عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - صالح الطائي

صفحات: [1]
1
وجيهة السطل شاعرة متعددة الجهات
الدكتور صالح الطائي
تنماز الحركة الشعرية النسوية المعاصرة بوفرة وغزارة في الإنتاج، وتنوع في الأغراض والموضوعات وتفاوت في الجزالة واللفظ، وقد خلقت هذه الكثرة نوعا من التنافس بين جماعات نون النسوة، تنافس نجح في بعض زواياه في تحريك راسب الطين في عموم حركة الشعر النسوية التاريخية، فنشطها وأعطاها زخما حركيا نافعا، وتسبب بعض منها في تأجيج خصومات وخلق عداوات بينهن، ولاسيما منهن اللواتي لم ينجحن في تخطي الخط الأخضر؛ الذي لا تصبح المرأة شاعرة إلا إذا اجتازته بلا عون من أحد، فتلك النسوة بقين محتفظات بمستوى واحد يقبل النزول ويأبى الصعود، ولكنهن لم يعترفن بالهزيمة، ولاسيما بعد أن فتحت شبكة الانترنيت لهن أبوابها، وفسحت المجال لهن كلهن لينطلقن في كل الاتجاهات دونما رقيب، وينشرن نتاجهن دونما تقييم أو تقويم. وإن كان لشبكة الانترنيت من حسنة تذكر فهي السماح لهن للاطلاع على نتاج بعضهن ولكنها لم تعلم الكثير منهن على فضيلة أن على المرء أن يعرف مقدار نفسه، مثلما سمحت لنا الشبكة الاطلاع على مجمل النتاج النسوي ومتابعته من واقع حيادي لا انحراف فيه.
الشيء الذي أعجبني في ساحة المنافسة التي يخضن نزالاتهن فيها أن بعضهن تصدرن السباق بشعر غاية في الروعة والجمال، واختيار المفردات، ونسق الصياغة، وجزالة الفكرة، ونمط التوصيف وتعدد الأغراض، والعمل المثقف، وبعضهن قصرن عن اللحاق بالركب، فبقين يراوحن في مكان قصي اخترنه ملاذا، وكأنهن يرفضن تطوير أنفسهم، أو لا يملكن عوامل قدرة التطوير التي تدفع بهن للأمام ولو بضع خطوات.
وكانت الشاعرة الدكتورة وجيهة السطل واحدة من اللواتي أجدن وابدعن، وحققن تقدما لا يجارى، ولهذا أسبابه، فهو ربما كان بسبب تخصصها العلمي، فهي تحمل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٦، وربما بسبب النشأة والمعاناة التي تعرضت لها، فهي فلسطينية الأصل من يافا، نشأت وترعرع، ودرست وتعلمت في سورية، وتحمل الجنسية المصرية. فتنوع جغرافية النشأة والمؤثر المجتمعي يزود المرء عادة بدفقات من مواريث مختلفة لكل منها خصوصيته ومواطن جذبه.
غير هذا أعلل تقدمها ربما لأنها باحثة علمية نجحت في إصدار مجموعة مؤلفات تخصصية مثل: كتاب جسم الإنسان في معاجم المعاني. وكتاب مدخل إلى اللغة العربية - منهج ميسر؛ دروس في النحو والصرف مع تدريباتها وحلولها. وربما بسبب كونها محققة سبق وأن حققت كتاب الملمَّع للحسين بن علي النمري، وغير هذا وذات إصدارها في وقت مبكر ديوان حديث العشق. وربما اجتمعت كل هذه الخصال لتعطي شعرها دفقات الروعة والعذوبة والفصاحة والجمال.
وآخر شعر اطلعت عليه من نتاجها المعرفي قصيدة "ما لا يُحتوى ببيان"، التي كتبتها في نهاية شهر آذار من عام 2023، ثم قامت بتعديلها في العشرين من شهر تموز من العام نفسه.       
ما لا يُحتوى ببيان قصيدة اقتبست الشاعرة فكرتها من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وهي تحكي مواقف ومقاطع من سيرة سيدنا النبي الأكرم ﷺ شعرا؛ ابتداء من اللحظة التي كفله فيها عمه أبو طالب:
الله كرّمه وفي القرآن
خصَّ اليتيمَ، بعطفه الربّاني
آوى اليتيمَ إلى حماهُ فأثمرت
سنواتُ عمرٍ فاحَ كالريحان
وبعيدا عن التسلسل الروائي يمكن للحصيف أن يشخص فرادة منهجها البنائي منذ صدر البيت الأول من القصيدة، فهي تتأرجح على الفكرة وتراهن على بساطة الكلمات لتوصل معنى متفردا في عليائه، نافرا مرة وطيعا مرة أخرى، وكأنها تريد الإشارة إلى أسس البساطة المدعومة بالقوة المؤمنة المثقفة التي سينشرها الوليد المقدس الجديد في الكون، لتحل بدلا عن التعقيد الذي أنهك إنسانية الإنسان في مجتمعات طبقية يتحكم فيها الاستبداد والأسياد برقاب الأغلبية المسحوقة.
لم تكن الدكتورة الشاعرة موفقة في اختيار بداية القصيدة فحسب، إذ سارت بعد تلك البداية الموفقة الواعدة مع نمو وتجلي هذا النور السامق والوعد الشارق خطوة خطوة، فوصفت طفولته واشتغاله في رعي الغنم في بادية بني سعد، وعرجت على فتوته واشتغاله مرة أخرى في رعي الغنم بأجياد في مكة:
 كبُر اليتيمُ، وصارَ أجملَ يافعٍ
ولَذكرهُ نغمٌ معَ الخلّان
راعٍ يقدِّمُ للرعاةِ دروسَه
ولكلّ نبعٍ في الفصاحةِ داني
وقريشُ كانت بالقلوبِ تحوطُه
والأهلُ منه على المدى بأمان
فالرعي لا يتيح مددا للتأمل فحسب نتيجة الخلوة، بل ويتيح تعلم وممارسة القيادة، والقيادة فن وممارسة وتطبيق وتطوير، ومن ينجح في تدجين حيوان أبكم لابد وأن ينجح أكثر في محاولته بناء إنسان جديد من عدم الإنسانية البالية التي أنهكها الجور.
وفق المنهج التسلسلي ذاته انتقلت بعد تلك الشروح لتتحدث عن تجربة اشتغاله ﷺ بالتجارة، في إشارة إلى ذهابه مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه بالراهب بحيرا الذي توسم فيه دلائل النبوة:
ثم ارتقى   لتجارةٍ معَ قومِه
وإلى الشآم مضى مع الرُّكبان
والتجارة هي الأخرى تجربة حياتية تنماز بكونها فن وخبرة وأسلوب تعامل ومقدرة على التمييز وانتقاء الأكثر نفعا وعدم الاستهانة حتى ببسيطات الأمور، وهي كلها عوامل تربوية ونشأوية كانت ممهدات تطورية أسهمت في بناء شخصية القائد المؤمل الموعود الذي تنتظره البشرية ليعيد لها ثقتها بإنسانيتها.
بعدها اقتبست قصة زواجه من الوجيهة القرشية أمنا الطيبة السيدة خديجة بنت خويلد، وهو زواج خارج سياقات المنطق مثلما وصفته الروايات التاريخية التي تحدثت عن فارق كبير في السن بينهما، مما دفع آخرين لنقي تلك الأخبار وإبطال تلك الروايات، وكلاهما لم ينتبه إلى أن هذا الزواج أصلا كان بأمر إلهي ولم يخضع لأي مقاييس، وفيه إشارة إلى رؤية الإسلام الذي ينتظر الولادة على يديه المباركتين، بالمرأة كعنصر بناء لا يقل دورها وتأثيرها عن الرجل وهي تزاحمه منزلة، فقالت:
سمعَتْ به ورأتهْ بنتُ خويلدٍ
عشقتْ أمانته، وحُسنَ تفاني
 ولطيبِ سيرتِهِ أصاخت وارتوتْ
ممّا   رَوَوْا عنه من استحسان
بعد هذا الوصف التفصيلي، انتقلت الدكتورة وجيهة إلى مرحلة النأي عن الناس والخلوة بالروح والقلب لاستحضار حقيقة الوجود البهي الذي يشرق في أرجائه نور الله الباهر، انتقلت لتتحدث عن مرحلة الاعتكاف في غار حراء، فأبدعت في وصف دقائقها وأجزلت البوح:
هذا حِراءٌ سوف يسمعُ وحيَه
ليتيهَ   غارٌ   فوق   كلِّ مكان
ويظلّ   مُعتكِفًا    سنينَ   مفكّرًا
وعطورُ   ذاك الفكرِ في الوُجدان
ولأن النور أشرق في الغار، ومن الغار كانت البداية، انتقلت الشاعرة لتتحدث عن نزول الوحي الأول بكل ما تمثله تلك اللحظة التاريخية من وجل يخلع الألباب:
ناداه    جبريلٌ   وردّدَ آمرًا
(اِقرأ) محمّدُ!  يا لَرعبِ جَنانِ
لا!  لست ممن يقرؤونَ ولم تكن
خطَّتْ يمينيَ أحرفًا بمعاني
(اِقرأ) وباسم الله سوف تقولُها
ربِّ الجميعِ معلِّمِ   الإنسان
ولأن كتب السيرة كانت قد أشارت إلى أن النبي بعد أن حُمِّل الرسالة أصابه الرعب فنزل من حراء ولجأ إلى زوجته الأمينة يقص عليها ما حصل، وهو ما وصفته الشاعرة بقولها:
فمضى وخبَّأ خوفَه في حجرِها
فجَرَتْ إليه    ودثّرَتْ    بحنان
مع أن هناك من يرى أن التصديق بتلك الروايات يُعدُ من الأمور التي تخالف المنطق والعقل، إذ يستحيل أن يصاب من كان ينتظر الوحي بلهفة وشوق بكل ذلك الهلع، وهو الذي اعتزل الناس كلهم ولجأ إلى "حِراء" يتأمل ويتعبد وينتظر اللقاء.!
إجادتها وجميل نظمها واستيعابها للروايات التاريخية خلق عندها نوعا من السمو العرفاني شعرت معه بنوع من التقصير، يشعر به كل من يتطوع لمدح رسول الله، فالنبي كيان إلهي يختلف عن كل الكيانات، نعم هو القائل: " إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" ولكن ولادات نساء كل الدنيا لا ترقى لأن تكون في مصاف تلك الولادة العظمى التي أنار لها الكون، ولذا قالت وكأنها تطلب السماح، فهي لم تطلب أكثر من رشفة كوثرٍ من كفه الكريم، وطمأنينة عظمى بأن الشفاعة تشمل الطيبين:
مهما تبارَى المادحون بمدحِه
فهو المُفدَّى والعظيمُ الشان
وبذكره تصفو النفوسُ وترتقي
فالنورُ في الأرواحِ والأبدان
يا مؤمنًا صلّى عليه   مُسلِّمًا
وتلا الشهادةَ عند كلّ أذانِ
ستنالُ رشفة كوثرٍ من كفّهِ
وتفوزُ بعد شفاعةٍ بجِنان
ولتعليل هذا القصور المتخيل، قالت وكأنها تعتذر عن قصورها في بلوغ المعنى:
يا سيِّدي يامَنْ بذكرِك أحتمي
وألوذُ مرتجيًا رضا الرحمن 
يا أيها المبعوث فينا رحمةً
ألهمتني فعزفْتُ ما أشجاني
فالحرفُ في قلبي يضيء جوارحي
وهواك في روحي يصونُ كياني
وإيغالا في الاعتذار سعت الشاعرة وراء تبيان سبب كتابتها لهذه القصيدة، فقالت:
قد قلتُ ما أمْلتْ عليّ مشاعري
وسكبتُه فيضًا بلا كتمان
ورسمتُه مثلَ الضياء قصيدةً
في مدح أحمدَ سيد الأكوان
وفي التفاتة نادرا ما تحدث الفقهاء عنها، ولاسيما بعد أن شذت بعض الفرق واعتبرت مرتكبها مشركا، وأقصد بها موضوعة "التوسل بالنبي"، إذا اختلف الفقهاء بين من قال: إن التوسل جائز إجماعا، ولم ينكره أحد لا من السلف ولا من الخلف، ومن ذهب إلى أن التوسل لا يجوز إطلاقا، ونهوا عنه، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، رغم هذا النشاط التضادي بدا وكأن الشاعرة أرادت التمرد على الثقافة الاقصائية الخالية من الروح وجهرت بعالي الصوت متوسلة برسول الله، فقالت:
ربّاه قد أكرمتَنا بمحمّدٍ
برسالة الإسلامِ والإيمان 
أسبِغْ إلهي مِنْ نعيمِك راحة
وامنح عبادك نعمة الغفران
واقبل عبادًا تائبين لربهم
وأعتق رقابهم من النيران
وارحمْ إلهي في الثرى شهداءَنا
وانصرْ بحقِّ نبيٍنا العدنان
وفق هذه الصياغة بدت القصيدة في بعض جوانبها تقريرية تعليمية أكثر منها وجدانية، وفي جوانب أخرى مغرقة بالوجدانية والروحانية، فجمعت بين نقيضين بشكل محبب مع اعتناء في البناء والإخراج، أما موضوعها المحبب فقد جعلها مقربة للنفوس وأعطاها مقبولية أدبية واجتماعية، فبدت وكأنها أنشودة ينشدها أطفال في غسق ربيعي.
 

2
أيها العراقيون أينكم من المدنية؟

الدكتور صالح الطائي
من يرقب الشارع العراقي، وتعامل الناس فيما بينهم رسميا وشعبيا، يكتشف دون عناء يذكر افتقاره إلى الحياة المدنية بأبسط صورها، فالتشنج، والبيروقراطية في التعامل، والفوقية في العلاقات، والانتقائية في الميول، والتحزب الذي لا يفقه من مبادئ السياسي شيئا، والمذهبية المغرقة بالتشنج والتي تتغذى على نظرية المؤامرة، والضعف في الروح الوطنية، وانعدام ثقافة التكافل والتعاون، وتقليدية المشاريع بما فيها الثقافية والدينية، كلها تدل على أن شعبنا العراقي لم يستوعب بعد ثقافة الحياة المدنية، رغم مرور أكثر من عشرين عاما على التغيير، وتخلصهم من دكتاتورية الحاكم مثلما يدعون.
وهم إن كانوا بالأمس يتذرعون بوجود السطوة الغاشمة التي تمنعهم من ممارسة حياة المدنية، فلا عذر لهم منذ عام 2003، مع أن هناك بوادر فيها دلالات على استجابة بعضهم بل وسعيهم للتغيير، ومن يعرف نسبة هؤلاء سيصاب بالإحباط حتما نظرا لقلتهم نسبة إلى عدد نفوس الشعب العراقي، ولكنها على العموم بشرى خير تزرع في نفوسنا الأمل أن التغيير قادم لا محال، ولكنه سيستغرق زمنا لا طاقة لنا بتحمله، زمن ستقع فيه الكثير من الخروقات والظلم والاستلاب ومصادرة الحقوق وأشياء كثيرة أخرى، لن تمر دون أثر وإنما ستسهم في تأخير تحقيق الهدف لأنها تذكي روح القبلية والثأر والفصل العشائري والوساطات الدينية، وذلك كله يتعارض مع مدنية الأمة.
الذي أراه ومن خلال التجربة والمراقبة والبحث والتقصي أن المدنية لا تُدرك فعلا إلا عن طريق الممارسة الفعلية والمستمرة والمباشرة؛ التي يوجبها القانون الإكراهي، ولو في مرحلة البداية، ويحاسب من لا يعمل بهديها. معنى هذا أنها لا يمكن أن تدرك عن طريق التعليم الرسمي، وإنْ كان للتعليم أثره في ترسيخ متبنياتها وأبعادها، نظرا لكن هذا التعليم يُعنى بشريحة محددة من الناس، فضلا عن ذلك لا يمكن أن نلمس أثر التعليم إلا إذا ما اشتركت معه المؤسسة الدينية والمؤسسة الرسمية ومؤسسة الأسرة والمجتمع كله والشارع، وحتى الأسواق والمتاجر، عندها فقط ممكن أن تعي الجماهير معنى أن تمارس الحياة المدنية لتحفظ كرامتها وإنسانيتها بدل أن تبقى تجتر ظلامات الأمس ولا تفكر بالساعة ولا بغدها القريب.

3
نحن واليابان والتربية والتعليم
الدكتور صالح الطائي

لا عيب أن نتعلم من الآخرين، لنبدأ من حيث انتهوا، ونفيد من تجاربهم الغنية لنتجنب الإخفاق الذي وقعوا فيه في مراحل ما قبل النجاح، بعد أن نسينا ما علمه لنا أسلافنا، ووعوه هم وتعلموه بعد أن اقتبسوه منا، فالمثاقفة والتناقل الثقافي سمة الحياة البشرية في كل حين، ولا يكفي أن يكون أجدادنا عظماء، بل يجب أن نتعلم صنع العظمة ونمارسها.
وما أريد التحدث عنه على عجالة هو موضوع ونظام التعليم الابتدائي في العراق مقارنة بنظام التعليم الياباني، بسبب الإخفاقات الكبيرة التي شخصها المتخصصون في نظامنا، والتي تدفع الطلاب إلى كره التعلم، والتغيب المستمر، والتسرب من الدراسة وتركها، واعتماد أساليب الغش في الامتحان، ودفع الرشاوى من أجل النجاح، وأخيرا وليس آخراً قلة المبدعين، وقليل الموهوبين، بعد أن أصبحت الغاية من التعلم هي الحصول على وثيقة تتيح للطالب الحصول على وظيفة في إحدى الدوائر الرسمية لا أكثر، وبدون أي طموح أبعد من ذلك.!
ففي الوقت الذي يوجب النظام التعليمي العراقي خضوع الطالب للامتحان من الصف الأول الابتدائي، نجد نظام التعليم في اليابان يمتنع عن اجراء أي امتحان مهما كان نوعه للطلاب من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي، لأنها مرحلة الإعداد المركزية التي تبنى وتقام عليها جميع المراحل التعليمية والحياتية الأخرى، فهم يعتقدون أن في هذه المرحلة التعليمية الحساسة هناك عشرات الدروس الأخرى التي هي أكثر أهمية من الامتحان؛ والتي يجب على الطالب تعلمها ابتداء، والتعود عليها بشكل مستمر، ليسهم في بناء نفسه وثقافته ومن ثم بناء المجتمع، والإسهام في تقدم وتطور البلد. من هنا نجدهم يقصرون تعليم الطلاب في هذه المرحلة الابتدائية والأساسية على أساسيات الحياة المعاصرة والنظام المجتمعي، فهم يعطون الأولوية لتعليم الطالب احترام السلوك والأخلاق، واحترام الناس الآخرين دون اعتبار لوضعهم المالي أو الوظيفي أو السلطوي، فالجميع متساوون في نظر الجميع، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، في وقت تخلينا نحن، وتخلت مناهجنا التعليمية عن هذه الجزئية المهمة في الحياة.
وهم يسعون إلى تعليم الطالب أهمية استقلال الذات بالشكل الأمثل، وتعويده على تحمل المسؤولية الفردية والمجتمعية، وإشعاره بأهمية العمل المشترك، ومن ثم تعليمه القدرة على ممارسة العمل المشترك ضمن الفريق، لتعليم الطلاب بشكل عام أهمية تقديس العمل مهما كان نوعه. ومن تجاربهم العملية التي تمارس باستمرار في جميع مدارسهم؛ تعليم الطلاب على المشاركة الجمعية رفقة الأساتذة لتنظيف المدرسة وجميع مرافقها يوميا، فالطلاب العراقيين الذين لا يشعرون بأهمية هذه المشاركة وقدسيتها؛ كونها تسحق الروح الطبقية لدى بعضهم، يقابلها تقاسم طلبة اليابان في تحمل المسؤوليات بكل أنواعها، فهم يتولون مثلا القيام بجميع أعمال المنظفين، طالما أنهم هم الذين تسببوا في وجود تلك الفوضى وإن لم تكن مقصودة، قبالة ذلك تشكو المدارس العراقية من قلة عدد عمال الخدمات والمنظفين، لا بسبب عدم التزام الطلاب بأبجديات النظافة فحسب، بل واحتقارهم لهذا العمل ولمن يقوم به وفق رؤية طبقية مقيتة،  في وقت لا تجد فيه وظيفة عامل نظافة في مدارس اليابان لأن طلابها هم من يتولى هذه المهمة.
وفي الوقت الذي يسهم فيه بعض طلاب المدارس الابتدائية العراقية في تلويث البيئة، وتحطيم الأشجار، وقطف الورود وسحقها، وإلقاء القمامة ولاسيما المخلفات البلاستيكية في كل مكان، تجد نظام التعليم الياباني يسعى إلى تعليم الطلاب أهمية تقدير البيئة وحفظها والحفاظ عليها والعناية بها لتبقى سليمة جميلة مشرقة.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه نظام التعليم العراقي درجة الامتحان بكل أنواعه اليومي والأسبوعي والشهري والفصلي والسنوي هي الفاصل بين نجاح ورسوب الطالب الابتدائي، يسعى نظام التعليم الياباني إلى متابعة مهمة أن يتخصص التعليم في هذه المرحلة في تنمية قدرات المعرفة العامة النظرية والعملية والسلوكية والمجتمعية لدى الطالب، لا من أجل تحصيل الدرجات مثلما هو عندنا.
وفي الوقت الذي تعم فيه الفوضى مدارسنا وبشكل خال من أي وجه من أوجه التحضر والرقي والذوق، يؤكد نظام التعليم الياباني وباستمرار على وجوب التزام الطالب بالأدب والانضباط، وتقدير الوقت، والحفاظ على الموعد، والالتزام بأوقات الدوام والعمل، وبسبب هذا النظام نجد معدلات الحضور في المدارس اليابانية تقترب من النسبة المطلقة 100% في وقت تتراوح نسب الغياب في مدارسنا الابتدائية بين 10 إلى 25 بالمائة وتتجاوز هذه النسبة في بعض الأحيان.
وفي الواقع، بل الذي يحز في النفس كثيرا أننا أجدر من غيرنا باتباع تعاليم ديننا ومجتمعنا التي تدعو إلى الاهتمام بالصغار وفق قاعدة السلف "خذوهم صغارا" المستقاة من قول رسول الله ﷺ: "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"، فالتعليم في الصغر ممارسة عملية، وتمرين تقوية، وتهذيب سلوكي بنائي، وإسهام جاد في وضع أسس النشأة وفق مقاسات العلم والدين والإنسانية، وهي عملية معقدة تحتاج إلى الاهتمام الكبير بجميع أركانها العملية؛ ابتداء بـ"المربى" الذي يكون في هذه المرحلة ورقة بيضاء تنتظر الأقلام لتخط وتطبع عليها ما تشاء، مرورا بـ"المربي" الذي يجب اعداده إعدادا علميا وسلوكيا ومهنيا تحت رقابة صارمة، وصولا إلى "المنهج المقرر" الذي ليس شرطا أن يكون كتابا، فهو قد يكون دروسا نظرية واستطلاعية ومشاهدات حياتية وقصص
إن المنعطفات الحياتية الخطيرة التي يمر بها العالم اليوم، والتهديدات المباشرة لعالمنا العربي والإسلامي، تعتبر مسألة مصيرية حاسمة، تتطلب منا جميعا الإسهام في وضع مناهج التحصين المجتمعي وفق كل المتاحات ومنها إعادة بناء منظومات التعليم في جميع مراحله ولاسيما الابتدائية منها وفق سياقات التحضر والتمدن والمعاصرة، بعيدا عن التقليدية الموروثة بكل سلبياتها وتأخرها، فالتربية بوصفها سلوك تهذيبي يسعى وراء تحسين القدرات والتحصين من الخطأ لا تقف عند مستوى التعليم المنهجي وحده، ولا يكفي الطالب أن يتعلم القراءة والكتابة وحدهما، ولا أن يتحصل على درجات عالية في الامتحانات، طالما أن اللعب مثلا حق طبيعي نشأوي وتربوي في مرحلة الطفولة، وطالما أن التربية الأخلاقية هي التي تؤسس لباقي المراحل المهمة، وعلى الدوائر المتخصصة أن تراعي هذه الملاحظات وتعمل بموجبها من أجل غد مشرق، ليس مستحيلا أن نصله إذا صفت النوايا وأخلص المسؤول.

4
جوابا على رسائل أميرة من سلالة الآلهة
قراءة في كتاب رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة للدكتور علاء الحلي

الدكتور صالح الطائي
على مدى اكثر من ستين عاما قرات كثيرا من الكتب والدواوين والقصص والروايات والدراسات، بعضها كانت قراءات منهجية، فرضت عليَّ من قبل المعلمين في الابتدائية والمدرسين في الإعدادية والاساتذة في الجامعة، وبعضها كانت انتقائية تتبع رغباتي المدفونة في اللاوعي، وخلال كل هذه السنين ، وجدت بعض المواد التي وقعت بين يديَّ بإرادتي، او وُضعتْ بينهما عنوة وكأنها لوح شوكولاتة سويسري شهي، ما إن تبدأ بقضمه وتذوب عصارته بين فكيك حتى تشعر بلذة تنقلك إلى عوالم أخرى بعيدا عن واقعك مهما كانت منغصاته، وتحلق بك في أجواء رياض المتعة ورفاهية الفكر حيث تتألق الجمل وكأنها قلائد نحتت من أحجار كريمة، ونظمتها يد فنان بارع يعرف كيف يخلق الجمال ويقدمه لك ليغير مزاجك نحو الأحسن، ويُحسِّن شعورك، ويمنحك طاقة إيجابية. ووجدت بعضها الاخر وكأنها نحتت من جلاميد صخر قاس، تجرح كفيك إذا تعلقت بها، وتنحدر بك نحو الاسفل بعيدا عن قمم المتعة، فتشعر وكأنك تغرق في أكداس غبار نقلته اليك عاصفة صحراوية هوجاء. وبين هذا وذاك، وجدت بعضها الآخر عديمة اللون والشكل والرائحة، لا تشعرك بوجع ولا بفرح ومتعة، وهي مجرد ملهاة فارغة، تشعر بعد الانتهاء منها بندم كبير على الوقت الذي قضيته معها.
ولقد كان هذا الشعور يلازمني باستمرار، لم أنجح بالتخلص منه؛ لا عندما اقتني كتابا ما فحسب، بل وحتى حينما يهديني أحد الاصدقاء كتابا من تأليفه، فأضطر عادة الى قراءته او تقليب صفحاته بعمق خوف ان يطلب رأيي فيه إذا التقينا مجددًا، كان شعورا يتحكم بطاقتي الإيجابية ويحدد مساراتها ويقلص خياراتها.
هذا الشعور الذي يسعدني أحيانا ويحزنني أحيانا أخرى، كان قد تأجج في داخلي وانا استلم نسخة من كتاب (رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة) الذي اهداه لي صديقي الدكتور علاء الحلي، ولأننا اتفقنا أن نلتقي مجددا بأقرب فرصة، وجدتني منساقا للبدء بتفحصه حتى قبل أن نفترق، لأكون مستعدا للتحدث عنه، فشعرت لحظتها وكأن مبخرة تتصاعد منها نسمات وعي تأسرك فلا ترغب بفراق أجوائها قربتها يد معطاءٍ إلى أنفي، حينها استعجلت الرحيل على أمل أن أختلي بالكتاب في مخدعي بعيدا عن محيط الطوارئ ومؤثرات الفوضى،  واذا بي اجد عالما زاخرا بوهج من نوع خاص، عالمٌ تشعره يلفح وجهك بغرور، ويغور عميقا ليدغدغ شغاف قلبك، ويدغدغ مشاعرك كالسحر.
ولأني قارئ نهم، لي أسلوبي الخاص بالتعامل مع الكتب، قررت بداية أن أؤدي طقوسي الخاصة بقراءة الكتب العزيزة على قلبي قبل أن أحضن هذا الكتاب، ففي عقيدتي أن بعض الكتب تكاد تكون مقدسة، تتطلب قراءتها استعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، مع استحضار جميع الحواس وتفعيلها لتؤدي مهامها بدقة توصلك الى شواطئ المتعة، متعة أن تكتشف من خلال الكلمات والأسطر معجمية تعيد لك ترتيب معاني مفرداتك المتناثرة على أديم الفوضى لتعطيها تنغيما آخر أبعد ما يكون عن النوتات الموسيقية المعروفة، نوتات لا تعرف النشاز  ولا تحتاج الى مايسترو يضبط إيقاعها، فهي بحد ذاتها إيقاعا يشبه تغريد البلابل في صباح ربيعي.
أول ما استوقفني بالكتاب ذلك الإهداء العذب بشطريه الرجالي والنسائي، ففي شطره الرجالي تلمس وفاءً يترجم معنى الإخوة: "إلى صديقي الفخم رواد الجبوري الشاهد الوحيد على جميع انتصاراتي وانكساراتي". وفي شطره الأنثوي تلمس لوعة من نوع عذري: "إلى رَحيل: تلك التي أحببتها بالنيابة عن كل الذين لم يعرفوها في هذا العالم".
غير ذلك، جاءت آراء الأصدقاء في مقدمة الكتاب لتضفي عليه وهجا إن لم يكن بحاجة إليه فهو قد زاده بهاء، وكانت الوقفة الأولى مع الأخ والصديق العزيز الدكتور علي الطائي الذي كتب عن أدب الرسائل موضوعا توضيحيا أورد فيه خلاصة تنامي وتطور هذا الفن منذ العصر الجاهلي مرورا بعصر البعثة المشرفة ثم العصرين الأموي والعباسي، مشيرا إلى أسماء من برز في هذا الفن وأبرز الرسائل التي كتبت، ليختم بالتحدث عن فن الرسائل في العصر الحديث، ثم توجيه الدعوة للنشء الجديد ليهتموا بهذا الفن الذي كاد أن يندثر، وبعدها اعلن عن مشاعره الحقيقية وهو يقرأ هذا الكتاب ولتكن خلاصة رأيه: "اتت هذه الرسائل متميزة بدقة المعاني وبحسن التوظيف وبراعة السبك كأنها طوع قلمه، إذ كلما قرات سطرا منها تاقت العيون والعقل الى السطر التالي مترقبة بشغف الملهوف".
أما الوقفة الثانية فكانت مع الناقد والأديب الصديق كامل الدليمي وقد جاءت مكملة لما بدأه الدكتور علي الطائي في حديثه عن أدب الرسائل، حاول الدليمي من خلالها أن يثبت بالدليل بأن فن كتابة النثر كان موجودا منذ العصر الجاهلي وأنه تطور بتطور حياة العرب ولاسيما بعد البعثة المحمدية وقيام ونشوء الحضارتين الأموية والعباسية، ليبدأ بعد ذلك في استيضاح متن الكتاب ومضمونة، وليخرج بنتيجة لخصها بقوله: "لم أكن أدري حين قرأت باهتمام بالغ وشغف كبير أن يكون ما كتبه علاء الحلي بهذه الأطر الفنية الناضجة، ولكن الذي جعلني الى وضع هذه المقدمة لهذا الفيض الأدبي المؤنق هو العمق العاطفي والمعرفي الذي شكل رصيدا دقيقا للكثير من المعاني الإنسانية التي تحملها هذه الرسائل".

رحلة مع المتن:
من المؤكد أنها ليست بالمهمة السهلة؛ أن يتبنى الناقد تفكيك نص فلسفي تمت صياغته بأسلوب أدبي، وفق أسلوب فن كاد أن ينقرض هو فن المراسلات، إذ جمع الحلي في مادة الكتاب ومضمونه بين تخصصه الأكاديمي الفلسفي، وذائقته الأدبية، وأكاديميته التطبيقية، وثقافته الأسرية والمجتمعية ذات الجذور الغائرة في عمق المجتمع، وما أكتسبه من معايشته لبلد كان من أجمل بلدان العرب (لبنان) على مدى عقد كامل، وتجربته الحياتية بكل إشكالياتها وتعقيداتها ليخرج بنتيجة تسحر الألباب.
إن من المتعارف عليه أن الكتابة ليست بطرا، ولم تكن في أي مرحلة من مراحل سيرورتها بطرا، حتى عندما كانت مجرد رموز صورية مسمارية، بقدر كونها حاجة يقينية لابدية، فرضتها مطالب العيش وتعقيدات الحياة لتحفظ حقوقاً، ثم لتترجم هذه الحقوق، ثم لتتحول إلى مرآة تعكس كوامن معاناة الإنسان الذي تأبط الوجع منذ أن وعى وأدرك جسامة وخطورة أن يكون إنسانا في دنيا التوحش والدونية والهمجية والعبث، ولاسيما بعد أن أدرك أن خير وسيلة لتفريغ أوجاع الروح هي البوح بها ولو في بطن بئر في صحراء التيه، وكم من مرة سعى العقلاء الذين أوجعهم ثقل ما يحملون إلى بوادي النسيان الأبدي، لا لتجارة ولا لمكسب ولا للقاء حبيب، بل ليجدوا الفرصة للبوح بما في كوامن أنفسهم للريح وذرات الرمل، ليتشظى دون أن يعثر عليه أحد.!
هذا بالضبط ما أراد الحلي الإشارة إليه بقوله: "لقد وجدت نفسي معنيا بالكتابة كأولئك الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة ومن الكلمة.... ولذا سوف نظل نكتب ونكتب حتى إذا فرغنا من الكتابة ولم يبق شيء آخر نكتبه؛ ربما سنحترق او ننتحر بملء ارادتنا الخاوية من دون اي تردد! فهكذا فعل الكثيرون من قبل". (ص:34)
إن تمجيد الكتابة كونها الوسيلة الوحيدة لتدوين المضمر الذاتي (ص: 38) يبدو مثل الكتابة نفسها تماما، فالكتابة مجدٌ كان غاية المأمول قبل أن يتحول إلى الإسفاف المعاصر الذي خلقه الخواء الفكري، فالكتابة كانت ثورة حقيقية، وضعت قدم الإنسان على قاعدة صخرية صلبة مكنته من الانطلاق بتسارع مهول أوصله لما هو عليه اليوم، وهو ما أراد الحلي التأكيد عليه بقوله عن الكتابة: "وذلك النهر يا عزيزتي ما زلنا نكتشفه في كل يوم، ونغترف من معينه، فما أروع أن يحترق كاتبٌ في عملية مكتوبة لكي يشرب الآخرون من تجاربه" (ص: 38)
وربما لهذا السبب دون غيره، أورد الحلي في كتابه المنمق هذا أحاديث عن تجارب العمالقة من أدلاين فيرجينيا وولف إلى ستيفان تسفايغ وإرنست منغواي وخليل حاوي وفلاديمير ماياكوفسكي ورينيه فيلهلم وبول توماس مان وتيوفل غوتيه وفان خوخ وبول غوغان وكافكا، اتخذهم كلهم شواهد على حقيقة ما أراد إيصاله بأمانة مطلقة. وبرأيي أن مجرد إيراد هذا العدد الكبير من الأسماء في رسالة واحدة؛ فيه دلالة عميقة على موسوعية الكاتب وجرأته في طرح أفكاره دون وجل من الإكراهات التي قد تواجهه في مجتمع يعبد الأمية ويعشق الجهل، مجتمع تتحكم به القبائلية والدين والموروث العتيق المتآكل وشراهة البدوية السابتة فينا منذ الأزل، مجتمع أدمن رسم الخطوط الحمراء، وكان أول المتنازلين عنها دون إكراه، وقد وضحت غايته هذه من خلال قوله مخاطبا (رحيل) ومن خلالها مخاطبا جميع المعترضين الحقيقيين والمحتملين: "وكل الذي أريده منكِ هو أن تتحملي طريقتي في هذه الرسائل فقط، لأن الدرب إلى قلبك وعر جدا ومعوج، فقد لا أصل إليك بالسرعة الممكنة كما تتصورين" (ص: 47.) وهذه ترجمة حقيقية لوجع العبثية التي يستشعر هواجسها المثقف الذي يُجابه بالصد دون النظر إلى صدق نواياه.
وهذا ليس تخمينا فجا، إذ تبدو العبثية واضحة، يؤطرها يأس من تغير الحال للأحسن مع بواكير رسائله المأزومة، هذا ما يستشف من قوله: "حين يجد المرء نفسه مرغما على كتابة ما يحسه.. فذلك يعني انه يقف أمام خيارات صعبة، تجبره أن يكون مشلولا بكل تفاصيله المرئية واللامرئية من دون أن ينظر إلى باقي الأشياء الأخرى، ربما لأنه مؤمن جدا أن التفاصيل الماضية لا تصلحها كتابة الرسائل أبدا" (ص: 48.).
بدت جميع رسائله التي ناف عددها على اثنين وعشرين رسالة، حتى مع توهج لواعج الحب بين ثناياها، ولمسة الحب التي تطغى على أجوائها المشحونة بالحركة، والنابضة بالحياة وكأنها محاولة لانتقاد العالم.. الحياة.. الكون.. الوجود.. السلطة.. تقليدية التدين.. الوطنية الزائفة.. النفاق السياسي والديني والقبلي، وأشياء كثيرة أخرى، ولذا وصفها بأنها رسائل فزعة (ص: 231.) كيف لا وهو يؤمن بأن الفقراء ينامون ممتلئين بالكلام الذي لم يقولوه بعد (ص: 80.) ويرى أن السؤال يكون أحيانا غولا؟ ولكن ذلك لم يمنعه من التحدث عن حقيقة الأسماء والتاريخ منتقدا الذي طوع آلة الدين لصالح مكاسبه الأخرى (ص: 96.) ساعيا بكل ما أوتي من قوة من أجل انقاذ الإنسان من هشاشته وضعفه لأنه لم يخرج بعد من (الطور الجاحظي) المستهلك، لأنه وضع الكتاب والفكر جانبا والتزم بالدعاء للدين بالنصر وعلى الكافرين بالويل (ص: 126ـ 127.) ولم يردعه من أن يمجد حراك الشباب من خلال رسائل عن "قيود تحت نصب الحرية" (ص: 144.) و(أغداق من بعض نخيل تشرين) (ص: 154.) و(فتنة الأعراب القديمة) (ص: 168.) و(المضحون في الأرض) (ص:208.). وفي الختام اجتمعت خلاصة مضمون الكتاب تحت عنوانين مشاكسين مهمين:
الأول: كان توطئة تحت عنوان "حين تكون الرسائل شاهدا على موت ساعي البريد" (ص: 34.) وهو العنوان الذي افتتح الكتاب به، وكأنه يستشف موقف بعضهم مما سيقول.
والثاني: كان خاتمة تحت عنوان "انطلاق ساعي البريد إلى وجهته" (ص: 230.)، وابتدأه بقوله: "في ختام هذه الرسائل؛ التي سأبعثها بيد ساع لا أعرفه، لا أضمن لك يا عزيزتي أنه سيصلك عما قريب، فربما سوف يحترق في خضم هذا المستحيل الباذخ، ولا يرجع مرة أخرى، إذ لا مطر على سطح الشمس، ولا وجود لرذاذ بارد هناك" (ص: 230.)
أما تقييمه لعمله فقد أوضحته تلك الالتفاتة المبهمة التي ختم بها السطر الأخير من حكايته بادئا بكلمة (ربما) بكل ما تحمله هذه الكلمة النافرة من فخامة ورهبة وحيرة ودهشة وانبعاث واستشراف لمستقبل مجهول غير مضمون: "ربما سأكتب لك ثانية، وربما لن أكتب أبدا، ولكني مؤمن جدا يا حبيبتي أنك مبهرة تستحق كل هذا العناء" (ص: 233).
فهل تستحق الحياة منا كل هذا العناء؟ إنه سؤال غير تقليدي والجواب عليه نسبيا لا تتفق الآراء بشأنه، ولكن الشيء المؤكد أن الحياة لو لم تكن تستحق كل هذا العناء لما برز فيها حملة المشاعل الذين يحرقون أنفسهم لينيروا للآخرين دروب حياتهم.
وآخر ما أريد التنويه عنه رأيي في أنه تبقى هناك حاجة ملحة لمثل هذه النتاجات الناضجة والضاجة بهمس كالصراخ، ليس لإحياء أحد فنون الكتابة التقليدية، وأقصد به فن المراسلات الذي كاد أن ينقرض فحسب، فذلك أمر مفروغ منه، وحاجة لابدية أعتقد أن جميع الأدباء معنيين بها، بل ولضخ دفقات من الجمال في حياتنا المعقدة المليئة بالإخفاقات والمنكدات والانكسارات والهزائم، وحسنا فعل الدكتور الحلي في تناوله هذه المهمة الصعبة في هذا الوقت بالذات.
صدر الكتاب عن دار النخبة للطباعة والنشر في جمهورية مصر العربية عام 2022، بواقع 233 صفحة حجم 20× 14 بغلاف جميل تزينه صورة امرأة بأجنحة وكأنها ملاك يقف في روض تحيط به فراشات الأمل وأوراق بعثرتها الريح، فجاء متوافقا مع المضمون.






5
المنبر الحر / إذا كان ولابد
« في: 14:05 05/10/2023  »
إذا كان ولابد
الدكتور صالح الطائي

العراق من شماله إلى جنوبه يغرق بأكداس مرعبة من النايلون والصناعات البلاستيكية الأخرى، والنايلون واللدائن بشكل عام تنماز مثلما هو معروف بصفة التحلل البطيء جدا، وفضلا عن ذلك يصاحب عملية تحللها انطلاق غازات خطيرة مميتة. وفي الظروف الطبيعية يبدأ تحللها عادة بعد 500 – 700عام من تاريخ طمرها، وبشكل بطيء جدا، أما الأكياس البلاستيكية فيبدأ تحللها بعد مرور 1000عام من تاريخ طمرها، وإذا بقي معدل إطلاقها في الطبيعة بهذا الشكل المرعب قد لا تجد الأجيال القادمة مكانا للزراعة مثلا، ولا من يزرع، فهم سوف تقتلهم الغازات المنبعثة من عملية التحلل.
كل هذا ونكاد لا نلمس ولو مجرد إشارة عابرة من مسؤول؛ عظم أم صغر، أو من وزارة البيئة المعنية بهذا الأمر، أو من أي جهة أخرى مجرد تنويه إلى هذه المخاطر المرعبة، مع أن عملية علاجها لا تحتاج إلى عقول جبارة، بل مجرد اتخاذ بعض الإجراءات يكفي لمعالجة جزء كبير من المشكلة الكبيرة.!
فإذا كان ولابد من استيراد الفواكه والخضر، يجب أن نلزم التجار باستيرادها بصناديق وحاويات خشبية حصرا، وبدون وجود أي أكياس أو نايلون تلف به المادة داخل الصندوق الخشبي.
وإذا كان ولابد من استيراد العصائر والمياه الغازية، وأغلبها مثلما هو معروف مضرة بالصحة العامة، فيجب أن نلزم التجار باستيرادها بعبوات معدنية حصرا.
وإذا كان ولابد من استيراد مياه الشرب المعقمة، فيجب أن نلزم التجار باستيرادها بعلب معدنية، ونلزم أصحاب المحطات المحليين باستخدام العلب المعدنية.
وإذا كان ولابد من استخدام الأكياس عند التبضع، فيجب أن نلزم الأسواق والباعة باستخدام الأكياس الورقية.
وأترك الباقي لوزارة البيئة عسى أن يُحلل وزيرها وموظفوها رواتبهم التي يتقاضونها من خلال تفعيل عمل وزارتهم، أليس من واجباتهم الأساسية حماية البيئة وتحسين عناصرها المختلفة بشكل مستدام؟
أليس من واجباتهم الأساسية المحافظة على مكونات البيئة والارتقاء بها ومنع تدهورها او تلويثها؟
أليس من واجباتهم الأساسية اتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي من شأنها إلغاء الآثار البيئية السلبية أو تخفيفها إلى المستويات المقبولة محلياً وفقا للتشريعات الوطنية والمعايير الدولية المعتمدة؟
أليس من واجباتهم مراقبة ومتابعة وجود أي من الملوثات في البيئة بكمية أو تركيز أو صفة تؤدي بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الإضرار بالإنسان او الكائنات الحية؟
فلماذا لا نجد لهم أثرا؟ ولماذا لا يؤدون واجباتهم؟ ومتى تختز شوارب المسؤولين ليهتموا بمصلحة المواطن المسكين؟ أم ستبقى المعادلة أذن من طين وأخرى من عجين، و(لكم الله يا خائبين).
وأنت أيها الإنسان العراقي، ما دورك في هذه المعادلة غير العادلة؟ هل أديت دورك في الحفاظ على موطن أولادك وأحفادك؟ لماذا لا تنتبه للضرر الكبير الذي تحدثه من خلال تعاملك مع البلاستك بهذا الشكل الغريب؟
إن العقلاء والحكماء يعترضون المشكلة في طريق سيرورتها قبل أن تصل إلى هدفها وتستفحل فيصعب علاجها، فلماذا لا نرى أحد منهم يشمر عن ساعديه ليعترض طريق هذه المشكلة القاتلة؟ أم ليس بينهم حكيما ولا عالما؟ وغذا كانوا كذلك فلماذا لا يبتعدون ويفسحون المجال للعلماء والحكماء لكي يقودوا البلد قبل خراب البصرة؟
بالمناسبة هل أن البصرة لم تخرب لحد الآن؟ وكيف هم مع استخدام المياه المالحة غير الصالحة للاستخدام البشري؟؟



6
الخروج من دائرة التاريخ
الدكتور صالح الطائي
تنماز الشعوب ذات التاريخ العريق أن لها ذاكرة جمعية تبقى فاعلة ومؤثرة مهما تغيرت ظروف معيشتها ودرجات وعيها، وقد عرَّف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "موريس هالبفاكس" (1877-1945) الذاكرة الجمعية بأنها: ذاكرة ثقافية، وهي صدى في الوقت الحاضر لذاكرة جمعية محيت أو توارت في الرتبة الثانية، هذه الذاكرة عبارة عن تعديل وتدليل مستمر، مرتبط بالتغيرات والتحولات التي تمس جماعة معينة، والتي تفرض توافقات، وتقسيمات ينتظم مختلف أعضاء الجماعة لها وفقا لصالحهم الخاصة، محتفظين في نفس الوقت ـ حسب كل حالة ـ بهذا القدر أو ذاك من الذكريات، ينتج عن ذلك أن الذاكرة الجمعية التي تنتشر بعد الآن كذاكرة اجتماعية، تكون منسوجة من تيارات فكرية، دون أن تكون منغمسة مباشرة في جماعة مرجعية معينة. والذاكرة هي اللّحمة والبنية ذاتها للهوية الجمعية والهوية الفردية (1).
نعم تخلت بعض الشعوب عنها، وطورتها شعوب أخرى إلا نحن العرب والمسلمين، كنا في بداية أمرنا قد حصرنا أنفسنا ضمن دائرة التاريخ تحت سطوة الذاكرة الجمعية، وآمنا أن هناك قوتان توجهاننا، الأولى: قوة عمودية، هي قوة الإيمان، والثانية: قوة افقية هي قوة المكون والمجتمع والفئة والمذهب وثقافاتها الموروثة والمؤثرة، وقد نجحنا من خلال ذلك في تحقيق مكاسب عظمى، ما كانت لتتحقق لولا هذه الدائرة التي شحذت هممنا، وأعطتنا القوة لننتصر في نزالات كثيرة، أهلتنا لقيادة العالم ردحا من الزمان.
وبقوة المنتصر كان المفروض بنا مغادرة دائرة التاريخ، والتخلي ولو جزئيا عن بعض موروث الذاكرة الجمعية، والبدء بتأسيس ذاكرة جمعية مستحدثة ومُستلهمة من الواقع، ولاسيما بعد النصر الذي حققناه، لنبدأ التعامل مع التاريخ الطولي الذي يتطلع إلى الأمام، ويتوكأ على فلسفة التاريخ وأستكناه المستقبل، ولكننا استنبطنا شكلا هندسيا تاريخيا جديدا يتكون من دائرة ومستطيل متداخلان، وكانت إحدى عيوبنا أن إحدى عيوننا تتطلع نحو المستقبل والعين الأخرى كانت مشدودة إلى التاريخ والموروث بما فيه مواريث الجاهلية والقبلية. وحتى هذا الاكتشاف المبهر كان له أن يحقق لنا نتائج عظيمة لو أحسنا التعامل معه وتوظيفه بحكمة وعقل، لكننا استخدمناه على هوانا، وصرنا نغلب المستطيل ردحا من الزمان، ثم ننكفئ نحو الدائرة حتى في الجلسة الحوارية الواحدة نفسها، فإذا تحدثنا عن متع الدنيا ولذاتها، سرنا في طريق التاريخ الطولي، لنشرعن الغوص في عمق اللذات المتاحة، وإن تحدثنا عن الدين ومبانيه عدنا إلى التاريخ الدائري وحصرنا أنفسنا فيه، بل في أضيق مناطقه وأكثرها توحشا، على خلاف العالم كله الذي ابتدأ وفق استطالة التاريخ من: ما قبل التاريخ، ما قبل الجغرافيا، ما قبل الإنسان، ما قبل العقل، ما قبل الحداثة، ما قبل العلم، ما قبل الدولة ، ووصل إلى: التاريخ والإنسان والعقل والحداثة وغيرها، ومر بما بعدها: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد النسوية، ما بعهد الكولنيالية، ليستقر عند: نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان والإنسان الأخير، وليصل اليوم إلى: ما بعد الإنسان، هذا المصطلح الذي يترجم قلق رجال الدين والفلاسفة والعلماء على مستقبل الإنسانية بسبب ما تصنعه مختبرات البيوتكنولوجي (Biotechnology) أو التكنولوجيا الحيوية (2)، وهو الأمر الذي سيخلق حالة تتجاوز حدود تصور الإنسان وقدراته الذهنية، أملا في تغيير طبيعة الحياة والموت ومستقبل الكون ما بعد الكائنات الحية، وكناتج عرضي لفوضى التجديد حدثت جميع التبدلات الأخرى التي رافقت وزامنت مرحلة تغيير معاني المصطلحات التي أحدثها "البرادايغم" (Paradigma) هذا المصطلح الذي أستحدث في نهاية ستينات القرن الماضي للتعبير عن النموذج الفكري، أو النموذج الإدراكي، أو الإطار النظري، وأثر الثورات العلمية في استبدال أي إطار مفهومي بواحد جديد آخر، يناسب رؤاهم ومخططاتهم، ولا يشترط أن تكون له علاقة بأي مفهوم متداول آخر. ويمثل البرادايغم مجموع القوانين والفرضيات والنظريات العلمية المتداولة بما فيها المعارف الأساسية؛ التي يرى أنه سوف يقوم بتحويلها عن معناها القديم بما يعني أن مخططا خطيرا جدا معد لإحداث تغيير وتجديد عام وثورة شاملة في جميع المفاهيم المتداولة، وأهمها مفهومي الدين والأخلاق، وقد بنت بوادر هذه المخططات من خلال الثورة التجديدية التي تقودها الدول الغربية، وتدعمها بجميع قدراتها لتغيير جميع المفاهيم والمصطلحات الموروثة والمتداولة التي انهزمت أمام مصطلحي الجندر والنوع الاجتماعي.
وأعود وأقول: إن كل هذا يدعونا كأمة مستهدفة دينيا وقوميا؛ وبشكل فوري لتكون ردودنا واستجابتنا فورية، فالسكون والركود والتكاسل يعني أن قوة المنافس سوف تتعاظم، فيتعذر علينا مواجهتها، وقد نصح العقلاء عبر التاريخ أن يتم التصدي للمشكلة وهي في طريق سيرورتها، لا انتظارها لتصل إلى هدفها، ومن ثم التفكير بكيفية التخلص منها.
إن كل المخرجات المعاصرة تنبئ أن العالم يمر الآن في أخطر مرحلة من مراحله التاريخية، وأنه مهدد إن لم يكن بوجوده الفعلي وبقائه، ففي فقد هويته الإنسانية، بعد أن أقرت حكومات الغرب قوانينها الجندرية الجديدة، تلك القوانين التي خلطت الأوراق بشكل يوحي بخطر ماحق يستحيل معه بعد سنين قليلة فهم الكثير من المصطلحات الموروثة التي صاغتها وابتدعتها العقول الإنسانية بدعم من الأديان وقيم التحضر بعد سنين طويلة من المعاناة والوجع والتجارب القاسية، لترسم من خلالها ملامح جوهر وجودها المثالي، الذي يفيد من كل ما يحيط به من أجل غد أسعد وعيش أرغد ونعيم يتجدد.
إن خلط الأوراق أفقدنا تلك الفرصة الرائعة التي أتاحت لنا تسمية الأشياء بمسمياتها الأقرب إلى نفوسنا، وعلمتنا منافع التخصصية والتحديد والجزئية البنائية، وهم من خلال عملهم القبيح هذا ألجأوا العالم للبحث عن مسميات جديدة تحدد العلاقات بين البشر ليس من بينها تسمية الأسرة أو المحارم أو الجنس، وأنا واقعا لا أدري إن كان فلاسفة ما بعد الحداثة هم الذين أسسوا لهذا الانحراف من خلال تنبيههم لمواطن الصراع بين الفلسفة والواقع المتغير أم أن ما حدث هو سُنَّةٌ أخرى من سنن الحياة التي مرت بها جميع الحضارات التاريخية المعروفة، تلك الحضارات التي ما إن وصلت إلى هذه المرحلة الخطيرة حتى بدأ الهرم والتآكل ينخر بجسدها، فتلاشت إلى الأبد، وأن انتباه هذه السنة وصحوتها في عصر حضارتنا الراهنة القلق ما هو إلا إيذاناً بقرب نهاية حضارة الإنسان الأخير. فهل ستكون حضارتنا المعاصرة آخر الحضارات، أم أنها عملية ولادة جديدة لنوع إنساني جديد له قدرة إدراك إنسانيته بعيدا عن سياسة خلط الأوراق التي تقود العالم اليوم نحو الجنون المطلق؟
إن ظني يدفعني للاعتقاد أن أربعة فلاسفة فرنسيين هم الذين مهدوا لهذا التبدل، ومنهم: ميشال فوكو (1926 - 1984) وهو: فيلسوف فرنسي، وواحدا من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وعالج مواضيع مهمة مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. وهو الذي ابتكر مصطلح أركيولوجية المعرفة. فضلا عن ذلك أرّخ للجنس ومعالجاته الجدلية المعاصرة كما في كتابه (تاريخ الجنسانية)، أما على أرض الواقع ففوكو كان مثليا معروفا ومولعا في العلاقات الجنسية الشاذة المتطرفة. ومثله مواطنه رولان بارت (1915ـ 1980) وهو ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي. كان أستاذا للسميولوجيا في كولج دي فرانس. وزميلهم الفرنسي الآخر جيل دولوز (1925 ـ 1995)، ولا أعتقد أن المصادفة وحدها هي التي اختارت أن يكون الثالث منهم فرنسيا هو الآخر، كان بارت من الداعمين للمذهب السبينوزي ومتأثرا بدراسات سبينوزا في الفلسفة القارية. كتب بالاشتراك مع المحلل النفسي فيليكس غوتاري مجلدين عن الرأسمالية والانفصام: مكافحة العقد النفسية عام 1972 وألف هضبة عام 1980، وهو صاحب أطروحة ميتافيزيقية هي الفرق والتكرار (1968) أثر عمله على مجاميع متنوعة من التخصصات عبر الفلسفة والفن. وآخرهم هو الفرنسي جان بودريار (1929 ـ 2007) وهو عالم اجتماع اشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والثقافة المعاصرة والاتصالات التكنولوجية، وكان مهتما بالأدوار الجندرية.
نشأت فلسفة ما بعد الحداثة لتخوض في الثقافة والهوية والتاريخ واللغة، وهذه المسميات هي أصل المكون الثقافي والفكري الإنساني، ثم سعت لإعادة صياغة مفاهيم في غاية الخطورة مثل: الاختلاف، والتكرار، والتتبع، والفرط الواقعية، وغياب الوجود واليقين المعرفي، في محاولة منها لبناء حقيقة وآراء العالم بعيدا عن الموروث. وكانوا يعتقدون أن مهمتهم التاريخية هي استكشاف مسار جديد للأفكار والرؤى بعيدا عن الطريقة القديمة الموروثة ورؤيتها للأشياء. وهذا بالضبط ما روجوا له، واعتنقته عن طريقهم المنظمات السرية التي تسعى لإعادة تراتبية العالم وفق رؤية تتيح لها قيادته دون مشاكل، وهم يعلمون أم لا يعلمون خلقوا أعظم المشاكل التي لم يحلم العالم يوما أن يمر بمثلها، في الأقل منذ أن استقر الإنسان البدائي وعرف الأسرة والزراعة، وأنشأ المجتمعات وابتكر الآلات، وأتعب نفسه في نحت المصطلحات التعبيرية التي ترجمت الواقع وأعطته دلالات مفهومة، يعني ضياعها ضياع جهد الإنسانية التاريخي.
نعم أنا لست جامدا على النصوص، وأدعو في أحيان كثيرة إلى تجديد الكثير من مفردات الموروث، ولاسيما تلك التي لا تتوافق مع ما وصل إليه الإنسان اليوم، ولكن القضاء المبرم عليها يعني قتل التراث الإنساني الذي بنت البشرية عليه مقومات وجودها. وإذا وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، وهي قد وصلت فعلا، وبدأ العمل بمشروع التبديل من خلال دعم البديل، ومعه بدأت القيم والسلوكيات تتبدل بشكل سريع جدا وخطير جدا، تُسهم في انضاجه جميع القوى وفق أيديولوجيات مرسومة ومعدة للتطبيق الميداني بدأً برياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات والمؤسسات العامة وأجهزة الدولة والمؤسسات والشركات الإنتاجية والخدمية والأسرة والحياة العامة برمتها، والحياة الشخصية لكل فرد، فالمنتظر وقوعه لن يتجاوز مجرد فوضى شاملة عارمة يمكن السيطرة عليها أو تجنبها، ذلك لأن ما سيحدث سوف يقتلع الإنسان من واقعه الحياتي النسقي، ليدخله في عالم افتراضي هلامي الشكل، يُفَصِلُهُ كل إنسان على هواه، فتنفصم عرى علاقاته مع كل الآخرين بما فيهم الأب والأم والأخ والأخت؛ الذين سيتحولون تلقائيا إلى (آخر) يجوز التعامل معه مثلما يتم التعامل مع أي آخر غيره بما في ذلك إقامة العلاقات الجنسية.
وتكمن الخطورة في أن من أدخل هذه الفوضى التي ستصادر جميع خصوصياته وخصوصيات العالم كله، لن ينجح بمغادرتها مطلقا، ولذا.. ولأننا لا زلنا نتفرج على ما يحدث، ولم نحشر أنفسنا فيه بشكل مباشر إلى الآن، لأنه يبدو بعيدا نوعما عنا، مع أنه يقف على أعتاب بوابات مدننا، وقد اخترق بعض خطوط دفاعاتنا، فالمفروض أن نعتبر بما حدث ويحدث، وأن نتسلح بكل قوانا التاريخية لنحمي أنفسنا من الوقوع في أتون نارهم الحارقة، وهذا لن يتحقق إلا إذا ما وحدنا صفوفنا، ولا يمكن لوحدة الصف أن تتحقق إلا من خلال تفعيل المشتركات التي تُكَوِّن وتُؤسس الهوية الجمعية؛ التي نفتقد إليها اليوم بسبب كم الفتاوى العملاق الممتد على مدى أربعة عشر قرنا، والذي يحدد لنا مساراتنا قسرا وإكراها، ويتحكم بعلاقتنا لا مع المختلف عنا فحسب بل وحتى مع من نأتلف معه، كل حسب مرجعيته، رغم علمنا اليقيني أن تلك الفتاوى كانت لها دوافعها الدنيوية التي أفرغت الكثير من الجانب الروحي والديني للأحكام، وحولتها إلى ملهاة تشغلنا عن تتبع منهج النجاة، ولن ننتبه إلا بعد أن نجد أنفسنا في طابور الخاسرين، لأننا شئنا أم أبينا سوف نرضخ للإرادات الخارجية سواء كانت من قبل المنظمات الدولية ذات القوانين الإكراهية، أم كانت دولا عظمى ترفض أن يقول لها أحد ما: كلا.



الهوامش
(1)    ينظر: دانيال ليجيه وجان ويليام. سوسيولوجيا الدين، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة ـ مصر، 2005م. ص269.
(2)    التكنولوجيا الحيوية تعني: علم مبتكر يركز على المبادئ الأساسية لعلم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي (البيولوجيا الجزيئية) وبيولوجيا الخلية في محاولة لإدخال تعديلات بنيوية على الكائنات الحية جينياً (الإنسان والحيوان والنبات) وفق برامج التربية التي تستخدم الانتقاء الاصطناعي والتهجين من خلال التلاعب بالهندسة الوراثية عن طريق تقنيات زراعة الخلايا والأنسجة.

7
الإسلام بريء.. أنتم متهمون
الدكتور صالح الطائي
عنصران اثنان اشتركا في تشويه صورة الإسلام، وتجريده من الرحمة؛ التي هي واحدة من متبنياته الأساسية، وأسهما في وصمه بالدموية والعنف:
الأول: أبناؤه المتطرفون الجامدون على النص، الذين أعطوا لعقولهم إجازة مفتوحة، وتمسكوا بالشاذ والمختلق والكاذب. وهؤلاء هم الذين تسببوا في نشر ثقافة القطيعة بين المسلمين، وروجوا لها مستغلين ما أنعم الله به عليهم مع حاجة الشعوب الإسلامية وفقرها إلى القليل منه لتقيت نفسها، وتدفع فقرها، وهؤلاء هم الذين راهنوا على الجانب الخبيث في الإنسان، فأحيوا الذئب في داخله، وغذوه بالكراهية والعنف، وهم الذين أججوا نار الكراهية العالمية ضد الدين، وهم الذين تسببوا بحرق القرآن؛ التي هي أولى مراحل الهجوم الكبير المرتقب لقص أجنحة الإسلام، وليست أكثر من بالون اختبار لقياس ردة فعل المسلمين، لكي يتم توجيه دفة المعركة المرتقبة تبعا لذلك. وقد أعانهم ما جاد الله به عليهم من خير، ومكنهم من تغيير المعادلة لصالحهم، فبدوا وكأنهم انتصروا أو باتوا قاب قوسين أو أدنى من النصر الناجز، وهم لا يعلمون أن انتصارهم هو الهزيمة الكبرى للإسلام، لأنهم تحولوا إلى جيش مرعب يهاجم الإسلام من داخل قلاعه وحصونه.
أما المساعد الحقيقي لهم فهو الذي شغل نفسه وشغل المسلمين معه بحثا في بطون كتب التاريخ الصفراء ليرد عليهم بلسان معاصر، وقلب غارق في التراث المشوه الذي يقدسه، وقد نجح هؤلاء أيضا في بناء جيش يدعي أنه عقائدي، وأنه يريد أن يحارب جماعات الإسلام الراديكالي المتطرف لنصرة الدين، ناسيا أن العدو الحقيقي ليس المسلم الذي يقف قبالته، بل هو من يرفع نجمة داود شعارا، وخادمه الأمين العم سام، ومعهم كل جيوش الإباحية والفسق والفجور الجندرية، والرايات الملونة.
والثاني: هي؛ القوى الخفية العالمية التي أيقنت منذ زمن طويل أن الإسلام هو العائق الوحيد الذي يقف متصديا بصلابة قبالة تحقيق مشروعها الخبيث الساعي إلى استعباد البشرية وتحويلهم إلى خدم مجانيين للبنائين الماسونيين. وأيقنت أنها لا يمكن أن تحقق مبتغاها إلا إذا ما أخرجت الإسلام من المعادلة، وركنته في حيز مهمل، وفي ذات الوقت كانت على يقين تام أن هذا العمل مستحيل أن ينجح ويتحقق وفق منظور معطيات الواقع، ومشهور حرص المسلمين على دينهم، واستعدادهم للدفاع المستميت عنه حتى النهاية.
 وبالتالي سوف تقف جميع جيوش العالم في موقف العاجز عن تحقيق مجرد نصر زائف، وأنه لا يمكن تحقيق النصر التاريخي إلا من خلال اختراق الإسلام، ومهاجمته من الداخل، من دهاليز بؤرة الصراع الطائفي التاريخي الظلماء فيه، تلك التي أكل الدهر عليها وشرب، بدأً من اليوم الذي تحول فيه الدين إلى خمسة، وتحول العقيدة الواحدة إلى خمسة، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وهم الناجون، وغيرهم في السعير.
أما ما يحتاجه المشروع خارج قلاع الإسلام فقد تكفلوا به بأنفسهم، ونجحوا في تشويه صورة الدين في عقول غير المسلمين بوسائل عديدة، منها الجانب التشهيري الإعلامي؛ الذي يسهم في الترويج له بعض المسلمين للأسف.
ومن تلك الوسائل الدنيئة كان ما أخبرني به صديقي البروفسور أبو نمر أستاذ وخبير دراسات بناء السلام والتفاوض بالجامعة الأمريكية بواشنطن، من أنه كان يسعى عام 1993 لتأليف كتاب عن السلام في الإسلام، ليس تبريرا ولا تبشيرا، وإنما سعيا لتعزيز استراتيجيات صنع السلام واللاعنف والقيم المتجذرة في السياقات الدينية والثقافية الإسلامية، في سعي منه لتأييد فرضية أن الإسلام دين حي، يعزز فرضيات صنع السلام الدولية، وتسوية النزاعات العالمية سلميا. وأنه خلال مرحلة البحث عن مصادر رصينة لمؤلفه المرتقب، زار العديد من كبار دور العلم، ومنها مكتبة الكونغرس الأمريكي؛ التي تعد من أكبر مكتبات العالم، فوجد أنها تضم ما يزيد عن (50000) مرجع في هذا المضمار، تربط أغلبها بين الإسلام والعنف والحرب والدموية والتطرف، وتؤكد أغلبها تلازم هذه الطباع مع روح عقيدته، ومن بين كل هذا الركام الهائل لم يجد سوى (5) مراجع تكاد نكون غير مهمة ولا ملهمة؛ تتحدث عن الإسلام والسلم والسلام في عقيدته.
ولك أن تقيس نسبة الخمسة إلى الخمسين ألف لتعرف مقدار الجهد التخريبي الذي يبذلونه، وماذا سيحقق، قبالة عدم وجود أي جهد للمانعة والتصدي، والنكاية الكبرى أن المسلمين أنفسهم دمروا خط الصمود والتصدي يوم أباحوا العراق، وهتكوا عرض ليبيا، وأحرقوا جمال سوريا، وأججوا النار في سعادة اليمن.


8
الحجة الغائية للمجموعة الشعرية المشتركة
الدكتور صالح الطائي
جاء هذا الموضوع بمناسبة قرب صدور الطبعة الثالثة من المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 388 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.
ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.
وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:
الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.
ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.
ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.
في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.
لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.
ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.
مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.
ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.
من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.
في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.
بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟
وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.
هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.
أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات الشطر الأول من البيت الأول من جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.
سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟
لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.
ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.
وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي الشافي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

9
أمينة فقيم وأمانة السياسيين العراقيين
الدكتور صالح الطائي
حتى في سياستنا نختلف نحن العراقيين عن شعوب العالم الأخرى، فحزبنا لا يريد له شريكا في (الملك)، ومن لم يكن معنا فهو علينا، والسياسي عندنا يعتقد أنه وحيد الله العالِم بأسرار السياسة والكون، وكل الآخرين جهلة أميين، والوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة والعزف على الربابة والأكل مع (الذئابة) لكنه ممكن أن يصبح لواءً في الجيش أو وزيراً سياديا للتحشيش أو شيخا للدراوش.
والأنكى من ذلك أن الشعب نفسه لا يعترض على ذلك، بل جاهد وناضل وقاتل لكي يصبح هذا السياسي بمركز الأفضلية، ويتبوأ المسؤولية، لكي يخدم (القضية) لا قضية شعب عانى الويلات، ووطن أدخله الحكام الأغبياء في عالم المتاهات، وإنما ليخدم حزبه أولا، والمخدوعين به ثانيا، تحت بواعث الطائفية والمناطقية والمذهبية والقومية، والأشد نكاية أن هذا الاعوجاج صار منهجا يتبعه السنة، والشيعة، والعرب، والأكراد، والمسيحيين، والرأسماليين، والشيوعيين، والعلمانيين وللاأدريين،  والملحدين، وحتى الموسيقيين والمغنين والعازفين، كل (يحضن) ليلاه، ولا يدري بالليالي السود التي تمر على البلاد والعباد.
ووفق توافق (الملاوصة) والمحاصصة صار من اللزوم أن يكون رئيس الجمهورية كرديا، ورئيس الوزراء شيعيا، ورئيس مجلس النواب سنيا، لا فرق بين أن يكون خائنا أو وطنيا، عميلا لدول الجوار أو صنميا. وبناء عليه يتم تقسيم حقائب الوزارات والسفارات والإدارات العامة والمناصب الهامة، والمواقع المربحة الجامعة و(أم الخبزة اللامة) دون التفات إلى الخبرة والكفاءة والممارسة والبرستيج (prestige)، يكفي أنه يعرف كيف يستخدم (الإبريج) (كلمة دارجة وأصلها إبريق).
بل يكفي لمن كان يشتغل بمنصب معاون سائق باص أجرة (سِكن) باللهجة الدارجة في خط سير علاوي الحلة/ الكاظمية أن يدير وزارات الخارجية والداخلية والاتصالات والنقل والسياحة والثقافة والآثار، وممكن أن ينجح في وزارة النفط أو وزارة المالية؛ ويتحكم بنسب المياه والأمطار بوقت واحد، وتملأ صوره الجرائد.
هذا حالنا منذ أن كان السلطان العثماني يتربع على خيرات بلدنا وينهبها باسم الدين، تؤيده الملايين، ونفسه في حقبة سيطرة أبو ناجي (الإنكليز) على مقاليد البلد، ولغاية عام 1921؛ تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة؛ التي لم تجد بين رجالها من كان يصلح أن يقودها، فاستوردت ملكا من دول الجوار، ومنه وصولا إلى عام 1958؛ الذي عرف بعام التحرير، ثم عام 1963، وبعده عام 1968، استمرارا إلى ما بعد طلة المتعجرف الهمام ذو الوجه القبيح العم سام عام 2003.
أما بعد 2003 فقد جمع السياسيون والنواب والحاكمون والمدراء العامون والمحافظون المقيمون والوافدون جميع خبائث تلك التواريخ، وأضافوا لها ما اكتسبوه من خبرة في بلاد الغربة، ومعاشرة العرجة والجربة، وحملوا شوكاتهم ليأكلوا الكعكة ولكنهم لم يعرفوا استخدامها لأنهم لا يجيدون فن (الأتاكيت) (The art of etiquette) ففضلوا الأكل بأيدهم، فهو أدسم وأهضم، يسمح للقمة أن تكون ملء الفم، أما الشعب فبقي طوال هذا التاريخ، ولغاية هذه الساعة ينتظر أن يشبعوا، ويكتفوا، عسى أن يتركوا له الفتات؛ وهو يعاني المأساة والويلات، ولكنهم كانوا يشغلونه عن المطالبة بحقوقه بـ(الكلاوات) والأناشيد الوطنية، وشعارات العروبية، والدروشة واللطميات، فعاش في سبات وخلَّف الصبيان والبنات، كل هذا في بلد علَّم العالم كله الثقافة و(الترافة) والشياكة والأناقة والقراءة والكتابة والعجلة والعزف على (الربابة).
بينما نجد في مكان آخر من زوايا العالم القصية دولة صغيرة فتية اسمها جمهورية موريشيوس، تزهو بحلة عروس، وهي مجموعة جزر تقع وسط المحيط الهندي، وتعرضت مثلنا للاحتلال الأجنبي، فاستعمرها الفرنسيون والبريطانيون، واستقلت عن بريطانيا عام 1968، يبلغ عدد سكانها 1,078,000 نسمة، وكانت قد انتقلت إلى النظام الرئاسي عام 1992.
فيها امرأة عالمة كبيرة أسمها أمينة غريب فقيم مواليد 1959، وهي مسلمة من أصول هندية، نالت دكتوراه الكيمياء العضوية بجامعة إكستر البريطانية وعادت إلى بلادها عام 1987. عينت رئيسة لجامعة موريشيوس وعميدة لكلية العلوم، واختيرت لتكون قائدة لأول مشروع بحث إقليمي لدراسة النباتات الطبية والعطرية من المحيط الهندي، بتمويل من الصندوق الأوروبي للتنمية ورعاية لجنة المحيط الهندي بين عامي 1987 و1992. ألفت أمينة فقيم أكثر من عشرين كتابا وثمانين بحثا في علوم الأحياء. وحصدت الكثير من الأوسمة والجوائز، منها جائزة لوريال من منظمة الأمم المتحدة للتريبة والعلوم والثقافة (اليونسكو) في أفريقيا والعالم العربي.
انتخبت رئيسة للمجلس الدولي للاتحاد العلمي المكتب الإقليمي لأفريقيا للمدة من عام 2011 ولغاية عام 2014، وعملت في مجلس البحوث بموريشيوس مديرة للبحوث 1995-1997، وعضوا منتدبا في المركز الدولي للبحث والابتكار.
لم تختر أمينة فقيم أن تعمل في السياسة، ولم تختر أن تكون رئيسة للبلاد بل وجدت نفسها مرشحة لمنصب الرئيس بعد أن أعلن رئيس الوزراء أنيرود جوغنوث أن البلاد تريد شخصا لا علاقة له بالسياسة وله مصداقية محلية ودولية لقيادتها. ولذا قرر البرلمان بالإجماع في حزيران 2015 تعيينها بمنصب رئيس البلاد، التي يشكل المسلون أقلية من سكانها لأن الأعم الأغلب من سكانها هم مسيحيون، فلم يعترض أحد منهم، ولم يطالب بتنحية الرئيسة المسلمة.!
والنتيجة أن بلادها بفضل وطنيتها وحكمتها وعلميتها وتفانيها في العمل، أصبحت إحدى أغنى دول أفريقيا، إذ يبلغ دخل الفرد فيها نحو 19600 دولار سنويا، بينما انسحقت الطبقة العراقية الوسطى وتحول المجتمع العراقي إلى طبقتين: سياسية كترفة إلى حد الإفراط، وجماهيرية معدمة إلى حد الإملاق، ولا زالت البلاد تقاد من قبل أكثر من رئيس وأكثر من رئيس مجلس وزراء وأكثر من رئيس مجلس نواب فضلا عن مئات الأحزاب التي جلبت لنا الويل والخراب وصادرت الشبابيك والأبواب، وإذا بقيت في السلطة سوف تنهب الماء والزرع والتراب.


10
تدوير أم إعادة بناء؟
الدكتور صالح الطائي
كل شيء في عراقنا الحبيب غير مألوف من اختلاف درجات الحرارة الكبير بين الصباح والظهيرة، والصيف والشتاء، إلى البخل والكرم، والرحمة والقسوة، والطبيعي والتطرف، ونقاء البياض وشدة السواد.
حتى الإنسان في عراقنا غريب، لا يشبه خلق الله أجمعين، غريب في سلوكه، وفي تدينه، وفي علاقته بالحكام، وفي الأرباب الوهميين الذين يصنعهم ثم يسجد لهم؛ وبعدها يئن ويشكو من احتقارهم له.
كلنا بلا استثناء، بجميع أجناسنا وقومياتنا ومذاهبنا ومعتقداتنا ومناطقنا وأصولنا وألوان بشرتنا، ننطوي على تناقضات غريبة عجيبة، لا يمكن لأي شعب أو لأي مجتمع في العالم كله أن يوفق بجمعها سوية في إناء واحد مثلما فعلنا، ونجحنا بامتياز كبير، أدهش القاصي والداني.
أما كيف وفقنا لجمعها سوية مثل من يجمع بين الماء والنار، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تبخر الماء؟ فذلك هو سر الأسرار الذي لا يُدرك، والذي يستعصي فهمه على أعظم حواسيب العالم وأكثرها تطورا، وأكبر علماء العالم وأكثرهم فهما وعلما.
المشكلة أن نسيج الفانتازيا اللامألوف هذا بغرائبيته المدهشة، أوقعنا في مشاكل وإشكالات لا تحصى، مشاكل وإشكالات مع أنفسنا، وفيما بيننا، وبيننا وبين الآخر القريب منا والبعيد عنها، تسببت في عرقلة نمو بلدنا وتطوره، ووقفت عائقا أمام إمكانية عيشنا بسلام وهدوء وراحة بال، فنحن على استعداد للتضحية بأنفسنا من أجل إنقاذ طفل يغرق لا نعرفه، في وقت لا ترمش لنا عين، ولا ترجف لنا يد إذا ما ذبحنا مائة إنسان من أهلنا وأصدقائنا وأبناء جلدتنا، لمجرد أننا نختلف معهم في الرأي. فأي غرائبية هذه؟
ونحن ممكن أن نبيع ملابسنا ونستر عوراتنا بورقة توت، ونحرم عوائلنا وأطفالنا من الملبس والمأكل، من أجل توفير المال لإكرام ضيف لا نعرفه، وفي الوقت ذاته لا نلتفت ولو بعين الرحمة إلى عشرين طفلا جائعا يتضورون أمام أعيننا؛ ولو بكسرة خبز.
إن هذا التناقض العجائبي هو ما جعلنا (شعب التناقضات) بامتياز، وتسبب في كل تلك المأساة التي حلت بنا منذ زمن طويل، ولا زالت تتجدد بأشكال وألوا ما أنزل الله بها من سلطان.
وهو الذي يدفعنا لنسأل أنفسنا، أو يدفع العقلاء منا ليسألوا: لكي نستعيد توازننا ووضعنا الطبيعي، ماذا يجب أن نعمل؟
هل نجلس ونستكين ونسكت باعتبار أن تلك إرادة الله التي لا راد لها، فنصبح من الجبريين الجامدين؟
أم نستكين لواقعنا باعتبار أن ما يحدث هو قدرنا، لننضم إلى مجاميع القدريين المساكين؟
أم أن هناك خطأ في تكويناتنا الجينية والخلقية والأخلاقية، هو الذي يتسبب بمعاناتنا؟
والسؤال الأهم: كيف يمكن لنا أو للعالم أن يعالج وضعنا، وهل معنى ذلك أننا نحتاج إلى مجرد إعادة بناء (Reconstruction)، وتقوية الأسس؟
أم أن حالتنا صعبة جدا، وأصعب مما نتصور ويتصور غيرنا، ولا حل لها إلا بعملية إعادة تدوير (Recycling) شاملة دون عزل، أي أن نسمح لكافة الألوان والأحجام أن تختلط سوية في ماكينة الثرم العملاقة، لتعطينا عجينة جديدة، لا يهم أن يكون لونها قبيحا، يكفي أن تجمع شيئا بسيطا من كل شيء موجود، لتخلق كائنا آخر لا علاقة له بأصله؟
وغير هذا وذاك، هناك السؤال الأصعب الذي ينطلق من الواقع المرعب: يا ترى سواء اخترنا هذا أم ذاك، هل سنجد بعد ذلك الراحة والاستقرار، أم أننا سنبتكر أساليب جديدة لنعيد القديم، طالما أننا تطبعنا على أن نحصر أنفسنا في تاريخ دائري، ندور معه حيث دار، والدائرة مثلما هو معروف ليس لها قرار؟
وأن خلاصنا الحقيقي هو أن نخرج من أسر دائرة التاريخ إلى دنيا الواقع ونستلهم تجارب الشعوب دون أن نفكر أن أجدادنا هم من علم الكون التحضر، فواقعنا المزري لا علاقة له بالتحضر لا من قريب ولا من بعيد.!


11
المنبر الحر / أسئلة من واقع معاش
« في: 15:36 25/04/2023  »
أسئلة من واقع معاش
الدكتور صالح الطائي

الإخوة الأعزاء سلام عليكم
حياكم الله وبارك فيكم وأسعد الله أيامكم وكل عام وأنتم بخير ونعمة ورضا الله تعالى. دفع الله عنكم كل سوء وحفظكم وسدد خطاكم وأسعدكم وبارك فيكم
نتيجة مخرجات الأحداث الدموية المتكررة التي تقع في جنوب العراق بين فينة وأخرى؛ والتي تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة أحيانا، ومن خلال ما يرشح من مخرجات المشهد المرئي الذي يتضح منه أن القبيلة أصبحت اليوم منافسة للدولة بشكل صارخ، بما تمتلكه من سطوة ورجال وسلام ونوايا عدوانية ظاهرة، وما يمثله ذاك من ولادة قوى موازية للدولة لها قدرة التأثير على قراراتها، عشنا في الآونة الأخيرة مآس كبيرة تسببت في إحداث دمار شامل، وفقدان مجاميع شبابية وطاقات مهدورة، وتسببت في إذكاء روح الكراهية والحقد، وتسببت في فصم عرى الإنسانية والوطنية والدينية داخل المجتمع، وجعلت فئات المكون الإنساني الواحد تتشظى إلى كيانات صغيرة تضمر الحقد والسوء لكل ما يحيط بها، فهذا كله يدعونا إلى تولي مهمة البحث الجاد على أمل الوصول إلى نتائج من الممكن توظيفها لإعادة هيبة الدولة وتُفعِّل مدنيتها المصادرة، ومثل هكذا دراسات تحتاج عادة إلى تلاقح آراء وأفكار ممكن أن يصب في مصلحة النتائج.
بناء عليه أتقدم لحضراتكم بعدد من الأسئلة التي تحتاج إلى تفاعلكم الإيجابي معها على أمل النجاح من خلال الاستعانة بالأجوبة في إعداد دراسة أصيلة حول الموضوع:
1.   هل يتوافق وجود النظام القبائلي مع الدولة المدنية الحديثة؟
2.   أين يتقاطع النظام القبائلي مع نظام الدولة المدنية؟
3.   هل ممكن للنظام القبائلي أن يخدم الدولة المدنية، ومتى، وكيف؟
4.   هل أن تحول القبيلة إلى ملاذ آمن جاء بسبب ضعف الدولة، وهل ممكن لهذه الحالة أن تنتهي إذا استعادت الدولة قوتها؟
5.   ما تأثير القبيلة على الهيكل العام للنظام القانوني في الدولة، ولاسيما وأن لكل قبيلة قوانينها وسننها الخاصة بها؟
6.   ما الإجراءات التي يجب أن تتخذها الدولة للحد من تنامي النشاط القبلي؟
7.   ما المتوقع حدوثه إذا ما استمر تنامي النظام القبائلي بهذا الشكل؟
8.   متى تتمكن الشعوب من تجاوز قبليتها إلى وطنيتها وهل ممكن أن نمر بهذه المرحلة، ومتى؟
9.   استخدام الدولة للقوة المفرطة والمميتة للحد من النشاط القبلي هل يتوافق مع روح الدولة المدنية؟
10.   ما موقف الدين والمؤسسة الدينية والمرجعية الدينية من سطوة النظام القبلي المتنامية؟
11.   هل تتمكن القوى السياسية من تبني فكرة التخلص من الهوس القبلي؟
12.   لماذا إذن يلجأ الكثير من السياسيين إلى قبائلهم ويدعمونها بالمال؟
13.   هل أن السياسيين المعاصرين أضعف من أن يتمكنوا من خلال قواهم وملكاتهم الذاتية من تحقيق الانتصار الشخصي بمعزل عن القبيلة؟
14.   هل تتوقع أنْ تتحد بعض القبائل لتشكيل تنظيم تسعى من خلاله للسيطرة على نظام الحكم، ومتى ممكن ان يحدث ذلك؟

12
قوى الإنسان الخفية وظاهرة الديجافو
قال تي أس إليوت: كل شيء في هذا الكون غريب إلا أنت وأنا،
وحتى انت أكثر مني غرابة

الدكتور صالح الطائي
تكمن غرابة الإنسان لا في هيئته وشكله وجماله واستقامته فحسب، بل وفي مقدرته على التفكير والاستنتاج، وصنع الجمال والقبح، والرحمة والقسوة، واللطف والتوحش، وهذا يعني أن جزءً من غرابته يكمن في مقدرته على الجمع بين الأضداد، ومقدرته على التلون والتعاطي مع المستجدات عقليا وغريزيا وجسديا وفيزيائيا، على خلاف الكائنات الأخرى التي تقودها غرائزها وتتحكم بها نزواتها.
ومع ذلك أرى أن الإنسان هذا الكائن الأكثر غرابة في الكون كله، رغم عظيم أهميته وسطوته وقوته، هو ابن بيئته، يتأثر بها، ولها عليه سطوة ظاهرة. والبيئة هي الأخرى تتأثر وتتبدل بدورها تبعا لأبوة الإنسان لها، فهي أبوة متبادلة متفاعلة، مرة يصبح الإنسان فيها هو الضحية مسلوب الإرادة مقيد السلوك، وأخرى تصبح البيئة تحت سطوته وقوته، ينتهك أدق خصوصياتها ويغير ملامحها، ومنذ الأزل وإلى الأزل لم تنجح البيئة في تطبيع الإنسان مثلما تحب، ولا الإنسان في تطويع البيئة مثلما يهوى. هي بقيت تمثل الشخصية الحساسة، وهو كان ولا زال يمثل الشخصية الاعتمادية، ذلك لأن للبيئة قواها الخفية، وللإنسان قواه الخفية أيضا، ومتى ما وجدت قوتان في حيز واحد لابد وأن تتصادما، سواء كان تصادما مرنا أو غير مرن، الفرق الوحيد أنه في التصادم المرن يبقى مجموع زخم الأجسام قبل التصادم مساويا لمجموعه بعده، وهو ما أطلق عليه علماء الفيزياء "قانون حفظ الزخم"، وعادة ما يكون هذا التصادم مثمرا نافعا بنائيا معطاءً، تماما مثل تصادم كرات لعبة البليارد؛ الذي تتحقق بموجبه نقاط الفوز، أو مثلما تضرب كرة على الأرض لكي تعود إليك في لعبة كرة السلة، لتمنحها زخما يساعد على إدخالها السلة، لكن التصادم غير المرن يوقع عادة أضرارا تتناسب طرديا مع شدته ومغذياته، وفيه يحدث فقدان لجزء من طاقة الحركة بسبب تحولها إلى طاقة من نوع آخر.
في هذه المعادلة يبدو التأثير أكثر ظهورا وتشخيصا على الإنسان منه على البيئة، حتى في حالة التغير الكبير الذي يصيب البيئة نفسها، خذ على سبيل المثال ما أحدثه التصادم غير المرن بين مطالب الإنسان والغلاف الجوي؛ الذي أنتج الاحتباس الحراري ذو التأثير المباشر على البيئة، فأثرة على الإنسان نفسه كان أكثر وأشد وقعا منه على البيئة نفسها، وانتج قوى مدمرة أصبحت تتهدد الإنسان في بقائه وعيشه، وتؤثر على أنماط سلوكه؛ الذي يكون عادة مرتبطا بالبيئة الخارجية؛ والذي أطلق عليه أخصائي علم النفس الأمريكي "بورهوس فريدريك سكينر" اسم "السلوك الإجرائي"، وهو السلوك الذي يعتمد على مثير معين في البيئة الخارجية. وهذا المثير لا ينحصر في التعامل مع البيئة فقط، بل يمتد إلى التعامل البيني فيما بين الأشخاص أنفسهم في بيئة محددة أعدت بعناية لتبيان أثر التصادم.
وتكاد تجربة ستانفورد أن تكون الشاهد الأكثر واقعية على هذا التصادم التاريخي، وهي تجربة أجراها عالم النفس "فيليب زيمباردو" مع مجموعة من زملاء آخرين في سنة 1971، كانت غايتها تبيان أثر البيئة على صنفين تم اختيارهما من بيئة واحدة ليؤديا مهمتين مختلفتين، المهمة الأولى يقع أعضاؤها تحت طائلة المسؤولية، والمهمة الأخرى يتبنى أعضاؤها مهمة المسؤولية والإشراف، مثل السجين والسجان. عرفت هذه التجربة باسم "تجربة سجن ستانفورد" لأنها أجريت على طلاب منتخبين من جامعة ستانفورد، وكان هدفها أن تتقصى تأثير المتغيرات الظرفية على السلوك البشري في بيئة منتخبة.
ولغرض إزالة الفوارق المحتملة وتوفير البيئة المطلوبة، اختار الباحثون مكانا ليصبح سجنا وهميا، مكوناً من ثلاث زنزانات بمساحة 54 قدماً، على أن يوضع في كل زنزانة ثلاثة من الطلاب الذين أوكلت لهم مهمة لعب أدوار السجناء. وخصصت باقي غرف السجن للطلاب الذين أوكلت لهم مهمة لعب أدوار الحراس ومراقبي السجن. كما أفردت مساحة صغيرة من السجن كغرفة سجن انفرادي، وغرفة أخرى كساحة أو باحة للسجن. ثم اختاروا بشكل عشوائي أربعة وعشرين طالباً من أصل سبعين تطوعوا للعمل في التجربة من بين طلاب الصف المنتهي المهيئين للتخرج، ممن ليس لديهم سجلا إجراميا، ولا يعانون مشاكل جسدية أو نفسية واضحة. اختاروهم للعب أدوار السجناء وحراس السجن، للمشاركة في الاختبار الذي حدد له سقفا زمنيا لمدة أسبوعين مقابل أجر يومي يدفع لهم. وتم اختيار الطلاب الذين يلعبون دور السجناء والطلاب الذين يلعبون دور السجانين من بينهم عشوائيا.
كانت التجربة تنص على أن يبقى السجناء في سجنهم الوهمي بشكل دائمي طوال مدة التجربة، أما الحراس، الذين سمح لهم بالتصرف وفق الطريقة التي يرغبون بها، فيتولى كل منهم مهمته لمد عشر ساعات، ثم يُسمح له الذهاب إلى منازله بالتناوب لحين انتهاء المدة. وكانت مراقبة المشرفين على التجربة للحراس والسجناء تتم من خلال استخدام كاميرات ومكبرات صوت غير مرئية بالنسبة للممثلين.
الغريب أن التجربة أنهيت بعد ستة أيام فقط بسبب التبدلات السلوكية المتطرفة التي ظهرت على السجناء والسجانين كليهما، والتي تمثلت بسوء المعاملة العدائية واللاإنسانية للسجانين، الذين أصبحوا يتصرفون بطريقة عدوانية ومسيئة تجاه السجناء، بينما أصبح السجناء أكثر خنوعاً واكتئاباً، فظهرت عليهم علامات القلق والإجهاد الحاد، بما في ذلك البكاء والنحيب، مما اضطر المشرفين على التجربة إلى إخراجهم من السجن مبكراً. وقد أظهرت هذه التجربة الفريدة أهمية الدور القوي الذي تلعبه الظروف البيئية في تغيير أنماط السلوك البشري.
وفي بحثي عن مصادر موثوقة لكتاب كنت أعمل عليه، نويت أن أصل من خلاله إلى معرفة أصول الغجر وأنماط عيشهم، ثم تركته بسبب فقدان المصادر المحايدة، اكتشفت حقيقة اتفق عليها كل من كتب عنهم وهي أن الغجر ـ وبشكل سريع ومدهش وغريب للغاية ـ يتطبعون بطباع المنطقة التي يبنون معسكرهم فيها وبشكل كامل، فيعتنقون دين المنطقة ويحاولون تعلم لغتهم ومناغمة سلوكهم. وهذا مثال حي على صحة أثر وتأثير البيئة على المجاميع البشرية وليس على الأفراد وحدهم.
يعني هذا أن للبيئة قدرة لا حدود لها، لكن للإنسان هو الآخر حدودا تفوقها إذا ما أحسن استخدامها، والذي جعل البيئة تتفوق علينا اليوم في التأثير والفعل المدمر ليس لأنها أقوى من الإنسان، وإنما لأن الإنسان انشغل بأموره الثانوية عن الهدف الأكبر، الذي يتمثل في إعداد الدفاعات التي يتصدى من خلالها لقوى الطبيعة وأثر البيئة. خذ على سبيل المثال أمريكا التي تصرف سنويا مليارات الدولارات من أجل تطوير ترسانتها العسكرية ففي سنة 2016، خصصا أمريكا وفق المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، في تقريره عن التوازن العسكري العالمي 2016 (لعام 2015) ما مقداره (597،5) مليار دولار لميزانيتها العسكرية، وفي مايس من عام 2021، بلغت الميزانية العسكرية التي طلبها الرئيس الأمريكي للسنة المالية 2022 مبلغا قدره (715) مليار دولار، بزيادة قدرها 10 مليارات دولار عن السنة المالية 2021. وبلغ إجمالي طلب ميزانية وزارة الدفاع ووزارة الطاقة للسنة المالية 2022 مبلغا قدره (753) مليار دولار، في وقت تسببت الظواهر الطبيعية في تدمير البنى التحتية لعدة مدن أمريكية وبشكل متكرر ومأساوي، ولو تم تخصيص تلك المبالغ الكبيرة لإجراء دراسات معمقة لحالات تبدل سلوك الأعاصير، وابتكار آلات جديدة لها قدرة التحكم بحركتها، لجنبت أمريكا رعاياها ويلات التشرد وفقدان المدخرات والمنازل والمزارع والثروات، ولكانت قدمت للإنسانية ما يجنبها الويلات، بدل أن تصدر لها أخطر أنواع الأسلحة وأشدها فتكا وتدميرا.
ومن المفارقات المضحكة المبكية أن العلماء يبحثون دائما من خلال تجاربهم العلمية عن أصول القوى الخفية الموجودة لدى الإنسان، عسى أن يتم توظيفها لتجنيبه نتائج حماقاته، ومنها حماقة حربه ضد بيئة لم يعد لها آليات تحقق له النصر، ولكن الإنسان نفسه يأتي بأعمال نزقة حمقاء تثبت أنه لم يفد شيئا مما قدموه له، فعمل خلافه بدل أن يوظفه ليستشرف الحدث المستقبلي من خلاله، خذ على سبيل التوضيح ما تحدث به الكاتب والفيلسوف الفرنسي "إميل بواراك" في كتابه الموسوم "مستقبل العلوم النفسية" عن ظاهرة أطلق عليها اسم "ديجافو". ومعناها "شوهد قبل ذلك"، ومما جاء في أقواله إن هذه الظاهرة تحدث عادة وبنسبة 70% لدى الشباب بين السابعة عشر والخامسة والعشرين من أعمارهم ممن يشعرون حينها وكأنهم عاشوا من قبل الحدث المعاصر الذي يحدث أمام أعينهم مباشرة، وكأن ما يحصل لا يحدث هذه المرة فقط بل حدث من قبل، ولكنهم لا يتذكرون متى وأين وقع الحدث، بل قد تتطور هذه الظاهرة لدى بعضهم بما يتيح لهم معرفة أو توقع ما سيحدث خلال الثواني اللاحقة التي تتلو وقوع الحدث الجديد أيضا. وقد وضعت الكثير من التفسيرات لهذه الظاهرة، ولكنها لم تتوصل إلى حقيقتها التكوينية الخفية، وهذا ما دفع بعض الذين مارسوها للاعتقاد بأن لديهم حاسة سادسة تمكنهم من إدراك المستقبل.
وهي سواء كانت ظاهرة من بين خفايا ظواهر العقل البشري، أم كانت بفعل الحاسة السادسة التي يمتلكها بعض الأشخاص، أم مجرد تخمين استنتاجي، لم تنجح في تغيير أنماط سلوك البشر الذين جبلوا على النزاع والتخاصم حتى مع استشعارهم بالخطر الداهم الذي يصبغ وجود الإنسانية المستقبلي بلون الرعب الأكبر، بل ودفعت بعضهم للإفادة من تلك الخبرات لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب آلام الإنسانية، وهنا تكمن المأساة، مأساة أن يفرط الإنسان بكل تلك القوى التي من الممكن أن تحول حياته إلى نعيم وحقل مُرْبعِ لمجرد أن يحقق ربحا ماديا أو اعتباريا سرعان ما سيتبخر مع أول عصف قادم من المجهول.
وهي ليست نبوءة، بل مجرد استنتاج لحظة صفاء ذهني، يتيح فتح مغاليق العماء، وأقفال وسلاسل الخديعة ليجهر بالحب وسط ضجيج الحماقات، وما يهمنا من هذه الظاهرة والدراسات العديدة التي تجرى عليها ليست النتائج المتحققة فحسب بل ما هو أهم من ذلك، وأقصد به تمكن الإنسان من تهذيب قواه الخفية وتسخيرها لتخدمه وتخدم أبناء جنسه، المشكلة أن الإنسان نفسه يبدو متهاونا في نظرته لهذه القوى الجبارة، خذ على سبيل المثال علاقتنا بأثنين من أقرب الأجهزة إلى الإنسان المعاصر اليوم، أقصد بهما الحاسوب والهاتف الذكي ستجد أن الأعم الأغلب من العاملين عليهما بما فيهم بعض المتخصصين، كانوا ولا زالوا وسيبقون يجهلون الكثير من قدرات أجهزتهم، وأن المستقبل لن يكون كفيلا بحل هذا الإشكال؛ الذي سيتطور مع تطور الأجهزة ذاتها، أما الإنسان الذي خلق الحاسوب والهاتف الذكي فهو قوة خفية لا حدود لها، لها قدرات هائلة لا توجد أجهزة لقياسها، ولا يمكن قياس حجمها بأي معيار متداول أو متوقع ابتكاره مستقبلا، وهذه القوة الخفية تفوق بمرات عديدة ما لدى جميع حواسيب الدنيا وهواتفها، والهاتف الموجود في داخل هذه القوى الخفية يمكنه من صنع ما يتيح له لا رؤية الحاضر فحسب، بل واسترجاع رؤية الماضي واستشراف ورؤية المستقبل، وما وراءهما أيضا. لكن هل أن هذا متاح للجميع، أو محصورا في ذوي الأعمار التي حددها "بواراك"؟
إن علم المستقبل (Futurology) أو علم الدراسات المستقبلية (Futures studies)‏ علم يختص بدراسة الممكن والمحتمل حدوثه مستقبلا، ومع أنه لا زال احتماليا وليس يقينيا إلا أنه حقق نتائج باهرة في كثير من القضايا، ولاسيما بعد أن تطور خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأجريت عليه الكثير من الدراسات الأكاديمية والتخصصية والعلمية، لا بشكل عام ولكن من خلال دراسة مواضيع محددة بمحتوى معين وفق جدول زمني والعمل من خلال استخدام منهج علمي، وأرى أن الإنسان الذي نجح من قبل في اجتياز أصعب الامتحانات سينجح اليوم أيضا في اجتياز الامتحان المعاصر، إذا ما آمن بقواه الخفية التي نجحت في توظيف الدراسات المستقبلية؛ التي تتنبأ من خلالها وبشكل متكرر بمستقبل مأساوي ومظلم للبشرية من صنع البشر أنفسهم، قد يعود فيه إلى عالم الكهوف والبدائية الذي فارقه منذ آلاف السنين، بعد أن يفقد الإنسان أسس التحضر، ويفقد معها كل ما بناه على مدى آلاف السنين نتيجة نزق حاكم أو حقد جماعة متطرفة أو وسواس شيطان عابث. والأشد إيلاما أننا نحن المسلمين والعرب لن نكون بمنجى مما سيحدث مع أننا لا ناقة لنا ولا جملا فيها، لكننا برضانا كنا المطايا التي حملت على عاتقها وبرضاها آلات الحرب والدمار، وسنكون أول ضحايا العصف، تماما مثل الدولفين المدرب الذي يربطون على ظهره المتفجرات ويبعثونه ليصطدم بغواصة عدوة أو باخرة أو فرقاطة للعدو فتتشظى حمولته ويتشظى معها، فتراه مندفعا نحو هدفه بكل همة ونشاط، وهو لا يدري ماذا سيحل به، المشكلة أن الدولفين حيوان بلا عقل والإنسان عقل خارج حدود الحيوانية فلماذا يسعى الإنسان ليكون دولفينا؟.


13
الحجة الغائية للمجموعة الشعرية المشتركة
الدكتور صالح الطائي
جاء هذا الموضوع بمناسبة انتهاء العمل بمشروع المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 350 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.
ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.
وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:
الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.
ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.
ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.
في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.
لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.
ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.
مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.
ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.
من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.
في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.
بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟
وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.
هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.
أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.
سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟
لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.
ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.
وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

14
أنطولوجيا الشعور في (تنهدات على عتبة السبعين) الشعرية للدكتور صالح الطائي.
 
بقلم د. رحيم الغرباوي

     يأتي مصطلح الأنطولوجيا بِعدَّة معانٍ ، والذي يهمنا منها هنا هو معنى الوجود بوصفه فعل الظهور وخروج الذات أو ما فيها إلى العالم، ويبدو أنَّ معجم لالاند يرى أنَّ كلمة الوجود مشتقة من وجد يجد وجوداً بمعنى ظهر للعيان، أي أنَّها مقولة ظواهرية، وعليه، فإنَّ الوجود يرتبط بحسب دلالته اللغوية بما بدا في الخارج للعيان، وهناك من يرى أنَّ الوجود ينقسم على قسمين "وجود خارجي، ووجود ذهني، فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان وهو الوجود المادي، أما الوجود الذهني، فهو عبارة عن كون الشيء في الأذهان، وهو الوجود يقابل الماهية" (1) ، ولعلِّي أجد في النتاجات الأدبية ما يمكن أنْ أعدّه من الوجود، ولما كان الإنسان هو مصدر من مصادر الكون، وهو المُنتج والباعث لإبراز ماهية هذا الكون، فهو موجد أشياءً جمَّة، لذا يمكن عدُّ النتاجات الفكرية والأدبية هي من  الوجود الخارجي.
    وحين نقرأ مجموعة الدكتور صالح الطائي (تنهّدات على عتبة السبعين) التي صدرت في بداية عام 2023م ، وقد بلغ من العمر بضعة وسبعين عاماً نجده جسَّد فيها حنيناً لما يضمره قلبه من مشاعر دافئة، فبرَقَ بعضَها وفاءً لرفيقة عمره، إذ عبَّر عن شعوره تجاهها أنقى الكلام وأورف الصور، علماً أنَّ القصائد التي وجهها للمرأة بصورة عامة حملت في نسيجها عاطفةً جياشة على الرغم من أنها صدرت من مفكِّر أفنى عمره في التأليف، ولم نر له نتاجات رومانسية كما في مجموعته التي بين أيدينا، إذ كان جُلّ اهتمامه بالبحث والنتاجات العلمية، فقد ألَّف كتباً بعدد سني عمره أو يزيد، لكننا نراه في نصوصه الشعرية يفيض إحساساً دافئاً للحبيبة، فمن قوله في ذلك من قصيدته (يا ابنة السبعين): ص9
امسحي فوقَ تجاعيد المشــيبِ      وجراح القلبِ والأمـــسِ وأوبي
قبلةٌ منكِ تعيـــد الحبَّ لحنـــــاً      مثلما الفجرُ يُعتَّقُ بالغــــــروبِ
يا ابنةَ السبعين ما زالَ الهـوى      رعشةً والقلبُ يعلــــو بالوجيبِ
يا ابنةَ السـبعين يا طيف المُنى      يزدهي بالحبِّ والعيشِ الرغيبِ
أنا أشــــــريكِ بعمري كلِّـــــهِ       لثــــوانٍ كي أناديـــــــكِ حبيبي
   فهو، ولكونه بعمر الشيخوخة، يظنُّ أنَّه يعيش مرحلة الذبول، ما يجعله يستعيد الحياة بحبٍّ أظهره وبكل عنف تجاه الحبيبة (الزوجة) التي سَقت هذا الحب منذ شبابه حتى هذه الأيام، فهو يلتمسها أن تمسح فوق تجاعيد المشيب؛ كون أصابعها هي ما تحمل الحنان، فحريّ بها أن تطفئ تلك التجاعيد؛ لتبحر به إلى أيام الشباب حيث الهوى والأحلام المفاضة بالجمال والحياة السعيدة. كما أنَّه يرى أنَّ قُبلةً منها يمكِّنها أن تجعل من الحبِّ لحناً، واللحن رمز الطرب والهيام، مشبهاً حاله في ذلك مثلما الفجر حين يُعتَّق بالغروب، مومئاً إلى العيش بين الواقع والخيال، ممازجاً بين الضياء والظلام، ليعبِّر عن اختطاط ثمالته بنشوة الغرام.
   أما البيت الثالث، فيصف فيه أنه يعيش الهوى، والمُحبُّ عادة حين يلتقي الحبيب تتسارع نبضات قلبه، ما يجعله لا يستطيع أن يسيطر على ثبات جوارحه، لكن في الوقت ذاته أنَّ قلبه يعيش الحزن؛ لما بلغَ من خواتيم عمره.
    والبيت الخامس ولشدة وفائه للحبيبة والتمسك بها، نراه مستعداً للتضحية بعمره كلِّه من أجلها - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - فهو الباذل العمر من أجل أن يناديها بالحبيبة. وهذا البوح العاطفي يمثل نتاجاً وجودياً فاحتْ به قريحته، مختاراً صومعة الحُبِّ حين ضاقت به سني العمر؛ فاستأسدَ؛ ليقول مالم يقله لو كان في وضعه النفسي الطبيعي، هكذا هو بناء الوجود ونفحاته التي تظهرها القوى الخارقة من دواخل الذوات الإنسانية؛ ولكون الإنسان مثل الجوهر الخالق فهو خالق لوجود عَرَضي اسمه الإبداع، ممثلاً للنفحات الإنسانية الصادرة من الشعور والعقل الإنساني معاً.
   إنَّ "فقدان الحياة لضيائها وحرارتها ودفئها يعني انعدام القيمة الإنسانية المثلى، والمعنى الإنساني العظيم، وتحول العالم الى خيبة كبرى تجر في إثرها وجعاً كالموت ثقلا وبشاعة، وكالغربة تشردا ويتما " (2)، ولعل الطائي ليس كغيره، فهو يحاول التمسك بصور الحياة المفعمة بالأمل؛ ما يجعله يطلب الحُبَّ؛ لإنارة دروبه المدلهمة التي لو تركها من دون أمل لصار الروح والجسد عليلين.
    أما في قصيدته (شيخ وصبيَّة)، فنراه يعبِّر أصدق تعبير عن خلجات قلبه المفعم بالحُبِّ؛ نتيجة اغترابه واختناقاته من الروتين المُمل الذي يكاد يقضي عليه، فيهرب حيث لمسات الحنين والعواطف التي تمنحه الهدوء والسكينة فيقول:
لا أجيدُ نظم الشعر، فأنا لستُ بشاعر
لا أحسن السبك أو رصف القوافي
والقوافي، هي أيضاً قد تثور، وقد تجافي
لكنني يا حلوتي أملكُ قلباً عاشقاً
والعشق في بعض النفوس نهرٌ صافٍ
قد دلني الشوقُ إليكِ غيلةً.
سأسرقُ بعضاً من قصائد الغزل
وقصص العشاق والآهات والقُبل
وأحفظها على ظهر قلبي
وأنسبها لنفسي، ثم أقرؤها حينما تمرِّين بقربي
علَّكِ يا حلوتي ستشعرين فقري وتنظرين جدبي
علَّكِ أن تعشقي شيخاً تصابى
ولا في ركام عمري بعدٌ يريني القهر والحرمان
حبِّيني أيا مهجة عمري. (ص 97)
   يبدو أنَّ الشعر "ليس زينة وتجسيماً للحياة، وإنما هو كشف عن عالمٍ مجهول" (3) ما نراه في هذا النص محاولته تقمص روح الشباب للعودة إلى يوتوبيا تجعله يتجاوز حالة اليأس والقلق، ونهاية المطاف، فنراه يطمح للعيش مع ترف الحياة، فهو يأمل أن يعيش مع شابَّة تخرجه من هذا السجن الذي أثقل كاهله، وكأنه في النص يحاول أن لايلتزم بالبديهية التي يحملها قول الشاعر:
ذهب الشباب فمـــا له من عودةٍ   وأتى المشيب فأين منه المهربُ   
    مسلياً نفسه بهذا الوهم؛ كي يسلو القهر والحرمان، طالباً الحُبَّ من فتاته التي يحفظ الأشعار لأجلها؛ ليلفت انتباهها إليه، متوسلاً بها أن تمنحه رشفات حُبِّ هو بحاجةٍ لها؛ ما يدعونا أن نستشعر الحالة التي يعيشها، ومثلما قلنا سلفاً أنَّه يتهرب مما يعانيه من قلق تجاه واقع مأزوم وخوفٍ من النهاية الحتمية التي يخشاها معظم البشر.

الهوامش:
(1)   الأنطولوجيا في المصطلح والمفهوم، ياسين حسين الويسي، العتبة العباسية المقدسة، بيروت، ط1، 2019م: 17
(2)   معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح، دار الزمان للدراسات والنشر، سورية، ط1، 2012م: 175 
(3)   آليات الشعرية الحداثية عند أدونيس، د. بشير تاوريريت، عالم الكتب، القاهرة، 2009م.

15
قصة صورة غلاف وقراءة الأفكار
الدكتور صالح الطائي

رغم تمتع الكثير من مصممي الأغلفة بطاقات ابتكارية مبهرة ورائعة، أنتجت الكثير من الجمال الأخاذ الذي يتوافق عادة مع مضمون الكتاب، وهو ما وجدته لدى أكثر من مصمم تعاملت معهم في عملي على إصدار مؤلفاتي التي فاق عددها السبعين في عدة بلدان عربية فضلا عن العراق، إلا أن القلق يساور روحي كلما نويت أن أصدر كتابا جديدا ولاسيما إذا ما كان الكتاب أدبيا، خوفا من أن لا نوفق في تصميم غلاف يتوافق كليا مع مضمون الكتاب ويدل عليه لنطبق المقولة الدارجة: "الكتاب يقرا من عنوانه" حرفيا.
من هنا تجدني حينما نويت إصدار مجموعتي الشعرية الجديدة "تنهدات على عتبة السبعين"، كنت في غاية القلق بشأن موضوع تصميم غلاف يتوافق مع المضمون بشكل انسيابي لا أبهام فيه، ولاسيما العثور على لوحة فنية يطابق مضمونها مضمون المجموعة، وبعد جهد جهيد، وبحث شديد، لم أوفق بالعثور على شيء مناسب، وصادف أن اتصل بي أحد أصدقائي؛ الذي لمس عدم تجاوبي معه مثلما أفعل في كل مرة، فسألني عن سبب اضطرابي وقلقي، وحينما أوضحت له الأسباب، بادر بالقول: والله لا أبسط منها، وهناك قامة فنية باسقة بإمكانها أن تترجم كل مضمون المجموعة بلوحة واحدة، قلت: من هذا العملاق الذي لا أعرفه؟ قال: إنه الفنان التشكيلي العراقي الكبير ستار كاووش، وهو فنان من الطراز الأول إبداعا وخلقا وكرما وسخاء، وبالنسبة لي أنا واقعا لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل، ربما تقصيرا مني لأني لا أتابع النشاطات الفنية بسبب كثرة انشغالي بالكتابة التي تأخذ جل وقتي، واعترافا مني بهذا التقصير بادرت فورا إلى مراسلة الفنانن مبينا له رغبتي في الحصول على واحدة من لوحاته تحمل نفس رؤى مجموعتي التي تتحدث أغلبها عن مرحلة عمر ما بعد السبعين.
وبيني وبينكم أنا لم أكن واثقا من نوع ردة فعله على طلبي الوقح هذا، ولاسيما وأنه لا يعرفني، وقد يكون لم يسمع بي من قبل، ولا يعرف شيئا عني أصلا، ولذا توقعت أن يهمل رسالتي، ولا يلتفت إليها، وفي أفضل الأحوال أن يعتذر تأدبا، وهذا وذاك من حقه. لكن المفاجأة لم تكن بسرعة رده على رسالتي وحدها فحسب، بل وبالموافقة على اعطائي واحدة من لوحاته بلا مقابل، وأرسل لي فعلا لوحتين جميلتين، ثم أردفهما بثالثة، هذه اللوحات الثلاث لم تجد طريقها إلى قلبي رغم جمالها، ربما لأني لم أفهم مضمونها، أو لأن فيها بعدا عن مضمون المجموعة، فأخبرته بمشاعري، وشرحت له فكرة المجموعة الشعرية، وحينها بادر وأرسل لي لوحة مغرقة بالحركة وكأنها تنبض بالحياة، وجدتها قد دخلت قلبي ما إن رأيتها، بل وجدتها تعج بمضامين المجموعة، ولاسيما وأنه أرفق معها شرحا مبسطا، قال فيه:  "بالنسبة لما يمكن أن أقوله عن هذا العمل إنه يمثل  رجلا وامرأة يحتضنان بعضهما، ويستعيدان ذكريات وتفاصيل ومحبة من أيامهما التي مرت، ولم يتبق منها سوى كم الذكريات الحلوة والمرة. في هذه اللوحة يتداخل الجسدان ببعضهما، وتتحول المرأة الى ملكة؛ وهي في حضن الرجل الذي يشرد بنظراته بعيداً، وكأنه يستعيد في ذاكرته كل تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع محبوبته، فيما التمعت نقطة ضوء في العتمة التي على اليسار لتعطي للتكوين بعض التوازن. استخدمت هنا تقنية تقترب من تقنية الحفر على الخشب، لأمنح العمل تعبيرا ووضوحا وتأثيرا أكبر".
هكذا فهم الفنان كاووش مضمون المجموعة ومحتواها، وعبر عنه بلوحة تكوينية فريدة فيها الكثير من الرمزية، تمكنت من الإمساك بكل خيوط المجموعة دفعة واحدة، فتحولت المجموعة بفضلها إلى لوحة فنية، واللوحة بمحتواها تحولت إلى مجموعة شعرية؛ في تجانس لم أعهده من قبل، حيث تتداخل الأبعاد، بعد المجموعة وبعد اللوحة لتتحول إلى بعدٍ يضج بالمعنى، يستنهض الذكريات، يستفزها، يثيرها، يحثها على التفاعل مع الحاضر لتمنحه بعض ألق الأمس الذي مضى مأسوفا عليه. 
إن لوحة الفنان الكبير ستار كاووش أضافت بعدا آخر جديدا للمجموعة، وحفزت موضوعا جماليا أعلن عن ولادة نهج جديد في عملية تصميم الأغلفة التوافقية؛ أي توافق الصورة من خلال أسلوبها الرمزي مع المعنى، لأنها جاءت مفتوحة على عمق اندهاشي يثير التساؤل ويدعو إلى التفكر والبحث عن العلاقة السيميائية التي تذكر بسلفنا الإنسان الأول القديم؛ الذي اعتاد استنطاق العلامات واصطناع الدلالات منذ فجر التاريخ في محاولته للبحث عن المعنى، حيث تترادف العلامة الرمزية مع العلامة اللسانية، وبتقاربهما المدهش تتضح معاني المقاصد الجذرية بين الريشة والقلم، فالريشة والقلم كلاهما كانا من أقدس الأدوات التي رسمت للإنسان طريقه، وفتحت مداركه، ودلته على جذور المعنى، وخلدت مبادراته، وهي بعملها هذا لا تقل عن جميع أساليب التدريب على القتال من أجل الدفاع عن النفس، فالإنسان ما كان ليخلد كل هذه السنين لو لم يوظف السيف والقلم والريشة لتتولى مهمة ترتيب حياته ورسم خطوات مستقبله.
وبرأيي أن رمزية اللوحة المغرقة بالسريالية؛ التي تنماز بفوق واقعيتها؛ والتي تسعى إلى التعبير عن العقل الباطن ومضمراته بصورة يعوزها النظام والمنطق من أجل رسم نظام ومنطق جديدين، هي الخيار الأمثل لترجمة معنى التلقائية النفسية الخالصة، التي يمكن من خلالها التعبير بصدق عن واقع اشتغال الفكر، وهي بهذا المعنى العميق إنما جاءت لتفصح عن رمزية نص لا تتوافق معه الواقعية والطبعانية، لأن الرمزية تعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة تلميحا وإيحاءً تعبيرا غير المباشر، ولكن فيه من العمق ما يوصلك إلى المعنى المباشر دونما عناء
إذن فالأمر يتعلق حقيقة بقواعد فهم الجمال دون حاجة إلى تحكم خارجي، ولا إلى مراقبة تمارس من طرف العقل وخارجه في محاولة استنطاق المعنى تأويليا، لأنها تعمل على الارتقاء بالشكل الطبيعي للنص إلى ما فوق الواقع المرئي من خلال منهج توافقي بين الرقابتين الداخلية والخارجية، وفي ذلك اعلى مراحل تحفيز العقل لإدراك المعنى.
يذكر أن مجموعة تنهدات على عتبة السبعين ستصدر في الأيام الأولى من عام 2023 عن دار المتن البغدادية.


16
العراق
إعادة البناء وطن

الدكتور صالح الطائي

في عراق ما بعد التغيير لا توجد جهة حكومية تتولى مهمة تنظيف شوارع المدن، وكل الذي تقدر عليه الحكومة بالرغم من امكانياتها الهائلة تخصيص عجلة لنقل النفايات، وحتى هذه المهمة لا تؤدى بانتظام مرة بحجة نقص الآليات وأخرى بسبب عطل الآلية المخصصة للمنطقة حسب ادعائهم، ولذا يتولى بعض الأشخاص وهم قلة نادرة مهمة تنظيف أبواب بيوتهم والشارع الذي يطل عليه بيتهم.
أنا واقعا من هذه القلة، ولذا أتولى تنفيذ هذه المهمة الصعبة؛ التي أقوم بها مرة بنفسي، ومرة أخرى باستئجار عامل ليقوم بها، ولذا قمت البارحة عصرا بكنس وتنظيف وغسل الشارع المحاذي لبيتي، وجعلته في منتهى النظافة والجمال، وحينما خرجت اليوم صباحا، وجدت على جانبيه وفي وسطه قمامة كأنها تعود لأسبوع مضى، فتذكرت الانتخابات وقلت لنفسي: لا تنتظر من مجتمع لا يحسن حتى وضع القمامة في مكانها المناسب أن يضع أكفاء مخلصين وطنيين في المكان المناسب، وهذا يعني أن ما فقداه كثير جداً، وأننا نحتاج كمجتمع وكأفراد إلى إعادة بناء.
وإعادة البناء (Reconstruction): مصطلح يختلف معناه وفق السياقات التي يُستخدم فيها، سواء كانت إعادة بناء المباني والبنى التحتية، أم الواقع الصحي، أم الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي، فهو من حيث التعريف الأولي: أسلوب علاجي يؤدى وفق فلسفة خاصة ويُستخدم عادة في مجال الحفاظ المعماري للمباني، ولكنه ينطبق على كل حالة تحتاج إلى إعادة بناء، بما في ذلك إعادة بناء حياة شخص واحد آيل إلى الانهيار.
إعادة البناء هو في الواقع مفهوم شامل للصمود والقدرة على التكيف بعد الأزمات، يعمل على تحفيز النمو العقلي والنفسي والاقتصادي والسياسي من أجل استعادة الثقة والثقافة والبيئة المحلية التي تعرضت للانهيار نتيجة ظروف داخلية أو خارجية صعبة أو طارئة.
ويعني هذا أن على الجهة التي تتولى عملية إعادة البناء أن تبدأ أولا ببناء أُسس الإنصاف الشامل، وتحصيل الحقوق بشكل أشمل للجميع دون استثناء، ودون تمييز عرقي أو ديني أو مذهبي أو سياسي، ومعالجة التفاوتات الهيكلية التي أحدثتها تلك الأزمات التي تعرض لها المجتمع، والعمل على زرع الثقة ولو بشكل محدود بين المكونات، والسعي لتخفيف التوتر مهما كان نوعه وسببه، ومنع المهاترات الكلامية.
السؤال الأصعب: في الحالة العراقية المعاصرة، حيث لا ثقة بين الأفراد، ولا بين الجماعات، ولا بين القوميات، ولا بين الأديان، ولا بين المذاهب. والأكثر تأثيرا وأهمية من ذلك كله؛ لا ثقة مطلقاً بين الشعب والحكومة ومؤسسات الحكم والإدارة فيها.!
في هذه الحالة الفريدة والغريبة والمعقدة التي تنذر بخطر جسيم ماحق إذا لم يتم التصدي لها ومعالجتها بالسرعة الفائقة، وإذا لم تتكاتف قوى الخير والوطنية الحقة لبناء السدود في طريق سيرورتها، ممكن لها أن تودي بالبلاد إلى الهاوية، فلا تقوم للعراق قائمة إلى يوم الدين.!
السؤال: في هذه الحالة الفريدة والغريبة والمعقدة من يتمتع بقدرات إعادة البناء على نحو أفضل؟ ومن العنصر النظيف النزيه الثقة المؤهل ليقوم بعملية إعادة البناء؟
هل هي: الحكومة/ المؤسسات الدينية/ المؤسسات التعليمية/ النظام العشائري، مؤسسات المجتمع المدني/ الأفراد كل من موقعه؟ أم هناك جهة خفية وحدها التي يمكنها القيام بهذه المهمة الصعبة؟
وهي أصعب مهمة في صفحة تاريخ وطن، هو الذي تولى تعليم العالم معنى البناء والحفاظ عليه وإعادة بنائه إذا لزم الأمر.!

17
المنبر الحر / الموروث والتراث (*)
« في: 13:22 17/09/2022  »
الموروث والتراث (*)
الدكتور صالح الطائي

إن ما يحدث اليوم بين صفوف شعوبنا العربية؛ التي ابتليت بنفسها وبحكامها وبجيرانها ليس غريبا، فقد ورثنا ذلك العبء الثقيل عن أجدادنا اللئام الكرام، وزرعه فينا آباؤنا وأخوالنا وأعمامنا، وشربناه مع مياهنا، وتناولناه مع ثمار حقولنا، وشممناه مع رياحنا، وسكن مساماتنا من خلال تراب أرضنا، فنحن أمة التناقضات، أمةٌ أكلت ربها زمن التقحم والمجاعة، وباعت مفتاح كعبتها في زمن السكر والطرب والعربدة، وهذا ليس تجنيا، بل هو حقيقة تداولتها الصحف، وأورد حكاياتها التاريخ.
ومن التناقضات الغريبة في أمتنا أنها أمة حية فاعلة مؤثرة ومتأثرة، كانت على استعداد لتقبل الآخر مهما كانت عقيدته، مع أنها كانت على استعداد لمحاربته أو محاربة أي جزء آخر منها متى ما اقتضت الضرورة وألحت الحاجة، سواء الحاجة للكلأ والمرعى أو الماء أو المال، بدليل تعدد الأديان بين صفوف مكوناتها القبلية، إذ يذكر أن أديان قبائل العرب في الجاهلية كانت عديدة، فمنهم من عبد الأوثان وصورها بشتى الأشكال، وكانوا يصنعونها بأيديهم من المعدن أو الخشب أو حتى المأكول، ثم يقفون أمامها خاشعين، وعبد فريق منهم الكواكب مثل كوكب الشعرى اليمانية، وهؤلاء رد الله تعالى عليهم بقوله: {وأنه هو رب الشعرى}، وعبد فريق آخر منهم الجن والملائكة، قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون}. غير ذلك كانت الديانات السماوية معروفة لديهم وفيهم من اعتنقها حيث كانت الديانة المسيحية في طي وربيعة وغسان وفي قسم من قضاعة، وكانت الديانة اليهودية في حمير وكنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، ومع هاتين الديانتين كانت المجوسية في بني تميم، وكانت الزندقة فاشية في قريش، وهؤلاء الزنادقة هم الذين قال شاعرهم للنبي (صلى الله عليه وآله):
يحدثنا الرسول بأن سنحيا
وكيف حياة أصداء وهام؟ (1).
من لطائف ما ذكر عن المواد التي كانت تصنع منها الأصنام، قصة بني حنيفة، وكان بنو حنيفة من القبائل التي تعبد الأوثان والأصنام، يذكر أن الوثن هو ما صنع من الحجارة، أما الصنم فهو ما صنع من الخشب أو الذهب أو الفضة، وقيل: إن الصنم ما كان له صورة، أما الوثن فهو مالا صورة له. المهم أن بني حنيفة كانوا قد اتخذوا إلهاً من حيس، والحيس هو التمر يخلط بالسمن ويعجن سوية، فعبدوه دهرا طويلا، ثم أصابتهم مجاعة شديدة، فأكلوا ربهم بلا استحياء، فقال رجل من بني تميم معرضا بهم: "أكلت ربها حنيفة من جوع قديم بها ومن إعواز" (2).
وقال آخر:
أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة (3).
وهذا ليس غريبا، بل الغرابة كل الغرابة أنهم كانوا يعرفون أن هذه الآلهة لا تنفع ولا تضر، ولا قدرة لها على منع الثعالب من التبول عليها، إذ يروى أن رجلا من العرب اطلع يوماً على صنم لهم، كانوا يعبدونه، فرأى ثعلباً يبول عليه، فقال:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب (4).
ومع ذلك كانوا يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، وأعتقد أن بعض شعوبنا المعاصرة ورثت عنهم هذه الميزة فاستسهلت صنع الأرباب المزعومين وعبادتهم والتحرك طوع أمرهم، وهو ما جعل شعوبنا تزخر بالتناقضات الغريبة التي جعلت المقدس رخيصا بشكل لا يصدق، فأهلنا لم يكونوا يأكلون ربهم إذا جاعوا فحسب، بل كانوا يبيعون أقدس ما لديهم بكأس خمر، إذ باع أجدادنا المخدوعين من قبل اصحابهم مفاتيح بيت الله الحرام بزق خمر، والحمد لله أنهم لم يبيعوها لغريب، وهو ما قال عنه شاعرهم:
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت
بزق خمر فلا فازت ولا ربحت (5).
هذا البيت يحكي قصة مفادها أن قبيلة خزاعة كانت لها سدانة البيت قبل قريش في زمن الجاهلية، وكان أبو غبشان (سليم بن عمرو الخزاعي) يلي ذلك، فاتفق عليه أن اجتمع مع قصي بن كلاب في شرب بالطائف، فخدعه قصي عن مفاتيح الكعبة بأن أسكره، ثم اشترى المفاتيح منه بزق خمر وأشهد عليه، ودفع المفاتيح لابنه عبد الدار بن قصي، وطيره إلى مكة. فلما أشرف عبد الدار على دور مكة رفع عقيرته وقال: معاشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل، قد ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم. فأفاق أبو غبشان من سكرته أنجم من الكسعي، فقال الناس: "أحمق من أبي غبشان"، و"أندم من أبي غبشان"، و"أخسر صفقة من صفقة أبي غبشان" (6).
إن ما مر علينا عبر تاريخنا الطويل ولغاية هذه الساعة لا غرابة فيه، فهو لا يختلف كثيرا عما مر على الأمم والشعوب الأخرى من حولنا، بل ربما كان أجدادنا أفضل من غيرهم، ولاسيما بعد أن منَّ اللهُ عليهم بالإسلام، وبفضله نجحوا في السيطرة على الجزء الأكبر من العالم المعروف يومذاك، ونقلوا علومها وخزائن كتبها إلى ديارهم مع ما كسبوه من جواري وإماء وغلمان حسان وذهب وخمور، بمعنى أن العالم كان متقارب الوجود والعيش بشكل أو بآخر، فلماذا تقدم العالم كله بما فيه تلك البلدان التي كانت خاضعة لنا، بينما نحن نزداد تخلفا وتأخرا وهمجية وتفرقا وتحزبا وطائفية وخبثا؟ أيصح ان يكون ذلك بسبب كثرة الأرباب عندنا، أم بسبب استهانتنا بالمقدس الحقيقي وتقديم المدنس عليه نصرة لحزبنا أو طائفتنا او مذهبنا أو قومنا!


الهوامش
(*) هنالك خلط بين المصطلحين، كان الراحل زكي نجيب محمود قد أزال التباسه، فأوضح عمومية (الموروث) الذي يمثل كل ما ورثته الأمة عن أسلافها، قبالة خصوصية (التراث) الذي يمثل الجزء الذي اصطفته الأمم من عمومية الموروث.
(1)   عبد الجبار، عبد الله، قصة الأدب في الحجاز، عبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ص196.
(2)   ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، المعارف، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ ـ 1987م، ص 9١.
(3)   الحميري، نشوان بن سعيد اليمني (ت: 573 هـ)، الحور العين، تحقيق: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1948، ص38.
(4)   الحميري، المصدر نفسه، ص14.
(5)   ابن سعيد المغربي، كتاب نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، تحقيق: الدكتور نصرت عبد الرحمن، مكتبة الأقصى، عمان – الأردن، ص14ـ15.
(6)   الثعالبي، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، (ت: 429هـ)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1424هـ - 2003م. ص116. وابن قتيبة، المعارف، ص 91.

18
الإنسان بين التسليع والأرشفة والرقمنة
قراءة في كتاب "ما بعد كورونا هل يغير العالم مناخه؛ دراسة في صناعة الوعي" للأستاذ عدي عدنان البلداوي
الدكتور صالح الطائي
منذ بدايات فجر التاريخ والإنسان أكثر الكائنات تعرضا للتسليع؛ هذا النمط الحياتي الذي أجازته بعض الديانات السماوية ومنها الإسلام لأسباب إن كانت في بداياتها تبدو مقبولة كواحدة من مخرجات الصراع الأزلي، طالما أنها ستنتهي بعد أن تؤدي واجبها البنائي في مرحلة السيرورة والنشوء، ولكنها خلاف ذلك، ولأسباب نفعية كثيرة، فرضت نفسها على الواقع الحياتي والمجتمعي، وأسست لنفسها قوانين فاعلة إلى اليوم تحت أنواع من الأغطية الواهية التي لا دليل على صحتها، ولا يجرؤ أحد ما على الاعتراض عليها.
بعد هذا التاريخ الابتدائي القلق ارتبط الإنسان بالأرشفة كوسيلة لتنظيم حياته كمحصلة من نتاج تطور العلوم وهيمنتها على مفاصل الحياة؛ بعد أن تحول هو نفسه إلى رقم في السجل الحكومي الالكتروني، وتحولت واجباته ومردوداته وحياته كلها إلى صفحات في سجل محفوظ بعناية في أرشيف الوطن.
ولغاية عام 2019 كانت الأرشفة فاعلة ومؤثرة ولها استخداماتها المتعددة والمفيدة جدا لا للمواطن وحده بالطبع بل ولأنظمة الحكم والقيادات الخفية والعالم الفوقي السري، وقد أسهمت بدورها في تهيئة الأجواء لتقبل المشاريع الجديدة المقترحة. ولكنها تعرضت في هذا التاريخ بالذات إلى هجمة كان التخطيط قد بدأ لها منذ زمن طويل، وقد استعجلت الظهور قبل أن تكتمل الخطط الخاصة بها فأعلن انتشار (كوفيد 19) عن إعلانها أمام الكون مستبقا الأحداث والأحاديث.!
فهل يعتبر وباء كورونا نقلة تاريخية تنبئ بنهاية عصور وبداية عصر لا سابق له؟ وهل صحيح أن وباء كورونا الذي تجاوز كل مؤشرات الأمان المعروفة، وكل نظم الرقابة الموثوق بها، وكل الحدود والمعوقات، فامتد من أقصى الأرض إلى أقصاها، سيحول البشر إلى أجراء موظفين ومستهلكين يعملون لحساب شركات كونية أو منظمات سرية تتولى قيادة العالم أملا في ضمان انسيابية الحياة وفق هواهم ومخططاتهم دون مفاجئات غير مرغوب فيها تعترض هذا المشروع؟
هذا السؤال يمثل فحوى كتاب الأستاذ عدنان البلداوي الذي نحدد بصدد تفكيكه وقرائته، وهو سؤال ـ بكل فروعه ـ يبدو استفزازيا وفي غاية الخطورة، ولكنه يفرض نفسه بعمق نظرا للنذر التي تلوح في الأفق، وهي كلها مغلفة بالتشاؤم والقلق، فلقد أثبتت مقولة "العالم قبل كورونا ليس كما هو بعدها" جدارتها وصحتها، واستشعر الإنسان في العالم كله من قمم الحضارة إلى متاهات أفريقيا وبدائيات غابات الأمازون هذه الحقيقة، حقيقة التحول الجوهري الذي أعاد بناء أهم أركان حياتنا وفق مواصفات كان روادها وأصحابها يبحثون لها عن ثغرة في النظام الكوني ليمرروها، فإذا بوباء كورونا يفتح لها الباب على مصراعيه لتبدأ بإعادة ترتيب حياة الكائنات كلها وفق مشروعها الطامح الذي من أولى أولوياته أنه سيعيد العلاقة بين السيد والعبد وفق نمذجة جديدة تحول الشعوب جميعها إلى عبيد لسيد أوحد هو قائد النظام العالمي الجديد، طالما أن القوى المضادة بدءً من تفكك الاتحاد السوفيتي، إلى تحول الكثير من البلدان في الشرق الأوسط وأفريقيا إلى دول فاشلة، لم تعد تمثل تهديدا جديا وفاعلا للمشروع.
وهنا يقفز سؤال آخر من أعمق مناطق الوعي التي أصابها الإرباك: هل أن كورونا داء مصنع تم نشره لكي يمهد لطرح فكرة مشروع الكونية الجديد؟ أم أنه جاء بسبب مؤثرات أخرى ولكن مخرجاته استغلت لتخدم مشروع الكونية؟ أم أنه أحد النذر الخطيرة التي تمر بين حين وآخر لتذكر الإنسان أنه مهما تطور وتقدم وتحضر واستقوى واستأسد وفكر وخطط ورسم سوف يبقى عرضة لهجوم من قوى خارقة بعضها لا ترى بالعين المجردة ولكنها أكبر منه ومن كل قدراته، وأنه لا قدرة له على ردعها بكل معطيات حضارته؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تبدو بدورها محاولة عبثية لإثبات أن الماء ماء، فرؤية العالم للغيبيات كادت تتلاشى، وأصبحت المادة أساس الوجود، وصار الإنسان يؤمن بما يراه لا بما هو غيب، وهو ما يدفعنا لنسأل عن هذا المشروع الواعد فيما إذا ما كان معادلة جديدة جاءت لتنسخ المعادلات التقليدية المعروفة، أم جاءت مكملة للمشروع الكوني الكبير؟ وهل ممكن أن يتاح لثنائية الحاكم والمحكوم التقليدية أن تمارس لعبتها التاريخية السمجة في هذه المعادلة رغم خطورة الموقف؟ لم لا ومشكلة الإنسان المعاصر أن القيمين على شؤونه يعتقدون أن عدم الاستقرار في حياته والعوز الذي يعاني منه والانهزامية التي يشعر بها إنما هي نتاج سوء حاله وليس بسبب سوء إدارة البلاد وقوانينها المرعية!
وهذا هو القصور الذهني في أعلى مراحله فالمشكلة التاريخية المشخصة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي أن المحكوم طالما عانى من شظف العيش والمرض والبؤس والجوع والفاقة والحرمان، وأنهكه ارتفاع الأسعار، وقلة الوظائف والأعمال، وضعف الموارد، وكثرة الشوارد، وتفشي البطالة، في وقت يرى فيه الحاكم مهما كان نظام حكمه أن أي مكرمة يقدمها للناس حتى لو كانت من ضمن حقوقهم الوطنية والشرعية والإنسانية التي أقرها الدستور ضربا من اعمال الخير الذي سيدخله الجنان، وفضلا لا يدانيه فيه أحد، وفي مثل هذه الثنائية غير المتناسقة لا يمكن للأمور أن تستقيم، وهذا نذير بأن الانحدار سيبقى علامة فارقة في دنيانا المعاصرة طالما أن الحاكم يتجاهل عن عمد أو يجهل بشكل طبيعي طبيعة المحكوم.
في هذه المعادلة غير العادلة تختفي العاطفة والألفة والود الطبيعية ويتحول العيش إلى تجربة حياة اصطناعية تفتقر إلى مقومات الكرامة والنبل والاحترام المتبادل والموازنة بين الحقوق والواجبات، مع علم الجميع أن الإنسان هو الإنسان في كل الأزمان، ونسيجه التكويني في القرن الحادي والعشرين يتوافق مع نسيج أخيه في القرن الكوني الأول، فالدم الذي كان يجري في جسد قابيل هو نفسه يجري اليوم في أجسادنا مع اختلاف بسيط وهو أن العصا وبعض المفردات الأخرى كانت محركهم الأوحد، أما اليوم فالنظام الرقمي بدأ يفرض نفسه ليتولى قيادة البشرية بدل العصا ومحلقاتها من خلال أزرار أباح له لمسها والاندهاش بما ستظهره له، وهذا يعني أن العلوم ومخرجاتها تحولت إلى أداة قمع بيد القوى المسيطرة، قد لا يكون صنع فايروس كورونا آخرها.
إن الحديث عن فايروس كورونا والوباء الذي تسبب به، وتهديده لأعظم الدول واقواها، يعطي مخرجا في غاية الأهمية وهو أن هذا الوباء الذي خرج عن السيطرة فقلب السحر على الساحر كان محاولة لإقناع العالم بحاجته إلى نظام عالمي جديد [[[ص18]]] وأن المشرفين على هذا المشروع هم الذين تولوا إعادة ترتيب الواقع بعد أن أثبتت البلدان الفاشلة أنها دون مستوى التماهي مع الحدث، ففي الوقت الذي انتظر الناس من حكوماتهم ومنها على سبيل المثال الحكومة العراقية توفير مستلزمات الحماية، والإسهام في رفع الحيف الذي لحق بالمواطن جراء فرض منع التجوال وتوقف الأعمال، نجد الحكومة تعلن بفخر عن اعتقال آلاف المخالفين لحظر التجوال، وفرض غرامات مالية على المخالفين دون النظر في الأسباب التي دفعتهم إلى المجازفة ومخالفة الحظر، ونجدها في ذات الوقت قد تخلفت عن منح المبلغ الزهيد جدا الذي خصصته لتوزيعه شهريا كمنحة على المتضررين، والذي هو بالأساس لا يكفي لسد مصاريف يوم واحد، فلم تدفع منه شيئا، وفي الوقت الذي دعت فيه القطاع الخاص لتخفيض أجور الاشتراك في المولدات الكهربائية الأهلية، لم تبادر من جانبها بإلغاء أو تأجيل أو تخفيض الأجور التي تستوفيها عن تجهيز المواطنين بالكهرباء الوطنية والماء بما فيهم الأسر المتضررة فعلا، بل جعلت تلك المبالغ ديونا مترتبة بذمم من لم يدفع أو عجز عن الدفع [[[ينظر: ص18ـ19]]]]]
هذه الثنائية القبيحة المتناقضة تكررت وبشكل يبدو مقصودا ومخطط له بعناية فائقة، ليس العراق وحده، إذ لا زالت الطائرات المتطورة تقصف أحياء الفقراء في اليمن وتقتل الأبرياء، ولا زالت سوريا شعبا ووطنا تتعرض للإبادة الحمقاء، ولا زال القلق في ليبيا سيد الموقف، ولا زال الترقب الحذر في تونس يتعب الأعصاب، ولا زال البحث عن الانشقاق والانشطار في السودان قائما على قدم وساق، ولا زال العبث في لبنان يقتل الجمال ويغتال المتعة ويصادر الآمال، ولا زالت البلدان الأفريقية تزداد فقرا، في وقت لم يعد الفقر اصطلاحا يشتمل على الحالة الاقتصادية وعلى الفرد والمورد المالي، فقد شمل ما هو أبعد من ذلك، إنه توفر الفرص الحقيقية من قبل الفرد أو النظام الذي يدير شؤون البلاد، فرص تمكن الفرد من  أداء رسالته في الحياة [[[ص23]]]
المشكلة أن جميع هذه البلدان وبلدانا أخرى غيرها لا تختلف عنها كثيرا، أو مرشحة لأن تلحقها في القريب العاجل، وكلها ولاسيما العراق الذي نعيش فيه تكاد لا تلتفت إلى ضرورة وجود خلية أزمة متخصصة تتولى إدارة التعامل مع الوباء ومع ما يثار حول المشروع العالمي الجديد ومع التغيرات المتسارعة، تتصرف وفق معايير وخطط أكبر من عسكرة الحياة المدنية، ولاسيما في بلد فيه أكثر من سبعة ملايين مواطن في خط أو تحت خط الفقر، وفيه بطالة فاقت كل المقاييس فبلغت بحدود 70% بين الشباب حسب الإحصاءات العالمية [[[ص31ـ32]]]]]]]
يبدو من الملاحظات التي أوردناها اننا في حضرة كتاب أراد ان ينتهك المحظور، ففي هذا الكتاب حاول الأستاذ عدي البلداوي لملمة أطراف الواقع المتباعدة، التي تولدت نتيجة الشائعات والآراء والتصريحات والاستنتاجات، ومنها الحديث عن مشاريع تستهدف حياة الناس من خلال خلق الوباء، واستغلال الظرف الصحي لإجبار الناس على تلقي لقاح هو جزء من مشروع مستقبلي فيه اختراق للخصوصية والسرية الشخصية [[[ص36]]]] كل ذلك لأن العالم يتحرك فعلا باتجاه نظام جديد كليا بعد أن تهيأت له الظروف المعلوماتية والتكنولوجية.
أما مناخ هذه البلدان الفاشلة الملبد بالغيوم السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية فقد حث الناس على القبول بالأمر الواقع، وأسهم من جانبه في تسريع وتيرة العمل على مشروع النظام العالمي الجديد والترويج له بعد أن تضافر الوباء معه ومهد له الطريق، فكان حافزا قويا له الأثر الكبير، فضلا عن تخلي النظم عن الأرشفة التقليدية.
لقد أدى الخروج من ربقة الأرشفة التقليدية إلى دائرة الرقمنة والخوارزمية إلى تغيير أنماط العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد، وعلاقة الشعوب مع الشعوب الأخرى المجاورة والبعيدة، في ذات الوقت الذي أدى هذا الخروج المتسارع إلى تغيير النظرة إلى القوانين المحلية المرعية والقوانين الدولية التي بدأت تخترق الحدود الكترونيا لتترك بصمتها على السلوك العام للشعوب نتيجة التغيير الذي أحدثته في قناعاتهم، وتمكنها من تغيير رؤيتهم للمصطلحات الجديدة التي ابتدعتها وأحلتها بدل المصطلحات القديمة بحجة الخروج من دائرة التراث إلى دنيا الحداثة والتجديد، وذلك كله كان مدروسا بعناية فائقة ومخطط لكل خطوة منه باتقان، ولذا لم ينجح الأثر السيء الذي تركته كورونا في الضغط على المشروع بقدر نجاحهم في توظيف مخرجات الوباء لصالح مشروعهم، وهو ما تماهى معه الأستاذ عدي البلداوي في رؤيته أننا لا نستطيع أن نتجاوز حقيقة الدور الريادي للدول الصناعية المتقدمة والمناخ الجديد الذي أوجدته الثورة الصناعية المتقدمة، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العلم لا يقوم بهذه الإنجازات بعيدا عن الإرادة الدولية للأنظمة التي تدير العالم، وان هذه النظم كشفت عن مساوئها في أجواء العالم الموبوءة بفايروس كورنا [[[ص60 ]]]
تجدر الإشارة إلى أنه ليست القوانين الدولية وحدها التي اخترقت الحدود وبدأت تُعوِّد الناس على مطالبها بما فيها تلك المطالب المخالفة لتراثهم وعقائدهم وسنن حياتهم، فالسلع ورأس المال اكتسبا بدورهما طابعا عالميا له قدرة فائقة للتأثير على صناعة القرار محليا، فأصبح الاقتصاد قوة جبارة وضعت القوى الأخرى تحت جناحها[[[ص61]]]]]]]]]
وبالتالي ومن خلال تظافر الرقمنة والضغط الدولي الفائق والتأثير الاقتصادي المهول على مجمل الأوضاع الداخلية للبلدان بدأ المشروع الجديد أولى تجاربه للتحكم في تكوين الفرد البشري وإعادة هيكلة بناء الشخصية [[[ص63]]]] لخلق أنماط جديدة من البشر يسهل سوقها قطيعيا، وهذا يعني أن البشرية كلها تتحرك نحو واقع مأزوم محفوف بالمخاطر القصوى، وسيقوم النظام الجديد بالمراهنة على حالة التأزم من خلال إدارة تخصصية كفوءة ومتمرسة معدة سلفا ومدربة تدريبا جيدا[[[ص72]]]] تملك قدرة تقديم حلول ترقى إلى مستوى مداواة آثار الأزمة، وذلك لتحقيق توازن نفسي يضمن لها قيادة القطيع دون معارضة، بعد أن نجح تحكمها في العلوم وحصر النتائج في مستويات ضيقة وسرية في جعلها قادرة حتى في التحكم بالطقس والأمطار وربما ثوران البراكين والزوابع والعواصف بما يجعلها قادرة على التحكم بمصائر الشعوب دون أن تترك أثرا يفضح تورطها في تلك الأعمال القذرة.
فإذا اجتمعت كل تلك المخرجات مع الصعود القلِق للمعايير المنحطة والمفاهيم المغلوطة والمصطلحات المستحدثة التي تجاوزت التابو والمقدس بحجة التحرر من كل أشكال القيود. ومع صعود الفاشلين والمنحطين لتولي قيادة البلدان وإدارة الدول. ومع غياب الأداء الإنساني الرفيع. ومع محاصرة القيم العليا في زوايا مظلمة والتأثير عليها من خلال الترويج للقيم البديلة المستحدثة. ومع وفرة المعرفة الخالية من القيمة العليا ويسر الوصول إليها واستخدامها. ومع عجز الخطابات الدينية والسياسية المحلية عن إقناع الناس بصحة ما تدعو إليه. ومع تأثير الإعلام السلبي المدعوم بسطوة القوة المسيطرة على برامج البروباغاندا. ومع مفارقة الشعوب للقراءة وإهمال مصادر ومراجع العلوم والتاريخ واللغة المكدسة في المكتبات الورقية، والاعتماد الكلي على بيانات العالم الرقمي المتاحة بلمسة زر أمام الجميع، مع علم الكثيرين أن تزييفا حقيقيا خضعت له تلك المعلومات الرقمية مثلما يرى الأستاذ البلداوي قبل أن تصبح متاحة لهم [[ينظر: ص120]]]] ومع غياب الحقيقة وانتشار الزيف والخداع. مع غياب ذلك كله أصبح الإعلان الرسمي عن ولادة النظام العالمي الجديد حقيقة تلوح في الأفق القريب، بل هي أقرب لأنوفنا وأعيننا من الأشياء المحيطة بنا الأخرى، وكل الذين يفتلون شواربهم ويفخرون بعضلاتهم.. كلهم سيكونون أول المصفقين لأنهم بلا رسالة مع أن من المفروض أن تكون لكل إنسان رسالة مثلما وفق رؤية الأستاذ عدي [[ص144]]]]
وأملا في إيجاد علاج أو موقف حمائي يرى الأستاذ البلداوي أنه ينبغي تهيئة مناخ نفسي في المجتمع يمكنه من تقبل مراحل وعي أكثر عمقا فيما يخص العلاقة البشرية مع الذات ومع الله وانعكاساتها على أرض الواقع مع الآخرين[[ص146ـ147]]]
وأرى من جانبي أن هذا التوجه لو قدر له أن يبدأ قبل هذا التاريخ، وأن يتحول إلى قوة ضاغطة لها قدرة التصدي للمشكلة في طريق سيرورتها قبل أن تصل لهدفها وتؤسس قواعد لها لكان قد حقق النجاح المطلوب، أما الآن، الآن بعد أن أنهت المشكلة مسيرتها التكوينية، وفتحت سجلاتها، وشغلت آلاتها، وبثت برامجها، وأفصحت عن مشروعها، فأعتقد أن الأمر أكثر صعوبة مما نتوقع، وأن الأمل وحده هو الذي يدفعنا لنتوقع من تلك القوة التي نؤمن بها أن تؤثر على القوة المضادة وتوقف تخريبها، ومع أن "ما نيل المطالب بالتمني" إلا أننا نثق بالله، وأن ثقتنا ممكن أن تدفعنا إلى الأمام خطوات، لكن علينا أن نشد العزم لنواصل المسير ضد التيار مهما كان عاتيا جبارا، وألا فإن عصا الراعي تنتظر انضمامنا إلى القطيع.
صدر كتاب " ما بعد كورونا هل يغير العالم مناخه؛ دراسة في صناعة الوعي" للأستاذ المهندس عدي عدنان البلداوي في أواخر عام 2021 عن مؤسسة البلداوي للطباعة بواقع 188 صفحة من الحجم الكبير، وهو محاولة جريئة لتفكيك الواقع المأزوم برؤية علمية عقدية أخلاقية إنسانية، وقراءته لا تدفع على الممل مطلقا نظرا لاحتوائه على معلومات واحصاءات وأخبار مهمة وممتعة.
 


