عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - المونسـنيور بيوس قاشا

صفحات: [1]
1
المسيح قام ... حقاً قام
(الحلقة الأولى)
المونسنيور د. بيوس قاشا
نعيشُ اليومَ في عالمٍ يسيطرُ عليه شبحُ الحروبِ والموت، وسهولةُ قتلِ الإنسان بطرقٍ شتّى. ونبحثُ عن السلام، ولا سلام. وعن الطمأنينة، ولكنَّ الخرابُ يزيد. والأمان، فلا أمان. وإنَّ العيدَ كان لِيَبُثَّ فينا الرجاء، وكم نحن بحاجةٍ في هذه الأيام إلى خلاصٍ وقيامةٍ ورجاء.
وإذ نحنُ في خِضَمِّ هذا العالم نسألُ أنفسَنا اليوم: هل نحن أبناءَ القيامة بالشهادةِ لقيامةِ المسيح، فنخترق كابوسَ الموت بشعلةِ الرجاء، مُنشدين "يا سيدَ الرجاء، هبْ لنا الرجاءَ حيث لا رجاء"؟ وحيث نحن في عالمٍ تستعْبِدُهُ المادةُ والسلطةُ والجاهُ والشهوة، ويقينه العلمُ والبرهان والإيمان بما نهواه. ورغم ذلك، فنحن جميعاً مدعوّون لنُعلِنَ إيمانَنا بالمسيحِ القائمِ من الموت، رغم الشكّ الذي يساوِرُنا أحياناً، والبرهانَ الذي نبتغيهِ أحياناً أخرى. وعن الإنسان الذي مات المسيحُ لخلاصِهِ، ولتفانيهِ من أجلِ محبتِهِ للإنسان، وأحياهُ بقيامتِهِ، والتي بها دحرج الحجرَ عن بابِ عتمةِ قلوبِنا وظلامِ المسيرة. وبها نبشّر إيماناً للأحياء، ورجاءً صالحاً للأموات.
فالقائمُ من الموت هو الربُّ يسوع يجاوبُ على تطلُّعاتِنا، ويقوّي ضعفَنا، لنبقى مع الإيمان بقيامةِ الرب، والتي هي الأساس الذي عليه تُبنى ديانتُنا الجديدة وفي العهد الجديد. فالمسيح قام للحياة وهو يتقدّمُ التلاميذَ إلى الجليل، وبذلك أصبحت الجليل أرضَ البشارة، لأنَّ القيامة تدعونا لتخطّي الماضي مهما كان. فالحياةُ لا يجوز أن تُحبَسَ في الماضي وأحداثِهِ لأنها بشرى القيامة والملكوت والتي تتخطّى أيّ حدثٍ آخر، فهي أساسُ مسيحيَّتِنا، ومن دونِ القيامة لا معنى للإيمان لأن الحياة التي رافقها الحزن والألم وتنتهي بالموت هي حياةٌ باطلة، تنتهي في الفراغ، وهذا هو شأنُ الناس حيث ينتهي عملُهُم بالدفن ووضع الحجر الكبير على القبر، وتنتهي في الضياع، وذاك كان وضعُ التلاميذ حين أنبأَ يسوع بآلامِهِ وموتِهِ ولكنهم لم يفهموا لأنهم لم يصلوا إلى نهايةِ كلامِهِ "وفي اليوم الثالث يقوم"، وحينما أدرك الرسل ذلك أدركوا مَن هو يسوع، وآمنوا بأنه ابن الله.
   نعم، نحن نرى الموت وما يسبقهُ بعيونِنا ونشعرُ به، فما الذي يدفعنا إلى القول بأننا نقوم؟ من هنا ندرك أن القيامة هي فعلُ إيمان، فالمسيحَ قام وهو بِكْرُ الخلائق، هو بِكْرُ الراقدينَ في الموت، وهو الآن بِكْرُ القائمين من حيث أنه مات. ويقول مار بولس: لقد ماتَ مرةً واحدة، ومن حيث أنه حيّ، فهو حيٌّ إلى الأبد.
إنَّ حياتَنا الجديدة هي قيامتُنا، إذ اختلفت بطبيعتِها عن حياتِنا على الأرض (كعودةِ لَعازَر من الموت) فالحياةُ على الأرض من دونِ بشرى القيامة مخيفة ولا معنى لها. فهي ليست خبراً يُنقَل، بل حقيقةً ينبغي أنْ نختبرَها. ويسوع هو الأساس، وعليه نبني حياتَنا، ونحن لا نسأل سواه ولا نطلب جواباً إلا منه فهو معنى لحياتنا إذ عندهُ وحدُهُ "كلامُ الحياةِ الأبدية" (يو68:6).
واليوم كم مرة تنتابُنا خيبةَ الأمل في مسيرةِ حياتِنا، فترانا نحوِّلُ وجهَنا عن الرب، متابعين نشاطَنا اليومي الذي اعتَدْنا عليه. وفي ذلك نرى الربَّ يقصدنا، وإنْ كانت الحياةُ تتجاذبنا فيها تياراتٍ مغرية وخادعة والتي توهمنا باللوعةِ والأسى. ونُدرك أنَّ الإنسانَ ترك المسيح معذَّباً ومائتاً، ولكنّ المسيح لم يفقد ثقتَهُ وإيمانَه بأبيهِ الذي لن يتركه أبداً في الجحيم. وهذه دعوةٌ لنا في هذا الزمن أن تكونَ ثقتُنا كبيرةً بالله وبمواعيدِهِ. فالله لا يتخلّى عن شعبِهِ ومُحبّيه، خاصةً وأنَّ أرضَنا أرض الأنبياء، فلا يمكن أنْ يتركَ أرضَنا أو يتركها للضياعِ والشرّ.
لذلك علينا أنْ لا نجعلَ الخوفَ والقلقَ والشكوكَ تسيطرُ على إيمانِنا ورجائِنا. ولا ندع الشريرَ يهدِّدُ إيمانَنا ويزعزعه. فمهما استبدَّ الضيق فإنَّ الله يحبنا ولن يتركنا، لذا ما علينا إلا أنْ نثقَ بقدرتِهِ وخلاصِهِ وتدبيرِهِ.
فالقيامةُ كانت ولا تزال موضوعاً أوحداً لنا جميعاً. إنه الموضوع الأوحد للكرازة الرسولية في إعلانٍ بسيط كلُّنا نؤمنُ به ونقولُهُ "المسيحُ مات وقام" لأنَّ مار بولس يقول "لو لم يكن المسيح قد قام، لكان إيمانُنا باطلاً" (1كو17:15) فالقيامةُ هي أساسُ حياتِنا المسيحية، وأساسُ كلِّ أعمالِنا وصلاتِنا وقدّاسِنا... وإلى الحلقة الثانية.



2
قيامة الرب ... حقيقة إيماننا
المونسنيور د. بيوس قاشا
تقول لنا الحقيقة "أن المسيح قام حقاً من القبر في اليوم الثالث" وإيماننا يقول بأن القيامة ما هي إلا تحقيق لطموح الإنسان إلى الخلود وحياة السعادة الدائمة، وعبر هذا الإيمان ندرك أن القبر ليس خاتمة المطاف. فالقيامة لنا دعوة إلى الحياة الجديدة، ومع يسوع القائم تطمح نفسنا إلى هذه القيامة عبر هذا الإيمان.
نعم، إن الحياة على الأرض رسالة سامية، رسالة إيمانية، نحملها في مسيرة حياتنا فهي إن كانت من دون بشرى القيامة فهي مخيفة ولا معنى لها، لذلك عبر إيماننا ندرك أن حياة يسوع وقيامته كانت لأجلنا وهي معنى لحياتنا ونكتشفها كما اكتشفتها النساء حاملات الطيب. فنحن لا ندرك كيف دُحرج الحجر ولكن نؤمن أن الحجر قد دُحرج وأنه كان كبيراً جداً وإننا آمنّا أن الملاك في القبر، فمن أين أتى الملاك؟ فإيماننا يجعلنا أن نقرّ أن القيامة قد دحرجت الحجر من قلوبنا، والقدرة تدحرج اليأس والشدة من قلوبنا، والملاك يخفّف عنا وعن شقاء العالم. فمن قدرة الحياة النابعة من قبر المصلوب القائم من الموت، علينا مع الملاك أن نكون ونعمل من أجل إيصال بشرى القيامة لمن لا يؤمن. فإيماننا بقيامة المسيح حياة جديدة مختلفة بطبيعتها عن حياتنا على الأرض (كعودة لعازر من الموت).
فاليوم نحن مدعوون لنعلن إيماننا بالمسيح القائم من الموت رغم الشكّ الذي يساورنا أحياناً والبرهان الذي نبتغيه أحياناً أخرى. فالقائم من الموت يجاوب على تطلعاتنا ويقوّي ضعفنا كما فعل مع توما وقال "توما، هاتِ إصبعكَ" (يو27:20) ولا تشكّ بعد الآن بل آمن، أمام هذا الشك ما عسى أن يكون جوابنا على نداء المسيح؟ فما علينا إلا أن نعلن "ربي وإلهي" (يو28:20) وبذلك نُضْحي أسرى محبة المسيح وننطلق إلى الإيمان وتصبح قيامة الرب يسوع هي الأساس الذي عليه نبني إيماننا وديانتنا. فالرب يعاملنا بتفهّم وحنان وبشيء من المعاتبة وكأنه يقول: هأنذا أخضع لشروطك لكي تؤمن "هات إصبعكَ وانظر يدي، وهات يدكَ وضعها في جنبي وكن مؤمناً" (يو27:20) وعبر هذه الكلمات يُفهمنا الرب يسوع أنه حاضر معنا عندما نشكّ نحن في قيامته، ونطلب الرؤيا الواضحة لآثار الآلام لكي نؤمن.
نعم، إن حياتنا ومسيرتها وما تحمله من مشقات وأخبار وأحداث وسقطات وأهوال ورغم كل ذلك يجعلنا ندرك بأن يسوع معنا ويسير بجانبنا وينير خُطانا وهو دائماً معنا حتى لو يحين المساء ويميل النهار (لو29:24) ونعمل كي لا يغيب وجه يسوع، ولذلك نراه في سرّ الافخارستيا عند كسر الخبز، ومار بولس يقول: إن الرب يبقى أميناً إذ يقول "إذا كنا نحن خائفين بقي هو أميناً لأنه لا يمكن أن ينكر نفسه" (2تيمو 13:2) وهذا ما يجعل أبوابنا مفتوحة لأن حضوره هو نداء لأقول "تعال أيها الرب يسوع" (رؤ20:22) وذلك لأن الإيمان يتطلب منا جميعاً قفزة فوق منطق البشر لأن القيامة حقيقة ينبغي أن نحياها ونختبرها في مسيرة حياتنا لأن الرب القائم دائماً يفتح لنا يديه فنرتمي بين يديه لأنه يعرفنا تمام المعرفة وهو لا يريد إلا خلاصنا (مز5:85-8).
وعبر قيامته نحن ندرك أن القبر أصبح مقراً للملائكة بعد أن كان مقراً للظلام، وأصبح طريقاً إلى الحياة بل الطريق الوحيد عكس ما فعله الأحبار والشيوخ والذين أدخلوا الشرطة والحراس في منطق الرشوة والفساد أي في منطق المال، وراح الكذب ينتشر ناشراً الظلام ولكن نور القيامة ملأ الكون وأصبح بوابة للسماء وللعبور إلى الحياة. لذا لا بدّ من هدم العالم القديم لنؤسّس العالم الجديد حيث الغِنى روحي لا مادي. ففي العالم القديم الغِنى والمركز والجاه والسلطان، وهذه كلها مراكز دنيوية وهي ليست من مملكة يسوع لأن "مملكته ليست من هذا العالم" (يو36:18).
ختاماً، إنها دعوة لنا كي نضع رجاءنا في الله مُحيينا ومخلصنا. فالمسيح قام... حقاً قام ونحن سنقوم معه لأنه سيغفر خطايانا، وأنا أؤمن بذلك وتلك حقيقة إيماننا وقيامتنا عبر قيامة المسيح يسوع... نعم وآمين.


3
الصمت ... رسالة السماء
المونسنيور د. بيوس قاشا
منذ نشأة الحياة وإلى اليوم يقدم لنا تاريخ الإنسانية محبة الله للإنسان بعد امتزاجه بتاريخ رسالة المسيح يسوع. وإننا نعيش اليوم في عالم يسوده القلق والصخب والخوف والكذب على المستقبل والألم والغارق في بحر من الدماء والدموع، ورغم هذا كله فالمسيحية تشرح سرّ انتصارها وإشعاعها وكيف يجب أن نتعلم من صمت وسكوت.
فالإنسان لا يجد سبيله إلى السعادة إلا بقدر ما يحب وبقدر ما يكون حبه صمتاً وسكوتاً وإصغاءً. فعالمنا اليوم بحاجة كبيرة إلى هذا الهدوء لكي لا يلتهي بأمور مدمِّرة لحياته، إذ أحياناً يقال: إذا ما حدث شيء عظيم في المسكونة بأسرها فاعلم جيداً أن الصمت والسكون له دور كبير وإنْ كان منسيّاً في عصرنا هذا.
كلنا نعلم أن الرب يسوع كان يعمل من أجل صمته وسكوته، وهذا ما كان يجعله يصعد إلى الجبل ليلاقي الآب السماوي في صلاة تأملية بعد أن كان يكلّم الشعب نهاراً بالكلمة (مر2:2) وبسبب هذه الكلمة كان صامتاً ثلاثين سنة، وبصمته قاوم كبار الزمن والأحبار وشيوخ اليهود والوالي بيلاطس "فقال له بيلاطس: أما تسمع ما يشهدون به عليك. فلم يُجبه عن شيء. فتعجب الحاكم كثيراً" (متى13:27-14) ومن هنا نتعلم لنقول: كم نحن في حاجة إلى وقفات سكوت وصمت ومراجعة حياة والنظر إلى البعد من عيوننا الجسدية لأننا بحاجة إلى منظار روحي وعبر عيون القلب والعقل لنرى جيداً، فلا بدّ من لحظات الصمت والسكوت في مسيرة هذه الحياة ولنفتش عنه لأنه الأفضل في حل جميع المشكلات بدلاً من الصراع والتنافر والحقد. ولندرك جيداً رسالتنا وإنْ كنا في هذا الزمان نعتبر الصمت والسكوت جهلاً أو ضعفاً أو خوفاً وربما احتراماً لشخصية كبار الزمن والمعابد، ولكن في هذا لنعلم أن كل صمت ناتج عن الأمور التي ذُكرت معناه عدم القبول في ذلك، ومن هنا ندرك أن الصمت العميق والسكوت المؤدب أبلغ كلام وإن كان أحياناً صمتاً قاسياً وصعباً فسفر الجامعة يقول "هناك وقت للنطق ووقت للصمت" (جا7:3) ومثالنا في ذلك مار يوسف البتول الذي أكنّه دائماً بــــ "الصامت الكبير" حيث امتاز بالهدوء والتأمل والصمت وعيش إرادة السماء بدل الكلام الكثير والطويل والقيل والقال. فقد كان رجل صمت ولذلك أدرك جيداً مشيئة السماء ورسالة الملاك جبرائيل إذ "لما تمّ ملء الزمان" (غلا4:4) وأدرك أن الكلام لا زال سرّاً إلى أن تمّ ذلك "فكان أن صعد من الجليل، من مدينة الناصرة إلى اليهودية مدينة داود بيت لحم ليُكتَتَب مع مريم وهناك تمّت أيامها فولدت ابنها البكر يسوع" (لو4:2-6) ثم سار بالطفل وأمّه ليلاً ولجأ إلى مصر (متى14:2) ثم قفل راجعاً هو والطفل وأمّه إلى الجليل (متى22:2) وصعد ومريم إلى أورشليم ليقرّبا الطفل للرب كما تقضي الشريعة (متى21:2)... وفي هذا كله كان ساكتاً صامتاً ومدركاً أن تلك رسالة السماء فما عليه إلا أن يبقى صامتاً ليتكلم ربّ السماء... هذا هو إله يوسف البتول، إنه إله الصمت والسكوت. ويوسف وقدسية الصمت ما زالتا على مرّ القرون نوراً يقودنا نحو إدراك رسالة السماء، وهذه الرسالة تلهب حياتنا لنصمت قليلاً حيث يبقى الله يعمل ما يشاء حينما يكون الزمان وبذلك نحيا في حضرة الله. فالسكوت نعمة وموهبة، وطوبى لِمَن أمام كلمة السماء يُصغي ويسمع ليعمل ويصمت على غرار العذراء مريم التي كانت تحفظ هذه الأمور كلها في قلبها (لو19:2) ومار يوسف الصامت الكبير، واللذان تحوّل صمتهما إلى صلاة نابعة من قلبيهما ودخلا في علاقة مع الله، وما أجمل هذا الصمت إنه مدى حياتهما بشاكلة الوحدة التي عاشها ابن الله الرب يسوع والتي جعلته واحداً مع الله حيث قال "أنا والآب واحد" (يو30:10). فالصمت والسكوت هو حوار الإنسان مع ذاته، ولا يفقه معناه أحد إلا الذي يصمت، كما كان غاندي يصمت يوماً في الأسبوع، وأمام كلام الله يسكت الإنسان، ومثالنا في ذلك القديسة مريم العذراء والقديس يوسف البتول. فالصمت يا أخي رسالة إليك من السماء... ليس إلا!.

4
روح الإنجيل الحقيقية
المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
إن روح العالم مسيطر وبجميع مظاهره على مسيرة الإنسان، وهذه الروح مليئة بانحرافات عديدة وعيوب متنوعة وربما مميتة وقتّالة، إذ حب العظمة والسعي وراء نفوذ عظيم وترفّع لا يوصف في مصلحة شخصية ونغمية ومحسوبية في كثير من الأحيان.
وانشغل الجميع بالمال وجمعه وإيداعه هنا وهناك "وهو أصل لكل الشرور" (1تيمو10:6) إضافة إلى سياسة العولمة المزيَّفة والإدمان على الانترنيت والتكنولوجيا الحديثة والتي كانت للمنفعة وأصحبت تعادي البشر أنفسهم. وأقولها: لقد حلّ بنا ما لايمكن أحياناً احتماله حيث الروح العالمية المدمِّرة وكأننا أصبحنا كلنا أزاء عالم لا بدّ من شرّه مهما كان هذا الشر، وما علينا إلا التعايش معه. وأصبح العالم الروحي بعيداً عن الإنسان ولا يمكن أي أُذنٍ أن تصغي إليه إلا "مَن له أُذنان سامعتان" ولكن فاهمتان (متى9:13و15:11) وربما نشعر أحياناً بأن هناك شيء يهدد وجود كنائسنا أو كنيستنا وفي مشرقنا بالخصوص إذ ربما نفكر بحلول كارثة انهيار التعليم المسيحي أو الإيمان المسيحي وحقيقة الإنجيل، ونسأل: هل نحن في ظلال أم في خيال أم في حقيقة الحياة؟.

     العالم الحر
كلنا نعيش في هذا العالم تحت نير الخوف والفزع مما يحصل ومما يحمله إلينا تيار العولمة. ومعظم المسيحيين يقولون ويفكرون بأن الحرية الإيمانية بعيدة عنهم، وإن العالم أصبح حرّاً فهو يعتقد بما يشاء، فهم ليسوا بعد أحراراً بل مغلوباً على أمرهم شاءوا ذلك أم لا وخاصة في انتمائهم الديني وقيام منظمات وحركات أصولية عديدة تؤمن بطريقة أو بأخرى بالعولمة المزيفة، وتعمل من أجل اقتباس أهل البيت إلى جانبها عبر أصولية مقيتة وإن كان أحياناً ربما من إبداع كبار دنيانا وزمننا ومعابدنا، مدركين جيداً أن التعصب إثمٌ، وترويجُ هذه البضاعة إثمٌ أكبر وهو يقضم في جسم المعبد والطائفة قضماً لأنه يُعاش باسم المسيح والمعبد وينقلب ضدهما، وهو يعمل معهما لتشويههما، فتراه يهدّد ويخرّب ويقتل ويشرّد ويميت باسم الأصولية، كما قلتُ. إنها الأصولية الآثمة وتعصباً غريباً أنانياً وإن كان دينياً أحياناً كثيرة.

     رسالة المسيح
إن رسالة المسيح هي أن يعود الإنسان إلى إنسانيته لأننا أصبحنا اليوم تحت رحمة الملوك والأباطرة والرؤساء وكبار الزمن والدنيا والمعبد، وخضعت مصداقيتنا لامتحان كبير، فَمَن يؤمن بالمسيح يجب عليه أن يكون مطيعاً لهم جميعاً وهذا قانون الحياة. وتسرّب الروح العالمية (العولمة) إلى المؤسسات المعبدية بات حالة عادية ووباء عالم فتّاك لا يرحم ومن حيث لا ندري، فمعظم مسؤولي المعابد لا يتميزون عما في الدولة المدنية. فالله نجده في إنساننا الداخلي وفي كل إنسان ولكن الإنسان هو وجه الله الحي والملموس أمام البشر. من هنا ندرك أن الإيمان المسيحي هو من أجل الإنسان، فالله تنازل إلى مستوى الإنسان متأنساً من أجل كرامته. والبابا لاون الثالث عشر يقول:"اعرف كرامتك أيها المسيحي". لذا عليك بذل ذاتك من أجل الآخرين وهذا ما يحتاجه عصرنا وهو إيجاد مفردات جديدة لعصرنا وواقعنا لأن الأمانة هي للدعوة والرسالة والشهادة لأنه كلما زادت مظاهر التدين في بلدٍ ما ازدادت مظاهر الجرائم والفساد، والدين الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان ومظاهر.

    رسالة بركة
نعم، لقد اختارتنا مشيئة الله ودعت الإنسان للعمل وليس للإنسان والمصلحة والدنيا، فالإيمان والثقة يعملان من أجل طريق السير في مسيرة لا عيب فيها ولا شائبة، وهذه الشهادة لا تتمّ إلا إذا كانت تشتعل بنار القداسة وتجعل من المدعو والمختار رسولاً وشاهداً حقيقياً وللحقيقة النابعة من حب المسيح. فانتسابنا لطائفةٍ ما أو لمعبد معين ما هو إلا لخدمة الإنسان وأيّاً كان، ومن المؤسف تشويه هذه التسوية بمنطق الدين فقمنا اليوم نتكلم عن النظام والدين، عن السياسة والدين، بينما مسيحيتنا هي فقط روح وإنجيل ورسالة لأن المسيحي في حدّ ذاته نعمة وبركة وإن كانوا يقابلون ذلك اليوم بحذر، لذلك علينا أن نخرج من عزلتنا ومن كبريائنا، فوجودنا ليس هامشياً بل وجود أصيل. فما نفع معابدنا وكثرتها ونحن نتجاور ولا نتحاور، نتعايش ولا نتقارب، نجلس على كراسينا ولا نتنازل، فنحن مستقلون الواحد عن الآخر ولا نسأل عن سواها، فلا يحق لطائفة أو لمعبد أن تبقى على عرش العظمة وإن كانت عظمتها مزيفة وتنسى رسالة التواضع والخدمة والبشارة والتي هي الطريق الأمين والسبيل الوحيد للوصول إلى ما يطلبه منا المسيح في إنجيله.

     قيم ... وأفكار
لذلك ترانا اليوم في الواقع أزاء مصائب كثيرة وربما أدعية وألحان مرعبة سببها تأليه ما نشاء وعبادة تراثنا بطريقة عمياء دون أن ندرك ماذا نقول ولمن نقول بعدما اختلفت كثير من الأساليب القواعدية والأدبية وحتى الاجتماعية، وتغيّرت اليوم القيم ولا زالت وباستمرار وبحركة غريبة وعجيبة وسريعة فروّضت أفكارنا على طريقتها الخاصة في فهم الحركات والأشياء بنهج مخالف لما تصبو إليه ألحاننا وتراثنا وطقوسنا وليس غريباً اليوم أي شيء فهناك الحلول الجاهزة لجواب على سؤال ربما يخطر في ذهنك. وهنا يكمن السؤال الحقيقي لجواب حقيقي أولا وهو السكوت والصمت أزاء ما يحدث ولن تقبل إلا ما تقوله العولمة وما علينا إلا قبول ذلك. ولكن لندرك أن النفس لا تفتش إلا على الحياة الحقيقية ولا تهمّها الأشكال بقدر ما تهمّها حقيقة الرب وكلمته.

     الخاتمة
أجل، نحن في أزمة دنيوية كما في أزمة روحية. فالشعب يريد أن يفهم ما يجب أن يحييه، فمشكلتنا أننا ندرك كل شيء والحقيقة غير ذلك تماماً فنحن بحاجة إلى مَن يعلّمنا ويرشدنا ويقول لنا أين هي طريق السماء كي لا تأخذ أعيادنا الروحية طابعاً دنيوياً زائلاً فقط بل طابعاً روحياً أميناً للرب، ولكي لا تبقى التجارة فقط لربح مادي مقدسةً العيد وخاصة في المجالات الروحية، وكي لا يكون النجاح المعبدي هو مقياس القداسة عبر كلمات إعلامية وبيانات منمّقة ونكتب كلماتنا لأجل بقائنا عبر الانترنيت ونتاجر بها إعلامياً فنكون بذلك قد جعلنا من هياكلنا المقدسة هياكل تهدد القداسة التي نبتغيها فنختار مَن نشاء ونجعله في مكان لا يستحقه من أجل مصالح أو صداقات أو محسوبيات، فهذه كلها ما هي إلا مواقف مزيفة دنيوية وزائلة وربما أفعال متشنجة تحول دون قول وعيش حقيقة وجودنا وحقيقة دعوتنا ومسيحنا الذي دعانا. فلا يجوز أن نفسر ما نحتاج إليه كما نشاء، ولكن لننظر إلى ما يحتاجه معبدنا وليس إلى ما أريد أنا كي لا نحطم جسور الحياة بيننا وبين السماء لأن مؤمنينا ليسوا عبيداً كي يطيعوا ما أنا أشاء وأقول بل أن نقودهم إلى حقيقة المسيح. فالكاهن أو الشماس أو المرجعية المعبدية إذا لا تعلّم الإنسان طريق السماء فليُترَك بعيداً وليُبتَعَد عنه ولا يُجعَل هدفاً للحياة، بل ليكن المسيح لمعرفة الحقيقة ضماناً للوصول إلى الغاية ألا وهي الخلاص "فمَن يحب المسيح يتبع إنجيله ويتبعه" (يو20:21) "فكل شيء للمسيح وأنتم للمسيح والمسيح لله" (1كو22:3) هكذا يقول مار بولس. فواقعنا مؤلم وهو عكس ما نحياه، ونتألم من هذه المواقف والمؤمنين ساكتين، فإلى متى نبقى نُرفَع على الصليب، والمسيح مات على الصليب من أجلنا ومن أجل الآخرين، فالله تنازل إلى مستوانا متأنّساً، وما ذلك إلا روح الإنجيل الحقيقية، ألا كن ذلك رجاءً، ولا شيئاً آخر وكما تشاء بل كما يشاء الرب يسوع، هو الذي دعاك وليس أنت الذي دعوتَه... نعم وآمين.

5
لا تعودوا زوّاراً لأرضكم
المونسـنيور بيوس قاشا
عالم اليوم عالم غريب وربما عجيب أيضاً. إنه غارق في الحروب وأشباه الحروب، فهو لا يفكر إلا بدمار الآخر والثأر منه وحبّ الأنا والكراهية المقيتة، وأصبحنا نعيش ثقافة الكـذب والضياع وشتى أنواع المحسوبيات المليئة بحب الأنا،
وبسبب ذلك ابتُليت كثير من معابدنا بأمراض روحية مخيفة لا شفاء منها، وببرص روحي، وبتديّن ظاهري تجعل منّا أناساً من أهل العالم، والرب يقول "أنتم لستم من العالم" (يو19:15) ومن خلال ذلك ندرك أننا من أرض الشرق، وموجودين فيها من أجل رسالة سامية. فوجودنا ليس صدفة أو عبثاً ولكن من أجل البشرى السارة نحن هنا، وإنْ كان عالمنا غريب وعجيب. فمن الشرق كانت البشارة، ومن هنا يجب أن تستمر وتتواصل إلى العالم بأسره.

     حقيقة وجودنا
نعم، إن الله أحبنا "فسكن بيننا" (يو14:1) وخلقنا على "صورته ومثاله" (تك27:1) من أجل هذا الشرق. فحضورنا وإنْ كان مؤلماً فهو دعوة سماوية في أرض السيوف والحراب والدنيا والقلاقل، لذا علينا ومطلوب منّا وقفة حقيقية لإثبات وجودنا وغايتنا في هذه البلاد من أجل التعايش السلمي، وليدرك الجميع أننا أصلاء ولسنا أرقاماً أبداً أو غنائم كي ينظروا إلينا بعين واحدة والأخرى على أملاكنا وعقاراتنا. فنحن خُلقنا من أجل البلد وحريته في الإيمان كما في الحياة ولسنا هنا من أجل الهزيمة والهجرة والرحيل وإن كنّا اليوم لا نريد إلا راحة البال والأكل الرغيد، ولا نفتش إلا عن النوم الهانئ والراحة الجسدية. فالعولمة جعلتنا مطيعين أكثر من حاملي صلباننا.
لنقلها صراحة: تطالنا كل يوم هجمات بشعة كما طالت بالأمس مسيرة أجدادنا وإن كان بنوع آخر، فالوضع الحالي مليء بالمآسي تتصدرها الحياة القاسية والمؤلمة من داعش والإرهاب ومؤخراً فاجعة الحمدانية والتي أودت بحياة أناس أبرياء ليس لهم من الدنيا إلا أن يكونوا أمناء لوجودهم وحرية عيشهم. فالحياة كُتبت لنا فترة هدوء وأخرى مظلمة، ولكل مرحلة منها أشخاص صالحين كانوا أو أشراراً يحملون لنا نظرات استعباد والعمل من أجلهم، وما ذلك إلا تفكير بعض منهم. وبسبب خوفنا منهم نحن لهم مطيعون، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، لذلك لا نفكر إلا بالهجرة لعلّنا نجد ضالّتنا في بلدان نقصدها، فتنقص أعدادنا، ويكتبوا لنا في سجلات التاريخ ما شاءوا دون مراعاتنا ودون قول الحقيقة من أجل أن يسدلوا الستار عن حقيقة وجودنا لأنهم أرادوا ذلك.

     هجرة ... ومظالم
أليس ترك البلد والهجرة منه بسبب هذه المظالم التي نعيشها في شرقنا هذا الغالي علينا، ولكن ما العمل إذا أصبح التراب ليس ترابنا والحقيقة فُقدت من سجلات أرضنا ووجودنا، لذلك أقول: ما نحياه في الشرق ما هو إلا مرحلة مؤلمة. فما يحصل لنا مخيف ومخيف جداً ولكن أقول: هل يجوز أن نرحل أو نهاجر وإنْ كانت الطريق مفتوحة أمامنا عبر عوائلنا أو لمّ الشمل أو عبر مبالغ من الأخضر؟ وهنا أسأل: ربما أيها الراحل ستقول لا يمكن أن أنسى إنجيلي وسأبقى مسيحياً مواصلاً مسيرتي وبشارتي، ولكن أليس ذلك طريق مسدود لأنك محوتَ اسمكَ من ترابٍ أحبكَ قبل أن تحبه، وعبر ذلك لتعلم أن أشخاص اليوم سيزولون يوماً وأما التراب فباقٍ باقٍ. فما أراه اليوم مخيفاً نعم ومؤلماً لأنه يفتقر إلى الحسّ الإيماني قبل العولمة الدنيوية. وعلى الإنسان أن يشعر أنه تابع للأرض التي احتضنته ولا يشعر أنه يفتش عن أرض بديلة بل عليه أن يعمل من أجل خلاص أرضه. وليعلم أننا نحن اليوم أمام اختيار كبير وكلٌّ يفتش عن مصالحه وأنانيته وهذا ما يعمله المستفيدون من عملية التهجير هذه ويرسمون لها كيفما شاءوا فيجعلوا أنفسهم آلهة التهجير والرحيل، وكبار زمننا ورجال معابدنا يسمعون ويعرفون ولكنهم لا يقولون كلمة عبر شفاههم. وما يؤلمني أكثر أن أرى أبناء شعبي يرحلون جماعات ووحدانا، عوائل وأفراد، بحججٍ كثيرة لم تكن في الماضي القريب. ففي ليلة وضحاها يرحل الفرد وربما دون أن يُلقي التحية على جاره، ويضيع عن الوجود في منطقته، وعبر هذا كله عمله هذا أحبط عزيمتنا جميعاً، ونسى أن هذه كانت ولا زالت أرضه وترابه، وإن أجداده شيّدوها بألم سواعدهم متأملين من أولادهم أن يحموها من الكوارث والمصائب ويكونوا لها مخلصين، ولكن ما حصل كان العكس تماماً.

    إفراغ الأديرة
نعم، إنها لمرحلة دقيقة تلك التي نحياها وستبقى. هذه المرحلة نقول فيها ونفكر ونقرر، فلماذا لا نهاجر من بلدنا؟ لماذا هذه الحياة القاسية والعولمة تدعونا إلى عيش ما نعتبره كريماً؟ فلماذا نحن في خطر الحياة؟ فهناك من يعطينا الكرامة والأخضر للحياة. ودائماً تحضرني حياة القديس البابا يوحنا بولس الثاني حينما كانت الشيوعية تغزو بلاده، فإنني أحسب ذلك شهادة ولا شيء آخر. إنه الالتزام بالإيمان وإلى عدم القنوط والخوف من أن نكون مسيحيين وإنْ كنا قطيعاً صغيراً. وما كنائسنا ومعابدنا ومزاراتنا إلا رموز لإيماننا، فكفانا نحمل حقائبنا وحقائب أولادنا كما نشاء وننسى أن البشرى السارة رسالتنا. فهل تعلمون أنه برحيلكم وهجرتكم تعملون على افتقار عنصركم المسيحي بقلّة أعدادكم وإنْ كانت الأعداد لا تمتّ صلةً بحقوقكم، ولكن شرقنا هكذا يريد فلا يفتش عن الإنسان بل عن غاياته. فإفراغ البلد من عنصركم خطيئة جسيمة بينما لهم مكسب كبير، ومن المؤسف أن يكون المعبد هو أحد أزلام الرحيل ورجالاتها ومشاركين ربما بإفراغ الأديرة والمقدسات من أجل هوانا ودنيانا.
أقولها حقيقة إن المعبد يحتاج بين فترة وأخرى ومن وقت لآخر إلى هزة من أجل تطهيره وهذا لا يعني أن أصلاء أرض المعبد أن يهاجروا ويرحلوا، والتطهير كي لا تعامَل مسيرة الحياة بحياتها المتعبة والمصلحية والأنانية، وربما الاضطهادات وفترات الاستشهاد ما هي إلا لبيان الثبوت والصمود وبيان المحبة، فهناك الكثير ممّا يتراءى لهم أنهم متدينين وليس مؤمنين فتراهم لا يعملوا إلا ما يفكرون به وكأنهم يريدون أن يكون الإله مؤيدهم في مشاريعهم لأنهم يفكرون أن الدين قد كتب لهم فائدة وما هي تبعيتهم للدين إلا لمنفعتهم وكل ذلك على حساب المسيح. ومن المؤلم أن يعملوا من أجل مخططات لتدمير الآخر وإنجاح مصالحهم ولن نحصد إلا الهجرة والمزيد المزيد.

     الختام
أحبائي... الهجرة والرحيل لا يحلان المشكلة بل أنتم شهود وشهداء ولستم راحلون ومهاجرون، ومن المؤسف أن تكونوا علامات الإفراغ بل الثبات وما ذلك إلا ضمن رسالتكم، فما أنتم إلا رسل الحياة في زمن الألم من أجل القيامة إذ لا يمكن أن تكونوا الكنيسة المهجرة وكنيسة الرحيل وإن أرادوها لكم غيركم. فانتبهوا، فالشيطان جرّب المسيح الحي ثلاث مرات وفي الثالثة قال للشيطان "إذهب عني يا إبليس للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (لو8:4) جميل جداً أن تكونوا في رسالة الشهادة من أجل بقائكم، فلا تجعلوا أبناء كنائسكم ينظرون إليكم خوفاً بل ومعهم ارفعوا صلاةً إلى رب السماء فلا تبيعوا شرفكم من أجل هواكم وراحتكم وأخضركم، فالمسيح الرب قال لكم مرات عدة "لا تخافوا" (متى24:14 ويو20:6) ولستُ أنا أقول ولكن الرب يسوع قالها لكم وما أنا إلا عبدٌ، لذلك اختارني الرب أن أكون بينكم وما لي إلا قول الحقيقة من أجلكم.
فالأرض أرضكم وتبقى تشهد لحقيقة وجودكم رغم رحيلكم ومهما حاول المغرضون إفراغها وطردكم بأدب. واعلموا أن المسيحية قد غيّرت ولا زالت تغيّر وجه التاريخ. فليكن إيمانكم إيمان الأصلاء وليس تديّن المسيحيين المصلحيين، فالإيمان هو عمق الحياة وأما التديّن فهو كبرياء الزمن وإن كان المسيحيون يتباهون بذلك فلا تعودوا لأرضكم زوّاراً أبداً فأنتم أصلاء... نعم أصلاء... نعم وآمين.



6
تأملات في مراحل درب الصليب
المونسـنيور بيوس قاشا
بعد أيام سندخل في عبادة خاصة عبر الصوم الأربعيني وهي التأمل في مراحل درب الصليب، فمنذ أربع وعشرين قرناً عُلِّق يسوع الناصري على الخشبة، وما زال - رغم عُرْيِهِ وجِراحاتِهِ وصَلْبِهِ - المعلّم الكبير والوحيد للبشرية. وما زال الصليب منارة تشعّ أكثر بكثير من منائر المعرفة في عالم الزمان من جامعات ومعاهد ومدارس ملأت الدنيا تيارات فكرية وتعاليم مختلفة.
وما يملأه الصليب ليس إلا مواهب منحتْها السماء لأبناء الأرض من نِعَمٍ، كالمحبة والسلام والغفران والمسامحة والخدمة والعطاء، وكل ما يمتّ بصلة من أجل خلاص الإنسان، لأنّ المحبة أعطت "ذاتها من أجل الإنسان ودعتهم أحبّاء" (يو13:15-15). وقد ظهرت هذه المحبة على خشبة الصليب حيث سفك المسيح دمه لأجل خلاصنا فكان ضحيةً وحَمَلاً لتقدمة الخلاص.
ورياضة درب الصليب محطة من المحطات الإيمانية التي أنشأتْها الكنيسة للتوقف من أجل التأمّل في فحص الذات ومسيرة الخلاص. وهي اليوم أكثر العبادات إنتشاراً في بلداننا الشرقية وفي وطننا الجريح - على الصعيد الفردي كان أم الجماعي - والتي تقام في فترة الصوم الأربعيني، وهي تدخل ضمن الفترة الإستعدادية لأعياد الفصح والقيامة المجيدين. وهناك أديرة وأشخاص يمارسون هذه الرياضة الروحية المقدسة كل جمعة من جُمَعِ السنة بأكملها، ومن هؤلاء القديس البابا يوحنا بولس الثاني.
فرياضة درب الصليب وسيلة لعيش عمق الحب عبر التأمل في المسيح الحامل صليبه والسائر نحو الجلجلة، وبذلك تكون فعل إيمان عميق ومشاركة بأعظم مرحلة من مراحل مسيرة الخلاص، وبرهاناً أكيداً على عطاء حبّ الآب بتقديم إبنه يسوع ضحيةً وكفّارةً عن خطايانا.
فلنمارس يا أعزائي هذه الرياضة الروحية المقدسة بكل تأمل وإدراك لعظمة الحب الذي خصّنا به الله، ولنعمل على حمل الصليب مهما كانت الطريق مظلمة وشاقة وطويلة، فإننا لا نسلكها لوحدنا فالله معنا. والمسيح رغم كونه إلهاً قد صار طائعاً حتى الموت، موت الصليب.
ولا نظنّ أن الله تاجرٌ نعطيه بعض الصلوات فيعطينا الطمأنينة والسعادة في السماء، وهنا الخطيئة الكبرى، وإنما مسيرة الصليب هي شهادة وبطولة، بل ممارستنا لرياضة درب الصليب هي إدراكنا أن خطيئتنا شوّهت صورة الله فينا وجعلتها تتوافق مع أهوائنا وأفكارنا. فلا تخجل أيها المسيحي أن تعترف بخطاياك بكل صراحة لتنال غفران السماء بالمسيح يسوع، وعلى عيش حقيقة الإيمان في التقدم إلى العمق وليس عاطفة الكلمات في عيش السطحية القاتلة، فالإيمان المسيحي ليس هوية فقط بل هو مسيرة إيمان وحياة وتوبة وعودة إلى حضن الآب، لأن الحياة المسيحية جهاد مستميت ويومي للوصول إلى الله، فلا تخف أن تكون لله.
قد يكون الصليب وجعاً وألماً، وقد يكون إنعزالاً عن بعض الحلقات البشرية، وقد يكون نوعاً من الموت، فإنّ مَن يقبل الصليب عليه أن يقبل الموت. فإمّا أن نُبقي إيماننا سطحياً دون إنتماء وإمّا أن نزرعه في القلوب لا بل في أعماق قلوبنا، لنكون أرضاً صالحة تقبل بذرة الخلاص عبر عطاء حب المسيح في حمله الصليب لأجلنا. فالصليب يجب أن يكون في مركز مسيرتنا الأرضية، ولنجعل من المسيح غاية حياتنا كما في السماء كذلك على الأرض.

7
نشأة رياضة درب الصليب
المونسنيور د. بيوس قاشا
       خلال زمن الصوم الأربعيني يقيم المؤمنون كل يوم جمعة رياضة درب الصليب المقدس. وصلاة درب الصليب صلاة قديمة عرفتْها الكنيسة الأولى بصورة مبسَّطة، وأحبّتها لإرتباطها الوثيق بالمسيح وسيرته وفدائه.
ولقد وصف الإنجيليون الدرب التي سلكها المسيح بصليبه إلى الجلجلة مروراً بأماكن مختلفة، فأحبّت الكنيسة ما وصفوا، وراح المؤمنون يحاولون التعبير عن تكريم الأماكن التي مرَّ بها المسيح منذ القرن الثاني كما تشير إلى ذلك الإكتشافات الأثرية. ثم إن السائحة أتيريا في نهاية القرن الرابع تقول "إنها شاهدت في القدس ثلاث مبانٍ أُقيمت على جبل الجلجلة تكريماً لآلام المسيح، وإن المؤمنين كانوا يطوفون فيها في بعض الأيام ويصلّون، وهذا الطواف كان النواة لدرب الصليب المستقبلية".
أما بمعناها الحالي فقد ساهم في قيامها القديسون العظماء: برناردوس دي كليرفو ((مواليد1090، كان رئيس الدير الفرنسي وقائد رئيسي في إصلاح الرهبنة البندكتية. ساعد في مجمع لاتران الثاني عام 1139. توفي عام 1153 بعد أن قضى 40 عاماً كراهب. أُعلن قديساً في 18/1/1174 وفي عام 1830 مُنِحَ لقب ملفان "معلّم الكنيسة")، فرنسيس الأسيزي (مواليد1181 من عائلة تعمل في التجارة. راهب وواعظ إيطالي كاثوليكي. لُقِّبَ بقديس في الكنيسة الكاثوليكية. توفي في 1226 وأُعلن طوباوياً في 16/7/1228)، بونافنتورا دي بانيورويجو (هو الراهب رينالدوس من مواليد 1217. عالم لاهوت وفيلسوف إيطالي سكولاستي ينتمي إلى القرون الوسطى. سابع كاهن عام للرهبانية الصغرى وأسقفاً كاردينالاً لألبانو. توفي عام 1274. أُعلن قديساً في 14/4/1482 وملفاناً في 1588) مما أسهم كذلك إقبال المؤمنين على الحج إلى قبر المسيح وإستقرار الرهبان الفرنسيين في الأرض المقدسة منذ عام 1233 ليكونوا حماةً لها ورعاةً لمقدّساتها.
في كتابه "الحج والسياحة" يقول الراهب الدومنيكاني رينالدوس دي مونته كروتشس (+1294) "إنه صعد إلى القبر المقدس في أورشليم بالدرب الذي سلكه المسيح حاملاً الصليب"، ويصف مراحل هذا الدرب كما نعرفها اليوم. كما نشأت في القرن الخامس عشر في ألمانيا وبلدان أخرى ثلاث عبادات مختلفة تدور كلها حول آلام المسيح وترتبط بدربه إلى الجلجلة، وهذه العبادات هي:
   - عبادة كبوات المسيح وهي سبعة.
   - عبادة دروب آلام المسيح وهي طواف بين الكنائس وقد تكون هذه الدروب أو المسيرات سبعة أو تسعة أو أكثر.
   - عبادة توقفات المسيح وهو في طريقه إلى الجلجلة، كتوقفه مع أمّه وفيرونيكا والنساء أو كتوقفه بأمر الجنود.
من هذه العبادات الثلاث التي اندمجت معاً ولدت مراحل درب الصليب بمعناها الحالي، كما كان تأثير القديس برنردوس كبيراً في تسليط الأضواء على آلام المسيح والمشاركة فيها.
وفي نهاية القرن أولى القديس فرنسيس الأسيزي هذه العبادة طابعاً مقدساً إذ اختبر سِمات آلام المسيح في جسده. كما ساهم الآباء الفرنسيسكان في القرن السابع عشر في إعطائها صيغتها النهائية، وفي نشرها في إسبانيا وسردينيا وإيطاليا حتى انتشرت في معظم أنحاء أوروبا ومنها في بلداننا الشرقية.
أمّا بشكلها الحالي المعروف اليوم، وبمراحلها الأربع عشرة، وبترتيبها المألوف عندنا، فقد نشأت أولاً في إسبانيا وخصوصاً في الأوساط التي يكثر فيها الرهبان الفرنسيون، ومنها انتقلت إلى جزيرة سردينيا وهي آنذاك مستعمرة إسبانية، ثم دخلت إلى إيطاليا وهناك وجدت لها داعياً كبيراً ورسولاً لا يعرف التعب وهو الراهب الفرنسي القديس ليوناردس دي بورتو مارينسيو (مواليد1676. كان واعظاً وزاهداً وكاتباً. توفي في1751 وأُعلن طوباوياً في 19/6/1796 وقديساً في 29/6/1867) الذي أقام بمفرده أكثر من (572) درب صليب في أنحاء البلاد، وكان أشهرها تلك التي أقامها في الكولوسيوم بتكليف من البابا بندكتس الرابع عشر في 27 كانون الأول1750 في ذكرى السنة المقدسة لها آنذاك، وبقيت على شكلها هذا.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين أضاف قداسة البابا يوحنا بولس الثاني المرحلة الخامسة عشر، وهي مرحلة قيامة يسوع تتويجاً لرسالته الخلاصية، وقد قامت حينها رعيتُنا مار يوسف للسريان الكاثوليك في بغداد - العراق بإدراج هذه المرحلة ضمن التأمل في هذه المراحل، ثم أدرجت بعض الكنائس الأخرى أيضاً هذه المرحلة. فالقيامة غاية الصليب وهي سرّ إيماننا وحقيقة عقيدتنا.
فيا رب، إجعلنا أن ندرك دائماً عظمة حبك في سفك دمك الكريم لأجلنا عبر الصليب المقدس.



8
الميلاد ... علامة الرجاء
وُلِدَ المسيح ... هاليلويا

المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
يحتفلُ العالمُ هذه الأيام بميلادِ طفلٍ مضطجعٍ في مذود، إنَّه المخلّص، كما دعاه الملاك ساعةَ بشَّرَ الرعاةَ، فجاءوا مسرعين ووجدوا كما قال لهم الملاك، طفلاً مضجَعاً في المذود.
فإذاً ميلادُ المسيح هو إشراقُ نور الربِّ علينا وعلى المسكونة، إذ لما ظهرت الملائكة على الرعاةِ الساهرين قالت:"لا تخافوا، فإنه قد وُلِدَ لكم اليوم مخلّص" (لو11:2) وهذا الخوف هو البشرى الأمينة لولادة المخلّص. فأخذوا يقولون "لنذهبَ إلى بيتَ لحمَ وننظرَ هذا الطِفْلَ" (لو15:2). ما أجمل البشرى حينما تحلُّ من السماء وعِبْرَ البسطاء الرعاة، ليسمع الشعبُ أنَّ مجدَ الربِّ قد أشرق وأضاءَ حولَهم (لو9:2) وأكملَ وعدَهُ معنا، وحقَّقَه للبشريةِ جمعاء وذلك على الجلجلة.

   نحو المغارة
المشكلة أنَّهُ يساورنا أحياناً الخوفُ ممّا يحدث هنا وهناك في بلدِنا وفي العالم، ولنسأل الرعاةَ كيف جُعلوا أنْ لا يخافوا. أظنُّ أنّه صوتُ السماء الذي سار معهم في الدربِ نحو المغارة وهو يقول لهم "أنظروا هذا الأمر الواقع"، فَحَمَلوا بساطَتَهم بشجاعة، وساروا ورأوا ولم يبالوا بشيء. فالبشرى لطَّفَتْ خوفَهم وحوَّلَتْهُ إلى علامةِ الرجاء والفرح رويداً رويداً، وإنْ كان ذلك صعبٌ كبشر ولكن كمؤمنين فالله يولَدُ في قلوبِنا قبل أنْ يولدَ في المغارة. فلنقصدَ بيتَ لحمَ مثل الرعاة لننظرَ هذا الأمرَ (لو15:2) حيث الله كان ويكون وسيبقى صادقاً مع الإنسان، ومِن أجلِ خلاصِنا وُجِدَ بيننا، وحَمَلَ أوجاعَنا وأحداثَنا ليعلّمنا أنَّ الرجاءَ آتٍ مهما كان الزمان والمكان.
ولمّا رأَوا الرعاةُ طفلَ المغارة، وتأكّدوا من العلامةِ التي أُعطيتْ لهم مِنَ الملاك، عادوا يسبّحون الله ويهلّلون، وبذلك أصبحوا شركاءَ الملائكة في تسبيحِ الله. ومريم كانت تحفظُ هذه الكلمات وتتأمّلُها في قلبِها، وهذا ما عَمِلَتْهُ مريم، فقد عاشت في العمق هذه الأحداث وكانت تحفظُ هذا الكلام وتتأمّل به (لو19:2).
نعم، إنَّ أحداثَ العالَمِ اليوم لا تنتهي ولا مجالَ للكلامِ عنها، مِن حربِ روسيا وأوكرانيا إلى إبادةِ شعبِ غزّة إلى كارثةِ وفاجعةِ الحمدانية التي أودتْ بأشخاصٍ وضحايا أبرياء لم يعرفوا غير الحياة، فكلُّ ذلك يشكّلُ إطاراً لتجلّي الربّ بيننا. ولكن المهم أنْ نَعْلَمَ كيف نتخطّى الإطارَ الخارجي لنصلَ إلى الحدثِ الأهمّ، حدثٌ يهمُّنا جميعاً، وهو أنْ كيف نرى تجلّي الله في حياةِ عالَمِنا، وعالَمُنا أحداثُهُ مأسوية، وهذا ما يدعونا إلى أنْ نقتنصَ الرجاءَ والفرحَ ونزرعهما من حولِنا وخاصةً بعدما دخل ابنُ الله تاريخ البشر وأقام علاقةً معنا، وأنْ نكونَ دائماً أوفياء لهذه العلاقة.

  علاقة حقيقية
هذا ما يقودنا إلى أنَّ الله أرادَ أنْ يقيمَ أو يدخلَ في علاقةٍ حقيقيةٍ مع الإنسان، فالتقى مع الإنسان في شخصِ طفل المغارة، المسيح، ابنُ مريم وابنُ الله، إنه المجد الذي تجلّى ولا زال يتجلّى في العالم في أُناسٍ مؤمنين به. إذ بولادتِهِ تحقق انتظارُ الأُمم، وأصبح في علاقةٍ حميمية مع الآخر دون الكشف الكامل والصادق عن الذات. وهذا التجلّي علَّمنا على حقيقتِهِ، فعرفناه أَبَاً مُحبّاً ورحوماً، وكلمةً أُرسلت إلى مريم. وبميلادِهِ أصبحنا أبناءَ الله حيث قال إشعياء النبي "الشعبُ السالكُ في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. والمقيمون في بقعةِ الظلام أشرق عليهم نورٌ" (إشعياء2:9). ولكن في معظم الأحيان لا تعني لنا شيئاً هذه العلاقة، وهنا يكمن السؤال الخطر: هل نعمل ما يُرضي الله أم ما يُرضي العالم وأنفسَنا؟ إنه سؤالٌ مُحَيَّر، ولكن لنعلم أن المسيح يعملُ فينا ومعنا حتى انتهاء الزمان، وهل من ضمانةٍ أكبر من هذه؟.
إنه المسيح، وُلِدَ بيننا ليحمِلَ عاهاتِنا، وفي ذلك كشف اللهُ عن ذاتِهِ، وأعطى الحياةَ للناس الذين فقدوها بسببِ بُعدِهِم عنه بالخطيئة، ولكي يُعيدُهم إلى بنوَّةِ الله بواسطةِ الإيمان باسمِهِ. ففي ولادتِهِ يولَدُ الإنسان أو بالأحرى يُخلَقُ الإنسانُ مِن جديد، إنسانُ النعمةِ والحق. فإذاً ميلادُ المسيح هو أنَّ حضنَ الآب أصبح أيضاً لنا وللعالَم. فالعالم لم يعدْ غريباً أو منفصلاً عن الله بل أصبح قريباً منه جداً، وزالتِ العداوةُ القديمة لأنَّ الله صالَحَنا بجسدِهِ البشري. إنه خيارٌ جديدٌ لجميعِ الناس وعلى مدى التاريخ. وشابَهْنا في ذلك الرعاةَ المنسيين الذين رأوا الطفلَ، فطوبى لهم. فهم ليسوا بحاجةٍ إلى خيارٍ آخر سوى إعلان هذا الخبر المفرح، إنه وُلِدَ لكم اليوم مخلّص. لذا اعتَبَرُوا أنفسَهم أهلَ بيت الطفل بصمتِهِم وقرابتِهِم عبر بشارة الملاك.

  أبواب قلوبنا
فابنُ الله صار إنساناً مثلَنا (لو14:1) عاشَ خبرةَ الإنسان في جميعِ أبعادِها ما عدا الخطيئة. أتى ليكونَ رفيقاً لكلِّ إنسان، وحاضراً معه في تفاصيلِ حياتِهِ اليومية، فيُضفي عليها النورَ والحياة بعدما ينتظرُ قبولَنا له، وهو يحترم حريَّتَنا، ويدعونا لأنْ ننالَ فيه حريةَ أبناء الله. لذا علينا أنْ نُشرِّعَ له أبوابَ قلوبِنا ليدخل ويكون معنا، ولا يجوز أو نفضِّلَ العيشَ بدونِهِ أمثال هيرودس أو بيلاطس أو حنّان وقيافا أو آخرين، إذْ لمراتٍ عدّة نتنكّرُ الحدثَ مِن أجلِ غايةٍ زمنية والنبي يقول:"عَرَفَ الثورُ مالِكَه، والحمارُ مَعْلَفَ صاحبِهِ، وشعبي لم يفهم" (إشعياء3:1) وهذا يتكرَّرُ على مدى الزمن.
إنها رسالةُ السماء لنا جميعاً، كَمَّل عملَها الرعاة وحملوها على أفواهِهِم وأكتافِهِم. وأنتَ أيها المؤمن، لا تخف ولا تخشى أنْ تسلِّمَ ذاتَكَ لطفلِ المغارة، فوحدُهُ يعرف توقَكَ، ويستطيع أنْ يحقِّقَه لكي يغيّرَ وجهَ الكون، وتُصبحُ الإنسانيةُ من جديد موضوعَ محبةِ الله وعنايتِهِ. وعِبْرَ هذا الطفل سيختبرُ الناسُ والبشرُ كم أنَّ اللهَ قريبٌ منهم لا بل ساكنٌ فيهم كما يقول إشعياء "إنَّ اللهَ سكن بيننا، وأقامَ فينا كما أقام قَرْنَ خلاصٍ" (لو69:1). فهو يعرف كلَّ واحدٍ منا أكثر ممّا يعرفُ الإنسانُ نفسَه. فهو الكائن "إنه الطفلُ الذي أُعطيَ لنا" كما قال إشعياء النبي "وصارتِ الرئاسةُ على كَتِفِهِ، وافتَقَدَنا المشرقُ مِنَ العَلاء" (لو78:1) فهو يقول لنا أنْ لا ينقصنا الإيمانُ ولا القناعةُ بأنَّ طفلَ المغارة هو الله الذي أحبّنا. لذلك ما نظنُّه أحياناً قصاصاً أو عِقاباً من الله بسبب ما يُحدثه من ألمٍ وتغييرٍ في حياتِنا، ألا يخفي تدخلاً إلهياً لخيرِنا ولتوبتِنا الحقيقية؟ فنصمت ونصلّي وبذلك نُدرك إرادةَ الله، كما صمتتْ وصلّتْ القديسة مريم وكذلك يوسف البتول الصامت الكبير (كما أسمّيه) ... أليست تلك رسالةُ السماء؟.

  هدية الملائكة
والدعوةُ اليوم بل هذه الأيام، أنْ نتأمّلَ كيف أنَّ الله تنازل ليخلِّصنا، واختار أنْ يكونَ معنا في المذود، ما هذا الحبّ، وما هذا الحنان؟ فالمسيحُ هو هديَّتُنا في ميلادِهِ. إنه الهدية التي زَفَّتها الملائكةُ للرعاة، بعدما طال انتظارُ البشريةِ لهذه البشرى والتي تحققتْ أخيراً. فالموعود صار واقعاً، والحلمُ حقيقةً، وابنُ الله صار جسداً. ويقول بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية "ولمّا بَلَغَ مِلءُ الزمان، أرسلَ اللهُ ابنَهُ مولوداً من إمرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتديَ الذين تحت الناموس، لننالَ التبنّي... فلسنا بعدُ عبيداً بل نحن أبناءً" (غلا4:4) فذلك الفادي دُعِيَ عجيباً، مشيراً، إلهاً جبّاراً. لذا نحن المسيحيين علينا أن نبقى ساهرين على مصيرِ هذا العالم الذي ينقصُهُ علاماتِ السلام والرجاء والفرح، علينا أنْ نتقبَّلَ علاماتِ الرجاء على مثالِ الرعاة. وهذا ما يُطلَبُ منّا أنْ نستمرَّ في السهرِ معاً، والصلاةِ والتأمّلِ دائماً، كي نتحلّى ببساطةِ هذه الأمور من أجلِ أنْ نكونَ في الميلاد، لأنه أُعطي لنا ابنٌ، إلهاً جبّاراً، رئيسَ السلام.

  الختام
ختاماً لنهتف إذاً مع الملائكة في ولادةِ طفل المغارة ترتيلةَ "المجدُ للهِ في العلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرّة" وفي ذلك يكون لنا الميلاد علامة الرجاء واسمحوا لي أن أقول لكم: كلُّ ميلادٍ وأنتم بخير... نعم، ولد المسيح ... هاليلويا.



9
ميلادنا ... حقيقة وجودنا
(الحلقة الثانية والأخيرة)
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
أكيداً كلنا نعلم أن وجودنا وحضورنا عبر إيماننا بساكن المذود ليس عبثاً أو
صدفةً أو ضياعاً، وإنما وجودنا - حسب علمي ومعرفتي - رسالة نحملها لنكمل مشيئته، وهذه الرسالة مملوءة بشارة ومحبة الآخر. فحضورنا يتطلب منا حضوراً حقيقياً لإثبات وجودنا كي لا نكون حملاناً أو غنائم لكراهية الآخرين ودعواتهم التي تُرتَكَب بحقنا عبر قوانين لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ويُطلَب منا أن نكون لكل كلامهم طائعين ولا شيء غير ذلك.
فالميلاد يدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين نظرة جديدة مبنية على الحب والاحترام، لأن الميلاد سرٌّ حيث تواضع الرب ليرفعنا، وافتقر ليُغنينا، كما لبس بشريّتنا ليزيّننا بألوهيته. فالكل متساوون أمام الله بالحب والكرامة، وهذا الحب كشف لنا تعلّق المسيح بالأرض التي فيها خلق الإنسان وفيها وضعه، ومن خلال الأرض هذه نشهد لسرّ التجسد في عالم الشهوة والجسد.

   رسالة ... ولكن
ولكن أسأل: أبهذه الطريقة نرحل أو نكون سبب رحيلنا لأننا نسينا أن نسهر؟ وهل لا نعلم أن الرب قال أيضاً "ارفعوا رؤوسكم فإن خلاصكم قد دنا" (لو28:21)؟ فأين هي غيرتنا الإيمانية وليس غيرتنا المتدينة والعمل من أجل الدنيا وننسى رسالة الرب التي وجّهتْها لنا السماء وليس كبار الزمن الأرضيين والزائلين يوماً ما؟.
ولكن ما أعرفه أن ذلك ستبقى المسيحية رغم الألم رمزاً من أجل الحياة، فقد عُرفت بأن مسيحيتنا في مشرقنا ولدت عبر مخاض عسير، وبقيت شاهدة لمسيرتها وشهيدة في حياتها وحتى الساعة وستبقى، إذ لا زالت مضطَهَدة علناً أو قانوناً أو ضمناً، ويعتبرها الجميع عثرة لجميع اشلعوب (رو33:9 و1كو23:1) فالشهادة عنوان مسيحيتنا وقد أعلمنا بذلك إذ قال ربنا "سيسلّمونكم إلى المجالس شهادة لهم ويضطهدونكم ويطردونكم" (مر9:12) ومن هنا يأتي سرّ إيماننا بالنسبة للذين قدّموا رقابهم بدلاً منا، ووجّهوا أنظارهم كي نقتفي آثار أقدامهم لنكون مثلهم شهوداً وشهداء لأنها  كانت شهادة حق وصدق ولم يكن الصليب وحمله عاراً إنما حملوه فخراً، ومار بولس يقول "إنني أكمّل في جسمي ما نقص من آلام المسيح. فالصليب هو نصرٌ لي" (كولوسي24:1) لذلك سنبقى وتبقى المسيحية التي انطلقت شرارتها من شرقنا، وشعّت أنوارها في المسكونة، ستبقى صامدة وثابتة في القلوب، قلوب المؤمنين أينما حلّوا وأينما كانوا، لا تزعزها رياح الهجرة والعولمة المزيفة والرحيل وترك الأرض إلى بلد آخر.

  كنيسة الرحيل
نعم، أقول: انقلوا حقيقة إيمانكم إلى أولادكم، واحملوا هذه الأمانة معكم في هجرتكم ورحيلكم عبر موبايلكم وحاسوبكم، وأعلموهم أن حقيقة إيمانهم فخر لهم، وقولوا لهم كونوا شهداء لصليبكم فالرب يسوع قال "مَن أنكرني قدّام الناس أنكرتُه قدّام أبي الذي في السماوات" (لو9:12) فحقيقة عماذكم سلاح لكم من أجل زرع طريقكم بمحبة وحنان. واجعلوا أنفسكم دائماً من أجل المسيح. وكونوا محبة حيث البغض، والمسامحة حيث الحقد والكراهية. واعلموا أن كنيستكم ليست حجارة وإنما بشراً وهو أنتم. فأنتم كنيسة حية عبر طرق الزمان وليس كنيسة الرحيل والعولمة والهجرة. لأن الشرق كان ولا يزال يحتاج إلينا وإليكم لحمل رسالة الإنجيل، فلنرسم لهم طريقاً ملؤه حرية ومسؤولية وحقيقة وليس رسالة أشخاص أمنياتهم ومصالحهم وافقت مصالحكم. فإذا فرغ العالم من تعاليم الإنجيل كان الخراب عنوان هذا الفراغ وبسبب ذلك سيديننا الرب لأنه قال "ماذا ينفع لو تحبوا مَن يحبّونكم" (لو32:6 ومتى46:5) فالهجرة والرحيل حق لكم ولكل واحد أو واحدة منكم، وإن أردتم ترك أرضكم فذلك شأنكم ولكن اعلموا أن البقية الباقية ستبقى شاهدة لإنجيل المسيح ولأرضكم ومهما أُفرغت من أصولها عنوةً أو إرادةً، خوفاً أو طاعةً، ستبقى شاهدة لمسيحيتها ووجودها في هذه الأرض. فكما غيّرت المسيحية وجه التاريخ فهي لا زالت تحارب الشرير وحركاته الفاشلة. والرسالة تكمن لا فقط بالكلام ولكن بالعمل عبر رسالة آبائنا البطاركة في الحضور المسيحي في الشرق "وتكونون لي شهوداً".

  الطفل بيننا
فالميلاد الذي نحتفل به هذه الأيام يجعلنا دائماً أن نتأمل عظمة الابن الذي أحبكم وأحبنا جميعاً، وجاء إلينا وسكن بيننا في مذود صغير لفقراء الرعاة، ما هو إلا كنز العطاء وهو ملك للرعاة البسطاء وكل الناس الأبرياء والذين يشهدون الحقيقة في مسيرتهم. لذلك لا تخف ولا نخجل من أن نحمل الرسالة المسيحية. فاحمل هذا الإيمان عبر مسيرتك وإن كنتَ مضطَهَداً من قبل كبار الزمن والدنيا ولو من كبار المعابد والذين يشوّهون وجه الرب ويجعلون وجوههم هي المبتغاة. لذلك لا نفتش عن الدنيا فالطفل بيننا جاء ليزرع الحب في قلوبنا. فإفراغ البلد من مسيحيتنا ارتكاب لخطيئة جسيمة إذ نتنكر لحقيقة الشرق الساكنة فينا. فالرجاء في الميلاد عنوان إيماننا المسيحي. ولنترك جانباً تديّننا فنحن مؤمنون وليس متديّنون، حاملو الشرق وإيماننا في قلوبنا.
فالثبات علامة لمسيرة إيماننا بسبب الرجاء الذي زيّن نفوسنا، ولسنا جاليات أو أقليات أو مكوِّنات أو بدو رحّل، حيث الخضار نحطّ، وحيث الراحة ننصب خيمنا، وحيث الماء نكون هناك فذلك ما يطلبه أبناء العالم، فنحن في هذا العالم المخيف ولكن لسنا منه (يو19:15).

   الخاتمة
فالميلاد جاءنا ليقول لنا: لا تخافوا فأنا سرتُ أمامكم. اجعلوا مسيحيتكم ليست انقساماتكم. والويل لكبار الزمن الذين يشترون ويبيعون بمصالحكم كما يشاؤون. فأنتم يومياً تحيون في الميلاد ما دامت مسيحيتكم تعيش فيكم. ولا زلتم أنتم لا مكان لكم إلا مذود الفقراء والبسطاء والحقراء. وهذه رسالة السماء وليس الذين أرهبوكم وأرهبوا السماء فأخذوها غصباً. والحقيقة تقول: أن طفل المذود هو يقودكم كما قاد النجم الرعاة. فليكن وجودكم ميلاد المسيح بل ميلادكم، وهو رسالة مسيحيتكم وشهادتكم، وتلك شهادة لأرضكم... نعم وآمين.



10
ميلادنا ... حقيقة وجودنا
(الحلقة الأولى)
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
أكيداً كلنا نعلم أن وجودنا وحضورنا عبر إيماننا بساكن المذود ليس عبثاً أو
صدفةً أو ضياعاً، وإنما وجودنا - حسب علمي ومعرفتي - رسالة نحملها لنكمل مشيئته، وهذه الرسالة مملوءة بشارة ومحبة الآخر. فحضورنا يتطلب منا حضوراً حقيقياً لإثبات وجودنا كي لا نكون حملاناً أو غنائم لكراهية الآخرين ودعواتهم التي تُرتَكَب بحقنا عبر قوانين لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ويُطلَب منا أن نكون لكل كلامهم طائعين ولا شيء غير ذلك.
فالميلاد يدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين نظرة جديدة مبنية على الحب والاحترام، لأن الميلاد سرٌّ حيث تواضع الرب ليرفعنا، وافتقر ليُغنينا، كما لبس بشريّتنا ليزيّننا بألوهيته. فالكل متساوون أمام الله بالحب والكرامة، وهذا الحب كشف لنا تعلّق المسيح بالأرض التي فيها خلق الإنسان وفيها وضعه، ومن خلال الأرض هذه نشهد لسرّ التجسد في عالم الشهوة والجسد.

   تاريخ ... وأصلاء
مرّت الأيام، وكانت الحروب على أجدادنا وآبائنا وشعبنا، وها هي اليوم تمرّ علينا ولو بصور أخرى وربما غير التي ألفناها، ولكن كانت وستبقى نتيجتها هي هي، وإن كان لكل مرحلة مآسي خاص وحقد دفين وتكفير وسجود للوثن والتعبّد للبشر وتقديس وجوههم كما تشاء مصالحهم خوفاً من الموت والدمار والفرار. فالشرّ بأيديهم مستعد أن يلوّث أياديه بدمائنا البريئة عبر تدمير معابدنا وهجرتنا، وتلك حقيقة لا يمكن نكرانها، ومَن ينكرها ما هو إلا من المزيفين الحاقدين وذوي المصالح الخاصة، وسبيلهم معروف إذ أقاموا أنفسهم وكلاء لله على هذه البسيطة الفانية إذ يعتبرون ما يقومون به ما هو إلا سماوي وربما إلهي، وإنهم منها انحدروا وعبر دساتير كاذبة ودون وجه حق وذلك استشهاداً بقانون العيش المشترك، وأصلاء الدار هم فعلاً الأصلاء في حقوقهم كبشر بريء وكل ذلك بعيداً عن تعاليم الرحمن الرحيم إنما شهرتهم وبذلك يعلنون وفاءهم للسماء دون خوف أو وجل وبكل كبرياء وحقد وأنانية عبر مناسبات عدة ومؤتمرات وبذلك يسدلون الستار عن حقيقة المسيح الحي والمسيحيين ووجودهم وهجرتهم المؤلمة. فحتى متى هجرة أولادنا وعوائلنا ورحيل أكبادنا من أرضهم، فأسماؤهم مُحيت من سجلات بلادهم وأرضهم التي من أجلها كانوا، كما ضاعت أحوالهم من سجلات تربتهم وهم يدركون أنهم الأصلاء ولكن ليس في اليد من حيلة لهجرتهم.

   نحن ... والزمن
في الحقيقة وهذا ما أعرفه أن المسيحية تتعرض من وقت لآخر إلى هزة لتطهيرها من العناصر الضعيفة، وترى المسيحية أن الاضطهادات مفيدة، وهذا ما يعلّمنا إياه بولس الرسول إذ يقول "إنني أحتمل في جسدي ما نقص من آلام المسيح" (كولوسي24:1) وهذا ما يجعل المسيحيين صامدين وثابتين في أرضهم وبلادهم إلا بعضاً منهم من الذين يجعلون من مسيحيتهم ديناً، فتراهم متدينين، والحق لهم أن يكونوا هم في الصفوف الأولى، وعلى حساب المسيح يربحون كل شيء وينسون ما قاله بولس الرسول "أن ربما بسببنا يُهان المسيح". وهذا ما نراه اليوم عند كبار الزمن إذ لا يريدون إلا إرادتهم، ومن أجل مصالحهم يعملون وليس شيئاً آخر. ولكن لنعلم أن المسيحي لا يجوز أن يحيا إيمانه خوفاً وعلى طرقات الحياة كأنه لا أرض له ولا موطئ قدم. والحال فكبار دنيانا وزمننا يجب أن يكونوا هم المثل لمسيرة الحياة عبر مسيرة مشرقة دون التباهي بالمركز أو المنصب بل بالخدمة والعطاء، ودون القول هذا ما يريده الزمان. فالزمن هو لنا وليس نحن للزمن. فلننتبه إلى مؤمني أرضنا ومجتمعنا، ونجعل من أنفسنا شهداء ومحاربة كل المصالح والقرارات الطائفية وتعمل من أجل تدمير الآخر البريء فما هذا إلا طريق الفساد والشر الذي جعل من شعبنا غريباً وهو أصيل، وكتب أسماء صغاره عبر الهجرة والرحيل وترك أرضه ووطنه لأن الكراهية طردته وربما أحياناً يأتينا الصوت: لماذا تهاجرون وترحلون؟ أليس هكذا يريدون أن يجعلوا من كنيسة المسيح بناءً في خطر؟ وهذا ما يحصل اليوم وما أراه، إنه مخيف ومخيف جداً إذ يشعر الإنسان المهاجر والمصاب بداء الرحيل أن الأرض التي احتضنته لم تعد تحبّه بل تلفظه ولا تبادله الحب عبر البناء، فلا مجال للبقاء وإنما ما هو الحل؟ أليس هو الأرض البديلة؟.

  الرحيل ... مشكلة
واليوم، ومن المؤسف أن أرى أناساً كباراً في الدنيا وهكذا يعتبرون أنفسهم ولكن الكبير فيهم هو الخادم كما يقول ربنا يسوع وفي ذلك هؤلاء الكبار لا يرون إلا مصالحهم وأنانياتهم ولا يفكرون إلا بإله المال والجاه والسلطة والكرسي والمركز، فيكونوا هم علاماتٍ وسبباً لهجرة العديد من العوائل الذين لا يفكرون إلا في دنياهم ومصالحهم دون أن يعرفوا ماذا تعني الشهادة وإن كانت أساس حياتهم. لذا على هذه العلامات أن يكونوا مثالاً للعوائل الراحلة، وليعلموا أن الرحيل لا يحلّ المشكلة بل يعملون على ترك العديد من الأخوة تحت نير العبودية وما ذلك إلا سرقة بشرية في إفراغ المجتمع من الأصلاء ليس إلا...!.
وما يؤلمني أن أرى أبناء مدينتي يرحلون خوفاً من وممّا حصل لهم عوائل وأفراد، وهجرتهم من حقيقة العيش ومستقبل أولادهم الصغار. لنعلم جميعاً هل ذلك لا يعمل إلا ليُحبط عزيمة البقية الباقية ناسين أن الرب سبق وأعلمنا بكل شيء إذ قال "سبق وأعلمتُكم وقلتُ لكم اسهروا، لأنكم لا تعلمون الساعة" (متى13:25) أليس هو صوت الله الذي قال لآدم "موتاً تموت" إنه صوت التأمل والانتباه... وإلى الحلقة الثانية

11
كنيسة المسيح ... أم كنيستي!
(الحلقة الثانية والأخيرة)
المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء...
ما أكثر الذين يريدون ولا زالوا إلى اليوم محاربة المسيح وكنيسته وتعاليمه
الإنجيلية وبطرق مختلفة ومتنوعة، كما لا زال الكثير من البشر في هذا الزمن الفاسد والحاقد يطرد المسيح وكنيسته من مسيرة حياته وينكره من لائحة الأديان، ومن المؤسف أن يكون هناك بعض من هؤلاء المسيحيين يريدون حصر المسيح وتعاليمه وكنيسته في دائرة تصوراتهم المحدودة والمتخلفة والمريضة بتدنّيهم الشكلي فيعتبرون أنفسهم أن الله وكنيسته يجب أن يسمعا لهم، وهذا إيمانهم المنافي لمسيرة حياتهم هو الدليل الأكيد لهم، ويعملون ذلك لتشويه حقيقة الذي أحبّنا حتى الموت على الصليب، فهم ينفذون إليه من زاوية بشرية وصورة إيمانية موافِقة لمشيئتهم عبر عالمنا المنظور وتعاليمه المدمِّرة للإنسانية وللأخوّة. ورغم ذلك فالكنيسة مؤسسة إلهية وبيت إلهي وحبٌّ لا يسمو عليه حُبّ، فهي جماعة المؤمنين بالمسيح وليس المؤمنين بـــ "أنا"، فهي أمّ جميع الأحياء حيث المسيح في الكنيسة هو رأسها وكلنا أعضاء هذا الجسد أيّاً كان عِرقنا ولغتنا ولوننا.

     ظاهرة الطوائف
المشكلة هي أننا في كنائسنا تقسيمات عديدة، وهذه التقسيمات ضربت الكنيسة وجعلتها كنائس مختلفة وعديدة ومتعددة تنادي بمسيح واحد، وقانون الإيمان نردّده جميعاً بقولنا "نؤمن بكنيسة واحدة، جامعة، مقدسة، رسولية" فإن كان إيماننا واحد فنحن لسنا كنائس متعددة ولكن هذه التقسيمات جعلتنا كنائس متعددة. ومار بولس يقول:"رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ. وَلكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ" (أفسس 5:4-7) فلا أظنّ أن هناك انحطاطاً على الصعيد الكنسي والديني انحطاطاً أكبر من الذي وصلنا إليه في هذه الأيام من جرّاء قبولنا تسمية فُرضت علينا، ومن جرّاء جرّ المؤمنين إلى غير كنيسته مدّعين أنه لنا، وما هذه الظاهرة إلا من أيام العثمانية حيث دُعينا طوائف وقُسّمنا أشخاصاً وكنائس وذلك أفقَدَنا مجد المسيح الحي وحقيقته الواحدة. فنحن اليوم فرقاً ومذاهب وطوائف وأحزاب، والمطلوب هو التعاون بين الكنائس المختلفة، فالعالم لا يريد من تقسيماتنا إلا غِنىً له إذ يسهل عليه حكمنا وكما يشاء. فلنعلم أن كنيستنا واحدة، ولنكن منتبهين كما يقول مار بولس:"إن اسم المسيح سيُجدَّف عليه بسببنا بين الأمم" (رو24:2) فكلنا أبناء الله، ومن خلال إخوتنا يجب أن نحب البشر جميعاً وهذا ما علّمنا إياه المسيح الحي. والحياة رغم قساوتها، والمراحل التي تمرّ علينا، لكن سيبقى المسيح حامينا وشاهد للمحبة والخلاص.

     الكنيسة ... خادمة
الكنيسة ليست إدارة فقط وإن كان هذا الزمان وما نراه وما تراه الدنيا جعلها إدارية حصراً أكثر مما هي مبشِّرة. وقبل أن تعمل ما تشاء بواسطة رجالها، عليها أن تكون خادمة ومليئة بالرحمة، ولا يجوز أن يتصرف القائمين عليها كما يشاؤون وحسب هواهم فهي قبل كل شيء مبشِرة وليست دكتاتورية تتصرف كما تشاء وتنسى أن القطيع له آراءه، ولا تؤمن بكلام الآخرين وإنما تسيّر الجميع بما تراه عبر كبار زمننا ودنيانا، وتنسى طريقها الأمين الذي ما هو إلا حمل وإيصال البشارة إلى الآخر، فهي بالنهاية ليست إدارية وإنما رسولية، وإدارتها ما هي إلا لتنظيم مسارها... ليس إلا! كما أن الكنيسة ليست مُلكاً لأحد مهما كانت درجته ومنزلته بل هي لجميع المؤمنين. فمن الغريب عند سؤال الناس عن الكنيسة فإنهم يحدّدون المبنى الذي يترددون عليه (رو5:16) فمعلّمنا واحد، ومخلّصنا واحد، وما نحن إلا خدم لهذا المخلّص ولهذه الرسالة، وهدفنا ليس إلا إرشاد الناس وتشجيعهم على السير في طريق السماء. فالناس ليسوا إلا مجموع حبات القمح المتحدة في الخبزة الواحدة، ومجموع حبّات العنب المتحدة في كأس واحدة.

    كنيسة المسيح
إنْ كان المسيح إله الجميع ومخلّص الجميع فلا يجوز أبداً أبداً أن نحتكره لأنفسنا أو نقلّبه كما نشاء ونستخدمه لغاياتنا في آنية من صفائحنا ومصالحنا. لا يجوز أبداً أن نعلن البشارة ونحن نجعل من المسيح مستمعاً لمطالبنا كما نشاء وننسى أنه هو الله وما علينا إلا أن نسمع ونعمل بأقواله وعبر إيماننا به. فالإيمان هنا هو الحياة، ولا إله إلاّ هو (1كو4:8، يشوع 5:36)، وليس نحن آلهة هذه الدنيا رغم الشقاء إذا ما حلّ بيننا، فالمسيح ربنا هو الإله بكل معنى الكلمة كما أنه إنسان أحبّنا وهذا كله تأكيد على نعمته المخلِّصة دون النظر إلى البشر ومصالحنا. فما علينا إلا الإيمان وليس النظر إلى شكليات البشر وتصوراتهم وتديّنهم ومصالحهم الآنية وغاياتهم الدنيوية الزائلة، ولكن مَن يسمع ومَن يقرأ ومَن يعمل "فمَن له أُذنان سامعتان فليفهم" يقول القديس لوقا الإنجيلي (8:8).

    الكنيسة ... حصاد وافر
ورغم زوغان البشر عن طريق الحقيقة والمحبة والسلام لنحمل البشارة رغم أن الإيمان هذه الأيام مهدد في كل مكان، وهذا ليس بالمستغرب فمنذ بشارة المسيح إلى اليوم لا زال إيماننا بالمسيح مهدَّد. فالكنيسة مُلك المسيح وما نحن فيها إلا خدّام أمناء، وليس علينا أن نسيّرها كما نشاء ولكن علينا أن نسيّرها ونعمل فيها كعمّال الكرم مخلصين وحاملين اسم البشارة بعد أن نحياها ونزرع بذرة البشارة لكي يكون الحصاد وافراً. فالكنيسة أمّنا تدعونا إلى ذلك وحينذاك سنكون أمام كنيسة المسيح الرب وليس كنيستي أنا. فيسوعنا مؤسِّس الكنيسة وأساسها ومحرّكها وغايتها، فلا يحق لنا أن نسيّر وكأنه لم يؤسس الكنيسة، كما لا يعقل أن تتصرف هذه وكأنها لا تنتسب إليه أو كأن لا كلمة له على حياتها ولحياتها اليوم وغداً وإلى الدهور. فالكنيسة لا تستمر ولا تصمد إلا بفضل دعوة مَن دعاها، ولا يحق لها أن تبقى في الوجود إلا إذا ثبتت في خط الأمانة لرسالتها وحملت هذه الرسالة بجدارة لمجد مخلّصها الذي دعاها وأرسلها.

الخاتمة
فالبشارة من صلب رسالة الكنيسة، منطلقة من حقيقتها، لا عيب فيها ولا غضن فأولى الأعمال التبشيرية هي الصورة التي نعطيها عن المسيح من جراء المشكِّكة والمُظِلّة إزاء عالم بات يبحث لاهثاً عن كيفية الدخول بسرعة ونجاح في حقيقة العولمة للبشرية جمعاء. فلننتبه إلى مسيرتنا ولنكن – أقولها ثانية – أمناء نعم وأوفياء ... ليس إلا!!!.

12
كنيسة المسيح ... أم كنيستي أنا!
(الحلقة الأولى)

المونسنيور د. بيوس قاشا

    في البدء...
ما أكثر الذين يريدون ولا زالوا إلى اليوم محاربة المسيح وكنيسته وتعاليمه
الإنجيلية وبطرق مختلفة ومتنوعة، كما لا زال الكثير من البشر في هذا الزمن الفاسد والحاقد يطرد المسيح وكنيسته من مسيرة حياته وينكره من لائحة الأديان، ومن المؤسف أن يكون هناك بعض من هؤلاء المسيحيين يريدون حصر المسيح وتعاليمه وكنيسته في دائرة تصوراتهم المحدودة والمتخلفة والمريضة بتدنّيهم الشكلي فيعتبرون أنفسهم أن الله وكنيسته يجب أن يسمعا لهم، وهذا إيمانهم المنافي لمسيرة حياتهم هو الدليل الأكيد لهم، ويعملون ذلك لتشويه حقيقة الذي أحبّنا حتى الموت على الصليب، فهم ينفذون إليه من زاوية بشرية وصورة إيمانية موافِقة لمشيئتهم عبر عالمنا المنظور وتعاليمه المدمِّرة للإنسانية وللأخوّة. ورغم ذلك فالكنيسة مؤسسة إلهية وبيت إلهي وحبٌّ لا يسمو عليه حُبّ، فهي جماعة المؤمنين بالمسيح وليس المؤمنين بـــ "أنا"، فهي أمّ جميع الأحياء حيث المسيح في الكنيسة هو رأسها وكلنا أعضاء هذا الجسد أيّاً كان عِرقنا ولغتنا ولوننا.

     الكنيسة ... جماعة المؤمنين

فكنيسة المسيح هي لكل إنسان لأن المسيح جاء من أجل كل إنسان وهو مع كل إنسان إذ يقول:"مَن ليس معكم فهو عليكم" (مر40:9) فالكنيسة ليست لجماعة معينة أو لأشخاص معينين إنما هي للبشرية جمعاء لأن المسيح الرب فيها إله كل الناس وكل البشر وقد مات على الصليب ساكباً دمه لأجل أن "يربح الكلّ" (1كور19:9) وليس ليجعل ذاته لجماعة معينة كما يفعل كبار الدنيا والزمن والذين يرسمون مصالحهم في قلوبهم من أجل رسوماتهم ولا يُظهرون حقيقتهم جليّأً كي لا تلومهم الحياة، إنما يضعون أنفسهم مكان المسيح معتبرين أنه لهم يجب الشكر والسجود بدل المسيح الإله والذي هو في الكنيسة "بكر كل الخلائق" (كولوسي15:1) فهم في الكنيسة ولكنهم بعيدون عن المسيح، فالكتاب يقول "كل مَن ليس فيه روح المسيح لا ينتمي إلى المسيح" (1يو3:4).

     الكنيسة للجميع

من هنا ندرك أن الكنيسة عبر المسيح الحي ما هي إلا الحب بالذات، ودورها في شهادة وعلى أكمل وجه. فالله بابنه تنازل وتأنس حبّاً بنا، والله سكن في قلوبنا ودواخلنا وليس على أفواهنا، ففي هذا الشأن يقول اللاهوتي السويسري الأب موريس زوندل:"إني لا أؤمن بالله إلا لأني أؤمن بالإنسان، فالإنسان هو الوجه الحقيقي والملموس أمام البشر" لذلك ندرك أن الكنيسة ما هي إلا لجميع البشر ليعيشوا معرفة الله والشركة مع بقية المؤمنين، إذ المسيحي يحتاج إلى المسيحيين الآخرين حيث لا يمكن له أن يفصل نفسه عن الشركة مع بقية المؤمنين. وإن كانت رسالة المسيح الأولى هي نقل بشرى الخلاص فهي إظهار محبة الله للناس فبولس الرسول يقول:"أسألكم أن تسيروا سيرةً تليق بالدعوة التي دعيتم إليها. سيرة ملؤها التواضع والوداعة والصبر..." (رو1:4-4).

    الكنيسة ... أُمّ
فالخدمة هي مهمة جميع المؤمنين أيّاً كانوا، رجال إيمان أو رجال ونساء الشعوب، وهذا هو هدف الكنيسة. فالدعوة والرسالة والشهادة عناصر جوهرية وفاعلة معاً في حقيقة الكنيسة، فالرب يسوع دعا الكنيسة لتعمل بالناس إلى حياة الروح وسعادة الملكوت عن طريق العبادة بالروح والحق (يو24:4) وكيف لا، والكنيسة أولاً وآخراً هي أمّي وهي التي علّمتني رسالة الحياة، فالأب هنري دي لوباك يقول:"الكنيسة هي أمّي لأنها ولدتني للحياة والمحبة" فهي "نور للعالم" (يو12:8) إذ تعلّمني أين هي الطريق المؤدية إلى السماء. فالمسيح الرب قد تأنّس لأجلنا وليس لأجل ذاته بل من أجلنا جميعاً أصبح إنساناً ومن ذات طبيعتنا أخذ من أجلها وبالتالي فنحن إخوة للبشر منذ "إنشاء العالم" (أفسس4:1 ومتى34:25) فالله خلق البشر إخوة لي في الحياة، فهو لم يخلقني بوحدي لأجل ذاتي بل خلقني مع البشر، وقد صالحنا جميعاً بالمحبة الشاملة، ولندرك ذلك رغم أننا نعيش في عالم فاسد تسوده الكراهية والتوتر والحروب والكآبة والمصلحة والأنانية والعشائرية، ولنعمل جاهدين مع الذي أحبّنا وجعلنا في كنيسته أن نعمل من أجل كرامة الإنسان، من أجل البشرية بأسرها، فحيث يوجد الخير والمحبة والرحمة فهناك يسوع المسيح وكنيسته عبر الإنسانية التي نحياها. فكلما تشوّهت هوية الكنيسة كلما صارت غير أهلٍ لتكمل حضور المسيح بين البشر، وكلما تعمّق نظرها الروحي في حقيقة هذه الدعوة كلما رأت الله وعاشت.

     الكنيسة ... صوت المحبة
فالكنيسة لا تحتاج إلى مَن يمثّلها إذ ليست هي حزباً ولا تكتّلاً ولا حركة سياسية تقاس بالمظهر والكراسي ولكنها الحب بالذات، فإذا كان خطاب الكنيسة سياسياً فماذا نترك للسياسيين من خطاب، إنما الكنيسة خطابها روحي، إيماني، من أجل السماء. فالكنيسة لا تستطيع أن تأخذ دور الدولة ولكن ممكن أن تساعدها فهي تتضامن مع المظلوم، ولأجله تعمل، ومن أجله تقول الحق لأن صوتها هو صوت الجماعة وقولها للحقيقة يتّعظ مَن يسمع ويؤمن بما تقول، فهي لا ترشد إلا إلى الحق ومن أجل صلاح الجميع لكي لا يسير كل شيء على نحوٍ خاطئ ويحير الإنسان بوجوده وحياته. من هنا ندرك أن الكنيسة ليس حديثها سياسياً، فالسياسة مكرٌ ودورانٌ بشري لغاياتٍ ومصالح مرسومة. فنحن اليوم في عالم مليء بالتحديات، والمسيح الرب يقول:"ما أوسع الباب ورحب الطريق المؤدي إلى الهلاك" (متى13:7) إذاً فالكنيسة ما هي إلا صوت المحبة وحبّ بلا حدود، ولا تنشد غير السلام، سلام المسيح وليس سلام العالم... وإلى الحلقة الثانية والأخيرة


13
المنبر الحر / أمانة الراعي
« في: 23:52 07/11/2023  »
أمانة الراعي

المونسنيور د. بيوس قاشا

     في البدء...
يقول الرب يسوع في إنجيل متى (38:9) "اطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ" لذلك اختار الرب خدّاماً للمؤمنين في عهدنا الجديد، إنهم رسل المحبة والخدمة،
ليقوموا بمهمة الرعاية بكل أمانة وإخلاص وبروح وفيّة وبعطاء لا حدّ له. إنهم المكرَّسون والخدّام الأمناء لربّ الحصاد، معطين أنفسهم كرعاة صالحين، فالرب يقول "الرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يو11:10) وهذه رسالتهم الأمينة، إنها مهمة سماوية أرضية، فشعوبنا متعَبَة "كَغَنَمٍ لا رَاعِيَ لَهَا" (متى36:9) ومن أجل هؤلاء كانوا ولهذا دعاهم الرب، والدعوة لا يمكن أن تشهد لها إلا بالصلاة وما أصعبها على المكرَّس نفسه وإن كان قريباً منها فإنه لا يبالي بها، وعليهم أن يمتلئوا من هذه الروح ليستطيعوا أن يقدموا عطاءهم بكل تفانٍ وإخلاص، ويخدموا بتضحية أمينة دون حساب، وهذا ما هو إلا مهمتهم.

      طريق السماء...
فكل رجل مكرَّس لا يُعلّم الناس طريق السماء فانبذوه خارجاً مهما كانت درجته لأن الرب يسوع كان يدرك جيداً وهو مع تلاميذه – واليوم أيضاً مع الكنيسة الأمينة – أنْ ليس كل المكرّسين والرعاة على نفس الدرجة من الإخلاص والأمانة، فهناك ما بين التلاميذ والرسل مَن لم يكن وفيّاً مثل يهوّذا الاسخريوطي ويقال عنه أنه خان معلّمه وباعه بحفنة من المال وبقبلة مزيّفة علامة لخيانته ثم ذهب وشنق نفسه نتيجة خيانته لسيده. وكذلك نجد مثل الكرّامين مَن هم فاسدين وخانوا الأمانة التي أوكلت إليهم (متى33:21-41) لذلك علينا أن ننظر بروح التأمل وبعين الإيمان إلى الوفاء لرسالة الناس الذين اختارهم الرب، الراعي الصالح والأمين، ليكونوا أمناء لمحبته ويبادلوه هذا الحب، ويطلب منهم أن يكونوا صالحين في مسيرة حياتهم وعَمَلة مخلصين، وهذا أهم شرط يجب أن يتوفر في أولئك المكرّسين والعَمَلَة ضمن حصاد الرب الذي أعطى لنفسه تسمية "الراعي صالح"، وعلى مثاله يجب أن يكون الذين اختارهم فعلى "التِّلْمِيذ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ" (متى25:10) وليس كما يريد ويشاء الشخص نفسه. فيسوعنا هو الراعي الصالح، ومن المؤسف أن الكثير من كبار المعابد يدركون جيداً ما هو إنجيل الراعي الصالح ولكنهم ينسون أنهم هم الراعي، وراعي صالح وليس شيئاً آخر، فتراهم يذهبون ويتركون الذئاب تأكل في غنمهم ورعيتهم ما تشاء ولا يبالي بها لأنه لا يهمّه "أَمْرَ الخِراف" (يو13:10). فالراعي الأمين هو المسيح، ومنه نطلب أن يُرسل إلى مؤمنيه وشعبه عَمَلَة صالحين وكهنة أمناء وأساقفة خدومين ومضحين. هؤلاء هم الرعاة الأوفياء لدعوتهم ولرسالتهم المملوئين بعلامات العطاء والتضحية والبذل والحب والخدمة والرحمة.
 
     ما نحتاجه اليوم...
ما نحتاجه اليوم ليس إلى رعاة يفتخرون بما يرتدون من أزياء المعبد الخاصة، ولكن نحتاج إلى رعاة يرسمون لنا طريق السماء لنسير فيه ونصل إلى الملكوت الموعود. لهذا يجب أن يكون لنا رجل المعبد ليس رجل السياسة ولكن يجب أن يدافع عن حقوق شعبه ورعيته ولكن بتانٍّ وحكمة وفطنة دون الخوض في المجال السياسي، فهذا يجب أن يترك شأنه للسياسيين وليس إلى رجال المعبد. فإنْ اهتموا بأمور السياسة فمتى يهتموا برسم طريق السماء للمؤمنين من أجل إرشادهم إلى طريق الصواب بخوف الله كي يضع نصب عينيه حيث المسيح الرب ونوره ينتظرانه فيُرجع الغنم التي فُقدت ليجدها (متى12:18) والشاردة ليعيدها.
لذا عليه أن يمتلئ من روح الصلاة والتي بدونها لا يمكن للكلام أن يقيم علاقة مع السماء، ولكن الصلاة هي الحديث مع الله ومفتاح باب السماء. فالصلاة عبر التأمل الحياتي بروح الإنجيل وشريعة الدعوة باستقامة الإيمان وحب الفضائل برجاء أمين ومحبة معطاء دون النظر إلى أمور أو مصالح شخصية أو مآرب فردية ولا مكاسب مادية ولا منافع عائلية أو عشائرية ولا حتى مقامات دنيوية ومناطقية، وكل ذلك عبر حكمة فؤادية وفطنة سماوية، إذ دفعت هذه الحالة المسيح الرب إلى تصنيف رؤساء اليهود وكبارهم موبِّخاً إياهم بلهجة شديدة بابتعادهم عن حقيقة وصايا الله وشريعة موسى الذي قال "أَحْبِب الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. واحْبِب قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (متى37:22و39).
فوجود الراعي بعيداً عن رعيته وينام في ساعة متأخرة ويصحو في ساعة متأخرة من النهار دون أن يقيم الذبيحة الإلهية أو يقرأ الإنجيل أو يتلو صلاة سبحة الوردية المقدسة أو يتأمل تأمله اليومي، ويلهو بنفسه ويفتش عن مآربه الخاصة، سيؤدي ذلك بالقطيع إلى حالة من التشتّت والضياع شاء أم أبى، إنه صحراء لا ماء فيها ولا غذاء. وليعلم مَن كان راعياً ناقصاً دون حكمة ولا دراية وإنْ سَمّوه الآخرون لهم فهذا يعني سيادة مظاهر الاضطراب والتخبّط والضياع وعدم إحساسه بقطيعه وغنمه، ولا يعلم مَن هي المريضة وما هو الدواء الذي تحتاجه غنمته وكأنه إنسان غريب، فيصدق عليه قول المسيح "إِنَّمَا أَتَى لِيَهْلِك" (يو10:10). وفي كثير من الأحيان يكون المدعو غير مؤهل لعملية رعاية القطيع ورعاية البشر والرعية ولكنه اختير لمصلحة أو سياسة ما، فتراه أحياناً كثيرة يهتمّ بنفسه وصحته وسفره ومستقبله وشؤونه الخاصة وينسى أنه مسؤول وأب لرعية سُلِّمت إليه، فيُهمل رسالته وعمله الراعوي فتجد الرعية "كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا" (متى36:9) فيزيد الإهمال وتعمّ عدم المسؤولية ولا أحد يستطيع أن يعرف مَن هو الخروف ومَن هو الذئب. وقد وصف ربنا يسوع ذلك حينما قال  إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ" (يو1:10-2).

     الختام...
وختاماً، لا يسعنا إلا أن ندرك عظمة رسالتنا الراعوية وإيماننا بها وبما تحمله من هموم ومحبة وعطاء من أجل الآخرين في الرعية نفسها. وما علينا إلا أن نرفع صلاتنا وخاصة في هذا الزمن القاسي حيث تفترّ المحبة ولا يفكر الراعي إلا بنفسه وينسى رسالته المقدسة الأولى والأخيرة فيتهاون من حمل نير الرعية ولا يكون أميناً لرسالته، فتراه لا يحمل ثمراً لأنه لا يعرف أن يحادث الله من أجله ومن أجل رعيته، والحديث مع الله هو الصلاة التي هي السبيل الوحيد الذي يجعلنا نكتشف طريق الدعوة والرعية، وعبر هذا السبيل نكتشف أن الرعية تقودنا إلى المسيح الحي، الراعي الأمين والصالح، الذي يعطي كل حياته من أجل الرعية وفي سبيل حفظها من ذئاب هذا الزمان وما أكثرهم. فيا ربّ، شدّد مَن تراخت همّتهم وفترت عزيمتهم، واجعلهم أن يكونوا في الطاعة صالحين وأوفياء. ذكّرهم بذلك واحفظهم من سقطة الخطيئة وحبّ الدنيا والمصلحة الشخصية. واجعل كل مدعو أن يكون أميناً لدعوته في البذل والعطاء والرعاية الأمينة... نعم وآمين.

14
يا ابن داود ... ارحمني
المونسنيور د. بيوس قاشا
ما حصل في فاجعة بخديدا اختبار قاسي، ولا زال ألمها يعصر قلبي بل ملك في داخلي وحملني على التساؤل: هل الله يسمح بتأديب شعبه؟ هل الله إله القتل والتأديب والحريق والزلازل والفيضانات؟ هل الله يأتي بالكوارث؟ لماذا الله لا
يُميت الأشرار فنرتاح منهم ويرتاح المؤمنــــــون والدنيــــــا؟ ما هذه الضيقــــات والآلام التي يمرّ بهـــا الإنسان وتملأ حياته؟ ما هذه الحروب والقتلى "الضحايا الأبرياء" حيث يموتون بالقنابل والتفجيرات والصواريخ والأمراض؟ وما حصل في بخديدا، هل هو عرسُ نارٍ أم عرسُ أبناء الله؟ وهل القاعة كُتبت للأفراح والأعراس أم للموت ولفظ الحياة؟ وهل الله لا يفي بوعده معنا ويحفظنا من الشرير ومن كل أعماله، إذ علّمنا إذا صلّيتم قولوا "لكن نجّنا من الشرير"؟ (متى13:6)... هذه الأسئلة وأخرى تجعل إيماني مشكوكاً في مسيرته، وكل ذلك يقلق مضجعي وفكري ويؤلم قلبي ويكدّر مسيرة حياتي، وأمام كل ذلك يقول المزمّر " تَأْدِيباً أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي" (مز18:118).
أقول وما تعلّمتُهُ في دراستي: نعم، إن الله يسمح بتأديب شعبه، وربما يسمح للأشرار أن يفعلوا بالأبرياء ما يشاؤون ولكن دون أن يلمسوا نفوسهم البريئة والمؤمنة كما هو الحال في أيوب "فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ" (أيوب12:1)، وأيضاً قال الرب للشيطان "هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ" (أيوب6:2). فالرب يسمح بمثل هكذا اختبار لفحص الإنسان وطريقة حياته لتظهر حقيقة الإنسان وحقيقة تحمّله للصليب الذي أرسله إليه. فهذا التأديب ما هو إلا لخلاصه وخلاص الشعب الذي امتلأت قلوبه بالشرّ وبالخطيئة، وفي أيامنا بالجشع والكراهية والحقد والطائفية والقتل وتدمير الآخر. فالبشر هم الذين يقومون بهذه الأمور وليس الله المحب. والبشر هم أنفسهم الذين يتصرفون بسوء من أجل مصالحهم وإرادتهم الشريرة.
من هنا تبدأ رسالة المؤمن في أن ينتبه لرسالة حياته فيختبر صداقة وحقيقة حب الله للإنسان وخاصة حينما تصيبه الآلام والمصائب ليعلم أن الله هو المحب والبريء وليس طالب الألم والشر كما هو البشر الشرير. فالإنسان حينما يقف أمام قداسة خالق العالمين يكتشف عندئذٍ أنه لا يستطيع أن يخلّص حتى نفسه، لذا وجب عليه تطهير أفكاره من كل طراز بشري من أجل وضع مدخل جديد إلى حقيقة الإيمان. فصاحب الإيمان يؤمن بإله حُرّ ينحني نحو الضعف والذي يراه في مخلوقاته. فمعجزة الحضور الإلهي هي أصل الانتصار على الألم لأن الدفاع عن الله هو دائماً دفاع عن الإنسان.
نعم، ربما أن الله يؤدّب أولاده وشعبه، فمار بولس يقول في رسالته إلى العبرانيين (5:12-11) "يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ". فالله لا يسمح بالضيقات والآلام انتقاماً ولكن حباً من أجل تأديب البشر وما ذلك إلا لمنفعتهم الروحية لكي لا يبقى الإنسان بعيداً عن الله ولا فريسة للشرّ والشيطان فيستعبده لحاجاته التدميرية من أجل غاياته. لذلك فكلما نضج الإنسان روحياً في الضيقات أدرك أن الله يحبه حباً أميناً، وإن تأديبه ما هو إلا سرّ نجاح الإنسان في مسيرة الحياة. وهذا ما يدعونا إليه إله السماء أن لا ننزعج أبداً من الآلام والضيقات فكل ذلك يقود إلى الملكوت، وما ذلك إلا بركة إذ لا يمكن تذوّق حب الله خارج هذه الضيقات والآلام.
من المؤكد نحن لا نطلب الألم ولا الشر للآخرين لأن المسيح معلّمنا علّمنا أن نعمل إرادة الآب، فقد سبق و"بَذَلَ نَفْسَهُ عَنْ أَحِبَّائِهِ" (يو13:15). كذلك فالإنسان المؤمن لا يرفض الألم متى حلّ، فالمسيحية لا تقبل ذلك بل ترفض طلب الألم والسعي إليه لأنها ليست ديانة الألم بل هي ديانة الرجاء، ديانة القيامة والحياة. فالمسيح الرب أتى ليخلّصنا من الشرير ومن أعوانه، ويحمل خطايانا على صليبه، ووعدنا بالقيامة إذ قال "فَإِنَّنِي أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ جَميعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي" (يو20:17) وأيضاً "مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" (يو25:11). فالإيمان يدعونا أن نحوّل آلامنا إلى قيامة وحياة وسنرتقي بذلك في سلّم الحياة الأبدية لنحوّل مسار الألم إلى تمجيد اسم الخالق.
ختاماً، نعم إن مرضى كثيرون ومتألمين عديدون يردّدون "يا رب ارحمنا" طالبين شفاء الرب كما صاح طيما ابن طيما الأعمى "يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!" (مر48:10) فكل مريض يطلب الرحمة والشفاء، فالرحمة وحدها قادرة على تعزية منكسري القلوب، والشفاء ما هو إلا نتيجة الرحمة الإلهية. فليس كل مَن يتمتّع بالصحة، صحة الجسد، هو قريب من الله وملكوته، فلو نظرنا قليلاً إلى حادثة صلب المسيح لرأينا أن صالبيه كانوا يتمتّعون بصحة جسدية ولكنهم كانوا مرضى القلب لأنهم لم يعرفوا طريق الرحمة. فمَن اكتشف الرحمة نال نعمة من السماء، وأدرك جيداً أنّ حبّ الله والإنسان هما طريق واحد، ومن هنا ندرك أن الله لا يقاصص الإنسان ولا يُبليه بالآلام والصعوبات والضيقات لأنه المحبة بالذات. فالله يخلّص الإنسان من الألم والمرض، ولا يقاصص الإنسان لأنه ربّ الحياة، لأن "فِيهِ كَانَتِ الحَياة" (يو4:1).

