عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - سهيل الزهاوي

صفحات: [1]
1
نضال الطلبة ضد المعاهدات العراقية - البريطانية
1922- 1930   
                     
سهيل الزهاوي
   
 مفاوضات حول معاهدة عام 1922

  فرضت سلطات الاحتلال البريطاني مع الكتل الإقطاعية - البرجوازية الكومبرادورية التي التفت حول الحكومة المؤقتة، تنصيب الأمير فيصل بن حسين وهو المعروف بولائه لبريطانيا، على عرش العراق واعتبار 23 آب 1921 يوم تتويج الملك، حيث اصبح العراق مملكة خاضعة. (1) كانت هذه الحكومة تمثل مصالح الاحتكارات الاجنبية والكومبرادورية والاقطاعيين.
  فقد جعلت ثورة 1920، الاحتلال البريطاني يفهم جيداً، أن ما تحقق من نجاح عسكري غير ثابت إلى حد كبير يتطلب العمل من أجل تهدئة البلاد إلى استخدام اساليب اخرى جديدة. (2)
   اعتبرت بريطانيا تأسيس الحكم الملكي في العراق الخطوة الأولى في نجاح سياستها الانتدابية. (3)  بعد أن استطاعت سلطات الانتداب من إرجاع " برسي كوكس" على جناح السرعة الى بغداد، وبدأت تراجعات شكلية في أسلوب الإدارة وشكل حكومة مؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب وتحت إشرافه. 
  وشرعت سلطات الانتداب بالمفاوضات لعقد معاهدة تكرس الاحتلال بطريقة جديدة وكانت تجري هذه المفاوضات بصورة سرية بين الحكومة برئاسة عبد الرحمن النقيب الموالية لبريطانيا وممثلي سلطات الانتداب. كانت تتسرب بعض المعلومات من داخل الاجتماع إلى سمع الرأي العام العراقي رغم سرية المفاوضات. 
 
تحركات المعارضة ضد معاهدة عام 1922
 
  أثارت سياسة سلطات الانتداب موجة عارمة في صفوف الحركة المناوئة للاستعمار البريطاني في البلاد.
  بدأت المعارضة العراقية بتنظيم الاجتماعات والمظاهرات وعرائض الاحتجاج وإرسال البرقيات الى الملك ورئيس الوزراء العراق والى الحكومة البريطانية.
  وقد جاء في أحد المواثيق التي قدمها المعارضة العراقية في الفرات الاوسط الى السلطات البريطانية تطالب رفض الانتداب وإعلان بريطانيا بإلغائه رسمياً، واطلاق حرية الصحافة لكي يتمكن الجماهير التعبير عن آرائهم في المفاوضات التي كانت تدور بين الحكومة العراقية الموالية وسلطات الانتداب البريطاني في عام 1922. (4)
  وعلى اثر تعاظم الحركة المناوئة لسلطة الانتداب البريطاني فقد أصدر وزير الداخلية بيانا منع فيه الاجتماعات السياسية رداً على المظاهرات التي عمت في بغداد والتي أرعبت سلطات الانتداب والحكومة الموالية لها. (5)
  فقد تحولت المظاهرات والاجتماعات الحاشدة التي بدأت منذ ربيع 1922 الى حركة جبارة في الثالث والعشرين من آب في العام نفسه، حيث قرر الحزبان العراقيان: ((الحزب الوطني العراقي)) و ((حزب النهضة)) توحيد مساعيهما للمطالبة بحقوق الشعب وكانت المظاهرات الصاخبة مستمرة وكانت من أهم الشعارات التي رفعت في هذه المظاهرات تنادي بسقوط الانتداب وخروج بريطانيا من العراق.
  قام المندوب السامي باتخاذ الإجراءات لضرب الحركة الوطنية العراقية وألغي الحزبين ولم يمض على إجازتهما وابعد قادتهما الى جزيرة هنجام وعطل جريدتي المفيد والرافدين ونفى صاحبهما. وأرسل سرباً من الطائرات تقصف مدن وقرى الفرات الاوسط، فدمرت البيوت والأكواخ وأحرقت الزرع والحيوانات كما فصل عدد كبير من الموظفين.
 رغم جذرية مواقف الحزبان من الانتداب إلا أن نشاطهم لم يكن مرتبطة بالحركة الجماهيرية
الشعبية. مما حدى بالمندوب السامي البريطاني الى الاسراع في وضع حد لقادة الحركة الوطنية الداعية إلى الاستقلال والمعادية للانتداب ونفي اكثر الوطنيين نشاطاً. وبذا قضى على انتفاضة الشعب ظاهرياً.
 وفي التقرير الذي كتبه ((بيرسي گوکس)) والتي بعثتها ((مس بيل)) إلى والدتها، والتي نشرتها في الكتاب الذى يضم رسائلها، وصف الظروف التي وقعت فيها هذه الأحداث بأنها
((ظروف مضطربة، وأن اليوم الثالث والعشرين من شهر آب سنة 1922 كان يوماً صاخباُ بالاضطرابات والمظاهرات وأن ولاية بغداد وعشائر الفرات كانا على شفا ثورة. كانت معالمها تدل على أنها لن تكون أقل خطورة عن تلك التي قامت في ثورة العشرين، منظمة من العناصر نفسها.)) (6)
  عقب الإجراءات القمعية التي أقدمت عليه المندوب السامي وفي ظل انعدام الحريات والتعبير عن الرأي، فقد صادقت الوزارة النقيبية الثالثة على المعاهدة في 10 تشرين الأول 1922 على أن تعلن نشرها في لندن وبغداد في اليوم الثالث عشر من الشهر نفسه. (7)
 لم يكن المعاهدة إلا صورة من صك الانتداب، بل جَاءَتْ مفصلة وما حواها من صك الانتداب ولا تعتبر اشد وطأة مما جَاءَتْ في المعاهدة وملحقاتها.
   فإن الاتفاقيات التي الحقت بالمعاهدة كانت تستهدف التركيز على نفود التركيز على نفوذ بريطانيا وسيطرتها العسكرية وتكبيل العراق بصعوبات مالية لا يقوي عليها، الى جانب ربط البلاد بموظفين بريطانيين مدنيين (8)
  وقد نصت المعاهدة على أن تسترشد الحكومة العراقية بنصائح المندوب السامي البريطاني بشأن القضايا الدولية والمالية، وإصدار دستور للبلاد بحيث لا يتناقض مع مواد المعاهدة، وعلى أن تحتفظ بريطانيا بقواتها في العراق. (9)
 
الحركة الجماهيرية تنهض من جديد
 
بدأ نهوض جماهيري جديد ضد محاولات المندوب السامي البريطاني والحكومة المتعاونة معه لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي الذي كان عليه أن يبرم معاهدة عام 1922.
  لم تظهر أي رد فعل عن قادة الحركة الوطنية المعارضة بعد إعلان المعاهدة والشروع في الانتخابات ما عدى صدور نشرة سرية وقعت تحت اسم الاجتماع الاستثنائي للأحزاب السرية العراقية تشترط عودة الحياة الحزبية بعودة المنفيين من الخارج وترفض اجراء الانتخابات في هذه الفترة وتدعوا ابناء الشعب العراقي الى مقاطعة الانتخابات، وطالب إجراء الانتخابات بعد شهرين بعد أن يتم تنفيذ مطاليب الشعب العراقي وابطال المعاهدة كلياً (10)
ولكن رجال الدين لعب دوراً هاماً في هذا المجال. فقد دعا رجال الدين الشيعة برئاسة مهدي الخالصي الى مقاطعة الانتخابات والذى استجابة اليه رجال الدين من الطائفة السنية ودعمه من رجال الدين المسيحيين. (11)
 كما قدم رجال الدين المطالب التالية: -
1 - إلغاء الإدارة العرفية (اي الغاء سياسة الإرهاب).
2 - اطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات.
3 - سحب المستشارين من الألوية.
4 - إعادة المنفيين السياسيين إلى وطنهم
5 - السماح بتأليف الجمعيات. (12)


 
الحركة الطلابية تأخذ زمام المبادرة
 
  فقد خلقت غياب القيادات السياسية النشطة للحركة الوطنية في البلاد بسبب الضربة التي وجهت لهم وإبعادهم إلى " جزيرة هنجام " فراغاً سياسيا في مجابهة مخططات البريطانية لتكريس الاحتلال للعراق بأشكال أخرى. من هنا تكمن أهمية دور الطلبة والطبقة الوسطى في الحركة الاستقلالية المناهضة للانتداب.   وكان الطلبة في مركز الصدارة من بين المعارضين في الحركة الاحتجاجية المناهضة للانتداب البريطاني. وما ان اعلنت المعاهدة حتى تلقاه الطلبة بالرفض والسخط الشديدين.
   وبدأ الطلبة كسائر المثقفين في عقد الاجتماعات لمناقشة المعاهدة وابعادها لما فيها من قيود تكبل الشعب العراقي وأنها ليست أقل وطأة من الانتداب والتنديد بها. (13) 
  وقد أقدمت الطلبة حملة دعائية واسعة في المقاهي والأسواق والجوامع على تحريض وتعبئة الجماهير الشعبية ضد معاهدة 1922 وقد جاء في تقرير الاستخبارات البريطانية بأن " جميع الأهالي في المقاهي والأسواق كانوا ينتقدون المعاهدة وكان التركيز يدور حول المواد 4، 8، 12.. ويذكر التقرير نفسه " أن بيان الملك قد لاقى ترحيباً من المعتدلين بينما لم يلاق ذلك الترحيب عند اليسار المتطرف. (14)
  كما ساهم الطلبة في الاجتماع الحاشد الذي عقد في مدرسة الشيخ مهدي الخالصي والذي ندد الشيخ بالمعاهدة واعلن قائلاً: " بايعنا فيصل ليكون ملكاً على العراق بشروط وقد أخل الملك بتلك الشروط فلم تعد له في أعناقنا وأعناق الشعب العراقي أيّة بيعة. (15)
  لقد حظيت فتوى رجال الدين حول مقاطعة الانتخابات بمساندة وتأييد تلاميذ المدارس الدينية والحديثة وبقية الفئات المتوسطة من السكان في بغداد وبقية أنحاء العراق وخاصة في المناطق الوسطى والجنوبية. 
  كان طلاب مدرسة التفيض الأهلية في بغداد أول من استجابة لدعوة رجال الدين لمقاطعة الانتخابات. ولعبوا دورا هاماً ومؤثراً في تحريض وتحريك الجماهير الشعبية لرفض المعاهدة وعدم المساهمة في الانتخابات وقاموا بمقابلة رجال الدين وأخذوا منهم الفتاوى واستنساخها على الكاربون وجرى توزيعها على أبناء الشعب في كافة انحاء العراق.
  عندما أعلنت الحكومة الموالية للاحتلال البريطاني قرارها في الشروع في الانتخابات، فقد تحرك طلاب المدارس في الكاظمية بشكل واسع بشكل واسع وقاموا بحملة دعائية واسعة في سبيل مقاطعة الانتخابات المزمع عقده لتشكيل المجلس التأسيسي الذي كان عليه أن يبرم المعاهدة فيه. (16)
كما عبر الطلبة عن احتجاجهم ورفضهم للمعاهدة من خلال تنظيم تظاهرة، حيث تجمعوا أمام دار رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب، يتقدمهم نشطاء الطلبة كل من الطلاب عبد الفتاح ياسين، حسين جميل، وعبد القادر اسماعيل ومحمد حديد، فخرج إليهم بنفسه من شرفة داره وصاح بهم ((باسم من تحتجون)) فأجابوا ((باسم البلاد)) فرفع عصاه قائلاً:
* من أنتم لتحتجوا، انا اعلم منكم بحاجة البلاد واغراضها، عودوا إلى بيوتكم. * (17)
  لقد اكتسب مقاطعة نطاقاً واسعاُ بالرغم من نفي بعض قادة الحركة الوطنية ورجال الدين وعلى رأسهم مهدي الخالصي.
  اتخذ مجلس الوزراء قراراً على أن يبدأ الشروع في الانتخابات في 24. 10. 1922 إلا أن المقاطعة الواسعة عرقلت مسيرتها، بحيث لم يتم انتخابات النواب إلا في 25.2.1924، أي بعد سنة وأربعة أشهر من الموعد المقرر سابقاً بعد أن اتخذت الحكومة بعض الإجراءات القمعية من أجل إنهاء حركة المقاطعة. (18)
  ان هذه الاجراءات لم تثني الجماهير، بل ازداد من عنادها واستمر في نضالها حتى انعقاد المجلس التأسيسي مما حدى بسلطة الانتداب والحكومة الموالية لها الاستجابة إلى مطاليب الحركة المعادية للانتداب فيما يتعلق بالنفي، فقد سمحت لبعض قادة الحركة الوطنية بالعودة الى البلاد وبشكل تدريجي بعد أن طلبوا منهم نبذ العمل في السياسة. (19)
  بدلاً أن ينهمك القيادات السياسية للبرجوازية الوطنية بعد عودتهم في محاولة لاستعادة قواها وتنظيماتها بعد الضربة التي ألمت بها من جراء الحملة الإرهابية الشعواء في مظاهرات (آب 1922). إلا أنه برزت خلافات وصراعات حول المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها وبل انهمك قسم منهم في التمتع بوظائف الدولة. (20)
  مع هذا لم تستطع السلطة ومن ورائها من جمع المجلس التأسيسي لإبرام المعاهدة إلا في أيار 1924. 
 مع اشتداد الصراع السياسي والخلافات بين أطراف قادة الحركة الوطنية حول شكل وأسلوب النضال المعادي للانتداب، لم يكن بمقدور الطلاب أن يقف على الهامش ويلعب دور المشاهد.
  بينما كانت سلطة الانتداب والحكومة الموالية لها تعد الترتيبات لعقد اجتماع المجلس التأسيسي التي كانت عليه ابرام المعاهدة فيه. فقد تم التنسيق بين الفئات المختلفة من المثقفين من طلاب الحقوق والمحامين وأساتذة المدارس والشباب المتعلم من جهة وبين رجال الدين من جهة اخرى ليكون المتحدثين باسم جماهير الشعب العامل والتي تناضل ضد الانتداب بعد غياب الأحزاب الوطنية. وبدأت العمل من اجل اقامة المظاهرات والاجتماعات، واصبحوا يعتقدون انه لا مفر من النضال في إعلان سخطهم وغضبهم على المعاهدة الجائرة والمطالبة بتعديلها لكي يحفظ للعراق استقلاله التام، وقد ساندتهم في ذلك بعض الجرائد المعارضة. (21)
  عقد محامو بغداد اجتماعاً في بناية بناية "رويال سينما " (22) في يوم 19 نيسان 1924 تكلم فيه خطباء الاجتماع بتوجيه النقد إلى المعاهدة وعيوبها وتوجه الأنظار الى قيودها الثقيلة، حيث قدم المحامون بياناً كان بمثابة عرض للمعاهدة من الناحية القانونية محذرين منها ومن إبرامها وطالب ياسين الهاشمي الذي كان حاضراً في الاجتماع * بوحدة الصف الداخلي من اجل احباط ما يضر البلد التي تعرقل تقدمه. (23)   
  في 29 أيار 1924 وعندما كان المجلس التأسيسي يناقش المعاهدة، قامت مظاهرة صاخبة في بغداد وأحاطت بمقر المجلس احتجاجاً على تحدي إرادة الشعب ومعارضته للمعاهدة.
  كتبت "مس بيل" في 4 حزيران رسالة مطولة عن هذه المظاهرة، عرضتها "بورغون" على الوجه التالي ((اكتسح المتظاهرون من أبناء الشعب ضد المعاهدة أعضاء المجلس، واوصلوا جلسة التالية إلى نتيجة شائنة.
  وكانت الشرطة عاجزة عن العمل تقريباً، مما اضطر المسؤولين إلى الاستعانة بالخيالة. واستمرت هذه المناورات لو بشيء اقل من العنف بسبب التنظيمات الافضل التي اتبعتها الشرطة، بحيث لم يصبح للاجتماعات التالية في المجلس إلا قيمة قليلة، حتى استقر في ذهن "مس بيل" و"المستر كورنواليس" * انه ليس هناك جهد بشري يتمكن من إمرار المعاهدة من المجلس الحالي * (24)
  في 31 أيار من نفس السنة قامت الجماهير بمظاهرة حاشدة أمام المجلس التأسيسي، سرعان ما سيطرت الشرطة على الموقف. (25)
  رغم التدابير التي اتخذتها السلطة ضد المعارضين من أبناء الشعب العراقي من اجل ان تؤمن بقاء المندوبين المجلس إلى جانبها، تأثر عدد غير قليل من المندوبين من الذين يميلون إلى المعاهدة باتخاذ مواقف معاكسة، كما تردد عدد من من الوزراء من الإدلاء بآرائهم حول المعاهدة وتحمل تصديق المعاهدة أمام الرأي العام الصاخب (26). وكذلك توقف جلسات المجلس التأسيسي مراراً، إلا أنه قوى حركة الجماهير المنتفضة قد خمدت بسبب أعمال القمع القاسية من جهة، ولأسباب أخرى تتعلق بموقف قادة الحركة الوطنية وضعف علاقته بالجماهير.
  ويكمن السبب الأساسي لضعف الحركة الوطنية في الفترة 1922-1924 يعود الى طبيعة قيادتها من قبل البرجوازية الوطنية المساندة من رجال الدين. وهما اللذان حمل الراية ضد الانتداب ومعاهداته الاسترقاقية، ولكن الاعتماد على هذين العنصرين يحمل معها عامل التذبذب والضعف وصلاتها المتينة مع الجماهير وفقدان الرؤية المتكاملة.
  تلك الطبيعة لهذه القيادة جعلتها تزرع في الشعب العراقي الثقة بإمكانيه المعارضة من داخل المجلس لا في امكانية تنظيم الجماهير وزجها في النضال الثابت والمستمر لتحقيق أهدافها الوطنية في الاستقلال.  وإذا بالمواقف المزدوجة تكشف عن أهداف المعارضة البرجوازية التي كانت تصبو إلى تحقيق غايتها في الحصول على الوظائف أكبر في الدولة وإن سترها بمعارضتها في داخل المجلس التأسيسي وطرح الشعارات الملتهبة بالوطنية والاستقلال واستغلال حركة الجماهير لأغراضها الخاصة. (27)   
   بينما كان الطبقة العاملة في دور التكوين، لم تكن قد تحولت الى حركة مستقلة، مما اضعف من قدراتها القيادية في الحركة الاستقلالية المناوئة للانتداب. لم تترك الشك أنها كانت متعاطفة مع هدف الاستقلال التام، وكان العمال والحرفيون يشكلون قوة حركة الجماهير لفعلية في المدينة التي لعبت المتعلمون ولا سيما الطلبة دورا قيادياَ.
  اما المثقفون ولا سيما الطلبة والمعلمون والمحامون القوة القيادية بعد ابعاد قادة الحركة الوطنية وحملوا راية النضال وهم ينادون الجماهير الشعبية الى الكفاح صد الانتداب ومعارضة المعاهدة.
  أن ما يميز نشاط المثقفين في هذه الفترة أنها كانت ذات طابع محلي. لم يتعد الاجتماعات والمظاهرات حدود مدينة بغداد وبعض المدن القريبة منها. ويعود اسبابها الى عدم امتلاكها الى وسيلة منظمة لتحريك الجماهير في كافة انحاء العراق اضافة الى قلة عدد المدارس أما الجامعات تكاد تكون معدومة ما عدا الحقوق وكانت هذه المدارس متمركزة في المدن الكبيرة.
  في تلك الفترة كان الطلبة يبحثون عن طريق لكي يخلصهم من هذا الوضع السياسي الشاذ ولم تتحول الى حركة مستقلة بعد، وانما كانت اسيرة البرجوازية الوطنية.
  وان مناشيرهم وانذاراتهم كانت تلصق على الجدران وترسل الى اعضاء المجلس والقادة السياسيين في رسائل موقعة من قبل رئيس جمعية اليد السوداء ومختومة بيد سوداء
  إن العوامل المار الذكر دفع بعض الشباب الى التفكيرفي تأسيس جمعية اليد السوداء لإبراز سخطهم على الانتداب والمعارضة البرلمانية. لقد نشطت هذه الجمعية في ارهاب النواب على اثر تشكيل هذه المنظمة السرية حيث تم اغتيال اثنين من النواب على ايدي مجهولين وهما عداي الجريان وسلمان البراك لكي يجعلوا منها واسطة لتأديب غيرهما. (28)
   
                                                             
(1)  - مجموعة من علماء السوفيت، تاريخ الأقطار العربية الجزء 1، ترجمة دار التقدم، طبع في موسكو 1975، ص. 292
 (2) - ف.أ. كرياجين، حركة التحرر الوطني في المشرق العربي - بلاد ما بين النهرين -
الشرق الجديد، موسكو، الكتاب الثاني، 1922، ص. 243، عن الدكتور كمال أحمد مظهر، ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي، مطبعة الزمان 1977، ص. 36
(3) - الدكتور فاروق صالح العمر، المعاهدات العراقية - البريطانية وأثرها على السياسة الداخلية 1922 - 1948، منشورات وزارة الإعلام سلسلة دراسات 116، دار الشؤون الثقافية 1977.

(4)  - عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الطبعة 5، منشورات دار الكتب، المجلد الأول، بيروت 1978. ص. 99 - 100
  وقد جاء في الميثاق الوطني ما لي: -
المادة الأولى: تأليف حكومة حرة، نيابية، ديمقراطية، مسؤولة امام الامة العراقية، مستقلة استقلالاً سياسياً تاماُ لا شائبة فيه، عارية من أي تدخل أجنبي.
المادة الثانية: تأييد سياسة الملك فيصل على أساس استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية.
المادة الثالثة: رفض انتداب الانكليز، وكل معاهدة تمس بكرامة الامة العراقية واستقلالها التام.
(5)  - عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر السابق، ص. 102 
(6)  - حسين جميل، شهادة سياسية 1908 - 1930، دار السلام لندن 1978 ، ص. 78-79
(7)   - عبد الرزاق الحسني، العراق في ظل المعاهدات، الطبعة 6، مطبعة دار الكتب، بيروت 1983، ص 21 – 22
(8) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 42 – 43
(9) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 48 - 49 وما بعدها
(10)  - البلاط الملكي s / 34/ 17
Manifesto of the Iraq secret parties, // Oct 1922.
عن الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص.79 0 80
  قدم رجال الدين المطالب التالية: -
                                                         
(11)  - التقرير البريطاني الى عصبة الامم 1923 -1923 ص 6
عن الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 113
(12)  - عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر السابق، ص. 142
(13) - رؤوف الواعظ، الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث،   1914-1941،دار الحرية بغداد 1974 ص. 166 عن آفاق عربية العدد 12 آب 1980 ص. 56
(14) - الدكتور فاروق صالح العمر، نفس المصدر السابق، ص. 83
(15) - محمد مهدي كبة، مذكراتي في صميم الأحداث ، 1918-1958، دار الطليعة بيروت 1965، ص. 26
(16) - محمد مهدي كبة، نفس المصدر السابق، ص. 26- 27 عن آفاق عربية، العدد 12 آب 1980 ، ص. 56
(17)  - خيري العمري شخصيات عراقية الجزء الاول ض. 20، عن آفاق عربية العدد 12. آب 1980، ض. 56
(18)  - حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 112- 113
        في 02 حزيران 1923 نفي من العراق الشيخ مهدي الخالصي ومعه ولداه وقريب له وسكرتيره وغادر العراق بعض من علماء الدين احتجاجاً على هذا النفي. وكان سلطات الانتداب يعتبر الشيخ الخالصي من العناصر المعرقلة للانتخابات بعد أن أصدر فتوى جديدة تعرض فيها الى الحكومة، فقد عثرت الشرطة على صورة من الفتوى معلقة على جدران صحن الكاظمية بتاريخ 19 مايس 1923.
(19) - رفض السادة جعفر ابو التمن وحمدي الباجة جي التوقيع على التعهد في بادئ الأمر رُفض عودتهم، فيما بعد رضخ السلطة وسمح لهم العودة الى البلاد.
(20) - كان السيد مولود مخلص أحد المؤسسين للحزب الديمقراطي، عين متصرف لواء كربلاء غير موقفه من المقاطعة. 
(21)  - فيليب ويلارد ايرلاند، العراق دراسة في تطوره السياسي، ترجمة جعفر الخياط، دار الكشاف، بيروت، ض. 311
(22)  - حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 123
(23)  - العالم العربي 20 نيسان 1924 عن فاروق صالح العمر نفس المصدر السابق، ص. 113
(24) - كتاب بوغوين، ص. 343 عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص.
(25)- حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 124
(26) - فيليب ويلارد ايرلاند، نفس المصدر السابق، ص. 123
(27) - قال الهاشمي نائب بغداد في جلسة 22 آب 1928 للمجلس التأسيسي وكان البحث يدور حول الميزانية العامة للدولة " إني وجدت في مذكرات المجلس النيابي توجيه اللوم إلى الوزراء واننا نناقشهم على أعمال لم يرتكبونها، وان ارتكبوها فلم يكن ذلك بمحض إرادتهم. ولو أنهم أخذوا في بعض الأحيان مسؤوليات تلك الأعمال على عاتقهم.
انى وجدت دواعي وشواهد عديدة مرت على يد المشورة وهي مغلوطة ولم تظهر منها اي استياء في زمن من الازمان. وما دامت طريقة مداولة امورنا الداخلية والخارجية على أيدي الغير لا اجد اي سبب لتوجيه اللوم على اي احد من الرجال المسؤولين." عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 128.
  وفي جلسة المجلس التأسيسي في 29 / 05/ 1924 فضل المعاهدة على الانتداب وقال: "أنه لا محل للقياس بينهما وكان يعلم أن الانتداب قائم لم تلغه عصبة الأمم وهو لا ينتهي الا قبول العراق عضواً فيه. عن حسين جميل، نفس المصدر السابق، ص. 108.
(8  2)  - جريدة البرق البيروتية 3 حزيران 1924 عن رجاء حسين حسني - العراق بين عام 1921 - 1927، دار الحرية للطباعة والنشر بغداد 1976.
      حديث مع مصطفى علي - الثقافة الجديدة العدد 75 لشنة 1975، ص. 84


 

2
أدب / الوند العظيم
« في: 21:26 30/04/2023  »


الوند العظيم

سهيل الزهاوي   

  في ليلةٍ ليلاءَ
وفي أعماقِ النومِ أحلم:
في ضواحي المدينةِ أسير.
ها أنا ذا اتأملُ البدايات
في وحدتي الموحشة.
كنتُ أسْرَحُ بِأفْكَارِي بَعِيداً
فجأةً داهمَني لَهيبُ الذكريات
 أيقظَ أجراسي الراقدةَ خيالاً
اقتحمَني محمولاً على أمَوْاج الريح.
منْ بعيد،
صوتٌ ساحرٌ يتناهى الى سمعي،
أسمعُ صدى خريرِ الماء
آخذاً بيدي نحوَ نهرِ الوند
 على حافةِ النهرِ الحزينِ أترجّلُ،
 أتطلعُ الى مجرى النهر،
والصمتُ مخيِّمٌ على الوند،
على إيقاع شجى الأوجاع
أرى الوندَ العظيمَ مقطوعَ النَّفَس
حزيناً كالوداعِ، وجانباه قاحلانِ،
صوتُ النهرِ الحزين تفجَّر،
فهل منْ مُجيب؟
-----------
يا نهرَ الوندِ لا تشكُ،
ما جدوى شكواك المتنهِّدِ مِنْ ماردٍ.
لسْتَ الوحيدَ،
في وطني يلفُّ الحزنُ أنهارَنا
وسواقينا وسهولَنا وجبالَنا.
 يا نهري، يا طاويَ أحزانِ شبابي،
ليتَ قلبكَ الهابطَ يُدركُ ما يَحُوكُ لك
الأشرارُ، والشرقُ!
أجمعَ الجيرانُ على أنْ يخنقونا.
كم مِنْ مرةٍ وضعوا السيفَ على رقابنا،
حاولوا قطعَ أعناقنا.
يا نهرَ الوند،
اليومَ عادوا، وأحيوا مآسينا.
أيُّها النهرُ،
هيهاتَ، هيهاتَ أن يُعودَ ماؤك،
 نَبْعُك النَاضِبُ أقفلوا عليهِ الأبواب،
غَيَّروا اتِّجَاهَهُ الى روابٍ وسدود،
ليجفّفوا الزرعَ والضرعَ،
وتموتَ الأزهارُ على ضفتيك،
وعلى جانبيك بقايا عظامِ الأسماك.
--------   
لمَنْ تغنّي الطيورُ المرفرفةُ؟
الأعشابُ جفّتْ وفقدت رونقَها،
 بالأمس كانتْ رياضاً ترفلُ بالخُضرةِ والأزهار.
أين رائحتُك العطرةُ، وريحُكَ الطَّيِّبةُ!
اليومَ
حتى الحَجَرُ لمْ يسلمْ من الخراب،
نهبَ اللصوصُ قيثارتَك الجميلةَ،
كانتِ الطيورُ على أنغامها ترقصُ،
تملأُ الأفقَ ترانيمَ منْ دَفقاتِ الشُّعور.
في الماضي القريب
كانَ في نهري العذبِ صدىً يأسرُ القلوب.
لم يعدْ أحبابُكَ يسمعون هديرَكَ المدوِّي
 منْ بعيد.
.........
على شاطئ النهرِ الحزينِ أسيرُ
صعوداً وهبوطاَ
وفي عَيْنيَّ أسىً عميق.
كانَ الحجرُ يبكي معي،
دموعُنا انهمرتْ في النهر
ظنَّها مطراً يهطلُ من السماء.
 طوالَ الشتاءِ
لم تتوقفْ عن المَدِّ.
ها هو الوندُ ينحسرُ
وانفاسُه تلهثُ!!
-------
بالأمسِ كنتَ تجري متحدّياً العوائق
وموجاتُك تتلاطمُ مع الصخور.
وفي الصيف تزهو كالربيع.
تتدفَّق نميراً صافياً،
كنتَ سرَّ مدينتنا
كنتَ الكوثرَ على الأرض
أسقيتنا وأسقيتَ مزارعنا،
في لهبِ الصيفِ كنتَ مأوانا.
بالأمس كنتَ تناجي شوقَنا
باسطًا لنا ذراعَيك،
تأخذُنا في أحضانك،
نجلسُ، نتجادلُ، نتسامرُ.
كنتَ لنا منهلَ الأفكار.
-------
أيُّها النهرُ،
 في صبايَ كنتُ أعشقُ خريرَكَ،
وأنينَ موجاتك.
وإنْ ارتحلْنا بعيداً
فإِنَّ حنينَنا وشوقَنا يشدُّنا إِلَيك
مُقيماً في قلوبنا حتى مماتنا،
نسمعُ في يقظتِنا وفي منامِنا
 لحنَك الجميل،
تحتَ ظِلِّك الوارفِ التقينا.
كنتَ لنا النورَ الذي يضيئنا
في ليالينا،
أنا ورفاقي ولفيفاً من الشباب
على ضفافِك نسرحُ ونمرحُ.
 مللْنا أيُّها النهرُ الحبيب،
كيف لنا أنْ نرويَ ظمأنا
في هَجِير النَّهَار.   
أيُّها النهرُ، لا تيَأْسْ،
إنَّ اليأسَ يخنقُنا.
دعْني أجوبُ بينَ فلواتك.
سيبقى جسرُك صامداً رغمَ الجفاف.
سيحكي قصصَ آماسي الربيعِ للأجيال،
وعن قمرِ الصيف مضيئاً وجهَكَ.
 وفيضانُ الشتاء ينسابُ في أزقةِ المدينة.
كم مرة حلمْتُ بكَ شوقاً ملتهباً.
مهما استبدَّ بنا الألمُ،
واشتدّتْ جراحُنا،
يا نهري العذب،
يبقى صَـداكَ يرنُّ في أُذني. 
أجوبُ بينَ شاطئيك الحزينين،
أجمعُ بقايا صوتِكَ في الصخور،
سيظلُّ صوتُكَ يرافقُني
في كلِّ صباحٍ ومساء.

3
المنبر الحر / افجعتها المصيبة
« في: 22:22 05/04/2023  »
افجعتها المصيبة
سهيل الزهاوي

 ما زلت أذكر تلك اللحظة حين التقيت بها في المرة الاخيرة من ذلك الصباح الخريفي، ضباب يتجه نحو الأفق، يحجب الرؤية رويداً رويداً. وكنت غارقا في تأملاتي في واقع الحياة وقلبتُ الأوراق المبعثرة على المنضدة في مكتبي وكانت النافذة الوحيدة في الغرفة مغلقة في الطابق الثاني من البناية، وتردد وقع اقدام خفيفة وهي تصعد الدرج وتقترب الصوت روداً رويداً من الغرفة، فجأة انفتح الباب، ترددتْ في وقفته قبل الدخول ثم خطوت الى الداخل ووقفتْ قرب الباب الخارجي للغرفة كانت تبدو عليها الحيرة.  ولم يكن على وجهها مرحها المألوف، وكانت صورة وجهها تلوح بسر ترتبط به أغوار نفسها وكانت هذه النفس كأنها مرعوبة او مهمومه لم أكن انتظر مجيئها، وقد شعرت بفرح ممزوج بقلق لمجرد دخولها الى غرفة المكتب.
-      في البداية بدا عليٌ التردد وعدت اهز رأسي بقلق، أمِطْتُ اللثام عن مخاوفي.
-     وقفتُ خلف المنضدة واحدى يديَ في جيب السروال والثاني مرفوعة لأحيها بحرارة وهي لم تستجيب، ضلت واقفة، ويدها اليسرى على خصرها المشبوب.
 -        قلتُ:
 -        تفضلي اجلسي،
   -        بقيت صامتة وتحدق فيٌ، استمريتُ في النظر اليها بهدوء وهي في حالة عصبية حادة، تركتها حتى تقرر بنفسها. بعد برهة، جلستْ على الأريكة القريبة من الباب واتكأتْ بظهرها على المقعد بعد أن أخذتْ نفساً طويلاً دون أن تنبس ببنت شفة! ضمت ساقيها وعيناها محددتان في السقف، كانت تضع شال من الحرير على كتفها.
-       سيطرتْ عليٌ في هذه اللحظة شعور بحزن عميق، وأنين الظلمة ووحشتها تتسرب الى قلبي وكياني. لم تكن على عادتها، بعد فترة من الصمت، رددت كلمات لم أفهمها فقد كانت مبهمة وغامضة وهي ترتعش كما ترتعش نبتة وضعت في الماء، وبدا الانفعال واضحا على وجهها. وملامحها أقل صفاء مما كانت منذ أعوام.
  قالت جوهرة:
-         لم أتِ وحدي اخي طاهر معي وهو جالس مع الاستاذ علي في غرفة الانتظار.
اردفتْ:
-         انك تسئ لي عند اصدقائك.
 وقد تعجبت من كلامها، وهي تعرفني وتعرف طباعي جيداً، لم اقل شيئا تسئ إليها، وكانت تحكي بطريقة تود ان تسمعها وتشعرك بأنها ضائعة الحق في الحياة..
   كدت اسمع دقات قلبها لعنفها، كانت كئيبة تلفها هالة من الحزن وتبدو متعبة ومرهقة بسبب مرض غريب أَلِمَ بها. كان الموقف صعبا ًماذا اقول لهذه الانسانة التي عرفتها مناضلة صلبة مثقفة لا تستكين وتضج بالحيوية والتألق وتستقطب الاهتمام. كنت حائرا لم اتفوه بكلمة.       
   في تلك اللحظة، نظرت إليها بدهشة، وكأنني رأيتها لأول مرة.  يطاردها الحزن في كل مكان، ويحيط بها، ويدور حولها، دون أن يدمرها بضربة من مخالبه، أخذتُ أراقبها مراقبة المكتشف الذي يحاول معرفة الحقيقة.
-        حاولتُ ان اغير مسار اللقاء وتفكيري لا زال مضطرباً منذ اللحظة الأولى من لقائي بها، سحبت نفسا عميقا بعدما فكرت أن أغير مجرى الكلام عساني ان أستطيع التغلب على حالتي وتقليل مساحة الحزن الذي تلبسني كقوة خارقة.          
-        ركنت الى الهدوء وزال عني التوتر، ولكن الأفكار والذكريات ظلت تتوالى علىٌ.
كنت أفكر فيما إذا مصارحتي لها بما يجول في خاطري تخفف من حدة توترها.
 قلت لها بأعصاب هادئة:
-         عندما تتوترين تتراءى لي انك أكثر جمالا!
يبدو أنني عندما نطقت هذه العبارة بدت كما لو كانت مغازلة أكثر مما كانت ملاطفة الجو.
  لقد شعرتُ أنها تغيرت مشاعرها ورسمت على وجهها علامات الرضا لأول مرة في هذا اللقاء ربما شعرتْ بالسعادة.  شعرتُ بهدوء داخلي عميق تسري في جسمها.
  ونقطة البدء في تعارفنا معا، كانت صباح ذلك اليوم من الأيام، حين دخلتُ بيت أم سلام وكنت على موعد اللقاء بها في مهمة حزبية. كانت جوهرة تجلس في الغرفة التي تطل نافذتها على الباب وقد لمحتْ وجهي وعرفتْ من خلال تجربتها الحزبية على أنني شخص غير عادي، هكذا هي قالت لي، بعد أن تسلمتُ منها رسالة تطلبْ تنظيم عملها مع المنظمة
  كانت جوهرة زهرة جميلة، فاتنة، بشرتها ناعمة بلون بياض السكر ممشوقة القوام، وشعرها الشقراء مسدول على كتفيها، كانت تتميز ببراعة مشيتها المتناسقة واناقة ازيائها، صحيح انها امرأة حادة المزاج، ولكن انسانة طيب القلب وكريمة النفس، شخصية ذكية وشديدة الحضور فهي كانت تتمتع بثقة بالنفس، وهي سيدة مشهورة على نطاق مدينتها. ويبدو للمرء في الوهلة الأولى عندما يقع المرء بصره عليها أنها ليست بحاجة إلى أحد، ظلت محبة للناس، قريبة منهم، تحاول أن تقدم لهم ما تستطيع وهي تسعى لمساعدة المحتاجين. 
هذه المناضلة التي لم تنقطع عن المعرفة وعن النضال السياسي خلال المراحل الصعبة والخطرة التي يعجز القلم عن وصفه.
 كانت تدخل الى غرفتها تقضي ساعات عديدة منكبا على الكتب. وكانت لها مكتبة عامرة بمختلف الكتب الادبية، والفلسفية، والاقتصادية، وغيرها.
   صقلت جوهرة فكرها وشحذت مواهبها وانارت بصيرتها، فلم يعد مجرد انسان عادي تساق في خضم الحياة دون ارادة ووعي وإنما كانت في مجمل حياتها السابقة تتناول المسائل بالتفكير والتحليل والتدقيق والتأمل وقد قابلتها أيام عصيبة وواجهت ظروف شديدة التعقيد بعد حملات الاعتقالات التي شنت على رفاقها. فظن البعض أنها لا تقدر الصمود أمام هذه المصاعب، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بل تخطت كل هذه الصعوبات والعقبات التي اعترضت طريقها وخرجت من المآزق كافة بطريقة ذكية.
ولكن في الحملة الاخيرة قبل ثلاثة عقود ونيف أصيبت بصدمة كبيرة بعد أن تعرضت الى التهديد والوعيد والتعذيب النفسي والبدني من قبل أجهزة الأمن والمخابرات للسلطة العراقية اثناء اعتقالها في بغداد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. حولت حياتها الى تعاسة، ومرهقة للغاية.
  لقد كانت على مدى الأعوام الماضية وتأخذها يومياً حمماً من الحزن وتنتابها نوبات الخوف واليأس وخيبة الأمل وهي غير مقتنعة بما يقال لها، وهي تصر على ما تتخيلها هي واقعية وهذا ليس مرض كما يشاع عنها. ولا تشعر بالرضا والسعادة وتحولت حياتها ومن حولها الى جحيم منذ فترة طويلة وفي بعض الاحيان يساعدها الحظ ينمو ببطء وتعود إلى حالتها الطبيعية، في هذه اللحظات الجميلة تطل خيالاتها من عقلها الباطن وتهيمن الخوف مرة اخرى.
  تسبب تخيلاتها التي تتكلم عنها ضيقاً لمن حولها وفي بعض الأحيان ما يثير سخريّةَ أبنائها.  يصفها ابنها الأكبر بأنها متعبة بسبب توترها وخيالاتها.
  خلال هذه السنوات ها هي تعيش الحالة نفسها وفي عينيها جفت الدموع، لا تزال تعاني من الخوف القديم الجديد، فقد خارت قواها وامتلأت رأسها بأفكار من نسج خيالها. وغالباً تنقبض قلبها وتدخل غرفتها وتغلق الباب والشبابيك على نفسها من شدة القلق. إن القلق ضلٌت تنهشها طوال هذه الفترة.
    كما هو معروف أن الرأس تفرز عند التوتر الشديد دهوناً ومواد أخرى، وتساعد الدموع على إخراجها بعدها يشعر المرء بالهدوء، أما جوهرة كانت تحتقن الدموع في عينيها وتزداد التوتر.
   في بعض الليالي، تستولي عليها كآبة غريبة. تأخَذَهُا عَلَى حِينِ غِرَّةٍ، ويستبد بها خوف، تشعر أنها الوحيدة، قد هجرها صديقاتها واصدقائها جميعا معانيا من اضطراب عميق دون تعرف لماذا تحدث لها. دون تدرك أنها ابتعدت عن العالم من شدة الخوف بعد مرضها.
تتحدث مع نفسها وتقول:
-        لا أحد يزورني، كما لو كانوا نسوني، كما كنت، حقا، غريباً عنهم!
-        نعم الجميع هجروني، بقيت وحيداً اصارع هؤلاء الحيتان، وحتى في بيتي لا أشعر بالراحة.
  يُعدّ اضطراب الوهم من الأمراض النفسية المصنّفة تحت اضطرابات الذهان، وهو مرض  يعاني فيه الشخص من مشكلة في إدراك الحقيقة، لا تدرك جوهرة سبب هذا الأسى الذي يزحف الى داخلها، وأن ما تعاني منها ليس مرضًا بحدّ ذاته، والاصعب من حولها لا يفهمونها وقد رفضت العلاج النفسي، مما اضطر أحد أقاربها طرح مرضها على طبيب الأمراض النفسية وكتب لها الحبوب، واخيراً أبدى استعدادها للعلاج الدوائي، وبعد أن تناول الأقراص، بدأت تقوم بتنظيم ما تدور في رأسها في فترة بسيطة وقد ساعدها على التهدئة في السنة الماضية، وأقلعت عن التخيلات والاوهام وبدأت تمارس حياتها بشكل طبيعي.
* نشر في الثقافة الجديدة في العدد 436 في اذار 2023
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 


4
الحركة الاضرابية في مدينة الموصل

   سادت مدينة الموصل بكامل أشكالها من الاقتصاد الإقطاعي، واتصفت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة بحرمان الفلاحين من الأرض وتركيزها بأيدي الإقطاعيين. وتميز بضمور كامل في العلاقات الأبوية البطرياركية. (71)
  كانت مدينة الموصل نموذج حاد للظلم في تسجيل الطابو وتميز الإقطاع بكونهم يستمدون سيطرتهم من قوة الحكومة.   فإن حائزي الأرض في الموصل لم يكونوا في وضع يسمح لهم بممارسة أي معارضة للسلطة الحاكمة. (72)
  وكانت البرجوازية التجارية في الموصل مهتمة بالحفاظ على العلاقات السياسية مع تركيا، حيث كانت الموصل منذ فترة طويلة مركزاً ومحطة تجارية مع تركيا وسوريا. (73) وبقيت هذه العلاقات على الرغم من تراجع الصادرات بعد ربط العراق بالسوق الرأسمالية. (74) بالإضافة الى قوة النزعة الدينية التي كانت عقبة أمام تطور الحركة المناهضة للحكم العثماني. (75)
  لهذه الأسباب وغيرها، لم يكن الوعي الوطني والقومي عميقاً وفعالاً قبيل الحرب العالمية الأولى.
   لعبت الطبقة الوسطى ولا سيما المثقفين والطلاب في بث الوعي الوطني والقومي في صفوف الجماهير، وتميزت الموصل بنسبة عالية من المثقفين والطلاب بين سكانها بعد بغداد لكثرة المدارس فيها خلال العهد العثماني. (76)
  وقد تشكلت في الموصل جمعية سرية من ممثلي التجار الصغار والضباط والمثقفين، اختفت بعد فترة قصيرة. (77)
  أسست طلبة دار المعلمين في الموصل تجمع، كانت مهمته بث الروح الوطنية في صفوف الطلبة ومن خلال الأناشيد الحماسية التي اثارت الروح القومية في كل مناسبة. (78) وبتأثير المنتدى الأدبي تألفت جمعية "العلم" السرية من ممثلي المثقفين والطلاب في عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. (79) 
  لقد جابهت الجماهير الطلابية سياسة التتريك التي انتهجها الاتحاديين وعبروا بالإضراب عن استيائهم لهذه السياسة الشوفينية.
  ومن اهم الامور التي حدثت في هذا المجال، طالبَ الجماهير الطلابية في دار المعلمين بضرورة رفع مستوى المدرسة وإصدار التوجيهات الى المعلمين الأتراك بالتقيد في أداء واجبهم في التدريس بشكل كامل والامتناع عن المضايقة، بعد أن قام الاتحاديون بتعيين عدد من المعلمين المتعصبين للقومية وابعدوا نظرائهم الذين عملوا في الحركة الوطنية العراقية.
  على إثر إقدام الإدارة في طرد ثلاثة من الطلاب النشطاء، عقد الطلاب اجتماعاً في المدرسة العلمية وقرروا الإضراب عن المدرسة حتى يتم إلغاء قرار الطرد، وانتخبوا ثلاثة طلاب متفوقين في دروسهم للخدمة في المدرسة العلمية عوضا عن مدرسيهم (80) وعندما تفاقم الوضع اضطرت الإدارة إلى استدعاء الشرطة..
  وبعد مضي سبعة عشر يوماً أبرق الطلاب خلالها إلى مدير المعارف ومدير الداخلية ورئاسة الوزراء في الآستانة، برقيات تتضمن مطالبهم، وكما أرسلوا صور من تلك البرقيات إلى الصحف البارزة في اسطنبول.
  لقد استجاب المسؤولون في دار الخلافة العثمانية لمطالب الطلبة واوعز الى الوالي التحقيق في القضية وشكل لجنة رباعية من وجهاء المدينة.
  في الوقت الذي وصلت اللجنة إلى المدرسة، تجمعت الطلاب في فناء المدرسة وأخذت تهتف بشعارات وطنية حماسية تعبر عن روح التحدي والإصرار على النضال من أجل تحقيق مطالبهم، فاضطرت الإدارة الرجوع عن قرارها واعادة المفصولين إلى مقاعد الدراسة. (81)

الخلاصة
  لو نظرنا عن كثب إلى هذه الانشطة والحركات الطلابية، نجد انها في معظم الحالات اتسمت بالعفوية وعدم الاستقرار في غالب الأحيان ولم تتحول الى حركة جماهيرية مطلبية واسعة تمكنهم من زعزعة قلعة الدولة العثمانية.
 تعود اسبابه الى قلة الخبرة وعدم النضج السياسي الذي ميز الحركة الوطنية بشكل عام في تلك الحقبة التاريخية، فالمعارضة في العراق اعتبرت نفسها جزءً من المعارضة العامة داخل الدولة العثمانية أكثر من كونها قوة خارجية في إطار دولة تواقة إلى الاستقلال.
   اتخذت الطلبة الإضراب كسلاح في كفاحهم لتصعيد روح التحدي والإصرار على مطالبيهم. على الرغم من أن بعض هذه الإضرابات صغيرة الحجم، إلا أنها أضافت قوة اجتماعية جديدة في الحركة الوطنية العراقية ضد الحكم العثماني الغاصب.
  إن هذه التظاهرات والإضرابات الطلابية، قد خبرت الحركة الوطنية بأهمية العمل الجماهيري لتحقيق مطالبهم وفي نفس الوقت تشير الى مدى الوعي الذي حققه الطلبة.       
   
 .....................
(1)   -  لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار التقدم، موسكو، 1971، ص. 390 - 391
(2)   -  سعاد خيري، تاريخ الحركة العربية المعاصرة في العراق الجزء الاول 1920 - 1958، ص. 17
(3)   - محمود أمين العالم، الوعي والوعي الزائف، دار الثقافة الجديدة القاهرة ص. 34
(4)   - د. محمد أنيس، محاضرات عن تاريخ الشرق الأوسط، الجزء الأول، ص. 25 عن مجلة دراسات عربية، العدد 2، السنة الخامسة عشر كانون الأول 1978، ص. 18
(5)   - د. وميض جمال عمر نظمي، ثورة 1920 ((الجذور الفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية والاستقلالية في العراق))، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 65
(6)   - د. عبدالاله احمد، نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 - 1930، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية "آفاق عربية" الطبعة الثانية بغداد 1986، ص. 4
(7)   - د. عبد العزيز الدوري «التكوين التاريخي للأمة العربية "، ص. 232- 233 عن حسين جميل، العراق شهادة سياسية 1908 1940، دار السلام، لندن 1987 ، ص. 8 - 9
(8) - رفعت السعيد، الأساس الاجتماعي للثورة العرابية، مكتبة مدبولي، ص. 100
(9) -محمود العبطة، رجل الشارع في بغداد، 1972، ص. 201
(10- الثقافة الجديدة، العدد 76، تشرين الأول 1975، ص.124
(11) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 369
(12) - البرافدا، 7 مايس، عن الثقافة الجديدة العدد 15 تموز 1970، ص. 67
(13) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 395
(14) - الدكتور كمال مظهر أحمد، دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية، مطبعة الحوادث، بغداد 1978، ص. 56
(15) - روفائيل بطي، صحافة العراق، الجزء الاول، بغداد، 1985، ص. 47
(16) - الرقيب، العدد 9 بتاريخ 7 سفر 1327، السنة الأولى، عن عمر فياض، جذور الفكر الاشتراكي في العراق 1920 - 1934، دار ابن الرشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1980.
(17) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 74
(18) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(19) - المقتطف، المجلد الرابع والثلاثون، يناير 1909، ص. 95، عن آفاق عربية، العدد الثالث، السنة الرابعة عشر، آذار 1989، ص. 61
(20) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 401
(21) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(22) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 70
(23) - د. عبدالاله احمد، نفس المصدر السابق، ص. 17
(24) - حسن الاسدي، ثورة النجف، بغداد دار الحرية للطباعة، 1975، ص, 11-12
(25) - د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الثالث، بغداد 1972، ص. 8 - 9
(26) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 - 79
(27) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(28) - آفاق عربية، العدد الثالث آذار 1989، السنة الرابعة عشر، ص. 61
(29) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 10
(30) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 100
(31) - افجيني بريماكوف، الشرق بعد انهيار النظام الاستعماري، دار التقدم، موسكو 1985، ص. 68 
(32) - جورج انطونيوس، يقظة العرب، ترجمة ناصر الأسد واحسان عباس، بيروت 1982، ص. 177 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 آذار 1989، ص. 61
(33) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص.399
(34) - الدكتور كمال مظهر، ترجمة محمد ملا عبد الكريم، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 95
(35) - لينين، المادة القابلة للاحتراق في السياسة العالمية، مجموعة من المؤلفات      الكاملة الروسية، المجلد 17، ص. 377، عن لوتسكي نفس المصدر السابق، ص. 397
(36) - افجيني بريماكوف، نفس المصدر السابق، ص. 56
(37) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(38) - سليمان فيضي، في غمرة النضال، شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد 1952 ص. 58
(39) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 403
(40) - ابراهيم خليل، الحركة العربية في الموصل قبيل الحرب العالمية الأولى، ص. 84 - 85 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الأول 1979، ص. 54 - 55
        (41) - علي البازركان، الوقائع الخفية في الثورة العراقية، مطبعة السعد، بغداد
        1954، ص. 12 
        (42) - عبد الرزاق الحسني، تاريخ الاحزاب العراقية، الطبعة الثانية بيروت 1983،
      ص. 19
        (43) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 85
        (44) - تألفت الجمعية في سنة 1911 في فرنسا، لم يكن من بين مؤسسيها أعضاء
         من العراقيين وقد انتمى إليها في الفترة ما بعد الحرب العالمية بقليل.
         احلام جميل، الأفكار السياسية للأحزاب العراقية في عهد الانتداب 1922 - 1932،
       منشورات مكتبة المثنى، مطبعة الزمان، بغداد 1985، ص. 5     
        (45) - نجدت فتحي صفوت، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب، منشورات
          دار التربية والتحرير، بغداد، الطبعة الثانية 1984 مطبعة منير ص. 76- 7 - 78
        (46) - د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 161
        (47) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 - 99 
        (48) - عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، الطبعة السادسة، مطبعة
         العرفان، صيدا لبنان 1972، ص.27
       (49) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 71
       (50) - عبد الرزاق عبد الدراجي، جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في 
       العراق 1908-1945، دار الحرية للطباعة، الطبعة الثانية، بغداد 1980 ص. 32
   (51) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 152 - 160 - 162
   (52) - روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص. 51
   (53) - آفاق عربية، العدد 3 آذار 1989، ص. 62
   (54) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 67 - 68
   (55) - عبد الرزاق عبد الدراجي، نفس المصدر السابق، ص. 35
   (56) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 76
   (57) - آفاق عربية، العدد 3 تشرين الثاني 1979، ص. 54 وحسن الاسدي، ثورة
    النجف ص. 78 - 79
   (58) - د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 7-8                
   (59) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 - 99
   (60) - عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي 1984 ص. 236 عن مجلة آفاق عربية العدد الثالث آذار 189 ص. 62
  (61) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 99
  (62) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 86
  (63) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 398
  (64) - نصير الجادرجي، من أوراق كامل الجادرجي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر 1971، ص. 41
 (65) - هبة الدين الشهرستاني، مجلة العلم النجفية، العدد الأول، سنة 1910
 (66) - محمد صادق الحسيني، عمران في بغداد، ص. 213 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الثاني 1979
 (67) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 - 79
 (68) - ناجي شوكت، سيرة وذكريات ثمانيناً عاماَ 1894 - 1974، الطبعة الثالثة، مطبعة دار الكتب، بيروت 1977، ص. 20 - 21
 كان الوفد الطلابي مكون من " ناجي شوكت، بهجت زينل، فاضل محمود، مصطفى عاصم، عبد العزيز الخياط، ومزاحم الباجه جي".
(69) - عبد الرزاق الهلالي، معجم العراق، الجزء الأول، مطبعة النجاح بغداد 1953، ص. 235
(70) - روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص.48 - 49
(71) - ل.ن. كوتلوف، ثورة العشرين التحررية في العراق، ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم، مطبعة اوفيست الديواني، بغداد 1985، ص. 63، 65،67
(72) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 97، 98
(73) - د. محمد سلمان حسن، التطور الاقتصادي في العراق، الجزء الأول، الناشر المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ص. 89
(74) - د. محمد سلمان حسن، نفس المصدر السابق، ص. 131
(75) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 121
(76) - د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس، مطبعة المعارف، بغداد 1977، ص. 53
(77) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(78) - عبد المنعم الفلاحي، أسرار الكفاح الوطني في الموصل، الجزء الاول، مطبعة شفيق 1958، ص. 33
(79) - عبد المنعم الفلاحي، صفحات مطوية من تاريخ الحركة القومية، صدى بابل الموصل العدد 158 9 أيار 1952، وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(80) - عبد المنعم الفلاحي، نفس المصدر السابق، ص. 116 - 117
(81) - ابراهيم خليل، ولاية الموصل دراسة في تطوراتها السياسية " 1908 - 1922" بحث من مجلة الخليج العربي التابع لجامعة البصرة ص. 140 عن آفاق عربية العدد 3، تشرين الثاني 1979، ص. 54
                                                                                                                                                                                                                                                                               

       
     


5
            المثقفون
النشاط الفكري والسياسي في العهد العثماني

    المؤثرات الداخلية والخارجية
    على الحركة الفكرية في العراق


   يرتبط تاريخ بلورة الوعي الوطني، ونمو الروح الوطنية، وظهور النشاط الفكري والثقافي في العراق، خاصة بين المثقفين والطلاب، ومساهماتهم في الحركة الوطنية العراقية ضد المغتصبين العثمانيين، بآثار الثورة الروسية (1905-1907) وانتصار الثورة البرجوازية التركية عام 1908.
 
   
    هذا الوعي والنشاط الفكري والثقافي لم ينبع من فراغ، بل كان قائماً على تغيرات هيكلية في أوضاع البلدان العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص، في إطار التغيرات الدولية في تلك الحقبة الزمنية.

    التغيير الذي حدث في العراق هو نتيجة عوامل وطنية وعالمية، وكذلك الأفكار التي ظهرت خلال تلك الفترة لم تكن بمعزل عن تفاعل وتداخل العوامل الداخلية والخارجية.
   