 

19
نهر الرمان
بوابات الزمن وسحر الكلمة لدى شوقي كريم حسن
الدكتور صالح الطائي
مع أولى كلماته المشاكسة المتآلفة المتنافرة يحشرك شوقي كريم حسن في أتون حيرة سرمدية من خلال جمل متوحشة ومتلفعة بالوحشة، باحثة عن وهج يعيد لها الهدوء المفقود في مسامات الزمن الصعب، وهي بتمردها على المألوف لا تزيدك إلا حيرة على حيرتك التأريخية الموروثة من أيام زمنٍ ما كان جميلا في وقت ما، ولا أمل في ان يصبح جميلا في خضم معركة الصمود الزائف التي تتجول في أروقة حياتنا دون ان تجد من يردعها.
بين الفكرة والكلمة ثمة روح متمردة تبحث عن معنى اللامعنى في جنبات فوضى عالم متوحش بوهيمي، والحياة حين تتحول إلى فوضى لا يمكن أن تعاش (ص24) مع أنه يمكن لبوارق الأمل أن تأتي من فيوض التيه، تنبئك بما كنت تريد، أو تعدك بغد سعيد.
كأداء وعرة تلك الأرض التي يضعك شوقي فوقها، ويطلب منك المسير بأقدام حافية أنهكها الترف، تتقاذفها جلاميد المعنى، فتنز دما صارخا من آهة الوجع السرمدي الذي تكدس عبر التاريخ فصار جبالا.
السفر في عوالم شوقي رغم حميميته، ورغم الكلمات المنمقة المتعوب عليها لا يبعث على الطمأنينة، فثمة فوضى عارمة تسكن اللامكان بحثا عن هوية في عالم لا يحترم الهويات.. الهوية ذات معنى خاص عند شوقي، ولذا يؤكد عليها لا من خلال الدعوة للحياة بل من خلال الدعوة للموت، طالما أن الموت والحياة كلاهما مجرد عبث، فالموت في عوالم شوقي الروائية لم يعد أسطورة، والحياة لم تعد معنى، وما يعنيك من كل ذلك مجرد رغبة جامحة ألا تعيش المأساة مرتين، فضبابية الوجود الميتافيزيقي لا تحجب رؤيا الحكمة رغم كثافتها، ولكنها تعيق التأمل، فلا تعطيك فرصة لتدرك حجم المأساة إلا بعد فوات الأوان، وحينها تحدث المأساة التي نعمل جميعا على تجنبها، ولكنها تفاجئنا في منعطفات حياتنا، ولا أصعب من أن تكسر الأيام جناحيك وأنت لم تكمل تدريبك على الطيران بعد.
في عالم النهيق تختفي سقسقات العصافير وتضيع تغريدات البلابل فيضيع صدى التغريد الواعد بربيعٍ مشرقٍ قد لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، وحينما يتلاعب القلم بأسمى طروحات الفلسفة ليحولها إلى نكتة تُبكي ولا تُضحك، فتلك منتهى حالات اليأس القاتل، أو قل التمرد على المألوف، لكنها بكل الأحوال لا تدل على الهزيمة، إنما هي مؤشرات عنف فكري معترض تؤكد حب الحياة.
مجازفة كبيرة أن تسعى الفلسفة لتتحكم باشتغالات الأديب فارضة نفسها على أفكاره ورؤاه وكأنها تريد ان تخرجه من صومعة عذوبة الكلمة وملهاتها التي يحتاجها العمل الأدبي؛ إلى صعوبة فهمها وتعقيداتها، لكنها مع كل المجازفة فيها تصبح أحيانا كالمعول الذي لا يمكن إزالة الصخور المشوهة وتهذيبها إلا بواسطته، فالملهاة لا تقف عند حدود اللاممكن بل تتعداه إلى كونٍ سريٍ بلا ملامح تفرضه تفاهة الفوضى، فوضى ألا يعرف المرء إلى أين يتجه وإلام يريد الوصول، وما هدفه وما غايته، ولذا يبدأ البحث عن مخرجات معقدة علها تسهم في إعادة صياغة المعنى، حتى وإن سلبت منه عذوبته، طالما أننا نعيش في كون متناقض هلامي الشكل.
في هذا الكون تولد المقارنات، وفيه يولد الجمال، وتولد الأفكار السوداوية، وتولد الحيرة، حيرة البحث عن جواب لأسئلة نزقة عن المقارنة والمقاربة، مثل: لم جئنا إلى هذه الحياة التي نسميها دنيا؟ ولماذا يتوجب علينا الموت؟ لا فائدة من حياة يتبعها موت، لهذا أريد ان أعيش (ص9)، هكذا يفكر شوقي، ويعني هذا أنه ليس من العبث المقارنة بين بوابات الحانات والأمكنة الفاسدة، ووحشية أن يتحول المرء إلى أشلاء تفتح الطرقات إلى موت آخر ليتقلد القادة نياشين الشجاعة تتراقص على صدورهم المترهلة ثمنا لعدد الجنود الذين قدموهم لجحيم الجنون، فتلك الوجوه التي كركمها الموت لم تولد عند خيمة الانتظار تمطر آهات وخرافات (ص16) لتعطي نضارتها لموت بلا معنى، لتتعفن قبل أن يحملها المأمور ملفوفة بعلم لم يقدم لها ولو شيئا يسيرا من وشل كرامة كانت تبحث عنها في عالم زائف. الزيف لم يصبح حقيقة أبدا، ظل زيفا مشخصا يعرف أوصافه حتى العميان والمجانين والعابثين إلى أن تم اختراع أنواط الشجاعة.
الحكماء وحدهم، بل الأكثر حكمة منهم وحدهم كانوا مشغولين عن الزيف بالبحث عن إكسير الحياة الذي بخرته نيران الحروب، تلك الحروب التي اندلعت وكأن لا هم لها سوى إذابة جماجمنا وربما لهذا السبب كان كل منا يرقب تابوته قبل أن يتحول إلى رقم سري في ملف ينتهي عند مكب نفايات (ص18).
نعم لا أقسى من الموت سوى لحظات وداع الأم لولدها المساق لموت مؤكد عنوة على حافات حدود الدم المشتعلة بنيران العبث والجنون واللاجدوى؛ الأم التي تمثلها (فطيم وحيلي) والدة شوقي؛ وهي ترقب ولدها يلج كهوف الموت، وبضعة أكف تلوح له مودعة، وهي موقنة أنها لن تر ما ودعته ثانية، وعيون ملوثة بدموع تحملها وجوه يملأها القهر وهي تختفي وراء الشيلات السود (ص19)، أما هو فليس أكثر من آلة صماء سُلبت كل مراكز التحسس فيها، وفُرض عليه أن يردد كالأبله: (أحنه مشينا للقبر... عاشك يدافع عن قهر محبوبته) (ص20)، ألم أقدم لكم عن الملهاة عسى أن تدركوا حجم معاناة الإنسان البغيضة إذا ما أراد ان يتأمل عمره؟.
حينما يتأمل الكائن عمره طمعا في فك طلاسم الحياة تتلاشى أمامه حدود المعرفة، وتضيع المسافات في ثيمات التأمل، فهو كلما توغل في بواطن مكنونها ازدادت عتمة وتحولت إلى وهاد معتمة يجللها ظلام سرمدي (ص22)، تتراءى فيه كل سنوات الجدب والقحط التي عاشها قسرا دون أن يفقه معناها.
في مثل هذه المحطات تولد فلسفة الحياة، ومعها تولد الأسئلة الجامحة، إذ لا أصعب من أن يحاول الإنسان لملمة شتات العمر ولاسيما إذا ما كان ذاك العمر قد قطعته المراحل إلى أوصال، وفي زحام الحياة النافرة تولد فكرة، فكرة مجنونة تدفعه ليتحاور مع نفسه: كل ما يشغلني الآن كيف ستكون النهاية؟ (ص26).
والأصعب من ذلك أن يأمل من تسكنه الآثام حتى وهو بمثل هذا الهذيان اللامنطقي ترويض أحلامه الصاهلة مثل خيول جامحة (ص37)، وكأنه يريد أن يسمع ولو مجرد آهة تنم عن وجود حياة لا تبعث على الملل، ملل الصمت القاتل، الصمت الذي يسلب المرء آخر محطات عقله فيدفعه نحو الجنون، هكذا هي الشوارع لا تطيق صمت الماشين في ليل وحدتها (ص27).
هكذا يحاول شوقي لملمة أفكاره ليطرحها لعبة تحدٍ من نوع آخر، من نوع غير مألوف يترك السياقات المتداولة العامة ويدخل في عالم فانتازيا الوهن، فالتحدي الحقيقي الذي يجيد لعبته الأشخاص من ذوي الفكر الناضج السليم هو الذي يعطي الكلمات معان غير قاموسية ولا معجمية لتبدو هي الأخرى نافرة غير مألوفة ولا مفهومة، ولا مصدر لمعرفة أصلها وجذرها، وبالتالي لا غرابة أن تجدها تصف الولد بأنه أخجل من الصمت (ص34)، وتصف الخوف بالحمار العجوز الذي انهكته الطرقات (ص34). وهكذا هم الذين يثيرون أصعب الأسئلة، أسئلة مجللة بالرعب السرمدي؛ ما الذي يمكن ان تصنعه وانت تسكن لب هذه الوحشة التي لا تعرف لها انتهاء؟ (ص34).
وفق معادلة مجهولة الحدين، حاول شوقي الوصول إلى نتيجة يعترض عليها البعض وهي أن يرسخ قيما مجتمعية كادت مفرداتها أن تندثر لا بسبب التقادم وحده، بل وبسبب التحريف والخوف والمجاملة الفارغة وحتى المحاصصة، وهذا كان يلجئه غالبا إلى استخدام مفردات اللغة المحكية.
حتى الأسماء التي يطلقها شوقي على أعماله سواء كانت روايات أو مجاميع قصصية أو أعمال تلفزيونية تجد فيها لغة الشارع التي تشعرك وكأنك تمشي في أزقة المدن المتعبة والمناطق القديمة لبغداد، حيث اختلطت رشاقة المفردة المضمخة بألق البلاغة مع عذوبة المفردة المحكية بلهجتها العامية.
أما الأفكار والقضايا التي يناقشها شوقي في أعماله العديدة، فهي صدى صوت حكمة العمر وتجارب الدهر التي تكدست فوق بعضها من ركامات العذاب في وطن أدمن البكاء حتى في فرحه، ونسي أنه هو الذي علم الدنيا معاني الفرح يوم لم يكن باقي البشر يميزون بين الضحك والبكاء.
أراد شوقي لهذه الأفكار أن تتمرد لكي يتخلص الإنسان من جنونه في ساعات الشدة والضيق، وأنت تواجه الموت كل لحظة عليك أولا التخلي عن جنونك وأحلامك، وتشيد معابد فخمة تقدس الخراب وتمجده (ص34)، فأي معنى أراد أن يستخرجه من ثنائية البؤس والقهر التي تعيشها أيها الإنسان، وما أنت إلا روحا معذبة ترتدي لباس القحط. هذا ما يجود به الإنسان الذي يتوسد العبث ويتقيأ غضبه في لحظة ابتهاج زائفة في دنيا تبدو غير عادلة تمنح بعض النساء أنوثتهن دون همسة حب، فالجسد الخرب الذي يحوي روحا فاسدة لا ينفع، ولا قيمة للإنسان الذي يسكن وكرا موبوءً تجوسه أقدام غريبة لتمارس اذلاله دون ان يعترض لأنه تعود القبول (ص35). أي صورة مبكية مضحكة مبهرة ساحرة تلك التي رسمها شوقي بإزميله؟
إن مجرى الرواية والاشتغالات الأدبية فيها تتعاضد بشكل متين، ومن خلال تعاضدها تكاد عبثية العمر كله تتكشف خدعتها من حوارية بين ضابط وجندي، الجندي هو فاضل، وأعتقد أن اختيار شوقي لهذا الاسم فيه دلالات كثيرة من أهمها الإشارة على الفضيلة والنقاء ليجعلها قبالة سفالة وانحطاط من يملكون السلطة غالبا! وهما يتحدثان عن الجندي الذي أصيب بالجنون خالد الذي اختار شوقي اسمه بعناية أيضا للتدليل على خلود الطبقة المسحوقة عبر التاريخ بسبب التضحيات الفارغة التي تقدمها، في هذه الحوارية ينادي الضابط:
ـ فاضل.. يا فاضل
ـ نعم سيدي
ـ من ذاك الذي يجلس هناك غير آبه بالليل؟
ـ هذا خالد خلف عودة
ـ ومن يكون.. ولم يعوف موضعه ليجلس هناك؟
ـ سيدي.. خالد جُن منذ اخترقت رأسه تلك الرصاصة.. ونحن نستخدمه لجلب الماء والأرزاق.
ـ ها فاضل؛ عند طرة الفجر أريده عند الساتر الأول!
ـ لكنه مجنون سيدي؟
ـ فاضل.. لأنه مجنون لابد أن يكون هناك!
أيتها الآلهة التي تخلت عن مجد الانسان، ما الذي نستطيع فعله؟ كيف يمكن ارسال هذا الشاب الذي فقد كل شيء ليموت بهذه السهولة والامتهان؟(ص36).
وتكاد جميع حواريات الرواية تنحو هذا المنحى بحثا عن جمل الحكمة في ينابيع الفلسفة: قال: كنت أتوقع حياته أسهل من هذا.. يعيش داخل دوائر سود من الآثام والكراهيات والرغبات المميتة.. صعب على واحد مثله دفن كل تلك الرغبات في أعماق لا تجد لها مستقرا.. يقول الرجل الذي مسح قطرات الدم المتساقطة عند حافة الجسد المسجى: مثل هؤلاء تكون خسائرهم أكثر بكثير من أيامهم.. خسائر متنوعة بلهاء.. لا اعرف ما سر تمسكهم بالحياة ومن أجل ماذا؟ (ص37).
هذه الإطلالة على الذات من عمق الرغبة الجامحة التي تتفرد بالبحث عن مديات غير مرئية تريد في حقيقتها أن تستكشف بعدا آخر خارج المألوف: كل ما أراه الآن يبدو خارج المألوف.. خليط غريب من مكونات لا يمكن أن تلتقي في غير هذا المكان(ص38).
وبالتالي تجد أن حواريات الرواية أرادت التأسيس لنمط من الدنيا غير مألوف هو الآخر تتقافز الرؤى الحكيمة من جنباتها، وفيها تزحف الروح قليلا فلا تعد تتحمل تلك الأصوات الغريبة الطاعنة في الارتباك، فحين تنهزم الروح تتهدم مكونات القلب فيذوي ويغدو الجسد مجرد وعاء تالف (ص38).
بحكم تخصصي ووفقا لدراساتي أدركت من خلال التجربة والممارسة أن الحكمة تسعى غالبا نحو عقلنة الأمور وتخفيف وطأة التأزم وامتصاص الصدمات دون رد فعل مساو، أملا في تجاوز المعضلات، لكن حكمة نهر الرمان أثبتت العكس ربما سعيا منها لتثبت أن الثورة هي العقل ومنتهى العقل ومعقل الحياة، فالعقل المتوازن يدعو للثورة مثلما يدعو للإيمان طالما هناك رغبة في أن يتخلص الإنسان من رذيلة الموت السافل (ص39)، فالخسارة الأعظم في التاريخ حينما نجد أن كل ما حلمنا به حولوه الى أكوام من النفايات المعروضة للبيع في وطن بيع بكامله الى فراغ، هذا ما يتضح من آخر كلمات قالها خالد خلف المتهم بالجنون: لا تنس.. قل لأمي التي لا تعرف معنى الطرقات إن خالد خلف المتهم بجنون الشظايا وعبث الوقت عبر لتكون مواجعه أكثر بساطة وأشد حزنا(ص40).
من خلال هذه الحواريات تخرج بمحصلة تعرف من خلالها ما أراد شوقي قوله عن تلك العوالم التي يحيطها الهذيان، ومن خلاله ترى أن العبثية، عبثية الحياة والموت والحروب والأوطان والدفاع عنها والمتاجرة بالعواطف تفرض نفسها بقوة على أجواء الرواية وكأنها تهزأ بالعقل المثقل بتفاهات الحياة التي تحوله إلى هامش لا فائدة منه، ولا أحد يراه إلا حينما يحتاجون إلى ضحايا تمدهم بالانتصار الزائف، فكثيرا ما كانت أيامنا تتأرجح بين موت وموت. ونحن اجتزنا دروب المخاوف ويجب ان نجتاز هذه المحنة البسيطة، كل ما ارجوه منك تحمل ما تجده يخالف انسانيتك(ص48) وحاذر منح رجولتك شكلا لا يليق بك(ص49).
ألا يعني هذا أن حياتنا تحتاج حقا إلى إعادة ترتيب؟ وماذا لو أعادوا ترتيب أيامنا حسب ما يرغبون؟ والأيام بالنسبة لي زاد لا أقدر على رفضه أو الاستغناء عنه (ص46).
بمثل هذه الإضاءات تفاجئنا صفحات الرواية ربما لأن شوقي يؤمن بأن أجمل الأشياء هي تلك المحاطة بالمفاجئات(ص60)، وأن لكل جواد روح وثابة تحركها رغبات الفارس لا رغبات الجواد نفسه(ص52)، ومن خلالها تحاول لغة الرواية أن تصنع نوعا من التواصل بين الروح والجسد، بين الحماقة والحكمة، بين العقل والجنون، لتحرك كل نقيضين منهما وفق هواه لا وفق إرادة المتلقي، وكلنا حينما نفكر بإنجاز عمل ما نحتاج إلى مساعدة روحية أولا في زمن لم يعد الوقت فيه سيفا، لقد طعنته المشارط وألقت به إلى حيث ترغب(ص75)، فالسكوت لا يمثل انتصارا.
وهذا يعني أن الوقت عند شوقي يغمض عينيه متوهما أنه قادر على إبعاد تلك اللحظة الرهيبة التي تسهم في تهشيم كل قواعد أيامه(ص77)، والوقت يضحك بين يديه فيجرها إلى منبت الصدر المتألم(ص94). هكذا هو الوقت عند شوقي ليس مجرد أرقام تسافر نحو الزوال الأبدي، وإنما هو كائن حي فاعل ومفكر يدافع عن نفسه خوف التشظي والضياع دون أثر، فهو لم يعد عنده كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
نعم الوقت في نهر الرمان كالنهر كالليل كالنهار كالشمس كالقمر كالميلاد كالموت، فهو يسهم مثل باقي الأشياء في إعادة كتابة الحدث وفق رؤيته التي لا نعرف أبعادها، فتبدو لنا كشبح أسطوري هلامي الشكل يتكون حسبما يكون شكل الحيز الذي يشغله والإناء الذي يحتويه، إنه لا يلتزم بقواعد الأضلاع والمنحنيات والزوايا وإنما يحول كل أشكال الهندسة إلى شكل متداخل لم ينجح العلماء في توصيف شكله البعدي إلى الآن. الوقت في نهر الرمان كائن يعشق ويكره، يأكل ويشرب، ومع ذلك تشعر أنه لا روح له طالما أنه لا وصف له.
لقد أراد شوقي لهذه الرواية أن تثبت أن الوجود الحقيقي لا ترسمه جنونات عابثة، وهو اعتراض شديد اللهجة مليء بالامتعاض والسخرية السوداوية اللاذعة التي تعبر عن حجم الألم السابت في أعماق روح حاصرتها الهموم لمجرد أنها كانت تريد أن تبحث عن الحقيقة المغيبة، حقيقة أننا غرباء في الوطن، ولا حزن أكبر من أن يشعر المرء أنه بلا وطن!
عفوك سيدي تتحدث عن أشياء لا افهمها.. ما الوطن؟ كان المعلم يرسم لنا نهرين ونخل وبنات يرقصن ونحن المعذبين ببرودة وسائد الليل والمغسولين بمطر الأطياف نبصر أهلة أرواحنا... معلمنا يوهمنا أن الوطن شيء جميل ربما ما كان يعرف أن الوطن توابيت.. سواتر.. وبكاء ليل حزين، لا أصدق أني رقم في وطن هو الآخر رقم منسي على درب خارطة عتيقة... سيدي إذا متنا ما الذي يبقى من الوطن(ص96ـ97)
هكذا تجيء اللحظة بالفكرة، فكرة نزقة لا توصل خطواتها إلا إلى درب المقصلة، لينبعث السؤال السرمدي: ما الموت؟ ولماذا يتحتم علينا أن نمارس لعبته طوال حياتنا؟ هكذا ختم شوقي روايته بهذا السؤال الذي لا تجد له إجابة مهما بحثت لأنه أقدم سؤال في التاريخ وسيبقى بلا جواب أبد الآبدين.
صدرت رواية نهر الرمان في بداية عام 2022، بواقع 163 صفحة من دار العرب السورية ودار الصحيفة العربية البغدادية


20
النقد التطوعي البنائي
الدكتور صالح الطائي
لا أعتقد أن المنتج الثقافي ممكن أن يزدهر في بلد ما إذا لم يكن هناك جهازا رقابيا ثقافيا تخصصيا تطوعيا يهتم بتقييم ما يكتب وينشر، والإشارة الجادة إلى مدى التقويم الذي يحتاجه ليكون منجزا جديرا بالقراءة، وذلك للتمييز بين الغث والسمين، وتشجيع المثمر على الانتشار، والحد من انتشار ما لا ثمر نافع له، وأنا هنا لا أقصد الجهاز الرقابي الرسمي (الحكومي) القمعي مثل دوائر رقابة المطبوعات التي تهتم بمصالح النظام على حساب الذائقة والمنفعة الجمعية، بل أقصد النقد التقويمي الذي يتبنى النقاد من خلاله تفكيك الإصدارات كل حسب تخصصه العلمي والمهني؛ من حيث الفكرة والفائدة والأسلوبية والبناء، وأثر المنجز على علاقة الناس ببعضهم ومدى إسهامه في ترصين الوحدة الوطنية وبث ثقافة القبول والتعايش والسلام، ونشر الثقافة والمتعة السامية. 
أما إذا بقيت الحال كما هي عليه اليوم في العراق من الانفلات غير المسؤول حيث تقيء المطابع ودكاكين النشر التي تسمى تجاوزا على المنطق السليم والواقع والحقيقة باسم (دور نشر) ربما عشرة أو عشرين نسخة في أفضل الأحوال من هذا المطبوع البائس أو ذاك المطبوع التافه تحت عنوانات تجنيسية مليئة بالتهكم، بعضهم يضعوها في خانة الرواية وهي لا تمت للرواية بوصل، وبعضهم يضعوها في خانة القصة، وهي لا تمت للقصة بصلة قرابة، وبعضهم يضعوها في خانة الشعر تحت مسميات شعر النثر أو الهايكو وغيرها وهي لا تربطها أي علاقة بأي نوع من أنواع هذه الأشعار، بل هي في واقعها إهانة لهذا الفن الإبداعي الجميل.! إذا بقي الأمر كما هو عليه فإن حالة الانفلات الثقافي هذه إذا ما بقيت دون تقويم وتقييم ومراقبة ونقد بناء، وهي أساسا لا علاقة لها لا بالنمو الثقافي، ولا بتثقيف الأمة، ولا في السعي لتوسعة أفق الفكر الجمعي، فإن ذلك يضعنا في عين الخطر، ويؤكد أن ما ينتظرنا من تدمير فكري وثقافي أخطر كثيرا من الانفلات السياسي الذي نعاني من مخرجاته اليوم.
من هنا أرى ان احجام النقاد عن تناول جميع أجناس الكتابة بالدراسة والتفكيك والتمحيص وتبيان نقاط القوة والضعف فيها ومدى الفائدة المرجى تقديمها للمجتمع من خلالها، والابتعاد عن المجاملات الفارغة التي لا تمت للنقد بصلة، فإن النقاد أنفسهم يسهمون في تدمير الذائقة الجمعية بامتياز.
والواقع أنا لا أعتقد أن بيننا من يمكن أن يطرح رواية مثل الشيخ والبحر أو البؤساء أو الأخوة كرامازوف أو الأم؛ مع أننا نمتلك كافة الأدوات والإمكانيات الفكرية واللغوية، ولكن هذا لا يعني عدم المحاولة لتقديم روايات وقصصا وأشعارا بل وبحوثا وكتبا تخصصية تستقي مقوماتها من بيئتنا ومحيطنا الاجتماعي وثقافتنا الجمعية تتماهى مع ذائقة المتلقي العراقي والعربي.

21
أول إصداراتي في الجديد لعام 2022
بفضل الله ومنه علي، استلمت اليوم نسخ أول إصدار لي في عام 2022 وهو كتاب (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة المثلة)، وهو الكتاب الثاني من أصل أربعة كتب من هذه السلسلة، كان الكتاب الأول منها بعنوان (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير)؛ الذي طبع في دار المرتضى البيروتية عام 2015، وسيصدر الكتابان الآخران، وهما بعنوان (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التهجير) و(أثر النص المقدس في صناعة حكم قتل المرتد) خلال الشهرين القادمين بإذن الله ليكتمل إصدار هذه السلسلة.
يذكر أن هذا الكتاب صدر عن دار المتن البغدادية بواقع 280 صفحة من الحجم الكبير بغلاف وإخراج جميلين.
فلله الحمد أولا وأخيرا، ونسأله اللطف وتيسير الأمور.


22
ونحن على أبواب عام 2022؛ ماذا تغير؟
الدكتور صالح الطائي
أتذكر أنه بعد العمل الإرهابي الجبان الذي استهدف مدرسة في باكستان عام 2014، وتسبب بمقتل العشرات من الطلاب الأبرياء؛ والذي تبناه تنظيم (القاعدة) الإرهابي المجرم، اجتمعت كل أحزاب المعارضة الدستورية الباكستانية برئيس الوزراء، وخولته اتخاذ كل الإجراءات القانونية المتاحة لمحاربة الإرهاب؛ بالرغم من تقاطعهم معه في كثير من المواقف حتى البسيطة منها، وهذا ما أعطاه زخما وقوة ليتصدى للحركات الإرهابية المجرمة التي تعيث في الأرض فسادا.
فضلا عن ذلك يدل هذا الموقف الشجاع المسؤول الصريح غير المنافق على سعة أفق هذه الأحزاب، وفهمها للعبة السياسية الدولية، وحرصها على مصلحة الوطن، بل وتغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية والفئوية والحزبية.! في الوقت الذي نرى فيه انعدام وجود معارضة حقيقية دستورية في العراق، بل إن من يدعي المعارضة هم مجرد جماعات وفئات مشاركة في العملية السياسية، وتتبوأ مناصب حساسة في الدولة، ولكنها تتصرف وكأنها لا تمت إلى العملية السياسية بصلة، بل وكأنها معارضة شرسة وقاسية لكل العملية السياسية، وللتغير الذي وقع في 2003 ولكل قرار يصدر حتى ولو كانت فيه مصلحتها ومصلحة الذين تمثلهم.!
فمتى تنضج المعارضة العراقية ـ هذا إذا ما صحت هذه التسمية عليهم ـ وهي التي تلبس وجوها غريبة مختلفة وكأنها في حفلة تنكرية، ثم تنتهز الفرص لعرقلة العملية السياسية، لمجرد أن تحقق مكاسب بائسة تخولها إثبات وجودها في الشارع العراقي المنهك؟
متى تخطو ولو خطوة يتيمة واحدة نحو إثبات وطنيتها المشكوك فيها؟ متى، وهي ترى وتسمع بالجرائم المنكرة الكبرى التي ترتكبها عصابات داعش في كثير من مدن العراق، ولاسيما المدن التي خرجت منها تلك المعارضة المزعومة؟
إن عراقنا الحبيب يمر اليوم بامتحان عصيب ومرحلة حساسة خطيرة تتهدد وحدته بالتقسيم والضياع؛ ومطلوب من كل عراقي أن يثبت ولاءه للعراق ووحدته، عسى أن نحافظ على البقية الباقية من عراقنا الذي بعناه بأرخص الأثمان.
أما من يتخلف في الكشف عن هويته العراقية، وإثبات وطنيته، وإنسانيته في هذا اليوم بالذات، فيجب أن تتخذ بحقه نفس الإجراءات التي تتخذ بحق الدواعش المجرمين، ولا أقصد بالإجراءات مجرد الاحتفاظ بهم في فنادق (خمس نجوم) تسمى جزافا باسم (السجون) كما هم الإرهابيون اليوم، وإنما بالضرب بيد من حديد، لإفشال مخططاتهم؛ لأن خطر هؤلاء على العراق والأمة أشد من خطر الدواعش.!
إن المعارضين الذين يمتطون منابر الفضائيات المشبوهة والعميلة. والذين يستخدمون ما تجود به عليهم المناصب الحكومية التي حصلوا عليها من المال الوفير للقيام برحلات مكوكية إلى الدول الداعمة للإرهاب للتنسيق معها. والذين يحولون كل منجز مهما كان بسيطا إلى مثلبة كبيرة تسهم في نشر ثقافة التشكيك بنجاح التجربة الجديدة. والذين يعقدون المؤتمرات والندوات والمؤتمرات هنا أو هناك للتشكيك بالموقف العظيم والبطولي والنبيل والشجاع لقواتنا التي تصدت للإرهاب، وهزمت الدواعش، وقدمت التضحيات الجسيمة.
إن هؤلاء جميعا هم الدواعش الحقيقيون، وهم الذين مهدوا لداعش طريقها لتحتل مدنهم ومحافظاتهم، وهم الذين دعموا الإرهاب ويسروا له اختراق القوات الأمنية عن طريق أفراد حمايتهم وهوياتهم الرسمية، وهم الداعمون له، وهم الذين يجب أن يحاسبوا حسابا عسيرا.
أما أولئك الذين يرفضون اتخاذ الإجراءات القانونية بحق هذه (المعارضة) غير الشرعية؛ بحجة الحفاظ على العملية السياسية من الانهيار، فهم واهمون جدا، بل هم مجرمون حقيقيون، ومتواطئون مع المجرمين الإرهابيين، ويتناغمون معهم حفاظا على مصالحهم المشتركة ومكاسبهم الشخصية في وقت لا اعتقد بوجود عاقل واحد يوافق على أن الوقت الحرج الذي نعيشه، يسمح بالمجاملات وتلطيف الخواطر على حساب أمن وسلامة العراق ووحدة شعبه والحفاظ على كرامته، ولذا أقول لهؤلاء وهم سياسيو الغفلة الذين ابتلينا بهم: كونوا شجعانا وعلى قدر مسؤوليتكم فالتاريخ لا يرحم، ولصبر الشعب حدود.!
وبرأيي أن هؤلاء وهؤلاء اشتركوا سوية بتحويل العراق إلى دولة عميقة، والدولة العميقة هي: الدولة التي تُعاني اختلاف وانقسام أيدولوجيات مكوناتها، مع وجود قوى نخبوية من التخصصات المهمة،  يتآمرون باستمرار لإجهاض كل مشروع يبدو وكأنه يهدد مصالحهم الحزبية والشخصية، على حساب المصلحة العامة والوطن، فضلا عن كونهم يعملون ضد بعضهم البعض لترصين مواقعهم، وتحصين مناصبهم ومضاعفة مكاسبهم على حساب مصلحة الشعب الوطن.

23
مصير البشرية بعد فناء الثلثين وفق روايات مستقبلية
الدكتور صالح الطائي
هناك رواية كانت ولا زالت تنتقل من جيل إلى آخر فيها من الغرابة ما يدعو إلى التأمل الشديد لا بمضمونها المستقبلي فحسب، بل وفي صحة تحققها والظروف التي تسهم في تحقيقها، لأنها تحدثت منذ زمن طويل عن أمر مخالف كليا لطبيعة الحياة منذ نشأتها ولحين انفتاح الأمم على بعضها سيحدث في المستقبل المجهول.
وردت هذه الرواية في كتب التراث عن الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، قال: "بين يدي القائم موت احمر وموت ابيض، فأما الموت الاحمر فبالسيف، واما الموت الابيض فبالطاعون" والمقصود بالقائم الزمن المستقبلي، والمقصود بالطاعون حتما هو المرض الوبائي وليس الطاعون نفسه، وورد عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) إنه قال: "لا يقوم القائم الا على خوف شديد وزلازل وفتنه وبلاء يصيب الناس وطاعون قبل ذلك". والمعروف أن الرواية الأولى هي الأساس الذي بنيت عليه باقي الروايات، وقد وردت بتقديم وتأخير وإضافة وحذف في جملة من المصادر، والوعد الوارد فيها تحذير مما سيصيب البشرية في يوم ما من مستقبلها الموعود؛ وهو أمر حتمي، ورد ذكره في القرآن الكريم مرة على شكل تنبيه وتحذير: {وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر}، ومرة بشكل تهديد مباشر: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}. وقبل ذلك تحدث انجيل لوقا عن هذا الوعد، قال يسوع (عليه السلام): "ستقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتقع زلازل شديده، وتحدث أوبئة ومجاعات في اماكن كثيره، وتجري احداث مخيفة، وتظهر علامات هائلة في السماء". وقبل ذلك أشارت التوراة إلى قبضة من الأوبئة التي هدد الله تعالى البشر بأنه سيصيبهم بها إذا تمادوا في غيهم، وفيه: "يضربك الرب بالسل والحمى والبرداء والالتهاب والجفاف واللفح والذبول فتتبعك حتى تفنيك"، وفي كل هذه الروايات تجد السين الوعد ظاهرة، وهي تفيد  بحصول الفعل، لأن دخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتضٍ لتوكيده وتثبيت معناه، وهذا يعني أن البشرية موعودة بخطر عظيم عميم، وأن هذا الخطر سوف يتسبب بذهاب ثلثي البشر، وهذا يتطابق حرفيا مع المشروع الذي تحدثنا عنه في أحد مقالاتنا السابقة عن (كوفيد 19). فعن ذهاب هذا العدد المهول من البشر وردت روايات جمة ترتبط بالموتين، منها رواية عن الإمام علي (عليه السلام): "لا يخرج المهدي حتى يقتل ثلث ويموت ثلث ويبقى ثلث. وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس، فقلنا - محمد بن مسلم وأبو بصير -: إذا ذهب ثلثا الناس فمن يبقى؟ فقال: أما ترضون أن تكونوا في الثلث الباقي؟
إن وجود هذا العدد من الروايات المستقبلية التي رويت قبل مئات السنين يوم كانت المجاميع البشرية محصورة في بيئاتها ويندر أن يغادر أحدهم بيئته، فإذا غادرها وعاد إليها احتك بعدد بسيط جدا من الناس، وهو عدد غير مؤهل لنشر الفيروس، وحتى إذا انتشر فإنه ينتهي في الرقعة الجغرافية ولا يغادرها إلا ما ندر، وحتى إذا ما غادرها فإنه لا ينتشر وبائيا ويتسبب بموت ملايين البشر، وحتى مع موت الملايين لابد وأن تكون هناك أسبابا أخرى لها قدرة القضاء على ثلثي البشر.
نعم هناك أخبار عن أمراض وبائية فتكت بملايين البشر من قبل مثل الطاعون الأنطوني الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية بعد عام 165 ميلادية واستمر لمدة 15 عاما متتالية، إلا أن الحالة لم تكن كونية كارثية عامة. عدا ذاك المعروف أنه لغاية القرون الوسطى لم يعرف البشر انتشارا وبائيا كارثيا، وبحدود عام 1370 انتقل الطاعون من حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق عبر طريق الحرير بعد نمو التبادل التجاري الدولي بواسطة الفئران إلى أوربا التي كانت تتألف من 60 ولاية متلاصقة يقطنها بحدود 80 مليون نسمة. ومثله الطاعون الدبلي الذي انتشر مع بداية عام 1855 في آسيا بعد أن انتقل من الصين إلى الهند وهونغ كونغ ومناطق من أستراليا ومنغوليا بسبب نشاط حركة التجارة العالمية حيث نقلته الفئران أيضا، واستمر لعدة عقود مسفرا عن قتل اثني عشر مليون شخص كانت النسبة الأعظم منهم وتقدر بعشرة ملايين حالة وفاة في الهند لوحدها نتيجة الاكتظاظ السكاني طبعا، إلا أنها كانت حالة محدودة ـ حتى مع اتساع انتشارها ـ وذات تأثير جزئي، ولكنها تنذر بأن ما هو أكثر إيلاما ورعبا ممكن أن يقع في أي لحظة ولاسيما بعد انفتاح الكل على الكل.
وفقا لهذا التصور أرى أن العالم بل الكون كله بعد كورونا ليس هو كما كان من قبل، حيث بدا البناء العكسي وزخم الترسيخ المبدئي للمتغيرات الكونية بدأً من حرب الفيروسات، والعمل على تغيير الجينات، ووصولا إلى محاولات صنع النخبة، صنع الإنسان المسير مسلوب القوى الفكرية والفاقد لاحترام النفس والمغرق بحب الشهوات، ومن ثم تحشيد المنتج الجديد قطيعيا لينفذ ما يؤمر به دون اعتراض، وسيقتضي هذا الإجراء التخلص من كل الأنواع الأخرى بعدة سبل بعضها لم تخطر حتى على بال الشيطان، ولذا أعتقد أن ما يتعرض له الإنسان العربي اليوم لا يخصه وحده، إذ له شركاء آخرون هنا وهناك في العالم يعيشون المعاناة نفسها ويتوجسون الخطر نفسه، وما يحدث ليس أكثر من محاولات لتفعيل هذا المشروع، الذي هو بالأساس بني لكي يغتال الخزين الفكري والثقافي للأمم والشعوب، سعيا لقتل الابداع وإيقاف عجلة التقدم فيها، تزامنا مع استيعاب العقول المائزة وتحفيزها للهجرة مع كل المساعدات التي يقدمونها لها؛ التي نسميها دون أن ننتبه لمقاصدها: "هجرة النوابغ" أو "هجرة الأدمغة". ويتم تطبيق وتنفيذ هذا المشروع الخبيث وفق ثلاث خطوات، هي على التوالي:
الأولى: تشجيع ودعم العسف والإهمال والحاجة والضنك المادي والحصار الاقتصادي والفكري، وحتى التنمر؛ الذي يتعرض له المفكرون والأذكياء في بلدانهم، فضلا عن عدم الاهتمام بمنجزهم مهما كان نوعه، مع استمرار تعرضهم للمضايقات والتهديد من قبل قوى ظلامية مختلفة ومؤثرة بما يؤثر على مشاريعهم، والتلويح لهم من بعيد بمغريات في مكان آخر لا يحلمون بالحصول على مثلها مهما طال عليهم الزمان في بلدانهم.
الثانية: الوضع القلق والخطير في بلدانهم وحالة الحرب العبثية التي تعيشها أغلب البلدان بما فيها بلدان وطننا العربي بدعم من المشرفين على المشروع وتشجيع منهم، بما يتهدد حياتهم وحياة من يحبون موتا أو خطفا أو تهجيرا، وهذا يدفعهم للبحث باستمرار عن ملاذ آمن يعتقدون انه موجود في العالم المتقدم.
الثالثة: المغريات الكبيرة التي تضعها سلطة المشروع العالمي الجديد أمام أنظارهم، ودفعهم قسرا للمقارنة بينها وبين ما هم عليه في بلدانهم، ترغيبا لهم في الهجرة.
والذي أراه أن جميع النظم والحكومات في العالم كله وليس في شرقنا فحسب ستقف مكتوفة الأيدي، وعاجزة كليا عن التصدي لهذا المشروع بعد أن نجح القائمون عليه في تفريق كلمة الأمم وزرع العداوة والبغضاء بين الشعوب؛ التي كانت حتى الأمس القريب تتكاتف وتتحد في مواجهة الخطر المحدق بها، بينما تحولت اليوم إلى كيانات لا أبالية، متصارعة بلا هدف، ولا تعرف حتى علام تتحارب!
وفي الختام أقول للجميع، لكل الأطراف: في هذا الظرف المصيري نحتاج إلى التوازن لا لكي نحافظ على عقيدتنا وأنفسنا ووجودنا وتريخنا وحضارتنا فحسب، بل لنحافظ على السلام العالمي أيضا، فالتطرف مهما كان نوعه ومن أي جانب صدر سوف يهدد السلام الكوني، ورغم ذلك نلاحظ ان بعض المعنيين ازدادوا تطرفا واندفاعا حتى في التفريق وإحداث القطيعة بين الأجيال في المجتمع الواحد، ولذا علينا ان نستعد لمواجهة هذا التطرف لا بتطرف مثله، فذلك مخالف لعقيدتنا، وإنما من خلال التسلح بالقوة والعلم والتجديد والكثير من المحبة للإنسان.
إن البشرية ما كانت لتنجح في البقاء كل هذه السنين لولا همة الشباب وحكمة الشيوخ، وستؤدي القطيعة المعاصرة بينهما إلى تهديد الإنسانية بالفناء، ولذا عليهما التصالح مع الذات أولا، ثم مع الآخر ثانيا عسى أن يصل مركب الإنسانية سالما إلى شاطئ الأمان. فالخطر يكمن دائما في اللحظة التي يفقد المرء فيها حرية الاختيار. فقد علمتنا إنسانيتنا أن الحرية غاية الأماني وهي ما نبحث عنه دون كلل، وعلمتنا تجاربنا أن من العار أن نصبح عبيدا لشخص أو نظام أو فكرٍ ما لمجرد البحث عن تحرير وهمي لأنفسنا. الحرية بنظري أسمى ما يبحث عنه الإنسان في الوجود، ومنتهى الحرية في الإيمان الحقيقي بأن الإنسانية هي الحرية، وأن احترام عقيدة الآخر يترجم معنى الحرية، ولكن يجب ألا تكون تلك العقائد شاذة بعيدة عن المنطق والواقع. مثلما علمتنا إنسانيتنا أن المرء حينما يحتاج إلى الدعم ليس عليه سوى أن يلجأ إلى إيمانه بنفسه وبقدراته الذاتية التي سبق لها وأن اكتشفت له مكامن الخير ودلته عليها ليجد الاستقرار والطمأنينة في الإيمان الذي ينبهه إلى أنه لم يخلق عبثا، وانه لا يحقق إنسانيته إلا إذا ما أدرك مكانة الإيمان في تهذيب النفس، وأعلى وأعظم إيمان هو الإيمان بالله تعالى، فهو مبعث الحرية الحقيقية التي تجنب الإنسان جميع مخاطر الحياة الروحية، أما المخاطر الأخرى فهي مجرد مراحل قد نمر بها فلا تفتح لنا أبوابها، وقد نلج إليها فنتحمل بعض العذاب الذي سرعان ما ننساه بعد أن يتحول إلى ذكرى قد لا ترد على خاطرنا. وأعظم خطر ينتظر الإنسان ليس هو الموت، بل أن يموت وهو حي؛ لما يزل على قيد الحياة.
وآخر ما أردت قوله هو: إن ما تقدم ذكره لم يكن من وحي نظرية المؤامرة التي تتحكم بمصائر وقرارات العالم اليوم مجتمعات وأفرادا، فهذه النظرية أعجز من ان تلوي عنق الحقيقة الساطعة، وإنما هو يقين يكاد لا يقبل التأويل إلى بعد آخر، أطلق جرس إنذار لن يسمع صداه سوى العقلاء.



24
طفلتي الكبيرة سامية لنختلف سجالٌ للتراب فرضيات
الأديبة التونسية سامية سالم الجيلاني رمان
لم أكن أعرفها، لم أتوقع أن التقي بها يوما ما، لم يكن في بالي أني سألتقي في يوم ما بشابة تحمل عنفوان الحياة بكل معاني التمرد على المألوف، لم اتعود ان أن أرى حركة فنطازية تؤديها فتاة ما لتترجم كلماتها من خلال الحركات المدهشة والسريعة بقدميها ويديها ورأسها وحركات جسدها الممشوق المملوء بالثورة على المألوف والمعتاد.
حينما رأيتها تهرول قادمة إلينا ونحن نقف بانتظارها في شارع عام في العاصمة تونس وهي تتأبط اوراقها، وهي حالة لم أألفها من قبل، شعرت أن هناك خطأ ما، أو ربما مظهرا من مظاهر الالتزام إلى الحد الأقصى، والتعبير عن الأسف عن التأخر في الموعد ولكن بشكل حركات لا بالكلمات، لكن سيل كلماتها الجارف الذي تدفق بعد ذلك بدون مقدمات وبسرعة صاروخية كنت لا أفهم منها سوى كلمات مبعثرة بسبب اختلاف اللهجات العربية انساني تلك الحالة التمردية، وشغلني بالحالة الجديدة التي لم أألفها هي الأخرى من قبل، حيث رافقت الكلمة حركة الجسم لتتحول إلى عرض مسرحي يسلب الألباب، ولا يعطيك مجالا لترمش بعينيك.
كان كل الذي نجحتُ في تبينه من كلامها انها ستدير جلسة الحوار بيننا وبين الفلاسفة والمثقفين والأدباء والفنانين التونسيين في المدرسة السليمانية، وهذا أربكني كثيرا، ليس أنا فحسب بل جميع أعضاء الوفد الثقافي العراقي الذين لفتهم الحيرة والدهشة مثلي.
لكن حينما بدأت الجلسة الحوارية وبدأت سامية هذه الطفلة الناضجة عقلا وفكرا تتكلم، هذه الفيلسوفة المبدعة المتألقة التي تتزاحم الكلمات على لسانها وتتدافع بالمناكب، وجدتها كائنا آخر، كائنا سحريا خرافيا انشقت عنه أرض تونس بعد ان فركت كف الزمن مصباح علاء الدين، كائنا مثاليا في منتهى الحذاقة والثقافة والود والاحترام والرقة، وقد نجحت سامية بإدارة الجلسة بامتياز تام، واثبتت مقدرتها الثقافية والقيادية من خلال تلك الكاريزما المحببة التي قربتها إلى نفوسنا بشكل لا يصدق. حينها أيقنت وايقن معي الجميع أن ما قامت به من قبل في بداية لقائنا بها هو ترجمة لأفكارها، وأن الطاقة التي تحملها في أعماقها هي التي جعلتها تؤدي كل تلك الحركات التي أدهشتنا، وقد استغربنا في بداية الأمر لأنه ليس مألوفا لدينا، ثم لما ألفناه وجدناه أسلوبا حضاريا للتعبير عن الذات بالكلمة والحركة والفكرة.
انتهت جلستنا الحوارية على خير، وحينما خرجنا من أجواء الجلسة وسرنا في طريقنا إلى الباص لنعود إلى الفندق شاهدنا مقهى رصيف جميل وبسيط اغرانا الجلوس فيه، كانت سامية ترافقنا، فقد تعلقت بنا وبطيبة العراقيين، وحينما جلسنا في المقهى لتناول القهوة والعصائر والشاي الأخضر، كانت سامية تؤدي تلك الحركات المحببة إلى النفس، كنت انظر إليها وكأنها طفلتي التي تحبب نفسها إليَّ، وهو شعور ترجمته نظرات أعضاء الوفد العراقي؛ الذين كانوا جميعهم يشاركوني فيه، كلنا كنا ننظر إلى الطفل المخبوء في داخلها وهو يتوهج عطاء وطيبة وجمالا روحيا وصباحة وجه وتلال من الأخلاق الرفيعة والكلمات الهادرة بلا توقف، استغلت الجلسة وأخذت صورا للذكرى مع الجميع وألقت على مسامعنا إحدى قصائدها المائزة التي رافقتها تلك الحركات.
بقيت سامية مدار أحاديثنا إلى أن التقينا بها في جلسات أخرى تبين لنا من خلالها أننا امام قامة إبداعية مملوءة بالتألق والسمو الروحي والعقلي، وهذا ما حببها إلينا فتعلقنا بها كما يتعلق الأب بطفلته المدللة.
بعدها انشغلنا ببرنامجنا الثقافي وابتعدنا عنها لغاية عودتنا إلى العراق، وبعد عدة أيام وصلني طلب صداقة على صفحتي في الفيس لتتحول سامية إلى صديقة محببة على قلبي ووجداني زهرة في ربوع صفحتي،
بعدها أرسلت لي مجموعتها (لنختلف سجالٌ للتراب فرضيات) هدية البنت لأبيها الذي يحبها.
وإذا ما كنت لا أجيد كتابة النقد الأدبي لأنه بعيد عن تخصصي، فإن ذائقتي الأدبية اعطتني موهبة تمحيص العمل الأدبي وتفكيكه والحكم عليه، وقد سبق وكتبت الكثير من القراءات عن منجزات أدبية أغرتني للكتابة عنها، وقد راقت كتاباتي للآخرين، وهذا ما شجعني على قراءة مجموعة سامية والكتابة عنها، ولاسيما وانها استوقفتني بدأ من العنوان (لنختلف سجالٌ للتراب فرضيات)، هذا العنوان الذي بدا لي مبهما، متهكما مغرقا بنوع من التصنع المقصود؛ ربما لأني لم أقرا كثيرا من نتاج أدباءنا في مغربنا العربي من قبل لأعرف طريقة اختيارهم للعنوانات!
لكن ما إن بدأت أقلب صفحات مجموعتها حتى وجدتني أمام بركان من المشاعر الثائرة والنافرة والساخنة والمعمقة، وحقولا من الصور الغريبة المدهشة التي تسلب اللب، وتجبرك على التحديق بها باندهاش، وفيض مشاعر تبدو قلقة صعب عليَّ وصفها. وجدت ثورة الكلمة تكاد تناغم ثورة الفكر، وحينها عرفت كيف رسم الفنانون العظماء لوحاتهم الخالدة بكل تلك الروعة والجمال؛ من خلال تناغمهم الروحي مع الفرشاة واللون والرقعة والموضوع.
بدوت أحبو على مهل في أجواء تلك الصفحات كطفل يتعلم المسير، يقف.. يتهيأ.. يحرك قدمه.. يخطو، ثم يسقط لينهض من جديد، وكأنها دورة الحياة.
وخلال رحلتي في فيافي هذا العمل اكتشفت حقيقة تأثير اختلاف الثقافات على نحت معاني المفردات وطرق استخدامها وربطها ببعضها، اكتشفت أسلوبا جديدا للكتابة لم اعهده في نتاج أدباءنا الشرقيين ولاسيما الرجال منهم، أسلوبا لونه التلاقح الثقافي مع الموروث، مع مناهج الثقافة والسلوك العام، وأثر البيئة والمجتمع.
ففي مجتمعاتنا الشرقية تجد عادة نوعا من الرصانة المصطنعة أحيانا، والتزمت الحدي إلى درجة الخشونة غير المتعمدة وغير المقصودة، طالما أن منها نبعت ثقافة المجتمع الذي تقوده سلوكيات مغرقة بالموروث، حيث تشم أثر الوقائع الساخنة بكل صورها المأساوية، وطبيعة البداوة الغائرة في أعماق النفس، ورصانة الإرث الحضاري المغرق بالتنوع من (أنت كالكلب في وفائه) إلى (عيون المها بين الرصافة والجسر)، كل تلك التناقضات فرضت نفسها بقوة على شخصيتنا المشرقية فخدشت رقة الكلمة في أحيان كثيرة، لا افتقارا للجمال والرقة، فتلك لدينا منها الكثير وإن كان بعضها مصطنعا، وإنما لأن اللوعة مداد يصبغ الكلمات بوحشية مأساته، وتبرأ ممن لا يجاريها في مساراتها المتعرجة المتعبة التي تقود إلى التيه أحيانا.
ما وجدته في مجموعة سامية هزني من الأعماق، كنت أقرأ باندهاش واعيد قراءة بعض المقاطع مرات ومرات، عشت اوقاتا مفعمة بالحيرة وانا أبحث عن الرابطة بين العنوان الذي صيغ بعناية فائقة واختير بذائقة رفيعة؛ والنص الذي بني بجزالة وحذاقة وخبرة وفن وحكمة. نعم أعرف أن الحديث لا يكفي ولابد من شواهد عليه، ولكني لا اريد واقعا الاستشهاد بمقاطع مما قرأت لأني أجد الاقتباس المجتزأ المبتور لا يفي النص حقه ربما لن المجموعة بكاملها تبدو وحدة مترابطة سياميا غير قابلة للفصل لأن الفصل يهدد حياتها، ولذا لا أعتقد أن الاقتباس سينجح في رسم صورة حقيقية للمضمون ببعديه النفسي والروحي وببنائه الأسلوبي المعمق، وأعتقد ان أفضل طريقة لفهم المضمون هي في قراءة المجموعة كلها في جلسة واحدة دون انقطاع، وحينها ستدركون أنكم لم تضيعوا الوقت الذي قضيتموه معها هباء، فقد شدتني مجموعة سامية إلى درجة أني تركت أعمالي المكدسة والمستعجلة لأقرأها أكثر من مرة ولأكتب عنها بعض ما خرجت به من تصور وشعور بعد إعادة قراءتها للمرة الرابعة، وربما سأعود إليها.
ملاحظة أخيرة: على خلاف معظم أدباءنا الشرقيين من النساء والرجال، اهتمت سامية بالحركات فقامت بتشكيل جميع الكلمات وكأنها خبيرة في لغة العرب وإعرابها، وهذا ما زاد المجموعة جمالا ورصانة.

25
خاله مهجة والـ(voice note)
الدكتور صالح الطائي
(إضاءة بمناسبة تهكير مواقع التواصل)
بالأمس القريب كانت أمهاتنا وجداتنا يتواصلن مع صويحباتهن من خلال رفع العقيرة، حيث يصل الصوت إلى سابع جار وكأنه رسالة مشتركة أرسلت بدون عنوان لتحفز باقي الأمهات والجدات على المشاركة في الحديث والتفاعل مع الحدث، ومن كانت منهن بعيدة ولا يصلها الصوت، تحمل حاكية الهاتف الأرضي صباحا وتتصل بالتي هي الأقرب لها من غيرها، ويبدأ حديث الساعة الذي يبدو وكأنه لا نهاية له؛ لسرد الوقائع اللحظوية ابتداء من قصة قِدر البامية المطبوخ بضلوع الضأن، وصولا إلى طهور الملائكة لابن أم غانم الذي ولد قبل ساعات، وكنة بيت أم حمودي الوقحة التي لا تسمع نصائح أم زوجها، والشاي المغشوش، ووصول أقلام حُمرة شفاه جديدة إلى الأسواق، وربما يتحدثن عن التغيير الوزاري المحتمل.
لم تكن تلك الأصوات تسبب التلوث الضوضائي البيئي أبدا، ولم يكن استخدام الهاتف لساعة وساعتين يخرم طبلة الأذن مطلقا، بل كانا أدلة على عمق التواصل الروحي بين الناس، فانت تشعر بحميمية غريبة حينما تسمع صوت صديق يتصل بك مستفسرا عن أحوالك، وأنتِ تشعرين بالفرح حينما تسمعين صوت أمك تتصل بك مطمئنة عليك وعلى ولدك الرضيع، وأنت أيها الأب الشيخ العجوز تشعر أن تعب عمرك لم يضع هباء حينما تستمع إلى نبرات صوت ولدك المليئة بالحنان والتقدير وهو يسألك إن كنت محتاجا لأي شيء لكي يوفره لك.
إن ما يسبب الفجيعة ويخرم حبال المودة هو أن تضيع كل هذه العواطف ويختفي وهج نبرات الصوت خلف قناع (الرسائل النصية) الزائف؛ التي تحرم الآخر من الاستمتاع بالتفاعل مع شيء حي لا مع جماد أبكم لا روح فيه. فالعواطف حتى وهي في أشد حالات ضعفها لا تموت، وتبقى نابضة ما دام التفاعل المباشر موجودا والأيادي تتلامس بود، أما وسائل التواصل ذات الذراع الواحدة التي لا تجد أمامها يدا تتواصل معها، فتزحف بكسل نحو الأذن، وتسقط منها عند أبسط حركة، فهي عرضة للموت والزوال حتى على يد طفل صيني عابث، ومعها تموت جميع الرسائل النصية، وتخبو نار العواطف، ومعها أيضا تكثر الشماتة بشيء ظنه البعض خالدا فإذا هو ينهار نتيجة عبث طفل صغير.

26
المنبر الحر / النقد والتخريب
« في: 11:36 19/09/2021  »
النقد والتخريب
الدكتور صالح الطائي
تعرفت من خلال تجاربي الشخصية على عدة أساليب للنقد لم أعترض على أي منها، مع أن عدم اعتراضي على أحدها لا يعني موافقتي عليه أو تأييدي له، وكنت أرى مبررا لوجودها جميعها بلا استثناء، ولكني انزعجت بشكل يفوق الخيال حينما انبرى استاذان أكاديميان تربطني بهما علاقة صداقة للعمل سوية على نقد أحد مشاريعي البسيطة بعيدا عن حيادية النقد مع وجود رغبة واضحة للتخريب ومقصد حقيقي التدمير والتسقيط، ولم يتولد غضبي نتيجة أحكامهما التي كانت دون المستوى، ولا تمت للنقد بصلة، أو لأني أكره النقد، فأنا مع كل جلسة توقيع لأحد كتبي أردد كلمة: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، وإنما لأني أعتقد أن النقد سلاح ممكن أن يستخدم للحماية وتأمين احتياجات الدفاع الشخصية، وممكن أن يستخدم للهجوم وارتكاب الجرائم، وبين أنواع النقد على كثرتها يبقى النقد البناء المبنى على مبدأ تقديم النصح والملاحظات البنائية الهادفة التي تسعى إلى تحسين الحال، من خلال الإشادة بالحسن، وتقديم النصح والإرشاد، والتأكيد على إبراز نقاط القوة والإشادة بها، ونقاط الضعف لغرض تجاوزها، يبقى هو المنهج الأكثر قبولا وعدلا وتفاعلا.
أما النقد الهدام بنوعيه الأعور الذي يركز على العيوب وحدها وينسى مجرد الإشارة البسيطة إلى وجود المزايا الحسنة، أو الذي يعمل على تضخيم العيوب البسيطة والتافهة التي لا يخلو منها أي عمل أدبي أو علمي أو عقائدي أو حتى سلوك فردي أو جمعي؛ ليجعلها تبدو أسوأ كثيرا مما هي عليه.
ومثله النقد الأحول الذي يعمل خلاف النقد الأعور، لمجرد الرغبة في تحقيق مصلحة شخصية كسبية على حساب الأمانة في ذكر الحقيقة، ومثلهما نقد الانتقام الذي تسببه العقد النفسية، والكراهية المتبادلة، والاندفاعات الفرقية والمناطقية والعقائدية، والركون للتراثية التي خلفتها سنين الصراع والنزاع التاريخي، فهي كلها معاول تهديم تتهدد الوجود الإنساني. وبين هذا وذاك أرى في أسلوب النقد التسقيطي المتبادل بين التيارات الدينية والجماعات العلمانية تهديدا مباشرا لهذا الوجود، بما يوجب عليهما تهدئة اللعب ووضع خطط بديلة يتاح لهما من خلالها التعاطي الإيجابي الإنساني مع الطرف الآخر من موقع الندية العقلية الحوارية البناءة وليس موقع الندية القتالية الحيوانية التوحشية، فالعالم لم يتقدم بالحروب، ولم ينتصر بالحروب، بل لم يدافع عن وجوده بالحروب إلا نادرا، والحروب كلها باستثناء العبثية المتهورة منها كانت عبر التاريخ الإنساني واحدة من آليات التأسيس، أو فرضت نتيجة ظرف قاهر، أو خطر جسيم يتهدد الوجود، وأدت دورها في مرحلة معينة ما كان لسواها أن يحسم الموقف فيها، وانتهى واجبها مع انتهاء تلك المرحلة، ومرحلة التأسيس، والحالة التي فرضتها، ليأخذ العقل دوره في البناء، فتمكن الفعل الإنساني المنتج من ترميم وإعادة بناء الخراب الذي خلفته الحروب، وإعادة بناء الإنسان؛ الذي قاد إلى التحضر والتمدن والرقي، لتصل الإنسانية إلى ما هي عليه اليوم.
وبناء على ما تقدم أرى أن من الأمور العقلائية والإنسانية الملحة جدا أن النقد المتبادل بين الأطراف المتصارعة حتى ولو كان ذاك الصراع خفيا مبعثه الحسد، يجب أن يأتي للبناء لا الهدم، وان يكون هدفه تهدئة الأمور وتبيان الحقائق لا الإسهام في خلق نزاعات جانبية. نعم أنا أرى أن ما يؤمن به الناقد، وما يضمره في قلبه للمنقود يتحكم بما سيدلي به، ولكن ما سيقوله في مثل هذه الحال لن يكون محايدا، ولن ينجح في تغيير الأمور نحو الأحسن.
من هنا أعتقد أن النقد الموزون والحقيقي والبنائي لا ينجح في مسعاه إلا بعد أن ينجح الناقد في فهم واستيعاب الموضوع المراد نقده، وان تكون هناك نوايا إصلاحية توافقية من وراء نقده، وخلاف ذلك لا يحقق النقد غاياته المرجوة، وقد يتحول إلى نقد ضدي يسيء للناقد نفسه قبل غيره، ويكشف عورات جهله، وتبعيته، وقصديته العدوانية. ومن سبل فهم واستيعاب الموضوع ذات التأثير الإيجابي هو الحوار مع الطرف المعني، واتخاذه طريقا لاستيعاب الأبعاد الحقيقية الخافية عن الطرفين كلاهما، بما يتيح له أن يبدع في مجاله دون أن يوجه له اللوم أحد من المؤيدين أو المعارضين. ولا يتخلى عن هذه المبادئ إلا الإنسان المغرض المصلحي المدفوع، أو الذي يضمر شرا، ويملأ قلبه الحقد والحسد، أو الذي قبض ثمن ما سيعلن عنه فعلا أو قولا، أو الأمي ذو الثقافة السطحية الفارغة، أو الذي يعاني من عقد نقصٍ وعقدٍ نفسيةٍ مرضيةٍ تسبب له أزمات الدونية.
إن الدونية التعويضية أو التعالي التعويضي كلاهما غير قادرين على تمكين الناقد؛ أي ناقد من إدراك الحقيقة كما هي، فالحقيقة هي التفاعل أولا مع الذات بإيجابية، والإيجابية تعني الاندفاع الذاتي الناشئ عن استقرار الإيمان والطيبة في القلب، وحب الإنسانية، والعمل من أجل صالحها، الإيجابية كذلك هي التي تمكن الإنسان من التكيف مع الواقع المحيط وفهمه، سعيا وراء تبديله وتغييره نحو الأحسن، وهي الحافز الروحي الذي يُمَكِّن الإنسان من أداء العمل الذي يروم إنجازه في سعيه للوصول إلى الغاية المنشودة. ومن ثم على الناقد الناجح الهادف الساعي إلى الإصلاح أن يتعاطى مع الآخر بنفس المقاييس الأخلاقية التي يؤمن بها، والنظر إلى إيمان الآخر على أنه بنفس قدسية إيمانه، فالإيمان هو القناعة الشخصية التي تخلقها التجارب المتراكمة والخبرات الواسعة، والإنسان عادة لا يغير قناعاته بيسر ولا يؤمن بالجديد ببساطة، فحتى الرسالات السماوية جوبهت بمعارضة شديدة لغاية أن تمكن الإيمان من تغيير النفوس، أما أن يُوَظف التعالي التعويضي؛ الذي هو الوجه الآخر للدونية لتحقيق مآرب آنية، فذلك حتى لو صدف ونجح، سيكون وقتيا لابد وأن ينهار أمام أرق نسمات العقل. بل سيكون دليلا كبيرا على عظيم أثر عقدة الدونية أو النقص (Inferiority complex) على سلوك الناقد، بما يفضح مقدار العجز الكامن في داخل روحه بطريقة تؤثر على مجمل سلوكياته وقراراته، وهي العقدة نفسها التي تدفعه إلى التجاوز والتعصب والانكفاء والضعة وحتى الجريمة.
من هنا أرى أن الكثير من المسميات الفاشية في مجتمعنا المعاصر لا أصل لها، ولا تمثل حقيقة حامليها لأنهم أصلا لا يملكون آليات ما وصفوا به، فلا ناقدهم ناقد ولا باحثهم باحث ولا مؤرخهم مؤرخ ولا أديبهم أديب إنما هي مجرد سمات فارغة لا أكثر.

27
المنبر الحر / رؤية إنسانية
« في: 21:41 13/08/2021  »
رؤية إنسانية
الدكتور صالح الطائي
برأيي أنه متى ما طغى الشعور بوحدة الإنسانية على شعور اختلاف العرق واللسان والمكان والمعتقد واللون وجميع الفوارق الأخرى سوف تتحقق السعادة الافتراضية التي سعى إليها البشر عبر العصور، وحلموا بها، ولكنهم لم ينجحوا في تحقيقها، إذ لا خوف يُبنى على هذا السعي، فهو شعور لا يجرد ـ مثلما يرى البعض ـ المجاميع البشرية من خصوصيتها وقيمتها التاريخية والتراثية التي هي بالأساس أيقونة هذا الاجتماع الفكري المحض، بقدر كونه محاولة لتسطيح المشاكل والتعقيدات، ليتمكن الإنسان من السير نحو هدفه السامي دون أن يعترضه ما يعيق تحركه، فالشعور بالمشترك الوحدوي هو الذي يضمن الاطمئنان، ويعطي للإنسان قيمته الحقيقية التي حاولت بعض الفلسفات التلاعب بها في اعتقادها بأن الفرد ليس شيئا بالنسبة لقيمة العالم والزمن الذي ينقضي، فعلى خلاف ذلك أعلن الإنسانيون العقائديون الوحدويون من خلال سعيهم ترسيخ القيمة العليا للإنسان أن في جزئيات اعتقادهم الراسخ أن الإنسان ليس مجرد جرم صغير، وليس شيئا لا يذكر في هذا الكون، ففيه انطوى العالم الأكبر كله.
إن وحدة الوجود لا تتحقق إلا بوحدة الإنسان؛ لا مع ذاته فحسب بل مع الإنسانية كلها، دون مانع من دين أو معتقد أو لون أو لغة أو أصل، فهذه كلها تُشكِّل المرج الإنساني الزاهي، مثلما تُشكِّل الزهور بألوانها وعطورها وأحجامها وأشكالها روضا غناءً يبعث البهجة في النفوس، ولا أجمل من روض تتعدد فيه ألوان وأشكال وأحجام وروائح الزهور.
لقد أتيح لي بحكم تخصصي أن أتابع مضامين ومحتويات وعقائد الأديان كلها بما فيها الأديان غير الرسالة كالطاوية والشنتونية والكونفوشيوسية والبوذية فوجدت المشترك الإنساني فيها ظاهرا بينا واضحا، مع أني وجدت اختلافا في الرؤى والمعتقدات وقوانين فيزياء الحياة؛ جاء نتيجة التطبيق لا التأصيل، وهذا يعني أن ما نراه مغايرا في هذا الدين أو ذاك لغيره إنما هو بفعل المتدينين أنفسهم لا بفعل دياناتهم، وهذا سببه مثلما اتضح لي ناتج اجتهاد شخصي من قيمين نصبَّوا أنفسهم في موضع الإفتاء، أو نصبهم من يأمل أن يحصل منهم على منفعة دنيا أو دعم وجاهة، ولو تركت الأمور على عواهنها لتغير الأمر نحو الأحسن.
غير هذا وجدت الرأسمالية والشيوعية والنظريات الفلسفية والرؤى الفكرية تكاد لا تخلوا من نفس إنساني؛ إذا لم تكن إنسانية بالكامل، فمنهجها الذي يختص ببعض الناس دون غيرهم أنما هو يراهن على الجزئية أملا بالوصول إلى الكلية، وبالتالي لا يمكن عزل هذه الجزئية أو عدها عدوة للإنسانية.
قد لا اتفق، بل أخالف الذين يدعون إلى تأسيس (الديانة الإبراهيمية)، ويروجون لفكرة الدين المشترك لسبب ليس بسيطا وهو أن ذلك يُفقد الرؤى الدينية جمال طيفها القوس قزحي المتألق الذي يمثل هوية مشتركة، ولكني لا أعترض أبدا على من يدعو إلى تأسيس (الإنسانية المشتركة) ويروج لفكرة الإنسان المشترك، فالكون لا يعمر ولا يستمر إلا متى ما أدركت الإنسانية المشتركات التي تربط الأمريكي بمن يسكن في غابات الأمازون المطيرة المجهولة، والإنسانية لا تتحرر إلا متى ما أدرك الأوربي أنه شريك للقبائل البدائية التي تعيش في مجاهل أفريقيا، والإنسانية لا تأمن يومها إلا إذا ما شعر كل صاحب دين بأنه أخ لكل فرد في كل الأديان الأخرى، وشعر كل فرد في كل تلك الأديان الأخرى بأنه أخ له، فنحن من أصل واحد، وهذا ما لا ينكره أحد.

28
لا مكان للمبادئ في معادلات السياسة
الدكتور صالح الطائي
كنت خلال الأيام الماضية مهتما ومشغولا بقراءة كتابين خطيرين، الأول هو كتاب "حكومة العالم الخفية" لشيربب سبيربدوفيتش، والثاني هو "التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين" لمارك كورتيس، قرأتهما بتركيز كامل، وخرجت بنتيجة ليست خافية على أحد، ولكننا كلنا نجاهد لتجاهلها، أو السكوت عنها، أو نشغل أنفسنا بفرعيات العلاقة المتوترة فيما بيننا وبين المجاورين لنا عن النظر إليها، والرأي الذي خرجت به أن من يعتقد أن للمبادئ والقيم مكانا في المعادلة السياسية واهم وعلى خطأ كبير، فهما مجرد عكازان تستقيم بهما السياسة وتهش بهما على عقول السذج من أبناء الشعوب المغلوبة على أمرها لخداعهم وتضليلهم لتسهل عليها قيادتهم، وقد انمازت هذه الثقافة الماكرة المراوغة بكونها واحدة من أسس السياسة الاستعمارية، وأشهر دولتين وظفتا هذا المنهج اللئيم هما بريطانيا وأمريكا. وظفته بريطانيا في أيام قوتها لكي تحافظ على فكرة أن الشمس يجب ألا تغيب عن أراضيها، لكي تستمر عجلة نهب خيرات الشعوب دائرة لا تتوقف، ووظفته أمريكا في سعيها لبناء عالم الحكومة السرية الخفية والنظام الدولي الجديد بعد أن أجلست على عروش بعض بلدان المنطقة؛ التي هي البلدان نفسها بلدان كانت تحت عناية المشروع البريطاني بعضا من امعاتها وصنائعها، وجعلتنا نتخيل أنهم المنقذون الذين كنا ننتظرهم منذ عشرات السنين، بينما أثبتت الوثائق الرسمية الدامغة أن العالم منذ أواخر القرن السابع عشر يحكمه أشخاص مختلفين عمن يتخيلهم أبناء الأمم المغلوبة على أمرها من الذين لا يعلمون بواطن الأمور؛ مثلما صرح اليهودي ديزرائيلي سنة 1844، وأن هناك قوة خفية أو يد خفية غير مرئية هي التي تحكم وتدير العالم وفق تصور بسمارك (ت: 1898) وهو رجل دولة وسياسي بروسي،  ورؤية لامارتين (ت: 1869) وهو شاعر وسياسي فرنسي تولى رئاسة الحكومة المؤقتة، بعد ثورة 1848، وأن الحديث عن حكومة وطنية في تلك البلدان مجرد ضرب من الهراء.
لقد أكد هذه الحقيقة ما قامت به الدولتان المستعمرتان بريطانيا وأمريكا من أعمال ألحقت الضرر الكبير بكثير من الشعوب عبر التاريخ. فضحت ما قامت به بريطانيا في أيام مجدها وثائق وزارة الخارجية والمخابرات البريطانية التي رفعت عنها السرية، حيث أشارت هذه الوثائق إلى تآمر بريطانيا مع المتطرفين والإرهابيين أفرادا وجماعات في أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونيسيا ومصر وبلدان رابطة الدول المستقلة وحتى نيجيريا التي دعمت بريطانيا حركات الإسلام السياسي فيها وحولتها إلى بلد مأزوم.
وفضحت ما قامت به أمريكا التي كانت لها جولات في غاية البشاعة تلك الأشرطة والمشاهدات العيانية وما نشره موقع ويكليكس، وهي الجولات الشيطانية التي بدأت في أول أمرها من خلال تعامل أمريكا مع السكان الأصليين من الهنود الحمر على أراضيها، ووصلت في عصرنا الراهن إلى حد تحريك الجماعات المتطرفة الإرهابية كأحجار رقعة شطرنج في مناطق عديدة من العالم، تحركها تحت حمايتها وبدعم مباشر منها لتنفيذ بعض أحقر الأعمال، وقد نجحت قواتنا خلال الحرب ضد داعش المجرمة في تصوير وتوثيق عشرات الحالات التي قامت فيها القوات الجوية الأمريكية بإسقاط كميات كبيرة من المؤمن والعتاد والسلاح وحتى عجلات النقل على مجاميع إرهابية كانت محاصرة وعلى وشك الاستسلام فأنقذتها من القتل أو الأسر، كما رصدت عمليات نقل للإرهابيين قامت بها القوات الأمريكية رغم أنف القوات العراقية ليؤدوا مهامهم في مناطق سبق ومسحتها أقمارها الصناعية. والنتيجة المتحصلة تنحصر في:
أولا: أن المصلحة الخاصة هي الأساس في سياسة هذين البلدين الخارجية حتى ولو كان فيها كبير الضرر على مصالح البلدان والشعوب الأخرى، وهذا يعني أن على الوطنيين في تلك البلدان أن يوحدوا صفوفهم ويتركوا المهاترات البينية الفارغة حفاظا على مصلحة البلد والأمة.
الثاني: أن أمريكا نابت عن بريطانيا في إدارة البؤر نفسها، وهي البؤر القلقة غير المستقرة والمستهدفة بشكل مباشر من خلال التخطيط والتهديد والتآمر والحصار والتخريب وكل متاحات التدمير الأخرى، ولا يوجد بلد من بينها إلى الآن يحظى بأدنى مستوى من الأمن والاستقرار.
ورغم ذلك نجد هناك جماعات لا زالت إلى الآن على استعداد تام للتضحية بأبنائها وبشرفها وببلدها وبعقيدتها الدينية في سبيل الدفاع عن الوجود الأمريكي الاستعماري في المنطقة، وجماعات لا زالت مخدوعة إلى الآن وتوظف كل متاحاتها وقدراتها في حربها الغبية ضد الآخر الذي تختلف معه في العقيدة المذهبية أو الدينية أو السياسية، ولا زال هناك من يسعى إلى القتل العبثي لمجرد أمل في أن يجد (حور العين) تنتظره بوله العاشقين وهو لا يعدل فلسين.

29
الإنسان الجديد للحكومة العالمية
الدكتور صالح الطائي
أثبتت كل المؤشرات أن هناك سعي جاد لإعادة بناء الكون ضمن مواصفات جديدة، فمن الثابت أن القوى العظمى تعمل اليوم على إعادة تشكيل الإنسان، والعمل على تصنيع نوع جديد من البشر يتم بناؤه ضمن مواصفات خاصة عن طريق ما يعرف بالتثقيب الكهربائي الذي يعيد نمط بناء الخلية البشرية ويحول الإنسان إلى إنسان مُصنَّع مخبريا، رغبة في بناء أفراد مرشحون ليصبحوا نواة الشعب الجديد للحكومة العالمية الواحدة، بعد انقراض الانسان التقليدي الذي ستقتله الفيروسات الجينية والحروب البينية والجوع والعطش وانعدام أو ندرة الموارد الطبيعية وحروب المياه والحروب الأيديولوجية. والسبب أن قادة المشروع العالمي أصبحوا يتهيبون ويشعرون بالخطر من تنامي قدرات الشعوب، وقد وجدتُ في الأرشيف وثيقة قدمها هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق إلى الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون تحت رقم (NSSM200)، تفيد أن الزيادة السكانية لدول العالم الثالث تهدد الأمن القومي الأمريكي، وأن الحروب والأوبئة الطبيعية التقليدية لم تعد الوسيلة الناجحة لوقف الانفجار السكاني أو التحكم به، ولابد من اللجوء إلى وسائل غير تقليدية وأسلحة مستحدثة جديدة من بينها التحكم في إنتاج الغذاء العالمي، والتحكم تكنولوجيا في خصوبة النساء، والتحكم في خرائط الـ (DNA) وإعادة تشكيلها، وإفناء أكبر عدد ممكن من الأفواه الأكولة غير المنتجة.
لم يكن رأي كيسنجر مجرد رأي عابر، فهو خلاصة للمداولات الفكرية المستمرة، وتصريح كيسنجر كان الإعلان الرسمي عنه، إذ سرعان  ما تم تطبيقه وتطويره في مراحله الأولى من خلال نجاحهم في التحكم بحركة أنواع خطيرة جدا وسريعة الانتشار من الفيروسات، هذا التحكم الذي كانت مرحلته الأولى قد جربت على مدى واسع جدا وغير مسيطر عليه مع فيروس كورونا المنفلت، حيث شخصوا من خلال هذه التجربة القاسية السلبيات والايجابيات، وحددوا خرائط التحرك والتوجيه ضمانا وحماية للنخبة المختارة. أما المرحلة الثانية فستكون برأيي عبارة عن فيروسات جينية مصنعَّة ومسيطر عليها لتتوافق مع أنواع محددة من الـ( DNA) المستهدف، أي تصنيع فيروسات تتولى مهمة البحث عن جينات محددة وخاصة لتهاجمها، فهي مبرمجة على هذا النوع من الحروب، ولا تهاجم جميع البشر ولا تتفاعل مع جميع خرائط الـ (DNA).
وقد تزامن هذا المشروع مع ولادة مشروع آخر مهدوا له إعلاميا من خلال السجالات الساخنة التي أثيرت حول أزمة الغذاء في العالم، والتخويف المبالغ فيه من خطر مجاعة عالمية تهدد العالم بالموت جوعا بسبب الزيادة المطردة في عدد سكان العالم قبالة انخفاض نسبة الأراضي الصالحة للزراعة وانخفاض الإنتاج العالمي من الحبوب الاستراتيجية، وتفاقم أزمة المياه الصالحة للشرب والزراعة العالمية، وندرة المواد الأولية وكثرة الأوبئة البشرية والزراعية والحيوانية الفتاكة ولاسيما الأمراض المشتركة، وانخفاض نسبة الموارد الطبيعية بشكل عام إلى حدٍ لا يكفى إلا لعدد محدود من البشر، لا يزيد في أفضل الأحوال عن 3,8 مليار نسمة من أصل أكثر من سبعة مليارات، بما يعني أن هناك فائضا بشريا يفوق العدد المختار، وبناء عليه لابد من التخلص من العدد الفائض لتجنيب العالم الخيالي ثورات جياع تحرق الأخضر واليابس، وتطالهم نارها.
عقليا وفكريا وعسكريا لا يمكن للحرب التقليدية أن تقضي على هذا العدد الكبير من البشر، فضلا عن المعارضة الشديدة التي سيلقاها مثل هذا المشروع، والتي قد تتسبب بتجمع الشعوب ضمن تكتل جديد يتصدى لهذا الغزو، مما يدفع القوى العظمي إلى استخدام خزين الأسلحة الفتاكة المبيدة التي ستتسبب بمقل من أعدوهم لخدمة مشروعهم، وهذا يفقدهم دعما هم بحاجة إليه. ولذا بحثوا عن وسائل متطورة لا تلفت الانتباه، فاختاروا الحرب الفيروسية الأشد فتكا والأكثر تأثيرا، وأرسلوها تجريبيا للتحكم بعدد نفوس العالم حسب الطلب. وأنا هنا لا أتكلم من منطلق نظرية المؤامرة عن فيروس كورونا، بل أتحدث عما بعد كورونا، وهو ليس ببعيد، ولذا اعتقد، بل أجزم أن القوة التي تملكها الشركات العملاقة العابرة للقارات بما في ذلك الكادر والشخصيات التي يسخرونها لخدمة مصالحهم في العالم كله، تؤكد بما لا يقبل الشك أن العالم تفاحة نضجت بهدوء، وستقع بيد الصهيونية والماسونية وأسر روكفلر  وروتشيلد ومورغان التي تتحكم بمصائر الشعوب عما قريب، وأننا كلنا نحمل لهم طوعا وبإرادتنا الأحجار التي سيبنون بها هيكلهم العظيم، والذي ستكون جماجمنا أرضية أسس بنائه الشاهق.
وفقا لهذا التصور أرى أن العالم بل الكون كله بعد كورونا ليس هو كما كان من قبل، حيث بدا البناء العكسي وزخم الترسيخ المبدئي للمتغيرات الكونية بدأً من حرب الفيروسات، والعمل على تغيير الجينات، ووصولا إلى صنع النخبة، صنع الإنسان المسير مسلوب القوى الفكرية والفاقد لاحترام النفس والمغرق بحب الشهوات، ومن ثم تحشيد هذا المنتج البشري الجديد قطيعيا لينفذ ما يؤمر به دون اعتراض، وسيقتضي هذا الإجراء التخلص من كل الأنواع الأخرى بعدة سبل بعضها لم تخطر حتى على بال الشيطان، ولذا أعتقد أن ما يتعرض له الإنسان العربي اليوم لا يخصه وحده، إذ له شركاء آخرون هنا وهناك في العالم يعيشون المعاناة نفسها ويتوجسون الخطر نفسه، وما يحدث ليس أكثر من محاولات لتفعيل هذا المشروع، الذي هو بالأساس بني لكي يغتال الخزين الفكري والثقافي للأمم والشعوب، سعيا لقتل الابداع وإيقاف عجلة التقدم فيها، تزامنا مع استيعاب العقول المائزة وتحفيزها للهجرة مع كل المساعدات التي يقدمونها لها؛ تلك الهجرة التي نسميها دون أن ننتبه لمقاصدها: "هجرة النوابغ" أو "هجرة الأدمغة"، ويتم تطبيق وتنفيذ هذا المشروع الخبيث وفق ثلاث خطوات، هي:
الأولى: تشجيع ودعم العسف والإهمال والحاجة والضنك المادي والحصار الاقتصادي والفكري، وحتى التنمر؛ الذي يتعرض له المفكرون والأذكياء في بلدانهم، فضلا عن عدم الاهتمام بمنجزهم مهما كان نوعه، مع استمرار تعرضهم للمضايقات والتهديد من قبل قوى ظلامية غير معروفة وميليشيات نخبوية بما يؤثر على مشاريعهم، وفي الجانب الآخر التلويح لهم من بعيد بمغريات لا يحلمون بها.
الثانية: الوضع القلق والخطير في البلدان المستهدفة وحالة الحرب العبثية التي تعيشها أغلب البلدان بما فيها بلدان وطننا العربي بدعم من المشرفين على المشروع وتشجيع منهم، بما يتهدد حياتهم وحياة من يحبون موتا أو خطفا أو تهجيرا، وهذا يدفعهم للبحث باستمرار عن ملاذ آمن.
الثالثة: المغريات الكبيرة التي تضعها سلطة المشروع العالمي الجديد أمام أنظارهم، ودفعهم قسرا للمقارنة بينها وبين ما هم عليه في بلدانهم، ترغيبا لهم في الهجرة.
والذي أراه أن جميع النظم والحكومات في العالم كله وليس في شرقنا فحسب ستقف مكتوفة الأيدي، وعاجزة كليا عن التصدي لهذا المشروع بعد أن نجح القائمون عليه في تفريق كلمة الأمم وزرع العداوة والبغضاء بين الشعوب؛ التي كانت حتى الأمس القريب تتكاتف وتتحد في مواجهة الخطر المحدق بها، بينما تحولت اليوم إلى كيانات لا أبالية متصارعة بلا هدف ولا تعرف حتى علام تتحارب!
وبالتالي أرى أن العجز عن تحقيق وحدة مهما كان نوعها ممكن أن يعوض عن طريق التوحد والتقارب وترطيب الأجواء وغلق كل سبل ومنافذ نشر الكراهية والبغضاء ومحاربة المناهج الطائفية والعمل على تقريب المجاميع من بعضها، وبخلافه ستتساقط هاماتنا في وقت ترانا فيه مشغولين بمقاتلة أهلنا.





30
ليالٍ أشمُ في رائحتِها الوجع
بمناسبة عودة التفجيرات إلى بغداد/ نثر مركز
الدكتور صالح الطائي
في الطريق إلى أوروك، بلاد الخير والحضارة، البلاد التي أبدلت جلدها وارتدت السواد
حيث الظلمة ورائحة البارود وثغاء طفلٍ يتيمٍ تقطعَ أوصالا بفعل العصف الغادر
وطائرات الإخوة الأعداء من جيش التحرير القادم من أرض العم سام تقصف البشر في المساكن والحقول، والصحارى والسهول، وتقتل الهواء، وتنشر الهراء والبلاء
كنتُ أحث الخطى، ابحث عن أوتونوبشتم بين أدغال الوهم؛ عله يدلني على نبع الحياة
أو يلبسني جلد أفعى
كنتُ وحيداً والريح كانت تعوي كأنها ذئاب جائعة أو عرس بدوي تعصف به الرمال
وحزني كان يتعملق في سماء رغبتي، يجبرني على البكاء بعد أن نسيت الصهيل وأدمنت الهزائم.
طال السفر، وقل الزاد، وجفت العيون، ويبس الزرع
وفي الأرض اليباب زحف الليلُ ليقتل الخضرة ويجفف المياه
كنتُ أسير وقد أنهكني الوجع، وحينما وصلت إلى أبواب المدينة الخربة لم أفرح
لفتني البلادة وأفقدتني فرحتي؛ ربما لأني وجدت مكتوبا على أسوارها المهدمة وفوق بابها الهرم: مدينة عربية!
وهذا أمر يحسم القضية
عدا رائحة الشواء وألسن اللهب وسواد الدخان لم أجد حراسا يقفون على بواباتها
لم أشم رائحة أنفاس بشرية
فقط بغيٌ تقدم بها العمر وشاخت سنينها، كانت تجلس هناك فوق كومة كبيرة من الذكورة العربية التي تخلى عنها أصحابها من الهلع
سلمت عليها بصوت عال ممهدا لسؤال
لم ترني لأنها كانت مشغولة بالبحث عن واحد منها لم يصبه العطب بعد
فلم تجد سوى الخواء ورائحة الخيانة وقوافل الجُبن المعتق في الضمائر
فناديتها: لا تتعبي نفسك بالبحث، فالعرب ماتوا مذ ذبح العراق
العرب ماتوا مذ أن اغتصبت ليبيا، وأحرقت سوريا، وهتك عرض اليمن، وشوه وجه لبنان الجميل، وقصفت غزة بالنابالم، ومات الشعب الأصيل ومعه ماتت أصائل الخيول
العرب ماتوا مذ أن رفرفت رايات أعدائهم على أسطح منازلهم باسم سلام وادي عربة
العرب ماتوا وفقدوا مواريثهم وطباعهم، وصاروا يبحثون عن التطبيع من خلال لعبة البوبجي.
العرب تحولوا إلى قطيع قردة تقوده حمير مستنفرة أرعبتها قسورة، وأفقدتها هيبتها غضنفرة، واذلتها حشرة
العرب ماتوا يوم صارت نساؤهم قبلتهم وربهم دولارهم
قد فقدوا أصولهم، وأضاعوا سننهم، وصاروا يخجلون من كلمة عربي
وأدمنوا الرذيلة
ومارسوا الغيلة
وطلقوا القِبلة والقبيلة.
إلا عقال الرأس لا زال شامخا فوق داغ خاو
ربما لأنهم لا يريدون أن يُتعبوا الجلاد بالبحث عن سوط
فالعقال بديل نافع يهيج المواجع، وهو سهل المنال.


31
وهم التناقض الفكري الشبابي
الدكتور صالح الطائي

كثر في الآونة الأخيرة الحديث بين الشباب غالباً عن مصادرة حرية الرأي في العالم الإسلامي، وانفتاح باب المعرفة في الغرب على مصراعيها، وأن هذا هو السبب الأوحد لتأخر شعوبنا وتقدم الغرب، ولن تتقدم شعوبنا إلا إذا ما أطلقنا العنان لكل الآراء ان تعبر عن نفسها بما في ذلك تلك الآراء الصفراء التي تتجاوز على الدين والقيم  والمثل والموروث، والذي أراه أنهم ساذجون واهمون مخدوعون، لأن الحديث عن حرية مطلقة للمعتقد والرأي في الغرب يبدو أمراً شبه وهمي، ومغرق بالمثالية، ويبدو بعيداً عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع، بدلالة وجود شواهد كثيرة لا على تقنين هذه الحريات في الغرب فحسب، بل وعلى التضييق عليها أيضا ومصادرتها، وان الفرق بيننا وبينهم أننا نتعامل مع الأمر بمناهجنا المتخلفة وهم وضفوا أرقى المناهج التي لم تعط فرصة لمعترض أن يعترض. والملاحظ أن الأعم الأغلب من أصحاب تلك الآراء، بل هم بالمطلق من العلمانيين الشباب قليلي الخبرة ومحدودي المعرفة، ممن اتكأوا لا من خلال التجربة والمعايشة وإنما على ما يتم تداوله في المؤلفات الحديثة وشبكة الانترنيت من حديث عن حرية الرأي والتعبير والمعتقد في العالم المعاصر، وأغلب هؤلاء الشباب يعتقدون أنها حرية مطلقة غير مقيدة، ولهذا لا تجد في تلك البلدان من يعترض على من يكتب منتقدا سلوكا أو تصرفا او منهجا دينيا، وتبعا لذلك صاروا يكررون محاولاتهم للاقتباس من تلك المناهج وتعميمها في عالمنا، وهم يرون أن ما يكتبونه بما في كتاباتهم تلك من تهجم ممجوج وتطاول فارغ على الدين ورموزه لا يعني الارتداد والخروج من الدين، ولا معاداته أو الحط من منزلته، أو التعدي على خصوصياته، ولا مصادرة لحريته في التعبير عن نفسه وعقيدته، بقدر كونه مهمة تصحيحية، يهدفون من ورائها ـ بزعمهم ـ توفير حياة أفضل للمجتمعات بعيداً عن سطوة الكهنة ورجال الدين وتعقيداته ونظامه الأبوي ـ في الأقل ـ هذا ما يتضح مما جاء في موقع الملحد العراقي والمواقع المشابهة الأخرى على شبكة الانترنيت، فحينما تم إطلاق أول موقع للملحدين العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو موقع لا ابتكار فيه، جاء تقليدا سمجا لما فعله الغربيون، هذا التشكيل الذي أسس في 9/10/ 2017  على يد مؤسس الحركة في العراق فيصل التميمي، كتبوا: "دينك لك والدنيا للجميع ولا تجعل حريتك مصدر ازعاج للأخرين"، وهو اقتباس مشوه وغير موفق لشعار "الدين لله والوطن للجميع"، الذي يقال إن أول من قاله هو بيتر صموئيل (1911ـ 1996)، وهذا وهم، إذ ذكر الدكتور سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت" أن صحيفة "نفير سورية" التي كان يصدرها بطرس البستاني عام 1860 كان شعارها المطبوع في اعلاها "الدين لله والوطن للجميع". أي أن الصحيفة العربية استخدمته قبل بيتر صموئيل بزمن، بل قيل: إن أول من ردده في البلاد العربية هو عبد الرحمن الكواكبي" (1855ـ 1902) قبل صموئيل، ومنه اقتبس مصطفى صادق الرافعي (1880- 1937)، فذكر القول في خطاب القاه خلال حفل خيري أقيم عام 1916 في القاهرة تحت رعاية شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، يوم كان عمر بيتر صموئيل خمس سنوات فقط، وقيل: إن سعد زغلول" (1858- 1927)، قاله ضمن خطاب له عام 1919، وبعد هذا التاريخ استخدمه سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925 شعارا لثورته، فجاء العلمانيون واقتبسوه، فجعلوه "دينك لك والدنيا للجميع".
وعلى كل حال أجده من حيث العموم شعاراً فيه إجمالٌ كبير، وهو غير متفق عليه، فهناك من سكت عنه، وهناك من رفضه بشدة، وهناك من أيده، فضلا عن ذلك لقي الشعار اعتراضاً من قبل فئات لا تتفق مع العلمانية في توجهها، ولا مع الإلحاد في توجهه. والأكثر أهمية من كل ذلك أنه لم يطبق على أرض الواقع عبر التاريخ الإنساني، فعلى مر التاريخ، وفي كافة النظم المعروفة سواء كانت دينية أم علمانية، كان الدين أداة تستخدم للرحمة والقمع، للبناء والمصادرة، للتربية والتخريب، وكان موئلا للتناقض الغريب، حيث كانت هذه التناقضات تتفاعل على أرض الواقع ضمن سياقات أطر توظيف الدين من قبل الأنظمة الحاكمة ومن قبل أتباع الأديان أنفسهم. وحتى في عالمنا الإسلامي، وفي أسمى مراحل الوعي الديني، خلال وبعد عصر البعثة لم يكن الدين لله، بل كان للحكام المتسلطين الذين جعلوا الدين لهم وحدهم، بعد أن ركنوا (الله) بعيداً ليصبحوا نوابا عنه وناطقين باسمه، ولهم وحدهم حق وضع الخطط التي تتحكم بالكون.
أما الوطن فهو؛ وبالثوابت المتفق عليها، لم يرق في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني لأن يكون للجميع، فعلى مر التاريخ كانت هناك فئات مغيبة، تشعر أنها بلا وطن، وكان الحكام يصادرون هوية المواطنة من كل من يعترض عليهم أو يناصبهم العداء، فيُسقِطون عنه هويته التي تربطه بالوطن رسمياً ليصبح بلا هوية، ويتحول إلى مشرد يبحث عن وطن، وقد عشنا هذه التجربة المريرة في أيام حكم البعث (1968ـ 2003) وعشناها بعد هذا التاريخ بسبب الطائفية المقيتة. علما أن ذلك لم يكن من خصوصياتنا إذ لا زالت أكبر الدول الغربية والأوربية وأكثرها تشدقا بالعدالة والديمقراطية والمساواة تضم أطيافا لا حصة لها في الوطن، تعيش التشرد والضياع دون أي حق من الحقوق التي يروجون لها في إعلامهم، وهذا بحد ذاته يثبت أن حملة هذا الشعار طوباويون وبعيدون عن الحقيقة لأنهم أضعف من أن ينجحوا في تطبيقه على أرض واقعنا المضطرب المليء بالمفاجئات، بعد ان عجزت عن ذلك أعظم الدول وأكثرها استقرارا وتمسكا بالروتين الحياتي.
يعني هذا أن هناك تعارضا بين الآراء لا يمكن إغفال واهمال أحد طرفيه، وأخذ ما يراه الطرف الآخر على علاته، فحقيقة أن الدين لله من حيث الأصل ليست مِنَّةً من أحدٍ على أحد، بل فرضاً على الجميع. والوطن للجميع من حيث الهدف كلمة واسعة تنضوي على حق وباطل، في الأقل يرى المتدينون إن كان معنى الوطن للجميع نفي الدين من المجتمع وتحجيمه وحبسه وتعطيل دوره في الحياة العامة فهذا باطل، وإن كان معناه أنه يجوز أن يكون حق أتباع الأديان وكل الطوائف والجماعات في بلاد الإسلام المتنوعة مثل حق المسلم في بلاد الإسلام، فهذا حق، ولكن بحدود تراها بعض الفرق الإسلامية، التي تفترض عدم جواز تواجد غير المسلمين فيما نص عليه حديث: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، حتى مع اختلافهم في مضمون الحديث، وفي حدود جزيرة العرب، بل وفي صحة الحديث نفسه.
إن ما نتابعه في الشارع العراقي اليوم من عدم استقرار وتخبط بسبب ما تفشى بين الشباب من أفكار غريبة فيه إيماءات كثيرة تنطوي بعضها على خطر يتهدد المجتمع يبعث في أنفسنا القلق لا على الدين فتلك مسألة خاصة بل على بلدنا ومواطننا الذي تتقاذفه الأمواج. والقلق لا يقف عند هذه الإيماءات وحدها، فهناك غير ذلك أمران يقلقاني بشدة هما كثرة المسميات الفلسفية التي تعتاش على طيبة الإنسان وتراهن على نمط تفكيره، وسبب نشأتها وتفشيها في هذا الوقت بالذات، وأنا هنا اقتبس من نانسي عبارتها: "وأنا أحب مثل هذه العبارات اللاذعة في أن تكون محكمة وبارعة فهي تمتعني وتدفعني إلى التفكير"(*) التي قالتها لتصف العبارات التي وجهها توماس بيرنهارد في نقده اللاذع للمرأة. فأنا مثلها أحب العبارات التي أطلقت على جميع هذه الفلسفات لأنها تشعرني بالإثارة، مثلما يشعرني الحديث عن فكرة تأسيسها بالإثارة.

(*) هيوستن، نانسي، أساتذة اليأس النزعة العدمية في الأدب الأوربي، ترجمة: وليد السويركي، دار نشر كلمة، أبو ظبي ـ الإمارات، 1433هـ ـ 2012م. ص10.

32
عقوبة الازدراء والتجديف في الديانات
الدكتور صالح الطائي
ازدراء الأديان هو تعمد الإساءة أو الاستخفاف بالعقائد الدينية من قبل فرد أو جماعة أو هيئة هدفه إظهار عدم التقدير أو الاحترام تجاه دين محدد أو تجاه كل الأديان ومعتقداتها وشخصياتها المقدسة لدى أتباعها ورموزها الدينية وعاداتها وشعائرها وطقوسها.
أما التجديف فهو التحدث عن الله بازدراء، سواء كان الحديث مكتوبا أم منطوقا أم إشارة. ومنه الكفر بالنعم أو استقلال عطاء الله وتوجيه الإهانة أو التعيير الى الله تعالى.
الازدراء والتجديف كلاهما صارا اليوم مثار جدل على مختلف المستويات، وانقسم الناس بشأنهما بين مؤيد يرى أن ذلك حق مكفول يتعلق بحرية الرأي والتعبير لا يحق لأحد مصادرته، بل يجب حمايته بكل السبل المتاحة، ويطالب هؤلاء بوجوب توفير كافة سبل الحماية لمن يقوم به، وتوفير ملاذ آمن له. ولب وزبدة هذا الاعتقاد تتلخص في الجملة الأخيرة وتحديدا في كلمتي (ملاذ آمن) التي تبدو كوعد بمنح المجدف مقر إقامة في أي دولة يختارها، وهو حلم جميع شعوب الدول الفقيرة والنامية، وهذا تحريض علني على الازدراء.
قبالة أولئك يرى الذين هم أكثر عقلانية وتسامحا إن الازدراء والتجديف عمل قبيح وعدواني لأنه يعزز الكراهية الدينية بين البشر، وبالتالي لا يطالبون بمنعه فحسب، وإنما يطالبون بمحاسبة فاعليه.
وفي السياق التاريخي والديني كانت مواقف الأديان من التجديف والازدراء متباينة في دلالاتها حيث شددت الديانة اليهودية بحق عقوبة المجدفين والمزدرين، وحكمت بموتهم، جاء في التوراة عن "النفس التي تعمل بيد رفيعة (أي عن قصد وتعمد) فهي تزدري بالرب، فتقطع تلك النفس من شعبها (عدد 15: 30).
أما المسيحية فبدت أكثر تسامحا حينما قسمت التجديف على قسمين، جاء في الكتاب المقدس: "لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يغفر للناس، واما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القـــدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 31 و32، ينظر أيضاً مرقس 3: 28 و29 لو 12: 10).
ومثل اليهودية حكمت المسيحية على مرتكب هذا النوع بالذات من التجديف بالقتل: فكما كانت عقوبة من " يعمل بيد رفيعة " (عدد 15: 30) أو يجدف على اسم الله (لا 24: 11 و16) القتل رجما (ينظر: موقع كنيسة الرب يسوع المسيح)
الغريب أن الإسلام الذي يتهم دائما بأنه الأكثر تشددا، والذي يتعرض اليوم إلى أكبر حملة ازدراء وتجديف، كان أكثر تساهلا من الديانتين اليهودية والمسيحية، لكن التطبيق العملي خرج على هذه القاعدة وأساء إليها.
إذ الملاحظ أن موقف الإسلام كان في منتهى التساهل، وللتوضيح أقول: يعرف التجديف في الإسلام على أنه السخرية من كلام الله وآياته، والاستهزاء برسله، أو إنكار نبوة أحد الأنبياء وإهانة الملائكة. ومع ذلك لا تجد في القرآن الكريم ذكرا لعقوبة التجديف ولا للمجدف، سوى المقاطعة بالحسنى، وهذا موقف نبيل جدا وعصري جدا، يختلف عن موقف الأديان السابقة. هذا الموقف يتضح من قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140). وقوله الآخر: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68.)
بل إن في القرآن أوامر صارمة ألا يكون المسلم مجدفا بحق الآخرين، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 108.)
لكن مع ذلك تجد هناك روايات تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) عاقب المجدفين بالقتل، فعل ذلك مع كعب بن الأشرف بعد غزوة بدر، حيث كان كعب قد حرض قريش ضد الرسول والمسلمين، وكان يدفعهم ويشجعهم على الانتقام من المسلمين. وكذلك سلام بن أبي الحقيق (أبو رافع)، وكان هذا من كبار ممولي ومحزبي وداعمي قوات الأحزاب بالأموال والدعم اللوجستي ضد المسلمين في غزوة الأحزاب. غير ذلك هناك روايات أخرى تذكر أن النبي أباح للمسلمين قتل المجدفين يوم فتح مكة من النساء والرجال، وأباحه في مناسبات أخرى، مثل دعوته لقتل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وحالات أخرى منها ما يتضح من حديث عبد الله بن عباس: أن أعمى كانت له أم ولد أي جارية تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المغول (المغول: سيف قصير) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها، فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى رقاب الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول، فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي: "ألا اشهدوا أن دمها هدر".
إن افنسان المتزن العاقل الحصيف هو من يحترم عقائد الآخرين ولا يطعن بها ولا يزدريها، وبدل أن يشغل نفسه في البحث عن هنات الآخرين لينفذ من خلالها ليصول تجديفا على تلك العقيدة عليه أن يعمل على تشذيب عقيدته مما لحق بها بسبب الجمود على الموروث غثه وسمينه والتمسك بآراء من نصبوا أنفسهم قيمين على دين الله، فأحدثوا فيه ما ليس منه.




33
خلافنا فيما بيننا ليس جديدا
د. صالح الطائي
جاء الإسلام لتوحيد البشرية وجعلها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وجاء بعض المتدينين فعملوا خلاف ذلك، وسعوا إلى تمزيق الأمة وتقسيمها، بدل ان يحولوا مدارسهم الفقهية ومبانيها الفكرية إلى كليات في جامعة الإسلام العظمى.
لقد تولى بعض المتدينين مهمة زرع الفرقة بين طوائف المسلمين تحيزا لفرقهم ومذاهبهم دون التفات إلى ما يصيب الدين من ضرر، وما يصيب الإنسان من عسف وظلم، والمصيبة أن هذا الهراء لم يتوقف ولم يهدأ، بل ازداد عنفواناً وتنوعت مصادره مع تقدم وتبدل الأزمنة والعصور، ليصل اليوم إلى درجة التكفير المطلق؛ الذي يبيح نفس وعرض ومال المسلم الآخر دون وازع من ضمير، ويبيح كل المحرمات في تعامله مع أتباع الأديان الأخرى.
إن في تراثنا الكثير من النصوص التي تؤكد أن الأوائل هم الذين زرعوا الفرقة بين المسلمين، وأن الأواخر كانوا تبعا لهم، ولم يفيدوا من خبرات عصور التقدم والتحضر التي عاشوها
تأمل ما حدث بين أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر بعد أن ازداد أتباعها وقويت شوكتهم وتولى بعضهم مناصب قيادية في المجتمع، أو قربه الحاكم على حساب المذاهب الأخرى، فاستولى كل مذهب على إقليم، حرم دخول أتباع المذاهب الأخرى إليه، حتى أن المالكية استقلوا بالمغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يقارّ أحد المذهبين أحدا من غيره في بلاده إلا على وجه ما، وحتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة إذا دخل إليهم حنفي قتلوه وجعلوا ماله فيئا: حكمهم في الكفار. وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنابلة كان فيه مسجد واحد للشافعية، وكان والي البلد يخرج كل يوم إلى صلاة الصبح، فيرى ذلك المسجد، فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق؟ فلم يزل كذلك حتى أصبح يوما وقد سُدَّ باب ذلك المسجد بالطين واللبن، فأعجب الوالي ذلك (*).
فلا تعجب اليوم إذا ما وجدت شيعيا يسب رموز آخرين، أو أحد أتباع المذاهب الأخرى يكفر الشيعة كفرا بواحا يحل مالهم وعرضهم، أو مالكيا يتطاول على شافيا ويتهمه بالجهل، أو شافعيا يتطاول على مالكيا ويدعي أنه لا أصل له بين العرب، أو حنبلياً يكفر كل المذاهب والمدارس ويدعي أنه وجماعته هم الفرقة الناجية.
العجب العجاب أن المؤسسات الدينية والحكومات وحتى المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية في بلداننا الإسلامية، لم تولي هذا الأمر الخطير عناية تذكر، بل ثبت أن بعض رجالها يدعمون مثل هذه التوجهات القبيحة طلبا للثواب أو تحيزا لفرقة. وإذا لم نتجاوز هذه المرحلة التراثية السيئة بكل ما تمثله من خطر على الدين والأمة، لن نجد فرصة لنلوم أنفسنا، لأننا بفعلنا المتطرف هذا نبدو وكأننا غصن متيبس شاذ عن جسد الإنسانية الأخضر اليانع، بل سنجد أنفسنا وقد خسرنا أولادنا وأحفادنا الذين هجروا مذاهبنا بسبب كم الكراهية والتحيز فيها وانساقوا خلف دعوات العلمانية والليبرالية، أو اتبعوا دينا آخر سواء كان وضعيا أم سماويا، أو ـ في أحسن تقدير ـ أصبحوا من أتباع الديانة الإبراهيمية.

 


المصدر
(*) خلاف، عبد الوهاب، مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، مكتبة الجامعة الأمريكية، القاهرة، 1954.ص110.

34
التعليم في العراق والسير نحو الهاوية
الدكتور صالح الطائي
وأنا أتصفح رفوف مكتبي التي تنوء من ثقل ما تحمل على ظهرها، وجدت مجلة صفراء اللون ورقها متهرئٌ يوحي لك بقدمها، كانت مجلة بسيطة في إخراجها، عظيمة في محتواها، ومحتواها الجميل هو الذي اوحى لي بكتابة هذا الموضوع؛ الذي سأتجاوز فيه الحديث عن الاحصاءات والدراسات التخصصية التي يلجأ إليها الكاتب عادة حينما يتناول مثل هذه المواضيع، لأتكلم ببساطة مستعينا بما احتوته النشرة، وما أثارته فيَّ من مشاعر، بعدما أحيت في نفسي وجعلتني أقارن بين ما ذكره المرحوم عالم الاجتماع العراقي علي الوردي من أن العراقيين في وقت سابق وليس ببعيد كانوا يسمون المدرسة "المبلسة"، أي صانعة الأبالسة، باعتبار انها سوف تشيطن الطلاب وتحرفهم، وإذا بالمدارس تصل بعد زمن يسير جدا إلى مستوى نحسدها عليه في يومنا هذا، لتسهم في تخريج قادة المجتمع وعلمائه!
هذه النشرة او المجلة البسيطة أسمها "اللباب"، واللباب هو الخالص المختار من كل شيء، تقول: فلان لباب قومه، أي هو خيرهم، واللباب لحم الثمرة ما بين القشرة والنوى، ومنه تعرف دقة اختيار الاسم ودلالاته الكبيرة. مكتوب تحت هذا العنوان: نشرة مدرسية تتضمن فعاليات ثانوية الكوت للبنين للنصف الأول من السنة الدراسية 1947 ـ 1948 تحت إشراف الهيئة المدرسية. وهذا العدد هو الأول من السنة الأولى من هذه النشرة، أما جهة الإصدار فهي ثانوية الكوت للبنين.
وكم هو جميل ورائع ان تتولى المدارس الثانوية في العراق ومنها ثانوية الكوت للبنين في أواخر النصف الأول من القرن العشرين إصدار مجلات يحررها الأساتيذ والطلاب سوية، تتناول مواضيع فكرية وأدبية ورياضية بأقلامهم المشتركة، بعض تلك المواضيع كان حداثيا صرفاً مثل موضوع "يجب أن تعمل المرأة" وهو بقلم الطالب صائب ياسر من الصف الأول ب، وبعضها كان تخصصيا مثل موضوع "الرياضة البدنية" للطالب ناجي رشيد من الصف الأول أ، وتطور القوانين والنظريات العلمية للأستاذ عبد الجبار محمد علي، و"إخواني الطلاب" للطالب عصام عيسى من الصف الأول أ، و"الحالة الاجتماعية في الريف العراقي" للطالب صاحب جواد من الصف الثاني أ، وبعضها الآخر كان تاريخيا أو حديثا في السير، مثل موضوع "شوبان" للأستاذ عبد الكريم الخضيري، و"رجل يعمل من أجل السلم" للطالب عبد الكريم جليل من الصف الأول أ، و"هيرناندو كورتيز فاتح المكسيك" المترجم عن الإنكليزية بقلم الأستاذ عبد الخالق جليل. وكان للشعر والقصة والأدب مكانا بارزا على صفحات هذه النشرة التاريخية الرائعة.
لكن الأجمل أن الهيئة التدريسية في الثانوية كانت هي الهيئة الرسمية للمجلة وهي المشرفة على إصارها وعلى المواضيع المنشورة فيها. وأن الهيئة التدريسية كانت تتألف من الشيعة والسنة والمسيحيين والصابئة، ومن العرب والفيليين والأكراد، وكأنها ضمت شعب النسيج المجتمعي العراقي، والكل يعمل من أجل الكل، ولهذا السبب كان التعليم يتقدم والعراق يتقدم والعلوم تزدهر والمجتمع يتطور وينمو ليحيي أصالة تاريخه.
وفضلا عما تقدم وجدت في النشرة أخبارا تربوية متفرقة، ومعلومات تخص الثانوية نفسها، جعلتني أقف احتراما للمعلم العراقي الذي أخلص للعراق وأهله، وعمل بجد من أجل تطوير المجتمع ونشر العلم والفضيلة والوطنية، واستخلصت من تلك الأخبار والمعلومات أن في ذاك الوقت كان في ثانوية الكوت مثلما هو منشور في المجلة جمعيات طلابية مختلفة تقوم بنشاطات متنوعة، منها:
1ـ جمعية إخوان المكتبة: وفيها لجنة إدارية ولجنة المكتبة ولجنة السفرات والحفلات ولجنة إصدار النشرة، وكانت تهدف إلى توسيع مكتبة الثانوية ورفدها بالإصدارات وتشويق الطلبة على المطالعة، ولها نشرة بعنوان "الجامعة" كانت تصدر منذ عام 1944.
2ـ جمعية الفنون الجميلة والخطابة والتمثيل: وقد تم تأسيسها تماشيا مع ولع بعض الطلاب بالفنون المختلفة لتلبي رغباتهم، وتهدف إلى تنمية الملكات والمواهب عند الطلاب وتنظيم السفرات الطلابية، وتدريب الطلاب على الخطابة وتعويدهم على الارتجال في فن الكلام، فضلا عن تدريب الراغبين  منهم على التمثيل والإخراج، ومارست الإخراج فعلا، وتولت إخراج رواية "قاتل أخيه" وهي قصة قصيرة ألمانية للكاتب التشيكي فرانز كافكا، كتبها بين عامي 1916 و 1917، ونشرت للمرة الأولى عام 1917، وظهرت مرة أخرى ضمن مجموعة من قصصه القصيرة، أخرجتها لصالح الثانوية الجعفرية المسائية فرع الكوت. كما كانت تقيم السفرات المدرسية للتعرف على مدن لواء الكوت مثل النعمانية وغيرها.
وكانت لهذه اللجنة نشرتها الخاصة بها، التي تنشر أبحاث الطلبة في مختلف نواحي الفن كحياة الفنانين والرسامين والموسيقيين العالميين.
3ـ جمعية اللغة الإنكليزية: وهي جمعية تهدف إلى تقوية اللغة الإنكليزية عند الطلاب، وتعريفهم بروائع الأدب الإنكليزي، وتقوية الروح الاجتماعية بين الطلاب والمحيط الخارجي.  وكانت لهذه الجمعية نشرتان نصف شهريتان
الأولى: وأسمها "التقدم" فيها أبواب للمختارات الأدبية الإنكليزية شعرا ونثرا، وباباً للترجمة، وباباً للأقاصيص، ومنشورات الطلبة بأقلامهم.
والثانية: بعنوان "الصور" وهي نشرة خاصة بالصور، تعبر عن أي موضوع بمجموعة من الصور تمثله. وتبين أن هذه النشرات كانت تصدر في هذه المدرسة قبل عام 1947.
4ـ جمعية الصناعات الكيماوية: وغايتها تدريب الطلبة على بعض الصناعات الكيماوية المستعملة في الحياة اليومية، والغرض الأساس لها تمرينهم على الدقة التي تتطلبها دراسة الكيمياء والعمل داخل المختبر واستعمال الأجهزة المختبرية.
5ـ جمعية الرياضة والجوال: تولت تكوين فرق رياضية لجميع الصفوف، وتنظيم النشاطات بين الثانوية والمدارس الأخرى، وتنظيم السباقات للطلبة مثل سباقات الضاحية، فضلا عن تنظيم والمشاركة في المخيمات الكشفية، وعملت على إدخال الرياضات الجديدة مثل لعبة الريشة والهوكي والبيسبول. وكانت لها نشرة شهرية يحررها نخبة من رياضيي الثانوية.
وبذا تكون الثانوية قد شكلت جمعيات ولجاناً تتولى التنسيق العلمي والإداري والتربوي والتدريبي، وتسعى إلى تطوير قدرات ومهارات الطلاب وأساتذتهم سوية، والملاحظ أن هذه التشكيلات كانت تعقد اجتماعات دورية للمتابعة والتخطيط، وهذه الاجتماعات كانت تعقد تحت إشراف مباشر من قبل مدير المدرسة والمدرس المختص بالمادة أو الموضوع الذي شكلت الجمعية في حيزه ومن أجله.
وهذا يعني أن بدايات التعليم الابتدائي والثانوي في العراق كانت بمستوى التعليم في البلدان المتقدمة الأخرى إذا ما كانت تتفوق عليه، وقد استمر تطور التعليم في منحناه التصاعدي لغاية مراحل العمل على تسييسه وإخراجه من حياديته، بعد أن أغلق بوجه من لم ينتم للحزب الحاكم، وبعد أن أصبح المعلم بين خيارين إما أن ينتمي للحزب أو ينقل إلى وظيفة أخرى مصحوبا بكثير من علامات الاستفهام. ثم جاء الحصار الاقتصادي فحول المعلم براتبه المحدود إلى شحاذ يستجدي رضا الطلبة الأغنياء ويغض الطرف عن تقصير الطلبة الأغبياء، يوم باع العراقي بقايا كرامته من أجل الحفاظ على عائلته.
والمصيبة الأكبر انه تعرض بعد عام 2003 إلى ضرر مضاعف، حوله إلى عنصر تخريب وتأخير بعد ان عجز من بقي من المعلمين مخلصاً لوظيفته عن التصدي لموجة التخريب الشمولية العارمة التي أسهم بصنعها اشتراك بعض المعلمين وأغلب الطلبة سوية، ولاسيما بعد أن شعر المعلم أنه ينفخ بقربة مثقوبة، وأيقن الطالب أن مصيره الحتمي جنديا في جيش العاطلين بلا أمل ولا إشارة لانفراج قريب.
تذكرت كل هذا وانا أتابع مقطع فيديو لمدرس كان متوجها إلى مدرسته، ويهرول خلفه ثلة من الطلبة الأغبياء من المدرسة نفسها؛ وهم يهتفون: "تعليمكم فاشل"، ولا يجد من يحميه من هتافاتهم التي تجحفه حقه العظيم على الأمة وعليهم وعلى الوطن، وحينما لجأ إلى دورية الشرطة التي كانت تقف قريبا من المدرسة، كان مسؤول الدورية يكلمه باستعلاء وهو جالس في سيارته ولم يكلف نفسه عناء الترجل منها وهو يتحدث مع باني الأجيال، أو الدفاع عنه!.
تذكرت هذا وانا أشاهد الإذلال على وجوه المعلمين الذين لم يجدوا لدى السلطة الحاكمة، ولا في قوانين الدولة ما ينصفهم، إلى درجة أن تطلب الدولة منهم العمل في المدارس مجانا وبدون راتب لعدة سنين على أمل أن تكون لهم الأسبقية في التعيين إذا سمح البنك الدولي الذي نرضخ لشروطه مرغمين بتعيينهم، وهذا ما لن يحدث.
تذكرت هذا وأنا أرى شريط فيديو يظهر فيه أحد المعلمين وهو يقف أمام حفرة في حديقة المدرسة ليعلم تلاميذه الصغار كيفية دفن الميت، وآخر جعل أحد طلابه يمثل دور ميت، ليعلمهم كيفية تغسيل الميت، وقد نجد عما قريب أشرطة يسعى بعض المعلمين فيها لتعليم طلابهم شروط الخرطات التسع.
تذكرت هذا، وتقف أمام ناظري شاخصة كل تلك الأقوال التي قالها الحكماء والعلماء بحق التعليم والمعلم، والحسرة تقتلني لأني أشعر وكأن التعليم والمعلم ماتا في العراق، هذا البلد الذي علم الدنيا الحرف الأول، وأنهما يبحثان عمن يواريهما الثرى رسميا ليعلن العراق بلدا للأمية المطلقة، ويثبت أنه أول بلد في الكون ظل يسير عكسيا فيتأخر، وظلت البلدان الأخرى تتسابق من أجل الفوز بقصب السبق لإسعاد الشعوب وتطويرها.

35
أثر الموروث على افتراق الأمة
قراءة في إصداري الجديد "الإسلام ومحنة افتراق الطرق"
الدكتور صالح الطائي
بعد أن الفت عددا كبيرا من الكتب في حقل الدراسات الدينية والفكر الديني، وجدت ان نمطية التعامل مع الأحداث الجليلة لم تنفع في تنمية قدراتنا على فهم الواقع والتماهي معه، لأنها كانت في الغالب منحازة بشكل أو بآخر لتحقيق مكاسب فرقية على حساب الكلية الجمعية، وربما لم تخرج تلك الكتابات من أجواء الشائع في التأليف، وفق النمط المتوارث إلا في حدود ضيقة.
لكني بعد أن تعرضت للاختطاف على يد إرهابيين راديكاليين إسلاميين متطرفين في عام 2006، ولبثت لديهم أسيرا مدة ثلاثة عشر يوما، ومن خلال حوارهم وتحقيقهم معي، وهو عادة كان مقرونا بالتعذيب والتهديد والتكفير والتعميم؛ اكتشفت أن هناك هوة سحيقة تفصل بين كيانات أمتنا، حولت كل واحدة منها إلى كلية قائمة ومبنية على مناهج طائفية تتكلم باسم الدين وتتحرك تحت شعاراته ولكنها أبعد ما تكون عن الدين وحقيقته التسامحية، واكتشفت أن جل هؤلاء بما فيهم من حصل على فرصة تعليم جيدة تم خداعهم، والضحك على ذقونهم، وتمت أدلجتهم وفق ثقافة القطعنة ونبذ الآخر وتكفيره، وبالتالي هم ضحايا مثلي لتلك الثقافة الكريهة، وهذا يعني أن الأكاديميين والباحثين والكتاب والمؤلفين ورجال الدين لم يؤدوا دورهم البنائي الحقيقي وما يطلبه الإسلام منهم، وانهم هم من أذكى ثقافة التباعد وروح العدوان لدى هؤلاء الشباب، وان علينا أن نعيد النظر في أساليب تعاملنا مع الموروث الديني بما يؤسس لثقافة مقابلة تدعو إلى الخير والصلاح والوحدة والتقارب، والخروج من تحت عباءة الموروث إلى فضاء الحرية الأوسع، وان نتعامل مع النقول بنوع من الريبة والشك طالما أننا نعرف مقدار الضغط والتحريف والتغيير الذي تعرضت له خلال حقب تاريخية مختلفة، أبعدها عن حقيقتها وعن مقاصدها، فالشك ربما يوصلنا إلى يقين يختلف كثيرا عما اعتقد به أسلافنا.
بعد ان تحررت من قبضتهم منتصراً، آليت على نفسي أن أترك منهجي القديم وأبدأ في العمل وفق الرؤية التي خرجت بها، وكان أول كتاب ألفته برؤية أخرى هم كتاب "نحن والآخر والهوية" الذي طبع عدة مرات منها طبعة قناة العراقية الفضائية.
ومنذ عام 2010 ومن خلال كتابي الموسوم "نظرية فارسية التشيع بين الخديعة والخلط التاريخي والمؤامرة" نجحت في تجاوز مرحلة التأطير بشكل شبه كامل على أمل الوصول إلى فهم معمق لواقعنا الإسلامي العام، بعد ان ايقنت أن النجاح لا يتحقق من خلال الانحياز القطيعي للجماعة، بل من خلال العمل على فهم الآخر وفق معايير علمية غايتها فتح أبواب الحوار المنطقي الشفاف دون تجريح او تحيز، والتنازل عن كثير من القناعات التراثية، والتحرر من الخوف.
وقد نجحت في هذا المسعى بدليل أن الكتاب نجح في كسب هوية إسلامية عامة يستحيل معها ان ينسب إلى جهة ما أو فئة او جماعة.
وكان النجاح الذي حققته من خلال هذا الكتاب كاسحا إلى درجة أنه لا زال يتصدر قوائم  المبيعات في معارض الكتب الدولية، ويجلب الاهتمام الكبير، وفي ذات الوقت كان حافزا لي لكي أتبنى هذه المنهجية الجديدة بعد أن أيقنت أن العلاج يجب أن يتم من خلال تشخيص دقيق لا من خلال رؤية سطحية.
بعد هذا التاريخ أنجزت أكثر من 30 مؤلفا كلها تقريبا اتبعت فيها المنهجية ذاتها والأسلوب ذاته، وقد لقيت استحسانا وقبولا لدى الفرق الإسلامية، طالما أنها تسعى إلى تشخيص العلة الأصلية، بحثا عن حل يرضي الأطراف، بدل أن تنخدع بالشكل النمطي العام، فالصداع مثلا لا يعالج بحبة أسبرين، بل يجب البحث عن مسبباته الأصلية، طالما أن هناك أكثر من مائتي نوع منه تصيب الإنسان مثلما يرى العلماء، ولكل نوع منها أسبابه وطرائق تشخيصه ومعالجته، ومتى ما تمت معرفة السبب الحقيقي للصداع وشخصت العلة الحقيقية، يتم وصف العلاج الذي سيكون ناجحا بالتأكيد.
وفق هذه المنهجية أصدرت مجموعة مؤلفات جوبهت بعضها بمعارضة من قبل القريب، كانت أشد وأقسى من معارضة الآخر المتشدد، ولكنها لقيت القبول والاستحسان من المعتدلين في الفرق الإسلامية، بما يؤكد ان الاعتدال وحده ممكن أن يوصلنا إلى فهم أنفسنا قبل محاولة فهم الغير، لكن بشرط أن يتعامل الإنسان من وحي الضمير وروح الإنسانية والوازع الأخلاقي النبيل، وأن يؤمن أن كل فئة وكل فرقة وكل مذهب وكل دين يعتز بموروثه ويقدسه غالبا، ومهمة الباحث الحقيقي تنحصر في أن يبحث عن المناطق الرخوة في هذا الموروث ويعمل على تفكيكها وربطها بكل المناطق الأخرى، وسيحصل حتما على الكثير من الإجابات لأسئلته المحيرة، وهذه الإجابات هي التي يجب أن يعول عليها في بناء منظومة البحث لينال قبول الجميع حتى ولو بمستويات مختلفة. فحينما تتفتح أبواب التسامح والقبول في مجتمع ما تتهدم السدود والحدود الوهمية.
وفق هذه المنهجية أصدر مؤخرا كتابا بعنوان "الإسلام ومحنة افتراق الطرق" تحدثت فيه عن التآلف والخلاف والفراق، والدعوة إلى التوحد، وحديث اختلاف أمتي رحمة، ودور اللغة في بلورة المفاهيم، ثم الحديث عن حديث تفترق أمتي ورأي المدارس الفقهية فيه؛ تلك المدارس التي اختلفت حول كل شيء باستثناء ما تدعم به مناهجها، وبينت أن الحديث يجب أن لا يعامل كنبوءة جامدة غير قصدية وجبرية الحدوث، بل كان يجب على الأوائل مثلما يجب علينا الآن أن نتعامل معه وكأنه تحذير نبوي بخطورة ما سيصيب الأمة إذا افترقت؛ وان هذا الافتراق والاختلاف سيحصل للأسف، وأن على الأمة كل الأمة أن تستعد للعمل على مجابهة الافتراق، وتعمل جاهدة على عدم تحققه من خلال تكاتفها وتعايشها وتعاونها، لكن مع ذلك ومع خطورة التحذير، لم يسعَ أي طرف من الأطراف الأولى على كثرتها إلى العمل على تجنب الافتراق، والانسياق خلف التحذير النبوي كوصية تحذير موجهة لكل مسلم تؤكد له أن عليه أن يعمل جاهدا من أجل أن لا يحدث الافتراق وتختلف الأمة فيما بينها.
الآن وبعد ان تحول الافتراق إلى عسكرة حقيقية تحمل شعارات التكفير والقتل والتهجير، ومع وجود هجمة شرسة تهدد وجود الإسلام في الصميم، في وقت تحول الكهنة إلى أبالسة، وانتقلوا من دعاة للتمسك بالدين وفق خطابات أغلبها لا تملك أصلا ثابتا في الشريعة؛ إلى معاول هدم تزرع الفرقة والبغضاء بين أفراد الأمة، وتحولت وصاياهم التي كان يجب أن تزرع روح المحبة في الإنسان إلى نيران تحرق الأخضر واليابس، وتستثير الجهلة والأميين وتدفعهم للبحث عن الجنان وحور العين من خلال قتل الآخر وسلب أمواله وهتك عرضه، كل ذلك باسم الدين وتحت راية الله أكبر، بات لزاما على كل حريص أن يبدا بالعمل على تهديم تلك الثقافات التراثية البالية واعتماد مناهج علمية في الحوار والبحث والكتابة، وهذا ما سعيت إليه من خلال هذا الكتاب.
صدر الكتاب بواقع 151 صفحة وبغلاف جميل تزينه لوحة للفنان العالمي الجزائري طيب لعيدي أهداها لي شخصيا لتزين غلاف هذا الكتاب عن دار ليندا للطباعة والنشر في سوريا بداية هذا العام.