15
  لورد ...
مدينة القيامة والحياة

المونسنيور د. بيوس قاشا
كنتُ قبل أيام برفقة أحد الشمامسة في موعد مع القديسة مريم في لورد بفرنسا. هذه المدينة الجميلة، مدينة الألم والفرح، ترقد في جبال البيرينيه، في موعد للصـــــــلاة
والشكر وطلب الشفاء، للصلاة من أجل المرضى والمتألمين والحزانى، من أجل بلدي وبلدتي بخديدا، من أجل رسالتي، من أجل السلام والأمان في العالم أجمع. كوني أحد طلاب مدرسة القديسة مريم فأنا مهما أنتجتُ من خيرات، ومهما فعلتُ في مسيرة الحياة، ومهما قدّمتُ عند أقدام العذراء لإكرامها ولطلب شفاعتها، لا أوفيها حقها أبداً بل سأبقى مديناً لها.
فلورد، تلك المدينة، كما يسمّونها مدينة الألم، إنما حقيقة ليست إلا مدينة القيامة والحياة. فكل مَن يقصدها يصرخ " يا مريم، يا أمّ يسوع، أطلبي من أجلي، اشفعي لي، ليستجاب طلبي" فكل زائر يفتش عن الشافي الذي من السماء، فهو كالأبرص (لو1:5-11) والأعمى (يو1:9-41) وكطيما ابن طيما الأعمى (مر46:10-52).
إيماناً مني بهذا كله، قصدتُ مرة أخرى هذه المدينة هذا العام (2023)، لورد، كي أبقى وفياً لها كما كنتُ أميناً في مسيرة الحياة، أميناً للسماء التي أحبّتني ولربّها الذي دعاني أن أكون خادماً مثله وله. فلقد اكتملت فرحتي يوم أقمتُ الذبيحة الإلهية في مغارة الظهورات، وفي اليوم التالي في الكنيسة العليا لبازيليكيها الجميلة.
نعم، إنها رسالة حج فقد اغتسلتُ بماء عينها كما اغتسلتُ فيها يوم كنتُ طالباً في مصر الفراعنة عام 1977. من هناك، وتلبية لنداءٍ داخلي أردتُ أن أكتب كلمات قليلة عن إبنها المسيح يسوع، الوسيط الوحيد والراعي الأمين، وعن شفاعتها ومكانتها. فأرجو منك أيها القارئ العزيز أن تتقبّل كلماتي المتواضعة، وأن تكون مسامحاً لي ربما لأخطائي، فما أنا أمامكم وبينكم إلا خادماً وخادماً أميناً (لو26:22) وإن قالوا ونشروا ما شاءوا يوماً ما لغايات ومصالح عديدة... فإليك ذلك.
في هذا العالم غالباً ما نشعر وكأننا في غابة دون شريعة، وبأن الأبواب مغلقة في وجوهنا، فنقف يائسين وبلا رجاء أمام الظلم الذي يطالنا ويطال العديدين وربما المسلّط على رقابنا كما تسيطر علينا الآلام والمرض وعبودية الخطيئة والموت، فنصرخ "إلى متى يا رب؟ أين أنتَ يا إلهي؟ أين أنتِ يا مريم القديسة؟" وإذا رفعنا رؤوسنا يأتينا الجواب من الإنجيل المقدس "إن خلاصكم قد دنا" (لو28:21) فارفعوا رؤوسكم فأنا واقف على الباب أقرع (رؤ20:3) وما ذلك إلا دعوة لنا لكي نكون كخراف بين ذئاب. ومن هنا ندرك أن الخليقة دون الله ضعيفة، والإنسان أضعف من أن يخلّص نفسه، إذ يسعى الجميع اليوم لأن يخدمهم الجميع، ولكن الحقيقة تدعونا إلى أن نسجّل وجودنا في مدرسة يسوع كي نكون أبناءً لمريم القديسة. فَعِلْمُ يسوع سهل ومجاني، ويكفي أن نعطي قلوبنا له وبذلك قد نصنع العجائب. فالحياة هنا مدرسة، نحيا فيها لنتعلم كيف نموت، نتعلم الموت في ذاتنا مرة وفي مَن نحبه أكثر من ذواتنا مراراً على مثال المسيح يسوع الذي أحبّنا فهو لنا طريق الحياة. فما نحتاجه ليس إلا كلمة صغيرة قالتها القديسة مريم يوماً ولا زالت تعلّمنا إيّاها كل يوم بل في كل ساعة "نعم، هاءنذا أَمَةُ الرب" (لو38:1) وهذا يعني الثقة الكاملة بإرادة الرب المُحب، إنها ثقة عمياء إلى النهاية.
لقد أحبّ ربنا يسوع حياته فتجرّد عنها في هذا العالم وحفظها للحياة الأبدية. فإن محبة الله لا ترى إلا الإنسان، ولا تهدف إلا إلى خلاصه، وهذه هي المحبة الحقيقية التي يمثّلها الصليب. فالله لم يحب الإنسان لأنه ذكي أو غني أو صاحب مركز أو سلطة أو... أو.... فالله أحبّ الإنسان لضعفاته وسقطاته، أحبه لأنه يعرف أن الإنسان في حاجة إلى هذه المحبة ليخلص، لأن المحبة وحدها هي القادرة على تخطّي الضعف والسقوط، وصليب المسيح وحده أنقذ الخليقة وانتصر على الموت. فلا طريق سوى طريق الصليب والتي فيها ستصل الخليقة إلى الخلاص... إنه طريق الحب. فقد بكى لبكائنا وجُرح لأجل معاصينا (إش5:53) وصار غريباً كي يصبح كل غريب قريب كل منا، وارتضى بأن يصبح من عائلتنا البشرية ليأخذنا جميعاً إلى مجده فنستسلم له بأن نكون معه. فَمَن يريد – تقول لنا أمّنا مريم في لورد – أن يجد ذاته عليه أن يعمل على إهلاكها. فالإنجيل، كلمة الله، لا يعدنا أبداً بإمحاء الألم من حياتنا على هذه الفانية لأن حياتنا ما هي إلا في طريق الإيمان وإيمان يومي، وكلمته نور لخطاياي (مز105:119)
فالمحبة هي أن تكون أخاً لكل واحد بقربك وأنتَ مسؤول عنه، ولا تستطيع ايها الإنسان أن تقول كما قال قائين "لستُ حارساً لأخي" (تك8:4) فطريق الرب تمر بالإنسان المحتاج كما ارتبط يسوع بمصير المساكين والصغار والفقراء، وعطاؤه كان من أجل الإنسان وعلى كل المستويات وبحسب إرادة السماء وليس بعطاء الكلام والذي لا يكلّف شيئاً. فشريعة الرب تعلّمنا ماذا علينا أن نختار، وتعلّمنا أنه قد اعتمدنا باسم المسيح يسوع لا باسم أحد من البشر. عظيم هو هذا السر، فالله أراد أن يختفي وجهه وراء كل وجه ويمرّ بنا يومياً دون أن يراه مَن ينتظر مروره ودون أن يعرفه مَن يتلقّى منه العطايا. فالله معنا وبيننا ولكن بعضنا لا يعرفه، فهو لا ينتظر منا شيئاً إلا أن نبادله المحبة بالمحبة كلما نلتقيه. فحين نمتلك مالاً فهذا المال ليس مُلكُنا ولكن الله أعارنا إياه لكي نوزعه حولنا للذين هم في حاجة، للقريب والغريب، للفقير والمسكين، لليتيم والأرملة. فأمر لا يُصدق أن يكون الله جائعاً أو متألماً أو مظلوماً أو مسجوناً، وهو الأمر الذي فاجأ الأبرار كما فاجأ الأشرار لكنه أمل حقيقي، فإلهنا هو مَن ارتبط بخليقته حتى اتّحد بكل واحد. فيسوع مات ظلماً ولكنه افتدانا، ومات القديسون والشهداء ظلماً ولكنهم قدّسوا العالم. فالدعوة لنا هو أن نتمسك بما هو حق، ولننتبه كي لا يضلّنا أحد، وما أكثر المضلّين في عالم اليوم.
كما أن دعوتنا تطلب منا أن لا نترك مكاناً للبغض، للحقد تجاه القريب ولا تجاه البعيد، ولا تترك مجالاً للانتقام وأخذ الثأر، ففي الانتقام يغلبنا الشر، وفي المسالمة نغلب الشر بالخير فنربح الآخر ولا نخسره. لذا لننتبه فإن مملكتنا ليست من المال والسلطة وتلبية الرغبات والكراهية كما نريد أو كما نظن ذلك، فالرب يؤكد لنا أن مملكتنا هي في داخلنا، وهو يرغب في أن يكلّمنا، وهل عنده ما يقوله لنا؟ وهل من جديد يقوله؟ فإنه فقط يريد أن يذكرنا.
- فهو يرغب دوماً في قول كلمة الحياة، حيث لا حياة، فقد قال "أنا الحياة".
- هو في قلب الظلم، وعنده ما يقوله في الحقيقة، فقد قال "أنا الطريق والحق والحياة".
- في قلب الأنانية، عنده ما يقوله في المحبة، "أحبوا بعضكم بعضاً".
- في قلب الكبرياء، عنده ما يقوله في التواضع والخدمة، "أنا بينكم كالخادم، وديع ومتواضع".
- في قلب الحقد، عنده ما يقوله في الغفران والمحبة، "أترك قربانك على المذبح...".
- في قلب الشكّ، عنده ما يقوله في الإيمان والثقة، "مَن آمن بي وإن مات فسيحيا".
- في قلب الضعف، عنده ما يقوله في التسليم له، "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين...".
- في قلب الفقر، عنده ما يقوله في العناية الإلهية، "أبوكم السماوي يعرف ما تحتاجون إليه".
- في قلب الموت، عنده ما يقوله في القيامة والانتظار، "أنا القيامة".
إنها أقوال في صميم الحياة، فهو يدعونا فيها إلى الجرأة، وهو ينتظر جوابنا، وقد ارسل لنا أمّنا القديسة مريم لتعلّمنا ما قالته يوماً للملاك "ليكن لي حسب قولكَ يا رب" (لو38:1). إنها الرسول الأمين للبشر أجمعين، فهي تدعونا جميعاً إلى زيارتها فهي تنتظرنا في المغارة، في جبال البيرينيه، لتقودنا إلى الطريق الحقيقي في المسيح يسوع. فهي لنا شبه قناة الرحمة وينبوع الخيرات، والنصوص الليتورجية مليئة بالألقاب التي أُغدقت على أمّنا القديسة وفاءً من الكنيسة، فهي ألقاب كتابية وأخرى كنسية وأخرى ليتورجية كما هي دروس اجتماعية لمسيرة العائلة. فهي من خلال طاعتها واستسلامها لمشيئة الرب عاشت حياتها في الخفاء مما حدا بالرب يسوع أن يرفعها بالمجد، كما قضت مسيرتها الأرضية متمّمة مسؤولياتها اليومية فنالت الطوبى من كل البشر (لو48:1) كما دعاها رب السماء "أمّ الله". فالكنيسة تقدم لنا أمّاً عاشت برنامجاً خاصاً لحياتها، وهي تدعونا أبناءها للعيش على مثالها كما طلب ابنها في عيش المحبة الصادقة والأخوية، والمحبة العملية الخادمة للرب والبشر "هاءنذا أمة الرب" (لو38:1). ففي ذلك هي لنا مثال في جوابها، فقد استنارت بنور الله فأنارت الدنيا والبشرية، فهي تدلّني على المسيح يسوع وعلى عطائه اللامحدود، وهي تعلّمني كيف أسمع كلمة الله بكل تواضع ووداعة، وعلى الطفل أن يكون مثل أمّه وبذلك يترجم الإنسان حياته محبة وخدمة وصلاة، ويحمل تواضعاً ووداعةً وسلاماً... إنها في لورد تنتظرنا لتدلّنا على يسوع.
ختاماً أقولها: ما أحوجنا اليوم إلى مَن يقدم القليل مما يملك مع الكثير من المحبة والإيمان، فالرب يسوع الذي دعانا مع القديسة مريم إلى زيارة لورد لا ينتظر إنجازاتنا بل ينتظر منا قلباً منفتحاً يختار النصيب الأفضل الذي لا يُنزع. فمن خلال القديسة مريم نلتقي مع يسوع المسيح الحاضر من أجل تنمية الإيمان. ويطيب لي أن أجعل من مريم القديسة صحن مائدتي الأساسي لكي ألتقي بها وتقودني بدورها إلى يسوع، الوسيط الوحيد، لأجدّد الثقة برسالته التي أوكلها إليّ. فسرّ مريم القديسة يذكّرنا بأن مسؤولياتها اليومية هي طريق ارتفاعنا نحو الله، ومعها نطلب نعمته لنحيا سرّ فرحه في العالم، فيكون هو المخلّص في محيطنا. كما نطلب منه الشجاعة لنكون على مثال أمّنا القديسة مريم في أحزاننا والآلام التي كانت سمة لها، سمة القيامة والصليب لأنها أحبّت كثيراً وبكل كيانها. أحبّت الإله الذي برّأها، وأحبّت الناس كنفسها، فأحبّوها وأتوا إلى زيارتها في هذه المدينة، مدينة الألم بل مدينة القيامة والحياة.
لذلك علينا أن ننتبه إلى إيماننا كي لا نخدّره كلما استيقظ، وكي لا يبقى نائماً فلا يزعجنا، بل علينا السهر عليه بشفاعة أمّنا القديسة مريم. فإيماننا وإن كان ربما مثل حبة خردل فهو قادر أن ينقل الجبال (متى20:17)... وما ذلك إلا عطاء من رب السماء.
فلنسعى إلى إيجاد ذواتنا بالمسيح عن طريق مريم حاملة الألم من أجلنا لتعرّفنا إلى أين تقودنا رغبتنا في اتّباع يسوع ونحن سعداء في ألمنا، فما ذلك إلا لخلاصنا... إنه حصتنا في مسيرة هذه الحياة... إنه صليبنا وبه نجد ذاتنا وإيماننا. فلا تنسى أيها المؤمن زيارة لورد، مدينة القيامة والحياة، فهي المدرسة الأمينة لتكون طالباً في مدرسة مريم شفيعة المرضى والمتألمين... نعم وآمين.


16
من قلبي ... بخديدا بلدتي
(القسم الثالث والأخير)
المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء...
مرة أخرى أستميحكم عذراً حيث كنتُ قد اعتذرتُ منكم ومن القرّاء الكرام جميعاً في رسالتي الأولى إلى أبناء بخديدا الأحبة التي كانت تحت عنوان "بخديدا... أمّ الشهداء".
وكنتُ قد أدرجتُ المقال في عدة مواقع الكترونية في الثاني من شباط (فبراير) من عام 2019 ومنها مواقع أبونا وعشتار وعنكاوا، وها أنا اليوم أمامكم جميعاً ومرة أخرى، واضعاً مقالي هذا وكتاباتي تحت أنظاركم يا أبناء بخديدا الغالية – بلدتي العزيزة – وعبر مسيرتي الكهنوتية والحياتية، ولكم كل الحق بل الحقيقة بأكملها أن تقولوا ما شئتم، وما تفكر به ضمائركم، وما يطيب لكم من أوصاف، وأن تكتبوا ما هو مبتغاكم، فإنني أؤمن بأفكاركم وآرائكم وأتمنى أن أراكم كلمة وحقيقة في هذه الحياة المتعَبَة كي لا تكونوا سلعة رخيصة كما يريدونها... ليس إلا!.

     الحقوق ... والأرض

من حقكم أن تطالبوا بحقوقكم ولكن أقول أنتم غير متواجدين في أرضكم فحتى الدستور لفظكم لأنكم لستم أوفياء لأرضكم ووطنكم، فقد قلعتم جذوركم. فما أطلبه أن تكونوا لسامعيكم ولناظريكم رسالةً وطريقاً ومثالاً وعملاً وحياةً بعودتكم واحتضان أرضكم ووطنكم بل ومدينتكم. فلا تتركوا الوحيد برحيلكم، والمريض والفقير واليتيم والشيخ بهجرتكم، وهم يصيحون وينادون عليكم "أغيثونا" فالقضية لا تُحَلّ بالرحيل والهزيمة ولكن تُحلّ بالصبر والعمل والحكمة والتعايش والأخوّة والحوار، لأن الوطن أنتم وحمايته مسؤوليتكم ومسؤولية شعبكم وأنتم خُلقتم ليس لنفوسكم أو لمآربكم بل للآخرين والمتعبين والعميان والعرجان (لو21:14) فاعملوا من أجل خلاصكم ولغيركم. اعملوا على تراصف صفوفكم، فالمرحلة خطيرة والزمن ليس زمن العويل والبكاء والآهات بل زمن الشجاعة والشهادة والحكمة وقول الحقيقة وإن كنتم أحياناً تعيشون بالمذلّة والهوان بسبب كباركم وصغاركم الذين لا يفكرون إلا بمصالحهم دون خجل أو حياء، ولا يفتشون إلا عن حقيقتهم وإن كانت مشيّعة وأن تكونوا لهم مطيعون فهم يعملون من أجل ضياع حقيقتكم. وأصبحتم عبيداً لدستور شغله هدم كينونتكم وقلع إيمانكم من صدوركم، ويعملون من أجل أن تنسون أنكم أصلاء لهذا البلد وأصيلين وأنتم أهل مدينتكم ولا غيركم. فلا تقاوموهم بروح التعصب والحقد والكراهية بل بروح الحكمة والمحبة والأخوّة والحوار ومع جميع الشعوب والمكونات المختلفين عنكم وعن إيمانكم.

    أمنيتي ... والخاتمة
عفواً، كونوا حكماء وتكلموا في الدفاع عن حقوقكم وقولوا ما هي أسباب هجرتكم وبيعكم لمقتنياتكم ولأرضكم وما سبب ترككم وطنكم. فلا تخافوا، فالمستقبل لكم ولأجيالكم، وبخديدا هي في رقابكم جميعاً فلا تجعلوا أنفسكم تبكي على أطلالها التي أنتم صنعتموها برحيلكم. فارفعوا عنكم التفرقة وحبّ الذات فأنتم كلكم واحد، ولا تسمحوا لأحد أن يعمل في ظلام الليل من أجل كسب مودّتكم. فعيشوا في بخديدا حياتكم ووجودكم، وفيها ادفنوا موتاكم وليس في مكان آخر، واذكروهم في صلاتكم فقد عملوا من أجلكم ومن أجل مدينتكم وإن كان زمانهم متخلّفاً وبائساً "فقد حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم" (رو11:13) فاليوم تحتاج بخديدا إلى رجولتكم وشجاعتكم وصمتكم وهدوئكم، ولا تحتاج إلى صراخكم وخوفكم. فانتبهوا كي لا تحملوا وزر خطيئة آبائكم بسبب خلافاتكم وصراعاتكم ومصالحكم وحديث مقابلاتكم، بل اعملوا جميعاً لبنائكم المشترك (رو3:15) ومسالمين مع الجميع (رو4:12). في ظلمة عالمنا حيث سواد الحقد والكراهية، وحيث نور المحبة والمسامحة والغفران قد حُجب بغيوم الطمع والنميمة والخبث، فأنتم مدعوون أن لا تستسلموا أمام الصعوبات بل عليكم أن تكونوا جريئين على مثال بولس الرسول.
وأقول خاتماً، ولا أريد أن أختم ففي جعبتي الكثير من الكلام والكلمات فأحياناً الصمت هو أبلغ كلام، فانتبهوا كي لا تخسروا أرضكم ووطنكم ومنازلكم من أجل أن تربحوا دنياكم. فاسهروا الليالي كي لا يأتي قطيع الذئاب وسرب الثعالب فيفرّقكم ويخطف أرضكم ووطنكم (متى15:7). كونوا حرّاساً أمناء يسهرون حتى في الليالي المظلمة، ولا تتصارعوا بينكم، وتطلّعوا حواليكم فالأنظار تسلب سهلكم خطوة خطوة وتعمل من أجل أن ترحلوا وتتركوا دياركم لها. ليكن كبيركم خادماً لكم (متى11:23) وكفاكم طرق الأبواب وتهيئة بطاقات السفر فأنتم في بلدكم أفضل من عصافير كثيرة (متى31:10) وأبوكم واحد هو الآب السماوي (متى8:23) وأقولها: مدينتكم ستبقى وتتنفس وتحيا بوجودكم إذا أنتم أردتم ذلك وإلا فاقرأوا السلام على وجودكم وأرضكم ومدينتكم وكنيستكم، فانتبهوا إلى ذلك. وأنا لستُ إلا أخاً بينكم وخادماً أميناً ووفياً، فمدينتكم مدينتي وأرضكم أرضي ووطنكم وطني وكنيستكم كنيستي، وكلنا في هذا الوطن نحيا ونعيش ونموت... ودمتم مع محبتي واحترامي.

17
من قلبي ... بخديدا بلدتي
(القسم الثاني)
المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء...
مرة أخرى أستميحكم عذراً حيث كنتُ قد اعتذرتُ منكم ومن القرّاء الكرام جميعاً في رسالتي الأولى إلى أبناء بخديدا الأحبة التي كانت تحت عنوان "بخديدا... أمّ الشهداء".
وكنتُ قد أدرجتُ المقال في عدة مواقع الكترونية في الثاني من شباط (فبراير) من عام 2019 ومنها مواقع أبونا وعشتار وعنكاوا، وها أنا اليوم أمامكم جميعاً ومرة أخرى، واضعاً مقالي هذا وكتاباتي تحت أنظاركم يا أبناء بخديدا الغالية – بلدتي العزيزة – وعبر مسيرتي الكهنوتية والحياتية، ولكم كل الحق بل الحقيقة بأكملها أن تقولوا ما شئتم، وما تفكر به ضمائركم، وما يطيب لكم من أوصاف، وأن تكتبوا ما هو مبتغاكم، فإنني أؤمن بأفكاركم وآرائكم وأتمنى أن أراكم كلمة وحقيقة في هذه الحياة المتعَبَة كي لا تكونوا سلعة رخيصة كما يريدونها... ليس إلا!.

     مناسبات دينية أو رسمية

ما أريده أن لا تكونوا سبباً لموت غيركم وبقية بلدتكم، فالأرض والوطن يناديكما ويقولان لكم: لا تتركانا وحدنا فالذئاب الخاطفة (متى15:7) والثعالب القاتلة تتربّص بكم، لقد جعلوكم أرملة منسيّة في مجتمع غير مجتمعنا، وهؤلاء الذئاب والثعالب قد لبسوا ثوب القداسة والمواطنة وتزيّنوا بزينة الكلام المزركش من بيانات وأقوال واستنكارات. فقضاياهم معروفة لدى الجميع وما هي إلا الجلوس على كراسيكم وفي منازلكم ودور عباداتكم والتي بدأت تفرغ بسببكم فقد تركتموها أمام مصير مجهول وتتردّدون ربما إليها في مناسبات دينية أو رسمية وهذه مسيرة جميلة ولكن عليكم أن تعرفوا أن بخديدا ليست فقط للزيارات الموسمية لمناسبات دينية بل يجب أن تبقوا وتمكثوا فيها وتناضلوا وتطالبوا بحقوقكم الاجتماعية والعملية لأن غيركم يتمنى تفتيت كيانكم وهدم حضارتكم وضياع وجودكم. فإنْ عملتم لزوال ذكراكم فقد عملتم بالمَثَل القائل "بالأمس كانوا هنا، واليوم قد هاجروا" عذراً "قد رحلوا". واعلموا أن الشر محيط بكم لا بل موجود ربما في داخلكم، فهم أنفسهم أحرقوا كنائسكم وبيوتكم ومحلاتكم وقتلوا آبائكم وأجدادكم، واليوم أنتم وأحفادكم ولكن بصور أخرى ليس فقط بالسيف ولكن فتحوا لكم باب الهجرة والرحيل.

     من كل قلبي
أدعوكم ومن كل قلبي أن لا تسلّموا أنفسكم لهيرودس الزمان وما أكثرهم اليوم، فهم يلبسون ثوب الكبار والأمراء وإن كان أحياناً مقدساً، إنهم "ذئاب" كما يقول الرب يسوع (متى15:7). كفاكم ما أنتم فيه، فما عليكم إلا أن ترفضوا كلماتهم وترفعوا أصواتكم كما يقول البابا فرنسيس:"ارفعوا دائماً أصواتكم لكبارهم بإسكاتهم كي لا تغيب قيمكم. ولا تكونوا ضحايا للخديعة، فإنّ مَن بيدهم القرار لهم أساليبهم الكثيرة والعديدة والمختلفة ليجعلوكم صامتين" (أحد الشعانين 2018).
نعم، قولوا لهم إننا لا نؤمن بكم ولا بكلامكم ولا بحقيقتكم المزيّفة كي لا نشوّه وجه الله المحب والحقيقة الكاملة. فإنْ تموتون شهداء أفضل من أن تبقون في الحياة بائسون وخانعون أو راحلون ومهجّرون. إمّا أن تكونوا مع يسوع أو ضدّه وبالتالي لا يمكنكم أن تكونوا رماديين فإمّا أن تكونوا سوداً أو أن تكونوا بيضاً ويبقى يسوع الحد الفاصل بينهما.
نعم، إنكم تفتشون عن مستقبل أجيالكم وراحتهم وراحتكم، عن الأمان والسلام، وتقولون أن البلد يلفظنا، وأخرى كثيرة وكثيرة وفي ذلك أقول لكم: ألم تشاهدوا وتقرأوا وتسمعوا عن الراحل البابا يوحنا بولس الثاني كيف عاش في بلدته "كراكوفي" في بولونيا يوم كانت تحت الاحتلال البولوني وتحت الحكم الشيوعي واضطهاداته لكنه قاوم المآسي وبقي ثابتاً على إيمانه بأرضه ووطنه، وحمله ليس فقط على فمه ولكن حمله في قلبه وأحبّه حتى وإنْ كان جريحاً وملقياً على الطريق مثل ذلك الذي قال عنه ربنا يسوع المسيح "وقع بين أيدي اللصوص" (لو30:10) ولكن السامري حمله على دابّته. فالوطن لا يمكن أن نحمله إلا في قلوبنا، والأشخاص اليوم هنا وغداً هناك، يأتون ويرحلون، يكتبون تاريخهم وإنْ كان شراً ومليئاً بالاضطهادات والنزاعات والمآسي والقتل والتزوير والكذب والمصالح و... و... فأسماء كثيرة تُطلق عليهم. فالأرض بحياتها كما الوطن بمسيرته أسمى مني ومنكم ومما أنتم ساعون إليه. فالبكاء على أجيالكم لا ينفعكم إلا لحظات أو سويعات ولكن عليكم أن تعلموا أنهم أولاد الله وهم "أفضل من عصافير كثيرة" (متى31:10 ولو7:12).
فلا تسمحوا للكوارث والمآسي والمحن أن تنهب شجاعتكم وتكسر إرادتكم بل لا تخافوا مما يصيبكم من الآلام فمسيرة الألم هي درب الصليب وقد سار فيها قبلكم ربّكم ومخلّصكم، وستكون القيامة لا محالة ساعة ما أو يوماً ما. وعليكم أن تتذكروا ما فائدة من وجود كنائسكم ومعابدكم ومزاراتكم إذا كنتم أنتم تهجرونها أولاً قبل غيركم. واعلموا أن الوطن لا يقدَّر بثمن ولا يباع لمصالح أو للفساد بل هو غني في ذاته وهو أثمن من عيالكم وأقدس من مقتنياتكم بل وحتى من دمع عيونكم وأجفانكم، فالرب منحكم هذا الوطن لتترعرعوا فيه وتكونوا له شهوداً ورسلاً و"رأى ذلك حسناً" (تك31:1).
فتجشعوا والبسوا ترس الصلاة والإيمان، وثقوا بالذي فداكم على خشبة العار (مز10:95) وكما انتصر قسطنطين الملك وعبر إيمانه بكلام الرب هكذا أنتم تنتصرون بإيمانكم. فعيشوا المحبة بينكم، واتركوا عاداتكم التي تعودتم عليها وربما أبعدتكم عن معابدكم وبيوتكم وعوائلكم وإيمانكم من أجل غايات ولهوٍ دنيوي ونسيتم الأسرار وقيمتها الروحية. كونوا كلمة واحدة علامة لوجودكم وليس لدراهمكم. وكما قلتُ أن الرب يرسلنا كالحملان بين الذئاب ولكن اليوم الذئاب أصبحت أكثر شراسة وهم في عالم الظلمة فأنيابها لا ترحم أحداً، ولكن يريدكم الرب يسوع أن تكونوا ودعاء فالعديد من الناس صار مقتنعاً أنه بالمال قادر على شراء الإنسان وشراء الله، فانتبهوا جيداً.
وأتمنى أن لا يكون ذلك حقيقتكم، فقد عولمتم كل شيء روحي من أجل غاياتكم، فلا تخافوا ولا تكونوا خبزاً للسياسات الكاذبة والفاسدة ولا للمصلحة والعشائرية، كما لا تعملوا للطائفية، فأنتم شعب واحد، مسيحيين ومسلمين وصابئيين وإيزيديين وتركمان وشبك ومكونات أخرى. وانتبهوا، فالمستقبل لا يرحم أحداً، والتاريخ لا يجامل الحقيقة ولا يقبل التزوير وإنْ كان اليوم هو الحقيقة ومع الأسف. فمهما غيّروا أو بدّلوا أو شوّهوا فالحقيقة لا تتبدّل ولا تتغير فقد قال الرب:"أنا الألف والياء، البداية والنهاية" (رؤ8:1) والحقيقة "هي هي أمس واليوم وإلى الأبد" (عبر8:13). فنحن نعيش في عالم تحكمه عقلية تجارية، وما علينا إلا أن لا نتأثر بها بل أن نبرهن أن علاقاتنا البشرية هي انعكاس لمحبة الله المجانية. والمسيحي الحقيقي هو الذي يحب الجميع فيحصل على أعظم مكافأة ألا وهي عيش المحبة بمجانية مطلقة... وإلى القسم الثالث والأخير

18
من قلبي ... بخديدا بلدتي
(القسم الأول)

المونسنيور د. بيوس قاشا

     في البدء...
مرة أخرى أستميحكم عذراً حيث كنتُ قد اعتذرتُ منكم ومن القرّاء الكرام جميعاً في رسالتي الأولى إلى أبناء بخديدا الأحبة التي كانت تحت عنوان "بخديدا... أمّ الشهداء".
وكنتُ قد أدرجتُ المقال في عدة مواقع الكترونية في الثاني من شباط (فبراير) من عام 2019 ومنها مواقع أبونا وعشتار وعنكاوا، وها أنا اليوم أمامكم جميعاً ومرة أخرى، واضعاً مقالي هذا وكتاباتي تحت أنظاركم يا أبناء بخديدا الغالية – بلدتي العزيزة – وعبر مسيرتي الكهنوتية والحياتية، ولكم كل الحق بل الحقيقة بأكملها أن تقولوا ما شئتم، وما تفكر به ضمائركم، وما يطيب لكم من أوصاف، وأن تكتبوا ما هو مبتغاكم، فإنني أؤمن بأفكاركم وآرائكم وأتمنى أن أراكم كلمة وحقيقة في هذه الحياة المتعَبَة كي لا تكونوا سلعة رخيصة كما يريدونها... ليس إلا!.
نعم، أدرك جيداً أنكم تمرّون – وخاصة في هذه الأيام – بمخاطر وأزمات وكل ذلك يداهمكم وأنتم ربما أبرياء من ذلك وإنْ كنتم أنتم لستم سببها ولكنهم في ذلك شوّهوا مسيرتكم المسيحية، ففُرضت عليكم أوقات قاسية وعصيبة وكأنها كُتبت بأسمائكم لأنها تأخذ من مسيرة حياتكم. فالمخاطر أمامكم ولم تكن في البال والحسبان، وبسببها لا زال الخوف يساوركم فلا تعرفون ماذا تفعلون أو تقررون، فقد حلّ ما حلّ بكم وأنتم تسمعون وتشاهدون وربما تشاركون. ساعة تتألمون، وساعة تتأوّهون، وساعة تبكون على ما يحصل، وساعة ربما تستهزئون بما يحصل، وأخرى تقولون لماذا هذا كله يحصل وما هو سبب ذلك؟ وتبقون تسألون ولا من مجيب، فتأخذون في الصمت، وفي داخلكم تقولون: هل ضاعت أرضنا؟ هل فُقد وطننا؟ ونحن، أين محلّنا من هذا كله، وماذا يحصل؟.
أمام هذا كله اسمحوا لي أن أرافقكم عبر أسطر قليلة وفي كلمات واضحة مليئة بالمحبة والاحترام والتقدير لشخصكم إنْ كنتم كباراً أو صغاراً، ووفاءً لمدينتي بخديدا الخالدة والغالية، فأنا بينكم أخ ومن أجلكم، وإنْ كنتُ قليلاً بعيداً عنكم ولكني أتابع أخباركم وأخبار بلدتي وما يحصل فيها يوماً بيوم لا بل ساعة بساعة، أفرح لفرحكم وأطرب لغنائكم وأحزن لأحزانكم وآلامكم وإنْ كنتم (وكنتُ) يوماً مداساً للناس فكنتم وأنا مثلكم غرباء وهذا ما حصل وما عشتموه ورأيتموه مدة سنين ثلاث من داعش الإرهابي، فهذا كله ذقتُهُ معكم وفقدتُ كل شيء، نعم كل شيء، ولا زال الألم يعصر قلوبكم وقلبي وهذا كله يقودكم إلى ما لا تشاؤون كما قال ربنا يسوع لبطرس:"تمدُّ يديك وآخر يُمنطقك ويحملك حيث لا تشاء" (يو18:21)، ومع هذا أقولها: الرب يعوضكم ويعوضني، المهم أن لا نبالي إلا بمسيحنا وشعبنا ومدينتنا وفقراءنا، وقولوا مع بولس الرسول:"أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فيلبي13:4) فأنا معكم بمحبتي وكلمتي، فأنتم لي وأنا لكم وكلنا للمسيح يسوع ومن ثم للأرض والوطن.
بخديدا، وما أدراك ما بخديدا... إنها تاريخ بأكمله، كلمة مقدسة، إنها الحياة، قبلة المؤمينن والشاهدة للمسيح الحي وللمسيحية، للعطاء وعرق الجبين. عُرفت بهواها ورجالها وشبابها كما عُرفت بنسائها وأرضها. إنها أمّ الكنائس والأديرة والمزارات. أعطت ولا زالت تعطي أولادها من أجل الأرض والوطن، لا بل من أجل الإيمان والحقيقة. إنها العاصمة المسيحية بوجودها في سهل نينوى وبِساطِهِ. لذلك إليها تصبو عيون الآخرين للعيش فيها واستملاكها ومقاسمة ترابها والصراع من أجلها، لذا أرجوكم أن لا تنظروا إليها بعيون الجسد بل انظروا بعيون الروح والعقل والحقيقة، وشاهدوا وتفرسوا في مستقبل أجيالكم ووطنكم وأرضكم، فالتيجان تُغَشّ مهما كانت مرصّعة بالذهب والألماس، وكبار الزمن الغير الصادقين لا يبقى لهم أثر في الوجود، وصغار الدنيا ربما يستهزئون بكم وإنْ خسروا كل شيء. لذلك أدعوكم إلى اليقظة والفطنة في عملكم ورسالتكم ومسيرتكم، فلا تتركوا مجالاً للهواء والأقدار أن تداعبكم حسب ما تشاء ولكي لا تؤلّهوا أنفسكم فكونوا مدركين جيداً وتعلّموا كيف تستمعون وتفسرون وتفكرون بما حصل وما يحصل بينكم هذه الأيام بسبب كبار الزمن وصغار الدنيا، فكونوا كالحيات حكماء وكالحمام ودعاء كما قال الرب يسوع (متى16:10) فالحياة بالمسيح هي لكم اليوم وأمس وإلى الأبد (عبر8:13) وما تلك إلا مسيرة مؤلمة ولكن عبر مستقبل واعد لكم ولأجيالكم. فلا تجعلوا أبداً أبداً أن يستملك الشرّ في قلوبكم أو يقود مسيرتكم الإيمانية، بل احملوا مسيرة مدينتكم وأرضكم ووطنكم ومآسيها وأحزانها وقضاياها ومشاكلها، واعملوا بحكمة على التصدي لها، فالحكمة كنز، والرجل الحكيم يبني بيته على الصخر كما يقول الرب يسوع (متى24:7) معتبراً ومنتبهاً إلى العواصف والفيضانات والأعاصير كي لا يغرق ما يبني. فالمستقبل الذي تقولون عنه أنه ضائع بسبب ما يمرّ به المعبد والبلد والوطن من انقسامات وكأني بكم اليوم تتقاسمون دعوة سمعان القيرواني في حمل الصليب (مر21:15). فلا تخافوا، فمهما كانت الأهوال قاسية عليكم وتأخذ من قاماتكم فلا تيأسوا ولا تبالوا فالرب سبق وقال مرات عدّة لتلاميذه "لا تخافوا" (متى20:28) و"لا تكونوا قليلي الإيمان بكلام الرب" (متى26:8).

     الحياة في أرضكم ووطنكم وكنائسكم
انتبهوا، فالحياة تناديكم من أجل البقاء في أرضكم ووطنكم، وكنائسكم تقول لكم ذلك. فالمستقبل لكم مهما كان درب الصليب قاسياً وطويلاً ومتعِباً فلا تجعلوهم ينظرون إليكم ويحدّقون في حقائبكم وأنتم ترحلون وتهاجرون فهم في ذلك لا يفكرون إلا بالاستيلاء عليكم، فهم الذين قالوا يوماً:"لا تشتروا أراضيهم ولا بيوتهم فنحن لها، وفي المستقبل هي لنا شاءوا أم أبوا". إنهم ينظرون إليكم ليقولوا لكم "ارحلوا من أجل لمّ الشمل أو من أجل كلام الطرف الآخر في عائلاتكم. اذهبوا وتخلّصوا من هذه الأزمات في هذه الأرض"، فتذهبون وترحلون عبر المحيطات والبحار، وتتشتّتون في أصقاع الأرض بعد أن يُدخلوا إيمان العيش في قلوبكم وعلى ألسنتكم ومن أجل لقمة هنيّة وللمحافظة على أجيالكم الصاعدة فترون كل ذلك حسناً (تك31:1). فانتبهوا، فأنتم قوة للبقية الباقية، فلا ترحلوا كي تفتشوا عن الأكل والشرب وملء البطون ومن أجل راحة وهناء، وتنسون أن لكم حقيقة يجب أن تعيشوها وهي حب أرضكم وشعبكم ووطنكم وكنيستكم. وربما تقولون وتتساءلون: ماذا أعطانا الوطن ونحن قد أعطيناه كل شيء أما هو فلم يعطنا شيئاً؟ أقول لكم: إن الوطن لا يعطي أكلاً وشرباً ونوماً هنيئاً فهذه كلها يعطيها البلد الذي يفتش عن مصالحه وغاياته، أما الوطن هنا فقد أعطاك هوية وقومية، فالأرض أنتم والوطن أنتم والأجيال أنتم والكنيسة أنتم، ولا زلتم في طريق الآلام والصليب سائرون. فرغم المآسي والاحتلال لا تتهاونوا وأرجو أن تكونوا حرّاساً أوفياء لمدينتكم وجنوداً أمناء، فأنتم معروفون بغيرتكم، وإذا رحلتم أو هاجرتم ودخل المغتصبون وطنكم فلا تقولوا لماذا يدخله الغرباء والغزاة، فأنتم فتحتم لهم فكانوا من الفاتحين، وربما من الغزاة، وما ذلك إلا أمنية الكثيرين... وإلى القسم الثاني

19
المنبر الحر / الكذبُ ... كذبٌ
« في: 11:18 09/08/2023  »
الكذبُ ... كذبٌ
المونسنيور د. بيوس قاشا
يقول الله في الوصية السادسة من الوصايا العشرة "لا تكذب" ... نعم، لقد انتشر الكذب في هذا الزمان وفي كل حديث حتى كاد أن يكون بضاعة تجارية لدى البعض، وأودى بذلك إلى فقـــدان الثقــــة بيـــن مختلــــف مسمّيـــات المجتمـــع وعلــى أشكالهــــا وأنواعهــــا،
وأصبح الجميع يتعاملون بحذر لكثرة الكذّابين بل والتعامل بينهم بالكذب من أجل مصلحة ما وغاية ما. ولكن لنعلم أن قوة الله هي في قول الصدق، فالكتاب يقول "ملكوتي يطلب الصادقين لا المنافقين ولا المخادعين. شفة الصدق تثبت إلى الأبد، ولسان الكذب إنما هو إلى طرفة عين" (أمثال19:12).
ولنعلم أن الأديان تلفظ الكذب وتدين الكذّابين وتوصي بعدم التعامل معهم وتهددهم بالوعيد والعذاب، وأيضاً كل الثقافات والآيديولوجيات غير الدينية تنحو هذا المنحى في لفظ الكذب والكذابين، لأن الأخلاق إنتاج فكر إنساني يبحث عن حالة سلام وأمان وليس شرائع ساقطة من السماء، ويأتي هذا من إدراك الإنسان أن الكذب مثلاً ينال من بتضليله وغشّه وخداعه تمهيداً لاستغلاله، لذا اعتُبر الكذب سلوك قبيح يجب مقاومته لأنه يقوّض المجتمع وينال من مصالحه وسلامه فرداً أو جماعة، وينزع عن الكاذب المصداقية والثقة ليُفقده احترامه، وينصرف عن التعاطي معه على محمل الجدّ بل سيحيطه دوماً بالتوجس والشكّ، وهذا سلوك أخلاقي سيئ (ولكن هيهات).
في هذا المضمار أردتُ أن أخوض، وإنْ كان مضماراً قد استشرى في نفوس الكثيرين، أصحاب المصالح والأنانيات، فإنني أجد نفسي قد غرقتُ. ولكن عملاً بوصية الرب يسوع الذي يقول في إنجيله "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد عن ذلك فهو من الشرير" (متى37:5) ففي ذلك ينهانا الرب تماماً عن الكذب "لا تكذب" (الوصية السادسة من وصايا الله العشرة) واختيار طرقه. وسأعمل أن أكون وفيّاً لأنقل للقرّاء الكرام حقيقة هذا المرض الخبيث الذي أصابنا جميعاً بل الأغلبية منّا، ويكفي لي فخراً أنْ قال لي يوماً البابا الراحل بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة ليوم الأربعاء 11 كانون الثاني 2012 وأنا أقدم له" كتاب عن كارثة كنيسة سيدة النجاة" هدية "أنتَ شاهد للحقيقة" فقلتُ لقداسته "أية حقيقة" فقال "هذه" مشيراً إلى الكتاب وإلى حقيقة ما كُتب فيه.
فليعلم الكل أنه سيأتي الوقت الذي فيه سينكشف الكذب مهما طال الزمان فلنتّخذ إذاً من العواقب فقد ورد في سفر الأمثال "هناك ستة يبغضها الرب بل سبعة تمقتها نفسه، عينان متعاليتان، ولسان كاذب ويدان تسفكان الدم البريء وقلب يزرع أفكار الشر وقدمان تسرعان إلى المساوئ وشاهد زور ينشر الكذب ويُلقي الخصام بين الأخوة. احفظ يا ابني وصية أبيك ولا تهمل نصيحة أمّك" (أمثال16:6-20).
فالكذب يظلّ هو الكذب، وسيأتي الوقت الذي ستنكشف فيه الحقيقة بشكل جليّ (لوقا17:8). وإن كان الحق سيظهر إنْ عاجلاً أم آجلاً، فالكذب يأتي بالمزيد من الكذب والخطايا الأخرى الكثيرة، كما يخلق جواً من التذبذب والتردد وعدم الثقة والمصداقية.
فالاستقامة والصراحة والوضوح والأمانة كلها مفاتيح مهمة ومباركة إذا أردنا أن نحيا الحياة الصحيحة ثم التصميم على ضوء هذه القناعة أن يكون الإنسان حاسماً مع نفسه وألا يكذب أبداً مهما تطلّب الأمر أو الموقف الذي اجتازه، وربما حتى قد لا يكون قول الحقيقة اليوم أكثر شيوعاً من أي وقت مضى.
فالناس يحترمون الواضح والصريح، واعترافي بأخطائي وسقطاتي وضعفي سيزيد من ثقتي بنفسي ومن احترام الناس وتقديرهم لي، هذا فضلاً عن مكافأة الله وإحسانه وبركاته لي إنْ أنا كنتُ أميناً له. فالله لا يحب الكذب وهو يساعد مَن يريد أن يرضيه. من هنا مار بولس يقول لي ولكم:"اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه لأننا بعضنا أعضاء بعض" (أفسس25:4).
لذا لنعلم أننا ما نفكر أن نخفيه اليوم أو ربما نهرب منه لا بدّ أننا سندفع ثمنه غداً، هذا هو القانون الطبيعي لا محالة. فليسأل كلٌّ منا نفسه هل تراه مستعداً لذلك اليوم الذي فيه سينكشف وينفضح فيه السر الذي عملنا أن نخفيه ربما لوقت طويل ضنّاً منا أن الأمر سينتهي؟ لذا لا يجب أن نصدق كل ما يقال ولا نحكم دون تحقيق.
لو كنا نعيش في عالم مثالي لأمكن أن نصدق كل ما يقال، ولكن ما دام الكذب موجود في العالم فيجب علينا أن نحقق وندقق قبل أن نصدق فمصدر الخبر الذي يصل إلينا قد يكون جاهلاً حقيقة الأمر أو على غير معرفة وثيقة وأكيدة بما يقول، وإنني ما دمتُ لا أحب أحداً من الناس أن يكذب عليّ فيجدر بي أنا أيضاً ألاّ أكذب على الآخرين وأن أتيقن أن الكذب لن يأتي بخير ولن يُصلح عيباً بأي حال من الأحوال. ومار بولس يقول:"لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله" (كور9:3)، أما داود فصلّى قائلاً:"يا ربّ، نجِّ نفسي من شفاه الكذب" (مز2:120).
لذا أرجو الاعتذار من جميع القرّاء الكرام إذا ما وقعت كلمة أو فكرة لم تكن بالحسبان فجرحتْ مشاعركم فسامحوني. نعم، سامحوني فأنا لم أقصد ذلك ولكني أردتُ أن أكون بينكم كشاهد للحقيقة ليس إلا!.
فيا رب، اجعلني أقول الحق، فأنت الطريق وأنت الحق وأنت الحياة وأنت المجيب، وأنتَ الذي قلتَ "قولوا الحق وهو يحرركم" (يوحنا32:8)... نعم، قولوا الحق فهو يحرركم و"ابتعدوا عن كلام الكذب" (خروج7:23).

                 




20
رجاء ... ولكن بالعمل والصلاة
المونسنيور د. بيوس قاشا
بمناسبة الذكرى العاشرة لصدور الإرشاد الرسولي بعد السينودس لكنائس الشرق الأوسط "شركة وشهادة"، انعقد مؤتمر في نيقوسيا قبرص للفترة من 21-23 نيسان 2023، وحضر المؤتمر أكثر من 250 ممثِّلاً عن الكنائس الكاثوليكية في الشرق الأوسط والذي انعقد تحت عنوان "متجذرون في الرجاء" والذي نظمه مجمع الكنائس الشرقية وهيئة رواكو المعنية بمساعدة الكنائس الشرقية وبحضور المطران كلاوديو غوجيروتي (عميد مجمع الكنائس الشرقية).
نعم، إنه أول مؤتمر يجمع الكنائس الكاثوليكية في الشرق الأوسط بعد أن مرّ 13 عاماً على سينودس الشرق الأوسط و10 سنوات على الإرشاد الرسولي الذي وقّعه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في بيروت عام 2012. إنها فترة زمنية تغير فيها الشرق الأوسط بشكل كبير.
لقد كان المؤتمر صرخة واضحة، فنحن جميعاً في بلاد الشرق وليس فقط في بلد معين، وفي هذا نعلم أن كلنا معرَّضون لمرحلة خطيرة جداً من وجودنا. فالغياب في الشرق عن أرضنا هو غياب مصيري ومخيف لا بل خطير، وهو يؤثر على الكنيسة الجامعة لأن الكنيسة والمؤمنين يعودون إلى الجذور الرسولية.
وها ما يدعو الحاضر على أن نقوم جميعاً بملخص حقيقي وملموس لما تم عيشه، لذا فإن إعادة القراءة للإرشاد الرسولي الذي شكّل نوعاً ما وصية سُلّمت إلى كنائس الشرق الأوسط بالإضافة إلى ما حدث على المستوى السياسي والاجتماعي والكنسي حيث يدعو إلى الارتداد والثقة بالله لأنه من الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الأزمات والفضائح يمكنه أن ينطلق مجدَّداً لأن النداء للكنيسة الجامعة بأسرها.
نعم، إذا كان المسيحيون – قال المؤتَمِرون – يشعرون قبل ذلك بالأمان ويتمتعون بالحماية والحرية الدينية فقد أُجبروا على ترك أرض أسلافهم، ولغتهم أصبحت في السير نحو التلاشي. كما تدارس المؤتمر عدة نقاط مهمة وأهمها بعد أن تغير كل شيء ومع أن الإرشاد الرسولي جميل وذات مغزى كبير فالواقع بات مختلفاً تماماً، فلقد قُلبت الأوضاع وأدّت إلى نسيان وجود تلك الوثيقة، وهناك أسئلة أضحت اليوم تفرض نفسها الآن كضرورة عكس ما كانت مجرد إسقاط على الواقع آنذاك... ومن أهم هذه النقاط:
- لقد كانت سنوات التحدي العشرة الأخيرة والتي عاشتها الكنائس سنوات طُبِعَت بالتطرف بعد نهاية الربيع، كما تميزت بعنف داعش والحروب العديدة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وأخرى، حيث دفعت الجماعات المسيحية لذلك ثمناً باهظاً جداً لكنها شهدت أيضاً للرجاء باستشهاد العديد من الأخوة والأخوات المؤمنين.
- نعم، هذه السنوات شهدت أيضاً وثيقة أبو ظبي للأخوّة الإنسانية وزيارات قداسة البابا فرنسيس الرسولية والتاريخية إلى العراق ثم إلى البحرين والتي تشير إلى أن الأب الأقدس يهتم بالشرق الأوسط والكنائس الشرقية والحوار المسكوني مع الأرثوذكس والحوار بين الأديان ولا سيما الأخوّة مع المسلمين كذلك مع اليهود.
ومن النقاط المهمة أيضاً التي تم تدارسها وهي:
- مشكلة السلطة: إن المشكلة ليست إلا تدخّل السلطة سلباً في إدارة الجماهير والمؤمنين لصالح منافعها. وفي الشرق الأوسط يبقى على الدوام حاضر خطر الوقوع في تجربة التحالف أو أن يصبح المرء أداة للسلطة السياسية في الزمان والمكان مما يمنعنا من أن نحافظ على الدور النبوي الذي يجب أن يكون حراً. فلا يمكن التحالف بين العرش والمذبح لأن لا العرش ينجح ولا حتى المذبح.
من هنا يجب عيش الشفافية في العلاقات الكنسية وفي المؤسسات، وما علينا إلا تصحيح أشكال الفساد في جميع أعماله لأن الخيار التفضيلي للفقراء والضعفاء لا يجعل من الكنيسة حزباً سياسياً في وقت يواجه الإيمان آفاقاً جديدة ولكنه يواجه هجمات ومشاكل عديدة من ناحية أخرى، لأن السياسيين والدول لديها أجندات ومصالح مما يجب على العالم أن يشعر بهذه المرحلة الخطيرة والتي نجتازها. وفي هذا الصدد علّق عميد دائرة الكنائس الشرقية المطران غوجيروتي: أن الغربيين يتحملون مسؤولية كبيرة في زعزعة الاستقرار للأوضاع في الشرق الأوسط، والأنكى نقل الثقافة ومطالبة الشعب بأن يكون معها. فلقد عانى عدد غير محدد من الطرفين الآثار البشعة للحرب وتداعياتها.
- مشكلة الحضور المسيحي والهوية والشهادة: يقول المطران غوجيروتي: لا يمكن للكنيسة الجامعة أن تخسر حضور المسيحيين في الشرق الأوسط وإرثهم وشهادتهم ولا سيما إيمانهم عبر استعادة الهوية المسيحية الأصيلة، لهذا السبب ستكون الكنيسة الجامعة حاضرة بمساعدة مالية وأيضاً من خلال مشاركتكم في أولياتكم وؤيتكم وتحديد دوركم في المرحلة الحالية لكي تكونوا فخورين بماضيكم المجيد إذ تملكون في تقليدكم أداة حية لولادة جديدة.
إن ذلك جهود بطولية لمسيحيي الشرق الأوسط لكي يشهدوا للإيمان والشهادة للإنجيل حتى في أوقات الضيق. فالشهداء بذار سلام ومصالحة بين الشعوب من أجل عالم أكثر إنسانية وأخوّة في انتظار أن يظهر بالكامل ملكوت السماوات عندما سيكون الله الكل في الكل (البابا فرنسيس، مقابلة الأربعاء العامة، 19 نيسان 2023). فالكنيسة تشيد بجهود أبناء الشرق البطولية لإيمانهم المشترك في المصاعب بجميع أنواعها. والشهداء اليوم أكثر عدداً في زمننا مما كانوا عليه في القرون الأولى، فلا يجوز في ذلك أن يُنظَر إلى الشهداء كأبطال تصرفوا بشكل فردي وكزهور تنبت في الصحراء وإنما كثمار ناضجة وممتازة في كرم الرب الذي هو الكنيسة بشكل خاص من خلال مشاركتهم المثابرة في الافخارستيا. فكل مسيحي مدعو لكي يشهد للحياة حتى وإن لم يصل به الأمر إلى إراقة الدماء، ولكي يجعل من نفسه عطية الله تشبّهاً بيسوع. وهؤلاء الشهداء يجعلون عنف الذين يرفضون الإعلان من أن الاستشهاد لم يُعطَ إلا لعدد قليل إنما على الكل أن يكونوا على استعداد ليعترفوا بالمسيح أمام الناس وليتبعوه على درب الصليب عبر الاضطهادات التي لا تغيب في الكنيسة أبداً، ففي ذلك يذكّرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بأن الاستشهاد فيه يصبح التلميذ شبيهاً بمعلّمه الذي قَبِلَ الموت بكل حرية لأجل خلاص العالم.
- مشكلة العلمنة: تحاول العلمنة إلغاء المسيحية من المجتمع وإنها ظاهرة غريبة بشكل أساسي حيث تصل إلى الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي تصل فيه الثقافة الغربية، فلا يمكن أن يكون هناك شكّ في أن العنصر الاجتماعي والديني الأكثر انفتاحاً على الثقافة الغربية هو المكوّن المسيحي.
- مشكلة الحق في الوطن: حيث للمسيحيين الحق في وطنهم، وحق فيه أن يعودوا دون خوف من أن تُستَهدَف عقيدتهم، ولهم الحق في بقاء لغتهم وثقافتهم. فالمسيحيون أعطوا الكثير لبلدانهم واليوم يدفعون ثمن سياسات غريبة وخاطئة وذلك لغياب الخدمات وفرص العمل ورؤية واضحة لمستقبلهم، فهم يحتاجون – أي المسيحيون – إلى المساعدة كي يتمكنوا من البقاء في أرضهم ولكي يعيشوا فيها كمواطنين كاملي الحقوق أسوةً بالجميع. فمن الخطر اليوم هو أن يكون المسيحيون من أقلّ الناس معرفة بأراضيهم وجذورهم وهذا ما يدعونا إلى أن نُلزم أنفسنا بطلب برامج عناية رعوية وتعليم مسيحي وتربية تشمل قراءة الإنجيل وهذا ما يساعد المؤمنين في ربطهم بإيمانهم فذلك هوية الشعور بالانتماء الديني والحق في الشعور بأن المسيحية قد ولدت في هذه الأرض وهذا تاريخ يرجع لآلاف السنين.
وربما قد لا يستطيع الصحفيون إخراج الناس من أزماتهم بيد أنهم يستطيعون مشاركة قصص هؤلاء الناس مع باقي العالم... هذا ما قاله مطران مجمع الكنائس الشرقية وهذا أمر فعّال في هذا الزمان. لذا علينا أن نضع في اعتبارنا الصلة الحيوية بين كلمة الله أي الإنجيل الذي فيه بُعثت به الحياة، فالبعد الجغرافي للإيمان - كما أطلق عليه البابا بولس السادس – هو ما يساعدنا على تجنب إغراءات تلك الهرطقة التي تجعل من الإيمان مجرد عمل فكري. فلا ننسى أهمية جغرافية الخلاص والعيش الأمينوالحق في أرضنا.
- لذا على الكرسي الرسولي دعم مسيحيي الشرق الأوسط وذلك من أولوياته لأنه مهما كانت الجهود السخية في متابعة أعضاء الكنيسة سيكون هذا الأمر أكثر فاعلية لتفادي أي اندماج ولو غير مقصود للحفاظ على شهادة الإيمان وكي يشعر مؤمنينا في الشرق بأن الكرسي الرسولي يعيش معهم معاناتهم بكل معناها وأبعادها والعمل على الخروج منها حاملين مشعل الرجاء بالرب يسوع والذي هو محور الإيمان والشركة والشهادة والحياة بأسرها. فالإنسان الذي يعمل مشيئة ربّه لا يخاف حقد الحاقدين ولا يخشى لائمة اللائمين، فمَن كان الله معه فمَن يكون عليه.
وختم المطران باتسيتا بطريرك أورشليم بالقول: أنه ليس هناك حاجة لأعمال ترميم وإنما البدء من جديد من الأسس لنكون نوراً وملحاً وخميرةً لهذا العالم. لذا من هنا يجب أن يولد التزام جديد ومتجدد يمكنه أن ينير ويضفي نكهة على الشرق الأوسط بأكمله لكي تترسخ جذورنا وحيث سنبقى من أجل الشهادة الحقة للإيمان.
ختاماً، أرجو أن لا تمرّ عشر سنوات ونعود كما كنّا بدون فائدة كما مرت العشر سنوات الماضية. فالرجاء المتجذرون به لا يكون بالسكوت والصمت بل بالعمل والصلاة ليس إلا!.

21
البابا فرنسيس: المسيح هو مستقبلنا

المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء...
وكونوا شهوداً لنبوءة الإنجيل عبر الصلاة... هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في اليوم الثاني من زيارته إلى المجر في 29 نيسان 2023 حيث التقى الأساقفة والكهنة والشمامسة والمكرسين والمكرسات والعاملين الرعويين.

     روح العالم
   أمام هذا العنوان الشجاع قال قداسته: نريد أن نشهد أن المسيح هو مستقبلنا رغم متغيرات وتحولات عصرنا. فمع المسيح وفي المسيح نجد أفضل طرق لمواجهة التحديات الرعوية إذ لا شيء خارج الرب يسوع ولا شيء بعيد عنه. وهذا جداً ممكن، أضاف قداسته، إذا رأينا أن المسيح هو مستقبلنا، فهو الألف والياء وهو القدير (رؤ8:1) والبداية والنهاية، كما أنه الأساس والهدف النهائي لتاريخ البشرية والأول والأخير (رؤ17:1). فالمسيح هو مركز التاريخ رغم العواصف التي تعصف بعالمنا أحياناً وإلى التغييرات السريعة والمستمرة في المجتمع، فبه تكون حياتنا راسخة وبين يديه بالرغم من كل ضعف يصيبها، ولكن إن نسينا ذلك نحن الرعاة والعلمانيون سنبحث عن وسائل وأدوات بشرية للدفاع عن أنفسنا إذ سننغلق في واحاتنا الدينية المريحة والهادئة وسنتأقلم مع رياح الدنيا المتقلّبة ولن نكون بعدُ ملح الأرض، لذلك قال قداسته: علينا العودة إلى المسيح الذي هو المستقبل كي لا نقع بين رياح الدنيا المتقلّبة وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للكنيسة بحسب روح العالم. لذا علينا الانتباه وأخذ الحذر دائماً، فالقراءة الكارثية للتاريخ الحالي والذي يغذيه روح الانهزامية في الذين يكررون أن قد ضاع كل شيء ولم تبقَ قيم كما كان في أيام زمان ولا نعرف ماذا ستكون النهاية... هنا تكمن روح العالم.

    مَثَل التينة
   وقد استشهد قداسته بالأب ساندرو (أحد آباء المجر) كيف حرّره الله من الانهزامية إذ أصبح يعتقد أن كل شيء في النهاية يسير على ما يرام. ولنعلم أن الإنجيل يعطينا عيوناً جديدة ونِعَماً لتمييز روح النبوءة. وتوقف قداسته في كلمته عند مَثَل التينة كما في مرقس (28:13-29) إذ قال: هناك أناس معجبون بحجارة الهيكل الجميلة وتكيّفوا مع الأفكار والعقلية السائدة وحسب روح العالم لأنهم كانوا يرون فخامة الهيكل الظاهرة للعيون. وهذا جعل يسوع يعلّمهم قائلاً: لن يبقى حجر على حجر. ولكي لا يدفعهم إلى الإحباط قال: إن الهيكل من صنع البشر لذلك ستحدث أشياء مخيفة وسيكون اضطهادات شديدة حينئذٍ يروا الناس ابن الإنسان آتياً على غمام فدعاهم إلى أخذ العبرة من التينة فقال: إذا رأيتم ذلك فاعلموا أن ابن الإنسان قريب على الأبواب (28-29). في ذلك نفهم، قال قداسته، إنها دعوة لنا لكي نقبل الزمن الذي نعيش فيه ونكون أشجاراً مثمرة رغم تغيراته وتحدياته، حينذاك سنرى يسوع يقترب منا ويدعونا إلى زرع كلمة الإنجيل في عالم اليوم ونقطع معه أعضاء الشر. ولنرحب بزماننا ترحيباً نبوياً وهذا يعني أن نتعرف على علامات حضور الله في الواقع، وهذه العلامات تأتينا بطابع التحدي. فالزمان يدعونا إلى أن نفسر كل شيء على ضوء الإنجيل ولا ندع روح العالم تتغلب علينا بل نبشر بالنبوءة المسيحية وليس بالتصلب والانغلاق على الذات لأن روح النبوءة تجعلنا مدافعين من أجل الحوار مع الإنجيل عبر طرق ولقاءات جديدة كما يؤكد قداسة البابا بندكتس السادس عشر بقوله في لقاء مع الكاثوليك الملتزمين في الكنيسة والمجتمع في أيلول 2011: إن حضور العلمنة المختلفة ساعدت الكنيسة لأنها "ساهمت بشكل أساسي في تطهيرها وإصلاحها الداخلي فكانت العلمنة تعني في كل مرة تحريراً عميقاً للكنيسة من كل شكل من أشكال روح العالم" لذا علينا الالتزام بالحوار وهذا يتطلب منّا أن نكون حاضرين وشاهدين لكي نعرف كيف نصغي إلى أسئلة وتحديات الزمان دون خوف. فمقتضيات الرعية والحياة الرعوية عديدة والمهم أن يشعر الجميع بالمسؤولية المشتركة عبر الصلاة لأن الإجابات لا تأتينا إلاّ من الرب يسوع وليس من العالم، ومن بيت القربان وليس من الكومبيوتر.
   وفي كلمته، قال قداسة البابا فرنسيس بأنه لا يكفي أن نكرر الماضي بل أن تشكّل الرعية على أرض الواقع وفي البحث عن الطرق الممكنة وكل حسب موهبته من أجل الإنجيل ومن أجل نقل الإيمان إلى الأجيال الشابة. فلننتبه، فلا يمكن أن نأتي بثمر إذا كنا منقسمين أو بعيدين عن بعضنا البعض أو متصلبين في مواقفنا فلا يجوز أن نكون ألعوبة في يد العدو إذ لا يجوز أن نرى الأساقفة منفصلين بعضهم عن بعض، والكهنة في حالة التوتر مع الأسقف، والكهنة كبار السنّ مع الكهنة الشباب، وكذلك بين الطوائف المختلفة بسبب قضايا كنسية وسياسية واجتماعية، بل علينا العمل كفريق واحد. إذ العمل الرعوي يتطلب شهادة للشركة لأن الله شركة وهو حاضر حيث توجد المحبة لذلك يجب العمل معاً والتغلب على الانقسامات البشرية ولنملأ أنفسنا في روح الإنجيل عبر الصلاة الأمينة في السجود والإصغاء إلى كلمة الله في الإنجيل. إن ذلك كنز كبير فلا نضيعه من أيدينا بسبب سعينا وراء أمور ثانوية.
   وقبل ختام كلمته، دعا قداسة البابا الحاضرين إلى الانتباه من الثرثرة والقيل والقال، فهذا يعني التحطم وهي طريق للدمار. والمطلوب منا هو العيش بقداسة في هذا الزمن وليس الثرثرة. وأعطيكم علاجاً جيداً ضد الثرثرة هو الصلاة والعلاج الثاني هو إغلاق الفم.
   وختم قداسته كلمته للأساقفة والكهنة والحاضرين قائلاً: انظروا برأفة ورحمة لتكونوا شهوداً للإيمان. ولا تحملوا في داخلكم حقداً ولكن كونوا رعاة صالحين وقدّموا لشعب الله المقدس وجه الآب، ولا تحكموا لا بالطرد بل شجعوا ولا تنتقموا ولا تثرثروا بل تقاسموا حتى أرديتكم. وأوصيكم أن تبشروا بالإنجيل كي تكون الكنيسة قادرة على الإصغاء المتبادل وتستقبل الجميع وبشجاعتها توصل نبوءة الإنجيل إلى كل واحد. فالمسيح هو مستقبلنا وهو سيحكم التاريخ لأنه سيد هذا التاريخ. فاحملوا إيماناً راسخاً بهذه الحقيقة عبر الصلاة لأن التاريخ والمستقبل يعتمدان على هذا، نعم على الصلاة.
   


22
نعم ... هلّا تعلّمنا الطبيعة!
المونسنيور د. بيوس قاشا
   لا زلنا لحدّ اليوم بل لحدّ الساعة نتلقى أخباراً مؤلمة ومخيفة جداً بسبب ما حلّ بالمسكونة من زلازل في تركيا وسوريا وذهب ضحيته الآلاف من الأبرياء، وعدد هائل من الجرحى والمصابين لا زالوا تحت الأنقاض، إضافة إلى البشر الذين هُجّروا وإلى ما هُدم وخُرّب من منــــازل وعمـــــارات سكنية كمــــا لحقــــــت بالعديد منها أضــــرار بليغـــة إضافـــــة إلى
المباني الأثرية والإروائية والحالة النفسية التي أصابت العديد من الناجين. ولستُ أبالغ إذا قلتُ أن آلاف المنازل تحتاج إلى هدمها لأنها أصبحت غير صالحة للسكنى، وما يخيفنا لحد الآن الهزّات المرتدّة والتي لا زالت تُدخل الرعب في نفوسنا وفي العديد من نفوس كبار الدول ومن الشعوب بل في العالم أجمع. وهذا ما يجعلنا أن نقول أن النهار الذي كان قبل السابع من شباط (فبراير) 2023 هو غير اليوم الذي يليه، فهل نحن اليوم أمام زمن كورونا وداعش ولكن من نوع آخر؟ فبعد أن شُفينا منه نوعاً ما كان لنا الزلزال بالمرصاد حيث حلّ بيننا ضيفاً مؤلماً ومخيفاً وفي ساعة لا نعلمها، إنه أمر مرعب، بل هو وباؤنا الجديد.
   وإذا ما عدنا قليلاً إلى ماضينا بإمكاننا أن نقول: أين يسير الإنسان بكذبه ومصالحه من تفجير مرفأ بيروت والذي أودى بحياة الآلاف كما لا زالت تدور بيننا الحرب الروسية الأوكرانية ولا زالت تحصد العديد من الضحايا الأبرياء بسبب البارود وبسبب تشويه الخليقة التي خلقها الرب فرآها حسنة (تكو27:1). فكل الضحايا التي وقعت بسبب الزلزال والحروب والتفجير رحلت على غفلة وفي ساعة لم يعلمها أحد (متى44:24) لا من كبار الدنيا ولا من صغار الزمن المتبجّحين بكراسي الزمن، كما لم يكن يظن أحد أن ذلك سيحصل ويموت العديد من البشر المخلوقين على صورة الله كمثاله (تك27:1). فما حصل لم يبالِ لا بالشاب أو بالشيخ، لا بالطفل أو بإمرأة، لا بالكبير أو الصغير، ولكن ما أدركه أن هؤلاء كلهم ضحاياه ومن جرّائه حصل ما حصل، وقد صرّحت في هذا الصدد منظمة الصحة العالمية إذ قالت "إنها أكبر كارثة طبيعية خلال هذا القرن حلّت بالمسكونة" فهرعت العديد من الدول وكذلك من المنظمات الإنسانية للتضامن مع هؤلاء الأبرياء بسبب ما حلّ بهم، فكانت المعونات المادية والمستلزمات الطبية وأخرى غذائية وكسوة وأخرى تدفقت بصورة ملحوظة، وسمعتُ أن حوالي 100 دولة قدمت يد المساعدة والعون والنجدة وما ذلك إلا علامة تضامن ومحبة، كما كانت عملاً بإنجيل التطويبات دون أن ندري "كنتُ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، بدون مأوى..." (متى35:25) ولكن أسأل: هل الإنسان يحتاج اليوم فقط إلى ملء البطون؟ نعم هذا ضروري ولكن ليس كل شيء، وبإمكاني أن أقول: هل نحن في عالم غريب؟ فهذه الحروب والكوارث أليست من صنع البشر والإنسان؟ وهل الزلزال من صنع الطبيعة؟ هذا ما ندركه وربما الحقيقة هي غير ذلك. فالحقيقة لا تُعرف إلا من صانعها ومفبركها لغاية ما. كما أسأل: هل هذه الأمور حصلت وما يحصل دون علم الإنسان؟ وهل الله والطبيعة يريدان شرّاً بالإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله" (تك27:1)؟.
   نعم، إن حادث الزلزال في تركيا وسوريا وبلدان أخرى هو حديثنا وشغلنا الشاغل كباراً كنا أم صغاراً، فنحن لحد الآن لم ننسى بعدُ تماماً زلزال داعش الإرهابي حتى تضاعف القلق والهواجش من أية كارثة جديدة ومحتَمَلة وربما تفسد وضعنا بين الأخبار المسموعة والصور المرئية التي تنقلها إلينا قنوات العالم. ولكن أمام كل ذلك لم نملك خطة تقينا وخاصة – لا سمح الله – إذا كانت الكارثة بحجم الزلزال أو الكوارث أو الضحايا البريئة في الحروب، أقول ذلك أنه ليس من التفاؤل فقط أن أقول تلك حقيقة دامغة فالبشر مهما اختلفت أجناسهم ومشاربهم وأزمنتهم يشعرون بحاجة إلى الله القادر على كل شيء، وإلى توثيق العلاقة به. ولكن أليس أننا أبعدنا الله عن مسيرتنا ومسيرة إخوتنا البشر والآخر المختلف؟ فالكثير منا حتى أمام ما يحصل يتباهون بالسيطرة والعظمة والسلطة والحسب والنسب والصفات والألقاب والكراسي والأمجاد وينظّمون المآدب الفاخرة لكبار المدعوين، نعم جميل جداً أن نملأ الدنيا فرحاً وفي قلوب الآخرين ولكن الرب يسوع أنبأنا وسبق وأعلن لنا أننا سنمرّ "بأزمنة قاسية، بحروب وأخبار حروب، وتكون مجاعة، وتقوم أمة على أمة، وأوبئة وزلازل في أمكنة... ويسلّمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مبغَضين، ولكثرة الإثم تبرد المحبة" (متى1:24-34) فلماذا نخاف كبطرس، ولماذا نخاف كالتلاميذ، ألم يقل لنا المسيح الرب "تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا" (متى27:14).
لذلك ما هو مطلوب منا أمام مثل هذه المحنة أن لا نخاف "كما حصل لأولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم... لذلك أقول لكم إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو1:13-5). فالتوبة اليوم هي مشوارنا الأمين ولا شيء آخر وخاصة في زمن الصوم فالرب يدعونا دائماً إلى التضامن مع المحتاجين والمبتلين ولكن لا نعمل من أجل عالم الشر والأنانية والسيطرة والنسب والكراهية فذلك هو أساس لشلل حياتنا الإنسانية بسبب الخطيئة التي ملكت على نفوسنا فقد قال الرب "أتيتُ لدينونة هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون وتقولون أننا نبصر فخطيئتكم باقية. فاعملوا كي لا تكونوا عمياناً" (يو39:9-41) وكي لا يحصل الزلزال في نفوسنا بغتة وفي ساعة لا نعلمها يأتي علينا (متى1:24) ولكن لنعلم أن الرب أحبّنا فسكن بيننا وجاء إلينا ليكون معنا وتكون لنا الحياة (يو4:1) ويشاركنا بما فيها من مآسي وأفراح، ولكن الإيمان يقول لنا لننتبه لأنه "في غفلة، في طرفة عين وفي ساعة لا نعلمها يأتي سيد البيت ليحاسبنا على ما أدّيناه وقمنا به" (لو46:12). فالسهر والصلاة واجب علينا حسب قوله "كي لا ندخل في تجربة" فقد قال "إن لم تتوبوا جميعكم تهلكون" (لو1:13-5) فالله من حبه لنا سبق وأعلمنا حقيقة الحياة في أن نكون مستعدين.
نعم، لنسأل أنفسنا: أين نحن من مسيرة الحب هذه؟ وأين منزلة الله في نفوسنا؟ وماذا نعمل لخلاص نفوسنا؟ هل نحن جميعاً "نسير معاً" أم لا نفتش ولا نسأل إلا عن أنانيتنا ومصلحتنا وكبرياءنا؟.
نعم، أضعنا الله بأمور بسبب التقنيات والحرية الغير مسؤولة، باستنفارنا لكل المواضيع وما يهمّنا. فلتعلّمنا الطبيعة رسالة الأخوّة والمحبة والإيمان للسير معاً مهما كان مركزنا ومنصبنا ولا نتباهى، فالبابا القديس يوحنا بولس الثاني يقول في رسالته "إنجيل الحياة":"كل إنسان أصبح موكولاً إلى الكنيسة" (فقرة 3) "فالعلاقة مع الله علاقة مع الخليقة كلها" (فقرة 3) ولا أحد يضمن حياته إلا إذا كانت في الرب، ففيه نموت وفيه نحيا (رو8:14)... نعم وآمين.

23
  أنظروا ...
من حقكم أن ترحلوا ... ولكن!
(الحلقة الثانية)
المونسنيور د. بيوس قاشا
   نعم، نجد اليوم أنفسنا أمام عالم غريب، فقد تغيّر كل شيء وأصبح الإنسان فريسة الحياة فتراه يركض وراء المال وإنْ كان حراماً، ووراء الحياة وإنْ كان بكبرياء، ووراء الشهرة وإنْ كانــــت مشتـــراة، ووراء المصلحــة والعشيــرة والكــــراسي، ويحــب لنفسه كــل شيء ولا يحــب
لغيره. كما أنّ نظره إلى الحدود البعيدة والقريبة يتطلع بكل اهتمام وفي يده الموبايل والحاسوب شاكراً ثورة المعلومات والاتصالات التي سنحت له هذا الاختراع في الفيسبوك واليوتيوب و... و... واصبح بذلك يدور حول نفسه وشهواته ونزواته وابتعد عن حقيقة السماء ونسي أن الحياة الحقيقية تكون في إسعاد الآخرين وليس في استعبادهم. لذلك نرى أن عالمنا عالم مظلم، فهو يتّهم كل مَن ينادي بالحقيقة والعدل بارتكاب خطيئة علنية وجريمة نكراء بحق البشر وبذلك يُدان بجرم التعرض للمصالح الشخصية لكبار الزمن والدنيا، فيدخل محكمة الظلم للمثول أمام قاضي هذا الزمان وإنْ كان بريئاً من أجل الذات ومع الأسف!.
    أنظروا واسمعوا (عفواً لكلمات كفعل أمر)، تمسّكوا بإيمانكم ولا تكونوا مسيحيي العواطف والعادات، وليكن انتمائكم لوطنكم ولأرضكم ولمدينتكم ولقريتكم، فأنتم أبناء الوطن قبل أن تكونوا أبناء الإيمان، وإلى هذا الوطن الجريح تنتمون وهذه قضيتكم، وما ذلك إلا شهادة أمينة لمسيرة حياتكم ولحقيقتها. وأسأل هنا: مَن يشهد لحمل الصليب وللمسيح الذي كان أمس واليوم وسيبقى إلى الأبد (عبر8:13)؟ إذا ما تركتم بلدكم وأرضكم فهل نأتي بقيرواني آخر غريب عن أرضكم ليحمل عنكم وعنّا عبء الحياة وثقل الدنيا، ويرافقكم في الرحيل؟ فأنتم ونحن جميعاً شعب واحد وليس شعوب مختلفة، فإذا تألم عضو يتألم الجسد كله هكذا يقول مار بولس (1كو26:12) ... وهذه حقيقة الحياة أليس كذلك!؟.
    أنظروا، مهما علت أصوات التحريض والعنصرية والتطرف لا يجوز هذا أن يجعلكم تنحرفون وتتركون مبادئكم بل يجب أن تتمسكوا بها وننادي معكم بأرضكم ووطنكم. ولا تدعوا سبباً يدخلكم في أزمة وحالة من التوتر والخوف وخاصة مما يحصل ومن التيارات المتطرفة وأحياناً الخطاب الإقصائي فيؤول بكم الزمان إلى الهجرة، بل كونوا أقوى من هذه الأبواق ولا تهتموا لأصوات التطرف والتخلف من أي بشر كان وأياً كان شكلها ولونها، وفي ذلك تظهرون أنكم من ظهور أجدادكم أتيتم، لذا أرجوكم أن لا تضعفوا أبداً، ومهما كانت مظاهر اليأس لأن إيمانكم يعلّمكم أن تكونوا أقوياء بالرب (1كور13:16) وليس بالأشخاص اصحاب المصالح والغايات والدنيا وكبارها نعم ونعم. فإذا هاجرتم وتركتم كل شيء ماذا ينفع لراحتكم وأنتم في خضمّ الحقوق والمبادئ البشرية الزائلة وإخوتكم كما قلتُ (البقية الباقية) تتألم بسبب عدم سماعكم أنينها. ألا يعني ذلك مشاركتكم لقائين في قتل أخيه؟ إذ الرب سيقول لكم "أين إخوتكم؟" (تك9:3). فأنتم هنا من أجل حقوقكم أنتم وإخوتكم انطلاقاً من إيمانكم المسيحي، الأمين للمسيح الحي الذي به تجاهرون، فهو غايتكم وعقيدتكم كما هو غايتنا وعقيدتنا.
    أنظروا، أنا أعرف جيداً وأكيداً أن بعضاً منكم وربما شريحة كبيرة بعددها من رجال المعابد وكبار الدنيا وصغار الزمن، وربما بعملي هذا يزيد غضبكم عليَّ لتدخّلي في شؤونكم ولا يحق لي ذلك، فأنا أقول: من حقكم أن تقولوا ما تشاؤون وما يصبو لكم فأنتم أحرار في الحديث عن الهجرة والرحيل أو عدمها، كما بإمكانكم تشويه صورتي إذا ما أردتم كما فعلها سابقاً غيركم لغايات معروفة، ولكن أنقل اليوم معكم حقيقة مسيرتنا في هذا البلد الجريح، عليكم قول الحق لكي تتحرروا من مستمسكاتكم فالمسيح الرب يقول:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8). ولكن سأبقى أقول: لا ترتكبوا هذا الخطأ الفاضح والقاتل لإخوتكم لأن ذلك خسارة لكم ولهم، وكنائسكم تتحول بسبب رحيلكم إلى متاحف، وفيها أُعطيتم اسماً كما دعاكم الرب وأنتم في بطون أمّهاتكم (متى1:10). فلا تسمعوا أصوات الدعوة إلى الرحيل إنْ كانت من رجال المعابد الكبار والصغار ومن الشعب المؤمن بما ترى عيونه، وعيون قلبه بعيدة عن الحقيقة وربما تقولون أن العديد من رجال المعابد قد رحّلوا أهاليهم وأقربائهم ليجلسوا على كراسي الحكم ويناموا براحة البال ويتنعّموا بما وهبته الدنيا. نعم، هذا خطأ كبير يرتكبونه وهم يعلمون ذلك ولكن يسدّون آذانهم عن السماع (إرميا 21:5) ويطمئنون أنفسهم بأنهم لم يعملوا إلا عملاً صالحاً (متى16:19) من أجل الدنيا وينسون أن يطمئنوا أهاليهم وأقربائهم إلى أبديتهم وخاتمتهم ودينونتهم.
   نعم، كل ما تفكرون به هو واقع ولكن إعلموا هذا أن ذلك شأنكم فإنني أقول لكم أنكم لن تجدوا أجمل من أرضكم وهذا الكلام ليس شعاراً بائساً أو كلاماً فضفاضاً، فالوطن يمرّ اليوم بأزمات مختلفة صنعها المستفيدون من الغرب أو من الشرق، من كبار العولمة أو السياسة، من المصالح ذاتية وأنانية، ولكن مهما يكن فالوطن وطنكم والأرض أرضكم، ومسؤولية حضوركم المسيحي مسؤوليتكم جميعاً، أنتم ونحن، إنها مسؤولية رجال المعابد وكبار الدنيا، ومسؤولية السياسيين، ومسؤولية القيادات المختلفة الداعية لرسالة الإنجيل السمحاء من أجل الأجيال الصاعدة، فكلنا - أنتم ونحن - نؤمن بإنجيل واحد ورب واحد وإيمان واحد كما يقول مار بولس (أفسس5:4). فانبضوا بالحياة، وكونوا مدافعين عن إيمانكم كما كان آباؤكم وأجدادكم، ومدافعين حقيقيين عن شعبكم، وحافظين لتراثكم، وأُمناء لجرن عماذكم. فإذا رحلتم سجّلتم تاريخاً مؤلماً بإفراغ أرضكم وهذا أمر مرفوض، ويصبح وجودكم المسيحي أقلية عددية بعد أن كنتم أنتم وأجدادكم وآباؤكم غالبية عظمى في منطقتكم والسبب عدم سهركم على القطيع (البابا فرنسيس خلال مقابلته العامة، الأربعاء 4/12/2019) فهل تعبتم من حراسة القطيع من أجل الأغلبية؟ وفي هذا لا تتحدثوا عن حقوقكم وأنتم بعيدون عن الحقيقة ذاتها، واعلموا أن الذين سبقوكم أعطوا الكثير وأنتم ماذا تعملون وفاءً لهم ولإيمانكم؟ أما إذا عطلتم ذلك فأنتم تعانون من ضياع وتشتركون في خطيئة آبائكم (خروج 5:20) فتموت جذوركم فلا يقال بعد أن هذه كانت أرض المسيحيين واليوم هي أرضنا، إنه شكّ كبير (متى31:14) فلا تخافوا، فالرب يسوع قال ذلك (متى27:14) فأنتم تحملون في طيات نفوسكم وأحاسيسكم سموّاً ورُقِيّاً، واعلموا أن أرضكم مقدسة بأنبيائها وتاريخها القديم والمسيحي، واعلموا أن دوركم الوطني بالبناء يساعد مسيرتكم فحضوركم شهادة وشركة ومن خلال ذلك يجب أن تعلنوا دوركم بهدف التفرغ لنشر الرسالة الإنسانية الدينية وتعليم القطيع صوت السماء وشمّ رائحته القطيع. فرجل المعبد رمز لعمل السماء على الأرض وليس أولاً وأخيراً رجل السياسة، رجل الذهاب والإياب والسفر والنوم وراحة البال. فلنترك ذلك لكبار العلمانيين والسياسيين والذين يمثلون الوجود الإنساني فما نحتاجه هو وحدة الكلمة والرؤية وهذا يبشر بمستقبل يليق بالوطن وبكم، فيا رجال المعابد، أنظروا ... أن الرب يسوع أسس الكنيسة مع الرعاة لا مع القادة السياسيين. أسس الكنيسة مع أشخاص غير متعلمين، فالاثني عشر كانوا غير متعلمين وسارت الكنيسة إلى أمام وذلك بفضل رائحة الخراف - كما يقول البابا فرنسيس – لدى الراعي ورائحة الراعي لدى الخراف، إن ذلك علاقة أعظم. وفي هذا الشأن فالقديس أوغسطينوس في خطابه (46) عن الرعاة يقول: المسألة لا تتعلق بالعصرنة بالطبع لا بدّ من التحديث من خلال الأساليب وهذا صحيح فإذا نقص قلب الراعي فلن يأتي أي نشاط رعوي بأية نتيجة.
   نعم، إن صلاتي من أجلكم أن تبقوا متمسكين بإيمانكم وهويتكم وأرضكم بمشرقيتها وبعراقيتها، فأنتم الأحفاد المؤمنين والمحامين لكنائسكم. فلا تبيعوا أنفسكم ومستقبلكم بمال الدنيا الزائل، فكل شيء زائل ولن يبقى حجر على حجر (متى 2:24)، وسفر الجامعة يقول "باطل الأباطيل وكل شيء باطل" (جامعة11:2) والرب يبارككم ويباركنا... نعم، آمين وآمين.

24
  أنظروا ...
من حقكم أن ترحلوا ... ولكن!
(الحلقة الأولى)
المونسنيور د. بيوس قاشا
   نعم، نجد اليوم أنفسنا أمام عالم غريب، فقد تغيّر كل شيء وأصبح الإنسان فريسة الحياة فتراه يركض وراء المال وإنْ كان حراماً، ووراء الحياة وإنْ كان بكبرياء، ووراء الشهرة وإنْ كانــــت مشتـــراة، ووراء المصلحــة والعشيــرة والكــــراسي، ويحــب لنفسه كــل شيء ولا يحــب
لغيره. كما أنّ نظره إلى الحدود البعيدة والقريبة يتطلع بكل اهتمام وفي يده الموبايل والحاسوب شاكراً ثورة المعلومات والاتصالات التي سنحت له هذا الاختراع في الفيسبوك واليوتيوب و... و... واصبح بذلك يدور حول نفسه وشهواته ونزواته وابتعد عن حقيقة السماء ونسي أن الحياة الحقيقية تكون في إسعاد الآخرين وليس في استعبادهم. لذلك نرى أن عالمنا عالم مظلم، فهو يتّهم كل مَن ينادي بالحقيقة والعدل بارتكاب خطيئة علنية وجريمة نكراء بحق البشر وبذلك يُدان بجرم التعرض للمصالح الشخصية لكبار الزمن والدنيا، فيدخل محكمة الظلم للمثول أمام قاضي هذا الزمان وإنْ كان بريئاً من أجل الذات ومع الأسف!.
   نعم، ما دفعني إلى كتابة هذه الأسطر هو الغيرة مما يحصل اليوم، وألمي كبير جداً فسكان بلدتي يعملون من أجل إفراغها من أهلها ومن سكانها بوصية لمّ الشمل، وفي ذلك أنتم أحرار بمغادرتكم وأحرار ببقائكم. "فالهجرة خياراً حرّاً" هكذا يقول البابا فرنسيس في رسالته لعام 2023 بمناسبة اليوم العالمي التاسع بعد المئة للمهاجرين واللاجئين، وبمغادرتكم تعطى بلدتي لشعوب غريبة ينتظرون غزوها. وقد يقول قائل: لماذا تتحدث في مثل هذه المواضيع وكأنك تعيش في كوكب آخر دون أن تنظر إلى ما يحصل؟ وبسبب هذه الوصية فالعديد من المسيحيين يتركون بلدهم ومدينتهم وقريتهم بل وأرضهم وأسباب كثيرة ينعتون بها هذه المسيرة المؤلمة وينسبون ذلك إلى نقص كامل لحقوق الإنسان في العيش بأمان وبسبب الفقر والخوف واليأس والحروب، والمستقبل لا زال مجهولاً.
   أمام كل ذلك يكون جوابي: نعم، أقول إنني أعيش وأرى وأُدرك وألمس الحقيقة وأعرف جيداً - وربما أكثر من أي شخص آخر وإنْ كان من سكان بلدتي أو مسؤولاً فيها لمعبد أو لدائرة – وفي ذلك أنا أتحلّى بالاحترام الكامل، كما يقول قداسة البابا فرنسيس، لكل مهاجر ولكن علينا أن تكون لنا شجاعة لأن ندين أحوال عالمنا ونكافح ضد كل ظلم يشوّه جمال المخلوقات. فإيماني واعتقادي يجعلانني أن أذكر كنيستي ورسالتها والتي احتضنت آبائي وأجدادي، واليوم أنا وأولادي، فكانوا ثماراً للآخرين من أجل الوطن. وربما هناك مَن يعترض على ذلك فيقول: ما هو الوطن؟ وماذا أعطاني هذا الوطن؟ إنه يأخذ مني ولا يعطيني حتى حقوقي البسيطة، وهل الوطن هو أرضي وأمّي وبلدي؟ هل هو لي كل شيء قبل إيماني واعتقادي؟ وهل سأبقى مسيحياً حاملاً ذلك في قلبي وليس فوق كتفيّ؟... لذا اسمحوا لي أن أقول في هذا الصدد ما هو آتٍ:
    أنظروا جيداً إلى مدنكم وقراكم كيف كانت وكيف أصبحت؟ أين كنتم وكيف أصبحتم؟ وبهجرتكم كيف ستكون وكيف ستصبح؟ فيوماً ما، كنتُ أسير في شوارع بلدتي بخطوة تحكي أموراً وقصصاً عديدة وجميلة بحكاياتها، وكنتُ أدرك وأقول إنها مُلكٌ لي، ومن أجلها أشهد في مسيرة حياتي. واليوم بل بالأحرى ماذا سأقول غداً بعد أن تؤول مدينتي فريسة لِمَن يشاء ومُلْكاً لرجال غرباء وأقوياء؟ حينذاك أقول "لاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ".
    أنظروا إلى كنائسكم الكبيرة والعديدة والمقدسة يا مهاجري بلدتي حيث كنتم بها كما كانت تزيّن شمال وطني. كنتم تملأونها في مناسبات دينية عديدة راجلين دون خوف ليلاً أو نهاراً، صباحاً أو عصراً، واليوم أصبحتم بهجرتكم تزورونها حسب ما يُسمَح لكم من الأوقات والأزمان، فتأتون من الغربة لتشاركوا أهلها (البقية الباقية) احتفالاتهم بسبب أقربائكم الذين لم يلحقوا في ركبكم بعدُ ولم يغادروا حتى الساعة، فأصبحتم تملؤون كنائسكم بل كنائسنا عبر زياراتكم الموسمية ... ومع الأسف، أين أنتم؟ وأين أصبحتم؟ وماذا يعني ذلك؟.
    أنظروا واسمعوا فأنا أحبكم، ومن أجلكم سطّرتُ هذه الأسطر لأكون وفياً لكم وأميناً للسماء. فاسمحوا لي أن أقول: إنني أدرك جيداً غيرتكم النشطة وهمّتكم العالية ومصالحكم ومستقبل أجيالكم، والعيش بسلام وكرامة في وطنكم كما يقول البابا فرنسيس في رسالته لليوم العالمي للمهجرين واللاجئين، ومن خلال ذلك مستقبلكم وهذا كان سبباً لرحيلكم لأنني أعلم جيداً أنكم كنتم ولا زلتم تعيشون في وطنكم حالة خوف من المستقبل الآتي بل والمجهول وبسبب ذلك تنظرون إلى الشاطئ الآخر لتجدوا الحرية والعيش بكرامة والرزق المجاني في العيش والصحة، وكل ذلك نِعَمٌ من بلاد الهجرة، إضافة إلى النوم الرغيد والحياة الجميلة بخروجكم ودخولكم، بلقاءاتكم واجتماعاتكم، وتجعلكم العولمة ترون في الشاطئ الآخر كل شيء جميل وهي تناديكم بفصيح الكلام أنْ أتركوا دياركم من أجل ديار أخرى فيها النعيم وإنْ كانت غريبة عنكم ففيها كل ما تهوون لكم ولأجيالكم ... وماذا بعدُ!.
    أنظروا وأقول من حقكم، نعم من حقكم أن تهاجروا بل أن تقرروا مصيركم ومستقبلكم وأجيالكم الآن وليس غداً وكأنكم أنتم قائمون على هبة ربّ السماء لكم. فالهجرة خيار حُرّ حقاً كما يقول البابا فرنسيس وعلينا جميعاً أن نضمن للجميع مشاركة في الخير العام واحترام الحقوق، وربما تقولون أننا في بلاد الهجرة سنحمل مسيحنا معنا وسنقوم بخدمته وإعلان شأنه وإنجيله ولكن ألا تعلمون أنكم في ذلك تعملون على إفراغ بلدكم ومدينتكم من أهلها الأصليين بل تبيعون أرضكم دون معرفتكم وأنتم تقولون أنكم أصلاء وتتباهون بهذه التسمية وهذا الوصف بوجودكم في أرض أجدادكم وآبائكم وإنكم تحملون اسمهم وعاداتهم وسُمْعَتَهم أينما حللتم ... ويا للأسف!.
    أنظروا، ألم تقرأوا ما كتبه الأب ألبير أبونا (رحمه الله) عن سير شهداء المشرق حيث العديد من المسيحيين أصحاب عوائل ونساء ورجال وشباب وشابات أعطوا ذواتهم باسم المسيح وفداءً له ولإيمانهم به، لم يخافوا القتل ولا السيف ولا أمر الملك ولا كبار الدنيا والزمن بل قابلوا كل ذلك بالمسامحة والصلاة والغفران على مثال المعلّم الإلهي ومسيح السماء الذي قال وهو معلّق من أجلهم ومن أجلكم على صليب العار "أغفر لهم يا رب، لأنهم لا يدرون ما يفعلون" (لو34:23). فقارنوا جيداً وانظروا بعيون مفتوحة أين رست سفينتكم وأين أصبحتم بمركب الدنيا في علمه وتقدمه والاستهزاء بوطنكم وسرقته عبر العولمة المزيفة والمصلحة الأنانية لأشخاص يعبدون مَن يشاؤون، أليس ذلك بسبب هجرتكم إلى بلاد الله الواسعة القريبة والبعيدة، عبر المحيطات والبحار من أجل تحقيق مآربكم وأنتم خائفين مما يحصل في وطنكم بل وربما في المسكونة؟ وفي هذا ماذا أقول، ألا تعلمون أن شهادتكم للمسيحية في وطنكم تحتاج إليكم؟ ألا تعلمون أنكم خُلقتم بأمر من الله وليس بأمركم ووضعكم في هذه الأرض لتكبروا في القامة والنعمة والحكمة (لو52:2)؟ لذلك خُلقتم للشهادة الحقة وليكن مثالكم في ذلك وأنتم تنظرون إلى ما عملته العائلة المقدسة التي رحلت إلى مصر وعادت (متى 13:2 و20) وعلى ذلك ليكن مقياس مسيرتكم في حياتكم... ليس إلا!.
    أنظروا، جميل جداً أن ترحلوا فتروا الحياة بجمالها، وتجدوا ربما ما يطيب لكم، هكذا ربما تقولون وتتنبّأون وربما تنتظرون في دول أخرى قريبة وجارة تأشيرة سفر وبطاقة الطائرة المجانية من أجل الهجرة. وربما هناك مَن يقول أن بعضاً من المسيحيين أو كبار المعابد ودنياها، هم عائق كانوا ولا زالوا يَحُوْلون دون رحيلكم وهجرتكم إذ يقفون صدّاً منيعاً عبر كلمات وأقوال من أجل عدم هجرتكم ومبتغاكم. واسمحوا لي أن أقول: هذا الكلام غير صحيح إنما ما يقولوه هؤلاء هو إدراكهم غاية سفركم بصورة أو بأخرى غير ما أنتم تفكرون به وتتصورونه في نياتكم، فكلامهم إنما هو في عدم إفراغ بلدكم وأرضكم لا أكثر ولا أقل، وهم يخافون من أجل أن لا يكون سفركم من أجل غايات دنيوية وطلبات بشرية ونسائية كانت أم رجالية أم أخرى.
    انظروا واجعلوا أنْ لا أحد يؤثر عليكم فأنتم بعملكم هذا تفرّقون شملكم في وطنكم من أجل أن تجمعونه في وطن آخر وأرض أخرى غير التي أراكم إياها الله وخلقكم فيها (تك1:12) فلا تجعلوا بوصلتكم تنحرف أبداً مهما كانت الغايات والأسباب والدواعي، وربما كلامي هذا ما هو إلا هباء بالنسبة إليكم وهذا شأنكم، ولكن أنا أقول كلمتي وإنْ كانت غير مقبولة: كونوا أقوياء متحلّين بإيمان قوي ومحبة لا حدود لها، وأنتم أحرار برحيلكم أو بعدم هجرتكم، ما عليكم إلا أن تحافظوا على تاريخ مسيحيتكم وعلى تراثكم وتراث آبائكم وأجدادكم وإنْ كانوا قد سرقوها منكم في الزمان الغابر ودُمّرت كما دمرها داعش. لهذا ورغم كل ذلك عيشوا ذلك بالشهادة والاستشهاد وليس بنعيم الحياة كمسيحيين حقيقيين وليس سطحيين، تملأون كنائسكم في مناسباتكم، فلا تكونوا موسميين أو زوّاراً فقط. اجعلوا أن يكون الصليب مزروعاً في قلوبكم وليس فقط معلَّقاً في رقابكم وعلى أعناقكم وربما في سياراتكم فهو ليس للزينة بل للشهادة، وذلك في الأخير شأنكم ليس إلا!... وإلى الحلقة الثانية.

25
آراء وأفكار في المسيرة
المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء   
نعم، يمرّ العالم بأزمة دولية خطيرة، بل بأزمات عديدة ومختلفة منها: الأزمة الاقتصادية، أزمة السلام بين الشعوب، أزمة الحروب بين الدول، الأزمة الصحية بسبب كورونا وتوابعها، أزمة الحرية الإيمانية، وأخرى وأخرى... وهذه الأزمات لم يشهدها العالم إلا في أيامنا. فمنذ الحرب العاليمة الثانية كانت هذه ولكن بصور أخرى، واليوم إنه زلزال
ليس فقط ما حصل ولكنه زلزال في جميع البلدان وزلزال ذو أبعاد مخيفة بسبب الأخبار الكاذبة والتقارير المظلِّلة السوداء. فحقوق الإنسان نقول عنها الكثير ولكن أحياناً ندوسها بالأقدام من أجل مصالحنا وكبريائنا، وهذه كلها تهدد بالانهيار إذ ننقلها حسب مصالحنا لكي نسجل فيها حقيقتنا فنُظهر صورتنا في أحسن ما يكون وأحسن حال. إنها دعاية سيئة ستساهم يوماً ما في انهيار الشخص ورسالته الإنسانية السامية.
   وليس من المستبعَد أن نقول كما قال الشاعر الفرنسي يوماً "هكذا دولة هكذا معبد". فالكنيسة وخاصة في شرقنا الجريح تعيش ظروفاً صعبة حيث كما أعلم أن حضارة الإنجيل بدأت بالانكماش قليلاً فقليلاً وفي أنفسنا أولاً نحن المؤمنين ونحن كبار الزمن والدنيا، وهذا ما يؤثر في عمق حياتنا الشخصية العامة والإدارية والعملية والخاصة، والمشكلة ربما لا نعلم فيها كيف نصغي إلى قول المسيح الحي "أنا اخترتُكم لتنطلقوا وتعلنوا رسالة الإنجيل في العالم أجمع" (يو16:15)، فأصبحنا اليوم نعبد الإنسان والكبير، ونقول ما يشاء لكي نرضيه وما يطيب له من أجل خططنا ومنفعتنا، وننسى أن الرب يرسلنا وليس الإنسان.

     أفكار ... وبيانات

   فالمسؤول والكبير ليس هو المدير الديواني فقط دينياً ومدنياً بل هو الذي يصغي ويخدم ولا ينتظر التصفيق حتى يكمل بيانه ورسالته والتي ربما يكتبها عبر كلمات رنّانة في بيانات لا يعرف فحواها إلا رب العالمين وكاتبها. فإذا كان الإنسان يعيش بدون إيمان بلباسه وهندامه فإنه سيعيش في ظلمة وخاصة إذا كان رجل إيمان وهو يظن أنه يعيش في النور كما يبان له، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً فقد توهم في تفسيره ذلك.
   فالشعب لا يهمّه اليوم الأفكار والبيانات والكلمات الرنّانة والذهاب والإياب والزيارات، وليس بحاجة إليها من خلال الاجتماعات والتشكيلات واللجان واللقاءات، كما لا يريد العمل بالكلام وبالبيانات كما أسلفتُ بل بالعمل كما يقول مار يعقوب "الإيمان بدون أعمال ميت" (يعقوب 26:2) كي يكون أمام الله بضمير مرتاح وصالح، لذا عليه أن ينصت إلى الآخرين وإن كانوا أعداء أو مبغوضين أو حاقدين، ولا يرسم لنفسه خطة ليست إلا كما يفكر.
   فالبابا فرنسيس يقول في هذا الصدد: لا تخافوا من الحياة ولا تقفوا مكتوفي الأيدي ولكن سيروا قُدُماً. نعم ربما سترتكبون أخطاء وهذا شيء مؤكَّد ولكن الخطأ الأسوأ هو أن نقف مكتوفي الأيدي. ولا تظهر حقيقة الكلام والصورة والعمل والرسالة جاهلين أن الله يقود البشر وليس الإنسان الذي نصّب نفسه قائداً دينياً أو مدنياً وكأن كل شيء مباح له، وفي كل شيء له باع طويل في المعرفة والصورة وينسى حقيقة وجوده كخادم إذ قال الرب يسوع "أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لو 27:22).
     السينودس القادم

   وفي السينودس القادم 2023 "من أجل كنيسة سينودسية: شركة، مشاركة ورسالة" يدعو قداسة البابا فرنسيس إلى استشارة شعب الله والأشخاص الذين يتعرضون لخطر الاستبعاد، فالجميع مدعوون على وجه التحديد للمشاركة ولا ينبغي استبعاد أي شخص بغضّ النظر عن انتمائه الديني، لأن المشاركة هي الطريق ولديهم وجهات نظر مختلفة عنا، لأن الحوار يتضمن الالتقاء من خلال الآراء المختلفة (البند 5، 2، 1، 2، 2) لذا فنحن مدعوون إلى التفكير حول موقف الكنيسة في العالم كي نلملم الأزمات وجروحات شعبنا، وعلينا أن نتحمل المسؤولية لنقف في وجه مَن يعمل من أجل المكاسب الخسيسة، وللأسف هذا ما يحصل اليوم فكلٌّ يفتش عن مصالحه أين يزرعها وأنانياته أين يبذرها لكي يربح أناساً يصفقون له وليس شيئاً آخر وينسى أن الموت سيدعوه يوماً فيبقى في مجاهل النسيان والعقاب وإن كان مدفوناً كما الغني مع لعازر (لوقا 19:16-31). فليس المطلوب أن نسلّم أو نستسلم لظروف الحياة لأن الإنسان هو الذي يخلق الظروف للخير العام ولمصلحة السماء وليس لمصلحتنا ولنا.
   فالبابا فرنسيس يقول في هذا الصدد: إننا عرضة لهجمات كثيرة ومن أطراف وتيارات فكرية حاملين اسم معبد ومهددين رسالتها، فهذا يعني تهديداً للإيمان وضرب أركان هذا الإيمان والعقيدة والتعليم فتجنح سفينتنا إلى صخور البدع دون أن ندرك ذلك فقد ضاعت حتى ريحة الغنم ونسينا الذهاب إلى الشواطئ فهو يدعو بذلك علينا أن يكون البشر رسلاً وليسوا موظفين أو مدراء.
   والبابا الراحل بندكتس السادس عشر قال: إن الإيمان ليس جزءاً منفصلاً عن هوية الشخص بل يتخلله بالكامل. وحذّر البابا قائلاً: أنه من غير المعقول أن يقوم المؤمنون بقمع جزء من أنفسهم – إيمانهم – كي يكونوا مواطنين فاعلين. فليس من الضروري أبداً رفض الله، فحياة الحرية الدينية هي اليوم ضرورة ليس فقط بالنسبة للمؤمنين وإنما أيضاً لغير المؤمنين وللمجتمع ككل. فهناك جماعات متطرفة حرّفت المعنى الحقيقي الديني وشوّهت واستغلّت الخلافات بين الطوائف المختلفة مما جعلها عنصراً خطيراً للمجابهة والعنف بدلاً من التوجه نحو الحوار المفتوح حول ما يعنيه أن نؤمن بالله وباتّباع شريعته (كتاب ملح الأرض).

