول تتمثل في المجتمع المدني والبزنس والإعلام وفي مواطني الدولة انفسهم.. العديد من الدول تحاول تحسين صورتها ولكن الدولة غير قادرة على انجاز هذه المهمة لوحدها.
 القوة الناعمة في الغالب ليس لها علاقة مباشرة بحجم الدولة وقوتها العسكرية والاقتصادية وايديولوجيتها، يمكن ان تكون الدولة رائدة في متوسط عمر مواطنيها او بمستوى الرواتب والاجور والتقاعد او معدل دخل الفرد او بمستوى التعليم او الضمان الصحي او الإستقرار لاطول فترة بلا حروب او كوارث ومؤشرات اخرى كثيرة تكوّن هيبة وسمعة البلد في عيون الشعوب الاخرى. وغالبا ما نرى ان الدول الصغيرة تتقدم في كثير من المؤشرات على دول كبيرة.
لا شك ان الإتحاد الأوروبي كمجموعة دول متقدمة حضاريا، لديها أكبر قوة جاذبة في العالم بديمقراطيتها والقيم التي تهتدي بها وحماية حقوق الأنسان فيها ورخائها الإقتصادي .
 ويرى منظرو القوة الناعمة، ان دولة او اكثر من دول الإتحاد الأوروبي تتفوق على الولايات المتحدة في قوتها الناعمة وتحتل المرتبة الأولى في العالم في مجال واحد او اكثر وكالآتي:
 
فرنسا - في عدد الحاصلين على جوائز نوبل في الآداب.
بريطانيا – من حيث رغبة المهاجرين في اللجوء اليها، تليها ألمانيا.
فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، بريطانيا، في معدل أعمار مواطنيها.
معظم دول الإتحاد الأوروبي تقدم مساعدات الى الدول النامية بنسبة أعلى من الولايات المتحدة، قياسا الى الدخل القومي. ولكل دولة جاذبيتها الخاصة للآخرين. ولايمكن القول بوجود قواسم مشتركة بينها. كيف يمكن ان نعمم على كل الدول، أهرامات مصر أو الموضة الإيطالية أو الشراب الفرنسي أو السيارات الألمانية أو كرة القدم البريطانية أو الجبن السويسري أو البيرة البلجيكية، أو الأليزيه، أو بك بن؟ التفوق في مجال معين يجعل من دولة ما مشوقة وجاذبة للآخرين ويشكل قوتها الناعمة الخاصة.
 
القوة الكردية الناعمة :
 
يمتلك اقليم كردستان قوة ناعمة، روحية ومعنوية هائلة، وهي قوة بكر لم تستخدم عمليا لحد الآن. قبل كل شيء نحن نتحدث هنا عن التسامح السياسي والديني السائدين في المجتمع الكردستاني،و النهضة الحضارية للأقليم خلال فترة وجيزة  والطبيعة الكردستانية الساحرة. صحيح أن مئات الآلاف من المواطنين العراقيين يتوجهون الى الأقليم سنويا بسبب تردي الأوضاع الأمنية في بقية أنحاء العراق، ولكن على الجهات المسؤولة التفكير جدياً في وضع خطط لديمومة هذا التدفق البشري والعمل على الزيادة المطردة في زخمه في المستقبل، حتى عندما تتحسن الأوضاع الأمنية في وسط وجنوب العراق.
 وعلى وزارة الثقافة والشباب زيادة الإهتمام بالمواقع الأثرية وترميمها وابرازها على نحو لائق  والتركيز على الفنون الكردية عن طريق تشكيل الفرق الفتية الغنائية والإستعراضية وإقامة المهرجانات المكرسة لمختلف ألوان الفلكلور الشعبي  وشتى اشكال الفن الكردي المعاصر، وانشاء ستوديوهات لإنتاج الأفلام السينمائية الطويلة والوثائقية وإقامة اسابيع للثقافة والفنون الكردية في شتى بلدان العالم.
 
ولا يفوتني أن اذكر هنا بأن مشاركة الفنانة برواز حسين في «آراب آيدل» كانت لها تأثير ايجابي في البلاد العربية أقوى بكثير من أنشطة وزارة الثقافة والشباب وهيئة السياحة والجهات المعنية بالعلاقات العامة. وهذا مجرد مثل صغير، فكيف تكون النتيجة يا ترى اذا ركزت الجهات المذكورة جهودها على تعريف العالم بالثقافة والفنون الكردية على مستوى فني رفيع ومضمون انساني يمس شغاف القلوب فى كل مكان من قريتنا العالمية.
 
جـــودت هـوشــيار
 jawhoshyar@yahoo.com
 


128
قراءة في فكر الزعيم عبدالكريم قاسم

                                                                                                                       جـــودت هـوشـــيار
 
 
فى هذه الأيام العصيبة التى يمر بها العراق بعد ثمان سنوات عجاف من تسلط احزاب الأسلام السياسي على مقدرات البلاد ، تلك الأحزاب الرجعية المتخلفة ، التي نهبت ثرواته وقتلت خيرة أبناءه واعادت البلاد الى عهود الظلم والظلام ، في هذه الأيام تحديدا تتجلى شخصية الزعيم الوطنى الخالد الشهيد عبدالكريم قاسم بكل عظمتها و جلالها و بهائهاوحكمتها و انسانيتها فهو اول زعيم عراقى وطنى تولى حكم البلاد منذ أكثر من ألفي سنة وقائد ثورة وطنية مجيدة حررت العراق من التبعية للدول الأمبريالية ومؤسس الجمهورية العراقية وزعيم سكن قلوب العراقيين لأنه عمل وجاهد فى سبيل عزتهم وكرامتهم و سعادتهم وتوحيد كلمتهم وتوجيه طاقاتهم نحو البناء والأعمار من اجل بناء عراق قوى مستقل و مزدهر،ولا نريد فى هذا المقام ان نعدد الأنجازت الضخمة التى تحققت خلال فترة حكمه القصير والتى تعتبر بحق الفترة الذهبية فى تأريخ العراق المعاصر ولا ان نشيد بمناقبه وخصاله الحميدة وهى كثيرة ونادرا ما تجتمع فى شخص واحد بل نحاول التركيز على فكر الزعيم الذى حاول الأعداء تشويهه عن عمد خدمة لمصالحهم الأنانية الضيقة ولم يفهمه الأصدقاء مع شديد الأسف ،هذا الفكر الذى نحن بأمس الحاجة اليه فى ايامنا العصيبة هذه .
 
 صحيح ان الزمن تغير وان العراق اليوم يمر بمرحلة جديدة و مختلفة الا ان المبادىء والأفكار التى نادى بها الزعيم لازالت تحتفظ بحيويتها وقيمتها العظيمة وهى ضرورية اليوم اكثر من اى وقت مضى لبناء العراق الجديد ،  وان التنكر لهذه المبادىء و الأفكار من قبل الخصوم والأصدقاء معا كانت وراء الكوارث والنكبات التى شهدها العراق فى العقود الأربعة الأخيرة .
 
ويبدو لنا ان فكر الزعيم اكثر التصاقا بالواقع العراقى من افكار من كان يزايد عليه خلال فترة حكمه و هى فى الوقت ذاته افكار معاصرة وديمقراطية و تقدمية ليس قياسا الى زمنه ولكن حتى بالنسبة الى يومنا الراهن ويتفق مع معاييرومبادىء حقوق الأنسان واكثر ديمقراطية من الأفكار المتخلفة التى يروج لها معظم التيارات السياسية العاملة اليوم على الساحة العراقية .
 
1-الوطنية العراقية اولا :
 
تتعرض بلادتا اليوم الى مؤامرة خبيثة تحيكها اطراف عديدة ومختلفة يجمعها قاسم مشترك واحد هو زرع الفتنة الطائفية وتأليب طائفة على اخرى وافتعال الخلافات العرقية والمذهبية وتأجيج الصراعات الحزبية وتظهر الى الوجود عشرات الأحزاب والتجمعات المشبوهة وبينهاعدد لا يستهان به من الأحزاب الكارتونية التى تشكلت بتمويل وتوجيه مباشر او غير مباشر من اجهزة مخابرات دول الجوار و القوىالأخرى المعادية لتطلعات الشعب العراقى .
 
 فى هذه الأيام تحديدا لابد للأجبال الشابة على وجه الخصوص ان تعلم بأن الهم الأول لقائد ثورة 14 تموز كان الحفاظ على مكاسب الثورة ومصالح الوطن العليا و توحيد كلمة العراقيين من اجل عراق قوى مزدهر ينعم فيه المواطنون بالأمن والأستقرار والعيش الرغيد.وقد عمل الزعيم جاهدا وواصل الليل بالنهار لتحقيق هذا الهدف السامى وضحى من اجله كثيرا واستشهد فى سبيله_.
وكان الزعيم  قد تنبأ منذ الأيام الأولى للثورة ان تحقيق مشروعه فى تحديث المجتمع العراقى وبناء الدولة القوية محفوف بالمخاطر الجسيمة—يقول الزعيم فى الكلمة التى ارتجلها فى وفود كركوك التى جاءت يوم2 اب 1958 لتهنئته بنجاح الثورة : " اننى اعاهد الله بأننى سأفنى كيانى ووجودى واضحى بدمى وبكل ما املك فى سبيلكم واننى أسأل الله ان يوفقنى لخدمتكم و خدمة ابناء الشعب ".
 
، وقال مخاطبا وفود( الموصل،الرمادى،الحلة،المسيب،الدجيل،المقدادية )التى حضرت لنفس الغرض: "  اننى ابن الشعب،اعاهد الله بأنى سأضحى فى سبيلكم وسيفنى كيانى ووجودى فى الدفاع عن الجمهورية العراقية.ايها الشعب اننا قد اقسمنا ونعاهد الله ونعاهدكم على هذا القسم،سندافع عن حريتكم وعزتكم وعن الكرامة وروح السلام فى بلادكم " ويتكرر هذا القسم فى العديد من خطبه وكلماته الصادقة النابعة من صميم قلبه ووجدانه.
 
كان يؤمن ايمانا عميقا و راسخا بالوطنية العراقية وكان فوق الميول والأتجاهات ،  وهكذا ينبغى ان يكون كل قائد ثورة او زعيم شعب او رئيس دولة راعيا لكافة ابناء الشعب دون ادنى تمايز طبقى او عرقى او دينى .  ففى عهده كان العراقيون سواسية كأسنان المشط فى الحقوق والواجبات امام القانون حيث كانت المؤهلات و الكفاءة هى المعايير المعول عليها فى اسناد المناصب العليا و الوظائف العامة او القبول فى المؤسسات والكليات العسكرية او فى ايفاد البعثات العلمية الى خارج البلاد للدراسة او التدريب او الأشتراك فى المؤتمرات والندوات العلميةوغيرها دون ادنى تدخل من اية جهة كانت .
 
 وكان الزعيم يجسد الروح العراقية الحقة ولم يخطر بباله قط ان ينحاز الى طائفة بعينها او ان يفضل شريحة اجتماعية على اخرى. ان الطائفية و الوطنية على طرفى نقيض ولا يمكن لوطنى حقيقى يؤمن بالديمقراطية حقا اويهمه وحدة صفوف الشعب ومصالح الوطن ان يزايد على الأخرين بأسم هذه الطائفة او ذاك او يعمل من اجل طائفة معينة دون غيرها ومن يدعى الوطنية والأخلاص للشعب والوطن عليه ان يعمل ويناضل من اجل خدمة الجماهير الشعبية الكادحة دون تفرقة او تمييز مهما كان نوعه ومن يخل بهذا المبدأ السامى انما يخدم عن قصد او حسن نية مخططات اعداء العراق فى زعزعة الأمن والأستقرار فى البلاد وعرقلة تقدمه و ازدهاره .
 
فالطائفية—التى هى قصور فى الوعى والأدراك ودليل الأفلاس السياسى—حين تحل لدى البعض محل الوطنية تصبح اداة لتفرقة صفوف الشعب وخدمة لأعداء الوطن والشعب و يقول احد الفلاسفة : " ان السياسى الذى ليس لديه من المؤهلات او الأنجازات ماهو جديربالتقدير والأحترام يتفاخر بأنتمائه القومى او المذهبى ويتخذها وسبلة لتحقيق مصالحه الأنانية " .
 
ان الأنتماء للعراق ارضا وشعبا والتضحية فى سبيل مصلحة العراق وشعبه اولا واخيرا هو المعيار الصحيح للوطنية العراقية ولا معيار غيرها.اما من يعمل للمصالح الحزبية او الفئوية والأسوأ من ذلك لمصلحته الشخصية فأنه لا يستحق ثقة الشعب واحترامه .وينبغى تقييم الساسة العراقيين والأحزاب والتكتلات الموجودة على الساحة السياسية العراقية حاليا على هذا الأساس .
 
 هذا المعيار كان صحيحا فى زمن الزعيم ولايزال صحيحا اليوم وسوف يظل كذلك ابدا.
وهذا اول درس ينبغى على المخلصين من ابناء العراق ان يتعلموه من الزعيم و يتمسكوا به وبدونه لن يرى العراق استقرارا او ازدهارا .
 و يقول الزعيم فى خطابه التأريخى الذى ارتجله فى الأحتفال الجماهيرى الحاشد لمناسبة الأحتفال بعيد العمال العالمى فى عام1959 :
" لقد جاء البعض وقالوا:ايها الزعيم ،لو انك تغنينا فى هذا الوقت وتأمر بتشكيل حزب يلتف حولك –فكان جوابى اليهم اننا فى عهد انتقال ،وان حزبى هو مجموع الشعب –واننا سائرون فى طريق الحرية و سائرون الى الحكم الديمقراطى الصحيح ولا يفرقنا فى الوقت الحالى اى مفرق "
لقد كانت الوطنية العراقية والأخلاص للشعب والوطن والعمل من اجل تقدم البلاد وازدهاره هى المبادىء الأساسية للنهج السياسى للزعيم الخالد والمعيار الحقيقى لديه لتقييم العراقيين لا الأنتماء الحزبى او الطائفى .
.يقول الزعيم فى خطابه الانف الذكر : " ايها العامل اذا اردت القضاء على الأستعمار فعليك الأشتغال ساعة اخرى من العمل---  اننا نعمل من اجل مستقبل زاهر، مستقبل افضل يؤمن الحرية والعيش الرغيد ليس لنا فحسب،انما للأجيال القادمة التى سوف تذكرنا بالخير."
 
2- دور الصراع السياسى فى عرقلة خطط الزعيم :

 
يحلوللأحزاب والتيارات السياسية القومية واليسارية ،  التى دخلت فى صراع عنيف بعد فترة وجيزة من قيام ثورة 14 تموز المجيدة ان تلقى على الزعيم مسؤولية هذا الصراع ويتهمه البعض بأتباع سياسة التوازن بين القوى السياسية المتصارعة ، التى سمحت لقوى الثورة المضادة من القفز الى السلطة من القطار الأنكلو-امريكى وهذا تجنى واضح على الزعيم و تشويه لمواقفه المعلنة ذلك لأن الزعيم كان يناشد القوى المتصارعة وضع حد لهذا الصراع المدمر ووضع خلافاتهم جانبا من اجل حماية الثورة ومكتسبات الشعب العراقى فى تلك المرحلة الدقيقة من تأريخ العراق .
وفى خطابه المشار اليه فيما تقدم قال الزعيم:"  لقد اخذ الأجنبى والأستعمار يحاول تفريق صفوفنا وفت عضدنا ليتمكن من التغلب علينا ولكن هيهات فزمن التفرقة قد فات ،انه يحاول اليوم تفرقة الصفوف بالدعوة الى احزاب ضيقة و تكتلات محدودة،القصد منها ان يضرب الواحد منا الأخر ويكون الأستعمار فى موضع المتفرج علينا ،اننا سوف نلقمه حجرا وسوف نتغلب عليه ،اننا سوف نسد عليه هذا المنفذ ---اننا فى عهد انتقال وقد صممنا ان نصون مكاسب ثورتنا مهما كلفنا الأمر " .
 
 وقال فى الكلمة التى القاها فى وفد علماء بغداد يوم  13  ايلول  عام 1958- " ان الأجنبى يحاول ان يجد الثغرة بين صفوفنا لكى ينفذ منها ويحقق ماربه و غاياته للعمل على تفريقنا شيعا وجماعات تحاول كل منها ان تطعن الأخرى وتتهمها وهكذا يضعف الجميع ويحصل بذلك الأجنبى على مايريد علاوة على احداث البلبلة والفرقة وانشغالنا بأمور تعرقل وصولنا الى اهدافنا المنشودة " .ولكن مناشدات الزعيم ذهبت ادراج الرياح.
 
ان اغتيال ثورة 14تموز لم تكن بسبب سياسة الزعيم الوطنية بل نتيجة لمؤامرة دولية متعددة الأطراف و كانت اولى صفحاتها تأجيج الصراعات الداخلية و نأليب القوى السياسية الواحدة منها ضد الأخرى وتجنيد العناصر البعثية و القومية المتطرفة للعب دور مخلب القط و من ثم الأنقضاض على الثورة بأسناد مباشر من مخابرات الدول التى تضررت مصالحها فى الصميم نتيجة لثورة 14 تموز المجيدة ، وبخاصة بعد صدور القانون رقم 80 وتتحمل الأحزاب المتناحرة الجزء الأكبر من المسؤلية فيما حصل وبخاصة حزب البعث الفاشى بشعاراته البراقة ومزايداته الرخيصة –التى اثبت الزمن زيفها حيث كان البعثيون اول المتنكرين لها بعد وصولهم الى السلطة-- كما ان الخلاف الذى نشأ مع القيادة الكردية وما اعقبه من نزاع مسلح اسهم ايضا فى اضعاف حكومة الثورة وعوامل اخرى لا مجال للخوض فيها فى هذه العجالة..
 
كان الزعيم يريد فترة انتقال تتم فيها تهيئة الأجواء لأجراء انتخابات حرة و نزيهة ولكن الصراع الحزبى سمم الأجواء و عقدت الأمور و خلقت مشاكل لا تنتهى للزعيم واربكت جهوده وعرقلت خططه للأنتقال التدريجى الى الديمقراطية وعطلت خطط سن الدستور الدائم فى نهاية عام 1962واجراء الأنتخابات فى حزيران 1963ا وافتتاح المجلس الوطنى فى الذكرى الخامسة للثورة.
 
3-ثقافة التسامح السياسى والأجتماعى والثقافى :
 
 ان المجتمع العراقى المتعدد الأعراق والأديان والمذاهب اتسم دائما بروح التسامح القومى والدينى ولم يعرف العراقيون فى حياتهم الأجتماعية اى نوع من انواع التمايز العرقى او المذهبى ولم تحدث فى تأريخ العراق الحديث اية مشاكل طائفية خطيرة ، كما يزعم بعض الأبواق الطائفية ،  ولكن لغة الأقصاء والألغاء وردود الفعل العنيفة المتقابلة التى ظهرت خلال الصراع الحزبى بعد ثورة 14تموز المجيدة ما زالت هى السائدة فى الحياة السياسية العراقية حتى يومنا هذا لأن الأحزاب العراقية لم تستخلص الدروس والعبر من تجارب الماضى المرير ، ولم تعترف بأخطائها بشكل كامل و صريح.
 
لقد ان الأوان لنبذ ثقافة العنف والتعصب الأيديولوجى والمذهبي  وبات من الضرورى احترام الرأى الأخر واللجوء الى اسلوب الحوار لحل القضايا والمشاكل بدلا من لغة العنف التى اغرقت البلاد فى الدم وعرقلت تقدمه وسببت الكوارث والنكبات لشعبنا المثخن بالجراح وما اجدرنا اليوم ان نسترشد بوصايا الزعيم فى اشاعة روح التسامح بين العراقيين ،حيث كان لايكل ولايمل من التأكيد على ضرورة التحلى بروح التسامح بين ابناء الشعب الواحد.منذ الأيام الأولى للثورة وظل يناشد الفرقاء المتناحرين على ابداء التسامح تجاه الأخرين حتى اخر يوم من حياته ، ولم يكن مصطلح (احترام الرأى الأخر) قد شاع فى الثقافة العربية بعد،وكما هو معروف فأن هذا المفهوم هو احد الأركان الأساسية للديمقراطية الليبرالية، وبذلك يثبت التأريخ ،ان الزعيم كان اكثر ديمقراطية من الأخرين ، وقد اسىء فهمه من قبل الجميع و تعرض خلال حياته و بعد اغتياله وطوال فترة حكم العفالقة الحاقدين الى حملة تشويه واسعة و منظمة، وينبغى التأكيد هنا ان معظم - ان لم يكن كل -- ما كتب وقيل عنه وعن فترة حكمه ، انما يعكس وجهات نظر الأطراف المتصارعة .
رحل الزعيم ورحل معه اسراره واسرارالفرقاء المتناحرين و خفايا الفترة التى حكم فيها العراق.ونحن اليوم بأمس الحاجة الى اعادة النظر فى تأريخ هذه الفترة بروح موضوعية وحياد علمى والى قراءة جديدة لفكرالزعيم .
 
واننا اذ نحى اليوم ذكرى ثورة 14 تموز العظيمة ،  ننحنى اجلالاً لقائدها ، مؤسس الجمهورية العراقية ،  شهيد الوطن والشعب عبد الـكريم قاسـم .
 
جـــودت هـوشـــيار
jawhoshyar@yahoo.com


129
الجيش المصري ينتصر لأرادة الشعب

                                                                                                                    جــودت هـوشيــار
 
قال مراسل أجنبي يتابع الأحداث الساخنة في مصر ،  ان مرسي والأخوان جالسين اليوم على برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي لحظة.
أختيار  يوم 30 يونيو - لأسقاط نظام الأخوان واستعادة مباديء وقيم وروح ثورة 25 يونيو  له دلالة رمزية ويشير الى اليوم الذي انتخب فيه مرسي رئيساً للجمهورية قبل عام واحد .
 
ثورة 30 يونيو الحالية ، ثورة تصحيحية ، بعد أن أختطف الأخوان ثورة 25 يناير و لم يحققوا أياً من أهدافها المعلنة في توفير العيش الكريم والحرية والكرامة الأنسانية و حاولوا عبثاً أقصاء القوى السياسية الأخرى وفرض نظام رجعي  لا ينتمي الى هذا العصر و اسلوب حياة متخلف لا ينسجم مع طبيعة المجتمع المصري المتحضر .
ملايين المصريين وبينهم عدد هائل من النساء على غير العادة ، يملأون ميادين ارض الكنانة الرئيسية في ثورة عارمة لا تحمد عقباها اذا لم يبد الرئيس مرسي مرونة كافية لأمتصاص الغضب الشعبي و النزول على ارادة الشعب بالموافقة على أجراء انتخابات مبكرة .
 
وكالات الأنباء نقلت  اليوم تصريحا لأحد قادة الأخوان ، أعترف فيه بأن أربعة ملايين مصري قد نزلوا الى ميادين الأحتجاج فى القاهرة و المدن المصرية الأخرى ، والحقيقة ، ان أعداد المحتجين أكثر من ذلك بكثير ، وقد فاقت الأعداد التى شاركت في ثورة 25 يناير . وقالت  المعارضة المصرية ان حوالي  (33 ) مليوناً من المصريين والمصريات ً يشاركون في الثورة ضد نظام مرسي الأخواني ، وكشفت صحيفة ( الواشنطن بوست ) إن تظاهرات مصر اليوم ، هي أكبر احتجاجات شهدتها مصر على مر العصور .
 
القوة المحركة لهذه الثورة ، هي "حركة تمرد " ، المنبثقة عن حركة ( كفاية) ، التي ناضلت على مدى سنوات ضد حكم مبارك وأسهمت بدور فعال في أسقاطه ، أضافة الى عدد كبير من الأحزاب والحركات المعارضة لحكم الأخوان وفي مقدمتها "جبهة الأنقاذ الوطني " التي تضم في صفوفها معظم القوى الليبرالية في مصر .
 
مرسي – الذي يفتقر الى الخبرة والكفاءة وجد نفسه على قمة السلطة بمحض المصادفة ، ولم يكن بمستوى التحديات التي تواجه البلاد . ولم يظهر اي حنكة سياسية  أو  قدرة قيادية وفشل في أجتذاب مؤيدين له من خارج معسكر الأخوان والسلفيين .
وللوقوف على أسباب هذه الثورة العارمة ينبغي ان نتساءل مع عشرات الملايين من شعب ارض الكنانة : ما الذي تغير في مصر خلال عام من تولى مرسي والأخوان حكم مصر ؟
 
لم يكن لدى حكومة الأخوان وليس لديهم اليوم برنامج عمل واضح لأنقاذ البلاد من أزماتها الطاحنة ، وفي مقدمتها الأزمة الأقتصادية ، التي تفاقمت كثيراً مع تولي الأخوان حكم مصر منذ عام . ولندع الأرقام تتتحدث :
 وفقا للبيانات الرسمية لحكومة قنديل ، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2012 حوالي  1.5٪. والدخل السنوي للفرد 3 آلاف دولار، والتضخم  9.5٪  ومعدل البطالة، 11.5٪. ولكن الأرقام الحقيقية هي على الأرجح أعلى بمرتين على الأقل من الأرقام الرسمية المعلنة .
 في المجال السياسي لم يحقق مرسي نجاحا يذكر ، و لم تكن له  رؤية ستراتيجية  واضحة ،فقد كان دائم التردد وعدم الثقة بالنفس  ، مما ادى الى تراجع دور مصر المحوري ونفوذها في المنطقة ,  ولم يحاول قط  اجراء حوار حقيقي مع المعارضة . وبدلا من تقريب شقة الخلاف بينه وبين المعارضة ، فأنه تسبب في توسيع الهوة بينهما .
 
بدأ فصول هذا الصراع عندما أصدر مرسي ما يسمى بالأعلان الدستوري ، حيث منح لنفسه صلاحيات السلطات الثلاث التنفيذية و التشريعية والقضائية في آن واحد  ، واطلق عليه الدكتور محمد البرادعي ، لقب " فرعون مصر الجديد " وسرعان ما انتشر هذا اللقب في الفضاء الأعلامي الداخلي والخارجي . وكان هذا الأعلان الطائش سبباً رئيسياً لتعميق وتوسيع شقة الخلاف بين مرسى و الأخوان والسلفيين من جهة وبين المعارضة وجميع فئات وشرائح المجتمع المصري من جهة ثانية .
ثم فرض مرسي وجماعته على الشعب المصري دستوراً معيباُ ، كان ينظر إليه على نطاق واسع باعتباره انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.. و شرع بأخونة السلطة عبرسلسلة من التعيينات في المناصب الرئيسية في الحكومة والمؤسسات العامة الأخرى..
 
كل هذه القضايا، ادت الى اليأس والأحباط لدى غالبية الشعب المصري ، اضافة بالشعور المتزايد بفقدان الأمان الشخصي . رغم ان مرسي  كان قد تعهد  بإعادة الأمن إلى شوارع المدن المصرية وفشل في ذلك ايضاً . ومما زاد الطين بلة اختراق الجماعات الإسلامية المتطرفة للقوى الأمنية و ترويعهم  للسكان وخاصة المصريين الأقباط .
ووجدت المعارضة نفسها مضطرة الى اتخاذ قرار مواجهة مرسي بأحتجاجات حاشدة في كل محافظات مصر وميادينها الرئيسية من اقصي البلاد الى أقصاها
الجيش المصري الذي يعد القوة  الثالثة الكبرى في البلاد - وكما حدث خلال ثورة 25 يناير 2011 -   ، اعرب عن أصراره وتصميمه على عدم السماح بخروج الوضع عن السيطرة ، وأذاع بياناً ينتصر فيه لأرادة الشعب المصري  وامهل مرسي ( 48 ) ساعة للأستجابة لمطالب الشعب وبعكسه سيتولى زمام الأمور بنفسه  وفق خارطة طريق تلبي مطالب الشعب الثائر.
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

130
الرابحون والخاسرون في الحراك الأحتجاجي في تركيا ؟

                                                                                                                        جــودت هـوشــيار
مقدمة :
الأحداث الجارية في تركيا اليوم ، بالغة الأهمية ليس  بالنسبة الى تركيا فقط ، بل  ودول الشرق الأوسط والمجتمع الدولي بأسره أيضاً ، نظراُ للمكانة البارزة ، التي تحتلها تركيا ودورها المهم على الساحتين الأقليمية والدولية . وهذا يفسر ما حظي به الحراك الأحتجاجي فيها من تغطية أعلامية واسعة و ردود فعل ساخنة في شتى انحاء العالم ،  وخاصة في الدول الغربية . وتعددت وجهات النظر حول الأسباب الحقيقية لأندلاعه ، وهي في معظمها رؤى أحادية الجانب ،  تعكس آراء ورغبات الأعلاميين والمحللين السياسيين ، اكثر مما تعبر عن واقع الأزمة التركية الراهنة.
الأحتجاجات ،ضد مشروع  " تحديث ساحة تقسيم وحديقة غازي " ،  لها أسباب عديدة ولا يمكن أختزالها في سبب واحد وان كان مهما  ، مثل الدفاع عن البيئة أو محاولة أسلمة المجتمع التركي عن طريق أصدار قوانين تحد من الحرية الشخصية وتفرض على الجيل الجديد  نمطاً معيناً من أسلوب الحياة ، ومن المستبعد أن تكون لهذه  الأحتجاجات علاقة  بالدور الأقليمي المؤثر لتركيا في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في الأزمة السورية  ، حيث لم يرفع المحتجون  أي شعار له علاقة بالموقف التركي المؤيد لثورة الشعب السوري ضد النظام الأسدي .
 
شيء من التأريخ:
 
كانت ثمة في موقع ساحة " تفسيم الحالية " في ثلاثينات القرن الماضي ثكنة عسكرية لصنف المدفعية -  والتي تريد حكومة أردوغان أعادة الطابع العثماني لها ، وليس  تحويلها الى مركز تجاري كما أشيع مؤخراً - و ملعب صغير لكرة القدم  تقام عليه المباريات الرسمية .وفي زاوية من حديقة غازي  نادي (كازينو تقسيم )،  مركز الحياة الليلية في أسطنبول في الأربعينات و الخمسينات . وفي السنوات اللاحقة تمت ازالة البناية وقطع الأشجار وزراعة أشجار أخرى . وظهر بالقرب من الحديقة مجموعة من المتاجر و غالاريه فني.
 في السبعينات نظمت النقابات اليسارية و المنظمات غير الحكومية في ساحة " تقسيم "  احتفالات صاخبة لمناسبة عيد الأول من أيار. وفي عام 1977 ، ادت الأحتجاجات في الساحة وما أعقبها من فوضى الى مقتل 42 شخصاً، وقد شهدت الساحة في تلك الفترة تجمعات جماهيرية لأحزاب و حركات مختلفة من أقصى اليمين الى اقصى اليسار .
 
تويتر وفيسبوك يقودان أحتجاج الشباب التركي :
 
عندما بدأ الأحتجاج على المشروع الحكومي في حديقة " غازي " لم يشارك فيه سوى عشرات المدافعين عن البيئة ولكنه  سرعان ما تحول الى احتجاجات جماهيرية وأنتقلت شرارتها الى عدد من المدن التركية الكبرى ، بعد استخدام  الشرطة الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين واعتقال عدد كبير منهم  وحدوث بعض أعمال العنف - ومنها أقتحام بعض المتاجر و أحد المساجد القريبة من الساحة وأقامة المتاريس ومهاجمة الشرطة ( او للدفاع عن النفس لا فرق ) برمي قنابل مولوتوف والحجارة - التى تعاملت الشرطة معها  بقسوة غير مبررة .
لعبت مواقع التواصل الأجتماعي ( فيسبوك ، تويتر على وجه الخصوص )  دوراً كبيرأُ في حشد التأييد للحراك الأحتجاجي وتأمين الأتصال المستمر بين المحتجين وتغطية الأحداث المتلاحقة بسرعة فائقة عن طريق نشر التقارير الأخبارية والصور و أفلام الفيديو ، التى اعدها وارسلها المحتجون أنفسهم ، كما اهتم الأعلام الغربي عموما أهتماما شديدا بما كان يجري في ساحة تقسيم ، على خلاف وسائل الأعلام التركية بشتى توجهاتها ، التي لم تقم بتغطية كاملة للأحداث. هذا التناقض الصارخ بين اعلام الداخل والخارج أدى الى غضب الشباب وصب الزيت على النار .
 
مقارنة في غير محلها :
 
ثمة من يتحدث عن ربيع تركي على غرار الربيع العربي أو عن ( الفوضى الخلاقة ) التي قد تجتاح تركيا أيضاً .
لم تكن احتجاجات الشباب التركي  في بدايتها مسيسة ، وهي لا  تشبه  ثورات الربيع العربي بأي حال من الأحوال وساحة " تقسيم " في اسطنبول غير ساحة " التحرير " في القاهرة ، والأهم من ذلك ،  ان الجمهور مختلف والمطالب مختلفة ومقارنة أردوغان بمبارك وغيره من الحكام العرب المستبدين ، الذين أطاحت بهم الجماهير الغاضبة ، أمر يدعو الى الأستغراب .
البعض ،  تعامل مع الحراك الأحتجاجي  التركي من منطلق التشفي والشماتة ،و لم يتوان عن الكشف عن رغبته الدفينة برؤية تركيا من دون اردوغان ،  ولكن هذه  الآراء ، لا تعكس حقيقة ما يحدث في تركيا ، بل تزيد المشهد غموضاً .
 
ان مقارنة أحداث ساحة " تقسيم " في اسطنبول  بأحداث ساحة "  التحرير "  في القاهرة ، أمر ينم عن الجهل بالتأريخ التركي القريب ، ويكفي ان نقارن تطور الأحداث في كلا البلدين خلال العقدين الأخيرين ، ليتبين لنا مدى غرابة مثل هذه المزاعم .!
 
عندما فاز حزب الوطن في الأنتخابات التشريعية عام   1983وتولى زعيم الحزب الرئيس الراحل "  توركوت أوزال "   تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسته في نوفمبر عام 1983 ،  كانت الأزمة الأقتصادية وأعمال العنف  تعصف بالبلاد ، فشرع على الفور في تنفيذ خطة علمية مدروسة لأنعاش الأقتصاد و الحفاظ على أمن واستقرار البلاد واجراء أصلاحات شملت كافة جوانب الحياة ، وأدت في نهاية المطاف الى أرساء اسس الديمقراطية . وواصل أوزال تنفيذ اصلاحاته الأقتصادية و السياسية اللاحقة بعد تسنمه منصب رئيس الجمهورية في نهاية اكتوبر عام 1989 وحتى وفاته في 17 نيسان عام 1993 ، و لنجاحه الباهر في  معالجة مشاكل بلاده الأقتصادية على وجه الخصوص أطلقت عليه مجلة " Time " الأميركية اسم "السيد ...  اقتصاد " ، وكان يعتقد ان الأزدهار الأقتصادي هو السبيل الوحيد لأستقرار الأوضاع العامة في تركيا . وقد واصل أردوغان نهج أوزال في التنمية و الأقتصاد الليبرالي واجتذاب الأستثمارات الأجنبية الى البلاد . وشهدت تركيا خلال السنوات العشر الماضية نهضة أقتصادية غير مسبوقة ، وارتفع الناتج القومي الأجمالي  بمعدل سنوي لا يقل عن 5% ووصل عام 2009 الى 11% وبلغ معدل دخل الفرد أكثر من 13000 دولار سنوياً
 
أما في مصر فقد جرت الأمور على النقيض من ذلك و اتخذت الأحداث منحى آخر تماماً .
اتبعت مصر منذ نهاية السبعينات ،  نمط غير فعال من التنمية الأقتصادية أدت الى تفاقم التناقضات بين النخبة السياسية الحاكمة وبين الأغلبية الساحقة من الشعب المصري ، التي كانت وما تزال تعاني الأمرين من سؤ الأحوال المعيشية نتيجة لتردي الوضع الأقتصادي. وزيادة معدلات البطالة والفقر ، واعتماد البلاد على المساعدات الأجنبية ودخل قناة السويس وتحويلات المصريين المغتربين . ولم تعرف مصر في فترة الجمود هذه ، اية تغييرات ديمقراطية ولا أية تعددية  سياسية حقيقية  و حارب مبارك المعارضة بشتى السبل واجرى انتخابات شكلية تضمن له البقاء على سدة الحكم لفترة غير محددة ، كل هذه العوامل مجتمعة مهدت الطريق لثورة  25 يناير عام 2011 و ولا تزال مصر تعاني من أزمة أقتصادية خانقة ،
حتى ان صحيفة أجنبية قالت أن مشكلة مصر الأساسية هي كيفية توفير الخبز لملايين الجياع .
 
أين حماة البيئة في تركيا :
 
اما القول بأن الأحتجاجات التركية الحالية هي دفاع عن البيئة ، فهو بعيد عن الواقع ويقود الي استنتاجات خاطئة  ، لأن ثمة أخطار على البيئة في تركيا أكبر وأشد تأثيرا من أزالة حديقة عامة صغيرة نسبياً. ويكفي ملاحظة عوادم السيارات ، التي تخنق الأنفاس في مدينة  أسطنبول لمعرفة الوضع البيئي فيها .
حركة الدفاع عن البيئة وحمايتها في تركيا  ليست بالمستوى المنشود ولا يمكنها حشد جمهور كبير اوالقيام بأحتجاجات بهذا الحجم . حماة البيئة الحقيقيون كان  لزاما عليهم الأعتراض على خطط انشاء جسر ثالث على " البسفور " أو أنشاء مطار ثالث في الضاحية الشمالية لأسطنبول ، ولكن هذا لم يحصل .
و لأيضاح مدى تهافت ذريعة الدفاع عن حديقة " غازي " التي تضم حوالي 400 شجرة فقط  ، قال أردوغان ، أنه خلال فترة  توليه رئاسة بلدية أسطنبول في التسعينات من القرن الماضي قامت البلدية بزرع حوالي ثلاثة ملايين شجرة ، وأنه من المناصرين لحماية البيئة  ، حيث يتضمن المشروع الحكومي زرع آلاف الأشجار بدلاً من الأشجار التي ستتم أزالتها .
 
من المحتمل ان نية الحكومة أزالة حديقة "  غازي "  كانت حافزاُ لمختلف الشرائح الأجتماعية ، ليس للدفاع عن البيئة بقدر ما كانت دفاعا عن معالم اسطنبول التأريخية والسياحية ، التي تتميز بها وتعد ركناٌ من أركان هويتها . مدينة اسطنبول متحف كبير مثل مدينة روما ، والمس بأي معلم من معالمها المعمارية والفنية أو المساحات الخضراء فيها
يحدث شرخاُ في النسيج الأجتماعي والثقافي .بأعتباره انتهاكا لهويتها في المقام الأول وليس اضرارا بالبيئة فقط  .
تهميش الأحزاب الصغيرة والتضييق على حرية التعبير :
 
يتميز النظام الأنتخابي في تركيا بالصرامة وبأستحواذ الأحزاب الكبيرة على أصوات الأحزاب الصغيرة ، حيث يتعين على كل حزب كي يتمكن من دخول البرلمان أن يحصل على نسبة 10% من الأصوات العامة في البلاد، وإذا لم يتمكن من اجتياز هذه النسبة فإنه لن يستطيع إحراز أي مقعد في البرلمان ولو فاز بأغلبية الأصوات في بعض المناطق المحلية، وتوزع الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب التي لم تتمكن من اجتياز حاجز الـ10% على الأحزاب الفائزة ، التي حق لها دخول البرلمان- بحسب نسبة الأصوات التي حصل عليها كل حزب.
وقد ساهم هذا النظام المجحف في أقصاء وتهميش كثير من الأحزاب بشتى توجهاتها ،والتي لا تجد متنفساً للتعبير عن آرائها ، سوى اللجؤ الى الأحتجاجات و الأعتصامات و أستغلال كل مناسبة للتعبير عن غضبها و أستياءها ،  لحرمانها من أصوات مؤيديها و تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم في البرلمان. 
واذا أضفنا الى ذلك التضييق المتواصل على وسائل الأعلام المعارضة ، وحبس الصحفيين بسبب آرائهم وأنتقاداتهم لسياسات  الحزب الحاكم ، لأدركنا سبب تأييد هذه الأحزاب المهمشة  للحراك الأحتجاجي الشبابي الأخير في تركيا . ويلقى هذا التضييق على حرية التعبير ، انتقاداُ لاذعا من الصحافة الغربية ومنظمات الدفاع عن الصحفيين ، وحقوق الأنسان .
 
بعض آراء أردوغان المثيرة للجدل :
 
من الطريف ان نذكر هنا  بعض نصائح أردوغان للشباب ،  فقد ادلى  قبل عدة أسابيع بتصريح صحفي نصح فيه الشباب  بشرب العيران  ( airan ) التركي  أي ( الشنينة ) بدلا من البيرة ، وبرر ذلك قائلاً ، إن الشعب التركي يفضل مشروب العيران المصنوع من اللبن والخالي من الكحول كمشروب وطني" وقد كرر اردوغان هذه النصيحة خلال ندوة في اسطنبول وقال"أن جده طالب بجعل العيران المشروب الوطني في تركيا حتى يكون للامة جيل سليم صحياً" على حد قوله.
 
كما اتهم أردوغان مؤسسي الجمهورية التركية "بجعل مشروب البيرة المشروب الشعبي في تركيا". وفي هذا الصدد نقلت احدى وكالات الأنباء عن أحد المعلقين على موقع التواصل الاجتماعي " تويتر "  قوله :" لا ينقص سوى إعلاننا من الخائنين للأمة لأننا لا نشرب العيران" وقال معلق آخر "لا شك في أن مشروبنا الوطني هو العيران الذي يريدون أن نشربه لكي ننام".
 
وقد اججت تصريحات أردوغان هذه مخاوف الأوساط العلمانية  حيال رؤيته الإسلامية للمجتمع التركي. وغالباً ما تتهم الأوساط العلمانية في تركيا أردوغان وحزبه العدالة والتنمية المنبثق من التيار الإسلامي بالسعي في الخفاء إلى أسلمة المجتمع التركي الذي يتصف بالعلمانية.
 
لذا كان المحتجون  الشباب في ساحة " تقسيم " يشربون البيرة بأفراط وبشكل استعراضي متعمد مع الموسيقي الصاخبة والضجيج المتعمد في تحد واضح لنصائح أردوغان .
ولم يحرم أردوغان النساء عموما والشابات منهن على وجه الخصوص من نصائحة ، فقد أثارت تصريحاته التي تحدث فيها عن الإجهاض وعن رفضه للعملية القيصرية " سيزاريان" واعتباره الإجهاض "عملية قتل"،  جدلا واسعا في جميع الأوساط السياسية والمدنية التركية
 
وانتقدت الجمعيات النسائية بشدة نية الحكومة التركية تقديم مشروع قانون إلى البرلمان لتقليص فترة الحمل المسموح خلالها بالإجهاض  واعتبرته انتهاكا لحقوق الأفراد في بلد يأمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
. هذه الأمور ، غير السياسية  قد تبدو للبعض ،  ثانوية و لكنها جد مهمة من وجهة نظر الجيل التركي الجديد  وهي بلا أدنى شك تعد تدخلاً في الشؤون الشخصية حسب المعايير الديمقراطية الغربية و لا مبرر له في دولة مدنية ومجتمع علماني .
 
من هم المحتجون في ساحة تقسيم ؟:
 
أردوغان يتمتع بكاريزمية يفتقدها القادة الآخرون في منطقة الشرق الأوسط ، وقد واصل نهج الرئيس التركي الراحل توركوت اوزال في التنمية الأقتصادية و الأنفتاح  على العالم ، و فاز حزبه في ثلاث أنتخابات  تشريعية متتالية  ، نزيهة وشفافة بأغلبية مريحة ، لم يحصل عليها أي حزب تركي آخر منذ تأسيس الجمهورية التركية وما زال يحظى بثقة وتأييد أغلبية الشعب التركي .
ولكن من هم المحتجون ضد سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية وأردوغان شخصياً ؟
.لاحظ  مراقبون ان المتظاهرين في ساحة " تقسيم " جمهورغير متجانس وشديد التنوع ،  من الساخطين على سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية لأسباب مختلفة ، لا يجمعهم سوى الكراهية للحزب الحاكم وزعيمه أردوغان والرفض القاطع لأسلمة المجتمع التركي .
 
اردوغان وصف المحتجين ب" الفوضويين والمتطرفين " وهو وصف غير دقيق ولكن
 ليس بعيداً عن الواقع ، لأنه ينطبق على قسم لا يستهان به من المحتجين وليس كلهم .
 
باحثون من جامعة " بيلغي " الخاصة في أسطنبول قاموا بأجراء بحث ميداني حول أسباب الأحتجاج الجماهيري ، كما قاموا بأجراء استطلاع عن طريق الأنترنيت شارك فيها ثلاثة الاف متظاهر. وتبين ان معظم المحتجين هم من الجيل الجديد ، الذين ولدوا في نهاية ثمانينات واوائل تسعينات القرن العشرين ، ولا ينتمون الى أي حزب سياسى ، ولم يشاركوا في حياتهم قط  في تجمع سياسي أو أحتجاجي .وأكد حوالي 80٪ ممن تم استطلاع آرائهم  بأنهم ليبراليون أو علمانيون  .
وقال حوالي 90٪  من المتظاهرين ، أنهم  لا يؤيدون أسلوب أردوغان في الحكم ، الذي ينزع نحو الأستبداد ، على حد وصفهم ، وان الحريات الشخصية تعرضت للأنتهاك .وان الشرطة أستخدمت القوة المفرطة ضدهم. واعرب معظمهم عن الأمل بأن تثمر حركة الأحتجاج الحالية عن توقف الحكومة عن التدخل في حياتهم الخاصة.
، و وصف بعض المتظاهرين اردوغان بـ( المتكبر ). وأشار أغلبهم الى قانون تحديد بيع المشروبات الكحولية كمثال للتدخل الحكومي في الحياة الخاصة وتضييق حرية المواطنين . وهو أمر يرفضونه بشدة .
 
وجاءت نتائج البحث الميداني لتؤكد وجود جمهور غير متجانس من المحتجين ، يتكون من فئات وشرائح اجتماعية مختلفة بينهم  مثقفين علمانيين وليبراليين  ،وأعضاء في منظمات غير حكومية  و نشطاء في تنظيمات قومية ويسارية متطرفة ومن أقليات قومية ودينية . ولكل فئة من هؤلاء أسبابها الخاصة للأحتجاج :
المثقفون ( ومعظمهم من الشباب )  يرفضون ما يعتبرونه دكتاتورية أردوغان والتضييق على حرية الصحافة والقوانين التي تنتهك الحريات الشخصية .
الشابات يرفضن قانون  منع الأجهاض بعد مضي فترة محددة على الحمل  ، وفوضويون يطالبون بالحرية الشخصية غير المقيدة بالقوانين  .
احزاب المعارضة و التنظيمات المتطرفة تحاول تصعيد الموقف والأطاحة بالحكومة عن طريق الأحتجاج الجماهيري وليس الأنتخابات ، كما قال نورالدين جانيكلي  (Nurettin Canikli ) نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية .
 
( احتل حديقة غازي ) و ( انتفاضات الشباب ) في الغرب:
 
وقد سبق احتجاجات أسطنبول بأيام قليلة حادث يدل على مدي انزعاج الشباب التركي العلماني من محاولات الحزب الحاكم تقييد الحريات الشخصية .
ففي يوم السبت، 25 مايو   ورداً على مناشدة إدارة شبكة المترو في أنقرة للشباب بـ"التصرف وفقا للمعايير الأخلاقية"، تجمع 200 شاب وشابة في محطة "  كورتلوش "  و أخذ وا يتبادلون القبل علانية على مرآى الجمهور في المحطة  . وقد فرقتهم الشرطة ومضى الحادث بسلام .
لذا فأن البعض يعتبرحركة الأحتجاج في اسطنبول ، التي حملت شعار( احتل حديقة غازي ) نسخة تركية من حركة ( صيف الحب ) الهيبية التي بدأت في عام 1967 في سان فرانسيسكو عندما تدفق ما يقارب 100 ألف شخص على حي هايت-أشبوري في المدينة وطالبوا في احتجاجات حاشدة  بحريات شخصية غير مقيدة وبضمنها حرية الجنس وتناول العقارات النفسية والتعبير الأبداعي ،  ثم انتشرت الحركة في عدد من المدن الأميركية الكبرى .
أصبح(  صيف الحب )  علامة فارقة في عقد ستينات القرن العشرين مع تطور حركة الهيبيز ودخولها في الحركة الثقافية العامة.
 
 وآخرون يقارنون الأحتجاجات التركية بأحداث انتفاضة مايو١٩٦٨ الطلابية  في فرنسا ، التي انتقلت شرارتها الى العديد من دول العالم بينها  ألمانيا ، أسبانيا ، باكستان .
 
ولكن الحقيقة هي ان حركة الأحتجاج الراهنة في تركيا بحكم طبيعتها وتكوينها ، أقرب ما تكون الى حركة احتلوا وول ستريت (Occupy Wall Street) ، فالجيل الجديد -  الذي  يشكل الثقل الأكبر في هذه الأحتجاجات -  مبهور بأسلوب الحياة الغربية  و يتلهف للتحرر من القيود و التابوهات الأجتماعية.
ورغم تشدد اردوغان وعدم تراجعه عن مشروعه المثير للجدل ، الا أن مسؤولين آخرين رفيعي المستوى حاولوا تهدئة الأمور وخاصة رئيس الجمهورية عبدالله غول ،  الذي أعتذر للمحتجين ووعد بالتحقيق في بعض حوادث العنف التي رافقت الأحتجاجات .وباتت الحكومة التركية أكثر تفهماً وادراكاً لميول ومواقف المتظاهرين و أخذت تفرق بين"المتظاهرين السلميين"، وبين "المحرضين" - الذين تتمثل مهمتهم، حسب رأيها في زرع الفوضى. كما وافق اردوغان على استقبال وفد عن المحتجين للأستماع الي وجهات نظرهم و الوقوف على مطالبهم الحقيقية .
وكان الشباب قد تقدموا بشكوى الى القضاء التركي  يطالبون فيها بألغاء مشروع تحديث ساحة " تقسيم وحديقة " غازي " واثر ذلك علق اردوغان تنفيذ المشروع لحين صدور قرارمن القضاء ,
كما أظهرت الحكومة بعض المرونة وخففت من لهجتها خلال الأيام الأخيرة وباتت أكثر تفهماُ وادراكاً لميول ومواقف المتظاهرين و أخذت تفرق بين"المتظاهرين السلميين"، وبين "المحرضين" - الذين تتمثل مهمتهم، حسب رأيها في زرع الفوضى.
 
تداعيات الحراك الأحتجاجي  :
 
لا شك أن الحراك الأحتجاجي الراهن سيلقي بظلاله على الأنتخابات البرلمانية القادمة في عام 2014 .
حزب السلام والديمقراطية ( المقرب من حزب العمال الكردستاني ) لم يشترك في الأحتجاجات على نحومباشر وأتخذ  دور المراقب لسير الأحداث وأعرب عن تفهمه لمطالب المحتجين .
وبفضل تغير التركيب الديموغرافي الجاري حاليا في تركيا لصالح الكرد  و الشروع في الحل السلمي للقضية الكردية ، فأن من المرجح أن يزيد هذا الحزب من عدد مقاعده في الدورة البرلمانية القادمة .
 
الحراك الأحتجاجي جمع ووحد الشباب من ذوي الميول الليبرالية و اليسارية ، وهذا ما فشل فيه حزب المعارضة الرئيسي " الشعب الجمهوري .
في هذا الحزب ثلاثة أجنحة قوية : قومي ، يساري ، وعلوي . اذا لم ينضم جمهور " احتجاجات " غازي " الى الحزب كجناح رابع ، وقام بتشكيل حزب جديد مستقل .
فأن ذلك سيؤثر حتماً على شعبية حزب " الشعب الجمهوري "   وسيخسر المزيد من الأصوات في أية أنتخابات قادمة
.الناخبون الذين الذين يشعرون بعدم الرضى من سياسة الحزب الحاكم يمكنهم زيادة عدد الأصوات التي سيحصل عليها " حزب الحركة القومية " .
اشترك الحزب الشيوعي التركي في الأحتجاجات بفعالية وأصيب العشرات من نشطائه بجروح مختلفة ، ويلاحظ التصاعد النسبي لشعبية الحزب ، رغم أنه لم يحصل في الأنتخابات التشريعية التي جرت في عام 2011 الا على 0,14 % من الأصوات ويفسر ذلك بالموقف المبدئي للحزب من القضيتين الكردية والقبرصية ، الذي يتناقض مع المزاج الشوفييني السائد في المجتمع التركي .
وسيتضرر الحزب الحاكم  في حال فشله في معالجة الأزمة و أصراره على عدم تقديم تنازلات أومبادرات سياسية جديدة . ولكن لا يمكن لهذه الأحتجاجات أجبار  الحزب على التخلي عن السلطة ، ولن يحدث مثل هذا التغيير الدراماتيكي الا نتيجة  لأزمة أقتصادية خانقة ،  ولكن تركيا تتمتع اليوم بأقتصاد قوي وهو ثاني اسرع أقتصاد في النمو في العالم  بعد الصين .
 
 
 

131
هل انتهى زمن الصحافة الورقية ؟

          جودت هوشيار
 
1– الصحافة الورقية في أزمة  :
 
شهدت الصحافة الورقية خلال السنوات الأخيرة ازمة حقيقية ، أخذ ت تتفاقم  من سنة الى اخرى فى العديد من الدول الغربية المتقدمة نتيجة لثورة الأتصالات والمعلومات وظهور شيكة الأنترنيت . وتتمثل هذه الأزمة  فى عزوف الكثيرمن القراء عن أقتناء أو مطالعة الصحف الورقية و نشؤ جيل جديد لم يعد يتعامل مع الورق ، و في تغيّر أنماط الأهتمام والقراءة لدى مجتمع المعرفة ، وشيوع  ثقافة الحصول المجاني على المعلومة. كل هذا أدى الى التراجع المتواصل لمبيعات الصحف الورقية وانخفاض عائداتها من الأعلانات، التي تتحرك بسرعة صوب شبكة الإنترنت .
 
 وقد لجأت مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت الى تقليص أرقام  توزيعها و الغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها ،  بينها صحف ، واسعة الأنتشارمثل " شيـكاغـو تـربيـون "   ، " بـوسـطن غـلوب "  و " انجلوس تايمز " ، و حتى المجلة الأوسع أنتشاراً فى العالم وهى مجلة " تايم " الأميركية الشهيرة .
 
. و ثمة صحف اخرى ، تحولت الى صحف رقمية ، مثل " كريستيان ساينس مونيتور" التى الغت طبعتها الورقية منذ العام 2008 واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الأنترنيت  .
  و اعلنت مجلة "  نيوزيك "  الأسبوعية الأميركية الشهيرة توقف نسختها الورقية عن الصدور منذ نهاية العام الماضي و اقتصارها على نسختها الألكترونية التى حملت عنوان " نيوزويك غلوبال " من بداية العام الحالي . . كما توقفت مجلة " يو أس نيوز أند ريبورت " وهى الثالثة الأوسع أنتشاراً فى أميركا فى تشرين الثانى من العام 2010 ،  اضافة الى المئات من الصحف المحلية الأميركية، التى اختفت عن الوجود نهائياً. وتشير الأحصاءات الى ان عدد الوظائف في الصحافة الورقية الأميركية قد تقلص بحوالي 30% منذ عام 2008  ومن المتوقع ان تستمر هذه العملية بوتائر أسرع فى المستقبل المنظور .
 
و لم تقتصر الأزمة على الولايات المتحدة ، ففى بريطانيا تم إغلاق صحيفة «ذي لندن بيبير» بعد الإعلان عن إغلاق أكثر من مائة صحيفة محلية  لفشلها في التكيّف مع ظروف المنافسة الحادة مع الإعلام الإلكتروني. ويبدو ان صحيفة "  الغارديان "  اليومية ، واسعة الأنتشار  على وشك ايقاف القطاع المطبوع من الصحيفة و ملحقها الأسبوعى"  الأوبزيرفر "  نظرا لتكبد هذا القطاع خسارة تقدر بحوالى 44 مليون دولار سنويا .
وقد رضخت ثلاث صحف تقليدية كبرى في لندن الى أن تعتمد مقاسات أصغر لصحفها، تنافسا مع باقي الصحف الأخرى التي اعتمدت مقياس أقرب إلى مقاييس صحف التابلويد النصفية، كما أضطرت هذه الصحف إلى أن تعيد النظر في تبويباتها الصحافية لتواكب احتياجات سوق الجمهور من القراء
و في فرنسا  توقفت جريدة ' فرانس سوار' عن الصدور منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بنسخة  على 'الويب ،  وكانت الى عهد قريب مؤسسة إعلامية مرموقة ، عمل فيها مجموعة كبيرة من الإعلاميين على مستوى العالم
وفى اسرائيل توقفت صحيفة " معاريف " عن توزيع طبعتها الورقية فى الثالث من ايلول العام  الماضى مع استمرار نسختها الألكترونية على شبكة الأنترنيت .
 
و أزمة الطباعة و النشر شاملة و لا تقتصر على نوع محدد من المطبوعات الدورية . فقد أضطرت أشهر موسوعة عالمية وهى " الموسوعة البريطانية "  الى  التوقف عن نشر نسختها المطبوعة و الأقتصار على نسختها الألكترونية . كما تراجعت أرقام مبيعات الكتب الورقية ، فى حين أن الكتب الألكترونية تلقى رواجاً كبيراً وهذا يدل على التحول السريع والواسع من  النشر الورقى الى النشر الألكتلروني .
 
وقد أتخذ هذا التحول اشكالا عديدة فهنالك صحف الكترونية تعد نسخة كاملة  موازية لطبعاتها الورقية و أخرى يقتصر النشر الألكتروني فيها على أجزاء مختارة من المحتوى . ولكن معظم الصحف الألكترونية ليس لها نسخ ورقية رديفة  ويقتصر على النشر الألكتروني وحسب .
ويرى الملياردير روبرت موردوك ، الذي يملك أكبر امبراطورية اعلامية في العالم - ان صح التعبير - أن كثيرا من الصحف الحالية في المملكة المتحدة ستلاشى في القريب العاجل، ولن يتحمل سوق الصحف أكثر من صحيفة واحدة في كل سوق صحافية. وقد بينت الأحصائيات والأستبيانات الأخيرة صحة ما ذهب اليه موردوك. 
 
و على النقيض من الدول الغربية ، فأن الصحافة الورقية  في البلدان النامية تشهد طفرة حقيقية ففي أفريقيا، ارتفع توزيعها  بنسبة 14.2٪، وفي أمريكا الجنوبية وآسيا لأكثر من 16٪.خلال السنوات الثلاث الأخيرة .
 
 ويرجع السبب فى ذلك الى محدودية أنتشار الأنترنيت فيها ، و يتوقع ان يتوقف هذا الأزدهار ويتراجع عندما يتم أستخدام الأنترنيت على نطاق واسع في العالم النامي .
ويبلغ عدد قراء الصحف الورقية في العالم حالياً نحو 1,7 مليار شخص . ولكن في مقابل هؤلاء فإن هناك حوالي 2.5 مليار من البشر يتعاملون مع الإنترنت وصحافته الإلكترونية، التي تكتسب  مزيدا من  الجمهور القاريء بمضي الزمن .
 
ان هذه الأزمة تطرح قضية  في غاية الأهمية وهي مدى قدرة الصحافة الورقية على التكيّف  والتعايش مع التطورات المتسارعة في  ثورة ألأتصالات و المعلومات وأنعكاسات الأخيرة على ممارسات العمل الصحفي .
 
2 - عادات القراءة الجديدة :
 
يعتقد البعض ان ما يحدث للصحافة الورقية من تراجع وأنحسار ،  ليس بمعزل عن الأزمة المالية العالمية الحالية ، التي قد تكون مؤقتة وعابرة  ، ولكن التحدى الحقيقى المتواصل  ، الذى تواجهه الصحافة المطبوعة في العصر الرقمي ،  هو التغييرات الجذرية في عادات القراءة وأذواق الأجيال الجديدة ، التي تتوجه بقوة صوب الصحافة الإلكترونية ، حيث ان الكثير من القراء ، الذين كانوا يواظبون على قراءة صحفهم المفضلة مع قهوة الصباح ، تحولوا الى استخدام  شبكة الأنترنيت لمتابعة الأخبار اليومية و معرفة أحدث المعلومات من مصادر متعددة ، وخاصة فى مواقع التواصل الأجتماعى والمنتديات .
 
الجيل الجديد فى عالم اليوم  يريد الحصول على الأخبار بسرعة ، كما يأكل فى مطاعم " الفاست فوود " . وهذا التحول فى عادات القراءة تشكل جوهر الأزمة التى تعانى منها الصحافة الورقية فى العالم .
ان تصفح الصحف الألكترونية  أقل تكلفة ،والوصول إليها أسهل بكثير من الصحف الورقية .بإمكانك أن تتصفح ما تشاء من صحف العالم  سواء كنت في بيتك تحتسي قهوة الصباح أو في مكان عملك أو أي مكان آخر تتوفر فيه خدمة الأنترنيت.

معظم المتصفحين من الفئة الشبابية  ، لا يهتمون كثيراً بالمقالات الجادة والتقارير المطولة ولا بتفاصيل الأخبار ، بل يلقون نظرة عابرة على العناوين فى الصفحة الأولى . وهذه حقيقة ادركها فتى انجليزى فى السابعة عشرة من العمر يدعى "  " نك دي اليوزي "  ،الذى وضع برنامجاً لتلخيص الأخبار وتحول الى مليونير في فترة وجيزة .
التطبيق الجديد يقوم بتحليل الخبر ومن ثم تحويله الى نص مكون من 400 حرف ، بحيث يحصل المستخدم على الخلاصة المفيدة من الخبر. وحسب قناة "بي بي سي" يشير " نك " إلى أنه وجد أن قراءة التقارير الإخبارية المطولة على شاشة الهاتف الذكي الصغيرة أمر غير مريح، من هنا قام ببرمجة هذ التطبيق.
 
3 – صحافة تفاعلية جديدة
 
كتب احد أبرز المدافعين عن الصحافة الورقية في العالم العربي  وهو الصحفي المعروف الأستاذ عبد الرحمان الراشد مقالا في جريدة الشرق الأوسط يقول فيها :
" هل سيصبح مصير الصحف الورقية مثل مصير الحمير والبغال والخيول في زمن ظهور السيارة؟ هل فعلا حان موعد تفكيك المؤسسات الصحافية والانتقال إلى الوسيلة الجديدة، المواقع الإلكترونية؟ رغم احتفاء الزميلات من المواقع الإلكترونية بأنباء وفيات الصحف المنتشرة في أنحاء العالم، كما لو أن وباء قد أصابها، فإنها قراءة خاطئة في نظري، وستثبت الأيام أن الصحف الورقية باقية لكن بلا ورق. وهنا يقع خلط، وربما تدليس متعمد، بإضافة كلمة الورقية إلى الصحف. فالصحيفة شكلا ورقية لكنها في واقع الأمر محتوى، أي الأخبار والآراء، أي المنتج المكتوب سواء كان على ورق أو جدران، كما كان يفعل الصينيون في الماضي، حيث تعلق ورقة على لوح في الحي ليصطف الناس في طابور لقراءتها بسبب نقص الورق وكثافة السكان، أو مثل الصحيفة اليوم من خلال الصفحات الإلكترونية. ( لن تموت الصحافة .. عبدالرحمن الراشد ، جريدة الشرق الأوسط ، العدد 11509 الصادر في 2  يونيو  2010 )
هذا الرأي – رغم احترامنا للكاتب – غير صحيح ، لأن الصحافة الألكترونية تختلف عن الورقية ليس فقط من حيث الوسيلة المستخدمة لتقديم المادة الصحفية او للقراءة ، بل من حيث المحتوى أيضاً ، فالصحافة الألكترونية لا تقتصر على المنتج المكتوب ، بل قدمت  انواع جديدة من طرق عرض الخبر مثل الفيديوهات ، التى تنقل القارئ مباشرة الى موقع الحدث بالصوت والصورة في الوقت الذي تكون فيه الصحيفة الورقية مضطرة لانتظار 24 ساعة لطبع الخبر وقد تكون أحداث أخرى قد جرت بعد ذلك، وبهذا تكون الصحف الورقية قد فقدت اهم عنصر من عناصر النجاح وهو ما يسمى بـ( السبق الصحفي ).
ولعل ابلغ دليل على قدرة الصحافة الألكترونية على نشر الأخبار بشكل فورى وعلى أوسع نطاق الى جميع أنحاء العالم ، هو ان الرئيس الأميركي باراك أوباما اختار موقع " تويتر " ليشكر مؤيديه بعد فوزه بولاية ثانية ليكون أول رئيس أمريكي يعلن فوزه في تأريخ سباق رئاسة الولايات المتحدة عبر موقع للتواصل الاجتماعي. وقال اوباما عبر تغريده على موقعه في "تويتر", "شكرا لكم.. لقد حدث هذا بسببكم".
 
لا تستطيع الصحف الورقية مجاراة الصحف الألكترونية كوسيط نقل جديد للمعلومة والإعلان.والتنافس مع مواقع التواصل الأجتماعي على الأنترنيت - التي تجتذب مئات الملايين من المتصفحين  مثل " التويتر " ، " الفيسبوك " و غيرهما -  فى سرعة نشر الخبر للقارىء وقت حدوثه و تحديثه لحظة بلحظة ، في زمن يتقادم فيه الخبر بسرعة بالغة ، واتاحة المجال للقراء للمشاركة فى تحريرها والتعبير عن آرائهم و مناقشتها مع قراء آخرين  بكل حرية على نحو لم يسبق له مثيل 
.
كل ما تقدمه الصحافة الورقية  من محتوى مرة فى اليوم او الأسبوع ، تقدمه الصحف الرقمية مجانا و فورا بكل سهولة . ولعل فوز الصحيفة الإلكترونية " هفنجتون بوست "  بجائزة بوليتزر للصحافة لعام 2012 بعد أن تخطّت صحفاً عريقة لتنال الجائزة الأهم في الإعلام الأمريكي ، هو أعتراف صريح بالتفوق الرقمي على الورقي التقليدي .
 
و لا يقتصر الأختلاف بين الصحافتين  على سرعة النشر والوسيلة المستخدمة لنقل المحتوى   كما يظن البعض ،  فالصحافة الرقمية تقدم خدمات اعلامية كثيرة تعجزعنها الورقية  منها الندوات وبرامج المحادثة ( الشات ) و شريط الأخبار المتحرك ، اضافة الى عدم وجود محددات لحجم المواد المنشورة  وزمن العرض . وعلى خلاف الصحافة الورقية فأن الصحيفة الألكترونية بأمكانها تقديم المعلومة الجديدة بالحجم الكامل في أي وقت . كما تسمح شبكة الأنترنيت بتراكم المعلومات وحفظها و أرشفتها . و بدلا من ايراد مقتطفات من المصادر ، فأن النشر الألكتروني يسمح للكاتب بوضع روابط لمصادر ومراجع المادة المنشورة سواء اكانت مقالة او دراسة او حتى كتابا كاملا . .و بذلك يقتصد الباحث او الكاتب  كثيرأ في حجم البحث أو الدراسة
وثمة امكانيات فنية اخرى للصحف الألكترونية منها خدمة الأنتقال الي الأذاعات و القنوات الفضائية ، و خدمات ( التعليقات ، الردود الآنية ، ألربط بالمواقع الأخرى والأحصائيات الخاصة بالموقع الألكتروني (عدد القراءات لكل مادة صحفية  وتوزيع القراء  حسب البلدان و الفئات العمرية والتحصيل العلمي وغيرها من البيانات ) ، التي تتيح للصحيفة الألكترونية معرفة مواطن القوة و الضعف في عملها من اجل التطوير اللاحق .
 
4–  مستقبل الصحافة الورقية  :
 
يتبنى خبراء الأعلام رؤية متشائمة لمستقبل الصحف والمجلات المطبوعة . ويرى عملاق الصحافة روبيرت  مردوك أن الصحافة  الورقية سوف تخنفي بحلول عام 2020
ويقول  مؤلف كتاب " النهاية الحتمية للأعلام الورقى " فيليب ماييرز ان آخر مطبوع ورقى سيصدر  فى عام 2043.
كما تشير الدراسات الخاصة بمستقبل الصحافة الورقية  إلى أن الصحافيين أنفسهم يعتقدون أن أنها ستكون أقل أهمية في الحياة العامة في السنوات القادمة. 
 
ولكننا نعتقد ان تزايد قوة وفاعلية الصخافة الألكترونية ، لا يعني بأي حال من الأحوال انقراض الصحافة الورقية المطبوعة في المستقبل المنظور ، فما يحدث غالباً أن الوسائط الأكثر الحداثة، لا تؤدي بالضرورة إلى انقراض الوسائل القديمة  . فالصحافة الرقمية لا تلغي دور الصحافة الورقية وأنهما يمكن ان يتعايشا مع بعضهما البعض، خاصة وان لكل منهما قارئه الخاص به ومصدره في إستقاء الاخبار.
 ومن متابعتنا  للصحافة الرقمية وجدنا أن الجزء الأكبرمن محتواها ، سطحي ،  مما يؤدي الى قمع حب الأستطلاع الذهنى لدى الشباب ، لأنهم يسبحون على سطح بحر المعلومات من دون نزول الى الأعماق ، حيث المعرفة الحقيقية .أما قارىء الصحف الورقية فهو يبحث عن المعلومات المعمقة والتفاصيل الدقيقة وكل ما ينمي  تفكيره ويثري ثقافته
 
لم ينته بعد ، زمن الصحف الورقية في العصر الحاضر ولن ينتهي قريباً كما يزعم المتشائمون ،  ولكن على الصحف تأهيل نفسها للعصر الرقمي و الأطلالة على العالم  بنسخ إلكترونيه لها على الأنترنت ، لأن المواقع الالكترونية هي نافذة الصحافة الورقية للقراء . و ثمة مفارقة بالغة الدلالة على حيوية الصحف الورقية وهي ان كثيراً من الصحف التي بدأت بداية إلكترونية فقط، توجهت بعد ذلك إلى الطباعة الورقية ، ويبدو ان العلاقة المتبادلة  بين الوسيلتين الورقية والرقمية ماضية الى مزيد من التجسير والتكامل رغم المنافسة الشديدة القائمة حاليا بينهما.
 
وتجربة موقع " ويكليكس " وهو  احد اشهر المواقع الألكترونية العالمية دليل آخر على ان الصحافة الورقية ما زالت مؤثرة جدا ، رغم كل ما يقال عن سطوة الأنترنيت ومواقع التواصل الأجتماعي على وجه الخصوص ، فالوثائق السرية التي نشرها الموقع المذكور اتسع تأثيره كثيراً ، بعد لجؤ صاحب الموقع " جوليان أسانج " إلى كبريات المؤسسات الصحفية في جميع دول العالم لنشر ما بحوزته من وثائق في صحفها المطبوعة بشكل ورقي لاسيما في بريطانيا  ، وقد احدث هذا النشر  ضجة كبرى اهتزت لها الحكومات في شتى انحاء العالم  وبخاصة الفاسدة منها. وهذا دليل آخر على أن الصحافة الرقمية لن تكون بديلا عن الصحافة الورقية في المستقبل المنظور على الأقل ، وان الوقت ما يزال مبكرأ للحديث عن اختفاء الصحف المطبوعة قريبا.
 
الصحافة المطبوعة ما زالت  رائجة في الكثير من دول العالم وفي مقدمتها دول العالم النامي.
 
وتبقى مسألة جوهرية في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بأي حال من الأحوال ، وهي ان الصحافة الألكترونية تفتقر الى الديمومة التى تتصف بها المطبوعات الورقية. وان معظم مانعرفه عن ماضى البشرية مدون بطرق مختلفة على الأشياء المادية : ألواح الطين  ، أوراق البردى ، الأحجار،  الجلود ، ثم الورق و لولا هذا التدوين لضاع تأريخ البشرية و لم يكن بوسع العلماء تفكيك طلاسم اللغات القديمة المندثرة . و الأسوأ من ذلك ان التراث الرقمى – ان صح التعبير -  يمكن تغييره او تحريفه بسهولة ، خلافا للآثار المادية للتأريخ .و ثمة امكانية للوقوف على أي تغيير أو تحوير أو تشويه في الآثار المكتوبة ومنها المطبوعة ، أما في النصوص الألكترونية فلا يمكن اكتشاف ذلك أبدا.
الصحافة الورقية عصية على الموت ، ولا يزال هناك عدد غفير من  الناس وبضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين ،  الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة و القلم ولا يمكنهم الأستغناء عن الصحافة المطبوعة و النشر الورقي طيلة حياتهم  ، أضافة الى مئات الملايين من القراء الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمي ولا يتعاملون الا مع الورق .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


132
الكتابـة اليـدوية في طريقـها الى الـزوال  ؟

                                                                                                                     جـــودت هوشـيار
 
وسائل الأتصال الرقمية ، أزاحت الكتابة اليدوية جانباً. وكل من يتعامل مع المعلومات و يستخدم هذه الوسائل في عمله او حياته اليومية ، لم يعد بحاجة الى الكتابة اليدوية الا نادرًا وعند الضرورة  فقط ،  مثل كتابة المذكرات اليومية أو بضعة أسطر في دفتر الملاحظات أوالتوقيع على مستند أو صك أو صورة أو كتابة هوامش وملاحظات على كتاب خلال قراءته ، وهي عادة متأصلة عند العديد من المفكرين و الكتّاب.
فقد حل الكومبيوتر محل الأوراق الرسمية في أعمال الحكومة ، وفي كل مجالات الحياة تقريبا في العديد من المجتمعات الغربية المتقدمة ، وثمة اليوم في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية  مؤسسات ودوائر رسمية ومنظات غير حكومية ، ومعاهد ومدارس لا يستخدم فيها القلم والورق للكتابة اليدوية على الأطلاق .
 
و لكن هل الكتابة اليدوية امر مهم حقاً في حياتنا ؟
 ، وهل هي ضرورية للبشر عموماً والمبدعين من الكتاب والشعراء و الباحثين على وجه الخصوص ؟
 وهل يشكل أختفاؤها التدريجي ضياع نوع حميم من التواصل الأنساني عبر الرسائل المتبادلة بين الأقارب و الأصدقاء و المعارف ولمتعة لا تعوض  للمحبين ، ولمعارف قد يطويها النسيان ؟
 
ففي نهاية المطاف كل شيء يتغير في الحياة ويتطور بمضي الزمن  . هل يتحسر أحد اليوم على أختفاء طرق الكتابة القديمة على ألواح الطين ، واوراق البردي ، والجلود ، و التقش على الصخور أو يتحسر على أنتفاء الحاجة الى الفاكس او الأسطوانات الموسيقية ؟
 حقا ان المهم هو المحتوى وليس الوسيلة  ، و ما هو مكتوب باليد ليس سهلا ارساله أو خزنه . واضافة الى ذلك فأن الكتابة اليدوية ليست سهلة . و لكن من المبكر اليوم ،  القول بأن الكتابة اليدوية في طريقها الى الزوال .
صحيح ان الأجهزة الرقمية الحديثة تساعدنا على مواكبة العصر ، وأنجاز الأعمال على نحو أسرع ،  ولكن الجري وراء السرعة يفقدنا بعض ما هو جميل ورائع في حياتنا .!
 
حتى الماضي القريب ، كانت الكتابة باليد تعد تطويرا للذات و مفتاحاً لفهم الآخرين و الدخول الى عوالهم .
كان البعض يعتقد أن الكتابة اليدوية الجميلة و الصحيحة عامل مساعد للتقدم الوظيفي ، والنجاح في الحياة . مثل هذه الأفكار قد تبدو اليوم عتيقة لمن أعتاد على أستخدام الكومبيوتر والهواتف الذكية في الكتابة و تبادل الرسائل و الملفات و الصور ، ولكن التجارب العلمية أثبتت أن للكتابة اليدوية مميزات لا تتوفر في الكتابة الرقمية .
 
يقول العلماء أن الكتابة اليدوية ، كما الرسم ، يسهم في تطوير القدرة العقلية لأنها  مرتبطة بالدماغ ، أما الدق على لوحة المفاتيح فهي عملية سلبية ، بمعنى أنه لا ينشط التفكير الأبداعي ، لأن الأصابع تتحرك على لوحة المفاتيح بشكل عشوائي بلا أيقاع  والدماغ يتلقى فقط الضوضاء الذي يمنع التفكير . .. الكتابة اليدوية أبطأ وتتناسب تماماً مع سرعة التفكير وضرورية للتعلم ، لأنها تتيح للأنسان معرفة أعمق وأكثر رسوخا .
 
وأثبتت التجربة التي قام بها فريق بحث "فيلاي" في مرسيليا انه يتم تنشيط أجزاء مختلفة من الدماغ عندما نقرأ حروفا تعلمناها من خلال الكتابة بخط اليد ، عن تلك التي يتم تفعيلها عندما نتعرف على حروف تعلمناها من خلال كتابتها بواسطة لوحة المفاتيح. عند الكتابة باليد، تترك الحركات المعنية ذاكرة حركية في الجزء الحسي الحركي من الدماغ ، الذي يساعدنا على التعرف على الحروف. وهذا يعني وجود علاقة بين القراءة والكتابة، ويؤكد فريق البحث، أن النظام الحسي الحركي يلعب دورا في عملية التعرف البصري في أثناء القراءة .
 
و جاء في بحث علمي أنجز عام 1989 في جامعة " فرجينيا " ان بعض المدارس الأميركية قامت بمحاولة تحسين الخط الرديء لعدد من طلابها و نجحت في ذلك ، وهذا التحسن أدى في الوقت نفسه الى تعزيز عملية التعلم ، وقدرة الطلاب على القراءة الصحيحة ، وتشكيل العبارات ، والجمل و تذكر النصوص بشكل أفضل .
الكتابة اليدوية منذ الصغر تسهم في تشكيل الطبع الأنساني ، وتطوّر قدرات الأنسان  . والخط اليدوي ينم عن شخصية كاتبه ومن الصعب ، ان لم يكن من المستحيل تغييره لأنه ميزة فردية ، تماثل تماما الميزة الفردية لبصمات الأصابع .
الكتابة هندسة الروح ، ونظافة الكتابة من نظافة الروح .
الخط الجميل سمة للأنسان الواثق من نفسه و بفقدانه نفقد كل روعة و جمال الأحرف التى تشكل الجزء الأهم من تراث الشعوب .
 
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
 
 


133
اشـكالية العـلاقـة بين الأخـلاق و السـياسـة

                                               
جـــودت هـوشــيار
تلاميذ ماكيافيلي
 
لا يعرف الساسة الجدد الذين ظهروا على المسرح السياسي العراقي في السنوات الأخيرة  تعريفا لمفهوم السياسة  أفضل من قول بعضهم ، انها ( مصالح ) و هو تعريف مبتسر و مخل على غرار ( ولا تقربوا الصلاة ) . و يبدو انهم يقصدون بذلك مصالحهم الشخصية أو مصالح فئة أو جماعة سياسية  وليس مصالح البلاد العليا . و يقول بعضهم الآخر أنها ( فن الممكن ) و هم لا يقصدون بذلك اختيار البديل العملي الممكن من بين بدائل عديدة في اتخاذ  القرار ، بل ما يمكنهم الحصول عليه من منفعة شخصية و أمتيازات بأستغلال مواقعهم  في السلطة، بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة من قبلهم لتحقيق أهدافهم ، و هم يطبقون عن وعي او بالفطرة تعاليم نيكولو ماكيافيلي  Niccolo Machiavelli (  1469 – 1527) الواردة في كتابه الشهير " الأمير "  حول التحلل من الضوابط الأخلاقية واباحة كل الطرق والوسائل لتحقيق المصالح و الغايات السياسية  .
 