36
المنبر الحر / عينية الوجع
« في: 23:08 10/02/2021  »
عينية الوجع
الدكتور صالح الطائي

كنا قد أطلقنا في بداية عام 2020 مشروعاً لبناء قصيدة عربية مشتركة من بحر الوافر، يسهم في كتابتها شعراء من جميع بلداننا العربية بعد أن وضعتُ لها مطلعا غير مصرَّعٍ، قلتُ فيه:
حذار من الهدوء إذا تفشى         فعند الفجر قارعة تثور
ومع كل الإحباط الذي يشعر به العرب من جراء ما يمرون به من تشظ وتفرق وتباغض وتباعد، كانت النتائج اعجازية بحق بعد أن اشترك شعراء من الأعم الأغلب من أقطار الوطن الكبير، زاد عددهم على ستمائة مشارك، تراوحت مشاركاتهم بين القوية جدا والقوية والمتوسطة والضعيفة، وبعد الفحص والتدقيق وحذف المتشابه خرجنا بمحصلة هي الأولى من نوعها في التاريخ كله، تمثلت باشتراك (139) شاعراً بكتابة قصيدة من الوافر وقافية الراء كادت أن تكون خالية من الإيطاء (*) رغم طولها، وكان قفلها وخاتمتها بقلمي أيضا، وقلت فيه:
ألا فأحذر هدوء قد تفشى          غداة الفجر قارعة تثور
ونظرا لنجاح المشروع بكل مفاصله، حولنا القصيدة ومقدماتها الطويلة التي كتبتها بقلمي وإحصاءاتها إلى كتاب، طبع في طبعته الأولى في دار الوطن للطباعة والنشر في المملكة المغربية الشقيقة، وفي طبعته الثانية في دار المتن في بغداد، وقد نال الكتاب استحسان الأدباء والنقاد على حد سواء.
ثم لما عادت التفجيرات الإرهابية تشوه وجه بغدانا الحبيبة وتروع أهلها، أطلقنا في بداية عام 2021 مشروع بناء قصيدة جديدة مقاربة في مواصفاتها العامة للقصيدة الأولى، ولكنها من بحر البسيط وقافية العين الممدودة، وضعتُ مطلعها، وقلتُ فيه:
يا قلبَ بغدادَ يا من تنزفُ الوجعا      ما حال بغدادنا؛ والجرحُ هلْ هجعا
وكانت غايتنا النجاح في بناء قصيدة عربية مشتركة تدين العنف والإرهاب والطائفية والكراهية، وتدعو إلى احترام الإنسان ونصرته، وزرع المحبة في الكون، ومثلما انتخى شعراء الأمة في المشروع الأول، كانت نخوتهم لا تقل روعة عن سابقتها، بل فاقتها عدة وعدداً وتنوعا وجغرافية، إذ وصلتنا لحد الآن مشاركات من أغلب الأقطار العربية، ووعود بالمشاركة من أقطار أخرى مثل موريتانيا وأرتيريا والصومال، ولا زالت المشاركات تنهال علينا من كل أرض العرب باستثناء البلدان نفسها التي أبت أن تشترك في المشروع الأول لغاية في نفس شعرائها.
إن اشتراك العرب بعمل أدبي كبير لا شبيه له في التاريخ الإنساني كله، ولا سابق له، لا يأتي لتأكيد هويتهم الجمعية فحسب، فذلك أمر مفروغ منه، وإنما يؤكد أيضا أن كل التخريب الذي مورس لم ينجح في فصل العرب عن بعضهم ووقف اهتمامهم بقضاياهم المصيرية المشتركة، وقد أثبت شعراء الأمة هذه الحقيقة المغيبة من خلال كم المشاركات ونوعيتها ومدى جديتها. ونحن هنا لا نعتب على من أبى وامتنع بقدر كوننا نرغب بحثهم للتنازل عن القناعات الموروثة المبتدعة بسبب حماقات الحكام، وندعوهم إلى العمل ضمن الفريق الواحد، لا سعيا وراء القطعنة، بل سعيا وراء التجمع والمحبة والوئام، فالعالم غير مستعد الآن لقبول ثقافة الكراهية حتى ولو على مستوى الأفراد، وهو غير مستعد لنشر ثقافة القطيع وسلب الإرادة أيضا، فالحرية هي الخيار الأمثل للآدمي.
وبعد اكتمال عدد المشاركات سنقوم بمهمة التدقيق والفحص والانتقاء والربط، لنصنع أجمل قصيدة مشتركة في التاريخ، ولاسيما وأن هناك دراسة بقلمي تحدثتُ فيها عن: شعر القضية وقضية الشعر، الأسس التراثية للاشتراك، مشروع مجازف، شراكة الشعر والقصيدة المشتركة، لماذا المشاريع المشتركة؟، آلية بناء القصيدة، آلية العمل بالمشروع، سوف تتصدر هذه الدراسة كتاب القصيدة؛ الذي سيطبع في طبعته الأولى في المملكة المغربية أيضاً، وفي طبعته الثانية في سوريا، وقد أبدى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق رغبته في المشاركة بالمشروع وطبع كتاب القصيدة في بغداد وتوزيعه على فروعه.
مع كل هذا، هناك مشكلة عانينا منها في مشروعنا الأول، ونعاني منها الآن في مشروعنا هذا وهي قلة الدعم الذي نتلقاه، ولاسيما الدعم الإعلامي والترويج للمشروع لتتاح الفرصة للشعراء أن يطلعوا عليه، ولذا نأمل أن نحظى منكم جميعا بأي نوع من أنواع الدعم ممكن أن تقدموه لنا عسى أن ننجح في مشروعنا ونحقق أمنية على مستوى أمتنا بأن تتوحد القلوب والعقول لتصنع مشروعا مشتركا تتركه لأولادها وأحفادها، يُكذِّب مزاعم الفرقة التي يروج لها الأعداء في الداخل قبل الخارج.
ولمن يحب الاشتراك من إخوتنا شعراء الأمة، يمكنكم إرسال مشاركاتكم على عنواني البريدي الظاهر أسفل الموضوع مع التفضل بذكر اسم البلد ليدخل ضمن الإحصاءات، أو وضعها هنا في حقل التعليقات.
ننتظر منكم الكثير ونراهن على كرمكم ونبل أخلاقكم

(*) الإيطاء: هو تكرار القافية، وهو أمر يجيزه المتخصصون بشرط ان يكون التكرار بعد سبعة أبيات من الأول وليس قبلها.
الايميل
salih_alabid@yahoo.co.uk


37
عالم شوقي كريم حسن المدهش
قراءة انطباعية في رواية "لُبابة السر"

الدكتور صالح الطائي
لا أدري إن كانت علاقة الصداقة بالأديب تؤثر على حيادية الناقد، وتدفعه للتخلي عن بعض ما يراه محتاجا إلى التنويه والإشارة في النص المستهدف، فأنا حتى مع عميق علاقتي الأخوية بالأديب العراقي السومري الكبير شوقي كريم حسن أجد أن للحياد سطوة وقوة رمزية تجعله يفرض نفسه علي، لأني ـ وهذه حقيقة يجب أن تقال ـ حينما أبدا بقراءة منجز لشوقي أجد نفسي اتعامل مع إبداع من نوع خاص، مع منجز يفرض نفسه عليَّ قسرا، ويجرني بعنف إلى عالمه الأسطوري لأخوض تجربة فريدة من نوع خاص، أعيش خلالها مع سحر الكلمة وجزالة العبارة وجمال الفكرة وحسن الصنعة.
وفق هذه المعادلة الميتافيزيقية تجدني حينما أقرأ لشوقي أكاد أسمع وقع حوافر الكلمات وصهيل حروفها يتجسد أمامي حشداً من جمال باذخ لعالم يخلط بين الواقع والأسطورة لتتحول الرواية إلى عالم أثيري تتراءى في اجوائه مسامات الفرح الغامر والحزن العميق يتعانقان مثل عاشقين على سفح نهر جيكور الذي تنكر له الماء وتركه يعيش عذابات الفراق وألم الجفاف مع أنه مترع بجميل الذكريات.
إن عوالم الجمال كثيرة، وجمالها نسبي التعريف، ولكنها كلها تتجسد في مخيالي وانا أهرول خلف الصفحات التي يأبى أصبعي أحياناً أن يقلبها لكيلا يفارق عيني وهج رونقها.
أكثر من مرة قرأت لشوقي، مع أني لا أقرأ الأدب إلا نادرا بسبب قراءاتي الكثيرة والمستمرة في مجال تخصصي البحثي، وفي كل مرة أقرأ له أجد لديه شيئا جديدا يفرض سطوته علي أنا الذي أنهكه الزمان وأصاب الضعف عيونه، فأستمر في القراءة لساعات وساعات حتى أندهش من نفسي كيف أني لم أشعر بالملل.
وآخر ما قرأت لشوقي كانت رواية "لبابة السر"(1) تلك القطعة الأدبية والفنية المدافة بوهج الحكمة، المعجونة بوحي التاريخ الغائر في الروح، والمتعلق في ثنايا القلب وجعا يبحث عن المعرفة في شوارع مدينة مهدمة غادرتها الحضارة، وماتت فيها الحياة، وتلوث هواؤها بحماقة البشر، مدينة أخذ منها الناس أكثر مما أعطوها، مدينة وجدت نفسها بغتة محاطة بآلاف الأعداء، ووجدت نفسها مغسولة بالدم والأحزان (2) مدينة ضميرها آيل إلى السقوط بسبب نزق حكامها وتهتك نسائها ولهو شعبها.
بدا شوقي في هذه الرواية وكأنه ربان يمخر عباب بحر لجيٍّ، عصفت بمركبه الأمواج، وحطمت الصواعقُ ساريته، ومزقت الرياح العاتية شراعه، وأحاطت به القروش والحيتان، وهو غير مهتم لكل ذلك، فراح يبحث عن الحكمة بين الموجات العاتية، يريد المعرفة السامية، ويأمل أن يجدها في الأفق البعيد، فثمة في رأسه أسئلة اتعبت حضوره ولم يعد يشعر بما يدور حوله، ولا يخاف تهديداً مهما كان مصدره.
لقد أراد شوقي أن يقول شيئا آخر غير ما قاله من قبل في كل مؤلفاته السابقة على كثرتها، وفي كل أعماله المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، أراد ان يقدم للجميع تجربته الحياتية والفكرية الناضجة حد البذخ، تجربته التي نائت بها سنين عمره، والتي جمع فيها مخارج كل التاريخ يوم جعلها تمتد من حيطان وأسوار مدينة بابل التاريخية، وشوارع مدنها المزدحمة بالترقب، وأيام عبث آلهتها المفتونين بالحكمة والقوة وجمال الغانيات وسماع الموسيقى وأناشيد التهتك والمجون، وإلى اللحظة التاريخية الغامرة التي نعيشها في لحظات عمرنا الراهن بريبة وخوف وترقب وترصد متهدل لكثرة ما استخدمناه، حيث جعل الجميع من أنفسهم حكماء حتى قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة. فأراد شوقي من خلال لبابة السر أن يقول لهؤلاء الحكماء المزيفين، وللجميع: إن الحكمة لم تعد رأس مال المفلس والوضيع، يتاجرون بها بغباء، ليكسبوا ثمن كأس خمرٍ ينسون بواسطتها حقيقتهم الزائفة، إنها إشراقة قيم الوجود، تنوء بحملها الجبال الراسيات، وهي وحدها الباقية بعد الفناء، حيث ينسى التاريخ كل ما لا يحمل عوامل الخلود، بما في ذلك أفعال وأعمال الملوك العظماء، ولا يبقي أمامه إلا مشارق أنوار الحكمة البهية؛ التي علمت الخلود كيف يتحدى العوارض، ويديم نار وجوده مستعرة في وجدان الأكوان، لتبقى قيمه وسجاياه مشرقه مثل وجه الله.
أراد شوقي ان يقول من خلال لبابة السر: إن الملِك إنسان يمضي تاركا وراءه أفعالا قد تنسى، وبعمق مسارات الأرباب تتلاشى، عندما لا يكون لأيما شيء أهمية[[[ص49.]]] لكن الحكمة تخلد حتى ولو جاءت على لسان بهلول الفقير المشرد، والدنيا لا زالت إلى اليوم تردد حكم الماضين البتي قالوها منذ آلاف السنين.
أراد شوقي أن يعري الحقيقة ويكشف المستور ويعلن عن مفاجأة العمر، أراد أن يتحدث عن خبرات كل تلك السنين التي خلفها وراءه، عن مغامراته، شطحاته، نوبات عظمته، ساعات ضعفه، مشاكسته، ولعه بالأشياء، ثقافاته، مناهجه، رؤاه، وكل ما علمته له الحياة بما في ذلك ساعات الألم التي أوجعت قلبه، ولذا عاتب نفسه بالقول: إذا ما خاف رجل مثلك أن يدون ما يعرف.. ليس حكايا فقط، فما عاد لإنسان أن يهتم لقصص لا طائل من ورائها[[[ص49]]] إذن من حقنا أن نعرف ماذا أراد شوقي أن يدون في لبابة السر، ولماذا (السر) بالذات؟ لماذا السر يشغل نصف العنوان؟ لماذا يتكرر في الرواية بعنف؟ والمهم هل سيكشف لنا السر حقا أم أنه سيحافظ عليه مثلما علمته السنين؟
منذ أن استلمت رواية لبابة الشر هدية من الأخ والصديق الأديب العراقي شوقي كريم حسن وانا أهيء الطقوس التي اعتدت عليها كلما قرأت عملاً لصديق، فأنا خلال عمري الطويل قرأت آلاف الروايات والقصص حتى صرت خبيرا في أساليب كتابتها، أكاد انسب القول الذي أسمعه لقائله، واشخص في أي رواية جاء، وقد اقتبست مما قرأت من قبل آلاف الجمل والحكم والعبارات التي تثير الدهشة، وكنت أجد في كل عمل أقرأه منها مقولة أو اثنتين تثيران في عقلي الدهشة، وتبعث في جسدي رعشة؛ فاقتبسها أو أحفظها، وأرددها واوردها أحياناً كخلاصة وافية لما أرادت أن تقوله تلك الرواية، إلا رواية لبابة السر فهي بمجملها تثير الدهشة وتؤرق القارئ، تلهمه أفكارا من نوعٍ آخر لا تشبه باقي الأحلام، تشد إلى درجة التيه، وتشمخ في تلافيف العقل وحشا أسطوريا طيب القلب يناغم الروح ويهدهد النفس، فالحياة لا تعد مجرد أمنية باهتة الملامح بعد أن يقف الشخص في حضرة رب يتجادل بلطف مع مريديه دون أن يبعث فيهم الخوف الأزلي.
الحياة تتحول في لبابة السر إلى رحلة للبحث عن الذات والمعرفة ووضوح الرؤيا، وتكتال الحكمة بلا وزن، حتى دون أن تدفع شيئا سوى لحظات من التأمل الغامض العميق السابت في أرواحنا منذ الأزل؛ التأمل الذي يزيد المرء تيهانا كلما أوغل في الصفحات المترعة بسحر الكلمات وأبهة المعنى وفخامة الرؤية، ليجد نفسه بعد حين في غابة مطيرة أمزونية الأشجار، كثيفة الأوراق، مظلمة ببهاء متوحش، إذا أخرج يده لا يكاد يراها، تتردد في أجوائها أصداء عواء الحيوانات وزئير الضواري ونبضات قلب مطمئن يبحث عن نوع آخر من السعادة ليقدمها للآخرين بعد أن ناء بحمل سبعين من سنين الشقاء والحيرة والفرح والحب والعبث والفوضى وأشياء كثيرة أخرى، حيرة الحرف الباحث عن معنى. وألا ما معنى ألا يرى "سن" الإله المعربد وهو كبير الأرباب إلا بحضور الشيء الذي يقرر ويريد.. بخلاف الإنسان هذا الكائن شامل الرؤيا بحضور يجمع بين كل الأشياء (3).
شوقي الذي نعرفه، والذي حفظناه على ظهر قلوبنا في أسلوبه الشائك الذي يناغم وجد الحياة اليومية للإنسان البسيط دون أن يهتم بزخرفة الحياة، ليس هو الذي قدم نفسه في هذا العمل، ليس هو الذي قرأنا له من قبل، إنه شوقي آخر جاء من عالم غيبي بوهيمي، من دنيا ليست دنيانا، وكون ليس كوننا، يبحث عن أولئك الذين دنس أرواحهم ذل الدم.. الذين تمتلئ أرواحهم برجاءات الخلاص وبأحلام تشير صوب سلامات أبدية.. هؤلاء الذين قال إنه كلما رأى أحدهم تمنى لو أطلق إلى روحه سهام محبته وسلامه، ولكن الأقدار رسمت والقيامات لابد تقام (4)، وهو يعرف ما تنطوي عليه نفس الإنسان، هذا الكائن الغريب؛ الذي تدهشه نفسه، فيطير تيها بها ربما لأنه بني من خلطة من نوع خاص حملت كل تضادات الوجود، وهو ما أشار إليه بقوله: دلني إن استطعت بإنسان لا يحمل كل تلك الممزوجات، من منا يعيش للفرح وحده أو للكراهية وحدها؟ من منا لا يرى إلى جانب ومض الخير بروق شرور، وإلى جانب الحق كراديس أباطيل، لا أعتقد أن الإنسان خلق هكذا، بل هو الذي جمع كل المتناقضات ودسها في عبه ليخرجها أنى شاء(5).
لقد جاهد شوقي في هذا العمل الفخم ليعلن أنه لا يريد غير جمع تلك الأشياء التي أتعبها الانتظار، وجعلها الوجع تنوء تحت وابل من الأكاذيب (6)، ليعيد ترتيبها من جديد أملا في أن يبعث في نفس الإنسان المهزوم أملا قد يبدو بعيدا ولكن مجرد أنه يلوح في الأفق البعيد يعطي المرء قوة المطاولة على أمل الوصول.
خلاصة ما أراد شوقي الترويج له من خلال هذا العمل الجميل هو ما رسمه قلمه المترفق بنا حد الطيبة، والمشاكس لنا حد الوجع: لم يعد رأسي يصدق كل ما يقال، ثمَّ أرباب لا ضرورة لوجودهم، وآخرون رغم ربوبيتهم يناصبون الإنسان العداء. أي رب هذا الذي يناصب مخلوقه الأضعف العداء لمجرد أنه لا يملك حق القربان؟ أو لأنه يريد جوابا شافيا عن قلق يملأ أعماقه؟(7) 
أما غايته من وراء هذه الفوضى التي أثارها في نفوسنا والتي عصفت بأفكارنا، فقد أوردها وكأنه قالها لنفسه من خلال حديث ساخن أجراه معها، فهو وفق اعتقاده مثل غيره، مثلنا جميعاً؛ يحتاج إلى من يقرع الجرس قرب أذنيه لكي يعي الحقيقة، فالحقيقة ليست مجرد قول تردده الألسن، الحقيقة وجود الأشياء وجوهرها الباذخ، وبالحقيقة تتكشف الرؤى ويفهم الإنسان معناه، هذا ما قاله شوقي لنفسه، هذا ما قاله: ما أقول لنفسي لا لأحد، وإن كنت تسمع فلأنك الأقرب إليها، وأنت حر فيما تختار من أسئلة لتجيب عنها بنفسك، لن يأتي ما أقول اعتباطا، هي خبرة السنوات كما تعرف. فأنا منذ فتحت عيني وأنا أعيش بين طيات هذا الحجر، كنت أسمع لهاث الكهنة وتوسلات العذارى الخائفات، وأصغي بحزن لضحكات الليل(8) في مثل هذه الرؤى يصبح كل شيء واضحا وجليا، كل شيء مغمور بعمر الضياء، أي بهاء هذا الذي يسكن الروح(9) فالمسافة بين زمن من تراب وصهيل، وزمن تؤسسه أعمار الورد، خطوات من علو الفكرة(10).     
هكذا كانت رحلة شوقي، قافلة تحمل أطنانا من الحكمة السامية والعِبرة الراقية، والعَبرة الحانية، تسير بلا حرّاس يحمونها من الانفجار والتشظي نجوما تسطع في وضح النهار، فعلى الرغم من كل الجنون، وما حدثتني به المنايا والشجون، أمسكت إزميل كهولتي وانتميت إلى كل ما يمكن ان يجعل للسؤال جوابا، قادرا على أن يبوح بفعل المستحيل (11). هكذا أنهى شوقي كريم حسن رحلته، وهذا ما قاله بعد ان تصبب عرق جهده ينابيع نور معمد بعشق الحقيقة، جعلتني أردد خلفه أسئلة لم يقلها، فقلتها نيابة عنه:
أي زمن هو الآتي بلا دهشة؟
أي إنسان لم يقتله الانتظار؟
أي قلب لم يتمرغ في وجع السنين؟
أي حب ذاك الذي يعتصر القلب لكي يفرح قلباً آخر؟

الهوامش
(1)   لبابة السر رواية شوقي كريم حسن، صدرت ضمن سلسلة سرد، صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة العراقية في أوائل عام 2020.
(2)   لبابة السر، ص79.
(3)   الرواية، ص155.
(4)   الرواية، ص156.
(5)   الرواية، ص204.
(6)   الرواية، ص257.
(7)   الرواية، ص337.
(8)    الرواية، ص394.
(9)   الرواية، ص436.
(10)   الرواية، ص463.
(11)   الرواية، ص464.

38
مخطوطات صحيحي مسلم والبخاري
الدكتور صالح الطائي

من الحقائق التي تدمي القلب من جهة وتفرحنا من جهة أخرى، وشر البلية ما يضحك. كونها تدمي القلب لأنها سُرقت منا عنوة في وضح النهار، فكانت أثمن الكنوز المسروقة، مع اننا كلنا سُرقنا على مر التاريخ، وأصبحت بأيدهم، وتفرحنا لأنها لو كانت لا تزال بين أيدينا لأحرقناها تحزبا وطائفية وجهلا وريبة.
تلك الكنوز من المخطوطات النادرة التي لم نتمكن من المحافظة عليها بالرغم من كثرتها التي أشار إليها المرحوم كوركيس عواد في كتابه (قدم المخطوطات العربية في العالم )، والتي قدّرها بالملايين، بعد سرقتها من خزائن الكتب في المساجد والمدارس ودور العلم وقصور الخلفاء وأعيان الناس، أغلبها الآن محشورة في خزائن محكمة في أقبية مكتبات العالم الغربي وإسرائيل.
إذ تضم المكتبة البريطانية لوحدها قرابة الخمس عشرة ألف مخطوطة عربية، تنوعت محتوياتها بين مخطوطات نفيسة للقرآن الكريم، ونسخ من الأعمال التاريخية والأدبية والعلمية في علوم القرآن والتفسير والحديث وعلم الكلام والفقه والتصوف والفلسفة والطب والفنون وتفسير الأحلام والنحو والشعر والتاريخ والسير والموسيقى. وأقدمها نسخة من المصحف الشريف تعود إلى أواخر العصر الأموي مكتوبة على الرق بخط مائل.
وفي إسبانيا ولاسيما في المدن الأندلسية غرناطة وقرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية كانت هناك الكثير من المخطوطات العربية المهمة التي تؤرخ لحال العرب هناك، وهي اليوم بين أيدي الإسبان، تحتوي المكتبة الوطنية في مدريد منها ما يزيد على الستمائة مخطوط  تتنوع بين المجلدات الكاملة والكتب والوثائق، وتعود إلى تواريخ مختلفة، أكثرها شهرة بعض أعمال ابن رشد المكتوبة في القرن الثاني عشر، وكتاب عن الموسيقى للفارابي. عُثر على أكثر هذه المخطوطات النادرة في مخابئ داخل الجدران أو فوق الأسقف أو تحت الأرضيات بمنازل سكان الأندلس المسلمين، الذين طمروها وأخفوها عن السلطات المدنية ومحاكم التفتيش سيئة الصيت، ثم وجدها من سكن منازلهم من بعدهم؛ عند قيامه بتجديد بناء المنازل، وكان من ضمنها وثائق تؤرخ وتشرح وتوثق الحياة اليومية للأندلسيين، مثل عقود الزواج والعقود التجارية وغيرها.
ويوجد هناك اليوم في مكتبة دير الإسكوريال شمال مدريد نحوا من أربعة آلاف مخطوط عربي بينها نسخة من شرح الموطأ لابن مالك، ونسخة من نسب عدنان وقحطان للمبرد، وجمع القوانين المقدسة؛ وهي نسخة قديمة لا يُعرف مؤلفها تعود إلى العام 480 للهجرة، ونسخة من مختصر ابن سينا في استعمال الترياق والسكنجبين، تعود إلى عام 473 هجرية، وكتاب منافع الحيوان لابن الدريهم الموصلي.
وفي زمن سطوة العثمانيين على العالم الإسلامي، قاموا بجمع ما وقع تحت أيديهم من المخطوطات العربية التي تعود أصولها إلى المكتبات الأموية والعباسية والسلجوقية والمملوكية، والتي تُقدَّر أعدادها بحوالي 160 ألف مجلد، مجموعة اليوم في مكتبة السليمانية بإسطنبول، ومن بينها نسخة مصحف الخليفة عثمان بن عفان، بإملاء الصحابة القُرَّاء في عصره، ونسخة أخرى كُتبت بالخط الكوفي، وقطعة خشبية نُحتت عليها أوائل سورة النجم بالخط المدني يُقدّر أنها تعود إلى القرن الثاني الهجري، إلى جانب نسخة من بقية الأصمعيات التي أخلت بها المفضليات، والتي تعود إلى القرن الثالث الهجري، وهي مختارات من شعر العرب الذي رواه الأصمعي.   
وفي ألمانيا هناك اليوم قرابة أربعين ألف مخطوطة عربية، منتشرة في عدة أماكن منها مكتبة جامعة توبنغن المتخصصة في دراسات التراث الشرقي والإسلامي، ومكتبة الدولة في برلين. تضم هذه المجموعة القيمة مصاحف نفيسة تعود إلى القرن الثامن الميلادي، فضلا عن مخطوطة  كتاب  الجامع الصحيح للبخاري، لا يعرف تاريخ كتابتها، ويرجح انها تعود إلى القرن الثامن الهجري أيضا، ونسخة من  كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري (224- 310هـ ) ونسخة من ديوان الشاعر أبي العلاء المعري (363  - 449 هـ) لا يعرف تاريخها هي الأخرى.
حتى إسرائيل تمتلك اليوم كنزاً قيماً من المخطوطات العربية وأقدمها مصحفان يعود تاريخ نسخهما إلى القرن الثاني للهجرة، وبعض مقتنيات المستشرق المعروف أبراهام شالوم يهودا التي تبلغ حوالي  1055 مخطوطة، كتبت بين القرنين الثالث والعاشر الهجريين، فضلا عن 50 ألف مخطوطة فلسطينية تتناول تاريخ وتراث المدينة المقدسة.
ومن أهم ما موجود الآن لدى إسرائيل من مخطوطات؛ هي مخطوطة (التوراة العراقية) التي قامت القوات الأمريكية المحتلة بإخراجها من العراق مع بقية الأرشيف اليهودي، بحجة صيانته وإعادته إلى العراق. علما أن الأرشيف الذي سرقه الأمريكان يتألف من أكثر من ثلاثة آلاف وثيقة و80 ألف قطعة أثرية، من بينها قرابة ثلاثة آلاف وثيقة وألف وسبعمائة تحفة نادرة توثق لعهود السبي الأول والثاني، فضلا عن آثار تعود إلى أزمان أبعد من العهد البابلي، أهمها أقدم نسخة للتلمود وأقدم نسخة للتوراة ومخطوطات أخرى.
ومن بين جميع هذه المخطوطات التي تتراوح اعمارها بين سنة 30 ونهاية القرن السادس الهجري، مع اختلاف أماكن وجودها، لا تجد ولو نسخة أو بعض نسخة او مجموعة أوراق من مخطوط كتاب (الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه) المعروف بصحيح البخاري؛ مكتوباً بقلم صاحبه محمد بن إسماعيل البخاري (194 – 256هـ) أو غيره، باعتبار أن الرجل كان أعمى لا يجيد الكتابة والقراءة، باستثناء النسخة الألمانية التي يرجح انها تعود إلى القرن الثامن الهجري.
ولا تجد نسخة أو بعض نسخة أو مجرد بضعة أوراق من مخطوط كتاب (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) المعروف باسم صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج القُشيْرِي النَّيسابوري المختلف في تاريخ ولادته بين 201، و 202، و 204، و 206 للهجرة، والمتوفى سنة 261 هجرية بعد تناوله كميةً كبيرة من التمر في إحدى الليالي، وهذا ليس الاسم الحقيقي للكتاب، فالذي أطلق عليه هذه التسمية هو أبو بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة المشهور بابن خير الإشبيلي (502 - 575 هـ)، مع ان مسلم بن الحجاج كان يعرف القراءة والكتابة، وهذا يدل على أن الأشبيلي اطلع على كتاب لا يعرف اسمه ولا يعرف اسم مؤلفه؛ في حدود القرن السادس الهجري، وأطلق عليه هذا الاسم.
والمعروف أن البخاري ومسلم عاشا وتوفيا في القرن الثالث الهجري، بمعنى أنهما قاما بعملهما بعد مرور ثلاثة قرون على تداول الأحاديث النبوية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم يجد المتخصصون سوى نسخة من كتاب البخاري تعود إلى القرن الثامن الهجري، ولم يُعثر على أي نسخة من كتاب مسلم، وهو أمر محير، يثير شكوكاً كثيرةً، كلها تحوم حول أصل هذين الكتابين اللذين يتحكمان بعالمنا الإسلامي، وبكل قوانينه وسننه وشرائعه وعباداته وعلاقاته فيما بينه، وبينه وبين العالم الآخر؟




39
ايقونة النزاهة
رحلة في عوالم مؤلفات الدكتور موسى فرج
الدكتور صالح الطائي
لم تكن مصادفة تلك المناسبة التي جعلتني اتعرف على رجل كان يتربع على رأس أكبر هيئة لمكافحة الفساد المستشري في العراق، فقد كنا زميلان نكتب ونتحاور على صفحات صحيفة المثقف الغراء التي يرأس تحريرها المفكر الأستاذ ماجد الغرباوي؛ في موقعها الالكتروني. والذي يعرف صحيفة المثقف على حقيقتها؛ يعرف أن الذين يتواجدون على صفحاتها يشكلون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم فريقا فكريا متجانسا في نزعته الإنسانية وحبه للخير والصلاح والإصلاح، ومختلفا في طرق الرؤى والتفكير عن بعضه، لكن النقيضان يجتمعان في ولائهما الصادق للعراق والإنسانية جمعاء، هذان المتناقضان: التشابه والاختلاف كلاهما نجحا من خلال اتفاقهما المبدئي الإنساني في العمل سوية من أجل صالح الإنسان في انتاج عنصرٍ فكريٍ مثقفٍ واعٍ ملتزمٍ؛ مثلما اجتمع الأوكسجين والهيدروجين لينتجا من لقائهما الماء سر الحياة وديمومتها.
ومن خلال هذه الزمالة والحوارات المتبادلة نشأ نوعٌ من الصداقة الأثيرية السبرانية في أجواء العالم الافتراضي للأنترنيت بيني وبين الرجل، تكلل بلقاء جماعي لأعضاء ملتقى المثقف العراقي (1) الذي جمعنا في بيته العامرة في محافظة المثني عام 2012، وشاءت المصادفة أن أكون أول الواصلين مما أتاح لي فرصة الانفراد به والتحدث معه بلا حدود، فكانت مثالية الرجل وثقافته العالية ماثلتان أمامي بجلاء لا يقبل التأويل، وكانت بساطته وبشاشته سمتان تسيدتا اللقاء.
بعد هذه اللقاء وفي العام نفسه استقبلتُ أعضاء الملتقي في بيتي المتواضع في الكوت من خلال لقاء ضم أكثر من 25 شخصية فكرية وثقافية وأدبية وعلمية، وحينما التقيته على أرض الواقع للمرة الثانية، كنت أشعر أني بحاجة للحصول على معلومات أكثر تعينني في فهم بواطن هذا الرجل الذي يبدو مثاليا في كل شيء وبسيطا إلى حد السذاجة، وفي ذات الوقت يبدو معقدا إلى حد استحالة معرفة بواطنه وما يخفيه، وخلال اللقاء الذي استمر عدة ساعات لم أزدد إلا يقينا في أن واقع الرجل أجمل كثيرا من الصورة التي كونتها له في خيالي، فقد وجدته فوق كل ما كنت أعتقد، وأكبر من كل توقعاتي، فأيقنت أنه نِعْمَ من يُتخذُ صديقاً وأخاً وزميلا، وازددت قناعة أنه أدى ما عليه في هيئة النزاهة، وأن إخراجه منها عنوة بعد عام واحد من تسنمه المنصب لحق الأذى بالعراق والعراقيين، وكان دليلا على نزاهته، ويكفي دليلا على ذلك أن جميع الذين تسنموا المنصب قبله خرجوا من العراق حالما أنهيت خدماتهم باستثنائه، فهو عاد إلى بيته في السماوة واستقر بها.
وأنا هنا أتحدث عن الدكتور موسى فرج الرئيس السابق لهيئة النزاهة في العراق وأحد أنزه السياسيين العراقيين الذين تداولوا السلطة بعد 2003، وأكثرهم جرأة على قول الحقيقة، لم يخشَ في ذلك لومة لائم، لا في مرحلة تسنمه ذلك المنصب المهم، ولا بعد أن أُحيل على التقاعد المبكر تخلصا من مواقفه الحدية التي أحرجت الجميع، وسببت له المشاكل مع الجميع، فهم حينما أربكتهم مواقفه الحدية والجدية، قرروا التخلص منه وإبعاده من مركزه الوظيفي ليخْلُ لهم الجو فيصْفِرونَ ويَنْقرُونَ ويَبِيضُونَ على راحتهم دون رقيب أو حسيب، وذلك لأن للدكتور موسى رأيه الخاص في المركز الوظيفي المسؤول عن تشخيص ومكافحة الفساد يتعارض مع آرائهم ولا يتفق مع مناهجهم، فالرجل لخص منهجه بقوله: "عندما تكون وظيفتك مواجهة الفساد فلتكن نقطة الشروع عندك هي أن تؤمن بأن الفساد نقيض أخلاقي، وأن أساس الفساد هو الفساد السياسي، وأن الأولوية في مواجهتك للفساد فساد الكبار، فأكبح الكبار يتأدب الصغار.. ولا تكن طلقة في مسدسات الآخرين". وهو بذلك أعلنها صريحة بأنه سيتصدى لهم ويحاربهم، معتمدا على الله تعالى ونشأته السليمة وحسن أخلاقه وجمال طباعه ونزاهته الفريدة التي قال عنها مفتخرا: واجهت الفساد في العراق عن قرب وعرفته عن كثب.. وخلافا لغيري في عهد المحاصصة والفساد لم أضع درهما في جيبي عدا راتبي، ولم أعين ابنا أو أخا، ولم أقايض منصبا بالخضوع أو إخضاع هيئة النزاهة للأمريكان أو الحكومة أو الأحزاب خلافا للدستور. هذا فضلا عن المؤهلات العلمية والعملية التي كان يحملها؛ وهي كثيرة منها: بكالوريوس من جامعة بغداد، دبلوم عالٍ في تخطيط التنمية الإقليمية، ودكتوراه في الاقتصاد السياسي، فاجتمعت منظومة الأخلاق والقيم النبيلة مع المؤهلات العلمية فأهلته ليتسنم عدة مناصب حساسة كانت بدايتها تعينه اختصاصيا في المركز القومي للاستشارات والتطوير الإداري، ثم مفتشا عاما في وزارة البلديات والأشغال، وبعدها نائبا لرئيس هيئة النزاهة، ليصبح بعد ذلك رئيسا للهيئة. كل هذه المؤهلات والمناصب اجتمعت سوية وأتاحت له فرصة الاطلاع على مواطن الفساد في العراق بشكل مباشر، ولكنها فضلا عن المعلومات التي تجمعت لديه جعلتهم ينقمون عليه ويبعدونه، لا لأنهم أثبتوا عليه بعض السلبيات أو التهاون أو الوهن، لا أبداً، وإنما فقط ليتخلصوا منه بعد أن وقف لهم جبلا يذود عن خير العراق ولا يسمح للأيدي الآثمة بسرقته.
لم يكن التقاعد المبكر ليُعيق أو يُقعد موسى فرج عن مهمته التي تحَمَّلها بشرف الرجال العقائديين، وقرر أن يضحي بالغالي والنفيس من أجل الثبات عليها، أو يمنعه من الاستمرار في الدفاع عن الحق، ولذا قرر ممارسة نشاطه في مكافحة الفساد ولكن بأسلوب آخر، تمثل في مشروع كتابي ضخم مهمته كشف الحقيقة للعالم كله ليعرف العالم ما يدور في العراق وكيف تُنهب ثرواته، في وقت تفشى فيه الفقر بين أبناء الشعب بشكل غير مسبوق. وكانت بداية الدكتور موسى فرج في الكتابة والتأليف مع "قصة الفساد في العراق" وهو عنوان كتابه الأول الذي صدر عن دار الشجرة السورية في كانون الثاني عام 2013.
لقد أراد الدكتور موسى أن يقول من خلال كتابه هذا: إن الفساد في العراق ليس من جراء إساءة استعمال السلطة للحصول على مزايا شخصية، وإنما من خلال توظيف السلطة لممارسة الفساد، وتوظيف الفساد لبلوغ السلطة، ومن هنا أيقن أن معركة مواجهة الفساد في العراق مفتوحة على كافة الاحتمالات، وواسعة بلا حدود.
بدا الدكتور موسى كتابه هذا بالحديث عن تقسيم الموازنات العراقية منذ عام 1958 ولغاية ما بعد 2003 مبينا أن الموازنة كانت تقسم عام 1958 وما تلاه إلى قسمين: قسم النفقات التشغيلية أي مصاريف الدولة بنسبة 30% وقسم المشاريع الذي خصصت له نسبة 70%، وكيف تغيرت هذه النسب تدريجيا ولاسيما بعد أن ألغى صدام الميزانيات وأعتمد طريقة المكرمة، فكان يُكَرِّم من يشاء ويمسك عمن يشاء، وكيف انقلبت الآية بعد 2003 لتصبح نسبة النفقات التشغيلية 70% ونسبة الاستثمارية 30%  ثم تصاعد الفرق بين النسبتين تدريجيا حتى تم إلغاء نسبة المشاريع بحجة الإعسار المالي.
من هنا اعتبر الدكتور موسى أن أُس الفساد في العراق هو هذا التباين بين النسبتين في تقسيم موازنات العراق، ولذا نجده بعد أن تحدث عن مفهوم الفساد في العراق وطبيعته وحجمه وخارطته واضراره، بدا بالحديث عن جهود مكافحته وطرق مواجهته، ومنه انتقل للحديث عن منظومة الفساد وهيئة النزاهة ومواقف كل من الحكومة والإعلام والقضاء والشارع العراقي من الفساد، ولأهمية بيان أسباب الفشل في التصدي للفساد رغم الجهود المبذولة، عرج على ذكر أسباب الفشل والقوى التي تسببت في هذا الفشل وعلى رأسها الحكومة التي تعاملت مع تقارير منظمة الشفافية الدولية بنفس أسلوب تعامل صدام مع تقارير الأمم المتحدة. كل هذا دفعه لاحقا للحديث عن موقف الحكومة من استقلال هيئة النزاهة والهيئات المستقلة الأخرى وكيف أن ذلك الموقف كان عائقا كبيرا أمام عمل الهيئة.
وكان الدكتور موسى على يقين أن هذا الكتاب بالرغم من أهميته وبالرغم من أن عدد صفحاته تجاوز الخمسمائة وستين صفحة لا زال بحاجة إلى ما يدعمه من خلال التطرق إلى مواضيع أخرى ذات علاقة بالفساد، ولذا عمل بجد لينجز كتابين مهمين آخرين كان الأول منهما بعنوان "الفساد في العراق خراب القدوة وفوضى الحكم"، والثاني منهما بعنوان "سنوات الفساد التي أضاعت كل شيء" اللذين صدرا في وقت واحد عام 2005 عن دار الروسم العراقية.
قال في مقدمة الكتاب الأول منهما: مشكلة الفساد في العراق ليست ناجمة عن قلة موارد البلد فموازنة العراق السنوية تفوق مجموع موازنات 12 دولة كاملة السيادة والعضوية في جامعة الدول العربية، بل في عدم وجود إدارة عقلانية ورشيدة لتلك الموارد. وهو بذلك حدد محاور البحث الذي سيتضمنه الكتاب، فمع أنه تحدث بداية وبشكل عام عن مفاهيم الفساد وأضراره وسبل مواجهته والجهود الدولية لمكافحته، إلا أنه خص العراق بحديث شامل بداً من الحديث عن طبيعة الفساد في العراق وبيئته وتاريخه وأنواعه وحجمه واضراره، وانتقل إلى الحديث عن بيئة مواجهة الفساد في العراق وهل هناك بوادر أمل بتوقفه، ومستقبل المواجهة معه. وهذا يعني أن الكتاب بشكل وبآخر جاء مكملا للكتاب الأول ورافدا له وداعما لمحتواه.
أما الكتاب الثاني فيكاد عنوانه يفضح مضمونه، فهو من حيث المنهج والهدف جاء مكملا للكتابين السابقين بل تكرر فيه ذكر ملاحظات على بعض المواضيع التي ناقشتها تلك الكتب، ولكنه بشكل عام ركز على الأضرار العظمى التي تسبب بها الفساد في العراق من خلال التحدث عن ملفات الفساد في الوزارات العراقية مثل: وزارة الدفاع والداخلية والنفط والكهرباء والتجارة والصحة والمالية ومعها البنك المركزي العراقي، ولم يفته التحدث عن فساد الأمريكان، وكان حديثه عن الفضائيين واحدا من أخطر مواضيع الكتاب نظرا للأعداد الهائلة للفضائيين التي كشفت عنها السلطات الرسمية، فمثلا ذكرت تلك السلطات أن في وزارة الدفاع 50 ألف فضائي وفي وزارة الداخلية 75 ألفاً بينما تأكدت هيئة النزاهة من وجود 281 ألف فضائي في وزارة الدفاع وحدها بينهم ضباط.
اما الكتاب الرابع من كتب الدكتور موسى فرج فله طعم خاص، فالكتاب الذي صدر عن دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر في بغداد عام 2020، والذي كان بعنوان "الفوضى المستدامة" كان عبارة عن حوار مفتوح، هو جزء من الحوارات التي تبنتها صحيفة المثقف الغراء التي يرأس تحريرها الأخ المفكر ماجد الغرباوي، والتي فتحت مع عدة شخصيات كان منها الحوار المفتوح مع ا. د. أنعام الهاشمي. والحوار المفتوح مع الأستاذ سالم كاظم فرج. ومنها الحوار المفتوح مع الدكتور موسى فرج الذي عقد على مدار عشرين حلقة من 12 آذار ولغاية 3 مايس عام 2012 أجاب خلالها الدكتور موسى على 88 سؤالاً في مختلف القضايا وعلى رأسها الفساد في العراق، ومن حسن المصادفة أن الذين حاوروه كانوا جميعهم من الأصدقاء الأعزاء الذي لمت شملهم صحيفة المثقف، وكنت أنا من بينهم، وقد أورد الباحث أسماءنا موجها لنا الشكر.
تضمن هذا الكتاب فضلا عن حواراتنا معه حوارات أخرى مع عدد من الصحف العربية والعراقية تناولت المحاور ذاتها وفيها من التوسع ما يسد النقص الذي ورد في بعض إجاباته على أسئلة المحاورين التي جاءت مقتضبة على بعض الأسئلة في حوار المثقف نظرا لطبيعة الحوار ومكانه، مع ملحق بعنوان "محطات بطعم التراب" جاء استجابة لرغبات الأستاذ سلام كاظم فرج وأنا والأستاذ مسلم السرداح بعد أن طلبنا منه التوقف عند المحطات المهمة التي مر بها في رحلة مواجهة الفساد في العراق وما سبقها.
كانت سعادتي فائقة وإحساسي بالرضا لا يوصف حينما وجدت الدكتور موسى قد خصص الحلقة الخامسة من الحوار للجواب عن أسئلتي التي بلغ عددها تسعة أسئلة تبدأ بالتسلسل 23 وتنتهي بالتسلسل 31 والتي شغلت الإجابة عليها 32 صفحة من الكتاب من صفحة 103 ولغاية صفحة 135. والجميل في الدكتور موسى أنه كان يفتتح الإجابة على أسئلة المحاورين بمقدمة قصيرة، ومما جاء في مقدمته لجواب أسئلتي قوله: "الأخ والصديق الدكتور صالح الطائي تقبل امتناني وتقديري وفي هذا السياق أجدني بحاجة لأن أشير إلى نقطة تنظيمية ـ إن جازت تسميتها هكذا ـ قبل المباشرة بالإجابة عن أسئلتكم: لأني أشعر بالسرور حقيقة لأن محدثي كاتب وباحث إسلامي معروف لكنه ليس أحد منتسبي الماكينة الدعائية لحزب حاكم أو مشترك بالحكم فتأخذه العزة بالإثم في دعم الحاكم على طريقة أنصر أخاك، فهو خارج أروقة وبيروقراطية السلطة التي ترى في نفسها أنها على حق دائما وفي كل الأحوال وهو أبوي النسب بوصفه باحثا إسلاميا، وهو موضوعي مستقل ومحايد وذو موقف واضح وجلي، فإن كان الابن طالحا كان نصيب الأب الموضوعي غبطة، وإن كان طالحا فليس مثل الأب الصالح من يعينك عليه" (2). ويختمها بالقول: "للأستاذ الفاضل الدكتور صالح الطائي أجمل مشاعر المتنان لمساهمته الفاعلة في هذا الحوار". أو: "شكرا لك أستاذ سالم كاظم فرج المثقف والشاعر والناقد والأهم من ذلك كله الوطني". وهكذا مع بقية المحاورين.
إن هذا الكتاب الرائع أوجز مرحلة مهمة من مراحل حياة الدكتور موسى وأبان منهجه في الحوار وفي التعاطي مع القضايا الوطنية ورؤاه حول الفساد والكثير من الأمور السياسية التي تخص العراق على وجه التحديد، وهو كتاب ممتع يغريك لتغوص في أعماقه وتتابع جزئياته المهمة التي سطرها الدكتور موسى بأسلوبه السهل الممتنع الجميل.
وكان الدكتور قد خصص أواخر الكتاب للتحدث عن جوائز تبين أنها بعض ما كتب عنه وعن تجربته مثل ما كتبه الدكتور الأخ حسين سرمك حسن بعنوان: موسى فرج في كتابه قصة الفساد في العراق وقفة جسور سوف تدخل تأريخ العراق، والأخ الدكتور زهير جمعة المالكي بعنوان: بين لعنة الفراعنة ولعنة منصب رئيس هيئة النزاهة، ومهند آل كزار بعنوان: جغرافية القضاء العراقي وقدره، وأحمد الشيخ ماجد بعنوان: قصة الفساد في العراق، ومن بينها موضوعي المعنون: موسى فرج والعراق وقصص سنوات الفساد. ولم يفته التحدث عن مؤسسة المثقف العربي التي يرأسها الأستاذ ماجد الغرباوي عرفانا منه بجميلها علينا جميعا
وفي ختام هذه الرحلة مع تجربة الأستاذ الدكتور موسى فرج لا يسعنا إلا أن ندعو له بالعمر الطويل والمديد ودوام الصحة والعطاء؛ فهو أنموذج رائع للثبات على المبادئ.



(1)   تأسس ملتقى المثقف العراقي في بغداد يوم الثلاثاء 26/6/ 2012، وكان يضم الكثير من كاتبات وكتاب صحيفة المثقف الالكترونية.
(2)   فرج، موسى، الفوضى المستدامة، ص104.



40
في التراث الاندلسي
قراءة في كتاب في التراث الأندلسي من فجره إلى أفوله للدكتور رضا هادي عباس
الدكتور صالح الطائي
من أهم ما قدمه الفكري الإنساني للإنسانية  عبر مراحل سيرورتها هي المدونات المعرفية التي تعنى بجزئياتٍ مرحليةٍ تصبُ نتائجها بالمحصلة النهائية في محيط الثقافة التقويمية التي تسعى إلى بناء الإنسان وفق مناهج تترجم إنسانيته وتحفزه لفعل الخير وحب الجمال على أمل الحفاظ على هذه الإنسانية التي تجعله فريدا من بين مخلوقات الله، وتوظيفها من أجل الصالح العام وفق رؤى منطقية تلقى القبول عادة، ربما لبساطتها ولصدقها، أو ربما لتنوع مضامينها التي تحولها إلى واحة معرفية يجد كل من يهتم بها شيئا يخصه بالذات وكأنه صنع له شخصيا ومن أجله، أو يشبع نهمه إلى معرفة معلومة ما قد تكون تاريخية أو اجتماعية أو نفسية أو عقدية دينية يحتاج إلى فهمها، او مجرد لمحة فكرية عامة مبعثها حب الاستطلاع الذي يمتاز به الإنسان عن غيره ويشاركه فيه الحيوان بأبسط صوره.
ليس بالضرورة أن تكون المدونة المعرفية قد كتبت بلغت شعرية لتكون قريبة من الوجدان، فغالبا ما تأتي أكثر المدونات المعرفية بأسلوب سردي جاف، يبدو خالياً من الإمتاع إلى درجة تبعث الملل في النفوس ولهذا السبب يكاد لا يستسيغها أو لا يبحث عنها إلا من انصب اهتمامه عليها بسبب مطالب البحث أو الدراسة أو العمل، لكنها لا تخلوا من نماذج ركزت أسلوبيتها على الجانب الأدبي الذي يروم المواءمة بين منهجي البحث العلمي والترف الأدبي ليبسط الطريق لوصولها إلى مبتغاها.
وتكاد المؤلفات التاريخية أن تكون أكثرها تخصصا في جفاف المنهج الكتابي، ولاسيما منها الكتابات في التاريخ القديم التي تناولت البحث في مرويات تاريخنا الإسلامي بكل ما فيها من نماذج تدفع على التمنع والتردد بسبب تنوع الآراء والأفكار والولاءات، لأن هذه الولاءات كانت لها تواريخها التي تختلف مضمونا عن غيرها، والتي لا تتفق عادة مع ما جاء في تلك المدونات ولاسيما منها المتشبثة بالنزعة العدوانية أو التحريضية. أما التي تتمخض نتائجها عن مشتركات حتى لو كانت بسيطة فتجد الرضا والقبول بدرجات متفاوتة.
معنى هذا أن من يكتب في التاريخ لا يعفو نفسه من تلقي اللوم، ويجد في أحيان كثيرة من يتهمه ـ في الأقل ـ بعدم الحياد. فهو فضلا عن تناوله تاريخاً غابراً تناقلته كتب لا نعرف الغاية من وراء كتابتها وتأليفها ومدى صدق وحياد مدونيها، يتحدث عادة عن هذه الملة أو تلك، وهي ملل بينها عداء تاريخي ينتقل عبر الأجيال ويجد غالبا من يروج له ويشجع عليه، وهي لا تخلو من ميل نحو الأساطير والتضخيم إلى درجة التطرف أو التهوين إلى درجة الإذلال.
وكتابة تاريخ حقبة مستقرة تختلف كثيرا عن كتابة تاريخ الحقب القلقة، فالحقب المستقرة تَكتِبُ عادة تاريخها بنفسها ولا تعطي فرصة لغيرها بتدوين ما لا يوافق رؤاها مهما كان بسيطا وتافها، ومن ثم تغدق العطاء على من يضيف لتاريخها ما يعضده ويقويه ويشد أزره ويدعمه صادقا كان أم كاذبا. وجدنا ذلك في حقبة حكم الأمويين، وفي حقبة حكم العباسيين، فهاتين الحقبتين كتبتْ كل منهما تاريخها بنفسها وفق رغباتها ووفق ما تشتهي، ولم يجرؤ أحد على مخالفة ما جاء فيه إلا بعد زوالهما. لكن هناك حقبة قلقة جدا هي الحد الفاصل بين هاتين الحقبتين، تعاون فلول الأمويين واقتضت مصالح العباسيين على التوافق في بعض الجوانب لكتابة تاريخها على أمل أن توظفه كل منهما لصالحها، هذه الحقبة هي حقبة تاريخ الأندلس الذي نشأت دولته على شبه جزيرة أيبيريا التي تضم إسبانيا وأجزاء من البرتغال الحاليتين.
دخلها الإسلام بعد أن وصوله إلى المغرب الذي فتحته قوات عقبة بن نافع، وسيطرت عليه مما دفع حاكمها "يليان" إلى عقد المصلح مع الجيوش الإسلامية، وهو صلح هش كان المسلمون هم من تملص منه بعد أن بدأوا يتسللون إلى شبه الجزيرة بالسر مع السُفن التجارية التي كان تبحر إلى المغرب، واستقروا فيها بأعداد كبيرة، شجعت حكومة الأمويين على التفكير بغزوها، وتم لهم ذلك في عام 92 للهجرة الموافق سنة 711 للميلاد فدانت ودان حكامها بالولاء إلى دمشق. ولأسباب كثيرة اختارها القائد الأموي أبو المطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي ( 113ـ172هـ/ 731ـ788م) المعروف بلقب صقر قريش وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الأول ليؤسس فيها عام 138 هجرية الدولة الأموية في الأندلس، بعد رحلة أسطورية طويلة امتدت على مدى ست سنوات، وصل في ختامها إلى الأندلس وهي تعاني نزاعات قبلية وتمردات على الولاة وتعارض بين القبائل المضرية واليمانية، فنجح في السيطرة على معاقل المتمردين والمتنازعين، بعد أن وجد تأييدا من اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة شقندة، وحكم البلاد لمدة ثلاثة وثلاثين عاما أخمد خلالها الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء البلاد، تاركاً لخلفائه ومن جاء من بعده إمارة،  استمرت لنحو ثلاثة قرون، ومن بعدهم حكمها العرب المسلمون ما يُقارب الخمسة قرون، حكمها خلالها الأمويون وملوك الطوائف والمرابطون والموحدون، الذين أدى تناحرهم وتفضيلهم مصالحهم إلى سقوطها وطرد المسلمين منها بعد ثمانية قرون من الحكم الإسلامي بيد حكام ممالك ليون، وقشتالة، والفرنجة وهي فرنسا الحالية، مما أدى إلى مطاردة وقتل وطرد المسلمين منها.
معنى هذا أننا نقف أمام ثمانية قرون من الدهشة والنزاعات والصراعات والمؤامرات، وأيضا الجمال والفخامة والروعة والحضارة والتقدم والازدهار. ثمانية قرون قلقة غير مستقرة، عمل الدكتور رضا هادي على تجميع أحداثها في كتابه الموسوم "في التراث الأندلسي من فجره إلى أفوله"، ولأن الباحث كتب عن تاريخ يمتد على مدى هذه القرون الثمانية، فإنه لابد وأن يكون قد أسرف في الحديث عن تجارب إنسانية فيها الكثير من المتعة التي لا نجدها عادة إلا عند ذوي الاختصاص ممن عايشوا هذا التاريخ بحثا ودراسة وتدريسا وممارسة ولذا خرج بنتائج قلما تجدها في مكان آخر. والدكتور رضا هادي عباس الشمري خير مؤهل لمثل هذا الموضوع وخير من يمكن أن يخوض غمار هذا البحر اللجي، فهو رجل صاحب تجربة حياتية ثرة، فهو من مواليد مدينة الكوت سنة1945، وهو خبير متخصص في تاريخ الأندلس، فهو بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من كلية الآداب في جامعة بغداد سنة 1968 وكان من العشرة الأوائل، انصب اهتمامه على الأندلس وتاريخها، فحصل على دبلوم عال بتدريس اللغة الإسبانية للأجانب من جامعة غرناطة الإسبانية عام 1978. ثم حصل على ماجستير في التاريخ الاسلامي بتخصص دقيق تحت عنوان: تاريخ المغرب والاندلس من الجامعة نفسها بعد عشر سنوات. وإيغالا وتعمقا في تتبع أخبار الأندلس، حصل عام 1980 على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي وتحديدا في تاريخ المغرب والأندلس من الجامعة نفسها.
وفضلا عن مكتسبات وخبرات الدراسة والتخصص في تاريخ الأندلس، عمل الدكتور رضا على ممارسة وتدريس تخصصه بكلية الفلسفة والآداب في الجامعة الإسبانية التي تخرج منها 1981-1982. وبعد أن عاد إلى العراق عمل باحثا علميا ومشرف اللغة الإسبانية بوزارة التربية للمدة 1982- 1993. وعمل في الوقت نفسه مُحاضرا في كلية الآداب وكلية اللغات / جامعة بغداد، وكلية التربية/ الجامعة المستنصرية في التاريخ الأندلسي، وعمل محاضرا بدورة اللغة الاسبانية في معهد الخدمة الخارجية – وزارة الخارجية العراقية سنة 1988. ثم عمل أستاذا مساعدا بكلية اللغات والآداب – جامعة طرابلس (ليبيا) للمدة بين عامي 1993- 2004. وعاد إلى العراق فعمل أستاذا مساعدا بقسم التاريخ في كلية التربية/ الجامعة المستنصرية للمدة بين عامي 2006-2013، ومُحاضرا خارجيا ـ دراسات اولية وعليا ـ في التاريخ الإسلامي وتاريخ الأندلس في جامعة واسط للأعوام من 2007 ولغاية 2012، بمعنى أنه أنفق من عمره أربعين عاما وهو يخوض في لجج تاريخ الأندلس، ولم يقف عند هذه الشطآن فحسب فقد عضَّد ذلك بالكثير من البحوث والدراسات والمؤلفات التخصصية ومنها على سبيل المثال: القضاة والقضاء في كتاب تاريخ علماء الاندلس لابن الفرضي – جامعة غرناطة، 1978، والقضاء والقضاة في الأندلس (رسالة دكتوراه في التاريخ الاسلامي) جامعة غرناطة، 1980، والتاريخ العربي الإسلامي (مع آخرين) وزارة التربية – بغداد 1986، والأندلس؛ محاضرات في التاريخ والحضارة – مالطا 1998، والمكتبة الأندلسية دراسة وتحليل لأهم المصادر والمراجع الأندلسية – بغداد 2008، والأندلس؛ رحلة في التاريخ والحضارة –  بغداد 2008،  والحضارة الأندلسية بأقلام إسبانية جزئين دراسة وترجمة، بغداد صدر الجزء الأول عام 2013، وصدر الجزء الثاني عام 2016، ومحاضرات في تاريخ المغرب والاندلس (مع مؤلف اخر) ط1 بغداد 2009، ط4 بغداد 2014، والمكتبة الاندلسية، دراسات وببليوغرافيا (الف كتاب وكتاب في تاريخ الاندلس وحضارته)، دمشق 2017، واللقاء الحضاري في الأندلس، بغداد 2009، وفي التراث الاندلسي، صدر في بغداد، 2020، وهو الكتاب الذي نحن بصدد قراءته، فضلا عن تحقيق كتابين لابن حيان القرطبي، وكتابة الكثير من البحوث والدراسات في المجلات العراقية والإسبانية.
وستكون وقفتنا التفكيكية مع آخر هذا العطاء، وهو الكتاب الموسوم "في التراث الأندلسي من فجره إلى أفوله"؛ الذي وضعه الباحث استذكاراً لمرور أربعة قرون على إخراج الموريسكيين (المواركة أو العرب المتنصرين) من إسبانيا سنة 1023 هـ/ 1614م. وفي بواكير بداية رحلتي مع الكتاب استوقفتني جملة (من فجره إلى أفوله) الواردة في العنوان، والتي تعني أن الدكتور رضا سيخوض في كامل نشأة التاريخ الإسلامي الأندلسي منذ فتحها عام 92 ولغاية سنة 1023 للهجرة أي أن الباحث لم يقف عند عصر مملكة غرناطة (635 ـ 897 هـ/ 1237ـ 1492م) ولم يعتبر نهاية هذا العصر نهاية لتاريخ الأندلس المسلمة وإنما تجاوزه للبحث في تاريخ وتراث العصر الموريسكي، واعتبره العصر الأخير للأندلس، فقسم العصور الأندلسية على تسعة حقب بعد أن كان المؤلفون قد قسموها على ثمان، فأصبحت وفق تقسيمه: عهد الفتح (92ـ95هـ)، عهد الولاة (95ـ138هـ)، عهد الإمارة الأموية (138ـ316هـ)، عهد الخلافة الأموية (316ـ 422هـ)، عصر الطوائف (422ـ 484هـ)، عصر المرابطين(484ـ 539هـ)، عصر الموحدين (540ـ 632هـ)، عصر بني الأحمر (632ـ 897هـ)، العصر الموريسكي (897ـ 1023هـ)، والذي أراه أن عملية التحقيب هذه بحلتها الجديدة ضرورية جدا لتثبيت تتابعية التاريخ الاندلسي. وهي بكل المقاييس مدة طويلة وحقبة مليئة بالمفاجئات والأسرار وبالعطاء أيضا، إذ يكفي أن مدن الأندلس مثل قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة وسرقسطة وغيرها تحولت إلى مراكز إشعاع علمي وحضاري. وأصبحت قرطبة زينة الكون وجوهرة العالم، وقد استعان الباحث بما كتب من قبل في هذا المضمار من خلال تفكيك ودراسة بعض النصوص ذات الصلة.
ابتدأ الدكتور رضا كتابه بالحديث عن اتجاهات التاريخ الإسلامي في مناهج التعليم العام في العراق، ثم تحدث عن التدوين التاريخي وإشكاليات النقد في الأندلس، وعرج بعدها للتحدث على مدى ثلاثين صفحة؛ دراسةً وتحقيقاً لكتاب صلة الصلة لابن الزبير (ت: 708هـ ـ 1308م).
وتناول في المحور الثاني من الكتاب موضوع مدرسة أهل البيت في التراث الأندلسي، وكم هو مفاجئ ان تجد الأندلس المالكية مذهباً والأموية ظاهراً حتى بعد سقوط الأمويين فيها تهتم بهذه الجنبة بالرغم من كون تاريخها كتب بيد الأمويين ومن والاهم أو سار على نهجهم من الحكام الجدد، بما يعني أنها لا تخلو من التزوير والتحريف والانتحال والخطأ والمبالغة والكذب؛ وهو ما دعا الباحث إلى دراسة وتحقيق وتفكيك عدة وثائق تحدثت عن ثورة الحسين (عليه السلام) في التراث الأندلسي ومقتل الحسين في مخطوطات أندلسية وشجاعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الموريسكيين في إسبانيا، والتجسس والمؤامرات السياسية والنص الشيعي بين الموريسكيين التي ترجمها عن الانكليزية.
أما المحور الثالث فخصصه للحديث عن الاندلس في التاريخ الإسلامي والقيم الأخلاقية في الخطاب السلطاني في الاندلس، والإسهام الحضاري للأمازيغ في الاندلس، وحديث بنيامين التطيلي اليهودي عن بغداد في رحلته، وأورد أخيراً عدة قصائد أندلسية فقام بدراستها وتحقيقها، وكان قد تحدث قبل ذلك عن الشعر كوثيقة تاريخية، والشعر ديوان العرب في الأندلس؛ وبعدها أورد القصائد مترجمة.
جدير بالذكر أن كتاب الدكتور رضا هادي هذا جاء مكملا لما ابتدأه ثلة من الباحثين العرب، والظاهر أنه جاء استجابة للعتب الأندلسي الذي وجهه الكاتب محمد عبد الله عنان تحت عنوان "لماذا تُهمل الجامعات تاريخ الأندلس"، بل جاء مكملا لذلك العتاب، فالدكتور رضا هو الآخر وجه عتابا دافعه الحرص على تاريخ حضارة عربية إسلامية امتدت على مدى ثمانية قرون وجغرافيا مساحتها أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع، واسهمت حضاريا في نشر العلم والثقافة. وجاء مكملا لسلسلة الكتب والبحوث والدراسات التي أنجزها الباحث خلال مسيرته العلمية الزاخرة بالعطاء. والجميل في الكتاب أن الباحث أهداه إلى ثلة من رواد الدراسات المغربية والأندلسية في الجامعات العراقية. وقد صدر الكتاب عن بيت الحكمة في بغداد، وهو كتاب زاخر بالمعلومات القيمة والثمينة عن الأندلس وتاريخها، ويُعد إضافة رائعة للمكتبة التاريخية الاندلسية.


41
ولادة قصيدة وطن رائية العرب
الدكتور صالح الطائي

تستوجب كتابة التاريخ الملحمي لأي مرحلة إجراء طقوس تمهد للفكرة، أما كتابة تاريخ حقبة معاصرة فتستوجب أن تكون هناك طرقا فنية مبتكرة وغير تقليدية تتماهى مع انبثاق روح الثورة في النفوس، والاندفاع الجاد من أجل التغيير، وصولا إلى التمرد على كثير من الموروث، واللجوء في بعض الأحيان إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة مع المقدس، ولكن حتى مع ضغوطات أكثر العصور تطورا، عصرنا الحاضر الذي يبدو أنه ألقى حبلها على غاربها ونشر الانفلات بين الجد والفوضى أملا في الوصول إلى نهايات لم يصل إليها أحد من قبل؛ لابد لنا أن نناكف الموروث، نشاكسه، نتجرأ عليه، ونقتنص ونقتبس منه وهجا أو قبسا نرفعه بين أيدينا في مقدمة انبعاث الجماهير لينير دهاليز النفق المظلم الذي نشعر أنه يقيدنا ويشل حراكنا، ولن يتعارض ذلك بالمرة مع تدفق القوى السالبة والموجبة للعصر، فالعصر بحيويته ونضجه وجنونه وفوضويته ودهشته وروعته ورقته وقسوته وغرابته وتشدده وانفلاته؛ يستوعب وشل كل التواريخ، ولا يغص فيه أبدا، طالما أنه يمثل خلاصة كل ما مر على الإنسانية منذ وجودها الأول، ولكن العبث معه لا يخلو من مجازفة فيها الكثير من الخطورة.
من هنا، من هذه الحافة الناتئة الجارحة ولد تحدي مشروع "قصيدة وطن" في يوم 31/1/2020، وكان نتيجة صراع انثيالات وتداعيات الأحداث التي أفرزتها منظومة معقدة من المشاكسات المتراكمة التي تسببت بكل ما تتعرض له الأمة اليوم بشكل عام والعراق الجريح المبتلى بشكل خاص على يد بعضٍ من أبنائها وبعض المحسوبين عليها ممن تولوا قسراً أمرها، وعلى يد أعدائها ولاسيما القوى العظمى، وعلى يد جيرانها الذين طمَّعهم خور الحكام وطيشهم بها؛ بشكل لم تتعرض لها أمةٌ من قبل، ففي مجتمعٍ مثل المجتمع العربي الذي أصيب على مدى القرن الماضي بخيباتٍ مريرة، هذا المجتمع الموحد ـ المتناحر، المتحاب ـ المتباغض، المتقارب ـ المتباعد، المجمع ـ المفرق، الملموم ـ المشتت؛ صاحب الرأي الواحد ـ مُخْتلِف الرؤى والعقائد، المستقر ـ القلق إلى حد النزق، والثائر ـ الهادئ إلى حد السكون... هذا المجتمع الذي يشكو ضعف القوة وقوة الضعف، والدكتاتورية المطلقة وندرة وجود القيادة الأمينة الناصحة الإنسانية الوطنية التي تأخذ بيده نحو شاطئ الأمان. في مثل هذا المجتمع الغريب في تكوينه يكاد يكون الحديث عن أمرٍ جمعي مشترك مهما كان بسيطاً، حتى ولو كان على مستوى نظم قصيدة مشتركة أمراً في غاية الخطورة والصعوبة، بل مجرد أضغاثٍ مجنونة ونزقٍ غير موزون، محكومٌ عليه بالخيبةِ والفشلِ والخسران. ولكن كيفَ للفكرةِ المجنونةِ المشحونةِ بالتحدي الكبير والعناد إلى حد النزق والانفعال أن تهدأ أو تهادن أو لا تتمرد؟ أنى لها أن تنجح وأن تكون مميزة وبمستوى الطموح في عالم مجنون إذا لم تكن بكل هذا الجنون المنبعث من القلوب الحزينة التي آلمها ما آل إليه أمر الأمة، فالجنون يكون أحيانا أعلى مراحل الوعي، وكم توهجت إشراقات الحكمة من دنيا المجانين، فلم لا تشرق من هذه الدنيا قصيدةٌ تُحيي مواتَ قرنٍ من الزمان، وتعيدَ للأمة وهج العمرِ الذي مضى والذي ترك في قلبها أعظم حسرة.
لم تكن ولادة فكرة قصيدة وطن سوى مغامرة غير محسوبة النتائج ولاسيما لمن ينظر إلى حال الأمة وتشظيها وتباعد مكوناتها عن بعضها، ومقدار اللاأبالية التي تتحكم في نفوس أبنائها، وعدم اهتمام أغلبهم بأبعد من حدود واقعه الجغرافي الضيق، بحدوده الوهمية المصطنعة.
كانت فكرةً فيها الكثير من الجُرأة والتحدي للواقع ولكل ما يدور على الساحة العربية ولاسيما وأن مكونات الأمة لم تعد تهتمُ ببعضها، وبما يصيب الآخر من أبناء جلدتها وأرومتها، وكل جزء منها يحمل شعار: إذا متُ ظمآنا فلا نزلَ القطرُ.
ومع ذلك راهنتُ على الطيبة السابتة في نفوس أهلنا ولاسيما منهم من يحمل نفساً شفيفة وروحا ًشفافة وضميراً أخضر وعيناً أبصر وفؤاداً قد من كوثر، وأقصد بهم الشعراءُ والأدباءُ، فقررتُ التوجه إليهم بالذات دون غيرهم وأنا لا أملكُ من الأمل سوى بصيصاً خافتاً أحملهُ بين جوانحي كما تحمل الأم وليدها وأسيرُ بهِ في طريقٍ وعرةٍ ورياحٍ عاتيةٍ وأمطارٍ غزيرةٍ؛ ولا أعرفُ متى ينطفئ؛ فلا أُبصرُ لخطواتي موضعا.
كان مفتاحها بيتاً يتيماً قلتهُ بعد أن آلمني ما جاء في نشرات أخبار الظهيرة عن حال الأمة التي تتآكل من الداخل وكأن مرضا خبيثاً تفشى في أوصالها، فباتت طريحة الفوضى، تتلقى الصدمات والطعنات من الخارج والداخل. هذا البيت كان من بحر الوافر وبقافية الراء المضمومة، قلتُ فيه:
حذارِ من الهدوءِ إذا تفشى         فعندَ الفجرِ قارعةٌ تثورُ
وكنتُ في بداية مشواري أنتظر مشاركة العراقيين من الشعراء؛ للبناء عليه ببيت أو بيتين، طبقاً للنداء الذي توجهتُ به إليهم، وعظيم خوفي كان ألا يستجيبَ منهم أحدٌ، ولكنهم بكل ما لدى العراقيين من نخوةٍ ووطنيةٍ فاجأوني بسيلٍ من الأبياتِ الرائعةِ المفعمةِ بالروحِ الثوريةِ بما يترجمُ حرص العراقيين على وطنهم وحبهم لبلدهم وحلمهم بيومٍ تتحققُ فيه وحدة الأمة.
في هذه الأثناء وردتني مشاركة غير متوقعة من شاعرة سورية، وكانت على مستوى عالٍ من البناء، جعلتني أعيد النظر بالمشروع برمته، فحولته من عراقي المظهر إلى عربي المخبر، وخاطبتُ الشعراء العرب في كل أوطاننا العربية ليسهموا ببناء قصيدة وطن، ويهدوها إلى ثوار العراق من دعاة الإصلاح، وإذا بزخم ٍمن المشاركاتِ ينهالُ عليَّ من أركان وطننا العربي الأربع إلا من أبى ممن لا زال يحمل في قلبه حقداً على العراق وأهله، حيث شمر شاعر أو أكثر من شعراء هذا القطر أو ذاك عن سواعدهم وكتبوا نصرةً للعراق وأهله أعذب الأبيات، واتسعت رقعة المشاركاتِ لتشمل: سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والعراق وفلسطين وسوريا والمملكة الأردنية ولبنان ومصر وتونس والجزائر والمملكة المغربية والسودان وليبيا وموريتانيا، فتجمعت لدي كمية كبيرة من المشاركات مثلما تتجمع قطرات المطر لتكون سيلا جارفا فاحترت في كيفية بناء قصيدة بمستوى الوطن من هدير هذا السيل الجارف ولاسيما وأني لست بشاعرٍ بل عاشقاً للشعر استذوقه، وقد يفوتني الشيء الكثير مما قد يلحقُ ببناء القصيدة وهنا غير مقبول.
في هذه الأثناء وأنا اتخبط في حيرتي اتصل بي صديقٌ مغتربٌ هو الشاعر ضياء تريكو صكر ابن الشاعر الكبير تريكو صكر، هذا الشاعر الذي ورث عن أبيه لا صنعة الشعر فحسب، بل ورفعة المعنى والمبنى والمفردة والفكرة، وكل ذلك مدافٌ بروح وطنية ليس لها مثيل، ولأني كنت أحد عشاق قصائده وأتابع ما ينشر باستمرار وأعرف أهليته لمثل هذا العمل الكبير، بل أعرف أنه من نوادر من قد يجيدون هذا العمل، فقد أوكلتُ إليه بناء القصيدة وفق رؤيته الناهضة، وبدأت أرسل له المشاركات تباعاً.
على مدى الأشهر الثلاثة اللاحقة كان ضياء قد أوقف حاله للقصيدة وحدها يقدم ويؤخر، يختار ويرفض، يُحوِّرُ ويبدل، يَنْظُم روابط بين المشاركات، يهتم بتسلسل فكرة القصيدة، ويعيد النظر في جميع المشاركات باحثا عن التميز والفرادة والجودة والغرابة والخروج على المألوف والشائع، وفي النهاية اختار مشاركات 139 شاعرا من أصل أكثر من 600 مشاركة وصلتنا، وبعد أن أضاف للمشاركات المختارة بحدود 30 بيتاً من نظمه للربط والترتيب، خرجت القصيدةُ عروسا ولا أبهى بـ371 بيتاً من أصل مئات الأبيات التي وصلتنا، فكانت بحقٍ واحدةً من أروعِ القصائد الوطنيةِ، هذا إذا لم تكن هي الأروعُ على مر الزمان.
وهكذا تعاضدت أقلام وجهود المبدعين العرب لتدعم هذا المشروع البنائي الوطني الكبير الذي انتهت المشاريع المشابهة له منذ زمنٍ طويل، حتى ما عاد أحدٌ يذكرها إلا ما ندر، والتي لا يعرفُ جيل الشباب عنها شيئا، ولتعلن هذه الألفةِ الحميمية والتعاونِ الأدبي المثمر للعالمِ كله أن ما يبدو وكأنهُ انهيارٌ واسعٌ في منظومةِ العلاقاتِ الخاصة والعامة بين العرب، ما هو إلا زوبعةٌ في فنجان، وزبدٌ من نتاج نزق وطمع وفساد بعض الحكام؛ سوف تذروه رياحُ الثورةِ ويذهبُ جفاءً، وأن الشعوبَ العربيةِ ليستْ صاحبةَ القرارِ في هذا التباعد والتباغض، وأنها لا زالت كما هو العهدُ بها كريمةً عند الشدائد، واحدةً موحدة عند النوائب، متماسكةً عندما تدلهم الخطوب، مصرةً على التضحية التي تستطيع تقديمها ولو كانت بيتاً من الشعر، فالكرمُ هو شعار وجودنا، والبخلُ ليس من عاداتنا ولا من طباعنا.
وهكذا ولدتْ قصيدةٌ وطنية ٌمن أبدع ما يكون، بهمة شعراء الأمة وفرسان كلمتها، وبهمة الشاعر الكبير الفخر ضياء تريكو صكر لتكون القصيدة الوحيدة التي اشترك بكتابتها هذا العدد الكبير للمرة الأولى في التاريخ.
فكان ما بين مطلع القصيدة وقفلتها ومضةُ إلهامٍ يهمسُ في أذنِ الأثيرِ مخاطباً أمّةً طال غفوتها، وطالت رقدتها، وبين الغفوة والرقدة كان صّدى الفكرةِ يقتحمُ أبواب الضميرِ العربي أينما كان بعفويةِ نقيّةِ، بلا شائبةِ، ليؤسسَ لفكرةٍ وحدويةٍ ليس لها مثيل، تطاولت حتى علت كل أسس الشقاق، حتّى إذا انبلجَ فجْرُ التحدي؛ أشرقت الحقيقة من بين وجع الأضلع وآهات القلوب وهي أنِ اجتمع العربُ من المحيط إلى الخليج بمـا لم يجتمعوا عليه من قبل، وتوحدّت أقلامهم على أنبل موقف وهو حبّ العــراق. فكانت سابقة متفرّدة في تاريخ الأدب العربي، من هنا جاءت قفلة القصيدة بقلمي أيضا مثلما هو المطلع لتعلن اسم المولود المنتظر الذي ترقب العيون ولادته ألاَ فاحْـذَرْ هدوءً قد تفشّـى       غـداةَ الفجْرِ قارعـةٌ تثورُ
فكان مطلع القصيدة وقفلتها خيرَ حاضنٍ لصرحٍ يليق بالوطن، فإذا به العنوان مرسومٌ على جبين الوطن موشى بذهب الوحدة ليعلن عن اسمه بلا خوف في زمن الزيمة والضياع: قصيدة وطن رائية العرب.
وقد صدرت القصيدة في طبعتها الأولى بكتاب جميل عن دار الوطن للطباعة والنشر في المملكة المغربية، فضلا عن ذلك صدرت عن دار المتن في بغداد بطبعة ثانية لتكون في متناول يد عشاقها.

42
الخلفاء والغناء بحث في التَّاريخ الاجتماعي للشُّعوب
قراءة في كتاب الخلفاء والغناء للدكتور علاء الحلي
الدكتور صالح الطائي
تعود علاقة الإنسان بالغناء إلى أقدم الأزمنة البشرية، وقد اهتم الكثير من العلماء والباحثين بهذه الظاهرة المشتركة بين البشر رغم تباعد الجغرافيات، كون الغناء والموسيقى ظواهر تاريخية لها علاقة وثيقة بالظواهر الأخرى وبالفنون الأخرى ولاسيما بعد أن اكتشف الباحثون تطابق الفنون الصوتية أيا كان نوعها مع نظام الفكر وطابعه الإنساني في مديات جغرافية بينها الكثير من الفواصل والمسافات. هذا ما أشار إليه "برنارد شامبينيول" في كتابه الموسوم "عالم الموسيقى" الصادر عن وكالة الصحافة العربية ـ ناشرون بقوله: "يبدو أن نظريتنا الموسيقية تدين بأصولها إلى بعض قواعد فطرية عامة يشترك فيها كافة البشر، فتجد الموسيقى عند الأقدمين كما هي الحال عند البدائيين بسيطة في أصولها وتتميز ببروز قوي في إيقاعها. كما أن طابعها يتسم بالمسحة الدينية ويتصل بطقوس معتقداتهم. ومن جهة أخرى فالإنسان عندما يقوم عادة بمجهود جسماني ويأتي حركات مرادفة بجسمه فإن هذه الجهود والحركات كثيرا ما تكون مصحوبة بإخراج أصوات. وفي هذا ما يعد أساس الأغاني المهنية، التي يقصد منها تنظيم حركات الجسم وتوجيهها ليسهل بذلك تأدية العمل".
ولأن الموسيقى والغناء يخلقان حالة من التماهي مع أطياف الخيال المشتاق للنزهة في عالم الروح لذا نجد الممارسة الطقسية الدينية قد استحوذت على الأغاني والموسيقى لا لدى الإنسان البدائي فحسب بل وصولا إلى المجتمعات التي تتعبد بالرسالات السماوية حيث احتلت أناشيد "بيروتان" الأسقف الأكبر لكنيسة "نوتردام" بباريس في أواخر القرن الثاني عشر مكانا في النشاط الكنسي يرددها المنشدون في الكنائس كفعل روحي مهمته السمو بالنفس من عالم الماديات إلى عالم الروحيات، ولا زال الغناء المصحوب بالموسيقى يتردد في الكنائس إلى الآن.

أما فيما يخص جغرافيتنا العربية فقد كان للغناء أثرا عظيما في بعض ممارسات الحياة اليومية وقد كان الغناء موجودا ومعروفا في المجتمع الجاهلي، لكنه لم يكن مزدهرا، لأن المجتمع مثلما قال المؤرخ الموسيقي محمود كامل في كتابه الموسوم "تذوق الموسيقى العربية": "كان منشغلاً بأمور أخرى غير الفن، وكان الشعر هو مادة الغناء". ومع ذلك كان للعرب تاريخ غنائي حافل يمتد متنوعا بين الحِداء للإبل وأغاني الرعاة ومواويل بدو الصحارى في مضاربهم ومساربهم وصولا إلى الغناء الممنهج. 
[[فحداء الإبل على سبيل المثال له جذور تاريخية ضاربة في تراثنا العربي القديم قبل وبعد الإسلام، وهو نوع من الغناء الذي يؤديه الرعاة لإبلهم في مسيرها فتتبعهم، أو في حال أراد أن يجمعها، أو أن يوردها الماء كنوع من التخاطر الذي ينشأ عادة من تعود الإبل على صوت صاحبها، أما أداء الحداء أثناء المسير فيشعر الحادي عادة بالراحة وعدم الإحساس بالتعب، ويمنحه نوعا من المتعة النفسية، فضلا عن التواصل مع جمال قافلته.
أما الغناء فكان عملا ترويجيا أثناء الأعراس والمناسبات والحروب، حيث كان المؤدون يرافقون الجيوش وينشدون لها ما يشد من أزرها ويبعث فيها روح الشجاعة. والغريب أن الغناء لم يُمنع في عصر البعثة مثلما يرى البعض ممن يرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر الصحابة بالغناء في الأعراس، وقد روى الشريف حاتم العوني، عضو مجلس الشورى السابق في المملكة العربية السعودية على موقعه الرسمي حديثا يثبت سماع الصحابة للموسيقى والغناء في أعراسهم، على حد تعبيره، وقال: "ثبت أن الغناء الذي كان يُغنى به في الأعراس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غناءٌ بالمزامير والطبول، وليس بالدفوف فقط، كما يذهب إليه محرمو آلات المعازف.. فقد ثبت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم في أعراسهم كانوا يستعملون المزامير والكَبَر، والكبر هو الطبل، وكلاهما (الطبل والمزمار) عند المحرمين المعاصرين من آلات المعازف المحرمة؛ حيث إنهم يحرمون الطبول كلها؛ إلا الدُّفَّ خاصة. وأما المزامير: فلا يكادون يختلفون في حرمتها".
والأغرب أن هناك روايات وقصص تثبت أن بعض الصحابة كانوا يتركون رسول الله على المنبر وحيدا ويُهرعون لسماع الغناء إذا مر قربهم، جاء في تفسير الطبري ومستخرج أبي عوانة وأحكام القرآن للطحاوي وغيرهم، عن جابر بن عبد الله، قال: "كان الجواري إذا نكحوا، كانوا يمرون بالكَبَر والمزامير ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضون إليها، فعاتبهم الله وأنزل: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}.
بل وهناك من ادعى بأن النبي نفسه كان يستمع إلى الغناء، وأن الغناء كان يصدح في بيته، جاء في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة إنها قالت: "دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطانِ في بيت رسول الله؟ فقال رسول الله: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا". ولأن هذا الحديث سبب حرجا، قال المؤولون ومنهم الدكتور إبراهيم الفهد بن إبراهيم الودعان في كتابه الموسوم "عشرون حديثًا من بيت النبوة" تحت عنوان غناء الجواري في بيت النبي: "بيت النبي كبيوت المسلمين؛ لأنه بشر يعيش مثلهم، غير أن الله اصطفاه واختاره لرسالته، وجعله أكمل خلقه". واحتج آخر: بأن الغناء الذي رخص فيه النبي لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده مما يتعارفه العرب بآلاتهم".
فضلا عن ذلك جاء في النقول أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحبُّ الحِداء، واتخذ لنفسه أربعة حداءين، هم: البراء بن مالك، وعامر بن الأكوع، وعبد الله بن رواحة، وعبدٌ حبشيٌ اسمه أَنْجشة. وكان رسول الله ينصب حاديا لركب الرجال وآخر لركب النساء، وفي إحدى السفرات كان أنجشة هو حادي النساء، فأنشد: 
وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا          وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا"
وفي رواية:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِعَنْ سَبِيلِهْ          قَدْ نَزَّلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهْ
 فأعنفت الإبل في السير، أي سارت مسرعة، فقال رسول الله: "رويدك يا أنجشة رفقا بالقوارير".
وقيل: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حدا في طريقه إلى الكوفة، قائلاً:
یا حبذا السیر بأرض الكوفة           أرض سواء سھلة معروفة
تعرفھا جمالنا المعروفة

وفق هذه الإباحة المطلقة إلا من وجود بعض المعترضين ممن لا سلطة لهم لإحداث التغيير، بدأ الغناء في عهد الخلفاء الراشدين ولاسيما بعد دخول الجواري والإماء ينتشر في أرجاء المدينة المنورة، وكان طويس (ت: 92هـ) أول من غنى بالعربية في المدينة في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني قوله: أخبرنا الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن المسيبي ومحمد بن سلام الجمحي، وعن الواقدي ابن أبي الزناد؛ وعن المدائني، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وعن ابن الكلبي، عن أبيه، وعن أبي مسكين، قالوا: أول من غنى بالعربي بالمدينة طويس، وكان طويلاً أحول يكنى أبا المنعم، مولى بني مخزوم، وكان لا يضرب بالعود. إنما كان ينقر بالدف، وكان ظريفاً عالماً بأمر المدينة وأنساب أهلها، وكان يتقى للسانه.
وكان لمدينة الرسول مدرستها الغنائية ولها رجالها مثل: سائب خائر ومعبد بن وهب وابن عائشة وطويس وطريف وحبيب نؤم الضحى وبرد الفؤاد وبديح المليح ونافع وعطرد وابن صاحب الوضوء والدلال والابحر والبردان وقند ورحمة ووهبة الله. ولها نساؤها أيضا ومنهن: عزة الميلاء وجميلة وحبابة وبصبص وفرعة وبلبلة ولذة العيش. وقد اشتهرت المدينة بانتشار الغناء فيها، ووجود جمهرة تحبه وتتابعه وتدافع عنه مما أثار القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وكان عراقياً يميل إلى التشدد في تحريم الغناء، فلما التقى إبراهيم ابن سعيد الزهري بادره مستنكراً: "ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها". قال الزهري: "فغضبت، وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم.. متى رأيت أحداً سمع الغناء فيظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا، من اختار شعراً جيداً ثم اختار جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب...؟". فقال أبو يوسف: "قطعتني، ولم يحر جوابا".
وفي نص لابن عبد ربه في العقد الفريد: سأل الخليفة هارون الرشيد الزهري يوماً: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ فقال الزهري: من قنّعه الله بخزيه. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت يا أمير المؤمنين أوَ لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد إلا بوحي من ربه. ولو سمعت مالكاً يحرمه وتناله يدي لأحسنت أدبه. فتبسم الرشيد.
مكة هي الأخرى لم تكن بأحسن حالا من المدينة حيث كان الغناء فاشيا بين الوجهاء والفقهاء وذوي المناصب فيها، الذين كان بعضهم يجيد الصنعة ويتقن حفظ الألحان بنفسه، وفي العقد الفريد أن الأوقص المخزومي وليَّ قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علِّيّة له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن أي يخطئ في غنائه، فاقترب المخزومي منه، وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه. وقد قيل إنه كانت للغناء بمكة مدرسة من رجالها ابن مشجع وابن محرز وابن سريج والغريض وابن مشعب والهذلي النقاش وعبادل بن عطية وخليل بن عمرو، ومن مغنياتها المشهورات سلامة القس وأختها ريا وخليدة المكية وعقيلة العفيفية وربيحة وهن من موالي ابن شماس ولذا عرفن بالشماسيات
وقد كان الغناء يرافق احتفالاتهم ومناسباتهم، روى ابن عبد ربه أن قاضي مكة حضر مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني، فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه وجثا على ركبتيه: وقال اهدوني فإني بدنة.. فالرجل من بسبب كثير طربه شبه نفسه بالأضحية التي يذبحها الحجاج. وهناك في الحجاز مدرسة غناء أخرى هي مدرسة وادي القرى ومن رجالها حكم الوادي ويعقوب الوادي وعمر الوادي وسليمان وخليد بن عتيك. ومن الحجاز انتشر الغناء وفق قواعد يجب الالتزام بها حسب رأى "فارمر" الذي ذهب إلى أن موسيقى الحجاز وغناءه في صدر الإسلام كانت الرصيد الأساسي للغناء العربي التقليدي. كل هذا مع وجود أحاديث صحيحة تنهى عن الغناء والمعازف وتحرمها، لكن يبدو أن تحريم الغناء لم يصمد أمام شدة رغباتهم وحبهم للصوت الجميل يسمعونه من القيان اللواتي حُزن على منزلة يحسدهن عليها الكبار، ومع انتهاء عصر الخلفاء الراشدين واستيلاء الأمويين على الحكم، مع كثرة وفود القيان والجواري اتسعت رقعة الغناء وكثر عدد المغنين، وشاع بين الناس حتى صارت أصوات المغنين تصدح في العالم الإسلامي ولاسيما الشام والعراق، قال الجاحظ عن الخلفاء الأمويين:  "كان الخلفاء الأول يستمعون في أوقات فراغهم لقصائد الشعراء ولم يلبث الغناء أن حل محل الشعر فكان معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد لا يظهرون للندماء والمغنين بل كان بينهم حجاب حتى لا يطلع الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب فقد تأخذ نشوة الطرب بلبه فيقوم بحركات لا يطلع عليه إلا خاص جواريه" أما باقي الخلفاء فكانوا يظهرون للندماء ولا يحفلون بإتيان حركات تثيرها نشوة الطرب كالرقص مثلا، حيث كان يزيد بن معاوية لا يتحرج من الرقص طربا ولاسيما حينما يكون مخمورا ومثله كان يزيد بن عبد الملك يبالغ في المجون بحضرة الندماء. 
وكانت للأمويين مجالس طرب وصفها الجاحظ في كتابه التاج في أخلاق الملوك وكيف كلف الناس بالموسيقي والغناء، وكانوا يسرفون في ذلك كل الإسراف، وينفقون ببذخ على المغنين المشهورين والموسيقيين الذين كان الخليفة يدعوهم إلى دمشق من أقاصي البلاد. فاشتري الوليد بن عبد الملك حبابة وكان اسمها العالية بأربعة آلاف دينار. وقد أثر تدفق طبقات المغنين المحترفين على دمشق في أخلاق الناس، وقد سجل أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني جلسات الغناء والطرب في البلاط الأموي، واستفاض في نقل أخبار مشاهير أهله. ومعنى هذا أن الغناء كظاهرة اجتماعية يحرمها الإسلام كان قد تمكن من عقول الناس وتحول إلى عمل مباح له قواعده وأصوله ولا يجرؤ أحد على المساس به من بعيد أو من قريب. وقد وفد إلى العصر العباسي وهو مكتمل الجوانب رصين السبك والصنعة منتظم القواعد والأحكام.
إن كل ما تقدم كان مقدمة للحديث عن كتاب "الخلفاء والغناء" للدكتور علاء الحلي الذي حدد تواريخ بحثه بين سنتي 132 و232 هجرية أي من تاريخ سقوط الدولة الأموية إلى نحو قرن من حكم بني العباس الذين أفادوا من نظام الدولة ونظم الغناء التي بناها الأمويون ومن مؤسساتها المختلفة ومنها مؤسسة الطرب.  ولذا كان العصر العباسي هو العصر الذهبي للطرب والموسيقى العربية، حيث ارتقت الموسيقى وزادت مقاماتها وكثرت وتنوعت الآلات وشاع استعمالها. بين الخاصة والعامة. هذا ما أشار إليه ابن خلدون في المقدمة بقوله: "ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد". ومن هذه المدرسة تخرج الخلفاء العباسيون إذ كان بعض خلفاء بني العباس مغنون مجيدون من الدرجة الأولى وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة العباسي الواثق كان أبرع الخلفاء في العزف والغناء.
مع مرور الزمان وتطور المجتمع العربي وتطور الغناء نفسه وتحوله إلى مهنة مربحة، نجد حتى الحداء قد تطور وتحول إلى شعر وأداء بعد أن كان مجرد كلمات لا يهتم قائلها بأسلوب أدائها، ووصل في العصر العباسي إلى ذروة عليائه حتى قيل إن سلام الحادي، صار مضرب المثل بجمال صوت حدائه. ونسجت حوله الأساطير، ومنها: إنه قال للمنصور العباسي: يا أمير المؤمنين مر الجمالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، وحينما أبدأ بالحداء ستترك الشرب وترفع رؤوسها. فأمر له المنصور بما طلب. وبدأ يحدو لها بأبيات:

ألا يا بانة الوادي بشاطئ نهر بغداد      شجاني فيك صياح طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه ترنم رنة الشادي      إذا اسودت مثالثها فلا تذكر أخا الهادي
وإن جاءت بنغمتها نسينا نغمة الحادي
ويقال إن الإبل عافت شرب الماء ورفعت رأسها كأنها لم تعطش يوماً مع ما بها من حاجة إلى الماء، فتعجب المنصور ومن معه من أمر حدائه، وأمر له بجزية.
كل ذلك بسبب شيوع الغناء وتنوع مبانيه وطرق أدائه وألحانه، روى ابن عبد ربه في العقد الفريد أنه "كان للرشيد جماعة من المغنين، ومنهم إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، ومخارق، وطبقة أخرى دونهم، منهم زلزل، وعمر الغزال، وعُلَّوية، وكان له زامر يقال له برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء وابن جامع أحلاهم نغمة". وكان الخليفة الأمين ابن هارون الرشيد من محبي الطرب، غناه إبراهيم الموصلي يوما أبياتا للحسن بن هانئ، فاستخف الأمين الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه، وأمر له بثلاثة آلاف درهم، فقال إبراهيم: "يا أمير المؤمنين قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم".. فقال الخليفة: "وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟". وأنا والله لم أعجب من بذخ الخليفة، بل عجبت للقوانين التي وهبت الخلفاء حق فرض الخراج على البلدان بحجة أن ذلك قانون إسلامي ليصرفوا موارده على لذاتهم ورغباتهم المنحرفة.
من هنا نجد بعضهم يتحدى الدين وقوانينه ليبيع لنفسه التمتع بالدنيا ومن هؤلاء الخليفة العباسي المعتصم؛ الذي كان يدافع عن الغناء ضد من يفتون بمنعه، وكثيرا ما تجادل مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الذي كان يمتنع عن حضور مجالس الطرب، ولا يرى فيها إلا تضييعا للوقت والمال. وفي هذا الصدد هناك رواية نصها: "جلس المعتصم يوما يستمع إلى المطرب إبراهيم بن المهدي، ثم تذكر الخليفة شأنا عاجلا من شؤون الدولة، فأرسل يستدعي قاضي القضاة، فلما وصل واقترب من المجلس واستمع الغناء، تملكته الحيرة والاضطراب، وشغله الغناء عن كل شيء حتى سقطت عصاه من يده.. ثم دخل وجلس مستمعا، فلما انتهى المغني كان الطرب قد استبد بالقاضي، فوثب يلتمس من الخليفة أن يأمر بإعادته، فضحك المعتصم قائلا: إن تبت مما كنت تناظرنا فيه من صناعة الغناء سألت عمي أن يعيد غناءه عليه، فقال القاضي: قد تبت من ذلك، ورجعت عن رأيي في الغناء، وتركت مذهبي إلى مذهب أمير المؤمنين".
أما إبراهيم بن المهدي، فهو ابن خليفة، وأخو خليفتين، وعم ثلاثة خلفاء.. ولم تمنعه مكانته وحسبه من أن يكون مغنيا كبيرا حاذقا، حتى قالوا عنه: هو أحسن الإنس والجن والطير والوحش صوتا، وكان يحفظ الألحان ويجري عليها بعض التعديلات، وكان تصرفه في الغناء محل جدل دائم ومناظرات لا تنتهي بينه وبين إسحاق بن إبراهيم الموصلي. وكانت أخته عُلية بنت المهدي لا تقل عنه حذاقة إذ كانت من أحسن النساء وأظرفهن وأعقلهن في صناعة الألحان حتى قيل: ما اجتمع في الجاهلية والإسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عُلية، فكانت تطارحه الغناء.
إن تحول الخلفاء أنفسهم إلى مطربين ومؤدين وموسيقيين، وتعلقهم بالقيان والغناء، وتفننهم في إكرام المطربين والموسيقيين، وتحول مجالسهم وقصورهم إلى قاعات للرقص والموسيقى والغناء كان له الأثر الكبير على موقف الشريعة من الغناء، فبالرغم من الإشارات الكثيرة للمفسرين ولاسيما القدماء منهم إلى أن القرآن حرَّم سماع الغناء، جاء هذا في تفسيرهم للآية 6 من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ذهب لذلك القرطبي في تفسيره ومثله جمع من المفسرين، وقال ابن كثير في تفسيره: "ما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما قال الله تعالى: ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال: هو - والله - الغناء  كررها ثلاثا." وكذا قال ابن عباس، وجابر، وعكرمة، وسعيد بن جبي، ومجاهد، ومكحو، وعمرو بن شعيب، وعلي بن بذيمة، والحسن البصري، وقتادة وغيرهم.
بالرغم من ذلك يرى البعض أن الغناء في الإسلام مباح، بعيداً عن مظاهر الفساد والانحلال، لأنه لم يرد أي حديث صحيح  في تحريم الغناء على الإطلاق، وبذلك فإن الغناء ما هو إلا كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح، وأن الأصل حل الغناء بدليل أن الرسول لم ينه زوجته عائشة عن سماعه، ولذلك يرى الفقهاء الذين يرون تحريم الموسيقى ومنهم ابن باز أن الغناء بدون موسيقى جائز،  بشرط أن لا يكون مشتملاً على أشياء توجب الفتنة، وبشرط أن لا يصد الإنسان عما يجب عليه من إقامة الصلاة مع الجماعة، ويرون أن المحرم في الغناء هو تلذذ الرجل بغناء وصوت المرأة الأجنبية. وقبل هذا هناك في تاريخنا من حلل الغناء ومن الذين يرون تحليل الموسيقى والغناء مثلما أورد العز بن عبد السلام بكتابه الموسوم "رسالة السماع وقواعد الأحكام" وابن دقيق العبد بكتابه "اقناع السوانح" كان أبو حامد الغزالي وابن حزم الأندلسي وغيرهم يرون حلية الغناء. ويرى المرخصون أنه بثبوت الترخيص في ضرب الدف، وهو أحد آلات المعازف، يثبت لغيره من الآلات قياسا بجامع الإطراب، فالأصل في الأشياء الإباحة.
يعني هذا أن الدكتور علاء الحلي انطلق لخوض غمار بحر يملأه القتاد والحسك بالرغم من كونه حاول تبسيط الأمر من خلال الحديث عن التاريخ الاجتماعي الذي يعنى بدراسة حركة القوى الاجتماعية في مجتمع ما ودراسة العلاقات التي نشأت فيما بينها من حيث الانسجام والتناقض، ودراسة شبكة العلاقات الاجتماعية المتغيرة وتطور النظم الاجتماعية والتغيرات التي تطرأ على التغيرات الاجتماعية والقيم.
إن اعتماد الباحث على معطيات التاريخ الاجتماعي في تناوله لهذا الموضوع، كون التاريخ الاجتماعي يعنى بدراسة الجماعات الاجتماعية من حيث تركيبها وعلاقاتها وعاداتها وثقافاتها وفنونها؛ يبدو عملا موفقا مبنيا على أسس علمية متينة ورصينة. ولذا كانت وقفته الأولى مع الغناء بين َّ التاريخ والسوسيولوجيا من خلال سوسيولوجيا الغناء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ومنهج الأصفهاني في التوثيق التاريخي والسوسيولوجي، وهي كلها مقدمات للولوج إلى لب الموضوع.
وكانت وقفة الباحث البحثية الأولى مع المغنين والمغنيات من النشأة الاجتماعية إلى مدارس الغناء، ولأن الباحث تناول موضوع الغناء في المجتمع الإسلامي من أواسط القرن الهجري الثاني إلى أواسط القرن الهجري الثالث فقد مهد لذلك من خلال الحديث عن تحول حياة العرب من خلال الإسلام إلى أمة غازية تستطيب الغنائم والسبايا  وهو الأمر الذي تسبب في دخول المغنين والمغنيات من الفرس والروم وغيرهم إلى المجتمع، وبهم تأثر القوم بما فيهم خلفاء الامبراطوريتين الأموية والعباسية، وأولادهم ومعيتهم وقادتهم حتى فشا الغناء في المجتمع ولاسيما بعد أن أغدق الخلفاء على المغنين ما لم يغدقوه على العلماء والفقراء والأرامل واليتامى. وقد أبدع الباحث في تقصي كل من اشتهر من الخلفاء والأمراء بالغناء فأحصى أسماءهم بشكل متقن ودقيق، وبين أثرهم على المجتمع، ومن ذلك اقتباسه عن اليعقوبي قوله: "كان الرشيد أول خليفة من بني هاشم اتخذ القيان، فتشبه الناس به، وسلكوا سبيله". 
ولغرض تكامل جزئيات الدراسة وترابطها ووحدة موضوعها تناول الباحث طبيعة الغناء في العصر العباسي بالدرس مع الإشارة إلى سوسيولوجيا الموضوعات المغناة، فتحدث عن تحول المغنين والقيان وجواري الغناء في العصر العباسي إلى قوة مؤثرة تأمر وتنهى على هواها وما على الخلفاء إلا الطاعة والرضوخ بعد أن ملكن قلوبهم وسيطرن على مشاعرهم، ويحكى في هذا الصدد أن الخليفة الرشيد غضب على جاريته ماردة وغضبت عليه، فقال العباس بن الأحنف في ذلك شعرا غناه إبراهيم الموصلي للرشيد ولما سمعه بادر إلى ماردة فترضاها، وسألت عن السبب فعرفته، فأمرت للعباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم لكل واحد وطلبت من الرشيد مكافئتهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم. بل يتضح من نقول أخرى أن القيان سيطرن على عقول نساء الخلفاء أيضا حيث كان لكل واحدة منهن عدة مغنيات، وكان لأم جعفر مغنية أسمها "هار" تعلق بها مخارق المغني. ويروى أنه كان لعتابة زوج يحيى بن خالد البرمكي مائة وصيفة يُجدن الشعر والغناء والرقص والعزف.
وبالتالي تسبب تفشي الغناء وتكاثر أعداد الجواري في قصور الخلفاء العباسيين بالكثير من المساوئ التاريخية، منها إشغال الخلفاء وإلهائهم عن أداء واجباتهم وانهاكهم بالعلاقات الجنسية التي شغلتهم عن إدارة البلاد ودفعنهم إلى الانحراف، فانتشر الشذوذ والتخنث بين الرجال. كما أدى التضييق على الحرائر واهمالهن إلى تفشي شذوذ السحاق ولاسيما في بلاطي الهادي والرشيد.
وعطف الباحث على شعر ذلك العصر فأشبعه بحثا مقرونا بالأمثلة. فضلا عن ذلك تحدث عن أسباب التغير الكبير الذي طرأ على شعر المرحلة ناسبا ذلك إلى تغير البيئة الاجتماعية للدولة العباسية  بسبب دخول عناصر من الفرس والترك والسريان والرومان والبربر وتمازج عاداتهم وتقاليدهم مع عادات وتقاليد المجتمع الإسلامي، وبسبب ذلك أصبح تعاطي الخمور علنا بعد أن كان سرا، وانتشرت الخمارات  التي كانت بدايتها في باب الكرخ ثم انتشرت في المواخير في شط الصراه ومطلع الفرات والزبيدية وبصرى والمزرقة والبردان وأوانا والقفص وقطربل، ثم امتدت لتشمل مجلات بغداد المأهولة وأسواقها، فقامت في باب الطاق وسوق العطش ودرب الزعفران والرصافة والسورين وأصبحت قبلة اللاهين والعابثين من سكان المدن العراقية فاجتمع فيها القيان والراقصات والندمان والغلمان والمخنثين كلهم يقدمون خدماتهم للزبائن حتى نسى المجتمع أصله فضاعت الدولة وضاعت الأمة. حدث كل ذلك بعدما بدأ الخلفاء يعاقرون الخمر علنا ويعقدون لها المجالس التي تحتاج عادة إلى المؤنسين والمطربين والموسيقيين، وهكذا تكاملت الحلقة بعد أن كان من جزئياتها الأخرى اللهو بالشطرنج والصيد والتعلق بالغلمان الحسان الذين بلغ عددهم لدى الخليفة المعتصم وحده بضعة عشر ألفاً، وتسبب كل ذلك في ضعف الخلفاء وتسلط المماليك والخدم عليهم، ولاسيما بعد ان حذا الوزراء والأمراء والقادة وكبار رجال الدولة حذو الخلفاء وقلدوهم في غيهم وطيشهم وتركوا أمور الدولة، فتحولت دور الحكومة ودور المتنفذين في البلد إلى أوكار للرذيلة والشذو والفسق والفجور، وكاد الاحتفال بالمناسبات الدينية أن يختفي بعد أن تأثر الخلفاء العباسيون بالأعياد النصرانية كعيد الفصح وعيد الشعانين وبالأعياد والطقوس الفارسية كالنيروز والمهرجانات التي تقام بصحبة اللهو. ولهذه الأسباب تفشى الفقر بين طبقات الشعب بسبب بذخ وتبذير الحكام وأتباعهم، ففي حفلة ختان ابن الخليفة أو في أي مناسبة أخرى كان يُؤتى بأوان مملوءة بالذهب الخالص ومرصعة بأصناف الجواهر يأتي بها الفراشون بزنابيل مملوءة بدراهم ودنانير يصبونها بين أيدي المدعوين وهم عادة من الطبقة العليا وهم يصيحون: إن أمير المؤمنين يقول لكم ليأخذ من شاء ما شاء.
إن اختيار الباحث الدكتور علاء الحلي لهذا الموضوع بالذات فيه دلالة على سعيه لإثبات حقيقة أن التطرف في التعامل مع مستجدات التحضر يؤدي عادة إلى عواقب وخيمة، وأن تطرف بني العباس في حبهم للغناء والجنس واللهو قاد البلاد الإسلامية لتقع فريسة بيد المماليك والعبيد الذين تسلطوا على مقادير الأمة وساموا المسلمين سوء العذاب وتسببوا في ضياع حضارة عظيمة كان لها لو صانها أهلها أن تكون أعظم حضارة في الكون بلا استثناء.
الكتاب بما تضمنه من أحاديث وقصص ومقطوعات شعرية وأخبار يعد تحفة من تحف الأنس المعرفي، وأجمل ما فيه أنه يشجعك على ألا تتركه إلى أن تنتهي من قراءته، وحينما تكمل القراءة ستجد نفسك بحاجة إلى مراجعة بعض مواضيعه أكثر من مرة.
صدر الكتاب عن دار روافد اللبنانية بمائتي صفحة من القطع الكبير، وهو كتاب جدير بالقراءة نظرا للمعلومات الغزيرة المجموعة فيه.








 



43
العربية بين الأصل والاصطلاح
قراءة في كتاب "اللغة العربية الخامسة" للأستاذ الدكتور محمد تقي جون
الدكتور صالح الطائي

اللغة هذه المفردة التي تجتمع فيها كل مؤشرات حياتنا المعاصرة بعد أن رقتْ من مجرد إشارات بسيطة إلى منظومة متشعبة، هذا الكائن الاعتباري الجميل والمدهش الذي يترجم مشاعرنا وما تجيش به عواطفنا ولوعة محبتنا وبوادر غضبنا وشدتنا ونزقنا واستكانتنا وهدوئنا وترنيمات دعائنا وتنمرنا وضعفنا وقوتنا وقسوتنا ورضانا وسعادتنا وتعسنا وحزننا، لم تعد مجرد وسيلة، بل هي كائن يشاركنا الوجود، ولد معنا وكبُرَ وشب وشاخ معنا، ويستحق منا أن نقدره ولا نغمط حقه، وربما لهذا السبب ولأن لها ثلاثة مستويات: الاستهلاك اليومي، والإبداع الأدبي، والدراسات العلمية، كانت اللغة وما تزال وستبقى، ساحة بحث لعلوم عديدة، منها علم اللسانيات، وعلم الانثروبولوجي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والطب والسلوك، وقد اهتمت الدراسات العلمية والإنسانية بمفهوم اللغة قديما وحديثا بل إن اهتمامها اليوم أوسع مما كان عليه من قبل؛ فاللغة على المستوى العلمي هي الخصيصة الإنسانية التي تشتغل وفق خوارزميات منطقية قادرة على توصيف الفكر الإنساني وترجمة محتواه، وإعادة انتاج المعرفة، وتسعى على المستوى المجتمعي إلى تقريب الرؤى وفض النزاعات والتعبير عن المشاعر وتسيير دفة الحياة وإدارة شؤون العلاقات الفردية والمجتمعية.
واللغة من حيث التركيب هي: الألفاظ والمعاني والقواعد (1) التي تتعلق بوظيفة التخاطب والتفاهم والتبادل المعرفي بين جماعة من الناس، وهي مجموعة المصطلحات والمرادفات التي دونها العلماء في المعاجم كونها تُعبِّر عن الجماعة الناطقة بها، وعن نفسيتها، وعقليتها، وطباعها ومناخها الاجتماعي والتاريخيِ أيضا. وهي ظاهرة سيكولوجية اجتماعية ثقافية اُكتسبت عن طريق التجربة والاختبار، لتترجم معانٍ تراود الذهن، وبهذا تكون اللغة نتاجا اجتماعيا هو عبارة عن مرآة عكست تاريخ الأمم واهتماماتها.
أما من حيث التعريف فمعناها في مختار الصحاح للرازي: لغا، وألغى الشيء أبطله، وألغاه من العدد ألقاه منه، واللاغية اللغو، قال تعالى: {لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} أي كلمة ذات لغو. واللغة أصلها لُغيِّ أو لغو، وجمعها لُغى ولغات. ومعناها في مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني: لغا اللغو من الكلام ما لا يعتد به.. وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.. وقد يسمى كل كلام قبيح لغواً قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}.. ولَغِيَ بكذا أي: لهج به لهج العصفور بلغاه أي: بصوته. ومنه قيل للكلام الذي يَلهجُ به فرقةٌ فرقةٌ: لُغة.
أما في الاصطلاح فاللغةُ: أداة معرفية تتكون من نسق من الإشارات والإيحاءات والرموز والأصوات، طورتها الأمم بعد الكثير من التجارب لتصبح وسيلة من أهم وأنجح وسائل التفاهم والاحتكاك والتواصل بين الأفراد؛ للتعبير عما يدور في أذهانهم من أفكار ورغبات ومصالح ومهمات ومطالب ومشاعر، وهي بذلك مثل غيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى تتأثر عادة بالمنظومة المجتمعية لكل مجتمع مهما كان صغيرا أو مقفلا على نفسه، ولذا نراها تزدهر بتقدم المجتمع وزيادة معارفه، وتندثر بإهمال أهلها لها نتيجة الضعف الفكري والفقر المادي، وهي كائن حي ينمو وينضج ويتطور ويمرض ويشيخ ويموت. من هنا وصفها ابن خلدون في التبرير بأنها: ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب.  وقال عنها في المقدمة: "إعلم أن اللغة هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل ٌّ لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام. فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان".
وذهب ابن جني في الخصائص إلى أنها: أصوات يُعبِّرُ بها كلُ قومٍ عن أغراضهم. ورأي ابن حزم فيها أنها: ألفاظ يعبر بها عن المسميات، وعن المعاني المراد إفهامها. وذهب نعوم تشومسكي إلى أنها وسيلة للتعبير عن الواقع وما به من أحداث، متجاوزةً الحدود الزمنية والمكانية لهذه الوقائع.
ولغتنا العربية واحدة من مجموعة اللغات السامية القديمة، وهي تحديدا من مجموعة (اللغات السامية الوسطى) التي تندرج من أصل لغوي واحد، وتتألف منها ومن العبرية والسريانية، وتختلف بشكل كلي عن اللغة الحميرية أو الجعزية ولغات أخرى تشكل مجموعة (اللغات السامية الجنوبية) بشقيها الشرقي والغربي. وهي برغم ما تعرضت له في مسارها، تمكنت من الحفاظ على هيبتها وهيئتها الكلية وأطرها العامة، ونجحت في الثبات بوجه عاديات الزمان مع ما أصاب جوهرها من التبدل والتبديل، على خلاف أخواتها من مجاميع اللغات السامية الأخرى التي انقرضت غالبا أو اضمحل وجودها وانحصرت في أضيق الزوايا، ربما لأنها لم تلق العناية التي لقيتها اللغة العربية، أو انها لم تكن تملك مقومات البقاء مثلما هي العربية في طبيعتها.
وبرأيي الخاص أن العربية وجدت ظروفا مؤاتية لم تحصل عليها أخواتها اللغات السامية الأخرى، منها جزالتها وقوتها ومطواعيتها في التجديد والتضمين والاشتقاق والنحت، ومنها طبيعة عيش المتكلمين بها التي تتنوع امتداداتها من البداوة إلى الريف إلى الحضر، وهي البيئات التي خلقت ما يعرف بـ"ألسنة القبائل"، تلك التسمية التي أطلقت على لهجات العرب التي كانت القبائل العربية تتحدث بها، حيث التباين الواضح في النطق واللفظ، والإدغام، والإظهار، والتفخيم، والترقيق والإقلاب وغيرها، مع وجود مشترك ثابت مع اللغة الأم التي تجمع هذا الطيف تحت عنوانها العام. فضلا عن ذلك جاء نزول القرآن الكريم باللغة العربية دونا عن كل لغات العالم الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، فأسهم في تشذيبها وتهذيبها وتنقيحها وانتشارها وخلودها، ولاسيما بعد أن أصبحت لغة أداء أغلب العبادات بالعربية حصراً.
ولكون اللغة، أي لغة هي الأداة التي استخدمها الإنسان عبر تاريخه الطويل في التعبير عن تفكيره وما يجول في خاطره، والتعبير عن مشاعره ورغباته، والوسيلة التي سد من خلالها احتياجاته، وفهم من خلالها رغبات وطلبات الآخرين، نجدها على مر التاريخ محل اهتمام العلماء، كل منهم قد درسها من زاوية تخصصه الدقيق، فتناولها علماء الأنثروبولوجيا من ناحية الاختلافات اللغوية بين الأمم والشعوب والجغرافيات، وتناولها المؤرخون وعلماء الاجتماع من ناحية التغيرات التي طرأت عليها تاريخيا، ودرسها علماء النفس ليكشفوا من خلالها ـ باعتبار أنها الأداة الأساسية لاتصال الإنسان بالغير ـ عن الوظائف النفسية للإنسان الكائن الوحيد الذي يستخدمها في تخاطبه مع جنسه، أما النحويون واللغويون فتناولوها من ناحية قواعدها وتكوين وتركيب جملها ومعاني كلماتها ومفرداتها ونحوها وقواعدها.
وعلى العموم اهتم جل هؤلاء منذ أقدم العصور بنشأة اللغة، باعتبار أنها من أهم المُؤَسِسات والمُنْشِئات للروابط الاجتماعية الإنسانية، فذهب بعض العلماء المسلمين إلى أن اللغة توقيفية مثل بعض العبادات، وهي وحي من عند الله تعالى، مستندين بمذهبهم هذا إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وعَلَّم آدَم الأسماء كلَّها}، ومن هؤلاء ابن فارس وآخرون، بينما ذهب ابن جني وآخرون إلى أن الله تعالى أقْدَر الإنسان على وضع الألفاظ واستخدامها، أما اللغة فهي اصطلاحية ابتُدِعَت بالتواضع والاتفاق. هذا ما يتضح من قول ابن جني: "غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف".
وهناك من رأى أن اللغة بدأت بالمقاطع الطبيعية التي تَفوَّه بها الإنسان عفويا أثناء استعمال أعضاء جسمه في العمل اليدوي.، وهي مقاطع لا زال الإنسان يطلقها أثناء العمل الجاد والمنهك مع كل ضربة يضربها. وغير ذاك وهذا هناك من اعتقد بأن نشأة اللغة كانت في الأصل محاكاةً لأصوات الطبيعة مثل: أصوات الحيوانات والطيور، وأصوات الظواهر الطبيعة كالرعد والمطر والريح وخرير الماء، ثم مع تقدم الإنسان تطورت الفاظ المحاكاة تلك، وتحولت إلى صيغ ثابتة مميزة. ومن دون الرؤى وجدت هذه الرؤية قبولا واستحسانا من قبل بعض اللغوين المعاصرين الذين اعتبروا أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية، تتفق في أغلب وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل. فالطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية.
يعني هذا أن هناك مباحث عديدة في نشأة وتعريف وطبيعة اللغة شغلت بال العلماء والباحثين عبر التاريخ، وأنه من الصعوبة بمكان إحصاء عدد الذين اهتموا باللغة العربية بالذات ـ باعتبار أنها أصل موضوعنا هذا ـ مثلما هي عملية احصاء عدد الذين أساءوا إليها، وبين هذا وذاك عملت الأحداث على فتح ثغرات في جدارها المتين تسببت بانهيار بعض قلاعها ولاسيما يوم تمكنت الهجنة من تأسيس موطئ قدم لها في بنائها الشامخ، وأخذت تنافسها على الصدارة مدعومة بجيش من المستعربين الباحثين عن الجاه والمال والكسب والوجاهة؛ بعدما وجدوا أن أهلها بدأوا يتخلون عنها وكأنهم ملوها، أو أنهم انشغلوا بغيرها.
وما يهمنا في هذه القراءة، وما ينطبق عليه جل الحديث هو مسار اللغة واتجاهها البنائي صعودا، والضموري نزولا تبعا لتطور الأحداث وتداعياتها لأن ذلك هو محور ما أراد الباحث الأستاذ الدكتور محمد تقي التأكيد عليه في كتابه الذي تناول فيه قضية تهجين الإنكليزية للعربية المعاصرة بالألفاظ والمعاني والقواعد وهو منهج مختلف في دراسة المعجم العربي وكتب التصحيح اللغوي، وأعتقد أنها محاولة تصحيحية مدعومة بالعلم الذي أكدت اللغة ذاته، وآن له أن ينصرها في محنتها وأزمتها، ففي كتابه الاتجاهات الأساسية في اللغة نقل رومان جاكوبسون عن ستيفن ملارميه قوله "إن العلم الذي وجد في اللغة تأكيدا لذاته عليه أن يصبح الآن تأكيدا للغة". وقد يكون سعي الدكتور محمد هذا قد جاء بوازع من ضمير لنصرة اللغة التي يحبها.
إن تخصص الباحث الدكتور محمد تقي في اللغة العربية فضلا عن تدريسه لها في الجامعة، وحبه لها وحرصه عليها، كل ذلك زائداً الملكة العلمية والمؤهلات التي يحملها، لم تؤهله لهذه المهمة الصعبة فحسب، بل وجعلته يشعر أن الواجب الشرعي والأخلاقي والوطني يلزمه بفعل ذلك وفق مقولة الجويني في كتابه البرهان في أصول الفقه: "حق على كل من حاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن وبحقيقته وفنه وحده". وقد بين هذا الحب في مقدمته التكي كتبها للكتاب بقوله: "إن إحياء لغة العرب واجب ديني أكثر من أي شيء آخر". وكم استوقفتني مقولة السيوطي في كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها: "إن الإنسان هو المتمدن بالطبع، والتوحش دأب السباع، ولهذا المعنى توزعت الصنائع، وانقسمت الحرف على الخلق، فكل واحد قصر وقته على حِرفة يشتغل بها لأن كل واحد من الخلق لا يمكنه أن يقوم بجملة مقاصده فحينئذ لا يخلو من أن يكون محل حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه، فإن كانت حاضرة بين يديه أمكنه الإشارة إليها، وإن كانت غائبة فلابد من أن يدل على محل حاجته وعلى مقصوده وغرضه".
ويعني هذا أن غاية الباحث النزيه الجاد الذي يخوض فيما يراه بحاجة إلى التنقيح والتهذيب والتصحيح هي الوصول إلى حقائق الأشياء وجوهرها المغيب؛ طالما أن ما بين أدينا لا يكفي لتوضيح المقاصد وبيان الغايات إذ "ليست المصطلحات مفاتيح العلوم، وإنما التعريفات مفاتيح العلوم". فإذا كان هذا التصور الذهني العميق مدعوما بالحرص الشديد على سلامة اللغة مثلما هو لدي السيد الباحث؛ الذي سبق وأن وضع كتابا مهما بعنوان "سلامة اللغة العربية في الكتب الإدارية" وهو كتاب تناول فيه تصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في المخاطبات الإدارية في مؤسسات الدولة، وقد تحول هذا الكتاب نظرا للمعلومات القيمة التي يحتويها إلى مرجع لغوي في بعض مؤسسات الدولة، فذلك يعني أن عدة عوامل بنائية اشتركت لتسهم في إنضاج مشروع يصب في سلامة اللغة العربية والحفاظ عليها، وهذا ما يتضح من خلال الكتاب الثاني الذي نحن بصدد قراءته. هذا الكتاب الذي أخذ منه جهدا ووقتا كبيرين بسبب اعتماده عشرة معجمات، فضلا عن 265 كتابا، ودواوين 2300 شاعر، و10 معجمات قديمة ضمتها الموسوعة الشعرية الإصار الثالث، فضلا عن البحث في مجمعات غير الموسوعة مثل موسوعة أهل البيت التي ضمنت 4709 كتابا، وكتبا إنكليزية، والانترنيت واستشارة المتخصصين باللغة الإنكليزية.
جاء كتاب الأستاذ الدكتور محمد تقي جون اللغوي الثاني الموسوم "اللغة العربية الخامسة الفصحى الهجينة" ليؤكد هذا المنهج البنائي الخصب. والملاحظ على منهج الأستاذ الدكتور؛ الذي اتبعه في تأليف هذا الكتاب أنه لم يحصر نفسه في زوايا تخصصه العلمي اللغوي البلاغي عند تناول الموضوع بالدرس والتفكيك ولم ينظر للقضية من هذه الزاوية فحسب، وانما استعار من علماء الأنثروبولوجيا ومن المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس ومن النحويين واللغويين وغيرهم منهاجهم البحثية فضلا عن إجادته التحدث باللغتين الإنكليزية والكردية، ثم وظف ذلك كله بشمولية علمية أملا في الوصول إلى مبتغاه وغايته.
وبغية تشكيل الهيئة العامة للبحث تحدث الباحث في مقدمته الطويلة (2) عن نشأة اللغة العربية وتطورها والمراحل التي مرت بها وتداعيات هذه المسيرة الطويلة وما تركته عليها. وفي تتبعه لأصول ومنابع اللغة العربية ومراحل تطورها ونشأتها وما آلت إليه اليوم، غاص الباحث في بطن التاريخ، وأعلن أننا اليوم لا نتكلم العربية الفصحى، بل لا نتكلم العربية، وإنما نتكلم لغة (اصطلاح) أو لغة (عرف) لأن الكثير من المفردات والجمل والقواعد والتعابير والأساليب في لغتنا هي ليست عربية. ثم استنتج ـ دون أن يبين مصدر استنتاجه ـ أن لغتنا العربية وصلت إلى هذه الحال بعد أن مرت بخمس مراحل (3)، بدت في كل مرحلة منها وكأنها نسخة مختلفة عن النسخ التي سبقتها وأكثر هجنة من سابقتها، وهذه المراحل الخمس هي:
اللغة العربية الأولى (الفصيحة) التي تكلمها العرب الأقحاح في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، وهذه اللغة لم تدون فضاع أكثرها بعد الإسلام.
اللغة العربية الثانية (المختارة) وهي عربية القرآن، وتعد أول لغة دونت لأسباب دينية.
اللغة العربية الثالثة (المولَّدة) وقصد بها اللغة التي فشت في زمن العباسيين بتأثير العجم حيث ادخلوا فيها المعرَّب والدخيل والمترجم، فاختلطت بالعجمة وانتهت فصاحتها الخالصة.
اللغة العربية الرابعة (المختلطة بالعامية) وهي لغة القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث وهي التي أطلق عليها اسم اللغة العربية غير الفصيحة. 
اللغة العربية الخامسة (الهجينة) وهي العربية المعاصرة.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن اللغة أي لغة إنما تؤكد قوتها ومتانة موقفها وصلابة بنائها من خلال تعاملها مع الاشتقاقات الحديثة والمصطلحات الواردة إليها، وكلما تمكنت اللغة من استيعاب الجديد كلما كانت أقوى، يرى الدكتور محمد تقي أن المثاقفة اللغوية أو انتقال الألفاظ على سبيل المثال؛ الذي خصص الباب الأول (4) للحديث عنه، وأطلق عليه اسم الاقتراض يؤشر حالة فقر اللغة، واقتراض العربية الخامسة يؤشر الفقر المدقع والإفلاس الوبيل للغتنا المحكية، بل واعتبر الألفاظ الجانب الوحيد الذي اُخترق في العربية من قبل اللغات التي احتكت بها منذ اتصل العرب بغيرهم. وهو يقصد طبعا الاقتراض المبالغ فيه وليس الاقتراض الطبيعي الذي يمثل حالة غنى وإغناء في الحدود الطبيعية.
ومثله الباب الثاني (5) الذي خصصه للحديث عن المعاني، وتحدث فيه عن دور الترجمة في رفد اللغة بمعان ليست من أصلها في الكثير منها عجمة لا تتوافق مع العربية الفصحى.
أما القواعد فخصص لها الباب الثالث (6)، الذي تحدث فيه عن تداعيات اختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المستعمر الذي تسبب في انهيار قواعد لغتنا، وجراء ذلك تُرك قسم من قواعد العربية، واستبدلت به قواعد أجنبية، فصرنا ـ على رأي الباحث ـ نقرأ جملا عربية بقواعد إنكليزية، وهذا أعلى مستوى من الهجنة وصلته العربية.
إن الجهد الذي بذله الأستاذ الدكتور محمد تقي جون في جمع مادة هذا الكتاب الفخم الذي تجاوز عدد صفحاته 461 صفحة، جهدا مؤسساتيا استثنائيا عاليا، والمعلومات الواردة في الكتاب وفيرة ومتشعبة، وبرأيي أن فخامة محتوى ومادة الكتاب تحتاج إلى قراءة متأنية من المتخصصين باللغة العربية وهواتها لبيان الرأي، لأن اتساع المادة التي شملت لغتين: العربية والإنكليزية يوقع حتما في الخطأ أو السهو أو الوهم، ولأن ما ورد في الكتاب بالرغم من إشارة الباحث في المقدمة إلى أنه جمعه من مصادر عديدة موثوق بها إنما يمثل غالبا رأيه الشخصي والإنسان يخطئ ويصيب، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كل ابن أنثى خطاء وخير الخطائين التوابون"، فقد تتوافق الرؤى وتتفق الآراء، وإذا حدث ذلك فعلا فمعناه كما قال الباحث إن لغتنا تحتضر، وأنَّ ما من لغة استبيحت كما استبيحت اللغة العربية، ولا أهل لغة كالعرب لم يأبهوا لحال لغتهم (7)، وأن على العرب أن يهبوا للدفاع عن لغتهم ومصيرها ومستقبلها قبل أن تندثر وتموت بفعل ما تتعرض له من ضيم وهم سكوت. فما شخصه الباحث من أن لغتنا التي نتداولها اليوم والتي نسميها اللغة الفصحى إنما هي لغة هجينة دخلت في السلائق فلا يمكن الفكاك منها، لذا وردت في مادة الكتاب حالات أشار إليها الباحث بصفتها عيوب ولكن في شرحه تكلم بها لتأكيد أنها صارت سليقة والفكاك منها يحتاج إلى تظافر جهود الجميع
وباستثناء رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد، خلا الكتاب من بيانات التوريق مما يدل على أنه صدر بطبعة محدودة، ولذا أتمنى من كل قلبي أن تبادر إحدى الجامعات العراقية أو وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية بإعادة طبع الكتاب ونشره على مستوى واسع لكي يأخذ مداه المأمول ولا يبقى محصورا بين يدي ثلة من المثقفين.

 
الهوامش
(1)   ربما لهذا السبب قسم الباحث كتابه على ثلاثة أبواب هي: الألفاظ والمعاني والقواعد.
(2)   استغرقت المقدمة الصفحات من 3 لغاية 20.
(3)   جون، أ. د. محمد تقي، اللغة العربية الخامسة، ص5.
(4)   الباب الأول بعنوان الألفاظ من ص21ـ 114.
(5)   الباب الثاني بعنوان المعاني من ص115ـ 388.
(6)   الباب الثالث بعنوان القواعد من ص389ـ 460.
(7)   جون، مصدر سابق، ص20.
 

44
التثقيف من خلال الترجمة؛ الدكتور علي عبد الأمير صالح نموذجا
صالح الطائي
منذ مراحل وعينا الأولى، وبدايات اهتمامنا بالقراءة؛ وموضوع الترجمة يشغل بالنا ويجلب انتباهنا، حتى أننا كنا لا نشتري الكتاب المُتَرْجَم إلا بعد أن نعرف المُتَرْجِم لأن مترجمين بعينهم تمكنوا من التأثير فينا بأسلوب تعاملهم الدقيق مع الموضوع المُترجَم. ثم اكتشفنا بعد أن اشتد ساعدنا ونمت فينا ملكة التمحيص أن ليس وحدنا من اهتم بذلك، وأن ثقافات العالم بطبيعتها تقوم على مبدأ الاختلاف، ليس في أنماطها البنائية فحسب وإنما حتى في تحليلها للخبرات الإنسانية؛ التي تختلف من جغرافية لأخرى، بل تختلف في الجغرافية الواحدة نفسها أحيانا، فهناك مسافة شاسعة بين لغات وثقافات الشعوب تخلق نوعا من الحواجز التي تعيق الفهم وتمنع التواصل المشترك، والانسان مهما ارتقى ومهما تقدم يبقى ناقص المدارك إذا لم يطلع على مكامن الغيرية ومنابع الهوية الأخرى، التي تتيح له المقارنة مثلما تتيح له الانتفاع والربح المعنوي، فالآخر بكل انتماءاته هو واحة معرفية أخرى تنمى مدارك من ينهل من رياضها، ولا يكتمل الجمال إذا لم تتناسق أجزاؤه بالمعنى.
ولا يمكن للعالم أن يشعر بالحميمية تجاه الآخر إذا لم يفهمه من حيث الكلية والعموم نظرا للتداخل الإشكالي والمفاهيمي المعقد الذي يكتنف الثقافات المنحدرة من أصول وانواع واثنيات مختلفة منحتها فرصة التحكم بالمنعرج الثقافي الكوني.
ولا أعتقد أن ممارسة أخرى غير الترجمة لها قدرة الربط والتوصيل بين أطراف المعادلات الإشكالية القائمة التي ولدتها الثقافات بصورها وأشكالها النمطية المتنوعة، فالترجمة هي المرآة التي تعكس الصورة الأخرى، لتزيل طقوس فوبيا الغيرية عن كاهل العقل، وهي القادرة على أن تعمل وفق مواصفاتها الخاصة على خلق أواصر فكرية مشتركة لها قدرة استيعاب الآخر في حيز معين من مجمل ممارساته الفكرية، ولذا اهتم الإنسان منذ بواكير ثقافته الأولى بالترجمة بشكلها البدائي الذي كان مقتصرا على الإشارات والرسوم والمحاكاة بالحركة، لتتحول بعد ذلك إلى الفعل المحصور بين نصين مكتوبين: النص المصدر ـ والنص الهدف، حيث تولت الترجمة عملية تحويل النص المصدر من لغته المكتوب بها إلى اللغة الأخرى ليصبح في متناول اقواما آخرين.
والترجمة أنواع عديدة منها: ترجمة فورية، وشفوية، وكتابية، ونصية، وتحريرية، وسماعية. وهي بكل أنواعها عملية نقل لحديثٍ أو قولٍ مكتوب بلغته الأصلية ليصبح مفهوما لدى متحدثين بلغة أخرى، وبذلك تعتبر الترجمة بمعناها الواسع عملية تشييع فكر وحضارة وثقافة شعب تتيح لشعب آخر فهمه والتمتع بجماله.
ومع أن الترجمة تعتبر فناً مستقلاً بذاته يعتمد على الإبداع والحس الأدبي والثراء اللغوي، والقدرة على تقريب الثقافات، وخلق التواصل بين البشر، والافادة من خبرات الآخرين وتجاربهم، إلا أنها بقيت تدور في أطر محدودة، لا يجيدها إلا القلة ممن أتيحت لهم الفرص، أو أمروا بذلك، أو ألجأتهم ظروف عملهم على ذلك.
نجد على سبيل المثال أن عرب الجاهلية عرفوا الترجمة ومارسوها، لأنهم كانوا يرتحلون للتجارة صيفًا وشتاء ويتعاملون مع الفرس والبيزنطيين. وبعد البعثة ولاسيما في الطور المدني اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالترجمة كثيرا، فمع أن المؤرخين ذهبوا إلى أن الترجمة لم تعرف إلا في العصر العباسي الأول مع حركة التعريب التي أطلقها المأمون، إلا أن الواقع أثبت أن الترجمة حظيت بعناية الإسلام في زمن البعثة ولاسيما بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وقد جاء في الأثر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة يهود المدينة العبرية، فتعلمها في خمسة عشر يوما فقط، وكان يقرأُ لرسول الله كتبَهم إذا كتبوا إليه، ويجيب عنها. بل وتعلم أكثر من لغة بأمر رسول الله منها السريانية والفارسية والحبشية والرومية والقبطية، وأصبح المترجم الرسمي لرسول الله.
فضلا عن ذلك استوجب دخول أعداد غفيرة من الأعاجم إلى الإسلام وتواجدهم في المدينة أن يتعلموا اللغة العربية ليفهموا نصوص الكتاب والسنة، وأن يتعلم العرب بعض لغاتهم لكي يبادلهم الحديث. وبعد عصر البعثة اهتم المسلمون الأوائل بالترجمة بعد توسع الفتوح ودخول الموالي والجواري والسراري والقيان والإماء إلى دولة الإسلام، وكان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد أمر بتعريب دواوين الدولة وعلى نهجه سار خلفاء أمويون آخرون منهم ولده الوليد ابنه، حيث ترجمت كتب العلوم والتاريخ والأدب من اللغات الإغريقية والسريانية والبيزنطية.
أما في زمن الدولة العباسية فقد أخذت الترجمة مدى واسعا ولاسيما في القرن الثالث الهجري بعد إنشاء بيت الحكمة. ولم تتوقف الترجمة منذ ذلك الحين حتى قال قائلهم وهو صفي الدين الحلي: "كل لسان في الحقيقة إنسان"، وهو القول الذي تحول إلى مثل دارج: "كل لسان بإنسان".
علميا تقسم الترجمة حسب "جورج ستاينر (George Steiner)‏ إلى ثلاثة أقسام:
ـ الترجمة الحرفية أو الترجمة المباشرة: التي تتم عن طريق ترجمة الألفاظ أو النصوص من لغة إلى أخرى حرفيا، وتسمى أيضا الترجمة التقنية لأنها تستخدم عادة لترجمة النصوص القانونية والعلمية والتقنية.
ـ الترجمة الحرة أو الدلالية: وهي تسمح للمترجم بالتعبير بحرية عن الفكرة المراد ترجمتها ويكون حسب أستاذ الترجمة بجامعة سري "بيتر نيو مارك" (Peter Newmark)‏ ولاؤها الأصلي للنص المصدر بما فيه من تركيبات نحوية ولغوية. وتستخدم الترجمة الدلالية عادة عندما يكون المترجم ملزما بعدم التغيير في النص المصدر، وذلك عندما يكون الكلام أو النص المراد ترجمته على مستوى عال من الأهمية، منها على سبيل المثال ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى.
ـ الترجمة الأمينة: وهي على رأي "جورج زيناتي" المفكر اللبناني الذي اشتهر بترجماته لفيلسوف تفكيك السلطة الفرنسي "ميشيل فوكو" ترجمة الانفتاح وإعادة الصياغة مع الالتزام بالفكرة الأصلية وعدم المساس بروحها، وتستخدم عادة في الترجمة الأدبية.
وللترجمة الأدبية خصوصية بالغة الأهمية تجعلها من أكثر أنواع الترجمة صعوبة لأن المترجم مُطالب لا بنقل معانٍ من لُغة إلى أخرى فحسب، فذلك عمل الترجمة الحرفية، وإنما هو مسؤول عن وصف مشاعر وأحاسيس المؤلف الأصلي واستنساخ صور أدبية عالية مقاربة للأصل. وهي ترجمة احترافية تهتم بالمعنى العام للنص الصادر والتعبير عنه بجمل وكلمات منتقاة بعناية تكون مماثلةً في المعنى والصورة لما ورد في أصل النص.
ومتى ما كان المترجم صاحب ملكات ابداعية ضمن مجال تخصصه الدقيق تصبح الترجمة لعبة إبداع وتألق، فالأديب القاص والروائي يكون عادة أفضل من غيره في ترجمة القصص والروايات الأجنبية طالما أنه يعرف أصول اللعبة ويمارسها، ويمتلك أدوات الكتابة في هذا الصنف من الأدب، وكلما كان الأديب متميزا بأسلوبه في الكتابة وفي ثقافته وإلمامه باللغة الأجنبية التي يترجم منها إلى العربية تتاح للقارئ فرصة التمتع بالقراءة؛ وكأنه يقرأ باللغة الأصلية التي كُتب بها العمل. فإذا امتلك المترجم ثقافة نقدية وكانت له ملكة النقد كقيمة مضافة لملكاته الأخرى تكاد أعماله المتَرْجَمة أن تكون غاية في الإبداع.
والدكتور علي عبد الأمير صالح واحد من هذا الصنف المميز بالذات، فهو قاص وروائي وناقد ومترجم (من الإنكليزية إلى العربية)، ولذا أبدع في أعمال الترجمة الأدبية التي قام بها.
والدكتور علي من مواليد الكوت/ محافظة واسط / العراق ، سنة 1955، وهو خريج كلية طب الأسنان /جامعة بغداد، سنة 1978. كانت بداياته مع القصة القصيرة، ونشر أول قصة قصيرة بقلمه في مجلة (الطليعة الأدبية) في آب 1975 وكانت بعنوان "أجساد الشهداء". وقبل أن ينهي دراسة طب الأسنان نشر أول قصة قصيرة مترجمة في مجلة (صوت الطلبة) في أيلول 1977. حملتْ عنوان " الطلب الأخير"، وهي من تأليف الكاتب الروسي ألكسندر  فامبيلوف. ثم أهلته مميزاته العلمية والأدبية ليترأس اتحاد الأدباء والكتاب في محافظة واسط بين حزيران 2003 وآذار 2005، وليصبح خلالها عضو المجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في دورته الأولى بعد سنة 2003.
التميز الذي حظي به الدكتور علي أهله للحصول على كثير من الجوائز المهمة ومنها: جائزة وزارة الثقافة العراقية سنة 2000 عن ترجمته لرواية "طبل من صفيح" للكاتب غونتر غراس. وجائزة الإبداع بدورتها الأولى سنة 2009 / وزارة الثقافة العراقية / عن روايته   "خميلة الأجنة ". والجائزة الثالثة في حقل النقد الأدبي في مسابقة دار الشؤون الثقافية العامة لسنة  2009 ، عن دراسته الموسومة "رواية  الضلع؛ تعدد الأساليب وكسر التابوات"، عن رواية " الضلع " للكاتب العراقي حميد العقابي. وجائزة الإبداع العراقي لسنة 2017 في حقل الترجمة، عن ترجمته لرواية "راوي مراكش" للكاتب الهندي الأميركي جويديب روي  باتاجاريا.
مع هذه البدايات الإبداعية المبكرة ما كان للدكتور علي أن يركن إلى الهدوء ويشغل نفسه بين المستشفى والعيادة الخاصة والعائلة، ولذا خصص جزءً مهما من وقته للكتابة والتأليف، ووقتا لقراءة الروايات والقصص الأجنبية المكتوبة باللغة الانكليزية. فولج عالمي التأليف والترجمة الاحترافية في بواكير حياته لتتسع رقعة انجازاته فتشمل في جنبة التأليف والإبداع الشخصي الذاتي:
   1 ـ الهولندي الطائر / قصص / دمشق 2000 . (اتحاد الكتاب العرب)
  2 ـ خميلة الأجنة / رواية / بيروت 2008 . (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)
   3 ـ أرابيسك / رواية / عمّان 2009 . (دار أزمنة)
   4 ـ يمامة الرسام / قصص / بيروت 2010 . (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)
   5 . ثقافة واسط: الماضي والحاضر، جزءان / دمشق 2017 (دار تموز للدراسات والنشر والتوزيع)
   6 . العوالم الثلاثة: تجربتي في الكتابة والترجمة والنقد/ دمشق 2018 (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) 
اما في الفرع الثاني، أقصد فرع الترجمة من الانكليزية إلى العربية، فقد كانت للدكتور علي إسهامات رائعة في رفد الساحة الأدبية العراقية بكم رائع من الروايات العالمية التي ما كان متاحا للقارئ الاطلاع عليها لولا الجهد الذي بذله في ترجمتها، فأنتج:
   1 ـ حفلة القنبلة / رواية / غراهام غرين / بغداد 1989. (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد)
   2 ـ طبل من صفيح / رواية / غونتر غراس / بغداد 2000. (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد)
   3 ـ قط وفأر / رواية / غونتر غراس / ط 1 2001. (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد)؛ ط2، دمشق 2010 (دار الينابيع)
   4 ـ قل لي كم مضى على رحيل القطار/ رواية / جيمس بولدوين/ القاهرة 2003.  (المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، رقم الإصدار 671)
   5 ـ دلتا فينوس/ رواية / أناييس نن/ دمشق 2007. (دار المدى للثقافة والنشر)
   6 ـ جبل السحر/ رواية / توماس مان / ط 1/  2007. (دار الشؤون الثقافية   العامة، بغداد)، ط2، الجبل السحري/ بيروت 2010. (منشورات الجمل)
   7. بريدا/ رواية / باولو كويلو/ دمشق 2009. (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، دمشق
   8 ـ حدائق النصوص/ نقد/ مجموعة كتاب/ دمشق 2009. (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، دمشق
   9 ـ السبت/ رواية / إيان مكيوان/ دمشق 2010. (دار الينابيع)، دمشق
  10 ـ البحيرة / رواية / ياسوناري كاواباتا / دمشق 2010. (دار الينابيع)، دمشق
  11 ـ سيرة ذاتية مبكرة / يفجيني يفتوشنكو / ط 1 دمشق  2011. (دار رند للطباعة والنشر والتوزيع)، ط2 بغداد 2013 (دار الشؤون الثقافية العامة)
  12 ـ عزيزي غابرييل/ رواية / هالفدان و. فريهو/ بيروت 2010. (الدار العربية للعلوم/ ناشرون)
  13 ـ المليونير المتشرد/ رواية / فيكاس سواراب/ بيروت 2010. (الدار العربية للعلوم/ ناشرون)
  14 ـ نساء في الأدب / حوارات مع 20 كاتبة عالمية / بيروت 2011. (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)
  15 ـ خيول مرقطة وقصص أخرى/ مجموعة من الكتاب/ دمشق 2011. (دار رند للطباعة والنشر والتوزيع) 
   16ـ قوانين الحب الأربعون/ رواية / إليف شفق/ دمشق 2014. (دار الأمل الجديدة)
  17ـ أشياء كنتُ ساكتة عنها/ ذكريات / آذر نفيسي/ بيروت 2014. (منشورات الجمل)
  18ـ فنان الاختفاء/ ثلاث روايات قصيرة/ أنيتا ديساي/ الكويت 2014. (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/ سلسلة إبداعات عالمية ، رقم الإصدار 401)، الكويت
 19. جنرالات صدام – وجهات نظر عن الحرب العراقية الإيرانية/ محللون عسكريون/ بيروت 2015. (منشورات الجمل)، بيروت
 20 . جمهورية الخيال: أميركا في ثلاثة كتب/ آذر نفيسي/ بيروت 2016            (منشورات الجمل)، بيروت. 
 21 . راوي مراكش/ رواية / جويديب روي – باتاجاريا / الكويت 2016 (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / سلسلة إبداعات عالمية ، رقم الإصدار 415)
 22. أشرطة تسجيل صدام/ تاريخ – سياسة / كيفن أم . وودز وآخرون/ بيروت 2017. (منشورات الجمل)
  23 . قابيل/ رواية / جوزيه ساراماغو / بيروت 2017. (منشورات الجمل)
 24. ترويض الخيال/ حوارات مع 15 كاتباً وكاتبة من العالم / دمشق 2017. (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)
 25. الأميرة باري/ رواية/ هوانع سوك – يونغ / بيروت 2017. (الدار العربية   للعلوم / ناشرون)
26 – لا تقولوا إننا لا نملك شيئاً/ رواية / مادلين ثين/ بيروت 2018 . (دار المدى للثقافة والنشر)
27 – المطيرجي/ رواية / إيلي عمير/ بيروت 2018. (منشورات الجمل)
28 – العمى/ رواية / جوزيه ساراماغو/ بيروت 2018. (منشورات الجمل).
29 – فريدا: سيرة حياة فريدا كاهلو / هايدن هيريرا/ بيروت 2019 / دار المدى
30 – قبل أن نزور الإلهة (رواية)/  شيترا  بانرجي ديـﭭاكاروني/ الكويت 2019/    (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/ سلسلة إبداعات عالمية، رقم الإصدار 430)
31 – في أمريكا (رواية)/ سوزان سونتاج / بيروت 2019/ دار المدى
32 – نادني الأمريكي (مذكرات)/ عبدي نور إفتين/ بيروت 2020/ دار المدى
33 – أمس واليوم وغداً: حياتي (مذكرات)/ صوفيا لورين/ بيروت 2020 / دار المدى.
وبين الترجمة والتأليف وممارسة مهنة طب الأسنان والاهتمام بالعائلة وباقي العلاقات الاجتماعية، كان الأديب الواسطي الدكتور علي عبد الأمير صالح؛ ولا زال نموذجاً للإنسان الاجتماعي الواعي النبه البسيط، يوزع يومه لإشباع هذه الحاجات والرغبات والالتزامات، ويقتطع منه سويعات لحضور المناسبات الأدبية التي يقيمها اتحاد الأدباء في المحافظة والمركز، أو التي تقيمها الجهات التي تهتم بالثقافة والأدب، ليكون واحداً من ألمع أدباء واسط وأكثرهم عطاء.