    لقد خضع العراق كسائر البلدان الاخرى للسيطرة العثمانية طيلة أربعة قرون ((منذ بداية القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين)). سادت البلاد عهد التخلف، الظلم، الفساد، الاضطهاد، العادات، التقاليد، الحقوق القومية، الحملات العسكرية والتجنيد الإجباري. وكل ما سبق ذكره كانت له عواقب وخيمة على مستقبلها.
  عانى العراق كغيره من البلدان العربية من نوعين من الاضطهاد: اضطهاد الرأسماليين الأجانب، بعد تغلغل رأس المال الأجنبي في نطاق الدولة العثمانية، واضطهاد السلطة الاستبدادية للدولة العثمانية. (1)
   في مواجهة هذه السياسة التعسفية، كانت هناك حركات متواصلة عربية - كردية ضد القمع والاستغلال التركي لنيل الحقوق القومية. كانت المطالبة بالاستقلال الذاتي واللامركزية من أهم المطالب أهمية في ذلك العهد. لقد عبرت القوميات العربية والكردية في العراق عن مطامحها وإرادتها من خلال الثورة (ثورة بغداد في 13 حزيران 1831) أو من خلال الانتفاضات والعصيان التي اندلعت في كثير من المدن والأرياف، ومعظمهم من الفلاحين بقيادة بعض الملاكين الأحرار - أو الجمعيات والاندية. كان بعض هذه المؤسسات خارج القطر العراقي والبعض الآخر (عربي - كردي) ومعظم موظفيها من المثقفين والضباط والتجار (2)


أدى موقع العراق في الطرف الأقصى من الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف إلى عزله عن المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية في هذه الدولة.
   ومع ارتباط العراق بالسوق الرأسمالي العالمي، خاصة بعد شق قناة السويس، أدى ذلك إلى نشوء البرجوازية، لكن تطورها كان بطيئاً، وانعكس ذلك سلباً على تغيير البنية المتحجرة للمجتمع العراقي، والحفاظ على نفوذ تلكم التقاليد الاجتماعية والدينية للمجتمع. وهكذا كان للعنصر الديني تأثير كبير في الحياة السياسية في البلاد.   
   ادى هذا النمو المشوه للرأسمالية إلى عجز البرجوازية، بسبب ضعف كياناتها وعلاقاتها مع الإقطاعيين ورأس المال الأجنبي، عن النهوض بالشعب وقادته في النضال المعادي للحكم الأوتوقراطي العثماني وضد تغلغل رأس المال الاستعماري.
   بالمثل، كانت الطبقة العاملة في دور التبلور قليلة العدد، وكان غالبيتها من العمال الموسومين، وغير المرتبطين بمصانع كبيرة، وتحمل عبء التقاليد الاجتماعية، والخصائص القومية، والدينية والاقتصادية.
   أما بالنسبة للفلاحين، فلم يكن لهم تنظيم آخر غير التنظيم الأبوي القبلي، الذي كان أساسه المادي حيازة الأراضي المشاعية للقبيلة التي تملكها الدولة، وأخذ هذا النظام بالتفكك منذ الثلث الأخير من القرن التاسعة عشر، فنضالات الفلاحين تمت تحت قيادة شيوخهم.
  وفي هذه الفترة التاريخية، ظهر على المسرح السياسي ممثلون عن الفئات الاجتماعية الوسطية، من المثقفين والطلاب والضباط والتجار الصغار وهؤلاء اتسموا بتقلبات كبيرة في ميولهم وطموحاتهم.
   في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تم إنشاء عدد من المدارس الحديثة في العراق في المدن الكبيرة كبغداد، الموصل والبصرة وغيرها. تخرج منها عدد من المتعلمين المعاصرين، ومن خلال دراستهم في هذه المدارس تعرفوا على الأفكار الديمقراطية البرجوازية ((الحرية، المساواة، العدالة)) ومن الأمثلة على ذلك الثورة الفرنسية.
  كما قامت المدرسة الرشدية والاعدادية العسكرية بتخريج عدد كبير من الضباط العراقيين الذين لعبوا دوراً مهماً في الحركة الوطنية.
  ولم تهتم الدولة العثمانية بتأسيس التعليم العالي في العراق، وبعد اعلان الدستور تأسست مدرسة الحقوق في بغداد عام 1908.
  ولابد من الاشارة إلى أن تخريج عدد من الطلاب العراقيين من معاهد وكليات اسطنبول والجامعة الامريكية والكلية العسكرية في تركيا، كان لهم دور بارز في تشكيل فئة المثقفين العراقيين.
  في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، افتقر العالم العربي الى معرفة وثيقة بحقيقته، واحتدم الصراع الفكري حول التجريدات العامة: الموقف من الإسلام والمسيحية، من الدعوة الإسلامية والدعوة العربية والتحري عن أسباب تخلف البلدان العربية وكيفية تجاوزها. (3)
 
    لعب المسيحيون دوراً مهماً في هذا المجال وكانوا الرواد الأوائل للفكر العربي القومي، حيث كان المسيحيون يمثلون من الناحية الاقتصادية قطاعاً نشطاً في المجتمع العربي، كما تمتعوا بالحماية والامتيازات الفرنسية التقليدية داخل الدولة العثمانية، مما أتاح لهم الفرصة للنمو الاقتصادي في التجارة. لقد لعبوا اساساً دور الوسطاء بين العرب والعالم الغربي، وقد مكنهم هذا الوضع أيضا من التأثر بالفكر الغربي وحضارته، فضلاً عن اتصالهم بالفكر التبشيري من خلاله بالثقافة الأوروبية. (4) 
  وكان تأثير هذه الأفكار في العراق ضئيلاً باستثناء الحالات الفردية (5). لأن المسيحيين لم يلعبوا دوراً مهماً كنظائرهم في البلدان العربية، بصرف النظر عن العوامل التاريخية الأخرى.
   تميز العراق بهيمنة التيار السلفي وايلاء أهمية بالفكر العربي القديم الذي يستمد ثقافته من علوم الدينية واللغة العربية التي يدرسها الدارسون في المساجد والمدارس المختلفة. (6)
  وكان هذا التيار السلفي ((اتجاه عربي إسلامي يتمثل فيه التغني بأمجاد العرب بماضيهم والتأكيد على العربية والشكوى من الظلم وسوء الإدارة التركية. أنه اتجاه يستند على التراث العربي الإسلامي)). (7) عبارة عن حركة وطنية إصلاحية اتسمت بالمعارضة والرفض لأوضاع الفساد والتخلف والاستبداد العثماني وضد تغلغل رأس المال الأجنبي. انها دعوة لاتخاذ الأصول الدينية وتراث الماضي كأساس للتخلص من هذه الأوضاع، إلا ان تلك الإجراءات كانت ذات نزعة اتسمت بالتزمت والجمود والانغلاق وفقدان الرؤية الاجتماعية والتاريخية تماماُ، دون مراعاة التغيرات البنيوية التي حدثت داخل المجتمع العراقي.
  وفي هذا يكمن سر ما نلاقي خلال هذه الفترة من أفكار مضطربة، حيث أحكمت الدولة العثمانية قبضتها حتى في أكثر حالات ضعفها واضمحلالها مستنداً إلى الفكرة الخلافة مدعيةً أن كل حركة قومية أو وطنية هي مروق من الدين ومرتد عن الإسلام. (8)
  لم يكن الإسلام عقيدة طارئة في حياة المجتمع العراقي، بل مارس تأثيره لقرون، وأثر بشكل مباشر على العلاقات الأسرية والمجتمعية وحافظ على تقاليده.
  بالإضافة الى ذلك، من سمات الإسلام أن القرآن والشريعة يحتويان على مبادئ تمتد للقواعد الأخلاقية والسلوكية للإنسان، ليس في الأسرة والمجتمع فحسب، بل في حياته الشخصية ونشاطه الاقتصادي والاجتماعي ايضاً. بالنسبة للمؤمنين، الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أسلوب حياة. بالإضافة الى العوامل التاريخية التقليدية والاجتماعية التي أثرت بشكل أو باخر على تطور الحركة الفكرية العراقية خلال هذه الفترة. 
بقيت طيلة القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعيداً عن التيارات الفكرية الحديثة. قبل الاحتلال البريطاني لم يكن للعراق اتصالات وثيقة مع الأوروبيين على خلاف مصر وسوريا. تأثرت بشكل غير مباشر بالحضارة الأوربية والتي جاءت في الأغلب عبر تركيا نتيجة لارتباطها الوثيق بالإمبراطورية العثمانية. أتقن معظم المثقفين العراقيين اللغة التركية. كما تعرف الطلاب العراقيون على التيارات الفكرية الحديثة ايضا (9) 
 
 تأثير ثورة (1905 - 1907)الروسية
       على المثقفين العراقيين

 منذ أواخر القرن التاسع عشر، أنشأ الاتراك حركة ثورية برجوازية في تركيا، وضمت الحركة المثقفين أغلبهم من الضباط الجيش والأطباء والموظفين الصغار الذين مثلوا مصالح البرجوازية ومالكي الأراضي الأحرار، وشكلوا تنظيماً سرياً عُرف باسم ((الاتحاد والترقي)). المنظمة السياسية الوحيدة للشباب الأتراك، فكانت مطالبهم الرئيسية أحياء الدستور.
  بسبب الصراعات الداخلية في تركيا وتأثير الثورة الروسية عام 1905 التي قادها البلاشفة والحركة الثورية في القوقاز والثورة التي اندلعت في إيران عام 1905، نشأ وضع ثوري في تركيا (10)، مما أدى الى ثورة 3 تموز 1908. (11)
  إن هذه الثورة وما حدث في إيران والصين تبرهن على (تقدم مئات الملايين من الناس) بتأثير ثورة 1905 الروسية 
ولخص لينين بوضوح فائق تأثير ثورة 1905 على تطور حركة التحرر الوطني في الشرق ((أن الرأسمالية العالمية وحركة روسيا قد أيقظتا آسيا نهائياً، بمئات الملايين من السكان المهانين في ركود القرون الوسطى قد نهضوا للحياة الجديدة، للنضال من اجل ابجدية الحقوق البشرية الديمقراطية)) (12)
  فإن أخبار الحركة الاشتراكية ثورة 1905 - 1907 أصبحت موضع اهتمام الأوساط الثقافية التركية (13)، والتي كانت بدورها مؤثرة على المثقفين والطلاب العراقيين المقيمين في الآستانة.
  كما يؤكد السيد اسماعيل شاويس السياسي المعاصر لتلك المرحلة، أن الشباب الكردي المثقف قد اطلعوا على الأفكار الاشتراكية قبل ثورة أكتوبر وذلك أثناء دراستهم وعملهم في اسطنبول وغيرها من المدن الدولة العثمانية وحتى الأوروبية. (14)
  وفي داخل العراق، كان لثورة 1905 انطباع ملحوظ وقد كتب في مجلة الرقيب "وهي من الصحف الحريصة على تطبيق الدستور" (15) التي تعاطفت مع الثورة الروسية الأولى عندما جاءت بقولها:
  " أن مجلس الأمة الروسي محجوز، تنفذ عليه إرادة القيصر ويضطرب لاسم نيكولاي، وسيبيريا هي سجن أحرار الروس المجرمين في السياسة أو الذين يطالبون بالحرية الحقيقية أو بحقوقهم المغصوبة." (16)
  وبعد إعلان الدستور تأثر المثقفون العراقيون بقوة بالأفكار التي انبثقت عن مصر وسوريا التي كانت جسراً بين العراق والثقافة الغربية، رغم إن معظم المثقفين لم يميلوا لممارسة دور فكري مماثل لنظرائهم المصريين والسوريين، لكن انعكست هذه الأفكار في كتاباتهم. (17)
  لقد خلق السياسة الشوفينية التي انتهجها الاتحادين أزمة فكرية بين المفكرين العراقيين بعد أن تخلوا عن العهود التي التزموا بها أمام الأقليات القومية في مؤتمر باريس. (18)
 اتضحت ملامح هذه السياسة خاصة عند بدء مجلس المبعوثان الثالث اجتماعه في 17 كانون الأول 1908. (19)
  ولم يتخذ الوفد العربي أي موقف مستقل في الاجتماع، لكن معظم العرب كانوا غير راضيين عن الوضع. (20) وبذلك تلاشت الثقة والقناعة بمنظمة الاتحاد والترقي.
  وقد انخرط المفكرون والكتاب والشعراء البارزون في النضال ضد الظلم والاستبداد العثماني والأوضاع السياسية والاجتماعية المتفسخة وضد التيارات الاستعمارية الأجنبية، مما خلق مدرسة جديدة في التفكير العراقي في مطلع القرن العشرين، وكانت هذه الحركة نتاج الأفكار التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وإبراهيم اليازجي وشبلي شميل وغيرهم. عارض كتاب آخرون هذا الاتجاه الذين تعرضوا للاضطهاد من جانب المؤسسات الدينية متهما إياهم بالإلحاد (21) وهو السلاح القديم الجديد يشهره الحكام الرجعيون والمستعمرون في وجه الإصلاحيين.
  وكرد فعل للأوضاع القائمة في تلك الحقبة التاريخية أسفرت عن " تسيس الإسلام " من جهة وتطور الحركة البرجوازية في العراق ضمن التيار الديني، أي اتجاه الحركة كانت عربياً - اسلامياً ضد سياسة الاضطهاد والتتريك والتغلغل الإمبريالي.
    كان هناك نزعة بين رجال الدين لمحاولة التوفيق بين الإسلام والتيارات الدينية الحديثة ورفضهم السلفية اللاعقلانية وكذلك التقليد الأعمى للغرب، ليتخذوا منها سلاحاً ماضياِ ضد سياسة التتريك وإثارة المشاعر الدينية كوسيلة فعالة لمكافحة التغلغل رأس المال الغربي الاستعماري. 
  كانت هذه الدعوة لتجديد الإسلام استمراراً خلاقاً في ظروف تاريخية لتراث قديم، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة الى أن الحقيقة المعروفة أن الشيعة في العراق ورثوا عن المعتزلة مفهوم الاعتماد "المنطق والعقل".(22)
  لقد تمخض الجدل والنقاش بين رجال الدين حول النظريات الفلسفية والاجتماعية ونظام الحكم الاستبدادي المطلق والملكي الديمقراطي ومنها الحكم الجمهوري (23) الى ظهور تيارين متناقضين أولهما اصلاحي معادي للاضطهاد القومي تمثل البرجوازية الصغيرة والثاني رجعي يناهض الدستور يمثل مصالح كبار الملاكين والإقطاعيين والأسر الأرستقراطية في المدينة.
   ففي إطار الحركة الوطنية العراقية، وقفت طائفة من رجال الدين الشيعة المستنيرين إلى جانب القوى والفئات الاجتماعية عندما طالبوا بالدستور والحياة الديمقراطية ودعوا إلى الحركة القومية في إطار الدولة العثمانية.
  قامت هذه الطائفة من رجال الدين بحملة دعائية واسعة لأفكارهم من خلال عقد الاجتماعات والندوات السياسية في المدارس الدينية والبيوت. (24) وشكلوا الحلقات الدراسية في الجوامع يدرسون فيها مبادئ العلوم الحديثة التي استمدوها من المجلات والكتب المصرية. (25) ونظم الأناشيد القومية والوطنية، وكما أيد رجال الدين تأسيس المدارس الحديثة التي اكتسبت قوة وقبولاً لحركة التجديد في الأوساط المحافظة وخاصة الأميين منها. (26)
  وكانت هذه الجهود تتحرك نحو إنقاذ الإسلام السلطوي أو إبراز قسماته التاريخية كعقيدة أو اكتراث الحركة الوطنية "بعد تدهور الإسلام الرسمي" في أواخر العهد العثماني الى مذهب لا عقلي انعزالي. (27) فيهدف هذا التوجه الى تجديد الإسلام في إطار موقف إصلاح اجتماعي، الى جانب طابعه الديني والاصلاحي. انها محاولة للاستقلال الذاتي للعراق ضمن الدولة العثمانية وضد الاختراق الغربي للبلاد. مما يعني ان جوهرها كان ايضاً صراعاً سياسياً.
  أما التيار الثاني التي تجمع حول جماعة المشورة وهي حركة اسلامية معادية للدستور كان محورها نقيب اشراف بغداد "السيد عبد الرحمن النقيب" يساندها الملاكين الكبار وبعض رجال الدين السنة فانضموا فيما بعد إلى الحزب المعتدل. (28)
                                 
  ازدهرت الحركة السياسية ما بعد الدستور على أساس طائفي، فقد أيدت اكثرية رجال الدين الشيعة التجديد بينما عارض معظم رجال الدين السنة الدستور. ولكن لم تكن الارتباطات الطائفية هي التي تحدد الطابع السياسي لهذه الحركات بالدرجة الاولى. فمثلا وقف بعض رجال الدين الشيعة أمثال كاظم اليزدي ضد إعادة الدستور العثماني. (29) بينما وقف يوسف السويدي وهو من الطائفة السنية لا يفوقه منزلة إلا نقيب بغداد مع الحركة الدستورية. (30)
  ساعدت رجال الدين في العراق من خلال نشاطاتهم الفكرية على جذب أكثر فئات الشعب تخلفاً، كما ساعدت على عزل العناصر الدينية المستبدة، التي حاولت أن تعيق عملية التجديد وارجاع مسيرتها الى الوراء مما يؤدي حسب تعبير لينين الى اصابة البلاد بالفساد. (31) وقد كان تأثير العامل الديني المتمثل بالتجديد ايجابيا على العمليات السياسية في هذه المرحلة التاريخية من حياة البلاد.
  أن التيارات الفكرية التي ظهرت بعد إعلان الدستور، كانت ثمرة التناقضات الداخلية وفي تفاعلها وصراعها سلباً وايجاباً مع الحضارة الغربية. "أي أنها محصلة الصراع الفكري من أجل تحديد الهوية القومية والاجتماعية وتجديدها، أنها محصلة صراعات طبقية وقومية بين قوى داخلية."
  كانت التيارات الدينية والعلمانية تتحرك في إطار فكر برجوازي متأرجح بين شرائحه وفئاته العليا والوسطى ولهم موقفاً سياسياً اجتماعياً إصلاحيا وسطيا. وهي دعوة عقلانية إصلاحية في الأساس ضد المؤسسات الرجعية.

مساهمة الطلبة في الحركة الوطنية العراقية
             بعد اعلان الدستور   

  اثارت شعارات قادة ثورة 1908 ((حرية، عدالة، مساواة)) في البداية مشاعر وعواطف الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية الذين كانوا يعانون من الاضطهاد القومي على يد السلطة الغاصبة.
  لقد شاعت على نطاق واسع بين الأوساط البرجوازية العربية بكافة شرائحها وفئاتها وهماً حول إمكانية تحقيق المطامح العربية بنشر اللغة العربية وتحسين أوضاع الولايات العربية والمحافظة على التقاليد والعادات العربية باعتبارها مظاهر اسلامية. وهو ما كانت تصبو إليها الحركة الوطنية العربية مع تأسيس أول جمعية عربية في الأستانة في الثاني من أيلول 1908 أي قبل الثورة بأقل من شهرين، وهي جمعية الإخاء العربي. 
  وقد سار الإخاء العربي على اثر جمعية *الاتحاد والترقي* وانطلقت قادة الإخاء من مبدأ الجامعة العربية واعترفت بما يسمى بالأمة الإسلامية. (33)
  بيد أن الطابع البرجوازي للثورة ساعد على تدهور سريع في الاتجاهات الديمقراطية لحركة الأتراك الشباب. وبذلك كشفت عن الأهداف الشوفينية لقادة الاتحاديين الذين جاءوا بالدستور، فقد اتبعوا ذات السياسة السابقة للدولة العثمانية تجاه الشعوب الخاضعة لهم ((فإذا كان السلطان يريد جعل الدعوة الإسلامية وسيلة للحفاظ على كيان امبراطوريته، فإن الاتحاديين تبنوا لنفس الغاية سياسة قومية بالضد من مصالح الشعوب الداخلة في نطاق الدولة العثمانية. بما في ذلك الشعب التركي.)) (34)  مما أدى إلى انسحاب العرب وبقية القوميات الاخرى، وبدأ العمل على تشكيل منظماتهم الخاصة بهم بعد أن أصيبوا بخيبة أمل جراء النهج غير المتوقع الذي سار عليه الاتحاديون بعد تسلمهم الحكم.
  وبصدد الانتصارات الأولى التي أحرزتها ثورة تركيا الفتاة، كتب لينين ((هذا الانتصار ما هو إلا نصف انتصار، بل حتى جزء أقل من انتصار، إذ أن نيقولاي الثاني التركي قد اكتفى آنذاك بوعده المتعلق ببعث الدستور المشهور)) (35) 
  إن الوضع الجديد الذي ظهر في بداية القرن العشرين المتجسد في أزمة القمة، حيث دب الفساد في ماكينة الدولة العثمانية وتفسخ العلاقات الإقطاعية من جانب، وتشديد اضطهاد الجماهير الشعبية، كانا يفوقان كثيراً على إمكانية الحركة الوطنية الناشئة.
 لم تكن قيادة هذه الحركة ((قادرة على تحويل الرضوخ السلبي للاضطهاد إلى حالة نشطة من السخط والانتعاش)) (35)
  يشكل عام 1908 علامة مهمة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية، فكما ذكرنا سابقا ويمكن إرجاع هذا التطور الى التغيرات الهيكلية التي حدثت في بنية المجتمع العراقي وفي تفاعلها السلبية والايجابية مع الحركة التحررية من أجل الإصلاحات الدستورية التي كانت تقودها جمعية " الاتحاد والترقي "، الأمر الذي أدى إلى ازدياد الوعي الوطني والقومي في صفوف الحركة الوطنية العراقية وأدى تراكم هذا الوعي الى حركة ضاغطة أدت الى تراجع الاتحاديين عن مواقفهم السابقة. وحفز الطلبة وسائر المثقفين لتبني مبدأ المعارضة ضد النظام العثماني والدعوة الى الحكم الذاتي واللامركزية.
  لقد ساهم عدد غير قليل من الطلاب العراقيين الى جانب الضباط وسائر المثقفين، في تأسيس الجمعيات والمنظمات وعقد المؤتمرات في الخارج، بل إن بعض الطلاب العراقيين الذين درسوا في معاهد وكليات المدنية والعسكرية في اسطنبول بادروا إلى تأسيس عدد من الجمعيات قبيل الحرب العالمية الأولى.
  لعب الطلبة العراقيين دوراً بارزاً في المنتدى الأدبي الذي تأسس في عام 1909. لم تكن لأهداف المنظمة الرسمية أي صلة بالسياسة، وكانت في الظاهر جمعية أدبية محضة، ولكن وفي الواقع كانت سياسية ومركزاً لتجمع الطلاب والمثقفين من العرب وتلقى فيها المحاضرات والخطب. (38) كما حصلت على مطبوعات ممنوعة من مصر والولايات المتحدة الأمريكية واستخدمت بالدرجة الأولى كستار لمنظمات القوميين العرب السرية. (39)
  كما أرسل المنتدى مُوفَّداً الى الموصل وعقد اتصالات مع عدد من الطلبة ودعاهم الى تنظيم أنفسهم داخل أحزاب وجمعيات. (40) وقد نجح إلى حد كبير في بث الفكرة الوطنية في سوريا والعراق. (41)
  بمبادرة من الطلبة العراقيين في اسطنبول تأسست في أيلول عام 1912 جمعية العلم الأخضر. (42) اقتصرت نشاطاتها على الأمور الادبية وتقوية الروابط والعلاقات المتينة وبث الوعي السياسي بين الطلبة. (43)
  ساهم الطلبة في المؤتمر العربي الأول في باريس التي دعت إليها جمعية العربية الفتاة في عام 1913. (44) 
  لقد كانت لهذه الجمعيات والمنظمات وخاصة المنتدى الأدبي أثراً كبيراً في توعية الطلبة العراقيين الدارسين في الآستانة، وبعد تخرجهم لعب هؤلاء دورا مؤثراً في بث الوعي الوطني في صفوف الشعب العراقي.

   أصداء ثورة 1908 التركية
       في داخل العراق

  لقد استقبل العراقيون انتصار الثورة وإعلان الدستور بابتهاج وحماس عالين باعتبارها عهدا جديداً لتآخي القوميات على اختلاف عقائدها وخاصة في بغداد. أما في الموصل كان الدستور وسيلة للتخلص من الوالي مصطفى بك، ولم يشعر أهل البصرة بأي تأثير على وضعهم. (45) ومع ذلك انعكس تأثيرها بشكل رئيسي على المثقفين والمتعلمين. (46)
برزت الحركة الوطنية المعارضة لحكم الاتحاديين في شكلها الجنيني بعد إعلان الدستور. فقد أيدت المشروطية لكنها وقفت ضد سياسة التتريك، ولكنها لم تخرج عن إطار الدولة العثمانية. وعبرت عن نفسها في بغداد من خلال بعض المثقفين والصحفيين الذين التفوا حول صحيفة بين النهرين للتعبير عن رغبتهم في الإصلاح والتقدم وتحقيق حقوق الشعوب الخاضعة للسلطنة العثمانية في المساواة، وشكلوا فرع تابع لحزب                                                                          الحرية والائتلاف في بغداد، والذي كان في الواقع حزباً تركياً يعارض سياسة الاتحاديين ويتعاطف مع مطالب القوميات غير التركية. (47)
  وشهدت الصحافة انتعاشاً كبيراً عقب إعلان الدستور بعد أن كان هناك ثلاث صحف فقط في العراق تصدرها السلطة العثمانية باللغتين العربية والتركية في كل من مراكز الولايات الثلاثة " بغداد، البصرة، الموصل". بعد إعلان الدستور مباشرة بلغ عدد الصحف والمجلات ما يقارب السبعين. (48)
  وكان الغاية من إصدار هذا العدد الهائل من الصحف والمجلات، تعود الى رغبة المثقفين في القيام بإصلاحات وطنية (49) وصارت هذه الصحف مناراً للاتجاهات السياسية والفكرية الإصلاحية التي أثرت في بلورة الوعي الوطني لدى الجماهير الشعبية.
  لقد أدركت البرجوازية العراقية الناشئة ومثقفوها اهمية الدعوة الى تأسيس المدارس والمعاهد العالية والتدريس فيها باللغة العربية، (50) وقد اتخذت الدعوة من الصحافة والمجالس العمومية ومجلس المبعوثان ميادين لإثارة هذا المطلب. (51)
 فقد نشر جريدة الايقاظ في البصرة سلسلة من المقالات تدعو إلى الإصلاحات في النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية، ونادت بتأسيس المدارس ومجانية التعليم وتعميم اللغة العربية في معاهد التعليم ودوائر الدولة، وطالبت بتأسيس مدرسة الصناعة. (52) 
  كما نشرت الصحف الاخرى وخصوصا المفيد وصدى بابل والرياض والعرب وغيرها الدعوة لنشر التعليم. (53)
  واندفع المثقفون إلى تأسيس المدارس الاهلية لتكون مركزاً لنشر الوعي الوطني في صفوف الطلبة. فتأسست " مدرسة تذكار الحرية " (54) في البصرة في تشرين الثاني عام 1908 ومدرسة " الترقي الجعفرية " (55)    في بغداد والتي افتتحت في 12 كانون الأول 1908 وقد أصبحت هاتان المدرستان منتديين سريين يجتمع فيهما المفكرون والأدباء والكتاب ممن أن انضموا الى الحركات السياسية العراقية المعادية للاتحاديين وتعقد فيه الاجتماعات والندوات تحضره الطلاب. (56)
  وأصبحت المدرستان المرتضوية والعلوية في النجف كنادي للطلبة، يطالعون فيها الصحف التركية والإيرانية والمصرية وتعرفوا من خلالها على التيارات الفكرية الحديثة وتعقد فيها الاجتماعات لبحث الأمور السياسية والأدبية. ولا تنحصر دور هاتين المدرستين، كوسائل التي ساعدت على نشر التعليم والثقافة الحديثة في محيط، كمحيط النجف فحسب، بل أن تأييد معظم علماء لفكرة تأسيسها ومنهجها اكسبت حركة التجدد قوة وقبولاً في الأوساط المحافظة ايضاً وخاصة الامية منها. (57)
  إضافة إلى ذلك لعبت المدارس التي أنشأتها الدولة العثمانية في بعض أنحاء العراق دورا فاعلاً في خلق جيل جديد من المثقفين العصريين يرفضون الظلم والنظام الاستبدادي للدولة العثمانية وبدأوا بنشر الوعي والروح الوطنية والأفكار الحديثة في صفوف الجماهير الكادحة لإنارة أذهانهم تطلعاً نحو آفاق جديدة. (58)         
 بدأت الفئات المتعلمة والمثقفة ولا سيما طلاب الحقوق وأساتذتها، وكذلك بعض السياسيين في اتخاذ مواقف شديدة تجاه الدولة العثمانية، فانتشرت فكرة اللامركزية بعد تطور الفكر السياسي لدى الوطنيين العراقيين وأصبحت أكثر رسوخاً في أذهانهم في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين نزوعا نحو الحكم الذاتي، بعد الاقتناع بعدم جدوى الارتباط بالأحزاب السياسية التركية. إلا أنه لم يصل الوعي الوطني إلى حد المطالبة بالاستقلال التام. وهكذا تشكلت في أواخر 1912 في بغداد جمعية جديدة تحت اسم " النادي الوطني" (59) التي كانت تحت تأثير العناصر الإقطاعية والكومبرادورية الأشد قوة. 
  وكانت الجمعية أدبية في مظهرها لكنها صارت مركزاً للنشاط السياسي للمثقفين العراقيين من خريجي المدارس العليا التركية وطلاب الحقوق وبعض الشباب من الفرات الاوسط وعدد كبير من الضباط العراقيين العاملين في الجيش العثماني. (60)   
  وسرعان ما ارتبطت جمعية النادي الوطني بجمعية الإصلاح في البصرة (والتي شكلها طالب النقيب في 28 شباط 1913)، في الواقع تبنت جمعية البصرة وبغداد برنامج حزب العثماني اللامركزية واصبحتا فرعين بارزين له (61)
  لم يفهم قادة الحركة الوطنية العراقية واقع وطبيعة الدول الاستعمارية، حيث اتجه قسم منهم إلى التعاون معهم ضد الدولة العثمانية. وفي هذا الوقت ظهرت " منظمة اليد السوداء " التي بادر الى تأسيسها الطلبة الدارسون في الكليات والمعاهد المدنية والعسكرية في اسطنبول التي طالبت بحق تقرير المصير والتحرر الكامل من الدولة العثمانية، بقتل الخونة الذين يناوئون فكرة التحرر من السيطرة العثمانية. (62) 
  واتسمت الحركة الوطنية العراقية حتى الحرب العالمية الأولى بالميوعة وليست لها وجهة سياسية واضحة وموحدة ولم تكن عميقة الجذور لانعزالها عن الجماهير الشعبية وسرعان ما تفتت المنظمات التي تشكلت قبيل الحرب العالمية لأسباب اقتصادية بحتة. 

    التحركات الطلابية
الإضرابات والمظاهرات

شهدت السنوات الممتدة بين عام (1908- 1913)، بداية نهوض حركة التحرر الوطني العراقي. اقتصرت أنشطة قادة الحركة الوطنية في هذه الفترة على الدعاية للأفكار القومية والوطنية. كانت السمة المميزة للحركة الوطنية هي عزلتها عن الشعب، مما جعل من الصعوبة عليها تنظيم الجماهير الشعبية أو قيادتها بثبات وربط النضالات التي دارت في المدن بحركات الفلاحين والانتفاضات من اجل الارض التي بلغت ذروتها في عامي (1913 - 1914). (63)
 
وبدافع الأوضاع السيئة القائمة داخل المدارس وضد السياسة الشوفينية للسلطة الجديدة ومحاولتها تتريك المدارس، خاضت الجماهير الطلابية سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي لم تتجاوز نطاق المقاومة العفوية، ولكنها ساهمت بشكل أو باخر في توعية الجماهير الطلابية وتحدي للظروف السائدة ومقاومة الظلم والاستبداد.
  أثار النظام البوليسي الصارم في العهد العثماني استياءً واسعاً بين طلاب المدارس المختلفة وخاصة أساليب إدارات المدارس اللاتربوية واتباع هذه الإدارات التميز الاجتماعي والطبقي في تعامله مع الطلبة، حيث خصص غرف خاصة لأبناء الأثرياء، مما خلقت هذه السياسة تململ في صفوف الطلبة ولا سيما في عهد السلطان عبد الحميد.
  عبرت الطلبة عن احتجاجهم على الأوضاع القائمة بأشكال مختلفة. فقد أقدمت الطلبة على كتابة الشعارات ضد السلطان عبد الحميد لقمعه الحريات والأفكار وتم توزيعها بصورة سرية داخل المدرسة. (64)   
    عندما ظهرت بوادر الحركة الدستورية في إيران عام 1905، أثار الرأي العام العراقي وطالب رجال الدين في النجف الى مساندة نضال الشعب الايراني في سبيل حقوقها الديمقراطية، وكان لهذا الحدث تأثيره الكبير على تفكير الطلبة في المدارس الدينية من خلال الطلاب الإيرانيين.
  سارعت تلاميذ المدارس الدينية مع رجال الدين في تنظيم البرقيات ورسائل الاستنكار إلى السلطات الإيرانية تطالبها التقيد بالدستور ومجلس الشورى في عام 1906. (65)
  في عام 1908 أطلقت الحركة الدستورية العنان لمبادرات الجماهير الشعبية، حيث تلقى الطلاب بفرح وابتهاج نبأ إعادة العمل بالدستور، وانطلقت المظاهرات الطلابية للاحتفال بهذا الحدث. (66) كما انضم العديد من الطلبة في النجف الى منظمة الاتحاد والترقي ودعوا الى نشر مبادئ الدستور عن طريق المدارس الدينية وجرى طبع النشرات على الة الرونيو
وتوزيعها. (67)
  أما في بغداد فقد ساهم الطلاب في نشاط الحركة التي برزت ضد الأساليب القسرية التي كانت إدارات المدارس تتخذها ضد الطلبة.
 فقد أعلن طلاب المدرسة الحربية في بغداد الإضراب والتظاهر ضد مديرهم وأخرجوه عنوة. كما قرر طلاب الصف الخامس في الاعدادية الملكية في بغداد إعلان الإضراب احتجاجاً على سوء معاملة معاون مدير المدرسة مع الطلاب، وبعد لحظات خرجوا إلى ساحة المدرسة وبدأوا بتحريض بقية الطلاب على الإضراب والتضامن معهم، وحاول مدير المدرسة منعهم من الخروج إلا أن محاولاته بغلق الباب باءت بالفشل امام إصرار الطلبة، فكسروا باب المدرسة وانطلق جموع الطلبة قاصداً السراي لمقابلة الوالي.
 قدم وفد مكون من ستة طلاب مطالبهم للوالي وطالبوا بمحاسبة معاون مدير المدرسة على السلوك غير التربوي تجاه الطلاب.
 فقد احالهم الوالي الى مدير المعارف لدراسة مطالبهم إلا أن الأخير قد تواطئ مع مدير المدرسة ورفض مقابلة الوفد الطلابي.
  استغل المدير تراجع بقية الطلبة عن مواقفهم، قررت الادارة طرد الطلاب الستة المساهمين في الوفد لمدة اسبوع. بسبب عفوية الإضراب وضعف التنظيم وعدم تضامن الطلبة مع الوفد ادى إلى فشل الإضراب وعدم إحراز النجاح في محاسبة معاون المدير.
  بعد تعيين الوالي الجديد لبغداد اوعز الى المدعي العام بالتحقيق مع معاون المدير. ولكن المعاون خاف من مغبة سلوكه فهرب إلى أفغانستان عن طريق إيران، أعيد الطلبة الى مقاعدهم الدراسية واستقبلوا من قبل زملائهم باحترام وتقدير وأصبحوا من الطلبة البارزين في المدرسة وتألفت في المدرسة لجنة منهم بالإضافة إلى مدير المدرسة وأحد أعضاء التدريسية للإشراف على إصدار مجلة مدرسية أسبوعية باسم "لمعة معارف". (68) 
 كانت بداية التطور النوعي في نشاط الطلبة بعد تأسيس مدرسة الحقوق في عام 1908، حيث صارت المدرسة منطلقاً للحركات السياسية والقومية ضد الحكم العثماني، مما أرعب الوالي جمال باشا السفاح الذي تولى مهامه في 30 آب 1911. أصدر الوالي بياناً يدعو فيه عن أسباب إغلاق المدرسة بحجة واهية مفادها أن مدرسة الحقوق لا تليق ببغداد ولعدم وجود اناس متعلمين أكفاء للدخول فيها، (69) وعلى أثر صدور البيان، فقد عمت في بغداد سلسلة من الاحتجاجات على القرار المجحف بحق الطلبة. حيث وقفت جريدة ما بين النهرين موقفاً تضامنياً مع الطلبة.
 ولم تكتف بنشر بيان الوالي بصدد إلغائه لمدرسة الحقوق، بل هاجمته ايضاً بعنف. وكان لهذه الاحتجاجات صدى واسع أدى إلى فشل محاولات الوالي إغلاقها، وأعيد فتحها بعد إصدار الأوامر له من اسطنبول. (70)
 

6
 
 
الحركة الاضرابية في مدينة الموصل

   سادت مدينة الموصل بكامل أشكالها من الاقتصاد الإقطاعي، واتصفت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة بحرمان الفلاحين من الأرض وتركيزها بأيدي الإقطاعيين. وتميز بضمور كامل في العلاقات الأبوية البطرياركية. (71)
  وكان الموصل نموذج حادا للظلم في تسجيل الطابو وتميز الإقطاع بكونهم يستمدون سيطرتهم من قوة الحكومة. فإن حائزي الأرض في الموصل لم يكونوا في وضع يسمح لهم بممارسة أي معارضة للسلطة الحاكمة. (72)
  وكانت البرجوازية التجارية في الموصل لهم مصلحة بالاحتفاظ بروابط سياسية مع تركيا، لكون الموصل منذ زمن بعيد مركزا ومحطة تجارية لتجارة الموصل مع تركيا وسوريا (73) وبقيت هذه الروابط رغم انخفاض التصدير بعد ربط العراق بالسوق الرأسمالية. (74) فضلا الى قوة النزعة الدينية التي كانت تشكل عقبة أمام تطور الحركة المعادية للحكم العثماني. (75)
  لهذه الأسباب وغيرها، لم يكن الوعي الوطني والقومي عميقاً وفعالاً قبيل الحرب العالمية الأولى.
   لعب الطبقة الوسطى ولا سيما المثقفين والطلاب في بث الوعي الوطني والقومي في صفوف الجماهير، كما اتسم الموصل بنسبة عالية من المثقفين والطلاب تضم بين سكانها بعد بغداد لكثرة ما كانت فيها من مدارس في العهد العثماني. (76)  وقد تشكلت في الموصل جمعية سرية من ممثلي التجار الصغار والضباط والمثقفين، اختفت بعد فترة قصيرة. (77)
  لقد ألف طلبة دار المعلمين في الموصل تجمع، كانت مهمته بث الروح الوطنية في صفوف الطلبة وينشد الأناشيد الحماسية التي تثير الروح القومية في كل مناسبة. (78) وبتأثير المنتدى الأدبي تألفت جمعية "العلم" السرية من ممثلي المثقفين والطلاب في عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. (79) 
  لقد جابه الجماهير الطلابية سياسة التتريك التي انتهجها الاتحاديين وعبروا بالإضراب عن استيائهم لهذه السياسة الشوفينية.
  ومن اهم ما حدث في هذا المجال فقد طالب الجماهير الطلابية في دار المعلمين برفع مستوى المدرسة وحث المعلمين الأتراك على القيام بتدريسهم على أكمل الوجه والامتناع عن مضايقتهم، بعد أن عين الاتحاديون عددا من المعلمين المتعصبين للقومية التركية وابعدوا نظرائهم العاملين في الحركة الوطنية.
  على إثر إقدام الإدارة على طرد ثلاثة من الطلاب النشطاء، فقد عقد الطلبة اجتماعا في المدرسة العلمية وقرروا الإضراب عن المدرسة حتى يلغى قرار الطرد، وانتخبوا ثلاثة طلاب متفوقين في دروسهم للخدمة في المدرسة العلمية عوضا عن مدرسيهم (80) وعندما تفاقم الوضع اضطرت الإدارة إلى استدعاء الشرطة.
  وبعد مضي سبعة عشر يوماً أبرق الطلاب خلالها إلى مدير المعارف ومدير الداخلية ورئاسة الوزراء في الاستانة، برقيات تتضمن مطالبهم، وكما أرسلوا صور من تلك البرقيات إلى الصحف البارزة في اسطنبول.
  لقد استجاب المسؤولون في دار الخلافة العثمانية لمطالب الطلبة واوعز الى الوالي التحقيق في القضية وشكل لجنة رباعية من وجهاء المدينة.
  في الوقت الذي وصلت اللجنة إلى المدرسة، تجمعت الطلاب في فناء المدرسة وأخذت تهتف بشعارات وطنية حماسية تعبر عن روح التحدي والإصرار على النضال من أجل تحقيق مطالبهم، فاضطرت الإدارة الرجوع عن قرارها واعادة المفصولين إلى مقاعد الدراسة. (81)

الخلاصة
  لو دققنا في هذه النشاطات والتحركات الطلابية، فنجدها اتسمت بطابع العفوية وعدم الثبات في غالب الأحيان ولم تتحول الى حركة جماهيرية مطلبية واسعة تدك قلعة الدولة العثمانية.
 يرجع اسبابها الى نقص الخبرة وعدم النضوج السياسي وهي كانت سمة من سمات الحركة الوطنية عامة في تلك الحقبة التاريخية، فإن المعارضة في العراق اعتبرت نفسها جزء من المعارضة العامة في داخل الدولة العثمانية أكثر من كونها قوة خارجية في إطار دولة تواقة إلى الاستقلال.
  بل إن الطلبة امتشقت سلاح الإضراب في نضالها من أجل تصعيد روح التحدي والإصرار على مطالبيها. رغم أن بعض هذه الإضرابات صغيرة الحجم، إلا أنها أضفت قوة اجتماعية جديدة وقوداً في الحركة الوطنية العراقية المعادية لحكم الغاصبين العثمانية.
  إن هذه المظاهرات والإضرابات الطلابية، قد خبرت الحركة الوطنية بأهمية العمل الجماهيري في تحقيق مطالبيهم وتدل في نفس الوقت مدى الوعي الذي وصل اليه الطلبة.       

   
 .....................
(1)   -  لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار التقدم، موسكو، 1971، ص. 390 - 391
(2)   -  سعاد خيري، تاريخ الحركة العربية المعاصرة في العراق الجزء الاول 1920 - 1958، ص. 17
(3)   - محمود أمين العالم، الوعي والوعي الزائف، دار الثقافة الجديدة القاهرة ص. 34
(4)   - د. محمد أنيس، محاضرات عن تاريخ الشرق الأوسط، الجزء الأول، ص. 25 عن مجلة دراسات عربية، العدد 2، السنة الخامسة عشر كانون الأول 1978، ص. 18
(5)   - د. وميض جمال عمر نظمي، ثورة 1920 ((الجذور الفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية والاستقلالية في العراق))، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 65
(6)   - د. عبدالاله احمد، نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 - 1930، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية "آفاق عربية" الطبعة الثانية بغداد 1986، ص. 4
(7)   - د. عبد العزيز الدوري «التكوين التاريخي للأمة العربية "، ص. 232- 233 عن حسين جميل، العراق شهادة سياسية 1908 1940، دار السلام، لندن 1987، ص. 8 - 9
    (8) - رفعت السعيد، الأساس الاجتماعي للثورة العرابية، مكتبة مدبولي، ص. 100
    (9) -محمود العبطة، رجل الشارع في بغداد، 1972، ص. 201
  (10- الثقافة الجديدة، العدد 76، تشرين الأول 1975، ص.124
 (11) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 369
(12) - البرافدا، 7 مايس، عن الثقافة الجديدة العدد 15 تموز 1970، ص. 67
(13) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 395
(14) - الدكتور كمال مظهر أحمد، دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية، مطبعة الحوادث، بغداد 1978، ص. 56
(15) - روفائيل بطي، صحافة العراق، الجزء الاول، بغداد، 1985، ص. 47
(16) - الرقيب، العدد 9 بتاريخ 7 سفر 1327، السنة الأولى، عن عمر فياض، جذور الفكر الاشتراكي في العراق 1920 - 1934، دار ابن الرشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1980.
(17) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 74
(18) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(19) - المقتطف، المجلد الرابع والثلاثون، يناير 1909، ص. 95، عن آفاق عربية، العدد الثالث، السنة الرابعة عشر، آذار 1989، ص. 61
(20) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 401
(21) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(22) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 70
(23) - د. عبدالاله احمد، نفس المصدر السابق، ص. 17
(24) - حسن الاسدي، ثورة النجف، بغداد دار الحرية للطباعة، 1975، ص, 11-12
(25) - د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الثالث، بغداد 1972، ص. 8 - 9
(26) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 - 79
(27) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 68
(28) - آفاق عربية، العدد الثالث آذار 1989، السنة الرابعة عشر، ص. 61
(29) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 10
(30) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 100
(31) - افجيني بريماكوف، الشرق بعد انهيار النظام الاستعماري، دار التقدم، موسكو 1985، ص. 68 
(32) - جورج انطونيوس، يقظة العرب، ترجمة ناصر الأسد واحسان عباس، بيروت 1982، ص. 177 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 آذار 1989، ص. 61
(33) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص.399
(34) - الدكتور كمال مظهر، ترجمة محمد ملا عبد الكريم، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص. 95
(35) - لينين، المادة القابلة للاحتراق في السياسة العالمية، مجموعة من المؤلفات      الكاملة الروسية، المجلد 17، ص. 377، عن لوتسكي نفس المصدر السابق، ص. 397
(36) - افجيني بريماكوف، نفس المصدر السابق، ص. 56
(37) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 402
(38) - سليمان فيضي، في غمرة النضال، شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد 1952 ص. 58
(39) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 403
(40) - ابراهيم خليل، الحركة العربية في الموصل قبيل الحرب العالمية الأولى، ص. 84 - 85 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الأول 1979، ص. 54 - 55
        (41) - على البازركان، الوقائع الخفية في الثورة العراقية، مطبعة السعد، بغداد
        1954، ص. 12 
          (42) - عبد الرزاق الحسني، تاريخ الاحزاب العراقية، الطبعة الثانية بيروت 1983،
      ص. 19
          (43) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 85
         (44) - تألفت الجمعية في سنة 1911 في فرنسا، لم يكن من بين مؤسسيها أعضاء
         من العراقيين وقد انتمى إليها في الفترة ما بعد الحرب العالمية بقليل.
         احلام جميل، الأفكار السياسية للأحزاب العراقية في عهد الانتداب 1922 - 1932،
       منشورات مكتبة المثنى، مطبعة الزمان، بغداد 1985، ص. 5     
        (45) - نجدت فتحي صفوت، العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب، منشورات
          دار التربية والتحرير، بغداد، الطبعة الثانية 1984 مطبعة منير ص. 76- 7 - 78
        (46) - د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 161
        (47) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 - 99 
        (48) - عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، الطبعة السادسة، مطبعة
         العرفان، صيدا لبنان 1972، ص.27
       (49) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 71
       (50) - عبد الرزاق عبد الدراجي، جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في 
       العراق 1908-1945، دار الحرية للطباعة، الطبعة الثانية، بغداد 1980 ص. 32
     (51) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 152 - 160 - 162
     (52) - روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص. 51
    (53) - آفاق عربية، العدد 3 آذار 1989، ص. 62
    (54) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 67 - 68
   (55) - عبد الرزاق عبد الدراجي، نفس المصدر السابق، ص. 35
   (56) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 76
   (57) - آفاق عربية، العدد 3 تشرين الثاني 1979، ص. 54 وحسن الاسدي، ثورة
    النجف ص. 78 - 79
   (58) - د. علي الوردي، نفس المصدر السابق، ص. 7-8                
   (59) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98 - 99
   (60) - عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي 1984 ص. 236 عن مجلة آفاق عربية العدد الثالث آذار 189 ص. 62
  (61) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 99
  (62) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 86
  (63) - لوتسكي، نفس المصدر السابق، ص. 398
  (64) - نصير الجادرجي، من أوراق كامل الجادرجي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر 1971، ص. 41
 (65) - هبة الدين الشهرستاني، مجلة العلم النجفية، العدد الأول، سنة 1910
 (66) - محمد صادق الحسيني، عمران في بغداد، ص. 213 عن مجلة آفاق عربية العدد 3 تشرين الثاني 1979
 (67) - حسن الاسدي، نفس المصدر السابق، ص. 78 - 79
 (68) - ناجي شوكت، سيرة وذكريات ثمانيناً عاماَ 1894 - 1974، الطبعة الثالثة، مطبعة دار الكتب، بيروت 1977، ص. 20 - 21
 كان الوفد الطلابي مكون من " ناجي شوكت، بهجت زينل، فاضل محمود، مصطفى عاصم، عبد العزيز الخياط، ومزاحم الباجه جي".
(69) - عبد الرزاق الهلالي، معجم العراق، الجزء الأول، مطبعة النجاح بغداد 1953، ص. 235
(70) - روفائيل بطي، نفس المصدر السابق، ص.48 - 49
(71) - ل.ن. كوتلوف، ثورة العشرين التحررية في العراق، ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم، مطبعة اوفيست الديواني، بغداد 1985، ص. 63، 65،67
(72) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 97، 98
(73) - د. محمد سلمان حسن، التطور الاقتصادي في العراق، الجزء الأول، الناشر المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ص. 89
(74) - د. محمد سلمان حسن، نفس المصدر السابق، ص. 131
(75) - سليمان فيضي، نفس المصدر السابق، ص. 121
(76) - د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس، مطبعة المعارف، بغداد 1977، ص. 53
(77) - وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(78) - عبد المنعم الفلاحي، أسرار الكفاح الوطني في الموصل، الجزء الاول، مطبعة شفيق 1958، ص. 33
(79) - عبد المنعم الفلاحي، صفحات مطوية من تاريخ الحركة القومية، صدى بابل الموصل العدد 158 9 أيار 1952، وميض جمال عمر نظمي، نفس المصدر السابق، ص. 98
(80) - عبد المنعم الفلاحي، نفس المصدر السابق، ص. 116 - 117
(81) - ابراهيم خليل، ولاية الموصل دراسة في تطوراتها السياسية " 1908 - 1922" بحث من مجلة الخليج العربي التابع لجامعة البصرة ص. 140 عن آفاق عربية العدد 3، تشرين الثاني 1979، ص. 54
   

7
             
المثقفون النشاط الفكري والسياسي في العهد العثماني      المؤثرات الداخلية والخارجية      على الحركة الفكرية في العراق


سهيل الزهاوي

   أن تاريخ بلورة الوعي القومي وتنامي الروح الوطنية وبروز النشاط الفكري والثقافي في العراق ولا سيما بين المثقفين والطلبة ومساهمتهم في الحركة الوطنية العراقية المعادية للغاصبين العثمانيين يرتبط بتأثير ثورة (1905 -1907) الروسية وبانتصار الثورة التركية البرجوازية عام 1908.
  لم ينبع هذا الوعي والنشاط الفكري والثقافي من الفراغ وإنما ارتكز على التغيرات الهيكلية في أوضاع البلدان العربية عامة والعراق خاصة، في إطار التغيرات الدولية في تلك الحقبة الزمنية. إن التغيير في العراق هو محصلة لعوامل وطنية وعالمية وكذلك شأن الأفكار التي ظهرت في تلك الفترة، ولسنا نفهم هذه الأفكار بمعزل عن تفاعل وتداخل هذه العوامل الداخلية والخارجية.
   لقد خضع العراق كسائر البلدان الاخرى للسيطرة العثمانية طيلة أربعة قرون ((منذ بداية القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين))، وساد البلاد عهد التخلف والظلم والفساد واضطهاد وانتهاك العادات والتقاليد والحقوق القومية والحملات العسكرية والتجنيد الإجباري، وكانت لها نتائج خطيرة على مستقبلها.
  وكان العراق كسائر البلدان العربية تعاني من اضطهادين: أي اضطهاد الرأسماليين الأجانب، بعد تغلغل الرأسمال الأجنبي في نطاق الدولة العثمانية ومن ظلم السلطة الاستبدادية للدولة العثمانية. (1)
   إزاء هذه السياسة التعسفية ظهرت حركات متواصلة عربية - كردية ضد الاضطهاد والاستغلال التركي، وفي سبيل الظفر بالحقوق القومية، وكان مطلب الاستقلال الذاتي واللامركزية أكبر المطاليب أهمية في ذلك العهد وقد عبرت القوميتين العربية والكردية في العراق عن مطامحها وإرادتها سواء بالثورة، ثورة بغداد في 13 حزيران (1831) -  أو الانتفاضات والعصيان في كثير من المدن والأرياف وغالبها فلاحية بقيادة بعض الملاكين الأحرار - أو الجمعيات والاندية، وكان بعض هذه المؤسسات يتجاوز القطر العراقي والبعض الآخر (عربي - كردي) وكان العاملون فيها على الأغلب من المثقفين والضباط والتجار.(2)
أن وقوع العراق في الطرف الأقصى من الامبراطورية العثمانية المترامية الاطراف، أدى إلى انعزاله عن المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية لهذه الدولة.
  ومع ارتباط العراق بالسوق الرأسمالية العالمية وخاصة بعد شق قناة السويس أدى إلى نشوء البرجوازية إلا أن تطورها كانت تسير بشكل بطيء وانعكست ذلك سلبا على تغيير البنية المتحجرة للمجتمع العراقي، وابقت تأثير التقاليد الاجتماعية والدينية على المجتمع، بذلك لعب العنصر الديني نفوذاً واسعاً في الحياة السياسية في البلاد.   
وبأن هذا النمو المشوه للرأسمالية، ادى الى عجز البرجوازية بسبب كياناتها الضعيفة وارتباطاتها بالإقطاعيين ورأس المال الأجنبي عن النهوض بالشعب وقيادته في النضال المعادي للحكم الأوتوقراطي العثماني وضد تغلغل رأس المال الاستعماري.
  كما كان الطبقة العاملة في دور التبلور، قليلة العدد، واكثريتهم من العمال الموسومين، لا ترتبط بالمصانع الكبيرة، وتحمل عبء التقاليد الاجتماعية، والخواص القومية، والدينية، والاقتصادية.
أما الفلاحون، فلم يكن لهم تنظيم سوى التنظيم القبلي الأبوي، الذي كان أساسه المادي حيازة الأرض المشاعية للقبيلة والتي تملكها الدولة، وأخذ هذا النظام بالتفكك منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فنضالات الفلاحين تمت تحت قيادة شيوخهم.
  وفي هذه الفترة التاريخية، ظهر على المسرح السياسي ممثلون عن الفئات الاجتماعية الوسطية من المثقفين والطلاب والضباط والتجار الصغار وهؤلاء كانوا يتسمون بتذبذب واسع لميولها وطموحاتها.
  في مطلع القرن العشرين، بل في أواخر القرن التاسع عشر تأسست في العراق عدد من المدارس الحديثة في المدن الكبيرة كبغداد، والموصل، والبصرة، أول مدرسة ابتدائية أسست في محافظة ديالى هي مدرسة علياوة في عام 1887م في قضاء خانقين في قرية علياوة وغيرها. وسبق ذلك التاريخ حيث أسست إرسالية الآبـاء الكرمليين التبشيرية مـدرسة الآبـاء الكرمليين في بغداد سنة 1734 م. تخرج منها عدد من المتعلمين العصريين وتعرفوا من خلال دراستهم في هذه المدارس على الأفكار الديمقراطية البرجوازية ((الحرية، المساواة، العدالة)) وعلى مثل الثورة الفرنسية.
  كما أن المدرسة الرشدية والاعدادية العسكرية كانت قد خرجت عدد كبير من الضباط العراقيين الذين لعبوا دوراً هاماً في الحركة الوطنية.
  ولم تعر الدولة العثمانية اهتماماً الى إنشاء التعليم العالي في العراق، وبعد اعلان الدستور تم تأسيس مدرسة الحقوق في بغداد في عام 1908.
  لا بد أن نشير إلى أن تخريج عدد من الطلاب العراقيين من معاهد وكليات إسطنبول والجامعة الامريكية والكلية العسكرية في تركيا، قد لعب دوراً بارزاً في تشكيل فئة المثقفون العراقيون.
  في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان العالم العربي يفتقد الى المعرفة الحميمية بذاته بحقيقته واحتدم الصراع الفكري حول التجريدات العامة، الموقف من الإسلام والمسيحية، من الدعوة الإسلامية والدعوة العربية والتحري عن أسباب تخلف البلدان العربية وكيفية تجاوزها. (3)
  وقد لعب المسيحيون دوراً هاماً في هذا المجال وكانوا الرواد الأوائل للفكر العربي القومي، لأن المسيحيون كانوا يمثلون من الناحية الاقتصادية قطاعاً نشطاً في المجتمع العربي، كما كانوا يتمتعون بحماية فرنسا التقليدية وامتيازاتها داخل الدولة العثمانية، وبذلك توفرت لهم إمكانية النمو الاقتصادي في مجال التجارة ولعبوا في الأساس دور الوسيط بين العرب والعالم الغربي، أتاح لهم هذا الوضع ايضا سبق التأثر بالفكر الغربي وحضارته، فضلاً عن اتصالهم بالفكر التبشيرية واحتكاكهم من خلالها بالثقافة الأوروبية. (4) 
  وكان تأثير هذه الأفكار في العراق ضئيلاً باستثناء حالات فردية (5). لأن المسيحيون لم يلعبوا أي دور يذكر كنظائرهم في البلدان العربية، فضلاً عن عوامل تاريخية أخرى.
  وامتازت العراق بسيطرة التيار السلفي وايلاء اهمية بالفكر العربي القديم المستمد ثقافته من علوم الدين واللغة العربية يتدارسها الدارسون في المساجد والمدارس المختلفة. (6)
  وكان هذا التيار ((اتجاه عربي إسلامي يتمثل فيه التغني بأمجاد العرب بماضيهم والتأكيد على العربية والشكوى من الظلم وسوء الإدارة التركية. أنه اتجاه يستند على التراث العربي الإسلامي)). (7)
  ويعتبر هذا التيار في الواقع حركة وطنية اصلاحية اتسم بالمعارضة والرفض لأوضاع الفساد والتخلف والاستبداد العثماني وضد تغلغل الرأسمال الأجنبي. وهي دعوة إلى اتخاذ الأصول الدينية وتراث الماضي اساساً للتخلص من هذه الأوضاع. إلا أنه ذا نزعة اتسمت بالتزمت والجمود والانغلاق وفقدان الرؤية الاجتماعية والتاريخية تماماُ، دون أخذ التغيرات الهيكلية التي حدثت داخل المجتمع العراقي.
  وفي هذا يكمن سر ما نلاقي خلال هذه الفترة من أفكار مضطربة، حيث أحكمت الدولة العثمانية قبضته حتى في أكثر حالات ضعفه واضمحلاله له مستنداً إلى فكرة الخلافة مدعيا أن كل حركة قومية أو وطنية هي مروق على الإسلام وخروج عن الدين. (8)
  لم يكن الإسلام عقيدة طارئة في حياة المجتمع العراقي، بل أنه يفعل تأثيره منذ عدة قرون تأثيراً مباشراً على العلاقات في الأسرة والمجتمع ويحافظ على تقاليدها.
  وإلى جانب ذلك خاصية الإسلام في أن القرآن والشريعة يتضمنان المبادئ التي تمدد القواعد الأخلاقية والسلوكية للإنسان ليس في الاسرة والمجتمع، بل في حياته الشخصية ونشاطه الاقتصادي والاجتماعي. ولا يعد الإسلام بالنسبة للمؤمنين مجرد ديانة، بل هو نمط حياتهم. اضافة الى عوامل تاريخية تقليدية واجتماعية قد آثر بهذا الشكل أو ذاك في تطور الحركة الفكرية العراقية في هذه الفترة. 
بقيت طيلة القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعيداً عن التيارات الفكرية الحديثة. لم تكن للعراق قبل الاحتلال البريطاني اتصالات وثيقة بالأوربيين على خلاف مصر وسوريا. فقد كان تأثرها بالحضارة الأوربية تأثراً غير مباشر جاءت على الأغلب عن طريق تركيا نتيجة ارتباطه الوثيق بالإمبراطورية العثمانية. لقد كان أكثر المثقفين العراقيين يعرفون اللغة التركية. كما تعرف الطلاب العراقيين على التيارات الفكرية الحديثة ايضا (9) 
 
 تأثير ثورة (1905 - 1907)الروسية
       على المثقفين العراقيين

لقد أوجد الأتراك منذ أواخر القرن التاسع عشر حركة ثورية برجوازية في تركيا وضمت الحركة المثقفين أغلبهم من الضباط الجيش والأطباء والموظفين الصغار ممثلة مصالح البرجوازية ومالكي الارض الاحرار، وشكلت منظمة سرية تعرف باسم ((الاتحاد والترقي)). المنظمة السياسية الوحيدة للشباب الأتراك، فكان مطالبهم الاساسية هي بعث الدستور.
  وبفعل التناقضات الداخلية في تركيا وبتأثير ثورة 1905 الروسية بقيادة البلاشفة والحركة الثورية في القوقاز والثورة التي انفجرت في إيران 1905، ظهر وضع ثوري في تركيا (10)، مما عجل وقوع الثورة في 3 تموز 1908. (11)
  إن هذه الثورة وما حدث في إيران والصين تبرهن على (تقدم مئات الملايين من الناس) بتأثير ثورة 1905 الروسية 
ولخص لينين بوضوح فائق تأثير ثورة 1905 على تطور حركة التحرر الوطني في الشرق ((أن الرأسمالية العالمية وحركة روسيا قد أيقظتا آسيا نهائياً، بمئات الملايين من السكان المهانين في ركود القرون الوسطى قد نهضوا للحياة الجديدة، للنضال من اجل ابجدية الحقوق البشرية الديمقراطية)) (12)
  فإن أخبار الحركة الاشتراكية ثورة 1905 - 1907 أصبحت موضع اهتمام الأوساط الثقافية التركية (13)، والتي كانت بدورها مؤثرة على المثقفين والطلاب العراقيين المقيمين في الاستانة.
  كما يؤكد السيد اسماعيل شاويس السياسي المعاصر لتلك المرحلة، أن الشباب الكرد المثقف قد اطلع على الأفكار الاشتراكية قبل ثورة أكتوبر وذلك أثناء دراستهم وعملهم في اسطنبول وغيرها من المدن الدولة العثمانية وحتى الأوروبية. (14)
  وفي داخل العراق، كان لثورة 1905 انطباعا ملحوظا وقد كتب في مجلة الرقيب "وهي من الصحف الحريصة على تطبيق الدستور" (15) متعاطفاً مع الثورة الروسية الأولى عندما جاءت بالقول:
  " أن مجلس الأمة الروسي محجوز محجور، تنفذ عليه إرادة القيصر ويضطرب لاسم نيكولاي، وسيبيريا هي سجن احرار الروس المجرمين في السياسة أو الذين يطالبون بالحرية الحقيقية أو بحقوقهم المغصوبة." (16)
  وبعد إعلان الدستور تأثر المثقفون العراقيون تأثراً عميقاً بالأفكار الصادرة عن مصر وسوريا اللذان كانا جسراً بين العراق والثقافة الغربية، وإن كان معظم المثقفين لا يميلون الى ممارسة دور فكري مماثل الذي مارسه نظرائهم المصريين والسوريين، غير أن تأثير هذه الأفكار انعكس في كتاباتهم. (17)
  لقد خلق السياسة الشوفينية الى انتهجتها الاتحادين أزمة فكرية بين المفكرين العراقيين بعد أن تخلوا عن العهود التي التزموا بها أمام الأقليات القومية في مؤتمر باريس. (18)
  وقد توضحت معالم هذه السياسة خاصة عند بدء مجلس المبعوثان الثالث اجتماعه في 17 كانون الأول 1908. (19)
  ولم يتخذ الوفد العربي أي موقف مستقل في الاجتماع إلا أنه كان معظم العرب مستائين من الوضع. (20) وبدأ الثقة والقناعة بمنظمة الاتحاد والترقي بالزوال.
  وقد انخرط المفكرون والكتاب والشعراء البارزين في النضال ضد الظلم والاستبداد العثماني والأوضاع السياسية والاجتماعية المتفسخة وضد التيارات الاستعمارية الأجنبية وبذلك خلقوا مدرسة جديدة في التفكير العراقي في مطلع القرن العشرين، وكانت هذه الحركة نتاج الأفكار التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، وإبراهيم اليازجي، وشبلي شميل، وغيرهم. وقد تصدت لهذا الاتجاه كتاب آخرون وتعرضت للاضطهاد من جانب المؤسسات الدينية متهما إياهم بالإلحاد (21) وهو السلاح القديم الجديد يشهره الحكام الرجعيون والمستعمرون في وجوه المصلحين.
  وكرد فعل للأوضاع القائمة في تلك الحقبة التاريخية أسفرت عن " تسييس الإسلام " من جهة وتطور الحركة البرجوازية في العراق ضمن التيار الديني، أي اتجاه الحركة كانت عربياً - اسلامياً ضد سياسة الاضطهاد والتتريك والتغلغل الإمبريالي.
لقد ظهر بين رجال الدين نزعة تحاول أن توفق بين الإسلام والتيارات الدينية الحديثة وهي ترفض السلفية اللامنطقي وكذلك التقليد الأعمى للغرب، ليتخذوا منها سلاحاً ماضياِ ضد سياسة التتريك واثارة المشاعر الدينية كوسيلة فعالة لمكافحة التغلغل رأس المال الغربي الاستعماري.
  وكانت هذه الدعوة لتجديد الإسلام، وهي استمرار ابداعي في ظروف تاريخية لتراث قديم، وبهذا الصدد يجدر الإشارة الى أن الحقيقة المعروفة، أن الشيعة في العراق قد ورثوا من المعتزلة له مفهوم الاعتماد "المنطق والعقل". (22)
  لقد تمخض الجدل والنقاش بين رجال الدين حول النظريات الفلسفية والاجتماعية ونظام الحكم الاستبدادي المطلق والملكي الديمقراطي ومنها الحكم الجمهوري (23) الى ظهور تيارين متناقضين أولهما اصلاحي معادي للاضطهاد القومي تمثل البرجوازية الصغيرة والثاني رجعي تناهض الدستور تمثل مصالح كبار الملاكين والإقطاعيين والأسر الأرستقراطية في المدينة.
   ففي إطار الحركة الوطنية العراقية وقفت طائفة من رجال الدين الشيعة المستنيرين إلى جانب قوى وفئات اجتماعية في المطالبة بالدستور والحياة الديمقراطية والدعوة إلى الحركة القومية في نطاق الدولة العثمانية.
  وقام هذه الطائفة من رجال الدين بحملة دعائية واسعة لأفكارهم من خلال عقد الاجتماعات والندوات السياسية في المدارس الدينية والبيوت. (24) وشكلوا الحلقات الدراسية في الجوامع يدرس فيها مبادئ العلوم الحديثة التي استمدوها من المجلات والكتب المصرية. (25)  ونظم الأناشيد القومية والوطنية، وكما أيد رجال الدين تأسيس المدارس الحديثة مما اكسب حركة التجديد قوة وقبولاً في الأوساط المحافظة وخاصة الجماهير الأمية. (26)
  وكانت هذه الجهود تتحرك نحو إنقاذ الإسلام السلطوي أو إبراز قسماته التاريخية كعقيدة أو اكتراث الحركة الوطنية "بعد تدهور الإسلام الرسمي" في أواخر العهد العثماني الى مذهب لا عقلي انعزالي. (27) فهي توجه نحو تجديد الإسلام في إطار موقف اجتماعي إصلاحي، الى جانب طابعها الديني وطابعها الاصلاحي فهي محاولة نحو الاستقلال الذاتي للعراق ضمن الدولة العثمانية ومناهضة للتغلغل الغربي في البلاد أي كانت جوهرها ذات طابع سياسي نضالي كذلك.
  أما التيار الثاني التي تجمعت حول جماعة المشورة وهي حركة اسلامية معادية للدستور كان محورها نقيب اشراف بغداد "السيد عبد الرحمن النقيب" يساندها الملاكين الكبار وبعض رجال الدين السنة فانضموا فيما بعد إلى الحزب المعتدل. (28)                                 
  انتعشت الحركة السياسية ما بعد الدستور على أساس طائفي شكلياً، فقد وقف اكثرية رجال الدين الشيعة مع التجديد بينما وقف رجال الدين السنة الاتجاه المناهض للدستور، غير أن الارتباطات الطائفية، لم تكن اساساً هي التي تحدد الطابع السياسي لهذه الحركات. فمثلا وقف بعض رجال الدين الشيعة أمثال كاظم اليزدي ضد إعادة الدستور العثماني. (29) بينما وقف يوسف السويدي وهو من الطائفة السنية لا يفوقه منزلة إلا نقيب بغداد مع الحركة الدستورية. (30)
  ساعد رجال الدين في العراق بنشاطهم الفكري على جذب أكثر فئات الشعب تخلفاً، كما ساعد على عزل العناصر الدينية المستبدة، التي حاولت أن تعيق عملية التجديد وحتى ارجاع مسيرتها الى الوراء مما يؤدي حسب تعبير لينين الى اصابة البلاد بالفساد. (31) وقد كان تأثير العامل الديني المتمثل بالتجديد ايجابيا على العمليات السياسية في هذه المرحلة التاريخية من حياة البلاد.
  أن التيارات الفكرية التي ظهرت بعد إعلان الدستور، كانت ثمرة التناقضات الداخلية وفي تفاعلها وصراعها سلباً وايجاباً مع الحضارة الغربية.
"أي أنها محصلة الصراع الفكري من أجل تحديد الهوية القومية والاجتماعية وتجديدها، أنها محصلة صراعات طبقية وقومية بين قوى داخلية."
  فان التيارات الدينية منها والعلمانية كانت تتحرك في إطار فكر برجوازي متأرجح بين شرائحه وفئاته العليا والوسطى لهم موقفاً سياسياً اجتماعياً إصلاحيا وسطيا. وهي دعوة عقلانية إصلاحية في الأساس ضد المؤسسات الرجعية.