ما الأخلاق ؟
 
الأخلاق شكل من أشكال الوعي الأجتماعي و تطبيقاته على أرض الواقع ، و التي تعكس نوعا من السلوك البشري الضروري اجتماعيا .وعلى خلاف المعايير القانونية التي يجري تنفيذها ومراقبتها من قبل مؤسسات الدولة المختصة .، فأن الأخلاق تستند الى مجموعة القيم والمثل  والفضائل الدينية والتقاليد و الأعراف السائدة في المجتمع .
الأخلاق تتجسد وتجد تعبيراً لها في السلوك البشري ضمن نطاق الأسرة و الجماعة و تجاه المجتمع و أجهزة السلطة... الخ . القيم الأخلاقية تتغيّر بمضي الزمن و تختلف من شريحة اجتماعية الى اخرى ومن شعب الى آخر .
المسائل الرئيسية في الأخلاق هي : ما السلوك الجيد ؟  وما العادات الحسنة ؟ وما الأعمال المقبولة ؟ وما الذي يمكننا اعتباره لائقا و مقبولاً في نظر المجتمع ؟ .
 
الأخلاق جزء لا يتجزأ من الرؤية الذاتية للأنسان  والتي تحدد له الى حد كبيرصورة العالم الأجتماعية- السياسية . و بما أن السياسة هي واحدة من أهم مجالات النشاط الأنساني ، فأنها لا يمكن ان تكون منفصلة عن الأخلاق .
 
القيم و المعايير الأخلاقية ذات العلاقة بعالم السياسة ومؤسساتها و علاقاتها ، والسلوك السائد في هذا المجتمع او ذاك ، تشكل مجتمعة  الأخلاق السياسية المستخدمة لتقييم النهج السياسي للنظام الحاكم و النشاط السياسي للأحزاب و المنظمات و الأفراد .
 
الأخلاق يحد الأنسان من السلوك المتطرف و يساعد على حل التناقضات بين الفرد والمجتمع. .
في العصور القديمة كانت المجتمعات البدائية تنظم العلاقات  المتبادلة بين أفرادها عن طريق العادات والتقاليد والمحرمات ومؤسسات الرقابة الأجتماعية مثل الأسرة .
ومع ظهور المجتمعات المعقدة و الضعف التدريجي للأشكال التقليدية للرقابة الأجتماعية  ازداد دور المؤسست السياسية،  التي اصبحت تقوم بالوظيفة الأساسية للتنظيم السلطوي وتطوير المجتمع . اما الأخلاق فأنها  باتت تحدد معايير السلوك البشري. كما أنها ( الأخلاق )  ،  تحدد أيضاً سمة العمل السياسي و تؤثر في تنفيذه .
الأخلاق تشكل قيدا على حرية العمل السياسي غير المنضبط  أوالمنفلت  ، لذا يسعى الساسة غالباً الى التحرر منها .
 
 ما الذي يجمع بين الأخلاق و السياسة ؟ ان ما يجمعهما هو انهما كانتا من اولى  أدوات تنظيم الحياة الأجتماعية  و مجال الأختيار السوسيولوجي .لذا فأنهما  تتسمان بالديناميكية والتغير وتنظمان سلوك الناس .
 
الأخلاق قيم و ضرورات معنوية و تتسم بالمثالية ولكنها تستخدم في تقييم  سلوك الأفراد الناجم عن دوافع ذاتية ، في حين ان السياسة واقعية و ذات اهداف معينة و تسعي لتحقيق نتائج محددة . ومن اهم خصائص السياسة انها تستند الى القوة و تستخدم شتى الضوابط القسرية لتنفيذ ما هو مطلوب  وتلجأ الى  العقوبات عند الضرورة ، في حين ان  الأخلاق تستند الى تأنيب الضمير بشكل اساسي .
 
الأخلاق في جزء كبير منه مناقض للعنف فالتقاليد الهندوسية – البوذية ترتكز على مباديء اللاعنف  ، و لكن القول ان الأخلاق عموما مناهض للعنف زعم مبالغ فيه ، حيث ان حروب الدفاع عن الوطن وحركات التحرر من الأستعمار اوالأحتلال مثلاً عادلة ومشروعة .
ان القانون الجنائي في كل بلد من بلدان العالم يجسّد وحدة شكلية للرؤية القانونية و الاخلاقية للمجتمع
و اخيرا توجد معايير اخلاقية مقبولة في  مجتمعات محددة و التي تبرر استخدام العنف بشكل محدود مثال تقاليد المبادرزة للدفاع عن الشرف في المجتمعات الأوروبية .
 
المقاربات الثلاث للعلاقة بين الأخلاق والسياسة :
 
ثمة ثلاث مقاربات للعلاقة المتبادلة بين السياسة و الاخلاق :

 
المقاربة الأخلاقية : بمعنى ، ان لا تقتصر السياسة على كونها ذات أهداف سامية فقط مثل الصالح العام و العدالة ،  ولكن عليها  ايضا ان لا تنتهك تحت اي ظرف المباديء الأخلاقية (.النزاهة و المصداقية والأخلاص  )  و أن تستخدم  الوسائل المقبولة اخلاقيا فقط لتحقيق تلك الأهداف .والسياسة الأخلاقية أو الأخلاق في السياسة ، تتجلى في ما يلي :
 
1- ان يهدف السياسي في نشاطه العملي لتحقيق مصالح المجتمع ، وليس أنتزاع
السلطة والأحتفاظ بها من اجل مصالح ذاتية ضيقة .
 
2- مراعاة السلطة للتوازن بين ما يمكن القيام به من اجل الصالح العام ( حسب رأيها) وبين حقوق الأنسان ، التي أقرتها المواثيق والعهود الدولية  الصادرة عن الأمم المتحدة  .وهذا التوازن يجسد جوهر العلاقة بين السلطة وحقوق الأنسان ، فهو يميل الى السلطة في الأنظمة الأستبدادية والى حقوق الأفراد في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية .
 
3 – السياسة الأخلاقية لا تلجأ الى استخدام العنف ، الا  في حالة الضرورة القصوى ، وبالحد الأدنى .
 
تتميز السلطة المتحضرة في الدولة المدنية عن السلطة في الأنظمة الأستبدادية بألتزام أشد بالمعاييرالأخلاقية وضمان أكبر للحريات العامة و الخاصة .
 
في الأنظمة الديمقراطية ثمة فصل بين السلطات الثلاث التنفيذية و التشريعية و القضائية .
في مثل هذه الأنظمة لا تكون السلطة تعبيرا عن ارادة الحاكم وحده و لا توجد شخصنة للسلطة .والحاكم في مثل هذه الأنظمة موظف عام كأي موظف آخر ولكن أعلى مرتبة وله مهام و صلاحيات و مسؤوليات أكبر وأهم ، ويخدم لمدة محددة  ويتولى السلطة او يغادرها حسب ما تسفر عنه نتائج الأنتخابات التشريعية .
 
السلطة المتحضرة تكون مقيدة بالدستور والقوانين التي تضمن حقوق المواطنين ، بما يحقق الأنسجام بين الأخلاق والسياسة وبين الفرد والدولة .
 
المقاربة اللا أخلاقية : ويقصد بها  تجاهل القيم الأخلاقية في السياسة ،أو بتعبير آخر ، ممارسة  السياسة منزوعة الأخلاق . وكان " ماكيافيلي " أول من حدد ووصف ،  طرق ووسائل تشكيل السلطة القوية للدولة أستناداً الى مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة "مهما كانت هذه الوسيلة لا أخلاقية ولا أنسانية.
 ماكيافلي ، معلم الطغاة ، وليس من قبيل المصادفة أن " الأمير " كان الكتاب المفضل لدى جوزيف ستالين ( 1878 – 1953 )  وأدولف هتلر ( 1889- 1945 ) وبينيتو موسوليني ( 1882 – 1945 ) وصدام حسين ( 1937 – 2006 )  . ان وصايا ماكيافيلي حول قواعد الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها عن طريق القوة الغاشمة وقمع المعارضة  وأنشاء نظام أستبدادي ،لا تؤدي الا الى خراب المجتمع وأشاعة الظلم وامتهان الكرامة الأنسانية  واشعال نيران الحروب والى قلب القيم والمثل والفضائل . يقول المفكر عبدالرحمن  الكواكبي ( 1849 – 1902)  في كتابه الخالد " طبائع الأستبداد ومصارع الأستعباد"  : " أن الاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها.. هو يقلب القيم الأخلاقية رأساً على عقب ليغدو طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. ويصبح تسمية النصح فضولاً والغيرة عداوة والشهامة عتواً والحمية حماقة والرحمة مرضاً، وأيضاً يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطف والنذالة دماثة، وأنه أي الاستبداد، يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح ".
 
المقاربة المعتدلة : و هذا النهج هو الغالب لدى كثير من القادة و الساسة الأخلاقيين ، الذين تعتز بهم شعوبهم  .و تنطلق هذه المقاربة الوسطية ، من ضرورة عدم تجاهل المعايير الأخلاقية في ممارسة السياسة ، مع الأخذ بنظر الأعتبار خصائص الأخيرة .
وفي عالم اليوم عموما والمجتمعات المتحضرة خصوصاً،  نجد أن  الأتجاه المركزي هو اضفاء الطابع المؤسسي على المعايير الأخلاقية في السياسة ويتجلى ذلك في احترام حقوق الأنسان و العدالة الأجتماعية و الأقرار بالمباديء الديمقراطية في الحياة و تعزيز الأسس القانونية للمجتمع .
 
جـــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


134
وشـهد شـاهـد من اهـلها : لماذا خرج المالكي من المولد بلا حمص؟

                                                                                                                         جــودت هـوشــيار
 
طوال الأشهر الماضية ، لم يتوقف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن المطالبة بأجراء أنتخابات مبكرة - تحت أشراف حكومته بطبيعة الحال – تسفر عن حصوله على  أغلبية مريحة تمكنه من حكم البلاد و العباد حسب أهوائه بلا حسيب او رقيب ومن دون أن يزعجه شركاؤه في الحكومة بالأنسحاب منها حينا والأعتراض على سياساته و أسلوبه في أدارة دفة الحكم بمفرده حينا آخر .
 
قبل الأنتخابات المحلية لمجالس المحافظات التي جرت مؤخراً ، كان السيد المالكي على ثقة تامة بأنه سيفوز بالأغلبية التي يطمح اليها وأنه سيحكم قبضته على المحافظات الجنوبية،  مما يمهد له الطريق لأكتساح الأنتخابات البرلمانية القادمة في عام 2014 وتأليف حكومة أغلبية  تشترك فيها الكتل المنضوية في ائتلاف " دولة القانون " ، ولكن " تــُهــٍب ألــَـريـٍـاحِ بــُمـِا لاتــِشتـٌهيُ ألـِـسفــُن "  ! فقد تعرض حزب المالكي الى أنتكاسة مريرة وموجعة في تلك الأنتخابات ، لن يفيق منها سريعا. فقد أظهرت النتائج النهائية المعلنة من قبل " مفوضية الأنتخابات "  فقدان ائتلاف دولة القانون لتسعة وعشرين مقعداً مقارنة بالأنتخابات الماضية عام 2009 على الرغم من أنضمام كتل جديدة الى الائتلاف واعتبر أكبر الخاسرين فيها ، حيث حصل ائتلاف دولة القانون في المحافظات الأثني عشر ، التي جرت فيها الأنتخابات على 97 مقعدا ، بينما حصل كل من تحالف المواطن للمجلس الاعلى وقوائم التيار الصدري على 118 مقعدا ، وجاء حزب الدعوة بزعامة المالكي في ذيل قائمة الفائزين  ضمن ائتلاف " دولة القانون "  بحصول الحزب على 13 مقعداً فقط .
 
وقد أثارت هذه الأنتكاسة خيبة أمل كبيرة في أوساط حزب الدعوة الأسلامية و لكن ماكنة الدعاية المالكية الممولة من خزينة الدولة  ، أخذت تصور الأمر وكأن المالكي هو الرابح الأكبر في الأنتخابات وهذا نقيض الواقع تماما واستمرارلأسلوب  التضليل الذي دأب المالكي و المقربون منه على انتهاجه طوال السنوات الثمانية العجاف الماضية  ، واذا كان المالكي قد نجح في خنق الأصوات الحرة داخل حزبه المطالبة بالأصلاح والتغيير، الا ان أنصار الحزب في المهجر مازالوا يتمتعون بمسقف حرية أعلى في التعبيرعن آرائهم ، تلك الحرية ، التي  يفتقدها زملائهم في الداخل ، وهؤلاء الأنصار يقلقهم الهزيمة لحقت بحزبهم العتيد  ويدركون جيدا أن ذلك كان نتيجة مباشرة  لعزوف الملايين من الناخبين عن الاقتراع بسبب اليأس من حكومة المالكي الفاشلة وعجزها عن اعادة البنى التحتية المدمرة وتوفير الحد الأدنى من  الخدمات الأساسية وفرص العمل رغم انفاق مئات المليارات من الدولارات التي ذهب الجزء الأكبر منها الى جيوب الطبقة الحاكمة الفاسدة .
 
هذا العزوف  الذي لم تشهده الأنتخابات السابقة من محلية وبرلمانية ، يثبت بالدليل القاطع تضاؤل القاعدة الشعبية للحزب وهو نذر شؤم لمستقبل الحزب ودوره في العملية السياسية العراقية .
 
 لقد رأى أنصار حزب الدعوة الأسلامية في المهجر من واجبهم توجيه رسالة الى الأمين العام للحزب السيد نوري المالكي يطالبونه فيها بمراجعة و تغيير سياساته و الأقتراب من نبض الشارع  العراقي وعدم اطلاق الوعود الوهمية و العمل على تلبية الحد الأدنى من الخدمات الأسايبة للشعب العراقي .وتحمل الرسالة عنوان ( رسالة من أنصار حزب الدعوة الإسلامية في المهجر إلى السيد المالكي  حول خسارة الحزب في إنتخابات المحافظات )*
  تقول الرسالة :
نحنُ لفيف من أنصار حزب الدعوة الإسلامية في المهجر, ودَدنا أن نًخاطبكم خطاب ودٍ ومحبة من خلال هذه الرسالة المُقتضبة, حيث لم يَسُرنا تراجع الحزب وخسارته في إنتخابات مجالس المحافظات الأخيرة وجاء في مرتبة متدنية في إئتلاف دولة القانون بعد "المستقلون وحزب الفضيلة ومنظمة بدر وتيار الإصلاح وتحالف العشائر العراقية".
 
 وهذا مايحز في النفس ويجعلنا في قلق شديد حول مستقبل الحزب في الساحة السياسية العراقية وخاصة المحافظات الشيعية ال 10. نرجوا أن يتم مراجعة ودراسة الأخطاء والسلبيات والأخفاقات وتشخيص مكامن الضعف بغية تقويمها وإصلاح إنحرافها, هل من المعقول أن ينال حزب ناشئ وجديد وحديث العهد, كحزب الفضيلة على 20 مقعد بينما ينال حزب الدعوة الإسلامية العريق والحاكم لثلاث حكومات متتالية آمدها ثماني سنوات تقريباً,على 13 مقعد فقط ؟!.
 
 هذا يستحق دراسة معمقة وعقد ندوات لكوادر وأنصار الحزب في كافة دول العالم عبر شاشة تلفزيونية مفتوحة مع جنابكم للإستماع إلى كلام أنصاركم والإستئناس بآرائهم خاصة بعد إنحسار قاعدة الحزب في الداخل. من أجل تقويم النتائج في الإنتخابات البرلمانية المقبلة القريبة لأن حصول الحزب في البرلمان المقبل على 13 مقعد ربما لايَسمح له بالحصول على منصب رئيس الحكومة لدورة رابعة للحزب وثالثة لكم, وهذا أكيد حيث سيطالب به حزب الفضيلة وبدر والمستقلين والإصلاح , ويقلب الطاولة عليكم من داخل إئتلاف دولة القانون. خاصة بعد أن أعلن حزب الفضيلة عن حصوله على المركز الأول في خمس محافظات فاز بها "دولة القانون" وطالب الحزب بمنصب المحافظ في ثلاث محافظات منذ الأن وهذا يعني أن الخلاف داخل دولة القانون على المناصب سيظهر على السطح لاحقاً وهذا في غير صالحكم خاصةً لو أنشق الفضيلة عن دولة القانون وربما يلتحق به باقي الكتل .. أنتهي "

 
ورغم أجماع الشعب العراقي على فشل حكومة المالكي ، التي أوصلت العراق الى ما هو عليه الآن من تأخر وبؤس وصراعات  ، فأن المالكي و المقربون منه دأبوا على تضليل الجماهير بالوعود المعسولة و الأنجازات الموهومة ، وقد برهنت الأنتخابات الأخيرة ان " حبل الكذب قصير " وان الناخبين لم يعودوا يثقون بوعود المالكي و طاقمه الحاكم .
 
و تشخص الرسالة بوضوح أخطاء المالكي في الحكم وفي مقدمتها التغاضي عن الفساد والمفسدين "وعدم محاسبة المسؤول المقصر أو الفاشل أو الفاسد والوقوف بجانبه وعدم السماح للبرلمان ومجلس المحافظة بمحاسبته فضلاً عن إستجوابه."
 
و تستنكر الرسالة أعتماد المالكي على الكوادر البعثية العسكرية و المدنية ومغازلة حزب البعث المنحل ، وتطالب بأبعاد عزت الشابندر المقرب من المالكي قائلة  : " بديلكم في البرلمان ومستشاركم عزت الشاهبندر, أساء اليكم كثيراً بدفاعه المستميت عن أصدقائه البعثيين محمد يونس الأحمد ومشعان الجبوري, وتهجمه مؤخراً بكلام بذيئ على مؤسسة هامة في الدولة "مفوضية الإنتخابات المستقلة" لأنها مارست حقها الدستوري ومنعت مدان ومشبوه من المشاركة في الإنتخابات, يُعد إنتهاك للقانون من قبل قائمة تدعي تطبيق القانون, فإسقاط التهم عن مشعان الجبوري برعاية دولة القانون, عليه إستفهامات كثيرة "
 
 وتتحدث الرسالة عن الوعود الكاذية بتوفير الخدمات الأساسية وفي مقدمتها الكهرباء و تطالب بــ " التوقف عن التصريحات الغير صحيحة التي تقول للمواطن للسنة السابعة على التوالي "الصيف المقبل ." تنعمون بكهرباء كاملة" وعندما يحين الصيف والحَر تتصاعد ساعات الإنقطاع الى 20 ساعة.
 
- البطاقة التموينية تقلصت وتبخرت والشعب جائع ويتسائل المواطن الفقير ويقول لماذا كان ... صدام يعطي 20 مادة في التموينية والمالكي في أحس الأحوال يعطي 3 مواد, يجب أن ترفعوا عدد المواد إلى أكثر من 20 مادة حتى تثبتون أنتم أفضل من صدام في هذا الجانب وكما نعلم الأموال متوفرة وبكثرة" .
 
- يجب عليكم النزول للشارع أسبوعياً والسماع من المواطن لهمومه ومشاكله ...وحل كل تلك المشاكل ومنها أزمة السكن والمجاعة وفقدان الأمن.... أخيراً: نرجوا وبسرعة فائقة التحالف مع كتلة المواطن وتشكيل مجالس المحافظات, لأن تحالف كتلة المواطن وكتلة الأحرار معاً يعني خروج دولة القانون صفر اليدين أو كما يقال من المولد بلا حمص, وهذا ما يجعل الكتلة بعيدة عن دائرة الضوء ويترتب عليه عواقب وخيمة. انتهى الأقتباس "

 
هذا ما يقوله أنصار حزب المالكي بالحرف الواحد ولا أعتقد أنها بحاجة الى توضيح أو تعليق! المالكي و القياديون في حزب الدعوة و بقية الشلة من الأنتهازيين الملتفين حول المالكي ، لزموا الصمت المطبق حول هذه الرسالة ولم يتجاسر أحدهم على التطرق اليها رغم أهميتها البالغة .
 
شرعية المالكي المتآكلــة ؟
 
كتبة المالكي و المنتفعون من نظامه  يتساءلون : لماذا مطالبة المالكي بالأستقالة وهو الرجل المنتخب من الشعب والبرلمان ؟ بمعنى أنه ما يزال يتمتع بالشرعية حسب زعمهم !. المالكي جاء الى الحكم بصفقة سياسية وليس على اساس نتائج الأنتخابات التشريعية ، فقد كان ائتلاف العراقية هو الفائز في الأنتخابات التشريعية التي جرت في عام 2010 وكان زعيم الائتلاف الدكتور أياد علاوي هو الأحق بتشكيل الوزارة .
 
المالكي ، الذي وقع على " أتفاقية أربيل "  وأقسم أغلظ الأيمان أنه سينفذ بنودها بحذافيرها وفي توقيتاتها الزمنية المحددة ،  ضرب هذه الأتفاقية عرض الحائط بعد نيل ثقة البرلمان على اساسها وفي نفس الجلسة التي شهدت تكليفه بتشكيل الوزارة ، وهي تشكيلة لم تكتمل لحد الآن ! .
 
لم ينتخبه البرلمان  ليصبح  طاغية العراق " الجديد " في زمن يتساقط فيه  الطغاة كأوراق الخريف الذابلة  .
 
 ولم ينتخبه لينتهك الدستور و القوانين وحقوق الأنسان ، ولم ينتخبه لأقصاء وملاحقة غرمائه السياسيين بتهم زائفة ، ولم ينتخبه لأرتكاب المجازر وحمامات الدم .
 
 شرعية المالكي تآكلت وسقطت منذ ان وجه نيران أسلحة جيشه الى صدور العراقيين المحتجين فى كل ناحية من العراق من الموصل حتى البصرة في تظاهرات 25 شباط 2011.
 
واذا كان المنتفعون من حكم المالكي يحاولون قلب الحقائق وتضليل الرأي العام بحكاية الرجل المنتخب من الشعب والبرلمان  ، فأن الأرقام لا تكذب وهي أدلة دامغة لا يمكن الألتفاف عليها. تقول الأرقام ان نسبة المشاركة في الانتخابات لم تتجاوز  50% بحسب مفوضية الانتخابات، وهو ما قللت من شأنه منظمات معنية بمراقبة الاقتراع مؤكدة انها لم تتجاوز الـ 45% في احسن الاحوال.
 
وحصل حزب المالكي على 13 مقعدا من اجمالي 387 مقعداً أي حوالي 3% من عدد المقاعد رغم أنه سخّر امكانيات الدولة وآلتها الأعلامية  لحملته الأنتخابية و أجبر عناصر القوات الأمنية على  التصويت لصالحه في الأقتراع الخاص .
 
واذا قسنا " شرعية " المالكي على أساس عدد الناخبين الذين صوتوا لحزبه في المحافظات الأثني عشر ، التي جرت فيها الأنتخابات  يتضح لنا ان حزب الدعوة حصل على أصوات حوالي 1.5% من عدد الناخبين المسجلين الذين يحق لهم التصويت .
 
 بعد هذه الحصيلة الهزيلة ، هل  بقيت للمالكي أية شرعية ؟ . المالكي هزم  شر هزيمة في عقر داره – ان صح التعبير – ولا يتمتع بثقة الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي .
الأنتخابات الأخيرة أسقطت " شرعية " المالكي المزعزمة وعلى " التحالف الوطني"  البحث عن البديل ، اذا كان يريد الأحتفاظ بالسلطة !
 
وهذا رابط رسالة أنصار حزب الدعوة الأسلامية المنشورة في موقع " صوت العراق "
http://www.sotaliraq.com/mobile-item.php?id=133380#axzz2ScwEay7w
 
جــودت هـوشــيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


135
المعايير الأخلاقية للعمل الصحفي

                                                                                                                  جودت هوشيار
 
الأخلاقيات هي الأختيار الطوعي لما لا يمكن أن يفرض بالقوة  ، و لذلك يترك الأمر للصحفيين أنفسهم لا للحكومات أو السلطات لأن يضعوا المعايير لمهنتهم .
 
                        د. رﺷﻮرت آﻴﺪر
                           معهد اﻷﺧﻼﻗﻴﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ

 
يعتقد بعض الصحفيين أنه على حق دائماُ ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، ويظن ان حرية التعبير عن الرأي  تسمح له أن يكتب ما يشاء عمّا يشاء . و يكتب احيانا ما لا يستحق الكتابة أو ما لا يجوز نشره ، بل و اكثر من ذلك يعتقد انه معيارالحقيقة  وان ما يكتبه هو عين الحقيقة , مهما أشتط في كتاباته .
 
بيد أن الصحافة – و هي السلطة الرابعة – شأن أية سلطة أخرى مفسدة ، و الكثير مما ينشر في صحافتنا لا يتسم بتلك المعايير التي يعمل بها الصحفيون في البلدان الديمقراطية العريقة ، التي ترسخت فيها معايير اخلاقية صارمة في الصحافة المهنية الحقة .
 
ان ما يميز الصحفي عن غيره من المواطنين هو امكانية توصيل افكاره الى جمهورعريض من القراء .وأذا كانت هذه الأفكار تتضمن أساءة أو اتهاماً او نشهيرا  لشخص او لمجموعة اشخاص او لمنظمة او شركة أاو تشويها و تزويرا للمعلومات و الحقائق  او حتى خطأ ما ، فأن نشرها يلحق الضرر يمن يتحدث عنه الكاتب .
 
 و من اجل تفادي  مثل هذه الحالات فأن الصحفيين و الناشرين -  في  المؤسسات الصحفية الرصينة ، التي تؤمن بحرية الصحافة و المسؤولية  الأخلاقية للصحفي وضعوا طواعية  مجموعة من " المعايير الأخلاقية للأداء الصحفي "، المنظمة  للسلوك المهني وتتألف من المباديء و الممارسات الجيدة ، التي تحدد ما هو صحيح يجب اتباعه و ما هو مضر- يعاقب عليه القانون -  فيما يكتب أو بتعبير آخر ما هو  مسموح بالكتابة عنه و ما هو محظور .
 
 هذه القواعد ليست  مطلقة و قد تتباين الى هذا الحد أو ذاك بين المجتمعات المختلفة نظرا لتباين القيم الأجتماعية والثقافية والظروف المحلية . لذا فأن لكل مؤسسة صحفية أو صحيفة واسعة الأنتشار في الغرب " ميثاق شرف صحفي" خاص بها يتضمن فلسفتها و مبادئها التي تعمل على أساسها  ، وقد تختلف فلسفات المؤسسات الصحفية الا انها تجمع على الألتزام بالحقيقة والدقة والموضوعية و الحياد و المسؤولية امام القراء . و ينبغي اتباع تلك الأخلاقيات خلال الحصول على المعلومات و تقييم أهميتها ثم توصيلها الى الجمهور .
 
ان القوانين الخاصة بالعمل الصحفي في العديد من البلدان الديمقراطية تجعل من تطبيق يعض هذه القواعد ملزما " الامتناع عن نشر الافتراءات ، عدم التحريض علي مخالفة القانون   الخ " وتترك الجزء الاخر لحسن نية و فطنة الصحفي نفسه  وأعتقد ان افضل صيغة لهذه القواعد هي تلك صاغها الناشر البريطاني ديفيد راندال – حيث قال انها " مجموعة القواعد التي يجب ان يلتزم بها  كل صحفي محترم او يحس بالخجل عندما لا يلتزم بها ."
و هذه القواعد لا يقتصر على الصحفيين فقط ، بل على الكتاب و الأدباء و الشعراء الألتزام بقسم منها ، حيث لايجوز لأحد منهم الأساءة لشخص أو لمجموعة أشخاص أو مؤسسة و ما الى ذلك .
 
ان الصحفي المهني ، الذي يتحلي بالمسؤولية و يعرف قدر نفسه و مكانة صحيفته  يسعى جاهدا لعدم الأخلال بهذه القواعد ، دون تشريعات أو قوانين  ، مما يجنبه المشاكل و يرفع من شأنه في عيون القراء و يحظى بأحترام الذات و أحترام الآخرين له . ترى ما هي هذه القواعد؟
 
كما اشرنا فيما تقدم لا توجد لائحة موحدة ملزمة  لـ" المعايير الأخلاقية للعمل الصحفي " و لكن ثمة معايير أخلاقية عديدة مشتركة تعمل بموجبها المؤسسات الصحفية و الصحفيون في بلدان العالم يمكن حصرها في البنود التالية:
 
1 - احترام الحقيقة وحق الجمهور في معرفة الحقيقة :
 
هذا االمبدأ هو أول وأهم واجب للصحفي وحجر الزاوية في أخلاقيات مهنة الصحافة . ان جوهر عمل الصحفي هو تقصي الحقيقة و توصيل المعلومة والخبر الصحيح من مصادره الموثوقة للقارىء والمشاهد والمستمع دون تشويه أو تحريف.
 
 لا صحافة و لا صحفي مهني من دون حقائق . و اذا كان الصحفي يود ان يخترع القصص عليه ان يكتب القصص الخيالية ، اما اذا كان يريد اقناع الناس و التاثير في عواطفهم فأن عليه ان يعمل في مجال  الاعلان او العلاقات العامة و ليس في الصحافة الأحترافية . .الصحفي سواء اكان مراسلا ام مندوبا ام محررا ام ناقدا رياضيا فأنه يتعامل مع الحقائق قبل كل شيء.
 
تقول نكتة روسية ان ثمة خمس درجات للكذب ، - الكذبة العادية والكذبة الصارخة والكذبة الصارخة جدا والإحصاء والاقتباس. "نصف الحقيقة " غالبا ما يكون كذبة كبيرة أسوأ من الأفتراء أو الأختلاق. هناك العديد من الأساليب الديماغوجية التي تسمح بالكذب يأستخدام نصف الحقيقة و بالأقتباس الأنتقائي . و التركيز على بعض التفاصيل الثانوية و الصاق التهم والأستناد اليها في الهجوم والأنتقال للتجريح الشخصي . ولن يكون ما يكتبه الصحفي – في مثل هذه الحالات - صحافة بل شيئا آخر.
 
لذلك فالصحفي الذي يشعر بالمسؤولية لا يحق له قانونا ان يكتب نصف الحقيقة و يتجاهل النصف الآخر ، ومن حق القراء الأطلاع على المعلومات الدقيقة الكاملة من اجل تشكيل الصورة الحقيقية للأحداث و الأحتفاظ بثقة الجمهور ومن دون هذه الثقة لا توجد صحافة جديرة بهذا الأسم .
.2 – الألتزام بالموضوعية :
 
اﻟﻤﻮﺿﻮﻋﯿﺔ ھﻲ إﺣﺪى أھﻢ اﻟﻘﯿﻢ ﻓﻲ اﻟﻌﻤﻞ اﻹﻋﻼﻣﻲ،التي تضمن  اﻟﺘﻮازن واﻟﻤﺼﺪاﻗﯿﺔ واﻟﺤﯿﺎد واﻟﻨﺰاھﺔ. ورغم صعوبة تحقيق كل أبعاد الموضوعية ، الا ان الصحفي يستطيع  أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮﻋﯿًﺎ إذا أراد، وﺳﻌﻰ ﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ.
حين يقوم  الصحفي بجمع المعلومات حول موضوع ما ، عليه ان لا يحاول بأي ثمن أثبات أو دحض وجهة نظر معينة . و هذا لا يعني بأن الكاتب لا يستطيع ان يقوم بجمع الأدلة في محاولة لأثبات فرضية معينة و لكن اذا كانت الشواهد و الأدلة ، التي جمعها تخالف فرضيته، عليه التخلي عن رأيه المسبق و أن لا يحاول تعديل الحقائق لتتناسب مع و جهة نظره .
أي إخلال بالمضمون من شأنه تشويه صورة الصحافة والصحفي نفسه والجهاز الإعلامي الذي يعمل فيه .
 
2- عدم الخلط بين الرأي و الخبر:
 
عدم خلط الرأي بالخبر، إحدى أبجديات العمل الصحفي ، فالخبر ملك القارئ، والمقال ملك صاحبه ، باعتبار الأول عنوانا للحقيقة و الثاني مجرد رأي أو زاوية من زوايا النظر الى الحقيقة أو الحدث.
والصحافة المهنية هي التي تذكر أولاً الأخبارالمعتمِدة على المصادر الموثوقة وشهادات العيان، ثم تنشرالآراء والتحليلات ان وجد ، مع الحرص على تقديم آراء متعددة.
 
كيف نفرق بين الخبر والرأي؟
 
" الخبر حر .. والرأي مسؤول"، بمعنى أن الخبر ملك للحقيقة و معياره الدقة ، فالمحرر مُلزم بنقله دون تشويه او تحريف أو حذف أو أضافة ، . أما الرأي فهو يعتمد تصوُّراً واحداً عن الحدث و معياره موضوعية الكاتب . ويختلف الناس في آرائهم و تصوراتهم ؛ لأن كل واحد يرى الحدث ويفسره من زاويته هو، ومما يتوافر لديه من معلومات.
 
3 - عدم اللجؤ الى طرق ملتوية في الحصول على المعلومات:
 
هذه الفقرة ، ربما هي الأكثر أثارة للجدل . و من الواضح ان المعلومات التي  يحصل عليها الصحفي عندما يكشف عن  هويته و يعلن أنه يمثل الجريدة الفلانية ، تختلف كثيرأ عن تلك التي يحصل عليها لو أنتحل هوية شخصية أخرى . فالأنسان -  أي انسان - عندما يتحدث الى الصحفي و يعرف ان ما يتحدث عنه سينشر ، يحاول أن يبدو موضوعيا ، حريصاً على تقديم صورة ايجابية عن نفسه ، في حين أنه لو تحدث الي شخص آخر فأنه يقول ما يحلو له  وقد يكذب او يبالغ . و بتعبير آخر فأن المعلومات المستقاة منه لن تكون موثوقة و لا يمكن الأعتماد عليها ولا يجوز نشرها .
كما لا يجوزالحصول على معلومات أو صور من خلال التخويف أو المضايقة أو الملاحقة ، ويمنع نشر مواد صحفية من مصادر أخرى لا تلتزم بهذه المتطلبات.
 
و عموما فأن الصحفي المهني يقدم نفسه بصفته الصحفية و يصرح بأنه يجمع المواد لمقالة أأو تحقيق صحفي  ، ما عدا الحالات الأستقصائية عن شخص او مؤسسة ، و حتى في مثل هذه الحالات لا يتم أستخدام المعلومات المتحصلة مباشرة ، بل لأجل التمهيد لعمل لاحق و ليس للنشر .
.4- التعامل المهني مع مصادر المعلومات .
 
الالتزام بتحري الدقة في توثيق المعلومات، ونسبة الأقوال والأفعال إلى مصادر معلومة كلما كان ذلك متاحا أو ممكنا طبقا للأصول المهنية السليمة التي تراعى حسن النية.
و على الصحفي الألتزام بحماية مصادر معلوماته ، و عدم أفشاء الأخبارالسرية للناس أو لزملاء المهنة ، لأن ذلك قد يؤدي الى بعض الضرر لهذه المصادر ، أو يجعلها تحجم عن الكلام مستقبلاً، مما يضر بمستوى سريان المعلومات الى المجتمع ، . و تأريخ الصحافة زاخر بحالات تم فيها مقاضاة الصحفيين و لكنهم لم يكشفوا عن مصادر معلوماتهم.
و اذا كان الصحفي قد اتفق مع مصدر المعلومات على شرط معين او اكثر فأن عليه أحترام الأتفاق و عدم أنتهاكه بأي حال من الأحوال .. و اذا كان مصدر المعلومات اشترط عدم نشرها فلا يجوز للصحفي النشر ، و حتى عندما يطلب المصدر نشر المعلومات فى توقيت معين فعلى الصحفي أن يحترم هذا الوعد من أجل الأحتفاظ بثقة المصدر .
 
5– عدم الخلط  بين النشاط السياسي و العمل الصحفي:
 
لا ينبغي للصحفي العمل في أية وظيفة أخرى ، إذا كانت تؤدي إلى الإخلال بأمانة الصحفي وصحيفته. والصحفي ورؤساؤه يجب أن يعيشوا  حياتهم الخاصة بطريقة تحميهم من تضارب المصالح، سواء أكان ذلك حقيقيا أم ظاهريا. إن مسئوليتهم تجاه الجمهور لها الأولوية قطعا. وهذه هي طبيعة مهنتهم.
وبحسب مجلة "النيو يوركر" فإن العديد من الجرائد في الولايات المتحدة "لا تسمح للصحفيين بالتعبير عن آرائهم للعامة، أو المشاركة في التظاهرات أو تعليق أزار انتخابية أو ملصقات على خلفية سياراتهم".
ومن جهة آخرى، هنالك العديد من المؤسسات الإعلامية حول العالم  يعمل فيها صحفيون ناشطون في الأحزاب السياسية وفي بعض الأحيان يتم تعيين هؤلاء الصحفيين بسبب انتمائهم السياسي.
و في كل الأحوال ، فأن الانتماء السياسي يجب أن يكون خارج نطاق العمل الإعلامي.
ومن مسؤولية الصحفي الاجتماعية عند تغطية قضايا ساخنة، تمثيل التنوع في المجتمع، والبقاء على مسافة واحدة من الأجندات السياسية وتوعية المواطنين بلأحداث الجارية.
 
6- تصحيح الأخطاء
 
الصحفي كاي انسان آخر معرض لأرتكاب الأخطاء . و اذا أخطأ او حرّف الحقائق أو تسرع في أستخلاص الأستنتاجات ، عليه ان يبادر من تلقاء نفسه الى تصحيح ذلك قبل أي شخص آخر وأن ينشر التصحيح في المكان نفسه الذي نشرت فيه المادة موضوعة التصحيح . ربما يعترض رئيس التحرير على ذلك و لكن على الصحفي ان يحاول نشر التصحيح و هذا أضعف الأيمان .
 
7- عدم استخدام المهنة كسلاح.
 
في حالة وجود أي نزاع مع شخصية أو منظمة ما ، يميل بعض الصحفيين الى استخدام مهنته كسلاح للتخويف احيانا،  ومع ذلك، لا  ينبغي له أن يفعل ذلك بأي حال من الأحوال مهما كان الأغراء قوياً ، و الأسوأ من ذلك حين يستخدم الصحفي موقعه للأبتزاز و هذا يدخل في باب الجرائم .
و اذا كان الخبر او الحدث يستحق النشر حقا ينبغي الكتابة عنه و ليس التهديد بنشره. اما اذا كان الحدث لا يستحق النشر ، فمن الضروري عدم اللجؤ الى التهديد، الذي  يسيء ببساطة الى الصحفي نفسه و صحيفته و مهنته .
 
8 - عدم استغلال المهنة للحصول على مكاسب شخصية:
 
يحظر على الصحفي استغلال مهنته في الحصول على أي هبات أو تبرعات مالية أو عينية أو مساعدات أخرى مهما كان نوعها أو صورتها ، من جهات أجنبية أو محلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
أن الرشى و الهدايا، والمجاملات، والرحلات المجانية، والمعاملة الخاصة أو الامتيازات من أجل النشر أو لإخفاء المعلومات. . كل هذا يمكن أن يؤدي إلى تنازل الصحفي عن أمانته وعن أمانة صحيفته. ولا يجب على الصحف قبول أي شيء له قيمة مادية مجانا.
و على الصحفي تجنب الكتابة عن الاسهم او السندات التي يعلم أنه سيستفيد منها هو أو أقاربه المباشرون
إن الصحفي الذي يستخدم  وضعه المهني لأغراض شخصية أو أنانية أو لدوافع أخرى غير جدير بالمهنة ويفقد ثقة الجمهور .
 
9 – عدم الخلط بين المادة الاعلانية والمادة التحريرية:

 
لا يجوز الخلط بين المادة الاعلانية والمادة التحريرية ، ولا بد أن يتضح الفرق بين الرأي والاعلان ، فلا تندس على القارئ آراء وأفكار سياسية ودعائية في صورة مواد تحريرية
ويجب أن يتم النص صراحة على المادة الأعلانية ، (سواء التحريرية أو غيرها) بأنها اعلان.
 
10 – أحترام الأشخاص و خصوصياتهم :
 
يتعين على الصحفي خلال عملية جمع الأخبار وتقديمها ، احترام الأشخاص وخصوصياتهم بعدم الخوض فيها وعدم نشر أسرارهم  العائلية أو المهنية اوالأخبار الكاذبة عنهم ، التي تنال من سمعتهم  وكرامتهم أو مكانتهم الأجتماعية أو السياسية  ،  نتيجة خلاف في الرأي أو تحريض من جهة ما أو من أجل الابتزاز المالي .  وعلى الصحفي لا يحاول انتهاك حق الشخص في الاحتفاظ بحياته الخاصة بعيدا عن الأخبار. لأن التطفل على الحياة الخاصة للأشخاص مرفوض تماما ويحاسب عليه القانون في معظم ،  ان لم يكن في كل دول العالم .
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


136
الصحوة العربية من وجهة نظر روسية

                                                                                                                          جودت وشيار
آراء مثيرة للجدل
 
ترى الأوساط الأستشراقية و الأعلامية الروسية أن الكتاب ، الذي صدر مؤخراً في موسكو تحت عنوان " الشرق الأوسط ، الصحوة العربية وروسيا: وماذا بعد؟"  هو أول و أهم كتاب صدر في روسيا لحد الآن عن ثورات " الربيع العربي "  وهو من تأليف مجموعة كبيرة من المستعربين و الدبلوماسيين  والباحثين الروس من مختلف التخصصات ، الذين يمثلون عدداُ من الجامعات و مراكز البحوث و المعاهد العلمية ذات العلاقة . وهو كتاب ضخم ،  جامع و شامل ،  يضم دراسات ومقالات كثيرة تتناول ثورات الربيع العربي بالتحليل وتحاول تلمس أسبابها والقوى المحركة لها وتداعياتها وتأثيرها على الأمن و الأستقرار في المنطقة و أنعكاساتها على روسيا .
ومع اختلاف المساهمين في الكتاب في مناهج البحث و التحليل وتباين وجهات نظرهم حول الثورات العربية ، الا أن الكثير منهم ،  في أستنتاجاتهم الرئيسية لا يبتعدون كثيرا عن وجهات النظر السائدة في أروقة " الكرملين" وفي الأعلام الروسي .
 
و كما جاء في مقدمة الكتاب ، فأن هذا العمل العلمي الجماعي يهدف الى " التحليل الشامل لكافة جوانب ثورات الربيع العربي ، المعقدة و المتناقضة أحياناً ، ومصالح القوى و الشرائح المختلفة داخل المجتمعات العربية  والقوى الأقليمية و الدولية المتنافسة غي الشرق الأوسط و العوامل المؤثرة في سيرالأحداث ، التي حددت السمات الخاصة بموجة الأحتجاجات في المنطقة.
 
لم يكتف المؤلفون بالأحاطة الشاملة بهذه الثورات ، بل حاولوا أيضاً تتبع مسار الأحداث الجارية اليوم والسيناريوهات المحتملة  لتشكيل الصورة المستقبلية لخريطة الشرق الأوسط و يعكس الكتاب ،  الأفكار التي تتداول في روسيا وعلى مختلف المستويات للتعاطي مع التحديات التي فرضتها تحولات الربيع العربي.
 
 و الأستنتاج الرئيسي للمؤلفين يتلخص بــما يلي " أن الربيع العربي يمثل تحولاُ في المجتمعات العربية ، هذا التحول ، الذي نتج عن عدة عوامل كانت تقف عقبة كأداء أمام تقدمها  ، منها ، ان " شخصيات  قوية " كانت تحكم عدة بلدان عربية على مدى عقود وبلا منازع  ،  مثل العقيد القذافي أو جنرالات ، مثل حسني مبارك ، و كانوا زعماء متخلفين عن العصر ، ومنها الأفتقار الى الحريات المدنية و الحراك الأجتماعي ، الذي أدى الى  تعميق الاختلالات الاجتماعية والأقتصادية  اضافة الى أنتشار الفساد المالي و الأداري ، وضعف السياسات الاجتماعية، والركود الاقتصادي."
 الكتاب يسبغ على القذافي صفة " الشخصية القوية " و لا يتطرق الى الجرائم التي أرتكبها بحق الشعب الليبيي و غرابة أطواره .
 
الربيع العربيي و التحرر من الأستعمار:
 
ويرى مؤلفو المجموعة بأن "  أحداث الربيع العربي لا تشبه السيناريوهات المعتادة للأحتجاجات وأعمال الشغب في العالم النامي، كما لا تشبه " الثورات الملونة " في أوروبا الشرقية ، لأن الخطط الغربية في قلب الحكومات من دون اللجؤ الى العنف فشلت في البلدان العربية نظرا لطبيعة المجتمعات العربية القبلية و الأثنية ، و أن ثورات الربيع العربي حلقة جديدة من حركات التحرر من الأستعمار الغربي التي اجتاحت بلدان الشرق الأوسط في القرن العشرين و تمخضت عن استقلال البلدان العربية وادت الى تغييرات هيكلية في الاقتصاد والسياسة، وغيرها من المجالات."
 
هذه الآراء ، تبدو في غاية الغرابة لكل من واكب الأحداث العاصفة في الوطن العربي خلال السنوات الثلاث الماضية ، و يحتاج الى وقفة طويلة للتمعن في معانيها !
 
- يقول هؤلاء السادة ان الثورات العربية لا تشبه الثورات الملونة في اوروبا الشرقية ، بمعنى ان الثورات العربية لم تكن سلمية مثل ثورات الشعوب " المتمدنة " !! ، نظرا للتناحر القبلي و الأثني في بلدان الربيع العربي المتخلفة , هذه النغمة الأستعلائية لدى المستشرقين لاحظها المفكر اللامع ( ادوارد سعيد ) في كتابه " الأستشراق " . صحيح ان سعيد كان يتحدث عن الأستشراق الغربي في المقام الأول و لكن استنتاجاته المعمقة  تنطبق أيضأ على الكثير من المستشرقين الروس و خاصة المستعربين منهم .
 
- أما حكاية الحلقة الجديدة في التحرر من الأستعمار الغربي ،  فلها جذور غائرة في اعماق التأريخ الروسي الحديث ، وهي حكاية تسعى الى صرف الأنظار عن مسألة كانت  على مدى عقود في غاية الحساسية بالنسبة الى روسيا
. هل ثورات الربيع العربي حلقة جديدة من نضال الشعوب العربية للتحرر من الأستعمار كما يزعم هؤلاء الباحثون ؟
 
قبل الأجابة عن هذه التساؤلات  يجدر بنا هنا ان نعيد الى الأذهان بعض الثوابت فيي السياسة الخارجية الروسية  و بحاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط  ، التى يطلق عليها الروس اسم ( الشرق الأدنى ) أو ( الشرق القريب )، القريب من روسيا بطبيعة الحال.
وفي مقدم هذه الثوابت ، التنافس مع القوى العظمى الأخرى في المنطقة ، في سبيل تعزيزالنفوذ الروسي في الدول المتاخمة او القريبة من حدود روسيا الجنوبية ومن منطقة جنوب القفقاس ، التى تعد العمق الأستراتيجي للدولة الروسية في كل العهود .
 
الأمبراطورية الروسية كانت  تضم شعوبا  كثيرة مستعمرة (بفتح الميم )  ترزخ تحت نير الحكم القيصري ، الذي لم يكن أفضل–ان لم يكن أسوأ -  من الأستعمار الغربي ، أما في العهد السوفييتي ، فقد كان ثمة نص واضح و صريح في الدستور بمنح الشعوب السوفيتية غير الروسية الحق في الأنفصال في أي وقت  وتشكيل دول مستقلة ، الا ان هذا الحق ظل حبرأعلى ورق ، ولم تكن هنالك أية فرصة للتمتع بهذا الحق ، الذي  يعترف به المجتمع الدولي منذ تأسيس عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة وقراراتهما العديدة بهذا الشأن معروفة جيداً ولا نرى حاجة في التذكير بها ...
 
حقاُ ان الأتحاد السوفييتي رحب في الستينات من القرن الماضي بقرارات  مجلس الأمن الدولي حول منح الأستقلال للشعوب و البلدان المستعمرة ( بفتح الميم ) في آسيا و أفريقيأ و لم تشمل هذه القرارات الجمهوريات والشعوب السوفيتية غير الروسية بدعوى أنها أختارت بمحض أرادتها أن تكون جزءاًً من الدولة السوفيتية ، وهو أدعاء تفنده الوقائع التأريخية. و بعد تفكك الأتحاد السوفييتي ،، أستقلت كافة الجمهوريات السوفيتية السابقة ، ما عدا بعض الأقاليم ،التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي داخل روسيا ( أكبر الجمهوريات السوفيتية ) فقد بقيت لحد الآن ضمن الأتحاد الروسي ، مثل ( الشيشان و تترستان و داغستان و غيرها ) وتسعي الى نيل حقوقها القومية و الأنفصال عن روسيا وبخاصة الشيشان، التي قدمت ضحايا سخية في هذا السبيل  ، لذا فأن روسيا متوجسة من أمتداد لهيب الثورات العربية الى داخل أراضيها . و القول بأن الثورات العربية حلقة جديدة في التحرر من الأستعمار !! انما يهدف الي أبعاد الأنظار عن نضال الشعوب التي ما زالت تحت الحكم الروسي .
 
و ثمة شواهد على ان روسيا تعارض دائمأً  حق الشعوب في تقرير مصيرها  و تنادي بالحفاظ على وحدة أراضي الدول -  حتى و ان كانت مصطنعة و تضم شعوباُ متباينة - و عدم اجراء أي تغيير على حدودها ، هذا المبدأ ، هو من ثوابت السياسة الروسية الخارجية أيضاً ، لذا رأينا كيف ان روسيا وقفت ضد حركات التحرر لشعوب البلقان و عارضت تقسيم يوغسلافيا، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية – عند تقسيم النفوذ بين الأتحاد السوفييتي و الحلفاء -  لتضم شعوباُ مختلفة في كل شيء : فى القومية و الدين و الثقافة و التكوين النفسي. ، وقد تفككت هذه الدولة المصطنعة  بعد زوال الضغط الخارجي عنها .
 
دور العامل الديني في الربيع العربي :
 
أشار عدد من كتاب المجموعة الى دور العامل الديني ، الذى تجلى خلال ثورات " الصحوة العربية ". ويتلخص آرائهم بهذا الصدد في ما يلي :
" رغم التباين الكبير بين البلدان العربية ، فأن القاسم المشترك بين الحركات الأحتجاجية فيها – على الأقل في بداياتها – هو عدم المشاركة الملحوظة للمتطرفين الأسلاميين فيها ، ولم يكن هناك رفض للطابع المدني للدولة أو الدعوة الى تطبيق حكم الشريعة في القضاء و الحياة الأجتماعية . و لكن المراحل الأخيرة لهذه الثورات أدت الى زعزعة الأستقرار ، وحولت عددا من البلدان العربية الى ملاجيء للأرهابيين الذين يحاولون توسيع نفوذهم و تصعيد نشاطهم . ولكن قوى الأسلام السياسي لا تشكل تنظيميا وحدة جامعة ، بل تتكون من تيارات و حركات ومجاميع كثيرة ( جهادية متطرفة ، سلفية ، و معتدلة ) و وهي تشكل في الواقع القوى المعارضة الرئيسية و احيانا الوحيدة التي تجابه الأنظمة الحاكمة ."
 
وجاء في الكتاب أيضاُ " ليس من المستبعد ان يحاول من يسمى اليوم  بالأسلاميين ، تطبيق مشروع أصلاحي على غرار النموذج الذي يطبقه حزب العدالة و التنمية التركي".
 
. ولا أعتراض علي هذا الكلام ، ولكن بعض هؤلاء المستعربين يمضي الى القول بأن "  قوى الأسلام السياسي في الوطن العربي قد تتخذ من تجربة " حماس "  في غزة أو" حزب الله " في لبنان قدوة لتطبيق برامج اصلاحية واجتماعية تهدف الى تحسين اوضاع الفقراء  !"
 
هل تحسنت أوضاع فقراء غزة بمجيء حماس الى الحكم ؟ وهل لدى حكومة هنية برامج اصلاحية واجتماعية حقاً .؟ نترك الأجابة لسكان غزة ، الذين يعيشون على المساعدات الأنسانية التي تقدمها المنظمات الدولية وبعض الدول العربية .
 
أما برنامج " حزب الله اللبناني " فحدث عنه ولا حرج ، فهو الذي أوصل لبنان الى حافة الحرب الأهلية من جديد وورطت لبنان في الصراع العسكري الدائر في سوريا .
ويشير احد كتاب المجموعة وهو المستعرب " نائومكين " الى ان القيادة الأيرانية تعتبر الثورات العربية جزءاً من " الصحوة الأسلامية "
 
 
و يقول باحث آخر من المجموعة و هو ( الكساندر اكسينينكو ) " ان من حسنات جماعة الأخوان المسلمين  في مصر انها دعت بعد تنحي الرئيس مبارك الى تشكيل حكومة مدنية و تثبيت حقوق الأنسان في الدستور . وعلى هذا النحو فأن الأخوان المسلمين على غرار حزب العدالة والتنمية التركي من السهل عليهم الأبتعاد عن المفاهيم  الدينية التقليدية و الأنتقال الى لغة الحوار المدني .وهذا مما يوسع امكانية  الجماعة للمشاركة في حياة البلاد بصفتها حزبا سياسيا منظما ".
 و يامل" اكسينينكو" " ان يبحث الحكم الأخواني في مصر عن توازن بين المباديء الدينية من جهة و البراغماتية في السياسة الداخلية و الخارجية من جهة اخرى ."
 
هذا الكلام الأنشائي الجميل، تفنده الأحداث الجارية في أرض الكنانة اليوم ، ولا يحتاج الى كبير عناء للكشف عن مدى أنفصال هذا المستعرب عن الواقع العربي .
 
اما المستعرب الروسي الشهير( غيورغي ميرسكي )  فيرى " ان الربيع العربي علامة فارقة في السعي الي الديمقراطية ، و بطبيعة الحال ، فأن هذه الديمقراطية، ( الكلام لميرسكي ) ،  ستكون بوجه عربي اسلامي . و يضيف : ان الثورات العربية لم تكن طبقية او معادية للأمبريالية أو دينية ، بل عابرة للطوائف و القوميات و المذاهب الدينية . اما ما يحدث بعد الثورات في العادة فأنه شيء آخر : البعض يقوم بالثورة ليختطفها آخرون ! "
 و كما يرى القاريء فأن ( ميرسكي ) يفند ما قاله زميله ( اكسينينكو )
 
الربيع العربي و العولمة :
 
و يرى ( اوليع بافلوف )  " ان كل ما جرى خلال السنوات الثلاث الماضية في الوطن العربي هو نتيجة لسعي " النخب السياسية- المالية العالمية " بتشجيع من واشنطن و لندن و باريس ، للوصول الي النهاية المنطقية لعمليات العولمة بمساعدة القوى الأسلامية الراديكالية ، و القضاء الكامل على الدول ذات السيادة في أوراسيا .وهنا ( و الكلام ما يزال لبافلوف ) تتطابق اهداف هذه النخب و قوى الأسلام السياسي في خلق الفوضى من اجل أطالة عمر الدولار الذي يتجه الى الموت الحتمي ومنع نشؤ عالم متعدد الأقطاب على اساس  انضمام دول المنطقة الى محاورتمتلك  عملتها الخاصة و بوسعها تحدي النظام النقدي – المالي القائم حالياً. ولهذا فأن رأس الرمح في الثورات العربية كانت موجهة ، ليس الى الدكتاتوريين العرب ، بل ضد التقارب الروسي – الصيني ."
ويرى كاتب آخر " ان الثورات العربية هي احدى نتائج الأزمة المالية العالمية ، مما ادى الى تعميق المشاكل في هذا الجزء غير المستقر من العالم العربي و لم تسمح تلك  الأزمة للاقتصاد العربي ان  يستفيق من آثار الضربة  قبل بداية الحركات الأحتجاجية."
 "
نشرنا قبل بضع سنوات مقالاً عن نظرية المؤامرة ،  تحت عنوان " نظرية أوروبية الجذور ... يعشقها العرب " جاء فيها ان هذه النظرية اوروبية خالصة وغريبة عن التفكير الشرقي ولو بحثنا  في كل التراث العربي - الأسلامي ، فلن نجد أية أشارة اليها . و لم نكن نتصور ان بعض الباحثين الروس من عشاق هذه النظرية أيضاً ، والا كيف نفسر هذا الأستنتاج المضحك  - لباحث يعد نفسه خبيراً في شؤون الشرق الأوسط - وهو ان الثورات العربية نتجت عن الأزمة المالية العالمية وأنها  موجهة ضد التقارب الروسي – الصيني .
 
ان بعض الباحثين الروس بدلا من دراسة هذه الثورات ، دراسة علمية تستند الى المعرفة المعمقة بالواقع العربي ، يلجأ الى تفسيرها وفق نظرية المؤامرة . ولكن توجد ضمن المجموعة ذاتها دراسة جادة للباحثة ( زفياغيلسكايا )  تنتقد فيها بعض زملائها المساهمين في تأليف الكتاب ، حيث تقول " أن من الخطأ تفسير أحداث الربيع العربي و كأنها نتيجة لسعي الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية الى بسط هيمنتها على هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى و أعادة التقسيم الجيوبوليتيكي للعالم ."
و تؤكد الباحثة" ان من الحطأ أيضاً تفسير الثورتين التونسية و المصرية وفق نظرية المؤامرة ، كما يفعل البعض في روسيا ، والزعم بأن الثوار التونسسين و المصريين كانوا أدوات بيد الدول الغربية لتحقيق أهدافها في المنطقة ."
 
أما الزعم بأن  " الأزمة المالية العالمية " التي اجتاحت الولايات المتحدة الأميركية و عددأ من الدول الأوروبية  كانت وراء أندلاع ثورات الربيع العربي . فأنه رأي مثير للسخرية حقاً وينم عن جهل  فاضح بمجريات الأحداث في الشرق الأوسط ، ويبدو ان بعض المستعربين الروس يستقون معلوماتهم من الأعلام الروسي وهو اعلام يساير السلطة عموما ويعبر عن وجهات نظرها في الأحداث الداخلية و الخارجية .
 
التدخل الأجنبي :
 
المؤلفون ركزوا أيضاً على الآثار السلبية للتدخل الأجنبي في الشؤون العربية .
و يقول المستعرب الروسي ( نائومكين )  في دراسته المنشورة ضمن المجموعة " التدخل الأجنبي في ليبيا و سوريا بسبب أشتداد الصراع في كل منهما ، بين النظام الحاكم و ( المتمردين ) ،  يلقي ظلالاً من الشك حتى على المساعدات الأنسانية التي تقدمها الدول الغربية للسكان المدنيين . "
 لاحظ  أيها القاريء الكريم ، ان ( نائومكين ) ،( وهو خريج جامعة القاهرة في السبعينات من القرن المنصرم  و عضو الأكاديمية الروسية حالياً و يتحدث بالعربية بلكنة روسية و الذي تستضيفه القنوات الفضائية العربية كثيراً، كمحلل سياسي لا يشق له ، كيف يطلق هذا المستعرب صفة " المتمردين " على الشباب العربي الثائر .
 
اما الباحث ( ايغورين ) فيقول في دراسته " أن الرأي الساذج الذي يصور أحداث لييا وكأنها صراع بين طاغية غريب الأطوار وبين دعاة الديمقراطية ، الذين تساندهم الدول الغربية ، غير صحيح ، لأن ما جرى في ليبيا كان صراعا بين قوى رجعية و بين أنصار نظام علماني يؤمن بـ(الديمقراطية الماشرة )  وان التدخل الأجنبي ادي الى تعميق الهوة في المجتمع الليبي ."
 
اذن الرجعية هي التي انتفضت ضد نظام ( الديمقراطية المباشرة )  للعقيد القذافي وضد العلمانية ، بدفع من الخارج ,!! كما يزعم هذا " الباحث "
 قلب الحقائق لدى هؤلاء المستعربين و الخبراء ، أمر في غاية اليسر ، ولكن القاريء الروسي البعيد عن مسرح الأحداث والذي لا يهتم كثيرا بما يجري خارج روسيا  ربما يصدق هذا الهذيان.
 
الموقف الروسي من الثورة السورية :
 
.وبصدد الثورة السورية تتحدث الباحثة " زفياغيلسكايا " "عن الدور ( الأيجابي ) لروسيا و الصين اللذان يدعوان الطرفين المتصارعين ( النظام و المعارضة ) الى أجراء حوار وطني لوضع نهاية للمأساة السورية ."
أما " فلاديمير أحمدوف " فيقول " بأن الجيش ،هو الذي يلعب الدور الرئيسي في سوريا تقليدياُ ، و ان هذا يفسر قدرة نظام بشار الأسد على الصمود  ، على خلاف الجيش الليبي الذي خان القذافي." على حد تعبيره.
وكان احد كبار الساسة الروس المخضرمين وهو( يفغيني بريماكوف) ، الذي أسهم في الكتاب بدراسة مطولة غن الربيع العربي و السياسة الأميركية الحالية في الشرق الأوسط ، قد قال قبي مقابلة مع جريدة " البرافدا " ان الموقف الروسي من الصراع الدائر الآن في سوريا ، هو الموقف الأخلاقي الوحيد الصحيح .
 
تغيّر ميزان القوى في الشرق الأوسط
 
ويكاد كتاب المجموعة يتفقون " بأن الثورات العربية ، التى اسقطت عددا من الأنظمة العربية  ، غيرت ميزان القوى في الشرق الأوسط ، ويتجلى ذلك في دخول تركيا النشط في الصراع من اجل النفوذ وبروز دور كل من المملكة العربية السعودية وقطر ، مما عززعدم اليقين في العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط ."
 
الربيع العربي وروسيا
 
يرى باحث من المساهمين في المجموعة  "ان أهتمام الولايات المتحدة الأميركية بمصادر الطاقة في المنطقة قد قل بسبب توصلها الى بدائل جديدة، للطاقة التقليدية ."
 
 ويقول باحث آخر" ان الأهمية الأستراتيجية للمنطقة و سعي الولايات المتحدة الي جذب بلدان آسيا الوسطى وجنوب القفقاز الى مشروع الشرق الأوسط الكبير ، يعقد العلاقة بين أميركا وروسيا . و في الوقت نفسه فأن حرب العراق أدى الى أضعاف النفوذ الأميركي وتعزيزالنفوذ الأيراني في المنطقة . و يتجلى هذا الضعف في مجال الأعلام في الدور المتصاعد لقناة الجزيرة،  التي كسرت الأحتكار الأعلامي الأميركي في تفسير النزاعات و الأحداث في العالم . و عموما فقد مضى الزمن الذي كانت فيه اميريكا تنصّب و تزيح الحكام في بلدان الشرق في الوقت المناسب لها"
 
الكتاب يؤكد بأن الصحوة العربية يمكن ان تؤثر في أوضاع المناطق ذات الغالبية المسلمة في روسيا اذا تمكن الأسلاميون الراديكاليون من تنفيذ مخططاتهم في الشرق الأوسط ، وأن موجة التطرف ستصل جنوب روسيا و القفقاس وآسيا الوسطى .و لكن الباحثة (زفياغيلسكايا ) تعارض هذا الرأي وتقول "  من المشكوك فيه ان يكون ثمة اساس للحديث عن سيناريو خاص خطط له من قبل القوى الخارجية ضد لروسيا على غرار الربيع العربي ، اذا فسرنا الحركات الأحتجاجية في الشرق العربي كنتيجة لمكائد الغرب ."
 
 ثمة مخاوف روسية من تداعيات الربيع العربي السلبية وتأثيرها على ألأوضاع في الجنوب الروسي و القفقاس ،  عبر عنها العديد من كتّاب المجموعة حيث يرى هؤلاء الكتاب :
" ان الواقع الجديد في الشرق الأوسط يمكن ان يضع روسيا امام تحديات جادة ، ولا يكمن ذلك في أسلمة  الشرق الأوسط الكبير والمزيد من زعزعة الأستقرار فيها فقط، ، بل في التغلغل الأميركي  في جنوب روسيا أيضأً .ان الولايات المتحدة تنظر الى كل حوادث لشرق الأوسط من منظور الصراع ضد إيران، ويرى ( يفغيني بريماكوف ) - وهو احد كتاب المجموعة - " ان الهدف الرئيسي لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة هو اضعاف النفوذ الأيراني وهذا ما يفسر سعي الولايات المتحدة لأسقاط نظام بشار الأسد في سوريا ، الحليف لأيران .وعموما فأن زعزعة الأستقرار في الشرق الأوسط القريب من الحدود الروسية و محاولة تغيير الأنظمة في سوريا وايران تجعلان من منطقة الشرق الأوسط مصدر مخاطر أمنية و أستراتيجية  متزايدة بالنسبة الى روسيا مما يشجع الأخيرة على العمل النشيط للوقوف بوجه أستخدام القوة العسكرية في المنطقة "
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


137
ما قل ودل : أسلحة للأستخدام الداخلي

                                                                                                                   جودت هوشيار
      
في الوقت الذي ينشغل فيه العراقيون بمعاناتهم اليومية وكابوس الموت المجاني ، وتنشغل القوى السياسية المعارضة بالأزمات التي أتقن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ، أفتعالها وعمل كل ما من شأنه تعميقها وتفاقمها و ألهاء الناس بها أطول فترة ممكنة ، يسعى هو ( المالكي )  وراء الكواليس وبعيداً عن أنظار الرأي العام  لأحكام قبضته على كل السلطات وتسخير الموارد المالية و البشرية للدولة من أجل تحقيق حلمه المستحيل في التربع على سدة الحكم في ما تبقى من العراق ، دكتاتوراٌ وزعيما أوحداً ، يتصرف بالبلاد و العباد على هواه وكما يحلو له .ولكن تحقيق هذا الحلم ليس هيناٌ من دون قمع أنتفاضة السنة وأخضاع الكرد لأرادته أو تحجيم أقليم كردستان الناهض في الأقل .
المالكي يعتقد أن حلمه لن يتحقق بالسياسة ، بل بأمتلاك قوات مسلحة مجهزة بأفتك أنواع الأسلحة من دبابات و صورايخ وطائرات مقاتلة وقاصفة و قادة أمنيين من صنعه ليكونوا رهن أشارته في خوض حروب قذرة ضد الشعب العراقي و ليس ضد عدو خارجي .
لست أنا الذي يقول هذا الكلام ، بل وسائل الأعلام الروسية التي نشرت طوال الأسبوع الماضي أخباراً وتقارير وتعليقات حول عقد صفقة أسلحة ضخمة جديدة بين العراق وروسيا ،  أبرمه وفد عراقي في الأسبوع الماضي في موسكو مع " "روسوبورون اكسبورت " لشراء طائرات مقاتلة و طائرات هيلوكوبتر هجومية  ودبابات و صوارخ و أنظمة دفاع جوى .
و حل العقد الجديد محل العقد السابق، المثير للجدل ، الذي وقعه المالكي خلال زيارته الأخيرة لموسكو في أكتوبر من العام الماضي.
 
المبلغ الأجمالي للصفقة (4.2) مليار دولار لم يتغير و لكن محتوى العقد الجديد، طرأعليه بعض التغييروحسب رغبة المالكي وهي أضافة أربع طائرات هيليكوبتر هجومية الى الصفقة مقابل العمولات المدفوعة لبعض الوسطاء .
ولعل أغرب ما تضمنه العقد الجديد من شروط ما يلي :
1 –  تمتنع روسيا عن عقد صفقات تسليح مع أى طرف آخر في المنطقة .
2 – تستخدم الأسلحة التي سيتم تجهيزها بموجب العقد ، داخل العراق حصراًً.
3 – تتعهد روسيا بتجهيز الأسلحة المتفق عليها خلال عام 2013 الحالي .

 
هذه الشروط تفضح نيات المالكي المبيتة لشن عدوان على أقليم كردستان .
 
الشرط الأول يقصد به منع بيع أى اسلحة و لو كانت خفيفة الى أقليم كردستان ، اما الشرط الثاني فهو دليل دامغ على ان شراء هذه الأسلحة ، لا يقصد به الدفاع عن العراق ضد أي عدوان خارجي محتمل ، بل لشن عدوان على الأقليم .
 
وتقول التقارير الروسية أن الوفد العراقي ألح كثيراً على ضرورة تجهيز الأسلحة على وجه السرعة وفي موعد لا يتجاوز نهاية العام الحالي . وهذا يفسر النداء الذي وجهته كلية الدفاع الجوي الى طلابها السابقين للألتحاق بالكلية لمن يرغب في ذلك ، لوجود نقص في عدد الطيارين حاليأً .
و السبب الآخر لأستعجال المالكي هو خشيته من الأطاحة به ،بعد السقوط المتوقع للنظام السوري خلال الأشهر القليلة القادمة .
 
ان كل من يتمعن في شروط العقد الجديد ، لابد أن يتساءل : هل مهمة الجيش – أي جيش في العالم - الدفاع عن حدود و سيادة البلاد أم شن الحروب العدوانية الداخلية ضد الشعب .
المالكي يسير على خطى صدام ،و يعتقد أن بوسعه أقامة دكتاتورية جديدة بأخضاع الشعب الكردي .  ويخيل اليه أنه سينجح في تحقيق ما أخفق فيه صدام ،  ويبدو أنه لم يتعظ يما جرى لصدام ، ولا يدرك ان الزمن تغير لصالح الشعوب  ومجازر الأنفال وحلبجة لن تتكرر ، لأن المباديء التي تحكم العلاقات الدولية اليوم ، لم تعد تسمح للطغاة بقهر شعوبهم بقوة السلاح بعيدا عن أنظار المجتمع الدولي،  أستنادا الى ذريعة عدم التدخل في الشؤون الداخلية. و أنصح المالكي أن يراجع نفسه و يستفسر من مستشاريه القانونيين ،  عن قرارات مجلس الأمن بهذا الشأن .
 ستثبت الأيام ان مصير المالكي السقوط الحتمي ، ان لم يتخل عن حلمه الجنوني المستحيل قبل فوات الأوان .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


138
ما قل ودل : حلم المالكي المستحيل

لمناسبة الذكرى العاشرة للغزو الأميركي للعراق ، عقد معهد  أميركان انتربرايز ( American Enterprise Institute ) في واشنطن ندوة تحت عنوان " العراق بعد عشر سنوات " من الغزو بطبيعة الحال ،  وكان من ضمن الخطباء الرئيسيين في الندوة ، السيناتور جون ماكين ( John McCain )، المرشح الرئاسي السابق ، الذي تحدث عن الوضع الراهن المتأزم  في العراق بعد عشر سنوات من سقوط النظام الصدامي .
وقال  السنتور الجمهوري أنه يشعر بقلق بالغ حول تداعيات الخلافات الحادة بين العراق وكردستان ( التعبير لماكين ) .ورداً على سؤال عن رأيه في العلاقات المتوترة بين بغداد وأربيل ، قال ماكين : " أعتقد ان رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني ما يزال يدعو لعراق موحد، ولكن الأحداث يمكن أن تملي عليه منحى مختلفا."
و أضاف ماكين :" ان المصالح الكردية العليا هي التي تحدد في المقام الأول ، أولويات الرئيس بارزاني ، و اعتقد أنه يرغب في التعاون معنا و يتطلع الى مساعدتنا له في العمل ، ولكنه في الوقت نفسه يدرس كل ما لديه من رهانات ، ولو كنت مكانه لفعلت الشيء ذاته ." وأستطرد ماكين قائلاً : " لقد  فوجئت عندما التقيت  بارزاني قبل ستة أشهر، واكتشفت أنه لايجتمع بانتظام مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي . سألت الرئيس بارزاني:
 
متى ألتقيت آخر مرة بالمالكي ؟ قال : منذ أكثر من عام .
 
وهذا امريقلقني كثيراً."

 
وتابع ماكين قائلاً : " الكرد يحلمون منذ عدة قرون بالدولة الكردية ، وأعتقد أن ثمة نخبة كردية ترى ، أن تحقيق هذا الحلم يلوح في الأفق، بالنظر إلى الأوضاع الراهنة  في سوريا والعراق وتركيا . ولكن على الرغم من هذا، ما زلت آمل في بقاء  العراق موحداً والمصالحة بين الفصائل السياسية  في البلاد ."  أنتهى كلام ماكين .
 
 المفارقة هنا ان سياسياُ ( أجنبياُ ) ،  ينتمي للدولة ، التي  يدين لها السيد نوري المالكي بمنصبه الرفيع ، يشعر بالقلق من تقسيم العراق اكثر من رئيس الوزراء ( العراقي )  ومن أركان نظامه ،          ولا شك ان " ماكين" قلق من تداعيات سياسات المالكي، التسلطية و الأقصائية التي ستقود الى تقسيم العراق حتماً .
المالكي، الذي سحرته نشوة السلطة المطلقة  ، سادر في غيه و غارق في حلمه المستحيل  بأن يتحول الى طاغية جديد في زمن أطاحت فيه الشعوب العربية بطغاة  أقوى و أكفأ و أذكى منه بكثير.
على المالكي ان يستفيق من حلمه قبل فوات الأوان، لأن زمن الحزب القائد و القائد الأوحد ولى الى غير رجعة ومن لم  يدرك هذه الحقيقة ، مصيره الى الزوال .
 
ثم ان الكرد -  الذين أنتزعوا بعض حقوقهم بنضال بطولى و تضحيات سخية وسقطت تحت أقدامهم طغاة و حكومات أكثر بأساً من المالكي و ميليشياته الطائفية  وحكومته العاجزة ، الغارقة في الفساد - لا يمكن ان يقبلوا بأقل من عراق فدرالي ديمقراطي تعددي و حكومة مركزية كفوءة و نزيهة تعمل لصالح العراق والعراقيين دون تفرقة او تمييز و ليس لصالح فئة صغيرة من المتاجرين بالدين الحنيف ، حكومة تنتمي الى هذا العصر و ليس الى عصور الظلام و التخلف ،  وكلما ادرك المالكي هذه الحقيقة سريعاً ، كان ذلك في مصلحة البلاد و أفضل لمستقبله السياسي ، أن كان له مستقبل .!
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


139
نداء أوجلان التأريخي للسلام، ألقى الكرة فى ملعب أردوغان
                                                                                                                     جودت هوشيار      
هل قدم اوجلان تنازلات مبكرة ؟

أثار نداء السلام ، الذي وجهه زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في رأس السنة الكردية وعيد النوروز ، من سجنه في جزيرة ايمرالي لأنهاء النزاع الدموي المستمر منذ ثلاثين عاماً بين الجانبين الكردي و التركي ، أهتماما بالغاُ في الأوساط السياسية والأعلامية التركية و الكردية والعالمية. لم يكن نداء اوجلان مجرد بيان سياسي ، بل " خارطة طريق لتحقيق السلام المنشود ، تبدأ بوقف ﻹطﻼق النار وانسحاب للمقاتلين وتغليب الحل السياسي للقضية الكردية.
ولكن الغموض الذي يكتنف خطة اوجلان يثير تساؤلات كثيرة :
 هل يكون وقف اطلاق النار من جانب واحد أي من جانب مقاتلي "الكردستاني " فقط أم من الجانبين الكردي و التركي في آن واحد ، ولماذا يتوجب على المقاتلين الكرد المتواجدين في كردستان الشمالية الأنسحاب الى خارج تركيا بعد نزع أسلحتهم ، وهل يشمل نزع السلاح ، المقاتلين في جبال قنديل  ؟ وما البلد المقصود بعبارة " خارج تركيا "  ؟.
واذا كان الطرف التركي يسعى الى ايجاد حل سياسي للقضية الكردية ، لماذا يشدّد على ضرورة مغادرة أعضاء الحزب وطنهم بعد تخليهم عن القتال ونزع أسلحتهم . و أين الضمان بأن السلطات التركية لن تغدر بهم ! فالكرد يخشون تعرض المقاتلين المنسحبين لنيران  القوات التركية،  كما حصل في آخر مرة أعلن فيها " الكردستاني " وقف أطلاق النار من جانب واحد في عام 2004.
و يصدد الأنسحاب الى خارج تركيا ، ثمة احتمالات عديدة ، غير ان الأحتمال الأكثر ترجيحاً هو الأنسحاب الى أقليم كردستان (العراق) ، رغم تردد أنباء عن احتمال أنتقالهم الى سوريا ، ولكننا نعتقد ان هذا أمر مستبعد ، لأن الحكومة التركية متوجسة من سيطرة "حزب الأتحاد الديمقراطي" الموالي لحزب أوجلان على المناطق الكردية في سوريا ,و كذلك من غير المحتمل الأنسحاب الى ايران لأسباب عديدة .وثمة أحتمال آخر هو مغادرة تركيا الى المنافي في الدول الغربية .
 ليس من الواضح لحد الآن الجدول الزمني للأنسحاب ، ففي الوقت الذي توقع فيه اوجلان أن ينتهي الأنسحاب بحلول شهر أغسطس القادم ، قال خبراء أتراك في الشأن الكردي ، ان الوقت المحدد من قيل اوجلان غير كاف ، في حين قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوعان ، في تصريح صحفي أدلى به خلال جولته الأوروبية الحالية ، أنه يتوقع أن يستكمل الأنسحاب قبل نهاية العام الحالي . ولكن من الواضح ان الجدول الزمني يتوقف على مدى جدية الحكومة التركية واستعدادها تلبية الحد الأدنى من حقوق الشعب الكردي  و الضمانات التي يمكن ان تقدمها لسلامة المقاتلين لدى انسحابهم من تركيا..
قال القائد العسكري للحزب مراد قره يلان في رسالة فيديو بثتها وكالة أنباء الفرات نيوز الكردية « نعلن رسمياً وجلياً وقف إطلاق النار الذي بدأ تطبيقه اعتباراً من 21 مارس، وهو اليوم الذي أعلنت فيه الرسالة» التي وجهها أوجلان."
وأضاف أن «مقاتلي كردستان الحرة لن يقوموا بشن أي عمل عسكري.. لكن إذا ما تعرضت قواتنا للاعتداء فإنها بالتأكيد ستدافع عن نفسها ضد مثل هذه الهجمات».
وبشأن انسحاب قواته من تركيا، أكد الزعيم العسكري لحزب العمال الكردستاني " أنه لا يستطيع تنفيذه إلا بعد أن تضع السلطات التركية آليات خاصة بذلك."
وقال «إذا تحملت الدولة التركية والحكومة والبرلمان مسؤولياتهم واتخذوا القرارات اللازمة المتعلقة بالانسحاب وإذا شكلوا اللجان والمؤسسات اللازمة وبنوا القواعد لمثل هذا الانسحاب فإننا سنفعل ذلك أيضا».
وأضاف قره يلان «في الوقت الحالي ننتظر إرساء هذه القواعد».
وفي تصريح صحفي ، أدلى به في يوم 21 آذار الجاري أي فور أذاعة نداء اوجلان ، قال قره يلان ، ان اوجلان قدم تنازلات مبكرة !

موقف الشارع التركي

دأبت الحكومات التركية المتعاقبة على شحن الشارع التركي بأفكار قومية متعصبة ضد الكرد ، منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 وحتى عهد قريب .
عندما تم أختطاف اوجلان من قبل المخابرات التركية بالتنسيق مع المخابرات الأميركية والموساد الأسرائيلي وأعتفاله في سجن أنفرادي في جزيرة ايمرالي ، قال " بولاند أجويد " رئيس الوزراء التركي في ذلك الحين ، في تصريح صحفي ، ان العدو الرئيسي لحق تقرير المصير للكرد هو رجل الشارع التركي ، الذي تربى نفسيا وفق معاهدتي سيفر ( 1920) ولوزان( 1923) ، اللتان حددتا ملامح تركيا الحديثة و طبيعة العلاقات القومية في الدولة التركية و التفكير النمطي للمواطن التركي . و عندما كان مؤتمر لوزان يناقش مسألة حق تقرير المصير للشعب الكردي ، قال ممثل تركيا عصمت باشا ، " ان الكرد هم أتراك الجبال ... وقد نسوا لغتهم الأم ، و ليسوا بحاجة الى حق تقرير المصير."
كان عصمت باشا أحد المقربين من أتاتورك ، و كل ما قاله أتاتورك أو أركان نظامه مطبوع بشكل راسخ في أذهان اغلبية الشعب التركي ، وليس من السهل تجاهله أو ازالته على نحو سريع .