 






45
قراءة في كتاب الدكتور صالح الطائي فصيل البراغيث "ذكريات في زنزانة الأمن"
بقلم الدكتور رحيم جودي

- تحمل كتب المذكرات انطباعات شخصية وتعد مصدراً مهماً من مصادر الكتابة التاريخية، لكونها تسلط الضوء على الأحداث من خلال تقديم صورة أقرب إلى الواقع من الخيال من أي مصدر اخر يبعد عنها زماناً ومكاناً، ومن بين تلك الكتب ما صدر مؤخراً عن دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع (٢٠٢٠) سوريا - السويداء وهو كتاب الدكتور صالح الطائي الموسوم "فصيل البراغيث، ذكريات زنزانة الأمن" الذي يقع في (١٣٢) صفحة من الحجم المتوسط .
- غلاف الكتاب:
هو مرآة حقيقية تقدم انعكاساً بصرياً في جذب القارئ لمحتوى الكتاب إذ تتوسط الغلاف يدان تمسكان قضبان السجن، وسطح الغلاف الموشح باللون الأسود يعكس دلالة واضحة عن الليل في غياهِب السّجون.
- عنوان الكتاب:
لطالما سمعنا تلك المقولة التي يتردد صداها في آذاننا "الكتاب يقرأ من عنوانه" وبواطن الكتاب تكشف ظاهر العنوان " فصيل البراغيث" إذ شبِّه المؤلف رجال الأمن الذين ينتشرون في ازقة مدينته بالبراغيث التي تقتات على دماء الضحايا وتعد لسعتها من أشد اللسعات الماً ووجعاً في عهد "جمهورية الخوف" .
ـ المقدمة:
بدأ المؤلف مقدمة كتابهِ بقول: (إياك وأن تترك الطرق، أطرق بشدة وعنف وقوة وقسوة، أجمع كل قواك وأطرق بها، ولكن بعملية واحتراف، لا بتهور واندفاع، وفي النهاية لابد وأن ينكسر شيء؛ قد يكون مهماً ... الخ) .
ويبدو من خلال قراءة المقدمة بأن المؤلف أراد جذب انتباه القارئ وإعطائه فكرة عامّة حول ما سيعثر عليه في ثنايا الكتاب، وكأنها أوراق من ذاكرة الوجع، استقى منها دروساً وعبرَ أراد من خلالها ان يستفيد الآخرون في الحاضر والمستقبل، دونها بموضوعية وحيادية بعيداً عن المبالغة والتهويل، وثمة مثل فرنسي يقول:
(الخبز الناشف يحتاج إلى أسنان حادة) فالإرادة الصلبة والعزيمة والقيادة والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية والتحرر من سلطة الانظمة الدكتاتورية الاستبدادية والبحث عن الحرية، فضلاً عن ملكة الكتابة التي ظهرت بواكيرها عند الطائي منذ طفولته وسط تشجيع واشادة مدرسي اللغة العربية؛ هي من جعلت هاجس أوجاع الذاكرة يظل يلاحق الطائي في كل لحظة من لحظات حياته مشحوناً بذكرى الألم ، فالذكريات المؤلمة لا تتلاشى بيسر بل تبقى تجدد نفسها في مخيالنا تذكرنا بالمآسي التي مرت بنا. فأخذ يسطر تلك الآلام بأسلوبهِ المعهود السلس والرشيق كأنه يحدثك وجهاً لوجه عن العذاب النفسي والجسدي ولسعات  "فصيل البراغيث".
وفي وكر الشياطين قدم الطائي نبذة تاريخية بِإيجَازٍ عن بدايات ونشأة البوليس في العهد الملكي منذ تأسيس الدولة العراقية في عام ١٩٢١ مروراً بالعهد الجمهوري وحتى وصول حزب البعث إلى السلطة عام ١٩٦٨ وصولاً الى عهد صدام حسين الذي أهتم بالجوانب الأمنية على حساب الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال تكوين عشرات الأجهزة الأمنية القمعية وفك ارتباط مديرية الأمن العام من وزارة الداخلية وتشكيل وكالة أمنية تتكون من "جهاز المخابرات" و"جهاز الاستخبارات" و"الحرس الخاص" وغيرها من الأجهزة الأمنية القمعية برئاسة ابنه قصي .
- خمس دقائق:
تحدث الطائي عن أساليب الخطف التي تتبعها الأجهزة الأمنية من خلال الخطف من الشارع والبيت والدائرة أو توريط الهدف بعلاقة مع فتاة فضلاً عن افتعال حوادث السيارات وكيف تم اختطافه بطريقة الاشتباه بحجة أن بقائه في مديرية الأمن العام لن يستغرق أكثر من خمس دقائق، فالأمر مجرد اشتباه، وهي الدقائق الخمس التي امتدت على مدى "ثلاثة أشهر ويومان"  .
- الخوف من المركب؛ والكتمان:
ثمة مثل بغدادي قديم يقول: (الحمى تأتي من الرجلين)، وهذا يتضح من خلال تحدث الطائي بحسرة وحزن عن صديقه المهندس المقرب من النظام والمشرف على بناء قاعات مديرية الأمن العامة؛ الذي التقى به لحظة وصوله إلى المديرية، ولم يخبر أهله عن مكان اعتقاله، وعن أحد أقاربهِ الذي يعمل سكرتيراً للمدير العام لمصرف الرافدين.
- الطيبة والسماح:
القلوب الكبيرة وحدها تعرف أن تسامح، تحدث الطائي كيف أنه سامح صديقه المهندس الذي ارسل له بعد عام 2003  طلب صداقة عبر (الفيس بوك)، بل والتمس له العذر عندما تذكر حادثة الطباخ الذي اخبر أهل احد المعتقلين عن مكان اعتقال ابنهم وكان مصيره الموت.
- محكمة الرفاق والمحاكم الخاصة:
وتناول الطائي صدور تشريع من مجلس قيادة الثورة (المنحل) في ثمانينات القرن الماضي بتشكيل محكمة دائمة خاصة بمديرية الأمن العامة لمحاكمة منتسبي الأجهزة الأمنية واعضاء حزب البعث "المنحل" وتنفيذ حكم الإعدام بكوادر حزب الدعوة الإسلامية بأثر رجعي.
- البحث عن المخطوف:
تحدث المؤلف تحت هذا العنوان الفرعي عن كيفية ايداعه في غياهب سجون مديرية الأمن العامة وفشل محاولات أخيه الأكبر للتوسط عند خيرالله طلفاح، وعن الصداقات المتينة التي عقدها مع بعض المعتقلين الذين أخبروا أهله عن مكانه بعد إطلاق سراحهم.
في رفيق زنزانتي تحدث الطائي عن صديقه الشيوعي الذي جمعته به زنزانة واحدة عام ١٩٧٧ في مديرية الأمن العامة، وكيف مات، وصدقت نبوءته: (ان التضحيات خدعة لا يشعر بتفاهتها الا من خسر عمره من اجل لا شيء ولم يجد فرصة للندم)، ولم يتذكر عدد أيام السجن الانفرادي وإنما يتذكر البراغيث التي تنهش جلده المتهرئ من أثر السياط، وصوت المحقق الأجش، وأخذ الاعترافات، وأنواع التعذيب النفسي والجسدي وهو معصوب العينين ومقيد اليدين خلف الظهر، وثمة مفاجأة في جنة الأمن وجدها بعد خروجه من زنزانة السجن الانفرادي ودخوله قاعة كبيرة يبدو وكأنها ضمت كل أطياف الشعب العراقي،  ومن المضحكات المبكيات ان أول اعتراف عليه كان من قبل سيد حسين الذي التقى به لقاءً عابراً في مقهى على شارع المحيط بالكاظمية لمدة نصف ساعة.
كانت عصاري الوحشة في سجون مديرية الأمن العامة تقبض النفس وتعصر القلب حد الخواء أما ظاهرة إخلاص رجال الأمن المطلق إلى النظام الحاكم واحترام ضباطهم فكانت مجرد زيف، أما الرعب فكان يتمثل بدعوات الليل للتحقيق إذ تعرض خلالها إلى اللكمات والرفسات وأشد انواع التعذيب فضلاً عن الصعق الكهربائي والكيبلات.
تحدث الطائي كيف قام صدام حسين بتصفية رفاق الدرب ومنهم هادي عجيل الذي زرقوه أبره قاتلة توفي على اثرها بعد أيام من اطلاق سراحه، وكيف نشرت جريدة الثورة نعي رفيق درب صدام حسين في القاهرة وكأنهم يطبقون  المثل المصري: (يقتل القتيل ويمشي في جنازته) ! .
وذكر الطائي كيف ارسلت له زوجته ورفيقة دربه وأم أولاده دعاءً بخط يدها كان يضعه تحت وسادته فيشعر بالطمأنينة.
أما في حفلة شواء الوزراء فقد تم اعتقال مجموعة من الوزراء واعضاء مجلس قيادة الثورة (المنحل) وكبار الضباط ومدراء عامين وسفراء وشخصيات مجتمعية بذريعة التآمر على النظام وادخلوهم ليلا إلى الزنزانات الانفرادية، وبعدها تم اطلاق سراحهم، كما تحدث عن طلب أحد ضباط الأمن من السجناء تنظيف القاعة من خلال محاضرة تخللها السب والشتم بأقذع الصفات.
كما تحدث عن الشباب ولعبة (الدومينو)، ووصفهم بالأبطال. وفي صديقهما اللدود أراد الطائي تقديم نصائح مجانية بعدم الثقة العمياء بالسجناء، وفي رحلة السطور تحدث الطائي عن أستاذ المقام العراقي وعازف آلة (السنطور) هاشم محمد الرجب الذي كان معه في السجن. وفي الأكراد الطيبون وصل الطائي إلى قناعة راسخة بأن النظام الدكتاتوري لا يميز بين القوميات والأديان والطوائف فالكل مجرمون حتى تثبت براءتهم. وتطرق الطائي إلى المتصوف الأفغاني الذي جاء سيراً عن طريق إيران لزيارة ضريح الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" والقي القبض عليه في خانقين، وأرسل إلى مديرية الأمن العام في بغداد، كما تحدث عن رجل احوازي القي القبض عليه بالقرب من الحدود العراقية - الإيرانية في عهد الشاه وكيف ثارت ثائرته عندما شتم أحد الشباب أمامه الشاه، وشرع يصف أدق تفاصيل : (غضب وتطاير الزبد من فمه)، وتطرق الطائي إلى حالة إنسانية قل مثيلها قام بها أحد اشقياء الكاظمية يدعى حافظ سليمة في سجون الأمن العام، كما ذكر الشاب الفلسطيني الذي التعاون مع الأجهزة الأمنية. وفي الصديق اللدود كأنه استشهد بالحديث النبوي الشريف : (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، كما تحدث عن لحظة اطلاق سراحه وخيبة الأمل التي إصابته من الوضع الجديد بعد (٢٠٠٣) .
وفي وداع وضياع تذكر موقف صديقه الشيوعي صاحب الحكمة: (اصمد فهم أضعف منك)، وفي زبدة المخيض تحدث الطائي عن تجربته وكأن التجارب لا تقرأ في الكتب ولكن الكتب تساعد على الانتفاع بالتجارب ومن تلك الكتب (فصيل البراغيث).
وختاماً  أرى أن الكتاب جدير بالقراءة، ويمثل إضافة جديدة للمكتبة  العراقية والعربية.


46
المنبر الحر / فرسان قصيدة وطن
« في: 09:43 16/07/2020  »
فرسان قصيدة وطن
صالح الطائي
تحتاج المشاريع الجبارة لكي تحقق النجاح إلى عدة أنواع من القوى، قد يكون من أكثرها أهمية:
•   القوة المُبْتكِرة والمُخططة وراسمة أبعاد المشروع وخريطته.
•   القوة البانية، التي تتولى عملية الإنشاء والبناء.
•   القوة المساندة، التي تدعم القوتين الأولى والثانية.
ومشروع قصيدة وطن ليس من حيث الجدة والابتكار فحسب، بل ومن حيث درجة التحدي التي يمثلها في موضوعه الداعي للوحدة والنصرة في وقت تشتت فيه الأهل وقل فيه الناصر؛ يمثل مشروعا نهضويا بنائيا فريدا فيه الكثير من التحدي للواقع المعاش لأنه سيسير عكس التيار، وستتصدى له الكثير من القوى التي يغيظها سماع من يتكلم عن وحدة العرب وتجمعهم حتى ولو على مستوى مشروع أدبي لا أكثر.
من هنا كنت واثقاً أن مشروعي المبتكر أملا في بناء صرح قصيدة وطن لا يمكن أن ينجح إلا إذا ما تظافرت القوى الثلاث سوية من خلال نهضة شاملة، لأنه يحتاج إلى الكثير والكثير من الدعم الحقيقي. وفعلا حتى مع كل التهيب الذي كنت أشعر به وأنا أدعو أبناء الأمة العربية للتفاعل مع المشروع، وجدت تجاوبا غريبا بل وعنيفا وكثيفا وكأنه جاء رد فعل على هزيمة داخلية كنا نستشعر سطوتها في عمق ذواتنا ونريد التخلص منها لنشعر بحريتنا الحقيقية، حيث انهالت المشاركات من كل أقطار الوطن العربي حتى دون حاجة إلى دعوتهم، وبعضها كانت مجرد كلمات بسيطة لا رابط بينها وزنا وقافية، رغبة من صاحبها الذي هو ليس بشاعر في أن يشارك بهذا المشروع ويدعمه.
والجميل في الموضوع أن المشاركات جاءت تحمل عبق أقطار الأمة من جهاتها الأربع من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن ومن  مصر فتطوان ـ إلا من أبى ـ وهم أقل من أن يذكروا، وإذا بالقصيدة تولد عملاقا وصرحا شاهقا بثلاثمائة وواحد وسبعين بيتا، اشترك بنظمها مائة وتسعة وثلاثون شاعرا لتولد أول سيمفونية شعرٍ عربيٍ يحملُ عبق تاريخ الأمة إلى العصر الحديث.
ومن بين الذين هبوا لتلبية النداء كان مجموعة من المفكرين والأكاديميين والنقاد والكتاب والأدباء، أبدوا رؤاهم في فكرة المشروع الأساسية، وقد وجدناها فرصة لنرد لهم الجميل من خلال تضمين كتاباتهم لكتاب القصيدة. وزيادة في التكريم سنورد أسماءهم هنا لكي يخلدها التاريخ. 
 فضلا عن ذلك تطوع أستاذان كبيران في كتابة مقدمتين مهمتين، المقدمة الأولى لكتاب القصيدة، تفضل بكتابتها الأخ الدكتور حسين سرمك حسن المشرف على موقع الناقد العراقي؛ من العراق، والثانية مقدمة للقصيدة نفسها؛ وقد تفضلت بكتابتها الدكتورة بشرى عبد المجيد تاكفراست من المملكة المغربية.
وسنورد بداية أسماء القوة الداعمة حسب ورودها في الكتاب، ثم نورد بعدها أسماء فرسان قصيدة وطن من شعراء الأمة.

أولا: كُتّاب المقدمات:
ـ الدكتور حسين سرمك حسن من العراق
ـ الدكتورة بشرى عبد المجيد تاكفراست من المملكة المغربية. 
ثانيا: دار النشر التي تطوعت بطباعة ونشر كتاب القصيدة على نفقتها الخاصة:
الأستاذ عبد النبي الشراط من المملكة المغربية.
ثالثا: أصحاب الرؤى:
1.   الدكتور فوزي خيري كاظم من العراق
2.   الناقدة سامية البحري من تونس
3.   الدكتور وليد جاسم الزبيدي من العراق
4.   عبد الرضا حمد جاسم من العراق ـ مغترب
5.   الدكتور رحيم عبد علي الغرباوي
6.   الأستاذ عبد العباس عبد الكاظم محمد الزهيري
7.   الدكتور علي الطائي
8.   الأستاذ ياسر العطية
9.   الأستاذ علي حسين الخباز
10.   الأديبة غرام الربيعي
11.   الأستاذ الدكتور نجم عبد علي
12.   الأستاذ مديح الصادق
13.   الأستاذ عبد الحميد الزيادي
14.   الأستاذ فرات ناظم الموسوي
15.   الأستاذ علاء الدليمي
16.   الأستاذ علي ماجد الفهد
17.   الأستاذ مسير نايف الجابري
18.   الأديبة فاطمة منصور
19.   الدكتور محمد حسب الله
20.   الدكتور غازي البدري
21.   الـمهـنـدس لــؤي مـحـمـد رجـب العــبـيـدي
22.   الأستاذ عباس مكي القزاز
23.   الأديبة مينة البركادي من المملكة المغربية
24.   الأديبة فاتن عبد السلام بلان من سوريا
25.   الأستاذة إيمان البستاني
26.   الأستاذ صالح هادي الربيعي
رابعا: أبطال البناء:
1.   المهندس ضياء تريكو صكر الذي أخذ على عاتقه تدقيق وتنقيح المشاركات وربطها ببعضها لتتحول القصيدة إلى وحدة واحدة.
2.   الدكتور وليد جاسم الزبيدي الذي تطوع لمفاتحة الكثير من الشعراء العراقيين والعرب ليحثهم على المشاركة في القصيدة.
3.   الدكتور حسين سرمك المشرف على موقع الناقد العراقي الذي دعم المشروع وروج له منذ بداياته الأولى.
4.   الدكتور ثائر السامرائي المشرف على موقع هاملت للإبداع الثقافي الذي روج للمشروع وحث شعراء الموقع للمشاركة في القصيدة.
5.   الأديب جبار الكواز من الحلة ـ العراق الذي حث الشعراء على المشاركة.
6.   الأستاذة الأديبة اللبنانية حنان محمد شبيب التي قدمت الدعم الكبير للمشروع.
7.   وكل القوى الخفية التي آزرتنا دون أن تظهر إلى العلن.
خامساً: فرسان القوافي
1.   ابتهال معراوي/ سوريا
2.   إبراهيم عواد الكبيسي/العراق
3.   ابراهيم مصطفى الحمد/ العراق ـ تكريت
4.   إبراهيم ذيب سليمان/ فلسطين
5.   ابراهيم فهمي ابراهيم/سوريا
6.   أبو البيرق عمر الشهباني/ تونس
7.   أحمد حسون/ المغرب
8.   احمد الخيال الجنابي/ العراق ـ بابل
9.   احلام فتيتة/ تونس
10.   أحمد عبد الدايم/ ليبيا
11.   أحمد شيخنا كباد/ موريتانيا     
12.   أمل محمود حديد/سوريا
13.   انتصار حســن / اليمن
14.   بسام صالح الطائي/ العراق
15.   بومدين جلالي/ الجزائر
16.   ثائر السامرائي/ العراق ـ بغداد
17.   ثروت سليم/ مصر
18.   جاسم محمد عبيد الجدادي/ العراق ـ بغداد
19.   جبار الكواز/ العراق
20.   جعفر عيدان/ العراق
21.   جعفر الخطاط/ العراق ـ واسط
22.   جمال آل مخيف/ العراق
23.   جنان المظفر/ العراق
24.   الشاعرة جهاد المثناني/ تونس ـ القيروان
25.   حازم الشمري/العراق
26.   حازم عبد الله قطب/ مصر
27.   حافظ لفته عباس/ العراق
28.   حافظ مخلف/ العراق
29.   حامد خضير الشمري/ العراق ـ بابل
30.   حسن سالم الدباغ/ العراق ـ واسط
31.   حسين جنكير/ العراق ـ واسط
32.   حسين الجار الله/العراق ـ بابل
33.   حسين الغضبان/ العراق
34.   حميد شغيدل الشمري/ العراق
35.   حميد الشايع/ العراق
36.   ‏حنان شبيب/ لبنان
37.   خالد فتح الرحمن/ السودان ـ دكتور، سفير سابق في المغرب
38.   خالد الباشق/  العراق
39.   داود السلطاني/العراق
40.   دعاء رخا / مصر
41.   راضي المترفي/ العراق
42.   راكان المساعيد/الأردن
43.   رجب الشيخ/العراق ـ البصرة
44.   رضا الحمامصي/ مصر
45.   رحيم عبد علي الغرباوي/ العراق ـ واسط
46.   رضا جواد البصري/ العراق ـ بغداد
47.   رعد موسى الدخيلي/ العراق
48.   رنا رضوان /سورية
49.   أبي رواحة بن عيسى الموري/ اليمن - مقيم بالسعودية               
50.   زكية محمد علي الطنباري/ تونس
51.   زكية محمَد أبو شاويش/ غزة ـ فلسطين
52.   زهان مجيد حسن الكنعاني/ العراق
53.   زيدان الفريجي/ العراق
54.   سـامي أبو بدر / مصر
55.   سجّاد حميد هاشم/ العراق.
56.   سعيد جاسم الزبيدي/ سلطنة عمان
57.   شلال عباس عنوز/ العراق
58.   صالح الطائي/ العراق
59.   صباح عباس عنوز/ العراق
60.   ضمد كاظم وسمي/ العراق
61.   ضياء تريكو/العراق
62.   ضياء محمود الجميلي/ العراق ـ بابل
63.   طالب الفريجي/العراق
64.   عادل قاسم/ العراق
65.   عايدة حيدر/ لبنان
66.   عباس شكر/العراق
67.   عبدالله نزال العبود/ العراق
68.   عبدالباري خالد الشرعبي/ اليمن
69.   عبد الجبار فياض/ العراق ـ البصرة
70.   عبد الرزاق النصراوي/ العراق
71.   عبد الرزاق شاكر/ تونس
72.   عبدالرحيم أبو راغب/ العراق
73.   عبدالحميد العامري/ اليمن
74.   عبد الحميد الزيَّـادي/ العراق
75.   عبد الحليم التميمي/ العراق
76.   عبد الحسين الجنابي/العراق ـ بابل
77.   عبد الصمد آل زنوم/ السعودية
78.   عبد العزيز الهاشمي/ اليمن
79.   عبد العزيز بشارات/ الاردن
80.   عدنان مهدي/ العراق
81.   عقيل حاتم الساعدي/العراق ـ مغترب
82.   علاء الدليمي/ العراق
83.   علي نجم/ العراق ـ البصرة
84.   علي كريم عباس/ العراق
85.   علي الطائي /العراق/بابل
86.   الشاعرة عنان محمود الدجاني/ الأردن
87.   عماد الصكار/ العراق
88.   عماد احمد/ العراق
89.   عمار عزيز الواسطي/ العراق ـ واسط
90.   عمر هزاع/ سوريا
91.   عمر عبد الدايم/ ليبيا ـ طرابلس
92.   على حميد الحمداني/ العراق ـ بابل
93.   عواطف عبد اللطيف / العراق - مقيمة في نيوزنلاندا
94.   غانم العيساوي/ العراق ـ الكوت
95.   فاتن عبدالسلام بلان/ سوريا
96.   فـاتـنـة فـــارس / لبنان
97.   فاطمة هاشم الأغا - سـوريا
98.   فاروق مواسي/ فلسطين
99.   فارس الحسيني/ بابل
100.   فارس الخفاجي/ العراق  ـ بابل
101.   فالح نصيف الحجية الكيلاني/ العراق ـ صلاح الدين.
102.   فايز ابو جيش/ سوريا
103.   فرات ناظم الموسوي/ العراق ـ واسط
104.   الشيخ فرحان الساعدي/ العراق
105.   فريد مرازقة السلمي القيسي/ الجزائر
106.   فواز البشير/ سوريا
107.   كاظم الوحيد/ العراق/ السويد
108.   نزهان مجيد حسن الكنعاني/ العراق
109.   ماجد الربيعي/العراق ـ بغداد
110.   محمد اسماعيل جاموز -اللاذقية، سورية
111.   محمد تقي جون/ العراق ـ واسط
112.   محمد الأمجد محمد المامي/ موريتانيا
113.   محمد حسين الزركاني/ العراق
114.   محمد الصالح الغريسي/ تونس
115.   محمود الفريحات/ ابو بدر/ الأردن
116.   مختارية بن غالم/ الجزائر
117.   مسعود بن محمد/ السعودية
118.   مسير نايف الجابري/ العراق
119.   معروف عمار/ مصر
120.   ممدوح نظيم حسانين/ مصر
121.   منى الهادي/ مصراتة/ ليبيا
122.   مَنْصُور غيضان عبد الْغَفَّارِ/ العراق
123.   منصور عيسى الخضر/ سوريا
124.   منصور عمر اللوح/ غــزة ـ فلسطين
125.   منصور غيضان عبد الرزاق/العراق
126.   مندوب العبيدي/ العراق ـ ديالى
127.   ميساء زيدان/ سوريا
128.   ناصر العقابي/ العراق
129.   نسرين بدر/ مصر
130.   نوارس عايد التكريتي/العر اق
131.   هاني أبو مصطفى/ العراق ـ البصرة
132.   هتاف سوقي صادق/ لبنان ـ مقيمة في كندا
133.   وسام حسين/ العراق ـ بابل
134.   وليد جاسم الزبيدي/ العراق ـ بابل
135.   وليد صالح/ مصر
136.   وهاب شريف/ العراق
137.   ياسر العطية/ العراق ـ واسط
138.   يحيى السماوي/ العراق مقيم في استراليا
139.   يونس مخلف عبدالله / العراق
ولا يسعني في الختام وبعد أن صدر كتاب القصيدة في طبعته الأولى عن دار الوطن في المملكة المغربية، وصدر في طبعته الثانية عن دار المتن في بغداد إلا أن أتقدم بجزيل الشكر وفائق الامتنان لكل من بارك وأيد ودعم مشروعنا الوحدوي. انتهز هذه الفرصة الثمينة:
لأطلب من الإخوة النقاد إلقاء الضوء على القصيدة وكتابها لنفيد مما سيقدمونه في مشاريعنا القادمة.
وأطلب من الخبراء التعاون معنا لإدخال القصيدة إلى كتاب (غينيس) للأرقام القياسية كأول قصيدة بهذا العدد من الأبيات يشترك بكتابتها هذا العدد من الشعراء.
وأطلب ممن له قدرة إيصال صوتنا إلى الفنان كاظم الساهر عسى أن يختار أبياتا من القصيدة لينشدها.
وأطلب من أحد الفنانين الكبار التبرع بتسجيل القصيدة بصوته على أشرطة فيديو.
ومن الله التوفيق




47
لا لكي نوقف الانهيار
صالح الطائي
يكذب من يدعي عدم وجود انهيار حقيقي في العلاقة التاريخية بين الناس والأديان، وواهم جدا من يرى أن التثقيف الإلحادي لن يؤثر على منظومة الدين على المدى البعيد، فالانهيار كان قد بدأ منذ زمن طويل بتسارع يتناسب مع مراحل التبدل الفكري وولادة المنظومات الحديثة، ولكنه تحول اليوم إلى سيول جارفة ستقتلع أكثر أشجار الحقيقة رسوخا، وتُجرِّد الأرض من رونقها، وتجرف التربة الصالحة للإنبات، فالتثقيف الإلحادي الذي تقوده منظمات دولية جبارة مدعومة ماديا وإعلاميا بمؤسسات هي الأعظم في التاريخ بدأ يؤتي أُكله، ويؤسس له قواعد في قلوب وجيوب شرائح مهمة من المجتمع ولاسيما طبقتي الشباب والبسطاء السذج.
ونحن إن كنا سكتنا بالأمس عما كان يقال، طالما أنه محدود التأثير بسبب عدم قدرته على الانتشار الواسع، يجب علينا اليوم أن نحذر من أثر تكرار الأقوال التي تنتقص من الدين والشريعة جهاراً على مسامع شبابنا عبر وسائل التواصل والانترنيت، فالنكوص والقهقري باتا أمران في متناول الجميع، وأعداد المرتدين والمتحولين بدأت تتفاقم بشكل خطير، وأؤكد هنا أننا لا نتخوف على الدين منهم لأنهم أضعف من أن يؤثروا على عقيدة تدعمها السماء، ولكننا نتأسف على حالهم وما سيئول إليه أمرهم بعد أن يخسروا الدنيا والآخرة، وبعد أن يتقدم بهم العمر فيجدون أنفسهم وحيدين ضائعين.
إن عملية الانكفاء لم تعد بمثل تلك الصعوبة القديمة المعهودة بسبب التبدل الكبير في وسائل النشر، فإذا رافقها عجز عن تطبيق الأحكام الرادعة ولو بمستواها الأدنى، أي الرد عليهم وليس قتلهم أو استتابتهم أو مضايقتهم أو سلبهم حريتهم، فسيكون التحول في متناول يد الجميع وسنخسر كفاءات؛ نتحسر عليها بعد حين. وهذا واقع ملموس فقد كنت قبل أيام أقرأ مقالا بعنوان "القصيمي من الوهابية إلى الإلحادية" بقلم الأستاذ داود السلمان(1) تحدث عن انكفاء القصيمي من تشدد السلفية إلى عالم الإلحاد المفتوح على مصراعيه.
والقصيمي لمن لا يعرفه هو: عبد الله بن علي النجـدي القصيمي (1907- 1996م ـ 1416هـ)، كان والده شيخا متزمتا وسلفيا متشددا، فنشأ على عقيدة أبيه في السلفية المتشددة، ثم سعى لتطوير قدرات سلفيته ودعمها بالعلم، فوفد إلى العراق لمتابعة تعليمه في مدرسة الشيخ أمين الشنقيطي، في منطقة الزبير التابعة للبصرة، ثم التحق بالمدرسة الرحمانية بنفس المنطقة، ومن ثم رحل إلى الهند ومكث فيها عامين، وبعدها عاد إلى العراق والتحق بالمدرسة الكاظمية، ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى القاهرة وانتسب إلى جامعة الأزهر؛ التي فصلته بسبب تشدده يوم لم يكن للسلفية موطئ قدم في مصر مثلما هي عليه اليوم. فبعد كم المؤلفات والمحاضرات والخطب والتوصيات والحوارات التي قام بها لدعم سلفيته، توقف القصيمي فجأة، واستدار 180 درجة، وأعلن كفره وإلحاده بكل الأديان، ووظف خبراته العلمية ليدعم منهجه الإلحادي الجديد، فألف كتبا إلحادية تُكفِّر جميع المذاهب الإسلامية، منها: "لئلا يعود هارون الرشيد" و"الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات"، وبدأ ينتقد الفكر والتراث الديني بشكل قاسٍ جداً، وهذا ينبيك بقدرة التبدل التي تنجح باقتلاع سلفيٍ جامدٍ من جذوره اليسارية المتطرفة جدا لتلقي به إلى أقصى اليمين المتطرف.! ويعني هذا أن من الحقائق التي لم ندرك حجمها بعد، ولم نُعطها حيزا تستحقه في تفكيرنا أمران مهمان الأول تسارع وتيرة انتشار الإلحاد بين الشباب. والثاني ولادة تيار جديد يعتقد أن ثقافة البحث عن الإيمان خارج المحراب أجدر من الارتباط بتقليدية المسجد وأبوته القاسية. وهما كلاهما ثقافتان غزتا ساحاتنا الفكرية بشكل خطير، وأن هذا التبدل أنتج خطا موازيا لخط الإيمان ومنافساً له.
والذي أراه ان الذي تسبب في انهيار المنظومات التقليدية الدينية والحياتية، والاستهانة بالمقدس، وطغيان ثقافة المدنس، هو تبدل المفاهيم وتغير المصطلحات؛ الذي وُلِدَ من الانفتاح الأخلاقي المرافق لتنوع الآراء، ودفقة الشجاعة الزائفة المكتسبة من الاختباء خلف لوحة مفاتيح الحاسوب، بعد أن غُيبتْ وأُغلقتْ ساحاتُ المواجهة العلنية الأولى التي كان المُجالد يحسب لها ألف حساب قبل أن يتخطى عتبتها ليخوض غمار المساجلة مع علماء كبار.
فالجنسية غير الطبيعية على سبيل التوضيح كانت فاحشةً متفقٌ عليها في كل الحضارات والأديان بما في ذلك حضارتنا المعاصرة، وكانت تسميات مثل: "المنحرفين" و"الشواذ" تعطي ذات المعنى المتفق والمُتعارف عليه، نجدها اليوم قد تحولت إلى معنىً آخر بعيداً عن مضمونها المصطلحي واللغوي والأخلاقي المتداول تاريخياً؛ بعد أن تغير مصطلحها،  وأُنِّقْ وجُمِّل لتصبح: "المثلية" بكل ما يوحيه هذا المصطلح من معانٍ خادشة بعيدٌ ظاهراً عن معنيي الشذوذ والانحراف التقليدي، وأصبح التحدث عنها لا يخضع للتابو الأخلاقي التاريخي بعد أن تحشدت قوى ظلامية داعرة لتوحي للشاذ بأن ما يمارسه هو حق من حقوقهِ مثل أي حقٍ آخر، تُقره الحياة المعاصرة وتُدافع عنه، وهو الأمر الذي دفع المنحرفين إلى تأسيس اتحادات ومنظمات وجمعيات محلية ودولية، غطى موقفها قانون الأمم المتحدة والقانون الوضعي لبعض دول الغرب، وهي قوانين أباحت ممارسة تلك الأفعال، واتخذت جانب الدفاع عنها، وخصص دعاتها جوائز للمتميزين من دعاة المثلية والمناضلين من أجلها، ومن ذلك ما قدم من دعم للفتاة المصرية "شروق العطار" بنت الخامسة والعشرين، التي ما إنْ تقدمت بطلب للجوء إلى المملكة المتحدة، حتى قبل طلبها، ثم منحت جائزة أفضل شاذة مهاجرة، لأنها تعمل للدفاع عن حقوق المثليين في بلادها الأم مصر(2). في وقت مات فيه آلاف المهاجرين الباحثين عن لقمة عيش غرقا في البحار والمحيطات دون أن يلفتوا انتباه رعاة تلك القوانين والمشرفين عليها.
ومثلها الشاذة المصرية الأخرى "سارة حجازي" المدافعة عن حقوق المثليين في كندا؛ التي انتحرت مؤخراً لأنها فشلت في تحقيق الفوز في مغامرتها اللاأخلاقية المنحرفة.
ولا تقف المهاترة عند هذه الحدود فالدول التي تريد الدفاع عن موروثها صارت تتهم بأقبح التهم، وتجعل من نفسها عرضة للانتقام. فبعد أن وصف الرئيس البولندي "اندجيه دودا" في خطاب ألقاه أثناء حملته الانتخابية المطالبة بحقوق المثليين بأنها أيديولوجية أكثر تدميرا من الشيوعية، اتهم حزبه حزب العدالة والقانون أن لديه أجنده مناهضة للمثليين، وفي تقرير أصدره الفرع الأوربي للمؤسسة الدولية للمثليين والمثليات ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيا وثنائيي الجنس (ILGA Europe)  وُصفت بولندا بأنها أسوأ دول الاتحاد الأوربي أداء فيما يتعلق بحقوق المثليين، وهذا يؤثر كثيرا على درجات تقييمها داخل الاتحاد، وبالتالي يؤثر على الدعم المقدم لها مما يوقعها في مشاكل تجبرها على التخلي عن منهجها. كل ذلك لأن الرئيس تجرأ وقال في أحد خطابات حملته الانتخابية في مدينة "بجيغ" جنوبي البلاد إن: "الأهل مسؤولون عن تربية أطفالهم الجنسية" وأنه "لا يمكن لأي مؤسسة أن تتدخل في الطريقة التي يختار الأهل أن يربوا بها أولادهم"(3)، وهذا يعني أن الدول بدأت تفقد سلطاتها المحلية لصالح سلطة الحكومة العالمية الواحدة التي تسعى إليها الماسونية والصهيونية.
ونحن حينما نجد أنفسنا واقفين أمام مثل هذا الامتحان الدولي العسير، مع علمنا بقلة عددنا، وضعف حالنا، وتفشي الجهل والأمية الثقافية بين صفوفنا، لا يعد أمامنا سوى النضال باستماتةٍ من أجل الحفاظ ولو على بقايا الموروث الإنساني الطاهر الذي تركه لنا ديننا وعروبتنا، ولا بأس أن نساير العصر وفق ضوابط الدين لكي نوقف الانهيار، ونتصدى للهجمات المرتقبة.

الهوامش
(1)   ينظر: صحيفة المثقف، الرابط:  http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=947208&catid=327&Itemid=123.
(2)   وكالات الأنباء ومنها بي بي سي 19 نيسان 2018.
(3)   المصادر نفسها.

48
لا لقيصر... نعم لسوريا
صالح الطائي
لم تكتف الشمطاء أمريكا بلعب دور "الفتوة" وتهديد الدول الفقيرة والضعيفة والقلقة في العالم كله فحسب، بل واستنبطت طريقة وضع قوانين تحت مسميات مختلفة تهدد بها الأمم والشعوب، تيسر لها مهمة التضييق عليها إلى حد الإفقار الخطير الذي يُعرِّضها إلى خطر الإبادة الجماعية والموت جوعاٍ.
وقد أثبتت التجارب أن هزيمة أمريكا في أي مواجهة العسكرية؛ في أي بقعة من العالم تدفعها عادة لاستغلال موقعها لإصدار قوانين وحشية، تغطي عليها منظمات الأمم المتحدة الدولية لتمنحها الشرعية، كل ذاك من أجل تحويل هزائمها إلى انتصار قذر بكل الموازين، وهو الأمر الذي تحقق مؤخرا على الأراضي السورية بعد أن لاحت في الأفق هزيمة القوى العميلة لأمريكا على أرض سوريا العروبة.
ومن تلك القوانين التي عشنا المأساة بسببها القانون سيء الصيت الذي فُرض بموجبه الحصار الجائر على شعبنا العراقي الأبي بغطاء من المنظمات الدولية والأمم المتحدة سنين طوال أنهكتنا وأربكت وضعنا.
وآخر تلك القوانين التي سنتها أمريكا؛ لا أبقى الله لها سنا ولا ناباً هو "قانون قيصر" الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى شخصية صُوَرِّية مختلقةٍ مجهولةٍ لا يعرفها أحد ولا سجل يثبت وجودها تحت اسم "قانون قيصر" الخاص بخنق سوريا وقتل شعبها.
وقيصر هذا شخصية وهمية مختلقة لا يوجد ولو دليلا واحدا على إثبات وجودها على أرض الواقع، ادعوا بأن قيصر الخرافي الأسطوري هذا نجح في تسريب معلومات خطيرة وصوراً لضحايا التعذيب في معتقلات وسجون حكومة سورية في الحقبة المحصورة بين عامي 2011 و 2014. ومن ثم أضفوا على تلك الكذبة الصلعاء وقارا زائفا بعدما اعتبروها أدلة فوتوغرافية كاملة الثقة، بل  وزيادة في الثقة قاموا بعرضها في متحف ذكرى محرقة الهولوكوست بالولايات المتحدة، واعتمدتها الأمم المتحدة كوثائق لا تقبل الشك. كل هذا ولا يوجد ولو دليلا بسيطا واحدا على وجود هذه الشخصية المختلقة، ولا دليلاً على كيفية معرفته بأسرار جميع المعتقلات والسجون السورية.
والقانون في واقعه اسمٌ لعدة مشاريع قوانين كانت مقترحة، تقدم بها الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأمريكي، وكلها مُوجَّهة بالأساس ضد حكومة وشعب سورية، ثم أقرَّها مجلسُ الشيوخ في كانون الأول 2019، وبعدما أجازه الرئيس الأمريكي ترامب أصبح قانونًا نافذا، ليبدأ فرضِ عقوبات مختلفة على الحكومة السورية وشعبها ووكالاتها العسكرية وكل المتعاونين معها. على اعتبار أنه مثلما فُرض الحصار الجائر على الشعب العراقي في تسعينات القرن الماضي بحجة حماية المدنيين العراقيين، سوف يُسهم إقرار قانون قيصر حسب ادعائهم أيضا في حماية المدنيين السوريين. أما في حقيقته فهو حصار إبادة حقيقيٍ ضد أهلنا الطيبين في سوريا، يستهدف جميع طبقات الشعب ولاسيما الحلقات الأضعف التي أنهكها القتال الطويل وحالة فوضى الحرب الأهلية التي يعيشها البلد الشقيق والخراب الذي طال جميع مرافقه، بدليل أن القانون لا يستهدفُ الحكومة السورية وحدها، وإنما يستهدف الأفراد والشركات وكل من يُتهم بالتعاون معها، ويستهدف كذلك بشكل مباشر عدداً كبيراً من أهم الصناعات السورية التي يتعلق الكثير منها بالحياة العامة وإنتاج الطاقة والبنى التحتية للشعب السوري، وكل ما يتعلق بأعمال الصيانة المدنية والعسكرية.
وبموجب هذا القانون أصبح فرض العقوبات المشددة أمرا كيفياً محتملاً على كل من يُتهم مجرد اتهام بأنه قدم دعماً مالياً أو لوجستياً للحكومة السورية أو لأي شخصية سياسية في الحكومة السورية، بما في ذلك توفير القروض وسندات الائتمان الخاصة بالتصدير بغية خنق حركة السوق السوري بشكل كامل، وإيقاف عجلة الاقتصاد وتدميرها دون النظر إلى عدد الأطفال والمرضى والشيوخ الذين سيموتون جرّاء هذا الحصار، وكأن صورة آلامنا القديمة تتجدد أمام أنظارنا.
ولإتمام عناصر الجريمة النكراء عمل القانون الجائر على محاصرة قطاع البترول السوري بشكل كامل من خلال فرض عقوبات مشددة على كل من يقدم سلعة أو خدمة أو تكنولوجيا أو معلومة أو أي دعمٍ آخر يُسهم في زيادة أو إدامة الإنتاج المحلي من النفط والغاز الطبيعي والمشتقات النفطية الأخرى لسد الحاجة المحلية بما يعني توقف وسائل الانتاج والنقل بشكل كامل.
وسعيا لتدمير قطاع الخدمات هدد القانون جميع الشركات والاشخاص الأجانب الذين يبرمون عقوداً تتعلق بإعادة الإعمار في سوريا؛ التي هي اليوم عبارة عن أنقاض ودمار شبه كامل وفي حاجة ماسة لإعادة إعمار بعض المرافق المهمة.
وهي كلها خطوات تعيد إلى ذاكرتنا ما فعلته أمريكا المجرمة أثناء حصارها للشعب العراقي البطل، وكيف أسهمت في تدمير قطاعات الصحة والاقتصاد والمال والإعمار والتعليم، وأجبرت الكثير من العراقيين على بيع كرامتهم بل وشرفهم من أجل لقمة يسدون بها أود أطفالهم، حتى تحولت علبة حليب الأطفال إلى حلم عصي التحقيق.
إن إنسانيتنا وآدميتنا وعروبتنا وقيمنا، ولنقل: وديننا كلها تأمرنا بالوقوف إلى جانب الشعب السوري أفراداً وجماعات، ومد يد العون وتقديم الدعم الكامل لأهلنا في سوريا، فسوريا خاصرة قلعة الدفاع، وخسارتها تعني أننا سنكشف كامل ظهورنا للأعداء، وبالتالي سنندم يوم لا ينفع الندم.
 



49
خلق إنسان جديد للحكومة العالمية
صالح الطائي
أعتقد أن البعض منكم يتذكر تلك السجالات الساخنة التي أثيرت منذ عقود حول أزمة الغذاء في العالم، والتخوف غير المبرر من خطر مجاعة عالمية تهدد العالم بالموت جوعا بسبب الزيادة المطردة في عدد سكان العالم، قبالة انخفاض نسبة الأراضي الصالحة للزراعة، وتفاقم أزمة المياه، وندرة المواد الأولية وانخفاض نسبة الموارد الطبيعية، إلى حدٍ لا يكفى إلا لعدد محدود من البشر، لا يزيد في أفضل الأحوال عن 3,8 مليار نسمة. وأنه لا بد من التخلص من العدد الفائض وهم مليارات البشر بأساليب ناعمة ليست تقليدية، لكي يتجنبوا ثورات جياع تحرق الأخضر واليابس بما يتسبب في فشل مخططاتهم السرية لإعادة بناء الحياة على الأرض!.
ولا يمكن للحرب التقليدية أن تقضي على هذا العدد الكبير من البشر، فضلا عن المعارضة الشديدة التي سيلقاها مثل هذا المشروع الهمجي القذر، ولذا بحثوا عن وسائل متطورة لا تلفت الانتباه، فاختاروا الحرب الفيروسية الأشد فتكا والأكثر تأثيرا وأرسلوها للتحكم بعد نفوس العالم حسب الطلب.
وأنا هنا لا أتكلم من منطلق نظرية المؤامرة عن فيروس كورونا بالرغم من خطره والدمار الذي تركه، بل أتحدث عما بعد كورونا، وهو ليس. ببعيد. فالتخطيط لِما بعد كورونا قديمٌ أصلا ومر بمراحل كثيرة وصلت إلى نهاياتها، وقد وجدت من خلال البحث حديثا عن وثيقة قدمها هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأسبق إلى الرئيس الأمريكي الأسبق "نيكسون" تحت رقم (NSSM200)، تفيد أن الزيادة السكانية لدول العالم الثالث تهدد الأمن القومي الأمريكي، وأن الحروب والأوبئة الطبيعية التقليدية لم تعد الوسيلة الناجحة لوقف الانفجار السكاني أو التحكم به، ولابد من اللجوء إلى وسائل غير تقليدية وأسلحة مستحدثة جديدة من بينها التحكم في إنتاج الغذاء العالمي، والتحكم تكنولوجياً بخصوبة النساء.
وأن هذا المقترح الكيسنجري طور حديثا من خلال نجاحهم في التحكم بحركة أنواع من الفيروسات، كانت مرحلتها الأولى انتاج فيروسات محدودة التأثير مثل انفلونزا الخنازير وانفلونزا الطيور وجنون البقر، وفي المرحلة اللاحقة قاموا بإنتاج فيروس كورونا محدود التأثير بالرغم من مخاطره الكبيرة، والمدمرة. أما المرحلة الثانية فتتمثل بانتاج فيروسات جينية، أي فيروسات لها قدرة البحث عن جينات محددة وخاصة لتعمل عليها وتهاجمها، فهي مبرمجة على هذا النوع من الحروب الموجهة، ولا تهاجم جميع البشر. وقد رافق تلك الحرب السرية المعلنة بحثٌ عن الإنسان الجديد الذي يليق لأن يكون مواطناً مطيعاً ومبرمجاً ومسيراً للحكومة العالمية المرتقبة، حيث تعمل القوى العظمى اليوم على إعادة تشكيل هيكلية وبناء الإنسان، والبدء بتصنيع نوع جديد من البشر مستنسخ عن الأصل ولكن ضمن مواصفات خاصة، عن طريق التلاعب بالجينات من خلال ما يعرف بالتثقيب الكهربائي؛ الذي يعيد نمط بناء الخلية البشرية، ويحول الإنسان إلى إنسان مصنع مخبريا، لتكوين جماعات مرشحة لتصبح بمجموعها الشعب السعيد للحكومة العالمية الواحدة، بعد انقراض الانسان التقليدي الذي ستقتله الفيروسات الجينية والجوع والعطش وانعدام الموارد الطبيعية وفقدان الحماية.
وهذا ليس حلما ولا شيئا مستحيلا فأنا اعتقد، بل أجزم أن القوة الهائلة واللامحدودة التي تملكها الشركات العملاقة العابرة للقارات بما في ذلك رأس المال الذي يمثل نسبة 80% من مجموع رأس المال العالمي، والكادر والشخصيات ذات المواصفات الأعلى؛ التي يسخرونها لخدمة مصالحهم في العالم، لا تؤكد قدرتهم على التحكم بالعالم فحسب، بل وتؤكد بما لا يقبل الشك أن العالم تفاحة نضجت بهدوء، وستقع بيد الصهيونية والماسونية وأسرة روكفلر عما قريب، وأننا كلنا نحمل لهم تطوعا وبإرادتنا الأحجار التي سيبنون بها هيكلهم، والذي ستكون جماجمنا أسس أرضية بنائه الشاهق.
أما ما يقوم به صغار العمال من خلال المقالات والمواضيع التي ينشرونها، وكتاباتهم الضحلة على منصات التواصل الاجتماعي، فهي مجرد دفقات من الغبار الكثيف الذي يحاولون من خلاله حجب الرؤية، لكي لا يفطن العالم لمخططاتهم السرية القبيحة فيتصدى لها. وهذا يعني أن المؤامرة ضدنا أكبر من مجرد مقالات نعمل على تقويض بنائها، ولا كلمات عابرة على الفيسبوك نحاول الرد عليها. وأن مهمتنا كجماعات منفصلة عن بعضها لا تجمعها هوية مشتركة أصعب كثيرا مما نتوقع، وأكبر من قدراتنا الذاتية المحدودة، ولا يمكن التصدي لها إلا بالتوحد والعمل سوية، والتخلي عن التحيز المذهبي والحزبي الذي يمتص طاقاتنا ويقتل إبداعنا ويُضعف قدراتنا. ولذا أتمنى أن تكون دعوتي هذه؛ دعوة صادقة لكل حريصٍ على الإسلام من جميع المذاهب والفرق، ولكل حريصٍ على الإنسانية من جميع القوميات والاثنيات والجنسيات، وكل حريصٍ على ديمومة الحياة بعيدا عن قهر الاستبداد والعبودية، ليتحدوا سوية في سبيل مواجهة البرامج التدميرية، وإفشال مخططات الشيطان.



50
قصيدةُ وطن مشروعٌ ولِدَ ليُعيدَ تراتبية الأولويات عند العرب
بمناسبة دخول كتاب "قصيدة وطن" إلى مطابع المملكة المغربية والعراق
في وقت واحد
صالح الطائي
الآدميةُ ليستْ جيناً موروثاً فحسبُ بل عقيدةٌ يكتسبها المرءُ من خلالِ ما يتعرضُ لهُ من تجارب تصقلُ مهاراتهِ النفسيةِ لتجعلَ منها درةً عاريةً لا تخدعُ فحاماً ولا تاجرَ جواهر، يضيءُ زيتها من نارِ الحقيقةِ وصبرِ التاريخِ وتضحياتِ قهرِ السنين الخوالي والزمن السحيق.
والوطنيةُ ليستْ شعاراً فضفاضاً تلوكُ الألسنُ هيبتَهُ ولا تستشعر طعمه، ولا تتذوق نكهته، بل هي بناءٌ أخلاقيٌ يسموُ بالنفسِ البشريةِ إلى مصافِ الملائكةِ.
أما الأمةُ فهي سرُ الخلودِ ونسيجُ الوجودِ الخفيِّ الذي بَضَّعته المِحنُ، فسالَ دمُهُ غدراناً بلا شطآنٍ على سفوح الهيبةِ، ولمْ يجدَ طبيباً مداوياً، ولا كتفا يسندُ رأسه ولا سيفاً يحمي ظهره.
وحينما تجتمعُ الآدميةُ والوطنيةُ سويةً تزرعُ حقولاً من النوايا الصادقةَ التي تتحولُ إلى بلسمٍ يطببُ جراحَ أمةٍ كانت سيدةَ العالم، شهرَ الأعداءُ سيوفَهمُ بوجهِها، واغتصبوا عفتَها، وقتلوا براءَتها، وقادوها بسلاسلِ التشظي سبيةً تبحثُ عمن يشتري همها ويستر قبح أيامها.
مِنْ هذهِ الحافةِ الجارحةِ، مِنْ دنيا كلُ ما فيها يدعو إلى الحذر، ومِنْ حيثُ لم يفطن أحدٌ من قبلُ، ولدتْ فكرةُ "قصيدة وطنٍ"، وولدتْ معها رغبةٌ بأن تنتفض الأمة، فتعيدَ للتاريخِ صوتَ أمجادها أغنيةً على شفةِ الوجودِ يسمعها الكونُ سكوناً وكأنه في أقدسِ محرابٍ، وتخضعُ لها المباضعُ والسيوفُ صاغرةً لهيبتها، فلبى شعراءُ الأمةِ النداء، وهبٌوا يفيضونَ كرماً وعشقاً ليكتبوا رائيةَ العربِ بضمائر حوتْ من العشقِ أطنانا، ومن النبل بحارا ومحيطات.
إن هبَّةَ شعراء العروبة من المحيط إلى الخليج لينظموا تلك الأبيات الرائعة نصرة للعراق الأبي؛ هي صحوة ضمير أنبته روحه، فشعَر بالتقصير وألمَ الوخز، فأراد ان يعلن الولاء للأمة، ويجدد عهده بها بعد أن طال الفراق، وهي مجازفة كبيرة غير محسوبة النتائج في زمن القحط واليباب. ولذا كانت "قصيدة وطن" بُشرى الوهج المتألقِ الذي يُعلنُ عن ولادة تاريخ إنسانيٍ جديدٍ يشهدُ للعروبةِ أن مكوناتها ومكوناتها وأولادها مهما ابتعدت عن بعضها ظاهرا، ستبقى في داخلها ينبوعَ أمةٍ واحدةٍ، كريمة النفس، لا تطأطئ الرأس إلا عند سجودها لله تعالى، والشاهدُ على ذلك آلاف الغزواتِ التي تكسرت على جبلِ صمودِها عبر التاريخ الإنساني الطويل.
إن قصيدة وطن التي ولدت في أحلكِ أيامِ عروبتنا، وأكثرِها تشظياً وتباعداً وتوجساً وخوفاً وانهزاماً؛ وازعٌ أخلاقيٌ وقيميٌ أشهرَ كل مخزون البطولات التاريخية الذي كان مخفيا تحتَ تراكماتِ القهرِ وخيباتِ الهزائمِ، وصهرَها في كلماتٍ وقوافٍ وأوزانٍ ونظمها قلادة جُمان وجواهر في محاولة جادة لإعادةِ التوازن لأمةٍ تترنحُ تحت طعنات الأعداء وسياط الأصدقاء، ومغامراتِ ومؤامراتِ الجيران، وتكابرُ لتبقى واقفةً بشموخ الأجدادِ، ولذا استحق شعراؤها أن تُحنى لهم قامات المجدِ وسرادق الخلدِ، وأن يركع بين أيدِهم شكرَ القوافي وعبق التاريخ، فقد أعلنت القصيدة من حيث لا يشعرُ الأصدقاءُ والأعداءُ أنَ زمنَ الهزائمِ سيولي، وستولدُ الأمةُ الواحدةُ بكلِ كبرياءِ المجدِ من جديدٍ، لأنها هي التي أسبغتْ على طائرِ العنقاءِ سرَ الخلودِ ومنها تعلمَ أن يجددَ نفسَهُ بعدَ كل هزيمة.
انتهزُ هذه الفرصةَ لأقدمَ جزيلَ شكري وخالص امتناني لكلِ من أسهمَ في إنجاحِ هذا المشروع القيمي البنائي الكبير، سواءُ من روجَ ودعمَ وأشادَ وكتبَ عن المشروعِ ولاسيما موقع الناقدِ العراقي وموقع صحيفة المثقف وموقع هاملت الأدبي وباقي المواقع الأخرى، أو من كتبَ المقدماتِ والآراء التي أشادتْ بالمشروعِ وفرادتِه، أو الشعراءِ العراقيين والعرب الذين لم يبخلوا على الأمةِ بجميلِ نظمهم وصادقِ مشاعرِهم ونبلِ مواقفهم، أو الشاعرِ العراقي الأصيل المغترب ضياء تريكو صكر الذي تولى تدقيقَ وتنقيحَ المشاركاتِ وربطها، أو دارِ الوطنِ في المملكةِ المغربية التي تبرعت بطباعةِ ونشر كتابِ القصيدةِ على نفقتها الخاصة، أو دارِ الورشة العراقية التي ستقومُ بطباعة الطبعةِ الثانيةِ من الكتابِ، وكل من دعمنا بكلمةٍ أو قولٍ أو فعل.

51
المنبر الحر / من أقوالي
« في: 21:32 15/05/2020  »
من أقوالي
صالح الطائي
التصحيح ضرورة تاريخية يستوجبها التطور التاريخي، وتغير السنن حتمية يوجبها تطور الإنسان نفسه واتساع مداركه وتنوع علومه، والفرق بين الحركي والسلفي الجامد هو أن الأول يتمكن من استيعاب معطيات التحضر والتماهي معها دون أن يخدش روح الدين بما في ذلك إيمانه أن تاريخية القرآن حقيقة لا تقبل النقاش، أما الثاني فيعتقد أن ما حدث خلال العشرين عاما من عمر البعثة وهي المدة المحصورة بين اليوم الأول للبعثة وموت النبي هي لب الكون وعلى الكون مهما تغيرت أنماطه أن يبقى ملتفا حولها مثل التفاف الذرات حول النواة. وهذا تواز يستحيل معه التقاء الآراء أو تقاربها من بعضها لذا يجب على المسلمين التنويرين أن يبادروا لنشر ثقافة جديدة تمهد الطرق لخلق مشاريع جديدة تستلهم روح الدين وتستوعب عطاء الحضارة، ومشاركة مني في رفد هذا المشروع وضعت عدة مؤلفات، اخترت منها هذه الأقوال.
ـ إن الفكر الديني حينما يتعامل مع المتغيرات اليومية بفكر العسكر، لا بالبحث عن الجوهر، يحول الحياة إلى مواجهة شرسة لا رابح فيها، تلحق الضرر بالجميع.
ـ خروج الدين من المسجد إلى القصر كان أول محاولة ناجحة لتحويله إلى حزب سياسي ومشروع دنيوي يخدم السلطة لا هي التي تخدمه، ولا علاقة للسماء به.
ـ الدين الذي وصلنا ونتعبد به الآن صورة مشوهة أخذت عن الصورة الأصلية للدين ولكن صناعها لم يكونوا ماهرين فمسخوها، ووضع وعاظ السلاطين أحكاما تكفر من يعترض عليها.
ـ إن ما يخدم الإنسانية ومشاريعها التطورية هو الإسهام الفعلي في التناغم مع المتغيرات الدولية دون التخلي عن الثوابت الحقيقية، ويجب أن يبدأ التناغم من هذه الساعة؛ ودون تأخير لأن كل يوم يمر، يزيد بُعدَ المسافة بيننا وبينهم.
ـ إن العالم بحضاراته المتنوعة؛ الذي يتقبل اليوم ديانات مثل: الشنتوية، الطاوية، الجينية، الكونفوشيوسية، البوذية، السيخية، المهاريشية، ويتقبل الكثير من الديانات والمعتقدات الأخرى بما فيها عبادة الشيطان، يستحيل أن يرفض الاعتراف بدين سماوي عظيم مثل دين الإسلام؛ وهو دين تجده في خصوصياته إنسانيا بلا حدود، وأنا أعزي الرفض ـ هذا إذا اعترفنا بوجوده ـ إلى أننا كمسلمين، عجزنا عن إظهار جمالية الإسلام، وابتعدنا عن الوسطية والاعتدال، وألغينا مبدأ الحوار، ورفضنا الخروج من دائرة الصراع التي حبسنا أنفسنا داخلها، وبدل ذلك وضعنا الآخر ندا في موضع السيف، فكفرناه وفسقناه، وأبحنا عرضه وماله ونفسه، وسوقنا وجها قبيحا للإسلام محصورا في مصطلحات يكرهها العالم أو في الأقل لا يعترف بصحتها ولا بموائمتها للعصر الراهن، مثل الجهاد والردة والتكفير، تلك المصطلحات التي سوقناها مقرونة بفعل، يرقى إلى مستوى الجرائم الأقبح في التاريخ الإنساني، مثل الذبح وحرق الأحياء. ومعنى هذا أننا نتحمل جزء مهما من أجزاء بناء ثقافة رفض الإسلام، وعلينا إذا ما كنا نحترم ديننا صدقا أن نمد للعالم كله يدا بيضاء ندية تحمل غصن زيتون بدل البندقية.!
ـ إن الإسلام السياسـي مشـروع تخريبي ولد بعد عصر البعثة مباشرة من رحم علاقة غير شرعية بين فكر مجاميع إسلامية والموروث الجاهلي، وكان يسعى وراء السلطة من خلال استخدام الدين أرضية عقائدية، وأنه خلال كل السنين المنصرمة، تجاهل الظروف الموضوعية، ولم يلتفت إلى حجم التضارب القائم بين فكره وواقع التطور الحاصل في النظم السياسية والدولية عبر التاريخ، وبقي متمسكا بجمود رؤاه ومشاريعه. ولذا لم ينجح بالصمود أمام المتغيرات حتى بعد نجاحه بتأسيس إمبراطوريات عظيمة مثل الإمبراطورية الأموية والإمبراطورية العباسية، وهو اليوم أكثر فشلا من أي وقت آخر، وجل ما تمكن منه أنه دمر الإسلام والشعوب الإسلامية، وأعطى للعالم صورة مشوهة عن دين عظيم.!
ـ إن الإسلام يواجه اليوم تحديات داخلية نتيجة النشاط المتنامي للجماعات المتطرفة والتكفيرية؛ التي ترتكب أفظع الجرائم باسمه وتحت راياته المذهبية، كما يواجه تحديات خارجية مبعثها كره بعض العقائد الدينية والسياسية الأخرى للإسلام أو تحسسها منه، فضلا عن رد الفعل الذي تبديه شعوب العالم على أعمال التخريب وجرائم القتل التي يرتكبها الإسلاميون.
ـ من أجل مواجهة التحديات، والإسهام في تصحيح الفهم الخاطئ للإسلام، وهو فهم مشترك بين الجماعات المتطرفة الإسلامية وجماعات مغرضة خارجية، علينا العمل بجد وإخلاص لتقديم الإسلام للعالم بصورته الحقيقية المشرقة؛ لا بالصورة التي أنتجتها السياسة وطلاب الدنيا، وعلينا التحلي بالشجاعة لمحاكمة كل تلك الدخائل التي هيمنت على الإسلام الصحيح، وصادرت منهجه، والفرصة اليوم متاحة أكثر من أي وقت آخر وهي تحتاج لمن يقتنصها.!
ـ إن المشروع الإسلامي الرسالي الذي جوبه بالمعارضة أولا، ثم بالتخريب والتشويه لاحقا، يواجه اليوم تحديات خطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ إن لم تواجه من قبل المسلمين أنفسهم بمزيد من التخطيط والدراسة والتحليل، ووضع البرامج للتصدي لها وبيان بطلانها، ومن ثم التغلب عليها، فإنها لن تعيق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فحسب، وإنما ستعيق التطور البشري كله، لأن الإسلام ركن مهم من أركان السيرورة الحضارية عبر التاريخ، وكلما ازداد ضعفا خسرت الإنسانية فرصة للتطور والبقاء.
ـ إن الذين يعملون على محاربة الإسلام ورموزه إنما هم أعداء حقيقيون للإنسانية، وهم أكثر خبثا من الشيطان نفسه، وهم بعملهم الأهوج وثقافتهم المنحرفة التي يروجون لها سيسهمون في خراب العالم، وسيصيبهم الخراب قطعا.



ـ أنا لا ابغي من وراء ما أطرحه وأكتبه دعوة المسلم إلى التخلي عن قيمه ومثله ومعتقداته، بل أدعوه لأن يفيد مما وفره العالم من وسائط المعرفة والعلوم والمعارف لكي يتأكد من صلاحية الكثير من القيم التي يؤمن بها، فهي بمجموعها وصلتنا عن طريق أشخاص غير معصومين، أشغلوا فكرهم في البحث عن معانيها، وخرجوا بنتائج اعتقدوا أن النص المقدس عناها دون غيرها، أو أنها الأكثر موائمة لمعنى النص المقدس، ولم يضعوا أمام أنظارهم كل ذلك العسف والجور الذي تعرض له النص المقدس على أيدي من نصبوا أنفسهم وكلاء عن الرب يوقعون نيابة عنه.!

52
إلى الأول من أيار ورفيق زنزانتي
صالح الطائي
شيوعي عراقي لا أعرفه، جمعتني به زنزانة واحدة، كان ذلك عام 1977 في مديرية الأمن العامة، يوم اعتقلوني، وأخذوني، وأدخلوني إلى مكان قذر ضيق شبه مظلم، فوجدته هناك يئن ويتوجع وكأنه عاش فيه من زمن الطوفان. كان هيكلا بشريا لا أكثر، وقد ترك التعذيب الوحشي آثاره على كل بدنه، تعذيب سرق ملامحه وشكل ولون بشرته الذي تحول إلى ألوان حمراء وسوداء وصفراء، وقد فارقته بعض أسنانه التي تلقت ضرباتهم ولم تقوى على الصمود، وصادروا الكثير من أظفار يديه؛ التي جردوه منها خوف أن تكون أسلحة دمار شامل.
لم يتحرك ولم تبدر منه أي كلمة حتى ظننت أنه مقطوع اللسان أو لا يقوى على تحريك أطرافه، ولم يرد علي حينما حاولت محادثته سوى بكلمة "شيوعي"، مما اضطرني إلى الجلوس في إحدى زوايا الزنزانة منتظرا مصيرا أعرفه، فقد سبقني إليه الكثير من الشباب. وفجأة سمعتهم يأمروني بالوقوف، كان الوقت قد تجاوز العاشرة ليلا فساعتي كانت يومها لا تزال تعمل، أخذوني وأنزلوني إلى سرداب مليء بماء متعفن نتن الرائحة تسبح فيه الجرذان وجثث من لم يحتملوا ذلك الموقف. لا أدري كم قضيت من الوقت قبل أن يأمروني بالتوجه إلى الباب التي كانت مصدر الضوء الوحيد، فأخرجوني وألقوني على أرض يابسة وبدأوا حفل السلخ والتقطيع، أكثر من خمسة (كيبلات) كانت تتراقص على جسدي وهي تعزف رائحة الحقد الوحشي وتفضح كم الحقارة والدناءة الذي يحمله بعض المحسوبين على البشر، وحينما أنهكوا، سحبني أحدهم إلى باب الزنزانة ثم فتحه ودفعني بأقدامه إلى داخلها.
حينها لم أكن أشعر بما يدور حولي، ولكني شعرت بيديه تمسحان القذارة عن وجهي، وحينما نظرت إليه كانت هناك دمعتان تصارعان لكي لا تخرجا وتفضحا ضعفه، بدأ يمزق قطعا من قميصه ويضمد جراحي، ثم تكلم! قال لي: اصمد فهم أضعف منك، وعاد إلى مكانه. ليلتها فارقني النوم، ولأن ساعتي انتحرت مثلي وتوقفت لم أعد أشعر بالوقت، وحينما حل الصباح، دخل اللصوص ليسرقوه مني، فنادى الذي في الداخل على سيده: سيدي هذا مات! فقال له: اتركه في مكانه.
سبعة عشر يوما مرت وأنا في كل يوم أتوقع من صديقي الشيوعي الطيب أن ينظر إلي ويكلمني، ولكن رائحة جسده المتفسخ والدود الذي يقتات عليه كانت تخبرني أن دوري سيحين ولو بعد حين. في صبيحة اليوم الثامن عشر جاءوا يحملون كيس نايلون ووضعوا بقاياه في الكيس وحملوه وخرجوا، صحيح أن الرائحة لم تفارقني إلا أن قطع قميصه التي ضمد بها جراحي كانت لا تزال معي تذكرني بصديق عرفته لساعات كانت كأنها العمر كله. وفي الليلة الأولى التي كان مكانه شاغرا فيها لا أحد يئن فيه، سمعته يحدثني من خلف أكوام من التراب:
يا صديقي لستُ وحدي .. فمعي كل السنابل والبلابل... ومعي كل الورود... ومعي كل المطارق والمناجل.. ومعي كل الدروب من الشمال إلى الشمال ومن الجنوب إلى الجنوب.. ومعي كل المحاسن والعيوب.. ومعي شمس الظهيرة.. ومعي صحراء عمري.. ومعي الليلة المطيرة... ومعي حب العذارى والعشيرة... وجموع الكادحين.. والجميل من السنين.. ومعي عشق الحسين... وقطيع المعصمين.. ومعي أطياف ذاك الحلم النازف قهرا.. شنقته فئران العصابة.. في زنازين الرذيلة.. ورجال الأمن أقاموا حفل شواء وعناقات الكؤوس تتحدى الصرخات، جسدي نار تلظت... ومعي آهات ظهري.. ومعي أوجاع عمري.. ومعي آهة صبري.. جيل قهري .. وبقايا  من دعاء الأمهات.
يا صديقي أنا من أيار يشرق بدري.. انا من باع الحياة  أملا بما هو آت.. جئت كي أعلن ذاتي... أنا من أعطى سنين العمر، واشترى شرف القضية، لم أرض بالدنية. انا شهر النور والأفراح.. أنا مفتاح الصباح.. أنا قصة الأجيال.. أنا ينبوع قضية.. أنا آهات الصبية.. ضحكة الطفل بصدري تتردد، وسنين العشق في بالي تعود وحكاياتي، وابنة الجيران والرفاق والزقاق والموت والحياة والعناق، خبأتها في تقويم الأول من أيار، أملا في أن يطلع النهار ويرحل الصبار وتفتح الوردات بتلاتها، ويلبس الأطفال أثواب عيدهم، ويشمخ الرجال. يا صديقي نسيت أن أخبرك أني أنا عيد الكادحين .. أنا عيد الأغلبية.. أنا قصة وقضية. فأنا أصرخ من تحت الأنقاض عل من يسأل عني يدري أني ضعت في زمن الطغاة، ومعي ضاعت حروف الحق وتاهت الأبجدية.
وشاءت إرادة الله أن لا أموت في تلك الواقعة، وأن أعيش لأرى أيام التغيير وأرى أحلام وآمال صديقي الشيوعي ضاعت كلها.. وضاعت القضية.. وضاع عيد الجائعين عيد الأغلبية.. وصدقت نبوءة صديقي الذي أجهل اسمه ولكن هناك ألف ذكرى له في خاطري منها ذكرى الأول من أيار أن التضحيات خدعة لا يشعر بتفاهتها إلا من خسر عمره من أجل لا شيء.

53
الشعر قضية
قصيدة وطن نموذجا

صالح الطائي
بين بيتين فقيرين من الشعر امتدت قضية وطن موبوءٌ بالوجع السرمدي ربما لأنه محسود بسبب ما فيه من خيرات عظيمة على رأسها هذا الإنسان العصامي العظيم الذي علم الدنيا كتابة الحرف وصنع العجلة وإيقاد النار وتطويع المعادن فيسر لها سبل التقدم.
بين بيتين قالهما شاعر هاو للشعر لا محترف، انبسطت قضية جيل من الضياع واليأس والفرقة والتشتت والبغضاء والكراهية والتباعد والحقد المقيت حتى بانت عورات التاريخ دون غطاء سعى "الربيع العربي" إلى سترها وهو نفسه لم يستر نفسه، فذكرني بقصة العنز مرفوعة الذيل والنعجة ذات الإلية.
بين بيتين قيلا لتأجيج العواطف واكتشاف الذكاء، ثم تحولا إلى قصية وطن بان من خلالها جوهر معدن أمة وصفوه بالرديء وهو من أنقى وأندر المعادن في الكون وأنفسها، معدن لا يصدأ ولا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته على مر الزمان.
هذان البيتان من بحر الوافر وبقافية الراء المضمومة، قلتُ في أولهما نصرةً للعراق وشعبة وشبابه الثائر وشهدائه:
حذارِ منَ الهدوءِ إذا تفشي         فعندَ الفجرِ قارعةٌ تثورُ
وجاراه بعض الأصدقاء الشعراء مجاملة، ثم دخلتْ على الخط شاعرة سورية ألهبت مشاعري بثلاثة أبيات صديقة للبيئة، فدفعتني لأعلن عن مشروع أدبي فيه مجازفة كبيرة لأنه يسير عكس التيار، وينضوي على تحد كبير قد يصل إلى حد الاستهجان طالما أن الأمة ممزقة مشتتة ذات ولاءات لا رابط بينها، تتحكم الكراهية بين حكامها والبعد والتشتت والبغضاء بين شعوبها، ومن محاذيره الخطيرة أنْ أتهم بأني من بقايا نظام ولىَّ كان في شعاراته يدعو للوحدة، فأخسر سمعتي أنا الذي تصدى للنظام معارضا وأقتيد إلى المعتقل عدة مرات، ولا زالت سياط الجلاد مرسومة على ظهره وأثر القيد في معصميه.
وأنا واقعا وصفت المشروع بأنه مجازفة غير محسوبة النتائج لأن ما تمر به أمتنا اليوم من نكسات متلاحقة منذ فورات "الربيع العربي" إلى "صفقة القرن" إلى "انهيار أسعار النفط" جعل منها ظاهرا مجرد مقاطعات متنافرة لا رابط بينها، تعيش كل منها معاناتها لوحدها دون ان يمد لها أحدٌ من إخوتها يد العون، ولا ترغب هي بالاتصال بأحد منهم، هذا إذا لم يكن الأخ هو المتسبب في عذابها ولوعتها. وهذا ما جعل من المشروع مجازفة فيها الكثير من التحدي، لكن مع كل التحديات المتوقعة، والفشل المحتمل، والرفض المتوقع واحتمال عدم الاستجابة أو عدم التجاوب بشكل جاد؛ لم يصبني يأس، فجازفتُ، وكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أرى حجم المشاركات الكثيرة التي بدأت تنهال عليَّ من أغلب أقطار الأمة العربية، وهذا هو فعل الأفكار المجنونة.
كيف للفكرة المجنونة المشحونة بالتحدي الكبير والعناد إلى حد النزق والانفعال أن تهدأ أو تهادن أو لا تتمرد؟ وأنى لها أن تنجح وأن تكون مميزة وبمستوى الطموح في عالم مجنون إذا لم تكن بكل هذا الجنون المنبعث من القلوب الحزينة التي آلمها ما آل إليه أمر الأمة، فالجنون يكون أحيانا أعلى مراحل الوعي، وكم توهجت إشراقات الحكمة من دنيا المجانين، فلم لا تشرق من هذه الدنيا قصيدة تحيي موات قرن من الزمان، وتعيد للأمة وهج العمر الذي مضى، والذي ترك في قلبها أعظم حسرة ليس من اليسير إزالته أو إيقاف تدميره.
في هذا الزمن الصعب كان مسموحا لك أن تكتب عن كل شيء إلا عن الوحدة العربية، لأن كل المؤشرات تبين أن وحدتنا إناءٌ من خزفٍ سقط من سطح ناطحة سحاب على لوح حديد موضوع على الأرض؛ وتشظى قطعا لا رابط بينها، ومن يحاول الكتابة سيتهم بالجنون ويهزأ به كل من يسمع دعواه، وقد يتهم بالعمالة.
رهان المشروع كان مجازفة غير محسوبة النتائج لا تقف عند الشعور بالخذلان فحسب بل تصل إلى مرحلة الاتهام وربما أبعد من ذلك، ومع ذلك راهنتُ على أمر طالما وجدته ظاهرا أمام عيوني اسمه "الغيرة العربية" فالغيرة جين مشترك بين كل العرب في خارطة (دي أن أي)، ينتقل عبر خلايانا تلقائيا سالفا عن سالفٍ، تسبتُ أحيانا حتى يُظنُ بأنها انقرضت أو ماتت إلى الأبد، فإذا ثارت يملأ الدنيا صداها.
إذن هي مجازفة تقبل احتمالين ولا تحتاج سوى إلى القليل من المغامرة بإعلانها إلى الملأ وانتظار رد الفعل، وهو ما حدث فعلا حينما أعلنتُ على صفحتي في الفيس عن نيتي صنع قصيدة بأقلام شعراء الأمة تمجد العراق وأهله بأن يشترك الشاعر ببيت أو بيتين أو ثلاثة أبيات من نفس البحر والقافية.
هنا اشتغلت الغيرة التي أتحدث عنها باتجاهين الأول: بدء وصول مشاركات من عدة أقطار عربية، والثاني قيام بعض الشعراء بالاتصال بزملائهم الشعراء العرب وحثهم للاشتراك في القصيدة، وقيام مواقع الكترونية عراقية بالترويج للمشروع مثل موقع الناقد العراقي وموقع صحيفة المثقف ومنتدى هاملت الأدبي، فانهالت علينا المشاركات من كل أقطار العرب باستثناء بلدين امتنعا بإصرار حتى مع تكرار مطالبتهما بالاشتراك؛ لا يسعني ذكر أسميهما احتراما للوحدة.
النتيجة التي حققها هذا السعي كانت وصول ما يقارب الأربعمائة مشاركة بقلم أكثر من مائتي شاعر عربي، مَثَّل العراقيون منهم بحدود التسعين شاعرا. كانت المشاركات بمستويات مختلفة، تميز بعضها بعنف المشاعر إلى درجة الصدق المطلق، وامتاز بعضها عن غيره كثيرا، وكانت الفوارق واضحة، ولغرض التخلص من هذا التباين والعمل على بناء قصيدة تليق بالوطن بحثت عن شخصية تمتاز بالاستقامة والعدل والحياد والحدية، فعهدت بمهمة تنقيح وتدقيق وتقييم وتحكيم المشاركات إلى شاعر عراقي مغترب تتمثل فيه كل هذه الصفات وأكثر؛ طالما سحرتني قصائده واستثارتني لغته التي اتخذت من طبع المعلقات وصيفا، إنه الشاعر ضياء تريكو صكر ابن الشاعر العراقي الكبير المغفور له تريكو صكر.
كانت مهمة ضياء فضلا عما ذكر شاقة جدا وتحدٍ لا يصمد أمامه الكثير من الشعراء، ولا يقدر عليه إلا بطل تاريخي، ومنه محاولة ربط المشاركات ببعضها لتبدو القصيدة ككيان واحد، وهو ما اضطره إلى نظم عدة أبيات ربط من خلالها المشاركات ببعضها وكانت النتيجة الباهرة قصيدة وطن المكونة من (369) ثلاثمائة وتسعة وستون بيتا، أشترك بنظمها (139) مائة وتسعة وثلاثون شاعرا عراقيا وعربيا.
وحينما كنا ننشر بعض المعلومات عن القصيدة، استثارت الفكرة مناضل مغربي صحفي وأديب اسمه عبد النبي الشراط لديه دار نشر أسمها دار الوطن للطباعة والنشر، فأقترح دعما للمشروع أن يتولى على حسابه الخاص طبع ونشر الكتاب، وهو ينتظر الآن أن نرسل المخطوطة إليه ليقدمها على جميع أعماله الطباعية الأخرى ويبدأ بطباعتها حال وصولها.
أما البيت الثاني فقد قلته قفلا للقصيدة، لتصبح قصيدة وطن بين بيتين، وفيه:
ألاَ فاحْذَرْ هدوءً قد تفشّى      غداة الفجْرِ قارعةٌ تثورُ
ومعه ختمنا رائية العرب التي تنتظر الآن حناجر المغنين والملقين والممثلين للتعامل معها فنيا، وتنتظر أقلام النقاد والأدباء والمتخصصين ليتعاملوا معها بنائيا، وتنتظر أذواق العرب المحبين للشعر لتعيش معهم مغامرة التاريخ.
وبالتالي تبين من خلال هذا الاندفاع العقدي العربي الكبير أن قصيدة وطن، هذا المشروع الفريد من نوعه هو وازع أخلاقي وقيمي أشهر كل مخزون البطولات التاريخية الذي كان مخفيا تحت تراكمات القهر، وصهرها في كلمات وقوافٍ وأوزانٍ في محاولة جادة لإعادة توازن الأمة المفقود، ولذا استحق شعراؤها ان تحنى لهم القامات، وأن يركع بين أيدهم شكر القوافي.
والحمد لله الذي مكننا ببيتين من الشعر وبمساعدة المخلصين أن نبني فريدة التاريخ كأول قصيدة وطنية في التاريخ كله وفي العالم كله يزيد عدد أبياتها على (369) بيتا ويشترك بكتابتها (139) شاعرا، وهي تبدو بحق (رائية العرب) لأنها ستدهش كل من يقرأها، وستأخذ مكانها في صفوف الأدبين العربي والعالمي.

54
جدلية ثورة الحب وثورة النضال والمعارك الخاسرة
الدكتور صالح الطائي
هي ليست قراءة تقليدية لمنجز أدبي، وإنما محطات استنتاجية مع عبد النبي الشراط في كتابه "عبقات وأشواك"، وهو كتاب سيرة شخصية بطعم رواية، ولذا لم أشر إلى أرقام الصفحات التي اقتبست منها.
حينما أهدى الأستاذ عبد النبي الشراط كتابه الموسوم عبقات واشواك إليَّ كانت بي رغبة جامحة أن أقرأه بعمق لأتعرف أكثر على طبيعة هذا الصديق؛ الذي ربط بيني وبينه مجرد عمل فكري، لكنه ليس مثل باقي الأعمال، فهو عمل مشاكس، كان جزءً من مجموعة كتب نويت ان أصدرها تباعا تشترك بجزء من العنوان هي جملة (أثر النص المقدس في ...) ثم يأتي بعدها اسم الموضوع، وكان الكتاب الأول منها تحت عنوان (أثر النص المقدس في صنع عقيدة التكفير) عانيت كثيرا في طباعته فقد رفضته عدة دور نشر، ودخل في بعض البلدان التي نويت طباعته فيها إلى (دائرة الرقابة على المطبوعات) ولم يخرج منها لحد الآن، وقد أوحت لي هذه السلوكية بأن هذه الكتب لن ترى النور، ولكن شاء القدر ان يصدر الكتاب الأول عن إحدى دور النشر في بيروت دون معارضة بعد ان تحملت خسارة مبلغ كبير جراء طبع كمية كبيرة منه ترضي دار النشر، ولم أعد خوض التجربة مع الكتابين الثاني والثالث لأني كنت موقنا من النتائج السالبة مقدما؛ إلى أن حصلت عن طريق المصادفة على كتاب بعنوان (صحيح البخاري نهاية أسطورة) صادر عن دار الوطن في المملكة المغربية، وهي دار لم أكن قد سمعت بها من قبل، لكني حينما بدأت بقراءة هذا الكتاب المشاكس انتابني شعور بالنشوة والفرح لأني أيقنت حل مشكلة كتبي المشاكسة، وهو ما حدث فعلا حيث قبلت الدار تحمل مسؤولية طباعة الكتابين وتوزيعهما.
حاولت لاحقا وعلى مرحلتين التعرف على مسؤول هذه الدار أو صاحبها لأتحدث معه عن مشاكسة الحياة وحياة المشاكسة التي نعيشها، وتواصلنا فعلا، وتحدثنا قليلا فوجدته نموذجا للإنسان العربي المثقف المكافح الثوري صاحب العقيدة ورجل المسؤولية، ولكني لم أتمكن من معرفة أبعاد هذه الشخصية التي أرتني وجهيها الأبيضين، وانفتحت أمامي على مصراعي حقيقتها فكشفتْ أمامي الكثير من أوراقها التي وجدتُ بيني وبينها الكثير من المشتركات، وكانت هذه المرحلة الأولى.
وكانت المرحلة الثانية حينما أطلقتُ مشروع (قصيدة وطن) وهي محاولة لجمع الشعراء العرب من كل الأقطار العربية في عمل أدبي واحد؛ عبارة عن قصيدة تتغنى بالعراق وشعبه وثورة شبابه وعروبته، وبعد أن بدأتُ أعلن عن المشاركات التي تصلني، أعلن الأستاذ الشراط موقفه بالرغم من كونه ليس شاعرا حيث كتب رأيا في مشروع القصيدة مثل الكثير من المثقفين العرب الذين أشادوا بالمشروع وفكرته وتفرده؛ وقد جمعت تلك الآراء وستصدر ضمن كتاب القصيدة، وبدا يتصل بأصدقائه الشعراء طالما منهم الإسهام في نصرة العراق وأهله. أنا لم أستغرب موقفه هذا مطلقا بقدر كونه كان مؤشرا حقيقيا دلني على صحة ما يدعيه الرجل وما يؤمن به، لأن دعم أي عمل أو مشروع عربي مشترك مهما كان بسيطا في زمن فرقة العرب وتباعدهم وتفشي الكره بينهم يعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج وغير أكيدة، لا يجرؤ على خوض غمارها إلا الرجال الكبار، وكان الشراط كبيرا فكان واحدا منهم.
وحينما تجمعت لدي مجموعة كبيرة من مشاركات الشعراء العراقيين والعرب أعلنت عن نيتي جمعها في كتاب وإصداره على نفقتي الخاصة، واعلنت أني سأتحمل المسؤولية القانونية والاجتماعية عن إصدار الكتاب، فإذا بالشراط ينبري من بين الجموع ليعلن أن دار الوطن للطباعة والنشر سوف تتبنى وعلى مسؤوليتها ونفقتها طباعة ونشر الكتاب، وكانت هذه خطوة ثانية في ترصين علاقة صداقتي بهذا الطود الشامخ ليس لأنه أعفاني من ثمن طباعة الكتاب على نفقتي فذلك امر بسيط مقدور عليه يكاد لا يذكر، وإنما من حيث تحمله المسؤولية في زمن تخلى الكثير من العرب عن مسؤوليات أكبر وأخطر حفاظا على أنفسهم.!
ولأني أؤمن بمقولة: "الرجال مخابر لا مناظر" وجدتني وبدون عناء يذكر وقد تعرفت على جزء كبير من حيز شخصية هذا الإنسان العروبي الثائر، وهو أمر حفزني لأعرف أكثر وأكثر عن سيرة حياته ونضاله، وهنا كان الفضل للكتاب الذي أهداه لي، والذي تابعت تصفحه بتأن كبير وشغف أكبر ودقة متناهية فوجدته ليس  "رواية" ولا "سيرة وجدانية" لشخص مثلما ورد في صفحة عنوانه، بل هو تأصيل مهم تنكشف من خلاله بواطن مرحلة تاريخية من أخطر مراحل وجود أمتنا العربية وتأثيرات الفكر الوافد والمتنقل عليها.
وقبل أن أبدأ بتسجيل ملاحظات قراءتي للكتاب أود العودة إلى العنوان؛ عنوان هذه القراءة "جدلية ثورة الحب وثورة النضال والمعارك الخاسرة " لأقول: إني كنت ثائرا، والثورة كانت تدفعني للعشق بل تحرضني بجنون عليه، وفي مرات الاعتقال الكثيرة التي تعرضت لها كنت ألتقي ثوارا آخرين في زنزانات الأمن العامة أو في مواقف مديريات الأمن، والغريب أنهم كلهم كانوا عشاقا، وهذا جعلني أميز الثائر الحقيقي من خلال درجة عشقه، فكلما زادت درجة عشقه كان أكثر قربا للحقيقة، وكان من الثوار المميزين الصادقين، وقد ثبت لي أن الأستاذ الشراط ثائر حقيقي لأنه عاشق حقيقي. ولذا تجدني حتى قبل تصفحي لكتاب الشراط، كنت قد نويت أن أبحث عن هذه الحقيقة في حياته وفي طيات كتابه لأتأكد من صدق مقدار درجة ثوريته التي أعطيتها له وفق خبرتي في هذا الباب، واعود وأقول: الرجال مخابر لا مناظر، ولذا لا تستغرب أن ترى وجها لطيفا باسما لثائر حقيقي صلب، بل ربما على المرء ان يستغرب إذا لم يكن وجه الثائر ضاحكا وثغره باسما، فالثورية حيز حياتي يقوم على مبتنيات ثقافية وإرثية تمتد جذورها إلى عمق التاريخ تستلهم منه قيم الرجولة وآداب العشق، وهي المواقف التي رأيناها تتجلى في مواقف الثوار أثناء الاعتقال والسجن! وإذا بكتاب الشراط يخبرني مع بداية صفحة العنوان أنه "تجارب في الحب والدين والسياسة" إذن وجدت الحب في واجهة الكتاب مقرونا بالسياسة، وهي الخلطة التي أبحث عنها دائما في الثوار الحقيقيين، فماذا عن الحب في الكتاب نفسه؟
كانت كلمة الإهداء كافية لتدلني على صدق نظريتي في هذا الرجل، وقد قال فيها: "إلى التي تحدت معي الظلم، وسلكت معي طريقا مليئا بالأشواك، جمعت بيننا المبادئ، وفرقتنا قسوة دروب الحياة ومتاهاتها، كان هدفنا الوحيد أن نلتقي .... فلم نلتق. إلى التي لم أذكر اسمها تقديرا واحتراما لها، أهدي هذه الباقة من الذكريات".
ولكي يؤكد الشراط حقيقة اشتراك الثوار العاشقين في موسوعة العشق الثوري، أفرد صفحة من الكتاب لجملة هي مقطع من رسالة كتبتها إليه يوم كان معتقلا في احد سجون المملكة ليؤدي ضريبة أفكاره ومبادئه علم 1984.! جاء فيها: "ليس من حق أي امرأة في هذا العالم أن تحبك، أنا التي من حقي أن أعشقك".
والظاهر أن الرجل كان مصرا على أن يبقى عاشقا فهو في طبعة الكتاب الثانية عام 2020 أي بعد ستة وثلاثين عاما من ذلك التاريخ أهداه إليها، إليها وحدها واكتفى بجملة "لها فقط". وهذا هو عشق الثائرين الثابتين على مبادئهم، ولاسيما حينما تكون المحبوبة شريكة في درب النضال وهو ما جعل حبــل المــودة بينهمــا متينــا، والمبــادئ التــي تجمعهمــا قويــة، وطموحهمــا المشترك لا يقف عند حد، لأن حبهمــا كان ممزوجا بالنضال والحراك.
في مقدمته للكتاب أكد الأستاذ الكاتب والشاعر عبد الرحيم هري هذه الحقيقة، وتماهى معي ومع الواقع، بقوله: "وهناك الجريئون الذين يدونون كل شيء مر بحياتهم، أو بحياة غيرهم وكانوا شــاهدين عليهــا متفاعليــن معهــا إن إيجابــا أو ســلبا، هــؤلاء هــم فئــة الكتــاب، وهــي فئــة مــن النــاس لا يميزهــم عــن غيرهــم شــيء ســوى كونهــم متشــبعين بالحــب".
الحب هذه القيمة النبيلة التي طالما تعرضت للقتل بسبب جور الحكام ونزقهم وخوفهم من الكلمة الصادقة أن تحطم عروشهم، الحكام الذين يستسهلون فتح بوابات المطامير ليطعموها شباب الأمة بعيدا عن المحبوب، في غفلة من أعين الضمير، ليمارسوا معهم نوعا آخر من العشق الدموي الذي يريد أن ينتزع من أرواحهم جذوة الحب، وهي تأبي إلا سموا واتقادا. 
لقد عاش الحب في أجمة الكتاب، وتفرعت أغصانه هنا وهناك في دنياه محملة بعبق الذكرى ولوعة الفراق إلى درجة أن الضباط الذين كانوا يستجوبون البطل "عمر" ـ وهو اسم رمزي للشراط نفسه ـ أثناء اعتقاله، شعروا بجذوة الحب التي تتقد في فؤاده ولذا سأله أحدهم مرة: "أســتاذ (واش عمــرك مــا حبيــت؟) هــل ســبق لــك أن جربــت الحــب؟ ولعــل هــذا الســؤال كان الأصعــب.. تنهــد عمــر طويــلا دون أن ينتبــه، وقــد ذكــره هــذا الســؤال اللعيــن بمحبوبتــه بهيــة وتســاءل مــا ســيكون مصيرهــا؟ أصيــب بصدمــة حيــن ســئل هــذا الســؤال غيــر المتوقع، فهــؤلاء يســألون فــي السياســة والنظام والملك والديــن فلم يهتمــون بالحــب؟".
لذا أرى ان هذا الكتاب الذي هو سيرة داخل رواية من نوع خاص، لكونه سيرة ولدت في ساحة صراع فكري تاريخي ثوري عشقي فيه الكثير من التحدي والكثير من الشراسة التي هي ثبات على الموقف وليس تنمرا فارغا، إذن لابد وأن يكون الكتاب مدخلا إلى مساحة فوضى مشاكسة تحتاج إلى الترتيب، وتحتاج أكثر إلى ترتيب الأفكار لأن الأمة التي لا ترتب أفكارها لا يمكن أن تنجز فروضها التاريخية ولا يمكن أن تتقدم.
إن الكتاب في واقعه تجربة ثورية صيغت على شكل رواية وراوٍ، وهي نتاج تجربة عشق، والعشق لا يكون للمرأة فحسب وإنْ كان أحلاها، بل يشمل كل ما هو جميل في الكون سواء كان ماديا أم معنويا، مثل عشق الوطن وعشق الحقيقة وعشق الصراحة والجرأة وعدم الخوف، وعن هذه الأخيرة حاول الشراط في بداية حياته أن يطالب بالحرية للكلمة، وإدانة كل من يريد مصادرتها، فالإنسان وفق المفهوم العام هو كلمة، الكلمة هي التي تميزه عن باقي مخلوقات الله تعالى ولذا صدرَّها الله نداءاته إلى البشرية، ومن يصادر الكلمة إنما يسعى لكي ينزع من الإنسان إنسانيته ويدمجه مع قطيع أخرس يرضى بالجور دون اعتراض، وهو ما رصده الشراط من خلال رصد سلوك السلطة فقال: "كانــت الســلطة تمــارس (هيبتهــا) وســطوتها وبطشــها بــلا رحمــة، وإذا تحدثــت الســلطة يجــب علــى الآخريــن أن يصمتــوا". وهو رجل رفض أن يصمت وأعلن أنه مستعد لتلقي أي عقاب يحدده الحاكم فقط أن لا يصادر كلمته التي يناضل من أجلها.
والواقع أن هذه السيرة/ الرواية تختلف عما ألفناه في فن الرواية فهي إلى السرد الذاتي وكتابة السيرة أقرب منها إلى الرواية، ولكنها تختلف عن أسلوب كتابة السير المعروف، وكان (الحكواتي) أو الراوي هو الرائي والسامع والقائل والفاعل والبطل، وبالتالي كان هو عنصر الرواية وصاحب السيرة وسجل الذكريات، فهذه الفنون تداخلت كلها سوية لتخلق كتابا من نوع فريد في أسلوبه "الأدبي/ الصحفي" أراد الشراط أن يقول من خلاله إنَّ: "عشــاق الحريــة أحــرار دائمــا حتــى لــو كانــوا داخــل الســجون والمعتقــلات، بينمــا الذيــن يمارســون القمــع والاضطهــاد هــم الخائفــون والمرعوبــون علــى الــدوام، ولــو لــم يكونــوا كذلــك لمــا خافــوا مــن الكلمة، مجــرد كلمــة فقــط."
في أغلب صفحات الكتاب تجد إشارات إلى الحب، وقد عاد الشراط إلى الحديث عن الحب والعشق في مراحل متقدمة من الكتاب إلى درجة أنه لم ينسى التحدث عن الحب حتى وهو في أشد الظروف قسوة واضطرابا مثل رحلة الاعتقال التي امتدت أياما طويلة من التحقيق المعقد على يد الكثير من ضباط السلطة، فهو بعد أن أفرج عنه وعاد إلى بلدته كانت "بهية" ـ وهذا هو الاسم الوهمي المختلق للمحبوبة ـ وهو في الواقع أسم محبوبته، كان اول الأشياء التي فكر فيها بعد أن أطمئن على والدته، فكتب لها رسالة يخبرها بما وصلت إليه الأمور، ولم يكن حينها يحفظ عنوانها في مراكش البعيدة عنه، ولكن سحر الحب دفعه لأن يستدعي عنوانها من مطامير الذاكرة العتيقة التي تعرضت إلى حيف كبير نتيجة التحقيق المستمر والإجهاد والتعب إلى درجة أنها تخلت عن الكثير من الأشياء المهمة اكثر من حفظ وتذكر عنوان، والغريب أنه حتى هذه اللحظة لم يكن قد ألتقى بها أو رآها، ولكنهما كانا يعرفان عن بعضهما أدق التفاصيل وأكثرها خصوصية.
لقد ميز الشراط في عمله الدؤوب من أجل صالح الإنسان بين حبين، وهذا ما لا تجده عادة عند الثوار التقليديين، فالثائر التقليدي يمايز عادة بين العشق الروحي والعشق الدلالي ويختار أحدهما ويتخلى عن الآخر، أما الشراط فكان ينظر للعشق الروحي على أنه الجمال وينظر إلى علاقته بالسياسة وبالعمل السياسي على أنه عشق من نوع آخر اطلق عليه اسم آخر هو: الحرية التي وصفها بأنها "محبوبته السيئة" ليس انتقاصا لمنهجه النضالي وإنما لمخرجات الحبين، فحب بهية كان يمنحه سموا روحيا مترعا بالغبطة والفرح أما سعيه نحو الحرية فكان يزرع في نفسه موارد القلق نتيجة المراقبة والتضييق والمحاصرة.!
لقد كان الشراط ينظر للحب تماما مثلما ينظر إلى قضيته التاريخية التي يناضل من اجلها، كان ينظر للحب مثلما ينظر للقضية، ولذا شعر بغبن كبير حينما خسر معركة الحب ـ مثلما يسميها ـ بسبب ظروف قاهرة خارجة عن إرادته، هو الذي جعل كل تحديات السلطة رهن إرادته وتمكن من كسب معاركها، ويعزو فشله وخسرانه لمعركة الحب الأول إلى انه بالرغم من كونه كان كاتبا معروفا، وصحفيا ناجحــا مهنيــا، لكنــه كان دائمــا فاشــلا فــي الحــب والعلاقــات العاطفيــة.!
من الجدير بالذكر والملاحظة أن الشراط كان إسلاميا، وهذه الصفة تضعه أمام مسؤوليتين خطيرتين، الأولى: تناقض التوجه الإسلامي مع علاقة بفتاة، فالإسلاميون يدعون عادة إلى تجنب خوض هذا الميدان.! ولكنه أحب وأشهر حبه وتأسف على نهايته غير السعيدة ولا زال يتذكره حتى بعد اربعة عقود. والظاهر أن هذا النهج هو الذي كشف نوع المسؤولية الثانية، فالمعروف ان الأستاذ الشراط كان إسلاميا عتيدا منذ نعومة أظفاره، ولكنه إسلامي غير نمطي، فهو بالرغم من قربه من خطوط الإسلام الراديكالي أحيانا إلا أنه كان في منتهى التحرر والحياد حتى أنه انتقد الشيخ ياسين أحد أبرز الإسلاميين المغاربة بعدما وجد المعتقلين اليساريين اكثر منه عدالة، وقال في هذا الصدد: "إنــك حيــن تقــارن معاملــة الإســلاميين السياســيين بغيرهــم مــن الذيــن يقولــون بضــرورة فصــل الديــن عــن الدولــة، تلاحــظ أن الفئــة الأخيــرة هــي التــي تطبــق تعاليــم الديــن فــي شــقه الاجتماعــي والإنســاني، بينمــا الفئــة الأولــى تكرهك في ديــن اللــه، بســبب تعامــل أفرادهــا البعيديــن جــدا عــن ديــن اللــه". فضلا عن ذلك قارن بين موقف الإسلاميين اللامبالي وموقف اليساريين الذين كانوا يستقطعون من مخصصات التغذية الخاصة بهم على ندرتها ليقدموه له أثناء صومه أيام شهر رمضان.!
إن لهذه الرؤية التنويرية سببها المعقول فالشراط لم يكن تقليديا، كان يبحث ما بين الأسطر ولا يكتفي بقراءة المكتوب، ومن هنا شخَّص نوع التبعية الذي فرضه الحراك السياسي على المملكة يوم أوضح أن اليساريين والإسلاميين كلاهما لا يحملان جينات البلد الأصلية، وهو ما قال عنه بالحرف الواحد: "فــي نهايــة الســبعينيات وبدايــة الثمانينيــات مــن القــرن الماضي (الفتــرة التــي تعرف فيها عمر على بهية) كان الصراع الفكري يتجاذب بين الفكر اليساري المنقــول حرفيــا مــن أوروبــا الشــرقية والاتحــاد الســوفياتي، وبيــن الفكــر الإســلامي المنقــول حرفيــا مــن المشــرق العربــي. حيث كل التيارات كانت ناقلة لأفكار غيرها". وكانت هذه الآراء الوافدة تفرض سطوتها على الواقع العام، حتى هو لم ينكر تأثره بأفــكار ودعــوة الإخــوان المســلمين الوافدة إليهم من مصر، ولاسيما أدبيــات ومؤلفــات ســيد قطــب، وفــي وقــت لاحــق أعلن عن تأثــره ـ مثل غيــره ـ بأدبيــات الثــورة الإســلامية الإيرانيــة؛ التــي رأى فيهــا الكثيــرون مصــدر إلهــام لهــم أمــام تخــاذل الأنظمــة الإســلامية وتبعيتهــا المطلقــة للغــرب وذلك بعد أن كان قد تأثر قبل ذلك بالفكر الوهابي الوارد والوافد من بلاد نجد والحجاز، والذي كفر به مثل غيره من الأفكار الواردة، ومن ثم تخلى عن المناهج الروتينية التقليدية الخالية من الروح والبعيدة عن النهج الثوري الحقيقي؛ المعدة في الخارج والوافدة إلى المملكة المغربية، وقد افاد من تفكيك مصادر هذه الأفكار ومن تقربه من بعضها فكفر بكلها واحتفظ بإيمانه بالله نظيفا وسليما، محايدا غير متحيز إلى فئة او تيار أو حزب.
ومما لفت انتباهي في كتاب الشراط ولاسيما حديثه عن أيام الاعتقال والسجن المتكرر شرحه لطرق تعامل رجال السلطة مع السياسيين المعتقلين، والغريب أنها بدت مطابقة تماما لما ألفناه في العراق رغم بعد المسافة واختلاف الأنظمة بين العراق والمملكة المغربية، بما في ذلك تقاضي الرشى من قبل رجال الأمن بعد انتهاء التحقيق والعزم على اطلاق سراح المعتقل، حيث يذهب أحدهم ليوهم أهل المعتقل بأه قادر على تخليص ولدهم من السجن، وأذكر في إحدى مرات اعتقالي وبعد أن انتهى التحقيق بعد اعتقال دام لمدة خمسة أشهر أبلغني أحد الضباط بأن اطلاق سراحي بات قريبا جدا، وفعلا أطلق سراحي بعد أيام لأكتشف أن أحد ضباط الأمن ذهب إلى أخي الأكبر مني في نفس يوم اطلاق سراحي وأخبره بأنه يمكن أن يلغي التهم الموجهة إليَّ ويطلق سراحي مقابل مبلغ كبير، وقام أخي المرحوم بدفع المبلغ قبل ساعات من أطلاق سراحي.
ومثلها إجبار المعتقلين على التوقيع على ما يريده رجال السلطة دون أن يسمحوا للمعتقل بقراءة ما مكتوب. أو وضع عشرات المعتقلين في أماكن قذرة وضيقة جدا.  أو اجبار المعتقلين على التوقيع على اعترافات لم يدلوا بها، وحتى تحديد مدد السجن حيث كانت مديرية الأمن العامة في العراق ترسل اضبارة المعتقل إلى المحكمة وبرفتها ورقة تحدد مدة السجن؛ التي سيفرضها حاكم محكمة الثورة عليه، وهو ما كان معمولا به حسب المعلومات التي أوردها الشراط في المغرب أيضا.
صدر الكتاب بحلة قشيبة عن دار الوطن في المملكة المغربية بواقع مائة وخمس وأربعون صفحة، وهو كتاب ممتع وجدير بالقراءة لمحبي الأدبي والمتخصصين بكتابة السيرة والتاريخ العربي الحديث.



55
انا والسماوي والجلاد معاناة خمسين عاما
صالح الطائي
في رحاب البناية الجديدة للجامعة المستنصرية في بغداد، في أقسام الدراسة المسائية، ومع مشارق عام 1971 شاءت إرادة الله أن ألتقي شابا رشيقا أبيض الوجه أصفر الشعر حلو الملامح طيب السجايا هادي الصوت يتحاشى الزحمة ويبتعد عن التجمعات متألق ومتأنق في ملبسه ومهتم بمظهره كان اسمه يحيى فتفاءلت بهذا الاسم الدال على دوام الحياة في بلد كانت تطاردنا فيه حتى حيطانه وتتلصص علينا شوارعه وترقبنا عيون جلاديه لمجرد أننا لا نعاقر العبث ولا نصفق للطغاة ولا نهتف نفاقا ولا نتظاهر من أجلهم.
كان كل اجتماع بيحيى يمثل مجازفة تترتب عليها الكثير من المخاطر، وكان خوفي عليه أكبر من خوفي على نفسي لسبب وجيه وهو أن الأمن التابع لمديرية الأمن العامة وأمن الجامعة كانوا يرصدون حركاتي وسكناتي بدقة خبير، اكتشفت فيما بعد أن سبب ذلك هي التقارير التي رفعها إلى اتحاد الطلبة في الجامعة رفاقهم الذين زاملوني أثناء الدراسة الاعدادية. لهذا السبب كنت أدعو الله أن يبعد هذا الشاب الجميل البريء عن طريقي لكي لا يؤخذ بجريرتي لمجرد أنه استلطفني وأراد أن يوآخيني، ولاسيما وأني شاهدت تكثيفا غير مسبوق للمراقبة بما يوحي بأن الجلادين يتحينون الفرصة للانقضاض علينا وافتراسنا في دهاليز الأمن العامة ومصادرة مستقبلنا.
كان هذا قبل أن أكتشف معلومة في غاية الخطورة والأهمية، أرعبتني في بداية الأمر كثيرا؛ وهي أن زميلي وصديقي الجديد يحيى كان يساريا معروفا، موضوعا مثلي تحت مراقبة الأمن، والكثافة الرقابية التي شخصناها مؤخرا كان سببها اتحاد الجهتين الرقابيتين بجهة رقابية واحدة. يومها اضطربت مشاعري واصبت بحيرة شديدة وقلق كبير، فمن جهة كنت أعتقد أن تقارب الإسلامي واليساري قد لا يثير شكوك الطغاة طالما أن لكل منهما طريقا يختلف عن طريق الآخر ولو في حدود فهم رجال الأمن، فضلا عن وجود عداء متوارث بين الخطين ضمن نطاق إسلامي/ علماني. وفي أحيان أخرى كنت أرى أن هذا التقارب يوحي لرجال الأمن بأن أعداءهم يسعون للاتحاد والوقوف سوية بوجههم، وهذا ما سيجعلهم يستعجلون إلقاء القبض علينا، لذا كان القلق سيد الموقف ومهيمنا على اللقاءات بيننا.
لم تكن لقاءاتي بالسماوي كثيرة ولا طويلة ومتشعبة وإنما اقتصرت على أوقات الفرص بين المحاضرتين، وربما في أوقات المحاضرات الشاغرة، ولم تكن في أماكن مخفية بل كانت مفضوحة أمام الجميع في وسط الساحة العامة وأحيانا في ممرات الكلية الأخرى، وكل الأماكن تتيح للمراقبين رصد أصغر الحركات، وكنا نتحدث بصوت مسموع ليفهم الطغاة أننا نتحدث في أمور عامة لا شأن لها بالسياسة وبالحكام، نعم كنا نستغل الجو العام للحوارات لإطلاق بعض الملاحظات المهمة التي كانت تمر عادة دون أن يشعروا بها او يفهموا معناها ولكن بشكل عام كان حديثنا مسموعا ومفهوما من قبلهم.
الأعم الأغلب من اللقاءات كانت ثنائية أنا ويحيى فقط لا نشرك معنا احدا من الزملاء لأننا على يقين أن اتساع الدائرة سيثير جنون الجهات الرقابية ويجعلهم يستعجلون اتخاذ قرار الاعتقال، ووضع نهاية مأساوية لفرحتنا وإخوتنا، ولا أدري لحد الآن لماذا أحجموا عن اعتقالنا، وتركونا وشأننا طوال تلك المدة.
في تلك الحقبة من التاريخ لم يكن الهاتف الجوال معروفا، ولذا كنا نفترق في العطلة الصيفية ولا يزور أو يرى أحدنا الآخر لعدة أشهر ولاسيما وأن يحيى مقيم في السماوة وأنا مقيم في بغداد، لأن أمن المناطق كانوا أكثر تشددا من غيرهم، وهم مدعومون بأعضاء الحزب المتفرغين للرصد ورفع التقارير، وكلانا كان في منطقة سكنه معروف الميول ومؤشر كمعادي!.
أما في أيام الدراسة فكان اللقاء يوميا، كنا نستغله أحيانا لنتمشى على أرصفة حدائق الجامعة التي لا يصلها رجال الأمن؛ الذين يوجهون في أحيان أخرى عنايتهم ورصدهم لأشخاص آخرين غيرنا موضوعين تحت المراقبة مثلنا، وحينما كان آذان المغرب يرفع ويحين وقت الصلاة، كنت أختلي بزاوية مهجورة لأؤدي الصلاة، وكان يحيى يقف بعيدا عني يراقب حركاتهم، فإذا اقترب أحدهم بدأ يحيى بالسعال لينبهني، فكنت أقطع الصلاة وأشغل نفسي بالنظر إلى الأشجار وغير ذلك.
كانت هذه اللقطة التاريخية واحدة من أهم محطات صداقتنا، حيث يتحمل العلماني اليساري مهمة المراقبة على خطورتها من أجل حماية صديقه الإسلامي، وهذا برأيي أحد أهم الأسباب التي دفعتني إلى النظر للآخر بشكل بعيد عن الرؤية الإسلامية العامة المتشددة التي تؤمن بنظرية (إما دين وإما طين)، فالآخر بالنسبة لي ممكن أن يكون حاميا ومضحيا وسندا وصديقا وأخا، ولا يشترط ان يكون عدوا، وقد أثَّرَت هذه المنهجية على توجهي البحثي العام، فسعيت في كل مؤلفاتي التي أصدرتها والتي فاق عددها الخمسين كتابا على بث ثقافة القبول وتحسين العلاقة بالآخر وفق قاعدة (نظير لك في الخلق) فالإنسانية هي الهدف الأسمى التي يجمع القلوب المتباغضة ويوحد النوايا الطيبة، وكل الذي يهمني من أمر شريكي في العيش والوجود، هو مدى احترامه لي ولإنسانيتي ولعقيدتي ولفكري ولرؤيتي، وما يشغلني أكثر من أي شيء آخر هو أن أرد على جميل هذه السجايا بأجمل منها لتتجلى صور الإنسانية مشرقة بكل ذلك البهاء الرائع الذي يميزه عن الحيوان.
لحد تلك اللحظة لم أكن أعرف أن يحيى شاعر مفوه كبير، لكن الاسترسال بالحديث كشف ميزته الجميلة المضافة هذه، فازددت افتخار به وحبا له، ثم في واحد من تلك اللقاءات البينية أخرج من جيبه كتابا صغيرا كان اسمه "عيناك دنيا" وأهداه لي فتبين أنه ديوانه الشعري الأول؛ الذي كتبه في مرحلة الدراسة الثانوية، وكم كانت فرحتي كبيرة ودهشتي واسعة، فهي المرة الأولى التي يُهدى لي فيها كتاب من يد كاتبه وديوان من يد شاعره، وفي الأيام التالية استرسلت في قراءة وحفظ قصائد الديوان، وقد حفظت الكثير منها.
وفي أحد الأيام وأنا في طريقي إلى الجامعة استوقفني رجال الأمن الذين كانوا يستقلون سيارة ماركة بيجو فرنسية، وتم اعتقالي، وحينما أفرج عني بعد أيام قلائل قررت أن أقاطع الجميع وابتعد عنهم خوفا عليهم، فافترقت عن يحيى وعن جميع أصدقائي ولم أعد اتحدث حتى مع زملائي وزميلاتي في القسم، وهكذا فرقت الأيام بيني وبين يحيى سنينا طويلة.
بعد هذا الاعتقال، تكرر اعتقالي عدة مرات، ووضعت تحت المراقبة المشددة حتى أن رجال الأمن كانوا قد اتخذوا من مطعم شعبي يبيع المشويات يقع قبالة دارنا ويعود لشخص اسمه ناصر الانباري مقرا، فإذا رأوني أخرج من الدار يبدؤون بالسير خلفي، وانا غالبا كنت أذهب إلى أحد بيوت إخوتي أو أخواتي وهي قريبة من بيتنا ولا تبعد كثيرا، وحينما أخرج من الدار لأعود إلى بيتنا أجدهم لا زالوا يتربصون وينتظرون خروجي، وقد تكررت هذه الحالة مرات عديدة. دفعا للأذى عن أصدقائي قاطعت الكثير منهم، بل أغلبهم وأقربهم دفعتهم بعيدا عني خوفا عليهم، وقد حاولت بعد أن استتبت الأمور وزالت المراقبة ان أبين هذه الحقيقة لواحد منهم كان الأقرب إلي هو الدكتور العسكري رؤوف قاسم الذي شغل إدارة الطب العدلي لحين إحالته على التقاعد، حيث ارسلت له كتابي الموسوم :نظرية فارسية التشيع" موشحا بإهداء جاء فيه: ثق أيها العزيز أني أبعدتك خوفا عليك لا خوفا منك، ولكن الظاهر أنه كان شديد الزعل بسبب موقفي المتشدد معه فلم يستجيب لدعوتي. أقول هذا لدخل من خلاله إلى قصة صداقتي بيحيى، فيحيى الذي أبعدته مثل غيره كان موضع امتحان، وكنت أبحث عنه وأخاف أن يكون موقفه مشابها لموقف دكتور رؤوف ولكني لم أعثر عليه، مع أني اتخذت في تسعينات القرن الماضي وتحديدا بعد الانتفاضة الشعبانية خطوة جريئة ومتهورة جدا يوم قررت الذهاب إلى السماوة بحثا عنه، ونفذت الأمر فخرجت بعد منتصف الليل متوجها إلى السماوة على أمل أن أصلها صباحا في وقت لا زال فيه رجال الأمن تحت وطأة لياليهم القلقة التي يحرمهم النوم فيها تأنيب ضمير ميت وأشباح الضحايا وصرخات المعذبين وبكاء الأيتام والحبيبات. وكان توقيتي سليما حيث دخلت السماوة في الصباح الباكر وذهبت إلى وسط البلد أسأل عن يحيى الذي لا أعرف له عنوانا أو مقرا، فسألت كل من صادفني، وانكر الجميع معرفتهم به إلى أن التقيت برجل كبير في السن وحينما سألته عن شاعر اسمه يحيى عباس السماوي، بدت مظاهر القلق على وجهه، فسألني: من أين أنت؟ قلت: من بغداد ويحيى كان زميلي في الجامعة، وأتيت أسأل عنه. فقال بصوت خافت: يا ولدي أنا أعرفه، يحيى مات، فعد إلى أهلك ولا تسأل أحدا بعدي!. وفي طريق العودة إلى بغداد كانت صورة يحيى عالقة في بالي، وضحكته الهادئة ترن في أذنيَّ وكأنها صوت رعد قادم من خلف جبال الهم، ودموعي تسيل بلا انقطاع، والأسف يأكل قلبي.
مرت عدة سنوات أقسم أن اسمه وصورته لم تفارق خيالي، والغريب أن كل ما حفظته من قصائد ديوان عيناك دنيا تلاشي من ذاكرتي وكأن يدا مسحته؛ ربما رحمة بي لكي لا تثير قراءة القصائد شجوني، وكنت خلال هذه السنين وإلى ما بعد 2003  ولاسيما بعد أن اشتريت حاسوبا وربطت خط انترنيت، اتابع ما ينشره الشعراء من قصائدن فوقعت عيني مصادفة على صورة كهل او شيخ مرفقة بقصيدة، كان صاحب الصورة يحمل الكثير من ملامح يحيى، واسمه أيضا يحيى السماوي بدون اسم والده (عباس)، فمنيت النفس أن يكون هو صاحبي، راسلت الموقع بعد أن شرحت لهم قصتي مع يحيى مختصرة، فلم يجيبوني، كررت الطلب، فأهملوه. لم أكن يومها أجيد البحث في الانترنيت، ولكني بدأت ابحث بشكل ساذج عن صور وقصائد اخرى لهذا الرجل، وصدف أن وجدت له صورة اخرى في موقع آخر، وكان موقفهم مشابها لموقف الموقع الأول، يومذاك لم أكن أعرف شيئا عن موقع صحيفة المثقف وعن سادنه المبجل الأخ ماجد الغرباوي، وقد قادني البحث المستمر إلى هذا الموقع، وكالعادة أرسلت لهم رسالة أسأل فيما غذا كانوا يعرفون اسم والد هذا الشاعر، وشرحت لهم بشكل مبتسر قصتي معه، انتظرت يوما يومين ثلاثة أيام وإذا برسالة طويلة جدا تأتيني من يحيى شرح فيها ما مر عليه من قهر وجور الطغاة وقصة حمله السلاح ومن ثم لجوئه إلى معسكر رفحاء وهجرته إلى بلد آخر، وابان لي أنه يقيم الآن في أستراليا وأنه متزوج ورزق بذرية ويكتب الشعر وأشياء كثيرة أخرى ووعدني بأنه متى ما يزور العراق سوف يزورني، وهنا أجهشت بالبكاء وبحرقة شديدة لا حزنا بل فرحا وأنا أردد عبارة: سبحان من يحيي العظام وهي رميم، سبحان من قلب المعادلات والموازين، سبحان الذي جعلني أعثر من جديد على أخي وصديقي يحيى الذي بكيته كثيرا.
استمرت المراسلات بيننا زمنا طويلا وفي كل عام أنتظر طلته علي ويعدني هو بأنه غذا زار العراق ولم يزرني فكأنه صلى بغير وضوء، إلى أن أصابني اليأس فقد تقدم العمر ولم تعد في العمر بقية، ومن دياجير ظلمة الأسى واليأس طل صوته يبشرني بلقاء، وفعلا زارني مع مجموعة من الأصدقاء وكانت من أجمل ساعات عمري لأنها أعادتني إلى الوراء خمسين عاما.
بالأمس حال الطغاة دون لقائنا.. واليوم حالت طغوة وباء كورونا دون لقائنا وكلي أمل ان نجتمع مرة أخرى، وأمنية ان تتحقق هذه الأمنية.!
 

56
الإصلاح الديني يبدا من حيث انتهى الأوائل
د. صالح الطائي
بين العدل وسوء الفهم، بين الحقيقة وما دونها، بين ما أراده الله وما يريده المتفقهون في العقائد والسنن، بين خنوع الأمس والسكوت الإبليسي الخانس وتقبل كل ما يلقى دون اعتراض، وبين تحرر اليوم والجرأة على القول بلا رقيب وبصوت عالٍ، بين كل هذه المتناقضات تقف مصائرنا معلقة بين الأرض والسماء، تبحث عن خلاص، وما تدري أن خلاصها مهما تراه قريبا هو مجرد إبرة صغيرة طمرتها جبال من القش لا يكفي العمر لإزاحتها بحثا بلا جدوى. وهو في وجوده المحير القلق هناك في المأزق التاريخي الذي وضع نفسه فيه ينظر مرة إلى أعلى، ومرات إلى أسفل، فيجد بينه وبين ما موجود أعلاه جبالا من آراء تحجب الرؤيا، ويجد بينه وبين ما هو أدناه مفازات من حيرة لا فكاك منها، تثير الشكوك ويغمرها التناقض إلى حد الرعب والجنون، ولنبدأ بأكثرها بساطة ويسرا، فالجزئيات ممكن أن تقودنا إلى فهم الكليات، ولاسيما تلك الجزئيات التي لها مساس مباشر بوجود الإنسان، فانظر مثلا إلى قولهم الغريب المريب في موضوع يخص جواز زواج الرجل بأربع نساء وعدم جواز التعدد للمرأة: إن الله جعل للمرأة شهوة جنسية تزيد على شهوة الرجل بسبعة أجزاء، أي أن شهوتها أو رغبتها تعدل سبعة أضعاف رغبة الرجل! وهنا أرى ـ إنْ صدق هذا القول ـ أن من عدالة الله سبحانه أن يتيح لها طرائق متعددة تتناسب مع هذا التباين في القوى، فيتيح لها سبعة أضعاف ما أتاحه للرجل لكي تتحقق العدالة والمساواة، ولكنهم اعترضوا طريق هذا الرأي، فقالوا: إن الله جعل للرجل أن يتزوج بأربع نساء، ويتسرى بما يشاء، ويشتري من الجواري على قدر ما يستطيع، وله أن يطأهن ويعاشرهن ويلاعبهن جميعهن في الليلة الواحدة، وهو لا يملك سوى جزءً واحدا من الشهوة، وحرَّموا ذلك على المرأة التي تملك سبعة أجزاء، فقالوا: لا يحق للمرأة أن تتصل بغير زوجها أو مالكها بتاتا، وإلا فمصيرها الرجم. وهنا لابد للعاقل أن يقف ويتأمل ويسأل: أيبدو ذلك عادلا أو معقولا يتساوق مع ما هو معروف عن عدالة الله تعالى؟ ولماذا هذا التباين في التوزيع حتى مع اختلاف القوى الكبير والمرهق؟
وأثناء البحث عن الجواب سوف يصطدم الباحث بمئات التعليلات القاسية التي لا تقنع مجنونا ولا عاقلا، ومنها تعللهم بأن سبب الاختلاف هو أنه لما كان الرجل والمرأة اشتركا من خلال العلاقة في التلذذ؛ كل منهما بصاحبه وقضاء وطره منه، فهما شركاء، وإلى هنا يبدو المنطوق سليما وفيه إشارة إلى المساواة، ولكنهم ادعوا بأن الله خص الرجل بالتمايز بما منحه له من قوى وإمكانات عقلية وبدنية، ووفقا لهذه الخصائص، خصه بالنفقة والكسوة وكلفة وكفالة المرأة، وجعله قواما عليها، والقوامة هي: القيام على الشيء رعاية وحماية وإصلاحاً، وفقا لقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} التي اتكأوا عليها في تفضيل الرجل على المرأة، فمن المنطق والعقل أن هذه القوامة تسقط إذا ما كانت المرأة افضل من الرجل، وكم من النساء من تعدل إحداهن ألف رجل! وتسقط إذا ما كانت هي التي تنفق عليه وليس هو الذي ينفق عليها! لكنهم ادعوا أنه بسبب هذه القوامة المزعومة عُوِض الرجل عن ذلك بأن أُطلق له الاستمتاع بغيرها حتى دون أن ينظروا إلى الاحتمال الآخر أو يفكروا فيه.! وهو منطق جبري قسري قهري لا علاقة للمرأة فيه، فهي لم تخلق نفسها ضعيفة ـ هذا إذا ما كانت ضعيفة حقا ـ على خلاف الرجل، وإذا ما كانت ناقصة عقل ـ وهو أمر تنفيه العلوم وينفيه العقل ـ فهي ليست مسؤولة عن هذا النقصان المزعوم، فالشهوة الجنسية للرجال تتأثر حسب ما توصل إليه العلماء بكمية إفراز هرمون التستوستيرون (هرمون الحميمية) في أجسامهم. وطول المدة الزمنية الفاصلة بين الممارسة القديمة والجديدة. وبالعمر، إذ تقل الرغبة كلما تقدم الرجل بالعمر. فضلا عن ذلك أثبت العلماء والأطباء أن نسبة التستوستيرون أي هرمون الحميمية لدى النساء تمثل 3% من مستواه لدى الرجال، وليس العكس مثلما يفهم من قولهم.!
وفي المجمل أجد أن هذا الحكم القسري فيه تعميم يتعارض حتى مع دعوة الله تعالى لذي السعة بالإنفاق، وليس للمقتر الفقير، فالله تعالى لا يكلف النفس فوق قدراتها، فقال: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا}.
ومنه نستنتج أن التناقض الخَلقي والخُلقي والمالي وفق زعمهم، مرتبط بالأسباب والمسببات، لكن إذا قلبنا المعادلة وغيرنا الأسباب، هل تتغير السلطة والإباحة بتغير المسببات، فيباح للمرأة مثلا ما كان مباحا للرجل، ويمنع هو منه؟ وماذا لو كانت المرأة هي التي تنفق على الرجل وتكسوه وتطعمه؟ وماذا لو كان الرجل مريضا مقعدا لا يقوى على شيء؟ ماذا لو كان مقطوع الأطراف لا يقوى على عمل؟ ماذا لو كان صاحب علةٍ مزمنة؟ هل يحق لها في هذه الحالة الاستمتاع بغيرهِ ما دامتْ السلطة والقوة بيدها؟ ألا ترونَ أنه الحل الأمثل وفقا لتعليلاتهم الفارغة؟
من هنا، من هذه الحافات الحادة الجارحة وجدت بينهم من لم يقتنع بتلك التأويلات ووجدها لا تفي الأمر مطلبه، فابتكر أسبابا أخرى حاول من خلالها إيجاد الأعذار التي تبيح للرجل الفحل أربعة زوجات ومئات من الجواري وما ملكت اليمين، له ان ينتقي منهن ما يعجبه بأي عدد وأي وقت! بحجة أن المرأة جليسة البيت، لا تخرج غالبا، ولا ترى من الشباب والرجال أحدا، فلا تقع عينُها على ما تشتهي، فلا تُستثار، أما الرجل فهو بحكم طبيعته ومسؤولياته كثير الخروج، كثير التنقل، كثير التجوال، كثير السفر، وتقع عينه على كثير من النساء في الشوارع والأسواق والمحلات، فتُستثار شهوته، ولذا أبيح له أن يملك منهن ما يشاء، ولم تبح الشريعة للمرأة مثلما أبيح له.!
طيب نجد اليوم أن أغلب النساء طالبات أو موظفات، ويملكن مصادر للرزق تساوي؛ وقد تزيد وتفوق ما يمتلكه زوجها، وهن يخرجن إلى العمل بإذن أزواجهن وأهلهن، والقوانين السارية تمنع الاعتراض على خروجهن وتعتبر ذلك مصادرة للحريات، وفيهن من تخرج لوحدها أو من يصطحبهن ازواجهن وأهلهن إلى النوادي والمسابح والمسارح والسينمات والمتنزهات والأسواق والمطاعم والكازينوهات، وتقع أعينهن على الكثير من الشباب والرجال، وهنا قد تثار شهوتها، مثلما تثار شهوة الرجل حينما يرى النساء، بل قد تكون إثارتها أقوى من إثارته بسبعة مرات، فهل معنى ذلك أنه يباح لها التعدد لكي تطفئ الشهوة لنفس السبب ونفس العذر الذي أوجدوه للرجل؟!
والذي أراه أن هناك هوة فاصلة واسعة بين تعاليم الدين الحقيقية وبين تأويلها وتفسيرها وشرحها المتداول الآن، وأن المفسرين والمؤولين والمحدثين فضلا عن اللغويين والنحويين والمفتين، اجتمعوا كلهم سوية على خلق تلك الهوة الساحقة، وهي حينما اتسعت بهذا الشكل المهول، خرجت عن قدراتهم، وتمردت على سلطاتهم، فعجزوا عن مداراة وهنها ومعالجة تعارضها وتقوية ضعفها، وما عاد بأيدهم سوى أن يبحثوا عن تعليلات وتأويلات جديدة يدعمون بها ما سبق وأن طرحوه، فأوقعوا انفسهم وأوقعونا معهم في حيرة تكاد تصادر عقولنا وتقتل فسحات الأمل في حياتنا.
وعليه أعتقد أن الخطورة التي وُضع الدين في أجوائها لا تكمن اليوم في محاولات الأعداء المنافسين المتشددين؛ الذين يتحينون الفرص لينصروا عقائدهم ويطعنوا بعقيدتنا، فهؤلاء مقدور عليهم، ويمكننا مقارعة حججهم بحججنا، بل تكمن في الروح التمردية التي يحملها شبابنا من الجنسين؛ الذين اتاحت لهم فرصة الانفتاح العولمي ان ينفتحوا على ثقافات عالمية وعلمية في منتهى التحرر لا يحدها حد ولا يقيدها قيد، تشكك بكل الحقائق ولا تخشى لومة لائم، ولا تتهيب من التطاول حتى على الذات الإلهية، وتتهجم على المقدس وتنتقص من قدره وحجمه، وتستهزئ بالقيم الموروثة والتقاليد السارية، وتعتبر رجال الدين مجرد كهنة سلاحهم الأساطير والخرافات.
ولذا يجب علينا ان نؤمن يقينا أن قوانين الدين مثل القوانين الوضعية تحتاج إلى المراجعة والتعديل والتجديد، لأن الكثير من تعاليم الأديان كانت مرحلية ترتبط بعصر البعثة، وقد وضعت لتجاوز مراحل تاريخية لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التنويع المقنن، وان القواعد التي وضعتها الأديان لأتباعها الأوائل ليتجاوزوا من خلالها تلك المراحل أملا في التغيير والتبديل لا تنطبق على غيرها، ولا تتماشى مع التحضر الدائم وتقدم الأفكار والآراء والمعتقدات والقيم، وان الدين الحقيقي هو الذي يدرك حقيقة هذه المعادلة، ويعمل على التماهي معها من خلال الاعتراف بمرحلية التعاليم الدينية، وأنه ليس شرطا أن تكون كل التعاليم صالحة لكل التواريخ، وفيها ما يجب أن يُترك أو يُهمل أو يُعمل بخلافه أو يُجدد أو يحذف منه ويضاف إليه، لا من خلال الابتداع، بل من خلال فهم جوانب العقيدة الأخرى التي تبيح ذلك ولا تعترض عليه. وهذا ـ في حدود موضوعنا ـ لا يعني أننا نطالب بقلب المعادلة فنسمح مثلا للمرأة ان تتزوج اكثر من رجل أو يكون لها ملك يمين من الرجال، لا  ابدا نحن لا ندعو لمثل هذه الأمور القبيحة ولا نقرها، وإنما نطالب بحجب بعض الصلاحيات التاريخية المرحلية؛ التي أعطيت لطرف على حساب الطرف الآخر، وهذا هو المنطق السليم، فالسعي وراء الحرية المطلقة سوف يجرد الأديان من قيمتها المعنوية والبنائية إذا لم تتجاوز مراحل التنظير الموروث، وتضع لنفسها قواعد من ضمن المعقول والمتاح؛ الذي لا يتجاوز الثوابت، ولكنه يطور المتغيرات.! 

57
العراق من كورونا  إلى انهيار أسعار البترول
صالح الطائي
مع احتمال انخفاض أسعار البترول إلى أدنى مستوى لها خلال عقدين أو أكثر؛ بسبب تداعيات مرض كورونا، ومع انتشار فكرة احتمال إعادة فرض نوع جديد من التقشف في العراق، أو احتمال تقليل المرتبات الشهرية والأجور إلى النصف؛ تمتد الكثير من مساحات الوجع الغائر في أعماق النفوس؛ التي أكلت من قبل مرغمة "علف الحيوانات" وهي تشكر اللهّ أنها تجد ما تأكله ولو بشق الأنفس، ذلك الوجع المخزي المهين الموجع إلى حد القسوة المفرطة؛ الذي ألجأ بعض العراقيين الأكثر فقرا إلى بيع "أعراضهم" من أجل توفير لقمة لا يشترطون بها أن تكون شريفة من أجل إطعام أبنائهم، في وقت كانت قصور الحكام والمترفين تمتد على عرض مساحة العراق، وتزداد ارتفاعا وتزيينا وتأثيثا، وكروشهم تزداد انتفاخا، ودمويتهم تزداد شرا.
وهذا هو قدر العراق، منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى، ومنذ أن رفع راية العِلم ليعلم الإنسانية معناها، ويرسم لها سبل مبتغاها؛ وهو قصابٌ كريمٌ يُطعم الناس الأطايب مما فاء به الله عليه، ويمن على جوعى العالم وأكداس المساكين والمعوزين، ولا ينسى بكرمه حتى الأعداء الحقيقيين والمحتملين، وجميع الأنقياء والخبثاء، والأتقياء والأشقياء، والصالحين والفاسدين والأبرياء والمجرمين والشرفاء والسُراق، والعقلاء والمجانين، فخيره كثير، وكرمه بلا حدود، والجود ـ مثلما قال الأجداد ـ من الموجود.
ومنذ أن خلق الله سبحانه العراق وكل كلاب الدنيا تمر به، لتعيث بأرضه فسادا وتنعم بثرواته، أو لتسرق من خيراته، أو لتحصل على مجرد عظمة أو قطعة لحم، تسد بها أودها، أو تطعم بها جراءها، ومن هنا تحديدا، جاء المثل الشعبي القائل: "درب الجلب عالكصاب" وبالفصحى: "طريق الكلب يمر حيث دكان القصاب"، وهذا يترجم الرقم الحقيقي لعدد المرات التي خضع العراق فيها لسيطرة القوى الخارجية الأجنبية على اختلاف جنسياتها وأماكن وجودها القريبة إلى حد الالتصاق والبعيدة إلى حد ليِّ الأعناق.
مصيبة العراق أنه عبر تاريخه كان مضاما يشكو الضيم وجور ورعونة وغباء الحكام، واهتمامهم بأنفسهم وبمرتباتهم وبقصورهم وخدمهم وبالمحيطين بهم، وتركهم كل طبقات الشعب الأخرى تبحث عن لقمة شريفة في زمن أنحسر فيه مد الشرف حتى بانت قيعان الخطيئة، ومعها بانت عورات النساء والصبيان الفتية، الذين استرخصوا أنفسهم بسبب الجوع فوجدوا من يتاجر بأجسادهم ولحومهم ويحمل وزر وجعهم وذلهم.
والأشد نكاية أن حكام العراق المعاصرون منهم والأقدمون، سواء كانوا متفردين تسلطيين دكتاتوريين، جاءوا على ظهر قطار انكلوأمريكي مر بالعراق وخرج، أو مجتمعين منتخبين ديمقراطيين علمانيين ومتدينين، جاءوا على ظهر دبابة أمريكية وتسنموا الحكم عن طريق صناديق الرذيلة، وينتظرون ساعة طردهم، مثلما ينتظر الشعب ساعة الخلاص من فسادهم وسرقاتهم وتبعيتهم للأجنبي.
إن ما مر على العراق خلال الخمسين سنة المنصرمة قضى على كثير من بوادر الخير والطيبة والشرف والوطنية والنخوة في نفوس أهله، وما سيمر عليهم إذا ما حوربوا بأرزاقهم مرة أخرى، سيقضي على وشل ما بقي لديهم من منظومة الأخلاق والقيم، ويحولهم إلى قطعان افتراسية تأكل بعضها بعضا، فيخسر العالم شعبا وبقعة أرض كانت مهدا للحضارات.


58
قصيدة وطن لكل أبناء الوطن
صالح الطائي
من وزن الوافر وبقافية الراء المضمومة، نظمتُ بيتَ شعرٍ قلت فيه:
حذار من الهدوء إذا تفشى         فعند الفجر قارعة تثور
وطلبت من أصدقائي الشعراء مجاراته، فوصلتني مجموعة أبيات من شعراء عراقيين وعرب، مما حفزني لأحول فكرة المجاراة إلى مشروع وطني بنيوي بأن يسهم شعراء العراق والأمة بكتابة بيتين أو ثلاثة من نفس البحر والقافية لأجل بناء قصيدة عظيمة مهداة إلى العراق في محنته وإلى الأمة العربية كلها، وأنا واقعا كنت مترددا في نشر فكرة المشروع نظرا لما تمر به الأمة اليوم من فرقة وتشطي، لكن أصدقائي ولاسيما الشعراء منهم حثوني على نشرها والترويج لها، وكم كانت فرحتي كبيرة وأنا أتلقى مشاركات من سوريا ومصر والسعودية والأردن وفلسطين وتونس واليمن فضلا عن مشاركات فحول الشعر العراقي بما فيهم بعض المغتربين مثل الشاعر الكبير يحيى السماوي والشاعر الكبير عقيل حاتم الساعدي وشعراء آخرين.
ونظرة لجودة وكثرة المشاركات، تحول المشروع من مجرد فكرة محصورة بمجاراة بيت واحد إلى قصيدة وطن تحتضن كل الأمة، وهو الآن في مراحل إعداده الأخيرة؛ التي من ضمنها حاجته إلى بعض المشاركات الأخرى، ليكون بإمكاننا تحويله إلى كتاب، ونشره في العالم كله، لذا هي دعوة وطنية صادقة لجميع إخوتنا وأصدقائنا شعراء العراق والأمة للمشاركة بهذا المشروع عن طريق نشر مشاركاتهم في حقل التعليقات أسفل هذا المقال، أو إرسالها على بريدي أو على صفحتي في الفيسبوك أو التلكرام، وإذا ما فرقتنا السياسة، فإن القلم والقافية ممكن أن تجمعنا على خير.