     الخاتمة

   فلنطلب من الرب أن يُلهم كبار الزمن والشعب والمؤمنين بما فيه خير المعبد والإنسان والمجتمع والعالم وليس إلى المصلحة الشخصية والحفاظ على صحة التعليم والابتعاد عن الخطأ والزلل... آمين.

26
القيامة ..اعلان لحقيقة الحياة

بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
    تهنئة العيد
   أهنئكم بعيدَي الفصح والقيامة، وليرحم الربُّ الذين انتقلوا إلى مدينة الأحياء، وبالخصوص ضحايا تركيا وسوريا بسبب الزلزال، وليمنح جرحانا ومرضانا شفاءً... وأقول مع الجميع "المسيح قام ... حقاً قام".
   يقولُ مار بولس في رسالتِهِ إلى أهل كورنتس "إنْ لمْ تكنْ قيامةُ أمواتٍ فلا يكونُ المسيحُ قدْ قامَ! وإنْ لمْ يكنِ المسيحُ قدْ قامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وباطِلٌ أيضاً إيمانُكُمْ، ونوجَدُ نحنُ أيضاً شُهودَ زُورٍ للهِ، لأننا شَهِدْنا مِنْ جِهَةِ اللهِ أنهُ أقامَ المسيحَ وَهُوَ لمْ يُقِمْهُ، إِنْ كانَ الموتى لا يقومونَ. لأنه إنْ كانَ الموتى لا يقومونَ، فلا يكونُ المسيحُ قدْ قامَ. وإنْ لمْ يكُنِ المسيحُ قدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أنتمْ بَعْدُ في خطاياكُمْ!" (كور13:15-17). فالقيامةُ علَّمَتْني أنْ أقولَ الحقيقة. فاليوم قام الحقيقةُ من دياجيرِ الظلام ليُعلِنَ للناسِ حبَّ اللهِ الآب للبشريةِ جمعاء.
فمنذ أنْ عرفتُ عِلْمَ الحياةِ وما يَعنيه في دنيا الزمن، وعرَّفَتْني الدنيا بمسيرتِها، لم أجدُ في منطقتِنا العربيةِ والشرقِ أوسطية فترةَ هدوءٍ وراحةَ بال. فالأهواءُ السياسيةُ كانت ولا زالت تقذِفُنا جميعاً من شاطئٍ إلى آخر، ولم نكن ندركُ - وحتى اليوم - شيئاً من هذه الأهدافِ والأهواءِ وما غايتها. بمعنى آخر أنَّ منطقَتَنا ووطنَنَا ومسيرةَ إيمانِنا مرّت ولا زالت تمرُّ في مراحِلَ صعبةٍ، وفي أغلبِ الأحيان يُصيبنا الإحباطُ وتعلو أصواتُ الهجرةِ، ولولا إيمانُنا بالمسيحِ الحيّ، كلمةُ الله الذي أنارَ الجالسين في الظلمة، كما يقول يوحنا الإنجيلي،ولولا شهادتُنا لتربتِنا لَمَا بَقِيَ مسيحي واحد إلا وهاجر من هذه الأرضِ الطيبةِ. فما نسمَعُهُ ليس إلا خطاباً مميتاً، طائفيةً وعشائريةً، حروباً مرعبةً ومخيفةً جَعَلَتْنا ضحايا وعبيداً لمصالِحَ سياسية وشخصية، ولمحاصصةٍ حزبية، للقاصي والداني، للغريبِ والقريب، للفسادِ والسرقة، وتفاقمت حتى أصبحنا تائهين في مجالِ الوجودِ والبقاءِ،  فمع المسيح الذي قام، لا يمكن أنْ نبقى صامتين وساكتين. فقد دحرجَ لنا الحجرَ لنقومَ معه، ونُعلِنَ أننا اليومَ نقفُ على مفترقِ طريقٍ مخيفٍ ملؤُهُ الضياع والخوف وأمام مواقف صعبةٍ ومؤلمةٍ، فالخطرُ يداهمنا من زوايا شتّى ومن أماكنَ متعدِّدة، وأيامُنا تعلن - شئنا أم أبينا – أنَّ العولمةَ غَزَتْ أفكارَنا، وستقودُنا إلى حيث لا نشاءْ، ولم تترك مجالاً لإعلانِ حقيقةِ وجودِنا، فبقينا خائفين، مُعلنين فَشَلَنا في سكوتِنا. وتكون الخاتمةُ مؤلمةً حقاً أمامَ أنفسِنا وأولادِنا وأجيالِنا. وخوفُنا أنْ نفقدَ روابطَ العائلة كما نرى في عالمِ اليوم 
مع المسيح الذي قام، لا يمكن أنْ نبقى صامتين وساكتين. فقد دحرجَ لنا الحجرَ لنقومَ معه، ونُعلِنَ أننا اليومَ نقفُ على مفترقِ طريقٍ مخيفٍ ملؤُهُ الضياع والخوف وأمام مواقف صعبةٍ ومؤلمةٍ، فالخطرُ يداهمنا من زوايا شتّى ومن أماكنَ متعدِّدة، وأيامُنا تعلن - شئنا أم أبينا – أنَّ العولمةَ غَزَتْ أفكارَنا، وستقودُنا إلى حيث لا نشاءْ، ولم تترك مجالاً لإعلانِ حقيقةِ وجودِنا، فبقينا خائفين، مُعلنين فَشَلَنا في سكوتِنا. وتكون الخاتمةُ مؤلمةً حقاً أمامَ أنفسِنا وأولادِنا وأجيالِنا. وخوفُنا أنْ نفقدَ روابطَ العائلة كما نرى في عالمِ اليوم.
وأيضاً، مَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيينَ كانوا هم الأوائل في هذه البلدانِ الشرقِ أوسطية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ هذه البلاد كانت مهدَ المسيحية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيةَ مكوِّنٌ أصيلٌ وقد سَبَقَتِ الشعوبَ والقبائِلَ في وجودِها وفي مسيرةِ حياتها؟ ولكن سَئِمْنا من هذا الكلام لكثرةِ تكرارِهِ، فالواقعُ والدستورُ وما يحصلُ يقولون غير ذلك، والحقيقة لا تكمن بالأقوالِ بل بالأفعال، إذ يقولُ مار يعقوب الرسول:"الإيمانُ بغيرِ الأعمالِ يكون في حدِّ ذاتِهِ ميتاً" (يعقوب14:2). نعم، الواقع ليس كذلك مطلقاً، وهذا يعني أنّ الحجرَ لا زال يعملُ في نفوسِنا، ويغلقُ أمامَ عيونِنا حقيقةَ زمانِنا في القيامةِ الأمينة ولحدّ اليوم، ومسيرةُ الحياة تُعلن وتقولُ لنا ذلك. فالقيامة جعلَتْنا أنْ نكونَ شهوداً على ذلك، وعلَّمَتْنا أن نقولَ الحقيقة. فاليوم الكثيرُ من المسيحيين لا يستطيعون التعبيرَ بحريةٍ عن إيمانِهِم وعَيْشِهِم في مجتمعاتِهِم وهم يكافحون من أجلِ البقاءِ والوجودِ والعيشِ بسلامٍ في أراضِيهم والسبب يرجع إلى إيماننا بقيامة الرب حيث تعلمنا أننا هنا لسنا للبكاء رغم الأيام الظلامية، كما نحن لسنا خرافاً بل نحن ضمير الدنيا وضمير الشرق. فمِحنَتُنا كبيرةُ الحجمِ والمأساة في هجرتِنا وحياتِنا، ومصير أولادنا وأجيالنا، فقد أجبرونا بشتّى الأساليبِ على فقدانِ الثقةِ بأرضِنا ووطنِنا. وما نعانيهِ اليوم في شرقِنا المعذَّبِ لم يكن بالحسبانِ وبالصورةِ التي نحن نحياها، فهي صورةٌ بائسةٌ لمستقبلٍ قاتمٍ ولأيامٍ مِلؤُها الغيومُ والعواصفُ، وهذا ما يجعلنا أنْ نقلقَ على مستقبَلِنا ومسيرةِ إيماننا، وكفانا أنْ نقول، وما نفعله هو عكسُ ذلك تماماً لأننا لا زلنا عرضةً للإضطهاداتِ والقتلِ والتهجيرِ شئنا أمْ أبينا، وانسلاخُ مسيحيِّينا عن أرضِ آبائِهِم وأجدادِهِم ما هو إلا كونهم ضحايا لقادةٍ ولكبار الدنيا ، ولمخططاتٍ مشبوهةٍ أرادها لنا كبارُ الدنيا والزمن وأصحابُ المعالي والقصور ليشوّهوا سلامَ مسيرَتِنا وصفاءَ إيمانِنا في حبِّنا لأرضِنا وإنجيلِنا وكنيستِنا، لأنَّ المسيحي قوَّتُه في أرضِهِ وفي مسيحِهِ الحيّ وإنجيلِهِ.
فبابا روما، البابا فرنسيس، يقول:"هناك خطرٌ أنْ يُلغَى الحضورُ المسيحي من تلك الأرضِ التي منها إنتشرَ في العالمِ نورُ الإنجيل. إنها الحقيقةُ في الصميم، فما يحصل يقودنا إلى أنْ نسألَ: هل هو تهميشٌ مُتَعَمَّدٌ لإنسانِنا المسيحي في العراق؟ هل هو تدميرٌ لتاريخِنا الحضاري الموغَل في القِدَم والسنينِ والأزمنة؟ هل هو محوٌ لديانةٍ من أقدمِ الدياناتِ التي نادت بالتوحيد؟ هل نحن في زمنٍ يُخْبِئ ُتحت عباءَتِهِ طائفيَّتَه وفسادَهُ، فيقيمُ صراعاتٍ دمويةٍ وعشائريةٍ وحتى إيمانيةٍ لتحقيقِ مآربهِ وإعلانِها؟... إنها ظُلُماتُ العنفِ!.
نعم، وإنْ كان قد تضاءلَ عَدَدُنا فهذا لا يعني ضياعنا ورحيلنا، بل على الإسلامِ أولاً حمايةَ البقيةِ الباقيةِ من أجلِ ضمانِ بقائِهِم وحقوقِهِم. فالعديد من الذين في الغربة يجدونَ ضالَّتَهم حيث كل إنسانٍ له قيمته وحقوقه، له كرامته وإنسانيته في حريةِ إيمانِهِ وممارستِهِ لعقيدتِهِ دون خوفٍ وعلانيةٍ، فلا يحكمه إلا قانون، وقانونُ الوطن والدولة فقط، الذي يحميه من جميعِ التعرضاتِ والمعاكساتِ، بل أكثر من ذلك "إنه خُلق على مثالِ خالِقِهِ" (تكوين27:1)، ويقول الكتابُ:"إنَّ اللهَ رأى كلَّ شيءٍ حَسَنٌ" (تكوين31:1). فنحن لسنا بحاجةٍ إلى عودةِ داعشٍ بِنسخٍ أخرى أو بصراعٍ طائفي، فقد أكَلَتْنا نارُ الحروبِ والصراعات، وأخاف أنْ يؤولَ البلادُ إلى الغرباءِ عاجلاً أم آجلاً وهذا ما نراه في زمننا بسبب كبريائنا وصراعاتنا بيننا قبل غيرنا، وعدم إتفاقنا ووحدتنا، وهنا لا فائدة من عيدِنا ولا من القيامة التي لم تعمل في نفوسِنا، لأنَّ إيمانَنا قد أصبح مصلحياً وكبريائياً كما هو الحال مع الفرّيسيين ورؤساء اليهود. ونجدُ أنفسَنا أننا إله الدنيا، فلا نعبد إلا أفكارَ إنسانِنا المتسلّط على رِقابِنا، فنختارُ مَنْ نشاء كي نُجلِسَهم على كراسي الحُكم والزمن، وكما قال الكاردينال بشارة الراعي في كلمته خلال برنامج "التنشئة المسيحية": هم عبيدٌ لغيرِنا ولكنهم أسيادٌ علينا. وهنا يحضرُ السؤال: أينَ شوكتُكَ يا موت، وأينَ غَلَبَتُكِ يا هاوية؟ والحقيقة أن المسيح قام، فأين قيامتُنا إنْ كنا فعلاً نؤمن أنَّ الربَّ قد قام ونحن شهودٌ على ذلك. فمار بولس يقول في رسالته الى اهل أفسس 4:5" رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، " وهذه حقيقة يجب أن لا نخفيها بل أن نؤمن بها ونحياها ونؤمن بها ولا شيء اخر .
نعم، كفانا وعوداً، فنحن بحاجةٍ إلى تثبيتِ وجودِنا. أعملوا، ولا تقولوا بعدُ نحن غرباء عن وطنِنا وإيمانِنا، ولا تسيِّرونَنا حسب هواكم ورغائبكم ودنياكم وربما حسب أيمانكم. ولا تقولوا لنا "لا ترحلوا"، بل قولوا "هذا وطنُكُم. سنكتبُ دستورَنا معاً. أَعْلِنُوا فيه وجودَنا ووجودَكُم". واعملوا معنا كي نحميَ تراثَ آبائِنا وأجدادِنا. لا تجعلوا مسيحيَّتَنا تمزِّقها الحروبُ والمصالح بسببكم يا كبار دنيانا وزمننا ،والتي لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل، فَنَتِيْهُ في المجهولِ مثل نزوحِنا في زمنِ داعشِ الإرهاب. ولم نعد نحتَمِلَ ما حصلَ وما حلَّ بنا، وهذه حقيقتُنا.
فالزمن هو الحقيقة أنَّ المسيحَ حيٌّ، ولأن المسيح قد قام فلا تخافوا أنْ تقولوا الحقَّ فالمسيح الحي يقول:"قولوا الحقّ، والحقُّ يحرركم" (يوحنا32:8)، فالزمن هو زمن الشهادة والحقيقة وليس زمن التزوير والسرقات وظلم الأبرياء وحب المصالح وعبادة الذات والأنا كما نشاء وكما يطيب لنا ، وإذا ما قلنا الحق كما قال المسيح الحي علينا توحيد كلمتنا وهدف غايتنا ومع هذا سنبقى نبني الجسور بدل الحواجز، من أجل إتحاد أمين بيننا ثمّ مع غيرنا .
فقيامة الرب تجديد لإيماننا ولمسيحيتنا وليدرك كبار دنيانا وزمننا أن الإنسان أمانة وليس عبدا لذا علينا أن  نعملَ  من أجل خلاصه لذا علينا ان نختار طريق المحبة والخدمة والبشارة والسلام ليس حرباً أو حقداً أو كراهيةً .أو مصلحة أو أنانية .
وختاماً أقول: متى نقوم أو متى نجعل السماءَ تُقيمَنا من قبرِ الظلام والأنانية والكبرياء. فلنفكّر في رسالتِنا وإخلاصِنا لدعوتِنا ورسالتِنا، وبإمكانِنا بعد ذلك أنْ نقومَ، أولاً في أنفسِنا، وأن نعلن ذلك لأننا شهودٌ لقيامتِهِ... إنها قيامةُ الحقيقة.فمبروك لكم عيد القيامة. قوموا وأعلنوا حقيقةَ قيامتكم وحياتِكم ومسيرةَ إيمانكم وحبَّكم للوطن وللجميع... وكل عام وأنتم بخير...لذا يطيب لنا، لا بل واجبٌ علينا أنْ نقول "المسيح قام ... حقاً قام".


27
الحلقة الثالثة والاخيرة... إنه زمن الصدقة
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   يقول الرب يسوع "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدّام الناس... فمتى صنعتَ صدقة فلا تصوّت قدّامك بالبوق... بل لا تعرّف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية" (متى 1:6). نعم، إن الصوم والصلاة والصدقة، المعروفة بهذه الكلمـــــــات الثـــــــلاث
المتكاملة والتي تبدأ بحرف (الصاد) تمثّل ركائز الاتّزان الإنساني والروحي من خلال العلاقات الثلاثة المتكاملة في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان من خلال الصدقة، وعلاقة الله بالإنسان من خلال الصلاة، وعلاقة الإنسان مع ذاته من خلال الصوم.
   فإذا ما ضاعت البوصلة الحقيقية وأخفق الإنسان بإحدى هذه العلاقات ضاع إتّزانه بل مشروع قداسته وسيرته، فالقديس أوغسطينوس عبّر عن الترابط بين الصدقة والصلاة والصوم قائلاً "إذا تريد أن تصعد صلاتك إلى السماء فامنحها جناحين هما الصوم والصدقة".
   فالصدقة المطلوبة ليست عطاءً سطحياً لبعض الماديات والأموال إنما هي عمل "رحمة" تجاه كل محتاج وأخ في الإنسانية، وهذا يجد أساسه في التعاطي الرحوم من قِبَل الرب مع كل مَن يلتجئ إليه. أما صورة النفخ بالبوق فليست إلا تفخيماً لسلوك لا يبحث عن العلاقة الحميمية مع الله إنما على تقدير من الناس. فالعلاقة في الصدقة مع الله هي نقطة الانطلاق لعمل الخير كما هي نقطة الوصول، بمعنى أن مَن يجب أن يرى هذا العمل هو الله وليس الإنسان، فسفر طوبيا يقول "تصدّق من مالك ولا تحوّل وجهك عن الفقير وحينئذٍ فوجه الرب لا يحوَّل عنك. فالصدقة تنجّي من الموت وتمحو الخطايا وتؤهّل الإنسان لنوال الرحمة والحياة الأبدية" (طوبيا8:12-9) كما قال المزمور "مَن يتصدّق يقرض الله ويكسب ثواباً عظيماً وكنزاً في السماء" (مز2:40) وأيضاً يقول سفر طوبيا "الصدقة تفتدي الخطايا وتهدئ غضب الله وتخفف الدينونة" (طوبيا7:4 و11-12). ففي الصوم والصلاة والصدقة يتجلّى انسحابي من الدنيا في الصوم وانتمائي إلى الله بالصلاة ومحبتي لقريبي بالصدقة، ففي ذلك يقول مار بولس "فإنْ حيينا أو متنا فللرب نحن" (رو7:14-8).
   أخيراً أقول: إن زمن الصوم هو زمن الصدقة بامتياز، أي أنه في العلاقة مع الآخر الذي يعيش معي في بلدي أو في بلدان أخرى، وهنا تنكشف صدق العلاقة وزيفها. فادّعاء الصلاة والصوم شيء وممارسة أعمال التقوى والمحبة الأمينة شيء آخر. فمحبة الله تكنّ عن أعمال ظاهرة وملموسة نحو قريبنا، نحو أخينا الآخر الفقير. فالمسيح الرب لم يضع لا الصلاة أولاً ولا الصوم ثانياً بل جعل الصدقة أولاً لأنها تفتش عن الآخر الذي يربط الإنسان بأخيه، ومار يوحنا يقول في رسالته الأولى "مَن كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاؤه دون أخيه فكيف تقيم فيه محبة الله" (1يو17:3).
     الخاتمة
   إن غنى الرب هو في أنه أفرغ ذاته متّخذاً صورتنا. فالملء يكون في العطاء حتى إعطاء الذات في الخروج من تأليهها للاعتراف بالآخر الذي يُغنيني بقدر ما أترك لأنطلق نحوه. لذا ما نحتاجه اليوم ليس فقط الاتّكال على قِوانا ومهاراتنا بل نلتجئ إلى الله بالكفاية وكما ينبغي مستمدّين منه النِعَم الفعّألة للقيام بمهام الحياة والدعة. فزمن الصوم هو زمن نعمة تتعمّق في معرفة وعيش هويتنا المسيحية وقيمتها وهذا ما نراه في مسيرة حياتنا. فخلال الصوم تعيش الكنيسة بعض الالتزامات في مسيرتها الداخلية والروحية ألا وهي الصلاة والصوم والصدقة وفي ذلك نتذوّق وليمة المصالحة مع العريس السماوي وبهذا نخترق كابوس الموت بشعلة الرجاء منشدين سيد الرجاء حيث لا رجاء.
   لذلك أقول: إن عمل بِرّ سواء كان صدقة أو صلاة أو صوماً لا يُمارَس بروح المحبة والتواضع يُحسب نفاقاً وباطلاً، فالذي يعمل الخير طلباً للمديح ونيل الثناء والجزاء والكرامة من الإنسان فذلك عمل باطل وسبيل للخطيئة. لذلك عليك أيها المؤمن الصادق والمسيحي الأمين والمعروف لا تجعل شمالك تعلم ما تفعل يمينك ولا أن يرى الناس أو يعلموا، ولا تخف إنْ لم يقدّموا لك الشكر والتصفيق، ولا تحزن أبداً إن لم يرفعوك عالياً على الأكفّ، ولا تغضب من ذلك إن نكروا ذلك، ومع هذا فاصنع بِرّكَ في الله ولأجل الله وحباً بالله "وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك" (متى4:6).
   نعم، مع النهاية أقول: كفاناً جميعاً أموراً سطحية، فارغة، ظاهرية وعقيمة، فهل تعلم أن تقوى المظاهر يمقتها ربّ السماء؟ نعم، زمننا هو زمن المتبجّحين والمتكبّرين وأصحاب المصالح، إنهم فريسيين وبكل امتياز، فالذين يصومون جسدياً يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم ومثل هذا الصوم عبثي ولا تقبله السماء وربّها، وما صومهم إلا جوع وتوفير فقط وينسون أن التقوى الحقيقية هي الصوم عن الخطيئة ولا أكثر.

28
الحلقة الثانية ... إنه زمن الصلاة
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   يسأل الكثيرون: لماذا نصلي؟ متى نصلي؟ ماذا نصلي؟ من أجل مَن نصلي؟ وهل نحتاج اليوم إلى صلاة؟ الصلاة الفردية مفيدة أم الجماعية أم الطقسية؟ هل من الضرورة الصلاة؟ وهل فقط في زمن الصوم أصلي؟... وأسئلة أخرى وخاصة نحن في هذا عالم التحديات العديدة والشكوك المختلفة والأهواء الأنانية وعبادة الإنسان المخلوق وانتشار الظلم والفساد والكذب. أمام هذه التحديات وتحديات العولمة المزيفة التي غايتها جعل الإنسان يترك جانباً الإله الحقيقي ليجعل من دنياه سماءً وسعادةً وغاية، لذلك أقول في هذا المضمار:
   إن الصلاة ما هي إلا نور لمعرفة النفس معرفة حقيقية فهي بذلك وسيطة بين الله والإنسان كي ترتفع عن مراكز الدنيا ونعلو نحو الإله الحقيقي. فالرب لا يلزمنا أن نصلي ولكن الدافع لذلك هو استمرار علاقاتنا في أمانة معه. فهي ليست منفصلة عن الحياة إذ لا يحسن أن نكرم الله بشفتينا في حين أن قلبنا بعيد جداً عنه، فهي ليست فقط تمتمة شفاه ولكن الدخول في التأمل ثم الاختلاء وهذه هي مسيرة الإنسان كما تبتغيه الكنيسة.
   فالرب يقول "متى صلّيتَ لا تكن كالمرائين فإنهم يحبون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس أنهم صائمون. ولكن أنتَ متى صلّيتَ فادخل إلى مخدعكَ واغلق بابَ قلبكَ وصلِّ إلى أبيكَ الذي في الخفاء" (متى5:6-14). في هذه الحالة تكون صلاتك لقاء مع الله والحوار معه من أجل الإنسان لأنها ارتفاع القلب إلى الله حسب عمل المسيح الرب الذي كان يصعد إلى الجبل يصلّي ويقضي الليل كله في الصلاة (لو12:6) بهذه الروح كان يصلي لأبيه، فالرب لم يعطنا صلاة العبيد ولكن صلاة الأبناء الأحباء إذ قال وأعلمنا قبل حدوثه "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة" (متى41:26). لذلك فهو يدعونا للصلاة لا "خوفاً" أو "واجباً" أو "إرضاءً لأنفسنا" أو "إرضاءً للناس الذين ربما نعبدهم"، بل هي صلاة مليئة بثقة الأبناء لأبيهم إذ قال "وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشدّ لجاجة" (لو44:22) وهذا ليس مظهراً خارجياً كما نحن نفتش بل صلاة نابعة من إيمان في قلب الإنسان للعلاقة الموجودة بينه وبين الاتحاد بالله فهي لا تُحصَر في ساعات وأوقات معينة بل هي رسالة إيمانية مستمرة وخاصة في هذا زمن الصوم، إذ لا قيمة للصوم بدون الصلاة، ولا يجوز أن تكون نظرتنا على ذواتنا أو على مبتغى الآخرين لكي نظهر لهم. فمَن يدّعي الصلاة وحراسة الشريعة ولا يكون حافز لفحص ضمير مستمر يصبح قاتلاً. فكما قتل الكتبة يوحنا، صوت الحق الذي كان يزعج استقرارهم، كذلك سيقتلون صوت المسيح النابع والناشئ في قلب الإنسان.
لذا عليّ أن أختار بين أن أكون قاتلاً أو ضحية، فلا معنى للصلاة إذا كنتَ لا تحب جارك، وإذا كانت كل أعمالك وصلاتك تصبّ في هدف إرضائكَ الشخصي وربما الأناني، أو إرضاء الآخرين كباراً كانو أو صغاراً. فما تعمله أنتَ إلا أنكَ تستعمل الوسائل التقوية من أجل الرياء وهذا يمقته الرب وإنْ كان الناس يمجّدوه أو يمدحوه أو يقولون عنه ما لذّ له وما طاب بينما الرب علّمنا أن نصلّي بكل تواضع فقد قال "صلّوا أنتم هكذا: أبنا الذي في السماوات ليتقدس اسمكَ ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا خبزنا كفافنا اليوم واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجّنا من الشر" (متى9:6-13) فهذه الصلاة ليست إلا ارتباطاً بالله الذي خلقنا على صورته ومثاله، فهي ارتباط جماعي ومع بعضنا، ففي هذه الصلاة قسمان: الأول الطلبات الثلاثة الأولى التي تبغي تحقيق ملكوت الله، أما الطلبات الأربعة الأخيرة يسأل التلميذ ما يحتاج إليه جسدياً وروحياً ليُسهم في تحقيق ذلك الملكوت، وهذا ما يؤكد أن صلاتنا ليست منعزلة عن صلوات الآخرين وما ذلك إلا امتداد لسرّ الافخارستيا الذي يجمعنا بالله وبالجماعة وهي تأخذ منه قوتها، ففي ذلك توجّه أفكارنا إلى الله لتقودنا إلى الينبوع السماوي ومنها إلى الإنسان وفي اندفاع إلى الله "لأن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا توصَف" (رومية 26:8) لأن هدفنا في هذه الحياة أن نكون قديسين، وكلنا مدعوّين لهذه الدعوة. فالقداسة ليست محصورة بشخص بل باب مفتوح لكل الناس.
فالمسيح في صلاته وفي مسيرة حياته لم يحاول الهروب من ظلم البشر ومن قساوة قلوبهم وعداواتهم ومصالحهم، ولم يهرب أبداً من الموت، ولم يضع أبداً اللوم على الله كما نفعل نحن إنسان اليوم وإنْ كنّا في زمن الصوم، فالمسيح الرب علّمنا وأعطانا درساً بليغاً بأنه مات قبلنا ليعلّمنا أن الموت هو انتقال إلى الحياة الأخرى، وفي هذا علّمنا أن تكون ثقتنا بالله وبالإيمان به وهي وحدها خلاصنا وقيامتنا "فمَن آمن به وإنْ مات فسيحيا إلى الأبد" (يو25:11) ويملك معه إلى الأبد. فالدرس البليغ هو تسليم الذات للرب عبر صلاة تأملية إلى الآب وحده سيد الحياة.
نعم، إن إنسان اليوم يفتش عن مكافئة الآخرين له أقلّه بقولهم "انظروا إنه صائم" أليس ذلك يدعونا إلى التفكير بأن الله يعطينا جزاؤنا وليس الإنسان، فلا يمكن أن ندّعي اليوم بأننا نفهم كل شيء وما علّمه المسيح أكثر من رسالة الإنجيل ورسالة كنيسة المسيح والتي دافعت بدمائها عن تعاليم المسيح ولا زالت.
وختاماً، إن زمن الصوم هو زمن الصلاة وهو فرصة نعمة لنتعمّق في هويتنا المسيحية ورسالتنا الإيمانية والتي تدعونا لا إلى الصلاة التي أرتضي بها بل إلى صلاة فيها أدخل مجال الله في التأمل والاختلاء وإنْ كانت من الصعوبات اليوم وبين جميع شرائح المجتمع معبدياً ودنيوياً... ليس إلا!!.

29
الحلقة الأولى ... إنه زمن الصوم
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   نعيش اليوم في عالم يبحث عن السعادة ويسعى للحصول عليها من ظواهرها (أكل، مال، شهرة، شهوة، منزلة، تحقيق الذات على حساب الحقيقة، المصلحة الأنانية...إلخ)، ونتفاجأ دوماً بأنّ كل ذلك ينضب قبل أن نرتوي. وفي داخلنا ما يفتش عن فرح دائم لا نعرف أين نجده، وفي كثير من الأحيان نشعر أن الظلام يلفّنا وسط
عواصف التجارب والمعاناة وكأننا متروكون. كذلك عالمنا عالم يسيطر عليه شبح الموت، شبح الوباء، شبح الحروب، شبح الزلازل والقتل والدمار وقتل الإنسان البرئ جسدياً ونفسياً، ولسان الإنسان ينطق بالكذب بدل الحقيقة ليتّهم الآخرين الأبرياء وما ذلك إلا عالم مشحون بالموت، وفيه نتساءل: أين دور الصوم في هذا الزمن؟ وأين دور الصلاة في حياتنا؟ وهل من الضروري الصيام أو إعطاء الصدقة وأمور أخرى؟ وأمام هذه الأسئلة المختلفة نجد أنفسنا في أزمة الحقيقة والإيمان والبشارة حيث يكشف لنا الرب يسوع أن فعلاً عالمنا عالم ظالم نعيش فيه حيث يُقتل البريء، ويُبعَد المتألم والخاطئ والضعيف والمهمش، وتُسلب الحياة من معطي الحياة، ويخلَّص السارق والقاتل... فكم هو ظالم عالمنا.
واليوم، نحن في زمن الصوم نسأل الله لنستعدّ لعيدي القيامة والفصح المجيدين، وفي بدء مشوار هذا الصوم نسأل: أين نحن من هذا الزمن؟ وكيف استعدينا وهيأنا أنفسنا؟ في البدء نقول: إن زمن الصوم والصلاة والصدقة ليس زمن مسألة عواطف، فهدف الصوم هي الصلاة، وهدف الصلاة هو الارتقاء إلى الله بمساعدة الفقير بصدقة تكنّ عن الحبّ الإلهي الذي يتجسد في محبة القريب.
من هنا ندرك أن زمن الصوم هو زمن وقوف الإنسان أمام ذاته لفحص الضمير ولا شيء آخر وهذه دعوة للجميع، للكبار والصغار، للرؤساء والمرؤوسين، فهو ليس زمن آيات ومعجزات وخطابات وبيانات بل زمن حياة وحب وعودة إلى الله الآب. فالمعجزة حقيقة هي أن تحيا لا أن تقرأ، أن تحيا كمؤمن لأن معجزته الكبرى هي التوبة إلى الله والعودة إليه. كما أن زمن الصوم ليس فقط ممارسة تقشفية فردية إنما هو احتفال طويل تدعو الكنيسة فيه الناس كي يتركوا الروح يجدد قلوبهم فحيث من تراب خلقتنا تولد الحياة.
والصوم أيضاً ليس فقط حرمان الذات من أشياء كثيرة فمثل هذا الصيام أصبح فارغاً من معناه ولا علاقة له بالله ولا بالآخر. فالإنسان لا يعيش فقط بالخبز بل بكل كلمة تخرج من فم الله. في هذا ندرك أنه زمن انفتاح على معاناة الآخر ومشاركته وخاصة المهمشين كما يقول إشعياء "أليس الصوم الحقيقي هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل اليائسين والمطرودين والمرفوضين بيتك" (اش 7:58). فالرب يسوع يشجب المظاهر الخارجية ويشدد على حياة حقيقية أمام الله وليس أمام الإنسان. إنها علاقة عميقة وداخلية مع الله، وفي هذا لا يجعلني أن أكون عبداً للعالم وملذاته فكلنا مدعوون للاشتراك بتاريخ الخلاص كلٌّ على حسب موهبته رغم التحديات الفكرية والعلمية والثقافية، ففي ذلك يدعونا الصوم وزمانه إلى الانفتاح على معاناة الآخر لنكتشف فرصة النعمة وحقل الحب للرب في إفراغ ذواتنا من فناء الدنيا ونمتلئ في الصلاة، إذ لا قيمة للصوم بدون صلاة. فلا يجوز أن تكون نظرتنا منغلقة على ذواتنا كي نكون في مسيرة الإيمان وكل ما نعمله في هذا الصيام يبقى باطلاً إذا لم يكن الدافع له هو الإيمان. فبالإيمان عبر الصيام أنقل العوائق والجبال التي تمنعني من العيش كي تصبح طريقي سالكة عبر عدم الاكتفاء الذاتي مما يجعل من مسيرتنا وسيلة للانتصار على الجسد والأهواء الرديئة، ففي ذلك نجد أن تصرفات الإنسان تأخذ معناها برباطها مع الحي الله الآب وليس مع الأهواء، والمكافأة التي تأتينا من الناس بسبب البِرّ الذي عملناه إنما هو ردة فعل الآب الطبيعية تجاه ابنه الذي يعرفه جيداً. فالمكافأة ليست تصفيقاً خارجياً ولا مدحاً لأشخاص نحبهم فتلك أنانية مؤدَّبة تغلق علينا طريق السماء، طريق الحقيقة. ولكن لا نخف فمهما ساورنا الشك في مسيرة حياتنا وفي عالم تستعبده المادة والسلطة والشهرة والشهوة ويقينه العلم والبرهان، نعمل دائماً كمدعوين لنعلن إيماننا بالمسيح القائم من الموت.
لذا علينا أن نعرف كيف نختار وكيف نحب، فحياتنا فيها أحداث كثيرة وغالباً ما ترافق هذه الأحداث أفكار تدعونا لاتخاذ مواقف قد تكون مؤثرة في حياتنا وحياة مَن هم بقربنا من الآخر المختلف، فبولس الرسول يقول "إن كنتَ من أجل الطعام تُحزن أخاك فلا تكون سالكاً في المحبة. فلا تُهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله" (رو15:14). فما الفائدة من زمن الصوم وكثرة الصيام ولا نلتفت خلال هذا الزمن إلى الفقير؟ ما الفائدة من زمن الصوم وكثرة الصيام ولا نعمل الخير من أجل نجدة المحتاج فنجعل من ذلك اقتصاداً وتوفيراً وننسى عالم الروح؟ وما الفائدة من زمن الصوم وكثرة الصيام والإنسان مملوء غضباً وحقداً وحسداً وكذباً وعبادة الكبير من أجل مصلحة الحياة والكبرياء ولا يترك مجالاً للغفران والمسامحة وحفظ الذات من أجل جميع الدنيويات؟.
لذا ختاماً يجب أن لا تكون خياراتنا في الأطعمة والمشروبات سبباً للخصام مع إخوتنا لأن المحبة يجب أن تحكم أولاً وآخراً في كل أصوامنا. فالصوم ضروري ولكن ليس فقط الصوم الجسدي بل أيضاً الصوم عن الكراهية والحقد والنميمة والكذب والغيرة، وإلا ما فائدة إفراغ البطون ولا نملأ القلوب بحبّ الآخر المختلف. فالصوم رسالة تقودنا إلى أن نكون قديسين... نعم وآمين، وإلى الحلقة الثانية "إنه زمن الصلاة".

30
الصوم ... علاقة محبة وخدمة
المونسنيور د. بيوس قاشا
   أتمنى في بدء مقالي هذا صياماً مقبولاً للجميع من أجل نيل نعمة الحياة في مسيرة الصلاة كما في الصدقة، واسمحوا لي أن أكتب فأقول:
   إن البشر مهما اختلفت أجناسهم ومشاربهم وأزمنتهم وبلدانهم وعقائدهم يشعرون دائماً بحاجة إلى الله وإلى توثيق العلاقة به من أجل الآخرة الحسنة. والمسيحية تؤمن بأن الله معنا
وبيننا، يقاسمنا الحياة بمرّها وحلوها، فقد تنازل من أجلنا، حيث يقول إشعياء النبي "إن الله سكن بيننا" (إش 10:8). وربما في هذا الزمن يأخذنا العجب والاندهاش من هذه الأعمال وهذا المخطط الخلاصي وما تبنّاه الله من أجل البشر حتى وصل به الأمر أن يمنح فداءً لإنسان اليوم.
   فاليوم، الكثير من البشر يتباهون بالسيطرة والعظمة، بالحسب والنسب، بالصفات والألقاب، ووصل بهم الأمر حتى تأليه البشر وعبادتهم وتقديس مراكزهم، وينسون الحقيقة التي تقول "مَن كان بينكم كبيراً فليكن خادماً. وليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والرئيس كالخادم. فأنا بينكم مثل الذي يخدم" (لو26:22-27) وهذا يعني أن دعوتنا هي الخدمة، أن نكون خداماً وليس أمراء المناصب، وهذا يكنّ عن قوة الحب الأقوى من أي حبّ آخر، وبهذا نميّز بين حبّ الله وحبّ البشر وذلك ضروري لتمييز هذا الحب، فيوحنا يقول في رسالته "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، فإنْ أحبّ أحدٌ العالم فليست فيه محبة الآب" (1يو15:1). ومن ذلك ندرك أننا لا زلنا في رحلة إنسانية إذ الحياة تدعونا للعمل من أجل حبّ الآخر وخدمته، ولكن كل ذلك بنقاء القلوب وطهارة الأنفس من أجل أن نعاين "وجه الله" (متى8:5).
   فالخطيئة والكبرياء والأنانية والمحسوبية تحجبْنَ رؤية السماء، لذلك علينا التأمل بقول الرب يسوع لتلميذَي عمّاوس "ما أغباكما وأبطأكما عن الإيمان بكل ما قاله الأنبياء" (لو25:24). إنه توبيخ مملوء محبة وهذا أصل التوبيخ والعمى في البداية، فقلب الإنسان الأعمى والبطيء في الإيمان لا يرى الأشياء السماوية على حقيقتها بل يراها بعيونه المائتة وليس حقيقة إذ تظهر له الأمور السماوية غيمة عابرة بينما الحياة الحقة تدعونا إلى أن نكون قادرين على التأمل. لذلك علينا الدخول إلى داخل أنفسنا وخاصة في هذا زمن الصيام المقدس لإجراء مراجعة لمسيرتنا ونفسح المجال لله وإلى ما يحتاج إليه وهو تحرير القلب من كل خداع وكبرياء ومراءاة وعمى العيون والعمل من أجل أن نرى طريق الخدمة والمحبة بكل تواضع فذلك طريق السماء، طريق الله، طريق حبّ الآخر، وليس طريق الأنا الذي أريده لمركزي وإدارتي ووجودي من أجل التباهي، فالفخر لا يكون إلا بالخدمة والحب وليس بأمور دنيوية زائلة.
   نعم، فالمسيح الرب لا يدعونا فقط عندما نحتاج إليه بل نجده في كل مساحة من الوقت بيننا من أجل همومنا اليومية، والدعوة لنا هي أن نتوجه نحو اللقاء مع الله وخاصة في هذا زمن الصيام المقدس، بل في كل زمن، وما ذلك إلا المعنى الحقيقي لصيامنا، فمحبة الله ما هي إلا مساحة محبة المصلوب وليس عبر الكلمات الرنّانة والخطابات الباهرة والحديث الأنيق إذ يقول مار يعقوب في رسالته "علينا أن نقترب من الله فيقترب إليكم" (يعقوب8:4) وعبر ذلك ندرك وجه يسوع الحقيقي في كل إنسان وفي ذواتنا، في الفقراء والأغنياء، في الضعفاء والمهمّشين، في المتألمين "أمَا اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان" (يعقوب5:2) وإدراكنا هذا العمل لا نجده إلا بقدر خدمتنا ومحبتنا وتواضعنا من أجل الآخر ومن أجل محبته وليس فقط "من أجل الذين يحبوننا" إذ يقول مار يعقوب "إنْ كنتم تحابون تفعلون خطيئة" (رسالة يعقوب9:2)، وهذا هو الدرس العظيم لمسيرة الحياة الذي فيه نرى وجه الله في المختلف عنّا وفي الآخر، وندخل في علاقة حميمة مع الله من أجل هؤلاء البشر لنكون لهم جميعاً نوراً مضيئاً، والطقس السرياني يقول "بنورك نعاين النور" وهذا ما يجعلنا أن نوجّه كل إمكانياتنا إلى النور المضيء "فالله نور وليس فيه ظلمة" (1يو5:1) إذ يقول يوحنا "مَن يحب أخاه يثبت في النور" (1يو10:1) وأيضاً "إنْ سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض" (1يو7:1).
   فالله ينتظر منا أن نكون أمناء في إقامة علاقات الخدمة والمحبة مع الآخر المختلف وليس فقط لمصلحة الدنيا والزمن فهو يقول "إنْ قال أحد إني أُحبّ الله وأبغض أخاه فهو كاذب لأنّ مَن لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أنْ يحب الله الذي لم يبصره" (1يو20:4). والحقيقة تدعونا أن نكون نوراً يشعّ للآخرين ليروا نورنا، وعبر هذا النور نصل إلى طريق الملكوت، إنها حقاً المعرفة الحقيقية لله وليس شيئاً آخر، وهذا يُظهر سرّ حقيقتنا وعلاقتنا بالله إذ يقول البابا بندكتس السادس عشر "علينا أن نعمل على اكتشاف تاريخ علاقة الله تدريجياً من خلال كشف عن وجهه" وبذلك ندخل في علاقة مع الله فإذا دخلنا في هذه العلاقة ندخل جيداً في علاقتنا مع الإنسان بل ومع الإنسان الآخر المختلف، وإلا ماذا ينفع حبّ المنصب والمركز وهو مملوء كبرياءً وأنانيةً عبر ألقابٍ لا تُعَدّ ولا تُحصى كي لا نزدري مَن يتعامل معنا أو نراه أمام عيوننا.
   نعم، إن الله أحبّ الإنسان وأقام معه علاقة محبة وخدمة وجعله نوراً للآخرين كي يُسمِع صوته وهذا ما رأيناه في مسيرة المسيح الحي حيث كان أخاً لكل إنسان، فرّيسياً كان أم عشّاراً، غنياً أم فقيراً، أبرصاً أو قائداً، إنها مسيرة اليوم وهذا ما يدعونا إليه السينودس المقبل أنْ نسير معاً في بشارة إنجيلية فعند ذاك سنرى الأرض قد أصبحت سماءً وتمكنّا من رؤية وجه الله لا كموسى بل عبر المسيح الحي وهذا يدعونا إلى أنْ نقيم هذه العلاقة في الخدمة والمحبة مع كل إنسان مختلف.
   أحبائي: إن زمن الصوم يدعونا إلى إقامة علاقات محبة وأخوّة وخدمة مع الآخر كي نرى وجه الله، فالرب أرسلنا جميعاً لنشهد لرسالته ولمسيرة حياته وقال "اذهبوا إلى خراف آل إسرائيل" (متى24:15) و"علّموهم أنْ يعملوا جميع ما أوصيتكم به" (متى20:28) فوصية واحدة تركت لكم "أنْ تحبوا بعضكم بعضاً" (يو34:13)... إنها أجمل علاقة من أجل الإنسان والآخر في المحبة والخدمة ... وصياماً مباركاً... نعم وآمين.

31
في الذكرى الثانية لزيارة
قداسة البابا فرنسيس إلى العراق
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   تمرّ علينا هذه الأيام الذكرى الثانية لزيارة قداسة البابا فرنسيس للعراق الجريح وتقديس تراب الوطن بوجوده بيننا. وهذه الأيام تذكّرنا كيف أن قداسته ترك أثراً كبيراً في نفوسنا، ولم ننسى بعدُ نشوة فرح الزيارة رغم مرور سنتين ولا زالت لحدّ الساعة
حديث الشارع والمنزل والدائرة كما في البيوت العلمية والمساكن الشعبية وكل مكان فيه أناس طيّبون وخيّرون ومخلصون يعملون من أجل الوطن ولا غير الوطن، ولا زلنا ولا زالوا جميعاً في حقيقة السلام التي حملها قداسته والتي عشناها لمدة أيامٍ ثلاث وقد جاءت هذه الزيارة في زمن يحاول فيه العالم بأسره أن يخرج من أزمة جائحة كورونا والتي تسبّبت في تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية فقد قال "إن المجتمع الذي يحمل سمة الوحدة الوطنية هو مجتمع يعيش أفراده متضامنين فيما بينهم... والتضامن فضيلة تحملنا على القيام بأعمال ملموسة للرعاية والخدمة... لا يكفي إعادة البناء بل يجب أن يتم بشكل جيد حتى يتسنّى للجميع التمتع بحياة كريمة ألا نخرج من الأزمة كما كنا من قبل، أما أن نخرج في حالة أفضل أو أسوأ" (البابا في قصر بغداد الرئاسي، الجمعة 5/3/2021) حتى عادت الدنيا للمضي في العراق إلى مربع الطائفية المقيتة والعبودية المجددة وترك الوطنية المُحبة من أجل غايات قصيرة المدى ومحسوبيات عديدة في محاولة لإعادة العراق إلى العصور المظلمة والصور القاتمة التي ملكت على العراق من خلال محاربة التنوع الديني والفكري وتغيير الفكر وقبول عبودية هذه الأفكار وأشخاصها وأمرها الواقع المرير وفرض شروط غير مقبولة وربما غير معقولة إزاء الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية العبادة والعمل والعيش والكلمة و... و...
   كنتُ أتوقع من حدث زيارة قداسة البابا فرنسيس أن تكون لنا جميعاً خارطة طريق تقودنا إلى الخلاص من الكراهية والطائفية والفساد في كل مجالات الحياة وغرور العظمة المزيفة والتي بدأت مشوارها في مسيرتنا وعبر أفكارنا، كما كنتُ أتمنى أن تكون الهدايا التي قُدّمت من عديد من الشخصيات إلى قداسة البابا فرنسيس ألا تكون فقط هدايا مادية - وجميل هذا الاحترام - ولكن أن تكون هدايا حقوقية للفقراء من الشعب البائس ولمسح دموع الكثيرين الذين ذرفوا دموعاً كثيرة واليوم بدأ الظلم والجوع والهجرة تنتابهم رغم حقوقهم وأصالتهم.
   نعم، أؤمن أنه جاءت زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى تعزيز العمل ضد الفساد واستغلال السلطة وحقيقة المعابد والتمسك بقيم السلام والمحبة والأخوّة والعيش المشترك بين الجميع، ومن أجل وطن يعيش فيه العراقيون مسلمين ومسيحيين وإيزيديين وصابئة وتركمان ومكوِّنات أخرى مختلفة بأمان ووئام تحت جناحَي الدستور المدني والحياة والقانون للتغلب على الخصام والمجابهات بين الكبار والصغار. وهنا اسمحوا لي أن يكون تقديري عالياً لجميع الأئمّة والشيوخ وكبار المعابد - وأوّلهم سماحة السيد علي السيستاني - والتي تسعى إلى تحقيق التعايش السلمي والتصدي للفاسد وتحقيق الاحترام الأكيد ومحاربة الأنانية المصلحية وعبادة الأشخاص و... و... ولكن!.
نعم، تكلم قداسة البابا فرنسيس عن التسامح وبناء البلد ووضع المصالح جانباً لإرساء أسس المجتمع الديمقراطي وضمان الحقوق الأساسية واعتبار المواطنين متساوين في جميع المجالات، فالله خلقنا متساوين في الحقوق "علينا أن نضع مصالحنا جانباً من أجل إرساء الأسس لمجتمع ديمقراطي ونضمن مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية وأن نؤمّن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين ويجب أن لا يُعتَبَر أحد مواطناً من الدرجة الثانية" (البابا في قصر بغداد، الجمعة 5/3/2021). فأنتم جميعاً أخوة و"إنْ لم يكن أخاك في الدين فهو نظير لك في الخلقة" كما قال الإمام علي (عليه السلام).
كما تطرق قداسته إلى مواصلة العمل ومكافحة الفكر المتطرف ودعم التعايش ليكون هدية للأجيال الصاعدة، وفي ذلك شدّد على حثّ الأطراف المعنية وعبر عناوينها العديدة على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب وعدم التوسع في رعاية مصالحها الذاتية على حساب حقوق الشعب ومطالبه "يجب أن يكون الدين في خدمة السلام والأخوّة. لا يجوز استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب" (البابا في قصر بغداد، الجمعة 5/3/2021). فالجميع متساوون حيث تقول المادة (1) من الدستور "العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتَقَد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي" وعندما تعيش هذه المادة نضع أنفسنا في المسيرة المستقبلية نحو المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وحرية الرأي والفكر وحقوق المرأة وأخرى.
نعم، لقد استبشرنا خيراً بزيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق، وكم كنّا نتمنى أن تنعكس زيارته علينا عملياً وليس إعلامياً فقط، حيث أن زيارته حملت روح التسامح والمحبة إذ قال "لا يجوز لنا أن نكره إخوتنا" (قداسته من الموصل، الأحد 7/3/2021) و"حافظوا على الروابط التي تجمعكم معاً. حافظوا على جذوركم" (قداسته من قره قوش، الأحد 7/3/2021) وقبول الآخر المختلف بعيداً عن الهيمنة والسيطرة والاستغلال والمصلحة الأنانية، وأن نبدأ مشوار مسيرتنا بهذه الروح لنكون من أجل الجميع والجميع من أجل الوطن وبنائه والعمل من أجل مستقبل أجياله وخاصة يمرّ اليوم وطننا بأزمات عديدة: وجودية، سكانية، مناخية، إروائية، إضافة إلى الأزمة الرئيسية الحياتية.
ومع هذا أقول: إن شاء الله سيعود كل شيء رغم فوات بعض الأوان إلى العيش كجنود أمناء من أجل بناء ومداواة هذا الوطن الجريح، والعمل من كل قلبنا وليس من شفاهنا أو إعلامنا، فقد ترك لنا قداسته كلمة كي نحياها وهي "أؤكّد لكم صلاتي من أجل هذا البلد الحبيب. وأصلّي بصورة خاصة حتى يتعاون معاً أعضاء الجماعات الدينية المختلفة من أجل ترسيخ روابط الأخوّة والتضامن في خدمة الخير العام والسلام "سلام... سلام... سلام... سيبقى العراق دائماً معي وفي قلبي" (البابا من أربيل، الأحد 7/3/2021)... نعم وآمين.

32
المسيحيون المهاجرون ... حدودٌ ملتهبة

المونسنيور د. بيوس قاشا
نشهد اليوم وفي جميع البلدان العربية هجرة مسيحية من منطقتنا العربية، وهي هجرة جماعية وسريعة الوتيرة. وفي هذه الأعوام الأخيرة بدأت وبشكل واضح بعد حرب الخليج الثانية.
وتفاقمت الهجرة خلال النزاع الطائفي وزمن داعش الإرهابي حيث حصل استهداف مباشر للعديد من الأفراد المسيحيين والعوائل المسيحية وكنائسهم في خضمّ موجات همجية.
نعم، لقد كان العراقيون ولا زالوا أصلاء العراق وأصالتهم شاهد تاريخي ورسالة حضارية، فهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني العراقي، وقد أكّدوا ذلك من خلال مسيرتهم وبرهنوا على حقيقة ولائهم وطاعتهم للوطن ولبلدهم ولشعبهم وهذا ما يعطي إشارة على إنهم المساهمين في مجالات عدة فمنها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، عاملين على تأسيس الوطن على أسس حقيقية مشرقية بأديانه ومكوِّناته المختلفة.
وهذا ما يجعلهم يشيرون في مسيرتهم على شرعة حقوق الإنسان والتي وقّعها العراق، إلى أنه من حقهم أن يشعروا بمواطَنة كاملة لا لبس فيها في الحقوق والواجبات، ولكن ومع الأسف ففي أوطانهم وفي دولهم العربية يُنظَر إليهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة وذلك لأسباب عديدة، وهذا ما يجعل حياتهم صعبة وقاسية، ومواصلة العيش في أوطانهم ليس بالأمر الهيّن أمام ما يشاهدون وما يحيون.
فالمسيحيون الذين يعود تواجدهم إلى آلاف السنين يرون أنفسهم أنهم بعيدون عن حق المواطنة وحق العيش وتوفير الحماية لهم أمام هجمات وتحديات عديدة - وإن كان الدستور العراقي يضمن التساوي بالحقوق والحريات بين جميع مكونات المجتمع ولكن ذلك بعيد عن التطبيق وقريب من الدساتير الأخرى المكتوبة - وقد فرّ العديد منهم إلى خارج الوطن كأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، فبعد أن كان عددهم في التسعينيات يربو إلى مليون ونصف المليون إنخفض عددهم إلى (500) ألف وخاصة بعد الاعتداء الإرهابي على كنيسة سيدة النجاة، ولا يزال الحبل على الجرّار.
وهجرة المسيحيين هذه مستمرة حتى اليوم بل حتى الساعة رغم النداءات الإعلامية والمعبّرة عن حقيقة الإعلام، والخوف الكبير من الكلام المبطّن الذي يحمل في طياته مشروع إكمال مخطط إفراغ الوطن من الأصلاء الأصليين وهي التي حُسبت منذ ألفي سنة في المنطقة. ولا يمكن أن نحصر مشكلة هجرة المسيحيين في العراق بما جرى في نينوى على يد داعش، ولكن أسباب عديدة تقودهم إلى الهجرة وترك الوطن، وما يحصل لهم كسكّان أصلاء وأصليين في هذا البلد.
ولأنه لا يوجد مَن يحمي المسيحيين الأمر الذي جعلهم هدفاً لأكثر من جهة برغم خذلان الجهات التي التجئوا إليها لحمايتهم، فأصبحوا ضحايا للعديد من المجاميع الإرهابية والميليشيات والزُمَر المتعصّبة والقاتلة والمتطرفة، وبسبب ذلك ارتفع منسوب الهجرة ومعدّلاتها، فها هم يعيشون في هلع دائم وخوف مستمر خصوصاً وقد أصبحوا هدفاً مباشراً لأعمال الانتقام والابتزاز لدرجة تدفع إلى الاعتقاد بأن أعمال التنكيل والاستهداف المنهجي تقترب من الإبادة والاستئصال لأسباب عديدة منها تتعلق بالدين ونظرته التعصبية اللامتسامحية وأمور أخرى كثيرة.
هذا كله دفع السكان أن يتركوا البلد ويهاجروا ويسكنوا بلداً غير بلدهم من أجل نيل السلام والأمان وحماية أبناء عوائلهم، ولكن حينما ندرك ذلك جيداً سنقول: خسارة للبلد الذي يتركه أهله من أجل لقمة وسلام وأمان، فالهجرة حدود ملتهبة تُميتنا من الداخل لنحيا من أجل المستقبل المهمَّش وربما الضائع إلا لبعض منا.
لذا فنحن اليوم أمام مأساة مستمرة تستهدف الوجود المسيحي في المنطقة بسبب هذه الهجرة المؤلمة وهذا كله يحدث وسط صمت إسلامي وعربي وأيضاً غربي إلاّ من بعض الأصوات ذوي الإرادة الحسنة وهذا ما لا ينفع المواقف المندِّدة لهذه الاستهدافات، فمعظم الجماعات المسيحية في الوطن جماعات مسيحية صغيرة عددياً وكلها تفتش وتسأل عن المواطنة والمساواة مع الأغلبية ومع جميع المكوِّنات الأخرى ولا يطلبون حماية أجنبية كما يُشاع أحياناً ولكن للزمن تعليقات وآراء، فحتى المجتمع الدولي لم يعمل على حماية المسيحيين ويمنعهم من الهجرة.
نعم، إن التعلّق بالأرض لهو عنصر أساسي من هوية الأشخاص والشعوب ولذلك من البُدّ أن لا تقف المرجعيات المسؤولة متفرجة وعدم الاستسلام للمخططات وخاصة ما يخص الأراضي والأملاك العقارية.
أتوجه بسؤال وأنا على يقين أنه سوف لن يُسمَع أو سيتغاضى عنه أغلب المسؤولين: أين هي ردّة فعلكم؟ وأين أنتم من هذه المأساة ولهذا الواقع المؤلم ومن المستقبل المجهول؟ ليس هذا لإدانة أحد وتبرئة حالنا بل على إعلاء الصوت تصعب الحلول للمشاكل الوجودية، وربما نكون قد أهملنا العديد من الفرص - إن كان بقصد أو بغيره - وفاتنا الكثير وما يهمّنا اليوم وضع الأمور في نصابها والتحرك العاجل لاحتواء كل نكساته وهفوات ماضيه بعد أن تعالت أصوات الكثيرين بالإصلاح والمصالحة.
فاليوم لم يعد مقبولاً ترك الأمور دون تخطيط ورؤية مستقبلية، دون التفاف جميع القوى الفاعلة في حركة نهضوية إصلاحية.  فالمطلوب جواب سريع وتصرف حكيم على قدر المسؤولية وحجم المشكلة وإلا فعلى الأرض السلام. قد يلومني البعض ويعاتبني لأنني قد تطرقتُ أو وجّهتُ الكلام لكبار المعابد وكبار الزمن، فالمعبد أو الحياة ليسا مسؤولين كنسيين فحسب بل هما جماعة المؤمنين الذين يجتمعون معاً للصلاة والخدمة وحمل رسالة المسيح للعالم أجمع ومن هنا تتضح الرؤية الشمولية في مسؤولياتنا جميعاً في تحقيق مصلحة وخير المسيحيين الصامدين في أرض الوطن وخارجه، وهذا لن يتحقق دون توحيد الكلمة والموقف وليس حب الذات وكبرياء المركز لكي تُتَرجَم واقعاً فاعلاً ومؤثراً تجاه وضع المسيحيين في الشرق رغم امتياز بعض منهم حقوق المواطنة.
لذا لندرك أن حماية المسيحيين في العراق جزء من حماية كل مسؤول وكل جماعة طائفية ودينية، ويتوافق هذا مع حماية العراق من الإنقسامات والحرب الأهلية. فالكرسي الرسولي - قالها البابا فرنسيس في زيارته للعراق من 5-8 آذار 2021 - مستمر بالعمل لحين بقاء المسيحيين العراقيين في أرضهم التي هي إرثهم، ويعيشون ملء الحرية الدينية لإيمانهم، ومتمنياً كذلك للذين كانوا مضطرّين للهجرة أن يتمكنوا من العودة عن قريب، وأن يجدوا في العراق - بلدهم - مكاناً آمناً حيث يمكنهم أن يسترجعوا نشاطاتهم وفعالياتهم. وأردّد ثانيةً ما قاله البابا فرنسيس: إن الطابع القسري لكثير من هذه الهجرات يتطلب ردّاً سريعاً وفعّالاً (خطاب البابا فرنسيس لدى استقباله المشاركين في المنتدى الدولي "هجرات وسلام"، الفاتيكان، الثلاثاء 21/2/2017).
وختاماً، يا رب، أنتَ أتيتَ إلينا فعلّمنا حبّ أوطاننا وشعوبنا... نعم وآمين.


33
المنبر الحر / هو ... أنا
« في: 20:36 27/01/2023  »
هو ... أنا

المونسنيور د. بيوس قاشا
   كلمتان من أسماء الإشارة، ولكن ما أدراك ما الكلمتين! أو بالأحرى ماذا يعني هذا العنوان؟ إنه "هو" "الطريق والحق والحياة" (يو6:14) و"أنا" "خُلقْتُ على صورته كمثاله" (تك 1) ودعاني حبيبه (يو15:15).
وأقول: في الاحترام الغربي يقول الشعب عبر المحادثة "هو وأنا". أما عندنا
نحن الشرقيين فنقول "أنا وهو". والسؤال يكمن في أنه لماذا الآن هذا العنوان، وفي هذا الزمن بالذات؟ نقولها وبكل صراحة وحقيقة الواقع، إننا نسير في طريق مخيفة ملؤها الضياع والخوف، فنجد أنفسنا أمام مواقف صعبة ومؤلمة. فالخطر يداهمنا من أقربائنا قبل الغرباء، ومن أصدقاء الأمس قبل الأعداء، ومن زوايا شتى ولمصالح مختلفة، وشراء الذمم عبر المحسوبيات الأنانية.
نعم، إنها أزمنة قاسية في أيامها ولياليها، ولم نكن نشهد مثلها منذ زمن بعيد وبالخصوص في شرقنا وبلادنا الجريحة ومنذ أكثر من جيلين وخاصة اليوم بعد زمن الكورونا. ففي هذا الزمان تغيرت مسيرة الحياة عملاً وفكرةً، ممارسةً والتزاماً، احتراماً ومحبةً، فنحن نعيش في مجتمع يندر أن تجد فيه إنساناً طاهراً نظيفاً وغير فاسد، صادقاً في أقواله وراضياً عن نِعَمِه التي أمطرتها السماء عليه ومكتفياً بحاله، لا يفكر بمصلحته الشخصية البحتة كبرى كانت أو صغرى، فقد أصبحنا مثل ذلك الفيلسوف اللاتيني الذي كان يحمل مصباحه ليلاً ويجوب شوارع أثينا يبحث عن رجل.
نعم، إنه زمن تشتكي فيه الاكتئاب والحزن لما تراه وتسمعه من الناس القريبين والبعيدين ومن سوء معاملتهم، حيث لا يفكرون إلا بمصالحهم ويعلو شأنهم بكلام إعلامهم، والسماء تقول لنا غير ذلك. فالراعي يحب غنمه، وعلينا أن نبذل أنفسنا من أجل خلاص غيرنا، لهذا من دون هذه المحبة يشعر الإنسان إنه تائه لا هدف له، وليس له لذة في العمل والعيش، وستبقى لذته الوحيدة هي في اللهو بأشكاله المختلفة عبر الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي “Social Media” وما اخترعه العلم والتكنولوجيا وينسى الإنسان وحقيقته، وهذا أصبح مرض العصر دون أن ندري، فنرى أنفسنا أمام مجتمع مجنون يفرض إرادته ويفتش عن مصالحه والفساد حقيقته، ونجعل من الآخرين عبيداً لنا إذا لم يعملوا بما أفكر وبما اشاء "أنا" وليس "هو". بينما الرب دعا الجميع أحباءه (يو15:15) وقد قال في إنجيله "مَنْ سخَّركَ مِيلاً فاذهبْ معه اثنَيْن" (متى 41:5). وهذا يدعونا إلى الحوار الذي دعا إليه قداسة البابا فرنسيس في مسودة السينودس الذي سيُعقَد في أكتوبر 2023 بأنّ على كبار المعابد أن يفتشوا عن المهمشين والمختلفين والذين يعارضون بمسيرتهم أو بكلامهم خصوصياتهم والبعيدين مع المعروفين، وإلا ماذا ينفع أن نجعل البشر يصفقون لِمَا نقوم به ويمجّدوا ما نقوله ونحن في ذلك ننسى "هو" ونجعل محله "أنا"، وإلا فهم أعداءٌ لنا لمعارضتهم أفكارنا، وننسى أن الحوار بين "هو" و"أنا" يعلّمنا أن نبني الخلاص والسلام "ففي إبنه صالحنا" (2كو18:5).
فالحوار هو السراط المستقيم والسبيل الوحيد في هذه الأزمنة، وليس كل ما أقرأه أو أسمعه أو أكتبه صحيحاً وإلا جعلتُ نفسي أن أكون "أنا" "هو"، وهذه علامة الكبرياء والتبجّح والحاكم المتسلط على رقاب الأبرياء من أجل إعلامٍ مزيّف، وأنسى أن علامة "هو" ما هي إلا علامة الخلاص والحب إذ يقول "إِنْ أحبَّني أحدٌ يحفظ كلامي، وإليه نأتي" (يو23:14) و"أنا اختَرتُكُم، لتذهبوا وتأتوا بِثَمَرٍ" (يو16:15) "وحيث أكون أنا يكون خادمي" (يو26:12) فمن أجلي حمل صليبه. وإذا الحياة لا تكون في هذه المسيرة فسيكون الناس محبطين في ظروف حياتهم ويشعرون باليأس والإحباط وربما بعض يفكر أنه قد أصابتهم تجربة أو فشل في مسعاهم فغابت الدنيا أمامهم وأحسوا بنهاية الكون. لكن لنعلم جميعاً أن الإنسان لم يُخلَق فقط لملء الفراغات أو لوضع نقاط على الحروف ولعرض الصور المختلفة والأخبار الكاذبة الأنانية فيجعل من نفسه "هو" وينسى أن هذا العمل يجب أن يكون لمجد الله "هو" وليس لمجد الإنسان "أنا".
لذا فالإنسان عبر الحوار لا يستعمل المصطلح العسكري المعروف "نفّذ ثم ناقش" فاليوم يُطلَب الحوار قبل تنفيذ المشيئة كي يكون في السراط المستقيم، فـــــ "هو" ليس "أنا" ولكن عبر محبته أصبح "هو أنا" و"أنا هو" إذ قال "من أجلكم حملتُ الصليب" (لو23:23) وهذا يدعونا إلى نسيان مصالحي الشخصية وأهوائي وكبريائي كي أكون "أنا" له "هو" فقط ولا لغيره.
نعم، اليوم تحولت علامة الحب إلى عدم الصدق، وعلامة الانفتاح والحوار إلى الأنانية والبغضاء، كما تغيرت علامة القداسة إلى محسوبية وعبودية، وعلامة الطيبة والتواضع إلى الهيمنة، وعلامة الحقيقة  إلى صداقة مزيفة وأسأل: ما هذا الذي يحصل؟ أين يريد أن يصل الإنسان "أنا"؟ هل يريد أن يقتل الله "هو" في داخله كما فعل قايين؟ فإذا كان الأمر هكذا فالويل للاسم "أنا" فقد قال الرب "سيأتي في ساعة لا تظنّونها" (متى44:24 ولوقا40:12). إن المسيح الرب "هو" لا يباع بثلاثين من الفضة بل بثمن أبخس من ذلك، بثلاثين من النحاس، فالقوة والسلطة والسلاح لا تحلّ ولا تهيئ طريق السلام بل بالعكس تزيد في "أنا" كراهية أكبر وحرباً ضروساً ورفضاً أوسعاً بينما الإنسان "أنا" ما هو إلا خادم مهما كانت درجته أو وظيفته أو مركزه أو سلطته وإلا سيترك "أنا" جانباً "هو" ويمجّد نفسه ليكون الإنسان "هو" بدل "أنا".
فالعابد لا يكره الأشخاص، والسماء علّمتنا أن لا نكره أي شخص لأنه صورة الله ولكن أن نكره أعماله الشريرة فتلك مسيرة السماء، وهذا ما يدعونا إلى حمل لغة المحبة والتواضع والخدمة وليس أسلحة الدمار الشامل بأنواعها المختلفة في قول الحقيقة مهما كانت المراكز والسلطات، فقد قال "هو" لشرطيٍّ عند حنّان وقيافا "لماذا تضربني ألأني قلتُ الحق" (يو23:18). فقد جاء "هو" من أجلي ومن أجل جميع البشر ولستُ "أنا" من أجله، إذ يقول في إنجيل يوحنا الحبيب "مَن منكم بلا خطيئة فليرجمها" (يو7:8)، وأعطانا وصية واحدة وشرعاً واحداً ألا وهي وصبة المحبة وحياة البشرى السارة فقد قال "هو" "احملوا البشرى واعلنوها لجميع الناس وقولوا لهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتَكم به" (متى20:28) إنها حقيقة الحياة، وهذه حقيقة وجود "أنا" من أجل الآخرين في حوار مستديم وعيش أمين، وإلا ما فائدة أن نكون نحن كبار الزمن دون استحقاق وخبرة كافيَيْن للعمل والبشارة، وللإعلان والتعليم، فما ذلك إلا زيف المجد الباطل ومرض الأيام، وبعملنا هذا سنجعل من "هو" "أنا" ومن "أنا" "هو" وهذا ما لا يجوز لأننا جميعاً ومن أجلنا كان "ففيه كانت الحياة، وحياته كانت نور الناس" (يو4:1) وبنوره نعاين النور إذ قال "ليضيء نوركم قدام الناس فيمجّدوا أباكم الذي في السماء" (متى16:5).
لذا علينا أن نعلم أن "هو" هو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبر8:13) وشريعته المحبة، وأنا "أنا" ولا أكثر من ذلك، وإلا ماذا ينفع الإيمان والسلطة، فيا رب إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك" (يو68:6)... أليس كذلك!!! نعم وآمين.

34
الميلاد ... رسالة مسيرة
المونسنيور د. بيوس قاشا
ولد المسيح ... هاليلويا
ولمّا تمَّ مِلءُ الزمان، أرسلَ اللهُ إبنَهُ مولوداً مِنْ امرأة تحت الناموس ليفدي الذين هم تحتَ الناموس (غلا4:4).
هكذا كان مخطَّطُ ربّ السماء في هدوءٍ عظيم وبردٍ صامت. فاللهُ اختارَ أكثرَ الأمورِ ليكونَ بينَنا بدلَ الخوف ويشاركنا وحدَتَنا. وهذا يعني مسيرةُ الله نحو شعبٍ بسيطٍ ليفدِيَ الإنسانَ كما يقول مار أوغسطينوس "نزل اللهُ ليرفَعَ الإنسانَ إليه". فمسيرةُ الله ما هي إلا مسيرةُ محبةٍ، تجسَّدت بظهورِ الملاك معلِناً فرحةَ ولادة طفل المغارة قائلاً للرعاة "إنكم تجدونَ طفلاً ملفوفاً مضجَعاً في مذود" (لو12:2) وهذا الطفل يحتاجُ إلى كلِّ واحدٍ منّا لكي يحقِّقَ سلامَه بينَنا وفي عالَمِنا اليوم. إنه طفلٌ وضيع، وُلِدَ بين الفقراء.
نعم، إنها الحقيقة... وما الحقيقةُ إلا هذه الرسالةُ السامية في مسيرةِ المهمَّشينَ والمرفوضينَ ليموتَ مِنْ إجلِهِم. من هنا بدأَ تاريخُ الخلاص يتجسَّد في مسيرةِ الكنيسة والشعوب، وبدأت بشرى الإنجيل لإعلان كلمة الله التي أيَّدَها الروحُ القدس "فالله هو الكلمة" (يو1:1)... الله تجاه الإنسان ومسيرة الإنسان نحو الله. وإنْ كانت مسيرتُنا قاسية، والخطيئةُ - ومن المؤسف - لا زالت تعملُ في الإنسان كما تشاء وكما يشاء، وبذلك تكونُ مسيرةُ حلالٍ في حرام سيدةَ الموقف وسيدةَ العبيد، تلك مسيرةُ الخطيئة. فكلُّ شيءٍ اليوم مباح، وذلك مُعلَنٌ عِبْرَ المذياع والفيسبوك، ويبقى صوتُ البابا بيوس الثاني عشر يرنُّ في الآذان بِصَداهُ الواسع "إنَّ الناسَ يؤمنونَ أنْ لا خطيئةَ اليوم". وهذا ما يجعلُ أنْ نقدِّسَ الدنيا، ونجلسَ لنحاكمَ الأبرياءَ كي نبرِّءَ أنفسَنا، وما ذلك إلا قَتْلُ الحقيقةِ في صمتِها ورسالتِها المقدسة.
نعم، إنَّ الحياةَ قاسيةٌ، ومع ذلك فولادة طفلُ المغارة تُبقي أرجُلَنا تحرثُ أرضَنا وتزرعُ الرجاءَ والأملَ في حقولِ القلوب. فالملائكةُ أنشَدَتْ ساعةَ ولادتِهِ "المجدُ للهِ في العُلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرَّةِ الصالحة"، وهذا يجعلنا أنْ نحملَ - ليس في أفواهِنا بل في عيشِنا - عمقَ رسالةِ عماذِنا، ومسيحيَّتُنا ليست أنشودةٌ وتنتهي بل مسيرةُ رسالةٍ سامية، والمسيرةُ تقول لنا بعدم كُرهِ أشخاصٍ لأنهم صورةُ الله (تكوين1) بل شرورَهُم وخطاياهم.
لذا، فالميلادُ يدعونا ويعلِّمُنا أننا لسنا هنا للبكاءِ رغمَ الأيامِ الظلامية، كما نحنُ لسنا خِرافاً بل نحن ضميرُ الدنيا وضميرُ الشرق، والإنجيلَ الذي نحمِلُهُ في إيمانِنا ومسيرةِ حياتِنا رسالةٌ سامية وما أجملُها... إنها رسالةُ المحبةِ والتعايش. فلا يجوز أنْ نموتَ ساكتين، ولا يجوز أنْ نصمتَ صمتاً مميتاً ومريباً، فالربُّ يقول "أنا معكُم" (متى20:28). فهذا الزمن هو زمنُ الشهادةِ والحقيقة وليس زمنُ التزويرِ والفساد وظُلْمِ الأبرياء، وهذا ما يجعلُ أنْ يكونَ لنا مكانٌ في مسيرةِ الوطن. لذا علينا توحيدَ كلمتِنا وهدفَ غايتِنا، وسنبقى نبني جسورَ الحوار في كَسْرِ حواجِزِ الاختلاف. فإمّا أنْ نوجَدَ مِنْ أجلِ السماء ونحن على هذه الأرض، وإلاّ فلا حقيقةٌ في مسيرةِ الزمن "فمعركتُنا ليست مع اللحمِ والدم، بل مع الأرواحِ الشريرة" (أفسس 12:6).
ولادةُ طفل المغارة ولادةُ رجاءٍ وأمل، ففيه تمَّ ملءُ الزمان فكان بيننا، وحقيقتُهُ تجسَّدت فينا ومِنْ أجلِنا، وما ذلك إلا تجديدٌ لإيماننا ولمسيحيَّتِنا "ففيه كانت الحياة" (يوحنا1). فليبارك صاحبُ العيد شعبَنا ووطنَنا وكبارَنا ليعملوا مِنْ أجلِ الحقيقة، وليُحِلَّ السلامَ في ربوعِ ديارِنا، وليُعيدَ إلينا السلامَ والخير، وتلتئمَ القلوبُ مِنْ أجلِ مسيرةِ الإنسان، وليُدرِكَ كبارُنا أنَّ الإنسانَ أمانةٌ فيعملوا مِنْ أجلِ خلاصِهِ لأنَّهم أبناءُ الله بالعماذ. فالربُّ اختارَ سلاماً وليس حرباً أو حقداً أو كراهيةً، وهذا ما نُدْرِكُهُ مِنْ حوارِ المسيحِ مع السامريّة مِنْ أجلِ الحقيقةِ ومسيرتِها.
أخيراً، ربما نهتمُّ بالمغارةِ وزينَتِها، وهذا ليس خطأٌ. لكن علينا أولاً أنْ نهتمَّ بِمَنْ فيها، وأنْ نعملَ حَسَبَ إرادتِهِ. فاللهُ ينظرُ إلى القلبِ وليس إلى شيءٍ آخر. فنحن مدعوّونَ لنجعلَ ظلماتِ نفوسِنا نوراً نأخُذُهُ مِنْ مغارةِ بيتَ لَحْمَ، ومِنْ قلوبِنا مِذوداً نستقبل فيها كلمةَ الله. لذا علينا أنْ نبدأَ صفحةً جديدةً في الحياة، وهذا هو هدفُ الكنيسة أنْ أكونَ إنساناً جديداً يولَدُ مع طفلِ المغارة.
فعيدُ الميلاد بركةٌ مِنَ السماء لنفهمَ ونحملَ رسالتَنا ... وكلُّ عامٍ وأنتم بخير

35
إلى مَن يهمّه أمرَنا ... لماذا كل هذا!؟

المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء

مرّت بلادنا بحروب عديدة كُتبت علينا، وبحصار واحتلال، وهُدمت بيوتنا وشُتِّت أبناء وطننا، وقُتِل وفُقد أعدادٌ من مواطنينا، بل أعداد لا تُحصى، وسقط آلاف عديدة من الضحابا الأبرياء!! فهل تعلمون ما عدد الذين قُتلوا وخُطفوا وشُرّدوا إضافـة
إلى الجرحى الذين لا تُحصى أعدادهم. والمخيف أننا لا زلنا ندفع الثمن غالياً بسبب الحروب التي شُنَّت علينا وما حلّ بنا، كما لا زلنا حتى الساعة نعيش أزمات تلو أزمات، وطائفيات وعشائريات وانتكاسات في جميع الاتجاهات، ولم نعد ندري إلى أين نتوجه وأين هو السبيل الصحيح والسراط المستقيم.

     وطن الحضارات
أقولها: لنسأل مَن هم الذين قادوا الحروب؟ ومَن هم الذين قرّروا الحصار وفرضوا الإحتلال على شعب لم يكن له لا ناقة ولا جمل، لا في الحروب ولا في الإحتلال ولا في الحصار، والذي راح حينها حوالي (3000) طفل عراقي ضحية لقرار بائس!؟ ألم يكن بإمكانكم أيها الكبار أن تدركوا أن ذلك يأتي في مجال تدمير الطفولة وإهانة حقوق الإنسان وفساد القيم والأخلاق وتشتت العوائل والشعوب؟ ولكن ألم تكن تلك إرادتكم، فعملتم على دفن حقوق المكوّنات والأقليات وأنتم تنادون بحقوق الإنسان في دساتيركم، فجعلتمونا، كما أصبحنا رغم شهدائنا، من الدرجة الأخيرة في الحفاظ على حقوقنا؟ ألم تكونوا أنتم والآخرين والمصالح السبب في هذه الأزمات وخلق النعرات في الطائفية والعشائرية؟ ألم تدركوا أن شعبنا قد أُهين في كل المجالات وأصبح في قوائم مهمَلَة ومنسية في إحصائيات الدول؟ هل يجوز ذلك؟ هل تعلمون إننا لا زلنا نعاني ضياع السلام والأمان منذ سنين عديدة ومن نصف قرن تقريباً؟ فإن أردتم أن تنعم بلادنا بمستقبل آمن فاعملوا من أجل أن يكون السلام في شرقنا عبر مسيرة الخير والمحبة وليس عبر البيانات والقرارات والتغريدات والصور ومن على منابر الدول، أليس كذلك؟ فهل من الأخلاق أن يضيع السلام في طرق ديارنا، ويُباع بمصالح بائسة، وتبقى شعوبنا تئنّ من وطأة الحروب والقتال، ويبقى وطننا ضحية لصراعات دولية ودينية وديموغرافية وحسب مشيئتكم!! فإنني أسأل: أين دور كبارنا قبل كبار الدنيا؟ هل هو عبر أسطر الجرائد وإذاعة الإعلام وصور الفيسبوك واللقاءات العديدة التي تصوّرونها وكأنكم آلهة الدنيا أم ماذا؟ فقد كان وطننا في السابق - كما الأزمنة التي مرّت بأجيالها وقرونها - وطن الحضارات والعلم، وأصبحنا اليوم وطن الحروب والخصومات والطائفيات والمحسوبيات والمصالح الشخصية و... و... فلم نعد نجد أمام أبصارنا إلا تهجيراً ونزوحاً وداعشاً، فآثارنا سُرقت، وهُدمت بيوتنا وديارنا، ونُهبت أموالنا وحلالنا، أمَا كنتم تعلمون ما سيحصل لنا وبنا من داعش الإرهاب؟ والسؤال هو: مَن أتى به ليكفّرنا ويطردنا ويسرق رزقنا الذي ربحناه بعرق جبيننا (تكوين1)؟.
نعم، أليس ذلك من أجل دولار أخضر أشتريتم وطنيتنا وإخلاصنا ونفوطنا بل وإنسانيتنا، وأصبحنا نحن والوطن سلعة تباع وتشترى كما تشاء المصالح؟ فضاع كل شيء ولم نعد نملك شيئاً، وما نملكه ليس مُلْكنا بل مُلككم وإنْ كان زوراً، وأنتم تعلمون أنّ الله أنعم على بلدنا بالخيرات والبركات، بالنفوط والغاز، فهي من أجل أولادنا وشعبنا، من أجل تقدمنا وبناء وطننا ولأجل فقرائنا وتقدم شعوبنا، فقد كنا نحيا ملء قدر إمكانياتنا، ونرضى برزقنا، ونهنأ بنهارنا وراحة في ليالينا. هل ضاعت الحقيقة والحق إذ أصبحنا بخبر كان فلماذا كل هذا؟.

     مسيرة الحياة

ألم يكن - ونحن نمرّ بمأساة الحياة - أن تعيدوا إلينا عَلَمَنا وتعلّمون حب وطنكم (وطننا)؟ ألا يكفي ملء بطونكم ونهب كنوزنا وتهجير عقولنا وسرقة كفاءاتنا ولمِّ شمل مواطنينا؟ ولِمَ تمزيق رباط وطنيتنا ومواطنتنا بحجّة حمايتهم والمحافظة علينا؟ وحصل ماحصل، وهو إننا ذُبحنا كلنا، كما أصبحت نفوطنا وخيرات بلدنا مُلْكاً لمصالحكم ومحرَّمة علينا، وأمسينا فقراء، وأصبح شعبنا وحسب إرادتكم وبسببكم فقيراً يتسوّل بين طرقات الأزقّة والشوارع ويستعطي من كبار الزمن ومن منظمات مصلحية دولية، وأمست أجيالنا بلا مدارس، ومستشفياتنا بلا دواء ولا أطباء، فأين كرامة شعبنا، وأين حقيقة نعمتنا؟ أليس كذلك!. وهل تعلمون أنه بسبب ما حصل أصبحنا تائهين في مسيرة الحياة، وأصبح الرزق فساداً، والنهار مخيفاً، والراحة لم تعد ذكرى؟ وفي كل ذلك كنتم تتفرّجون علينا، وتطبخون مواعيد تحريرنا كما كنتم تقولون، إذ كنتم مدركين تماماً أنه ليس باستطاعتنا سوى الطاعة والخنوع وليس فقط الخضوع، وربما السبب سببنا. ومع الأسف أين كنّا وأين أصبحنا؟.
ألستم أنتم مَن تقولون إن كبارنا ورؤساءنا والقائمين علينا غير متّفقين ولا متّحدين، بل منقسمين وغير منتمين إلى حقيقة وطنهم، ويفتشون عن مصالحهم وعشائرياتهم وطائفياتهم وقبائلهم؟ وربما حسناً تقولون وفي ذلك كثير من الحقيقة، ولكن أليس السبب هو سببكم أيضاً؟ ألستم أنتم الذين تشجعونهم على بيع مصالح أوطانهم من أجل ملء جيوبهم وجيوبكم ونسيان حب وطنهم وفدائه وخلاصه من أزماته؟ فأنتم تشترون وتبيعون كبارنا، وكل هؤلاء جعلتموهم سلعة للمصالح وحسب ما تهوى نيّاتكم لأجل خير غاياتكم ومن أجل أمان بلادكم. فضاعت الوطنية وماتت الثقة والمحبة فأصبح كل شيء يباع ويشترى ويعطى مصلحة حتى القدسيات في مسيرة حياتنا... أليس كذلك!.
نعم، فبعد تهجيرنا آويتمونا في كرفانات وإلى اليوم بل وحتى الساعة، ومنحتمونا دواءكم، وكنا راضين بنعمتكم وعطاءكم، ودعونا بالسلام لشعوبكم ولأوطانكم، ولكن ألم يكن هذا الغذاء وهذا الدواء وهذه الكرفانات مفيدة لشعوب بائسة ودول فقيرة لولا عملية داعش الإرهابي التي خيّمت على نفوسنا وبيوتنا، والتي كتب التاريخ مسيرة الألم التي عشناها؟ كما كان لنا حرية العبادة وليس حرية الإيمان لأنكم تخافون على وجودكم ولا أكثر من ذلك، وهنا تقف حدود حريتنا، وبئس الحدود التي تؤشَّر من قبل البشر، ففي ذلك ينسون أن الله قال:"هي ذي الأرض كلها لكم" (تكوين1)، يعني لجميع الشعوب، فلماذا تعلّموا حكّامنا أن حرية الإيمان حرية مقدسة كما هو الحال في بلادكم؟ ولكن أين هو تحقيقها وعيشها؟ كما ولا زالت قضايانا في أروقة مكاتبهم وكأننا من الكافرين ولا نستحق العيش إلا حسب تعليماتهم وتعليماتكم، والتي أنتم أتيتم بها، وهذا ما قاد الإرهاب إلى هدم معابدنا وكنائسنا وتنزيل صلباننا من على قببها وتهجير شعبنا البائس كما كان شأن ساعات الحرب بعد أن فجّرها داعش الإرهاب.
نعم، لقد قدّمتم لنا دستوراً لحريتنا ولديمقراطيتكم من أجل ديمقراطيتنا، ونحن نفتخر بأول قانون للحياة ودستورها، بحمورابي وآخرين، فقد كنّا ندرك دورنا ومواطنتنا على قدر ما وُهب لنا من نِعَم السماء، فأعطينا شهداء، فما كُتِب فيه لا يليق بنا وبكم قبل أن يكون عاملاً من أجل وطننا وحرية إنساننا وسعادة شعبنا، وما فيه يكفي ليفرّق بين شعبنا وأرضنا ويجعلنا جميعاً أقليات بائسة وجمعيات مهملة ومكونات ومسمّيات، ولا نملك شيئاً، فكلنا مُلْكٌ للكلمة وإعلامها وليس للأرض الطيبة، ولكن بسبب الدستور الذي كتبتموه وصادرتموه لنا ولمسيرة أيامنا، فهو مليء بثغرات الدمار والقتال والتفرقة والتقسيم وتدمير الحقوق، وجعلتم من ديمقراطيتكم وحريتكم سبيلاً لنا للدمار ولكم فيها حقوق مصالحكم. فلقد كنا شعباً واحداً متآلفاً، وكنا وطناً واحداً، متساوين في الحقوق والواجبات، كما كنا بلداً آمناً نحيا فيه ونبني مستقبلنا ومستقبل أولادنا وأجيالنا، ولم نكن نحلم إننا يوماً سنكون من الحاملين لحقائبهم وراحلين، أو من المهجَّرين على طرق العالم، فلماذا عملتم على تقسيمنا مسيحيين ومسلمين وصابئة وإيزيديين وتركمان و...؟ وفي اختيار منهاجكم التقسيمي هذا، جعلتم منا طوائف سُنيّة وأخرى شيعية وثالثة كردية ورابعة تركمانية ثم مسيحية وأخرى وأنتم تدركون جيداً إن ذلك سبب لتدميرنا ليس إلا! ثم لماذا جئتم بالحروب والحصار، وفي ذلك كنتم سبباً في تفشّي الفساد بديارنا وهدم مستقبل أجيالنا، وأصبحنا مشرَّدين ومهجَّرين من بلد إلى آخر. فنحن عراقيون، رافديون... ولكن، مع الأسف!.
أليس من الواجب الأخلاقي أن تعيدوا بناء ما هدمتم في وطننا؟ أليس من الأخلاق أن تحافظوا على مواطنينا من أجل عدم إفراغ أوطانهم بدل أن تأخذوهم تحت عناوين ومسميات مختلفة لم نسمع بها من قبلُ، ولم تخطر يوماً على بالنا، من أجل بقاء شعوبكم وخدمة بلدانكم؟ بل لا زلتم أحياناً تُصرّحون بأنه بعد سنوات لن يبقى مسيحي في العراق أو في الشرق وما شاكل من هذه الأقاويل. فأنتم تعلنون وأنتم تصرّحون، وهذا ما يؤيّد مرادكم ويحقق مطالبكم الظاهرة والخفية، بدل أن تكونوا روّاداً لسموّ الأخلاق في إعادة البناء والأمن والإستقرار وتثبيت أبناء الوطن في أرضهم من أجل الشهادة لمسيحيتهم، والتعايش مع الآخر المختلف وقبوله، وأنتم كل يوم تغنّون بالتعايش والحوار والمعايشة والبقاء في الأرض... فبئس هذه الإزدواجية في التعامل مع الشعوب المضطَهَدة والأصيلة، وأصبح القارئ والسامع لا يدرك غاياتكم ومآربكم بل أصبح الفاسدون آلة مطيعة وخانعة لكم من أجل مصالحهم ومستقبل شيكاتهم. 
فبحق المبادئ التي تؤمنون بها واليافطات الإنسانية التي ترفعونها، ألم تحن الساعة كي تُنصفوا الإنسان العراقي وتعودوا إلى حقيقته، والذي دُمّر قلبه قبل أن يموت جسده، وبيع شخصه وهو جنين في بطن أمّه، وقبل أن يرى شمس الوطن المحرقة وجفاف الشتاء وحيث جعلتم الارض بلا جداول ولا ماء؟ كما أليس من واجبكم الأخلاقي أن تعيدوا وتعملوا على إيقاف دعوات الرحيل وإفراغ البلد بمشاريع ترفد الكفاءات، وتزرعوا بذار العلم في أرض الوطن الجريح؟ فأنتم بلاد الحرية والعلم والتكنولوجيا، ونحن نقرّ ونعترف بذلك... فلماذا كل هذا؟.

     الخاتمة
إلى متى نبقى صامتين؟ وإلى متى نسجد لكبار المصالح ونكون عبيداً لأناس وظيفتهم خدمتنا والمحافظة على وجودنا والإعلان عن أصالتنا وليس إستعبادنا؟ فالرب أوصانا أن نقول الحق فنكون أحراراً (يوحنا32:8) وليس شهود زور (والرب يوصي أن لا نشهد للزور) من وصايا الله العشرة. من أجل حفظ ماء وجه الكبار الفاسدين الذين يسرقون بكل أدب واحترام وهم من آل بيت الحقيقة يُسمّون. فلماذا نركض وراء العبودية؟ ألا يكفي ما حلّ بنا وما قاسيناه؟. إنهم يجلسون ويحاكموننا في المجالس التأديبية وإن كنّا أبرياء المسيرة، وينهبون ويكذبون ويسرقون بأصول ولا أحد يعرف مكنوناتهم إلا الله (العلي العظيم) والذي على كل شيء قدير، ويعلنون أخباراً مزيّفة عبر الفيسبوك ووسائل التواصل الإجتماعي المزيّفة ولا أحد يحاسبهم، بل لا لوم عليهم لأنّ الدنيا تحميهم، والدستور يقيهم، والمناصب تستر خفاياهم، والعنف سبيلهم وبوجودهم يخيفون ذوي الإرادة الطيبة.
نعم، فاليوم قبل الغد لنطالب برفض الوجوه التي إستعبدتنا دون أصل حق، وحَكَمَتْنا زمناً كبيراً، فاليوم نحتاج شباباً هم رجالٌ يخافون الله (لوقا19:16-31) ويقدّسون اسمه (لوقا2:11) ويخدمون البشر، ويعلّمون طريق السماء، ويعلنون الحق، فقد قال الرب يسوع "وتعرفون الحق والحق يحرركم" ( يوحنا 8: 32) ويصلحون الفاسدين بدل حمايتهم وتسميتهم بما لا يستحقون من ألقاب ومهما كانت المصالح والنيات. ولكن هل هي معبَّدةٌ تلك الطريق بعد أن صار الإنسان يعبد الدنيا وكبارها ولهوها، وهو لهم ولها خَرَّ سجوداً؟ ومن المؤسف أقولها فنحن اليوم نؤلّه بشراً.
وختاماً أردّد ما يقوله المسيح الحي "مَن له أذنان سامعتان فليسمع" (متى43:13) فمَن يهمّه أمرنا له أذنان سامعتان فليفهم غايتنا. فهل هناك مَن يسمع ويفهم؟ وعذراً، نعم إنها الحقيقة، ولكن الحقيقة شُيّعَت والعزاء لحامليها... نعم وآمين، فلماذا كل هذا؟.



36
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة السابعة والأخيرة)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا       
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
– فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
     قبل الخاتمة
فاسألْ نفسَكَ: مِنْ أجل مَن أصبحتَ فكان هذا المسلك المختار؟ هل أصبحتَ مكرَّساً بدعوة خاصة وبسبب تربيتك الأخلاقية والإيمانية في عائلتك؟ أو كان أحد يعيش هذا المسلك ففُرِضَ عليك أن تكون مثله خوفاً من حديث أفراد عائلتك؟ هذه الأسئلة وأخرى تراود الإكليروس والرعية وشعب الله، وأخرى كثيرة تُطرح على كل إنسان، وهذا قليل من كثير، وما هي إلا فكرة بسيطة لِمَن قَبِلَ الكهنوت العام والخاص، وعلى المؤسسة الكنسية التي تهتم بالتنشئة والتعامل من قِبَل كبار معابدنا ومن أجل صغارنا.
فإنك حينما تتكلم باسم الرب فلا تقل إلاّ الحق لأنك تتقدم الجماعة، وما عليك إلا أن ترتّل وأن تكون رجل صلاة فأنتَ أبٌ للجميع، فكن حنوناً. لذلك عليك أنْ تفتح ذراعيك للجميع، للصالح والخاطىء، ليرجع الخاطىء إلى ربّه ويعمل الصالح من أجل ربّه أيضاً، كما عليك أن تعمل من أجل الجميع وليس فقط من أجل أحبّائك والذين اخترتَهم أصدقاءً لك، كذلك لا تحقد على أحد ولا تسامحه فأنتَ قائد حازم وحكيم، فكنْ مَرِناً لا تتكبّر ولا تتبجّح ولا تحابي ولا تتنصّل من مسؤولية، فأنتَ مُحِبٌّ وخادمٌ وليس أميراً، واجعل لك صورة صادقة ليسوع. كما أنتَ لستَ رجل أعمال ولا رجل الصور والفيسبوك والموبايل فهذه كلها وُجدت لخدمتك وليس لعبادتها. لا تنسى أن تقوم بزيارة المرضى، ولا تخاف الطريق والتعب، ولتكن رحمتك على الفقراء والمرضى والمعوزّين. لا تفرّق بين غني وفقير وبين جميلة ومرذولة، ولتكن ابتسامتك في كل حين حلوة دائماً في وجه الطفل والأرملة. واعمل على انتشال الإنسان من الغرق وخلّصه، فأنتَ لستَ سمساراً ولا تاجراً بل أنتَ أخٌ وأبٌ حنون، فلا تزمجر شيخاً بل عِظْهُ كأبٍ، والأحداث كإخوة،ٍ والعجائز كأمّهات،ٍ والحديثات كأخواتٍ. كذلك اجعل لك أذاناً صاغية لكل إنسان وإنْ كان مزعجاً، وصورة صادقة عن يسوع الخادم الأمين وليس أمير الزمان. لا تجامل أحداً على حساب المسيح أو حساب الكنيسة أو حساب عقيدتك أو حساب مصالح تَدُرُّ لك لبناً وعسلاً، فأنتَ مؤتَمَنٌ على ذلك وعليك أن تكون قدوةً للمؤمنين وملاحِظاً نفسك في الكلام والتصرف، في المحبة، وفي الطهارة والتعليم، كما عليك أن تتبع البِرّ والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة، وأن تسير بلا لوم لأنك تعلم بِمَن آمنتَ. فالناس محبّين لأنفسهم وعديمي النزاهة ولهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها، فإن أردتَ العمل بهذه الوديعة تكون في المسلك الأمين.
نعم إخوتي الأحبة، هذه رسالتنا وهذا منهجنا، والحوار طريقنا إلى التفاهم وقبول آراء الآخرين وإنْ كانت لا توافق إرادتنا الخاصة. هذا ندائي لكم يا كبار معابدنا الأعزاء وكبار زمننا، والطاعة واجبة تجاهكم مع كون الحقيقة وعيشها في مسيرة حياتكم دون مصلحة أو رؤية خاصة فإنها رسالة سامية، فالمسيح الرب أطاع حتى الموت موت الصليب (فيليبي8:2). إنها فكرة راودتني لِمَا رأيتُه وما سمعتُه وما حصل ويحصل على مدار الزمن والدنيا وأقول: نعم للحوار وليس شيئاً آخر. شكراً لإصغائكم وتحمّلكم كلامي هذا، وأرجو الاعتذار من كل واحد كبيراً كان أم صغيراً، ومحبّتي للمكرسين تدوم طول الزمان فهم الرعاة الأُمناء وعليهم أن يكونوا أُمناء لدعوتهم وللذين دعاهم وليس لشيءٍ آخر. فشبابنا لهم مواهب خاصة فلنرعاها في هذه المسيرة الأمينة وفي هذا الزمن، حينذاك سنكون آباءً أوفياء، وسيعرف الناس أنكم تلاميذي إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً (يو35:13).
     الخاتمة
المسيح هو الطريق، فأنت يجب أن تكون مُعِدَّ الطَّريق! وإذا كان المسيح هو الحق، فأنتَ كن الشاهد الأمين للحق! وإذا كان المسيح هو الحياة، فابذل حياتَكَ لأجل الحياة. فلكلِّ بناءٍ يرتفع أساساتٌ يرتكز عليها، وكلما كان الأساس قوياً كان البناء راسخاً ومتيناً. ومن الأساس تقوم أعمدةٌ ثابتة عليها، وإليها تستند جدرانٌ وسقوفٌ تجعل البناء كاملاً مكتملاً. أمّا المسيح فهو أساس الكنيسة المتين وأنتَ عمود الكنيسة الثابتة المُحْكَمَة التي قامت من المسيح الأساس الوطيد، وعليها يقوم بناء الإيمان والبشارة، وكما يقول مرقس الإنجيلي "لأنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخْدُم بنفسه جماعة الناس" (مرقس45:10).
فلا كنيسة بدون بشارة. وكنيسة بلا تنظيم ورئاسة تُضحْي فوضى واضطراب في نفس الوقت. وعلى كل رئيس في الكنيسة وصاحب مسؤولية أن يعي جيداً أنّ الرئاسة والمسؤولية الكنسية ليست كذلك الدنيوية كبرياء واستعراض وتجبّر، بل هي خدمة وتواضع، وما خَفِيَ منها أعظم مما ظهر.
ولكي لا ننسى، أدعوكم إلى كتابة الآيات التالية فوق أسرَّتكم وعلى أسطح مكاتبكم لعل وعسى تكون علامات للمسيرة المقدسة "لا تَطمَعوا في الْمعالي، بَل مِيلوا إلى الوَضيع" (رومة16:12) و"لابسين ثَوبَ التّواضُعِ في مُعامَلَةِ بَعضِكُم لِبعض" (1بطرس5:5).
فلنعمل سويةً من أجل الغايات الأسمى والرسالة الصادقة والبشارة الأمينة، ولا نعتبر أنفسنا حكّاماً بل خَدَماً للبشر مهما كانوا وبما اتّصفوا، فالمسيح لم يسأل عن الأبرص وعن الأعمى وعن الميّت فكلهم أحبابه، والمكرس هو حبيب المسيح إذ قال الرب "دعوتُكم أحبائي ولم أدعُكُم عبيداً" (يو15:15) وبذلك نزيل الحدود الفاصلة لنفتح الباب فيدخل المسيح الرب ويسكن معنا ويتعشى من أجل أن لا تموت فينا دعوة السماء، فلا أسمى ولا أقدس منها... نعم وآمين.

37
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة السادسة)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا     
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
– فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
    التجربة والتكنولوجيا
نعم، حياة المكرس ليست بالسهولة التي نراها أو نفكر بها بينما كل دعوة تحتاج إلى إرادة ووفاء، وفي كِلا الحالتين - العزوبية كانت أم الزواج - ما يزيد من همومنا هو لهونا بوسائل التواصل الاجتماعي التي تجعل من الإنسان آلة بين صفحات العدوّ الصديق الذي نحمله بكل محبة واحترام، فهو العدوّ اللدود والصديق المحتال الذي يغرينا في مسيرة دعوتنا، إنه فيروس يعيب جميع الذين يستَعْبَدون له إذ شطر حياتنا وجعلها قسماً متوحداً وفي جميع مراحلها، في الأكل والشرب والنوم والراحة و.... ولعلّ كل ذلك يعطيناً مجداً لا يزول ولكن الحقيقة هي بالعكس، وهذا كله يعود إلى الإعلام الذي أصبح له دوراً مهماً في تغيير مسار الحياة وحسب هواه ومرضاتهم، فهو السلاح المؤدب الذي يقتلنا ونحن في عقر دارنا هذا من جانب. ومن جانب آخر كم هي أمينة مسيرة الإعلام في مسيرة حياتنا إذا ما كنّا لها مسيَّرين وليس مخيّرين ولكن مع الأسف فقد تَملَّكَتنا وأصبحنا لا نملك شيئاً سوى هي  وهي فقط، وشَلَّت جميع طرقنا، وجعلت من كلنا نقاط ضعف بإمكاننا أن نعمل ما نشاء، وللأسف الشديد ضاع الإنسان وضاعت قِيَمه ومبادئه وأصبح ألعوبة مؤدبة في يد الإعلام بعد أن استملكه الحاسوب والموبايل، وربما العكس في ذلك حينما يستعمل من أجل خدمة الإنسان.
ومع الأسف، اليوم هذا حال مكرَّسينا حتى في أديرتنا ومعابدنا، فقد أصبحت هذه الأمور بالنسبة إلى المكرَّس مكمِّلة لمسيرة دعوته، وربما تُدخِل المكرس في دائرة الأضواء الدنيوية فيرى نفسه هو وحده وينسى الآخرين المحتاجين إليه، بينما الدعوة لا تريد منا إلا أن نستخدم ذلك لخدمة دعوتنا ولصالح مؤمنينا. فلننتبه فليس من صالحنا أن نكون فقط في مجد العالم فالرب يقول "أنتم في العالم ولكنكم لستم من العالم" (يو19:15) وهمّنا الوحيد أن نكون في محل جميل فربما هذا يقودنا إلى أن نجعل من الموبايل رسالة خطيئة أو نقصان لتشويه صورة الله فينا وهذا ما أقوله وأردّده مع كل احترام للمكرسين والمكرسات، فهم يرون ويسمعون دون أن يدركوا أين هي الحقيقة ولا يدركوا صحة ودقة الكلام الذي قيل أو الذي تردد على آذانهم. وبسبب تعلق المكرس بهذه الآلات الحساسة والخدمة سيبقى مبتغاه دائماً حب الظهور والمجد الذي ربحه من حقيقة ربما تكون مزيفة، وكل ذلك يعمل في نفس المكرس إلى المادة والجاه والمال بينما الحقيقة إن هذه الأمور صُنعت لخير الإنسان ولفائدته وخدمته وليس لاستعباده، ولكن المشكلة ليست في الجهاز بل في الإنسان الذي يستخدم الجهاز.
وهناك من المكرسين مَن يعتبر أن هذا الموبايل هو لخدمة الإنسان من أجل إيصال كلمة الله عبر التواصل الاجتماعي ولكن أظن هو أصبح عند الكثيرين البشارة بالذات، وبالأنانية والكبرياء، والاستدعاء في قول "أنا ولا غيري" قبل التبشير بالإنجيل وبالحياة الروحية وبمسيرة السيرة وقداستها والدعوة الأمينة، وهكذا قليلاً فقليلاً يبدأ المكرس بضياع دعوته ولا يملك إلا مجد نفسه، وتصبح الدعوة عنواناً فارغاً لا أحد يعمل من أجلها وينسى أن رسالته ليست في مسارها الصحيح بل هي تتلكأ مثل الأعرج الذي يرى نفسه ناقصاً ولا يقدر أن يعمل شيئاً إزاء ما يعانيه، وتضيع قِيَم آمن بها ويصبح ازدهار رعيته وعطاءها في خبر كان ويتعب في جمع شبابه والتعليم الذي يريده فإنه يجد الصعوبة في إيصاله بسبب سيرة حياته الفاشلة والسيئة وذلك بسبب ما ربحه من مسيرة الحياة الدنيوية ومن إعلامها وأجهزتها الالكترونية بدل أن تكون لخدمته، فقد إستعبدته وتوحدته ولا شيء آخر... وإلى الحلقة السابعة والأخيرة.