مواقف الأحزاب التركية من القضية الكردية

يعد حزب الحركة القومية ( الذي يحتل المرتبة الثالثة من حيث النفوذ و عدد المقاعد في البرلمان التركي) حزبا قوميا متطرفا ومن أشد المعارضين للحل السلمي للقضية الكردية . ويكفي القول ان مؤسس الحزب آلبارلسان توركيش ، من مؤسسي الجهاز الخاص المعروف بـ( غلاديو ) ومنظمة ( الذئاب الرمادية ) الأرهابية ، و يحاول هذا الحزب الشوفيني بكل ما أوتي من قوة ، عرقلة تنفيذ خطة اوجلان السلمية و التهجم على حزب العدالة و التنمية وأتهام رجب طيب اردوغان وحزبه بالخيانة ومحاولة تقسيم تركيا .

أما حزب المعارضة الرئيسي في تركيا اليوم ، وهو حزب الشعب الجمهورى ، الذي يتزعمه كمال كليكدار اوغلو ( وهو من أصل كردي ) فأن موقفه من القضية الكردية غامض ومتناقض ، لوجود جناحين داخل الحزب ، الجناح الأول يتبع خطاً متشدداً على خطى مؤسسه كمال أتاتورك ، ولا يختلف موقفه عن موقف حزب الحركة القومية المتطرف ، اما الجناح الثاني ، وهو جناح ديمقراطي و معتدل فأنه يؤيد الحل السلمي للقضية الكردية ، ويبدي أستعداده للمساعدة في أنجاح المفاوضات التركية – الكردية ، ولكن يبدو ان الجناح الكمالي المتطرف في الحزب يعرقل مساعي الجناح الديمقراطي للأسهام في حل القضية الكردية سلمياً . وفي الوقت نفسه فأن لدي الجناح الديمقراطي خلافات مع حزب العدالة و التنمية حول القضية الكردية وسبل حلها سلمياً .
لقد ظل حزب الشعب الجمهوري على مدي عقود ، يستمد قوته الدافعة من الجيش ، حارس الكمالية ، ولكن حزب العدالة و التنمية الحاكم أستطاع فرض هيمنته الكاملة على الجيش ، وبذلك فقد حزب الشعب الجمهوري كثيرا من نفوذه السابق .

الضغوط الخارجية على تركيا لحل القضية الكردية

على مدى السنوات ، التي أعقبت تفكك الأتحاد السوفييتي وفقدت فيها تركيا دورها السابق كقلعة حصينة معادية للشيوعية ، لم يتوقف الأتحاد الأوروبي ومنظمة العفو الدولية و منظمات حقوق الأنسان الأخرى في العالم عن توجيه أنتقادات لاذعة الى تركيا بسبب سجلها السيء في مجال حقوق الأنسان و بخاصة اجراءاتها التعسفية ضد مواطنيها الكرد .وفي الوقت نفسه ، لم تعد الكمالية تلبي حاجة تركيا المعاصرة ولا تنسجم مع العلاقات الدولية التي نشأت بعد أنهيار المعسكر الأشتراكي ولا مع التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ، وكان البديل الذي يتوائم مع الأرث التأريخي للبلاد و يلبي حاجتها في الظروف المستجدة و يلاقي قبولاً من المجتمع الدولي هو " الأسلام المعتدل " وهذا ما أدركه مؤسسو حزب العدالة و التنمية وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان .
الكرة في ملعب اردوغان

بعد سنوات طويلة من الحرب الشرسة ضد حزب العمال الكردستاني والقصف المتكرر لمعاقل مقاتليه سواء داخل كردستان ( تركيا) أو في جبال قنديل وتغلغل الجيش التركي أحياناً داخل أراضي كردستان الجنوبية لملاحقة مقاتلي الحزب ، اقتنع اردوغان أخيرا ، ان من المستحيل القضاء على الحركة الكردية المسلحة عن طريق محاربة مقاتلي ( الكردستاني ) والقمع التعسفي ضد نشطاء الحزب في الداخل .
 و من الأنصاف القول ان أردوغان أتخذ سلسلة اجراءات  لصالح الأنفتاح التدريجي على الكرد عن طريق رفع بعض القيود المفروضة عليهم و بخاصة في المجال الثقافي ، وثمة اليوم فضائيتان تبثان باللغة الكردية احداهما ، حكومي وهي قناة ( TRT6 ) والأخرى تعود الى القطاع الخاص وهي قناة (Dunya) ، كما سمح بأستخدام اللغة الكردية في المحاكم وفي التدريس في المدارس الخاصة و نشر الكتب وأصدار بعض المطبوعات الأخرى ، ولكن هذه الأصلاحات الجزئية غير كافية ، لأن المهم هو الأعتراف بالهوية القومية للكرد وتحقيق الأدارة الذاتية لهم ومنحهم  حقوقهم الثقافية ، في ظل نظام ديمقراطي تعددي يحترم الحقوق القومية لكافة سكان البلاد .
وفي مقدمة الخطوات التي ينبغي أتخاذها ، تعديل الدستور الحالي ، الذي ينص في مادته ( 66) أن كافة سكان تركيا هم أتراك.كما ان تنفيذ اعلان اوجلان يحتاج الى حزمة قوانين وهذا ما أعترف به وزير الداخلية التركي معمر غولر ولكن لحد الآن لم يتم أأتخاذ أية خطوات في هذا الصدد.
و يمكن تفسير توقيت المفاوضات مع اوجلان بحاجة أردوغان الى كسب التأييد الكردي فى الفترة القريبة القادمة ، خاصة ان الأنتخابات المحلية و البرلمانية على الأبواب والتي ستجري خلال عام 2014 ، و يأمل أردوغان في تعديل الدستور و أقامة نظام رئاسي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة و سيكون " أردوغان " المرشح الأوفر حظاُ للفوز بمنصب الرئيس .
لقد رحب " اردوغان" بأعلان " اوجلان "، الذي تم اعداده بعد مفاوضات بين الجانبين منذ شهر أكتوبر الماضي ، وقال في تصريح صحفي خلال زيارته للدانمارك بعد يومين من اعلان اوجلان " ان الحكومة ستفعل كل ما هو مطلوب منها في اطار القانون وسنتخلص من بعض المشاكل بمرور الوقت وفي نهاية المطاف سنضع حدا لمشكلة عمرها ثلاثين عاما . واذا تم أنسحاب (PKK) بحلول نهاية عام 2013، فأن عام 2014 سيكون عاما جيدا للأنتخابات المحلية و البرلمانية، وهذا يخدم مصالح حزب الديمقراطية و السلام أيضا ." واعلن أنه سيسمح لوفد " حزب الديمقراطية و السلام " بزيارة " أوجلان " مرة أخرى للتباحث معه حول العملية السلمية .
حقا ان حل القضية الكردية سلميا سيتيح لأردوغان جني مكاسب سياسية هائلة ، و هذا ما دفعه الى القول في تصريح مثير للصحافة الأجنبية أنه سيحل القضية الكردية بطرق سلمية ، حتى اذا كلفه ذلك مستقبله السياسي .
و اذا كان " أردوغان " جادا و صادقا في تصريحاته و نياته ، عليه ترجمة هذه الأقوال الى أفعال عبر سلسلة من الخطوات العملية الجادة ، مثل تعديل الدستور عى اساس مبدأ المواطنة لا العرق والأعتراف بالحقوق القومية المشروعة للكرد و القوميات الأخرى غير التركية في البلاد ,
ورغم بعض الأنتقادات المبطنة الموجهة الي " اوجلان " من قيادة الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني ، لتقديمه تنازلات مبكرة على حد قول مراد قره يلان ، الا أن خطة أوجلان  لتحقيق السلام على اساس الحل العادل للقضية الكردية في تركيا تنم عن أدراكه بأن الحوار هو لغة العصر و بأن ما تعذر تحقيقه عن طريق النضال المسلح - رغم التضحيات السخية التي قدمها الشعب الكردي – سيتحقق بالنضال السلمي وقد أظهر ثقة بزعيم الحزب الحاكم -يعتبرها البعض مبالغاً  فيها – ويأمل " اوجلان " قيام الحكومة و البرلمان ، الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم  بخطوات عملية لأنجاح عملية السلام ، وعلى اردوغان تبرير هذه الثقة ، خاصة وان " أوجلان " ألقي الكرة في ملعبه أمام أنظار العالم بأسره . و العالم ينتظر منه الأستجابة لنداء السلام و عمل كل ما من شأنه تسهيل التنفيذ السلس لخريطة الحل السلمي للقضية الكردية في تركيا . فهل يترجم" أردوغان " أقواله الى أفعال ؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة .
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


140
حرية الصحافة بين التشريع والتطبيق

                                                                                                                   جودت هوشيار

حرية الصحافة أحد أهم أشكال حرية الرأي و التعبير وهي  المحك الحقيقي للحريات الاخرى وأداة اساسية في النقد والمتابعة والرقابة على اداء السلطة التنفيذية , والحرية الصحفية التي نقصدها ، هي تلك التي تسمح بالنقد الموضوعي وتحري الوقائع وتقصي الحقائق وصولا لأيجاد الحلول لمشاكل المجتمع . وهي القوة التي تصوغ أكثر من أي قوة أخرى الآراء و الأذواق والسلوك.
، ان حرية الصحافة يمكن النظر اليها من ثلاث زوايا، وهي : ويرى بعض الباحثين
حرية المعرفة: وهي الحق في الحصول على المعلومات اللازمة لتنظيم حياتنا والحصول على قدر من المشاركة في الحكم، وهو حق اجتماعي لعامة الجماهير.
حرية القول: وهي الحق في نقل المعلومات، بحرية، وتكوين رأي، في أي موضوع، والمناقشة حوله. وهو ما يقصد به "حرية الصحافة" وهو بدوره حق المجتمع، تؤديه عنه وسائل الأعلام.
حرية البحث: وهي الحق في اتصال وسائل الأعلام ، بمصادر المعلومات، التي يجب معرفتها، ونشرها. وهو حق للمجتمع كذلك، تؤديه عنه وسائل الأعلام..
إن المسؤولية الأساسية للصحافة، هي الدفاع عن هذه الحريات الثلاث ضد كل تدخل خارجي ، مهما كان مصدره سواء من جانب الحكومة أوالقوى المؤ ثرة، في داخل المؤسسات الأعلامية نفسها . ان تثبيت حرية الصحافة في نصوص الدستور أو القانون، لا يعني، بالضرورة، توافر حرية الصحافة، وإنما ينبغي توافر ضمانات تدعم هذا الحق .
                           وتنص قوانين الصحافة في ظل الأنظمة الديمقراطية و بخاصة في الدول الغربية المتقدمة ، على منح الحرية لكل مواطن كامل الأهلية  في أصدار اي مطبوع  دوري دون أذن مسبق شريطة ان يتم لاحقا اخطار الجهات المعنية بذلك , وكذلك  أعطاء الصحفي حق التعبير عن رأيه بحرية دون رقابة وضمان حق المواطن في الحصول على المعلومات الضرورية  للأسهام في اتخاذ القرار الذي يمس حياته والمجتمع الذي يعيش فيه ..
اما على مستوى الممارسة والتطبيق فان الحرية الصحفية نسبية و غير مطلقة حتى في أكثر الدول ديمقراطية والتي تضع خطوطا حمراء أمام العديد من الموضوعات الحساسة بالنسبة اليها دون ضغط أو أكراه مباشرين بل تفعل ذلك بأساليب شديدة الفعالية والذكاء , حتى لتبدو وكأنها لا تتدخل في شؤون الصحافة
اما الانظمة الأستبدادية  فأنها لا تكتفي بوضع القيود المجحفة الواردة في قوانين الصحافة و المطبوعات بل تلجأ في كثير من الاحيان الى وضع مواد وبنود فضفاضة  في تلك القوانين يمكن تفسيرها بأشكال مختلفة مثل الفقرات الخاصة بمصالح البلد العليا و الأمن الوطني وتقاليد المجتمع و عاداته  وما شابه ذلك. 
الصحافة رسالة قبل ان تكون مهنة و صناعة و من الضروري أن تلعب دوراً تنويرياً في نبذ تلك العادات وليس الحفاظ عليها وعدم المساس بها .
ورغم ان قوانين الصحافة حتى في ظل الانظمة المنغلقة  تنص على ضمان حرية النقد , الا ان هذه الحرية شكلية الى حد كبير وتبقى حبرا على ورق أو يوضع لها سقف محدد لايمكن تجاوزه دون الوقوع تحت طائلة المساءلة . فعلى سبيل المثال نجد ان الأنظمة المغلّفة بغشاء ديمقراطي زائف ، تسمح بأنتقاد المسؤولين من ذوي المناصب الدنيا أو المتوسطة و تحظر توجيه النقد الى رئيس الدولة او رئيس الوزراء أو الوزراء كما كان الأمر مثلاً ،  في ظل النظام الصدامي أو تمنع المساس بالأداء الحكومي عموماً و ان كان هذا الأداء فاشلاً أو فاسدأ أو ظالماً
و تلجأ الحكومات القمعية الى شتى اساليب الترهيب والترغيب لمنع الكاتب او الصحفي من التعبير عما يعتمل في ذهنه او يشغل باله ومن تسجيل الوقائع والاحداث بصدق  وامانة اذا كانت دلالاتها تتعارض مع وجهة النظر الرسمية , و الصحافة في ظل مثل هذه الأنظمة تتحدث في العادة عن الأنجازات و الأيجابيات فقط و تعمد الى  أغفال السلبيات و الأخطاء ومواطن الخلل و الزلل ، مما يؤدي الى تفاقمها و صعوبة معالجتها مستقبلاً . ان الهوة التي تفصل بين التشريع والتطبيق في أي بلد ، تضيق او تتسع حسب هامش الحرية الحقيقية  المسموح به للصحافة .
" يرى " شريدان "(1 ) : خير لنا أن نكون بدون برلمان من أن نكون بلا حرية صحافة ، الأفضل أن نحرم من المسؤولية الوزارية ومن الحرية الشخصية ومن حق التصويت على الضرائب على أن نحرم من حرية ا لصحافة وذلك انه يمكن بهذه الحرية وحدها أن تعيد الحريات الأخرى إن عاجلا أم أجلا. حيث تلعب حرية الصحافة دورا كبيرا ليس في الوصول إلى الحقيقة فحسب بل أنها تشعر الصحفي بالارتياح والطمأنينة ، وتكون بمثابة الغذاء بالقياس إلى أجسام البشر.
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


141
ما قل و دل : البصرة تستغيث من كابوس سوري

                                                                                                                          جودت هوشيار
 
يحتضن أقليم  كردستان عشرات آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم المجازر الدموية    في بلادهم ..  وتقول مديرية الهجرة والمهجرين في محافظة دهوك أن تدفق اللاجئين السوريين ما زال مستمرا بشكل يومي. حيث وصل عدد اللاجئين الذين دخلوا الإقليم عن طريق محافظة دهوك (80 ) ألف لاجئ سوري وهو في ازدياد بمعدل 500 لاجئ يومياً . و يؤي مخيم         " دوميز " و حده ،  الواقع جنوب غرب محافظة دهوك ( 56 ) ألف لاجئ من النساء والأطفال والشباب . و قد ادت موجة الأمطار الغزيرة التي اجتاحت المنطقة مؤخراً الى سقوط عدد من الخيم في " دوميز " وأرغمت العديد من الأسر للجوء إلى أماكن أخرى.
 
و على اثر ذلك تم اطلاق حملة واسعة في الأقليم  لجمع التبرعات و المساعدات للاجئين السوريين برعاية مفوضية شؤون اللاجئين للأمم المتحدة حيث تتلقى مئات الأسر السورية المساعدات المقدمة من مواطني الإقليم يومياً.
ووفر القطاع الخاص فرص عمل للشباب السوري لأعالة عوائلهم . و لكن هذا لا يعني عدم وجود صعوبة في تأمين متطلبات الحياة و فرص العمل  لعشرات آلاف اللاجئين السوريين  ، و لم تتلقى كردستان شيئاً من المساعدات ، التي تقدمها الدول المانحة عن طريق الأمم المتحدة الى الدول التي تؤى اللاجئين السوريين . و مع ذلك فأن ظروف اللاجئين السوريين في الأقليم أفضل من دول الجوار الأخرى .
 
لم يكن بودي التطرق الى هذا الموضوع ، لأن أغاثة اللاجئين مهما كانت أنتماءاتهم العرقية و الدينية ، واجب أنساني و ليست منة من أحد .
 
ولكن كان من سؤ حظ بضع عشرات من الشباب السوري الهاربين من جحيم الأسد ، التوجه الى محافظة البصرة بحثا عن فرص عمل لأعالة أسرهم . و كان عددهم ( 82 ) شاباً فقط ، ومع ذلك فقد أخذت محافظة البصرة تستغيث لأنقاذها من الغزو السوري ،  رغم العلاقة الحميمة بين النظامين السوري و العراقي حاليا . فقد دعا رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس المحافظة حسن الراشد في حديث لـ"السومرية نيوز"، الحكومة العراقية وبعثة منظمة الأمم المتحدة في العراق الى الإسراع  بأنشاء مخيم للاجئين السوريين على وجه السرعة لأعتبارات أمنية بالغة الأهمية، بعد أن بلغ عددهم 82 لاجئاً؛ و أعترف الراشد ان معظمهم يعانون من ظروف معيشية قاسية.
 
وشدد الراشد على أن مجلس المحافظة لا يريد رؤية اللاجئين السوريين على أراضيها  ويتطاير من شرورهم ، مضيفاً أن "المجلس بصدد عقد اجتماع طاريء و موسع في مقره لمناقشة تداعيات تدفق عناصر غريبة عن ثقافة و لاية الفقيه و تشكل خطراً على أمن المنطقة ". ويبدو ان هذه المعضلة الأمنية التي تهدد محافظة البصرة في طريقها الى الحل بعد أن أخذ اللاجئون السوريون بمغادرة المحافظة الواحد تلو الآخر . ويقول اللاجيء السوري عبد الله الذي غادر البصرة الى كركوك ان"عدم الإهتمام بنا والإكتراث لمعاناتنا هو الذي دفعني الى مغادرة البصرة الى كركوك ".
 
و اود ان أطمئن الراشد انه لن يجد في البصرة بعد اليوم  لاجئا سوريا واحدا. ولا خوف علي البصرة من الغزو السوري و ان الكابوس المتمثل ب( 82) شابا سوريا ، كان مجرد حلم مزعج مر سريعا  و الحمد لله و لن يتكرر أبداً .


142
خمسون عاماً على صدور كتاب
" الحكايات الملحمية الكردية المغناة "

                                                                                                                          جودت هوشيار
 
يتسم الفلكور  الكردي بالاصالة والخصوبة والثراء ، وبتعدد اشكاله وانماطه ، وتنوع موضوعاته ،  واساليبه التعبيرية ، واحتوائه على عدد هائل من الاساطير والحكايات والملاحم والاغاني والالوان الاخرى من الادب الشعبي ، التي ترتفع بمضامينها الانسانية ومستواها الجمالي الرفيع الى مصاف الاثار الخالدة في الفلكلور العالمي , بيد ان القسم الاعظم من هذا التراث لم يتم لحد الان تدوينه وجمعه , ناهيك عن دراسته واستلهامه في الاعمال الادبية والفنية . وما لدينا  اليوم من نصوص فولكلورية  كردية , يعود الفضل  في تدوين القسم الأكبر منه وتحقيقه ونشره الى تلك النخبة المثقفة الواعية من كرد ما وراء القفقاس .
 لقد شرعت تلك النخبة الرائدة  بجمع النصوص الفولكلورية لأفضل نماذج الادب الشعبي الكوردي منذ  العشرينيات من هذا القرن وحققت انجازات باهرة في هذا المجال , وكانت ثمرة جهودها الدؤوبة على مدى  عشرات السنين عدة كتب ومجاميع فولكلورية كردية صدرت في اوقات مختلفة في يريفان وبطرسبورغ وموسكو باللغات الكردية والارمنية والروسية , ولعل أهم هذه الكتب على الاطلاق  كتاب " الحكايات الملحمية الكوردية المغناة " الصادرعن دار نشر الاداب الشرقية في موسكو في عام (1962 ) برعاية معهد الادب  العالمي في موسكو ومعهد الادب في يريفان .
 
وقد رحبت الأوساط الثقافية بهذا الكتاب وأعتبر العلامة " قناتي كوردو  " صدوره حدثا مشهودا , ويضم الكتاب النصوص الفولكلورية لأشهر وأهم الحكايات الملحمية الكوردية المغناة مع ترجمتها الى اللغة الروسية ومقدمة ضافية وقيمة للعلامة الراحل " حاجي جندي " وهوامش وتعليقات مفيدة , هذه الملاحم هي ( مم وايشى , زنبيل فروش , ليلى ومجنون , مم وزين  ,دمدم , سيدا وئاجى ,خجى وسيابند ,كاروكللك ) وقد تم تدوين النصوص الفولكلورية الكردية لهذه الملاحم في فترات  مختلفة بين الاعوام  (1931- 1955 ) من قبل " حاجى جندى , قناتى كوردو , عرب شمو ,تسوكرمان " , وذلك عن لسان عدد من الرواة الكرد القاطنين في المناطق الكردية من ارمينيا وجورجيا . وكان هؤلاء الرواة من المسنين الذين حباهم الله بالموهبة والذاكرة القوية والصوت الشجي في معظم الاحيان ،  حيث أن هذه الملاحم – وهي قصص شعرية قد يتخلل بعضها مقاطع نثرية متفرقة – كانت تنشد في المجالس والمناسبات والاعياد بمصاحبة الالات الموسيقية , والحان هذه الملاحم رائعة وقد قام الموسيقار الارمني البارز " كوميتاس "  بتدوينها ونشرها .
 
 والحكايات الملحمية الكردية ذات مضامين بطولية وعاطفية وتتجسد فيها الروح الرومانسية وتستند الى وقائع وحوادث تاريخية وابطال  حقيقيين لعبوا أدوارا مهمة  في  تاريخ الشعب  الكردي وفي مقدمة هذه الحكايات الملحمية , ملحمة " دمدم " التي تصور بطولة الكرد في الدفاع عن القلعة المشهورة بهذا الاسم ضد قوات الشاه عباس*.
 
هذه الملاحم وصلت الينا من أعماق التاريخ عبر اجيال عديدة وخضعت لبعض التحويرأحياناً وللحذف والاضافة في احيان اخرى , وتم  تكييفها لتلائم  الوجدان الشعبي وتخلق نوعا  من التوازن النفسي بين الواقع المرير المكدود  الناجم عن الأستبداد والظلم  و الأضطهاد  القومي وبين ما تصبو اليه الارواح والنفوس من حياة حرة كريمة , وهي تعكس - أي الملاحم- بكل  عمق وصدق حياة الشعب الكردي وخصائصه القومية ونضاله التحرري.
 
أن ابطال هذه الملاحم هم من  الفلاحين والرعاة والصيادين الذين اكتسبوا شعبية واسعة بين الجماهير العريضة بفضل تعبيرهم عن الوجدان الشعبي وتجسيدهم  للقيم والمثل العليا النبيلة للشعب الكردي وتطلعاته وآماله , وقد أسبغ عليهم الشعب الصفات الايجابية مثل البطولة والشجاعة والاخلاص والتضحية والفداء والكبرياء , وعلى النقيض من ذلك نجد الاعداء والاشرار محل أزدراء  وسمخرية لاذعة , وتحتل المرأة الكردية ( الأم , الأخت , الحبيبة) مكانة متميزة في الملاحم الكردية فهي ذكية وحكيمة وباسلة تقف الى جنب الرجل دائما وخاصة في الشدائد والملمات ،  وحين تحس بالظلم أو الاضطهاد   تتحول الى لبوة في الدفاع عن نفسها وأهلها وعشيرتها " كاروكلك " وهي عزيزة النفس وذات كبرياء وأرادة قوية .
 أسماء بطلات هذه الملاحم الى جانب أسماء ابطالها أصبحت عناوين لها " مم وزين " ، " خجي وسيابند " , " مم وايشى " وغيرها .
 بطلات هذه الملاحم رموز حية للنضال من أجل المساواة والعدل والمحبة وللاحتجاج الصارخ ضد التزمت الأجتماعى والعادات البالية   .
الملاحم الكردية تجسد القيم النبيلة والمثل السامية للشعب الكردي , قيم الرجولة والشجاعة والاقدام والدفاع عن الارض والكرامة والحرية , كما انها تعكس تقاليده الأيجابية العريقة مثل تكريم الضيف والدفاع عن المظلوم واحترام المرأة .
 
وما أحوجنا اليوم الى استيعاب هذه القيم والمثل العظيمة واستلهام العبر والدروس منها وترجمتها الى الواقع العملي لتكون حياتنا الجديدة المشرقة  وثقافتنا المعاصرة   امتداداً طبيعيا لتاريخنا العريق , وهنا  تكمن قيمة وأهمية العمل الجليل الذي أنجزته  النخبة الواعية من كرد ما وراء القفقاس قبل خمسين عاماً و بأمكانيات متواضعة و لكن بهمة عالية و اخلاص لا حدود له ,
لقد سبق لنا فى دراسات سابقة عديدة و  منشورة ، أن ناشدنا وزارة الثقافة و الأكاديمية الكردية فى أقليم كردستان ، أن تحذو حذو النخبة المثقفة الواعية من كرد ما وراء القفقاس ، فالزمن لا يرحم ، و فى  كل يوم جديد يختفى من الوجود جزء من التراث الشفاهى الذى أبدعته الأجيال الكردية المتعاقبة ، خاصة و نحن نعيش فى  عصر الثورة الرقمية و لم يعد هناك فى واقع الأمر رواة كثيرون للحكايات و الملاحم الشعبية أو من يهتم بتسجيلها . و هذا أمر مؤسف ، لأن تراث أية أمة ركن مهم و أساسى من أركان هويتها القومية . و من واجب المؤسسات العلمية و الثقافية فى الأقليم أيلاء هذا الأمر الأهتمام الذى يستحقه ، لكى لا نكون سببا فى ضياع جزْ لا يستهان به
من أثمن ما نملك من رصيد أبداعى و ثقافى .
-----------------------------------
ملاحظة : سبق لنا تسجيل و تحليل هذه الملحمة الخالدة و نشرها  في صحيفة " خبات " الغراء سنة 1999 ،  ثم ضمن كتابنا " ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ " الصادر في أربيل سنة 2011
------------------------------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


143
رائعة العقاد عن أمه الكردية
                                                                                                                          جودت هوشيار
اذا حاول أي باحث أعداد موسوعة تتضمن سبر الاعلام , من ذوي الاصول الكردية , الذين برزوا في شتى مجالات العلم والادب والثقافة و السياسة -  وكانت لهم أسهامات بارزة  فى الحضارة الأسلامية و فى النهضة الحديثة لشعوب الشرق الأوسط - لأستغرق ذلك سنوات طويلة من البحث والتقصي والجهد المتواصل الدؤوب ،  وربما أحتاج الامر الى أكثر من مجلد واحد , ففي مصر وحدها عدد من أبرز بناة الدولة المصرية فى تأريخ مصر الوسيط و الحديث ، من أصول كردية ، في مقدمتهم  مؤسس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبى و مؤسس الدولة العلوية محمد علي باشا الكبير ..
و يقول الكاتب و المفكر الشهير عباس محمود العقاد : “ حسب بلاد الأكراد شرفاُ أنها أخرجت للعالم الإسلامي بطلين خالدين: صلاح الدين الأيوبي ومحمد علي الكبير، وقد تلاقيا في النشأة الأولى، وفي النهضة بمصر، وفي نسب القلعة اليوسفية إليهما(قلعة القاهرة اليوم)، فهي بالبناء تنتسب إلى صلاح الدين، وبالتجديد والتدعيم تنسب إلى محمد علي الكبير...  ونحن نعرف بأن الناس أمناء على أنسابهم وأصولهم، وأن الكثير من القادة العسكريين الذين خدموا مع محمد علي باشا وأحفاده كان أغلبيتهم من الكرد، أمثال إسماعيل باشا الكاشف تيمور، جد الأسرة التيمورية بمصر.
. و تأريخ مصر الحديث حافل بأسماء عدد من رواد النهضة الفكرية فيها الذين  ينحدرون من أصول كردية قريبة و منهم على سبيل المثال و ليس الحصر: الأمام محمد عبده ورائد تحرير المرأة قاسم أمين  و الشاعر احمد شوقي و الأديب محمود تيمور, و الكاتب يحيى حقي و الفنان التشكيلى  سيف وائلي و عشرات غيرهم  ,  ولكن أياً منهم لم يكتب عن أصله الكردي بمثل الصراحة و الوضوح والصدق والاعتزاز ، كما فعل الكاتب الفذ عباس محمود العقاد* (28 يونيو 1889 -  12 مارس 1964) , ففي مذكراته - أو على نحو أدق - في سيرته الذاتية ، التي صدرت في كتاب نشرفي القاهرة سنة 1969  تحت عنون ( أنـا )  كرس العقاد فصلاً شيقاًعن والدته الكردية ، طافحاً بأنبل المشاعر الأنسانية و أسمى الفضائل البشرية بأسلوبه المتفرد الذي هو نسيج وحده . لم يكتب العقاد نثرا عاديا بل قطعة أدبية رائعة أزعم انه لا نظير له في أدب المذكرات.
 لم أقرأ قط وصفا لوالدة أروع من وصف العقاد لوالدته الكردية على كثرة ما قرأت من مذكرات المشاهير المدونة  باللغات العربية و الأنجليزية و الروسية  أو المترجمة اليها . و ما قيل أو كتب عن ( الأم ) فى الأدب العالمى .  فقد استطاع العقاد ان يرسم صورة نابضة بالحياة لأم ( عظيمة ) تكاد تكون مثالية . أجل أنها كانت أمرأة عظيمة تتسم بقوة الشخصية و  تتمتع بأسمى الصفات الانسانية من طيبة واخلاص وتضحية ورهافة حس ورقة شعور وصبر وجلد على المحن والشدائد  و أيمان و تقوى أضفى عليها  وقاراً وهيبة , وهذه خصال وفضائل قلما تجتمع في أنسان واحد .
 وهذه الصورة القلمية الرائعة التى رسمها العقاد ، تعبر بصدق وقوة عن السجايا الاصيلة للمرأة الكردية في كل زمان ومكان .
و عندما أصفها بأنها كانت أماً ( عظيمة ) فأنا أعنى ما أقول تماماً . فالعظمة ليست حكراُ على المشاهير من الرجال و النساء ، بل أن العظمة الحقيقية هى فى سمو الخصال و الطبائع و المشاعر الأنسانية  التى تتجلى فى السلوك الأنسانى و العمل المثمر و ما يتركه الأنسان من أثر بعد رحيله عن هذه الدنيا الفانية .
***
يقول العقاد :
( لقد كانت أسرة (أمي) من ابويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر , وقد رأيت أحدهم لا تميزه عن أمم الشمال في لونه وقامته , وقد بقى بعض منهم الى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه الى اكلة (ملوحة) او ملوخية , لأنهم لم يتعودوا أكلها . أجداد أمي جميعاً قد تزوجوا فى السودان . وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت الى السودان بعد حادثة اسماعيل بن محمد علي  الكبير , وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه الى أسوان , وهو جد أمي لأبيها , وأبوها محمد اّغا الشريف الذي اختار (اطيان) للمعاش في  قرية من قرى الاقليم .
والذي يتذاكره كبراء السن الاسوانين عن عمر اّغا الشريف انه كان رجلا شديد التقوى , شديد القوة البدنية , يدرب أبناءه على الرياضة العسكرية كأنهم على الدوام في خدمة الميدان .
 ولد له محمد وعثمان ومصطفى وحورية وفاطمة. وخطبت حورية وفاطمة فاراد ان يحتفل بزواجهما معا , ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلي فأبطل الخطبة في اللحظة الاخيرة ، وقال للوسطاء الذين حاولوا ان يصلحوا الامر : أني لا أزوُج أبنتي لتارك صلاة ولا لمحدث نعمة ، كلاهما يجحد نعمة الله .
وشاعت حوداث ( العبد) قاطع الطريق في الصحراء ، . وخافه الجند وهابه تجار القوافل : فقال عمر لأصغر ابنائه مصطفى : أتسمع هذا وتترك العبد يعبث في الارض فساداً ؟ . فما انقضى أسبوع حتى عاد مصطفى بالعبد مكتوف اليدين .
 وقد مات مصطفى هذا على أثر ضربة من ضرباته اغراه بها فرط قوته ، فأنه تصدى لثور هائج فقمعه
 و ألقاه على الارض ، فلم تنقض أيام حتى لقى  نحبه ،  وقيل أنها حسد .. ولعلها كانت مزقة في داخل الجسم من ذلك الجهد العنيف ..
***
أما محمد أغا جدى لأمى فقد كانت فيه تقوى أبيه و صلابته و كثير من أنفته و أعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات ولا يقصرها على القول أو السلوك.
ذهب الى قرى الأقاليم ليختار أطيان المعاش ، فكان كلما سأل عن زراعة أرض فقالوا له انها عدس او فول .. قال : لا شأن لى بها ، حسبنا من العدس و الفول ما أستوفيناه فى السنجق ، أى الفرقة العسكرية ... حتى جاء الى أرض قيل أنها تزرع قمحاً أو شعيراً، فقال هذه أرضى : القمح لمحمد أغا و الشعير لحصانه !.. و أختارها مع ما بينها و بين الأطيان الأخرى من فرق فى الثمن يبلغ ثلاثة أضعاف ..!
***
ورثت أمى تقواها و سلامة بنيتها من أبيها وجدها ، ففتحت عينى أراها و هى تصلى و تؤدى الصلاة فى مواقيتها ، و لم يكن من عادة المرأة أن تصلى فى شبابها . انما كانت النساء لا يصلين الا عند الأربعين .
ومما ورثته عن أبويها حب الصمت و الأعتكاف.. كان الناس يحسبون هذا الصمت و الأعتكاف عن كبرياء فى جدى رحمه الله ، و كانوا يقولون أنها " نفخة أتراك " !
لكنها لم تكن " نفخة أتراك " كما توهموا ، بل كانت طبيعة تورث و خلقة بغير تكلف ، و لم أر فى حياتى أمرأة أصبر على الصمت و الأعتكاف من والدتى .
فربما مضت ساعة وهي تستمع من جاراتها و صديقاتها وتجيبهن بالتأمين أو بالتعقيب اليسير ، وربما مضت أيام وهي عاكفة على بيتها أو على حجرتها ، و لا تضيق صدراً بالعزلة و ان طالت ، و لا تنشط لزيارة الا من من باب المجاملة ورد التحية .
و من المصادفة أتفاق والدى و والدتى فى هذه الخصلة ، و لست أنسى فزع أديب زارني يوماً وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع ، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة . انها وراثة من أبوين ، يؤكدها الزمن الذي لا يحمد فيه معاشرة أحد . الا من رحم الله !
***
و قوة الأيمان فى والدتي هي التى بنت فيها العزيمة ليلة أحتضارى .. !
نعم أيها القارىء الكريم ولا تعجب ... فقد أحتضرت قبل نيف و ثلاثين سنة ، كما تخيّل عوادي فى تلك الليلة ، فأذا بالوالدة هى الأنسان الوحيد الذى يتحامل على نفسه الى جانب سريري ليقنعنى أنني بخير .. وتنطوى على ذلك ساعات وهي على عزيمتها ، حتى جاء الطبيب أخيراً وأنبأهم أنه عارض غير ذى بال ، فأذا المحتضر قد نجا ، و أذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها .
و كانت الوالدة لا تنكر من شئوني الا الورق .. نعم : ما هذا الورق ؟ الورق الذى لا ينتهي !
هذا الورق الذى لا ينتهي هو الذى يمرضنى ، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذى يصرفنى عن الزواج ، و هذا الورق الذى لا ينتهي هو سبب الشهرة ...
ووالدتي أيها القارىء من أعداء الشهرة تتطير بها و لا تغتبط بها لحظة الا تشاءمت لحظات .
هذه الشهرة هى التي " تشيل غارتك " أي تجعلهم يتحدثون عنك ، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس !
***
و قلت لها ذات يوم : لو وجدت لى زوجة مثلك تزوجت الساعة ..!
و لم أكن مجاملاً و لا مراوغاً . فانني لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها ، و كنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث و يبلى..
فانه يصلح عندئذ كرة محبوكة ! .. ويغنينا عن شراء الكرات التى لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها .
ولقد توفى والدي وهي في عنفوان شبابها ، وكان لي أخ صغير فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا و أبنائها الكبار .
ولقد ورثت منها كثيراً الا القصد فى النفقة ، وتدبير المال ، و حسبى بحمدالله ما ورثت عنها .
---------------------------------------
*كتب العقاد ذات مرة  يصف نفسه :
أديب مشهور ، وليس بليسانس ولا دكتور، وعضو فى مجلس الأعيان وليس فى حوزته نصف فدان ، ليس ببيك ولا باشا ، ولكنه يقول للبيك و الباشا : كلا وحاشا ، و صاحب أعوان و أنصار ، وما هو بزعيم حزب ولا بصاحب عصبية ! وفقير جد فقير ، و لكنه ليس بهين و لا حقير ... وصاحب قلم مسموع الصرير موهوب النفير ، ولكنه ليس بصاحب صحيفة ولا بمدير ولا برئيس تحرير! .. .



144
الأنترنيت و التلفزيون : من المنافسة المحمومة الى الأندماج والتكامل

 
                                                                                                                        جودت هوشيار
 
لو ألقينا نظرة على تأريخ و سائل الأعلام ، لتبين لنا أن ظهور وسائل اعلامية جديدة لا يعني
بالضرورة  ، أنحسار أو زوال سابقاتها ، فعلى سبيل المثال ، لم يؤد ظهور التلفزيون الى
 اختفاء الراديو أو السينما. و التلفزيون لم يختف بظهور الشبكة العنكبوتية ( الأنترنيت)   ، والتأثير القوي لوسائل الاتصال الرقمية في عالم اليوم لم يكن على حساب الوسائل التقليدية  ويبدو ان الوسائل القديمة و الجديدة ، يمكن أن تتعايش و تتفاعل معا و ان تكمل الواحدة منها الأخرى و تساعدها على أنتشار أوسع .
و لكن الوسائل القديمة – لكى تحافظ على مكانتها– مضطرة الى التكيّف مع التطور السريع للتكنولوجيا الرقمية ، فالتلفزيون اليوم لم يعد كما كان بالأمس القريب ، و أضطر الى أدخال تغيير جذرى فى البرامج التى يقدمها ، من أجل أجتذاب المشاهدين و الصمود أمام  المنافسة القوية المتنامية للأنترنيت . و لا أحد – بين خبراء الأعلام – يعرف على وجه الدقة نتائج هذه المنافسة المحمومة ، أو بتعبير آخر ، هل يتمكن التلفزيون من الصمود أمام وسائل الأعلام الرقمية الأخرى أم ان الأنترنيت سوف يستحوذ على أهتمام الناس على نحو متزايد و تستخدم فى جميع مجالات النشاط البشرى و بضمنها المجالات المتنوعة للأعلام و التثقيف و الترفيه ؟
الأستبيانات التى أجريت مؤخراً فى بلدان متباينة  التطور و الثقافات تشير الى نتائج مختلفة  :
ففى الدول النامية ، التى ما زال انتشار لأنترنيت فيها محدوداًً و بضمنها العراق ، نرى ان التلفزيون فعال و يحظى بشعبية واسعة ، و بعد  المصدر الرئيس للأخبار و تحليلها و  تغطية الأحداث السياسية و الرياضية الساخنة و عرض الأفلام السينمائية  و المساسلات الدرامية و الكوميدية و نقل و قائع الندوات و المؤتمرات و الحفلات و غيرذلك كثير.
 أما فى الدول الغربية المتقدمة ، فأن الصورة مغايرة الى حد كبير ،حيث تشير تلك النتائج الى ان  شبكة الإنترنت تتفوق على التلفزيون فى النقل الفورى للأخبار و تحديثها على مدار الساعة و النشر الفورى للآراء و التعليقات و عرض المضامين المرئية التى ينتجها و يخرجها ملايين من مستخدمى الأنترنيت  .
أضافة الى أجراء المكالمات الهاتفية المجانية او لقاء اجور زهيدة و تقديم خدمات كثيرة للمشاهدين و بضمنها برامج المحادثة ( الشات ) و البريد الألكترونى ، أضافة الى النشر الفورى للآراء و التعليقات و خدمات أخرى كثيرة و منوعة .
 
أزدهار أم تضخم ؟
 
أزداد عدد القنوات الفضائية فى السنوات القليلة الماضية فى العالم  الى أكثر من عشرة أضعاف و يتوقع أن يستمر هذا النمو فى المستقبل المنظور .و هذا يعني ان قطاع التلفزيون عموما  يشهد ازدهاراً ملحوظاً و يدل على زيادة الطلب عليه . فعدد المشاهدين للأحداث السياسية و الرياضية الساخنة هائل للغاية وقد تصل الى عشرات و ربما الى مئات الملايين من البشر  .
و كما قلنا آنفاً فأن التلفزيون أستطاع الأحتفاظ بمكانته بأعتباره  الوسيلة الأعلامية الأكثر شعبية فى العالم النامى والصمود أمام المنافسة القوية للأنترنيت فى الدول المتقدمة و لم يكن هذا الصمود أمرا ًتلقائياً أو هيناً ، فقد أضطر الى اجراء تغيير كبير ، سواء فى محتوى الرسالة الأعلامية أو فى صيغ وأشكال تقديم البرامج المختلفة .
 
 ان نشرات الأخبار التى تقدمها القنوات التلفزيونية ما زالت لها جمهور كبير و لكن الفرق هو ان المشاهدين يعرفون اليوم  كل ما يجرى فى عالمنا فور و قوعها عن طريق الأنترنيت ,و لم تعد  نشرات الأخبار فى التلفزيون ، المصدر الرئيس للأخبار العالمية ،  فالأنترنيت أسرع فى نقل الأخبار أولاً بأول . و أخذت البرامج الأخبارية للتلفزيون فى مجاراة الأنترنيت و اللجؤ الى أساليب أكثر تشويقاً فى تقديم الأخبار و التقارير و اشراك المحللين السياسيين – و ما أكثرهم هذه الأيام – فى التعليق على الأحداث الساخنة و مناقشة تداعياتها المحتملة . 
 
نهاية الرقابة :
 
سمحت شبكة  الأنترنيت بوضع نهاية للرقابة الحكومية على مضامين المواد الأعلامية   . و لم يعد بأمكان التلفزيون  أن يلزم الصمت او يتجاهل بعض الأخبار و الحوادث الحساسة، التى تهم الجمهور، فى حين تزخر بها المواقع الألكترونية بشتى لغات العالم .
 
 ظاهرة "  الويكيليكس "  أنتشرت بسرعة البرق و ثمة اليوم مئات المواقع التى تقدم بأشكال مختلفة ( نصوص ، صور ، فيديوات ) كل مايحدث وراء كواليس السياسة و المال. و لا يمكن للتلفزيون بعد اليوم ان يتغاضى عن نقلها ، و الشىء المدهش فى شبكة الأنترنيت هو قدرتها على تخطى الحدود على نحوجعل كل محاولات  الرقابة الحكومية  بلا معنى ، و لكن هذا لا يعنى ان الرقابة أنتهت تماما، فثمة أنظمة شمولية تحاول حجب الشبكة كلياً  أو عدد معين من المواقع الألكترونية و لكنها لن تنجح فى مسعاها لسببين :
 أولهما  ان ذلك يعد خرقاً فاضحا لحرية التعبير و يلقى الأستهجان من المجتمع الدولى  - و هذا ما شاهدناه خلال ثورة 25 كانون الثاني/ يناير2011 فى مصر حين حاول نظام مبارك قطع شبكة الأنترنيت لبضعة أيام و أضطر تحت ضغط المجتمع الدولى الى اعادتها .
 و ثانيهما أن الشبكة نفسها لديها الوسائل الكفيلة بتخطى الحواجز والوصول الى أية نقطة فى العالم .
 
ان شبكة الأنترنيت هى الوسيلة الأعلامية الفائقة - لأنها مزيج من من ثلاث و سائل اعلامية ( مقروءة ، مسموعة ، مرئية ) – و التى  أضحت اليوم تؤثر فى الممارسات الأعلامية  و السلوك البشرى ، حيث لم تعد ثمة اية حدود بين العام و الخاص . و سارع التلفزيون الى ركوب الموجة و أزاحة الموانع و القيود الأجتماعية جانباً و كل شىء  أخذ يتحول الى الترفيه . و هذا تغيير جدى للغاية.
شبكة الأنترنيت أزالت أبضاً الفواصل التى كانت قائمة  بين الأعلامي والمتلقي و بفضل الأنترنيت اصبح المتلقى مساهما فى المضمون الأعلامى . و يقول الأعلاميون فى الغرب ( من محررين و مصورين ) ، بأن تخصصاتهم  تتلاشى و ينتقل دورهم الى الناس العاديين .
و لا يقتصر الأمر على شبكة الأنترنيت ، بل أن  كل من يظهر على شاشة التلفزيون يغدو مهنيا و لم نشاهد من قبل قط هذا العدد الكبير من المحللين السياسيين و الخبراء  فى شتى مجالات الحياة، الذين يتكاثرون كالفطر بعد المطر ..
 
أندماج و تكامل
 
يمكنك اليوم مشاهدة البرامج التلفزيونية  من دون التلفزيون ، تستطيع تشغيل جهاز الكمبيوتر ومشاهدة البرنامج التلفزيونية  المفضلة لديك فى أى وقت و فى اى  مكان  تشاء . مما يدل على ان التلفزيون ، ما يزال قوى التأثير لدرجة انه  ، حتى أولئك الذين لا يحبون الجلوس أمام التلفزيون، يشاهدون البرامج  التلفزيونية على شبكة الإنترنت و على الهواتف الذكية .
 
و لكن التلفزيون اضطر الى أجراء  تغيير كبير فى المحتوى الأعلامى  الذى   يوجد فيه  الآن  ايقاع اكثر و صلات مع مواقع التواصل الأجتماعى ، حيث يمكن مثلاً مشاهدة جميع برامج التلفزيون على التويتر .و تحميل الأفلام السينمائية و مشاهدتها حتى بعد أنتهاء عرضها فى دور السينما أو على شاشات التلفزيون . والحقيقة هي أن الإنترنت قد أعطت دفعة قوية للتلفزيون، و بعثت فيه حياة جديدة.
 
كيف سيكون تلفزيون الغد؟
 
تعمل عدد من شركات تكنولوجيا المعلومات فى السنوت الأخيرة على التوصل الى تقنية جديدة تسمح بالتزاوج بين التلفزيون و الأنترنيت و بضمنها شركة غوغل التى قامت بطرح تقنية جديد أسمها " Google TV" قد تكون الأنجح من بين ما تم التوصل اليه حتى الآن .و من المتوقع ان تطلق الشركة ابتكارها الجديد قبل نهاية السنة الحالية على شكل علبة صغيرة تصل التلفاز بالأنترنيت و مستقبلا سيتم انتاج تلفزيونات تتضمن هذه التقنية و ذلك فى اطار تعاون ثلاثى بين شركات Sony , Intel , Logitech
 نستنخلص من ذلك كله ان ليس ثمة تعارض بين الإنترنت و التلفزيون و ربما  سيندمجان في النهاية .
 
جودت هوشيار
Jawhoshyar@yahoo.com


 
 
 
،


145
قل و دل : بلطجية مرسي

                                                                                                                                جودت هوشيار
 
الخطاب الذى ألقاه الرئيس المصري محمد مرسي فى السادس من كانون الأول الجاري فى
 أعقاب الأحتجاجات الشعبية العارمة على اعلان نفسه حاكماً مطلقاً لمصر ، يذكرنا بخطاب الرئيس المصري المخلوع حسنى مبارك : نفس لغة التهديد والوعيد و نفس الأتهامات للمعارضة بالعمالة وتنفيذ أجندات خارجية لأغراق البلاد فى الفوضى.
 
و لكن خطاب " فرعون مصر الجديد " * كان له تأثير عكسي تماماً و أدى الى تدفق موجات جديدة من الشباب الثائر الى ميدان التحرير و محيط قصر الأتحادية مما أثار مخاوف مرسي       وقلقه الشديد حيث قام على اثر ذلك بنقل أفراد عائلته الى مكان آمن و مغادرته للقصر لعدة أيام .
كان اعتصام المحتجين فى خيامهم فى محيط قصر الأتحادية سلمياً تماما الى ان قام قطعان الأخوان المسلمين بمهاجمة المعتصمين بالمسدسات و السكاكين و قنابل المولوتوف و القضبان الحديدية و الحجارة ، مما ادى الى أستشهاد العديد من شباب المعارضة و جرح المئات منهم .
 
و قد لاحظ الأعلاميون الأجانب الذين كانوا يقومون بتغطية ما يجري فى محيط القصر الرئاسي ان الذين هاجموا المعتصمين كانوا من بلطجية الأخوان الذين جرى تدريبهم فى معسكرات خاصة فى صحراء سيناء للأستعانة بهم عند الحاجة لغرض قمع المعارضين و أسكات أصواتهم .
بلطجية الأخوان القادمين من معسكرات سيناء  و بعد أن أدوا مهمتهم ، أختلطوا برجال البوليس وهم يهتفون " ستدفعون ثمن معارضتكم لحكم الشريعة ".
 
و يقول هولاء الأعلاميون فى تقاريرهم ، أن بلطجية الأخوان أعتدوا على النساء و أنهالوا عليهن بالضرب المبرح و بوحشية قل نظيرها و سدوا أفواه البعض منهن بأيديهم لمنعهن من الهتاف . ولم يتدخل رجال البوليس الا فى حالة قيام المعتصمين بمحاولة رد هجوم البلطجية, و يبدو أنهم – أى رجال البوليس - تلقوا أوامر بحماية الشقاة البلطجية و ليس المعتصمين المسالمين .
 
و قد ظهر شريط فيديو فى الأنترنيت يبين الطوق المحكم ، الذى ضربه الأخوان حول المتظاهرين و منع وصول القادمين الجدد اليهم و أعتقال البعض منهم و كان بين الأخوان رجال أمن بملابس مدنية.
 
موقعة " الأتحادية " تذكرنا بموقعة "الجمال " الشهيرة ، عندما أنقض بلطجية مبارك على المتظاهرين بالجمال و البغال و الخيول فى ميدان التحرير فى القاهرة فى أثناء ثورة 25 يناير وذلك لأرغامهم على أخلاء الميدان حيث كانوا يعتصمون .
 
بلطجية مبارك كانوا من المجرمين الذين أستخدمهم النظام فى موقعة الجمل و لمرة واحدة ، أما بلطجية مرسي فهم من الأخوان الذين تلقوا تدريبات خاصة و مكثفة فى معسكرات تابعة للدولة  ليكونوا على أهبة الأستعداد  من اجل قمع أية حركة معارضة للنظام.
 
فى اليوم التالى لموقعة " الأتحادية " أذاع الأخوان بياناً تباكوا فيه على شهدائهم السبعة الذين أستشهدوا فى مواجهات محيط قصر " الأتحادية " . و قد تبين فيما بعد ان الشهداء كانوا ينتمون الى قوى سياسية مختلفة و بينهم شهيد الصحافة المصرية الحسنى أبو ضيف الصحفى بجريدة الفجر ، الذى أصيب بجروح بليغة و لفظ أنفاسه الأخيرة فى مستشفى قصر العيني .. و لعل أغرب ما فى الأمر ان الأخوان نظموا جنازة لأثنين فقط من شهدائهم السبعة المزعومين ، لأنهم لم يتمكنوا من جلب أكثر من جثتين من ( مشرحة أحد المستشفيات ) لمرضى توفوا بأجلهم الموعود ولأسباب لا علاقة لها بحادثة الأتحادية لا من قريب و لا من بعيد .
---------------------------------------------------
* " فرعون مصر الجديد " اسم أطلقه " محمد البرادعى " على الرئيس المصرى " محمد مرسى " و سرى بين الجماهير سريان النار فى الهشيم و تلقفته وسائل الأعلام الأجنبية و أخذ يتردد كثيرأ فى مانشيتات الصحف و المجلات العالمية عند تناول الأحداث الجارية الآن فى ارض الكنانة
--------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@hotmail.com


146
ما قل و دل : عراق الكرد و عراق المالكى

                                                                                                                                جودت هوشيار
 
على مدى عشرات السنين ، كانت كوردستان ملاذا آمنا لكافة المناضلين ضد الأنظمة الأستبدادية المتعاقبة الحاكمة فى بغداد و لكل العراقيين و منهم السيد نورى المالكى رئيس الوزراء العراقى الحالى ، ففى سنوات النضال ضد الدكتاتورية الصدامية  ، كان الكرد يتقاسمون مع اخوانهم المناضلين العرب الخبز و الملح و يقدمون اليهم كل صنوف العون و المساعدة ، فى  تأمين معيشتهم و أمنهم  و ترتيب مقرات لأحزابهم المعارضة ،و ليس هذا منة من احد بل واجب وطنى ، لأنهم جميعا ً كانوا يناضلون معا من أجل عراق ديمقراطى تعددى و مستقبل أفضل لأبناء الرافدين .
 
و فى سنوات العنف الطائفى (2006-2008) لجأ مئات من اساتذة الجامعات و الأطباء و المهندسين و رجال الأعمال و غيرهم من الأخوة العراقيين  العرب و غير العرب  الى كردستان هربا من جحيم الأرهاب و فقدان الأمن و تردى الخدمات ً. و لا يزال هذا التدفق مستمراً حتى يومنا هذا.
 
ألوف العوائل العربية أستقرت فى كردستان و ألوف أخرى تزورها يوميا   ففى أربيل العاصمة مثلاً تشاهد الأخوة العرب فى كل مكان ، بل ان عدة أحياء سكنية و بضمنها حى ( به ختيارى ) الراقى ، تعج اليوم بالعوائل النازحة من محافظات وسط و جنوب العراق.  و المولات الحديثة الباذخة المكان المفضل لها للتبضع أوالترفيه فى أجواء الأنفتاح الحضارى و أحترام الحريات الشخصية . أما فى الأعياد و المناسبات ، فحدث و لا حرج  ، حيث ينوجه عشرات الألوف من العراقيين الى كردستان من أجل الراحة و الأستجمام و للأستمتاع بأجوائها الساحرة .
 و فى الأيام العادية يقصدونها  لأغراض المعالجة  فى مستشفياتها الحديثة  و التجارة و  الدراسة و حضور المؤتمرات و الندوات و المهرجانات و المعارض الدولية و الأنشطة الثقافية و الفنية المختلفة.
 صفوة القول ان اقليم كردستان الناهض فى شتى جوانب الحياة  أصبحت اليوم ،  الرئة التى يتنفس بها العراقيون .
الأجانب يأتون الى كردستان أيضأً من اجل التعرف على منطقة عريقة فى الحضارة و ثقافة مختلفة وعلى التسامح السياسى و الدينى السائد فيها  و التمتع بسحر طبيعتها  الخلابة. كردستان اليوم تتمتع بكل هذا.
, و يبدو لنا ان النهوض الحضارى لأقليم كردستان هو الذى يثير حفيظة المالكى  ،  لأن المواطن العراقى يقارن بين الحياة الآمنة  الهادئة  فى الأقليم و  ما يشهده من أزدهار و حرية و تسامح  و بين الحياة البائسة فى المحافظات الخاضعة لسلطة المالكى و ما تشهده من فساد و خراب و فوضى و من قمع و تمييز .
 
و ربما كان هذا البون  الشاسع بين رخاء الأقليم  و تطوره بوتائر متسارعة و بين التخلف  و شظف العيش  فى بقية انحاء العراق ، هو أحد الأسباب التى تدفع بالمالكى لمحاولة " دق أسفين " بين العرب و الكرد عن طريق  التحرش العسكرى بالأقليم  وتحجيم دوره السياسى و الأقتصادى بأجراءات أقل ما يقال عنها أنها أنفعالية و متشنجة  ان لم تكن صبيانية.
و السبب الآخر و هو الأهم ، ان المالكى أستطاع تركيز كل السلطات بيده و أزاحة خصومه السياسيين عن طريقه ، الواحد بعد الآخر و لم يبق أمامه من عائق أمام يسط دكتاتوريته الرجعية المتخلفة ،  سوى كردستان الناهضة , و لكن هيهات أن ينجح المالكى فى مسعاه . فالعراقيون، بكل مكوناتهم القومية و الدينية قد  تحرروا للأبد من سجن صدام الكبير و لن يستطيع أحد اعادتهم الى هذا السجن تحت مسميات جديدة.
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
 
 
 
 
 

147
مفارقات زيارة المالكى الى موسكو

                                                                                                                                      جودت هوشيار
1-  أستقبال فاتر فى مطار " نوفيكوفو "
 
حفلت زيارة رئيس الوزراء العراقى  نورى المالكى الى موسكو مؤخراً بعدة مفارقات ملفتتة للنظر . أولى هذه المفارقات هى المستوى الذى أستقبل به المالكى و أعضاء الوفد العراقى المرافق له فى مطار " نوفيكوفو " فى العاصمة موسكو ، و الذى أقتصر على أحد نواب وزير الخارجية الروسى و السفير العراقى  فى موسكو و عدد من موظفى السفارة . و  هذه سابقة غريبة  لم تحدث مع أى رئيس وزراء أجنبى آخر زار موسكو بدعوة رسمية ، حيث جرت العادة على أستقبال رؤساء الحكومات الأجانب من قبل  نظيرهم الروسى أو نائبه الأول فى الأقل . و ليس من الواضح ان كان السيد المالكى أو أحد أعضاء الوفد ، قد أحتج على هذا المستوى المتدنى أو أبدى أمتعاضه لدى الجانب الروسى ,و لو كان أى رئيس آخر مكان المالكى لشعر بالحرج الشديد و عاد أدراجه الى بلده. و على اية حال فأن  المالكى لا يمثل نفسه فقط ، بل يمثل العراق فى الخارج مهما كان رأينا فى سياساته الداخلية و الخارجية . و لم بقتصر التعامل اللاودى مع المالكى على  الطريقة التى أستقبل بها فى المطار ، بل شمل أيضاً لقائه بالقادة الروس ، فقد  أضطر المالكى الى الأنتظار يومين كاملين قبل أن يحظى بمقابلة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين . مما يدل على ان ما جرى فى المطار لم يكن عفوياً . و هنا يمكن للمرء ان يتساءل ان كان ثمة تنسيق مسبق بين الجانبين العراقى و الروسى على جدول الزيارة على نحو مفصل و  بضمنه مستوى الأستقبال و مواعيد مقابلة قادة الكرملين .
 
2 - تغطية أعلامية روسية هامشية:

 
و المفارقة الثانية تتمثل فى تجاهل وسائل الأعلام الروسية لزيارة رئيس الحكومة العراقية  فى اليوم الأول من الزيارة . حيث لم تشر اليها القنوات الفضائية الروسية فى نشراتها الرئيسية فى مساء ذلك اليوم ما عدا قناة " روسيا اليوم" الناطقة باللغة العربية . و ظل هذا الصمت الأعلامى مستمرا حتى مساء اليوم التالى و لحين مقابلة المالكى لرئيس الوزراء الروسى " ديميترى ميدفيديف ". حيث بدأت بعض وكالات الأنباء الروسية ببث خبر صغير عن الزيارة على نحو مقتضب ،  كما نشرت بعض الصحف الموسكوفية الخبر فى الصفحات الداخلية  و ضمن أخبار متفرقة ، مع التركيز على كلمات "ميدفيديف " عن أستعداد موسكو لتعزيز التعاون بين الجانبين فى المجالات العسكرية و الأقتصادية .
و تجدر الأشارة هنا الى أن روسيا كانت ضد التدخل الأميركى فى العراق لأسقاط نظام صدام حسين ، كما هى اليوم ضد أسقاط  نظام بشار الأسد . و على مدى السنوات التى أعقبت سقوط  النظام الصدامى فى العراق ،  كانت التقارير التى تقدمها مراكز الأبحاث الأستراتيجية الروسية الى صناع القرار فى الكرملين تؤكد ، أن الحكومات العراقية المتعاقبة تأتمر بأوامر البيت الأبيض ، و نحن لا نناقش هنا هذا الرأى و لكن نقرر حقيقة الموقف الروسى من عراق ما بعد صدام . و هذا يفسر لنا الصمت الأعلامى فى اليوم الأول للزيارة و التغطية الهامشية لها فى اليومين التاليين ، حيث لم يكن بوسع الكرملين أن يرحب و يذيع على نطاق واسع خبر
 وصول من أتهمته و ساائل الأعلام و معاهد الأبحاث الروسية  بالخضوع لأرادة واشنطن .
 كما ان صورة عراق المالكى فى الأعلام الروسى و فى  أذهان الروس عموماً ، صورة مرعبة و مركبة من  مزيج من الصراع الطائفى و الأرهاب الدموى و الفساد و غياب سلطة القانون و  التصفية الجسدية للخصوم السياسيين . و كان أحد المحللين السياسيين الروس قد قال معلقاَ على الأزمة السياسية الحالية  فى العراق ، أن مشكلة العراق الرئيسية اليوم هى عدم القدرة عل أنتزاع الحكم من يد ستالين العراق .
.
لذا لم يكن من المتوقع أن يلقى  رئيس الوزراء العراقى استقبالاً حافلاً فى موسكو على المستويين الرسمى و الشعبى مهما قدم من مغريات الى القيادة الروسية ، لأن ذلك كان سيشكل انقلاباً مفاجئاً فى الموقف الروسى من عراق المالكى . و أحراجاً كبيرأ للكرملين أمام الرأى العام الروسى . و هذا يفسر لنا نوع الأستقبال الذى جرى فى المطار و  التغطية الأعلامية الهامشية للزيارة .
 
3 –  أسلحة هجومية صالحة  للأستخدام الجبلى و الصحراوى :
 
و لعل المفارقة الأهم و الأخطر هى ان أول تصريح أطلقه المالكى بعد أن وطأت قدماه أرض مطار " نوفيكوفو " فى موسكو ، كان تأكيده " أن العراق بحاجة الى أسلحة صالحة للأستعمال فى المعارك  الجبلية و الصحراوية."  أى بتعبير آخر ضد الكرد فى الجبال و ضد السنة فى المناطق الصحراوية من الأنبار أو ضد النظام القادم ،  الذى سيتولى الحكم فى سوريا  بعد سقوط النظام الحالى . جاء هذا التصريح الخطير رداً على سؤال لمندوب وكالة " ريا نوفستى " للأنباء . و شكل مفاجأة حقيقية ، لأن المالكى كان قد صرح مراراً، قبيل زيارته لموسكو ،  ان حكومته تسعى الى الحصول على أسلحة دفاعية و لا تنوى شراء أسلحة هجومية ،  و أن  تسليح الجيش العراقى هو من اجل الدفاع عن  العراق و ليس من اجل أشعال فتيل الحرب الداخلية . و لكن المالكى فضح نواياه الحقيقية بنفسه ، و لا ندرى أن كان ذلك زلة لسان أم الثقة المفرطة بالنفس أو نشوة أنتصار على معظم خصومه السياسيين, حيث لم يعد أمامه بعد اليوم  من عائق لتأسيس دكتاتورية جديدة سوى أقليم كردستان .
 
 صفقة الأسلحة العراقية – الروسية الجديدة هى أسلحة هجومية حصراً ، و بهذا الصدد قالت
 جريدة " فيدومستى " المقربة من الكرملين ، ان قيمة صفقة الأسلحة الروسية تبلغ (4،3)   
مليار دولار و تشمل شراء طائرات و مروحيات مقاتلة و دبابات و منظومات صواريخ و غيرها من الأسلحة الحديثة ..
و على الصعيد نفسه  ، أكد سيرغي تشيميزوف، رئيس شركة "روستكنولوجيا" التي تتبع لها شركة "روس أوبورون أكسبروت" التي تتولى تصدير الأسلحة الروسية، لصحيفة "كوميرسانت" أنه تم توقيع صفقة أسلحة للعراق في شهر آب/أغسطس من العام الجاري أثناء زيارة الوفد العسكرى العراقى برئاسة وزير الدفاع العراقى بالوكالة سعدون الدليمى الى روسيا . بعد ان قام الوفد بزيارات ميدانية الى منشآت التصنيع العسكرى ،  و قد أستغرقت تلك الزيارات و المباحثات التى اجراها الوفد العسكرى مع الروس أكثر من شهر واحد .
وقالت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" ،  إن العراق سيحصل على أسلحة روسية بما فيها الراجمات الصاروخية و  المدفعية المضادة للطائرات  والمروحيات المقاتلة  تقدر قيمتها بـ4.2 مليار دولار. وأكثر من هذا، يمكن أن يشتري العراق مقاتلات "ميغ" وطائرات "سوخوي" وكذلك دبابات ومدرعات. وستضع هذه الصفقات العراق في مصاف أهم شركاء روسيا في ميدان التسليح إلى جانب الجزائر وفنزويلا.
و قد صرح المالكى قبيل مغادرته لموسكو ان مباحثات مكثفة تجرى الآن بين الجانبين لعقد صفقات أسلحة جديدة .
و لا يخفى على أحد ان موسكو متلهفة لأستعادة نفوذها و مكانتها فى الشرق الأوسط و بخاصة فى العراق و لا تفرض شروطا على بيع الاسلحة كما تفرضها الولايات المتحدة الأميركية و العديد من بلدان حلف الناتو" و فى مقدمة هذه الشروط ان تكون الاسلحه المباعه دفاعية وليست هجومية، وتقديم المشتري تعهدات بعدم أستخدامها فى النزاعات الداخلية.
و الطريف فى الأمر أن النائب عن ائتلاف دولة القانون عباس البياتي أدلى بتصريح صحفى عشية زيارة المالكى لموسكو يقول فيه " أن التعاقدات العسكرية التي سيتعاقد عليها رئيس الوزراء نوري المالكي مع روسيا هي تعاقدات لوجستية بسيطة " و أشك كثيراُ ان كان السيد النائب يعرف حقاً معنى مصطلح "الــ(لوجستى )
4 - محور موسكو- طهران- بغداد لأنقاذ نظام الأسد : 
و المفارقة الرابعة هى التناقض بين أقوال المالكى و أفعاله ، حيث أكد فى مناسبات عديدة ، أن العراق يقف على " الحياد " فى الصراع  الدائر الآن  فى سوريا بين النظام الأسدى و معارضيه . و هذا أدعاء مناقض للواقع تماما ً ، فقد أثبتت الأحداث أن حكومة المالكى قد رمت بثقلها الى جانب النظام الأسدى ، و ان العراق أصبح اليوم ضمن محور ( طهران – موسكو ) و ظهيرأً للنظام السورى على شتى الأصعدة و ممراً لأيصال الدعم العسكرى الأيرانى الى النظام السورى جواً و براً  تنفيذاً للأتفاق الأستراتيجى ( السرى ) الموقع بين بغداد و طهران خلال زيارة المالكى الأخيرة لطهران قبل بضعة أشهر و الذى ينص على  الدعم المتعدد الأوجه للنظام السورى و الألتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على طهران . و منها أستخدام المصارف العراقية فى تعاملات أيران التجارية مع العالم و تزويد دمشق بالنغط العراقى و دفع مرتبات القوات الأمنية السورية من خزينة الدولة العراقية ، وهى معلومات كشفت عنها صحيفة " الراصد العسكرى " الروسية فى أعقاب زيارة المالكى لطهران ..
موقف المالكى و تدخله فى الصراع الدائر اليوم فى سوريا ، لم يعد سراً ، لذا فأن التصريح الذى أدلى به فى موسكو حين قال : "نحن نحذر من إشعال النيران والتدخل لإسقاط الأنظمة السياسية بالقوة كما يحصل في سورية "  أثار موجة من السخرية اللاذعة فى الأوساط الدبلوماسية العربية فى موسكو و لندن .".
ففى موسكو ،  وصف مراقب سياسي عربى ، رفض رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التدخل العسكري لاسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بالتشكيك بشرعية وصوله الى الحكم الذي جاء بتدخل عسكري يرفضه اليوم.
وقال مراقب عربي من العاصمة البريطانية لندن "لقد وقع المالكي في فخ نصبه لنفسه، ويبدو ان نشوة الكرسي أنسته كيف وصل الى حكم المنطقة الخضراء".
وتساءل بقوله "أيعقل ما يقوله رئيس حزب الدعوة الاسلامي المدعوم من ايران حول (صراخه) في موسكو بان حكومته ترفض سياسة إشعال النيران والتدخل لإسقاط الأنظمة السياسية بالقوة".
وقال "هل تناسى المالكي عن عمد كيف وصل الى كرسيه، أم انسته نشوة السلطة؟".
ويرى مراقبون ان زيارة المالكي الى موسكو جاءت بنصيحة "ايرانية - سورية" مشتركة في محاولة لايصال رسالة الى واشنطن مفادها ان حكومته لا يمكن ان تترك المحور الايراني.
5 - عن أى خطر خارجى يتحدث المالكى ؟:
 
المالكى فى سباق محموم مع الزمن للحصول على أسلحة هجومية حديثة ، فلديه اليوم عقود تسليح موقعة مع الولايات التحدة الأميركية لتجهيز جيشه المليونى بطائرات مقاتلة و دبابات و منظومات صوارخ متطورة بقيمة 12,2 مليار دولار و عقود مماثلة  بمئات الملايين من الدولارات مع كندا و أوكرانيا و دول اخرى ، أضافة الى صفقة السلاح الروسى الحالية بقيمة 4,3  مليار دولار و القادمة بمليارات الدولارات -  التى اشار ايها المالكى بنفسه فى تصريح لوسائل الأعلام العالمية -  . و السؤال الذى يتبادر الى الذهن هو : ممن يخشى المالكى ؟ و ما هى الأخطار الخارجية التى تواجهها حكومته ؟
 الخطر الخارجى الوحيد الذى يمكن ان يهدد العراق هو الخطر الأيرانى ، و لكن المالكى فى شهر عسل دائم مع النظام الأيرانى و لولا هذا النظام لما وصل الى سدة الحكم أصلاً  ، ومن المستبعد أن تكون ايران مصدر خطر على العراق ما دام المالكى أو أى رئيس وزراء آخر من طائفته فى الحكم .
 ثم هل تشكل دول الجوار الأخرى أى خطر على العراق ؟ أن أى عاقل لا يمكن أن يتصور بأن العراق سيتعرض الى هجوم من دولة حليفة للولايات المتحدة كتركيا  أو من  دول الجوار العربية. كما أن الأتفاقية الأمنية بين العراق و الولايات المتحدة تنص على حماية العراق من أى عدوان خارجى .
أذن فأن الأستناج المنطقى الوحيد هو  أن المالكى يتأهب للأستيلاء على المناطق المستقطعة من أقليم كردستان و الدخول فى حرب داخلية ضد الشعب الكردى ، و كذلك  مواجهة النظام القادم الذىسيتولى الحكم فى سوريا  بعد سقوط النظام الأسدى . و لكن مخاوف المالكى فى غير محلها ، لأن الفترة الأنتقالية التى ستشهدها سوريا ما بعد الأسد ، لن تتيح لها الفرصة للقيام بمغامرات عسكرية خارجية .
و اخيراً من حق كل عراقى ان يتساءل : ألم يكن من الأجدر صرف المليارات من الدولارات التى ذهبت وتذهب لعسكرة العراق من جديد ، على أعمار البلاد و أنشاء البنى التحتية التى تمس الحاجة اليها .
أن من المثير للسخرية أن يطلب المالكى تشريع قانون "  الدفع الآجل "  الذى اطلق عليه اسم قانون " البنى التحتية "  أى الحصول على قروض أجنبية يزيد على ثلاثين مليار دولار من أجل صرفها على مشاريع البنى التحتية . أذن أين ذهبت ما يزيد على (600) مليار دولار صرفتها حكومة المالكى خلال السنوت الست الماضبة ؟
ان كل ما يجرى فى عراق المالكى  اليوم أشبه بحكاية ميلودرامية منافية للمنطق السليم ، مضحكة و مبكية فى آن . و كم فى العراق من مضحكات و لكنه ضحك كالبكا  .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


148
خارطة الانتفاضة الشعبية فى سوريا
                                                                                                                         جودت هوشيار
تتجه أنظار العالم كله  اليوم الى الثورة السورية، وصراعها البطولى  لأسقاط النظام الاستبدادي البوليسى، الذى يشن حرب أبادة حقيقية ضد الشعب السورى  ويرتكب يوميا جرائم تقشعر لها الأبدان بحق الثوار والمدنيين المسالمين، والعالم لا يتحدث الا عن المجلس الوطنى السورى والجيش السورى الحر. ولكن الثورة السورية متواصلة بكل قوة وعنف منذ أكثر من ثمانية عشرشهراً ولم يتشكل المجلس الوطنى السورى الا فى اكتوبر 2011 أما أنشقاق العسكريين عن جيش النظام وتشكيل الجيش الحر، فقد بدأ فى أوائل هذه العام..
 ومنذ أندلاع الثورة وحتى يومنا هذا، أخفقت المعارضة السورية الخارجية المتمثلة بالمجلس الوطنى السورى  فى التغلب على خلافاتها الستراتيجية وتناقضاتها السياسية.
اذن من هم الذين أشعلوا نيران الثورة  ومن هم وقودها؟ انهم الشباب السورى الذين يخوضون حرباً غير متكافئة مع جيش النظام الدكتاتورى الدموى ويسقط منهم عشرات الشهداء يوميا  من دون أن يفت ذلك عزيمتهم ودون ان يؤثر فى أصرارهم على تحقيق النصر النهائى، توجد أيضاً  خلافات داخل الجيش السورى الحر، بين عناصر هذا الجيش داخل سوريا وبين قيادته فى تركيا، المتهمة بترك ساحة النضال الميدانى. وفى كل الأحوال، فأن تركيز الأهتمام على هذين اللاعبين (المجلس الوطنى السورى والجيش السورى الحر) يصرف الأنظار عن دور محرك الثورة الأساسى ووقودها الحقيقى، وهو الشباب السورى، الذين  ينظمون ويقودون الأحتجاجات الجماهيرية والمعارضة السياسية الداخلية  فى ظروف بالغة التعقيد ويخاطرعشرات الآلاف منهم بحياتهم يومياً فى مواجهات دامية مع قوات النظام وشبيحته. ومن دون هؤلاء لم يكن ثمة مبرر أصلاً  لوجود المجلس الوطنى السورى (الذى يقول  أنه يمثلهم) ولا الجيش السورى  الحر (الذى يؤكد، أنه يحمى المحتجين و السكان المدنيين ). وبتعبير آخر، فأن هؤلاء الشبان هم عماد الثورة ومستقبل سوريا. ولكن من هم هؤلاء وما هى تنظيماتهم وأتجاهاتهم السياسية؟
يوجد اليوم فى داخل سوريا الكثير من التنظيمات السياسية واللجان التنسيقية المحلية - على مستوى الحى السكنى اوالمدينة اوالمحافظة الواحدة أوأكثر -، التى يشكل الشباب عمودها الفقرى  وتتمحور حول ستة تجمعات.
 1- الهيئة العامة للثورة السورية:
 شبكة تنظيمية تتكون من اللجان التنسيقية، تأسست قبل حوالى عام واحد نتيجة لأندماج أتحاد اللجان التنسيقية للثورة السورية مع اللجان المستقلة بهدف تنظيم الأنشطة المحلية ووضع استراتيجية المعارضة وتوحيد المطالب الشعبية.
والهيكل التنظيمى للهيئة هرمى. ففى أعلى الهيئة مجلس ثورى يتكون من 41 عضوا تم أختيارهم بالأنتخاب يتوزعون على سبعة مكاتب
-  المكتب السياسى (مهمته الرئيسية أتخاذ القرارات السياسية المهمة).
-  المكتب الأعلامى ( ينقل للأعلام العالمى آخر تطورات الوضع فى البلاد).
- مكتب الأحصاء والأرشيف ( لنشر تقارير يومية).
- المكتب القانونى (يوثق أنتهاكات حقوق الأنسان).
- المكتب اللوجستى (لتنظيم المساعدات الأنسانية والطبية).
_  مكتب التسجيل والتوثيق
_ مكتب الترجمة.
اما على المستوى المحلى، فثمة  14 مجلسا للأدارة والتوجيه، يضم كل مجلس، مكاتب شبيهة للمكاتب التابعة للمجس الثورى، ما عدا المكتب السياسى، حيث يضطلع مكتب محلى بمهام التخطيط والتنسيق للأحتجاجات والتظاهرات.
 الهيئة العامة للثورة السورية  (التى تضم بين صفوفها الأخوان المسلمين)  لا تخفى عدائها للمجلس الوطنى السورى متهمة أياها بعدم الفاعلية والأنعزال عما يحدث على الأرض فى سوريا، حيث أخفق المجلس فى تقديم المساعدات الأنسانية أوالطبية للجرحى ولسكان المناطق المنكوبة.
 ونظرا للأنقطاع المستمر للتيار الكهربائى، أضطر نشطاء المناطق المنكوبة الى ربط  أجهزة الكومبيوتر بمولد التيار الكهربائى لسياراتهم وأخبار العالم عما يحدث داخل البلاد. والبعض منهم يقول انه يشعر بخيبة أمل فى المجلس الوطنى السورى ويعتقد أنه سيسقط مع سقوط نظام الأسد لأنه يفتقر الى الفاعلية ووجود تناقضات حادة بين مكوناته.ويرى البعض الآخر ان المجلس فقد شرعيته.
 ان الشعب السورى الذى يعيش فى خطر داهم ودائم، بأمس الحاجة  الى خطوات عملية محددة على الأرض وليس الى شعارات سياسية.
وعلى اية حال وبعد التغييرات الأخيرة فى قيادة المجلس الوطنى السورى،  تجرى الآن مفاوضات حول أدخال ممثلين عن الهيئة العامة للثورة السورية  الى المجلس.
 ان الهيئة المذكورة تنسق أنشطتها  مع الجيش السورى الحر. وتؤيد تدخلا ً أجنبياً محدوداً مثل أنشاء منطقة حظر طيران وتجهيز الجيش الحر بما تحتاجه من أسلحة. على غرار ما حدث فى ليبيافى ليبيا.
2- لجان التنسيق المحلية:
  لجان يغلب عليها الطابع العلمانى وقد أنبثقت فى عام 2011 وتهدف الى تحقيق الأهداف ذاتها التى  تناضل الهيئة العامة للثورة السورية من أجلها، ولكنها أقل أنتشاراً و  تأثيراً وتضم بين صفوفها 60 تنظيما محليا. وتوجد أقوى هذه التنظيمات نفوذاً  فى ضواحى العاصمة  دمشق، (التى انطلق منها التنظيم على يد مؤسستها رازان الزيتونى)  وتنظيمات حوران وأدلب.
يضم المجلس الوطنى السورى عشرة ممثلين من لجان التنسيق المحلية ويقول احد الناطقين بأسم اللجان “ ان العديد من أعضاء المجلس الوطنى السورى لا يمكنهم القيام بأى نشاط داخل سوريا لأنهم معرضون للملاحقة والأعتقال فور دخولهم الى البلاد.ويضيف انه يوافق على تمثيل المجلس لنشطاء لجان التنسيق المحلية ويطالب المجتمع الدولى بالأعتراف بالمجلس وتوسيع تأييده له.
 وعلى  غرار الهيئة العامة للثورة السورية، تنسق اللجان المحلية نشاطها مع الجيش السورى الحر وتؤيد تدخلا أجنبيا محدودا لدعم الثورة.، لأن نظام الأسد لا يفهم الا لغة القوة وليس لديه ما يقدمه على المستوى السياسى. وتطالب اللجان  بدعم المجتمع الدولى للشعب السورى وتقديم الدعم العسكرى للثورة  وأنشاء  مناطق حظر للطيران وتوجيه ضربات جوية الى نقاط محددة.
3 - هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي:
 ائتلاف سياسى يرأسه حسن عبدالعظيم داخل سوريا وهيثم المناع خارجها ويضم فى صفوفه حزب الأتحاد الديمقراطى الكردى المؤيد لحزب العمال الكردستانى. وخلافا للمجموعتين الأولى والثانية، لا يقوم هذا الائتلاف بأى نشاط تنسيقى أوأحتجاجى  داخل سوريا ولكن له تأييد ملحوظ فى  دمشق وحلب ومنطقة حوران وبعض المناطق الأخرى.
على المستوى السياسى يعتبر هذا الائتلاف نقيضا للتنظيمات المشار اليها فيما تقدم وهوعلى استعداد للتفاوض مع النظام من اجل ايجاد حل سلمى للخروج من الأزمة، كما أنه –أى الائتلاف – بعادى الجيش السورى الحر وأية أعمال عنف ضد النظام، والائتلاف يبرر موقفه هذا بأن المعارضة المسلحة دخلت الصراع ضد النظام بشروط الأخير وأن النظام سينتصر فى النهاية لهذا السبب.
 4– جماعة الأخوان المسلمين:
 قادة ونشطاء هذا التنظيم يعيشون فى المنفى منذ 30 عاما بسبب اضطهاد النظام لهم وقمعهم  بكل قسوة، خاصة  بعد صدور القانون رقم 49 الذى يقضى بأعدام كل من ينتمى الى هذه الجماعة. ومنذ أوائل عام 2012 تحاول قيادة الجماعة، التى تتخذ من أسطنبول مقرأ لها حشد أعضاء التنظيم وأنصارهم داخل البلاد  ولديها اليوم عدة مئات من المقاتلين الذين ينشطون تحت امرة الجيش السورى الحر ويقدمون المساعدات الأنسانية لضحايا العنف وينقلون أخبار الثورة الى العالم الخارجى وهم يتلقون الدعم المادى من قيادة الجماعة التى تغطى نفقات التسليح والذخيرة الحربية والمواد الغذائية. بعض المعارضين يتهمون ممثلى الأخوان فى المجلس الوطنى السورى بأنهم يستحوذون على الدعم المالى الذى يتلقاه المجلس من الدول المساندة للثورة  ولكن يبدوان لدى قيادة الجماعة مصادرها المالية الخاصة وفى مقدمتها الدعم المادى الذى تقدمه المملكة العربية السعودية وقطر.
ومن الصعب تقدير مدى قوة الكتائب الأخوانية، التى تنشط فى الغالب فى شمال سوريا (حلب، أدلب، حماه). والأخوان كما الهيئة العامة للثورة السورية ولجان التنسيق المحلية تؤيد تدخلا عسكريا أجنبيا محدوداً فى سوريا.
 يثير الأخوان المسلمون مخاوف المجتمع الدولى والقوى العلمانية السورية المعارضة. ولكن الحقيقة هى أن تنظيم الأخوان،  حركة سياسية معتدلة وقد دافعت خلال الثلاثين سنة الماضية عن المبادىء الديمقراطية واستطاعت التكيف مع الواقع السياسى – الأجتماعى  فى البلاد. وهى تتعاون مع القوى السياسية الأخرى فى سوريا. وتدل تجربة الأخوان السياسية أنهم تحالفوا ا خلال فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضى مع القوى السياسية الأخرى وبخاصة العلمانية منها وهذا أمر يمكن أن يتكرر بعد سقوط النظام وأجراء أنتخابات حرة ونزيهة فى البلاد.
5 – الهيئة الكردية العليا:
 وتضم المجلس الوطني الكردي (وهوائتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية في سوريا إضافة الى تنسيقيات شبابية) ومجلس الشعب لغربي كردستان التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي المقرب من حزب العمال الكردستاني.
أنبثقت هذه الهيئة من الاتفاق الذى أبرم في 11 تموز 2012في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق برعاية رئيس الإقليم مسعود بارزاني لوضع حد للخلافات الكردية في سوريا.
 وهى تقود كافة أنشطة وأعمال المجلسين وقراراتها ملزمة للجميع”، وقد  شكلت الهيئة الكردية العليا خطوة هامة تخدم الشعب الكردى فى سوريا.
 وتؤكد  الهيئة فى بياناتها  على  “ضرورة  حماية السلم الأهلي  في المناطق الكردية وذلك بالتعاون مع الإخوة شركائنا من العرب والسريان والكلدوآشوريين وغيرهم، والتأكيد على أن المطالبة بالحقوق القومية لشعبنا الكردي لا تشكل أي خطر على وحدة بلادنا وتهديداً لإخوتنا شركائنا في الوطن”.
 وكذلك تؤكد  على “سلمية الحراك الثوري في المناطق الكردية ودرءاً للمخاطر الناجمة عن نزعة التسلح العشوائي فإننا – والكلام للهيئة الكردية العليا – نرى  من الضروري العمل على ضبط وتنظيم تلك القوى في إطار حضاري موحد منعاً للفوضى وبهدف توفير الحماية في المناطق وسلمها الأهلي”.
6- جبهة النصرة لأهل الشام:
  تنظيم سلفى جهادى متطرف،  تم تشكيله فى أواخر سنة 2011ولا يعرف أصل هذا  لتنظيم على وجه الدقة.
 وقد تبنى التنظيم العمليات الأرهابية التى حدثت فى اوائل عام 2012 فى كل من دمشق وحلب
وهذا التنظيم تحديداً، (الذي يرفض التعاون مع غير المسلمين ويرفع شعار تأسيس دولة اسلامية على اساس الشريعة).  هوالذى يثير مخاوف الغرب والمعارضة العلمانية والأقليات الدينية  اكثر من أى تنظيم آخر.
كما يرفض التنظيم  التدخل الأجنبى بأعتباره ذريعة لفرض هيمنة القوى الأجنبية على سوريا.
 ومن المفارقة انه يرفض حتى التدخل التركى رغم ان حزب العدالة والتنمية، وهوحزب اسلامى معتدل، هوالذى يحكم تركيا اليوم.
 وعلى اية حال فأن نشطاء المعارضة السياسية الداخلية يخامرهم الشك فى وجود تنظيم تحت اسم “ جبهة  النصرة “ حيث لم يشاهد أحد لحد الآن أعضاء الجبهة   سواء فى داخل سوريا اوخارجها،  حيث يظهرون فى الفضائيات وفى موقع يوتيوب   وهم يضعون أقنعة على وجوههم ويغيرون اصوتهم ، فى حين أن مقاتلى الجيش الحر يظهرون علانية بوجوه مكشوفة، والأعتقاد السائد لدى المعارضة أن تنظيم “ جبهة النصرة “  من أختراع مخابرات النظام الذى يحاول أظهار نفسه بأنه القوة الوحيدة القادرة على ايجاد حل للأزمة عن طريق القمع.
وتأريخ النظام حافل بأستخدام المجموعات الأرهابية لتحقيق أهداف سياسية وفى كثير من الأحيان لجأ النظام الى صنع مثل هذه المجموعات. ولكن البعض يعتقد أن ذلك لعب بالنار.
 سواءا كانت (جبهة  النصرة) حركة سرية حقيقية او من صنع النظام، ولكنها تمارس تأثيراً ملموساً على الشباب السورى، الذين يجذبهم الضبط الحديدى والأستعداد القتالى والخبرة فى خوض حرب العصابات. وهو أمر فى غاية الخطورة فى ضؤ تفاقم الوضع وأستمرار الأضطهاد.
 وفى  ظروف مماثلة فى الماضى تمكنت “ الطليعة القتالية” وهى مجموعة مسلحة منشقة عن الأخوان المسلمين،من  تعزيز مواقعها فى سوريا فى السبعينات من القرن الماضى الى ان وجه اليها النظام ضربة قاتلة فى حماه فى شباط 1982.
هذا المشهد الدموى خدمت النظام فى القضاء المبرم على كافة الحركات والقوى السياسية المعارضة فى البلاد.
 واضافة الى ما تقدم يوجد فى البلاد كثير من التنظيمات المحلية المستقلة (يتعذر أحصاؤها على وجه الدقة) والتى تنضم على نحومتزايد  الى الهيئة العامة للثورة السورية
أعضاء لجان التنسيق المحلية والأخوان المسلمون والنشطاء المعارضون عموما الذين يجابهون يوميا عنفا وحشيا من قبل النظام، يدركون جيداً، ان النظام يحاول تفرقة الشعب ليتسنى له السيطرة عليه، ولهذا فأنهم يضعون جانبا خلافاتهم من اجل العمل المشترك لتحقيق اهدافهم العامة: اسقاط النظام الفاشى وتأسيس دولة ديمقراطية. ومع ذلك فأنهم بحاجة الى تحويل هذا التعاون الصامت الى ائتلاف سياسى حقيقى يعزز مواقف المعارضة  السورية فى الداخل.
 