59
المنبر الحر / إصداري الثاني
« في: 21:19 21/01/2020  »
إصداري الثاني
الدكتور صالح الطائي
حمل إصداري الثاني الجديد عنوان "أنا وصورهم الشعرية"، ويضم مجموعة رائعة من القصائد والمقطوعات التي نظمها الأصدقاء من أجلي أو أهدوها إلي في مناسبات مختلفة، وهي تمثل جزء من هذا العطاء الثر، لأن بعضها ضاع بعد أن قاموا بتهكير حاسوبي.
إن الذي دعاني إلى جمع هذه الهدايا القيمة في هذا الكتاب سببٌ يعودُ إلى بقايا موروثنا العربي القديم، فالمعروف أنه منذ عصر العرب الجاهلي والقصيدة العربية كانت السيف والمفتاح والرسالة والهدية والوردة والقبلة والضمة والشكوى والمشاعر ومتجر السلع الثمينة وجنود السواتر ولحظات قواهر. ومنذ الأزل والقصيدة العربية واسطة ووشيجة ورابطة قوية ودموع أبية وضحكات ندية، وقضية.
من هذا الموروث المثقل بالحكايات، من تأثيره علينا، وأثره على نشأتنا، تجد أننا منذ أن وعينا؛ وهناك في أرواحنا حاجة وشغف لأن يتفضل علينا أحد جهابذة الشعر فيهدينا بيتا أو بيتين يخلدهما التاريخ مثلما خلد تلك القصائد القديمة التي من مجموعها تكون تراثنا الأدبي العربي الزاخر، وأولئك الرجال الذين من حكاياتهم كتبت صفحات تاريخنا العربي.
ومنذ أول قصيدة اهديت إلي وأنا أحلم بأن يزداد العدد، وأن أجمعها وأصدرها بكتاب أتركه إرثا لأولادي وأحفادي، يفخرون به على أقرانهم، ويقصون حكاياته لأولادهم ونسوانهم.
ومع أني خلال عمري الطويل تمنيت الكثير من الأماني التي ذهبت أدراج الرياح، والتي بخرتها شمس العمر، إلا أن هذه الأمنية من دونها كلها أبت إلا أن تتحقق، وربما ثمة سر في ذلك، وهو أنها أرادت بتحققها أن تعوضني سنوات الحرمان الطويلة التي تسبب بها ضياع أغلب الأمنيات، فأبت مروءتي إلا أن أتماهى معها وأترجمها بهذا الكتاب.
وأنا واقعا كنت أنوي جمع محتويات هذا الكتاب مع محتويات الكتاب الذي سبقه وهو الكتاب الخاص بالنثر، لكن اشتمال ذاك الكتاب على مواضيع كثيرة ومتشعبة ومطولة، جعله أكبر من أن يؤدي غرضه في حال الجمع بين الشعر والنثر سوية. من هنا ارتأيت عزل الشعر وهمومه، لأخصص له كتابا خاصا به يكون مكملا لكتاب النثر ويشترك معه في العنوان باستثناء كلمي (نثرية) و(شعرية) الدلاليتين للتمييز محتويهما.
وفي كل هذا لا أجد لي فضلا، فالمتفضل والمتكرم هم الأصدقاء الشعراء والأدباء الذين خصوني بتلك الهدايا الرائعة. من هنا لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لمن جعل هذا الكتاب ممكنا، من إخوتي الأدباء والشعراء الأماجد الذين أهدوني نفثات أرواحهم قلائد حب أخوي غامر لا يقدر بثمن. والشكر موصول للأكاديميين والكتاب الذين اختاروا من عيون القصائد ما خصوني به وأهدوه إليَّ، ولكل من سيتلقى هذا الكتاب ويتفاعل معه.
أما الأصدقاء الذين وردت قصائدهم ومقطوعاتهم في هذا الكتاب فهم السادة  الأفاضل:
1ـ الأستاذ الدكتور محمد تقي جون
2ـ الأستاذ هادي جبار سلوم
3ـ الدكتور رحيم الغرباوي
4ـ المهندس المغترب رحيم تريكو صكر
5ـ الأديب حسين جنكير
6ـ الأستاذ ياسر العطية
7ـ الأديب علي كريم عباس
8ـ البروفسور التونسي محسن العوني
9ـ الأديب التونسي محمد الصالح الغريسي
10ـ الأديب عبد الرزاق النصراوي
11ـ الأديب علي نجم
12ـ الأديبة المغتربة خلود المطلبي
13ـ الأديب عبد الرزاق الياسري
14ـ الأديب أبو سلام البصري
15ـ الأديب عدنان عبد النبي البلداوي
16ـ الدكتور مالك الكناني
17ـ الأستاذ عصام عباس الشمري
18ـ الأديب سعدي عبد الكريم
19ـ الأديب حسن رحيم الخرساني
20ـ الأديب الفلسطيني سعود الأسدي
وقد صدر هذا الكتاب عن دار المتن ببغداد بواقع 106 صفحات من القطع المتوسط، وصمم غلافه الفنان العراقي الأستاذ بسام الخناق.


60
المنبر الحر / كتابيَّ الجديدين
« في: 21:24 18/01/2020  »
كتابيَّ الجديدين
د. صالح الطائي
استلمت اليوم 18/1/2020  بعد طول عناء وانتظار وترقب نسخ كتابي الجديدين (أنا وصورهم النثرية) و(أنا وصورهم الشعرية) وسأكتب اليوم عن مضمون الكتاب الأول على أمل أن أكتب لاحقا عن الكتاب الثاني.
أنا وصورهم النثرية كتاب ضم آراء وأقوال وأفعال بعض أصدقائي الأعزاء فيما تم الحوار حوله من مواضيع، فضلا عن آراء وأقوال ومقالات وروائع خصوني بها، وقد خفت عليها من الضياع، فخلدتها في هذا الكتاب؛ الذي ـ أنا على يقين ـ أنه سيبدو في المستقبل غريبا في موضوعه الذي تناوله، مثلما تبدو لنا اليوم بعض كتابات أهلنا قبل خمسين عاما أو أكثر من خلال تأريخ الحوادث شعرا والإخوانيات وغيرها من المواضيع التي انقرضت ولم تعد متداولة.
ضم الكتاب أسماء العمالقة المبدعين والأصدقاء الرائعين الذين لولاهم ما كان له أن يرى النور، وهم كل من:
الأخ الشاعر الكبير يحيى السماوي
الأخ الباحث سلام كاظم فرج
الأستاذ العزيز طلال النعيمي
الأخ والصديق البروفسور مديح الصادق
المرحوم زاحم جهاد مطر
الأستاذ حيدر عبد علاوي الزيدي
الأخ العزيز الدكتور سلام جمعة باش المالكي
الأخ والصديق الجزائري علي شطيبي
العزيز الدكتور علاء الحلي
الدكتور رحيم فرحان صدام
الأديب حسن سالم الدباغ
الأديب جبار الحمداني
الإعلامي باسم الشمري
الأستاذ فرات الملكي
الشاعر علي كريم عباس
فضلا عن ذلك، ضم الكتاب نصوص نخبوية للقاءات الصحفية التي أجريت معي ومنها:
حوار مع مجلة الكاردينيا
حوار مع مجلة صدى الروضتين أجراه معي رئيس التحرير الأديب علي حسين الخباز
حوار أجرته معي الأستاذة عزيزة رحموني
أما القسم الثالث من الكتاب فضم بين طياته مواضيع تخص كتابات عن سيرتي الشخصية، ومنها:
ما نشره الأخ العزيز الأستاذ موفق الربيعي في موسوعة (شخصية من بلادي) الورقية.
ما نشره الأستاذ الفاضل محمود داود برغل في موسوعة محافظة واسط الكبرى.
ما نشره الأستاذ رائد السوداني تحت عنوان "أعلام من مدينتي".
ومن أقسام الكتاب الأخرى كان قسم كتابات الدراسات الذي ضم:
البحث الذي كتبه الباحث سجاد ماجد تحت إشراف الدكتور فوزي خيري (بحث تخرج).
وضم آخر أقسام الكتاب، الذي جاء تحت عنوان (مواضيع خفيفة) بعض ما كتبه الأساتذة الأفاضل:
الأستاذ صلاح هادي شكر
الدكتور التونسي محسن العوني
الدكتور الإيراني رسول بلاوي.
يقع الكتاب في 119 صفحة وصدر عن دار المتن في بغداد، صمم غلافه الفنان بسام الخناق.

61
المنبر الحر / ماكو وطن(*)
« في: 19:30 16/12/2019  »
ماكو وطن(*)
صالح الطائي
عامان يصطرعان على حافة وجودنا المعاند والآيل للسقوط، كلاهما في حيرة من أمره، ولا يعرفان ماذا سيفعلان، فلا من يروم الرحيل يستطيع تمرير خبرته إلى القادم ليفيد منها ويتجنب الوقوع بأخطائها، ولا القادم يستطيع الاجتماع به لينهل من معارفه ما يحصنه ويحفظه من طيش الرجال وعبث الأنذال.
عام جديد، خرج إلينا من حقبة المستقبل القريب؛ يقف مترددا على أبواب عمرنا الآيل للسقوط، يترصد الأجواء، ينظر حوله كالولهان أو التائه، ولا يجد فسحة أمل توحي له بأنه سيقيم مرتاحا في هذه الأرض اليباب. عام يروم الدخول إلى ملعب حياتنا عنوة، ولكنه مرعوب مما يحدث ومما يرى، فيحجم وكأنه يريد أن يعصبها برأس العام الذي سينصرم، ليتخلص من تبعاتها، ولا يحمل وزرها، فلا يعاني مثل سلفه من شلالات الدم التي لوثت جسد العام الذي سبقه!.
وعام آخر قديم، شارف وشل أيامه على الانتهاء، وحان أوان رحيله مثقلا بهمومنا، عام عاشرناه وعاشرنا طويلا، وأوجع نفوسنا كمدا، وأوجعناه حزنا وتوحشا، يلملم بقاياه ليودعنا من غير عود، وهو لا يدري أن ذكراه ستخلد في أتون نار التاريخ المستعرة، وسيتحدث عنها الأحفاد والغرابة تقتلهم من سذاجة طباع أجدادهم.
وأنا، انا المسكون بالوحشة، التائه في مفازات الجهل، الذي لا يكاد يفقه شيئا مما يدور حوله، أنا الذي نسى أمسه، وغاب عنه كنه غده، أنا الذي تعود أن يبيع حريته على أعتاب قصور الطغاة لأنه لم يمسح أكتافهم، ولم يتغنى بأكاذيبهم، ولم يهتف مع الهاتفين لهم، أقف في منطقة وسطى بين حدود العامين، أرقب هذا وذاك، وأكاد لا أرى لا هذا ولا ذاك، فكلاهما طلسمان من غيب الوجود، ولا أدري أأودع ذاك وأستقبل هذا؟ وكيف أودع من أوجع روحي عاما كاملا، وأنا من طبعي أن أرتعب من كلمات الوداع، وتستفزني لحظة الفراق بعد أن خذلني جميع الذين ودعتهم من قبل، ولم يعد إلي أحدا منهم! وكيف أستقبل من لا أعرف ماذا يخبئ لي؟!
في هذه المنطقة الوسطى بين حدود العامين ضاعت كل المقاييس، وتغيرت كل المفاهيم، فالصمت المطبق يخرق أذنيَّ.. وضوضاء الوحدة تقتلني بزحامها، حتى المطر العطشان، بلل شفاهه عطش البدائية الأخرق الذي يسترخص تلويث وجه نقاء الأرض بصبغة حمراء، فأجرى نهرا من سراب الودق عسى أن يغسل ما اقترفته يد الإنسان ضد الإنسان، وطيور مدينتنا لم تعد تعرف مهارة التحليق، ولا تعرف العوم فوق سحب المآسي، ولذا كفت عن التغريد، واكتفت بسماع أنين الضحايا.
العام الذي يروم الرحيل كان أبكما، أخرسا منذ الولادة ولكنه فضحنا وباح بأسرارنا أمام الغرباء وفضح خيباتنا، لأنه كان يجيد التكلم بكل لغات ولهجات الدنيا، وأنا وحدي الأصم الذي لا يفهم حتى لغة الإشارة، لستُ أعمى، وأجيد ترتيب الأحرف ونطقها، وأجيد سماع سقسقة العصافير، ويطربني صوت فيروز، ويسحرني صوت أم كلثوم، ولكني حتى مع كوني أرى كل الأشياء، أبدو وكأني بلا عيون، لأني بلا وطن، لأني لم أتملق الحكام من قبل، ولذا أوجعوا ظهري وسلبوا مالي، ولم أبدِ حراكا، لم أعترض، لم أتظاهر، لم أطلب من الفاسدين أن يرحلوا، كنت جبانا بكل ما للكلمة من معنى، فلماذا تعطيني نوط شجاعة، وأنا لم أمدح حاكما بالمرة؟ لماذا تمتدحني وكأنك تجدد مأساة نكسات عمري، وتعيد إلي أوجاع سنين رحلت، وتذكرني بهزائمي وبهزائمنا وفضائحنا.. بعرينا المهين؟ وأنا لم أتعلم من تجاربي سوى الهزيمة الأبدية، ولم أتعلم كيف أوفق بين المتضادات، بين عام قارب على انتهاء الصلاحية، وآخر يطرق الأبواب مكللا بسحر الشباب والحيوية، وأنا، انا المسكون بالوجع والانتظار، لا زلت منذ أن ولدتني أمي انتظر بابا نويل، وبابا نويل مفلس وسكران إلى حد الثمالة، وملقى على الأرض الباردة في إحدى الساحات عريانا بعد أن قضى ليله يعاقر الخمر فوق أنقاض حانة خربة بعيدة، أقيمت على أنقاض مسجد هده البعض امتعاضا، وقد هربت الأيائل بعربته الفارغة من الهدايا، وضاعت الطرقات .. ومعها ضاع الحاضر والماضي، وضاع العمر، إلا بصيص أمل بأن يكون العام الجديد أفضل من سبعين عاما مرت على جبيني، وتركت آثار خطواتها عليه؛ تذكرني بأن أحد الأعوام سيحملني معه حينما يسافر نحو الغرب.

(*) ماكو وطن: أي ليس هناك وطن، لا يوجد وطن، وهو الشعار الذي يحمله الشباب الذين يتظاهرون في ساحات مدن الوسط والجنوب مطالبين برحيل المفسدين والخونة.

62
كتاب بطعم الشكولاتة
صالح الطائي

منذ أن أيقنت أن "خير جليس في الزمان كتاب" وعلاقتي بالكتب تتأطر بحالة طقوسية غريبة، أشعر معها حينما أمسك كتابا ما؛ مهما كان موضوعه، أني أقف بين يدي سلطان لا أدري إذا ما كنت سأفهم ما يريد مني أم أني سأغضبه نتيجة جهلي فيصب على رأسي جام غضبه.
ومن تفرعات تلك الطقوسية أني كنت لا أجلس مع كتاب إلا حينما أكون مستعدا للحوار والأخذ والرد، وان أكون مرتاحا نفسيا وعقليا، بمعنى أن أكون مهيآ لفخامة الجلسة ومطالبها وآدابها ومخرجاتها.
ولأني ـ بسبب ما يمر به العراق اليوم ـ قلقا مستفزا غير مستقر، تتقاذفني غرابة الرؤى وتنوع الآراء ـ امتنعت مؤخرا عن القراءة، التي كنت أراها مضيعة للوقت طالما أن المكتوب لن يترك في نفسي القلقة أثرا، ولن يعطيني درسا، بل إن سماعي للأخبار ولاسيما أخبار شهداء الوطن الذين يقتلهم الوطن، الذين يعرجون إلى السماء والشكوى تأكل قلوبهم من فساد الحكام وظلم الأيام، كان يزيدني حيرة وقلقا وانصرافا عن طلب العلم، مع أني غادرت عهد المهد واقتربت من دنيا اللحد، وفي امتناعي مخالفة لصريح قول النبي (ص): "أطلب العلم من المهد إلى اللحد".
لكن على خلاف كل تلك القواعد، قيض لي أن أخرق نواميس تلك الطقوسية لما مددت يدي إلى كتاب كان قد أهداه لي مؤلفه الأخ الدكتور رحيم الغرباوي، لا بدافع الرغبة بالقراءة، بل بدافع الملل، وبدأت أقلب أوراقه عبثيا، فتسقط عيوني على عناوينه دون أن أبدي رغبة في قراءة المتون، بل دون أن أجد ولو بصيص أمل أني قد أجازف وأجلس معه ولو للحظات، ولذا أعدته إلى الطاولة، واستدرت لأنصرف فوقع بصري على عنوانه "نباهة العرب"، وهنا عدت إلى الكتاب وحملته لأرى عن أي نباهة يتحدث المؤلف، والعرب يأكل بعضهم بعضها، وهم غارقون بالفرقة والشقاق والنفاق والنزاع والصراع وتردي الأوضاع، تجتاحهم جيوش الجهل، ويفرق صفوفهم الهبل.
هذا العنوان المُستَفِزْ أجبرني على العودة إلى الصفحة الأولى من صفحات الكتاب، ومنها بدأت رحلة المجازفة والمناكفة، بعد أن ركنت الطقوسية في مكان لا تراني فيه ولا أراها، لأتواصل مع مواضيع الكتاب، ولأصل دون شعور بالملل، بل بنشوى عارمة كأنها فيض قبل بين محبين هالهما الوجل إلى موضوع الكناية وهو آخر مواضيع الكتاب، وانتبهت أني قرأت خلال وقت قصير كتابا مؤلفا من 132 صفحة وأن في نفسي حاجة لقراءة المزيد، كان قد تحدث عن نظرية النظم، ودلالات الحركة الإعرابية في شعر المتنبي، والظاهر والمؤول، واختيار العرب للأسماء، والضاد والظاء، والتغليب، والالتفات، والاستعارة والمجاز، وأخيرا الكناية!.
هذا الكتاب هو جزء من المشروع الثقافي للأخ الدكتور رحيم الغرباوي، وضعه من حيث الاطار العام ـ في الأصل ـ لطلابه ليعينهم في فهم درس البلاغة الذي يلقيه عليهم، أما إطاره الأعم فلا يقف عند حد، لأنه مملوء بالمتعة والإمتاع بما يعني أنه حاجة ضرورية للعالم والمتعلم.
صدر الكتاب عن دار المتن العراقية التي يديرها الأخ الصديق عامر الساعدي بحلة قشيبة وإخراج جميل.

63
لأكل لحوم البشر في الإسلام
صالح الطائي
التوحش صفة قبيحة مخالفة لروح الأديان وللإنسانية الحقة، ولا يمت لأي رسالة سماوية بأي صلة، حتى ولو كانت له إشارات في الكتب المقدسة، وهو غير مقبول على كل حال، ولكنه يصل إلى الدرك الأسفل حينما يتحول إلى قوانين وقواعد فقهية، لا تبيحه فحسب، بل تبيح أقصى درجاته وأقذرها، وهو موضوع أكل لحوم البشر، الذي ينسب إلى الإسلام زورا! ومنتهى التوحش أن ينسب بعض الجهلة للإسلام وهو دين السماح والإنسانية بأنه يبيح أكل لحوم البشر!
مصطلح أكل لحوم البشر أو أكل لحم الجنس ذاته (cannibalism) مصطلح اشتق  من كلمة (كاريب) الإسبانية، وكاريب اسم منطقة تتكون جغرافيا من البحر الكاريبي وجزره وشطآنه المحيطة به، كانت تسكنه قبائل هندية كاريبية وصفهم المستكشف كريستوفر كولومبوس بأنهم كانوا يأكلون لحوم البشر. وقد أكل البشر البدائيون أجساد جنسهم، مثلما أكلها شعب الأزتيك في المكسيك، والأوروبيون حتى القرن السابع عشر، والمستكشفون في القطب الشمالي في القرن التاسع عشر، ولا زال لها أثر لدى شعب بيامي في بابوا غينيا الجديدة. ويعني هذا أن أكل لحوم البشر مورس فعلا عبر التاريخ في عدة مواضع جغرافية وتجمعات سكانية، وباستثناء الحالات القصدية كانت أغلبها حالات اضطرارية، لها عدة أسباب تبدأ من تفشي المجاعات، إلى معاناة المدن المحاصرة التي تستنفذ خزينها من الطعام والحيوانات، إلى الجماعات المعزولة في مجاهل الغابات. وقد ارتكبت جريمة أكل لحوم البشر بدوافع الهمجية، حيث كانت بعض القبائل البدائية حتى وقت قريب، تأكل لحوم البشر، بل ويتحول الأكل أحيانا إلى فلسفة كسبية روحية من خلال اعتقاد البعض أن أكل لحم الأعداء ينقل قدراتهم إليه. بل تحول لدى بعض الشعوب إلى طقس ديني كواحد من طقوس الدفن. لكن أقبح صوره وكل صوره قبيحة أمران، الأول أكل لحوم البشر كمرض سلوكي جنسي، والثاني كنوع من المبالغة في إيذاء وإرهاب العدو, حيث يأكل المنتصر من لحم المهزوم ليخيف باقي أفراد الجيش المعادي، وللأسف كانت النقطة الأخيرة من حصتنا نحن المسلمين، دخلت إلى فقرات فقه ديانتنا في وقت شاذ ومتأخر، بعد أن كانت بداياتها قد أعلنت عن نفسها سنة 11 و12 للهجرة، أثناء حروب الردة، بعد أن طبخ قائد الجيش الحكومي خالد بن الوليد رأس مالك بن نويرة وأكل منه، أو أوهم الآخرين بأنه يأكل منه. وهي سواء مورست أم لم تُمارس بعد هذا التاريخ، فإن مجرد وجودها في مباني الفقه يوجه تهمة للإسلام بأنه الأكثر دموية من بين جميع الأديان. ففي الوقت الذي حرم فيه الإسلام أكل بعض المواد المباح أكل بعضها وفقا لطبيعتها الآنية، تبعا لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1) وهذا التحريم جاء مع أن تلك الميتة كانت محللة قبل موتها، والمتردية كانت حلال قبل أن تتردى من الأعلى وتموت، والنطيحة كانت حلال قبل أن تنطح، بالرغم من ذلك نجد بعض علماء المسلمين يحلون أكل الميتة من البشر! نعم الميتة من البشر وهم يعلمون أنها محرمة إطلاقا، دون اضطرار أو خوف الهلاك من الجوع! بل توحشا، وهناك أكثر من رأي فقهي أجاز ذلك العمل القبيح، وحينما تسألهم: هل جرى مثل ذلك في عصر البعثة، أو حتى بعد هذا التاريخ، وصولا إلى نهاية النصف الأول من القرن الهجري الأول، باستثناء حالة خالد، سيتعثرون في الإجابة، أما بعد هذا التاريخ فمع أنه لا يوجد دليل على وقوع مثل هذه الأعمال، لكن لا يستبعد حدوثها انتقاما! لاسيما وأن عدة مراكز فقهية اتفقت على صحة جواز هذا العمل، وكأنها تسعى لترسيخه في عقول المسلمين! وللإنصاف والأمانة العلمية أنا لم أعثر على روايات تتحدث عن ممارسة أكل لحوم البشر عند المسلمين، ولكن ربما تكون هناك حالات فردية ألجأتهم لها الضرورة، أحجم المؤرخون عن التحدث عنها، ولذا أستغرب من اهتمام مباني الفقه في موضوع أكل لحوم البشر، وتركيزهم على حالات منها تبدو في غاية الهمجية والتوحش.
والأغرب أنهم مثلما اختلفوا في كل شيء اجتهادا وتشوفا دونما دليل، اجتهدوا في هذا الأمر أيضا، ربما لأن اجتهاداتهم كانت ظنية وليست قطعية، ولذا كانوا يرجعون عن بعضها حينما يكشف الآخرون خطأهم، من ذلك على سبيل المثال ما جاء عن علي بن موسى في قوله: كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة وابن قدامة معنا، فلما دفن الميت، جاء رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: إن هذه بدعة، فقال ابن قدامة لأحمد: ما تقول في بشر ابن إسماعيل؟ قال: ثقة، قال: هل كتبت عنه شيئا؟ قال: نعم، قال: اخبرني عن الرحمن عن أبيه أنه اوصى إذا دفن أن يقرأ عليه عند رأسه بفاتحة البقرة وبخاتمتها، قال: وسمعت ابن عم يوصي بذلك. فقال أحمد: فأرجع إلى الرجل فقل له يقرأ"(2).
وبالتالي أرى أن حديثهم عن أكل لحوم البشر أخذ مدى ما كان له أن يصل إليه في الأقل لأن الحديث عن الدين الذي يحلل أكل لحوم البشر يوحي وكأن هذا الدين يحلل جميع الأمور التي يتهمه بها الآخرون، وقد اختلف العلماء في حلية وتحريم أكل لحوم البشر على عدة مذاهب، ففيهم من حرم أكل لحم الإنسان بأي حال، وقال هؤلاء: "المضطر إلى أكل لحم الميتة، لا يجد إلا لحم آدمي، لا يأكله، وإن خاف التلف"(3). وذهب ابن رشد إلى أن الميت من بني آدم ليس بنجس، ثم قال: "والميت من بني آدم لا يسمى ميتة فليس برجس ولا نجس ولا حرم أكله لنجاسته، وإنما حرم أكله إكراما له"(4). وقال الدردير: "المعول عليه عدم جواز أكله، أي أكل الآدمي الميت، ولو كافرا لمضطر، ولو مسلما لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة مسلم لآخر"(5).
ويبدو هذا التحريم متساوقا مع روح العقيدة، لكنه لم يكن كافيا لمنع من تحدث عن جواز أكل لحم الميت، والذين أحلوا أكل لحم الإنسان الميت، قسمان، الأول: أباحه اضطرارا مثل ابن عرفة  الذي أفتى بجواز أكله للمضطر(6). أما النووي الشافعي، فقال: "ثبت المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان: مسكر، وغيره، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا وكذا الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة على الأصح منهم. ولو كان له قصاص على غيره ووجده في حالة اضطرار فله قتله قصاصا وأكله، وإن لم يحضره السلطان، وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب فلا يجوز قتلهم للأكل. وجوزه الأمام الغزالي، لأنهم ليسوا بمعصومين، والمنع من قتلهم ليس لحرمة أرواحهم، ولهذا لا كفارة فيهم. والذمي والمعاهد والمستأمن معصومون، فيحرم أكلهم، ولا يجوز للوالد قتل ولده للأكل، ولا للسيد قتل عبده ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله، قال الشيخ إبراهيم الماوردي: إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا. قال في الحاوي: فإذا جوزنا لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق، حفظا للحرمتين، قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا، لأن الضرورة تدفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة، ولو كان المضطر ذميا والميت مسلما فهل له أكله؟ حكي فيه صاحب "التهذيب" وجهين. قلت: القياس تحريمه، والله أعلم. ولو وجد ميتة ولحم آدمي أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير، وإن وجد المحرم صيدا ولحم أدمي أكل الصيد، ولو أراد المضطر أن يقع قطعة من فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم وإلا جاز على الأصح، بشرط ألا يجد غيره فإن وجد حرم قطعا، ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر"(7).
ليس هذا فحسب بل جوز النووي لطالب الثأر أكل لحم المقتول اضطرارا، كما في قوله: "ولو كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار، فلهُ قتله قصاصا وأكله". ولكنه لم يوضح كيفية اكتشاف المنتقم أن غريمه لا يصلي!. ولكنه منع أكل فئات أخرى من خلال قوله: "والذمي، والمعاهد، والمستأمن، معصومون، فيحرم أكلهم... ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله، قال الشيخ إبراهيم المروزي: إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا. قال في "الحاوي": فإذا جوزنا، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق؛ حفظا للحرمتين. قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا؛ لأن الضرورة تندفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة"(8). وبعد هذا انشغلوا في قضية جواز قيام المضطر بقتل آدمي لأكله، فقال ابن قدامة: يحرم على المضطر قتل آدمي معصوم ليأكله مسلما كان أو ذميا لحرمته، ويجوز ذلك إن كان حربيا أو مرتدا، لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجد ميتا جاز أكله، كما لو قتله، وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله، وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح، وهو أولى، لأن حرمة الحي أولى، قال أبو بكر: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء، واحتج أصحابنا بحديث "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي". واختار أبو الخطاب أن له أكله، قال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم(9). وأباحه آخرون لأتفه الأسباب مثل قولهم: إن أكل لحم الميت حلال لأنه يرهب الأعداء، أو لمجرد الاضطرار، قال الرداوي: "فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي والزاني المحصن حل قتله وأكله، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقال في الترغيب: يحل أكله وما هو ببعيد. قوله: وإن وجد معصوما ميتا ففي جواز أكله وجهان، أحدهما: لا يجوز وعليه الجماهير الأصحاب، الثاني: يجوز أكله وهو اختاره أبو الخطاب في الهداية، والمصنف أو الشارح، قال في الكافي: هذا أولى. وجزم به في الوجيز والمنور ومنتخب الآدمي وقدمه في الفروع(10).
ونتيجة الخلاف وصل الأمر بينهم إلى التراشق بالتهم، فالإمام الشافعي كان له رأي جاء فيه: "لا يجوز أن يأكل لحم ابن آدم ولا يجوز له أن يقتل ذميا، لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه". وهذا أغضب داود الذي شنع على المزني صاحب الشافعي، بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء. فغلب عليه ابن سريج، بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه". ووفقا لهذه الرؤى الغريبة، سعت موسوعة الفتاوى الإسلامية إلى منهجة هذا الأمر الجلل خارج سياقات المنطق، قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق: وفى جواز أكل لحم الآدمي عند الضرورة، قال فقهاء الحنفية على ما جاء في الدر المختار وحاشية رد المحتار لابن عابدين في الجزء الخامس: إن لحم الإنسان لا يباح في حال الاضطرار ولو كان ميتا، لكرامته المقررة بقول الله تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم)، وكذلك لا يجوز للمضطر قتل إنسان حي وأكله ولو كان مباح الدم كالحربى والمرتد والزاني المحصن، لأن تكريم الله لبنى آدم متعلق بالإنسانية ذاتها، فتشمل معصوم الدم وغيره، وبهذا أيضا قال الظاهرية بتعليل آخر غير ما قال به الحنفية. ويقول الفقه المالكي: إنه لا يجوز أن يأكل المضطر لحم آدمي، وهذا أمر تعبدي، وصحح بعض المالكية أنه يجوز للمضطر أكل الآدمي إذا كان ميتا، بناء على أن العلة في تحريمه ليست تعبدية وإنما لشرفه، وهذا لا يمنع الاضطرار، على ما أشار إليه في الشرح الصغير بحاشية الصاوي في الجزء الأول. وأجاز الفقه الشافعي والزيدي أن يأكل المضطر لحم إنسان ميت بشروط منها: ألا يجد غيره، كما أجاز للإنسان أن يقتطع جزء نفسه كلحم من فخذه ليأكله، استبقاء للكل بزوال البعض، كقطع العضو المتأكل الذى يخشى من بقائه على بقية البدن، وهذا بشرط ألا يجد محرما آخر كالميتة مثلا، وأن يكون الضرر الناشئ من قطع الجزء أقل من الضرر الناشئ من تركه الأكل، فإن كأن مثله أو أكثر لم يجز قطع الجزء، ولا يجوز للمضطر قطع جزء من آدمي آخر معصوم الدم، كما لا يجوز للآخر أن يقطع عضوا من جسده ليقدمه للمضطر ليأكله. وفى الفقه الحنبلي: إنه لا يباح للمضطر قتل إنسان معصوم الدم ليأكله في حال الاضطرار، ولا إتلاف عضو منه، مسلما كان أو غير مسلم، أما الإنسان الميت ففي إباحة الأكل منه في حال الضرورة قولان، أحدهما لا يباح والآخر يباح الأكل منه، لأن حرمة الحى أعظم من حرمة الميت.
ثم قال الشيخ جاد الحق: ونخلص إلى أنه يجوز اضطرارا أكل لحم إنسان ميت في قول فقهاء الشافعية والزيدية، وقول في مذهب المالكية ومذهب الحنابلة، ويجوز أيضا عند الشافعية والزيدية أن يقطع الإنسان من جسمه فلذة ليأكلها حال الاضطرار بالشروط السابق ذكرها. كان هذا ما خلص إليه في فتواه في الخامس من ديسمبر 1979، وفى فتواه في 16 كانون الثاني 1980، قال بالنص: "والذى نختاره للإفتاء هو قول الحنفية والظاهرية وبعض فقهاء المالكية والحنابلة القائلين بعدم جواز أكل لحم الآدمي الميت عند الضرورة لكرامته، والضرورة هي دفع الهلاك وحفظ الحياة(11).

هوامش البحث
(1)   المائدة: 3.
(2)   المواق، أبو عبدالله محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي المالكي،(ت: 897هـ)، التاج والإكليل لمختصر خليل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416هـ -1994م. ج3/ص52 كتاب الجنائز.
(3)   المصدر نفسه، ج3/ص77.
(4)    المصدر نفسه.
(5)   الدردير، أحمد، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير مع تقريرات الشيخ عليش، أحمد الدردير ومحمد عرفة الدسوقي ومحمد عليش، عيسى البابي الحلبي، مصر. ج1/ص 87.
(6)   الدردير، أحمد،  المصدر نفسه، ج1/ص 87.
(7)   النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1412هـ ـ 1991م. ج3/ص284ـ 285.
(8)   المصدر نفسه، ج3/ص283.
(9)   ابن قدامة، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد الحنبلي، (ت:620هـ)، المغني، مكتبة القاهرة، 1388هـ ـ 1968م. ج11/ص79 وما بعدها.
(10)   المرداوي، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1375هـ - 1956م. ج10/ص376.
(11)   دار الإفتاء المصرية، الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، إشراف الدكتور زكريا البري وآخرون، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر، 1400هـ - 1980م. ج10/ص3711ـ 3712.

64
إصداراتي الجديدة في عام 2019

صالح الطائي
الظاهر أن المصائب والنكبات تُسهم في خلق المعجزات، وهذا ما حدث معي بالفعل، إذ أسهمت النكبة الأولى التي نفذها الإرهابيون الذين اختطفوني وهجروا عائلتي في إتاحة فرصة تاريخية لي ما كنت لأحصل على مثلها في موطني ومحل سكني، فهم بعملهم المشين والإجرامي ذاك، فصلوني عن الكم الكبير جدا من معارفي وأقربائي وأصدقائي، ومغريات الحياة الأخرى، بعدما ألجأوني للذهاب إلى مدينة لا أعرف بها أحدا، مما اضطرني إلى الانكباب على الكتابة والتأليف دون شاغل يذكر، فتجمع لدي خزين ثر من المؤلفات ذات المواضيع المتنوعة بين البحث الديني والأدب؛ التي كنت أكملها أو أكاد، ثم أتركها، وأذهب إلى موضوع آخر، وآخر.
 ثم لما حلت النكبة الثانية يوم هاجمني فيروس (الفدية) وتسبب في تشفير وتدمير مواد حاسوبي، ونتيجة الغضب والاحباط الذي أصابني، والمرارة التي شعرت بها وأنا أرى خمسة عشر مخطوطا من ضمن سلسلة كتب من خمسة وعشرين كتابا تتحدث عن الإنسان (من الوجود إلى الخلود)، كنت منكبا على كتابتها وهي موجودة أمامي على حاسوبي دون أن أتمكن من فتحها. فشعرت بنوع من الضياع والتشتت وعدم التركيز بل وعدم الرغبة بكتابة أي شيء، وحينما صحوت من هول الصدمة المدمرة تركت كل شيء، وعدت إلى الهاردات الخارجية والسيديات والفلاشات التي كدست فيها عملي القديم، ليس مثل اليهودي الذي يعود إلى دفاتره القديمة إذا أفلس وإنما بحثا عن قاعدة أنطلق منها من جديد متحديا ذلك التخريب الكبير، وكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أجد بعض مخطوطات لكتبي كنت قد نسيتها وهي جاهزة للطبع أو تحتاج إلى قليل عناء.
من هنا وحفظا لموروثي الذي أفنيت من أجله عمرا، آليت على نفسي أن لا أترك مخطوطا إلا وأطبعه وأنشره، وكانت النتيجة، أني نجحت في عام 2019 في نشر خمسة كتب قيمة في دور نشر مختلفة، منها:
1ـ الحسين حاكما: صدر في بداية العام عن دار المتن ببغداد، وهو قراءة معاصرة للنهضة الحسينية بعيدا عن المألوف، تقع في 380 صفحة من القطع الكبير، تناولت فيها موروث النقول وموروث المنابر وموروث الأساطير، ومنطق العقل وعقل المنطق، وخرجت برؤية جديدة تثبت أن الحسين(عليه السلام) خرج بجيش كبير وأنه كان يسعى للسيطرة على الأقاليم الشرقية في الديار المقدسة في مكة والمدينة فضلا عن العراق وإيران؛ ليقيم فيها دولة، ويترك للأمويين الشام ومصر وفلسطين يحكمونها، وأن السياسة العربية المتمكنة نجحت في التصدي له، وتشتيت قواته وقتله مع آل بيته بعد معركة استمرت عدة أيام وليس يوما واحدا وأن عدد من قتل في هذه الحرب من الجانبين كبير جدا.
2ـ صدى وجعي: كتاب نثر مركز، صدر في شهر آب من العام الجاري، عن دار ليندا في سوريا، وهو مجموعة من المقطوعات والومضات والتوصيات والحكم والأقوال والنصائح، التي حاولت أن أجعلها واحة لمن يطلب المتعة، ومن يبحث عن نصيحة، ومن يحتاج إلى قراءة شيء خفيف ليريح نفسه من أعباء تعب طويل. يقع الكتاب في 303 صفحات حجم نصف أي فور (A4).
3ـ أنا وصورهم الشعرية: خلال مسيرتي البحثية، ونتيجة الاشتراك في الكثير من المؤتمرات والجلسات وورشات العمل واللقاءات والتواصل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات المتبادلة على مواضيعي ومقالاتي التي تنشر في المواقع على الانترنيت، تعرفت على عدد كبير من الباحثين والأدباء والشعراء؛ ارتبطت مع بعضهم بعلاقة متينة جدا، دفع بعضهم مهرا لها قطعا شعرية أو قصائد كاملة أدخلت البهجة إلى نفسي، وكان بعضهم مكثرا وبإفراط مثل شاعر فلسطين الكبير سعود الأسدي الذي جمعت مقطوعاته التي أهداها إليَّ وأصدرتها بكتاب بعنوان "سعود الأسدي سيد اللغتين"، واكتفى بعضهم بمقطوعة من عدة أبيات أو عدة مقطوعات في مناسبات مختلفة، أو قصائد لشعراء آخرين أهديتْ إلي شخصيا، خفت عليها من الضياع، فجمعتها بكتاب، تولت دار المتن العراقية طباعته وتوزيعه، وصدر في أواسط شهر تشرين الأول من هذا العام.
4ـ أنا وصورهم النثرية: مثلما حدث مع مضمون الكتاب الثالث، حدث مع مضمون هذا الكتاب، فهو عبارة عن عدد كبير من مقطوعات نثرية وكلمات تهنئة وإشادة وآراء في كتبي ليست من صنف النقد، ودراسات عني، وحوار مفتوح ولقاء صحفي ومواضيع أخرى أهديت إلي إشارة أو توصية، جمعتها فيه مع بعض التعليقات حفاظا عليها وعرفانا بجميل الأصدقاء.
5ـ الناسخ والمنسوخ محاولة سياسية لإعادة تراتبية الإسلام، صدر في أواخر شهر تشرين الأول من هذا العام، عن دار الوارث في العتبة الحسينية/ قسم النشاطات الدينية، وهو دراسة علمية لأصل ونشأة علم الناسخ والمنسوخ، وحقيقة عدد الآيات والسور المنسوخة، ومنهجية توظيف العلم لاستنباط بعض الأحكام الفقهية مثل موضوع رجم الزاني الذي لا يوجد في القرآن ما يدل عليه، بحجة أن أصله (الآية التي ورد فيها) منسوخ تلاوة (أي مرفوع من الكتاب العزيز) وثابت حكما (اي لا زال حكمه ساريا لم ينسخ) ومثل قولهم: إن آية واحدة نسخت أكثر من مائة وخمسين آية. ولم تكتفي بذلك كله، ولم تتوقف عن النسخ، فنسخت كل وعد وعهد وذمة وعقد عقده رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع أحد، كما نسخت جميع آيات الموادعة والتعايش بين الأديان. ولعد أن استهواها النسخ عادت إلى نفسها فقامت بنسخ بدايتها، أي أن الآية نفسها نسخت بدايتها، ثم عادت فنسخت نهايتها، وأبقت على وسطها فقط، وهو الأمر المريب الذي أحدث كل تلك الفوضى اتي نعيش في أجوائها منذ أربعة عشر قرنا، والتي تسببت في خلق إسلامات متعددة لكل واحد منها منهجا وعقيدة يختلف عن غيره، ضاع بينها الإسلام الحقيقي.
6ـ فضلا عن ذلك كله لدي كتاب تحت الطبع في مركز تراث البصرة وهو بعنوان "بصريون مثيرون للجدل في كتاب ربيع الأبرار"، أنتظر صدوره بشغف.

65
إصداري الجديد الناسخ والمنسوخ محاولة سياسية لإعادة تراتبية الإسلام
صالح الطائي

من الحقائق المسلم بصحتها أن السياسيين العرب كانوا على درجة عالية من الدهاء السياسي الذي مكنهم من مصادرة الإسلام المحمدي وإعادة بنائه وفق توجهاتهم الفكرية،ومن ثم تسويقه إلى الناس على أنه دين الله المنزل.
ومن الحقائق التي لا يقبلها عقل ولا دين قولهم: إن "شريعة نبينا محمد (ص) ناسخة لجميع الشرائع بالإجماع، وهذا خلاف العقل والمنطق.
ومن الحقائق التي لا يمكن انكارها أن المجتمع يوم ذاك كان يتألف من ثلاث مجاميع فرقية:
1ـ النخبة المؤمنة التي حاولت أن تسيطر على الأوضاع فلم تفلح، فانزوت في ركن قصي تعمل بصمت، وتنتظر الفرصة، وكانت تمثل الأقلية.
2ـ طبقة السياسيين وأتباع الفصيل السياسي الذين كانوا في منتهى النشاط والنباهة والحدة والقوة والاندفاع، والذين لم يأبهوا بما قد يصيب الإسلام من تحركاتهم المشبوهة، وأصروا على المضي والجهاد من أجل تحقيق الفوز بكل الوسائل الممكنة، وهؤلاء يمثلون النخبة التي تملك السطوة والقوة والمال والشراسة.
3ـ الدهماء وعامة الناس من الفقراء والموالي والعبيد والأميين والجهلة وضعاف الإيمان والبسطاء والباحثين عن السلامة، من عامة المجتمع؛ والذين لا يميزون بين الصح والخطأ، ولا يملكون قدرة التفريق بين مناهج الدين ومناهج السياسة، ما دامت مصطلحاتها متشابهة، حيث يلتبس الأمر عليهم لبساطتهم وقلة أباليتهم واهتمامهم.
والحقيقة الكبرى أن السياسيين استغلوا هذا التباين الفكري، والخلل في ميزان القوى بينهم وبين المعارضة، فبنوا قواعد متينة مكنتهم من السيطرة على مجريات الأمور في مجتمع كان قريبا من زمن البعثة، ولا زالت مصطلحات الدين تتردد في أركانه بقوة، ولكنهم بسبب حنكتهم السياسة، ومقدرتهم الفكرية، أدركوا أن وجودهم سيبقى غير مرغوب فيه ما دامت مؤشرات البعد عن روح العقيدة في منهجهم ودنيويتها واضحة المعالم، وهذا ما ألجأهم للبحث عن أفكار جديدة بسيطة في صياغتها، عميقة في معناها وأثرها، أصلها سياسي بحت، وظاهرها ديني لا غبار عليه، تتحكم منظومة التقديس بدرجة قبولها واستساغتها.
في هذا السياق الخطير كان التلاعب بالسنة النبوية أحد أهم ميادين التغيير، حيث وظَّف السياسيون مجاميع من النفعيين البراغماتيين والمندسين والزنادقة وأعداء الدين المتسترين بالإسلام ليصنعوا ويضعوا لهم مجاميع من الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) لا لتخنع الناس فحسب، بل وتأمرهم بقبول الأمر الواقع دون اعتراض، وقد كان اختراق السنة النبوية سهلا يسيرا لم يحتج إلى كثير عناء، وكل الدلائل أثبتت أن السنة النوبية تعرضت إلى هجمات مختلفة القوة نجح بعضها في المرور حتى على رجال الجرح والتعديل، ولا زالت الأمة تتعامل به على أنه محمدي الأصل ولا غبار عليه!.
مشكلة السياسيين الكبرى كان القرآن المجيد حيث كان الناس يحفظونه كاملا أو مجزأً، على خلاف السنة التي لم تتاح للجميع فرصة سماعها من فم النبي، والتي وصلهم أغلبها على لسان الرواة بالمعنى لا بالنص الحرفي، مما تسبب في تغيير معاني الكثير منها تبعا لفهم الناقل ودرجة استيعابه وإيمانه وحتى قصديته، فضلا عن ذلك كان هناك تعهد رباني بحفظ القرآن الكريم من التحريف، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وهذا يعني أن القرآن سيعجزهم، ويفشل مشاريعهم، ويضعهم في مرمى المخاطر، فتفتقت عقولهم عن مؤامرة في غاية الخطورة، لموضوعها أصل في العقيدة، هي موضوعة الناسخ والمنسوخ، التي تعددت غايات وجودها وأسباب حدوثها، والتي لم يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، لأن كثرتها في القرآن تخلق شكا في النفوس، يترك أثرا عميقا.
استغل السياسيون هذه الفسحة، ولاسيما وأن الجميع باستثناء قوى المعارضة، كانوا يخشون شرخ قدسية القرآن أو المساس بها، ربما حتى مع علمهم بزيف ما ألقي إليهم، ولذا عليهم تقبل ما يلقى إليهم بهدوء ودون اعتراض، فهو القرآن الذي لا يعلمه إلا صاحب عظ عظيم، وهم لا يملكون سوى النزر اليسير من الحظ، وبالتالي يبدو سكوتهم وعدم اعتراضهم أسلم لهم دينيا ودنيويا، دينيا نتيجة خوفهم من مخالفة الشريعة، ودنيويا نتيجة خوفهم من غضب السياسيين.
السياسيون من جانبهم استغلوا كل ذلك، وهيأوا الأجواء من خلال التثقيف عن طريق الإعلام الرسمي؛ الذي بدأ يردد مصطلح الناسخ والمنسوخ أمام الناس لكي ينتبهوا له، وحينما تأكدوا من انتباه الناس لهذا المصطلح وشيوعه بلينهم، بدأ الموظفون والأُجراء وعمال الخدمة الفكرية لديهم بتفسير الآيات على خلاف ما سمعه الصحابة (رض) من رسول الله(ص) مدعين أن الآية الفلانية نسخت واحدة أو أكثر من الآيات الأخرى، إلى درجة انهم ادعوا زورا وبهتانا أن الآية رقم خمسة من سورة براءة: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) نسخت لوحدها 1440 آية، ومن ثم عادت إلى نفسها فنسخت أولها، ومن ثم نسخت آخرها، وأبقت على وسطها فقط، وبالتالي نسخت هذه الآية وصويحباتها من الآيات الأخرى كما كبيرا من كتاب الله، ومن السنة النبوية، وكل عهد ووعد وموادعة عقدها رسول الله(ص) مع أحد من الآخرين كتابيا أم مشركا.
وحينما عجزوا عن إيجاد الآية الناسخة، مع وجود مخاطر جمة يمثلها بقاء الآية المراد نسخها، اخترعوا قواعد ما أنزل الله بها من سلطان، حيث قسموا النسخ على ثلاثة أقسام:

(1) ما نُسخ حرفه(تلاوته)، وبقي حكمه، مثل: آية رجم الزاني والزانية، وآية رضاعة الكبير، وعدد آيات هذا القسم قليل جدا. وقد استغل السياسيون هذه القاعدة للادعاء بأن الله سبحانه نسخ بعض آيات القرآن، ولكنه لم ينسخ حكمها، ومن يستغرب من وجود ذلك الحكم عليه أن يقنع أن آيته نسخت، دون ان يبينوا العلة من وراء ذلك!.
(2) ما نُسخ حكمه، وبقي حرفه(تلاوته). وقد اختلفوا في مقداره، فمن توسع منهم أدخل فيه آيات كثيرة جدا، ومنهم الزركشي في قوله: "وهو في ثلاث وستين سورة"، وطبعا هناك في بعض السور من ثلاث إلى تسع آيات منسوخة، ومن اقتصر حكم بقلته، ومنهم السيوطي بقوله: "وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جدا، وإن أكثَرَ الناسُ من تعداد الآيات فيه، فإن المحققين كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه". وقد استغل السياسيون هذا النوع لإيقاف العمل ببعض الآيات مدعين أن هذا حكمما منسوخ، ولكن الله لم يحذف آيته، وهنا أيضا لم ينجحوا في تبيان العلة من وراء ذلك!.
(3) ما نُسخ حكمه ونسخ حرفه. وهو ثالث الأنواع. وهذا ما لا تأثير واضح من وجوده إلا إذا ما ادعى بعضهم أن لديه سورة أو مجموعة آيات أو آية منسوخة ولكنه لا زال يحتفظ بها!.
فضلا عما تقدم، وضعوا قاعدة فقهية خطيرة أخرى، ادعوا من خلالها أن السنة النبوية تنسخ القرآن، ولكنهم اختلفوا في هذا الأمر بين مجيز ومانع، وقد ذهب مالك وأتباع أبي حنيفة وأكثر المتكلمين إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وعدم وجود مانع شرعي من ذلك باعتبار أن القرآن وصف النبي(ص) بأنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وقوله(ص): "ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه".
وذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وأكثر الظاهرية إلى عدم جواز نسخ السنة للقرآن.
ووضعوا قاعدة فقهية أخرى، ادعوا فيها جواز نسخ القرآن للسنة، وقد اختلفوا في هذه القاعدة أيضا، فقال أغلبهم بجوازه، أما الشافعي فله رواية لا تجيز هذا النوع من النسخ قال فيها: "ووجه الدلالة أنه - سبحانه - قد جعل السنَّة بيانًا للقرآن، والناسخ بيان للمنسوخ، ولو كان القرآن ناسخًا للسنة لكان القرآن بيانًا للسنة، وهذا لا يجوز". وبالتالي وضعوا قاعدة فقهية عامة شاملة قالوا فيها: "نسخ السنة بالقرآن لا يمتنع عقلاً؛ فكلاهما وحي من الله تعالى، كما أن هذا النَّسخ وقع، والوقوع من أقوى الأدلة على الجواز، بل هو أدل دليل على الجواز.
ورابع قواعد النسخ التي وضعوها هو موضوع نسخ السنة بالسنة، ومنه:
•   نسخ المتواتر بالمتواتر، كما في قول الجويني: "ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر"، وقد اختلف معه الفوزان بقوله: "وأمثال نسخ متواتر السنة بمتواترها فلا يكاد يوجد".
•   نسخ الآحاد بالآحاد، وهذا لم يختلفوا فيه لأنهما في درجة واحدة.
•   نسخ المتواتر للآحاد: ولم يختلفوا في هذا النوع؛ لأن المتواتر أقوى من الآحاد، فلا مانع من نسخ الآحاد بالمتواتر.
•   نسخ الآحاد للمتواتر: وقد اختلفوا في جوازه شرعًا، واتفقوا على جوازه عقلاً؛ فذهب الجمهور إلى المنع، وذهب الظاهرية إلى الإثبات.
•   نسخ الآحاد بالآحاد: وهذا النوع كذلك لا خلاف فيه بين القائلين بالنَّسخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ في درجة واحدة، فلا مانع من أن ينسخ أحدهما الآخر.
وقد اختلفوا كثيرا في جواز وعدم جواز أنواع النسخ التي تحدثنا عنها، ليس في وقتها ولكن بعد أكثر من قرن ونصف على إيجادها، أي بعد أن أدت الغرض الذي صنعت من أجله وأنطفأ تأثيرها وقلت أهميتها. لكن بالمحصلة أحدثت فوضى الناسخ والمنسوخ شرخا كبيرا في الإسلام، صادر طيبته وسماحته وقبوله للآخر وحبه للتعايش بين الأمم والسلام العالمي وكراهة الحرب إلا إذا فرضت.
كل ذلك تناولته بتوسع مقرونا بالأدلة العلمية والنقلية في كتابي الموسوم "الناسخ والمنسوخ محاولة سياسية لإعادة تراتبية الإسلام"، الذي صدر عن قسم النشاطات الدينية في العتبة الحسينية المشرفة، إكمالا لمنهجي في نقد الفكر الديني المتوارث واعتماد الأسس العلمية والعقلية السليمة في قبول أو عدم قبول الكثير من القواعد والأحكام.

66
رواد ثقافة الكراهية
صالح الطائي
يوما بعد آخر يزداد يقيني أن لا كراهية في الإسلام، وأن الإسلام دين القبول والتراضي والتعايش، وأن كل ذلك الكم من روايات الكراهية الواردة في كتب السيرة؛ إنما جاء به مبتدعون ممن فهموا النصوص على خلاف حقيقتها، فابتدعوا لها معان لا تدل على جوهرها، وسوقوها من خلال الدعم الحكومي الرسمي، فتحولت إلى دين، وحولتنا إلى ملل ومذاهب وأعداء، بعد ان فضلت الجمادات على المسلم الآخر. ومن ذلك ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ما جاء في (مجموعة التوحيد) للشيخ ابن تيمية، الرسالة الثانية، باب النهي عن سب الريح، من أحاديث تنهى عن سب الريح، ومنها رواية عن أبيِّ بن كعب (رض) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به". ومع أننا لا نعرف الحكمة من ذلك، ولاسيما وأن الريح كانت يومها تجلب لهم الدمار والخراب والعذاب والعواصف والتراب والذباب، إلا أن مجرد عدم استخدام مفردات السب، يبدو جميلا ومؤدبا وحضاريا، ويغمز من طرف خفي إلى أن الإسلام لا يرضى بالسب!.
لكن ابن تيمية، بعد هذه الرسالة وحديثه عنها، اختار الرسائل الخمس عشرة الباقية من المجموعة كلها ليوظفها لسب فرقة من المسلمين هم (الشيعة) وتكفيرهم وزندقتهم، بل والحث والتشجيع على قتلهم وسبي نسائهم وغنم أموالهم ونفيهم من البلاد، وعدم التهاون معهم، أو قبول شيء من كلامهم، وعدم أكل ذبيحتهم، وعدم تزويجهم ولا الزواج بنسائهم، وتحريم ابتدائهم بالسلام أو دفنهم في قبور المسلمين!. وكأنه لا يعرف أن الإنسان مهما كانت عقيدته هو أفضل من باقي الكائنات، لأنه إنسان يميزه العقل وخلافة الله!.
والمعروف شرعا وعرفا أن الإنسان بكل المقاييس أفضل وأشرف من الموجودات الأخرى والمخلوقات الأخرى ومنها الريح، في الأقل لسببين شهيرين ومعروفين لا يقبلان التأويل:
الأول: أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض تبعا لأكثر من دليل قرآني، منها على سبيل المثال لا الحصر:
•   قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}
•   ومنها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
•   وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ}
•   وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ}
•   وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ}
•   وقوله سبحانه وتعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}
وقبالة هذا الكم الكبير من آيات الكتاب المجيد التي مجدت الإنسان، لا توجد ولو مجرد آية واحدة، أو مجرد كلمة واحدة في آية، مجدت الريح من خلال تفضيلها على الإنسان، وتقديمها في المنزلة عليه.
والثاني: أن هناك كم كبير من الأحاديث الصحيحة والمتواترة التي نصت صراحة على أن الإنسان أشرف من الكعبة نفسها، ومن ذلك:
•   جاء من طريق غير واحد من الصحابة الكرام، أنه (صلى الله عليه وآله) نظر إلى الكعبة، فقال: "لقد شرفك الله، وكرمك، وعظمك. والمؤمن أعظم حرمة منك"
•   وصح عن الصحابة، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال: "قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا".
•   وصح عنه (صلى الله عليه وآله) قوله: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق".
•   وعنه(صلى الله عليه وآله)، قال: "لهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون من قتل المسلم".
•   وعنه (صلى الله عليه وآله): "من آذى مسلمًا بغير حق، فكأنما هدم بيت الله".
هذا هو دين الله؛ الدين القويم السليم العظيم؛ الذي جاء به محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، لا دين الذين أخروا الإنسان، وقدموا المخلوقات والحيوانات عليه، من المبتدعين الذين نشروا ثقافة الكراهية، وصادروا حقوق الإنسان، وزرعوا الفتنة بين البشر. ومن يبتغي من المسلمين طريق الحق والعدل عليه أن يرجع إلى جوهر الإسلام غير المحرف، وأن لا يتأثر بالآراء التي سوقها السياسيون بعد أن دفعوا ثمنها لأصحابها ومبتدعيها!.

67
مصير الأمة وفق سياقات تتابع تحذيرات النبي في السنة النبوية
صالح الطائي
تفتتح جمل هذا الموضوع بـ (إذا)، وإذا أداة شرط غير جازمة وبرأيي هي غير حازمة ولا لازمة لأنها غير حازمة، ولو كانت حازمة لتحقق المشروط ومنه:
إذا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أخبر أمته بأنهم من بعده، أي حال موته وليس أبعد من ذلك سوف، وسوف حرف تسويف واستقبال قد لا يخطر على البال: يتبعون سنن من قبلهم... ومن قبلهم كلهم خالفوا جوهر عقيدتهم، وسيخالفها المسلمون مثلهم بعد موته وربما في حياته، ويستمر هذا الخلاف إلى الأبد، وهو أمر وقع فعلا واعترف به الأولون، من خلال منظومة الحديث التي أوردوها في كتب الصحاح، ومنها ما جمعه ابن بطة في الإبانة(1). وهذا دفع محقق كتاب الإبانة إلى القول: "والواقع إن الشعور بهذا التغير في المجتمع الإسلامي لم يكن على عهد المصنف فقط، ولكنه بدأ في عهد الصحابة، فقد روى المصنف جملة من الآثار عن حذيفة وعبد الله بن بسر وأبي الدرداء وأنس وابن عباس ينكرون فيها حال الناس في وقتهم، ويذكرون أن السابقين لو نُشروا من قبورهم لأنكروا من الناس ما أنكروه، فلم يبق من المآثر السابقة إلا الشهادتان وإلا الاجتماع على الصلاة، مع ما قد أصاب الصلاة من الضياع في خشوعها وتأخيرها عن وقتها"(2).
إذا كان رسول الله قد أعلم أمته بأمر الفتن التي ستصيبهم منذ لحظة وفاته وإلى آخر الزمان! وقد يعترض البعض على هذا التحديد تبرئة لجيل الصحابة، وهذا هروب إلى الأمام مخالف للواقع، لأن النبي أمر الصحابة أن يبتعدوا عن الفتن وينأون بأنفسهم عنها وأوصى من يدرك الفتنة منهم أن يعمد إلى سيفه الذي كان يجاهد به فيكسره، ويقطع وتر نبله ويلازم بيته كحلس من أحلاسه، وأن يتخير القتل على أن يشترك بالفتنة، فهذا يعني أن الفتنة سترفع رأسها في لحظة موته مثلما رفعت رأسها في حياته، وهو ما وقع فعلا وما اشترك به صحابة كبار وصغار. أما الفتن التي حذرهم منها فهي خاصة وعامة:
الخاصة: تحاربهم فيما بينهم ابتداء من خلاف السقيفة إلى حروب مانعي الزكاة إلى مقتل الخليفتين عمر وعثمان إلى حروب الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي ومن ثم قتله، وحرب الإمام الحسن ومقتل الإمام الحسين وإلى اليوم.
والعامة تشمل المجتمع الإسلامي كله بانحرافه عن الدين وتغير أخلاقه ومظاهر حياته، وهذه الفتن هي امتحانهم الأكبر لأنها ستأتي مُطْبِقَةً كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا تمتحن صبر المؤمن، فالقاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي. ومن جانب آخر أشارت المصادر التاريخية إلى مجموعة من الصحابة الذين قيل إنهم اعتزلوا الفتنة وعدوا منهم: سعد بن أبي وقاص وأبي الدرداء وحذيفة وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة الذي قيل إنه بعد مقتل عثمان ضرب لنفسه خيمة في الربذة وأقسم أن لا يضمه مصر من أمصار المسلمين، بل إن بعضهم استغل هذا المعنى ليتخلف عن نصرة الحق مثل أهبان بن صيفي الذي رفض دعوة علي له بقوله: لا أخرج إليك فإني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إذا رأيتم مثلما أنتم فيه، فاتخذوا سيفا من خشب، ولو لم يكن غير هؤلاء قد أركس في الفتنة ما كانوا ليستثنوهم دون باقي مجتمع الصحابة!
إذا كان رسول الله قد حذر أمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن، فطلب الحذر من هؤلاء والابتعاد عنهم. وكان ثواب المؤمن القابض على دينه مثل صبر القابض على جمرة حتى قيل: إن أجر المؤمن العامل فيها كأجر خمسين صحابيا(3)، وكان من علامات وقوعها في آخر الزمان: كثرة الخطباء، قلة الفقهاء، كثرة السائلين وقلة الباذخين الباذلين، كثرة الأمراء، قلة الأمناء، موت الصلاة، ارتفاع البناء، كثرة الأيمان أي الحلف، انتشار الرشوة، تفقه الناس لغير الدين بل طلبا للدنيا بعمل الآخرة،
إذا كان ذلك كله قد قيل ومر علينا ولم نلتفت إليه ولم نعره أهمية، فذلك يعني أن ما بيننا وبين ما أراده الإسلام بون لا حدود له نكاد لا نلتقي من خلاله مع حدود الإسلام الخارجية، ويعني أننا بحاجة لأن نعيد ترتيب أولويات حياتنا بعيدا عن الحزبية والطائفية والقومية والمناطقية والمذهبية عسى أن ندرك شيئا من الإسلام الحقيقي، ولكن من منا مستعد لأن يتخلى عن مباهج الحياة وترف المنصب والمركز وهو بين الشك واليقين في حقيقة وجود يوم الدين؟!
الهوامـــش
(1) ابن بطة، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، تحقيق: رضا بن نعسان معطي - عثمان عبد الله آدم الأثيوبي - يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل - حمد بن عبد المحسن التويجري، دار الراية، سوريا، 1415هـ - 1994م. ج1/ص93.
(2) المصدر نفسه،  ج1/ص93ـ94.
(3) المصدر نفسه.

68
أكذوبة إعادة تأهيل أقلية الأويغور المسلمين في الصين
صالح الطائي
قصة معاناة عشرين مليون مسلم على يد الحزب الشيوعي الصيني تحت شعار "القرابة التوأمية" الساعي إلى إحداث تغيير ديمغرافي لصالح أتباعها من "الهان" وغيرهم من الملحدين الذين تقوم بتوطينهم في اقليم "تركستان الشرقية" الإسلامي الذي أبدلت اسمه إلى "شينجيانغ" للقضاء على خصوصية الإسلام في هذه المنطقة، إلى درجة أنها نجحت في تغيير نسبة المسلمين في الإقليم من 97% في بداية حملة التهجير والتغيير عام 1949 إلى حوالي 45% قبل الهجمة الأخيرة! إنها قصة المسكوت عنه في زمن العهر العربي والإسلامي!.
يذكر أن الحكومة الصينية أنشأت مدنا حديثة في الإقليم لاحتواء المهاجرين مثل: "شيهنزة" و"كاراماي" و"كويتون" و"صانجو" و"أران" وغيرها، فضلا عن مصادرة آلاف المنازل التي تعود للمسلمين الفارين من الظلم وتوزيعها على أتباعها، كما وفرت فرص العمل لهم على حساب المسلمين إلى درجة أن نسبتهم الآن في الدوائر والمعامل والمؤسسات بلغت 95% قبالة أقل من 5% للمسلمين.
تعود قصة العلاقة بين دين الإسلام وبلاد الصين إلى زمن قديم جدا، وهناك ثلاث روايات تحدثت عن دخول مسلمين إلى الصين، ذكرت الرواية الأولى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، أرسل سعد بن أبى وقاص، ووهب بن أبي كبشة، إلى ملك الصين يدعوه للإسلام. وفي هذه الرواية الكثير من التناقض الذي يُضعفها ويوهنها. أما الرواية الثانية فذهبت إلى أن سعد بن أبى وقاص ذهب إلى الصين عام 637 ميلادية في خلافة عمر، برفقة ثلاثة من الصحابة، هم: حسان بن ثابت، وأويس بن أنيس القرني‎‎، وشخص يدعى سهيل أبو الرجاء.
فضلا عن ذلك هناك رواية ثالثة وردت في بعض المصادر التاريخية أرجعت دخول الإسلام إلى الصين سنة 651 ميلادية وتحديدا في خلافة عثمان عن  طريق البعثة التي أرسلها برئاسة سعد بن أبى وقاص، وأن إمبراطور الصين (تانغ قاو زو) استقبلهم في العاصمة الصينية آنذاك (تشانغ آن)، واستلم منهم هدايا الخليفة، وسمح لهم بالدعوة للإسلام وبناء مسجد.
وبعد هذا التاريخ توالت البعثات إلى الصين حتى بلغت أكثر من ثمانية وعشرين بعثة بين سنتي (31 ـ 184هـ /  651 ـ 800 م)، ومعها أخد الإسلام بالانتشار، لا عن طريق الغزوات والإكراه بل تأثرا بالخلق القويم الذي بدا عليه المسلمون الذين زاروا الصين وتعاملوا مع شعبها. وخلاف ذلك هناك روايات تؤكد أن الإسلام انتشر في الصين بواسطة أقوام غير عربية وأن أول وفد مسلم دخلها كان من مملكتي أنام وكمبوديا، ورواية ترى أن قبائل ويغور التركية هي التي أدخلت الإسلام للصين.
وحتى مع تعارض وتضارب هذه الروايات لا نجد قسرا أو إكراها تسبب في دخول بعض الصينيين إلى الإسلام، فدخولهم كان أمرا طبيعيا لا يثير الشبهات، وهذا يضعف موقف الحكومة الصينية التي ذكرت تقارير غربية ناقدة أنها تحتجز قسرا نحو مليوني شخص من أقلية الأويغور في معسكرات خاصة لغرض إعادة تأهيلهم وإجبارهم على التخلي عن ديانتهم.
يذكر أن أصول الأويغور تركية، وهم واحدة من ستة وخمسين عرقا وقومية يتكون منها شعب الصين. يتركز وجودهم في منطقة تركستان الشرقية ذات الحكم الذاتي على مساحة تعادل 1/6 مساحة الصين ويتواجد بعضهم بمناطق جنوب وسط الصين. وهم يدينون بالإسلام، منذ القدم؛ وهو الأمر الذي حاولت الصين نفيه  فيما عرف بالكتاب الأبيض الذي أصدره مكتب الإعلام لمجلس الدولة الصينية للدفاع عن الحزب الشيوعي الصيني، ونفي تهمة اضطهاد المسلمين، بقولهم: "الإسلام ليس نظاما أصليا ولا المعتقد الوحيد لشعب الأويغور".
وقد حاولت الصين إيهام المجتمع الدولي من خلال حديثها عن الحرية في إشارة وردت في الكتاب الأبيض الذي نشرت وكالة أنباء شينخوا الرسمية، ملخصا له بعنوان "مسائل تاريخية متعلقة بشينجيانغ"، بادعائها أن الإقليم يحترم حرية مواطنيه في إتباع أي دين يختارونه، أو عدم الإيمان بأي شيء، إن كان ذلك خيارهم أيضا.
وتعلل الصين ضغوطاتها ضد أقلية الأويغور بأنهم كانوا قد أسلموا عنوة دون إرادتهم، كما في قولها: "وأن الإسلام دخل إلى الصين بالقوة خلال الحروب الدينية التي دارت في القرن العاشر، والتي أنهت قرونا من الهيمنة البوذية ... ودخول الأويغور الإسلام لم يكن خيارا طوعيا من المواطنين العاديين، بل كان نتيجة حروب دينية وفرض من الطبقة الحاكمة"، وهي تعمل على تحريرهم من هذا القسر والإكراه!.
أما وزارة الخارجية الأميركية فقد أشارت إلى أن "بكين تواصل تصوير حملتها القمعية ضد الأويغور وغيرهم من المسلمين على أنها جهود مشروعة لمكافحة الإرهاب". بينما يرى الأويغور أنفسهم أن حملة الاضطهاد القسري ضدهم شكل من أشكال "الإبادة الثقافية"، ومحاولة لدمجهم في صفوف الحزب الشيوعي الصيني الذي ينتهج الإلحاد الشامل طريقا.
إن المعطيات الدلالية تكشف حقيقة ما يتعرض له المسلمون الصينيون الذين يكاد مصيرهم أن يكون مشابها لمصير أقلية الروهينغيا في ميانمار، مما يتوجب على البلاد الإسلامية أن تسعى إلى حماية المسلمين في العالم بدل أن يشغلوا أنفسهم في سجالات بينية فارغة أهلكت قواهم واستهلكت مصادر ثرواتهم.
إن الصين ترتكب جريمة تغيير المعتقد قسريا وتصادر حريات المسلمين وتمنعهم من لبس الثياب الشرعية، وقد نشرت صحيفة (تايوان نيوز) Taiwan News صورا تم التقاطها في منطقة سنجان الصينية التي تعيش فيها أقلية الأويغور المسلمة، ونشرتها على حسابات تويتر يظهر فيها رجال شرطة وأعضاء في الحزب الشيوعي يمسكون بالمقصات ويقومون بتقصير ملابس نساء الأويغور، حيث يبدو أن قيادات الحزب المحلية وجهاز الشرطة مصممون على تنفيذ التعليمات الحزبية حرفيا، بتقصير ملابس النساء، أو تقطيع الرداء بصورة يصبح معها غير صالح للاستخدام.
لقد جوز الحزب الشيوعي الصيني هذه الإجراءات اللاأخلاقية بحجة أن خطر التطرف الإسلامي يفرض مثل هذه الإجراءات الاستثنائية، ومن ضمن هذه الإجراءات منع نساء لأويغور من ارتداء الملابس الطويلة، بعد ان كانت قد منعت الزي التقليدي لرجال هذه الأقلية.



69
الوحام عند بعض علماء الإسلام
صالح الطائي
أغرم أجدادنا بالخيال إلى درجة الخبال، ولم يتركوا  أمرا إلا ودسوا أنوفهم فيه، فشموا مرة طيبا وحسنا، وشموا مرة نفخة كير وحشرجة وصرير. ومن خيال أجدادنا الجامح حديثهم عن وحم المرأة، ومنه حديث محي الدين بن العربي في كتابه "الخيال عالم البرزخ والمثال" الذي تفضل على الأمة المسلمة محمود محمود غراب بجمعه ونشره بواسطة دار الكتاب العربي، ليظهر في الطبعة الثانية سنة 1414هـ ـ 1993م.
والوحم أو الوحام ظاهرة تؤثر في بعض النساء أثناء الحمل، من اللواتي تظهر لديهن رغبة مُلحّة لتناول نوع معين من الطعام، ويرى العلماء أنه لا يوجد هنالك سبب محدد لهذا الشعور إذ يعزيه بعض العلماء إلى فقدان ذلك النوع من الطعام من نظام المرأة الحامل الغذائي أو حاجة جسمها إلى  زيادة كمية أنواع معينة من الفيتامينات والأملاح. ويرى البعض أن الوحم مرتبط بهرمونات الحمل، الذي يتضاعف كل بضعة أيام خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل ليصل ذروته خلال الأسبوع الحادي عشر من الحمل، وقد يتسبب ارتفاع مستويات هرمون الحمل هذا بحدوث بعض ردود الأفعال لدى الحامل كالغثيان واشتهاء بعض الأطعمة، ولا علاقة له البتة بنوع وجنس الجنين وما يطرأ عليه من ظواهر وعلامات.
ولكن خيال أجدادنا الجامح لم يقف عند الصور التي كانت المرأة تعاني منها أثناء الأشهر الأولى من حملها، فرسم له صورا أخرى في غاية الغرابة من خلال ربطه بالخيال؛ الذي مارسوه طوال حياتهم وأورثهم التأخر والتشتت، إذ ادعى أجدادنا أن الخيال وإن كان من الطبيعة، فإن له سلطانا عظيما على الطبيعة، بما أيده الله به من القوة الإلهية. وإذا أردت تأنيسا لذلك، فانظر في علم الطبيعة إذا توحمت المرأة وهي حامل على شيء، خرج الولد يشبه ذلك الشيء، فإن الشهوة إرادة طبيعية مقيدة عن تخيل صوري، وإذا نظرت المرأة عند الجماع، أو تخيل الرجل صورة عند الوقاع وإنزال الماء، يكون الولد على خلق صورة ما تخيل [[الخيال عالم البرزخ والخيال، ص47ـ48]]] بمعنى أن المرأة حسب زعمهم، إذا تخيلت عنترة بن شداد عند الجماع لابد وأن يخرج ولدها شبيها لعنترة بالتمام والكمال، وإذا تخيل الرجل هيفاء وهبي أو أليسا عند الوقاع، ورسم صورة إحداهما في خيالة عند الجماع، لابد وأن يأتي الوليد، سواء كان ذكرا أم أنثى، على هيئتهن وجمالهن الأخاذ حتى ولو كان الأب غرابا والأم خنفساء!.
والمدهش في الأمر أن حكماء الأمة أنفسهم كانوا يأمرون بتصوير صور الفضلاء من أكابر الحكماء والعلماء في الأماكن، بحيث يتاح للمرأة أن تنظر إلى تلك الصور عند الجماع والرجل، فتنطبع في الخيال، فتؤثر في الطبيعة، فتخرج تلك القوة التي كانت عليها تلك الصورة في الولد؛ الذي يكون من ذلك الماء[[[المصدر نفسه، ص48]]] ولا أدري لماذا حرموا البنت من هذا الأمر فخصوا الولدان به وحرموا النسوان!.
لكن حتى مع هذا التحيز بالمجان كان عدد المواليد الأغبياء والمتخلفين والرقعاء في مجتمعاتنا بالرغم من كثرة التخيل والتصور والصور أضعاف مضاعفة لعدد الحكماء والعقلاء، الذين كانوا أعز من لبن العصفور، ومن الغراب الأبيض على جبل طور. وحتى الحكماء الذين رُزقنا بهم وفق حصتنا البنيوية والقدرة الربانية، ما كانوا حقا حكماء، ولذا أورثونا التنبلة والتيه والخيلاء والغباء بسبب آرائهم الرعناء!
هؤلاء الحكماء أنفسهم وبسبب طيشهم وجهلهم وخبثهم، وربما جنسيتهم وشبقهم، ورغبتهم في حرف عقول النساء لتعشقنهم، خالفوا الأحكام الفقهية، وباعوا القضية، فقالوا في الدنية: إذا أراد الإنسان أن ينجب ولده، فليُقِمْ في نفسه عند اجتماعه مع امرأته، صورة من شاء من الحكماء، ومن أكابر العلماء، هذا لمن هو من الطبقة الوسطى الذي يأتي أهله يتمطى. لكن هذا؛ ومن هو أكثر منه غنى ومالا  إن أراد أن يحكم أمر ذلك، ولا يُخطئ أو يُؤجل، وأراد أن تُلقح مهرته من الفعل الأول فعليه أن يصور صورة الحكيم فعلا بريشة رسام أثول، وأن يجعلها أجمل من واقعها وأجمل، وأن يذكر لامرأته حسن ما كانت عليه تلك الصورة وصاحبها. وإذا صورها المصور، فليُحَسِن وليُجَمِل ولا ينقل ما يرى من أكال وجوه الشياطين الممرغة بالطين، وعليه شرعا أن يصورها على صورة حُسن علم العالم وأخلاقه لا شكل هيئته [[المصدر نفسه، ص48]]] وهذا مخالف للأحكام الفقهية؛ التي ذهبت إلى أن التصوير حرام غالبا، ولا سيما تصوير الأحياء مثل الحكماء وما نطق وتحرك من الأشياء.
والمعروف وفق القواعد الشرعية والأحكام الفقهية أن التصوير نوعان:
النوع الأول: تصوير غير ذوات الأرواح، كالسماء والفضاء والجبال والأنهار والأشجار والشمس والقمر والنجوم والحجارة والصحراء والبحار. وهذا لا بأس به عند أكثر أهل العلم الأتقياء والفجار. مع ان هناك من خالفهم، فمنع تصوير الشجر المثمر والزروع المثمرة كالحنطة وباقي الحبوب والبقوليات.
النوع الثاني: تصوير ذوات الأرواح وهذا بدوره ينقسم على قسمين:
القسم الأول: أن يكون الرسم والتصوير باليد، مثلما كانوا يفعلون في زمن خيال العرب الجامح، وهذا محرم، بل ومن كبائر الذنوب، تبعا لحديث ابن عباس في صحيح مسلم: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم". وحديث أبي جحيفة في صحيح البخاري: "لعن آكل الربا وموكله، والواشمة، والمستوشمة، والمصور". وحديث عائشة في البخاري ومسلم كليهما: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله". وحديث أبي هريرة فيهما كليهما: "سمعت النبي يقول: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة".
فهذه الأحاديث تنطبق كليا على نوع التصوير الذي تحدث عنه أصحاب الخيال من الحكماء أتباع الدجال، لأن ذلك التصوير لا يمكن صنعه إلا باليد، فتكون الصورة مثل الصورة التي خلق الله تعالى، لأن المصور حاول أن يبدع كإبداع الله ويخلق كخلقه، وبذلك أمره الحكماء وتقدموا له بالرجاء، ليزيل عن وجوههم الغلظة والوعثاء وشدة الجفاء، عسى أن تعشقهم النساء. وإن لم يقصد المشابهة، لكن الحكم إذا علق على وصف تعلق به، فمتى وجد الوصف وجد الحكم، والمصور إذا صنع الصورة تحققت المشابهة بصنعه وإن لم ينوها والمصور في الغالب لا يخلو من نية المضاهاة، فكيف إذا ما كان مأمورا بذلك؟ ولذلك تجده يفخر بصنعه كلما كانت الصورة أجود، وأتقن وأكثر قربا للواقع.
القسم الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح بغير اليد، مثل التصوير بالكاميرا التي تنقل الصورة التي خلقها الله على ما هي عليه، وهو أمر مستحدث لم يكن معروفاً على عهد النبي والمسلمين الأوائل، ولهذا السبب اختلف بشأنه من تأخر من العلماء ومن عاصر منهم زمن صنع الكاميرات، فمنهم من أدخله فيما نُهي عنه نظراً لعموم اللفظ له عرفاً، ومنهم من أحله نظراً للمعنى، فإن التصوير بالكاميرا لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله تعالى، وإنما انطبع بالصورة خلق الله تعالى على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها.
والأكثر نكاية مما تقدم، ما أمر به الحكماء من وجوب إزالة القبح وإضافة البهاء على وجوه الزملاء، فأوجبوا على المصور والرسام أنه إذا كانت الصورة المحسوسة ـ أي أصل وحقيقة الشخص المراد تصويره ـ قبيحة المنظر بأصلها، فلا يصورها إلا حسنة المظهر بقدر حُسن علم وأخلاق العالم، أي ان يُحل جمال الأخلاق على قبيح الخلقة، فيجلب الرجل تلك الصورة المحورة المحرفة إلى زوجته، ويعرضها عليها وأمامها عند الجماع، ثم يستفرغان في النظر إلى حسنها، فإن وقع للمرأة حمل، أثر في ذلك الحمل ما تخيلا من تلك الصورة في النفس، فيخرج المولود بتلك المنزلة ولابد[[المصدر نفسه، ص48]]]
ولما كان الواقع على خلاف بل دون المأمول، والولدان جاءوا مجانين ومسخوطين وهبول، فأصابوا الوالدين بالذهول، تحجج الحكماء بأسلوب بني قريظة وآل سلول، فادعوا أنه: إذا تم الحمل من ذاك اللقاء، لابد وأن يكون قد تأثر بما تخيل الوالدان من تلك الصورة في النفس والوجدان، فيخرج الوليد الذكر بتلك المنزلة وليس ثور بقر.. لكن إذا لم يخرج كذلك، فلأمر لطارئ طرأ في نفس الوالدين عند نزول النطفة في الرحم، أخرجهما ذلك الأمر عن مشاهدة تلك الصورة في الخيال من حيث لا يشعران[[[المصدر نفسه]]]
أما إذا حدث وإن جاء الوليد على غير الصورة المرتقبة كأن يكون سيء الخلق أو مشوها بسبب طفرة وراثية أو عاهة جسدية، فلم يعزوه إلى شذوذ خيال الوالدين، بل إن الذي تخيله الوالدان أثناء الجماع، هو الذي أثر في النفس والطباع، ويقع عند الوقاع في نفس أحد الزوجين أو كلاهما صورة كلب أو أسد أو أرنب أو حيوان ما، فيخرج الولد من ذلك الوقاع وفي أخلاقه ما هو على صورة ما وقع للوالدين من تخيل خارج المقاييس بسبب الغباء أما إذا اختلفا، وتصور كل منهما صورة مختلفة عن صاحبه، فستظهر في الولد صورة لما تخيله كل منهما.
وبالتالي فإن ما خطه المداد ليس أكثر من بعض حكايات  قصص الأجداد


70
حفر حياتنا ومصائدها
قراءة انطباعية في رواية "حفرة السلمان" لصالح مطروح السعيدي

الدكتور صالح الطائي/ العراق
حتى قبل أن يمتهن أجدادنا العمل السياسي، كانوا قد ابتكروا لمناوئيهم ومنافسيهم حفرا ومصائد ليلقوهم بها، فيتخلصون من خطرهم، وكانوا أحيانا يلقون بها الأبرياء من وغيرهم، ومن لا ذنب لهم لكي يرهبون الناس بأفعالهم، ويزرعون في نفوسهم الخوف، ويدخلوا الوجل إلى قلوبهم والخشية إلى أرواحهم، لكي لا يفكروا بتحديهم أو الكيد لهم، أو مجرد معارضتهم، والعمل على خلاف مناهجهم، ولذا لا غرابة أن تجد السجن شاخصا في حضارتنا الجاهلية، حيث كان للحارث بن عبد بن عمر بن مخزوم سجن في جبل نفيع بمكة، كان يحبس فيه سفهاء قومه. وكان لحجر بن الحارث الكندي، والد أمرئ القيس، سجنا حبس فيه بعض سادات بني أسد لأنهم ثاروا عليه. وفي الشام حبس عمرو بن جفنة الغساني بعض القرشيين بطلب من عثمان بن الحويرث الأسدي بسبب رفض قريش تنصيب الأخير ملكاً عليها من قبل قيصر الروم. وفي الكوفة اتخذ المناذرة سجن الصنّين لسجن أشخاص من بينهم عنترة بن شداد وعدي بن زيد.
ولا غرابة في أن تجد حضارتنا الإسلامية وقد سارت منذ أيامها الأولى على النهج نفسه، صحيح ان النبي لم يكن له حبسا، ولا لأبي بكر، ولكن عمر الذي استخلف في شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية، أي بعد مرور ثلاث سنوات فقط على موت النبي؛ سرعان ما أحيا موروث السجون، واتخذ مكانا، وصيره سجنا، مثلما ورد في مجموع فتاوى ابن تيمية.
أما في زمن الأمويين فقد توسع الحكام في اتخاذ سجون عامة وخاصة، علل البعض وجودها بسبب تزايد الحركات السياسية المناوئة للسلطة، وكان معاوية بن أبي سفيان أول مَن أنشأ السجون بشكلها المعروف اليوم، وخصص لها حراساً.
وفي مكة تماهى معهم عبدالله بن الزبير، فبنى سجناً خلف دار الندوة، عُرف بسجن عارم نسبة إلى سجين قتل فيه.
وعلى منوال سجون معاوية، أنشأ الأمويون سجوناً في الحجاز، وحوّلوا دار عبد الله بن سباع الخزاعي في المدينة إلى سجن عُرف بسجن ابن سباع. كما تحوّلت دار ابن هشام في المدينة إلى سجن في أواخر العصر الأموي. وأنشئ سجن في عسفان بين مكة والمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك، وسجن آخر في تباله قرب الطائف. وكذلك ظهر سِجن في العقيق من بلاد بني عقيل، وسجن دوّار في اليمامة.
أما في العراق فقد كان الحجاج خلال السنوات العشرين التي عين فيها واليا على العراق (السنوات 70ـ 95هـ) قد اتخذ سجونا عديدة، بعضها مطامير لا يعرف المسجون فيها ليله من نهاره، وبعضها لا تقي من حر ولا برد، وقد مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفا عزباوات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. وبعد موته عُرضت السجون، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً، لم يجب على واحدٍ منهم قتلٌ ولا صلبً.
منذ عصر الحجاج فصاعدا وصولا إلى الاستعمار العثماني، ثم الحكم الملكي وحكم المستعمر الإنكليزي للعراق، تطورت السجون كثيرا، وتنوعت مصادر التعذيب، وكانت بعضها في منتهى السوء، حتى أن سماع اسمها يجعل الأعصاب تنهار، ومنها سجن (نقرة السلمان) الذي أنشأه الانكليز، وهو يقع في محافظة المثنى (السماوة ـ ناحية السلمان) في منطقة صحراوية على أطراف الحدود العراقية السعودية، في منطقة نائية تحميها الصحراء المترامية، التي تهدد من يفكر بالهرب بموت بطيء.
وقد أصبح سجن نقرة السلمان أنموذجا تقاس صعوبة باقي السجون نسبة إليه، وإلى ما يعانيه السجناء وعوائلهم، ولاسيما بعد أن قام النظام البعثي في صبيحة 3 تموز 1963 بإصدار مرسوم جمهور يقضي بترحيل سجناء السجن رقم واحد وهو أحد سجون معسكر الرشيد إليه، وغالبية السجناء كانوا من الشيوعيين، وقد أرسلوا إليه لغرض تصفيتهم.
امتدادا لهذا التاريخ المفعم بالأذى والعذاب، وإحياء لذكرى الوجع القديم السابت في النفوس، كتب الروائي الواسطي الأستاذ صالح مطروح السعيدي روايته الرمزية (حفرة السلمان) التي تؤرخ لهذه المرحلة الحساسة من تاريخ شعبنا وحركاته الوطنية، وأحزابه التقدمية، ومثلما تؤرخ لنظمه القمعية الإجرامية، لتكون لبنة أخرى في المنجز السياسي لهذا الكاتب اليساري المعروف، تؤرخ لصور تزدحم بها ذاكرته لأصدقاء وزملاء ورفاق ومعارف وأقرباء، طحنتهم طاحونة العجرفة السياسية، ولتكون (نقرة السلمان) صورة للحياة التي مرت على العراقيين في عقود ولت، بعدما تحول الوطن كله إلى (حفرة)، لا وجل ولا مانع من أن تسمى (حفرة السلمان).
حفرة السلمان استذكار لمرحلة تاريخية خطيرة وشائكة ومعقدة من مراحل تاريخ العراق الحديث، سطرها الأديب الواسطي الكبير صالح مطروح من ذاكرته كونه أحد المشاركين بصنع أحداثها، كانت أحداثها مزدحمة بالحب والعذاب، بالعلاقات السوية والمنحرفة، بالسادية والرحمة، بالحرية والانعتاق ضد العبودية والهمجية والتقييد وتكميم الأفواه وسلب الحريات. تم استدراك ذلك كله في صفحات تئن، تتألم، تتوجع،  تكاد تسمع آهات وجعها، صرخاتها، شكواها، منذ فصلها الأول "الدخول الى الداخل"، حيث تتلمس تحدي الألم ومواطن الوجع:
"أنا وأنت وجعان فوق سفوح الألم.
أنت وأنا نافذتان نخرت ألواحهما ريح الغروب.
أنا وأنت دمعتان في مشابك الدمع تتأرجحان.
إرادة تشظت، ثم التمت، فتعلقت بأودية الحياة؛ إرادتان.
أنا وأنت  مصير واحد مكبل بقيود لا نقوى على قد أغلالها (صفحة: 11)
حيث تستشف الوجع من خلال تلك الكلمات التي شكلت النص: وجعا.. الألم.. نخرت.. دمعتان.. مصير.. قيود.. أغلال.. مصير. وهي كلمات تدل على خيال مشبع بالوجع والآهة، ويسعى لأن يخرج كل ذلك الوجع ليتشاركه مع الآخرين عسى أن يشعر بالراحة التي كان ينشدها منذ أيام وعيه الأول، في ريعان شبابه، ولحين أن سلبه الزمان مكمن قوته، ولم يبقِ له سوى هيكلا يكابر باستحياء خوف أن يشمت به الأعداء.
وهو حتى في محاولة استرجاع الذكريات الجميلة كما في الفصل الثاني "امرأتان"
عجز عن مغادرة مفردات الوجع: "ببياض يدي، بحجم تواريخ الأسى، باحتشاد اسئلتي على أرصفة التشظي، ببقايا ارادتي، بأسمال الحروب، بقبعة الحضارات المثقوبة من الوسط، خارج أنا عن وطني، بل محرر من إسار تعلقي به، محمل بفيض انكساراتي، باشتعال سنواتي، برماد احتراقاتي، ذاهب بصمت ذهولي الى منفاي، بكل أعبائي وإسقاطاتي(ص: 10)
هكذا تكرر معزوفة الحزن: تواريخ الأسى.. أرصفة التشظي.. بقايا.. أسمال.. مثقوبة.. إسار.. فيض انكساراتي.. اشتعال سنواتي.. رماد احتراقاتي.. صمت ذهولي .. منفاي.. أعباء.. إسقاطات.
هكذا تحتشد كلمات الوجع لترسم فصول الرواية، فصلا بعد آخر، وتسير بك من محطة تسمع فيها صراخ الأجساد المعذبة إلى محطة تسمع فيها صراخ الضمائر المستلبة، حينما يتعامل عنصر الأمن المنزوع الضمير مع فتاة في مقتبل العمر، فيسرق منها عفتها وبرائتها باسم الدفاع عن النظام، والنظام نفسه يبارك له عمله الدنئ.
إن الغوص في فصول الرواية السبع في قسمها الأول، وفصلي ورسالتي القسم الثاني، يتنقل بك من المواجهة، إلى عجلات الموت، إلى عام المرارة، ليستقر في الخاتمة في حفرة السلمان، فمع كل الألم المحتشد في فصول الرواية بما يشعرك وكأن الهزيمة حلت بالخير والصلاح والوطنية والعفة ومحاسن الأخلاق، ستجد في خواتيمها ولادة جديدة لأمل دافق بالمتعة، يحفزك لأن تؤمن بأن الحياة سوف تنتصر على الموت، والخير سوف ينتصر على الشر مهما طال الصراع بينهما: "الله ما أجمل الحياة حين تجتمع تحت خيمتها جميع التناقضات" (ص:349) هكذا أراد صالح مطروح لروايته أن تعلن انتصار الحب والجمال وإرادة الحياة على دعوات الموت الصفراء: "ازحت الرمال بيدي وثمة ضوء شفيف يتدفق بعيني. عملت بجد ومثابرة، أزحت طبقة الأرض، حفرت حفرة تكفي خروج جسدي، واخيرا استطعت أن ألج في ذلك الشق واخرج غلى الحياة"(ص:350).
تقع الرواية في 353 صفحة نصف أي فور، تزين واجهة غلافها لوحة جميلة ومعبرة للمصممة أمينة صلاح الدين، وقد تولت دار تموز ديموزي السورية إصدارها ونشرها في عام 2019.



71
إينانا وضفة السماوي الثالثة
قراءة انطباعية في مجموعة نهر بثلاث ضفاف ليحيى السماوي
صالح الطائي

حينما اهداني نسخة من مجموعته الشعرية عيناك دنيا في حديقة كلية الآداب بالجامعة المستنصرية بحدود عام 1972، كنا لما نزل نرفل بعز الشباب، غير متعودين على سبر أغوار المجهول والتنبؤ بالقادم، ربما لأن الأمن الصدامي والأمن الجامعي كان يرصد كل حركاتنا بما يدفعنا عنوة لأن نقصر أحلامنا على ساعات من الأمان بعيدا عن شرهم..   
حينها لم اكن اتوقع ان صديقي الشاب النحيل بشعره الذهبي اللماع وعيناه الزرقاوان، وبشرته البيضاء وبدلته التي تبدو وكأنها أستلت من شعاع الشمس سيتحول إلى حقيقة تملأ الدنيا وتشغل الناس، ولاسيما واننا افترقنا سنين طوال، لأغامر في تسعينات القرن الماضي بالسفر إلى السماوة باحثا عنه ومتحديا خوفي من رجال الأمن، ولأصدم بخبر موته المزعوم الذي هد حيلي وملأ قلبي حزنا وروحي كمدا.
خلال تلك المرحلة انطوت صفحة يحيى من خيالي باستثناء إلماحات استدعيها من أعماق الذاكرة حينما أسمع كلمة دنيا أو اسم يحيى لأبدأ بالترحم عليه والتأسف على شبابه المفقود، ومن ثم أنخرط بسيل من السباب والشتائم واللعن لرئيس النظام وحزبه وزبانيته. ولذا شعرت كالملسوع حينما قرأت بعد عام 2003 بسنوات اسم (يحيى السماوي) في أحد المواقع الالكترونية بعد أن دخل الانترنيت إلى العراق بشكل علني، فبادرت إلى مراسلتهم مستفسرا عن هذا السماوي من يكون؟، أهو يحيى بن عباس بن عبود السماوي؟ ولم يجيبوني بالرغم من تكرار السؤال، ولم أبدأ البحث، لأني كنت لما أزل قليل الخبرة بالحاسوب ولا أعرف كيف يستخدمون الانترنيت إلا بقدر محدود جدا، إلى أن دخلت عن طريق المصادفة، وكانت المرة الأولى، إلى موقع صحيفة المثقف الغراء لأجد اسم يحيى ماثلا أمامي، فبادرت إلى مراسلتهم والاستفسار منهم، وحينما لم يجيبوني، اعتقدت أن هذا الموقع لا يختلف عن ذاك، ثم كانت المفاجأة حينما استلمت من يحيى رسالة طويلة سرد فيها ما مر به من قهر الطغاة إلى أن حمل السلاح على أمل التغيير ولم ينجح، مما أضطره إلى الهرب خارج البلاد، وأنه يعيش الآن في أستراليا ولديه عائلة وأولاد، حيث تبين ان موقع صحيفة المثقف حول رسالتي إليه ليجيب عليها وهذا لطف كبير منهم لا زلت أحمله جميلا لهم في عنقي.
كانت هذه المفاجأة مفتاح عودة العلاقة الأخوية مع يحيى السماوي، وخلال هذه المدة كان كريما معي، فهو فضلا عن زيارته لي في بيتي وكثرة الرسائل والتهاني التي يبعثها، أهداني أغلب مجاميعه الشعرية والكتب التي ألفت عن تجربته، منها على سبيل المثال:  مسبحة من خرز الكلمات، شاهدة قبر من رخام الكلمات، لماذا تأخرتِ دهرا؟،  مناديل من حرير الكلمات، بعيدا عني .. قريبا منك، تعالي لأبحث فيك عني، أطفئيني بنارك. وهي غالبا مجاميع ما بعد سقوط النظام البعثي، بينما حرمني الفراق بهجة الحصول على مجاميع التسعينات ومنها:  قصائد في زمن السبي والبكاء  قلبي على وطني ، جرح باتساع الوطن، الاختيار، عيناك لي وطن ومنفى، رباعيات، هذه خيمتي.. فأين الوطن، أطبقت أجفاني عليك، الأفق نافذتي، زنابق برية، نقوش على جذع نخلة، قليلك ... لا كثيرهن، البكاء على كتف الوطن
مع هذا الفيض من عطاء السماوي الذي حل في بيتي وعلى عرائش مكتبتي وفي قلبي، شعرت وكأني لم أفارقه كل تلك السنين العجاف. حيث كنت أبحر مع بواخر شعره المحملة بالندى والربيع ومكامن الخوف والغربة والجوع، فأشعر وكانه جزيرة نائية كان قدري أن أجول أفيائها بحثا عن أسرارها التي ترفض البوح بها.
وكانت آخر هدية قيمة استلمتها من يحيى مجموعته الشعرية " نهر بثلاث ضفاف" التي سنحت لي الفرصة لأعيد قراءتها عدة مرات، مما حفزني للكتابة عنها لا بقلم ناقد بل بقلم قارئ، وبين قلمي الناقد والقارئ بون شاسع، وقد ألجأني لهذا الخيار سبب وجيه، فأنا بالرغم من كوني سبق وأن كتبت عن نتاجات السماوي عدة مرات إلا أني في كل مرة أنوي فيها خوض هذه التجربة أو أجد في نفسي رغبة للكتابة عنه، أشعر برهبة وتوجس وخيفة، والكثير من التردد، فالكتابة عن يحيى ليست أمرا عابرا طالما أن كبار نقاد الأدب العراقيين والعرب(*) قد تناولوا تجربته بالدرس والتمحيص، والكثير من طلاب الماجستير والدكتوراه تناولوا حياته ونتاجه في دراساتهم لنيل درجتي الماستر والدكتوراه، وبعد أن وضع الأخ والصديق لطيف عبد سالم كتابا بعنوان مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي، وفضلا عن ذلك كله أجد نفسي لست ناقدا بقدر كوني متذوقا هاويا، ولذا كنت في غاية التردد وأنا أمسك الورقة والقلم وأضع المجموعة أمامي لأكتب عنها بعد أن أعدت قراءتها عدة مرات بل بعد أن قرأت بعض قصائدها أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أشعر بها وكأنها جديدة لم تمر علي من قبل، فتزيدني دهشة.
هنا يجدر بي الاعتراف قبل البدء بالقراءة بأمرين في غاية الأهمية:
الأول: أنه قد تكون لعلاقتي الأخوية بالسماوي أثرا على نوع كتاباتي عنه، وقد يكون لهاجس صداقتي به دافعا روحيا، يدفعني لأغمض عيني عن الهنات التي أتوقع أني سأجدها في المجموعة، ولكني وبكل حيادية أعلن ان مجموعات السماوي كلها ـ وهذه واحدة منها ـ تكاد تكون مقدسة بسبب كمالها وتكاملها من حيث الوزن والقافية ووحدة الموضوع والضربة والقفلة فضلا عن تصميم الغلاف والطباعة وحجم الحرف.
والثاني: تلك الكلمات التي نحتها البروفسور عبد الرضا علي من السكر، وغلفها باللوز والزعفران، وعطرها بالقرنفل والفل والياسمين، التي تصدرت المجموعة لتقدمها للذائقة، فكانت كالمصباح الذي يجلي ظلمة الطريق إلى فهم خيوط اللعبة التي حاكها السماوي بتجربة الناقد المطلع الخبير. وبضمنها الآراء التي أطلقها الدكتور عبد الرضا والتي كادت أن تكون شافية وافيه كافية بما لا يدع مجالا لغيره كي يبدي رأيا! كيف، وهو صاحب الرأي السديد والعقل الرشيد؟
من بين كل ما قاله في مقدمته الرائعة، أوهم الدكتور عبد الرضا علي الواقع بثلاثة آراء ناجزة، تحولت إلى حاجز أمني يصيب من يريد العبث بتراتبية مجموعة السماوي بالرهبة، رهبة الخوف من مقارعة سلطان العلم بسلطان أضعف! جاء في الرأي الأول قوله: "السماوي واحد من ابرز الشعراء المعاصرين الذين هضموا التراث الشعري العربي، وأفادوا من حالات الإشراق فيه، إلى جانب أن دائرة اكتسابه الثقافي والمعرفي واسعة ومتجددة، وتستحضره عند كل عملية ذكية في التلقي". [[مقدمة المجموعة، ص9]]]
وجاء في الثاني قوله عن السماوي: "أما ذائقته الموسيقية فهي من العلو بحيث لا يتربع معه على قمتها غير قليل"[[مقدمة المجموعة، ص9]]]
وجاء في الثالث قوله: "معظم قصائد هذه المجموعة لا تحتمل التأويل، أي لا تحتمل أي شرح أو تفسير، أو تحليل، وينبغي إبقاؤها بعيدة عن أقلام من يخدشها". [[مقدمة المجموعة، ص10]]]
وأنت مطلوب منك أن تنفذ من بين هذه الآراء لتعطي رأيا جديدا مختلفا أو تسكت دون ان تثير ضجيجا. من هنا تجدني متسلحا بحبي واحترامي لهاتين الشخصيتين القريبتين إلى نفسي لأندفع من خلال مسامات هذا الحب، كما يرشح الماء من بين حبات الرمل، عسى أن أجد ما غاب عن الدكتور عبد الرضا علي، ولا أظنه قد غاب عنه شيء، لأشير إليه بإصبع الفرح وعلامة الانتصار، ولا أظنني سأجد شيئا!.
ولقد شعرت بالعجز الكبير أن أحيط بكل ما جاء في هذه المجموعة المليئة بأسرار مرحلة النضج السماوي، ولم أجد امامي مناصا من أن أكتفي بالتحدث قليلا عن إينانا في هذه المجموعة، ربما لأن السماوي بدء رحلته بالحديث عن هبوط إينانا، وإينانا هذه هي آلهة السماء والمطر والحب في الأساطير السومرية، وقد عُدت إينانا ابنة لـ(آن) رب السماء في اوروك، وفي نصوص أخرى ابنة لرب القمر (نانّار) وربة القمر (نينجال) وقد حملت إينانا في النصوص الأكدية اسم عشتار، وتابعت ذلك في النصوص البابلية والآشورية والأوغاريتية.
هذه الافتتاحية تكاد تشير إلى صلة تربط بين السماوي وحضارات العراق:
شقت ظلام الليل إينانا
فأيقظت المرايا
ألبستني بردة الفرح المؤجل[ص13]
وهي الصلة التي أوصلته إلى بدايات حضارة الإسلام "منذ عام الهجرة الأولى"[ص13] ثم نقلته إلى حيث الجغرافيا الأحب:
الماء الفرات
وسيد الشجر
النخيل[ص13]
لتوصله بعد ذلك إلى لحظة البوح الذي ينزف وجع السنين التي حولته من مطارد في بيته، إلى مهاجر حيث لا وطن، إلى الغربة، وضياع ملامح الأهل والأحباب والنخل والتراب وتنور الأم وأهازيج الوالد، وصولا إلى حيث تتربع السماوة على شغاف قلبه يعيش ليلها مع من يحب من الأصدقاء:

وعن السماوة
والظباء الفاتنات
.
.
وحدي وقاسم كنت في قصر الغدير
مهرولين وراء قافية
ونطنب في الحديث عن البلاغة والبيان[ص14]
وحتى هذه الرفقة تكاد تنتهي مثلما انتهت مسيرة وجعه ليعود وحيدا:
قبل انتصاف الليل
آذن بالذهاب إلى جنائن بيته الضوئي قاسم[ص14ـ15]
ولأنه شاعر أدمن التوجس، فهو الذي يعرف الوحدة ويجيد اللعب على أوتارها الحزينة:
فاقترحتُ عليَّ أن أبقى معي
لأعيد ترتيب الهموم
عساي أطفئ من حرائقها القليل[ص15]
هذه العسى التي لم يتحقق حلمها يوما وما زادته إلا غربة وتألما، دفعته عنوة ليفك الارتباط بأمس لم يورثه سوى الندامة والتوجع:

فاحزم فؤادك
وأخلع الأمس المقرح من كتاب اليوم
وأدخل آمنا غدك
الجميل[[ص17]]]
ولكن حضارات الأمس التي يتصارع موروثها في يقينه دفعه لأن يخلع عنه سطوته عسى أن يكون هو؛ الذي يعرف نفسه ولكنه سرعان ما أدرك أن زواجه بالموروث زواج نصارى لا انفصال فيه فأنشج:
اليوم قد أكملت عشقك، قال عشقائيل باسم
السومرية
وارتضيتك أن تكون لي الرسيل[[ص17]]
إينانا وكل ربات اليوم اللائذ بالظلمة، الغائر في عمق التاريخ لم تفارق محياه، فرسم صورا أخرى لميلاد إينانا[[ص18]]ُ] التي توحدت بأرض السماوة:

في أرض السماوة
يوم حط على سريري
هدهد البشرى بأول زخة عذراء
من مطر الهديل
فثملت من خدر
فما أدري أكان الوقت صبحا
أم أصيل
كل الذي أدريه أني صرت غيري
لم يعد حجرا جناحي
والسماء قريبة مني[[ص21]]
وعلى مر القوافي كانت السماوة هي إينانا التي يبثها الجوى، بعد أن نجح في خلط الماضي بالمستقبل في لحظة حاضر مترع بذكريات الطفولة والشباب:

خلعت خريفي
فارتديت من الفصول
ربيع إينانا المسيج
بالفصيل
فإذا ببادية السماوة واحة
والنهر طرز بالزوارق
والضفاف تفيض بالنسم
العليل[[ص23]]
تتردد إينانا وكأنها أيقونة العشق السومري التي اتخذها السماوي حرزا، فهي: "تحتال إينانا على قلقلي...فتشغلني برشف ندى زهور اللوز" وهو حتى حينما يكون: "بشغل عن هموم الأمس.. أقطف ما أشاء من القطوف الدانيات..فحيت ملت إلى يديَّ قطوف إينانا تميل"[[ص26]]]
ورسم صورا أخرى لوصايا إينانا[[ً27]]] التي رسم من خلالها صورة واضحة الرتوش له شخصيا وللأخلاق السامية التي يحملها، وتحدث عن فردوسها بعنوان "قبل دخولي فردوسها"[[ص35]]]
سألتني قبل أن تدخلني فردوسها الأرضي
إينانا
وترضاني نديما
سادن المحراب
محراثا لتنور رغيف الانتشاء
ما الذي أغواك بي؟
قلت:
الذي أغوى بـ"شامات" فتى الغابة أنكيدو
وأغوى الملك الجبار كلكامش
عن العشب الذي ينجيه
من ذئب الفناء[[[ً35]]]
أما في "الوصية"[[ص42]]] فتجد حوارا بين السماوي وإينانا:

أذكر يوما سألتني إينانا
ماذا توصي حين تموت؟
قلت
سأطلب أن يوسع قبري شبرين
وأن ينسج لي كفن خوصا
ومن الجريد التابوت
ويعطرني منك زفير
وهديل يلبسني ثوب سكوت
وفي هدهد البشرى[[ً42]]] اعتبر إينانا هدهد البشرى الذي أنبأني .. من بعد غي.. أنني صرت رسول العشق.. في وادي المنى.. معجزتي .. المشي على صدرك، لا البحر.. بخفي شفتي[[ص48ـ49]]
انزوى بعد ذلك ليتضرع في محرابها:
للسومرية ربة الأمطار/ والعشب/
والجمال/ العشق، إينانا طباع النهر
حين تسير
تأبى الالتفات إلى الوراء[[[ص51]]]
وفي حديثه عن حبل إينانا[[ص61]]] وعن المطر الذي ألجأه إلى الدخول لحانة ليجلس قرب موقدها وقدوم النادلة إليه:

شقت قميص الصمت نادلة
فألقت بالتحية
وانحنت
فرأيت من شق القميص حمامتين
ومس وجهي، أو يكاد يمسه طرف الجديلة
وضعت امامي قهوة تركية
واستدركت
هل من مزيد؟
قلت: قطعة سكر أو قبلة
ضحكت
وكادت أن تمد فما إلي
وأردفت
شفتاي أم مقلي الكحيلة[[[ص62ـ63]]]
ومن ثم دعوة النادلة له ليبيت لديهم، تذكر إينا وكأنها ترقب كل حركة يأتي بها:
أوشكت لولا
فارتجفت
ظننت إينانا تراقبني
فخفت عليَّ
من نزق الكهولة
فيم ارتجافك
قلت
من قلبي يشي بي عند إينانا
فإن الله
خص لكل رب سومري مثل إينانا رسوله[[[ص65ـ66]]]
ثم بعد أن تحدث عن بيع عروة بن الورد حصانه، وشمشون الذي اشترى جارية ليهرب من دليلة، أراد ان يصرح بحقيقة علاقته بإينانا فقال:

وأنا اعتصمت بحبل إينانا
أبشر بالبيادر جثة الصحراء
والأنعام والمرعي
ومملكة العوانس والطفولة[[[ص70]]]
وفي حزمة قصب سومري[[ص79]] تحدث عن إينانا واحدة وعن شامات، كلكامش، انكيدو، أوروك، وخمبابا، ومن خلال ذلك أراد ان يصف ساعات القهر التي مرت به:

وأنا حافي القلب
أفتش عني
منطفئ العينين
نداماي الأموات
حين رأتني
ذات سماوة حزن
أتوسد مشحوفا مهجورا
.
.
هبطت إينانا منقذة
فغدت دجلة
وأنا صرت
فرات[[[ص82]]]
وفي شراب من هديل[[[ص85]] نسب إلى إينانا أنها هي التي أبدلت بؤسه نعيما:
قبل أن تومي لي
أن أدخل الفردوس إينانا
وتسقيني شرابا من هديل
ورغيفا من حنين
كنت سجاني وسجني
وسجيني
وعدوي في حروبي
بين عقلي وفؤادي
ويساري ويميني
أعرف الله
ولكن
لم أكن أعرف ديني[[[ً85ـ86]]
أما في أزف الوداع[[[ص94]] فإنه جمع كل ما لديه ليقيم لإينانا مأدبة:
فأقمت مأدبة
على شرف التي أحيت رميم الطين إينانا[[[ص95]]] فقابلته بالإحسان:
مدت إلي بعشقها طوق النجاة
وكنت قاب الجمر أو أدني
من الحطب المهيأ للحريق[[[ص97]]
لقد كانت إينانا ذلك الرمز التراثي القديم الذي قدسته حضارات العراق هي اللقطة الرائعة التي وظفها السماوي في مجموعته هذه لتكون التاريخ والجغرافية والوطن والبيت والحبيبة والحياة كلها، كانت الملاك الحارس الذي يتنقل معه في مغامراته التي قادته بعيدا ليبقى سنينا يذرف الدمع على السماوة التي كانت يعبدها وكل ما يحبه فيها من أهل وخلان، وهي كانت ما أراد قوله في خلاصة الحياة[[ص111]]
منذ دهر
وأنا أركض وحدي
في سباق الفوز بالجنة او بئس المصير
مرة يسبقني الليل وأخرى أسبق الصبح
وفي الحالين
وحدي أركض الأشواط مجهول المصير
ليتني أعرف هل كنت بها الأول؟
أم كنت الأخير؟
آخر ما أريد التطرق إليه هو أن شعر السماوي فاز في كثير من الملتقيات العربية والعالمية الكبرى على مدى سنوات، ومن ذلك فوز ديوانه "قلبي على وطن" بجائزة الملتقى العربي في أبها عام 1992
فوز ديوانه "هذه خيمتي .. فأين الوطن" بجائزة الإبداع الشعري برعاية جامعة الدول العربية عام 1998 وعام 2008
فوز  ديوانه "نقوش على جذع نخلة" جائزة البابطين لأفضل ديوان شعر عام 2008
فضلا عن فوز السماوي بجائزة دار المنهل للقصيدة العربية وعدة جوائز أخرى منها درع ديوان العرب للعام 2007.
مجموعة نهر بثلاث ضفاف صدرت في حزيران 2019 عن دار تموز ديموزي، لوحة الغلاف بريشة الفنان عبد الله الشيخ، وهي من إصدارات مؤسسة المثقف العربي/ أستراليا بواقع 146 صفحة لا يمكنك تجاوز إحداها، وستجد نفسك مجبرا لإعادة قراءة كل صفحة منها مرات ومرات.

(*) من الذين كتبوا عن تجربة السماوي الأدبية:
الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور عبد الملك مرتاض، الدكتور عبد العزيز المقالح، الدكتور عبد الله باقازي، الدكتور غازي القصيبي، الدكتورعبد العزيز الخويطر، الدكتور جميل مغربي، الدكتور حسن فتح الباب، الأستاذ يس الفيل، الأستاذ فاروق شوشة، الدكتور محمد جاهين بدوي، الأستاذ حسين الغريبي، الدكتورة فاطمة القرني، البروفيسور توماس شابكوت، الأستاذ روب ووكر داون كولسي، الأستاذ انطوان القزي، الأستاذ شوقي مسلماني، وكثيرون غيرهم.

72
المنبر الحر / العمامة والشاعر
« في: 17:46 13/06/2019  »
العمامة والشاعر
صالح الطائي
تعامل العمامة مع الشعر عموما يبدو محدودا ومقتصرا على أغراض معينة محدودة، منها ما له مساس بالعمل التعليمي الحوزوي مثل شعر الأرجوزة التعليمية التي تسهل الحفظ، وشعر المناسبات وهو شعر يقترن عادة بمناسبة دينية أو وطنية وشعر الرثاء، وأرخنة بعض الحوادث والمناسبات شعرا، أي كتابة تاريخ مناسبة ما شعرا وفق حساب الجمل. وبالتالي بدا شعر العمامة بعيدا عن كل نواحي وأغراض الشعر الأخرى.
فضلا عن ذلك تنظر الحوزة العلمية إلى الشعرـ وهذه حقيقة قد تزعج البعض، فلا يرضون عنها ـ نظرة دونية أو في الأقل تعطيه هامشا صغيرا من اهتماماتها، يبدو أصغر كثيرا مما يستحقه، ربما لأن أغراض الشعر ولاسيما الغزل والخمريات النصية وليست الاستهلالية تتعارض مع خط الحوزة الديني.
وفق تلك الرؤى يبدو مستعصيا على العمامة أن تكون شاعرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وقد أفردت هذه الحالة المتناقضة، حالة الشاعر والعمامة ثلاثة اتجاهات متناقضة تخص ثلاثة رموز شعرية لازال التاريخ يشهد ببراعتهم وحنكتهم وإجادتهم فن الشعر وهم: الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، والعلامة الكبير محمد سعيد ألحبوبي، والدكتور الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين. فهؤلاء الرموز الشوامخ كانوا جميعهم قد بدأوا حياتهم بالدراسات الدينية الحوزوية، وكانوا ثلاثتهم قد لبسوا العمامة في مراحل متقدمة من أعمارهم، تعود إلى مرحلة الطفولة تحديدا.
والمعروف أن لبس العمامة، وتحمل تبعات تقاليدها في مرحلة الطفولة، مرحلة بدايات تكون الوعي، فضلا عن أجواء المجتمع ألنجفي المغلق والمتشبع بالعلوم الدينية وبحوثها، ثم العيش مع رجال جل همهم معرفة المسائل الفقهية وحلولها، مع انشغال الجميع بهم مشترك واحد بعيدا كل البعد عن كل الهموم الهامشية الأخرى، يترك أثرا واضحا على بناء وتكون شخصية ذلك الطفل. فضلا عن أن أجواء الحوزة العلمية وتلك الجدية والصرامة التي تسيطر عليها، تبدو وكأنها تضع قيودا ثقيلة على مجرد سماع بيت من الشعر، بله نظمه وتقفيته والتغني فيه، هذا في وقت كانت شياطين الشعر تتقافز في داخل هؤلاء الرجال الثلاثة وتثير في نفوسهم صراعا فوضويا عارما معربدا يبغي التحرر والتمرد والتخلص من قيود البيئة والملبس والموروث والمحيط، والحفاظ على هيبة وقدسية وصرامة العمامة، أي الجمع بين النقيضين!.
في هذه المرحلة عاش كل واحد من الرجال الثلاثة صراعا فكريا صعبا وشرسا وضعهم في نهاية المطاف أمام أحد خيارين: إما أن يبعدوا صنعة الشعر عن بالهم ويتفرغوا إلى دراسة الفقه والعلوم الدينية وحدها، لأنهم يعلمون أن العمر مهما امتد لا يغطي حقول المعارف الفقهية، بما لا يسمح بالانشغال بأي موضوع آخر سواه لمن يريد أن يختط خطه. وإما السير خلف دلال القوافي وسحرها وغنجها، وترك دراسة الفقه لمن لا يشغله الشغف بالشعر. الجميل في هذا الموضوع أن كل واحد منهم حسم هذا الصراع بطريقته الخاصة، وهو  حسم كان يحتاج إلى كثير من الشجاعة والجرأة، حيث:
خلع الجواهري عمامته ساعة أدرك أنها تعيق انطلاقته الشعرية، وتُحدُ من أفق طيرانه في دنيا القوافي.
وقبالته بادر محمد سعيد ألحبوبي إلى خلع هوس الشعر من باله، والابتعاد عن دنيا القوافي والاحتفاظ بالعمامة، يوم وجد أن الشعر يبعده عن دنيا العلوم الدينية التي يرى في نفسه ميلا إليها.
أما السيد مصطفى جمال الدين فقد عاش تجربة تحد أخرى، حيث أحتفظ بالشعر وبالعمامة كلاهما، يوم وجد في نفسه قدرة على الموازنة بين مطالب العمامة واستحقاقاتها وبين مطالب الشعر وأجوائه، بحيث يتقاسمان الحياة والعيش في حياته وعيشه، فلا يتعدى الشعر حدوده ليسلب العمامة حقها، ولا تأخذ العمامة من الشعر حقا يقيد إبداعه ويحد من حراكه.
ومن خلال هذه الموازنة الفريدة أصبح مصطفى جمال الدين فقيها شاعرا، وشاعرا فقيها، يجمع بين العمامة والشعر، ولهذا قال: "هذه صحائف شاعر يقدس الشعر ويقدس الشرع"، فكانت عمامته عمامة شاعرة كما هي عمامة فقيهة مجددة، وهذا الأمر من النوادر التي قل حدوثها في المجتمع الحوزوي عبر التاريخ، رغم أن أغلب الحوزويين كانوا يجيدون نظم القوافي ويحسنون صنعة الشعر.
رحم الله الجواهري والحبوبي وجمال الدين فقد أغنوا ذاكرتنا بجمال كثير، واعطوا مثالا تاريخيا على أن للإنسان قدرة التحكم بالاتجاهات وفق رؤى الروح وما تعشق، فالجمال قد يكون في العمامة أو في القصيدة أو فيهما كليهما.

73
الحجاب الإسلامي والكباه اليهودي
صالح الطائي
للرموز الدينية قدسيتها، وما من دين إلا وقد اتخذ رموزا لديانته، وشعائرا لتعبده،  أو أتخذ متبعوه رموزا لهم من بيئتهم ومجتمعهم، اختفى بعضها، ولا زال بعضها الآخر صامدا يفرض نفسه على الحياة اليومية لأتباع ذلك الدين، والأتباع أنفسهم ارتبطوا بتلك الرموز بعد أن شعروا من خلال وجودها بالأمن والراحة وحتى الانتصار.
فاليهودية مثلا فيها: النجمة السداسية، والمينوراه أو (المنورة)، وهو شمعدان سباعي ذو سبعة شمعات، والكباه، والميزوزة، وهو  كيس قماشي صغير مزركش يعلق على الباب الرئيس من الداخل، والهامسا وهي على شكل كف اليد، وتدل على الاسفار الخمسة أي التوراة.
والمسيحية فيها: الصليب، واللبرومة، والسمكة التي استخدمت للدلالة بشكل سري على اسم المسيح، والأيقونات، والمسبحة الوردية، والحمامة، التي تمثل عندهم الروح القدس، والراعي الصالح، كرمز للمسيح، والبيضة، التي تمثل وجود المسيح في القبر. والحرفان الأولان من اسم المسيح باليونانية، والحرفان الاول والاخير من الابجدية اليونانية، وهما (الفا واوميكا)، كرمز للمسيح الذي هو الاول والاخير؛ الذي سياتي في اخر الزمان، ورسم على شكل المرساة كرمز للوجود الدائم، وطير العقاب، وورقة الشجر الثلاثية الحافات، والديك، والفراشة، والوردتان الحمراء والبيضاء معا، وكذلك طير العنقاء الاسطوري.
وفي الديانة الاسلامية هناك: رموزا مادية وأخرى طقسية، من الرموز المادية: الهلال الذي يوضع على مآذن المساجد والهلال وفي داخله نجمة الذي استخدمته الدولة العثمانية علما لها وورثته منها تركيا التي وباكستان وشعار السيف يوضع على الرايات وكلمة الشهادة وتحتها السيف كما في العلم السعودي واللونين الاخضر والاسود. أما المعنوية فكثيرة جدا يهمنا منها في هذا الموضوع الزي الخارجي الذي تلبسه المرأة المسلمة، والمسمى "الحجاب".
وسأختار من الديانة الأولى أحد الرموز لأقارن موضوعه برمز من دين الإسلام، لأثبت من خلال ذلك أن القوى العظمى هي التي خلقت روح الكراهية بين العقائد وأتباعها. الرمز اليهودي هو الكباه أو اليارمولكة ومعناه: القبة،  وهو واحد من أهم رموز الديانة اليهودية، يرتدونه أثناء أداء عباداتهم وطقوسهم وشعائرهم، ويُبلسوه لمن يزورهم، إذا أراد الوقوف أمام حائط المبكى، سواء كان رئيسا أم مرؤوسا، حتى أنه تحول إلى رمز للديانة اليهودية يلبسه كبار رجال الدولة في زياراتهم للدول الأخرى ويلبسه ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهو عبارة عن قبعة صغيرة (طاقية) بالعراقي (عرقجين) سوداء اللون، ترسم عليها عادة نجمة داود، توضع على وسط الرأس، ولم أسمع أن هناك منظمة أو مؤسسة أو دولة اعترضت على لبسه أو وضعت له قوانين تمنع لبسه في الجامعات مثلا  أو كان لها رأي فيه، بل إن الكثير من رؤساء الدول الكبرى لبسوه أو ألبس إليهم عند زيارتهم لإسرائيل منهم كلينتون وأوباما وترامب..
قبالة ذلك هناك الحجاب الإسلامي وهو أحد رموز ديانة الإسلام يجب على المرأة وفق أغلب الأقوال ارتدائه، حتى أنه تحول إلى رمز للمرأة المسلمة، ومع ذلك هناك الكثير من الدول الغربية والمؤسسات والمنظمات التي سنت قوانين تمنع ارتدائه إلى درجة أن إحدى الدول الأوربية منعت الأمهات من ارتدائه والذهاب لجلب أبنائهن من رياض الأطفال أو المدارس.
فكيف نجحت اليهودية في تحويل رمزها الخاص بها إلى رمز عالمي مقبول، ولا اعتراض عليه، وفشلنا في أن نحصل على موافقات لتلبس نساؤنا رمزها الإسلامي دون إزعاج أو اعتراض أو تهديد بالطرد أو الاعتداء؟
ألا يعني ذلك ان هناك ـ حتى مع وجود الكم الكبير من الحديث عن العدالة والمساواة والتحرر ـ تحيزا كبيرا وصل إلى حد التطرف الطائفي؟ وان على العالم أن يعيد النظر في رؤيته للوجود الإسلامي أو يعيد النظر في كل تلك الشعارات الإنسانية التي يتشدق بها.
وأنا لا أنكر أن الحجاب الإسلامي لو كان مقصورا على الرجال مثلما هي الكباه ما كانوا ليعترضوا عليه، بدليل أنهم لم يعترضوا يوما على لبس شيخ خليجي زارهم في عقر دورهم، ولذا أعتقد أن المقصود من وراء الحملة المسعورة ضد الحجاب هو التسبب في حرف نسائنا، لأن انحرافهن سيؤثر على نمط تربيتهن لأطفالهن، وأنا هنا لا أتهم اللواتي لا يلبسن الحجاب، ولكنها حقيقة يجب الانتباه لها! أما المسلمون الذين يؤيدون دعوات نزع الحجاب فهم متأثرون بتلك الدعوات المتحيزة أو موظفون لدى المشرفين عليها، أو مخدوعين بشعارات التحرر!.

74
إصداري الجديد "الحسين حاكما"
صالح الطائي
ليس مثل الحسين أحدا شرَّقتْ الأمة وغرَّبتْ في حديثها عن نهضته، فجميع النهضات تاريخيا كانت توصف وتصنف منذ اللحظات الأولى لها، مرة من قبل الحكام، وأخرى من قبل وعاظ السلاطين، وثالثة من قبل المؤرخين، حتى ولو كان التوصيف مخالفا للهدف المعلن الذي قامت من أجله، ربما لأن الحسين(عليه السلام) لم يكن شخصا عاديا، بل كان قد اختزل الرموز الإسلامية كلها في شخصه، فجده لأمه هو رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) وجده لأبية هو أبو طالب سيد البطحاء(رضي الله عنه) وأبوه هو أول الناس إسلاما وأقدمهم إيمانا وأكثرهم جهادا وأشدهم تمسكا بالعقيدة علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأمه هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء البتول(عليها السلام)، وقد جمع الشرف كل الشرف من أرقى مواطنه وأعلى مناهجه وازكى أصوله وأطيب منابته وأعرق جيناته، فكان أوحد زمانه على وجه الأرض، لا ابن نبي غيره على وجه البسيطة، فهو النسغ الصاعد لآخر الأنبياء والرسل.
وحتى مع وجوب أن تشفع هذه الصفات له لتضفي عليه قداسة الرمز الديني، وهذا ما كان واضحا حتى في سلوكيات الذين حشدوهم لقتاله، حيث التردد كان باديا على تحركهم، نجد هناك من أباح قتله دونما تردد أو وجل، فهو وفق رؤية هؤلاء ليس أكثر من ثائر متمرد خارج على القانون، قتل بسيف جده!
وأعتقد أن هذه الرؤية بالذات فضلا عن الكثير من الجزئيات المهمة الأخرى؛ هي التي دفعت الجانب الآخر ليضفي القدسية المطلقة على كل حركة قام بها الحسين منذ لحظة ولادته الميمونة وإلى لحظة استشهاده وإيداعه التراب.
ووفق خارطة الأحداث لم يعد خافيا الانشقاق الكبير الذي تركه مقتله على كيان الأمة ووجودها، إذ أصبح التوهين بموقفه، مع البحث عن أعذار لقاتليه وللخليفة الذي أمرهم بقتله منهجا معلنا وصريحا لإحدى الفئات. وأصبح تقديسه ابتداء وإعطاء الحق الكلي له ابتداء ولوم بل ولعن من اشترك بقتله، هو المنهج المعلن الذي تتبناه الفئة الثانية.
في مرحلة المواجهة الفعلية، كانت كل فئة تبحث عن دواعم لمنهجها لكي تنصره، بالبحث في كتب التفسير والحديث والتاريخ والفقه والرأي، ومن ثم العمل على إعادة صياغة تلك الرؤى بما يتوافق مع منهجها. وفي هذه المرحلة تدخل الرأي بشكل فاعل في إعادة كتابة وتشكيل الأحداث، ووظفت الأحداث الصحيحة والمختلقة لتقوية أواشج القربى والاحتكاك بين الأتباع والعقيدة، فكلما كان الأتباع أكثر قربا كان من السهل توجيههم إلى الجهة التي ترتأيها القيادات العليا والوسطى وأجهزة الإعلام.
تسبب هذه الصراع في دخول الكثير من الدخائل إلى المناهج العقدية للفئتين، مما ولد عداء ظاهرا وخافيا كان يدفعهم إلى البحث عن دواعم للخطوط العامة. وكان الفقه الشيعي هو الاكثر احتكاكا وتعاملا مع واقعة الطف لأسباب كثيرة جدا لا مجال لذكرها ـ في الأقل ـ لأن الحسين هو الإمام الثالث في سلسلة أئمتهم الاثني عشر (عليهم السلام) ولهذا كانوا يهتمون بالحديث عن مظلوميته كجزء من منظومة المظلومية الشيعية الكبرى، وهذا دفع البعض إلى استنباط رؤى جديدة للنهضة الحسينية ليست من أصلها، ولا تمت لها، ولكنها وجدت من يستسيغها ويتقبلها. ودفع البعض الآخر إلى البحث عن قواعد فقهية تكفر من يتقبل تلك الرؤى.
يعني هذا أن من يروم الكتابة عن الحسين(عليه السلام) سوف يصطدم بهذه الاتجاهات لا محال، وهذا أمر شائك فيه الكثير من المخاطر، ومع ذلك آليت على نفسي أن أتابع رؤى كل الفرق، وأن أتخلى وأبتعد كثيرا عن نقول التاريخ، وأتسلح بفلسفة التاريخ، وأطلق العنان لعقلي ليتصور تلك النهضة العظيمة، وفق قواعد العقل والمنطق بعيدا عن مجال العاطفة وتأثيرها، في محاولة مني لفهم النهضة وإشاعة هذا الفهم، لأن الفهم وحده له قدرة تخفيف الأزمات وتلطيف الأجواء المأزومة، وتقريب الرؤى، وفتح المنافذ لإعادة التفكير في بعض أشد الأمور خطورة، ولاسيما تلك التي باعدت بين فرق المسلمين، ووضعت بينهم حواجز اسمنتية عالية جدا، لتفصل بينهم إلى الأبد.
وفق هذه المنهجية اشتغلت كتابي الموسوم "الحسين حاكما" الصادر عن دار المتن البغدادية، وقد خرجت بنتائج تخالف الخطأ الشائع، وتقترب من الصحيح الضائع، فهي على سبيل المثال ترفض أن يكون الحسين(عليه السلام) قد خرج بثلاثة وسبعين رجلا فقط، وتؤكد بالدليل أنه خرج بجيش  جرار مؤلف من عدة أقاليم إسلامية، وأن أغلب وحدات جيشه حِيل بينها وبين الالتحاق به، وأنه حينما وجد الميزان العسكري غير متوازن، طلب منهم الانسحاب والهرب لينجوا بحياتهم، وليتحمل لوحده تبعات ذلك الحراك..
ومنها الحديث عن ما يسمى بمحاورات أو مفاوضات كربلاء؛ التي ادعوا فيها أن الحسين بعد أن أحيط به تقدم إليهم ثلاثة شروط هي:
إما ان يسمحوا له بالعودة من حيث أتي.
أو يرسلوه جنديا بسيطا كأي جندي آخر إلى أي ثغر من ثغور المسلمين.
أو يرسلوه إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ليرى رأيه فيه.
حيث فندت بالدليل القاطع ما قيل عن هذه المفاوضات المختلقة، وأن كل ما قيل عنها إنما هو مجرد حراك إعلامي تسقيطي لا وجود له على أرض الواقع.
ومنها حديثهم بأن الحسين إنما خرج لطلب الإصلاح لا للحرب، حيث أثبتُّ وبالدليل القاطع أنه خرج للإصلاح عن طريق الحرب والاستيلاء على الحكم، ولا شيء آخر غير ذلك، فهو كان يخطط لتأسيس دولة إسلامية في العراق والشرق الإسلامي، ويترك لبني أمية دولة في الشام وفلسطين ومصر فقط، لأنه من غير المعقول أن يبدأ بالإصلاح من على منابر ترفرف عليها راية حكومة يزيد، بل إن الحكومة نفسها ما كانت لتسمح له بالتثقيف بمنهج يخالف منهجها.
لقد حاولت في هذا الكتاب أن أتحدث عن حقائق ليست خافية على أحد ولكن الأغلبية يحجمون عن التحدث عنها، ولذا اضطررت الى التحدث عن الدولة من مرحلة النشوء إلى هيمنة السلطة، ثم التحدث عن الخلافة من مرحلة النص إلى مرحلة الابتداع، ثم التحدث عن قاعدة الخلافة الشرعية، والأحكام والآداب السلطانية، ثم تحدثت عن علي بن أبي طالب من شرعية الخلافة إلى خلافة الظل والحسن من شرعية الخلافة إلى خلافة الظل، والحقبة المسكوت عنها، والهدنة بين الحسن(عليه السلام) ومعاوية التي هي كانت مجرد مثابة لإعادة ترتيب الأوراق، وبعد ذلك تحدثت عن الحسين، والحقبة المفقودة، وسنوات التخطيط، ومحاولات استرجاع الخلافة، وشرعية الخروج، وموجباته، ومؤشرات وجوب الخروج.
بعد ذلك تناولت الجزئيات المهمة بالبحث والتفكيك ومنها الحديث عن جيش الحسين وسياسته، وجيش الحكومة، والدعوة إلى الثورة، وسياسة الضد، ورواية إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، واختتمت البحث بحديث عن الحقيقة، الحقيقة التي عمل الجميع على تغييبها، والتي يجب أن نبحث عنها ونجدها ونزيل الدرن عن وجهها ونرفعها ليشرق نورها على أمة أدمنت الخلاف ونسيت كيف تتفق خلافا لما أمرها دينها به.
لقد جاء الكتاب جديدا بطروحاته وآرائه التي تمتد على مدى 379 صفحة من القطع الكبير، وقد صمم لوحة الغلاف الفنان العراقي المغترب الأستاذ بسام الخناق، له مني جزيل شكري وتقديري، وأجاد الأستاذ عامر الساعدي مدير دار المتن للطباعة والنشر في بغداد في إخراج الكتاب بحلة قشيبة، فله شكري وامتناني، وارجو أن أكون قد وفقت في طرح الآراء ومحاكمتها علميا وأكاديميا وحياديا بعيدا عن التشريق والتغريب... والله من وراء القصد... والحمد لله رب العالمين.

75
العراقيون وطقوس العيد
صالح الطائي
لا ينكر أن عادات وتقاليد أي شعب تتكون نتيجة التوارث عبر الأجيال، وأن لهذه العادات والتقاليد طقوسا تاريخية أغلبها عرضة للتغيير بسبب وجود بعض المتغيرات التي تطرأ عند التطبيق، سواء نحو الأحسن أو الأسوأ، وبعض هذه المتغيرات مأخوذة أصلا من الموروث نفسه وبعضها الآخر غريبة عنها ولا تمت لها بصلة، وهي عادة وليدة التطور المجتمعي والانفتاح على تقاليد وعادات الشعوب الأخرى، بما فيها الشعوب غير المسلمة، واليوم هناك الكثير من الدخائل في ممارساتنا الموروثة، نالت بعضها درجة القدسية، ولا نملك القدرة على تغييرها أو التنكر لها، أو الاعتراض عليها، ولاسيما منها تلك التي لها علاقة بالدين وممارساته!.
صيام شهر رمضان والاحتفال بعيده فضلا عن كونه أمر إلهيا ملزما، يعتبر تقليدا موروثا، وإذا ما كان الصيام بحد ذاته شعيرة دينية من فروع الدين، يجب أدائها للقادرين عليها، وإذا ما كان العيد نفسه مظهرا من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره، وهناك أحاديث ـ بغض النظر عن امتحانها ـ تدعو إلى الاحتفال بالعيد كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك، قال: "قَدِم النبي (ص) المدينة؛ ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما: يومَ الفطر والأضحى"، فإن هناك من يبيح الرقص والغناء في أيام العيد استنادا إلى رواية عن أمنا السيدة عائشة أم المؤمنين، قالت في صباح عيدٍ: دخل علي رسول الله(ص) وعندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي، فأقبل عليه رسول الله، فقال: دعهما، فلما غفل، غمزتهما، فخرجتا. هكذا رواه البخاري. أما رواية أحمد بن حنبل ففيها قول النبي(ص): "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ... لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، إني أُرسلت بحنيفية سمحة". وفي رواية أخرى أخرجها البخاري للسيدة أم المؤمنين عائشة، تتحدث فيها عن يوم عيد، يلعب فيه السودان بالدّرق (الدرع من الجلد) والحراب بجوار بيت رسول الله، وأنها إما هي سألت رسول الله(ص) وإما هو، قال لها: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدِّي على خده، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة" حتى إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي".
وهناك قاعدة فقهية لدى بعض المدارس الإسلامية ترى أن السنة في الأعياد أن يظهرها المسلمون ويعلنوا بها . وفي فتح الباري لابن حجر: "أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين". وربما لهذا السبب ونظرا لتنوع الثقافات، دخل الاحتفال بعيد الفطر في باب الطقوس والعادات والتقاليد أكثر من كونه شعيرة دينية.
وحينما يتحد الطقس مع الشعيرة، تجد الكثير من الابتداع، بل إن التهيؤ للعيد بحد ذاته فيه انفتاحا طقسيا يجتمع على رؤية واحدة حتى مع اختلاف جزئياته، لها علاقة بالشعيرة والطقس، ومن ذلك التهيؤ لرؤية الهلال لتحديد التواريخ، جاء عن عبد الله بن عمر قوله: "تراءى الناس الهلل، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله(ص) وأمر الناس بصيامه" وقد ورث المسلمون هذه الممارسة عبر التاريخ، حيث الحركة الجمعية المفاجئة للبحث عن الأماكن العالية والمنفتحة الفضاء لإمعان النظر في الأفق بحثا عن هلال الشهر الجديد، حيث كان طقس الصعود على أسطح المنازل والخروج إلى البراري لمراقبة ولادة شهر شوال أحد الأمور المهمة جدا التي يحرص أغلب الصائمين على العناية بها والمشاركة في فعاليتها، ولا زالت إلى الآن قائمة في بعض المناطق، بعد أن كادت تختفي بفعل تناقل الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهي وإن لم تعد لها تلك الأهمية إلا أني أتمنى لو أن الشباب أخذوا على عاتقهم ممارستها ولو لأغراض تخليد المناسبة لا أكثر بصفتها جزء من الموروث.
وكل الأمور الأخرى تتعلق بالرؤية نفسها، فإذا ثبتت الرؤية،  يبدؤون ـ ومشاعر الفرح والحزن تتصارع في وجودهم ـ بتوديع شهر رمضان من خلال ترديد كلمات مثل: (الوداع يا شهر رمضان، الوداع يا شهر الطاعة والغفران) حيث يتأكد لهم أن يوم غد هو أول أيام العيد، وانهم سيتحررون من السحور والامساك وتعب الصيام والفطور في أوقات محددة لا يجوز مخالفتها، لكنهم مع ذلك وتبعا لتقليد الشهر كانوا يتسحرون السحور الأخير، ويسمى (سحور اليتيمة) ويقال إن التسمية أخذت من كون هذه الليلة هي ليلة حزينة كحزن اليتيمة لأنهم سيودعون الشهر، وينتظرون عودته بعد عام كامل، وهناك من يرى أن بساطة السحور باعتبار أن يوم غد ليس يوم صيام يشبه أكل اليتيمة في بساطته ومن هنا جاءته التسمية.
من طقوس هذه الليلة أن رب البيت يقوم بإخراج مبلغ زكاة (الفطــــــــر) وهي مبلغ بسيط عن كل فرد من افراد العائلة حتى لو كان جنينا في بطن امه وحتى عن الخدم، وتدفع الزكاة عادة إلى الفقراء ليدخل الفرح إلى نفوسهم. ويقال إنها
شرعت لسببين؛ مثلما يتضح من قول عبد الله بن عباس الذي أخرجه الحاكم وأبو داود وغيرهم: "فرض رسول الله زكاةَ الفطر؛ طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين، من أداها قبلَ الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".