38
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة الخامسة)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا       
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
– فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
     الراعي الأمين

نعم، اليوم نحن جميعاً نُنشد أن يكون الراعي راعياً أميناً. فالمكرس هو الراعي الأمين، والرب يقول "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني مثلما يعرفني الآب وأعرف أنا الآب وأضحي بحياتي في سبيل خرافي" (يو14:10-15) إنها حقيقة الحياة في مسيرة الرعية عبر مؤسسة الكنيسة الأُمّ والتي تجمع بنيها تحت أسوارها "كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها" (متى37:23 ولو34:13) وهذا هو مبتغى الإنسان في هذه الدنيا بعد أن صار ألعوبة في يد العلم السامي والذي جعلناه أنانياً لمصالحنا وكبريائنا ولم نفهم لماذا كان ولماذا كُوّن. فما نحتاج ليس فقط التنشئة، ولكن لنعلم أن التنشئة لا تقوم ولا تبدأ إلا في العائلة أولاً وهذا ما يدعو إلى أن تكون حياة المكرس موجَّهة توجيهاً صادقاً وصالحاً وسامياً ومليئاً بالمحبة والإخلاص بدءاً - كما قلتُ - من صغره في العائلة إذا ما أراد أن يكون راعياً أميناً ليدرك أنه أُختير ليس فقط لشعبه بل لشعوب الدنيا وحقيقتها. فصلاتُهُ تجعل من الإنسان اتصالاً دائماً مع الله وسموّه وهو يرفعها إلى العلى، إنه أُختير ليكون رسولاً أميناً ولم يُختَر لمسيرة الدنيا فقط بل في الدنيا من أجل الوصول إلى رسالة السماء.
فاليوم عالمنا قاسٍ ومريض وهو بحاجة إلى الشفاء، إلى مَن يعطيه تفاؤلاً بدل التشاؤم، إلى مَن يمنحه الطيبة بدل العصبية، إلى مَن يعطيه المحبة والانفتاح وحبّ الآخر بدلاً من الأنانية والانغلاق والكراهية. فاعلم أيها المكرس أن العالم بحاجة إليك فقد قال ربنا "اذهبوا إلى العالم وتلمذوهم وعمذوهم" (متى19:28) فكن أنت هذا الصوت الذي صرخ به يوحنا المعمذان "صوت صارخ في البشرية" (مر3:1، اش3:40) فأنت والشعب من أجل المسيح وإعلان بشارته من أجل الخلاص وحمل رسالة السماء لأبناء الأرض.
فالآخر ينتظرك وأنت حاملٌ إليه البشرى السارة، كما واجب عليك أن تحملها إلى البعيدين والقريبين ولكن بعد أن تحياها أنت شخصياً وليس مثالياً، ومن خلالها يمتلئ قلبك رحمةً وحناناً تجاه المهمشين والمعوزين. فلا تهمل أحداً مهما كان، ولا تفرّق بين شخص وآخر، فأنت صُنعت من أجل إيصال الرسالة وحَمْلها مع المسيح الرب، فما عليك إلا أن تكون بشارة لتعلّمهم بعد ذهابك إليهم من دون تسلط بل بتواضع ووداعة القلوب مؤمناً بقول الرب "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى28:11) فالبشر مثلك كلهم بحاجة إلى رحمة الله وعليك أن توصلها لهم، فكن أميناً ووفياً لهذه الوصية.
واسمحوا لي أنْ أذكر ما قاله البابا فرنسيس يوم الجمعة 16 أيلول 2022 وفي رحلة العودة من كازاخستان وهو يتحدث إلى الصحفيين:
عندما تفكّر الكنيسة، أي كنيسة في أي بلد أو قطاع، بالمال وبالتنمية وبالبرامج أكثر من الاهتمامات الرعوية، وتسير في هذا الاتجاه، فهذا الأمر لا يجذب الناس. لذا، ما ينبغي فعله، قال قداسة البابا، وقبل كل شيء هو أن نكون منسجمين مع إيماننا. ولنفكر: إذا كنتَ أسقفاً أو كاهناً ولستَ منسجماً (مع إيمانك) فالشبان لديهم حدسٌ ويقولون لك "تشاو، إلى اللقاء".
كما أضاف قائلاً: أعتقد أنه يتعيّن على الرعاة أن يسيروا قُدُماً لكن إذا فقدوا رائحة الخراف، وإذا فقدت الخراف رائحة الراعي، فلن يُحقَّق أيّ تقدم. أحياناً كثيرة – وأتحدث هنا عن الجميع – يتم التفكير في التحديث، كي نجعل النشاط الرعوي عصرياً أكثر: هذا أمر جيد، لكن شرط أن يبقى بيد الراعي. إذا وُضع النشاط الرعوي بأيدي "علماء الرعوية"، الذين يُنظّرون هنا ويقولون ما ينبغي فعله هناك (فلا يُحقق أي تقدم). فلقد أسّس يسوع الكنيسة مع الرعاة، لا مع القادة السياسيين. أسّس الكنيسة مع أشخاص غير متعلمين، فالاثني عشر كانوا غير متعلمين، وسارت الكنيسة إلى الأمام. لماذا؟ بفضل رائحة الخراف لدى الراعي ورائحة الراعي لدى الخراف. هذه هي العلاقة الأعظم التي أراها، حيث توجد أزمة في مكان ما وفي منطقة ما.
وأخيراً إقترح قراءة تعليق القديس أوغسطينوس على الرعاة، وقال: يمكن قراءة التعليق خلال ساعة واحدة، لكنه من بين الأمور الأكثر حكمة التي كُتبت عن الرعاة، وإطلاقا منها يمكن أن توصّف هذا الراعي أو ذاك. المسألة لا تتعلق بالعصرنة: بالطبع لا بدّ من التحديث من خلال الأساليب، هذا صحيح، لكن إذا نقص قلب الراعي فلن يأتي أي نشاط رعوي بأي نتيجة... وإلى الحلقة السادسة.



39
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة الرابعة)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا       
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
- فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر - أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
     لنسأل دعوتنا

نعم أقول: أين نحن من سرّ الدعوة المقدسة؟ بل أين هم الذين إرتدوا ثوب الاكليروس المقدس؟ وما هي محلات إعرابهم عبر رسالتهم المسيحية الإيمانية والذين يحملون قيمة مقدسة لا توصف؟ وإلى أين وصلوا وأين يريدون أن يصلوا عبر هذا المسلك وما هي غاياتهم؟ وهل الذين وُسموا بهذه الدعوة هم مخلصون لدعوتهم ومختارون بقوة الروح القدس؟ وهل دعوتهم في مصلحة المسيح والكنيسة قبل مصالح كبارهم ورؤسائهم وإنسانهم؟ ونسأل: هل هناك مَن يحمل مصلحة الآخرين أم يحمل مصلحته فقط، فيعمل من أجل وظيفة أو بشارة بأناس منحونا هذه النياشين (الأوسمة) مصلحةً لنكون في إعلامهم وننسى إعلام الكنيسة أو تحت ظل هذا الإعلام؟ وأسأل أيضاً: هل جميع الذين سلكوا في هذا الدرب قد ندموا على ما قاموا به من خطوات؟ ولماذا العديد منهم يترك هذه المسيرة المقدسة من أجل غاياته الدنيوية وينضمّ إلى مسيرة أخرى يعتبرها مقدسة، وأصحاب الشأن يعتبرونه ربما من الكافرين أو خارجاً عن القانون وبالتحديد في هذا الزمان؟ وهل يعني مَن يتحول من طقس (طائفة) إلى آخر ومن معبد إلى آخر وتحت أمراء بأسماء عديدة أخرى خارجاً عن القانون بل فريسياً؟ وهل هناك بعض مِمّن يتركون مسلكهم هذا ويعتبرون أنفسهم غير مقتنعين بما أقدَمُوا إليه، فهم يفكرون ويقولون إنه مسلك صعب وقاسٍ وذو مسؤولية ومن الصعوبة القيام بما يقتضيه؟ وربما بسبب أن الكبير لا يدرك مطلب المكرس أو أن المكرس لا يكون مطيعاً بالحقيقه لرئيسه ربما فيها قد إستولى على منصب بطريقة أو بأخرى ونسأل إذا كان له رأي آخر في ذلك لاعتبرناه من جماعة المعارضة وغير مطيع فهل يستحق كل ذلك؟ أظن المهم أنه يخدم غير مستغِل اسم صاحب الدعوة لسبب أو لآخر.
فكبار مسلكه وربما بتصرفاتهم الغريبة التي يعتبرها مقبولة أو غير مقبولة وذلك حسب مشيئته، إذ يجد هؤلاء الكبار هم من أقربائه لا بل أصدقائه فهو سيحتمي تحت حمايتهم وينسى أن الرب هو الملجأ الأمين، فهم سيعاملونه بطريقة عشائرية وأهلوية وأقربائية، فيتصرف كما يشاء كأنه هو كبير الزمان ومن أجلهم جاء لينقذهم، وآخرون يجدون ذلك خطأً جسيماً إذ يختار الكبار مَن هم في مصلحتهم ومَن هم في طاعتهم بدل أن يتوبوا بل يجعلوا منهم أوائل في هذه المسيرة وينسون ما قيل سابقاً أنه للمكان المناسب يُجعَل الإنسان المناسب أو الشخص المناسب، فيقول الذين يرون ويسمعون أن هذا المسلك مباع للعشيرة الفلانية وللشخص الفلاني وإن كان مادياً أو دنيوياً أو مصلحياً أو احترامياً، فيجد أن هؤلاء لا يفكرون إلا بمصالحهم، ولنقل ما قاله مار بولس في رسائله كما أظهرنا في صفحات سابقة في رسالته إلى تلميذه طيمثاوس.
     الأمانة ... والدعوة
لقد كَثُرَ الحديث في هذا الموضوع طيلة النهار إذا أردنا قول ذلك حقيقةً، يعني صباحاً ومساءً، في اجتماعاتنا بآخرين أو بمفردنا، عبر أفكارنا وتأملنا ومسيرتنا الدنيوية الزائلة. فطالب التكريس - ومن المؤسف - يعتبر نفسه بعد تخرجه وإكماله دراسته الخاصة الدينية والاجتماعية قد صار قائداً ملهِماً وأصبح يدرك كل شيء، ومار بولس يقول ليس كل مَن يفهم يحمل البشرى السارة وجدير بحملها لإيصالها، لذلك بعد تخرجه يرسم لنفسه خطة الله على الأرض وكأنه الوفي والمنقذ الوحيد وكل الذين أتوا من قبله هم "لصوص وسرّاق" (يو8:10) كما يعتبر نفسه هو الراعي الأمين الذي يفتش عن خرافه (يو11:10) وإنه قد ملك على كل شيء، وعلى كل إنسان أن يكون خاضعاً له ونسي ما قاله الرب "مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً للكل" (متى26:20)، وفي ذلك يجد نفسه الإله الجديد الذي يجب أن يُتبَع ويُطاع، إضافة إلى إدراكه أن كل علم سابق أو حركة يُقدِم عليها المتعبد ربما خاطئة فيجد نفسه أن كل ما درسه لا يمكن تطبيقه في مجتمعه هذا، لذا يجب تغيير كل شيء ليكون على هواه وحينذاك يعمل ما يشاء وحسب ما يشاء، إنه دكتاتور الزمن، ويتّخذ بما جاء من أجله غطاءً لمسيرته ومسلكه فيتخلى عن رسالته السامية وبهذا يكون تأهيله الكنسي وتنشئته ناقصَيْن أو بعيدَيْن عن المنال الحقيقي في مجتمع مادي دنيوي كمجتمعنا اليوم حيث التغييرات العديدة التي تحصل فيه كل يوم، لذا فهو يغيّر ما يشاء ويجد نفسه أمام تحديات هو أوجدها، كما ويجد نفسه ناقصاً أمام كل ذلك، إضافة لما يرى في مجتمعه من قوانين ومجالات عديدة للعمل، فيقف مكتوف الأيدي وخاصة حينما يرى في مجتمعه ومن معابد أخرى مكرسين متزوجين لهم دعوات أخرى وبسرٍّ آخر ويبقى يفكر أيضاً بما حلّ في المجتمع من تغيير في القيم وغيرها في مشرقنا غايته ومسلكه وكيف يجب أن يعمل أو يوفّق بين عمله في هذا السلك بتولاً عفيفاً طاهراً وبين السلك الآخر الذي يدعوه إلى حقيقة الدنيا، فيقع ربما بشهوات دنيوية مختلفة ويجد ربما ذلك من حقه. وفي نفس الوقت هناك أناس محافظون يرون في هذا المسلك دنساً وباعثاً على الخطأ في المسيرة ولا يمكنه أن يتنازل عن الحب الذي أعطاه أولاً كما لا يمكن أن يعطي هذا الحب لآخر دنيوي، وربما هناك مَن يسأل: من أجل مَن أخذ هذا المسلك؟ أو هل هناك مَن يترك هذا المسلك لسبب أو لآخر... وإلى الحلقة الخامسة.

40
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة الثالثة)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا      
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
- فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبرحلقات أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
    تجربة الجنس
تحدثنا في الحلقة الثانية من ناحية المال، أمّا من ناحية الجنس لنعلم أنّ الجنس كان مسموحاً في الكتاب من أجل التكاثر بين الناس، فقد قال الرب "انموا واكثروا" (تك28:1)، فكل الناس المتزوجين والمتبتّلين عليهم أن يعيشوا طهارة القلب وعفاف المسيرة وبملء حريتهم وليس جبراً أو خوفاً أو استحياءً. فالبتولية أو العزوبية رسالة سامية إذا ما أدرك الإنسان كُنْهَها وخاصة الإنسان المكرَّس. كذلك في هذا الشأن مطلوب من الرجل المتزوج أن يكون عفيفاً طاهراً ملبيّاً نداء دعوته، فالإنسان المرتبط بعقد زواج أو أي إنسان في هذه الدنيا مطلوب منه أن يعيش هذه النعمة وهذه الطهارة. وفي كنائسنا المشرقية عادة - كما في شرقنا - هناك مكرسين مرتبطين بعقد زواج وهم يسلكون هذا المسلك المقدس.
وبما أن الزمان قد تغير "ألا يُطلَب من الوكيل أن يكون أميناً" (لو1:16-13) ويعمل الجميع، مكرَّسين ورؤساء، على دراسة هذا الموضوع الخطير في كنائسنا بدل ما يزوغ الكثيرون بطرق ملتوية وغير صحيحة، وفيه يتّجه مطلب القائمين عليه في هذا الإتجاه ويسألوا صاحب الدعوة المكرسة إنْ كان بإمكانه أن يعيش كمكرس متزوج أو أن يعيش في عزوبية أو بتولية وحسب ما يبتغيه الرئيس، ويقوم بهذه المهمة مع صفات يتّصف بها هي صفات مار بولس الرسول كما سردناها سابقاً وحقيقة زماننا هذا.
لذا على المدعوّ المكرّس في الدنيا والعالم أنْ يدرك أنّ السر ليس لعبةً، فلا يلعب المكرس كما يشاء، فإذا أراد أن يتزوج يجب أن يعيش عفّته أيضاً ويكون صريحاً مع كباره ومع رؤسائه ويُدرك جيداً أن دعوته لا تقف عند حدّ الزواج بل أيضاً إلى حدّ التكريس مع الزواج. فالكهنوت والزواج سرّان مقدسان لدى الكنيسة الجامعة، وخاصة الكنيسة الشرقية بطقوسها المختلفة، وأما أن يعيش حسب هواه وبخفية أو سرية في مسيرة حياته فهذا مرفوض رفضاً باتاً إذ لا يجوز أن يتراجع ويفسح المجال لمثل هؤلاء، فالكتاب يقول "ليرتبط الإنسان بامرأة واحدة" (1كور2:7) "وهناك مَن خصى نفسه لأجل ملكوت الله" (متى12:19) وليعمل من أجل ملكوت السماوات مكرَّساً كان أم متزوجاً، فهناك أخبار مؤلمة تردنا ونسمعها بين حين وآخر وغير ظاهرة، والأنكى أن يكون درجة في مسيرته. ولننتبه لمسلكنا ولمسيرة حياتنا فربما تريد الحياة الدنيوية أن تغرينا لسبب مالنا أو جمالنا أو لموهبةٍ فينا أو لصفاتنا أو لأخرى، فأنا يجب أن أفكر ما يحمله الحاضر لأجل المستقبل، والويل إذا كانت فضيحة مسلكية من قبل مكرَّس ولكن يجب أن أكون حقيقة الأيام إلى أن تظهر حقيقة المشكلة والفضيحة، وهنا كلام الناس لا يرحم، فالربّ من على الصليب منح المجرم رحمةً ونحن لا نمنح البريء إلا دينونةً، فهناك بشر يصيدون بالماء العكر وأفكارهم سيئة جداً وربما هم متقدمون في أمكنتهم من دور العبادة وقد جاءوا إلى هذه الأمكنة والدُور بغير استحقاق وفي عملهم هذا لأنهم لا يستحقون فهم يشوّهون صورة الله عبر مسيرة فاشلة لا تليق بهم لأن مصالح المكرس تكون في الأولوية في هذا المجال في العطاء والخدمة والمغفرة.
     أقوال ... وكلام الناس
لنعلم أن الناس - كما قلتُ - لا يسكتون، وشغلهم الشاغل والمهم أقوال لا ترحم، وكلامهم ينتشر بسرعة البرق ولا أكثر، وينسبون أعمالاً وصفاتٍ إلى بعض رجال المعابد والمكرسين وإنْ كانت كاذبة أحياناً كثيرة فلا يهتمون لذلك، والكلام طويل جداً فلا يوجد ضريبة على الكلام، فتراهم يسترسلون دون الملاك الحارس على أفواههم من أجل أن يشوّهوا صورة مَن هم غير مرغوب فيهم عندهم، وهناك آخرون من أجل الصلاح والقداسة لا يذكرون رجال المعابد والمكرَّسين إلا عبر الصلاة فيطلبون من الربّ أن يمنحهم النعمة والقداسة وأنْ يحلّ الروح عليهم ليواصلوا مسيرة مسلكهم بكل قداسة وغفران. لذا يجب على الرجل المكرَّس أن يعرف مَن هم أصدقاؤه ومن هم الرجال ومَن هم الثرثارون، كذلك أن يعرف مَن هم الذين يصلّون من أجله ومَن هم الذين يلعنون وينشرون الفضيحة كما يُنشَر الغسيل على حبل التنشيف ويعتبرون أنفسهم أبرياء وهم فاسدون، وهم الذين يجعلون من فسادهم هذا مادة لتدمير الآخر الذي ربما لسببٍ أو لآخر كان له سوء تفاهم معهم فأدى إلى خيانة ضميرهم وربما تدمير مستقبله. لذا على المكرس أنْ يعلم أنه ليس مُلكاً لشخص وليس لرئيس المعبد وإنما للسماء، ولا يعمل المكرس من أجل أصدقائه ففي ذلك ما هو إلا إنسان فاشل، بل عليه أن يُحسن الجواب يوم الدينونة عند الحساب الأخير.
نعم، لا يجوز للمكرّس، كبيراً كان أم صغيراً، أن يعيش إزدواجية الحياة، فإمّا العفّة والعزوبية وإما العفّة والزواج وبموافقة رئيسه المحلي، وإمّا أن يخصص نفسه ليكون رجلاً صالحاً في مسيرة الدنيا. لذا فقانون مسيرة الحياة هو مراقبة مسلك الإنسان، فهناك التساؤل والحيرة والإندهاش في عيش الإزدواجية المقيتة وهذا ربما لا يدركها حاملها، ولكن الآخر الغير يدرك ذلك، فكيف يكون المكرس عفيفاً وأفكاره وعيونه ومسيرة حياته مشكِّكة سيئة، وأخطاؤه يرميها عرض الحائط من أجل مصلحته فيشتهي ضد العفّة، ولا أظلم بعضاً، وعفواً عن كل كلمة أقولها في هذا المجال وربما أنا أعتبرها صحيحة ولائقة وربما القارئ الكريم يعتبرها عكس ذلك فأرجو المسامحة والغفران.
وأسأل: هل هناك سبب يدعو المكرس إلى عدم احتمال مسيرة حياته في عيش البتولية أو أن يكون أعزباً؟ أو ألا يمكن أن يحيا بدون الجنس الآخر وما شابه ذلك؟ وهل هناك قوانين تجعله يخون دعوته وربما ربّه ومسيرة مسلكه فيشتهي ما لا يجب عليه ويسأل هل الزمان قد تغيّر وأصبح لا يطيق حالة العزوبية بسبب ما يراه عبر الموبايل والحاسوب والتلفاز والأمور الإعلامية الأخرى ثم بعد ذلك ربما بسبب تواجده بين الشعب وأفراحه وما يسمع من مفاسد ولذات ومباهج فيرى نفسه بعيداً عن هؤلاء البشر فتنشأ في داخله مأساة وتناقضات وربما تساؤلات عن مسيرة حياته ولا يفهم معناها ولماذا يقوم بعملها؟ وهذا ما ينتج عنه أنه لا يعيش دعوته حسب إرادتها وإنما يعيش شهوته ونزواته بخفية من دعوته وربما يقع في خيانتها ويقدس عمله هذا ويقول ذلك حلالاً عليه.
فهناك الكثير من الناس المكرسين والمكرسات يتساءلون: لماذا لا يُسمح لنا أن نصادق فتياتٍ أو شباباً؟ ولماذا يُقفَل علينا الباب لكي لا نكون مع ملذات الناس وشهواتهم؟ ولماذا لا يوجد كهنة متزوجين يخدمون العائلة والمعبد وحتى إذا ماتت زوجته بإمكانه أن يتزوج أخرى لتقوم بخدمة مهامه؟ فهناك ما أعلمه أنه لا يوجد مانع إلهي ولكن تدبير كنسي أو مانع وضعي وضعته الكنيسة المقدسة لأسباب وغايات كانت في الماضي وربما استمرت حتى الآن، واليوم تغير كل شيء ومار بولس يقول "الزواج أفضل من التحرق بالشهوة"(1كو9:7). فهناك كهنة يعيشون عزوبيتهم وبتوليتهم بكل إخلاصٍ وعفّةٍ وتفانٍ من أجل أن يكونوا مثالاً في مسيرتهم الكهنوتية ويكونوا علامات مضيئة كما هم أسلافهم ولكن بصور أخرى عديدة فهم يقدسون أنفسهم ويعملون على تقديس الآخرين... وإلى الحلقة الرابعة.

41
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة الثانية)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا      
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
- فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
     المكرَّس ... إنسان محترم

فالمكرَّس مدعوٌّ دعوةً خاصة كما دُعي آخرون لدعواتٍ أخرى متعددة، فهو إنسان محترم في المجتمع وفي كل مكان، فالرب هو الذي اختاره "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتُكُم، وأقمتُكُم لتذهبوا وتأتوا بثمرٍ، ويدومَ ثمرُكُم" (يو16:15). إنه نداءٌ من أجل الإنسان، وصفاته تتطلب أنْ يكون الجواب لهذا النداء فيمتلئ من الخير والمحبة، من التضحية والعطاء، بنكران الذات وصدق النيّة وطهارة القلوب، مليئاً بالسلام والفرح والغفران أمام كل سيئة ربما تحصل، إضافة إلى إتمام الرسالة في خدمة الرعية والإنسان وفي كل مكان وبالأخص في شرقنا وبلدنا. وفي هذا الشأن يقول البابا فرنسيس "اذهب وفتش عن البعيدين والضائعين والمهمَّشين عند الشواطئ، كما عليكَ أن تعرف رائحة غنم رعيتك دون أن تنظر مَن هو".
فَمِن هنا نقول: في خدمتكَ أيها المكرَّس كن عاملاً وخادماً في حقل الرب لزرع البذور كي تحصد ثماراً يانعة، لأنّ "الحرَّاث الذي يتعب، يشترك هو أولاً في الأثمار" هكذا يقول مار بولس (2تيمو6:2). فالمحبة رسالتك، وخدمتك ليس فقط بالأقوال بل بالمَثَل الصالح عبر حقيقة الحياة والمسيرة، وهذا كله يتجسد في مواقفك وعطاءك من أجل الرعية ودون تمييز، فأنتَ مُلْكٌ للآخرين ولستَ مُلْكاً لنفسكَ، فالكل صغيراً كان أم كبيراً، رجلاً أو امرأةً، كما يقول مار بولس "أْن تصير للكلّ" (1كو22:9) وليس أنْ تكون كلاً لِمَا هو في قلبك وفكرك ولمصالحك.
    الكتاب المقدس 
لنبدأ سويةً مع ما يقوله مار بولس في رسالته الأولى إلى تلميذه تيمثاوس (1:3-12) وهذا نصّه:
"فاشتَهِ عَمَلاً صالحاً. فيجب أنْ يكون المكرس بلا لومٍ، بَعْلَ امرأةٍ واحدةٍ، صاحياً، عاقلاً، محتَشِماً، مُضيفاً للغرباءِ، صالحاً للتَّعليمِ، غير مدمِنِ الخمرِ، ولا ضرَّابٍ، ولا طامعٍ بالرِّبحِ القبيحِ، بل حليماً، غير مخاصمٍ، ولا مُحِبٍّ للمالِ، يدبِّرُ بيتَهُ حسناً، له أولادٌ في الخضوعِ بكلِّ وقارٍ. وإنَّما إنْ كان أحدٌ لا يعرفُ أنْ يدبِّرَ بيته، فكيف يعتني بكنيسةِ الله؟ غير حديث الإيمانِ لئلاَّ يتصلَّف فيسقُطَ في دينونةِ إبليسَ. ويجبُ أيضاً أنْ تكونَ له شهادةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الذينَ هم مِنْ خارجٍ، لئلاَّ يسقطَ في تعييرٍ وفخِّ إبليسَ. كذلكَ يجب أنْ يكون ذا وقارٍ، لا ذوِ لسانَيْنِ، غيرَ مُولَعِ بالخمرِ الكثيرِ، ولا طامعِ بالرِّبحِ القبيحِ، ولك سرُّ الإيمانِ بضميرٍ طاهرٍ. كذلكَ يجبُ أنْ تكونَ المكرَّساتُ ذواتِ وقارٍ، غيرَ ثالباتٍ، صاحياتٍ، أميناتٍ في كلِّ شيءٍ".
ويقول أيضاً في رسالته الثانية إلى تلميذه تيمثاوس (7:2، 8:1، 15:2، 12:3، 13:12) ما نصّه:
"إفهمْ ما أقولُ. فَلْيُعْطِكَ الرَّبُّ فَهْماً في كلِّ شيءٍ" و"لا تخجل بشهادة ربّنا، بل اشتركْ في احتمالِ المشقَّاتِ لأجِل الإنجيلِ بِحَسَبِ قوّةِ الله" و"اجتهدْ أنْ تُقيمَ نفسَكَ لله مزكّى، مفصِّلاً كلمة الحق بالاستقامة" و"جميعُ الذين يريدون أنْ يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهَدون" و"إنْ كنّا نصبرُ فسنملك أيضاً معه. إنْ كنّا نُنْكِرُهُ فهو أيضاً سيُنكِرُنا" و"إنْ كنّا غيرَ أُمناء فهو يبقى أميناً".
     تجربة المال
لستُ هنا في سرد تجارب المكرَّس العديدة وكيفية الخلاص منها، ولكن أسردُ واقعاً ربما لبعضٍ منا مؤلماً، فالحقيقة مؤلمة، ولنتكلم أولاً عن تجربة المال. من المؤكَّد أننا ندرك جيداً أنّ الله قدوس وعظيم في عطائه فهو مَن  قال في سفر التكوين "هوذا الأرض كلها لكَ" (تك7:12). فالمال منحة وهبها الله ليكون في خدمة الإنسان وصنع الإحسان وعمل الخير، فلا يجوز أن يكون المال إلا عبداً مطيعاً للمكرس، كما لا يجوز أن تُقدَّم له العبادة، فالرب قال "لا تقدروا أنْ تعبدوا الله والمال" (متى24:16).
فإذا كانت عبادتنا للمال فهل ستبقى عبادتنا لله الحقيقي؟ أخاف من ذلك كثيراً. نعم، من حقّ المكرَّس أن يعيش كريماً وأنْ يحافظَ على مستقبله ويفكر فيه وفي زمن شيخوخته وفي مسيرة حياته وما يحتاج في مسلكه من أجل الصحة والحياة والسفر وأمور أخرى عديدة تخص المسيرة كما بقية البشر. وفي هذا الزمان ما نلاحظه طغيان المال وعبادته عند الكثيرين دون الإنتباه إلى عواقبه الوخيمة وطرق كسبه الملتوية وأساليب جَمْعِهِ المتعددة، وربما تكون مسيئة إلى سمعته وسمعة معبده ورسالته وإلى إخوانه في السلك نفسه، وإلى تباعد أبناء الرعية عن راعيهم وبطرق عديدة مختلفة، وهناك العديد من المكرّسين يتهافتون للتسابق والربح بطريقة أو بأخرى وربما بإكمال أحد نشاطات المعبد مقابل حفنة من المال مستخدمين بذلك كلّ شيء من أجل الربح القبيح كما يقول مار بولس (1تيم30:3) "ولا طامعٍ بالرِّبحِ القبيحِ"، وهذا ما يظهر مسلكاً غريباً كما هو ضد المسيرة والدعوة الإنسانية.
فالعمل من أجل المزيد من المال صنعة (مهنة) سيّئة لمن إختار الرب وخدمته، ثم يأتي حديث الناس والكلام البذيء ولَوْمُهم لِطُرُقِ مسلكنا وتشويه صفات هذا المسلك حيث الحقيقة هي أن نحيا بالتجرّد وروح الفقر والحاجة الإنجيلية وليس المالية. فما يملك المكرّس ما هو مُلْكه، وهو لا يمكن أن يعطي ويجمع ما ليس من مالِهِ ومن مصلحته، لذا تصرفه هنا وهناك يجب أنْ يكون بتأنٍ وفكرٍ نيّرٍ ومصلحة عامة وليس بالتبذير وبطرق مصلحية ملتوية، وهذا كله يُظهر قيمة تكوينه وتنشئته وكيف هُيّئَ لهذه الرسالة وهذا المسلك، ويُعتبر هنا بأنه يستغل رسالته في إفصاحٍ عن سبيل عيشه. وربما أقول حبّ المال والتعبّد هو أصل كل الشرور (1تيم10:6) فالمال حلال لمسيرة الإنسان المكرّس والحقيقية لعيش الحياة الطبيعية والمحترمة، ولكن دون عبادته أو وضعه مكان الإله الحقيقي... وإلى الحلقة الثالثة.

42
المكرّس ... دعوة سماوية
(الحلقة الأولى)
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا      
"المكرَّس... دعوة سماوية"، بحثٌ في رسالة المكرَّس بجميع تسمياته ودرجاته المختلفة، فهو دعوة سماوية، وخاصةً نعيش اليوم في مجتمع قد تغيّر في شرقنا كثيـراً جداً ربما بسبب الحروب والمآسي التي خاضتها دولُنـا في الشرق
- فمهما يكن من أمر "فليكن اسمُ الربِّ مبارَكاً" (مزمور2:113، أيوب21:1) - وما تمرّ به المنطقة من تغييرات هائلة عبر الحروب والتقشف والحصار والاختلاف في مسلك السياسة والمصالح العامة والفساد المستشري بين أبناء هذه الدنيا، وبيوغرافية داعش الإرهابي وقلّة الحريات التي تمارسها الدول كما يمارسها بعض الحكّام على شعوب مبتلاة وهي التي أُعطيت لشعوب ولم تُمنَح لأخرى.
فإذا سمحتم جميعاً أردتُ اليوم في بحثي هذا المتواضع عبر حلقاتٍ أن أكون شاهداً للحقيقة وسأبقى - وكما كنتُ وحسب قول البابا بندكتس السادس عشر – أن أروي حقيقة مسيرتنا في سلك المكرّسين وخدمة الكنيسة وبتسمياتهم المختلفة من الكبار والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات وكل الأصناف الإيمانية التي تعمل من أجل خدمة بيت الرب والشعب وعبر مسالك مختلفة.
     أسئلة ... وحقائق
أقولها - وبكل حقيقة أشهد لها - أنّ الواقع أليم جداً وهو يدعونا إلى أن نفكر مليّاً وجديّاً في هذا الشأن الديني والإيماني والإجتماعي. ومستقبل مسلكنا ومسلك معابدنا كما هو مستقبل دعواتنا في قلق مستمر مما يحدث عند الرجال كما عند النساء، ونسأل: أين هي هذه الدعوات الشبابية التي كانت تفتخر بها قصباتنا ومدننا وقرانا والتي كانت تزهو بهذا العطاء عبر هذا المسلك المقدس؟ وأسال: لماذا لا يوجد اليوم استقطاب لهذا المسلك رغم أن الإيمان هو هو ولو تغير مسلك البشر تجاهه؟ فهذا ما يدعونا أن نسأل: أين هي هذه الدعوات – وكما قلتُ – حيث كانت قرانا مصنعاً للعديد منها ولنوعيتها فكانت قوة لخدمة الكنيسة؟.
ما يهمّني ليس فقط أن أذكر حسنات هذه الشريحة من الناس أو غير ذلك، ولكن تسليط الضوء وإضافة في المعلومات ولعدم الطاعة لبعض الكهنة أو عدم تفاهم الرئيس معهم أو الثرثرة (عذراً) الكبيرة التي تنشأ من أجل غايات، والحقيقة ربما لا ينتبه لها كبار المعابد أو رؤساء الزمن لسبب أو لآخر. ومن خلال خدمتي المتواضعة
- وإنْ كان طلبي مرفوضاً  كما اني مرفوض في الزمن هذا - فأنا أقول لكم أنّ أمام المكرَّس تجارب مختلفة، وأقولها مالية وجنسية وجمالية وربما مصلحة دكتاتورية المسيرة والتباهي أمام الدنيا وكبارها واليوم كبرياء الفيسبوك، كما يقال أن هؤلاء هم الوحيدون الذين يُدركون كل شيء ويا للأسف، لذا على الجميع أن يدركوا أن العالم والمجتمع قد تغيرا وأصبح كل إنسان يدرك بوعي كل صغيرة وكبيرة بينما يدعونا الرب كلنا إلى أن "نكون متعلّمين منه جيداً" (يو45:6) وواعين لِمَن نحن نتكلم ومع مَن نتحدث ومع مَن نعمل ومَن هم الرؤساء ومَن هم مرؤوسيهم وما هو موضوع الحديث، لكي لا يُلام المكرَّس كما لا تُجرَح مشاعر الكبار بعد ذلك، ولا يندم على ما قاله أو تصرف تجاهه بصورة أو بأخرى.
لذا، كَونْي أحد هؤلاء الذين أتكلم عنهم في هذا البحث فإنني أروي وأنقل إلى شعب الله وإلى القرّاء الكرام
- وبكل ما أوتيتُ من نعمة ومن حقيقة في معلوماتي - لعلّ وعسى تكون منهجاً أو ربما مسلكاً أمام كبار زماننا من أجل صغارنا، ومسلكاً للمسيرة والسلوك، وسأبقى إنساناً مطيعاً وإنْ كنتُ غير مرغوب فيه لأنّ الذي يقول الحقيقة هو شاهد وشهيد وهذا مصيره أنْ يكون، وحقيقة مسلكنا على شاكلة معلّمنا يسوع الذي قال "أنا الطريق والحق والحياة" (يو6:14).
نعم أنقل ذلك لخيور المسيرة، وسأعمل جهدي على أن أكون علامةً لحقيقة معبدنا ودعوتنا ورسالتنا كي نكون رافداً أميناً للخدمة والرعية والبشارة من أجل المعالجة والمراجعة ونقل ما نجده وما يحصل بكل حقيقة، وأكون في طريق المسؤولية حسب السماء وليس حسب البشر. فهذا الموضوع الحيوي في هذا الزمن القاسي ليس إلاّ عوناً لإصلاح ما أفسده البشر وعاشه المكرَّسون وعبر جوانبه المختلفة وحسب إمكانياتي وإمكانياتكم المتوفرة، وليكن كبارنا على بيِّنةٍ من ذلك.
     المخاض الكبير
ما دعاني أن أدخل في كتابة مثل هذا الموضوع البسيط والشائك في الآن نفسه هو: أولاً إخلاصي لدعوتي، وثانياً ما يحصل اليوم وما نسمع عنه، عن المكرّسين والمكرّسات، وعن الغنائم التي تُحصَد في مثل هذه الدعوات، وما يقال فيها وعنها، فأرجو المعذرة من جميع القرّاء وذوي الشأن وكبار المعابد والزمن إذا ما غرقتُ في خوض هكذا موضوع وطلبتُ النجاة ومساعدتكم، فلا تبخلوا عليَّ فأنا لا أنوي غير شيء واحد فقط وهو أن أقول الحقيقة أمام سرّ التقوى العظيم بشأن المكرّسين والمكرّسات فشهادتي هي حق (يو14:8) ولا أقول إلا الحقيقة وليس شيء آخر، هكذا أنتم كونوا معي لدراسة وبحث مثل هذا الموضوع لمستقبل كنيستنا المشرقية ودنيانا وزمننا في السيرة الصالحة، وفي دعوة مقدسة من أجل خلاص الرعية وخلاص نفسي وأنفسكم والتي سُلّمت رعايتها إلينا جميعاً وإليكم لنكون أمناء وأوفياء في الآن ذاته من أجل إشراقة الدعوة، وعبر تمحيص هذا الموضوع الحيوي بجوانبه المختلفة وحسب إمكانياتنا المتوفرة وقبول كبارنا، فلنعمل سويةً خاصةً وأنّ هذه الأسئلة وأخرى تراود الإكليروس رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، كما الرعية وشعب الله، وأخرى كثيرة تُطرح على كل إنسان، وعلى مَنْ قَبِلَ الكهنوت العام، وعلى المؤسسة الكنسية التي تهتم بالتنشئة والتعامل من قبل كبار معابدنا من أجل صغارنا ومن أجل شعبنا والعاملين معنا، إنه المخاض بالذات... وإلى الحلقة الثانية.


43
البابا فرنسيس ... مسلكٌ شجاع
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
نعيش اليوم في عالم مليء بالتحديات، وتاريخنا شاهد حقيقي على مسيرتنا إنْ كانت في السراط المستقيم أو كانت مزيَّفة. فقد جاء في رسالة قداسة البابا فرنسيس "كلّنا أخوة" أن التاريخ يُثبت أن العالم يتراجع، وإنسـان
اليوم أمام مفترق طرق حقيقي، لا يبالي إلا بمصالحه وأنانيته. فالوقت والزمن اللذان نحياهما ما هما إلا زمن الخوف والكذب والنفاق والتشكّي من أمور لم تكن في الحسبان ولم يذكرها التاريخ مطلقاً - وإنْ ذكرها فلنشر المعلومات - وهذه الآلام والويلات العديدة التي نحملها إلى غيرنا حقيقة زمنية مؤلمة، عندها نسأل أو نتساءل: ماذا بإمكاننا أن نعمل؟ أو كيف يجب أن نتصرف؟ هل كما تعلّمنا أم كما يشاء زمن اليوم؟.
نعم، إن العالم اليوم يمرّ بمرحلة جديدة وربما هذه المرحلة تحمل المزيد من الانقسامات، فأصبحت تكتّلات البشر تهيمن على الآخرين، فكثرت الأوبئة ومنها كورونا، كما تضاعفت الحروب رغم إدراكهم أن الحرب خسارة للطرفين المتحاربين، وازدادت عبودية الناس لأغنياء الزمن، وهذا ما أنتج توقف التقدم البشري الحقيقي وجعل أيضاً بناء الوطن والمواطن صعباً للغاية ومسؤوليةً مخيفة.
ومن خلال ذلك يأتي صوت قداسة البابا فرنسيس متّخذاً مواقف شفافة في إعلان الحق والعدل والمحبة من أجل السلام العالمي وتعايش الإنسان المختلف، لا بل أكثر من ذلك حيث قداسته يُظهر لنا كم هو عظيم طلب الصفح والغفران والعفو، ليس فقط عند المقدرة ولكن في كل زلّة نقترفها بحق الآخرين فكانت مسيرة مزيفة وإرهابية من أجل مصالح أنانية، وجَعْلِ الإنسان البريء عبداً أميناً بل بائساً بدل أن يكون عبداً بريئاً لا يفتش إلا عن الخير والعدل، ومؤمناً بأن كل إنسان خُلق على صورة الله ومثاله كما يقول سفر التكوين (27:1).
نعم، لقد توجّه قداسة البابا فرنسيس إلى كندا يوم الأحد 24 تموز 2022 ولغاية يوم السبت 30 تموز 2022 في زيارة حجّ وتوبة وهي تحمل شعار "السير معاً" للقاء الشعوب الأصلية. وفي لقائه مع تلاميذ المدارس الداخلية السابقة - والتي عُهد بها إلى الكنائس المسيحية - والذين غالباً ما كان يتمّ أخذهم بالقوة من منازلهم لتعلّم الثقافة الغربية، وفي هذه المرافق مُنع التلاميذ من التحدث بلغتهم الأمّ، كما عانى الطلاب أيضاً من سوء المعاملة وغياب الظروف الصحية والمساعدة الطبية، وكان في استقبال قداسته رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترود" والحاكمة العامة لكندا "ماري سيمون"، وقال قداسته للصحفيين "إنها رحلة توبة"، كما تطرق قداسته إلى تقارير المعاناة والحرمان والمعاملة التمييزية ومختلف أشكال الإساءة في المدارس الداخلية وكما كانوا ضحايا لأعمال العنف.
نعم، إن هذه الزيارة تحمل في طياتها طلباً للصفح والغفران من السكان الأصليين وهو ينطلق من قول المسيح "أحبوا أعداءكم" (متى44:5) وانطلاقاً من المسيح الذي هو الحق (يو4:6) مبيّناً أن حب الأعداء رسالة سامية يحملها مَن جَسَّدَ السماء في قلبه، وهو يعلم جيداً أن كل الثغرات ما هي إلا دفاعُهُ المستميت من أجل الإنسان وكرامته وحقّه في الحياة واختيار كرامته. فتعاليم البابا كلها تتميّز بمعانيها وليس بكلماتها فقط، فهو يعالج مسائل عديدة بجرأة وإيمان لا شبيه لهما وربما ذلك يُزعج البعض في هذا المجتمع العولمي وعبر فئات مختلفة دنيوية ودينية وأخرى، والذين يريدون أنْ يُسكِتُوا صوتاً يعلن حقيقةَ الحياة وكرامةَ الإنسان والعائلة وسموّ الرسالة المسيحية الإنسانية والتي يحملها ليدرك الذين أرادوا قتل المسيح ما هم إلا علامة لحقد وكراهية وأنانية ومصلحة تجاه عمل الخير، بينما الإنسانية يجب أولاً أن تفتش عن الجائع والبائس والمهمش والأبرص والمريض والمقعد والأعمى، ولا تجعل مجالاً للخطيئة أن تعشعش في قلوب الحاقدين والكارهين للحقيقة من أجل تدمير الإنسان وزوال حقّه في الحياة وإفساد كرامته البشرية وزرع بذور الشرّ والحقد في قلبه، لذلك على الإنسان – يقول قداسته – وعلى كل مؤسسة دينية كانت أو اجتماعية أن تنظر إلى أخطائها الماضية وربما الحاضرة أيضاً لتقديمها من أجل نقاء الرسالة التي تحملها، وهذا ما يُظهر أن الكنيسة لن تعدل أبداً عن أداء رسالتها الخلاصية مهما كلّفها الثمن، وستسعى لإزالة كل عائق في داخلها يمنع من أداء هذه الرسالة خدمةً للإنسان الآخر من أجل حقيقة الحياة التي يحياها بين إخوته البشر ومن أجل السير معاً.
وإذا ما رجعنا إلى الماضي القريب، نستذكر قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، نبيّ الرجاء، كم وكم دافع عن حقوق الشعوب طالباً ومانعاً وواقفاً بحزم أمام ما يحصل من انتهاكات وويلاتها العديدة التي تقع على أناس أبرياء فقراء لا يملكون إلا صوت الدعاء والطلب والتشفّع من ربّ السماء ليُبعد عنهم هذه الغيمة، فقد دعا قداسته الرئيس بوش بعدم شنّ الحرب في العراق على الشعب البريء، ولكن آذانه لم تسمع وعقله لم يحكّم مسيرة حياته، وجبروته لم يوقف ما كان مصلحةً له فكان ما كان من قتل وتدمير وتشريد وما وصل إليه حال البلاد كما نراه اليوم. والبابا بندكتس السادس عشر صرّح يوماً في المقابلة العامة قائلاً "إن العراق في قلبي". وكذلك ها هو اليوم البابا فرنسيس يقول في كلماته الأخيرة من زيارته للعراق الجريح "إن العراق سيبقى في قلبي" وما ذلك إلا صوت الحق.
نعم، إن البابا فرنسيس والشجاع هو ضد كل ما يُشرَّع من تعاليم قاتلة وتدمير لقِيَم الحياة، فقداسته لم يتكلم اليوم إلا حقيقة الإيمان ولم يشرح إلا سموّ الحياة وقيمها ولم يعلّم إلا العيش المشترك ومدّ الأيادي من أجل ديمومة الحوار وحقوق الطفولة والشباب وكبار السنّ والمرضى والمهمّشين والأشخاص الأكثر ضعفاً والبعيدين والمنسيين كما هي رسالة السينودس القادم عام 2023.
فاليوم كثير من الأشرار والعولميون يريدون أن يشوّهوا ديانة المسيح ويصوغونها على هواهم وأذواقهم ويسيّروا الكنيسة بحسب مصالحهم الدنيوية والعولمية فيكتبون ما يشاءون كذباً من أجل مصالحهم، ويرذلون وينبذون ما أوصى به المسيح وكنيسته.
نعم، ورغم ما يوجد من تشويه لحقيقة البابا وشجاعته المثالية الأمينة لتعاليم السماء ففي ذلك يهاجمون شخصه ورغم هذا الاعتداء المباشر يحمل قداسته أزاءهم الغفران وربما هذا يُزعج مضاجع الكثيرين والذين يشترون براءة الطفولة من أجل حفنة من أوراق خضراء وإنْ كانوا يبيعون القيم، فمتّى الإنجيلي يقول:"قلبهم قد غلظ وأذانُهُ ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا ويسمعوا ويفهموا ويرجعوا فأشفيهم" (متى 15:13). ولكن لنعلم أن صوت الحق سينتصر وستبقى الكنيسة تحيا في أعماق أفئدتنا وسنبقى لها أمناء، وأوفياء لرؤسائنا القديسين، ومهما علا صوت الحقد والكراهية والمصلحة سوف لن يبقى إلا صوت المحبة والعدالة والخير، صوت الغفران عن الإساءة والصفح عن الرذيلة وطلب المسامحة عن العداوة والاعتذار عن الخطأ. إن ذلك هو الصوت الحقيقي الذي ننشده دائماً وهذا هو صوت الإنسان المهمش والضعيف والمنسي والمكروه والمنبوذ وما أكثرهم، إنهم مساكين الحياة ورسل السماء على هذه الفانية.
وهذا كله يعني الشجاعة بالتمام، فإنها شجاعة إيمانية يحملها قداسة البابا فرنسيس ليعلّمنا الاعتذار عن آخرين ارتكبوا انحرافات وأصابوا ويلات للآخرين وما ذلك إلا استلهام جديد لمنهج مسيحي معروف ورسالة إنسانية سامية، وهذا المنهج قائم على الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والعفو والمسامحة وما ذلك إلا دعوة لنا جميعاً - في الدنيا والزمن، كبار المعابد والمجتمعات والذين يعتبرون أنفسهم متقدمي الشعوب وكبار
المعابد - من أجل التعليم في مسيرة هذه الحياة، لذلك علينا أن نتعلّم ونعلّم، نتعلّم من قداسته هذه الرسالة ونعلّم الآخرين أننا بحاجة ماسة إلى الصفح والغفران عن مجموعات تلاعبت بحقوق الآخرين – وإنْ كذباً - من غير وجه حق. فحينما نحمل الحقيقة إلى صغارنا والرحمة إلى محتاجينا والسلام إلى الآخرين نكون في طريق السماء وأوفياء لدعوتنا مهما كنا كباراً ورؤساء ومسلَّطين فلا يجوز أبداً تلوث النفس البشرية والصورة الإلهية التي أمامنا في هذه الحياة، فالله خلق الإنسان حسناً (تك 31:1).
لنعود إلى مقالنا ونقول: إن عمل قداسة البابا فرنسيس هذا في رحلته إلى كندا ليلتقي الأناس الأصليين ما هو إلا عمل توبة وما ذلك إلا رصيد الإيمان الذي يحياه متسلّحاً بتعاليم المسيح الحي وغيرته على مسؤوليته وعدم ضياع الخروف الضال إنما يفتش عنه ليحمله على منكبيه (لو5:15) وعبر ذلك يكشف ما أبشع الأخطاء البشرية أو المؤسسات الدينية أو كبار الزمن حينما ينظرون إلى كبريائهم وينسون النظر إلى التعاليم التي آمنوا بها وخاصة حينما تُنتَهَك حرمة الإنسان عبر تأويل لنصوص مقدسة وجعلها من أجل أغراض دنيوية لا تمتّ بأية صلة عبر جوهر الأديان والإيمان، بل أكثر من ذلك عبر جوهر المحبة والحق في الحياة وهو تعليم لنا جميعاً لندرك أن حق الحياة عالمي، فليس من حق أحد أن يحرم شخصاً آخر من حقه في الحياة حتى لو لم تعترف به قوانين بلده.
لنعلم أنّ الحقوق غير قابلة للتصرف كي يعيش جميع الناس بكرامة، فالحرية واجب للجميع عبر معيشة لائقة، وهذا كله يدفعنا إلى التفكير في عالم قادم من غير خوف من مشاكل الدنيا وويلات الحياة وإلى أن نتسلّح بشجاعة الحياة والإيمان ونحمل الصفح والغفران طريقنا إلى الآخر، وهذا هو المسلك الشجاع لقداسة البابا فرنسيس، إنه حينما نُخطئ بحق الآخرين يجب أنْ نكون لهم عوناً في تصليح مسار حياتنا، وإعطاء الحق للذين بحقّهم كتبنا كذباً وشهدنا زوراً عليهم، وما هو لمصالحنا ولمراكزنا. فلنحمل الشجاعة بالمسيح الرب، ولنتقدم حاملين الصفح والغفران كما هو مسلك البابا فرنسيس، نعم وآمين.

44
شعبنا صليبنا ... فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم

بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
عندما ننظر إلى تاريخ عالمنا، وحالته الحاضرة بعلومه وتقدمه وبدواعشه، تغمرنا التعاسة والقلق، حيث نرى ونسمع ونشاهد ما يحدث وما يحصل من إجرام وظلم وفساد، وما تنتجه الكوارث من مآسي وخسائر بشرية ومادية، والأدهى، أن الإنسان الذي مارس قديماً إجرامه ووحشيته على أخيه الإنسان، ما زال يقوم اليوم بالأعمال عينها.
وبسبب هذه التناقضات الصارخة، كثرت هموم الإنسان ومشاكله، وأصبحت مسالك الحياة خطرة، ولا زال البشر الأبرياء يتألمون من آفات الحروب والنزاعات التي تلقي بثقلها على الحياة الخاصة، فردية كانت أم عامة، وأصبح وجودنا نحن المسيحيين في الشرق قضية موت أو حياة. نعم، إنها مرحلة شديدة الخطورة ولا نعلم مداها وتبعاتها، هل هي على المدى القريب أو على المدى البعيد!.
     هذا حالنا

هذا هو حالنا أمس واليوم... ففي الأمس القريب والبعيد ثمّة توترات وصراعات نشبت منذ البدايات بين البشر حول السلطة والأولوية، وكذلك خلافات في البقاء والوجود، وهذه كلها كانت مليئة بمشاعر الحسد والغيرة والأنانية والبغضاء والكراهية، كما نخرت في الجسم الواحد، في حين أن الرب وصية واحدة أعطانا وهي"وصية المحبة الإلهية" (يوحنا34:13)، لذلك نرى الكثيرين، ومنهم الأقربين، تعساء أكثر من كل الناس لأنهم لم يعيشوا هذه المحبة بكل أبعادها، بل بالعكس فقد راحوا يعيشون أحياناً إنسانهم القديم الذي لا يصير أو يرفض أن يصير إنساناً. وكما كان حال التلاميذ أمس هكذا حالهم اليوم، إذ ليس أفضل من حال مَن سبقوهم. يكفي أن نلقي نظرة سريعة إلى حالهم اليوم لنرى كم أن هناك خصام وانقسام ونزاع وصراع، وعشائرية وطائفية وقومية ومحسوبية، بدل الوئام والإنسجام والسلام ووحدة الهدف والغاية، وهذا ما يجعلنا أن نرى أيضاً كم أن مشاعر الغيرة والحسد والحقد والكراهية والإنفرادية والمصلحية تعتمر قلوب الكثيرين منهم، ويستثمرون هذه بدل تلك، وهذا ما يجعلني أن أقول: أننا لم نستفد من عِبَر الماضي البعيد والقريب، ولم نحصد ثمار آلامنا وهزيمتنا وتهجيرنا، كي نكون في الوحدة والتماسك والتجديد واحترام القيم في قول الحقيقة عبر مسيرة الحياة. فكفانا أن نُجلس الفاسد في أولى الصفوف، ونبجّلُه بما لا يستحق، ونستقبله بأجمل ترحيب وكأنه أمير أُرسل من قِبَل ربّ العباد، وهذا ما يجعل رسالتنا رسالة خنوع وليست رسالة حقيقة. ولا يجوز أن تكون مهمتنا الدخول في صراع، بل لا يجوز أيضاً أن نكون خانعين أمام المظالم وعبيداً سيئين أمام محبّي المصالح الضيقة وإرادتهم الفاسدة وشهواتهم الشريرة وشهاداتهم المزيَّفة والزورية حيث الشعب عامة والمسيحيين خاصة عانينا ولا زلنا، واحتملنا الآلام بصبر وإيمان ولا زلنا حتى الساعة، والخوف يملأ قلوبنا من الآتي إلينا، ولا زال لبعض منا بذرة الإيمان لديهم لا تدعهم يغادرون أرض أجدادهم، ولكن كما كانت حواء بالأمس لا زالت اليوم تلعب دور الرحيل والهجرة بطرق بائسة مدَّعية أن الله لا يتذكّرهم وأن أقرباءها ينتظرونها في أرض الله الواسعة فتُفسد حياة الشهادة في أرض الأجداد من أجل الرحيل نحو أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً، فتُهدي لآدم تفاحة الكترونية من أجل أن تجعل من حب الأرض ضياعاً وفقداناً وموتاً، وهذه علامة من علامات الزمن. إنها أميرة الدنيا أمام آدم الضعيف، ووزيرة الجنة أمام الثقافة الإلكترونية، وفي هذا فقدنا الإنسان، وفقدنا قيمته، كما فقدنا الأرض ومُلكيتها، وغفلنا عن نداءات المعابد وخدّامها في أن نكون شهوداً وشهداء لذا كفانا من الفقر الإيماني والروحانية الصحراوية، فلا زلنا نفتش عن المال والسلطة بينما الحقيقة تدعونا إلى أن نقرأ كتاب حقيقة إيماننا ووجودنا ومسيرتنا لندرك أنه كتاب مؤلم بسبب إنقساماتنا وطائفيتنا ومصالحنا. ولا يجوز أن يبقى الإنجيل بعيداً عن مسيرة حياتنا، فإذا إستمر التباعد بيننا وبين معابدنا ورجالها، فلن يكون هناك مستقبل لمسيحيتنا ولمسيحيينا في أرضنا، وربما نقرأ السلام في آخر المطاف.
     مواطنة ... وأصالة
إنني أخاف أن تضيع المواطنة والأصالة في أرض أجدادنا بسبب إنقساماتنا، وفي ذلك سنشابه الجنود الذين _ ليتمّ الكتاب القائل:"إقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" (يوحنا23:19-24؛ مزمور18:22)، كلٌّ يريد حصّته ويرحل، وفي هذا أخاف أيضاً أن يمحو التاريخ وجودنا بعد الذي نشهده على ساحة الوطن من خلاف واختلافات، من مصالح وعشائريات، من طوائف وكيانات، من تكتّلات وتشكيلات، من أقوياء وضعفاء، من فقراء وأغنياء، من آدم وحواء، من مصالح وفساد، ويُكتَب بدلَ هذا التاريخ الأصيل الذي عاشه أجدادنا وآباؤنا وبُناة ديارنا ومعابدنا وكنائسنا وحضاراتنا، يُكتَب تاريخ مزيَّف يهوى مصالح البشر وأهداف الحركات والأحزاب والتكتّلات والطائفيات والإئتلافات، بأسطر حماية الفاسد المعروف والذي يحميه كبار الزمن، فما ذلك إلا إعلانٌ بزوالنا من حقيقة أرضنا بسبب غايات ومسمّيات وديموغرافيات متعددة، لأنه لا مجال للأصلاء أن يُظهروا حقيقتهم خوفاً من أقرانهم البائسين والفاسدين الذي يطلقون شعارات فارغة لكسب عددٍ من الأبرياء الأصلاء، لذا فمن المؤكَّد أن حقيقتهم ستموت يوماً شئنا أم أبينا إذا ما استمرت حالة إنقساماتنا في مسيرتنا المؤلمة كما هي اليوم.
إنني أتألم حينما أرى المواطن البريء سلعةً تُباع وتُشترى، وهذا ما أراه في مسيرة الوطن وما نجده، ومن المؤسف هذا حال الكثيرين أمام رجال الدنيا وكبار الزمن وحرّاس المعابد، وكما يقول المَثَل "الفقير فقير وإنْ لبس ثوباً من ذهب"، فكفانا كبرياءَنا وحمايةَ مصالحنا، وعن أناس سرقوا قوت المهجَّرين وربما أحياناً يُمنح الفقير والشاهد جرعةً مسمومة للتخلّص من شكواه وصراخه ليبقى الفاسد متربّعاً على عرش الدنيا المزيَّف بسندٍ ودعمٍ وحمايةٍ من كبار الدنيا ومن أجل تجارة المصالح، وننسى أن ننظر إلى يسوع الحي الذي علّمنا وسار أمامنا ليرشدنا إلى طريق الحقيقة في "مقاسمة الفقراء والخطأة" (متى11:9) وشهود الحقيقة مسيرتهم.
فما أكثر الذين يتراكضون وراء المال الحرام على حساب الأيتام والأرامل، والمهجَّرين والنازحين، الذين يفتشون عن إمتيازات ليست من حقهم وليست مكتوبة بأسمائهم، بينما الشاهد والفقير يبحثان عن لقمة عيش ومكان آمن ليستقرا فيه داخل الوطن وخارجه. أين الضمير الذي يسمع نداء واستغاثة الشاهد؟ أين النخوة المسيحية التي تشهد لحقيقة الإيمان؟... فإنني حتى اليوم كنتُ أفتخر بوطني وبشعبي، وإنني أخاف لعلّني أكون من الذين يخجلون حتى من جوازاتهم، فأكون لاجئاً، فلا آذان تسمع الحقيقة، ولكن بدلاً منها نجد أيادي تحضن الفاسدين ليس إلا!. إن أشد الأخطار هو أن يتخلّى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بالإبتعاد عن الصليب ومسيرته، ويهملون آيات الإيمان والصبر والرجاء حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فلا يمكن للمسيحيين أن تزول مسيحيتهم إذا أرادوا لها ذلك، فالمعبد مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفع فوق الجميع، ومهمته ربط كل شيء بالمسيح الحي.
فما نحتاجه أن نتعامل بالضمير وليس بالمنصّات والمنابر، والتهديد والوعيد، بالغيرة والكذب، ولا يجوز أن يكون رجال المعابد والعاملين فيها تابعين لأحزاب أو حركات أو جمعيات لغاية أو لغايات، فلننتبه هناك مصالح عديدة تُمَرَّر، ومخططات بين ظهرانينا وخلف شخوصنا، فلنكفّ عن تقطيع بعضنا البعض وزرع بذور الطائفية المقيتة، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق المسيرة والإيمان، ومَن بإمكانه أن يعمل فليعمل لأجل شعبنا المظلوم، والإصطفاف معه إنْ كان شخصاً مستقلاً أو حركةً سياسية أو منظمة كباراً كانوا أم صغاراً، فلا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ، ولا يفتخر المعبد إلا بأشخاص أخضعوا ذواتهم شهادة للحقيقة من أجل الشعب البائس.
      إنتبهوا، أقول، لا تشوّهوا صورة الأصيل والمواطن البريء وإبن شعبكم، بل إسمحوا له بتحقيق وجوديته وإنسانيته فهو اليوم مرهون، كما أن صورته مرهونة بعدة عوامل وبعدد من الأسباب ومن أجل غايات، واعملوا أن يحلم بمستقبل ينقله من حالة يائسة وبائسة إلى كرامة إنسانيته ليكون حراً مستقلاً، فهو الركيزة الأساسية، وكلنا أبناء هذا الشعب الجريح، فلا يمكن بعدُ أن تكون الطائفية أو العشائرية أو المحسوبية هي مَن تحمي شعبنا، فلا يجوز أبداً أن يكون الإنسان شاهدَ زور، فمن هنا يبدأ الفساد وهنا تبدأ الخطيئة... إنها مرحلة حاسمة.
نعم، إنها دعوة كي نداوي إنشطارنا، كي لا تخيّبنا عواقبه بعد أن نكون قد ضيّعنا مسار طريقنا بانتماءاتنا المختلفة لمصالح متعددة منها كبريائية وأنانية، فالإنقسامات للمسيحيين ما هي إلا خسارة فادحة واضطهاد من أنفسنا لشعبنا، و"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10). فلنفتح أعيننا للمسيح الحي وليس لمسيح التاريخ والثقافة فقط، فإذا ما كان لنا إيمان عميق به سنرى كل شيء قد تغيّر بقوته ونعمته وبشهادتنا الحقة.
     الخاتمة
ختاماً... فاليوم أبناء شعبنا ليسوا جائعين إلى الخبز، وليسوا عطاشى إلى الماء، بل إلى سماع كلمات السماء إذ يقول:"كونوا واحداً كما نحن واحد" (يوحنا21:17) لأنني أُدرك أن سبب ضعف المعبد في شرقنا ووطننا حاجتها إلى المسيح الضائع منها. فكل إنسان يشتكي ويصرخ من ظلم وقع عليه ويلوم الله على كل شيء، والحقيقة إننا محتاجين أن نعود إلى المسيح بحقيقة الخلاص والشهادة التي تعلّمناها، فشعبنا يتقوى ويمتلئ رجاءً وشجاعة عندما نرى أشخاصاً يحبون ويجسّدون إيمانهم حتى النهاية.
فشعبنا صليبنا، وعلينا حمله بكل فرح وإيمان وليس كسمعان القيرواني جبراً ومصلحةً، فأنتم لا تستعطون شيئاً من أحد حينما تطالبون بحقوق شعبكم. فكفانا نقطّع بعضنا البعض، وان كنّا ضحية السياسات الفاسدة، لنعمل من أجل عودتنا الكريمة وبناء سهلنا وديارنا ومعابدنا، وتلك رسالة ووصية الأجداد في أن "لا نخاف" (متى28:10). فإنْ كان شعبنا مظلوماً فلأنكم حافظتم على فسادكم ومصالحكم وغاياتكم ومناصبكم. فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم لأنكم أمراء الديرة، بل كونوا خدّاماً لبناء الأديار، ولا تكن أسماءكم في الحصاد ومنجلكم مكسور، وأيضاً لا تنزلوا إلى المعركة وأنتم غير مسلّحين بإيمان الإنسانية والوطنية والمسيحية وليس أكثر من ذلك حيث أنتم خدّام ولستم تجّار، فلا تعملوا لبيع أوطانكم وشعبكم، فأنتم للكلّ لتكونوا مع الكلّ وليس غير ذلك، والرب يحمي الجميع.

45
أتركونا نبني ديارنا
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
شاءت إرادة الخالق في سمائه أنْ حلّ ما حلّ فينا، وما ذلك إلا إرادته، فليكن إسمه ممجَّداً ومسبَّحاً مدى الدهور وكما يقول مار بولس:"كل شيء فيه وبه وله، فليكن إسم الرب مبارَكاً" (رومية37:11).
أما الدنيا فقد شاءت بإرادتها أن تحمل إلينا هموم الحياة ومتاعب الزمن وحقيقة الألم ودنيا المصائب، فطُردنا من منازلنا، وهُدِّدنا في قرانا ومدننا، وأُجبرنا على ترك كل شيء، نعم كل شيء، وسُجّلت بيوتنا وعقاراتنا بأسماء تنظيمهم الإرهابي، وألصقوا حرف النون على أبوابنا مدّعين أن لهم الحق بكل شيء، وما نحن إلا كفّار في الدين والدنيا، ولا يحق لنا أن نملك حتى ما يكسو أجسامنا، وكل ذلك بسبب كوننا مؤمنين بالمسيح الحي. أرادونا أن نتخلّى عن إيماننا، فعملوا ما إستطاعوا من أجل إهانتنا وتحقيرنا وتكفيرنا، كما أمعنوا في تدميرنا، ولكن نقول: مهما كتبوا عنّا ومهما نوّعوا في تحقيرنا فلا نكران للوطن ولأرضنا ولإيماننا، ومهما خسرنا من دنيانا ما نحن إلا شهود لحقيقة الإيمان ولمسيرة الحقيقة والوطن.
بعد ثمانية عشر عاماً مرّت بمآسيها وطياتها المؤلمة، بطائفيتها وعنصريتها، ولا زلنا نراوح من أجل نيل حقوقنا بل لا زلنا ننظر إلى مستقبل مجهول فيه نسأل وهو يتساءل فينا قائلاً: ماذا تنتظرون؟ ما رؤيتكم للمستقبل؟ ألا تكفي هذه الأعوام وما حملته إليكم لتدركوا حقيقة كبار زمنكم وكلمات دستوركم؟ ألم تعرفوا أن لا حقوق لكم إلا في ملء كنائسكم، ولا صيانة لحريتكم في الإيمان والحياة إلا ما يشاؤون وما يرسمون؟. فما نحن إلا أقلية بائسة موضوعة على رفّ الدنيا والمصلحة، يجمّلون مسيرتنا متى ما شاءوا، ويقدموننا قرباناً إذا كان ذلك من أجل دنياهم وأهدافهم ليلاً ونهاراً، فنخاف من ظلّنا، ونتألم على وجودنا، ونسأل عن كبارنا وشهدائنا فهم "ليسوا في الوجود" (متى18:2)، وشبابنا قد رحلوا، فدنياهم وأرضهم أصبحتا هيرودس بظلمه الفاحش (متى13:2)، هذا حالنا حتى الساعة ونسأل أين الوطن؟.
إن التجربة المأسوية التي خيّمت علينا منذ أمد بعيد، وفي هذه السنين الأخيرة عشنا مآسيها، فقد كانت مليئة بالمعاناة والألم والصعاب وقسوة الحياة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرّقتنا الطائفية وجعلتنا العشائرية والقبلية أعداءً، وملأتا قلوبنا عداوةً وحقداً وكراهية، فأصبحنا نتكلم عن أنانيتنا وكأن المُلك والعالم هو لنا (يوحنا10:1)، ونسينا أن هناك أخوة من أديان أخرى، من مكوِّنات مختلفة، تقاسمنا حب التراب والوطن، وتشاطرنا المسيرة المتعَبَة. وأمام هذه تتّجه أنظارنا وتطلعاتنا على حكومة مدنية عابرة للطائفية والمحاصصة والعشائرية، ويحكمنا الدستور الذي كتبناه بعرق جبيننا، وليس الذي أُعطي لنا، كي نكون عبيداً له، وننادي بمبدأ المواطنة في العدالة والمساواة.
إنها الحقيقة بالذات... شعبنا كله دفع ثمناً باهضاً عن خطأ لم يرتكبه. فالسياسة في كثير من الأحيان تجعل الشعوب عبيداً للمبادئ المزيَّفة، ومطيعاً لمنافقي المسيرة. نعم، إستشهد عديدُنا، وقال الإرهاب لنا يوماً "إرحلوا عنّا، فهذه ليست أرضكم"، وعانينا، ولا زلنا نعاني عدم الإستقرار وهجرة أبنائنا وبيع وطننا. وبالأمس القريب طَرَدَنا داعش الإرهاب، وأزاد الفوضى في مسيرة حياتنا بسبب نفاق كبار الزمن وغواية الشر الذي مَلَكَ في قلوب المستعبدين، فماتت الضمائر. ولكن، من أخطر الأمور عندما يُقنِع الظالم الآخرين أنه ذو ضمير حيّ ولا يرضى أن يخالف تأثيره على حياته، ومن المؤلم حقاً عندما يكون الظالمون من كبار الدنيا ورجال الزمن الذين يحلّلون كل حرام، وينسون أنهم يلوّثون سمعتها بوصمة عار يتعذر على التاريخ محوها، فيقرأها الأجيال ويترحموا على الأبرياء وعذاباتهم.
أين هي الرؤية الواضحة لمستقبل أجيالنا من قِبَل الأشخاص الموقَّرين؟ فالمسيحيون أمناء لتربتهم وأوفياء لمسيرتهم وحقيقة إيمانهم وحبّهم لشعبهم، ويُبان هذا جلياً في صلواتهم إلى ربّ السماء من أجل الحكمة والعدالة. وأمام هذا كله لا زالت حقوقنا في نسيان الطلب، ومآربنا وآمالنا في تهميش، شئنا أم أبينا، وربما وُضعت فوق رفوف الطلب تنتظر مَن يمسح عنها غبار السياسة المزيَّفة والحقوق المكتوبة لتُبان جلياً أصالتنا وعمق وجودنا قبل غيرنا، فنستطيع أن نقوم بدورنا ونجدّد حيويتنا كي نبني ما دمّره الإرهاب القاتل، وما هدمته الطائفية اللعينة، وما رسمته العشائرية المقيتة، وما ظلمه الدستور في مواده وأسطره، فنكون أخيراً مواطنون بحقوقنا وواجباتنا.

     مهجرون ونازحون

مرات عدّة - وعملاً وطاعةً لرؤسائنا - كنا نقف من أجل الدفاع عن حقوقنا، فكنا ننادي بكتابة حقيقتنا وإعلان بياناتنا، ومحو مواد كُتِبَت من أجلنا لتدميرنا ولإهانة كرامتنا، وتصغيراً لمسيحنا وتقليلاً من شأننا، وكنا كلنا أملاً أن هذه الهتافات ستحصد ثمارها، وهذه البيانات سنقطف عناقيدها، وهذه الصراخات سترفع عالياً شأن احتياجاتنا كي نكون أمناء لمستقبل أجيالنا وأطفالنا كي لا يكتبوا يوماً على صفحات قلوبهم أننا لم نكن لهم أمناء، فيرحلوا ويهاجروا بعيداً، نعم بعيداً، معلنين أن الإنسانية قد فقدت مصداقيتها، وإنها ليست من زرعات وطننا، وحقوقنا لم تُكتَب في صفحات أسفارنا. فنحن لا حول لنا ولا قوة إلا أن نهتف وننادي ونلجأ إلى الأقوى وأغلبيته كي ننال ما نشاء وإن كان ناقصاً، فنحن في ذلك لهم شاكرون. ولكن هل نعلم جيداً أن حقوقنا هُضمت وبيعت وقُسمت ولم يبقى منها إلا الأثر والتراث، فضاع الحق ومَلَك الظلم وفُقِدَت الحقيقة وبيعت أرض وطننا.
ما سبب دنيانا وما بالها اليوم في شرقنا، تطرد أبناءَها وتُجبرهم على أن يكونوا في صفوف المهجَّرين والنازحين والمسجَّلين في دفاتر الأمم من أجل التفتيش عن السلام والإستقرار، وقد رفع البابا بندكتس صوته في الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط منادياً "أنه لا يجوز أن يخلو الشرق الأوسط من المسيحيين". فهل هناك من كبار الزمن مَن يراهن على زوالنا وعدم بقائنا؟ وهل هناك مَن يتألم لنقص أعدادنا وإن كانوا يتأوهون لذلك؟ أليست هذه مأساتنا وقضيتنا التي لا نريد لها إلا البقاء في صفحات الدستور جبراً؟ أليس في ذلك مصالح لسياسات الموت سواء رفعنا أصواتنا أو تضامنّا مع غيرنا؟ فما مصيرنا إلا مجهولٌ سواء متنا أم حيينا، وذلك لا يهمّ صنّاع القرار وتجّار الأوطان، فالمهمة الأولى والأخيرة ضمان مصالح كبار المعابد والدنيا والزمن... إنها رسالة الدمار التي تسببت في مقتل وتهجير ونزوح الآلاف منّا ومن غيرنا، وما كان الدستور لنا إلا صفحات لكتاب نحلف بوجوده وهو لا يقرّ بوجودنا، فلا آذان صاغية، ولا أسطر وافية، فما حصل لنا ترك في نفوسنا آثاراً عميقة وبائسة، وأصبح الخوف علامتنا، بل حقيقتنا.

     الختام
أمام ما يحصل في بلادنا الجريحة، وأمام ما قاسيناه منذ عقود وأجيال وسنين، سنبقى أمناء لتربتنا، وسيبقى صوت الكنيسة والبابوات يرنّ في آذاننا أننا أصلاء الأرض، ولا يمكن أن نبيع أرض آبائنا، فهذه قد عُمّذت بعرق جبين أجدادنا، وجُبلت بدماء شهدائنا الأبرياء وضحايا سيدة النجاة، ولا يمكن أن نكون ضحية لتجّارٍ فيخرّبوا ما بنيناه. فأرضنا ليست للبيع، وعراقنا ليس للتهميش، فنحن لسنا عبيدَ المال بل نحن أبناء الرافدين الذين صمدوا بإيمانهم وبسالة إحتمالهم، فكان النور مضيئاً (يوحنا9:1) بعد ظلام مَلَك علينا (يوحنا5:1). ونقولها وبكل شجاعة: من المؤسف أن أبناءنا الأبرياء قُتلوا بسبب مصالح في حروب شُنّت علينا، كما أن جرحانا ملأوا المستشفيات ودور الشفاء فجعلونا معوّقي الحياة من أجل أن نكون بلا حركة ولا بناء، بل أن نحيا بتأوّه وأسف، وأصبح الدواء بعيداً عن مرضانا كما أصبحنا لا نملك دينارنا، كما أن نفوطنا حلّت نقمة علينا. لذا أقولها: ألا يكفي مما أينعت وأثمرت مصالحكم يا كبارنا، يا جيراننا، يا أحبتنا، فنحن لكم شاكرون لتعاونكم في بناء أرضنا وإعادة وطننا، وسنبقى نقدم لكم الاحترام اللازم واللائق لأن هذا ديدننا وهذه شيمتنا. فاتركونا نبني ديارنا، فأمّهاتنا تبكي فلذّاتها ولا من يواسيها (متى18:2) كما يقول الكتاب "صوتٌ سُمِع في الرامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير. راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين"... إنها آلام الحزينة، فَمَن يعزّيها؟. فاتركوا - بحق المسيح الحي، بحق الله الذي أحبنا (يوحنا34:13) - أتركونا نناجي ربنا، ندعو إليه لينعم علينا برحمته، ويزرع بذرة السلام في قلوبنا، وننمو وطناً عزيزاً، وشعباً مُحبّاً، وغداً لأجيالنا، ومستقبلاً لأولادنا وأحفادنا، فذلك حقنا وتلك حقيقتنا، وما رجاؤنا إلا بالله وبأصحاب الإرادات الصالحة، وسنحيا إيماننا حقيقةً وليس استعباداً، واعلموا أنه مهما كنتم في مسيرة الدنيا فما أنتم إلا خدم المحبة والخير والسلام، وكما يقول المسيح الحي "أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا 27:22)... نعم ونعم اتركونا نبني ديارنا.

46
     البابا فرنسيس ...
لا الهرب ولا السيف أفادا شيئاً
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
"لا الهرب ولا السيف أفادا شيئاً"... قالها البابا فرنسيس يوم زيارته للعراق الجريح في خطابه أثناء إقامته القداس الإلهي في كاتدرائية مار يوسف للكلدان عصر يوم السبت 6 آذار 2021.
إن تاريخ المسيحية مجبول منذ ولادته بالإضطهاد والقتل والمجازر والصلب والطرد، ذلك كان شأن كل التلاميذ ثم الكنيسة الأولى المضطَهَدة (لوقا12:21-19)، ونسير في تاريخ الإضطهاد في شرقنا حتى نصل إلى مذابح سيفو والإبادة التي حصلت على يد العثمانيين. كما ولا زالت اليوم تُكمّل الإبادة مسيرتَها بطرق متنوعة وبخطط عديدة في قلع الأصلاء من أرضهم وطردهم من حقيقة ترابهم وإفراغ الشرق منهم ومن بلاياهم، إنها جراثيم ضد الإنسانية تجعل من الدين (داعش) إعلاماً لتدمير الآخر بتشويه التفسير وجعله علامة في رفض المختلف ورفض الآخر وإنْ كان كتابياً، والبابا فرنسيس يقول "لا نجوز أن نقتل إخوتنا باسمه" (حوش البيعة، الموصل 7/3/2021) وهذا ما يجعل أنْ يقال أنّ المسيحيين على وشك الإنقراض وضحايا للإبادة الجماعية المخيفة وسلوك سيئ لمسيرة الإنسان المتحضر، لذا فعلى المسيحيين أن يعودوا إلى الأصل وإلى الينبوع الذي لا ينضب، إنه المسيح الحي. فالتنوع مطلوب، وقبول الآخر المختلف ضرورة، وتلك خبرة كنسية إيمانية عاشها قبلنا مسيحنا الحي مع تلاميذه بخبرته وخبراتهم، ولكن ما جمعهم هو "المحبة الكاملة" (يوحنا34:13) التي ملكت على قلوبهم دون محاباة.
فالإيمان بالله يعني الإيمان بأن المحبة أقوى من كل شيء "وأعظمهنّ المحبة" (1كورنتس13:13) حتى من الإنسان نفسه لأنها هبة من العلي، فهي أقوى من الموت وهي ركيزة الحقائق كما إنها حقيقة الإيمان وبها إجتاز المسيح وتلاميذه كل الحدود دون تحديد صعوبة الحياة وعمق الألم، وما ذلك إلا نداء لمسيرة مسيحيتنا كي يكون المسيح الحي حاضراً في كل لقاء ومع كل إنسان، لأن الموقف المسيحي نابع من موقف المسيح الحي ولا يجوز أن تسود الإنسانية إلا المحبة. فالمسيحيون يشعرون بالألم من مسيرة بعض كبار الزمن والدنيا الذين لا يسألون إلا عن مآربهم ومصالحهم ومنافعهم، ولم يكن بإمكانهم أن يردّدوا إلا بعض البيانات والإستنكارات والكلام الصارخ والتأوّه تجاه ما إرتكبه تنظيم الدولة الإسلامية حيث الدواعش وما هم إلا قادة أشرار لمسيرتها. كما إن الغرب لم يتّخذ إلا موقفاً متفرجاً مما حصل حتى أدرك أن ذلك ربما سيمزقهم في دورهم، فكانت الحرب ضد الدواعش الأشرار. وأمام هذين الموقفين أتساءل: هل المسيحية ستختفي، تلك التي عُرفت وسبقت حضارات عديدة؟ أليس ذلك إجحاف بحق المسيحيين في أن يبادوا في بلدانهم؟ وهل لا يمكن للكوتا الخاصة بالمسيحيين أن تُدرك ما رسالتها أمام هذا الضياع؟ فإنني أخاف أن أقول الحقيقة في مجال كبار الزمن الذين يتنازعون من أجل مصالحهم ولكي تكون الكتل جزءاً منها.

   عنف وقتل
كَثُرَ الكلام عن التشدد الإسلامي والإرهاب الداعشي، وعن حركات تكفيرية تقود المجتمع إلى زعزعة وحدته وإداء مكوناته في إختلافاتهم، كما إن الحديث عن هيمنة المجتمع السلفي على المجتمع الإسلامي إضافة إلى ما يحمله من العنف والقتل والإبادة، هذه العناوين وأخرى مثلها عناوين مخيفة لا تحمل إلا الدمار والعنف وإهانة الآخر مختلفاً كان أم لا. إنه تشدد وتعصب وتكفير في حق مَن يخالف الآراء والمعتقد، والمسيحيون ليسوا في منأى عن هذه العناوين المرهبة، فهم ضحاياها شئنا أم أبينا، لذلك تراهم يخافون من الآتي وينامون بقلق ويصبحون بخوف على مصيرهم ومصير عوائلهم وأموالهم وممتلكاتهم وإنْ كانت حال كل الناس هذه الأيام من مسلمين ومسيحيين، وإنْ كان الفكر الديني المتشدد والمتطرف ما عاد حكراً على أتباع دين من دون آخر، فالكل في باحة الخسارة، والكل يعيش واقعاً مريراً. فما نحتاج إليه خطاباً دينياً معتدلاً من على المنابر يقبل الآخر المختلف ويقرّ بحقوق كل إنسان في العيش وعدم التكفير في دولة مدنية تصون المواطن في حقوقه وتضمن مستقبله بغضّ النظر عن إنتمائه، فآية الكهف (سورة الكهف؛ آية29) تقول (مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر). فلنعمل ضد الشر والإرهاب ولكن لا تستسلموا لليأس رغم أنكم تألمتم كثيراً (البابا فرنسيس، كلمته قبل زيارة العراق، 3/3/2021) من أجل مشاركة فاعلة في محاربة كل داعش لوقف هذا الجنون، ليس فقط في الميدان وساحة العمل بل في مجالات الإعلام والمدارس والجامعات لوقف كل سلاح ومال عن إرهاب الزمن وأشرار آخر الزمان، والعمل على البقاء في الوطن شهادة لأصالتنا ومسيرة إيماننا. وهنا نسأل أنفسنا: هل نتفاعل من أجل مستقبلنا وبالذات في وطننا الجريح، وأنا في ذلك لستُ بسيطاً وساذجاً وإنْ كان ما نراه لا يمكن أن نتفاعل مع كل ما يحدث حولنا وأمام عيوننا ومسمع آذاننا ومرأى أبصارنا، ولكن ما أدركه أن الكلمة الأخيرة هي لله وليس للشرّ. ولنتذكر التجربة الثالثة للمسيح الحيّ بعدما صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً قال للشرير:"اذهب يا إبليس، للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (لوقا8:4).
نعم، إن هذا الإيمان سبيلنا في عيش الرجاء "والرجاء لا يخيب" (رومية5:5) وإنْ كان الوضع الراهن لا يشير بأي حلّ قريب أو نهاية الفاسد الشرير فإن الذي هو أقوى من الموت لا يمكن أن يقتله أحد في داخلنا لأن إيماننا رسالة سامية من أجل وجودنا، فلا ننغلق على ذواتنا وعلى مصالحنا الخاصة (البابا فرنسيس، حوش البيعة، 7/3/2021) ورجاؤنا ما هو إلا في يد الله القدير، وتلك دعوة كي نقف ونستمر في مقاومته وليس للتنازل له. فطريق الجلجة كان طويلاً ولم يكن مريحاً بل متعباً، فلننهض إذا ما سقطنا، فمعلّمنا ومسيحنا سقط ثلاث مرات ولم يتراجع عن الوصول الى جبل الجلجلة (متى32:27) فما بلانا؟ وإن كان كبار معابدنا ودنيانا يفتشون عن مصالحهم وغاياتهم فالعزيمة هي إيماننا في قيم سامية والثبات في مواقفنا والشهادة لحقيقة وجودنا وليس رحيلنا في حمل حقائبنا واختفائنا وإن كان الأمر أمرهم في استعبادنا واستبعادنا، وهذا ربما يثلج صدورهم.
نعم، إن الكنيسة تحافظ على وديعة الإيمان كما إنها تسهر عليها وعلى نموّها حيّة في نفوس المؤمنين لتكبر يوماً بعد آخر إنطلاقاً من واقعها ورسالتها. وإذ تؤمن المسيحية بأن الله قادر على كل شيء وهو الذي يُخرج الحياة من الموت ويُحيي العظام بكثرة رحمته فهو يقودنا إلى العمل والصمود وتحدّي الصعاب وبرجاء أكيد في العزيمة. فالمسيحيون أبناء القيامة، وبسبب ذلك يجب أن يبقوا شهوداً في الشرق ولا يمكن الرحيل عنه أو تركه، ومسؤوليتهم دعوة إلى الصمود والثبات كي لا نصبح كلنا من المهجَّرين قسراً والنازحين والراحلين لأنه دون ذلك تكون سياستنا وبياناتنا لعبة أمم ولا أكثر. وتلك حقيقة توصلنا إلى الله الرحمن، ونمتلكها كشهادة لمسيرتنا، فقد كانوا في زمن مضى يفرضون علينا قوميتنا بدكتاتوريتهم، وكانوا يسجّلون تاريخنا ولغتنا من أهل الأعراب، والحقيقة لم تكن لمصلحتنا بل لمصالح سياسية آنية في حينها، واليوم وإن تغيّرت الصورة - فالملقى واحداً - فكل واحد منا يفتش عن قومية تأويه ليسكن في تاريخ الحياة ومن المؤسف لحد الآن لم نعرف سبيلنا ولا مصالحنا الأصيلة، بل أنانياتنا في مصالحنا وحركاتنا وطائفيتنا. ولم نكن ندري عنوان قوميتنا التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا بل من أرضنا وأصالتنا، كما كنا في ذلك اليوم عبيداً مطيعين لِمَن يقودنا في الخوف والتهديد من أجل المصالح والمدائح، وكنا نهتف لكبيرهم وقائدهم ورئيسهم "يحيا الرئيس" و"بالروح والدم نفديك"، واليوم نحن أحرار مضطَهَدون ولا زلنا نهتف "تحيا أنانيتنا وقوميتنا المنغلقة في عزلتنا وطائفيتنا الانفرادية"، ولكن الحقيقة إننا نسبح في بحر هائج وأمواجه ترتطم في صخرة تاريخنا. ومن المؤسف نحن سعداء حينما نكون لها ولكن بئس تلك السعادة، فلو سألت اليوم أحد أبسط أبناء شعبنا ورجالاته عن قوميته وطائفيته، فيجيبك وبكل بساطة وسذاجة "أنا إنسان" ولا شيء آخر.
     زوال وشدة

نعم، إننا نعيش في محنة لا توصف بقساوتها وفسادها وأولها من كبار زمننا ومعابدنا، كما إن أوقاتنا مصيرية وحاسمة تجاه شعبنا ووجودنا، ولعلّ ذلك إمتحان من ربّ العُلا كي يطهّرنا من الداخل وينقّينا وينزع من قلوبنا كل ما من شأنه يعيق مسيرة إيماننا ووفائنا، حاملين روح المحبة رغم مسيرة العداوة التي نلاقيها، وإنْ كانت أحياناً تضعنا على المحك، فأمّا أن نبقى ونشهد لحقيقة وجودنا أو نزول مع أجيالنا وأحفادنا. فزوالنا هو زوال شعبنا، فما علينا إلا أن ندافع بعضنا عن بعض، والشدّة التي تلاقينا تعكس ظلّها على الجميع في أماكننا المقدسة وفي عقر دورنا وتقودنا إلى ثقافة بائسة في إقصاء الآخر والتعالي، وترافقها مسيرة زرع الأحقاد والسلبيات المدمِّرة.
وأقول خاتماً: إننا نحن المسؤولون أمام العالم لنشهد معاً للتاريخ والوقوف في وجه كل مَن يريد أنْ يشوّه هذا التاريخ. ولا نستسلم أمام انتشار الشر (كلمة البابا فرنسيس في روما قبل زيارته العراق، 3/3/2021) فالعالم يتفرج علينا أكثر مما ينظرنا بحنيّة ويستهزء بنا وبانقساماتنا وبطائفيتنا وعشائريتنا وقوميتنا، بمصالحنا المزيّفة وكراسينا الزائلة، فيزرع الفتنة والخصام ويقودنا إلى الإقتتال فنفني بعضنا بعضاً شئنا أم أبينا، وما ذلك إلا نفاق وخبث ورياء. ولكن نحن نرفض الموت عبيداً من أجل حياة شوهها الفاسدون وأصحاب المصالح والأصوات العالية، وما علينا إلا أن نقف صدّاً منيعاً أمام ثقافة الخوف والعزلة، ونرفض المبدأ القائل أن هناك أقليات دينية بحاجة إلى حماية، فنحن كلنا جزء من تراب هذه الأرض، والقانون العادل دستورنا، وكلنا شعب هذه الأرض، لنا ما نعمل فيها، ولنا فيها ماضينا، ونحيا حاضرنا من أجل مستقبلنا ومستقبل عيالنا وأجيالنا، عند ذاك لا نخاف من العناوين التي تُسمّى لنا أو نُنعت بها من أجل طردنا ونكران إيماننا، والحقيقة في وحدة كلمتنا، وكلمة في شهادة مسيرتنا.
لذلك يقول البابا فرنسيس: أشجعكم كي لا تنسوا مَن أنتم ومن أين أتيتم. فحافظوا على الروابط التي تجمعكم معاً، وحافظوا على جذوركم (كنيسة الطاهرة، قره قوش، 7/3/2021) وأيضاً: لهذا أتيتُ إليكم حاجّاً لأشكركم ولأثبّتكم في الإيمان والشهادة اليوم وإن الكنيسة في العراق حية (في قداس أربيل، 7/3/2021) فلستم وحدكم فالكنيسة بأكملها قريبة منكم (كنيسة الطاهرة، قره قوش، 7/3/2021). فلا الهرب ولا السيف أفادا شيئاً معلناً أن يسوع غيّر التاريخ بقوة المحبة المتواضعة (كنيسة مار يوسف للكلدان، 6/3/2021).
فيا رب، أعطنا أن نصغي إلى صوت رجال الله الصادقين، فنصحّح مسارنا قبل فوات الأوان حتى لا نهلك مرة أخرى في الدمار والموت (البابا فرنسيس، قداس أربيل، 7/3/2021)... نعم وآمين.


47
مشيئتك يا رب ... لا مشيئة إنسان
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
في ظل الحياة المؤلمة وفي ظل إفراغ القلوب من محبة الله ينتاب الإنسان مرضاً وحزناً وتتفاقم عليه الضيقات والمصاعب وينسى أنه خُلق على صورة الله كمثاله ليشهد لحقيقة الحياة ولا ييأس من مسيرة الشر في هذه الدنيا مهما كانوا أصحابها والمنادين بها، فالشر سلاح ضد الإنسان ليبعده عن طريق الصواب الذي
يسلكه. ولكي يكون الإنسان أميناً للسماء ووفياً لإلهها عليه أن يشهد للحق مهما احتمل من الآلام وإنْ كان الآخرون لا يستأنسون ذلك، فالحياة ليست مصالح زائلة وأنانيات محسوبة بل فداء وعطاء ومحبة كما شهد ربنا على الصليب، فهل سنحمل الصليب بدل سمعان القيرواني رغم ألم الحياة أم ماذا. فما أجملها مسيرة الحياة، وما أغناها حياة الحقيقة، إنها سِمة المحبة والخير والبركة، سِمة التواضع والوداعة، وتلك شهادةٌ لحياة الألم التي نقاسي مسارها في هذه الحياة، ومحطاتها ورسالتها وانبعاثها، وإنْ كانت مؤلمة ومكلَّلة بشوك الزمن، وهذا ما دعاني أن أقف لأعاين وجودي وهمومي وآهاتي ومآسي الزمن، وكبرياء الكائن الذي طُرد من فردوس العلي بسبب مصالح الزمن وفساد الحياة... فإليكم ما أدركتُه وما تعلَّمتُه... إنها آهات لمسيرة الحياة، ولتكن مشيئتك يا رب لا مشيئة إنسان.
    شاءت إرادة السماء أنْ حلّ ما حلّ فينا، وتلك إرادته سبحانه وتعالى. كما شاءت الدنيا أنْ تسيّرنا حسب هواها وأهدافها، ولكن علينا أن نمتلئ من نِعَم السماء، فتتلاحم أيادينا وتتعزز إرادتنا، فثقل الحياة ليس بإمكاننا حمله إلا إنْ كنا أوفياء لتربتنا ولأجيالنا وأحفادنا، ونطلب عون الله، وإنْ كان الإرهاب قد منح حياة لا يملكها، وتوصل الدنيا إلينا رسالة الدمار والتهميش والتهجير فيكتب لنا الزمن تاريخاً مزيَّفاً بالتهنئة وكباره... فتلك مصيبة المصائب وحقيقة النوائب.
    ألا يكفي زمن الحروب المميتة والطائفية المقيتة والعشائرية الهزيلة والقومية القبلية كي ننادي بالمواطنة الصالحة والعمل المشترك، وأنْ نضع الحقيقة والشهادة من أجلها وفي مكانها من أجل الوطن كي لا يبقى محتَلاًّ، فتُسلَب إرادته وإرادتنا، ويبقى مشتَّتاً بأبنائه وانتماءاتهم. والله بكل شيء عليم. فالكفاءة نعمة من رب السماء، والذكاء رسالة يحمل فيها الإنسان نِعَمها، ولكن أنْ تُدفَن الكفاءة والذكاء بحديث أشخاص فاسدين وحاقدين فذلك تشويه للسماء ولنِعَمِها. إنها حرب شعواء بين الشياطين السود والملائكة البيض، فضاعت المسؤولية وتاهت القوانين، وفي ذلك يقول أفلاطون:"الشخص الصالح لا يحتاج القوانين لتُخبره كيف يتصرف بمسؤولية، أما الشخص الفاسد فسيجد دائماً طريقة ما للإلتفاف على القوانين". نعم، هؤلاء يكتبون السماء بأسمائهم فهي مُلْكٌ لهم، هكذا أرادت آلهتهم وهذا الذي يجب أن يكون، ولكن لنعلم أن الحقيقة لا تكمن في القول والتهم بل الحقيقة تحمل شهادة الحياة، وفي ذلك يدركون جيداً مَن هم السرّاق، وكيف يلتفّون على الحقيقة لغاية في قلوبهم.
    إنه زمن فيه نبيع حقيقتنا كي نربح أيامنا وأمكنتنا وأزلامنا، فنرسم لنا ملامح مستقبل ونهاية لمعارضينا، ونميت الكفوئين كي لا نبقى نحن في خانة المدراء الفاسدين، فنُبعد عنا كل حقيقةِ وطنٍ وإخلاصِ شعبٍ. فهل سمعتم بوطن يبيع شعبه، وبرئيس يبيع أعداده؟، أليس ذلك زمن الضياع والفساد وشهادة زور؟، ومع هذا كله سيبقى الله على كل شيء شهيد وقدير.
    حتى ما يكون النفاق سبيلاً إلى الأعالي، وتكون الوجوه آيةً للتسامي، نعرف الحقيقة ونزيّفها، ونعرف الكذب وأحباله ونقدّسه، ونعرف الزور وشهوده فنزكّيه إلى الصلاح والبِرّ، ونشير إلى الفاسد ونباركه، وله يليق الإحترام والخضوع. ولا زلنا نخاف أن نقول الحقيقة من أجل عدم ضياع مناصبنا ومآربنا، واحتراماً لها كي لا نفقدها، فهي لنا آلهة ونحن لها عبيد، والحقيقة هي "إنّ العبد لا يعلم ما يصنع سيده" (يوحنا15:15). فحتى ما نبقى في حالة إتّهام الأبرياء ونحن مدركون براءتهم، ونُنسب إليهم أباطيلَ وأحاديثَ شيطانيةً فنجعل منهم مجرمين ونحن نعلم أنهم أبرياء، لا جريمة تشوب مسار حياتهم، ونعمل هذا كله كي نُبعدهم عن سبيل الحياة من أجل الدنيا وحلاوتها والمصلحة ومكوناتها.
    حتى ما نبقى نتاجر بخرزات سبحتنا وطولها ولونها وصنفها وقيمتها وقينات عباداتنا، ونجعل السامعين والرائين والمطيعين أن يُدركوا أن هذه دنيانا وهذه مآربنا في تمجيد اسم الله (جلّ جلاله)، وننسى إننا في ذلك لا نمجّد إلا أنفسنا ولا نعبد إلا كبرياءنا، وطريق السماء ومآرب تمجيد الإله تكون في السيرة والمسيرة، في الطهارة والبرارة، في الشهادة والحقيقة، وليس بوقوفنا أمام أنظار مَن لهم العيون كي نُحسَب عندهم قديسين ونحن قد ملكنا كبرياءً ورياءً وغشّاً. حتى ما نُصدر بيانات ونسكت، وأصوات الكبار والصغار والجمعيات واللجان وما شاكلها تعلو وفي اليوم التالي تَبُحّْ. وهنا يكون التساؤل: أين كبار زمننا وقادة أحزابنا وأمراؤنا، ومندوبو لجان خلاصنا، هل تركوا ساحة الشرف كي لا تُكتَب لهم الشهادة، أم إن الاجتماعات والمؤتمرات جمعتهم لكي يتفرقوا ويكونون شهوداً لتفرقتهم وأمناء لبياناتهم؟ ما هذا الذي يحصل؟ مَن يحاسب صاحب البيان وداعي الاجتماع والمؤتمر؟ ما هذا ومن أجل مَن؟ ألسنا كلنا من الخطأة والأمناء لخطيئة الكبرياء والأنا؟.
    معابدنا تحمل رسالة الإنجيل للبشارة بالمسيح الحي، فهي أماكن عبادة وصلاة، وفيها يرتفع الدعاء ببخور المصلّين إلى حيث الأعالي، وما ذلك إلا خبر مفرح لبشرى الحياة. أتمنى أن لا تكون معابدنا مذياعاً للحفلات والسهرات من أجل الدنيا ومحاسنها، بل أن تكون ورقة بيضاء، فالأنشودة تقول "يا إله الخير أيها الرحمن، إقبل منا هذه الصلاة، واجعل منها يا ربنا للخطأة غفراناً"، فلا يمكن أن يكون المعبد قناة فضائية دنيوية. فمعابدنا معابد صلاة، فيها نرفع دعاءنا إلى ربّنا العليّ العظيم، وأيادينا ضارعة إلى ملك الكون، ولكن أن تكون صلاتنا وأن يكون دعاؤنا ورفع أيادينا بقلوب فاسدة ونيّات قذرة، في القتل والسرقة، فما ذلك إلا "فرّيسية الروح" (لوقا18) و"صدّوقية الشريعة وكتّابها" (متى23) ، ونجعل من رب الكون عبداً (أستغفر ربي)، وعليه أن يعمل ما أشاء وليس ما يشاءه... ألسنا في ذلك مطيعون، وربّ السماء يقول لا يليق السجود إلا لربّ الكون. فعجيب الإنسان في أمره، يعمل على طول بقاء حياته وهو يدرك جيداً أنه في قبضة الباري وإرادته، يربح جوازاً للخلاص والهروب كي لا تفنى دنياه، وينسى أن يربح جوازاً للعبور نحو العلياء. والمحبوب ينادي بإنه باقٍ حتى دهر الدهور وينسى أنه في لحظة يُعلَن مجرى الأمور... فما أتعس الحياة حينما لا نفهم إرادة باريها، ولا نحب خالقها، ولا نقدس ساعتها، فكثيراً كانوا كباراً ودون استحقاق، فلا علم ولا علماء، ولا شهادة ولا امتياز، بل تابعون أمناء وعبيد أوفياء، وإنْ كانت الحقيقة تنادي بأنهم لا يستحقون، فلا آذان تسمع ولا عيون تؤمن، والسامعون لهم مراؤون، والناظرون إليهم مصلحيون، وهكذا شاءت إرادتهم. فعبيد اليوم مهانون خاضعون خانعون، وكبار الزمن - وإنْ كانوا سرّاقاً - فهم أوفياء معلَنون.
ومع هذا سأقول متفائلاً: صحيح مرّت علينا سنوات عجاف ولا زالت بسبب ما خلّفه داعش وبسبب إحتلاله لقرانا وقصباتنا ومدننا ولكن والحمد لله وبهمّة الطيبين والمنظمات الخيرية والكنسية والمدنية والدولية عاد تقريباً كلّ شيء إلى محلّه. فما نحتاج إليه أن نبني الوطن مع الآخرين وخاصة بعد زيارة قداسة البابا فرنسيس في 5/3/2021 الذي قال أن نكون شهوداً لهذه الأرض التي عرفها التاريخ بحضارتها وعمرانها وإيمانها كما رسم لنا مخطط الإيمان الإبراهيمي. فلنعمل جاهدين على أن لا نيأس ولا نتقاعس عن القيام بواجباتنا وإن كان الشر يحاربنا من جميع الجوانب وهذه حقيقة الحياة. فلنتذكر تجربة الشرير للمسيح الرب بعد صيامه أربعين يوماً وأربعين ليلة... وأقول تلك مشيئة السماء... فيا رب، إجعلها مشيئتك لا مشيئة إنسان... نعم ونعم.



48
يا رب ... لماذا كل هذا!؟
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   ماذا يحصل في بلادي؟ وماذا يجري في وطني في هذا الزمن القاسي، زمن الوباء؟. عرفتُه وطن الحضارات والأديان، كما عرفتُ بلادي بلاد الدنيا والإيمان. وكثُر فيه الحديث، حديث التاريخ والآثار، حديث الحضارة والآداب، حديث الكنائس والمسيحية،
حديث المساجد والجوامع. هكذا قيل عنه في الماضي البعيد والقريب، واليوم تغيرت الملامح وأصبحنا نسأل: ماذا يحصل؟ وإلى اين نحن سائرون؟ وماذا سنقول لأجيالنا ولصغارنا؟.
لماذا كل هذا؟... هل أبعدَ البشرُ اللهَ عن قلوبهم؟ وهل أفرغنا قلوبنا من علامات السماء، وأصبحنا نؤلّه أشخاصاً مِن مَن نشاء ومتى نشاء وساعة نشاء. وبدّلنا عبادتنا من إله السماوات إلى عبادة الأنا وآلهة الأرض الزائلة. وأصبحنا عبيداً لبشر مثلنا، والمسيح الرب دعانا أحباءه إذا ما عملنا بوصيته (يو12:15)؟.
لماذا كل هذا؟... نعم، لماذا هذا العذاب وهذه المسيرة المؤلمة؟ من حرب طاحنة إلى أخرى مبيدة، ومن حصار ظالم إلى تدمير لأجيال الطفولة، ومن مسيرة التقشف المؤلم إلى حياة الإستعطاء والضياع، ومن تفجير إلى إحراق، ومن طائفية قاتلة إلى مصلحة ومحسوبية فاشلة، ومن مشاهد التفجيرات وقتل العشرات والمئات وجرح العديد من الأبرياء، وبسبب تسييس الفساد والظلم وعدم الرحمة والكراهية، وجعل الشرائع في خدمة المصالح الدنيوية والمكاسب المادية، أسأل: ما نوع الخطيئة التي إرتكبناها؟ وما هي الجريمة التي إقترفناها حتى يشهدوا زوراً، فيكتبوا ويشوّهوا صورة الإنسان البريء؟ وكتبوا علامة لا يليق أن تكونوا فأنتم لستم أهلاً لها، فالجنة لغيركم وليست لأبناء بلدكم ولا لأجيالكم وأمثالكم ليجعلوه خبز الزمان وحدث الأيام.
نعم، لماذا كل هذا؟... إن شعبنا طيب ومضياف وكريم. نعم، هكذا عُرف وعُرفنا، ولا زال رغم المآسي وطريق الجلجلة الذي فيه نحن سائرون يفرح مع الفرحين ويتألم مع المتألمين (رو5:12). فلا ذقنا من تفاحة آدم حتى نخسر أجيالنا وحياتنا ومستقبلنا وكفاءاتنا، ويُحكَم علينا بالموت والدمار والإنفجار والإرهاب والأزمات والإستبعاد، وأصبحت أيامنا وساعات نهارنا سوداء وحمراء وصفراء، إضافة إلى ما خسرناه وتركناه خلف ظهرانينا وفتشنا عن طريق يوصلنا إلى حقيقة العيش فلم نجد. وبدأنا نسأل: لماذا خسرنا مَن كنّا نعتبره صديقاً مظلوماً مثلنا وقد كان أملنا، وهم يعلنون اليوم إنهم حُماة مستقبلنا عبر مواقف تغاضوا عنها بسبب الأيام – ومن المؤسف – إننا أضعنا أحلامنا إذ هكذا أرادها المتمكّنون والأقوياء والمحسوبون والذين يصيدون في مياه المحسوبية والطائفية والكراهية والقبلية والمصلحة، ويعتبرون أنفسهم من المنزَّهين، فلا مجال بعدُ لدموعنا ولا صفاء لعيوننا. وقمنا لا نبصر مَن يُخفي علينا حقيقة الزمن، حقيقة المغشوش، فامتلأنا بكاءً وطفح الحزن في داخلنا ولا من مفرّ، وأصبحنا في صمت مخيف، وأخذ الفزع يعشعش في صدورنا لا بل أصبحنا نخاف أن نلفظ كلمةً فتُفَسَّر على غير حقيقتها. وأمست الكراهية مترئسة في مجالسنا، والكبرياء من على كراسينا، والطائفية والمصلحة سبيلا بقائنا، والكذب سلاح نقتل به مَن نشاء، وروّادنا هم من الخاضعين كعبيد خانعين، إذ هكذا أردناهم وحسبناهم وإلا فهم أعداؤنا. إنه الظلم بعينه، فلقد إنهزمنا من دون أن ندخل حرباً أو نخوض معركةً أمام هذا الوباء القاتل.
لماذا كل هذا؟... هل بعنا وطناً حضن أجدادنا وآباءنا واليوم نحن وأجيالنا وبدأنا نفتش عن الخبزات والسمكتين (يو1:6-14) لذلك هجرناه واشترينا بدلاً عنه بطاقة لنكون في مأمن منه بعد أن غادَرَنا أحبَّتُنا فنغادر نحن أيضاً لكي ندرك كيف كنا نعيش في مسار الألم وطريق الصليب في جلجلته المعذّبة ونداء المحسوبية اللعينة والمصلحة المقيتة، بعد أن اعتبرنا أنفسنا قادة لدنيانا، وعلينا كُتب خلاصها، ونسينا أن الإله تواضع وغفر ورحم "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى28:11) "إنه رحمن رحيم" و"إني وديع ومتواضع القلب" (متى29:11). ومن المؤسف أن كبار عالمنا لا يعمل فيهم إلا ما يحبون وما يكتبون وإنْ باعونا وباعوا الأرض وتاريخها، فحقيقة أفكارهم وعقولهم لا تدركها إلا مصالحهم بالذات.
نعم، لماذا كل هذا؟... مَن يفكّر بالإنسان؟ فالإنسان باع المرعى واشتراه الغرباء، كما "هاجر" "فهو ليس في الوجود" (متى18:2). وآخر إنتحر ويبس المرعى، ولا زالت "راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى" (متى18:2). فلا من مخلّص إذا ما نادينا خلاصاً إلا إذا سار الجميع في طاعتهم، فهم أبرار في حساباتهم وأولاد لإبراهيم في إيمانهم وكمال لوجودهم ولحقيقة أفكارهم.
يا رب، أتوسل إليك، إذا شئتَ يا كنز الرحمة، إرفع عنا هذا غضب الظلام وكراهية الوباء ومحسوبية النيّات ومصالح الأموال، وأبعد عنا الكبرياء وظلم الزمان، واجعلنا في صمتٍ أمين، وامنحنا النعمة لكي نحاول أن ننسى أحزاننا وظلمنا ومحطات مسيرتنا المؤلمة. وأبعد عنا ظلم الزمان، وأعلن لنا ولأجيالنا حقيقة أيامنا بأمل ورجاء. وامنح الحكّام والرؤساء والمسلَّطين حكمة القيامة، وأوصلهم إلى نهاية أمينة. فلا زالت زيارة البابا فرنسيس تعمل فينا، والنشوة في صدورنا إذ قال "فلتصمت الأسلحة والكراهية والتطرف. إنها وباء الدنيا الدائم". فالرحمة منك يا رب قبل أن تكون من البشر رغم مآسي الحياة وبلاوي الزمن وصعوبة السير، وكما قال البابا فرنسيس أيضاً "الكبير ليس مَن تهتف له الشعوب بل الكبير مَن يحمل الرحمة للآخرين". فمنكَ السلام والخلاص وأنتَ الأمان، وهذه حقيقة مسيرة حياتنا في وطن الأجداد. واسمح لي يا رب أن أطلب عفوك قائلاً: نعم، لماذا كل هذا؟... وختاماً أقول: يا رب، لتكن مشيئتك... نعم، وآمين.