149
لمن يتسلح المالكى ؟
                                                         جودت هوشيار
 
نشر مكتب التعاون العسكري  لوزارة الدفاع الامريكية ( البنتاجون ) بيانا صحفيا يوم أمس ، جاء فيه ،   ان وزارة الدفاع العراقية تقدمت بطلب للحصول على دفعة إضافية من الطائرات المقاتلة تشمل  18 طائرة من طراز F-16IQ فالكون ، تبلغ قيمتها 2,3 مليار دولار. و كان العراق قد حصل سابقاً بالفعل على 18 طائرة مقاتلة  من نفس الطراز، ومعدات إضافية للطائرات المذكورة  وأسلحة بقيمة ثلاثة مليارات دولار.
 
و أضافة الى الطائرات المقاتلة يتضمن الطلب الجديد شراء ما يلى :
 
 24 محرك من طراز  F100-PW-229 أو طراز ''F100-GE 129IPE،
 
 و 24 رادار من طراز   APG – 680(v) V) 9 ذى التنظيم الذاتى
 
 و مدافع 19 20 ملم M61
 
و  100 صاروخ، AIM-9L / M-8/9   Side winder
 
 150 صاروخ، AIM-7M-F1 / H   Sparrow
 
 و 50 صاروخ مافريك AGM-65D/G/H/K،
 
 و 200 قنابل طائرات II GBU-12 Paveway
 
و 50 GBU-II-10  Paveway
 
و 50 GBU – III 24 Paveway
 
وتضمنت القائمة أيضا معدات، ألكترونية مضادة لأنظمة الأنذار عن الأشعاع  و التوجيه و الأستهداف والدفاع عن النفس. علما ان القائمة الكاملة للأسلحة المطلوبة من قبل وزارة الدفاع العراقية منشورة على موقع  مكتب التعاون العسكرى التابع للبنتاجون ( DSCA )
 
و أشار مكتب التعاون العسكري الى ان  المعدات والأسلحة التى طلبها العراق سيؤدي إلى زيادة كبيرة في القدرة القتالية للقوات الجوية الوطنية، وتصبح لاعبا أكثر أهمية في المنطقة. و سيقدم الطلب العراقي الى  الكونغرس الأميركي للبت فيه .
و كان العراق قد اشترى 18 طائرة مقاتلة من طراز F-16IQ فى شهر آب / أغسطس  2011 ، و يعتزم العراق شراء مقاتلات أخرى و طائرات هيلوكوبتر و طائرات من دون طيار و أسلحة هجومية .
 
و على صعيد متصل  تفيد أنباء موسكو ، ان وزير الثقافة ووزير الدفاع بالوكالة سعدون الدليمي  يجرى منذ ثلاثة اسابيع مفاوضات مكثفة فى موسكو  – على رأس وفد عسكرىيضم   كلا من الفريق الركن طالب شغاتي رئيس جهاز مكافحة الارهاب والفريق جبار قائد الدفاع الجوي، واللواء ضياء مدير عام التسليح والتجهيز - لعقد صفقة تسليح ضخمة  مع المصانع العسكرية  الروسية العملاقة بهدف شراء طائرات مقاتلة و طائرات هيلوكوبتر مقاتلة  و دبابات و صوارخ و أنظمة دفاع جوى ، و قد زار الوفد العديد من مواقع انتاج الاسلحة والتقى ممثلي شركات وخبراء عسكريين روس، بدوا مهتمين بتطوير العلاقات التسليحية مع العراق ضمن سعى موسكو لأستعادة نفوذها فى المنطقة و تعزيز محور بغداد - طهران - دمشق .
 
صفقة الأسلحة الروسية كان مخططا لها ان تكون بقيمة مليار دولار ، و لكن شهية الجانب العراقى أنفتحت حين أبدى الروس موافقتهم على تلبية طلب بغداد ، مما شجع الوفد العراقى المفاوض على طلب المزيد من الأسلحة ، التى يتوقع أن تتجاوز قيمتها المليارين دولار .
 
و كشفت مصادر اعلامية فى موسكو " ان الوفد شدد على ضرورة الأسراع فى تسليم  الأسلحة المتعاقد عليها ، مما دفع الجانب الروسى الى رفع الأسعار بشكل كبير ، وبررت السرعة التي اشترطها الجانب العراقي لتسلم الاسلحة من موسكو بان ذلك يعود الى " الوضع المتأزم في سوريا والمشاكل المتفاقمة مع كردستان".
 
ان العقلية التى تحكم بغداد اليوم لا تختلف عن العقلية الصدامية التى ورطت العراق فى حرب عبثية مع الجارة ايران و غزت الكويت  و شنت حملات عسكرية  دموية ضد الشعب الكردى المسالم .
لقد ضرب رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى  عرض الحائط كل الأتفاقات و المواثيق التى أبرمها مع التحالف الكردستانى و ائتلاف العراقية و نقض كل عهوده و وعوده و شرع فى تصفية خصومه السياسيين الواحد بعد الآخر ، و لقد سبق ان كتبت قبل عدة أشهر ، بأن الدور سيأتى على الكرد ، لأن المالكى يظن بأن أقليم كردستان عقبة كأداء أمام تعزيز دكتاتوريته بعد أن تمكن من تصفية أو تحجيم معظم القوى المعارضة لأستفراده بالسلطة و القرار السياسى فى البلاد.
يقول السيد المالكى ان كرد العراق يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها أشقائهم فى أجزاء كردستان الأخرى و هذا صحيح و لكنه حق أريد بها باطل ، ذلك لأن أقليم كردستان تحررت من قبضة النظام الصدامى بفضل اتفاضة آذار المجيدة  فى عام 1991 و هذا التحرر عمِّد بدماء مئات الآلاف من الشهداء الكرد الذين سقطوا فى ساحات النضال من أجل دحر العدوان الصدامى الغاشم  و فى سبيل أستعادة حقوق الشعب الكردى المغتصبة  و من اجل حياة حرة كريمة  لأبناء كردستان بشتى أنتماءاتهم القومية و الدينية ، و ليس لأحد فضل على كرد العراق لا فى الماضى و لا فى الحاضر . و يبدو ان السيد المالكى نسى او يتناسى ،  أنه ألتجأ الى كردستان المحررة فى منتصف التسعينات من القرن الماضى  هرباً من بطش النظام الصدامى مع الكثير من قادة و نشطاء المعارضة العراقية العربية و سكن فى اربيل و درس فى جامعة صلاح الدين و أحاطه الشعب الكردى المضياف بالرعاية و الدعم و الأسناد . و لكنه يرد اليوم  جميل الكرد على طريقته الخاصة و هو الأستعداد لمغامرة عسكرية و خيمة العواقب على العراقيين جميعا دون أستثناء .
 
ان خلاف المالكى مع معظم الكتل السياسية و بخاصة مع الكرد بدأت مع محاولة
أقامة ما يسميه بسلطة مركزية قوية و يعنى بذلك أقامة دكتاتورية جديدة ، عوضا عن النظام الفدرالى الذى نص عليه الدستور العراقى  ، و هو الدستور الذى صوت عليه الأغلبية الساحقة من الشعب العراقى و كان السيد المالكى من أبرز المساهمين فى أعداده و كتابته !!
ولم يترك السيد المالكى و سيلة الا لجأ اليها لتركيز كل السلطات بيده و محاربة أقليم كردستان سياسياً و أقتصادياً و دبلوماسياً و أعلامياً  و أفراغ النظام الفدرالى التعددى الديمقراطى من محتواه ،  الذى أرتضاه الكرد و بقية العراقيين حفاظاً على وحدة العراق و مستقبل أبنائه و تعزيزاً لعلاقات الأخوة و المصير المشترك  بين شقى العراق العربى و الكردى . و من هذه الوسائل محاولة البحث عن عملاء و خونة كرد لتشكيل ما يسمى بمجالس الأسناد فى المناطق المتنازع عليها من بقايا النظام السابق.  و من المضحك حقاً ان السيد المالكى قد أمر عددا من أفراد حمايته بأرتداء الزى الكردى و قابلهم أمام عدسات التلفزة زاعما أنهم يمثلون قيادات عشائرية و شخصيات كردية قدموا من شتى انحاء اقليم كردستان لأعلان و لائهم للأخ الأكبر الجديد . مما يدعو الى الشفقة و السخرية فى آن واحد . و هو ان دل على شىء ، فانما يدل  على الأفلاس السياسى ، رغم  مظاهر القوة الكاذبة الذى  يظهر بها امام عدسات التلفزيون.
 
و بعد فشل كل محاولاته اليائسة فى تحجيم الدور الكردى فى العراق بمختلف السبل  و عرقلة التقدم المتواصل الذى يشهده اقليم كردستان ، أخذ يتحرش بقوات البيشمركة فى المناطق المتنازع عليها و يفتعل بؤر توتر ، و يشترى شتى صنوف الأسلحة الهجومية بأسعار خيالية و فترات زمنية قياسية من الولايات المتحدة الأميركية و روسيا و أوكرانيا و كندا و من دول أخرى تمهيدا لشن هجوم على كردستان المزدهرة، . و ربما كان هذا الأزدهار هو الذى يقلق السيد المالكى حقاً ، لأنه يسقط ورقة التوت الأخيرة عن نظامه الذى فشل فى توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة للعراقيين .
ألم يكن من الأجدر على السيد المالكى أن ينفق  المليارات  - التى يهدرها فى أقتناء الأسلحة الهجومية الفتاكة – على  توفير الماء الصالح للشرب و الكهرباء و على  بناء المستشفيات و المدارس و تلبية  الأحتياجات الأساسيةلملايين العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر فى بلد يطفو فوق بحر من  الذهب الأسود ..
 
يروق للسيد المالكى ان يسير على خطى صدام  و يتلهف ليكون القائد الضرورة الجديد و حاكم البلاد حتى الممات ، رغم حملاته الكلامية على صدام و البعث المنحل فى وسائل الأعلام  . أوليس معظم قادة جيشه المليونى من كبار ضباط الجيش الصدامى ، و هم الذين يحرضونه اليوم على مهاجمة أقليم كردستان .
 
نتمنى ان  يتخلى السيد المالكى عن حلمه بأقامة نظام دكتاتورى جديد فى العراق و جعل أقليم كردستان خراباً على غرار العراق العربى، الذى يعيش ظروفاً مأساوية بكل معنى الكلمة .
وأن يدرك  اليوم قبل الغد  كل  أبعاد  لعبة البعث الخبيثة  بتوريطه فى مغامرة عسكرية خاسرة لا يعلم  أحد مداها و لكن من المؤكد أنها ستطيح بنظامه  و يمهد الطريق لبقايا البعث الصدامى للعودة الى الساحة السياسية من جديد  ,و  لتتكرر المآسى الدراماتيكية فى العراق الى أمد غير معلوم .و عندها  لن يقف الكرد مكتوفى الأيدى و سيدافعون عن  مكاسب أنتفاضة آذار المجيدة و عن الأقليم -  الذى أصبح محط أنظار العالم كله -   بأرادة صلبة ، يفتقر اليها جيش المالكى المليونى  ، كما أن الزمن قد تغير على نحو جذرى ، و ليس بوسع أى دكتاتور أن يعزل شعبه اليوم عن العالم الخارجى  و يقمعه كما كان الأمر فى الماضى القريب .فالمهمة المستحيلة التى أخفق جيش  صدام فى تنفيذها و هى قمع الحركة التحررية الكردية  ، لن ينجح جيش مليشياوى يفتقر الى الخبرة و  تتنازعه ولاءات متعددة ، فى تحقيقها .
  و نعتقد أنه ، كلما  أسرع السيد المالكى فى تصحيح مسار حكومته و تحرر من أوهامه ,و أفاق من أحلامه  ، كان ذلك أفضل له و للعراقيين جميعا ً.
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

150
زيور خطاب وصومعته الفكرية

                                                                                                                     جودت هوشيار
 
لا أجافي الحقيقة إن قلت، اننا قد لا نجد اليوم بين الجيل الجديد من المثقفين الكرد، من كرس جل حياته ومعظم وقته للفكر، كما كان شأن المثقفين الكرد الكبار دوما، ولعل الأستاذ زيور خطاب خير ممثل لهؤلاء الكبار، فقد  عاش متأملا فى حياة ومؤلفات عظماء العلم والفكر والأدب، الذين  أضحوا أنيسه وجليسه، لا يفارق عوالمهم  أبداً. هذا ما قلته للصديق الدكتور محسن محمد حسين - عضو الأكاديمية الكردية -  ونحن فى طريقنا الى صومعة زيور خطاب الفكرية، التي يحيا فيها وتحيا فيه طوال حياته..
 
 يستقبلنا كعادته هاشاً باشاً، ثم  نصغي اليه ونحاوره حواراً شيقاً في آخر قراءاته وأفكاره ونجول معه في عالم آخر، رائع وجميل وممتع، ليس فيه سلطان غير سلطان  الفكر والقلم، آراؤه في ما يجري حوله وفي العالم من أحداث تنم عن عمق فكري قد لا نجده عند الآخرين من مثقفي هذا الزمان المادي، الذي لم يعد فيه مكان سوى للمصالح الشخصية الضيقة والإهتمامات اليومية الزائلة.
 
زيور خطاب شخصية لا يجود بها الزمان كثيرًا. ليس لمغريات الحياة المادية، أية قيمة حقيقية لديه، فقد زهد في المال والثروة والمنصب، وهو سليل الأغوات، وكان بإمكانه أن يتبوأ مناصب رفيعة لو شاء ذلك، ولكنه فضل عالم الفكر على عالم المال والسياسة والجاه والشهرة. وقصّر عمرهُ وجهدهُ فى القراءة والتأمل. يقول مخاطباً الراحل مسعود محمد: " نعيش دنيا نملكها والناس يعيشون دنيا تملكهم... ان كل المفكرين العظام كانوا متصوفة بمعنى من المعاني، يعيشون الحياة وفق مقاييسهم الخاصة."
 
يقول فى كتابه المعنون "سيرة فكرية" الصادر فى العام 2010م: " أنا أنطلق من تجربتي الخاصة، الا أن العظام دائما في ذهني وأمام ناظري، أنا لم أحقق شيئا الا عن طريق هؤلاء، أنا دائما عشت في أجواء العظام والقيم الرفيعة وكنت أنظر دائما الى السماء والى فوق، تجاوزت كثيرا من الأمور، التي تواضع عليها الناس وأستغنيت عن أمور كثيرة وشحذت ذهني للوصول الى الحقيقة، الا أنني أطمع في المزيد".
 
غير أن مصاحبة العظماء لم تنتزعه من الحياة اليومية للمجتمع الذي يعيش فيه، فهو يخالط الناس والمثقفين منهم على وجه الخصوص، الذين يزورونه في صومعته الفكرية. ويقول ايضاً: "بودي ان أنهي المسألة بضربة واحدة، أنا لا أريد أن أنهي المسألة بالإبتعاد عن الناس والإعتزال وتجميد نفسي وعقلي، بل أريد أن أكون مع الناس ولا أريد أن أنفصل عن الحياة. الحياة هي مادة الفكر، مادة العقل، العقل في الفراغ لا ينتج شيئا.
 
زيور خطاب قارئ نهم، ولكنه إنتقائي في قراءاته، فهو يفضل العيش في عوالم الخالدين من  الشعراء والكتاب والعلماء والمفكرين (الجواهري، طه حسين، كزانتزاكي، نهرو، تولستوي، أبو العلاء المعري، برتراند رسل وغيرهم).
 
القلم لا يفارق يده، عندما ينهمك في قراءة كتاب ما يسجل ملاحظاته على هوامشه. وهذا النوع من القراءة الجادة، مفيد لشحذ الذهن وللتأمل والتفكير الخصب، ويوحي بأفكار جديدة. وهو اسلوب يتبعه  كثير من المثقفين. وكتبه الخمسة الصادرة لحد الآن هي ثمرة قراءاته التأملية، وهو في نتاجاته، يسعى لأن يرتقي بالقارئ، ليدخله الى عالم أسمى من عالم المادة والمصالح الآنية الضيقة. ورغم انه كرس جل وقته للقراءة وللمعرفة والاجتهاد والتميّز ولكنه مقل في النشر، والقارىء ينتظر منه المزيد، لأن ما يدخره من أفكار أكثر بكثير مما نشره لحد الآن.
ان  من أغرب وأسوأ عاداتنا نحن الشرقيين، اننا لا نعرف قيمة رجال الفكر والثقافة في مجتمعنا الا بعد رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية. وحتى بعد رحيلهم نفاضل بين هذا وذاك إعتماداً على معايير غير موضوعية. ويتجلى ذلك في الأسماء التي تطلق على المدارس والقاعات والشوارع والتركيز على إعادة طبع مؤلفات بعض رموزنا العلمية والثقافية دون البعض الآخر.
 
زيور خطاب رمز من رموز الثقافة في مدينة أربيل- العريقة الشامخة، التي أنجبت في الماضي جمهرة من العلماء والمؤرخين والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين –  هذه المدينة، التي تشع اليوم نورًا في الوسط العراقي الدامس. ولكن حتى في مدينة ثقافية بإمتياز وعريقة في الحضارة والتمدن  مثل أربيل، يظل زيور خطاب نجما لامعا يضئ ما حوله فكرا ونورا. معتزا  بنفسه دون غرور أو إدعاء. ويبدو لي، أنه يفضل البقاء خارج دائرة الأضواء والشهرة. وهو لحسن الحظ ليس من أصحاب الألقاب الأكاديمية، الذين غالباً ما تكون نتاجاتهم وإهتماماتهم محصورة ضمن نطاق تخصصاتهم الضيقة. أما صاحبنا، فإنه يحيا في عالم فسيح يتنفس نسيم الحرية بأوسع معانيها.
 
وثمة قول فلسفي بليغ -  ورد فى (الأهداء) الذي يتصدر كتابه الموسوم "في عالم الفكر،  ليست ذكريات" - هو خير تعبير عما سعى ويسعى اليه فى الحياة:
 
وكنت أعرف ان من واجبي
أن أعطي لرحلتي معنى

 
نعم، أن اعطي لرحلتي معنى، أليس هذا ما فكر فيه وعمل من اجله الفلاسفة والكتاب العظام فى كل مكان وزمان؟
 
يقول فى سيرته الذاتية: "في سنة 1948 كنت في الخامس الإعدادي وكان عدد الطلاب لا يتجاوز الأربعين وكانت الثانوية التي أدرس فيها، الثانوية الوحيدة في أربيل، وكانت تلك السنة، سنة الوثبة (27 كانون الثاني) وكان الطلاب في  المقدمة من تلك الوثبة وقد سقط منهم شهداء، وكانت سنة مثيرة وقلقة وحاسمة في حياتي- وقد أخترت كلية الحقوق، لأنها أقرب الى نفسي".
 
وخلال دراسته في الكلية كان يوزع وقته بين الدراسة وقراءة الكتب الفكرية والأدبية ومقهى (حسن العجمى) الذي كان ملتقى الأدباء والشعراء والصحفيين، منهم الجواهري. وقد جرب الكتابة فى هذه الفترة ونشر بعض كتاباته في الصحف ومنها جريدة (صوت الأحرار) البغدادية. ويقول أنه، بينما كان يعيش في هذا العالم الصغير ويفكر في الإنسان وما يليق بالإنسان وما يصون كرامة الإنسان، اذا به يلقي فى ظلمات المواقف والسجون. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يدم طويلا حيث أفرج عنه بعد فترة وجيزة، وكانت تجربة أليمة ومفيدة له في آن. ورغم تخرجه في كلية الحقوق، الا أنه كما يقول: " يرى نفسه مرصودا لشيء ابعد مما يسعى اليه الآخرون واستمر في لعبته المفضلة، لعبة الفكر والكلمة ".
 
أسلوبه في الكتابة
 
يقول الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف:" الإيجاز صنو الموهبة" وقلما تجد بين كتاب اليوم من يكتب بإيجاز وتركيز مثل زيور خطاب، ففي مقال لا يزيد حجمه عن صفحة أو صفحتين، تراه يقدم لك أفكارا جديدة ومعمقة –وأشدد على كلمة الجديدة– وأرى أن هذا نتاج طول تأمل وإدامة نظر في الموضوع الذي يكتب عنه. قال أحد العظماء وأظنه انشتاين: "تسعة أعشار وقتي للتفكير والتأمل في المسألة التي تشغل بالي والعشر الباقي لإختيار الحل المناسب. أي أن التفكير طويلا في أي موضوع، هو الذي يفضي غالبا الى الأستنتاجات الصحيحة، وهذا ينطبق تماما على كتابات زيور خطاب.
 
مع الجواهري
 
زيور خطاب من عشاق شعر الجواهري، لا يمل ولا  يكل من ترديد قصائده الرائعة ويعتبره قمة شعرية شامخة لم تنجب العربية مثله منذ المتنبىء، وبلغ  من شدة إعجابه بشاعر العرب الأكبر، أن كرس أحد كتبه للإشادة بشاعرية الجواهري ونصاعة بيانه وفصاحة وجزالة لغته مع باقة من مختارات شعره .
وعلاقته بالجواهري وشعره  قديمة ويقول فى هذا الصدد: "منذ 1948 وأنا أتابع الجواهري الشاعر والصحفي والسياسي، أقرأ كل ما كتبه وكل ما كتب عنه... وأعتبره إمتدادا للشعر الجاهلي. و هو رأي، قد يكون مثيرا  للجدل.
مع مسعود محمد  
 
إذا كانت علاقة زيور خطاب بالجواهري علاقة اعجاب وعشق قارىء لشعر شاعر عظيم، تتخللها أحيانا بعض الرسائل المتبادلة، فأن علاقته بالغائب الحاضر المفكرمسعود محمد، كانت علاقة عن قرب، إمتدت لأكثر من نصف قرن وكانا يلتقيان يوميا في اربيل في السنتين الأخيرتين من حياة مسعود محمد. إن ما يجمع بينهما هو الإعتزاز بالنفس والإيمان العميق بالمثل العليا والقيم الروحية الرفيعة وإعلاء شأن الإنسان وشأن الكلمة، بعيداً عن كل المغريات المادية، التي لا تضفي على الأنسان أية قيمة حقيقية، لأن قيمة الأنسان، وقيمة المفكر على وجه الخصوص تتجلى في السعي لخير المجتمع وتقدمه وتطوره ومن أجل حياة  حرة كريمة لأمته وللبشرية جمعاء.
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


151
الأستشراق: محاولة للفهم و لردم الهوَّة

                                                                                                                              جودت هوشيار
1 – توطئة :
 
ليس من السهل  على الباحث – أى باحث –  أن يأتى بجديد عند الكتابة عن موضوع مطروق و متداول على نطاق واسع ، مثل " الأستشراق " الذى صدر حوله عدد لا يحصى من الكتب و البحوث و  الدراسات بشتى لغات العالم و منها اللغة العربية . لعل أشهرها ، كتاب المفكر الفلسطينى اللامع أدوارد سعيد (  1935- 2003م ) " الأستشراق "  الذى صدر باللغة الأنجليزية عام 1978 فى الولايات الأميركية المتحدة و ترجم الى أكثر من 35 لغة ،  الأكثر أنتشارا فى العالم و منها اللغة العربية ، . و قد أثار هذا الكتاب – و هو كتاب فكرى عميق الغور،  يعكس اللمعة الفكرية الباهرة لواحد من أكثر العقول العربية و العالمية  عمقا و تألقا فى العصر الحديث  - جدلا واسعا فى الأوساط العلمية فى الغرب و الشرق و أثار مناقشات و خلافات فى الأوساط  الأستشراقية و بين العلماء و المفكرين و الباحثين فى شتى حقول المعرفة الأنسانية و صدرت حوله عشرات الكتب ، بعضها لا يدل على الفهم الصحيح  أو يدل على الفهم السطحى لكتاب سعيد  و لكن معظمها كان مؤيدا ،وبعضها متحمسا لطروحاته ، و من الصعوبة اليوم ، أن يفلت أى باحث من تأثير رؤية سعيد للفكر الأستشراقى  ، حين يتناول بالبحث و الدراسة حركة الأستشراق العالمية ، و لكن يمكن القول بكل ثقة أن المؤرخ و الباحث الدكتور محسن محمد حسين - الأستاذ فى جامعة صلاح الدين بأربيل و عضو الأكاديمية الكردية ،  نجح الى حد كبير ،  فى كتابه الجديد الذى يحمل عنوان " الأستشراق برؤية شرقية " فى تناول موضوعة " الأستشراق " برؤية جديدة ، تختلف عن كل ما كتبه المؤرخون و المفكرون و الكتاب العرب عن هذا الحقل المعرفى
2- الأستشراق فى الفكر العربى الحديث:
 
يمكن تقسيم  البحوث و الدراسات الأستشراقية عن الشرق العربى الأسلامى  تحديدا ،   بأقلام المفكرين و الباحثين العرب ، التى صدرت قبل كتاب الدكتور حسين الى  مجموعتين :
 الأولى و هى الأغلبية الساحقة : كتب تهاجم المستشرقين بعنف و تلصق بهم  من دون أدنى  تمييز ، شتى التهم و فى مقدمتها ، معاداة العرب  و تشويه صورة الأسلام و المسلمين من منطلق التعصب الدينى  و تعتبرهم عملاء للأمبريالية ،  و أن بحوثهم تهدف الى التبشير الدينى المسيحى، و أبراز التفوق الحضارى الغربى و تسهيل الهيمنة الغربية  على الشرق .
و قد هلل الباحثون العرب ، الذين يمثلون هذا الأتجاه المتعصب لكتاب سعيد بأعتباره ، تأكيدا لمقولاتهم المتزمته ، و لكن خاب ظنهم ، حين ، كتب سعيد فى عام 1995 فصلا جديدا بعنوان " تعقيبات "  ملحقا ، بكتابه فى طبعاته الجديدة ، يقول سعيد  " أن هناك تفسيرات خاطئة للكتاب ، رأت أنه يدافع عن الأسلام و العرب و يعادى الغرب بصورة مستترة ، فى حين ، كان يهدف الى تخطى الهوة بين الشرق و الغرب من خلال أثارة قضية التعددية الثقافية ، فى كتاب يحفل بظلال المعانى و من يراه مجرد رد على الغرب يسىءاليه بهذا الوصف المبسط ."
 
الثانية : و هى قلة قليلة تتحدث عن الأستشراق بموضوعية و تقيم عاليا الخدمات الجليلة التى قدمها المستشرقون  للتراث العربى و بضمنها تحقيق و ترجمة و نشر أمهات المخطوطات العربية و المؤلفات ، التى تشكل  المصادر الرئيسية للتراث العربى  و دراسة الشرق العربى الأسلامى و آدابه و حضارته و فق مناهج علمية حديثة   .
 
3- كتاب " الأستشراق برؤية شرقية " :
 
الدكتور حسين ، حاول معالجة هذا الموضوع على نحو مختلف ،  و يستهل كتابه بالأشارة الى منهجه فى البحث ، حيث يقول فى الفصل الأول ، الذى يحمل عنوان (  ما المطلوب منا أن نعمله ؟ ) ، " كيف يتعين علينا أن نتعامل و نتفاعل مع الآخرين مع ( الغرب ) . انى هنا أسعى حثيثا أن أنبذ الهوى و العاطفة ، قدر المستطاع ، و لن أدعى أنى أبحث عما يسمى الحيدة ، أو أنى لم يتكون لدى موقف ما طيلة عقود من الأطلاع على ما ألف عن الأستشراق ... و يشير الى قول الباحث المغربى البازعى فى كتابه " أستقبال الآخر "  ( الحياد ) بحد ذاته فكرة مثالية و القول بوجوده ضرب من السفسطة و السذاجة أو أدعاء بالتعالى على التميزات البشرية ، لا يحققه سوى الأله .
ومحاولة فهم مثل هذا الموقف من الاستشراق بات أمراً محتماً، فهذا التفكير الثاوي صار يتجاوز حجم المطبوع من الكتب ، وبات يشغل بال المثقفين، بل ويؤرقهم، وسيظل يؤرقهم زمناً قد يطول . وهذا يعني ان ادمغة ما زالت تعمل ولم يصبها العطب، تناقش تلك الامور في وضح النهار, ولا شك ان الدخول الى مثل هذه القضايا في مجتمع راكد، حين يمس الثوابت التي جبل عليها (الناس) لهو ثمن باهظ. لكن السكوت تجاه ما يؤرقنا يدل على قصورنا الموضوعي والذاتي، ذلك القصور الذي يعترينا صباح مساء، حين نرى قضايا خطيرة مسكوت عنا، نقف قبالتها مكتوفي الايدي، وكأنها أمور لا تعنينا، ولكن حين نقلق تجاه ما يحدث ، نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة
 
و يؤكد حسين،  أنه لا يبنى – مسبقا – موقفا فكريا ما ، يبغى الدفاع عنه ، عن صوابه ( بأى ثمن ) ، بل ينطلق من موقف حضارى يؤمن بالمثاقفة ، و نقد ما ترسخ فى أذهاننا من أمور قطعية ، لا تقبل النقاش ، أو صار الجدال فيها من المحرمات " تابو " غير قابلة للبحث و الدراسة و أعادة النظر .
و يدعو الى كسر جدار الخوف -  و يعترف ان الأمر صعب ، فليس سهلا تهشيم هذا الجدار و الأنفكاك من العزلة الفكرية التى أحطنا أنفسنا داخل أسوارها -  و فهم لآخر ، و الأستفادة من ثقافته . نقرأ ما عندهم بتمعن ، لنكتشفهم و نكتشف أنفسنا ، و لكن ليس كل ما عند الآخرين فيه ما ينفعنا .
 فى الوقت الذى يقر  فيه و جود البعض من المستشرقين المتغطرسين -  من ذوى النظرة الأستعلائية الى الشرق العربى ، الذين أعتبروا الغرب الأوروبى و صيا على العلم و المعرفة و الحضارة  -  يشيد بجهود المستشرقين عموما و يعتبر ذلك شجاعة أدبية فى مجتمعات يهيمن عليها ذهنية التحريم  ،
و الأستشراق ، كما يقول حسين ، أقض مضاجع البعض  ، حين قرأ  رأيا يغاير ما اعتاد عليه ، لأنه لم يألف وجودا متحققا غير وجوده ، فثم من اعتاد على توجيه الأتهام للآخرين ، لمجرد كونهم ينتمون الى ثقافة ، تختلف فى جوانب عديدة عن ثقافتنا ، و يعيشون فى عالم غير عالمنا .
و يورد حسين فى الفصل الثانى ، الذى يحمل عنوان " أشادات بمجهودات المستشرقين "  أقوال طائفة من خيرة الكتاب و المفكرين العرب المعنيين بالتراث الأسلامى و شؤون الأستشراق ، مثل بنت الشاطىء و زكى مبارك و محمد كرد على و يوسف احمد و صلاح الدين المنجد و محمد يوسف محمد و محمد صالح البُنداق و يوسف أسعد داغر و غيرهم ،  الذين ثمنوا عاليا انجازات المستشرقين ، فى الحصول على المخطوطات و الوثائق و الآثار و حفظها فى أماكن بعيدة عن السرقة و الرطوبة و الجرذان ، ثم قيامهم بتحقيقيها و نشرها دون مسّها بالتحريف ، لأى سبب كان ، و بكل أمانة و أنصاف .
تقول الدكتورة "  بنت الشاطىء -  عائشة عبد الرحمن  " اننا مدينون للمستشرقين بجمع ذلك التراث و صونه من الضياع . . . و تسألون : و ماذا لو تركوا تراثنا لنا ، أما كنّا أهلاً لجمعه و صونه ؟ فأجيبكم بملء يقينى : كلا ، لقد كنّا فى غفلة عنه ، لا نكاد نحسً وجوده أو نعرف قيمته ، أو نقدر حاجتنا اليه ... أن خدًام دور العبادة عندنا يبيعون أوراق نفائسه بالكوم ( بالجملة ) لتجار الحلوى و البقول !  و تضيف قائلة : أن جهود هؤلاء لم تقف ،  فى جمعهم لكتب تراث الشرق على مجرّد اقتنائها ، بل فهرسوا ما جمعوه فهرسة علمية دقيقة ... و من ثم انتقلوا الى نشره نشرا يعتمد على أدق منهج للتوثيق و التحقيق . . . و صحونا من نومنا ، فأذا ألوف الذخائر العربية بيت أيدينا ، محررة ، موثقة ، نلوذ بها فى دراساتنا العالية ، و نعد الرجوع اليها فى ابحاثنا مدعاة للفخر و المباهاة . . و بلغوا فى دراساتهم للشرق و للعربية و للأسلام حدّاً مذهلاً من العمق و التخصص .
 
والواقع لا يستطيع المرء أن ينقل ما أورده الكتاب المسلمون المنصفون عما أنجزه المستشرقون في دراساتهم الرصينة بعقل حصيف متمكن، لكن من المفيد ان نوجز أبرز أعمالهم المشرفة، فقد درسوا المدنيات الشرقية القديمة (مدنيات بلاد سومر وآكد وبابل) وبلاد النيل والشام واليمن ودلمون (البحرين).. وبلاد فارس وبلاد الكرد.. اضافة الى الحضارات العظيمة في بلاد الهند والصين والهند الصينية…الخ.
ونبشوا معالمها للتنقيب عن آثارها وتاريخها وثقافاتها ولغاتها، في جميع مرافق الحياة الفكرية والفنية، ونشرها في مجالات علمية وكتب في غاية الدقة والمنهجية والروح النقدية، وان كانت لاتخلو أحياناً من آراء خاطئة ومن هنّات، هي من طبيعة الكشوفات الجديدة. كما قاموا بجمع المخطوطات الشرقية على اختلاف لغاتها، وحفظها في خزائن، والعناية بها وصيانتها باستمرار، وفهرستها بشكل مبرمج، ومن ثم تحقيقها ونشرها على أبهج شكل وبإتقان ، للانتفاع مما فيها من معارف وثقافات وفنون. وترجمتها الى لغاتهم القومية، وتلحق بها المقدمات والحواشي ووضع فهارس بما ورد في الكتاب من آيات  قرآنية  وأحاديث نبوية، وأبيات شعر، وأسماء الأعلام والقبائل والأماكن.. الخ.
إضافة الى قيامهم بتنظيم المؤتمرات الاستشراقية، بشكل دوري بدءاً من أول مؤتمر عُقد في باريس 1873، ثم توالي عقدها في مدنهم، وعُقد قليلها في مدن شرقية مثل القاهرة والجزائر ونيودلهي. وفيها يستعرضون مشاكل الدراسات الشرقية ومستجداتها، ويتبادلون فيها المعلومات والآراء، وقد عُقد عام (1973) المؤتمر التاسع والعشرين، في باريس، وتم ترتيبه لمناسبة مرور قرن على انعقاد المؤتمر الأول في المدينة نفسها.
وكما وضع المستشرقون المعاجم اللغوية (مثل معجم دوزي للألفاظ غير الموجودة في المعاجم العربية، وعن الملابس) وهي أعمال تحتاج الى تحمل المشاق والصبر في الوصول الى نتائج علمية، وأمضى بعضهم عمره وهو منكب على نشر مخطوط، او تأليف كتاب، ووضع فهارس، وتكبد آخرون مشاق الترحال والمخاطرة بحياتهم في سبيل الوصول الى حقيقة ما او طلب مخطوط.
يقول باحث معاصر: لقد كانت وجهات نظر المستشرقين ذات فاعلية وفعالية تستمدها من الجهود الكبيرة المبذولة طيلة قرنين لإحياء النصوص العربية، وهي جهود تجعل الجهد العربي (المحلي) يبدو ضئيلاً بالمقارنة… ولهذا لم يكن كراتشوفسكي المذكور على خطأ عندما أشار الى سعة جمهرة المثقفين العرب الداعين الى اعتماد المناهج الأوربية والثقافة الغربية وسيلة للوصول الى تكوين الأصول الصحيحة للأدب العربي، والذي اعتبرهم مختلفين عن جماعة القديم، او جماعة التقليد المحض للأوروبيين.
وبالمقابل -وكما سنرى- نجد بعض (الغيارى) من يجحد فضل المستشرقين بجرة قلم. ويندب التراث الذي صار بأيدي (الأغراب!).
وأخيراً: فمهما يكن من أمر فإن المستشرقين ليسوا سوى بشر، وقد يخطئون، ويتحاملون، فلبعضهم ميولهم وأهواؤهم وقناعاتهم المختلفة ،  عن ميول وأهواء وقناعات أهل الشرق. فليس من المنطق أن ننظر اليهم جميعاً نظرة واحدة من النزاهة والانصاف، او ان يتسلحوا بالعلم وبمنهجية البحث في تآليفهم دون ان يخطئ بعضهم، او دون ان يتعصب. ونردد هنا مع المستشرق الكبير مكسيم رودنسون  Maxim Rodinsonl  ( 1915-2004 ) متسائلين: ما أهمية الأفكار التي يحملها عالم الآثار الفرنسي الشهير شامبليون، ما دامه ان فك لنا رموز اللغة الهيروغليفية، لغة المصريين القديمة. فهل كان على صواب ام على خطأ حين فك تلك الرموز؟
 
و فى مبحث آخر يحمل عنوان " متى كانت بداية الأستسراق ؟ يؤكد حسين أنه ليس من الصواب أن نعتبر ما كتبه الآخرعنا قبل نحو ثلاثة عشر قرنا بداية للأستشراق . و يشير الى صعوبة تحديد هذه البداية قائلا : ان من يحاول الخوض فى موضوع ( بواكير الأستشراق ) يجد نفسه يخوض عباب بحر تتلاطم فيه آراء متباينة ، متناقضة أحيانا ، و السبب الأساس يعود الى تباين مفهوم الأستشراق – نفسه – لدى المعنيين بالأمر ، و اختلاف زوايا الرؤى و الطروحات الفكرية ، حتى ان منهم من أعتبر قيام رجل دين مسيحى ، كان هو و آباؤه يعملون فى ديوان دولة عربية ، بتأليف كتب عن الأسلام ، فى القرن الأول الهجرى ، عملا استشراقيا .
 
ثم يمضى حسين ليتحدث مطولا و بأسهاب عن الهزات العنيفة التى تعرضت لها المجتمعات الأوروبية نتيجة للفتوحات الأسلامية لجنوب و جنوب شرقى أوروبا ، و أن هذه الفتوحات  كانت حافزا للأوروبيين  لدراسة الشرق الأسلامى  للوقوف على سر قوة الأسلام و المسلمين .
 و الغريب فى الأمر ان المسلمين الفاتحين لم يهتموا بدراسة المجتمعات الأوروبية و لا بالفكر الأوروبى بعد غزوهم للأندلس و بعض مناطق جنوب شرقى أوروبا ، و يعلل عدد من الباحثين العرب هذا التجاهل ، بأن  أوروبا لم تكن لديها ما يغرى الفاتحين على الأهتمام بها و دراستها ، و يبدو أن حسين ، يرى ذلك أيضا .كما ان كتابات المؤرخين العرب القدامى يحفل بأمور غريبة و عجيبة ، بعيدة ، ليس عن العلم و لكن عن المنطق و التفكير السوى  و يضيف حسين :الواقع أن ما كتبه المسلمون عن آخرهم  ( يقصد عن غير العرب ) ، لا يتجاوز ذكر أبرز مواصفات الأقوام .
فعلى سبيل المثال كتب المسعودى (ت. 346هـ / 967 م ) فى كتابيه ( مروج الذهب و معادن الجوهر ) و ( التنبيه و الأشراف ) عن وجود أمم عجيبة ، سواء فى طول القامة أو طول العمر، و أمم تصدر أصواتا شبيهة بالفرقعة أو الدوى أو الزئير ، و لبعضهم عين واحدة فى قمة الرأس و أنهم يصطادون السمكة و يعرضوها فى الحال الى حرارة الش55      س بأيديهم ، التى تطال الشمس(!) فيتم شويها، فيتناولونها .
يقول محمد أركون : " حين تشيخ الأسطورة تتحول الى  خرافة " .. لقد نمنا نومة عميقة ، قد لا نصحو بعدها ، نمنا و كأن تطورات العالم و فتوحاته لا تعنينا ، نمنا تحت خيمة و وصايا مضروبة على الجميع ، ضربتها أنظمة الأستبداد الهزيلة المشروعة ، أو المعدومة ، لأنها أنظمة تعمل لتغييب العقل ، و تقصى المنطق . فى مثل هذه الأجواء لازم عدم ثقة رجال الدين بمن يشتغلون بعلوم الأوائل ، كما لازمتهم كراهيتهم للكتب ، التى تتضمن هذه العلوم / بل صار ممكنا – و بسهولة – أن يؤدى مجرد أقتنائها ألى اتهام صاحبها بميله الى الألحاد و الزندقة .
و يعود حسين فى مبحث آخر ليواصل الحديث عن " تواصل اهتمامات الغرب بقضايا لشرق الأسلامى " و يورد على ذلك أمثلة كثيرة و يخلص الى القول : أن الجمعيات التى تأسست فى القرن التاسع عشر قد أضطلعت بدور ملحوظ فى الدعوة لأقامة المزيد من المدارس لتعليم اللغات الشرقية فى باريس و برلين و ليدن أو فى بطرسبورغ ، و باتت دعواتها تلقى آذانا صاغية من لدن المعنيين ، و تتحول الى تيار ضاغط مع توسع مصالح الدول الكبرى فى الشرق و لا سيما بريطانيا و فرنسا ، حين تصاعدت حدة التنافس بين تلك الدول على خيرات و أسواق الدول المتخلفة .
و لعل من أمتع فصول الكتاب الذى نحن بصدده ، فصل بعنوان " فى المرايا المحدبة  ... لا يشبهنا أحد... (!) " حيث يتساءل حسين : ما الداعى الى أضافة رقم جديد الى ما كتب عن الأستشراق ؟ لقد سنحت لى فرصة الأطلاع – منذ سنين بعيدة – على هذا الموضوع الشيق . هكذا أصفه ، لأن من طبيعته ، أنه يمثل نظرة الآخر ( الغرب ) الى تراثنا ، نحن أهل الشرق ، نظرة تختلف – بالتأكيد – عن نظرة أهل الدار الى أنفسهم ، الذين تمثلوا هذا التراث بعد أن عايشوه و ألفوه ، و أرتاحوا معه ، و لا يرتاحون ان مـسه أحد .. أحد ( الغرباء ) .
بأختيارى الكتابة -  و القول لحسين  -  أزعم  أنى آثرت سبيل التفكير فيما كتب عن هذا الموضوع الفسيح . و جعلت العقل مرشدا للتمييز بين ما هو منطقى و بين ما هو غير منطقى ، و هو طريق شائك فى مجتمع ارتاح الى بعض التصورات ، و نام هنيئا ، بعد أن اقتنع بما سمعه أو قرأه دون روية أو تفكير ، و لا شك أن هذا الأمر بعيد عما يطلبه منا ديننا ، فثمة آيات كريمة تؤكد على عظمة ما وهبنا أياه الخالق ، هبة العقل ، و حق الأنسان فى أعمال العقل فى كل شىء ، و عدم الأستسلام أو التصديق بكل ما نسمعه أو بكل ما نقرؤه ، و طريق العقل طريق وعر فى شرقنا ، و لا سيما لدى تناول تراثنا ، للتمييز بين ما هو عقلانى فيه  ، و لا عقلانى .
لقد أكتفى كتاب فى دراساتهم للأستشراق بتسويق مواقف الرفض و الأدانة للعاملين فى هذا الميدان ، و حذروا الآخرين من قبول طروحات المستشرقين ، و لم يحاولوا البحث عن منهج ناضج يتماهى مع عصرنا ، أو أيجاد و سيلة صحيحة فى مواجهتنا مع الآخر ، أو التصدى لهم ، و هذا يشير الى وجود عطب فى منهجنا و ما أنتجه ، فقد ظلت كتابات العديد من كتابنا شبيهة بصراخ مدو أمام المرايا المحدبة ، داخل منازلنا ، لا نسمح لأحد أن يرانا أو يسمعنا أو يصفنا ، سوى أنفسنا ، و لن يطال قامتنا أحد ، لأننا فوق الوصف و فوق التصنيف ، و لا يشبهنا أحد . و من يقول  عنا شيئا لم نألفه ، نصفه بنعوت ما أنزل الله بها من سلطان ، مما يدل على بؤس تلك الكتابات ، التى تنوس بين فضاءات بهرجة الأنشاء ، اذ تعبر عن عقلية هاجعة ثاوية فى زوايا لا ترى النور، كتابات مكابرة معاندة ، و هذا يعنى أننا ما زلنا عاجزين عن تمثل تراثنا بشكل صحيح ، و لا يتعين أن  يمسه الا المطهرون ، و نقف أمامه اجلالا ، للتبرك و المفاخرة .
و لا يكل حسين أو يمل من تحليل و مناقشة طروحات الكتاب العرب عن الأستشراق من المجموعتين اللتين أشرنا أليهما فى ما تقدم ، و يطرح نهجا جديدا فى تقييم  الأستشراق و الأوروبى منه على وجه التحديد ، قائم على اعمال العقل فى دراسة  كتابات المستشرقين و التمييز بين ما هو منطقى وبين ما يخالف العقل و المنطق .
أن الجزء الأكبر من الكتابات العربية عن أعمال المستشرقين ، تكاد تقتصر عل ألصاق تهمة التبشير بمعظم المستشرقين , و هذا بلا أدنى شك  ينم عن تعصب دينى و تضليل .
يقول حسين : لم نقرأ أن مستشرقا أدخل أناسا الى دينه ، فللمستشرق اهتماماته العلمية الخاصة ، و لهذا فالزوابع التى أثيرت حول دور المستشرقين التبشيرى لهى زوابع مفتعلة ، الغرض منها هو تخويف الناس ( بفزاعة و همية ) لكيلا يطلعوا على النتاج المعرفى الذى توصلوا اليه ، و هم – أى كتابنا – يربطون بين أمرين بعيدين عن بعضهما .
و يورد حسين نماذج من هذه الكتابات العربية  البائسة ، لا نرى ضرورة لأيراد مقتطفات منها ، فهى تكاد أن تكون هى النموذج السائد فى كتابات المتزمتين .  و فى مبحث آخر يحمل عنوان
 " الأستشراق ، العنصرية ، و الحقيقة " يناقش حسين  كتابات عدد من المستشرقين الغربيين  المتحيزين ، الذين ، لا تتصف كتاباتهم بالموضوعية ، بل ينم عن  التعصب بشتى أشكاله و عن النظرة الأستعلائية الى الحضارة الأسلامية .
و فى الفصول التالية ، يطور حسين أفكاره – التى المح اليها سابقا - بشىء من التفصيل ، و لعل عناوين هذه الفصول تنبىء عن محتواها " المستشرقون فى سلة واحدة جميعا (!) " و " ما الغاية من الحوار ؟ و من يحاور ؟ " و " فى ضعفنا تكمن قوة الآخرين " و " الحرية و العقل صنوان "
و فى المبحث الذى  يحمل عنوان " الأستغراب .. و هل هو ممكن ؟ "
 سؤال يطرح نفسه بألحاح : لماذا لا نقوم نحن أهل الشرق بدراسة الآخر .. أى دراسة مجتمعات و ثقافات بلدان المستشرقين ؟ . يجيب أدوارد سعيد على هذا السؤال المشروع بقوله : ان هذا الأمر غير ممكن ، ففى الجغرافيا التخيلية و تمثيلاتها ، لا يحتمل أحد حقلا مناظرا له اسمه
 " الأستغراب " ، الا أن " ريتشارد سوذرن "  يرى أن هذا العمل عمل مشروع و منطقى ، و مبرر – نظريا – حتى نخفف عن أنفسنا عبء اتهام الآخرين بالتحامل علينا و لنرى صورة الغرب التى انعكست على مرايا ( الشرق ) و لأن رؤية الآخر ضرورية ، أو فرع لرؤية الذات .
و يبقى الفصل الأخير من كتاب حسين ، " نبذ من انجازات بعض كبار مستشرقى القرن العشرين " و هو فصل مشوق و ممتع يكشف عن الخدمات الجليلة ، التى أسداها فطاحل المستشرقين  للشرق العربى الأسلامى  عن طريق استخدام المناهج العلمية الموضوعية فى دراسة  التراث الشرقى الأسلامى و الحضارة الأسلامية  وجوانب حياة المجتمعات  العربية .
 
ما الجديد فى كتاب " الأستشراق برؤية شرقية " ؟
أشرنا فى ما تقدم  أن حسين تساءل فى مقدمة الفصل المعنون " فى المرايا المحدبة .. لا يشبهنا أحد "  ما الداعى لأضافة كتاب أو رقم جديد الى ما كتب عن الأستشراق ؟
لقد أصطحب حسين قارئه فى جولة فكرية ممتعة و شاملة  فى عالم الأستشراق  : جذوره و تطوره و انجازاته و أعلامه البارزين و منهجهم فى دراسة الشرق و بموضوعية قل نظيرها .
 كتاب حسين حمل الينا العديد من الأفكار و الرؤى و  و الطروحات الجديدة ، التى نادرا ما تجاسر أحد من الكتاب العرب على طرحها على بساط البحث و النقاش .
لقد أستمتعت بقراءة هذا السفر الفريد ، ليس فقط لمحتواه الباذخ ، بل لأن أسلوب المفكر و الباحث الدكتور محسن محمد حسين  الشائق ، نسيج و حده ، و ممتع ، بل أكاد أقول أن هذا الأسلوب أصبح علما عليه .
 و قبل أن أختم هذه الملاحظات حول كتاب " الأستشراق برؤية شرقية " لا بد لى من الأشارة الى أن العنوان الأصلى للكتاب كان " الأستشراق: محاولة للفهم و لردم الهوة " و قد تم تغييره من قبل الناشر – دار الوراق -  و العنوان الجذاب الذى أختاره الناشر لا يدل على محتوى الكتاب ،بل على النقيض مما جاء فيه من طروحات  و آراء ، لأن  المؤلف قصد به ، تقديم رؤية جديدة للأستشراق ، تختلف جذريا عن رؤية المفكرين و الكتاب الشرقيين لهذا المجال المعرفى.
 و تبقى ملاحظة أخيرة و هى ان هذا الكتاب كان من ضمن الكتب الأكثر  مبيعا فى معرض الكتاب الأخير  فى الرياض ، بالمملكة العربية السعودية .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


152
نيكولاى مار و أصل الكورد و لغتهم

                                                                                                                          جودت هوشيار
1 – مقدمة
 
دأب عدد من المستشرقين الروس ، يشايعهم فى ذلك بعض الباحثين الكورد ، على أعتبار العالم الآثارى و اللغوى الجورجى نيكولاى مار  Nikolai Marr ( 1865-1934) كوردولوجيا بارزا و كيل المديح له كعالم خدم الكورد  بالكشف عن الجذور الـاريخية لأصلهم و لغتهم   و تصدى لستالين في قضية طبقية اللغة. بيد أن هذه المزاعم  لا تمت الى الحقيقة بصلة ،  ذلك لأن اسهامات هذا العالم فى " الكوردولوجيا " تكاد لا تذكر ، بل على النقيض من ذلك ، أسهمت آرائه الخاطئة و المضللة حول أصل الكرد و لغتهم فى أشاعة البلبلة و التشويش فى حقل الكوردولوجيا الروسية على أمتداد فترة طويلة ، و لم يتم التخلص من بعض الآثار السلبية لهذه الآراء حتى  اليوم
.
وردت هذه الآراء فى  مقال شهير نشره " مار  Marr " عن الكرد و لغتهم فى العام  1912، تحت عنوان (  مرة أخرى عن كلمة جلبى  : حول الأهمية الثقافية للشعب الكوردى فى  تأريخ آسيا الأدنى )(1) ، فى سياق  جدل ساخن أثير فى بداية القرن العشرين  بين عدد من المستشرقين الروس عن معنى كلمة " جلبى " .و قد أدلى " مار " بدلوه فى هذا الموضوع ، و ليته لم يفعل ! . فى مقاله سىء الصيت  تحدث " مار " عن أصل كلمة " جلبى " و مدلولاتها المختلفة فى اللغات الكردية و التركية و العربية ،.ويمكن أن يقال عن هذا  المقال ،  أنه حق أريد به باطل ، ذلك لأن " مار " فى الوقت الذى يشير فيه الى بعض الحقائق التأريخية التى توضح دور الكرد الفعال فى التأريخ الثقافى لشعوب الشرق الأدنى و أسهامهم فى  خلق الآثار الثقافية الرفيعة لشعوب ما وراء القفقاس ، و قيامهم بدوركبير خلال الفترة الممتدة من القرن العاشر و حتى القرن الثالث عشر ،  فى تثبيت الأقطاع  فى آسيا الصغرى ، فأنه لم ينظر الى  التأريخ الكردى ، كتأريخ الكرد أنفسهم  و كشعب مستقل و متميز ، بل كتأريخ " اليافتيين "  (  الجورجيين ، الخالديين ، الأرمن ) و قد رفض الأصل الأيرانى للكرد و لغتهم .  و أكد ان أصل الكرد يافتى و كذلك لغتهم ، فهى  أيضا يافتية . و كتب  قائلا :
" ان المصادر الأساسية kard, resp. kord  تتطابق و اساس التسمية العرقية عند الجورجيين أنفسهم ، كما فى  qard الجورجية و qord-u المينكريلية (2) ..  و على هذا النحو لن نندهش اذا رأينا  بمضى الزمن ان التجارب الفعلية  سوف  تؤكد تطابق الهوية ألأصلية للكاردوخيين ( الكرد ) و الكارتيين ( الجورجيين ) ، هؤلاء الذين أنفصل بعضهم عن البعض الآخر منذ  ألف سنة . و من الواضح ان اللغة الكردية – و الكلام ما زال لمار -   قد  تعرضت الى تغييرات  جوهرية  ، و أستعاضت عن اليافتية بالآرية .  ثم يشير ألى " ان جميع  المعانى الدينية و الأجتماعية لــ " جلبى " مستخدمة فى اللغة الكردية  ذاتها  على نطاق واسع بين الشعب الكردى  و  قبل وقت طويل من  بداية القرن الرابع عشر . و من المرجح ،  قبل التحول الكامل للغة هذا الشعب العريق الى  الأيرانية ."
 

و يبدو ان بعض الباحثين الكرد  قد انخدع بالعنوان الفرعى لمقال " مار " و هو ( الأهمية الثقافية للشعب الكردى ) من دون تمحيص و تحليل لمضمون المقال أجمالا ، لأن مار يخلط هنا  السم بالعسل ، و لا يجوز التسليم بآرائه اللاعلمية حول أصل الشعب الكردى التى تتعارض تماما مع الحقائق التأريخية ، لمجرد أنه أشاد بالشعب الكردى ( اليافتى حسب زعمه ) .
 
 
 
 و نظرا لمكانة مار فى أكاديمية العلوم  الروسية كعالم آثار و باحث  متخصص فى اللغات القفقاسية  ، أثار هذا المقال أهتماما كبيرا بعد نشره و  ظهرت آثاره التحريفية فى مؤلفات  بعض تلامذته من المستشرقين ومنهم " فيلجيفسكى " و " ميللر " فعلى سبيل المثال لا الحصر، زعم "فيلجيفسكى"  ان الكرد ينتمون الى أصول مختلفة و يتكلمون بلغات و لهجات متباينة .
 و بعد مرور  فترة طويلة على سيادة آراء " مار " حول الكرد فى الأوساط الأستشراقية  خلال العهد الستالينى، كرر فيلجيفسكى هذه المزاعم عندما كتب مادة الكرد و كردستان فى "الموسوعة التأريخية السوفيتية " و كذلك فى كتابه المعنون " مقدمة فى  تأريخ أثنوغرافيا  الشعب الكردى " الصادر فى موسكو فى العام 1961.
و قد تصدى العالم الكردى الكبير " قناتى كوردوييف "  لهذه الآراء بقوة وحزم ، حيث نشر – بعد زوال فترة الجمود العقائدى أى فى  فترة  ما سمى بـ" ذوبان الثلوج " -  دراسة علمية  رصينة ، فند فيها بأدلة دامغة مزاعم " مار " و" فيلجيفسكى "  و"  ميللر " (3)
 
2 – من هو نيكولاى مار ؟
 
و  الآن من حق القارىء أن يعرف ! من هو هذا العالم اللغوى ؟ ، الذى حاول تشويه و تحريف أصل الكرد و تأريخهم و ثقافتهم ، و لم يسهم بأى عمل علمى  ذى قيمة ، فى تطوير الكردولوجيا " على الأطلاق، بل على النقيض من ذلك تماما ، ألحق أفدح الأضرار بالدراسات التى تتاول اللغة الكردية و جذورها التأريخية و حرفها عن مسارها الصحيح طوال  العهد الستالينى .
 
و لد " نيكولاى مار "  فى  جورجيا فى العام 1865 من أب سكوتلندى و أم جورجية ، و درس علم الآثار . و بعد تخرجه فى الجامعة ، أسهم فى بعض البعثات الآثارية فى القفقاس و نشر عددا من الدراسات العلمية حول  آثار و تأريخ و أثنوغرافيا شعوب القفقاس .و لكن هذه الدراسات لم تلق أهتماما كبيرا . و لم يبرز فى حقل تخصصه  ، و فى ما بعد أشتهر بدراساته حول اللغات القفقاسية ، و التى أهلته لنيل عضوية أكاديمية العلوم الروسية فى العام 1912.
وخلال الحرب العالمية الأولى عمل ضمن لجنة أنقاذ الآثار العلمية والثقافية و التراثية فى جبهة القفقاس ، ممثلا لأكاديمية العلوم الروسية ، بالأشتراك مع العالم الأرمنى الشهير الأكاديمى " أوربيللى ". كما قام ضمن بعثة مع " أوربيللى "  أيضا بأجراء التنقيبات الآثارية فى بعض مناطق  كردستان الشمالية ،التى أحتلها الجيش الروسى  فى أوائل الحرب العالمية الأولى ، بيد أن  البعثة الآثارية الروسية  أضطرت الى مغادرة تلك المناطق بعد أنسحاب الجيش الروسى منها   .
وفى العام 1918 أسهم مع عدد من المستشرقين و بدعم من " معهد لازاريف للغات الشرقية " بتأسيس معهد " الشرق الأدنى " الذى أطلق عليه اسم " المعهد الأرمنى " و قد أستمر نشاط المعهد الأخير الى حين تأسيس"معهد اللغات الشرقية الحية " فى موسكو "معهد الأستشراق " حاليا . و قد أستطاع " مار"  تدريجيا من أزاحة كافة منافسيه عن طريقه  ، وكان العام 1930 مثمرا للغاية بالنسبة اليه ، ففى هذا العام – كلف و هو العالم المستقل ، أى غير المنتمى للحزب البلشفى – بألقاء كلمة العلماء السوفييت فى المؤتمر السادس عشر للحزب . و يبدو أن " ستالين " قد أعجب ، أيما أعجاب ، بآراء " مار " ، تلك الآراء التى كانت تتفق تماما مع آراء ستالين فى الصراع الطبقى و البناء الفوقى الجديد للمجتمع السوفييتى . و قبل على الفور عضوا فى الحزب البلشفى بناءا على رغبته و بترشيح و مباركة ستالين شخصيا و هو أمر كان نادر الحدوث أو على نحو أدق ، لم يحدث على الأطلاق لا قبل " مار " و لا بعده .، مما أتاح له التوسع فى نشاطاته و بسط نفوذه على معاهد البحوث اللغوية و أكاديمية العلوم السوفيتية و منحه " ستالين "  أرفع وسام فى العهد السوفييتى و هو وسام " لينين " الذى لم يكن يمنح سوى للشخصيات التى قدمت خدمات جليلة للدولة السوفيتية ..
 
3 – نظرية "مار " اللغوية أو النظرية اليافتية .
 
تستند  نظرية "مار " اللغوية الى تحليل اللغات القفقاسية ، التى سماها باللغات " اليافتية "
. وهذا الأسم مشتق من اسم " يافيت " الوارد فى الأنجيل .
الفكرة الأساسية لنظرية " مار " كانت بسيطة و بدائية ، فحسب نظريته ( اللغة بناء فوقى على أساس الأنتاج و العلاقات الأنتاجية ، شأنها فى ذلك ، شأن الأدب و الفن .)
ورغم ان هذه  ( النظرية ) كانت زائفة ، الا أنها ولدت أفتراضات " مار " الأخرى، الأكثر خطورة ، حيث طرح " مار " مسألة مرحلية اللغة ، عندما ينتقل المجتمع من شكل أقتصادى – أجتماعى ألى آخر ، تنتقل اللغة أيضا الى حالة نوعية جديدة .و أعلن "مار " بأنه فى هذه الحالة يحدث تفكك التركيب القديم للغة و بضمنه قواعد " النحو " و بعد ذلك تظهر عمليا ، لغة جديدة و لكنها تحتفظ فى داخلها بكثير من عناصر اللغة القديمة . و حسب رأيه كان من المفترض أن تظهر فى روسيا لغة روسية جديدة بعد ثورة أكتوبر .

 
 وقد تصدى لهذه النظرية الفاسدة كثير من علماء اللغة و فى مقدمتهم " بوليفانوف " .
 و أفتراض آخر لــ " مار " لا يقل عن الأفتراض السابق فسادا و زيفا ، وهو " طبقية اللغة " .
كان " مار " يعتقد ، بما أن كل بناء فوقى أيديولوجى ، يتصف بالجوهر الطبقى ، لذا فأن اللغة أيضا بصفتها بناءا فوقيا ، تعتبر طبقية أيضأ .
 
و لعل أغرب ما جاء فى نظريته : " ان كل لغات العالم – و بضمنها اللغة الكردية – نشأت من أربعة عناصر أساسية ، كانت فى الأصل ، مسميات قبلية قديمة ، و هذه العناصر هى : ( روز ، ايون ، بير ، سال ) . و لكن لم يستطع أن يفسر ، لم هذه العناصر تحديدا هى أساس كل الكلمات ! و حين سئل " مار " لم أربعة عناصر و ليس أكثر أو أقل ، أجاب : " ان للأرض أربع جهات ، لذا يجب أن تكون هنالك أربعة عناصر  .
 
لم يكن " الماريزم " نظرية علمية فقط ، بل حركة داخل العلم ، تولدت بفعل ظروف عبادة  شخصية " ستالين " , و بما أنها كانت فى البداية نظرية جديدة و جذابة ، فأن النظرية " اليافتية " أحتلت قمة علم اللغة السوفيتى  . و من عليائه كان الزعيم الحكيم " ستالين " ، ينظر الي هذه النظرية  بعين الرضا ، أما الآراء المخالفة للماريزم ، فقد كانت تعتبر غير ماركسية أو بتعبير آدق ، مناهضة للماركسية و مثالية و بورجوازية !
 
فى تلك الفترة – أى فى العشرينات و الثلاثينات من القرن الماضى - ، كان كل شىء ينتمى الى  عهد ما قبل ثورة أكتوبر ، يعد غير مقبولة للمجتمع الأشتراكى الجديد . و لا شك أن  آراء " مار " الثورية الشبيهة بالشعارات ،  كانت محل أعجاب " ستالين " الذى كان يتصور أنه الخالق الوحيد للعهد الجديد . و الحق أن الزعيم لم يتدخل فى ذلك الوقت فى تفاصيل هذه النظرية ، حيث لم يكن لديه وقت للتفرغ للقضايا اللغوية ، فقد كان مشغولا بأعمال أهم وأخطر.
 
كان "مار " بحاجة الى معاونين أذكياء . العالم اللغوى البارز " بوليانوف " الذى كان على معرفة جيدة ب " مار " و تقبل فى البداية بعض آرائه ، رفض التعاون معه . و لكن فى الثلاثينات كان قد ظهر جيل جديد من اللغويين مستعد لتلبية ( حاجة العصر ) و متطلباته . أحد هؤلاء الأتباع كان لغويا أسمه " فيدوت فيلين " و كان فى الرابعة و العشرين من عمره حين نشر فى العام 1934 مقالا يحمل عنوانا ملفتا للنظر ( ضد العصابة البورجوازية فى علم اللغة " هاجم فيه زميله " لومتيف " البالغ من العمر آنذاك  26 عاما .
كتب  فيلين  يقول " يقدم الينا  لومتيف  عصابة فاشستية – بورجوازية تحت راية الكلمات الماركسية و لا يأخذ فى الحسبان أن ما قدمه كان بين جدان ( أكاديمية شيوعية ) .
 و الجدير بالذكر أن  فيلين   هذا " كتب فى العام 1976 أى  بعد أربعة عقود من الزمن مقدمة لمختارات من أعمال لومتيف :،  المتوفى فى العام 1972، و تطرق فيها الى سيرة حياته و ثمن عاليا مقالاته خلال عقد الثلاثينات من القرن الماضى .
فى العام 1929 كتب العالم السويدى اللغوى " هانس شيلد " أذا نزعنا غطاء المقولات الماركسية الذى يشكل السطح الخارجى لأوهام  مار  لن يبقى فى نظريته سوى  الماريزم  .
 
 شيئا فشيئا كلما أرتفع علم الماريزم  فوق برج علم اللغة السوفييتى ، حدثت أشياء غريبة شتى مع أفضل علماء اللغة .و لا يدور الحديث هنا عن اللغويين الذين ( أدركوا ) أفضلية الوحدانية فى اللغة و عملوا تحت لوائها ، عندما كان  مار  ما يزال على قيد الحياة ( توفى فى العام 1934 ) . هذه الوحدانية الأنفرادية التى كانت سمة رئيسية للعهد الستالينى ، و لا عن أولئك اللغويين الذين فضلوا الأنضواء تحت لواء الماريزم  بعد وفاته، و لا عن أصحاب  النفوس المريضة الذين أنضموا الى الماريين لتحقيق مصالح آنية ضيقة.
 
لقد سادت نظرية مار عن اللغات اليافتية  طيلة العهد الستالينى تقريبا ، ، حيث كانت تنسجم مع توجهات ستالين و طروحاته الفكرية حول البناء الأشتراكى ، و أصبحت هذه النظرية ، هى " النظرية اللغوية الوحيدة المقبولة فى الأتحاد السوفييتى  ،. و قد تم  أقصاء و قمع كل معارض لها فى صفوف علماء اللغة السوفيت ، بل وصل الأمر الى سجن و نفى و حتى  أعدام  العديد من خيرة علماء اللغة ، بتهمة معاداة الماركسية و البناء الأشتراكى . و  تبوأ مار أعلى المناصب ، كما أطلق اسم مار – عندما كان ما يزال على قيد الحياة - .  على  المعهد اللغوى الذى كان يعمل فيه . و بعد و فاته فى عام 1934 أزدادت مكانته رسوخا ، و كان أنصاره و تلامذته ، هم سادة (الجبهة اللغوية ) ان جاز التعبير .
 
فى العام 1949 عقدت هيئة رئاسة أكاديمية العلوم فى الأتحاد السوفييتى جلسة خاصة لمناقشة الوضع الراهن فى الجبهة اللغوية – حسب تعبير الأكاديمية – و أنتهى الأجتماع بصدور قرار يعتبر نظرية  مار  اللغوية هى النظرية المادية الماركسية الوحيدة ، كما قرر أزالة كل ما يتعارض معها ، بلا هوادة .
 
ستالين ونهاية نظرية مار اللغوية
 
و على حين غرة ، حدث ما لم يكن فى الحسبان ، و ما لم يكن يتوقعه أحد .ففى التاسع من أيار عام 1950 ، كتبت جريدة البرافدا تقول " بسبب الحالة غير المرضية لعلم اللغة السوفييتى ، فأن هيئة التحرير ترى من الضرورى  فتح باب النقاش الحرعلى صفحات الجريدة  و ذلك فى سبيل تجاوز حالة الجمود فى تطور علم اللغة السوفييتى و تحديد الأتجاه الصحيح  للبحث العلمى فى هذا المجال عن طريق النقد و النقد الذاتى " .
 
و مما زاد الأمر أثارة و دهشة ، ان الجريدة  فتحت باب  النقاش بمقال للعالم اللغوى الجورجى ا.س. جيكوبافى  - الذى كان يوصف فى الصحافة السوفيتية بالعالم اللغوى البورجوازى -  تضمن نقدا لاذعا لنظرية مار اللغوية و بين بكل جلاء و دقة بأنها نظرية لا علمية و دافع عن علم اللغة التأريخى المقارن . فى وقت كان كل من يغامر بتوجيه أقل نقد الى نظرية مار اللغوية يصنف فى خانة " معاداة  النظام الأشتراكى و الترويج للأفكار البورجوازية "
وفى البداية التزمت الجريدة ظاهريا  جانب الحياد ونشرت على مدى أكثر من شهر
و فى يوم الثلاثاء من كل أسبوع ، عشرات المقالات المؤيدة و المعارضة لنظرية ماراللغوية على حد سواء .
يقول ا.س. جيكوبافى فى مذكراته المنشورة فى اوائل السبعينات من القرن الماضى .
 " فى  بداية شهر نيسان سنة 1950 ، أبلغتنى السلطات المختصة فى جمهوريتنا ( يقصد جمهورية جورجيا السوفيتية ) أن أستعد للسفر الى موسكو خلال الأيام القريبة القادمة لمناقشة بعض المسائل اللغوية فى سكرتارية الحزب الشيوعى السوفييتى و أن أتهيأ لمثل هذه المناقشات مسبقا . و فى مساء العاشر من نيسان سافرت الى موسكو ضمن وفد ضم كذلك السكرتير الأول للحزب الشيوعى و، و رئيس الوزراء و أثنين من الوزراء فى جورجيا .
و عند وصولنا الى موسكو توجهنا على الفور الى البيت الريفى لستالين ، حيث أقتصر حديثنا معه على مسائل لغوية فقط .
فى بداية الأجتماع أبدى ستالين ملاحظاته حول الجزء الأول من معجم اللغة الروسية الذى صدر قبل ذلك بقليل ، ثم ناقشنا نظرية مار اللغوية . و تقرر فى هذا الأجتماع أجراء مناقشة عامة و علنية حول هذا الموضوع . و كلفنى بكتابة مقال يكون بمثابة نقطة أنطلاق لأثارة مسائل اللغة و مناقشتها . و استطرد ستالين قائلا : " ستنشر مقالتك اذا كانت جيدة . وهذا هو تقريرك ، أعيده اليك " و وضع ستالين على المائدة التقرير ،  الذى كنت قد أعددته حول ( مراحل تطور اللغة ) " و قال على الفور مستدركا : سأحتفظ بالتقرير حاليا و سأعيده اليك بعد الأطلاع على المقال الذى طلبت منك كتابته . "

و  يمكننا اليوم أن نتصور ما كان يشعر به جيكوبافى فى تلك اللحظة  فى حضرة ستالين ،  بعد سنوات من الأعتزال فى صومعته فى جورجيا ، تجنبا لملاحقة السلطات له كمعارض للنظرية اليافتية ! و بطبيعة الحال ، فأن هذا اللقاء و ما دار فيه  ظل سرا الى ان كشف عنه جيكوبافى فى مذكراته بعد أكثر من عشرين عاما .
 