مساهمة الطلبة في الحركة الوطنية العراقية
             بعد اعلان الدستور   

  جذبت شعارات قادة ثورة 1908 ((حرية، عدالة، مساواة)) في البداية مشاعر وعواطف الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية الذين كانوا يعانون من الاضطهاد القومي على يد السلطة الغاصبة.
  حيث شاعت بين الأوساط البرجوازية العربية بكافة شرائحها وفئاتها الأوهام على نطاق واسع حول إمكانية تحقيق المطامح العربية بنشر اللغة العربية وتحسين أوضاع الولايات العربية والمحافظة على التقاليد والعادات العربية باعتبارها مظاهر اسلامية. وهو ما كانت تصبو إليها الحركة الوطنية العربية مع تأسيس أول جمعية عربية في الأستانة في الثاني من أيلول 1908 أي قبل الثورة بأقل من شهرين، وهي جمعية الإخاء العربي. 
  وقد سار الإخاء العربي على اثر جمعية *الاتحاد والترقي* وانطلقت قادة الإخاء من مبدأ الجامعة العربية واعترفت بما يسمى بالأمة الإسلامية. (33)
  بيد أن الطابع البرجوازي للثورة ساعد على تدهور سريع في الاتجاهات الديمقراطية لحركة الأتراك الشباب. وبذلك كشفت عن الأهداف الشوفينية لقادة الاتحاديين الذين جاءوا بالدستور، فقد اتبعوا ذات السياسة السابقة للدولة العثمانية تجاه الشعوب الخاضعة لهم ((فإذا كان السلطان يريد جعل الدعوة الإسلامية وسيلة للحفاظ على كيان امبراطوريته، فإن الاتحاديين تبنوا لنفس الغاية سياسة قومية بالضد من مصالح الشعوب الداخلة في نطاق الدولة العثمانية. بما في ذلك الشعب التركي.))  مما أدى إلى انسحاب العرب وبقية القوميات الاخرى، وبدأ العمل على تشكيل منظماتهم الخاصة بهم بعد أن أصيبوا بخيبة أمل جراء النهج غير المتوقع الذي سار عليه الاتحاديون بعد تسلمهم الحكم.
  وبصدد الانتصارات الأولى التي أحرزتها ثورة تركيا الفتاة، كتب لينين ((هذا الانتصار ما هو إلا نصف انتصار، بل حتى جزء أقل من انتصار، إذ أن نيقولاي الثاني التركي قد اكتفى آنذاك بوعده المتعلق ببعث الدستور المشهور)) (35) 
  إن الوضع الجديد الذي ظهر في بداية القرن العشرين المتجسد في أزمة القمة، حيث دب الفساد في ماكينة الدولة العثمانية وتفسخ العلاقات الإقطاعية من جانب، وتشديد اضطهاد الجماهير الشعبية،
 لم تكن قيادة الحركة الوطنية الناشئة ((قادرة على تحويل الرضوخ السلبي للاضطهاد إلى حالة نشطة من السخط والانتعاش)) (35)
  يشكل عام 1908 وما بعده علامة مهمة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية، فكما ذكرنا سابقا ويمكن إرجاع هذا التطور الى التغيرات الهيكلية التي حدثت في بنية المجتمع العراقي وفي تفاعلها السلبية والايجابية مع الحركة التحررية من أجل الإصلاحات الدستورية التي كانت تقودها جمعية " الاتحاد والترقي "، مما أدى إلى ازدياد الوعي الوطني والقومي في صفوف الحركة الوطنية العراقية وتراكم هذا الوعي الى حركة ضاغطة مما أدى الى تراجع الاتحاديين عن مواقفهم السابقة. وحفزت الطلبة وسائر المثقفين لتبني مبدأ المعارضة ضد النظام العثماني والدعوة الى الحكم الذاتي واللامركزية.
  لقد ساهم عدد غير قليل من الطلاب العراقيين الى جانب الضباط وسائر المثقفين، في تأسيس الجمعيات والمنظمات وعقد المؤتمرات في الخارج، بل إن بعض الطلاب العراقيين الذين يدرسون في معاهد وكليات المدنية والعسكرية في اسطنبول بادروا إلى تأسيس عدد من الجمعيات قبيل الحرب العالمية الأولى.
  لقد لعبت الطلبة العراقيين دوراً بارزاً في المنتدى الأدبي الذي تأسس في عام 1909. لم تكن لأهداف المنظمة الرسمي أي صلة بالسياسة، وكانت في الظاهر جمعية أدبية محضة وفي الواقع سياسية ومركزاً لتجمع الطلاب والمثقفين من العرب وتلقى فيه المحاضرات والخطب. (38) كما حصلت على مطبوعات ممنوعة من مصر والولايات المتحدة الأمريكية واستخدمت بالدرجة الأولى كستار لمنظمات القوميين العرب السرية. (39)
  كما أرسل المنتدى وفدا الى الموصل وعقد اتصالات مع عدد من الطلبة ودعاهم الى تنظيم أنفسهم داخل أحزاب وجمعيات. (40) وقد نجح إلى حد كبير في بث الفكرة الوطنية في سوريا والعراق. (41)
  بمبادرة من الطلبة العراقيين في اسطنبول تأسست في أيلول عام 1912 جمعية العلم الأخضر. (42) اقتصرت نشاطاتها على الأمور الادبية وتقوية الروابط والعلاقات المتينة وبث الوعي السياسي بين الطلبة. (43)
  كما ساهمت الطلبة في المؤتمر العربي الأول في باريس التي دعت إليها جمعية العربية الفتاة في عام 1913. (44) 
  لقد كانت لهذه الجمعيات والمنظمات وخاصة المنتدى الأدبي أثراً كبيراً في توعية الطلبة العراقيين الدارسين في الاستانة، وبعد تخرجهم لعب هؤلاء دورا مؤثراً في بث الوعي الوطني في صفوف الشعب العراقي.

   أصداء ثورة 1908 التركية
       في داخل العراق

  لقد استقبل العراقيين انتصار الثورة وإعلان الدستور بابتهاج وحماس عالين باعتبارها عهدا جديداً لتآخي القوميات على اختلاف عقائدها وخاصة في بغداد. أما في الموصل كان الدستور وسيلة للتخلص من الوالي مصطفى بك، ولم يشعر أهل البصرة أي تأثير سيطرأ على حالتهم. (45) ولكن انعكس تأثيره بالأساس على المثقفين والمتعلمين. (46)
 
  فقد بدأت الحركة الوطنية المعارضة لحكم الاتحاديين في شكلها الجنيني بعد إعلان الدستور تأييدها للمشروطية لكنها وقفت ضد سياسة التتريك، غير ان هذه الحركة لم تخرج عن إطار الدولة العثمانية. وعبرت عن نفسها في بغداد من خلال بعض المثقفين والصحفيين الذين التفوا حول صحيفة بين النهرين للتعبير عن رغبتهم في الإصلاح والتقدم وتحقيق حقوق الشعوب الخاضعة للسلطنة العثمانية في المساواة، وشكلوا فرع تابع لحزب الحرية والائتلاف في بغداد، والذي كان في الواقع حزباً تركياً يعارض سياسة الاتحاديين ويتعاطف مع مطالب القوميات غير التركية. (47)
  وشهدت الصحافة انتعاشاً كبيراً عقب إعلان الدستور بعد أن كان هناك ثلاث صحف فقط في العراق تصدرها السلطة العثمانية باللغتين العربية والتركية في كل من مراكز الولايات الثلاثة " بغداد، البصرة، الموصل". بعد إعلان الدستور مباشرة بلغ عدد الصحف والمجلات ما يقارب السبعين. (48)
  وكان الغاية من إصدار هذا العدد الهائل من الصحف والمجلات، تعود الى رغبة المثقفين في القيام بإصلاحات وطنية (49) وصارت هذه الصحف مناراً للاتجاهات السياسية والفكرية الإصلاحية التي أثرت في بلورة الوعي الوطني لدى الجماهير الشعبية.
  لقد أدركت البرجوازية العراقية الناشئة ومثقفوها اهمية الدعوة الى تأسيس المدارس والمعاهد العالية والتدريس فيها باللغة العربية، (50) وقد اتخذت الدعوة من الصحافة والمجالس العمومية ومجلس المبعوثان ميادين لإثارة هذا المطلب. (51)
 فقد نشر جريدة الايقاظ في البصرة سلسلة من المقالات تدعو إلى الإصلاحات في النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية، ونادت بتأسيس المدارس ومجانية التعليم وتعميم اللغة العربية في معاهد التعليم ودوائر الدولة، وطالبت بتأسيس مدرسة الصناعة. (52)   كما نشرت الصحف الاخرى وخصوصا المفيد وصدى بابل والرياض والعرب وغيرها الدعوة لنشر التعليم. (53)
  واندفع المثقفون إلى تأسيس المدارس الاهلية لتكون مركزاً لنشر الوعي الوطني في صفوف الطلبة. فتأسست " مدرسة تذكار الحرية " (54) في البصرة في تشرين الثاني عام 1908 ومدرسة " الترقي الجعفرية " (55)    في بغداد والتي افتتحت في 12 كانون الأول 1908 وقد اصبحت هاتان المدرستان منتديين سريين يجتمع فيها المفكرون والأدباء والكتاب ممن أن انضموا الى الحركات السياسية العراقية المعادية للاتحاديين وتعقد فيها الاجتماعات والندوات يحضرها الطلاب. (56)
  وأصبحت المدرستين المرتضوية والعلوية في النجف كنادي للطلبة، يطالعون فيها الصحف التركية والإيرانية والمصرية وتعرفوا من خلالها على التيارات الفكرية الحديثة وتعقد فيها الاجتماعات لبحث الأمور السياسية والأدبية. ولا تنحصر أهمية هاتين المدرستين، انهما كانت من الوسائل التي ساعدت على نشر التعليم والثقافة الحديثة في محيط كمحيط النجف فحسب، بل أن تأييد معظم علماء لفكرة تأسيسها ومنهجها اكسبت حركة التجدد قوة وقبولاً في الأوساط المحافظة وخاصة الامية منها. (57)
  إضافة إلى ذلك لعبت المدارس التي أنشأتها الدولة العثمانية في بعض أنحاء العراق دورا فاعلاً في خلق جيل جديد من المثقفين العصريين يرفضون الظلم والنظام الاستبدادي للدولة العثمانية وبدأوا بنشر الوعي والروح الوطنية والأفكار الحديثة في صفوف الجماهير الكادحة ينير في أذهانهم تطلعاً نحو آفاق جديدة. (58)         
 بدأت الفئات المتعلمة والمثقفة ولا سيما طلاب الحقوق وأساتذتها، وكذلك بعض السياسيين في اتخاذ مواقف أشد تجاه الدولة العثمانية، فانتشرت فكرة اللامركزية بعد أن حدث تطور في الفكر السياسي لدى الوطنيين العراقيين وازداد رسوخا في أذهانهم في بداية العقد الثاني من القرن العشرين نزوعا إلى الحكم الذاتي، بعد أن اقتنعت بعدم جدوى الارتباط بالأحزاب السياسية التركية. إلا أنه لم يصل الوعي الوطني إلى حد المطالبة بالاستقلال التام. وهكذا تشكلت في أواخر 1912 في بغداد جمعية جديدة تحت اسم " النادي الوطني" (59) والتي كانت تحت تأثير العناصر الإقطاعية الكومبرادورية الأشد قوة. 
  وكانت الجمعية أدبية في مظهرها لكنها صارت مركزاً للنشاط السياسي للمثقفين العراقيين من خريجي المدارس العليا التركية وطلاب الحقوق وبعض الشباب من الفرات الاوسط وعدد كبير من الضباط العراقيين العاملين في الجيش العثماني. (60)   
  وسرعان ما ارتبطت جمعية النادي الوطني بجمعية الإصلاح في البصرة (والتي شكلها طالب النقيب في 28 شباط 1913)، في الواقع تبنت جمعية البصرة وبغداد برنامج حزب العثماني اللامركزية واصبحتا فرعين بارزين له (61)
  إن قادة الحركة الوطنية العراقية لم تفهم واقع وطبيعة الدول الاستعمارية وقد اتجه قسم منهم إلى التعاون معهم ضد الدولة العثمانية، غير أن ظهرت " منظمة اليد السوداء " التي بادر الى تأسيسها الطلبة الدارسون في الكليات والمعاهد المدنية والعسكرية في اسطنبول تنادي بحق تقرير المصير والتحرر التام من الدولة العثمانية ودعت إلى الفتك بالخائنين الذين يناوئون فكرة التحرر من السيطرة العثمانية. (62) 
  واتسمت الحركة الوطنية العراقية حتى الحرب العالمية الأولى بالميوعة وليست لها وجهة سياسية واضحة وموحدة ولم تكن عميقة الجذور لانعزالها عن الجماهير الشعبية وسرعان ما تفتت المنظمات التي تشكلت قبيل الحرب العالمية لأسباب اقتصادية بحتة. 

    التحركات الطلابية
الإضرابات والمظاهرات

شهدت السنوات الممتدة بين عام (1908- 1913)، بداية نهوض حركة التحرر الوطني العراقي. اقتصرت أنشطة قادة الحركة الوطنية في هذه الفترة على الدعاية للأفكار القومية والوطنية. الانعزال عن الشعب كان السمة المميزة للحركة الوطنية، التي لم تستطع من تنظيم الجماهير الشعبية أو قيادتها بصورة ثابتة وربط نضالات التي تجري في المدن مع تحركات وانتفاضات الفلاحين من اجل الارض التي بلغت أوجها في عامي (1913 - 1914) (63)
 لقد خاضت الجماهير الطلابية سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي لم تخرج عن نطاق المقاومة العفوية وبدافع الأوضاع السيئة القائمة داخل المدارس وضد السياسة الشوفينية للسلطة الجديدة ومحاولتها بتتريك المدارس. إلا أنها ساهمت بهذا الشكل أو ذاك في توعية الجماهير الطلابية وفي التحدي للأوضاع القائمة ومقاومة الظلم والاستبداد.
  أثار النظام البوليسي الصارم في العهد العثماني استياءً واسعاً بين طلاب المدارس المختلفة وخاصة أساليب إدارات المدارس اللاتربوية واتباع هذه الإدارات التميز الاجتماعي والطبقي في معاملة الطلبة، حيث خصص غرف خاصة لأبناء الأثرياء، مما خلقت هذه السياسة تململ في صفوف الطلبة ولا سيما في عهد السلطان عبد الحميد.
  عبرت الطلبة عن احتجاجهم على الأوضاع القائمة بأشكال مختلفة. فقد أقدمت الطلبة على كتابة الشعارات ضد السلطان عبد الحميد لقمعه الحريات والأفكار وتم توزيعها بصورة سرية داخل المدرسة. (64)   
    عندما ظهرت بوادر الحركة الدستورية في إيران عام 1905، أثار الرأي العام العراقي وطالب رجال الدين في النجف الى مساندة نضال الشعب الايراني في سبيل حقوقها الديمقراطية، وكان لهذا الحدث تأثيرها الكبير على تفكير الطلبة في المدارس الدينية من خلال الطلاب الإيرانيين.
  فقد سارع تلاميذ المدارس الدينية مع رجال الدين في تنظيم البرقيات ورسائل الاستنكار إلى السلطات الإيرانية تطالبها التقيد بالدستور ومجلس شورى في عام 1906. (65)
  وقد أطلق الحركة الدستورية في عام 1908 عنان مبادرات الجماهير الشعبية، حيث تلقى الطلبة خبر اعادة العمل بالدستور بالفرح والابتهاج وانطلقت المظاهرات الطلابية تحيي هذا الحدث. (66) كما انضم العديد من الطلبة في النجف الى منظمة الاتحاد والترقي وأصبحوا دعاة لنشر مبادئ الدستور عن طريق المدارس الدينية وجرى طبع النشرات على الة الرونيو وتوزيعها. (67)
  أما في بغداد فقد ساهم الطلاب في نشاط الحركة التي برزت ضد الأساليب القسرية التي كانت إدارات المدارس تتخذها ضد الطلبة.
 فقد أعلن طلاب المدرسة الحربية في بغداد الإضراب والتظاهر ضد مديرهم وأخرجوه عنوة. كما قرر طلاب الصف الخامس في الاعدادية الملكية في بغداد إعلان الإضراب احتجاجاً على سوء معاملة معاون مدير المدرسة مع الطلاب، وبعد لحظات خرجوا إلى ساحة المدرسة وبدأوا بتحريض بقية الطلاب على الإضراب والتضامن معهم، وقد حاول مدير المدرسة منعهم من الخروج إلا أن محاولاته بغلق الباب فشلت امام اصرار الطلبة، فكسرو باب المدرسة وانطلق جموع الطلبة قاصداً السراي لمقابلة الوالي.
 قدم وفد مكون من ستة طلاب مطالبهم للوالي وطالبوا بمحاسبة معاون مدير المدرسة على السلوك غير التربوي تجاه الطلاب.
 فقد احالهم الوالي الى مدير المعارف لدراسة مطالبهم إلا أن الأخيرة قد تواطئ مع مدير المدرسة ورفض مقابلة الوفد الطلابي.
  استغل المدير تراجع بقية الطلبة عن مواقفهم، قرر الادارة طرد الطلاب الستة المساهمين في الوفد لمدة اسبوع، بسبب عفوية الإضراب وضعف التنظيم وعدم تضامن الطلبة مع الوفد ادى إلى فشل الإضراب وعدم إحراز النجاح في محاسبة معاون المدير.
  بعد تعيين الوالي الجديد لبغداد اوعز الى المدعي العام بالتحقيق مع معاون المدير. ولكن المعاون خاف من مغبة عمله فهرب إلى أفغانستان عن طريق إيران، أعيد الطلبة الى مدرستهم واستقبلوا من قبل زملائهم باحترام وتقدير وأصبحوا من الطلبة البارزين في المدرسة وتألفت في المدرسة لجنة منهم بالإضافة إلى مدير المدرسة وأحد أعضاء التدريسية للإشراف على إصدار مجلة مدرسية أسبوعية باسم "لمعة معارف". (68) 
   يعد بداية التطور النوعي في نشاط الطلبة بعد ان تأسس مدرسة الحقوق في بغداد عام 1908 حيث صارت المدرسة منطلقاً للحركات السياسية والقومية ضد الحكم العثماني، مما أرعب الوالي جمال باشا السفاح الذي تولى مهامه في 30 آب 1911 وأصدر بياناً يدعو فيه عن أسباب إغلاق المدرسة بحجة واهية مفادها أن مدرسة الحقوق لا تليق ببغداد ولعدم وجود اناس متعلمين أكفاء للدخول فيها، (69) وعلى أثر صدور البيان، فقد عمت في بغداد سلسلة من الاحتجاجات على القرار المجحف بحق الطلبة. حيث وقفت جريدة ما بين النهرين موقفاً تضامنياً مع الطلبة.
 ولم تكتف بنشر بيان الوالي بصدد إلغائه لمدرسة الحقوق، بل هاجمته ايضاً بعنف. وكان لهذه الاحتجاجات صدى واسع أدى إلى فشل محاولات الوالي إغلاقها، وأعيد فتحها بعد إصدار الأوامر له من اسطنبول. (70)
 

8
رحلة إلى قلب المخاطر*
سھیل الزهاوي
    عندما انبش في صندوق الذاكرة ينضب من مساماتها ثقل الفصول المتراكمة من الأحداث في مرحلة من مراحل التاريخ السياسي المترع بالمأساة الإنسانية، في بلد هيمنت عصابة فاشية على مقدرات الشعب. ليس من السهل ان ينسى المرء تلك الايام الصعبة التي ظلت راسخة في ذهني بكل جزئياتها، رغم مرور سنوات مضت إلا أننا نتذكر ونصحو على فصل من حياتنا السابقة لنروي للأجيال القادمة عنها.
    لقد أضحت بغداد مدينة كئيبة موحشة، حيث استنزفت قدراته الاقتصادية كليا بعد الحرب الطاحنة التي دارت رحاها بين الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والجيش العراقي المحتل لدولة الكويت والتي انتهت في إخراج الأخير منها وكسر شوكة الطاغية صدام حسن.
    وفي ظل هذه التطورات تزامنت معها إشعال انتفاضة آذار المجيدة في عام 1991 التي تمكنت الاجهزة الامنية القمعية من اخمادها في جنوب ووسط العراق، وتحرير مساحات كبيرة من المدن الكردستانية، التي باتت تحت سيطرة الجبھة الكردستانية.     
    بعد اندحار الجيش العراقي في الكويت وإعلان الحصار الاقتصادي على العراق من قبل الأمم المتحدة، لم يكن حرارة الصيف قد ودعنا تماماً ولا زلنا في بداية الخريف 1991، عندما قرر قيادة الحزب الشيوعي العراقي إرسال الرفيق عادل حبة (أبو سلام) عضو اللجنة المركزية للحزب إلى العمل في تنظيم الداخل في بغداد بعد ان تطوع الرفيق أبو سلام بنفسه للعمل في عقر دار الفاشية. والرفيق ابو سلام غني عن التعريف بمواقفه المشهودة كما يتمتع بشخصية متميزة مفعما بالإنسانية وحب الناس. وعبر تاريخه النضالي الطويل ضد النظام الملكي والانظمة الدكتاتورية المتوالية على العراق، كان نموذجاً للتضحية والفداء ونكران الذات، وكنزاً من المعلومات حول تجربة السجون والصمود تحت التعذيب، فضلاً عن قيم الانضباط الحزبي في المهمات النضالية الكثيرة.
    انطلقت بنا سیارة الحزب من مدینة اربیل متوجهةً صوب مدینة السليمانية، حيث هناك كنا في ضيافة الفقيد المهندس فاروق قادر.
    كان الرفيق ابو سلام َله َرغبة ملحة للقاء الفقيد السيد جلال الطالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني ورئیس جمهورية العراق سابقاً للاطلاع عن قرب على توجهات وسياسة الحركة الكردية آنذاك . وفعلا تم اللقاء بحضور الفقيد الدكتور عزالدین مصطفى رسول وقد جرى في ھذا اللقاء بحث الأوضاع في العراق وكردستان وتوجهات الأحزاب وطلبنا من السيد الطالباني بعدم إعلان اللقاء لأسباب أمنية.
في اليوم الثاني توجه كاتب السطور والرفيق ابو سلام الى النقليات. استقلينا سيارة أجرة واخذنا المقعد الخلفي كي لا يشاركنا أحد. اما المقعد الأمامي فكان من نصيب شابان وهم من ابناء نفس مدينتي، ومن حسن الحظ لم يتمكنا من التعرف عليَّ.
    قبل سفرنا حصلتُ للرفيق ابو سلام ھویتین شخصیتین أحدهما كونه موظف كردي من السليمانية حتى يتسنى له العبور بسلام في سيطرات البيشمركة والثاني متقاعد من بغداد.
    وهكذا بدأت رحلتنا الشاقة. بعد ان انطلقت سيارة التاكسي مع الريح، كنت أجول بناظري من خلف زجاج نافذة السيارة وأرنو الى البنايات الشاھقة وشوارعها وتذكرت سنوات اقامتي فیھا وشدو الحانها الجميلة. انتابني شعور يتدفق شجناً. هل ستكون رحلتنا هذه رحلة الوداع الاخير الى الابد؟ أم سأعود مرة أخرى الى ھذه المدینة الجميلة؟
    بدأت رحلتنا الطويلة الى مدینة الطوفان، ومیاھا غمرت كل أزقتها وشوارعها منذ زمن بعید، كلما ابتعدت السيارة تختفي مدینة السلیمانیة رويدا رويدا خلف المنحدرات وانعطافات الطريق، بعد ان كانت قبل لحظات مضت في نھار باهر وصاف وأضوائها خالیة من الھموم نسبيا بعد انتفاضة آذار ونحن في طريقنا الى مدينة بغداد التي تقبع في ليل حالك السواد، وكانت كردستان آنذاك الملاذ الآمن الوحيد بعد انتفاضة اذار المجيدة في عام 1991، وما أصعب الحياة عندما يشعر المرء وھو في داخل وطنه غریباً.
    في سيطرتيّ السليمانية وجمجمال لم تحدث اية مشاكل تذكر فيما يتعلق بالأوراق الثبوتية. عندما دنت السيارة من سيطرة كركوك راودنا بعض القلق والتوجس ولكن حافظنا على رباطة جأشنا. هنا التفتيش يحوطه التشديد والريبة.  أجهزة السلطة الامنية كانت لها اليد الطولى هنا. وحال وصولنا الى سيطرة طوزخورماتو طفقت عمليات التفتيش تأخذ منحى آخر. التدقيق والتعمق في الأسئلة. بدأت التفتيش الدقيق للھویات والحقائب. لن أستطيع نسيان ھذا اليوم، قام أحد المنتسبين بفتح حقيبة عادل حبة، تلك الحقيبة التي اتفقنا مسبقاً انها عائدة لي. لم أكن أتوقع شیئا مثیراً في الحقیبة التي یحملھا الرفیق عادل حبة. عندما بدأ الضابط بفتح الحقيبة، أمسك بـرزمة من الأوراق البيضاء التي تستخدم في جھاز الرونيو لطبع البیانات ورزمة من الظروف البریدیة، وراح يدقق في الأوراق ويتفحص في كل ورقة على حدة، مما أثار في نفسه الشبهات. هذا حدث في سيطرة طوزخورماتو. كنت حينها واقفاً خلف السيارة وانظر الى الضابط ودقات قلبي تتسارع حتى تراءى لي بأن العسكري يسمع تلك الدقات ايضا، وقفت صامتا برھة من الزمن، وكنت خائفا من أن الرفیق قد نسى مقالة أو بیان للحزب بین ھذه الأوراق استجمعت قوايَّ النفسية لمواجهة اي احتمال طارئ.
    ما ھذه الأوراق والظروف البریدیة؟ قاله فجأة بصوت خافت ولكن بسرعة ولا زال يحمل عدد من الأوراق في يده وصب تركيزه عليها بينما بقي رأسه مُنحنٍ، واجبته دون تردد، كوني تاجر احتاج الى اوراق للحسابات، حيث كنت أحمل ھویة مزورة كتاجر، صادرة من غرفة تجارة السلیمانیة، وقال وھو یوجه عینیه السوداوین محدقتين نحوي وكأنهما من حجر. كانت المرة الأولى التي ينظر الي فیھا نظرة كاملة حتى اتسعت محجريهما. بدأت أفكر بجدیة فیما سأفعله لو قُبض عليَّ وكنت أفكر بمصیر الرفیق ابو سلام في ھذه اللحظة. وتابع كلامه.  ألا توجد أوراق في بغداد؟ كان عليَّ أن ابرر الأمر وھذا ما فعلته.
على وجه السرعة ولكنني لم أفكر ماذا ستكون العاقبة وقلت له: نعم يوجد ولكن لا يوجد وقت لدي لكي أذهب إلى السوق لشرائه. فسكت واغلق الحقيبة.
شعرت بهدوء عميق. كانت لحظات صعبة تلك التي أمضیتھا مع الضابط وبعد ذلك اختفى كل توتري وتحركت السيارة متوجهة نحو المصیر المجھول. بدأت أفكر بطريقة أكثر عقلانية في تبرير وجود هذه الأوراق. فالقادم أكثر صعوبة وتعقيدا وهو سيطرة بغداد. وهي السیطرة الاخیرة وعلینا أن نجتازها بأمان، وجدار المصاعب لیس عصیاً، لنصل إلى الرفاق، لقد قطعنا شوطا طويلا ومررنا بستة سيطرات كل شيء سار على ما يرام، ولم تبق سوى هذه النقطة الخطرة التي تحدد مصيرنا نحو الضفة الاخرى. كنت أفكر مليا بقلق واضطراب وعشرات الأسئلة تحفر دماغي وكنت اھئ نفسي للإجابة علیھا وكان ھمي الوحید أن یصل الرفیق ابو سلام بأمان الى بغداد. عند وصولنا الى سیطرة بغداد كانت بعكس كل تصوراتنا وتوقعاتنا. كان هناك رجل واحد قصير القامة. ذو جسم ممتلئ يلبس الملابس المدنية. سار نحو السيارة وطلب منا النزول لتفتيش الحقائب ولم يكن في صندوق السيارة غیر حقیبة الرفیق ابو سلام، نزلت في الحال من السیارة. قبل أن يفتش الحقيبة طلب رجل الأمن مني الهوية. وعندما تأكد بأنني تاجر، دار بيننا حديث ودود ونسى أن يأخذ الھویات من الآخرين. بادرني بالسؤال، فيما لو كان لدي مكتب تجاري في بغداد، ھززت رأسي بالنفي واسترسلُت في الكلام، انا اشتري المواد وانقله الى كركوك ولدي مخازن ھناك. عقب انتھاء حديثنا، سَمح لنا بالمرور. ھكذا وصلنا الى ساحة النھضة في بغداد بأمان بعد أن تخلصنا من كافة السيطرات واستقلينا سيارة تاكسي ومررنا بساحة التحرير. كانت الساحة تعج بالسيارات، والمكتظة بالناس وترجلنا من التاكسي في ساحة النصر واتفقنا ان نلتقي بعد ساعة عند مطعم للكباب الواقع في جھة الیمين من الساحة ويكون موعدنا في ھذا المكان لحين اعلام رفاق الحزب بوصول الرفيق عادل حبة الى بغداد. بعد أن اتفقت مع الرفاق حول المكان المطلوب إيصاله استقلينا سيارة تاكسي وتوجھنا الى هناك حيث رفاق الحزب. هكذا وصلنا بأمان.       
 ھناك بعض الأعاجيب لولاھا لاصبحنا في عداد الموتى.

* منقول من مدونة
عادل محمد حسن عبد الھادي حبه
سیرة ذاتیة
ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في أيلول عام 1938 ميلادي.
في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الھاشمیة التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد
انتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في ھذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي
انتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد
نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السریة، كما ساھم بنشاط في اتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العھد. أكمل الدراسة المتوسطة وانتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الإعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرھا ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد
في نھایة عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشیوعي العراقي وھو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وھو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فیه
اعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاھرة التي نظمھا الحزب الشیوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبھة التحرير الجزائریه، الذين اعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الاستعمارية في صيف عام 1956
دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراستھ في فرع الجیولوجیا في دورته الثالثة
أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لاتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشیوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبیة لیصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك
شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي اندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956
بعد ثورة تموز عام 1958، ساھم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وانتخب كرئيسا لإتحاد في كلیة العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العھد الجمھوري، والذي تحول أسمه إلى اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقیة. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسیسھا بعد انتصار الثورة مباشرة
أنھى دراسته الجامعية وحصل على شھادة البكالوريوس في الجیولوجیا في العام الدراسي 1960-1959. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الاقتصاد
حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجیولوجیا على نفقة وزارة التربیة والتعلیم العراقیة في خریف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب لإیفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفییتي للدراسة الاقتصادية والسياسة في أكاديمية العلوم الاجتماعیة-المدرسة الحزبية العلیا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة ھناك
بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إیران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب لإدارة شؤون العراقیین الھاربین من جحیم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاھا الحزب إثر الإنقلاب. اعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجھزة الأمن الإیرانیة مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجھزة الأمن عبور المراسلین بخفة عبر الحدود العراقیة الإیرانیة. وتعرض الجمیع إلى التعذيب في أقبية أجھزة الأمن الإیرانیة. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طھران. وحكم علیه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بین خمس سنوات إلى سنتين، بتھمة العضویة في منظمة تروج للأفكار الاشتراكية
أنھى محكومیته في أيار عام 1971، وتم تحویله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقین في العراق. و انتقل من سجن خانقین إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة ھجمة شرسة على الحزب الشیوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه وعمل الأھل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسین، وتم خروجه من المعتقل
عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. عمل بعدئذ جیولوجی في مديرية المیاه الجوفیة ولمدة سنتین. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المیاه الجوفیة والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق
عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحیاة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتھا المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدینة الثورة والطلبة وريف بغداد. اختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب
استقال من عمله في دائرة المیاه الجوفیة في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والاشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشیوعیة والعمالية العالمية، في العاصمة الجیكوسلوفاكیة براغ. وأصبح بعد فترة قلیلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في ھیئة تحریرھا. وخلال أربعة سنوات من العمل في ھذا المجال ساھم في نشر عدد من المقالات فیھا، والمساھمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى
عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبھة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ویصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب
في ظل الھجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم اعتقاله مرتین، الأول بسبب مشاركته في تحریر مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائھا عند زیارته للعراق. أما الاعتقال الثاني فيتعلق بتھمة الصلة بالأحداث الإیرانیة والثورة والمعارضين لحكم الشاه، ھذه الثورة التي اندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي انتھت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدى حكام العراق
اضطر إلى مغادرة البلاد في نھایة عام 1978 بقرار من الحزب تفادیاً للحملة التي اشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. واستقر لفترة قصیرة في كل من دمشق والیمن الجنوبیة إلى أن انتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طھران بعد انتصار الثورة الشعبیة الإیرانیة في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمین الکثیر من احتیاجات اللاجئين العراقيين في طھران أو في مدن ایرانیة أخرى إلى جانب تقديم العون لفصائل الانصار الشیوعیین الذين شرعوا بالنشاط ضد الدیكتاتوریة على الأراضي العراقية وفي اقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدھور الأوضاع الداخلية في إیران بسبب ممارسات المتطرفين الدینیین، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحویله إلى سوریا
خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤولية منظمة الحزب في سوریا والیمن وآخرھا الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنھا جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة
بعد الانتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، انتقل إلى إقليم كردستان  العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المھلكة التي تلقتھا خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نھایة عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر یھدد وجود ھذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى
اضطر إلى مغادرة العراق في نھایة عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته مرض عضال
تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب والثقافة الجديدة العراقیة والحیاة اللبنانیة والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السوریة وكار الإیرانیة ومجلة قضايا السلم والاشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقیة والإیرانیة وبلدان أوروبا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حمید محمد لاعتبارات احترازية أثناء فترات العمل السري
یجید اللغات العربیة و الإنجليزية والروسية والفارسية متزوج وله ولد وبنت وحفیدان


9
أدب / حزني
« في: 19:09 13/09/2021  »

حزني
 

*إلين ال. آبيَ لوند
ترجمة سهيل الزهاوي من النرويجية



حزني على الطائر الأسود.
 حين يفقد الأمان في الشتاء القارس،
وهو يحلق هاربا
 ولكن احيانا،
يرتفع الطائر عاليا ،
عندما يكون في الأفق،
تحت أشعة الشمس.
تسْطَعُ أجنِحَتُه لاَمِعَةٌ بلون ذهبي.
..........
*شاعرة نرويجية كتبت هذه القصيدة ضمن المجموعة الشعرية ( رسالة السماء) بعد أن فقدت طفلها البالغ من العمر ثمانية ايام 
  قصائد لتخفيف عبء الحزن

10
حتى الحرب العالمية الأولى بقيت المشاريع الخاصة ضعيفة ، رغم وجود معلومات تشير الى استخدام العامل الأجير من جانب الرأس المال الوطني ، إلا أنه لم يحدث أي تطور يذكر في الصناعات المحلية .
 وقد ظهرت عدد من المشاريع الصناعية لرأس المال الوطني ألا أنها بقيت دون المستوى المطلوب ، لم تسطيع أن تقاوم البضائع الاجنبية. (53)  بيد أنها أنشأت  بعض المشاريع من قبل الشركات الاجنبية لمعالجة الخامات المخصصة للتصدير. ففي عام 1889 ، تأسست شركتان بريطانيتان تعملان في كبس الصوف ، تملك واحدة منها مكبسين مائيين كبيرين تعملان بقوة البخار ، يكبسان حوالي (25) ألف بالة سنوياً . (54)    وكما هيأ شركة لنج اخوان التجهيزات اللازمة الضرورية لأحواض بناء السفن ومراكز تصليحها في البصرة .
  وفي بداية القرن العشرين بلغت عدد الشركات العاملة في مجال تعليب وتصدير التمور ثمانية شركات  تعمل في مدينة البصرة تابعة لرأس المال الأجنبي و الكومبرادورية المحلية الوثيقة الصلة بالرأس المال الأجنبي . (55)  وقبل الحرب العالمية الأولى حدث تغلل معتدل للشركات الألمانية والروسية وكذلك  تأسست في البصرة شركة ماك أندروفوربس الأمريكية لتصدير جذور عرق السوس .  فقد كان الجزء الأعظم من تجارة الواردات والصادرات ما يزال موزعا بين الشركات البريطانية والتجار المحليين الوثيقة الصلة بالرأس المال الأجنبي .(56)
  إن تخلف البلاد في مجال المشروعات الصناعية الكبيرة قد عزل الاقتصاد الوطني العراقي عن التطورات الحاصلة في البلدان الرأسمالية المتطورة لذلك افتقر الرأس المال الوطني الى رصيد الادخار في مجال استهلاك رأس المال الأساسي وقد كتب ماركس حول هذا الموضوع (( حيث تستخدم لكثرة الرأس المال الثابت وبالتالي الرأس المال الأساسي .  فإن قسم من قيمة المنتجات يعوض استهلاك الرأسمال الأساسي ويعتبر بمثابة صندوق الادخار ، وأن رصيد الادخار هذه لا يوجد عند الأمم التي لا تتوفر لديها رأسمال أساسي . ))(57)  فإن مصدر التراكم الوطني الأساسي يأتي من الإنتاج الزراعي . فقد كان كبار الملاكين والإقطاعيين يستحوذون على معظم الفائض الاقتصادي . ويجري من جانبهم إنفاق الجزء الأكبر من هذا الفائض على المواد الاستهلاكية غير الإنتاجية .   لكن تشغيل الرأس المال الأجنبي لم يساعد في التخلص من حالة التخلف وتحقيق التنمية المهمة إذ أن تنميتها تكون آنية ولفترات قصيرة لخدمة مصالحها.
أما الرأس المال التجاري ( الضعيف بالأساس ) ،غير قادرة على التوجه نحو الإنتاج الصناعي لمزاحمة الرساميل الأجنبية والبرجوازية الكمبرادورية  المرتبطة بها، لأنها دخلت ميدان العمل في وقت كانت ثمة فيه بالفعل  قطاع رأس مالي متطور خاضعة للاحتكارات الأجنبية أو المرتبطة بها مثل التجارة الخارجية، الصناعة الاولية لغرض التصدير ، النقل ، الميناء ، أي أصبحت المجالات العليا والمتوسطة من التجار التصديرية قد تم الاستيلاء عليها وهي المجال التي تدر ارباحاً عالية والمجال الأوسع للتراكم . فضلا انه لم يكن في العراق كوادر فنية وادارية من ذوي الخبرة في ادارة الأعمال الصناعية بسبب السياسة التعليمية المتخلفة التي سارت عليها الدولة العثمانية .
  وقد ركزت البرجوازية العراقية نشاطها في تجارة المنتجات الزراعية وأعمال الربا و حيازة الأرض ، كما شغلت نظام التزام الضرائب الحكومية في نظام الاستغلال الإقطاعي للفلاح العراقي . (58)  وكانت ترى هذا المجال أفضل المجالات للحصول على الربح بمزيد من السرعة نطراً لدوران رأس المال بمزيد من السرعة وقلة مخاطرها .
  لقد وظف بعض من رجال الأعمال العراقيين قسم رأسمالها في مجالات النقل البري والبحري وخاصة في المدن الكبرى كالبصرة وبغداد واطرافها . (59)  وكما تم تشييد الفنادق ، وافتتح أول دور للسينما في بغداد في عام 1911 . (60)
  وهناك أمثلة منفردة تدل على محاولة التجار ورجال المال العراقيون بتردد كبير القيام ببعض المشاريع الكبيرة إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل . فقد حصل محمود جلبي الشابندر في 28 شباط 1912 ، حق تأسيس ترامواي كهربائي مع امتياز اقامة محطة كهربائية في بغداد . بالرغم من الجهود التي بذلت من اجل انجاح المشروع ، إلا أنها لم يرى النور وبالأسلوب نفسه مشروع اخر لتأسيس خط حديد بين بغداد وخانقين بالرأسمال الوطني . (61) 
  بإحتلال العراق في الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 ، تعقدت الأمور أكثر فأكثر وعرقلت تنمية وتطور العلاقات الرأسمالية في البلاد واتخذت سلطات الاحتلال البريطاني العديد من القوانين والتشريعات التي تخدم مصالحها الحيوية وتحد من نشاط رأس المال الوطني والتي تؤدي إلى تنمية الإقطاعية وشبه الإقطاعية بالشكل التي تضفي عليها طابعا وحشيا ضاريا التي يمكن أن تساهم في ظروف العراق حينذاك في توسيع النشاط الاقتصادي في الريف وزيادة الإنتاج وضمان عدم نهب موارد العراق ، كما أنها ضيقت كثيراً في النشاط السلعي الصغير وحددت من إمكانيات تطوره الى إنتاج سلعي رأسمالي ، وعرقلت أي نشاط مستقل للبرجوازية العراقية في المجالات الأخرى كالتجارة والنقل والمواصلات وليس عبثا أن السفن النهرية العائدة الى الأسطول الحربي لم يجري بيعها في العراق وانما بيعت في بومباي وقد ادت ذلك الى اضاعة الفرصة أمام البرجوازية العراقية للمشاركة في المزايدات التي كانت تجريها السلطات المحتلة.(62)  كما برز قطاع صناعي اجنبي واصبحت هذا القطاع المسيطرة على البنية الاقتصادية في البلاد . وبلغت الرساميل المستثمرة في مشاريع السكك الحديدية والميناء وشركة نفط العراق وشركة نفط خانقين وجمعية زراع القطن البريطانية أكثر من (80) مليون دينار(63) 
  بعد تصاعد الحركة الوطنية العراقية المعادية للاحتلال والانتداب البريطاني والدعوة إلى استقلال البلاد إضافة إلى ذلك ، أن الرأس المال الأجنبي لم توظف رساميلها في إنشاء الصناعة ، بل جعلت البلاد سوقا لتصريف بضائعها المصنعة وتزويد الخامات والتركيزعلى صناعة النفط فقط، وكما أدت الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت الدول الرأسمالية في الفترة ( 1929- 1933 ) ، الى تناقص الصادرات واقفال الأسواق العالمية كما حدث أثناء الحرب العالمية الأولى ،  مما أجبرت الحكومة العراقية الى اتخاذ بعض الإجراءات لحماية الصناعة الناشئة في العراق .
  في منتصف  العقد الثاني من القرن العشرين ووضعت البرجوازية المحلية الحجر الأساس للصناعة الوطنية ، فقد بدأ رجال الأعمال العراقيين التوجه الى توظيف أموالهم في قطاع الصناعة  ولاسيما في المجالات التي تكون أقل تعرضاً لمنافسة السلع الأجنبية والتي يسهل تهيئة الكوادر الإدارية والفنية من ذوي الخبرة والكفاءات  لها . ففي عام 1926 أسس نوري فتاح باشا أول معمل حديث للنسيج بالرأسمال الوطني وقد اتسعت هذا المعمل خلال الثلاثينيات وتبعه آخرون منهم ، الحيدري ، والخضيري في تأسيس شركات مماثلة (64)
 وبحلول أواخر العشرينيات ، كانت الصادرات العراقية تتناقص بحدة ، كما كانت الخيارات المتاحة أمام المنتجين والتجار العراقيون لمواجهة هذه المشكلات تختفي بسرعة بسبب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم الرأسمالي . وفي تلك الفترة تدنت أسعار المنتوجات الزراعية ما بين ( 75%  - 80% ) وانخفض الصادرات بنسبة ( 40 % - 60%  ) ، وانخفض بشكل أكثر خطورة على المنتوج التي تشتهر بها العراق أكثر من غيرها من المنتوجات الزراعية (التمور) ، حيث أن صادرات التمور كانت تشكل ذات أهمية كبرى على اقتصاد البلاد في ذلك الوقت ، كما هبطت تدوال البضائع  في سنوات الأزمة إلى الثلث والواردات إلى أكثر من الربع .(65)       
 مع انخفاض مدخولية المنتجات الزراعية والتي أنزلت بالتجارة التصديرية أضراراً كبيرة بصورة خاصة بسبب الأزمة العامة للرأسمالية، قد أثارت في أوساط أكبر التجار والملاكين في تغيير مجرى استثماراتهم، إلا أنه بدلاً أن يحولوا رؤوس أموالهم نحو الإنتاج الصناعي من خلال تأسيس الشركات المساهمة . فإن البرجوازية التجارية وكبار الملاكين قد ركزو مصالحهم نحو الاستثمار العقاري وخاصة في مدينة بغداد ، بعد أن ازداد الطلب من جانب ارستقراطية المدن وكبار الملاكين على بناء الدور السكنية محاكاة لطراز معيشة الخبراء والمستشارين الإنكليز في العراق .   
  وخلال ثلاثة أعوام فقط ، أنفق ما لا يزيد خمسة ملايين من الباونات على بناء دور مبعثرة هنا وهناك .. نفقة بناء البالغة عشرات الألوف من الروبيات لكل دار .
أن الاستهلاك الطفيلي للطبقات المالكة وإنفاق مبالغ كبيرة على المضاربات العقارية وسواها ، تضيق قاعدة الإنتاج الموسع .
  بعد الشروع في بناء الدور السكنية ، حدث تطور ملموس في الصناعات الانشائية ولا سيما معامل الطابوق في الفترة ما بين ( 1929 - 1939) ، حيث ازدادت عدد المعامل من معملي الى الى ثلاثة عشر معملا تعمل بقوة البخار ، لا يقل رأسمال جميع هذه المعامل عن 1950 دينار . (66)  كما منح حق الامتياز الى ياسين الهاشمي وشركائه في سنة 1932 . (67) 
   لقد كان لإقامة أول معمل صغير لصنع السكاير في عام 1926 الذي أسسه  شخصان لبنانيان ( طبارة وعبود ) الأثر الكبير في تشجيع رجال اعمال العراقيين عن استغلال رؤوس أموالهم في مجال الصناعة : 
ففي أواسط الثلاثينيات بلغ أحد عشر معملاً بعد أن تأسس أول معمل للسكاير في بغداد بالرأس المال الوطني في عام 1929 . كما تأسس معملان للدباغة إحداهما في بغداد والآخر في الموصل . (68)   
  وقد شهدت هذه الفترة أيضا تحول أقلية من البرجوازية التجارية الوطنية الى الإنتاج الصناعي وخاصة الصناعات الاستهلاكية وساعد على ذلك الحماية الجزئية التي طبقت من قبل الحكومة، وكانت تؤمن بعض الامتيازات  للشركات الصناعية والذى تشمل بفرض الحماية الكمركية بعد صدور قانون  1929 لتشجيع الصناعة وعدل هذا القانون بأخرى في عام 1931 والذي تضمن إعفاء الصناعات من الضرائب الكثيرة ، كما أصدرت السلطة في عام 1933 ، تعريفة كمركية جديدة ، وقد تحددت في التعريفة الرسوم الكمركية على أساس تميز السلع المستوردة وفقاً لدرجة الضرورة ومرحلة التطور . (69) 
  وفي أواخر العشرينيات ، بدأت الرأس المال الوطني تنافس الشركات الأجنبية في الصناعات المخصصة للتجارة التصديرية ، فقد تأسست في عام 1929 - 1930 شركتان بالرأسمال الوطني اختصت في مجال
حلج الأقطان بعد أن كانت هذا القطاع احتكرت منذ عام 1920 من جانب الشركات البريطانية لزراعة القطن وكانت السعة الإنتاجية لهذين الشركتين كافية لإعداد القطن العراقي للتصدير(70)

  الخاتمة
 
 لم تكن العلاقات الاجتماعية الإقطاعية للدولة العثمانية الحاجز الوحيد في بلاد مابين النهرين تعرقل التحولات الرأسمالية في البلاد ، بل أن تزايد دور العوامل الخارجية ولا سيما بعد انخراط البلاد في الاقتصاد العالمي الذي سبق العديد من التطورات الداخلية المؤدية إلى التشكيلة الرأسمالية قد أضعفت نمو البرجوازية الوطنية بحيث لم تتمكن أن تصبح قوة اقتصادية وسياسية قادرة أن تحظى بالمواقع والامتيازات الطبقية التى حظيت بها البرجوازية في بقية البلدان وحتى الحرب العالمية الأولى لم تقم البرجوازية بأي دور مستقل وكانت خاضعة بشكل كامل للاحتكارات الأجنبية.
  بعد الاحتلال البريطاني للعراق ازداد الوضع تعقيداً وأصبح سلطات الاحتلال  عائقاً أمام تطور الرأسمالية حيث عملت في هذه الفترة وفيما بعد في عهد الانتداب كل ما وسعها من أجل خلق القاعدة المادية التكنيكية للاستغلال الإمبريالي والتي تجسدت في عملية مد خطوط السكك الحديدية وبناء الموانئ والمستودعات وتنظيم الإنتاج البضاعي واستخراج المواد الاولية التي تحتاجها الدول الرأسمالية المتطورة . وكان من نتائج هذه العملية بروز قطاعي أجنبي واصبحت هذا القطاع العنصر السائد في البنية الاقتصادية في العراق .   

       الهوامش

(1)    - الدكتور وميض جمال عمر نظمي ، ثورة 1920 ، ( الجذور السياسية و الفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية والاستقلالية في العراق ) الطبعة الثانية ، بغداد 1985، ص 40 - 41
(2)    -  محمد توفيق حسين ، عندما يثور العراق ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1959 ص 72   
 يرجع نشوء المصالح البريطانية في العراق الى عام 1643 عندما أسس شركة الهند الشرقية وكالة تجارية في البصرة ، لتشرف على مصالحها في وادي الرافدين ، كان رئيسها يشغل منصب
       القنصل البريطاني . وكان لهذه القنصلية وكيل عراقي في بغداد حتى سنة 1798 إذا وضعت    الشركة ممثلا لها في بغداد اعترف به السلطان العثماني .
(3)    - لوتسكي ( تاريخ الأقطار العربية الحديث) دار التقدم ، موسكو 1971. دار الفارابي . بيروت .ص 89
(4)    - د. محمد سلمان حسن . ( التطور الاقتصادي في العراق ) الجزء الأول . المكتبة المصرية . صيدا . بيروت . ص 317
(5)    - لوتسكي ، نفس المصدر السابق ،  ص 20
(6)    - د . محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص 44
(7)    -  ل.ن . كوتلوف ((ثورة العشرين التحررية في العراق )) ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم مطبعة أوفست الديواني بغداد ، 1985، ص 79
(8)    - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص 7
(9)   - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص 94-102
(10)   - بوندا فسكي ، سياستان إزاء العالم العربي ، دار التقدم ، موسكو، 1975 ، ص 9
(11)   -  ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص 100
(12)   - لوتسكي ، نفس المصدر السابق ،  ص 390                                                                       
(13)   - محمد توفيق حسين ، نفس المصدر السابق ،  ص 73- 74
(14)   - محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص 255
(15)   -  محمد توفيق حسين ، نفس المصدر السابق ،  ص 75
(16)   - السير بيرسي كوكس يحاضر امام الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، آفاق عربية العدد 2  ، شباط 1985 ، ص 35
(17)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص 117
(18)   - ستيفن همسلي لونگوریك . العراق الحديث من سنة ( 1900- 1950 ) الجزء الأول ترجمة  سليم طه التكريتي ، الطبعة الاولى ، بغداد ، ص. 31
(19)   -  ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 93
(20)   - د . محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص . 151
(21)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص. 94
(22)   - د . محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 221
(23)   - وكانت الشركات الأجنبية الخمسة التي تشكلت في بغداد مكونة من شركتين بريطانيتين
 أسست في عام 1839 - 1840 وشركتين يونانيتين وأخرى سويسرية ، أسست في عام 1859 1860
(24)   - د . محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 263- 269
(25)   - بوندا فسكي ، نفس المصدر السابق ، ص . 26- 27
(26)   - صدى بابل ، السنة 1 ،العدد 20 ، 31 كانون الأول  1909 ، في أواخر عام 1909 رفع وجهاء بغداد التماسا بعدم تمديد (فرمان) الشركة، حتى عرضوا دفع جميع التكاليف المترتبة على على إلغاء حقوق الشركة البريطانية .
(27)   -  ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص. 86
(28)   - الدكتور وميض جمال عمر نظمي ،  نفس المصدر السابق ، ص. 42-43
(29)   - لوتسكي ، نفس المصدر السابق ،  ص .35
(30)   - بوندا فسكي ، نفس المصدر السابق ، ص .155
(31)   - كانت أسهم الشركات على الشكل التالي :- شركة الاناضول 10% ، الكتلة الألمانية 10%، الكتلة الفرنسية 25%، الكتلة الانكليزية 25% ، الكتلة النمساوية والسويسرية 15% ، وغيرها داخلة في كتلة البنك الألماني يساوى 100% .
(32)   - د. محمد ريشة ، أثر الرساميل الاجنبية في الصناعة الحرفية وتكوين الطبقة العاملة من 1850- 1914 ، مجلة قضايا عربية العدد 11- 12 ، السنة الثانية تشرين الأول وكانون الاول ، 1981 ، ص . 98-99
(33)   -  بوندا فسكي ، نفس المصدر السابق ، ص . 269
(34)   - د. كمال مظهر احمد ، الطبقة العاملة العراقية ( التكوين وبدايات التحرك )  الجمهورية العراقية ، وزارة الثقافة والإعلام ، دار الرشيد ، سلسلة دراسات ، 1980 ص . 20
(35)   - د . محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 465
(36)   - د. كمال مظهر احمد ، نفس المصدر السابق ، ص.
(37)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 75
(38)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 29
(39)   - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 256 - 257
(40)   - لوتسكي ، نفس المصدر السابق ،  ص . 22
(41)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 83-84
(42)   - د. كمال مظهر أحمد ، صفحات من تاريخ العراق المعاصر ، دراسة تحليلية ، بغداد ، الطبعة الاولى ،1987 ،منشورات مكتبة البدليسي  ، ص . 33
(43)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 80 - 82
(44)   - سعيد عبود السامرائي ، سياسات التصنيع والتقدم الاقتصادي في العراق ، النجف، 1973،
ص . 53- 63 ، عن خالد محسن الراوي تاريخ الطبقة العاملة العراقية 1968 - 1975 ،
الجمهورية العراقية وزارة الثقافة والإعلام ، دار الرشيد للنشر 1982
(45)   -  ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 81
(46)   -  ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 111- 117
(47)   -  د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 223
(48)   - فيليب ولا رد ايلاند ، العراق دراسة تطوره السياسي ، ترجمة جعفر الخياط ، دار الكشاف ، بيروت 1949 
(49)   - احلام حسين جميل ، الخلفية السياسية والاجتماعية ، الدار العربية للموسوعات ، الطبعة الأولى ، بيروت 1986 ، ص . 81- 82
(50)   - د. كمال مظهر احمد ، الطبقة العاملة العراقية ، نفس المصدر السابق ، ص . 69
(51)   - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 281 - 283
(52)   - د. كمال مظهر احمد ، نفس المصدر السابق ، ص.  67- 68
(53)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 84 - 85
(54)   - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 286
(55)   - ل.ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 84 - 92
(56)   - ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث من سنة 1900 _ 1950 ، الجزء الأول ، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي ، دار الفجر، الطبعة الاولى ك بغداد 1988 ، ص. 98
(57)   - د. ن . ب شميليوف ، التنمية الاقتصادية في العالم الثالث ، ترجمة د. مطانيوس حبيب و شوكت يوسف ، دار التقدم العربي ، دمشق ، ص . 65
(58)   - ل . ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 94
(59)   - د. كمال مظهر احمد ، نفس المصدر السابق ، ص. 23
(60)   - ستيفن همسلي لونكريك،  نفس المصدر السابق ، ص. 98
(61)   -  د. كمال مظهر احمد ، نفس المصدر السابق ، ص. 21-22
(62)   -  ل . ن . كوتلوف ، نفس المصدر السابق ، ص . 120
(63)   - الدكتور صباح الدرة ، التطور الصناعي في العراق ، بغداد ، ص .  5 - 6
(64)   - د. كمال مظهر أحمد ، صفحات من تاريخ العراق المعاصر، نفس المصدر السابق، ص. 35
(65)   - م . كوبرمان ، الحركة العمالية في العراق ، مجلة الشرق الثائر العدد 6 ، 1934 موسكو ص . 84 من الثقافة الجديدة ، العدد 24 ، أيار 1971 ص. 98 - 99
(66)   -  د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص. 304 - 305
(67)   - ستيفن همسلي لونكريك،  نفس المصدر السابق ، ص.  342
(68)   - صادق قدير الخباز نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق ، مطبعة العمال المركزية ، بغداد ، 1971 ص. 18
(69)   - جواد هاشم ، حسين عمر ، تقيم التحولات الاقتصادية في العراق (1925 - 1970 ) ، الجزء الأول ، بغداد ، مطبعة وزارة التخطيط ، ص .  139 - 157
(70)   - د. محمد سلمان حسن ، نفس المصدر السابق ، ص . 290

11
نشوء وتطور الرأسمالية في العراق

سهيل الزهاوي
 

    أثر الرساميل الأجنبية في نشوء
        الرأسمالية في العراق
 
 يعد العقد السابع من القرن التاسع عشر عهد تحولات هامة في تركيب العراق الاجتماعي - الاقتصادي ونشوء أولى مقتضيات العلاقات الرأسمالية في العراق، وهو مكون رئيسي من مكونات هذه التحولات.فقد تشكلت البرجوازية العراقية من الناحية الزمنية أكثر تأخراً بكثير من بلدان المنطقة . أما عملية نشؤها فقد تميز بخصوصية هامة ، فقد نمت على وسادة المؤسسات الرأسمالية الاجنبية وفي علاقة وثيقة معها . فكان من الطبيعي أن تربط النواة الاولى للبرجوازية العراقية بالرأسمال الاجنبي وينعكس في موقف هذه الطبقة من النشاط الأجنبي بالنسبة لوطنيتها وعدائها للوجود الأجنبي .
  كان الحكم العثماني حجر عثرة أمام التطور الاجتماعي - الاقتصادي مما أعاق تطور التجارة والصناعة،
لذلك أصبحت التطورات الداخلية غير قادرة أن تلعب دورا أساسياً في تكوين البرجوازية .
  في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، كانت تجارة العراق جداً محدودة ، كان حجمها لا يزيد عما يساوي مائة ألف دينار عراقي و كان معظمها من خارج العراق ، باستثناء بعض المنتجات الزراعية و الحيوانية. لذلك كان النشاط التجاري يعتمد بالأساس على تجارة الترانسيت حيث يقوم العراق بدور محطة. فضلا أن التجارة مقصورة على بلدان الشرق الاوسط ولا تكاد تتعداها إلى الدول الغربية (1)
  لقد تمكن الرأسمال الأجنبي السيطرة على تجارة العراق ، ولعب الرأسمال البريطاني عبر مؤسساته التجارية التي انشأها الشركة الهند الشرقية في البصرة وبغداد خلال القرن الثامن عشر. (2)
  ومارس البرجوازية الكومبرادورية ومعظمهم من الفرس تجارة الوساطة والترانسيت في العراق و تمتعوا بحماية نظام الامتيازات (3)  و تدفق الى البصرة في اوائل القرن التاسع عشر الحرير والاطلس والاقمشة القطنية والقطيفة من فرنسا والأقمشة الانكليزية من ألمانيا والزجاج من فينا وبوهيميا والسكر من امريكا.(4)
  وبقي رأس المال الأجنبي يلعب دوراً رئيسيا في العراق بسبين كما يشير الى ذلك لوتسكي، أولهما سبق الاتراك كلا المضمارين  الثقافي والاقتصادي وتكدست لدى التجار الأوروبيين رساميل ضخمة واكتسبوا خبرة أكبر في التجارية وتنظيم الأمور ونقل البضائع على وجه أحسن واكتسبوا بكلمة واحدة احسن خبرة تجارية حضارية والسبب الثاني هو نظام الامتيازات (5)   
وقد استغلت الدول الأوروبية نظام الامتيازات كوسيلة من وسائل الاستثمار الاستعماري ،    فقد أسهم في
نمو بأس الدول الرأسمالية الصناعية بينما ادت الى توقف تطور القوة المنتجة وعرقلة الرأسمال الوطني و وضع التجار العراقيين في موضع غير متكافئ مع التجار الأوربيين الذين كانوا يدفعون رسوم كمركية تبلغ ( 3% ) من قيمة البضاعة . وأن أية زيادة في النسبة تخضع لموافقة الدول الأوروبية مما أبقى الارتفاع  تدريجية وبطيئة وحتى أوائل القرن العشرين لم تزيد التعرفة الكمركية عن (11% ) .(6) بينما كان التجار المحليين حتى الحرب العالمية الأولى يخضعون لرسوم كمركية على الجسور والعبارات لمصلحة الدولة و الإقطاعيين المحليين وشيوخ القبائل داخل الولاية العثمانية . (7)   على سبيل المثال يدفع رسوم كمركية لنقل تبغ من شهرزور في كردستان العراق الى ولاية بغداد نسبة (15%) بينما استيراده من إيران يخضع لرسم استيراد يعادل (7%) . (8)
  بالإضافة إلى كل ذلك ،والبنية التحتية تكاد تكون معدومة لم توفر إطار عمل يدعم الهيكل الكلي للتطوير.  كانت طرق المواصلات سيئة تتعرض القوافل التجارية للنهب والسلب من قبل عصابات من اللصوص . كل هذا أدى الى عرقلة تطور البرجوازية التجارية المحلية وإنشاء سوق محلية داخلية ومنافسة التجار الأوربيين الذين كانوا يتمتعون بحماية الامتيازات .
  شهد القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عملية صيرورة تاريخية حتمية في الرأسمالية ، صيرورتها من الرأسمالية المزاحمة الحرة إلى الرأسمالية الاحتكارية والطغمة المالية ، الامبريالية ، وقد عملت الدول الأوروبية على ربط العراق بألية النظام الرأسمالي العالمي . وكانت لعملية الاندماج هذه  العديد من النتائج التي انعكست فيما بعد على البنية الاجتماعية - الاقتصادية للعراق . فقد أسفرت :     
  اولاً :-  عن سيادة العنصر الاجنبي في بنيتها الاقتصادية و تعرض العراق للاستغلال من قبل الاحتكارات الأجنبية عن طريق النهب المباشر للمواد الاولية بأسعار زهيدة والاستغلال المباشر لقوتها البشرية ووضعت مصادر التراكم الأساسية في حوزة التجار الأجانب وتحول كل ذلك الى بلد الام لتصب في اقنية التراكم الرأسمالي ، وعمل على ربط العراق بالشكل الذي يتيح لها ابقاءها في التبعية للرأسمال الأجنبي في البلدان الأوربية . مما جعلها سريعة التأثر بالاضطرابات التي تصيب الاقتصاد الرأسمالي العالمي مثل التضخم ومشاكل النقد .
  ثانيا :- أدى ظهور قطاع التصدير الى تنشيط نمو اشكال السلعية -النقدية في الاقتصاد الداخلي وأصبح قاعدة لغرس الإنتاج الرأسمالي وتنمية برجوازية طفيلية وتابعة للأجنبي في العراق واغناء الفئات العليا من كبار الملاكين والإقطاعيين من رؤساء العشائر والقبائل لذلك أصبح الجزء الأعظم من مصادر التراكم الداخلي في حوزة هذه الشريحة التي ما كانت تستخدمها في تطوير الإنتاج وإنما أنفقته على السلع الترف
والابهة الأجنبية بينما أدى إلى افقار القاعدة الواسعة من الفلاحين وخراب القرى . إلا أن مثل هذه التجارة تنطوي على التبادل غير متكافئ ، يتم بموجبه الاستيلاء على جزء من فائض البلاد من خلال تبادل المنتجات الاولية الرخيصة نسبيا بالسلع المصنعة الاكثر كلفة بكثير والاتية من الغرب .
  ثالثا :- تشكلت الرأسمالية في أعماق التشكيلة القديمة وليس في تناقض معها ، ولم يؤدي الى تلاشي التشكيلة الانتاجية القديمة، بل أن بعض الإجراءات التى اتخذت من جانب الدول العثمانية ومن ثم الاحتلال
البريطاني قد أدت إلى ترويج وتعجيل تفسيخ وانهيار العلاقات البطرياركية ما قبل الإقطاعية وتنمية العلاقات الاقطاعية وشبه الاقطاعية  بعكس ما جرى في أوروبا ، فإن تطور التجارة كانت نتيجة مباشرة لانتقالها من النمط الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي . 
  رابعا :- وكانت السمة المميزة للامبريالية توسيع التجارة و توظيف الرساميل في البلدان المتخلفة وقد أصبح العراق ضمن مخططات الدول الاستعمارية فأصبح سوقا للتصريف ومجالات توظيف رؤوس الأموال وكذلك تخصصها في إنتاج الخامات والمحاصيل الزراعية ضمن التقسيم للعمل لذلك  أن نشوء وتطور الرأسمالية كانت تسير بشكل بطئ ومشوه والوحيد الجانب للاقتصاد الوطني و بمعزل عن العمليات الاقتصادية المحلية وذلك من خلال فصل الجموع الكبيرة من الحرفيين عن وسائل الإنتاج دون إشراكهم في عملية الإنتاج الرأسمالي الجديد مما أدى الى الانحلال التدريجي التدريجي للحرف بعد غزو البضائع الاجنبية للسوق الداخلية . ومن جانب آخر بالرغم من انجرار البلاد أكثر فأكثر الى الاقتصاد الرأسمالي العالمي وتطبع طرق الإنتاج والإدارة العصرية والاحتكاك بالحضارة الغربية، إلا أن ذلك لم تؤدي إلى تغيير البنية المتحجرة للمجتمع العراقي بشكل سريع نتيجة لخصوصية تطور الرأسمالية في العراق.
 