49
مسيرة في حقيقة الرجاء
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   إننا أمام عالم أكثر فتكاً بأبناء الأرض الأبرياء، فالأبرياء اليوم هم ضحايا النار والحروب والأوبئة إضافة إلى الفساد واتّهامهم بشتى أنواع التهم لأجل المصالح والمحسوبيات من قِبَل كبار الزمن ورجال الدنيا والمهمات والمناصب ومن أجل غايات ومصالح شخصية ربما أو أنانية. كما أخذت هذه الأمور كلها تُمزّق أرضَنا وحقيقة أصالتنا
من أجل أن نكون أو لا نكون. ومع الأسف، فالمسيرة تسير والقافلة تُنشد هدفَها ولا أحد مبالٍ بما يحصل خوفاً من أن لا نملك حياتنا ومسيرة أيامنا وحقيقة وجودنا.
نعم، كم هو قاسٍ زمان الأيام هذه، والذي نحياه ونعيش ساعاته بلياليها وأيامها، ولكن مع هذا أقول أن رؤساءنا الطيبين وذوي الإرادة الصالحة ورجال زماننا مسلّمين بكل ما يحصل وبكل حيثيات المسيرة الوطنية كما المسيرة المسيحية والتي ربما نراها مؤلمة ومتعِبة، ولكن هذه هي الحقيقة.
فلنعمل مع هؤلاء أصحاب ذوي الإرادة الطيبة في أن نزرع الأمل والرجاء من أجل مواصلة الحياة، وهذا يتطلّب منا أن نشهد للحقيقة بشجاعة الإيمان الذي ملأنا صدورنا منه، إيمانٌ بالله وبالآخر وبالوطن. فلا بدّ من ذلك لنعرف أين نحن ماضون وما هو الهدف الذي نعمل من أجله وأين كنّا وأين أصبحنا، وهذا قليل من كثير يجب علينا عمله من أجل مواضيع ودراساتٍ شتّى وتأوّهات الماضي من أجل مستقبل نحياه في حاضرنا... لذا أقول:
-   بالأمس، كنا مواطنين أصلاء وليس مكوِّنات أو أقليات أو جاليات ... واليوم، أصبحنا مهجَّرين ونازحين وغرباء وأناساً مأجورين.
-   بالأمس، كنا وطناً ومعبداً واحداً وكلٌّ على إيمانه ... واليوم، أصبحنا نفتش عن تسميات لمعابدنا وطائفيتنا وعشائرنا، والويل إذا دخلتُ عتبة معبدٍ آخر لا أنتمي إليه غير معبدي، فربما تتغير دنياي ويُسَجَّل إسمي في سجل المعارضين أو المكروهين.
-   بالأمس، كنا نملك وطناً وأرضاً وعراقاً ... واليوم، نحن لا نملك حتى الهواء الذي نستنشقه، فقد ملأ التراب أنوفنا وجَعَلْنا من بيوتنا مشافي لمسيرتنا المميتة وتركنا وطننا وأرضنا والخوف أن نبقى بلا وطن بعد أن جِلْنا الأرض بطولها وعرضها لنفتش عن الطريق وإنْ كانت بعيدة.
-   بالأمس، كنا شعباً سعيداً ملموماً شملُهُ ولم نفكر إطلاقاً في هجرتنا ومغادرتنا إنما كنا نتشبّث بأرضنا ... واليوم، الهجرة هاجسنا وموضوعنا، فلا ثقة لنا بشعبنا ولا بمَن هم حوالينا، فالزمان غدر بنا وخوفنا من أن أرضنا قد كُتبت لغيرنا.
-   بالأمس، كنا ننعم بأجواء بيوتنا وقصورنا ومزارعنا وبساتيننا، ونلعب أطفالاً وشباباً في مساحة ساحاتنا، ونحصد كما نزرع حقولنا وتنوع حدائقنا بأنواع الورود ونقطفها في أوانها باقات جميلة ... واليوم، نفتش عن الهواء ونلفّ الكرفانات والمخيمات والمعسكرات، فقد يبست ساحاتنا وبساتيننا ولم تعطي ثمراً خوفاً من!! بل أصبحنا نفتش عن فلك نوح خوفاً من الآتي وخوفاً من الطوفان وما سيحلّ في المسكونة وفي بلادنا، وأصبحنا نجمع دموعنا ونقطفها آهاتٍ وحسرات.
-   بالأمس، كنا ننام وأبواب دورنا مفتوحة إحتراماً لضيوفنا، ولا حارس يحرسنا ولا كاميرات تصوّرنا ولا مَن يسأل مَن هو الآتي، لأن الآتي هو من أبناء وطننا وجيراننا ... واليوم، نتفنّن في كيفية تحصين أبواب دورنا ومنازلنا لنعلن حقيقة دارنا وربما خوفاً حتى من جارنا ومن أصدقائنا ومن القريب أو البعيد، كما بدأنا نغيّر حقيقة سكنانا لنبعد عنا التهديد والوعيد.
-   بالأمس، كنا نعمّر بيوتنا ونقيم منازلنا ونعلّي جدران دورنا إيماناً بمستقبل أجيالنا، وبعرقنا كنا نربح أيامنا كما كنا عاملين مليئين من الإخلاص وراضين بنعمة عيشنا ... واليوم، مع داعش الإرهاب فقدنا حتى بيوتنا والتي نُهبت وأُفرغت من أهلها ومن أثاثها بعد أن أُحرقت علامةً لقساوتهم ولإعلان حقيقة مسيرتهم وهدفهم، ولم يبقَ لنا شيءٌ يُذكَر إلا كُرهِنا لهذه الأعمال المشينة وغير الإنسانية وما أصحابها إلا أبرياء وضحايا لهذا الإرهاب، وبدأنا نتحرك ونتحرّى عن ما يحصل لنا من الإبادة المجتمعية. "لقد هلكنا" قالها التلاميذ للمسيح الحي (متى25:8) بعد أن دُمّر وطننا الصغير، منزلنا وبيتنا الأبوي وهيبته، ولا كلمة ناطقة إلا بياناً وبلاغاً.
-   بالأمس، كنا نهتم الواحد بالآخر ولم يكن لنا لجان ولا مذياع ولا تلفاز يتكلم ضدنا أو يهتم بشؤوننا لأننا كنا نعمل رسالتنا بحقيقة شؤوننا لنكون صادقين مع أهلنا ورجالنا وحكّامنا ورؤساءنا ... واليوم، المجالس وشؤونها واللجان وقوانينها والويل للقائمين عليها من فسادهم ومن أفكارهم ومصالحهم ومن إصداراتهم وحقيقة مسؤوليتهم خوفاً أن لا يكونوا إلا مناجاة عبر منابر ومايكروفونات وبيانات وعناوين تعلَن. وما أجمل الأقوال في هذه الأزمنة ولكنها بعيدة عن الأفعال، فما الفائدة!!.
-   بالأمس، كان الفرح يملأ صدورنا ونجعل من شوارعنا مشاعل وندعو أعزاءنا ونشارك أفراح غيرنا برقصة أو دبكة، جاعلين من الحياة بهجة وفرحاً وحياةً لجميع شرائح شعبنا. فالنسوة تهلهل، والأطفال يملأون ويعززون فرح صدورنا ويزيدون في علمهم، فتراهم مواظبين مجدّين لا تهمّهم الحياة إلا أن يكونوا أوفياء ومصباحاً للعلم والمعرفة، والشباب يقدمون خدماتهم لكبارنا ومسنّينا، والنسوة تعطي للغذاء من وقتهنّ ... واليوم، حسرات بسبب نتاج أمراضنا وعاهات في صدورنا وآلام في حقيقة أجسادنا، وأصبحنا لا نبالي بغيرنا ولكن فقط بأنفسنا وما ذلك إلا ضياع لقِيَمِنا وإنسانيتنا، وأطفالنا قد ضاعوا فلا نعلم ما علمهم وفي أي رياض يجتمعون ويعتبرون أنفسهم قادة لهم ومن المؤسف.
-   بالأمس، كان الإعتذار من كبير القوم بحق الصغار شعارَ إنسانيَّتِنا، والقرار بالخطأ سبيلاً لعيشنا واحترامنا لكبير أيامنا وعلامة لمحبة أجيالنا، فكلنا كنا أوفياء وأمناء بعضنا لبعض وتشهد على ذلك مسيرتنا في وظيفتنا وعملنا في دوائرنا واحترامنا لمسيرة حياتنا ... واليوم، أصبح فاسدينا قديسين، وكبار قومنا تحني لهم القامات وتخلع العقالات تكريماً لوجودهم بيننا، ولهم يجب الإكرام والتسبيح والمقاعد الأولى والترحيب بهم في بدء أعمالنا وإلا فنحن لسنا إلا من المبعَدين والمرذولين وغير الصادقين، ونسأل ما هذا ولا من مجيب.
-   بالأمس، كان عدد مؤمنينا يفوق المليون والنصف، وكانت معابدنا تمتلئ برجال الإيمان الحقيقي وببساطة الحياة والصلاة في الاحتفالات والعبادات، وبعدها يكون الإنسان قد ملأ قلبه سماءً فيكون كلامه حقيقة، وقد جعل من أرضه أرضاً مقدسة تُزهر بالحقيقة والحياة فيصبح المؤمن مفعماً بتعاليم المحبة والتسامح والغفران ولا ينظر إلى الجهات المظلمة والزوايا الخفية ... واليوم، أصبحنا نُحصى بعدد أيام سنتنا – إنْ كانت بسيطة أو كبيسة – كما أصبح الكذب حقيقة كلامنا مع غيرنا لنطرد عنا سمعةً ربما تخوننا، كما أصبحت مسيرتنا نفاقاً وشاهدة زور على حقيقةٍ أردناها غير ذلك، وجعلنا من ذلك الزيف عنواناً لوجودنا. ويبقى السؤال: لماذا البقاء؟ هل نحن خُلقنا من أجل الفناء، فنحن صورة الله بخلقه فقد قال في كتابه "وخلقنا الإنسان على صورتنا كمثالنا" (تك26:1) فأين الشهادة الأمينة والحقيقية.
-   بالأمس، لم نكن نعلم ما هي التقسيمات والتنظيمات، وماذا تعني المنظمات والإتحادات والحركات واليافطات، وما نوع الطائفيات والمصالح، فكل شيء كان على بساطة الحياة محبوباً وموقَّراً، مليئاً بالبساطة وحب التعايش وإنْ كان اللقاء بعيداً. كما كانت الطريق إلى أبوابها معلَنَة ومعروفة ... واليوم، لا أحد يعرف ما هو عدد مكوِّناتنا وتقسيماتنا وتنظيماتنا، والأقوى هو الأول، والأضعف هو الأخير، وكل هذا في زمن قال عنه المسيح الحي "إنه ستأتي أيام تشتهون فيها يوماً كأيام ابن الإنسان ولن ترون" (لو22:17). فعدد منظماتنا وحركاتنا وأقلياتنا وطوائفنا وقومياتنا تفوق فكرنا، واحترامنا لعددها ورسالتها نابعة من قلوبنا، ومهامها مسموعة وإنْ كانت غير مرئية لحاجات في نفوسها ومصالحها لا تُعَدّ ولا تُحصى ولكن نسمع بآياتها ولا نرى عطاءها من أجل خدمة الإنسان وخيره، وما علينا إلا الطاعة العمياء وإنْ كانت ضد حقيقة الحياة ونسأل: هل خُلقنا لطاعة رب السماء واليوم أبناء الأرض أصبحوا آلهتنا، فالكبار لهم ساندون ونحن الصغار من أجلها مطيعون... ليس إلا!.
ربما تفكرون وتقولون إن ذلك تشاؤم بامتياز ولكن ليس ذلك صحيحاً فالرب يسوع المسيح الحي قال "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو32:8)، إذاً قَولِي للحقيقة ليس تشاؤوماً ولكن الخوف لا زال هاجساً مخيفاً يعمل فينا ويأكل من مسيرتنا. فقد كان لنا تجربة قاسية مع داعش واجهناها برجاء المسيح وأمل القيامة، ولكن إذا بقينا على هذه الحال هل سنحصد ما زرعناه أم نحصد ما لم نبتغيه؟ وهل هو الزمن الذي تُعطى فيه لنا حقوقنا ونعيش مطمئنين آمنين في بلادنا؟ وهل نحن أمام تحديات جديدة ومن نوع جديد كما لحاضرنا ومستقبلنا إذا كان لنا ذلك؟، وأسأل: هل سنبقى نفتش عن الأرض التي تحضننا ونترك أرضنا والبقاء فيها، فشعبنا لا زال يرحل وقد مرّ بوعكة أودت به إلى ضياع المال والمجوهرات والأملاك والحاجيات فقصد جمعيات وافدة من أجل خير الدنيا وإعادة عمران منازلنا ومعابدنا وقرانا ومدننا وقصباتنا ونحن لهم شاكرون، وفي هذا كله ضاعت الحقيقة وضاع الوطن واكتمل المَثَل القائل "بطني عبادتي وإلهي دنياي"، والويل إذا كان الراعي في سبات عميق ورحيل الأيام حيث يأتي رب الدار في ساعة لا ندركها (متى44:24 ولوقا40:12)، ولكن علينا أن نعلم جيداً أننا لسنا أُجراء - وإنْ كانت مشاعر الإكتئاب والحزن والذين تتغلب على حياتهم ما يرون من ظلم أمام عيونهم ويشعروا كأنهم غرباء عن جيرانهم وهم عالمون أن نظرة المجتمع تغيرت تجاههم فقد كانوا أهل الدار والمنزل – فأمر القطيع يهمّنا وثوابتنا في حقيقة قيامة الرب "إنه حيّ، قد قام ليس هو ههنا" (لوقا6:24) وما ذلك إلا ثقتنا ورجاؤنا وأملنا، فمن أجله نحيا وبدونه لا حياة. فيا ليتنا كنا أمساً في يومنا... وسأبقى متفائلاً بنعمته، وسأبقى أردد "لتكن مشيئتك" (متى10:6) فتلك مسيرة إيماني وحقيقة رجائي ومخطط حياتي وإنْ كنتُ أخاف ألاّ تكون تلك مشيئة الإنسان الذي ألَّه نفسه ومصلحته ولكن لا وألف لا... إنها مشيئة الرب وتلك مبتغاي... نعم وآمين.

50
  حكاية من هذا الزمن
الكنيسة، كنيسة المسيح ... ليس إلا!
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
إنه زمن الوباء، زمن قاسي بأيامه ولياليه، فيه إزدادت مسالك الألم ولا من معزٍّ، وأصبح الحق والحقيقة ضحيتان بريئتان لمسيرة الحياة المزيفة عبر سبل الطائفية والحقد والكراهية المختلفة، وجعلنا من كلامنا رسالــة كي نقــــول للصالحيـــن "إننــــا أمــــراء"،
ونُظهر أنفسنا مصلحين لمجتمع نعتبره فاسداً دون أنفسنا، وهذا ما يجعلني أن أقول "أن المسيح يُصلَب من جديد"... فالويل لنا، فقد أضعنا بوصلة الحقيقة من أجل مآرب الدنيا والتمجيد الزائل كي تكون آلهتنا.
وحكايتي، إحدى حقائق مسيرتي الخاصة التي اصطبغتُ بها بنعمة السماء وبوضع يد القديسين الأمناء الذين رحلوا إلى مدينة الأحياء وأصبحوا اليوم نموذجاً للحياة، والرب كان خادماً (لوقا 27:22)، وما الخدمة إلا سبيل البابا فرنسيس (المالك سعيداً)... وهذه هي الحكاية:
أخ وأخت (س، ص)، شخصان من عائلة واحدة، أعمارهما متقاربة بين (65-70) سنة، ومنذ أن تعرفتُ عليهما في عام 1985 قمتُ برعايتهما وخدمتهما الروحية، وكنتُ بين فترة وأخرى أقوم بزيارتهما لعلّ وعسى يحتاجان إلى خدمة بسبب مرض (لا سمح الله) أو بمناسبة الأعياد، وخاصة في هذا زمن الوباء، وكانا يترددان أغلب الأحيان إلى الكنيسة للحضور والمشاركة في الذبيحة الإلهية، وعندما كنتُ أفتقد حضورهما كنتُ أتصل بهما عبر الهاتف الأرضي لأسأل عنهما.
قبل سنتين، لاحظتُ أن الأخ لوحده يقصد الكنيسة للمشاركة في القداس الالهي، فلما تكررت هذه الحالة مرات عدة سألتُه: أين هي أختكَ؟ فهي لم ترافقكَ منذ فترة طويلة، أجابني بكل ألم: أبونا، لقد طلبتُ منها المجيء معي ولكنها لا ترغب بالمجيء. فقلتُ له: لماذا؟، فقال: لا أعلم! عندها تركتُ السؤال والجواب.
مرت الأيام والأشهر والسنون، ويوماً ما وكعادتي اليومية كنتُ أواصل مسيرتي الراجلة - حسب برنامجي اليومي وخاصة في هذا زمن الوباء برفقة أحد المؤمنين - إذ كان للصدفة دور أن ألتقيهما معاً، فسلّمتُ عليهما كعادتي – وهذه من العلامات التي لا تفارق محيّاي – وقلتُ بكل فرح ومحبة وباللهجة المحكية: أين أنتِ سيدتي الغالية يا مدام؟ "وينكي ما كو، من زمان ماشفناكي، ما بقى تجين للكنيسة، وسألتُ أخوك عنك بس ما أعطاني جواب"، فأجابتني وبدون مقدمات "أبونا أنا أروح لكنيستي ما أجي عدكم". قلتُ لها ماكو مشكلة، الكنائس كلها للمسيح وللصلاة. فأكملتْ حديثَها بقولها: إحنا مو من طائفتكم، ومسؤول كنيستي شافني وقال لازم تجين أنتِ واخوكِ لكنيستكم وتحضرون القداس، فقلتُ لها: كلام جميل، بس يسوع موجود في كل كنيسة.
نعم، وكما يقول مار بولس أيضاً "معلّمكم واحد وربكم واحد يسوع المسيح" (أفسس 5:4)، صدمتني حقيقةً بجوابها هذا، وجعلتني أصمتُ قليلاً، وكانت ملامح وجهها تُظهر أنها تريد أن تغادر الموقف الذي هي فيه، كما إني أردتُ الشيء نفسه، فختمتُ الحديث بيننا بالسلام وتركتهما وواصلتُ المسيرة الراجلة إذ لم أقدر أن أعطيها الجواب الشافي أو أن أعلّق بأي تعليق، فكان الصمت جواباً لكلامها، ومن حينها أدركت أن السبب ليس سببها.
وبعد حوالي شهرين من الزمن وبسبب وباء كورونا شاء الرب أن تغادر السيدة إلى مدينة الأحياء وتترك دنيانا، فجاءني أخوها وأبلغني بنبأ إنتقالها إلى مدينة الاحياء (وفاتها)، وطلب مني أن أقيم الذبيحة الإلهية راحةً عن نفسها وقال لي "إحسبها عليّ أبونا"، فقلتُ له "ليش شكو"، قال "أرجو أن تعذرني أبونا فقد أخفيتُ عنك الحقيقة طوال غيابي عنك ولم نوفيكَ أتعابك فقد كنتَ معنا مخلصاً وخدوماً، وقد أوصتني بعدم البوح بهذا السر".
أدركتُ حينها أننا في كثير من الأحيان يجب أن ننتبه كي لا نكون عثرة للآخرين الأبرياء وخاصة نحن رجال المعابد، فالرب يسوع يقول "الويل لمن على يده تأتي الشكوك" (متى 7:18)، وربما نحن السبب في ذلك لأننا نجعل مؤمنينا ينبذون الآخر المختلف عنهم عبر تبشيرنا بالطائفية والمحسوبية والمُلكية الخاصة. فالكنائس كلها للمسيح ولا غير المسيح ولا لأشخاص من الدنيا، ولكنها أُعطيت أسماء أشخاص قديسين لتمييزها وشفاعتها. 
فيا رب، في ختام هذه الحكاية علّمنا أن نعمل في هذ الزمن القاسي لسمائنا وليس لزوالنا، وأن نكون خدّاماً أمناء وأوفياء وأحباء من أجلك ولأجلك ولا غير ذلك أيها المسيح الحي، ولا كنيسة إلا كنيستكَ... نعم وآمين. 


51
بمناسبة عيدَي الفصح والقيامة المجيدين
ما أحبَّ أقوالكم ... ولكن!!!
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   يسرني في البدء أن أهنئكم من صميم الفؤاد بعيدَي الفصح والقيامة المجيدَين، طالباً من كلمة الله الحي - إذ قال "وأرسلنا كلمتنا إلى مريم" (سورة النساء؛ آية 171) إنه المسيح
الحيّ – أنْ يمنَّ على العالم وعلى شرقنا وعراقنا الجريح بالسلام والأمان. ولنعمل جاهدين من أجل بناء وطننا وخدمته لمستقبل أجيالنا. فلترافقكم صلاتي المتواضعة ... وكل عام وأنتم بألف خير.
منذ أنْ عرفتُ عِلْمَ الحياةِ وما يَعنيه في دنيا الزمن، وعرَّفَتْني الدنيا بمسيرتِها، لم أجدُ في منطقتِنا العربيةِ والشرقِ أوسطية فترةَ هدوءٍ وراحةَ بال. فالأهواءُ السياسيةُ كانت ولا زالت تقذِفُنا جميعاً من شاطئٍ إلى آخر، ولم نكن ندركُ _ وحتى اليوم _ شيئاً من هذه الأهدافِ والأهواءِ وما غايتها. بمعنى آخر أنَّ منطقَتَنا ووطنَنَا ومسيرةَ إيمانِنا مرّت ولا زالت تمرُّ في مراحِلَ صعبةٍ، وفي أغلبِ الأحيان يُصيبنا الإحباطُ وتعلو أصواتُ الهجرةِ، ولولا إيمانُنا بالمسيحِ الحيّ وشهادتُنا لتربتِنا لَمَا بَقِيَ مسيحي واحد إلا وهاجر من هذه الأرضِ الطيبةِ والتي كانت تدرُّ حياةً وخضاراً، واليوم نفطاً وكبريتاً، دولاراً وديناراً، نزوحاً وهجرةً، أحزاباً جشعةً، وخطاباً مميتاً، طائفيةً وعشائريةً، حروباً مرعبةً ومخيفةً جَعَلَتْنا ضحايا وعبيداً لمصالِحَ سياسية، ولمحاصصةٍ حزبية، للقاصي والداني، للغريبِ والقريب، للفسادِ والسرقة، وتفاقمت حتى أصبحنا تائهين في مجالِ الوجودِ والبقاءِ.

     إخوتي الأحبة...
نعم، إننا اليوم نقفُ على مفترقِ طريقٍ مخيفٍ ملؤُهُ الضياع والخوف وأمام مواقف صعبةٍ ومؤلمةٍ، فالخطرُ يداهمنا من زوايا شتّى ومن أماكنَ متعدِّدة، وأيامُنا تعلن _ شئنا أم أبينا _ خطرَ إفراغِ المسيحيين من هذا الشرق، ولم تترك مجالاً لإعلانِ حقيقةِ وجودِنا، فبقينا خائفين، مُعلنين فَشَلَنا في سكوتِنا، وتكون الخاتمةُ والرحيل.
مَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيينَ كانوا هم الأوائل في هذه البلدانِ الشرقِ أوسطية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ هذه البلاد كانت مهدَ المسيحية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيةَ مكوِّنٌ أصيلٌ وقد سَبَقَتِ الشعوبَ والقبائِلَ في وجودِها وفي مسيرةِ حياتها، ولكن سَئِمْنا من هذا الكلام لكثرةِ تكرارِهِ، فالواقعُ والدستورُ وما يحصلُ يقولون غير ذلك، والحقيقة لا تكمن بالأقوالِ بل بالأفعال، إذ يقولُ مار يعقوب الرسول:"الإيمانُ بغيرِ الأعمالِ يكون في حدِّ ذاتِهِ ميتاً" (يعقوب14:2)... نعم، الواقع ليس كذلك مطلقاً.
نعم، تعرَّضنا للذبحِ والطردِ والتهجير، وما إقترفه تنظيمُ الدولة "داعش" بحقِّ المسيحيين والمكوِّناتِ الأخرى ولحدِّ اليوم لهو دليلٌ أكيدٌ على ذلك، فقد كان حينَها الكثيرُ من أبناءِ العروبةِ يتفرَّجون، وآخرون يصدِّرونَ بياناتٍ ويعقدونَ مؤتمراتٍ ويلقون خُطَبَهُم، ونحن لهم كنا شاكرين، ولكن كل ذلك لم يكن إلا نقطة في محيط وعلى حديدٍ ساخنٍ فلا أَثَرَ لها بعد أيام بل بعد ساعات، وكأنَّ كلُّ شيء قد تَمَّ وأُصْلِحَ. فالحقيقةُ يجب أنْ تقال، فاليوم الكثيرُ من المسيحيين لا يستطيعون التعبيرَ بحريةٍ عن إيمانِهِم وعَيْشِهِم في مجتمعاتِهِم وهم يكافحون من أجلِ البقاءِ والوجودِ والعيشِ بسلامٍ في أراضِيهم.
نعم، إنَّ عدَدَنا يتناقصُ بمرورِ السنينِ والأيامِ والأزمنةِ، ولا أظنُّ هناك مَن يريدُ العودةَ بعد أنْ هاجرَ وتركَ وغادرَ، فمِحنَتُهم كبيرةُ الحجمِ والمأساة، فهم لم يكونوا ذلك ولكن أجبروهم بشتّى الأساليبِ على فقدانِ الثقةِ بأرضِهِم ووطنِهِم، وهم الذين سكب أبناؤُهم دماءَهم من أجلِ تربَتِهم وأرضِهِم. واليوم ما يعانوه في شرقِنا المعذَّبِ لم يكن بالحسبانِ وبالصورةِ التي نحن نحياها، فما هي إلا صورةٌ بائسةٌ لمستقبلٍ قاتمٍ ولأيامٍ مِلؤُها الغيومُ والعواصفُ، وهذا ما يجعلنا أنْ نقلقَ على مستقبَلِنا ومسيرةِ إيماننا، وكفانا أنْ نقول، وما نفعله هو عكسُ ذلك تماماً لأننا لا زلنا عرضةً للإضطهاداتِ والقتلِ والتهجيرِ شئنا أمْ أبينا، وانسلاخُ مسيحيِّينا عن أرضِ آبائِهِم وأجدادِهِم ما هو إلا كونهم ضحايا لمخططاتٍ مشبوهةٍ أرادها لنا كبارُ الدنيا والزمن وأصحابُ المعالي والقصور ليشوّهوا سلامَ مسيرَتِنا وصفاءَ إيمانِنا في حبِّنا لأرضِنا وإنجيلِنا وكنيستِنا، لأنَّ المسيحي قوَّتُه في أرضِهِ وفي مسيحِهِ الحيّ وإنجيلِهِ.
نعم، هناك صوتٌ يهدُرُ دائماً دون إنقطاعٍ وبشجاعةٍ مِلْؤُها المحبةُ والغفرانُ والتسامح، إنه صوتُ كبير الفاتيكان، بابا روما، البابا فرنسيس، حيث قال:"هناك خطرٌ أنْ يُلغَى الحضورُ المسيحي من تلك الأرضِ التي منها إنتشرَ في العالمِ نورُ الإنجيل. إنها الحقيقةُ في الصميم، فما يحصل يقودنا إلى أنْ نسألَ: هل هو تهميشٌ مُتَعَمَّدٌ لإنسانِنا المسيحي في العراق؟ هل هو تدميرٌ لتاريخِنا الحضاري الموغَل في القِدَم والسنينِ والأزمنة؟ هل هو محوٌ لديانةٍ من أقدمِ الدياناتِ التي نادت بالتوحيد؟ هل نحن في زمنٍ يُخْبِئ ُتحت عباءَتِهِ طائفيَّتَه وفسادَهُ، فيقيمُ صراعاتٍ دمويةٍ وعشائريةٍ وحتى إيمانيةٍ لتحقيقِ مآربهِ وإعلانِها؟... إنها ظُلُماتُ العنفِ أليس كذلك!؟.
نعم، وإنْ كان قد تضاءلَ عَدَدُنا فهذا لا يعني ضياعنا ورحيلنا، بل على الإسلامِ أولاً حمايةَ البقيةِ الباقيةِ من أجلِ ضمانِ بقائِهِم وحقوقِهِم. فالعديدُ من الذين رَحَلُوا يتردّدونَ في العودةِ إلى موطنِهِم الأمّ، ولا يفكّرون إلا بالبقاءِ في الغربةِ لأسبابٍ عديدةٍ منها الوضع الأمنيّ الذي يعيشه شرقُنا المعذَّب. وهناك، أي في الغربةِ، يجدونَ ضالَّتَهم حيث كل إنسانٍ له قيمته وحقوقه، له كرامته وإنسانيته في حريةِ إيمانِهِ وممارستِهِ لعقيدتِهِ دون خوفٍ وعلانيةٍ، فلا يحكمه إلا قانونُ الوطن والدولة الذي يحميه من جميعِ التعرضاتِ والمعاكساتِ، بل أكثر من ذلك "إنه خُلق على مثالِ خالِقِهِ" (تكوين27:1)، ويقول الكتابُ:"إنَّ اللهَ رأى كلَّ شيءٍ حَسَنٌ" (تكوين31:1). فنحن لسنا بحاجةٍ إلى عودةِ داعشٍ بِنسخٍ أخرى أو بصراعٍ طائفي، فقد أكَلَتْنا نارُ الحروبِ والصراعات، وأخاف أنْ يؤولَ البلادُ إلى الغرباءِ عاجلاً أم آجلاً.

     الختام 
شكراً... كفانا وعوداً، نحن بحاجةٍ إلى تثبيتِ وجودِنا. أعملوا، ولا تقولوا بعدُ "لا ترحلوا"، بل قولوا "هذا وطنُكُم. سنكتبُ دستورَنا معاً. أَعْلِنُوا فيه وجودَنا ووجودَكُم". واعملوا معنا كي نحميَ تراثَ آبائِنا وأجدادِنا. لا تجعلوا مسيحيَّتَنا تمزِّقها الحروبُ التي لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل، فَنَتِيْهُ في المجهولِ مثل نزوحِنا في زمنِ داعشِ الإرهاب. ولم نعد نحتَمِلَ ما حصلَ وما حلَّ بنا، وهذه حقيقتُنا.
والحقيقة أنَّ المسيحَ حي، ولأن المسيح قد قام أرجو أنْ تملأوا قلوبَنا الأملَ والرجاء، واعملوا من أجلِنا، واشهدوا لأصالتِنا وليس لهجرتِنا. ولا تخافوا أنْ تقولوا الحقَّ فالمسيح الحي يقول:"قولوا الحقّ،َ والحقُّ يحرركم" (يوحنا32:8)، وجبران خليل جبران يقول:"يا ربّ، ساعدني أنْ أقولَ كلمةَ الحقِّ في وجهِ الأقوياء، وألا أقولَ الباطِلَ كي أكسَبَ تصفيقَ الضعفاء"، والمهاتما غاندي يقول أيضاً:"حتى وإنْ كنتم أقليّة، تبقى الحقيقةُ حقيقةً"، والقرآن الكريم يقول:"وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهَ" (سورة البقرة؛ آية282).
فمبروك لكم عيدَي القيامة والفصح المجيدين. قوموا وأعلنوا حقيقةَ أقوالكم – نعم، المسيح حي، حقاً حي - ومسيرة حياتِكم وإيمانكم وحبَّكم للوطن وللجميع، فما أحبَّ أقوالكم، فنحن وأنتم أبناء حضارة الرافدين العريقة وبلاد ما بين النهرين الحبيبة والأصيلة.


52
رجاءً ... لا تدفنوا رجاءَ شعبِكم!!!
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
كانت المسيحية ولا زالت تنشد السلام والخير وتسعى إلى تفادي الحروب وتنشــر علامة الحوار والعيش المشترك من أجل ثقافة لمحو لغة السيف والتي نهايتها سقوط الأبرياء، لازديــــاد مساحة الحقـــد والكراهيــــة بين الشعـــوب، وولادة العنـــــف والدمــــار لبشرية
خُلقت لتكون ساعداً لبناء الخير والمحبة، وليس سبباً في تدمير ما عمّره الإنسان وما خلقه الله. ولكن مع الأسف إن أوضاعنا السياسية والإجتماعية متأزمّة إلى درجة تدمير الوطن وتقسيمه، وجعل الضعفاء الأبرياء يحملون حقائبهم ليرحلوا إلى حيث أرض الله الواسعة، إذ لا يمكنهم بعدُ تحمّل ما يحصل في البلد من أزمات وخاصة في وطننا كما في شرقنا، حيث أصبح العيش (المعيشة) والحصول عليها بعرق الجبين _ كما أرادها سبحانه تعالى _ من المستحيلات، كما حلّت المحاصصة والمصلحة والأنانية في سراط شيطاني لغايات في الفساد ومن جميع جوانبه ومن حيث القِيَم والأخلاق. نعم، إن الإنتخابات قد جرت وكانت النتيجة ما كانت عليه. لذا، أرجو منكم أيها الإخوة المحترمون وأناشدكم أن تعلموا أن شعبنا أمام مفترق طرق بل أمام ضياع أكيد إذا ما استمرت الأوضاع بهذه الطريقة وبهذا المسلك، إنها إشارات الموت والرحيل لا بل إشارات الضياع في قلع أصولنا من أرض أجدادنا وآبائنا التي رَوَوْها بعرق جبينهم. فكفاكم من إنقسامات في أحزاب مختلفة وجميل أن تكونوا في مكوّن ما وليس في خلاف الرأي، ولكن ما أجمل الإختلافات بين الأحبة... إنها سموّ التعددية وعطاء الكلمة الموحَّدة. فالله هو الوحيد الذي يعطي معنى لحياة الإنسان. 
نعم، يا كبارنا الأعزاء، إن مستقبلكم ومستقبل شعبكم رهن بوحدتكم وإدراككم لمسؤولياتكم، فمن خبرة شعبنا الذي قاسى الأمرَّيْن في هذا البلد ومنذ زمن ذاق الآلام بسببكم أنتم لأنكم لا تعرفون أن توحّدوا كلمتكم بل تنتمون إلى مصالحكم الخاصة ولا تنظرون إلا إلى مناصبكم، وكم هي الفائدة التي تجنونها من خلالها، ومَن هم الذين عليهم تتّكلون، ففي ذلك تنسون أن الرب يسوع قال:"دعوتُكم أحبائي ولم أدعكم عبيداً لأنني أحببتكم فأعلمتُكم بكل شيء" (يوحنا15:15)، فكلنا أحبّاء الله فهو لم يدعُ بعضاً بل كلاً، ومن المؤسف أن تختاروا كبرياءكم وأنانياتكم ومصالحكم الخفية والظاهرة، أو تعملوا على اختيار أمكنة تجعلكم أن تستولوا على حقوق الشعب البائس.
لذا أرجو منكم أن تحددوا رؤيتكم ومصيركم، وأفرغوا عقولكم وقلوبكم ونيّاتكم من روح التعصب وحبّ المال في الطائفية المقيتة وفي الأنانية الحزبية، وتأتون بأشخاص من أجل غاياتكم وأنتم تعرفون جيداً إنهم من الذين شوّهوا مسيرة الحياة. وأوصيكم أن لا تخافوا في أن تعملوا ذلك لأن عالم شعبنا مضطرب إلى حدّ باع كل شيء ورحل بعيداً عنكم وإن كان ذلك "فمَن يأتمنكم على ما لا تملكون؟" (لوقا1:16-13). فكلنا معكم وفي قارب واحد فإذا إنقسمتم وانقسمنا، إنقسم المركب وغرقتم وغرقنا وغرق شعبنا، وماتت قِيَمُنا ورُحِّلَت أخلاقنا فحقيقة شعبنا أننا شيّعنا حقيقة وجودنا وعمق إيماننا في مسيحنا الحي والرب، وما نستحق في ذلك إلا قول المسيح الحي:"اذهبوا عني يا ملاعين..." (متى41:25).

     لعنة أجيالنا

نعم، أقولها أحبائي، إنتبهوا فالوقت ليس لنا، والمستقبل لن يُكتَب لنا، والتاريخ سيسجّل فرقتنا، ولعنة أجيالنا ستلاحقنا، والأصالة ستُنزَع منا شئنا أم أبينا لأننا بدأنا نكتب تاريخاً لبشرٍ، ونكرمهم بما لا يستحقون كون مصلحتنا هي المبتغى، ونُطعمهم بما يحلو لهم ثمّ لنا، ونودّعهم بتحية وبأحسن من إستقبالهم، بينما يطرق الفقير إبنُ شعبنا بابنا فنقول له "إنتظر فالزمان ليس زمانك!". فأنتم لا تملكون شيئاً وإنما أمانات سُلِّمت بأياديكم، والمسيرة في مثل هذه الطريق بائسة ويائسة ومزيفة، والشعب يدرك ولكن لا يمكنه إلا أن يكون مطيعاً خنوعاً صامتاً، لأن القوي قد حطّ رحاله والضعيف يقترب من دعائه لرب السماء، ليُنزِل مراحمَه، وإذا ما قال الحقيقة أُدرج في سجل المعارضين، وقُدِّمَ للقانون، وجُعلتْ حياته أياماً معدودة.
نعم، سأبقى أقول لكم يا أحبائي، لا تخافوا أبداً، كونوا شهوداً للحقيقة، فالمسيح الحي علّمنا أن نفتش عن المرضى والبرص والعميان والعرج، فكونوا مسيحاً آخر يقول ربنا:"إذا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ: الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ، فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافئُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَئ فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ" (لوقا12:14-14). وكفاكم الذهاب إلى هيرودس وحنّان وقيافا وبيلاطس والفريسيين والكتبة والسامريين فهؤلاء كلهم تلقون عليهم التحية بمناسبة أو بغير مناسبة، وتكتبون أسماءكم في سجلاتهم عربون حبّكم، وشعبكم يئنّ. فهولاء كلهم وصفهم ربنا بالثعلب كما قال لهيرودس:"امضوا وقولوا لهذا الثعلب" (لوقا32:13).
بينما أبناء شعبنا يدعونكم أن تنزعوا الأقنعة من وجوهكم وتذهبوا للقائهم، فالمسيح الرب يقول لنا:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يوحنا5:15) معنى ذلك كلنا في المسيرة شاهدون، فلا يجوز بعدَ كل الذي حصل فينا وبنا، أن يُترك شعبنا، فبئس أناس تعلن إنها تفتش عن شعبنا وتهتم به في إحتياجاته ومطالبه وحقيقة عيشه فما ذلك إلا إعلانات ويافطات وبيانات يقرأها السائر في دروب الحياة، ومثل هؤلاء لا يستحقون إلا كلمة المسيح أن ينالوا بئس المصير (متى41:25).
أحبائي، لا تغلقوا أبوابكم أمام الفقير والمهمَّش وتفتحونه على مصراعيه أمام كباركم وأسيادكم، فلا فرق بين إنسان وإنسان، فالمسيح أحبّ بطرس وأحبّ يهوذا وكلاهما دُعيا إلى عرس قانا والبشارة. ولكن نعم وإنْ كان لكل واحد مكانه فالمحبة لا تعرف ذلك أبداً، فلا تدفنوا الكفاءة والذكاء، وافرحوا لغيركم حينما ترونه بموهبة الله أي بثماره يحيا، فالروح يمنح نِعمَه على مؤمنيه ولا يتاجر بها "فموهبة الروح هي العلم والمعرفة والتقوى والحكمة" (غلاطية22:5)، وغيّروا وجوهاً كانت جالسة على كراسي الزمن لا تستحقها وكانت لكم مصلحة وتيقّنوا فغداً لناظره قريب، فبعد خلاف قد يحصل بينكم سيقولون عنكم كل سوء ويفضحون أعمالكم الخفية والظاهرة ويسرقون مال الشعب المهجَّر والنازح والمطرود وأنتم صاغرون (سورة التوبة؛ سورة9؛ آية 29).

     الختـــــام
وختاماً، إنني أحبكم لأن الربّ يسوع أوصاني وأوصاكم "أن نحبّ" إذ قال إنها وصية جديدة أن "تحبّوا بعضكم بعضاً" (يوحنا34:13)، فالوصية أُعطيت لنا ولكم وليس لغيرنا، وحينما نشهد للحقيقة لا يعني أنكم أعداء بل تلك حقيقتكم، فلا تتصارعوا بينكم كي تأخذوا كل واحد منكم حصّته من الفريسة بل كونوا كلمة واحدة، ولا تبيعوا أرضكم وحقيقة وجود شعبكم ومستقبل أبنائكم بصحن عدس كما فعلها عيسو (تكوين31:25-34)، ولا تكونوا سبب هزيمتنا، فنحن نشكر مساعيكم وعطاءكم في سبيلنا وسبيل شعبكم ولكن ما نحتاجه أن تكونوا شهوداً للحقيقة وشهداء لها ولمحبتكم، وكونوا لشعبكم أوفياء ولإيمانكم أمناء كما لتربتكم، ولا تجعلوا شعبكم ينام جائعاً، فبئس أمّة ترقص لموت أبنائها، وبئس شعبٍ يُهان من أسياده، فلا تكونوا شهود زور في مجالس كبار الدنيا والزمن وما أكثرهم اليوم، واجعلوا من حياتكم شهادة أصيلة نابعة من إيمانكم. عودوا للإنجيل، إلى الرب الذي هو الخير، فلا تدفنوا الرجاء الموجود في قلب كل إنسان، كما أدعوكم أن تجعلوا عودة أبنائنا إلى أراضيهم ومدنهم وقراهم سبباً أكيداً لرجائهم، ولنضع إيماننا في الرب. والدعوة التي هي لنا كي يبقى هذا الشرق يجمع المسيحيين والمسلمين كإخوة يقدمون رسالة إلى العالم، فأهله قادرون على العيش معاً والسير معاً إلى الأمام. وسأرفع صلاتي وأسأل ربي أن يمنح ماهو لخير شعبكم وشعبنا، ولكم أن تكبروا في مواهبه المقدسة في العلم والمعرفة والحكمة والتقوى أمام الله وأمام الناس (لوقا52:2).
احترامي ومحبتي لكل واحد منكم باسمه وشخصه، ولشعبنا المحبة والتحية. فكلّكم أخوة معي، وكلّكم أبناء شعبنا ولا فرق بينكم "فالمسيح، ربكم واحد، وايمانكم واحد، ومعموديتكم واحدة" (أفسس5:4) إلا بالعطاء والخدمة، فأنتم عراقيون قبل أن تكونوا مسيحيين، وأنتم مسيحيون قبل أن تكونوا طائفيين، وأنتم من شعبنا وشعبنا منكم، فرجاءً لا تدفنوا رجاءَ شعبكم وإن كنتم كباراً، وسلام الرب معكم.



53
  إلى المنتخَبين من أبناء الكوتا المسيحيين المحترمين
كلمة من أجلكم
بقلم المونسنيور د. بيوس قاشا
     سلام المسيح معكم...
يسرني أن أهنئكم في بدء العام الميلادي الجديد 2022، ومن صميم الفؤاد أدعو لبلدنا الجريح ولشعبنا الأليم ولكم من رب السماء النعمة والبركة والمحبة لفوزكم بعضوية البرلمان العراقي، وأمنيتي أن أرافقكم في هذه الكلمة إذا سمحتم لأكون لكم كلمةً أخويةً ومُحِبّةً وأبويةً من أجلكم ومن أجل حقيقة وطنكم وشعبكم وما ذلك إلا رسالة سماوية، فأنا معكم طالب في مدرسة الحقيقة المتألمة وتلميذ للمسيح الحي، فهو حيٌّ بيننا إذ سكن معنا ليقاسمنا مآسي الحياة كما يقول يوحنا الرسول (14:1).
     أحبائي وإخوتي وأخواتي... إسمحوا لي أن أقول وأنتم أعلم مني بذلك، كنّا وكانت أرضنا وسهولنا وجبالنا وديارنا عامرة في الأمس البعيد بأجدادكم، واليوم بأهلها وبكم. فأرضكم حملتكم في صغركم، وهلهلت يوم عماذكم ودخولكم إلى الكنيسة للمرة الأولى، وزغردت لكم ساعة زفافكم وعرسكم، وبعد أيام وسنين سترحلون إلى الديار الخالدة من أجل السكنى في مقام السماء تاركين مسكنكم لأجيالكم الصاعدة. نعم أقولها، تذكّروا دائماً الأصول من أجدادكم، فأنتم الأصالة وعمود البقاء، واعلموا أنها حينما تُباع أصولكم فلا تذكار لكم شئتم أم أبيتم، فما أتعس الإنسان بدون جذور وأصول، فلا تجعلوا أحداً يقلع أصولكم وأصول أجدادكم، والويل لكم إذا كنتم من المرائين لهم أو تعملون معهم بوجوه مليئة بالحساب... ليس إلا!.
     أخواتي وإخوتي وأحبائي... لا تخافوا ولا تملئوا قلوبكم خوفاً من الآتي، فالمسيح الحي يقول "لا تخافوا" (متى27:14؛ يوحنا20:6) أنتم لستم مستوردين، نعم ولستم جاليات ولا أقليات في انتماءاتكم، كما أنكم لستم مكونات محسوبة على عدد ولا أنتم عابرو سبيل أو أهل ذمة أو ضيوفاً عند أحد أو عند شعوب حلّت في بلادكم، فارفضوا أن يُنظَر إليكم كذلك أو يَعدونكم حسب هواهم فأنتم لستم إلا مواطنون حملتم كرامة الإنسانية والوطن وحقيقة الإنجيل في المحبة والإخاء وسموّ المعتقد بالمسيح الذي أحبكم حتى العطاء، كما أنتم لستم كفّاراً بل أنتم مؤمنون بالذي أرسله الله كلمةً إلى مريم (سورة آ ل عمران؛ 45) وهو من عمل الروح القدس حيث قال "أنا والآب واحد" (يوحنا30:10) وفي كتابه الحكيم "وأيّدناه بروح قدسنا" (سورة البقرة؛ آية 87) لهذا عليكم أن تدركوا جيداً أن مسيحيتكم وإيمانكم من أصول أرضكم وشرقكم، وفي هذه الأرض المشرقية انتشرت البشرى السارة (مرقس15:16). فأرضكم أرض القداسة التي أحبّتكم حتى الموت (فيلبي8:2) وحضوركم علامة، فاعملوا كي لا يعمل أحد على دفنها وتشييعها وترحيلها وتبديلها بسبب شكوككم بمصالح شعبكم والمتاجرة بمصالحكم، فأنتم أعرف وأقدم مراكز مسيحية في المشرق الجريح، وأنتم أدرى بمصائبكم ومصائب وطنكم وشعبكم فانتبهوا مِمَّن يغشّونكم ويضعون على عيونكم ستارةً كي لا تبان تلك الحقيقة... وقد قال البابا فرنسيس:
"فكروا في معنى وجودكم، فأنتم أعضاء في العائلة البشرية الواحدة، لذا عليكم أن تتعاونوا في وئام في الحياة المدنية، واعلموا أن ما يجمعكم هو هوية أبناء الله الواحد والخالق فتضامنوا من أجل القيام بأعمال ملموسة للخدمة، لذلك عليكم التصدّي لآفة الفساد وسوء استعمال السلطة وتقوية المؤسسات المسؤولة فأنا بينكم أطلب المغفرة من السماء ومن الأخوة. فلتصمت الأسلحة ولتتوقف المصالح الخاصة والمصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام للصغار والفقراء وفي مواجهة صريحة وصادقة وبنّاءة من أجل إعطاء مجال للمصالحة والخير والعام ووضع المصالح الخاصة جانباً فالله خلق البشر متساوين في الكرامة والحقوق" (خطاب البابا فرنسيس في قاعة قصر بغداد الرئاسي؛ الجمعة 5/3/2021).
     أحبائي ومحترميَّ... ما يؤلمني أن أجد شعبي مهجَّراً وشارداً ونازحاً مستعطياً في كل الطرقات وفي كل المحيطات من أجل مسكن آمن وحياة سعيدة. وما يؤلمني أن أجد حكماء شعبي وأذكياءَه قد تاهوا في كل القارات وتوزعوا في كل بلدان العالم وضاعت الحقيقة بسبب ما وصل إليه الوطن وأبناءه من المآسي والجراح والتي تنتظر مَن يداويها، فتمثّلوا بيوحنا المعمذان (يحيى بن زكريا) وأَصبحوا صوتاً صارخاً (متى3:3؛ إشعياء3:40) وحتى لو لم يكن من مجيب. وما يؤلمني أن لدى شعبي دستور وقانون ربما قد صيغ بهوى التغيير وهم ساكتون صاغرون بل راكعون بتألم، وصامتون أو مطيعون، وخائفون وخانعون وربما ضد حرية إيمانهم. لذلك أوصيكم أن لا تعملوا فقط لبناء دوركم وتوسيع قصوركم وزينة غرف منازلكم وسكناكم فهذه لا يطلبها إلا ابن الدنيا، فأنتم نعم أبناء الدنيا ولكن بالعماذ أصبحتم أبناء السماء، وأنتم دعاكم الله لتعملوا على إعادة بناء أوطانكم الجريحة بالتعاون مع مواطنيكم وتعيدوا منازل شعبكم المسروقة، وعليكم أن تفكروا في مستقبلٍ لأجيالكم وأبنائكم وأحفادكم وأبناء وطنكم، ولا تستسلموا لليأس والقنوط، ولا تجعلوا التاريخ يكتب عنكم إلا ما هو جميلاً ومشرقاً بدل أن يقول عنكم قد بعتم أرضكم بأكلة عدس كما سبقكم في ذلك عيسو من أجل ملء معدته بصحن منه (تكوين34:25). فواجبكم أن تفتشوا عن حقيقة الله والإنسان، كل إنسان، واعملوا معاً كي لا تعيشوا في قلق الحياة والخوف والإرهاب من معارفكم أو من غيركم، بل التزموا بالعمل الصالح لإعادة بناء دياركم وحفظ مساحة أرضكم وكنيستكم، ومن خلال ذلك تكونون شهوداً للحياة وشهداء لحقيقة الوجود.
     أحبائي... وصية واحدة أعطاكم المسيح الحي وهذا أرثكم الأمين "أحبّوا بعضكم بعضاً" (يوحنا34:13) فلا تحبوا الواحد أكثر من الآخر، لذا عليكم أن تتذكروا قول معلّمكم وما ذلك إلا قضيتكم وقضية مستقبل أجيالكم، فأنتم الوطن والوطن أنتم وإن كان الكثيرون قد غادروه فذلك شأنهم، ولكن اعلموا أن الأرض تناديكم فلا تتركوها أرملة (فريسة) للذئاب الخاطفة (متى15:7)، فالذئاب كثيرون ولكنهم لابسين ثياب الحملان ويجعلون من أنفسهم سماءً للآخرين، فتراهم يتاجرون بما لا يملكون ويحصدون ما لم يزرعون (متى24:25). فأنتم وبلدكم أمام مصير مجهول إن عملتم على ملء بطونكم، فكثير من الأمور قد نخرت صفوفكم وشتّتت كيانكم وهدمت حضارتكم وشوّهت مساحتكم المشرقة، وأصبح وجودكم لا يُذكَر إلا في عدد قليل ولم يبقَ لكم من ذكر في تاريخ مسيرة الوطن، فأنتم لا تشرحون ذلك لأجيالكم ولا في مدارس العلم يكتبون عنهم ولا هم يهتمون بهذه الأمور، فالأمر الحالي أن آكل وأشرب وأتنعّم (لوقا45:12) وأجمع وأبني قصري... ليس إلا!!، وكما قال البابا فرنسيس:
"إن المسيحي مدعو للشهادة لمحبة المسيح في كل مكان وزمان، وكم هو سهل أن نصاب بفيروس الإحباط ولكن الله منحنا لقاء الرجاء إنه لقاح فعّال ضد هذا الفيروس. فلا تنسوا أبداً أن البشارة بالمسيح تتم قبل كل شيء من خلال شهادة حياة، واعلموا أن الصعاب جزء من حياتكم اليومية وقربكم من شعبكم علامة محبة، فأنا أشجعكم على المثابرة فمحبة المسيح تطلب منكم أن تضعوا جانباً كل نوع من الأنانية وكل منافسة، وتكونوا في شركة شاملة مع الجميع ترهبون بعضكم ببعض وتهتمون بعضكم ببعض. فكلكم أبناء الله وبناته. فابقوا قريبين منه وابقوا قريبين من المؤمنين الموكلين إلى رعايتكم وادعموا وشجعوا كل إنسان بقلب منفتح وسوف تكونون في ذلك علامة مرئية ليسوع. وأدعوكم رافقوا الجميع بروح الشفقة والتواضع واللطف والمحبة، ولا تبتعدوا عن شعب الله ولا تنفصلوا عنه، وليكن إيمانكم خدمةً لقضية السلام والوحدة بين جميع أبناء الله فكونوا صانعي سلام وازرعوا بذار المصالحة والعيش الأخوي معاً من أجل ولادة رجاء جديد للجميع" (كلمة البابا فرنسيس في كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد؛ الجمعة 5/3/2021).
     إخوتي وأخواتي وأحبائي...    إن الأرض بمقياسها بنت عشيرتكم ومعبدكم، ومستقبل أرضكم لا تساويه أثمان بل هو أغلى حتى من عيالكم، فالرب أعطاكم ما لم تفكروا فيه وما لم تتعبوا فيه (يوحنا38:4)، ومنحكم وطناً خيّراً ومليئاً بالبركات والنِعَم، ورأى أن ذلك حسناً (تكوين31:1)، فلا تكونوا سلعة تُشترى وتباع، بل كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام (متى16:10) وسليمي السيرة ومُنشدي الحقيقة وإن كنتم أضعف من شمالكم وجنوبكم وشرقكم وغربكم. وانتبهوا كي لا تكونوا خرافاً يسوقونكم إلى المحافل ويطردونكم وتُقادون بالسلاسل، بل احملوا مشعل الإيمان في يمينكم وترس الصلاة في شمالكم، وثقوا بالذي فداكم على خشبة العار (مزمور10:95)، وتذكروا جيداً قسطنطين الملك وأُمّه هيلانة، ولا تسلّموا أنفسكم لهيرودس الزمان وما أكثرهم اليوم ولا إلى بيلاطس الجائر بحكمه فكثيرون يشوّهون صوركم، واعلموا أنني سأكون بينكم ومعكم ومن أجلكم أرفع صلاتي لنعمل سويةً إرادة الإله ومشيئته من أجل الوطن والإنسان والمواطن وخلاصه. لذا عليكم أن تتماسك أياديكم وأن تكونوا بقلب واحد وانشدوا بصوت واحد واعملوا بنيّة واحدة، وكفى أن تكونوا بضاعة يسوقها الآخرون متى ما يشاؤون، ولا تتركوا أحداً يلعب بمصيركم ومستقبل أجيالكم، واعلموا لا صحّة للقول أنَّ مَن يمتلك القوة يمتلك الحق، كما أن الأخلاق ليست من صنع الضعفاء بل من صنع المسالمين وكذلك إعلموا أن العنف لا يُولِدوا إلا العنف، وكونوا كما قال البابا فرنسيس "ارفعوا دائماً أصواتكم لكبارهم بإسكاتهم كي لا تغيب قيمكم، ولا تكونوا ضحايا للخديعة، فإن مَن بيدهم القرار لهم أساليب كثيرة ليجعلوكم صامتين (أحد السعانين 2018)، وهذا ما يجعلكم أن تقولوا الحقيقة في وجه الأقوياء، فلا تكونوا من الذين يؤمنون بالإنسان ويشوّهون وجه الله المحب والوجود الأمين.
   تذكروا دائماً تاريخ أجدادكم وكيف أقاموا أوطانكم لتسكنوها فأمّنوها واحرسوها كي لا يغادرها أهلها، فكونوا بالمرصاد للشرير والفاسد، وانتبهوا كي لا تصدقوا ما حلّ بآذانكم وربما كلامهم المعسول والمذاق الطيب وأنتم لهم مصفّقون. فالاحترام واجب والإحتراس أكثر واجباً. فالمستقبل والتاريخ لا يرحمان أحداً ولا يجاملان الحقيقة فكل ذلك مدوّن في كتاب مبين (سورة النساء 144). نعم، تذكروا جيداً أن ذاكرة الشعوب لا تمحوها الحروب والإرهاب، فلا تكونوا خبزاً للسياسات المدمِّرة بل كونوا أسمى حضارة على وجه البسيطة، واعلموا أنكم شعبكم وشعبكم أنتم فلا تتقدموا من درجة انتخابكم من أجل مصالحكم وأنانياتكم بل اعملوا من أجل كل مواطن وبكل شجاعة، فالبليّة حلّت بكلّنا، بكم وبنا، فكما دُمّرت كنائسنا من داعش هكذا أُحرقت الجوامع والمعابد والحسينيات، وقد سمعنا حينها آهات وشكايات وما حصل حصل فقد ذهب في الماضي ولكن علينا أن نجعله درساً مفيداً لمسيرتنا، واعملوا من أجل ترابكم تاركين الخيرات الطائفية والمذهبية والمصلحية والقومية خلف ظهرانيكم وانتبهوا من رفع الشعارات التعبوية والبيانات اللغوية التي تدغدغ المشاعر ولا تستهزئوا بشعوبكم وإنْ كانوا فقراء الحال، لذا أوصيكم أن تنتبهوا إلى ملاعيب الإعلام الهدّام (مع احترامي لرجال الإعلام) فما ذلك إلا بالونات وزوابع في فناجين مختلفة. إعملوا على إصلاح الشرير وليس إلى تقديسه، قولوها بأعلى أصواتكم أن المسيح يحبنا جميعاً إذ قال "ما من حب أعظم من هذا" (يوحنا13:15) فهو أتى من أجل جميعنا فلنكن له شهوداً، فأنتم أحفاد المؤمنين الغيارى القديسين وإلا سيكون الضياع والفشل وداعش أسود آخر بينكم... وكما قال البابا فرنسيس:
"لا تستسلموا للواقع الأليم بل اعملوا وخططوا لغدٍ أفضل من يومكم، وعالجوا قضاياكم وقضايا شعبكم وهمومكم وهواجسكم، فكما أنتم ممثّلوا مؤمنيكم فأنتم أيضاً ممثلوا شعبكم فكرّسوا مسيرة حياتكم بروح المحبة والرحمة والتسامح وقبول الآخر المختلف والمهمَّش والمنبوذ فلا تسيئوا إلى مَن أساء إليكم بل أحبّوا وأحسنوا إلى مَن يبغضكم (متى44:5) وبعيداً عن ثقافة التكفير والتحريض والكراهية وزرع الغيرة بين مواطن ومواطن ورفع السلاح، فبدلاً من التحريض الطائفي والمذهبي فليكن خطابكم خطاباً ملؤه روح الخير واحترام الآخر، واملئوا عقولكم حكمةً وتفكيراً بواقعكم الأليم، واجعلوا دائماً من سلبياتكم أنموذجاً إيجابياً ودرساً مفيداً يُحتذى به في معالجة الأمور والقضاء بالتروّي والتعقّل والحكمة وهذا ما يشير إليه إنجيلكم أن تكونوا رسل السلام والخير والمحبة مثل معلّمكم الواحد (متى25:10) فإنه سبق وأعلمكم بكل شيء (يوحنا15:15)".
     إخوتي وأخواتي... نعم، الشعب انتخبكم، ومن أجله ومنه كنتم وأتيتم ولا زلتم، فلا تخافوا ولا تهتموا مهما قالوا عنكم فالمسيح الحيّ حالٌّ فينا وفيكم. واعلموا أنه مهما كانت الجمعة العظيمة قاسية فهناك نور أمل ورجاء بالقيامة، فقد قال "آمنوا بي" (يوحنا25:11). فشهادتكم لمسيرتكم تكمن حقيقتها من أجل أحفادكم ومدنكم وقراكم وسهلكم وأرضكم، فأنتم جُعلتم هبة من الله إذ يقول "اذكروا أصحاب السلطان فسلطتهم هي من الله" (أفسس21:1)، لذا أنتم عطية من الله وصورته (تكوين27:1). لا تتطلّعوا إلى أمجادكم الشخصية فقط وإبراز ذواتكم وعضلاتكم من أجل صورة مزيَّفة بل سالموا الجميع (رومية18:12)، ولا تكن رغبتكم بالكلام والمواعيد وتفكرون بأخضركم ولا تصالحوا أحداً بأموال ليست أساساً مُلْكاً لكم لتربحوا أشخاصاً من أجل تمجيد مسيرتكم ومنافعكم، فالعامل مستحق أجرته، فأنتم تستحقون ذلك (لوقا7:10). وتحمّلوا مسؤولية زرع نبتة الحقيقة من أجل براءة المسيرة، ولتكن ضمائركم يقظة خوفاً من هبوب العاصفة فتجدوا أن منازلكم قد بُنيت على الرمال الكاذبة (متى26:7) والمواعيد المرجوّة فيكون سقوطها عظيماً لا محال (متى27:7). فاعلموا أن كل شيء طاهر للطاهرين يقول مار بولس الرسول (تيموثاوس15:1) وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهر بل قد تنجّس ذهنهم أيضاً وضميرهم، ويعترفون بأنهم يعرفون الله ولكنهم بالأعمال ينكرونه إذ هم رجسون (1تيطس15:1-16). وكونوا قدوة للمظلومين في الكلام والمواعيد، في التصرف والعمل، في المحبة والأخوّة، في الروح وفي الإيمان، في الطهارة وفي قول الحقيقة في وجه الأقوياء دون خوف والشهادة لحقوقكم (اتيموثاوس12:14).
ختاماً، اعملوا بما قاله البابا القديس يوحنا بولس الثاني:"لا تيأسوا ولا تستسلموا أبداً، لا للإحباط ولا للخوف، بل عليكم أن تحملوا أمانة إيمانكم في قلوبكم"، و"سيروا عكس تيار الماء الجارف"، كما قال البابا فرنسيس في ختام زيارته إلى العراق:"العراق سيبقى دائماً معي وفي قلبي. أطلب منكم جميعاً أن تعملوا معاً متّحدين من أجل مستقبل سلام وازدهار لا يُهمل أحداً ولا يميز أحداً. وأؤكد لكم صلاتي من أجل ترسيخ روابط الأخوّة والتضامن في خدمة الخير العام والسلام. سلام... سلام... سلام... شكراً. بارككم الله جميعاً وبارك الله العراق. الله معكم (كلمة البابا فرنسيس في ختام القدس الإلهي في أربيل؛ الأحد 7/3/2021)... نعم ونعم! فالبابا فرنسيس أحبكم وأحبّ وطنكم وأتى إليكم ليفتقدكم، وقد قال في بدء زيارته: يشرفني أن ألتقي بكنيسة تميّزت بالشهادة. وأشجعكم على المضي قُدُماً. فلا تستسلموا لليأس. فأنا في أرضكم كحاجّ رجاء. فمن هنا بدأ إبراهيم مسيرته. واليوم يعود الأمر إليكم لتواصلوا السير معاً (رسالة البابا فرنسيس إلى الشعب العراقي؛ الخميس 4/3/2021).
فمبروك لكم انتخابكم أعضاء في برلمان العراق الجريح، والله يوفقكم كي تكونوا أمناء لمسيحيتكم ووطنكم وخدمة شعبكم. فلا تبخلوا أبداً لعمل الخير فأنتم لها، كما أنتم حرّاس للوطن وحرّاس لفجره ولمستقبل أجياله لا كما تشاؤون بل كما هي حقيقة الحياة. والله يبارككم. وتقبّلوا تحياتي وصلاتي المتواضعة من أجل وطننا وشعبنا ومن أجلكم، واجعلوا العراق دائماً في قلبكم كما قال البابا فرنسيس في ختام زيارته للعراق... نعم وآمين.
 



54
قتالٌ ودمار ... أم سلامٌ وحوار
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
إنها لحقاً فكرة نبيلة بل مقدسة، وبادرة جميلة بل إنسانية، ليكرَّس اليوم الأول من السنة لأعظم ما يتوق إليه الإنسان في حياته ويتمنّاه بمجمل مشاعره ألا وهو السلام، فتكون السنة كلها، ببركة الله، سنة سلام وطمأنينة وإزدهار. كما مضت تسعة أعوام بعد الخمسين تقريباً على صدور رسالة البابا يوحنا الثالث والعشرين "السلام في الأرض"، في الحادي عشر من نيسان عام 1963، وفيها توجّه قداسته إلى جميع البشر بقوله:"في الإحترام التامّ لتدبير الله يقوم السلام على الأرض. إنه تطلّع جميع الكائنات البشرية في مختلف الأزمنة" (السلام على الأرض، 257).

   كوارث طبيعية ... وحروب دولية
شهدت البشرية ولا زالت العديد من الحروب الدولية والإقليمية والمحلية، ومئات من المشاجرات والخصومات والإنقسامات والعداوات، وآلاف من عمليات قطع العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية بين البلدان والشعوب والأوطان وبتوقيع من الحكّام، والملايين من الخلافات والنزاعات القبلية والعشائرية في أعضاء الأسرة الواحدة وساكني البلدة الواحدة وأبناء الأرض الواحدة حتى تأصّل الإعتقاد عندي وعند كثيرين أن لا سلام على الأرض، وإنّ قايين لا يزال يفتك بأخيه بدءاً بهابيل، كما هو حال وباء "كورونا".
مَن منا لا يتذكّر ما حصل عام 1961 حيث شُيّد جدار برلين وأصبح أنموذجاً مخزياً للعالم، وولج قلب البشر وعقله، فولدت الإنقسامات وتعشعشت لسنين وبدت حينها أنها طويلة عبر الزمن وكأنّ الدنيا تقرأ السلام على أبنائها. وأصبح الشرّ يملك في القلوب كما أخذت تنتشر حضارة الغاب فيسمح بقتل الأبرياء حينما يجوع الأغنياء، ويدفّأ حكّام الزمن بحطب الناس الضحايا حيث يشتدّ الشتاء. وباتت آفة الإرهاب في هذه السنوات أكثر إيذاءً ووحشية منعت في طريقها الحوار والتفاوض وأثارت مشاكل خصوصاً في الشرق الأوسط فأهرقت دماء الأبرياء عبر أعمال وحشية، عنيفة، غير إنسانية. كما أزادت الطبيعة ثقلاً آخر، فضربت الحياة كوارث طبيعية، أعاصير، موجات من الجراد. من خلال هذه الأحداث المأسوية وأخرى في شرقنا: حروب، نزاعات، إنقسامات، إعتداءات، بناء جدران فاصلة، هدم مساكن، قنابل نووية كيميائية بايولوجية، صواريخ عبر القارات، تهديدات وأوبئة. وبدا الكون مرة أخرى على هاوية حرب نووية، طاحنة، مميتة. وبدا الطريق مسدوداً أمام عالم يفتش عن السلام والعدالة والعيش الكريم والحرية الشخصية والدينية، فكانت النبوّة على فم قداسة البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرين الذي قال حينها:"إن الإنسانية دخلت مرحلة جديدة من مسيرتها، مرحلة اتّسمت بالإقتناع بأن البشر متساوون بدافع كرامتهم الطبيعية، وبأنهم يجب أن يكونوا واعين لبعض القِيَم الروحية والتي هي ركائز سلام أكيد، ألا وهي الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية" (السلام على الأرض؛ ص267-269). فالشرّ يعكس وجه الأنانية والكراهية، والمحبة وحدها قادرة على قهر هذا الشرّ وبيان الحقيقة، إن الحياة خُلِقَت لنحياها بسلام... فما هو السلام؟.

   ما هو السلام ؟
منذ ألفي سنة ونيف أنشدت الملائكة ترتيلة السلام "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام" (لوقا 14:1)، ابتهاجاً بوليد المغارة ملك السلام، ولا زال ذوو الإرادة الصالحة ينشدونه. فالسلام هو أولاً عطية من الله، والعالم من دون الله لا يقدر أن يعرف السلام "لانه ميزة للعمل الإلهي" (البابا بندكتس السادس عشر). وبمفهوم الإنجيل ليس السلام أمْناً أي عدم حرب، بل هو حالة من الطمأنينة النابعة من القلب المصالَح مع الله. بهذا المعنى يصبح للسلام مفهوم شامل يطال الإنسان بكليّته، والإنسان الذي يحصل على هذا النوع من السلام ينشر من حوله أجواءً سلاميّة تقود إلى التفاعل الإيجابي بين جميع أبناء البشر، هذا هو السلام الذي تعطيه السماء لنحمله بدورنا إلى العالم. نعم، إنه هبة من السماء لِمَن يطلبها أولاً، فربّ السماء يقول لنا:"طوبى لفاعلي السلام فإنهم أبناء الله يُدعَون" (متى 5:9).
السلام ليس مجرّد غياب للحرب ولا هو مجرد إقامة توازن بين القوى المتناوئة ولا هو ثمرة سيطرة مستبدّة ولكنه "عمل العدل" أي إنه ثمرة نظام جعله في المجتمع البشري واضع هذا النظام، أي الخالق، وأولى أمر تحقيقه إلى البشر المتعطّشين أبداً إلى عدالة أوفى وأكمل. وبسبب التقلّبات المتواصلة التي ترافق الزمان ليس من سلام ناجز أبداً وبطريقة ثابتة ولكن على الإنسان أن يبنيه باستمرار. "فالسلام، يقول البابا بندكتس السادس عشر، واجب يلزم كل فرد بإعطاء جواب شخصي يتطابق مع التدبير الإلهي، ومعياره هو إحترام "القاموس" الذي كتبه في قلب الإنسان خالقه الإلهي، وهو حلم كل الأجيال، ولكن كم من حروب ونزاعات مسلّحة موجودة اليوم" (رسالة السلام 2007).
فالبابا القديس يوحنا بولس الثاني يقول في رسالته ليوم السلام العالمي عام 2004:"إن السلام يحتاج إلى الحب. فالحب يطلب كل شيء وفي كل ناحية من الأرض. إذا ما انتصر الحب يُتَوَّج السلام مَلِكاً، وهذا ما تتوق إليه قلوب الجميع". حيث يتطلّع البشر دوماً برجاء وحنين إلى سلام. فهم أعداء العنف والحرب. ويقولون باستمرار أن السلام ينتصر في نهاية المطاف. وهذه الصرخة التي يطلقها البشر المتعطشين إلى السلام يسمعها الله لأنه إله البشر ويجيب لتضرعاتنا. عبر ذلك يكون السلام هو فتح الفكر والقلب لإستقبال القيم التي هي أساس المجتمع السلمي. كما علينا أن نتطلّع بشوق وحنين وأمل وطيد إلى تحقيق السلام في هذه الأرض.

   لا سلم إلا بالحرب

نعم، تباينت المواقف وتعدّدت المفاهيم وتعقّدت الأمور، واستبدّ سوء الظنّ بالفرقاء فذهبوا جميعاً إلى اعتناق مبدأ "لا سِلْمَ إلاّ بالحرب"، شاء الخالق أو أبى، وضربوا عرض الحائط بتعاليم السماء والقيم الحضارية والمبادئ الأخلاقية والعاطفة الإنسانية ومضمون الكتب السماوية، وتبنَّوا مبدأ لا يُقرّه الله ولا تعترف به الحضارة "العين بالعين والسنّ بالسنّ"، واليوم زاد بعضهم هذا المبدأ تشدّداً وهمجيّة فقالوا:"العين بِعَشْرِ عيون، والسنّ بأسنانٍ عشر"، وإذا بربّ السماء يجلجل متوعّداً:"لا سلام للمنافقين، يقول الرب" (اشعياء 22:48).
حاجتنا أن نسعى مخلصين إلى تحقيق السلام عبر تربية الشعوب على احترام السلام وتوفير الأمن والتعايش الأخوي، إذ رحنا نتبع، واعين أو غافلين، المبدأ اللإنساني الذي يقول:"إن شئتَ السلام فتهيّأ للحرب"، ومعناه لذوي النوايا السيئة، إنه يجب إبادة الغير لئلا يبقى مجال للإقتراب. إنه مبدأ شيطاني لاشكّ في ذلك لأن إبليس هو قتّال النفوس منذ الأزل وما زال، وكم له في الدنيا من أعوان. في حين أنّ الخالق لم يخلق البشر ليُقتَلوا لأنهم جميعاً خلائقه، وما شاء الله أن يخلق خليقة لا يحبّها، فالحرب تدمّر حياة الأبرياء، وتعلّم القتل، وتزلزل حياة القتلة، وتخلّف وراءها الفضيحة والثأر، وتَحُول دون التوصّل إلى حلول عادلة للمشاكل التي سبّبت إندلاعها. أَلَمْ ينقضي ذلك العهد البغيض حيث كانت الحروب موضوع تسلية العظماء من ساسة البلاد وأوليائهم، يعمدون إليها لأتفه الأسباب وأوهى الحجج. حيث كانت الحرب حقّ القوي والمستعمر للسيطرة على الضعيف والعبث به، وبما يعود له من مال ورجال وممتلكات.
إن الأرض اليوم ليست بحاجة إلى سلام قيصر، فقيصر حقّق سلامه الروماني المعروف "باكس رومانو PAX ROMANO" على أسس السطوة والسيطرة والرعب، وَوُلِدَ في زوايا مملكته الفسيحة طفلٌ قالت السماء عنه "إنه مَلِك. إنه علامة مجد الله، وإنه السلام الحقّ لبني البشر" (لوقا14:2). كما إن الأرض ليست بحاجة إلى سلام يفرضه القوي على الضعيف، ومع الأسف هذا شأن زماننا، وبهذا يبتعد السلام عن حقيقته ليتربّع في قصر فخيم، ويصبح الفقراء والأبرياء ضحايا الأنانية والكبرياء، فتموت الإنسانية وكرامتها. فنحن اليوم بحاجة إلى أناس يغضّون الطرف عن الإساءة ويقضون على القذى ويتجنّبون الفتنة ولا يحجمون أمام هضم حقوقهم، ومثالنا في ذلك إبراهيم، كان رجل سلام، فعندما إحتدم الخلاف بين رعاته ورعاة ماشية لوط ابن أخيه قال:"لا تكن خصومة بيني وبينكَ، ولا بين رعاتي ورعاتكَ، إنما نحن رجلان أخوان. إختر ما يبدو لكَ" (تكوين3:13). هذه هي الرجولة الحقّة لأن الحاجة الحقيقية هي حاجتنا إلى رجال صلح ومصالحة، رجال أنس وحكماء ورحماء بل رجال غفران ومسامحة، يفهموا ويدركوا واقع بؤس الإنسان فيعملون من أجل الرحمة لتخفيف وطأة البؤس والشقاء من أجل كرامة الإنسان، فما أجمل أقـدام المبشّرين بالـسلام (إشعياء7:52). إنهم أبناء الله، وينظر الناس إليهم كممثّلين عن الله، فيلقون بين أيديهم همومهم الداخلية ومشاكلهم الإجتماعية، وهكذا يصبحون قضاة الأرض وهم ورثة الله، يتمتّعون في هذه الحياة بمحبة القلوب والذكر الحسن، ويتمتّعون بإكليل مجدٍ سنيّ.

   إنسان اليوم ... ومخاطر السلام

إن عالم اليوم عالم مليء بالتناقضات الصارخة، منذهل بفكرة "حقوق الإنسان"، يتحدث عنها في كل مجال ويرى فيها إطاراً عامّـاً يسهم في الإعتراف بقيمة الحياة وكرامة كل إنسان في حدّ ذاته بصرف النظر عن كل تفرقة في العرق أو في البلد أو في الدين أو في الرأي السياسي أو في الطبقة الإجتماعية، غير أنه لا يرى لها ترجمة عملية. فالواقع "مأسوي" لأنه يعبّر عن انفصام عميق في الإنسان، إذ لا زالت كرامة الإنسان تُداس في أنحاء عديدة من العالم، وأضحى الإنسان وحشاً ضارياً لأخيه الإنسان. وفي هذا كله، فأحبار الكنيسة الكاثوليكية لم يتجاهلوا أبداً هذا الموقـف المأسوي، فيوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس يقولان:"إن طريق السلام يمرّ عبر الدفاع عن الحقوق الإنسانية الأساسية وتعزيزها. فكل شخص بشري يجب أن يتمتّع بسلام الحياة".
ويوحنا بولس الثاني يقول:"إن الكنيسة تدرك مسؤوليتها في نشر الحقيقة حول الإنسان لأنها وُجِدَت لخلاصه. فعندما تراه غارقاً في نهج خاطئ يقوده إلى خسارة حياته وتشويه كرامته،لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي. إنه وديعة بين يديها"، وهي تعي أكثر من غيرها قيمته وتتفهّم ضعفه. ولأنها بدون الإنسان تفقد غاية وجودها ورسالتها. إنها مَعنيّة مباشرة بما يعيشه إنسان اليوم من مخاطر في مسألة الحياة والسلام.
في عالم اليوم، هناك مخطَّطان يظهران بوضوح، أحدهما يناقض الآخر. مخطَّط يصوّره قايين ويقود إلى الموت، وآخر يصوّره الله ويقود إلى الحياة. والمخطَّطَيْن معاً لهما جامع مشترك وهو مسؤولية الإنسان. ففي الموت أو الحياة يلعب الإنسان دوراً مهماً نستنتجه من الحوار الذي أجراه الله مع قايين، سائلاً إياه عن حياة أخيه. وهنا تظهر أهمية الإنسان في العيش بسلام مع الله كشريك في رعاية الحياة، أو في أن يكون عدوّ الله في إعتبار الحياة مُلْكاً له يتصرّف بها على هواه. فحوار الله مع قايين تركيز على كرامة الإنسان وقيمته، لأنّ الحياة في جميع مراحلها مقدّسة، والعيش بسلام مع الله لا يكون إلاّ في حفظ كرامة عمله". من هنا نفهم أن الكنيسة عندما تتحدث عن الحياة البشرية وكرامة الإنسان لا تعمل شيئاً سوى إيصال صوت البشارة الإلهية إلى الإنسان، فقد قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني:"لا يمكن أن نسمح بعد بوجود عالم يعيش فيه جنباً إلى جنب، أغنياء ومحرومون، أشخاص لا يملكون أي شيء، محرومون حتى من الأمور الأساسية للحياة، وأشخاص يبذّرون من غير تقدير. مثل هذه المناقضات هي إهانة لكرامة الإنسان".
نعم، إن الحرب ما عادت واجباً بذاته ولايجوز اللجوء إليها أو إستخدامها كوسيلة لأجل السلام، بل السلام الأساسي الذي يجب أن يسعى إليه أبناء الناس أجمعين، أفراداً وجماعاتٍ، لتسود العدالة بينهم ويعمّ الإخاء، وذلك عبر تضافر الجهود وتساند المساعي من أجل توطيد أركان سلام عالمي راسخ ومكين، وهذا يتطلّب من الجميع مدّ الأيادي عبر نوايا سليمة، بصرف النظر عن العنصر أو المذهب أو المشرب، من أجل الحفاظ على ما حقّقت الإنسانية من مكاسب، والسعي للحصول على مكاسب أخرى خاصة بعدما تشعّبت العلاقات الدولية إلى أبعد مدى وتشابكت مصالح الشعوب وارتبطت بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً جداً. من هنا ندرك - إنه لايمكن القبول، ولا يجوز أن يبقى السلام رهينة العنف في العالم، ولا يمكن استخدام الحرب كوسيلة - إنّ الدول والشعوب التي تحبّ الحروب تتكلّم كثيراً عن السلام لتعطي طابعاً إنسانياً عن الحرب وهي في الداخل مليئة بالحقد والكراهية بل بعيدة عنه. وكما تجاوز الإنسان الأول السلام عندما تجاوز شريعة الله هكذا تجاوزت الدول الكبرى احترام حقوق الآخرين والشعوب من أجل حقوق شعوب بلدانها فقط، فإن الدول عندما تتصرف "وكأن الله غير موجود، لا تفقد فقط معنى سرّ الله بل معنى سرّ العالم أيضاً وسرّ كيانه".

   كيف يكون؟... ألا يكفي؟!!!

إذن السلام ممكن بل واجب وهو عطيّة ثمينة نسألها من عند الله، ونبنيها بكل قِوانا عبر مبادرات سلام ملموسة من قِبَل كل رجل وامرأة. والبشر أجمعين - من أي دين كانوا، وكل السلطات من مدنية وروحية - مدعوّون للإسهام في توطيد السلام وتعليم الشعوب على احترامه، وتربية الأجيال على المحبة والمصافحة والغفران، إذ كيف يكون سلام وهناك خرق لحقوق الإنسان، هناك احتيال واحتكار، هناك بغض وكراهية وانتقام، هناك تكبّر وتجبّر واستبداد، هناك ضغوط مادية ومعنوية وعسكرية، هناك خنق للحرية، وهناك حرص لا مثيل له على المصالح الشخصية والعشائرية والطائفية والمذهبي؟!!. إذ يقول البابا بندكتس السادس عشر:"لا يجوز فرض الدين الواحد على الجميع بل مراعاة حقوق الديانات الأخرى وممارسة معتقداتهم بحرية"، وهناك عدم إطمئنان للغد لدى المهجَّرين والعجزة والمعاقين والعاطلين عن العمل. فلو كان عندنا سلام لمَا كنّا رأينا ما رأينا من أبنائنا وقد تفرّقوا تحت كل اسم وهم يتوقون كل التوق للعودة إلى أرض وطنهم. لو كانوا على يقين إنهم لا يلاحَقُون فيجدون عملاً يعنيهم ذلّ السؤال: ألا يكفي حرب ومنازعات مسلَّحة؟ ألا يكفي اللجوء إلى السلاح والعنف؟ ألا تكفي الأضرار الماديّة والمعنويّة التي تنتجها حالات القتال والدمار والتفجير؟ ألا يكفي أن يكون الإنسان ضحيّة العنف والإرهاب؟ ألا يكفي تنشئة الأجيال الصاعدة على الكراهية وحقد الآخر البغيض بدلاً من تثقيفها على المشاركة في الحياة ومقاسمة الحلول البنّاءة في المنازعات، فيكونوا في سلام وحوار ليس إلا!؟.

   الختـام
ختاماً - مع إعتذاري - بعد هذا المقال الطويل، أردّد وأقول: كلّنا مدعوّون أن ننظر إلى التحلّي بمشاعر السلام الذي غذّته الثقة بالله الرحمن الرحيم، وعِبْرها يزداد الأمل بيننا، عالم يسوده السلام. نعم، فالسلام كلمة صغيرة كحبّة الخردل، فعندما تكبر تصبح شجرة وتتفرّع أغصانها، ويتظلَّل في فَيْئِها الناس أجمعون مهما كانت أحوالهم وأنواعهم... فإذا ما سرنا في درب السلام:
-   يكون السلام إبتسامة بها نستطيع أن نقرّ بإخطائنا.
-   يكون السلام صداقة بها نغضّ النظر عن سيئات القريب.
-   يكون السلام نظرة بها ننظر إلى الآخر بصفاء النيّة وطهارة القلب.
-   يكون السلام لقاءً به نمدّ الأيادي للآخر قبل أن يمدّها الآخر إلينا.
-   يكون السلام في وئام وانسجام ونزع الحواجز عن دروب الناس المختلفين.
-   يكون السلام حواراً به نتقاسم مع الآخر خير الدنيا في السرّاء والضرّاء.
-   يكون السلام بذلاً وعطاءً بهما يضحّي الإنسان بحياته من أجل الآخر.
-   يكون السلام آية لبناء الوطن بدل الاقتتال والدمار.
فيا رؤوساء العالم ويا قادة الشعوب، عبر الحوار كونوا خدّاماً للسلام. ألم تسمعوا ما قاله نبي السلام، عيسى المسيح:"مَن كان فيكم كبيراً فليكن لكم خادماً" (لوقا27:22). فالعظمة ليست بقتل الأبرياء عبر حروب مدمِّرة ومن أجل غايات ومصالح أنانية وسياسية، ولا منفعة منها إلا مصلحية ودنيوية ومهاجمة المسالمين بحجّة الإبتزاز على مثال حكاية الثعلب والحَمَل، فتلك أفعال مشوِّهة لحقيقة الإنسان بل لصورة الخالق الرحمن الرحيم. نعم، الحياة والسلام وديعتان إلهيّتان ولا أجمل منهما، فلماذا نشوّههما بأعمال الحروب والنزاعات، فنحن أخوة في أرضٍ واعدة. ما علينا إلاّ أن نوجّه أنظارنا نحو العلى طالبين السلام عبر الحوار. نعم، لم نُخلَق لنتقاتل بل خُلِقنا للحياة، للسلام وليس للقتال والدمار.
فيا ربّ السماء، هَبْ بلادنا السلام. فيا رب السماء، هَبْ عراقنا السلام. يا رب السلام، إمنح شعبنا السلام.


55
حكاية من زمن الوباء

المونسنيور د. بيوس قاشا
   ما هذا الزمن القاسي، زمن الوباء والعَداء، زمن الأنانية والكبرياء، زمن المصالح والكراهية والأكاذيب البيضاء، زمن الضياع ونكران حقيقة السماء، زمن الحزن والخوف والبكاء، زمن فقدان الأحبة بسبب الوباء "كورونا"... نعم، إنه زمن الوباء وفيه كانت أعداد الذين انتقلوا إلى الديار الخالدة في مدينة الأحياء، كضحايا أبرياء، مخيفة جداً.
ولكن إيماني برسالتي الكهنوتية المقدسة _ وكما أُدركها أنا بأن الكاهن هو موزع النِعَم من خلال توزيعه الأسرار المقدسة حيث يعيد النعمة إلى مَن فقدها أو يزيدها في نفوسه _ وفي ظل الأزمة الصحية الناتجة من تفشي "فيروس كورونا"، ورغم الحظر الشامل المفروض خلال تلك الأيام، وكما هي عادتي كل شهر، حملتُ القربان المقدس بكل شجاعة وإيمان، وانطلقتُ إلى مرضى ومسنّي رعيتي لأخفّف من آلامهم وعذاباتهم، وأشجعهم على تحمّل آلامهم بكل هدوء وسكينة.
أتذكر جيداً كان ذلك النهار يقول "أنا الاثنين" الحادي والعشرين من شهر كانون الأول من العام الماضي (2020)، قرب حلول عيد الميلاد المجيد، وكان لي في هذا اليوم موعدٌ لزيارتها، إنها تلك السيدة المؤمنة التي يتجاوز عمرها الخامسة والسبعين وتعاني من مرض عضال ألزمها الفراش، وكان برفقتي يسوع المسيح "القربان المقدس" وكأني به يقول "كنتُ مريضاً فزرتموني" (متى 36:25). وإذ مددتُ يدي لأقرع جرس الباب سمعتُ صراخاً يدوّي من داخل البيت فظننتُ أن تلك السيدة قد فارقت الحياة وانتقلت إلى مدينة الأحياء. فُتح لي الباب ودخلتُ فرأيتُها رافعة يديها إلى السماء منتحبةً وطالبةً من ربها وخالق الأكوان أن ينقذها من الألم الذي يعتريها وأن يأخذ أمانته من هذه الحياة، كما شاهدتُ إبنها واقفاً أمامها بوجهٍ مكفهر ومملوء غضباً وحقداً وكراهيةً لحياته، مع إني أعلم أنه كان قد حصل على منصب رفيع في حياة الدنيا مما جعله لا ينحني لحقيقة الأيام.
كان الصمت يراودني أمام ما أرى، والسؤال يراود ذهني مستفهماً عن حقيقة الأمر، لماذا تطلب هذه السيدة من الرب أن ينقذها من هذه الحياة وابنها واقف أمامها لا يبالي بدموعها، فمنصبه الجديد جعله ينسى حقيقة الخيمة التي احتضنتْه وما كانت له ومن أجله كي يكون منذ صغره وإلى هذا اليوم، ومع ذلك إعتذر مني لعدم الاهتمام باستقبالي ناسباً ذلك إلى صراخ وصياح والدته وصوت بكائها. وما هي إلا لحظات حتى صرخ بوجه والدته قائلاً:"كفي صراخاً، ماذا تريدين مني؟ لِمَ هذا البكاء والعويل؟ إذهبي إلى جهنم وبئس المصير. واعلمي جيداً أن زمانكِ قد ولّى وانتهت أيامكِ وأصبحتِ من سيدات الماضي ولم يبقَ لي معكِ أية مصلحة"، وفي الحال دخل بكل عصبية إلى غرفة مجاورة لغرفة والدته ليخرج بعد لحظات منها وبيده ورقة كان قد أعدّها مسبقاً وقال لها:"اسمعي أيتها السيدة، سأقرأ عليكِ ما كتبتُ، وأبونا شاهدٌ على ذلك. أتعابكِ مقبولة وأجوركِ لا تساوي أكثر من (300) ألف دينار بالتمام والكمال وهذا ما تمنحه وزارة الشؤون الاجتماعية لأمثالكِ من المرضى والمسنّين والأرامل وعتيقي الأيام"، ثم طوى الورقة ووضعها في جيبه. نظرتْ إليه والدته، وقالت له وبكل حنان:
- يا ابني، أرجو أن تسمع ما أقول: توجد آية في الكتاب المقدس تقول "اسمع لأبيكَ الذي ولدكَ ولا تستهن بأمّكَ إذا شاخت" (أمثال 22:23) و"لا يحقّ لأحد أن يتسلّط على أحد... ولا الأبناء بأهلهم" وهذا ما قاله اليوم أبونا بيوس صباحاً بالفيديو (تقصد حقيقة الحياة لهذا اليوم).
وفي هذه الأثناء إلتفت إليّ إبنها بنظراتٍ غربية قائلاً لي:
- اعذرني أبونا على هذا الموقف!... ثم التفت إلى والدته قائلاً لها: أكملي كلامكِ أيتها السيدة.
- فأجابته: صحيح أنا سيدة ولكن اسمع يا ابني الحبيب هذه الحقيقة: ابتسم جيداً ولا تكن كارهاً لحالتي، فالحياة مسيرة ألم وفرح وهي دوّارة وأيامكَ ستنتهي يوماً وسترى بأَمّ عينكَ ما سيحصده الوباء من ضحايا أبرياء، فاسمعني جيداً واصغِ إلى كلامي: فقد حملتُكَ في أحشائي تسعة أشهر بالتمام والكمال ولم أبالي بأتعابي وآلامي وفي كل ذلك لم أطلب منكَ أي شيء مقابل ذلك!. أرضعتُكَ في صغركَ حليباً صافياً، طاهراً، كامل الدسم بالحب ومملوءاً حنيناً وفيتامينات لتقوية مناعتكَ من أجل هكذا زمان، زمن الوباء، واستمريتُ بإطعامك أشهى المأكولات ولم أطلب منكَ ثمناً!. اشتريتُ لكَ _ ومذ كنتُ حاملة بكَ _ ملابس جميلة راقية وطوال فترة طفولتكَ وشبابكَ لتكون أنيقاً وجميلاً كي لا تخجل أمام أحبائكَ وأصدقائكَ وبلا مقابل!. عملتُ على الاهتمام بنظافتكَ ونظافة ملابسكَ ولم أطلب منكَ أجرة على ذلك!. سهرتُ الليالي بجانبكَ في فترة المرض وغيره، في برد الشتاء وحرارة الصيف ولهيبه وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، في زمن الحروب والتقشف والحصار لأحميكَ من القصف والخطف والمرض خوفاً عليكَ وعلى صحتكَ من الآتي ولم أطلب منكَ فلساً واحداً!. كنتُ أعمل جاهدة ومضحية من أجل تطبيبكَ وسكبتُ الدموع من أجل مستقبلكَ، وناجيتُ إلهي في السماء كي لا تحيد عينه عنكَ من أجل نجاحكَ وتقدمكَ في هذه الحياة ولا زلتُ إلى اليوم وكل هذا بدون مقابل!... نعم، كل ذلك بلا مقابل، وأعلم أنكَ إنْ فكرتَ جيداً ستراني وأنا في عمري هذا متفانية لأجلكَ وحبي لكَ أكبر من احترامكَ لي، ولهذا أنا أذرف دموعي على ما يحصل معي اليوم وما حصل لي معكَ.
واغرورقت عيناها بالدموع وانهمرتْ بالبكاء وساد صمتٌ عميق لهذا الواقع الأليم وأنا جالسٌ أستمع لذلك الحوار بين أمّ ضحّت بالغالي والنفيس من حياتها في سبيل ولدها وبين هذا الولد المتعجرف والناكر للجميل.
وإذ هممتُ بإكمال واجبي وإعطائها القربان قبل مغادرة المنزل وإذ بي أتفاجأ بابنها وهو يرتمي في حضن أمّه وعيناه تذرف دموعاً حزينة مليئة بقطرات التوبة وقال لها بلهجة تنتابها الزفرات:
- سامحيني يا أمّي الحنونة فأنا أحبكِ كما تحبيني ولا أستطيع أن أعوّضكِ عن كل ما فعلتِهِ معي، فأنتِ خيمة لوجودي وحقيقة لعطائكِ من أجلي وحبكِ لي، ولا يمكن أنْ أردّ لكِ ولو جزءاً قليلاً من الدَيْن الكبير الذي في رقبتي، فأرجو منكَ أن تسامحيني. أنا تائب إلى رب السماء وإليكِ وأعتذر منكِ ومن أبونا بيوس.
وقبّل رأس والدته وهو يبكي وينتحب، وبكيتُ معه بسبب مشاعري الإنسانية لِمَا رأيتُه من مشهد مؤلم ومفرح في الآن ذاته... إنه مشهد الحقيقة. عندها نهضتُ من مكاني وتقدمتُ من الوالدة الأمّ فباركتُها وباركتُ إبنها على هذه المبادرة المسيحية الحقيقية وعلى وجودي بينهم في ذلك اليوم إذ أدركتُ عمل المسيح في ذلك الوقت، فناولتُها وإبنها القربان المقدس، يسوع المسيح الذي كان برفقتي ينتظر لحظة مصالحتهما بعد أن نثر نعمته في قلب ذلك الابن المتعجرف. وبعد تلاوة صلاة قصيرة، قلتُ لهما قبل مغادرتي المنزل:
- هذه هي حقيقة الحياة أن نكون أمناء لحب السماء فنتوب من أجل الحقيقة وخاصة في هذا زمن الوباء، فما أكثر البشر وكبار الدنيا والزمن والمسلَّطين الذين يعاملون عتيقي الأيام بهذه الصورة وبهذا الكلام.
ختاماً، أقول لقارئي حكايتي هذه: إن زمن الوباء ما هو إلا زمن الشهادة للحق وليس الشهادة المزيفة من أجل المصالح، زمن إصلاح الأخطاء وليس لزيادة الحقد والكراهية، زمن الرحمة والحنان وليس العنجهية والكبرياء، زمن التوبة والمغفرة من ربّ السماء وليس زمن التزمّت والتعصّب وحب الذات. زمن الكهنة الشجعان والغيارى لا زمن الذين نسوا وينسون المسيح المحبوس في بيت القربان المقدس ينتظرهم بسبب غلق الكنائس. لنكن رحماء بكل ما للكلمة من معنى لا أن نُظهر أنفسنا أمام الآخرين بأننا أقوياء وأقرباء السماء ونحن بعيدون عن أبناء البسيطة من المظلومين الأبرياء وضحايا الغش والنفاق والتزوير. فلنترك المصالح الأنانية جانباً ونفتش عن مصلحة السماء وحقيقة الحياة، فهي بين أيدينا... ليس إلا!.
بعدها غادرتُ دار السيدة الفاضلة وقلبي مملوءٌ فرحاً واغتباطاً وابتهاجاً، فالمسيح _ ينبوع النِعَم _ الذي حملتُهُ في قلبي وبين يديّ متّكلاً عليه لتجاوز الصِعاب والمِحَن التي قد تواجهني خلال زياراتي للمرضى، كان معي. فلا شدّة ولا ضيق ولا خطر ولا حظر شامل ولا سيطرات أو نقاط تفتيش استطاعت أن تفصلني عن محبة المسيح... إنها رسالة المسيح إلى أبناء هذا الزمن... إنها رسالة السماء... وشكراً.


56
عناقيد الكرمة: الاستشهاد والشهادة...

المونسنيور د. بيوس قاشا
قال الرب يسوع:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان، فمن يثبت فيّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً" (يو5:15). والعنقود رمز العطاء والبذل والإخلاص، فالكرمة تتحمّل برد الشتاء وعواصفه من أجل عنقود مليء بخمر الحياة، وهذا ما جعل ربنا يسوع أن يشبّه حياته بالكرمة. إنه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة للإنسان، أحبّنا حتى بذل الذات، ورسم لنا طريق الخلاص عبر سر الحب في الافخارستيا، وفي هذه الطريق تكون المسيرة. ولكي تكون المسيرة أصيلة يجب أن تكون ثابتة في المسيح، ولكي نحيا إيماننا في هذه الظروف القاسية يجب أن تكون حياتنا عناقيد أصحّاء في كرمة الرب. وها هي العناقيد على صفحات الزنبقة، فأرجوك أن تقرأها بكل تمعّن وإدراك، فالإيمان المسيحي رسالة وحياة، وثمار الحياة عناقيد كثيرة، عليك وعليّ أن نجمعها في سلّة واحدة.

     نعم ،الإستشهاد بطولة ولا أشجع، والشهداء في المسيحية يكمّلون ما نقص من آلام المسيح (كولوسي24:1)، وهذه حقيقة واضحة فهي الرباط الأكيد بين المسيح المعّلم والمسيحيين تلامذته في الأرض كلها، فقد كان تاريخ المسيحيين حافلاً بالبذل الكامل والعطاء السخي وفي ذلك مثال تقتدي به الأجيال المسيحية على مرّ العصور.
إن القرون الأولى الثلاثة للمسيحية حافلة بأسماء الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الإيمان ولا يمكن أن نعدّد أسماءهم ، كما لا يمكن أن نروي قصص استشهادهم فهي مروّعة ومتشابهة، لأن للمسيحية مسيرة طويلة وشاقة ودروبها ضيقة وصعبة، والمسيح يُضطَهَد ويُصلَب كل يوم وعلى مثاله تواصل المسيحية مسيرتها بكل وداعة وسلام.
نعم، إن التاريخ أثبت أن هناك اضطهادات قاسية الوطأة ألمّت بالمسيحيين فلو أردنا تعدادها لفاقت العشرة والعشرين، فقد تربّع الإضطهاد على العرش مرحلة طويلة من الزمن إمتدت ثلاثة قرون تقريباً تخلّلتها راحة تنسجم مع أخلاق الإمبراطور الحاكم ومزاجه، ولكن الإضطهاد عمل على انتشار المسيحية إلى أقاصي الأرض عوض أن يحبسها في حدود، فسر إنتشارها يكمن في قوة الروح الذي يحيا في قلوب المؤمنين ومدى فعالية محبة الله في الإنسان المؤمن.
إن سر ذلك الإستشهاد هو كلمة المسيح إذ قال "ستكونون لي شهوداً"، فالشهادة ليست فقط بالكلام بل ببذل الدم من أجل الحياة، وبذل الدم يعني المثل الأكيد والشهادة الساطعة التي وقف أمامها الجلادون والحكام مندهشين متحيرين لهذه البطولة. فالشهادة مدرسة فيها تنمو شجرة الإيمان وتكبر، وقد كانت بحاجة إلى شهود جريئين لإعلان الحقيقة كما كانت بحاجة إلى أبطال يذودون عنها بالإستشهاد في سبيل إيمانهم لتبّين للجميع أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
واليوم تنادي الكنيسة ــ عبر الألف الثالث الذي عبرناه ــ وعبر ازمنة الوباء التي نحن فيها ، أن نكون شهوداً وشهداء، شهوداً لإعلان إنجيل الخلاص على أسماع أبناء المعمورة، وشهداء لعطاء الحياة عبر سفك الدماء، كي تكون بدورها بذاراً للحياة (ترتليانوس) وفيها تكمل صورة المسيح المصلوب فيكون الشهيد شريكاً في الفداء.
أمنيتي،أن أرى أبناء البشرى السارة يحملون شعلة الإيمان في قلوبهم وليس عبر شفاههم، وأن أرى إنتماءهم إلى المسيح الرب إنتماءً أكيداً قائماً على أسس الوعي والحب والإيمان ولا شيئاً آخر. فاليوم كأنني أرى أن الصورة اختلفت تماماً، فربما المسيحي يرى في بلده بلد الإضطهاد لما يرى من منغصات واجتهادات تفرَض عليه من قِبَل أفراد أو جماعات أو عبر قوانين إن كانت ظاهرة أم خفية، ويرى أيضاً أن اهتمام رجال المعابد في الدفاع عن حقوقه لا تصل إلى حد القبول والإحتمال، كما يرى أن مستقبل عيشه أصبح لقمة ملوثة فيترك كل شيء ويذهب ليفتش عن أرض تحميه حتى لو كان ذلك عبر البحار والمحيطات.
وترتليانوس يقول بهذا المعنى "إذا فاض نهر التيبر، قالوا إن المسيحيين هم السبب. وإذا النيل لم يفض بطينه على وادي النيل، نسبوا ذلك إلى المسيحيين. وإذا أغلقت السماء ولم تنزل الأمطار وإذا تزلزلت الأرض وإذا حدثت مجاعة أو حرب أو أوبئة، ترتفع أصوات تصرخ وتنادي: المسيحيون هم السبب فليذهبوا إلى السجون ولتأكلهم الوحوش ليموتوا... أليسوا علّة كل الكوارث في العالم؟".
يا عزيزي ويا أخي في الإيمان، إنني أرى اليوم أم غداً ــ إذا ما استمر الهروب من هذا البلد ــ والخوف من الوباء ،  أن البلد سيفرغ من المسيحية كما هو حال البلدان الأخرى وبالخصوص بلدان شمال أفريقيا وبلدان الجيرة، وإذا ما فرغ فأين ستكمن الشهادة؟، وما قيمة الصليب إذا أعطيناه لسمعان قيرواني آخر ليحملَه؟.