و أخيرا فى 20 حزيران  ظهر على صفحات الجريدة مقال ستالين " حول الماركسية فى علم اللغة " و قد تم على الفور أصدار كتيب بملايين النسخ يتضمن مقال ستالين ( العبقرى ) على حد وصف الصحافة السوفيتية آنذاك .
قال ستالين عن  " مار " أنه عزل اللغة عن التفكير ، عندما  زعم بأن التفاهم و التواصل بين البشر يمكن أن يتم من دون اللغة  بمساعدة التفكير المتحرر من تأثير الطبيعة المادى .
و مضى ستالين قائلا:
 أن عزل التفكير عن اللغة و تأثيرها المادى أوقع " مار " فى مستنقع المثالية .
بعد هذا المقال الفصل جرى  التأكيد بأن " الماركسية فى علم اللغة " تتمثل فى ذلك الأتجاه الذى كان يوصم بالبورجوازية من قبل ، و حصل تبادل فى الأدوار بين علماء اللغة . أنصار ( الماريزم ) الذى كانوا يحتلون المناصب القيادية فى معاهد البحوث اللغوية و فى أكاديمية العلوم ، أصبحوا منبوذين بين ليلة و ضحاها  ، أما المعارضون لـ ( الماريزم ) الذين كانوا مهمشين فى السابق ، فقد تقدموا الصفوف ليحتلوا تلك المناصب . كل ذلك بمقال " عبقرى " أو أشارة من " الأخ الأكبر"
و نرى على هذا النحو كيف أن العلم يسيس  فى ظل أى نظام دكتاتورى و كيف تنقلب الأمور  رأسا على عقب  حسب مزاج " الأخ الأكبر " . و لكن  لا شك أن " نظرية اللغات اليافتية " التى ألحقت أفدح الأضرار بعلم اللغة ، تستحق ما آلت اليه من مصير ، لأنها منذ البداية كانت نظرية مصطنعة و زائفة ،  معزولة عن التطور التأريخى  للغات العالم و بضمنها اللغة الكردية .
الهوامش :
(1)   ن . ي . مار  ، مدونات القسم الشرقى للجمعية الآثارية الأمبراطورية الروسية ، سن بطرسبورغ ، 1912 ، المجلد 20 ، ص 99 – 151
(2)    المينكريلى : تسمية للألفباء الحديث الذى يستعمل فى اللغة الجورجية غير اللاهوتية ، و لهذه اللغة ألفباء آخر يستعمل لتدوين النصوص الدينية ,
(3)   ق . كوردييف ، نقد الآراء  الخاطئة حول  اللغة الكردية  ، مجلة اخبار معهد الأستشراق ، 1955 ، المجلد 12 ، ص 43-61
--------------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


153
المنبر الحر / دولة الأستمارات
« في: 21:30 28/05/2012  »
دولة الأستمارات

                                                                                                                              جودت هوشيار
 
 
عندما كنت أعمل بوظيفة ( رئيس مهندسين ) فى أحدى المنشآت الهندسية التابعة لوزارة الصناعة و المعادن فى عقد الثمانينات من القرن الماضى ، كانت ترد الينا على نحو شبه يومى ، أستمارات عديدة ، سواء من مقر الوزارة أو من الوزارات الأخرى ، تطلب فيها الجهات المرسلة بيانات و معلومات عن كل ما يخص أنشطة المنشأة فى المجالات التخطيطية و الأنتاجية و المالية و التجارية أو التسويقية و عن القوى العاملة و التدريب و الأيفادات , و غيرها كثير .
لم تكن الحاسبات الألكترونية تستخدم على نطاق واسع آنذاك ، لذا كان ملأ تلك الأستمارات ، عملا روتينيا مملا و الأهم من ذلك أنه كان يستنزف جهود عدد كبير من المهندسين و الأداريين و غيرهم و يستنزف الوقت الذى كان يفترض أن تكرس للأنتاج و التطوير .
و لكن الأسوأ من ذلك ، كانت تلك الأستمارات الواردة من رئاسة الجمهورية بتوقيع رئيس ديوان الرئاسة أو سكرتير رئيس الجمهورية . حيث كان المدير العام يقرأ محتويات الأستمارة بيد مرتعشة و يستدعى مدير القسم المعنى على الفور و يطلب منه أتخاذ ما يلزم بأقصى سرعة ممكنة . و أتخاذ اللازم يعنى بقاء العاملين فى القسم فى حالة أنذار حتى أنجاز المهمة ! و يتم منع الأجازات الأعتيادية عنهم و لا يسمح لهم بمغادرة المنشأة – حتى بعد أنتهاء الدوام الرسمى – قبل أكمال الأستمارات المطلوبة و تدقيقها مرات عديدة و أرسالها الى الجهة الطالبة على وجه السرعة .
و من كثرة الأستمارات المتداولة فى العهد البائد ، أطلق مدير عام ديوان الوزارة فى ذلك الحين على الدولة العراقية ، أسم دولة الأستمارات .
لا أدرى لم تذكرت أستمارات النظام السابق ، و أنا أقرأ خبرا مفاده أن وزارة التعليم العالى و البحث العلمى قد عممت أستمارة معلومات أستخباراتية على كافة منتسبيها ، مما اصابهم " بالذعر " على حد و صف رئيس لجنة التعليم العالي البرلمانية عبد ذياب العجيلي ، الذى طالب
رئيس الورزاء بالتدخل شخصيا لحل هذة القضية.
وأوضح العجيلي في البيان الصادر عن مكتبه، أن اعدادا كبيرة من اساتذة وموظفي الجامعات العراقية تقدموا بالشكوى الى لجنة التعليم العالي البرلمانية بسبب استمارة طلب المعلومات التى قدمت لهم من قبل وزارة التعليم العالي، مبينين أن هذه الاستمارة بعيدة عن تخصص وزارة التعليم العالي وهي معلومات استخباراتية تتضمن الاسم الكامل وجواز السفر والدول التى سافر اليها وكذلك معلومات عن الزوجة والزوج ومعلومات عن الاب وعمله السابق والحالي ومعلومات عن الام وعملها السابق والحالي ومعلومات عن الاعمام والاقارب وكذلك الاخوة والاخوات وعنوان سكنهم وعملهم.
وأضاف ان الغريب من الامر طلب معلومات عن الاصدقاء ومعلومات عمهلم الحالية والسابقة، مشيرا الى أن هذه المعلومات اصابت منتسبي وزارة التعليم العالي بالذعر كونها معلومات استخباراتية بعيدة عن المهنية.
وناشد العجيلي رئيس الورزاء بـ "التدخل شخصيا لحل هذة القضية ، كون هذا النوع من طلب المعلومات"، لا يوجد في الدول الديمقراطية المتقدمة التى تسعى الى تغيير سياسي مضيفا ان هذا المعلومات فيها البعد الاستخباري أكثر من الجانب التعليمي .
و اذا كانت ( الأستمارات ذات البعد الأستخبارى ) سمة للبعث الفاشى ، الا أن حكومة البعث كانت تتابع و تراقب و تطلب فى الوقت ذاته ، معلومات تفصيلية ‘عن أنشطة مفاصل الدولة المختلفة ، و لم تكن ( الأستمارات الأستخباراتية ) الا جانبا منها . أما حكومة البعث الجديدة برئاسة العلامة الفهامة نورى المالكى فلا علاقة لها ، لا بالمنشآت الأنتاجية و لا بمشاريع التنمية و لا بالخدمات العامة و لا تراقب أو تتابع أو تحاسب أحدا و لا تطالب بتقارير أو بيانات أو معلومات عن الأداء الحكومى أو مدى تنفيذ الخطط التنموية– و هل ثمة خطط تنموية حقا ؟ - أو تطور الأقتصاد الوطنى و غيرها من مجالات العمل و الأنتاج ، فهى مشغولة بما هو أهم من ذك ، أى بكل ما ما من شأنه ترسيخ النهج الدكتاتورى لرئيس الحكومة - المتشبث بمنصبه حتى الممات - و شلته ، التى اطلق عليها أحد الكتاب الأسلاميين المنشقين أسم ( المافيا ) و التى تتكون من زمرة صغيرة تحتكر السلطة و تسرق المال العام و تتجاوز على القانون و تنتهك حقوق الأنسان و تصفى المعارضين بتهم ملفقة و تحمى الفساد و الفاسدين .
هذه الفئة الضالة المضللة ، التى ترفع الشعارات الدينية البراقة - لخداع الجماهير البسيطة الكادحة المحرومة من كل نعم الحياة - ، لا هم لها سوى البقاء فى السلطة ، و هى مجموعة من أنصاف المتعلمين و أشباه المثقفين  ، قذفت بها الأقدار ( من الطهارة الى المنارة ) كما يقول المثل الشعبى العراقى  و لم تتفتق ( عبقريتها ) عن شىء جديد ، فأستعارت من النظام البعثى ، أساليبه فى أدارة دفة الحكم ، و سخرت أمكانيات الدولة لشراء الذمم و التجسس على المواطنين و كتم أنفاسهم و تصفية كل من يتجاسر على رفع صوته للأحتجاج على الأوضاع المزرية التى يعيشها العراقيون و العراقيات فى ظل أدارة المالكى الفاشلة ، و ما هذه ( الأستمارات البعثية الجديدة ) سوى دليل أضافى على ان الفئة الحاكمة ، التى تنتهك بنود الدستور العراقى و المواثيق الدولية حول حقوق الأنسان  , و تدربت على أساليب التجسس و القمع و أنتهاك الحريات و الخصوصيات ، لا تتقن مهنة سواها .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 
|
 
 

154
تجارة التعذيب فى عراق المالكى

                                                                                                                            جودت هوشيار

 
قالت منظمة  هيومن رايتس ووج " Human Rights Watch " فى تقرير لها  ( مؤلف من ثمان صفحات ) نشر مؤخرا ، أن فى العراق سجون سرية ، يجرى فيها أبشع أنواع التعذيب الجسدى و النفسى بحق المعتقلين . و تقول " صحيفة Los Angeles Times  " الأميركية  فى عددها الصادر فى منتصف هذا الشهر ، ان كل ذلك يجرى بعلم و موافقة و أشراف رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى  .
و جاء فى تقريرالمنظمة " ان العديد من السجون السرية ، ما زالت غاصة بالسجناء ، رغم أعلان الحكومة العراقية قبل حوالى سنة واحدة ، أغلاق جميع السجون السرية فى البلاد "
و يضيف التقرير أن الأعتقالات الجماعية التى جرت خلال شهرى أكتوبر و نوفمبر من العام الماضى شمات المئات من العراقيين من دون توجيه تهم محددة اليهم و من دون أوامر قضائية ، بل لمجرد الأشتباه بمعارضتهم لنظام المالكى . كما جرت أعتقالات جماعية مماثلة فى شهر آذار الماضى قبيل أنعقاد القمة العربية فى بغداد و لم يطلق سراح معظمهم لحد الآن .
و يقول مدير فرع المنظمة فى الشرق الأوسط جو ستورك " أن على الحكومة العراقية أن تكشف على الفور أسماء و أماكن حجز جميع المعتقلين و أطلاق سراحهم و من ثم القيام بتحقيق مستقل حول عمليات الأعتقال و التعذيب و محاسبة كل من له ضلع فى أنتهاك حقوق العراقيين ."
القوات الأمنية العراقية تعتقل العراقيين و العراقيات على نحو غير قانونى ، من دون توجيه أى تهم و من دون أى محاكمة ، و تعزلهم عن العالم الخارجى تماما  و تسىء معاملتهم و تهين كرامتهم و تحشرهم فى زنزانات  تفتقر الى أبسط الشروط الصحية و الأنسانية.
و لم يتطرق تقرير المنظمة الى ظاهرة يعرفها كثير من العراقيين و هى ، ان التعذيب أصبحت تجارة تدر أموالا طائلة على المحققين و القضاة و السجانين و رجال الأمن و الشرطة ، حيث يتم بعد أعتقال أى شخص  ، الأتصال بذويه و الطلب منهم دفع مبلغ مالى محدد ، لقاء أعفاء المعتقل من التعذيب ، و عند الأمتناع عن الدفع ، يجرى تعذيبه على نحو أشد. و أمعانا فى ألحاق الأذى النفسى بذوى المعتقل ( زوجته و أطفاله و والديه فى أغلب الأحيان ) و أنتقاما منهم لأمتناعهم عن دفع المبلغ المطلوب ،  يتم  أحيانا السماح لهم بمقابلة المعتقل و ألقاء نظرة عليه و قد تحول الى أنسان آخر يصعب التعرف عليه و تبدو آثار التعذيب  الجسدى الوحشى واضحة على وجهه و أنحاء جسمه ، و هذا الأستخفاف بحياة البشر و كرامتهم ، أصبح سمة لحكومتنا الرشيدة و رجالها الميامين ! . و حتى عندما يستجيب اهل المعتقل مرغمين لتهديدات ( رجال الأمن و القضاء ) و يدفعون الرشوة المطلوبة ، يتوقف التعذيب لبضعة أيام ، ليستأنف بعدها و يتكرر الأتصال بذوى المعتقل ، لأبتزازهم من جديد .
التعذيب فى عراق المالكى بات روتينا يوميا فى السجون السرية المنتشرة فى طول البلاد و عرضها ، و سجن ( الشرف )  فى المنطقة الخضراء ليس الا واحدا منها ، و ربما لا تعلم المنظمة بمواقع  السجون السرية الأخرى .
إن أنتزاع الأعترافات بالأكراه و التعذيب إزداد في الآونة ألأخيرة ، أضافة الى تعطيل إجراءات إطلاق سراح الأبرياء الذين يبرئهم القضاء ، حيث لا يتم إطلاق سراحهم إلا بعد تسلم القائمين على السجون والمعتقلات مبالغ مالية باهظة من ذويهم .
و كما هى عادة الأنظمة القمعية ، فقد بادرت حكومة المالكى - التى تحتكر الحكم و تسرق المال العام  و تستخدم الأجهزة الأمنية  ضد معارضيها  لأزاحتهم ، ليس عن السلطة أو العملية السياسية فقط ، بل تصفيتهم جسديا أيضا -  الى أصدار بيان تنفى فيه ما جاء فى تقرير " منظمة  هيومن رايتس ووج " Human Rights Watch " من حقائق و أدلة دامغة موثقة أستنادا الى شهادات الضحايا و شهود العيان و زيارة السجون العراقية و بخاصة سجن ( الشرف ) السرى .
المالكى يقول دائما عكس ما يفعل ، حتى فقدت الكلمات معانيها ( الدولة ، سيادة القانون ، حقوق الأنسان ، القضاء العادل )
شعار " دولة القانون " خدعة لم تعد تنطلى على أحد ، بعد كل ما جرى و يجرى فى ظل حكم هذا الائتلاف ) . الذى ينتهك الدستور و القوانين النافذة و أستقلال القضاء و حقوق الأنسان  على نحو صارخ يوميا .أى أننا أصبحنا نعيش فى ظل أرهاب الدولة الرسمى المقنع بالكلمات المعسولة و التصريحات العنترية لجوقة المطبلين و المزمرين المقربين من القائد الضرورة الجديد ، و مما يثير السخرية حقا ، هو تأكيد رئيس و أعضاء الجوقة ، أننا نعيش فى ( دولة القانون ).. ألم أقل أن الكلمات فقدت معانيها فى عراق المالكى !
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


155
محلل سياسى روسى ،يكشف عن خفايا التحالف الأستراتيجى بين العراق و أيران

                                                                                                                                  جودت هوشيار
 
كشف المحلل السياسى الروسى يورى شيغلوفين ، الأهداف الحقيقية لزيارة المالكى الى طهران، فى مقال تحت عنوان " أطار التحالف الأستراتيجى بين العراق و أيران ".
يقول شيغلوفين " ان الحظرالمفروض على تصدير النفط و الغاز الأيرانيين و اللذان يشكلان المصدر الرئيسى  للأيرادات فى ميزانية الدولة الأيرانية ، لم ينجح ، على خلاف التوقعات . فقد تمكنت أيران بعد فترة وجيزة من أيجاد مستهلكين آخرين ،(  العراق و باكستان و الهند ) بدلا من الدول الأوروبية
و يضيف شيغلوفين قائلا  " العراق بدأ يحتل مكانة مهمة ، ليس فقط بوصفه ، البلد الذى ساعد طهران على تجاوز العقوبات الأقتصادية المفروضة عليها ، و لكن بوصفه  أداة لتنفيذ عمليات لدعم الجماعات و الأنظمة الموالية لأيران .
 أن العقد الموقع بين العراق و ايران لزيادة الغاز الأيرانى المصدر الى العراق الى  25 مليون متر مكعب يوميا ، يندرج ضمن التحالف الأستراتيجى العراقى – الأيرانى المناهض لثورة الشعب السورى ضد نظام بشار الأسد . و قد تعهد العراق بتقديم الدعم الكامل للجهود الأيرانية الهادفة الى أنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط مقابل بيع الغاز الأيرانى الى العراق بأسعارتفاضلية و أمكانية  أعادة تصدير الغاز الفائض عن حاجة العراق . و الأهم من ذلك ، السماح بأستخدام الأراضى العراقية لتهريب  الأسلحة و الذخائر الأيرانية التى يحتاجها الجيش السورى . و  أقامة قنوات أرضية دائمة لتقديم الخدمات اللوجستية للنظام السورى ، و هذا أمر فى غاية الأهمية فى ظروف الحرب الأهلية .
وقد قامت الحكومة العراقية فى شهر نيسان الجارى ، و بناءا  على طلب الحكومة الأيرانية بتحويل مبلغ 12 مليون دولار الى الحكومة السورية  لدفع مرتبات عناصر المخابرات و القوات الأمنية ، مما يساعد سوريا على تجاوز الصعوبات المتعلقة بشحة السيولة النقدية  بسبب العقوبات الأقتصادية ، التى شكلت ضربة قوية للقطاع المصرفى السورى .
كما لجأت كل من سوريا و أيران الى أستخدام المصارف العراقية لتحويل الأموال بين البلدين و بين طهران و الخارج  . و تشكل  هذه القناة تعويضا عن الشبكات المالية الأيرانية التى تم أغلاقها عمليا – نتيجة لجهود مكتب التحقيقات الفدرالى فى الولايات المتحدة -  فى الدول الأفريقية الواقعة على خليج غينيا .
و قد تم عقد هذا التحالف الأستراتيجى بين البلدين  ، خلال الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى يومى 22-23 نيسان الجارى الى طهران و  مباحثاته مع المرشد الروحى لأيران آيةالله على خامنئى .
و فى الوقت ذاته وافق العراق على اطلاق سراح جميع المعتقلين من اعضاء حزب الله اللبنانى الذين صدرت بحقهم  أحكام بالسجن من المحاكم العراقية لقيامهم بأعمال أرهابية فى العراق ضمن تشكيلات ما يسمى جيش المهدى ،  أدت الى قتل مئات العراقيين الأبرياء . و بين المعتقلين الأرهابى على موسى دقدوق ، الذى يدخل ضمن الحلقة المقربة من مقتدى الصدر .و من المهم ان نشير هنا الى ان عناصر جيش المهدى يقاتلون بفعالية جنبا الى جنب مع قوات النظام السورى  ضد الشعب السورى الثائر .
أن الهدف الحقيقى  لزيارة المالكى الى طهران ، هو تشكيل تحالف ايرانى –عراقى لأنقاذ النظام الأسدى الآيل للسقوط و تحويل العراق الى قاعدة للنشاطات الأيرانية الهادفة الى بسط نفوذها على المنطقة و التغلب على العقوبات الأقتصادية الدولية المفروضة على ايران و سوريا ، مقابل بقاء المالكى فى الحكم .
 
اذن لم يأت تصريح النائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي ، خلال استقباله رئيس الحكومة العراقية في 22 نيسان 2012  من فراغ عندما قال : أن العلاقات بين الحكومتين والشعبين الإيراني والعراقي "متينة وفريدة من نوعها"، وأن اتحاد العراق وإيران بشكل تام سيجعلهما يشكلان "قوة كبيرة على الصعيد العالمي".
.
و أنا أكتب هذا المقال ورد فى اخبار اليوم ان مصادر عراقية مطلعة افادت  في حديث خاص مع «الوطن» ان رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي حصل على دعم المرشد الاعلى الايراني اية الله علي خامنئي في نزاعه مع خصومه من القوى الشيعية الاخرى وفي مقدمتها التيار الصدري والمجلس الاعلى الاسلامي وقالت «ان خامنئي تعهد للمالكي ليس فقط بالبقاء في كرسي رئاسة الحكومة الذي يسعى لازاحته منه تحالف سياسي جديد يتشكل من العراقية والصدريين والكردستاني، بل وايضا لولاية ثالثة في الرئاسة الثانية».
واكدت المصادر تلقيها معلومات موثوقة عن ان المالكي بحث مع القيادات الايرانية السياسية ومع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني ترتيب ملفات واوراق الولاية الثالثة التي يسعى من اجلها بقوة على الرغم من معارضة كل القوى السياسية بما فيها حلفائه الشيعة الذين بدأوا خطوات في البرلمان لاصدار قانون بتحديد رئاسة الحكومة بولايتين فقط بغض النظر عمن سيتولى المنصب الآن وفي المستقبل.
و قبل ذلك أعلن  قائد فيلق القدس الإيراني العميد قاسم سليماني، خلال ندوة تحت عنوان "الشباب والوعي الإسلامي" في (20 كانون الثاني 2012) بحضور عدد من الشباب من البلدان العربية التي شهدت ثورات ضد أنظمة الحكم فيها أن العراق وجنوب لبنان يخضعان لإرادة طهران وأفكارها، مؤكداً أن بلاده يمكن أن تنظم أي حركة تهدف إلى تشكيل حكومات إسلامية في البلدين .
 
و على هذا النحو نرى ،  كيف ان المالكى يتخذ أخطر القرارات السياسية و الأقتصادية و يفرط بمصالح العراق العليا  و يعقد تحالفا أستراتيجيا  لمحاربة الثوار السوريين و أنقاذ النظام الأسدى الدموى من السقوط -   دون الرجوع الى البرلمان أو الى زملائه فى ما يسمى حكومة الشراكة الوطنية -  لقاء ثمن بخس هو بقائه فى السلطة .
 
أن مقال المحلل السياسى الروسى شيغلوفين ، أماط اللثام عن جزء يسير مما يجرى خلف الكواليس بين حكومتى بغداد و طهران ، لأن الموقف الروسى مساند عموما للعراق و أيران ، و اذا علمنا ان الأعلام الروسى اليوم ،  نادرا ما تشذ عن السياسة الرسمية للدولة ، و لا يمكن لأحد من المحللين السياسيين أو الخبراء ، أن يتوسع فى كشف أسرار أصدقاء موسكو ، يتضح لنا أن الأمر أخطر مما يتصوره  البعض. و مع ذلك فأن ما كشف عنه شيغلوفين يؤكد مرة أخرى أن  نظام المالكى يدور فى فلك الجمهورية الأسلامية الأيرانية  و يسخر أمكانات الدولة العراقية لخدمة أجندتها فى العراق و المنطقة و يتغاضى عن  أستغلالها للحقول النفطية المشتركة و عن أمور كثيرة أخرى ،  تمس السيادة العراقية ، و هو أمر أصبح واضحا للغاية و يقر به خصوم المالكى و أصدقائه على حد سواء .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 

156
لازاريف و الدولة الكردستانية

                                                                                                                         جودت هوشيار
 
المستشرق الروسى الشهير ميخائيل لازاريف (  5/8/1930 – 7/3/2010 ) غنى عن التعريف ،. و تعد مؤلفاته الرائدة حول القضية الكردية فى ضؤ العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط (1)  من أهم الأسهامات العلمية الأساسية الجادة فى التأريخ الكردى الحديث . و علاوة على ذلك ، نشر خلال نصف قرن من البحث العلمى الدؤوب أكثر من 200 دراسة و مقالا حول الكرد و كردستان ، تتناول شتى  جوانب حياة الشعب الكردى السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية و الثقافية
.
لازاريف أحد رموز الكوردولوجيا الأكثر موضوعية  والأوسع علما فى الشأن الكردى فى  العصر الحديث ليس فى روسيا فحسب ، بل فى العالم أجمع  .
 
أدرك لازاريف من خلال التحليل المعمق و الأستقراء التأريخى لآلاف الوثائق الرسمية و غير الرسمية حول الكرد و كردستان و القضية الكردية المحفوظة فى الأرشيفات الروسية و البريطانية و غيرها من دول العالم ، مدى الظلم الذى لحق بالشعب الكردى -  و بخاصة عند رسم خارطة الشرق الأوسط من قبل الحلفاء ( انجلترا و فرنسا فى المقام الأول ) بعد الحرب العالمية الأولى -   و التضحيات السخية التى قدمها هذا الشعب فى سبيل نيل حقوقه المغتصبة.
 
لم تكن روسيا القيصرية تختلف كثيرا عن بقية الدول الأمبريالية  و لم تفكر فى منح رعاياها الكرد  ، فى ما وراء القفقاس و آسيا الوسطى الحد الأدنى من حقوقهم السياسية و الثقافية.
أتفاقية سايكس – بيكو( السرية )،  بين أنجلترا ا و فرنسا ، أبرمت بموافقة الحكومة القيصرية لقاء حصول الأخيرة على  جزء من كردستان الشمالية المتاخمة لحدودها الجنوبية . و قد تم كشف النقاب عن هذه الأتفاقية  ، سيئة الصيت و نشر النص الكامل لها ،  بعد ثورة أكتوبر فى روسيا فى  العام 1917 من قبل الحكومة الثورية الجديدة ، التى أدانت بشدة هذه الصفقة  الأمبريالية على حساب الشعوب المضطهدة  ، و بادرت السلطة السوفيتية الى تأسيس أقليم " كردستان الحمراء "(2)  و حصل الكرد فى السنوات العشر الأولى بعد الثورة البلشفية على مكاسب اجتماعية و ثقافية مهمة ،  حيث تم و ضع أول أبجدية لاتينية متكاملة للغة الكردية و تأسيس المدارس الرسمية ، التى كان التدريس فيها باللغة الكردية ، ربما لأول مرة فى تأريخ الكرد و  تأسيس أول معهد كردى لأعداد  المعلمين و صدرت أول جريدة كردية فى يرفان فى العام 1927 و هى جريدة  " ريا تازه "  و شرعت فرق من المثقفين الكرد بتوثيق التراث الشعبى الكردى و تأسيس أول مسرح كردى و غيرها من الأنجازات التى أشاد بها المثقفون فى كردستان بأجزائها الأربعة  و المستشرقون الأجانب كثيرا . ،  و لكن ذلك لم يدم طويلا  ، و مع بدأ العهد الستالينى الشمولى تم تجريد الكرد من مكاسبهم الأجتماعية و  الثقافية تدريجيا و بحلول أوائل الثلاثينات من القرن الماضى لم يتبقى شىء يذكر  من تلك المكاسب  .
 
و لم يكتف ستالين بذلك ، بل لجأ الى ترحيل الكرد من مناطقهم الأصلية الى مناطق أخرى  صحراوية و جرداء لا تتلائم على الأطلاق مع الأجواءالتى كانوا يعيشون فيها   و قضى عدد غير قليل منهم نحبه خلال عملية الترحيل القسرى  و جرى  نفى و سجن آخرين ،  بينهم عميد الأدب الكردى السوفييتى عرب شامو الذى قضى نحو عشرين عاما فى المنفى فى أصقاع سيبيريا المتجمدة الموحشة . و لم تنته هذه التراجيديا الأنسانية الا بعد وفاة ستالين بثلاث سنوات أى بعد التقرير السرى  الشهير ألذى ألقاه الزعيم السوفييتى  نيكيتا خروشوف فى الأجتماع المغلق للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى فى العام 1956،  و الذى شجب فيه عبادة الفرد و الجرائم المرتكبة فى العهد الستالينى  .
 و يرجع الفضل الى نيكيتا خروشوف أيضا  فى أعادة الأعتبار الى ضحايا الستالينية و بضمنهم الكرد و فى أحياء الآداب و الفنون الكردية فى مناطق ما وراء القفقاس و آسيا الوسطى ، و قد اطلق الكاتب الروسى " ايليا ايرنبورغ على هذه افترة اسم  " ذوبان الثلوج . و فى ظل أجواء الأنفتاح هذه  شهدت " ألكوردولوجيا " الروسية أنتعاشا واضحا .
 و ترجع الى هذه الفترة تحديدا و صول عشرات الطلبة الكرد من كردستان العراق للدراسة فى الجامعات و المعاهد السوفيتية ، و قد لعب هؤلاء بعد تخرجهم و عودتهم الى الوطن دورا بارزا و مشهودا ، كل فى مجال تخصصه ، و بخاصة فى  تطوير الدراسات الكردية .
و من الأنصاف القول أن الأهتمام بالكوردولوجيا و القضية الكردية عموما كان جيدا  حتى فى عهد ليونيد بريجينيف ،  الذى يوصف فترة ولايته  بعهد الجمود فى كافة مناحى الحياة السوفيتية  .
و لكن بعد تولى ميخائيل غورباتشوف الحكم فى العام 1984 و طوال فترة  " البريسترويكا " ، تم تجاهل ليس القضية الكوردية فقط ، بل حتى  مآسى الأنفال و حلبجة و حرق و أبادة الاف القرى الكردية .
بعد تفكك الأتحاد السوفييت و بسبب تضييق الخناق على الكرد فى جمهوريات ما وراء القفقاس و خصوصا فى أرمينيا و جورجيا و أذربيجان أضطر عدد كبير منهم الى ترك مناطقهم الأصلية و اللجؤ الى  الأتحاد الروسى و خصوصا  الى مدن   كراسنودار و موسكو و بطرسبورغ . و فضل عدد من العلماء و المهنيين الكرد الهجرة  الى الدول الغربية .أى ان عدد الكرد فى تلك الجمهوريات ، والتى عاشوا فيها منذ مئات السنين ، فى تناقص مستمر.
 
 ولم تشهد الفترة الممتدة من حرب الخليج الثانية و حتى سقوط النظام الصدامى اهتماما كبيرا بالقضية الكردية و تقلص الى حد كبير نشاط أقسام " الكوردولوجيا "  فى " معاهد الأستشراق "  فى روسيا و أرمينيا و  جورجيا و أذربيجان .
 
و قد كان هذا التجاهل للقضية الكردية و تحجيم الكوردولوجيا فى روسيا ،  مصدر أستياء للازاريف ، الذى أدرك ،  أن هذه السياسة لا  تخدم مصالح روسيا العليا ، و أن القضية الكردية قضية محورية فى منطقة  الشرق الأوسط  ، و لن تشهد هذه المنطقة الساخنة  ألأستقرار المنشود ، من دون حل عادل  للقضية الكردية . و تجدر الأشارة هنا الى أن  لازاريف كان  يعتبر القضية الكردية أهم بكثير من القضية الفلسطينية .
 
لازاريف كان يحث دائما ،  صانعى القرار السياسى فى بلاده على الأهتمام بكردستان التى تشغل موقعا ستراتيجيا مهما  من  وجهة نظر جيوبوليتيكية . و عندما تقرأ بتمعن كتابات هذا العالم الجليل  ، تحس ، كيف كان ينتابه القلق على مصير الكوردولوجيا فى روسيا و سياسة روسيا فى الشرق الأوسط ، التى لم يحظ فيها الكرد بالموقع الذى يستحقونه.
 
فى العام 1993 نشر لازاريف  فى جريدة " نيسافيسيميا غازيتا "  مقالا  فى غاية الأهمية ، تعبر عن خلاصة ما توصل اليه من أستنتاجات معمقة بعد دراسة القضية الكردية  بكل أبعادها طوال أكثر من خمسين عاما . يقول لازاريف :
" الغرب يكثف جهوده لحل القضية الكردية و نحن صامتون . روسيا لا تسهم فى السياسة العالمية بقدر تعلق الأمر بهذه القضية ". و دعا لازاريف الى "  عدم نسيان مصالح الدولة الروسية فى الشرق الأوسط و خصوصا الأساسية منها ، على المدى الطويل .و بضمنها و ربما فى مقدمتها فى كردستان الناهضة " و اقترح على السلطات الروسية تنفيذ عدد من الأجراءات ذات التكلفة المنخفضة و لكن الواعدة للغاية ، فى سبيل الحفاظ على النفوذ الروسى فى كردستان ،حيث نشط الغرب لأحتلال مكان روسيا حسب رأيه  وكان هذا هو المقال الوحيد عن السياسة الروسية ازاء القضية الكردية فى تلك الفترة ، ونرى أن  لازاريف أختار الجريدة  المذكورة لنشر مقاله لسببين أولهما أنها جريدة يومية وواسعة الأنتشار  أوجريدة قومية على حد تعبير الأخوة المصريين . و ثانيهما أنها جريدة  و ثيقة الصلة بصانعى القرار السياسى فى روسيا . و مع ذلك فأن المقال لم يحدث التأثير المطلوب ، لأن روسيا كانت تمر بمرحلة أنتقالية قلقة و لم تكن لديها من الحوافز ما يكفى للأهتمام بالقضية الكردية على نحو جاد و مكثف  .
 
و فى مقال آخر له تحت عنوان " دروس التأريخ و المهمات الجديدة  "  نشره  فى " المناخ الكردى " (3)  فى العام  ، 2001 لا حظ بأن الكرد بعيدون حقا عن اهتمامات  موسكو . و أضاف قائلا " رغم ان روسيا تمر الآن بفترة عصيبة و مأساوية فى تأريخها و لكنها لا يمكنها ان تظل محايدة ازاء الأحداث الجارية فى كردستان . و لكن روسيا ، كما نعلم  ، لا تزال تتغاضى عن رؤية تلك الأحداث " .
 
و  حول المصالح الروسية فى فترة ما بعد تفكك  الأتحاد السوفييتى  اشار لازاريف الى " ضرورة حل القضية الكردية  على اساس منح الشعب الكوردى  بأسره ،  حقه الطبيعى ، القانونى ، المشروع ،  غير القابل للتصرف ، و المعترف به من قبل المجتمع الدولى المعاصر ، فى تقرير المصير و صولا الى تأسيس دولته المستقلة "  و أكد لازاريف "  ان هذا الحل يسمح بمعالجة التوتر الدائم القائم  فى الشرق الأوسط  و  وذلك بأزالة أحد أسبابه الرئيسية ، و بالتالى ازالة احد مصادر التهديد الدائم لروسيا . و علاوة على ذلك فأن الأستقلال الكردى ، اذا لم يصبح بعد ،  فأنه يجب أن يصبح هدفا ذا اولوية فى سياسة روسيا الشرق اوسطية ، لأن هذا الأستقلال  يصب فى مصلحة روسيا الجيوبوليتيكية ،  و التى  للأسف لم يفهم او يدرك  بعد  من قبل الجميع " و مضى لازاريف يقول " ان عدم وجود سياسة روسية خارجية  متماسكة فى  هذه الفترة الأنتقالية من تأريخها أدى الى التقليل من قيمة وجود قضية كردية مستقلة بالنسبة الى مصالح الدولة الروسية   .
 
المبادىء الأساسية التى يجب أتباعها فى سياسة روسيا الكردية -  عندما تصبح روسيا الجديدة قوية و تبدأ فى التمهيد لطريقها المستقل فى كردستان و فى عموم الشرق الأوسط و بقية انحاء العالم هى  اولوية حقوق الأنسان  و ضرورة ، تدويل القضية الكردية والأعتراف بحق الشعب الكردى فى تقرير المصير و صولا الى أقامة  دولة كوردستان المستقلة ، التى تعمل على قدم المساواة مع الدول الأخرى فى منظمة الأمم المتحدة و المنظمات الدولية الأخرى "  .

 
فى السابع من شهر آذار 2012مر عامان على رحيل ميخائيل سيميونوفيج لازاريف ،  أحد أخلص أصدقاء شعبنا الكردى و أحد أكبر المستشرقين الذين أسدوا خدمات جليلة للكرد و كردستان . و أزعم أننى كنت من أوائل من ادرك أهمية أعمال لازاريف العلمية ، حيث ترجمت كتابه الشهير " القضية الكردية 1981- 1917" ترجمة أمينة  الى اللغة العربية و نشرتها على شكل حلقات مساسلة فى مجلة " شمس كردستان " (4)  التى كانت تصدر فى بغداد عن جمعية " الثقافة الكردية.
 
و أننى أنتهز هذه الفرصة لأناشد الأكاديمية الكردية بترجمة مؤلفات لازاريف الى اللغة الكردية  و نشرها على نطاق واسع .. ربما يقول البعض أن معظم مؤلفات لازاريف قد ترجم الى اللغتين العربية و الكردية فى لبنان و أقليم كردستان ، و هذا صحيح و لكنها كانت ترجمات تلخيصية مبتسرة و غير دقيقة ، خصوصا تلك التى أصدرتها دور النشر اللبنانية لأغراض تجارية .
كما أدعو رئاسة جامعة صلاح الدين و عمادة كلية الآداب فيها الى تسمية احدى قاعاتها بأسم هذا العالم الكبير و أخيرا و ليس آخرا من حق لازاريف علينا أن تقوم بلدية أربيل بتسمية أحد شوارع المدينة بأسم من أفنى عمره فى  دراسة قضية شعبنا العادلة و تعريف العالم بها . لقد آن الأوان -  و نحن نمتلك اليوم زمام أمورنا – أن لا ننسى من وقف بكل شجاعة مع شعبنا فى أحلك الظروف .
--------------------------------
 
(1) ان أهم مؤلفات ميخائيل لازاريف حول القضية الكردية  هى الآتى :
-- " كردستان و القضية الكردية من تسعينات القرن 19- 1917 " ، موسكو ، 1964
-- " القضية الكردية  1891 – 1917 " موسكو  ، 1972 و هى طبعة منقحة و موسعة من الكتاب السابق
-- " الأمبريالية و القضية الكردية ( 1917 – 1923 ) " موسكو  ، 1989
" كردستان و القضية الكردية (1923 – 1945 ) موسكو ، 2005
(2) " كردستان الحمراء " و حدة أدارية تأسست  بين عامى (1923 – 1929 )  و كانت تقع  بين منطقة " قره باغ " و جمهورية أرمينيا الحاليتين  و مدينة " لاجين " عاصمة لها . و قد تعرضت حدودها  الى عدة تغييرات أدارية ، حتى أصبحت فى فترة من الفترات متاخمة للحدود الأيرانية .
(3) المناخ : مطبوع غير دورى يضم مجموعة من النتاجات فى موضوعات متشابهة أو متقاربة لعدد من الكتاب أو الشعراء .
 (4) مجلة " شمس كردستان " العدد المزدوج ( 19-20 ) الصادر فى آب عام 1974 و الأعداد اللاحقة .
 
----------------------------------
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 


157
لازاريف و القضية الكردية

                                                                                                                                  جودت هوشيار
مقدمة :
 
شكلت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة فى العراق و صدور الدستور المؤقت للجمهورية العراقية ،  الذى أعتبرالعرب و الكرد شركاء فى الوطن ،  و عودة القائد التأريخى للحركة التحررية الكردية  " مصطفى البارزانى "  و رفاقه المناضلين من الأتحاد السوفييتى فى خريف عام 1958أى بعد زوال العهد الستالينى  الشمولى  وفى الفترة التى أطلق عليها الكاتب السوفييتى" أيليأ ايرنبورغ "  اسم " فترة ذوبان الثلوج " ،  حدا فاصلا فى تأريخ " الكردولوجيا " فى روسيا . فقبل هذا التأريخ كان أهتمام المستشرقين الروس و السوفييت بالكرد و كردستان ثانويا يقتصر على دراسة تأريخ و ثقافة و لغة و تراث الكرد السوفييت و تتحدث عن الكرد ضمن الدراسات المكرسة لكل من تركيا و ايران فى  المقام الأول و لكن الحال تغير بعد عام 1958 حيث تم فى عام  1960تأسيس قسم للـ" كردولوجيا "  فى"  معهد الأستشراق "  بمبادرة من الأكاديمى " يوسف أوربيللى "  (1 ) كما تم تأسيس أقسام مماثلة فى  بعض أكاديميات العلوم فى الجمهوريات السوفيتية الجنوبية . و كان من ثمار هذا الأهتمام ظهور أعمال كردولوجية تتناول بالبحث و الدراسة عيون الأدب الكردى الكلاسيكى المدون و التراث الشفاهى للكرد  و المخطوطات الكردية ،  و ترجمة خيرة ما فى التراث الكردى من نتاجات كلاسيكية و فولكلورية و نشرها ، والتى تحتفظ مكتبات الدولة فى روسيا بالجزء الأهم منها . و بموازاة ذلك ظهرت بحوث و دراسات تتناول تأريخ الكرد الحديث و القضية الكردية بأبعادها السياسية و الدولية بالأستناد الى أرشيفات الدولة للعهدين القيصرى و الروسى مثل بحوث و دراسات كل من خالفين و حسرتيان و لازاريف ، وتعد دراسة لازاريف القيمة عن القضية الكردية -  فى ضؤ العلاقات الدولية فى منطقة الشرق الأوسط -  الأكثر شمولية و عمقا  . و  سنتطرق فى الفقرات اللاحقة الى أهم الأعمال العلمية للازاريف المكرسة للقضية الكردية  لأهميتها البالغة .
 
لازاريف
 
و لد ميخائيل سيميونوفيج لازاريف فى 8 أيار 1930فى موسكو و تخرج فى القسم الشرقى لكلية التأريخ فى " جامعة موسكو "  فى العام 1952متخصصا فى " الأمبراطورية العثمانية " و درس اللغة التركية . فى العام 1955 حصل على شهادة الدكتوراه PHD فى التأريخ من "  جامعة موسكو"  . فى العام 1956 ألتحق بالعمل فى  " معهد الأستشراق "  التابع لأكاديمية العلوم فى الأتحاد السوفييتى  و ظل فيه 54 عاما . و كما هو معروف فأن معهد الأستشراق كان فى ليننغراد حتى العام 1950 ، حيث كان يدرس فيه فى المقام الأول المخطوطات ، و الآدب ، و التأريخ القديم لشعوب الشرق . و لكن نظرا  لتنشيط السياسة السوفيتية فى بلدان آسيا و أفريقيا تم نقل المعهد الى موسكو و توسيعه الى حد كبير . و أخذ المعهد يقوم بأجراء دراسات عن أقتصاد بلدان الشرق و العلاقات الدولية و التأريخ الحديث و المعاصر .
فى عاام 1960 صدر أول كتاب لــ" لازاريف "  و كان بعنوان " أنهيار الهيمنة التركية فى المشرق العربى ( 1914 – 1918 ) " الذى أعد على أساس أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه  . و قد حصل الكتاب على تقييم عال و اصبح مساهمة مهمة فى  مجال الأستشراق . و قد لمس الكتاب بعض جوانب القضية الكردية. و لكن " لازاريف "  شرع بدراسة القضية الكردية على نحو شامل بعد ثورة 14 تموز 1958 فى العراق ، التى جعلت من القضية الكردية مسألة آنية فى غاية الأهمية  . وفى عام 1964 صدر فى موسكو كتابه الشهير " كردستان و القضية الكردية ( تسعينات القرن التاسع عشر – 1917 ) " .وكما كتب لازاريف فى مقدمة هذا الكتاب :
"ان دراسة كردستان مهمة مثيرة للغاية علميا و على جانب عظيم من الأهمية سياسيا . و هى مهمة نبيلة للباحث ، لأن ثمة جوانب كثيرة و مختلفة لهذه المشكلة لم تدرس بعد و لم يلق عليها الضؤ ".
 ما قاله لازاريف قبل نحو نصف قرن ما يزال مهما للغاية حتى يومنا هذا .
كان كتاب لازاريف أول دراسة أساسية  شاملة و معمقة حول القضية الكردية  فى الكردولوجيا العالمية  ، التى تتناول هذه القضية فى العلاقات الدولية على تخوم  القرنين   التاسع عشر و العشرين ، أى من بداية الصراع بين الدول الأمبريالية  للهيمنة على الشرق الأوسط  حتى نشوب الثورة الروسية فى اكتوبر 1917.
و تستند هذه الدراسة على الأستخدام واسع النطاق للوثائق الرسمية  للسياسة الخارجية الروسية فى العهد القيصرى ، المحفوظة فى أرشيف وزارة الخارجية و خاصة تقارير  الدبلوماسيين القيصريين فى اسطنبول ، فان ، أرضروم ، بتليس ، بايزيد ، خوى ، صاوجبولاق ، كرمنشاه فضلا عن مجموعة من الأرشيفات الأخرى .
 
بحث لازاريف فى هذا العمل العلاقات التركية – الأيرانية ذات الصلة بالقضية الكردية ، و تدخل الدول الأمبريالية ( روسيا ، بريطانية ، ألمانيا ) فى هذه العلاقات و الصراع فيما بينها من اجل النفوذ العسكرى و السياسى  فى كردستان ، و نشاط  العملاءالأمبرياليين بين القبائل الكردية فى الأمبراطورية العثمانية و أيران ، و العمليات العسكرية فى كردستان التركية و الأيرانية التى نفذتها تركيا قبل الحرب العالمية الأولى و روسيا و انجلترا بعد تلك الحرب . كما قام لازاريف بتحليل جوانب معينة من الحياة الأجتماعية و ألأقتصادية و السياسية و خاصة  حركة التحرر للقبائل  الكردية ضد الهيمنة التركية و الأيرانية . و رغم أن الدراسة كانت مكرسة لدراسة القضية الكردية فى المنظور التأريخى ، الا أن لازاريف عبر فى الوقت نفسه عن موقفه بصدد الوضع الراهن للقضية الكردية ، فعلى سبيل المثال قال بأن تركيا مارس خلال اربعين سنة الماضية (  قبل عام  1964 ج.هـ ) سياسة صهر الكرد ...  حيث لا تعترف الحكومة التركيى بأى حق من حقوق الكرد . أما فى العراق ، فقد فأن حكومة البعث أتبع سياسة القتل الجماعى للكرد فى عام 1963 .
 
و  يبدو أن لازاريف حاول خلال السنوات اللاحقة  تطوير هذه الدراسة و التوسع فى التحليل و أضافة معلومات جديدة تكشفت له خلال مواصلة دراسة و تحليل الوثائق المتعلقة بالقضية الكردية المحفوظة فى أرشيفات روسيا القيصرية ، و أعاد كتابة هذا السفر التأريخى الكبير على شكل أطروحة جديدة لنيل شهادة " دكتوراه علوم فى التأريخ " و هى أرفع شهادة علمية فى روسيا و الدولل الغربية  ، و قد تأخر الدفاع عن الأطروحة بعض الوقت نظرا للموقف السلبى الذى أتخذه من الدراسة الجديدة بعض علماء "  معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم فى أرمينيا "  فى عام 1972 . و قد نشرت الدراسة الجديدة منقحة و موسعة فى عام 1973 على شكل كتاب حمل عنوان " القضية الكردية 1891 - 1917 " .
 
و قد أصبح هذا الكتاب بداية لثلاثية لازاريف الشهيرة حول القضية الكردية ، حيث واصل دراسة القضية الكردية فى الفترات اللاحقة ، حيث صدر له كتابان آخران هما : " الأمبريالية و القضية الكردية 1917 – 1923 " فى العام 1989 و "  كردستان و القضية الكردية 1923 – 1945 " فى العام 2005 . و من حيث الجوهر فأن القضية الكردية فى العلاقات الدولية -منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية -  بحثت فى هذه الثلاثية على نحو شامل و متكامل و عميق.
 
الأعمال العلمية الأخرى للازاريف
 
 ما عدا الأعمال الأساسية المهمة التى أشرنا اليها فى ما تقدم ، كتب لازاريف أكثر من 200 دراسة و مقالا فى جوانب مختلفة من الكردولوجيا  .كما ساهم بألقاء المحاضرات حول القضية الكردية فى جامعة موسكو ، و أشرف على أصدار العديد من المطبوعات العلمية المتخصصة فى مجالات أهتمامه العلمى . كما أشرف على رسائل الدكتوراه المتعلقة بالقضية الكردية لنحو  خمسة عشر دارسا من روسيا و دول العالم .
 
و رغم ان لازاريف حصل على شهرة واسعة فى الأستشراق العالمى بفضل بحوثه العلمية المعمقة و الشاملة عن التأريخ الكردى الحديث و القضية الكردية فى العلاقات الدولية ، فأنه معروف أيضا كمتخصص كبير فى القضايا القومية لبلدان آسيأ ففى اعوام 60 – 90 كتب العشرات من الدراسات العلمية و النظرية حول هذا الموضوع.
 و فى السنوات الأخيرة كان لازاريف يعمل بجد فى اعداد كتاب جديد حول " منهجية دراسة التأريخ الكردى " و يمكن القوا أنه كان الكردولوجى المعاصر الوحيد المؤهل للقيام بهذه المهمة المعقدة  .
صديق الشعب الكردى :
 
أضافة الى أعماله العلمية المتميزة ، تجدرالأشارة هنا الى ان لازاريف كان صديقا كبيرا للشعب الكردى فى أصعب الأوقات بالنسبة الى شعبنا ، فعندما  تجاهل العالم القضية الكردية كان أحد أهم المراكز الأستشراقية العالمية الرائدة و بفضل لازاريف،  تنشر العديد من البحوث و الدراسات  حول القضية الكردية و كردستان  و خاصة فى وقت كانت فيه هذه الكلمات من المحظورات فى بعض دول التقسيم . وقد دافع لازاريف فى مؤلفاته عن الحقوق القومية للشعب الكردى و ضرورة ايجاد حل عادل للقضية الكردية ، ففى مقدمة كتابه الآنف الذكر " كردستان و القضية الكردية 1891 – 19 17 " اشار الى أستحالة  حل القضية الكردية من دون الأخذ بنظر الأعتبار حقوق و مصالح الكرد. و قد تمسك بهذا الموقف حتى نهاية حياته .
لازاريف و أقليم كردستان العراق :
 
رحب لازاريف بقرار مجلس الأمن الدولى رقم 688 الصادر في الخامس من نيسان عام 1991 و الذى نص على توفير ملاذ آمن للكرد (2). و فى العام 1993  زار لازاريف أقليم كردستان مع البروفيسور مكوى و البروفيسور حسرتيان فى وقت عصيب لللكرد.و حضر مؤتمر الحزب الديمقراطى الكردستانى و عبر عن مساندته للتجربة الديمقراطية الكردستانية ، كما زار الأقليم فى السنوات اللاحقة أيضأ و أستقبل بحفاوة بالغة و تقدير عظيم من قبل القيادة الكردستانية و الأوساط العلمية و الثقافية الكردستانية . و كان يؤمن بأن من الممكن حل القضية الكردية فى الأجزاء الأخرى من كردستان . و ثمة جزء كبير من أعماله تتناول أو تمس القضية الكردية الأكبر و هى القضية الكردية فى تركيا .و كان يعتقد بأنه من دول حل هذه القضية الأخيرة ، لا يمكن حل القضية الكردية حلا جذريا شاملا .
 
الهوامش
------------
(1) يوسف ايكاروفيج اوربيللي ( 1887 – 1961 ) مستشرق ارمني بارز ،  مؤسس الفرع الكردي في معهد الاستشراق في ليننغراد ومدير المعهد المذكور لغاية وفاته . و قد سبق لنا نشر دراسة فى العام 1999 - حول الخدمات الجليلة التى أسداها أوربيللى للشعب الكردى -  فى جريدة خبات الأسبوعية التى كانت تصدر فى أربيل حتى العام 2003 ، ثم أعيد نشرها ضمن كتابنا " ذخائر التراث الكردى فى خزائن بطرسبورغ  " الصادر فى اربيل فى العام 2011
 
(2) أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 688 في الخامس من نيسان عام 1991 على أثر تفاقم الأوضاع المأساوية للهاربين من بطش القوات العراقية ،ويطالب بموجبه الحكومة العراقية بأن تقوم على الفور كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن في المنطقة ،بوقف هذا القمع ، كما يدين القرار القمع الذي يتعرض له السكان المدنيون العراقيون في أجزاء كثيرة من العراق والذي شمل مؤخرا المناطق السكانية الكردية وتهدد نتائجه السلم والأمن في المنطقة .
ومن نصوص القرار688 الطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق .أي ان مسؤوليات الأمم المتحدة ليست قانونية فحسب بل إنسانية أيضا .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


158
المنبر الحر / مكتب تزييف الأخبار
« في: 14:22 06/04/2012  »
مكتب تزييف الأخبار

                                                                                                                          جودت هوشيار
 
نشرت وسائل الأعلام العراقية تصريحا منسوبا لمصدر حكومى  يوم الرابع من نيسان 2012 جاء فيه ما يلى :
ثمن رئيس الولايات المتحدة الاميركية باراك اوباما دور العراق الايجابي في المنطقة، مؤكداً التزام بلاده بوحدة العراق ونظامه الديمقراطي.
وذكر مصدر حكومي الثلاثاء ان الرئيس الاميركي باراك اوباما هنأ رئيس الوزراء نوري المالكي، خلال اتصال هاتفي، بنجاح القمة العربية التي انعقدت في بغداد.
واشار الرئيس الاميركي الى التزام بلاده بالحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة.
وتابع المصدر ان المالكي شكر اوباما على التزام بلاده بالحفاظ على الاموال العراقية وعدم المساس بها..

و لا شك ان المصدر الحكومى يقصد به المكتب الأعلامى لرئيس الوزراء العراقى نورى المالكى ، الذى يعرف وحده ما دار فى الأتصال الهاتفى مع أوباما ، و لا يمكن أن يتسرب فحوى هذا الأتصال الا من خلاله و بأيعاز منه .
 
و فى اليوم نفسه نشر  البيت الأبيض بيانا حول هذا الأتصال الهاتفى : جاء فيه حرفيا ما يلى :
 
" أجرى الرئيس أوباما فى الثالث من أبريل 2012  أتصالا هاتفيا  برئيس الوزراء العراقى نورى المالكى لتهنئته على نجاح قمة جامعة الدول العربية في بغداد فى الأسبوع الماضى  و أستمرار العراق فى الأندماج في المنطقة كدولة مستقلة وذات سيادة.
 
وناقش الزعيمان الجهود المشتركة التي تبذلها الولايات المتحدة والعراق كشريك استراتيجي لتعزيز السلام والأمن في المنطقة.  و ناقشا أيضا الوضع السياسي في البلاد، ومجموعة واسعة من القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك.
 
ولقد أعرب الرئيس أوباما عن التزام الولايات المتحدة الثابت لفكرة العراق الديمقراطى الفدرالى الموحد على النحو المحدد في الدستور العراقي، فضلا عن دعم مشاركة مرنة ومفتوحة من رئيس الوزراء المالكي في المباحثات المقبلة، التى ستجرى برعاية  الرئيس العراقي جلال الطالباني و التى  تهدف الى المصالحة بين الكتل السياسية في العراق. "
 
و كما يرى القارى فأن البيان الصادر عن المكتب الأعلامى  للمالكى – الذى تحول الى مكتب لتزييف الأخبار  و تحريف الحقائق  و التضليل الأعلامى - يختلف كليا فى مضمونه و مقاصده عما دار فى الأتصال الهاتفى المذكور ، و هى لعبة سمجة  لن تنطلى على احد .
أوباما لم يثمن دور العراق الأيجابى فى المنطقة بل حث العراق على الأستمرار فى الأندماج فى المنطقة بعد أن أدت سياسات المالكى الخارجية الى عزلة العراق عن محيطه العربى و تردى العلاقات مع تركيا ، بحيث لم يبق من صديق لنظام المالكى سوى أيران الأسلامية
.و لم يقل أوباما  ان نظام الحكم فى العراق ديمقراطى  بل ربط بين بقاء العراق دولة موحدة بالنظام الفدرالى و الألتزام بنصوص الدستور العراقى ، و هذا ما تؤكده كل القوى السياسية الأخرى فى العراق و ما تود سماعه من الرئيس الأميركى
 
و من الأهمية بمكان أن هذه المحادثة الهاتفية  جرت عشية اجتماع الرئيس أوباما مع رئيس أقليم كردستان مسعود بارزاني، الذى يجري الآن مشاورات سياسية في واشنطن حول الأوضاع السياسية  المتأزمة فى العراق  .
الرئيس أوباما كرر على مسامع المالكى  ما أكده الزعيم الكردى فى الآونة الأخيرة مرارا ،  فى تصريحاته الصحفية و لقاءاته التلفزيونية  و خطبه التى ألقاها فى مناسبات عراقية و كردستانية مختلفة :  ان لا بقاء لعراق موحد الا بالألتزام الكامل بالدستور الذى. صوت عليه  80 بالمائة من سكان العراق بمختلف أنتماءاتهم الأثنية و الدينية و السياسية . و لا مستقبل للعراق الا بالتطبيق الفعلى للنص الدستورى الذى يؤكد بأن نظام الحكم فى العراق يكون نظاما ديمقراطيا و أتحاديا ، أى نظاما يسمح بتشكيل الأقاليم وفق السياقات القانونية  و ليس حسب مزاج المالكى الذى يقول بأن تشكيل الأقاليم يؤدى الى تجزئة العراق و أن الظروف غير ملائمة لأقامتها . و لا توجد فى الدستور على الأطلاق أى اشارة الى ما يسمى الظروف ، فنصوص الدستور حول نظام الحكم صريحة و واضحة و محددة ،  لا تقبل التأويل المغرض ولا تتوقف على المزاج الشخصى لهذا السياسى أو ذاك . و صفوة القول أن الدستور أصبح فى يد المالكى أشبه بالطين المطاطى يشكله حسب ما تقتضيه مصلحته الشخصية أو بتعبير أدق ،  البقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة و التحول الى دكتاتور جديد ، ضاربا عرض الحائط بأحد أهم مبادىء النظام الديمقراطى و هو التداول السلمى للسلطة . ألم يقل المالكى بنفسه : لن نسلم السلطة لأحد  ! .
الرئيس الأميركى طالب المالكى بأن يكون منفتحا على القوى السياسية الأخرى و يبدى مرونة كافية من أجل المصالحة الوطنية الحقيقية . فالسياسة الأقصائية التى يتبعها المالكى ضد خصومه السياسيين و ألأنزلاق السريع لنظام الحكم فى البلاد الى دكتاتورية جديدة و مكشوفة  ، تثير قلق القوى السياسية الأخرى فى البلاد  . هذه السياسة المرفوضة ، اذا أستمرت لفترة أخرى  ستؤدى بالبلاد الى هاوية لا يعلم بها الا الله جل شأنه .
الرئيس أوباما تحدث الى المالكى بلغة دبلوماسية و البيان الصادر عن البيت الأبيض مقتضب و لا يتطرق الى التفاصيل بطبيعة الحال ، لذا نعتقد بأن ما خفى كان أعظم ، و سنرى فى الأيام القليلة القادمة ، ان كان المالكى قد أستوعب نصيحة سيد البيت الأبيض أم أنه – أى المالكى -  ماض  فى التفرد بالسلطة و تصفية غرمائه السياسيين ، بالتتابع ، غريما بعد آخر ، حتى يصفو له الجو لبسط سلطته المطلقة على العراق ، و بطبيعة الحال ، لن يتحقق ما يحلم به المالكى . صحيح أنه جلس على كرسى صدام و ملأ قصوره بمزورى الشهادات  و سراق المال العام و لكن لن يستطيع  الأستمرار فى خلق المزيد من الأزمات المفتعلة و تصفية المزيد من خصومه السياسيين .، لأنه اليوم – بعد ان تكشفت كل أوراقه -  و حيد و معزول حتى داخل حزبه . و اذا لم يتعظ  بمصائر أشباهه من الطغاة الذين كنستهم شعوبهم الى مزبلة التأريخ فى ربيع الثورات العربية ، فأنه سيلحق بهم حتما ، و أن غدا لناظره قريب .
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 
 


159
المنبر الحر / من هو المثقف ؟
« في: 00:25 26/03/2012  »
من هو المثقف ؟

                                                                                                                          جودت هوشيار
 
الاعتقاد السائد في مجتمعنا أن المثقف هو كل من يحمل شهادة جامعية في تخصص معين أو من حاز على لقب علمى أو كل من يمارس نشاطا ذهنيا في حقل من حقول المعرفة ، ،سواء اكان عالما او شاعرا او اديبا او فنانا . بيد أن هذا الاعتقاد ليس في محله تماما , ذلك أن الانسان المتعلم قد لا يكون أنسانا مثقفا .
و كان الناقد الانكليزي ت . س اليوت يعتقد " أن الكمال في أي واحدة من مناشط الثقافة لايمكن أن يسبغ الثقافة على أحد , لان السلوك المهذب بدون تعليم أو فكر أو حساسية للفنون يجنح بالمرء الى ألية مجردة , وأن العلم من دون سلوك مهذب انما هو حذلقة , وأن القدرة الفكرية المجردة من الصفات الاكثر انسانية لا تسنحق الاعجاب الا كما يستحقه ذكاء طفل معجزة في لعب الشطرنج , وأن الفنون بدون أطار فكري زيف وخواء .
,أن كنا لانجد الثقافة في أي واحدة من هذه الكمالات بمفردها فأننا يجب أن لا نتوقع في أي شخص واحد أن يكون كاملا في جميعها , أذن نستنتج أن الفرد الكامل الثقافة هو محض خيال "
ونظرا لاستحالة وجود أنسان مثقف تجتمع فيه كل هذه الكمالات في أن معا فأن (اليوت ) يسبغ الثقافة على المجتمع وليس على الفرد ,

ومثل هذه الافكار كثيرة وشائعة في الفكر الفلسفي الغربي ولكنها جميعا تعزل المثقف عن الواقع المعاش و عن التفاعل مع قضاياه وتجرده من اي دور في تغيير هذا الواقع نحو الافضل .
ان اتخاذ المعرفة المجردة اساسا لتقييم المثقف امر يرفضه العقل والمنطق , لأن الدور القيادي الذي يمارسه المثقف في توجيه المجتمع ثقافيا وروحيا لايقل أهميية عن دور السياسي المخلص النزيه الذي يهمه في المقام الاول تطوير المجتمع و تحديثه ، بما يتلائم مع الظروف الموضوعية و الخصوصيات المحلية و مواكبة الحضارة الأنسانية المعاصرة فى آن واحد .

ولكي يقوم المثقف بدوره المنشود لابد له من أن يتحلى بصفات وسجايا عديدة مثل يقظة الضمير والاحساس بالمسؤلية واستقلالية الرأي والفكر النقدي ويمتلك رؤية واضحة ومعاصرة للواقع الراهن و آفاق تطوره والايمان بقيم الحرية والعدالة الأجتماعية, ولايمكن تصور اي مثقف حقيقي لا يتفاعل مع قضايا عصره ومجتمعه ولا يقلقه مصير البشر .

و يقول انطونيو غرامشى " ان المثقف الفعال تتوهج أفكاره تحت رماد التخلف و يشعر بمسؤوليته فى تغيير الواقع ، يدرس التأريخ و تعقيداته بعيون فاحصة ، و يقول كلمته ببسالة ، و يشارك فى أثراء الواقع بلا حدود ، دون ان يستسلم لماض لم يعد فى أكثر جوانبه يجدى المجتمع فى مسيرته ، و لا يستسلم الى الآخر ، يجعلنا – هذا المثقف- نأخذ من ماضينا دون ان نسمح له ان يستعبدنا ، و نأخذ من غيرنا دون ان ندعهم يستلبون عقولنا او يخيفونا ."

يقال أحيانا أن المثقف العراقى يعاني من الاغتراب عن المجتمع وهذا زعم مشكوك في أمره ، ذلك لأن المثقف العراقى الحقيقى ، يعاني من شظف العيش ويناضل من أجل البقاء وأبتعاده عن دهاليز السياسة لا يعني على الاطلاق اغترابه عن المجتمع وقضاياه , بل على العكس من ذلك تماما ، فالمثقف العراقى غارق في مشاكل هذا المجتمع ، وأذا كان يحرص على قيمه ومبادئه ولا يتنازل عن أستقلالية الرأي وحرية التعبير و الأبداع و عن كرامته الشخصية من اجل نعم زائلة , فهذا موقف مشرف وسلوك حضاري يليقان بالمثقف الحقيقي في زمن يشهد تدهور و انتكاس القيم الاجتماعية والروحية .
و قد ظهر فى العراق خلال السنوات الأخيرة مع توسع أستخدام الأنترنيت فى الحصول على المعلومات بسرعة فائقة و مع أنتشار ظاهرة الشهادات المزورة طبقة من أشباه المتعلمين و أنصاف المثقفين الذين لم يبذلوا جهدا فى التحصيل العلمى و لم يتعبوا فى الدرس و الأجتهاد و هم ثلاثة أصناف ،

الصنف الأول : أدعياء السياسة و الوطنية الذين قفزوا من ( الطهارة الى المنارة ) كما يقول المثل الشعبى العراقى أو ببساطة من الحضيض الى قمة المناصب الحكومية العليا و هم لا يهتمون بالثقافة و لا يقرؤن كتابا واحدا فى السنة و ليست لديهم خبرة فى تخصص معين فى حقل من حقول المعرفة ولا يتقنون مهنة من المهن ، بل هم من ( الشطار ) الذين يعرفون من أين يؤكل الكتف و خبراء فى التضليل و التزييف و خداع الرأى العام بالكلام المعسول و التصريحات الجوفاء التى تبين معدنهم الردىء .
و صنف ثان لا يقل خطرا عن الصنف الأول ، و يتكون من المحللين السياسيين الطارئين على الأعلام المرئى و و مهمتهم الأساسية الترويج لأولياء نعمتهم و تلميع صورهم من اجل الحصول على فتات موائد دكتاتور العراق الجديد .

أما الصنف الثالث و الأخير ، فأنه يضم عددا كبيرا من كتاب الأنترنيت ، الذين يزخر كتاباتهم بما يكشف عن جهلهم المركب بأبسط القواعد النحوية و الأملائية ، ناهيك عن الثقافة العامة . و أعتقد ان رؤساء تحرير الصحف الألكترونية يعانون الأمرين من هؤلاء المثقفين المزيفين .

رحم الله طه حسين فقد تنبأ فى وقت مبكر من ظهور التلفزيون بظهور مثقفين مزيفين أو مثقفين مصبوغين - أى سطحيين - كما يقول العراقيون . " قال عميد الأدب العربى ان ثقافة التلفزيون ثقافة سطحية ، ، ينساها الأنسان بعد فترة وجيزة بخلاف المعرفة التى يضمها الكتاب الورقى الجاد ، مصدر الثقافة الراسخة ".

لست ضد أستخدام الأنترنيت ، بل على العكس من ذلك أعده نعمة كبيرة و أنجازا علميا مذهلا يسهل الحصول على المعلومات الجادة و كذلك على كل ما هو سطحى و تافه ان لم نحسن الأختيار و مهمة المثقف هو الفرز بين هذا و ذاك وعدم الأقتصار على المصادر الألكترونية فقط لأن معظم المعرفة الأنسانية غير متاحة حتى اليوم على الأنترنيت و يكفى ان نقول بأن نقل التراث الفرنسى من الورق الى الكومبيوتر أستغرق حوالى ربع قرن ، أى أننا لا يمكن فى المرحلة الراهنة من عمر الأنترنيت أهمال مصادر الثقافة الأخرى وهى كثيرة وعديدة .

يقول ديفيد بروكس فى مقال ساخر له بصحيفة نيويورك تايمز " لم يعد الأمر متعلقا بما تقرأ أو تعرف ، و لا بمدى قدرتك على فهم ما تقرأه و تستهلكه من مواد ثقافية ، بل يتعلق الأمر بأن تجد لنفسك مكانا فى فضاءات الصخب الثقافى ، و لا تقلق ان لم يكن لديك شىء لتقوله ، فلا أحد سيصغى اليك على أية حال . و أصبح من السهل ، أكثر من أى وقت مضى ان تبدو مثقفا ، فلم يعد ضروريا الآن حمل كل تلك الكتب الثقيلة ، فقد تغيرت قواعد اللعبة ، يمكنك اليوم أن تكون عضوا ناشطا فى النخبة الثقافية من دون ان تضطر لقراءة شكسبير أو دوستويفسكى أو نيتشة ، و بوسعك أن تناقش و تجادل فى كل شىء يستطيع كومبيوترك أو هاتفك الخلوى أن يلتقطه من الأنترنيت ، يمكنك مثلا أن تكتب مقالات فى شؤون العصر و ان يكون لك رأى فى كل القضايا ، و كل ما عليك هو أن تتبع الموضة الثقافية .

جودت هوشيار

jawhoshyar@yahoo.com


160
المنبر الحر / أصدقاء بشار
« في: 01:23 26/02/2012  »
أصدقاء بشار
                                                                                                                            جودت هوشيار
 
فى الوقت الذى تعارض فيه موسكو و طهران و بغداد ، التدخل الأجنبى فى الشأن الداخلى السورى كذبا و رياءا ، فأنها لا تتورع عن التدخل  السافر و المستتر  فى الشأن الداخلى السورى فى محاولة يائسة لأنقاذ النظام الآيل للسقوط .عن طريق  تقديم كل أشكال  الدعم اليه و بضمنها الدعم العسكرى و الأقتصادى و اللوجستى ..
 
 
التدخل الروسى : تخطيط و توجيه و قيادة
 
تؤكد جريدة ( الفيجارو ) الفرنسية  و صول عدد كبير من المستشارين العسكريين الروس و عملاء المخابرات الروسية الى سوريا فى الأشهر الأخيرة ، حيث تم توزيعهم على وحدات الجيش و أجهزة المخابرات و بعض الوزارات فى دمشق. و المهمة الرئيسية لهؤلاء الروس ، هى التأثير على تطورات الأزمة الشاملة الناجمة عن القمع الوحشى للأنتفاضة الشعبية التى تهدد نظام بشار الأسد بالسقوط .
و نقلت الجريدة عن رجل اعمال فرنسى من اصل سورى له صلات قوية بقيادة المخابرات السورية ،قوله ان بشار الأسد لا يتخذ اجراءا من دون  موافقة الروس  . و حسب تأكيد هذا الرجل  فأن موسكو اشترطت على بشار لقاء  تأييدها له ،  عدم القيام بارتكاب مجزرة مماثلة ، لمجزرة حماه فى عام  ، 1982 ، عندما قتلت قوات حافظ الأسد ، أكثر من (15000) شخص معظمهم من أنصار الأخوان المسلمين ، الذين كانوا قد انتفضوا ضد الحكم البعثى الدكتاتورى .
كما تطالب موسكو أيضا ، اعادة فتح محطة التنصت الروسية  فى جبل قاسيون . و هذا الطلب تحديدا كان احد المحاورالرئيسية خلال مباحثات بشار الأسد مع وزير الخارجية الروسى سيرغيه لافروف و مدير المخابرات الروسية ميخائيل فرادكوف . و اضافة الى ذلك  فقد حاول المبعوثان الروسيان اقناع الأسد بضرورة أجراء اصلاحات (ديمقراطية ) بالسرعة الممكنة .رغم ان المعارضة السورية لا تثق بوعود بشار و لا بأصلاحاته المزعومة   و ترفض التفاوض معه ، لأن من شأن ذلك أعطاء النظام المزيد من الوقت لقمع الأنتفاضة الشعبية .لذا فأن المعارضة مصرة على ضرورة تنحى بشار عن السلطة .
و يعتقد بعض المحللين السياسيين الروس المتفائلين ،  ان موسكو يمكنها محاولة  السيطرة على عملية أقصاء بشار عن السلطة بشكل سلمى  و الأنتقال المنظم الى نظام جديد من دون بشار و بالأستناد الى الحرس القديم المؤيد لعائلة الأسد . و لكن اتصالات السفارة الروسية فى دمشق بزعماء المعارضة من اجل بحث هذا الأحتمال  لم تسفر عن اى نتائج لحد الآن .
ثمة شكوك حول قيام موسكو بتجهيز سوريا  بمدافع مضادة للطائرات ، كما تم مؤخرا توقيع عقد لبيع 36طائرة من نوع yak-130  الى سوريا بقيمة 550 مليون دولار و بالدفع الآجل .
 و لم يقتصر التعاون السورى -  الروسى على المجال العسكرى ، بل ان عددا من الخبراء الروس منهمكون الآن فى اعداد " مشروع اعادة تنظيم حزب البعث " الذى يتضمن تقديم المال  و مواقع فى السلطة لزعماء الحزب الجديد الذى يراد تشكيله  ، ليكون قوة تتمتع بالمال و النفوذ  و بديلا عن الحزب القديم عندما يعلن بشار شكليا الأنتقال الى النظام الحزبى التعددى .
الروس يعتقدون انهم قادرون على قيادة المرحلة الأنتقالية . حيث اعطوا التعليمات اللازمة بهذا الصدد الى الجنرالات السوريين حول أستبدال النظام الشمولى بنظام تعددى زائف . و يعتقد بعض المحللين السياسيين الروس ،  بان من المرجح ان يكون حث الجنرالات العلويين على القيام بانقلاب عسكرى عندما تصدر اليهم الأوامر بذلك ، هو الأحتمال الأنسب ، مع الأخذ بنظر الأعتبار التجربتين التونسية و المصرية .
 
التدخل الأيرانى : تنظيم فرق ( كوماندوز ) من مرتزقة حزب الله اللبنانى
 
منذ فترة و الأعلام الغربى يتحدث عن نقل حوالى (15000) من عناصر الحرس الثورى الأيرانى عن طريق الجو الى سوريا . و أعتقد أن من غير المحتمل ظهور هذه العناصرعلانية فى المواجهات اليومية بين قوات القمع السورية  و المحتجين العزل ، بسبب ( حاجز اللغة ) الذى سيفضح هويتهم الحقيقية  و لكى لا يكون هذا الظهور المكشوف ، مبررا للتدخل العسكرى الغربى او التركى  لدعم النتفاضة الشعبية . و تفيد المعلومات المتسربة من داخل سوريا ، بأن  العسكريين الأيرانيين،  الذين لا يعرف عددهم على وجه الدقة قد وصلوا الى سوريا منذ الأيام الأولى للأنتفاضة و ان عددا  منهم  يعملون  بصفة مدربين و مستشارين لقوات النظام ، و بعضهم الآخر قناصين  يطلقون النار من داخل او من فوق البنايات على المتظاهرين و قسم ثالث متخصص فى تعذيب المعتقلين و أنتزاع الأعترافات منهم حول تنظيمات المعارضة فى الداخل .غير أن المهمة الأساسية للقسم الأهم و الأخطر منهم هى تشكيل و تدريب و قيادة قوات " الكوماندوز " المؤلفة من مقاتلى حزب الله اللبنانى ، الذين يعرفون طبيعة المناطق السورية التى يتواجدون فيها و لا يصعب عليهم كشف تكتيكات المعارضة . هذه الفرق تقوم بكل لأعمال القذرة التىتطلب منها سواء بالأشتراك الفعلى المباشر فى  قمع  المحتجين أو التجسس عليهم أو  تنظيم " مجاميع معارضة  كاذبة ".  لغرض تشتيت  المعارضة من الداخل .
ومن جهة أخرى يقوم العسكريون الأيرانيون ، ممن لهم خبرة فى حرب العصابات  بملاحقة  عناصر الجيش السورى الحر والمنتفضين المدنيين ،  عند لجوئهم الى المناطق الجبلية و نصب الكمائن لهم و أرشاد الطائرات الحربية الى أماكن تواجد هم .
ان أندحار النظام البعثى  السورى يشكل كارثة حقيقية للنظام الأيرانى ، لأن هذا الأندحار لايعنى فقط  خسارة الحليف الرئيسى فى المنطقة ، بل يعنى أيضا  أنحسارالنفوذ الأيرانى عن سوريا و لبنان.
 