  توجه الاقتصاد العراقي نحو التجارة 

 ونتيجة تزايد الطلب على المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية الأساسية فقد اتجه الاقتصاد العراقي نحو التجارة وخاصة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869 ، مما هيأ إمكانيات جديدة الى الاتساع التدريجي للصادرات العراقية الى الدول الاوربية واندمج العراق بالسوق الرأسمالية العالمية تدريجيا .
  إذ ازدادت قيمة الصادرات العراق الرئيسة من المنتجات الزراعية والحيوانية ( التمور، الحنطة، الشعير، الجلود والحيوانات )، من 150000 دينار سنويا في أعوام 1864- 1871 إلى 2,9 مليون دينار عشية الحرب العالمية الأولى أي أنها ازدادت حوالي عشرين مرة خلال هذه الفترة .(9)     
  وبقدر انتقال الرأسمالية - تدريجيا - الى مرحلتها الاخيرة - الامبريالية - احتدم الصراع على نحو شديد جداً من اجل أسواق التصريف ومصادر الخامات وميادين تصريف توظيف الرساميل والمواصلات .(10)     وكان قد انجر العراق الى هذا الصراع ، وبدأت الدول الاستعمارية ( فرنسا وروسيا وألمانيا ) تتجه أنظارهم إليه . بالرغم من ازدياد تغلغل ألمانيا أهم خصم لبريطانيا الى العراق بشكل ملحوظ وارتفاع عدد سفنها الداخلية إلى البصرة من 7% في عام 1900 الى 11% في عام 1909. إلا أن العراق بقيت تابعة لمنطقة النفوذ البريطاني واحتفظت بنسبة 85% في عام 1909 من السفن تحمل العلم البريطاني الداخلة الى البصرة واحتل الرأسمال الانكليزي مركزاً سائداً في العراق والذي أصبح سوقا لتصريف بضائع الانكليزية ومصدراً لتزويده بالمحاصيل الزراعية ،  كما حصلت القنصلية البريطانية في بغداد على بعض الامتيازات منذ أوائل القرن العشرين وأصبحت لها تأثير سياسي على الوضع في العراق ، يحرسهم حامية عسكرية من الهنود واحتفظوا بسفينة حربية عند اسوار المدينة . (11)
 وفي بداية القرن العشرين استورد العراق ثلثى وارداته تقريبا من انكلترا وصدر ثلث صادراته إلى انكلترا والممتلكات البريطانية في الهند و اعتمد إنتاج وتصريف محاصيل العراق الزراعية اعتمادا كلياً على المصدرين الانكليز. (12)
  وكان ما يُصدر من التمور سنوياً إلى انكلترا والهند في أواخر القرن التاسع عشر   277000  ليرة استرلينية ورزاً إلى لندن تبلغ زنته 11000 ألف طن ويبلغ قيمته 3000 ألف ليرة . كما استورد في عام  1908 ، ( 19,390) طن من السمسم .  وكانت بريطانيا تستورد من العفص سنويا من ولاية بغداد نحو ( 280 ) ألف طن و من الصمغ (11) ألف طن وكانت قيمته تبلغ ( 104 ) ألف ليرة عثمانية .
  وكانت ولاية الموصل لوحدها تُصدر في عام 1907  من العفص ومن المواد الاخرى حوالي ما قيمته 106,500 ليرة عثمانية . (13)
  وبلغت مستوردات ولاية الموصل السنوية في أعوام 1909 -1912 حوالي 158 ألف دينار ، منها ما قيمته أكثر من 90 ألف كان يجهز من بريطانيا والقارة الأوروبية بنفس النسبة تقريباً . (14)
  كما تحول البنوك الأجنبية في العقد الأخير من القرن التاسع عشر الى وسيلة هامة من وسائل التغلغل الاقتصادي وأداة لاستثمار العراق والحصول على أكبر الأرباح .
  بدأ أعمال البنك العثماني ، المكون من رؤوس أمواله من إنكليزية وفرنسية ، أول فرع له في بغداد في عام 1890 ، ومن ثم أسس بعد ذلك التاريخ فرعين احدهما في البصرة والثاني في الموصل والبنك الشرقي قد افتتح فرعه الأول في بغداد عام 1912 وبعد ذلك التاريخ أفتتح له فروع أخرى في البصرة والموصل والعمارة و كركوك .
  ابتدأ البنك الشاهنشاهي الإيراني أعماله في عام 1918 في العراق ، بتأسيس فرع له في بغداد وثم بعد هذا التاريخ أسس له فرع في البصرة . (15)
  وقد سيطرة تلك البنوك وخاصة البنك العثماني بالتدريج على سوق العراق المالية مما ساعد على ازدياد النفوذ البريطاني في بلاد ما بين النهرين (( الأمر الذي ادى الى حصولهم على مركز متميز في العراق فكان الممثل البريطاني المقيم والقنصل العام في العراق مثلاً يتمتعان بحق الاحتفاظ بحرس من الهنود في منزلهما )) . كما تمتع الرعاية الانكليز ولاسيما التجار بامتيازات كبيرة وزاد من وزن الدبلوماسيين الانكليز  السياسي وتدخلهم في شؤون العراق الداخلية. (16)
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق تم إخضاع مؤسسة البنك العثماني للإدارة المدنية مباشرة من اجل توطيد الاحتكار الاقتصادي والسياسي لرأس المال الإنكليزي .(17)
  وكان الغزو إحدى الوسائل التي استعملها الشركات الاجنبية لربط البرجوازية العراقية بالمؤسسات المصرفية الاجنبية الضخمة واحكام قبضتها عليهم من خلال الفوائد العالية التي يجنيها من القروض التي تزودهم بها .
 
 هيمنة الشركات الأجنبية على قطاع التجارة الخارجية 

    وقد هيمنت الشركات الاجنبية هيمنة كاملة في قطاع التجارة الخارجية من اقتصاد العراق خلال النصف
الثاني من القرن التاسع عشر وفي غضون ذلك تشكلت البرجوازية المحلية التى تعمل كوسيط لرأس المال الأجنبي وشريك له من الأقليات الدينية ولا سيما من اليهود نظرا لهذه الاقلية الدينية من وكلاء لهم في بومباي ومانشستر وباريس.
  وقد أتاحت مساهمة عدد من العراقيين في الشركات التي أسسها اليهود الفرصة للبعض منهم التسرب الى ميدان التجارة وإنشاء شركات خاصة بهم ، الا انهم لم يقومو بأي دور مستقل وإنما ارتبطو بشكل وثيق بالرأسمال الأجنبي . (18)   
  ففي بداية القرن العشرين كان (20) من كبار مصدري التمور ستة من العرب . (19) حتى أواسط الثلاثينيات القرن الماضي ، كان عدد الشركات التى تعمل في تجارة التمور والصوف حوالي 220 مصدراً بما فيه 26 شركات كبيرة و كومبرادورية .
  بعد الحرب العالمية الأولى تشكلت فئة وفيرة من التجار العراقيين وبالرغم من هذه الزيادة ، بيد أنها كانت تتألف جمهرتها من البرجوازية التجارية الصغيرة ولم تكن الشركات التجارية الكبيرة والتابعة تمثل تقريباً (12% ) من عدد الشركات الخاصة والمساهمة المحلية العاملة في قطاع التصدير حتى أواسط الثلاثينيات قد كانت تتحكم بحوالي اربعة أخماس هذه التجارة . ولم تزيد حجم الشركات المساهمة والخاصة المحلية عن عشرة آلاف دينار بينما كانت الشركات الكبيرة الأجنبية والتابعة معدل حجم تعاملها يعد بعشرات الالاف الدنانير حتى الحرب العالمية الأولى . (20) 
  في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، فئة من التجار العراقيين الميسورين كانت تعمل في تجارة المفرق والتجارة المتوسطة ولم تتوفر لهؤلاء الامكانية للانطلاق إلى الأسواق الخارجية وخاصة في قطاع التصدير . فقد كان في مدينة بغداد التي تعد نفوسها حينذاك (200) ألف نسمة حوالي اربعة آلاف مخزن صغير ودكان ، أما في البصرة التى كانت عدد عدد نفوسها (60) ألف نسمة ، فقد كان فيها ألفا مخزن وعدد كبير من المقاهي والمراكز التجارية . (21)
  ولكن لم تكتفي الدول الرأسمالية المتطورة على نهب المواد الاولية للعراق بأسعار متدنية وانما جعلوا العراق سوقاً لتصريف منتجاتها الصناعية بأسعار مرتفعة نسبياً . مما أدى الى الاضمحلال التدريجي للصناعات المحلية وبذلك اضطر التجار العراقييون الى التعامل بالبضائع الأجنبية غير المربحة .
  وقد ارتفعت قيمة البضائع المستوردة من حوالي 290 ألف دينار خلال ( 1864 - 1871) سنوياً الى حوالي ثلاثة ملايين ونصف دينار سنوياً في العام التى سبقت الحرب العالمية الأولى . يعني أن قيمة الاستيراد أكثر من اثني عشرة مرة خلال نصف قرن(22)
 منذ البداية كان التجار المحليين عددهم قليل جدا وقد أخذوا على عاتقهم تجارة الاستيراد رغم محاولات الشركات الاجنبية الخمسة التي تشكلت ما بين الفترة 1839 - 1860 السيطرة على هذا القطاع ، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة طابع السوق الداخلية المحدودة وكانت أوضاع السوق بالنسبة لهم غامضة ولذلك لم يخاطر الشركات الأجنبية بتصدير البضائع الى العراق .
  اضطر التجار الوطنيين أن تركز نشاطها في قطاع الاستيراد بشكل أساسي كوكلاء للمنتجين والمصدرين الأجانب نتيجة قلة رأس المال على أساس عمولة 3.5% من قيمة البضاعة وبنمو التجارة بدأ الوكلاء النشيطون يستحوذون على حصة أكبر من هذه البضائع المستوردة .
  وقد أتاحت عمل التجار كوسطاء للشركات الأجنبية إمكانية استيراد على حسابهم الخاص . وبعد الحرب العالمية هيمنت عدد قليل من التجار على قسم كبير من البضائع الاستهلاكية وقد ادى ذلك الى تدهور أوضاع التجار الذين كانوا يعملون كوكلاء العمولة في الاستيراد.
 حتى أواسط الثلاثينيات تمكن بعض الشركات الاجنبية السيطرة على معظم مجالات الاستيراد وخاصة استيراد الشاي والسكر بينما توجه العراقييون إلى استيراد النسيج (24)
 
        إنشاء طرق المواصلات
جانب خاص في خدمة الاحتكارات الأجنبية 
 
كانت أرباح تجارة التصدير العراقية من نصيب الشركات الاجنبية الاحتكارية و البرجوازية الكومبرادورية التابعة لها ، بعد أن صارت المجالات العليا والمتوسطة من التجارة التي تم الاستيلاء عليها واحتوائها والإمساك الثابت بها من جانبهم . كما كانت الارباح تحول بانتظام الى الخارج . ومن اجل الضرورات العسكرية او تسهيلات الاستغلال الرأسمالي الإمبريالي و لتوسع و تحكم القبضة الاقتصادية والسياسية على العراق ، فقد حولت رأس المال الأجنبي جزء من الارباح او رأس المال المستثمر لتحسين انظمة المواصلات في العراق.
  في أواخر العشرينيات واوائل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر ، حينما ظهرت البواخر ، اخذت الأوساط الاستعمارية البريطانية تولي اهمية في مسألة اقامة اتصالات بحرية منتظمة بين الهند وبريطانيا وقد حاولت البحاثة الإنكليزي(نشيني) تنظيم الملاحة في الفرات لنقل البضائع والركاب الى سواحل سوريا وبالعكس ، الأمر الذي سيساعد على استثمار الرأسمالي البريطاني في العراق وتعزيز مواقع بريطانيا في الخليج العربي بأسره . الا أن هذه المحاولات باءت بالفشل بعد أن سيطرة ابراهيم باشا على سوريا الذى أخذ يخلق مختلف العراقيل بأمر من مصر امام مؤسسات النقل والتجارة البريطانية في سوريا والمناطق الغربية من العراق(25)
   فمنذ بداية عام 1861، تألفت شركة الملاحة النهرية باسم (( شركة فرات ودجلة للملاحة )) المعروفة بشركة لنج ، وكانت تستخدم باخرتين بشكل منتظم برأسمال قدره 15 ألف باوند . وعلى الرغم من بعض الضغوطات من الدولة العثمانية والمعارضة السياسية في (( بلاد ما بين النهرين ))  التي جابهوا بها هذه الشركة، (26) وبرغم المنافسة الاقتصادية من جانب ((الشركة العمانية - العثمانية))، إلا أنها حققت نجاحات كبيرة في مجال تقوية مركزها تدريجيا . فإلى جانب حيازتها سفنا أكبر وأفضل ، كانت تمولها الحكومة الهندية ، فضلا عن احتكارها الفعلي لشحن الواردات من الهند وبريطانيا عند وصولها الى البصرة ، و سيطرتها على تجارة الصادرات للشركة البريطانية في العراق . كما حصلت على أرباح ضخمة تراوحت بين 20 - 34 % من رأس المال الموظف . (27)
   كل هذه العوامل مهدت الطريق أمام الشركة البريطانية لغرض سيطرتها التجارية وأصبحت المنفذ الاول لتسرب رأس المال الانكليزي والى تقوية النفوذ البريطاني في العراق . ولقد ارتفع رأس مال الشركة إلى 100 ألف باوند قبل الحرب العالمية الأولى والى 300  ألف باوند في عام 1919. (28)
  وكان ثمة طريق مواصلات بحرية منتظمة بين البصرة وموانئ الخليج العربي والهند ، وقد أعقبت الملاحة التجارية تنظيم الاتصالات بين بغداد واسطنبول وطهران وبين بغداد والبصرة. (29)                                 وبعد انخراط ألمانيا بنشاط في الصراع من اجل اعادة اقتسام العالم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، فقد قام غليوم الثاني بزيارة إلى تركيا عام 1898 ، وكان من أهم زيارته الى تركيا ، الحصول على امتياز سكة حديد بغداد .(30)  وعلى ضوء ذلك تكونت في عام 1903 ، الشركة  الإمبراطورية العثمانية الألمانية لسكة حديد بغداد وكانت تساهم فيها عدة شركات مالية تقاسمت فيما بينهم أسهم الشركة .(31)
  (( وقد منحت الدولة العثمانية تسهيلات وامتيازات عديدة لهذه الشركة منها ، أرضاً بالمجان وحقوق مجانية لقطع الأخشاب لغرض بناء الخط  وحتى إقامة مختلف المشروعات المساعدة التي أعفيت من كل
الضرائب و الرسوم و كذلك ضماناً بأن تعوض الحكومة العثمانية الفرق بين دخل محدد للكيلومتر من الخط وبين ما تحصل عليه الشركة فعلاً )) ،(32)  وقد اعتبر لينين الامتياز الألماني لمد سكة حديد بغداد شكلاً من أشكال الاستعمار .(33) 
  لم يكن يكتفِ بالأرباح التي يجنيها من جراء بناء سكة حديد وإنما كان يفرض شروطاً مجحفة من أجل استثمارها ايضا . ولذلك فإن ثقل العبء هذه الاتفاقات وقعت على كاهل الجماهير الكادحة . 
  وكان الألمان يعقدون آمالا كبيرة على مشروعهم هذا ، إلا أن نتائج الحرب العالمية الأولى ، قد أفشل خططهم ،  وما أنجز من هذا المشروع لم يتجاوز 74 ميلاً ، كانت تربط بين بغداد وسامراء .  كما باشرت سلطات الاحتلال البريطاني لإنشاء شبكة من الطرق الحديدية أثناء الحرب وبعد احتلال العراق لربط المناطق المختلفة من البلاد بعضها ببعض، قد أملتها عليهم اعتبارات عسكرية وسياسية واقتصادية . وقد تطورت سكك الحديدية بعد الحرب العالمية الأولى حتى وصلت الى 1500 كم خلال الثلاثينيات .(35)
وقد أعارت سلطات الاحتلال البريطاني اهتماماً خاصاً لميناء البصرة ولا سيما لأن تطوير الملاحة في شط العرب تؤمن في الوقت نفسه مصالح شركة النفط الانكليزية - الفارسية العاملة في منطقة عبادان المجاور. بالرغم من نقل ملكية الميناء الى العراق إلا أن سيطرة بريطانيا بقيت على الميناء بسبب الشروط المجحفة التي فرضتها على الحكومة العراقية . 
  وقد مُنحت الحكومة العراقية قرضاً في العام 1923 لغرض توسيع الميناء . وتم المباشرة بالعمل في كانون الأول 1924 لتعميق الميناء الى 28 قدماً وتعريضه 300 قدم  عند المد لتزداد إمكانيات استقبال السفن. وقد جرت أعمال مشابهة في الميناء خلال سنوات الانتداب على حساب موارده الخاصة.(36)
  إن الغرض الأساسي لإقامة لمثل هذه المشروعات في مجال النقل من جانب الرأس المال الأجنبي خدمة خططها الاستراتيجية وحتى المعدات الأساسية اللازمة لهذه المشروعات كانت مستوردة من الدول الرأسمالية ولذلك فإن جزء من الفائض الاقتصادي الذي خصص في هذا المجال لم يؤدي الى زيادة التراكم الوطني وبالتالي أدى إلى تخلف البلاد من الناحية الاقتصادية مما صب في مصلحة الرأس المال الأجنبي.   

  نشوء العلاقات الرأسمالية في الريف

  إن عدم تطور الرأسمالية في الريف العراقي مرتبطة  الى حد كبير بوجود الاستثمارات الإقطاعية التى احتفظت بقوتها ونفوذها في الريف ، الى جانب بقاء العلاقات المشاعية الفلاحية
  ان لم يكن من مصلحة الإقطاعيين ، أن تستخدم الآلات والاجهزة الحديثة في الزراعة ، بسبب تمركز أراضي شاسعة في حوزتهم مع وجود أعداد غفيرة من فقراء الفلاحين الذي تم استثمارها عن طريق الأشكال القديمة كالمحاصصة وغيرها للحصول على أكبر الأرباح ، مما عرقل نمو وتطور العلاقات الرأسمالية في الزراعة . ان نمط الانتاج الاقطاعي لا يعطي منتوجاً  فائضاً يكفي للتراكم فضلاً أن الإقطاعيين قد وجهوا إنفاقهم نحو الاستهلاك المتميز بالاهتمام بالترف والمظاهر ، مما حال دون زيادة التراكمات الضرورية للتحول نحو الإنتاج الرأسمالي .
  (( وبدأت العلاقات البضاعية النقدية - النقدية ، تنمو في المناطق القريبة من المدن ، حيث امتهن الفلاحون زراعة المحاصيل التي تلبي طلبات المدينة . ففي المناطق المحيطة ببغداد كان القرويين ينتجون اللبن والفواكه والحطب   وما إلى ذلك يبيعونها في المدينة ، كما ظهرت إمكانيات واسعة في هذه المناطق
 لنمو الصناعات الحرفية ، باعتبارها مهنة ثانوية .
  وهكذا تقوضت أسس الاقتصاد الفلاحي المغلق في هذه المناطق وبدأت تتعزز علاقاتها بالسوق، وظهرت أول علائم العلاقات الر‌أسمالية في الزراعة ، باستخدامها العمال الأجراء .))(37)
  وبعد ربط العراق بعجلة الرأسمال العالمي وتوسع التجارة الخارجية ، ازداد الطلب على المنتجات الزراعية ، مما أدى الى نمو الزراعة التجارية وبذلك أرسى بداية تطور العلاقات البضاعية - النقدية ، وفي هذه الفترة سار بعض ملاكي الأراضي القريبة من المدن الى ما يسمى المشروع الرأسمالي .
  بدأ العراق باستيراد بعض المكائن والمضخات وغيرها من الدول الرأسمالية . وقد بلغ عدد المضخات في مطلع القرن العشرين 166 مضخة بقوة 1276 حصاناً ، وكانت هذه المضخات في ازدياد مطرد حتى بلغ حوالي 400 مضخة في العام 1912 وجميعها تشتغل بانتظام .(38)
وقد ادى الحرب العالمية الاولى الى تعطيل التجارة الخارجية وبذا انخفض عدد المضخات وكان المضخات العاملة خلال الفترة 1921 -1926 ، 299 مضخة معدل قدرتها 4503 أحصنة ، وحصل تطور في استعمال الآلات الحديثة في الزراعة في أواسط العشرينيات فقد بلغ خلال الفترة  (1927 - 1932) ،  1686  مضخة بقوة يعادل 46165 أحصنة وفيما بعد ازداد عدد المضخات بشكل ملحوضاً .(39)
  وبعد الاحتلال البريطاني للعراق ، فإن السلطات لم تلغي الإقطاع ، إنما عملوا على استمراره ، مما أعاق هو الآخر تطور العلاقات الرأسمالية في الزراعة وذلك من خلال العديد التشريعات والقوانين لصالح الإقطاعيين . وبذلك وضعت العقبات أمام تطور السريع للرأسمالية الزراعية من خلال تثبيت الملكية الإقطاعية ومضمونها الاقتصادي - ريع الأرض . 
  رغم العلاقات شبه الإقطاعية التي كانت سائدة في الريف العراقي والتى بدورها تعرقل  تطور الرأسمالية في الريف،  إلا أنه تنجذب أكثر فأكثر نحو التداول البضاعي .
   فقد تحولت استثمارات كبار الإقطاعيين والملاكين إلى مؤسسات تنتج المحاصيل الزراعية من أجل السوق الخارجية .
    رغم التطور النسبي في استخدام الآلات والمكائن الزراعية الحديثة، إلا أن نمو وتطور العلاقات الرأسمالية في الريف كانت تسير بشكل بطْئ جداً.
  وقد كان هذا الاستخدام يتم من جانب الملاكين ذوي الملكيات المتوسطة القريبين من أسواق المدن الكبرى وبذا تشترك في بعض خصائصها مع الزراعة الرأسمالية . إلا أن استمرار نظام المحاصصة بين الملاكين والفلاحين وعدم تطور نظام الأجور والعمال الزراعيين على هذا النطاق ، يجعلها تشترك في خصائصها الأخرى مع العلاقات الإقطاعية .

  تدهور الصناعة الحرفية

  كان الإنتاج الصناعي في العراق يقوم على أساس الإنتاج الحرفي والمنزلي . وكانت بغداد والموصل أكبر المراكز الحرفية . لم تكن المؤسسات الصناعية الكبيرة القليلة الموجودة نتيجة  عفوية لتطور الرأسمالية في العراق وانما كانت تعود بصورة عامة لرأس المال الأجنبي أو السلطة العثمانية .  فإن ما أصاب البلاد من تخلف نتيجة سيادة العلاقات الإقطاعية حال دون تطور الصناعة فتأخرت عن مثيلتها الأوروبية ولم تستطيع أن تسلك سبيل التطور الحر الذى سلكته الصناعات الأوربية التي تطورت الى المعامل اليدوية ( المانيفاكتورات ) ثم الى الصناعة الآلية بعد اكتشاف البخار .
  في ظروف العراق يومذاك كان من الطبيعي أن يجري التراكم لرأس المال ببطئ كبير في ظل الإنتاج الحرفي والزراعي (( التى كانت مصدر الفائض الاقتصادي أثناء العهد العثماني وقد لعبت ذلك العهد دوراً كابحاً للتطور الاقتصادي والاجتماعي واستنزفت السلطة المركزية جزء من ذلك الفائض وكذلك استحواذ الإدارة المحلية على جزء آخر لإنفاقه على أجهزتها الفاسدة وانقسام بقية الفائض بين ملاكي الأراضي القريبة من المدن حيث اقاموا بعيداً عن الاشراف على الإنتاج ، والتجار والمرابين فضلاً عن شرائح اجتماعية و عناصر طفيلية اخرى، وضل الامر على هذا المنوال الى أن وجدت رؤوس الاجنبية طريقها الى العراق وخاصة بعد فتح قناة السويس في العام 1869 ،  بدأت الاحتكارات الاجنبية تستنزف إلى جانب الدولة العثمانية جزء من الفائض وفي غضون ذلك نشأت البرجوازية الكمبرادورية التي تميزت نشاطها بالطفلية بصفتها وسيطة الاحتكارات التي أدت إلى انتشار سلعها الى القضاء على الإنتاج الحرفي التقليدي بصورة تدريجية.
  لم يؤدي نشوء العلاقات الرأسمالية في العراق التى فُرضت من الخارج الى تحطيم سلاسل الاقطاعية ، بل أن الإجراءات التي اقدمت عليها مدحت باشا (1869 - 1872)  أدت إلى تمركز الأراضي في حوزة حفنة من كبار الإقطاعيين ورؤساء العشائر والملاكين الغائبين .
  لقد أدى تطور التجارة الخارجية اكثر فأكثر إلى استغلال الفلاحين من قبل الإقطاعيين ، بالإضافة إلى أخذ الإتاوات والضرائب العديدة والى اِستشراء الفقر وخراب الفلاحين . وكان الفلاحين يشكلون السواد الأعظم من السكان ، فأفضى انخفاض قدرتهم الشرائية الى تقليص السوق الداخلية (( الذي كان يصعب عليه في ظروف يومذاك أن يتحول الى مستهلك يشجع ظهور نوع جديد من الإنتاج، فقد كانت القوة الشرائية للفرد
العراقي تقل عن مثيلاتها في إيطاليا بمقدار (18) مرة وفي مصر (11) مرة ، بل تقل عن المعدل النظام العثماني سبع مرات))(42)   
  واتصفت الصناعات الحرفية بطابع القرون الوسطى ، والذي كان النمط السائد فيه أن يعمل الحرفي قرب
السوق وبذلك تحولت السوق عندئذ الى مكان للانتاج والتجارة في آن واحد . ولم يرتبط أغلب الحرفيين بالإنتاج الصناعي الثقيل او المعامل الصغيرة. فإن إيصال ماكينة يدوية واحدة يعبر -على حد تعبير القنصل البريطاني في العراق - حادثة تستحق الانتباه البالغ في تلك الفترة .(43) 
  كانت المنتوجات اليدوية العراقية وخاصة صناعة النسيج والجلود تلعب دورا هاماً خلال النصف الأول  من القرن التاسع عشر على صعيد السوق الداخلي والتصدير الى الى بلدان الشرق الاوسط ولا سيما إيران .  بالرغم من ان بعض السلع ذات النوعية الجيدة الخاصة كانت تستورد من الدول الرأسمالية والاقطار المجاورة .
  تحت ضغط المنتجات الصناعية المستوردة من الدول الرأسمالية الاوربية، جرت محاولات عديدة لتحسين صناعة النسيج المقامة على الأنوال اليدوية، فقد أنشأ الوالي نامق باشا في بغداد في عام 1864 معملاً على الطراز الاوربي يدار ميكانيكياً ، استخدم فيه غزل الأصواف لصنع الألبسة العسكرية وقد وسع مدحت باشا 1870 هذا المعمل لتزايد الطلب على هذا النوع من الألبسة من جانب السوق المحلية ولغرض التصدير إلى الدول المجاورة . (44) 
  لم تسطيع الشركة التي أسست في عام (  1908 ) في سبيل انتشال هذه الصناعة وعدم اندثارها وبذل الجهود عن طريق استيراد الأنوال اليدوية الأوروبية لتحل الأنوال المحلية لانتاج الحرير والسلع القطنية إلا أن الصناعات الحرفية تناقص ولم تستطع المحافظة على نفسها ليست بضعف انتاجية العمل فحسب وإنما بسبب المنافسة الاجنبية الي تتمتع بضائعها بمواصفات أفضل من المنتجات الوطنية وبمزايا تجارية منحها إياها نظام الامتياز العثماني بينما الصناعات الوطنية كانت محرومة منها ، كإعفاء من الضرائب والتعرفة الكمركية المخفضة .
  اذا كان عدد ورشات النسيج في بغداد في منتصف القرن التاسع عشر حوالي (12) ألف  ورشة ، فقد انخفض عددها في بداية القرن العشرين إلى  بضعة مئات فقط ، أما في البصرة فكانت هناك صناعة حرفية مزدهرة لإنتاج (البازة) والشاش في بداية القرن التاسع عشر إلا أن هذه الصناعة قد اختفت نهائيا خلال القرن الماضي كما تحطمت صناعة الاقمشة ذات الشهرة الواسعة في الموصل (45)
  وأدت العمليات العسكرية خلال سنوات الحرب العالمية الأولى  الى تدمير الإنتاج الحرفي ، بالرغم من تهيئة ظروف ملائمة لازدهار الإنتاج المحلي بسبب تعطيل الطرق الخارجية واهتمام الدول الامبريالية بالحرب . إلا أن ذلك لم يكن إلا في حدود ضيقة جداً . نتيجة توقف استيراد الخامات نصف الجاهزة كالغزول والأصباغ والمكائن في المناطق المحاصرة لذلك واجهت المؤسسات الصناعية التي كانت تعمل قبيل الحرب  كساداً لا مثيل لها .
  وبفضل الاحتلال البريطاني للعراق ، قد أزالت كافة العقبات والعراقيل التي واجهت ربط العراق بالسوق
الرأسمال العالمي وخاصة رأس المال الانكليزي من خلال اتخاذ العديد من الاجراءات الرامية الى تقليص نفوذ حلفائهم من الناحية الاقتصادية والسياسية .(46)
  وبعد الحرب مباشرة عادت التجارة الخارجية إلى حالتها الطبيعية وتدفق البضائع الاجنبية بشكل مضاعف الى العراق وارتفع المعدل السنوي لواردات العراق من البضائع المستوردة خلال الفترة( 1919   - 1925) الى  3.9 عما كان عليه في الفترة ( 1912 - 1913) .(47)  مع السياسة الضريبية التي اتبعتها سلطات الاحتلال ، قد وجهت ضربة كبيرة الى الصناعات الحرفية.  لقد ازداد جباية الضرائب المباشرة في المناطق التي احتلتها الإنجليز في عام 1919 أكثر من مرة و نصف عما جمعتها العثمانيين  خلال الفترة (1911 -1912) وارتفعت الى الضعفين في العام 1919.(48)
 لم يعر الحكومات المتعاقبة بعد تأسيس الدولة العراقية، أي اهتمام يذكر بالإنتاج الحرفي التي كانت تشكل حوالي 3% من السكان حسب بعض التقديرات التى قامت بها وزارة المالية خلال الفترة ( 1935 - 1936) ، وكان يعيش حوالي 75 % منهم في مستوى معاشي منخفض .(49)
  (( ولكن مع ذلك ، بالرغم من تفاقم مشاكل الحرفيين بعد الحرب لم تتخذ السلطة أي إجراء من شأنه التخفيف عن أوضاعهم المتردية .  فإن قانون تشجيع الصناعة الذي صدر في عام 1929 ، مثلا لم يحتوي على أي بند من شأنه أخذ بيد الحرفيين وذلك لأن المؤسسات التي كانت بمقدورها الاستفادة من امتيازاتها كان عليها أن تستخدم الطاقة الآلية وأن لا تقل قيمة مكائنها عن 30 ألف روبية . )) (50)
  لذا دب الخراب في الصناعات الحرفية ولم تتمكن أن تقاوم البضائع الصناعية الاجنبية ذات الجودة العالية والأسعار الأقل .
  وقد هبط عدد حائكي الأنوال اليدوية في إنتاج الخيم والحبال المصنوعة من شعر الماعز في بغداد من (3500 ) حائك في العام 1866 إلى 130 حائك في 1934 .   وقبيل الحرب العالمية الأولى تناقص عدد حائكي الأنوال اليدوية في الموصل الى (500) حائك .
  لم تقتصر اندثار وانحلال الصناعات الحرفية على المدن الكبيرة فقط ، بل تجاوزت فشملت العديد من المدن والقصبات الأخرى ، كما اشار إلى ذلك الحاكم السياسي لمنطقة كفري في العام 1918 .
 (( إن الملابس القطنية والملابس الصوفية  كانت تحاك في كفري في السابق أما الآن فلا توجد مثل هذه الصناعة . )) (51)    وحدث نفس الشئ الى الانواع الاخرى من الإنتاج الحرفي غير الاستهلاكية. (( قبيل الحرب مثلا ، كانت السليمانية وراوندوز تنتجان بعض الانواع الاسلحة النارية التى كانت تضاهي الاجنبية حسب وصف بعض المؤلفين . فكانت في راوندوز ورشة لصنع المدافع التى تزود بها قوات بعض متنفذي المنطقة ووالي الموصل .    وكان يأتي قسم من المعادن مما تحتاجها الورشة  من المناجم المجاورة التي
تشغل العمال الأجراء . وعندما مر مارك سايكس بمدينة السليمانية عام 1902 ، وجد هناك مالا يقل عن 150 شخصاً حاذقاً يعملون في صنع الاسلحة وتصليحها . وكان رجال العشائر في مناطق مختلفة يحملون البنادق المصنوعة محلياً والتى جلبت انتباه ذلك المسؤول الانكليزي في حينه . وكما يعترف خلفه جون أدموندز . اختفت هذه المهنة من الوجود بعد الاحتلال البريطاني . (52)
 

 نشوء وتطور البرجوازية
     الصناعية في العراق

  بعد أن تسرب الرساميل الاجنبية الى اقتصاديات العراق ، تعمقت تبعية الاقتصادية وظهر مظاهر جديدة لها ، إذ لم تقتصر على غزو البضائع الصناعية الاوربية للسوق المحلية والهيمنة على تجارة تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية وغيرها في العراق بل نحو السيطرة المباشرة على عمليات الإنتاج والتوزيع المواد الأولية الزراعية والحيوانية ووجهت الاقتصاد العراقي نحو خدمة أغراضها الاستراتيجية وخاصة في إنشاء الصناعات الاولية التى كانت من شأنها تسريع أعمال التصدير الى حد كبير. وارتبط نشوء الرأسمالية في العراق في أحشاء الاقتصاد شبه الاقطاعي بدخول الرساميل الاجنبية وقد خضع نشاط الرأس المال الوطني لرقابته وفرض الاتجاهات التى تخدم مصالح الشركات الأجنبية وتساهم في تنمية وتوسيع الطبقات والفئات الاجتماعية التى تتحالف معها وبفعل هذه الاتجاهات نشأ وضع جديد في غير الصناعات الحرفية بسبب تدفق السلع الأوروبية الجيدة والرخيصة نظراً لقلة الرسوم الكمركية التي كانت تفرضها الدولة العثمانية عليها . فلم يستطيع القطاع الحرفي على الصمود أمام البضائع الاجنبية لأن مستواه التكنيكي بدائياُ وقوتها الإنتاجية ضعيفة وعدم وجود حماية كافية لها . كل ذلك حال دون الارتقاء الى مرحلة متطورة .

12
تركت صَمْتُها أعمق الأثر في نفسه
سهيل الزهاوي
 
   في هذا المساء، عندما تغَرَبَت الشمس، راحت شعلة من النيران الحمراء على حافات الفضاء تلقي بضيائها الخافت على نوافذ البيوت. رغم أن البيت كان غارقا في الظلام، الا ان غرفة المكتب اضيئت قليلا بأشعة الشمس الحمراء المنسلة من النافذة المفتوحة.
    بعد نصف ساعة اختفى الشفق كليا، جلس شوان في عتمة الغسق، يلتمس احلامه الحزينة التي ترسخت في داخله، مشدودة بالأمل، ولا تَشُوبُها شَائِبَةٌ، لعله يجد خيطا رفيعا من التفاؤل ينبع من خبايا أعماقه، يستنير حنينه.  فبدلا من ذلك طفت الكآبة على الذاكرة وأخذ الحزن يستبد به، وتزداد وطأة ثقله عليه كلما تذكر أَيَّامَهَ الْخَالِيَةَ. اختلط عنده الحنين والدمع وتوهج العينين.               
    طوال السنين الماضية لم ينقطع يوما في بحثه عن الأحاسيس المفعمة بالأمل، كان صوته يرتعش من الانفعال، رغم أنه كان في تمام القدرة والصبر. كانت غرفة المكتب تبدو كأنها زنزانة رهبان، في هذا الصمت الشامل النزق وتلك الوحدة الغريبة.
    كان يمشي في الغرفة بانفعال شديد وهو يتطلع الى سقف الغرفة. وبين آونة وأخرى كان يحدق الى الخارج عبر النافذة، وهو يترقب مسارات النجوم في السماء، ويصغي لحفيف الأشجار.
    في لحظة معينة توقف في مكانه وقتاً قصيراً، لا يبدي حراكاً، متأملا فيما هو فيه من القلق والحزن. وفجأة دلف الى غرفة المعيشة، حيث تهاوى على الكنبة الكبيرة، وأغمض عينيه، ناشد الراحة والدفء وكأنه مُخَدَّراً على هذه الحافة بين اليقظة والحلم، بين التأمل والواقع في هذا الصمت المطبق.
  كانت امارات الذهول الممزوج بالألم تتدفق من وجه شوان، وكأنه في صراع مع الذات في انتظار لحظة التلاشي والخلاص من هذا الكابوس الثقيل.
    بدأ يهدأ رويدا رويدا ويفكر بصمت:     
    بعد عشرين عاما، شاب شعره، وتقدم في السن، تذكر شوان تلك الأمسية الربيعية مع نازك، كانت ليلة جميلة من ليالي مارس هواؤها عليل منعش، وقمرها ساطع. ظلت هذه الحكاية محفورة في ذاكرته، التي أخفاها بين حنايا الروح، وكبُرت أسوار شوقه لها.  كان يحبها حُبًّا جَمًّاَ أقرب إلى العبادة.                                 
   كانت نازك امرأة حسناء، لديها عينان في غاية الغرابة، لكنهما هادئتان، شعرها أسود مسدول على كتفيها، ريانة كزهرة الربيع، خفيفة كالفراشة. كانت ملامحها توحي بالكبرياء والهدوء، لطيفة المعشر وخفيفة الظل.
    كانت لا تعير الاهتمام بالأشياء الصغيرة والاشاعات التافهة، فهي تصغر شوان بسنتين، ثم أنها صاحبة قرار بشكل لا يمكن رؤيته في أي امرأة أخرى.
  كانت رسائلها ما تزال على صفحات من ورق، تنساب عليها كلماتها الانيقة وقد تحدث شوان معها مرارا حول مواضيع حتى أنها يمكن أن تكون سياسية وأدبية، وقد أعارت الانتباه له.     
  كان شوان يعشقها ويعتبرها المعنى الوحيد في حياته. استمرت حياتهما بصَّمْتِ، استمرا متحابين.
 في تلك الامسية الربيعية، والغسق أكثر زرقة والنسيم يمر بهدوء، دخلت نازك غرفة المعيشة، بملابسها الحريرية، وعيناها البارقتان تشعان بوميض المحبة والثقة بالنفس، تحمل في يدها مجلة قديمة، وانتحت في زاوية، بعد أن أسدلت ستائر النوافذ، شرعت بالقراءة، والمصباح الكهربائي مركون على الطاولة الخشبية بالقرب منها. كان شوان يتطلع الى عينيها الجميلتين بهدوء. وكانت ابتسامتها انصبت في كل عرق من جسدها.  كانت ناسك منكبة على المجلة، ترد بين اللحظة واللحظة، شعرها الذي ينهمر على جبينها.
     
   لقد كانت ترفع راسها، وتترك مجلتها جانبا، وكانت في عينيها بسمة صافية، حدق شوان النَّظَرَ إِلَيَّها، لمعرفة ما يدور في خلدها، في حين بصره ينزلق بمحبة نحوها، عندما عادت ناسك الى القراءة، مزهوة، كان هو يعود الى عمله، دون أن ينبس ببنت شفة.
    مضت عشرون دقيقة بعد منتصف الليل، فجأة اشرقت وجهها بنشوة غريبة، ابتسمت، كأنها قد تذكرت ذكرى ممتعة.
   نهضت نازك من وراء الطاولة حيث كان شوان يراقبها بانتباه واقتربت منه وعادت بسرعة إلى طاولتها لتقلب صفحات المجلة وركزت على إحدى المقالات. بعد لحظة رفعت رأسها ونظرت اليه نظرة ساحرة وعميقة، عادت الى القراءة وهي تنظر بطرف عينيها الى المكان هناك حيث كان يجلس شوان، ولكن شوان كان منهمكاً في قراءة أوراقه الكثيرة.
   قالت لشوان وهي ترمقها بنظرة مشرقة مرحة، تشع وجهها بسرور، ولكن بصوت خفيض ناعم:
-   الان انتهيت من قراءة قصة تشبه قصة حبنا، وهي تمسك بالمجلة بطرف يدها والابتسامة متواصلة والانفعال بَادٍ على ملامحها لفرط الغبطة ولكن في البداية لم يبد شوان اية دهشة وكان منهمكا في قضية اخرى.
    ارتسمت ملامح الدهشة على وجه نازك، التزمت الصمت لدقائق ريثما تعيد انفاسها، وهي تلتفت الى شوان، كانت وجهها يبدو صارما، ونَظَرَت إِلَيْهِ، وحزن روحي عميق كان يشع من عينيها العسليتين الواسعتين، وتفحصت نازك وجهه العريض البرونزي اللون ذا الشعر الأسود، والعينين الصغيرتين السوداويتين، وضعت نازك بحركة سريعة المجلة على الطاولة، ورفعت رأسها الى الاعلى كإحدى حركاتها المعتادة لم تكن غريبا لشوان: تلك الحركة العصبية التي تقوم بها، كرد فعل للمسائل التي تضايقها.
    أَجَالَت نازك بصرها فيما حولها، ومال نحو شوان، وهي تسند يديها الى الطاولة، بعد لحظات قليلة سألته بحزن، وبلهجة صارمة، قالت له:
-   لم تخبرني برأيك في الموضوع. ؟       
   كانت عيناها تترقبان المكان الذي يَجْلِسُ فيه شوان على الكرسي الهزاز في الجهة المقابلة لمكان جلوسها، بعد فترة قصيرة ساد الغرفة صمت مطبق، فجأة سلط شوان نظرة ثاقبة في عينيها بعمق، وارتسمت على شفتيه بسمة مختزلة، ثم قال:
-   عن اي موضوع تتحدثين،
وكانت كلماته تنساب بهدوء واتزان، محاولا تلطيف جو الغرفة، وأدراك ما اشْتَدَّتْ بِهِا من الْهَوَاجِسُ، القى الرجل نظرة عليها لمعرفة ما في قلبها.
  اشْتَدَّت بِهِا القَلَقُ، يصاحبها بعضُ الألم، حاولت نازك استرداد هدوئها، التي فقدتها فجأة اثناء صمت شوان، حيال طرحها موضوع حبهما، القت نظرة خاطفة على وجهه، ثم أَسْبَلَتْ عَيْنَيْهَا مُتَأَوَّهة، تتركزان على شوان، محاولا كشف السر الغامض الذي يخفيه شوان.
  شوان راودته رغبة في أن تسمع منها مرة اخرى ما تحدثت قبل قليل، ارتعشت اجفان نازك وانكمشت ملامحها الا انها لزمت الصمت وكانت صمتها حازما هذه المرة.
  شعر بالقلق لتعابير الألم التي ظهرت على وجه ناسك، اخفت ناسك وجها بيديها، وبكت قليلا ولكنها غاضبة الى حد ان دموعها لم تذرف.
     احتضنها شوان بحرارة وعانقها ولكنها لم تسعدها ولم تؤثر فيها.
     قد اثارت بِصَمْتها قلبه المعذب، حيث تركت صَمْتها هذا أعمق الأثر في نفسه.
 

13
توضیح على ماكتبه أحمد حامد في كتابه(مذكراتي)
 باللغة الكردية

سهيل الزهاوي
لا شك أن كتابة المذكرات بحاجة الى الدقة والتمحيص، خاصة عندما تتناول مرحلة تاريخية. وهذه المذكرات لا یمكن الاعتماد في كتابتها على الذاكرة فقط او ما تتردد على ألسنة الآخرين، لأن ذلك يجعل مصداقية المذكرات على المحك لذلك يتطلب الاعتماد على الوثائق.
كتب أحمد حامد في كتابه المعنون مذكراتي في الصفحة 349 – 350 التي طبعت باللغة الكردية تحت عنوان رسالة خاصة: (1)
(یقول بعد أن سمعت من هنا وهناك وجود خطة لضرب قواعد الحزب في قندیل، وبدأت اتابع الاخبار بدقة بعد أن توصلت إلى یقین ان هناك خطة لضرب الحزب. كتبت رسالة باللغة العربية الى الحزب حول الاخبار والخطة المرسومة اتذكر بشكل قاطع أن الرسالة ارسلتها قبل أحداث بشتاشان ب 19 یوم لم اعرف ماذا حدث لتلك الرسالة ) حسب ما يدعي أي قبل شهر أيار من عام1983  ، ( في ذلك الحین كنت أسمع بأن كمال الزهاوي هو المسؤول الأول في الحزب في السليمانية!! وبعد ذلك وقعت الأحداث في بشت ئاشان وأرسلت رسالة ثانية الى الحزب انتقدت الحزب كنت اعتقد ان الحزب أهمل رسالتي الأولى ولم یجر الاهتمام بها وتبین فیما بعد أن رسالتي الثانیة ایضا له نفس المصير.) ولم یشرْ الى المصدر حول معرفته عن أن الرسالة الثانية لقت نفس المصير.
ويسترسل في مذكراته (بعد الانتفاضة عندما فتح المقر في عقاري أخبرني أحدهم بأن كمال الزهاوي كان يحتفظ برسائلك ولم يبعثها إلى الحزب.)
قبل الدخول في تفاصيل علاقتي بأحمد حامد اود ان اشير في عام 1983 وقبل أحداث بشت ئاشان لم تكن لدي أية علاقة بتنظيم السليمانية لا من قريب ولا من بعيد، بل كنت مسؤول سياسي لبتالیون التاسع في قریة باراو . في شارباژير وبعد وقوع الأحداث في ایار 1983 توجه قواتنا نحو قرداغ ومن ثم إلى شهرزور وتسلمنا برقیة من الحزب بأن قيادة قاطع السليمانية وكركوك تمت إعادة تشكيلها من الرفاق احمد باني خيلاني (ابو سرباز) مسؤولاً للقاطع، إبراهيم صوفي محمود (ابو تارا) مسؤول عسكرياً، وابو لینا مسؤولاً سیاسیا وابو ناصر عضو في قيادة القاطع وسهيل الزهاوي (كمال الزهاوي) مسؤول اداري للقاطع. وبقيت في قيادة القاطع في منطقة كرجال إلى عام 1984.
في 27 كانون الثاني 1984 توجهت إلى داخل مدينة السليمانية، استلمت التنظيم، لم تكن لأحمد حامد أية علاقة بالتنظيم يذكر في تلك الفترة عندما كنت مسؤولا.
بعد سفر الرفيق ابو سرباز في عام 1987 الى خارج العراق لغرض العلاج أرسل لي رسالة یشیر فیها: انه أخبر المحطة التي يرسل منها احمد حامد رسائله الى الحزب أن يسلمها لي بغية الاطلاع علیها من قبلي، لكي استفاد من المعلومات الواردة فيها قبل ارساله الى الحزب، وعلمت منه ان أحمد حامد على علاقة بمسؤول مكافحة الشيوعية في مدیریة أمن السليمانية اسمه أحمد لا اتذكر لقبه وفعلا اطلعت على أول رسالة من أحمد حامد یشیر فیها ان مسؤول مكافحة الشيوعية طلب منه أن يساعده في كتابة تاريخ الحركة الشيوعية في كردستان.
ولم تكن هناك قنوات اتصال مباشرة مع أحمد حامد ولم يكن هو على علم بمكان تواجدي في داخل المدینة ولا المحطات التي كنت أستلم منها البرید الحزبي، وبالأحرى لم يكن على اتصال مباشر معي توخيا للحذر.
  بعد تصدع الجبهة مع حزب البعث وانسحاب الحزب منها ورفع شعار إسقاط النظام وإعلان العمل المسلح ، حينذاك كان أحمد حامد أمين عام في المجلس التنفيذي لمنطقة كردستان للحكم الذاتي . لم يلتحق بالحزب كباقي الرفاق الذين عملو معه وبقي داخل المدينة.
بعد الانتفاضة المجید في 7 آذار 1991 طلب مني عمر الاخ الاصغر لأحمد حامد ان اتصل بأخيه وقال لي انه يخجل أن يأتي إلى المقر فتوجهت إلى داره مع أخيه ودعوته الى المقر. وبقي معنا الى يوم 31 آذار من نفس السنة.
عندما اقتحمت الجماهير المنتفضة مديرية أمن السليمانية في عقاري كان المدعو أحمد رئيس قسم مكافحة الشيوعية في إجازة، لم ينل العقاب .
عندما بدأنا بالانسحاب من السليمانية في 31 آذار من نفس العام بعد تقدم جيش النظام نحو المدينة، طلب مني احمد حامد أن أسمح له بالبقاء في المدينة خوفا من أن یعود الموما اليه الى مديرية الامن مرة اخرى وان يسأل عنه وفعلا بقى في المدينة.
بعد أن استولى الرفاق على وثائق الأمن وكان بضمنها وثيقة تتعلق بأحمد حامد وقد حاول بعض الرفاق طرحه على كونفرس السليمانية في عام 1993 ولم نسمح لهم على طرحه باعتبار أنه أخبر الحزب على شكل ارتباطه بالأجهزة الأمنية وفي هذا الكونفرس كاتب هذه السطور أصبح سكرتير محلیة السليمانية وكان أحمد حامد لم يطرح أي تساؤل حول الرسائل  الآنف الذِّكر
لیس من الصعب أن يلاحظ قارئ مقالي ومذكرات احمد حامد فیما یتعلق فقرة المتعلقة برسالته الخاصة نبرة التوتر وتشويه الحقائق وعدم الموضوعية في طرحه يحاول من خلالها أن يضعني في دائرة الشكوك والتخلص من الوضع النفسي الذي هو يعاني منه.
لماذا لم يسألني عن هذه الرسالة التي وجهها إلى الحزب آنذاك رغم لقاءاتنا المتكررة؟ ألا كان الحَرِيِّ به أن يسألني في جلساتنا و لقاءاتنا عن تلك الرسائل إن كان حقاً صادقاً؟ وتذكر ذلك  بعد مضي كل هذه السنين.
أليس كان من الأجدر به أن يحقق في الموضوع بدلاً من ان يعتمد على هذا أو ذاك ويسجلها في مذكراته.
مقتطف من مذكرات الرفيق الفقيد احمد باني خيلاني (ابو سرباز) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ومسؤول قاطع السليمانية وكركوك السابق.
(( كان كمال الزهاوي مسؤولا اداريا للقاطع و كثيراً ما كان يبدي استعداده ورغبته للعمل الحزبي داخل المدينة ، فأرسلت الخبر الى المنظمة الحزبية في المدينة كي يشرف على عمل المنظمة على ان يتواجد هناك بشكل دائم مما يتطلب اعداد وتهيئة مكان ملائم له . وجاء رد المنظمة سريعاً  بالايجاب وبعثت الينا رفيقاً من المدينة ليرافق الرفيق واخبرت الرفيق كمال بتهيئة نفسه ايضا حيث نقله الرفيق الى داخل المدينة بأمان ، وكان الرفيق كمال قد عاش بمدينة السليمانية  ردحاً  من الزمن عندما كان طالباً بجامعة السليمانية وسكرتير ( اتحاد الطلبة العام في كوردستان العراق ) ومارس فيها العمل الحزبي وكان دقيقاً في عمله ، وبقى على ارتباط بي الى العام 1987 لحين سفري الى خارط العراق لغرض العلاج ،  وقد استمر تواجده في الداخل لغاية انتفاضة آذار  1991  مؤديا مهامه الحزبية بنجاح (2)
(1)- احمد حامد قادر ، مذكراتي باللغة الكردية ، 65 عاماً من عمري في مسيرة النضال ، طبع في السليمانية في 1 / 10/ 2013 ص. 349  - 350
(2)- احمد باني خيلاني ، مذكراتي باللغة العربية ، دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر والاعلان ، رقم الايداع في دار الكتب والوثائق في بغداد 824 لسنة 2009
 

 
 





14
المناضلة الجسورة جیران شیخ محمود
سهيل الزهاوي
 في بعض الأحيان ينسى المرء أن يُدون صفحات مشرقة في ذاكرة التاريخ عن حیاة المناضلات .. والمناضلين، الذين كرسوا جل حياتهم من أجل قضايا مصيرية تمس حياة الشعب. فهناك من النساء اللاتي تَركن بصمتهن على زرقة السماء الصافية. وفي هذا الصدد ارتأيت الاشارة الى امرأة شامخة، امرأة مناضلة التي سجلت البطولات والتضحيات في أصعب الظروف وأخطرها دون تردد، بل ساهمت في فرش البساط الأحمر أمام اسماء غنموا من الثناء والتكريم ما يكفي ویزید عندما كانوا على قيد الحياة وكذلك في مماتهم ودخلوا التاريخ من أوسع أبوابها، وبينما أولئك المناضلات اللواتي حملن ارواحهم على اكفهن بروح جهادية عالیة في ظرف دقيق وعصيب یصعب على المناضلات العمل فيه ما زالوا كجنود مجهولين.
لقد شغلت المرأة حضوراً واسعاً في معظم الهيئات الحزبية وكانت لهن دور بارز في محطات الحزب الشيوعي العراقي إبان الحملات القمعية الشرسة ضد الحزب وقتذاك، وكانوا في مقدمة الرفاق في إعادة هيكلة الحزب بعد كل ضربة موجعة. بالإضافة الى المهام اللوجستية، مثل الطباعة والضرب على الآلة الطابعة ونقل البرید وتوزيع المناشير ونشر سياسة الحزب بین الجماهير، وتوفير الأدوية، فضلا عن ذلك فقد تبوأت مسؤوليات أكبر في الهيئات القیادیة والوسطية.
لو نتفحص صندوق الذاكرة ونتمعن في سبر غوره فنجد أن مراحل حياة جیران شیخ محمود مليئة بالتفاصيل والنضالات المتنوعة. حيث لعبت دورا استثنائيا وبروح شيوعية في دفاعها المستميت عن حقوق المرأة و نشأتها ونضالها في صفوف الحزب من أجل حقوق الكادحين.
في نهاية عام 1983 التقيت بثلاثة رفيقات في قاعدة كرجال لقوات الأنصار البيشمركة (في هورمان).  وهن جیران شیخ محمود، خرمان محمد ونیشتمان احمد. هؤلاء الرفيقات جاؤوا من مدینة السلیمانیة، التي كنت اعد النزول إليها في مهمة حزبية في أقرب فرصة.
كانت الرفيقات يتمتعن بمعنويات عالية جداً. أعمالهن الجريئة كانت تنم على روح التحدي والصمود والإرادة القوية والمثابرة وروح المغامرة المحسوبة من أجل توفير حياة كريمة للآخرين.
 المسؤولة الحزبية للخط النسائي الرئيسي كانت الرفيقة جیران شیخ محمود.  الرفيقات الثلاثة الآنفة الذكر شكلن مع الرفيقة بسوس، منيرة (اللجنة النسائية الحزبية داخل مدينة السلیمانیة). إضافة إلى المهمات الحزبية الملقاة عليهن في سعيهم الحثيث على تحريك وتنظيم الجماهير، كانوا يقومون بالتنسيق مع الخطوط الحزبية الأخرى. (هذه الأحداث المذكورة قبيل نزول كاتب السطور الى داخل السليمانية).
لم يقتصر نشاط الرفيقات في صفوف هذا الخط فحسب، بل امتدت الى خطوط تنظيمية أخرى



كانت لهم نشاطات واسعة بين صفوف الجماهير وقدموا للحزب الكثير من الأعمال النوعية. الناشطون في هذا الميدان على سبيل الذكر، منهن هيرو عبد الله كوران وقمري خان زوجة الرفيق الراحل محمود حلاق ومنيرة صالح وفاطمة عثمان سعید أم شیردل و ناسكة زوجة الرفيق جمال والي و شلیر عبد المجيد عضو المكتب السياسي الحالي للحزب الشيوعي الكردستاني وعائشة أم كیفي وسوزان امین و ئامانج امین و نجيبة محمود.
 وفي خط آخر یقوده الرفيق دلیر جلال والرفيق رحمن غریب، ضمت في صفوفه عدد من الناشطات في المجال الطلابي، حيث قاموا بتوزيع البيانات وشعارات الحزب في المدارس وقدموا المساعدة للرفاق في نقل الأسلحة وهن زریا عمر (زانا)، كویستان رحیم، ماردین ابراهیم، بروین غریب، ئافان عارف، شکریه سعید، كژال غریب و آخرین.
عرفت المناضلة جیران شیخ محمود منذ نعومة أظفارها باصرارها على تحقیق بعض من طموحاتها الشخصية كما أثبتت صلابة المرأة الشیوعیة في الدفاع عن مصالح شعبها بنكران ذات في أحلك الظروف. كما تحلت بالمواصفات التي تمكنها من قيادة التنظيم النسائي في مدینة السلیمانیة وغدت مصدر قوة رفيقاتها،  اللاتي شعرن بدفء وجودها، وحيويتها وابتسامتها الدائمة رغم اشتداد الظروف.
فتحت عينيها في عام 1941 على قصبة قادر كرم، وهي ناحیة تقع في جنوب كركوك،  وسط عائلة اشتهرت بالنضال الوطني والطبقي ذلك الذي أذاقهم السجن والظلم والموت، لتنشأ في مناخ قادها إلى العمل الثوري، وهذا الزخم الثوري قد أصبح مصدر قوة في تثبيت صراعها المبدئي في نضالها ضد الأنظمة المتتالية على العراق، فانضمت في شبابها الى المنظمات المهنية.
حيث أقدمت السلطات الفاشية بعد انقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963 على إعدام اثنین من خوالها هما البطلين الشيوعيين شیخ مارف البرزنجي و شیخ حسین البرزنجي وتعرض العائلة إلى العديد من المداهمات من قبل الاجهزة الامنیة في سنوات العهد الملكي بسبب النشاط السياسي والحزبي لإخوانه كل ذلك لم يثبط من عزیمتها بل زادها اصراراً على المضي قدماً في النضال من أجل رفع راية الحزب خفاقة.
عندما جرح ابنها ئاسو شیخ علي في انتفاضة آذار 1991 المجيدة. شقت طريقها من بين الحشد ودنت من ابنها،  وجهها يطفح فخرًا واعتزازُا وهي ترى ابنها یفدي بحياته من اجل حياة حرة كريمة للجمیع.
لم تتمكن الرفيقة جیران دخول المدرسة بسبب الأوضاع الاجتماعية، حيث تم فتح مدرسة ابتدائية للذكور فقط في ناحية قادر كرم مما حُرم من التعلیم في طفولتها اضطرت أن تدخل مدرسة محو



الأمية وهي بعمر 14 سنة وتتفوق في الصف وبعدها قدمت العائلة والرفيقات لها المساعدة في التعلیم تمكنت من الحصول على شهادة الابتدائية.
كان للحزب دور متميز بین صفوف النساء وكانت الرفيقة جیران إحدى الناشطات والمساهمات في نشاطات المرأة في كركوك.
انطلقت مسيرتها النضالية وهي في سن السادسة عشر،  حيث انتمت إلى منظمة رابطة المرأة العراقية قبل ثورة 14 تموز وبعد أن فسح المجال لرابطة المرأة العراقية بالعمل العلني وفتحت فروع للرابطة في المحافظات العراقیة بعد ثورة 14 تموز 1958.
في شهر كانون الثاني لسنة 1959 تشكلت في السلیمانیة الهيئة القیادیة للرابطة في المحافظة وأصبحت الرفيقة جیران احدى عضواتها اضافة الى العضوات التالیة : زکیە بابان ، منیرة رفیق سەعاتچی، حەلاوخان زوجة شێخ لطیف الحفید، رابعە خان أم ئامانج، شمسە مەحمود  المعروفة شمسەی خولەزیڕە ، نەجیبە قادرمخێر ، منیرة صالح زوجة حسین عەلی غالب ، عطیة نوري اخت الرفیق بهاءالدین نوری  ابو سلام، نزیرە مجید ، عائشە شێخ حسێن اخت الشهید شێخ علی البرزنجی و خانم زهدی.
في نهاية عام 1959 تزوج الرفیقة جیران برفیق دربها شیخ علي شیخ محمد البرزنجي وهو كان في ذلك الوقت مهنته معلم،  حيث نقل إلى محافظة كركوك وكانت الرفیقة بمعيته وهو كان كادر حزبياً.
عام 1959 عندما بلغت الثامنة عشر من عمرها ترشحت للحزب ونالت شرف العضویة في نفس العام و تعمقت وعيها السياسي بعد انضمامها الى صفوف الحزب.
 ومن خلال نشاطها الواسع بین الجماهير بعد فترة وجيزة أصبحت عضوة في لجنة قاعدية والتي تحوي على مجموعة من الخلايا الحزبية وقامت بنشاطات عديدة في المنظمة الحزبیة ورابطة المرأة في كركوك وعملت في اللجنة القیادیة للرابطة في كركوك مع الرفیقات  ست سنیە جباری، ایتان جلال ، جمیلە امین یامولکی ، لوتفیە عبد الواحد  و قد شاركت في المؤتمر الثالث لرابطة المرأة العراقية في بغداد عام 1961، ولم تشارك في المؤتمرين الأول والثاني بعد ثورة 14  تموز رغم انها انتخبت كمندوبة لأسباب خارجة عن إرادتها.
بعد انقلاب شباط الدموي تحولت الرفیقة جیران إلى العمل السري في كركوك والتحق رفيق دربها بقوات الانصار البيشمركة في منطقة بمو.
 اضطرت لاسباب امنية ان تنتقل الرفیقة جیران بعد عودة زوجها الرفیق شیخ علي الی مدینة  السلیمانیة والعمل في ظروف سرية. و بقرار من الحزب انتقلوا الى اربيل ومن ثم الى بغداد وعملت في ظروف الاختفاء هناك في الفترة 1963 - 1972 ، مرة اخرى عادوا الى السلیمانیة للعمل الحزبي.
في عام نیسان 1972 عملت في لجنة حزبية نسائیة بمستوى قضاء باسم لجنة ئالا مكونة من الرفیقات زکیە بابان، نازنین ، ئافتاو عەزیز، صنوبر، نەجییبە صدقی، قمری ، رابعة.
بعد الحملة الشرسة التي أقدمت سلطة البعث ضد حزبنا الشيوعي العراقي وانسحاب الحزب من الجبهة، تحولت الرفیقة جیران إلى العمل السري بقرار من الحزب .. و تشكلت هیئة قیادیه جدیدة من الرفیقات هیرو عبدالله كوران، قمري، عائشة حسین، رابعة أم ئامانج والرفيقة جیران. وجرى إعادة الاتصال بـ الرفيقات على أساس فردي وحولت التنظیم إلى العمل السرى
في الربع الأول من الثمانينات وجهت لمحلیة السلیمانیة ضربة موجعة من قبل النظام الدموي وأجهزته القمعية حيث جرى اعتقال عدد من الرفاق في محلیة السلیمانیة وفي هذه الحملة لم تعتقل من الرفیقات في الهيئة الحزبية سوى الرفیقة قمري التي صمدت تحت التعذیب في تلك الحملة.
تلك النشاطات العظيمة للرفيقة جیران في مراحل مختلفة من العمل السري والعلني أتاحت لها فرصة كبيرة للاحتكاك بالجماهير الواسعة.
بسبب ذلك العمل الشاق والعصيب وفي ظروف شائكة تجمعت لديها معلومات كثيرة واكتسبت خبرة واسعة للتعامل مع الوضع وواصلت نضالها في صفوف الحزب بجد وتفاني وعملت بدون كلل من أجل تحقیق أهداف الحزب.
رغم متابعة أجهزة النظام في فترات متفاوتة املا منها في الايقاع بها ، ولكن كانت شديدة الحذر والبراعة، تمكنت باستخدام ذكائها من الافلات منهم وان تستمر في عملها في الخفاء.
بعد تسلمي التنظیم في 27 كانون الثاني  1984 الى انتفاضة اذار 1991 المجيدة ، لعبت المنظمة النسائية والتي كانت الرفیقة جیران مسؤولة لها، دورا هاما وتحریضیا بین الجماهیر من خلال نشر سیاسة الحزب والمساهمة في توزيع البيانات في المحلات السكنية. وبسبب نشاطها الفريد بين الجماهير النسوية، اظهرت للحزب قدرتها في العمل الحزبي والجماهيري والسياسي ككادر متقدم، حتى غدت قدوة لمن تحرص على اجتذاب الجماهير الى ساحات النضال. كان لها دور كبير في تمويل المنظمة بالمال من خلال جمع التبرعات والاشتراكات. صارت للمنظمة قاعدة جماهيرية واسعة بعد توسيعها، حيث كانت لها مساهمات فعلية في تعبئة الجماهير في دعم انتفاضة ایار عام 1984 و انتفاضة آذار 1991 المجيدة جنباً الى جنب كافة الرفاق في الخطوط التنظیمیة الأخرى.