57
عناقيد الكرمة " الإنجيل "

المونسنيور د. بيوس قاشا
قال ربنا يسوع:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان، فمن يثبت فيّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً" (يو5:15). والعنقود رمز العطاء والبذل والإخلاص، فالكرمة تتحمّل برد الشتاء وعواصفه من أجل عنقود مليء بخمر الحياة، وهذا ما جعل ربنا يسوع أن يشبّه حياته بالكرمة... إنه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة للإنسان، أحبّنا حتى بذل الذات، ورسم لنا طريق الخلاص عبر سر الحب في الافخارستيا، وفي هذه الطريق تكون المسيرة. ولكي تكون المسيرة أصيلة يجب أن تكون ثابتة في المسيح، ولكي نحيا إيماننا في هذه الظروف القاسية يجب أن تكون حياتنا عناقيد صحيحة في كرمة الرب. وها هي العناقيد نجمعها في سلّة واحدة،ثماراً يانعة.

     الإنجيل رسالة
بدأ ربنايسوع رسالته في الجليل بإعلان الإنجيل "لقد تم الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (متى) . وحين أرسل تلاميذه ساروا في القرى وهم يبشرون، وحين كتب هذا النص من مرقس، بعد مرقس بزمن طويل، عاد الكاتب الملهَم يشدد على المناداة بالإنجيل. فالإنجيل ، يسوع المسيح وتعليمه وحياته وأعماله وأقواله، هو أساس الكنيسة، فإن غاب الإنجيل صارت عباداتنا عاطفية وكنائسنا حجارة. فالجماعات المسيحية الأولى لم تكن لها كنائس، كانوا يجتمعون في البيوت، والكلمة التي تجمعهم هي المناداة بالإنجيل.
أين موقع الإنجيل في عوائلنا وفي كنائسنا؟، هل له المكانة الأولى أم هو قراءة نتلوها في الكنيسة سواء سمعها الناس أم لم يسمعوها؟، هل أحمل الإنجيل إلى مَن هم حولي في أسرتي أو أبعد من ذلك أم أعتبر المناداة بالإنجيل مسؤولية غيري؟. حسب معرفتي وطريقة حياتي إنني أفهم أن الإيمان هو الجواب على هذا النداء، فالنداء يجب أن يجد أرضاً طيبة لكي تنبت فيه المحبة، والإيمان يهيء تلك الأرض، والإنجيل أساسه يسوع المسيح، ولكي أوصل يسوع المسيح عليّ أن أفهم ماذا أقرأ وماذا يسمع الناس، عليّ أن أقرأ بكل وضوح وأن أعطي كل عبارة حقها في نبرة الصوت وإيصاله إلى الآخر، فالآخر وأنا يجب أن نكوّنا، كما قلتُ، أرضاً طيبة لقبول بذرة الإنجيل بسماعها وقراءتها وعيشها عبر الحياة، وهكذا يكون الإنجيل رسالة الخلاص حينما أحيا به أنا وغيري، حينما أكون أنا حامله بكل أمانة إلى الآخر وليس على الهامش، وإذا ما فعلتُ فمعنى ذلك أكون مخلصاً لإيماني وأعبّر عنه من خلال أعمالي ورسالتي في الحياة... وأجمل ما أختم به هذه العبرة الصغيرة:
عاش في قرية كاهن قديس يلجأ الناس إليه في الملمّات، فينسحب الكاهن إلى مكان معين في الغابة ويتلو صلاة خاصة فتزول الصعوبة وتكون القرية بألف خير. ولما توفي الكاهن أصبح أهل القرية يقصدون خَلَفه، ولم يكن قديساً إنما كان يعرف المكان والصلاة ويقول:"يا رب، أنت تعرف أنني لستُ قديساً ولكن لا ترفض طلبي من أجل هؤلاء الجماعة"، وبقيت القرية بألف خير. وخَلَف هذا الكاهن آخر كان يعرف الصلاة الخاصة دون المكان وكان يقول:"يا رب، أنت لا تهتم بالأماكن، كل مكان يتقدس بحضورك. استجب صلاة هؤلاء القوم"، وظلّت القرية بألف خير. ثم وصل كاهن جديد لا يعرف الصلاة ولا المكان، وكان يصلي هكذا "يا رب، أنت لا تهتم للكلمة بل لحرقة القلب. ساعدنا يا رب"، واستمرت القرية بألف خير، إلى أن جاء كاهن لا يعرف شيئاً البتة  ولا يملك سلام القلب أو المحبة، وكان يقول:"أي نوع من الآلهة أنت؟، إنك لا تقبلنا إلا متوسلين زاحفين. هؤلاء شعبك وأنا لا أهتم لأمرهم إطلاقاً! يمكنك أن تفعل بهم ما يحلو لك"... وهكذا عاشت القرية بألف خير. فما أجملها من عبرة فكبار زمننا ربما يخجلون أحياناً ذكرَ المسيح ، إبن الله ، في مسيرة الحياة إحتراما لغيرنا ! والحقيقة ،إنه حقيقة إيماننا ليس إلا!. نعم وأمين



58
الحق ... رسالة إنسانية سامية
المونسنيور د. بيوس قاشا
   الحق في المسيح ، إنه قول بولس الرسول لتلميذه طيمثاوس " أقول الحق في المسيح ولا أكذب" ( 1طيموثاوس 7:2) فالحق أو الحقيقة ، رسالة إنسانية سامية اعتمدها الرب يسوع في بشارته الإنجيلية إذ قال "أنا الطريق والحق والحياة" (يو6:14)، ففي هذه الرسالة ندرك معيار المسيرة البشرية ومصداقيتها، ومن خلالها تظهر جلياً حقيقتنا، وسمو وجودنا،ورسالة إنسانيتنا، وأمام هذا كله نميز ونتعلم ما هو الحق الذي يعلنه المسيح الحي وما هو الباطل والفساد والزيف والدجل، كما يعلمنا ما هو الجميل وما هو القبيح ونحن في مجتمع يقدس الفساد ويقدم المصلحة والأنانية على القيم والأخلاق ، ويكشف ما تفشى هذه الأيام من طرق الدجل والكذب وتصديقه وتزوير الحقائق لتضليل الآخرين البسطاء وفي جميع الأمور والمجالات، وفي طرقٍ لتدمير الإنسان العاقل وتشويه وجوه الآخرين وسمعتهم وحقيقتهم فنُفسد بذلك وصية الله ورب السماء الذي قال " لا تسرقوا ، لا تكذبوا ، ولا تغدروا احدكم بصاحبه " ( سفر اللاويين 1:19)، وايضا " لا تكذبوا بعضكم على بعض " (كولوسي 9:3). وما ذلك إلا عدوان أثيم على أبرياء سلكوا سبل الله وسراط السماء و"طريق الرب" (متى3:3 ومرقس3:1)
   نعم، نحن اليوم أمام أزمنة تفشى فيها الكذب والتلفيق والتضليل والغش من أجل رؤية أنانية فأصبحت مسيرتنا البشرية مسيرة كاذبة ودنيوية بحتة رباطها المصلحة ورايتها المصلحة وحقيقتها المصلحة ولا شيء غير ذلك، عفوا ، فاليوم الكل يكذب، كبار الزمن ومسلَّطو الدنيا، أمراء الحياة ومتقدمو الشعوب وبسطاء المسيرة في نواحيهم المختلفة والمتعددة، وكذبهم يتوزع بين كذب خبيث ومبطَّن ومحشي ويصعب كشف بطانته وصعوبة حشوته من عداوات وتدمير الآخرين الأبرياء وتمشية المصالح الكبريائية فينعتونه مرة بالكذب الأبيض ويطلبون فيه سماح الله، ومرة ينعتونه بالكذب الأسود ويقدسونه إذ لا مجال للهرب منه. وبهذه العملية تضيع بوصلة مسيرة الحياة ، وتصبح الحقيقة رهينة في أيادي جبابرة الزمان والدنيا وكبار المصالح والكراهيات وفي ذلك ينسون أن إله السماء هو "الرب الذي  يميت ويُحيي " ( صموئيل الاول 6:2) فتموت الإتجاهات الأخلاقية والمبادئ الإنسانية وتضيع الطرق السليمة وتوصيات السماء فيصبح البشر إلهة الزمان والرب يقول "لا تجعل لك إله غيري" (تثنية7:5).
   نعم، لم يعد عالمنا يميز بين الحقيقة السليمة والحقيقة المزوَّرة بسبب ابتعادنا الإرادي عن حقيقة الخير والشر، والأجوبة التي ملأت عالمنا بشرقه وربما بغربه أيضاً تجعلنا كلنا في عالم الضعفاء لنسير في اتجاهات متنوعة. فالشرير لن يقول يوماً عن نفسه أنه شرير ولكنه بدل ذلك يدّعي أن السماء انتجته وأنه عظيم المسيرة وحقيقة الزمن ، شئنا أم أبينا، فتراه يبتهل إلى إله السماء فاتحاً ذراعيه بقدر عرض كتفيه وينشد بصوت رخيم دعاء الألسن ليطرب المستمعين وينسى أن قابل الدعاء لا يحتاج إلى ذلك بل إلى قلوب خاشعة وأفواه خافتة وأجسام متواضعة وصلاة لا يراه فيها إذ يقول "ادخل إلى مخدعك... وهو يراك في الخفية هو يجازيك" (متى6:6).أمام ذلك أسأل: أين هو المعيار الحقيقي والثابت للشهادة الأمينة، هل في أن أحمي البوصلة التي سلكتُها؟، فالحقيقة تقول لا يمكن الوقوف بوجه الأقوياء لأنهم أقوياء ولا فائدة من ذلك لأننا ضعفاء في هذه الدنيا فلا يمكن أن نميز بين الحقيقة والتزييف وما هو جميل وما هو قبيح وما هو خير وما هو شر، لذلك يتسلط القائل أنْ لا فائدة من ذلك، ولكن ومن المؤسف أننا نيأس لكن الوفاء يقول لو سعينا نحن الضعفاء إلى معرفة قواعد الحقيقة والزيف وقواعد الخير والشر نجعل من أنفسنا نحن الضعفاء واعين لما يحدث من حولنا، ونعلم  ان ما ينقصنا هو وحدة الكلمة ، و"بقدر ما أعطى الله من مواهب لكل واحد" (1بط10:4) فالمسيح الحي يقول "الشجرة تُعرَف من ثمرها" (متى33:12 ولوقا44:6). فلماذا نفتش عن وسائل محرَّمة لنضيء حقيقتنا المزيفة مع علمنا أن ثمار الإنسان ليست بوضوح ثمار الشجرة لأن الإنسان كاذب ومخادع ويفتش عن هواه ومصلحته ولا يمكنه أن يقول الحقيقة، فرسالته عجزت عن أن تعطي جواباً حقاً بسبب التعقيدات التي طرأت حيث العديد منا أصبح يُخضع حقيقة السماء لمآربه في اجتهادات شخصية وفي شرائع دنيوية وهذا أوصلنا إلى درجة اليأس، فكل واحد منا أخذ يوجّه بوصلته وتوجهاته الروحية والأخلاقية والإنسانية ويجعلها هي الصحيحة،  فقد قال الشاعر أبو علاء المعرّي يوماً " في اللاذقية ضجّةٌ ما بينَ أحمدَ والمسيحْ، هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيحْ، كلٌّ يمجّدُ دينهُ، ياليتَ شعري ما الصحيحْ؟".
   نعم، ختاماً، إن حقيقتنا هي أن نتوجه نحو السماء لنسمع الكلمة الإلهية كي لا نسير في مختلف الاتجاهات ونحن لا ندري حقيقة سيرنا فهذا دليل العجز الكبير لكبار دنيانا وزماننا في قراءتهم المختلفة، وأصبحنا لا نعرف أين جوهر المسيرة وما هو الأصيل والدخيل والمزاج والمصلحة، وأين يمر درب الحقيقة ومسيرة الضمير والعدل والاستقامة والتراحم، فالرب أحبنا وعلمنا أن نشهد للحق إذ قال "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8) عبر ضمائر مستقيمة فهو يريد "كلنا أن نخلص" (أع 12:4)ولا يمكن ان ادخل السماء لوحدي،  كما لا يمكن لربنا ان يفتح لي باب الفردوس لوحدي أو لي ولاصحابي وأصدقائي ، بل يجب عليّ أن اصطحب العراة والعميان والعطاشى والمحبوسين والمرذولين والمهمشين و.. و.. فهؤلاء هم أهل الملكوت .فالرب دعانا أحباءه وليس عبيده وأعلمنا بكل شيء (يو15:15)، وهذا الحق( المظلوم ) يدعونا أن نشهد له ونعمل لأجله شئنا أم أبينا ، ولا شيء أخر ، فهو رسالة سماوية . نعم وآمين.

59
والميلاد حدث كل يوم ... فهل !!!؟

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم... "لما تمَّ مِلءُ الزمان، أرسل الله إبنَه مولوداً من عذراء تحت الناموس" (غلا4:4)، وبهذا أدْخَلَنا الله الآب السماوي في سرٍّ ما كنّا نتخيّل عمقه وتدبيره ، حيث جعل ابنَه محوراً للحياة ومركزاً لتاريخ الإنسانية ، عاش معنا زمنها وتاريخها بعد انتظار طويل حتى تحقق وعدُه الصادق فأصبح الحلم حقيقةً، والموعود واقعاً، وجاء وقد"  شابهنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة " ( 3يو5:3) . وتجسّد من أجلنا ليشدّد عزائمَنا كي نتحاشى الخطيئة والفساد والكبرياء والغيرة السوداء والأنانية وعلى غرارِهِ الذي لم يقع فيه أبداً.
   والعهد القديم اعلنها، كما العهد الجديد، أنَّ المسيح المولود هو ابن البشر كما هو ابن الله، وسلطته سلطة الله، وقدرته قدرة الله، "وبه خُلِقَ كل ُّ شيء وبدونه لم يكن شيء" ( يو 3:1)، وأقام معنا على الأرض ولكنه هو الذي أسّس الأرض منذ البدء، كما يقيم في السماوات، والسماوات نفسها صنع يديه، ولا يزال يقاسمنا مسيرة الحياة بألمِها وفرحِها. إنه عمّانوئيل (عامان إيل)،الله معنا ، يقول يوحنا الحبيب" رأيناه بعيوننا ولمسَتْهُ أيدينا" ( 1يو1:1). أتى ليكون رفيقاً لكلِّ إنسان وحاضراً معنا في تفاصيل حياتنا اليومية، ولكنه ينتظر قبولَنا ليعلن حريتَنا، ويدعونا لأنْ نفتحَ له أبوابَ قلوبِنا.بينما نحن لا زلنا نفضّل أن نعيش من دونه. فوجوده بيننا ليس ضعفاً إلهياً،  ولم يكن الله عاجزاً تلك الليلة عن تأمين مكان مميَّز لولادة إبنِه الوحيد؟، حتماً "لأ" ! كلٌ ما قد يظنّه البعض ضعفاً هو بالحقيقة درسٌ في التواضع ونكران الذات لأجل الأهمّ، لكنه في هذا علّمنا أنَّ حياتَنا ما هي إلا حدثُ مسيرةٍ نحو بيتَ لحمَ، حيث نرى البسطاء من الرعاة ساهرين على أنامهم ، والذين قصدوها بعد مسيرة مثالية ، وسماعِهِم لبشرى الملاك، فتحققوا منها واختبروها، ثم بشّروا بها ومجَّدوا الله، من خلال الحدث الذي جرى في حياتِهِم وعرفوا كيف يقرأونه.
   فميلاد المسيح حدثُ كلِّ يوم، تجلّى الله وهو لا يزال يتجلّى، وهو يدعونا إلى أنْ نتخطّى الإطار الخارجي لنصل إلى هذا الحدث. فالمسيرة نحو الحدث ليست أنْ نمشي إلى غاياتِنا الأرضية على أكتافِ البسطاء، كما هو اليوم شأنُ كبار زمننا وأصحاب المصالح والذين لا يرون إلا كراسي ذواتِهِم، إنما الحدث يعلّمنا أنْ نحملَ الآخرين على كَتِفَيْنا لنوصلهم إلى غاياتِهِم السماوية. فالفردوس لا يمكن أن ندخله لوحدنا أبداً ، ولنعلم أنّ النور لا يخشى الظلمة، ولا يخاف الحق إلا الباطل، ولا يخجل من المحبة إلا البغض. والنجاح لا يخشى الغرور الاسود ،  وهذا ما جعل هيرودس وحنان وقيافا والمنتفعون من سلطتِهِ إظهار بغضهم وغرورهم من الملك الآتي لأنهم ظنّوه أنه سيأخذ أمكنتهم وسيجلس على كراسيهم وسيحرمهم خيراتِ الدنيا والجزية الموجبة ، فخافوا من نور الحدث كما تخاف الظلمات،.
   إنه حدث يدعونا أنْ لا نُدخِل مشروعَنا الخاص في مخطط الله السامي، بل بالأحرى أنْ ندخُلَ نحن في مشروعِ الله الذي أحبّنا أولاً "هكذا أحبّ الله العالم حتى أنه أرسل إبنَه الوحيد" (يو16:3). فالحدث قراءة ذاتية في ضوءِ سرّ التجسد، سرِّ التواضع الذي به يرفعنا، سرّ الفقر الذي به يُغنينا، وعِبرهما يعلّمنا كيف أنه أخذ بشريَّتَنا ليزيّنَنا بألوهيتِه. فقد كلَّمنا بالأمس وهو يكلّمنا اليوم وسيكلّمنا إلى الأبد بمختلف الوسائل وشتى الطرق (عبر8:13)، فهو معنا وعندنا، وكلمتُهُ هذه عملت على تحقيق وعدِهِ إذْ لم تكن كلمةُ أحرف وألفاظ أو بيانات وإستنكارات كما هو اليوم شأن كبار دنيانا،  بل كلمةُ حياةٍ متجسِّدة بيننا وساكنةٍ فينا كي تكون الشهادة ، منه وبه وإليه (رو36:11).
   عِبْرَ هذا الحدث:لا يجوز أن نلوم اليوم يهودَ ذلك الزمن لأنهم لم يؤَمِّنوا مكاناً يليق بالمولود الجديد بل نلوم أنفسنا فنحن بعيدون عن التزامِنا في أنْ نعوِّضَ اليومَ تقصيرَهم بالأمس؟، أي أنْ نجد المكان اللائق بالضيف العزيز. وأيُّ مكانٍ هو الذي يطلبه؟، فهو لا يرغب بكراسي الدنيا ومناصب الزمن والمصالح الفاسدة ،ولا الذين أخذوا يفتشون عن اله اخر ناسين أنّ النهاية هي من عملِ يديه. بل يرغب في حقيقةِ القلوب،  لذلك فنحن مدعوّون جميعاً إلى السهر في العالم على قطعانِنا، على مصيرِ العالم الجريح في علاقة انجيلية .. فالرب أوصانا أنْ لانخاف الآتي بل أنْ ننتظرَه بفارغِ الصبر وان كان الانتظار صعباً ، كي يحوّل الخوفَ من أنفسِنا رُويداً رويداً إلى رجاءٍ وفرحٍ رغم الأزمنة القاسية والوبائية وألم الحياة التي نحياها اليوم في مسيرتِنا الأرضية
   والآن لنسأل أنفسَنا: هل نشعر جميعاً بأنَّ المسيح الحيّ، وُلِدَ مِنْ أجلِنا ومِنْ أجلِ خلاصِنا، ويدعونا إلى أنْ نقرأ هذا الحدث بِعَيْنَي مريم ثم بعيونِنا؟...وبحضور طفل المغارة بين أهلِنا وعوائِلِنا وهو يُقيم معنا، ونحن نعيش فقرَ ولادتِهِ وحبِّه لنا؟ ونعتبر مجيء المسيح نوراً لِخُطانا ولحياتِنا ولتصرفاتِنا ولمواقِفِنا، ونقلع عن الحسد والكراهية والفساد والغيرة السوداء ؟ فالله يخاطبنا اليوم بإبنِهِ المتجسّد، ويدعونا ان نُصغي إلى كلمتِهِ ونبتغي عملَ مشيئتِهِ... وإلا ماذا؟...
هل نختار المسيرة الإيمانية في حقيقة حبِّنا فنبادله الحب ؟، وكيف نقوم بها من أجلِ الوصول إلى حقيقةِ الايمان عبر التأمل في سرِّ الله كلَّ يوم ، فنعيش حدث الميلاد! أم نُمضي أيامَنا كما نشاء وحسب ما نشاء، ونجعل الله مُطَّلِعاً على إرادتِنا ولا نبتغي مشيئتَه؟. فمغارة بيتَ لحم ومذود الرعاة ،يعلماننا بُعدهما الخلاصي في حياتِنا ومسيرةِ أيامنا؟، فهما رمزان يقوداننا نحو عيش السماء على الأرض في تجسد إبنِهِ وحضورِهِ وحقيقة ألوهيَّتِهِ وناسوتِهِ؟.وإلا ماذا ؟...
هل نحن واعون إلى أنَّ المسيح بمجيئِهِ غَيَّرَ جوهرَ إنسانيَّتِنا في أنْ نستحقَّ ما عمله الآب وواعين إلى البُعد الشمولي لعمل الله ولا نتوقف عند أشياءَ لم يعملها معنا؟. مُدركون لمكانةِ المسيح فنحياها بأفواهِنا وفي أعماقِ أفئدتِنا وبين اهتماماتِنا. و كيف يجب أن نتعاملَ مع الوجه الإلهي الموجود في بشريَّتِنا وإنسانيتِنا ؟ ونشهد لسرّ التجسد في عالم الشهوة والعولمة المزيَّفة، في عالم الوباء والكوارث، في عالم الدنيا ومصالح الكبار وزمنهم، ومناصب الاقوياء وغاياتِهِم؟.
   هل نذهب إلى الكنيسة لنحتفل بولادة طفلَ المغارة ، لنُهدي سلام البشر إلى المحبّين بأفواهِهِنا بينما قلوبنا بعيدة عن إدراك سموّ الطفل الذي دعانا إلى بيتِهِ؟، فنذهب لسماع كلمات رنّانة وألفاظ منمَّقة وآيات عِبْرَ الشفاه دون أن نغيّر ما في نفوسِنا ونُصلح ما في ذواتِنا نحن الواعظين اولاً على أسماع البسطاء، فنمدح كلمات سمعناها فننسى بذلك الحدث الالهي العجيب؟
 هل تعرَّفنا إلى الرعاة البسطاء والفقراء، وقصدنا بيتَ لحم لنرى بساطَتَهم وسذاجَتَهم وكيف ساروا مسيرةً مثالية من السهر إلى الإصغاء ثم الإختبار والتبشير والتسبيح، فنجد منهم محاضرة قيّمة لنبني أساسَ إيمانِنا، ونسألُ أنفسَنا في أيةِ مرحلة نحن من مسيرتِهِم؟...فنكتفي بحقيقة أنَّ الله الذي أحبَّنا أرسلَ إبنَه لخلاصِنا فنحتفظ بها لأنفسِنا ونعتبر أننا إذا آمنّا خَلُصنا، ونسينا أنَّ مسؤولية بشارة جارِنا وخلاصه تقع على عاتِقِنا، فما نحن مسيحيون إلا لنشر بشرى الخلاص وليس الخجل منها لإرضاء بشر الدنيا ورؤساء الزمن وكباره؟ وإلا ماذا !.
 ختاما نسأل أنفسَنا في كيف يجب أن نعيش القديم ، لينقلَنا فنرتمي في أحضانِ الجديد الذي علَّمنا أنَّ الحبَّ تضحية وأنَّ الحقيقةَ رسالةُ ايمان وليس كلام الالسن الرنّانة واحترام الألسن ومجاملة المصالح ، ومهما كان الزمن قاسياً، ، ولنعلم  أننا مسافرون يوما حينه لا ينفع الكبرياء ولا المصلحة ولا الأنانيةولا الغيرة السوداء ؟
   فيا ربّ، إجعلني أنْ أكونَ أميناً لحدثِ ميلادِكَ بيننا،لأنك محور حياتي. أنت وفيٌّ وأمينٌ،   أنتَ الحب بالذات، وأنتَ الحقيقة بالتمام، وطوبى لمن كان وفياً لحقيقة هذا الزمن الاعلامي والالكتروني،  انك أنت الاله الحق يسوع المسيح ، وماتلك إلا حقيقة حدثِ الميلاد في هذا الزمن القاسي.نعم وامين. 

60
والخلائق تسبح بحمده " الزنـبـــق"

المونسنيور د. بيوس قاشا

نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   يختلف الناس في هواياتهم ومشاربهم، فمنهم مَن يهوى فن الرسم أو الموسيقى أو جمع الطوابع أو المسكوكات القديمة، ومَن هو شغوف بجمع الأزهار وتنضيدها. وآخرون هاموا بمحبة الزنابق، لأنكَ كما قلتَ يا سيدي "تأملوا زنابق الحقول فإن جمالها الرائع لا تضاهيه كنوز الملك سليمان ومجده" (متى29:6). ولكن الزهور، ومنها الزنابق الرطبة والغضّة، لابدّ لها أن تجفّ وتذبل يوماً ما، ثم تموت. ولهذا السبب فقد ابتكر هواة الزنابق طريقة  لديمومتها وعدم فنائها، وذلك باختراع الزنابق الاصطناعية.
   إننا رأينا كثيراً من هذه الزنابق الصلبة والغير الذابلة فوق مذابح كنائسنا، وأمام تمثال القديس يوسف خاصةً" " الصامت الكبير" ، لأنها رمزٌ لعفّته وطهارته. وهذه الزنابق لا تحتاج إلى الرعاية أو السقي، لأنها لا تعطش أبداً. وبعد انقضاء الأعياد يحتفظ بها كاهن الرعية في خزانة الكنيسة بعد نفضها من الغبار العالق بها بواسطة فرشاة، وثم يعود بإخراجها لاستعمالها ثانيةً في مناسبات أخرى مثل أعياد الميلاد والقيامة والصعود، أو عند زيارة الأسقف للكنيسة في مناسبات نادرة. إن مثل هذه الزنابق أصبحت جزءاً من أثاث الكنيسة، وهي اقتصادية وسهلة الاستعمال. لا يؤثّر عليها حرّ الصيف ولا برد الشتاء. ولكن رغم جمالها سرعان ما نكتشف أنها جامدة. فهذا ساقها ليس سوى سلك من حديد، وأوراقها وأزهارها وتيجانها ليست سوى قصاصـات من الجلد أو الورق الاعتيادي أو قطع من القماش. فيتجمّد إلهامنا، ويتوقف شغفنا بها، ونبدأ نتساءل بصددها: ما هو امتياز الزنابق الطبيعية على الزنابق الاصطناعية؟ وقد يعتقد البعض أن امتياز الزنابق الطبيعية أنها تملك طراوة وحياة، ولكن ليس هذا هو الجواب الحقيقي.فامتياز الزنابق الطبيعية إنها قابلة للموت والفناء، ولهذا السبب فهي أقرب إلى قلوبنا وعطفنا من الزنابق الاصطناعية، لا بل هي أقرب إلى طبيعة الإنسان نفسه، لأن الإنسان أيضاً يموت ويفنى جسدياً.
   إن الزنبقة الطبيعية القابلة للموت، تهب من نفسها ومن صميم كيانها شيئاً يشبه الضحيّة والقربان، وهي منتصبة أمام المذبح إبان الأعياد. وهذا ما لا طاقة للزنبقة الاصطناعية أن تفعله. بسبب إمكانية موتها، فهي تجود بعطر أنفاسها وهي تذبل شيئاً فشيئاً فوق المذبح كأنها تتنازع، دون أن تستردّ شيئاً مما أعطته من كيانها. ولكونها تموت، فإنها تتحد مع النهار الذي يغيب وراء الأفق، وتتحد أيضاً معنا لأننا نحن أيضاً زائلون مثلها. ففي هذه الزنبقة نجد أنفسنا.كما تقصّ الزنبقة لنا حكاية حياتنا ومصيرنا بألفاظ جميلة وأريج فوّاح. إن ما يبدو من ضعف ونقص فيها إنما هو فخرٌ ومجدٌ لها. لأن باقة الزنبق هذه لا يمكن استخدامها مرتين، لكونها صورةً لأمانةٍ مطلقة، كالصداقة أو كالزواج.
   عندما أوصيتَنا يا سيدي أن نتأمل زنابق الحقول، أضفتَ قائلاً: إننا لا نستطيع أن نضيف ذراعاً إلى قامتنا (متى27:6)، وكذلك لا يمكننا إيقاف عجلة الزمان، ولا أن نعود بالقهقرى إلى الماضي. كم من شعراء ناحوا على هروب الزمان. ولكني أستطيع وأنا أنظر إلى زنبقة فأوحّد مصيري بمصيرها، وأنْ أهبَ كل يوم مثلها كنوزاً فائقة الثمن من كياني، دون أن استردّ ما أُعطيتُ.فعندمــــا يضمّ طفلٌ يديه الصغيرتين ويتلو "السلام لكِ يــــا مريم..."، فإنــه يبعث بقشعريرة إعجـاب إلى أرجاء السماء، لا فقط لكونه يصلّي جيداً، ولكن لأنــه أعطى دقيقة من حياته إلى الله!... هذه الدقيقة سوف لا ولن يستعيدها مطلقاً!. ونحن أيضاً يجب أن يكون عطاؤنا مثل هذا الطفل، وعلى غرار أرملة الإنجيل التي أعطت درهماً صغيراً (لو3:21) ممّا ادّخرته بصعوبة خلال أعوام طويلة، ومثل الشهداء الذين لم يهبوا للناس صدقةً ولا معرفةً ولا نصيحة، ولكنهم وهبوا الزمانَ الذي كان بالإمكان أن يعيشوه!... لقد قدّموا حياتهم ذبيحةً وقرباناً مثلما تفعل الزنبقة المنتصبة على المذبح وهي تذبل ببطء وتجود بأنفاسها.
   يا رب!... لربما ليس لديّ شيء آخر أقدّمه لكَ سوى الزمان. وإني أجهل بأي شيء أستطيع أن أملأ هذا الزمان. إنني لستُ زنبقةً اصطناعية، ولكنني شبيه بجميع زنابق الحقول الممتلئة بالطراوة والحياة، والتي تذبل وهي لا تزال منتصبة تهزّها الرياح. هَبني يـــــا رب!. أن أكون مثل زنبقة الحقول التي لا تكتفي بأن تقدم عطرها وجمالها، بل تهــب أيضاً حياتها دون أن تستردّها. علّمني يا رب ألاّ أكتفي بمشاطرة الناس بأموالي أو نصائحي أو معرفتي، لأن بإمكانهم استرجاع ما بذلتُ لهم من عطاء، بل اجعلني أن أقدّم لكَ حياتي دون أن أستردّها.نعم وآمين .

61
والخلائق تسبح بحمده " الخبز "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

   أيها الرب، لقد أوصيتَنا أنْ نطلبه كلَّ يوم "أعطنا خبزنا كفاف يومنا( متى 13:6) !. والوثنيون، والذين لا إيمان لهم، لا يزالون يحتفظون بقَدْرٍ من الاحترام لقطعة خبز ساقطة على الأرض. ونحن نوصي  أطفالنا الأبرياء ألاّ يرموا الفُتات على الحضيض بل أنْ يضعوا فضلة لقمتهم في مكان مرتفع على جدار أو على حافة نافذة، كيلا تُداسَ بالأقدام، بل ربما تكون قوتاً لطيور السماء. الذين يأكلون من موائد الناس دون أن يعملوا، نحن ندعوهم تنابلة وكسالى، ونعتبرهم طفيليين يعيشون عالةً على المجتمع، وإن الرجل هو الذي " يأكل خبزه بعرق جبينه" (تك 3: 19 ) كما إننا نعتبر الذي يمتنع عن مشاركة الآخرين بخبزه أنانياً وغليظ القلب إذا كان شخصاً، واحتكارياً استعمارياً إذا كان دولةً. وقد اعتاد الروس أن يقدّموا الخبز للضيوف مصحوباً بالملح.
   أما بالنسبة لنا نحن المسيحيين، فإن للخبز رمزاً آخر أسمى وأعمق: إنه المادة التي صنعتَ منها سرّ قربانكَ المقدس. لقد وقع اختياركَ يا سيدي على القمح من دون جميع المخلوقات لكي يصبح أعظم لغزٍ لحضور الله بين البشر. وكم نحن بعيدون عن المعنى الحقيقي للخبز إذا استقرّ فكرنا فقط على العجينة المطاطية التي بعد فترة تخرج من الفرن أو التنّور على شكل رغيف. أنا لم أبذر قمحاً أبداً، ولم أحصد، ولم أعجن، ولم أخبز رغيفاً طيلة حياتي، لكنني كنتُ دائماً أتناول الخبزَ جاهزاً من أيدي الآخرين، وإن لم أكن أعرفهم، لا في وجوههم ولا في أسمائهم، ولربما سوف لن ألتقي بهم أبداً... كنتُ أكتفي فقط بِقَطْع الخبز وبلعه من دون التفكير بتاريخه العجيب الذي ابتدأ قبل العصر الحجري بملايين القرون عندما قامت السلالات البشرية الأولى بتدجين الفصائل النباتية المتوحشة والذي دعته بعض شعوبها بالنجيليات التي تُعرف اليوم باسم "الحبوب". وأنا اليوم أجد من الطبيعي أن ينال كل إنسان حصّته الكافية من الخبز ليعيش. أما في فترات القحط أو الفيضانات والحروب عندما توزعه السلطات الحكومية بموجب البطاقة التموينية، فأبدأ بالهيجان والعويل، ومع ذلك فإن كل قطعة خبز سمراء أو بيضاء تستطيع أن تتلو قصيدة مدح لخالقها!.
   في التوراة نقرأ أن الكهنة اللاويين كانوا يقرّبون "خبز التقدمة" فوق المذبح من أجل الشبع(  لوقا 4:6 ) . وفي الإنجيل حَدَّثْتَنا يا سيدي عن ملكوت السماوات الذي يشبه خميرةً أخذتْها امرأةٌ ووضعتْها في ثلاثة أكيال من الدقيق حتى اختمر العجين كله (متى 33:13). أَوَ لستَ أنتَ يا سيدي الذي ضاعفتَ الخمسة أرغفة والسمكتين، وأشبعتَ خمسة آلافٍ من الجائعين (متى21:14)؟.
   الخبز!، لقد اختَبرتَه مراراً يا سيدي، فمسَكْتَه بيديكَ وقطعتَه ووزَّعتَه على الناس( الجموع ) بعد أن باركته (لوقا 31:24)،وهذه كانت علامتك الفارقة يا ربي والهي ،  أكلتَه معهم، تذوَّقتَـه وعرفتَ نكهته!، وأخيـراً... اندمجتَ به في كينونة واحـدة حيث أصبحتَ أنتَ نفسكَ طعاماً للبشر،" خبزاً للحياة" (يو 35:6)، وحياةً للأرواح،" لمّا أشتهيته أن تأكله معنا "( لو 15:22) ، خبز السماء الذي يدعوه المسيحيون "القربانة" أو "البرشانة"... خبز الحياة الذي" يمنعنا من الموت" (يو50:6)، ويمنع الموت من الاقتراب منا. إن هذه "البرشانة" الصغيرة قامت بردم أعمق هوّة كانت سابقاً تفصل بين الله والإنسان. فقديماً عندما كنتُ صبياً قيل لي أن هنالك سوراً أكبر ارتفاعاً من سور الصين يفصل بين الخالق والمخلوق، وإن اسم الجلالة يجب ألاّ يُلفَظ أبداً بسبب قدرته الفائقة وعظمته الغير المحدودة، وإن الفلسفة الأكوينية الأوغسطية تعرّفكَ على أنكَ "الجوهر الخالص المحض" أو "المحرّك الأول"، بينما أنتَ نفسكَ اخترتَ قطعة خبز اعتيادية لتعريف نفسكَ للبشرية بواسطة هذا الغذاء اليومي الضروري البسيط، وأعلنتَ أن أساس حضوركَ في العالم ليست براهين السببيّة ولا نظريات العلّة والمعلول بل الخبز فقط، وإنكَ أنتَ "الخبز الحقيقي، مَن يأكلكَ لا يجوع إلى الأبد" ( يو51:6).
   بدون خالق لا يوجد قمح ولا حبوب، وبدون الإنسان لا يوجد خبز. وهكذا اشتركتْ أصابع الله الخفيّة مع أصابع الإنسان بصمتٍ ومحبة في تكوين "الرغيف". أنا لا أرتاح لبعض الصفات التي تُلصَق باسم الجلالة عندما يقال:"الله الممتنع والبعيد والغير القابل للإدراك"، لأن في الواقع لا شيء في الوجود أكثر بساطة من الله، ولا أكثر قرباً إلينا منه. رُبَّ طفلٍ أو طاعنةٍ في السنّ أو أي رجلٍ أُمّي يفهمكَ بالحدس والتخمين أكثر من دارسي علوم اللاهوت المنكبّين على أكداس المجلّدات!.
   بينكَ يا سيدي وبين البشر الفقراء والبسطاء ، لا توجد حواجز ولا مسافات، لأنكَ تختلف عن الملوك والسلاطين والرؤوساء  وكبار دنيانا وزمننا والذين يجلسون على عروش فوق مستوى سطح الأرض، أكثر ارتفاعاً من عامة الناس، بل فوق مستوى البشر بكبريائهم وربما بفسادهم  ويضعون حرساً على أبوابهم، وعساكر ترافقهم، ومفتشين يفتشون مَن يطلب رؤيتهم خوفاً من!، واستعلامات قبل مواجهة الناس لهم، وما ذلك إلا بدافع الخوف من أن يكتشفهم الناس على حقيقتهم. أما أنت يا الهي ، ونورك فلا يحتاج إلى جميع هذه التحوطات، لأنه يخترق جميع الأشياء بخط مستقيم، ويضيء أعماق البحار بدون أن يتبلّل.
   أشكرك يا سيدي، لأنكَ علّمتَني أنْ أراكَ على حقيقتكَ بكل بساطة بعيداً عن مظاهر الأُبّهة.   من يوم الخليقة حتى مجيئكَ إلينا لتخلّصنا، كانت أعمالكَ جميعها بسيطة، بلا طبول ولا أبواق وبدون أُبّهة ولا حمايات ومرافقين . وقد قيل أنّ الفن يقترب من الكمال كلما اقترب من بساطة الحياة وابتعد عن التصنّع والتعقيد والكبرياء والغرور. هكذا هي أيضاً نِعَم الله للبشر، فإنها لا تلمس القلوب إلاّ بالانسجام الروحي الصامت وفي الوحدة مع الله. مثل نغمة صافية عذبة تخترق الأفئدة وتهزّ أوتارها... هكذا يا سيدي عندما مَدَدْتَ يدكَ وكسرتَ قطعة الخبز وقدَّمتَها لتلميذَي عمّاوس (لو30:24)، فانفتَحت أعينهما وصارا يفهمانكَ بغتةً أكثر من ذي قبل بدون ضجّة ولا كلام" بعد ان فأُمسكت أعينهما " لقلة إيمانهما ( لو31:24)!.
   نحن نريد أن نثبّت كل شيء بالنظرية والبرهان، وأنتَ تجاوزتَ كل البراهين واكتفيتَ بالخبز لتبرهن به كل شيء، فجاءتْ نتائجكَ مضبوطةً مئة بالمئة، وغيــر متوقعة لمنطقنا المعقّـد الأخرق، والمغرور،  ونحن لكي نجدكَ فيما بيننا يكفي أن نمدّ يدنا كما مَدَدْتَها أنتَ، ونكسر الخبز معكَ، ونوزعه فيما بيننا بدون إلقاء محاضرة أو موعظة طويلة.
   وبعد كل هذا، فإن الشيء الذي يبقى غامضاً وغير مفهوم لدى البشر، هو أنهم يحتاجون إلى إشارة صغيرة منكَ تدلّهم على أنكَ قريب جداً منهم.ولكنهم !!! نعم يا سيدي أنت خبزنا وكفاف يومنا( متى 11:6) . فيارب " أعطنا منه كي لا نجوع أبدأ(يو 15:4) ، " لانك النازل من السماء"( يو 21:6)  من أجل خلاص الانسان . نعم وامين .

62
والخلائق تسبح بحمده " عرق الجبين  "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   لم يكتشف البشر حتى الآن حجر الفلاسفة الذي يحوّل الوحل إلى ذهب، ولكنهم نجحوا بصورة غريبة في اختلاق جميع أنواع الافتراءات والأكاذيب ضد بعضهم بعضاً، ومع ذلك فإن لسانهم لم يكن أبداً أطول من لسان الضفدع!. وأبدعوا فيما أبدعوا حتى اليوم من اكتشافات بواسطة الصهر أو التقطير في استخلاص نوع من العقار السامّ يدعى "الكبرياء"، وذلك باستخدام جميع الأشياء على اختلاف أنواعها سواءً أكانت صادقة أم كاذبة.
   فهذا شاب يشمخ بأنفه فخوراً بشاربيه. وآخر يترنّح وسط الشارع جذلاً مغروراً بلحيته الطويلة. وآخر معجَب بكلبه أو بساعــة جيبه. ورُبَّ لصٍّ افتخر حتى بسرقاته وأسلابه. وما رأيكَ عن فتاة مغترّة بلون شعر رأسها أو زرقـة عينها؟، أو تتباهى بصغر سنّها أو بشعرها المستعار أو بجدائلها... ورُبَّ عجـوزٍ طاعنة بالسنّ تفتخر بطاقم أسنانها المصنوع من الذهب الخالص، أو بأثاثهــا، أو بأنواع الزهور في حديقتها.وما رايك بكبير الزمن المعجب بكرسيه ونوعية خشبه وطلائه . ولا يقتصر الأمر على الأفراد فقط، فهناك الدول التي تعتبر نفسها أرفع من بقية السلالات والأجناس البشرية، وتفخر بِعِرْقِها، وتدّعي أن دمها أنقى الدماء، وحضارتها أرقى الحضارات، لا بل خمورها أجود الأنواع وسكائرها أيضاً... وهنالك رجال مزهوّون لأنهم يعتبرون أنفسهم من المفضلين والمختارين من المقربين والمحسوبين ،  معتبرين أنفسهم آلهة الزمن، ورجال بيض يتغطرسون ضد السود ولا يحبون غير بياض افكارهم ، والفرسان ضد المشاة، والنبلاء يتكبّرون على الرعاع.
   جلستُ اليوم يا سيدي أبحث عن مرشد يهديني إلى طريق البساطة والاتّضاع بدون الاستعانة بالكتب أو النظريات، فوجدتُ أن التعرّق فقط هو الذي يعلّمني سرّ التواضع والبساطة. إني أعرف أناساً كثيرين يتعرّقون، وأسباب التعرّق كثيرة والتعرّق واحد. فهناك أناس يكدحون ويتعبون ويتعرّقون لكسب لقمة العيش. وهنالك الذين يعانون من المرض، ويصارعون الأوجاع، ويتصبّبون عرقاً ويتألمون. وأعرف أيضاً يا سيدي أنكَ افتديتَ الجنس البشري بثمن " تعرّقكَ دماً في بستان الزيتون"( لوقا 44:22) ، وقدتني الى خادمك البابا فرنسيس صديق المنبوذين والمرذولين .
   أعلم أن هنالك أناساً يتعرّقون من شدّة الحرّ، أو من شدّة الجهد العضلي، وربما من الخوف أو فرط الخجل، ومَن يدري، لربما يتعرّق البعض من وخز الضمير. والمحكوم عليه بالإعدام يتعرّق. وأتذكر أن عقوبة آدم على معصيته الأولى هي أن " يعمل ويعرق" ( تك 1) . وأعلم أن الذين يعملون صيفاً وراء مكاتبهم أيضاً يتعرّقون، وبين فترة وأخرى يُخرجون منديلاً نظيفاً من جيبهم ليمسحوا العرق المتصبّب على جبينهم،  واليوم من المؤكد بمناديل ورقية  . وهنالك الميكانيكيون وعمّال البناء الذين يتعرّقون ويمسحون عرق جبينهم بأكمام أرديتهم، لأنهم لا يملكون مناديل نظيفة في جيوبهم. وأعلم أيضاً أن الناس الذين يكدّون ويعملون ويتعرّقون هم أشرف الناس جميعاً، وإن عرق جبينهم هو ما يميّزهم عن الكسالى والعاطلين وجميع الذين يعيشون عالةً على المجتمع ومتطفّلين. لقد عرفتَ كل هذا وخبرتَه يا سيدي عندما كنتَ " نجّاراً بسيطاً" ( متى 55:3) تعمل في الجليل، ولم تحتقر أبداً الناس الذين كنتَ تراهم أمامكَ يتعرّقون، ولم تسخر من تلاميذكَ عندما كانوا " يسحبون شِباك الصيد ويتعرّقون" ( يو 8:21).   إن التعرّق يؤدي إلى فضيلة التواضع التي هي مفتاح الفضائل كلها. ربما المفكرون العظام الذين عملهم هو البحث في الأفكار المجرَّدة، وربما المناطقة أيضاً. وفلاسفة الأونطولوجيا الذين يعالجون أصل الوجود والكينونة والجوهر ولا يعرفون القيمة الحقيقية لعرق الفلاح الذي يزرع الحبوب، أو الحمّال الذي يرفع الأثقال، أو الميكانيكي الذي يقوم بتصليح عجلة، وكأنما عرق الجبين أدنى مرتبة أو لا يساوي شيئاً أمام الأفكار المجردة.وهذا ديدن الزمان . لكن الإنجيل لم يأتِ من أجل أفكارٍ مجرَّدة، ولا من أجل الذين يتفلسفون لربح مسار مصالحهم ، بل من أجل الذين يكدّون ويكدحون ويتعرّقون. فالتعرّق هو واقع الإنسانية التي كُتب عليها أن تعمل لكي تعيش، وتمجّد الله بعملها.
   هنالك كثير من الناس لم يوفَّقوا في دراستهم. وكثير من الأُميّين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. وكثيرون أيضاً مَنْ لم يُعْطَ لهم الجلوس تحت الظلال الثخينة من أجل أن يقرئوا المحاورات الأفلاطونية، وأجبرتهم ظروف الحياة على الكدّ والتعب من أجل لقمة العيش. إنما وسط هذه الجماهير الغفيرة المتعرّقة والتَعِبة يطيب لي أن أمتزج لكي أجدكَ يا سيدي... أمام جميع الحشود العمالية في المصانع الكبيرة، أو أمام صغار العمال في ورشة الغسل والتشحيم. أمام جميع الوجوه الفتيّة المنكبّة على الخِراطة والحِدادة والغارقة في عرقها.امام جميع الابرياء الذين استغلتهم افكار القرابة والمصلحة والانانية . أمام جميع مناكب الشيوخ المنحنية فوق فوّهة المنفاخ أو شعلة اللحام الأوكسي ــ استيلينية. أمام العمال الذين يدفعون عربات الأجر أو يحملون أكياس السمنت على ظهورهم، الذين فوق جلودهم السوداء أو البيضاء يتدفّق العرق بأسمى معاني الشرف والنُبل. أمام كل هؤلاء يا سيدي أتذكر وجهكَ المتعرّق والمكلَّل بالشوك وحب صديقهم فرنسيس، المطبوع على منديل "فيرونيكا" إلى الأبد (لو28:23)، والذي قدّمه لنا بيلاطس قائلاً:"هوذا الرجل" (يو5:19)) ، إنه وجهك يا سيدي ( لو 17:15) . نعم وامين

63
حكاية من زمن الطائفية "
رسالتنا أن نكون .. أُمناء و أوفياء !!!
المونسنيور د. بيوس قاشا
الكاهن والطبيب توأمان من أجل النفس والجسد. إنني تعلمتُ أنه على الكاهن أن يكون حاضراً أمام الرب المتألم بشخص الإنسان المهمَّش والمريض والفقير ومستعداً ليقوم بما يريده ويصف له ما يحتاج إليه من اسرار من أجل الشفاء،ليكون يوما في السماء ، وهذا يعني أن عليه أن يسير حسب نهج دعوته ورسالته بدون إنحراف، فاتحاً أذنيه ليسمع صراخ المتألمين وحسرات وتنهدات المنبوذين والمرذولين. كما أنه شاهد لإيمانه وشهيد من أجل معلّمه
هكذا هو الطبيب، فالقَسَم الذي يؤديه يوم تخرجه وإكماله الدراسة ــ معلناً أنه سيبحر عبر ألم الإنسان ــ هو النداء السماوي ليكون مستعداً لبدء مسيرة حسب نهج إخلاصه ودعوته بدون تلكؤ ولا خوف، ، كما تدعوه مهنته أن يكون شاهداً لحقيقة الإنسان المريض، وشهيداً من أجل إيصال العلاج وإداء الفحص الضروري وإعطاء الدواء إذا ما تطلب الأمر ذلك من اجل حياة الدنيا .
ولكن، ويا للأسف، وفي الماضي القريب ،بعد الحرب  2003  المدمرة والتي أفسدت ما أفسدت من قِيَم ، وأتلفت ما أتلفت من مناهج الحياة، وجعلت من الإنسان دمية تافهة تُباع وتُشترى بأبخس الأثمان ومتى ما شاء القوي،واليوم ثمنه لا يتجاوز ثمن الإطلاقة الواحدة إذا ما سكن الشر قلبه القاسي. وإذ أعطت الحرب للعولمةالمزيفّه زخماً قوياً بارتكاب الخطيئة، فقد أباحت كل شيء وحلّلت كل حرام كونه يأتي في باب الحرية الشخصية والديمقراطية المزيفة... ويا للأسف!.
وها أنا أمام ألم سكن قلبي منذ الأشهر الأخيرة من عام 2005، حيث الطائفية المقيتة وقد تفشت في مجتمعنا العراقي الاصيل ، والحقيقة تقال ، حينها كنتُ أعيش أياماً ساخنة في منطقتي- الكرخ -  مع أبناء كنيستي، مار يوسف، والكل يعلم جيداً كم كانت المنطقة ساخنة بأحيائها وبشوارعها، وكم كانت أخبار أبنائها الأحبة المتخاصمين عناويناً لنشرات الأخبار ولصحافة الزمن عبر القنوات الفضائية المختلفة ، وما كان يشفعني هو "الصلاة" التي لم تكن تفارق شفتيّ وقلبي أينما تردّدتُ وأينما رحلتُ لتفقد أبناء رعيتي الذين عاشوا الرعب والخوف والفزع من الأقربين ومن الأبعدين، وكم كان يؤلمني وقوع انفجار ما في حي من أحياء بغداد، فكنتُ أفكر بالضحايا الأبرياء الذين قتلهم الإرهاب لا لشيء إلا لأنهم أبرياء. وتفقدي وزياراتي المستمرة جعلتني أكسب شجاعة إيمانية بقوة الروح الذي كان سنداً لي حيث حللتُ. وكم تكلّمتُ مرات عديدة عن هذه الشجاعة لأبنائي في الرعية زارعاً فيهم حماس الإيمان وعيش المسيحية كما في الأجيال الأولى، وما كانت صلاة الصليب التي كتبتُ كلماتها في ذلك الزمن القاسي ــ ولا زلتُ أرددها حتى اليوم مع أبناء رعيتي في نهاية كل قداس أحد ــ إلا الدليل الأكيد على أن الصليب متى ما حملناه في قلوبنا سيكون لنا علامة انتصار مهما اشتدت الصعاب، وركب البحر قلب الإنسان هائجاً، وكل هذا الحديث هو اختصار لما سأسرده لاحقاً هنا من موقف مؤلم كاد يؤدي إلى قطع حبل الحياة.في حكاية من زمن الطائفية .
ومن الخوف الذي سكن قلوبنا كنا نقفل على أنفسنا أبواب  بيوتنافي الساعة الثانية عشرة ظهراً ،  كسجون للأبرياء وندخل محيطها ونأوي إليها بعد أن نكون قد أقفلنا على أبوابنا الخارجية والداخلية وحتى التي فوق السطوح. في حوالي ذلك الزمن ــ وإذا ما دقت تمام الساعة الرابعة عصراً ــ رنّ جرس الهاتف طالباً النجدة "أبونا الحقنا، بابا متخربط. نريد طبيباً"، فسألتُ مستفسراً "ما الذي جرى؟"، جاء الجواب ممزوجاً بدموع العين من الإبنة الثانية في العائلة "بابا تخربط، لازم تسوّيلنا شي". قطعتُ الحديث وأوقفتُ المكالمة وقلتُ حينها "يا رب عونك"، فالمنطقة خالية من الأطباء، والأطباء المسيحيون ــ كما المسلمون ــ قد تركوا بغداد وبالخصوص منطقة الكرخ ورحلوا عنها بعيداً أو قريباً بسبب الطائفية المتفشية انذاك حفظاً وصوناً لحياتهم من صيد الإرهابيين والأشرار الذين عاثوا في المنطقة فساداً في الخطف أو التهديد، في القتل والسلب والنهب والتهجير وتخويف الناس الأبرياء، وهذه الأعمال شوّهت حقيقة الإنسان وجعلته وحشاً كاسراً بل حيواناً متوحشاً وأزالت عنه صبغة الخلقة العظيمة( تك1) ، وأصبح البشر كلهم قاييناً آخر، وعلامة القتل تُبان من على جباههم معلنة أنهم قتلة الأبرياء، فالحياة بالنسبة لهم أسمى من الشهادة.
والاطباء فان القَسَم الذي أقسموه هو أعظم من البقاء في الحياة والإحتماء لدى أقوياء الزمن، المهم قلتُ لهم "اتصلوا بالطبيب "س" هو أحد أقربائكم، ومن المؤكد سيلبّي سؤالكم"، اتصلوا به عبر (الموبايل)، هدية متعددي الجنسيات،  فأجاب "ليس بإمكاني أن آتي، فالوضع مخيف ومنطقتكم ساخنة وأنا أخاف أن آتي،أخاف على نفسي وعلى عائلتي ، عليكم أن تنقلوه إلى المستشفى"، وانتهت المكالمة. بعد دقائق من هذا الحديث استلمتُ مكالمة تقول لي ما حصل، فأقفلتُ جهاز الموبايل وبدأتُ أستفسر وأتساءل: ما العمل؟، حيث هبّ الروح فأنار فكري وجعلني أتصل بطبيب آخر عسى ولعلّ ،  وأنا بين الشك واليقين من وجوده.
إتصلتُ بالطبيب "أ" وكأنه كان على موعد مع مكالمتي- كم عظيم انت يارب -، وبعد التحية طلبـتُ منه أن يرافقني في زيارة إلى بيت المريض، فأبدى استعداده كاملاً، وحسب علمي كان هذا اليوم هو الأخير الذي قضاه في العراق حيث في اليوم التالي حمل حقائبه ورحل مع عائلته كسابقيه الى العالم الجديد - امريكا- و هناك انتقل الى الديار الخالدة قبل خمس سنوات  . فاتصلتُ بالسائق الذي يعمل معي وكنتُ قد أسكنته في دير ازاء الكنيسة واصطحبتُه إلى بيت الطبيب "أ" وكنتُ وكأنني في رحلة مستعجلة من أجل غاية لم نكن نعرفها إلا أن الشافي هو الله. بدأ المغيب وساد الظلام لكون المنطقة كانت لا تعرف ضوء الكهرباء إلا كزائر، ساعة في الليل وأخرى في النهار ولا أكثر.
نعم، دخل الطبيب وحقيبته معه، ونحن في حاشية من حوله ــ أنا وأفراد الأسرة القلقة ــ وإذ كان الطبيب يفحص ويبدي الملاحظات الطبية ويصف الدواء الناجع، كنتُ أنا في هذا المشهد المؤلم أنظر وأتأمل، نظرتُ إلى السماء وقتها معلناً ضعفي أمام قدرة الرب وحاجتي إلى عونه، وشاكراً له معونته في أن يكون لنا بعد طبيباً آخر لا زال يعالج مرضى أُغلقتْ أمامهم دور الشفاء، ولم يبقَ بينهم من رجال عاهدوا على أن يكونوا أنبياء الحياة، ولكن الزمان يعلنهم أنبياء عبر الحدود. ولما اكتملت مهمة الطبيب العلاجية شجعتُ العائلة ، لامتلاك رجاء الحياة ، كما شاركني في الحديث الطبيب نفسه وأدركتُ أن الخوف كان بعيداً من أن يلاحقني وإنما الرب كان برفقتي. ثم أعدتُ الطبيب الى بيتهفي ظلام دامس ، وشكرته على إتمامه هذه الرسالة الانسانية وشجاعته ،والقيت التحية ، وعدتُ إلى كنيستي ، أُعطي المريض الدواء اللازم وكُتب له الشفاء بعد أسبوع... إنتهى وانتهت مسيرة الألم.
نعم، أن نكون أمناء يعني أن نعمل ونواجه خطر الوقوع في تجربة كبرياء الإيمان وكأننا نحن الصالحون وآخرون سيموتون ، وكما يقول المثل الفرنسي من بعدي الطوفان ،. هذه هي الخطيئة العظمى، خطيئة كبرياء الفريسيين، خطيئة الشعور بأننا مخلَّصون لوحدنا نحن بالذات بينما اليوم يسوع يدعونا لنعيش مسيحيتنا بانتمائنا الصادق إليه،وليس بسمو الصداقة المزيفة وخطاب التعالي والافتخار بالحسب والنسب والمنصب في كل يوم من أيام حياتنا لنبني مسكننا في السماء بتواضع ومحبة كاملين، فكبار القديسين كانوا يرددون على الدوام "نحن خطأة، لا بل أتعس الخاطئين"،بعكس كبار زمننا ورؤساء ديارنا والسبب عناوينهم ومصالحهم . 
ختاماً ، نعم،أقولها ، لا يستطيع تلميذ المسيح أن يساوم على دعوته، فهو إن غاص في شؤون الأرض وبحث عن ملذاتها ورخائها ضعفتُ مصداقيته وابتعد الناس عنه وغابت عن باله كلمات المعلم الإلهي "فليضيء نوركم هكذا للناس ليروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات"( متى 5: 16) . فالله اليوم أعطى الطوبى للفقراء والمحرومين والجياع والمضطهدين وفاعلي السلام. ووسط هؤلاء المعذبين والمنكوبين والبائسين نصب الله خيمته وسكن بينهم (يوحنا14:1)  وسكن بينهم ، لأنه أحبهم حتى النهاية.
نعم ، لنسع كي نكون إلى جانب الله، إلى جانب الفقير والمعذب والمضطهد والمريض،لا لنفتخر بعطاء الاخرين فقط، بل بعطاء من مالنا الخاص أيضاً،كي نسمع صوته العذب يقول لنا في نهاية المطاف "تعالوا إليّ يا مباركي أبي رثوا المُلْكَ المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" ( متى 34:25  ).  ولا ندّعي أن الله إلى جانبنا بل لنصلّي بحرارة ماسّة كيما نكون نحن إلى جانبه، ونتساءل: كي نفتخر بالرب وهذا  لا يعني إيماننا بالله كبرياءً بل يعني وفاءَنا لوكالتنا الإنسانية، بل أمانتنا للحياة التي كانت نور الناس وفيه كانت الحياة ( يو4:1) فما أجمل ، أن نكون أمناء امام الرب ، وليس أمام وجوه البشر ،وكبار الدنيا والزمن المسلطين ، واصحاب المصالح والطائفيات والعشائريات. فأمانتنا ووفاؤنا ليس في أقوالنا بل في حقيقتنا وعطائنا وما ذلك إلا عمق رسالتنا في أن نكون أُمناء وأوفياء.(متى 14:25-30). نعم وامين .

64
والخلائق تسبح بحمده " القفل والمفتاح "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   المفتاح يا سيدي يلعب دوراً هاماً في مناظراتنا الدينية، فمنذ أنْ قلَّدْتَ مفاتيح الكنيسة لمار بطرس إلى حين قلَّدتَه مفاتيح الجنة، لا نزال نردد:"أنتَ الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي..." (متى18:16)، ونرسم المفاتيح المتصالبة تحت تيجان البابوات، ونبرهن ضدّ جميع أشكال الهرطقات أن هذه المفاتيح تعني السلطة العليا، الزعامة، الأولوية، الشرعية الدينية وجميع الامتيازات الأخرى للكرسي الرسولي في روما. ولكن هنـالك مفاتيح أخرى اعتيادية وبسيطة يستعملها الناس لفتح أبوابهم وغلقها، وهي لا تحمل شيئاً من كل هذه الأسرار والرموز، ولكنها تتحدث بكل بساطة عن أسرار الأقفال والمفاتيح.
   فالمفتاح هو آلة ووسيلة للأمان قبل أن يكون رمزاً للزعامة والسلطة العليا والشرعية. نحن نضع كنوزنا تحت الأقفال والمفاتيح لكي تكون حاجزاً بين كنوزنا وبين اللصوص، كما إننا نضع اللصوص تحت الأقفال والمفاتيح لكي تكون حاجزاً بين اللصوص وبين الكنوز. وعندما ننظر إلى الأمر مليّاً نجد أن المفتاح يلعب دورَيْن متناقضَيْن، بسبب قدرته على الفتح والغلق.   إن السيف يبتر أو ينغرز، ولكنه لا يرتّق الجرح، ولا يملأ الحفرة التي سبّبها في الجسم المطعون. المصباح يضع النور داخل الظلام، ولكنه لا يضع الظلام داخل النور. والماء لا يستطيع أن يبلّلني ويجفّفني في آنٍ واحد. والكمنجة  تستطيع أن تخلق صوتاً داخل الصمت، ولكنها لا تستطيع أن تخلق صمتاً داخل الصوت. ولكن هذا المفتاح الصغير يقوم بعملية مزدوجة، يستطيع أن يفتح وأن يغلق. دورةٌ نحو اليمين وكل شيء ينقفل، ودورةٌ نحو اليسار وكل شيء ينفتح. ويبدو هذا غريباً، ولكنه ليس أكثر غرابةً من حريتي التي بمقدورها أن تقول "نعم" فتنفتح لها أبواب السماء، أو أن تقول "لا" فتنفتح لها أبواب الجحيم.
   يا سيدي، أما بالنسبة لي فتكفي نصف دورة لمفتاح إرادتي لكي تبتعد عني جميع إلهاماتكَ الخلاّبة. ولكي أعود إليكَ ثانية، تكفي نصف دورة إلى الجهة الثانية من المفتاح. نصف دورة فقط... مثل أجفاني التي تحجب عني الأنوار بغمضة واحدة، وتعيدها لي بغمضة واحدة. ولكن هذه النصف الدورة الصغيرة تحمل في داخلها أهمية جسيمة، لأنني أعرف أناساً ورعين جداً من شدة قداستهم دفعوا بالآخرين إلى إلغاء هذه الحرية الشخصية وقفلها، لأنهم لم يكونوا يؤمنون بحرية الإنسان بل كانوا فقط يعتمدون على نعمة الله. كانوا يفضّلون المفاتيح التي تغلق فقط وليس لها القدرة على أن تفتح أبداً. كانوا يفضّلون الطمأنينة الواسعة بين أحضان الله، وما كان أبعدهم عن حكمتكَ الإلهية، لأنكَ شيَّدْتَ كنيستكَ على أساس القناعة الشخصية وليس على أساس الجبروت والعنف وربح الاغلبية في كسر الاقلية الصادقة ، وأردتَ أن يتمتع البشر بحرية الاختيار بين أنْ يتركوكَ أو يتبعوك، وألاّ يكونوا عبيداً أرقّاء مكلَّفين بأعمال السخرة.
   أردْتَ يا سيدي أن يختاركَ البشر قبل أن يطيعوكَ،وان يؤمنوا ويعملوا قبل ان يتكلموا جزافاً ، وأن يشاركوا في عملية نيل ثواب الجنّة. لقد وضعتَ كل ثقتكَ في اختيار البشر لمحبتكَ وليس في خضوعهم المطلق لجبروتكَ. لقد شيَّدْتَ بناء عملية الفداء الشامخ على أساس كلمة "نعم" البسيطة الصادرة بكل حرية من فم مخلوقاتكَ الضعيفة.
    أنتَ لا تريد سجناء مقيَّدين بالأغلال وظيفتهم الهتاف والتصفيق وراء مركبة عرشكَ الظافرة، لكي تستعبدهم لمصالح زائلة ولدنيا مائتة . لقد وضعتَ مفاتيح مصيرنا بين أيدينا، ونحن عندما نقف إلى جانبكَ، هذا يدلّ على أن رغباتنا متطابقة مع رغباتكَ. وأنتَ قد رضيتَ بهذه المجازفة الكبرى ضمن خطتكَ الأزلية عندما خلقتَ العالم ثنائياً في خيره وشرّه.
   ونحن نتساءل أحياناً: لماذا لم تخلق العالم بدون خطيئة ولا حرية، بل فضَّلْتَ أن يكون مزدوجاً حيث تنمو الفضيلة بجانب الرذيلة، والصواب يتصارع مع الخطأ، والحق مع الباطل، والشرّ يأخذ بخناق الخير، حيث الكذب والحسد والافتراء والظلم والطمع والضغينة والغيرة القاتلة هي آفات تنخر في جسم المجتمع الإنساني، كما في جسم المجتمع الكنسي، وتحاول قتـل روح القداسة والحق فيه. أفما كان الأجـدر والأجدى خلق عالم كله صالحين وكله بررة قديسين؟؟.ولكن لو كان العالم أحادي الصيغة والاتجاه، لَفَقَد الإنسان لذّة الانتصار على الشرّ، وأضاع ثواب السماء.   إن عالماً يخلو من ثنائية الخير والشر يشبه عالم الكواكب والسيارات التي تدور دون أن تفهم طرق وأهداف دورانها، وتصبح الفضيلة مثل أسطوانة موسيقية مسجَّلة منذ القِدَم، وإيماننا بارداً مثل الثلج. أبداً سوف لن تمرّ تجربتنا بواقع الحياة والتواءاتها، وسعادتنا في الخلود سوف لن تكون كاملةً ما لم تشترك في صنعها إرادتنا الحرّة. إني أفضّل العالم المزدوج يا سيدي، عالمكَ أنتَ، الذي صنعتَه منذ الأزل، والذي يحمل لجميع مفاتيح الأرض الموضوع والنقيـض، النَعَم واللاّ، الفتح والغلق، معتمداً في كل ذلك على حرية الإنسان.
   إني معجب بهذا القفل والمفتاح لأني أرغب أن تكون لي سيداً وفي نفس الوقت صديقاً. أنا لا أطلب منكَ ، إلا حسب مشيئتك، أن تحذف مني حريتي كيلا أفقد صداقتـكَ، بل أن تجعل محبتكَ وحقيقة نيتك حافـزاً لحريتي لكي أجد فيكَ كل ما أرغب وأشتهي. وإذا كانت إرادتي متذبذبة وحريتي ناقصة، فلكي أتذكَّر قول التوراة:"طوبى لِمَن كان بمقدوره أن يصنع شراً ولم يفعله" (مزمور3:15). نعم وامين .

65
والخلائق تسبح بحمده " الصومعة  "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   هنالك مَثَلٌ تركي يقول:"الإنسان يولد في الغرفة ويموت في المرج". والمرج لدى المغول المقاتلين القدماء يعني أن الموت الطبيعي للرجل يحدث في ساحة الوغى، كما يقول الجزّار: أن الموت الطبيعي للثور يحدث داخل المسلخ.
   يا رب!، هل إن معارك الحرب العالمية الأولى والثانية وما أفرزته من جبابرة طغاة وتجّار حروب، هي أقل همجية ووحشية من حكمة الأتراك المغول أو عقلية الجزّارين؟!. كنتُ أتمنى لو نظرتُ إلى غرفتي التي أسكنها بعين أكثر مسيحية!. إن غرفتي هي جزءٌ من حياتي. إذا كان كل ما فيها من كتب أو تحفيات أو ذكريات ذا طابع وثني، فإنها ستكون قاحلـةً مجدبةً كالصحراء!  فيا سيدي، إنكَ خبّأتَ في كل غرفة يسكنها إنسان بعضاً من سرّ وجوده وقَدَره، وأنه يكفي أن يكون المرء  أميناً مخلصاً لغرفته ليجد أن النقص الذي يبحث عنه هو داخل نفسه!. فيا رب!، أعطني القوة والشجاعة لكي أستطيع أن أخلو إلى غرفتي ساعة الضيق، وألاّ أخرج متسارعاً إلى زفّة العالم طلباً للنجدة والخلاص!.
   غرفتي هي كَوْني الصغير، هي محطتي التي منها أراقب العالم وأحكم على مجرى الأمور وسير الزمان. في غرفتي أكون حقيقةً أنا ذاتي!، بعيداً عن مضايقات البشر وتصنّعهم، بعيداً عن المجاملة والتكلّف، ومتحرراً من قيود الإيتيكيت. غالباً أنسى أن أشكركَ يا سيدي لكونكَ أعطيتَني غرفةً أسكنها، وكم وكم من الفقراء المساكين الذين لا مأوى لهم ولا دار، وكم من المستأجرين الذين يحسبون كل ليلة ألف حساب كيف يدفعون أجور شقّتهم أو غرفتهم في صبيحة اليوم التالي. كم من الذين يعيشون في أكواخ حقيرة، وكم الذين يقطنون في حظائر جماعية!، وأنا أجد أمراً طبيعياً أن تكون لي غرفة مؤثَّثة مفروشة، أو صومعة أستطيع أن أغلق بابها وأستقر مستريحاً من ضجيج العالم. أربعة حيطان سميكة تحميني من سيول المطر، وسقف كونكريتي يقيني من الصواعق وهزيم الرياح، وأنا منكبٌّ بهدوء على مائدة مطالعتي تحت مصباح كهربائي بالقرب من مدفأة، مطمئناً راضياً، معتقداً أن جميع الناس مثلي.
   إني لم أمرّ قط بالمآسي المؤلمة عندما يُطرَد المستأجر من شقّةٍ أو دارٍ يسكنها مع عائلته وأطفالــه. ولم أعرف لوعة الناس الذين يهجرون مدنهم وبيوتهـم تحت وابل من قصـف الطائرات والصواريخ، أو بسبب الزلازل والفيضانات، وهم يتركون كل شيء متشرّدين في الأزقة والغابات ليناموا على حافات الأرصفة أو في الساحات العامة أو في المخيّمات، بدون وسادة ولا غطاء!.كما حصل للنازحين بسبب داعش وكما يحصل اليوم للمهجرين .
   لتكن صومعتي حافزاً لي على التقوى ومخافة الله، وباعثاً فيّ الشعور بالعطف نحو المشرَّدين في جميع أصقاع الأرض، ونحو التعساء المطرودين والمهجرين ، من أوطانهم والذين اكتظّت بهم الملاجئ والثكنات، والذين عليهم أن يتابعوا سيرهم في الأيام التالية بدون توقف أو هدف. مقابل هذا، هنالك بيوت مترفة يتمتع كل طفل من أطفالها بغرفة خاصة منذ ولادته، وهنالك أيضاً غرفة مخصصة للعب وأخرى للجلوس والحديث والسمر، وثالثة لتناول الطعام ورابعة للنوم... وهنالك غرفة يتألم فيها المريض قبل أن تقطف روحَه يد المنون، وغرفة صامتة لا يُسمَع فيها سوى أنين المنازعين، وغرفة للطبابة، وغرفة أخرى للعمليات الجراحية وللتشريح وغرفة خاصة للمصابين بفيروس كورونا !.
فيا رب!، وهنالك أيضاً غرف السجون ذات الجدران العتيقة والأبواب المقفلة حيث ينتظر المحكوم عليهم بالإعدام. وكما كان أتذكر أنَّ هناك صوامع النسّاك في الكهوف وفي أطراف الجبال، وصوامع الرهبان في نهايات الأديرة ذات الممرّات الطويلة. (ومن المؤسف اليوم) مجرد ذكريات .
   غريبٌ هو عالمنا يا سيدي! فما يعتبره البعض عقوبةً وقيـوداً داخـل السجون، يتخذه آخرون سبيلاً للتحرّر والانعتاق داخل الأديرة!، وهذا ما يفسّر لنا أن سعادتنا أو تعاستنا لا تعتمـد على المكان أو الزمان أو البيئة، بل على ما في داخل نفوسنا من نوازع ومن استعداد للبذل والعطاء!. فالصومعة لا تعني الاحتكار أو الانطواء، بل تعني التدفق والانبساط والخروج عن الذات، والاندماج مع الآخرين ومشاركتهم همومهم وأحاسيسهم وآمالهم. أتمنى ألاّ تكون صومعتي المنعزلة ملجأً أحتمي به، تُبعدني عن الناس وتُنسيني العالم، بل أن تذكّرني بالبشر أمثالي، وبالمعذَّبين الذين يتخبّطون ويكافحون، يجوعون ويعطشون... أخشى يا سيدي أن تصيبني محبتي المفرطة لصومعتي بداء النسيان!، أو بخَدَر كسول منبعث عن طول الانعزال!.
   أنتَ يا سيدي دخلتَ عليّة صهيون والأبواب مغلقة (يو19:20)، تستطيع أيضاً أن تدخل صومعتي وتقصّ عليّ حكايات البشر وما يحدث فوق كوكبنا هذا من غرائب ومصائب، وفي زمن الوباء هذا ، من مآسٍ ومن مهازل. وتحدثني عما حصل قبل ألفي سنة عندما رفعتَ صوتكَ في موعظة الجبل بتسع تطويبات (متى3:5) لم يبقَ اليوم منها في عالمنا إلا أصداء فارغة!. وحيث سقطت حبّة بشارتكَ " فوق حجارة"  ( متى 20:13) " صلدة" ( لو 6:8) ،وقلوب لا تفهمكَ" ، وحيث باتَ صليبكَ عاراً ولعنةً في عصرٍ انقلبت فيه القِيَم والمفاهيم رأساً على عقب!بسبب الكبرياء والعولمة المزيّفة والمصالح والانانيات بين الشعوب ، وعفوا ان قلت لم يعد احد يبالي بها الا قلة من كبار الكنيسة القديسين وليس مدراء المعابد والدنيا الزائلون .
    يا رب!، هبني أن أتغلّب على لذّة النسيان لأتذكّر دوماً أن هنالك بشراً يتعذّبون، وأن أذوب خدمةً ومحبةً لهم.
   يا رب!، هبني أن أتسمّع إلى أنين البشر حتى نهايات قواقع آذاني وإن عند البشر محسوبيات لا تعلمها إلا النيات السيئة  وكبار السلطة الزائلة  ، وأن تكون صومعتي الوادعة ملجأً لدموع الحزانى والثكالى وانتحابات الأيتام الطويلة الهادرة في أعماق الليالي، وأن تكون صومعتي مرصداً يقتنص جميع حركات الناس وخلجات قلوبهم لأمزجها في صمت عزلتي بصلواتي وابتهالي إليكَ، واجعلني افتش عن الذين يسكنون على شواطئ الدنيا واشم رائحة غنمي ، وأسأل هل اليوم من صومعة في عالم الوباء هذا؟ وهل أدركتُ ماذا تعني الصومعة أمام العولمة المزيفة ؟ وهل سيبقى قلبي مسكنا لكَ يارب.فارحمني يارب ،  نعم وامين .

66
والخلائق تسبح بحمده " الكراسي "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
          الأساتذة عادةً يقضون معظم أوقات دوامهم جالسين أمام اللوحة واليوم أمام الحاسوب، وكذلك طلبة المدارس. والقضاة يجلسون عندما يصدرون أوامر الحكم على المجرمين بالإعدام. رؤساء الدول والمعابد  والحكومات والمعابد يتربّعون على كراسي الحكم والمناصب ، والملوك والأباطرة وكبار الزمن يتبوّءون سَدّة العرش، والذي لا يزول ولا يتغير وكأنهم آلهة الزمان وأصنام الحياة في قصورهم ومجالسهم  .
   وفي الكنائس، المسيحيون يجلسون على كراسي ومصطبات عندما يستمعون إلى موعظة واليوم يلازمون بيوتهم بسبب الكورونا ويتابعون الصلاة عبر  الفيس بوك والاون لاين ،  ولا شيء أكثر تفاهة من الكراسي والمصطبات ، ولا أقلّ إيحاءً وإلهاماً منهما. يحصل لي مراراً إنني أصلّي وأنا جالس على كرسي، ولكن لا يحدث أبداً أن يتّخذ أحدٌ الكرسي موضوعاً للتأمل، خوفاً من كونه مصاباً بآية دنيوية أصدرها رجال الزمن وكبار الكراسي والحكم .
   نعم ، الكراسي تافهة جامدة، وهي خرساء وطيّعة. كراسي غرفة الاستقبال وغرفة الطعام، كرسي طبيب الأسنان، الكرسي الذي يجلس عليه خادم البيت، كلها مصنوعة من نفس مادة الخشب وليس فيها ما يشدّ الانتباه. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن قلتَ لنا يا سيدي أنكَ جالسٌ عن يمين الله الآب؟ (متى44:22)، ولماذا سفر الرؤيا يشبّه السماء الواسعة بكرسي في الوسط والله جالس عليه؟ (رؤ2:4)، ولماذا تتغنّى المزامير بأريكتكَ الكبيرة التي أعدَدْتَها منذ بداية الأجيال؟، ولماذا قلتَ لتلاميذكَ يا سيدي أنكَ سوف تحتفظ لهم"  بكراسي في ملكوتكَ" ( متى 28:19) ؟، ولماذا قلتَ لأبنَي زَبَدَى بأن الآب وحده هو الذي سوف يجلسهما عن اليمين أو عن الشمال؟ (متى21:20).
   ألستُ غبياً وقريباً من الوثنية عندما أفكر ما للكرسي من سمات التقوى؟. إن كرسياً بسيطاً يذكّرني بجميع الذين جلسوا عليها: من متى العشّار الذي دعوتَه عندما كان جالساً على طاولة الخزائن (متى10:9)، إلى حنان وقيافا والى بيلاطس البنطي الذي أعلن حكم الموت عليكَ وهو جالس على كرسي القنصلية  التي لا تفنى ؟ (متى11:27). وثمّ تلاميذكَ الذين كانوا جالسين عندما حلّ عليهم الروح القدس في العنصرة. وأنتَ نفسكَ يا سيدي، أنتَ الكلمة المتجسد، فادي البشر، لقد نزلتَ إلينا من السماء وجلستَ بيننا كواحدٍ منا، ولكن " وديعاً ومتواضعاً " ( متى 29:11).
   الكرسي الذي أجلس الآن عليه في غرفتي يذكّرني بكل ذلك، كما يذكّرني بجميع الذين يجلسون على كراسي الرحمة وليس كراس الحكم  من مُقعَدين ومشلولين وجرحى منتظرين ساعة الرحمة والفرج، وبجميع إخواني وأخواتي الجالسين والجالسات على مقاعد العمل في المصارف والدوائر والمعامل لكسب لقمة العيش، أو في المـدارس والكليات لتحصيل العلم، وبجميع المسنّيـن في دور العجزة الجالسين على أرائك طويلة ينتظرون خاتمة حياتهم المليئة بالآلام والأحزان. ويذكّرني أيضاً بجميع الذين لا يملكون سوى الحضيض لأجل الجلوس والرقاد، حيث أن الكرسي يُعتَبَر لهم بمثابة أثاث ترف وكماليات.
   إن تقديم كرسيٍّ إلى شخص للجلوس عليه يعتبر سمة من سمات حضارتنا المعاصرة واحترامنا الكبير ، ولكن المعنى المسيحي الكامل لهذا العمل البسيط يأخذ كامل دلالته في المحبة التي تجمع بين قلوب البشر الذين جلستَ معهم عندما تجسدتَ وأصبحتَ واحداً منهم (لو7:2)، فسكنتَ بينهم ولم تبالي بكراسيهم،  كما هو اليوم حال كبار دنيانا  ،  بل " بخلاص نفوسهم" ، وأخذت تعلمهم وتتحنن عليهم ، فشفيت مرضاهم وخطاياهم ،  ومنحتهم الثقة والمحبة ، فأخذوا  يفتشون عنك،  لانهم لم يعد يخافون منك لانك منهم ، فقد أحبوك فصاروا لك ، إنهم مؤمنيك " ( متى 13:13-14) لانهم ادركوا ان دنياك لا كرسي لها ولا مصلحة بل خدمة وتفانٍ ممزوجان بعصير الحب الالهي وليس الحب الاناني والشخصي ( لوقا 22:27) ، نعم يارب، نعم وآمين .


67
والخلائق تسبح بحمده " العاصفة"


نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   غالباً ما ينزلقُ الانسان وراء المسالك السهلة، ويميلُ إلى حلّ مشاكله بطريقة كسولة ومريحة. فالجمود يغويه أحياناً، أما الجهود فتُتعبه. إنه بين كفَّتَيْ أرجوحة، ما إنْ ترتفع به إحداهما برهةً وجيزة إلى الأعلى، حتى تهبط الكفّة الثانية نحو الأسفل فيستقرّ فيها ويتسمَّر. أما أنا لا يبـــــدو عليّ إنــــــــي يقــــــظٌ حتى عندما أكـــــون واقفــــــاً على قدمـــــيَّ. بيـــــــن أجفاني نسيجٌ من النعــــاس، وبيــــــن شفتــــــيَّ مـــــوجٌ مــــــن التثاؤبات، حتى أمــــــام أروع عجائب الدنيــــــا، أخـــــــالني فاقــــد الذهــــن وغيــــر منتبه جيداً. دمدمــــةُ الريح، خريـر الميــاه، وشوشة الحشـــرات، صمــــت الريـــــــف، جميــــــــع مخلوقاتكَ الفاتنة يا سيدي، لا تلقَ مني إلاّ أذنـــــاً صمّــاء، وعيناً غافية، وعقلاً خامداً.
   منذ أن دخلت الآلة حضارتنا، لم تعد طواحين الهواء ذات قيمة لسحق حبوبنا، ولا الأشرعة باتت ذات نفع لتعيين اتجاه الريح في تسيير بواخرنا. فالصواري والأشرعة المنتفخة بالهواء أصبحت من المخلّفات الأثرية، والطواحين ذات الأجنحة العملاقة الدائرة ليلاً ونهاراً اختفت تماماً من مدننا وأريافنا، بعد أن كانت تخلب الألباب بشاعريتها وجمالها. فما هو سرّ الزوابع والرياح؟.الرياح قبل أن تكون مقياساً في علم الأنواء الجوية، هي قشعريرة غصن يهتزّ وسط غابة عذراء. هي رجفة عصفور يختبئ في عشّ بين أجنحة أمّه. هي اصطفاق بابٍ لكوخٍ حقير في زمهرير الشتاء.
   لقد علَّمتَنا يا سيدي عندما كنتَ نائماً في قارب على بحيرة طبريّة (لو23:8)، أن غضب الريح المفاجئ سوف يقف جامداً بإشارة واحدة من"  إصبعكَ"( لوقا 20:11  ).   وعندما كانت الريح تلعلع في إحدى ليالي الشتاء، قلتَ لنيقوديموس:"لا أحد يعرف من أين تأتي الريح ولا إلى أين تذهب، وهكذا كل مَن يولد من الروح" ( يوحنا 8:3) . إن هذا الروح الذي تحدثتَ عنه هو الذي هزّ أركان " عليّة صهيون في صبيحة العنصرة" ( أع 2:2)، وهو الذي نفخ على سطح المياه في فجر الخليقة فخرجت اليابسة من قلب المحيطات الخاوية. أين أتلفَّتُ، أجد حضوركَ ماثلاً أمامنا يا سيدي، وحضوركَ هذا غالباً يُخجلنا ويحاول تحطيم معنوياتنا من فرط ما يكشف لنا الهوّة الهائلة التي تفصل بيننا.
   مخلوقٌ وخالق! شتّانٌ ما بين الثرى والثريا!. ومع هذا، فكلما سمعتُ صرير ريح خلال درفة باب غرفتي تعرّفتُ على صوتكَ يا سيدي!، فأخرُّ ساجداً لعبادتكَّ، ولكن سرعان ما يخامرني شكّ بأني أخلط بين العبادة والحلولية.
   لتكن حكمتكَ الإلهية حاميةً لنا من كل ضلال. إنكَ علّمتنا أن كل مخلوق هو طريق إلى الخالق، وإن التوقف في منتصف الطريق معناه الولوج في زقاق مسدود، وجنَّبْتَنا من الوقوع في الوهم الذي يدفع البعض إلى اعتبار الهوس الصوفي عبادةً حقيقية، أو اتخاذ الذهول الشاعري صلاةً. ومع ذلك فأنا لا أنكر ما للمخلوقات من دور هامّ في حضوركَ، وفي عملية الفداء.
   بيني وبينكَ يا سيدي لا توجد مسافة. بين الخالق والمخلوق لا توجد هوّة غير قابلة للردم . في نفخة الريح، في ارتطام الزوبعة، في"  هيجان العاصفة"(مرقس 4:35)  ، لا أتردد من العثور على جبروتكَ. عندما يلاطف وجهي النسيم، عندما تكتسح العواصف أوراق الأشجار وتكنس الرمال، أعلمُ جيداً أن العناية الإلهية هي التي تتجوّل في زوايا الكون، فأخرُّ ساجداً بصمت. أنا لا أسجد للريح أو للزوبعة، بل لكَ وحدكَ، أنتَ الذي تبرز من ثنايا الخليقة، ينبوعاً متدفقاً في دوّامة الكون، ومصدراً للوجود المتجدّد.
   لو سألتُ الريح عن سرّكَ الأزلي لأجابتني:"إني ألثم الثلوج في قمم الجبال كما ألثم أقدام الكنائس، وأنفخ في صواري السفن الشراعية، كما أعمل على دوران طواحين الهواء. إني أهبُّ شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً. أنا في الكل ومن أجل الكل، لم يستطع أحد أن يحتكرني حتى الآن بعكس البشر فهم يحتكرون أنفسهم بانانيتهم ، ولا توقِفني حدود الممالك والإمبراطوريات. لا أخاف ناطحات السحاب، ولكني أشفق على ساق زنبقة ضعيف قد يلتوي!. إني كالنعمة، أتسرب إلى النفوس الخاطئة من خلال فجوات ضيّقة غير مرئيّة، وأستغلّ البوابات الكبيرة لأملأ الفراغات الواسعة. الوثنيون كانوا قد صنعوا مني إلهاً، وعلماؤنا اليوم لا يجدون فيّ إلاّ "تيّاراً" لا اسم له، أو "شيئاً" لا ينسجم مع أي تعبير، وأنا لستُ مجبَراً على اختياري اسماً مشوَّهاً من بين أسماء صاغتها عقول بشرية ناقصة، خوفاً من أن أفقد كثيراً من الكنوز التي وضعها الله فيّ عندما خلقني" . صحيح إن البشر عقولهم ناقصة( مع اعتذاري ) ، بالإضافة إلى أنهم طرش وعميان.لذاأسألكَ يا سيدي أنْ تحميني خاصةً من عمى الألوان!، لأن ألوان مخلوقاتكَ بديعة زاهية، وصعبٌ عليّ التفريط بها!. هبني يا سيدي أن أراها دوماً بعينٍ صافية، فأشعر بالسعادة والغبطة، وأمجّدكَ من أجلها، فما أجملها رسالة الطبيعة ،  يا سيدي، يا إلهي، أنت فقط شهادتك صادقة "( يو 33:3) .نعم ونعم وآمين . 

68
الى الاخ العزيز MICHAEL CIPI  المحترم
سلام المسيح معك
ارجو ان تقبل تحياتي ومحبتي
انني اقدم لك شكري النابع من عمق فؤادي وانني اعتز بك واكن لك محبة واكراما خاصا وبعد
وتعليقك ما هو الا علامة محبتك للاخر المختلف ، نعم انني ادرك جيدا " ان الجنة والحشر العظيم " ليستا من ثقافتنا المسيحية ( كما قلتَ خطأ ، عذرا،  لغويا فالكلمة يجب ان تكون مؤنثة وليس مفردة كما قلتَ ) وادرك بالتمام والكمال ولكن لابد ان تسال نفسكَ كما سالتُ نفسي هل المقال يقرأه الذين من ثقافتك ام المقال مفتوح للجميع وأليس انت تؤمن  ان تكون يوما في الجنة بعد العمر الطويل وكما قال ربنا يسوع حينما يدعو اليه الابرار والاشرار للدينونة ( متى 25: 31) ؟ لذلك لا اريد ان اطيل الشرح واليوم انت لم تُخلق لنفسك ولشعبك ولايمانك انما خُلقت بمحبة لتزرع حب الاخرين وثقافتك ليست لك بل لغيرك ايضا وتظهر ايمانك . وامام هذا كله فانا اقول انني لبيب ومن الاشارة افهم جيدا ما كتبتُ قبل ان تقولها وتذكرني بها لذا ارجو ان كان بالامكان ان توسع افكارك لتوصل ايمانك وثقافتك الى الاخرين وكم صديق لك منهم فالايمان ليس بالكلام بل بالاعمال يقول مار يعقوب في رسالته( 14:2) . فارجو منك  ان تقبل اعتذاري وشكرا
محبك ابونا بيوس قاشا
بغداد الجريحة

69
والخلائق تسبح بحمده " جسد الانسان "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   الإنسان مركَّب من نفس وجسد( تك1) . جميع مدارسنا الفلسفية تعترف بذلك. إنها قضية منتهية منذ أجيال، ومن غير المناسب العودة دوماً إليها. ومع ذلك لا تـــــزال المشكلة الأزليـــــة الرهيبــــة تطرق أبــــواب العالم: كيف الموازنـــــة بين أعمال الــــروح وأعمـــــال الجسد؟، هـــــــذا الجسد الثقيل المهدَّل، بـأمراضه ونقائصه و"بعرقلته للتفكير المحض المجرَّد"، كما كان يقول أفلاطــون، مما دعـــــا العباقرة وجهابذة المفكريــــن إلى الخجل من كــل ما فيــــه من فظاظــــة وضعف. هذا الجسد الذي يصــــرخ وينـــــام، ويغطّ وينتحـــب ولا ينفكّ يُزعـــج هذه الروح اللطيفـــة التي قُدِّر لها الاتحاد به حتى الممات!.
   لقــــــد قــــال الفلاسفة كـــــــل هذا وأثبتوه وبنوا عليه أنظمـــةً صوفيـــة للترهّب والتنسّك. قالوا: إن الجسد هو عدو النفس ونقيضها، ولذا يجب الحذر منه ومعاملته باحتقار وقسوة. كم هو سهل الاستهزاء بالجسد البشري والضحك على مظهره وخشونته وغبائه، والاشمئزاز من بُنيَتِه التشريحية، ثم وضع قائمةً طويلة عريضة بجميع عِلَلِهِ وأورامه القبيحة وصفاته الغير المشرِّفة. ولكن هل في هذا الانتقاد القاسي للجسد شيء من روح الإنجيل؟، وهل كان الإيمان ضرورياً ليظهر لنا عيوب جسم الإنسان التي بإمكان أي وثني أن يُظهرها؟.
   ما أحوج الإنسان إلى القداسة ليكون أهلاً لاحترام جسده وامتلاكه بصورة لائقة، وأعتقد أن هذا الإنسان يستحق كل تقدير لأنه يعتبر جسده من صنع الله رغم تركيبه الحيواني، ورغم ما فيه من عيوب مضحكة وأمراض مزمنة، وكل ما يخدّش أفكارنا الرفيعة السامية وإلهاماتنا الروحية ومُثُلنا العليا.
   هذا الجسد الفاني، ببؤسه وبجميع احتياجاته وتعاسته، الذي يكدّ ليلاً ونهاراً لتحصيل لقمة العيش"  بعرق الجبين" ( تك 19:3) . هذا الجسد الذي كُتِبَ له العذاب على الأرض، هو أولاً وآخراً من صنع الله!. وفوق كل هذا، فإن النفس لا تستطيع أن تربح الجنة وحدها بدون هذا الجسد، لأن في الكيان البشري لا توجد تجزئة تفصل بين أعمال الجسد من جهة وبين أعمال الروح من جهة ثانية، بل هنالك تركيب متماسك ووفاق متين يجمع في آنٍ واحد في انسجام وتكامل ما بين أعمال الجسد وأعمال الروح.
   نحـن لسنا من الذين يدّعون أن الإنسان البارّ هو روحٌ محض، وإن الإنسان الشرير هو جسدٌ محض، لأن البشـر جميعهم سواسية لا يختلفون إلاّ في لونهم ولهجتهم، وجميع المؤمنين يملكون نفس العظم واللحم والدم. والكنيسة ما هي إلاّ مجموعة كبيرة من البشر يحملون أمراضهم وعفونتهم، خطاياهم وأوبئتهم على مناكبهم، ويتقرّبون من المسيح المصلوب ليتطهّروا به ويتقدّسوا. نحن في الكنيسة، لسنا فقط لأجل سماع الموسيقى الرخيمة والأنغام الملائكية العذبة، بل جئنا لنبحث عن مشاكل الإنسان منذ يوم طرده الله الآب من الجنة إلى يوم عالجه الله الابن بدفقة من دمه المهراق على الصليب... جئنا نعالج بؤسنا وضعفنا وتعاسة جسمنا المنهوك المحطَّم، وبدلاً من أن نحتقر جسدنا، علينا أن نرفعه إلى قمّة الصليب ليتعذّب ويتحمّل ويعرق، ويشترك في عملية الفداء مع المسيح.             
   فعملية الفداء إذن ليست تحطيم معنويات الجسد وإبراز النفس وكأنها تتفوق تفوقاً ساحقاً عليه، بل هي انسجام الروح مع الجسد، رفع الجسد إلى مستوى درجات سموّ الروح، من دون سيطرة الروح وطغيانها على الجسد، تجمعهما معاً إصبع الله الآب منذ أن كوّنهما معاً في يوم الخليقة الأول من حفنة تراب!. عندئذٍ سترتفع جميع الفضائل المسيحية الخاصة بالجسد كالقناعة والعفّة والحشمة إلى المستوى الصحيح واللائق بجسد مطهَّر بروح القدس، بدلاً من أتاركسيا الإغريق أو نيرفانا البوذيين.
   هذا هو " جسدكَ المعلَّـــــق  على الصليب يا سيدي"( يوحنا 31:19)  ، لقد كـــان شبيهاً بجســــدي. وجســــد والدتـــــكَ مريـــــم العذراء كان شبيهـــاً بجميع أجســـاد نساء العالم بكل ما تحتويـه الواقعية من علم الفسلجة والتشريح.
   وربما الأطباء والممرضــات في المستشفيــــــات يعلمــــــون أكثــــــر من غيرهــــــم من الموظفيــــــن قبحـــــة هذا الجسد الذي يعاني كثيراً من الأمراض والآلام والعذاب، والذي يحتلّ رغم ذلك الموقع الأعلى والمركز الأسمى في المجتمع الإنساني.
   وقديماً كان المسيحيون الأوائل يتبارون في ادّخار بقايا أجساد القديسين من عظام وأسنان وقطع صغيرة من مفاصلهم، كانوا يحتفظون بها في علبٍ صغيرة مقدسة، يتبرّكون بها عند الشدائد والملمّات أو عند الشعور بالضيق.
   واأسفاً! لقد تبعثرت بقايا القديسين تلك، ولم يبقَ لنا منها سوى انتظار يوم الحشر العظيم، " عندما يقوم الأموات من قبورهم بالنفس والجسد" ( رومية 17:8)، بكيانهم الموحَّد كله، بهذا الجسد الذي تعب وتعذّب، شَقِيَ وجاهدَ كثيراً على الأرض، وينتظر الآن " المجد السماوي بصحبة روحه الخالدة!." ( متى 3:22) نعم وآمين .


70
والخلائق تسبح بحمده " مائدة الطعام   "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   هنالك خطأ جسيم يتربّص بالمسيحي الذي يعتبر الأسرار مسائل تحتاج إلى حلول. وإن العقائد هي تعاليم تحتاج إلى دراسة وفهم، لأن العقائد الإيمانية هي أكثر من تعاليم، إنها حقائق، ولأن الأسرار الإلهية هي أكثر من مسائل، إنها انجذاب وانخطاف. المسائل والتعاليم هي أفكار مؤطَّرة تنتهي بنهاية فهمنا لها أو حلّها، بينما العقائد والأسرار الإلهية هي ينابيع حقائق تتدفق بدون حدود، ولا تنضب أبداً. ولكي لا تنحدر الأسرار إلى مسائل والعقيدة إلى تعليم يجب ألاّ يتحول (أستغفر ربي) الله إلى صنم تشّع منه الأحاجي والخرافات، وألاّ يُسجَن الوحي داخل أقفاص صِبَغنا الفلسفية البائسة.
   لأجل حثّنا على الإيمان قيل لنا أن ملكوت السماء هو الرؤية الأبدية لجوهر الله،( متى 20:5) وإننا من خلال جوهر الله سوف يمكننا أن نشاهد ما لا نهاية من الكينونات الممكن حدوثها، وهذا ما سوف يكون موضوع سعادتنا إلى الأبد. إنها لنظرية محبوكة جيداً وصحيحة مئة بالمئة رغم صعوبتها، غير إنني أتساءل: لماذا أنا أمكث جامداً إزاءَها غير مكترث بها، لاسيما عندما أسمعكَ يا سيدي تشبّه ملكوت السماء بمائدة كبيرة للطعام"وياتي من المشرق والمغرب" ( لو 29:13) و   هنالك مَثَل قديم يقول:"لا أحد يرغب ما لا يعرف، وكلما ازدادت معرفتنا لشيء من الأشياء، كلما ازددنا شوقاً وميلاً له".
   ومَن منا لا يعرف لذّة الطعام والغبطة التي يشعر بها وهو جالس برفقة أصحابه على مائدة الطعام؟. أما بصدد الجوهر والكينونات الممكنة فأنا لم أصادف في حياتي جوهراً ولا مررتُ بكينونات محتَمَل حصولها!. وهل يُعقَل أن يتوب إنسان إلى ربّه وينخرط في المسلك القويم ويبذل جهوداً مضنية لنيل ملكوت السماء( متى 1:20)  )  لا لشيء إلاّ لرؤية أعداداً متزايدة من جواهر الكينونات الممكنة على مدى الأبدية؟؟... هذا يشبه الفرق بين ما يعلنه مركز الإرصاد الجوي عن شؤون الشمس في الساعة الخامسة صباحاً، وبين ما يتغنّى به شاعر رومانتيكي عن روعة انبلاج الفجر.   عندما نكون جالسين جميعاً على مائدة كبيرة ونحن نشرب نخب الله الآب ونتسامر مع بعضنا كأصدقاء، هذا هو الفجر، وهو شبيهٌ بالفجر الأول عندما خلق الله أول نهار وأول إنسان في الكون!.(تك 1). إن المائدة المقدسة حيث يجلس الأبرار بصحبة الله تتجاوز جميع نظريات اللاهوت عن الجوهر والكينونة، كما يتجاوز فجر الخليقة الأول جميع أرقام المراصد الجوية وحساباتها عند إعلانها توقيت طلوع الشمس.
   إن المدعوّين إلى مائدتكَ الإلهية يا سيدي، " يجلسون حولكَ" ( متى 28:19)، ويأكلون جسدكَ الذي فديتَ به العالم، ويتحدثون معكَ بكل بساطة وسذاجة بعيداً عن التعقيدات والأفكار الغامضة وعن جميع فلسفات الأونطولوجيا!. والروح مثل موسيقى عذبة تناغينا وتتركنا مغمورين في عمق أسراركَ عندما نجلس معاً على مائدتكَ المقدسة وكأننا عائلة واحدة، وأنتَ بعيد عن جلال عرشكَ، لأنه هل من المعقول أن تحتفظ بعرشكَ وأنتَ بين أحبابكَ وأخدانكَ؟.
   في مائدتكَ المقدسة حينما باركتَ الخبز وقلتَ:"هذا هو جسدي" (متى26:26)، وباركتَ الخمر وقلتَ:"هذا هو دمي" (متى27:26)، أكان هنالك حاجز يفصل بين الله والإنسان؟!، ألم تصبح قريباً من متناولنا وكأنك تشير لنا بما سوف تكون وليمة السماء؟. السماء ليست صالة سينما، بل صالة طعام. في صالة السينما تكون بين الجالسين مقاعد فارغة والجالسون أنفسهم غريبون عن بعضهم ولا يتحدثون، كما هو حالنا اليوم بسبب وباء كورونا، بل ينظرون فقط نحو الأمام ليشاهدوا الصور المتحركة على الشاشة. أما في قاعة الطعام فإن الأنظار تتصالب، والأسئلة تتشابك، والفكاهات تتبادل، والفرح يعمّ جميع المدعوّين.
   سماؤكَ يا سيدي هو دار ضيافة، قاعة طعام، ووليمة عيد. تبّاً لنا إذا لم نستطِعْ أن نضع في صيغة فلسفية مناسبة بساطة هذا السرّ الإلهي، لأنه صعب على العقل أن يشرح ما هي الأعياد، فهو يترجمها على أنها حفلات محتشمة، لكن هذه الترجمة البائسة تفتقر إلى الجانب المهم من فرح الأعياد الذي هو روحها ورحيقها.
   يا سيدي، إني أفضّل أسلوبكَ الفلكلوري البسيط على جميع فلسفات الأرض، فأرى جميع القديسين مصطفّين أمامي في وليمتكَ الكبرى، وفي مقدمتهم مريم العذراء، ثم بطرس الرسول والمفاتيح ترنّ بين أصابعه، وزكّا بقامته القصيرة، ولعازر وهو يخرج من القبر بأكفانه البيضاء مترنّحاً. هنا لا جوع ولا تعب، لا موت ولا عطش. فمائدة الطعام هي العهد الذي أبْرَمتَه مع مدعوّيكَ منذ الأزل، مدعويك المتواضعين والمخلصين والاطهار ، ويشترك فيها جميع البشر، الفقراء والاغنياء ، القريبين والبعيدين ، وشرفنا هو أنكَ دعوتَنا إلى مائدتكَ مجاناً. بكلامك المحي وقولك المحب في أنجيلك المقدس، وليس عبر حاسوب الدنيا ، وموبايل الزمن وآي بات الحياة والتي ترافقنا ومن المؤسف ، منذ الصباح وفي القيلولة كما ساعة النوم بعد منتصفها ،  واليوم ومنذ عرس قانا، منذ سمعان الأبرص في بيت عنيا، منذ عليّة صهيون وحتى تلميذَي عمّاوس... وحتى يومنا هذا أيضاً لا زلتَ تشير لنا يا سيدي أن مائدة الطعام ليست إلاّ رمزاً لملكوت السماء!.(متى 28:19 ) . نعم وامين .