التدخل العراقى : طهران تأمر و بغداد تنفذ
 
ثمة شبه اجماع بين القوى السياسية العراقية بأن النظامين السورى و الأيرانى  كانا وراء معظم العمليات الأرهابية التى حدثت  فى العراق طوال السنوات الماضية بشكل مباشر أو عن طريق تقديم الدعم المتعدد الأوجه لعناصر تنظيم " القاعدة " و أرسالهم الى داخل العراق لتنفيذ عملياتهم الدموية  .
أعتاد رئيس الوزراء العراقى  نورى المالكى على أطلاق التصريحات المخالفة للواقع للتستر على حقائق  الأمور  .و ربما المرة الوحيدة التى لم يجاف فيها المالكى الحقيقة كانت ، حين أتهم  النظام السورى بالضلوع فى العمليات الأرهابيةالكبرى فى العراق . و لكن ثورات الربيع العربى أدخلت الرعب الى قلب الماكى ، أضافة الى التقريع الشديد الذى تلقاه من  النظام الأيرانى ،مما  جعله يغير موقفه الى النقيض تماما. أى من الأتهام الصريح  للنظام السورى  الى التعاون الوثيق معه فى المجالات العسكرية و الأقتصادية . و لا نذيع سرا اذا قلنا ، أن النظام البعثى الفاشى هو الجدار الذى يحتمى به المالكى اليوم ،  بعد ان وجد نفسه و نظامه معزولا عن المحيط العربى ، كما أن خشيته من قيام نظام أسلامى فى سوريا ، سرق النوم من عينيه .
أننا اليوم امام أستقطاب واضح فى المنطقة . فثمة "  محور دمشق-  بغداد –طهران "  . فى مقابل تكتل عربى كبير – بضم معظم الدول العربية -  يخشى الخطر الداهم القادم من طهران ، خاصة بعد أن صرح مسؤول أيرانى رفيع المستوى ، بأن العراق و لبنان تابعان ذليلان لنظام الملالى فى طهران .لذا فأن أرسال  عدة آلاف من مقاتلى ميليشيا ما يسمى جيش المهدى -  الأيرانى المنشأ و التدريب و التمويل و التسليح  و التوجيه -  الى سوريا بعلم و مساعدة حكومة المالكى  ، للأشتراك فى قمع الشعب الثائر المطالب بالحرية . لم يكن مفاجأة لأحد ، بعد أن  أصبح العراق لقمة سائغة لنظام الملالى ، نتيجة لأكبرحماقة ترتكبها الأدارة الأميركية فى السنوات الأخيرة . حيث سلمت مقاليد الأمور فى العراق و بمحض أرادتها الى الطابور الأيرانى الخامس.
و قد كشفت و ثيقة سرية تعاونا بين بغداد و طهران  للألتفاف على العقوبات الأقتصادية المفروضة على سوريا و لأنقاذ الأسد . و جاء فى الوثيقة التابعة لوزارة شؤون رئاسة الجمهورية السورية و نشرتها صحيفة " هارتس " الأسرائيلية ،أنه تم الأتفاق على  بحث أمكانية الأسراع بتنشيط التعاون الثلاثى السورى العراقى الأيرانى ، لا سيما ما يتعلق بخط الغاز من ايران الى البحر المتوسط عبر سورية ، و خط النقل البرى عبر العراق و كذلك النقل السككى ، و تم التطرق الى أمكانية فتح خط جوى عبر أجواء العراق بعد أنسحاب القوات الأميركية من العراق .
كما و كشفت الوثيقة السورية ، التى ذكرت الصحيفة أنها سربت بعد عملية القرصنة التى تعرض لها البريد الألكترونى لمكتب الرئيس السورى مؤخرا ، ان طهران خصصت مليار دولار لأستيراد سلع سورية لمساعدة نظام الرئيس السورى على التغلب على العقوبت النفطية و المصرفية التى فرضت عليه
و كان مدير عام صندوق دعم الصادرات السورية ، أيهاب أسمندر ، قل فى وقت سابق ، أن " العراق يستورد يوميا من سوريا بقيمة ( 25) مليون دولار ، ما يصل الى مليار دولار كل (40 ) يوما ، متباهيا بقدرة النظام على  أيجاد حلول ( خلاقة ) للالتفاف على العقوبات الأقتصادية الدولية ".
و على هذا النحو نرى  مدى  كذب و نفاق أصدقاء بشار، حين يطالبون الآخرين بعدم التدخل فى الشأن الداخلى السورى ، و هم أول من ينتهك هذا المبدأ بشكل صارخ سرا و علانية أمام المجتمع الدولى .
ان تقديم الدعم للطغاة لسفك دماء رعاياها  هو أسوأ و أفظع أنواع التدخل فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى .
 و نحن نعيش اليوم فى عالم يتعذر فيه أخفاء الجرائم المرتكبة بحق الشعوب ،  و مهما تفنن الفاعلون فى التستر عليها ، فأنها ستنكشف ان عاجلا ام آجلا . و سيندحر الحلف الثلاثى الشرير فى منطقتنا و أن غدا لناظره قريب .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
 

161
الدولة الكردية آتية

                                                                                                                            جودت هوشيار
 
حظيت القضية الكردية بأهتمام كبير لدى المؤرخين و المستشرقين و الكتاب الروس ، سواء فى العهد السوفييتى او العهد الحالى ، و لكن هذا الأهتمام لم يقابله أهتمام مماشل على الصعيد الرسمى ، ما عدا تلك الفترة القصيرة التى أعقبت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة فى العراق ، حيث ظهرت على السطح هذه القضية بكل تفاصيلها و أبعادها الجيوبوليتيكية ، و قد أدى هذا الأهتمام الى تأسيس فروع و أقسام لـ( الكردولوجيا ) فى معهد الأستشراق و بعض الجامعات و بخاصة فى جمهوريات القفقاس،  التى كرست جهودها لأجراء البحوث العلمية حول الكرد و كردستان  . كما صدر العديد من الكتب و الدراسات المكرسة للقضية الكردية عن معاهد الدراسات الأستراتيجية ،  التى تقدم التقارير و المشورة لصانعى القرارات ، أضافة الى اهتمام أعلامى واضح بالشعب الكردى و قضيته العادلة . و كالعادة لعب المثقفون الكرد فى تلك الجمهوريات دورا بارزا فى هذا المجال.
و رغم ان تلك البحوث و  الكتب و الدراسات أشارت الى أن الشعب الكردى كان الخاسر الأكبر عند رسم خارطة الشرق الأوسط من قبل بريطانيا و فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى . الا أن  الأمر لم يصل الى  أكثر من المطالبة بأيجاد حل عادل للقضية الكردية ضمن الدول التى تتقاسم كردستان و هى تركيا و أيران و العراق و سوريا . و لم تبد القيادة السوفيتية و من ثم القيادة الروسية الحالية اهتماما يذكر بالنتائج التى توصلت اليها تلك الأعمال العلمية ، رغم صدورها عن معاهد و جامعات و مراكز أبحاث ستراتيجية تابعة للدولة .
و يلاحظ هذه الأيام أهتماما واضحا بالقضية الكردية فى وسائل الأعلام الروسية مع  التطورات المتسارعة  و أشتداد التنافس الأميركى – الروسى  فى منطقة الشرق الأوسط  و فشل الولايات المتحدة فى أقامة نظام ديمقراطى فى العراق ، رغم صرف مليارات الدولارات  فى هذا السبيل ، حيث تؤكد الصحف الروسية أن الحكم الحالى فى بغداد ، لا يعدو ان يكون حكما بوليسيا متخلفا يضع مصالح ايران فوق مصالح العراق العليا  و أن أيران قد ملئت الفراغ الناجم عن الأنسحاب الأميركى عن العراق ، و ان الكرد قد وافقوا على العيش مع المكونات الأثنية و الدينية الأخرى فى العراق ضمن دولة ديمقراطية ،  أتحادية ،  تعددية . و لكن واقع الحال يشير الى ان الحكم الحالى فى بغداد ، لا يؤمن أصلا بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردى . و من هذ المنطلق يدعو بعض الكتاب و المحللين السياسيين الروس البارزين  ،  الكرد ، الى أنتهاز هذه الفرصة التأريخية ، فى  ضؤ المؤشرات العديدة التى تدل على تغييرات أيجابية  واضحة فى تعامل القيادة السياسية التركية مع أقليم كردستان ( العراق ).
و فى هذا الصدد كتب أحد الكتاب الروس و هو " ميخائيل سفياتوف " مقالا جريئا بكل المقاييس  فى أحد المواقع الألكترونية المهتمة بالقضية الكردية  ، يدعو فيه الى الأعلان الفورى للدولة الكردية التى يرى الكاتب أنه سيكون بداية لأستقلال " كردستان الكبرى " بأجزائها الأربعة . حيث تشكل أقليم كردستان مركز جذب قوى  للشعب الكردى سواء داخل كردستان الكبرى او خارجها .
يقول الكاتب ان تنصل الحلفاء  المنتصرين فى الحرب العالمية الأولى و بخاصة بريطانيا و فرنسا ، عن تنفيذ ما نص عليه معاهدة سيفر،  بشأن حق الشعب الكردى فى أقامة دولته المستقلة و تجاهل معاهدة لوزان اللاحقة  لهذا الحق ،كل ذلك ،  أدى الى الحاق ظلم تأريخى بالشعب الكردى و  أضطراب الأوضاع الداخلية فى دول التقسيم .
و مما يثير استغراب الكاتب ان الدول التى عارضت أستقلال كردستان و هى بريطانيا و فرنسا و تركيا ، هى التى تبدى اليوم – أضافة الى الولايات المتحدة الأميركية -  أستعدادا لتقبل ظهور دولة كردية مستقلة فى كردستان الجنوبية فى العام 2014
و يرى"  سفياتوف "  ان المعنى الجيو- بوليتيكي لأنشاء كردستان المستقلة بالنسبة الى الدول الغربية تنحصر فى النقاط التالية :
-  الثروات الطبيعية الهائلة التى تمتلكها كردستان و بخاصة الأحتياطى من النفط و الغاز ،التى تفوق ما هو وجود فى ليبيا على سبيل المثال .
- الهيمنة على منظومات نقل النفط و الغاز  مثل منظومة " نابوكو " و غيرها
- الموقع الستراتيجى الهام لكردستان .
و يؤكد الكاتب " ان تركيا تدرك جيدا حتمية ظهور الدولة الكردية ، لذا فهى  تعزز علاقاتها مع أقليم كردستان ( العراق ) . و السبب فى ذلك ان ثمة أكثر من 25 مليون كردى فى تركيا و أنه بحلول العام 2018 يستطيع كرد تركيا – عن طريق انتخابات حرة و نزيهة – ان يسيطروا على معظم المناصب الرفيعة و  الحساسة فى المناطق الكردية من تركيا . و من ثم أجراء أستفتاء شعبى  لأقامة كيان كردى أى منطقة حكم ذاتى تتمتع بصلاحيات واسعة ، ستتحول بعد فترة الى دولة مستقلة ,
. و وفق هذا السيناريو ، فأن تركيا  - المتطلعة الى عضوية الأتحاد الأوروبى – لن تكون قادرة على  قمع الكرد . و لكن بوسع تركيا -  اذا أتبعت سياسة تتصف ببعد النظر -  ان تحل القضية الكردية سلميا و توسع من مساحتها و نفوذها  و تصل الى ثروات المنطقة .
الحديث يدور – وما زال الكلام لسفياتوف – عن أنشاء أتحاد تركى – كردى فيدرالى أو كونفيدرالى  ، و التى يمكن أن  تستجيب تماما لمصالح الكرد . و بعد دخول هذه الدولة الأتحادية الجديدة الى الأتحاد الأوروبى ستتحقق للكرد أمتيازات كثيرة  .
و يعود الكاتب ليقول : قد يبدو ذلك ضربا من الخيال ! و لكن يجب أن نأخذ فى الأعتبار أنه قبل عشر سنوات لم يكن أحد يتوقع أن يكون رئيس جمهورية العراق كرديا . و ان رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان سيزور أقليم كردستان ، زيارة رسمية . و أن يكون كردى آخر رئيسا لجمهورية أذربيجان ، حيث أن ( عائلة  عليف الحاكمة فى هذا البلد ) كردية الأصل . أو أن نظام بشار الأسد سيسقط ، و بذلك ستتاح الفرصة لكرد سوريا للحصول على حق تقرير المصير ، و أنضمام كردستان الغربية الى كردستان الجنوبية . و يتوقع الكاتب أيضا سقوط نظام الملالى فى أيران مع كل ما ينتج عن هذا السقوط من تداعيات و فى مقدمتها تشكيل كردستان الشرقية .
و يعبر الكاتب عن دهشته لموقف روسيا الغريب من هذه القضية،  التى لعبت فيها دورا فعالا فيما مضى  ، حيث كانت طرفا فى معاهدة سيفر الموقعة بين الحلفاء  المنتصرين عقب الحرب العالمية الأولى ،  . و لكنها – أى روسيا – و  منذ توقيع معاهدة لوزان فى العام 1922  التى لم تشترك فيها و حتى يومنا هذا ، فقدت كل خيوط التأثير فى القضية الكردية ، بأعتمادها على أنظمة مكروهة و معزولة فى العالم العربى مثل النظام الصدامى فى العراق و نظام الملالى فى أيران و نظام الأسد فى سوريا .
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

162
حميد أبو عيسى ...   بين الهندسة و الأدب

                                                                                                                       جودت هوشيار
 
ثروة العراق الحقيقية ، لا تكمن فى النفط أو الزراعة أو الصناعة أو أى مصدر آخر من مصادر الثراء ، بل فى العقول العراقية المبدعة  ، التى يمكن أن تبنى – لو أتيح لها المجال -  بلدا قويا و متقدما ، كما تكمن فى الأبداع الفنى العراقى – بالمعنى الشامل لكلمة الفن -  التى تضفى جمالا و معنى على حياة العراقيات و العراقيين .
و لكن مع تسلط زمر الجهل و التخلف على مقدرات العراق ، نفقد كل يوم مبدعا فذا فى مجالات العلم و التكنولوجيا و الأدب و الفن ,
بعضهم يقتل برصاص الغدر أو بالكواتم فى شوارع مدن العراق أو فى بيوتهم  أو يقضى نحبه فى سجون النظام القمعى الفاسد .أو يموت قهرا و كمدا فى المنافى .
مناسبة هذا الحديث هو رحيل مبدع عراقى آخر فى المهجر ، و فى الولايات المتحدة الأميركية تحديدا و هو الصديق المهندس الفذ حميد عيسى أوراها . هكذا عرفته لسنوات طويلة *، حيث عملنا معا و مع مهندسين آخرين فى أواخر الستينات من القرن الماضى لوضع اللبنات الأولى للصناعة الثقيلة فى العراق .
كان ما يجمعنا ليس الهندسة فقط  التى درسناها و عشقناها عشقا ، يبدو اليوم غريبا . بل صداقة عميقة الجذور ، لحمتها و سداها ، الأهتمامات الهندسية و الثقافية المشتركة .
 عملنا معا خلال تنصيب الخطوط الأنتاجية و معدات المنشأة العامة للصناعات الميكانيكية فى الأسكندرية ، مهد الصناعة الثقيلة فى العراق ، التى تخرج فيها مهندسون بارزون ، تولوا فيما بعد  مسؤوليات هندسية كبيرة و كان الراحل واحدا منهم .
فى الأسكندرية كنا نتبارى – خلال تنصيب المشروع – من ينجز أعلى نسبة من الخطة الشهرية المقررة . كنا فى عنفوان الشباب ،نعمل مع الخبراء الروس و يملأنا الأيمان بأننا نبنى عراقا متطورا علميا و صناعيا ، لا نعرف الكلل او الملل فى أكتساب خبرة جديدة مع كل يوم .
كان الراحل حميد عيسى اوراها و المهندس فاروق صفو ، هما المؤسسان الحقيقيان لقسم التصاميم و التكنولوجيا  فى المنشأة المذكورة ، و هو قسم أنشىء لأول مرة فى العراق ، و يعد لب أو جوهر  أى صناعة ، سواء أكانت خفيفة أم ثقيلة ، لأنه من دون تطوير تصاميم المنتجات بأستمرار لا حياة لأية صناعة قائمة .
و قد أصدرنا معا مجلة ( المهندس ) التى كانت تنشر البحوث الهندسية التطويرية الجادة، و سوف يأتى اليوم الذى يكتب فيه أحد الباحثين ، تأريخ الصناعة العراقية ، و لا أشك أنه سيقدر مدى أهمية أصدار مجلة هندسية رصينة بأمكانات مادية و طباعية متواضعة . و لا أجد بعد مضى حوالى أربعة عقود من الزمن ، مجلة مماثلة فى مجال الصناعات الهندسية فى عراق اليوم  .
 و فى عام 1980 أنتقل الراحل الكبير الى المعهد المتخصص للصنات الهندسية ، رئيسا لقسم التصاميم و فى الوقت ذاته رئيسا لقسم البحوث و التطوير و كالة  ، و خلال عمله الدؤوب ، ألف عدة كتب هندسية ، تعد رائدة فى مجالات الصناعات الهندسية .  
و لكن النظام الصدامى المباد شأنه فى ذلك شأن النظام القمعى الرجعى القائم فى عراق اللصوص و مزورى الشهادات ،  كان يضيق الخناق على المبدعين المستقلين ، حيث  قتل غدرا و بكل خسة ثلاثة من أشقاء الفقيد ، و كانوا مبدعين كل فى مجال تخصصه.
فى 1993 كان الفقيد يبلغ من العمر خمسين عاما،  حين احيل على التقاعد بناءا على طلبه، و أفتتح مكتبا هندسيا للتصاميم فى بغداد  ، و لكن الأحداث العاصفة التى مر بها و أستشهاد أشقائه ،و أحساسه بالخطر المحدق به أضطرته الى الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية ، حيث عمل أستاذا للغة العربية فى احدى جامعاتها .
و لم تكن الهندسة فقط هى التى تجمعنا ، بل كان لكلينا أهتمامات جادة و معمقة بالأدب و الفن . نتحاورحولهما فى لقاءتنا الكثيرة  .
كان الراحل أحد الكتاب البارزين لموقع ( الحوار المتدن ) حيث نشر عشرات القصائد العاطفية و الوجدانية  و السياسية .
 و فى المهجر كان قلبه الكبير ينزف دما على ما آلت اليه الأمور فى بلده ، و من يقرأ قصائده المنشورة بعد تسلط ( العراقيين الجدد ) على رقاب العراقيين ، نراه يدعو بكل ما أوتى من قوة التعبير لكنس الحثالات الحاكمة الى مزبلة التأريخ .
 
يقول الشاعر المهندس فى قصيدته ( نداء الرافدين )  :
 
كفانا بكاء ً وصبرا ًعقيما ً، كسيرَ الجناح ِ
كفانا انتظارا ً لنصر ٍ سيأتي بغير الكفاح ِ!
زمانُ النهوض ِ أتانا بخطـو ٍ شديد ِ اللحاح ِ
وصوتُ اليتامى ينادي الرجالَ لكبح الجماح ِ
كـفانا رضـوخا ً لعقل ٍ سفيه ٍ ، لقيط ِ اللقاح ِ!
عراقُ النهار ِسيبقى وضيئا ً بومض ِالسلاح ِ
ويعلو عزيزا ً، زهيَّ المروج ِ، أمين َالبطاح ِ
سيبقى معافا ً، غزيرَ العطاءِ ، عزيزَ الفلاح ِ
و يقول فى قصيدة له  بعنوان ( سلاماً تونسَ الخضراءْ )
إرفعْ صراخَكَ حـدَّ أبوابِ السماءِ ولـقـِّـنِ الحكّامَ بيّاعي الـمذلـَّةِ والشـقاءِ
درسـاً مريراً كالـذي أهـدتهُ تونسُ لـلطـغاةِ الناهـبـيـنَ بلا حياءِ
إنهضْ عزيزاً واقلعِ الأوغادَ منْ بلدِ الحضارةِ والثراءِ
لـم يبـقَ فـينا ما يـقـدِّرنا عـلى ردِّ الـقـضـاءِ
غـير الـتـمـسُّـكِ بالعـدالةِ والشـفاءِ
مِـنْ ســمِّ أولادِ الـبـغـاءِ
أصـلِ الـوباءِ!
 
أننى اعندما أقرأ قصائده التى كتبها فى المهجر ، يخيل الى أن العراق الذى أعطاه عصارة فكره الهندسى ، كان لا يفارقه أبدا ، فمعاناة العراقيين تشغل فكره و وجدانه و تعصر قلبه من الألم الممض  ، يحس بها  و تهز كيانه فى كل لحظة .  يقول فى قصيدة له بعنوان ( أينَ أحرارُ العراقِ؟! )
 
 آهِ كـمْ حـلَّ الظـلامُ فـي بـلادي ** واستحالَ العـيشُ ؛ خـبزاً ومسـرَّةْ
كـلَّ ما يبغـيـهِ شعبي في الحياةِ **** أنْ يـعـيـشَ الـيـومَ مـأمـوناً وحـرّأ
أيـن أنـتـمْ يـا أبـاةَ الـرافــديــنِ **** مِـنْ بغاةٍ قـد أذاقـوا الشـعـبَ مرّا؟!
أيـن أنـتـمْ يـا أجـاويـدَ الـعـراقِ ****مِنْ لصوصٍ سرقواالخيراتِ طرّا؟!
 
هكذا الحياة الفانية ، يشقى فيها المبدعون و يتنعم بمباهجها من لا يستحق الحياة  من شذاذ الآفاق .
 
أيها الراحل العزيز سلاما و ألف رحمة لروحك الطاهرة و سوف يبقى ذكراك العطرة فى قلوبنا و قلوب كل المخلصين فى بلدنا العظيم ، رغم أنف الطغاة الصغار من ( العراقيين الجدد )
 
-------------------------------
* كان الفقيد ينشر قصائده بأسم ( حميد أبو عيسى ) فى حين ان كتبه الهندسية المنشورة تحمل أسم ( حميد عيسى أوراها )
---------------------------------------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

163
المنبر الحر / ثلاثة مظاريف
« في: 16:43 22/01/2012  »
ثلاثة مظاريف

                                                                                                                              جودت هوشيار
 
ثمة نكتة سوفيتية قديمة عن تداول السلطة تصف على نحو دقيق سلوك الرؤساء الفاشلين فى الحكم  و بخاصة سلوك المالكى خلال السنوات الخمس الماضية .
 تقول النكتة أن ستالين ترك لمن يخلفه فى الحكم ثلاثة مغلفات و أوصاه ان يفتح كل مغلف اذا وصلت الأمور فى البلاد الى حافة الأزمة . و بعد عدة سنوات حلت الأزمة الأولى و فتح خروشوف المغلف الأول و قرأ : ( ألق علىَّ مسؤولية فشلك) و بعد فترة حدثت الأزمة الثانية و فتح المظروف الثانى وقرأ النص السابق نفسه  . و عندما حلت أزمة جديدة  فتح المظروف الثالث و كم كانت دهشته عظيمة عندما قرأ: (جهز ثلاثة مغلفات لمن يخلفك فى الحكم ) .
 
دأب الحكام الجدد فى الأنظمة الأستبدادية ،  بعد مضى فترة على وصولهم الى السلطة و أخفاقهم فى تحقيق  وعودهم  المعسولة - بتوجيه  اللوم واصابع الأتهام الى أسلافهم فى الحكم و تحميلهم المسؤولية عن كل ما يحدث فى البلاد من أزمات و أخطاء فى مجالات الحياة المختلفة  .
وهو تقليد ممل و مضلل فى آن معا،  الهدف منه التنصل من المسؤولية و التستر على الأخطاء  و خداع الرأى العام فى سبيل البقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة  .
كل عراقى (خبر النظام الصدامى) يعرف ان هذا النظام كان سيئا بكل المقاييس حيث  تفنن فى قتل العراقيين و زج البلاد فى حروب عبثية  و نهب و بدد ثروات العراق . و خلف وراءه تركة ثقيلة .
و كان من المؤمل قيام العهد الجديد  بمعالجة المشاكل المزمنة التى تسبب بها النظام السابق  و الأخطاء الجسيمة التى أرتكبها و لكن  ها نحن اليوم بعد مرور حوالى تسع سنوات على التغيير نرى ان " القائد الضرورة الجديد "  ليس بأفضل من الدكتاتور السابق فى أنتهاك حقوق الأسان و أعتقال المعارضين و زجهم فى سجون سرية وتعذيبهم لأنتزاع الأعترافات الكاذبة منهم او حتى التستر على أغتيالهم بالكواتم أو فى مساكنهم ، كما حدث مع الشهيد هادى المهدى . أضافة الى تسخير أمكانات الدولة  من اجل أحكام قبضته على الحكم .و أستغلال السلطة من أجل مصالحه الشخصية و الحزبية  الضيقة .
 
ماذا فعل المالكى منذ توليه رئاسة الوزارة قبل حوالى خمس سنوات ؟
ليس لدى المالكى و مستشاريه السبعين و أبواقه الناعقة ليل نهار عن أنجازات موهومة  ، جواب واضح على هذا السؤال ، لأن كل ما فعله المالكى هو أستغلال عشرات المغلفات الموروثة من أسلافه أبشع أستغلال . و ألقاء مسؤولية  فشل حكومته فى أداء مهامها و عن كل ما يعانيه البلاد من مشاكل ، على النظام المباد أو على الآخرين  .
 
المالكى لا يمتلك الشجاعة الكافية  و لا الجرأة المطلوبة من رجل دولة  للأعتراف بأخطاءه ، ويفضل  التهرب من المسؤولية بأستمرار و التنصل من وعوده - نعم وعوده و ليس برنامجه ، لأنه ليس لدي المالكى و حزبه  برنامج علمى مدروس وواضح و آليات محددة لتنفيذه  من أجل  أعادة بناء الدولة العراقية المدمرة ، بل شعارات ديماغوجية أكبر من قدراته بكثير و أخطر من أن يتولى تنفيذها – أذا كانت لديه النية أصلا لتطبيقها على ارض الواقع -  شخص لا يمتلك الحد الأدنى من المؤهلات و الخبرة المطلوبة  لأدارة دفة الحكم فى مرحلة عصيبة ،  كالتى يمر بها العراق اليوم ، حيث تتفاقم المشاكل يوما بعد آخر فى كافة ميادين الحياة .
أن الهم الأكبر للمالكى هو البقاء فى السلطة أطول فترة ممكنة عن طريق الهيمنة التامة على القوات الأمنية  و خضوعها المباشر لأوامر القائد العام للقوات المسلحة و أتباع سياسة الترغيب و التهديد فى قمع و أسكات أصوات الأحرار الذين ، لا يؤمنون بعبقرية " القائد الضرورة " حتى داخل حزبه ، ناهيك عن الأحزاب الأخرى  و التشهير بالخصوم السياسيين  تمهيدا لتصفيتهم و أزاحتهم عن طريقه  للبقاء فى السلطة لولاية ثالثة و رابعة ! .، كما أعترف بنفسه مؤخرا حين قال ان لا احد  يستطيع أن يزيحه عن السلطة ، حتى بعد ست سنوات . قد يكون ذلك زلة لسان ، و لكنها كشفت دواخل المالكى و عدم أيمانه بالديمقراطية و بمبدأ التداول السلمى للسلطة .
 
فى بداية حكمه ( الزاهر ) وعند نشوب أى مشكلة  كان المالكى ،  يبحث عن ذريعة  لتبريرها  ، أما اليوم فقد أكتشف " القائد الضرورة "  الجديد ،  أن المغلفات القديمة  التى ورثها عن أسلافه ، لم تعد تجدى نفعا و لن تضمن له البقاء فى السلطة ، بعد ان فشل فى تحقيق أى أنجاز يذكر  رغم أنفاق حوالى خمسمائة مليار دولار  خلال السنوات الخمس الماضية -  ذهب الجزء الأكبر منها الى جيوب ( العراقيين الجدد  ) الذين صعدوا ( من الطهارة الى المنارة ) كما يقول المثل الشعبى العراقى  !
 
 سلاح المالكى الجديد للبقاء فى السلطة ، هو خلق الأزمات ، أزمـة وراء أزمـة و قد تتداخل أكثر من أزمـة فى آن واحد  و ذلك بهدف صرف أنظار خصومه السياسيين و ألهاء الرأى العام العراقى عما يجرى فى الخفاء و يسخر من أجله كل أمكانات الدولة  بهدف بسط هيمنته على كافة مفاصل السلطة و تهميش البرلمان و نقض  القوانين التى يسنها و تجاهل القرارات التى يتخذها  و تسيس القضاء لمصلحته عن طريق شراء ذمم كبار القضاة ( كما أشارت الى ذلك مؤخرا و كالة أسوشيتد برس للأنباء )  و أستغلال شبكة الأعلام العراقى  و الأعلام الحزبى و غير الحزبى الممول من خزينة الدولة ،  لأطلاق غبار كثيف من الأكاذيب للتغطية على العمل الجارى وراء الكواليس .
 
حكومة المالكى هى حكومة الأزمات المفتعلة أبتداءا من أزمة ( المساءلة و العدالة ) قبيل الأنتخابات التشريعية الأخيرة  و أزمة التنصل من  تنفيذ أتفاقية  أربيل لتقاسم السلطة عند تشكيل الحكومة الحالية و تداعياتها و مرورا  بأزمة الأنقلاب المزعوم  قبيل الأنسحاب الأميركى من العراق  و أنتهاءا بأزمة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمى . و ما دام المالكى فى السلطة سيشهد العراق المزيد من الأزمات المفتعلة  و المسرحيات المفبركة التى جند لها  أعوانه المقربين لصب الزيت على النيران المشتعلة  و أبواقه الأعلامية الصاخبة التى تقوم ليل نهار بتلميع صورته الكالحة و تبرر أخطاءه و خطاياه و عجزه الكامل عن القيام بأى عمل أيجابى و تشهر بزعماء المعارضة على نحوسمج يتصف بمنتهى الأبتذال فى تجاوز كل المعايير الأخلاقية و الأعلامية .
المالكى -  الذى فقد ، ثقة العراقيين ، كل العراقيين  و بضمنهم حلفائه  السياسيين ، بأستثناء زمرة من الوصوليين الملتفين حوله و المنتفعين من فتات موائده - لن يستطيع الأستمرار فى أختلاق الأزمات و أحتكار الحكم طويلا ،لأن لعبة الأزمات المفتعلة قد أنكشفت  و لن تنطلى على أحد بعد اليوم .
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


164
المنبر الحر / ستالين العراق
« في: 01:16 26/12/2011  »
ستالين العراق

                                                                                                                                جودت هوشيار
 
يثير تركيز السلطة الشديد بيد رئيس الوزراء نورى المالكى و تفرده بأتخاذ القرار و تسخيره للقوى الأمنية و القضاء المسيس فى تصفية خصومه السياسيين ، قلقا بالغا ومشروعا لدى القوى السياسية الأخرى و الرأى العام العراقى  و بخاصة فى الأوساط الليبرالية و العلمانية و اليسارية ، حيث تلوح فى الأفق مشروع دكتاتور جديد و نظام شمولى لا يقل عنفا و أستبدادا عن النظام السابق .
و رغم أنحسار اهتمام المجتمع الدولى و الأعلام العالمى بأحداث العراق ، الا أن أمرا واحدا ، اخذ يستقطب أهتمام المراقبين و المحللين السياسيين فى كثير من بلدان العالم ، و هو هيمنة المالكى  الشديدة على السلطة و القوة و الثروات فى العراق .
ثمة من يقارن المالكى بصدام حسين ، من حيث التفرد فى أتخاذ القرار و قمع الحريات العامة و الخاصة و أنتهاك  حقوق الأنسان و هدر ثروات البلاد ، و لكن المؤرخ و المحلل السياسى الروسى البارز " فاديم مكارينكو " يرى – فى مقال له تحت عنوان " ستالين العراق " الذى  نشر فى أحد المواقع الألكترونية الروسية مؤخرا – ان طريق صدام الى السلطة ، كان مختلفا عن طريق المالكى ، و من الأصوب  القول ، ان الملكى هو " ستالين العراق لوجود أوجه تشابه كثيرة بين الدكتاتورين  .
 
. المالكى أفلت من الموت فى العهد الصدامى ، كما أفلت ستالين فى العهد القيصرى  و أصبح على رأس السلطة بمحض الصدفة فى أوج العنف الذى كان يهدد بتقسيم العراق ، و قد قسمه فعلا فى واقع الأمر .فالعاصمة بغداد على سبيل المثال مقسم حاليا الى الى غيتوات طائفية مغلقة ، و هذا هو السبب الرئيس للتحسن الأمنى النسبى.
و يرى " مكارينكو " ان أوجه الشبه بين الرجلين نفسية فى المقام الأول ، ليس فقط من حيث الذاكرة المتشابهة و روح الأنتقام المتأصلة فيهما ، فكلاهما ، لا ينسى شيئا و لا يغفر لأحد ، و لهذا على وجه الحديد ، لا يستعجل فى توجيه الضربات لجميع خصومه فى آن واحد ، بل يختار الوقت المناسب لكل واحد منهم ، و ليس ذلك غريبا ، لأنهما توأمان  ينتميان الى ثقافة واحدة أو متقاربة .( جورجيا - و طن ستالين - لا تبعد عن العراق كثيرا و تربطهما و شائج ثقافية و تأريخية ) .
كذلك فأن  المالكى و ستالين يتشابهان فى أسلوب مواجهتهما للتحديات السياسية و الشخصية ، و يردان عليها بالطريقة ذاتها أى بتشديد الخناق على الخصم بقوة أكثر فأكثر و يفعلان ذلك بشكل تلقائى و غير واع . انها الطريقة الوحيدة لديهما للنجاة .
 و المهمة الرئيسية للمالكى اليوم هى تعزيز سلطته الشخصية ، ففى العراق ( الجديد ) السلطة المركزية هى المالكى ، و المالكى هو السلطة المركزية .
فى الأزمة الوزارية الأخيرة ، حين تعثر تشكيل الحكومة العراقية لمدة ثمانية أشهر بعد الأنتخابات البرلمانية التى لم يفز فيها المالكى الا بالمرتبة الثانية ،  رغم  تسخير  امكانات الدولة لشراء الذمم وحشد جموع المنتفعين من السلطة  و بضمنهم شيوخ العشائر-  الذين يدفع لهم المالكى رواتب مجزية من خزينة الدولة من اجل التصويت لصالحه فى الأنتخابات و القيام بالمهام ( القذرة ) عند الحاجة  - و رغم الشعارات البراقة و الوعود المغرية .
 
و يؤكد " مكارينكو " ان  تشكيل الحكومة تأخر لسبب رئيس و هو ان لا أحد كان يعرف كيف ينتزع السلطة من المالكى ، لأن كل الأدوات الفعالة و القوى الأمنية كانت بين يديه يوجهها كما يشاء . لم يقبل المالكى ترشيح شخص آخر حتى من داخل حزبه لرئاسة الحكومة ، ناهيك عن الأحزاب الأخرى المتحالفة معه ، رغم ترشيح بدائل عديدة له .
من الواضح لجميع العراقيين ، و مما يقلقهم كثيرا ، التركيز الشخصى المستمر للسلطة بيد المالكى وطغيان تأثيره على مفاصل الدولة بأسرها . و هذا أمر خطير، حيث لا توجد فى المناطق الخاضعة للسلطة المركزية ، .قاعدة أخرى للسلطة .
القوة الوحيدة فى العراق التى يمكنها مقاومة طغيان المالكى هى أقليم كردستان ، حيث تشكلت و قبل سقوط نظام  صدام،  سلطة تدير شؤون الأقليم الغنى بالثروات و لديها قوة مسلحة مدربة  و تتمتع بتأييد شعبى و علاقات دولية واسعة .
تحت تصرف المالكى ثروات هائلة و لكن الثروات ليست مفتاحا للنصر فى الأنتخابات التى تجرى فى العراق
 و فق استقطابات طائفية و أثنية ، و لكنها – أى الثروات -  مفتاح للسلطة الفعلية و ضمان لها .
اليوم لا يحتل أتباع المالكى كل المناصب العليا فى الدولة ، بل ان عددا لا يستهان به من هذه المناصب ، منحت لقياديين من الأحزاب الأخرى ، من دون التمتع بأية صلاحيات حقيقية لأتخاذ القرار ، و لا عمل لهم سوى تمضية الوقت و التمتع بمظاهر الأبهة الفارغة ،  التى تسبغها تلك المناصب عليهم ، و يقول "  مكارينكو "  أن أشغال منصب رفيع أجوف من دون عمل حقيقى ، أمر غير مخجل فى المجتمعات الشرقية ، لأن المنصب الحكومى الرفيع " قيمة " بحد ذاتها فى تلك المجتمعات ،  مما يتيح للدكتاتور الزعم بوجود الديمقراطية و تمثيل القوى الأخرى فى الحكم .
فى العشرينات من القرن الماضى كان فى روسيا السوفيتية عدد كبير من مثل هذه المناصب الرفيعة التى لم تكن لها أية مهام ذات أهمية ، و لكن بمجرد قيام " القائد " بدعم هذا المنصب أو ذاك ، كان يتحول الى منصب ستراتيجى بالغ الأهمية .
فى حكومة المالكى الأولى حاول الوزراء السنة الحصول على بعض الصلاحيات لأتخاذ القرارات فى مجالات عملهم ،  لكن لم تمنح لهم أية فرصة لتحقيق مسعاهم ، مما أضطرهم الى الأستقالة . و اليوم هنالك وزراء سنة و أكراد ، و و جودهم ضرورى و نافع لـ( القائد ) الى حين الأنسحاب الكامل للقوات الأميركية ،و ديكور  دستورى و ديمقراطى . و  يمكن بعد الأنسحاب الأستغناء عن خدمات هؤلاء الوزراء فى أى وقت يراه " القائد " مناسبا لذلك .  ( 1 )
و يقوم المالكى حاليا بـحملة (تطهير) " كرملين بغداد " المسمى بـ " المنطقة الخضراء " من الخصوم و المنافسين السياسيين ، التى بدأها بأعتقال المئات من البعثيين السابقين ، و سوف تستمر مثل هذه الحملات الى أن يتم التخلص من كل من يعترض طريق " القائد الأوحد " الى السلطة الشمولية المطلقة . و هى حملات تذكرنا بحملات التطهير الستالينية المتكررة قبل عام 1934 . حملات المالكى على معارضيه تنفذ وفق قوائم معدة سلفا  بأسماء المطلوبين للتصفية السياسية أو لألقاءهم فى غياهب السجون  و هى تشمل كل من يعارض المالكى سواء أكان مذنبا أم بريئا .
فلسفة المالكى  هى نفسها المتبعة فى كل تنظيم حزبى غير ديمقراطى : " من ليس معنا فهو ضدنا " و بتعبير المالكى : " لا مكان فى حكومتنا لمن ينتقدها ".
 اليوم يحارب المالكى البعثيين و غدا سيحارب قوى سياسية مشاركة فى العملية السياسية و على هذا النحو ستستمر حملات التصفية و سيكون هنالك دائما عدو جديد ليحاربه .
ستالين كان يؤمن بالصراع الطبقى المستمر  ، و بأن هذا الصراع يشتد بمرور الزمن ضد طبقته و يتخذ اشكالا جديدة  ، و يدرك جيدا بأن لا بقاء له فى السلطة الا بمحاربة عدو جديد فى كل مرة عن طرق القيام بحمة تطهير جديدة بين صفوف النخبة الحاكمة.
و يعتقد " مكارينكو "ان مشكلة العراق الرئيسة هى أن ثروات بلد من أغنى بلدان العالم ، يتصرف بها شخص واحد لمصلحته و مصلحة حزبه ، حيث تحولت الدولة الى كيان يعمل من اجل حفنة من النخبة الحاكمة التى
  تستأثر بالسلطة و المال و القوة و النفوذ و لن تتخلى عنها أبدا و لن  يمنح " الأخ الأكبر " و النخبة الجديدة المنتفعة من حكمه ،  أدنى  فرصة لقوى سياسية أخرى بأنتزاع السلطة منه. ويمضى مكارينكو قائلأ : ان الولايات المتحدة كدولة عظمى مسؤولة عن العراق دمرت هذا البلد و تعهدت فى بادىء الأمر  بأعادة بنائه أو تشكيله من جديد ، و كأن الأمر هو لعبة تفكيك و  تجميع أشبه بلعبة المكعبات التى يمكن بعثرتها و من ثم تجميعها لتشكيل بناء جديد حسب الرغبة .
لقد أخفقت الولايات المتحدة فى تنفيذ الخطة الأولية المعدة لأعادة  بناء الدولة العراقية و أقامة نظام حكم مؤسساتى تمتلك الآليات الضرورية لمنع المساعى الرامية الى أقامة نظام مركزى و حصرالسلطة بيد دكتاتور جديد . كانت الخطة تتضمن كحد أدنى أقامة نظام فدرالى تتمتع فيه الأقاليم بصلاحيات واسعة و كحد أقصى تأمين رعاية دولية (  أمنية و قضائية )  لفترة طويلة لنظام الحكم الجديد ، و لكن هذه الخطة تناثرت و ذهبت مع الريح .
المحافظات التى يشعر أبنائها بالغبن و الأقصاء و التهميش ، تطالب اليوم بأقامة أقاليم على غرار أقليم كردستان  وكان الكرد سباقين الى دعوة الآخرين لأقامة أقاليمهم و لم تلق هذه الدعوة فى حينه الأستجابة اللازمة . و لكن القطار ذهب من دون رجعة و لم يبق فيه من كان بوسعه مساعدة المحافظات على تحقيق مطالبها . حقا كان هنالك بعض " المثاليين " و لكن تمت أزاحتهم بسرعة .
المالكى يرى فى أقامة الأقاليم مؤامرة بعثية  رغم أن الدستور الذى أسهم فى أعداده يمنح مثل هذا الحق لكل محافظات العراق .
أن الخطأ الأكبر الذى أرتكبه الأميركان هو أنهم أرتخوا و تكاسلوا  - بعد قيام المالكى بتوجيه الضربات الى منافسيه فى الميليشيات الشيعية فى بغداد و البصرة -  و أضاعوا فرصة أستبدال المالكى بسياسى أقل سعيا و  أندفاعا منه  نحو الدكتاتورية  و أقل لهفة للتحول الى " بونابارت " جديد .
كان الرئيس جورج بوش الأبن قد هنأ العالم ،   بسقوط الدكتاتور صدام حسين و  أنتهاء العمليات العسكرية ،  و لكن خلفه اوباما ، مضطر اليوم أن يصافح دكتاتور العراق الجديد .
صحيح أن أميركا ستتوقف عن أنفاق المزيد من الأموال على عملية فقدت السيطرة عليها منذ  زمن طويل  و لكن لا بأس ، فأن هذا أيضا ،  يعد  ( أنجازا) !!.
ليس لدى الولايات المتحدة اليوم ما يمكن قوله للعالم ، لأن جراح العراق الآن أكثر عمقا  و أيلاما من أى و قت مضى .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

165
المنبر الحر / القلق و ما بعده
« في: 23:53 20/12/2011  »
القلق و ما بعده
                                                                                                                      جودت هوشيار
 القلق ظاهرة حضارية وضريبة يدفعها الانسان المعاصر من ذهنه وفكره واعصابه وهو يتلقى يوميا هذا الزخم الهائل من الممؤثرات والاصداء والا نطباعات في عالم شديد الحركة , سريع التطور زاخر بالوقائع والاحداث الجسام والثورات في شتى مجالات النشاط الانسانى هذا القلق يسري في دمه يدب في كيانه يتغلغل في أدق شعيراته , ينفعل به ، يطل من عينيه وهو يقاتل او يبني , يتمزق أو يحلم .
 هذا النوع من القلق الحسي العنيف ، قلق مقدس ونبيل لانه قلق ايجابي وخلاق, كان ومايزال وراء معظم الانجازات الحضارية للبشرية عبر مسيرتها التاريخية الطويلة وأحد بواعث الخلق والابداع في العديد من حقول المعرفة الاساسية .
 وبالرغم من هذه الصفة الشمولية للقلق , الا انه يبرز عند الفنان والشاعر والكاتب ورجل الفكر عموما على نحو أكثر حدة وعنفا , فالانسان المبدع الذي يكون في العادة شديد الوعي لقضايا عصره ومفرط الحساسية أزاء هموم الاخرين وتطلعاتهم لايمكن يكون الا قلقا حينما يقتحم المجهول
 ويكتشف ذاته والعالم من حوله , ولكن هذا القلق المبدع الخلاق حين يتحول الى أرق ليلي مزمن يصبح شيئا لا يطاق .
 قبل سنوات معدودات مضت كنت نهبا للقلق لا اعرف مصدره وأرق ليلي لا أزعم أنه كان من هذا النوع ولكنه على أي حال لم يكن عاملاايجابيا بل على النقيض من ذلك كنت اعتبره ه مدمرا لانه أخذ يدمر حياتي .
 كنت أظل طوال الليل كالوتد المشدود بقوة وكان رأسي يضج بالايقاعات الصاخبة لعصرنا ولم يكن في وسعي أن ارد عنى اصدءاها الا مع طلوع الفجر ؟
 كان هذا قبل سنوات , أما اليوم فأنعم بنوم هادئ وطويل بفضل بعض الاكتشافات المهمة التي لا يعرف معظم القراء على ما ظن أي شي عنها .
 أنني أنصح لقارئ الكريم الذي ينتابه الارق اللعين احيانا أن ينتفع بتجربتي المتواضعة في هذا المجال وأن يقرأ قبل النوم بعض القصائد ما بعد الحداثة , لانني شخصيا حين أقرأها أشعر باني عدت قرنا كاملا الى الوراء , الى اوئل القرن العشرين , زمن المانيفيستات الأدبية والتيارت الفنية فى العواصم الأوروبية الراعية للأدب و الفن مثل باريس و روما و بطرسبورغ فى ( العصر القيصرى ) ، و أسرح فى عالم جميل مضى دون رجعة زاخر بلوحات فنية سوريالية وتكميبية وتعبيرية وأنطباعية ورمزية ومستقبلية و قصائد هرمية ومستطيلة ومربعة ودائرية تتشكل من كلمات متراصة ورموز وعلامات ترقيم و تنوين و تعجب . نتاجات تهوم معها لأنها انطباعات حسية و انطباعية خفيفة تساعد على الأسترخاء أكثر من الوسائل الأخرى مثل المساج مثلا , بيد أن الوسيلة الاكثر فعالية في التغلب على الارق القراءة التأملية لتلك النماذج من قصص ما بعد الحداثة التى يعشقها الجيل الجديد من كتاب العربية و مقلديهم من الكتاب الكرد لانها خالية تماما من كل ما يثير الذهن أو يبعث على التفكير قصص تتغلغل باشعاعتها الفرويدية الى اعماق اللاوعي والعقل الباطن فيستسلم الانسان في هدوء لاحلام جميلة ويداعب النعاس أجفانه ولا يستيقظ الا مع الفجر , أنها تجربة مفيدة أردت أن أشرك فيها اولئك القراء الذين يعانون من القلق والارق ولا تكلف كثيرا , لأن الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية لشعراء وكتاب ما بعد الحداثة تباع على أرصفة الشوارع لدى باعة الكتب المستعملة بأسعار زهيدة لا ترهق الجيوب الخاوية لكتاب ما بعد الحداثة و ما فوق الحداثة ..
 جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com


166
الموقف الروسى من الصحوة العربية

                                                                                                                                 جودت هوشيار
 
الموقف الروسى من ثورات الربيع العربى ، يدعو الى الأستغراب و التساؤل لدى بعض  المتابعين للشأن الروسى  و لكننا نعتقد ان لا جديد فى هذا الموقف  ، فقد وقفت روسيا دائما ، منذ العهد السوفييتى البائد ، كما تقف اليوم مع الأنظمة العربية الشمولية و تدافع عن الحكام العرب الطغاة .
و هذا الموقف  ناجم عن جملة عوامل داخلية و خارجية ( صفقات الأسلحة ، عقود الطاقة ،  النظام العالمى الجديد ، الأقليات الأثنية و الدينية  فى الأتحاد الروسى  و مدى تأثرها  بالأوضاع فى الدول المجاورة لروسيا.)
و لكننى اود التطرق الى عامل مهم آخر لم يلتفت اليه المتابعون للعلاقات العربية – الروسية ، و هو نظرة  الأنظمة الحاكمة المتعاقبة فى روسيا الى شعوب البلدان القريبة من حدود روسيا الجنوبية .
فرغم مرور 95 عاما على سقوط النظام القيصرى فى روسيا و بصرف النظر عن تبدل  شكل و طبيعة  النظام الحاكم فيها أكثر من مرة ، الا ان أمرا واحدا ظل كما كان فى العهد القيصرى و هو النظرة الأستعلائية الروسية الى شعوب الشرق عموما و الشعوب العربية خصوصا   .
و نظام فلاديمير بوتين لا يختلف عن الأنظمة الحاكمة السابقة فى هذه النظرة ، التى لم تكن مقبولة فى يوم من الأيام  و مرفوضة تماما فى  عصرنا الراهن.
نظام  بوتين ( السوفييتى الجديد ) المغلف بديكور ديمقراطى تجند وسائل اعلامها – وهو اعلام سائر فى ركاب السلطة عموما - لتجميل الوجه القبيح للأنظمة العربية القمعية . نظام بوتين لا يحسب حسابا للشعوب العربية الثائرة و يحاول تصوير الثوار كأنهم مجاميع من الرعاع السلفيين و أن الشعوب العربية ان هى الا قبائل بدوية و طوائف متناحرة و الثوار  تحركهم أحزاب و تنظيمات جهادية ، تحاول أنتزاع السلطة من( أنظمة شرعية ) بالعنف و الأرهاب و الأستعانة بالأجنبى .
 
وسائل الأعلام الروسية أمتدحت طوال الشهور الماضية نظام القذافى قبل و بعد سقوطه و تصف دكتاتور ليبيا بأنه بطل قلما يجود به الزمن ، عاش و قاتل بشرف و شجاعة نادرة حتى آخر لحظة فى حياته كالفرسان النبلاء . فعلى سبيل المثال لا الحصر،  تعيد هذه الوسائل ، المرة تلو المرة ، نشر المقابلات التى تجريها مع ( ممرضات ) القذافى اللواتى يذرفن الدموع على الدولارات الضائعة نتيجة لأضطرارهن العودة الى بلادهن و حرمانهن من هدايا بابا قذافى الثمينة .. !
و تقول يلينا سابونينا (1)  :
 " ان نظام القذافى كان نظاما (شعبيا و ديمقراطيا ) حيث كانت القرارات المصيرية تتخذ من قبل اللجان الشعبية و كذلك المصادقة على خطط التنمية و الموازنة العامة و تضيف دون ان يرف لها جفن " ان القذافى وفر للشعب الليبى كل شىء بالمجان (الماء و الكهرباء و التعليم و الخدمات الصحية . وقدم منحا و تسهيلات لبناء السكن أو أقتناء السيارات  ) و تتساءل : فى أى بلد كان بوسع المرء أن يشترى سبعة ألتار من البنزين بدولار واحد فى غير ليبيا القذافى . ؟  "
 
  أما السياسى  المتقلب ، زيرينوفسكى ، رئيس الحزب الديمقراطى الليبرالى الروسى و نائب رئيس مجلس الدوما ( النواب ) الروسى الذى أصبح موضع تندر و سخرية الشعب الروسى لتصريحاته الغريبة و مقابلاته الأعلامية  المضحكة  ، فقد أعتبر نظام القذافى مثاليا و أفضل نظام فى العالم !
 
و الأعلام الروسى - الذى يدور فى فلك النظام -  يسهب فى هذه الأيام فى أبراز الطبيعة القبلية للمجتمع الليبى  و فى  تضخيم الخلافات القائمة بين مختلف الفصائل المسلحة للثورة الليبية و تعتبر ذلك بداية لحرب أهلية بين الفصائل و القبائل المتنازعة .
ورغم خصوصية كل ثورة عربية و اختلاف ظروفها و أسبابها من بلد عربى الى آخر ، الا أن الموقف الروسى الرسمى من ثورات الربيع العربى ظل موقف المتشكك بنوايا الثوار و الباحث عن القوى الأجنبية ( الغربية ) التى تقف وراء التظاهرات العارمة . و يعتبرالناشطين الشباب ، من أصحاب المدونات و الصفحات الألكترونية و بخاصة فى مواقع التواصل الأجتماعى طابورا خامسا يعمل لحساب الأجنبى..
 
و ويرتكب نظام بوتين بهذا الموقف الشاذ عن الأجماع العربى و الأقليمى و الدولى ، أثما لا يغتفر فى حق الشعوب العربية و خطئا فادحا فى حق روسيا و مصالحها الحيوية ، لأن الحكام زائلون و الشعوب باقية و سوف يضطر نظام بوتين الى التعامل مع الأنظمة الثورية العربية الجديدة . و من مصلحة روسيا معالجة تداعيات موقفها  من الربيع العربى بأسرع ما يمكن . و لكن كل الدلائل تشير الى قصر نظر مستشارى حكومة بوتين من المستعربين و الباحثين فى معاهد الأبحاث الستراتيجية الكثيرة  الغرباء عن الواقع العربى و الذين يزودون الكرملين بتقارير مضللة عن جهل او نتيجة لنظرتهم الدونية الى شعوب الشرق العربى .، أضافة الى أن هؤلاء الباحثين و المستعربين ينطلقون فى العادة  من علاقات التنافس بين العملاقين الأميركى و الروسى فى تقييم القضايا الخارجية ، كل ذلك يجعل أبحاث هؤلاء السادة غير موضوعية ، بل غير ذات قيمة فى كثير من الأحيان . و صفوة القول ان سياسة الكرملين  تجاه الصحوة العربية لا تخدم المصالح الروسية  فى  المنطقة  على الأطلاق ، بل تلحق بها أبلغ الأضرار ..
البعض من متابعى الشأن الروسى (2)  يعتقد ان هذا الموقف " مبنى أساسا على نهج براغماتى بحت يقيم الوزن لحسابات الربح و الخسارة ، و لذلك ظهرت موسكو ، مستعدة للأعتراف بالثورات دون التخلى عن الأنظمة التى قامت ضدها . " و هذا القول صائب  و خاطىء فى آن واحد . صائب ، لأن موسكو لا تعرف سوى  حسابات الربح و الخسارة فى تعاملها مع الأنظمة العربية . و خاطىء لسببين ،
 اولهما  ، أن المواقف الروسية تأتى متأخرة جدا بعد ان تكون الأحداث قد تجاوزتها. و هذا ما حصل بالنسبة الى موقفها من الثورة الليبية ، حيث أعترفت بالمجلس الأنتقالى ، بعد أن تبين للقاصى و الدانى  السقوط الحتمى لنظام القذافى و كان لهذا الموقف ردود فعل سلبية  لدى الشارع العربى عموما و الشارع الليبى خصوصا . و يمكن القول ان الموقف الروسى من الثورات العربية و بخاصة الثورتين الليبية و السورية " شكل صدمة لكثير من الشعوب العربية ، حين أصطفت موسكو الى جانب النظم العربية ، رافضة للثورة و الحرية ."
و ثانيهما ، أن روسيا لم تجن من حساباتها الخاطئة سوى الخسارة .حيث ذهبت المساعدات الأقتصادية و التسليحية  الضخمة التى قدمتها الى الأنظمة العربية  القمعية أدراج الرياح ، و خسرت فى الوقت ذاته تأثيرها و نفوذها فى  الوطن العربى . أى أن الموقف الروسى لا يمكن وصفه بأى حال من الأحوال بالبراغماتية !
" و ربما هذه أول مرة  بتأريخ العلاقات الروسية – العربية ، تطالب فيها بعض الشعوب العربية بمقاطعة موسكو أقتصاديا و سياسيا و عسكريا ، بعد أكثر من نصف قرن من التقدير العربى لمواقف روسيا المساندة لقضايا العرب . "
 
و حسب وسائل الأعلام الروسية ، فأن موسكو تنتقد الولايات المتحدة و الدول الأوروبية و تركيا و الدول العربية ، بأنها تعد العدة لتغيير النظام فى سوريا ، و أن هذا التغيير لن يؤدى الا الى أثارة الحرب الأهلية فى هذا البلد . و ترى روسيا ان المجتمع الدولى ينبغى ان يضغط أيضا على المعارضة السورية للجلوس وراء مائدة المفاوضات للتوصل الى حل يرضى الطرفين ، أى بعبارة أخرى يضمن بقاء بشار الأسد فى السلطة . و بذلك فأن روسيا تضع علامة مساواة بين القاتل ( نظام بشار ) و الضحية ( الشعب السورى و ممثلها الشرعى ، المجلس الوطنى السورى ) . و تحاول أنقاذ نظام بشارالآيل للسقوط .
 
و لا شك أن الدعوة الروسية للحوار جاءت متأخرة جدا ،فقد فات أوان الدعوات ، لأن النظام استخدم الحوار لكسب الوقت و أراقة مزيد من الدماء أملا فى قمع الثورة الشعبية ، لذا فأن المجلس الوطنى السورى الذى يضم معظم القوى المعارضة لنظام الأسد ، قد رفض رفضا قاطعا أى حوار مع النظام القائم و طالب  بتنحى بشار عن السلطة فورا . و كالعادة لن يطرأ تغيير جوهرى  على الموقف الروسى الا فى و قت جد متأخر ،  عندما تتيقن موسكو بأن مصير بشار قد صار قاب قوسين او أدنى من مصير القذافى .
نظام بشار فقد شرعيته و أصبح نظاما منبوذا و محاصرا من قبل المجتمع الدولى و سوف يسقط ان عاجلا أم آجلا , و لا أمل له بالبقاء ، مهما حاول و أستنجد بنظام الملالى فى طهران و تابعه  ، حكومة المالكى .
 يا لبؤس نظام بشار ! لم يتبقى له من نصير فى هذا العالم الواسع ، سوى نظام الملالى فى طهران و تابعه المطيع فى بغداد .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com



--

167
تولستوى و جائزة نوبل  للآداب
                                                                                                                                 جودت هوشيار
 كان الشاعر الفرنسى رينه سولى برودوم ( 1839 – 1907 ) اول من حاز على جائزة نوبل فى الآداب ، عندما منحت هذه الجائزة للمرة الأولى فى عام 1901 . و كان الأعتقاد السائد فى ذلك الحين و ربما  حتى الوقت الراهن ، ان هذه الجائزة الرفيعة هى أهم جائزة للآاداب فى العالم ، و تمنح و فق أسس و معايير ثابتة و تقييم موضوعى دقيق ، بعيدا عن لأنحياز السياسى . و الفائز بالجائزة فى نظر ملايين الناس،  صاحب موهبة كبيرة ان لم يكن عبقريا و أفضل من بقية المرشحين  و لكن الواقع يخالف هذا الأعتقاد الراسخ فى الوعى الجمعى .    و كان من بين المرشحين للجائزة فى ذلك العام  أحد أبرز  عمالقة الأدب العالمى  و هو ليف تولستوى ( 1828 – 1910 ) ولكن لجنة التحكيم الملكية  أختارت شاعرا قلما يتردد أسمه اليوم  حتى فى فرنسا ذاتها .
 فى تلك الفترة كان تولستوى أبرز و أهم الأدباء الأحياء و يحتل منزلة رفيعة كروائى أبدع نتاجات روائية عظيمة ، و قد أعترف ( كارل فيرسين ) سكرتير الأكاديمية السويدية فى ذلك الحين ، بأن تولستوى خلق نتاجات خالدة . و لكنه مع ذلك صوت ضد ترشيح تولستوى للجائزة ، لأن الأخير حسب زعمه " نبذ كل أشكال الحضارة و دعا الى أسلوب بدائى و بسيط للحياة الأنسانية ، بمعزل عن كل أنماط الثقافة الرفيعة ."
كان لقرار لجنة نوبل ،  وقع الصدمة على الرأى العام السويدى و الأوروبى ، ليس فقط لأن الجائزة لم تمنح لتولستوى ، ففى ذلك الوقت كان ثمة أدباء مرموقين أكثرمن ( برودوم ) . مثل أنطون تشيخوف ، مكسيم غوركى ، الكساندر بلوك ، أميل زولا
.بعد شهر واحد من أعلان اسم الفائز ، وجهت مجموعة كبيرة  من  أدباء و كتاب و  فنانى السويد البارزين رسالة الى تولستوى ، عبرت فيها عن احتجاجها على قرار لجنة التحكيم  و فى الوقت ذاته أعجابها الشديد بنتاجات الكاتب ، و جاء فى الرسالة " نحن نرى فيكم ، ليس  فقط ، العميد المبجل للأدب المعاصر ، و لكن أيضا واحدا من أعظم و أعمق الأدباء المعاصرين ، الذين لا يمكن لأحد ان يتجاهلهم .رغم أنكم حسب قناعاتكم  لم تسعوا قط  فى أى وقت من الأوقات للحصول على هذا النوع من الجوائز . و لهذا نشعر بمسيس الحاجة  ان نوجه اليكم هذه التحية ، لأننا نعتقد بأن المؤسسة التى أنيطت بها مهمة منح جائزة ( نوبل ) فى الآداب ، لا تعبر بتشكيلتها الحالية ،لا عن  آراء الكناب و الأدباء و الفنانين و لا  الرأى العام . دعهم يعرفون فى الخارج ، بأننا حتى  فى و طننا البعيد ،نعتقد بأن الفن الأهم و الأقوى ، هو الفن الذى يولد من رحم حرية الفكر و الأبداع . "
و فى 24  كانون الثانى /يناير عام  1902 نشرت صحيفة " سفينسكا داجبلاديت  " السويدية  مقالا للكاتب " أغسطس ستريندبرغ "  ، جاء فيه : ( أن معظم أعضاء الأكاديمية هم  من المهنيين الذين لا يتصفون بيقظة الضمير و ليست لديهم ذائقة أدبية ، و رغم ذلك أنيطت بهم مهمة  التحكيم  ، و مفهوم الفن لدى هؤلاء السادة ساذج و صبيانى ، فالشعر عندهم  هو ما كان منظوما و يفضل ان ان يكون مقفى . فعلى سبيل المثال ، اذا كان تولستوى قد نال مجدا أدبيا رفيعا ، بوصفه كاتبا أبدع فى تصوير المصائر البشرية و خلق آثارا أدبية خالدة فأنه لا يعتبر شاعرا، لأنه لم ينظم الشعر) ,
و قال الناقد الأدبى الدنماركى الشهير جورج برانديس  : " يتبوأ ليف تولستوي  المركز الأول بين الكتاب المعاصرين و  لا أحد  يحظى  بأحترام يصل الى حد التقديس مثله  ، ويمكن القول أنه وحده يبعث مشاعر الخشوع!.
و قد منح جائزة للآداب لأول مرة فى تأريخ جوائز( نوبل)  ، لشاعر نبيل و رقيق ، و لكن لا يحتل مكانة مرموقة ، بعث أفضل الكتاب السويديين برسالة الى تولستوى يحتجون فيها على منح الجائزة للشاعر المذكور  ، و الكل كان يشعر بأن من المفترض أن تمنح الجائزة الى كاتب روسيا العظيم . "

 البيانات العديدة المطالبة بأستعادة العدالة المهدورة و الرساءل الموجهة الى ( تولستوى ) أرغمت الكاتب العظيم على توجيه رسالة جوابية  الى الكتاب الأوروبيين ، قال فيها وببساطة شديدة :  "أيها الأخوة الأعزاء لقد سررت كثيرا لأن جائزة نوبل  لم تمنح لى  ، و مبعث سرورى يرجع لسببين :
 أولهما   و قبل كل شيء ان ذلك  ، خلصنى من صعوبة كبيرة ، وهى كيفية التصرف بمبلغ الجائزة ، و هو فى رأيى  مثل أى مال آخر لا يجلب سوى الشر
 و ثانيهما ، تشرفت و سررت  لتلقي عبارات التعاطف من كثير من الناس ، وإن كانوا  غير معروفين  بالنسبة لي ، إلا أنني أكن لهم  احتراما عميقا.ارجو ، ان تتقبلوا أيها الأخوة الأعزاء خالص الأمتنان وأفضل المشاعر.
 ليف تولستوي ".
قال بعض المدافعين عن لجنة جائزة نوبل ، أن تولستوى كان سيرفض الجائزة حتما ، لو تم منحها له . و هذاالأستنتاج صحيح لكل من قرأ نتاجات تولستوى و تعرف على آرائه فى  الأصلاح الأجتماعى و الأخلاقى  و دعوته الى السلام و نبذ العنف  ، . و لدينا اليوم دليل قوى على ذلك . ففى عام 1905 صدر نتاج جديد لتولستوى تحت عنوان ( الخطيئة الكبرى ) ، رفض فيه رفضا قاطعا و على نحو مقنع للغاية  و مبرر تماما  ( الملكية الفردية ) للأرض. وعلى أثر ذلك ،  رشحته الأكاديمية الروسية  الأمبراطورية ، لنيل جائزة ( نويل ) فى الآداب لعام 1906ز
 و قد جاء فى رسالة الترشيح الموقعة من كبار علماءالأكاديمية ، " أن رواية ( الحرب و السلام ) و رواية ( البعث ) هما من أعظم النتاجات الأدبية الخالدة. " و أعربت الأكاديمية الروسية عن رغبتها بمنح الجائزة ل( تولستوى ) 
و قد حظى هذا الأقتراح بتأييد الأكاديمية الأدبية فى روسيا  ز
و عندما علم تولستوىبهذا الأمر ،كتب رسالةعاجلة الى صديقه الكاتب  الفلندى ( ارفيدو ارنيفيلدو )يقول فيها : " لو حدث هذا ، لشعرت بحرج شديد فى رفضها ، ولهذا أرجو من رجاءا حارا - أذا كانت لديك علاقة ما فى السويد  حسب ما أظن – أن تعمل كل جهد ممكن و تسعى .الى عدم منح الجائزة لى . ربما تعرف بعض أعضاء اللجنة أو تكتب  رسالة الى رئيسها من أجل عدم القيام بهذا العمل أو التصريح به . و عدم  وضعى فى موقف حرج للغاية ، و هو رفض الجائزة .
جودت هوشيار – موسكو
jawhoshyar@yahoo.com



168
واحة الأمن و الأمان فى العراق المعذب  -2
                                                                                                                    جودت هوشيار

 أولت السائحة الروسية  ( يلينا سوكول ) * اهتماما كبيرا بمدينة أربيل ، عاصمة كردستان العراق ، و حاولت التعرف عن قرب على  الحياة  الأقتصادية و الأجتماعية و الثقافية فيها .
و تقول أن هذه المدينة العريقة كانت حتى قبل سنوات قليلة لا تختلف عن أية مدينة شرقية مهملة و متخلفة و لكنها اليوم تتطور أمام أنظارنا بوتائر متسارعة،  و هى المدينة التى تعكس اللحظة الراهنة فى تأريخ الكرد العراقيين . أنها مدينة قديمة و جديدة فى آن معا ،
 عبق التأريخ و الحضارة و معالم الحياة الجديدة.
 ألوف المبانى الحديثة أو تحت الأنشاء التى تعود الى مستثمرين من القطاع الخاص ، و تغييرات يومية مستمرة فى  شكل المدينة .
الأعلام الوطنية الكردستانية فى كل مكان . من حق الكرد ان يتفاخروا بوطنهم الرائع و أربيل هى المدينة التى تعكس هذه المفخرة. طرق معبدة جديدة منارة بخلايا الطاقة الشمسية ،  مزينة بالأشجار و الورود الجميلة  . مولات (  جمع مول mall )  كبيرة و متطورة منها ( الماجدى مول ، فاميلى مول ، ناز مول ، تابلو مول ) و غيرها .

هذا هو الأنطباع الأولى عن أربيل للسائحة الروسية و لمعظم زوار أربيل من العرب و الأجانب .
و يبدو ان ( سوكول ) تقصد بأربيل القديمة ( القلعة التأريخية ) الشهيرة حيث تجولت فيها و توقفت طويلا فى متحف ( انتيكات ) القلعة و تحدثت الى المؤرخين و الآثاريين. , ومن ملاحظاتها المهمة ، ان البوابة الرئيسية الجديدة للقلعة شوهت منظر القلعة ، حيث أن البوابة القديمة كانت فى غاية الجمال و الفخامة و متناغمة مع معمار القلعة  و لكنها كانت بحاجة الى الترميم كأى أئر تأريخى قديم و لكن النظام الصدامى بدلا من ترميم البوابة القديمة قام ببناء بوابة جديدة تذكرنا بالبوابات السومرية . !!
 هذه القلعة الفريدة ، التى عبثت بها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1963 : خربت بيوتها و أهملت الخدمات لسكانها الفقراء الذين سكنوا فى القلعة بعد أن هجرها سكانها الأصليين من وجهاء المدينة و أشرافها    ، و لتتحول القلعة الى خرائب و أنقاض ما عدا عدد محدود من الدور التى أستملكتها الحكومة فى أوقات مختلفة . و تقوم منظمة اليونسكو حاليا  بترميم الدور الواقعة على أطراف القلعة التى تشكل سورا دائريا ، كانت بمثابة أحد الخطوط الدفاعية عنها فى العهود الغابرة ، حيث تصدت القلعة و سكانها الشجعان للغزاة عبر التأريخ  .
أما عن المبانى الجديدة فهى فعلا  أهم معالم أربيل اليوم ، و كنا نتمنى  أن تكون هذه المبانى
 و فق تصميم هندسى أساسى  ( ماستر بلان ) حديث يليق بأربيل و ليس وفق التصاميم الهجينة و أهواء المستثمرين ، فالمبانى الجديدة فى أربيل لم تنشأ وفق نسق معين أو طابع متناغم و واضح  فى كل منطقة حسب وظيفتها ، فكل مستثمر يبنى وفق التصميم الذى يعجبه أو يحقق له أكبر عائد مادى بصرف النظر عن المعايير المعمارية و الجمالية   و فى النهاية نجد فى أربيل بنايات من كل شكل و لون لا يجمعها جامع ، و لا تتمتع بقيم معمارية و جمالية عالية ، و كما لاحظت المهندسة المعمارية العراقية اللامعة شيرين أحسان شيرزاد ، فى حوار مع جريدة ( الشرق الأوسط اللندنية ، أن المبانى الجديدة فى أربيل ، ديناصورات كونكريتية !!!
أما الطرق و الشوارع الحديثة ، فهى جميلة حقا و لكن المناطق الخضراء فى المناطق الشعبية  شحيحة بالقياس الى أحياء أربيل الجديدة .
 وهى أقل من المعاييرالعالمية ، فمدينة موسكو على سبيل المثال ، فيها حوالى 30متر مربع من المساحة الخضراء لكل فرد ، أما فى أربيل فأن هذه المساحة أقل من ذلك بكثير ، و ثمة مشروع تحدث عنه محافظ أربيل لوسائل الأعلام المحلية و العربية  فى مناسبات عديدة على مدى السنوات الماضية  و هو مشروع  الحزام الأخضر حول مدينة أربيل ، و لكن  لا يبدو ان هذا المشروع سينفذ قريبا ،لأن المشاريع الحكومية لا تنجز فى مواعيدها و هذا المشروع تحديدا لم تتم المباشرة به أصلا  رغم مرور فترة طويلة على الأعلان عنه ..
و مما يلفت النظر ، أن السائحة الروسية تتحدث طويلا عن سوق الصاغة فى  القيصرية الأثرية فى المدينة و تفسر سر أقبال النساء الكرديات على شراء الذهب ، و تقول  بأن أقتناء الكرديات للذهب ، ليس لأغراض الزينة فقط ، بل كضمان للمستقبل .   كما لاحظت تفاصيل دقيقة عن معاناة المرأة الكردية لا يمكن ان تكتبها سوى أمرأة ذكية ، قوية الملاحظة.
زارت السيدة ( سوكول ) الأسواق و الجامعات و المؤسسات التربوية و منظمات المجتمع المدنى  و المساجد و الكنائس  و لكن اهتماماتها تركزت على جوانب محددة من الواقع الكردستانى .
و لم تنس السيدة سوكول أن تتجول فى حى ( عينكاوة ) المسيحى التى يختلف فيه نمط الحياة عن بقية أحياء المدينة ، لأن ( عينكاوة )  أكثر أنفتاحا سواء فى العلاقات الأجتماعية أو طراز الأزياء النسائية   أو تمضية أوقات الراحة . فى ( عينكاوة ) نوادى عائلية و ليلية و متاجر للمشروبات الكحولية وهذا ما لا نجده فى المناطق الأخرى من أربيل و مكاتب مئات الشركات الأجنبية . و بقربها مقر الوكالات التابعة للأمم المتحدة .
الجفاف و التصحر يزحفان من الجنوب نحو أقليم كردستان ، المياه تشح  و الأمطار لم تعد بالمستوى السابق و حتى العواصف الرملية يقول الكرد عنها مازحين ،  انها قادمة من العراق.
 المناطق الحدودية و خاصة مع أيران مزروعة بملايين الألغام التى تركها صدام هدية ( للشمال الحبيب )  و لا تتوفر خرائط عسكرية تبين مواقع الألغام المزروعة  مما يشكل عائقا رئيسيا لأزالتها . و الفلاحون الكرد  يسوقون قطعان الماشية فوق هذه المناطق لأكتشاف الألغام !!
أرض الكرد رائعة ، فقد أنعم الله عليها بكل شىء ، ماعا البحر . قال لى  مقاتل كردى ( و الكلام للسيدة سوكول )  : أن لا  أصدقاء للكرد سوى الجبال . و ينبغى أن نفسر كلمة ( الجبال ) بمعنى أوسع . الجبال بالنسبة الى الكردى – تتطابق مع مفهوم الوطن و الجمال و الطبع الكردى . االزوار الكرد الذين التقيت بهم فى موسكو قالوا لى  بتعاطف : " موسكو جميلة ، و لكن ليس عندكم جبال "
و رغم وجود اخنلاف فى الثقافة و التقاليد  و فى مفهوم الجمال بيننا و بين الكرد ، الا أنها متشابهة الى حد بعيد ، و  أتمنى ان ينقذ جمال الأرض الكردية ، السلام الهش .

و لم تقتصر جولة ( سوكول ) على أربيل العاصمة بل زارت محافظة دهوك أيضا و  كل البلدات التابعة لهما . و خلال هذه الجولة ألتقطت مئات الصور الخلابة للطبيعة الكردستانية الساحرة ، التى أثارت أعجابها الشديد ، لدرجة أنها قالت : هذه جنة الله على الأرض ، و منطقة سياحية بكر لم تستغل كما ينبغى لحد الآن . و نحن نقول ( صح النوم يا مديرية السياحة الكردستانية ) .
ولم تكتف السيدة ( سوكول ) بأبداء أعجابها بأنجازات أقليم كردستان ، بل و جهت أنتقادا
 لا ذعا الى السلطات التى أهملت تطوير الريف الكردستانى و هى تقول أن حياة الفلاحيين الكرد بقيت كما كانت طوال القرون الماضية و لم يطرأ عليها أى تغيير جوهرى.
و يبدو أن السائحة الروسية خبيرة فى الفن التشكيلى ، فقد درست النصب و التماثيل المنتشرة فى المدن و البلدات الكردستانية و توصلت الى نتيجة رئيسية مفادها  ، أن هذه الأعمال لا علاقة لها بالفن ، بل هى مجرد نتاجات بدائية لـ( فنانين ) لا يمتلكون الموهبة و القدرة على أبداع نتاجات تنتمى الى الفن الحقيقى .جودت هوشيار - موسكو
jawhoshyar@yahoo.com



169
واحة الأمن و الأمان فى العراق المعذب -1
( أنطباعات سائحة روسية عن أقليم كردستان اليوم ) 
جودت هوشيار
 حسب الأحصاءات الرسمية الروسية ، يعيش فى  الأتحاد الروسى ما لا يقل عن مائة ألف كردى ، و بخاصة فى المدن الكبرى مثل موسكو و بطرسبورغ و كراسنودار و غيرها. و  يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة ، اسوة بمواطنيهم الروس ، كما يعيش فى جموريات ما وراءالقفقاز و آسيا الوسطى ، ما لا يقل عن 300 ألف كردى سكنوا هذه البلاد منذ زمن بعيد  ، أى ان أجمالى عدد الكرد فى هذه الدول ، ليس كبيرا ، و لكن رغم ذلك ، لهم نشاط سياسى و اقتصادى و أجتماعى و ثقافى كبير ,  و يتجلى هذا النشاط خصوصا فى مجال الأعلام الألكترونى، فثمة اليوم عشرات المواقع الألكترونية الكردية المتقدمة  التى تنشر بأحدى اللغتين الكردية أو الروسية  أو بكليهما معا ،  كل ما يتعلق بالشأن الكردى  فى روسيا و  و الدول الأخرى .  و فى الوقت نفسه تولى أهتماما كبيرا بما يحدث فى الوطن الأم ( كردستان ) الكبرى  بأجزائها الأربعة ، و  على الأخص بكل ما يتعلق بــ(  كردستان العراق ) ، فالكرد فى روسيا قلوبهم مع الشعب الكردى فى الوطن الأم ، و يتابعون بشوق و لهفة كل ما يحدث فيه ، يفرحون لأفراحه و يحزنون لأحزانه . و من  المواقع الألكترونية  المتميزة  التى تنقل أخبار أقليم كردستان أولا بأول و تنشر العديد من الدراسات و المقالات التحليلية و الريبورتاحات و التحقيقات الصحفية و الصور  حول الشأن الكردى  ،  موقع ( كردستان ) باللغة الروسية  ، و هو موقع متطور و شيق ، يلتزم  بالمعايير المهنية و الأخلاقية للصحافة الألكترونية الرصينة . و لعل أطرف ما ينشره هذا الموقع هو  ( انطباعات الأعلاميين و الرحالة و السائحين الروس ) عن كردستان العراق ، أى المنطقة الوحيدة فى العراق التى تتمتع بالأمن و الأمان و تتطور بوتائر متسارعة فى كافة مجالات الحياة بأعتراف الجميع  , و قد نشر هذا الموقع مؤخرا ، أنطباعات سائحة روسية و هى السيدة ( ى. سوكول ) التى قامت بجولة فى أنحاء أقليم كردستان  فى منتصف العام الحالى .
تقول  السيدة سوكول : منذ عدة سنوات يواصل الرحالة و  السائحون الروس و الأجانب أكتشاف واحة للأمن وسط  الأراضى العراقية التى  مزقها الأرهاب . و ربما كان هذا الأمر هو الذى يجذب الأجانب الى كردستان و يجعل رحلاتهم ممتعة . حينما  ترجع الى بلدك ،  يمكنك القول  : ( كنت فى العراق )  . و عندما ينظر اليك السامع بعيون جاحظة من  الدهشة ، يمكنك أضافة ( أقليم كردستان) . حقا ان الكثيرين يعرفون اليوم بأن المنطقة الكردية  فى العراق : هى المنطقة الوحيدة فى العراق،  التى تضمن الأمن و الأمان ، ماديا و دينيا و سياسيا
الشباب الأوروبى المولعون بالرحلات " غير الأعتيادية " يقصدون المنطقة الكردية سعيا لأنطباعات جديدة : أنها منطقة جاذبة للشباب ، و سوق واعدة لرجال الأعمال ، و اليها يعود اللاجئون الكرد من أوروبا سعيا لتحقيق الذات و خدمة الوطن . و مسيحيون عراقيون   يلجأون  اليها هربا من الأرهاب فى مناطق العراق الأخرى  و بحثا عن ملجأ آمن .
 التاس يأتون الى كردستان ليس فقط  بحثا عن الأمن ، بل أيضا  للبحث عن  فرص عمل أو التمتع بجمال طبيعتها الخلابة أو التعرف على  ثقافة مختلفة و على  التسامح السياسى و الدينى السائد فيها  . كردستان اليوم تتمتع بكل هذا .
عندما تطأ قدماك أرض كردستان ، من الصعب عليك ان  لا تحس بخصائص الزمن الذى  يمر به الأقليم الكردى الفتى ، هذا أول أقليم كردى رسمى , و لديه فرصة جيدة ليتحول إلى مجتمع ديمقراطي ، متطور أقتصاديا . نأمل أن تكون هذه المعركة السلمية هى المعركة الأخيرة  للكرد من أجل الاستقلال ، على الرغم من انه قد يكون أكثر المعارك  صعوبة.
 أتذكر العديد من الأعلام الوطنية التى  تزين الشوارع والمتنزهات والحدائق ، و ترفرف فوق المبانى الرسمية و المصانع و فى جميع المدن و البلدات الكردية . قالوا لى : هذه هى الأرض الكردية . مرحبا بكم في كردستان!
 حب الكرد لوطنهم ، و الأداء الجيد للأجهزة الأمنية والتطور السريع -- هذه هي الانطباعات الرئيسية الثلاثة لكافة من زار هذه المنطقة  فى الآونة الأخيرة .و هى أيضا انطباعاتي الرئيسية عن رحلة الى كردستان العراق.
جودت هوشيار - موسكو
jawhoshyar@yahoo.com


170
عودة الوعى الى المثقفين العراقيين
 
 
                                                                                                             جودت هوشيار
 
يذكر الكاتب الروسى ايليا ايرنبورغ ( 1893 – 1967 ) فى مذكراته  التى نشرها قبيل و فاته ، تحت عنوان " الناس و الأعوام و الحياة " ، أن الجيش الهتلرى لم يلق مقاومة حقيقية فى الأيام الأولى  للأجتياح الألمانى للأراضى السوفيتية – فى  حزيران عام 1941 -  لا من قبل الجيش السوفييتى و لا من قبل  السكان المحليين ، ويرجع السبب فى ذلك – كما يقول الكاتب – الى ان الروس كانوا يعتبرون الألمان أمة متحضرة و متقدمة و لم يكونوا يتوقعون أبدا ان يلجأ الجيش الألمانى الى أساليب وحشية سٍواء فى معاملة أسرى الحرب أو السكان المدنيين
 
و لكن لم تمض سوى أيام معدودات على الغزو حتى قامت القوات الألمانية بأعدام أسرى الحرب بالجملة و أبادة و حرق البلدات و القرى الروسية خلال تقدمها فى عمق الأراضى السوفيتية . و وقف الروس مذهولين أمام الجرائم الفاشستية التى تقشعر لها الأبدان .و كانت هذه الجرائم سببا فى ازالة الغشاوة عن أعين المخدوعين بالدعاية الألمانية  و أعين المثقفين الرومانسيين المعجبين بالفلسفة و الأدب الألمانيين و أخذت مشاعر الأعجاب و الأفتتان تتحول تدريجيا الى غضب عارم  و عزيمة قوية لطرد الغزاة و أدى الى أندفاع  الشعب السوفييتى بشبابه و رجاله و نسائه  للتطوع فى الجيش الأحمر و الألتحاق بجبهات القتال او زيادة ساعات العمل و وتائر الأنتاج  فى جبهات العمل لتأمين أحتياجات الجيش من الأسلحة و العتاد و الذخيرة و الآليات و المؤن و المتطلبات الأخرى .
 
و هب الشعب السوفيتى كله للدفاع عن وطنه و مساندة الجيش الأحمر فى صموده البطولى و تشكلت فى المناطق المحتلة مقاومة شعبية مسلحة واسعة النطاق كبدت القوات الغازية خسائر فادحة ، و  كانت معركة موسكو فى شتاء عام 1941 بداية لهزيمة الجيش الفاشستى و تقهقره على كل الجبهات  و الذى انتهى بالنصر المؤزر للجيش السوفيتى و التوقيع على وثيقة أستسلام الجيش الهتلرى فى برلين فى 6 أيار عام 1945  .
 
و ها هو التأريخ يعيد نفسه من بعض الوجوه  و تتكرر التجربة الأليمة فى العراق بعد حوالى سبعين عاما و لكن فى ظروف أخرى مختلفة  . لقد كان المثقفون العراقيون  مقتنعين تماما  أن الشعب العراقى  - الذى  قدم تضحيات سخية  فى النضال ضد الدكتاتورية – ليس بمقدوره  اسقاط هذا النظام من دون عون عسكرى خارجى  ، و قبلوا على مضض  بالأجتياح  الأميركى  و كان يحدوهم الأمل فى أقامة نظام ديمقراطى ، يضمن الحرية و  المساواة  و يحقق  العدالة الأجتماعية   لكافة العراقيين ، بصرف النظر عن أنتماءاتهم القومية و الدينية و الطائفية   و يحقق سيادة القانون ويعمل على  تحديث المجتمع العراقى الذى تخلف كثيرا عن ركب التقدم الحضارى  بسسب حروب صدام العبثية و سياسته الرعناء ،
 
هذه الآمال راودت أذهان المثقفين العراقيين و هم يتذكرون التجربتين الألمانية و اليابانية ، حيث لم يتدخل الأحتلال الأميركى فى شؤون البلاد الداخلية و تركت الأمر للشعبين الألمانى و اليابانى لأعادة بناء ما خربته الحرب العالمية الثانية و قدمت لهما مساعدات مادية و معنوية هائلة  للنهوض من جديد .
 