15
الشهيد البطل حامد الخطيب المكنى ابو ماجد

سهيل الزهاوي
ولد الشهيد المناضل المعروف حامد الخطيب في 25-12- 1939 في مدينة عانة بمحافظة الرمادي. كان والده رجل دین. نشأ في عائلة معروفة بمواقفها الوطنية، ومنها استمد القيم الأخلاقية، من الأمانة والإخلاص والشجاعة والإقدام، حتى نَمَت تلك القيم العظيمة في نفسه، التي ساهمت بقوة في تكوين شخصيته.
كما تمیز الشهید بالنبل ونكران الذات والتجربة والثقافة والخبرة السیاسیة. شارك في كل التحركات الجماهيرية والمظاهرات والإضرابات، وكان أحد الناشطين في قيادة المظاهرات الطلابية - بعد انتمائه الى اتحاد الطلبة العام العراقي - في مقارعة النظام الملكي. كان لعمله النضالي في صفوف الطلبة دوراً عظيما كنقطة انطلاق في نضجه الفكري، حيث تصلب عوده في خضم النضالات السیاسیة عندما كان طالبا في ثانوية عانة.
بدأت مسيرة الشهيد حامد السیاسیة عندما انتمى الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي في بدایة الخمسينيات من القرن الماضي، وعلى اثر تلك النشاطات، فصل من المدرسة واعتقل في عانة ونقل إلى السجن المركزي في بغداد.
لم ترهبه یوماً الأساليب القمعية التي مارستها الحكومات المتعاقبة على الحكم في العراق ضد الحزب طيلة حياته، لم يتهاون ولم يتوانَ في التضحية بحياته رغم المخاطر المحدقة به، بل رفض الانصياع لمطالب الأجهزة القمعية بالإغراء أو الإكراه، ولم يترك ساحة النضال بل استمر في نضاله بكل بسالةً وتفاني.
نذر الشهيد حامد حیاته من أجل القضية العادلة للشعب العراقي بكافة قومياته وكان وفيا ومتمسكاً لمبادئ الحزب الشيوعي العراقي.
بعد تخرجه من كلية اللغات في نهاية الخمسينيات، التحق الشهيد حامد بالجيش العراقي وأصبح ضابط برتبة ملازم الاول ما بین الفترة 1960 لحین اعتقاله في سجن رقم 1 في معسكر الرشيد بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963، وكان الشهید أحد الرفاق العسكريين الذين تم نقلهم بقطار الموت الى سجن نقرة السلمان .
في المؤتمر الثالث في عام 1976 تم انتخاب الشهید مرشحا للجنة المركزية ولكن لم يعلن عن اسمه بشكل صريح لضرورات أمنية.
اشتدت الهجمة القمعية البوليسية الشرسة ضد حزبنا الشيوعي العراقي في نهاية السبعينيات من قبل الحكم الدكتاتوري المقبور الذي كان عازما بشراسة متناهية بالقضاء التام على الحزب الشيوعي العراقي واقتلاع جذوره كما كان يحلم من ارض عراق. وفي عام 1978 اعتقل الشهيد وهو يخرج من داره لشراء بعض الحاجيات، وبعد ذلك داهمت قوة كبيرة داره الكائن في حي المشتل وتمكن زوجته من إخفاء سلاحه الشخصي في مكان آمن قبل وصول رجال الأمن الى المنزل.
تعرض الشهید إلى تعذيب وحشي مع رفاقه في الخط العسكري، كاد أن ينفذ حكم الإعدام بحقه لولا ضغوطات الرأي العام العالمي التي كانت لها الدور الكبير في تحريك القضية على المستوى العالمي، حيث أرغمت تلك الاحتجاجات النظام على إطلاق سراح جميع الرفاق في الخط العسكري بضمنهم الشهيد ابو ماجد في عام 1979.
بعد إطلاق سراحه ترك وطنه مضطراً متوجهاً إلى سوريا ومنها إلى بلغاريا ثم الانتقال الى الجزائر وبقرار من الحزب توجه الى كردستان للالتحاق بقوات الأنصار بعد أن طلب من زوجته واطفاله العودة الى عراق. تم مصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة التابعة للشهيد وصدر حكم الإعدام بحقه.
كان الشهيد عازماً على مواصلة نضاله قدما، علما منه بخطورة الموقف، قرر التوجه الى بغداد عن طریق كردستان في عام 1982 متخفيا، للمساهمة في إعادة هيكلة التنظيم في بغداد والجنوب والوسط، وقد حاولت الاجهزة القمعية للنظام الصدامي عن طریق الخونة، إلقاء القبض عليه ولكنه تمكن من الإفلات قبل الوصول اليه، والعودة سالما إلى قواعد الأنصار للحزب الشيوعي العراقي في نفس العام وأصبح عضواً في المكتب العسكري المركزي لقوات الأنصار.
في أيام العمل الأنصاري، يذكره رفاق دربه، بانه شخصية متميزة بكل المعايير.
كان الشهيد خفيف الظل، بسيط المعشر، طيب القلب، حنون، شديد البأس، صلب في جميع الظروف. يروي رفاقه كیف كان یحول المعاناة والحياة الصعبة في الأنصار إلى صور بهيجة من خلال إطلاق النكات لنشر البسمة على وجوه الانصار.
لقد تعرض قاعدة بشت ئاشان الى قصف مكثف في 28 نيسان 1983 على أثره جرح الشهید في كتفه وبعد انسحاب الحزب من بشت ئاشان تعرضت القوة في 2 أيار إلى كمين غادر ادى الى استشهاد حامد الخطيب في أحداث بشتاشان من نفس السنة في معركة غير متكافئة.
لازال جثمانه مفقود منذ ذلك الحين .
المجد والخلود للشهيد حامد الخطيب ورفاقه الابطال.




16
تشكيل بعض التنظيمات البلشفي
وبتأثير ثورة أكتوبر الاشتراكية تصاعدت المقاومة الجماهيرية المعادية للاحتلال البريطاني المطالبة بالحرية والاستقلال في مدينة كركوك واعتبر ولسن هؤلاء المقاومين ب "  مثيري الشغب وجواسيس بولشفيك يجمعون بين اشرس انواع الكره للأجانب والشغف بالدفاع عن حقوق الإنسان بوجه عام ."(40)      وتؤكد بعض التقارير الخاصة ظهور أشبه ما يكون بتنظيمات بلشفية  في بعض مناطق البلاد :  فقد ورد في تقرير سري للبوليس مؤرخ في 20 آذار 1920 خبر تأسيس منظمة سرية تحمل اسم ( الجمعية البلشفية ) وردت اشارة مشابه لنوع من البلشفي في خانقين .(41)
  وفي أواخر تشرين الثاني 1920. أفادت المخابرات البريطانية بوجود جماعة سرية تدعى (الحق) تلقت رسالة تعدها فيها بالمساعدة.(4
أعلنت جريدة المفيد العراقية ، التي أصدرها مجموعة من المثقفين في بغداد ، في العدد 95 يحمل تاريخ 11 آب  1922) أن حزبا عمالياً سينزل إلى الميدان .(43)  كما اوحت جريدة الشمس  في العام 1929 جمعية ( الأحرار) في البصرة والتي عرفت أكثر بين خصومها ((  بالحزب الحر اللاديني )) ، كانت أول منظمة لجبهة شيوعية في العراق حسب تعبير تقارير الشرطة .(44)
 انتصار البلاشفة وثورة العشرين التحررية
تصاعدت الحركة الجماهيرية المناوئة للاستعمار البريطاني منذ الأيام الاولى لاحتلال العراق ولم تعترف بسلطة المحتلين وحدثت العديد من الانتفاضات في النجف والكوفة وابي صخير في تشرين الأول ( 1917)  وانتفاضة عام (  1918 )
  وحدثت تحولات مهمة في الحركة الوطنية حيث تأسست أوائل عام (1919) جمعيات جديدة وبدأت الأخيرة تقود الحركة الجماهيرية بشكل فعال ضد الاستعمار البريطاني .
  كما أن تأسيس أول دولة اشتراكية للعمال والفلاحين هي اتحاد الجمهوريات السوفيتية ((الاتحاد السوفيتي بقيادة لينين والبلاشفة ))           أدى الى انقسام العالم إلى نظامين مضادين،هما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي ، وبذلك تغير ميزان القوى في العالم ،     ولم يعد بمستطاع الدول الاستعمارية أن تتصرف على هواها بمصائر الشعوب وقد وجد هذا التغير انعكاساً له  في كامل عملية تطور الحركة المناهضة  للاستعمار البريطاني .
  ومنح العديد من قادة البلدان الشرق الاوسط الأمل في ظهور قوى جديدة ذات شأن يمكن الاعتماد عليها في مقارعة المستعمرين وخاصة بعد الانتصارات المتتالية للجيش الاحمر في مناطق ما وراء القفقاس وما وراء قزوين ضد قوات الحرس الأبيض والمتدخلين البريطانيين ...  واستطاع الشعب الأذربيجاني بمساعدة الشعب الروسي أن يقرر نهاية ( المساواتين ) ويعلن عن تأسيس جمهورية أذربيجان السوفيتية.    وعقب ذلك دحر القوات البريطانية في مدينة انزلي الايرانية ،  وتم تأسيس جمهورية گیلیان بعد أن هرب الانكليز من المنطقة بأكملها.     بالإضافة إلى النجاحات التي أحرزها جيش التحرير التركي بقيادة كمال أتاتورك و بالاعتماد على
المساعدات الروسية السوفيتية ضد المتدخلين الاجانب. كل هذا وجه ضربة شديدة الى سمعة الامبريالية البريطانية وبددت الأسطورة القائلة بأن قواتها المسلحة لا تقهر .
  ويؤكد ذلك المعلق السياسي البريطاني ( ي شيرد )    بقوله أن طرد المتدخلين الانكليز من مناطق ماوراء القفقاس وکیلیان قد فهم من قبل القوى الوطنية في العراق على انه دليل على عدم قدرة بريطانيا  في الإبقاء على سيطرتها في الشرق الادنى في مواجهة حركة التحررية للشعوب المستعبدة،وكان لتلك العوامل أثر كبير في اتساع الشعب العراقي ضد الاستعمار وتصميمه على مواصلة النضال من أجل تحرير بلاده .(45)         وفعلا
كانت لهذه الانتصارات أصداء واسعة بين جماهير الشعب العراقي وبث فيها الثقة بإمكان نيل الاستقلال. مما عجل في اندلاع ثورة العشرين التحررية في العراق .
" لقد كانت ثورة العشرين التحررية في العراق حرباً ثوريا  نحو (120) ألف فلاح مسلح ضد جيش الاحتلال البريطاني في معركة مكشوفة وغير متكافئة بالمرة استمرت نحو ستة أشهر .     وكما أن الثورة في العراق اجتذبت  من الجماهير الفلاحية الواسعة الواسعة ،      فكذلك اجتذبت أيضا أوسع جماهير المدن وخاصة في بغداد.(46)مع أن الإمبريالية البريطانية استطاعت أن تخمد الثورة بالتعاون مع الإقطاعية المحلية، فقد ساعدت الثورة دون شك في إضعاف مواقع المحتلين الانكليز في العراق والعالم العربي بأسره وأعطت لهم درسا بإن لا يمكن حكم العراق بشكل مباشر،  بعد أن تكبدت بريطانيا خسائر مادية كبيرة فاضطرت الى التنازل وأسست الدولة العراقية في 11 نوفمبر 1920 .(47)
   والجدير بالإشارة هنا،أن ثورة أكتوبر وصمود البلاشفة في وجه التدخل الأجنبي كانت تلهم الثورة وتزيدهم عزماً وقد اطلعوا عليها من خلال ما كتبته جرائد ثورة العشرين ( الاستقلال) والفرات اللتين صدرا في النجف وكذلك جريدة العراق في بغداد بتأيد من الاحتلال  عن انتصارات الجيش الأحمر على القوات البريطانية .(48) 
   في محاولة  لإيصال فكرة البلشفية الى ثوار العشرين كتب - محمد باقر الشـبيب -   في جريـدة الفـرات وهو محررها تحت عنوان مفهوم البلشفية :-   " ليسـت البلشفية روسـية بالضرورة  فلا بـد أن تتكيف في البلـدان ألاخـرى مـع أخلاق الشعوب التي تقطـن فيها وأحوالهم المادية .(49)
 وفي عددهـا الثالـث تكتـب الفرات مدى تأثير ثورة أكتوبر على انتعاش الروح الثورية لدى الشعوب ومنها العراق ضد الاحتلال البريطاني :-
    "  يختلف تأثير الثـورة باختلاف مقاصد الثـوار. فقد تكـون لقلب نظام خـاص وإبدالـه بآخـر كثـورة ألامـم علـى حكوماتهـا. وقـد تكـون لتغيير نظـام العالـم كلـه كالثـورة البلشفية  التي أصبـح تأثيرها عامـا أهاج الشـعوب لطلـب حريتها وتبديل نظـام الكـون ."(50)
  كما اعترف السير إيلمر هولدين القائد العام للقوات البريطانية عند نشوب الثورة " بأن تقدم الجيش الأحمر الى مدينة انزلي عشية الثورة ، ترك تأثيره على العراقيين" .(51)
  لم يخفي اللورد "سيد سهام" في مناقشة أجريت في مجلس اللوردات المنعقد في 25 حزيران 1920 مدى
تأثير البلاشفة على تصاعد النشاط المعادي للانكليز وقد قال أن    " حدوث القلاقل والاضطرابات في العراق يرجع للأتراك و البولشفيك .(52)
  تصاعدت الحركة الجماهيرية المناوئة للاستعمار البريطاني منذ الأيام الاولى لاحتلال العراق ولم تعترف بسلطة المحتلين وحدثت العديد من الانتفاضات في النجف والكوفة وابي صخير في تشرين الأول  1917  وانتفاضة عام 1918
 حيث تأسست أوائل عام 1919 جمعية جديدة * العهد العراقي * و جمعية حرس الاستقلال وبدأت الأخيرة تقود الحركة الجماهيرية بشكل فعال ضد الاستعمار البريطاني .
  فقد أرسل أرنولد ولسن في ( 5 آب 1920)تقريرا إلى لندن يشير فيها الى أن الحركة الوطنية العراقية في تصاعد خلال ( 18)  الاشهر الاخيرة وان مشاعر العداء لبريطانيا قد تعاظمت  وزادت نقمة المتطرفين لبلوغ
 أهدافهم أي الاستقلال التام والحرية التامة من كل تدخل أجنبي عن طريق العمل المباشر   وأضافت ويلسون قائلاً أن أنباء جلاء البريطانيين عن انزلي ورشت والانباء عن نجاحات البلاشفة  في مناطق أخرى من العالم توطد دوافع ( المتطرفين ) .  بعد أسبوع من تقرير هذه ، أبلغ ويلسن هذا ذاته لندن حول أسباب اندلاع ثورة العشرين بأن أحد عوامله الى تأثير البلاشفة . (53)
  لم يتوقف المقاومة الشعبية ضد الاحتلال ،  بل استمرت باشكال مختلفة  وليس من باب المصادفة أن تشير تقارير الشرطة في عام 1921 أي بعد سنة من ثورة العشرين وجاء فيها  ( آثار لدعاوة البلاشفة وجدت في خانقين لفترة ما .   وقد ظهرت اضطرابات ضئيلة في خانقين  مايس وحزيران قام بها أهل المدن واثنان من شيوخ العشائر أحدهما شخص اسمه محمود الديلو. لم تستمر طويلاّ).(54)
  توصل وزارة الحربية البريطانية  إلى الاستنتاج أن الثورة العراقية ليست إلا جزءاً من تأثير موسكو ،  وقد
اتهمت الاستخبارات البريطانية العديد من قادة ثورة العشرين بالبلشفية ، مثال ( محمد مهدي البصير ) ونجل المجتهد الأول (الشيرازي ومرزا محمد رضا) وغيرهم .(55)  تجدر الاشارة هنا على ان احتلال العراق من قبل الامبريالية البريطانية
  بالرغم من دوره البلاشفة في الدفع نحو ثورة العشرين ، كان عامل هام لكنها لم تكن العامل المطلق وراءها،  فالثورة يستحيل أن تقع دون توافر العوامل الموضوعية والذاتية… و دون وجود أزمة اقتصادية عامة وتفاقم الصراع الطبقي بين الإقطاع والفلاحين بعد أن ساند الانكليز الإقطاعيين مما أثار استياء كبير بين الفلاحين   و كانت ثورتهم من أجل الأرض ويضيف ذلك للعامل الخارجي ...  خاصة بعد قيام ثورة أكتوبر وكان حافزاً  على تعجيل الثورة  .

  موقف البلاشفة من نظام الانتداب في العراق

   لقد كانت ثورة العشرين من اهم عامل جعل الإمبريالية البريطانية تدرك ... بأن الحكم المباشر على العراق  صفقة خاسرة فرضخت لتأسيس الدولة العراقية وتكوين جيشها الوطني،اصبح العراق منتدباً من عصبة الأمم تحت السيطرة البريطانية.  - بعقول بريطانية وايدي عراقية - كما كتبت مس بيل في مذكراتها .(56)
  وفي 22 آب 1921 توج فيصل ملكاً على العراق،(57)     بعد أن رشح من قبل الدوائر الإمبريالية البريطانية



بوصفه الشخصية القوية له إمكانية في تنفيذ سياسة بريطانية في العراق ،     وعندما عرض وزارة الحربية البريطانية مزايا الملك فيصل أشار إلى أنه معادي للبلشفية.(58)
  وهكذا فإن نضال الشعب العراقي ضد الاستعمار البريطاني لم ينته وإنما دخل مرحلة جديدة .    وكانت أنباء النضالات البطولية تستقبل من قبل الرأي العام العالمي بإعجاب وتقدير.
  ووقف الحركة الشيوعية العالمية موقف التضامن مع نضال شعوب الشرق وتضمن البيان الذي أصدرته الاممية الشيوعية والذي كان باسم :-
( نداء الى الجماهير الشعبية المتعبدة في بلاد فارس وأرمينيا وتركيا )
  وتضمن فصلاً خاصاً الى فلاحي العراق قائلاً :
 " يا فلاحي بلاد ما بين النهرين ، أن الانكليز أعلنوا عن استقلال بلادكم إلا أنه يوجد ثمانين ألفاً جندي من جنود الاحتلال على أرضكم يعملون فيكم سلباً وقتلاً ، ويستبيحون أعراضهم . "
  وفد وقع النداء ممثلي الحزب الشيوعي الروسي بإسم شعوب روسيا السوفيتية .(59)    وقد وجد هذا النداء صداه على الوضع في العراق وحث العراقيين على تشديد النضال والإصرار على المضي قدما في النضال من أجل الاستقلال وطرد الغزاة الانكليز.
  وعندما فرضت الإمبريالية نظام الانتداب على البلدان العربية ،    وقفت الحكومة السوفيتية بحزم ضد نظام الانتداب بوصفه شكلا جديداً للصوصية الاستعمارية ، وقد حذر لينين قائلاً :-
-    " نحن نعلم حقاً أنهم عندما يتحدثون عن نظام الانتدابات على المستعمرات فإنما يعنون توزيع الانتدابات للسلب والنهب ، اعطاء اقلية ضئيلة من سكان الارض حق استثمار الأكثرية من سكان الكرة الأرضية ."(60)       
  في تشرين الاول عام  1922 فرض المستعمرون البريطانيون معاهدة جائرة على العراق. وأثار ذلك سخط الرأي العراقي ، فقدت عقدت الاجتماعات ونظمت المظاهرات في بغداد ضد تلك المعاهدة ،      قادها الحزبان الوطني والنهضة.   اللذان تأسسا في ( 2 آب 1922)  وفي (19)  منه و قاوما المحاولات الرامية الى عقد معاهدة التحالف بين بريطانيا و العراق لتحل محل صك الانتداب المفروض على الشعب العراقي .     ثم وافق مجلس الوزراء على المعاهدة وباشر الاستعماريون التمهيد  ل " برلمان تأسيسي يضيف الشرعية على صك العبودية الجديدة. واتخذت العديد من الإجراءات الإرهابية ضد قادة الحركة الوطنية وأصدر المعتمد البريطاني أمراً بإقفال الحزبين اللذين قاما بمظاهرات   ( 22 آب 1922) وابعاد قادة الحركة الوطنية الى جزيرة هنجام في الخليج العربي وبتعطيل جريدتي المفيد والرافدان ونفي صاحبهما ايضا وطلب  محمد صدر والشيخ محمد الخالصي بمغادرة العراق فوراً الى ايران "(61)
 إن هذه الإجراءات القمعية لم يثني من عزيمة الحركة الوطنية ،      فقد شكل المساهمون النشطاء في ثورة العشرين والمنفيون الى طهران ( لجنة الدفاع الوطني ) .(62)
  وفي 30 تشرين الثاني 1922 بعث أعضاء اللجنة رسالة الى مفوض الشعب للشؤون الخارجية في روسيا السوفيتية وهذا نص الرسالة :-
" نحن الموقعين أدناه كبار زعماء ميسوبوتاميا في لجنة الدفاع الوطني مقدرين الموقف الصادر لدولتكم تجاه الشعوب الصغيرة نرفع إليكم المذكرة التالية لترفعوها بدوركم إلى المؤتمر .
 (( أن شعب ميسوبوتاميا بأسره قلق بسبب خرق استقلاله من جراء التدخل في ميسوبوتاميا وأنه لا يوافق على معاهدة التحالف المعقودة في 10 تشرين الاول عاج 1922   والتي تبقى مجردة من المفعول القانوني. أن اللجنة تبلغكم عن طريق حكومتكم المحترمة مؤتمر لوزان الموقر انها تحتج ضد هذا التدخل غير القانوني من قبل انكلترا وفي الختام تعلن اللجنة بحزم انشعب ميسوبوتاميا   لا يبخل ببذل اية تضحية في سبيل الدفاع عن استقلاله ووضع حد لإرهاب الانكليز والقضاء على هذه المعاهدة الجائرة . "(63)        وقد وقع المذكرة كل من الصدر والخالصي وحلمي وغيرهم .
  وقد بعث وزير الخارجية السوفيتي هذه المذكرة الى رئيس الوفد التركي في مؤتمر لوزان  ( عصمت اينو ) مرفقة برسالة موجزة قال فيها " أتشرف بأن اوجه اليكم طيا مذكرة زعماء الحركة الوطنية في ميسوبوتاميا ( بلاد ما بين النهرين) والتي استلمت نصها من طهران الآن .))"(64)
  ولم يكتف الحكومة السوفيتية في ارسال المذكرة فحسب وإنما في كانون الأول 1922 نشر الوفد السوفيتي
الذي وصل الى لوزان مذكرة بصدد المسألة الشرقية   أيد فيها مطاليب وفود الاوساط الوطنية العربية وسائر البلدان الاسلامية التى وصلت الى لوزان للدفاع عن مصالحها  …  ووجه الوفد السوفيتي نقداً لاذعاً لسياسة الدول الإمبريالية التي استأثرت بحق الوصاية على الشعوب العراق وسوريا وفلسطين وشبه الجزيرة العربية " التي تعتبرها  غير قادرة على تسيير أمورها بنفسها . "(65)
  وقد جاء في المذكرة أيضا   " أن حكومة روسيا وأوكرانيا وجورجيا التي نشأت عن ثورة كان هدفها وضع حد لحروب الفتح ،  نرى من واجبها الملح أن تقاوم بجميع الوسائل الترسيم الجديد للطرائق الامبريالية  وأن
تسهم بجميع قواها  في إقامة نظام من المساواة السياسية   بين العروق ومن احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وفي الاستقلال السياسي والاقتصادي التام لجميع الشعوب "(66)
    دأب روسيا السوفيتية الناشئة على مواقفه المبدأية في الدفاع …  عن الحقوق العادلة للشعوب في البلدان  العربية وفضح الدوائر الامبريالية في استغلال هذه البلدان وشعوبها      وطالب في المؤتمرات الدولية بإلغاء الانتداب وسحب القوات المسلحة من المستعمرات .. والاعتراف بحق تقرير المصير السياسي والاقتصادي و رفض المساهمة في لجنة الانتداب الدائمة لدى عصبة الأمم بعد انتسابه إليها في ايلول 1934 . وقدم لها ما يمكن من مساعدة ومساندة بالرغم من أن الاتحاد السوفيتي آنذاك …  كانت لا تملك في المسرح العالمي تلك الإمكانيات والفرص الواسعة .
  وقد قال لينين بهذا الصدد " نحن اضعف مالا قياس له على الصعيد الاقتصادي والعسكري أما معنوياً ما -- هذا اذا لم نفهم بالطبع هذه الفكرة من وجهة نظرالمعنويات المجردة،بل إذا فهمنا على أنها النسبة بين القوى الفعلية لجميع الطبقات في جميع الدول ، -  فأننا أقوى من الجميع - . ".(67)
هذا الموقف الدائب المنسجم الذي وقفه الاتحاد السوفيتي السابق من نظام الانتداب كان يتفق كليا مع مصالح وتطلعات الشعوب في البلدان العربية الواقعة تحت الانتداب .
  وقد جاء في شهادة برسي كوكس الذي شكل ما يسمى * بالحكم  الوطني تحت الحماية البريطانية* اي طبق نظام الانتداب في العراق أنه        " كان من المدهش بأي اشمئزاز كانوا دائما ينظرون في العراق الى فكرة الانتداب. " (68) 
  وقد كتب زينوفيف رئيس مؤتمر الاممية الثالثة في جريدة ازفيستيا في 18 تشرين الأول 1925.
  ((  إننا لا نستطيع أن نتخذ موقف الحياد تجاه الحركات الوطنية انضوى تحت لوائها مئات من الشرقيين لأن ذلك معناه انحياز الاتحاد السوفيتي الى معسكر الاستعمار الغربي وتمكين الدول الغربية ولا سيما انكلترا من الاستحواذ على الصين وباقي الدول الشرقية...))(69)
تأثير ثورة أكتوبر على انتشار الفكر الماركسى في العراق
 
  بعد انتشار الأفكار الماركسية انتشارا كبيرا في أجزاء كبيرة من أوروبا والقارة الأمريكية في القرن التاسع عشر و مع ثورة أكتوبر التي قادها البلاشفة تولى الحزب البلشفي بقيادة لينين السلطة وبذلك اصبحت الاتحاد السوفيتي أول دولة تحمل الفكر الماركسي في القرن العشرين .  وتعد الثورة البلشفية  التي حفرت عميقا في وجدان الشعب الروسي وشعوب العالم . فلم يكن لأي حدث آخر ، خلال القرن المنصرم ،  تداعيات مماثلة بعيدة المدى مست حياة مئات ملايين البشر وحفز الوعي السياسي في سائر أرجاء العالم .
  في بداية القرن العشرين وخاصة بعد  انتشار فكر البلاشفة ظهرت بعض المثقفين في العديد من البلدان العربية بتشكيل حلقات دراسية لنشر الفكر الماركسي  والعراق نموذجا.
  وعندما حدثت ثورة اكتوبر كان العراق يرزح تحت نير الاحتلال البريطاني ولم يكن فيه طبقة عاملة ذات وزن. فقد كانت قليلة العدد وضعيفة سياسياً ولم تملك أي نوع من التنظيم ... وكان جزء من الطبقة الفلاحية ولذلك لم تضطلع بالدور القيادي فحسب وانما لم يكن بإمكانها القيام بأي دور مستقل ملحوظ في الحركة الوطنية .
  لقد أخذت البرجوازية زمام القيادة في الحركة الوطنية العراقية …  في حين كانت آنذاك ضعيفة من الناحية الاقتصادية.بسبب مساندة الاستعمار البريطاني منذ البداية للفئات الإقطاعية المغرقة في الرجعية والبرجوازية الكمبرادورية المرتبطة بالاستغلال الإقطاعي.(70)
بعد تشكيل الحكم الوطني المزعوم في العراق في ظل الانتداب البريطاني وفرض المعاهدات الجائرة على الشعب العراقي ، بدأ كثير من المثقفين الثوريين وخاصة في صفوف الطلاب والمعلمين  " يبحثون عن ايدلوجية معادية  للامبريالية ولم يجدوا مثل هذه الأفكار في أعمال الكتاب البرجوازيين "(71) وبعد أن شعروا بخيبة أمل من القيادة السياسية للحركة الوطنية في مقاومة الاستعمار والقوى الرجعية الذي افتقر الى " برنامج سياسي واجتماعي يعبر عن مصالح الجماهير الوطنية والمعيشية ووضع حد لطابع الهواية للقيادة السياسية للحركة الوطنية هذا الذي لم يكن خيرة الزعماء السياسيين متحرراً منه(72)
لقد سعى الشبيبة العراقية قبل وبعد الاحتلال البريطاني للعراق الى معرفة أفكار الحرية والمساواة والتقدم والاشتراكية بطرق متعددة منها عفوية وهادفة  و دخلت أفكار الاشتراكية عن طريق الصحف والمجلات العربية من سوريا ومصر  التى تسربت الى داخل العراق او الاجنبية في بداية عشرينات القرن الماضي مثل مجلة الحزب الشيوعي البريطاني وصحيفة”اللومانتيه” لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي،التي كانت تصل الى العراق عن طريق سورية ولبنان،أو من خلال ما حمله الطلاب الدارسين في الدول الأجنبية والعائدين الى العراق، (73) ولعب بعض المدرسين الأجانب ذوي النزعة الاشتراكي المستخدمين في التدريس في المدارس الثانوية دوراً لا بأس بها في بث الوعي الاشتراكي في صفوف الطلبة. (74) كما لعبت المكتبات في إدخال المطبوعات الماركسية إلى العراق . لا يمكن إغفال دور مكتبة مكنزي لصاحبها البريطاني الجنسية"دونون مكنزي "الذي كان حريصا على جلب الكتب الاجنبية التي تناولت الاشتراكية وبخاصة منشورات دار النشر الماركسية البريطانية.   
   لا يمكن أن نقلل من تأثير العلاقات العائلية والاجتماعية في نقل الفكر الماركسى في العقد الثاني من القرن العشرين، حيث برزت شخصيات ماركسية واشتراكية على السطح ، كما كان لنادي التضامن ومظاهرات الطلبة حول الحرية الفكرية  في تقريب بعض الشخصيات وفيما بعد اصبحوا أبرز قادة الحزب امثال  زكي خيري وعاصم



فليح و مهدي هاشم .
  بعد أن تغلغل أفكار الماركسية وازداد الوعي الاشتراكي وخاصة بعد ثورة أكتوبر الروسية حيث شكل حسين الرحال  بعد عودته  من الخارج و استقراره في بغداد، كان طالبا في ذلك الوقت بمدرسة الحقوق في العام  1924  حلقة دراسية " ماركسية " في العراق حيث تأثر بالفكر الماركسي عندما كان يتلقى علومه في مدرسة ثانوية في ألمانيا  عام 1919 ومن ثم سفره إلى الهند في عام 1921 و سبق ذلك التاريخ، تغلغل الفكر في تفكير جماعة أدبية غير رسمية وانضموا الى الحلقة .   حيث اقتصر نشاط الرواد الاوائل على مطارحة الأفكار ومناقشتها واصدروا صحيفة (( الصحيفة )) التي ظهرت في عام 1924 - 1925  ثم لفترة قصيرة في عام 1927 بيد أن هذا النشاط اختفى . وعلى الرغم من أن تبشير أعضائها بالماركسية كان واضحاً ولكن هذه الكلمة لم ترد ، ولو مرة واحدة،في كتاباتهم، مع أنهم أعلنوا صراحة أن المادية التاريخية  تشكل التفسير الأفضل لعملية التاريخ.(75)      كل هذه النشاطات أثارت حفيظة سلطات الاحتلال البريطاني ، لذلك عملت على تأسيس دوائر امنية وضعت لنفسها هدف محاربة الشيوعية حتى قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي والعمل على جمع المعلومات عن الأشخاص يبثون الاخبار عن البلاشفة ولذلك عملو على تجنيد المتعاونين لهم لهذا الغرض .  رغم أن تقارير الشرطة  لاتعبر بشكل دقيق عن المعلومات الواردة لهم من قبل عملائهم ،  يتطلب التحفظ على هذه المصادر والتعامل معها بانتباه خاص والتحري عن الدقة . إلا أن هذه التقارير إن دل على شئ انما يدل على مخاوف سلطة الاحتلال والانتداب  من انتشار أفكار البلاشفة و بعد ان تلمس هذه السلطات بعض النشاطات الجماهيرية ذو طابع مؤثر و صدور الصحافة تروج  للفكر الاشتراكي .
  فقد بدأت أول محاولة لتأسيس منظمة شيوعية في العراق عام 1925،لقد سبقت ((الحركة العمالية المطلبي)) أي لم تنضج الظروف الموضوعية لتأسيس حزب شيوعي وفي نفس الوقت لم يكن لدى النخبة المثقفة الخبرة الكافية في مجالات السياسية والنظرية الثورية والممارسة التنظيمية بالاخص في التنظيم السري في ظروف الارهاب البوليس. وتعتبر هذه فترة تمهيد لتشكيل الحزب الشيوعي العراقي.(76)
  لقد نشأت الطبقة العاملة العراقية مع الإنتاج السلعي البسيط ونمو الطبقة العاملة مع دخول وتزايد الاستثمارات الرأسمالية الأجنبية المؤقتة والثابتة، فجذبت الأعمال الإنشائية التي رافقت الاحتلال البريطاني. وتوسعت بعد الانتداب ومع تزايد إنشاء المشاريع الكبيرة الحكومية والأهلية . و بدأت تبرز التمايز الطبقي في المجتمع العراقي في تلك الحقبة من ظهور أشكال  الوعي  في تاريخ العراق الحديث ، وأخذت تتبلور روح التضامن بين العمال، أشكال جديدة، فكان أول إضراب  للعمال في بغداد، هو إضراب عمال السكك الحديد في معامل الشالجية عام 1927.وهي باكورة الحركة العمالية العراقية .
انبثقت أول  نقابة عمالية في سنة 1929 بعد سنتين من إضراب عمال الشالجية في بغداد وكانت هذه النقابة وليدة ذلك الإضراب واهم ثمراتها .(77)        وفي عام 1924 جرت محاولات لتشكيل أول نقابة عمالية لكـن إدارة السكك البريطانية رفضـت الطلـب واتخـذت إجـراءات إداريـة ضـد مقـدمي الطلـب.
  وقد برزت المزايا التنظيمية و الروح الجهادية لدى العمال العراقيين بشكل مبكر و خاصة في الإضراب العام في
تموز 1931.(78)
  أن النقابي الاول في العراق محمـد صالـح القـزاز ، قـد حـدد منـذ شباط 1933 في رسالة له إلى سكرتير الاتحاد العالمي لنقابات العمال في برلين إلى أن الحركة العماليـة في عهـده قد مرت بثلاث مراحل كانت الأولى منهـا قد      بدأت في عـام 1924 بـأول محاولة لتأسيس منظمـة عماليـة لتنتهي في عـام  1929   بتأسيس بعـض الجمعيـات التي دشنت حسـب رايـه بدايـة المرحلـة الثانية التي انتهت في عام  1931  لتبدأ المرحلة الثالثة ، في عام 1936 شـرع قانـون خـاص يحدد حقـوق العمـال والأحكام بشأن المنازاعات العماليـة و شـروط العمـل وغيرهـا، هـو القانـون رقـم 72 لسنة   1936.(79)
 بتشريع هذا القانون لحماية العمال تبرهن على وجود طبقة عاملة لها ظروف عملها وحصتها من التوزيع أصبحت الطبقة العاملة العراقية والجماهير الكادحة بحاجة الى قيادة نوعية وتذكر سعاد خيري" لقد برهنت البرجوازية في هذا الكفاح المتواصل عن عجزها على قيادة حركة التحرر الوطني نحو إحراز نصر حاسم ضد الاستعمار وأعوانه وكانت الجماهير تفتقر الى ذلك القيادة السياسية والتى لا تقبل المساومة والمهادنة ومسايرة العدو واللين معه. مع أن العمال قد آثروا على سير الإضراب تأثيراً تنظيمياً وكفاحياً بالغاُ فأنهم لم يكونوا بعد قد أصبحوا اهلاُ للتأثير بطابعهم السياسي على حركة شعبية جبارة كهذه " .(80)
 شرعت الشبيبة الثورية الى تشكيل منظمات سرية في بداية القرن العشرين ، كجمعية " الوفاء للعهد " و" انتقام لفلسطين " و( جمعية اتحاد تضامن العـرب)  لمحاربة الاستعمار البريطاني في بغداد و جمعية الاحرار في البصرة و العاصفـة الحمـراء في النجف. كما أصبحــت مدرســة الصناعــة واحــدة مــن مراكــز النشــاط الشيوعي قبــل وبعــد تأسيس الحزب في بغداد، و اتخذ الشيوعيون  من الحزب الوطني العراقي بقيادة جعفر ابو التمن مجـالاً مناسـبا وعلنيـا لتحركهـم بين الجماهير دفاعا عـن القضيـة الوطنيـة، وعـن قضايـا الجماهير الأخرى كما هو الشأن في الناصرية والبصرة بوجـه خـاص
  أن النضال الوطني والطبقي حتم ضرورة وجود حزب شيوعي "مشبع بالروح الطبقي الصرف"(81) وكان هذا الأمر مثار جدل في صفوف الحركة الوطنية العراقية .
وقد كرس يوسف سلمان يوسف (فهد) جهداً كبيراً للتدليل على اهمية هذا الحزب وحاجة الطبقة العاملة والحركة الوطنية كلها له بعد أن اهتدى إلى اعتناق الفكر الماركسي من خلال بحثه عن معالجة المشاكل التي واجهت الشعب العراقي ، وبرز بشكل مبكر كمسؤول فرع الناصرية للحزب الوطني العراقي وكقائد لإضراب عمال الناصرية وأسس أول الخلايا الشيوعية في المنطقة الجنوبية
أن يوسـف سـلمان بعـد تركه الناصرية والتجأئـه إلى بغداد نشط كثيرا في تعريف شيوعي بغـداد المبعثرين ببعضهم، وتوثيق روابطهم بشـيوعيي الناصرية والبصرة، وحثهم على تكوين منظماتهم الموحدة. و بالفعـل ساروا في هذا الاتجاه وكونوا منظمتهم المنشودة لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار التي أبدلت اسـمها في عام 1935 إلى الحـزب الشيوعي العراقي والذي ضم كل الشيوعيين في بغداد والبصرة والناصرية والديوانية والعمارة. وهكـذا ظهـر إلى الوجـود الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار 1934 بعد أن عقد اجتماع سري في بغداد وصار فصيلة من فصائل الحركة الشيوعية العالمية مدركاً أن الوطنية والأممية شقان يكمل أحدهما الآخر
  وقد صدر ظهر على صدر اول جريدة سرية للحزب الشعار الأممي ذو المدلول العميق لماركس (( ياعمال العالم اتحدوا)) كما  أشار في صدر صحيفة كفاح الشعب عام 1935 الى شعار حق الشعب الكردي في تقرير مصيرها بما فيه الانفصال على هدى فكر ماركس ولينين
 تناول جريدة الحزب مشاكل العمال والفلاحين  والظروف القاسية والمعاناة الاقتصادية التي تعيشها الشغيلة والكادحون في المدن والقرى، وما يعانيه الفلاح من ظلم الإقطاعيين والاغوات.
  وقد جذب الحزب جماهير واسعة من خلال رفع شعارات واقعية منها المطالبة بحقوق الكادحين والدعوة إلى المساواة بين جميع مكونات  العراق القومية والدينية واصرار الشيوعيين الأوائل على الربط ما بين معاداة الاستعمار و الدوائر الامبريالية والنضال  عن حقوق الكادحين وخصوصاً العمال والفلاحين الفقراء واصرار الشيوعيين على تشكيل النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية كان له الأثر كبير على توسع قاعدة الحزب وانتشار الشيوعية في العراق . والقدرة الكبيرة التى امتلكها الحزب الشيوعي العراقي في الجمع بين العمل السري والعمل العلني والاستفادة من الجرائد العلنية في نشر أفكارهم والتأثير على مواقف الاحزاب  الاخرى عبر تشكيل جبهات ضد الاستعمار والتحديد الدقيق في طرح الأهداف عند القيام بالتحركات الجماهيرية لتحشيد كل القوى المناهضة للاستعمار
  وقد سددت الاممية الاممية الشيوعية (الكومنترن ) الخطوات الاولى للحزب الشيوعي العراقي ورعته رعاية خاصة وشارك في اعمال  المؤتمر العالمي السابع للاممية الشيوعية المنعقد في موسكو في تموز - آب 1935 ممثل الحزب بوصفه مراقباُ، كما شارك فهد في أعمال المؤتمر العالمي لنقابات العمال الحمراء (بروفينترين) .(82)
----------------------

(1) - ف . فيدروف - طرق تطور الدول المتحررة ص 37 - 38 عن فؤاد مرسي - العلاقات المصرية 1943 - 1956
(2)  - لينين - خلاصة المناقشة حول تقرير المصير ، عن هوارسن دافييس - القومية والاشتراكية - النظريات الماركسية والعمالية حول القومية حتى عام 1917 دار الحقيقة - بيروت - الطبعة الاولى - آب 1972 ص .228
(3) -  لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 6 – دار التقدم – موسكو،  ص . 114
(4) -  لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 5– دار التقدم – موسكو،  ص . 391
(5) - لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 6 – دار التقدم – موسكو،  ص . 95
(6) - لينين - البروليتارية الثورية وحق الأمم في تقرير مصيرها - نصوص حول المسألة القومية - ترجمة وتقديم جورج طرابيشي - دار الطليعة للنشر و الطباعة - بيروت ،  الطبعة الأولى تموز 1972      ص . 14
(7) - لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 6 – دار التقدم – موسكو،  ص . 159
(8) - لينين - المختارات - نفس المصدر السابق ص . 160
(9) - لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 6 – دار التقدم – موسكو،  ص . 101
(10) - يعتبر مشروع سكة حديد بغداد أحد أهم وسائل تغلغل المانيا في العراق وتحول هذا المشروع الى عامل محرك هام في الصراع الدولي من أجل السيطرة على بلاد الرافدين بشكل واضح في النزاع البريطاني الألماني. 
(11) - لينين - المؤلفات الكاملة باللغة الروسية المجلد 29  ص 489 - 494  عن بونداريفسكي - سياستان إزاء العالم العربي ص 269 . 
(12 - لينين – المختارات – في 10 مجلدات – المجلد 6 – دار التقدم – موسكو،  ص . 97
(13) - سعاد خيري - تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق الجزء الأول  ( 1920 - 1958) . ص . 17
(14) - الرقيب العدد 9 بتاريخ 7 سفر 1327 السنة الأولى من عامر حسن فياض ، جذور الفكر الاشتراكي في العراق 1920 - 1934 ، ص. 113
(15) - احمد عزت الاعظمي ، القضية العربية ج.5 ط.1 1933  مطبعة الشعب بغداد ص 14 - 15 من عامر حسن فياض نفس المصدر السابق ص. 110- 111
(16) - ع. شمزيني - الحركة التحررية الكردية - المنشور في جريدة خه بات العراقية - بغداد 1960 عن ماجد عبد الرضا - القضية الكردية في العراق - منشورات الطريق الجديد الطبعة الاولى 1975 ص. 38
(17) - الدكتور كمال مظهر احمد - دور الشعب الكردي في ثورة العشرين - مطبعة الحوادث - بغداد 1978 ص 56   
(18) - عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الاول – لندن، انتاريو، 2020 ، ص .  114 
(19) -  عبد الفتاح ابراهيم – على طريق الهند ، مطبعة الأهالي – بغداد ،   1935 ص . 288
(20) - مؤتمر شعوب الشرق في باكو 1920 - ابراهيم خليل العلاف-الحوار المتمدن-العدد: 5134 / 2016 / 4 / 16

(21)عبد الرحمن البزاز - محاضرات عن العراق من الاحتلال حتى الاستقلال ص. 18 عن كوتلوف ثورة العشرين ص 105
(22) - ل.ن كوتلوف - ثورة العشرين الوطنية التحررية ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم - مطبعة اوفسيت الديواني - بغداد . ص . 138
(23) - تاريخ الأقطار العربية - مجموعة من علماء السوفيت - دار التقدم 1975 طبع في الاتحاد السوفيتي السابق  ص.
(24) - ل . ن كوتلوف - ثورة العشرين - نفس المصدر السابق - ص . 148
(25) - تاريخ الأقطار العربية - نفس المصدر ص 22
(26) - عبدالله الفياض– الثورة العراقية الكبرى ، سنة 1920 ، الطبعة الاولى ، مطبعة الارشاد – بغداد، 1963  ص . 247
(27) - الثورة العراقية - بقلم ارنولد ويلسن - ترجمة جعفر الخياط  الطبعة الاولى 1970 - دار الرافدين -           ص. 206
(28) -  أكتوبر والمسألة الكردية - د. كمال مظهر احمد  نشر في موقع الحزب الشيوعي العراقي الالكترونية بتاريخ السبت, 08 تشرين2/نوفمبر 2014
(29) - عامر حسن فياض - جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق - ص. 116
(30) - جلال الطالباني، كردستان والحركة القومية الكردية - الطبعة الاولى - بغداد ، ص .58
(31) - د. كمال مظهر احمد -دور الشعب الكردي في ثورة العشرين - ص. 58
(32) - ل. ن كوتلوف - ثورة العشرين - نفس المصدر السابق - ص. 137
(33) - عامر حسن فياض - جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق - ص. 116
(34) - عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الاول – لندن، انتاريو، 2020 ، ص122
(35) - عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الاول – لندن، انتاريو، 2020 ، ص . 122- 123
(36) -ارنولد ولسن - الثور العراقية نفس المصدر السابق ص . 143 وكذلك  عن عامر حسن فياض - جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق - ص.118
(37) - قحطان احمد عبوش - ثورة تلعفر - 1920 ص . 16
(38) -  حنا بطاطو - ترجمة عفيف الرزاز - العراق الكتاب الثاني - الحزب الشيوعي العراقي ص . 45
(39) - د. كمال مظهر احمد  نشر في موقع الحزب الشيوعي العراقي الالكترونية بتاريخ السبت, 08 تشرين2/نوفمبر 2014
(*) -  صادق الدملوجي – اليزيدية – طبع في مطبعة الاتحاد – الموصل – العراق – 1949  - ص. 315
(**)- الباحث والكاتب - صباح كنجي - الثقافة الجديدة العدد 350 - 351 السنة 2012 ، ص.
(40) - ارنولد ولسن - الثورة العراقية نفس المصدر السابق - ص. 124
(41) - كمال مظهر احمد - دور الشعب الكردي في ثورة العشرين - ص 59- 60
(42) - .وميض جمال عمر نظمي (د.)، ثورة ١٩٢٠ – الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في العراق، الطبعة الثانية، بغداد، ١٩٨٥ ص.330
(43) - حنا بطاطو - ترجمة عفيف الرزاز - العراق الكتاب الثاني - الحزب الشيوعي العراقي ص . 17 - 18
(44) - ملف الشرطة العراقية المعنون (الحزب الحر اللاديني) عن حنا بطاطو - نفس المصدر ص 22
(45) - كوتلوف -ثورة العشرين - ص. 176
(46) - الثقافة الجديدة العدد 101 كانون الثاني 1978 ص . 41
(47) - عبد الرزاق الحسني - تاريخ الوزارات العراقية -  المجلد الأول الجزء الأول - الطبعة الخامسة - مطبعة دار الكتب 1978 - بيروت ، ص. 75
(48) - الدكتور كمال مظهر احمد - دور الشعب الكردي في ثورة العشرين - نفس المصدر - ص. 64- 65 - 73
(49) - عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الاول – لندن، انتاريو، 2020، ص . 123
(50) - عبدالله الفياض– الثورة العراقية الكبرى ، سنة 1920 ، الطبعة الاولى ، مطبعة الارشاد – بغداد، 1963  ص . 250 - 251
(51) - عامر حسن فياض -جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق نفس المصدر السابق - ص. 119
(52) - ارنولد ويلسن - الثور العراقية نفس المصدر السابق ص . 76
(53) -  - مجموعة من علماء السوفيت - تاريخ الأقطار العربية المعاصر - نفس المصدر السابق - ص . 33 - 34
(54) - عبدالله الفياض– الثورة العراقية الكبرى ، سنة 1920 ، الطبعة الاولى ، مطبعة الارشاد – بغداد، 1963  ص . 248
(55) - د. وميض جمال عمر نظمي - ثورة  1920-  نفس المصدر- ص. 330
(56) - سعاد خيري- نفس المصدر السابق - ص . ( 39)
(57) عبد الرزاق الحسني - نفس المصدر السابق - ص . (59)
(58) - د. وميض جمال عمر نظمي - ثورة  1920-  نفس المصدر - ص . (421)
(59) - ل . ن كوتلوف - ثورة العشرين - نفس المصدر السابق - ص . 207 - 208
(60) - لينين - حركة شعوب الشرق الوطنية التحررية - دار التقدم موسكو ، ص. 362
(61) - عبد الرزاق الحسني - نفس المصدر السابق - ص . (119)
(62) - بونداريفسكي - سياستان إزاء العالم العربي  موسكو، دار التقدم ، 1975 طبعة الطبعة الأولى ،  ص. 276
(63) - وثائق السياسة الخارجية السوفيتية المجلد السادس ص. 78 موسكو 1962 عن عبد الرزاق الحسني ، تاريخ الوزارات العراقية ص . 120
(64) - د. كمال مظهر احمد ، الباحث عن العرش  في مذكرات لويس جورج  آفاق عربية ، العدد الاول 1977
(65) - بونداريفسكي - سياستان إزاء العالم العربي ، نفس المصدر السابق - ص . 278
(66) - وثائق السياسة الخارجية السوفيتية المجلد الرابع ص. 124 عن  مجموعة من علماء السوفيت - تاريخ الأقطار العربية المعاصر - نفس المصدر السابق - ص 37
(67) - لينين ، مؤتمر السوفييتات التاسع لعامة روسيا 23 - 28 كانون الأول 1921 المؤلفات الكاملة الطبعة الروسية الخامسة مجلد 44  ، ص . 300 عن  مجموعة من علماء السوفيت - تاريخ الأقطار العربية المعاصر - نفس المصدر السابق - ص . 36
(68) - نفس المصدر السابق - ص . 39
(69) - عبد الفتاح ابراهيم – على طريق الهند ، مطبعة الأهالي – بغداد ،   1935 ،ص 289
(70) - كوتلوف - نفس المصدر السابق ص . 135
(71) -  ي فارغا - القضايا الاقتصادية السياسية للرأسمالية ص . 115
(72) - زكي خيري - الحزب الشيوعي العراقي نضال متواصل - الثقافة الجديدة العدد 47 نيسان 1973 ص. 6
(73) - مثال حسين الرحال واسماعيل شاويس
(74) - عن جميل توما - حديث معه بتاريخ 17 نيسان 1977 عن عامر حسن فياض - جذور الفكر الاشتراكي في العراق -  ص . 194
(75) - حنا بطاطو نفس المصدر السابق ص . 43 -44
(76) - زكي خيري - خيري الثقافة الجديدة - نفس المصدر السابق - ص . 13
(77) - طالب عبد الجبار - ربع قرن من تاريخ الحركة النقابية - الثقافة الجديدة - العدد 39 آب 1972 ص . 13
(78) -  طالب عبد الجبار - ربع قرن من تاريخ الحركة النقابية - نفس المصدر السابق - ص . 15
(79) -  كمــال مظهـر أحمــد، الطبقـة العاملـة العراقيــة - التكــون وبدايــات التحرك، دار الرشيد للنشر ، بغداد،1981 عن عزيز سباهي-عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الاول – لندن، انتاريو، 2020، ص .( ز ز تمهيد)
(80) - سعاد خيري- نفس المصدر السابق - ص . 52
(81) - لينين - المختارات - الجزء الثاني ص . 20 عن الثقافة الجديدة - العدد 12 آذار نيسان 1970
(82) - زكي خيري - الثقافة الجديدة - نفس المصدر السابق - ص . 8

17
ثورة أكتوبر الاشتراكية وحركة التحرر الوطني
في العراق
                                                               
                                                                     
سهيل الزهاوي
   
   
  لا يمكن إنكار أن ثورة أكتوبر الروسية واحدة من أهم أحداث التاريخ الإنساني ، وأن حكم البلاشفة ظاهرة ذات أهمية عالمية ، وخاصة بالنسبة إلى جميع شعوب الشرق والحركة التحررية لهذه الشعوب بصورة عامة وحركة التحرر العراقية بصورة خاصة .  إلا أن ظلت روسيا السوفياتية معزولة عن العالم على اثر فشل الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا وقدرته على كسر قبضة الرأسماليين على المجتمع آنذاك، الثورة الألمانية على سبيل المثال.     وهكذا كان لهذه العزلة تأثير على مسار اللاحق للأحداث في الاتحاد السوفيتي السابق .      فعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي في عام( 1991)، الذي تم تدميره نتيجة سيطرة البيروقراطية على زمام الأمور بعد وفاة لينين،          فلم يكن لأي حدث آخر، خلال القرن المنصرم، تداعيات مماثلة بعيدة المدى مست حياة مئات ملايين البشر وحفز الوعي السياسي في سائر أرجاء العالم .      إلا أن آثار هذه الثورة مازالت قائمة، ومازالت تشكل تهديدات فعلية وواقعية لخصومها, ومازال الخوف من عودة الشيوعية قائما في كل أنحاء العالم الرأسمالي.
   لا ريب أن أفكار ثورة أكتوبر الاشتراكية ونداءات قائدها لينين قـد نبهت شـعوب الشـرق إلى مـا كان يخطـط لها الاستعمار الغربي بالتعاون مع قيصر روسيا ودعتهـا إلى النهوض للتخلـص مـن كل ألـوان الاضطهاد و الاستغلال  الطبقي ودلتها على سبيل الخلاص ،    وكانت بداية تغيير ميزان القوى على الساحة الدولية قرابة سبعة عقود من الزمن.لعبت دوراً هاماً في التأثير المباشر على نضال الشعوب من أجل التحرر والانعتاق.ودشنت بداية نهاية نظام الحكم الاستعماري القديم الذي أقامته الإمبريالية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ،   ودعا الى حق الأمم المضطهَدة في تقرير مصيرها و تشكيل دولته المستقل.       
  لينين و حق الأمم في تقرير مصيرها


 انكب لينين قبل ثورة أكتوبر وبالتحديد بعد ثورة 1905 على دراسة حركات التحررالوطني في الشرق. بعد أن  صاغ  لينين أفكاره مسترشدا بالنظرية الماركسية وفق ظروف الامبريالية العالمية.   قدم مفهوما محدداً للثورة الاشتراكية يقوم على وجود ارتباط بين نضال الطبقة العاملة المطالبة بحقوقها في البلدان الرأسمالية وحركة التحرر الوطني في المستعمرات والبلدان التابعة التواقة الى الاستقلال.
  توصل لينين بعد أن درس الحركات الثورية المعادية للامبريالية في عدد من البلدان الآسيوية إلى استنتاج في مقال له (( استيقاظ آسيا)) إلى ((أن الرأسمالية العالمية وحركة 1905 في روسيا قد أيقظت آسيا نهائيا. أن مئات من الملايين من المسحوقين المقهورين في غياهب ظلمات قد استيقظوا من سبات القرون الوسطى للتأهب لحياة الجديدة وكقاعدة عامة فإن النشاطات البروليتارية واسعة النطاق ضد الاستعمار في البلدان مثل الهند وبورما وإندونيسيا وسيلان والعراق ومصر،   جذبت الشرائح الدنيا شبه البروليتاريا




وفضلا عن المثقفين وجماهير الفلاحين و شملت البلاد بأسرها ))(1) .
    كما أعار لينين  اهتمأماُ خاصاُ بالقوميات قبل ثورة اكتوبر بشكل رئيسي الى المسألة  القومية في علاقتها بحركة المستعمرات الصاعدة من أجل الاستقلال والموقف من البرجوازية القومية في هذه البلدان  .
   لقد أشار لينين بهذا الصدد ((بقدر ما نكافح برجوازية الامة المضطَهدة ضد المضطِهدة، بقدر ذلك والى هذا الحد، وفي كل حالة ،وبحزم  أشد من حزم الاخرين كلهم، نقف الى جانبها، لاننا اكثر اعداء الاضطهاد صلابة وانسجاماً،إن القومية البرجوازية في كل قومية مضطَهد محتوى ديمقراطي عاماً موجهاً ضد الاضطهاد واننا ندعم هذا المحتوى دعماُ مطلقاً، مميزين إياه عن اتجاه البعض نحو الاستعباد لكل من هو خارج قوميتهم .)(2)      بيد أن لينين أعلن بصراحة تامة ، تكراراً،  إن الاشتراكيين الديمقراطيين في البلدان الكبيرة ملزمون بواجب القتال ضد كل شكل من أشكال الاضطهاد القومي وبدعم كل قومية في تقرير مصيرها . أكد لينين على المبدأ الذي ظل  ماركس دائماً اميناً له  (( إن شعبا يضطهد شعوباً اخرى لا يمكن أن يكون حراً ))(3)
 لقد صاغ لينين فكره حول حركة التحرر الوطني متوخياً تشخيص أوضاع العالم آنذاك، قبيل الحرب العالمية وإبّانها.
 فغدت المسألة القومية ومسألة المستعمرات قضية حيوية في فكر لينين وتمثل تعميقاً للماركسية،بما انه كان يعتقد على ( خطى ماركس) حول المسألة القومية والانتماء القومي القائلة بضرورة الجمع بين نضال  الطبقة العاملة العالمية  ونضال الشعوب المضطهَدة في المستعمرات والبلدان التابعة  في تلك المرحلة . 
كان لينين على قناعة (( أن الاشتراكيين لا يمكن بلوغ هدفهم الكبير ، دون النضال ضد كل اضطهاد للأمم   و لذلك ينبغي عليهم  أن يطالبوا من كل بد أن تعترف الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية  في البلدان المضطهِدة ولا سيما منها المسماة بالدول الكبرى  بحق الأمم المضطهَدة في تقرير مصيرها وتدافع عن هذا الحق بمعنى الكلمة السياسي بالضبط أي حق في الانفصال السياسي  وكل اشتراكي في أمة استعمارية او تملك مستعمرات لا يدافع عن هذا الحق ، هو شوفيني .)) (4)
لقد كان موقف لينين والبلاشفة يقضى بدعم مبدأ حق تقرير المصير دعماً لا تحفظ فيه .. و تحقيق المساواة بين سائر القوميات في كافة البلدان .       (( فإن حرية تقرير المصير تفترض الانفصال من الدولة المتسلطة المضطهدة )).(5)كما حدد موقفه من الاتحاد الفيدرالي بين الدول بعد انفصالها،إن اتحاد الدول فيما بينها يجب أن يتم طوعيا،((على أساس ديمقراطي وأممي حقيقي،ولا يمكن التفكير بذلك دون حرية الانفصال))(6)   
  كتب لينين عام 1916 كتابه  « الإمبريالية:    أعلى مراحل الرأسمالية »في سياق الحرب العالمية وهو تحليل ملموس لمكوناتها ‏السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والمجتمعية. واستخلاص نقاط هامة في مؤلفه هذا تفيد ( أن الصراع  بين الدول الإمبريالية من أجل استيلاء على البلدان العربية  كان أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى .  ولم يفكر أي طرف من الأطراف المتحاربة من أجل تحرير هذه البلدان) .
 بهذا الشأن كتب لينين((ان الماركسية تعطي تحليلاً وتقول اذا كان "جوهر "الحرب "الفعلي" يتلخص مثلاً،
في الاطاحة بالنير الأجنبي ( وهو أمر نموذجي وبالأخص بالنسبة إلى أوروبا في السنوات ( 1789- 1871 ) فإن الحرب تقدمية من جانب الدولة المظلومة او الأمة المظلومة اذا كان "جوهر"الحرب" الفعلي"  يتلخص






في اعادة تقاسم المستعمرات في تقاسم الغنائم  في نهب اراضى الغير( وهكذا هي حرب 1914 -1916 ) بأن    الأقاويل بصدد الدفاع عن الوطن هي في هذه الحالة " خداع للشعب" .)) (7) 
((وإذا كان سياسة وطنية تحررية أي إذا كانت تعرب عن حركة جماهيرية ضد النير القومي،فإن الحرب التي تنجم عن السياسة  كهذه هي حرب وطنية تحررية. ))(8)             وما يتعلق الحرب بين الدول الامبريالية أو مجموعات من الدول الامبريالية أكد لينين  ((  لا يكتفي الفريقان المتحاربان باضطهاد '' الشعوب الاجنبية ''    بل يشنان الحرب بينهما من منهما سيضطهد عدد أكبر من الشعوب الأجنبية ! )) (9) 
  لعل أهم المرتكزات في أطروحة لينين تلك التى كشفت عن الوجه الحقيقي للرأسمالية في ظل تراكم رأس المال التى تؤدي إلى حتمية الحرب وهي  سمة جوهرية للمرحلة الإمبريالية وجزء من طبيعتها،       وأن النزوع نحو الحروب متأصل في النظام الإمبريالي.
  كما استنتج لينين في -دفاتر حول الامبريالية -(جميع الحقائق عن محاولات بريطانيا وألمانيا وفرنسا للاستيلاء على البلدان العربية. واعتبر لينين الامتياز الالماني لمد سكك حديد بغداد في عامي (1902-1903)< شكلاً من أشكال الاستعمار> (10) . ووضع الاتفاقية الأنجلو ألمانية حول تقسيم العراق الى مناطق نفوذ في عام  1913 في ضمن قائمة الغزوات و الحروب الاستعمارية )) (11)
  حدد لينين مفهوم الإلحاق     ((  يفترض عادة  1- مفهوم العنف ( الضم بالعنف )  2 - مفهوم الاضطهاد القومي الأجنبي  (( ضم منطقة <اجنبية>.. الخ)   و- احياناً – 3- خرق الوضع الراهن)) (12)
 لقد وقف لينين ضد الاتجاهات التى تقول :           
  ان حرب التحرير مستحيلة في ظل الامبريالية، لقد بين لينين أن الاضطهاد القومي الاستعماري سيولد حتما حالة من السخط والعداء بين الشعوب المستعبَدة في المستعمرات والبلدان التابعة من جهة والدول الاستعمارية         و يستنهض الشعوب المضطهَدة إلى النضال ضد مستغلِيها.      وعلى هذا تحقق مواقف لينين بهذا الشأن حيث دلت الوقائع التاريخية الملموسة من النضال التحرري التي خاضتها  الشعوب أثناء الحرب وما بعده ضد الامبريالية  و إن حالة العراق واندلاع  ثورة العشرين دليل قوي على ذات  الموقف.