71
والخلائق تسبح بحمده " الفلس   "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   طالما ناقش اللاهوتيون موضوع الفضائل، واحتاروا كيف يصنّفونها. إضافةً إلى صعوبة ممارستها، فقد حمّلوا أنفسهم جهداً مضنياً في طريقة تعريفها. فضيلة التواضع مثلاً، لم يتّفق اللاهوتيون حتى الآن على تعريفها تعريفاً دقيقاً وصحيحاً. فبعض المدارس اللاهوتية تقول: إن فضيلة التواضع هي أن يكوّن الإنسان فكرةً بائسةً عن نفسه. أن يتلذّذ في إذلالها وتعذيبها وتحقيرها وأنْ يفرح عندما يُسيء الناس إليها.
   وفريق آخر من اللاهوتيين يعلن: إن فضيلة التواضع هي أنْ يزن الإنسان جميع الأشياء في ميزان عادلة هي شخصه هو بالذات، وحذارِ أن يَهبَ لنفسه قيمـــةً أكثر مما تستحق ولا أقلّ مما تستحق. وفريق ثالث يرى: إن فضيلة التواضع لا تتعدّى أنْ تكون أنفةً وكبرياءً، تمنع الإنسان من هضم حقوق نفسه والتشكيك في قدراتها أو احتقارها.
   وبيـن هذا الفريق وذاك، أنّى لي يا سيدي أن أختار التعليم الصحيح؟؟، وأكتفي فقط بالنظر إلى قطعة نقود معدنية شبيهة في الشكل والحجم بتلك التي جاءكَ بها اليهود يوماً ما ليجرّبوكَ "وهي تحمل صورة قيصر" ( متى 18:22) . لربما كانت من فئة الدينار أو الربع دينار، أو ربما كانت من فئة الفلس فقط!، لا أحد يعلم. والأناجيل لم تذكر لنا ذلك، وقد اختفت جميعها من تداولاتنا وأصبحت مجرد هواية لجامعي المسكوكات القديمة. فالنقود المعدنية! منذ أجيال وهي تدور بين أيدي البشر، واليوم بمقدور الأوراق المالية والصكوك والكمبيالات أن تحلّ محلّها أو تبادلها قيمتها. أما قيمتها فهذا أمر لا يتعلق برأيها هي، بل قيمتها موجودة فيها منذ أن وُجِدَتْ يمكن للمرء أن يكوّن عن نفسه فكرة رفيعة أم حقيرة، ولكن هذا لا يؤثّر في سلوكه ولا يدفعه إلى الصلاح. فكم من أناس حطّمـوا معنويات أنفسهم لغرض تدريبها على التواضـع، ولكنهم احتاجوا إلى مَن يعيد الثقـة إلى أنفسهم من أجل مواصلة سيرهم في الحياة، وآخرون رفعوا أنفسهم أكـثر مما ينبغي فبدت فضائلهم الحقيقية منفّرة وعبئاً على الآخرين، .لانّ حقيقتهم مصالحهم فشوّهوا افكارهم مجاناً بسبب سماعهم اكاذيب عن الابرياء.
   يا رب! أليست فضيلة التواضع هي أن تكون قيمتي الذاتية الحقيقية ثابتة منذ أن خلقتَني؟. لقد قال سقراط:"أعرفْ نفسَكَ!". أفما يجدر بالمسيحيين أن يعرفوكَ أنتَ، ومن خلالكَ يعرفوا أنفسهم؟!. إنّ ما أُساويه أنا بالضبط، لا علم لي به مطلقاً. والناس أيضاً مثلي جَهَلَة، فهم يهنّئونني أحياناً على أعمال قمتُ بها ولكني غير راضٍ عنها، وأحياناً ينقدونني على أعمال أخرى كنتُ أعتبرها من أعظم الفضائل. إن قطعة النقود المعدنية لا تملك رأياً عن نفسها. فالفلس لا يساوي أكثر من فلس لأنه يملك فكرةً جيدة عن نفسه، ولا الدينار يساوي أقل من دينار لأنه يملك فكرةً سيّئةً عن نفسه، وجميع الفلوس رغم حقارتها هي ضرورية للتداول من أجل حسم الحسابات بشكل دقيق ومضبوط.
   ما هي إذن قيمتنا الحقيقية؟، هل إن رأينا عن أنفسنا أو ما يقوله جالسو قصورنا هو الذي يرينا قيمتنا الحقيقية؟، هل الفلس يرفع من قيمة نفسه عندما يعتقد أنه مصنوع من الذهب؟، منذ يوم صِيْغَ الفلس في آلة المسكوكات طبقاً للمواصفات المطلوبة، جمدتْ قيمته وثبتتْ إلى الأبد. والإيمان يقول لنا: منذ خلقْتَنا على" صورتكَ" ( تك1) ، ودمغتَنا بخاتم ثالوثكَ في سرّ "المعمودية" ( متى 19:28)، أصبحنا مؤهلين للتداول بين كافة البشر، مثل قطعة النقود، بدون زيادة أو نقصان، ومهمّتنا على الأرض ليست في معرفة أو التأكد من قيمتنا الذاتية، بل بكل بساطة أن نتفانى في " خدمتكَ" (لوقا 28:22)  وليس أن ندين ابرياءنا .
   إني أحب " التواضع" ( متى 29:11) وعلى مثالك ، فهو ينتشلني من الشطط في تقييم ذاتي، هذا الشطط الذي يُتعبني أكثر مما يُفيدني.كما أحب التواضع الذي يحرّرني من الانشغال المستمر في تقييم أثماني وكأني سلعة في سوق المزاد . أنا لستُ إلاّ فلساً يدور ويضيع بين الجماهير، ولا يجد قيمته الحقيقية إلاّ في سجلات الحسابات الأبدية" ( يو 16:3) ،والشهادة لحقيقة الحياة  حيث تتمّ الموازنة الحقيقية بين أعمالي وبين نِعَمِكَ المجانية يا سيدي على كفَّتَي ميزانكَ الإلهية في عمليَّتَيْن متلاحمتَيْن تجمعهما محبّتكَ المتدفّقة بغير حدود ولا ثمن " إنه حب عظيم" ( يو 34:13) . نعم وامين.

72
والخلائق تسبح بحمده " الكتاب "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   كلنا يعلم، وكذلك أطفالنا يعلمون، أنكَ يا سيدي مصدر جميع الأشياء في الوجود. فالزوبعة والصاعقة مثلاً تأتيان منكَ من السماء مباشرةً. ولكن هذه الكلمة وتلك الركلة، وهذه القنبلة وذلك الصاروخ، أليس الإنسان هو مصدرها وعلّتها؟؟!. وجميع أعمالنا البشرية وابتكاراتنا، أليست دلالات ضعفنا وتفاهة مشاريعنا وآمالنا الخائبة؟!. ومع ذلك، فإني أجد أن لهذه الأعمال البشرية دلالات متصلة بحكمة الله الربانية بشكل غريب. ولتبيان ذلك، قبضتُ اليـوم على كتاب لا لقراءته بل ليكـون وسيلةً لربط حكمة الباري بدور الكتاب.
   إن البشر هم الذيـن اخترعوا الكتاب، وهم الذين يكتبون ويؤلفون ومنهم تلميذك يوحنا فقد كتب بصدد بشارتك " " فلست اظن ان العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة " ( يو 21: 24-25)، واما انت يا سيدي، " كنتَ قد كتبتَ على الأرض بإصبعكَ"( يو 6:8)  رموزاً لم يفلح علماء الآثار منذ عشرين قرناً حتى اليوم في اكتشاف معانيها وحلّ رموزها. وكانت هنالك أيضاً الألواح الحجرية التي كتب الله عليها بإصبعه وصاياه العشر في سيناء، وفي سفر الؤيا " طوبى للذي يكتب وللذين يسمعون اقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها " ( 3:1). ومع هذا فلا زلنا ندّعي أن الكتابة هي من اختراع البشر.
   إن الكتب تنتشر اليوم في جميع أصقاع الأرض بشكل فظيع، وهي بأحجام وأغلفة ومواضيع مختلفة: فمنها القواميس، ومنها الكتب الدينية والعلمية والفلسفية والأدبية، وكتب الصلوات. ومنها ما هو ثمين ونادر جداً، ومنها ما هو نجس مبتَذَل، ولا يباع إلاّ على الأرصفة. لقد رأيـتُ وقرأتُ كتباً كثيـرة، ودخلتُ مكتبات عديدة تغصّ رفوفها بملايين الكتب والمجلّدات. وغالباً ما كنتُ أنظر إلى الكتب بعين الفضولي الوثني كَمَن يستجدي منها الحقائق النهائية والخالصة والمطلقة. وغاب عن بالي أن هنالك الكتب المقدسة التي هي من وحي الله، والتي وحدها تحتوي على الحقائق النهائية والخالصة والمطلقة. ونسيتُ أيضاً أن هنالك كتاب سفر الرؤيا المختوم بسبعة أختام والذي سوف لن يُفتَح إلاّ في يوم الدينونة العظيم. وقد قرأت إن هنالك كتاباً آخر كان قد أكله أحد أنبياء العهد القديم، فأخذ ينتحب ويبكي لِما سبّبه من المرارة في أعماق أحشاءه.
   إلى جانب هذه الكتب المقدسة، توجد كتب الكفر والإلحاد، وكتب متميّعة أخلاقياً وأخرى خلاعية داعرة، وهنالك أيضاً روايات الجرائم والدسائس والقرصنة. ولكن مهما فعل البشر لتلطيخ سمعة الكتاب وتدنسيه، فإني لا أزال أحتفظ بجلاله وقدسيّته، لأنني بواسطته استقيتُ أصول الدين والأخلاق منذ صغري، وتعلّمتُ القراءة والكتابة منذ نعومة أظفاري، وبه أدركتُ التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل منذ حداثتي. فضلاً عن أنه خير صديق وجليس لي في دنيا الحياة. ولولا الكتاب لما تعرّفتُ على مفكّرين وعباقرة عظام خدموا الإنسانية بعلمهم وتجاربهم في أزمنة وأمكنة مختلفة.
   فبمجرّد إنني أفتح كتاباً قديماً وأتصفّحه، فإني سوف أعيش حياة كاتبه التي تختلف زماناً ومكاناً عن حياتي الخاصة التي أعيشها الآن وفي هذا المكان، وهذا سوف يُغني تجربتي ومعرفتي كمّاً ونوعاً. فالطباعـة إذن، كما كان يقال سابقاً، هي "فن إلهي"، وهذا ما دفع البعض إلى الاعتقـاد أن نشر الدين والعلم والأخلاق بين الناس أمرٌ هيّن، لا يتطلّب إلاّ الطباعة دون اللجوء إلى معلّمين ومعتلي المنابر والبلاغات وخطباء ومرشديـن. ورغم هذا فإني أقدّس الكتاب، لأن الإنجيل أيضاً هو كتاب، ولكن كتاباً للحياة ، بل هو أعظم كتاب، فيه أعطيتَ تعاليم وحقائق ، " مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ، ويوصي ملائكته بكَ وأعظمها لا تجرب الرب الهك " ( متى 4: 4-7)  وليس للقراءة فقط . ونحن المسيحيون نُدعى "أهل الكتاب". كما إني لا أفرّط في الطباعة لأنها ساهمت كثيراً في انتشار بشارة الإنجيل على سطح الأرض.واختم واقرأ ماكتبه يوحنا تلميذك " ها أنا آتي سريعا ، طوبى لمن يحفظ أقوال نبوءة هذا الكتاب "( رؤ 7:22). فلنؤمن أن الكتابة علمٌ وفهمٌ وحكمةٌ ونعمةٌ وموهبة من الروح وأتألم أن هناك من يقرأ ولا يكتب وربما لا يقرأ ولا يكتب ولا يترك أثراً ، وأنني تربيتُ على أن الحياة ليست لهواً بل رسالةً ، إنها رسالة  الكتاب ، إنها حقيقة الحياة، إنها مجانية من الله " ( متى 8:1) . نعم وآمين .

73
كورونا ... وحقيقة وجودنا
المونسنيور د . بيوس قاشا
من المؤكَّد إننا نعيش في عالم تغيّرت فيه كل المفاهيم، وبسبب اللامبالاة والأنانية والكراهية والخوف من الآخر أصبحنا نُعدّ أرضنا أرض العذاب والألم بدل أن نُعدّها أرض الحلم المنشود والتعايش المقبول. وأصبحت أخبار الموت تُنقَل إلينا من كل مكان في العالم يرافقها شعور بالندم والحسرة بسبب تلوث العلاقات البشرية ببعضهم البعض، وعزلتهم في بحر الظلمات واليأس، وأصبحنا نعيش ونعلّم تعاليم غريبة بل عجيبة ومفادها: أن لا مكان لله في عالمنا وفي أوساطنا، وإذا ما كان هناك مَن يدافع عن الإيمان والأخلاق وكشف حقائق الحياة في مسيرة الدنيا يُصبح ذلك الإنسان عرضة للضحك والاستهزاء والإتّهام بالرجعية والتخلّف والتشاؤم وربما بالفاسد من كبار الدنيا وصغار الزمن . وإذا ما أعلن الإنسان أن بشارة اللامبالاة بالدين والعيش بملذات الحياة ما هي إلا رسالة بائسة، يتّهمونه ويعنّفونه قائلين إنه شخص لا يعرف ما هو التجدد وعيش الزمن العلمي المتقدم.
وهنا أسأل: هل التجدد هو بنكران حقيقة عيش الإيمان أو تقليص الصلاة؟، فقد قال مراراً قداسة البابا فرنسيس: من المؤسف إن عالمنا يتجه نحو "جعل لا مكانة لله". فعالمنا مخيف وخطر بظروفه العصيبة، حيث أصبح فيه السؤال عن الدين منبوذاً ومُخجلاً وليس بالإمكان أن يقف الانسان بكامل جرأته مواجهاً حقيقة الإيمان في هذه الظروف الخطرة، باقياً متمسكاً بحالته المزرية بسبب خطواته الشريرة والتي يعتبرها حقيقة العيش وتجديد أُسس الحياة.
واليوم،لازلنا نواصل السير،  وبسبب كورونا، نسير في أرض غريبة وعلى مسارات جديدة لم نعهدها من قبل، ولم نُهيِأ لهذه المسيرة الفيروسية لا عقلَنا ولا علمَنا ولا سياستَنا بل كبرياءَنا ومصالحَنا، وجعلناه زمناً للتبشير بحقيقة وجودِنا ومنصبِ زعامتِنا وربحِ سياساتنا. فما نحتاج إليه ليس فقط أن نفتح عيونَنا لنرى حقيقةَ الإختراع وندرك وما هي حقيقةَ الصراعات والحروب، وكذلك ليس فقط أن نفتح آذاننا لكي نسمع طلبات واستنكارات وبيانات كبار الزمن والدنيا والإعلام البائس، لكن الأهم أن نفتح قلوبنا وضمائرنا وآذان وجداننا فنسمع صراخ الأرملة وهي تستعطي قوتاً لأيتامها(لوقا 12:7) ، ودعاءالبائس والفقير لعازر ( لوقا 20:16) يتأوه من أجل لقمة تسدّ رمق عائلته،وكذلك صراخات المتألمين والابرياء المظلومين بسبب مصالح الزمن ، وكما قال البابا فرنسيس "إنها صرخة الشعب المخفية".
فما نحتاج إليه ليس فقط تحمّل المسؤولية عبر إعطاء الأوامر للآخرين كي يكونوا منفذين مسيرة المصالح من درهم الفساد، فلنعلم أن الزمن مُتعِب والفيروس  مرعب والمسؤولية ليست إلا في الخدمة عبر علامات الحب معنوية كانت أم إنسانية أم اجتماعية، لأن الحفاظ على كياننا ووجودنا لا يعني الحفاظ على أنفسنا بل يجب أن يكون الحفاظ على الآخر والاخر المختلف سوية، ليتعلم ويسترشد ويؤمن إننا نتقاسم سوية أوكسجين الهواء وإنسانية الخلق ونبتات الأرض ونِعَم السماء، وإنْ كان الإختلاف حالة كل فرد وقدراته. من هنا تكون رسالتنا في أن نمحو من البشرية المبتلاة بوباء الكورونا مشاعر الحزن والعنف والقلق والغضب وضياع صوت الله، وقبل ذلك نهيئ قلوبنا للمسيح الذي أحبنا فهو لم يأتِ لنفسه بل ليكمل " مخطط الله"(غلا 4:4) فقال"ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (متى17:5) ويرفعنا من دنس الخطيئة، أبرصاً كان أم أعمى أم أعرجاً أم ميتاً، وحقيقة الإيمان تكمن في قوله "مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا" (يو25:11)، وكم أتذكر هنا احتضان البابا فرنسيس لمرضى عديدين وبامراض معدية مصابين، وكان الرب له حامياً.
لنتذكر دائماً أننا ضيوف على هذه الأرض، وبأننا لسنا محور الحياة، وما نعطيه لا يساوي حريتنا وحقيقة إيماننا وكرامة إنسانيتنا. فعندما نتذكر مواقفنا الإيجابية بإنسانيتنا نعبرُ من ذواتنا إلى حب ألآخر بعيداً عن نرجسيتنا وحبنا لمتاع الدنيا على حساب الآخرين.
قد تنجو أيها الإنسان من فيروس كورونا بأخذ الإحتياطات اللازمة، ولكن لن تجد راحة الضمير إذا لم يكن لك إرادة قوية تعترف بأخطائك وتكون مستعداً لأن تعترف بجميع أفكارك الدنيئة وأعمالك المحسوبة للتخلص من أورام النفاق والخداع والإنتهازية، وهذه ليس من المستحيل التخلص منها إذا عزم الإنسان قبل اللقاء مع الرفيق الأعلى.لذا، إجعل مكانك مع الحق حتى وإنْ كانت السلطة صاحبة الكلمة، عليك أن تتذكر ربنا يسوع وقوله "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مر36:8). فعلى الانسان ان يكون صادقاً مع نفسه، مع الآخرين، مع صغائر إيمانه، فإذا كان صادقاً مع نفسه سيكون صادقاً مع غيره، ولا يجوز التعامل من أجل إرضاءالإنسان،فأين مكانة الله ؟ فاعطِ صوتك لنصرة المظلوم مهما كان ذلك، واشهد من أجل الحق وكرامة الإنسان، ولا تصلب الحياة بعلمك أو بدونه، ففي لحظات يزول كل شيء، إنها رسالة إيماننا، وأعلم أن المسيح أحبنا حتى الموت وبموته أعطى الحياة." فيه كانت الحياة " ( يو 4:1) ، والحياة ما هي الا حقيقة وجودنا . نعم وامين


74
والخلائق تسبح بحمده " الصخر  "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   حيثما تتعثر حكمتنا الناقصة بازدواجية الكلام، وضعتَ يا سيدي كثيراً من الحقائق الغير المتوقعة في طريقنا.
   وجواباً لسؤالك يا سيدي ، عندما دعاكَ مار بطرس باسمكَ الحقيقي "ابن الله الحي" (متى16:16)، أجبتَه بأنه الصخر (متى18:16)، وعزمتَ أن تبني كنيستكَ على " صخرة" (متى 18:16)عليه هو ،  وجعلتَه نائباً لك ، ولكنكَ أبقيتَ على اسمه كما كان في اللغة الآرامية وهو "الصفا" . وفي قاموس المنجد ، الصفا: جمع الصفاة! لقب بطرس رأس الرسل (والكلمة سريانية معناها الصخرة). وفي المنجد أيضاً: الصخر معناه الحجر العظيم الصلب! يقال:"فلانٌ صخرة" أي ثابت لا يتزعزع ، ولكن بعض المناظرات البشرية حاولت إقحام نفسها في تفسير العلاقة بين الصخرة والرئاسة من جهة وبين فضيلة الطاعة من جهة أخرى.
   دعني يا سيدي أنظر فقط إلى صخرةٍ ما، بكل بساطتها، ومهما كان حجمها وشكلها. إنها توحي إليّ بثبوت الصلابة والجمود، فلا شيء يتحرك فيها. وأسهل ما في الكائنات هو عدم حركتها، ومن بين جميع الفضائل، أسهلها الطاعة العمياء لأنها شبيهة بالصخرة الصمّاء التي لا تتحرك. في صميم الطاعة يوجد نوع من الراحة والطمأنينة والاعتماد على الغير وعدم التعرّض للمسؤولية. كما في الطاعة يوجد نوع من الاستسلام والرضى، نوع من التنازل والاعتزال كما هو الحال في العسكر "نفّذ ثم ناقش " يعني الطاعة اولاً ، ويقول عامة الناس:"ما لَنا والرئاسة؟ حسبنا الطاعة! أصدروا لنا أوامركم ونحن ننفّذها بحذافيرها! وهذا ما يضمن لنا راحة البال. جمّدونا في وصاياكم وقوانينكم، وما علينا نحن إلاّ أنْ نطبّقها إذا أردتم أن تنقذوننا من هذا الجدل المتعِب الذي يضايقنا بثرثرته وانتقاداته الكثيرة التي لا طائل تحتها".
   هنالك طاعة تستمتع بسعادة عزلتها مثل آلة تدور وتنجز أعمالها بدون شعور ولا تفكير. إن نوعاً من الكسل الروحي يطال حتى أعلى مراتب فضائلنا عندما يأخــذ شكل الاعتزال، ونحن نعتبره واهمين أنه نوع من التجرّد أو الزهــد. إن مثل هذه الطاعة تشبه أيضاً نوعاً من التعب الروحي أو الملل، لأننا نريد من غيرنا أن يتحمّل المسؤولية بدلاً عنا، فيأمرنا ونحن فقط نطيع، وبذلك نهبط إلى مستوى الإتّكالية. فنحن لا نريد السلطة، بل نريد زعيماً يتولّى عنا تدبير أمورنا، ويحلّ بدلاً منا مشاكلنا، ويقرر توجّهاتنا، وينقذنا من أعباء المسؤولية. فالطاعة الحقيقية إذن ليست في الخضوع أو الخنوع، بل هي تدفق الإرادة نحو العطاء بحرارة ومحبة وحماس والشهادة للحقيقة الامينة " أنت المسيح أبن الله  الحي " ( متى 16:16) .
   حنانيكَ يا الله!، فقد تأخذ الطاعة أيضاً شكل الهزيمة والاستسلام. إن الشعوب المتعَبة والمغلوبة على أمرها، أيضاً تلقي مقاليدها ومقاديرها بين أيدي الطغاة المستبدّين!. لربما ذلك أهون الشرَّيْن، إذا كان الشرّ الأكبر في نظرها هو مجابهة مشاكل الحياة التي فوق طاقتها. ومع ذلك يا سيدي، فإن الفضيلة كانت وما تزال أبداً وليدة المحبة والمغامرة والعطاء، وليست ثمرة التدابير البشرية أو آلية الحاسوب.
   إن الصخرة التي اتّخذتَها أساساً للكنيسة، هذه حجر الزاوية التي يستند عليها البناء الشامخ كله هو " راس الزاوية حسب قولك " ( متى 42:21 ) ، ليست في حقيقة الأمر إلاّ طاعة تمتصّ زخم البناء كله وتسيطر على توازنه. هذه الصخرة الغير المتحركة، المدفونة في أعماق الأساسات، والتي لا تستطيع أنْ تغيّر مكانها أبداً، ولا أن تصنع ما يحلو لها، ولا أن تقوم بأعمال باهرة، ولا أن تحتلّ مكانة الصدارة أمام أنظار الناس، والتي لا تجد مجدها وعظمتها إلاّ في الاختفاء وهي ممدودة كأنها داخل مقبرة، هي الأساس الذي يربط ما بين السلطة والطاعة، لأن كل زعامة في هذا العالم هي خدمة والتزام، وكل طاعة هي تعاون وتآزر. مهما كان دورنا على الأرض، علينا جميعاً أن نخدمَ  كلٌّ من موقعه، ومن كل قلبه وطاقته. فالطاعة إذن هي إخلاص في العمل قبل أن تكون خضوعاً،  والمتقدم هو من كان في " خدمة للآخرين"(لوقا 26:22 ) . فقد قلت يا سيدي" انا بينكم مثل الذي يخدم" ( لوقا 27:22) ،  قبل أن يكون استعلاءً وسيطرةً ومصلحةً وكبرياءً وأنانية. فالتعاون إذن يربط بين الرئيس والمرؤوسبين، بين المتقدم والخدام ، في انسجام تام، وليس تدمير المرؤوسين أو الخدام بسبب نيّات ومصالح  وغايات المقتدرين  وكبار الدنيا والزمن . فحجر الزاوية داخل أساسات البناء لا تستطيع أن تمنع انهيار البناء بمفردها، ما لم تساندها أجزاء البناء الأخرى، وتساند الأجزاء بعضها بعضاً .لذا يجب أن يهتم الجميع بالخير المشترك، وإلاّ فقد المجتمع توازنه. فلا شيء يهدم المجتمعات البشرية أكثر من الانعزالية الجبانة، حيث يتهرّب كل فرد من الدور الذي عُهِدَ إليه للقيام به بكل رضى والتزام.
   نعم ، آه يا سيدي، إن الطاعة الحقيقية ليست عبودية، ألستَ أنتَ الذي علّمتنا هذا السبيل حينما ناجيتَ الله الآب "لتكن مشيئتكَ" (متى10:6)، فكانت الكلمة بسموّ معناها بل طاعة فائقة الإدراك، لأنكَ علّمتَنا ان نقول الحق بكل صراحة" لانك الطريق والحق والحياة " (يو 6:14) ،علمتنا أنْ لا فرق بين عظيم وحقير، ولا بين " كبير وصغير" ( لوقا 24:22) ، ولا بين " سيد وعبد" ( لو 25:22) ، ولا بين " متقدم وخادم" ( لو26:22) ، فهناك أسياد يُطلقون على أنفسهم بأنهم حقراء في تواقيعهم، وما هذه إلا علامة التواضع لله والطاعة له، " فهو الكبير، العظيم والسيد" ( يو 12:13). إنها قمة التواضع والطاعة والمحبة وحقيقة الوجود، فالذي يأمر هو مثل الذي يطيع، كلاهما سواسيةً أمام نظرك يا " خالق الأكوان" ( يو 16:13)، والسّيد الديّان" ( رو 6:3 ) ، وهذا إيماني . نعم يا سيدي ، نعم وامين .

75
والخلائق تسبح بحمده " القلم "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   غريبٌ أمر قلمي!، فهو أصمّ أخرس، أُمّيٌّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة أو الحساب، ويجهل الإنكليزية والفرنسية وجميع اللغات الاوربية  كل الجهل، ولا يميّز بين الشعر والنثر، ولا يعرف معنىً للرموز الكيميائية، أما المعادلات الجبرية والأشكال الهندسية فإنه لا يفهم منها شيئاً مطلقاً. وهو، فضلاً عن ذلك، لا يتفاهـم، فكيف الوثوق به؟، وكيف أُسِرُّ له بجميع أسراري وهواجسي وأفكاري، وأبوح له بمكنونات قلبي ليدوّنها؟؟. وعندما أفكّر مليّاً في هذا الأمر، أجد أن قلمي لا يُسدي لي خدماته الجليلة إلاّ لكونه أُمّيّ وعديم الفهم.فلو كان قلمي يملك لغةً خاصة وأبجديةً خــاصة وأفكاراً خاصة به، لأصبحت الكتابة به حرباً سجالاً، والتفاهم مستحيلاً، ولكان الجدال بيني وبينه أبدياً ومضيعةً للوقت.
   عندما أريد أن أكتب بالعربية، يتّجه قلمي من اليمين إلى اليسار. أريد الآن الكتابة بالإنكليزية فإذا بقلمي يتّجه من اليسار إلى اليمين مبتدئاً بالصفحة الأخيرة. عندما أضعه على الطاولة لا يعترض، وعندما يرسم غالباً ما تكون رسومه طريفةً وجميلة. شرطٌ واحدٌ مطلوبٌ من قلمي: ألاّ يكون رأسه المدبب رفيعاً أكثر مما ينبغي، ولا غليظاً أكثر مما ينبغي، مما يسهّل له الكتابة بدون مقاومة تُذكَر، لأني لا أتسامح معه أبداً إذا تلكّأ أو تردّد.وهذا ما يبتغيه كبار زماننا ورؤوساء دنيانا أن يصوغوا بشرا على قدر قاماتهم ومصالحهم ليكونوا لهم من الخاضعين ومن المطيعين لاجل دنيا الزمن وحقيقة الدنيا المزيفة .
   يا سيدي، إنه لَدَرسٌ بليغ يعلّمني إيّاه اليومَ قلمي. فأنا لستُ بحاجة إلى فلسفة أو إلى العلل الأولية لكي أفهمكَ. بمجرّد أن أنظر إلى القلم بين أطـراف أصابعي، أدرك حالاً ما هو الدور الذي يجب عليّ أن أقوم به " وأنا بين يديكَ"( مز 31 )  كما على الصليب  . يا سيدي ، ليس لديّ أفكار تختلف عن أفكارك، ولا أبجدية تختلف عن أبجديتكَ. إن النشيد الإلهي الذي أتلوه منذ ولادتي، إنما أنتَ الذي وضعتَه ولحَّنتَه.كي أنشده. وإزاء حكمتكَ المبدعة، أنا أيضاً لستُ إلاّ أُميّاً ساذجاً يا سيدي. لا أعرف المصطلحات التي تخوّلني التحدث عن الألوهية وعن اللامتناهي ولا عن أسرار الوجود. وخوفي من أنّ الايمان اليوم هو ارادة دنيانا وعولمة زماننا وليس حقيقة عقائدنا .
   وما نتداوله أحياناً أنا وأقراني من حِكَم بشرية،وكتابات روحية ومقالات شرتونية ،  إنما هي إفرازات جهالتنا وموتنا وحنيننا إلى الخلود، بينما الحكمة الأزلية نابعة من كيانكَ أنتَ وحدكَ يا الله! بشرط أن أكون في تماسٍّ معكَ، فباستطاعتي أن أخلق للبشر أعظم الآمال،بدل اصدار اوامر من اجل الطاعة ،  أو أن أزرع بينهم حقائق لم يكتشفها أحد ولم تخطر على بال إنسان، على غرار قلمي الذي يكتب بالفرنسية أو الانكليزية ، وهو لا يعرف منها حرفاً واحداً. أنتَ، يا إلهي، الذي أوصيتَنا مراراً أن نبقى متمسّكين بكَ" إذا ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم " ( يو7:15 ) ،وليس بغيرك ، وان كانوا اساتذة الادراك وفطاحل المسيرة والعلم. فإذا أردنا أن تكون أنتَ أيضاً معنا.فلأنك أنت الحقيقة بالذات واياك ينشد قلمي .
ولكن القلم متنــاقض يا سيدي، فهو يجمع ما بين الطاعة والتمرّد. وقد تكلّمتُ عن الطاعة المتمثلة بطرفه العريض حيث أقبض عليه جيداً وأُديره كما يحلو لي، فهو مطيع لي ولا يعصي لي أمراً. أما جهته الرفيعة المدبَّبة فهي تناقش وتنتقد وتهجوني أحيانا وتتمرّد عليّ بكل صلافة وصفاقة. هكذا أنا أيضاً عندما أتوجه إلى البشر، غالباً ما ألاقي النفور بسبب مصلحة أو غرور في تدمير الاخر ، فهم عندما يحاولون التنصّل من الأحكام السماوية، والابتعاد عن الأحكام الإلهية، يفسدون ويكرهون ويُرَكبنَّ مصالحَهم بحيل شتى وطرق عديدة ، من أجل براءَتهم ،  وهذا مسلكهم من اجل احكامهم الدنيوية . في هذا ما يثبّط عزيمتي، فأعيد الكرَّة ثانيةً وثالثةً، إلى أن أجد الحل عندما أتذكر وصيتك يا سيدي، "وصية المحبة" " أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببنكم " (يو 34:13).  والتي ناديتَ بها. ولأن البشر مهما بلغتْ جهالتهم وأطماعهم وعنجهيّتهم، سأبقى أحبّهم لانك أنت أوصيتَني يا سيدي، وعبر وصيتك أعرفهم جيداً، وأعلم أنني واحد منهم، خاطئ مثلهم ، وجعلتني أن أكون كلمة، في قلمٍ ،  كي أكتب"  أغفر لي يا سيدي أنا الخاطيءفارحمني "( لوقا 13:18 ). نعم وامين .

76
والخلائق تسبح بحمده " الضوء "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   لقد خلقتَ الضوء يا سيدي فوق الخواء الكوني منذ فجر التكوين،"  فكانت الشمس وكان النهار"( تك 5:1) ، ووجدتَ الضوء جيداً ومفيدا بل" حسناً "(تك 40:1). ونحن أيضاً نقدّر قيمة الضياء لاسيما عندما ينقطع التيار الكهربائي فجأة.فنحن اليوم نعيش في عصر يدعى "عصر النــــور"" عصر التكنولوجيا " ،  كما كانوا يسمّون القرن الخامس عشر "عصر النهضة". وقد تعــدّدت مسمّيات الضوء وأوصافه، استعمالاته ومنافعه، فيقال مثلاً: أن هذا المربّي يحمل أنوار الحكمة وهو كشمعة تحترق، وإن الثورة الفرنسية جاءت بمشعل الحرية، وإن الوحي وهب البشر نور الإيمان، وإن المسيح الرب صعد إلى السماء بضياء مجده. وكانت الشعوب البدائية تعبد أشعة الشمس، وأحياناً تتحدث الصحافة عن الحفلات الماجنة تحت الأنوار الصارخة في الليالي البيضاء للمدن الكبيرة الصاخبة. وقبّة كنيسة مار بطرس في روما تتلألأ بالأنوار الساطعة كلما أقيم إحتفال تتويج لبابا جديد.
   نحن مغمورون بالضياء من قمة رأسنا حتى أخمص قدمنا إلا في وطننا فهذه سنين ونحن نعاني من عدم الضياء إلا عبر المولدات،  فهو لنا كنشرة ضوئية،  ومع الاسف . لقد دجَّنا الضوء كما قمنا بتدجين الحيوانات من قبل. ويهرب الظلام مذعوراً مندحراً ومعه جميع الأطياف والأوهام والخرافات بمجرد أننا نضغط على زرّ كهربائي صغير بإصبع متراخية. مصابيح زيتية، مصابيح نفطية، مصابيح كهربائية. لا شيء أكثر تفاهة من الضوء في زماننا هذا، لا بل أصبح حتى أطفالنا يحملون مصابيح متنقلة داخل جيوبهم. أما الخسوف والكسوف فما عادا يخيفاننا، ولا أحد اليوم يقرع الطبول عند حصولهما، لا بل أن الجرائد تعلن عنهما بدقّة رياضية مع صور تبيّن خطوطهما البنفسجية وما فوق البنفسجية وما دون الحمراء. ومنذ المرحلة المتوسطة يعرف الطالب أن سرعة الضوء تساوي (300) ألف كيلومتر في الثانية كما هو تعليمنا في مدارسنا بالامس . 
   لقـد غدا الضوء سجين حساباتنا ومعادلاتنا، ويخال لي أنه أصبح اليوم أمراً صبيانياً أن يقف شاعر أمام غسق الصباح مستلهماً قريحته ليصف أشعة الشمس المشرقة، أو يلجأ ناسك متعبّد إلى شفق الشمس الغاربة بحثاً وراءها عن إلهامات وانخطافات روحية. ومع ذلك فقد قلتَ يا سيدي إنكَ "الضياء الحقيقي ومَن يتبعكَ لا يسير في الظلام" (يو12:8).وجعلتَ رجالات الكنيسة تُشبه الثالوث المقدس بضياء الشمس ونورها وحرارتها .
   نعم في ظلمة الليل أتلمّس طريقي، وأتخيل أشباحاً ملثّمة تتهامس، وعفاريت تثرثر، وأقزاماً تتعثّر، وأتحسس لطخةً في ثوبي، وبقعةً أو حفرةً لا وجود لها على الجدار. ذلك لأن الوهم هو وليد الظلام. فإذا غمرنا الضياء على حين غرّة، إذا بحجاب الظلمة كأنه ينشقّ حالاً بضربة قاصمة، لأن الضياء عنيف وسريع عندما يقتحم، ولأنه صريح عندما يتكلم، ولكنه يتكلم بدون صوت، ولا يستخدم ألفاظاً ولا يناقش عندما يصعقنا حضوره ببريقٍ مفاجئ، وبدون سابق إنذار، يبدّد من أمامنا كل أنواع الخرافات والأوهام، ويفضح جميع أكاذيب العالم!وبياناتهم المصلحية والتدميرية القاتلة المحشوة حلاوة وكأن العالم لا يسير إلا بدفن الحقيقة قبل وقوعها من أجل انتصار كلام الدجل والكذب والفساد .
   إن القبح لا يظهر بأتمّ وضوح إلاّ عندما يفاجئه النور!. ونحن في الشرق لا نجهل ما للشمس من قوة حرارة وضوء، وهذا مما دعا الهنود القدماء يشيّدون لها المعابد الضخمة، وسكان المكسيك يقدّمون لها آلاف القرابين. إنها ليست كشمس شعراء الغرب الرومانتيكيين التي تتلصلص بين وريقات أشجار الصفصاف والصنوبر والتي يحتمي بها الشيوخ المقعدون في آخر سنواتهم على الأرض... بل هي الشمس الاستوائية المحرقة، سيدة الحياة والموت، والتي تتلوى الأرض تحت حرارتها مثل دودة عارية.
 لقد لعبنا كثيراً بهذا اللغز العظيم الذي هو الضوء،والحقيقة ما هي إلا فيه ،  وتجاسرنا وقلنا إنه محتوى داخل مملكتنا وقصورنا وبلاطاتنا ، بينما في الحقيقة كان هو الذي يضمّنا داخل مملكته الواسعة. إنه يمتلكنا ويحتوينا، وفي أية لحظة، من أية ثغرة، من أي ثقب صغير، من أية ثلمة في جدار يستطيع أن يفاجئنا داخل غرفنا المقفلة. مهما لجأنا إلى بيوتنا واحتمينا بعماراتنا الشاهقة،واشخاصنا المختارين والمنزهين ،  فإنه ينساب بدون تحفّظ أو خجل، ويتسرّب حتى ما بين أجفاننا وداخل خياشيمنا.
 ليس عبثاً يا سيدي أنكَ ناديتَ منذ عشرين قرناً من الزمن أنكَ "الضياء" كما أنكَ "الحق"! (يو12:8).بل الحق بذاته . وإني أعلم اليوم أن الكذب والتنكّر ، وان كان اليوم سبيلا للنجاح،  ففي وسط الأنوار الكاشفة أكثر صعوبة مما داخل الظلمات السوداء الثخينة. وإذا كانوا قد صوّروا لنا السماء مغمورة بالضياء، أفليس لإفهامنا أن الحقيقة هي المنتصرة دوماً!؟.ففيها يُظهر كالنور برك وكالظهيرة حقَك ( مزمور6:37).
 نعم لا أريد الرجوع إلى كهوف أفلاطون المظلمة حيث لا تبدو الحقيقة إلاّ من خلال أنصاف أطياف وأنصاف خيالات تتمايل ثم تختفي، لأني أحب الأنوار القوية الساطعة التي تُظهر جميع الأشياء كما هي على حقيقتها،  نعم على حقيقتها ، والتي تمزّق جميع البراقع والأقنعة، وتصيّر الكون شفافاً رائقاً بدون أي لُبْس أو تشويه!!.   
   كم يلزمنا من الشجاعة يا سيدي للحصول على شرف الشفافية وعدم الهلع من الانكشاف أمام الناس كما نحن!.في قول الحقيقة بام عينها ، فقد قلت في إنجيلك " الذي أقوله لكم في الظلمات قولوه في وضح النهار " ( متى (10 :26-33) . وإذا ما أردنا أن نتشبه بك ،يا سيدي ، كما تقول ، فلنكن شفافين صريحين مملوئين نوراً بل ضياءً من أجل دروب الحياة كي لا نكون ظلاماً . إن الأطفال يخافون سواد الظلمة، أما البالغون فإنهم يتدثّرون بجلباب صفيق تجنبـاً من لدغة النور الذي يكشفهم على حقيقتهم، وهناك أشياء كثيرة نريد أن نخفيها عن أنظار الناس، وحتى داخل معابدنا ومن أجل مصالحنا. هنالك مَن اعتاد الوقوف منزوياً وراء أحد الأعمدة أو يلجأ إلى الاختباء في ركن مظلم بعيداً عن أنظار المصلّين. ولكن نظرتكَ يا سيدي من فوق المذبح تخترق حتى أعماق القلوب، وتدعونا إلى نوركَ الإلهي ليطهّرنا من كل ما نخجل من كشفه على رؤوس الملأ، وينقذنا من هواجسنا، ويشفينا من تخيلاتنا المريضة، لكي نرى ذواتنا بواقعيتها كما تراها أنتَ ، لانك النور،  نعم أنت النور الذي يجب أن يُبشر به ليُبدد الظلام " وبنورك نعاين النور أيها الممتلىء نوراً " ( مزمور 36) وعبر حقيقتك نشهد للحق " لانكم تعرفون الحق والحق يحرركم " ( يوحنا 32:8) فأملأ يارب قلوبنا من نورك كي نعرف حقيقة ضياءنا ، آمين ، نعم وامين .

77
والخلائق تسبح بحمده " الرمال "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   مَثَل صيني قديم يقول: أن الأشياء الليّنة والرخوة تستطيع أن تتغلّب على الأشياء الصلبة وتحطّمها، ولكن العكس غير صحيح. فالهواء يقتلع الأشجار القوية العملاقة، والماء ينخر صخور الجبال ويفتّتها على مرّ الأجيال. حاولتُ أن أفهم هذه الحقيقة يا سيدي، وأنا قابض على حفنة من الرمل بين أصابعي. إن رمال الشواطئ كانت في الأصل صخوراً صلبة وكثيفة ثم تفتّتت وتآكلت بفعل المَدّ والجَزر. واليوم أصبحت هذه الصخور الضخمة عواصف من الرمل والغبار، تدور في بطون الصحارى ثم تهجم على مدننا وأريافنا، وتدخل حتى في خياشيمنا( أنوفنا) .
   إن الرمال تحكي لنا قصة تاريخ الكون بصوت خفيض. أريـد أن أجدكَ يا سيدي في صميـم هذه الحكاية. أريد أن أفهم العلاقة بين الصلابة والنعومة، بين القوة والليونة، بين الحقيقة والفساد، بين الكبرياء والوداعة ، بين السذاجة والبساطة ، بين الغرور والانفتاح ، ومَـن منهما سوف يتغلّب على الآخر؟. لاشكّ أن النعمة تحاول جذب الإنسان إلى الله، وإن الحرية الشخصية تحاول الابتعاد عن الله. ولكن هنالك مؤرّخون مسيحيون كثيرون أدانوا حملات الحروب باعتبارها وسائل عنف محرَّمة في الدين المسيحي. وأنا بدوري لا أريد أن أخوض في المعارك الدامية التي دارت بين الألبيجيين والهوسيين من جهة، وبين المحاربين البابويين من جهة أخرى، ولا في السجون المظلمة التي أُعدَّت للهراطقة، ولا في محارق محاكم التفتيش الإسبانية، ولا في صكوك الحرمان التي كانت تتهاوى كالصواعق والرصاص على كل مَن يَحيد قيد شعرة عن قرارات المجامع.
 إن الرمل الناعم يعلّمني أن القوة الغاشمة ليست هي أصل الدين،وأن المصالح ليست حقيقة الحياة ، وأن القساوة ليست حقيقة الغفران، وإن صلابة الجماد غير كافية لمنع تفتّت الصخـور، كما إن الطغيان والاستبداد لا يحميان البشر من الاندثـار. فما تعلّمني الرمال خاصةً هو أنْ أقيم ألف حساب لعامل الزمن. هذا الزمن الذي لا يرحم البشر، ويكشف كل خفّي حسب قولك يا سيدي " ليس خفي إلا سيظهر "( لو17:8) فيه تُبان الحقيقة والذي لا يستطيع جبابرة الأرض وكبار دنيانا، ورؤوساء زماننا، صدّه مهما فعلوا. إن الزمن يردّد لي على لسان الرمال أنْ لا شيء على الأرض يدوم أو يثبت بصورة نهائية، وأن الحقيقة ستبان يوما حسب قولك يا سيدي ، ولأجل الاستمرار في الحياة على البشر أن يتجدّدوا كما يتبدّل جلد بشرتهم الذي ينضرنّ ويتوالد باستمرار.
   إني أعلم أنه من الممكن أن ترتخي عزيمتنا شيئاً فشيئاً، وتتبدد إرادتنا درجةً درجة بفعل نفخة من الريح، وبدون سابق إنذار، وهذا ما يدعوه المرشدون الروحيون بالإهمال أو الطيش أو الروتين أو "الفتور". لقد رأيتُ حولي ألوفاً مِمَّن سقطوا من ارتفاعات عالية ببطء وبدون شعور، كالجبال الشاهقة التي سقطت فيما مضى في بطون البحار، وإني أعتقد أنه للحفاظ على مستوانا وعدم الانخفاض إلى الأسفل، هو نوع من أعمال البطولة، لأن الذي لا يتقدم سوف يهبط حتى إلى الأسفل، ولأن عدم التقهقر هو نوع من التقدم، لأن عدم التقهقر معناه المقاومة بصلابة ضد قوة معادية،أو كبار مغرورين ، وعدم الارتخاء تحت ضغط الأعداء مهما كان فسادهم وعمق مصالحهم وشرورهم وكبريائهم . أنا لا أحب كلمة "رجعي" أو "محافظ" في السياسة لأنها كلمة مقيتة، ولكن عند المسيحيين "المحافظة على النعمة" تعني شيئاً كثيراً لأنها تتضمن شجاعةً وبطولة، إحتمالاً وداعةً ، إنتظاراً وفرجاً .
   هناك صفة أخرى أساسية للرمل مهمة جداً وهي، إذا كان الرمل ناتجاً عن تفتّت الصخور، فإنه سبق وأن كوّنها بواسطة الترسبات، خلال أجيال وأجيال تراكمت الترسبات في أعماق البحار، وتكدّست وتكثّفت بفعل الضغط الشديد الهائل وتحوّلت إلى حجارة نبني اليوم بها منازلنا وكنائسنا وقصورنا وصروحنا واستراحاتنا الصيفية ، . هنالك إذن طريقة لحصول كتل كبيرة صلدة من حبيبات صغيرة مجهرية لا تُرى بالعين المجرَّدة. إن عملية رصّ هذه الحبيبات الناعمة في مجموعة متينة هي سرّ قوة الوجود. كانوا يكررون علينا غالباً أن الاتحاد قوة، ولكن الاتحاد لا ينتج دائماً قوة، بل أحياناً ينتج الضعف. هل إن إضافة حفنة من المترهلين المصابين بداء المفاصل إلى مجموعة من الشباب المحاربين تزيد هؤلاء قوة؟ هل أن فيلقاً من الخيّالة تصبح أكثر شجاعة لأنكَ عضدْتَها بكوكبة من الحمير؟ هل وضع أناس مصابين بالكورونا فايروس مع كبار السن والمرضى المزمنين تحمي من الاصابة أليس ذلك تدمير شعوب وقتل أبرياء ، وفي كل جيوش العالم قاطبة، تخلية الجرحى والقتلى من ساحة المعركة أمر ضروري لتجنب عرقلة سير القتال... إن الاتحاد ضمن التجانس هو الذي يصنع القوة، بشرط أن كل عنصر يلعب دوره المخصَّص له، ويحترم أدوار الآخرين.
   كم أحبّ ذرّات الرمل المتكدّسة فوق بعضها بصمت ومحبة واحترام لحقوق بعضهـا دون كراهية ، بكل طاعة واتّضاع. إن كل رملـة وجدت مكانها واستقرّت فيه، من دون أن تحاول أن تميّز نفسها عن غيرها، ولا أن تبرز في المقدمة بمظهر المباهاة، ومن دون أن تختار جاراتها، ولا أن تتدافع لاختيار مواقعها، كل هذا سهّل عملية تكوين الصخرة الصلدة. وأنا هل اخترتُ عائلتي وطبيعة وطني وتاريخ ميلادي؟، ألم تكن أنتَ يا سيدي أساساً لوجودي حيث أنا الآن؟ شئتُ أم أبيتُ فإني جزء من مجموعة عليّ أن أرضى بالانتماء إليها،  وبوطن ولدتُ فيه، ولكن وا أسفاه، غالباً ما أتمرّد وأشكو من ظروفي التي وضعتَني فيها. ما كان ينفع مريم المجدلية (يو7:26) لو تمرّدت على دورها وحاولت أن تقوم بدور مار بولس؟، أليس الاكتفاء بالقيام بأدوارنا دون أستغلال المصالح والمحسوبيات هو طريق تقدمنا في البرّ والفضيلة؟ عندما تحاول العين اليمنى أن تلعب دور العين اليسرى، أو بالعكس، فإن النتيجة الوحيدة هو "الحَوَل". إذن ، إن القوة الحقيقية غير ناتجة من مجرد التراكم، بل من الوفاق.وهذا ما حصل مع إبراهيم بطاعته إذ " جعلتَ سلالته كرمل البحر" ( تك 17:22). نعم يا إلهي، اجعلني مثل حبة الرمل التي تستقر في مكانها راضيةً، وإن رفضها حاملها ،فاجعلني ياسيد،  متّحداً مع ذاتي، عاملا " بكلمتك ومشيئتك"(متى 42:26) ، لأستمر في القيام بالدور الذي خصصتَه لي منذ خلقتَني.نعم ياسيدي ، نعم وآمين .

78
والخلائق تسبح بحمده " الماء  "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   لاشيء أكثر شذوذاً من الماء فهو يتمدد عند الإنجماد. ولا شيء أكثر تناقضاً من الماء فهو يجمع ما بين التفاهة والضرورة. وبدون الماء لا يمكن للإنسان العيش على سطـــح الأرض. فالماء يُستعمل للشرب والطبخ والسباحة والغسيل، كما يُستعمل في الآلات التجارية والتبريـد، والماء موجود في كل مكان: في باطن الأرض، وفي عيون الجبال، وفي المستنقعات، وفي أعماق الآبار، وداخل الحقَن الطبية، كما أن أكثر من ثلثي جسم الإنسان يحتــــوي على الماء. فقد اعتبر الفلاسفة الإغريق الماء واحداً من العناصر الأساسية في الكون. ولكن علماءَنا منذ أن قاموا بتحليله كهربائياً إلى حجمين من الهيدروجين وحجم واحد من الأوكسجين، فَقَدَ الماء جاذبيته وسحره. وعندما أخذتْ حضارتنا المعاصرة العمل على تدجينه وتسييجه فسجنتْه داخل السدود والخزانات، فَقَدَ الماء كلَّ أبَّهته وبريقه وأصبح من الأشياء المألوفة التافهة لاسيما عندما حصروه داخل الأنابيب ووزّعوه على البيوت والمرافق العامة بواسطة النافورات. فالماء قديمٌ قِدَم الأجيال، ولم يتغيّر منذ أنْ خُلق، إنما الذي يتغيّر هو لهفة الإنسان وشوقه له عندما يتكرر العطش، فيهب للماء صفات الشباب والاستمرارية والتجديد الأزلية. لأن الماء يختلف مذاقه في كل مرة، وعطشي لا يمكن أن يكون شبيهاً لنفسه تماماً مرّتين. فلا أحد يشعر بالعطش أمام آنيةٍ مملوءةٍ بالماء، لأنه باستطاعته أن يشرب منها بحرية متى شاء.
أما في الكتب المقدسة فَحَدِّثْ عن الماء ولا حرج. فمنذ اليوم الأول من الخليقة حتى عبور بني إسرائيل" مياه البحر الأحمر"( خروج 21:14) ، وحتى "عمادك ياسيدي يا مسيحي يا ربي والهي بمياه نهر الأردن( مرقس 9:1)، وتحوّيلك " الماء إلى خمر في قانا الجليل" ( يوحنا 48:2)، وفي عشيّة الآلام والصلب عندما تأزَّرْتَ وغسلتَ أرجل تلاميذكَ بالماء (يو5:13)، وإبان المحاكمة عندما غسل بيلاطس البنطي يديه بالماء أمام الملأ متبرّئاً من دمكَ الزكي (متى25:27). فالناس العِطاش هم وحدهم الذين يفهمون قيمة قدح الماء البارد الذي يُعطى إلى فقير متسوّل، وأنّ جزاء واهبه لا يذهب دون " ثواب حسب قولك"( متى 42:10). إن الذيـن يعيشون بعيداً عن مجرى المياه، ولا يملكون جرعة ماء إبان حرّ الصيف هم الذين يفهمون معنى كلامك:"إنّ مَن يعطش فليأتِ إليّ ويشرب" (يو37:7). فهل يجب عليّ أن أكون بعيداً عنكَ كثيراً يا إلهي لكي أدرك قيمة محبتكَ؟!، وهل لكوننا قريبين منكَ جداً؟ هل لاننا اعتدنا أن تكون حاضراً بيننا فوق المذبح؟ فهل يجب أن يكون حضوركَ بيننا أمراً تافهاً؟! في الكنيسة نتلفّتُ يمنةً ويسرى ولا نبالي،نثرثر، وتتيه أفكارنا في شتى الأمور بعيداً عنكَ، فهل يجب أن نفقدكَ لكي ندرك قيمتكَ الحقيقية؟ ونشعر بحاجتنا الماسّة إليكَ؟، هل يمكن أن تكون سعادة المسيحيين باقتنائكَ سبباً في الابتعاد عنكَ وعدم التفكير فيكَ بجديّة؟.
إننا نعتبر أنفسنا مُلْكاً لكَ، يا سيدي ،  ونعتبرك مُلْكاً لنا، ونحن تحت ستر حمايتكَ نتمتّع بحيازتكَ كما يتمتّع البرجوازي الصغير بامتلاك أرضه ومنزله، فلم يعد ينتابنا أيّ قلق أو ضيق من خشية ضياعكَ، لأننا نمتلككَ بواسطة النعمة في هذه الحياة، وسوف نمتلككَ في السعادة الأبدية بعد الممات. هنالك مسيحيون يتصرّفون كذلك بأسرار الكنيسة وبِنِعَم المسيح وبهبات الله المجانية. إن في تمتّعهم الكامل بكل سكينة وغبطة بامتلاكهم النعمة، يكمن خطر ضياع النعمة وفقدانها. الشرائع!. الطقوس!. كتب الصلوات التي حفظتُها على ظهر القلب!. ما لي ولها إنْ لم أكن متعطشاً إلى ينبوع الحياة الذي أنت تعطيه،  بل أنت هو!؟. لماذا التوقف في منتصف الطريق؟. إذا لم تتجاوب رغباتي الغير المحدودة مع كمالكَ اللانهائي، يا سيدي، فإن جميع اجتهاداتي وجهودي فاشلة!.لأجل معرفتكَ حقاً يا سيدي، يجب الشعور المؤلم بالحاجة الماسّة إليكَ، إذ بدونك سأبقى عطشاناً، لذا أخشى يا سيدي أن يتحوّل رجائي الأبدي إلى ملجأٍ أمين أحتمي به وأتجمَّد!.وأخشى أيضاً ، يا سيدي،  أن أكون مغتبطاً بامتلاككَ، ممتلئاً منكَ، غارقاً فيكَ، قافلاً على نفسي مثل قوقعة بدون الحاجة إلى ماء ولا هواء، وبدون شهوة للطعام، بدون أي مرض، بدون وعكة، بدون لوعة، بدون اضطراب. عندئذٍ سوف أكون أنا وحدي بدون أمل للمستقبل، بدون حاجة إلى مخلّص، بدون مسيح يتجدد صلبه يومياً في ذبيحة القربان!!.وهذا ما حصل في زمن الكورونا فبيوتنا أُفرغت ربما من إلهها بسبب خوفنا من الاخر الغريب ، ونسينا أنك أنت حقيقة المياه وليس كبار دنيانا ورؤساء زماننا .وهذا ما أخشاه يا سيدي أن يتحوّل إيماني المشرق بكَ ، إلى ظلمة أتلفّع بها وأحتمي بهم من كوابيس الليل المخيفة!. فتتحول يا سيدي صلواتي وتأملاتي إلى مجرد صِيَغ طقسية جامدة وعقيمة أردّدها بدون محبة ولا تفكير!.وتنقلبَ ملحمة الفداء الإلهية بكل ما رافقها من مجازفات غريبة وآلام وإهانات، إلى سكينةٍ مطمئنةٍ من ذاتها وهي تمتلك مفتاح بيت القربان، مكتفيةً بوظيفة الحراسة!.
   كلنا نعلم أنه قد اندثرت آثار القوافل المؤدية إلى ينابيع المياه في الصحارى القاحلة والرمال المحرقة ، بسبب هبوب الرياح العاتية. إنّ مَن لا يملك حاسّة الجَمَل القوية لمعرفة المسالك المؤدية إلى المياه، سيموت عطشاً لا محالة. إنّ ينبوعاً صغيراً واحداً ينبثق من واحةٍ مجهولة في أحد أطراف الصحراء، لأَكثَرُ روعةً وجمالاً من جميع قصور الملوك الفخمة!. سيدي ، هذا الينبوع الضئيل هو الذي يستقطب جهود السالكين في الصحراء، ويوجّه القافلة بأسرها، إنه يجتذب إليه الناس قبل أن يهبَ نفسَه لهم. إن غيابكَ هو درس! إننا بكل ما نملك نستطيع أن نفهم مَن أنتَ، إن العطش الذي يتكرّر بدون انقطاع هو ما يهب للماء طراوته الأبدية، عليكَ يا صاحبي أن تمرّ في منتصف تموز وسط صحراء أفريقيا المحرقة وقد اشتدّ بكَ أوار العطش، أو أن تدوس قدماكَ الرمال الملتهبة في الصحراء الكبرى لجزيرة العرب، حتى تعرف القيمة الحقيقية لقطرة واحدة من الماء!.
كلماتك يا سيدي ، تعالوا إليّ أيها العطاش.!" (يو37:7)، فاسأل ، هل بإمكانكَ يا سيدي أن تؤثّر إلاّ في المعذّبين وغير القانعين؟، أمّا القانعون السعداء، الراتعون في بحبوحة الحياة ونعيمها، فإن ماءَكَ ستكون تافهةً بالنسبة لهم، وسوف يشربون منها بدافع المجاملة، ولكنهم سوف لا يدركون أبداً ما تحتويه من أسرار!!!. فهبني يا إلهي أن أشعر دوماً بالعطش!، كي اتوجه اليك يا ينبوع الحياة. أنتَ يا إلهي ثابت أزلي، ولا يمكن أن تتكرّر فيك الحقيقة نفسها مرتين، فعندما أكون قد أكملتُ الشريعة كلّها، فهل يا ترى يعوزني شيء آخر؟، أليس ما يتبع واجب الشريعة هي المحبة الكبرى والتضحية الكبرى والسخاء الأكبر؟، وبعد أن أكون قد وهبتُكَ كل شيءيا سيدي ، ألم يبقَ شيء صغير مختبئاً في زاوية حقيبتي يمكنني أن أتقدم به هدية لكَ؟. فكن مبارَكاً يا الله، لأنكَ تركتَ في زاوية من حقائب نفوسنا لهفةً صغيرة، بل عطشاً مستمراً نحو الكمال، يحنّ دوماً إلى الامتلاء بكَ من دون أن تمتلئ، واجعلني أصرخ دائما كما السامرية " يا سيد أعطني من هذا الماء لكي لا أعطش" ( يو 15:4) . نعم يا سيدي، نعم وامين.


      





79
    بمناسبة عيد الجسد                                       
                                             
تناولنا.. حقيقة إيماننا
المونسنيور د. بيوس قاشا
أوصانا الرب يسوع في إنجيله المقدس أن نأكل جسده ونشرب دمه إذ قال:"مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية" (يوحنا54:6). والفصل السادس من إنجيل يوحنا، من الآية 25 إلى الآية 59، يتكلم عن أن المسيح هو الخبز الحي. وكنائسنا تقيم قداديس يومية وتكرس يوم الأحد بقداس احتفالي كونه يوم الرب وجميل جداً أن يشارك المؤمنون في القداس ويتقدمون من المناولة من منطلق التقدم في مسيرة الحياة والقداسة والنمو الروحي.. فكل مناولة هي عيد، إنه عيد جسد المسيح الحي، عيد الخبز المحي ، عيد الايمان والرجاء والمحبة .إذ يقول البابا بندكتس "إن سر القربان ما هو إلا غذاء روحي يصعد بنا نحو عالم الألوهة حيث الرجاء والمحبة بالمسيح. فلا شيء يضاهي عظمة هذا السر المبارك من حيث سموّه وارتقاؤه وأهليته المطلقة في عالم الأسرار المقدسة".
   نعم، إن القربان المقدس الذي نتناوله ما هو إلا الخبز الإلهي، خبز السماء، فقد كُسر من أجل خلاص العالم. فبتناولنا للقربان المقدس نتذكر تلك الليلة المقدسة وذلك العشاء الخلاصي في علية صهيون والذي فيه حوّل مادة الخبز والخمر إلى جسده ودمه، " جسد ودم يسوع المسيح"( متى 26 : 26-29) ، وفي هذا كانا سرَّي التجسد والفداء. فبتناولنا نعيش بكل إيمان وعمق لحظات حياتنا. ويذكّرنا الخبز بتعددية القمح الذي يُصنَع منه كما أنّ العنقود يذكرنا بحبات العنقود الذي تُعصر حبّاته ، ففيهما غذاء للبشرية وعلى مدى التاريخ والأجيال، وهذا الغذاء ما هو إلا القداس اليومي أو العشاء الذي نحتفل به.
   نعم ، بتناولنا القربان المقدس ندرك عظمة المسيح الذي أعطى ذاته لأجلنا غفراناً وخلاصاً، لذلك يدعونا مار بولس أن نكون مستعدين لهذا العشاء استعداداً أميناً وليس شكلياً أو عادياً، بل استعداداً روحياً مليئاً بالتقوى" وإذ يقول" ليمتحن الانسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس " ( 1كور 8:11) ، لأنه ليس حضور المسيح فينا حضوراً مادياً كما نراه بل حضوراً إيمانياً غذائياً روحياً عميقاً وعبر إنسانيتنا ليقول لنا إنه يحيا في داخلنا،  ويعلمنا أن الحقيقة هي في النمو الروحي ولا تكون إلا عبر تناول القربان كفيتامين إلهي لمسيرتنا المسيحية، لأننا لولاه لضعنا في مسالك الزمن ومتاهات الحياة بغمها وقنوطها، وعبر المناولة ننطلق إلى الأخوة الذين حولنا معلنين بشارة المحبة والفداء وحقيقة الايمان والاستحقاق .
فاليوم بإمكاني أن أقول: إن مسيرتنا من بيوتنا إلى كنائسنا للمشاركة في القداس وتناول القربان ما هي إلا مسيرتنا في درب الصليب نحو الجلجلة حيث تكتمل الذبيحة على مذبح الرب. فلنتقدم من المناولة ونتقاسم العشاء مع الرب الذي احبنا حتى الموت . مسيرتنا ماهي إلا مسيرة خير لننعم بخير الله وحضوره الإلهي فينا لكي نشهد بعد ذلك لسرّ الخلاص الذي رسمه المسيح لنا ليرافقنا في مسيرة الحياة الدنيوية فيجعل من دنيانا سماءنا، ومن مسيرة حياتنا الروحية أبديتنا، ومع إخوتنا باب خلاصنا.أما اليوم فمسيرتنا تغيرت بسبب فايروس كورونا واصبحت بيوتنا هذه جلجلة الحياة في مسيرة نحو القيامة الاكيدة. نعم أصبحت بيوتنا علية صهيون ومذبحَ لقائنا،  فيها نرفع صلواتنا وشوق تناولنا الروحي الايماني للاتحاد بالمسيح الحي وعيش حقيقة وجوده في قلوبنا . وهذا ما يدعونا الى ان لا يكون تقدمنا من المناولة عادة قد تعوّدنا عليها كما هو الحال أحياناً، فنأكل خبزاً ونشرب كأس الخلاص وننسى أننا بذلك نتقاسم جسد الرب ودمه  بل علينا أن نميّز الخبز العادي لملء البطون عن الخبز الحي  " جسد الرب " ( 1 كورنتس 29:11)،  كما هو دعوة لنا"  لنخبر بموت الرب الى ان يجيء " ( 1كورنتس 26:11) .هذه حقيقة إيماننا بل حقيقة وجودنا . وإذ كلنا أعضاء في جسد المسيح السري فالمناولة تجعلنا ان نحتفل جميعا بضيافة المسيح،  بل اكثر من ذلك ، إنه ( اي المسيح) ربنا، يدعونا الى عشائه ووليمته، وما دعوته لنا إلا لأنه إحتفالنا ، إنه خبزنا وكأسنا، إنه حقيقة إيماننا،  وحقيقة مسيحيتنا، بل حقيقة مناولتنا، بل حقيقة عيدنا. نعم آمين وآمين .

80
والخلائق تسبح بحمده " الباب "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   لو أنّ أساتذة الفصاحة والبلاغة وعلم البيان كانوا قد التقوا بكَ يا سيدي. لو إن علماء قواعد النحو والصرف والعروض كانوا قد سمعوا بخطبكَ، لكانوا وجدوا فيها أخطاء كثيرة فيما يخصّ أساليب التورية والجناس وعلم المجاز. فمن دون جميع المجازات والاستعارات الجميلة والطريفة الممكن استخدامها، لقد فضَّلْتَ استخدام كلمة بسيطة حقيرة وهي "الباب" للتعبير عن كونكَ "مخلّص العالم " ( 9:10). لقد كان الأتراك العثمانيـون أكثر دهاءً منكَ يا سيدي عندما أضافوا إلى كلمة "الباب" صفة "العالي" فقالوا:"نحن الباب العالي"، مشيرين بذلك إلى أن عرشهم كان يتناطح مع عرش نابليون بونابرت مثلاً، أو يتنافس مع قيصر روسيا. ما أنتَ فقد اكتفيتَ بالقول عن نفسكَ بأنكَ "باب حظيرة" (يو7:10) لقطيع من الأغنام، فإن تفنّنكَ لم ينجح إلاّ في اختيار أحطّ التعابير وأخشنها.
   باب حظيرة أو زريبة أو إسطبل... بابٌ من قصب، بدون قفل ولا مفتاح ولا صقّالات.. أكثر أنواع الأبواب بؤساً، والذي يمكن فتحه بركلة قدم، وإعادة غلقه بواسطة وتد من خشب يُسنَد إليه من الداخل. لماذا استخدمتَ يا سيدي هذا التعبير البائس لإفهامنا أنكَ فادي البشر؟. ما لم أكن مخطئاً في ظني، فإنكَ أردتَ بهذا أن تعبّر عن أعظم الأمور بواسطة أنجس الأشياء وأسهلِها، لأنه لا شيء أكثر سهولة من الوصول إلى الله!.
   لندعْ الفلاسفة والعباقرة يختـارون أكثر التعابير تجريداً.. فهذا أفلاطون كيف مضى بصقل عبارة "الواحد المطلق" ويلصقها صفة بالألوهية، إلى الحدّ الذي لم يبقَ للألوهية صلة مع أي شيء في الكون إطلاقاً!. ومجامع اليهود القديمة كيف كانت أتعب عند كتابة كلمة "الله" أو حتى ذكرها أو النطق بها، وكيف كانوا يرجمون بالحجارة الحيوانات التي تعيش بالقرب من جبل سيناء!. ولكن المسيحيين يعلمون الآن أنه لا يوجد أسهل وأبسط من معرفة الله، وإنك يا سيدي قد كشفتَ لنا سرّ الآب عندما قلتَ لفيليبس في أحد الأيام بعد انتهائكم من تناول الطعام:"يا فيليبس، إن مَن رآني فقد رأى الآب" (يو45:12) نعم نزلتَ من السماء لتسكن بيننا.وربما يعتقد بعضنا أنه للكشف عن وجود الله كانت تلزم للمسيح طبولٌ ومكبّرات صوت لإعلان ذلك على رؤوس الملأ بكل أبّهة وجلال ومن المؤسف ، هذا ما يفكر به اليوم كبار دنيانا،  ورؤوساء زماننا . ولكن هل إن الحقيقة تصبح أكثر وضوحاً وثباتاً عندما تُكتَب بحروف خشنة؟، وهل أن المحبة، هي الأخرى، تصبح أكثر قوةً وعمقاً إذا ما نُفِخَتْ بالأبواق؟( متى2:6).وأُعلنت بالاعلام .
افرضْ أنّ أحد الآباء أراد أن يبدو أكثر عطفاً وحنوّاً نحو أبنائه، فهل يتوجب عليه أن يلبس طاقماً أنيقاً ويضع على أكتافه أوسمةً لامعة ويسير في موكب فخم من الفرسان؟، هل إن النور يحتاج إلى أكثر من ذاته حتى يضيء؟.إن أَسْلَم وأقصر طريق للوصول إلى الله هو قلب طفل نقي طاهر. فإذا أردتم الوصول إلى الله لا ترتفعوا إلى الأعلى، بل اهبطوا نحو الأسفل!. إن الله موجود في مستوى سطح الأرض، في نفس الطرق المألوفة والمشتركة بين جميع البشر، ومَن يحاول الصعود أكثر من اللزوم لرؤيته، كَمَن يحاول صقل صفات وتجريدها من محتواها إلى أبعد حدود حتى يصبح حديثه عن الله بدون معنى وضرباً من الخيال. إن باب الحظيرة البسيط الذي يفتقر إلى مزلاج، لا يستوجب عناءً كبيراً للدخول منه والجلوس بقربكَ، ولا يتطلّب مهارة نادرة للهروب من خلاله والابتعاد عنكَ. وبالنسبة للهاربين منكَ، كان بإمكان محاكم التفتيش وعلى رأسهم (توركويمادا) لكي تلاحقهم وتعيدهم إليكَ عنوةً، ولكنكَ يا سيدي فضّلتَ احترام حرية البشر في اختيار الهروب أو" البقاء معكَ " ( لو 14:10) ، لأن الذين بقوا معكَ ما كان عليهم إلاّ أن يدفعوا هذا البوَيْب بطرف إصبعهم ويعبروا العتبة بدون استئذان من الحرس أو المرور بغرفة للاستعلامات.
   محال أن يفتش عنكَ إنسان ولا يجدكَ، لأن كل مَن عزم على أن يفتش عنكَ يا سيدي، كان لابدّ أنكَ سبق وأنْ وجدتَه بدون علم منه، لأنكَ أنتَ الغاية، فلابدّ إذن أن تكون أيضاً"  الدرب والطريق" (يو 6:14). ولأنكَ أنتَ النهاية، فلابدّ أنكَ أيضاً الباب الذي يؤدي إلى الطريق. لقد مررتُ بأبوابٍ كثيرة في حياتي، كانت منها موصدةً ومنها مفتوحة على مصراعيها، ولكنها جميعها كانت بسيطة جداً. ولكن أكثرها بساطةً وغرابة " بابٌ ضيق جداً" ( متى 13:7) ، لا يسعْ إلاّ لدخول طفل رضيع كان قد وُلد في مغارة مهدَّمة قبل ألفي سنة، مخلِّصاً ومنقذاً للعالم، ومن ذلك الباب الضيق سحب إليه البشرية بأجمعها!، وما هذا الباب يا سيدي إلا أنت ، نعم أنت بابنا ، أنت المسيح الحي ، كلمة الله ، بل ابن الله، هذا إيماني، وهذه حقيقته. نعم وامين .

81
والخلائق تسبح بحمده " الحمام "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   لم يكن ذلك الذي نزلَ عليكَ إبان معموديتكَ يا سيدي، صورةً لحمامة أو شبهاً لها، بل كان"حمامة حقيقية بلحمها وعظمها" ( مرقس 10:1) . وبعد أن قامت بمهمتها عادت إلى عناصرها الأولية كبقية الطيور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اختار الثالوث الأقدس الحَمَام بالذات للقيام بهذه المهمة الجليلة والخطيرة؟. لنتصفّح الكتاب المقدس ونعدّد بعض الأدوار التي قام بها الحَمَام على مدى مراحل الوحي الإلهي: فهذا نوح يبعث من نافذة سفينته"  حمامةً "( تك 6:8-7) تعود بعد فترة بغصن أخضر في منقارها علامةً على انحسار مياه الطوفان. وهنالك الحمامتان الصغيرتان اللتـان قدّمتهما مريم العذراء عند ختان المسيح (لو25:2). ونشيـد الإنشاد الذي يتغنّى بترانيم الحَمَامات. ( نشيد الاناشيد 12:5) وعلى مدار العصور، أضاف المسيحيون صفاتٍ جميلة ومحبَّبة للحَمَام فقالوا: إنه يسبح في الماء ليتجنب البواشق والعقبان، وهذا دليل على امتلاكه فضيلة الفطنة. وإنه عديم المرارة والصفراء، وهذا درس بليغ وقاسي ضد المنافقين والحاقدين ووأصحاب المصالح والمحسوبيات. وقالوا أيضاً أن غناءه شديد الشبه بالتنهّد والمناحات وهذا ما يذكّرنا بحزن الخاطئ على آثامه وتوبته إلى الله.
   كل هذه الأوصاف والتشابيه وغيرها، ولكن بدلاً منها أنا أفضّل قولكَ المقتضب والبليغ يا سيدي:"كونوا بسطاء كالحَمَام". لا أحد يستطيع أن يعلّمنا البساطة مثل كلامكَ البسيط يا سيدي. ولكننا غالباً نميل إلى التعقيدات، وفضولنا الفكري يحاول النبش في الشروح اللاهوتية المطوَّلة والمفصَّلة والمبسَّطة، وهذا ربما دليل على أن الخطيئة الأصلية كانت الاقتراب من "شجرة المعرفة"( تك 17:2)،  أكثر مما ينبغي. أنا لا أريد البحث في الكتب والمجلدات، بل أفضّل السير جنباً إلى جنب مع المخلوقات البسيطة متوجّهاً معها نحوكَ يا سيدي، لأن في كل مخلوق يوجد هدف وغاية، وفي كل هدف توجد نهاية بسيطة. لكنّ المسالك المتشعبة التي تؤدي إلى الهدف تكون عادةً متشابكة مشوَّشة ومتداخلة، وأخشى أن أضيع بين متاهاتها. وأبسط حلّ يا سيدي هو البقاء حيثما تطلب مني أن أكون. فإذا كنتَ تريد مني البقاء، فلأبقى بكل بساطة مثلما يمكث الحَمَام في عشّه محتضناً صغاره. وإذا كان الأمر يتطلّب الذهاب والعودة، فلأفعل أيضاً ببساطة مثلما يفعل الحَمام الذي يقطع المسافات الشاسعة جداً ويدور عدة دورات حلزونية في الآفاق، ثم ينسلّ مثــل سهم بخط مستقيـم عائداً إلى عشّه، غير مكترث بالعوائق والحدود.
   إن ما يُفسد علينا أمورنا يا سيدي، هي ظنوننا وحساباتنا التفصيليـة في تحقيق مسيرة مصالحنا المزيفة وحقيقة وجودنا،في اختيار جميع أعمالنا ومقاصدنا على ضوء نتائجها، أو باختصار هو "عدم ثقتنا بالله" ( متى 20:17) . وغالباً نتصرف مثل السبّاحين المنهمكين بتحريك أيديهم وأرجلهم وينسون أنفسهم مما يؤدي إلى سقوطهم في قعر المياه، فيغرقون.لذا لندرك جيداً إن هفوتنا الكبرى هي أننا نفكر بالنجاح أكثر مما نفكر في الأعمال نفسها، وكثيراً ما ننسى الحكمة القائلة "الإنسان يقرّر والله يدبّر". إننا نركض وراء التصنّع والتفنّنات، ونخال أن الارتجال هو نوع من الهمجية، بينما هو قمّة البساطة والكمال، ومعتقدين أن الأشياء كلما ابتعدت عن سذاجتها الطبيعية كلما عظمت قيمتها. ولقد كنتَ في حياتكَ على الأرض يا سيدي تلبس"  قميصاً أقتسمه الجنود بينهم " (متى 35:27)  بسيطاً دون خياطة ولا أزرار وكان يناسبكَ جيداً ويليق بجسدكَ المقدس!.
هذا السعي البشري المحموم وراء الزخرفة والنزيق، وراء الأزياء والكماليات، وهذا الكرّ والفرّ في أنواع الفنون، أدّى إلى ابتعاد الإنسان عن بساطة المخلوقات كما خلقها الله، لا بل إلى ابتعاده عن الله نفسه!. بسبب أنانيته وكبريائه وغروره ، وإننا نعلم أنّ فن الرسم والنحت مثلاً تحولا تباعاً وبسرعة خارقة من الفن التقليدي إلى الفن البيزنطي ثم الباروكي فالسريالي ثـم التكعيبي والتشكيلي والواقعي، وأخيراً وليس آخراً إلى مدرسة الوحوش!!.
   نحن نعتبر الناس البسطاء في حياتهم وفي فنهم أناساً سذَّجاً متخلّفين لا بل أغبياء. ولقد قلتَ يا سيدي:"طوبى للمساكيـــــن بالروح!" (متى3:5). لا فقط هذا، فلقد أمعنّا في تحقيرنا حتى "طيبة القلب" و"سلامة الطويّة" و"صفاء السريرة"، وبتنا نعتقد أن الناس الأذكياء هم الذين يفكرون كثيراً، لا بل هم الذين يستخدمون أدمغتهم في النبش في أفكار الآخرين وأعمالهم وتقليبها على جميع وجوهها وجوانبها، واستخلاص منها ما ينسجم وما لا ينسجم مع أذواقهم وأطماعهم وأنانيتهم... وبات الذكاء مرادفاً للدهاء والاحتيال... الإنسان الذكي والفاسد هو الذي ينتقد كل شيء، ويدعوه الناس عبقرياً، بينما هو في الحقيقة مخادع وماكر، والدنيا مليئة بهم بل وما أكثرهم. فالأفكار التي لا تؤدّي إلى  البساطة والانسجام ما هي إلا أفكار جهيزة، لأن المحبة هي واسعة وبسيطة معاً، ولأن المحبة تمتصّ جميع إفرازات الأرض وشوائبها وأمراضها وتزيلها من الوجود. كما انّ الكون لا يستقرّ إلاّ على كلمتين فقط هما: "المحبة" و"البساطة"، ولا وجود بينهما موقع للتساؤلات والمباريات، لا داعٍ للنبش والتفكير الطويل للتثبّت من الحقيقة وتمحيص صحّتها، ولا حاجة للأضابير ولا للشهود، ولا حاجة لموازين المنطق والجدل للمقارنة بين الموضوع والنقيض.
   هذا هو معنى المحبة "إنها " البساطة- الوداعة- المتناهية" (متى 16:10) إنه الحمام ، إنها الحقيقة المكشوفة والمعروفة ، فالله أحبنا ببساطته وليس بكبريائه ، وفي الاتحاد معه عن طريق المخلوقات ، وبساطُته هي حقيقة روحه ، ". ولأن المحبة بسيطة جداً، فإنها اقترنت مع بساطة الحَمَام، مع الروح القدس الذي هو نفسه "محبة"، إنه حقيقة الله ، بل إنه الله .نعم انه الاقنوم الثالث من الثالوث المقدس ، به أؤمن وبه أحيا . نعم وامين .


82
والخلائق تسبح بحمده " الأحذية "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

   في أعياد الميلاد، عندما كنّا صغاراً، كنّا نضع أحذيتنا في المدخنة ليأتي بابا نوئيل في الليل ويضع هداياه في داخلها. ولكن الحديث عن الأحذية في هذا المـــقال يبدو لي بعــــيداً عن الذوق الســــليم،
-وربما غير مقبول من البعض-  لأنني لا أريد أن أبحث في موضوع تأملاتي عن حوانيت الإسكافييـن، ولا أن أتكلم بالسوء عن راتقي الأحذية، فإني غالباً أنظر بعين الاحترام إلى مهنة الإسكافيين وصُنّاع الأحذية عند مروري بدكاكينهم. لكني أتساءل: ما الذي يدفعني إلى الحديث اليوم عن الأحذية؟، هل لأن حذائي يتبعني أينما ذهبتُ ورحلتُ؟، أم لكوني، من دون شعور مني، أحتقره، رغم احتوائه على سرّ غامض لم أكتشفه حتى الآن؟، ولكن ما هو سرّ الحذاء يا ترى؟ نعم إن الحذاء لا يَقُصُّ لنا حكايات غريبة، إنه شيء بسيط وليس فيه ما يثير الاهتمام ولا ما يحفّز قرائح العباقرة والشعراء.
   ولكني يا سيدي، كلما نظرتُ إلى حذائي، تذكّرتُ شيئاً قديماً كان غافياً في داخلي، وكأنني كنتُ غافلاً عنه منذ زمن بعيد. فهذه صورة يوحنا المعمدان تنتصب أمامي وهو يعلن أنه لا يستحق حَلّ سيور حذائكَ (مر8:1). وهذا موسى، هو الآخر، عندما ناداه صوت الله من وراء العوسج المحترق:"انزعْ نعلَيْكَ، لأن الأرض التي تطؤها قدماكَ هي مقدسة"( خروج 5:32). أما أنتَ يا سيدي ، فقد قلتَ لتلاميذكَ عندما أرسلتَهم ليعلنوا بشارتك، ألاّ يأخذوا معهم خبزاً ولا نقوداً بل أن ينتعلوا حذاءً (مرقس 9:6). ورسولك بطرس عندما ضربه الملاك على جنبه فأيقظه وقال له:"شدّ حزامكَ واربط نعليكَ ( حذاءك) " (أع 8:12). فإذا كانت الأحذية كذا مهمة عندكَ يا سيدي، فلماذا أخجل أنا الآن في جعلها مادةً لتأملي وصلاتي؟.
   هذه الأحذية التي ترافقني على مدى حياتي، في كل حلٍّ وترحال، والتي بُلِيَتْ وتهرّأتْ كما بُليتْ وتهرّأتْ سنوات عمري، من أجل نشر إسمك وعيشه وإعلان حقيقته وما ذلك إلا فرحي ، هذه الأحذية التي قطعتْ مسافات الأرض التي قطعتُها أنا إبان رحلاتي القليلة والمتواضعة ، هذه الأحذية التي وَهَبَتْني إياها عنايتُكَ الربانية، ألا يجد ربي أن أقدّمها حقيقة لمسيرة الشهادة والبشارة ، نعم لكَ يا سيدي،  لبشارتك، وأنا أتذكر الآلاف من إخوتي الذين يسيرون حفاةً على طرق هذه الأرض، مهجرين ونازحين ، مضطهدين ومطرودين ، يسيرون في الأدغال وفي الصخور، في الرمال وفي المروج، في الوديان وفي الجبال وفي الصحارى؟. ألا يجدر بي أن أتذكر جميع الحجّاج التائبين الذين نذروا أقدامهم العارية لقطع مسافات شاسعة لنيل الغفران منكَ ، وشفاءً من وباء كورونا ؟.
   إن ما يؤسَف له حقاً أننا غالباً نهمل الأشياء الصغيرة والحقيرة التي وضعتَها يا سيدي في زوايا دروبنا وفي جميع منعطفات حياتنا، معتبرين إياها تافهة، باطلة، ودون المستوى الذي يجب أن تكون عليه أفكارنا الروحية العالية. ألا كم نحن نحتاج يا سيدي أن نتعلم دروساً من الأشياء الوضيعة التي وضعتَها في سبيلنا لنستخدمها من أجل الارتقاء نحوك. آه، ليتني كنتُ أكثر تواضعاً وأكثر صدقاً مع ذاتي، وأقلّ إدّعاءً وتصنّعاً، لما تجمَّدتُ في تكرار صلوات مقبولة في شكلياتٍ متحجّرة وكأني أتلو أمثولةً تعلّمتُها منذ صغري في المدرسة، أو أسرد قصيدة كنتُ قد حفظتُها منذ حداثتي، أو ألقي مقالةً فلسفية بطريقة احتفالية كما يلقيها خرّيجو الجامعات!، لأن دروسكَ يا سيدي نابعةٌ من صميم الحياة ومن واقعها، وليس بيانات عبر المايكروفون القوها كبار دنيانا وأسياد ديرتنا، وصراخات واعلانات لننال حقوقنا وإعلان حقيقتنا ، وانتهى مفعولها، ولكن تعليمك يا سيدي من صميم دعوتنا وعبر أشياء نعيشها اليوم والتي عشتَها أنتَ نفسكَ عندما كنتَ على الأرض إنساناً مثلنا. والتاريخ يقول لنا انّ خصاماً حاداً قام ، في الازمنة الاخيرة، بين جماعة من الرهبان المعروفين بتقواهم وزهدهم بصدد الأحذية. فانقسموا إلى فرقٍ ثلاث:
   الفريق الأول: فريق الحفاة. الفريق الثاني: فريق لابسي جوارب بدون حذاء. الفريق الثالث: لا يلبس الجوارب بل فقط الحذاء. أما أنا فإني أحتفظ بالذكرى المباركة بجميع لابسي الأحذية التي ورد ذكرها في الإنجيل، معتبراً إياهايمينا مقدسا في مسيرتنا الايمانية ، أسوةً بتقويات مباركة،  فقد باركها مرقس الرسول بارسالك اياه واخوته ( مر9:6) ، لذا عليّ وعلى إخوتي أن يربطوا أحذيتهم ليكونوا مستعدين للتبشير ثانية، وفي زمن طَردَ الانسانُ اللهَ من قلبه، فضاعت الرسالة والبشارة. نعم يا سيدي ، سأنتعل حذائي دائماً لأكون مستعدا، عملاً بكلمتك. نعم وامين 


83
والخلائق تسبح بحمده " اللســـان "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

   نعم يا سيدي ، لقد أعطيتَنا أشياء كثيرة ثمينة وجميلة ونافعة  ،  ومنها اللسان. هذا العضو الصغير داخل الفم، والذي بدونه لا يستطيع الإنسان أن يتكلّم، أو يغني أوينشد أو.. إنه أداة الكلام. والكلام أداة التخاطب والتفاهم بين الناس. وبالتفاهم يمتـزج البشر ويتطورون. وبالامتزاج تنمو الحضارة وتتقدم، إنه رسالة اللقاء في مسيرة الحياة. ولقد عرّفوا الإنسان أنه "حيوان اجتماعي".  واللسان كـذلك هو العضو الاجتماعي في جسم الإنسان، ولولاه لما تقدم البشر اجتماعياً وحضارياً. إن التقدم الاجتماعي بدأ من اللسان أي من الكلام وليس من الكتابة. والحضارات ولاسيما القديمة منها نمت بطريقة شفوية بواسطة التقاليد والأحاديث المتداوَلَة والأقاصيص، لأن الأفكار تنتقل بين البشر بطريقة شفوية قبل أن تنتقل بطريقة الكتابة والتدوين... وحتى الكتب المقدسة المنزَّلة لم تُدَوَّن على الورق إلا بعد فترة طويلة من انتقال تلك المعلومات والمعتقدات والتقاليد انتقالاً شفوياً من الأجداد إلى الآباء ثم إلى الأحفاد.
   ولتبيان أهمية اللسان، لنقرأ ما جاء في الإصحاح الثاني من أعمال الرسل: "ولما جاء اليوم الخمسون، كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد، فخرج من السماء فجأة دوي كريح عاصفة، فملأ البيت الذي كانوا فيه، وظهرت لهم ألسنة كلها من نار، فانقسمت ووقفت على كل واحد منهم لسان، فامتلئوا كلهم من الروح القدس،  وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم،  على قدر ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا" (أع2: 3) .
   إن قطعة اللحم الصغيرة هذه داخل الفم هي سلاح ذو حدَّيْن، يمكن بواسطته إشعال حرب طاحنة بين أمّتين أو بسط أجنحة السلام والمحبة والأخوّة بين الناس، لأن الكلمات التي يتلفّظ بها الإنسان ممكن أن تكون أكاذيب ضد الحقيقة لزرع الشكوك والأحقاد بين الناس، ولتدمير التوازن الأخلاقي بين الشعوب بتحريك فتنة أوبلبلة فيها.ومار يعقوب يقول " واللسان عضو صغير ومن شأنه أن يفاخر بالاشياء العظيمة كما أنه نار أيضاً وعالم الاثم،  واللسان، لا يستطيع احد من الناس ان يقهره انه بلية لا قرار لها ملؤه سم زعاف به نبارك ربنا وبه نلعن الناس المخلوقين على صورة الله "( رسالة يعقوب 3-8:5). ويقول ايضا " من ظنَّ أنه ديّن ولم يحفظ لسانه بل خدع نفسه كان تدينّا باطلا" ( رسالة يعقوب 26:1) .
   أنا لا أتذكر متى وكيف تعلّمتُ الكلام. والذين علّموني الكلام لم يفكّروا طويلاً بجسامة مسؤوليتهم من حيث أنهم أعطوني سلاحاً لا يقلّ خطراً عن السكاكين والمسدسات . وأنا لا أستطيـع أن أزيد سنتيمتراً واحداً على قامتي، ولا أن أغيّر الظروف التي ولدتُ فيها والتي أعيش حالياً ضمنها. وليس بوسعي أن أحوّر شكل الأرض ولا أن أؤثّر على سير فصول السنة، ولكن بإمكاني أن أتكلّم كما أريد ومتى أريد.
  غالباً ما نسمع في المجتمعات الدولية وبعض السياسيين يتحدثون عن "كلمة الشرف". ونحن نعلم أن "كلمة الشرف" عندهم تعني أموراً أخرى لا تليق بقدسية الكلام الذي وهبه الله للإنسان. إنها مهزلة السياسة العالمية. وكثيرٌ من السياسيين العظام عرّفوا السياسة بأنها "أكذوبة متبادلة" بين السياسيين. والسياسي الأكبر هو الذي يكذب الأكثر.
لقد دنّس البشر أفضل ما حباهم الله من نِعَم ألا وهو "الكلام"، فباتت فئة تعتقد أن الكلام ما هو إلاّ تتابع الألفاظ والأصوات لأجل إخفاء أفكارنا وراءها. وفريق آخر يدّعي أن الكلام زائل وزائف لأن الكتابة فقط هي الباقية. ولكنك يا سيدي، أنتَ لم تكتب شيئاً في حياتكَ على الأرض،إلا ما كتبته لخلاص الزانية الخاطئة من شكوى كبار الزمن (يو1:8)  ،  ومع ذلك فإن تعاليمكَ باقية منذ ألفي سنة ونيفٍ، وستبقى إلى أبد الدهور. ولقد كان تلاميذكَ مراراً يردّدون:"إلى مَن عسانا أن نذهب وأنتَ تملك كلام الحياة الأبدية" ( يو68:6) !؟". وفي نهاية العالم، سوف تدين البشر لا فقط على أعمالهم بل أيضاً ولاسيما على أقوالهم، "لأن كل كلمة بطّالة تخرج من فم الإنسان سوف يحاسَب عليها حساباً عسيراً". ( متى 36:12).يا سيدي، ولكنكَ أعطيتَنا بدون تحفظ وبكــل ثقة هذا السلاح، رغم أنكَ كنتَ تعلم مسبقاً إننا يمكن أن نستخدمه من أجل الشرّ والفتك بالآخرين. وكـنتَ تعلم أيضاً أن بعض الناس مَنْ سوف يوجّه لسانه ضـدّكَ، إمّا بالشتيمة أو الكفر أو القَسَم الباطل أو الإلحادأو شهادة زور. وقد خبرتَ ذلك بنفسكَ عندما كنتَ بيننا على الأرض، لما انقلبت هتافات اليهود "أوشعنا لابن داود" (يو13:12) بين ليلة وضحاها إلى زعيق بوجه بيلاطس "أصلبه، أصلبه. دمه علينا وعلى أولادنا" (متى25:27). وعندما فاجأ صياح الديك بطرس وهو يُقسم للخادمة:"أنا لا أعرفه ولستُ من أتباعه" (متى71:26).وما اكثر هذه الالسن في هذا الزمن القاسي وان كانت لا تبان للعيون انما للقلوب .
   كنتَ ترى مسبقاً بنظرتكَ الإلهية،  يا سيدي ،  جميع شتائم البشر وكفرهم وأكاذيبهم الخبيثة ومشاحناتهم الكلامية وحتى ثرثرتهم السخيفة، ومع ذلك أبيتَ أن يكون الإنسان بدون لسان. لا بل أنتَ نفسكَ أعدْتَ النطق للكثير من البكم والخرس وجلستَ معهم تتحدث وتتباحث، وقلت: إنه إذا اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم (متى20:18). وبشارتكَ يا سيدي، ما هي إلاّ كلامٌ انتشر كالريح في جميع أرجاء الدنيا. ويوحنا المعمدان الذي بشّر بمجيئكَ لم يكن إلاّ صوتاً صارخاً في البريّة (مر3:1) .
هبني يا سيدي أن يكون كلامي دوماً لائقاً بلساني، لأنكَ أنتَ الذي أعطيتَني اللسان، ولأن الكذب ما هو إلاّ إهانة للحقيقة لأنه يدنّس اللسان. لأن الإنسان الكاذب يحتقر نفسه قبل أن يحتقر الحقيقة، وما أكثرهم حباً بسبب مصالح الزمن، و يعلمون أنهم في مسيرة الكذب والزور ، كما يدركون جيدا أنّ الحقيقة لا تستطيع أن تشوّهها الأكاذيب. وستبقى صامدة باقية كما هي تماماً قبل الكذب وبعده، ولا تتبدّل أبداً!.
فيا يـا سيدي إن الوحي هو كلامكَ ، هو أنتَ ، ونحن في لغتنا عندما تقول أنكَ "كلمة الله الآب" (يو1:1)، تعبّر عن طبيعتكَ الإلهية الأزلية، وعن حقيقتكَ التي لا تتبدّل أبداً. فأجعل يا سيدي أن يكون كلامي خالياً من الغشّ ، والكذب ، والنفاق ، ومن جميع أنواع البراقع والأقنعة والتمليق. نعم أن يكون كلامي صافياً شفافاً مثل بياض الثلج، وألاّ يخفي بين طياته الحقد والخباثة والغدر، بل أن يكون كتربة خصبة لنمو الحقيقة والخير في العالم،كي لا يكون تدينا باطلاً فأكون شاهداً لحقيقتك المُحِبة في مسيرتك من أجل الانسان ، نعم من أجل الحقيقة ، وشاهداً لها. نعم وامين .

84
الى الانسة المحترمة ان سامي مطلوب
شكر على المقال الرائع الايماني الذي نحن بحاجة اليه اليوم
كي نرفع انظارنا نحو السماء ونرى حقيقة ايماننا بالمسيح الحي
وننقل بركة السماء عبر مسيرة حياتنا لنا ولاولادنا وبناتنا ونكون علامة خلاص
ونحيا الايمان كما يشاء الرب وليس كما نشاء فالانسان اليوم اصبح مطيعا لحقيقة الدنيا ونسى ان يحيى حقيقة السماء
الف شكر وباركك رب السماء ووهبك نعم الروح الذي ننتظره  ليحلّ علينا جميعا
والف شكر للمسيرة الايمانية التي تزرعيها في مسيرة الرعية
مع احترامي ومحبتي
خوري رعية مار يوسف
بيوس قاشا

85
شكرا جزيلا للكلمات التي كتبت في هذا الرد
وبارك رب السماء حقيقة المسيرة التي نحياها من اجله والرب قالها جهارا من له اذنان سامعتان فليسمع ما نحتاجه اليوم ان نكون امناء لكلمة الانجيل في ان نحياها ومن هنا تاتي القداسة فالقداسة لا تشترى ولا تباع انما تعاش وتمجيدي على الارض سينتهي مع موتي وانما الحياة الابدية وعدنا بها الرب يسوع اذ قال من امن بي وان مات فسيحيا  فحياتنا هي شهادة للمسيح وكم عظيم ان يكون لنا اناس يحملون حقيقة الايمان من اجل بشارة المسيح الحي .
بركة السماء هي عظمة التواضع والتواضع رسالة السماء والسماء حقيقة الحياةربنا يبارك بك وبرسالتك عبر اخوات اصدقاء القربان فلنحيا حقيقة محبة المسيح في حقيقة الاعتذار والتواضع . والف شكرايتها الفاضلة وواصلي مسيرة الايمان في عيش حقيقته وليس غلافه . ودمت
مع محبتي واحترامي
ابونا بيوس قاشا

86
الإعتذارُ.. عن الإساءة

المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
من المؤكَّد وهو ليس بسرٍّ إذا قلنا أن البشرية ببكرة أبيها، ببلدانها المتقدمة والفقيرة، تعيش لحظات محنة، والجميع يشعر بالحاجة الملحّة والماسّة إلى التضامن والاعتماد بعضهم على بعض انطلاقاً من محدودية المواجهة وهشاشة الوجود البشري أمام الفيروس كورونا هذا الذي ولّد آلاماً كبيرة، وزعزع كافة مسارات ومسافات الخليقة في وقت قياسي، وبإمكاننا أن نعتبر ذلك جرس إنذار للخليقة برمّتها. والبشرية تسعى جاهدة إلى احتواء المرض والحدّ من انتشاره ما يجعلنا أن ندرك إلى أي حد مدى ضعف حقيقتنا الجسدية،  ومسيرتنا الثقافية،  وامورنا السياسية،  ولقاءاتنا الاجتماعية،  فهل نحن في حرب عالمية ثالثة!.
الله وتواضعه
   كما أن الإيمان الحقيقي في المسيحية، والمسؤولية الأمينة في مسيرة الحياة، تمنحان الإنسان قوة داخلية لازمة ليشهدَ الإنسانُ لحقيقة كلماته وفي معنى فحواها وليس في أجواء صداها وقولها بسلاسة الكلمة والنحو. ولا يمكن ان يكونَ اعتذارُنا عبر أبواق الإعلام ودعايات المقالات وإعلانات المصالح كي لا تكون أكذوبةً للزمان وفشلاً للحقيقة  بل عبر الخليقة الجديدة كي يتجلّى الله، وما يقوم به يجري في الله. فاتحاد الله مع هذا الكائن لا يموت بموته بل يواصل وجودَه في الآخرين لأنه الحقيقة بالذات، ويجسد اللهَ وتواضعهَ في مسيرة حياته البشرية، عبر كلمات الاعتذار،  ما أجملها وما أعمق معناها وحقيقتها، إنها تقود الإنسان إلى تواضع حقيقي لأنها نابعة من حقيقة المسيح وبالتالي من الحقيقة الإيمانية التي ورثناها من جرن عماذنا ، والتي عبرها ينحني كبير القوم أمام صغير الدار احتراماً ومحبةً وليس احتقاراً وكرهاً، والسبب يعود إلى تعليم الله لنا في تواضع المسيح يسوع في التجسد والخدمة فقد قال بولس الرسول والرسول يوحنا  "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد... وضع نفسه وأطاع حتى الموت... لكي تجثو كل ركبة باسم يسوع" (فيلبي5:2-10). "خلع ثيابه... وصبّ ماءً... وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ" فعمل المسيح هذا ما هو إلا عمل الخادم والعبد (يو1:13-6)، وهنا تظهر لنا صفتان ملازمتان "نزوله إلى الإنسان الخاطئ" و"بذل نفسه عن أحبائه"، وبذلك أغنى بكامل إرادته حقيقةَ بشريتنا، إذ أصبح الاله خادماً حيث ترك سماءه ليُظهر سرّ تواضعه وخدمته بكامل محبته... إنه سرُ السماء وسرُ الحقيقة.
المسيحية وحقيقتها
   لذا فحقيقة الاعتذار لايجوز أبداً أن  تكون عبر شفاهنا فقط، أو عبر عبارات هوائية نقولها غير مبالين،كي نبعد عنا حقيقة خطئنا لنُظهِر براءَتنا بسبب غضبنا كي لا نُشوّه سمعتَنا والحق يقال أنه لا سبيل إلى الشعور بمسؤوليتنا إلا عندما نُدرك جيداً ونفهم ونحيا ما قاله الرب يسوع "أترك قربانكَ على المذبح واذهب وصالحْ أخاكَ ثم عد وقرّب قربانك" (متى24:5)،إنها حقيقة الاعتذار بملء معناها، فالإنجيل ليس كلمات إنشاءٍ نصوغها ثم نعلنهالأحاديثنا البشرية وغاياتنا الكبريائية المصلحية بل حقيقةٌ إيمانية نحياها بكل تواضع لعيش حقيقة المسؤولية التي نفتخر بمنصبها، فليس في المسيحية شيء مستحيل إذا أردنا أن نكتشف المسيح النائم في سواد قلوبنا، وليس في " سفينة التلاميذ " ( متى 25:8)، ليقوم ويقيمنا معه في حقيقة وجودنا .
إنساننا ومسؤولياته 
   من المؤسف أن الزمان يُعولم إيماننا ويجعلنا نقرأ ما نحتاج من الإنجيل لمسيرة وجودنا وليس لحقيقة إنساننا ومسؤولياتنا، فإننا نتباهى أحياناً بأننا في العلم درجةً، وفي البيان درجاتٍ،وفي الجمال درجةً وفي الجاه درجاتٍ وفي المكانة عالية ولا سواها  وننسى أن الحقيقةَ أعمق من ذلك، وأمثلة كبار القديسين عديدة تصف لنا أن طريق الملكوت ليس كلاماً ولا عنوانا بل أن المسيح هو الطريق والحق والحياة. والحقيقة والتي يجب ان تقال علانية هي أن يترك الإنسان قرابينه على المذبح والتي تشهد لعلاقته مع إله السماء  ثم يذهب يفتش ومن حوله ليضمّدَ جراح مَن سبّب في جراحه كي يكون عاملاً أميناً لهذه الحقيقة لينال بعد ذلك كلمة الثقة في المصالحة التي تقول "كل ما فعلتموه بأحد هؤلاء الصغار فبي فعلتموه" (متى40:25).
الله وسره
   في الإعتذار الحقيقي تنفتح عيون الإنسان ليدرك ما ارتكبه تجاه جاره من جرح عميق وإساءة شوَّهت سمعتَه، فلو كان مَن اعتذر يدرك جيداً أن إساءته للآخر ما هي إلا إساءة للسيد الرب بذاته، لمّا قام بهذه الفعلة المشككة فما عليه الا ان يتذكر قولَ الرب على لسان بولس الرسول الذي يقول "إن كنت أتكلم بالسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة." (1كور13). فالجمال وهندسة الحياة واللغة وبيانها والأقوال والكلمات والمناصب والسيادات مهما صرخت ليلاً ونهاراً أمام أعين الرب وبذراعين منفتحين لا نفع فيها اذا خلت من محبة الذهاب ليصلح ما افسده ويداوي ما جَرَحه ،  فكل ذلك  لن يُجدي نفعاً، إلا عندما تنتهي من داخل عقولنا وأفكارنا حبنا للذات وللأنانية ولعقليةِ الطائفية ولثقافة المحاصصة ولكبرياء المسؤولية فما ذلك إلا وباء ينخر جسم الكنيسة ومسيرة إيماننا وحقيقة مسيحيتنا ولكي يسمو الى هذا المقام يجب ان نقلع شوكة الالم من داخلنا والتي سببها هذا الحدث ، لذلك لا يجوز أن نرتدي أقنعة لمسيرتنا نختبئ من خلفها ونخبئ ما في داخلنا من أفكار وشهوات وغايات فالرب يقول  "من الفكر (القلب) تخرج أفكار شريرة" (متى19:15). فالتنازل عن الكبرياء إلى حيث الخدمة يهذب حقيقة وجودنا ويشهد لحقيقة اعتذارنا وصلحنا ويقلل من سلبياتنا وأنانياتنا لنزداد قداسة في درجات حقيقتنا الإيمانية. فسرالاعتذار، لا يمكن إدراكه لأنه سر الله وينبثق من حقيقة الله، إنه سر عظيم حيث يتخذ لنفسه تجسيدَ محبة متواضعة - ولكنه اليوم ومن المؤسف- ما هو إلا مرض الزمان، فحقيقة تواضعنا هي حقيقة إيماننا، لأن الإيمان يمنح الإنسان القوة الداخلية اللازمة ليشهد لحقيقة المسيح الذي قال "لا تكن محبتكم بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق" (1يو18:3).
   حقيقة رحمته 
   نعم إن الحقيقة المسيحية تجعلنا ان نفتح عيوننا لندرك أخطاءنا قبل أن نقدم إعتذارنا للذين جرحناهم، فكل إساءة للآخر هي إساءة للرب السيد بذاته حتى لو نرفع دعاءنا إلى رب السماء، فنحن بحاجة ماسّة إلى بعضنا البعض من أجل البقاء على قيد الحياة، فالإعتذار ليس مجاملات.فمن المؤسف ان الذي يقدم اعتذاره أحياناً لا يؤمن أنه في الخطأ بل يعتبر نفسه هو الحقيقة مهما كان إذ يظن أنه مسؤول الزمان وكبير القوم ووحيد الايام  فلا يمكن أن يخطأ، والفيروس، حقيقة اليوم جعلنا كلَّنا خطأة إذا ما أسأنا طريقة وقايتنا.فهو يدعونا جميعا كباراً وصغاراً ، عبيداً وأسياداً، شعباً ورؤوساءً،  الى فعل التوبة الحقيقي كشعب نينوى فنرى حقيقة رحمة الرب. وإذ كنا ننكر مسؤوليتنا في ارتكاب الخطيئة يكفي أن نتأمل ذلك المعلَّق على الصليب والقائل "هذا هو دمي لمغفرة الخطايا" (متى28:26)، إنه "الحَمَل الحامل خطيئة العالم" (يو29:1)، تصرّف وكأنه مسؤول عن خطايانا إذ أنه هو الذي "لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة من أجلنا لكي نصير نحن به برّ الله" (2كو21:5).
   الختام 
    في الختام ، المسألة في صعوبة الإقرار بأننا خطأة. نقرّ حقاً أن في حياتنا انحرافات أدبية لكننا لا نقرّ بأننا مسؤولون تماماً عما نقترف بل نَنسب ما نُقدِم عليه إلى ضعف الإرادة أو المزاج أو عنف التجربة، أو إذا اعترفنا بأننا قد أخطأنا لا نرى كيف أن الله قد مُسَّ في كرامته ومجده وحقوقه ومحبته. فلكي نعترف بمسؤولية المَسّ بكرامة الآخر البريء، ينبغي علينا أن نعيد النظر في مفهومنا لله، فالله ليس غريباً، الله أب وصديق، وله معنا ما للأب مع ولده وما للصديق مع صديقه "لا أسمّيكم بعد عبيداً بل أحباء" (يو15:15). فَمَن أدرك سرَ المسيحية فهو يدرك سر الله وسر الإنسان. أجل ما أسعد الإنسان يوم يعود إلى ربه، وليعلم ان التوبة والاعتذار ليستا عودة إلى التقيّد بشريعة بقدر ما هما تقيّد بمتطلبات المحبة ومنها الاعتراف بالخطأ والاعتذار عن الخطأ.والبابا فرنسيس يقول جازماً " بأن ما يحدث حول العالم يهزّنا في عمق أعماقنا ولهذا فقد حان الوقت لإصلاح الظلم الذي يهدد جذور سلامة البشرية بأسرها" .من أجل أن تحيا حقيقة الايمان في هذا الزمان القاسي والمخيف ، نعم إنه يدعونا الى التوبة والاعتراف في سر المصالحة فنترك قرباننا على مذبح الرب ونذهب ونعتذر ونصالح من اسأنا إليه ثم نعود ونرفع الصلاة ، نعم تلك حقيقة الاعتذار . نعم إني أدرك تماماً أن زمن الفايروس كورونا هو زمن الأعتذار عن الاساءة فهو يقول لنا جئتكم علامة فلا تهملوا حقيقة وجودي فاقرأوا رسالتي اليكم ، وعودوا الى ابيكم السماوي  فهو ينتظركم ، إنه رحوم .نعم إنه رحوم فهو يغفر لكم لانه يحبكم . نعم وامين .