ومن طقوس ليلة العيد أيضا أن حمامات الأسواق كانت تزدحم بالزبائن، لأن البيوت في ذلك الزمن لم تكن فيها حمامات خاصة، ولذا كان الأهالي يذهبون إلى حمامات السوق العامة.
والجميع في هذه الليلة صغارا وكبارا كانوا يضعون ملابسهم الجديدة بالقرب منهم وكان بعضهم يضعها تحت الوسادة، وينهضون مبكرين للاحتفال بالعيد.
في صباح اليوم الأول للعيد يذهب الكبار عادة إلى الجوامع لأداء صلاة العيد، ومن ثم يذهبون إلى المقابر لزيارة الأموات، وهو تقليد لا زال متبعا.
وأما الصغار فيبدؤون بجمع مبالغ العيديات للذهاب إلى أماكن اللهو لركوب المراجيح ودولاب الهواء والفرارات وركوب العربات والحمير، وباقي الألعاب البسيطة الأخرى. ويتناولون الأكلات الشعبية مثل لفة بيض مع العنبة او لفة الفلافل والعنبة وغير ذلك.
أما الشباب فكانوا يذهبون إلى المتنزهات والسينمات المنتشرة في بغداد، حيث كانت السينمات تعرض أكثر من دور، وعادة تكون الأفلام هابطة وقديمة.
أما العوائل فكانت تذهب إلى سلمان باك وشارع أبي نؤاس والحدائق القريبة.
وفي صباح أول أيام العيد يبدأ أبو طبيلة بالدوران على المحلات والمناطق التي كان يوقظها للسحور ليجمع منهم العيدية. وقد أصبح هذا التقليد مزعجا ولاسيما للفرق التي تستخدم آلات موسيقية عالية الصوت مثل البوق والطبل الكبير والآلات النحاسية، ولذا أتمنى لو ألغيت هذه الممارسة واستعيض عنها بخروج بعض الشباب وهم يرتدون الأزياء الشعبية ويحملون أدوات موسيقية بسيطة في ليلة محددة من ليالي شهر رمضان، لكي لا يتذكر الأبناء هذه الممارسة التاريخية.
ومن الحقائق الجميلة في العيد ولاسيما في اليوم الأول منه، وذلك بسبب طيبة قلوب أهلنا، انهم كانوا يترقبون العيد للمصالحة بين المتخاصمين وتنقية النفوس، حيث كانوا يزورون من لا يتكلمون معه ويصالحونه فتنسى العداوات.
والملاحظ أن هذه العادات والتقاليد تكون قريبة من بعضها في الجنوب والوسط والشمال، تكاد لا تختلف كثيرا، إلا في بعض الجزئيات، وفي هذا دلالة على وحدة العراق وتشارك أهله في مراسيم أفراحهم. وأمنيتي أن تحافظ الأجيال على بعض هذا الموروث، وتستمر بالعمل به، وأن لا تأخذها التكنولوجيا الحديثة عن جذورها، فتتندم غدا لأنها لا تملك ما تورثه لأبنائها.


76
‏‎
عيد التعميد والمشترك الديني الشرقي
صالح الطائي

سبق وأن كتبت عدة مرات عن المشترك الديني في العقائد الشرقية من خلال تفسير الآية 19 من سورة آل عمران، في قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. موضحا أن الآية تقصد أن التسليم لله بالوحدانية هو أصل الرسالات، وإذا كان التوحيد جوهر تلك الديانات فهو الدليل على وحدانية مصدرها، وتوجب وحدانية المصدر أن تكون بينها مشتركات في العبادات والشعائر والطقوس. والمعروف عن الصابئة أنهم موحدون وفق عقيدة (سهدوثا اد هيي) وهي الاعتراف بخالق الكون، الواحد الأحد، الذي لا شريك لأحد بسلطانه.
ولأن إخوتنا الصابئة المندائيين سيحتفلون يوم 19/5/2019 بأحد أعيادهم المهمة، فمن الممتع أن نتحدث قليلا عن هذا الدين، وعن بعض مشتركاته مع الديانات السماوية الأخرى.
هذا العيد هو عيد التعميد الذهبي (دهفا أد ديمانا) ويقع في بداية كانون المندائي حسب التقويم المندائي؛ الذي يصادف يوم 19/5/2019 وفيه عمَّد جبرائيل(عليه السلام) الملائكة في عوالم النور العليا، واهدي التعميد لآدم وذريته من بعده، وفي مثل هذا اليوم تعمد نبي الله يحيى بن زكريا (عليه السلام). وتشبه هذه الشعيرة شعيرة التعميد في الديانة المسيحية، التي تعتقد أن نبي الله يحيى هو الذي عمد السيد المسيح(عليه السلام)، ولهذا الاشتراك سبب سيتضح لاحقا.
أصل هذه الشعيرة يعود إلى إشارة موجودة في الكتاب المقدس (كنز ربا) إلى التعميد تحديدا: بسم الحي العظيم (اصبغوا أنفسكم بالصبغة الحية التي أنزلها عليكم ربكم من أكوان النور)، ولهذا يؤمن المندائيون أن على الأسرة أن تقوم بتعميد الطفل المولود بعد ثلاثين يوما من ولادته، اذ يُعدُّ هذا الطقس ولادة روحية للطفل ليكون مندائيا. كما يجب على أبناء الطائفة التعميد في مثل هذا اليوم، وفي أيام عيد البنجة (البرونايا) لأن التعميد ركن أساس في عقائد الصابئة لتطهير الروح وتنقيتها مما لحقها من آثام، مثلما هو واجب على المرأة في يوم عقد قرانها وبعد ولادتها.
يؤدي عملية التعميد عادة رجل دين بمرتبة ترميذا أو كنزاربا أو ريشما، ورجل الدين نفسه عليه أن يتعمد في عيد التعميد للتأكد من نقاء الروح.

وللتعميد ملابس خاصة؛ تسمى (الرستة)، تشبه ملابس الإحرام للحج والعمرة لدى المسلمين من عدة نواحي، منها: الأولى: وجوب لبسها عند التعميد مثلما أوجب الإسلام لبس الإحرامات أثناء الحج والعمرة. الثاني: لونها الأبيض. والثالث: صناعتها باليد وعدم استخدام الغرز في خياطتها، وهذا من العوامل المشتركة بين الديانات الشرقية التي يظهر لك حينما تتعمق بدراسة طقوسها وشعائرها وكأنها جاءت من منبع واحد لغاية واحدة، أو كأن بعضها اقتبس من البعض الآخر وهذا دليل على وحدة الأصل والمشترك الإنساني.
وتجد المشترك واضحا في موضوعة الصلاة(ابراخا)، فالصلاة عند الصابئة مثل باقي الديانات التوحيدية  فرض واجب على كل فرد مؤمن، وهناك وفق تعاليم الكنزا ربا خمس صوات، ثلاث بالنهار واثنتان بالليل، تم اختصارها وفق تعاليم نبي الله يحيى إلى ثلاث صلوات نهارية، وغايتها التقرب من الله. جاء في الكتاب المقدس: (وأمرناكم أن اسمعوا صوت الرب في قيامكم وقعودكم وذهابكم ومجيئكم وفي ضجعتكم وراحتكم وفي جميع الأعمال التي تعملون).
ويشتركون مع المسلمين في الوضوء للصلاة، فقبل تأدية الصلاة يتوجب على الصابئي أن يقوم بالوضوء (الرشاما)، والوضوء في ديانة الصابئة يتكون من ثلاثة عشر قسما يبدئ بالرخصة وهي النية عند المسلمين، ثم غسل اليدين والوجه وجبهته والأذنين والفم والركبتين والساقين ووضع اليدين في الماء وغسل القدمين مع ترتيل مقاطع دينية مع كل قسم، فمثلا عند غسل الفم يقول: (ليمتلئ فمي بالصلوات والتسبيحات) وعند غسل الأذنين يقول: (أذناي تصغيان لأقوال الحي)، وهناك الكثير من القواسم المشتركة بين أقسام شعيرة الوضوء في الديانتين الإسلامية والصابئية، وفي الأدعية التي تردد أثناء الوضوء.
وكما هي الصلاة عمود الدين في الإسلام، تبعا لحديث: " الصلاة عمود الدين ان قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها" فهي كذلك عمود الدين الصابئي، الذي لا يقوم إلا بقيامها، وهذا مشترك توحيدي كبير.
أما الصوم فيشتركون به من حيث الكلية مع باقي الديانات الإبراهيمية، ومن حيث الجزئية يشتركون به مع الديانة المسيحية، ففي المسيحية صومان رئيسان: الصوم الكبير والصوم الصغير، فضلا عن أنواع صيام أخرى، وفي ديانة الصابئة صومان كذلك قريبا الشبه إلى صيام المسيحيين، وفي جزئية أخرى يشتركون به مع المسلمين الذين يوجبون صوم الجوارح، فوفق تعاليم الكنز ربا يعتبر الصوم إمساكاً عن القول والفعـل، قلباً وعقلا وضميراً، جاء في الكنز ربا: ( لِـتـَـصُم عـيونكم، وأفواهكم، وأيديكم.. لا تغـمز ولا تـَـلمز) و(لا تـنظـروا إلى الشّـر ولا تـَـفـعـلوه الباطل لا تسمعوه لا تنصتوا خلف الأبواب نـزهوا أفواهكم عن الكذب الزيف لا تقربوه أمسكوا قلوبكم عن الضغينة والحسد والتفرقة أمسكوا أيديكم عن القتل والسرقة أمسكوا أجسادكم عن معاشرة أزواج غيركم، فـتلك هي النار المحرقة أمسكوا ركبكم عن السجود للشيطان وللأصنام الزيف أمسكوا أرجـلكم عن السير إلى ما ليس لكم) وهي نفسها معمول بها في الصوم الإسلامي!.
ويشتركون مع الأديان الأخرى في تعدد الأعياد، فعيد التعميد هو واحد من أصل أهم أربعة أعياد في ديانة الصابئة، يليه في الأهمية: العيد الكبير (دهوا ربا)، وعيد الخليقة (برونايا)، وعيد الازدهار (دهفة حنينا)، ولديهم أيضا ثلاث مناسبات دينية أخرى، هي "أبو الفل"، و"أبو الهريس"، و"شيشان عبد".
وبمناسبة عيد التعميد الذي يصادف في هذه الأيام، يسرنا ويسعدنا أن نتقدم لأهلنا وملح أرضنا وإخوتنا الصابئة بأحلى الأماني وأجل التبريكات وأجمل الدعوات، متمنين لهم أياما حلوة مملوءة بالفرح والسعادة والسلام.



77
قطع الرؤوس ثقافة ليست غريبة علينا
صالح الطائي

اهتم الإسلام بالوراثة والتناقل الوراثي بشكل يفوق ما جاء عنها في الديانات والحضارات الأخرى، وكان القرآن قد اهتم بموضوع الجينات لأنها تمثل الجزء الأساس من خلق وتصوير ذرية آدم في الأصلاب، وهناك في الكتاب الكريم آيات كثيرة عن خلق الإنسان والأمشاج والماء والسلالة والطين وباقي التفاصيل.
وما تحريم الزواج بالمحارم، كما في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23]، إلا دليلا واضحا على اهتمام الإسلام بتناقل العادات من خلال الجينات، وهو ما أكد عليه شاعرهم، بقوله:

تجاوزتُ بنتَ العمِّ وهْي حبيبةٌ       مخافةَ أن يضوى عليَّ سليلي

ولرسول الله(صلى الله عليه وآله) أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وفي معنى التناقل الوراثي والجيني، منها على سبيل المثال لا الحصر قصة الرجل الأبيض الذي وُلد له طفل أسود على خلاف باقي إخوته، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فشكى له الأمر،:
فسأله النبي: "هل لك من إبل؟
قال: نعم،
قال: فما ألوانها؟
قال: حمر،
قال: فهل فيها من أورق(*)؟
قال: نعم.
قال له: فأنى ذلك؟
قال الرجل: لعله نزعه عرق
فقال النبي(صلى الله عليه وآله: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق!"
أما في المأثور العربي فهناك الكثير من الأحاديث والقصص عن مواريث عربية متداولة، منها قولهم: "من شابه أباه فما ظلم"؛ يقصدون أن ذلك كالحتم في شديد التعصب، وقولهم: "حتى الكَسر يشك فيه"، يقصدون أن الوراثة تصل إلى حد الشك بأن الكسر الذي يصيب شخصا ما قد يكون إرثا من آبائه!.
معنى هذا أن علم الوراثة Genetics ليس من العلوم حديثة النشأة، وأن ما قام به الراهب النمساوي "مندل" كان مجرد ابتكار لأسس وقوانين هذا العلم القديم، الذي تطور فيما بعد على يد "دي فريرز" و"باتيسون" و"مروجان" وآخرين غيرهم، فبدا وكأنه من العلوم الحديثة التي لم تكن معروفة من قبل!.
أما الصحيح فبدايات هذا العلم على مستوى جغرافيتنا تعود إلى العصر الجاهلي؛ الذي اهتم بتحسين نسل الخيول وتأصيلها، عن طريق التهجين، إيمانا منه بالوراثة وأثرها، والصفات التي تكتسب عن طريقها، كما اهتم ذلك المجتمع بنوع من أنواع الزواج، يعرف بنكاح (الاستبضاع)، وهو أن يرسل الرجل زوجه بعد طهرها من طمثها إلى  رجل مشهور من رجال ذلك المجتمع، عرف عنه النجابة والشجاعة والسؤدد، كي تستبضع منه، أي كي يلقحها فتحمل منه، وعندما تعود المرأة إلى منزلها، يعتزلها زوجها ولا يصيبها حتى يتبين حملها، رغبة منه في ولد نجيب تكون له الصفات التي يتمتع بها السيد.
وكانت عندهم القيافة، كما في قول القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات": "القيافة على ضربين: قيافة البشر، وقيافة الأثر: أما قيافة البشر فالاستدلال بهيئات الأعضاء على الإنسان، وأما قيافة الأثر فالاستدلال بآثار الأقدام والخفاف والحوافر". وهذا يعني أنهم كانوا يعتمدون على الصفات الموروثة لمعرفة الأنساب.
من هنا تجد الكثير من الإشارات إلى هذا العلم حتى مع كونه لم يكن مقننا، تجدها في كتب التراث العربي الإسلامي ولاسيما لكتاب مشهورين كالقزويني والجاحظ وشريف الدين الدمياطي وابن قيِّم الجوزية وابن الجزار القيرواني وغيرهم.
ومن الحقائق الدامغة أنهم كانوا يؤمنون يقينا خلال عصرهم الجاهلي وعصرهم الإسلامي وعصر دولهم الأموية والعباسية وما تلاها من حكومات بأثر الوراثة، ليس على هيئة وشكل المرء أو الحيوان فحسب، بل وعلى سلوكه وأخلاقه وسيرته وطباعه وشيمه، ولهم في ذلك الكثير من الروايات والقصص يطول شرحها، ويبعدنا عن جوهر مقالنا، لكن ما أريد الإشارة إليه كنوع من التواصلية الإرثية، ما ورد في معلقة عمرو بن كلثوم في قوله يفتخر بقومه:

يُدَهدونَ الرؤوسَ كما تُدهدي         حَزَاورةٌ بأبطَحِهَا الكُرِينا

وفي كتابه "شرح المعلقات السبع" قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، في الصفحة 321 والرقم 93، في شرحه لمعلقة عمرو بن كلثوم:
الحزور: الغلام الغليظ الشديد.
ومعنى البيت: يدحرجون رؤوس أقرانهم وأعدائهم كما يدحرج الغلمان الغلاظ الشداد الكرات في مكان مطمئن من الأرض!.
إن قطع الرؤوس بحد ذاته كان أمرا فاشيا في ذلك المجتمع وبشكل مقزز، والحديث عنه يملأ كتب الحديث والغزوات والتاريخ والأحكام وغيرها، وقد اخترت رواية من كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي، ج ٦/ ٣٣٦، لغرضين الأول: التأكيد على فشو هذه الظاهرة. والثاني: اعتقادهم الشديد بكافة أنواع التوارث! والرواية عن الشعبي، إنه كان جالسا في مجلس عبد الملك بن مروان حينما دخل الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين! ما رأيت شيئا هو أعجب من هذه الأمور، قال عبد الملك بن مروان:
وما ذاك يا شعبي؟
قال: دخلت هذا القصر فرأيت عبيد الله بن زياد في موضعك هذا قاعدا، ورأس الحسين بن علي بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك، فرأيت المختار بن أبي عبيد قاعدا في موضعك هذا، ورأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك فرأيت مصعب بن الزبير قاعدا في موضعك هذا، ورأس المختار بن أبي عبيد بين يديه، وقد دخلت الآن، فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك!
 فقال عبد الملك بن مروان: صدقت يا شعبي! ولله عز وجل في أمره تدبير.
قال: ثم وثب عبد الملك بن مروان قائما ودعا بدابته، فركب، وخرج من القصر، حتى صار إلى الموضع يقال له النخيلة فنزلها، وعرضت عليه قبائل العرب هنالك، ففرض لكل قوم من المال على أقدارهم.
فتصرف الخليفة بهذا الشكل المملوء بالخوف، وهزيمته إلى خارج الكوفة بحد ذاتها تدل على أنهم كانوا يؤمنون بالتوارث بأنواعه بما فيه توارث المواقف والأحداث.
انتقل هذا الموروث عبر الأجيال، وتوارثه العرب ومارسوه ليس مع أعدائهم الحقيقيين فحسب، بل حتى مع أعدائهم المحتملين، وقد شاءت الأقدار لنا أن نعيش فصلا من فصول مسرحيته الدموية بكل جزئياتها، أي ليس من خلال عمليات الذبح التي عرضت على قنوات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل وطريقة التعامل مع تلك الرؤوس التي استعادت من ذاكرتها التاريخية لعب حَزَاورة عمرو بن كلثوم بالرؤوس، فلعبوا بها هم، ولعب بها أطفالهم مثلما يلعب الناس بالكرة، حيث تداولوا الرؤوس بأقدامهم وهم يتضاحكون، وأعطوا لأطفالهم رؤوسا بشرية ليلعبوا بها كرة قدم(**) تماما مثلما فعل أجدادهم من قبل.
النكاية كل النكاية، والأسف كل الأسف أن الكثير من أجدادنا كانوا علماء في أغلب مجالات العلم، وقدموا للإنسانية فضائل وجمائل لا زالت تتغنى بها الأمم، ولكننا ـ خلافا لقاعدة التوارث ـ لم نرث منهم شيئا في هذه المجالات، ولكننا ورثنا عنهم ـ وبامتياز كبيرـ اللعب بالرؤوس البشرية مثلما يُلعب بكرة القدم، ومارس المتطرفون منا هذه اللعبة في القرن الحادي والعشرين، قرن التحضر والتقدم والعلوم! بمعنى أن الجاهلية لا زالت قريبة منا نستدعيها ونستدعي سننها متى شئنا، ومن هنا يصعب علينا التأقلم مع الشعوب الحرة واتباع المناهج الإنسانية في التعامل مع الآخر المخالف بالرغم من دعوة ديننا إلى وجوب المحبة والتعايش والسلام بين الأمم.


(*) الأورق من الناس: الأَسمرُ، ومن الحيوان: ما لَونه لَون الرماد.
(**) ارهابيين يذبحون مدير إحدى المصارف بليبيا ويلعبون كرة قدم برأسه (فيديو)
https://www.youtube.com/watch?v=cj7iOADYC9c



78
أدب / ثمن آخر أمنية
« في: 07:09 25/04/2019  »


ثمن آخر أمنية


صالح الطائي

هلوسات آخر العمر
اليوم بعد أن دب الوهن في مفاصلي
وصادرت الأيام وشل قواي
حتى بت أتوكأ في النهوض والجلوس على كل شيء
بما في ذلك بعض كرامتي
لم أعد طماعا.. لم أعد أطلب المزيد
وسأكتفي بلملمة بقايا صباحات عمري التي خطفتها الليالي
وما عافته السنين من ملامح الأمس، يذكرني بالذي مضى
وتلك الظلال التي خلفها عمري الغائر ورائي على أعتاب دربي
وذرات رمل الدروب القديمة التي علقت في ثنايا دماغي
وآخر أوراق دفاتري المدرسية العتيقة الصفراء الممزقة
ونوتات نشيد (مليكنا) الصباحي التي لا زالت عالقة في الوجدان
وقطعة الطبشور التي نسيتها في يدي منذ ستين عاما وإلى الآن
أبحث عن لوح أخط بواسطتها كلماتي عليه
وأثر العصا التي أمرها المعلم أن تُقبِّل يديَّ لأني لم انجز الواجب
ودعوات أمي الطيبة، وهي تودعني صباحا في طريقي إلى المدرسة
في شتاء زمهريري لا يرحم
وقدح الماء الذي كانت تسكبه خلفي ليطرد الشر
ويجعل دربي أخضرا
والذي لا زال رذاذه عالقا في تجاعيد سنيني
يمدها بالندى
وصوت أبي الزاجر، وهو يأمرني أن اكون رجلا
وأجعله يفخر بي في المجالس بين الأقران
سأكتفي بمنح ذلك كله، بكل ما فيه
وهو كل وأعز وآخر ما عندي
لمن يعيدني ولو للحظات إلى تلك الأيام
التي غادرتها وأنا أبذر ما أملك بلا وجع قلب
وأشتاق إليها اليوم شوق بخيل قتله الحرص على دينار ذهب
هو كل ما يملك
سقط منه في نهر هائج، وأخذته الأمواج بعيدا!.


79
المنبر الحر / تكفير الرازي
« في: 00:36 21/04/2019  »
                                                       تكفير الرازي


صالح الطائي

وُلِد أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرّازي(250 هـ/864 م - 5 شعبان 311هـ/19 نوفمبر 923م) بالرِّي؛ بالفارسية (شهر ری) وهي مدينة تاريخية تقع في الجنوب الشرقي لمدينة طهران، درس الرازي الرياضيات والطب والفلسفة والفلك والكيمياء والمنطق والأدب. وكان كريما متفضلا بارا بالناس حسن الرأفة بالفقراء، حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم، وله تجديد في الفلسفة اليونانية، وكانت كتبه مع كتب ابن سينا أساس للتدريس في الجامعات الأوربية في القرن السابع عشر!.
وللرازي أقوال حكيمة في الطب والعلاج، ترقى إلى مماهاة ومماحكة ومزاحمة أقوال الأطباء والعلماء المعاصرين، ومنها قوله:
مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية.
مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.
إذا كان الطبيب عالماً والمريض مطيعاً، فما أقل لبث العلة.
عالج في أول العلة بما لا تسقط به القوة.
أسهمت كتاباته في نمو الفكر العلمي العالمي، بل كانت الأساس الذي اعتمدته أوربا في تنمية قدراتها العلمية، ذكر سامح كريم في موسوعة أعلام المجددين في الإسلام من القرن الأول حتى القرن الخامس للهجرة - الجزء الأول، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية أن للرازي كتابا اسمه "الحاوي" ترجم في عصر النهضة إلى اللاتينية، ترجمه فرج بن سالم الاسرائيلي عام 1279، ونُسخ عدة نسخت دارت في أوربا ، ثم طبع بين الأعوام  1486 و 1542 خمس طبعات عدا ما طبع منه متفرقا.
أما كتابه في الجدري والحصبة فقد ترجم إلى اللاتينية، وخرج منه أربعون طبعة بين عام 1498 وعام 1866، ومع ذلك لم يسلم هذا العظيم من هجمات اللئيم زورا وبهتانا، فاتهم بأنه صاحب فلسفة تنتقد الاديان والنبوة والكتب السماوية وتشكك بصحة النبوة، وترفض التصديق بالمعجزات النبوية، ومن هنا تجرأ أحد معاصريه من علماء الجرح والتعديل وهو الاسماعيلي محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران؛ أبو حاتم الرازي (195هـ/ 811م ـ 277هـ / 890 م) فوصفه في القرن الثالث للهجرة بالملحد!.
ثم اتخذ هذا القول أساسا لتأكيد كفر الرازي، ففي رسالة لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني(362هـ/ 973م ـ 440هـ/ 1048م)  عنوانها "فهرست كتب الرازي"، هناك كتابان للرازي لا أصل لهما، صنفا على أنهما (كتب في الكفريات) هما كتاب "في النبوات" وكتاب "حيل المتنبين".
وقد اقتبست المستشرقة الألمانية "زيغريد هونكة" (26 أبريل 1913 / 15 يونيو 1999) المعروفة بكتاباتها في مجال الدراسات الدينية هذه الرؤية، وادعت أن هناك أيضا كتاب للرازي يبشر بأخلاق لا دينية ويدعو إلى أن يعيش الانسان حياته بشجاعة ورجولة دون أن تؤثر فيه وعود بوجود جنة أو نار في العالم الاخر ، وذلك أن العلم والعقل يشهدان على انعدام الحياة بعد الموت.
وقد جايلها علماء ومستشرقون آخرون من ذوي النزعات الإسرائيلية مثل "بول كراوس" (1904 - 1944م) وهو مستعرب يهودي. درس اللغات الشرقية بجامعتي براك وبرلين، له رسالة في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام بثلاثة أجزاء ورسالة في فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي لأبي الريحان البيروني. و"سارة سترومسا" وهي رئيسة الجامعة العبرية، فادعيا ان أبا حاتم الرازي أقتبس الآراء التي كفر من خلالها الرازي إما من كتاب يسمى "مخاريق الانبياء" أو كتاب "العلم الالهي".
المشكلة أن جميع الكتب المنسوبة إلى الرازي؛ المتعلقة بالأديان مفقودة الآن، ولا توجد أي نسخة مخطوطة أو مطبوعة أو مصورة منها، ولم يصلنا منها إلا مجرد اقتباسات وردت في أقوال منتقديه ومعارضيه ومكفريه، وهذا يجعلنا نشكك بصحة تلك الأقوال، بل ونطعن بها ونوهنها، طالما أن التنافس والصراع والنزاع والسياسة ومنهج التسقيط والانتقام كان محتدما بين الأطراف، وطالما أن التهم ومن قام بدراستها ومن أبدى رأيا فيها، كلها تجتمع على قاعدة من الشك والاحتمال، وعدم التيقن والقطع.
وآخر ما أريد الإشارة إليه هو أن الرازي قدم للإنسانية الشيء الكثير، الذي يستحق عليه أن تخلده الإنسانية وتحترمه بل وتقدسه، وأقل ما قدم من خير، يعتبر أكبر كثيرا من كل الذي قدمه منتقدوه؛ الذين لم ينجحوا إلا في زراعة عقيدة التكفير وثقافة التجهيل والتفرقة والعنصرية والجهل والأمية والكراهية، ولذا أرى أن على العالم المعاصر ولاسيما الدول العربية والإسلامية أن يرفعوا عن هذا العالم الجهبذ الظلم الذي لحق به.

80
الجعل التكويني والجعل التشريعي
صالح الطائي
وردت كلمة (جعل) في قوله تعالى من سورة الإسراء، الآية: 12: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}، وهي وفق الإطار المعرفي العام، تأتي هنا للتأكيد على قدرة الله سبحانه وتعالى، وتنسب إليه جل وعلا أنه جعل الليل والنهار آيتين، للتدليل على عظمته، قال عنهما ابن كثير في الصفحة 188 من الجزء الخامس من تفسيره تفسير القرآن العظيم: "ثم إنه تعالى، جعل لليل آية، أي: علامة يعرف بها وهي الظلام، وظهور القمر فيه، وللنهار علامة، وهي النور وظهور الشمس النيرة فيه، وفاوت بين ضياء القمر وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا".
وذهب القرطبي في الصفحة 205 من الجزء العاشر من تفسيره الجامع لأحكام القرآن، أبعد من ذلك، فقال: "قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار آيتين أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما  إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم ، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا . وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل.
كذلك تتبعت تفسيرها في كثير من كتب التفسير مثل فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، وتفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري، ومعالم التفسير للحسين بن مسعود البغوي، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور، والتفسير الكبير المسمى البحر المحيط لأثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد بن المختار الجنكي الشنقيطي، وعشرات التفاسير الأخرى، فوجدتها تتحدث بالحديث نفسه، ينقل أحدهم عن الآخر؛ دون أن يسأله عن مصدره، بما في ذلك حديثهم عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار (فمحونا آية الليل) السواد الذي في القمر".
كل ذاك الحديث مع احترامنا له، لم يورثنا خيرا إلا في حدود ضيقة جدا، وكان المفروض بالمسلمين المعاصرين أن يتخلوا عنه، أو يخففون تعلقهم وتمسكهم به، لأن العلوم الحديثة فتحت لهم آفاقا جديدة كانت مغلقة أمام الأقدمين بما يتيح لهم التقدم على الأقدمين، لتحقيق منافع عجز التفسير القديم عن تقديمها، والغريب أن لا أحد تطوع للقيام بهذا الفعل، والأنكى أن هناك من سخر معطيات الحضارة الحديثة ليزيد الأمور تعقيدا، وألا ما الغاية من قيام أحد أساتذة الجامعة (تخصص لغة عربية) من وضع كتاب في أصل المقصود بكلمة (جعل) في الآية المباركة، فيما إذا ما كان جعلا تكوينيا، باعتبار أن الجعل التكويني يدخل في باب العقائد، أم جعلا تشريعيا. ولم يورد ولو سطرا واحدا يتحدث فيه عن الجعل العلمي للأسف!. ويعني هذا أننا جعلنا أنفسنا في موقف ضيق حرج، كأننا نصعَّد في السماء، يوم تمسكنا بما تركه لنا الأقدمون، بالرغم من تأكدنا ويقيننا أننا نتقدم عليهم بكل شيء، بالعلوم والخبرات والثقافات والآلات والإمكانات والإعدادات؛ آلاف المرات.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا ممن يكلون أمرهم لغيرهم، ليفكر بدلا عنهم، ويخطط لمسير حياتهم، ويتحكم بشؤون دنياهم وآخرتهم. واجعلنا اللهم من المجددين المتنورين لا من التقليديين الجامدين... آمين.


81
المشترك الإنساني في الفلسفة المغربية
صالح الطائي
على مر التاريخ، كانت الجغرافية الجسرية ساحة لتلاقي وتلاقح الأفكار الواردة من جهاتها الأربع، من هنا كان للموقع الجغرافي للملكة المغربية أثره في نشأة الثقافة عامة والفلسفة بشكل خاص، فالمغرب، يطل جغرافيا على مساحات مائية عملاقة، حيث يطل على البحر الأبيض المتوسط شمالا، والمحيط الأطلسي غربا، وعلى طول 3500 كيلومترا تمثل خط الحدود، تتزاحم أكثر من 38 محطة وميناء بمختلف المهام، بعضها تاريخية، ويعود إنشاء بعضها الآخر إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر مثل ميناء طنجة المتوسط، وقد اتاح هذا الانفتاح الجغرافي لهذه البيئة أن تلتقي بثقافات مختلفة المصادر والتوجهات، بعضها غريب كليا عن بيئة المغرب، وبعضها الآخر له تقارب مع بعض عادات وتقاليد البلاد، فأسهم ذلك في زيادة زخم التلون الثقافي، الذي تمتاز به مناطق الموانئ، وهي عادة تكاد تحمل الكثير من جينات المشترك الثقافي في العالم كله.
فضلا عن ذلك، كان لمضيق جبل طارق أثرا كبيرا على دوام وتنوع وتوسع التناقل الثقافي الذي حدث بين المغرب المنفتح على الثقافة الشرقية/ الإسلامية وإسبانيا المنفتحة على الثقافة الغربية، ولاسيما وأن المغرب بلاد ذات تراث ثقافي متنوع وقديم جدا، فهي جزء من منظومة المغرب العربي الجغرافي الذي وجدت فيه أحفوريات تعود للحقب من 700000ق.م ولغاية 20000 ق.م بدءً من الحضارة الآشولية، ثم الحضارة الموستيرية، والحضارة العاتيرية، والحضارة الإيبروموريسية، ومنذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عرف المغرب تنوعا حضاريا ملفتا للانتباه، تنوع بين الحضارة الفينيقية والحضارة البونيقية، والحضارة الموريطانية، والحضارة الرومانية، وصولا إلى الحضارة الإسلامية، بعد فتح بعض أجزاء المغرب في عهد الخليفة الراشد عُمر بن الخطَّاب، ثم في عهد الخليفة الراشد عُثمان بن عفَّان، وصولا إلى عهد الخليفتين الأمويين عبد الملك بن مروان وخلَفِه الوليد بن عبد الملك، حيث توحدت هذه المشتركات الفكرية في أجواء ثقافة مغربية جمعية، كانت تمثل خلاصة الفكر الإنساني.
أما من جهة البر، فتحدها الجزائر من الشرق، وموريتانيا من الجنوب، وهما دولتان تشتركان مع المغرب في كثير من النواحي الاجتماعية، بما فيها الناحية الثقافية، فهذه المنطقة في الأصل هي منطقة جغرافية واحدة، انقسمت بسبب الصراعات، فحينما أقام الأمازيغ مملكتهم على سواحل البحر المتوسط في القرن الأول قبل الميلاد، وهي المملكة التي عرفت باسم "مملكة موريطنية" نسبة إلى كلمة موروس الإغريقية التي تعني أسود، انقسمت هذه المملكة  بعد أربعين عاما  إلى موريطنية الطنجية في شمال المغرب، وموريطنية القيصرية في شمال الجزائر، فكانت المغرب وكانت الجزائر، أما موريتانيا فيكفي أنها اخذت اسمها من هذه المملكة بالذات (موريطنية)، ولغاية القرون الوسطى كان المؤرخون العرب يستعملون لفظ "بلاد المغرب" للدلالة على هذه الأقطار ثلاثة.
وحينما يجتمع التاريخ بالموروث بالحراك الحياتي، تولد ثقافة حية متنوعة المشارب بعيدة عن التعصب لمنهج واحد، وهكذا هي الثقافة المغاربية التي انتجت الفلسفة المغربية؛ التي تمتاز بالنبوغ والفطنة والغنى والعمق، ولاسيما بعد أن نجحت في مصاهرة الدين إلى حد الذوبان الروحي الذي تحكم بالكينونه، وأباح الاستكناه، فالدين الذي نصت دلالاته المعرفية على اهتمامه الكامل بالعقل، والوجود، والقِيَم، والمعرفة، والروح والتسامي الآدمي، هو أحد أكبر دوافع البحث في الفلسفة، واللجوء إليها للاستبصار واستكناه حقائق الوجود الكلية، ومن هنا وجد كبار الفلاسفة المسلمين أن الدين يحتاج إلى الفلسفة، والفلسفة تحتاج إلى الدين، وفي اتحادهما وسيرهما على طريق واحد في سبيل واحد، ممكن أن تتضح المقاصد، وتبان الحقائق بشكل أكثر اقناعا، فقناعات الدين وحقائقه تحتاج إلى التصورات الفلسفية، فالدين الذي دعا إلى وجوب أن يعيش الكائن الإنساني حياة مثالية سامية، وأن يفهم هذا الكائن السامي؛ الذي هو خليفة الله في الأرض هذه الحياة وعلتها، وجد في  الفلسفة عونا كبيرا، بعد أن وجدها مهتمة هي الأخرى بتحديد طرائق الحياة المثالية المبنية على فهم الواقع، ويوحي هذا التماهي أن الفلسفة كانت أيقونة حياة البشر في كل مراحل تطوره، ولم تكن وليدة حضارة ما. 
إن من الحقائق اليقينية التي لا جدال فيها أن الفلسفة ليست وليدة الفكر الإغريقي، وإن برز فيها الإغريق، بل هي جزء من حضارة كل أمة، وحتى مع وجود عدة أمم في مناطق مختلفة بعيدة أو متجاورة، كانت هناك لكل منها فلسفتها الخاصة، ويعني هذا أن الفلسفة مثل الدين، تعود بداياتها إلى المراحل التي بدأ الإنسان فيها يبحث عن خالق هذا الكون والقوى الغيبية التي تسيره وتتحكم به، ولذا لا غرابة أن تكون للإسلام دينا ودنيا فلسفته الخاصة، حتى وإن كانت متأثرة بفلسفة الأمم الأخرى، فالفلسفة وليدة الواقع، تتأثر فيه، وتؤثر به، وتصطبغ بصبغته.
من هنا وجد البعض في الفلسفة الإسلامية وجوها، تأثرت بنوع التصور، بين من يرى أنها استمدت اسمها من طبيعتها التي استمدت رؤاها من نصوص الإسلام، فكانت تقدم التصور الإسلامي ورؤيته الخاصة فيما يخص الخالق والخلق والكون والحياة على رؤاها المنطقية.
ومن يرى أنها استمدت رؤاها ومسمياتها من البيئة التي نشطت فيها دون أن تكون أسيرة إطار الثقافة والحضارة العربية الإسلامية ودون أن تكون خاضعة لمؤثرات الحكومة والدولة الإسلامية، أما الحقائق الدينية والنصوص الشرعية الإسلامية التي كثر استخدامها في الدراسات الفلسفية الإسلامية، فهي تحصيل حاصل طالما أنها تخاطب المجتمع الذي يقدس ويحترم هذه المفاهيم ويتعبد بها. وبين هؤلاء من يرى أنها لم تسمى بهذا الاسم (الفلسفة الإسلامية) إلا لأن رجالا من المسلمين اشتغلوا بها وكتبوا وألفوا في مبانيها وآرائها، حالهم حال فلاسفة الدول والأمم الأخرى مثل فلاسفة الإغريق وفلاسفة الرومان الذين أطلق على فلسفاتهم أسم (الفلسفة الإغريقية) و(الفلسفة الرومانية) بينما كانت المسيحية قد انتشرت في هذه الإمبراطوريات، ولذا نجد لمصطلح (الفلسفة المسيحية) بعدا آخر لا يلتقي مع بعد (طبيعة نشأة) الفلسفة الإسلامية، لأنه كان مسيحيا بحتا، فهي فلسفة جيء بها للتوفيق بين الفلسفات الكلاسيكية القديمة وفلسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، للخروج برؤية جديدة هدفها ديني أكثر منه علميا، ومن هنا كانت طريقة التعليم الأساسية هي الطريقة المدرسية التي تُعطى من خلالها الدروس الأكاديمية في الجامعات الأوروبية.
ومن الأمور التي تجدر الإشارة لها والتنويه عنها أن ولادة الفلسفة الإسلامية حتى وهي بتلك الطريقة التي كانت قريبة من روح الدين، وجدت من يتصدى لها ويعتبرها خروجا على المتعارف بسبب وجود نصوص دينية تنهى عن الخوض في دراسة بعض الحقائق التي تناولتها الفلسفة بالدرس؛ مثل الذات الإلهية، والروح. وكان الإمام الغزالي (450- 505 هـ) الذي وضع كتابا باسم (تهافت الفلاسفة) من أشهر المعترضين، وقد أراد من خلاله التأكيد على عجز الفلسفة عن إيجاد الجواب المقنع لطبيعة الخالق سبحانه. ثم دعا من خلاله إلى أن تبقى مواضيع اهتمامات الفلسفة في المسائل القابلة للقياس والملاحظة في مجالات الطب والرياضيات والفلك، أما محاولة الفلاسفة إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان فهو مناف برأيه لمفهوم الفلسفة أساسا. وهذا ما أشار إليه بقوله في بداية كتابه: "ابتدأت لتحرير هذا الكتاب، ردا على الفلاسفة القدماء، مبينا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفا عن غوائل مذهبهم، وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء. أعني: ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء".
ولم تلق هذه الآراء قبولا كاملا، إذ انبرى من عد الحديث عن تهافت الفلسفة تهافتا غير معقول بحد ذاته، حيث وضع ابن رشد (520- 595 هـ) كتاب (تهافت التهافت) للرد على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة.
الغريب أننا كمسلمين لا زلنا، منذ القرن الخامس الهجري ولغاية هذه الساعة غير متفقين على بنيوية الفلسفة الإسلامية، ولا زال بيننا من يعتبرها علما ساميا، ومن يعتبرها عبثا مفضيا إلى الكفر!
وحينما يشمر فلاسفة المغرب عن سواعدهم، وتدعو شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي والحضارة بكلية أصول الدين(مدينة تطوان/ المغرب)، بشراكة مع مركز الدكتوراه، إلى تنظيم ندوة علمية وطنية عن الدين والفلسفة في الفكر المغربي، وتقترح بناء على ذلك مشاركة الباحثين المهتمين من خلال المحاور المقترحة، فذلك يعني أن هذا الموضوع لا زال ساخنا، ولا زال بحاجة إلى البحث والدراسة والتنقير، على أمل الوصول إلى نتيجة تعطل الكلام عن التهافت وتهافت التهافت، وتبدأ بالتكلم عن مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية، يجب أن يحظى برعاية وعناية الجميع مثل أي منجز معرفي إنساني آخر، فالفلسفة أصل لا يمكن الاستغناء عنه، والفلسفة المغربية واحدة من منابع ومنابت الفلسفة الإسلامية/ العربية الفاعلة والمؤثرة في الساحتين العربية والعالمية، تسعى إلى تطوير مناهجها ورؤاها بجد ومثابرة، سيعوض الكثير من تكوينات حالة الوهن التي تشكو منها ساحات عربية وإسلامية أخرى.


الدكتور صالح الطائي
العراق/ واسط



82
مقابر جماعية خلفها الرفاق
صالح الطائي
قبل التغيير في 2003، كان الحصار الجائر قد حلق رؤوس أهلنا، وكانت مدننا مقبرة فارغة من كل شيء ينفع الإنسان، لا شيء فيها يفتح النفس، تكللها غمامة سوداء بفعل انتشار صور الرئيس؛ التي لم تترك ساحة ولا شارعا ولا زقاقا ولا حائطا، دون أن تلوثه بطلتها القبيحة القميئة، وفي منحنيات المدن، كانت مقرات الفرق الحزبية تزرع في قلوبهم رعبا وخوفا، والكثير من الأسئلة الحائرة، التي تتلخص كلها بسؤال مركزي واحد: متى نتخلص من هذه الصور القبيحة وهذه المقرات الحقيرة وأهلها. هذه الصور والمقرات التي سرقت رفاهنا وسعادة عيشنا، ومثل خيرات بلدنا المسروقة المغيبة، كان شبابنا المغيب، قد تم خطفهم من بيننا  وسلب أرواحهم، ودفنهم في مقابر جماعية، طرزت وجه الوطن الحبيب، مقابر كلها بدون علامات دلالة، سوى آهة وجع، يُسمع صداها من بعيد، وعطر زكي لا يشمه سوى الأنقياء، وهي كلها تشكو جور الزمان وظلم الطغاة.
وكنا نعيش حلما يراود خيالنا يعده بأمل مشرق وبغد سعيد، ننام على أمل أن نصحو صباحا فنجد الحال قد تغير، ونحن قبل غيرنا نعرف أن الأحلام لا تغير الأحوال، وأن التغيير يحتاج إلى ثورة، ثورة لم نكن نعرف كيف نخطط لها، ولا نملك العدة التي ننفذها بها.
وحينما شعرنا أن هناك غبش صبح  يبدو قريبا منا، قد يطل علينا من دياجي القهر، نامت عيوننا حذرة مترقبة، لنصحو مرعوبين على أصوات مجنزرات دبابات العدو الأمريكي الغاشم وهي تدنس مدننا، والخيبة تملأ نفوسنا، وكأننا أردنا أن نغسل غائط طفل لوث أرض بلدنا، بنهر من المياه الثقيلة المحملة بالقاذورات، فنشرنا القذر والرائحة الكريهة في كل مكان!
ولسوء حظنا العاثر، تجدنا حتى بعد مرور أكثر من عقد ونصف من الزمان، لا زلنا مخدرين بفعل تلك الرائحة العفنة النتنة، التي أزكمت أنوفنا، ولا زالت خيباتنا المريرة تتكرر، وفشلنا التاريخي في اختيار من يمثلنا مستمرا بلا انقطاع.
والأنكى من ذلك كله أننا نشعر وبيقين تام أن هناك من ضحك علينا فعلا خلال هذه المدة، واستغفلنا حقيقة، مرة باسم الوطنية، ومرة باسم الدين، ومرة باسم المذهب، ومرة باسم الأرومة والقومية، ومرة باسم المعتقد والحزب.
والمصيبة الأكبر أننا بتنا على يقين أن الذين خدعونا بالأمس، قادرون على خداعنا اليوم وغدا وبعد غد، بل طالما هم موجودون بين ظهرانينا، وكأننا أدمنا المخادعة، ولا نستطيع العيش بدونها، ونحتاج لمن يخدعنا باستمرار، لكي نشعر بوطنيتنا المهلهلة، الآيلة للسقوط، تدغدغ وجودنا الزائد عن حده!.
وكان كل الذي حصلنا عليه من التغيير، أننا اتخذنا يوم السادس عشر من أيار ذكرى سنوية لإحياء يوم المقابر الجماعية، وقد اختير هذا اليوم ليكون يوم شهداء المقابر الجماعية على خلفية عثور أهالي المغدورين على أول وأكبر مقبرة جماعية في المحاويل جنوبي بغداد عام 2003 بعد سقوط النظام العفلقي المقبور.
كل هذه المقابر الجماعية على كثرة عددها لم تنجح في رسم صورة حقيقية لنا، ونحن لا زلنا ننتظر من يكمل رسم الصورة، هذه الصورة التي ستكتمل حينما يكتشف أولادنا وأحفادنا الكم الكبير للمقابر الجماعية الجديدة الموجودة في عراقنا المبتلى، تلك المقابر التي خلفها النظام الجديد، ولم لا؟ فتاريخ عراقنا مبني أصلا على سجل حافل للمقابر الجماعية، ولجرائم الرفاق في كل زمان!.

83
اعتباطية سفك الدماء
صالح الطائي
إن الحديث عن الفتوحات الأموية في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، يبين أن الدموية المفرطة كانت منهجا عاما في أغلب الأحيان، وان أخلاق الحرب الإسلامية تم التخلي عنها كليا، ولم تعد للهارب ولا للأسير حرمة في حساباتهم، ففي سنة تسعين للهجرة، تم فتح بخارا على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، فقال لجيشه بعد أن انهزم العدو من أمامهم: "من جاء برأس فله مائة"(1). وفيها فتحت الطالقان، افتتحها قتيبة أيضا، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد(2 ).
وفي سنة اثنين وتسعين غزا مسيلمة بن عبد الملك أرض الروم، وغزا طارق بن زياد الأندلس، وغزا قتيبة بن مسلم سجستان، وسالت دماء المسلمين وأعداؤهم في كل هذه الوقعات.
وفي سنة ثلاث وتسعين بعث قتيبة أخاه مالك إلى ملك خام جرد، فقاتله فقتله وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير، فقتلهم بشكل فيه الكثير من الإفراط، إذ أمر  بسريره، فأخرج، وبرز للناس، وأمر بقتل الأسرى، فقتل بين يديه ألف، وعن يمينه ألف، وعن يساره ألف، وخلف ظهره ألف(3 ).
وفي سنة أربع وتسعين، غزا العباس بن الوليد ارض الروم، وفتح أنطاكية، وفي هذه السنة غزا قتيبة الشاش وفرغانة، ففتحوها، واحرقوا أكثرها( 4).
وفي سنة ست وتسعين، غزا بشر بن الوليد الشاتية. وفيها فتح قتيبة كاشغر فسبى منها سبيا فختم أعناقهم ( 5)، وغزا الصين، وقاتلهم، فدفعوا له فدية عظيمة.
وفي سنة سبع وتسعين، جهز سليمان الجيوش لغزو القسطنطينية، وعين يزيد بن المهلب واليا على خراسان( 6)، وفي عام خمس ومائة غزا مسلم بن سعيد الترك من جديد فلم يفتح شيئا(7 ).
في كل هذه السنين كان البشر من المسلمين وأعدائهم يدفعون ضريبة الدم سوية لمجرد أن يتلذذ القائد بدمويته، وينعم السلطان بما تأتي به الحروب من أموال وعطور وغلمان حسان وإماء وقيان، وكان الذبح في هذه المعارك بلا عدد، حيث تتكرر جملة: "وقتلنا منهم" أو "وقتل الله منهم" تتبعها جملة "عددا كثيرا" مع كل سرد لواحدة من قصص تلك الغزوات. وبين هذه وتلك وقعت عشرات المعارك والحروب وحالات النهب والسلب في كل الأنحاء.
وقبل هذه التواريخ هناك تواريخ الدم الحجاجي، فالحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين على العراقين(الكوفة والبصرة) لوحده كان أمة من الطيش والرعونة  والبطش وسفك الدم، إذ قام سنة سبع وسبعين بإخراج خمسين ألف من مقاتلة الكوفة بإمرة عتاب بن ورقاء لمقاتلة شبيب الخارجي، ولما التقوا به، أوقع فيهم القتل فانهزم من بقي منهم(8 ).
وفي سنة ثمان وسبعين، في غزوتهم ارض الروم، أصابهم مطر عظيم وثلج، فأصيب بسببه ناس كثير( 9).
وفي سنة تسع وسبعين غزا عبيد الله بن أبي بكرة بأمر من الحجاج رتبيل ملك الترك(10)، وكان الحجاج قد أوصاه أن يستبيح أرض رتبيل، ويهد قلاعه، ويقتل مقاتلتهم، فخرج في جمع من أهل الكوفة والبصرة يقدر عددهم بأكثر من خمسين ألفا، وحاصرهم الترك قرب مدينتهم العظمى، حتى فنى أكثر المسلمين، ثم خرج من خرج من الناس صحبة عبيد الله من ارض رتبيل؛ وهم قليل.. وقيل: إنه قتل من المسلمين (أهل الكوفة والبصرة) في تلك المعركة ثلاثين ألفا، ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضا.. وقد قتل المسلمون من الترك خلقا كثيرا أيضا، قتلوا أضعافهم(11).
وكان الحجاج قد حارب رتبيل في سنة ثمانين حربا كادت تودي بنظام الحكم، قال ابن كثير: "وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة لقتال رتبيل ملك الترك... فجهز أربعين ألفا، من كل من المصرين عشرين ألفا، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث"(12). فتصالح ابن الأشعث مع رتبيل وزحف على الكوفة، ودارت حرب استمرت ثلاث سنوات، قتل فيها بحدود مائتي ألف مسلم من الطرفين المسلمين المتحاربين.
تدلل هذه الأرقام ان القيادات الحاكمة وقيادات الجيوش لم تكن ترقب حرمة سفك الدماء ولا تتحرج من سفك الدم البريء، وإنها كانت تتلذذ برؤية الدم، وتتفنن بطرق القتل، وكانوا ينزعجون إذا ما صمدت مدينة ما بوجههم، فيصبون جام غضبهم على أهلها من النساء والأطفال والشيوخ، وعلى مبانيها الحكومية والسكنية، وعلى بساتينها ومزارعها، وعلى طرقها ومصادر مائها. روى الطبري أن صمود سمرقند، أزعج قتيبة بن مسلم الباهلي، فوقف في الرواق محتبيا بشملة؛ وهو يقول كالمناجي لنفسه: "حتى متى ياسمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من اهلك أقصى غاية"، قال سليم ناقل الخبر: فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبية ستموت غدا منا ومنهم! فأخبرتهم الخبر(13 ). فما كانت تدره الفتوح من خير لم يكن بالأمر الهين، والتنافس بين القادة كان على أشده، حيث كانت طاحونة الحرب تدور في جميع الأنحاء، وكافة الاتجاهات، روى ابن قتيبة: أن علي بن رباح نقل خبر فتح الأندلس إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فخر الوليد ساجدا، فلما رفع رأسه أتاه فتح آخر، فخر أيضا ساجدا، ثم رفع رأسه، فأتاه آخر بفتح آخر، وخر ساجدا، فقال علي بن رباح: حتى ظننت انه لا يرفع رأسه( 14).
وفي الوقت الذي أمر فيه الإسلام ورسوله(صلى الله عليه وأله وسلم) بالحفاظ على سلامة الأسير وإكرامه، وحث على معاملته بالحسنى، كان قتل الأسرى في زمن الفتوح الأموية جزء من المنظومة الدموية، ومن ذلك أنه بعد فشل ثورة عبد الرحمن بن الأشعث، أسر الجيش الأموي عددا كبيرا ممن اشتركوا فيها من القراء وغيرهم: "ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم"(15)، وفي رواية أخرى: "فجعل يقتلهم مثنى وفرادى، حتى قيل: إنه قتل منهم بين يديه صبرا مائة ألف وثلاثين ألفا"(16).
ولذا لا غرابة أن تجد بيننا اليوم من يسعى إلى سفك دم الإنسان لأبسط الأمور وأكثرها تفاهة، لأن ما قام به الأقدمون تحول إلى مقدس، وأصبح منهجا للخلف يتبعونه على أنه من تراث السلف، وهم يدركون أن سلفهم ذاك اكثر منهم ضلالا وجهلا، لأنه قبلهم انحرف عن جادة الإسلام!.


  1ـ تاريخ الطبري، ج 6 ص 337
  2ـ المصدر نفسه، تاريخ الطبري، ج 6 ص 337
 3ـ  المصدر نفسه، ج 6 ص 355
  4ـ المصدر نفسه، ج6، ص 364ـ365
 5ـ  المصدر نفسه، ج6، ص 376
  6ـ المصدر نفسه، ج6، ص 364ـ365
  7ـ المصدر نفسه، ج7 ، ص 14
 8ـ  ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، ج 5/ص23 .
 9ـ  المصدر نفسه، ج 5/ص28
  10ـ المصدر نفسه، ج 5/ص34.
 11ـ  المصدر نفسه، ج 5/ص37.
12ـ البداية والنهاية، ابن كثير، ج 5/ص39
 13ـ تاريخ الطبري، الطبري، ج 6/ص 360 
14ـ الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج2/ص89ـ90
15ـ العقد الفريد، ج2، ص 394
 16ـ البداية والنهاية، م5،ج9،ص61


84
من عبر تاريخنا
تعارض قصصه
صالح الطائي
لا يمر علي يوم دون أن أقرأ شيئا من تاريخنا الإسلامي، سواء ما كتبه الأوائل أو ما سطره المتأخرون، وثقوا بالله أني كلما ازددت قراءة لتاريخنا الإسلامي والعربي، ازددت يقينا بأنه محشو بالكذب والدجل والتدليس، وأن كل ما نمر به اليوم من مصائب وويلات سببه ذلك الحشو؛ الذي حرف الإسلام عن حقيقته ومنهجه، وخلق لنا إسلاما على مقاساتنا الشخصية والفئوية، وقد أخذ التحريف مدى واسعا فشغل أكثر من أربعة أخماس ما وصلنا من قصصه، وتسبب في خمسة أخماس العداء والكراهية بين المسلمين فرادى، وفرقهم ومذاهبهم ومدارسهم.
وهناك مئات الأدلة الناهضة الدالة على ذلك، منها على سبيل المثال تعارض حديثهم عن (عطاء بن أبي رباح) هذه الشخصية الدميمة، والذي وصفه الذهبي بأنه: "اسود، اعور، أفطس، أشل، أعرج، أصلع، ليس في رأسه شعر إلا شعيرات، قطعت يده مع ابن الزبير، ثم عمي (سير أعلام النبلاء، ج5، ص553 )، فمن حديثهم ما قدمه ورفع شأنه فوق شأن الخلفاء، حيث قال الأصمعي: "دخل عطاء على عبد الملك بن مروان؛ وهو جالس على السرير وحوله الأشراف، وذلك بمكة، في وقت حجه وخلافته، فلما بصر به، قام إليه فسلم عليه، وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وسأله عن حاجته".( سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص556) ويعني هذا أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كان يعرف عطاء معرفة شخصية، ويعرف منزلته، ويقدره ويجله ويحترمه لهذا السبب، إلى درجة أنه أجلسه حينما دخل عليه في مكانه، ثم جلس بين يديه! ليسمع الدرر التي سيقولها أمامه، مع أن عطاء كان أعجميا، ولم يكن يحسن العربية، روى العلاء بن عمرو الحنفي، عن عبد القدوس، عن حجاج، قال، قال عطاء: "وددت أني أحسن العربية". قال: وهو يومئذ ابن تسعين سنة(سير أعلام النبلاء، ، ج5، ص558 ).
قبالة تلك القص التي رفعت عطاء مكانا عليا، نجد روايات وقصصا أخرى، تحط من شأنه ومنزلته، حيث يظهر من خلالها أن الخليفة عبد الملك بن مروان لم يكن يعرف عنه شيئا، بل لم يكن يعرف فيما إذا ما كان من العرب أم من الموالي، حرا أم عبدا، ليس لأنهم لم يكونوا يفرقون بين الاثنين، وإنما لأن الرجل كان مجهولا، خامل الذكر، حيث جاء عن ابن شهاب الزهري، قوله: قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين قدمت يا زهريّ؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلّفت يسودها؟ قلت عطاء بن أبي رباح، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبدٌ نوبيٌّ أعتقته امرأةٌ من هذيل، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: أمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي. قال: ويلك، فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ، قال: أفمن العرب؟ قلت: من العرب، قال: ويلك، فرّجت عنّي، والله ليسودنّ الموالي العرب، حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها" (سير أعلام النبلاء، ج5، ص557) وهذه الرواية تنسف كل ما جاء في الرواية الأولى من القواعد، حيث يبدو فيها عبد الملك وهو لا يعرف شيئا عن عطاء، بل لا يعرف إن كان من العرب أم الموالي، عالما أم جاهلا، فصيحا أم أعجميا.!
إن كتابة هذا الموضوع لم تأت لتنتقص من عطاء، فهو إن كان مجرحا عند فئة من المسلمين مهما كانت أسبابهم، فإنه إمام وفقيه ومحدث ومفسر عند فئة أخرى من المسلمين، ونحن يجب علينا أن نحترم بعضنا من خلال احترام رموزنا، ومن ثم البحث بحيادية وعلم وواقعية وإيمان ونزاهة وحداثة عن كل ما وصلنا عن الرمز، وتبسيط الأمور لكي نقنع بالمعقول ونأخذ به طالما أن في تاريخنا آلاف النسخ مثل عطاء(رحمه الله)، آن الأوان لنعرف حقيقة ما قيل عنهم، فإن كان صحيحا ثبتناه ورفعنا من شأن الرمز واحترمناه وأخذنا بأقواله، وإن كان كذبا حذفناه من حساباتنا بدل أن نتشاجر من أجل دعمه وتقوية مركزه المزيف، عسى أن تلتقي وجوهنا مع بعضنا على خير، فتتحد كلمتنا وتتآلف قلوبنا.

85
عوالم أخرى
سياحة في تجربة عماد البابلي الأدبية

صالح الطائي
في حياتنا الكثير من الدرر المخفية التي لا نعلم عنها شيئا، ربما لأنها انشغلت بنفسها عن تتبع آثار الآخرين، في هذا الزمن الصعب. وفي الأزمنة الصعبة يحلو السكوت، حيث ينزوي العقلاء في أركانٍ قصيةٍ ويدعون أعمالهم تتكلم عنهم، مع أنهم يعرفون قبل غيرهم أن المرء مخبوء تحت لسانه، وقد أبدع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في تصوير تلك الرؤية بعدد من أقواله مثل:

ـ ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة.
- اللسان معيارٌ، أرجحه العقل، وأطاشه الجهل.
- اللسان ميزان الإنسان.
- ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان، فلا يُسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع.
- ما من شيء أجلب لقلب الإنسان من لسان، ولا أخدع للنفس من شيطان.
- الإنسان لبه لسانه، وعقله دينه.
- تكلموا تُعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه.
- قلت أربعا، أنزل الله تصديقي بها في كتابه: قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله تعالى:  (ولتعرفنهم في لحن القول).
معنى هذا أن الإنسان يختبئ خلف أسوار أقواله، وخلف ما يريد أن يصرح به، ومعناه أن حديث المرء هو البوابة التي يلج منها الآخرون إلى عالمه، وهو جوازه للمرور إلى دنيا غيره، وقد يكون هذا الجواز منتهي الصلاحية، لا تفتح له الحدود! لكن مع هذا وذاك، يبقى الإنسان كائنا مجهولا ما دام ساكتا، فإذا نطق، أسفر عن وجهه، وعرَّف بشخصيته؛ الجميلة أو القبيحة، فقبح الروح وجمالها لا يُرى إلا عند التكلم، فالكلام هو الترجمان.
جاء في قصص الإغريق أن الفيلسوف سقراط كان جالسا بين تلاميذه يتبادلون الرؤى، وجاء أحدهم متأخرا، وهو يرتدي لباسا فاخرا زاهيا جميلا، فنظر إليه مطولا، ثم قال: "تكلم يا هذا لكي أراك". وقد جاء عن أمير المؤمنين(ع) قوله: "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام".
إن هذه الأقوال العظيمة هي محاولات فلسفية هدفها إعادة تشكيل المعنى الإنساني خارج سياق التوصيفات المتداولة، فبالكلام وحده تتضح الشخصية، وتظهر حقيقتها إلى الوجود، وبالكلام وحده تُستحصل الحقوق، وتُقر الواجبات، ويُدان الظلم، ويُنصر العدل. من هنا نجد سقراط لا يقول للقادم المتأخر: تكلم لكي أعرفك، أو لكي أسمعك، أو لكي أفهمك، أو لكي أعرف من أي مكان أنت! والإمام علي(ع) لم يقل الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها النقود أو الجيوش أو الشباب. هاتان الرؤيتان أرادتا الإشادة بدور الإنسان الثوري الكتوم الذي لا يريد أن يفضح كلامه مراميه التي لا ترضي الحكام فيخافون منها.
لكن ذلك لا يمثل دعوة للثرثرة، فاللسان نصف موجبات الحساب الأخروي، قال رسول الله(ص): " مَنْ ضَمِنَ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ورجليهِ أو وفخذيه، ضَمِنْتُ لهُ الجنَّة"، وحينما يكون المرء مسؤولا عما سينطق به لابد وأنم يضع في حساباته النتائج المترتبة على ذلك
لقد سقت هذه المقدمة الطويلة لأدخل من خلالها إلى عالم الأديب المتخفي الأستاذ عماد البابلي، الذي ما كنت لأعلم بوجوده لولا صديقنا المشترك الأستاذ محمد صالح الهاشمي، فأنا بالرغم من احتكاكي الدائم بالوسط الثقافي في واسط، لم أسمع من قبل عنه شيئا، بالرغم من كونه أصدر أربعة مؤلفات جميلة وغريبة، هي على التوالي:
•   نائم لا يملك ثمن الحلم: قصص قصيرة وقصائد. صدرت في 2009.
•   الكتابة على جسد العراة: نصوص سوريالية. صدرت في 2010.
•   كارما: رواية. صدرت عام 2016.
•   عوالم أخرى: مجموعة شعرية. صدرت عام 2019.
وسأقصر حديثي عن الرابعة منها، مع أني ارغب بالاحتفاء بها كلها، فهي محاولات جريئة لاختراق حاجز الصمت، وإشهار الصراع بوجه العبثية، في محاولة لتنبيه الذات إلى مكامن الخطر الأسطوري؛ الذي يحيق بنا في مفازات حياتنا التي لا تعرف السكون.
في محاولتي لتفكيك هذه المجموعة اضطررت ـ حتى بالرغم من مشاغلي الكثيرة والمتنوعة ـ إلى إعادة قراءتها أكثر من مرة، علي انجح في استخراج اللؤلؤ المكنون في أصدافها المتناثرة على مساحة واسعة، ينوء بحملها كتاب مكون من 202 صفحة، فكيف بمن يقف على أبواب السبعين منهكا من ثقل ما يحمل من خطايا وذنوب وآثام، وثورة أيضا، أن يحمل وزرا جديدا.
ولكي يثمر جهدي، بدأتُ بالمقدمة التي أسماها الشاعر (افتتاحية)، إذ أنه أفصح من خلالها عن الغاية والهدف من الكتابة، معترفا أنه ليس بشاعر، وأنها نصوص شبه شعرية، وهي ليست أكثر من  تهجدات سجين مكتوبة على جدران زنزانته، باح بها كنداء استغاثة.
هذا النوع من البوح، ولاسيما إذا ما كان مشفوعا بدعوات لغض النظر عن الأخطاء اللغوية والطباعية والاملائية والعروضية،  يهدف عادة إلى الإعلان عن مواقف تتسبب بأذى غالبا لمن يصرح بها، أو يتبناها، حتى مع شكلها العام الذي لا يتبنى موقفا ثابتا نمطيا تجاه فئة أو جهة، والخال من التخصيص والتأشير، مثل قوله: "طفل يأكل من مزبلة قرب كنيسة، أو جامع مغطى بالذهب، وكأنه لا يبحث عن الجريمة، وإنما يهتم بحرمة الجثث!
هذا الأسلوب النقدي اللاذع وغير المباشر والقابل للتأويل، يدخل في نطاق فن (البانتوميم) أو فن الحركات الإيحائية أو التمثيل الصامت، الذي يعتمد على براعة الممثل، وخيال المتفرجين في ترجمة تلك الإيحاءات إلى ما يشتهون، ممكن أن ينفذ من خلال الجدران الزجاجية السميكة دون أن يترك مخلفات تثير الريبة والشك، لكن المباشرة النقدية مثل قول: "كنتيجة طبيعية لبقية ما يحدث في هذا الوطن المنهار، الوطن الذي حوله قادته الى مزرعة حمير مشوشة تكره الكتب وتكره كل ما هو متصل بالمعرفة" قد تترتب عليها مخرجات فيها قدر كبير من المسؤولية، وهذا قد يكون جزء من مشروع التخفي اللطيف الذي يتبعه الأديب البابلي في حياته العامة والأدبية. ولكنه يدل في ذات الوقت على وجود ثورة تعتمل في صدره إلى درجة الغليان والانفجار، وهذه الثورة هي التي تدفعه ليكتب ويتحمل مسؤولية ما يكتب، لأنه يدين "هذا الزمن العربي المشوه الذي يحتاج للكتب التي تسجل خيبته وسيرة الضحايا وماذا فعلت الحروب والانقلابات السياسية في هذا الشرق الذي يزعم أنه الأقرب الى الله".
أول شيء جلب انتباهي في مطبوعات الأستاذ البابلي أنها لا تختص بنوع محدد من الأدب، مثلما هو متعارف عليه، حيث يُخصص الكتاب إما للشعر أو النثر أو القصة أو الرواية، أما البابلي فباستثناء كتابه (الكتابة على جسد العراة) الذي اورد فيه نصوصا نثرية، جمع في الإصدار الثاني (نائم لا يملك ثمن الحلم) قصصا قصيرة وأضاف لها مجموعة من القصائد، وهذا أسلوب غير دارج. وفي روايته (كارما) استخدم التهميش في كثير من صفحاتها، واستمر التهميش لغاية الصفحة الأخيرة من الرواية البالغ عدد صفحاتها (111) صفحة، حيث تحدث فيه عن الكارما، وهذه الهوامش تتراوح بين التحدث عن نتيشة ووالماسوشية واليهودي التائه وختان البنات والسوريالية والناقلات العصبية وحرب الوردتين والانثروبولوجيا والانكشارية والكاكائية وكثير مما لم نتعود رؤيته في كتب الروايات.
ووفق السياق نفسه، جاءت مجموعة "عوالم أخرى" مزيجا من الشعر، والنصوص النثرية القصيرة، والحكم المقتبسة، والمعلومات التاريخية، وهي بتلك الصورة تبدو مائدة شهية ترضي جميع الأذواق، وذلك لأن الشاعر بدا متأثرا بأبي حيان التوحيدي، الفيلسوف المتصوف، والأديب البارع، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه ببغداد وإليها ينسب، الذي قال: "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم". وهي مقوله رددها جميع الذين يكتبون بنفس نسق الأديب البابلي، والتي أسست لمنهج سبق وأن سار عليه الكثير من الأدباء المشهورين، منهم محمود درويش في مجموعته "كزهر اللوز أو أبعد" الصادرة عام 2005.
هذا يعني أن المعلومات الموجودة في مؤلفات عماد البابلي تدل إما عن رغبة جامحة في خدمة الناس من خلال ذكر معلومات قد يحتاجونها، أو أنه يملك كما كبيرا من المعلومات التي يحاول نشرها من خلال مؤلفاته، وهي سواء عاب النقاد وجودها في غير أماكنها الطبيعية المعتادة، أو اعتبروا ذلك خروجا على المألوف، تمثل غالبا إضافة جميلة جدا تدل على سعة ثقافة الكاتب، وهذا ليس تبريرا ليُعفى من مغبة استخدام هذا الأسلوب.
مجموعة (عوالم أخرى) ارادت أن تعلن صراحة عن هويتها الغريبة، فأنا خلال خوضي في غمارها، وبعد عدة محاولات، لم انجح في توصيفها، واحترت في أي خانة من خانات الأدب المتداول أضعها، وهذه ليست استهانة بها، فهي جوهرة حقيقية تنبئ بولادة مثقف كبير ممكن إذا ما أعاد منهجية مشروعه أن يتحول إلى رقم صعب في مجتمعنا.
مجموعة (عوالم أخرى) كنز معرفي، ومتحف مملوء حتى مشاشته بأروع العبارات والجمل والحكم والمقاطع النثرية التي تهزك من أعمق أعماقك، حتى تشعر بقشعريرة وكأنك تقف عاريا على قمة رابية في ليل شتائي قارس. فانظر إلى عمق دلالة الصورة في قوله:
ـ أم تخاطب ملاك الموت: لنحمل أحذيتنا ونحن نخرج من الباب أخاف على أطفالي أن يستيقظوا. (ص:124)
ـ لافتة على دار العجزة: أمومة للبيع. (ص:23)
ـ في المزاد بيعت حزمة كتب من علم النفس بسعر تنورة قصيرة. (ص: 5)
ـ الانسان قرد الأزمنة، يبايع نفس الغزاة، يرقص لنفس الزناة، جمل مخنث يعرف الحقيقة لكنه يصمت. (ص: 44)
ـ الوزير الذي قتبه الخضر لم يمت، كبر وصار الآن وزيرا للداخلية. (ص: 100)
ـ هل تؤمن بالحياة بعد الموت؟ اجعلني أؤمن بالحياة قبل الموت أولا. (ص: 101)
ـ للذئاب حكايتهم في تخويف صغارهم، يحكى أن هناك ذئب بملامح إنسان. (ص: 101)
ـ الجسد الميت الطافي يساوي كمية الماء المزاح. (ص: 171)
بالمحصلة أجد أن عماد البابلي رجل مجازف، يقبل المخاطرة بكل شيء في سبيل أن يقطع الطريق علينا، لجعلنا نقف ونستمع إلى نوتات تلك الموسيقى الناشزة، التي تنطلق من أعماله لتعلن تمرده، وتصيبنا بالدهشة.






86
من مواقف العرب الشرفاء
صالح الطائي
أهدي هذا الموضوع إلى صديقيَّ التونسيين الكبيرين الشاعر محمد صالح الغريسي والدكتور محسن العوني، مع الود.

قلة من العرب من شغلهم وضع العراق وتداعيات الصراع الطائفي بعد 2006 في العراق ومن بين هذه القلة مثقفان تونسيان هما الشاعر الكبير الغريسي والأكاديمي الباحث الدكتور محسن العوني. وفي العدد: 1440 الصادر يوم الاحد 27/06/2010، نشرت صحيفة المثقف الغراء التي كنا نجتمع عادة في أفياء صفحاتها للأخ الغريسي قصيدة بعنوان "رسالة" قدم لها بالقول: " الإهداء: إلى الأخ الأديب الباحث صالح الطّائي...إلى أهل العراق بكل أعراقه وأديانه ومذاهبه  وطوائفه وألوانه السّياسيّة ... دعوة إلى التّآخي والتّسامح، تأسيسا لعراق يحلو فيه العيش للجميع".
ووفاء لهذين الكبيرين ولأهلنا الشرفاء في تونس والعرب الشرفاء في وطننا الكبير، ولكل من سعى ولا زال يسعى لإخماد نار الطائفية في العراق وتوحيد أهله، أعيد اليوم نشر هذه القصيدة، مع ذكر تعليق الدكتور محسن العوني عليها، تحية مني لهاتين القامتين العاليتين، ولأذكر بأن المواقف لا تنسى، ويبقى الموقف الشريف علامة مضيئة في تاريخ الإنسانية، وأن شعوبنا لن تنتصر إلا إذا ما تخلت عن كل قول أو فعل أو إيحاء طائفي:
يا طائـــر الشّــرق الجريح كفى ملامـا
فاللــــّوم لا يشفي و لا يبـــري السّقاما
إن كان جرحك في الجنـــاح له التــئام
فالجـــرح آلمنا و قـــد بلــــغ العظامـــا
إن زرت أرض الرّافدين فدتك روحـي
عــرّج على الطّائيّ أقرئه السّــــــلامـا
من إخـــوة صدقوا المحبّـة إن أحبّـــوا
ما أخلفوا في الوعـد، يرعــون الذماما
أوص الأحبّة في العـراق بلا تــــــوان
بالحقّ و الصّبر الجميــــل لهم وســاما
ما فاز قـــوم في الحيـــاة لهم خصـــام
فدعوا التّبـاغض و التّقاتل و الخصاما
الشـــــــرّ إن أكل القلـــوب له ضــرام
فتجنّبـــــوا بالرّشــد هــذاك الضّـــراما
و ابنوا جسور الــــودّ بينكم ائتــــــلافا
و صلوا القريب و كفكفـوا دمع اليتامى
وا سوا الجراح و خفّفــــوا ألم الحزانى
و ضـعوا لخيـل الحقـــد عندكمو لجاما
إذ ذاك يزهو في العـراق ربيـع شــــرق
و يفوح من بين النّخيل شذى الخزامى
و يعــــود أهل الرّافــدين إلى التّصافي
متضامنين على الصّفا قوما كــــــراما
يا طائــــر الشّرق الجميل لكم سـلامي
زوروا إذا عنّ المـزار و لو لمــــــاما
فأنا الغـريسي للعـــراق أبثّ شـــــوقي
من تونس الخضراء أقرئــــه السّــلاما

هذا وكان الأخ الدكتور محسن العوني قد تداخل على الموضوع، وعلق قائلا: "الشاعر المحلّق بجناح الشعر وجناح الحبّ الأستاذ محمد الصالح الغريسي
أيها العزيز .. كأنّك كنت تراني وأنا أرسل نحوك رسالة.. فأجد .. وما أجمل ما وجدت .. رسالة حبّ أخويّ رائع إلى الرائع الأستاذ صالح الطائي ومن خلاله إلى أحبابنا وأهلنا في العراق الشقيق ..
أشكرك أيها العزيز محمد الصالح على هذه التحيّة الصادقة المخلصة العابقة بطيب المحبّة الصافية ..
وأسجّل أنّ هذه الرسالة تنطق عنّي وإن حملت اسم العزيز محمّد الصالح الغريسي ..لأنّه أرسلها باسم تونس وأنا من أهلها ..وبين العراق وتونس قصّة حبّ خالدة.

87
العنونة وإعجاز الحضور ولعبة زهير البدري
صالح الطائي
للمرة الرابعة يطل علينا الأديب الواسطي زهير البدري بمجموعة شعرية أسماها "سأموت واقفا"، وهي من شعر النثر الذي أدمن عليه البدري، ودافع عنه بضراوة، إلى درجة أنه بدا يقرأ كل ما كتب ويكتب عنه، ليُكوِّنَ فكرة تمكنه من أن يدافع من خلالها عن معشوقه.
وللمرة الرابعة بدت عنوانات البدري غريبة، مستفزة، نافرة، مشاكسة، ناعمة أحيانا وخشنة في أحيان أخرى إلى حد التطرف؛ ابتداء من عنوان المجموعة، وصولا إلى عنوانات القصائد والمقطوعات.
والملاحظ هنا أني استخدمت جمع (عنوانات) بدل (عناوين) الشائع لأن هناك خلاف في استخدام هذا الجمع، وقد ذهب المختصون إلى أن (عنوانات) صحيح اتفاقا، وأما استخدام الجمع بصيغة (عناوين) ففيه نزاع وعدم اتفاق، والأكثرون يذهبون إلى أنه خطأ شائع؛ لأن العنوان في الأصل مصدر. وقد اشتقت (العنونة) من هذا السجال الجميل، وبرزت إلى الوجود بعد أن اهتم بها المتخصصون. ونحن هنا نسير على أثرهم لنتحدث عن العنمونة لدى الأديب الواسطي زهير البدري.
لقد ضرب البدري في سياق مجاميعه الأربع مثلا على أهمية العنونة، وأحقية الانشغال بها، والاشتغال عليها، وهذا يؤكد لنا أن انتباه الأوربيين إلى أهمية عنوانات الأعمال الأدبية والإبداعية كان مجرد سبق تاريخي لا أكثر، وألا فالعنونة كانت مهمة وملهمة وتحظى بالاهتمام منذ أن وُجد الكتاب، وفي تراثنا العربي هناك آلاف المؤلفات التي صيغت عنواناتها بكثير من الاهتمام والعناية والتقدير، بما يعني أن أجدادنا عرفوا أهمية العنونة، وأجادوا استغلال الفرص للإفادة منها، أما اهمالنا لها، فهو جزء من الاهمال العالمي؛ الذي تعرضت له على مدى سنين طوال، إذ لم تحظى العنونة بالرغم من أهميتها بالاهتمام مرة أخرى حتى في العالم الغربي إلا في عام 1968 بعد أن صدرت دراسة بعنوان "عناوين الكتب في القرن الثامن" تقدم بها عالمان فرنسيان؛ هما فرانسوا فروري وأندري فونتانا من خلال كتاب مثل باكورة الأعمال النقدية التي تهتم بالعنوان. والظاهر أن تكرار التحشيدية لدى الأدباء والشعراء دفع النقد الحديث إلى الاهتمام  بظاهرة العنونة، ففتحها مجالا للنظريات  اللسانية والسيميائية بعد أن أصبح العنوان موضوعاً رئيسياً له أثره في المنتج الفكري الإنساني، وليس هامشياً كما كانوا ينظرون إليه من قبل، فالعنوان وفق الرؤى النقدية الحديثة يعتبر عتبة من العتبات النصية، إذ اعتبر النقد المعاصر أن موازيات النص مثل العنوان، التمهيد، المقدمة، الحواشي هن العتبات الأساسية للدخول إلى ردهات النص والتمتع بما جاء فيه من رؤى.
من هنا أرى أن العنوان هو اللحظة التنويرية المبدئية لفحوى النص، والبوابة الرئيسية التي تفتح النص على الجهات الكونية الأربع، والنقطة المشتركة بين المتلقي والنص. ويعني هذا أن العنونة فن لا يقل أهمية عن صياغة النص نفسه، فهو واجهته، والممهد لسبيل سيره، والمعلن عن وصوله، والداعي إلى استقباله، وللعنونة خصوصية وأهمية تصل أحيانا إلى درجة التحكم بالنص، فهي التي تدفع بالنص إلى الواجهة، وهي التي تحجب النص عن الأنظار، وتضع بينه وبين المتلقي حجابا في أحيان أخرى.

إن أهمية العنوان تأتي من كونه يحدد مغزى المتن، حتى أن قيمة المتن الأدبية تنخفض وتكاد تتلاشى مع عدم وجود عنوان، والعنوانات أنواع منها الايحائية؛ التي تهدف إلى لفت الأنظار إلى أمر خارج سياق العنوان نفسه، والاستهلاكية أو الإغرائية؛ وهي التي تنضوي على كم من الخداع بغرض الترويج للنص، والاستفزازية؛ وهي التي تعمل على التأثير على المتلقي،  والتوضيحية؛ وهي التي تريد توضيح مقاصد النص، والتعينية؛ وهي المسؤولة عن تسمية العمل الأدبي، لتفرق بينه وبين الأعمال الأخرى.
إن عنوان العمل الأدبي الرئيس يدل غالبا حتى ولو عن طريق الإيحاء والسيموطيقيا على جميع العناوين الثانوية الداخلية، ولكل عنوان بواعثه وأسبابه ودوافعه وغاياته. فنظرا للطبيعة الدلالية للعنوان على أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية، نراه يشغل حيزا كبيرا من علم العلامات أو السميوطيقا في دنيا الاتصال الأدبي، سواء بين مكونات النص الواحد، أو بين المنتج والمتلقي، ولا أغالي كثيرا إذا ما قلت إن المبدع يعطي لكتابة العنوان من الأهمية والاهتمام ما يعطيه للنص ذاته وربما أكثر، فمقاصد العنوان أن يفتح لك كوة تطل من خلالها على ما بين دفتي الكتاب، فالمعروف أن هناك هوة فاصلة بين المتلقي والعمل ، أي عمل؛ يقع بين يديه، لأنه لا يدري علام سيطلع، وماذا سيواجه داخل الكتاب، وهو حينما ينشغل بقراءة العنوان والتمعن في معناه ومقصداه ستتحول هذه اللحظات إلى مرحلة إحماء وتهيئة لدخول عالم النص، وربما لهذا السبب نجد من يكتب عن شعرية العنوان، حيث عثرت على أطروحة دكتوراه بعنوان "شعرية العنوان في الشعر الجزائري المعاصر" تقدمت بها الطالبة مسكين حسنية إلى جامعة وهران ـ السانيا ـ كلية الآداب واللغات والفنون.
وهنا تتجلى أهمية لعبة العنوانات ولعبة فن العنونة. حيث تتضح الفكرة من العنوان كقيمة اصطلاحية مدياتها واسعة، تفتح الآفاق وتقرب المسافات وتهيء العقول لتجني ما تبحث عنه لأنه وسيلة الاتصال الأولى لكل باحث عن سبل لإقامة علاقة فكرية واتصال نوعي بين كيانين يختلفان كليا، بين القارئ والمبدع.
من هنا جاءت عنوانات البدري متساوقة مع مضمون مجاميعه بدءً بالمجموعة الأولى (إننا معا) ثم الثانية (طقوس صوفية) والثالثة (حوار مع صديقي المتوسط) والرابعة (سأموت واقفا)، فهو من خلال كل هذه المجاميع كان يتماهى مع سحر العنونة، ليختار من حدائقها الأجمل والأكثر قربا لروح النص، لذا لا غرو أن تجده في مجاميعه كلها يتحدث عن  الروح والزمان والمكان والمشاعر وبشكل متكرر، لكن بصيغ جديدة مبتكرة، ولقد رصدتُ هذا التوجه في نتاجه منذ مجموعته الأولى التي تجد عنواناتها قد احتلت أربع قواعد رئيسة وقواعد فرعية أخرى، والرئيسة هي: المشاعر، الروح، الزمان، المكان، ففي عنونة المشاعر تجد في المجموعة الأولى: انتظار، زيارة، أردت أن أكتب عنك،  الإخوة الأعداء، وعشرات العنوانات الأخرى التي تكررت من حيث المحور ولكن باختلاف المعنى في المجاميع الأربع.. وكذا في عنونة الروح: الدنيا محبة، ممكن، آخر الكلمات، نصيحة، حلم وأمل.. وفي محور الزمان: سفرة ،هل فات الميعاد، بعد كل وداع، وقت ضائع، زمن .. أما في محور المكان فتجد: طني، الجنة، دمشقية، شرقيون، مكانك قلبي.
إن للعنونة لدى الأديب زهير البدري بوارق أمل تتممها براعة المقطوعات النثرية لتكون ألقا ساميا يرقى إلى مواشجة عذوبة الروح وعذاباتها، حيث تمتد معاناة الجميع، جميع الباحثين عن أمل بغد مشرق سعيد، ولقد احجمت عن إيراد مقاطع من نصوصه، لكي أترك للقراء متعة المتابعة والقراءة والتفاعل.
مجموعة سأموت واقفا، صدرت عن دار المثقف للطباعة والنشر في بغداد وتضم 49 نصا من شعر النثر، وتتوفر الآن في المكتبات


88
اغتيال
تأبين ليس متأخرا
وداعا علاء مشذوب، وداعا صديق الكلمة، ورفيق المصير، فالكلاب التي نهشت لحمك لا زالت تطاردنا، لا زالت تعوي علينا، والأرض التي احتضنتك لا زالت تمد يديها لاستقبالنا، ونحن مهيؤون لحمل حقائبنا والسفر بعيدا دون موعد، وربما السفر دون حقيبة، فما في الحقيبة هو الذي قتلنا.
كل واحد منا يتوقع أن يكون هو اللاحق، أنا بالذات، أحلم يوميا بذلك، كلما سقط صاحب كلمة صادقة مضرجا بدمه، فأنا ومنذ سنين طوال أظن بل أوقن أني إعلان قتل مؤجل التنفيذ، ولكنه راسخ في البال، وسينفذ في يوم ما لا وفق هواي، بل  بالطريقة التي تعجبهم، وليس في يدي أكثر من أن أسقط على الأرض مضرجا بدمي، ولكني حتى وأنا أهوى إلى الأرض، لن أتنازل عن كلمتي فهي شرفي، وهي حياتي فبالكلمة يحيا الإنسان حتى وهو ميت!.



89
توحش الإنسان وعقوق الطبيعة الأم
صالح الطائي
صدر العدد الخامس، شتاء ٢٠١٩ من كانون الثاني/يناير من مجلة (همس الحوار) اللندنية، Vol 5, Winter (January) 2019 الخاص بمحور: الطبيعة: دمارها وحمايتها ~ Nature. Destruction. Protection. زاخرا بمواضيع شتى، منها:
 1ـ توحش الإنسان وعقوق الطبيعة الأم/ الدكتور صالح الطائي
2ـ استراليا: البيت أم الارض؟ ~ Aboriginal Art / Emily Porter
3ـ الصحارى والجبال ~ Desert Versus Mountain / الدكتورة منى العلوان
4ـ تطور الأنسان الفكري والنفسي وأثره على البيئة والطبيعة/ أحمد بسيوني
5ـ  Basra and its Culture ~ تنوع التراث الشعبي بالبصرة/ Ali Abu-Iraq
6ـ الطبيعة والبيئة في الموصل/ سالم صالح سلطان
7ـ الحفاظ على البيئة من الحروب والبشر/ حواس محمود
8ـ  Wild Geese/ By the American poet Mary Oliver
8ـ  Wars on Nature  The Effect of ~ الحروب وأثرها في الطبيعة/ شاكر عبد القهار الكبيسي.
وقد جاء في خلاصة بحثي الموسوم "توحش الإنسان وعقوق الطبيعة الأم":
قد يبدو للبعض أن موضوع الحفاظ على البيئة أحد القضايا التي اهتم بها الغرب، وأخذناها عنهم، وتعلمناها منهم، لسبب بسيط وهو أن الغرب اهتم بالبيئة بقدر اهمالنا لها، وهذه معلومة ليست حقيقية، فالإنسان في كل مكان أسهم بأعماله الهمجية في تدمير البيئة حتى وصلت إلى درجة تقلص طبقة الأوزون التي تهدد الأرض بالخطر الماحق، وألا بماذا نفسر تلك المحاولات المحمومة لتلويث البيئة وتدميرها منذ آلاف السنين، ومع جهلنا فيما كان يفعله الإنسان الأول إلا أن هناك مؤشرات يقينية على أن الهنود كانوا أول من استخدموا في حروبهم التي خاضوها قبل الميلاد بألفي عام حواجز كثيفة من الدخان والأبخرة السامة التي تسبب الارتخاء والنعاس كنوع من أنواع الحروب الكيمياوية.
وفي وقت مبكر من تاريخ العالم، وتحديدا قبل الميلاد، استعملت مملكة سونج تشاو الصينية في عصر الممالك المتحاربة، أبخرة الزرنيخ في حروبها، لتسجل هذه الأسرة أول استخدام معروف للبارود في الحروب.
ولم يستخدم قدماء اليونان الغازات السامة إلا في سنة 431 ق.م استخدموها على شكل لهب يطلق بواسطة قاذفات كبيرة ( المنجنيق ) وكانت على شكل الكبريت والفحم والقطران، وهذا يتعارض مع ما ذهبت إليه موسوعة المعرفة بادعائها أنهم اول من أستخدم الغازات السامة في الحروب.
وهكذا يتضح التاريخ القذر للحروب، وتسببها في تدمير البيئة منذ بدايات الوعي الإنساني، وهو أمر كان على الإنسانية أن تتجاوزه في خلال سيرورتها التاريخية، ولكنه للأسف لم يتوقف بل استمر ينمو ويتطور مع تطور الأمم حضاريا، فمنذ ذلك التاريخ، وصولا إلى القرن العشرين، كانت الحروب أحد أكثر عوامل التأثير السالب على البيئة، ولاسيما بعد أن طوع الإنسان معطيات التحضر ليستخدمها كأدوات للتدمير الممنهج الشامل. وكم هو جالب للدهشة أن تجد أكثر الشعوب رقة ورقيا وحبا للجمال والثقافة تنبري من بين الجموع لتكون الأولى في خرق نواميس الطبيعة باستخدام ما يقتل الطبيعة، حيث كانت فرنسا أول دولة حديثة تستخدم الأسلحة الكيمائية إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث استخدمت الغازات المسيلة للدموع ضد القوات الألمانية في محاولة لوقف تقدمها، وهو الأمر الذي شجع الألمان على استخدام الغازات المسيلة للدموع ضد الروس، ثم ما لبثوا أن استخدموا غاز الفوسيجين ضد القوات الإنجليزية عام 1915، واكتشفوا بعد ذلك غاز الخردل واستخدموه ضد الجيوش الأخرى، فتسبب بقتل مئات الآلاف من البشر، وترك آثارا مدمرة على البيئة.
وحتى بعد أن شعرت الإنسانية بالأثر التدميري لهذه المواد، فإنها بدل أن تسعى إلى وقف هذا التخريب الممنهج، بدأت في تطوير صناعاتها، لتتمكن بعد ذلك في مرحلة الحرب البيولوجية من استخدام أسلحة الدمار الشامل التي تسبب أضرارا جسيمة للإنسان والحيوان والطبيعة، والمصيبة الكبرى أن أكثر البلدان المعاصرة حبا للسلام ودفاعا عنه كانت السباقة في هذا المضمار، حيث كانت اليابان أول من أنتج  القنبلة البيولوجية التي تحتوى على ميكروبات تسبب أمراض التيفوئيد والكوليرا والطاعون والكثير من الأمراض الأخرى. وهذا ما حفز الدول الأخرى لتبدأ في إنتاج الأسلحة البيولوجية؛ التي ضمت أنواعا أخرى من مسببات الأمراض مثل مسبب مرض الجمرة الخبيثة، ومرض الكوليرا، ومرض الطاعون، ومرض الحمى القلاعية، ومرض التيفوس الوبائي وغيرها.
فعاش العالم رعب الخوف من الأسلحة الكيميائية التي تحوي غازات الأعصاب مثل غاز الزاراين، والغازات الكاوية مثل الخردل، والغازات الخانقة مثل الفوسيجين، وغازات الهلوسة، وغازات الدم كالحامض الهيدورسيانيك وغيرها. ورعب الخوف من السموم الكيميائية مثل الصوديوم والبوتاسيوم والأبخرة السامة جدا التي تهاجم أجهزة التنفس أو الهضم وتؤدى إلى موت الخلايا والوفاة، فضلا عن الأثر الذي تتركه على الحيوانات والطبيعة بشكل عام. وصولا إلى استخدام الذرة الذي ابتدئ بتفجير قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونكازاكى اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها بين موت وإصابة وتشويه مئات الألوف من البشر، ولا زالت آثارها التخريبية على البيئة فاعلة لغاية هذا التاريخ. وللأسف حتى مع حديث العالم عما يعرف بالردع النووي، إلا أن السعي لإنتاج أسلحة دمار شامل أخرى أشد ضراوة من القنابل الذرية بقي فالعلا إلى أن توصلوا إلى صنع القنابل الفراغية، وأنواعا أخرى لم تصرح عنها الجهات المنتجة.
ومن المآسي الكبيرة أن الطبيعة نفسها وظفت لتدمر ذاتها بذاتها بمساعدة وتدخل الإنسان، مثلما حدث في منطقة الخليج بعد حرق آبار البترول أثناء الغزو العراقي للكويت، وقيام داعش بحرق الآبار النفطية والخزانات في المناطق التي أجبرت على الانسحاب منها مثل مصفى بيجي والقيارة وعين زالة، مما تسبب في تساقط أمطار حامضية تركت أثرا تدميريا على التربة والمزارع والحيوانات والحياة النباتية والمائية.
وحتى مع كل هذا التدمير الواسع كان موقف الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية دون المستوى المطلوب، فمع استخدام تقنيات التغيير في البيئة، التي عرفتها "اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى 1976" في المادة الثانية منها على أنها: أية تقنية لإحداث تغيير – عن طريق التأثير المتعمد في العمليات الطبيعية – في دينامية الكرة الأرضية أو تركيبها أو تشكيلها، بما في ذلك مجموعات أحيائها المحلية (البيوتا) وغلافها الصخري وغلافها المائي وغلافها الجوي، أو في دينامية الفضاء الخارجي أو تركيبه أو تشكيله. حتى مع ذلك نجد نوعا من التهاون الدولي ففي الوقت الذي تأخر فيه صدور إعلان مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية الذي أقر في استكهولم في 16 يونيه/حزيران 1972، إلى هذا التاريخ، لم تُقر اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى إلى عام 1976، وحتى مع توقيع الأعم الأغلب من الدول الأعضاء عليها، ونصها في المادة الأولى منها على:
1- تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بعدم استخدام تقنيات التغيير في البيئة ذات الآثار الواسعة الانتشار أو الطويلة البقاء أو الشديدة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى كوسيلة لإلحاق الدمار أو الخسائر أو الأضرار بأية دولة طرف أخرى.
2- تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بألا تساعد أو تشجع أو تحض أية دولة أو مجموعة من الدول أو أية منظمة دولية على الاضطلاع بأنشطة منافية لأحكام الفقرة (1) من هذه المادة.
إلا أن استمرار تطوير الأسلحة المدمرة للبيئة، واستخدامها المتكرر في جغرافيات مختلفة لا زال فاعلا ومؤثرا، وتكاد دول العالم الثالث والدول المتأخرة بما فيها الدول العربية التي تعاني من أزمة في تحديد الهوية وتطويع ثقافة التعايش أن تكون الضحية الأشهر لها وأن تستخدمها بنفسها يوميا حتى ضد شعوبها، مع وجود تهديدات خارجية بتدمير المنشآت النفطية وضرب المفاعلات الذرية الذي ممكن أن ينفذ في أي وقت، دون اعتبار للإنسان والحيوان والطبيعة.
وفي العودة إلى مقدمة الموضوع التي ورد فيها قولي: " قد يبدو للبعض أن موضوع الحفاظ على البيئة أحد القضايا التي اهتم بها الغرب، وأخذناها عنهم، وتعلمناها منهم، لسبب بسيط وهو أن الغرب اهتم بالبيئة بقدر اهمالنا لها". أود الإشارة إلى أن دين الإسلام وضع قواعد مهمة للتعامل مع الطبيعة وموجوداتها، ابتداءً من المهمة الأولى التي أعطاها الرب للإنسان، إذ هناك في كتاب الله آية تقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}﴿البقرة: 30)
وهي حوارية بين الرب وملائكته، يخبرهم الرب فيها بأنه سيخلق إنسانا، ويسكنه الأرض، وأشار إلى هذا المخلوق بلفظ "الخليفة"، والخليفة لغة: من يخلف غيره ويقوم مقامه! بمعنى أن لهذا المخلوق أهمية قصوى، وستوكل له مهمة الحفاظ على الكون المحيط به، باعتبار أن الأصل الذي هو الله تعالى، خلق ذلك المحيط من أجل منفعة هذا المخلوق، كما في قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)، وان الرب رتب أمور الكون العامة لتصب في مصلحة المخلوق الخليفة المبتكر، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ  (*) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ  (*) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ  (*) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 30ـ 33) ولذا أمره بأن يحافظ على البيئة ويتعامل معها باحترام كبير ويبتعد عن تلويثها حتى ولو من خلال التلوث الضوضائي البيئي، ومن هنا خاطب الربُ الإنسان بقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{(لقمان: 19).
أما على مستوى السنة النبوية فهناك منظومة حديثية وتشريعية واسعة ومهمة، تُقيد الإنسان ضد أي تعامل قاسِ مع الطبيعة، فعلى سبيل المثال، أعطى الإسلام للحيوان (113) حقا لا يجوز انتهاكها، كما في قول النبي(ص): "من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة يقول: إنّ فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني منفعة".
وقال(ص): "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".
وقال(ص): "غُفر لامرأة مومس مرت بكلب على رأس ركي يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك".
وفيما يخص البيئة، أمر بالحفاظ عليها، وحثهم على تجميلها، كما في حديث جابر أن رسول الله(ص)، قال: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منو طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". وحديث أنس بن مالك، قال: "كانت شجرة في طريق الناس تؤذي الناس، فأتاها رجل، فعزلها عن طريق الناس. فقال النبي (ص): "لقد أ ريته يتقلب في ظلها في الجنة". وأجمل تلك الآراء بقوله(ص): "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فيه له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يُرزؤُه أحد إلا كان له صدقة".
فضلا عن ذلك، أمر(ص) بزراعة الأرض الصالحة، وإصلاح الأرض الميتة والإفادة منها، كما في قوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له". وقوله: "من كانت له أرض فليزرعْها، أو ليمْنحْها أخاه". بل وصل الأمر أنه أمر بالزراعة على كل الأحوال حتى عند أكبر المصائب، فقال: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها".
وأمر بإكرام الأشجار المثمرة، فقال(ص): " أَكْرموا بني عمّاتكم النّخل"
وفي جوانب أخرى، نهى رسول الله (ص) عن الاغتسال في الماء الراكد حتى لا يلوث فقال: "لا يغتسلنَّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". وفي رواية أخرى، قال: "لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه".
وأمر بترشيد استهلاك المياه حفاظا على البيئة، فقد "توضأ ثلاثا، وقال: من زاد فقد ظلم وأساء". وفي حادثة أخرى: "إنه(ص)، مرّ بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وان كنت على نهر جار". ثم أجمل الرؤية الإسلامية بقوله: "ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء"





90
ما هكذا يا بعض الشعراء
صالح الطائي

حضرت أكثر من مرة أماس لقراءات شعرية، في بعضها حضر شعراء من محافظات أخرى بما فيها بغداد، لم ترق جل قصائدهم إلى مستوى ذائقة الحضور، وكأن الذي اختارهم، تعمد أن يسيء إلى الذائقة وإلى فطاحل الشعر الذين تسحر قصائهم الجمهور، لأنه على يقين أن مجرد حضور شاعر واحد من أولئك الشعراء المجيدين سوف يعرِّي مدعي الشعر هؤلاء ويفضحهم، فيفشل حفلهم، وتتكشف حقيقتهم. وهذه أنانية أدبية كانت موجودة في مجتمعنا من قبل، ولكنها تضخمت بعد التغيير في 2003 نظرا للفوضى وفقدان المقاييس وتبدل المفاهيم.
ومن وحي هذه الجلسات وتلك النكسات، جاءت خربشتي هذه، وكأنها تريد أن ترسم صورة لما كان عليه الذين أوكلت لهم مهمة إفساد الذوق العراقي العام، وهي إن كانت في فوضاها مثل قصائدهم، مع أنها تترصدهم، فذلك ليس مشاركة مني في نشر تلك الفوضى، أو أني أعشق أن أكون مريضا بين المرضى، وإنما كتبتها وسطرتها ووزنتها وقفيتها؛ لكي تتسع رؤاكم وتتمكن من رسم صورة لما نحن عليه اليوم من قهر وضيم، ووتتخيلوا ما ألقوه على أنه شعر، وما كانوا يشعرون به على أنهم فطاحل اللغة، مع أن أغلبهم كسر المرفوع وجر المنصوب ورفع المجرور، ولا يعرف شيئا من أنواع البحور. وهذا ما دعاني إلى القول:

يا بط يا بط قد فاضَ الشطْ
صاحَ الديكُ قد شاخ القطْ
سقطَ الشِعرُ وانكسرَ المشطْ
وخبتْ بالشِعر قوافيهِ
وضاع الوزنُ !
لا ضوءَ أتى البستانْ
وأنا أترنحُ كالسكرانْ
أو حشَّاش في الأفنانْ
وسائق تاكسي ذاك المغرور
لا زال يداعب غليونه
ويسبل عينيه بلا وعيٍ
كأنه بنتٌ عذراءْ
تتلمَّس قطرات الماءْ
لتمسِّد شَعراً كالأسنانْ
والسائق بنتٌ عوراءْ
فقدت فردة نعليها في حفلةِ عرسْ
آه آهٍ من وجع الضرسْ
ومن الفلس إذا غاب عن الجيبِ
والمفتاح الأخضر
سامقُ في صدر الغيب
لا يعلم ما الغيبُ ..
كم هو عيبُ! ؟
وأنت ولا تدري ما عذري!
أأنت الدهري أم أنا دهري ؟
وفي ختام القصة يا أبنائي ,
 أقول :
لو كان البيت قريباً
سأهديكم بعض زبيبْ
 وصديقتنا لا زالت تنتظر العيد
لِأُرمِّشَ أو أبعث مس كول
لكنَّ ( الموبايل ) خالٍ من ذا الشحن
ومن زيت البترول
وبعد كل أزيز الظنْ
زدتوني وهنْ
وأنا رجلٌ يمتاح الشعرَ
وأنتم في اللوم
لازلتم أرباب الطعنْ
أرباب الطن
وشعر الظعن

91
أنا وانغلاق الكتابة
صالح الطائي

بعد أن كنت أنجز في العام الواحد من ثلاثة إلى خمسة كتب، أطبع وأنشر بعضها، واحتفظ بمسودات بعضها الآخر للمناسبات، أجد نفسي اليوم وأنا أعيش أزمة انتاج، فأنا أمر منذ عدة أسابيع، وتحديدا منذ أن أنجزت مسودة كتابي الأخير الموسوم "الحسين حاكما" بحالة من الركود الفكري، تعرف بانغلاق الكتابة (a writer's block)، ويُعرَّف انغلاق الكتابة على أنه ساعات أو أيام، يشعر فيها الكاتب والباحث أن مقدرته على الكتابة وصياغة الأفكار وتجميعها وتنسيقها قد توقفت دون سابق انذار. وتستمر مثل هذه الحالة في الظروف الطبيعية من عدة ساعات إلى عدة أيام، ثم تنتهي تماما مثلما بدأت، دون سابق إنذار، لكن بتشجيع وتحفيز بسيط.
المشكلة أني ومنذ بدء الأزمة، أحفز وأشجع نفسي باستمرار، وأحاول أن أبدأ بجديد أو أعود إلى قديم، ولكني في كل مرة، اصطدم بجار الرفض، مرة على شكل جدار نفسي أشعر معه بحالة من الاحباط، وثانية على شكل جدار جسدي أشعر خلاله بنوع من التعب والصداع، ولا أجد الاستجابة المطلوبة، وكأن تعب سنين البحث الطويلة، تراكم حتى خلق حاجزا بيني وبين ما أريد أن أقوله، أو أن الاشتغال بدون توقف وبدون فرصة للراحة واستعادة الأنفاس، قد استنفد ما في الفكر من حيلة نتيجة الجهد الذي يفوق الطاقة، أو ربما هي الخيبة والخذلان والمرارة التي يشعر بها الباحث حينما يرى كتبه مكدسة أمامه، ولا يرى الأثر الذي كان يرتجيه من وراء السهر والتعب والجهد والمال الذي صرفه من أجل انجاز كتاب ما وطباعته ونشره، في وقت نجد فيه أن المجتمع بحاجة ماسة إلى تلك الآراء والأفكار والتجارب التي وردت في الكتاب، بما يعني أن الحالة التي أمر بها اليوم ليست حالة طبيعية تنتهي من حيث تبدأ، وإنما هي حالة نكوص نفسي وشعور بالخيبة والخذلان، ستترتب عليه الكثير من المؤثرات النفسية التي تترك بصمتها على طبيعة الكتابة المستقبلية، فالانفتاح والتقوقع لهما تأثير مباشر على نمط استقراء الباحثين، ونوع الأفكار والرؤى التي يعالجوها، وكلاهما يتركان أثرهما على ما ينجزه الباحث، فتتلون رؤاه بشدة أثرهما، ومن ثم تنعكس هذه الرؤى على المتلقي وربما تؤثر فيه، فتخلق نوعا من توتر الفكر وجموح الاستنطاق لديه، يتسبب في إحداث ضرر للمجتمع بدل أن يعمل على دعم المجتمع لتجاوز بعض مشاكله حتى البسيطة منها!.
المشكلة الأكثر خطرا هي أن تتجاوز هذه الحالة الشخصية الطارئة نظامها الفردي لتصبح حالة جمعية عامة مشتركة، يعاني منها الباحثون في الوطن العربي كله، طالما أن ظروفهم العامة لا تختلف كثيرا عن الظرف الذي أمر به اليوم، ولاسيما وأن هناك دور نشر عربية تحاول من خلال الجشع والكسب الرخيص والسرقة المنظمة أن تفت في عضد الباحث العربي لتصرفه عن نشر وتوزيع نتاجه.

92
ممارسة الحلم في رواية "قنزة ونزة" للأديب شوقي كريم حسن، رؤية فلسفية
صالح الطائي
نجح العالم الغربي في تجاوز أكبر عقدتين في الوجود، فنجح فيما بعد في تشكيل رؤى جديدة مكنته من التربع على عرش التحضر والتقدم العلمي، الأولى هي نجاحه في التخلص من أسر التاريخ، والانطلاق في فضاءات اللحظة الحاضرة. ومن ثم نجاحه في تبديل وتغيير المفاهيم والمصطلحات الموروثة، ووضع مفاهيم ومصطلحات جديدة، تتماهى مع نمط حياته غير التقليدي، على خلاف باقي الشعوب الأخرى ومنها الشعوب العربية والإسلامية، ولاسيما الشعب العراقي؛ الذي يتمسك بمصطلحات ومفاهيم الموروث إلى درجة القداسة، ويقدس اللحظة التاريخية إلى درجة الجنون، حتى أنه لا يتمكن من إيجاد نفسه إلا من خلال نافذة التاريخ المفعمة بالشعارات، يطل من خلالها على دنياه الحاضرة، ليجري المقارنات والمقاربات، ليترجم حالة الأسر التاريخي التي يرفض التحرر منها، إلى درجة أنه يعتقد أن الابتعاد عنها عدة أمتار، سيلقي به في مفازة الربع الخالي بلا دليل.
لقد حاول بعض الأدباء تقليد الغرب في منهجهم التجديدي، دون أن يلتفتوا إلى هذه الجنبة، وخصوصيات الواقع، فجاء نتاجهم خديجا مهددا بالموت، ونجح غيرهم في توظيف هذه العلاقة وفق أطر كينونة الواقع لخلق واقع جديد، يسعى إلى إحداث عصف ذهني، ربما يُمكِن العربي من التمرد على قيود التاريخ، والانطلاق في عالم اللحظة. صحيح أنه أسلوب طارح للإشكالات، ولكن طالما أن له القدرة على تحويل  الإشكال إلى مشكلة والمشكلة إلى صعقة مثل صعقة الكهرباء، وقدحة مثل قدحة البرق، فهو ممكن أن ينجح في إحداث التغيير الذي نسعى وراءه. فالقطيعة مع الموروث ربما تحيل المرء إلى شجرة بلا جذور تهزها أبسط النسمات، لكن الاتكاء على الموروث وترك المعاصرة يحدث هشاشة في كينونة الواقع تعرضه إلى التهشم، ولا عذر لمن يدعي أن الموروث سلبنا فرصة التقدم، واننا يجب أن نفارقه إذا أردنا أن نخلق عالما مختلفا، فأنت إذا كنت ترغب أن يكون الحاضر مختلفا عن الماضي، ادرس الماضي، مثلما يرى "سبينوزا".
الأديب العراقي الكبير شوقي كريم حسن صاحب التجربة الأدبية الثرة، أحد الذين أبدعوا في هذا المجال، وتمكن وبجدارة من توظيف الموروث لدعم المعاصرة والتجديد، وله مؤلفات كثيرة تشهد له بذلك، جاءت عناوينها لتعلن للملأ تفاهة ما يتمسكون به؛ وهو يرى: "أنَ فشلَنا يجعلُنا نتمسكُ بأزمنةٍ كاذبةٍ، ونمجدُ أزمنةً نعرفُ جيداً إنها مجردُ عذاباتٍ لأناسٍ عاشُوها بتفاصيلِها، التأريخُ محضُ أكاذيبٍ، يصنعُها العقلُ الذي يبحثُ عن حبلِ إنجادِ، وهو يرى أيامَهُ تحاولُ إغراقِهِ في لججٍ مجنونةٍ" (ص8)، ولذا جاء بأيقونات تاريخية لينطلق من خلالها إلى دنيا الحرية، في الأقل هذا ما يصادفك عند بوابة الدخول إلى دنيا شوقي؛ التي تبدو في منتهى الفوضى، فوضى متعمدة جيء بها لتخلق عاملا إيحائيا معبرا، قد يبدو من الصعوبة بمكان أن نميز في داخله بين الصح والخطأ؛ في سعينا وراء الحلول. ومثلما يرى جيل دولوز في كتابه البرغسونية، تعريب أسامة الحاج: نحن لا نخطئ حين نعتقد بأن الصحيح والخطأ يتعلقان فقط بالحلول، لا يبتدئان إلا مع الحلول".
إن من الحقائق التي يجب أن لا نفوتها هي ملاحظة "برغسون" التي قال فيها:  "إن الإدراك والتذكار يتداخلان دائما". ونحن عادة ندرك الأشياء حينما تكون موجودة، أما تلك التي لا تشخص أمام نواظرنا فتثير فينا الكثير من الشك والحيرة.
من هنا أعتقد أن شوقي كان يعرف ماذا يعمل، وكان يحاول أن يحسن الصنعة لكي لا ينتقدها أحد، كان يشكو تلك القيود التي تشدنا إلى الأمس إلى درجة الاستعباد: "لهذا ترانا معلقينَ بسعفِ نخيلِ الأجدادِ، ووصاياهم، والمباهاةِ بماضٍ تليدٍ يثيرُ القيءَ، ويكشفُ عن مدى سفالاتِ أولئكَ الأجدادِ الذين ارتاحوا لمرأى الدمِ، وأدمنُوا الترحالَ إليهِ" (ص7)
كان يشعر بوطأة التاريخ علينا، وبثقله الملقى على عاتقنا، يراه يحمل القيود التي يربطنا بها إليه فلا نستطيع فكاكا منه، إلى درجة اليأس من التخلص من هذه العلاقة المشوهة التي تستصغر الإنسان وتقزِّمه وتسلب كيانه: "لا أحدَ يستطيعُ الانتصارَ على ماضيهِ.. الماضي هو رباطُنا الوحيدُ في اسطبلاتِ حياتِنا الحاضرةِ.. نصهلُ .. نرفسُ الأرضَ محتجينَ، لكنَ الأرضَ تشدُنا إلى عمقِ الدمِ الذي ارتوَتهُ" (ص7).
قد تبدو الرواية مضجرة حينما يتفلسف الروائي، لكن شوقي حول الفلسفة إلى ملهاة يشتهيها القارئ، ويبحث عنها في تلافيف جمله القصيرة المترعة بالنشاط: "ولكني موقناً تمامَ الإيقانِ أني واحدٌ من أعظمِ الهاتكينَ لنورِ الأسرارِ ، والباحثينَ عن عبورٍ لابُدَ منه" (ص6) لم اجد روائيا معاصرا يتحدث بهذه اللغة التي تفتح مغاليق الرؤى على عالم من خيال جامح هده العطش يبحث عن شربة يقين تبل شفاه قلبه.
حالة العجز التي تقعد الإنسان عن السعي وراء طموحه قد تكون وليدة علاقة بينه وبين ماضيه الممتد على عمق التاريخ، وهنا يأتي الفيلسوف من خلال العبث في مناطق المسكوت عنه ليلاعب المخيال ويخترق حجب الخيال ليعيد تراتبية الفهم وفق رؤى أقل ما يقال عنها أنها مغرقة بنوع من الفلسفة المحببة، فهو يهزا ممن يبحثون عن فرص مؤاتية، ويعتقد أن المؤاتاة يخلقها الإنسان نفسه: "كلُ الفرصِ يمكنُ أَن تُسميها مؤاتيةً، أذا ما عرفتَ كيفَ تستغلُ حضورَها الشيطاني. مخيلتُكَ التي أعطبَتها الحروبُ، والبارا تُ، والسياسةُ ، والأغاني التي تبعثُ على اليأسِ" (ص7).
شوقي لا يسير على الإسفلت ليصل إلى حي أو مدينة جغرافية، بل يأخذ بيد القارئ إلى عمق الموروث، إلى "طرقاتٌ موحشةٌ تمتدُ إلى عمقِ الأجدادِ"(ص6) ليريه فقط أنه أفضل منهم بالرغم من المعاناة التي يعيشها، والمشكلات الزائفة المحيطة به، يرى جيل دولوز أن المشكلات الزائفة نوعان: مشكلات غير موجودة، تتحدد بكون عناصرها بالذات إنما تستتبع خلطا بين الـ(مع) والـ(إلا) ومشكلات أسيء طرحها.
تجدر الملاحظة هنا أنه حتى على المستوى الأكاديمي هنالك تمييز بين العلوم الإنسانية، (المقصود بها الفطرية)، والعلوم الاجتماعية (المقصود بها الاكتسابية)، ويرى "جان بياجيه": أن هذا التمييز لا يكون له معنى إلا إذا تمكنا من أن نفصل لدى الإنسان ما يتصل بتكوين طبيعته بوجه عام، وما يتصل بمجتمعه بوجه خاص. وأولئك الذين يسعون إلى الفصل بين رؤية الروائي الفنية ورؤيته الاجتماعية فاتهم أن المادة في طبيعتها واحدة، أما ما يفسر تنوع الموجودات واختلافها فهي حركة الأجزاء المكونة للمادة وحجمها وهيئتها وترتيبها مثلما يرى "ديكارت".
إن الموضوع برمته يحتاج إلى نوع من الجرأة الوقحة، جرأة تبيح لك أن تتحدث عما تراه في الآخرين، ولا يرونه هم في أنفسهم، فنحن يمكننا أن نرى بسهولة في الآخرين ما لا نهتم أو نجرؤ على رؤيته في أنفسنا؛ مثلما قال "أوليفر ساكس". من هنا قد تكون جملا مثل: (كلُ ما أطلبُهُ، مساعدةُ فشلي على النهوضِ) و(دعينا ندخلُ المعبدَ  سويةً، نرتلُ ما تيسرَ من آياتِ رِضانا، حتى وأن كانَت كاذبةً) و(منذُ زمنٍ طويل، وأنا أربي اللحظاتِ في برجِ أفكارِي،  أدارِيها، أمنحُها الأمنَ، والطمأنينةَ ، وألونُ ريشَها بأعذبِ ألوانِ الحناجرِ، ولكنها بغفلةٍ تفتحُ بابَ البرجِ، وتغادر) و(التفريطُ بمجنونٍ مثلي، لا يمنحُ الحياةَ سوى الكثيرِ من السوادِ ، والخيبةِ ، الشعراءُ والمجانينُ هم  آياتُ خلقِ البياضِ الذي يمنحُ الاستمرارَ) و(الاختيارُ صعبٌ.. والوعي بهذا الاختيارِ هو المحنةُ التي يجبُ اجتيازَها لا تتصور إني راضٍ عن كلِ تلكَ الابتكاراتِ التي تثيُر دهشةَ الجميعِ ، لعبةً أمارسُها من أجلِ تحطيمِ تلكَ الأصنامِ التي لا أجدُ لها ثمةَ ضرورةٍ في حياتِنا) و(حاولتُ مراراً أن أقنعَ نفسي بضرورةِ تجاوزُ السؤالِ باتجاه الإجاباتِ فأعطانِي الارتباك، وسامَ الفشلِ) [ص9ـ10]، ومئات غيرها تمتد على طول صفحات الرواية، أحد أهم المؤشرات على نمط النَفَس الفلسفي الذي ينهجه شوقي في رواياته، وهو نمط يصعب العثور عليه بمثل هذه الكثافة المفرطة لدى الآخرين من كتاب الرواية لا العراقيين وحدهم بل والعرب أيضا، فقبالة هذا الكم من رمزية الفلسفة تجد لدى روائيين مشهورين أضغاث كلام خال من الدهشة على خلاف شوقي الذي لا يقدم كلمته إلى القارئ إلا بعد أن يعريها كليا ليتيح له النظر إلى أبعادها غير المرئية!
لقد تطبع الناس على الكلام، واصبح الكلام أحد اهم ركائز العلاقات الإنسانية، ولكنه حينما يخرج عن طوره، يتحول إلى معول هدام يقوض العلاقة بين البشر أو يستثير غريزيتها العدوانية، من هنا يرى "سبينوزا" أن العالم سيكون مكانا أسعد، لو امتلك الناس قدرة على الصمت بنفس قدرتهم على الكلام. وقد تأتي الروايات كأداة تشد القارئ إليها لكي يقرأ ويتوقف عن الكلام. وهي ليست دعوة للصمت الأبدي وإنما محاولة لاستثارة الغرائز، يعتقد "جيل دولوز" أننا حين نسأل: لماذا شيء ما أفضل من لا شيء؟ أو لماذا النظام بدلا من الفوضى؟ أو لماذا هذا بدلا من ذاك ـ ذاك الذي كان ممكنا أيضا؟ نقع في العيب نفسه، نخلط بين الزائد والناقص، نتصرف كما لو أن اللاوجود كان قائما قبل الوجود، والفوضى قبل النظام، والممكن قبل المستحيل.
لقد حاول شوقي أدلجة أطراس الحديث لتخرج عن طور المألوف إلى الإدهاش العميق بعيدا عن سباتية الوصف الفوضوي الثقيل الذي يشعرك بالملل، فأنت لابد وأن تشعر بجمل مثل: "والروحُ تنظرُ إلى امتداد الدربِ علَها تلمحُ مشيتَكَ المتعثرةَ .. لا يمكنُ أن نبقى هكذا.. ترممُ أوصالي ، وتتوضأُ بمكرِ إبنِ آوى بضوءِ صمتي الذي لا يستقرُ عندَ تلكَ اللحظاتِ المأبونةِ" (ص12) و "كلُ ما أطلبُهُ بعضاً من خمرِ الأملِ .. وأغنيةً تحاولُ تدجينَ طائرِ الروحِ  الغاضبِ" (ص12) تدغدغ تلافيف دماغك كقط يحد مخالبه متحفزا للهجوم على فريسة يعرف أنها صعبة المراس!
في أغلب رواياته يحاول شوقي التحرش بالموروث الديني، وربما الإيحاء إلى أن الإنسان ليس ابن الإله، بل ابن الحرب، ربما لأن الإنسان لا يوجد إلا بعد حرب ساخنة بين رجل وامرأة في لحظات بوهيمية غير واضحة الملامح، وفي اللحظة التي يوجد فيها، يشهر سيفه محاولا فك قيود أسر يمتد إلى تسعة أشهر، وحينما يتحرر ويخرج إلى الشمس، يجد المحيطين به يبحثون عن غاياتهم من خلاله، مما يكلفه خوض حرب أخرى، وتستمر حروبه إلى أن يجردوه من سيفه ودرعه ورمحه ليهيئوه إلى الرحيل الأبدي، وهو ما وصفه شوقي بقوله: "لا أحدَ يستطيعُ القضاءَ على الألمِ أو الشيخوخةِ، واحتضارِ الموتِ، إننا هنا من أجلِ أن نفقدَ حضارةَ أرواحِنا .. هذا ديدنُ الحروبِ"(ص15).
ويرى شوقي أن وجوده في عالم المحسوس الدنيوي أكثر صدقا من تلك الصور المتخيلة عن العالم الافتراضي الآخر الذي سنذهب إليه، ولذا قال: "لا معنى لحياةٍ لا تهمُني بشيءٍ ولا أريد أن أتوغل داخلَ تلكَ الصورِ المتخيلةِ .. الواقعُ ما يهمُني... تلكَ الأنهارِ المملؤةِ خمراً والجميلاتُ الباذخاتُ بالرغبةِ لا أحتاجُ إليهنَ ... كلُ ما احتاجَهُ العودةَ من حيثُ أتيتُ لحقيقةِ وجودي ووجودِكَ"(ص16).
من هنا قد يرى البعض أن المضمون الروائي لشوقي يحاول تغريب النص الديني وربما الهزء به ولو من طرف خفي، لانضواء رواياته على كم كبير من المفردات والإيحاءات والإشارات الإلحادية أو القريبة منها مضمونا، إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تصدق بالمرة، ولا تصدقوا أن فردا ولد وترع في بيئة شعبية فقيرة بسيطة، يملك الجرأة ليتحدى عظمة الإله، فهذا المخلوق حتى في أشد لحظات تمرده تجد في داخله خوفا خفيا لا يعرف كنهه غيره، إن كان سابتا نهارا ولا يتبين ملامحه الآخرون، فإنه يتغول ليلا ليتحول إلى قلق يقض المضاجع، والإنسان يتجنب مواطن القلق عادة ليهنأ بساعات هدوء.
إن أسلوب التهكم بالعقائد ليس جديدا، فهو تاريخي بامتياز، ولكن غاياته تختلف من مرحلة إلى أخرى. وبرأيي لم يكن أفلاطون متجنيا عندما قال: "كل إنسان مسؤول عن مصيره" فهو حينما روى مغامرات (الأرمني) في الكتاب العاشر من الجمهورية، أراد أن يقول: إن كل إنسان مسؤول عن اختياراته، والآلهة لا دخل لها... الله برئ، ونحن نكون قدرنا" وهذه وإن كانت قد صيغت بأسلوب جريء إلا أنها تشير في معناها إلى حقيقة دينية، قال تعالى عنها: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} وقال رسول الله عنها: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
هكذا هو شوقي، حاول أخذ بعض الحقائق الدينية اليقينية، ثم أعاد صياغتها على لسان أبطال رواياته بأسلوبه الجريء، فبدت وكأنها استهزاء باليقين الديني، أما الغاية من ذلك فهي محاولة قريبة من منهج ماركس الذي سعى عبر رؤاه إلى القضاء على الطبقية في المجتمع. لقد تحولت هذه الرؤى إلى فكر أخلاقي معاصر يعتبره المجتمع حقا مكتسبا من ضمن الحريات الأساسية التي أسس لها سبينوزا في كتابه اللاهوتي السياسي، من خلال قوله: "إن العدالة تعتبر الأشخاص متساوين، وتصون بالتساوي حق كل واحد منهم" وهي فكرة المشاركة المتساوية في الحقوق الأساسية التي دعا إليه جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي". إن من العدالة والإنصاف أن نتقبل رؤى المحيطين بنا أو في الأقل نكف عن انتقادها في ذات الوقت الذي نتقبل فيه رؤى الآخرين ونعتبرها من المسلمات ونحولها إلى مناهج علمية في مؤسساتنا التعليمية. ومن هنا بدا شوقي متمردا على المعتقد الديني! ولكنه أذكى من أن يدعي العداء مع الدين أو يدعو إلى مواجهتهن فالعلاقة بين الإنسان والدين ليست بتلك السذاجة التي يراها البعض، وهي على مدى تاريخ الإنسانية كانت ثيمة كاملة الوضوح، ليس بمقدور أحد إنكار حقيقتها، وهو الأمر الذي استدعى الحكماء والفلاسفة إلى التأكيد على تلك الرابطة الغريبة بأقوال فيها الكثير من الحدية المفرطة، ليقول " شيشرون": "ليس من أمة مهما توغلت في التوحش، إلا ولها إله تعبده حتى ولو جهلت من تعبده". ويقول "سينيكا": "فكرة الاله فطرة في الجميع حتى أنه لا يوجد شعب، مهما خلا من الشرائع والأخلاق أن يخلو من الإيمان بإله. ويقول "فولتير": "اذا ساْلنا زرادشت وسولون وسقراط وشيشرون نجدهم قد عبدوا سيدا وقاضيا وأباً. فهذه العبارة ضرورية للإنسان، وهي للألفة رباط مقدس، وللعدل أساس وطيد، وللشر لجام كابح، وللخير رجاء صالح. ولو لم يكن هذا الاله موجوداً لدعت الضرورة إلى أن يُختَرَع وجوده.
يرى بعض المتخصصين بعلم النفس أن الإنسان مجبول على الخوف، ولاسيما الخوف من المجهول، وقد انتبه شوقي لهذه الجنبة فهو من جهة جاء بعبارات تدل على شجاعة متطرفة، فالشجاعة ألوان وأنواع وأكثرها تطرفا هي أن يتساوى الموت مع الحياة في قلب إنسان، وهذا ما قال عنه: "دعنا نغادرُ المكانَ مادامَ الموتُ يشبهُ الموتَ واللحظةُ تشبهُ اللحظةَ"(ص17) لكنه في محطات أخرى أراد أن يبين أنه مثل غيره من البشر يحب الحياة مثلما يحبونها، ويخاف عليها مثلما يخافون، إلى درجة أنه يرفض الولوج إلى المجهول دون أن تأخذه قشعريرة الخوف فترتعد أوصاله، وهي السمة التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وهو ما قال عنه: "الأبوابُ تخيفُني لأنها تشكلُ مجهولاً مفزعاً بالنسبةِ لي"(ص51) لكن ذلك لا يعني أكثر من لحظة تردد دافعها التحرز والبحث عن موطئ القدم بدل أن يلقي بها العبث حيث لا ترغب، فالتحدي من سمات شوقي، تجده ماثلا في كثير من أقوال أبطاله التي هي أقواله وسيرته: "الخيارُ الوحيدُ الذي كانَ يلوحُ بكلتا يديهِ أمامي، هو أن  تمتدَ أصابعي الأوهن من ورقِ الخسِ لتطرقَ بابَ المجهولِ"(ص52) فثمة روح مجازفة تقبع هناك في أعماقه، تدفعه دائما إلى تقحم النقاط الأشد خطورة بحثا عن الذات: "علمَتني الليالي إنَ أجملَ ما يمكنُ لكائنٍ مثلي أن يعيشَهُ، هي تلكَ الرفساتِ البريئةِ التي تحاولُ اختراقَ ظلمتِها من أجلِ الوصولِ الى بوابةِ ضوءٍ لا تعرفُ الى أينَ تتجهُ به"(ص53).
إن هذا التناقض الغريب الذي يبدو محشوا بالتردد والمغامرة والطيش، ينهار أمامك مثل تل من رمال حينما تستمع إلى صراخ شوقي الذي يعترف من خلاله على معلمه الأوحد وكأنه معتقل برئ يقف معصوب العينين واليدين أمام محقق مديرية الأمن العامة: "علمَتني الليالي إنَ أجملَ ما يمكنُ لكائنٍ مثلي ان يعيشَهُ ، هي تلكَ الرفساتِ البريئةِ التي تحاولُ اختراقَ ظلمتِها من أجلِ الوصولِ الى بوابةِ ضوءٍ لا تعرفُ الى أينَ تتجهُ به"(ص56) وهذا ليس تصنعا، فالذين عاشوا بين الأزقة والشوارع والسواتر حيث يتصارع الفقر والفضيلة، كل منهما يريد أن ينتصر، لا يخرجون من الحياة بأقل من حملة الشهادات العليا إدراكا للحقيقة، بل قد يتفوقون عليهم لأن المعاناة تسهم في تطبيع الإنسان على معايشة كل الظروف، مثلما لم يفعل أي إنسان آخر: "أحاولُ ارتداءَ حرارةَ الأيامِ التي عشتُها بين الأزقةِ والشوارعِ والسواترِ هناكَ، لكني  لا أجدُ غيرَ بقايا رمادٍ، وخرقٍ باليةٍ، ومعابدٍ لا تفوهُ بشيءٍ، الرؤيا في لحظاتٍ كهذهِ لا تتضحُ أبداً، تتبدلُ عندَ أولِ خطوةٍ تخطوها"(ص61).
إن الصراع المرير الذي عاشه جيل النصف الثاني من القرن العشرين من العراقيين، جعل صروح الفلسفة تتهاوى أمام عظمة خلودهم الجريء، لترتشف من ريق تجربتهم دروسا تغنيها حينا من الدهر، فهم جازفوا بخوض تجربة التجديد، لا تنصلا عن حمل الأمانة، وإنما رفضا للحمل الثقيل الذي ألقته الأمانة على ظهورهم دون أن تقدم لهم شيئا ينفعهم في تجربتهم الحياتية: "المحنةُ أن تمحوَ كلَ ما تنتمي إليهِ، محاولاً تشييدُ ذكرياتٍ  جديدةً"(ص60) لذا أرى أن من حق هذا الجيل أن يكون وصيا على من جاء بعده، لا بالشكل القسري الإكراهي المتداول، بل من خلال بث الحكمة عبر كلمات جميلة لتولد محملة بوصايا العشق والحياة، وتستقبل بفرح مثل أي وليد طبيعي آخر، فالإنسان لا يمكن أن يتماهى مع إنسانيته إلا من خلال الحكمة:
إياكَ وأن تحني رأسَكَ ..
•   ظِل مثلَ نخلةٍ لا تنكسرُ
•   واصنع من يديكَ جناحينِ لتحلقَ بهما إلى حيثُ تشاءُ..
•   لا تغسل وجهَكَ بغيرِ عسلِ الابتسامِ
•   وأمنح عينيكَ ضوءَ كلِ  الاشتهاءاتِ التي يمكنُ لكَ أن تنسجَ خيوطَها حولَ غموضِكَ الباعثِ على السؤالِ...
•   إياكَ والصمتَ عندَ خرائبِ الإجابات لأنَ الإجابات سرُ معارفٍ عاطلةٍ..
•   ذكورةٌ ميتةٌ لا تمنحُكَ غيرَ العجزِ والفشلِ..
•   انغمس ما استطعتَ  في بحارِ الأسئلةِ الحارةِ الدسمةِ...
•   وحاذر... حاذر أينما أخذَتكَ الأرضُ أن تستسلمَ لوجعٍ، أو تمنحَ نفسَكَ لأنثى تعلمُكَ الاستسلامَ!! (ص62).
ولا أدري كيف سيتمكن الإنسان من إشهار إنسانيته أمام الناس دون أن يعمل وفق قواعد هذه الفلسفة التي تعلم الإنسان كيف يعيش حياته دون أن يسمح لأحد أن يصادر منه حريته! وشوقي هو الآخر لا يدري كيف، ولذا تجده يتساءل بحرقة: "لا تعرفُ لِكَم أحبُ تلكَ اللحظاتِ التي تمنحُني بعضَ إنسانيتي، لديَ الكثيرُ مما أقصُهُ، وأحكيهُ، وأتقيئُهُ، وأبوحُ  بِهِ، وأمارسُهُ بجنونِ الغاطسِ، الباحثِ عن منقذٍ"(ص63). إذ يرى شوقي أن السكون يجعل الفكر مترهلا لا يصلح لشيء: "تتناهبُني أمواجُ السيرِ إلى حيثُ يمكنُ لي أن أحقق بعضَ من آمالي"(ص67). فكم هو محزن أن "أتلمسُ بعضي، فلا أجدُ غيرَ أحلامٍ شبهِ ميتةٍ"(ص67) هكذا ينظر شوقي إلى نفسه، تماما مثل من ينظر من ثقب باب قديم، عششت فيه العناكب منذ زمن نوح، لأنه اعتقد أن "الروحُ التي كانَت تقاومُ الأغراءَ، انغمسَت في بركِ التمنياتِ والأحلامِ"(ص69) هكذا هو يبحث عن سعادة الآخرين ليفقد الكثير من سعادته، يقول "إريك هوفر": "البحث عن السعادة أحد مصادر عدم السعادة".
إن من خفايا رواية "قنزة ونزة" التي نمارس طقوس قراءتها الآن بصمت جنائزي، أنها تبدو متمردة على الأفكار التقليدية: الدينية والسياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، لكنها لمن يفهم غورها، جاءت لتؤدلج كل هذه المسميات وفق التطويع الواقعي للخبر الروائي، ففي الحديث الشريف: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان". قد يمر حتى دون أن تتنبه إلى تحذيراته، لكن حينما يتطوع الأديب ليرسم تلك الصورة وفق رؤى أدبية محشورة بعناية، سوف يستهوي القارئ الفطن إلى التفكر بالموضوع من زاوية أخرى، ولذا نجده يترجم الحديث إلى لغة أدبية، فيقول: "مخبولٌ من يجدُ أنثى تقاسمُهُ المكانَ تحتَ ظلِ شجرةٍ دونما رقيبٍ ولا تزحفُ أفاعيهِ صوبَ أعماقِها... ما الذي يجسدُ الرجولةَ حينئذٍ... وما الذي يجسدُ الأنوثةَ أيضاً"(ص78). وهذا لا يعني أنه يستهين بقدسية الحديث بقدر تطوعه لإيصال الحديث وفق رؤية حداثوية قد تبدو مفعمة بالتمرد، في الأقل أرى أني فهمت الموضوع وفق هذه الرؤية!. فشوقي رجل صاحب إرادة قوية ويرى "شوبنهور" أن الإرادة تخلق عددا لا نهائيا من الطبائع المعقولة".
تكررت هذه الصورة في مكان آخر من الرواية ضمن جملة: "الأنثى التي تتعودُ تلويثَ جسدِها عن قصدِ الخيانةِ، وعدمِ الاحترامِ، أنثى بالنسبة ليّ لا تستحقُ الحياةَ... الجسدُ هبةٌ رائعةٌ لا يجبُ أن يشبهَ أرضاً تداسُ كلَ هنيهةِ وقتٍ" (ص171) فكم من آية وكم من حديث نهيا عن الزنا وعن تنازل المرأة عن قدسيتها من أجل متعة زائلة، وهي النصوص التي وظفها شوقي، ونجح في ذلك. فالذي أراه ان شوقي يؤمن بما قاله  "تشارلز كينجزلي": "اجعلها عادة كل ليلة ألا تنام إلا إذا استطعت أن تجعل شخصا واحدا ممن قابلت ذلك اليوم: أحكم، أو أسعد، أو أفضل"
إن سؤالا مثل: (ما الذي يمكنُ أن افعلَهُ الآنَ) حينما يتكرر وكأنه يستفز القارئ، فهو ما سيفاجئه ما إن يدخل إلى المناطق المظلمة، لينتصب أمامه غولا من قصص ألف ليلة وليلة، وهذا ينبيك بالجهد الذي بذله شوقي عند صياغته لأفكار تلك الرواية، فالرواية ليست مجرد سرد أدبي للإمتاع والإدهاش، كلا، الرواية رؤية فلسفية تحاول تبسيط الأمور طالما أنها مكتوبة للجميع، ومن حق الجميع استباحة أجوائها! فالرجل بالرغم من مسحة التحرر البادية على أسلوبه في الكتابة واشتغالاته الأدبية الأخرى، يحمل في أعماق ذكرياته رؤى عاش أجوائها ردحا من الزمن الجميل، وهذا ما صوره عن مرافقته لعمته حينما كان صغيرا لزيارة مرقد الإمام علي بن أبي طالب، بقول: "حينَ  تكمشُ أصابعي لمعانَ الفضةِ، تنهارُ كلُ الحكاياتِ التي  أدمنتُ سماعَها، أجدُ ثمةَ رفساتٍ  تهدمُ جدرانَ وحدتِي، رفساتٌ تتكررُ، وأيادٍ تمسحُ جبهةَ  المواساةِ، وحدي أقتعدُ الأرضَ، أقتعدُ لحظاتِ انبهاري، طاردةً كلَ المخاوفِ، والآلامِ، والوحشةِ  أسمعُهُ يهمسُ في أذني لا تجعلي الظلامَ خيارَكِ"(ص80). وهذا هو الرجع.. الصدى الأزلي، يكرر نفسه كدفقات بركان شبه خامد، تنطلق بين حين وآخر لتعلن أن في البركان الذي يبدو ميتا، لا زالت ثمة حياة! إنه الإصرار الباعث على التحدي، قال "فان كوخ": "اذا سمعت صوتا بداخلك يقول: انك لا تستطيع الرسم، فهذا يعني: ارسم وسيصمت ذلك الصوت بداخلك للأبد"
أما شخصية نابليون التي تمتد على طول الرواية فهي مجرد اقتباس لشخصية الكاتب نفسه، فنابليون هو شوقي، ويتحدث على لسان شوقي، وينقل أفكاره ورؤاه واعتقاداته، لكن دون أن يؤثر ذلك على سير أحداث الرواية؛ التي كان نابليون أحد شخوصها الفاعلة، أما الفلسفة الثورية التي يحملها فهي الدعوة إلى الضحك رغم المعاناة: "الناسُ رغمُ أحزانِهم يضحكونَ لتبديدَ المحنةِ"(ص182) فالحياة تحد لا حدود له، ولا يمكن إيقاف زخمه، والتحديات سلبتنا الكثير من أحلامنا، ولكن: "يا لَها من تحدياتٍ حولَت إنسانيتَنا إلى هذياناتٍ"(ص182). وهذا تمثيل رائع لحالة الحرب التي يعيشها الإنسان مع الموجودات الأخرى حتى وإن لم تكن هناك إشارات إلى وجود هذه الحرب على أرض الواقع، يقول "سبينوزا": "إن غياب الحرب لا يعني السلام".
إن "ويليام فيذر" حينما قال: "الكثير من الناس يضيعون نصيبهم من السعادة، ليس لأنهم لم يجدوها، ولكن لأنهم لم يتوقفوا للاستمتاع بها" أوحى لشوقي أن يتولى مهمة إيقاف الناس ليستمعوا لسعادتهم المرتقبة، ويستمتعوا بأوقاتهم، فالإنسان على رأي "أوليفر ساكس" لا يشعر بالوحدة أبدا عندما يكون مستمتعا بوقته.