 تأثير ثورة ( 1907- 1905) الروسية 


 وكان العراق قبيل الحرب العالمية الأولى خاضعاً لسلطة الإمبراطورية العثمانية طيلة أربعة قرون منذ بداية
القرن السادس عشر حتى اندلاع الحرب الذي بدأ من 28 يوليو 1914  وانتهت في 11 نوفمبر 1918. و  بسبب ذلك فقد سادت التأخر والفساد في العراق وكان لذلك نتائج خطيرة على مستقبله ايظاً.
  لقد عرف تاريخ الحكم الاستبدادي التركي للعراق بتاريخ المظالم والإهمال والتخلف ، تاريخ جباية الأرض   






وريع الأراضي والتجنيد الإجباري والحملات العسكرية،وانتهاك العادات والتقاليد وحقوق الإنسان واضطهاد القوميات .
  وإزاء هذه السياسة التعسفية ظهرت "حركات متواصلة عربية - كردية" في فترات متباينة من تاريخ ذلك الحكم ضد الاضطهاد والاستغلال التركي وفي سبيل الظفر بالحقوق القومية، وكانت معظم هذه الحركات ذات طابع عفوي غير منظم. (13)
  تبنى لينين فكرة ماركس عشية الثورة الروسية الأولى عام 1905 في مؤلفه خطتا الاشتراكية الديمقراطية الذي شرح فيه الترابط بين مرحلتي الثورة الديمقراطية البرجوازية والاشتراكية "كحلقة سلسلة واحدة و كلوحة عامة لمدى الثورة الروسية".
وتعد الثورة الروسية (1905-1907) أول ثورة برجوازية ديمقراطية تميزت بمشاركة جماهيرية واسعة شملت كل شرائح المجتمع الروسي من فلاحين وعمال وجنود وطلبة ومثقفون إلى جانب الطبقة البرجوازية بهدف اقامة نظام اجتماعي جديد يحقق لها الديمقراطية والحياة الكريمة .
 إن نضال الشعب الروسي ضد القيصرية البغيضة كان موضوع اهتمام الشرق منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . وقد كان لثورة 1905 الروسية من الوقع في جميع أنحاء الشرق . فقد تصاعدت بتأثيرها كفاح الشعوب من اجل نيل حريتها في الشرق ونشطت الجمعيات الثورية التي كانت تعمل على خلع السلطان عبد الحميد وتشجيع الشعوب المضطهدة في الصين وإيران وفي غيرها من بلدان الشرق في كفاحهم ضد الاستبداد والاستعمار . حيث كان لأحداث روسيا تأثير قوي على العملية الثورية في الصين وايقضت الوعي الوطني الثوري للشعب الإيراني الذي عقد في عام 1905 اجتماعات عفوية وقام بمظاهرات في طهران والمدن الاخرى مطالباً بانعقاد جمعية تأسيسية . وتطورت الحركة التقدمية البرجوازية التركية التي أوجدها حركة الشباب الأتراك في أواخر القرن التاسع عشر و شكلوا " جمعية الاتحاد والترقي "    التي ضمت المثقفين وغالبيتهم من ضباط الجيش والأطباء  والموظفين ممثلة و معبرة عن مصالح البرجوازية ومالكي الارض الاحرار.  وقد ساهم في الجمعية ابناء الشعوب الخاضعة للحكم الأوتوقراطي العثماني من العرب والكرد والالبان والارمن وغيرهم.       وكان للثورة الروسية الاولى في العام 1905 والحركة الثورية في القوقاز والثورة التي انفجرت في إيران  دور  و تأثير في ظهور وضع ثوري جديد على السطح في تركيا ادى الى الاطاحة بالسلطان عبد الحميد  في العام 1908.  بيد أن الطابع البرجوازي للثورة ساعد على تدهور سريع في الاتجاهات الديمقراطية لحركة الأتراك    وسرعان ما توضحت الأهداف الشوفينية قادة هذه المنظمة،مما ادى الى انسحاب غالبية أبناء القوميات غير التركية المنتمية الى جمعية " الاتحاد والترقي ".     غير أن تلك الحركة تركت آثارها لاحقا على تنامي الوعي القومي والروح الوطنية المناهضة للغاصبين العثمانيين ومن ثم للمستعمرين الإنكليز لدى الشعب العراقي .
  بعد إصدار الدستور العثماني في عام  1908،     فأن اخبار الحركة الاشتراكية العالمية أصبحت موضوع الأوساط الثقافية التركية التي  كانت بدورها مؤثرة على المثقفين العراقيين الذين كانوا يتكلمون اللغة التركية .  و بدأت  الصحافة العراقية تكتب عن احداث روسيا و تتعاطف مع الحركة الثورية فيها وأشارت مجلة الرقيب البغدادية الى أن  " مجلس الأمة الروسي -  مجلس الدوما - محجوز محجور تنفذ عليه إرادة القيصر ويضطرب للاسم نيكولاي وسيبريا هي سجن أحرار الروس المجَرمين بالسياسة او الذين يطالبون بالحرية الحقيقية أو بحقوقهم المغصوبة .(14)
  وقد ابدى بعض قادة الحركة الوطنية العراقية تعاطفهم مع الحركة الثورية في روسيا وكانوا يرون في انتصار اليابان على روسيا في حربها عام 1904 بداية لإسقاط النظام الأوتوقراطي في روسيا
  وفيما بعد كتب أحمد عزت الاعظمي متعاطفا مع الحركة الثورية الروسية ، واكد على ان المساعدات التي قدمها فرنسا إلى القيصر أثر انتهاء الحرب الروسية اليابانية في عام 1904 " الذي استعادت الأوتوقراطية نفوذها بفضله" قد ساعد بقاء القيصر فترة اطول . (15)
   وعلى إثر ثورة  الروسية 1905 وحركة الاتحاد والترقي في عام ( 1908) ظهرت العديد من المنظمات الثورية و الوطنية العربية والكردية تضم البرجوازية ورجال الجيش والضباط والموظفين المدنيين والطلاب داخل العراق و خارجه و خاصة بين الموظفين والطلاب العراقيين المتواجدين في اسطنبول والبلدان الاوروبية .  وظهرت العديد من النداءات وعلى صفحات الجرائد والمجلات الكردية في اسطنبول والقاهرة وجنيف تدعو الشعب الكردي الى النضال في سبيل حقوقه القومية والعمل في منظماته الخاصة ، و تأسست العديد من المنظمات الكردية ، تركت آثار كبيرة على رفع الوعي السياسي والقومي عند الشعب الكردي .
  وقد كتب جيركوف القنصل الروسي في مدينة (خوي) بإيران حول تأثير ثورة 1905 على الحركة التحررية الكردية  على أن"سفرات التجار الاكراد ومساعديهم من المثقفين الاكراد الى تيزي نوفو كرد لحضور معرض سوق مكاريوف كانوا يلتقون هنا مع الديمقراطيين والجنود الروس وقد اخبرهم هؤلاء بدورهم بأهم الحوادث المتعلقة بثورة روسيا 1905 ".   وبالإضافة إلى ذلك فإن العناصر التقدمية في المجتمع الكردي من المثقفين والطلاب والشباب والضباط والموظفين اشتركت في الحركة التقدمية لشعوب الشرقين الادنى والاوسط .    على سبيل المثال ، شارك الكرد بصورة فعلية في الثورة  1905- 1911 . حيث تشكلت في معظم مدن الكرد في كردستان إيران لجان ثورية (انجمن) .   تشكلت هذه اللجان في مدن (كرمنشاه ، مهاباد ، سنة وسقز) ودافعت عن المكتسبات والمنجزات الديمقراطية التي حققتها الثورة الإيرانية و ناضلت ضد الغاصبين الأتراك الذين احتلوا بعض المناطق الكرد في إيران آنذاك . وقد أثرت هذه اللجان على الشعب الكردي تأثيراُ قعالاً ، مما ساهمت في العديد من حركات التحررية التى نشبت عام 1907 في مناطق تبليس وارضروم والموصل.(16) وكما يؤكد السياسي المعاصر لتلك الفترة اسماعيل حقي شاويس " أن بعض الشباب الكرد المثقف كان قد اطلع على الأفكار الاشتراكية قبل ثورة أكتوبر وذلك أثناء دراستهم أو عملهم في اسطنبول وغيرها من المدن العثمانية الكبيرة بل وحتى الدول الاوربية " .(17) 
  بيد أن هذه المنظمات التى تشكلت في هذه الفترة عربية كانت ام كردية افتقرت الى القيادة الناضجة ذات الأهداف المتبلورة،لم يربط نضالها من اجل الحقوق القومية بنضال الجماهير الشعبية من اجل التحرر الاقتصادي والاجتماعي .
 مؤتمر باكو لشعوب الشرق

   لقد ابدت الاممية الشيوعية  اهتماماً ملحوظاً للعراق     (( بمـا كان يجري فيـه لاعتبـارات خاصـة تتعلق بسلامة الدولـة السـوفيتية ،   إذ كان البريطانيـون قـد اتخذوا مـن العـراق إحـدى نقـاط الارتكاز التدخـل العسـكري ضدها، و لاعتبارات عامـة تتعلق بالاهتمام الذي حظـي بـه نضال الشعـب العـراقى العنيد ضد الاحتلال البريطاني . وقد سعت الأممية الثالثة إلى أن تقييـم الصلات مع قادة الحركة الوطنيـة .    وقد انعكس هذا الاهتمام بما نشـر في صحافة الأممية الشيوعية عن شـؤون العـراق . )) (18)
  بعد ثورة أكتوبر وبالتحديد في آذار ( 1919 ) عقد مؤتمر الأممية للأحزاب الشيوعية الثالثة (الكومنترن) بهدف التنسيق والتشاور مع الأحزاب الشيوعية خارج روسيا السوفيتية ... ومتابعة نشاطات حركات التحرر في آسيا  و أفريقيا قررت السعي باتجاه تشجيع شعوب هذه البلدان على التحرر و الاستقلال كما دافع لينين عن أطروحة حول المسألة القومية والاستعمارية في مؤتمر للأممية الشيوعية في آب أغسطس ( 1920) ودعا إلى عقد مؤتمر كبير في العشرين من أيلول 1920 باسم      "مؤتمر شعوب الشرق"    باكو،عاصمة جمهورية الاشتراكية الوليدة في أذربيجان. وقد اصدر  الاممية الثالثة  نداءاً موجهة الى شعوب الشرق   (  يا فلاحي ايران وعمالها …  يا فلاحي الأناضول …  يا عمال وفلاحي الشرق الأدنى ... ) يدعوهم  لحضور مؤتمر باكو    ( فاقطعوا الصحاري واجتازو الجبال و الانهار الان وتعالوا نبحث طريق الخلاص من العبودية وترتبط  روابط الاخوة لكيما نعيش اخوة   احراراً متساوين)(19) فعقدت في أيلول 1920 ،    ساهم فيه ممثلو عشرات من شعوب الشرق والبلدان الامبريالية الكبرى ودامت أعماله عدة أيام تدارس خلالها المؤتمرون المشاكل الرئيسية التي كانت شعوبهم تعانيها .    اعلن المؤتمر على اهمية تحالف البروليتاريا في البلدان الرأسمالية والشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو المضطهدة من جانب الإمبريالية الذى يمكن أن يساعد على التخلص لها من النظام الرأسمالي لبناء عالم مستدام  للمقهورين "أن عدد الذين حضروا المؤتمر( 1891)  عضوا ينتمون الى (37 قومية ) من بينهم  (1273 ) شيوعيا والوفود كانت تركية وفارسية وارمنية و روسية  و جورجية و طاجيكية و  قرغيزية ويهودية و خزرية وتركمانية وهندية وصينية  و ابخازية و اواكرانية وبشكيرية وكردية و ليتوانيا و كرواتية و هنغارية و خزرية وكورية و اوزبكية و انفوشية وغيرها .مثل العرب ( 3 ) أعضاء ومثل الاكراد( 8 ) أعضاء ومثل الأتراك ( 235 ) عضوا ومثل الفرس ( 192) ومثل الأرمن (15) عضوا . وثمة من يقول ان هناك ( 266 ) لم يحددوا قوميتهم. وكان عدد الحضور من النساء (55 ) إمراة ." (20)              وقد سعى مؤتمر باكو الى جمع شمل القوى المناهضة للاستعمار وتوحيد كلمتهم وتحقيق ثورة اجتماعية في الشرق
الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق

  دخلت القوات البريطانية في نهاية الحرب العالمية الأولى العراق . واستطاعت احتلال بغداد في ( 19 آذار 1917 )  بقيادة الجنرال مود بعد أن دارت معارك عديدة في مناطق مختلفة بين القوات البريطانية والقوات التركية المنسحبة ووضعت الحرب أوزارها في 30 تشرين الأول 1918 .
  وكانت الامبريالية البريطانية تستهدف الاستيلاء على العراق وتحويله الى حضيرة المستعمرات البريطانية وجعله مصدراً للأرباح للاحتكارين الانكليز .
 " لقد أدت العمليات العسكرية أثناء الحرب العالمية بين القوات البريطانية والقوات التركية  إلى زيادة تأزم 
الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث استخدم كلا الجانبين المتنازعين جميع الامكانيات لتلبية احتياجات القوى
المسلحة" .(21) وأصبح شباب العراق وقوداً للحرب في ساحات القتال .

اخبار البلشفية تنتشر
 
 بعد الحرب العالمية الأولى حدثت تحولات هامة في الحركة الوطنية التحررية في العراق . بالإضافة إلى نضوج القوى الداخلية وتفاقم التناقضات بين الاستعمار البريطاني والشعب العراقي، فقد لعب العامل الخارجي دوراً هاماً في هذا المجال ، ولم يكن هذا التطور بمعزل عن ثورة أكتوبر الاشتراكية ...  إذ أن أفكار - العدالة والصداقة بين  الشعوب -          التي أعلنتها روسيا من خلال مرسوم السلام الذي حدد فيه لينين " أن الشرط الرئيسي للسلام الديمقراطي هو العدول عن الالحاقات و( الفتوحات ) ،   لا بالمعنى الخاطئ الزاعم أن جميع الدول أن تستعيد ما فقدته،بل بالمعنى الصحيح الوحيد القائل أن كل شعب بدون استثناء ، سواء في أوروبا ام في المستعمرات ، ينال حريته ... " وهذا معناه المطالبة بحق تقرير المصير لكل الأمم كبيرها وصغيرها. و توالت النداءات من الحكومة السوفيتية بذات الاتجاه.
  وقد أحدث إعلان حقوق شعوب روسيا الصادر في تشرين الثاني (  1917  ) انطباعا جيدا في نفوس الشعوب العربية و نص الإعلان على:-
1 - المساواة بين شعوب روسيا و الاعتراف بسيادتها .
2 - حق شعوب روسيا بتقرير مصيرها بحرية بما في ذلك حق الانفصال وتأسيس دولة مستقلة .
3 - إلغاء جميع الامتيازات والقيود القومية والدينية اياُ كانت .
4 - حرية تطور الأقليات القومية والجماعات القومية المقيمة في اراضي روسيا .
  وكان لهذه المراسيم والنداءات التي أصدرتها الحكومة السوفيتية لها وقع كبير على الشعوب الخاضعة  لـ نير الاحتلال الأجنبي واصبحت هذه الافكار شئ واقعي بعكس ما تدعي بها الثورة البرجوازية في الجمهورية الفرنسية ((الحرية - الإخاء - المساواة )) وخاصة بعد أن فضحت الدولة السوفيتية دول الحلفاء في الشرق الادنى بنشرها الاتفاقية البريطانية - الفرنسية لعام 1916 (( اتفاقية سيكس بيكو )) التى تدعو الى تقسيم البلدان العربية والوثائق الاخرى لدول الوفاق حول استعباد الشرق الاوسط التى وصلت العراق عن طريق الصحافة الإنكليزية المعارضة و ((جريدة حبل المتين)) التي كانت تصدر في كلكتا إلى كشف الاقنعة المزيفة عن بريطانيا الحرة وفرنسا الجمهورية. (22)         بالإضافة إلى ذلك نُشرت في بيروت ، أثارت موجة من السخط والاستنكار الشديدين لدى شعوب البلدان العربية ضد دسائس الامبريالين .
 وقد كتب لويس جورج في مذكراته أن هذا    ( النبأ استاثر استياء كبير في الاوساط العربية فكان لا بد من تأكيدات جديدة لدرء القطيعة مع العرب.)(23) وقد حاولت القوى الامبريالية بدهاء وتفنن التأثير النفسي على الشعوب العربية في تضليل الرأي العام في البلدان العربية من خلال إصدار بيان أنجلو-فرنسية في 7 كانون الثاني 1918 يعلن فيها :   
(( عزم حكومتى بريطانيا وفرنسا على منح الشعوب العربية في الإمبراطورية العثمانية الحرية)) .   وكذلك         البيان التي تتضمن النقاط الأربع عشر للرئيس ويلسون .. والتي نوقشت وقت طويلاً من قبل المواطنين في




العراق ونالت تأيداً واسعاً ، حيث وثق عدد كبير من قادة الحركة الوطنية بتلك الوعود في بادئ الأمر   .(24)
بينما بذلت سلطات الاحتلال البريطاني في العراق جهدها للحيلولة دون انتشار أفكار ثورة أكتوبر.       
  فقد تسربت أنباء الثورة الروسية عن طريق الجبهة القفقاسية  وكذلك عن طريق جبهة خانقين التي كانت تخوض القوات الروسية فيها  المعارك ضد الأتراك في العام 1916 ، أما الى المناطق الجنوبية فقد تسربت أنباء الثورة عن طريق إيران والهند حيث كان قوام الجيش البريطاني على الأغلب مكون ..  من جنود هنود في هذه المنطقة (25).   
  وتؤكد الأحداث التي جرت في العراق في سنوات ما بعد أكتوبر ، أن الشعب العراقي تأثر بالثورة الروسية بشكل مباشر وبدأت الجماهير تتناقل اخبار التغيرات الجارية في روسيا وخاصة ما يتعلق بالأنباء …   حول تشكيل حكومة العمال والفلاحين الفقراء وإن جنود الروس يطالبون بوقف الحرب على الفور   وعقد الصلح وتقسيم الاراضي … )).
 كما تناقل الجرائد العراقية اخبار انتشار فكر البلاشفة في سوريا حيث  نشرت جريدة الاستقلال البغدادية في عددها 3 في 10 تشرين الاول 1920 نقلا عن جريدة الرعود السورية     ((  أن أفكار البلشفية أخذت تتوسع في سوريا وأن الرسائل التي كتبها لينين وتروتسكي التي تبين اعترافهما باستقلال البلاد العربية  قد انتشرت في جميع أنحاء سورية.)) (26) 
   فقد أعرب الحاكم البريطاني في مدينة السليمانية الميجر صون عام 1919 عن قلقه الشديد  -  من تأثير اتجاه رأي  السياسي في بغداد و النجاحات الأخيرة التي أحرزها البولشفية -  على تفكير الناس المهمين في كردستان الجنوبية،   كما أعلن لرؤسائه    " أن اسم البلشفية ومبادئها أصبحت معروفاً للناس لسوء الحظ بواسطة جريدة كركوك في الدرجة الاولى . " (27)
 في كردستان تولى الدارسين والسياسيين من الشباب و الجنود العائدين من جبهات القتال بنشر أنباء ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا السوفياتية.        وقد اكد الاستاذ اسماعيل حقي شاويس مرارا في أحاديثه مع الدكتور كمال أحمد مظهر  حقيقة أن سكان كردستان ولاسيما السياسيين والشباب المتعلم منهم كانوا مطلعين الى حد كبير على تفاصيل الحدث الثوري الذي وقع في روسيا وطبيعته وأهدافه.(28)
  ولعب الجنود العراقيين من المشتركين في الحرب الروسية - التركية الذي جندهم الأتراك في جيشهم .  و الذى أطلق سراحهم البلاشفة، بعد عودتهم لعبوا دورا ملحوظا في تعريف الناس بما يجري في روسيا لشدة تأثرهم بالثورة الروسية والبلاشفة، فقد لقبهم الناس بأسماء روسية مثال ذلك ( صالح بولشفي )  في بغداد و( مجيد توكاريوف ) من سكنة خانقين و غيرهم .(29)
  وكما كان من بين هـذه هؤلاء الجماعة أحـد المواطنين  المتعلمين و يدعـى ( جمـال عرفـان ). وقـد اغتيـل بدسيسـة مـن المحتلين البريطانيين والرجعيين ألاكـراد في مدينة السليمانية. وظهرت في كويسنجق جماعـة أخـرى من الأسرى الأكراد العائدين من روسـيا عرفوا بين النـاس بالبولشـفيك أنهم كانوا  يروجون الدعـوة للحكم السوفيتي.(30)
   وقد ظهرت أصداء الثورة الروسية بشكل واسع في كربلاء والنجف ووصلت إليهم …  عن طريق الزوار    والطلاب الإيرانيين والجنود العائدين من الجبهة .   وتشير التقارير البريطانية السرية التى تعود الى ما قبل ثورة العشرين بفترة وجيزة الى أن الأدبيات البلشفية كانت تصل المدن المقدسة العراقية   بما في ذلك كتاب (( مبادئ البلشفية )) الذي جلبه الزوار من حلب .(31)
   كما أكدت الجاسوسة البريطانية المعروفة ( مس بيل )  بأن أن احداث روسيا قد نوقش من قبل الفئات المختلفة من السكان . (32) ، ويتحدث المعاصرين لأحداث النجف في عام 1918- 1919 ، عن أنه كان في كربلاء حمال يدعى "حاج نور" يحمل عصر كل يوم علماً احمراً وبيده بوق ويقف في المناطق المحتشدة بالناس و ينفخ في"البوق"
وبعد كل نفخة .... يصيح هاتفا تحيا البلشفية ويحيا البلاشفة والأكثر من ذلك فانه قد ساهم وآخرون في تلك الاثناء  بالاستيلاء على سندات الطابو واخذ يوزعها على المارة من الناس .(33)
  واكتـب جريـدة (الموصـل) في عـام 1920، أن فكـر البلاشفة قـد شـاع بين طبقـات العمـال في الممالك. و تذكـر جريـدة الاستقلال التي كان يشـرف علـى تحريرهـا محمـد عبـد الحسين ،       الـذي كان قـد عـاد مـن إيـران قبل عامين فقـط وكان يتعاطـف مـع ثـورة أكتوبـر هنـاك،في عددها الأول الصادر في 28/11/1920 عـن انطباعاتها بشأن الثورة الاشتراكية و حـرب التدخـل: (  يجمع المفكرون علـى عـدم وجـود قـوة تقـاوم البلشفية، أما جنـود الـدول تحـارب حبـا بالمـال أو خوفـا مـن العقاب أمـا جنود البولشفيك فإنهـا تحارب عن مبادئ ومعتقدات راسخة في قلوبهم فلا يجرفها شيء البتة وشتان بين الحربين.)(34)
  لم يخفي جريدة العراق الموالية للاحتلال البريطاني ،    تغير ميزان القوى في العالم  بقيام الدولة السوفيتية فتكتب في افتتاحية عددها الصادر في ( 15 حزيران 1920 )      تحـت عنـوان المسألة الروسـية والمبادلات التجارية :   (  لقـد علـم القـراء أن البولشفيك منـذ تقلدهم السلاحين المادي والأدبي - المدفـع والمبدأ - ثبتوا في الحـرب كل الإثبات،فكانت سـجالا بينهم وبين مخاصميهـم وإن الحلفاء اضطرواإلى الصلـح مـع البولشفيك كرها لا طوعا خوفا من سطوتهم وبسـالتهم التي دفعت بريطانيا إلى استئناف العلاقات التجاريـة مــع روسـيا البلشفية.)(35)
 
  كتب ارنولد ولسن الحاكم العسكري البريطاني في العراق من سنة ( 1917 -1920 ) ، " أن البولشفيك قد وجدو لهم مكاناً في كربلاء في وقت ما ، فأدخلوا في برنامجهم حالاً، لا تحرير القوميات المضطهدة فقط، بل القضاء على الإقطاعيين وطبقات المجتمع ذات الامتياز أيضا . "(36)
  ومما له دلالته أنه حتى أعضاء العهد اليمنية في الموصل ... توصلوا الى قناعة بعدم الجدوى التعاون مع الاستعمار البريطاني . وفي مذكرة قدموها الى المركز العام للجمعية في دمشق دعو الى ضرورة تشكيل قوة اسلامية تقف بوجه المحتلين وضرورة التعاون مع البلاشفة .(37)
   فإن جميل صدقي “الزهاوي قد حيا الثورة البلشفية في كانون الثاني (يناير) ١٩٢١، في قصيدة عنوانها "الحياة والموت"(38) قال فيها:
أيها الفقراء لا تيأسوا من الحياة،  أيها الفقراء       
رفعت أخيرا فوق رابية الهدى      راية بلشفية حمراء 
  وحقيقة دعم الدولة السوفيتية الفتية لمطامع الشعوب المكافحة من أجل حقوقها القومية ... هي التي اوحت لزعيم الكرد في العراق الشيخ محمود الحفيد أن يوجه رسالته الى الدولة السوفيتية بواسطة قنصلها في اذربيجان الايرانية و التي ورد فيها :
  "ان كل كردي يعتبر الروس منقذي الشرق عندما دوى صوت الحرية الحقيقية في عام 1917 وسمع العالم أن الشعب الروسي تخلص من الظلم والطغيان،   استقبلت جميع الشعوب المظلومة على وجه الأرض هذا الصوت بحرارة وبدأت النضال في سبيل الحرية". وكان الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد واحدا من اولئك القادة و قد عبر عن أفكاره تجاه ثورة اكتوبر عدة مرات.      ما هو أهم من كل هذا هو الرسالة التاريخية التي بعث بها الشيخ في غمرة النضال الوطني للشعب الكردي بعد الحرب العالمية الثانية،   الى الشهيد القاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد الديمقراطية والتي قال فيها: "اخوتي الاكراد، يا شركائي في الدم، انبهكم واتوسل اليكم ان لا تصدقوا إلا الدولة السوفييتية.    فلا تنخدعوا بعد الآن بفيض الوعود المعسولة والمتنوعة والدعايات المعادية للاتحاد السوفييتي، فهو وحده نصير ومنقذ جميع الشعوب
(كتب صادق الدملوجي  في كتابه اليزيدية،  حيث (( جرت العادة منذ القديم أن يرسل أمير الشيخان كل سنة "سنجقاً " إلى اليزيدية القاطنين في روسيا القيصرية لجمع نذورهم وخيراتهم. وآخر سنجق أرسله كان قبل نشوب الحرب العالمية  الأولى )) * وبالتحديد في عام 1913 ولم  يعودُ الى العراق بسبب الحرب العالمية الأولى .
 في معمعان انتشار الفكر الفكر الماركسي في العراق ونشوء عدد من الخلايا الشيوعية في بغداد والجنوب ((عاد القوال حسين ومجموعته في عام 1929 ليروي للناس ورجال الدين تفاصيل معاناتهم في الحرب العالمية الأولى ونتائج المتغيرات الهامة لثورة أكتوبر التي اشترك جيل من الثوريين الأيزيديين بفاعلية في الأعداد والمساهمة فيها
وبحكم تواجد القوال حسين  هناك ومواكبتها للأحداث والتطورات الجديدة ، تعرفوا على الفكر الشيوعي واختلطوا بالعديد من الشيوعيين وتأثروا بهم ، و محملة بأفكار ومعطيات جديدة ناجمة عن معرفة وإدراك عميق لأوضاع دول الاتحاد السوفيتي وسياسة الشيوعيين وطبيعة تعاملهم مع الأيزيديين وبقية الشعوب وينقل عن ذلك معاصروه.
انهُ بدأ يتحدث للناس عن سياسة البولشفيك في الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين الكادحين المنخرطين في صفوف المجالس المشكلة في المدن والقرى وتعاملهم المنفتح مع الايزيديين ، فدخلت مصطلحات ومفاهيم جديدة في لغة التداول اليومي توصف طبيعة الصراع الاجتماعي بين الإيزيدية ، وهو في جوهره صراع بين الفلاحين الكادحين وأطراف من بيت المير الأقرب إلى الإقطاعيين بالوصف الطبقي التقليدي .. ))**

18
*(نشوء الاقطاع ونضال الفلاحين في العراق
سهيل الزهاوي
         
   بدأ الاحتلال العثماني للعراق منذ عام  ( ١٥١٣)   بعد أن استولى السلطان سليم الأول على شمال العراق.  استخدموا الموصل كمركز لانطلاقهم لاستكمال احتلال بقية العراق .      ولم يتم لهم ذلك حتى عام ١٦٣٨، بسبب الصراع العنيف بينهم وبين إيران، مما سبب دمار لاقتصاديات البلاد.
  ان تاريخ العراق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الدولة العثمانية ، ولا يمكن النظرالى هذه البلاد بمعزل   عن التاريخ العام للإمبراطورية العثمانية.       فقد كان السلاطين في الدولة العثمانية وولاتهم ، الذين ينفردون بالحكم المطلق في الأقاليم الخاضعة لسلطتهم ... محتفظين بالنظام الاجتماعي الذي كان يسود الشعوب الخاضعة وقت أن احتلوها.
   وقد قاسى شعب العراق من الظلم والاستغلال العثماني طيلة اربعة قرون،   لينتقل الى ظلم الدول الرأسمالية الاوربية.   ففي أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن التاسع عشر، أخذت الأوساط الاستعمارية البريطانية بتوسيع تجارتها  و ازداد طموحها للسيطرة على سوريا و لبنان والعراق  لأنها  كانت على  طريق الهند.
 ثم بدأ الاحتلال البريطاني للعراق منذ أواخر عام ١٩١٤ بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى واستطاعت بريطانية احتلال بغداد في  ١١ آذار ١٩١٧  بقيادة الجنرال مود بعد أن دارت معارك عديدة في مناطق مختلفة بين القوات البريطانية و  القوات التركية المنسحبة.
  لقد سعت رؤوس الاموال الاجنبية لفرض سيطرتها التامة على اقتصاد البلاد ...  وحصلت على أرباح طائلة عن طريق نهب ثرواتها الوطنية والاستغلال لقوتها البشرية، وبهذا تعرض نموها الاقتصادي للتعطيل والتشويه.
   وفي أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، كان العراق يعيش مرحلة انتقال صعبة  و معقدة فيها أنماط متعددة، وكانت مسرحا لفعل قوانين اقتصادية موضوعية منبثقة عن علاقات انتاجية مختلفة، بعضها سائرة نحو الزوال واخرى جديدة.  فقد وجد في العراق:
بقايا علاقات بطرياركية -أبوية -علاقات الإنتاج الطبيعي الموجه لأغراض الاكتفاء الذاتي.
      -  العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية.
     -علاقات إنتاجية رأسمالية في المشاريع الاقتصادية للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية    تعمل بالأساس لخدمة التجارة الخارجية والنقل. كما نمت في الوقت نفسه وبشكل بطئ ،    علاقات انتاجية بسيطة في المدن والمناطق الريفية القريبة  منها أدت السيطرة العثمانية على العراق طوال أربعة قرون إلى تدهور الإنتاج الزراعي      وتركيز الاهتمام على جباية الضرائب بمختلف الوسائل المتعسفة.
  لقد كانت الأكثرية من سكان العراق من الفلاحين والرعاة ،   الرحل وشبه المتوطنين، ينتقلون من مكان إلى آخر خوفا من بطش السلطة،ومن أجل الماء والعشب .     وعملت السلطة بكافة الوسائل على اضعاف نفوذ الامراء وكبار رؤساء القبائل،بوضع بعضهم بوجه بعض الآخر.  ونجم عن هذه الدسائس و الأساليب الصدامات المسلحة بين القبائل و أريقت فيها دماء كثيرة.
 كان هم العثمانيين الوحيد هو جمع الضرائب وإنفاقها على الجهاز الإداري التركي والجيش وفي المجالات التي تحددها السلطة المركزية.    ولا يرصد من هذه الضرائب التى تجبى في العراق سوى جزء ضئيل لأغراض لها علاقة بالزراعة أو الاقتصادي في العراق ككل.
  في عام ١٩١١بلغت ريوع ممتلكات الدولة (٢،٤) مليون روبية، بينما بلغت الضرائب المباشرة ٩،٤   مليون روبية جاء ثلثها من قطاع الزراعة (١)
   وفي الوقت الذي كان الفلاحون يستخدمون الأدوات الزراعية المتأخرة ولم يحدث أي تطور في نظام  الري حيث بقي على ما عليه منذ القرون الوسطى،        فقد أدى ذلك الى الجفاف الشديد في الأراضي الزراعية في الفترات الى كانت تنحسر فيها المياه في الانهر، مؤديا ذلك الى العديد من حالات المجاعة في البلد. (٢)
   تميزت المناطق الجنوبية في العراق بسيادة العلاقات الأبوية القائمة على استغلال الأرض بشكل جماعي من قبل افراد القبائل وقد سعى شيوخ القبائل للاستيلاء على أراضي المشاعات الفلاحية ،  و ساندت السلطات التركية هذه المحاولات من جانبها لتعزيز سلطتها في تلك المناطق  أن الامتيازات التي حصل عليها شيوخ العشائر قد جعلتهم متميزين عن بقية أفراد عشائرهم ،    كحقهم في الاستيلاء على قسم من اراضي المشاعية واستخدامها لرعي ماشيتهم أو منحه الى افراد عشيرة اخرى لاستغلاله بشكل مؤقت ... وفرض الإتاوات على أفراد العشيرة والاستيلاء على خمس الغنائم التي يحصل عليها أفراد القبيلة ...عند غزوهم لقبيلة اخرى، اضافة الى استيلائهم على ضريبة الخوة التي تؤخذ من القبيلة المغلوبة عسكريا أثناء الحروب العشائرية والتى تجمع باسم افراد العشيرة.غير أن المستفيد الوحيد من الخوة هو رئيس العشيرة نفسه.
    ولم يقف رؤساء القبائل عند هذا الحد من استغلال أبناء قبائلهم بل امتد الى الفلاحين المستقرين و فرضوا عليهم   و فرضوا عليهم ضريبة الخوة بدعوة حمايتهم من غزوات القبائل الأخرى.  وكانت نسبة هذه الخوة تتراوح ما بين ( ٥٠-٨٧% ) من المحصول.  هكذا، ومن خلال هذا التسلط، تحول رؤساء القبائل إلى إقطاعيين مستبدين.(٣)               
  وابتدع الإقطاعيون ضرائب جديدة حيث فرض غرامة على الفلاحين ممن يتأخرون في دفع الضريبة، تسمى ( الاودة ) وهي أن ينزل اتباع الإقطاعيين ضيوفاً ثقلاء على الفلاحين لفترة ... قد تصل الى ثلاثة ايام او اكثر حتى يقنعونهم  بدفع الضريبة أي أنهم لا يسافرون إلا اذا دفع الفلاح ما عليه (٤).
   وفي ظل الاحتلال التركي الثالث للعراق (١٨٣١ - ١٩١٤)     تكون الإقطاع من ملتزمي جباية الخراج لخزينة الدولة لقاء عمولة تقارب (١٢،٥% من ريع الأراضي الخراجية ) (٥) .
  وكانت الأراضي توهب وتباع في عهد ولاية كل من (داود باشا) و (علي رضا باشا)،فيستحوذ أحفاد الموهوب لهم أو المشترين على مساحة شاسعة من الأراضي ويجري البيع والشراء عرفيا خارج دوائر الدولة (٦) .
   ومنذ عام ١٨٦١،حقق العثمانيون نجاحات معينة في تحويل قسم من القبائل شبه المستقرة الى مجاميع متوطنة حتى جاء ( مدحت باشا ) عام ١٨٦٩، فشرع تطبيق قانون الأراضي العثمانية على العراق، بعد أن ظهر أن الاضطهاد وحده غير كافي لمقاومة القبائل وتصفيتها. فبدأ بيع الأراضى بيعا قانونياً و بأقساط بخسة نسبياً و لآماد طويلة إلى الأصحاب السابقين  من مالكي الأرض حاملي السندات المشكوك فيها والى الزعماء ورؤساء القبائل المتنفذين على أساس وثائق خاصة دعيت بال( طابو). أي أن المالك الجديد  أصبح له الحق التصرف في الأرض مع بقاء رقبتها بيد الدولة (٧).
   وكان الهدف الأساسي للدولة العثمانية في انتهاج هذه السياسة …    هو تفكيك القبائل من خلال استيطانها وتشجيع  الزراعة وحماية الطرق التجارية وإضعاف نفوذ الزعماء ورؤساء القبائل ....  وبالتالي تعزيز السلطة المركزية ليسهل  عليها جمع الضرائب.
  ونظراً لفساد الموظفين واعتيادهم الرشوة ،  فقد حدث مخالفات عديدة لتطبيق القانون وغالبا ما اعطيت الى اشخاص سندات التملك لاراضي كان يملكها آخرون واراضي يشك في موقفها الحقيقي او ليس لها حدود واضحة ، وبذلك أصبح بحوزة هؤلاء الاشخاص مساحات شاسعة من الأرض وادى ذلك الى  حرمان مشغليها الحقيقين منها.    اضافة الى ذلك تردد أفراد القبائل في شراء السندات ...  مما افسح المجال امام المتنفذين في الدولة وجهاء المدن لشراء الأراضي لقاء سندات الطابو، ونجم عن ذلك تكون عدد كبير من الملاكين البعيدين عن الأرض وفلاحيها، من سكنة المدن (٨).
    إذا كان تنفيذ قانون الأراضي العثمانية ادى الى زوال النظام العسكري  ... تدريجياً ونشوء طبقة جديدة من الإقطاع
العشائري من رؤساء القبائل ووجهاء المدن ورجال الدين،    وتقوية نفوذ الملاكين القدماء، فقد أدى الى تمزيق القبيلة باعتبارها منظمة موحدة واضعفت العلاقات الأبوية  التي تعتبر أساس الوحدة السياسية للقبيلة ...  وخاصة في المناطق  القريبة من المدن، ونشأ بدل من ذلك نوع جديد من العلاقة يعتمد على المصالح الطبقية و الاقتصادية في القبيلة وتحول شيوخ القبائل إلى إقطاعيين و بسطوا نفوذهم السياسي على أفراد قبائلهم الذين تحولوا إلى فلاحين   أو رعاة باستخدام القوة ضدهم.
   وهكذا نشأت عوائل اقطاعية في جنوب العراق تملك أصقاعاً واسعة من الأرض .   وتركز في ايدي شيوخ آل سعدون حتى أوائل القرن العشرين غالبية الأراضي و في ضفتى الغراف في اطراف لواء الناصرية الى سوق الشيوخ وكذلك في لواء البصرة ، تلك الأراضي التى كانت مستغلة من قبل مئات الألوف من قبل أبناء القبائل سابقا (٩) .
  أما المدن الكبيرة كالبصرة وبغداد والموصل، فقد سادت فيها حيازات كبيرة للأراضي من قبل الإقطاعيين ، بحيث بلغت حيازة اثنى عشرة فقط من كبار الاقطاعيين في منطقة شط العرب ... من (١٦٠) الى (٤٠٠) هكتار أو أكثر من أخصب بساتين النخيل وكانت بساتين ديالى ملكا لبعض العائلات من أثرياء الإقطاعيين الذين يقطنون بغداد. كما احتفظت الدولة العثمانية والاقطاعيون المحليون بملكيات الري في البلاد (١٠).
  لم تكن حيازة الاقطاعيين على مساحات هائلة من الأراضي تضمن لهم القوة الاقتصادية والسلطة السياسية في الريف فحسب، بل كان في أيديهم القسم الأكبر من الخيرات المادية الذي يخلقها الجيش المكون من الفلاحين والرعاة.   وبذلك امسك الإقطاعيون في قبضتهم السلطة التنفيذية والتشريعية و القضائية.
  لم تستطع الحكومة فرض حق التملك بشكل كامل نتيجة للمقاومة الباسلة التي أبداها أفراد القبائل     في معظم مناطق العراق ضد اجراءات السلطة. لم يعترفوا أبدا بالملاكين الجدد و احجموا عن دفع الضرائب ونشبت بسبب ذلك العديد من الانتفاضات ضد القطاع (١١) .  مما دفع السلطات التركية الى جمع الضرائب بالقوة من الفلاحين .   وقد تحول الشيوخ الذين قادوا الانتفاضة الى مستغلين و متعسفين بحقوق الفلاحين، أي تحولوا اقطاعيين جدد (١٢).                           
   في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،     أخذ شئ جديد بالتبلور متمثلا في أشكال بسيطة للعلاقات الرأسمالية و الاستغلال الرأسمالي في القرى القريبة من المدن .          وبدأت العلاقات البضائعية تنمو في هذه المناطق حيث امتهن الفلاحون زراعة المحاصيل التى تلبي طلبات المدينة.        وهكذا تقوضت اسس الاقتصاد الفلاحي المغلق وبدأت تتعزز علاقاتهم بالسوق و ظهرت أول علائم العلاقات الرأسمالية في الزراعة باستخدام العمال الأجراء (١٣) .
 وبدخول العراق النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي وارتباطه باحتياجات السوق الدولية وخاصةبعد شق قناة السويس ١٨٦٩ ،   نشأت تغيرات هامة ، منها تحول العلاقات الأبوية القائمة في الريف الى علاقات بين صاحب الأرض والفلاح بشكل تدريجي والاتجاه المتزايد نحو الإنتاج للسوق بدلا من الاكتفاء الذاتي.وازداد إقبال السوق العالمية على المحاصيل
االزراعية العراقية، وبذلك ازداد شره الإقطاعيين فشيدو القصور الضخمة في بغداد وغيرها من المدن الأخرى،  ووفرت لهم المصنوعات الأجنبية الحديثة حياة مترفة باذخة في المأكل والملبس وغيرها من من مواد الترف والنعيم ،  مما دفع الإقطاعيين إلى استغلال الفلاحين بشكل أكثر وحشية  لسد نفقاتهم ونفقات مرتزقتهم الذين أخذوا يزدادون يوما بعد آخر و بذا تحمل الفلاحون عبء هذه النفقات لوحدهم.
   نتيجة لحاجة الإقطاعي للمال، كان يسعى بكل ما أوتي من قدرة لتزويد الأسواق بكميات من الإنتاج أكثر فأكثر (١٤). وقد ارتفعت كمية الحبوب المصدرة من العراق حوالي (٧٠) الف طن في تسعينيات القرن التاسع عشر الى ١٨٨ ألف طن في عام ١٩١١(١٥) . وادت ايضا الى ارتفاع الإيجار (١٦) . مما ضاعف استغلال الفلاح وتدهور مستوى المعيشي.
  أما في كردستان فقد كانت الأرض محصورة في أيدي رؤساء القبائل. وكانوا في الواقع من كبار ملاكي الأرض و مثلاً حياً للاقطاعيين تحت الستار القبلي وكانوا يتخذون العساكر ويدفعون الضرائب لولاة الدولة العثمانية (١٧) .
  وقد اشار كوتلوف الى أن العلاقات الابوية قد تحولت إلى قانون لنظام آخر هو النظام نصف الإقطاعي بدأ يظهر بشكل
    تدريجي. وقد اختفت الملكية المشاعية من ناحية الفعلية في معظم مناطق كردستان.  وازداد خطر غزوات الإقطاعيين على الفلاحين المستقرين الذين كانوا يضطرون إلى منح الأرض  لأي من الاغوات والبيكات من رؤساء العشائر للدفاع عنهم (١٨) .
  وقد عانى الكرد الرحل وأشباه الرحل (الكوچر)الذين حافظوا على استقلالهم الظاهري عانوا ضروفاً استعبادية لا مثيل لها وتحول معظمهم إلى رعاة مأجورين . وكان الكثيرون منهم محرومين من أي رأس من الجياد .   ولم تكن لديهم من الماشية ما يوفر لهم حداً ادنى من الاستقلال الاقتصادي.   كما حرموا من الحقوق السياسية التى كانوا يتمتعون بها في المنظمات القبلية.   واضطر قسم منهم قسم منهم إلى الانخراط  في خدمة رئيس القبيلة وحراسته ، مما افقدهم إرادتهم بشكل مهين. نتيجة للاستغلال الإقطاعي فقد حاول قسم من الرحل الهرب من ( الرعية )  تخلصا من المستغلين    (١٩) . بينما شيد الإقطاعيون من ( قبيلة هماوند )   القصور الضخمة  وشكلو الحرس الخاص للزعيم والفرسان المسلحين في الإقطاعيات الزراعية التى تشبه تلك التنظيمات في المقاطعات الصغيرة في بولونيا (٢٠).
  كما بلغت الأراضي التي استحوذ عليها رئيس قبيلة   ( الجاف )    في بداية القرن العشرين بتأثير الظروف السياسية   والاقتصادية، عشرات الألوف من ( الهكتارات ) (٢١) .  وظهرت الملكيات الإقطاعية وأشكال الاستغلال شبه إقطاعي و الإقطاعي بين عشائر اليزيدية، وكان رئيسهم ذا مركزين ديني ودنيوي ويمثل المستغل الرئيسي لفقراء اليزيديين (٢٢) .
   وقد ادى استحواذ رؤساء القبائل واثرياء المدن ورجال الدين على اراضي الفلاحين الكرد ...     الى توطيد الاستغلال الإقطاعي للجماهير الكادحين فأفقدهم الاستقلال الشخصي بعد أن فقدوا استقلالهم الاقتصادي.    ((  بالرغم من الاستغلال الفظ للفلاحين من قبل الإقطاعيين بأن العلاقات بين المستغَلين والمستغِلين ...  لم تكن قد اتخذت بعد طابع تناقض طبقي حاد.  فأن عملية الاستقطاب الطبقي للفلاحين قد تأخرت ولا سيما من جراء النظام القبلي الذي استغلته القمة الإقطاعية بذكاء، والذي ولد اوهاماً باطلة بين الجماهير الكادحة.  وان كل هذا خفف بشكل محدد من حدة الصراع الطبقي و تحول الى اساس نفوذ ملموس للقمة الإقطاعية ، والذي تعاظم بحكم جمع زعماء معظم المناطق الكردية والاشورية واليزيدية بين السلطتين الدينية والدنيوية ))  (٢٣) .
  ولم تكن سلطات الاحتلال البريطاني قد عملت على تغير مجرى حياة الإقطاع ،     بل انتهجت سياسة تهدف إلى إيجاد قاعدة اجتماعية محلية تتمكن من خلالها بسط سيطرتها الاستعمارية على البلاد . وجدت ضالتها في الزعماء المحليين، أي في القوة الاجتماعية التي ترى بطبقة الإقطاع التي وجدت فيها خير سند لتحقيق مصالحها الطبقية.   كانت بريطانيا تسعى أولاً بنهوض طبقة الإقطاع  التي وجدت فيها خير سند لتحقيق لاحتلالها .  فشجعت بحماس هذه الفئة الاجتماعية  وأثرتها ثرءاً شديداً. وفي نفس الوقت أعاقت البرجوازية العراقية.فقد بلغت مساعي الامبريالية البريطانية أوجها لكسب زعماء العشائر ووجهاء المجتمع العراقي منذ بداية القرن العشرين ...   و ذلك  من خلال الشركات الاجنبية التى أقامت علاقات اقتصادية مع الإقطاعيين العراقيين و الكومبرادور. كما لعب عملاء المخابرات العسكرية والمدنية دوراً مهماً في هذا المجال وهم جاءوا الى العراق بصفة سائحين ومبشرين  و آثاريين ... الخ (٢٤) .
  وقد تلقى موظفو القنصليات البريطانية في العراق طلبات عديدة من وجهاء محليين وشيوخ عشائر يطلبون حماية الحكومة البريطانية عن طريق الحكم في البلاد (٢٥) . كما ساند بعض رؤساء العشائر الاحتلال البريطاني. حيث مدوا له يد العون حتى قبل احتلال البصرة وسارعوا في مراسلة القوات الغازية (٢٦) .
  وازداد تلك الروابط بإحتلال القوات البريطاني لبغداد. فسارع ( بيرسي كوكس ) إلى مصادقة نقيب اشراف بغداد  السيد عبد الرحمن الكيلاني ،  بعد أن لبى النقيب دعوته لزيارة المقر العام للمندوب السامي وقام النقيب بنفسه بالترحيب بقائد
الجيش البريطاني، وعلى أثر ذلك توجه إلى المندوب السامي شيوخ بعض القبائل الصغيرة  في كربلاء والنجف والفرات الاوسط واستلموا المكافآت لقاء  المحافظة على الأمن في منطقتهم (٢٧) .
  وبعد أن استتب الأمن لسلطات الاحتلال، أدركت بشكل قاطع أن رؤساء العشائر وشيوخها يمكن الاعتماد عليهم والثقة






بهم ،      فعمدت على اسنادهم بكل السبل وارشائهم واستبدال المناوئين للاحتلال البريطاني بالشيوخ الذي يمكن ضمان ولائهم بالمكافأة والأرض والمسؤوليات .
  فاّذا كان الجهاز العثماني اعتمد في حل مسائل الأرض على سياسة زرع الشقاق بينهم وتفكيك القبائل و إضعاف مكانة الشيخ، فقد عمد الإنجليز سياسة تستهدف تقوية رؤسائهم والاعتراف بنفوذهم. وكتب (مس بيل)  بهذا الشأن  (( وبدلا أن يستخدم الأتراك سلطة الشيوخ كانوا يتبعون سياستهم التقليدية   في محاولة تحسين مركزهم بالقضاء على الموجود من العناصر المحلية التي تحافظ على الأمن والاستقرار.    وكانت الحالة في ولاية البصرة تعطي صورة شاملة للفوضى والاضطراب. فقد حوفظ في منطقة دجلة على سيطرة متقطعة بالاستفادة من العداوات الموروثة بين مجموعات القبائلية الكبيرة واللعب بالخصومة الشخصية بين أفراد الاسرة المالكة فيها. أما معرفة التركي للسلطة الحقيقة الموجودة في كل منطقة وتسخيرها في خدمته، فذلك شئ يقع خارج نطاق تفكيره.     وخير ما يمكن أن يقال عن جلوسه غير المريح في وسط الدوامة هو انه استطاع الجلوس في وسطها. اما في وادي الفرات فيمكن الاعتراف بأن التركي قد أزيح عن مقعده المذكور)) (٢٨) .
  منذ الأيام الأولى للاحتلال البريطاني قاوم الشعب العراقي مقاومة عنيفة. وكانت قمة هذه المقاومة قد تفجرت في ثورة العشرين التي شارك فيها ١٣٠ألف مقاتل معظمهم من الفلاحين (٢٩) .  الأمر الذي أرهق كامل دافع الضرائب البريطاني واشتد كذلك ضغط الشعب الإنكليزي لاعادة ابنائه المجندين الى بلادهم، ونتيجة ذلك كله ،  اضطرت بريطانيا الى تقليص قواتها في العراق عام ١٩٢٠ -١٩٢١ و التركيز على الإقطاعيين ليحلوا محلها في حفظ الأمن في البلاد.
  وقد سعت سلطات الاحتلال تحت هذه الظروف الى دعم وضمان ولاء زعماء القبائل ، ما عدى المتمردين منهم . وكان من مصلحة السلطات في ادارة مركزية.فقد عملوا على توحيد قياداتها ومع رؤساء القبائل وخاصة اولئك الذين يشغلون مناصبهم بمساندة وتأييد الانكليز ،     والذين يعملون تحت إمرة الضباط السياسيين لحماية الطرق واستتباب الأمن ،  و زودهم بالمال والسلاح ليكونوا على اهب الاستعداد لقمع أية حركة معادية للاحتلال (٣٠)
   لقد أصبحت تحت امرة العشائر ١٠٠ الف بندقية بينما لم تكن للحكومة غير (١٥٠٠)  بندقية كما أشار إلى ذلك الملك فيصل في مذكرته المعروفة (٣١) .
       
   ‌أما رؤساء العشائر "  غير موالين "  كالشيخ محمود في كردستان والشيخ عبد الواحد الحاج سكر و زملاء له في   
 الفرات الاوسط ، فكان نصيبهم العقاب المتعدد الأشكال. فقد تقلصت أراضيهم وثقلت ديونهم وعانوا صنوف التعسف و الاضطهاد ومن الضيق الشئ الكثير.
   ومن اجل منح التقاليد والاعراف العشائرية صفة قانونية فقد أصدر الانكليز ما يسمى بنظام دعاوي العشائر المدني  و الجزائي لعام ١٩١٩ ليمنح رؤساء القبائل والاغوات والإقطاعيين سلطات استثنائية وذلك بتحويل (المجالس العشائرية) المخولة قانونا للبت في النزاعات الى أداة بيد الإقطاعيين لحسم تلك النزاعات حول الأراضي الزراعية    لصالح تملكهم لها ، وتوسيع هذا التملك .    ثم عملوا على تكريس الإقطاع في الريف والقضاء على الحيازة الصغيرة من خلال تطبيق نظام الطابو في عام ١٩١٩ ،  كي يخلقوا إمكانيات لاستحواذ كبار الاقطاعيين ووجهاء المدن على اراضى شاسعة على حساب الفلاحين الذين لم يكن في حوزتهم وثائق لحيازة الأرض رسميا ،    بل كانوا يستغلون الأرض حسب ما يقتضيه العرف المحلي (٣٢).
   أما في كردستان فقد تميزت السياسة البريطانية بخصائص معينة ،  اذ اعاد المحتلون تسجيل حقوق حيازة الأرض  و اعترفوا بشرعية حيازة الإقطاعيين الكرد على أراضي الفلاحين في العهد التركي (٣٣) .
 لم يكتف الملاكون بهذا القدر مما استولوا من اراضي الفلاحين، بل اشترى البعض منهم الأراضي الفلاحين بثمن بخس
بعد تراكم الفوائد الربوية التي عجزوا عن دفعها،او قطع مياه السقي عن أراضي الفلاحين لإجبارهم على التنازل عنها.
  أما كبار الملاكين " الموالين " فإن اكثرهم استولوا على الأرض من دون ثمن ، كمنحة من الدولة على حساب كادحي الريف . وكانت الدولة تعفيهم من اجرة الارض الاميرية والضرائب المتراكمة بجرة قلم (٣٤) .
  و بالارتباط مع تنامي وترسيخ مواقع الاقطاعيين في الريف جرى إخضاع جماهير الفلاحين لأبشع أنواع الاستغلال من قبل شيوخ الاقطاع وعلى يد السلطات الخاضعة للاحتلال البريطاني ،    بحيث ما جمعته هذه السلطات من الفلاحين على شكل ضرائب خلال أعوام ١٩٢١ - ١٩٢٦ مبلغ ٦٧ لك من الروبيات يضاف إليها ما جمعته من ضرائب على المواشي والأغنام بلغت ٢،٦  مليون روبية (٣٥) .
  وكان أكثر القوانين بشاعة هو قانون الزراع  رقم ٢٨ لسنة  ١٩٣٣ اذ يربط الفلاح بالأرض ويمنعه من مغادرتها إذا
لم يسدد كافة الديون المترتبة عليه للاقطاعيين .   وقد كان من المتعذر على الفلاح أن يسدد هذا الدين مهما كان بسيطاً نتيجة فقره وشدة استغلاله ، حيث كان يدفع فوائد قد تزيد على ٥٠% (٣٦)  . اضافة الى ما يستولي عليه من إنتاجه فلا يبقى له في بعض الأحيان أكثر من ربع المحصول .      ولذلك لا يعتبر الفلاح مستأجراً للأرض طالما كان فاقدا للضمان القانوني و لحرية العمل، وهذا يعني تحويله الى حالة تشبه حالة الاقنان في أوروبا الاقطاعية (٣٧) .
 
  وإذا كان أفراد العشائر فيما مضى أصحاب الأرض اسمياً وتستغل الأرض من قبل العشيرة بشكل مشترك حسب العرف السائد،وكان رؤساء العشائر يقومون بدور الوصي والمشرف على الأراضي نيابة عن الدولة،فقد أصبحت هذه الاراضى فعليا وقانونيا، عمليا واسميا،ملكية خاصة للشيوخ والاغوات والاقطاعيين. وأصبحت الغالبية الساحقة من سكان الريف
لا تملك شبرا واحدا من الأرض في حين أصبح بحوزة كبار الاقطاعيين مساحات شاسعة من الأرض (٣٨) .
  وكان الانكليز يقاومون كل محاولة لإصلاح أوضاع الأراضي مهما كانت جزئية او ثانوية .. واصروا على سياستهم في   تقوية مركز كبار الإقطاعيين بالضد من التقدم الموضوعي للمجتمع العراقي ك   وبدلا من أن يعملوا على تسهيل انحلال الطبقة الإقطاعية فقد رأوا من مصلحتهم الإبقاء على النظام الاقطاعي ، بل تقويته بكافة السبل وإضفاء خصائص جديدة عليه لم تخفف من حدة الاستغلال اللإنساني الذي يتسم  به النظام الإقطاعي الكلاسيكي . وبذلك نشأت علاقات اجتماعية جديدة ومصالح جديدة في الريف العراقي هي أكثر ظلماً وابشع،انسانياً ومعنوياً،من تلك التي سادت في النظام الإقطاعي في القرون الوسطى
  لم يكتفي الانكليز بمنح اراضى شاسعة ،     بل لجأوا الى تعيين عدد كبير من ممثلي كبار الملاكين في المدن وزعماء العشائر في الوزارات والمجالس التشريعية   وهؤلاء لم يجدوا انفسهم امام اية ضرورة ملزمة لرعاية مصالح الفلاحين الذين يؤلفون الاكثرية الساحقة من سكان العراق الذين  ساءت أحوالهم منذ انتهاء الانتداب أكثر فأكثر(٣٩) . وقد صار الموظفون أدوات طيعة بأيدي بريطانيا في تنفيذ السياسة الاستعمارية في العراق .
  فعندما انعقد في نيسان ١٩٢٢ مؤتمر وطني كبير ( من زعماء الدين والعشائر من السنة والشيعة )  بكربلاء للمطالبة بموقف حازم من غارات قبائل ابن سعود، باتخاذ سياسة وطنية، فإن الإقطاعيين الموالين للانكليز نظموا حركة معاكسة
ووقعوا على عريضة وعدة مذكرات باتجاه مضاد.    بين هؤلاء ( عداي الجريان رئيس البوسلطان و رشيد العنيزات  و سلمان الجلوب وعلي سليمان ( رئيس الدليم) وغيرهم  ) .
  و في ( ٢٣ نيسان ١٩٢٢ )  ذهب الشيخ علي سليمان مع أربعين شيخا لمقابلة الملك بعد أن قابلوا المندوب السامي     ( كوكس) ،     فذكروا له عبارة واضحة بأنهم لن يقسموا بالولاء له إلا أن يصغي لنصائح البريطانية.ثم نظموا مضبطة طويلة تشتم مؤتمر كربلاء . وقد ورد فيها:
  " من حيث أن حكومتنا في الدور الابتدائي ومحتاجة الى من يمد إليها يد المساعدة مادياً وادبياً ، فالى أن تبلغ درجة الكمال والاستغناء عن الغير ...  يجب أن يطلب من حكومة بريطانيا ،  المنتدبة من قبل عصبة الأمم على العراق ، كل
المساعدات المطلوبة والتى يتوقف عليها توطيد أركان حكومة العراق كحفظ النظام وتوطيد الأمن واعمار البلاد ويجب

أن يعتمد عليها كصديق مخلص للبلاد وأهل البلاد" (٤٠) .
  وقد انضم الى هذه الحركة رؤساء اقطاعيون آخرون امثال رؤساء الخزاعل وسالم الخيون و خيون العبيد ... وغيرهم
عندما أخذ رؤساء القبائل يستحوذون على الأرض ويستغلونها بصورة (الطابو) اواللزمة وينصبون المضخات الزراعية بالمشاركة مع تجار المدن وكبار الموظفين( الباشوات والبيكات )  ويحولون الفلاحين إلى عبيد بعد أن أخذ النظام القبلي بالتفكك تدريجيا ، فقد صار حياة الفلاح العراقي يعيش حياة البؤس والشقاء والحرمان من ابسط وسائل العيش .
  وكان الفلاح يعيش في جنوب العراق ووسطه في اكواخ من القصب البردي وهي خالية من النوافذ وفي كردستان كان الفلاح يسكن غرفاً أشبه بالحفرة لا ينفذ منها الهواء إلا قليلاً (٤١) . بينما سكن البدو خياماً ممزقة. وكان الفلاح يستعمل كوخه لكافة احتياجاته فكان مكاناً للنوم والطبخ وتشاركه فيه حيواناته كذلك ،      وقد يقطع  قسمأً قليلأً منه للضيوف و الاغراب ويطلقون عليه اسم(الربعة) .     أما الشيوخ والاقطاعيين فقد بنوا لأنفسهم المضايف الكبيرة والتي كان يحتاج العمل فيها الى شهر والى خبرة ومهارة لم تتوفر لدى الجميع .  وكان الملاكون يستخدمون الفلاحين لهذا العمل دون أن يدفعون لهم الأجر بالرغم من ارتفاع دخل الملاك وانحطاط دخل الفلاح (٤٢) .  ففي عام ( ١٩٢٨ ) مثلاً كان دخل الشيخ يقارب الـ ٢٧ ألف من الروبيات بينما لم يتجاوز دخل الفلاح ٢١٠ روبية في السنة (٤٣) .
   في وسط هذا الفقر المدقع كان يتوجب على الفلاح القيام بأعمال مجانية ...  لسد احتياجات مضيف الشيخ ومصاريفه الشخصية بحجة مراجعة دوائر الحكومية وتقديم الرشاوى من أجل مصالح أفراد العشيرة نتيجة لارتباطهم به عن طريق  الإكراه الاقتصادي والإكراه اللااقتصادي. وقد كانت المصاريف تقدم عيناً (٤٤) .
   وقد سببت الحرب العالمية الأولى تدهور الوضع الاقتصادي في العراق ،   حيث ألقي بالعبء الأكبر من تمويل الجيش  على كاهل الشعب العراقي ( أي الجيش العراقي والجيش البريطاني) وفرض الإنكليز ضرائب أكثر مما فرضه العثمانيون    وتحمل الفلاحيين ثقل هذه الضرائب بإعتبارهم من دافعي الضرائب الأصليين والمنتجين المباشر للخيرات (٤٥) . و قبلهم قامت السلطات التركية بإجبار الفلاحين على بيع المحاصيل الزراعية بأسعار بخسة جدا لتلبية احتياجات جيشها (٤٦) .
 وقد ساق الانكليز عشرات الالوف من المواطنين أكثرهم من الفلاحين الى السخرة لإقامة المنشآت للمحتلين في ظروف عمل لإإنسانية فقد اجبروا على الإقامة في العراء من دون أن يوفر لهم الحد الأدنى من الغذاء وتشير التقارير الرسمية إلى أنه استخدم عام ١٩٢٤ وحده (٩١٢٥٠) فلاحاً في عمل السخرة (٤٧) .  أما في كردستان فقد كان الكري وتنظيف القنوات من واجبات الفلاحين وبشكل مجاني. ولم يتجاوز تكاليف ثلاثة قنوات مبلغ  ٨٠٠٠  روبية. وكانت الجهود التي يصرفها الفلاحون تذهب لمنفعة الاغوات الذين يستغلون الأراضي المطرية (٤٨) .