و أضافة الى تلك التجربتين كان معظم المثقفين العراقيين المتنورين ،  يثمنون عاليا  القيم الأميركية فى الحرية و الديمقراطية و احترام حقوق الأنسان و سيادة القانون . و ينظرون بأعجاب الى التقدم العلمى – التكنولوجى الأميركى و الى نمط الحياة الأميركية و آفاقها الرحبة التى تفسح المجال لكل فرد فى تحقيق ذاته و بناء مستقبله .و كان الأعتقاد السائد أن القوات الأميركية ستنسحب بعد أنجاز مهمتها فى العراق أى اسقاط نظام صدام و أنجاز عملية التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل و سيشهد البلاد تحولا ديمقراطيا و أقتصادا مزدهرا . و ما الى ذلك من الأوهام الجميلة .
 
و لم يكن هؤلاء المثقفون يرون أميركا الثانية – ان صح التغبير – او الوجه الآخر لأميركا و السياسة العدوانية للمحافظين الجدد . لم يتذكر أى مثقف عراقى قبل الغزو حرب فيتنام القذرة و الجرائم البشعة التى ارتكبها ( اليانكى ) فى هذا البلد . كما نسى او تناسى مساندة أميركا لكل النظم الدكتاتورية فى أميركا اللاتينية وفى العالم العربى و مناطق أخرى فى العالم  و لم يكن اى منهم يشك فى قرارة نفسه أن صدام كان رجل أميركا فى المنطقة -  بعد سقوط النظام الشاهنشاهى فى أيران -  قبل ان يخرج عن طوره و يفكر فى الأستيلاء على الثروات النفطية لدول الخليج و يسعى الى زعامة العالم العربى . و لأن الولايات المتحدة لا تفكر الا فى مصالحها الستراتيجية و خاصة بعد أن تحول مركز الثقل العالمى الى الخليج العربى و المحيطين الهندى و الهادىء ،  و لم يكن اسقاط النظام الدكتاتورى الا من اجل تأمين هذه المصالح و ليس حبا فى العراق و العراقيين .
 
لقد خدع المثقفون العراقيون أنفسهم أو خدعوا بآلة الدعاية الأميركية التى تهيمن على الأعلام العالمى الى حد كبير . و ربما كان أحد اسباب سقوطهم فى الفخ الأميركى هوأن المعارضة العراقية  علقت كل آمالها على التدخل العسكرى الأميركى . ، كما أن العراقيين عموما كانوا متلهفين لأسقاط  نظام  فاشى أرتكب جرائم  الأبادة الجماعية و  زج  بمئات الألوف من شبابهم و رجالهم فى أتون حروبه الدموية  و قد أبتهجوا حقا بسقوطه
 و لم يكن مهما من أسقط الصنم و لكن المهم هو زوال عهده  الأسود البغيض .
 
و فى الفترة التى أعقبت سقوط النظام الدكتاتورى و رغم أن كل الدلائل كانت تفضح أهداف  الغزاة  أبتداءا من التشجيع على تدمير المؤسسات الحكومية و نهب و سلب محتوياتها و القضاء على الذاكرة التأريخية للعراق و العراقيين  و وصولا  الى ترك الحدود مفتوحة لكل ارهابى المنطقة و العالم  من اجل نقل المعركة ضد الأرهاب الى بلاد الرافدين ليكتوى الشعب العراقى بنارها و تبقى الولايات المتحدة بعيدة عن كل تهديد أرهابى محتمل  و رغم تشكيل ما يسمى  مجلس الحكم على اسس عرقية وطائفية و طابعه الديكورى الشكلى -  حيث  لم يكن  يحكم قط بل ينفذ أوامر بريمر -  و حل الجيش العراقى و لجؤ المحتل الى تأسيس أحزاب و منظمات كارتونية و نهب ثروات البلاد ، حيث  ان واردات النفط العراقى و منذ أكثر من ثمان سنوات تذهب الى صندوق تنمية العراق فى واشنطن و الذى تتحكم فيه  الأدارة الأميركية و ليس الحكومة العراقية .
و رغم ان الحكومات العراقية المتعاقية التى تشكلت منذ الغزو و لحد الآن تأتمر بأوامر واشنطن و لا تملك الحرية فيما تفعل و خاصة فى قضايا الأمن و الأقتصاد .رغم كل ذلك و قف المثقفون موقف المتردد ، و ظلوا يخدعون أنفسهم بأن كل ذلك ناجم عن أخطاء بريمر . و هذا الأعتقاد ينم عن سذاجة مفرطة أو لنقل بأن هؤلاء كانوا ما يزالون متشبثين  بآمالهم التى تتناقض تماما و ما يحدث على أرض الواقع من تمزيق للنسيج الأجتماعى العراقى وتشجيع للزمر الأسلاموية  الرجعية   حتى النخاع و التى فرضت  على العراقيين –  بقوة  السلاح و القتل و الذبح و الأختطاف و التهجير – نمط  عيش ظلامى متخلف الى أبعد الحدود .
 
و يبدو ان هؤلاء المثقفين  لم يكونوا مستعدين للتخلى عن أحلامهم الجميلة و صدقوا الأكذوبة الكبرى ، بأن بريمر هو الذى تسبب فى كل ( الأخطاء الأميركية فى العراق ) .و كانوا يقيسون الأمور على وفق ما يجرى فى الوطن العربى حيث ينفرد الحاكم المطلق فى اتخاذ قرارات مصيرية دون الأحتكام الى رأى البرلمان او الرأى العام . اما فى الدول الغربية المتقدمة و منها الولايات المتحدة فأن الأمر مختلف تماما ، لا شىء يحدث  مصادفة  و لا قرار يتخذ بشكل فردى دون استشارة جهات متعددة و ضمن السياسة المقررة . و من السخف المطلق اعتبار كل القرارات الخطيرة التى اتخذها بريمر أخطاءا شخصية ، لأنه لا يوجد قرارات شخصية فى دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية .و قد يكون سبب تضليل المثقفين العراقيين لأنفسهم هو أن أزلام العهد البائد و أصحاب كوبونات النفط  من سياسيين و أعلاميين مرتزقة من  كل صنف و لون قد وقفوا  ضد التدخل الأميركى لأسقاط صدام و لم يشأ هولاء المثقفون أن يصطفوا الى جانب المنتفعين من النظام الدكتاتورى الغاشم .
 
ان الشعب العراقى بأسره أصيب بخيبة أمل شديدة تحولت الى استياء عام و غضب عارم لما قام به جيش  الأحتلال من جرائم حرب و جرائم ضد الأنسانية بحق المدنيين العراقيين المسالمين   ( تذكروا :  مشاهد التعذيب الجنسى و الجسدى فى سجن أبو غريب و أغتصاب فتاة فى عمر الزهور فى المحمودية و أبادة عائلتها بالكامل و قتل عشرات الأبرياء فى حديثة  و أطلاق النار على المارة فى ساحة النسور من قبل ما يسمى شركة بلاك ووتر الأمنية ، التى جندت أعتى المجرمين لأستباحة الدم العراقى لأتفه الأسباب  و غيرها من الجرائم ،
لقد عانى الشعب العراقى كثيرا فى ظل الدكتاتورية الصدامية و لكن الأوضاع العامة فى العراق  لم تتحسن بعد الغزو ،  بل  اصبحت حياة العراقيين أشبه بالجحيم . لا أعمار و لا تنمية و لا ديمقراطية . انتخابات شكلية و برلمان لا تمتلك أدنى سلطة رقابية و حكومة عاجزة ،  خائرة القوى تتسلح ببلاغة المالكى  و وعوده التضليلية الكاذبة ، عوضا عن العمل و البناء و الأنتاج .
و رغم صولات الفرسان و زئير الأسد و فحيح الثعبان ! لا أمن و لا أمان فى عراق اليوم . و كيف يتحقق الأمن و الأمان ، اذا كانت القوى الأمنية تتكون أساسا من ميليشيات الأحزاب الدينية التى تنفذ الأجندة الأيرانية فى العراق . هذه الميليشيات - الى جانب الأرهاب السلفى القادم من دول الجوار - هى التى تتحكم برقاب العراقيين و تقتلهم بالقنابل المزروعة و الكواتم  فى وضح النهار و أمام أنظار الحكومة  فى قلب العاصمة بغداد و  فى المحافظات الأخرى الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية   . صحيح أن تحسنا طفيفا قد طرأ على الوضع الأمنى و لكن ذلك حدث بفضل تغيير الستراتيجية الأميركية فى العراق ( تشكيل الصحوات  ) و تقسيم بغداد الى مناطق طائفية  شبه معزولة بعضها عن البعض الآخر بالجدران الكونكريتية العالية  و ليس بفضل الصولات و الحملات  الأمنية المالكية الأستعراضية ..
معظم المثقفين العراقيين يدركون اليوم ان لا أمل يرتجى من حكومة المالكى ،  التى أهدر حوالى (400) مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية  فى مشاريع وهمية او مشاريع فاشلة نفذت بأسعار خيالية ، حيث ذهب الجزء الأكبر من هذا المبلغ الى جيوب أمراء الفساد و المنتفعين من الحكم الرجعى  و تحولت الى حسابات بنكية و عمارات و قصور فى الخارج .
كل نوحى الحياة قاتمة و كئيبة فى عراق المالكى و لا وجود لدولة حقيقية ، بل زمر تتقاسم الغنائم و  تتخذ من الدين ستارا لأرتكاب الكبائر و الموبقات و تفرض على الناس نمطا متخلفا من الحياة أشبه بالقرون الوسطى . الزمر الحاكمة تتدخل فى  حياة الناس و اسلوب حياتهم . كل هذا يحدث فى القرن الواحد و العشرين و فى عصر التحولات الديمقراطية فى المنطقة و العالم .
و لا حاجة بنا الى و صف حكم المالكى لأن العراقيين قد خبروا هذا الحكم من خلال معانتهم اليومية . و انتهاك أبسط حقوقهم الأنسانية التى نص عليها المواثيق و العهود العالمية  الخاصة بحقوق الأنسان . و عبثا يحاول المالكى تسخير كل امكانات الدولة المادية للبقاء فى الحكم  و تلميع صورته . لأن نهايته ، لن يكون أفضل من الطغاة الذين كنستهم ثورات الربيع العربى الى مزبلة التأريخ .
 
الأغلبية الساحقة من المثقفين العراقيين خبروا الحياة فى ظل حكومة المالكى الرجعية المتخلفة و عرفوا الحقيقة المرة : انهم كانوا مخدوعين بالوعود المعسولة للمالكى و الدجالين الآخرين ، رافعى الشعارات الكاذبة. و من يتابع ما ينشر فى   الفضاء الثقافى و الأعلامى العراقى ( فى الداخل و الخارج ) يرى بوضوح تحولا كبيرا فى توجهات الكتاب و الأعلاميين  و آرائهم التى تختلف تماما عما كانوا يروجون له ، عقب سقوط  النظام الديكتاتورى و بأملون فى تحقيقه . و الأمثلة على ذلك جد  كثيرة .  و لم يبق حول المالكى و رهطه الحاكم أى مثقف حقيقى ، سوى شلة من أشباه المثقفين و أنصاف المتعلمين من مزورى الشهادات و الأنتهازيين و الوصوليين و الفاشلين اللاهثين وراء فتات الموائد  .
عودة الوعى الى الأغلبية الساحقة من  المثقفين العراقيين بارقة أمل حقيقية  و ضؤ ينير النفق المظلم الذى دخل فيه العراق .  فتحية لكل المثقفين و المبدعين العراقيين الذين يناضلون اليوم من اجل الحرية و الكرامة الأنسانية و حياة أفضل لهم و لسائر العراقيين و العراقيات .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

171
الأساطير الكوردية في الأدب العالمي


1 - مقدمة
 
للشعب  الكوردي تراث فولكلوري  هائل , لم يدون منه الأ الشيء القليل ,  و ثمة عدد كبير من المستشرقين والرحالة  ورجال الفكر  الذين زاروا  كردستان وأحتكوا بالشعب الكردي في  أعماق  الريف الكردستانى ، فوجئوا بضخامة هذا التراث وتنوعه  وثرائه الباذخ ،  لذا ليس من الغريب أطلاقا أن تستأثر الحكايات والأساطير الكردية بأهتمام  عدد من أبرز أدباء وفناني عصرنا . مثل الشاعر التركي  ناظم حكمت  والموسيقار السوفيتي أرام  خاتشاتوريان والكاتب الروسي العالمي أيفان يونين، الذي أستخدم أحدى الأساطير الكردية واستمد منها مادة لأحدى أقاصيصه المشهورة وهي " الشباب والشيخوخة "  التي تقدم فيما يلي ترجمة لها من اللغة الروسية مباشرة . وهذه الاسطورة تدخل ضمن الأساطير التي أصطلح على تسميتها  بأساطير الخلق والتكوين والتي تصور خلق الكون والأنسان  وتطور الحياة على وجه الأرض, وليس من العسير على المرء أن يلاحظ أن الكثير من الحكايات والأساطير للشعوب المختلفة  تتشابه في مضامينها  وأن تنوعت في أشكال صياغتها و فى تفاصيلها .
وأيفان بونين الذي يكاد يكون مجهولا في بلادنا  يعتبر بأجماع  النقاد الروس من خيرة كتاب القصة القصيرة في روسيا وأكثرهم موهبة ونبوغا وشهرة بعد تشيخوف , و بفضل هذين الكاتبين العظيمين بلغت القصة الروسية القصيرة أوج نضجها وأكتسبت  الملامح المميزة لها  ومايزال تأثيرهما قويا على كتاب القصة القصيرة  على الصعيدين الروسي والعالمي .
ولد بونين في مدينة (فورونيش) عام 1870 فى عائلة أرستقراطية نبيلة أنجبت العديد من الفنانين والمفكرين , ولقد بدأ حياته الأدبية  شاعرا ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة حين نشر مجموعة  أشعاره الأولى , نشرت هذه  المجموعة في وقت أحتل الأدب والفن الروسيين مكان الصدارة  بين الآداب والفنون الأوربية حيث قدمت روسيا للعالم في وقت قصير للغاية العديد من الكتاب والشعراء والفنانين العباقرة مثل تولستوي وتورغيتيف وتشيخوف ويلوك وأندرييف وغوركى و ريسكي –كارساكوف  و جايكوفسكي وشاجال وكاندينسكي و غيرهم  الذين يطلق عليهم " النخبة الجبارة "
لقد كانت روسيا في  اّواخر القرن الماضي رغم التطور الصناعي الضعيف فيها مركزا للأشعاع الفكري والفني والثقافي , ظهر يونين في وقت كان هؤلاء العظام في  اّوج مجدهم , وكانت نجومهم ساطعة في سماء الفن والأدب الروسيين ، غير أن هذا لم يمنعه من شق طريقه بسرعة و قوة و ثقة ، حيث قوبلت  مجموعته بكثير من الأستحسان والأطراء من قبل اكبر نقاد ذلك الوقت , ومنح على أترها جائزة بوشكين. وكانت هذه الجائزة تعتبر أرفع وسام أدبي في روسيا القيصرية على الاطلاق ,ثم  منح الجائزة نفسها حين ترجم للشاعر الامريكي (لونجفيلو) قصته الشعرية (هياواثا) كما ترجم العديد من قصائد  بيرون وغيره من شعراء الغرب .
وفي سنة 1909 أنتخب عضوا في الأكاديمية الروسية , ورغم أنه ظل طوال حياته يكتب  الشعر حتى أن أحد النقاد قال عنه : أن بونين لو لم يكتب في خياته الا تلك القصائد التي نشرها فأنه كان سيظل  علما بارزا في تاريخ الأدب الروسي , غيي أن بونين كاتب متعددد المواهب فهو معروف ككاتب نثر من الطراز الاول , كتب الكثير من القصص القصيرة والقصص القصيرة الطويلة التي تعد من أروع وأجمل ما كتب في الأدب الروسي من قصص في النصف الأول من هذا القرن .
ولقد أحدثت قصته القصيرة الطويلة (القرية) بوجه خاص دويا هائلا في الأوساط الادبية حين نشرها في عشية ثورة أكتوبر الأشتراكية غير أن ما يدعو للأسف حقا هو أن بونين بحكم أنتمائه الطبقي ونشأته الأرستقراطية لم يفهم الثورة ولم يتقبلها فاّثر الهجرة الى باريس عام 1917 وعاش فيها الى اّخر أيام حياته حيث توفي في عام 1952 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين .
 
ليونين رواية طويلة واحدة نشرها عام 1933 تحت عنوان " حياة  ارسينيف " نال من أجلها جائزة نوبل للأدب في السنة نفسها , وكان بذلك أول روائي روسي يحصل على هذه الجائزة , وخلال أقامته في باريس  نشر أضافة الى هذه الرواية المشهورة العديد من المجاميع القصصية من أشهرها مجموعة  " الممرات الداكنة "  الرائعة  التي نشرت في نيويورك عام 1943 في ظروف الحرب العالمية الثانية العصيبة , وقصص هذه لمجموعة و ان  كانت جميعها تقريبا تتحدث عن الحب  , الا أن اسلوب بونين الشاعري  المركز والدقيق  أتاح له الكشف عن أعمق أعماق النفس  البشرية التي ظلت نقية على الرغم من محاولات النظام القيصري الأستبدادى تشويهها وطمسها , غير أن بونين شأنه في ذلك شأن أي فنان واقعي أصيل لم يعزل الحب قط عن تناقضات النظام الأجتماعي.
 
 أن قصص بونين مترجمة الى معظم اللغات العالمية ، كما نشرت مجموعة مؤلفاته الكاملة مرات عديدة في باريس وبرلين وموسكو , وتحظى قصصه بشعبية عظيمة داخل روسيا و خارجها حيث تحول العديد منها الى أفلام سينمائية و مساسلات تلفزيونية  وعروض مسرحية  فى بلدان كثيرة و منها روسيا و فرنسا و الولايات المتحدة الأميركية و نشرت عنه عشرات الكتب و مئات الدراسات و المقالات بمختلف اللغات العالمية  .
و تحتفل الأوساط الثقافية الروسية كل عام بذكرى مولده على نطاق واسع و تخصص المجلات الأدبية مساحات واسعة لأحياء ذكراه و الأشادة بفنه الرفيع و موهبته الخلاقة و دوره فى تطوير الأدب الروسى .
’ أما هذه الأقصوصة  التي رأينا  من الضروري ترجمتها من اللغة الروسية مباشرة ، فقد كتبها بونين في باريس عام 1936م ونشرت في نفس العام  في مجلة روسيا المصورة ثم أعيد طبعها ضمن مجاميعه القصصية المختارة ومؤلفاته الكاملة . ولقد قامت مجلة (اوكونيوك) السوفيتية الواسعة الأنتشار والتي تصدر في موسكو عن دار ( برافدا) للطبع والنشر بأعادة نشرها عام 1956   .
و هذه القصة – شانها فى ذلك شان معظم قصص بونين الأخرى – تبحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشر جميعا بشكل دائم و بخاصة المبدعين و المفكرين منهم  حول معنى الحياة والغاية من خلق الإنسان .
 
2 - القصة (*)
الشباب والشيخوخة

أيام الصيف الرائعة والبحر الأسود الهادئ , السفينة مثقلة بالمسافرين   والأمتعة  . زليس  هناك موطئ قدم على ظهرها من المقدمة  وحتى المؤخرة . الابحار الطويل وفي أتجاه  دائري – القرم , القفقاز , سواحل الأناضول , القسطنطينية .
الشمس لاهية , السماء زرقاء , والبحر  بنفسجي تختلط فيه جلجلة السلاسل المدوية بشتائم البحارة وصراخهم  - الى الأعلى  ! الى الأسفل .
قمرات الدرجة الأولى خالية وفسيحة وتشع بالنظافة , القذارة والضيق بين الكتل البشرية من ذوي الجنسيات المختلفة  الذين يشغلون الدرجات الأخرى على ظهر السفينة . وقرب المكائن  الساخنة  والمطبخ الفواح , في  الزوايا وتحت المظلات , بين الجبال  والسلاسل الممتدة على سطح مقدم السفينة , هنا تنتشر رائحة قوية وكثيفة , هي ساخنة وطيبة حينا , ودافءة وكريهة في أحيان أخرى , ولكنها ابدا مثيرة بنفس الدرجة , رائحة السفينة  , ممتزجة بطراوة الحر .
هنا فلاحون روس وفلاحات روسيات , هنا الأوكرانيون  والاوكرونيات , وقساوسة من أفون , هنا الأكراد والجورجيون واليونانيون .
الجورجيون يمرحون طوال الوقت فهم  أما يغنون أو  يرقصون أزواجا  في غنج ودلال وقد شمروا عن سولعدهم وأخذوا يقفزون بين الجمهور في خفة , الحجاج الروس المتوجهون  الى فلسطين لا يكفون عن شرب الشاي , ثمة فلاح روسي , طويل القائمة غائر الكتفين ذو اللحية صغيرة صفراء وشعر مسترسل يقرأ في الكتاب المقدس وأمرأة وحيدة قرب المطبخ لا تكف عن التحديق فيه في تحد وأصرار , تلبسس  بلوزة حمراء وتلف شعرها الأسود الخشن بشارب  أخضر خفيف , رست السفينة الى  في حوض للسفن عند المضيق , نزلت الى الساحل وعندما عدت  رأيت على  سلم الباخرة مجموعة من الأكراد المسلحين, يصعدون الى السفينة يتقدمهم شيخ ضخمم الجسم , عريض المنكبين , في الملابس الكردية , يتمنطق بحزام مشدود حول قده النحيل بقوة ومرصع بقطع فنية , الاكراد الذين كانوا معنا على ظهر السفينة  , هبوا لأستقباله وأفسحو له مكانا بينهم , وبدأت حاشية الشيخ بفرش المكان بالسجاجيد العديدة , ووضعت عليها المخدات , جلس الشيخ في المكان المهيئ له في عظمة وهيبة , كانت لحيته  بيضاء ناصعة ووجه أسمرا غامقا لفحته الشمس   ’ كانت عيناه العسليتان تشعان ببريق مدهش , أقتربت منه وجلست القرفصاء  ’ وحييته ثم سألته بالروسية :
-        أأنتم من القفقاز ؟
-        بلادنا أبعد من القفقاز نحن أكراد .
سألته عن وجهته فرد علي في تواضع ولكن في زهو وأعتداد :
-        الى أسطنبول .. للقاء الباديشاه نفسه , لاقدم له شكري وأسلم له هديتي وهي عبارة عن سبعة مجالد , كان لي سبعة أبناء أرسلهم الباديشاه كلهم الى الحرب , الواحد تلو الاّخر , لقد مجدني الباديشاه سبع مرات .
كان بيننا شاب يوناني من مدينة كورجي , ممتلىء الجسم , بالغ الأناقة  , يعتمر طربوشا دمشقيا  ويلبس بدلة رصاصية وصدرية بيضاء , وينتعل حذاءا براقا ذو أزرار جانبية وتضاحك :
تسى ,تسى , تسى  ثم أردف قائلا :
-        عجوز وبقى هكذا وحيدا .
نظر الشيخ الى طربوش الشاب الوسيم وقال له ببساطة :
-        ما أغبااك ! أنت ستشيخ  وتصبح عجوزا , أما أنا فلن يحدث هذا معي أبدا , أتعرف حكاية القرد ؟
فأبتسم الشاب الوسيم في ريبة وقال :
-        أي قرد ؟
-        أذن فأصغى الى ما سأقوله  !
لقد خلق الله الأرض والسماء , أتعرف هذا ؟
- حسنا أعرف هذا ثم ماذا ؟
ثم خلق الله الأنسان وقال له : أنت أيها الأنسان  سوف تعيش على الأرض ثلاثون عاما , حياة سعيدة هانئة , سوف تفرح  ويخيل اليك أن كل شيء على الأرض قد خلق من أجلك , أمسرورا أنت بهذا ؟
وفكر الأنسان في نفسه : ما أجمل هذه الحياة ! ولكن أأعيش على الأرض ثلاثوين عاما فقط ؟ وقال :
-        اّه ما أقصر هذا العمر !
وسأل الشيخ الشاب الوسيم في سخرية : أتسمع ؟
فأجابه الشاب :
-        أجل
-        ثم خلق الحمار وقال  له :
سوف تنقل الناس والأمتعة الثقيلة ويهدك التعب  ويضربك الناس على رأسك بالأعواد الغليظة فما هو العمر الذي تريده ؟
وأجهش الحمار بالبكاء وأرتفع نحيبه وقال :
-        هذا عمر طويل يااّلهي ! أعطني نصفه فقط .
وتوسل الأنسان  الى الرب وطلب أضافة نصف عمر الحمار الى عمره , وأستجاب الرب  لألتماسه , وهكذا  أصبح عمر الأنسان خمسا واربعين عاما , وسأل الشيخ الشاب الوسيم وهو يرمقه بنظراته :
-        أن الأنسان كان محظوظا , أليس كذلك ؟
و رد الشاب دون أن يدري ما يرمي أليه  الشيخ بهذه الكلمات :
-        نعم . لا بأس بذلك , ثم أضاف الشيخ قائلا  :
ثم خلق الكلب  وأعطاءه من العمر ثلاثين عاما وقال له :
ستعيش طوال عمرك حانقا , سوف تحرس أموال سيدك , ولا تأمن جانب أي أنسان غريب  ,  سوف تنبح في وجوه المارة , ولا تنام الليل , بل سوف تظل ساهرا من القلق . أتدري ؟ لقد ولول الكلب وبكى وقال :
-        اّه يااّهي ! يكفيني نصف هذا العمر , وأخذ الأنسان مرة أخرى يطلب أضافة هذا النصف أيضا الى عمره , فأستجاب الرب لرجائه .
-        كم أصبح مجموع الأنسان الاّن  ؟
فأجاب الشاب  وقد بدأ السرور على وجهه أكثر من السابق :
-        ستين عاما
-        ثم خلق الله القرد ومنحه من العمر ثلاثين عاما وقال له أنه سوف يعيش بلا عمل , بلا هموم , ولكن سوف يكون قبيح الوجه , أتدري ! وجه عار , ملىء بالتجاعيد , الحاجبان منحرفان نحو  الجبين , سوف يحاول هذا المخلوق أن يلفت الأنظار  , غير أن الناس سوف يسخرون منه , وهنا سأل الشاب الوسيم :
-        أذن فالقرد رفض أيضا نصف العمر الممنوح له ؟
نهض الشيخ من مكانه وتناول مبسم النرجيلة من يد أحد رجاله وقال – أجل رفض القرد أيضا نصف عمره  , وأضيف هذا النصف الى عمر الأنسان – ثم عاد الى مكانه بعد أن أخذ نفسا من النرجيلة , وصمت  وأخذ يرنو ببصره الى شيء ما أمامه  , وكأنه نسى ما حوله تماما , وقال دون أن يوجه  كلامه الى أحد :
- عاش الأنسان على الأرض ثلاثين عما من عمره كأنسان , أكل وشرب وحارب , رقص في الأعراس , أحب النساء الجميلات , أما الخمسة عشرة عاما من عمر الحمار فقد أشتغل وجمع المال , وقضى الخمسة عشرة عاما من عمر الكلب  يحرس ماله ويحافظ عليه , يعوي في وجوه الاّخرين ساخطا ويسهر الليالي قلقا , ثم أصبح مكروها وعجوزا مثل ذلك القرد . والناس من حوله يهزون رؤوسهم ويسخرون منه , ثم وحه كلامه الى الشاب الوسيم  وهو يحرك مبسم النرجيلة بين شفتيه :
- كل هذا سيحدث معك .
 وسأله الشاب
-        ولكن لماذا لم يحدث هذا معك ؟
-        أجل , لم يحدث هذا معي !
-        ولكن لماذا ؟
-          فأجابه الشيخ بصراة .
-        الناس الذين هم مثلي , نادرون , لم أكن حمارا , ولم أكن كلبا , فلماذا أكون قردا , لماذا أكن عجوزا !
 
--------------------
 
(*) أيفان بونين : مجموعة  المؤلفات الكاملة في تسعة أجزاء . الجزء الساابع ( المماشى الظليلة ) ،  دار نشر  الأداب ،  موسكو 1966  - ص292-295 .
 
جودت هوشيار - موسكو

172
المالكى ... نفاق لا ينتهى

                                                                                                                     جودت هوشيار
 
نقلت وسائل الأعلام  الموالية لحزب الدعوة الحاكم فى العراق مؤخرا ،  خبرا مفاده ان السيد نورى المالكى  رئيس الوزراء "  إستقبل بمكتبه الرسمي عائلة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
واطلع سيادته على أحوالهم المعيشية والمشاكل التي تواجههم ، ووعد بالعمل على توفير الرعاية اللازمة لهم، وإعادة حقوقهم.
من جهتها أعربت عائلة الزعيم عبد الكريم قاسم خلال اللقاء عن شكرها وتقديرها للرعاية التي أبداها السيد رئيس الوزراء لهم ، وإهتمامه بشؤونهم المعيشية
" و ذلك حسب بيان صادر عن مكتب المالكى
 
أول ما يتبادر الى الذهن لدى قراءة هذا الخبر ان المالكى "  الذى تحول خلال السنوات الخمس الماضية من جواد المالكى المغمور الى نورى المالكى المشهور و الى  الزعيم الأوحد و القائد الضرورة للعراق الجديد "  يقدر عاليا خدمات  قائد ثورة 14 تموز 1958 المجيدة ، مؤسس الجمهورية العراقية الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم . و لكن الجيل  الذى  عاصر الأحداث التى أعقبت ثورة الجيش و الشعب فى يوم 14 تموز الخالد ، يتذكر جيدا ان كل القوى الرجعية المحلية  ( القومية و البعثية و الدينية )  ، قد  حاربت الثورة و تآمرت عليها و على قائدها منذ اليوم الأول للثورة  و كان حزب الدعوة تحديدا من ألد أعداء ها، و هذه حقيقة لا يمكن للمالكى و أبواقه الدعائية أنكارها ، لأنها بكل بساطة موثقة فى أدبيات حزب الدعوة الصادرة فى عهد الزعيم عبد الكريم قاسم و من السهولة الرجوع اليها ، و نحن نتذكر جيدا الموقف الشائن لمحسن الحكيم و بيانه الشهير الذى دعا فيه الى  أستباحة و هدر  دم العراقيين ( الكفار)  المؤيدين للثورة و قائدها .
 
و استقبال المالكى لعائلة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم لا يمكن ان يغير من هذا الموقف العدائى لثورة 14 تموز و قائدها و  للأغلبية الساحقة من الشعب العراقى  . و المالكى يعرف ذلك جيدا  فى قرارة نفسه و لكنها  ( السياسة ) بمفهومها المبتذل التى يمارسها المالكى و زعماء الأحزاب الدينية الأخرى. و هذه السياسة القائمة على الكذب و الدجل و النفاق هى التى اوحت للمالكى  بترتيب لقاء مع من تبقى من عائلة الزعيم الشهيد ، من أجل أستغلال اسم الزعيم و منزلته الرفيعة فى قلوب العراقيين ،   لتحقيق مكاسب سياسية و تلميع صورته بأعتباره من المخلصين للمبادىء السامية التى ضحى الزعيم الشهيد من أجلها . .
ان عداء حزب الدعوة الحاكم لثورة 14 تموز و قائدها  كان مكشوفا و صريحا ، سواء خلال عهد الزعيم او  بعد أغتياله و حتى يومنا هذا . و قد تجلى هذا العداء ، على نحو سافر  قبل حوالى سنتين حين أقدم المالكى على ألغاء اليوم الوطنى العراقى المصادف للرابع عشر من تموز 1958 و أحل محله يوم دخول العراق الى ( عصبة الأمم ) و هو يوم لا يمكن مقارنته بيوم الثورة المجيدة .
و المالكى أزال كل أثر يشير الى ثورة 14 تموز،  من رموز و نصب و تماثيل و أسماء . فعلى سبيل المثال لا الحصر  مدينة ( الثورة ) التى شيدها الزعيم عبد الكريم قاسم من اجل حياة كريمة  لفقراء العراق  ، أصبحت تسمى الآن بمدينة (الصدر ) رغم عدم و جود اية علاقة للصدر بهذه  المدينة. و لو كان المالكى صادقا فى تقييمه لثورة 14 تموز و قائدها ، كان بأمكانه تشييد صرح او نصب أو متحف للزعيم ، كما هو متبع فى الدول المتمدنة التى تكرم و تمجد القادة المؤسسين ، و الزعيم هو مؤسس الجمهورية العراقية .و لكن المالكى على خلاف العراقيين الشرفاء الذين يسكن الزعيم قلوبهم ، لم يهتم يوما بالزعيم ولم  يصدر عنه ما ينم عن هذا الأهتمام ولم يذكر اسم الزعيم فى المناسبات العديدة التى حضرها و خطب فيها خلال السنوات الثمانية الماضية .
.
و المالكى بأستقباله لعائلة الزعيم فى هذا الظرف تحديدا . يريد ان يوحى للعراقيين  بأنه من المعجبين بنزاهة الزعيم  و أعماله الجليلة لخدمة العراق و العراقيين . و لكن الحقيقة هى ان المالكى يحاول التغطية على الفساد المستشرى فى كافة مفاصل الدولة وعلى فشله فى تقديم أى انجاز يذكر خلال السنوات الخمس المظلمة من حكمه الأسود  و بضمنها مهلة المائة يوم التضليلية التى اراد من ورائها أمتصاص غضب الشارع العراقى و خداع شباب العراق المنتفضين  ..
كيف يمكن التفكير ، مجرد تفكير فى أقتران اسم المالكى بأسم الزعيم الشهيد ؟
خلا ل الفترة الزمنية القصيرة  التى لم  تتجاوز اربع سنوات و نصف السنة ، حقق الزعيم أنجازات كبرى شملت كافة مجالات الحياة السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية و الثقافية  و لست هنا فى معرض تعدادها ، لأن العراقيين – كل العراقيين -  يعرفونها جيدا و لكن لا بد لى فى مجال المقارنة ان انوه بما يلى :
1-     كان الزعيم عبد الكريم قاسم  ينظر الى كافة العراقيين بمنظار واحد و من دون أى تمييز دينى او طائفى او قومى أو سياسى ، فى حين ان المالكى جمع حوله أتباعا من طائفة واحدة بعينها  و هم يشغلون اليوم أهم المناصب و المواقع الحساسة فى الدولة ، و  أتبع سياسة الأقصاء و التهميش بالنسبة الى بقية مكونات الشعب العراقى . و فى ظل الحكم الطائفى المتخلف أصبح بقية العراقيين مواطنين من الدرجة الثانية  و بخاصة أبناء الأقليات القومية و الدينية ، و يكفى ان نقول بأن عدد المسيحيين العراقيين – و هم من أعرق سكان بلاد الرافدين الأصلاء – قد تقلص من  مليون و نصف المليون  نسمة الى اقل من نصف هذا العدد حيث تشرد أكثر من 750 ألف مسيحى عراقى -  بينهم عدد كبير من العلماء و أساتذة الجامعات و الأطباء و المهندسين و الخبراء فى شتى الحقول -  فى أصقاع الدنيا هربا من ( نعيم ) المالكى  .
2 – أشرف الزعيم أشرافا مباشرا على أعداد الدستور العراقى المؤقت الذى نص على ان العرب و الكرد و القوميات الأخرى شركاء فى هذا الوطن ، فى حين ان الدستور العراقى الحالى الذى أسهم المالكى فى أعداده ، دستور رجعى غريب و عجيب جمع كل المتناقضات  وكرس مبدأ المحاصصة ، و هذا الدستور الغائم العائم احد الأسباب الرئيسة  لما يعانيه العراق اليوم من أزمات و مصائب و قتل و تدمير .
3 – اصدر الزعيم القانون رقم 80 لسنة 1961 الذى حدد مناطق الأستثمار لشركات النفط الأحتكارية فى حين فتح المالكى الباب على مصراعيه لعودة الشركات الأحتكارية بموجب عقود غير متكافئة فيها اجحاف كبير بحقوق العراق و ثرواته النفطية و الغازية .
4 – بادر الزعيم بعد أسابيع قليلة على قيام الثورة بأصدارقانون الأصلاح الزراعى رقم 30 لسنة 1958 لتصفية الأقطاع  ، فى حين ان المالكى شكل ما يسمى بمجالس الأسناد العشائرية و أغدق عليها الأموال و يستخدمها عند الحاجة ( لحشد التأييد و التصويت لصالحه فى  الأنتخابات ) و فى ( قمع التظاهرات الشعبية المطالبة بالأصلاح  ) و غيرها من المهام القذرة  أى أنه عمليا أعاد العراق الى عهود الأقطاع و التخلف و الظلام و القمع و تزوير الأنتخابات عن طريق شراء الذمم .
 
5 - – أشرف الزعيم شخصيا على أعداد ( قانون الأحوال الشخصية ) رقم 188 لسنة 1959  وهو القانون الأكثر حداثة و تقدمية فى الشرق الأوسط ، ان لم يكن فى العالم النامى عموما ، حيث حقق هذا القانون المساواة التامة بين الذكور و الأناث فى الحقوق و الواجبات و ليس أدل على المكانة الرفيعة التى احتلتها المرأة العراقية  بفضل حكمة الزعيم و بعد نظره من  أن عهده شهد تعيين أول أمرأة فى الشرق الأوسط فى منصب وزارى .,فى حين ان حال المرأة فى عهد المالكى بائس و مخجل ، بل مأساوى الى أبعد الحدود ،  حيث تتعرض حقوق المرأة فى عراق اليوم الى انتهاكات خطيرة موثقة فى تقارير منظمات حقوق الأنسان العالمية ، سواء فى السجون السرية او فى الحياة العامة ، ناهيك عن  الفصل بين الجنسين  فى كل مكان ، و فرض الحجاب و النقاب و زواج المتعة  حتى بالنسبة للبنات الصغيرات ... الخ
 
6– فى عهد الزعيم شهد العراق نهضة تنموية شاملة  و تطورا فى كافة ميادين الحياة، كما   أزدهر الأدب و الفنون التشكيلية و المسرح و السينما و الموسيقى ، اما فى عهد المالكى ، فقد تم القضاء المبرم على الصناعة الوطنية و تردت الزراعة الى الحضيض نتيجة للجهل المركب و الأثراء غير المشروع و و ضع أنصاف المتعلمين و أشباه المثقفين فى اعلى المناصب فى دولة الفساد المالكية  . ومن مظاهر التخلف فى العراق ( الجديد ) منع و تحريم أو تحجيم  كل ما هو جميل و أنسانى  فى الحياة ،مثل الفنون بأنواعها و أشكالها امتنوعة  .
 
7 -  يشهد  كل العراقيين بأن عهد الزعيم كان عهد النزاهة و الحرص على المال العام  و ادارة شؤون البلاد و العباد على اسس حديثة و معاصرة تحتل فيها الكفاءات و أصحاب الخبرة  مكان الصدارة فى تسيير دفة الحكم – أما عهد المالكى فهو عهد الفساد السياسى و الأدارى و المالى  و سرقة المال العام . و المالكى حامى الفساد الأكبر فى عراق اليوم ، بل أنه يشجع الفساد و يحميه  عمليا ، حيث يرفض الغاء الفقرة ( ب ) من المادة ( 136 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التى تنص على منع محاسبة أى سارق للمال العام او فاسد  الا بعد موافقة الوزير المختص ، و قد نشر مؤخرا تقرير للكونغرس الأميركى جاء فيه ان أعضاء الكونغرس الذين زاروا العراق أصبحوا على قناعة تامة ان المالكى هو حامى الفساد الأول  فى العراق
و لا نريد الأسترسال فى الحديث عن سياسة المالكى وحزبه الرجعى المعادى لتطلعات الشعب العراقى. و لكننا نقول أن أستقبال المالكى لعائلة الزعيم لن يخدع أحدا و لن يسهم فى تجميل صورة المالكى ،  لأن العراقيين يعرفون معدن الرجال . وكعب عبد الكريم قاسم أشرف  من رؤوس ساسة الفساد و النفاق و الدجل فى العراق ( الجديد ) .
 
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com

173
المنبر الحر / قوة الضعفاء
« في: 17:27 18/03/2011  »
قوة الضعفاء
                                                                                                             جودت هوشيار
 
فى مقال نشرته قبل حوالى  عشر سنوات فى مجلة ( كولان العربى ) التى كانت تصدر فى أربيل ، قلت فيه حرفيا ما يلى  " يعتقد المناهضون لنمط العولمة الحالي , إن الفعاليات الجماهيرية (التظاهرات والمسيرات الحاشدة والمطالبات المستمرة والملحة ) يمكنها إجبارالخصوم على التراجع . ويلجأ المناهضون للعولمة الى تنظيم نظاهرات احتجاجية صاخبة( بمشاركة مئات الألوف من الشبيبة من شتى انحاء العالم)، فى اى مكان يعقد فيه اجتماع القمة لدول الأتحاد الأوروبى او الدول الصناعية المتقدمة.. ويحدث احيانا ان تخرج مطاهرات احتجاجية كبرى فى عدة عواصم فى ان واحد.....  ومما يثير الدهشة حقا , المستوى التنظيمي الرفيع لمناهضي العولمة : عشرات الألوف من الشباب من شتى بقاع العالم يتحركون نحو نقطة محددة وكأن عصا" سحرية تحركهم وتوجههم , حيث أن تظاهراتهم تتسم بحسن التنسيق والتنظيم وربما يكمن السر في ذلك ،أن مناهضي العولمة يستخدمون – وياللمفارقة – أحد أهم انجازات العولمة ونعني بذلك الشبكة الدولية للمعلومات ( الأنترنيت ) في إتصالاتهم ."
 
كتبت هذه الكلمات فى وقت لم تكن خدمة ( الأنترنيت ) قد أنتشرت على نطاق واسع فى الدول العربية ، بل كانت تقتصر على  جمهور محدود للغاية . و لكن  أستخدام ( الأنترنيت ) أخذ ينمو و ينتشر بوتائر متسارعة ليس فى الدول المتقدمة فقط ، بل فى الدول النامية أيضا . و قد رأينا كيف ان  شبكة ( الأنترنيت ) لعبت دورا رئيسيا فى الأنتفاضات الشعبية فى العديد من بلدان العالم مثل  مولدافيا و أوكرانيا و جورجيا و أيران  و تونس و مصر و ليبيا .
و لكن أليس من المبالغة القول بأن شبكة الأنترنيت  وراء هذه الثورات ؟ و اذا كان الأمر كذلك ، كيف نفسر بقاء أحتجاجات المعارضة فى دول كثيرة ( تستخدم الشبكة العنكبوتية على نطاق أوسع بكثير من العالم العربى مثل روسيا والصين ) محصورة داخل الشبكة العنكبوتية و لا تنعكس خارج الشبكة على الرأى العام أو  الشارع  ؟
عندما لجأ الشهيد محمد البو عزيزى الى حرق نفسه  ، سرعان ما انتشر هذا الخبر بين مستخدمى  الأنترنيت فى تونس. عن طريق مواقع التواصل الأجتماعى و كان له وقع الصدمة على جيل الشباب . ثم تحولت الصدمة  الى غضب عارم و دعوة للأحتجاج فى الشارع . و لم تمض سوى ساعات قليلة حتى غصت  الشوارع بعشرات الألوف من المحتجين الذين أنضمت اليهم جموع غفيرة من التوانسة من مختلف الشرائح الأجتماعية و الأعمار .
 
 و كان لمواقع التواصل الأجتماعى ( فيسبوك و تويتر و يوتيوب ) دورا بالغ الأهمية فى ثورة 25 يناير فى مصر ضد النظام البوليسى  . و لم تدرك السلطات المصرية لمدة طويلة  أبعاد  هذا الدور الجديد العظيم لتكنولوجيا المعلومات حتى ان جمال مبارك سخر من احد الشبان المصريين فى اجتماع عام ، عندما سأله الشاب  عن رأيه فى موقع الفيسبوك و مواقع التواصل الأجتماعى الأخرى ، و لم يكلف جمال نفسه عناء الرد ، بل غرق قى ضحكة طويلة ، ثم طلب من أحد أصدقائه الرد على السؤال . و لم يكتشف نظام مبارك  أهمية الأنترنيت عموما  و مواقع التواصل الأجتماعى خصوصا فى  تبادل و توحيد الآراء و  حشد الجماهير للتصدى لنظامه البوليسى الفاسد  الا فى ذروة ثورة 25 يناير  التى أجتاحت مصر من أقصاها الى أقصاها , فقطع خدمة  الأنترنيت لعدة أيام و لكنه أضطر الى اعادتها تحت  الضغط الأميركى ، حيث نددت هيلارى كلينتون بقطع خدمة الأنترنيت و طالبت بأعادتها على الفور .
 
ثمة من يطلق على الثورات الشعبية العارمة فى البلدان العربية اسم (  ثورة  الفيسبوك ) و ( ثورة التويتر ) نظرا للدور المشهود لهذين الموقعين الألكترونيين فى تسهيل التواصل و التنسيق بين زوارهما ، و يقول البعض أنه لولا الأنترنيت لما حصلت تلك الثورات  !!  و هذا قول مبالغ فيه كثيرا , و الحقيقة أن الأنترنيت أداة  فعالة  فى تحريك الجماهير الغاضبة و لجوء الأنظمة الشمولية فى أيران و تونس و مصر الى قطع الأنترنيت ئؤكد الدور الفعال لهذه الأداة الثورية حقا و لكن ليس بالأنترنيت الثورى و حده تندلع الثورات .
 
ان الظروف و العوامل الموضوعية لأندلاع الأحتجاجات الشعبية  فى تونس و مصر بالأمس و فى اليمن و ليبيا و البحرين و عمان و غيرها من الدول العربية اليوم قد نشأت و نضجت قبل الأستخدام الواسع للأنترنيت و ظهور مواقع التواصل الأجتماعى .
و نعتقد ان حشد مئات الألوف من المحتجين فى الشارع يتطلب نضوج البيئة الأحتجاجية وان  تكنولوجيا المعلومات و حدها  لا تكفى  لأزاحة الطغاة عن السلطة و أسقاط الأنظمة الشمولية , و لن تكون هذه التكنولوجيا من دون البيئة الحاضنة للأحتجاجات ،  سوى منفذا للتعبير عن الرأى و التنفيس عن الهموم .
 
وعندما تتعمق و تنضج  الأستياء الشعبى و يصل سخط الناس على النظام القائم الى درجة الغليان ( بسبب  قيام السلطة  بتزوير  الأنتخابات و أنتهاك حقوق الأنسان و فرض قيود على الحريات و أستشراء الفساد السياسى و الأدارى و المالى  و تفاقم مشاكل الفقر و البطالة و البيروقراطية و تردى الخدمات العامة ) ، تتحول شبكة الأنترنيت  الى أداة ثورية  فعالة للتنظيم عبر تبادل و تقريب الآراء و حشد التأييد لفكرة الأحتجاج العلنى و كسر حاجز الخوف و تحديد مواعيد التحرك الجماهيرى و مكانه، أقول عند ذلك فقط  تتحول شبكة الأنترنيب الى  قوة تنظيمية تمارس تأثيرا سياسيا هائلا تعصف بالأنظمة الشمولية  الفاسدة  .
 
منذ أكثر من ألف عام و الشعوب العربية تئن تحت سياط حكام جائرين أذاقوا شعوبهم الذل و الهوان و سرقوا لقمة الخبز من الجياع . و لكن الزمن تغير و نحن نعيش اليوم عصرا جديدا ، اصبحت فيه ( المعلومة ) متاحة للجميع بعد أن احتكرها الحكام الطغاة طويلا ، و نشأ لأول مرة فى التأريخ البشرى مجتمع أنسانى يتقاسم فيه البشر السراء و الضراء الى حد كبير  و لم يعد بوسع حاكم جائر ان يحجب الحقيقة ، فشمس الحرية  و الديمقراطية تسطع فى كل مكان من عالمنا ( الصغير ) و لم يعد بوسع طاغية ، مهما أمتلك من أدوات البطش و القمع و و سائل التضليل و الخداع أن   يخفى  جرائمه بحق شعبه عن العالم الخارجى  أو ان يستمر فى الحكم . و بفضل التكنولوجيا الثورية  الجديدة  أمتلك المضطهدون و المسحوقون  قوة خارقة  . أنها (  قوة الضعفا ء )  التى لا تقهر.
 
جودت هوشيار

174
احتفال أمام نصب الحرية فى بغداد


                                 جودت هوشيار

 

كل من شاهد  الأعتداء الدموى الهمجى  لأزلام المالكى على المتظاهرين المسالمين فى ساحة التحرير فى يوم 25 شباط / فبراير  الحالى  ( يوم الغضب العراقى ) و أصابة العشرات منهم بجروح بليغة و تركهم ينزفون دما من دون أية محاولة لأسعافهم أو نقالهم الى المستشفيات القريبة و منع وصول الطعام و و الماء الى المتظاهرين طوال يوم كامل ، و من ثم قيام كل من وزير الناطقية على الدباغ و الناطق باسم عمليات بغداد قاسم عطا  بنصب مائدة -  فوق  المكان الذى سال فيه دماء المتظاهرين المسالمين - للأحتفال بأنتصار قوات بغداد على فتيان يافعين ، حملوا الورود لأهداها الى أفراد الجيش العراقى ، أقول بعد كل هذا ، الا يتبادر الى ذهن كل أنسان شريف يمتلك ضميرا حيا ، من أى صنف هؤلاء الهمج الذين يتفاخرون بالأنتصار على زهرة المجتمع العراقى . نعم لم يخجل الدباغ و لم يخجل عطا و هما يشربان القهوة فى ساحة التحرير بعد تفريق المتظاهرين بشتى صنوف الأسلحة التى يجيد أستخدامها الطغاة لقمع شعوبهم : خراطيم المياه ، الغازات المسيلة للدموع و من ثم الرصاص الحى . و قد أبتكر طاغية بغداد الجديد نورى المالكى أسلوبا جديدا فى قمع شعبه و هو رش المتظاهرين بنوع مجهول من الغبار أو نوع غير معروف من الغازات ، اضافة الى الأسلحة التقليدية .

 

نعم جلس لثنان من  بلطجية المالكى اللذان صعدا كما يقول المثل العراقى ( من الطهارة الى المنارة ) بين ليلة و ضحاها أولهما وزير دولة  لشؤون(  الناطقية  ) و هو منصب لا يوجد فى أى بلد من بلدان العالم سوى فى  العراق المبتلى  بشرذمة من الجهلة اللصوص ) و الثانى لا أحد يعرف من أين أتى و هو لا يحمل لا شهادة من الكلية العسكرية و لا خبرة سابقة فى القوات المسلحة و كل مؤهلاته هو تبرير جرائم سيده طاغية بغداد الدموى المتخلف الذى  استخدم كل الأمكانيات المادية و السلطوية للدولة العراقية لتجديد و لا يته و هو يفكر منذ اليوم للبقاء فى منصبه لولاية ثالثة . الدباغ و عطا كانا يشمتان بالشهداء و الجرحى  الذين سقطوا بالعشرات فى مدن العراق الكبيرة و الصغيرة و فى ساحة التحرير تحديدا  ، و قد أنشرحت أسارير         و جهما القبيح من نشوة الأنتصار و هما يجلسانتحت  نصب ( الحرية ) نكاية ب ( الحرية و الأحرار ) و يتلذان بشرب القهوة الساخنة و تحت أقدامهما دماء حارة و طرية لم تجف بعد ، جلسا وراء مائدة الأحتفال فى ساحة موحشة و خالية  من المارة و السيارات مثل بقية ساحات و شوارع بغداد المظلمة الكئيبة  بعد حظر حركة السيارات و منع التجوال ..

كانا يبتسمان لكامرة قناة ( العراقية ) الحكومية و هما يسردان حكاية خيالية  مفبركة زائفة عن تظاهرة ( يوم الغضب العراقى )  فى ساحة التحرير فى محاولة يائسة لتبرير الجريمة المروعة ، حكاية من ( أبداع ) خيالهما المريض  تزعم ان القوات الأمنية تعاملت مع المتظاهرين بليونة  و طيبة  و مهنية عالية ( لا حظوا كلمة مهنية كأنهما يتحدثان عن معركة حربية  مع الأعداء )  ، ترى اذا كان اطلاق الرصاص الحى على شبيبة بغداد يعد فى عرفهما ليونة و طيبة ، كيف يكون اذن ( الشدة ) و ( القسوة ) لا بد أنهما كانا يفكران على طريقة مجنون ليبيا أى قصف الشعب بالقنابل من الجو و بصواريخ الكاتيوشا و ال(آر بى جى ) .

 

ظل الدباغ و عطا يكذبان على الهواء مباشرة و أمام ملايين المشاهدين بلا  أسنحياء أو خجل و من دون أن يرف لهما جفن   ، اقتداءا بالكذاب الأكبر فى العراق نورى المالكى  الذى يفعل عكس ما يقول دائما .

خلال السنوات الخمس العجاف من فترة حكمه الأسود لم يصدق المالكى مع شعبه و لو لمرة واحدة . فى عام 2008 و عد بحل مشكلة الكهرباء بشكل جذرى خلال سنة و نصف و ها  نحن نرى ان مشكلة الكهرباء قد تفاقمت و تردت المنظومة الكهربائية الى الحضيض . و لا يتمتع العراقيون اليوم بنعمة الكهرباء سوى ساعتين فى اليوم و تردت الخدمات العامة .

و يفتقر عراق المالكى اليوم الى المياه الصالحة للشرب و الى المدارس و المستشفيات و منظومات الصرف الصحى ، ناهيك عن الحدائق العامة و مدن الألعاب و النوادى و أماكن اللهو البرىء الأخرى . و لكن ثمة اليوم فى عراق المالكى  جبال هائلة من القمامة فى كافة أحياء و أزقة و شوارع بغداد و المدن الأخرى و الحدود العراقية – الأيرانية  سائبة  بشكل متعمد لتسهيل دخول المخدرات و فرق الأغتيالات بالكواتم   ، على نحو يصح القول ان عراق المالكى هو عراق القمامة و المخدرات و الكواتم المستوردة من الجمهورية الأسلامية الأيرانية ( الشقيقة  )

 لا صناعة و لا زراعة اليوم فى بلاد الرافدين و كل ما هو موجود فى السوق من سلع ، أجنبية المصدر , و اليوم يعيش 60% من الشعب العراقى على ما يسمى مواد البطاقة التموينية و هى سلة مواد غذائبة (الطحين و الرز و الزيت و الشاى و السكر و الصوابين ) ،  يبلغ اجمالى قيمتها عشرة دولارات لا أكثر و مع ذلك عجزت حكومة لصوص منتجع ( المنطقة الخضراء ) عن توفيرها للشعب العراقى .

المالكى صرف ( 400 ) مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية . و لا أحد يدرى أوجه صرف  هذه الأموال الطائلة . و قد صرح السيد طارق الهاشمى نائب رئيس الجمهورية ،بأنه رغم صرف هذه الأموال الطائلة لم يبلط شارع و لم تبن مستشفى او مدرسة ، اذن أين ذهبت تلك المليارات ؟ يتظاهر المالكى و أزلامه بأنه لا يعرف الجواب ، و لكن الشعب العراقى يعرف جيدا كيف سرقت عصابة ( المنطقة الخضراء ) فلوس اليتامى و الأرامل و يقية أبناء والشعب العراقى .

وزارة التخطيط العراقية قالت فى تقرير نشر قبل حوالى شهرين أن نسبة الفقر فى العراق يبلغ 25% أى ان ربع العراقيين يعيشون تحت خط الفقر و لا يزيد الدخل الشهرى للفرد الواحد عن 40 دولار, أؤكد 40 دولار فى الشهر فى احد أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية .

هنالك اليوم فى العراق ملايين العاطلين عن العمل و معظمهم فى مقتبل العمر ، بينهم عدد كبير من خريجى الجامعات .

ثروات العراق كلها فى متناول يد مجموعة من اللصوص المحترفين من ذوى الشهادات المزورة ، الذين يمتلكون العقارات فى شتى عواصم العالم القريبة و البعيدة  و حسابات فلكية فى البنوك الأجنبية .و يخدعون الشعب بالوعود الكاذبة فى كل دورة أنتخابية ,

و عندما يثور شباب العراق للمطالبة بلقمة الخبز ينهال على صدورهم رصاص الغادرين و يتهمهم الطاغية و أزلامه بأنهم من البعث , و اليوم رد أحد المتظاهرين الشباب على المالكى فى ساحة التحرير و فى ذروة التظاهرة السلمية ، قال هذا الشاب الثائر  : لم أكن بعثيا عندما أنتخبتك و لكننى اليوم تحسبنى بعثيا لأننى طالبت بحقوقى المهدورة و حريتى المغتصبة
 

.و لا يكتفى طاغية العراق ( الجديد ) و أزلامه بسرقة المليارات و هضم حقوق أبناء و بنات العراق و مصادرة الحريات العامة و الخاصة و خنق حرية التعبير بأشكاله المختلفة بل يحتفلون و يشربون نخب أنتصارهم الدموى على الشعب العراقى فى الساحة التى أريقت فيها  الدماء الطاهرة لجيل الشباب العراقى الواعد .

أية خسة و وضاعة يتصف بهما الطاغية و أزلامه من قبيل الدباغ و عطا و الى اى صنف من البشر ينتمون . لا أجد لهما نظيرا فى التأريخ الحديث سوى فى ألمانية الفاشستية , هل يختلف المالكى و الدباغ و عطا فى شىء عن حثالات الفاشست ؟.

 

جودت هوشيار

jawhoshyar@yahoo.com



175
نحو مفهوم جديد للرسالة الأعلامية

                                                                                                             جودت هوشيار


يرى  بعض المفكرين و فى مقدمتهم رائد التنظير الأعلامى مارشال مكلوهان ( 1911 –1980 ) م أن تأريخ البشرية هو تأريخ أتصال و اعلام بين اليشر ، و أن التقدم العلمى – التكنولوجى هو الذى يسهم فى المقام الأول فى تشكيل و تطور المجتمعات الأنسانية ،
و أننا من دون فهم الأساليب التى تعمل و سائل الأتصال بمقتضاها ، لن نكون قادرين على أدراك التغيرات الأجتماعية و الثقافية التى تطرأ على المجتمعات المعاصرة . و أن الوسائل الجديدة تشكل أمتدادا لأعضاء جسم الأنسان . .. فعلى سبيل المثال ، يعتبر الهاتف النقال أمتدادا  لأذاننا و الميكروفون أمتدادا لألسنتنا و التلفزيون أمتدادا
لعيوننا ، و أجهزة الكومبيوتر توفر الجهد الذهنى و تؤدى الى امتداد الوعى .
و يقولمكلوهان فى كتابه الشهير " كيف نفهم وسائل الأتصال " الصادر فى أواسط الستينات من القرن المنصرم ان " ان أهمية الرسالة -  فى عمليات الأتصال الأعلامية - تكمن في وسيلة نقلها"، بمعنى أن طبيعة كل وسيلة و ليس مضمونها هى الأساس فى تشكيل المجتمعات الحديثة .

فالرسالةالأساسية فى التلفزيون هى البث  التلفزيونى ، كما أن الرسالة الأساسية فى الكتاب هى المطبوع ، لذا فأن المضمون – حسب رأيه – غير مهم ، بل المهم هو الوسيلة التى تنقل المحتوى ، كما أن لكل وسيلة جمهورا من الناس ، يفوق حبهم للوسيلة ،
اهتمامهم بمضمونها . و التلفزيون كوسيلة تستقطب أهتمام جمهور عريض من المشاهدين بفضل الشاشة التى تعرض الصورة و الصوت و الحركة و الألوان فى آن واحد معا  . كما يحب الناس القراءة من اجل الأستمتاع بتجربة المطبوع . و تؤثر وسيلة الأتصال
الأعلامية فى المضمون الذى تنقله ، و ربما تستطيع الوسيلة أن تشوه المضمون ، و هذا ما تفعله مثلا  الفضائيات الرسمية  فى دول التخلف ، عندما تحول الواقع البائس الى انجازات للقائد الضرورة  أو  الفضائيات الحزبية ، التى تشوه مضمون ما تعرضه و تحرفه
على نحو يتطابق مع أيديولوجية الحزب .
لقد تجلت أهمية التلفزيون – عند ظهوره فى أحتواء الراديو . أما اليوم فأن الشركات الرائدة فى مجال تقنيات الأتصال تسعى الى دمج الخدمات الأعلامية , و تعدشيكة الأنترنيت ذروة الأنجازات التكنولوجية لعصرنا الراهن  فى مجال الأتصال و الأعلام  . بل ان البعض يعتبرها " وسيلة الوسائل الأتصالية " لأنها تطوى بداخلها الوسائل الأخرى ، الى جانب استخداماتها المعروفة فى تبادل الملفات و تصفح قواعد البيانات عبر الشبكة و البريد الألكترونى و و أفلام الفيديو و فى الترفيه و الدعاية
، كما تؤمن التفاعل بين المشتركين فى ما بسمى بخدمة المؤتمرات و غرف المحادثة أى الحوار بين أتجاهين أو أكثر ، أى ان شبكة الأنترنيت حلت محل الأتصال أو الأعلام الأحادى الجانب , و ثمةاليوم انجازات تكنولوجية  جديدة فى طريقها الى الأنتشار لدمج الأنترنيت و التلفزيون الرقمى أو الأنترنيت المتلفز لخدمة عدد أكبر من المستخدمين . و كذلك دمج
الهاتف و التلفزيون و الأنترتيت و الكومبيوتر الشخصى النقال فى جهاز صغير .اضافة الى ظهور " الكتاب الألكترونى " و لا نقصد بذلك تحميل الكتب من الأنترنيت و حفظه فى الكومبيوتر  ،  بل الخزن الألكترونى  لمحتويات الكتب الورقية فى جهاز الكترونى جديد
لا تزيد ابعاده عن أبعاد كتاب ورقى خفيف و صغير و يمكن حمله فى الجيب و يتسع لحفظ مئات الكتب و من ثم قراءتها فى أى مكان وزمان ( خلال السفر او على الشاطىء او أى مكان آخر .بدلا من حمل الكتب الثقيلة . و الطريف فى الأمر ان الأنارة فى شاشة هذا الجهاز أشبه بمصباح منضدى مخفى ، كما يتميزبتقنية الحبر الإلكتروني (بورل) الذي يشبه الورق فيخفف من حدة إجهاد العين ولا يؤثر سلبا على النوم في المساء. ويمكن أيضا استخدامه خارجا في الشمس، وهو أمر مهم بالنسبة إلى القراءات خلال العطل . أى ان القارىء يشعر و كأنه يقرأ كتابا عاديا ، لأن القراءة عن طريق هذا الجهاز ، لا
يختلف ظاهريا عن قراءة أى كتاب آخر .

 و فى ضؤ ما تقدم لم يعد تقسيم و سائل الأتصال الأعلامية  ألى أتصال أو أعلام مطبوع و مسموع و مرئى مقبولا و هو فى طريقه الى الزوال، و لم تعد " صاحبة الجلالة " أو " السلطة الرابعة " تحتل الا جانبا واحدا داخل المنظومة الأعلامية ، يختلف حجمها منمجتمع الى آخر .
و أذاكانت الوسائل "  القديمة " تسعى الى أضفاء الطابع الشخصى على عملية التلقى و تفرض على المتلقى مضامين من طرف واحد فى توقيتات محددة ، فأن الوسائل الجديدة تتيح للمتلقى أختيار رسالته الأتصالية – الأعلامية من حيث الشكل و المضمون و وقت الأستقبال .
 أن عملية الأندماج المتواصلة بين الوسائل المختلفة ، ليست مسألة تكنولوجية فحسب ، بل لها أيضا  فاعليتها المؤثرة فى تكوين الأنماط الأجتماعية و الثقافية . أن المجتمعات المتخلفة التى لا تسهم الا بقدر ضئيل أو لا تسهم على الأطلاق فى
التقدم العلمى – التكنولوجى لعصرنا الراهن ، تخضع شاءت أم أبت  لما ينجم عن هذا التقدم  من تغيير فى أنماط الحياة و وتائرها  المتسارعة و هى لحسن الحظ تغييرات ايجابية عموما ، يمكن ( لو أحسن استخدامها ) أن تسهم فى تطوير و تحديث تلك
المجتمعات، و لن يتم ذلك ، الا بالأدراك الواعى و الفهم العميق لجوهر  التقدم العلمى – التكنولوجى المعاصر ..

جودت هوشيار



176
اسطورة حب فرهاد و شيرين فى آداب شعوب الشرق

                                                                                                                 جودت هوشيار
ثمة عدد كبير من الأساطير و الحكايات و القصص الشعبية الشائعة فى فولكلور و أدب أكثر من شعب واحد ، لعل فى مقدمتها الملحمة الشعرية " فرهاد و شيرين " أو " خسرو و شيرين " التى لها نصوص فولكلورية مختلفة و معالجات أدبية عديدة فى التراث الثقافى لشعوب الشرق الأوسط و الأناضول و آسيا الوسطى .
و كما هو واضح من أسماء أبطال هذه الأسطورة و مسرح أحداثها  و وقائعها أنها ( فارسية – كردية )  الأصل ، لأنها تستند الى وقلئع تأريخية حقيقية لها علاقة بالشعبين الفارسى و الكردى .
كان خسرو أحد آخر الحكام الفرس فى نهاية الفترة التى سبقت الفتح الأسلامى لبلاد فارس أو العجم كما يقول العرب ، حيث حكم البلاد خلال الفترة الواقعة بين عامى ( 591- 628 ) م . و كانت شيرين زوجته ، و وردت سيرتهما فى  العديد من المصادر التأريخية . و أبرز من عالج هذه الأسطورة هو الشاعر الفارسى العظيم الفردوسى (940 -1020 ) م  و ذلك فى مؤلفه الشهير " الشاهنامة " .
لقد خلد الشاعر قصة حب " خسرو و شيرين " فى ملحمة شعرية رائعة ، تعد من عيون الأدب الكلاسيكى الشرقى و العالمى ، بيد أنه لم يذكر شيئا عن فرهاد الذى ورد أسمه لأول مرة فى مخطوطة تعود للمؤرخ الطاجيكى – الفارسى (بالامى ) كتبت فى أواخر القرن العاشر . و المعروف أن (بالامى ) قد توفى فى العام 996م .
أما الشاعر ( آغاجى ) الذى عاش فى الفترة الممتدة من أواخر القرن العاشر الى منتصف القرن الحادى عشر ، فأنه يذكر أسم فرهاد حين يتحدث عن الأسطزرة الشعبية عن شق قناة عبر صخور جبل بيستون من جبال كردستان .
كما كتب الشاعر الأذرى نظامى كنجوى ملحمة شعرية عن " خسرو و شيرين " و ذلك فى العام 1181م و أهداها الى ذكرى زوجته الحبيبة التى فارقت الحياة و هى فى عز شبابها . شيرين هى البطلة الرئيسية لهذه الملحمة ، و قد أسبغ الشاعر عليها السجايا الأنسانية الرفيعة ، فهى طيبة ، قوية الأرادة ، نقية السريرة ، و ذات أخلاق حميدة . و هى صفات و فضائل يفتقر اليها خسرو كأنسان و حاكم للبلاد .
كان عشق فرهاد لشيرين من جانب واحد أى أن شيرين لم تبادله الحب ، و مع ذلك فأن فرهاد أقدم على تضحية كبيرة من أجلها حين حقق رغبتها فى شق قناة عبر جبل بيستون لغرض أيصال الماء ألى الجهه الأخرى من الجبل ، وهى مهمة شاقة ( و تكاد ان تكون شيه مستحيلة بمقاييس ذلك العصر ) و لكن فرهاد أنجزها على أحسن وجه و أثار هذا العمل الخارق اعجاب شيرين من جهة وحقد و كراهية خسرو من جهة أخرى .
كان خسرو يغار من فرهاد و يتحين الفرص للأنتقام منه ، و لأنه كان يعرف مدى عمق حب فرهاد لشيرين ، فقد لجأ الى الخديعة و أرسل اليه من يخبره كذبا أن شيرين ماتت... الصدمة  تهز كيان فرهاد و الفاجعة الأليمة تهد صحته ، فيفارق الحياة حزنا و كمدا على حبيبته الغالية .
و اذا كان فرهاد فى ملحمة كنجوى شخصية ثانوية ، فأنه البطل الرئيسى فى الروايات الفولكلورية لهذه الأسطورة التأريخية الشعبية . و يعتقد بعض المستشرقين و منهم    ع. علييف فى كتابه الذى يحمل عنوان " خسرو و شيرين فى آداب شعوب الشرق " ( موسكو – 1962 ) ان ذلك قد حدث تحت تأثير ملحمة الشاعر الأوزبكى ( نوفوى ) ( 1484 م ) " فرهاد و شيرين " فقد حاول ( نوفوى ) أن يضفى على فرهاد الصفات و السجايا الأنسانية السامية .
 فرهاد فى هذه الملحمة يتمتع – اضافة الى بسالته و شهامته و رجولته – بخصال و قيم رفيعة ، فهو دمث الخلق ، ذكى ، يحب العمل و ذو مهارة فنية عالية ( شق قناة بيستون ) . و على النقيض من ذلك رسم الشاعر صورة سلبية للغاية لخسرو كأنسان خبيث و غادر و حاكم مستبد ، يتسبب فى موت فرهاد ، و لكن القدر يمهل و لا يهمل ، حيث نراه بعد حين يلقى جزاءه العادل و يقتل على يدى أبنه .
و فى العصر الحديث ألهمت هذه الأسطورة عددا من الشعراء البارزين ، قكتبوا مسرحيات شعرية مستمدة من أحداثها و وقائعها ، وفى مقدمتهم الشاعر التركى الكبير ناظم حكمت الذى ألف مسرحية تحت عنوان " حكاية حب " أو " فرهاد و شيرين "  و قد قدمت هذه المسرحية على أشهر مسارح العالم لسنوات طويلة متتالية ( فى موسكو و باريس و برلين  و غيرها من العواصم ) . و فى أذربيجان كتب الشاعر فورغوف مسرحية " فرهاد و شيرين " التى ترجمت الى عدد من اللغات الأجنبية و قدمت على مسارح جمهوريات الأتحاد السوفييتى ( السابق ) .
و لا بد من الأشارة هنا الى أن معهد الأستشراق فى مدينة بطرسبورغ الروسية ، قام بجمع نصوص فولكلورية كردية و شرقية لهذه الأسطورة  و بذلت جهود مشكورة من قبل علماء المعهد لدراسة هذه النصوص و مقارنتها و تحليل مضامينها و أبراز قيمتها الفنية و سماتها الجمالية و يحق لنا ان نتساءل هنا : الى متى نظل نتعرف على تراثنا الشعبى و أدبنا الكلاسيكى من خلال المستشرقين الأجانب ؟
 و عندما نقول ذلك فأننا لا نبخس الجهود المضنية التى بذلها المستشرقون الكردولوجيون فى سبيل اخراج كنوزنا الكلاسيكية و الفولكلورية من ظلمات الماضى الى النور و نفض الغبار عنها و تحقيقها و ترجمتها و نشرها . و لهم دين فىأعناقنا و فضل كبير على ثقافتنا ، و نأمل ان يحذو الدارسون الكرد حذوهم . و كنا فى دراساتنا عن التراث الكردى ٌقد أشرنا الى تقصير وزارة الثقافة فى أقليم كردستان عن النهوض بمهامها الأساسية و خصوصا تشكيل فرق عمل تتولى توثيق تراثنا الفولكلورى - الشفاهى الباذخ و الجميل ، لأننا ان لم نوثق هذا التراث  فأن الزمن سيمحو ما تبقى منه لحد الآن
.
, قلنا ذلك و كتبنا و ناشدنا المسؤولين فى وزارة الثقافة الكردستانية ان  يتحركوا فى هذا الأتجاه . ذهب وزير و جاء آخر و لم يتغير شىْ على الأطلاق ، و بقيت المهرجانات الشغل الشاغل و الهم الأكبر  لهذه الوزارة . و ها نحن نناشدها من جديد ان تلتفت الى هذه الناحية ، لأن تراثنا الثقافى عصب هويتنا التى يتحدثون عنها ليل نهار .
 
جودت هوشيار – موسكو
jawhoshyar@yahoo.com


177
نظرية أوروبية الجذور ، يعشقها العرب                                جودت هوشيار
لعل احدى  السمات البارزة  لتخلف مجتمع ما ، هى  الأنغماس اللامجدى فى الحديث عن نظرية المؤامرة ،عند تعرضه لأية محنة او نكسة كبيرة ، بدلا من تقصى الأسباب الحقيقية التى تقف وراء هذه المحنة او تلك الأنتكاسة ، فالقوى الخارجية ( ألأمبريالية والصهيونية فى معظم الأحيان ، والماسونية احيانا )  ، هى المسؤولة دائما عن كل ما يحدث للبلدان النامية من هزائم وازمات ومشاكل ، وليس القصور الذاتى و التفكير المتخلف وسؤ الأدارة والفساد  بكافة اشكاله والوانه .والشعوب العربية تحديدا اكثر  الشعوب ايمانا بنظرية المؤامرة وترجيحا لها عند وقوع اى حادث جلل او انقلاب عسكرى او هزيمة عسكرية او  دبلوماسية ، سواء فى الداخل او الخارج .

وحسب نظرية المؤامرة فأن  المخابرات الأسرائيلية ( الموساد ) كانت على علم  بعمليات الحادى عشر من ايلول 2001 لذا قامت بتحذير اليهود  مسبقا والطلب منهم مغادرة ناطحتى السحاب التوأم فى نيويورك . والمخابرات الأنكلو –اميركية ، هى التى تقف وراء العمليات الأرهابية فى مترو لندن ، والمخابرات البريطانية هى التى دبرت عملية قتل الأميرة ديانا لكى لا  ينتسب احد الشبان العرب المسلمين الى العائلة البريطانية المالكة ، وحرب تحرير العراق مؤامرة انكلو –امريكية لأفشال مشروع النهوض  القومى العربى الشامل بقيادة القائد الضرورة  هدام العراق. واخيرا وليس اخرا ، فأن السبب الرئيس  لما  شهده العراق  خلال  السنوات الست الماضية من محن وازمات وكوارث  ، لا يرجع الى الصراع الشرس على السلطة و النفوذ و المكاسب والمغانم بين الأحزاب الحاكمة   ،  وانما  - كما يرى  قطاع من الرأى العام العراقى الى مؤامرات الأحتلال الأميركى ،وفى رأى قطاع اخر الى مؤامرة صهيونية  لأنهاك العراق وتقسيمه الى دويلات صغيرة  ، تطبيقا للحلم الصهيونى بتأسيس دولة  أسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات .

ولكن نظرية  المؤامرة – رغم كونها السلاح المفضل للحركات الدينية فى العالم الأسلامى -  غريبة عن التراث  الأسلامى عموما و عن التراث العربى  على وجه الخصوص ، حيث انها – اى نظرية المؤامرة – ظهرت فى اوروبا فى القرن الثانى عشر ثم  امتدت الى اميركا فى ما بعد . وقد  رافقت الأحداث التأريخية العظيمة ، وهى نظرية عديمة الضرر فى معظم الأحيان، لانها لا اساس لها ، ولكن عندما يؤول الحكم الى من يؤمنون بهذه النظرية   ( هتلر ، ستالين ، صدام حسين )، فأنها تكون وبالا على شعوبهم و تؤدى الى الأضطهاد الواسع والقمع الوحشى  لمئات الألوف  واحيانا لملايين البشر ( اعتقالات وتعذيب  فى معتقلات وسجون رهيبة لمجرد الشك فى ولائهم للسلطة ، تطهير عرقى ، محارق الغاز ،  مقابر جماعية ، اغتيالات لشخصيات المعارضة ....الخ ).

وثمة فرق بين نظرية المؤامرة الكبرى  والمؤامرة الصغرى ، فالمؤامرة الصغرى تلك التى يحوكها الجار او احد الأقارب  ، كما يمكن ان تكون سياسية او عسكرية عندما  تؤدى الى انقلاب عسكرى فى بلد ما : و كذلك المؤمرات الصغيرة و راء الكواليس  التى تحوكها الأحزاب الحاكمة فى عراق اليوم ضد بعضها البعض من اجل تعزيز مواقعها فى السلطة و الأستحواذ على أكبر حصة من الغنائم و الأسلاب .

اما المؤامرة الكبرى ، فهى تلك التى تحيكها منظمة سرية او شريحة اجتماعية او دولة  من اجل السيطرة على العالم . انها نظرية اوروبية خالصة ولا توجد فى الثقافات الأخرى، تجاهلها الأسلام وتقبلتها اوروبا واميريكا .
ويقول مدير معهد  دراسات الشرق الأوسط فى فيلادلفيا ،مستشار البيت الأبيض والكونغرس الأميركى دانيل بيبس ، و يعد احد ابرز الباحثين الأميركيين فى الأسلام فى كتابه " المؤامرة "ان اول منظمة سرية  كانت تهدف الى السيطرة على العالم هى منظمة " فرسان المعبد "التى تأسست فى القدس فى القرن الثانى عشر . وفى عام 1340 تم منع المنظمة من قبل فرنسا ، ولكن البعض يعتقد ان  " الماسونية " احياء لتلك المنظمة .ونظرية المؤامرة اليهودية من اجل السيطرة على العالم  كانت سببا  لأفتعال اعمال القتل والنهب والسلب فى رينو ومن ثم فى روسيا القيصرية  و ظهور كتب فى الغرب من قبيل " بروتوكولات حكماء صهيون "  لذا ليس من المستغرب – والكلام ما يزال لدانيل بيبس – ان يلقى هذا الكتاب نجاحا كبيرا فى البلدان العربية ، التى ترفض وجود  دولة اسرائيل وهو –اى الكتاب – اصبح فى الماضى والحاضر اساسا للسياسة المعادية للسامية .

وبقدر تعلق الأمر ببريطانيا ، فأن هذه النظرية انتشرت مع اتساع الأمبراطورية البريطانية فى القرن التاسع عشر وكذلك فى اميركا مع تزايد نفوذها وقوتها كدولة عظمى فى القرن العشرين . واذا تسلط دكتاتور  يؤمن بهذه النظرية على دولة كبرى فأنه يجلب لشعبه الكوارث و المصائب كما فعل هتلر فى المانيا  وستالين فى الأتحاد السوفييتى ( السابق)  ، الأول كان متحمسا لنظرية  المؤامرة اليهودية الكبرى اما الثانى  فأن مؤامرات المنظمات السرية  لم تكن تبرح خياله المريض ، وكانت نتيجة ذلك  نشوب الحرب العالمية الثانية : أكثر الحروب دموية فى التأريخ واضطهاد ملايين الناس الأبرياء فى جميع انحاء اوروبا .