93
إصدار جديد الغزوة السادسة طبيعة العنف اٌسلامي
صالح الطائي
لطالما وقفت متحيرا أمام الكم الكبير من النصوص الإسلامية التي تنضوي على عنف همجي غير مبرر، لا يمكن أن يتساوق إطلاقا مع فهمي للدين الإسلامي، فأنا نظرا لكوني دائم البحث والتنقير والتقصي في جوهر العقيدة وأركانها وأصولها وفروعها وتطبيقاتها، كنت في كل مرة أنتهي من تأليف كتاب أو انجاز بحث أو مقال، أزداد يقينا وقناعة بأن روح السلام والتسامح والمحبة والوئام والتعايش في الإسلام تفوق ما هي عليه في الديانات الأخرى قاطبة، وأن قصص العنف والدموية والكراهية والغضب والاقصاء في النصوص الإسلامية أكثر من مجموع ما هي عليه في جميع الديانات الأخرى، ولطالما أرقني هذا التناقض الغريب، فمن المستحيل أن يجتمع النقيضان في كيان واحد، وهذا يعني ويؤكد أن أحدهما هو الصحيح والثاني مصطنع ومدخول على الأصل لا هو منه ولا يحمل من سماته ورؤاه شيئا.
إن عملية التمييز بين أصل الصورة النقي وظلها الباهت المشوه لا يمكن أن تتم بسلاسة ويسر نظرا لكم المرويات التي تدعم الظل المشوه من السعة والانتشار والشهرة بمكان؛ بما يجعله متفوقا على الأصل من حيث الشهرة والجمهور. وبالرغم من غرابة هذا التهافت إلا أن الاحتراب الذي وقع بين المسلمين أنفسهم بعد عصر البعثة مباشرة، كان أحد أهم روافد دعمه وتطويره وتحكيمه حتى بدا وكأنه هو الأصل. كما أن التكتلات الفئوية التي عادت إلى الظهور بعد وفاة النبي(ص) أسهمت بشكل كبير في تنميته والترويج له. وبمرور الأيام والسنين تحول ذلك الابتكار غير المحبوب إلى تراث تقوم عليه هيكلية الدين الإسلامي، وأصبح كل من يريد أن يعرف عن الإسلام شيئا أو كل من يروم الكتابة عن دين الإسلام يرجع إلى هذا الموروث تحديدا يستقي منه ما يبغي.
ولم تتم معاملة هذا الموروث بنوع من الخبث، ولم يستخدم سلاحا تسقيطيا في معركة التشهير إلا في العصر الاستعماري ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث ولد المنهج الاستشراقي الذي انتقى أشد النقاط سوداوية، وسلط الأضواء عليها، وأمدها بالحياة بعد أن كانت ميتة.
إن توظيف مخرجات الاستشراق لخدمة النزعة الاستعمارية الحديثة، لم يمنع من توظيف المخرجات نفسها لأغراض أخرى، ولاسيما بعد تنامي الحركات التبشيرية التي بقيت منذ استحداث مجمع تبشير الشعوب عام 1622، ولغاية القرن الثامن عشر مجرد سعي باهت الملامح، فالتبشير الذي نشط في هذا القرن بسبب انفتاح ميادين جديدة في الجغرافية العالمية لم تكن متاحة قبل العصر الاستعماري الجديد، ولكي يحقق التبشير أغراضه، عمل على توظيف معلومات المستشرقين عقديا بعد أن وظفتها الحكومات عسكريا واقتصاديا، وفي هذه المرحلة بالذات بدأت حرب التسقيط الحديث بين الأديان، مدعومة بتنامي حجم الحركات العلمانية واللادينية.
في هذه المعركة غير المتكافئة كان الإسلام مستهدفا أكثر من غيره، وكان نبي الإسلام عرضة للانتقادات، وكان المسلمون عرضة للتهجم والتطاول، ومع أن موضوع التهجم والتطاول غير المبرر ليس جديدا، إذ سمعنا وقرأنا وشاهدنا بأم أعيننا وجود مثل هذا التجهم الخلقي الضيق فاشيا عبر التاريخ، يُترجمُ تهجما وتطاولا، إلا أننا في كل مرة كنا نعثر فيها على قول من هذه الأقوال، كنا نجد له للأسف أصلا في تراثنا الديني، بُني عليه طنين تلك الطعون، هو الذي أطلق لها العنان لتظهر إلى العلن. وفي كل مرة كان يُساء فيها إلى عقيدتنا كان هناك بعض الأشخاص الذين ينبرون للدفاع، دون أن يتسلحوا بالعلم والعقل والمنطق والشجاعة، فيزيدون الطين بلةً والوضع تأزما، إلى درجة أن رايات الحروب الدينية بدأت ترفع في أماكن مختلفة من العالم يفور تحتها الغضب.
والذي أراه أن أسلم طريقة لامتصاص الغضب الأرعن المقابل، والمبنى على أوهام وهنات ما أنزل الله بها من سلطان، لا يتم بالرد على الموقف بمثله ولا باستخدام الآليات القديمة، ولا من خلال الهروب إلى الأمام بأدوات الأمس المتخلفة التي جمدت ورفضت التجديد، فذلك هو التخلي عن المسؤولية، وإنما يتم من خلال الاستنتاج العلمي والعقلي والمنطقي لتداعيات تلك النقاط التي توقفوا عندها بعد تفكيكها تفكيكا علميا سليما مقنعا، تتضح من خلاله الحقائق بما لا يعطي مجالا لمن في نفسه مرض أن يطعن بعقيدة الإسلام التي شوه مبانيها السياسيون الأوائل، وأعانهم السياسيون المعاصرون في الترويج لبضاعتهم الفاسدة .
لكن للأسف ليس من الصعوبة أن نجد أن الأسس التي وضعوها لنا بالأمس، وأمرونا بالسير عليها والتمسك بها وعدم مخالفتها، لا زالت تقود توجهاتنا المعاصرة اليوم، فنحن حتى في أشد المواقف خطورة نجد أنفسنا مساقين عنوة للاستعانة بتلك القواعد والقوالب الجاهزة التي وضعها الأقدمون؛ والتي تحول اغلبها اليوم إلى ديكور تراثي لا يمت إلى الواقع بصلة، ولكنه يرفض أن يغادر، لأنه مقتنع بأن له قدرة الإقناع، غير مدرك أن عالم اليوم تتحكم به العلوم المادية البحتة، عالم لم يعد فيه الحديث عن الغيب مقدسا كما كان بالأمس، ونحن في الوقت الذي نرفض فيه ـ جملة وتفصيلا ـ التخلي عن منطقيات وثوابت الأمس المقدس، علينا أن نطوع قدسيته لتتماشى مع العلوم المعاصرة، ما دمنا نؤمن أنه (حمال أوجه، ذو وجوه)، أليس ذاك ما قاله علي بن أبي طالب(عليه السلام) لعبد الله بن عباس(رضي الله عنه) لما بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال أوجه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة، فانهم لن يجدوا عنها محيصا".
وفق هذه الجدلية المنطقية اخترت الكتابة عن موضوع في غاية الأهمية، وهو قيام الصحابي زيد بن حارثة(رض) بغزو بني فزارة وأسر أمهم وربطها بين جملين وشقها، وحينما عاد إلى المدينة، خرج إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) على عجل وكان عاريا بالكامل، لا يستره شيء، يجر رداءه خلفه، ليهنئه بالسلامة، هذا الأثر الذي وظفه الملحدون للطعن بالإسلام، فرد عليهم مسلمون ردا باهتا زاد الطين بللا. الملحدون اتهموا نبينا(صلى الله عليه وآله) بأنه أمر جنوده أن يشقوا عجوزا إلى نصفين بأن يربطوها بين جملين! والمسلمون اعترفوا بوقوع الحادثة، ولكنهم وصفوا شق المرأة إلى نصفين بأنه كان إنسانيا.
أنا من جانبي ومن خلال البحث الجاد ومتابعة النصوص؛ لم أجد لاتهام الملحدين مسوغا، ولا لرد الإسلامويين مبررا، ولا للحادثة التي يتحدثون عنها أصلا، وهذا هو موضوع كتابنا الجديد الموسوم "الغزوة السادسة طبيعة العنف الإسلامي" الذي صدر عن دار ليندا السورية بواقع 244 صفحة، ولوحة غلاف من تصميم الفنان بسام الخناق، والذي فندت فيه تلك القصة السخيفة المبنية على كوم من الأكاذيب والسذاجة والغباء، والتي يمنع الجامدون على النص مجرد الحوم حولها، لا تفكيكها وتوهينها باعتبار أنها نص لا يجوز التقرب منه!
تجاوزت في كتابي هذا كل الخطوط الحمراء التي وضعوها، وتحدثت بصراحة مدعومة بالمنطق والعلم، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك.

94
أسباب ضعف علاقة العرب بالقبور عامة
صالح الطائي

فرضت طبيعة الحياة العربية القاسية على العرب أن لا يهتموا كثيرا ببناء القبور لموتاهم مهما علت منزلتهم وعظم قدرهم، فبالرغم من وقوع شبه جزيرة العرب إلى جوار الخليج الفارسي، وبحر عُمان، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسّط، غير أن مناخها قاس، وهواءها جاف، ومياهها نادرة، باستثناء الأقسام الجنوبية، ورياحها موسمية تعرف بالسموم. وقد تركت الظروف المناخية تأثيرها على أوضاع الناس الفردية والاجتماعية، وكذلك على الحيوانات كما هي الجمال، والنباتات كالقتاد والأراك وغيرها من النباتات الشوكية.
فقط منطقتها الجنوبية التي تضم اليمن كانت تكثر فيها المياه، وتهطل فيها الأمطار بانتظام؛ ولهذا السبب كانت منطقة زراعية مزدهرة، قطنتها أعداد غفيرة من السكان. الذين اتخذوها موطنا دائما للسكنى، فنشأت فيها القرى والمدن. ثم أن اجتماع الناس في تلك القرى والمدن أدى إلى ظهور دول مهمة مثل:
1ـ الدولة المعينية: حكمت هذه الدولة من عام 1400 الى 850 قبل الميلاد، وانقرضت بظهور الدولة السبئية.
2ـ دولة حضرموت: استمرت هذه الدولة منذ عام 1020 قبل الميلاد الى عام 65 بعد الميلاد، وزالت مع تسلط سبأ.
3ـ الدولة السبئية: استمر سلطانها منذ عام 850 الى 115 قبل الميلاد، وانقرضت عند قيام دولة حمير وسبأ وريدان.
4ـ دولة قتبان: حكمت من عام 865 الى 540 قبل الميلاد وانقرضت على اثر استيلاء دولة سبأ عليها.
5ـ دولة سبأ وريدان وحضرموت واطراف اليمن، وكان يسمى ملوكها "تُبّع"، واستمر حكمها من عام 115 قبل الميلاد إلى عام 523 بعد الميلاد، وكانت عاصمتها ظفار .
هذه الدول أسهمت في تطور الفكر في هذه المنطقة، وفي تغيير السلوكيات عنها في باقي الجزيرة، تطور الفكر من جانبه أسهم في تطور الذائقة الفردية والجمعية لدى سكانها، ولذا بدأ الاهتمام بالبنيان ومنه بناء القصور؛ التي وصف المؤرخ اليوناني "هيرودوتس" (القرن الخامس قبل الميلاد) قصورها ولاسيما قصور سبأ بأنها: قصور نضرة ذات أبواب مسجدية مرصّعة بأنواع الجواهر، وفيها أواني من الفضة والذهب وأسرّة مصنوعة من معادن ثمينة. وسبأ هذه نزل فيها قوله تعالى: {مكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
والتي نزل في سدها الذي انهار بعد أن كان عماد حياتها، قوله تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . وقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ  وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَة  وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} .

وتحدث مؤرخون آخرون منهم الرحالة الروماني الشهير "سترابون" عن مساكن عامرة وقصور فاخرة مثل قصر غُمدان في صنعاء؛ الذي كان يتألّف من عشرين طبقة بعشرين.
ومن العرب، تحدث المسعودي (ت: 346هـ)، وابن رُستة (من علماء القرن الثالث للهجرة) عن حياة الرخاء والازدهار التي كان ينعم بها أهالي هذه البلاد، وما انتشر فيها من العمران قبل ظهور الإسلام. حيث كانت  ربوع عدن، وصنعاء، ومأرب، وحضرموت، على درجة عالية من الرقي،بحيث كانت تضاهي الحضارة الفينيقية والبابلية. ومن المظاهر البارزة لحضارة اليمن الكبرى سد مأرب التاريخي العظيم، الذي كان من عوامل ازدهار الزراعة.
أدى هذا التطور إلى خلق طبقة من التجار الكبار، الذين امتدت تجارتهم بين الشرق والغرب، حيث كانوا يجلبون المواد من الهند عبر البحر الهندي، وينقلونها إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب ومكة، التي كان أهلها ينقلون ما يشترونه من تجار اليمن إلى بلاد الشام. وربما يكون حال الاستقرار في هذه المنطقة هو الدافع وراء اهتمامهم بالمقابر والقبور على خلاف باقي أقسام الجزيرة العربية، حيث كانت قبورهم تمتاز بالبناء والزخرفة مقابل إهمال تام للمقابر في باقي الجزيرة.

لكن المعروف أن الكثير من القبائل اليمنية نزحت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، حيث سارت قبيلتا الأوس والخزرج إلى يثرب (المدينة المنورة)، بينما توجهت خزاعة الى مكة وما جاورها، وتوجهت تنوخ من قبيلة الأزد إلى الحيرة بالعراق، وتوجه آل جفنة إلى الشام، وذهبت قبائل بجيلة وخثعم وجماعات أخرى إلى منطقة السراة، وقطنوا هناك، فهل نقلت هذه القبائل تجربتها إلى المناطق الجديدة التي اتخذتها مواطن، ولاسيما أن  تنوخ الأزدية أسسوا في موطنهم الجديد دولة اللخميين، وأن آل جفنة الغساسنة، أسسوا بالشام لهم دولة في المنطقة المسماة شرق الأردن؟
الملاحظ أن القبائل اليمنية التي كانت متحضرة نوعا ما لم تتجه إلى القسم الشمالي من الجزيرة العربية، الذي كان يفتقد لأية صبغة حضارية ومدنية، وإنما كان الناس فيه من البدو الرحّل، ولم تكن لمدنه أهمية تذكر عدا مدينة مكة نظرا لمركزها الديني، بل إن أهل الحجاز بقوا على بداوتهم لجدب أرضها وجفاف تربتها وبعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ولوعورة المسالك إليها، وبالتالي ترك اليمنيون أثرهم على المناطق التي حلوا فيها، ولم يكن لهم أي أثر يذكر على باقي الجزيرة التي احتفظت بعاداتها وطريقة حياتها وعيشها البدوي القائم على الرعي والترحال، ومساكن عبارة عن خيام من شعر الماعز ووبر الإبل. ولذا ترى أهلها يزدرون الزراعة والصناعة والتجارة وغيرهما من وجوه الحرف، ويحسبونها مما يحط من قدر الإنسان. وعليه تجد في البدوي أثرا واضحا من حياة بيئته، يتجلى في تكوينه الجسمي والعقلي وطريقة تفكيره ومعتقداته. فضلا عن ذلك كان  لتحرر البدوي من قيود الحكومة والنظام والقوانين، أثرا في جعله يرفض الانصياع لأي سلطة، حتى لو كانت سلطة دينية، وربما لهذا السبب وصفهم النص القرآني بأنهم (أشد كفرا ونفاقا) كما في قوله تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا......}، وفق هذا النسق التصاعدي كانت سلوكياتهم تتواءم مع طبيعتهم وجغرافيتهم، ولذا  لم يكن الإنسان العربي الجاهلي يحمل مشاعر ودية للناس الآخرين خارج إطار قبيلته، ولم تكن هذه العلاقة تتعدى أفراد الأسرة والعشيرة. وحتى هذه المشاعر كانت تزول في اللحظة التي يموت فيها الإنسان، من هنا كانوا يرون أنه لا داعٍ للاهتمام بقبر الميت، أو مجرد تذكره، ولاسيما وأن الموت كان يقع لأسباب تافهة، تدفعهم إلى الصراع والتناحر، كأن يكون تنافسا على أرض رعي أو مورد ماء، أو بسبب سرقة أو سباق خيل أو أي خلاف بسيط آخر، لأن عوائد التوحش وأسبابه كانت مستحكمة فيهم
فطبيعتهم كانت قائمة على انتهاب ما في ايدي الناس ورزقهم وأسباب معيشتهم كانت تزدهر في ظلال رماحهم، وكل ما لدى الآخرين كان مباحا لهم، بل كلما امتدت اعينهم الى مال أو متاعٍ أو ماعون انتهبوه . فيغيرون ويأخذون جمال الآخر ويسبون نساءه وأولاده، فتتربص بهم القبيلة الأخرى فتفعل بهم ما فعلوا حالما تأتيها الفرصة السانحة.
لهذه الأسباب ولأسباب أخرى، كانت علاقة العربي بالقبر وبالمقبور شبه معدومة، فالمقبور متى ما وضع تحت التراب، يدرس قبره، وتذروا الرياح أثره، فلا يعد له وجود، وقد يقبرونه وينتقلون عنه إلى مكان آخر، فيصبح خارج اهتماماتهم بل حتى خارج ذكرياتهم.
وحينما جاء الإسلام، أعاد الروح إلى هذه العلاقة، ولاسيما في طوره المدني، حيث عمل على تغيير الرؤية الموروثة التي تنطوي على إجحاف كبير للمتوفى، وحينما توفي عثمان بن مظعون، وهو أول من توفي في المدينة المنورة من المهاجرين، اتخذ رسول الله(ص) بقعة من الأرض لتكون مقبرة، ودفنه فيها، ووضع النبي(ص) عند رأسه حجارة تدل على مكان القبر، وقال: "هذا فرطنا". والبقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أُرم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد. والغرقد: كبار العوسج وهو نبات شكي، فلذا سُمّي مكان المقبرة ببقيع الغرقد، لأن هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه، ولكنه قطع لفسح مواضع وأماكن للدفن. وعن سبب اختيار هذه البقة، قال الدكتور محمد البكري أحد المشاركين في تأليف كتاب "بقيع الغرقد": "إن النبي، خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثا عن مكان يدفن فيه أصحابه، حتى جاء البقيع، وقال: أمرتُ بهذا الموضع، وكان شجر الغرقد كثيرا، فسميت به".
وبدأ المسلمون يدفنون موتاهم بالبقيع، حتى قيل: إن أكثر من ألفي صحابي دفنوا فيه، لكن ذلك كله، وكل ما فعله الإسلام، لم يمح من ذاكرة العربي تلك العلاقة الهجينة بينه وبين القبر، ولذا تجدهم في تاريخ لاحق، ليس بعيدا عن صدر الإسلام، قد نجحوا في  فرض رؤاهم الموروثة على التجديد، وغلبوها على فكره، فتحول القبر الذي كان شبه مقدس عند الحضر والمسلمين الملتزمين، إلى أثر من آثار الجاهلية لا وزن له ولا قدسية، ولاسيما بعد أن كثرت حروب الفتوح، وكثر الموت معها طرديا، حيث أدت بعض المعارك إلى هلاك آلاف الجنود المسلمين سواء بفعل الأعداء أو بفعل الطبيعة القاسية، حيث كانت البقية الباقية تنسحب من أرض المعركة تاركة القتلى على حالهم، وأدى تكرار هذه الحالة إلى ولادة شعور، أو بالأحرى أيقض شعور اللامبالاة في نفوسهم، فعاد القبر مجرد حفرة يوارى فيها الأموات دون أن يلتفتوا إليها!.
ولكن بالرغم من هذا التبدل، نجحت بعض المناطق وبعض الجماعات الإسلامية دون سواها في الحفاظ على ما استلهموه من الإسلام عن وجوب دفن الميت، ووضع العلامات على القبور واحترامها مستندين إلى ما جاء في الأثر من أن النبي(ص) أمر المسلمين بخلع أحذيتهم حينما يدخلون إلى المقابر،  كما في حديث بشير بن معبد المعروف بابن الخصاصية، في قوله: "بينما أنا أماشي رسول الله (ص)، مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا، وحانت من رسول الله نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله خلعهما فرمى بهما". وكما في نهيه(ص) عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه، احتراما للأموات أن يوطأ بالنعال فوق رؤوسهم. وفضلا عن ذلك نهى عن التغوط بين القبور. وأمر باحترام الميت في قبرة بمثل احترام منزلة في داره، فحرمة الإنسان بعد موته باقية ، كحرمته وهو حي ، فلا يجوز الاعتداء عليه ولا إهانته ولا العبث بجسده، وقد نقل عن النبي(ص) قوله: "كسر عظم الميت ككسره حيا". وقد جاء هذا الخلاف بين الفرق الإسلامية بسبب المسائل الكلامية التي بدأت تثار في العصر الأموي تحديدا، والتي أدت إلى ولادة مسائل فقهية متعارضة إلى أقصى الحدود؛ بين من يؤمن بحرمة القبور واحترامها وزيارتها، وبين من يعتبر ذلك شركا وكفرا.
من هنا تجدني أميل كثيرا إلى رأي المستشرق المثير للجدل "جولدتسيهر"، الوارد في كتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" ص70، الذي يقول فيه: "كان من نتائج الأحوال السياسية والفعل المحرك الشديد للاحتكاكات الخارجية أن أنصار الإسلام الأوائل اضطروا بحكم عدم ميلهم إلى التدقيقات العقيدية إلى أن يتخذوا منذ بادئ الأمر موقفا في المسائل التي لم يعطنا القرآن عنها جوابا محددا مؤكدا والملاحظة أن النظام السياسي الداخلي قد أثار خلافا جدليا عقيديا وكان الانقلاب الأموي أول الفرص التي سنحت في الإسلام لإثارة مسائل كلامية".

وبالتالي يبدو من مخرجات بحثنا البسيط هذا أن الأمة الإسلامية، تعيش اليوم على فتات ما وصلها من أخبار الأقدمين وآرائهم المتناقضة وأحكامهم الغريبة عن بعضها وفقههم المغرق بالخصوصيات والفردانية، والبعيد كثيرا عن روح الإسلام، وتمنع نفسها من الخوض في الأسباب والمسببات أو البحث عن الحقيقة بين ركام تلك الأحكام، فاستسهلت بعض الفرق وصم أتباع الفرق الأخرى بالكفر والشرك لمجرد أنهم يحترمون القبور، حتى دون أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن تسويغٍ لهذا التكفير الغريب.
 


95
أنا وتوئمي السدة وشيءٌ منَ الهذيانِ
(من وحي سنوات التهجير)
صالح الطائي
أنا وسدة الكوت توئمان، ولدنا في مكانين مختلفين، والتقينا بعد طول فراق، جدنا الأعلى لأبينا هو أنكيدو، وجدنا الأعلى لأمنا هو كلكامش، وأصلنا وأرومتنا وعشيرتنا من نسل الأفعى التي سرقت ماء نبع الحياة وشربته، فأصبحت تبدل جلدها كل عام، لكي لا تفارق الخلود، حتى مع كوننا ـ نحن أولادها غير الشرعيين ـ  من ألد أعداء الخلود، نقتل كل شيء يربطنا بالماضي لكي لا نتهم بأننا خلوديين، مسيرتنا خلاصة جميع ملاحم التاريخ الإنساني منذ أن اوقد نارها أوتانبشتم، وأرشده الحكماء الأغبياء المقيمون في غابة الأرز البعيدة إلى كيفية المنازلة، وإلى أن سطَّر حمورابي قوانين مسلته؛ التي أبدلها أحفاده بكأس من النبيذ المعتق.
افترقنا أنا وهي منذ مليون عام، والتقينا بعد طول فراق، يوم أجج العراقيون آخر وأغبى ملاحمهم التاريخية، لا مع عدوهم المشترك، الذي يترصدهم، ويكيد بهم، بل فيما بينهم، مع أنفسهم، فأخذ بعضهم يذبح بعضا، وبعضهم يُهجِّر بعضا، فوجدتها لا زالت غارقة في الماء، العابق برائحة الدماء، الدماء القادمة من غياهب مجاهيل الغدر الإنساني، هناك في أعالي النهر، حيث يقطن التوحش والتوجس والرهبة الأبدية، حيث روح البداوة كانت تعزف على ربابتها التي يشبه صوتها عواء ذئب هرم هده الجوع.
التقينا فوجدتها ترفل غنجا وتتلوى، كرقص مذبوح على أعتاب الطائفية، وتبكي أذرعها المعطلة المشلولة التي كانت بالأمس تحتضن السمك، السمك الذي تحرر من أسرها، وغادرها مهاجرا صوب الجنوب، باحثا عن شِباك صياد سومري أسمر، ليتخذها بيتا وملاذا بعد طول تشرد على أعتابها التي تراقص الماء، ووجدتني ذلك الشخص نفسه المصاب بالهذيان، لا زلت أهذي، بالرغم من كل الذي مر، بعد أن فقدت بيتي ومدينتي وجيراني وأصدقائي وما أملك، ومكتبتي وكتبي التي ألفتها. ذلك الشخص المخدوع، لا زلت أحتضن حروفي المجنونة المبعثرة على قارعة ذاكرتي الصدئة؛ التي انهكها اللؤم البشري، على أمل أن أنثرها نصائح وحكما في طريق قوافل السائرين إلى مصيرهم طوعا، ولا أحد منهم يفهم ما أقول أو يهتم بما أتحدث. فمثلي مثل جميع الأنبياء، غرباء عن أقوامنا الذين يتآمرون علينا باستمرار، نعمل لحياتهم ويعملون على ذبحنا.
التقيت بها وأنا أنوء بحمل أطنان من الغربة، وأكداس من اليأس، وشعور قاتل بالهزيمة المرة، التي سببها لي أخي في الدين والوطن، إرضاء لشهوات حيوانية ورثها عن أجدادنا الأغبياء، الذين لم يعملوا على حل مشاكلهم التافهة، وإنما رحَّلوها إلى أولادهم واحفادهم، مع وصايا مجحفة بالحفاظ عليها إلى الأبد، فتضخمت وتحولت إلى غيلان تنهش وجه التعايش والتسامح؛ يوم وصلت إلينا، فكان أول ضحاياها روحنا الوطنية، ولا قيمة للإنسان متى ما ماتت روحه الوطنية، ومتى ما فقد الإنسان قيمته، تفقد الأوطان قيمتها وهيبتها وعزها وشرفها.
التقيت بها فوجدتها مصابة بهزال الثرثرة، قد خف صوتها، واختفت عربدتها، وماتت أفاعي مائها الوشل، وهاجرت أسماكها، كللها الحزن، وذوت محاسنها، بعد أن التهم الطير الأمريكي الجارح المتوحش البشع بلا سبب وجنتها، وبعد أن ترك أهلها العناية بها!
التقيت بها وقد هدني التعب وأحرق حشاشتي الحزن بعد ان نجحت في الخروج من المتاهة، لأن متاعب الإنسان تزداد كلما كبر حجم المتاهة، وزاد تعقيدها، فما بالك بوطن تحول كله إلى متاهة معقدة؟!
لكن بالرغم من تعاقب مرور السنين، وبالرغم من كون الجميع غيروا جلودهم.. لبسوا أقنعة جديدة .. غيروا أشكال سحناتهم، طريقة مشيهم وتحدثهم.. وحدنا، هي وأنا، لم يتبدل شيءٌ فينا، لا هي جف ماؤها، ولا أنا تركت هذياني. لا هي تنازلت عن طيبتها، ولا أنا تنازلت عن وطنيتي.
فهل الهذيان رفيق رذاذ الماء؟ أم ان أصل الماء هو الهذيان، وبدونهما لا تكون الحياة ولا يكون وطن!

96
أدب / الشعر طفلنا المحبب
« في: 19:51 07/11/2018  »


الشعر طفلنا المحبب

صالح الطائي



وجه الحبيب
................
قل للورود تفتحت أفيائي
وسرى النسيم مكللا بضيائي
ويطيب لقيانا على عزف الهوى
يحلو اللقا حين المسا بفنائي
كالصبح يورق بسمة فضية
وجه الحبيب، نشيده بسمائي
#   #   #

سلوت القلب
.............
سلوتُ القلب إن أسر الهياما
فأضناه الغرامُ وما استقاما
ولم يدرِ التجني والتغني
من الضدينِ حِلا أو حراما
فلا تيأس فداكَ العمرُ يوما
فطبعُ العزِ يجترع السقاما
ودعها تستفيقُ بلا قراعٍ
فما صوتُ السيوف تفي مراما
وأبقِ كل خوفٍ خلف ظلٍ
وأقحمْ صوتكَ الدامي الكلاما
تفز بالمجدِ يا أندى سخيٍ
سلاما للوداع ولا سلاما
#   #   #

الشعر كالطفل، يقتحم دنيانا دون إذن، ويفرض نفسه مهما كان العمل الذي نقوم به. يستفز خلواتنا، وينتهك وحدتنا، ليأخذ حيزا من حياتنا وفي حياتنا. وأنا بالرغم من كوني لست بشاعر إلا أن لحظاته التي تحل في منظومة فكري، تعيدني إلى بدايات شبابي، يوم كنت أعد نفسي مع الشعراء وأنظم البيت والبيتين. واليوم مع أني أصدرت مجموعتين إلا أن الشعر لا زال هو الذي يفرض نفسه علي وينتزع مني بعض وجع دفين.

97
للأسف حتى الصلاة لا تجمعنا
صالح الطائي

المفروض بالفقه المقارن في المدارس الإسلامية أن يخرج بمحصلات تصب في الصالح العام من خلال العمل على تقريب الرؤى بين العقائد الجزئية؛ التي تجرى عليها المقارنة، لكن النتائج التي تخرج فيها المقارنات التي تجرى عادة بين جزئيات فقه المذاهب تكاد تُفشل أي مسعى في هذا الاتجاه، طالما أن الجميع مصرون على الثبات على مواقفهم التقليدية الصلبة الموروثة دون أي فرصة للتنازل عن أي مفصل من مفاصل الموروث؛ الذي هو بالأصل وليد فهم الأئمة الشخصي الجزئي للنص المقدس، والذي أضفى عليه الأتباع قدسية حولته هو الآخر إلى نص مقدس لا يجوز المساس به أو تعديله أو الاجتهاد قبالته لأي سبب، وفي أي حال من الأحوال، فانكفأ كل مذهب على نفسه وتراثه، رافضا مجرد إلقاء نظرة على تراث الآخر، أو السعي إلى البحث عن المشتركات، بعيدا عن الأحكام المسبقة الخالدة، وبالتالي بدت القطيعة بين المذاهب واضحة جلية، لا يعتريها الشك، ولا تقربها الوساوس.
وقد اخترت أحد أبسط المواضيع للتكلم عنه في هذا الموضوع، لأن المواضيع المعقدة الأخرى لا مجال للتحدث عنها، فذلك من المحاذير التي لا تحمد عقباها، ويعد التحدث عنهاغ والخوض في غمارها: إما خروجا أو تهجما وتطاولا، وفي كل الأحوال يتعرض الكاتب غالبا إلى ما لا تحمد عقباه. والموضوع الذي اخترته هو إمامة الصلاة، لا الصلاة نفسها، لأن الحديث عن الصلاة وكيفية أدائها أمر شائك لا يمكن أن تتوحد الرؤى حوله، مثلما هي جزئياتها شائكة كقتاد، بدأً من التهيؤ لأدائها، إلى الوضوء وطرقه، إلى الأذان ومفرداته، إلى الوقوف، إلى العدد الذي تصح فيه  صلاة الجماعة، إلى تكفير اليد أي إسبالها أو شبكها، وأين توضع الأيادي: تحت السرة، أم عليها، أم أعلى الصدر، وصولا إلى القراءات والتسليم، وهكذا تجد نفسك في متاهة لا ينجيك منها إلا الرب الرحيم.
لقد ورد الحديث عن إمامة الصلاة تحت عنوان "الصلاة وراء المخالف في المذهب" في كتب الأحكام والعبادات في جميع المذاهب، وسأعتمد هنا فيما يخص المذاهب الأربعة كتاب الدكتور وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته الشامل من الأدلة الشرعية والآراء المذهبية، الصادر عن دار الفكر، بيروت، في طبعته الثانية، لسنة 1405هـ ـ 1985م. وهو كتاب في الفقه المقارن، مؤلفه الدكتور الزحيلي سوري الجنسية، وعضو المجامع الفقهية بصفة خبير في مكة وجدة والهند وأمريكا والسودان، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق، كلية الشريعة، أما المذهب الشيعي فسأعتمد فيه آراء الفقهاء والرسائل العملية.
في أداء الصلاة خلف المخالف، اشترط الحنفية والشافعية أن تكون صلاة الإمام صحيحة في مذهب المأموم. بمعنى أن شروط صحة الصلاة عند المأموم يجب أن تتطابق مع شروطها لدى الإمام، فلو صلى حنفي خلف شافعي سال منه دم، ولم يتوضأ بعده ـ باعتبار أن الحنفي يوجب أعادة الوضوء على من سال منه دم، بينما لا يوجب الشافعي الوضوء ـ لم تصح صلاته. أو صلى شافعي خلف حنفي لمس امرأة مثلا ـ باعتبار أن مس المرأة ينقض الوضوء مطلقًا لدى الشافعي، بينما لا يرى الحنفي فيه بأسا، فهو عند أبي حنيفة لا ينقض الوضوء مطلقًا، ففي مثل هذه الحالة تكون صلاة المأموم باطلة، لأنه يرى بطلان صلاة إمامه!
ومن جانب آخر، يرى المالكية والحنابلة أن ما كان شرطا في صحة الصلاة، فالعبرة فيه، فلو اقتدى مالكي بحنفي أو شافعي لم يمسح الرأس في الوضوء، فصلاته صحيحة، لصحة صلاة الإمام في مذهبه.
وهذا جميل جدا، فما دامت صلاة الإمام صحيحة في مذهبة، لا بأس ان يأتم به من يخالفه مذهبيا. لكن للأسف تجد هناك من يحد من هذا الانفتاح حينما يصل إلى موضوع الصلاة خلف إمام شيعي مثلا، حيث يرى الحنابلة أن كل إمام عُلم أنه يغلو في آل البيت، فإنه لا يُصلى خلفه. وأنه لا تجوز الصلاة خلف جميع المشركين، ومنهم من يستغيث بغير الله ويطلب منه المدد ـ يقصد بذلك الشيعة ـ لأن الاستغاثة بغير الله من الأموات والأصنام والجن وغير ذلك من الشرك بالله، وهم هنا يُكفرون الشيعة مطلقا، ويتهمونهم بالشرك بالله تعالى، ويتهمونهم بما هو ليس فيهم. ومثل هذه الأمور تحفز عادة الطرف الآخر ليرد عليها بالمثل، وهو أمر يشجع على إفشاء ثقافة التكفير في المجتمعات الإسلامية للأسف. وقبال ذلك، ذهب الشيعة إلى عدم جواز الصلاة خلف المخالف ممن لا يعتقد بالولاية، ولا تجوز الصلاة خلف من يشهد عليك بالكفر، ولا خلف من شهدت عليه بالكفر.
فضلا عن ذلك، حبب الافتائيون الابتعاد عن الصلاة خلف المخالف مطلقا، فذهب الحنفيه إلى إن الصلاة تُكره خلف الشافعي. ورأى الشافعية أن الأفضل الصلاة خلف إمام شافعي، لا حنفي ولا غيره ممن يعتقد وجوب بعض الأركان والشروط. فما كان شرطا في صحة الاقتداء، فالعبرة فيه بمذهب المأموم، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي في صلاة فرض بشافعي يصلي نفلا، فصلاته باطلة، وشرط الاقتداء: اتحاد صلاة الإمام والمأموم. هذا بين المذاهب الأربع، وقبالة ذلك ذهب الشيعة إلى عدم جواز صلاة النافلة جماعة، لأنها بدعة متأخرة، جاءت في عصر خلافة عمر، أما عموم صلاة الجماعة مع المخالف فلا تعد جماعة، ولا يترتب عليها آثارها، فلابد من الإتيان بوظيفة المنفرد، ولزوم القراءة خلف من لا يُقتدى به، أو جعل الصلاة خلف المخالف صلاة تطوعٍ من دون ائتمام به. لكن حتى مع ذلك هناك فسحة أمل لا يمكن اغفالها، وهي أن بين علماء الشيعة من يجيز الصلاة وراء المخالف، بل وهنالك بينهم من يرى استحباب الصلاة خلف المخالف، لما في ذلك من أثر في التقريب والتعايش والتفاهم والألفة. وللأسف لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يلتفت إلى أحد حسن النوايا، حيث نجد من يعتقد ان الشيعة يدعون إلى ذلك تقية!
وبالتالي تخرج بمحصلة مفادها أنه باستثناء الفئة الشيعية الأخيرة التي تحبب الصلاة وراء المخالف، وما يراه بعض المالكية والحنابلة من أن ما كان شرطا في صحة الصلاة، فالعبرة فيه؛ أن جميع المذاهب الإسلامية الخمس لا تجيز الصلاة خلف المخالف لا في جمعة ولا في جماعة ولا في عيد، فلا توجعوا رؤوسنا ولا تصدعوها بالحديث عن وحدة إسلامية، لأن الأمة التي لا تجتمع حتى في الوقوف أمام ربها، لا يمكن أن تجتمع على رأي آخر، ما دام كل حزب بما لديهم فرحون. من هنا أرى أن ينشغل كل حزب بنفسه ويدع الآخرين هم وخالقهم، بدل أن يزيد الطين بلة بخلق النزاعات التي تفضي إلى العداوات والفرقة والكراهية، وأن يكلوا أمر قبول الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى لا لأي أحد غيره، فهو وحده المسؤول عن قبول الأعمال والمحاسبة عليها!.
أما المأزق الذي نحن فيه، أو الذي أدخلنا أنفسنا فيه عنوة جميعنا، فلا ينجينا منه إلا الأخذ بآراء الوسطية والاعتدال في المذاهب كلها، والعمل على تنميتها وتحبيبها إلى قلوب الناس، وترك كل ما يدعو إلى الخلاف، أو يأمر به، عسى أن يسهم ذلك في لم شعثنا، وتوحيد كلمتنا. ومثل هذا الأمر لا يمكن أن ينجح إلا إذا ما نجحنا في رفع القدسية عن الكثير من الموروث، فنحن مع كبير احترامنا للرموز العظيمة التي أتعبت نفسها وجمعت متفرقات الدين ضمن أيقونات خاصة، أقصد بهم أئمة المذاهب والمؤسسين لها، لا يجوز أن نجمد على ما جاءوا به، طالما أننا أكثر منهم قدرة على البحث والتقصي والاستنتاج ـ في الأقل ـ بفضل ما توفر لنا من معطيات الحضارة التي كانوا محرومين منها، لأننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت آخر إلى أن نلتقي، ونجلس، ونتشاور، ونتباحث، والأهم أن نتفق!.
والله من وراء القصد




98
هل تعرفون ما الوجع في بلاد ما بين القهرين؟
صالح الطائي
لا أدري ما بال حضارة بلاد (ما بين القهرين)، وما علاقتها بالحزن السرمدي؟ هذا الحزن الذي رسم ملامحه على ملامح أهلها فلا يعرفون إلا به، حتى أن أغانيهم لا تكون جميلة إذا ما خامرها الحزن.
لا أدري فيما إذا كانت قد اختارت الحزن بنفسها وفضلته، أم أنه مكتوب عليها، أم أنها صنعته بنفسها ورفضت أن تتنازل عما أبدعت!.
لكن كل الذي أعرفه أنها بدأت أولى خطوات سيرورتها يوم قام أبنها قابيل بذبح أخيه هابيل بلا سبب!
وثاني خطوات سيرورتها بنشيج بكاء كلكامش الباحث عن الخلود على صديقه أنكيدوا..
وبعد ستين عاما من بدء الهجرة، خضبت دموعها المليئة بالحزن تراب كربلاء توجعا على شهيدها الحسين؛ الذي قتلته بنفسها، ومثلت بجثته..
وبعد ستمائة عام باعت بكارتها لمن جاءت بهم ليخدموها من المماليك، فأولدوها هجنة من الحزن والكآبة.
وصرخت تأوها حينما افتضها هولاكو وجنوده وخلعوا ملابسها عنها وسرقوا أسورتها؛ دون أن تجد من يواسيها ولو بكلمة طيبة..
وندبت حظها يوم رفعت الفالة رأسها يساندها المكوار للتصدى للطوب والدانة، ففقدت الكثير من كرامتها دون أن تربح شيئا ..
وشعرت بالمهانة وهي تسمع هتاف ماكو مؤامرة تصير والحبال ممدودة.
وشنفت آذانها لتسمع أنين صدورنا المنبعث من وراء أبواب السجن الانفرادي المؤصدة بإحكام شديد على أجسادنا التي تهرأت من شدة التعذيب، يوم تسلط الطغاة وأحزابهم وكلابهم على مصائرنا ..
وتحولت أعراسها إلى مآتم حينما كان فتاها قد بث عيونه يترصدون العرائس الجميلات ليصادروهن من أزواجهن فيقضي معهن الليلة الأولى، ويعيدهن إليهم سالمات إلا من شرف مثلوم.
وودعت قوافل القتلى في مهازل التاريخ الحديث على أعتاب البوابة الشرقية التي سرقها المحتلون من قبل، ولم يبق منها سوى اسمها؛ مرة، وفي صحراء الكويت والنزق البدوي الذي لا يحترم عهدا ولا وعد ولا إخوة ولا صداقة؛ مرة، وفي حلبجة الطفولة المذبوحة بأمر كيمياوي؛ مرة، وعلى جبال جمجوقه والماعز الذي ذبح من أجل التمتع بتناول قلبه؛ مرة..
وبنى طغاتها قصورا بلا معنى وهم يرون شعبهم يتضور جوعا بسبب الحصار حتى أن العراقية كانت جاهزة لتبيع ما بقي لها من وشل شرفها من أجل أن تطعم صغارها الغرثى.
ووجدت نفسها عارية حتى من ورقة توت في زمن الديمقراطية وصناديق الاقتراع، ومع ذلك تجد أبناءها منشغلون بخطوطهم الحمر التي يقدسونها جهلا ونفاقا.
ووصلتَ إلى درجة أنك تذبح أو تستقبلُ برأسك طلقة مسدس كاتم، أو يستخرج قلبك ويلاك أمام الكاميرات، إذا بحت بكلمة صدق خارج سياق المألوف، ولن تتمكن من معرفة من قتلك ومن صادر حياتك.
فهل تعرفون بعد هذا ما الوجع المرتسم على محيا أبنائها حتى في أفراحهم؟
الوجع أن تتألم بشدة من دون أن تعرف السبب، لتكتشف بعد حين أن كيانك كله قد أنشئ من مخلفات وجع السنين، منذ الخطوة الأولى لأسلافك على هذه الأرض، ولحين إدراكك الحقيقة، حقيقة أن حقك كان ولا زال وسيبقى مصادرا إلى الأبد، ومعه أمنك وسلامتك وكرامتك ورزقك وشرفك ووطنيتك وإنسانيتك، وليس بمقدورك ان تستعيده،
وإذا استعدته،
ليس بمقدورك أن تدافع عنه!.
لأنك أدمنت الهزيمة وعاقرت الوجع.
فلماذا تعتب علي لأني قلت:
صحيح إنّي
لا أجيدُ العزفَ علی جرحي،
لکنّي سيّدٌ بالنواح
من کثرة الدموع
من مصائد الجراح؛
لأنّني مسکون بالآهات،
وحزني غدرانٌ بل أنهار
تقتفي الرياح

99
مبالغة بعيدة عن الواقع

صالح الطائي
إن إعطاء الأشياء حجما أكبر من حجمها الواقعي والطبيعي،  يؤدي عادة إلى الوقوع في مطبات قد يكون بعضها خطيرا للغاية، لأنه يكشف عن حقيقة الهذيان الذي أوحى بكل تلك المبالغة، وكل ذلك التناقض، هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ أقوال الكاتب اسماعيل حسني مؤلف كتاب (علمانية الاسلام والتطرف الديني) في دفاعه المستميت ولكن غير العلمي عن العلمانية. وهذا ما تفضحه أقواله غير المنسجمة، التي يبدو أنه لم يلتفت إلى الغرابة الموجودة فيها، فأطلق لها العنان دون أن يتأكد من صلاحيتها، فهو يقول:
•   "استطاعت العلمانية أن تتعايش في سلام مع مختلف العقائد والديانات على وجه الارض". وهذا يعني أنها استطاعت التعايش مع جميع العقائد باختلاف أنواعها،
وهو الأمر الذي لم يقع مطلقا، حيث كان الصراع مرة معلنا وأخرى خفيا على مر التاريخ، وفقا للأشكال التي اتخذها، والمصطلحات التي أطلقت عليه، فمصطلح العلماني المعاصر، يقابله مصطلح الكافر أو المشرك القديم، وهما يشتركان تقريبا في المعنى في الأقل وفقا للفهم العام لهما.
•   ثم أردف قائلا وكأنه يريد أن يستثني مجموعة صغيرة أو عقيدة مغمورة من هذا التعميم: "ولم تجد مقاومة حقيقية الا في المجتمعات التي تنتشر فيها الديانات الابراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والاسلام"
بينما هو يتحدث عن أكبر تكتل ديني في العالم يشكل نسبة 54,9% من مجموع البشرية.
•   وقال بعد ذلك: ذلك أن الديانات الشرقية التي يدين بها اكثر من نصف سكان الارض كالهندوسية والسيخية والبوذية والكونفوشية والشنتونية والجينية والطاوية لم تجد نفسها في تناقض معرفي أو عملي مع الفكر العلماني"
وهذا لي لعنق النصوص فيه الكثير من التدليس، فأديان نصف سكان الأرض لا تمثل نسبة أعلى من باقي النسب، نعم هم الأكثر نسبة إلى الإحصاء السكاني ولكنهم يمثلون الأقلية في الإحصاء الديني، ولكي أقنعه علميا وبالدليل، سأورد له احصائية مركز بيو الأمريكي للأبحاث لعام 2012 عن حجم المجموعات الدينية الرئيسية في العالم, وأترك له حرية إجراء المقارنة:

الديانة            النسبة المئوية   
مسيحية         31.5%
الإسلام               23.2%
اليهودية           0.2%
غير منتسبين         16.3% 
هندوسية         15.0%
بوذية            7.1%
فولك            5.9%  
اخرى            0.8%
  
وبذا تكون النتيجة الإحصائية الأخيرة:
الأديان الإبراهيمية الثلاث تشكل نسبة    54,9%
  غير منتسبين إلى دين، يشكلون نسبة   16.3% 
وهذا يمثل نسبة  71,2% من مجموع سكان الأرض، وبالتالي لا يشكل أتباع الأديان الذي امتدحها الكاتب سوى نسبة 29,8% من مجموع سكان الأرض.
وحتى مع هذه النسبة المتدنية، أرى أن هذا لا يعني أن العلاقة بين هذه الأديان والعلمانية مستقرة أو تميل إلى الاستقرار، أو أنها تلقى لديهم القبول، طالما أن هناك الكثير من الحساسيات بين أتباع هذه الأديان نفسها فيما بينهم، وبينها وبين أتباع الديانات الإبراهيمية، واذكره بما فعله الرهبان البوذيون بأقلية الروهينغا في ميانمار مؤخرا.
وأخر ما أود طرحه في هذه العجالة؛ هو أني لست ضد العلمانية، طالما أن العلمانية لا ترغب في أن تكون ضدي، لكنها متى ما اتخذت موقف الضد مني، سأجابهها بالضد عينه، وأتصدى لها بسلاحها نفسه. وأنا في موضوعي المختصر هذا، لا أسعى إلى الطعن بالعلمانية، لا أبدا، فما بيني وبين الكثير من أصدقائي العلمانيين من الود يفوق التصور، ولكني أحببت أن أتبنى دعوة وجوب الكتابة عن المعتقد، أي معتقد كان، سواء كان سماويا أو أرضيا، وفق أسس علمية عقلانية محايدة، لأنها الطريقة الوحيدة التي من الممكن لها أن تجد قبولا لدى الآخرين، أملا في أن تجد المجاميع البشرية مشتركات تربطها بالمجاميع الأخرى، تحثها على النظر إلى الآخر من خلال إنسانيته، لا من خلال عقيدته ولونه وأصله وجغرافيته، فكلنا لآدم، وآدم من تراب!.

100
غيلان يا غيلان وانفعالات القراءة
صالح الطائي
كنت بعد أن انتهيت من قراءة الجزء الأول من مراثي غيلان للأديب اللبيب والبغدادي الحبيب الدكتور سعد الصالحي قد شعرت بحالة غريبة، لم تمر علي من قبل، حالة كنت أشعر خلالها وكأني أريد أن أجهش بالبكاء، واصرخ منتحبا، واضحك بهستيريا مفرطة؛ في نفس الوقت واللحظة، فقراءة تلك المواضيع بموضوعها وطريقة صياغتها وأسلوب كتابتها ومفرداتها تنقلك حتما من دنيا الواقع إلى دنيا خيال مفرط بالحساسية، يثير رغبات ذكرياتك لتتحفز شبقا لرؤية وقراءة المزيد، وحينما تنهي قراءتها ستشعر يقينا وكأنك انجزت عملا لا تريد له أن ينتهي، وتتمنى ان يتجدد تلقائيا ويستمر إلى آخر اللحظات.
مر على هذه الحالة بضعة سنين، تخلصت خلالها من مغبة حمل هموم غيلان ووجع مراثيه التي تقلق القلب والعقل، كنت خلالها أشعر بالراحة من إلقاء ذلك الحمل الثقيل عن كاهلي، لكن مع رغبة جامحة في أن تجدد المراثي بنغمة أخرى، ومواضيع أخرى، وذكريات أخرى، إلى أن سمعت خبر إصابة الدكتور سعد بسرطان الحنجرة، فشعرت وكأن غيلان يصرخ في تلافيف عقلي باستمرار ووحشة، لا يريد أن يتخلى عن إيذائي، لأبكي وابكي دون انقطاع.. لحظتها كنت أتمنى لو عشت لحظات الحالة الأولى؛ التي كان يختلط فيها الضحك مع البكاء، ولكن الضحكة اللعينة أبت أن تتسلل إلى شفتي اللتين كان النشيج يدخلهما في حالة رجفة غجرية وكأنهما ترقصان على أنغام وجعي وتألمي وخوفي من فقدان هذا الصديق الرائع.
وبعد رحلة علاج وانتظار طويل، وبما معروف عن الدكتور سعد من صلابة وفروسية وتحد وعناد، نجح في هزيمة المرض وهزيمة حزننا، وتحرر من رهبة اسمه، وحررنا من خوفنا، فعاد ليعزف أوجاع المراثي على أنغام حزننا وفرحنا ودهشتنا. خلال هذه المدة كنت بين حين وآخر أطلع على واحدة منها، تزيدني لهفة وشوقا إلى ما سواها، إلى أن استلمت منه مسودة الجزء الثاني؛ التي ما إن رأيتها حتى هجمت عليها وكأنها أكلة لذيذة، وُضعتْ أمام جائع، لم يأكل منذ عصر نوح، تركت كل ما في يدي حتى المستعجل منه، وانهمرت عليها كرذاذ مطر ربيعي تشعر به ولا تلمسه، كانت صفحاتها تتهاوى أمام نهمي أسرع مما أرغب، ومع كل صفحة أطويها كنت استعيد تلك الحالة الفريدة، حالة التحرر من سنن الطبيعة، وثقل الأجساد، حيث أثيرية الروح، وحيث يصبح الضحك والبكاء سوية أمرا لا يستهجنه أحد.
أتممت القراءة، وعدت ثانية وثالثة لأنهش تلك الصفحات العارية الممددة أمام اشتهائي، وكأن غيلان تلبسني من جديد، وكلي أماني في أن لا ينتهي نث المراثي إلى الأبد.
حينها وبكل أنانية التاريخ، تمنيت لو كان الأمر بيدي، لأمنع الماء والشراب عن الدكتور سعد وأمنع تقديم وجبات الطعام له، إلا بعد أن يكتب مرثية جديدة مقابل كل وجبة طعام تقدم له، وهذه هي الأنانية بعينها، والأنانية أصلها من أنا وهي حينما تختص بعلاقة مع مراثي غيلان تكون احلى ما في الدنا.

101
اللغة في ملكوت الروح

بقلم الدكتور غازي البدري

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين .
الاخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسرني ويسعدني أن أطلَّ عليكم من على هذا المكان لأقدِّم لكم مُؤَّلفًا رائعًا أَلا وهو (ملكوت الروح) للباحث البارع الدكتور صالح الطائيّ.
  اللغة العربيّة هي قبل كلّ شيء هويتنا الحضارية، وهي لغة تخاطبنا، ولغة ديننا التي شاء البارئ عزَّ وجلّ أن يباركها ويُعلي من شأنّها حين أوحى إلى رسوله الكريم بقوله:( وإنّه لتَنْزِيلُ رَبِّ العالمينَ* نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ من المُنْذِرِينَ * بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ).
لذلك كانت العربيّةُ أمَّنا، وهي صلة الوصل بين الأحفاد والأجداد، كما أن فيها صور الآمال والأماني للأجيال الناشئة لذلك ينبغي التفاني في حُبِّها والاعتناد بدرسها، والتعرّف على تراثها، والاطِّلاع على دورها الرِّيادي الذي تلعبه في حياة الفرد والمجتمع.
 وقد استطاع الدكتور صالح الطائيّ في مؤَّلفه هذا أن يجعل اللغة ليس هدفًا بحدِّ ذاتها، بل جعلها أداة لنقل أفكاره ومشاعره للبشر ؛ وأداة اتِّصال وحاملة للمعلومات؛ لأنّ اللغة وكما نعرف تقوم بدور الوسيط في المجتمع، فنجح الباحث في تحقيق الاتِّصال والتواصل بين الناس من طريق توصيفاته واقتباساته، وقد أجاد في التأثير في نفوس قارئيه؛ لأنّه يمتلك مهارة الكلام فاستعمل لغته بمرونة وطواعية في مختلف المواقف التي عرضها في مؤَّلفه، وكانت الفعالية الاجتماعية ترتبط بالبلاغة، بحيث يمكننا أن نصنِّفه من الباحثين المؤثِّرين في مجتمعه؛ لأنّه يتمتع بقوالب تعابير ابلاغية حينما يطرح فكرته يستطيع القارئ فهم مغزاها بيسر، وكان ملاك الروح في أكثره عبارة عن تجارب شخصية.
ويستطيع القارئ الفاحص لهذا المؤَّلف أن يدرك أن مصير حياته معلَّق به، معلَّق بنشاطه، بصبره، بجرأته، بثباته في عمله، باستعمال عقله للتفكير في الطريق الأفضل والأحسن في عمله، فإذا اعتمد هذه جميعها، فلا عليه أن تقف الدنيا كلها في سبيله، إنّه سينجح رغم كل الصعاب ورغم كل المتاعب.       
قد يستطيع المرء أن يجمع المال من عمله ونشاطه، ولكنه لا يمكن أن ينعم بالسعادة من هذا المال؛ لأنّ المال سبيل واحد من السبل التي تحقق السعادة، فليس كل من جمع المال حقق السعادة كاملة.
لذلك نجد الطائيّ يركز في مؤلَّفِه هذا على استعمال العقل في الخلق والابداع من طريق التفكير الساميّ.
ومن طريق قراءتي المتواضعة لهذا المؤلَّف أحسست أنّه قوّة دافعة تدفعك نحو هذه النواحي، وتدلك على الطريق وتؤكد لك ما سوف تكسبه من خير إن سرت على هذا الطريق طريق التفكير، وانت متفتح العينين لا تنظر إلى نهاية الأسبوع أو الشهر لتأخذ أجرك وإنما تنتظر نجاحك في عملك واخلاصك فيه.                                             
هذا المؤلَّف ناقوس يَدُقُّ صوت الخطر وينذر الغافلين بالنهاية المحزنة التي سوف يلاقونها، إن ظلوا على تواكلهم وانطوائهم وترددهم ولم يتمالكوا أعصابهم ليبدؤوا حياتهم من جديد، إذا كانوا قد أفسدوها في الماضي، على طريق جديد يُعَوِّضُ ما خسروه ويفتح أمامهم أبوابًا مُغْلَقة ما كانت تُفتحُ لو لا أن تطوِّروا واعتمدوا مقاييس جديدة في حياتهم، مقاييس ثابتة صلبة، لا مقاييس لينة مترددة طرية كما كانوا في الماضي يفعلون.
تقدّم إلى عملك ثابتًا مقرَّرًا في نفسك أن تقوم به على أحسن ما يكون.
اختر العمل الذي يرضيك ويلذ لك وسر به إلى غاياته، وثق أنّك سوف تكون من الناجحين في حياتك...ثم طالع هذا المؤلَّف بثقة مرَّةً بعد أُخرى... فلا يكفي أن تقرأه مرَّة واحدة ففيه من النصائح القوية والحوادث المثيرة، ما يهدئ روعك ويفتح شهيتك، لتفعل ما فعله سواك مِمَّن طلبوا العز في الحياة، فحصلوا عليه دون غيرهم؛ لأنَّهم تسلحوا له بأحسن الأسلحة وأمضاها، وهذه الأسلحة كانت ثباتهم وجرأتهم وفتح أعينهم وأدمغتهم وحُبّهم، فسبقوا غيرهم، وهم اليوم نجوم الحياة تراهم على رأس كلِّ عمل من الأعمال؛ لأنهم عرفوا أن الحياة مثل السوق الكبير تتجول فيه فتأخذ ما يطيب لك من المعروض.
يروى عن أندرو كارنيجي أنه قال لأحد أصدقائه:" حينما أموت أريد أن تكتبوا على قبري... هنا يرقد رجل  نجح في حياته؛ لأنّه أحسن في أن يستخدم في مؤسساته موظفين بارعين يعرفون أكثر مِمّا يعرف هو".


102
قراءة انطباعية في رواية "سلام لم يعد يغني" للدكتور باسم عبد علوان
صالح الطائي
بعد أن تقدم بي العمر، وأصاب الوهن عيوني، أقصرت قراءاتي على المواضيع التي أكتب عنها، فضلا عن قراءات الطريق، حيث أختار عشوائيا أحد الكتب من مكتبتي لأصحبه معي في السفر للقراءة، أما عدا ذلك، فهي مجرد نظرات عابرة ألقيها على بضعة صفحات من كم الكتب الكبير الذي يُهدى إلي، وحتى الكتب التي يُطلب مني أن أكتب عنها، أو التي تغريني للكتابة عنها، لا أوغل نزولا في أعماقها، بل أختار صفحات محددة، لأستخلص منها الرؤية، بل وحتى الكتب (كتب فكرية أم أدبية قصصا وشعرا) التي كانت تغريني لذاتها، أو التي اتصفحها فأجد فيها ما يستحق المتابعة، تجدني ما إن أتعمق بالدخول إليها حتى يصيبني الملل، فأتركها غير مأسوف عليها، وأترك الكتابة عنها.
كان هذا ديدني خلال السنوات العشر الأخيرة، تطبعت عليه، ولاسيما وأني اضطر الكثير من القراءات أثناء تأليف أحد كتبي، وإلى إلى قراءة كتبي المعدة للطبع أكثر من ثلاثين مرة متتابعة لأجردها وأدققها وأصحح ما فيها، بمعنى أني مشبع بالقراءة إلى حد التخمة، ولا أجد مكانا للمزيد.
وكما أن في كل خطوة في الحياة هناك استثناء يكسر القاعدة، وطبع يعارض التطبع والطباع، هناك من الكتب ما له القدرة على تغيير القناعات وتبديل السلوكيات ومخالفة العادات، والخروج على المألوف، وهذه حكايتي مع رواية "سلام لم يعد يغني" لصديقي الطبيب البيطري الذي أراد أن يزاحم الآخرين في دنيا الأدب، ربما تطفلا مني لأعرف إن كان قد نجح أم لا.
أهداني صديقي الدكتور باسم عبد علوان روايته الموسومة "سلام لم يعد يغني"، ولكني ما إن رأيت غلافها البسيط جدا حتى تصورت أنها قد تكون مغامرة غير مدروسة، أو  عملا اعتباطيا فطريا ساذجا. أما العنوان فهو في بساطته وطريقة صياغته كان قد زاد مخاوفي من هنات هذا العمل المسمى (رواية).
على مدى عشرة أيام كنت أقلب أوراقها فأصطدم بكم كبير من الحوار باللغة الدارجة المحكية (العامية) فأقرأ بضع كلمات وألقيها من يدي، مؤجلا قراءتها إلى وقت آخر، ربما يطول كثيرا إلى درجة النسيان.
بعد اليوم العاشر، وبعد الساعة العاشرة ليلا، شعرت بإنهاك شديد، بعد أن أنهيت جرد كتابي الأخير، وأرسلته إلى دار النشر، ولكني لم أغادر مكتبي، بل بقيت جالسا، وتناولت الرواية، وبدأت أقرأ بجد عليَّ أغير حكمي أو أبدل رأيي فيها. وفعلا وجدت شيئا يستحق المتابعة، ووصفا يُقرِّب إليك الرؤى، حتى تشعر وكأنك في المكان الذي يتحدث عنه الروائي. وحينما عجزت عيوني المنهكة عن متابعة القراءة، فبدأت الكلمات تتداخل ببعضها، والحرف تنفصل عن أصولها، نظرت إلى ساعة الحائط، فأصابتني الدهشة! ياه... إنها الواحدة ليلا، عجيب، أين كنت؟ هل فصلتني الرواية عن واقعي، هل جعلتني أحلق في دنيا التأمل المغري، ففقدت الإحساس بالزمن؟ هل مارست الرواية عليَّ طقوس سحر لتأخذني عدوا ـ وأنا الشيخ الكبير ـ طوال هذا الطريق المحفوف بأشياء لم تكن على البال؟ وأي متعة تلك التي كانت تخامرني؟ أي شعور ذاك الذي انتابني، كيف تحولت من قارئ ضجر، إلى أحد أفراد (المنسية) القرية التي وقعت فيها أحداث الرواية، بل إلى واحد من أكثرهم مشاركة في الأحداث وخوضا للمغامرات؟
نهضت من كرسيي؛ وأنا أتمنى لو لم تخني عيوني، لأتمكن من إتمامها. أويت إلى فراشي وأنا كلي قلق وحيرة، ونمت وأنا أعيش احداث المنسية بأدق تفاصيلها، وحينما نهضت صباحا، كنت لا أزال أجتر أحداث المنسية، كنت استدعي تراكمات ما قرأت بالأمس، ولاسيما الحوارات باللغة المحكية، وأقارنها بخزين ذاكرتي عن قرية أعرفها، زرتها مرات كثيرة، تحدثت مع أهلها، أكلت ونمت وضحكت معهم، تربطني بهم علاقة قرابة ورحم، فتعيد لي فضاءات من عمري الذي ولىّ، وأحن إلى أصدقاء فارقتهم، وأشتاق لرؤيتهم أكثر من اشتياق الظمآن إلى قدح ماء في ظهيرة تموزية!.
منحني هذا الشعور حرصا على أن لا تنتهي هذه الرواية، أن تطول إلى الأبد، فقسمتها على أقسام صغيرة، وآليت على نفسي أن أقرأ يوميا قسما واحدا منها، أبدأ بقراءته بعد الحادية عشرة ليلا، لكي لا أخالف القاعدة فأستمر بالقراءة إلى النهاية، فعشت على مدى عدة أيام مراحل طفولتي وشبابي من خلال حوار الرواية وأحداثها الملتهبة؛ التي تعنيني حرفيا، ولكني ما إن وصلت إلى الجزء الثاني منها حتى فقدت التوازن، ورفضت التقييد، وخالفت القانون الذي وضعته بنفسي، فاستغرقت في القراءة وبشكل نهم، ومع كل صفحة أطويها، كانت توقعاتي عن الحدث تتغير، والحوار يزداد سخونة حتى أكاد أتحسس نيرانه، وخوفا يزداد من أن تنتهي الرواية فلا أعود أتذكر معاناة قرية بسيطة أعرف أهلها.
بهدوء، وبقراءة متأنية، وبتقطيع للجمل، وتعمق في النظر إلى الحوارات، وإعادة قراءة بعضها عدة مرات، كانت الرواية تقترب من النهاية، ومعها كانت رغبتي تزداد عنفوانا بأن امنعها من الانتهاء. وبعد الثانية والنصف ليلا، طويت آخر صفحاتها والدموع تترقرق في عيني مثل طفل أخذوا منه لعبته.
مع انتهاء الصفحة الأخيرة أيقنت أن العنوان (سلام لم يعد يغني) هو أجمل وأفضل وأليق عنوان لهذه الرواية، وفيه من الرمزية ما ينجح في إعطائك مختصرا عن فحواها. أما صورة الغلاف التي بدت حينما نظرت إليها أول الأمر وكأنها اختيار ساذج، فقد كانت هي الأخرى ترجمة حقيقة لأجواء الرواية وطبيعتها، لا أعتقد أن غيرها كانت ستنجح في أداء هذه المهمة الصعبة.
أما اشتغالات الدكتور باسم وانتقالاته من حدث إلى آخر برشاقة راقصة البالية، ونجاحة في رسم الأحداث بريشة بيكاسوية، وتوظيف الحوار المناطقي، لهجة ولفظا للكلمة، واستخداما لكلمات بعينها، تنتهي بمدة قوية يمتاز بها أهل تلك القرية، فالهاء تتحول إلى ألف فـ(الماصوله) مثلا تتحول إلى (ماصولا)، فقد حول الرواية، ولاسيما لمن تعنيهم بالذات دون غيرهم، إلى استذكار لقصص الآباء، يروونها بأنفسهم وبلهجتهم، فهؤلاء بالذات هم الذين تستفز الرواية خزين ذكرياتهم، وتجعلهم يسرحون في دنيا الخيال للمقارنة بين أسماء أبطال الرواية، ورجال القرية الحقيقيين الذين يعرفونهم معرفة كبيرة.
إنك وبدون مبالغة تكاد من خلال الوصف والصور التي رسمها الأديب تشم رائحة الطين حينما يتحدث عن فليح البلام، وتشم عبق الغبار الذي يتطاير من الشارع غير المعبد حينما يتحدث عن مقهى أبو شكر، وكثير من اللوحات الموحية الأخرى التي نجح باسم في أن يجعلك تتفاعل معها بحيوية غريبة.
مضمون الرواية يكاد يكون مطروقا من قبل بكثرة، فهي تتحدث عن الخير والشر والطمع والعداء والكراهية والحسد والنفاق والدجل والسذاجة والفطرة، وأيضا عن الإخاء والتعايش بين الأديان، وعن الحب العذري، والأمل الكبير الذي يراود كل إنسان مهما كان بسيطا. واستخدام الأديب باسم للهجة الشعبية للقرية في صياغة الحوارات في الرواية، كان هو الآخر لوحة أخرى من لوحات الإبداع التي مارس طقوسها، اجتمعت كلها، ونجحت في تقريب المعنى إلى عقل وذائقة المتلقي، وقد تركت فيَّ أنا بالذات أثرا أكبر حتى من أثر الرواية نفسها، وهنا تحولت شكوكي من صحة وصلاحية وجود النص الحواري الشعبي في الرواية، وهو الأمر الذي تحدثت بشأنه مع الأديب الكبير شوقي كريم حسن، إلى يقين تام بأن الحوارات لو تمت صياغتها باللغة الفصحى، ما كانت لتنجح في إيصال الفكرة إلى المتلقي.
وبالمجمل أراد الكاتب من خلال تلك الحوارات أن يقول للإنسان: إنك قد تخسر الملايين، ولكن بمجرد أن تؤاتيك الفرصة، ستتمكن من إرجاعها، ولكنك مهما فعلت لن تنجح في استعادة الوقت الذي تضيعه!.
إن هذا العمل الأدبي الرائع والكبير بالرغم من كونه العمل الأدبي الأول للدكتور باسم ـ على حد علمي ـ إلا أنه علامة مميزة تنبئ بمولد روائي عراقي كبير.
جاءت الرواية في (396) من الحجم المتوسط، وصدرت عن دار ليندا السورية، وهي رواية جديرة بالقراءة.   


103
إصدار جديد "ملكوت الروح" نصوص نثرية
صالح الطائي
قد لا تكون للعمر علاقة بالحكمة، ولكن إذا تجاوز المرء العقد السادس من عمره، مع كل ما يقرأ ويبحث وينجز ويتابع وينقر ويمتحن ويفحص ويحفظ، لابد وأن يستقر وشل ذلك في روحه، فتتفتح له تجليات المعرفة، التي تمكنه من اختراق مناطق اللاشعور، والغوص في لجج اللاوعي، ليرى بعض أسرار الرؤى التي لم يكن من قبل يراها. وأنا واقعا كنت على مدى أكثر من خمسة أربعين عاما غارقا في دنيا البحث والتقصي، أركض خلف الآية والرواية والحديث والرأي والقول والحكمة، أنقِّرُ في الموروث أملا في أن اصل إلى نتيجة تتكشف من خلالها التعقيدات التي تحيط بنا، التعقيدات التي جعلت الأخ يختلف مع أخيه، والابن لا يتوافق مع أبيه، إلا أني مع انصرام كل عام، كنت أشعر أن الهوة تتسع، والمسافات تنفتح، والبعد يتضاعف، والمشاعر تتصحر، وانهار الود تجف، حتى اختفت الضفاف التي كنت أنظر إليها عندما كنت في بدايات الطريق.
اليوم أجلس أحيانا أفكر مليا في ذلك العمر الذي أنفقته طوعا، وأطيل النظر إلى مؤلفاتي التي ناف عددها على الأربعين كتابا، واسأل: يا ترى هل نجحت في قول ما يمكن أن يُقرِّب الشطآن إلى بعضها، أم زدت التباعد بينها؟ والآخرون هل أفادوا مما أعتقد أني أعطيته لهم؟ أم أنهم تجاوزوا ذلك، بدليل أنهم لم يصلحوا أوضاعهم!
إنها الحيرة التي وضعتني أمام امتحان لابد من خوضه أو الغرق، وهنا لم أجد أمامي سوى خيار التحدي والمجازفة، فارسا في فيافي الكلمة، يحمل بدل السيف قلما، سرت في درب البحث عن الحقيقة، مستعدا لتحمل جميع النتائج التي ستترتب على سيري هذا بما في ذلك احتمال اتهامي بأني خرجت ضد السلطان، وخنت الأوطان.
ولكي أبرئ نفسي مما نسبه إلي رجال الأمن؛ الذين كانوا يرصدون أدق حركاتي بل وحتى سكناتي، قررت أن أكتب قوافل الكلمات التي تسرح في خيالي وأنشرها في الآفاق على شكل ومضات كالبرق، لأترك للآخرين الحكم عليها، واحصل على النتيجة، إذ لا ينكر أن هناك ثمة اعتباط وضحك على الذقون واستغفال للآخرين يفوق الخيال، يملأ الساحة، منتشرا كالنار في الهشيم، وكأن هناك  مؤامرة كبرى هدفها قلب المفاهيم وتغيير القيم، لكي لا تقوم للعراق قائمة إلى يوم يبعثون؟! ولذا أعتقد اني من خلال هذا الكتاب بالذات قد انجح في كشف ملامح غبش الصبح الذي ننتظر، أو في الأقل؛ الذي أنتظره أنا منذ سبعين عاما!.
إن الشيء المميز في هذا الكتاب، أنه مجموعة نصوص نثرية متفرقة، لا رابط بينها سوى الهدف والقصدية، تهدف جميعها إلى إحداث صعقة قد توقظ الضمير، مثل قول: "اللهم إني لا أخاف الموت غفلة .. ولكني أخاف الغفلة عن الموت" ومثل: "لا تخلُ الحياة من الروائع، فهنالكَ دائما شيء رائع وجميل حتى في الظلام.. إنه يجعلك تشتاق إلى النور"
ولأني أؤمن بالتواصلية بين الأجيال، ولأن حفيدتي فاطمة كانت تمر بأزمة صحية خطيرة جدا وقد نقلت إلى بيروت لمعالجتها، فقد أهديت الكتاب إليها ببضع كلمات:
"فاطمة؛ حفيدتي التي أحبها أكثر من روحي، يا بتلة عمري وروض سنيني، إليك، وأنت تنتظرين النهوض من جديد"
ملكوت الروح / نصوص نثرية، آخر مؤلفاتي، وقد صدر عن دار ليندا ـ السويداء ـ سوريا، بواقع 212 صفحة، تزين غلافه لوحة للفنان العراقي الكبير الدكتور مصدق حبيب



104
افتتاح الخلاف مع الفاتحة والكتلة الأكبر
صالح الطائي
(موضوع كتبته بمناسبة إعلان الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي اليوم)
الصلاة عمود الدين، وهي أول ما أقر من أحكام العقيدة. وسورة الفاتحة عمود الصلاة، وهي أول ما تعلمه النبي(صلى الله عليه وآله)؛ لا تصح الصلاة المكتوبة إلا بالإتيان بها، ومع ذلك تجد المسلمين يختلفون في زمن نزولها إلى حد المهزلة والإسفاف، دون أن يلتفتوا إلى هذا المعنى. إذ أورد الشوكاني والسيوطي، عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) وميسرة وابن عباس والحسن وقتادة (رض)، قولهم: إنها مكية. وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره عن علي (رضي الله عنه) قال: "نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش"(2).
وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف، عن عبادة، قال: "فاتحة الكتاب، نزلت بمكة".  وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة، والثعلبي والواحدي من حديث عمر بن شرحبيل، أن رسول الله لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي، فذهبت به إلى ورقة، فأخبره، فقال له: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد، قل: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى بلغ ولا الضالين الحديث".
بل قدمها أبو ميسرة، فوضعها في بدايات الطور المكي، كما في قوله: "أول ما أقرأ جبريل النبي فاتحة الكتاب إلى آخرها". ونجد ابن عباس يؤكد أنها نزلت بمكة بعد (يا أيها المثر)"( 3).
ومع ذلك تجد بينهم من ادعى أنها مدنية النزول، فمع أن نزولها في مكة من البديهيات، طالما أنها يجب أن تُقرأ في الصلوات، والصلاة نفسها فرضت في مكة قبل الهجرة، إلا أن جماعة منهم انبروا، وادعوا أنها مدنية!. واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد بن أبي هريرة: "رن إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب. وأنزلت بالمدينة"(4). ونقل السخاوي عن أبي هريرة، ومجاهد، والزهري، وعطاء بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، قالوا: "نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. والأكثر على خلاف ذلك"(5).

وأراد قسم آخر منهم تسوية الأمور بالتراضي، وفق قاعدة تسطيح العقل الإسلامي، فادعوا تكرار نزولها، لهذا، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق، عن مجاهد، قال: "نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة، وقيل: إنها نزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة، جمعا بين هذه الروايات"(6). 
والقسم الرابع منهم، أراد أن يحل الإشكال على طريقة أبي بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم، فادعى أن نصفها الأول نزل بمكة، ونصفها الآخر، نزل بالمدينة، حكى أبو الليث السمرقندي: "أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة"(7).
واكتفى الكرمي بقول: "مكية وقيل مدنية وهي سبع آيات"(8).
تجد كل هذا الاختلاف والخلاف الغريب حول مكان نزول سورة فاتحة الكتاب، في الوقت الذي كادوا أن يتفقوا فيه على أن الصلاة فرضت على المسلمين في صبيحة ليلة الإسراء في مكة قبل الهجرة، جاء عن أنس بن مالك(رض): قال النبي(صلى الله عليه وآله): "ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك، حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت استحييت من ربي"(9). وقال ابن كثير: "فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا"(10). وهناك بينهم من تحدث عن إجماع العلماء على أن الصلوات الخمس لم تفرض إلا في هذه الليلة(11).
وفي الأثر أن أبا سعيد بن المعلى، وهو صحابي من الأنصار قتل ببدر(12)، ترك قراءة الفاتحة في صلاته، فدعاه النبي، لأن صلاته باطلة، فأعلمه مكان الفاتحة وشأنها(13).
تؤكد هذه الروايات بلا أدنى شك أن الفاتحة قديمة النزول لأنها من شروط صحة الصلاة التي فرضت في مكة. ومع ذلك يأتي من يروي أن أنصاريا كان يصلي بدون قراءة الفاتحة وأن النبي استدعاه وهو يصلي لكي يعلمها له، عن أبي هريرة أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خرج على أبي بن كعب، فقال: رسول الله: يا أبي، وهو يصلي، فألتفت أبي، فلم يجبه. وصلى أبي، فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله: وعليك السلام، ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعونك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة، قال: فلم تجد فيما أوحي إلي أن (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)؟ قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله. قال: تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها"(14).  وفي خلاصة القول نجد أن (الفاتحة) التي رُحِّلتْ حسب بعض أقوالهم إلى الطور المدني، هناك من يذكر أنها أول السور نزولا، بل سبقت (اقرأ) و(المدثر) في النزول(15).
ولأن المسلمين في غابر وحاضر تاريخهم لا يقوون على رد الحجة بالحجة غالبا، ويلجئون إلى الطريق الأصعب عادة، تجدهم يلجئون إلى التأويل والتعليل، ففيما يخص الحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره، قال الرومي: إن هذا الحديث لا يدل على أن الفاتحة كانت أول ما أنزل، بل فيه دلالة على أن جبريل خاطب الرسول غير مرة.. وهذا الحديث مرسل لا يقوى على مناهضة حديث عائشة المرفوع(16).
المهم أن الذي تسبب بهذه الفوضى هي الأحكام الفقهية التي ولدت بعد عصر البعثة بزمن طويل، فمع أن فاتحة الكتاب أحد أهم أركان الصلاة المفروضة إلا أنهم اجتهدوا قبالة هذه الحقيقة مما خلق فجوة تتيح لمن يريد تأخير نزولها إلى الطور المدني أن يقول ذلك دون خوف، ومن يريد أن يقدمها إلى الطور المكي يقول ذلك دون خوف، فبعدما اختلفوا فيما إذا كان يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب، أم تجزئ هي أو غيرها؟ فقال الإمام أبو حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم: إنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة، واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}(17)، وبما ثبت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أن رسول الله، قال له: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلناه. وذهب آخرون إلى أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء؛ واحتجوا على ذلك بحديث: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج"(18). واحتجوا أيضا بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن".
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم ذهبوا: أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات، أخذا بمطلق الحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه، لقوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}(19).
وقد طُبِّق أسلوب التعليل على باقي الروايات للغاية نفسها، إذ هناك حديث عن جابر بن عبد الله، يذكر فيه أن (المدثر) هي أول ما أنزل من القرآن: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الصمد حدثنا حرب حدثنا يحيى قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر، فقلت: أنبِئتُ أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر، فقلت، أنبئتُ أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله، قال رسول الله: "جاورت في حراء، فلما قضيت جواري، هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، وأنزل علي يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر"(20).
حيث عللها العسقلاني بقوله: "المراد بالأولية في قوله " أول ما نزل سورة المدثر " أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو مخصوصة بالأمر بالإنذار، لا أن المراد أنها أولية مطلقة، فكأن من قال: أول ما نزل اقرأ، أراد أولية مطلقة، ومن قال: إنها المدثر، أراد بقيد التصريح بالإرسال، قال الكرماني استخرج جابر " أول ما نزل يا أيها المدثر " باجتهاد وليس هو من روايته، والصحيح ما وقع في حديث عائشة، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الرواية " فرأيت شيئا - أي جبريل - بحراء ، فقال لي : اقرأ فخفت ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني فنزلت يا أيها المدثر " قلت : ويحتمل أن تكون الأولية في نزول يا أيها المدثر بقيد السبب، أي هي أول ما نزل من القرآن بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم(21).
وقال الطبرسي في تفسير سورة العلق: "وأكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول يوم نزل جبرائيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو نائم على حراء، علمه خمس آيات من أول هذه السورة. وقيل أول ما نزل من القرآن قوله: (يا أيها المدثر) وقيل أول سورة نزلت على رسول الله فاتحة الكتاب(22). وبالتالي يتضح من هذه الخلاصة وهذا الإيجاز الشديد أن هناك أقوالا غاية في الغرابة، ولكنها اعتمدت مصدرا تشريعيا لبعض الفرق الإسلامية.
إن الخلاف في هذه الجزئية يمثل نموذجا للخلاف الذي استشرى بين المسلمين حول مباني العقيدة، والذي أسهم في خلق الكتل، التي صارت كل واحدة منها تسعى لتكون الكتلة الأكبر فيتسنى لها قيادة المجتمع حتى ولو قادته إلى النار! ولذا لا تستغربوا إذا ما كان السعي وراء تشكيل الكتلة الأكبر قد امتد إلى يومنا الحاضر طالما أنه يملك قوة الموروث.

هوامش
(1)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17، والسيوطي، الدر المنثور، ج1/ص6.
(2)ـ الواحدي، أسباب النزول...
(3)ـ السخاوي، جمال القراء وكمال الإقراء، ص53ـ54.
(4)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17.
(5)ـ السخاوي، جمال القراء وكمال الإقراء، ص52ـ53.
(6)ـ الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1/ص17ـ18.
(7)ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1/ص101.
(8)ـ الكرمي، مرعي بن يوسف بن أبي بكر، قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن، كتاب إلكتروني بدون ترقيم.
(9)ـ البخاري، صحيح البخاري، ص87، حديث: 349.
(10)ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج5/ص6ـ7.
(11)ـ ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب، جواب: 143111.
(12)ـ العسقلاني، ابن حجر، (ت: 852هـ)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، 1425هـ ـ 2004م. ج4/ص2247، ترجمة: 10011.
(13)ـ ينظر: السخاوي، جمال القراء، ص115.
(14)ـ السخاوي، المصدر نفسه، ص114ـ115.
(15)ـ البيهقي، دلائل النبوة، ج2/157ـ158، السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج1/ص19ـ20، والسيوطي، الخصائص الكبرى، ج2/ص119.
(16)ـ الرومي دراسات في علوم القرآن، ص253.
(17)ـ المزمل: 20.
(18)ـ الخداج: الناقص.
(19)ـ ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1/ص108ـ 109.
(20)ـ العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن سورة المدثر، باب قوله: وربك فكبر، ص545ـ546، حديث: 4640.
(21)ـ العسقلاني، المصدر نفسه، ص456.
(22)ـ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج10/ص306ـ307.



105
المنبر الحر / ورطة
« في: 18:06 28/08/2018  »
ورطة
صالح الطائي
لطالما رددنا أن الإسلام يقود الحياة، ولطالما تضمنت دساتير بلداننا ما يوحي بأن نظام الحكم يلتزم بأحكام شريعة الإسلام، لكنك ما إن تأتي إلى ما قاله الأوائل في تفسيرهم لآيات القرآن وحديثهم عن خرافة الناسخ والمنسوخ حتى تصاب بصدمة وحيرة لا يخرجك منها إلا أحد امرين: إما أن تسكت على مضض ولا تعترض، بل لا تسأل عن شيء يوقعك بمثل هذه الورطة، مهما كان هذا الشيء أسطوريا، وإما ان تكذب كل ما قالوه، وتؤمن أن دور الإسلام في قيادة الحياة قد انتهى بعد موت النبي(صلى الله عليه وآله)، وللأسف كلا الأمرين مر، وتتبدى المرارة واضحة الأمثلة البسيطة، من ذلك قول المرحوم عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}: "في هذه الآية، دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق"(*).
ومعنى هذا أنه يجب قتل كل من لا يصلي، وكل من لا يدفع الزكاة من المسلمين المعاصرين! وأعتقد أنه لو طبق هذا الحكم في عصرنا الحاضر؛ باعتبار أنه قانون إسلامي واجب التنفيذ، طبقه الأوائل، وأعتمده الخليفة أبو بكر الصديق(رض) في قتال مانعي الزكاة، استنادا إلى الآية الكريمة أعلاه وأمثالها، حيث حرمت هذه الآية قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته. ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة؛ التي هي حق الله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحتاجين، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر(رض) عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة". وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: "أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له". وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه"(**)، أقول: لو تم تطبيق هذا الحكم لوجب قتل سبعين وربما ثمانين أو تسعين بالمائة من المسلمين ممن لا يصلون ولا يزكون، عسى أن تتمكن العشرة بالمائة المتبقية من شعوبنا من تطبيق شرع الله مثلما أراده الأقدمون لا مثل ما أراده الله ورسوله!.
معنى هذا بدون ريب أن ما قامت به داعش من جرائم يندى لها جبين الإنسانية ليس غريبا عن الإسلام المصطنع الذي خلقه التحريف والتبديل، وسوقه على أنه إسلام السماء، فالذي يؤمن أن قتل من لا يصلي أو لا يزكي من جماعة المسلمين جائز شرعا ويثاب المرء على فعله والإتيان به، يكون أكثر اندفاعا ضد من يختلف معه بالمذهب أو الرأي أو المعتقد أو الدين، وهذا ما رأيناه وعايشناه منذ أن ولدت القاعدة وورثتها داعش، فكل ما تعتمد عليه هاتان المنظمتان الإرهابيتان هو ما موجود في بطون كتب الحديث والتفسير والناسخ والمنسوخ، وتراثنا مثلما تعرفون مترع بمثل هذه الأباطيل المخزية التي ولدتها أسطرة الرموز على حساب العقيدة.
فمن الملام يا ترى؟ الذين الذي انضوى موروثه على تلك القصص، الخلفاء الذين اجتهدوا بأن فعلهم الدموي صواب، التاريخ الذي نقل لنا تلك القصص المرعبة،  الحاكم المعاصر الذي يرفض تطبيق هذا الحكم، رجل الدين الذي لا يحث الحكام على تطبيقه، المسلمون أنفسهم لأنهم لم يطبقوا شرع الله بأنفسهم بعد أن رفض الحاكم ورجل الدين تطبيقه؟

الهوامش
(*) السعدي، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله (ت: 1376هـ)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ -2000م. ج3/ص636.
(**)ـ ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي،(ت:774هـ)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد السلامة، دار طيبة، السعودية، 1422هـ ـ 2002م. ج4/ص111.

106
شقشقات لا يسمعها أحد

صالح الطائي

ـ حينما يفكر الإنسان بصوت عالٍ يستحضر كل لعنات التاريخ الذي كمم الأفواه..
ـ قد يفهم سكوتك كثير من الناس لكنك حينما تفكر بصوت عال لا يسمعك سوى أنت..
ـ المنائر لا تبكي سوى الشهداء..
ـ العين تبكي حينما يموت الفرح..
ـ البسمة مفتاح باب سرقه اللصوص..
ـ الفرح تجارتنا التي خسرت رأسمالها..
ـ الأصدقاء عملة قديمة لا تقبل تحويلها البنوك..
ـ الحب نظرية بلا منطوق..
ـ الدمعة أثمن ما يمكن أن يهدره الرجل، إذا يا لرخص الرجال..
ـ أنت آخر شهقة في حياتي أرفض أن أزفرها..
ـ الحاكم وكيل الشيطان بدون أوراق رسمية..
ـ النواب جنود هربوا من أرض المعركة ولجأوا إلى مبغى ليس فيه سواهم..
ـ حرية المواطن كذبة آخر الأنبياء الدجالين..
ـ الوطن إرث الأجداد الذي لا نملك وثائق رسمية تثلبه..
ـ مشعوذ واحد يكفي لتدمير بلد، فما مصير بلد تتحكم به عشرات الأحزاب؟..
ـ لم يعد الكلام من فضة ولا السكوت من ذهب، فبيننا من حول الكلمات التي يمسح بها الأكتاف إلى ذهب..
ـ حينما يغني الشيطان من داخلك لا تسمع صوت الله..
ـ ليس أغلى من أمنية أن يتمكن المرء من وداع أحبته قبل الرحيل..
ـ المؤامرة الحقيقية ليست في انقلاب الحكم، بل في انقلاب المرء على معتقداته..
ـ فقط حينما تغني خارج السرب ستسمع الناس صوتك بوضوح..
قد تضطر لقول مئات الكلمات من أجل أن تمرر كلمة تخاف البوح بها منفردة..
ـ للمرة الألف أعلنتُ موتي ولكن عزرائيل يرفض توقيع أوراقي منتظرا سماع صوت الطلقة التي يقيئها مسدس كاتم..

107
نحتاج إلى الكلام بقدر احتياجنا إلى الصمت(*)
صالح الطائي
في مثل هذه المواضيع ذات الحساسية المفرطة لابد من التحدث بداية عن معاني بعض الكلمات والمصطلحات من حيث اللغة والاستخدام الاصطلاحي، فذلك من متممات البحث، ويسهم في تقريب الصورة المُراد رسمها، لاسيما وأن للصمت صورا لا تخطر على بال.
الصمت لغة: السكوت(1) وتصريفها: صَمَتَ يَصْمُتُ صَمْتًا وصُموتًا وصُماتًا. والسكوت: الانقطاع عن الكلام والسكات: مداومة السكوت(2). والصوت: الأثر السمعي الذي تحدثه تموجات ناشئة من اهتزاز جسم ما(3)
أما اصطلاحا: فالصمت على رأي عبد الرؤوف بن المناوي: “فقد الخاطر بوجد حاضر. وقيل: سقوط النطق بظهور الحق. وقيل: انقطاع اللسان عند ظهور العيان”(4). وهو على رأي أيوب بن موسى الحسيني الكفوي: “إمساك عن قوله الباطل دون الحق”(5).
وحتى مع هذه التعريفات تجد أن الصمت ليس هو السكوت بل هو عدم التحدث مطلقا، يقال: هو صامت لا يتكلم وكأنه أخرس. أما السكوت فيكون بعد بدء الكلام ابتداء، يقال: تكلم ثم سكت، وغالبا ما يكون دافع الصمت والسكوت كليهما الخوف، وربما لهذا السبب تجد في تاريخنا الفكري والتربوي الكثير من الوصايا والمواريث والأمثلة التي تحث على السكوت وعدم التحدث، فالخوف من شيم النفوس، وهو أحد أشهر المشتركات البشرية التي يتقاسمها الكبار والصغار، وتشترك فيها القوميات والأمم. في الاتحاد السوفيتي السابق كان جوزيف فيساريونوفيتش ستالين السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي من 1922 حتى 1952 رجلا حاد الطباع دموياً قاسياً، نكل بأصدقائه قبل أعدائه، وحينما توفي عام 1953، تولى قيادة الاتحاد السوفيتي نيكيتا خروشوف الذي لم يتحدث عن سلفه خيرا أو شرا على مدى ثلاث سنوات، ثم تطرق بعد هذا التاريخ أثناء اجتماع القيادة السوفيتية إلى مساوئ ستالين ودمويته ، وبعد أن انتهى من إلقاء كلمته، وجهت إليه أسئلة مكتوبة، جاء في واحد منها قول السائل: لماذا سكت عن سلبيات ستالين ثلاث سنوات لتتحدث الآن؟ قرأ خروشوف السؤال بصوت عال، وطلب من السائل أن يُعرِّف عن نفسه، ولكنه لم يفعل! كرر خروشوف الطلب دون جدوى، وهنا قال: يا رفيقي إن الذي أسكتك ومنعك من التعريف بنفسك الآن هو الذي منعني قبل هذا التاريخ عن التكلم.
هذا الخوف تجوهر فينا نحن العرب طوال تاريخنا لأننا لم نحظ بفرصة حقيقية للحرية الفكرية وذلك لأننا لم نحظ بحكام حقيقيين، ومن هذا الواقع البائس ولد واحد من أشهر أمثالنا العربية؛ التي كانت منذ جاهليتنا، وعاشت في إسلاميتنا، وما زالت تتردد على ألسننا، وستبقى ما دام العرب على قيد الوجود وما دامت علاقتهم بحكامهم غير إنسانية، يقول المثل: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”.
قديما، ونظرا لنوع العلاقات المتشنجة المتطرفة الحدية التي كانت تسيطر على واقع مجتمعنا العربي الجاهلي، كان  السكوت السمة الغالبة على عموم الناس، وهذا يعني أن طلب الأمان كان هو الدافع إلى السكوت، مع أنك تجد بعد الجاهلية في المنظومة الإسلامية تحديدا دعوات مشابهة لتلك في الهدف، كما في الحديث، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قَال: قَال رَسول الله (ص): “من صمت نجا”(6).
ولا أدري إن كان الصمت مطلوبا لعصر البعثة الذي تميز بانفتاح حقيقي، أم لعصور القهر المرتقبة التي ستليه! وإلا إذا كان طُلب السكوت سلامة، فلماذا يُطلبُ الصمت؟ لماذا تكرر طلب الصمت في كثير من المواقف والمناسبات؟ لماذا حث الإسلام على الصمت في زمن كان الكلام فيه مباحا؟
ربما جاءت الدعوة إلى الصمت لتحثهم على التفكر في الوجود في الأقل وهذا ما يتبين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله (ص)،: “يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرها؟ قال: بلى. قال: طول الصمت، وحسن الخلق، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما”(7). فطول الصمت في هذه الحالة يترك للفكر فسحة لكي يسيح في الآفاق بحثا عن المعرفة ولاسيما في ذلك المجتمع المفتوح، لكن أن يتحول إلى ثقافة غير منتجة فذلك هو الأمر الذي يدل على أنّ الصمت كان لدوافع أخرى.
فكم كان جميلا لو أن أجدادنا صمتوا ليتفكروا وينظروا ويتأملوا، ولكنهم للأسف ثرثروا حتى الثمالة، فتسافل بعضهم وتدانى، مما وجب تحذيره، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله(ص): ألا أنبئكم بخياركم؟ أحاسنكم أخلاقا. ألا أنبئكم بشرار هذه الأمة؟ الثرثارون المتفيقهون”(8) أو حديثه الآخر الذين مايز بين الخيرية والثرثرة،  قال: قال رسول الله(ص): “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”(9).
وأعتقد أن المثقفين منهم فهموا اللعبة، وأدركوا الهدف. هؤلاء وحدهم قرنوا الصمت بالحكمة، فالهذر وكثرة الكلام يتنافى مع الحكمة، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): “إذا تم العقل نقص الكلام”(10). أما غالبية الناس فكانوا إما صامتين خوفا وإما مهذارين بالباطل.
إن الدعوة إلى الصمت، كما يتبين من الأحاديث كانت دعوة للسكوت المقنن (ليقل خيرا أو ليسكت)، ودعوة إلى التحكم بالكلمة وتحسين مخارجها لكي لا تتسبب في أذى للمتكلم شخصا وللبلد والأمة مجتمعا. المهم أننا كشعوب عشنا في عالم منفتح جغرافيا، تمتد أمامنا وحولنا صحراء لا حدود لها، ونكاد لا نرى من نتحدث معه سوى صور الأشباح التي أوحاها لنا خوفنا التاريخي، وإذا رأيناه حقا نتهيب من وجوده، فتنتابنا الشكوك حول شخصيته، وجدنا أن السكوت سمة العقلاء الباحثين عن السلامة والأمان، فسحبنا ذلك على بداية مراحل إسلامنا، أو ربما تشبثا منا بموروثنا، نقلنا سنن جاهليتنا إلى عصر إسلامنا، فدمجنا المنظومتين: منظومة الأمان الجاهلية، ومنظومة الحكمة الإسلامية، لنخرج بمنظومة هزيلة أضاعت هدفها مثلما أضاع الغراب مشيته!
فالإسلام بقدر ما دعا إلى الصمت وإلى السكوت، دعا كذلك، وحث على التكلم في أوقات ومناسبات كثيرة دون النظر إلى موضوع السلامة الشخصية. فدفاعا عن الحق يتوجب الكلام، لأن “الساكت عن الحق شيطان أخرس” وما أعظم “كلمة حق في وجه سلطان جائر”(11). هكذا جمع الإسلام بين المتناقضين، واجتماع المتناقضين في بعد فكري واحد يعني فيما يعنيه أن الكلام أكثر قيمة وأجدى من الصمت في بعض المواطن، والسكوت أكثر قيمة وأجدى من التكلم في مواطن أخرى، والإنسان هو الذي يحسن أو يسيء الاختيار، فكم من سكتة قتلت صاحبها، وكم من كلمة حق قتلت صاحبها. يحكى في هذا الباب أن ابن السكيت، أبا يوسف يعقوب بن إسحاق السكّيت،( والسكّيت لقب أبيه إسحاق وعُرف به لفرط سكوته) أن الخليفة العباسي المتوكل كان قد ألزمه تأديب ولديه ـ المعز والمؤيد، فقال له يوماً: أيهما أحب إليك، ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فأجابه ابن السكيت: والله إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك. فأمر المتوكل جلاوزته، فأخرجوا لسانه من قفاه، فمات. وهكذا تسببت كلمة في إخفاء وجود. وهناك كلمة أخرى طلبت جهرا لتظهر وجودا، في التراث العالمي أن الفيلسوف سقراط كان يجلس مع تلاميذه يتبادلون الكلام، وجاء أحدهم يتبختر في مشيه، مزهوا بنفسه، فنظر إليه سقراط مطولا، ثم قال: “تكلم يا هذا لكي أراك” بما يوحي أن الكلام صفة المتكلم.
فالكلام حتى لو كان جارحا بسبب صراحته، يمكن أن يخدم القضايا التي يناضل البشر من أجل الترويج لها أيّاً كان نوعها وكانت شرعيتها, يقول تيودور هرتزل  مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة: “كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية .. لكن لا تصمت إزاء الموضوع .. الحديث عن الشيء ولو بتفاهة، يعرضه على أنظار الناس”(12).
إن حرص الأقوام والأمم على عرض قضاياهم المصيرية أمام الأنظار يراد منه تأسيس القواعد والركائز لفهمها ومعرفة أهميتها، وهو رأي سليم جدا، لأن تجارب الحياة اثبتت انه بإمكانك أن تستوعب وتفهم محتويات كتاب مختص في علم العروض مثلا بطريقة اسرع فيما لو كانت  لديك فكرة مسبقة عن العروض، أي اذا كانت في عقلك مجموعة أفكار عن علم العروض(13).
وتأسيسا عليه أقول: إن كلامنا في شان معين، مثلا في موضوعة الحقوق الفردية، أو التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي بشكل مستمر – رغم كثرة الكلام في هذا الشأن – سيرسخ في ذهن المتلقي مجموعة أفكار قد تتيح لصاحبها أن يقتنع بالكلام الجديد الذي سيقال في المستقبل. بما يدفعه إلى لبحث عن كلام جديد أو ربما المشاركة بالكلام الدائر، وإبداء الرأي وطرح المقترحات والحلول التي قد يكون بعضها على مستوى عال من الأهمية والرجاحة، بما يسهم في حل مشاكل عويصة عجزنا عن التوصل لحلها بالطرق النمطية الموروثة. وقد احسن (جون لوك) التخمين عندما حاول أن يبرهن على أن جميع معلوماتنا هي نتيجة خبراتنا المبكرة وتأملاتنا التي بدونها تنعدم الأفكار(14).
يجب أن لا نتهيب من التكلم ، ولا نتخوف من أن كلامنا قد يكون تافها سطحيا بسيطا غير مؤثر أو غير مقبول ، لأنه حتى لو كان كذلك فانه سيكون محاولة لرفع موضوع ما قد يكون كثير الأهمية إلى مستوى نظر الآخرين مما يسمح لهم برؤيته، وهنا يجب أن لا ننسى أن جميع الأعمال الفكرية العظيمة تبدو بسيطة وبديهية حالما تطرح كما يقول الباحث ألان وود(15).
معنى هذا أننا يجب أن لا نتخوف ولا نيأس من ردود أصحاب الذوق السيء ذوي الاستجابات الفجّة اذا ما اعترضوا على مشاريعنا الثقافية الداعية إلى التغيير نحو الأصح والأحسن، وحتى على أقوالنا المجردة. فهذا الاعتراض لا يعني بالضرورة وجود خلل في هذه المشاريع أو عدم واقعيتها بقدر ما يدلل على وجود نوايا شريرة مسبقة لدى بعض من يستفيد من ديمومة حالة الخطأ التي نعيشها منذ ما يزيد على أربعين عاما. وهو ما أكده الناقد رتشاردز في تلميحه إلى: أن الذوق السيء والاستجابات الفجّة ليست مجرد عيوب ثانوية في الشخصية وإنما هي في الحقيقة شر أصيل تنتج عنه نقائص أخرى في الشخصية أو كما قال الأستاذ البلداوي: إن الذين يقاومون أي تغيير في نظام حياتهم مهما كان لمجرد أن التغيير الجديد لم يألفوه هم معقدون. وكلما كانت مقاومتهم شديدة كان التعقيد المبتلون به شديدا أيضا(16). 
وبناء عليه يجب أن نعرف أنه من الطبيعي أن يكون الكلام  من اهم آليات ادراك الحقائق ولذا يزداد التعلم طرديا مع ازدياد الكلام المجدي إذ يرى (ميلر ودولارد) ان هناك ثلاثة عناصر للتعلم هي الباعث، المحرض و الاستجابة(17) ونحن بسبب معاناتنا الطويلة بتنا نملك الباعث، وبسبب خسائرنا المتتالية أصبحنا نملك المحرض، وبسبب ما ضاع منا, وهو كثير, توفرت لنا ظروف الاستجابة الشعبية، وإذا اجتمعت هذه العناصر كلها، تصبح مهمة التغيير واجبة وفرصة نجاحها متاحة وربما مضمونة، ولا تعود بنا حاجة إلى الصمت، يكفينا أن  بين الصمت والهدوء والصراخ والضجيج امتد تاريخنا مترعا بالأحداث، حتى استطال، فشغلنا عن مراقبة ما يدور حولنا، ربما لأن الصراخ أصابنا بالصمم، فما عدنا نميز بين الغث والسمين، بينما يتقدم العالم بصمت لكن بثبات، وهذا يعني أن كل تاريخ البشرية ما هو إلا حصيلة السجال بين الصمت والكلام، ولا يمكن للبشرية أن تحقق إنسانيتها إلا حينما تعرف التوقيت الصحيح، فتصمت عند الحاجة إلى الصمت، وتتكلم حينما يكون الكلام هو العلاج، فكم من صمت حلّ مستعصي المشاكل، وكم من كلمة أريقت بسببها الدماء البريئة أو غير البريئة، وفي موروثنا العربي، دخل سديف الشاعر على الخليفة العباسي أبي العباس السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك الأموي، وقد أكرمه، فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من رجال            إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى         لا ترى فوق ظهرها أموياً
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ، ودخل، وأُخذ سليمان فقتل(18).
وهكذا تسبب لنا الصمت بصدمة كبيرة والكلام بصدمات أكبر، ولكي نخرج من أسر الصدمات التي أسهمت في تعثر مسيرتنا نحتاج إلى موازنة واقعنا وحياتنا وإدراك أولوياتنا، نحتاج إلى الكلام بنفس درجة احتياجنا إلى الصمت، نحتاج إلى الكلام لترطيب الأجواء وشحن النفوس بالحب والتسامح والروح الوطنية؛ من أجل البناء وتجاوز العثرات، ونحتاج إلى الصمت عما بدر من أخطاء، تسببت في خلق صراعات دموية غبية، فالعقل لا يبدع والسعادة لا تتحقق إلا بكسر حاجز الصمت، فالصمت يصادر الجمال ويكمم الأفواه فتضيع الحقوق.

الهوامش
(*) كنت قد أطلقت على هذه الدراسة اسم (نحتاج إلى الصمت بقدر احتياجنا إلى الكلام) ثم لما وقع ما وقع وثار الشباب مطالبين بحقوقهم وسقط شهداء وجدت أن الكلام أجدى!.
1. الرازي، مختار الصحاح، ص222.
2. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ص487.
3. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ص546ـ547.
4. المناوي، عبد الرؤوف، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب،1410 هـ – 1990م. ص219.
5. الكفوي، أيوب بن موسى الحسيني القريمي،  لكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درويش – محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص806.
6. الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، (ت: 279هـ)، الجامع المختصر من السنن عن النبي ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل، جامع الترمذي، بيت الأفكار الدولية، الرياض، أبواب صفة القيامة، ص 405،  حديث: ‏2485‏.
7. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، (ت: 458هـ)، الجامع لشعب الإيمان، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشيد ناشرون، الرياض، 1423هـ ـ 2003م. ج10/ص350، حديث: 7756. باب في حسن الخلق.
8. البيهقي، المصدر نفسه، ج10/ص358، حديث: 7620.
9. النيسابوري، مسلم بن الحجاج القشيري،(ت: 261هـ)،  صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ ـ 2000م. ص81، حديث: 75.
10. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، قصار الحكم.
11. الترمذي، مصدر سابق، ج8/ص 345.
12. أيار، الدكتور فريد، دراسات في الإعلام والحرب النفسية، دار الرشيد، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1979، ص5.
13. صالح الطائي، نحن والآخر والهوية، ص18.
14. سارجنت, و. أي، علم نفسك علم النفس، ترجمة باحثه الجومرد، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد. ص 26.
15. البلداوي، عباس مهدي؛ العقدة النفسية والشعور بالنقص، مطبعة الزهراء، بغداد، 1978، ص3.
16. البلداوي، مصدر سابق، ص14.
17. العطية، د . فوزية ؛المدخل إلى دراسة علم النفس الاجتماعي ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، جامعة بغداد، 17.1992، ص121.
18. ابن الأثير الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج4/ص333.


108

تنظيمات الخوارج صنيعة السياسة
سلسلة قراءات تاريخية معاصرة

صالح الطائي

أشرت في كتابي نظرية فارسية التشيع إلى أن الإدعاء القائل بأن فرقة الخوارج وغيرها من الفرق المارقة؛ التي يدعون أن ولادتها ووجودها كان فوريا لحظويا، وجاء وليد اللحظة، كرد فعل على أمر ما استفزهم، إنما هو تضليل سياسي وإعلامي هدفه التغطية على دور السياسيين العرب الناهض في صنع تلك الفرق وتوظيفها، إذ ثبت لي بالدليل القاطع أن السياسيين العرب:
هم الذين حاربوا الإسلام في الطور المكي من عمر البعثة، ليس دفاعا عن أصنام يعرفون قبل غيرهم أنها لا تنفع ولا تضر، وإنما قاتلوه دفاعا عن مصالحهم الدنيوية، ومراكزهم الاجتماعية!
وهم الذين حاربوه في الطور المدني، ليؤسسوا لأنفسهم مواقع في داخله، تتيح لهم التحرك لهدمه، أو توظيفه ليخدمهم ويحقق طموحاتهم!.
وهم الذين أوحوا للعشائر في السنة الثامنة للهجرة لتُسْتنفر وتهب متوجهة صوب المدينة لتعلن إسلامها.
وهم الذين حاربوه بصور متنوعة على مر التاريخ.
وهم الذين كانوا ولا زالوا يحاربونه إلى الآن، بسبب تلك المواريث الجاهلية وبنفس أساليبها.
وكنت قد خصصت فصلا في كتاب "نظرية فارسية التشيع" وجزءً من أصل جزئين من كتاب "الحسن بن علي الإمامة المنسية" للحديث عن ذلك، وعن دور السياسيين العرب الكبير في تلك المراحل، وأشبعته بحثا، فثبت لي من خلال البحث والتقصي أن الأعم الأغلب من هذه الفرق إنما هي من صنع السياسيين أنفسهم، وأنها كانت حينما تُعلِن عن نفسها، أو يُعلنُ عنها؛ تكون في كامل الجهوزية، إعدادا وتدريبا وترتيبا، وعلى استعداد تام لأداء دورها المرسوم لها. ولذا تجدهم كما وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يخرجون على حين فرقة من الناس" حيث يستغل السياسيون فُرقة الناس، كما يحدث الآن في العراق وسوريا واليمن والبحرين وتونس، فيحركونهم كأدوات للقتل، مستغلين جهلهم وغباءهم.!
وبناء عليه، أقول: في الوقت الذي أشارت فيه مصادر التاريخ، وأجمعت على أن ولادة فرقة الخوارج، جاءت رد فعل لرفع المصاحف على الرماح في حرب صفين، ولاسيما بعد أن ظهر أن علي (عليه السلام) لم يعترف برفعها، بل وأراد من جنده أن لا يتهاونوا ولا يضعفوا بسببها، لأنها مجرد خدعة سياسية بنيت على مكر سياسي كبير، فحثهم على الاستمرار بالقتال حتى والمصاحف مرفوعة على الرماح!. وأن مجموعة من جيشه أغلبهم من القراء رفضوا التصديق بأقواله، ولم يأخذوا بها؛ فجاء ردهم كنوع من تعلقهم بالقرآن واحترامهم له، ورغبتهم في أن يكون الحَكَم بين المسلمين في الأزمات.
بسبب ما تقدم أرى أن ذلك الرأي يحتاج إلى المراجعة والتصحيح، فالوقائع والأدلة تثبت يقينا أن الخوارج كانوا موجودين ومنظمين ومرتبين ومهيئين لأداء دورهم في الوقت المناسب والمكان المناسب، وانهم كانوا خلايا نائمة في انتظار إشارة أسيادهم، فلما حان دور الإفادة منهم في أحلك أيام صفين، امروا بالظهور، فظهروا واعلنوا عن أنفسهم، وأدوا دورهم، فظن المؤرخون وغيرهم ظنا أن ظهورهم الذي بدا وكأنه مفاجئً ومن دون مقدمات؛ أنهم ولدوا مصادفة في تلك اللحظة الحاسمة، وهو أمر لا يتقبله العقل، ولا يمكن تصديقه، أو الركون إليه، ويراد من ورائه تسطيح الفكر الإسلامي. يثبت صدق رأينا، وصحة استنتاجنا؛ وجود مجموعة قرائن مهمة جدا، يُستنتج منها أنهم كانوا موجودين قبل تاريخ صفين، وقبل الجمل، وقبل الكثير من الأحداث الأخرى، ومن هذه القرائن:

أولا: ما يدل على وجودهم في عصر البعثة، وتكاد قصة "ذي الثدية" أن تكون أشهر من نار على علم، حيث حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتله لتخليص الأمة من شروره المرتقبة، ولكن اللذين أرسلهما النبي لقتله؛ انخدعا بوقوفه خاشعا يصلي فتركاه وعادا إلى مواضعهما، فأرسل النبي عليا ليقتله، فلم يجده في مكانه، فرجع. هنا تورد مصادر التاريخ المعتبرة ومنها الإصابة لابن حجر، وحلية الأولياء لأبي نعيم، والبداية والنهاية لابن كثير أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال بعد عودة علي (عليه السلام): "لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان"(1)
ذو الثدية هذا، هو: الخويصرة التميمي، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة، مستدركا على من لم يذكره في الصحابة، وأورد في ترجمته ما أخرجه البخاري من حديث أبى سعيد، قال: بينا رسول الله يقسم ذات يوم قسما، فقال ذو الخويصرة؛ رجل من بني تميم: يا رسول الله اعدل، فقال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل" (2)
وأخرجه مسلم أيضا: "إنكم لتخبروني عن رجل أن في وجهه لسفعة من الشيطان. فأقبل حتى وقف عليهم، ولم يسلم، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنشدك الله، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟ قال: اللهم نعم، ثم دخل يصلي، فقال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال أبو بكر: أنا. فدخل عليه فوجده يصلي، فقال: سبحان الله: أقتل رجلا يصلي؟ وقد نهى رسول الله عن قتل المصلين؟ فخرج، فقال رسول الله: ما فعلت؟ قال كرهت أن أقتله وهو يصلي، وقد نهيتَ عن قتل المصلين. قال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا، فدخل، فوجده واضعا جبهته، قال عمر: أبو بكر أفضل مني. فخرج، فقال النبي: مهيم؟ قال: وجدته واضعا جبهته لله، فكرهت أن أقتله. فقال (صلى الله عليه وآله): من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا. فقال ( صلى الله عليه وآله ): أنت إن أدركته. فدخل عليه، فوجده قد خرج، فقال (صلى الله عليه وآله): "لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان".
وفي أسد الغابة، عن الخدري، قال: قال ذو الخويصرة: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم اعدل. فقال عمر: ائذن لي فلأضرب عنقه، قال: "لا. إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية... يخرجون على حين فرقة من الناس"(3) فهذه الروايات تثبت وجود الخوارج في عصر البعثة، إذ لم يكن ذو الخويصرة وحده بدلالة قول النبي: "إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم".
ومن غرائب الدهر أن تجد "ذو الخويصرة" قد ذكر مع الصحابة، وهو ما دفع ابن حجر العسقلاني إلى القول: "ووقع في موضع آخر في البخاري، فقال: عبد الله بن ذي الخويصرة، وعندي في ذكره في الصحابة وقفة"(4)
وتجد له ذكر في فتوح العراق، ذكر الطَبري في حديثه عن فتح الأهواز سنة سبع عشرة أن عُتبة بن غزوان كتب إلى عمر يستمدّه، فأمده بحرقوص بن زهير، وكانت له صحبة؛ وأمرهُ على القتال على ما غلب عليه، ففتح سوقَ الأهواز(5). وحرقوص هو ذو الخويصرة نفسه، قال الزركلي: "حرقوص بن زهير السعدي، الملقب بذي الخويصرة: صحابي من بني تميم"(6).
والظاهر أن اثر وتأثير السياسيين لا زال فاعلا إلى يومنا الراهن، فهناك من يرفض الاعتقاد بوجود الخوارج في عصر البعثة، إذ جاء في موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، الباب السابع، فرقة الخوارج، قولهم: "وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي.
فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد" وهذا مخالف لما جاء في أسد الغابة عن الخدري، في قول النبي: " إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية".

ثانيا: ما ذكره الطبري، عن محمد بن راشد، عن أبيه، قال: "كان من سيرة علي أن لا يقتل مدبرا ولا يُذفف على جريح، ولا يكشف سترا، ولا يأخذ مالا؛ فقال قوم يومئذ: يُحل لنا دماءهم، ويُحرم علينا أموالهم؟ فقال علي: "القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا، ونحن منه، ومن لج حتى يصاب؛ فقتاله مني على الصدر والنحر، وإن لكم في خمسه لغنى" فيومئذ تكلمت الخوارج"(7) وهم إن كانوا قد تكلموا يوم الجمل، ووجد هناك من شخصهم وأشار إليهم، فهذا دليل على وجودهم قبل هذا التاريخ، ودليل على معرفة الناس بهم وبوجودهم.

ثالثا: هناك قرينة أخرى لا تقل أهمية، وهي عبارة عن تصرف غريب بدر من واحد منهم، أظنه أخطا في التوقيت، وهو "عروة بن أدية التميمي"؛ الذي صاح قبل أن يجتمع الحكمان في صفين: "لا حكم إلا لله" ظنا منه أن ذاك وقتها(8)، بينما المعروف أنهم وقتوا لإطلاق هذا الشعار السياسي الكبير في مرحلة ما بعد التحكيم تحديدا، وليس قبله، وبعد أن يجبر الإمام على قبول شروط التحكيم المجحفة، فيطلقونه كرفض لهذا القبول المنتظر، ليثيروا الفتنة في صفوف جيش الإمام! وهذا يثبت أن الخوارج كانوا موجودين ومنظمين ومهيئين للعب دور خطير، ويثبت أن موضوع رفع المصاحف على الرماح لم يكن هو الآخر وليد لحظته بل كان ضمن المخطط السياسي لوقائع وصفحات الحرب مع علي! بمعنى أنه كان صفحة قد أعدت سلفا لاستخدامها في مرحلة ما من مراحل الحرب، وهذا ينبيك أن العقل السياسي العربي كان عقلا متقدما على زمانه!

هنا قد يقول قائل: لو كان هذا صحيحا، فلماذا لم ينصرهم جماعتهم يوم رأوا أنهم أحيط بهم، وسوف يقتلون بسيف الخليفة علي وسيوف جيشه في النهروان عن آخرهم، فتركوهم يواجهون مصيرهم الأسود دون عون ومساعدة؟
وهذا سؤال مثمر منتج، أقول جوابا عليه: إن تجميع وتجنيد القراء ضمن هذا التنظيم لم يكن عملا اعتباطيا، وإنما كان عملا سياسيا فريدا أعتمد على تجميع أنموذجات من المسلمين الأكثر التصاقا بحرفية العقيدة، السادرين في فهم العقيدة فهما نمطيا محاكاتيا تقليديا جامدا، من الذين يربطهم مع بعضهم كرههم الخضوع إلى السلطان وإلى الحكم المركزي؛ بسبب تجلي النزعة القبلية البدوية في مبادئهم السياسية(9) وكرههم لتسلط قريش دون غيرها عليهم، وكانوا يناضلون للتخلص من الحكم القرشي. والظاهر أن العقل السياسي العربي رصد فيهم هذه النزعة، ونجح في توظيفها، لتقديمهم إلى المحرقة في الوقت المناسب بعد أن يزج بهم لأداء أحد الأدوار القذرة في المؤامرة ضد أمير المؤمنين، بما يضعهم بمواجهة قوات الخلافة لإضعافها وإنهاكها، ومن ثم التخلص منهم ومن المشاكل التي قد يثيرونها مستقبلا للمتآمرين أنفسهم الذين لم يكن في نيتهم الاهتمام بالجوانب الدينية التي يدقق بشأنها مثل هؤلاء المتزمتين.

طبيعة هؤلاء القراء النمطيين التقليديين المتمسكين بالقشور دون اللب فضلا عن كونها تدل على سذاجتهم وسهولة انقيادهم لمن يخدعهم، فهي تشبه إلى حد كبير طبيعة المسلمين المتطرفين المعاصرين، بل قد يكون هؤلاء حملة فكر من سبقهم من القراء، فأولئك بعد الحوار الذي أجراه الإمام علي بن أبي طالب معهم قبل أن يحاربهم  وبعد أن ذكَّرهم بالقرآن والسنة وحدودهما الصحيحة، أدركوا خطأهم و"رجع إليه منهم ألفان، وأقام أربعة آلاف لم يقنعوا برأيه"(10) أما المعاصرون منهم، بكل تشكيلاتهم (الجهادية والحديثية) فلا يمكن إقناعهم أبدا، ولا ينفع معهم إلا السيف، وهذا ما يجب أن تستعد له الدول والحكومات ونعمل به!
أما مسألة تركهم ليموتوا بذلك الشكل المهين رغم كبر دورهم، فلا يقل أهمية في نظر السياسيين أنفسهم عن دور الفتنة التي أثاروها، وليس غريبا أن تجد الدول العظمى، تقوم بدعم وتقوية الإرهابيين لا لتغيير أنماط الحياة الإسلامية نحو الأحسن، كما يفهم البعض، وإنما لتدميرها سواء نجح الإرهابيون بذلك أم لم ينجحوا، وهم كما يقولون في وصفهم لجموع الإرهابيين: "خلق ليفنى" أي خلق لأداء دور ما ينسب إليه، ولا فرق بين موته وحياته بعد ذلك، بل إن موته أفضل من بقائه، ولذا تجدهم يسهمون في قتال الخوارج ليتخلصوا منهم أو ليضعفوهم، كما تفعل أمريكا والدول الغربية اليوم مع الدواعش، فهي من جانب تدعمهم، وتحدد وتقيد حراك من يريد محاربتهم، ومن جهة أخرى ترسل طائراتها وجنودها لمحاربتهم وإضعافهم، لكي لا يتمردوا عليها، ويبقون تحت سيطرتها تحركهم كيفما تشاء، فالفتنة التي أثاروها أثمرت، فحطمت عرى التقارب الإسلامي، وشوهت صورة الإسلام في العالم كله، وهو الدور نفسه الذي لعبوه قديما، فحروب الجمل وصفين والنهروان، وحرب الإمام الحسن ومقتل الإمام الحسين(عليهم السلام) ومقتل زيد ويحيى وقتل أبي حنيفة النعمان وغيرها من مجازر التاريخ الإسلامي الأخرى التي طالت الجميع، إنما هي محطات أريد منها تنقية الأجواء للسياسيين عن طريق التخلص من كل المنافسين الأصليين والمحتملين، والذين سيرفضون المشروع التآمري، وعليه قدمت صفين وحدها إلى الموت أكثر من سبعين ألف مسلم موحد منهم خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق، وفي هؤلاء الكثير من الصحابة ومن أهل بدر!. واستمر تأثيرها فاعلا قويا عبر التاريخ إلى درجة أنها قدمت لنا في عصرنا الراهن القاعدة وداعش وجبهة النصرة والحركات المتطرفة في جميع المذاهب، وهؤلاء بمجموعهم هم الذين تسببوا بقتل مئات الألوف من البشر غالبيتهم من المسلمين، متبعين نفس منهج الخوارج القديم، تحركهم الأصابع نفسها التي كانت تحركهم عبر التاريخ.



الهوامش
(1) ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج1/ص 484، وأبو نعيم، حلية الأولياء، ج 2/ص 317 وج 3/ص 227، وابن كثير، البداية والنهاية، ج7/ص 298.
(2) ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج1، ص552، ترجمة ذي الخويصرة.
(3)  ابن الأثير، أسد الغابة،ج2، ص19، ترجمة رقم 1541.
(4) ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج1/ص552، ترجمة: 2452.
(5) الطبري، تاريخ الطبري، ج4/ص52.
(6) ينظر: الزركلي، خير الدين، الأعلام، ج2/ص173.
(7) الطبري، تاريخ الطبري،ج4، ص 368.
(8) ينظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، جزء2، ص 190.
(9) ينظر: الدوري، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، ص 70.
(10)  الدوري، المصدر نفسه، ص193.




109
حرب الهويات في العراق جدلية عقيمة
صالح الطائي

الهوية هي إحساس فرد أو جماعة بالذات. إنها نتيجة وعي الذات وفهمها. والهوية كما عبر عنها مجموعة من الباحثين تشير إلى صور الفردية والتمييز ـ الذاتية ـ يحملها ويخططها ممثل، ويشكلها ويعدلها مع مرور الزمن عبر العلاقات الاجتماعية البينية مع الآخرين.
ميزة العرب عن غيرهم من الأمم الأخرى أنهم عرفوا الهوية وقدسوها، ربما بسبب طبيعتهم القاسية وعيشهم في مكمن الخطر طوال تاريخهم مما استوجب عليهم أن يشعروا بالانتماء ليشعروا من خلاله بالأمانن وميزة العراقيين عن باقي العرب انهم امتلكوا وعيا مبكرا لمفهوم الهوية منذ آلاف السنين. وعندما جاء الإسلام أصبحت الهوية الدينية هي ما يجمع المكونات مع بعضها في مضمار واحدن لا ولاء فيه إلا للعقيدة.
ثم امتلكنا نحن العراقيين وعيا مبكرا آخر، أعطانا هوية أخرى حدودها وحجمها ومكونها اصغر كثيرا من الهوية الأولى، ولكنها تبدو واقعا نسخة مستنسخة من تلك، وهذا يعني امتلاكنا قابلية الفرز بين الهويات أيضا، وممارسته فعليا منذ الأيام الأولى لوعينا الأول.
 هذا الفرز المبكر حددته مجموعة عوامل قد يكون أهمها وأكثرها أثرا الخلط الذي حدث بين الذروتين الدينية والمدنية في مراحل الصراع الأولى التي أججها الخلاف السياسي الأول بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة لكسب الشرعية العقائدية، إذ لا ينكر أن كل أنواع السلطة التي ظهرت في الاستلام منذ 11هج -632م بعد موت النبي قد لجات إلى الخلط بين الذروتين الدينية والمدنية لكي تكتسب الشرعية(1) حيث ولدت من الهوية الكبرى هويات اصغر منها مساحة وحجما، ولكنها ليست بعيدة عنها؛ بل إن الاعتقاد السائد كان ينكر ادعاء وجود هويات أخرى، لأن جميع السلطات السياسية التي ظهرت في ارض الاستلام منذ 632م كانت قد نسبت نفسها إلى تعاليم القرآن والنبي، وادعت المسؤولية العليا في حماية هذه التعاليم. وذلك أدى إلى تشكيل نظرية إجبارية (قسرية) تقول بان الاستلام هو دين الدولة(2). بمعنى أن هنالك فصلا قد وقع بين المفاهيم في الممارسة والتطبيق، فصلا للذروتين، ولكن لم يعلن عنه رسميا، وتم التكتم عليه لأسباب سياسية لا دينية.
واعتقد أن الفصل كان طبيعيا وحتميا ومفروضا، بل كان من تداعيات المرحلة المعاشة والتبدلات التي وقعت فيها، فالمدة الأولى التي يحصرها محمد اركون بالسنوات 610-661 تمثل الحقبة الزمنية من بداية البعثة وحتى عام 41هجرية؛ وهو التاريخ الذي انتهى فيه عصر الخلافة الراشدة، وهي تمثلُ واقعا حقبة تطور دولة الحضارة الإسلامية الإلهية، حيث مناهج عملها الخاصة وهويتها الخاصة.
بعد هذا التاريخ لم تعد لمناهج الدولة الإسلامية وهويتها قدرة الاستجابة لمتطلبات التغيير، ولاسيما بعد أن تحول نظام الحكم الخلافي بكل صيغه المعدلة إلى نظام حكم وراثي، وتطورت منظومتي عقل الدولة على حساب عقل العقيدة. وهذا التحول بحد ذاته يفرض الاعتراف بولادة الهويات الجديدة، وهو ما أثبته السجال السياسي والفكري والعقائدي لهذه المرحلة علنا، بل اجد انه لم يكن من بديل عن تعريف النفس بهويتها الجديدة في العلاقة مع الآخر بشكل ظاهر للعيان، ترجمه الانحياز عن الآخر بهدف الحصول على المكاسب النسبية في المقارنات التي كانت تهدف إلى احترام الذات وتأكيدها. ومنبع ذلك كما يقول هنتنغتن: "إن حاجة الأفراد لاحترام الذات؛ هي التي تقود للاعتقاد أن مجموعتهم افضل المجموعات(3).  وللأسف أرى أن هذا التماهي وهذا الشعور بالأفضلية، أسهم من جانب آخر في إيقاع الأذى على من يشتركون معنا في الهوية الدينية الكبرى، ولا يشتركون في الهوية الخاصة، وعليه امتدت المعاناة على طول تاريخنا، وتركت آثارها ومآسيها على جميع صفحاته.
أما و "أن العالم يتغير الآن بأفكار وآليات وفاعليات جديدة ، يعاد معها ترتيب العلاقة بين عناصر القوة الثلاثة: المعرفة، الثروة، السلطة، وعلى نحو يتجاوز عصر الصناعة والحداثة والعقلانية والكلاسيكية"(4) فاجد أننا نحتاج اكثر من أي وقت مضى إلى تفكيك آليات التفكير الفئوية التي تدخل في بنيوية هوياتنا، ومن ثم إعادة بنائها بما يوائم معطيات التحضر الكوني, ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا بالخروج من عصمة وقدسية الأصول المتوارثة التي بقينا جامدين عندها تاريخيا. والخروج من عصمة الأصول لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تجديد ثقافاتنا، وإثرائها معرفيا خارج أطر الموروث بما يجدد فينا روح المواصلة مع الذات ومع الثقافات الأخرى. ولا يتم هذا عادة إلا بادراك المعنى الحقيقي لهويتنا الدينية، وهويتنا الفرعية، فبدون هذا الإدراك لن تنمو روح التواصل في المجتمع، ولن يقوى البناء العام للامة.
 إن هذا الإدراك يعني انه لا باس أن يفتخر كل منا بهويتهن حيث يفتخر السني بهويته، والشيعي بهويته، والكردي بهويته والمسيحي بهويته، واليهودي بهويته، والايزيدي بهويته، والشبكي بهويته، والصابئي بهويته، مادام في ذلك الفخر تقوية للبناء العام لمكونات الأمة ضمن إطار وكينونة الهوية الجامعةن وعلى كل مكون ان يقبل بهذا الفخر بالهوية. إذ لا يمكن لأي من هؤلاء أن يفتخر بهويته إلا اذا وجد قبولا ومشاركة وترحيبا من حملة الهوية المشتركة الكبرى فالمعروف عقلا مثلما يرى هنتنغتن "أن الناس يستطيعون أن يطمحوا إلى هوية ما، ولكن لا يمكنهم تحقيقها إلا اذا رحب بهم هؤلاء الذين يملكونها بالأصل"(5).
واذا كان تأكيد الهوية مرحب به، وهدفه دعم البناء العام فسوف سيسهم بشكل فاعل في تعزيز مكانة الهوية الوطنية التي تجتمع الهويات الفرعية الأخرى حولها كالفسائل التي تحيط بالنخلة. فهذه الفسائل لا يمكن أن تنمو في ظروف بيئية مختلفة عن بيئتها الأم، واذا صادف وتمكنت من العيش فهي إما أن تكون عقيمة بلا ثمر، أو يكون ثمرها (دقلا) رديئا غير صالح للأكل. وبالمناسبة قال الدكتور الصلابي في هامش له على أحد كتبه عن (الدقل) "إنه التمر الرديء"، بينما المعروف عنه في الوسط العراقي انه من أرقى أنواع التمور الممتازة، وان سبب جودته في العراق ورداءته في البلدان الأخرى انه لا يزرع بعيدا عن نهر دجلة، فهو ودجلة قرينان ومرتبطان روحيا وجسديا، فاذا أُبعد عنها، جفت طراوته، وتقلص حجمه، وفقد حلاوته(6).
لكن مع كل هذا الافتخار التاريخي، وهذه الأسبقية الحضارية في ادراك الهوية وبروز ملامحها بالشكل المثالي، نجد أن مجاميع مهاجرة لا تملك أي ارث تاريخي مشترك أو روابط إثنية أو عرقية أو هويات مشتركة، نجحت بتكوين هوية وطنية من هويات غير واضحة المعالم، ولا يربط بينها رابط، وأسست أكبر وأعظم قوة في التاريخ المعاصر، هي أمريكا، في وقت لم ننجح فيه بتأكيد هوياتنا!. 
فهل من مهازل قدرنا أننا نملك هوية تمتد جذورها إلى عمق التاريخ الإنساني. هوية كانت قبل أن تكون هنالك أي هوية معروفة أخرى في الكون، ومع ذلك نسعى جاهدين خلف المنافع النسبية على حساب المنافع العامة المطلقة تحت دوافع الولاء الفئوي والعصبية التاريخية، غير آبهين للتفكك والضعف الذي نسببه لهويتنا ولأنفسنا؟ أم أن من حسنات قدرنا أن هيا لنا ثلاث هويات تتسامى بالعظمة وتتفاضل بالأصالة وهي :
هويتنا الدينية الأولى التي تكونت في السنين الأولى للبعثة وتجوهرت منذ 36 هجرية فصاعدا.
وهويتنا المذهبية التي تفرعت عن الهوية الأولى في القرن الهجري الثاني، يوم ولدت المذاهب والفرق الدينية في ربوع بلادنا.
وهويتنا الوطنية التي أنشأت أول الحضارات الإنسانية، وعلمت البشرية أسس العلوم ومعنى التمدن في أول تجربة إنسانية لبناء بلد في الكون.
وهذا يعطينا فرصا مضافة ممكن إذا ما فشلت واحدة منها أن تنجح الأخرى في جمعنا ولو على مضض!.
برأيي يعني هذا أننا مهما تعرضنا إلى الهزات والرجات والهزائم والمؤامرات لا يمكن انم ننهار كليا، ولابد وأن ننهض من جديد، لنعيد بناء ما تهدم، واننا مهما فعلنا، وباي شكل تصرفنا ولأي فئة أو عصبية انحزنا، لابد أن تأتي الساعة التي ننتبه بها، ويعود لنا وعينا، ولربما نجد في ذلك عذرا لمن يدعي أن العراقيين يختلفون عن باقي العرب وعن الأمم الأخرى.



الهوامش
(1)   اركون ، محمد ؛ الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص28.
(2)   اركون؛ المصدر نفسه، ص145.
(3)   هنتنغتن، صموئيل، من نحن المناظرة الكبرى حول أمريكا، ص37.
(4)   حرب ، علي ؛حديث النهايات فتوحات العولمة ومازق الهوية، ص52.
(5)   هنتنغتن؛ مصدر سابق، ص39.
(6)   العلوي، حسن؛ عمر والتشيع ثنائية القطيعة والمشاركة، ص100.   

110
حوار متوسطي قراءة في مجموعة زهير البدري "حوار مع صديقي المتوسط"
صالح الطائي

للمرة الثالثة يطل علينا زهير البدري من نافذة العتمة الأبدية وهو يحمل بيده مشعلا من جميل الكلمات، وباقة من المقطوعات الموسيقية العذبة التي تستشف من خلالها عتبا بين الإنسان والماء، بين البشر والبحر، دافعه الهرب من ضيق الحياة وعسفها وجورها وأخبارها التي توجع القلب، والخوف مما هو آت، حيث لا ضوء ولا نفق، سوى حلم يراود الخيال، يتعنت محاولا الظهور مع أنه مقيد بأغلال توجع الضمير، ذلك ما حاول البدري قوله؛ وهو يحكي قصة هذا الحوار، بل هذا العشق للمتوسط:
كلما أشعر بضيق
أهرب إليه وآخذ قسطا من الراحة
أرتمي في أحضانه
أطهر جسدي من
زمن العهر العربي
ومتاهات حرب البسوس
الممتدة من بغداد حتى طرابلس
دوت توقف
هو المتوسط
صديقي الذي لا يخونني.
البدري هذا الرجل الذي يدعو إلى محبة كل الألوان والأديان(ص: 65ـ66) الرجل الذي يعيش برتابة هادئة، المحتاج إلى كأس من حنين يروي به عطشه(ص: 97)، الثائر الحكيم الذي يرى أنه لا يكفي انتظار بزوغ الفجر دون أن نكون مستعدين لإشراقة يوم جديد(ص: 77) الرجل الذي وصف الغربة في حديثه مع صديقه حميد الزاملي: الغربة أرضة تقطعك من جذور الوطن الأهل من حيث لا تدري ولا ترضى(ص: 55)، هذا الرجل الذي عاش مطاردا مغتربا سائرا في الشمس الحارقة خوف أن يتهم بأنه يدبر مؤامرة ضد السلطان، كان يختزل القهر في زمن العهر بكلمات يحفظها في أعمق نقطة من كيانه، تحت تلافيف النسيان، في جب العتمة كي لا يتهم بالتمرد والعصيان أو التحريض على المتنعم بخير البستان والأوطان، وحينما شعر بفسحة من الانفتاح الفوضوي غير المقنن، بعد أضحوكة التغيير، قرر أن يشارك في الفوضى لا ليزيدها تغريبا ويباسا، بل محاولا ترطيب الأجواء وتهدئة اللعب، وحصرها في مكان ضيق عبر تلك الوريقات التي سطر عليها جمله وأفكاره، بعد أن اجترها على مضض من عمق ذاكرة اتعبها الزمان، وزحمة ما تنوء بها من هم السنين وآهات القهر السرمدي؛ ووجع كثير، وحيرة بلا اشتهاء ولا انتهاء ليعلن عن شاعريته من خلال ثلاث مجاميع، وكثير من القصائد المنشورة في مواقع التواصل وكأنه يعترض على ما يحدث، ولكن إما بأسلوب مؤدب ناعم سلس فيه الكثير من الليونة والمرونة وكأنه يريد أن يصنع عصفا ذهنيا يستنفر بواسطته طيبة الإنسان:
ماذا لو استبدلنا الطلقة بوردة
الكره  بالحب
التطرف في التسامح
الحرب في السلم
الأنانية بنكران الذات؟
ماذا لو استبدلنا
الانتماء للقبيلة
والمذهب والعرق
إلى الانتماء للوطن
والشعب(ص:65)

وإما أن يلبس وجها حديديا صلبا خال من التعابير يبعث الرهبة في النفوس متقحم غير خائف ولا وجل، إلى درجة أن يصف الحكام الفاسدين بقوله:
أقسم برب الكون
أن العاهرات المسالمات
أشرف بكثير
من الساسة
الذين يبيعون الوطن
كخردة
في بازار الدول المجاورة
التي ما انفكت يوما
في تمزيقنا
وتدميرنا
وتصدير كل وسائل الموت إلينا(ص: 56)
زهير البدري إنسان عراقي  شاب بمظهر شيخ، شاب الروح حكيم الرؤى يافع الحلم لا يختلف كثيرا عن العراقيين الآخرين الذين كانوا ولا زالوا مشاريع شهادة بسبب نزق الإنسان وغبائه وغروره وجهله، كان يصرح مخاطبا الذين سبقونا على درب الشهادة: انتظرونا سنلحق بكم قريبا، كلنا مشروع شهادة، ليست رغبة منا بالموت، هذا هو قدرنا، حكامنا أرادوا ذلك(ص: 17) ثم لا ينفك يخاطب حبيبة لا وجود لها سوى في خياله المثقل بالهموم: أنت ساكنة روحي، التقينا أم لم نلتق، راهب في عشقك مثل بوذي منغمر(ص: 16) يسابق الأيام التي تجري سراعا تاركة آثارها عليه: يمضي قطار العمر مسرعا في محطات الحياة تمر السنون كالبرق تترك آثارها على جسد متهالك، روح أنهكها الوجع(ص: 19) ولا ينسى أن يعلن للسائرين عما ينضوي عليه وجدانه من ذكريات الزمن الطويل: اتخذْ القرار بنفسك حين يغادرك المنافقون، كن حليف نفسك، لا تكن مفترسا أو وديعا، كن كما عاهدت نفسك، أرق من النسيم العليل وأصلب من الماس(ص: 23)
حوار مع صديقي المتوسط مجموعة نصوص نثرية وومضات، تمتد على مدى 116 صفحة لتحكي لنا أسطورة زمن لم يفارق ذاكرتنا الصدئة منذ طوفان نوح، صدرت عن دار المثقف للطباعة والنشر البغدادية، وهي باقة أزاهير ربيعية يفوح ضوعها على مدى العراق.