مقاومة الفلاحين
   لم يمض وقت طويل على إدخال نظام الطابو ،  حتى ظهرت نضالات فلاحية ضد الشيوخ الإقطاعيين في لواء المنتفك الذين استولوا على اراضي الفلاحين خلسة وسجلوها باسمهم وبدأوا يطالبون بنسبة كبيرة كريع ،    وساندت الحكومة التركية هذا المطلب ،  وقد رفض الفلاحون دفع حصتهم من المحصول وطردو الإقطاعيين من المنطقة في عام  ١٨٧٨ (٤٩) .      وفي عام ١٨٩٢ انتفض فلاحو الناصرية بوجه العثمانيين بعد أن استولت على قسم من اراضي هذه المنطقة لصالح مالية الدولة. وبعد عام ثار فلاحو قبيلة آل محمد في العمارة بسبب سوء توزيع الأراضي هذه المنطقة وقد قمعت حركتهم بقوة (٥٠) . وفي الفترة١٩٠٠-١٩٠٨حدث سلسلة من الانتفاضات ضد الدولة العثمانية وكانت أشدها انتفاضة 
تشرين الأول  1903  التي استمرت عدة أشهر وساهم فيها  اربعة آلاف مسلح   وتمكنوا من إبادة الحامية التركية في المنتفك. كما شهد ريف كردستان انتفاضات فلاحية خلال هذه الفترة وخاصة في منطقة بارزان والموصل وغيرها وبعد اعلان الدستور العثماني .. نشبت في العراق سلسلة من التحركات الفلاحية في مناطق البلاد المختلفة وبلغت أوجها في

١٩١٣- ١٩١٤عندما صدر قرار السلطات بيع الاراضي الاميرية للأجانب ، وامتنع الفلاحون ( ردا على ذلك ) عن دفع الضرائب (٥١) .  وسبقت هذه التحركات انتفاضة اهالي الحلة والديوانية في عام ١٩١٢ (٥٢).     ومن أجل قمع هذه التحركات ، وجهت السلطات حملات تنكيلية ضد الريف .
  لم تحل سلطات الاحتلال البريطاني مسألة الأرض لصالح الفلاحين ، بل ساهمت في خلق الفوارق الطبقية وانمائها في الريف العراقي . وكانت السلطة السياسية تمثل مصالح الاحتكارات الأجنبية و الكومبرادور والاقطاع ،  فقد قامت حركة بني ركاب في ( لواء المنتفك) عام 1918 ضد ظلم الشيوخ و الإقطاعيين والملاكين (إلا أن السلطة تمكنت من إخمادها بعد أن استعملت الطائرات في شل حركتها ) (٥٣)،بعد ذلك ، قامت ثورة العشرين التي وإن كانت قد بدأت ثم انتهت تحت قيادة بعض الشيوخ ورجال الدين ومثقفي المدن ،   إلا أن الواقع يقول بأن الفلاحين قد مارسوا فيها ثورتهم التي طالما حلموا بها ،   الامر الذي ازعج الاقطاعيين و الكومبرادور الكبار وحتى بعض قيادات الثورة ازعاجاً شديداً ودفعهم أكثر من مرة الى إدانة التمرد المسلح واستنكاره. وإذا كانت هناك ثمة نتيجة أو تأثير على الفلاحين فإن ثورة العشرين  ضد الاستعمار كانت قد أرست التقاليد التاريخية لاستعمال العنف المسلح من قبل الفلاحين ، اذ انها قد شعرت الفلاحين أنهم خسروا الجولة الأولى في الحصول على الأرض رغم النصر الذي حققوه ضد الاستعمار البريطاني المباشر! فالثورة لم تخفف الحقد الطبقي ضدالإقطاع،         وأدرك الفلاحون أن عليهم مواصلة الكفاح وان ثورة أخرى بانتظارهم يجب أن يخوضها ضد الحكم الجائر ضد الإقطاع .
  وسرعان ما بدأت انتفاضات الفلاحين في الشمال والجنوب على طول فترة العشرينيات        وكانت انتفاضة وآل عايد الفلاحية في اوائل الثلاثينيات ذات مضمون طبقي واضح واتجهت ضد الإقطاعيين والحكومة المحلية على الرغم من أن السلطات اغرقتها بالدماء (٥٤) .
أن سياسة النهب والسلب التى مارستها الدولة العثمانية ومن بعدها الاحتلال البريطاني والحكم الموالي له ضد الفلاحين العراقيين قد كلفتهم كثيراً من الدماء و الويلات والخراب وسرقت كدحهم وجهدهم  ....    وعاقت تطورهم الاجتماعي و الاقتصادي .  كما أن السيطرة الاجنبية المزمنة قد أوجدت جانب آخر لدى جماهير الفلاحين،عبر مختلف أشكال نضالهم، تقاليد ثورية عميقة وراسخة في المعارك الطبقية والوطنية التي خاضوها ضد الانكليز    في فترتي الاحتلال والانتداب و ضد الإقطاعيين .
   بعد نهاية الانتداب وحصول العراق على الاستقلال الشكلي استمر كفاح الفلاحين من أجل الأرض وضد استغلال وجور  الفلاحين الاقطاعيين المدعومين من السلطة الملكية التابعة ، وتكررت الانتفاضات حتى قيام ثورة ١٤ تموز١٩٥٨. وقد أيدها كادحو الريف بكل حماس مع المشروع باستعادة الدولة لجزء من أراضيها من كبار الملاكين وتوزيعها على فقراء الفلاحين بموجب اول قانون للإصلاح الزراعي صدر في خريف ١٩٥٨، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من الكفاح الفلاحي.
   
 الهوامش  ----------------------------------------------------------------
(١)    ل.ن . كوتلوف ((ثورة العشرين التحررية في العراق ))  ترجمة الدكتور عبد الواحد كرم مطبعة أوفست الديواني  بغداد ، ١٩٨٥، ص  ٧٤،٧٣ .
(٢)     نفس المصدر ص ٢٨-٢٩ .   
(٣)    نفس المصدر ص ٣٤ -٣٦ .
(٤)    حسين الجليلي - الاستعمار وأعمال السخرة ثقافة - العدد (٥) لشهر مايس السنة ص ١٩٨٠ ص ٦٧ . الهامش .
(٥)    زكي خيري: الحزب الشيوعي العراقي والمسألة الزراعية، ملاحظات اولية عن الاصلاح الزراعي المنشود في العراق. مطبعة الشعب. بغداد ١٩٧٤ ص ٤٢.
(٦)   م. ط. الاصل التاريخي لعلاقات الدولة بالأرض والازدواجية في ملكية الاراضي في وادي الرافدين الثقافة الجديدة العدد ١٧، ١٨ السنة ١٩٧٠ ص ٢٧ .
(٧)   ايرلاند. فيليب ميلارد . ( العراق في تطوره السياسي ) . ترجمة جعفر الخياط دار الكشاف للنشر والمطبوعات والتوزيع . بيروت . ص ٥٩ .
(٨)    لونغريغ. ( اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ) ترجمة جعفر الخياط ط  مطبعة البرهان . بغداد ١٩٦٢ ص ٣٦٩
(٩)    لطفي جعفر فرج (عبد المحسن السعدون ) منشورات وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية ، سلسلة الاعلام و المشهورين. ١٩٧٨ ص ٢٥ .
(١٠)   كوتلوف نفس المصدر السابق ص  ٦٤.
(١١)   لوتسكي ( تاريخ الأقطار العربية الحديث) دار التقدم ، موسكو ١٩٧١. دار الفارابي . بيروت .ص ١٦.
(١٢)   كوتلوف  المصدر السابق ص ٤٩ .
(١٣)   كوتلوف  المصدر السابق ص ٧٥ .
(١٤)  لوتسکي  المصدر السابق ص ٢٨ .
(١٥)  د. محمد سلمان حسن ( التطور التاريخي في العراق ) ج ١ المكتبة المصرية . بيروت . ص ٢ .





(١٦)  كوتلوف  المصدر السابق ص ٧٧ .
(١٧)  لوتسکي  المصدر السابق ص ١٦.
(١٨)  کوتلوف  المصدر السابق ص ٥٤ .
(١٩)  کوتلوف  المصدر السابق ص ٥٦ .
(٢٠)   کوتلوف  المصدر السابق ص ٥٧.
(٢١)   کوتلوف  المصدر السابق ص ٥٥.
(٢٢)   کوتلوف  المصدر السابق ص ٥٨-٥٩.
(٢٣)  ل.ن. كوتلوف ( الانتفاضة الوطنية  التحريرية عام ١٩٢٠ في العراق ) موسكو ١٩٥٨  . عن: د. كمال مظهر احمد ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي ، مطبعة الزمان . بغداد ١٩٧٧. ص ٦٥ .
(٢٤)     المصدر السابق ص ١٠٢ .
(٢٥)   مس بيل ( فصول من تاريخ العراق الحديث ) ترجمة جعفر الخياط . بيروت ١٩٧١ . ص ٢ .
(٢٦)  کوتلوف .  المصدر السابق ص ١٢٠.
(٢٧)  مس بیل . المصدر السابق ص ١٠٦- ١٠٧ .
(٢٨)  مس بیل .  المصدر السابق ص ٦٩.
(٢٩)  کوتلوف .  المصدر السابق ص  ٢٦٧ .
(٣٠)  نفس المصدر السابق ص  ١٣٤- ١٣٥ .
(٣١)  عبد الرزاق الحسني . تاريخ الوزارات العراقية .الجزء الثالث .الطبعة الثالثة . ص ٣٠٠ - ٣٠٧
(٣٢)   کوتلوف .  المصدر السابق ص ١٢١ - ١٢٢
(٣٣)   کوتلوف .  المصدر السابق ص ١٢٧
(٣٤)   زکي خیري .  المصدر السابق ص ٤٤
(٣٥)  د. كمال محمد سعيد الخياط - الطور التاريخي لحيازة الأرض وعلاقة الملكية في العراق. ( مجلة الاقتصادي ) العدد ٢    حزيران  ١٩٧٠ .
(٣٦)   محمد توفيق حسين . نهاية الاقطاع في العراق . بيروت . ١٩٥٨. ص ١١٣
(٣٧)  يرى عبد الرزاق الظاهر في كتابه ( الإقطاع والديوان ) ص ٢٠ ،   أن الغرض من هذا القانون كان خلق صلة بين الفلاح والأرض بحيث يصبح الفلاح (قناً) أو ( ربيطة) في الارض كما انه يرى بحق ايضاً ، أن هذا القانون كان جزء من سياسة عامة لغرض إنشاء ما يسميه ( اقطاعية الافندية ) ، عن إبراهيم كبة . الاقطاع في العراق مطبعة المعارف . بغداد . ١٩٥٧  ص ٢٣
(٣٨)    نفس المصدر السابق ص ١١
(٣٩)   ابراهيم كبة  نفس المصدر السابق ص ١٢
(٤٠)  علي الوردي ( لمحات من تاريخ العراق الحديث ) الجزء السادس (٦) مطبعة بغداد . ص ١٥٠- ١٥١ . عن عزيز الحاج ( القضية الكردية في العراق ) . المؤسسة العسكرية للدراسات والنشر . بيروت .  ص ٦٣
(٤١)  محمد توفيق حسين . نهاية الاقطاع في العراق . نفس المصدر السابق ص ٢٨- ٢٩
(٤٢)  حسين الجليلي . العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني . مجلة الثقافة . العدد(٦) . السنة ١٩٨٠ . ص ٣٤
(٤٣)  عماد احمد الجواهري . تاريخ مشكلة الأرض في العراق   . منشورات وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية . سلسلة الدراسات .  ١٨٢. بغداد ١٩٧٨ . ص ٤١.
(٤٤)  حسين الجليلي . المصدر السابق ص ٣٦
(٤٥)  کوتلوف . المصدر السابق ص ١٠٨.
(٤٦)  کوتلوف . المصدر السابق ص ١٠٩
(٤٧)   عماد احمد الجواهري .  المصدر السابق ص ٣٦٤ .
(٤٨)  حسين الجليلي . (العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني) . الجزء الثاني مجلة الثقافة . العدد(٩) . السنة ١٩٨٠. ص ٢٧.
(٤٩)  د. محمد سلمان حسن . ( التطور الاقتصادي في العراق ) الجزء الأول . المكتبة المصرية . صيدا . بيروت .  ص ١٩٠.

(٥٠)  علي علي منهل ( حركة التحرر الوطني  العراقية من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى) .مجلة الثقافة . العدد (٧) آب ١٩٧٠ . ص ١٩.
(٥١)  لوتسکي المصدر السابق ص ٣٩٨ .
(٥٢) علي علي منهل المصدر السابق ص ٢١.
(٥٣)  حسين الجليلي . (العمل الجماعي والسخرة في العهد العثماني) . القسم الثاني مجلة الثقافة . العدد (١٠) . تشرين الثاني السنة ١٩٨٠. ص ٢٥.
(٥٤)  زكي خيري المصدر السابق ص ١٦٣- ١٦٤ .
* نشر هذا البحث بأسم مستعار ( سين. ز ) في مجلة الثقافة الجديدة - العدد ٢٥١ – ٢٥٢ السنة ٤٠  تشرين الاول – كانون الاول  ١٩٩٢ ،  كنت مختفيا في بغداد أنذاك
                                                                                                                                 
 
         

19
في ذكرى إعدام الشهيد ماهر الزهاوي
سهيل الزهاوي
       هل يمكن أن نكف ذات يوم عن تذكر تلك اللحظات الصعبة والفريدة التي مررنا بها في ذلك الوقت المر.. أم سنبقى نتذكرها، ولن تغيب عن بالنا مهما امتد بنا العمر وابتعد بنا الزمن عن لحظة وقوعها ؟..

  لقد انتمى الشهيد ماهر الى الحزب الشيوعي العراقي في الوقت الذي وجهت سلطة المقبور صدام ضربة موجعة الى الحزب واقدامها بإعدام 31 مناضلا واصدقاء لهم في عام 1978 بحجة  انتسابهم  للحزب الشيوعي والعمل في القوات المسلحة.

 كان الحزب يتهيأ الى مرحلة جديدة.  واتخاذ قرار الانسحاب من الجبهة والتحول إلى المعارضة.... ورفع شعار إسقاط النظام.

- لم يكن  ذلك الانتماء إلآ اختياراً للطريق بإرادة واعية وقناعة مطلقة ، ولم تكن هذه الخطوة  عفوية او نقلة مفاجئة للفقيد الذي تشكلت ملامحه الثورية من ريعان شبابه وبدأ وعيه الثوري المنحاز للفقراء والكادحين وادراك يقيني بأهمية جذوة الفكر الماركسي بعد أن  تواصلت قراءته لماركس وانجلز ولينين و غيرهم من المفكرين الماركسين حيث انغمر في العمل  الثوري بلا تردد مع استعداد عالي للتضحية بمصالحه الشخصية من أجل  تحقيق حياة حرة للإنسانية.

-      انّ سرْ بطولة المناضل لحد التضحية بحياته نابعة من إيمانه الراسخ بالفكر الذي يحمله وعدالة قضيته 
   التقيت بالشهيد ماهر، بعد فراق دام ستة سنوات، في 21 آذار 1984 ، واللقاء الثاني في نهاية آذار ذاته، في ذلك الصباح الربيعي كنت مرتبكاً.. فرح مع حذر يحمل في طياته بعض الخوف والرهبة..  كنا نحلق في السماء معا متجاهلين ما يخفي لنا المستقبل.                                                                                                     

 

       ماهر كان طالباً في الصف الخامس كلية الطب البيطري.. كاتباً وصحفياً.. رساماً مرموقاً وخطاطاً لا يستهان به . عازف جيتار ولاعب شطرنج موهوب وعداء .. كان يقوم بإعداد الجريدة وطبعها بجهاز رونيو يدوي صنعه بنفسه. وقد طلب منه الرفيق الفقيد ثابت حبيب العاني عضو المكتب السياسي للحزب في حينها أن يعمل في قسم الاطفال من جريدة طريق الشعب.. الا ان الظروف السياسية حالت دون ذلك المشروع.

  على اثر طبعه لبيان الحزب بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي الذي استمع إليه من اذاعة صوت الشعب العراقي وتم توزيعة في كافة انحاء بغداد.

  لم يمضِ  الا 19 يوماً على عودته.. ألقي القبض عليه في مسكنه ببغداد ليلة (  14 ) نيسان.. وبعد المراقبة المشددة داهمت اجهزة السلطة الدار في الساعة الخامسة من صباح 15 نيسان. وحال اعتقاله مورس معه شتى أشكال التعذيب النفسى والجسدي.

-         كيف لا  تضطرب نبضات قلبي وانا احدق في صورتك كل يوم. وكيف لا تعود الآلام و تسري في  جسدي كأني اراكم انت ورفاقك تتعذبون.

ـ  اللقاء الأخير أصبح  زيارة وداع كما قدرته.. و لو منعتك عن الرحيل لما وقعت في ذلك الفخ القاتل!.

-          اخاطب  نفسي  وأقول : كيف تحمل ذلك الجسم  النحيف والنحيل كل ذلك التعذيب النفسي و الجسدي؟.

-         اتذكر في ذات اللقاء قلت لي.. لم اجلب احدا معي خوفا من أن لا يصمد إذا اعتقلنا في الطريق .. هل كنت تقرأ وتتنبأ لمصيرك ؟.. أم كنت تكابر كأي مناضل  حقيقي في هذا الكون؟..

 

-         كنتَ واثقا من نفسك ستصمد و ستضحي بروحك إن تطلب الموقف وتعرضت للاختبار.. قلت لي أيضا يجب أن  يواصل الشيوعي السير نحو الحقيقة حتى لو كان على حافة قبره.

 لقد سجلت بطولتك وانت تودع والدتك، والقيود تلف يديك، حين قلت لها لا تحزني يا أُمّي.. إن لم  تريني مرة اخرى .

   ـ  كان شتاءًغريبا باردا، هوائه صقيعا، ذلك الشتاء الذي أعدم فيه  نحو مائة وخمسون مناضلا من مختلف الاتجاهات السياسية بضمنهم البطل ماهر الزهاوي.

تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم في الساعة الخامسة من مساء الأربعاء في 27 كانون الثاني عام"1985" شنقا حتى الموت بعد مرور 256 يوما على اعتقاله ، آنذاك كنت أتواجد في مدينة السليمانية..هذه المدينة الباسلة،  وقد مرت ثلاث مائة وخمسة وستون يوما على تواجدي فيها.       

    لقد غيبت السلطة الفاشية منذ انسحاب الحزب من الجبهة المئات من المناضلين الشيوعيين.. ولحد الان لا يعرف مكان قبورهم إلا أنهم سلموا جثمان (150) من الشهداء في نفس يوم الاعدام الى عوائلهم..

 فكرة الإعدام تثير القلق والرعب والخوف في نفوس الناس، و الهدف منها بهذا الشكل العلني السافر  خلق حالة يأس واحباط لدى الجماهير وتركيع الحزب بعد تزايد نشاطاته وجماهيره في المدن .. ومخاوف السلطة الفاشية من توسع هذا النشاط واستيقاظ الجماهير وانتشار الوعي الثوري واحتمالات  أن تتخذ  الاحداث ابعاد اخرى بعد  أن ظهرت بوادر الحركة الجماهيرية في الجامعات العراقية عام  1984  والاحتجاجات ضد التجنيد الإجباري للطلبة في صفوف  الجيش اللاشعبي .. حيث انبثقت وتشكلت لهذا الغرض لجنة طلابية لقيادة الإضرابات من ممثلي اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية وبعض الطلبة اليساريين في جامعة بغداد وكان أحد ممثلينا هو الرفيق حمة شوان(1).           وتجسدت المقاومة الجماهيرية الواسعة على نحو بطولي في مدينة السليمانية في انتفاضة ايار 1984 المجيدة ، والتى لعبت اذاعة صوت الشعب العراقي دورا تحريضيا فيها عبر نشرها شعارات ومطالب الجماهير . وكانت  لمنظمة حزبنا الشيوعي في السليمانية دورا هاما وبارزا في توجيه الانتفاضة ..   و تمكنت الجماهير الشعبية  من السيطرة على الشارع على مدى يومين بعد أن اسكتت نيران العدو من خلال فرق عسكرية شكّلها الحزب لحماية الجماهير..التي ارعبت أزلام السلطة وفي مسعى منها للرد اقدمت على  جملة اعدامات  لدحر المنتفضين  وخلق مظاهر التردد  واشاعة أجواء الانهيار، لاركاع  جماهير الشعب  وفرض الطاعة والخنوع للسلطة الفاشية .

-         الموت الاختياري الذي يواجه  الإنسان  يكون معياراً لحريته وبمعنى آخر المساحة بين الحرية و الموت  يقررها المناضل الحر الثائر وليس سلطة الاستبداد والقمع .

    كان ماهر اكثر تماسكا في اللحظات الاخيرة من حياته، لا يهاب الموت، وهو ينتظر دوره ليدخل الى غرفة المقصلة مرفوع الرأس ، ومرتديا نفس الملابس التي كانت عليه لحظة اعتقاله ، وبهدوء  روي نكتة  ساخرة عن صدام حسين و أضحك  الجلادين البلداء. تقول والدتنا عند استلامها لجثته كان وجهه يبدو لنا كالنائم نوما عميقاً .

  لقد نالوا من جسدك الطاهر وقتلوا طموحاتك واحلامك الجميلة .. ستبقى روحك خالدة الى الابد في ضمير الانسانية تعانق السماء وتلتقي مع سائر رفاقك الشهداء والشرفاء في موكب الحرية والكفاح من اجل  الحياة  الحرة والكريمة..

تحية حب واعتزاز الى اولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفهم فداء للوطن والشعب كجنود مجهولين عرفتهم الشوارع والأزقة المظلمة.



هذه نص رسالة الشهيد

رسالة تهنئة لم تصل من الشهيد (ماهر عبد الجبار زهاوي )



 أستميحكم عذرا لقد تأخرت في تهنئتكم بهذه المناسبة العزيزة على قلوب كل الشيوعيين الذين استشهدوا في هذا الدرب من اجل قضية شعبهم ووطنهم ..  وانا استذكر هنا الذكرى الخمسين لميلاد حزبنا الشيوعي العراقي في 31 أذار عام ( 1984 ) ..  عندما كنت اعمل في الظروف السرية واقود مجموعة من الخلايا الحزبية من اجل اعادة بناء الحزب في بغداد ..  في ذلك الظرف الصعب الذي كان يمر به شعبنا وحزبنا المقدام وفي ظرف الدكتاتورية الصدامية المعروفة بتدمير كل ما هو إنساني بالمعنى الحقيقي.

   في ذلك الظرف الصعب لم نبال نحن الشباب بما يحدث لنا، لذا قررت ومع رفاقي ان نبادر الى طبع بيان الحزب بمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد حزبنا العظيم الذي استمعنا إليه من اذاعة حزبنا في كوردستان و في معاقل الأنصار والبيشمركة الابطال .

         وتم طبعه على آلة طابعة، وقد طبعتها رفيقة شيوعية مناضلة في إحدى دوائر الدولة ومن ثم بدأنا بطبعها على الرونيه اليدوية التي تعلمتها من رفاقي بعد زيارتي لهم في السليمانية وقد طورها والدي نحو الأفضل  لكي نطبع اكبر عدد ممكن من خلال ساعات.

       فبدأنا بالطبع و وزعنا الاف من هذه البيانات على ضواحي بغداد فجن جنون الاجهزة القمعية وبدأت المراقبة والمتابعة لي والقي القبض علي في ليلة ( 14 )  نيسان يوم ذكرى تأسيس إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية .. وكنت يوم ذاك طالبا في الصف المنتهي في كلية الطب البيطري وقدمت إلى محكمة صورية في محكمة الثورة التي حكمت عليّ بالإعدام .. ثم تحدد تنفيذ الحكم بي في يوم مجيد من تاريخ العراق السياسي وهو يوم الوثبة 27 كانون 1985 للالتحاق بقافلة شهداء حزبنا العظيم .

رفيقكم ماهر عبد الجبار زهاوي

 

لقد نفذ حكم الإعدام بالشهيد في يوم الوثبة 27 كانون الثاني عام 1985 . . ووفاءً لطلب شهيدنا الغالي نرسل تهنئته ورسالته الأخيرة الى رفاق حزبه المناضل راجين نشرها بمناسبة 31 آذار8 200
 عائلة الشهيد ماهر عبد الجبار الزهاوي

20
أدب / ستكتب شيئاً مدهشاً
« في: 19:26 29/11/2018  »
أقصوصة قصيرة

ستكتب شيئاً مدهشاً
                                                                                   
سهيل الزهاوي
  ها هي امرأة حسناء لم تتعدّ الأربعين . يتجاوز طولها خمس أقدام ونصف ، ذات شعر أشقر ساطع  وعينين زرقاوين . أنثى لا تشبه أيّة أنثى ، ذكية ولمّاحة جدّاً ، قوية وصعبة المنال ، تعاني من التهاب المعدة ،الذي أثّر في مزاجها، لكنها ذات روح دفيئة وحانية يعشقها كل العالم . رغم العراقيل وما توحي بها من غضب وحزن وكآبة ، ظلت مترعة بفيض من الإحساس والشعور المرهفين تجاه الآخرين.
  أمضت نصف عمرها في كتابة القصص القصيرة وأبدعت في كتابة الشعر وذاع صيتها في سبعينيات القرن الماضي ،  طوال عشرين عاما تتحدى كل شئ إلّا مغالبة الإغتراب في وطنها ومقاومتها . فقد كانت تعي أن العيش في وطن يحكمه الاستبداد والطغيان ؛ يعني الاغتراب بمعناه الحقيقي.
 توقفت عن الكتابة منذ سنين. كانت تفكر في حياتها الخاصة أحياناً، لكنّها لمْ تتخلَّ عن أحلامها وطموحاتها الأدبيّة ؛ إذْ كانت تراودها الأفكار بين فترة وأخرى وتقودها الى شئ ما يلبي طموحاتها؛  كأن تكتب رواية لم تُكْتَبُ أبداً ولن تنتهي أبداً ،ربما تسرد قصة حياتها ممزوجة بخيالاتها؛ لذلك كان الخوف والحزن يطغيان عليها!
أحيانا يستطيع الانسان أن يلمح الخوف في عينيها ، وهو خوف ليس ناجماً عن الشعور بالذنب لما تريد القيام به، وإنّما الغضب لما حصل لها؛ حيث كانت تشعر أن أحلامها قد تبددت قبل أعوام .   
 كان الغروب قد اكتمل ؛ فحلّت ليلة  شتوية ، وانقشعت الغيوم الكثيفة، و تلألأت نجوم لسماء ليلة باردة قليلاً تهبّ نسمات عليلة ، ونتف الغيمات تستر وجه القمر كثوب شفّاف يغطّي جسد امرأة جميلة .
   كانت تكره الشتاء والليل والنوم. يبدو لي أن كل شئ يستفزها هذه الليلة.  بدأت تذرع غرفة المعيشة ذهابا وايابا لفترة طويلة، وفجأة أغلقت الباب وفتحت النافذة ؛ لكي لا يُرى سواها. كان القلق يعتريها وتتألم بصمت شاعرةّ بالإحباط والخيبة.
  كنت أتمعّن في وجهها بعمق ؛ فخيّل لي أن خفقان قلبها مضطرب. وكان الحزن يلازمني في هدوئي والصمت يطغى على أعماقي .
  أخيرا قررت الجلوس على الأريكة.  كانت صامتة ومنكفئة على ذاتها ، وبين فترة وأخرى تحرك رأسها ذات اليمين وذات اليسار، والصمت مطبق على الغرفة ، وكانت كأنما تتفقد أشياء الغرفة أو تبحث عن شئ مفقود وظلت ذاهلة في مكانها  والقلم  بين أناملها الثلاث وهي غارقة في تأمل  الأوراق  البيضاء المبعثرة على المنضدة بعيدا عنها ، وهي تنتظر منذ شهور من يملأ ها ؛ كي تدب الحياة فيها .

   
بعد فترة صمت طويلة سالت الدموع من عينيها ، وعلت منها تَنْهِيدَةٌ مِلْؤُهَا الأَلَمُ . كانت عميقة الخيال،  وبدت لي إنها لا تراني .  لم تنقطع عن التفكير في احتمال وجود شيء ما يعيقها عن الكتابة .
   رفعت رأسها ، ثم وضعت إحدى أناملها على خدها كأنها تفكر في صياغة كلامها . ولم أبرح لحسن الحظ أحتفظ بهدوئي تخالجني مشاعر الرثاء والشفقة نحوها .
   كنت أحدّق في قلمها وأتأمّلها في هذه اللحظات العصيبة ، وفجأة استفقت من شرود تأملاتي ، و نظرت مليا الى قلمها ، وإذا به يهمس :
(يمكنني أن أكتب كل ما يساورك من أفكار ، ولن أتوقف لحظة حتى تمتليء الاوراق البيضاء)
وعندها تغيّر الإحساس الغريب الذي أيقظها ، وراحت تتدفق من حنايا جسدها المتوتر.
فشعرت وتيقنت من أنها ستكتب شيثاً مدهشاً ..


21
المنبر الحر / ستكتب شيئاً مدهشاً
« في: 19:01 27/11/2018  »
أقصوصة قصيرة

ستكتب شيئاً مدهشاً
                                                                                   
سهيل الزهاوي
  ها هي امرأة حسناء لم تتعدّ الأربعين . يتجاوز طولها خمس أقدام ونصف ، ذات شعر أشقر ساطع  وعينين زرقاوين . أنثى لا تشبه أيّة أنثى ، ذكية ولمّاحة جدّاً ، قوية وصعبة المنال ، تعاني من التهاب المعدة ،الذي أثّر في مزاجها، لكنها ذات روح دفيئة وحانية يعشقها كل العالم . رغم العراقيل وما توحي بها من غضب وحزن وكآبة ، ظلت مترعة بفيض من الإحساس والشعور المرهفين تجاه الآخرين.
  أمضت نصف عمرها في كتابة القصص القصيرة وأبدعت في كتابة الشعر وذاع صيتها في سبعينيات القرن الماضي ،  طوال عشرين عاما تتحدى كل شئ إلّا مغالبة الإغتراب في وطنها ومقاومتها . فقد كانت تعي أن العيش في وطن يحكمه الاستبداد والطغيان ؛ يعني الاغتراب بمعناه الحقيقي.
 توقفت عن الكتابة منذ سنين. كانت تفكر في حياتها الخاصة أحياناً، لكنّها لمْ تتخلَّ عن أحلامها وطموحاتها الأدبيّة ؛ إذْ كانت تراودها الأفكار بين فترة وأخرى وتقودها الى شئ ما يلبي طموحاتها؛  كأن تكتب رواية لم تُكْتَبُ أبداً ولن تنتهي أبداً ،ربما تسرد قصة حياتها ممزوجة بخيالاتها؛ لذلك كان الخوف والحزن يطغيان عليها!
أحيانا يستطيع الانسان أن يلمح الخوف في عينيها ، وهو خوف ليس ناجماً عن الشعور بالذنب لما تريد القيام به، وإنّما الغضب لما حصل لها؛ حيث كانت تشعر أن أحلامها قد تبددت قبل أعوام .   
 كان الغروب قد اكتمل ؛ فحلّت ليلة  شتوية ، وانقشعت الغيوم الكثيفة، و تلألأت نجوم لسماء ليلة باردة قليلاً تهبّ نسمات عليلة ، ونتف الغيمات تستر وجه القمر كثوب شفّاف يغطّي جسد امرأة جميلة .
   كانت تكره الشتاء والليل والنوم. يبدو لي أن كل شئ يستفزها هذه الليلة.  بدأت تذرع غرفة المعيشة ذهابا وايابا لفترة طويلة، وفجأة أغلقت الباب وفتحت النافذة ؛ لكي لا يُرى سواها. كان القلق يعتريها وتتألم بصمت شاعرةّ بالإحباط والخيبة.
  كنت أتمعّن في وجهها بعمق ؛ فخيّل لي أن خفقان قلبها مضطرب. وكان الحزن يلازمني في هدوئي والصمت يطغى على أعماقي .
  أخيرا قررت الجلوس على الأريكة.  كانت صامتة ومنكفئة على ذاتها ، وبين فترة وأخرى تحرك رأسها ذات اليمين وذات اليسار، والصمت مطبق على الغرفة ، وكانت كأنما تتفقد أشياء الغرفة أو تبحث عن شئ مفقود وظلت ذاهلة في مكانها  والقلم  بين أناملها الثلاث وهي غارقة في تأمل  الأوراق  البيضاء المبعثرة على المنضدة بعيدا عنها ، وهي تنتظر منذ شهور من يملأ ها ؛ كي تدب الحياة فيها .

   
بعد فترة صمت طويلة سالت الدموع من عينيها ، وعلت منها تَنْهِيدَةٌ مِلْؤُهَا الأَلَمُ . كانت عميقة الخيال،  وبدت لي إنها لا تراني .  لم تنقطع عن التفكير في احتمال وجود شيء ما يعيقها عن الكتابة .
   رفعت رأسها ، ثم وضعت إحدى أناملها على خدها كأنها تفكر في صياغة كلامها . ولم أبرح لحسن الحظ أحتفظ بهدوئي تخالجني مشاعر الرثاء والشفقة نحوها .
   كنت أحدّق في قلمها وأتأمّلها في هذه اللحظات العصيبة ، وفجأة استفقت من شرود تأملاتي ، و نظرت مليا الى قلمها ، وإذا به يهمس :
(يمكنني أن أكتب كل ما يساورك من أفكار ، ولن أتوقف لحظة حتى تمتليء الاوراق البيضاء)
وعندها تغيّر الإحساس الغريب الذي أيقظها ، وراحت تتدفق من حنايا جسدها المتوتر.
فشعرت وتيقنت من أنها ستكتب شيثاً مدهشاً ..


22
في اربعينية المناضل والصحفي والاديب  دانا جلال
سهيل الزهاوي

        نقف معكم اليوم لتأبين انسان صلب ، يصعب على المرء عن تعداد مناقبه ونضالاته ،  برزت فيه صفات الشجاعة والجرأة والاقدام والتفاني ونكران الذات وكان نموذج للمناضل الثابت في المواقف، وان فقدانه يعد خسارة كبيرة .             
     لقد سلكنا الدروب القديمة في تلك اللحظات العصيبة في ايام النضال من تاريخ حركتنا الثورية ،  في ظلام الليل الدامس ، في ليالي غابت فيها القمر، لم نكون ندرك اننا سنفترق دون ان تتحقق احلامنا ، كان له قضية وموقف ذات معالم واضحة، ويحمل هدف محدد وقضى كل حياته في سبيله ، ملأ كل  جوارحه وحواسه الذي كان كل شواخصه ماثلا امامه في كل صغيرة وكبيرة ، في شؤونه وشجونه.
  رفيقي الغالى دانا جلا ل انحدرمن عائلة مناضلة معروفة بمواقفه الوطنية ، والده كان شيوعيا وتعرض للسجن بعد انقلاب  شباط الاسود عام (  1963 ) والتحق فيما بعد بقوات البيشمركة، وفي ثمانيات القرن الماضي، وضع داره تحت تصرف الحزب .
        عمل في ريعان شبابه في اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ، وانتمى الى صفوف الحزب  الشيوعي العراقي في سبعينيات القرن الماضي ، وكان له دور ونشاط متميز بين الطلبة.   بعد انسحاب الحزب من الجبهة،واشتداد الهجمات الشرسة ضد الحزب،بدأ الراحل مع الرفيق اشتى الطالباني الاتصال بالرفاق المنقطعين في بغداد في محاولة من اجل اعادة الحياة الى الخلاية الحزبية في سنوات الثمانيات و شكلو منظمة باسم صدى، وعمل بتفاني من اجل اعادة منظمات الحزب، وتحلى بجهادية عالية في ظرف دقيق وعصيب، يصعب على المناضلين العمل فيه، ووظف جزء من حياته للعمل الحزبي .                        بعد انتفاضة اذار عام ( 1991 ) استمر الراحل  في ظروف النضال السري في بغداد حيث عمل في تنطيم الداخل و تولى مسؤلية  البريد الحزبي والمراسلة  مع  قيادة الحزب في كردستان. ففي مسيرته تلك اللحظات الرائعة من الاصراروالتحدي ، والاستهانة بالموت ، والوقوف بكل شجاعة امام الصعوبات كان خير رفيق لي، عمل معي بأخلاص و تفاني،و كنت ادرك انه لن يرتاح له جفن الا ان ينفذ واجبه، و وهب كل امكاناته وطاقاته من اجل زرع الجمال في حديقة الانسانية.
   لقد ترك الراحل دانا بصمات نضالية واعمال ثقافية لا تنسى ، لقد وضع مصلحة وطنه وشعبه وطبقته الكادحة فوق مصلحته الشخصية  فقد تميز بالشجاعة ونكران الذات والتجربة والثقافة والخبرة في العمل السياسي التي تعلمها في ممارسة النضال آبان الحكم الدكتاتورية .
  كان مناضلا حقيقيا،  يدرك ان طريقه غير معبد، مليئة بالاشواك والالم والعذاب، لم يتخلف عن اداء واجبه وحتى اذا كلف حياته  لم يتحدث طوال حياته عن اعماله وكفاحه في سُوح النضالات مهما كانت تضحياته من اجل القضية التي امن بها.
  تميزبالتواضع و البساطة،وعاطفي ومتفتح ومتسامح ولكن شخص مبدع، والوفاء عند الراحل دانا صفة نادرة ، عندما كان يتكلم عن رفاقه يتحدث باسلوب كأنه التلميذ المعجب باستاذه وعن اصدقائه تتدفق منه كلمات عذبة.
  خلال عملي معه ، اكتشفت فيه طباع وخصال الانسان الرائع ، الخفيف الظل ، القوي الحضور،الواثق  بنفسه وبفكره من دون ادعاء.  كان محاور جيد ، يؤمن بالرأي الاخر، دون تنازل سهل عن المواقف و بكامل الاستعداد من دون تردد، للانتقال الى الموقف النقيض ، عندما يرى فيه ما يقتنع ،  واكتشفت فيه عمق الثقافة وسعتها وتنوع مبادرتها وتنوع مصادرها
  كان خَاضِعاً للمبادئ النبيلة، مبادئ عظماء الفكر الانساني الخالدين،ويؤمن ايمانا عميقا بالفكر الانساني و محابات للكادحين ، وتعاطف مع الفئات المسحوقة ، و النضال من اجل الديقراطية والعدالة الاجتماعية اضافة الى شدة نقمته،وسخطه على الطغاة والفاسدين ومحاربة كل اشكال العنف ضد الانسانية  ،  وكان شديد الاهتمام بكل ما يخص القضية الكردية ، ودفاعه المستميت عن المذاهب والاديان في العراق، وهو بمثابة مناضل حقيقي ذي البعد الاممي .   لما قدمه من تضحيات في حياته من اجل مبادئه السامية اصبح خالدا في حياة كل الطيبين
    كان يمتلك موهبة الكتابة ، وعقلية اعلامية بجدارة ، وقد جند قلمه وفكره من اجل نشر القيم الاخلاقية والانسانية والوطنية والدفاع عن حرية الانسان، وكان يعتبرالانسان اثمن رأسمال ، على غرار ما وصفه كارل ماركس، كل من قرأ له في تعبيراته ،  يتلمس صدق  كلماته، وتدفق افكاره ، وحرارة انفعالاته من القضية التى يحملها ، وكان الحلم يسكنه على امتداد حياته .
       تحتفظ ذاكرتي بلحظات لها وقع كبير في نفسي ..لا زلت اتذكر ذلك اليوم الصيفي الحار،كنت على اتفاق معه في لقاء حزبي بمكان عمله ، في عام ( 1992 ) حين التقيت بالراحل كان يعمل في غرفة شبه مهدمة،في أحدى الشوارع الضيقة داخل حي شعبي في شارع شيخ عمر،كان يعمل عاملا في فرن محلي لانصهار الحديد ودرجة الحرارة  اكثر من  ( 50% )  والنار يلتهم الانسان، في ذلك اليوم، وجدته يعمل بهمة  و نشاط في عمل غير اختصاصه ، والذى لم يتوانى يوم ما بإمتهان اي عمل فى سبيل لقمه عيش عائلته .  وقد حرص ان يعيش بعيدا عن حياة الترف.   
  في رسالة ارسلته له في عام ( 2008 ) في بريدي الالكتروني :   اليوم قرأت رسالتك الى البروفيسور  عبد الاله الصائغ،وجدت بين طياتها، انك تعشق الشيخ وتحن الى الشيوعية ..ما اجمل الصدق بحبك هذا ، يستحق التأمل والانبهار بعض الاحيان.
نص من وصيته :
(اعطيت ما كنت املك لما لم املك كي نملك سوية هذا العالم بغده الأجمل...!!!)
دانا الحاضر الغائب .. كنت  صادقا في حياتك ..  كنت صادقا في وصيتك الاخيرة وانت على فراش الموت

 
   

23
صفحات من نضال الشيوعيين في السليمانية
معركة ازمر الدفاعية في شهر نيسان 1991
سهيل الزهاوي
       ان تاريخ كردستان لم يعرف نزوحا جماعي لشعبنا الكردي ، بهذا الحجم، حيث نزح نحو مليوني مواطن من كوردستان الجنوبية، نساءا ورجالا ، شيوخا واطفالا، الى الحدود العراقية مع كل من ايران وتركيا في  31 اذار 1991،سيراً على الاقدام قاطعين مئات الكيلومترات في أرض وعرة،حيث عانوا من البرد ، والجوع،هرباً من بطش الطاغية المقبور صدام وأزلام نظامه، بعد ان جمع قواته المهزومة في الكويت،وتمكن من  قمع الانتفاضة في الجنوب،فيما بعد وجه قواته نحوالمدن الكردستانية المحررة اثرانتصار انتفاصة اذارالمجيدة.
في 31 ادار 1991 اصبحت القوات الصدامية على مشارف السليمانية بعد ان تمكن السيطرة عل مدينة كركوك واربيل.
   وقد قام وفد من قيادة محلية السليمانية للحزب الشيوعي العراقي،(حشع)،في مساء 31 اذار1991، مكونة من الرفقين سهيل الزهاوي سكرتيرمحلية السليمانية،وحمة رشيد قرداغي عضو المحلية بزيارة الى بناية دارالثقافة، للقاء مع قيادات الاحزاب الجبهة الكردستانية لدراسة الوضع الامنى في المدينة و اتخاذ قرار بشأنها، وكان حاضرا هناك الفقيد السيد جلال الطالباني،رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني ، وكان السيد الطالباني على اتصال مباشر مع الولايات المتحدة الامريكية في تلك الليلة، والسيد نيجرفان البارزاني، مع كوادرمن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني،واخرين،منهم والسيد فريدون عبد القادر عضوالمكتب السياسي السابق لاوك،والسيدة هيرو ابراهيم احمد عضو المكتب السياسي لاتحاد الوطني الكردستاني ، وبعد مداولات مع السيد فريدون عبد القادر ،    علمنا انه اتخذ قرار الانسحاب من مدينة السليمانية وفي هذه الاثناء دخل رفاقنا من طاسلوجة،الى القاعة،وافادوا، انهم القوة الوحيدة الموجودة هناك في مقاومة القوات الحكومية.. لذلك قررت قيادة المنظمة الانسحاب باتجاه شرق المدينة والتوجه الى مدينة حلبجة .
  والجدير بالذكر ان قوة من بيشمركة حزبنا الشيوعي ، قاومت على مشارف السليمانية في طاسلوجة في ( 31 اذار1991) الى ساعة متأخرة من الليل في محاولة لصد القوات الصدامية للدخول الى مدينة السليمانية وقد جرح احد رفاقنا في هذه المعركة كما جرح الرفيق رحمن غريب في معركة كركوك .
       في مساء 31 اذار 1991 بدأ المئات الاف من جماهير السليمانية من مختلف الاعمار بالتحرك والمغادرة الى مصيرها المجهول تاركين املاكهم ، ودورهم متحملين ظروفا قاسية ، والجوع بشكل جماعي ،وعدم الانصياع  للسلطة الصدامية وكان بحق استفتاء من الشعب برفض العيش تحت ضل حكومة بغداد.
  في مساء 31 اذار،  تم ارسال  كافة الرفاق والبيشمركة وقبلها ارسلت ممتلكات الاعلام الضروية الى مدينة حلبجة ، وفي الساعة الخامسة من صباح 1 مايس من نفس العام توجه كل من كاتب السطورمع الرفاق حمة رشيد قرداغي والرفيق دلير جلال، واحد الرفاق البيشمركة لا اتذكر اسمه، الى عربت عن طريق قرية قركة ، مشيا على الاقدام ، في الوقت الذى كانت طائرات الهليكوبتر الحربية، تجوب سماء السليمانية،بعد ان شرعت القوات الحكومية الهجوم على المدينة ، استقرت قواتنا في حلبجة في هذا اليوم.
       في بداية نيسان اتصل بيّ في حلبجة، السيد تحسين قادر الكادر القيادي في اوك ووزير الصناعة لاحقا في حكومة الاقليم ، مشيرا الى ان السيد جلال الطالبنى قد ارسل عدة برقيات ، يطلب ان تتوجه قوة من حزبنا الى جبل ازمر لتعزيز قواتهم من أجل ردع ومقاومة الهجوم المعادي هناك .
      مع بدأ الهجوم على جبل ازمر من قبل قوة كبيرة للقوات الصدامية ، كانت القوات التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني ، القوة الوحيدة التي تصدت للهجوم اكثرمن  عشرايام متوالية، وكان عددهم قليل لا يتجاوز على 28  بيشمركة بقيادة الفقيد جبار فرمان عضو المكتب السياسى لاوك،ورغم الامكانيات الهائلة التي تم حشدها من قبل القوات الصدامية ، تمكنت هذه القوة الصغيرة ، صد القوات المهاجمة و إعادتها إلى خطوط البداية و لم يتمكنوا من احتلال الجبل.
   تحرك قوة من حزبنا من حلبجة متوجها نحو ازمر حال وصول الخبر.       وفي يوم 12 نيسان عقد اجتماع حضره من اوك الفقيد جبار فرمان ، ومن الحزب الديقراطي الكردستاني ( حدك )، السيد درويش عبد الرحمن اغا، عضو اللجنة المركزية لحدك ، ومن حزبنا الشيوعي، كاتب السطور والرفيق حمة رشيد قراداغي تم الاتفاق على ارسال (30 )، بيشمركة من كل حزب ، لاخذ مواقعم في جبل ازمر وفي ذلك اليوم كانت المعركة على اشدها حيث جرت معركة دفاعية مستميتة حيث القصف مدفعي للعدو و رمي قنابل الهاونات من الجيش الصدامي على الجبل  محدثا دويا مستمرا بحيث بدأ الموقف الدفاعي يواجه كثافة النيران ،صمد البيشمركة في هذا الخضم، وعندما تقدم اليشمركة نحو الجبل، كان يسيطرعلىيهم شعور واحد هو الصمود في هذه المعركة الدفاعية انعكس غضب المقاتلين على العدو الذي صمم على مواصلة القتال و الاستشهاد،وفي اللحظات الاولى من القتال وقع الرفيق ئاكو ابراهيم شهيدا وجرح رفيقين من بيشمركة حزبنا، وفي نفس اليوم استشهد الرفيق زانا عثمان في  مكان اخر من ازمر بقصف طائرة هليكوبتر،كما جرح اربعة من الكوادر العسكرية لحدك، في قمة ازمر وهم فاضل رؤف سالح مسؤل قوة حدك في ازمر انذاك ، محمد مام علي، نقيب ارسلان حمة ئه مين ، و العميد سرحد قادر . وكان مسؤل قوة حزبنا الرفيق دلير جلال والمشرف على القوة الرفيق حمة رشيد قرداغي .
   بتاريخ 13 نيسان ، اقترح حزبنا على قوات الجبهة الكردستانية في ازمر ان نرسل مفرزة مشتركة لضرب الربيئة ، المساند للقوات الحكومية في اسفل الجبل ، لبث الرعب في نفوس القوة المهاجمة، وتم الاتفاق على ارسال مفرزة من اوك ، حدك ، وحشع ، وحدد موعد الهجوم في الساعة ا لثامنة من مساء نفس اليوم، وتوجه المفرزة نحو الربيئة ولم تنفذ العملية بسبب عدم رغبة بيشمركة اوك وحدك و قامت قوات الحكومية في الساعة الثانية من صباح يوم 14 نيسان بقصف مدفعي شديد لجبل ازمر .
   ان المقاومة البطولية اتى ابداه قوات البشمركة لكسب الوقت ، وتحقيق هدف سياسي ، والتى اسفرت عن وقف تقدم القوات الصدامية في كافة انحاء كردستان وكان عامل هاما في انجاح الهدنة بين الطرفين
  في صباح يوم 15 نيسان وصل وفد مشترك من حدك واوك عائد من بغداد ابلغونا هناك مفاوضات بين الجبهة الكردستانية وبغداد واتفق على هدنة بين الطرفين.
     ان قيادة الجبهة الكردستانية ، عملت على ثلاثة محاور بعد ان بدأ السلطة الصدامية بحملة مضادة لاستعادة المناطق المحررة بدأ من كركوك ، ثم  اربيل و السليمانية دهوك :-
 اولا :-  كسب عطف الراي العام العالمي  للضغط على الامم المتحدة لاتخاذ قرار لصالح الشعب الكردي بعد الهجرة المليونية لجماهير كردستان.
ثانيا :- التصدي العسكري للقوات الصدامية المهاجمة على المناطق التى لازالت باقية تحت سيطرة قوات الجبهة الكردستانية.
ثالثا:- الدخول في المفاوضات مع سلطة صدام لكسب الوقت. 
معركة جبل ازمرتعتبر من المعارك التى تصدت قوات البيشمركة من احزاب الجبهة الكردستانية للقوات الصدامية في كافة انحاء كردستان.. حددت مسار ونتائج المجابهة مع السلطة التي استهدف اضعاف قدرات قوات البيشمركة و سعت للسيطرة على اكبر مساحة من كردستان، وفرض شروطه على القيادة الكردية التى دخلت المفاوضات مع السلطة.   
 تناقلت وكالات الانباء العالمية هذه الكوارث والويلات التى حلت على شعبنا الكردي بعد ان رفض هذا الشعب الصامد بعد ان الخضوع للحكم الدكتاتوري والعيش في ظله ، استطاع الشعب الكردي بصموده البطولي  كسب عطف الرأي العام العالمي وتأيده.
   وفي 5 مايس من نفس العام صدر قرار مجلس الامن الدولي المرقم (688) حيث أدان المجلس القمع، و طالب بأن يضع العراق،كمساهمة في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن،حداً للقمع،ويحترم الحقوق الإنسانية لشعبه.         
  وأصر المجلس على أن يسمح العراق بوصول المنظمات الإنسانية الدولية إلى المناطق المتضررة، وطلب من الأمين العام أن يقدم تقريراً عن السكان العراقيين والأكراد المتضررين من قمع السلطات العراقية، باستخدام جميع الموارد الممكنة لتلبية احتياجات السكان. كما طالب العراق أن يتعاون مع الأمين العام والمنظمات الدولية للمساعدة في جهود المعونة الإنسانية
  وفي أعقاب صدور القرار استخدم قوات التحالف قرار 688 وتسليط الاضواء على تنفيذهذه القرارات بالقوة، وعلى ممارسات نظام صدام ضد الاكراد في كردستان ، والشيعة في الجنوب ، و قامت فرنسا و بريطانيا وأميركا بإنشاء منطقة آمنة شمالي العراق بالقوة في الفترة من 17 - 23 أبريل/نيسان 1991  ففرضت حظرا جويا عراقيا عليها، عند خط عرض 36 شمالا ، وتمركزت الطائرات المنفذة للحظر في قاعدة أنجرليك التركية.       
 وهكذا بدأت هذه الملايين البشرية برحلة العودة الى مساكنها وممتلكاتها والتي اغلبها كانت قد سرقت ونهبت.
      وكانت نهاية المطاف بعد ذلك خروج الإدارات الحكومية العراقية في أكتوبر 1991 من مدن أربيل والسليمانية ودهوك لتشهد هذه المدن فراغا حكوميا تم ملؤها بسلطة الجبهة الكردستانية لغاية مايو / أيار 1992 حيث جرت أول انتخابات تشريعية لبرلمان كردستان في يونيو/حزيران  1992 .
وكان سليمانية ودهوك ت نهاية المطاف بعد ذلك خروج الإدارات الحكومية العراقية في أكتوبر 1991 من مدن أربيل والوكانت نهاية المطاف بعد ذلك خروج الإدارات الحكومية العراقية في أكتوبر 1991 من مدن أربيل والسليمانية ودهوك لتشهد هذه المدن فراغا حكوميا تم ملؤه بسلطة الأمر الواقع لغاية مايو/أيار 1992 حيث جرت أول انتخابات تشريعية لبرلمان كردي في يونيو/حزيران 1992. لتشهد هذه المدن فراغا حكوميا تم ملؤه بسلطة الأمر الواقع لغاية مايو/أيار 1992 حيث جرت أول انتخابات تشريعية لبرلمان كردي في يونيو/حزيران 1992.
 