جودت هوشيار - العراق





178
الحلم الضائع في بحر إيجة
                                                                                         
                                                                                جودت هوشيار
 
تحولت ظاهرةالهجرة من كردستان العراق الى الدول الاوروبية وغيرها من دول العالم الى احدى القضايا المهمة المثيرة للجدل في المجتمع الكردستاني , لما لها من تأثير بالغ في شتى جوانب الحياة في الاقليم .كما أصبحت هذه الظاهرة موضوعا" أثيرا" في وسائل الأعلام الكردستانية وحديث الناس في المجالس العامة والخاصة , الا انها لم تحظ لحد الآن بأي دراسة علمية جادة عن أسبابها الحقيقية وأبعادها الأقتصادية والأجتماعية وآثارها الراهنة والمستقبلية . وكل ما قيل وكتب عنها لايعدو كونه مجرد آراء ذاتية وأحكام جاهزة - لا تستند الى أي مسح ميداني أو شواهد أو أدلة واقعية ملموسة - من قبيل الزعم ان الأقتتال الداخلي فى اواسط العقد المنصرم الذى شهد اكبر موجة من الهجرة الى الخارج  وتردي الوضع الأقتصادي الراهن  هما السببان الرئيسيان لهذه الظاهرة . قد يكون ذلك صحيحا" في ظاهر الأمر  ولكن ثمة أسباب أعمق واهم من أي أراء شخصية واستنتاجات مسبقة وقاطعة لا تستند الى الواقع الموضوعي .
والحق ان ظاهرة الهجرة ليست جديدة لا بالنسبة إلى المجتمع الكردستاني ولا  أي مجتمع أخر في العالم , بل هي قديمة قدم الحضارة الأنسانية .
فأذا كان الناس في العصور القديمة يهاجرون بسبب الحروب والغزوات والمجاعة والكوارث الطبيعية أو هربا" من الظلم والأضطهاد , فأن العصور الحديثة قد شهدت تدفق موجات كبيرة من اللاجئين الى الأراضي الجديدة المكتشفة , حيث أن العديد مما يدعى ببلدان الهجرة مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلنده قد تطورت بفضل اللاجئين من شتى بقاع العالم والذين يشكلون معظم سكانها . وكانت هذه البلدان ترحب الى وقت قريب بالمهاجرين الجدد لأسباب أقصادية .كما أن بلدان أوروبا الغربية قد فتحت أبواب الهجرة واسعة أمام   تدفق اللاجئين اليها بأعداد كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة خلال عقد الستينات من القرن الماضي وذلك لحاجتها الماسة إلى القوى العاملةالوافدة نتيجة لمعدلات الوفاة العالية والولادة المنخفضة خلال سنوات الحرب المذكورة وما بعدها وحسب الأحصائيات التي نشرتها دول الأتحاد الأوروبي , بلغ عدد المهاجرين في أوروبا الغربية بحلول عام 1990 حوالي (12) مليون مهاجر منهم ( 4.5 ) مليون في فرنسا ( معظمهم من شمال افريقيا ) وحوالي ( 205 ) مليون في بريطانيا     ( أغلبهم من بلدان جنوب شرقي أسيا ) و ( 1.8 ) مليون في المانيا ( أكثرهم من تركيا ويوغسلافيا ) و حوالي مليون لاجيء في سويسرا ( معظمهم من دول جنوب أوربا مثل ايطاليا واليونان )
 
وإبتداءا" من عقد التسعينات من القرن المنصرم , تدفقت إلى دول الأتحاد الأوروبي أعداد كبيرة من اللاجئين من دول أوربا الشرقية بعد تفكك الأتحاد السوفيتي وأنهيار الأنظمة الشيوعية فيها وكذلك من الشرق الأوسط بعد الحرب الأفغانية ويتضح من التصريح الذي أدلى به كارنيلي زونتاك – فولغاست – سكرتير وزارة الخارجية الألمانية بتأريخ 23/7/2000 لمراسلة وكالة الأنباء الألمانية , أن حوالي نصف مليون لاجيءغير شرعي يتسللون إلى دول الأتحاد الأوروبي سنويا" .وخلال عام1999 وفي ألمانيا وحدها أحتجزت الشرطة حوالي ( 38 ) ألف متسلل عند محاولتهم اختراق الحدود الألمانية وحوالي (21) الف لاجيء غير شرعي داخل ألمانيا .
وثمة شبكة واسعة من عصابات المافيا منتشرة في البلدان الأوروبية ولها امتدادات في دول الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا تقوم بتهريب الأشخاص وإلى دول الأتحاد الأوروبي وحسب تقديرات المسؤولين الألمان فأن عصابات المافيا الألمانية تحصل على دخل سنوي يقدر بحوالي 17.6 مليار مارك ألماني سنويا" من  عمليات تهريب البشر وقد استطاعت هذه العصابات من تجنيد بعض العاملين في القنصليات الغربية في جنوب شرقي أسيا للعمل لصالحها فقد القت السلطات الهولندية مؤخرا" القبض على سفير هولندة السابق في سيريلانكا السير ب.كورنر بتهمة المساعدة في تهريب اللاجئين غير الشرعيين إلى هولندة خلال عامي 1996-1997 بالتواطؤ مع عصابتين محليتين متخصصتين في تهريب البشر . وتسهيل وصول عدة مئات من اللاجئين الى هولندة .
 
كان هؤلاء اللاجئين قد حصلوا على سمات دخول مزيفة الى هولندة . ولكن كان من الصعب اكتشاف هذا التزييف لدقته المتناهية , حتى من قبل نقاط السيطرة على الحدود الهولندية ومزظفي الجوازات الهولنديين .
وقد كشفت التحقيقات اللاحقة بأن عددا" من موظفي دائرة الهجرة الهولندية قد تورطوا في هذه العملية أيضا" .
 
وقد مارست دول الأتحاد الأوروبي ضغوطا" على حكومة أقليم كردستان العراق من أجل اتخاذ الأجراءات اللازمة ضد مهربي البشر ومنع تدفق اللاجئين العراقيين الى تركيا ومن جانبها قامت السلطات الأيرانية والتركية بحملات واسعةفي المناطق الحدودية مع العراق لتعقب المهاجرين غير الشرعيين وسلمت السلطات المذكورة أعدادا" كبيرةمن طالبي اللجوء العراقيين إلى حكومة الأقليم .
ويشكل اللاجئون الجدد من دول العالم الثالث طبقة دنيا في قاع المجتمعات الغربية من حيث نمط الحياة ومستوى المعيشة وقد أصبحت هذه الطبقة شبه المعدمة عبئا" ثقيلا" على الدول الغربية والتي أضطرت لأسباب إنسانية وأخلاقية وقانونية الى تأمين الحد الدنى من متطلبات الحياة للاجئين وتقديم الخدمات الاجتماعية والصحية لهم .
 
ويثير وجود عدد هائل من اللاجئين في دول الاتحاد الاوروبي قلقا" مشروعا" لدى حكومات هذه الدول واستياءا" واسع النطاق لدى الرأي العام الغربي .
وقد جاء في دراسة نشرت حديثا" من قبل المركز الأوروبي لمراقبة المظاهر العنصرية أن 70% من سكان ألمانيا أبدوا عدم ارتياحهم من وجود الأجانب في بلادهم عموما" وبخاصة من البلاد الاسلامية ويتجلى هذا الشعور بعدم الأرتياح بأشكال ودرجات مختلفة ويتراوح بين مجرد الشعور بالأنزعاج الى الكراهية المكشوفة والمشاركة في التظاهرات المعادية للأجانب ولأعتداء  عليهم أحيانا" دون أي مبرر .كما حدث مؤخرا فى المانيا حيث قتل متطرف المانى من اصل روسى أمرأة مصرية فى قاعة المحكمة بعد ان لا حقها بالتحرش اللفظى و توجيه العبارات المهينة لها لمجرد كونها مسلمة محجبة . و حالات الأعتداء على اللا جئين فى الدول الأوروبية كثيرة سواء من قبل المتطرفين او من قبل الشرطة نفسها فى بعض الأحيان .
 
وتتزعم أحزاب يمينية متطرفة في معظم دول الأتحاد الأوروبي حملات دعائية قوية تدعو إلى إغلاق الحدود أمام المهاجرين الجدد وإرغام المهاجرين المقيمين بصورة شرعية أو غير شرعية , على العودة إلى بلادهم .
وقد أضطرت دول الأتحاد الأوروبي تحت ضغط الرأي العام إلى اتخاذ اجراءات صارمة للحد من تدفق اللاجئين . ومن بين هذه الأجراءات تعديل قوانين اللجؤ والهجرة والتشدد في منح تأشيرات الدخول واستخدام وسائل فنية متطورة للكشف عن حالات الخداع والأحتيال وضمان عدم استخدام الوثائق نفسها من قبل عدة أشخاص والقيام بحملات كبيرة ومفاجئة لضبط اللاجئين غير الشرعيين وفرض عقوبات على شركات الطيران ووكالات السفر التي تقوم بنقل المهاجرين غير الشرعيين إلى دول الأتحاد دون وثائق سليمة .
 
وقد استغلت عصابات المافيا المحلية والأجنبية هذا الوضع الجديد لجني الأرباح الطائلة عن طريق تهريب البشر من كردستان العراق ودول المنطقة الى دول الأتحاد الأوروبي بشتى الوسائل والطرق المحفوفة بالمخاطر والمهينة في آن معا" . و شهد بحر إيجة حوادث عديدة مفجعة راح ضحيتها عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال من مواطني الأقليم ودول الشرق الأوسط عند محاولتهم الوصول إلى الشواطيء اليونانية والأيطالية ببواخر صغيرة وعبارات وقوارب غير أمينة تفتقر إلى أبسط شروط الراحة والأمان والتي تحملها عصابات المافيا بعدد من الركاب تفوق طاقتها أو الحمولة المقررة لها . وتبحر في جنح الظلام وسط أمواج البحر العاتية .
لقد ابتلع بحر إيجة لحد الآن العشرات وربما المئات من مواطني الأقليم الذين غرقوا وغرق معهم أحلامهم بالوصول الى الارض الموعودة بحثا" عن الحياة الأفضل .
وفي تلك الحالات القليلة التي نجح فيها عدد من هؤلاء المغامرين في الوصول الى الشواطيء اليونانية أو الأيطالية عن طريق البحر والى الدول الخرى عن طريق البر أو الجو , فأنهم يخضعون فور وصولهم الى استجواب شديد وطويل وإقامة طويلة في المعسكرات المخصصة للاجئين وفي حالة قبولهم كلاجئين يتلقون معونة شهرية لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات أو الماركات أوالفرانكات شهريا" .
ولكن هذا المبلغ القليل - بالقياس الى مستوى الدخل والأجور والأسعار في الغرب - يبدو مبلغا" كبيرا" نسبيا" بالمقارنة مع مستوى المعيشة في كردستان , حتى الذين يحملون الشهادات العالية من مواطني الأقليم , فأنهم في حالة نجاحهم في الحصول على حق اللجؤ السياسي أو الأقتصادي , يشرعون من جديد في تكوين وبناء مستقبلهم من نقطة الصفر . عليهم قبل كل شيء تعلم لغة البلد الذي يقيمون فيه ومن ثم أداء الأمتحانات في تخصصاتهم بنجاح ليتمكنوا من إيجاد فرص عمل لهم وممارسة مهنهم . أما من لا يحمل أي شهادة أو لا يمتلك خبرة في تخصص ما فأن من الصعب عليه الحصول على أي عمل مناسب بطريقة قانونية وتبقى أمام اللاجيء مشكلة كبرى لم يحسب لها قط أي حساب من قبل وتتمثل في أختلاف أساليب العيش وأنماط التفكير والسلوك والتكوين الثقافي في الغرب عن الشرق . وبطبيعة الحال لايمكن العيش في مجتمع غربي بعقلية شرقية وسلوك محافظ وأمام اللاجيء طريقان لا ثالث لهما , فأما الذوبان في المجتمع الجديد وتقبل الحضارة الغربية ومحاولة التكيف معها أو الأنغلاق والأنعزال والأنطواء على الذات والوقوع في شرك إزداجيةنفسية تفضي إلى الأنفصام الروحي والمعاناة المستمرة القاسية.
ثمة مثل أوروبي يقول : ( حين تدخل دارا"غير دارك , عليك أن تترك عاداتك على عتبة الباب) ولكن معظم اللاجئين من بلدان العالم الثالث عموما" – ماعدا اللاجئين من دول أوروبا الشرقية الذين يسهل إندماجهم في المجتمع الغربي – يعيشون في الغرب في شبه عزلة أو ( غيتو ) ويحكمون على المجتمع الغربي من خلال بعض مظاهره الخارجية السلبية وإفرازاته المرضية الهامشية بسبب عدم استيعابهم للقيم والمعايير الرحية والثقافية التي تشكل جوهر الحضارة الغربية وكأنعكاس لخيبة أملهم وضياع احلامهم الوردية ووقوعهم فريسة للأحباط النفسي والأنفصام الروحي .
إننا لا نحاول رسم صورة قاتمة لحياة معظم اللاجئين الكرد في الغرب , لأن الواقع أقسى وأمر مما حاولنا إيضاحه فيما تقدم . ولعل الحوادث الدراماتيكية التي وقعت في بريطانيا و السويد ( القتل غسلا" للعار ) والمانيا وهولندة ( حوادث القتل والأنتحار ) خلال السنوات القليلة الماضية والتي تناقلتها وكالات الأنباء الأجنبية وكتبت عنها الصحف المحلية الصادرة في الأقليم , خير دليل على ما نقول .
فاللأجيء الكردي دائم الشكوى أو الحسرة على شيء ضائع هو نفسه التائهة بين حضارة الغرب وتزمت وتخلف الشرق والقلق من المستقبل المجهول ( احتمال الترحيل في أي وقت ) . كما أنني لا أسوق هذا الكلام لمعارضة أو أدانة ظاهرة الهجرة – كما قد يخيل الى البعض – فكل انسان حر في تقرير مستقبله بنفسه وليس من حق أحد – كائنا" من كان -  أن يقحم نفسه في أمور تعد في صميم الحياة الشخصية للآخرين .وحق الهجرة – حق مشروع .
فقد نصت المادة الثالثة عشرة من الأعلان العالمي لحقوق الأنسان الصادرفي العاش من شهر كانون الأول سنة 1948 عن الجمعية العامة لللأمم المتحدة على ما يلي :
كل انسان له الحق في التنقل بحرية واختيار مكان إقامته ضمن حدود كل دولة .
كل أنسان له الحق في مغادرة أي بلد أو بلده , وله حق العودة الى بلده .
واذا كان من حق أي مواطن أن يغادر بلده للأقامة في بلد أخر بشكل مؤقت أو  دائم فأن من حقه أيضا" العودة إلى بلده متى شاء ذلك وليس من حق أية سلطة وضع العراقيل أمامه أو منعه من العودة , حيث ان ذلك يعد انتهاكا" صريحا" لحقوق الأنسان .
 
إن المهاجرين الكرد على علم تام بالمشاق التي سوف يواجهونها في طريق محفوفة بالمخاطر والمستقبل الذي ينتظرهم في بلاد الغربة ويدفعون مبالغ طائلة إلى عصابات تهريب البشر لقاء نقلهم سرا" إلى أي بلد أوروبي , وقد يكون هذا المبلغ هو كل ما ادخروه خلال سنوات عديدة, ومع ذلك يخاطرون بحياتهم ومستقبلهم.
وهنا يبرز تساؤل جوهري : ترى ما الذي يدفع هؤلاء الى الهجرة ؟ هل هو عدم الأستقرار السياسي وتردي الأوضاع الأقتصادية و الأجتماعية أم الفساد  المستشرى كالسرطان  فى الأجهزة الحكومية فى كردستان العراق ؟ ،  ام أن ثمة دوافع أخرى !
نحن لا نقلل من اهمية ما يطرح من أسباب ولكننا نعتقد أن ثمة دوافع آخرى للهجرة لا تقل  أهمية عن تلك الأسباب , بل ربما أقوى تأثيرا" في أتخاذ قرار الهجرة . ولا بد من الأشارة هنا إلى أن لكل فئة أو شريحة اجتماعية أسبابها الخاصة للهجرة . ومن الخطأ تجاهل ذلك وإطلاق أحكام عامة حول أسباب الهجرة لدى الشرائح المختلفة .
إن المثقفين من أساتذة الجامعات والمهندسين والأطباء وأصحاب الكفاءات العلمية الآخرى لا يهاجرون لتردي وضعهم المادي أو من أجل حفنة دولارات .
وأن من السذاجة الأعتقاد بأن طبيبا" مرموقا" تدر عليه عيادته دخلا" وفيرا" يضحي بكل شيء ويخاطر بحياته وحياة عائلته ومستقبله دون وجود دوافع أخرى للهجرة , ولا يشترط أن تكون تلك الدوافع مادية .
كما أن الأقتتال الداخلي لم يكن السبب الرئيسي لهجرة الكرد على نطاق واسع فى منتصف التسعينات من القرن المنصرم   .بل أحد الأسباب فى حينه  والدليل على ما نقول إن المئات من أساتذة الجامعات والمهندسين قد هاجروا من كردستان فى السنوات اللاحقة .
المثقفون الكرد يهاجرون لتفشى الفساد السياسى و المالى و المحسوبية و المنسوبية و البيروقراطية المفرطة فى الأجهزة الحكومية و غياب العدالة الأجتماعية  و أحساسهم الطاغي بالغين وعدم تكافؤ الفرص . وليس ثمة في الحياة الوظيفية ما هو أسوا وأقسى من الموقف الذي يحس فيه المرؤوس أنه أكثر كفاءة" وخبرة" وأفضل عملا" وسلوكا" وأكثر حرصا" على العمل والمصلحة العامة من رؤسائه. هذه المسألة تحديدا تتجاهله الصحافة الحزبية و الرسمية تماما  و لم تحظىبالأهمية التي تستحقها من قبل المسؤولين  وكأن البشر لا حول لهم ولا قوة , الا القبول بكل غبن والرضوخ لكل وضع شاذ خوفا" على مصدر رزقهم .
 
وبطبيعة الحال فأن من يعتز بقدراته العلمية و الثقافية التى دونها سنوات من السعى و التحصيل العلمى و من يتمسك بمبادئه وقيمه الأخلاقية والروحية وكرامته الشخصية لايبقى أمامه الا السكوت على مضض ولو الى حين أو الهجرة بحثا" عن نسمة هواء نقية ومصدر رزق حلال في آخر الدنيا ولو كان دون ذلك ركوب الآهوال والرحيل الى المجهول .
وشبابنا من خريجي الجامعات والمعاهد يهاجرون للبحث عن فرص العمل بعد ان سدت فى وجوههم كل سبل الحياة الكريمة ، فلا تعيين فى الدوائر الرسمية  الا لمن له صلة بصانعى القرار و لا توجد فرص عمل كثيرة فى القطاع الخاص الضعيف  و المتخلف فى الأقليم . فلا صناعة و لا زراعة و القطاع التجارى يتحكم فيه عدد قليل من المحظوظين ! الشباب يهاجرون لضمان مستقبل أفضل ونمط حياة أرقى نوعية لأن نوعية الحياة التي يحياها المرء مهمة لدى الشباب وغير الشباب فالحضارة الغربية تشكل بمباهجها وقيمها وازدهارها عامل جذب قوي لمواطني البلدان المختلفة .
أما شريحة الحرفيين والكسبة فأن الدوافع الأساسية لهجرتهم قد  لا تختلف كثيرا" عن دوافع الشباب . ولكن الدافع المادي لديهم قد يكون أقوى مما هو عليه لدى الشرائح الأجتماعية الخرى .
 
لقد خسر مجتمعنا – ما يزال يخسر – خيرة مثقفيه وأفضل أطبائه ومهندسيه ومن الصعب على المرء أن يتصور كيف يمكن تحديث المجتمع الكردستاني من دون هؤلاء الذين يشكلون ثروة البلد الحقيقية والذين لا يمكن التعويض عنهم بسهولة خلال المستقبل المنظور .
وعلينا الاحتفاظ بالبقية الباقية من الكفاءات العلمية الموجودة في بلدنا اليوم وبذل كل الجهد ممكن من أجل خلق الاجواء المناسبة لعودة من هاجر من العلماء والاطباء والمهندسين , ووقف هذا النزيف الذي الحق أضرارا" بالغة بالنسيج الأجتماعي للأقليم , ولا يكون ذلك بالمنع والنهي والحظر والمواعظ والشعارات , بل معالجة شؤون المجتمع و مشاكله المزمنة  بعقلية متحضرة ومنفتحة وفق اسس علمية سليمة واحترام حقوق الانسان ومبدأ تكافؤ الفرص ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب استنادا" الى معايير المؤهلات والخبرة بعيدا" عن التمييز والمحاباة .
 وعلى أية حال هذه تصورات شخصية عن أسباب ودوافع ظاهرة الهجرة قد تكون صائبة أو خاطئة , وليس هدفنا هو التوصل إلى استنتاجات نهائية وقاطعة , بل لفت الأنظار الى شتى جوانب هذه الظاهرة ومخاطرها وآثارها السلبية على حاضر ومستقبل مجتمعنا وضرورة القيام بمسوحات ميدانية وبحوث علمية جادة لتشخيص الأسباب الحقيقة لها ومعالجتها حرصا" على المصلحة العامة وعملية البناء والتقدم في الأقليم . 


179
من المستفيد من أحتكار المعلومات ؟
                                                                                          جودت هوشيار
 
تحاول  الأنظمة الشمولية  أحتكار المعلومات و حصرها فى نطاق ضيق ضمن النخبة الحاكمة و أدارة شؤون البلاد و العباد فى الخفاء أو من وراء الستار ليتسنى لها تمرير سياساتها بعيدا عن أنظار الرأى العام  . و تتخذ  فى كثير من الأحيان قرارات مهمة لصالح الحزب ( القائد ) أو الحاكم المطلق من  دون الرجوع الى آراء الخبراء و ذوى الأختصاص أو أحترام الرأى العام و مراعاة  مصالح البلاد العليا.
 
 و قد كان احتكار المعلومات على مدى التأريخ – و ما يزال الى يومنا هذا – سلاحا ماضيا و أداة فعالة  بيد كل  الطغاة لتضليل الجماهير و الأحتفاظ بالسلطة لأطول فترة ممكنة ، و هذا  الأحتكار هو السمة المشتركة بين الأنظمة اللا ديمقراطية بصرف النظر عن الأساليب المتبعة لتحقيق ذلك
.
و ينطوى حجب المعلومات عن الرأى العام و عدم أشراكه فى  مناقشة القضايا  المهمة  و فى اتخاذ القرارات بشأنها والتى تمس المفاصل الأساسية لحياة المجتمع و مستقبل  أبنائه على أزدراء دفين للجماهير و عدهم رعايا للدولة و عليهم ان يسمعوا و يطيعوا و ينفذوا ما يأمر به الحاكم ، لا مواطنين يسهمون فى حكم البلاد و من حقهم أن يحصلوا على المعلومات الكافية عما يحدث فى وطنهم  و يناقشوها ليتسنى لهم الوصول الى رأى نهائى بصدد القضايا المطروحة .
 
و يختلف الأمر أختلافا جذريا فى ظل الأنظمة الديمقراطية الحقيقية ، حيث تدرك الحكومة أنها وليدة الرأى العام و خادمة الشعب ، تعبر عن أرادته و تحرص على مصالحه و تحمى حريته ، لذا فأنها لا تخشى مصارحة الشعب بالحقائق و المعلومات المتوفرة لديها عن كل ما يهم الرأى العام معرفته و لضمان حق المواطن فى الأطلاع على  المعلومات التى تمس حياته و حريته و حقوقه الشخصية و السياسية و الأقتصادية .
 
 و تنص دساتير الدول الديمقراطية و قوانين حرية المعلومات المنبثقة عنها على ضرورة مراعاة الشفافية فى عمل المؤسسات الحكومية و حق المواطن فى الحصول على المعلومات و نشرها بأى وسيلة قانونية و بضمنها وثائق الحكومة و مراسلاتها وفغق ضوابط معينة ، كما تتضمن تلك القوانين لائحة محددة بالمجالات السرية ذات العلاقة بأمن الدولة ، حيث يقتصر تداولها على على الأجهزة الخاصة و لكن يمكن الأطلاع عليها أو نشرها عند الحاجة من قبل اللجان البرلمانية أو بناءا على أمر قضائى . و الغرض من وجود هذه اللائحة هو عدم تعسف السلطة فى تفسير أو أعتبار ما هو سرى على هواها . وقد حددت تلك القوانين فترات تتراوح بين ( 10 – 30 ) يوم لتلبية طلبات المواطنين و محاسبة الموظفين الذين يمتنعون عن تقديم المعلومات أو يقدمونها بشكل ناقص مما قد يؤدى الى الحاق الأضرار بمصالح المواطن أو ينتهك حقوقه و حريته .
 
و فى الوقت نفسه فأن قوانين حرية المعلومات فى  تلك الدول تقيد حرية الحكومة و الشركات فى جمع المعلومات الشخصية عن المواطنين و تداولها و اتاحتها للآخرين .
 
يتضح مما تقدم ان المبدأ الذى تعتمده النظم الديمقراطية يجمع بين ضمان حماية المعلومات السرية ذات العلاقة بأمن الدولة و اتاحة المعلومات الضرورية لمشاركة المواطنين فى اتخاذ القرارات التى تمس حياتهم . و يكتسب هذا الموضوع أهمية قصوى فى الوقت الراهن بالنسبة الى العراقيين ، حيث يعيش المواطن منذ سقوط النظام السابق فى دوامة من التشويش المعلوماتى و خلط الأوراق و التصريحات المتناقضة للمسؤولين الجدد  و سط تضليل أعلامى  واسع تقوم به أجهزة الأعلام الحكومية و الحزبية لحجب الحقائق و المعلومات عن المواطنين من أجل التستر على الفساد الشامل الذى ينخر فى جسد الأدارة الحكومية المتخلفة و على الصفقات السياسية التى تتم وراء الستار  لتقاسم المناصب و الغنائم و الأمتيازات .
 
ان الغموض يكتنف جوانب جوانب كثيرة من حياة العراقيين و قضاياهم المصيرية ، دون أن تحاول الجهات الرسمية ذات العلاقة  القاء الضؤ عليها ، ناهيك عن غمط حقوق المواطن العراقى فى  حرية تداول المعلومات و حصوله على المعلومات التى تمس حياته و قضاياه المعلقة و التى نصت عليها المواثيق الدولية و الدستور العراقى  .
 
- المواطن العراقى يتساءل لماذا يتم التستر على خسائر العراق من الفساد التى بلغت 250 مليار دولار، منها 90 مليار دولار من تهريب النفط الخام، والمشتقات النفطية و160 مليار دولار، أهدرها الفساد في الوزارات والمؤسسات الأخرى. ، إضافة إلى حرق 600 مليون متر مكعب من الغاز سنوياً من دون الاستفادة منها. كما أن إلغاء لجنة الشؤون الاقتصادية ، وتحويل صلاحياتها إلى الأمانة العامة، ساهم في اتساع رقعة الفساد.  و تقول "هيئة النزاهة العراقية"، أن معظم العقود الضخمة، تُبرم دون السماح للجهات الرقابية، خصوصاً "هيئة النزاهة"، بالاطلاع عليها أو التحقيق فيها.  و من الواضح تماما ان السلطة الفاسدة  لا يمكنها محاسبة   الوزراء و اعضاء مجلس النواب و كبار موظفى الدولة المتهمين بقضايا الفساد و الأثراء غير المشروع   أو تقديمهم  للمحاكمة رغم معرفة القاصى و الدانى – ابتداءا من مفوضية النزاهة مرورا بديوان الرقابة المالية و مجلس النواب و أنتهاءا بأمانة مجلس الوزراء  –  بأسمائهم و تفاصيل مخالفاتهم و تجاوزاتهم  الخطيرة  ، لسبب بسيط و هو ان جميع مقاصل السلطة  مشتركة فى نهب و تبذير المال العام.
 
 و مما زاد الطين بلة شمول قانون العفو  العام اللصوص الكبار من الوزراء و الوكلاء و المدراء العامين الذين سرقوا او اختلسوا مئات الملايين من الدولارات من خزينة الدولة  . بعضهم هرب بجلده او تم تهريبهم  الى خارج العراق أما الباقون فلا زالوا يشغلون و ظائفهم بكل ثقة و أطمئنان و يتمتعون بكل الأمتيازات الخيالية  التى و فرها لهم النظام الفاسد القائم حاليا .
 
- المواطن يجهل تماما كيف تصرف ميزانية الدولة  و  لماذا لا يتم الكشف عن الحسابات الختامية للأعوام السابقة و أين دور ديوان الرقابة المالية و مجلس النواب العراقى فى هذا المجال ؟
 
- ما هى كمية و قيمة النفط المهرب الى ايران و دول الخليج العربية و من يقوم بالتهريب و من يسهل الأمر للمهربين ؟
 و لماذا لم يرتفع معدلات انتاج النفط و لم تبنى اى مصفاة جديدة رغم صرف ( 8 ) ثمانية مليارات دولار على القطاع النفطى ؟
 
- لماذا تدهورت الزراعة و انحدرت الصناعة الى الحضيض  و لم يعد العراق ينتج  شيئا ذا قيمة .  و كم هو يا ترى الناتج المحلى الأجمالى للسنوات السابقة و ما هى خطط الحكومة لزيادة الدخل القومى و أعمار البلاد  ؟
 
- فى كل مرة يحدث فيها أمر جلل تقول الحكومة بأنها شكلت لجنة للتحقيق و لكن لم تعلن نتائج التحقيق فى أى قضية من الاف القضايا التى شكلت فيها لجان تحقيقية  لحد الآن .. لجان لذر الرماد فى العيون او الضحك على الذقون !
 
- أين ذهبت المليارات المخصصة لتحسين الخدمات ( الماء و المجارى  و الكهرباء و الأسكان و النقل العام  و الصحة و غيرها
 
- لماذا يتم شراء أردأ انواع الأسلحة و بأغلى الأثمان ؟ و لم لم يتم لحد الآن وبعد مرور ست سنوات على سقوط النظام السابق أعادة تأهيل و تسليح الجيش العراقى و تجهيزه بالأسلحة المتطورة بشكل يجعله قادرا على حماية الوطن و المواطن ؟.
 
- لماذا يتم التستر على الأحتلال الأيرانى للعراق ؟ و هو احتلال أخطر من الأحتلال الأميركى ، لأن القوات الأميركية سترحل حتما ،  ان لم بكن اليوم فغدا ، اما الأحتلال الأيرانى فأنه احتلال دائم لكل مفاصل الحياة فى العراق   و سيظل هذا الأحتلال البغيض يجثم على صدور العراقيين و يمنع تطور العراق و تقدمه و ينهب ثرواته  ما دام اللوبى الأيرانى يحكم العراق .
 
- لماذا تعيش عوائل المسؤولين الكبار فى خارج العراق و ما مقدار ثرواتهم و قيمة  العقارات و الأسهم التى يمتلكونها فى الخارج ؟
 
- من هم المسؤولون الكبار الذين يحملون جنسيات أجنبية ؟ و هل توجد دولة فى العالم  يحكمها أناس من ذوى الجنسيات المزدوجة ؟
 
- لماذا أصبحت الوزارات قلاع محصنة و مقفلة أمام المواطنين و هل توجد  فى العالم كله غير العراق وزارات  مقفلة على حزب معين او طائفة بعينها ؟
 
- من قتل و شرد خيرة الكفاءات العراقية و لماذا يعيش المبدعون العراقيون فى فقر مدقع و يثرى الجهلة من الصداميين الجدد ؟ و لماذا يموت  فى كل يوم عالم او مبدع عراقى حزنا و هما و كمدا فى زوايا النسيان دون ان تمد له الدولة يد العون  !
- و لماذا يهرع ا لمسؤولون الكبار الى أفضل مشافى العالم اذا ألم بهم وعكة صحية بسيطة ،فى حين لا يجد  المواطن العادى العناية الصحية الضرورية  و ان كان على شفا الموت.
 
هذا غيض من فيض  من القضايا التى تحيط بها الغموض المتعمد و لا يجد المواطن العراقى لها تفسيرا فى ظل غياب الشفافية فىأعمال الدوائر الرسمية   وبات  احتكار المعلومات و الأستهانة بالرأى العام من أبرز سمات  الحكومات التى تعاقبت على حكم العراق منذ سقوط النظام الديكتاتورى الفاشى .
 
 واذا كنا نريد حقا أقامة نظام ديمقراطى حقيقى فى العراق ، فأن على العهد الجديد مصارحة الرأى العام فى القضايا المهمة و أتاحة الفرصة للمواطن للأسهام فى أتخاذ القرارات التى تمس حاضره و مستقبله و من أجل بناء العراق ( الجديد ) حقا .

180
الحركات المناهضة للعولمة : مالها وماعليها

جودت هوشيار
 
           1 - توطئة
العولمة مرحلة جديدة في التطور الحضاري للأنسان وعملية موضوعية وحتمية تمتاز بشموليتها وتأثيراتها العميقة والقوية في شتى مجالات النشاط الأنساني وهي عملية تحولات جارفة لايمكن الوقوف في وجهها أو إيقافها لأن التطور سنة الحياة , بل ينبغي التكيف معها على نحو أو أخر بما يتفق مع الظروف الأقتصادية والسياسية والاجتماعية في هذا البلد أو ذاك .
ويخطأ من يظن بأن العولمة ظاهرة برزت في العقد الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الاشتراكية , ذلك لأن للعولمة جذورا" تضرب في أعماق التأريخ . و ثمة من يقول بأن أول عولمة تأريخية معرفية ممثلة بتعميم الحروف الهجائية لتحقيق تواصل إنساني يخدم المصالح التجارية , كانت هي العولمة الفينيقية،التي سعت لتحقيق التواصل بين المراكز الحضارية في العالم القديم وبخاصة بين القارات الثلاث الأفريقية والأاسيوية والأوروبية وتبعها في ذلك الحضارة الرومانية من خلال جهودها الحربية الهادفة الى خدمة النظام العبودي الاقطاعي , فحققت أول عولمة إنتصالية عن طريق نشر الطرق البرية وإنشاء المدن العسكرية لخدمة الاهداف التوسعية .
 ويعتقد البعض بأن بدايات العولمة ترجع الى عصر الاكتشافات الجغرافية العظمى في القرون الوسطى , في حين يرى أخرون أنها – أي العولمة – بدأت منذ النهضة الاوروبية وما رافقها من ثورة صناعية وتطور في وسائط النقل والمواصلات سهلت عملية الاتصال والتأثير المتبادل والتفاعل بين المجتمعات المختلفة اما اليوم فاننا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة من مراحل العولمة والتى تتطور بوتائر متسارعة بموازاة وتائر تطور العلم والتكنولوجيا وبخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات الكونية والاتصالات الفورية وهذه المرحلة كأي مرحلة سابقة من مراحل التطور الحضاري لها جوانبها الايجابية والسلبية . ولعل في مقدمة الجوانب الايجابية للعولمة تحرر الشعوب المضطهدة وإشاعة المثل العليا للديمقراطية وحقوق الانسان. والعولمة بهذا المعنى تنطوي على عملية تحرر من سيطرة النظم الشمولية والقمعية المنغلقة (التى تحاول عزل شعوبها عن بقية العالم )، وازالة الحواجز السياسية والجغرافية امام انطلاق الثقافات المحلية الى أفق الثقافة العالمية , والتخلى عن التعصب الأيديولوجى والولاء لثقافة معينة ضيقة والانفتاح على مختلف ألأفكار دون أي تعصب او تطرف , ونبذ كل اشكال وصور اللاعقلانية الناتجة عن التحيز المسبق لأمة أو دين أو ايديولوجيا  والتحول الى عقلانية العلم وحياد التكنولوجيا  .
بيد أن أصحاب النظرة المتشائمة لايرون في العولمة الا جوانبها السلبية الحقيقية والمزعومة , فثمة أنظمة منغلقة كثيرة في العالم الثالث تخشى من تيار العولمة الجارف وتحاول إحكام إغلاق حدودها وأجواءها في وجه رياح التغيير الجارفة التي تجتاح العالم اليوم ولكننا الآن لسنا بصدد الحديث عن تلك الأنظمة , بل عن حركات جماهيرية واسعة في أنحاء شتى من العالم وبخاصة في الدول الغربية تعارض أيضا"العولمة أو بتعبير أدق الأفرازات السلبية للعولمة بطرقها الخاصة .
ان طغيان المادية وهيمنة العناصر السلبية للنظام الرأسمالي تولد عند الشباب في أوروبا والأميركتين شعورا" عاما" بالأفتقار الى هدف الحياة.
 صحيح أن الدول التي ينتمي اليها هؤلاء الشبان دول متقدمة حققت انجازات علمية – تكنولوجية باهرة وتأمين الرفاهية المادية لشعوبها، الا انها في الوقت ذاته سلبت من الانسان راحة النفس والبال وجعلته نهبا" للتوتر النفسي والقلق الدائم. وفي ظل هذا الشعور ليس من المستغرب أن نرى مظاهر التمرد والأحتجاج بشتى صورها ضد الاوضاع القائمة والأيدولوجيا المهيمنة في تلك المجتمعات ومن أجل العدالة والمباديء السامية .
  2-  نشأة الحركات المناهضة للعولمة وأهدافها
ظهرت أولى الحركات المناهضة للعولمة وحركات اللاعولمة في المكسيك عام 1994 وامتدت بعد ذلك بحوالي خمس سنوات الى اوروبا حين  قام المزارع الفرنسي جوزي بوفي باقتحام مطعم (( مكدونالدز )) الشهير بجراره الزراعي تعبيرا" عن سخطه واحتجاجه على القيود التى وضعتها الولايات المتحدة على استيراد الجبن الفرنسي المعروف بأسم (( روكفور )) .
ومنذ ذلك الحين إتسع نطاق مثل هذه الأحتجاجات ضد أهداف أخرى أكثر أهمية وأقوى نفوذا" . واتخذت أولى المجموعات المعادية للعولمة-- وعلى نحو مقصود وصارخ – مواقف مناهضة للمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والتي تمثل أهم رموز العولمة والنظام الدولي الجديد .
ويرى أنصار هذه الحركات أن المؤسسات والمنظمات المالية والاقتصادية الدولية ليست ديمقراطية بما فيه الكفاية ولاتعبر عن مصالح معظم شعوب العالم ( الدول النامية وبلدان أوروبا الشرقية ) بل عن مصالح الشركات المتعددة الجنسيات وان توصيات هذه المنظمات تتناقض ومصالح كثير من الدول النامية ودول أوروبا الشرقية وأدت أحيانا" الى تردي الاوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة والتضخم المالي وتدني مستويات المعيشة كما حدث في الارجنتين وروسيا . كما ان اعمال وانشطة هذه الشركات  تلحق أفدح الاضرار ببينة الحياة وتتسبب في استفحا ل مشكلة الفقر في عدد من دول الجنوب .
إن الحركات المناهضة للعولمة لاتمثل تنظيمات تقليدية متجانسة فكريا وعقائديا" ولا تخضع لتوجيه مركز قيادي موحد، بل تتكون من حركات ومنظمات طلابية وشبابية ونقابية ومهنية شتى وأنصار حقوق الانسان وحماية البيئة وتضم في صفوفها عناصر شديدة التباين في توجهاتها السياسية وشعاراتها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ولكن ثمة عدد لا بأس به من العناصر المعتدلة في هذه الحركات تتألف من مثقفين وبضمنهم أساتذة وطلبة جامعات فعلى سبيل المثال ثمة منظمة تطلق على نفسها اسم (( العالم ليس سلعة )) وهي تتكون أساسا" من أساتذة وطلبة الجامعات الامريكية وبعض المهنيين والنقابيين . وبسبب هذا التكوين الذي تغلب عليه العناصر المثقفة , تبدو هذه المنظمة معتدلة ورصينة فأعضاءها لايحطمون واجهات مكاتب الشركات ولا يرفعون الشعارات الصارخة ولا يشتبكون مع شرطة مكافحة الشغب.
 ولكن بالرغم من الاختلافات السياسية والايديولوجية الموجودة بين الحركات المناهضة للعولمة الا أن ثمة هدف عام وشامل يجمعها معا" وهو معارضة النمط الحالي للعولمة , مما يسهل التفاهم والتنسيق فيما بينها . أن الملايين من البشر المنضوين تحت لواء النضال من أجل عالم أفضل وأكثر عدالة وإنسانية ينتمون الى جنسيات ومهن وفئات عمرية مختلفة وهم يناضلون معا" يدا" بيد بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية واتجاهاتهم الفكرية والسياسية .
ولعل أهم ما تتصف به الحركات المناهضة للعولمة أن الواحدة منها لا تحاول تعزيز مواقعها على حساب الاخرى أو فرض أرائها عليها فهذه الحركات والمنظمات المختلفة تعمل وتناضل سوية دون أن يكون لها مركز قيادي موحد , بل أن كل واحدة منها تحتفظ بأستقلاليتها وفي هذا يكمن ضعفها وقوتها في أن واحد , ذلك لانه لايمكن القضاء عليها بالاجهاز على مركز قيادتها لعدم وجود مثل هذا المركز أصلا" .
ويبدو أن صفة (( مناهضي العولمة )) قد الصقت بهؤلاء الناس الذين يطالبون بتغيير النظام العالمي الجديد من اجل علاقات أقتصادية أكثر عدالة بين بلدان الشمال والجنوب وهم في الحقيقة ليسوا مناهضين أو خصوم للعولمة ( كما قد يتبادر الى الذهن لأول وهلة) , بل مناضلين من أجل " عولمة " أخرى وعالم بديل . فهم لا يعترضون عموما على التكامل والتبادل الاقتصادي بين بلدان العالم , ولا يريدون وضع حواجز أو عوائق بين هذه البلدان , بل أن جوهر موقفهم يتمثل في المطالبة بتنظيم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على نحو يحقق المصالح المشروعة لشعوب العالم بأسره وتغيير " قواعد اللعب " في العلاقات الدولية واستخدام معايير اقتصادية واجتماعية وإنسانية موحدة للجميع دون استثناء . واذا تحققت هذه المطالب أدرك أصحاب رؤوس الآموال إنهم سوف يجابهون بنفس القيود والأجراءات في أي بلد من بلدان العالم فيما يتعلق بالقوى العاملة والأجور والضمان الاجتماعي وحماية البيئة .
ولايوجد بين " مناهضي العولمة" سوى عدد ضئيل من الناشطين الذين يطالبون بحماية المنتجات الوطنية ويدعون الى " السوق الوطنية المغلقة " وغلق الحدود أمام الشركات العابرة للقارات .
أما الآخرون فيطلقون على انفسهم أسماءا" مختلفة " الحركة الجديدة المعادية للرأسمالية " و " حركة عولمة الديمقراطية " و "الحركة المعادية  للشركات العابرة " وغيرها كثير.
و من أبرز شعارات هذه الحركات "أغلقوا الوزارات , افتحوا الحدود " بمعنى أخر تقليص دور البيروقراطيةوتوحيد صفوف الناس العاديين في مختلف البلدان . وبما أن هذه الحركات غير متجانسة سياسيا" وفكريا" ,  لذا ،فأنها تفتقر الى برنامج عمل محدد , فالبعض منها يطالب بالغاء المؤسسات المالية والاقتصادية والسياسية الدولية القائمة الآن مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ،ومنظمة ألأمم المتحدة، بصفتها منظمة تسودها البيروقراطية وتخضع لأرادة القطب الواحد او القوة ألأعظم المهيمنة الأن على النظام العالمى الجديد وكذلك الأحلاف العسكرية مثل حلف الناتو، في حين يعارض البعض الاخر حل منظمة الأمم المتحدة . ولكن الكل مجمع على إنهاء أو تقليص دور الرأسمال الكبير ومراعاة النمو الأقتصادي المتوازن لدول العالم وتقليل التفاوت في مستويات المعيشة بين الشمال والجنوب .
وثمة مطلب آخر عام ومشترك بين هذه الحركات وهو إلغاء الديون المترتبة على عدد من دول الجنوب وأوروبا الشرقية والمقدمة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ,لأن قيام تلك الدول بتنفيذ شروط هاتين المؤسستين الماليتين قد أدى في كثير من الحالات الى تفاقم مشاكلها الداخلية او نشؤ أزمات إقتصادية خانقة .

  3- الأوضاع الراهنة للحركات المناهضة للعولمة
ثمة اعتقاد خاطيء وشائع على نطاق واسع مؤداه إن الحركات المناهضة للعولمة موجودة بالدرجة الاولى في البلدان الغربية أو المتطورة فقط . وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن المساهمين أو الناشطين في هذه الحركات من تلك البلدان يتمتعون بالأمكانات المادية التي تتيح لهم السفر( من شتى انحاء أوربا الغربية والولايات المتحدةالأمريكية) الى أي مكان تعقد فيه المؤتمرات والندوات والأجتماعات المكرسة لقضايا الساعة على الساحة الدولية وتنظيم تظاهرات ومسيرات احتجاجية صاخبة ضد السياسات التي تتبعها الدول الصناعية المتقدمة 
وتقوم وسائل الأعلام العالمية بتغطية حية وواسعة النطاق لهذه  الفعاليات وبشكل مكثف أولا" بأول .
بيد أن القاعدة الجماهيرية العريضة لهذه الجبهة موجودة أساسا" في دول العالم الثالث . فعلى سبيل المثال نجد أن حركة ما يسمى ( الطريق الفلاحي ) تضم في صفوفها حوالي ( 50 ) مليون ناشط من دول العالم الثالث وهي التي قادت أنجح الفعاليات المناهضة للعولمة . في حين أن اهم منظمة اوروبية وأكثرها شعبية وهي (  ATTAC) ( اتاك ) وهو اختصار لعبارة فعاليات المواطنين من أجل دعم مشروع ضريبة توبين )) والمقصود هنا الضريبة التي اقترحها عالم الاقتصاد الامريكي توبين – الحائز على جائزة نوبل – البالغة 0.01 % التي تفرض على المعاملات المالية غير القانونية . وحسب تقديرات توبين فأن المبالغ المستحصلة عن هذا الطريق في حالة تنفيذ هذا المقترح كافية لتوفير الغذاء للجياع وحل مشاكل الحوامل الصحية ونفقات التريبة والتعليم في جميع انحاء العالم .
4-أساليب ووسائل النضال
يعتقد المناهضون لنمط العولمة الحا لي , إن الفعاليات الجماهيرية(التظاهرات والمسيرات الحاشدة والمطالبات المستمرة والملحة ) يمكنها إجبارالخصوم على التراجع . ويلجأ المناهضون للعولمة الى تنظيم نظاهرات احتجاجية صاخبة( بمشاركة مئات الألوف من الشبيبة من شتى انحاء العالم)، فى اى مكان يعقد فيه اجتماع القمة لدول الأتحاد الأوروبى او الدول الصناعية المتقدمة.. ويحدث احيانا ان تخرج مطاهرات احتجاجية كبرى فى عدة عواصم فى ان واحد.وقبل حوالى ثلاث سنوات ، خرجت ثلاث تظاهرات كبرى في ثلاثة مواقع متفرقة من العالم : الأولى في نيويورك حيث عقدت الندوة الأقتصادية العالمية . والثانية في ميونيخ التي شهدت انعقاد الكونفرانس الدولي الثامن حول مشاكل السياسات الأمنية والثالثة في بورتو – الفيري ( البرازيل ) حيث عقد المناهضون للعولمة إجتماعا" صاخبا" ضم حوالي ( 60 ) ألف منهم تحت شعار"الندوة الأجتماعية الدولية لمناهضي العولمة " ومما يثير الدهشة حقا" , المستوى التنظيمي الرفيع لمناهضي العولمة : عشرات الالأف من الشباب من شتى بقاع العالم يتحركون نحو نقطة محددة وكأن عصا" سحرية تحركهم وتوجههم , حيث أن تظاهراتهم تتسم بحسن التنسيق والتنظيم  وربما يكمن السر في ذلك ،أن مناهضي العولمة يستخدمون – وياللمفارقة – أحد أهم انجازات العولمة ونعني بذلك الشبكة الدولية للمعلومات ( الأنترنيت ) في إتصالاتهم .
وجدير بالذكر أن مناهضي العولمة يلجئون الى استخدام الأنترنيت ليس لغرض الأتصال  فقط , بل أن ثمة عددلايحصى من خبراء الأنترنيت المتعاطفين معهم الذين يقومون بأختراق مواقع الشبكات العائدة للحكومات والشركات والبنوك وقوى الآمن وينشرون من خلالها شعاراتهم المفضلة ومما يستلفت النظر إن شرطة مكافحة الشغب تواجه أحيانا" صعوبات جمة في السيطرة على التظاهرات الكبرى التى تنظمها المنظمات المناهضة للعولمة والتى ترافقها حوادث شغب, بيد أن مثل هذه الحالات قليلة حيث تتسم معظم هذه التظاهرات بطابع سلمي .
وعلى الرغم من أن هذه المسيرات والتظاهرات تستقطب اهتمام الاعلام العالمي , إلا أنها من الناحية العلمية لم تحقق أي نجاح يذكر الا في تلك الحالات التي فاجئوا بها خصومهم في سياتل على سبيل المثال , حيث كان من المقرر توقيع إتفاقية (( الأستثمار المتعدد الجوانب ))حيث لم يكن أحد يتوقع أن ينزل الى شوارع المدينة هذا العدد الهائل من البشر مما أدى إلى اغلاق الطرق وإيقاف حركة المرور , مما أرغم المشاركين في المؤتمر على مناقشة جوهر الاتفاقية المذكورة وفي نهاية المطاف تم رفض الاتفاقية وعدم توقيعها , فقد ظهرت اعتراضات كثيرة وملاحظات عدد من الدول المشاركة في المؤتمر .و تبين أن الأتفاقية التي كانت معدة للتوقيع تعطي الحرية للشركات المتعددة الجنسيات على تجاوز قوانين الدول الموقعة عليها , كما استطاعت حركة( الفلاحين المعدمين ) من الأستيلاء على الاراضي غير المزروعة وبضمنها العزبة المملوكة لرئيس البرازيل فيرناندو كاردوزو . إن هذه الحركات يمكن أن تحقق نصرا" جزئيا" أحيانا" ولكن أمال أعداء العولمة في تحقيق النصر على الشركات المتعددة الجنسيات مجرد وهم ساذج لن يكتب له النجاح .
5-مصادر تمويل الحركات المناهضة للعولمة
لعل خير مثال على كيفية تمويل هذه الحركات هو الطريقة التي تم بها جمع الاموال اللازمة               للفعاليات الجماهيرية الحاشدة التي جرت في كل من ( سياتل ) و ( جنوا ) فقد قامت منظمة   Direct Action Network ( DAN )   أي (( شبكة العمل المباشر )) ( وهي منظمة جامعية في الولايات المتحدة الامريكية ) بتوجيه نداء عبر البريد الالكتروني لكل مؤيد لفكرة إقامة تلك الفعاليات أو متعاطف مع التوجهات العامة والأهداف المشتركة لمناهضى العولمة لأرسال دولار واحد لتغطية نفقات تنظيم الفعاليات الجماهيرية في المدينتين المشار اليهما فيما تقدم . وقد استجاب لهذا النداء عدد كبير من المتبرعين , بينهم من أرسل دولارا" واحدا" ومنهم من ارسل عشرة دولارات وآخرون خمسمائة دولار أو أكثر . وبهذا الطريقة تم جمع مبلغ من المال يكفي لأستضافة ( 90 ) ألف مشارك في تلك الفعاليات لمدة يومين . وعندما بدأ كل من إتحاد النقابات البرازيلية وكبريات النقابات العالمية والمهنية في جمهورية جنوب إفريقيا بالأسهام في فعاليات الحركات المناهضة للعولمة خصصت مبالغ من ميزانياتها لهذا الغرض . وثمة أحزاب سياسية وحكومات في أنحاء العالم تمول الحركات المعتدلة المناهضة للعولمة من أجل إخضاعها لنفوذها أو سيطرتها وتحجيم العناصر المتطرفة أو الراديكالية .
ويبدو أن الدول المتقدمة تؤيد مؤسسات المجتمع المدني بشتى صورها ومظاهرها وأحيانا نرى مواقف طريفة أو غير منطقية في هذا السياق ففي جمهورية ألمانيا الأتحادية ثمة محطة إذاعة فوضوية التوجهات دأبت على التحريض ضد الدولة الألمانية وعلى نحو صارخ ومستمر , مطالبة بحل وتفكيك هذة الدولة وغلق جميع المحطات النووية في أنحاء البلاد . ولكن هذه الأذاعة بالرغم من توجهاتها المتطرفة والفوضوية تمول من قبل الحكومة الألمانية . ولولا الدعم المالي الخكومى المتواصل الذي تتلقاه المحطة  لما استطاعت الأستمرار في البث . وقد يستغرب القاريء لما ينطوي عليه هذا الأمر من تناقص واضح . ولكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب إذا علمنا إن المحطة المذكورة تنتزع المساعدة المالية اللازمة لها للأستمرار في العمل , بوساطة محامين يتولون الدفاع عنها .
وثمة مثال آخر على مدى رسوخ المباديء الأساسية لحقوق الأنسان وحرياته الأساسية في المجتمعات الغربية المتقدمة . حيث أن الأتحاد الأوروبي تمول حركة (ATTAC  ) التي تحدثنا عنها فيما سبق والتي تعارض السياسات الأقتصادية والأجتماعية والثقافية لدول الأتحاد . وهذا برهان عملي على مدى  ايمان الشعوب المتقدمة وحكوماتها بحرية الرأي والتعبير قولا" وفعلا" .
6-كلمة أخيرة
   إن من السابق لأوانه الحكم على الحركات المناهضة للعولمة , حيث لم تحقق لحد الآن الا نجاحات متواضعة هنا وهناك . وثمة بعض الباحثين والمفكرين في الغرب الذين يقارنون بين هذه الحركات وبين اللوديتيين الذين كانوا يقومون بتحطيم الآلات والمكائن التي حلت محل العمل اليدوي في أوائل الثورة الصناعية في أوروبا إيان النهضة وأدت الى حرمان الحرفيين من مصادر رزقهم , بيد أن هذه المقارنة غير صحيحة بطبيعة الحال . لأن مناهضي ( العولمة ) لا يناهضون ( العولمة ) من حيث المبدأ , بل يناضلون من أجل ( عولمة ) أفضل تحقق المساواة بين شعوب المعمورة ولاتؤدي الى ثراء البعض على حساب بؤس وشقاء البعض الأخر ولا تلحق الاضرار ببيئة الحياة ومستقبل البشرية .
وأخيرا" لابد من التنويه هنا بأن ثمة أختلاف جوهري وبون شاسع بين مناهضي ( العولمة ) في الغرب الذين يدركون إن البشرية تشكل كلا" موحدا" رغم الصراعات السياسية والمطامع الأقتصادية والأختلافات الثقافية والتوجهات الفكرية ةالأيديولوجية وان مايجري في أحد أجزائة يهم الجزء الآخر ويعنيه وبين أعداء العولمة في الدول المنغلقة أو المتخلقة الذين يرون في العولمة خطرا" داهما" على مصالحهم ومواقعهم وينطلقون في معاداتهم للعولمة من منطلقات ايديولوجية متزمنة وأفكار سلفية عفا عليها الزمن .
أجل ثمة هوة سحيقة بين من يناضل من أجل مستقبل أفضل وعالم ينعم فيه البشر بثمار التقدم العلمي – التكنولوجي والتطور الحضاري وبينة الحياة النظيفة فى عالم تسوده العدالة والمساواة وبين من لايدرك إن العولمة سمة العصر وأنه يعيش في عالم متحرك دائم التغيير والتطور تسوده علاقات متحركة وأنماط حياة متجددة ومن هنا يمكن القول إن معاداة العولمة في الدول المنغلقة مظهر من مظاهر التخلف الفكري والجمود العقائدي , في حين أن المنظمات والحركات المناهضة للعولمة في الغرب دليل على التجدد والحيوية والايمان بالقيم الأنسانية المشتركة بين البشر جميعا" ونضال من أجل      (عولمة ) حقيقية تحترم هذه القيم وتتجاوز الأفرازات السلبية للتقدم العلمي – التكنولوجي . [/b][/size] [/font]

181
ملحمة قلعة دمدم : حكاية الأمير ذو الكف الذهب والحسناء كولبهار
جودت هوشيار

تعد ملحمة (( الأمير ذو الكف الذهب )) المعروفة بأسم ملحمة ( قلعة دمدم ) من أشهر ملاحم البطولة الكردية على الأطلاق وهي تروي قصة نضال أمير كردي شيد قلعة حصينة بهذا الاسم لحماية نفسه وأبناء عشيرته وإمارته من شرور الأعداء والمعركة الدموية التي دارت بين الأمير وأبناء عشيرته من جهة وبين الشاه عباس الصفوي وجيشه من جهة ثانية حيث دافع حماة القلعة الشجعان عن حياتهم وحريتهم واستقلال إمارتهم الصغيرة حتى آخر رجل ولم يستطع الغزاة من أسر أي مقاتل كردي ولم يجد الشاه و جنوده بعد دخولهم القلعة – عن طريق المكيدة والخيانة – الا الخرائب والأنقاض، حيث فضل الأمير البطل الموت بشرف وكرامة على حياة الذل والمهانة في ظل حكم الشاه . وتشير المصادر التأريخية الى أن هذه المعركة الحاسمة وقعت في عام 1605 م على الأرجح  .
تقع قلعة دمدم في شمال غرب كردستان ايران وعلى حدودها مع تركيا وقد ورد ذكرها في كتاب ( الشرفنامة) لشرفخان البدليسي – الذي دون تأريخ الأمارات الكردية في القرون الوسطى – حيث يقول إن دمدم كانت قلعة لرئيس عشيرة برادوست .
و كانت هذه العشيرة تقطن اورمية و ته رغة و مه رغة وبعض المناطق الأخرى . ويبدو من هذا النص إن قلعة دمدم كانت قائمة في عام 1596 حين انتهى البدليسي من تدوين كتابه الشهير وأغلب الظن أن معركة قلعة دمدم وقعت بعد سنوات من بناء القلعة حسب بعض المصادر أو إعادة بنائها حسب مصادر أخرى , وثمة مصادر تأريخية عديدة تطرقت الى قلعة دمدم ومعركتها البطولية الدامية ولعل أهم هذه المصادر هي كتاب (( تاريخ آراي عباسي )) للمنشيء مؤرخ الشاه عباس الصفوي وكتاب (( الكرد )) للمستشرق فلاديمير مينورسكي وكتاب (( الكرد )) للمستشرق فاسيلي نيكيتين وكتب تأريخية عديدة أخرى .
 إن معركة قلعة دمدم ليست من نسج الخيال وانما تستند الى وقائع حقيقية هزت مشاعر ووجدان الأدباء والشعراء الكرد على مر الأجيال المتعاقبة فنظموا فيها القصص والملاحم الشعرية وكتبوا القصص النثرية التي تمجد ابطال المعركة كما ذاعت بين ابناء الشعب الكردى فحاكوا حولها الروايات الفولكلورية ويلاحظ وجود شىء من الأختلاف فى هذه النتاجات الأدبية من حيث وسائل التعبير وأساليب الصياغة والمعالجة الفنية و ذلك أمر طبيعي لأختلاف الرؤى والأساليب و الميول لدى هؤلاء الأدباء و الشعراء.
كما ان الروايات الشفاهية التي أبدعها الشعب وانتقلت شفاها" من جيل الى جيل خضعت للتغير ايضا بأختلاف الرواة  وقدرتهم على التعبير ونظرتهم الى الحياة وقيمها  و الظروف السائدة. ومهما اختلفت هذه الروايات الا أن الرواة الموهوبين حافظوا على ما هو جوهري في مضمون ملحمة قلعة دمدم والتى تعكس مدى اصرار الكرد على مر العصور للذود عن حريتهم ومقاومة الغزاة مهما كلف ذلك من تضحيات.
و لدينا اليوم روايات فولكلورية عديدة لهذه الملحمة سجلها الباحثون و الكتاب الكرد انفسهم كما ان لدينا ايضا عدة معالجات ادبية عن هذه المعركة شعرا" ونثرا"وكان المستشرق الروسي الكسندر زابا سباقا" الي تسجيلها حيث نشر اول ملحمة شعرية عن هذه القلعة الصامدة في عام 1860 في بطرسبورغ .
كما توجد ضمن مخطوطاته التي تركها بعد وفاته عدة ملاحم شعرية اخرى حول دمدم تتشابه في مضامينها وان اختلفت عناوينها ومعظم هذه الملاحم منسوبة الى الشاعر الكردي الكلاسيكي فقي طيران ولكن المستشرقة الرائدة مرجريت رودينكو تقول : ( ان فقي طيران لايمكن ان يكون مؤلف هذه الملاحم لسبب بسيط هو انه عاش في القرن الرابع عشر في حين ان معركة قلعة دمدم وقعت في اوائل القرن السابع عشر ) كما قام العديد من المستشرقين الآخرين بتسجيل ونشر ملاحم شعرية حول قلعة دمدم تعود الى الشعراء الكرد الكلاسيكيين .
وفي الادب الكردي الحديث اصبحت معركة قلعة دمدم معينا لا ينضب للعديد من الملاحم الشعرية والقصص والروايات , لعل اشهرها الملحمة الشعرية التي نشرها الكاتب والشاعر الكردي الشهيرجاسم جليل في كتابه " أغاني الجبال " الصادر في يريفان عام 1970 ورواية رائد الرواية الكردية الحديثة عرب شمو وهي بعنوان " دمدم " وصدرت في يريفان عام 1966  وثمة بحوث ودراسات عديدة حول هذه الملحمة من أهمها وابرزها وأقدمها البحث الذي قدمه الدكتور اورديخان جليل الى جامعة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا) لنيل شهادة الدكتوراه عام 1960 ودافع عن رسالته في العام نفسه بنجاح  ثم اعاد نشر الرسالة على شكل كتاب صدر في موسكو باللغة الروسية في عام 1967 تحت عنوان " الخان ذو الكف الذهب الكردي " ( دمدم ) .
وعلى هذا النحو نرى ان هذه الملحمة البطولية قد نالت اكبر قدر من العناية والاهتمام بين ملاحم البطولة الكردية لانها تجسيد رائع لطموحات الشعب الكردي ونضاله الطويل من اجل نيل حقوقه القومية المغتصبة وانشداده الى الحرية والعدالة والكرامة  كما ان الملحمة طافحة بأنبل المعاني والقيم الانسانية واستعداد لا حد له للتضحية والفداء من اجل المباديء السامية .
 و تبدأ  الملحمة ( فى معظم الروايات الأدبية منها و الشعبية) بلجؤ امير(خان) كردى الى كردستان ايران هربا" من ظلم السلطان العثماني وخيل اليه انه بذلك قد تحرر من ظلم السلطان الى الابد ولكنه كان واهما" ، فالشاه الصفوى لم يكن افضل من السلطان العثمانى.
وتختلف الروايات حول ظروف اللقاء بين الأمير الكردى والشاه عباس الصفوي , وتقول بعض الروايات ان الشاه قد تنكر في زي تاجر ومر على خيمة الامير الكردي قرب أورمية وان كف الامير قد احترق وهو يناول جمرة نار ليشعل بها الشاه غليونه فكافأه الشاه بكيس من الذهب وضعه في كف الامير وتشير روايات أخرى أنه قد ذهب الى بلاط الشاه من تلقاء نفسه وانه عمل سائسا" لخيول الشاه وذات مرة هاجمته زمرة من قطاع الطرق فدافع عن نفسه دفاع الابطال واستطاع انقاذ الخيول وقتل معظم افراد الزمرة وولى الباقون الأدبار ولكن الامير فقد أحدى يديه في المعركة فأمر الشاه بصب يد من الذهب له ثم طلب من الشاه ان يمنحه قطعة ارض يبني عليها دورا لنفسه ولابناء عشيرته  فأستجاب الشاه لطلبه ولكن الامير شيد بدلا" من ذلك قلعة حصينة تضم دورا" لنفسه واتباعه وأنه خطط لهذه القلعة بعناية فائقة حيث كانت أسوار القلعة متينة ولها ابواب حديدية منيعة لاتؤثر فيها حتى المدافع الثقيلة .
وكان داخل القلعة سراديب وانفاق سرية واحواض لمياه الشرب وخزانات للمواد الغذائية والاهم من ذلك كانت القلعة تزود بالمياه من نبع سري وتجري مياهه في جدول مغطى بالصخور ولم يكن يعلم بهذا السر سوى عدد محدود من حاشية الامير ومن بينهم احد العمال الذين شقوا الجدول وساهموا في بناء القلعة وهو محمود المركاني , وكان مجتمع القلعة المتماسك والملتف حول الامير ينعم بالحرية والرخاء بفضل حكمة الامير واجراءاته المدروسة ومهارته في ادارة شؤون أمارته الصغيرة وكان زعيم (خان) منطقة ( مه ركة ) وهي منطقة قريبة من القلعة يخشى سلطة الامير الكردي القوية وصيته ومناعة قلعته .
وحين تزوج الامير الكردي من اجمل فتاة في خانية ( مه ركة) استشاط الخان غضبا" لانه أراد الفتاة لنفسه وليس لغريمه  فأخذ الخان يحيك الدسائس والمكائد ضد الامير الكردي ويؤلب الشاه ضده , وقال الخان للشاه : ان الامير الكردي قد شيد قلعة عظيمة ومنيعة واعلن الاستقلال ولا يعترف بسلطة الشاه فجن جنون الشاه وأمر بهدم القلعة على رؤوس سكانها, وأرسل جيشا" جرارا" لهذا الغرض بقيادة زعيم ( خان ) مه ركه ولكن محاولات جيش الشاه باء ت بالفشل الذريع حيث لم تكن لأ سلحة الجيش الفارسي وبضمنها المدافع تأثير على القلعة فقرر الشاه قيادة الهجوم على القلعة بنفسه وحاصر القلعة لعدة اشهر ولكن حظه لم يكن افضل من حظوظ قواده  واستمر حصار القلعة طويلا" لكن الحياة في القلعة كانت منظمة والروح المعنوية لسكانها عالية .
كانت كولبهار قد انجبت للأمير ولدين وكان محمود المركاني يعمل سائسا" لخيول الامير لينعم برؤية الحسناء كولبهار فقد كان السائس مغرما" بها من بعيد ويطيل التفكير فيها دون جدوى وطرأت في ذهنه فكرة جهنمية وهي أفشاء سر الجدول الذي يزود القلعة بالمياه الى الشاه أذ ربما يجازيه الشاه فيهبه كولبهار, وتمكن محمود المركاني بطريقة خادعة من اللجوء الى الشاه و افشاء سر الجدول  وجاء الشاه وجلس قرب النبع مسرورا" ونهل من مائه بكأس من الذهب وشربه ثم نادى ذلك الخائن وسأله :
-         ما الذي دفعك الى الخيانة ؟
-         أريد ان اخدم شاهي وان احقق حلمي في الزواج من كولبهار.
رمقه الشاه بنظرة ازدراء وأمر بقتله سحلا" وذلك بربطه بذيل حصيان جامح كما أمر بذبح قطيع من الماشية واراقة دمائها في الجدول لتخذ طريقها الى القلعة و  اضطرب سكان القلعة حين شاهدوا الدم يجري في الجدول عوضا عن الماء ولكن الامير الكردي طمأنهم بأن الاحواض والجرار مليئة بالماء وان موسم الامطار قريب حيث تمتلأ الاحواض بالمياه من جديد لحين وصول النجدات اليهم من أشقائهم الكرد في الامارات الكردية الاخرى ولكن طال أمد الحصار ولم تصل النجدات وأخذ الماء يشح وقال والد الامير وهو يخاطب رجال القرية :
-         خير لنا ان نموت في ساحة الوغي من ان يحتل العدو القلعة ويجدنا نحتضر عطشا" علينا ان ندافع عن شرفنا وكرامتنا قبل ان ينتهكها ازلام الشاه !
فهب شباب القلعة وتسلحوا بشتى انواع الاسلحة وبعد ان تفقد الأمير تحصينات القلعة و جاهزية جنوده ذهب ليودع زوجته و ثمة فى بعض الروايات حوار وداعى مؤثر جرى بين الأمير و زوجته الحبيبة. قال الأمير:
  --جميلتى ، لقد ولدت لتعيش حرة فوق الجبال الشم وولدت ولدين كل منهما كالليث الهصور،جدى من اجل تربيتهما تجد فيهما سعادتك،وحين تكون القضية قضية شرف فأننى اعرف ماذا ستفعلين.لا تنسى هذا اليوم.
نزلت دمعتان من ما قي كولبها ر وبرقتا كالبرق وانسابتا على خديها الأسيلين وقالت:

--اذهب يا ليثى الهصور وأنت مفعم بالحب ولن يغلب رجل الحب و التضحية ولتكن كولبهار فداء لك.سأربى أولادك وأرضعهم لبانة الرجولة و الشجاعة.استودعك الله.واقسم بسيفك أن أذيع جدارتك و شهرتك واضحي بحياتي من أجلك. ثم أمر الأمير بإخراج النساء و الأطفال و الشيوخ من القلعة عن طريق نفق سرى يؤدى إلى الجبال القريبة.

كان الغروب قد لون قمم الجبال لتوها بالصفرة الذهبية حين فتحت بوابات القلعة و تدفقت سيول الرجال  هادرة و بوغت العدو ونشبت معركة دموية ضارية استبسل خلالها المقاتلون الكرد ولكن ميزان القوى لم يكن متكافئا فقد حشد الشاه جيشا جرارا يبلغ تعداده اضعافا مضاعفة لعدد المقاتلين الكرد الذين كانوا يحاربون كالأسود تحت قيادة أميرهم البطل وبعد أن استشهد معظمهم , لجأ من بقي منهم على قيد الحياة إلى الجبال ولم يتمكن العدو من أسر أي مقاتل كردي.
وحين دخل جيش العدو إلى القلعة لم يجد سوى الخرائب والأنقاض , فقد فجر الكرد قلعتهم قبل أن يغادروها حيث كان الأمير الكردي قد خطط لكل شيء مسبقا, وحدد طريقة تفجير القلعة عند الضرورة وغدت شجاعة أبطال قلعة دمدم أسطورة تتناقلها الأجيال الكردية المتعاقبة وهي صفحة مشرقة و مشرفة من تأريخ الكرد ونضائلهم وتضحياتهم السخية من اجل الحياة الحرة والكرامة الإنسانية. [/b] [/size][/font]

182
التسلح النووي الأيرانى- تهديد مباشر لأمن العراق 
 
                         
جودت هوشيار

1-مقدمة
في الوقت الذي يعبر فيه المجتمع الدولي عن قلقه البالغ  لسعى إيران الحثيث لامتلاك السلاح النووي ويعتبر هذا السعي تهديدا لأمن واستقرار المنطقة والعالم،ورغم أن الخطر النووي الأيرانى يمس العراق في الصميم،ويشكل خطرا  كبيرا ومباشرا على أمنه و سلامته ، أكثر من اى دولة أخرى  في المنطقة، إلا أن المسؤولين العراقيين الجدد لزموا الصمت المطبق حول هذا الموضوع ولم يصدر عنهم اى رد فعل ،حتى حول التقارير التي تحدثت عن امتلاك إيران فعلا للرؤوس النووية والصواريخ الحاملة لها، وإنشاء مخابئ للأسلحة النووية الإيرانية على مقربة من الحدود العراقية وكأن ألأمر لا يعنى العراق على ألإطلاق ولا علاقة له بما يحدث على حدوده الشرقية  وليس هذا التجاهل، نتيجة لسذاجة سياسية،بل أن المصالح الحزبية والطائفية الضيقة  لأحزاب الإسلام السياسي الموالية لإيران،  هي فوق كل اعتبار لديها و أهم من امن العراق وسلامة أراضيه ومستقبل شعبه.
ولا شك أن امتلاك إيران للسلاح النووي ، إخلال خطير للتوازن العسكري القائم في المنطقة و بين العراق وإيران على وجه الخصوص ،في وقت يمر فيه العراق بأدق مرحلة في تأريخه المعاصر ويفتقر إلى ابسط مقومات حماية  أمنه واستقلاله،و يتعرض إلى غزو ارهابى حقيقي من دول الجوار يستهدف عرقلة العملية السياسية الجارية فيه عن طريق إشاعة الرعب والفوضى في البلاد و زرع الفتنة الطائفية ومحاولة إشعال فتيل الحرب الأهلية.
ويمكن للمرء أن يتصور مدى الخطر المحدق بالعراق في حالة نشوب نزاع مسلح بين إيران وبين الولايات المتحدة ألأميركية أو إسرائيل، أو اى نزاع بين العراق وإيران.سواء أكان هذا               النزاع حدوديا أو ناجما عن التدخل الأيرانى السافر في الشؤون الداخلية للعراق.
( 2 )البرنامج النووي العسكري الأيرانى
منذ نهاية حرب الخليج الثانية تسارعت وتيرة تطوير البرنامج النووي العسكري الأيرانى،حيث استغلت ايران انشغال الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي بمناورات صدام للتحايل على قرارات مجلس الأمن وعرقلة إعمال لجان التفتيش ،ويبدو أن حكام ايران  قد استوعبوا جيدا أساليب صدام في الخداع والتسويف والمماطلة و قد استخدموها بنجاح في السنوات القليلة الماضية ويستخدمونها اليوم في الهاء المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية للتنصل من الالتزامات المترتبة على ايران بموجب ( اتفاقية منع الانتشار النووي )و (البروتوكول الأضافى لاتفاقية الضمانات ) ،حيث يلجأ هؤلاء الحكام إلى المهادنة  أحيانا والى التشدد  أحيانا أخرى،وفق التحولات الإقليمية والدولية من اجل كسب الوقت وليتسنى لإيران تصنيع السلاح النووي وتجربته وتكوين رصيد ستراتيجى منه , وقد لوحظ فئ الأشهر الأخيرة تصلب الموقف الأيرانى  حيال مطالبات الوكالة المتكررة، بضرورة  التزام إيران ( بالبروتوكول ألأضافى) ،حيث رفض البرلمان الأيرانى التصديق على هذا البروتوكول في سبتمبر الماضي، ولجأ المسؤولون الإيرانيون إلى استخدام لغة التهديد والوعيد و قالوا إن إيران سترد بقوة على اى ضربة محتملة توجه إلى منشاتها النووية من قبل  الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل،  وبلغ التحدي الأيرانى للمجتمع الدولي ذروته في إعلان الرئيس الأيرانى مؤخرا بضرورة إزالة إسرائيل من الوجود ، مما أثار تساؤلات مشروعة عن الهدف الحقيقي للتسلح  النووي الأيرانى.
 ومن الواضح تماما أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين لم تأت من فراغ وليست مجرد كلمات جوفاء، بل تستند إلى  انجازات تكنولوجية  مهمة في التصنيع العسكري.
 و تركيز القيادة الإيرانية المتشددة على إنتاج الأسلحة الستراتيجية ، هو في الحقيقة محاولة لإنقاذ النظام المتداعي من الانهيار، حيث أن القلق يساور قادة النظام الثيوقراطى الحالي من اتساع الرفض الشعبي لسياساتها وشعاراتها الجوفاء وأيديولوجيتها الجامدة والمتخلفة التي دب فيها الانحلال  التدريجي بمرور الزمن على مدىاكثر من ( 26 )عاما و لم تعد تلقى القبول لدى الأغلبية الساحقة من الشعب الأيرانى.
وتدرك القيادة الإيرانية الحالية جيدا-- شأنها في ذلك ، شأن اى نظام دكتاتوري آخر -- أنها بحاجة إلى عدو اجتبى كي تستمر في الحكم وان المخرج الوحيد من أزمتها الراهنة، هو  حشد التأييد الشعبي ضد هذا العدو الخارجي ، ولكن ثمة في دهاليز السياسة الإيرانية أقلية من البرغماتيين بزعامة رفسنجانى، كانت حتى إلى وقت قريب ترى أن الحرب مجازفة خطيرة للغاية، بيد أن انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وقطاع غزة و الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية في العراق والخلافات بين أميركا وحلفائها حول ألأزمة العراقية،والموقف المرن لدول أوروبا الغربية من الملف النووي الأيرانى ،كل هذه العوامل، أدت إلى تقوية موقف  القيادة الإيرانية المتشددة، لذا فأنها لا تشعر بالخطر من أية ضربة أميركية أو إسرائيلية محتملة ، بل على النقيض من ذلك ، تسعى هذه القيادة إلى المجابهة عن طريق  التسخين المستمر للأزمة الحالية ‘ سواء برفضها إخضاع منشاتها النووية للتفتيش أو التحرش بالقوات الأميركية و ألانجليزية في العراق، الذي لا يستهدف الضغط على الولايات المتحدة الأميركية لتليين موقف الأخيرة من الملف النووي الأيرانى فقط ، كما يظن البعض ، بل إجبارها على الانسحاب من العراق وإقامة حكومة دينية تدور في الفلك الأيرانى.ومن اجل تحقيق هذا الهدف ، لا ترى القيادة الإيرانية الحالية مانعا من تجهيز التكفيريين الوهابيين أيضا بالسلاح وتقديم الدعم اللوجستى لهم أسوة بما تقدمه للأحزاب الطائفية الموالية لها في العراق.ويبدو أن حكام ايران سائرون على خطى صدام في محاولة الهيمنة على المنطقة وافتعال المشاكل والأزمات والنزاعات المسلحة، التي سيكون الشعب الأيرانى الخاسر الأكبر فيها.

(3) مخاطر السياسة الذيلية للأحزاب الطائفية
 إن قادة الأحزاب الدينية الذين عاشوا سنوات طويلة في إيران وتشبعوا بالأيديولوجيا  الطائفية  وشكلوا ميليشيات تدربت على ايدى الحرس الثوري الأيرانى ولهم علاقات وثيقة بإيران وما زالوا يتلقون  منها الدعم المالي والتسليحى، هم اليوم عقبة كبيرة إمام إقامة نظام ديمقراطي في عراق قوى حر ومزدهر.،يضمن العيش الكريم لأبنائه   ذلك لأن ألإرهاب المتسلل من حدود العراق الشرقية لا يقل خطرا عن الإرهاب الوافد من حدوده الغربية ، حيث تتستر الأحزاب الطائفية الموالية لإيران على هذا التسلل و تتعاون مع الطابور الأيرانى الخامس الذي  يرصد كل كبيرة وصغيرة على الساحة العراقية ، وقد وصل الأمر إلى حد قيام بعض المسؤولين العراقيين بتسريب الأسرار العسكرية والسياسية التي تخص امن العراق إلى القيادة الإيرانية.
ويقول دبلوماسي غربي” يجب أن تعلم إن اى شيء تقوله أو تشاركه مع الحكومة العراقية يصل في نهاية المطاف إلى طهران وان أكثر الأمور إزعاجا هو التأثير المتصاعد لإيران، لدرجة أن رئيس الوزراء ، يريد أن يكون لديه إيرانيون معترف بهم كمجموعة أقلية في الدستور العراقي المقترح."
ويخطأ من يظن أن الأطماع الإيرانية في العراق وليدة اليوم ، بل أنها تعود إلى مئات السنين والغزوات الإيرانية للعراق عبر التأريخ -- بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة التي حكمت إيران  في العهود المختلفة – عديدة ومعروفة  وشهية إيران مفتوحة اليوم  أكثر من اى وقت مضى لابتلاع العراق و الهيمنة عليه ، تأمينا لمصالحها الإستراتيجية ، التي تتقاطع تماما مع المصالح العراقية العليا.
وإذا كانت محافظة ألأنبار قد سقطت أمام الغزو السوري، فأن محافظة البصرة قد سقطت إمام الغزو الأيرانى ، و سوف تؤدى السياسة  الذيلية للحكومة الحالية إزاء الأطماع ألإيرانية  - في حالة استمرارها - إلى سقوط المحافظات الجنوبية ، الواحدة تلو ألأخرى في حضن ايران، وليس ثمة ما يحول دون ذلك، ما دامت (1200)كيلو متر من الحدود المشتركة مع ايران مفتوحة أمام عملاء المخابرات الإيرانية والحرس الثوري الأيرانى، ولا يخطر ببال اى مسؤول عراقي، أن يتساءل بينه وبين  نفسه ، لماذا تتسلح ايران بالسلاح النووي وضد من سوف يستخدم هذا السلاح الفتاك؟إذا لم يكن لتهديد العراق ودول الخليج  من اجل فرض الهيمنة الإيرانية على المنطقة . [/b][/size][/font]

صفحات: [1]