111

الهوية الفئوية والثوابت والتطور
صالح الطائي

مع الإيمان المطلق انه لا يوجد مطلق في علم من العلوم، إلا أن العلوم النفسية والسلوكية والاجتماعية والفلسفية تجمع كلها وبإطلاق لا محدود انه لا يمكن إنكار الآثار المباشرة والجانبية للتطور الحضاري على السلوك العام للأفراد والجماعات، وانه يستحيل التغاضي عن اثر التيار الثقافي السائد في السلوك الجمعي للشعوب. وان انجح المجتمعات وأكثرها عقلانية وإنسانية هي التي تأخذ بمعطيات التطور الحضاري، ولكنها تحافظ في ذات الوقت على ثوابتها السامية من أن تتضرر جراء التطور.
إن نجاح الموائمة بين الثوابت والتطور ـ بحد ذاته ـ يدل على حتمية ترك التطور لآثاره التي قد تكون في بعض جوانبها مدمرة للسلوك العام ولمواريث المجتمع كلها. لكنه يدل بذات الوقت على صحة وأصالة الثوابت التي تنجح في الصمود أمام التغيير، وتنجح في ذات الوقت بمسايرة التطور والتواؤم مع جميل ما فيه، والإفادة من جوانبه الخيرة.
أما من يرفض الاحتكاك بالتطور خوفا على ثوابته من التضرر، فهو بذلك يدلل واقعا على عدم أصالتها، وعليه إعادة النظر فيها كلها أو في جزئها الذي يرفض الإفادة من منظومة التطور الحضاري الإنساني لأن عجلة التطور ستستمر في الدوران، وقوتها ستستمر في النمو بإفراط، وهذا يمنحها قدرة التأثير على الكثير من المفاهيم، وتغيير الكثير من القناعات، وتبديل الكثير من الثوابت، وجعلها متحركات، وربما بلا أهمية تذكر.
وتحضرني هنا واقعة من تاريخنا الحديث، هي قيام الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في أواسط القرن العشرين، بما عرف في حينه بمحاولة حماية البلاد من شرور الحضارة الحديثة. حيث اصدر أوامره بمنع دخول الاختراعات الجديدة باعتبارها ضارة وغير نافعة، وتسبب مفسدة للأخلاق(1)، ولكنه مع كل الجهود التي بذلها لم ينجح إلا بتحقيق نسب أخرى من التخلف والتأخر لبلاده. أما واقعا فقد لوت نواميس التطور ذراع بلاده وأجبرتها على فتح أبوابها، ولم تصمد ثوابته التي اعتمدها في نزاله مع التجديد مع أنها عرقلت مسيرته، وكانت المفاجأة في أن إرث اليمنيين وعاداتهم وسلوكياتهم واغلب مواريثهم الفكرية والعقائدية نجحت نسبيا في الثبات أمام هذه التغيرات ولم يلحقها الضرر الذي كان إمامهم يتخوف منه، في الأقل أنهم لا زالوا لحد الآن وبالرغم من الحرب الغادرة ضدهم، يخّزنون القات، ويعتمرون الخنجر المعقوف، ويلبس أغلبهم الزي القديم نفسه، ويؤمنون بالعشائرية لدرجة أن ولاءهم للعشيرة أكبر منه للبلاد نفسها أو للحكومة ذاتها .
هذا وقد تعلمنا من سلسلة التجريب التاريخي التي عاشتها الأمم أن الثوابت كلما كانت قابلة للإشهار والإعلان بلا عائق من خوف أو خجل، كلما دل ذلك على صحتها وإنسانيتها ومواءمتها لسنن التطور. أما تلك الثوابت المغلفة بالطلاسم السحرية والأسرار الخفية المبالغ فيها إلى الحد الأقصى، فهي تملك حتما قدرا كبيرا من الوجوه القبيحة التي تمنع حامليها من إظهارها، وهي بهذا تعلن عن عجزها عن التوافق مع الثقافة الكونية السائدة، بما يؤشر عظيم حاجتها إلى الامتحان والجرح والتعديل، ولآليات فهم ثقافي جديد لمجموعة نظمها المتوارثة، ومن ثم المجاهدة لتصحيح ما يحتاج إلى التصحيح منها، لا بالاجتهاد الكيفي العبثي أمام النص المقدس، إذ لا اجتهاد أمام النصوص، ولكن عن طريق رفع القدسية والحصانة عن الكثير من النصوص الموروثة التي يشك في أصالتها وصحتها ولكنها تحتل مكانا في منظومة المقدس!.
مع إيماننا المطلق أن هذا النهج الانتقائي التفاضلي غير المألوف لن يكون بالسهولة التي يتصورها البعض، لأن من طبيعة الإنسان انه عندما ينشأ منذ طفولته على معتقدات وقيم معينه في بيئته المحلية، يتصور أنها أفضل المعتقدات والقيم في العالم، وهو لذلك يسخط على أية دعوة جديدة تدعو إلى مخالفتها، أو إصلاحها(2)، بل هو بسبب علمه بهشاشتها وعدم قدرتها على الصمود في المواجهة، يرفض التجديد والتغيير والتطوير بصرامة شديدة. وهو السلوك الذي أطلق عليه عالم الاجتماع "روكيش" مفهوم (الصرامة العقلية)، وقال في تعريفه: "إنه عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك ،وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة، وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية اكبر(3).
وربما لهذا السبب أعتقد "ديكونشي" أن هشاشة العقائد الدينية تعوض عن ضعفها بالصرامة والضبط النفسي، أو كما قال: "إنه بسبب أن العقائد الدينية تنحرف عن معايير العقل القائمة على الفرضية والاستنباط والتجريب، فإنها تعوض عن هشاشتها العقلانية هذه عن طريق صرامة الضبط النفسي والاجتماعي الذي يتحكم بهذه العقائد(4)
وعلل الفيلسوف محمد أركون اتخاذ المريدين لمفهوم الصرامة العقلية سلاحا يشهرونه بوجه من يدعو إلى تصفح الثوابت والبحث في خصوصياتها بانكفاء فكري فرضته الظروف الإكراهية القسرية على المجتمع المتحجر على الإيمان بصحة الجمود، والتحجر على مواريث الثوابت، ولذلك قال: "إن المنظومة الفكرية الإسلامية (الابستمي) كانت في المرحلة الأولى حرة قريبة من منابتها، وكانت تسمح بحرية في التفكير والممارسة والخلق والإبداع. ثم أصبحت في المرحلة اللاحقة متخشية إكراهية وقسرية، وتوصلت في بعض الأحيان إلى شل حركة الفكر العربي والفكر الإسلامي بشكل تام، وهذا ما يزال سائدا حتى اليوم في بيئات كثيرة(5).

إن الذين يرفضون مبدأ الانتقاء بالرغم من قسوتهم مع المجتمع ومع من يخالفهم عقديا، هم واقعا مجموعة مضللة، تحتاج إلى عطف المجتمع وتسامحه لكي تنجح في الاندماج مع الأغلبية، على أن لا تعني المسامحة التنازل عن الحقوق العامة ولاسيما موضوع الدماء وتدمير البنى التحتية.
إن جمود بعض الفرق الدينية ولاسيما ذات النهج الطائفي المتشدد منها على عقائد تعتقد أنها الأصح من بين جميع العقائد الأخرى، جعلها متخوفة قاسية متخشية عنيفة. كما أن انعزالها عن المجتمع، وتحديد اختلاطها به إلى أدنى المستويات، وضع حواجز سميكة بينها وبين المجتمع، ولذا بدت وكأنها مجاميع جاءت من عالم مجهول، ولذا يتطلب مشروع دمجها بالمجتمع جهدا مضاعفا، قد تكون أحد اهم ركائزه إقناعهم أن نظريتهم الدينية تحتاج إلى المراجعة لأنه من الطبيعي أن أعظم النظريات العلمية لابد أن تحتاج إلى المراجعة والتنقيح المستمرين على الرغم من أنها قد تبدو متكاملة، فلماذا لا تحتاج معتقداتهم الموروثة إلى المراجعة والتنقيح وما هي سوى مجموعة قواعد استنبطها المؤسسون الأوائل للمذاهب من النصوص الأصلية قبل أكثر من اثنتي عشر قرنا، وتداولها الناس إلى يومنا الحاضر، في وقت لا يُؤمَنْ تعرضها إلى التحريف والتشويه والبتر والإضافة عبر التاريخ التداولي الطويل، سواء عن قصد أو بدونه. ثم جاءوا من بعدهم واخذوا بها على علاتها، فصارت قيمتها من قيمة (المقدس) الذي أضفوا عليه قدسية لا يجوز العبث بها أو التحقق من صحتها، حتى ولو كان ما فيها مخالفا لسنن الطبيعة ونهج التطور، والأصل الأول، وروح الدين! بل حتى لو كانوا على يقين من ذلك، مما قد يترتب عليه من استنتاجات غير محسوبة العواقب. وعليه تراهم يرفضون الاعتراف بيقين ما يعرفونه بسبب كبرياء فارغة قد تقودهم مستقبلا إلى الإفلاس الفكري في قرننا الحالي القائم على الثراء الفكري بحجة الحفاظ على هويتهم الفئوية.
 


الهوامش
(1) الوردي، الدكتور علي ؛ حوارات في الطبيعة البشرية، مؤسسة المحبين، قم، ط2، 2005 ، ص73
 (2) ينظر: المصدر نفسه، الوردي، ص74
(3)  ينظر: مقدمة هاشم صالح لكتاب الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد اركون، ص5
(4) ينظر: المصدر نفسه، ص7
(5) ينظر: المصدر نفسه


112
فرشاةَ ألواني قراءة انطباعية في مجموعة سجال الركابي "هاك أجنحتي"

صالح الطائي
كتبت مرة عن تسميات الأدب الذكوري والأدب النسوي ، تحت عنوان "الأدب النسوي ومجموعة "سأنتظرك" لسهام الطيار؛ مستهجنا ومعترضا": لا أدري لماذا صنف الأدب الذي تجود به النساء طبقيا، فضُيق عليه، حتى وصل التمييز إلى درجة حشره لوحده في خانة تحت مسمى "الأدب النسوي" مع أن الأدب هو الأدب، وهو ترجمة سامية للمشاعر الجياشة تخلقها المعاناة، تترجم من خلالها خلجات النفس الإنسانية، تحركها ثلاث قوى: القدرة والموهبة والثقافة؛ التي قد تكون جميعها أو بعضها مفقودة لدى كثير من الناس بلا علاقة للذكورية والأنثوية بفقدها، وقد تكون مفقودة لدى كثير من الذين يحسبون أنفسهم الأدباء من الجنسين، أو تكون بادية ظاهرة لدى بعض النساء أكثر منها لدى الرجال، والعكس صحيح.
ولذا سجلت اعتراضي على هذا التمييز بالذات، وأعلنت أني أقبل الأدب مهما كان مصدره، أقبله كمنجز فكري وجداني استلهامي نابع من خلجات نفس حية تحمل الكثير من الحساسية، بما يجعلها تتلمس طريقها بين الكلمات، باحثة عن ضربة تترجم من خلالها رفاهة وشفافية حماستها تلك، مهما كان مصدر الانطلاقة؛ سواء كان من نتاج شيخ هرم عجوز فانٍ، تملأ وجهه التجاعيد، وتحني ظهره الخبرات المتراكمة، مقوس الظهر، قاسي القسمات، أو فتاة ربيعية العمر، قمرية الوجه، شمسية الوجود؛ ما دام فيه ذلك الكم من العذوبة والجذب والغرابة والإدهاش القادر على أن يغمرني بلحظات البهاء استشف منها أطياف بهجة، ويحمل روحي على أطياف الدهشة السرمدية إلى عوالم ما كنت أدركها لولا تساميه مع روحي ووجداني. أما أن أحب هذا الأدب لأنه نسوي، وأكره ذاك لأنه ذكوري، أو العكس، فهي متاهة كبيرة وخطيرة، مصطنعة بعناية، يحاول البعض إدخالنا إليها عنوة لغاية ما في نفسه، قد يكون هدفها نبيلا أو تحيزا وتبجيلا لبعض الأسماء، ودكترة(1) واقع هزيل لا يملك مقومات السطوة الفكرية، فيحاول أن يستعيض عنها بسطوة الشاربين الذكورية.
والغرابة لا تكمن في خصوصية هذا التقسيم المتوقع من عالم صار يؤمن بالتجزئة ويراهن على الجزئيات، بقدر كونها متبناة في الأصل من قبل شخوص، اتخذوها وسيلة في محاولة مهم لإثبات أعلميتهم وتفردهم عن طريقها، من خلال ادعائهم بأنهم من رواد الفكر المبتكر وأصحاب نظريات لا يشق لها غبار. الغرابة كل الغرابة فيمن يتمسكون بهذه التسميات، ويقاتلون لغرض إقرارها على أرض الواقع، مدعين وجود العلامات الفارقة بين المنجزين الذكوري والنسوي بوضوح لا يغفله حتى غير المتخصصين، فهؤلاء في واقع الأمر يتبجحون من خلال هذه الأساليب محاولين جر النار إلى قرصهم وحرمان الآخرين من الإفادة منها.
نعم أنا لا أنكر أن المرأة بطبيعتها ممكن أن تضفي على الكلمات الصماء المتحجرة بعضا من فرحها، سعادتها، نضجها، ضعفها، حزنها، فجيعتها، أنينها، وجع حريتها المسلوبة، بعضا من أنوثتها، رقتها، جمالها، خفة روحها، حيائها، وخجلها، فتبدو الكلمة أكثر عاطفة، وتوجعا، وتأوها، وشكوى، وترفا، ورقة، ونعومة؛ مما لو كتبها رجل، بل قد تبدو وكأنها فراشة ترقص حول الأضواء، فترسم قوس قزح غير محدود الألوان؛ بدخان جناحها الذي يحرقه الوهج. ولكن ذلك لا يعني أن هذا التشذيب أو التطبيع الجنسي أو الإسقاط الأنثوي يُفقد تلك الكلمة قيمتها، أو يحولها إلى مخلوق أسطوري خرافي، خاضع للتجنيس الكيفي، له جنس يختلف عن غيره، فهي الكلمات ذاتها التي يستخدمها الرجل، مرة بخشونة وتهتك ومجون وتبرج، تترفع المرأة عن التكلم فيه؛ بحكم طبيعتها الأنثوية، ومرة بحدة تجرح، ويبوسة تُقرِح، وعبوس يقشعر منه البدن، وثالثة بترف ولطف وكأنه يدغدغ بها أذني وقلب ومشاعر محبوبته. ولكن أساطير الأوهام التي عششت في قلوب البعض تأبى أن تؤمن بهذه الحقيقة، وتقاتل من أجل بقائها وديمومتها، وتختلق لذلك مصطلحات غريبة، مثل مصطلح الأدب النسوي.
تذكرت تلك المعادلة حينما كنت أتصفح مجموعة " هاك أجنحتي" للأخت الأديبة  الدكتورة سجال الركابي، التي أهدتها لي، علها تدخلُ إلى نفسي بعض الترف اللذيذ الذي ينقذها من الضيق الذي خلقه تراكم العمل، وتزاحم المهمات، وكثرة الواجبات، وتقدم العمر، وضعف البصر، وكلل البصيرة، وواقع الحال المزري، وذلك الترقب المقيت لما قد يحدث في البلاد التي تتقاذفها الأهواء ككرة مصنوعة من أديم قرد نافق! ففي هذه المجموعة التي ابتدأتها الدكتورة بكلمات إهداء متوهج: "إلى فلذاتي حيدر وأروى وريم، وإلى الرافضين صدء القيود، الحالمين بسموات ملوّنة، هاكُم أجنحتي" تشعر أنك ستصطدم بحجم من المعاناة التي تجمع بين أطياف: الحب، التحدي، الحزن، الفراق، الخوف العتب الجرأة الحث التشجيع الحكمة والفلسفة، وأشياء كثيرة أخرى، تلقي بك في زحمة خانقة، وحينما تزدحم الأشياء في مخيالك، سوف تشعر حتما بنوع من الضبابية التي تدغدغ عواطفك، فتجذبك عنوة لتسرح في حقولها دون أن تجني ثمرة تسد بها رمق روحك؛ التي أتعبها التحديق في عالم الخيال، والتحليق في دنيا الخرافة الأسطوري منذ آلاف السنين.
وأنا في سبيل أن أثبت مصدر دهشتي لمن يستغرب ذلك، على اعتبار أن زمن الدهشة سرقه القدماء عندما رحلوا، وأخذوه معهم، ولم يتركوا لنا منه سوى ركام التقليد؛ الذي لا يجلب الانتباه، لا بأس أن اقتبس من الدكتورة الشاعرة كلمات(2)، سبق وأن صهلتْ في رحاب قصائدها، ورمحتْ في مضمارها، تصهلُ فتردد الوديان صداها، لابد وأن تشعرك بفحوى التصدي لحمل رسالة الحرف التي تأتي لتثبت الوجود الفعلي المفعم بالحركة والغارق في ألوان قوس قزح، تَشكلَ بعيدا عن الماء فوق رمال صحراء جفت حياتها منذ ملايين السنين، في وجه العدمية المفرغة من الذوق، أليس هذا ما تشعر به حينما تدرك أن "اللحظةُ معبرٌ زَلِقٌ" وأن "الربيعُ سريعُ الذوبانِ"؟
إن الصور النافرة؛ وكأنها جوانب جبل وعرٍ من غيوم بيضاء شكلته رياح لطيفة، تشعرك برغبة في أن تحلق عاليا لترى ماذا سيحدث "حينَ تتشابك النجومُ والرموشُ" وحينها لابد وأن تحتاج إلى "قليل من فراشات الفرح، فشرنقة الحزن  لا تطير" لا للضعف بل "لأنك عتيُّ موجٍ.. تهادن الضِفاف" وألا فالمرأة التي تقول لك: "أزّخُ  مودّتي  ندىً" تعني ما تقول فهي دون سواها تعرف أنها "لستُ سوى طِفلة.. تناغي الوردَ" وتجيد العتب، ألم تسمعها تناديك "وأبحرتُ...في عينيك.. على متنِ زفرةٍ"؟ أي قلب يعطيك قوة الإشاحة عن صوت يصرخ بوجهك: "انهمرت النبضات .. غطّاها الجليد".
الغريب في مجموعة "هاك أجنحتي" أنها خلطة صُنعت بيد فنان عارف، يجيد خلط الألوان ليصنع جمالا، فلسفة، معرفة، ضوضاءً، وحبا كثيرا. تتراقص في أرجائها قبسات من صور الحكمة يرسمها جموح الخيال.
في عالم "هاك أجنحتي" تجد نفسك مرغما غارقا في عالم ثر الوجود، تتافر في أجوائه صور لراقصات غجريات فقدن مسحة الجمال، عربتهن، من كان يعزف لهن، وأنهكهن السير الطويل، حتى نسين كيف يرقصن لمن يطلبون ذلك بشدة، دون أن يلتفتوا إلى معاناتهن ووجعهن الكبير:
مع رفيفِ أجنحة النوارِسِ طرتُ
لمّا تهادتْ على سطح الموجِ
لم أحِطْ......
كُنْتُ...... أغرَق (ص:26)
في الأقل هذا ما شعرتُ به أنا حينما طالعتني صورة:
ماذا قالت أُمّكَ؟
أنا كَتَبَت دموعي:
حين افترسوكَ
أيُّها القمرُ النبيُّ
غابَ قلبي
صائحاً...
وا فلذتاه... وا إنساناه... وا وطناه(ص: 28)
في اللحظة التي كنت تصفح فيها المجموعة أمام التلفاز، شاهدت مقطعا لطفلة صغيرة، هي بنت لأحد المغدورين الذين اختطفهم الدواعش، وقتلوهم بدم بارد، تطالب العالم بأن يعيد إليها والدها الغائب، الذي تحبه بقدر حبها لله! وكنتُ حينها أقرأ واحدة من صورها عن العالم الآخر الذي تعيش الشاعرة في كنفه، ذاك الذي يحلو للبعض أن يسميه: عالم الكفر، وهو للكفر أقرب منهم بآلاف المرات، كان المقطع يردد أمام ناظري:
أيتها الطبول
في بلادي للحرب تقرعين
هنا...
تغنين بروح الغابة!
بمكيالين لا تكيلي
نادي أطفالي للفرح(ص: 29)
حينها أيقنت أن سجال الركابي تبحث عن حريتها من خلال قصائدها، تريد أن تتمرد، تتحرر، تنطلق في عالم الجمال بعيدا عن تلك القيود المصطنعة التي خلقها التناقض الكبير بين عالمين أحدهما يدعي أنه إيماني حد النخاع، وآخر يدعون أنه كافر، وهو إنساني حد النخاع:
ألبستَني
ضيقِ تَملُكِكَ
كيفَ........ تراني سأغرد؟(ص: 30)
وفي سعيها وراء الحرية كانت تريد من الرجل أن يساندها، يساعدها، يقف بجانبها، تتكئ عليه فتشعر بالأمان وتتمكن من أداء مهمتها، فهي تشعر عن يقين تام أن لها قدرة للعطاء غير المحدود، للكفاح من أجل التغيير:
سأجري معكَ بلا هوادة
الطواغيتُ التهمَتْ  البراءةَ
الزلزالُ  صاخبُ المدِّ
هيّا إلى مرجَ البحرِ
نوقد قرابين الغضَب
نشعلُ قناديلَ الرؤى
عسى الموجَ يهدرُ بجواب
يستأصل بثوراً
أصابها كساح مُزمِن.(ص: 32)
بل نراها تسعى إلى التضحية لتقدم أكثر مما يقدمون، وتعطي أكثر مما يعطون، فلها قدرة تحمل عالية وثقة بالنفس لا حدود لها:
حين تغصُّ الأماني
في كلحة اللاجدوى
اربّت على جزعكَ
ايها الصديق
جِسراً أصير
لتعبر إلى ضفةٍ آمنة(ص: 33)
وهكذا تنثال الصور التعبيرية لتتحد معا مشكلة صورة غرائزية في غاية الروعة، تثمر عن شعور بالغبطة يملأ قلبك حالما تنتهي من قراءة المجموعة. وفي الختام، بعد أن أنهيت السياحة في عالم المجموعة وصورها الأخاذة، أجد مشاعري قريبة مما كانت تشعر به الدكتورة سجال حينما كتبت نصوصها، تأخذني آمالي العراض لأردد معها: "رُبّما  تشرق الشمس.. فتنبتُ وردة". وحتما لاستنبت وردة، فالعالم بلا ورود لا يطاق.
صدرت المجموعة عن دار أمل الجديدة للنشر في سوريا بواقع 126 صفحة وهي تضم تسعين نصا شعريا، وهي مجموعة جديرة بالقراءة.

 
الهوامش
1)   دكترة كأقلمة وأسلمة: منحوتة من الدكتاتورية
2)   اعتاد السادة النقاد على اقتباس مقطوعات من القصائد التي تضمها المجموعة التي يكتبون عنها لجعلها نموذجا للفكرة التي يتحدثون عنها، أما أنا في تعاملي الحذر مع هذه المجموعة فأجدني بحاجة حقيقية لأن أترك استعارة المقاطع واكتفي باستعارة الجُمل؛ التي أجدها أكثر دهشة وتأنقا، ربما لأنها تجعل القارئ يسرح بخياله في عوالم قصائد لم يقرأها ولكنه يشعر بها في خياله.

113
بم كنت أحلم .. وما تحقق
صالح الطائي
بعد المرة الثالثة التي اعتقلت فيها، وأودعت في زنزانة انفرادية بمديرية الأمن العامة في بغداد أربعة أشهر كاملة، اسبت بنوع من الهاجس القهري، والشعور أني سأعتقل مرة أخرى في أي لحظة، فالخيارات متاحة، ولكنها ستكون الأخيرة والخاتمة لأنهم كانوا غاضبين مني.
لذا بقدر فرحتي بالقضاء على النظام الدموي السفاح، كان حجم قلقي من قادم الأيام يزداد عنفا وضراوة، لأن الاستعمار الأمريكي لم يأت للقضاء على نظام الحكم البعثي حبا بالعراقيين، بل جاء بصنائع، ووضعهم على كرسي الحكم في العراق، تقابلهم في الجانب الآخر مجموعة من الإمعات الطائفية والجماعات الحزبية التي كانت تحلم بعودة الزيتوني ومديرية الأمن العامة ومصادرة الحقوق ممن وضعوا أنفسهم في موضع الشريك في المؤامرة واقتسام المكاسب.
كان هذا شعور القلق يختلج بداخلي في جمع غريب ومريب بين الفرح بسقوط والحزن من المحتمل؛ في آن واحد، لم أصرح بذذلك لأحد خوف أن أكون خاطئا في حكمي على القادمين الجدد، وألا فإن حكمي على الذاهبين القدماء ما كان سيتغير تحت أي دافع.
من هنا احتفظت بآرائي لنفسي دون أن أصرح بها، وكانت هذه الآراء تهتز أحيانا حينما استمع إلى حديث الشارع العراقي، والأحلام الوردية التي كانت تراود خيال العراقيين، تلك الخيالات والأمنيات المبنية على الطيبة والسذاجة والتطرف والموروث وقليل من الحكمة وكثير من النقد وإطلاق الأحكام جزافا، إلى درجة أن هناك من ادعى أنه رأى بأم عينه كيبلا غليظا جدا ممدود إلى الصحراء ومدفونة نهايته بالرمال الغرض منه تسريب القوة الكهربائية المنتجة إلى رمال الصحراء لكي لا يفيد منها العراقيون، وتستمر معاناتهم، هذا بالضبط ما سمعته وحينما قلت لهم: لماذا هذا الجهد والمال الزائد؟ كان يمكن للنظام أن يحل الموضوع بسهولة بأن يوقف عمل إحدى المحطات الكبيرة، وكفى، لم يقتنعوا بهذا الرأي واتهمني بعضهم اني احن لأيام قهر النظام البائد.
وحينما كانت تأخذنا تجمعات الشارع قرب بيوتنا في حوارات حامية، كان الحديث عن البطاقة التموينية قد تجاوز المعقول ربما سعيا لتحقيق أمنيات كانت مختبئة في خيال تواق إلى سد العوز والحصول على الحقوق مثل باقي الشعوب، إلى درجة أن هناك من أقسم بأيمان غليظة أن مفردات البطاقة التموينية سوف توزع على العراقيين بتعبئة حديثة حيث توضع كل مادة بغلاف جميل براق وأن مفرداتها ستزيد على العشرين مادة وبضمنها قنينة ويسكي وتكة سكاير من النوع الذي بفضله المواطن وفواكه مستوردة وأكياس من الحلويات والمكسرات وربما حبوب الفياغرا أيضا. كنت أضحك في داخلي، ولا أصرح بمخاوفي، كي لا أصطدم بمدافع آخر، يسوق لي تهمة أخرى، وأنا أردد دون شعور: خوفي أن تندمون وتضيع فرحتكم وتترحمون على عسف الأيام الخوالي!.
للأسف وجدت أن كل ما دار بخيالي قد تحقق على أرض الواقع، واليوم بعد مرور سنوات التغيير الطويلة، عدنا إلى مربع لم يكن موجودا في خارطة اعتقاداتنا ورؤانا، إلى درجة أني عشت ليلا قاسيا بسبب انقطاع الكهرباء، وتعطل مولدة الشارع، ونفاد وقود مولدتي الخاصة! وهذا حال العراقيين على الدوام تأتيهم المصائب بالجملة وليست فرادى!
النكاية الكبرى أني حينما خرجت صباحا، كان أول ما لفت انتباهي رؤية امرأة عجوز، تبحث في مكب نفايات مطعم شعبي قريب من بيتي عن بقايا طعام، لتطعم بها عائلتها، وأشد وأقسى من ذلك أني رأيت شيخا فان أعرج، يحمل على ظهره كيسا يجمع فيه القناني المعدنية الفارغة للمياه الغازية، وأنا ثالثهما أكاد اسقط من شدة الإعياء بسبب معاناة الليلة الماضية!
ولمن يسأل عن حال العراقيين اليوم أقول: إنها نفسها بالأمس ولكن الأولى كانت مخططة، والحاضرة تبدو سادة، ربما تساوقا مع سيادة الإسلام السياسي (السني والشيعي) الذي يقود البلاد بالمشاركة والتعاون إلى الهاوية، وذلك ليس ببعيد فقادم الأيام لن يكون أفضل مما مر، وقد يترحم البعض عليه مثل الذين ترحموا على أيام صدام.
ويا حوم لا تتبع ولا تجُرّْ، فكل العراق أصبح لك ساحة، والعب بيها يا أبو سميرة، ورحم الله ذاك الذي كان يتمنى أن تموت أمه، فقد كان مقدمنا وسابقنا، وتبعناه جميعنا! لكن أكبر نكاية أن الجميع راضون ومقتنعون ومؤيدون لما تقترحه أحزابهم ومرجعياتهم في الداخل والخارج وكأن الأمر لا يعيهم، وكأنهم لا يبحرون معا في سفينة العراق الآيلة للغرق!.

114
بيان
دعوة لتأسيس الاتحاد العام للكتاب العراقيين

حاول قادة ثورة 14 تموز 1958 تأسيس قاعدة ثقافية ممنهجة وفق قواعد رأى البعض أنها سياسية مؤدلجة، ورأى آخرون أنها علمية متعارف عليها في الدول الأخرى، وكانت نواة هذا البناء صدور قانون الجمعيات والأحزاب في العراق، الذي تأسست بموجبه أحزاب وجمعيات واتحادات سياسية ومهنية وثقافية واجتماعية مثل لجنة صياغة الجمهورية، حركة أنصار السلام، رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، الاتحاد الوطني لطلبة العراق، اتحاد الشبيبة الديمقراطي، الاتحاد العام لنقابات العمال، الاتحاد العام للجمعيات، ومنظمات مهنية ونقابية.
وعلى الصعيد الثقافي انبثقت عن هذا القانون مؤسستان لا يمكن إنكار دورهما الكبير في تنشيط الحركة الثقافية والفكرية في العراق هما، الاتحاد العام للأدباء العراقيين، الذي أسس عام 1959، وجمعية المؤلفين والكتاب العراقيين التي أسست عام 1960.
ومنذ الأيام الأولى لتأسيسهما، تلون الاتحاد بصبغة سياسية يسارية، بينهما سعت الجمعية ليكون توجهها سياسيا قوميا، ولذا حاولت الأحزاب القومية التي استلمت السلطة بعد عام 1963 أن تحد من النشاط اليساري للاتحاد، فقامت بدمج الاتحاد بجمعية الكتاب ليصبح اسمه الرسمي (الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق).
إن كل من يعرف تشكيلة الاتحاد ونشاطه منذ ذلك التاريخ وإلى هذه الساعة، يعرف أنه مخصص للأدباء وحدهم ولا علاقة له بالباحثين والكتاب والمؤلفين، بل لا يحق للباحث والكاتب أن ينتمي إلى الاتحاد إلا بصفته الأديبة، وليس بصفته البحثية، ولذا كان الكتاب وما زالوا يبحثون عن هوية وعن رابطة تربطهم وتجمع بينهم وتحميهم وتدافع عن حقوقهم وتدعمهم طالما أن أبواب الاتحاد مقفلة بوجوههم، والساحة خالية من مثل هذه المؤسسة.
من هنا وحرصا منا على الرقي بالكاتب والباحث والمؤلف العراقي، نقترح تنظيم اجتماع في بغداد لدراسة إمكانية تأسيس (الاتحاد العام للكتاب في العراق)، ليصبح للكتاب اتحاد مستقل ناطق باسمهم.
إنها دعوة دافعها الحرص نتوجه بها إلى كل الأكاديميين والباحثين والكتاب والمؤلفين لبيان رأيهم في المقترح، وتزويدنا برؤاهم واقتراحاتهم التي ستخدمنا بالتأكيد عند عقد الاجتماع المرتقب.
راجين تفضلكم بإرسال هذا المقترح إلى جميع الكتاب الذين تعرفونهم في أنحاء العراق كافة، ليكون من الأمور فائقة الأهمية والله من الموفق.




أخوكم
    صالح الطائي
salih_alabid@yahoo.co.uk
صفحة الفيسبوك
https://www.facebook.com/salih.alabid

115
إصدار جديد إليك فقط
صالح الطائي
في محاولة لسبر أغوار بعض المشاكل التي تعيق حراك شبابنا العراقي الذي انهكه العسف السياسي منذ أيام وعيه الأولى وإلى اليوم، حينما وضعه الحراك السياسي المتعجرف بين خيارين أحلاهما مر علقم:
خيار الدكتاتورية الفردية والحكم الشمولي القاسي؛ الذي يحاسب على أي فرصة يستغلها الشباب للترفيه عن أنفسهم بتقليد الصرعات الغربية، حتى ولو كانت على مستوى ارتداء البنطلون الضيق أو إطالة الشعر أو اللحية، ويحاسب على أبسط كلمة حتى لو قيلت مزاحا.
وخيار الانفتاح العبثي المطلق الذي يعجز عن توفير أي فرصة واعدة مهما كانت بسيطة، يمكن أن تتحول ولو على مستوى الخيال إلى بارقة أمل أمام الشباب، مما أسهم في خلق فراغ فكري عميق وواسع، امتد أثره من الانتماء هروبا إلى الأحزاب الدينية والعلمانية، إلى اعتناق الصرعات الفكرية الوجودية والإلحادية، إلى معاقرة الخمر، وإدمان المخدرات، إلى العصابات المنظمة وروح الافتراس التي قضت على آخر بقايا الرحمة في القلوب، مرورا بالمثلية الجنسية المتفشية إلى حد القلق المرعب، وعدم وجود مؤشر إلى أن الانهيار السريع والكلي سوف يقف عند حد الزنا؛ الذي كثر صنف زنا المحارم في أجوائه بسبب روح العبث المتفشية والإعسار المالي الذي تسببت به البطالة وضعف الوازعين الديني والأخلاقي وتفشي حالات الطلاق بشكل يهدد النظام الأسري بالانهيار، وتداعي مقومات الوطنية وبنى الحياة الاجتماعية، والبنى التحتية، والأمل بغدٍ أفضل.
في هذه الأجواء الملبدة بالمآسي والمحفوفة بالمخاطر، كان لابد من صرخة، حتى لو كانت خافتة، أو همسا، فقد يسمعها بعض المحظوظين، فينقلونها إلى غيرهم لتشكل موجةً ليس شرطا أن تكون عارمة، ولكنها مجرد موجة لها قدرة تحريك راسب الماء.
من هنا جربت حظي وأطلقت صرختي من خلال كتاب أسميته "إليك فقط" دون أن أحرك حرف الكاف بالفتح أو الكسر، طالما أن روح العبث لم تتفش بين الذكور فحسب بل انسحبت على الجنس الناعم الذي أصبح شريكا بالمأساة المرة، ولكي أؤكد على هذه الجنبة الشاملة للجنسين، أضفت إلى العنوان جملة باللغة الإنكليزية (just for you) لأؤكد أن الكتاب لكَ أنتَ ولكِ أنتِ ... لكما كليكما الذكر والأنثى.
لم أحول في هذا الكتاب تنصيب نفسي مرشدا ناصحا بقدر سعيي إلى نقل تجربة أكثر من ستين عاما، تعرضت خلالها إلى كثير من التقلبات الفكرية والعقدية، قادتني إلى أعتاب المقصلة عدة مرات، وأنجتني من براثن الموت مرات أخرى، ولم أمنع أحدا من اعتناق ما يشاء ولم أعترض على سلوك ولكني نقلت مواقف مشابهة مرت بي وكيف تجاوزتها مع تطور مراحل وعيي الفكري.
إن الاتصالات والملاحظات والأسئلة والحوارات التي أثارها الشباب حول مضمون الكتاب، أكدت لي أن صرختي لم تضع في وديان الطرشان لأن هناك من سمعها وتجاوب معها ورد صداها في أذنه.
ونظرا لأسلوب الكتاب وأهميته الفكرية والتربوية، حتى مع كونه لا يدعو إلى ترجيك كفة الدين، تولى قسم النشاطات الدينية في العتبة الحسينية المقدسة في كربلاء طباعته ونشره، فصدر بحلة قشيبة ليأخذ مكانه على رفوف المكتبة التربوية العراقية.
ولا يسعنى في الختام إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى الأخ والصديق العزيز الشيخ عبد المهدي الكربلائي المتولي الشرعي للعتبة الحسينية والأخ والصديق الشيخ وسام البلداوي وكل العاملين في قشم النشاطات الدينية

116
المسيحيون في قلوبنا
صالح الطائي
اطلعت مؤخرا على وجود نوايا لدى بعض المنظمات الغربية لإعادة توطين الإخوة المسيحيين العراقيين في منطقة محددة من العراق معزولة عن باقي مكونات الشعب بحجة أنهم يتعرضون إلى التعنيف وتصادر حقوقهم في العيش الآمن السعيد، وأنا إذ استنكر مثل هذه المشاريع الخبيثة وأدينها وأشجبها، أذَّكر المجتمع الدولي وهذه المنظمات وكل من له علاقة بقصة ترشيح عمار فرنسيس لمجلس النواب.
من المؤكد والمعروف للجميع أن ثلاث عائلات مسيحية فقط لا تزال متواجدة في مدينة الكوت/ محافظة واسط جنوبي العاصمة بغداد، وهذه العائلات لا يتجاوز عدد أفرادها الخمسة عشر شخصا، ومع ذلك رشح أحد أبنائها إلى  الانتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر أيار 2018، هو الأستاذ عمار فرنسيس بطرس (41) عاماً، ولم تكن مفاجأة حصول عمار على (5348) صوتاً انتخابياً من مدينة عراقية جنوبية تكاد تخلو من العائلات المسيحية، فثلاث عائلات من أصل 1.149 مليون إنسان هم مجموع أهالي هذه المحافظة لا تمثل ثقلا يذكر يشجع شابا لترشيح نفسه ضمن هذا التحدي الكبير؛ الذي يحتاج إلى آلاف الأصوات، ومع ذلك حصل عمار على هذه النسبة الكبيرة بما يدل على أن العراقيين نجحوا في تجاوز محنة الطائفية التي فتح أبوابها تنظيم داعش الإرهابي مدعوما بجميع أنواع الدعم من دول الجوار العراقي جميعها والاستكبار العالمي والماسونية، وان حلم الدولة المدنية بدأ يتبلور في أذهان العراقيين الذي أصبحوا يسعون إلى التغيير بعد النكسات التاريخية التي تعرضوا لها منذ التغيير في عام 2003 ولغاية هذا التاريخ.
إن حصول عمار فرنسيس على هذا العدد الكبير من الأصوات يعني بكل تأكيد أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العراقيين ليست لعبة رمي العملة (كتابة/صورة) بل هي زواج كاثوليكي لا طلاق فيه، وما حدث في السنوات القليلة الماضية كان تطليقا موقتا حكمت به داعش، وأقرته شريعتها، والتطليق كما هو معروف: الفصل بين الزوجين بناء على حكم محكمة ولأسباب تقرها الكنيسة.
ويعني حصول عمار فرنسيس على هذا العدد الكبير من الأصوات أن تجربة الرهان على العقيدة والقومية والمناطقية التي كان معمولا بها على مدى أكثر من خمسة عشر عاما، أثبتت فشلها وسقوطها، وأن الجماهير التي أيدتها بداية، أدركت أن أهدافها لم تكن لوجه الله تعالى، بعدما تسببت في تمزيق اللحمة الوطنية، وأن البديل المنطقي لتلك الفوضى هو بتغيير الوجوه التقليدية عن طريق انتخاب كفاءات شبابية تؤمن بالدولة المدنية، ولذا أعتقد أن الانتخابات العراقية القادمة ستكون بطعم آخر يختلف كليا عن سابقاته وبشكل جذري.
طبعا هذا إذا ما بقي النظام الديمقراطي معمولا به في العراق، مع وجود رفض جماهيري لحالة الفوضى التي نعيشها، وأبسطها موضوع الطاقة الكهربائية المتهالكة الذي بلغ ذروة السوء في الأيام القليلة الماضية، والذي قد يدفع الجماهير إلى الثورة الشاملة تحت شعار عليَّ وعلى أعدائي!.   

117
شبابنا وثورة الفيسبوك
صالح الطائي
حينما نجحت بعض القوى الخارجية في تحريك الشارع العربي في تونس ومصر وليبيا عن طريق تحريك الشباب وحثهم على استخدام وتوظيف فضاء الفيسبوك لتحفيز روح الثورة والتمرد بين الجماهير، ونجحت تلك النشاطات الجماهيرية في إسقاط بعض الحكام العرب، وتخريب بلدانا عربية كبيرة ومؤثرة؛ لم يكن الشباب العراقي الذي قدمت له الكثير من المغريات على استعداد لهضم الفكرة وتقبلها، ولذا لم تنجح مساعي تلك الدول في دفع الشباب العراقي إلى التمرد بالرغم من المحفزات المقدمة وسخونة المواضيع التي راهنوا عليها مثل موضوع الطائفية والتحشيد المناطقي والقومي، لسبب بسيط وهو أن الشباب بل العراقيين عموما لم يكونوا يملكون الاستعداد النفسي للتحرك في هذا الفضاء الجديد عليهم بعد كل تلك التجارب المريرة والخيبات المتتالية التي مرت عليهم، والحروب التي خاضوها إرضاء لنزق حكامهم ورعونة سياسييهم، فضلا عن كون تلك الأحداث بمجملها وطريقة تنسيق التحرك ضدها، تخالف طبع العراقي الصبور الذي تعود أن يتحمل ويتحمل ويتحمل إلى أن يصل إلى درجة الانفجار فيثور حينها حتى دون أي حساب للنتائج، ومن هنا امتازت جميع ثورات العراقيين بما فيها تلك التي نجحوا في تنفيذها بأنها ثورات لحظوية لا تملك نفسا استمراريا طويلا، وهو ما أسميه: نار القصب، فالقصب إذا أحرق ولاسيما اليابس منه، يولد نارا ضخمة رهيبة، تشق عنان السماء، وتسمع شهيقها وفورانها وكأنه يخترق شغاف القلب، فمنظرها يوحي لأول وهلة أنها لن تنطفئ أبدا، لكنها سرعان ما تنطفئ وتخمد تاركة أثرا محدودا على الأرض وبقايا بعض الأغصان.
وهنا تكمن الدهشة، دهشة أن يثور شباب الفيسبوك العراقيين ضد السياسيين بهذا الشكل والنفس الطويل الذي استمر لأكثر من ثلاث سنين؛ وأن يحقق النجاحات إلى درجة النجاح في التأثير على الشارع، والإسهام الفعلي في إسقاط الكثير من رموز العملية السياسية الذين كانوا يظنون أن لا قدرة لأحد على هزيمتهم، من خلال التأثير على أنماط حركة الانتخاب، فذلك بحد ذاته:
ـ يعني أن السياسيين العراقيين ولاسيما البرلمانيين منهم هم أنفسهم الذين رفعوا درجة الاحتقان لدى الشباب العراقي بسبب أعمالهم القذرة وسرقاتهم وتآمرهم وتحيزهم وطائفيتهم وعدم حرصهم على العراق والأمة.
ـ ويعني أن الشباب العراقيين تغيروا خلال السنوات العشر المنصرمة، وهم على استعداد الآن لإزاحة أعتى المطبات التي تعترض مسيرتهم الظافرة. فالنجاح الذي حققوه من خلال تأثيرهم على سير الانتخابات، وتسببهم بفقدان بعض أعتى السياسيين لمناصيهم يعتبر فوزا تاريخيا لابد أن يشجعهم على تكرار التجربة متى ما دعت الحاجة إلى ذلك، فجيل الشباب المعاصر هو جيل ثورة الإنترنيت باستحقاق، وما دامت مواقع التواصل الاجتماعي فاعلة، فالثورة لن تنتهي، ولن يكون هناك بعد اليوم رؤساء دمويين غدارين، يستطيعون الصمود أمام ثورة جيل، مثلما فعلوا في زمننا، فسلبوا أجمل وأحلى لحظات حياتنا!.

118
ديمقراطية الدهماء والديمقراطية الرشيدة
صالح الطائي
رأي شخصي بمناسبة قرب انتخابات مجلس النواب العراقي والشعارات التي يرفعها المرشحون، في الوقت الذي يعرفون فيه قبل غيرهم أنهم مجرد جهة تشريعية، لا تقترح، بل تدرس مقترحات القوانين التي تقدم إليها، ثم تصوت عليها بعد إجراء بعض التعديلات ....
بعد خروج العراق من هيمنة نظام الحكم الفردي الشمولي الاستبدادي الحزبي، ودخوله عصر الديمقراطية التي سنها ووضع أسسها المحتل الأمريكي على مقاساته الغربية لا وفق مقاساتنا المحلية، وبعد أن تسببت الديمقراطية بصعود سلسلة من الحكام الذين انحازوا لأحزابهم أو لجماعاتهم أو لمناطقهم أكثر من انحيازهم للعراق كله، وبعد أن فقدنا خمسة عشر عاما من عمر وطننا ونحن قابعين في أتون فوضى التجريب التي قادتنا إلى حرب أهليه، كادت أن تودي بوطننا وشعبنا إلى الهاوية، أصبح لزاما علينا أن نعيد النظر بأسس تلك الديمقراطية، وأن نبدأ بتأسيس نوع من الديمقراطية التوافقية على مقاسنا، ديمقراطية لها قدرة صهر مكونات شعبنا وإثنياته ومذاهبه وأعراقه وقومياته وأديانه في بوتقة واحدة لها قدرة الحفاظ على مصالح الجميع بنفس الدرجة من الاحترام.
إن ديمقراطيتنا المستوردة فشلت فشلا ذريعا، لأنها أنتجت حكومات مأزومة تتغذى على الأزمات، فهي خليط من كيانات دينية متطرفة، وأخرى علمانية متطرفة، فتسببت في خلق أزمات خطيرة، مكنت داعش من السيطرة على ثلث البلاد، وعقول ملايين العراقيين الذين صفقوا لها، لا حبا بها بل بحثا من خلالها عن طريق للسيطرة والقوة. وهذا يعني أننا بحاجة إلى ديمقراطية تنبع من جذور موروثنا وقيمنا وعراقيتنا، لتنتج لنا حكومة عراقية بمواصفات شعبنا، فحينما تكون الحكومة ثنائية الأصول، أي تأخذ من المنظور الديني بعض الجوانب ومن المنظور الحضري التراثي جوانب أخرى، وترسم خطاها ومخططاتها وفق الواقع المعاش ونبض شارعها، ممكن أن تؤسس لقيادة شمولية النظرة مقبولة المنهج في المجتمع المتعدد، ولاسيما إذا ما نجحت الحكومة في الموازنة بين الأصول التي اعتمدتها، ولم تترك أحد أصليها يطغي على الأصل الآخر أو يتحكم به.
لكن أن تعتمد على الأصل الديني وحده دون أن تناغم الأصل الحضري في عصر يضج بالعلمانية والتحضر، أو تعتمد على الأصل الحضري وحده في مجتمع لا زال يغريه الخطاب الديني، ولا زالت القداسة والمقدس يحركانه ويمنهجان حياته، فإنها ستعجز كليا عن تسيير أمورها بله أمور شعبها، وهي ممكن أن تتسب بحدوث نزاع دموي بين الأصلين ومن يتبعهما، يفضي إلى تحويل البلد إلى دولة فاشلة عاجزة عن قيادة نفسها، وهي المرحلة الصعبة التي ما إن تصل إليها البلدان حتى تبدأ تفكر بعون خارجي حتى ولو على حساب استقلالها وسيادتها.
إن تأسيس ديمقراطية المقاس العراقي يحتاج بالتأكيد إلى وضع اقتصادي مستقر، وأقتصادنا بائس .. وإلى وضع أمني مطمئن، ووضعنا مضطرب .. ووعي اجتماعي، ووعينا فردي أو فرقي .. وولاء سياسي، وولاءاتنا مفرقة مشتتة متعارضة متضاربة .. وحدودا آمنة مسيطر عليها، وحدودنا مشرعة لكل من هب ودب .. ونظاما يدافع عنها، ونحن بلا نظام .. وتوقير واحترام، ونحن لا نرضى أن يزاحم المقدس شيء.. واشتراك الأمة في صياغة القرار، ونحن لا نعرف سوى التحشيد التعبوي لمساندة هذا القرار أو تسقيط ذاك.. ومشروع ديمقراطية قرار، ونحن نريدها ديمقراطية شعار.. ومشروع نهضة حضارية، ونحن سبات منذ ألف عام .. ومسؤولية فردية، والفردية عندنا ترفض تحمل المسؤولية وتعتبرها قيدا لا يطاق!
وبالتالي لا يعني مجرد المشاركة في الانتخابات أننا نعيش الآن عصر الديمقراطية، فالديمقراطية التي نتشدق بها ديمقراطية زائفة، تحتاج إلى إعادة بناء، لأنها تفتقد إلى جميع تلك المطالب التي ذكرناها، وربما لأنها فضلا عن ذلك، تحققت فجأة في ساعة الخروج من قمع وتضييق الحكم الشمولي الفردي، ولم تمر بمراحل التطور والانتقال الحضاري، ولذا جاءت خديجة تحتاج إلى حضانة لتتجاوز أزمتها!.






119
حينما يطلب من الجامعة أن تقود المجتمع
صالح الطائي

يحتاج بناء المجتمع وإعادة تقويمه وترسيخ قيمه ومبادئه، ولاسيما بعد الأزمات والنوازل التي يتعرض لها؛ مثل الحروب والفوضى والنزاعات الفرقية والمذهبية إلى جهد استثنائي علمي مخلص وصادق وجاد وغير نفعي ولا مصلحي أو تحزبي أو فئوي، فالمجتمع شرائح ومكونات تملك جميعها الحق نفسه، وعليها الواجبات نفسها، ويجب مساواتها والنظر إليها بمستوى واحد، كما يجب خدمتها والسهر على مصالحها وسعادتها، ولا أعتقد أن هناك جهة ما بإمكانها توفير هذه المطالب لشرائح المجتمع مثل الجامعة الناجحة. فعبر التاريخ العراقي الحديث كان السياسيون بمنأى عن الشعب، والشعب بمعزل عنهم، لا هم يصدقون مع انفسهم ومع شعاراتهم لينزلوا إلى المجتمع من بروجهم العالية، ويعيشوا معه همومه ومطالبه، ولا الشعب المغلوب على أمره يملك سلطة تفوضه الصعود إليهم، وطرح رؤاه ومشاكله عليهم.
بعد التغيير في 2003 وبعد تغير المعادلات والانفتاح الكبير، تخلص الشعب من خرسه، فلعلع صوته هادرا قابلا أو رافضا، مؤيدا أو معارضا، وأخذ يتطلع إلى أن تكون هناك مشاريع بناء حقيقية، تعوض عوزه التاريخي، ومطالبه المؤجلة، لا مجرد حبر على ورق وشعارات ووعود فارغة، ولكن الساسة، انشغلوا بمصالحهم، أو قيدتهم التبعية للمركز أو الاضطراب الذي أصاب ميزانية البلد، وأمور كثيرة أخرى لسنا بصدد الحديث عنها؛ عن خدمة الجماهير، ومن حاول أن يخدم، وجد الكثير من الموانع التي اعترضت مشروعه.
من هنا بدا الشعب يبحث عن منافذ جديدة ليعمل معها من أجل مصلحته وتحقيق بعض أحلامه الكثيرة المؤجلة، ولأن الجامعات في أغلب بلدان العالم هي التي تتولى القيادة الحقيقية للمجتمعات فكريا ونهضويا، وهي التي تأخذ على عاتقها تطوير المجتمع ثقافيا وزراعيا وصناعيا وعلميا وأدبيا وفنيا، فقد ارتأينا أن نتوجه إلى جامعة واسط لنطرح عليها رؤانا وتصوراتنا ومقترحاتنا ومشاريعنا، مع علمنا ويقيننا أن هناك بيننا وبينها جدارا وهميا يحول دون التواصل، ليس بسبب تقصير الجامعة التي تحمل على كاهلها وزر إعادة بناء المناهج التعليمية والتعاملية داخل أسوارها مع جيل من الشباب، بدأ يعشق التمرد، ويميل إلى العنف، ولا بسبب الشعب الذي وقف طويلا ينتظر مبادرة الآخرين، دون أن يبادر إلى مسك زمام الأمور فحسب، بل وبسبب الموروث التاريخي الذي رسم تلك الحيطان الوهمية وحولها إلى سواتر دفاعية يصعب اختراقها. وفي مبادرتنا التاريخية قررنا أن نجرب قرع أبوابها والبحث فيها عن سبل  تزيح حيطان العزلة، وتحولها إلى قائد فعلي للمجتمع من خلال تعاون المجتمع معها، فحملنا همومنا، واخترنا مجموعة من الباحثين والأدباء والناشطين المدنيين والفنانين لنطرق بابها، فإذا بنا نجد بابها مشرعا على مصراعيه، ونجد رئيسها وبعض كادرها المتقدم يقفون بانتظارنا للترحيب بنا، بعد يوم العمل المجهد والطويل الذي عاشوه، والذي يبدو أنه يرفض الانتهاء حتى بعد حلول الظلام.
كان الاستقبال أكثر من رائع، وقد أصر رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور هادي دويج العتابي على عقد الاجتماع في القاعة نفسها التي تعقد فيها الجامعة جلساتها، ليعطيها بعدا تقييميا، ويضفي عليها نوعا من الرسمية المحببة. وابتداء من الساعة الثامنة مساء وإلى ما قبل منتصف الليل بقليل، كان النقاش محتدما، وفدنا من جانب، ووفد الجامعة ممثلا برئيسها الأستاذ الدكتور هادي العتابي والأستاذ الدكتور محمد السويطي والدكتور علي خيري من جانب آخر. الغريب والمدهش في هذا اللقاء أننا كنا نشعر وكأننا فريق عمل واحد، لأننا لم نجد الحواجز التي كنا نتصور وجودها، بل وجدنا انصهارا تحول بموجبه الجمع إلى وحدة واحدة، تبحث عن حلول لمشاكل قائمة. وكان السيد رئيس الجامعة يناقش كل نقطة نطرحها بعمق ودقة، ويطلب من مرافقيه تسجيلها ووضع الشرح لها، على أمل أن تتم دراستها والبت فيها، واتخاذ ما يلزم بشأنها لاحقا. وقد تم اختياري خلال هذا الاجتماع ممثلا للمجتمع المدني، وعضوا في مجلس الجامعة للمتابعة والتنسيق.
ولأننا في العراق تعودنا أن نسمع الكثير ولا نرى من التطبيق على أرض الواقع إلا النزر اليسير، فقد بقينا نترقب ما ستقوم به الجامعة، وننتظر أخبارها لنعرف مدى جديتها في التعامل مع مقترحاتنا وطروحاتنا. بعد أسبوعين من ذلك اللقاء الرائع، وتحديدا يوم 16/4 اتصلوا بي وأخبروني أن مقترحاتنا أدرجت ضمن جدول أعمال الجلسة التاسعة عشرة لمجلس الجامعة التي ستعقد يوم 17/4، ومطلوب مني حضور الجلسة للمشاركة في دراسة ومناقشة الموضوع.
وبالرغم من وجود عشر فقرات على جدول الأعمال؛ كلها في منتهى الأهمية، إلا أن السيد رئيس الجامعة، اقترح أن تتم مناقشة موضوع الانفتاح قبل مناقشة أي فقرة أخرى، وفعلا تمت مناقشة أغلب الفقرات التي اقترحناها، وأصدر السيد رئيس الجامعة إلى السادة عمداء الكليات وأمين سر الجامعة الكثير من الأوامر التي يجب عليهم اتخاذها لفتح أبواب كلياتهم أمام التعاون مع المجتمع الواسطي، والنزول إلى المجتمع والتعامل معه ميدانيا ليفيد من خبرتهم وتجاربهم وعلومهم.
لفت نظري في هذا الاجتماع المهم جدا، والذي استضافته كلية الهندسة مشكورة أن السيد رئيس الجامعة لم يكن المتحمس الأوحد لمشروعنا، فلقد وجدنا أن السادة عمداء الكليات البالغ عددها خمس عشرة كلية علمية وأدبية، لم يكن حماسهم بأقل حتى من حماسنا نحن أصحاب القضية، ووجدنا لديهم الرغبة الصادقة والحقيقية في فتح آفاق جديدة للتعاون، بل وأقترح بعض السادة العمداء نقاطا جديدة لم تكن مدرجة ضمن ورقتنا التي قدمناها للجامعة، وقد أشعرنا هذا الموقف الجليل والصادق والمسؤول من السيد رئيس الجامعة والسادة العمداء بالاطمئنان الكبير، وزرع في نفوسنا الأمل بان يتحول التعاون بين الجامعة والمجتمع إلى نواة للبناء والإعمار والإرشاد والتطوير الذي تسعى إليه واسط الخير.
فضلا عن ذلك أعلمنا السيد رئيس الجامعة أن هناك ورقة عمل أدرجت فيها جميع المقترحات، تعمل الجامعة الآن على إنجازها، لتتم مناقشتها بالاشتراك مع ممثلي المجتمع الواسطي للتأسيس لعلاقة جديدة بين الجامعة والمجتمع، تتولى الجامعة من خلالها قيادة المجتمع علميا والإسهام في تطويره وتنميته، لتكون جامعة واسط أول جامعة عراقية تضع خبراتها في خدمة شعبها ومدينتها.     

120
المنبر الحر / مفاجأة في البار
« في: 18:20 20/04/2018  »
مفاجأة في البار/ قصة قصيرة
الدكتور صالح الطائي
كان والدا متزمتا قاسيا على أولاده، يحاسبهم إذا أخروا أداء الصلاة بضع دقائق، وكان يئمهم في أوقاتها، ويلقي عليهم المواعظ. لم يكن مسموحا لأحد منهم أن يتأخر عن العودة إلى البيت لأداء الصلاة جماعة. وحينما يرضى عن أحدهم، كان يطلق قهقهة مدوية فريدة، تشعرهم بالرعب والخوف لا بالرضا.
كانوا من جانبهم، يتنازلون عن كثير من طموحهم احتراما وإرضاء له، مع أن عبادتهم كانت صورية، وأعمالهم خارج المنزل يمكن وصفها بالسوقية، حيث ارتياد البارات ومعاكسة الفتيات. وحفاظا على مسافة الأمان مع والدهم، كانوا يختارون بارا في أقصى المدينة ليقضوا فيه ساعات مرح مع أصدقائهم، أما الجلسات فكانت متباعدة تحوطا وحرصا، بل خوفا من اكتشاف والدهم حقيقتهم التي يعتبرها مخزية. وحتى اختيارهم للأيام والأوقات كان دقيقا، فهم يعرفون أن والدهم يخرج يومي الاثنين والخميس بعد صلاة المغرب إلى المقهى ليقضي بعض الوقت مع أصدقائه، ولا يعود إلى البيت إلا بعد منتصف الليل، ولذا اختاروا عصر يومي الأحد والأربعاء للذهاب إلى البار مع رفاقهم.
وخلافا لعادتهم كان يوم الخميس ربيعي النسيم، شجعهم على اتخاذ القرار بسرعة، متعللين أن الوالد سيكون مشغولا في المقهى مع أصدقائه، فذهبوا سوية إلى البار المعتاد بعد خروج والدهم، وهناك بدأوا يتناولون الشراب بسرعة، للخروج قبل أن يراهم من ينقل الخبر إليه. كانت الخمرة قد لعبت في رؤوسهم، وبانت عليهم آثار السكر والنشوة إلى درجة التمايل، آملين أن يخرجوا من حالة السكر قبل وصولهم إلى البيت، وقبل عودة الوالد، وإذا بتلك القهقهة المدوية تنطلق في أرجاء البار مزلزلة، التفت أحدهم والرعب باد على وجهه ليرى والده جالسا غير بعيد عنهم، وأمامه كمية من القناني المختلفة، وبيده كأسا مملوءً، ويربت بيده الأخرى على كتف صديقه الجالس بجنبه، فتسمر الولد في مكانه، أما الابن الأخر فكان يتحسس البلل تحته، ورجلاه لا تقويان على حمله. 

121
المسلمون والملحدون واليوم العالمي للمرأة
صالح الطائي
عجيب كيف يبدو حديث الملحدين والعلمانيين عن المرأة أجمل ملايين المرات من احاديث أغلب المتدينين، فالعلمانيين تحدثوا عن الجمال والمساواة والحقوق والاحترام المتبادل بنفس إنساني عذب، تستشف منه معاني الإنسانية، بعيدا عن القصدية الغائية والهدف من ذلك، أما بعض المتدينين فيكاد حديثهم عن المرأة أن يدفعك إلى التقيؤ لأنه حديث مستهجن بلا حدود، لا جمال ولا احترام ولا مساواة ولا إنسانية فيه، والمصيبة أنهم نسبوا تلك الآراء إلى نبي الجمال والعذوبة والمساواة والرحمة محمد (صلى الله عليه وآله).
وهم في حديثهم التخويفي هذا ومن دون أن يشعروا، شجعوا المرأة على ارتكاب الموبقات، ودفعوها إلى الخروج على تعاليم وتقاليد الدين السمح الكريم، والا بربك ما تفهم من حديثهم عن حق الرجل على زوجته؟ هذا الحق الذي لا يشبه الحق الذي نعرفه ونعقله؟ أليس هذا ما يتضح من حديث نهار العبدي، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى بابنة له إلى النبي (ص)، فقال: إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج. فقال لها: أطيعي أباك، فقالت: لا حتى، تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ فرددت عليه مقالتها، فقال: "حق الزوج على زوجته أن لو كان به قرحة فلحستها، أو ابتدر منخراه صديدا أو دما ثم لحسته، ما أدت حقه"!. فقالت: والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا، فقال النبي: "لا تنكحوهن إلا بإذنهن"(1).
وماذا يمكن أن تفهم من حديثهم عن حقوق الزوج على زوجته، وسكوتهم عن حقوقها عليه، كما في الحديث عن عبد الله بن عمر، قال: "أتت امرأة نبي الله (ص)، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على امرأته؟ قال: لا تمنعه نفسها ولو كانت على ظهر قتب.
قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: لا تصَّدق بشيء من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب حتى تتوب أو ترجع.
قالت: يا نبي الله فإن كان لها ظالما؟ قال: وإن كان لها ظالما.
قالت: والذي بعثك بالحق لا يملك علي أحد أمري بعد هذا أبدا ما بقيت"(2).
وما يمكن أن تفهم من حديثهم عن سجود المرأة لزوجها، وهي دعوة للعبودية التي رفضها الإسلام صراحة، وتمسكوا بها جهلا، في الأقل ذلك ما نفهم تلميحا له في حديث الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: لما قدم معاذ من اليمن، قال: يا رسول الله، رأينا قوما يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك؟ فقال رسول الله: "لا، إنه لا يسجد أحد لأحد، ولو كنت آمرا أحدا يسجد لأحد، لأمرت النساء يسجدن لأزواجهن"(3).
إن منهج التخويف السادي هذا يسلب المرأة حقوقها وحريتها، ويسلط الرجل عليها، ويجعل العلاقة بينهما علاقة سيد وعبد لا أكثر، وهو ما قد يدفع المرأة عنوة وقسرا إلى الانحراف، لأن صلاتها وعبادتها وجميع حسناتها لن تنفعها شيئا، ما دامت ملائكة الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب كلها تلعنها بأمر الله تعالى لأمر تافه، قصدت من وراءه وجه الله تعالى وليس غيره، فتصدقت دون إذن زوجها! فهل يعقل يا ترى أن تنال كل هذا اللعن لمجرد أنها عملت خيرا، وأطاعت وصايا الإسلام، فتصدقت ولكن بحسن نية فلم تأخذ إذن الرجل؟ وهل يعقل أن لا تقبل لها صلاة وتتعرض إلى اللعن، وهو أمر عظيم جلل، فاللعن هو الدعاء على شخص أو أشخاص أن يبعدهم الله تعالى، ويطردهم عن رحمته، لمجرد عصيانها زوجها في أمر الصدقة الذي حث الإسلام على فعله، حتى ولو كان الزوج بخيلا متعجرفا حقيرا، فتعذب أشد العذاب؟
وهل يعقل أن رب الرحمة المطلقة يتشدد بعذاب المرأة التي تعصي زوجها، فلا ترحمها صلاة ولا صيام؟ أليس هذا ما يفهم من حديث عبد الله بن الحارث، قال: "ثلاثة لا تُجاوز صلاة أحدهم رأسه: إمام أم قوما وهم له كارهون، وامرأة تعصي زوجها، وعبد آبق من سيده(4). ومثله حديث عمرو بن الحارث بن المصطلق، قال: كان يقال: "أشد الناس عذابا اثنان: امرأة تعصي زوجها، وإمام قوم وهم له كارهون(5).
فهل يعقل أن تكون المرأة التي تعصي زوجها أشد الناس عذابا؟ وهل يعقل أن تبطل صلاة إمام الجماعة لمجرد أن المأمومين يكرهونه حتى دون معرفة الأسباب، فيدخل النار مع تاركي الصلاة، ليجد فيها كل تلك الأنواع من العذاب المر، فيعذب بأشده وأقساه؟ والمعروف حُكما أن صلاة المأمومين تبطل ببطلان صلاة الإمام؟ ثم هل يعقل أن تبطل جميع أعمال رجل، أبتلي بالعبودية غصبا عنه، ففر طلبا للحرية، ليعذبه الله أشد العذاب؟ وإذا عذب هؤلاء الثلاثة أشد العذاب بسبب هذه الأعمال البسيطة، ماذا سنبقي للمجرمين والسفاحين والمشركين والكفار والطغاة؟ وهل يعقل أن يتساوى الثلاثة بسبب جرمهم البسيط هذا وهو ليس جرما بنظرهم مع عتاة المجرمين؟
ثم أليس من حقنا أن نسأل: أي عقيدة تلك التي تلعن فيها الملائكة المرأة التي لا تطيع زوجها في الفراش دون النظر إلى حالتها النفسية واستعدادها وحالتها الصحية وظروفها وطبيعتها وتعبها ورغبتها؟ أي عقيدة تلك التي توجب عليها أن تأتيه لتشبع نزواته وغرائزه الحيوانية حتى ولو كانت قد تمرغت بالوحل والفضلات؟ أليس هذا ما يفهم من حديث قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، قال: جلست عند نبي الله (ص) فسمعته يقول: "إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأته، وإن كانت على التنور(6). وإذا تأخرت عنه لأحد الأسباب، لعنتها الملائكة طوال الليل. وهذا ما يفهم صراحة من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح"(7). مدعين أن ذلك من حقوق الرجل الشرعية على زوجته. هذه الحقوق الغريبة المستهجنة التي وصلت إلى درجة أن الأعمش نقل عن إبراهيم قوله: كانوا يقولون: "لو أن امرأة مصت أنف زوجها من الجذام حتى تموت ما أدت حقه"(8). ولكن لائحة الحقوق الذكورية هذه لم تذكر ولو كرامة واحدة للمرأة من سنخ تلك الكرامات بالرغم من كون الكثير من الرجال لا يصلون إلى أدنى درجات شرف المرأة وعفتها ونظافتها. والأشد نكاية وإيغالا في التهريج أنهم تهاونوا مع الرجل، وهونوا أخطاءه وكبائره لمجرد أنه رجل! أليس هذا ما يفهم من حديث علقمة، عن عبد الله، جاء رجل إلى النبي(ص)، فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن آتيها، فأنا هذا، فأقض فيَّ بما شئت. فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد عليه النبي شيئا، فأنطلق الرجل، فأتْبعَه رجلا، فدعاه، فتلا عليه هذه الآية {أقم الصلاة طرفي النهار}، فقال رجل: يا رسول الله هذا له خاصة؟ قال: "لا، بل للناس كافة"(9). وكم هو غريب أن تجدهم يشرِّقون ويغرِّبون بهذا الحديث وكأنهم يسعون إلى ترسيخه في نفوس وعقول المسلمين، ففي رواية أخرى عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو، قال: أتتني امرأة؛ وزوجها بعثه النبي (ص) في بعث، فقالت: بعني بدرهم تمرا، قال: فأعجبتني، فقلت: إن في البيت تمرا هو أطيب من هذا فألحقيني. فغمزتها، وقبلتها، فأتيت النبي، فقصصت عليه الأمر، فقال: خنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بهذا. وأطرق عني، فظننت أني من أهل النار، وان الله لا يغفر لي أبدا، فأنزل الله تعالى:{أقم الصلاة طرفي النهار} الآية، فأرسل إليَّ النبي فتلاها علي" (10).
وفي رواية ثالثة عن ابن عباس أن رجلا أتى عمر بن الخطاب، فقال له: إن امرأة جاءتني تبايعني فأدخلتها الدَّوْلج، (والدولج بيت في الأرض لا منفذ له، أو هو بيت صغير وسط بيت كبير)، فأصبت منها كل شيء إلا الجماع، قال: ويحك بعلها مُغيب في سبيل الله؟ قلت: أجل، قال: ائت أبا بكر، فأتاه، فقال مثل ما قال لعمر، ورد عليه مثل ذلك، وقال: ائت رسول الله فأسأله، فأتى رسول الله، فقال مثل ما قال لأبي بكر وعمر، فقال رسول الله: بعلها مغيب في سبيل الله؟ فقال: نعم، فسكت عنه، ونزل القرآن: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يُذهبن السيئات} فقال الرجل: إلي خاصة يا رسول الله أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره، وقال: لا ولا نعمة عين، ولكن للناس عامة، فضحك رسول الله، وقال: "صدق عمر"(11). 
وفي رواية أخرى، أن معاذ بن جبل كان قاعدا عند النبي (ص)، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلا قد أصابه منها، إلا أنه لم يجامعها؟ فقال: "توضأ وضوءً حسنا، ثم قم فصل". قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل} إلى آخرها، فقال معاذ بن جبل: أهي له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل هي للمسلمين عامة" (12).
وأنا واقعا لا أعجب من كل ذلك، فالذي يملك الجرأة ليروي عن رسول الله (ص) حديثا يدعي أنه حديث صحيح، وفعل نبوي تعليمي إرشادي، يتبين من خلاله أن امرأة جميلة مرت من أمام رسول الله(ص) في الطريق، فنظر إليها ، ونسى أنه أبو هذه الأمة وسيد الاستقامة، فأثارتْ غرائزه الجنسية، فذهب إلى بيته، واتصل جسديا بزوجته زينب التي وجدها تمعس منيئة، أي تنظف وتدبغ جلد شاة، أي أن القذر كان عالقا بيديها وجسمها، ورائحة ذلك الجلد القبيحة تفوح منها، ومن ثم خرج إلى المسلمين، وأخبرهم بما فعل، ليرشدهم إلى كيفية التصرف في حالات الإثارة الجنسية.
لقد سبق لي ودرست وامتحنت هذا الحديث في أحد مؤلفاتي، وسأورده هنا عن صحيح مسلم، مع ذكر أغلب المصادر التي أوردته، ووقعت تحت يدي في حينه، جاء الحديث عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله(ص)، رأى امرأة، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة(13)  لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: "إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه"(14).
وانا بعد أن اطلعت على كل تلك الوصايا والأقوال، استغربت كثيرا من قول غوستاف لوبون: "أخذ الغرب عن المسلمين أخلاق الفروسية واحترام المرأة"(15)، فالرجل إما أن يكون جاهلا بهذه الحقائق، أو انه لم يطلع عليها، لأنه يستحيل أن يجاملنا بمثل هذا القول مع علمه بما قلناه عن المرأة في موروثنا الثقافي والعقدي، وهو في واقعه بعيد كل البعد عن الإنصاف والعدالة، بعد أن قام بعض ذوي النفوس المريضة بإخفاء الحقائق، واختلاق مثل هذه الآراء التي لا تمت إلى الدين القويم بصلة!.
من هنا أتمنى أن يبدأ المسلمون بإعادة النظر بجميع موروثهم وتنقيته من هذه الوهاد المتعرجة الخطرة التي تسيء إلى رونقه وبهائه وجماله، بدل أن نتركها مواطن يتندر بها أعداء الدين، ويطعنون من خلالها بعقيدتنا التي نحبها ونحترمها ونقدسها.

الهوامش
(1)   ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المصنف، دار الفكر، بيروت، 1414هـ ـ1994م. ج3/ص396ـ397.
(2)   ابن أبي شيبة، المصدر نفسه، ج3/ص397، حديث: 1591.
(3)   المصدر نفسه، ج3/ص397
(4)   المصدر نفسه، ج3/ص398.
(5)   المصدر نفسه.
(6)   المصدر نفسه، ج3/ص 398ـ399.
(7)   المصدر نفسه، ج3/ص397.
(8)   المصدر نفسه، ج3/ص398.
(9)   ينظر: الواحدي النيسابوري، أبو الحسن علي بن احمد،  أسباب النزول، دار الكتب العلمية، بيروت، ص272، تفسير سورة هود. والحديث رواه مسلم عن يحيى، ورواه البخاري من طريق يزيد بن زُريع.
(10)   الواحدي النيسابوري، المصدر نفسه، ص273.
(11)   المصدر نفسه، ص273ـ274.
(12)   المصدر نفسه، ص274.
(13)   تمعس منيئة: أي تدبغ جلدا، والمعس: الدلك، والمنيئة: الجلد ما كان في الدباغ.
(14)   مسلم، صحيح مسلم، باب:  ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، كتاب: النكاح، حديث رقم: 1403. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج22/ص 407، وأبو داود في  السنن، رقم الحديث: 2151، والترمذي في السنن، رقم الحديث: 1158، والنسائي في السنن الكبرى، ج8/ص235، وابن حبان في صحيحه، ج2/ ص384، وج12/ص385، والطبراني في المعجم الكبير، ج34/ص50، وأورده في المعجم الأوسط، ج3/ص34، والبيهقي في السنن الكبرى، ج7/ص90،  والدولابي في الكنى والأسماء، ج3/ ص1192، وكثيرون غيرهم.
(15)   لوبون، غوستاف، حضارة العرب، ص338.

122
حلال على أمريكا حرام على غيرها
صالح الطائي
انتقلنا بعد التغيير في 2003 من نظام السوق الموجه (المسيطر عليه) إلى نظام السوق المفتوح بناء على توصيات خارجية إكراهية كان آخرها البنك الدولي وشروطه المجحفة، والمعروف أن نظام السوق يعد عاملا مكملا للأنظمة السياسية والاجتماعية، ولا يرتبط بأفكار معينة أو قوانين تقنية بحد ذاتها، مثلما يرى  الأستاذ بجامعة "ييل" المتخصص في الاقتصاد والسياسة والكاتب والمؤلف "تشارلز  ليندبلوم".
ولإنجاز هذا التوجيه، كان مطلوبا منا الانتقال الفوري من نظام إلى نظام آخر دون النظر إلى خلفية مجتمعنا وثقافته وعلاقته بدول الجوار والحقبة الطويلة التي عاشها في كنف السوق الموجه؛ الذي كان يعرف باسم (القطاع الاشتراكي) المسيطر عليه، والذي تتتحكم به الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية، وقد أحدث هذا التغيير إرباكا يكاد يكون مشابها كليا للإرباك الذي سببه الانتقال الفوري من النظام الدكتاتوري الفردي والحكم المطلق إلى نظام ديمقراطي انتخابي.
المهم اننا وبعد أربعة عشر عاما على التغيير، لم ننجح في بناء قاعدة اقتصادية متزنة لها قدرة السيطرة على السوق وتوجيهه نحو الانفتاح، مما أحدث حالة من الإرباك ادت إلى دخول بضائع ومنتجات رديئة ومخالفة للمواصفات ومضرة بالصحة العامة، أصبحت تنافس المنتج المحلي الذي يفوقها جودة ومطابقة للمواصفات، مما أدى إلى غلق الكثير من المصانع والمعامل والورش، وقضى على عدد لا بأس به من المهن، فضلا عن تسببها بهدر مليارات الدولارات على تلك البضائع الكمالية المستوردة من بلدان مجاورة لا تقابلنا بالمثل ولا تستورد من منتجاتنا شيئا، وتضمر بعضها لنا العداء وتتحكم بمصائرنا ومواردنا المائية وامننا وسلامتنا.
وخلال تلك المدة الطويلة كانت الأسئلة الحائرة التي تدور في عقل مواطننا تبحث عن جواب ولا تجد سوى تبريرات فارغة، وحينما يحرج المسؤول يتعلل بشروط البنك الدولي وطبيعة السياسة الجديدة التي يتبعها البلد، أو بحجة أن الأمريكان الذين يتحكمون بسياسة بلدنا يرفضون أي إجراء علاجي، ولم نجد سعيا جادا لمعالجة هذه المشكلة الكبيرة إلا فيما يخص بعض المنتجات الزراعية حيث يتم وقف الاستيراد بعضها مدة محدودة لتسويق المنتج المحلي، ثم سرعان ما يرفع الحظر.
وفي هذه الأيام تسبب فائض الإنتاج الدولي من الصلب والألمنيوم في خفض مبيعات وأرباح الشركات الأمريكية، التي سارعت باتخاذ إجراء فوري بفرض رسوم جمركية على استيراد هاتين المادتين بنسبة 25% على الصلب و10% على الألمنيوم لحماية منتجها المحلي من المنافسة على أن تعفى كندا والمكسيك من هذا الإجراء، ولم تلتفت إلى مصير علاقتها بدول العالم الأخرى التي تنتج هاتين المادتين وتصدر جزء من إنتاجها إلى أمريكا، وتستورد من أمريكا سلعا بمليارات الدولارات!
أما في العراق فإن أغلب المنتجات العراقية التي تسد بعضها الحاجة المحلية ويفيض منها جزء صالح للتصدير، تشكو منافسة البضائع المستوردة، وزيادة كلفة الانتاج مما تسبب بارتفاع أسعارها قبالة المادة المنتجة، ولا ندري لماذا لا تفرض الحكومة رسوما جمركية على المنتجات المشابهة المستوردة لتحمي المنتج المحلي.
إن الوضع الاقتصادي العراقي يحتاج اليوم إلى معالجة جادة وحقيقية بدل أن تضيع ثروات أجيالنا بسبب تكاسل المتخصصين وإهمال الحكام وتقصيرهم وجشع التجار والجهل الذي يسيطر على شرائح واسعة من شعبنا قبل أن تلعننا الأجيال القادمة لأننا فرطنا بحقوقهم، ولنا بالأنموذج الأمريكي إسوة ما دامت أمريكا تتحكم  بحاضرنا.






123
طريق الخلاص .. اختلاف المناهج ووحدة الهدف
بمناسبة العمليات الإرهابية الأخيرة التي طالت الأقليات الصابئية والمسيحية
في بغداد مؤخرا وهم داخل بيوتهم

صالح الطائي

من خلال دراساتي المعمقة في علم مقارنة الأديان واللاهوت، نمتْ لدي خلال السنوات القليلة الماضية فكرة إنسانية عاقلة، ترى أن الله تعالى للجميع دون استثناء، وان حبه متاح للجميع، ومحبته تسع الجميع، وأن الأديان كلها وبلا استثناء، إلا تلك المغفلة المنغلقة على أفق الفردانية الضيق، والتي ترى أن الله اختارها وفضلها على الآخرين، إنما هي آليات مبتكرة للوصول بالإنسان إلى الهدف نفسه، ولكن بوسائط وطرائق وآليات مختلفة، وانه لا يمكن الجزم النهائي والقاطع بتفضيل منهج منها على الآخر تحت أي ذريعة، لأن أمر ذلك موكول إلى الله تعالى وحده، فهو سبحانه الحاكم المطلق العادل.
ومع مرور الزمن واستمرار البحث في هذا المنهج، وجدت أن هذه الفكرة ليست من ابتكاري، وأنا لست المتفرد بها، بل هي حقيقة موجودة لدى الكثير من المعتقدات مثل: الزرادشتيين والبوذيين والسيخ والمسيحيين وحتى المسلمين، وأن هناك الكثير من أتباع هذه الديانات، اتبعوا هذا المنهج لاعتقادهم أنه من أصل ديانتهم التي يتعبدون بها، لا من ابتكاراتهم الأخلاقية أو العقلية، ولكن طغت على رؤاهم تلك الضوضاء المشتركة في أغلب الأديان؛ والتي أثارها الكهنة وأتباعهم من المؤيدين للنظريات المتطرفة العنصرية؛ مثل نظرية (شعب الله المختار) ونظرية (كلها في النار إلا واحدة)، تلك النظريات التي صادرت روح الوصال الإنساني بعد أن نصَّب البعض أنفسهم (وكلاء) عن الله تعالى، يتكلمون باسمه، ويحكمون على مصائر الناس حسب أهوائهم.
وكنت قد ذكرت وكتبت عن قناعتي هذه في كثير من كتبي ومقالاتي ومحاضراتي، وأطلقت على نظريتي هذه اسم نظرية (الدائرة/ المحيط ـ المركز) حيث شبهت الكون بدائرة تقف على محيطها جميع الأديان، والله تعالى هو المركز، وكل خط ينطلق من نقطة ما من المحيط نحو المركز سيكون مساو لجميع الخطوط الأخرى دون أي تمييز، إلا من حيث السمك وسرعة السير.
ومع غياب هذه الرؤية الإنسانية الناهضة من أدبيات وسلوكيات أغلب تلك الأديان، ولو ظاهرا، كم هو مدهش وجميل أن أجدها واضحة في أبجديات إحدى الديانات الكبيرة، وهي الديانة الهندوسية التي يبلغ عدد معتنقيها أكثر من مليار إنسان
تلك الديانة التي وجدتُ في ثراء تراثها عقيدة ترى "أن الحقيقة واحدة، وإن سماها الحكماء بأسماء مختلفة". وفي رؤاها قناعة مفادها أن الأديان؛ جميع الأديان، ليست أكثر من بدائل وطرق متساوية نسبيا، تتجه جميعها نحو الله تعالى، وان ادعاء أي دين منها احتكار طريق الخلاص لنفسه وتكفير الأديان الأخرى، أو التشكيك بصحة منهجها، مثله مثل من يزعم أن الله تعالى موجود في قلبه وحده دون قلوب البشر الآخرين، ومن يزعم أن الله موجود داخل الغرفة التي يقيم فيها، لا في الغرفة المجاورة الأخرى التي يقيم فيها قوم آخرون!. هذا ما وجدته مرقوما في (الفيدا) (Vedas) بالنص: "الأديان المتنوعة ليست إلا لغات مختلفة كلم الله بها قلب الإنسان". وهي حقيقة جلية فاختلاف طبائع البشر واختلاف ثقافاتهم وتاريخهم وجغرافيتهم هي التي تتحكم بأسلوب حركتهم نحو الله تعالى، وذلك يجب أن يثري التجربة الدينية، وينمي فيها الوازع الإنساني بكل ترفه واريحيته، لا أن ينحو بها إلى القطيعة القمعية مع الآخر. وبالتالي أرى أن أولئك الذين نجحوا في تقسيم البلدان واستنباط الحدود لها سيبقون في منتهى العجز عن تقسيم السماء، وستبقى الطيور والأفكار حرة في اختراق الحدود لأن السماء لا حدود فيها.
إن الحساسية المفرطة التي تتحكم بعلاقات البشر فيما بينهم اليوم، توجب على جميع العقلاء بكل الأديان والمذاهب أن يؤمنوا بهذه النظرية إيمانا صادقا، ويعملوا وفق منطوقها وما أثبتته، لا وفق المناهج الإرهابية الدموية الدخيلة التي تؤمن أن طريق الجنة يمر من على جثث الأمم والأقوام من أتباع المذاهب والأديان الأخرى. ونحن إذا لم نبادر إلى نشر ثقافة التعايش وقبول الآخر في مجتمعاتنا الإنسانية كلها، سنجد أنفسنا؛ مع امتلاكنا لكل أسلحة الدمار الشامل؛ وكم الكراهية الذي يعتمل في الصدور، نسير سريعا نحو الهاوية، نحو العودة إلى الغاب، لنعود جماعات بدائية متفرقة لا رابط بينها، ترتدي جلود الحيوانات، وتصنع آلاتها من الحجارة والعظام!.



124
لكم دين ولي دين ولكن
صالح الطائي
الآن بعد ان قطعت البشرية كل ذلك الطريق الطويل الوعر الملغوم بالمخاطر والمفاجئات والأحزان والأفراح والتجارب والنجاحات والإخفاقات، وشارفت على وصول النهاية، وبعد أن جاهد أكثر من مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، ومن بعدهم ملايين المصلحين، ليهدوا البشرية، وينقذوها من مأزقها الخطير، كان من المفروض ان تقل الفوارق بين البشر، وتتحد المجاميع الإنسانية على رؤى توافقية، ليس شرطا أن تشبه دعوة أصحاب الديانة الإبراهيمية الذين يريدون جمع الديانات الأخيرة الثلاث على دين توافقي واحد، ولكن في الأقل من خلال التخلص من الشد النفسي وآثار التعنصر والتحيز الطائفي ومنهج الإقصاء، ومن ثم القبول بمبدأ التعايش السلمي.
لكن لا المتدينين ولا أصحاب نظرية الدين الإبراهيمي (التوحيدية العالمية) ولا العلمانيين ولا الملحدين ولا اللاأدريين نجحوا في ترسيخ وتوطين ثقافة التعايش، فكل فئة منهم لا زالت تحتفظ بأبعادها العقدية والوجودية والتاريخية وحتى الجغرافية، مع تأكيدها الكبير على صيانة هذه المحاور والحفاظ عليها ولو في الحد الأدنى، ليس في حدود الخصوصية ولكن في حدود التخصيص، بدليل أن هناك اليوم في العالم: 2.2 مليار من اتباع المسيحية، و1.6 مليار من المسلمين، و1.1 مليار من العلمانيين واللادينيين والاأدريين والملحدين، ومليار هندوسي، و394 مليون من أتباع الديانة الشعبية الصينية، و376 من البوذيين، و300 مليون من ديانات عرقية باستثناء بعض الفئات المستقلة و100 مليون من أتباع الديانات الأفريقية التقليدية، و23 مليون من السيخ، و19 مليون من الزوتشية، و15 مليون من الروحانية (تيار ديني)، و15 مليون يهودي، و7 ملايين بهائي و4.2 مليون من الجاينية، و4 مليون من الشنتو، و4 مليون من الكاو دائية، و2.6 مليون من الزرادشتية، و2 مليون من التنريكيوية، وواحد مليون من أتباع  الوثنية الجديدة، و800.000 من أتباع التوحيدية العالمية، و600.000 من أتباع الراستافارية، وكل فئة منها ترى أن الله لها وحدها أو في الأقل أنها حبيبة الله التي فضلها على جميع البشر الآخرين، ومن هنا تنبع مشاكل الكون كلها، وتدفعنا للبحث عن حل لهذه المعضلة التاريخية الخطيرة.
إن العالم لا يحتاج اليوم إلى توحيد الأديان بدين مبتدع واحد، ولا يحتاج من الأديان أن تتنازل بعضها للبعض الآخر، فوجودها بتلك التشكيلة الرائعة هو الذي يعطي للحياة بهجتها وجمالها، وإنما يحتاج إلى أن تؤمن كل النظريات الدينية واللادينية أن العالم سيكون أكثر رونقا وجمالا إذا تخلينا عن فكرة أن الله يعيش في غرفتنا وحدها ولا علاقة له بباقي غرف الكون، فالكون أوسع من ان يسمح لأحد ان يحصر الله تعالى في حدود معرفته، والله تعالى أكبر من جميع التصورات ولا يمكن للأبصار والقلوب ان تدرك كنهه، ولكنها ممكن أن تدرك جزء بسيطا من رحمته إذا ما احترم الإنسان أخاه الإنسان بغض النظر عن دينه وعقيدته وشكله وجنسه وموطنه، فالإنسان هو الإنسان وما من عقيدة شريفة في الكون إلا جاءت لتخدمه ولتؤكد إنسانيته بعيدا عن الإكراهات والتحيزات.


125
الثوار لا يبحثون عن سبب
صالح الطائي
(هي ليست دعوة إلى الثورة، بل دعوة إلى الصحوة)
هناك رواية مشهورة لم ترد في مصدر معتبر، ولا أصل لها في كتابٍ مسندٍ، أو رواية تاريخية، وكل الذين رددوها عبر التاريخ، عجزوا عن إسنادها، جاء فيها: أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض)، قال يوما في خطبة ألقاها على مسامع المسلمين في أيام خلافته: "أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه".
فقام إليه رجل من عامة الناس، وقال: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا"!
فقال عمر: "الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه".
وبغض النظر عن صحة هذا الواقعة من عدمه، فإن مجرد وجود مثل هذا الأثر في تراثنا، يطرح أمرا غاية في الأهمية؛ وهو أنه يحق للمواطن الحر صاحب الحق الذي لا يجد وسيلة أخرى تضمن له استرداد حقوقه؛ أن يستخدم القوة المفرطة  لينتزع عن طريقها وبواسطتها حقه مهما كانت صفة الحاكم، سواء كان سنيا أم شيعيا أم علمانيا، وأنه متى ما وضع هذه الحسابات الفئوية في باله يفقد حقه وحريته.
كما ويعني وجود مثل هذا الأثر في تراثنا أننا وللأسف الشديد:
لم نحفظ شيئا مما تركه الأمس لنا.
ولن ننجز شيئا سيحفظه الغد لنا.
مع أننا أضعنا حاضرنا، بعد ان رضينا بالظلم منذ عام 1963 ولغاية هذه اللحظة دون مسوغ شرعي أو وجه حق.
وعليه لن تستقيم أمورنا، وسيبقى الفاسدون يحكموننا؛ لأننا نكره التقويم أو لا نجيده!.

126
أنثروبولوجيا المشهد العراقي
صالح الطائي
طالما شكوت وضع شعبي، وتألمت لما آلت إليه أموره، حتى ظننت بأننا الشعب الأوحد في الكون وعلى مر التاريخ؛ الذي ابتلاه الله بحكام أغبياء، وفرض عليه أن يعاني من حكامه، والشعب الوحيد الذي صودرت حرياته، ونهبت ثرواته، وتنمر طغاته، وبددت خيراته، وفسد ولاته، وتعددت جنسيات قياداته، لكن الظاهر أن هذا هو الحال الطبيعي لذلك النوع من الشعوب القليلة الفريدة الذكية اللماحة المبدعة؛ التي تجرأت، فكسرت سلاسل الرتابة، وانطلقت خارج حدود المألوف، فورطت نفسها في الاختراع والصناعة والمعرفة والفن والجمال، في وقت كانت البشرية كلها تغط بنوم عميق، كأنه سبات أهل الكهف، يتقلبون، تقرضهم الشمس، يبدون كالأحياء، ولكنهم في حقيقتهم لا حياة فيهم.
قناعتي الجديدة ولدت عند تصفحي الكتاب الثالث من موسوعة قصة الحضارة لول ديورانت؛ الذي تحدث فيه عن الصين، ولدت ساعة وجدت مقطوعة من خطبة ألقاها دوق "جَوَّ" بين يدي الملك "لي وانج" حوالي عام 845 ق.م، يُعَّرف الامبراطور من خلالها كيف يحكم، جاء فيها:
إذا كان الشعراء أحرارا في قرض الشعر.
والناس أحرارا في تمثيل المسرحيات.
والمؤرخون أحرارا في قول الحق.
والوزراء أحرارا في إسداء النص.
والفقراء أحرارا في التذمر من الضرائب.
والطلبة أحرارا في تعلم العلم جهرة.
والعمال أحرارا في مدح مهاراتهم وفي السعي إلى العمل.
والشعب حرا في أن يتحدث عن كل شيء.
والشيوخ أحرارا في تخطئة كل شيء.
فذلك هو الحكم الرشيد!
فأنا حينما سحبت تلك الصفات، وأسقطتها على صفات شعبنا العراقي، وجدت:
أن الشعراء في العراق أحرار في قرض الشعر، ولكن لا هم أجادوا صنعتهم فتفردوا، ولا وجدوا من يطرب لأقوالهم، بعد أن تكاثرت أعدادهم وكثر التناحر بينهم.
والفنانون أحرار في تمثيل المسرحيات طالما أنها لن تجد فرصة لأن يشاهدها الناس المشغولين بهموم دنياهم.
والمؤرخون أحرار في قول الحق؛ الذي يعرفون، دون أن يتعبوا أنفسهم بالبحث عن الحقيقة بين ركام الأكاذيب والدجل والغش.
والوزراء أحرار في إسداء النص، لا خدمة للشعب، وإنما حفاظا على مناصبهم ومكاسبهم وغنائمهم وأحزابهم ومذاهبهم وقومياتهم.
وفقرائنا أحرار في التذمر من الضرائب وخصخصة الكهرباء وارتفاع أسعار الدواء وفقدان مفردات البطاقة التموينية، بل إن حكومتنا العتيدة الرشيدة السديدة التي تقودها العمائم و(الغتر) و(الجراويات) والبراقع والربطات و(البوشيات) تشجعهم على التذمر لكي تطفئ نار غضبهم فلا يتطاير شرره قريبا من كراسيهم.
وطلبتنا أحرار في تعلم العلم جهرة حتى انه سمح لهم باستخدام السماعات والمرسلات وأدوات الغش المتطورة جهارا علنا لكي يحققوا النجاح، طالما أنهم سيضافون إلى طوابير الباحثين عن عمل، ومن وجد منهم عملا وفق نظام العقود الذي سنته الحكومة يبقى عرضة للطرد مع كل تبديل إداري في دائرته التي يعمل فيها، لأن المدير الجديد يجلب أهله وأحبابه وحزبه.
وعمالنا أحرار في مدح مهاراتهم وفي السعي إلى العمل، ولكن لا مهاراتهم مكنتهم من العثور على عمل، ولا سعيهم أوصلهم إلى نتيجة.
وشعبنا حر في أن يتحدث عن كل شيء ولاسيما السياسة، لأن حديثه عنها يزرع بين مكوناته العداء، فينشغلون بأنفسهم وفيما بينهم عن فساد حكومتهم.
وشيوخنا (أعضاء مجلس نوابنا) أحرار في تخطئة كل شيء لأنهم يظنون أن الله خلقهم من سلالة آلهة سومر وبابل ونمرود، وفرض على الناس تبجيلهم والركض خلف مواكبهم وانتظار بعض عطاياهم.
المشكلة أن الصين في عصرها الراهن، حققت أكثر من ثورة ابتداء من ثورة شينخاي 1911 وعصيان أوهان في 10 تشرين الأول 1911، وخلع الإمبراطور "بوئي" في 12 شباط 1912، إلى الثورة التي انطلقت عام 1919، وتكللت تلك الثورات بالثورة البروليتارية الثقافية الكبرى عام 1966؛ التي قادها "ماو تسي تونغ" بدعوته الشباب الذين عُرفوا فيما بعد باسم الحرس الأحمر إلى القيام بانقلاب على الزعامة الشيوعية.
أما نحن العراقيين فكل الثورات ولاسيما منذ عام 1963 فصاعدا كانت سعيا من سياسيين مغامرين  وراء السلطة والمال لا رغبة في خدمة الشعب ونشر الجمال، وقد تكللت بثورة التغيير عام 2003 التي قادها ونفذها الجيش الأمريكي؛ خطة ومنهجا وعددا وعدة وشخوصا. الاختلاف الوحيد بيننا وبين الصين أن ما عرفت بالثورة الثقافية حتى مع كونها تسببت في سفك الكثير من دماء الأبرياء، وخربت الكثير من التراث الصيني إلا أنها هي التي خلقت الصين الحديثة بكل ما تمثله من قوة ونفوذ وسمعة ورهبة، أما ثورة التغيير في عام 2003 في العراق فإنها أسهمت في سفك دماء العراقيين وسرقت أموالهم وجردتهم مما بقي عندهم من زمن القحط الصدامي وعرضت بلدهم إلى التشظي وجعلته بؤرة للاحتقان ومشروعا للمصائب وكأن ما يلوح في الأفق مجرد صور تتهدد وجودنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا. ومعنى هذا أننا إذا ما كنا حريصين على أمن وسلامة بلدنا وأجيالنا، ومستقبل البشرية معنا، فعلينا القيام بثورة شعبية ثقافية نختم بها مراحل معاناتنا، إذ لا سبيل سواها بعد أن فشلت كل السبل التي اتبعناها من قبل! ولا غرابة في ذلك لألسنا أصحاب هوسة: "يا بغداد ثوري .. ثوري .. وخلي (فلان) يلحق نوري"؟


127
قوانيننا نشرعها ونخالفها
صالح الطائي

مع كل خطوة في طريق التمدن والتحضر، كانت القوانين تتقدم خطوات على الحضارة نفسها، لتسبق وتؤسس وتبني وتنظم وتوجه، ولو لم تكن القوانين بهذه السرعة وهذه النمطية غير التقليدية ما كانت لتضبط إيقاع الحضارة، ولكانت الحضارة نفسها قد تعرضت إلى امتحانات قاسية تؤخر سيرورتها. وكنا نحن العراقيين ولا فخر أول من سن القوانين وشرع الشرائع وقدمها إلى العالم كله مرقومة على حجر شريعة حمورابي، كما كنا أول من خالف تلك القوانين وخرج عليها، ربما لأننا في مرحلة ما من تاريخنا قيدنا القانون وجعلناه يبطئ في سيره، فيتخلف عن سير الحضارة التي تفتح باب الاشتهاء على مصراعيه، وهو أوسع أبواب المخالفة، وللأسف لم تكن النتيجة في صالحنا، فقد خسرنا بفعل هذا التناقض فرصتنا وحضارتنا، فتأخرنا عن ركب الإنسانية التي كانت تركض مسرعة، ونحن نتيجة بطرنا كنا نسير خببا مطمئنين، وربما مغرورين!
بعد آلاف السنين، انتبه العالم إلى مخاطر كبوتنا التي وقعنا فيها، فعمل على تجنبها من خلال القوانين التي سنها، والتي أعطاها فسحة من الحركة لتسبق مسير الحضارة بخطوات، وتُعبِّد لها النتوءات الحادة التي قد تعترض سبيلها، وقد نجحوا في ذلك نجاحا باهرا.
ولكننا حتى بعد آلاف السنين لم نتعظ من تجاربنا، ولا زلنا نكرر السقوط في نفس الحفر التي سقط فيها أجدادنا، ولذا تزداد الهوة الفاصلة بيننا وبين الحضارة والشعوب المتحضرة، فيتقدمون ونتأخر، ولاسيما وان مشرعينا  يصوغون قوانيننا على مشتهاهم وذائقتهم ومنافعهم دون النظر إلى ذائقة ومنفعة الأمة، وهذا السوء في الاختيار لم يعمل على تأخير بلداننا فحسب وإنما خلق هوة لا حدود لها بين الطبقات الحاكمة والمنتفعين الذين تخدمهم القوانين، وبين طبقات الشعب الأخرى التي تسحقها القوانين بما يدفعها عنوة إلى مخالفتها وكراهيتها والعمل ضدها، ومع كل خرق لأحد القوانين تزداد الهوة بيننا وبين الحضارة للأسف.
إن عدالة القوانين لا تأتي من حيث التطبيق الشامل لفقراتها بالتساوي على جميع الفئات، فالمساواة لا تعني العدل، بل في التناغم مع كل حالة وفق مقاساتها، حيث يسن القانون من حيث العموم والكلية ليخضع له الجميع دون استثناء، لكن يجب أن تكون ضمن فقراته إشارات إلى حالات استثنائية لها قدرة مقايسة الضغط بالنتيجة، لا إجبار المخالف على ارتكاب مخالفة أخرى ليخلص نفسه من مأزق فيقع في مأزق أخطر منه، وهناك في العالم الكثير من أمثال هذا القانون المطواع منها على سبيل المثال قانون احتساب غرامة مخالفات حدود السرعة المرورية في فلندا، الذي يتضمن فقرات تجيز رفع مبلغ الغرامة المرورية وفق دخل المخالف، فقد تمت صياغة القانون بشكل يُتيح للسلطات فرض الغرامة المالية على شخصين ارتكبا المخالفة نفسها أحدهما فقير الحال والآخر غنيا؛ وفق نسب ترتفع طرديا مع حجم أموال المُخالف، حتى وإن تشابهت المخالفات، لأن المبلغ (س) إذا ما كان سيردع أفراد الطبقة الفقيرة ويمنعهم من مخالفة القانون، فإنه لن يردع أفراد الطبقة الوسطى، وهذا لن يردع طبقة أصحاب رؤوس الأموال. ومن الأمثلة التطبيقية لهذا القانون ان مدير شركة نوكيا الشهيرة، فوجئ في بداية عام 2002 بخطاب مخالفة سرعة يطالبه بتسديد مبلغ (12.5) مليون دولار لقيادته دراجته النارية خارج حدود السرعة القانونية، وقد استعان بمحامين نجحوا في تخفيض الغرامة الى (103) آلاف دولار، قام بدفعها صاغرا! وبالتالي أسهمت هذه الموازنة القيمية في تنفيذ القوانين بمطواعية بالحد من استهتار الطبقات المتنفذة التي لا تهتم لدفع الغرامات البسيطة.
إن هذا بالتأكيد لا يعني أن تكون جميع القوانين بهذا الشكل فبعض القوانين يجب أن تكون قسرية من أجل بناء صالح وصحة وذوق المجتمع، ففي عام 1968 سن قانون في سنغافورا، ينص على تغريم من يرمي النفايات في الأماكن العامة مبلغ ألف دولار، وهو قانون يبدو في ظاهره تعسفيا، لكنه وخلال زمن قصير جدا جعل من سنغافورا واحدا من  أنظف بلدان العالم.
فضلا عن ذلك هناك قوانين تبدو ظاهرا وكأنها تتهدد مستقبل الشباب، وفيها الكثير من الإجحاف والقسوة، ولكنها سنت أساسا للحفاظ على مستقبل الشباب ومستقبل الشعوب ومستقبل البلدان وحماية للمسيرة العلمية، ففي بعض الولايات الهندية ، هنالك قانون أصبح ساريا منذ عام 1997، ينص على معاقبة الطالب الذي يغش في الامتحان بالسجن لمدة قد تصل الى عشرة أعوام، وقد تعلل الذين سنوا هذا القانون بانه جاء لحماية العملية التعليمية ومؤسساتها من الطلبة الغشاشين، الذين قد ينجحون بواسطة الغش ـ وهم غير مؤهلين ـ لتبوء مراكز متقدمة في البلاد، في وقت يسرقون فيه جهد غيرهم ويحرمونهم من الحصول على الفرصة التي يستحقونها.
إن التجربة القاسية المرة التي عشناها منذ عام 1963 ولغاية هذه الساعة، سواء عن طريق سن القوانين الغبية أو التهاون في تطبيق القانون أو السماح لمن نجحوا بواسطة الغش بقيادة البلاد وتسيير أمورها، هو جزء من الأسباب التي حولت بلدنا من بلد نام واعد إلى دولة فاشلة آيلة للسقوط، وهذا يوجب على الجهاز القضائي والقانوني العراقي أن يمارس دوره الحقيقي والأخلاقي في إعادة بناء وترميم قوانيننا التي أكل الدهر عليها وشرب، وألا سنجد انفسنا في ورطة كبيرة تتهدد حياتنا ووجودنا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا.

128
لا صنفا ثالثا في الوجود
صالح الطائي
كوكبُ نور واحد، أكيد هو كوكب نور واحد، تختلف أشعته كطيف قوس قزح جميل، وكلٌ يراها بعين غير عين الآخرين، بعضهم يراها حمراء، وبعضهم يراها صفراء أو زرقاء أو خضراء أو بيضاء، ومع أنهم جميعهم يعرفون أن مصدرها ذلك الكوكب النوراني، إلا أنهم يتغافلون عن هذه الحقيقة، فيدعي من يدعي أن أشعته قدمت إليه من كوكب خاص به دون غيره، وهذا هو الجهل المطبق.
أنا من جانبي، كنت ولا زلت وسأبقى أؤمن يقينا أن جميع تلك الأشعة، مهما اختلفت ألوانها جاءتنا من مصدر واحد، ومن يدعي غير ذلك غارق في الوهم بالتأكيد، وقد شاءت إرادة الله لي أن أطمئن إلى صحة منهجي بالدليل القاطع، فأنا بعد أن صليت صلاة المغرب، جلست برهة لأقرأ في كتاب الله القرآن الكريم بعض الآيات التي تنزع الهم من نفسي، وتدخل السرور إلى قلبي، ثم اتجهت إلى مكان عملي، وفتحت الحاسوب، وقبل أن أبدأ بالعمل، اخترت أن أسمع بعض القراءة من (الكنزاربا) الكتاب المقدس للإخوة الصابئة(*) لا على التعيين بل لمجرد أن أسمع كلاما إلهيا أخر، فشعرت حينها وكأني أستمع إلى ترجمة للقرآن الكريم، وأقول ترجمة لأن القرآن لم ينقل إلى اللغات الأخرى كما هو، وإنما ترجمت معانيه إلى تلك اللغات، ولذا يشعر من يسمعها أن فيها روح القرآن لا كلماته النصية، من هنا شعرت يقينا أني أستمع إلى كلام الرب، فالوصايا والتعليمات والإرشادات هي نفسها، والوعد والوعيد هما نفسيهما، كلها كنت قد قرأتها في القرآن، ووجدتها في الكنزاربا بمعناها وبشكل يصل أحيانا إلى حد التطابق الكلي، فثمة تقاربا يدعو إلى الدهشة، وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} التي تعني أن جميع الأديان السماوية هي من الله تعالى، ولا شك في ذلك، فأسمع إلى ما جاء في التسبيح الأول من الكنزاربا لتتأكد: (لا تأكلوا الدم ولا الميتة ولا المشوه ولا الحامل ولا المرضعة ولا التي أجهضت ولا الجارح ولا الكاسر ولا الذي هاجمه حيوان مفترس وإذا ذبحتم فأذبحوا بسكين من حديد، اطمشوا وأغسلوا وطهروا وأطبخوا وسموا ثم كلوا).
وأسمع إلى ما جاء في سورة المائدة من القرآن الكريم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} وقارن بين القولين ليأتيك اليقين!.
وعن التسمية قبل تناول الأكل جاء في صحيح البخاري: قال رسول اللّه (ص)‏:‏ ‏"‏سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ‏"‏‏. وفي سنن الترمذي: "إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعالى في أوَّلِهِ، فإنْ نَسِيَ أنْ يَذْكُر اسْمَ اللَّهِ تَعالى في أوَّلِهِ فَلْيَقُلْ‏:‏ باسم اللَّهِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ‏"‏.
وعن الذبح، جاء في صحيح مسلم عن النبي(ص): " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
هذا جزء بسيط من مقارنة بسيطة بين جزء من تسبيح واحد في الكنزاربا، وآية واحدة في القرآن الكريم وحديث نبوي واحد، ولو قيض لنا إجراء المقارنة بين الكتابين لوجدنا مئات المواضع التي نلتقي بها مع إخوتنا ويلتقون بها معنا، ولو قيض لنا إجراء المقارنة مع الأديان الأخرى، سنجد الكثير من المشتركات التي تؤكد أن أصل الأديان واحد، وأن كل منا اختار طريقا خاصا ليسير فيه بحثا عن السعادة والخلاص الأبدي. من هنا أقول: إن من يكَّفِر الآخر واهم ومخالف لتعاليم الله الرب العظيم، وأنه سينال جزاء سوء فعله وسيندم كثيرا،
وهنا لا يسعني سوى الإشارة إلى القول الخالد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): "الناس صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق" وأتحدى التكفيريين أن يأتوني بصنف ثالث!. ويا لسعادتي وأنا أجد شبيها لهذا القول في الكنزاربا: (بأسماء الحي العظيم، رأس المحبة إن تشارك إخوتك في محبة ربك)، وهذا هو عين اليقين.


(*) حينما تُرجم الكنزاربا إلى العربية حصلت على نسخة منه من صديقي الدكتور رفعت لازم مشعل، ولكنها للأسف فقدت مع ما فقد من محتويات بيتي الذي هجرت منه، وكم أتمنى اليوم الحصول على نسخة ورقية منه.


129
أدب / لم تكن يوما صديقي
« في: 21:08 23/01/2018  »
لم تكن يوما صديقي

صالح الطائي
لم ألتقيك في طريق ولا في أنقاض مدينة خربة، ولم أر ظلك في صحراء التيه، ولا في بحر هائج، وإنما انشطرتَ عني في لحظة وعي، ومن لحظتها أصبحت لصيق مشيمتي، حتى أنك صرخت قبلي، وضحكتَ من قلبي، فتضاريس وجهك هي تضاريس روحي.
هكذا أتخيلك كلما ألتقيك، لأني أشعر وكأني ألتقي نفسي، وأراك فيَّ، وأراني فيك، لكنك خيبت آمالي، فأبكيتني منك، وأبكيتني عليك! فما أصعب ان يفقد المرء نفسه.
لم تكن يوما صديقي
كنت روحي ووجودي وطريقي
كنت وجداني وعمري ورفيقي
كنت عذبا منعشا
في سكونك يقف العمر خجولا
وإذا تمشي مشا
إنما في الروح انت كهواء منعشا
ثم يا لب حياتي
صرت للقلب رشا (*)
يا عذولا غار مني
ثم بالحب وشى
فأحال العمر سجنا
وظلاما
أنر العتمة حولي
فطريقي موحشا
انت يا كل كياني
تجري في نسغ سواقٍ
قد تجرعتَ شهيقا
صار نارا في الحشا
كان رقراقا وعذبا
فيه أنت الغبشا(**)

(*) الرشا: شجر يسمو فوق القامة، ورقُه كورق الخِروع، لا يُثمر ولا يؤْكل. والرشا: عشبة يدبغ بها.
(**) غبش الشيء: كدر لونه. غبش فلانا: خدعه وغشه.

130
أدب / أبحث عن نفسي في نفسي
« في: 21:12 18/01/2018  »
أبحث عن نفسي في نفسي
صالح الطائي

سأحملُ بقايا الروح
ما بقي في قلبي ؛
لأرحلَ إلى حيث لا أنا في الوجود
لم أعد بحاجةٍ سوى أنْ اتأبطَ وجعَ القلب
فأجعل آلمي عكَّازاً 
وحسراتي عناق ... ,
أبحث في طرقاتِ المدنِ
 عن نفسي في نفسي
عن يومي وغدي
عن بقايا من رتَقِ الأمسِ
عن زمنٍ ولى ، مُذ نوحٍ كادتْ شرائعهُ تغرقَ ...
شارفتُ ذواتِ الراياتِ الحُمرِ
 وتمنَّيتُ أنْ أشهدَ  تدوير مدينتنا حين اختُطَّتْ بيد العرَّافين
وكيف لي أجد وسْط التبنِ ما فقدَ الخرازُ ...
وما نعلمُ وما لا نعلم عن تاريخ معاركنا الشرسة
 وما نتجتْ من شؤمٍ أحمر
يختلسُ الليل ؛ ليخلِّفَ أوكارَ الحقدِ     
ومازالَ ينتظرُ عودَ ثقاب 
ليطفئ رغباته في العيش إلى أبدِ الأزمان .
تُحدِّثُني نفسي قائلةً :
بدلاً أنْ تبقى في أدراج الخيبةِ كالطاووس
أو تحملَ غربالا مصنوعاً من لا شيء .
يريدُ حَجْبَ ضوءِ الشمسِ
عن وردةِ ودٍّ قد يبستْ منذُ قرون
لكنْ لم تتفرَّط !
فالأرض الأمُّ
وما ثكلتْ حسراتٌ توجعني حَسرات
فصوتي دواتي
 وشدوي غواتي
لكن هل تسمح لي الأمُّ أنْ أضحكَ من سأمي
يمكنني أنْ أضحكَ ,
لكنِّي أخجل من أيِّ امرأةٍ ثكلتْ زوجاً أو ابناً
فليس كوجعِ امرأةٍ فقدت أحلى عنقودٍ وضياء
وهي في أطراف العمر
لأنَّ الشيبةَ لا يؤنِسُها إلَّا حبيب ...
وها عمري قد أغراه الشيب , فزاحمَ قلبي حزناً
وصادر كلَّ نهارٍ حلَّ بروحي ...
فلم يبقَ في الدنيا سوى
سواد قلوبٍ صارتْ تحكمنا
 فبئس العمر حين يعيش في ظلمات
الأحزان , يعلوه نحيبْ .


131
هاجس الخوف من المخدرات

صالح الطائي

كنت قد نشرت هذا الموضوع يوم السبت، 28 أبريل 2012 في الصحف الورقية والمواقع الاجتماعية، وقد عثرت عليه اليوم عن طريق المصادفة، تزامنا مع عثور القوات الأمنية على كميات كبيرة من المخدرات في طوزخورماتو والديوانية والبصرة وغيرها من المدن العراقية، فأدركت أن الحكومات المتعاقبة لو أخذت بما كتبناه منذ التغيير ولغاية هذا اليوم ما كنا لنصل إلى ما نحن عليه.
قد لا يكون خافيا على أحد أن المخدرات تجارة وتداولاً واستخداماً، باتت من المسلمات البديهية في غالبية دول العالم، لدرجة أنها أصبحت من ضروريات الحياة، فدخلت ضمن وصفات الأطباء العلاجية في بعض البلدان الغربية، يصفونها لبعض المرضى النفسيين ولبعض حالات الكآبة الشديدة وغيرها، وبات أمر الحصول عليها لا يحتاج إلى كثير عناء، فضلا عن تدني أسعارها نسبة الى أسعارها القديمة بسبب الوفرة والانتشار وزيادة المعروض وتنوعه.
وفي بلداننا العربية والإسلامية، ربما بسبب الضغط المجتمعي والديني والأسري والقوانين المشددة التي تصل إلى حد الإعدام، تبدو المخدرات غائبة عن الحياة العامة والمشهد الحياتي اليومي، مع أن انتشارها والتعامل بها لا يقل مستوى عن باقي البلدان، ولكن حركتها تتفاوت من بلد إلى آخر، فتنتشر عادة في البلدان الفقيرة والغنية بشكل كبير وفي البلدان المتوسطة بشكل ملحوظ. المواطن المسحوق في البلدان الفقيرة يعرب من ضغوط الحياة باستخدام المخدرات، والمواطن في البلدان الغنية يدفعه البطر إلى تناولها.
وفي العراق كانت المخدرات فاشية قبل التغيير في 2003 وبشكل طاغ، ولكن التعامل بها كان يتم بسرية فائقة لأن القانون العراقي، يحكم بالإعدام على التاجر والناقل والبائع والمستهلك والحائز، مهما كانت الكمية التي يتم العثور عليها، ومع أن الإحصائيات الخاصة، أشارت إلى العدد الكبير من الذين ألقي القبض عليهم، والكميات الكبيرة التي عثرت عليها القوات الأمنية، إلا أن مجرد الحديث عن ذلك كان من الممنوعات التي يشدد عليها النظام، لكي لا تتلوث سمعته في المحافل العربية والإسلامية بما لا يتناسب مع (الحملة الإيمانية) التي كان يروج لها إعلاميا ويعمل بخلافها على أرض الواقع.
أما بعد التغيير ولأسباب كثيرة غاية في الأهمية منها: دخول تنظيم القاعدة الإرهابي، وضعف الرقابة الأمنية بسبب انشغال قوات الأمن في متابعة العمليات الإرهابية وحماية المواطنين من شر الإرهاب، فضلا عن غياب منظومة الاستخبارات، وضعف الرقابة الأسرية والمدرسية، وانتشار ظاهرة البطالة، وضعف الوازع الديني، وفتح الحدود بسبب غياب قوات الحدود، وارتفاع عدد المناطق الساخنة التي يتعذر على قوات الجيش والشرطة الدخول إليها، فضلا عن الشريط الحدودي الطويل الذي يمتد في مناطق يتعذر على القوات الأمنية الوصول إليها، مما سمح لتنظيم القاعدة في تحويل الأراضي الصالحة للزراعة فيها إلى مزارع لأصناف من المخدرات لتمويل عملياته، قبل أن تحرر القوات الأمنية تلك المناطق، فضلا عن ارتفاع نسبة تآمر البلدان المحيطة بالعراق، وتفشي حالة الفوضى الخلاقة التي أسهم المحتل الأمريكي في نشرها بين أطياف المجتمع العراقي، وأخيرا وليس آخرا حالة العداء الطائفي الدموي التي أباحت استخدام كل ما يلحق الأذى بالآخر، حتى ولو كان منافيا للشريعة، أسهمت جميعها في اتخاذ الأراضي العراقية موطنا لزراعة وبيع المخدرات، وممر عبور لإيصالها إلى بعض البلدان المجاورة، فتحولت من قضية لا يجوز التحدث عنها إلا همسا إلى ظاهرة علنية معروفة ومشخصة منتشرة بين الشباب والأطفال ولاسيما في الأحياء الفقيرة، وبشكل إدمان فعلي في أعلى مراحله، مما استوجب من الجهات الرقابية والتنفيذية ومنها القوات الأمنية والدوائر الصحية أن تولي اهتمامها الكبير للظاهرة بدرجة لا تقل عن درجة اهتمامها بالإرهاب، ومع تفاوت درجات الاهتمام بين محافظة وأخرى، كانت مديرية شرطة محافظة واسط من الجهات السباقة في هذا المجال، فقامت بعمل استباقي يمنع حدوث المشكلة أو تحولها إلى ظاهرة تخريبية، حيث قامت بتشكيل خلية متابعة تأخذ على عاتقها متابعة كل ما له علاقة بالمخدرات ومروجيها ومتناوليها، وقامت بالتنسيق مع صحة المحافظة لمتابعة الحالات التي تدخل المستشفيات، ومراقبة الأوكار والمقاهي والصيدليات غير المجازة والمروجين الآخرين، وبادر إلى عقد ندوات توجيهية بالتعاون مع مديرية الصحة وجامعة واسط وبعض المؤسسات الدينية مثل مؤسسة السيدة زينب للبحث عن حلول لهذه الظاهرة الطارئة على المجتمع الواسطي، والبحث عن طرق الوقاية منها برغم قلة عدد المتورطين في مثل هذه الأعمال في المحافظة. وقد أثمر هذا الجهد الاستباقي الرائع في الحد من انتشار الظاهرة التي لو لم تجد من يعالجها بهذا الشكل لكانت قد وجدت الأرض الخصبة للانتشار، وتحولت إلى خطر داهم تصعب معالجته والتخلص منه. حدث هذا بخلاف مواقف حكومات محلية أخرى استهانت بالأمر ولم تأخذه على محمل الجد إلى أن تحول إلى مشكلة كبيرة يصعب الإلمام بكل أطرافها.
لكن مع مرور الأيام، اصاب الخمول جميع الحكومات المحلية مما سمح لظاهرة المخدرات أن تتحول إلى تجارة رائجة تتحكم بحركتها مافيات كبيرة وخطيرة إلى درجة أن بعض الكميات التي عثرت عليها القوات الأمنية لا يمكن أن تمر عبر الحدود أو عبر السيطرات الأمنية دون وجود تعاون بين الطرفين.
واجد أن من واجبات حكومة المركز والحكومات المحلية أن تولي هذه الظاهرة من الأهمية ما يتناسب مع درجة تخريبها وبشكل لا يقل عن درجة الاهتمام التي أولتها لمكافحة الإرهاب، فمسؤولية حماية الشباب تقع على عاتق جميع الشرفاء.
أضافة تعليق أخفاء الن

132
أعتقد أن ثمة فرصة فلا تضيعوها
صالح الطائي
أعتقد أن الوقت قد حان لتفتح بغداد يديها الحنونتين الطيبتين النديتين العذبتين الكريمتين، لتستقبل أولادها المقيمون في الغربة، فقد أكل الشوق قلوبهم، وآلم قلوبنا الحنين إلى رؤيتهم وسماعهم، فالمسامح كريم، وبغداد أم الكرم وسيدة السماح، وهي التي لم تفرط بالغرباء واحتضنت البعداء!.
أعتقد أن بغداد يجب أن تفتح صفحة جديدة بيضاء خالية من الحك والشطب، وبلا حدود أو قيود أو شروط، فتنسى ما مضى، وتبدأ بتقييم المواقف منذ اللحظة التي انتصرنا بها على داعش وعلى الطائفية وتمكنا من الحفاظ على وحدة البلاد، فما حدث بالأمس، ذهب مع الأمس بحلوه ومره، وكان ثمنه باهضا!.
اعتقد أننا خسرنا الكثير من الرموز التي كنا نحبها، والتي تمثل خسارتها الشيء الكثير لنا، لمجرد أن لها موقفا مع النظام البائد، دفعتها إليه الحاجة أو الخوف أو المماهاة، بدل أن نمجدها ونحتفل بوجودها بيننا ونكرمها ونتحدث عن عطائها وتاريخها ونتاجها، ومرشحون لخسارة رموز كثيرة وكبيرة أخرى لها في قلوبنا مكانة كبيرة، لن يمحها التقادم أبدا!..
أعتقد ان دمعة العراقي المقيم في الغربة، والمشتاق إلى رؤية العراق وأهل العراق وشوارع العراق وأسواق العراق وأنهار العراق وحال العراق؛ لا تقل كرما عن نهري دجلة والفرات، لأنها لو لم تخرج من قلب طيب خال من الغل، ما كانت لتترك في قلوبنا أثرا رغم بعد المسافات!..
اعتقد اننا لن نشعر بطعم النصر، إلا إذا ما عادوا إلينا وشاركونا الفرح، وها نحن نقف على أعتاب عام جديد وعهد جديد، فلنتخذ ذلك مطية، ونسافر على ظهرها لنرجوهم ونتوسل بهم أن يعودوا إلى بغداد، فقد اشتاقت جذورهم إلى زلال مائها وعذب هوائها وبسمة وجوه أهلها وطيبة سكانها.
أعتقد أننا إذا لم نبادر من الآن وفورا في إعادة ترتيب أولياتنا ومن ضمنها الترحيب بالمغتربين؛ الذين لم تتلوث أيديهم بدماء الأبرياء، سوف نخسر فرصة ثمينة، تترك ثيمة ظاهرة في تاريخنا الحديث، تمثل ثغره ستبقى منبعا للكراهية والبغضاء، فثمة قلوب هناك تهفو إلى بغداد، وثمة عيون هنا تترقب عودتهم، وثمة بغداد ترغب أن يشترك الجميع بفرحها

133
المنبر الحر / أنا والموت صديقان
« في: 20:30 20/12/2017  »
أنا والموت صديقان
صالح الطائي
(من وحي ذكريات العمر)
منذ أن بلغت مرحلة الوعي الأولى، وأدركت أن هناك في الحياة معركة بين الخير والشر، وأن النظم السياسية هي مصدر الشر في العالم كله على الإطلاق، وان الإنسان كان ليحيى بنعيم سرمدي لولا الحكام؛ منذ ذلك الوقت المبكر والموت يطاردني، ينهكني، يترصدني في انحناءات طريقي ختلا، يقتنص الفرص ليوقع بي، يقدم لي الإغراءات لأدخل قفصه طوعا، يحث الآخرين على معاداتي والابتعاد عني لينفرد بي، يزرع الشكوك حولي ليبعد الناس عني ليلتهمني.
ومنذ مراحل وعيي الأولى كان الموت قد اصطاداني أكثر من مرة، بعد أن ركض خلفي، وقد قميصي من دبر، فانكشف ظهري، وتمسك بالخرقة ليريها للملأ معلنا عن ساعة وفاتي، ولكني كنت أفاجئه بالظهور، لأعلن عن وجودي بتحد كان يغيض الحكام. صحيح أن بعض أصدقائي ومعارفي لم يتعرفوا علي للوهلة الأولى بسبب الهزال الذي أصابني والتعب الذي ارتسم على محياي، ولكنهم حينما دققوا النظر بي عرفوني، وتأكدوا بأني لا زلت أكابر، ولا زلت متمسكا بالحياة رغم أنف الجبارين، ولم أدعها تفلت مني!.
ومنذ مراحل وعيي الأولى، مررت بتجارب قاسية كثيرة، بعضها قليل الأثر خامل الذكر، فلم أعرها اهتمامي، ونسيتها مع ما نسيت عبر عمري الطويل، وبعضها وضعني في حلبة مصارعة مع الموت وجها لوجه، وزوده بجميع انواع الأسلحة، وجردني من كل شيء، وأذكر منها:
اعتقلت للمرة الأولى في مدينة اليوسفية وأنا في مرحلة الدراسة الاعدادية لأني كنت أزور صديق دراسة في بستانهم، ثم تبين أنه وجميع أفراد عائلته شيوعيين، وكان رجال الأمن يراقبهم باستمرار، وبعد التحقيق المعمق، وأؤكد هنا على كلمة معمق، لم تثبت إدانتي، فأطلق سراحي.
وحينما أنهيت دراستي الجامعية، ساقوني لأداء الخدمة العسكرية، واشتركت رغما عن أنفي في حرب تشرين في سوريا، وكاد الموت أن يصطادني ولكني نجوت.
وحينما رجعت إلى الحياة العامة، اعتقلت للمرة الثانية بحجة أني تطاولت على مدينة الرئيس، وبعد التي والتيا الطويلة، اطلق سراحي.
بعد هذه التجربة، اعتقلت للمرة الثالثة وأودعت السجن الانفرادي مدة طويلة، ثم أطلق سراحي بعد أشهر صعبة نتيجة صمودي وعدم اعترافي على أحد.
بعد أن نجوت من بين أيديهم، أصبحت في مرمى نيرانهم، ووضعوني تحت المراقبة، ولم يوقف ذلك الحصار إلا دعوتي إلى العسكرية للاشتراك في الحرب العراقية الإيرانية، وبالرغم من بقائي في الجبهات سبع سنوات وستة أشهر وواحد وعشرون يوما طالما وضعتني الظروف في عين الموت ولاسيما وأنا تهنا عدة مرات ودخلنا حقول الألغام أو أصبحنا في مرمى الجانب الآخر، إلا أني نجوت من الموت، ربما لأني لم احاول قتل أحد مطلقا، ولم أرم إطلاقة واحدة نحو هدف.
ثم بعد التغيير في 2003 اعتقدت أن تلك السنوات السود قد انصرمت، وحل الأمان، لأجد نفسي بعد زمن يسير في مأزق الفوضى، فنجوت مرة بشكل إعجازي من الموت بانفجار سيارة مفخخة، فجرت على متطوعين يقدمون أوراقهم في حي الجامعة ببغداد.
وبعد مدة ليست بالطويلة، نجوت من الموت المحقق بانفجار عبوة ناسفة في شارع المطار الدولي.
وبعدها، اختطفت على يد الإرهابيين، ولبثت سجينا بين أيديهم ثلاثة عشر يوما، ساموني خلالها سوء العذاب، ووضعوا المنجل على رقبتي أكثر من مرة، ثم عدلوا عن رأيهم، وحينما اتخذوا القرار النهائي بتصفيتي، نزلت حريتي من السماء، ونجوت مرة أخرى.
وبعدها هجرت قسرا من بيتي لأرحل إلى محافظة جديدة ومدينة جديدة وحياة جديدة، وأنا الآن بعد أن تجاوزت السادسة والستين من عمري لم أعد أدري إن كان القدر قد خبأ لي تجارب مريرة أخرى مثل تلك التي اختبرتها، أم أنه اكتفى بما قدم، وينتظر الأمر النهائي بالرحيل.
أما بعد ذلك .. بعد الرحيل الأبدي، فحياة غريبة لا نعرف كنهها ونوع المخاطر فيها، إذ يرجع أمرها إلى الله تعالى، وهو أحكم الحاكمين، وارحم الراحمين.

134
صديقي الملحد تعال نتحاور
صالح الطائي
بعض أصدقائي الملحدين لهم آراء غريبة في الدين والرسل والأنبياء نتيجة تأثرهم غالبا بنظريات فلسفية غربية عقيمة لا تقوم على أساس متينٍ قابلٍ للتصديق، ففيهم من يدعي أن محمدا، يقصد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما هو مجرد رجل مصلح ذكي، سخَّر موهبته لكسب الناس ونيل رضاهم، ومن هنا ولد الإسلام، بعدما انتمى إليه، وتبعه أهله واقرباؤه وأصدقاؤه، فتأثر بهم الآخرون من السذج والبسطاء والجهلاء والهمج الرعاع والعبيد والموالي، أما واقعا فبرأيهم لا يوجد وحي مُنزل، ولا رسالةٍ نزلت من السماء، ولا نبيٍ بين الأنبياء الآخرين اسمه (محمد). هكذا يعتقدون، ويفكرون، ويحاولون إقناع الآخرين برؤاهم واعتقادهم، ويُشْكِلونَ بل يعيبون علينا إيماننا بالرسل والرسالات السماوية، ويلوموننا على ذلك!.
صديقي العتيد أنا احترم رأيك، ولكن هذا لا يعني أني اعتقد بصحته، أو أوافقك عليه؛ لأسباب معقولة لا تحصى، كلها لا تصب في صالحك ولا في صالح رأيك، ولذا لن أطيل عليك الحديث، ولكني أقول لك للتذكير لا أكثر: إن العالم قبل 1400 عام لم يكن مثلما هو عليه اليوم، وبالمختصر المفيد، كان متخلفا 1400 عام بالضبط عن عصرنا المثقف المتحضر الراهن، وهذه حقيقة لابد وأنك تتفق معي بشأنها، فهي غير قابلة للنقاش، ليس من باب دكتاتورية الرأي، ولكن لأنها من المسلمات البديهية المعروفة. والإسلام كدين سماوي، ولد في ذلك العصر المتأخر، وبين أولئك الناس الذين كانوا يعيشون في عصر الجاهلية. ولد في بيئة صحراوية لا تشجع حتى على انتشار الأفكار البسيطة بله رسالة دينية معقدة المناهج، ولم يكن هناك يومها، لا انترنيت، ولا قنوات فضائية، ولا هواتف، ولا وكالات أنباء، ولا صحف، ولا منتديات، ولا منظمات، ولا مؤسسات، ولا أي وسيلة اتصال أو وسيلة  إعلام جمعي أخرى؛ باستثناء المقابلة والمواجهة الشخصية المباشرة، ومع ذلك، نجح، واتسع، وانتشر، ودام وتطور، ليصبح عدد المسلمين اليوم أكثر من مليار ونصف المليار، ويصبح دين الإسلام واحدا من أكبر الديانات السماوية المعروفة، فكيف تسنى لذكاء هذا الرجل الصحراوي القادم من ذلك المجتمع الجاهلي ـ مهما كان خارقا ـ أن يصمد أمام التقدم، والتحضر، والتبدل اللحضوي، والتغيير المتسارع، والنمو الفكري المطرد، والذكاء الصناعي المُلْهِم، والخطط الاستراتيجية العظمى؛ كل هذه السنين؟.
طيب إذا لم تؤمن بذلك، أو كان لديك اعتراض على مضمونه، دعني أتوجه إليك بسؤال بسيط آخر: لو كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي ابتكر العقيدة الإسلامية، وكان الأنبياء الذين سبقوه قد ابتكروا رسالاتهم ـ مع أن حديثكم ينصب أساسا على دين الإسلام ونبيه وحدهما دون الإشارة إلى من سبقه من الأنبياء ـ  فلماذا لم يظهر بين البشر أجمعين من يبتكر عقيدة جديدة مثل الإسلام، أو أفضل منه؟ ولاسيما وأن الفرصة متاحة اليوم دون أي وجه مقارنة مع ما كانت عليه بالأمس!
ثم ألا ترى يا صديقي العتيد أن استثناء الأنبياء؛ الذين سبقوا النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا القول، وهذا الاتهام الخطير، يؤكد دون أدنى شك أن أتباعهم هم الذين نشروا هذه الآراء المنحرفة، فتبعهم بعض المأجورين الذين يبحثون عن ثمن لما يقدمون، وبعض من لم ينضجوا فكريا بعد من الشباب المغرورين، أو المغرر بهم، وبعض من اعتنقوا أحزابا لا تؤمن بوجود الرب، أو ترى أن الرب قد مات؟ وانت يا صديقي العتيد مهما تعللت وتحججت لست أكثر من واحدٍ من بين هذه النماذج الثلاث، وثق أنك لا تملك دليلا مقنعا يثبت غير ذلك.
وفي الختام تقبل محبتي لك، ليس لأنك تحمل هذه الأفكار التي أراها غريبة، وإنما لأنك إنسان، وانا يا صديقي العتيد أحترم الإنسان لإنسانيته لا أكثر. لكن اليس من العدل والانصاف والإنسانية أن تحترم رؤيتي ورأيي، وأن تكف عن التطاول على ما أؤمن به في الأقل احتراما لشخصي لأني أحترمك؟

135
أدب / يا أغلى مُستَقرّ
« في: 20:20 14/12/2017  »
يا أغلى مُستَقرّ
صالح الطائي

سلامٌ على أرض العراق
وأهلهِ
ودجلتيهِ
والشجرِ,
يرقى بزهوكَ
كلُّ من عَرُقتْ أصائلهُ
وطافَ حول صرحكَ
واعتمرْ
يا أيُّها الملآن كبراً
أيُّها البيت الأغرْ
لا زال أهلوك الكرام
يدفعون الضرَّ عنك
ولا فخرْ
أنتَ العراق
وفيكَ
أغلى مُستَقَرْ.

136
صوفية المعنى في قصيدة النثر
قراءة في نتائج جلسة توقيع مجموعة طقوس صوفية للشاعر الواسطي زهير البدري
صالح الطائي
منذ أن تم افتتاح (مقهى دجلة الثقافي) في محافظة واسط منذ أكثر من أسبوعين على غرار المقاهي الثقافية الموجودة في البلدان العربية والعالم؛ ونحن ننتظر النشاط الثقافي لهذا المقهى الوحيد من نوعه في المحافظة، واليوم 1/12/2017 كانت المفاجأة بتنظيم أول حفل توقيع كتاب، فكانت الجلسة مميزة بكل شيء لأنها عقدت بحضور نخبة مختارة من المثقفين الواسطيين الذين اجتمعوا على رائحة القهوة التي تعطر القاعة بأريجها لتكون فاتحة خير للثقافة الواسطية.
إن حفل التوقيع هذا نظم بمناسبة صدور مجموعة (طقوس صوفية) للأديب الواسطي زهير البدري. والمعروف أن الأستاذ البدري يكتب في السهل الممتنع، والسهل الممتنع إما أن يكون سهل الظاهر صعب الباطن أو العكس. أما أصل التسمية فمكون من كلمتين، الأولى: السهل، وهي الأرض المنبسطة وكل شيء يميل إلى اللين والانبساط والنعومة والبعد عن التعقيد، وبالمجمل هو الاسترسال والانبساط الخالي من التكلف. أما الممتنع فمعناه مأخوذ من الممانعة وربما يعني حصول الشيء دون تعقيد، وبالتالي تجتمع المفردتان لتعطي لقصيدة النثر صورتها.
مكن الاشتغال على السهل الممتنع الشعراء من الولوج إلى عالم (قصيدة النثر) التي لا زال الرأي فيها مختلفا بين مؤيد ومعارض. وقصيدة النثر جنس أدبي ظهر في ساحة الأدب العربي منذ زمن قصير كنوع من التقليد للمنهج الغربي الذي هو الآخر لا يملك تاريخا بعيدا، لكنه حضي بمكانة مرموقة لدى نقادهم وروادهم بعد ان نجح في بناء مقوماته البنائية ابتداء من الجرس الموسيقي إلى الصورة الشعرية المتكاملة إلى النظام المقطعي والتكيف وأخيرا الإيجاز والسلاسة.
 لكن هذا الجنس الأدبي لم يحاول تطوير نفسه ضمن حدود المساحة التي اختارها لنفسه لتتضح حدوده الطبيعية التي يشار إليها بالبنان، فهو حتى مع تشخيص وجود الاختلاف بين قصيدته النثرية وقصيدة الشعر الحر، لا زال الذين امتهنوه من الأدباء يحاولون الخروج من قولبة قصائده ليكتبوا وفق نظام الأسطر المنفصلة التي تبدو أكثر قربا لقصيدة الشعر الحر منها إلى قصيدة النثر، والمجموعة التي احتفينا اليوم بها تكاد بعض قصائدها أن تكون من هذا النمط بالتحديد، أي التزاوج والمزج بين المنهجين. واقعا أنا لا أجد غضاضة في ذلك، بل أجد ان الحلاوة والطلاوة التي وجدتها في مجموعة (طقوس صوفية) حينما قرأتها نابعة من هذا الخلط بالذات، وهو الذي أعطاها ذلك التناغم الشفاف لتخرج من البحث عن فخامة الكلمة إلى رونق المعنى بكلمات بسيطة خالية من التعقيد والغرابة.
إن مجموعة طقوس صوفية هي المجموعة الثانية التي أصدرها الأديب زهير البدري هذا العام، وبرأيي المتواضع اجدها تشكل إضافة للمشهد الثقافي الواسطي، بل والمشهد الثقافي العربي، وهي تؤشر إلى ولادة جيل من الشعراء المجددين.


137
قصص تستفز إنسانيتنا
صالح الطائي
تعاني الكثير من المشاريع البنائية والحضارية في العراق من التلكؤ بسبب العوز المالي، في الوقت الذي لا تجد فيه دعما من الدولة بسبب الأزمة المالية التي تمر بها، ولا من عامة الناس لأسباب كثيرة، أهمها قلة الشعور الجمعي بالمسؤولية، وقلة الوعي المعرفي بأهمية مساعدة الآخرين، وضعف المشاركة في النشاطات واللاأبالية المقيتة التي تعود عليها شعبنا!.
من هنا لا تجد ولا تسمع عن أحد من الأغنياء العراقيين والرأسماليين والمتخمين والطبقات الراقية وكبار الموظفين والمسؤولين أنه تبرع بمبلغ من المال لدعم هذا المشروع او ذلك انشاط، حتى مع وجود عشرات الآيات والأحاديث الشريفة التي تدعو إلى ممارسة الانفاق على مثل هذه المشاريع، مقابل حصول المنفق على عشرة أضعاف ما انفق يوم القيامة. لكن لا الدعوة الدينية، ولا إغراء يوم القيامة، ولا حتى إغراء التشبه بالمدنية، ولا شعور المشاركة، حرك لهم ساكنا، لتبقى حالة الفوضى على وضعها، لا تجد من يحركها إلى الأمام لتهدئتها، لأن الراغب بالتغيير لا يملك مالا يعينه على تنفيذ مشروعه الذي يحلم به. وأنا هنا لا أنكر وجود بعض المتصيدين الذين يحملون شعارات بنائية ولكنهم يعملون لمصالحهم، ولا أنكر أثرهم على زرع روح الممانعة والرفض لدى الناس التي تتأهب للعطاء وهي تعلم ان عطائها لن يذهب إلى ما خطط له.
المؤسف أنك تجد هذا حتى مع انتقاد أغلب تلك الطبقات لما يحدث في العراق، وشكواهم المتكررة من قلة المشاريع النهضوية في العراق، دون ان يلوموا أنفسهم على تقصيرهم. أقول هذا لأن أكثر من (12) ألف شخص تبرعوا بأكثر من (350) مليون دينار عراقي خلال أسبوع واحد لشخص أنفق مجرد (25) ألف دينار عراقي فقط لمساعدة سيدة وقعت في ورطة بسيطة. وهي قصة حقيقية أوردتها وكالة (رويترز) الاخبارية، عن رجل مشرد بلا مأوى، أنفق آخر 20 دولارًا يملكها لمساعدة امرأة من (نيوجيرسي) نفد الوقود من سيارتها في طريقها ليلا إلى بيتها.. وكانت (كيت ماكلور) (27 عامًا) قد دشنت صفحة على موقع (جو فاند مي دوت كوم) بهدف الوصول لـ(10) آلاف دولار تجمعها لهذا الرجل النبيل (بوبيت) وهو أحد أفراد مشاة البحرية سابقا، ومسعف، وعمره 34 عامًا، ظل بلا مأوى لمدة عام تقريبًا.
وقالت (ماكلور): إنها كانت تقود سيارتها ليلا على طريق بين ولايتين خلال الشهر الماضي عندما نفد البنزين من سيارتها. بالقرب من (بوبيت) الذي كان يجلس على جانب الطريق مع علامة تسول، فطلب منها أن تعود إلى سيارتها، وتجلس فيها، وتغلق أبوابها وتنتظره، ثم تركها وذهب، ليعود إليها بعد دقائق قليلة بعبوة بنزين، أنفق عليها آخر (20) دولارًا كانت معه، هي آخر كل ما يملكه، ليمكنها من العودة إلى منزلها وأسرتها سالمة.
ونظرا لهذا الموقف الإنساني النبيل، قرّرت هي وزوجها البدء بحملة لجمع أموال لإيجار بيت، وثمن سيارة، ونفقات أخرى للرجل لحين تمكنه من العثور على وظيفة. فشارك في التبرع أكثر من 12 ألف شخص خلال أسبوع واحد جمعوا (348094) دولارًا، ومازال الرقم يتزايد باستمرار.
الغريب أن يحدث هذا في العالم الذي نسميه (دول الكفر) في الوقت الذي نجد فيه آلافا من امثال (بوبيت) ومن هم أفضل منه مثل عوائل الشهداء التي قدمت فلذات أكبادها لتحمي العراق من شرور الدواعش، وهو ثمن غال لحفظ الشعب والوطن، والمقاتلين الأبطال الذي أصابهم العوق أثناء تصديهم لهجمة التكفير الداعشية، وهو ثمن لا يمكن تعويضه، نجدهم في منتهى البؤس بسبب العوز والحاجة ولا من يلتفت إليهم ويمد لهم يد العون والمساعدة، ومن يخالف القاعدة يسعى لأن تنشر الصحف والفضائيات صورته ليحصل من خلالها على الدعم والتأييد إذا ما أراد الترشيح في الانتخابات.
إن شعبنا لن يخرج من ورطته الكبيرة ومازقه الخانق إلا غذا ما تخلى عن مناهجه القديمة البالية والتعلم من (دول الكفر) كيفية احترام الإنسان والتعامل مع إنسانيته وفق مبدأ الكرامة والعدل لا وفق مبدأ الربح والخسارة، فذاك هو قانون العدالة والرحمة، وهذا قانون التجارة والربح والخسارة.

صفحات: [1]