24
أدب / ايفا
« في: 18:54 15/03/2018  »

قصيدة من الادب العالمي       
 للشاعر النرويجي سيكبيورن اوبستفالد
(1893) من ديوانه القصائد
   
ترجمة من النرويجية سهيل الزهاوي
ايفا

البحر رمادي قاتم..السماء رمادية قانية
 ايفا،عيناك رماديتان قاتمتان
طال الفراق.. وانت التي تترقبين بصمت
دعني اعانق صدرك بحرارة بكلتا ذراعي
......
ايفا، انت تشبهين الطبيعة ذاتها
   عيناك .. زرقاوان
عندما يبتسم شعاع الشمس لاغنية البحر
شفتاك اشد برودة
تهدأ على جبيني
يداك اشد برودة
تسترخيان على يدي
شهيق الدموع في صدرك ثقيل جدا
    انفاسك المكتومة تخترق روحي
......
نعم ، انت تشبهين الارض
حين يسبح السديم الشمسى في السحاب المتوهج
عندها يتناثرالسديم الشمسى فوق عينيك
 عندما يتعانق السحاب الرقيق و الضباب
     تخْضَل عيناك وتظلمّا
......
  لن اتحدث واياك اكثر من ذلك
لنجلس كلانا ونستمع معا بصمتٍ
الى البحر الطويل ، نستشنق ونتنهد
    نحدق في ليلة الضباب  المخيف
..ايفا

25
صفحات من نضال الشيوعيين في السليمانية
بعد مرور سبعة وعشرين عاما على انتفاضة اذار المجيدة في السليمانية
سهيل الزهاوي
   في السابع من اذار، يكون قد انصرمت سبعة وعشرون عاما على انتفاضة اذار المجيدة و التي اندلعت شراراتها في البصرة لتنتقل الى مدن الجنوب والفرات الاوسط وتعم جميع المدن الكردستانية.
  فقد قيل الكثير عن الانتفاضة واسبابها والقوة المحركة لها، و فسرها بعض الاحزاب، من وجهة نظر الحزبية الضيقة ، واعتبر البعض ، انها اندلعت بعد اندحار الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية ، وان السلطة لم تكن قادرة على التصدي للحركة العفوية للجماهير ومنهم من يرى اخر.
   والجدير بالذكر ان ما حدث في ربيع عام 1991 ، لم يكن وليد عوامل طارئة ، وانما نتيجة لظروف وعوامل موضوعية وذاتية . فأن الحكم الشمولي وانتهاجه سياسة ارهابية وما اتبعها من اساليب فاشية لقمع قوى المعارضة، عمّق تلازم ازمات النظام التي اتخذت ابعاد جدية عشية غزو الكويت، في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وما ترتب من نتائج الحرب وتحول العامل العربي والدولي الى عامل فاعل في تفجير الانتفاضة . 
  وفيما يخص العامل الذاتي ، فقد رفع الحزب الشيوعي العراقي شعار اسقاط السلطة الدكتاتورية عن طريق الكفاح المسلح الى جانب القوى المعارضة العراقية والقوى و الاحزاب الكردستانية والتى كانت لها مواقع مسلحة في كردستان، كما تجمّع عدد  من الرافضين لاداء الخدمة العسكرية، في ظروف   نفوذ لا بأس به للمعارضة العراقية في المناطق الريفية في الجنوب والوسط.
     و بالرغم من الضربات الموجعة التى وجهتها الاجهزة القمعية بنطاق واسع ضد منظمات الحزب الشيوعي العراقي منذ انسحابه من الجبهة في عام 1979 وتحوله الى العمل السري، الا انه لم يحد من نشاطه وبقيت صلته الحميمية والمتينة بالجماهير و كان على الدوام يغوص في الابداع من اجل ايجاد احدث الاساليب في سبيل تقوية الصلة مع الجماهير.
     وكان لي الشرف ان اكون واحداً من الكوادر الحزبية الناشطة ، الذي انيطت به قيادة العمل في محافظة السليمانية، منذ 27 كانون الثاني من عام 1984 لحين تفجيرانتفاضة اذارالمجيدة عام1991 .
  لقد تسنى لي ان اكون شاهدا على الاحداث المثيرة في هذه المدينة الباسلة،وغني عن القول انه لا يمكن النظر الى هذه الانتفاضة بمعزل التحركات الثورية والنشاطات التى سبقتها. حيث ان مدينة السليمانية هي واحدة من المدن الكردستانية  التي تصدت ببسالة للحكم الدكتاتوري الفاشي، رافضة الرضوخ، له بكافة اساليب النضال بما فيه المقاومة العسكرية.
    لقد خاضت الجماهير الشعبية في كردستان  انتفاضتين في بداية الثمانيات 1982  وتجسدت المقاومة الجماهيرية الواسعة على نحو بطولي في مدينة السليمانية في انتفاضة ايار 1984 المجيدة والتى لعبت فيها منظمة حزبنا الشيوعي  دورا هاما وبارزا في توجيه الانتفاضة، و تمكنت الجماهير الشعبية السيطرة  على الشارع على مدى يومين بعد ان اسكتت نيران العدو من خلال فرق عسكرية شكّلها الحزب لحماية الجماهير منها ؛ فرقة يقودها هوشيار علي دولت (فريدون)،واخرى بقيادة  دشتي احمد سلطة ، وفرقة من الرفيق زيور عزيز وكنجة رؤوف زهدي وغيرهم وقامت فرقة مسلحة بقيادة دلير جلال و معه رحمن غريب واخرين تمكنوا من السيطرة على معظم جوامع المدينة لبث بيان  ونشر شعارات الحزب التى بثتها اذاعة صوت الشعب العراقي و وزعتها منظمة حزبنا في السليمانية في عشية التحركات الطلابية في المدارس والمعاهد والدورالسكنية والدوائرو المعامل، تتضمن دعوة الجماهير الى المساهمة في الانتفاضة .
  وبدأ طلاب الجامعات العراقية من اهالي السليمانية بالتجمع امام السراي في وسط المدينة وانضمت جماهير واسعة اليهم بالتحرك تتقدمهم نساء السليمانية تردد هذه الشعارات وانتقل لهيب الانتفاضة الى بغداد، وبذا تراكمت لدى منظمة حزبنا في السليمانية دروسا بليغة في قدرة الشعب الموحد غير هيابة في تحطيم القيود ، مهما كانت محكمة الصنع .
    لم ينقطع نضال ونشاط حزبنا في المجالات الاعلامية وتوزيع البيانات التحريضية في سبيل تحريك الجماهير وخاصة في المدارس والمعاهد و في وقت توجية ضربات عسكرية لازلام النظام من قبل فرق المدن العسكرية المشكلة  داخل مدينة السليمانية من قبل منظمتنا لحين اندلاع انتفاضة اذار عام 1991.
    فقد عقدت قيادة لجنة الداخل للحزب الشيوعي العراقي التى تضم عدد من رفاق اللجنة المركزية واعضاء لجنة الاقليم والمناطق المتواجدين في المدن الكردستانية وغيرها من المدن العراقية في مدينة اربيل عام ( 1991 ) اجتماعا خا صا  بعد غزو الكويت تناولت الوضع السياسي في العراق والمنطقة والعالم وما يترتب من احداث بعد هذا الغزو،لمواجهة الاحتمالات والتطورات والاحداث الخطيرة، وتهيئة اعضاء الحزب ومؤازريه في حالة حدوث اي انفجار،ووضع الخطط الكفيلة لذلك، كما اصدرت لجنة الداخل  في بغداد بيانا تدعو فيه الجماهير الشعبية الى الانتفاضة ضد السلطة الدكتاتوري واصدرت توجيهات الى منظمات الحزب في كل المدن العراقية تدعو الى وضع برنامج عمل وفق ظروف كل مدينة.
  عقدت اللجنة العليا في السليمانية عددا من الاجتماعا ت لهذا الغرض، فقد وضعت برنامج و خطط على ضوء التوجهات لاي احتمال مرتقب، وقد تمحورت الخطة على ثلاثة محاور اساسية :
 اولا : تعزيز الفرق العسكرية والعمل من اجل الحصول على السلاح.
 ثانيا : تنشيط العمل الاعلامي ضد السلطة الدكتاتورية.
ثالثا : تنظيم الاتصال بالعناصرالعاملة ضمن جهاز السلطة.
كما تضمنت الخطة كيفية السيطرة على مقرات منظمات حزب البعث ودوائر الدولة والحفاظ على الممتلكات وعدم السماح للعبث به، والعمل للسيطرة على ترسانات الاسلحة والسيارات واستخدامها لغرض توسيع القاعدة الجماهيرية للانتفاضة.
  و قد نشطت منظمة حزبنا على المحاور الثلاثة، حيث جرى الاتصال بالعديد من عناصر السلطة داخل الجيش الشعبي والافواج الخفيفة وحصلنا على عدد قليل من الاسلحة قبل الانتفاضة، ومن جانب اخر متابعة تحركات السلطة وخاصة بعد سيطرة الجماهير بقيادة الاحزاب الكردستانية على رانية في 5 اذار 1991. وفي 6 اذار انطلقت الانتفاضة في بازيان.
  فقد تسربت الينا بعض المعلومات من خلال مصادرنا الخاصة قبل يومين من الانتفاضة  من داخل اجتماع عقد في مبنى المحافظة باشراف محافظ السليمانية لغرض وضع الخطط  الكفيلة لمجابهة اي مد جماهيري في السليمانية، وفي الاجتماع طلب المحافظ  من الحاضرين التركيز على حماية مديرية الامن العامة في المحافظة، وانه في حالة وجود ضغط كبير على المقرات ودوائر الاجهزة القمعية الاخرى، عليهم انسحاب الجميع الى المديرية.
بعد ان عرفنا نقاط ضعفهم وتخوف السلطة من قوة الجماهير، عدلنا خططنا وفق المعطيات،في ظرف حاولت فيه السلطة نشر الذعر والخوف بين الجماهير من خلال بث الدعايات بان السلطة  لن ترحم اية حركة جماهيرية و سوف تضربها بما فيه استخدام السلاح الكيميائي، مما اثار مخاوف عدد من وجهاء المدينة طالبين من حزبنا التدخل لوقف اي تحرك جماهيري، حرصا منهم للمحافظة على المدينة وعدم تدميرها من قبل السلطة. الا ان قيادة المنظمة صممت على السير عل خططها بعد ان عرفنا نقاط ضعف السلطة. 
 وفي مساء السادس من اذار اي ليلة الانتفاضة قمت بجولة فى داخل مدينة السليمانية مع الرفيق دلير جلال ( دلشاد) بسيارة لمعرفة تحركات وخطط السلطة وقوتها ، و توصلنا الى قناعة بان ازلام الاجهزة القمعية تعيش في حالة ذعر، لم يسبق له مثيل وهم في حالة دفاع عن النفس داخل مقراتهم .  . كانت المدينة خالية من مفارز السلطة التي كانت الكمائن في العادة. و بعد وصولنا الى الحامية العسكرية في السليمانية وجدنا جندي يقفز من فوق السياج هاربا من الحامية ، اوقفنا سيارتنا وطلب منا ان نوصله وطلبنا منه معلومات عن الحامية ، افادنا بعدد المتواجدين واشارة الى انخفاض الروح المعنوية لدى الجميع بما فيهم الضباط، وان الجميع اقسموا ان يسلموا انفسهم في حالة وجود مجابهة . كما سلم معاون آمر الجيش الشعبي في محافظة السليمانية، برتبة مقدم من اهالي بغداد مع سلاحه وسيارته الشخصية عن طريق احد معارفه وهو عضو حزبنا في نفس الليلة.
  في اللحظات الاولى من الصباح الباكر ليوم 7 اذار من عام 1991 ، بعد ان احسّت اجهزة السلطة القمعية بالتحرك الجماهيري وانضمام اكثرية الربايا من الافواج الخفيفة الى الانتفاضة لم يبقى امام افراد الاجهزة القمعية الا اخذ المواقع الدفاعية والبقاء داخل مقراتهم.
 هبت الجماهير الشعبية للثأر لكرامتها الجريحة، وخاصة الشبيبة منهم والامهات الثكلى، مع اول تباشير التحرك الجماهيري، توجه كوادر الحزب واعضائه وفق توجيهات مسبقة وبالامكانيات البسيطة ليحتلوا مواقعهم، لتوجيه الضربات الموجعة الى اجهزة السلطة القمعية،  دون ان يسألوا عن الهوية السياسية (الحزبية) للمهاجمين، وللعمل من اجل توجيه الحركة الجماهيرية الواسعة التي نشأت اثناء اليوم الاول من الانتفاضة وايجاد الاساليب الملائمة للتعاون مع قواعد احزاب الجبهة الكردستانية .
   شهدت المدينة في هذا اليوم حماس عالي من جانب الجماهير الشعبية، فاق توقعاتنا، بحيث اصبح من الصعب السيطرةعلى هذا السيل الجماهيري الهائل.وكان البارزفي هذه المواجهة مشاركة الفئات الكادحة من مختلف الاعمارمن النساء والرجال وحتى الاطفال،ومنهم الهاربين من  جحيم الخدمة العسكرية التى تحمل الحقد الدفين تجاه السلطة الدكتاتورية و اجهزتها القمعية.
  لقد استطاعت  الجماهير المسلحة السيطرة على معسكرات الجيش ومقرات الحزب الحاكم ومديرية و مراكز الشرطة ومبنى المحافظة وجميع الدوائر الأخرى في غضون ساعات قليلة باستثناء مبنى مديرية أمن المحافظة.
  فى الساعة السابعة والنصف من صباح 7 آذار 1991 انطلقت مظاهرة من اهالي محلة بختياري رافعة شعارات معادية للسلطة، وقد حاول بعض الاشخاص  فرض شعارات حزب معين على المظاهرة الا ان رفاقنا تدخلوا وطلبوا منهم ان تكون الشعارات موحد تحت مظلة الجبهه الكردستانية .  . وتوجهت نحو المعهد في بختياري وانزلوا صور صدام واحرقوها ومن ثم توجهوا نحومقرحزب البعث ما يسمى (مقر الانفال) و حاصروه فأطلقوا النارعلى المتظاهرين،  وقد طلب عدد من المتظاهرين من البيوت القريبة العائدة الى الافواج الخفيفة السلاح و قد لبوّا الطلب باسلحة خفيفة  .  .  و بدأت الجماهير باطلاق النار على المقر ولكن استمرت مقاومة المتواجدين في المقر بسبب  قلة السلاح و العتاد لدى الجماهير.
  تجمعت مجموعة من رفاقنا واصدقائنا من النساء والرجال في محلة زركه ته في الساعة الثامنة على رأسهم الرفيقة خرمان محمد واخيها عمر محمد، و قد حصل الاخير على سلاح الكلاشنكوف وكنت متواجدا هناك  .  . اشعلوا النيران في اطارات السيارات على الشارع العام حيث تجمعت مجموعة كبيرة من الجماهير بضمنهم بعض النشطاء من اليسار وتوجهوا بمظاهرة نحو برج رعاية الشباب، الا ان مسلحين في ربيئة هناك اطلقوا النار على المتظاهرين، فتراجعت المظاهرة  نحو الخلف بعد ان جرح عدد منهم مما زاد من حقد الجماهير .  . فهاجمت مجموعة مسلحة الربيئة و سيطرت عليها بعد ان سلّم مسلحيها اسلحتهم الى القوة المهاجمة وكان ضمن الاسلحة (دوشكه)،وتوجهت تلك القوة بعد ان  وضع افرادها الدوشكة على سيارة بيكاب الى مقرالانفال لتعزيز القوة الموجودة هناك،وبدأت الجماهير باطلاق النار بكثافة على مقر الانفال، بما فيها اطلاق قذائف الاربي جي .  . و بعد مقاومة اقتحمها الشباب بضمنهم رفيقنا سوران جمال بعد القى قنبلة يدوية على المقر تمكن من التسلل الى الداخل مع عدد اخر من رفاقنا والجماهير المسلحة بعد وقع عدد من المسلحين جرحى في معركة غير متكافئة وبسبب قلة الخبرة.
  لم تتوقف الجماهير المنتفضة عند انتصار واحد، كلما يحصل المنتفضون على قطع اسلحة جديدة يتوجهون الى مركز اخر من اوكار الاجرام ،  فتوجه الجمع الغفير بانواع الاسلحة التى غُنمت خلال المعركتين السابقتين الى مقر الجيش الشعبي في حي البكر سابقا، و لم تتمكن القوة المرابطة  هناك من المقاومة وفي اقل من نصف ساعة سلّم افرادها انفسهم .  . وبذا حصلت الجماهير المنتفضة على كمية كبيرة من الاسلحة.اما مقر ما يسمى بالمنظمات الديمقراطية العفلقية في حي المهندسين، فقد سلمت المقر بدون اطلاق اية رصاصة .
  في الساعة الثانية عشر بعد الظهر،سمعت من خلال جهاز(اف ام) الذي كنت احمله ، طلب المحافظ من جميع المقرات التي لم تسيطر عليها الجماهير، و خاصة تلك القريبة من " حسيب صالح" الالتحاق بمديرية الامن العامة في السليمانية . في هذه اللحظات تحركت من بختياري و توجهت نحو حسيب صالح فوجدت جميع المقرات فارغة .
    بعد ذلك وردتني معلومات من توي ملك ان رفاقنا بقيادة الرفيق دلير جلال (دلشاد) ساهموا مع الجماهير المسلحة وسيطرواعلى مقرقيادة الجيش الشعبى في السليمانية ما يسمى (مقرعثمان)  كما ساهم رفاقنا في اماكن اخرى في تصفية المقرات ايضا. والجدير بالذكر ان خلية من الحزب الديقراطي الكردستاني طلبوا من الرفيق دلشاد النتنسيق معهم.
 وفي اليوم الاول من الانتفاضة تم تصفية كافة اوكار السلطة داخل المدينة وحولها بما فيها المعسكرات، ماعدا مديرية الامن العامة التى تجمعت فيها كافة رؤوس الاجهزة القمعية، وقد طلب مدير الامن من  منتسبيه  ان يجلبوا عوائلهم الى داخل المبنى حتى يضمن مقاومتهم حتى الرمق الاخير وفعلا تم حجز العوائل مع اطفالهم فى سرداب المديرية. ويقع مبنى مديرية أمن السليمانية الذي يطلق عليه سكان المحافظة "أمنه سوركه" أي الأمن الأحمر في حي شورش، وهو من الأحياء الذي تسكنه الطبقة المتوسطة، و تحيط به  منازل المواطنين، وقد شُيّد المقر على مساحة 16 ألف متر مربع عام 1985 ليصبح أكبر المقرات القمعية في المحافظة.  كما تمكن الرفاق : ئالان ممتاز وشورش امين مع اخرين السيطرة على متحف السليمانية و اصبح تحت حمايتهم وحافظوا على ممتلكاته  لحين تشكيل سلطة الجبهة الكردستانية. 
  والجدير بالذكرانه، في صباح 7 اذار شاهدتُ هبوط طائرة هليكوبترفي اطراف المدينة في المنطقة القريبة من بكرجو وبعد دقائق حلقت الهلكوبتر وتركت سماء السليمانية وتوجهت باتجاه كركوك، وفيما بعد علمنا بهروب جعفر البرزنجي رئيس المجلس التنفيدي للحكم الذاتي حيث كان متواجدا في السليمانية

  يوم 8 اذار، طُلب من اهالي المنطقة الساكنين حول بناية الامن من خلال المايكروفون، ان يتجهوا الى داخل البناية لان في نيتهم رش المنطقة بالسلاح الكيمياوي كما عبّروا، في محاولة لترويع المنتفضين و كان غرضهم الاساسي هو ابقائهم اسرى لديهم لمنع الهجوم . . الا ان هذه المحاولة باءت بالفشل بفضل يقضة جماهير المنطقة.
 في يوم 8 اذار 1991،تجمع  الوف المناضلين من جماهيرالسليمانية وهم من اتجاهات سياسية مختلفة  وبحوزتهم كل ما امتلكوه من الاسلحة التي غنموها في اليوم الاول من الانتفاضة ، تجمعوا حول مديرية الامن بعد تطويقها من كل الاطراف وبدأوا بضربها بكافة انواع الاسلحة، حيث تجمع فيها عدد كبير من المسؤولين الحكوميين والحزبين من بينهم (المحافظ ، مدير الأمن، مدير الشرطة، أمين سر فرع السليمانية لحزب البعث) .  .
أبدى الموجودون في البناية المذكورة مقاومة عنيفة استمرت حوالي 15 ساعة تقريباً، اعتقادا منهم بأن الحكومة لن تتركهم وسوف تنجدهم، إلا أنهم في نهاية المطاف خابت آمالهم و استسلموا لقدرهم المحتوم ، رغم النداءات التي أرسلها المحاصرون في البناية إلى السلطات الحكومية في كركوك وبغداد عبر أجهزة اللاسلكي المتوفرة في داخل البناية، وقبل ان ينتهي النهار سلّموا انفسهم الى  الجماهير المسلحة، بعد ان قتل المحافظ ومدير الامن و أمين سر فرع السليمانية للحزب، وبعض المنتسبين من اجهزة القمع الحزبي والامنى .  .
  و قبل ان يسلموا انفسهم اقتحم عدد من رفاقنا البناية وغنموا الاسلحة و حاولوا الحصول على مفاتيح السجن، لاطلاق سراح المسجونين السياسين. ومن الرفاق الذين ساهموا في الاقتحام الرفيق ماموستا قادر والشهيد رعد وعماد نوري  وجمال والي ودلير جلال و احمد فقيه وغيرهم، كما تمكن الرفيق حمه شوان مع مجموعة اخرى اقتحام مديرية امن مركز السليمانية والسيطرة على كمية كبيرة من الوثائق التي في اثناء نقلها بسيارة الشهيد علي بوسكاني  اصطدموا مع مجموعة مسلحة غير معروفة و اشتبكوا معهم و قد جرح في الاشتباك الرفيق ئاسو شيخ علي. كما حصل الرفيق دلير مع مجموعته الثائرة، على كمية من الوثائق تخص حزبنا .
  في صباح يوم 8 اذار ايضا، توجهت الى بيت الرفيق دلير حيث كان الدكتور عزالدين مصطفى رسول مختفي عندهم لأن افراد اجهزة الامن كانوا يراقبون داره.   كان مريضا وطريح الفراش وكان معه الاخ فاروق ملا مصطفى والسيد شيخ سالار وكنا مقتنعين انه في هذا اليوم سوف تُقتحم اخر قلاع جهاز القمع الصدامي في السليمانية، لذا طلبت من الدكتور ان يتصل بقيادة احزاب الجبهه الكردستانية و يبشرهم بهذه النهاية عن طريق احد الاحزاب الكردستانية الايرانية  المعارضة المتواجدة علناً في المحافظة، و ان يطلب ارسال ممثلين منهم لتشكيل الحكومة المحلية، وقد اكد الدكتور في مقال له في كردستان نوي انه ارسل مثل هذه البرقية.
  في ذلك اليوم 8 اذار،  كان حزبنا الشيوعي العراقي هو اول حزب سياسي يفتتح مقرات له في الاماكن التالية: في مقر قيادة الجيش الشعبي المنحل، وفي الدار المقابل لمقر ما يسمى الانفال لان المقر لم يعد صالحاً للسكن. وكذلك في نادي الضباط في العقاري. وعلق قطعة على كل مقر وتم تنظيم بعض الرفاق البيشمركة لحراسة المقرات .   
لقد لعبت النساء دورا كبيرا في تشجيع الشباب على الهجوم على المقرات واقتلاع صور صدام. و علما انه في الايام الاولي من انتصار الانتفاضة وكان الآلاف من اهالي السليمانية مسلحين .  . لم تسجل اية حادثة تذكر وكان مرور السيارات اكثر تنظيما رغم وجود فراغ اداري في المدينة.
    كانت حصيلة الشهداء الذى قدمه حزبنا الشيوعي في انتفاضة اذار المجيدة في محافظة السليمانية وهم رعد نوري الذي استشهد في الشارع الستيني قرب الالبسة الجاهزة والشهيدان زانا عثمان وئاكو ابراهيم في جبل ازمر والبشمركة سربازحيدر محمد (هورامان) في اطراف حلبجة والشهداء الاخوة الثلاثة زاهر حمه صالح ابو بكر وجمال حمه صالح ابوبكر ورزكار حمه صالح ابو بكر في تحرير مدينة دوكان، كما جرح احد الرفاق في طاسلوجة وجرح رفيقين في ازمر اثناء دفاعهم عن مديىنة السليمانية.
   لقد اكدانتصارالانتفاضة وتشكيل السلطة المحلية من قبل احزاب الجبهة الكردستانية بعد ايام قليلة، على  وجود نوع واضح من التنظيم في قيادة الانتفاضة، حيث ساهمت كافة الاحزاب بما فيها التيارات اليسارية بقسط يتناسب وحجم تواجده في داخل المدينة بضمنها حزبنا الشيوعي الذي ارسل العديد من كوادره الى داخل المدينة قبيل الانتفاضة للتحضير لها، كما اثبت ان تحقيق الانتصار لا يتم بدون الدور النشيط للجماهير داخل المدن.
    و في مقدمة السلبيات التى واجهت الانتفاضة هي عدم وجود تنسيق بين احزاب الجبهة الكردستانية داخل المدينة رغم وجود بعض الصلات بين القواعد، و لوجرى مثل هذا التنسيق وفق خطة مدروسة مسبقا، فانه كان يحول دون وقوع العديد من السلبيات، كان بالامكان المحافظة على ممتلكات الدولة التي هي ممتلكات الشعب، التي راحت سدى . كما كان بامكاننا تنظيم الجنود لتحريكهم ضد السلطة الدكتاتورية في بغداد.
واخيرا اعتذر من جميع الرفاق الذين ساهموا في هذه الملحمة البطولية ولم اذكر اسمهم.




 


         
   
 
 
         
           
       


                                         

26
أمّي الجنينة والنجمة

سهيل الزهاوي

  مازلت اتذكرها وانا في حدود السنة الثالثة من عمري. كانت تحملني وتحضنني بلهفة. كنت في الليل ارقب ظلها على جدران البيت ، تحت ضياء القمر، وكأن حتى ظلها يحدب عليّ ! كان حنانها يفيض علينا ويمنحنا الدفء والهناء .
كانت كعادتِها تستفيق فجراً في كل يوم كطير مهاجر وتتطلع الينا بهدوء، ثم تلملم فراشها وتنزل بخطاها الخفيفة الى الينبوع لتغسل نعاسها، وتشق طريقها نشيطة ناسية تعبَ الأمس الذي  وامتص قواها وابتلع كل نهارها. كنت ارقب حركاتها وانا مستلقي في فراشي الوثير.
كانت تبدأ يوم عملها باشعال الفانوس والطباخ النفطي لتغلي الماء وتهيئ الشاي على الموقد الفحمي بعد ان اشترت كل ما تستلزم وجبة الصباح، ثمّ تدعونا جميعا إلى تناول الفطور .
  كانت إمرأة حسناء ذات ابتسامة دائمة ناصعة كالثلج، وكانت عيناها الجميلتان الصافيتان تومضان بالرقة والحنان ، وتتدفق من قلبها الأخضر مشاعر برقة الفجر.
كانت في الخامسة و العشرين من العمر حينذاك . ولدت في مدينة السليمانية سنة 1924 . كانت والدتها كركوكيّة ، ووالدها من السليمانية ومن عائلة المؤرخ الكردي المعروف محمد امين زكي ذي الحضور المتميز بعد تشكيل الدولة العراقية في عشرينات  القرن الماضي.
كانت والدتي أمّيّة، لكنها نابغة بالفطرة، وقد تجلّت نباهتها حين كان احدنا يفقد كتاب الفيرياء او الرياضيات ؛ فسرعان ما تجده قبلنا! وكانت تتكلم اللغات: العربية والكردية والتركية بطلاقة.
تزوجت من والدنا في الثالثة عشر من عمرها، وانجبا احد عشر طفلا، ثلاث بنات وثمانية بنين.  وقد اعدم ابنها الاصغر سنة 1985 على ‌‌أيدي  جلادي صدام حسين ، وهو طالب في الصف المنتهي في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد، لكن هذه الفاجعة لم تضعف عزيمتها، بل ازدادت اصرارا على تأييد قضيتنا العادلة وانتصار القيم الانسانية ، حيث وقفت شامخة يجتاحها حقد غريزي على الجلادين و انفجرت كالبركان ، عند تسلمها جثمان ابنها المعدوم وصاحت باعلى صوتها :
" سيأتي يوم ارى فيه ابناء صدام يقتلون وهو على قيد الحياة"
وفعلا تحقق تنبّؤها ، حيث قتل المجرمان قصي وعدي قبل اعدام صدام حسين.
 في الأسبوع الأول من السنة الدراسية ( 1967) عقدت خليّتنا الحزبية اجتماعها الثاني في دارنا الواقعة في محلة الحميدية بمدينة خانقين، بعد الإجتماع الأول الذي عقدناه على ضفاف نهر الوند، بعد انتمائي الي الحزب الشيوعي العراقي و موافقة الحزب على ترشيحي لعضوية الحزب في صيف السنة نفسها ، وكنت دون سن الثامنة عشر من عمري.
وبعد ان انتهينا  من الاجتماع ،طلب مسؤول الخلية مني أن أراقب خارج البيت ؛ حتى يتسنى لهم الخروج من الدار بأمان دون ان يلاحظهم احد ، وإذا بي أرى والدتي جالسة وحدها على مَصطَبة امام الباب ، وبفطنتها المعروفة وابتسامتها المرسومة على شفتيها،ابتسامة الرضى اومأت بحركة من رأسها ، قبل ان اصل الى الباب،اغرقت نفسي في بريق عينيها اللتين تراءتا لي كأنهما تهمسان بكلمات خافتة :
" الطريق مأمون ؛ ليخرج الجميع"
 وكأنها تعلم بما أُرومه دون ان أرى علامات خوف وقلق على وجهها، فاستغربت للوهلة الأولى، وبعد ان قرأت ملامح وجهها المتهلل وتوهج الحب في عينيها ،تيقنت انها عارفة بما يدور في جلستنا، ممّا أجّج حماسي ، وشحنني بزخم كبير للمثابرة في حراكي السياسي بأقصى همّة ونشاط وهمة . كانت تحرص على ألّا ينغّص أي شئ حراكنا؛ ولذا قررت الجلوس أمام الباب لتراقب ما يجري من تحركات حفاظاعلى سلامتنا، لكنها كانت تدرك أن من يعمل في المعارضة يخطو في كل يوم خطوة نحو قبره، ومع ذلك لم تفاتحني بهذا الشان طوال حياتها، بل كانت تشجعني على الدفاع عن الحق مهما بلغت نتائجه. لم تكن والدتي شيوعية الا  في القلب فقد كانت امرأة قوية ومتفتحة الذهن غير متعصبة للدين وحساسة؛  فتحول حنانها الى حب المظلومين والكره الشديد للظالمين. كانت على قناعة تامّة بأن العدالة ستنتصر حتماً؛ مهما بلغت درجة الإضطهاد، لكنّما بالعمل المنظم والفعل الثوري الدائم. وكانت روحها تفيض بعِزَّةُ النَّفْسِ والإيثار والعنفوان الإنساني؛ فقد تأثرت في نهاية اربعينات القرن الماضي وبداية خمسيناته بمآثر الشيوعيين البطوليّة مقارعة الظلم والاستبداد عبر مشاهدتها للتظاهرات العارمة التي عمت مدن العراق ومنها السليمانيّة الباسلة، كانت تروي لنا قوة وصلابة الشيوعيين. وقد نبهتني ذات مرة قبل ثورة 14 تموز 1958 بسنتين بأن هناك محاولات من جواسيس نوري السعيد،(وكانت تقصد اجهزة التحقيقات الجنائية التى شكّلت في العهد الملكي لمكافحة القوى السياسية المعارضة للنظام وخاصة الحزب الشيوعي العراقي، وذلك بدس منشورات الحزب الشيوعي في جيوب الاطفال ومتابعتهم لحين عودتهم الى بيوتهم، وتدبير دهم الشرطة لهذا البيت أو ذاك بغية القاء القبض على احد افراد العائلة بتهمة الشيوعية؛ فأصبحتُ حذرا جدا ألتفت يمينا ويسارا كلما سرت في الشارع منفّذاً توصية أمي،وقد انعكس ذالك على عملي الحزبي لاحقاً حيث كنت شديد الحذر. و بعد ثورة تموز، علمت بارتباط اخي زهير بالحزب الشيوعي العراقي، وكانت أمّي تعلم أيضاً بنشاطه الحزبي آنذاك؛ ولذلك نبهتني الى آلاعيب اجهزة السلطة ، وتعرّفت لاول مرة من خلالها على كلمة الشيوعية وانا في السابعة من عمري.
 ان سمو وعي هذه المرأة الامية يدل على قدرة تغلغل الحزب فكريّاً وسياسيّا في أوساط الجماهير الشعبية ومدى النشاط الثوري حينذاك.
  كان اندلاع ثورة 14 تموز قد فتح آفاقاً جديدة لنشر الوعي السياسي بين الجماهير، وقد عايشت الاحداث والتظاهرات والمسيرات الجماهرية التي عمت كافة انحاء العراق بقيادة الحزب الشيوعي العراقي ، و تفتّح معها وعيي السياسي ، كما عند أكثر ابناء جيلي، و كنت اقتحم العمل السياسي دونما وعي حقيقي ، وكنت ازور مخيم اتحاد الطلبة العام فرع خانقين المقام على شاطئ نهر الوند بصحبة اخي زهير، وكذلك مقرهم قرب محلة المزرعة وأنا طالب في المراحل الاخيرة من الابتدائية،ولاول مرة ساهمت في الحملة التي قام بها الحزب الشيوعي العراقي في عام 1961 ،حيث علقت شعارات الحزب حول السلم في كردستان على جدران الدور السكنية غريزيا بدون علم الحزب ، بعد العمليات العسكرية التي شنها الحكومة العراقية ضد الحركة الكردية والتي اندلعت في ايلول ذلك العام نفسه.
 كان لوالدي دور كبير في تمنية قدراتي على القراءة الذاتية ، عبر توجيهي لمطالعة مجلات الاطفال،عندما كنت في الصف الرابع الابتدائية، فقد سجل والدي لي اشتراكا شهريا في مجلة (سمير) ، ثم واصلت القراءة وكنت اطالع كل ما يصل الى يدي من كتب ومجلات ومنها الروايات العربية والعالمية المالئة مكتبة اخي زهير، وسرعان ما انجذبت الى الكتب الماركسية التى توفرت بكثرة بعد ثورة 14 تموز وكان والدي يتابعني دون يتدخل في خصوصياتي، واتذكر  ذات مرة التقيت به عندما كنت مختفيا في عامي (1991 و1992 ) في بغداد عن انظار السلطة الفاشية، واعمل ضمن التنظيمات السرية للحزب الشيوعي العراقي، وقبل وفاته بسنة، قال لي:
 "  انت تعرف جيدا بأني لم اتدخل في شؤونك طيلة حياتك، لكنني اطلب منك شيئا واحدا، وهو ان تتزوج لاري اطفالك قبل رحيلي"
 وكان عمري قد تجاوز الثانية والاربعين في ذلك الحين، ورقد رقدته الابدية دون أن تتحقق امنيته برؤية احفاده.
وهنا لابدّ من التأكيد على ان المنعطف الكبير في حراكي السياسي هو انقلاب 8 شباط 1963 إذ كنت في عنفوان شبابي، وكان لي شرف المساهمة في التظاهرة المتصدية لانقلابيي( 8 ) شباط الاسود في مدينة خانقين وانا في الرابعة عشر. ولأنني عشت سنين مراهقتي في ظروف بالغة الصعوبة؛ فقد اثرت فيً  ايما تأثير وفجّرت فيّ مشاعر الغضب والألم، وشاهدت بنفسي الجرائم التي اقترفها انقلابيّو 8 شباط الفاشست ضد الشيوعيين واصدقائهم، وما آلت إليه من نتائج وخيمة و مآسي و كوارث،واستمرت حتى سقوط النظام الصدامي، بل مازالت مستمرة لحد هذه اللحظة..
حقا كانت ايام دامية فجّرت عندي  قوة الارادة، والتحدي، وبلورت اتجاهي الفكري و نمّت فيّ وعيي الذاتي .
‌فألف سلام وسلام لروحك الطاهرة يا من كنت لنا جنينة خضراء ..
والآن نجمة متألّقة هادية في زرقة السماء   



27
قصيدة من الادب العالمي
 للشاعر النرويجي سيجبيورن اوبستفالد
(1893) من ديوانه القصائد
   

" المدينة "
                                           

ترجمة من النرويجية:  سهيل الزهاوي

اسكن في الجبال
منذ اسابيع، لم ار احدا...لم أُسْمِعْ صوتي .
سحابة حمراء تمرمن فوق .
إسودّتْ مياه الجبال،
ليس بمقدوري الصراخ .
مخاطر الخوف تحوم حولي ،
اين هم الان  ؟ ، ماذا  يَفْعَلون ؟
هل هذه نهاية الحياة؟
هل هم على قيد الحياة ؟ 
الجبال لا تمتلك قلباً                 
لابد لي ان ابتعد الى اسفل . . الى ما وراء الضباب،
الى السهول الواسعة جنوبا،
هناك  ينبض القلب ..
هناك تنبض الوف القلوب بأنسجام تام . 
توجهت نحو الوادي على عجل،
اختبأت في مقصورة القطار , 
طوال الليل تَشْخرالعربة الحديدية.
لاحت ومضة برق بعيدا في الظلام الدامس ،
عبر الوديان الطويلة و العميقة ،
فوق السهول الواسعة .
وقفت في  مساء اليوم التالي على الشارع المعبد.
لم يعد للغابات اثر،
اختفى حفيف  الأوراق،
لكن ضجيج السيارات وضوضاء الاقدام
لا تعد و لا تحصى .
ارى منزلاً بجانب منزل ونوافذ . .
أسمع صرخة من بعيد.
من يعاني ؟!
أركض باتجاه الصراخ.
أسمع صوت الصخب من فتحات النوافذ
 شئ مروّع !
قلب النساء والرجال مِجَنَّهُم 
هم سائرون الى الفسق
قذاراتكم اسوأ من السحلية على شاطئ البحر
خطاياكم لا تعد ولا تحصى
من الرعب جريت الى ابعد
و مررت بمنزل،
كان هناك حشدٌ من الناس.
نظرت اليهم
كانوا جالسين على طول الجدار،
لا هم يتحدثون، لا هم يبتسمون
صرت أَشدَّ فَزَعاً منهم
مررت على حانة الرقص،
امتلأت بالرجال والنساء،
هنا يركل احدهما الاخر بعنف . .  هناك..
كان الرجال و النساء يرقصون في سَيْرِهم
ترى هل هؤلاء هم اخواني ،الناس . . ؟
مَضَيْتُ اكثر فأكثر ،
اسْتَبَدَّ بي القلق . .
انهم لايتحدثون .. لا يبتسمون بعضهم للبعض
كما لو انهم قد جُلدوا بالسياط !
الاخطار تحوم في المكان،
اسمع اصوات البكاء والنحيب من المنازل الصغيرة
و تركت خلفي البكاء،
انه بكاء،
 بكاء . . !!
واخيرا . . تتكشف لي وجوهم الحقيقية .
اخيرا ارى ذلك المشهد
هذا اسوأ جلد للذات
هذا ضرب من الجنون !
اتطلع الى ما يدور حولي
احدق في عيونكم
كان عنائكم هروب الى الامام
نعم، انهم مجانين... انهم مجانين!!

28
الالفية الاولى لريكاي كردستان اعادت بي الذكريات
الى الماضي القريب
                                                                                                                        سهيل الزهاوي
      في زمن العنف المنظم ضد حزبنا الشيوعي والحركة الديمقراطية العراقية والكردستانية ، لم يكن امامنا خيار غير التواصل والعمل من اجل اعادة الاتصال بالركائز والتنظيمات المقطوعة . كان لريكاي كردستان وصحافة الحزب الاخرى مهمة شاقة في ذلك الظرف الدقيق الذي كانت تمرّ به كردستان بشكل خاص و العراق بشكل عام، و كان عليها ان تخوض نضالا مستمرا من اجل تثبيت دورها كاداة تعبئة و لايصال صوت الحزب الى الجماهير الواسعة.
  كان من الصعب ايصال اعداد كبيرة من ادبيات الحزب من معاقل الانصار الى داخل المدن ويعود السبب الى الحجم الكبير للهجمة الشرسة للنظام البائد من جهة ، و الى نتائج الاقتتال الداخلي بين فصائل البيشمركة من جهة اخرى .
  و كان لزاما علينا ان نفكر لايجاد بدائل و وسائل اخرى لايصال صوت الحزب الى الجماهير ، رغم المحاولات المتواصلة مع قيادة الحزب آنذاك لتزويدنا بأجهزة الطباعة ، الاّ ان هذه المحاولات باءت بالفشل بسب تخوّف الحزب من انكشاف امرنا للاجهزة الامنية . . وحذر الحزب هذا، كان نابعاً من تجارب مريرة سابقة مرّ بها .   
  لم نقطع الامل ، كنا نفتش عن البدائل لتكثير ادبيات الحزب في داخل المدن ،الى ان توصل الرفيق عمر محمد رسول الى اختراع رونيو شعبية التى يمكن من خلالها طبع اكثر 100 صفحة في ساعة واحدة ، و حينذاك لم نمتلك آلة طابعة حتى يتسنى لنا طبع الاستنسل. وكنا في بحث دائم من اجل الحصول على الة طابعة كوسيلة لتكثير ادبيات الحزب.
    في فجر ذات يوم من ( 1985)وقبيل عقد مؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي في تشرين الثاني من نفس العام،اعلنت السلطة الفاشية قرار منع التجول في السليمانية عبر مكبرات صوت كانت تحملها طائرات هليكوبتر و كانت تحوم في سماء المدينة وتطالب اهالي المدينة بتسليم الخونة على حد تعبيرهم . فقد داهمت مفارز الاجهزة الامنية وقوات الجيش اللاشعبي الدورالسكنية الامنة وتم اعتقال العديد من المواطنين الابرياء واعدمت مجموعة منهم في مساء نفس اليوم ،  كما هدمت العديد من الدور السكنية وانفلت اعداداً غير قليلة من العوائل .
   قررت منظمة الحزب في السليمانية اصدار بيان يندد بالعمليات الجبانة و يدعو الى التصدي لافعال السلطة العنفية وبهدف رفع معنويات الجماهير. فقد طبع البيان الرفيق ئالان ممتاز نوري علي بخط اليد على الاستينسل وفي اول تجربة تم طبع اكثر من الفين نسخة ، وبعد مرور ثلاثة ايام على منع التجول وزعت البيانات على الدور السكنية في جميع انحاء مدينة السليمانية.
    التقط الشهيد علي بوسكانى احدى النسخ من هذه البيانات وبعد ان علم ان منظمة الحزب لا تمتلك الة طايعة ، و بعث لنا الة طابعة ونقلها بسيارته الى دار الرفيق الفقيد شيخ علي البرزنجي ، ومن هناك تم نقلها الى مخبئها الجديد من قبل الرفيقات جيران البرزنجي وخرمان محمد رسول ونشتمان احمد . و اصبح في متناول منظمة الحزب امكانية اعادة طبع ريكاي كوردستان وتكثير الادبيات الاخرى باللغتين العربية والكردية .
   في مساء صيف حار من عام 1986 ، بعدما تمّ اعادة طبع ريكاي كوردستان  على الاستينسل ، و جرى تكثيرها بالرونيو الشعبية بالتناوب من قبل الرفيقة خرمان و الرفيق عمر وكاتب هذه الاسطر في دار تم تأجيرها لأغراض العمل الحزبي تقع في بداية الشارع المؤدي الى مديرية امن السليمانية  . و بينما نحن منهمكون في تنظيم البريد الى المنظمات الحزبية . .
فجاة و في الساعة الحادية عشر من ذلك المساء  سمعنا من يطرق الباب ، وبسرعة هائلة جمعنا الادبيات وتوجهنا بها نحو السطح وتمكنت الرفيقة خرمان من القاء الادبيات في داخل برميل (خزّان) الماء واوعزنا الى النساء والاطفال بالذهاب الى الأفرشة المفروشة فوق السطح لغرض النوم . .
وكان علي اهرب من فوق السطوح الا انني تراجعت بعدما نبهني الرفيق عمر باشارة واضحة من الطابق الاول ، بان هدف مفرزة الامن هو وضع كمين فوق السطح لحماية مديرية امن السليمانية لهذا السبب بقيت في مكاني ، فبعد ان عرفوا من النقاش معهم ان العائلة نائمة فوق وللدار سطح واحد ،انسحبوا الى البيوت القريبة .
     وفي نفس الليلة وبهمة عالية جرى كوي جرائد ريكاي كوردستان بالمكواة بعد ان تبللت نسخها بماء البرميل؟ وفى اجواء من المرح والنكات تم اعادة لف البريد بعد ان جففت النسخ، وارسل في اليوم الثاني الى المحطات  الحزبية تحمله الرفيقة الفقيدة ئايشة كول المعرو فة حاجي زن وهي والدة الرفيقة خرمان ، والرفيق عمر.   
       


29
أدب / استفيق على حلم
« في: 13:58 29/07/2012  »
استفيق على حلم
                                                                                                    سهيل الزهاوي
أشدُّ من  مَوْجِ البَحْرِالمتلاطم  بِصَخْرَة قَلِقاً
 بعد عدة طعناتٍ من الخلف
في زمن المُراوَغَة والنِّفاق 
تتناهى إليَّ اصوات خافتة
ظلت  تلاحقني في اليَقَظَةِ ، كما في المنام 
    .  .  .
عند رحيلي، لم يقف، ليُوَدِّعَني
وقفت مذهولا امام الشبح القادم
اردت ان اسأل حبيبتي..
لم أَقْدِرْ على السؤال ..
فقد انكفأ لساني داخل فمي من شِدَّة الأَلَمِ
تقَفىّ أَثري
سَرابٌ راسِبٌ جاري
اِسْتَبَدَّ بِيَّ السُّهْدُ
      .  .  .
في جنح الليل اتمدد على السرير وحيدا
الظلام يلفّ كل شئ، يَخْفي حتى ظلالي كاقتذاء الطير،
في صمت  طويل
أرْهَفْتُ السَّمْعَ الى صوت الريح
أَسمَعُ صراخ الثَكَالى.. وأسمعُ أنين امي                                                     
والصَّدَى يَخترق الحائط
يمتزج الانين بالأمل
ينضح منه ريح الطيب
والخضراء تعانق الشمس الحزينة
ألملم دموعي بمنديل احمر عتيق
       .  .  .
اتلمس صفحات من الاوراق الخضراء على الشجر
تُزهر  ذكرياتي ..
استفيق على حلمٍ ..
تارة.. يَحِنُّ الى البرق
وتارة .. يفصل الروح عن الجسد

اربيل- كوردستان العراق
18/7/2012



30
في رحيل المناضل مام قادر



                                                                                                سهيل الزهاوي
 
ببالغ الاسى والحزن تلقيت نبأ رحيل المناضل الجسور مجيد عبد الرزاق  المعروف  باسمه الحركي ( مام قادر) في الاسبوع الماضى .   
     دخل الرفيق ( مام قادر )  معترك العمل السياسي مبكرا،وهو طالب في المرحلة المتوسطة في نهاية الاربعينيات من  القرن الماضى . . و قد تعرّفت على  ذلك الانسان الوديع، الهادئ الطبع و اللطيف المعشر،  من خلال نضاله الشاق المتواصل في دروب العمل السري والعلني ، وفي جبال كردستان . . مناضلا صلبا متحديا كل الصعاب، مناضلاً لم يرف له جفن من اجل قضية شعبه و وطنه...  لم يتهاون، ولم يتوانى  في التضحية باجمل ما لديه من اجل المبادئ الانسانية التي آمن بها .
كان هذا الانسان الوديع الهادئ الطبع، نقيا ومتواضعا اشد ما يكون عليه التواضع و عطوفا على رفاقه و مخلصا في علاقته مع الاخرين، و مع من عرفه. و
يتذكر الشيوعيون الذين عملوا معه، تحليّه بالاخلاق العالية و بالصفات السامية،  وهو يحظى بحب  الجميع واحترامهم.
. . بعد فراق دام اكثر من ثماني سنوات، التقيت بالفقيد في مدينة السليمانية في ربيع هذا العام ، وكانت ذات روح العزم في قلبه الذي لا يقهر . . و رغم شدة مرضه ، اصر على ان يزور معي الكاتب والاديب القدير محمد ملا كريم و الرفيق بهاء الدين نوري كلاًّ في منزله ، وكان اللقاءان حاريّن، و افاقا فيّ الكلمات و المعاني المنسية من حياتى السابقة و كأنها قناديل تتوهج في ضوء خافت . . لقد ترك الفقيد اثرا كبيرا في نفسى ، ولا يمكن ان يمحى من الذاكرة .
انحني اجلالا واكبارا لهذه القامة الشامخة ... المجد و الخلود للفقيد الراحل مام قادر .
الصبر والسلوان لعائلة الفقيد ولرفاقه واصدقائه






31
                  
الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (01866-190)
 رائد الحداثة في النرويج  
قصيدة " اتطَّلَعْ "
 
                                                                                                                 سهيل الزهاوي        
                                                                                                        
                                                              
  ولد الكاتب النرويجي سيجبيورن اوبستفلدر (-1866 0190)  بمدينة ستافنجرفي النرويج،من عائلة متدينة وهوالابن السابع من اصل 16 طفلا لم يعش منهم الا ستة،كان والده رجلا صارما ويعمل  خبازا.  توفيت والدته" سيرين" وهو في الرابعة عشر من عمره،اكمل التعليم الثانوي بأمتياز عام  1884.
  بدأ بكتابة القصص القصيرة في مرحلة الدراسة الثانوية.فيما بعد التحق بجامعة في كريستيانا ( اوسلو  حاليا)،درس الادب واللغة بضعة سنوات،حيث قطع دراسته في الجامعة ولم يؤدي الامتحان النهائى ، ثم التحق بمدرسة الهندسة الميكانكية بأمل ان يجد عملا له في امريكا ،في وقت كانت فيه عائلته تعيش من ضائقة اقتصادية.   و قد نشر في تلك الفترة بعض القصائد  في الجرائد والمجلات حتى عام 1890 . .
     في عام 1890 سافرالى امريكا لغرض العمل،بقى مدة سنةمع شقيقه،بعد عودته من امريكا اصيب بالانهيار العصبي،حيث كان يعاني معظم افرادعائلته من مرض عصبي ادخل لفترة وجيزة إلىمستشفى  للامراض العصبية في كريستيانيا ، كان الشاعريعيش ازمة عميقة و يعاني من كآبة شديدة وارق، انفعالات  و قلق، شعور بالوحدة والاغتراب، توتر، و يأس و رهبة من الحياة .
   كان اوبستفلدر يخطط  ليصبح مؤلفا موسيقيا ، حيث كان مولعا بالموسيقي، وقدشجعه احد اصدقائه الذي كان مؤرخا في مجال الفن الى التوجه نحو الادب والكتابة بعد ان اكتشف مواهبه وقدراته في هذا المجال .        
   زار اوبستفلدر عدد من الدول  الأوروبية ، وقضى بعض الوقت في فرنسا، هناك تأثر بافكار الشعراء الفرنسين .  حيث  نشط في مجال الادب وابدع  في كتابة القصص القصيرة و الرواية، ولكن الشعر كان في المقام الأول في صلب اهتماماته . واهم قصائده و الاكثر شهرة هي" اتطَّلَعْ "،"المدينة"،"المطر"
و" يمكن التحدث في المرآة" وتعتبر رواية "يوميات كاهن" تحفة فنية و كان قد بدأ بكتابة هذه الرواية   في عام 1900، و لم تكتمل لوفاته، وقد نشرت  بعد فترة وجيزة من وفاته في نفس العام . .
اهم اعمال اوبستفارد الادبية خلال حياته القصيرة  :
قصائد (شعر) – 1893  / الحياة – 1894 / قصتين قصيرتين  -- 1895/
،الصليب(رواية) – 1896  /  قطرات حمراء (دراما) – /1897استير (دراما) – 1899/ راهب في مذكرات (رواية) – 1900 لم يكمل الرواية بسبب وفاته / عن الربيع (دراما) – 1902  نشر بعد وفاته / العمال الناجون  (شعر) – 1903 نشر بعد وفاته  

      
    وبعد ان هيمنت القواعد التقليدية الى حد كبير على بنية  القصيدة  المعتمدة على الاوزان الشعرية و القافية حتى التسعينيات من القرن التاسع عشر في النرويج .   برز الشاعر اوبستفلدرفي تلك الفترة حيث منح فجأة الحرية لأوزان الشعر وحرره من قيود القافية، خلافا لتلك القواعد.  
    فصار يعتبر رائدا للحداثة في مجالى الشعروالنثر حيث وضع ارضية جديدة لشكل و مضمون الشعر الحر ليس في النرويج فحسب بل في عموم الدول الاسكندنافية.       وتتميز قصائده بطابع الرومانسية الجديدة ويغلب عليها الطابع الديني.  في وقت لم يكن فيه تأثيرهذاالاتجاه  يسري تأثيره قبل وبعد الحرب الثانية على الشعروالنثرفي النرويج ،  حيث بقي في الأوساط الادبية النرويجية منظوراً إليه بشيءٍ  من الريبة والنفور الى ان برزتأثيره في وقت لاحق.  
   امتزجت نظرة الشاعر الى الحياة مع مضمون الرومانسية الجديدة.و لم يكن مزاج الاغتراب والعزلة هو المهيمن على اشعاره ونتاجاته  ، بل كان عدد من قصائده يعبّر عن ومضة الحياة ، ومعظم قصائده تحمل الادوات التقليدية للشعر .
            نشرت في عام 1995 لاول مرة مجموعة من النصوص بعنوان"الاجزاء و الجَزْل"  للشاعر اوبستفلدر واحتوت على افكارجديدة   وخطوط عامة ، لم يتم استكمالها  و ربما كان في نيته اغنائها  حسب رأي النقاد النرويجين.
  صدرت في عام  1893، مجموعته المعروفة "قصائد" و أثارت على الفورانتباهاً بسبب شكلها الجديد الذى يختلف عن اسلوب الشعراء في عصره. نشر معظم قصائده في الجرائد والمجلات خلال حياته.  و يؤكد  النقاد النرويجيون اوجه التشابه بين شعره والاتجاه الأدبي التعبيري للفنان( إدوارد مونك) .      
  اصيب الشاعر سيجبيورن اوبستفلرد  بداء السل المستعصي و توفي  في 29 يوليو 1900 ، في أحدى المستشفيات في كوبنهاكن وهو لم يكمل  ( 34 )  سنة من عمره ، دفن في نفس اليوم الذي ولدت ابنته الوحيدة
   يقول الشاعر
اتطَّلَعْ (1)    
1

اتطَّلَعْ إلى السماء البيضاء ،
اتطَّلَعْ إلى السحب الرمادية القاتمة ،
اتطَّلَعْ إلى الشمس الدامية ،
2
هكذا هوحال  العالم،
هكذا هو مدارالوطن.
  3
قطرة من المطر!
4
اتطَّلَعْ الى المنازل العالية،
اتطَّلَعْ الى الاف النوافذ،
اتطَّلَعْ الى برج الكنيسة البعيدة.
.
5
هكذا هو حال الارض،
هكذا هو الانسان في الوطن.

6
تلتئم الغيوم الرمادية القاتمة.بعد ان غَابَتِ الشَّمْسُ.      
7
اتطَّلَعْ  الى اناقة السادة،            
اتطَّلَعْ الى ابتسامة السيدات،
اتطَّلَعْ الى الفرَس الذليلة.  
8
بينما صارت الغيوم الرماديةثقيلة.  
9
أرى أرى. . .
نشأت على كوكب خاطئ،
انه شئ غريب حقا .

قصيدة " اتطَّلَعْ " من القصائد الأكثر شهرة للشاعر اوبستفلدر التى نشرها ضمن مجموعته الشعرية، يعنوان" قصائد" في العام 1893 .        
  وهذه القصيدة هي تعبير عن الرؤية الداخلية للشاعر،وهي ورؤية مظلمة، لم يكن  سعيدة طيلة حياته، فهو يخضع للحس والخيال لا للعقل وكان تفكيره عاطفي  ، لذلك  يتبنى في القصيدة الشعور والعاطفة، ويتميز بتمرده على الواقع الجديد،وبالحريّة في المضامين والأشكال،وبرموز شفافة سهلة،ولكن الشاعر اختار العبارات بدهاء لكي يصل الى هدفه .   هذه القصيدة تكشف لنا العلاقة المتبادلة بين رؤية الشاعر اوبستفلدر والرؤية الداخلية للفنان النرويجي" ادوارد مونك"  في لوحته المعروفة  "الصرخةّ"  التي رسمها في العام (1893) ، هي نفس العام الذى نشرت فيه قصيدة " اتطلع".  وقد تميزت هذه القصيدة بالصدق في التعبير عن العواطف الفردية والمشاعر العميقة التي تعتلج في أعماق النفس ، والاستسلام إلى عالمها الخاص غير عالم الفكر والواقع.
 ان غياب الانسجام والتناغم في قصيدة   "اتطلع" ، يبرزالمشاعرالمتناقضة والمعقدة التى تحيط بذات الشاعر والسرد الميكانيكي  ويخلق جوا رتيبا في القصيدة.    
لقراءة هذه القصيدة وكشف مستويات الاداء الداخلي والابعادالرمزية والرومانسية،ينبغي ان نسلك عدة طرق لتفحصها ومعرفة ماهيتها،اخذين بنظرالاعتبار،الزمان والمكان ، الحالة النفسية للشاعرو دراسة  البيئة و تصوير العاصفة  .  
القصيدة تتألف من تسعة مقاطع، ثلاثة مقاطع منها (الثالث ،السادس،والثامن) كل منها يتكون من بيت واحد،المقاطع الشعرية الثلاثة،(الاول، الرابع والسابع) أنها تحتوي على ثلاثة ابيات كل بيت تبدأ بكلمة  "اتطلع"،هذه المقاطع الثلاث،هي بالتالي مشاهدات اوبستفلرد، والمقطعين الشعريين الثاني و الخامس يحتوي كل منهما على بيتين، ويبدأ : "هكذا هو". هذين المقطعين يمثل رؤية الشاعر، المقطع الشعري الأخير يتألف من ثلاثة ابيات، يختتم وجهة نظره حول العالم المحيط به.
         نجد بشكل واضح في هذه القصيدة النقد الموجه للمجتمع الحضري الحديث الذي يبدو فيه ان الشاعر يشمئز من الناس ، وفق رؤيته فهم يفقدون أنفسهم والتواصل مع ماهو قيّم في الحياة ، اي : تجربة الأصالة والوجود وهي من المبادئ الاساسية للرومانسية  في اواخر القرن الثامن عشر.
     موضوع القصيدة يدور حول شخص او الشاعر نفسه، عاش في احدي المدن الكبيرة، و كانت البيئة   تنبض بالحياة، كل شئ يسير فيها بشكل اعتيادي والزمن هو نهاية  القرن الثامن عشر .    
تركيبة القصيدة  :  لوتفحصنا محتويات القصيدة  بلمحة سريعة ، نلاحظ ان الشاعر قد كسر القاعدة التقليدية  في  بنية الشعر، اي ان القصيدة لم تبنى على شكل الابيات التقليدية والألفاظ اللغوية القوية الجزلة، كما نلاحظ ايضا انها شكل مختلف تماما عن القاعدة العامة.
يركِّز على العاطفة أكثر من العقل، وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق. ويميل اوبسفلدر إلى حرية التعبير عن المشاعر، والتصرُّف الحر التلقائي في هذه القصيدة، أكثر من التحفظ والترتيب.
     لو نظرنا الى الاداءالداخلي للقصيدة نجد انه يعاني من ازمة عميقة تقترب من حالة الانهيار النفسى. و بالتالي نتوصل الى الاستنتاج ،ان هذا الشخص لم يكن مجرد يعاني من امراض العصر  فحسب بل انه كان يشعر بالاغتراب الكامل عن مجتمعه الحضري الحديث، ويعد ذلك موضوعا هاما في هذه القصيدة. لكن الشعور بالوحدة والقلق والاختلال الروحى والتوترواليأس والرهبة من الحياة،هذه الحالة المزاجية للشاعر قد خلقت جوا غريبا ينعكس ايضا في القصيدة.  
   في هذه القصيدة يبدأ الشاعر بأبداء مشاهداته حول الكون او حول العالم الكبير، قبل ان يضيق الحلقة ويوجه اهتماماته نحوالارض ومايحيط به، وبعد ان يحرّك عينيه ببطئ من السماء نحو الارض او البيئة الصغيرة التى يعيش فيها "الانسان "و"الحيوان" وعن نفسه. وفق رؤية الشاعر،ان كل شئ في الحياة يتغيربسرعة  هائلة ، ويعتبر الانسان كائن صغير نسبة الى الكون، ويشعر بالوحدة الشديدة.
مفردات هذه القصيدة،الطبيعة ( الارض و السماء) ، الطقس(الشمس ،المطرو السحب الثقيلة) ، العالم ،  الوطن ،الانسان والفرس، الالوان( البيضاء والرمادية القاتمة)، المنازل، الكنيسة و النوافذ وهي مظاهر تنعكس بشكل واضح في القصيدة.
   ولذا تتطلب قبل البدء بفحص هذه القصيدة  وتحليلها من عدة اوجه ، تقسيمها الى ثلاثة اجزاء اساسية  .
اولا : كما  يبدو أكثر وضوحا في استخدامه لكلمة "اتطَّلَعْ"عنوانا للقصيدة و الذى يتكرر 11 مرة بنمط واحد  في اربعة مقاطع من القصيدة  النثرية وهي ملاحظات الشاعر نفسه, يمكن تفسيرذلك بعدة طرق : على الارجح ان يكون هذا هو موقف الشاعر من نمط حياة المدينة والانسان ، اي يعبر الراوي عن رأيه بكون ليس تلك المضاهر الا أفكارا زائفة ،ذات مظهر جميل  ،انه غير راضي عن العالم الذي يعيش فيه، حيث كان يبدو له عالما جامدا وغير إنساني .    ويعد ذلك بشكل واضح  من اهم مبادئ الرومانسية في نهاية القرن الثامن عشر.    وعلى اساس ذلك يمكن ان نستنتج ايضا تأصل "الانا"  في نفس الشاعر . ويمكن ان نرى العكس، انه لم يرى اى شئ من هذه الاجواء في محتويات  القصيدة ،وقد يعبرعن ما في داخله  من حزن  و معاناة  من الكآ بة  والاحباط والقلق  واليأس من الحياة او ربما كان يعاني من ازمة عصبية.
                                                                                                                                                                                                                                                                                                        ثانيا : في المقطعين الثاني والخامس يستخدم الشاعرسيجبيورن اوبستفلرد  المفردة " هذا هو "  وهما استنتاج الشاعر نفسه بعد  مشاهدته للانسان والحياة المدنية .              
ثالثا :  نرى في هذا المقطع الذي يتكون من بيت واحد"قطرة من المطر!"مضمونه يتركزعلىالطقس المتغيروحتما يقترب نحو الاسوأ، نلاحظ العاصفة الرعدية والطقس السئ  كلاهما موجودة و بشكل اخر في اعماق أوبستفلدر نفسه .  
1
اتطَّلَعْ إلى السماء البيضاء ،
اتطَّلَعْإلى السحب الرمادية القاتمة ،
اتطَّلَعْ إلى الشمس الدامية
ونحن نتابع عيني وعقل الشاعر في هذا المقطع الشعري،وهو الجزء الأول من ملاحظاته . . . يتركز اهتمامه المثير على الفضاء الخارجي من خلال وصفه" للسماءالبيضاء، والسحب الرمادية القاتمة،  انه يحذرمن من سوء الاحوال الجوية المرتقب من خلال استخدامه اللونين" الأبيض والرمادي القاتم"، وهذان البيتان يتباينان مع البيت الاخير"الشمس الدامية"حيث ما دام هناك فضاء مغلق بالغيوم القاتمة، من غيرالممكن ان تظهرالشمس  الملتهبة،ولكن مرده انه اراد ان يخبرنا عن الحرارة الملتهبة قبل الجو العاصف. فان الدم يرمز الى الألم والى معاناة اوبستفلدر الذاتية من البيئة التي حوله ، وثمة خوف وقلق  من العالم المحيط به ، هذا ما يتضح من سياق القصيدة،  ونتوصل الى فكرة ، ان هذا المناخ يتطور نحو الاسوأ  خارج الشخص اي يقصد  التغير الحاصل في داخل البيئة المحيطة به وفق قناعاته، الذي بالتالي  يشكل عليه ضغوطات نفسية و ألم كبيرين في داخله .
2
هكذا هوحال  العالم،
هكذا هو مدار الوطن.  

يبدو له في هذين البيتين،ان الراوي يري  شئيا مدهشا للغاية، وكأنه  يرى الكون لأول مرة،اما انه لم يبصرالكون من قبل،وهذا بعيد عن الادراك،اوعلى الارجح لديه"رؤية"  غير واقعية للوجود .

3
 قطرة من المطر!
6
تلتئم الغيوم الرمادية القاتمة بعد ان غَابَتِ الشَّمْسُ.      
8
بينما صارت الغيوم الرماديةثقيلة.  
          لقراءة الابيات اعلاه،اولا: نبدأ بالتفحص الزمني للقصيدة،نشاهد بوضوح كيف يتغير الجو وفق رؤيته ومن خلال متابعاتنا  لوصفه المناخ ،يدرك المتابع كيف يتغير مزاجه من السئ نحو الاسوأ.    بعد  البيت الثامن نتوصل الى قناعة ، انه بعد لحظات سوف تشتد العاصفة الى حد الانهيار . ويتميز كل جزء من الابيات بكونه مؤشرالى فضاء جديد ،وفق مزاج الشاعر وبنظرة  تشاؤمية نحو الحياة .   لو نظرنا الى البيت  " قطرة مطر!" نجد تفسيرات عديدة له : قد يفسر، ان عين الشاعر تتحرك نحو الأرض، في نفس الوقت يمكن اعتباره تحذيراًمن العاصفة القادمة. ويمكن تفسيره بشكل اخر ربما اسال الدموع من عينيه، بعد ان لمّح عن ألمه في البيت " الشمس الدامية" ، وأنه يشعر بالوحدة التامة وهذه صيحات يائسة من المجهول ،او جملة تركيبية بحتة  
   4

اتطَّلَعْ الى المنازل العالية
اتطَّلَعْ الى الاف النوافذ
اتطَّلَعْ الى برج الكنيسة البعيدة

      يبدو ان تركيزه على البيئة الحضرية في هذا المقطع هو السمة البارزة  لملاحظات الشاعر الثانية حول التغير الحاصل في المدينة، من ازدهار.. من خلال مشاهدته للبنايات العالية، ذات آلاف النوافذ، و هي مظاهر بارزة للمدينة الحديثة في سنوات تسعنيات القرن التاسع عشرفي النرويج .يبدوله، اصبحت الحياة غريبة، وهذا تعبيرعن اعماق الشاعر الذاتية .  
لو فحصنا البيتين " المنازل العالية" و " الاف النوافذ " وهي الفاض غير معبرةولا تثير مشاعر قوية
والبيت الاخير من المقطع "برج " الكنيسة البعيدة"  من هذا المقطع ويمكن تفسيره على انه تعبيرعن الموقف الديني المتزمت  للشاعر،وهو يشعر بشكل  ملموس ان الكنيسة اصبحت بعيدة عن الناس و ما يرمز الى تخلى الانسان المتمدن عن الكنيسة وحتى انهم فقدوا ايمانهم بالله.      وهذا البيت يقف على النقيض من البيتين السابقين ، وأنه يساعد على خلق حالة الكآبة والحزن او ربما استسلم للحالة و المظاهر الجديدة .

5
هكذا هو حال الارض،
هكذا هو الانسان في الوطن  

هذا المقطع هي تحصيل حاصل للمقطع الرابع من مشاهداته على الارض . وبعد هذا المقطع يرى عن كثب اختفاء الشمس حيث يكشف لنا بعد ذلك نظرته الذاتية نحو الانسان المحيط به ، فيسودَه شعورٌ بالخيبة والإحباط والقلق والانطواء على الذات،      


7
اتطَّلَعْ الى اناقة السادة    
اتطَّلَعْ الى ابتسامة السيدات
اتطَّلَعْ الى الفرَس الذليلة
في هذا المقطع اوبستفلدر يراقب عالمين متناقضين،نلاحظ في سياق البيتين الاولين،هناك عالم مزدهر و متفائل،من خلال مشاهداته للانسان المتمدن،و يرى التغيرات الحاصلة في سلوك وتصرفات الناس و يرى السعادة على وجوههم وهى مظاهرلا تثير الرضى لديها وغير راضية عنه وانها خارج ارادته، و فجأة يدخل في العالم القديم من خلال البيت الثالث من نفس المقطع،حيث بدأ الحنين الى الزمن الماضي من خلال التصويرالرمزي لمشاهداته الى"الفرس الذليلة"في هذا المجتمع الجديد .      
9
نشأت على كوكب خاطئ
انه شئ غريب حقا

        
   ان الاستنتاج الذي توصل اليه اوبستفارد في المقطعين الثاني والخامس،نشأ منه هذين البيتان اعلاه ، انه تعبيرٌ مُصوَّر عن عواطف وأحاسيس فرديّة في اعمق اعماق الشاعر، يجعله ينظرالى الوجود كلغز كبير خارج نطاق المشاعر العامة. و يعبّر عن شيء من الإحساس الغريب نفسه،وحسب قناعة الشاعر انه لا ينتمي الى هذا الكوكب، كل الابواب موصدة  امامه في هذا العالم الذي يعيش فيه،وهو  معزول في هذا المجتمع،ويصعب علية ممارسة نشاطه وانتابته حالةمن الفزع واليأس والإحساس بالكآبة والإحباط  و محاولة الهروب من الواقع  وهنا يظهر بشكل جلي نرجسية الشاعرو" الانا"المتأصلة في داخله . بما ان القصيدة مبنية على الوهم والخيال،فجاءت نهاية القصيدة بعيدة عن الواقعية .

 
(1)القصيدة مترجمة عن النرويجية من قبل الكاتب
 
 


صفحات: [1]