87
والخلائق تسبح بحمده " القصبة "

المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

مررتُ هذا المساء بمستنقع حيث مئات القصبات المنتصبة تتمايل، فتذكرت معمدك يوحنا فهو القصبة ، فتمتزج همسات حفيفها بنقيق الضفادع، بينما سطح الماء فوق المستنقع يتجعّد بمرور النسيم. وبدا لي كأنّ تلك القصبات تشعر بالسعادة وهي تحتلّ مواقعها. إن هذه النباتات المائية تقوم بدورها على أحسن ما يرام، ببراءة وصفاء طوية، وبدون تمرّد ضد قدرها المحتوم.هل صدفة توقفتُ على حافة هذا المستنقع لأتأمّل قصبات مترنّحة؟، أم لأنني أنا أيضاً قصبة ولكن "قصبة مفكرة" كما قال باسكال؟.إنني لا أبحث عن ذاتي في هذه القصبات، ولكنني أريد أن أضيع في داخلها، لأنني أعلم جيداً أنّ في أعماق هذا التأمل الصامت سوف أجد الحب الأزلي الذي كان مصدر وجودي ووجودها ووجود جميع الكائنات، " وخلقني على صورته" ( تك 1) و"حسنة " وبغتةً، ودون أي جهدٍ، اكتشفتُ نفسي في موقعها الحقيقي بين هذه القصبات، لا بل في هذا الكون برمّته؟.
فغالباً، يا إلهي، مخلوقاتكَ الحقيرة هي التي تقودنا إلى الحقائق الأزلية من دون الاستعانة بالكتب أو استخدام الكلمات. إنّ ما نحتاجه يا إلهي، هو بكل بساطة، أن نحبَّ خليقتكَ. ونحن نصنع العكس، نريد أن نستعملها لأغراضنا المحددة ، وأن تكون عبيدة لاهوائنا وأنانياتنا وكبريائنا. فمنذ أجيال ونحن نقطع القصب لنحرقه ونتدفّأ به إبان الشتاء، أو لنصنع منه أقلاماً للكتابة، أو سهاماً من أجل أن نتحارب. ولكن المحبة تأخذ اتجاهاً مغايراً: فهي تتأمل الأشيـاء ثم تتوقف عندها، لتقيم جسراً يربط ما بين جميع المخلوقات، معتبرةً كلاًّ منها هو خيرٌ بحدّ ذاته.
علّمني يا إلهي أن أحترم جميع المخلوقات مهما صغر شأنها، وأن أحبكَ من خلالها، وأن أحوّل كل غريزة للفتك بها وتدميرها إلى عاطفة حب لها، وأن أكون راضياً عنها لأنها من صنع يديكَ، فقد رأيتَ كل شي حسن " (تك1   ) وبعد كل هذا. نعم أنهم وضعوا قصبةً في يدكَ بدلاً من صولجان (متى29:27)، في تلك ليلة النزاع، ليلة الحب الالهي ،أتذكّر أيضاً الأشواك المغروسة في رأسكَ (متى29:27) بأمر من الانسان المخلوق ،  تحت ضربات قصبةٍ طيّعة، إنها أعمال الخليقة بانانيتها المعهودة ، وحقدها المصلحي، وكبريائها الوجودي.
يا رب!، هل بإمكان قصبات ضعيفة أن تمجّــــدكَ بمثل تلك الموسيقى الغريبة التي كانت تعزفها سيقانهــا المحتكّة بغير عنف مع بعضها!؟.آه يا سيدي!يا ربي ،  لقد شاركتْ هذه القصبة كما شارك الشوك واكليله ، أيضاً بعملية الفداء!عملية الحب السماوي !  وفظيعٌ ألاّ تكون للقصبة مكانةٌ خاصة في قلوب المسيحيين!وبدلا عنها غيّر البشر القصبة بصولجان من ذهب بسبب كبريائهم ، فكانت كعِجل أسرائيل يعبده الشعب المخلوق . فسامحني يارب وأجعلني قصبة تنشد لك لحن الحب الازلي ، ياإلهي ، نعم وآمين.



88
والخلائق تسبح بحمده ( الحمـــار)
المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. وأمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
   البشر غالباً يُخطئون في أحكامهم. فإنهم يهابون القسوة ويحترمونها، ولكنهم يحتقرون البساطة ويهزؤون بها. إنهم يمجّدون ما هو ضارّ لهم، ويستخفّون بكل ما له فضلٌ ونفعٌ لهم. فانظروا إلى هذا الأسد الهصور، ذي المخالب الحادة، وهو يتربّص بفريسته للانقضاض عليها، وقد كشّر عن أنيابه. إن البشر يهابون هذا الوحش ويرفضونه جاراً لهم، وبالجهد استطاعوا أن يضعوه في أقفاص حديدية وهو مكبَّل بالأغلال، ولكنهم مع ذلك توّجوه ملكاً، ورفعوا صورته على شعارات الدول العظمى والقوية. وهذا القول نفسه ينطبق على النمور. أما النسور فحدّثْ عنها ولا حرج . في الواقع، النسور هي حيوانات سطوٍ شرسة، والنعاج الصغيرة لها حكايات قديمة مرعبة معها. يملك النسر منقاراً أعقفاً، وصوتاً ذا بحّة غريبة مخيفة. إنه أرستقراطي!. فمنذ نسور الرومان، ونسور الإمبراطورية المقدسة، ومنذ النسور النابليونية وحتى يومنا هذا، يتّخذ العالم من النسر شعارات برّاقة وأمجاداً.
   أما الحيوانات الأليفة، فلا أحد يعيرها بالاً، وغالباً نحتقرها رغم ما تقدمه لنا من نفع وخدمات. فهذه الدجاجات والبقرات والنعاج المسكينة التي تقدّم لنا اللحم والبيض والحليب، وهي خاضعة لأوامرنا كأنها تحت نير العبودية، لا نتردّد عن تسميتها أحياناً حيوانات عاميّة دنيئة.أما عن العجول والكلاب والأوز والديوك الرومية والخنازير، فإن أسماءها انقلبتْ إلى شتائم ومسبّات. والحمار خاصة، هذا الحمار الذي لم يفترس أحداً طيلة حياته أبداً، هذا الحمار الذي يبسط لنا ظهره لنركب عليه أو لننقل أحمالنا الثقيلة فوقه، والذي يكتفي بالنهيق عند شعوره بالجوع أو بالتعب. هذا الحمار الذي أصبح عنواناً للمذلّة والإهانة والاستهزاء، ابتداءً من آذانه الطويلة حتى رفسات أقدامه المتعثرة، حتى أصبحت كل غباوة، كل بلادة، وكل حماقة، صفةً من صفات الحمير، ومع الاسف هذا ديدن الانسان الذي شوّه حقيقة الحياة والحيوان .
   ولكنك يا سيدي، يا إله السماء، عند دخولكَ أورشليم منتصراً، ألم تقرر متعمّداً ركوب جحش ابن أتان؟ (متى 8:21)، كأنكَ أردتَ بذلك أن تعلّمنا كيف نميّز بين الخدمة والعبودية، بين الحقيقة والكذب المزيّف ، وأن العظمة الحقيقية ليست في القوة والإرهاب، بل في البساطة والتواضع . ومنذ ولادتكَ يا سيدي، كان هنالك حمارٌ في إسطبل حقير ينفخ في وجهكَ الصغير الجميل ليدفّئكَ!، ثم بعد ذلك ركبتَ حماراً برفقة يوسف ومريم إلى مصر هرباً من سفكة الدماء!.
نحن نعتقد بسهولة أن الفلاسفة والمفكرين والواعظين وذوي الأقلام والاختصاصات والشهادات العالية والمناصب الرفيعة، هم أكثر نبلاً من الفلاّح الذي يزرع القمح ليقدّمه غذاءً للجائعين، وأن مدافع الغزاة هي أكثر عظمةً وشرفاً من قدور الطبّاخين الذين يُعدّون الطعام للمرضى الراقدين في مستشفى!!. هذا الحمار البسيط الذي جلبه لكَ تلاميذكَ ووضعوا ثيابهم عليه (متى8:21)، يعلّمني أكثر مما تعلّمتُه من الفلاسفة والمرشدين وأساتذة الجامعات، لأن تعاليم الأرض توزّعها الكتب والجامعات، أما تعاليمكَ أنتَ يا سيدي، فمنبعها الحياة ، وما الحياة إلا أنجيل المسيرة .
      إن القديسين الذين أعلَنَتْهم الكنيسة وتعلنهم بصورة رسمية أنهم قديسون، ليسوا هم وحدهم القديسون الحقيقيون، فكم وكم من المسيحيين السذَّج والمَنسيّين والمهمَلين والذين يعتبرهم الناس غير مهمّين وغير نافعين، هم في الحقيقة قديسون، لأنهم يقومون بدورهم بمحبة وإيمان وصمت وبساطة دون حبّ الظهور، مثل ذلك الحمار الصغير الذي قال عنه صاحبه للتلاميذ:"خذوه، فإني لستُ بحاجة إليه" (متى4:21) .
   إن هذا الجحش المسكين لم يترك لنا حتى عظماً صغيراً من أجل تذكّره والتبرّك به. ولكن ألا يمكنني أنا أن أتبرّك الآن بذلك الحمار، بغبائه وغشاوة عقله وعدم نفعه؟، لأنكَ يا إلهي، أنتَ أيضاً طلبتَ مني أن آتي إليكَ رغم غبائي وغشاوة قلبي وعدم نفعي!، ورغم كـل صفاتي هذه التي تشبه صفات الحمار، فقد قررتُ أن أخدمكَ يا إلهي حتى مماتي، مقتدياً بذلك الحمار الذي عاش طيلة حياته ببساطة دون أن يشارك الخيول الملكية المطهمة باستعراضاتها، ولم يشتبك بفرسان الأمراء عند خوض الحروب، ولم يشترك بسباقات البطولة حيث تتقادح سنابك الخيول الأصيلة بشرر الفوز، بل اكتفي بالسير متكردحاً وأنا أوزّع خدماتي على البشر، على غرار الحمار الذي قيل عن جدّته القديمة أتان بلعام (العدد27:22) أنها أكثر دهاءً وذكاءً من أناس كثيرين.
الحمار الذي يقدّم لنا خدماته بصمت وأمانة وإخلاص ومن دون جعجعة ولا تهريج،لا كبرياء ولا غرور ،  إنما يقوم بواجبه الطبيعي ولا يطلب جزاءً ولا ثناءً أو تكريماً، وهو يعلّمني أن العظمة الحقيقية ليست في الفخفخة وحبّ الظهور، وشراء الذمم، والجلوس على كراسي الكراهية والحقد والمصلحة لتدين الشعوب البريئة، وإنما في الخدمة والتواضع وحقيقة الحياة ، والعمل بهدوء بلا اصوات ولا طبول .
آه كم يلزمنا من الوقت يا سيدي، لنفهم أن كل ما في الإنجيل من أشياء تافهة وحقيرة يمكن أن تخترق صفاقة عقولنا وتصحّح كل ما في منطقنا من اعوجاج، وفي أحكامنا من مغالطة وضلال، لتعلّمنا أن الشرف ليس قوةً غاشمة، ولا كبرياء من مغرور،  بل خدمةً متواضعة، وإن عظمة الإنسان هي أن يكون نافعاً ، وكنت دائماً صاحب القول"  أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا28:22)  . نعم وامين .

89

والخلائق تسبح بحمده " الغذاء "
المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. وأمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
لقد أُدرِجَتْ الشراهة في قائمة الخطايـــا الرئيسية السبع. ومن التهوّر أنْ يحــــاول أحدهم شطبها من تلك القائمة. ولكن عالمنا اليوم تلفّه مجاعة مخيفة ونقص في الغذاء، فهناك الهند وأفريقيا الوسطى والصين حيث ملايين البشر لم يشبعوا أبداً في ملء بطونهم ولو مرةً واحدة في حياتهم،ومشهد اليوم بفايروسه وكورونه يزيد فقرنا، وتبدو الشراهة لديهم مستحيلة الحدوث.إن القاعدة القديمة الغير القابلة للدحض هي "عدم الأكل أكثر من اللزوم، ولا بشهية أكثر من اللزوم، ولا بسرعة أكثر من اللزوم" قد بطل اليوم مفعولها.إن الوثنيين كانوا قد سبقونا في مثل هذه الوصايا الغذائية، فلابدّ إذن أن هنالك شيئاً أكثر أهمية ونبلاً في فضيلة القناعة.
إن الإنسان الذي عرّفوه سابقاً بأنه "كائن مفكر"، وجدوا أخيراً أنه " عذراً"  "حيوان أكول". إن المشكلة التي نواجهها اليوم هي ليست "متى نتوقف عن الأكل عندما يجب ألاّ نأكل أكثر مما يجب"، بل هي "متى الوصول إلى الحدّ الذي نكون قد أكلنا بالكفاية".إن ما يهددنا اليوم ليس الإفراط في الطعام بل التفريط فيه. وعندما يتضاعف القحط في العالم، تبدو وصايا الكنيسة بصدد الصيام أقلّ تشدّداً وتدقيقاً ومحاسبة. إذا كان الإنسان العادي لا يستطيع الحصول على كيلوين من اللحم خلال سنتين كاملتين، فكيف مطالبته بالامتناع عن أكل كيلو واحد من اللحم خلال خمسين يوماً من الصوم الكبير؟. إن ما يؤسف له أن اللاهوتيين الذين وضعوا الشراهة في قائمة الخطايا الرئيسية السبع هم أنفسهم الذين حذفوا خطيئة الجحود أو نكران الجميل من قائمة الخطايا الرئيسية السبع. لأن الغذاء في النظرة المسيحية الحقّة هو قبل كل شيء عملية شكر وحمد وعرفان الجميل تجاه الله الخالق المبدع " فهو الحياة "( يو10:10) لأنه ما من أحد يستطيع أن يتغذى اعتماداً على ذاته وحدها، ابتداءً من حليب الأمّ حتى هذا الفطور الذي تناولناه في هذا الصباح.
إن كل طعام، إن كل غذاء، هو عطية من الله، ويستوجب الشكر والحمد لله صانع الغذاء. فلم تعد المشكلة هي مشكلة شراهة أو اعتدال في تناول الطعام، بل المشكلة أصبحت كيف نحوّل عملية الأكل إلى حمدٍ وتمجيدٍ لله. بالنسبة للوثني، الأكل هو عملية سحق الطعام وتحويله إلى سعرات حرارية تزوّد الجسم بالطاقة التي يحتاجها للقيام بعمله. سحق الطعام أي تفتيته وتحطيمه وإجباره على إنجاز شغل، كما تُجبَر البهيمة على إنجاز عمل، وكما يُبقَر الثور أو الفرس، وكما يُكسَر القوس من فرط الشدّ عليه وَلَوْيه. ولكن إزاء عطية الله المجانية، فإن المسيحي لا يسحق الطعام ولا يجبره على الامتثال لأوامره، بل بواسطته يمجّد الخالق ويشكره على ما جاد عليه به من إحسان، ولهذا السبب نجد في العوائل المسيحية تُتلى الصلاة قبل وبعد تناول الطعام.- ومن المؤسف فاليوم بعض منّا  لا يبالي بذلك- ، فالأطعمة التي نتناولها تحتوي على كل خزين الأرض والشمس، وعلى تعب جميع الذين هيّئوها، كما إنها تحتوي قبل كل شيء على محبة الله للبشر. لماذا إذن أَمْتَنِعُ عن الإفراط في الطعام؟، هل لأن العقل ينهيني عن ذلك؟، ولكن العقل باردٌ بقوانينه الخالية من المحبة.. هل بسبب اللياقة والذوق السليم أمتنع عن الأكل الكثير؟، ولكن متذوّقي الخمور المعتّقة ومشهيات الأطعمة اللذيذة والمقبلات أكثرهم من أصحاب الذوق الرفيع.. كلا!، إن ما يمنعني عن الشراهة ليس هو نظام المجتمع ولا هو الذوق السليم، إنما أنتَ يا إلهي الذي أعطيتَني كل شيء مجاناً لأجل أن أخدمكَ وأحبكَ وأشكركَ، وأُفكر في الجائع الذي معي .
في عرفان الجميل نتلاقى نحن الاثنان، أنا وأنتَ يا سيدي. ليــــس الموضوع هو كيف أتصرف بأدب وأنا جالس وحدي إنما هو كيف أتصرف بأدب وأنا جالس معكَ وأنتَ حاضر بقربي، وكيف أكون نظيفاً ونبيلاً وأنتَ حاضر معي. هل يسعني أن أسيء استخدام الغذاء وأنتَ جالس بقربي؟، هل يمكنني أن أتلف الغذاء وأبذره وأسحقه كما يسحق الهمجيّ فريسته وأنتَ واقف تنظر إليّ!؟. نعم، أستطيع أن أتلف شيئاً يخصّني وأنا جالس وحدي، ولكن هل يمكنني أن أتلف أو أُفسد غذاءً أنتَ صنعتَه وشاركتَني فيه عندما باركتَ السمكتين والخمسة أرغفة (متى21:14) ثم وزَّعتَها على الجماهير الجائعة!؟.فالشراهة! ماذا بقي منها؟ وهل أستطيع أن أكون شَرِهاً وأنا أعلم أنك عرفتَ الجوع والعطش يا سيدي، وإنك في نهاية صومكَ قلتَ لإبليس "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله"؟ (متى4:4). لذا أنا اؤمن ياسيدي،  يا إلهي،  أنكَ" أنت الكلمة"( يو1:1) وأنت خبز الحياة " ( يو4:6).نعم، كلمتك خبز لمسيرة حياتي ".  نعم وامين .

90
والخلائق تسبح بحمده " الخشب "
المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى
    حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. وأمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
كنا نقول أيام زمان "هذا رأسٌ من خشب" عندما نشير إلى صبي قليل المهارة والذكاء. وعندما يريد المربّي معاقبة أحد الطلاب عن شطط اقترفه، فإنه يستخدم فلقةً خشبية منقوعةً بالماء!. ودكاكين الحطّابين عادةً ليست رائعة الجمال، فنحن نشتري الحطب لحرقه، وجلاّد المقصلة يستخدم خشبة عريضة ضخمة تحمل شفرة كبيرة من حديد لقطع رأس المحكوم عليه بالإعدام، وآلهة الوثن القديمة المصنوعة من الخشب كانت تدعى أصناماً باطلة.إذا كان الخشب يلعب أدواراً كذا سيئة وحقيرة في حياة الناس، فلماذا إذن يا سيدي ، يا يسوعي،  أردتَ أن يكون صليبكَ مصنوعاً من الخشب؟!، ولكنك تعرف جوهـر كينونة الخشب أكثر منا جميعاً. لقد اشتغلتَ به عندما كنتَ يافعاً تعمل نجاراً مع يوسف ، في إحدى دكاكين الناصرة (متى23:2)، وكنتَ تعلم كيف تنشره وتصقله وهو جاف متجنّباً مواقع التقلّصات والعقد، وكنتَ تعلم أيضاً أنكَ سوف تموت ممدوداً على صليب من خشب.ومنذ أنْ غُرِسَ الصليب فوق قمة جبل الجلجلة، أصبح الخشب مسيحياً. اصبح ملكك، " بعد أن كُتب عليه عنوانكَ "،(مرقس 26:15) .  في كل جمعة آلام من كل سنة، بينما يكون بيت القربان فارغاً مفتوحاً على مصراعيه، لا أحد يتردد في الركوع أمامه وذلك تكريماً للصليب الخشبي المنتصب فوقه.
يا سيدي، إن مذابحكَ أغلبها مصنوعة من الخشب. ومن خلال مشبّك من خشب ــ كرسي الاعتراف ــ ينال المؤمنون بعد الاعتراف الغفران عن خطاياهم.باستطاعتي أن أصنع منضدة خشبية أو باباً من خشب، ولكنك أنتَ يا سيدي أعطيتَني الخشب جاهزاً مشاركاً في الخلاص ، مثلما أعطيتَني ضياء الشمس مشاركا في جمال الحياة .أنتَ الذي تجعله ينبت بين الأدغال وفي الحقول والغابات وعلى قمم الجبال، وإليكَ تخضع مملكة النبات ابتداءً من حبة الخردل حتى شجرة البلوط الهرمة، وتلك الألواح الطويلة العملاقة المعدَّة للتقطيع مثل قطيع الماشية الذي ينتظر دوره للذبح.
لماذا التفتيش بعيداً في النظريات الصعبة؟ بينما لا تلزمني سوى نظرة عابرة على باب كنيسة ما، أو على مقعد في كنيسة، أو على مركع في الكنيسة أستند إليه لكي أصلّي.إني أفكر في يوم جمعة الموتى حيث ألوف من الأضرحة المصفوفة تحمل جميعها أنواعاً من الصلبان الخشبية، وأتذكر شهداءَكَ الذين ماتوا من أجل الإيمان تحت لهيب من الحطب، وأتذكر الذين لا يملكون وتداً يسندون به رأسهم في ساعاتهم الأخيرة! وأنت واحد منهم " فابن الانسان ليس له مكان يسند اليه رأسه " ( متى 20:8) . أفكر في جميع الأكواخ الخشبية المتصدّعة التي لا تكاد تحمي ساكنيها من الزمهرير والمطر،وساكنيها الذين يموتون فقراء ،  وبجميع التوابيت التي هي آخر مسكن للإنسان ، غنيا كان أو فقيراً ! وعِبرَه تعلمتُ أن الغنى ليس في خشب التابوت ، إنما في الراقد في التابوت ، وفي هذا يحملُ خشب التابوت،  صفة الحقيقة الامينة، وهذا يا سيدي ما حصل معكَ.
يعلّمنا الخشب ألاّ نحطّ من قيمته رغم ضيق مداركنا، فهو يرافقنا ،ومثل ملاك الحارس، يستمر يحذّرنا وينبّهنا بأنكَ لستَ بعيداً عنا، ويُعدّنا من أجل لقائكَ الأكيد،  فحِملُه رسالة السماء ، وحقيقة ايمانية . نعم  سوف أتجول بكل احترام خلال جميع مخلوقاتكَ يا سيدي، ولكي أستمـر في صلاتي، يكفيني أن أفتح عيني وأنظر الأشياء على حقيقتهـا، عندئذٍ حتماً سوف أراكَ فيها،معلقاً من أجلنا ، أنتَ الكلمة المتجسد، مخلّص البشر، النجّار الناصري (متى23:2)، المصلوب فوق خشبة، وسيرافقنا طوال المسيرة ،وسوف أكتشف بصمات الألوهية من أصغر نُشارة في دكّان نجّار، احتفظَ بها مثل ذخيرة من بقايا القديسين.نعم لخلاصي .

91
والخلائق تسبح بحمده " اليدان "
المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى
    حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى .فعبرَ مقالات  من " والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .
إنَّ الأدمغة الفارغة لا تقدّم خدماتٍ نافعة للبشرية،إلا محسوبياتها، أما الأيدي الفارغة فإنها ينابيع للتدفّق والعطاء. يزعم المتحذلقون أن العقل الإنساني هو أساس التفكير المجرد والعلوم النظرية، بينما الغريزة الحيوانية هي دافع العمـل اليدوي والعلوم التطبيقية.لكن هذا الوهم يتبدّد عندما ننظر إلى أيدي الأمّهات وهي تحتضن أطفالهنّ وتهزّ مهودهم، وأيدي ملائكة الرحمة وهي تعتني بالمرضى وتضمّد الجرحى، وأيادي الفلاحين التي تقدّم الخبز للجائعين، وأيادي الطبّاخين التي تعدّ الطعام للفقراء،وأيادي الاطباء والممرضين والممرضات التي تبذل قصارى جهدها لانقاذ الانسان من الوباء ،وأيادي الميكانيكيين وعمّال البناء المتشققة التي تقيم المصانع وتشيّد العمارات، وهنالك أيضاً الأيادي التي تمتدّ للاستجداء، والأيادي التي تلوّح في الفضاء لحظة الوداع، ويدا رئيس الجوق اللتان تنسّقان النغم مع عزف العازفين.لكن البشر استخدموا أيديهم أيضاً للقتل والنهب والحرق والتخريب. لقد كان سبب جميع الحروب هو طمع الإنسان وميله إلى الأخذ دون العطاء. فاستخدم العنف والسيف عند الضرورة ليعود ويداه محمّلتان بالغنائم والأسلاب.هنالك يدان كانتا قد امتدّتا أفقياً باتجاهين متعاكسين، وقد ثقبهما مسماران، ومن الحفرتين اللتين صنعهما المسماران، ينبوعٌ أخذ يتدفّق ولم ينضب منذ واحد وعشرين قرناً حتى يومنا هذا، ولا يزال يروي البشرية ويحميها من العطش والضياع. إنه يسوع الحي ، القائم من بين الاموات ، بهاتين اليدين كنتَ تبارك جموع اليهود يا سيدي قبل أن يقبضوا عليكَ ويعلّقوكَ فوق الصليب.
بهاتين اليدين الفارغتين كنتَ تشفي المرضى وتقيم الموتى وتعيد البصر للعميان والنطق للبكم.
وبهاتين اليدين أيضاً حوّلتَ الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل (يو7:2).
يداكَ يا سيدي فارغتان تماماً، مبسوطتان دوماً للعطاء دون الأخذ. لقد أعطيتَني يا سيدي يدين كبقية البشر، فماذا صنعتُ بهما وكيف استعملتُهما؟.لو لم تكن قد حرَّرتَ أيدينا من الالتصاق بالأرض لكنّا حتى اليوم نسير على أربع قوائم كبقية البهائم والحيوانات. وبعد ذلك انقسمت أيدي البشر إلى صنفين متناقضين:
         الأولى: هي الأيادي الفارغة التي تمتلئ، وهي التي تأخذ ولا تعطي.
         والثانية: هي الأيدي المملوءة التي تُفرغ وهي التي تعطي ولا تأخذ.
إن أيدي البشر هي التي بنت كل شيء، وهي نفسها التي هدمت كل شيء في هذا العالم.
هبني يا سيدي أن أكون من صنف الذين يبنون ولا يهدمون، من صنف الذين يقولون الحقيقة شهادة لمسيرتك ، من صنف الذين يعطون ولا يأخذون، متذكراً أيام طفولتي والأيادي التي كانت تحملني وتحيطنــي بالمودّة والعطف، والتي قامت بتربيتي ولا زالت مهتمة بإطعامي وإكسائي وإسكاني، عسى أن تمحو ذكراها مني جميع نوازعــي وغطرستـــي وادّعاءاتي الباطلة، وتضع في قلبي شيئاً من الرأفة والحنان، وتعلّمني معنى التساهل والمحبة!.هبني يا إلهي أن أعمل وأكـدّ وأتعب من أجل الآخرين دون أن أتوقع منهم جزاءً ولا مكافأةً. هبني يا سيدي ألاّ تكون يداي مفتوحتين عند الأخذ، ولا مقفلتين عند العطاء، بل دوماً فارغتين، شبيهتين بيديكَ المثقوبتين بمسمارين.أمين نعم يارب ، آمين

92
شكرا رد على مقال ربنا يشكو حاله
اقدم لك ايتها العزيزة آن سامي لتفانيك في خدمة الكنيسة وكتاباتك هذه تشهد على بعد ايمانك الذي تربيت عليه وما كلماتي الا صميم حياتنا المسيحية فقد ارتوينا تمام من الخطابات الرنانة  والاعلانات  والبيانات الموجهة الى كبار الزمن ولكن لا احد يبالي بذلك فكل اجتماع ينتهي ببيان ولا يُنفذ ما هو الاتضييع الوقت ولنُبعد عن اجتماعاتنا محسوبياتنا وطائفياتنا ومصالحنا لنكون فقط بنعمة الرب من أجل المحبة الى اعطانا اياها الرب يسوع كما علمنا البابا فرنيسس  وما هذا الداء الا رسالة من السماء لندرك ان مشيئة الرب ليست مشيئتنا لان شؤون الرب هي غير شؤؤون البشر فكلنا ابتلينا بهذا الفايروس فلنفتش عن اين هو الخلل هل في الفايروس ام فينا نحن الذين نصور انفسنا من ال بيت الله ونستحق كل شي لاننا من اقرباء الحقيقة وما الحقيقة الا الله وحده فلنعمل ارادة الرب ولا نطلب منه أن يطيعنا بل نحن يجب ان نحيا ايماننا في كلمته ونناشده ان يكون معنا فالرب صخرتي يقول المزمور وعليها ابني كنيستي وبيتي وحياتي غنها صخرة الانجيل وكلمة البشارو وخبز التقدمة وختاما ليباركك رب السماء وما فائدة الكلام اذا كان كلام مجرد.الف شكر لتفانيك وعطاءك والرب هو الحقيقة نعم وامين

93
ربنا يشكو حاله... لماذا!!؟
المونسنيور د. بيوس قاشا
بعد أن وصلت الحضارة البشرية إلى قمّتها بعلمها وتقنياتها وتكنولوجياتها، ظهر أمامها في هذه الأشهر الأخيرة فيروساً صغيراً بل جرثومةً حقيرةً (كورونا) داهمت العالم
كله: عالم الفجور، عالم الأنا والكبرياء، عالم الحقد والبغض والكراهية، عالم المصالح والمحسوبيات، وشلّتْ حركته، وبشكل مفاجئ شكّلت خوفاً ورعباً هائلاً في قلوب البشر، وظهرت كعدو متخفي كالشيطان الذي يهاجمنا ونحن لا نراه ولا نتحسّس به أو نستشعره، وجَعَلَتْنا مبتعدين الواحد عن الآخر حتى داخل البيت الواحد، وأجْبَرَتنا على العيش داخل جدران منازلنا، أغنياء وفقراء، أصحّاء ومرضى، أصحاب أموال وسلطة، قادة نفوذ وسلاح، رؤساء وعبيد، أناساً عاديين ورسميين، ولا أحد يعرف متى تنتهي معركة الفيروس كورونا هذا. فبسببه تغيرت الحياة، وتحولت من حالة إلى أخرى في ليلة وضحاها، وربما سيظهر في المستقبل عشرات الفيروسات الأخرى تفتك بالبشرية، وهل الفيروسات هذه ـــ وكورونا بالخصوص ـــ هو نتيجة لعمل خاطئ قام به الإنسان، أم هو كبرياؤه في الاستيلاء واستعباد الدول عبر الأنانية المعهودة كما كان الحال مع قائين حيث دفعته الأنانية والكبرياء والغيرة إلى قتل أخيه "هابيل" (تك1)؟.
يسأل المؤمنون اليوم: هل هذا الفيروس جاء ليمتحنَ إيمانَنا وطاعتَنا ودرجةَ محبتنا وغاياتنا كما حصل مع آدم حيث كسر وصية الله بعدم طاعته فطُرد من الجنة، وما حصل لأهل نينوى بتهديد يونان، ولكن الرب غفر لهم بتوبتهم؟ وما يحصل اليوم معنا، هل الله لا زال صامتاً أمام الكارثة الوبائية؟، هل يقيس درجة مسيحيتنا؟، فهو لم يأتِ لنجدتنا حتى الآن، فهل هو انتقام من بشريتنا؟، وهل الصلوات والأدعية التي ضاعفناها وعباداتنا الفردية التي أزدنا في إنشادها تقودنا إلى حصول معجزات؟، وهل يعني أن صلواتنا غير مستجابة وصلوات الأبرياء ذهبت سدىً ولم تسمعها السماء؟، وهل نحن نقوم بدعاية لإيماننا بأنفسنا كي نجلب شفقةَ الله، ويسوعُ ربنا يقول "لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ" (متى20:17)؟، و"هل" أخرى عديدة... أمام هذا كله يسأل ربنا ويشكو حاله ويقول:   
   أنا أعرف أين أنتم، أعرف أنكم اليوم تعانون من هلع الفيروس "كورونا"، وأنا أعرف جيداً أنكم لا زلتم في خطاياكم وشهواتكم ومآربكم وحب طائفياتكم أكبر من حبكم لي، ولا زلتم تفسدون في الأرض بحروبكم الخفية والمعلَنَة، فهل أنتم تعلمون بذلك؟، هل تعلمون إلى أين أنتم ماضون؟. فأنا أسأل عنكم ليس لأدينكم بل أنا هنا لأُشعركم بالحقيقة، وأنا بجانبكم لأخفّف عنكم هول الفاجعة التي حلّت بكم وأبعدت الخوف عن قلوبكم، "قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ" (مر23:13) ــ ولكنكم ربما تقرأون الكلمات في إنجيلي ــ ولكن إيمانكم بعيد عني، وعبر شفاهكم... لذا أقول: آمنوا "سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ" (لو6:21). لذا أناشدكم وأقول: كفاكم وضع الحواجز بينكم والهروب لتحتجبوا كما فعل قائين بعدما قتل أخاه، فأنتم تقتلون إخوتكم الأصحّاء كما يقتل الفيروس مرضاكم. أنا أعلم أنّ حِملَكَم ثقيل، ولهذا جئتُ لأقول لكم "تَعَالَوا إِليَّ" (متى28:11) ولكنكم "تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ" (متى14:13)، فأنا لا زلتُ أفتش عنكم كما فتشتُ عن "الخروف الضال" (متى12:18-14) و"الأبرص" (لو12:5-14) و"السامرية والخاطئة" (يو5:4-30)، لذلك حطمتُ كل الحواجز التي أقمتموها ومع ذلك لا تستطيعوا أن تمكثوا معي "سَاعَةً وَاحِدَةً" (متى40:26)... لهذا أسأل:
   لماذا، تخافون الموت وساعته، ألم أقل لكم "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" (يو25:11)؟، لماذا تخافون يوم الحساب، ألا تعلمون أنه مِن صنعكم لأنكم لستم أوفياء فتنالون "الْبُكَاءَ وَصَرِيرَ الأَسْنَانِ" (متى12:8)؟، لماذا تقولون عن أنفسكم أنكم قديسين ونسيتم أنه لو كنتم قديسين لما "تَجَسَّدْتُ وأَتَيْتُ لأُبَشِّركم بِالحَياة وَمُتُّ مِنْ أَجْلِكُمْ عَلَى الصَّلِيب وأفْتَدَيْتكم مَنْ خَطَايَاكُم" (لو20:24)؟، وقد أعلمكم بذلك تلميذي بولس الرسول حين قال "أَنَا الْخَاطِئ أَوَّلُهُمْ" (1تيمو15:1) فجعلتم دمائي تجري سدىً وآلامي حكم المعدوم... فلماذا لا تمنحوني فرصة لأتكلم معكم؟، فأنا لا أجد مجالاً لأستمع إلى شكواكم بسبب الضجيج الموجود في داخلكم، وأنا قلتُ لكم "مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي" (يو24:5)، ولكن ما أراه أنه "لكم أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ" (مر18:8)... فهل هناك ضعف في سمعكم تجاهي؟، فببساطة لم يعد بإمكانكم سماع صوتي لأن ترددات كثيرة مختلفة في عصركم أخذت آذانكم فضاع صوتي بينها.
   لماذا، تسخرون من وجودي بينكم وأنا دائماً أدعوكم إلى إعلان بشارتي الخلاصية وبكل شجاعة "اذْهَبُوا... وَعَلِّمُوا واعْلِنُوا الْبِشَارَة" (متى19:28-20)؟، واليوم أصبحتم تخجلون منها احتراماً وخوفاً وكأنكم بذلك تفعلون جيداً، فتنكرون إيمانكم بسبب أهوائكم وإرضاءً للآخرين، وهؤلاء أنفسهم يمجّدون أصنامهم ويؤلّهونَ بشراً وأنتم صامتون، وأنا قلتُ لكم على لسان تلميذي بولس الرسول "حَتَّى لَو نَحْنُ بَشَّرنَاكُم، أَو بَشَّرَكُم مَلاكٌ مِنَ السَّمَاء، بِخِلافِ مَا بَشَّرنَاكُم بِهِ، فَلْيَكُنْ مَحْرُوماً! وكَمَا قُلْنَا مِن قَبْلُ، أَقُولُ الآنَ أَيضاً: إِنْ بَشَّرَكُم أَحَدٌ بِخِلافِ مَا قَبِلْتُم، فَلْيَكُنْ مَحْرُوماً!" (غلا8:1-9).
   لماذا، أستغرب منكم كثيراً هذه الأزمنة؟، فمنذ ألفي سنة أرسلتُكم لتؤسِّسوا كنيسة تجمع الأصحّاء والمرضى، وسلّمتُ قيادتها إلى بطرس الرسول وهو بدوره سلّمها أمانة في أياديكم، ولكن ما رأيتُه بسبب خوفكم أنكم أفرغتم حتى دياركم العامرة وتجمعاتكم من روح السماء ومن ذكر اسمي، فلا زلتم تتهجّمون على الشر والشيطان، وتُنسبون الألم إلى إرادتي، وتملئون قلوبكم رعباً وهلعاً، كما لا زلتم في مواعظكم تذكرون اسمه "أي الشيطان" ولا أعلم أخوفاً منه، أم هل نسيتم إني أنا "أتيتُ لخلاصكم"، وإني قلتُ لإبليس في تجربتي معه "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (لو8:4)؟، فإن كان لكم إيمان لقلتم أيضاً ذلك دون خوف. ومن المؤسف إنني سمعتُ أنكم أنشأتم كنيسة لتكريمه حتى انزوى الكثيرون في عبادته، بينما أنا أنتظر متى تشنّون حرباً عليه لتظهر حقيقة إيمانكم وتتعاملون بالعقل والحكمة بعد أن غلبتُ وطردته ليَسجد للرب الإله.
   لماذا، تعاقبون أنفسكم كل يوم من جرّاء أعمالكم وكبريائكم وتتهموني وأنتم تعرفون حقيقة خطأكم، ومع هذا تقولون إني أنا هو سبب عقابكم؟. فهلاّ تعلمون أن نظرتي ما هي إلا نظرة عطف وحنان وشفقة! وماذا صنعتُ بكم حتى تطردوني من منازلكم وقلوبكم وترفعون صلواتكم وقد سبق فنبّهتكم إذ قلتُ "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَسْتَحِقُّنِي" (متى21:7). فحقيقتي إنني لستُ من عالمكم، فلو كنتُ منه لكذبتُ مثلكم وسرقتُ وقتلتُ، وأحببتُ أنانيتي ومصالحي ومحسوبياتي، وكسرتُ وصايا إلهي السماوي وابنتي الكنيسة، وقد سبقتُ فقلتُ لكم "أَنَا لَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ" (يو16:17) ولكنكم لم تعيروا لي آذاناً صاغية، ولم تؤمنوا بأنني راعيكم ولستُ أجيراً عندكم فَقَدْ "أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَكُمْ الْحَيَاةُ" (يو10:10)، ولكنكم رفضتم نعمتي هذه. لذا عليكم أن تعلموا جيداً إن الله خلق العالم جميلاً ولكن أنتم وبأعمالكم جعلتموه مغارة لصوص "لأَنَّ أَعْمَالَكُمْ شِرِّيرَة" (يو19:3)، وفي هذا أدركتُ أنكم تعبدوني بشفاهكم وثرثراتكم وليس بقلوبكم لذا قلتُ عليكم "إِنَّ هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً" (متى8:15).
      لماذا، تخلقون لأنفسكم ممالك ودويلات عنصرية بائسة لكي تكونوا الحاكم الأوحد والقائد العظيم، وتشرّعوا وتقرّروا بارتجال ومزاجية وانفراد ما تشاؤون وما يحلو لكم عبر خطاباتكم المليئة بالوعيد والترهيب وعبر تشنجات وتزمتات ومهام رئاساتكم، وكأنها أُنزلت من عندي لكي يمجّدكم غنمي البريء ويهتف لكم، وقد دوّختموه وشكّكتموه حتى في إيمانه؟، بينما تعلمون جيداً كم كنتُ مُحباً لكم ولرضاكم، وقلتُ لكم "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ" (متى29:11). فاليوم تحاكمون أولادكم وخدمكم بدل إرشادهم ونصحهم والتعايش معهم، فغروركم قد طاف دخانه إلى أجواء العلياء بعد أن ملأ نفوسكم، ومصالحكم أفسدت غاياتكم ودياراتكم، فبعتم قدسياتكم بدرهم فاسد، وأنا سبقتُ وقلتُ لكم "لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب" (متى6:7)، وأبلغتُكم في سفر الأمثال وقلتُ "تَوَكَّلواْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْوبِكَم، وَعَلَى فَهْمِكَم لاَ تَعْتَمِدوا" (أمثال5:3)، وأعلمتُكم أنكم في المعاناة تجدوني وأنتظركم لأكون نصيحتكم.
      لماذا، تقولون أن الرب تخلّى عن أبنائه؟، نعم ربما تجدونني صامتاً أمام صلواتكم وأدعيتكم ولكني أقول: هل رأيتم أباً يتخلى عن أولاده في ساعة الهمّ؟، ألم تُدركوا جيداً كيف صَمَتُّ أمام الشتائم والتجاديف التي أُلقيت عليّ ولم أفتح فمي كما قال نبي السماء اشعيا "فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش7:53)!، كما نعتموني بالكذّاب وأبو الكذب ألم تقولوا "إِنَّهُ بِبَعْلَزَبُولَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ" (لو15:11)، وفي ذلك ربما ترونني صامتاً وغائباً ولكنكم لا تعلموا إني أعيش فيكم ومعكم ومن أجلكم، وبي أنتم تَتَحَرَّكُون وَتُوجَدُون "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أع28:17)، وهذا ما اختبره داود الملك حينما قال "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (مز22:1)... إنني أعدتُ هذه الكلمات عينها في اللحظات الأخيرة وأنا على الصليب (متى46:27؛ مر34:15)، وشعرتُ حينها أن أبي السماوي تخلّى عني ولكن الحقيقة هذا لا يمثل غياب إلهي... إن صرختي هذه هي صرختكم أنتم يا مَن تعانون غياب الله، وأوجّهها إلى قلب الآب ليفتح الله قلبه لكم... إنها أكبر صرخة من صرخات أولئك الذين يدينونه، والمزمور يقول "عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ، وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ" (مز15:34)، لذلك قد أكون صامتاً لكنني دائماً أسمع. فعندما لا تستطيعون سماعي يجب أن تعرفوا أنني أستمع إليكم دائماً. واعلموا أن صمتي لا يمكن أن تفهموه إلا بالنظر إلى صليبي وهذه هي الحقيقة، فمن على الصليب تنكشف حالة الإنسان الذي يصلّي، فالبابا بندكتس يقول:"إنّنا حين نصلي، غالباً ما نجد أنفسنا في صمت الله، فنشعر بنوع من التخلي، ويبدو لنا وكأنّ الله لا يسمعنا ولا يستجيب لنا. ولكنّ صمت الله هذا يشبه صمت الآب تجاه يسوع، وهو ليس بالتالي علامة غيابه. فالمسيحي يدرك جيداً أنّ الرب حاضر ويصغي، حتى في ظلمة الألم والرفض والوحدة" (تعليم البابا بندكتس السادس عشر الذي تلاه في قاعة بولس السادس في الفاتيكان؛ الأربعاء 7/3/2012). قال القديس أغناطيوس "إن كل مَن يفهم كلمات الرب يفهم صمته لأن الرب يُعرَف في صمته". لذا إنني أتحدث اليكم لكي يكون لكم إيمان بي، ولسوء الحظ لديكم القليل جداً من الإيمان، فأنتم تطلبون حضوري وإيمانكم غير ناضج لأنكم تخلطون بين صمتي وغيابي، فما أنا إلا إله الصمت. لذا أدعوكم أن تغيّروا وجهات نظركم بتوبة صادقة نابعة من عمق أفئدتكم وإيمانكم، فأنا أكشف عن نفسي في الصمت الداخلي في قلوبكم، لأنني أسكن في أعماق كل شخص منكم، فما أنا إلا إله الصمت ولا أسكن إلا فيكم.
   لماذا، جعلتم شعبي يترك كنائسه ويتجه إلى أخرى فيها يصلّي؟، فأمام مقدَّساتي ترقصون وتمثّلون، وقد جعلتموها معابد سياحة وليس صلاة. ألستم أنتم سبب تقسيم دياري، فأنا أعطيتُكم سلاحاً لغفران الخطايا "كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ" (متى18:18)، أصبحتم اليوم تعبدون أصناماً بشرية وهي آلهتكم وأصنامكم. إنكم مثل العجل الذي عَبَده شعبي في القديم، وأصبحتم تتقاسمون دياري هذه  طائفياً ومذهبياً، وكل واحد منكم يريد أن يربح عدداً ليملأ معبده، كما أصبحتم تفتشون عن المال والدنيا والاستجمام والراحة قبل أن تفتشوا عن شعبي وغنمي الذي تاه في مجال الزمان. وقد قالها لكم نائبي البابا فرنسيس "اذهبوا بعيداً فتشوا عن الخراف الضالة. خذوا رائحة خرافي. فتشوا عن آل إسرائيل الضالّة" (كلمة البابا فرنسيس التي ألقاها أمام الأساقفة الذين استقبلهم يوم الخميس 19 أيلول 2013 في القصر الرسولي في الفاتيكان)، ولو كنتم فعلاً بهذه الغيرة من التضحية وتفتشون عن الفقير والمريض لرأيناكم تعيشون آلام شعبكم ومآسيه، فإنكم تهيئون تبريركم من قلّة إيمانكم، فأنا أنادي إليكم بالشفقة والحنان كما ناديتُ "بِنِعْمَةِ الْبَصَرِ لِلْعُمْيان" (لو18:4). كما لا يزال إيمانكم يظهر تديّناً، ولا زالت الخلافات والصراعات قائمة بينكم، واجتهاداتكم التي يمارسها بعضكم تؤدي إلى انشقاقات وتحزّبات، وهذا ما يجعل دياري الحبيبة تتحول إلى مؤسسات مجرَّدة من عملها الإيماني في البشارة. فالصراعات التي تخوضونها وإنْ كانت غير مرئية لكني أُدرك ألمها في قلبي، فأنتم تتصارعون إلى كسب عدد من الأعضاء لتوسيع حدود رعيتكم، واستغلالاً لمصالح أنانية ذاتية، والتشهير بالأبرياء علانيةً كان أو بشكلٍ مبطَّن، وهذا ما قادكم إلى الجهل وأَنْبَتَ فيكم نبتة الكراهية اللعينة، ويزداد نموها بدرجات إذا ما كنتم مليئين بالغيرة القاتلة، فتمتلئ قلوبكم حقداً، ويفرغ إيمانكم من جوهره، وتحدث فوضى عقائدية في مسيرتكم المسيحية، وتبدأ الخراف تتشتّت، وتظهر أمامكم ثعالب تطالب بِلَحْمِ الخراف عبر عبارات معسولة وكلمات حنونة يتلقاها المؤمن لتوصله أحياناً إلى حد الخوف والفزع مما يحدث... إنها التجربة... إنه تشويه لحقيقة مسيرة الإيمان... وتموت المحبة بتحريفها ويبقى واجبكم دنيوياً، فكل الاستغراب بنصائحكم، وبينكم أناسٌ في داخلهم شقاق وصراع وخلاف، وفي هذا تسيئون إلى دياركم، فلا حوار ولا أخوّة، بل رزق ومهنة وصراع، وقد سبقتُ وأعلمتكم ماذا يحصل "إِنْ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ" (مر25:3).
   لماذا، تنادوني لأعيدكم إلى إنسانيتكم وأنتم شوّهتم الخليقة الجميلة التي أبدعتُها عبر مسيرتكم المشكِّكة، فأصبحتم ذئاباً مفترسة؟، أردتُكم أن ترعوا فيها وتُحسِنوا إلى سكانها وأنتم اليوم تقتلون أخاكم لتحافظوا على مراكزكم ومناصبكم، وشرّعتم قوانين غريبة عجيبة بإسم حقوق الانسان، ووافقتم على الزواج المثلي الذي أهان حقوق إلهي، ورفعتم الصلبان من كل الأماكن العامة، وأزدتم في هذا كله حيث جعلتم من الإباحية حرية إعلامية... وأخرى وأخرى، ألم يحن الوقت لتعيدوا التفكير في الكثير من عاداتكم وتشريعاتكم وقيمكم وأخلاقكم ومجاملاتكم لتشهدوا للحقيقة التي تقودكم إلى احترام قوانين الحياة كي لا تفقدوا حواسكم الروحية، ولا تبيعوا مسيرة إيمانكم ومراكز سلطانكم بأرباح السياسة المزيَّفة عبر أشخاص أصبحتم لهم عبيداً كي تحافظوا على برامجكم وبرامجهم، ومصالحكم ومصالحهم، وكراسيكم المزخرفة؟، فأنا جداً أخاف لأنني متأكد أنكم بعد عودتكم إلى كنائسكم بالسلامة ستعودون كما كنتم وإنْ قلتم أن الفيروس وحّدكم فما ذلك إلا حالة عاطفية وتديّنٌ مهمومٌ، فاعلموا إذن إنّ هذه الظروف القاسية جاءت لتجعلكم تراجعون ذواتكم وحقيقة محبتكم لا أن تكونوا عبيداً لأشخاص أنا خلقتهم مثلكم، فقد قلتُ لكم "مَنْ أَحَبَّ أَباً أَو أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّني" (متى37:10). وجميل جداً أن تجعلوا بيوتكم كنائس ولكن أرجو أن لا تنسوني في مسيرة الدنيا الزائلة، فكل ألم وصليب نعمة وموهبة كما يقول لكم تلميذي بولس الرسول "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رو28:8).
      ختاماً، نعم أنتم تواجهون عاصفة ليس فقط في وسط البحر كما واجهها تلاميذي (متى24:14)، بل أنتم اليوم والعالم بأسره تواجهون فيروس كورونا، إنكم في قمة الفوضى، وفي هذه الفوضى أنا صامتٌ ونائم. وقد أعلمتكم أن كل العواصف والمخاوف تأتي من قلّة إيمانكم. أإلى الآن لا إيمان لكم؟. تنشأ مخاوفكم من عدم فهمكم مَن هو في خضمّ العاصفة والصعوبات. غالباً ما تخافون لأنكم لا تثقون فيَّ أنا يسوع، ولأنكم لا تعرفون ماهي علامات الأمل والزمن الموجودة حولكم، لهذا أنتم عميان في هذه الحالة، وأنا وحدي ولا أحد سواي ــ قلتُ لكم وأكرره الآن "أَنَا نُورُ العَالَم" (يو12:8)، وحدي أنا قادر أن أخاطبكم وأخاطب عقولكم وإرادتكم لكي تتحرروا من عماكم الروحي على الرغم من تقدمكم وجاهكم ومراكز حياتكم ومناصبكم، فهذه كلها تعطّل رؤيتكم الإنسانية والخلقية وأيضاً الروحية، وتفقدون التوازن الاجتماعي بعد أن ملأتْ نفوسكم روح الحرية المزيَّفة عبر تدنّي الأخلاق، وطغى عليكم مستوى الإعلام السياسي. لذا أدعوكم إلى الاستفادة من هذه العزلة في دياركم، والوقوف أمام الداء بحضرة الله وكتبه المقدسة، والإصغاء إلى ما يقوله لكم عالم جديد بولادة إنسان جديد "هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً!" (رؤ5:21)، فأنا الألف والياء، الأول والآخر (رؤ13:22). فأنا قادرٌ أن أتدخّل من أجل خلاصكم "وَلكِنْ حينما تثقون بي بأني: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يو33:16). فأنا بينكم ملكوت الله، فارجعوا لحقيقتكم، فإذا ليس هناك كورونا فغيرها، فوباءكم هذا لا يخلص "إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (متى21:17). لذا أنا معكم لكي تدركوا أن محبتي هي من أجلكم، وصلاتكم تشير إلى أنكم  بحاجة إلى التوقف كي تعيشوا معي لحظات من العلاقة الحميمة، فأنتم لستم وحدكم بل أنا معكم لأن المزمور يقول "لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي" (مز4:23)، وإرميا يقول "لاَ أُوقِعُ غَضَبِي بِكُمْ لأَنِّي رَؤُوفٌ، يَقُولُ الرَّبُّ" (إرميا12:3).
      نرجوك يا رب أن تقلب واقعنا الأليم، وتبعث الرجاء في النفوس، وتريح أعصاب الناس التي تلفت جرّاء تراكم الصدمات المظلمة والكئيبة. إننا نعدكَ بأننا سنحملك يا يسوع في زياراتنا ومشاريعنا وأعمالنا لتغيير وجه الأرض، وسوف لن نخاف ما دمتَ معنا، فإنّا نؤمن بثقة أنك هنا لتخلصنا "نعم، أنتَ تريد خلاصنا"، فلا تجعلنا بعيدين عنك يا رب، سنزيل كل الحواجز بيننا وبينك، فأنت معنا لتساعدنا في ترميم حياتنا بعد تدهورها. فازرع بذرة الحب داخل قلوبنا لأن ما فينا ليس حقيقياً، ولا تجعلنا أن نعود إلى الفراغ ونتتركك، فقلوبنا لن تمتلئ من حبك إلا حينما يرفرف روحك فيها لتعيد ترميمَها وبناءها فنعودَ إلى رشدنا وصوابنا وإيماننا الحقيقي... فارحمنا يارب نحن الخطأة، واجعلنا نُبصر حقيقتك فينا لتملك على قلوبنا... يا ابن داود إرحمنا، نعم إرحمنا... نعم وآمين.





94
اليوم ... إلامَ يدعونا الله
(الحلقة الخامسة والأخيرة(
المونسنيور د. بيوس قاشا
الله، في المسيح يسوع، يدعونا نحن الكهنة، إلى أن نكون بجانب شعوبنا وغنمنا
وحملاننا وكباشنا وتيوسنا، أصحاء ومرضى، كي نعطيهم خبزهم في حينه (متى45:24)، نعم خبزهم، إنه خبز الحياة، وليس خبزنا، دون حملنا لفايروس الطائفية ولا نكتفي برمي البذرة من النافذة فلا شيء يملأ أفواه جياعنا. ولنعلم أن الوطن وشعوبنا ومفهومه قد ضاع وحلّت محلّه المصالح "وما بعدي الطوفان" كما يقول المَثَل الفرنسي. وما يؤلمنا أن نرى الطائفية وقد انتشرت بين جدران القصور والمساجد والمعابد والهياكل، في عقول الناس كباراً كانوا أم صغاراً، رجالاً أم نساءً، عبيداً أم أسياداً، وكلنا أصبحنا طائفيين، نسأل عن الإنسان قبل وجوده وإخوّته وإنسانيته، نسأل عن طائفته ومركزه ومعبده ولِمَن هو ولاؤه، قبل أن نسأل عن إيمانه ودعوته، وهذا ما يجعلنا أن نكون في ضياع حقيقي وإنْ كان التحدي هو البحث عن الأمن والاستقرار ومستقبل أجيالنا والحفاظ على القلّة الباقية من مؤمنينا وفي كنائسنا، والخوف كل الخوف من إفراغ وطننا من مسيحيينا بسببنا أو بسبب طائفيتنا وزماننا فنحن خميرة الحياة وبُناة الحضارة بعيشنا المشترك والحوار المتبادل، فالأخوّة الإنسانية تعلّمنا عبر القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية، إننا دُعينا من أجل الجميع، فلا عبادة حقيقية لله بدون إحترام لحقوق كل إنسان وخاصة الضعيف والمحتاج، ونشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام والتدخل فوراً لإيقاف سبيل الدماء البريئة ووقف ما يشهده العالم حالياً من حروب وصراعات وأوبئة وكورونا، وتراجع وانحدار ثقافي واخلاقي، وتأليه الدولار والدينار، فما أحوجنا وأحوج عالمنا المتألم إلى رجال ونساء من ذوي الإرادة الصالحة، وتلك مقولة لقداسة البابا فرنسيس (الأخوّة الإنسانية)، وأن نزيد انفتاحنا في إقامة علاقات احترام وعيش مشترك، وهذا لا يعني أبداً فقداناً لبُعد البشارة فتلك رسالتنا المقدسة، ولا يجوز أبداً أن نجعل بشارتنا للإنجيل حاجزاً فيما بيننا وبين شعوبنا فنحن لإقامة علاقات إخوّة وإنسانية والشهادة للإيمان كل في معبده لأننا مدعوون جميعاً إلى الاندماج في مجتمعنا فنحن شعوب مختارة لنحمل الرسالة لا لندفن رسالتنا لأننا مواطنون ومع الآخرين نجابه مصيرنا، فبآلامنا التي نقاسيها في أوطاننا سبيلاً لقداسة سيرتنا وأمانة لمسيرة شهادتنا، وعبرها نحمل لأوطاننا ولشعوبنا حقيقة شهاداتنا في أننا نقاسمها مرارة الحياة وصعوبة العيش، وننادي معهم من أجل بناء الوطن وحريته في حقوق المكوِّنات المتعددة في الكرامة والإنسانية، ولتكن تلك مفاهيمنا وليس بيانات يصدرها كبار زماننا ورؤساءُ ديارنا لنربح تصفيق الضعفاء وأصحاب المجاملات، ويموت صداها بانتهاء إلقائها، فلنكن شعاراً أميناً ولافتةً دائمة عبر مسيرتنا ودعوتنا... ليس إلا!.
لذا علينا أن ندرك محبة أرضنا وترابنا ووطننا، ولنشارك في حمل هموم الناس وأوجاعهم، فما علينا إلا نقاوم الظلم كما قاوم إيليا ظلم آخاب الملك وزوجته إزابيل، وقتل بثورة غضبه كهنة البعل، وحطّم أصنامهم، وعندما هرب تائهاً في الصحراء ظهرتَ له وعزّيتَه في وسط النسيم العليل لتلطّف عنفه وتدعوه للتعقّل والوداعة، فالرب نفسه علّمنا قائلاً "تعلّموا مني فإني وديع ومتواضع القلب" (متى29:11) فلنذهب إليه لنجد راحة لنفوسنا، فهوذا يرسلنا لنشفي منكسري القلوب ونُبصر العميان ونحرر المظلومين (لو18:4)، ونجاهد في سبيل الحقيقة ولا نأمر الله بأوامرنا أبداً بل لنكن مطيعين لمشيئته فهو الذي دعانا ولتكتمل مشيئته فينا وبيننا ومن أجلنا، فهو يفيض رحمته علينا، وبجرأة نُرذل الكلام الذي يقسمنا كما رذل إيليا النبي مقامَ كهنة البعل، وَلْنَقُل لسامعينا إنْ كان الرب هو إلهنا فلنتبعه (1ملوك21:18)، ولا نجعل من أنفسنا آلهةً لهذا الزمان فنترك الإله الحقيقي، ولنجعل الشعب يدرك صوت الحق بدل أن يسمع صوت المصالح الفاسدة ويعبد الأصنام البشرية الدنيوية المائتة، فنحن شهود لحقيقة الإله وحبه. ولنسأل أنفسنا دائماً: هل انتماؤنا هو للمسيح أم هل نعبر يومياً منا إليه؟، أم ماذا؟... ليس إلا!.
   الله، في المسيح يسوع، يدعونا نحن الكهنة، إلى أن نحفظ أنفسنا وأجسادنا وأفكارنا طاهرة من كل دنس وشائبة، ولننتبه من الشهوات العالمية وأنواعها، فاختيارنا عيش البتولية والأهلية حرية اختيارنا للتبتّل عبءٌ ثقيل يقول الإرشاد الرسولي "يعرّض توازننا العاطفي والاجتماعي للخطر" (ثالثاً/10 من إرشادات لاستخدام علم النفس في قبول وإعداد المرشحين للكهنوت؛ صدرت عن مجمع التنشئة الكاثوليكية؛ 19/11/2008)، فعيون البشر محدَّقة إلينا لتنال منا لأجل مصالحهم وإنْ كنا أبرياء، فوفاءنا لدعوتنا يجب أن يكون مهمازاً يقودنا في كل لحظة نحو حقيقة النفس والجسد وحفظهما طاهرين كي لا يشوِّهوا مسيرتنا ويجعلون من وجودنا عبئاً ثقيلاً لفساد القيم أو الأخلاق (لا سمح الله) والأمثلة على ذلك عديدة، فالحقد يولّد شرارة الكراهية، والكراهية تشعل نار الدمار، وإذا ما حلّ الدمار يضيع الثراء الروحي الذي بداخلنا وهم لا يهمّهم شيء في ذلك إلا مصالحهم وغاياتهم البائسة، ولكن لا نخاف فالرب معنا (متى20:28). فعفاف الكاهن رسالة سامية إن كان متبتلاً أو متزوجاً، ووجودنا في هذه الحالة من المؤكد أننا قررنا ذلك قبل سيامتنا، لنكون في حقيقة دعوتنا ورسالتنا وأوفياء للذي دعانا إليها الرب واخترناها بحقيقة حريتنا، والبابا بندكتس يقول "كل كاهن مدعو إلى السهر والحراسة أزاء قوى الشر المتلبّسة، وعليه أن يظلّ متيقظاً ويقف مستعداً وجبينه عالٍ في مواجهة تيارات الزمن والعصر ليقول الحقيقة، لأن الوقوف أمام الله يعني حمل أثقال البشر على كتفه" (بندكتس؛ قداس تبريك الميرون والزيوت المقدسة؛20/3/2010)، وهذا ما يدعونا أن نشعر أننا بحاجة وعوز للامتلاء من الله في حب الإنسان، فحياتنا ليست مُلْكنا بل هي مُلْك المحتاجين وهذا ما يدعونا أن نقسم خبزتنا ونوزعها على جياعنا قبل أن تكون مأكلاً لنا فقط، وهكذا كل ما وُهب لنا هو نعمة من رب العلياء فلا يجوز أن ننام وجيراننا جياع وإن لم يكونوا من "ربعنا" فربنا يقول "كنت جائعاً فاطعمتموني" (متى35:25)، وما ذلك إلا دعوة من الرب فهو عالم ببؤسنا فلنذهب إليه، فالله يرذل شديد الرذل كبرياء ضمير مَن يتنكر لحقيقة وجوده وتشويه إيمانه، فالخطر القاتل يحضر أمامنا عندما يشعر الإنسان المدعو أنه ممتلئ من كل شيء ولا يحتاج إلى الذي ملأه. وعلينا أن نعرف أنّ البشر لا يرون سوى الظاهر ولا يستطيع بصرهم الولوج إلى أعماق النفس حيث مكمن الخير والشر فلا تغتم إذن إن شجبوك ولا تتباهى إذا مدحوك بل أُجثُ لله وقل "إن كنت يا رب للآثام مراقباً فمن يبقى قائماً" (مزمور1303/3)، فكثيرون يغالون في تقديرهم أهمية ما يسمونه الصيت وغالباً ما يحركهم على صيانته وبحمية مفرطة، فالمحبة الأنانية لا الغيرة الحقيقة أما يسوع المسيح ترك لنا قدوة مغايرة "كان صامتاً ولم يفتح فاه" (مرقس61:14). ولنعلم أن جميع القديسين نظيره إضطُهدوا واتُّهموا فبعد أن يصنع الانسان ما بوسعه في أن لا يشكك اخوته يلزمه أن يكون مرتاح الضمير وإنْ حلّت به المذلّة فليستمر في طمأنينته فالله بكل شي عليم وهذا يكفيه. فالإنسان المتروك لذاته، المتخلي عن كل قاعدة مسلك، المنقاد لأهوائه وأمياله، إنه مستعبد للأضاليل المتنوعة وعبوديته للمال والجاه ومستعبد لشهواته ولرغائب شهواته وهل من عبودية أشر من هذه العبودية؟.
لذا فالخاتمة تقول لنا: نعم لنكن أحراراً، فالحرية الكاملة ليست سوى التتميم الكامل للمبادئ والمشورات الإنجيلية وجميعها تعود إلى أمر واحد وهو نكران الذات، بنكران الإنسان للحق الإلهي في دعوته. إخوتي، كفانا الإحاطة بأحبائنا والانعزال عن جماعة المؤمنين فنحن لسنا لأحبائنا بل لغيرنا أيضاً سوية فلنجعل الرب يمر في حياتنا يقول البابا فرنسيس (آب 2019) ولا يجوز في هذا الزمن المتاجرة وكفانا تسلطاً ودخول بيوت الأغنياء في مناسبات وغير مناسبات وننسى أن الفقراء واجب فالرياء حرب إيمانية إنسانية ضد الفقير الذي لا نطرق بابه فذلك حماقة إذ يضع الإنسان المرء أمله في الناس أو في المخلوقات، لا نخجل من أن نخدم الآخرين حباً ليسوع المسيح فما نحن إلا ضحايا لذا علينا أن نكون أطهار القلوب والعقول وعفيفي السيرة والمسيرة وعيشها وما هذا إلا حقيقة دعوتنا.
ختاماً، من المؤكد أننا قد أدركنا دعوتنا في المسيح يسوع وهي هبة سماوية وعبرنا يواصل الله حضوره ومشروعه الخلاصي فكلنا موضوع الله لأن الله يرى في وجهنا إبنه الذي أحبنا إنما ذلك سر عظيم فالكاهن الصالح عظيم بسيامته ومحبوب في رسالته فهو يسوع المسيح يعكس حقيقة الإله الذي أحبه فهو الطريق التي توصل الله بالبشر والبشر بالله، والكنيسة أمنا طوال تاريخها وتقليدها أعطت لنا مكانة عالية ولسيامتنا حقيقة سامية واعتبرت كهنوتنا مسيحاً آخر. ولنعلم أن الله دعانا لنقوم بعجائب واختارنا كي نكون حقيقة لمن لا فم له وصوتاً لمن لا صوت له لنوصل نعمة السماء إلى أبناء البسيطة فاختيارنا هذا دليل على الحب الذي وسمنا به فمَن لا يحب لا يختار وحبنا هو حقيقة صليبنا فلا يجوز أن نهرب من هذه الحقيقة لأن رسالة الكاهن بلا صليب يعني صليب بلا قيامة وإذا غابت القيامة غابت حقيقة الحياة وانتصارها فإما أن نكون للمسيح أو نكون ضده وهذا يقودنا إلى أن نكون أمناء لدعوتنا ففي القيامة تجلت في المسيح ربنا حيثما إنحنى وغسل أرجل تلاميذه وليس مَن يجلس على المائدة "أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا27:22) هذا هو الصليب الذي سلّمه الرب بسيامتنا إلينا عبر هذا نخاطب القلوب من أجل الغذاء الحقيقي. إنه طريق الصلاة الذي يقودنا إلى الرب، فنحن مؤتمنون على شعبنا وليس رؤوساء وأمراء دنيانا نسيّر شعوبنا كما نشاء وأن نعيش مسحة دعوتنا وكما يقول بولس الرسول إلى تلميذه طيمثاوس في رسالته الثانية (10:4) "أما أنت يا رجل الله كن قدوة في الكلام وفي التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة. واعكف على القراءة والوعظ والتعليم ولا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة بالنبوة وأهتم بهذا وليكن تقدمك ظاهراً ولاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك واعلم أن محبة المال أصل كل الشرور لأنك إذا ابتغيته تضل عن الايمان" وبما أنك رجل الله فاهرب من كل شر واتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة وجاهد الجهاد الحسن وامسك بالحياة الأبدية واحفظ الدعوة بلا دنس ولا لوم واثبت على ما تعلمت وايقنت وأخترتَ" (11:6-15). إننا نسير في رحلتنا في الحياة، نسير في دروب لا نعرف نهايتها وأين وكيف ستكون، ولكن عندما نؤمن بمشروع الله الخاص لكل واحد منّا نسير بخطى ثابتة حتى لو كانت نهاية دروبنا الاستشهاد. فنحن نولد يومياً ونُصلب يومياً فإن خدمتنا في الكنيسة ولادة ورجاء ولا سلام لنا سوى السماء وحضورنا يظهر في أمانة حمل رسالتنا التي تعمدّت بالدماء الطاهرة وعرق المسيرة. فرسالتنا شهادة دائمة، فلا نخاف لأن الربّ معنا، دعائي إلى رب السماء أن يرافقنا في مسيرتنا الكهنوتية فنكون نوراً وعلماً ومحبةً وعلامة للخلاص حسب وصية ربنا يسوع المسيح... نعم ونعم وآمين.



95
كورونا .. فيروس بيننا !!
المونسنيور د. بيوس قاشا
       في البدء
فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19) عنوان عالمي يتصدر اليوم الصفحات الأولى من مسيرة الإعلام بمختلف فروعه المرئية والمسموعة ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وغَدا الشغل الشاغل للعالم بأسره، لدول غنية ولدول فقيرة، وسبّب قلقاً واسعاً، وبسببه تعطّلت الحياة كاملة لكونه عدوّاً قاتلاً ، بل "فيروساً" مخيفاً ومرعباً ومميتاً ، كما قدّمه لنا الإعلام المخيف، والذي أزاد هالة الفزع والهلع بنشراته الإخبارية وقنواته الفضائية، وبدأ يشعر الإنسان بأنه في خطر الموت الأكيد إنْ لم يحترس من أجل الوقاية منه، وبانتشاره  تغيرت ملامح الحياة  وبدأ الإنسان يتساءل: هل نحن في عالم نهاية الأزمنة أم بداية نهاية العالم؟، فالإنجيل المقدس يقول على فم المسيح الحي "وفي الازمنة الاخيرة " (متى 7:24-9) . فأين نحن من هذا كله بعد أنْ أُعطيت العديد من أوامر الحيطة والحذر، وأُصدرت عناوين مختلفة "الوقاية خير من العلاج" وماهي الطرق العديدة لتعميم الوقاية؟، وأضاف الخوف هلعاً بغلق المنافذ البرية والبحرية والجوية بين جميع بلدان البشرية، وتحولت العديد من المدن في أوطانها إلى مدن أشباح وشوارع أشبه مقفرة من عقولها، ولم يمضِ حدث عالمي باهتمام من قِبَل الحكومات وعالم الصحة والبيئة والنظافة والطوارئ مثل ما حصل مع "كورونا"، كما لم نعهد هلعاً كمثل هذا الذي أصاب دنيانا بحيث إصابة شخص واحد أمست تطغي على الأخبار ونشراتها، فالمشكلة ربما ضُخِّمت بأكثر من حجمها الحقيقي وربما يعود ذلك إلى الافتقار إلى الدواء الناجع والعلاج الأمين والشافي _ وإنْ كان البحث يجري على قدمٍ وساق _ و... و...
     العولمة وجناحاها

   ومع الهلع من فيروس "كورونا" كشفت العولمة عن علمها عبر جناحيها الإيجابي والسلبي، وحملت إلينا أسئلة عديدة وأجوبة مختلفة. ورغم الإيجابيات العولمية الجديدة في التقدم العلمي والحاسوبي والموبايلي، فهي في الآن ذاته مصدر لكثير من التهديدات كعولمة الأمراض والهجرة والفيروسات المحلية والعابرة للحدود عبر الصواريخ البيولوجية والمنفلقة، ومع هذين الجناحين بدأنا نتساءل جميعاً: هل سندخل مرحلة جديدة في مسيرة الحياة الطبيعية؟، وهل سنكون جميعاً في مصير مشترك؟، أم نحن نتجه نحو تحييد الآخر المختلف والخوف من أهدافه المعلَنة والخفية في الاحتلال وتدنيس حقيقة الاخوّة وإنسانيتها ، وقدسياتها الايمانية ،  وسرقة أموال الفقراء وخيراتهم لتجعل الإنسان وقوداً وأداةً لنشر تلك المبادئ القاتلة؟. وفي الآن ذاته، فالعديد من الدول الفقيرة لا يُحسَب لها إلا التدمير إزاء العالم المتقدم واللاهي بمصالحه وأنانياته، ومن هنا بإمكاني أن أقول: هل الأديان غدت معنية بهذا العالم الجديد وما يحصل؟، وهل أصبحت صلواتنا وأفعالنا لها تأثيرات معولَمة تتجاوز حدود بيتنا ومجتمعنا ووطننا؟، إنْ كان ذلك فعلينا جميعاً أن ندخل مرحلة المسؤولية، وبإمكاننا أن نكون خيراً وصحةً وبناءً ونزرع عالماً آمناً، كما بإمكاننا أن نصنع عالماً متوحشاً ومريضاً. وهنا يظهر جلياً ارتباطنا بالإنسانية وإخوّتها، وبإيماننا وحقيقته، قبل أن تكون العولمة المزيفة قد أبعدتنا عن الآخر المختلف، وأدخلتنا في نظرية المؤامرات والعقاب ليس إلا!.
    من أجل الوقاية

   وفي عراقنا الجريح كما في البلدان الاخرى ، قاد رؤساء الكنائس ورجال الإيمان وأئمة المساجد وشيوخ الجوامع حملة من أجل الوقاية ضد فيروس "كورونا" حمايةً لأبناء الشعب ومؤمني كنائسهم ومساجدهم ونحن لهم شاكرون ومدينون لاهتماماتهم ، وهمس الكثير منهم في آذان بعضهم البعض وأمام مؤمنيهم ما نصّه: إن كورونا (كوفيد-19) دعاية إعلامية واقتصادية في حرب بيولوجية شاملة بين الدول الكبرى ومصالحها...
   والبعض الآخر أكد: إن هذا الشيء ليس إلا كلام بسيط ولا يمكن تصديقه فما هو إلا لتدمير الدول والانسان وخاصة الانسان الفقير لوقف الهجرة القادمة من دول العالم الثالث وهي العالة على الجميع .
   وآخرون في المسيحية يقولون: يجب أن نكون شجعاناً ولا نخاف، فإيماننا عميق بما أعلنه الرب يسوع في إنجيله المقدس إذ قال "لا تخافوا أنا معكم طول الأيام" (متى20:28)، فلا نخاف الداء ولا العدوى لأن الرب حامينا.
   وآخرون اوصوا بعدم الجلوس الواحد بصف الاخر خوفاً من بعضنا البعض مكما علينا تجنب اللقاءات والمصافحات فمنع أخذ السلام في الصلاة وعلى الحاضرين أن يتركوا مسافة فاصلة بينهم وبين البشر الاخرين كما أضافوا الى عدم مشاركة الاحبة افراحهم واحزانهم ولا يجوز من احتضان قريب او بعيد او صديق فقد عزيزاً لنخفف شدة الحزن والفراق وتؤجل الزواجات كي لا يرقص الاهل والاصدقاء فرحاً بزفاف ابنهم أو ابنتهم أو صديقهم والوضع الكارثي شديد على كبار السن والمرضى نخاف منهم ونخاف عليهم انه الفيروس اللعين فقد وضعنا في اختبار اخلاقي عسير وما علينا إلا الامتثال لفرق الصحة وخلايا الازمات واصبحنا قطيعاً حتى في بيوتنا ومجتمعاتنا .
   وآخرون يلومون الله (أستغفر الله) ويقولون: إن الله هو الذي أرسل فيروس كورونا ليهلك البشر بسبب انتشار الخطيئة وابتعاد الإنسان عن الإله الحقيقي، ومذكّرين بما جاء في الإنجيل المقدس " وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن." (متى7:24)، ويُلحقون بها ما جاء في السر الثالث لسيدة عذراء فاتيما التي تراءت لثلاثة أطفال في البرتغال،وما قالته العذراء سيدة مديوغورييه ،وأخرى على هذه الشاكلة.
وأزادوا في توصياتهم همسَهم  في قدسية الصلوات وبالخصوص الاقتراب من القربان المقدس حيث أوصى رؤساء الكنائس ورجال الإيمان بأنه لا يجوز المناولة عبر الفم أو عبر الملعقة بل يجب أن تتم المناولة باليد خوفاً من الرذاذ المتطاير من فم المتناول حماية لرجل الصلاة والإيمان. وهنا انقسم المؤمنون بين المؤيدين والمعارضين، وأخيراً رضخت الأغلبية لهذا الأمر وإنْ كان قد اعتبره البعض جريمة بحق القدسيات الإلهية مدّعين أن القربان المقدس كونه مقدس فلا يمكن أن يُعدي الإنسان ولا يحمل فيروساً إلى الآخرين.إلى أن بدأ إفراغ أماكن العبادة من روّادها، وأُقفلت الكنائس، وأُلغيت القداديس، كما أُوقفت كل النشاطات الرسولية والكنسية والتعليمية خوفاً من العدوى بسبب التجمعات، وعلى الجميع ملازمة منازلهم، وأصبح الجميع يُنشد مصيراً واحداً مشتركاً، كما بدأوا يعيدون حساباتهم ومستقبلَ أجيالهم، ويؤمنون بأنه لابدّ من تجاوز هذه المحنة الكونية.
وإيماناً بما قاله الرؤساء وبما أُمرنا به وبما صرّحوا به رجال الإيمان، بأمكاننا أن نقول: أنه لا يجوز الخلط بين عيش الإيمان العميق وعيش العولمة الإيمانية العاطفية المزيفّة، فما علينا إلا أن نترك الإيمان العميق والحقيقي يفعل فعله في المؤمن لكي يُظهر زيف الإيمان العاطفي، كما لا يجوز أبداً بيع الإيمان بأقوال وتعليمات وأوامر خوفاً من...!، كما لا يجوز أن يُعاش الإيمان العاطفي ويسود في المجتمع لمصالح لها حساباتها السياسية والمصلحية ، ولحقيقة وجودنا الطائفي حيث ينشأ هنا صراع أكيد بين الإيمان العميق المعاش الذي يستند إلى الحقيقة العقائدية وبين الإيمان العاطفي والعولمي  والذي يستند في كثير من الأحيان إلى العلم الشخصي وليس إلى العلم الطبيعي، أي ينشأ صراع بين الإيمان وحقيقته وبين العلم وعقله، فما أراه وما أدركه أن الإيمان والعلم يسيران كلاهما في سكة واحدة لهدف واحد الا وهو  تمجيد الله من قِبَل البشرية العلاّمة عبر عقلها وغزارة علم الله الذي وُهب للإنسان كعطية حكيمة، وبها أفرزه وسلّطه على المخلوقات الأخرى... إنه الناطق.
     الفايروس بيننا

   توصي الوقاية من "فيروس كورونا" الموجود بيننا بأنه لا يجوز الاقتراب الواحد من الآخر، ولا يجوز اللمس أو العناق حرصاً لعدم انتقال الفيروس، ولكي لا يملأ داخلنا خوفاً وفزعاً. كما توصي الوقاية بالتحذير من المصافحة وما إلى ذلك، فحقيقة الاتصال بالآخر أصبحت عبر الاتصال دون أن أعرف الآخر، وغدونا نسمع ونرى الغرائب في هذه الأزمنة، وانتقلنا جميعاً من حالة البشرية الحسنة _ إذ أن الله لما خلق الإنسان رأى كل شيء حسناً (تك10:1) _ إلى البشرية المختلفة والمؤلِّهة لذاتها، وهذا ما يجعلنا أنْ ندرك أنّ فيروساً لا نراه وإنما نحياه وهو يعشعش في صدورنا ألا وهو فيروس الكراهية بين الأخوّة الواحدة والذي يسود عبر الطائفية بين أفراد المجتمع، والتعصب الديني والقومي والعشائري، وبتسلّط الأغلبية لتدمير الأقلية التي لا حول لها ولا قوة، وهذا ما يؤكد جلياً أن فيروس الكراهية قد أصابنا كلنا بداء الكبرياء في الأنانية والتوحد (حول الأنا) القاتلة والمميتة، عندها تنفجر العنصريات المختلفة، ويزداد عدد البؤساء والمرضى والجياع بين المجتمعات والشعوب، يموت الابرياء لمصالح كبار الزمن والماسكين بامور الحكم والادارة والمختلفة وبذلك ننسى عمل الله الواحد الرائع بأنه خلق الإنسان على صورته (تك27:1) وجعله متسلطاً على دبابات وحيوانات الجنة (تك26:1)، فالوباء الحقيقي الذي أصاب الشعوب هو كراهيتنا للآخر بنظرات ملوَّثة من اجل مصالحنا الضيقة  والذي جعله الله في جنة الحياة، والخشية الأكيدة تظهر في الابتعاد عنه وعدم التعامل معه.. إنها هوية أنانية ومصلحة كبريائية، وفي ذلك قال يوماً سارتر:"الآخر هو الجحيم الحامل للعدوى لذا يجب الابتعاد عنه والانعزال بعيداً، ولا يجوز إقامة علاقة معه لأنه أجنبي الوجود وغريب عن أوطاننا، غريب عن شعبنا. " إذ يقول أحد الكتّاب العرب ، ماذا يعني عندما لا نشعر بمعاناة إخوتنا ونغمض أعيننا عن رؤيتهم كي تتشابك الأيادي وتنطلق لبناء أخوّة إنسانية في أنسانية  أمينة وما ذلك إلا فعل خلاّق.فالاحداث التي نختبرها واحياناً نكون نحن أبطالها في الحرب تجعلنا نصمت ونتأمل بعمق في صفحات التاريخ ونحن نعيش الحزن وبحث عن رجاء يعزّينا كأننا غرباء عن صفحات التاريخ الاليم ولنتأمل كلمات الانجيل فنحن لسنا سوى رسل وتلاميذ والمسيح لنا هو المثال والقدوة في عالم بات مظلم بسواد الحقد والكراهية . ليس إلا!.

      البابا فرنسيس

   في العام الماضي (2019) وبالتحديد في الثالث من شباط، قام قداسة البابا فرنسيس بزيارة إلى الإمارات العربية المتحدة للقاء شيخ الأزهر الشريف وتوقيع وثيقة "الأخوّة الإنسانية". إن توقيعه على هذه الوثيقة جاء ليُظهر للشعوب والحكّام أن البشرية واجب عليها أن تدرك أن الإنسان هو القيمة العليا، وتاجها أن تكون أخوّة في مسيرة واحدة، خشبة إنقاذ تنشل الحكّام والشعوب من بحار المهالك والتباعد بينهم وبين أزمة الأصوليات الضارة والقوميات، وتنشلهم من يمّ العنصريات. والبابا يعتبر أن الأخوّة فعل خلاّق وعبر ذلك يسعى لتغيير وجه العالم عبر مبادرات ونشاطات وأفكار تدعو إلى التسامح والتعاون والعيش المشترك.
   إن البابا فرنسيس نادى منذ إعتلائه الكرسي البابوي وحتى الساعة بالعناية بالمرضى والفقراء وقبول المهمشين،وايواء المهجرين  ولا زال يشدّد على سماع صرخاتهم وآهاتهم،... إنها الأخوّة التي نادى بها البابا فرنسيس حيث تُرجمت الشعارات إلى أفعال رحمة ورأفة وشفقة ومودّة بين جميع البشر من أقصى المسكونة إلى أقصاها، وكل واحد باسمه، وكل واحدة باسمها، ما نحتاجه آذاناً صاغية، ولا يجوز أن نجرّب الرب يقول مار يعقوب (13:1) إن الله لا يجرّبه الشرّ ولا يجرِّب أحداً بل الشهوة تجرب الإنسان فتستهويه".....
 وهذا ما أظهره مؤخراً مع عدوى الفيروس "كورونا"، فقد قال في مقابلته العامة يوم الأربعاء 26/2/2020 بأنه قريب من العاملين الصحيين الذين يعالجون المرضى ويلتزمون بإيقاف العدوى، ويدعو كل واحد ليقوم بدوره لأننا نملك حماية الله الذي يسهر على كل فرد منا بمحبة الآب، كما هو قريب من الذين أُصيبوا بالفيروس أو الذين يشعرون بتهديد في هذا الفيروس.واوصى كهنته ان يكونوا اما المسؤولية ....
     واقعنا الحالي

   ما يحصل بيننا اليوم هو خلطنا الشاسع في عقيدة مسيرتنا الحياتية والإيمانية وخاصة بعدما استفحل فينا حب العولمة وعبادتها وإنْ كان من العولمة ما هو إيجابي يقودنا إلى حقيقة الإيمان العقائدي والذي يجعلنا أن نكون أمناء لِمَا نحياه، وما هو سلبي والذي يزيّن العاطفة بإيمان مطلبي وطقسي. فالعولمة المزيفة ترسم لنا مجموعة من حركات وطقوس وأدعية متنوعة وعبر مناسبات مختلفة ومتعددة، وتُظهر أنها حقيقة الدعاء، فتطلب من رب السماء أن يعمل ما نشاء، وما عليه إلا أن يلبي طلبنا، أو بمعنى آخر إننا نجعل من رب السماء سميعاً مطيعاً لطلباتنا، وعليه تنفيذها بحذافيرها مقابل أن نتلو له مزموراً أو دعاءً أو تمجيداً أو طلبةً، وبالحقيقة ما ذلك إلا صفقة تجارية ربحية بيننا وبين رب السماء، إنها عولمة مزيفة لا ندرك تزييفها لأننا نحن نريد ذلك وتلك مشيئتنا وليست مشيئته تعالى فمن المؤكَّد أن العولمة المزيفة أضرّت بالإيمان عبر خطابات مرتبطة بتدبير بشري باسم الله ، حيث تقول إن الله سلط المرض ولكن بسبب مفهومية العالم وانتشار الفيروس وسرعان ما بدأ يجتاح العالم كله، بدأ الخطاب الديني يتراجع، فبدأ هدف مشتركٌ  يجمع بين البشر، إنها الاخوّة والإنسانية في رسالتها المشتركة إذ توجه الجميع الى محاربته وأصبحت تشعر العولمة بهشاشتها هذه ، رغم علمها وتقدمها. أما حقيقة الإيمان العقائدي فما هو إلا الإيمان المعاش، فهو الاستسلام لرب السماء الذي يقول "إنْ كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل..." (متى20:17). فإيماني هنا هو علاقتي مع الله الذي أحبني وجعلني أحبه فآمنتُ به وتبادلنا حباً وقبلتُ به كما قبلتُ دعوته "لأتعشى على قربٍ منه وهو على قربٍ مني " (رؤيا20:3)، وحبه هذا علّقه على الصليب علامة وفائه من أجلي إذ قال "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو13:15). فقد جاء إلى عالمنا وسكن بيننا طاعة ومات على الصليب طاعة وفي كليهما لم يصنع إلا مشيئة إلهه إذ قال "لتكن مشيئتك لا مشيئتي" (لو42:22)... هذه علامة أمينة لحقيقة الإيمان المعاش.
   فالإنسان، المؤمن الأمين لإيمانه يحمل إيمانه في حقيقة حياته مؤمناً أن الله قادر على تلبية طلبه، فيسأله الشفاء ويحمل أقواله في مسيرة حياته، ولكنه لا يفكر أبداً أن الله سينزل من السماء لأنه مؤمن بقدرته عبر مسيرة إيمانه إلا إنْ كان ذلك معجزة (وهذا ما حصل في زمن الرب مع الشعب) "إيمانك خلصك" (لو19:17)، "لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا!" (لو9:7)... ولكنه يؤمن بإمكان الله أن يقوم بأعجوبة ما، فصلاتنا للمريض واجبة حسب قول مار يعقوب "وإذا كان بينكم مريض..." (14:5-18)، وفي الآن ذاته يؤمن المؤمن أن استخدام وسائل الطب ممكنة للشفاء وإنْ كان يتمنى أعجوبة وهو يدرك تماماً أن الأعجوبة لا تحمي مَن يُشفى عجائبياً من المرض ثانية ومن الموت ولنا في ذلك لعازر حيث أقامه الرب من الأموات، أحياه ليظهر قوته الإلهية ويؤمن به اليهود. (يو11) لغاية إيمانية. وأما إذا كانت الأعجوبة شرطاً للإيمان فربما تفسد العلاقة بين الله والمؤمن الأمين فيكون آنذاك إيماناً عاطفياً عولمياً مزيفاً. فحينما نمشح شخصاً(سر المشحة ) نؤمن بأن الرب قادر على شفائه، ولكن الأمر يتحول إلى مسيرة الحياة فيمنح مجالاً للعلم كي يظهر حقيقة عقله وغزارة علمه وهو يعلم أنّ الله بأمكانه أن يقوم بأعجوبة. ولكن ندرك جيداً أن الله منحنا عقلاً لنستخدمه ويميزنا بعقلنا عن الحيوان، فبالعقل علامة لإدراك الإنسان حقائق الكون، معه الإيمان يقرأ معاني هذه الحقائق... إنه الواحد يتقبّل الآخر.   فلا يجوز أبداً الخلط بين الإيمان الأمين والإيمان العاطفي العولمي، فالإنسان يشارك الله فقد "تجسد بيننا" (يو14:1) ويقول سفر الخروج  "فيصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم" (خروج 8:25). ويقول مار أثناسيوس الرسولي  " جاء‏ ‏ونزل‏ ‏لأرضنا‏ ‏ليصعدنا‏ ‏لسمائه‏ " . إنها الأخوّة في مسيرة إنسانيتها كما هي حقيقة ألوهيتها، فيسوع المسيح إله وإنسان، وقال القديس من القرن الثاني "إن مجد الله هو الإنسان الحي" فلا يجوز أبداً الخلط بين الإيمان الذي نحياه في مسيرة حياتنا والإيمان العاطفي بعلمه العولمي، فبالعقل يتقصى الإنسان حقائق الكون وماهيتها، وبالإيمان يقرأ معانيها.
     إرادة الله

   من المؤكَّد أن العلماء وبالتعاون مع الأطباء ومنظمة الصحة العالمية سيجدون أمصالاً تقينا من هذا الفايروس المخيف، فقد سبقهم في ذلك غيرهم من العلماء في إيجاد أمصال من الفايروسات التي حاربت البشرية حتى اليوم... إنه تحدٍّ لا نفهم أبعاده، ولماذا هذا الداء؟، ولماذا الآن؟، ولماذا استُنفر الإعلام المخيف لمتابعة مسيرة الفايروس؟، والسؤال يبقى: مَن يقف وراء هذا الفايروس؟. إنه سؤال لا جواب له إلا من قِبَل الذين خطّطوا لهذه المسيرة المميتة في جعل الإنسان أداة تُباع وتُشترى، وآلة بأيديهم يستخدمونها متى ما يشاؤون، والحكم الأمين له ما هو إلا المصالح والمال الفاسد والكراهية المقيتة للإستيلاء على الآخر كبرياءً وأنانيةً وحساب حقيقة الربح والخسارة.
   نعم، تقدَّمنا في العلم ولكن الأخطار والأمراض والأحقاد والكراهية والطائفية والعشائرية تطورت وتنوعت معنا ومع محسوبياتنا، لذا علينا أن نسأل أنفسنا عن معنى الحياة وكيفية عيشنا، إنه استحقاق يتجاوز نظرتنا لمكافحة الفايروس الفتّاك إلى ما هو أنفع وأرفع لأننا خُلقنا بشراً، فلا فرق أن نميّز بين غني وفقير، مسيحي ومسلم، صابئي وإيزيدي، فنحن جميعاً أخوة كما نحن كلنا إنسان. إن هذا الفايروس يذكّرنا أننا بحاجة إلى التواصل مع بشر كي نفتش عن اختيار إنسانيتنا ومنظومة الأخلاق التي تحكمنا لنكتشف الآثار الكارثية على أصعدة الحياة، وفي عالم من العولمة همَّش الضعفاء وسحق الفقراء وجعل النسيج الاجتماعي عند أضعف أوضاعه في أيامنا هذه. فنحن في النهاية أسرة واحدة وإنسانية معذَّبة تعيش على أرض واحدة، وحين تتألم فإنها تشعر بالألم الواحد، وفي نهاية المطاف ترفع أكفّها بالدعاء والتضرع لربٍّ واحد. وجميل أن نقلق على صحة الإنسان عندما نجتمع للصلاة معاً، ولكن ليس من حق أحد أن يقول إن الله يريد "كورونا" للإنسان. ولكي ندرك ذلك علينا أن نفهم إن إرادة الله ليست إرادتنا ولا يمكن أن ندركها بعقلنا بل عبر مسيرة الحقيقة الإيمانية التي نحياها. فالجهل وقلة المسؤولية والخوف على الذات يمكنه أن يقلق على صحة الناس، فالله يرشدنا باستعمال علم الدواء بحقيقته وعلينا أن نحافظ على تعاليمه كي لا نخلط بين إرادة الله وبين الطبيعة المتمايزة عن الله ولو أنها خليقته. فالإنسان من المؤكَّد أنه يخشى من هذا الفيروس المزعج والمخيف الذي انتشر في أصقاع العالم المختلفة،وأخذَ البعض يتكهن إنها نهاية العالم ، ومع هذا عليه أن يدرك جيداً ويخشى أكثر من أن إصابة هذا الفيروس لجهاز واحد في طبيعتنا ولكن الأكبر من ذلك فقد اصاب إخوّتنا في صميمها وإنسانيتنا في حقيقتها . عندما نغمض أعيننا عن معاناة إخوتنا بحجة كراهيتنا لهم، فنحن لسنا من درجاتهم، وعندما نجعل الآخرين خَدَماً لنا وليس أخوة، وعندما نبرّر بلغة كريهة غضبنا وخوفنا من الآخر الذي يقاسمنا مسيرة الحياة فقد قالت "الأخوّة الإنسانية":إنّ أهم اسباب أزمة العالم اليوم يعود الى تغييب الضمير الانساني والفلسفات التي تؤله الانسان وتضع القيم الدنيوية موضع المبادىء العليا . فالتطرف الديني والتعصب قد أثمر في العالم بوادر حرب عالمية ثالثة وعلى أجزاء وبدأ بتأجيج الكراهية والعنف والله لم يخلق الناس ليتقاتلوا أو يغيبوا أو يضيق عليهم في حياتهم فاية  نظرية بشرية هذه، فإمّا أن نتألم معاً وإمّا أن نتمجّد معاً، بانتصار الحقيقة على العاطفة، وبانتصار الحب على الكراهية، والخير على الشر، والفضيلة على الرذيلة.
     الخاتمة   
فلننتبه إلى أمور الأشياء، ولنأخذ الحقائق كما هي وليس كما نشاء، فالبشرية واحدة والخطر الكبير إننا مقتنعون بأننا قادة لأتباع ديانتنا في كل شيء وننسى أن العالم واسع وكل واحد منا له مساره وللإيمان الحقيقي رسالة سامية، وبهذا الاندماج تكون الحقيقة. فيوماً نجعل أنفسنا وزراء للأوقاف ويوماً وزراء للصحة ويوماً وزراء للهجرة ويوماً وزراء للعمل وننسى أن الحقيقة هي ما نحن إلا خدم لمسيرة الخلاص التبشيرية التي اختارنا من أجلها الرب يسوع حينما قال "اذهبوا وبشروا في الخليقة كلها" (مر15:16). فمع البشارة نحمل قليلاً من زوّادة كل علم ليرافقنا في مسيرة البشارة، لذا علينا أن ندرك ماذا يعني توزير الإنسان في مجال ليس من اختصاصه، فالعلوم الإنسانية والدينية لا تمنع أحداً من أن يكون مثقفاً إلى درجة سامية ولكن تمنعه من أن ينتحل رسالة ليست من اختصاصه، وهذا ما جعل الدوائر الدينية تختار أناساً اختصاصيين في مجالات مختلفة لكي يكونوا عوناً لها لأن ليس من شأننا كل شيء بل من شأن الآخرين، فربنا وضع _ كما يقول مار بولس _ أناساً في الكنيسة: أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلمين...." (1كور28:12). وهكذا، فالعلم وحده ليس كافياً ليعطي الإرشادات الممكنة ويحاول التنسيق بين أفكار القرّاء لتخفيف الأضرار واحتواء الكارثة، ولكن تندرج في مساره العديد من المجموعات تكون المصدر الموثوق... كما لا يمكن لأصحاب العلم أن يقولوا شرعاً بوسائل الدين وأحكامه، لأنه لم يُعطَ لهم ذلك وإنما أُعطي لرجال الإيمان، وما ذلك إلا حقيقة المسيرة في الأخوّة الواحدة، فالواحد يكمّل الآخر من أجل الحقيقة، وإنما ما يجوز هو النصيحة، والحقيقة هي عند العالم الأكيد ورجل الدين (الإيمان قلت) الأكيد. فأصحاب الاختصاص لهم أهمية خاصة هنا، وكل في مجاله . 
   نعم، تستطيع البشرية تجاوز محنة هذا الوباء ولكن الحقيقة هي أن الترابط والمصير المشترك للإنسانية أصبح حقيقة علمية، لذا يجب أن تكون لنا مسؤولية الإنسانية مشتركة على مدى الامتداد الجغرافي للبلدان، لأن المآسي تبتدئ أحياناً من نقطة لم نعرها اهتماماً، فإن العديد من أماكن العالم يمكن أن يكون لها تأثيرات مدمِّرة في العالم. فالعالم أصبح مرتبطاً، وما يحصل بمنطقة جغرافية سرعان ما يمتدّ إلى العالم كلّه.ويبقى السؤال هل سنبقى نخاف من بعضنا البعض ، هل نحن سنمضي في عزلتنا وهل يكون مصير الفايروس يأكل منا بعد أن اصبح العزل سياسة مقبولة وسيبقى السؤال: هل نحن في بداية نهاية العولمة والذهاب إلى الانعزالية أم لأ؟ فالمثل يقول " من يمتلك الصحة يمتلك الامل ومن يمتلك الامل يمتلك كل شي" وإنشاء الله كل شيء يمضي وتبقى ايامنا تذكر فايروسها ، والحقيقة ان الفايروس لا يتمثل فقط في تهديد حياتنا بل في تحطيم حياتنا الاجتماعية فقد اصاب قيمنا الانسانية كما الروحية قبل اجسادنا فما لنا إلا أن نتوجه إلى الخالق ليشمل الجميع برحمته ويُطهر العالم من هذا المرض الفتاك. ولنُعلّم شعبنا ونرشده وندلّه الى حيث اصول مياه الينابيع ليستقي من ماء الحياة الابدي وليس من بئر السامرية الدنيوي إنه إيماننا فهو قال لنا " الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ"( يو4: 14) ولنكن مثل  النبي إشعيا الذي بشّر بالفرح والتعزية والرجاء لشعب الله "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الرب إلهكم" (اشعيا1:40-3)، وأملنا أنّ الرب " سيأتي لنجدتنا فلن نغرق ( متى 25:8) فهو لنا خلاصٌ في كل شيء" من الفايروس. نعم وامين .



   
   





96
اليوم ، إلامَ يدعونا الله (الحلقة الرابعة)

المونسنيور د. بيوس قاشا
الله ، في المسيح يسوع ، يدعونا نحن الكهنة ، إلى أن نكون شهوداً
 للحق وشهداء لمسيرة تجسد المسيح ومجيئه إلى هذا العالم حيث ذاق كل أنواع
 الأوجاع من طرد وشتم واضطهاد وإهانات كثيرة وحتى وهو في أرضه بين شعبه وصحبه. هو الذي طُرد من المدن من قبل الناس الذين لم يريدوا سماع الحقيقة وكانوا يجتمعون ليوقعوا به من سطح الجبل، هو مَن شفى المرضى من أوجاعهم وقالوا أن عمله من الشرير. نعم، تألم المسيح لهذا الحد ليعزّينا في كل مراحل حياتنا، ويقول لنا مهما شعرنا بالخوف والوحدة والضعف "لقد غلبتُ العالم، ثقوا وآمنوا بي" (يو33:16). وتلك قدسية مسيرتنا وعظمة دعوتنا حيث بدأت تظهر تعاليم غريبة، وتعلو أصواتٌ تعتبر النبوّة رسالتها، كما ظهر مسلّطون يعتبرون أنفسهم أنبياء يتاجرون بشعب الله ومؤمنيه. فالدعوة تناشدنا اليوم أن ننتبه من الحقائق المزيفة التي يتبنّاها كبار زماننا، ورؤوساء دنيانا ،وأمراء بلاطاتنا، فدعوتنا هي سهرنا على شعوبنا كي نعطيهم القوت في حينه (متى45:24)، ولنرعى أبناءنا بحسب حب قلب يسوع، ونكون لهم قادةً شجعاناً وليس رؤساءً ، رعاةً أمناء، وخدماً أوفياء، نزيّنهم بغيرة إيليا وجرأة يوحنا ووداعة الرسل والفقراء وحقيقة الإنجيل والبشارة، ونعلن مسيرة المسيح شهادة للحقيقة في سيرتنا الذاتية في أن نفتش عن الجائع والعطشان، ونسأل عن المريض والجريح والبريء المظلوم، وندافع عن العريان المسكين، ونزور السجين حاملين إليه تعزية السماء، ولا نطرد الفقير من أبوابنا بحجّة أنه لا يحق أن يستعطي أمام أبواب ديارنا ، دون أن نخاف الزمان وكباره والأيام ومناصبها وأوامرهم وأهدافها،  وما علينا إلا أن نشهد  للحقيقة في وجه الأقوياء كما فعل ربنا يسوع المسيح حينما قال  لحرس حنان " لماذا تضربني الأني قلتُ الحق " ( يوحنا 23:18 ) ،" فالرب أرسلنا لنهيء الطريق للمسيح الحق كما قال يوحنا المعمذان " (مرقس 1: 1-8)  فالخوف كل الخوف من الذئاب وفراخها والتي تدخل سياج الرعية وتفتك بالقطيع والشعب فتسرق وتقتل بنداءات مزيفة ومصالح فاسدة، فتضيع مسيرة حياتنا وتضيع معنا دعوتنا، وبالتالي تفرغ قلوبنا من المسيح الحي وتمتلئ من الروح الشيطانية التي تأتينا "بثياب الحملان" ( متى 15:7) . ولنعلم جيداً أنه مَن اعتصم بالبشر وترك الاعتصام بالله خاب ظنه، فحتى لو إتّكلنا على العظماء والرؤوساء والأغنياء والمقتدرين ومهما كانت وسائلنا فما ذلك إلا ضعف، وفي أي حال فهي لا تدوم وإنما ما يدوم ويبقى هو حقيقة السماء فالحياة مسرح كبير ، الفقير يمضي والغني يمضي ولن يبقى إلا صوت السماء وهو حقيقة الشهادة، فما علينا إلا أن نجعل من أرضنا سماءً شاهدة على أعمالنا الصالحة وغيرتنا المتفانية ومحبتنا غير المتناهية فنحن شهود للحقيقة وشهداء لمسيرتها.وفي هذا الصدد يقول البطريرك ميشيل صبّاح " يجب أن لا نشعر أبداً أننا غرباء عن الشهادة لدعوتنا وان لا نُشعر شعبنا أن الذي دعانا هو غريب عنّا فما نحتاجه أن نحياة حقيقة دعوتنا "
لذا علينا  أن نحب شخصيتنا ودعوتنا ورسالتنا ونكون أمناء لسيامتنا، فما نحن إلا جسر ناقل للإنسان من جانب إلى آخر وليس عائقاً وصدّاً أمام مبتغى الآخرين في لقاء الإنسان مع يسوع المبشر والمتجول في أزقة الحياة. لا نخاف الدنيا، لنقيم علاقات بشكل ناضج مع المهمَلين والبؤساء والعشّارين والخطأة لكي نربحهم لمسيرة الحياة وحقيقتها ومع كبار الدنيا لمصالح أبناءنا ورعايانا، وإنْ قالوا عنا يوماً ما قالوه لربنا وإلهنا يسوع المسيح "إن سيدكم يأكل مع العشّارين والخطأة" (مر16:2).فذلك يدلّ على عمق قضيتنا وإيماننا وأندفاعنا المميت ، فالغنى الحقيقي هو في حمل كنز الله الخلاصي والشهادة الامينة لتمس قلوب البشر العطشى الى الخلاص ، فهذا ما  يجعلنا ندرك حقيقة إنسانيتنا ومواهبنا والقدرة على تفاعلنا مع رسالتنا الكهنوتية ودعوتنا السماوية، فنحن لسنا من المشترين للذمم والمناصب بمصالح ومجاملات بل نحن محبّون لجميع الذين من حولنا لأننا دعامة أكيدة لبيت الرب الذي نخدمه، فتفاعلنا الكهنوتي وقدرتنا السيامية لا يتفاعلان إلا مع جماعتنا في العائلة كما في مجتمعنا، وكنائسنا وأبناءها ورعايانا ومؤمنيها ، ووطننا وشعبه ومكوِّناته، ومدعوون أن نجعل الحياة في أرضنا الجريحة فنحن دواء لها، وقديسوها مثالاً لآل بيتها، فلا نفقّر شعبنا بفقرنا لمسيرتنا ولأمانة سيامتنا ولوفاء دعوتنا، فنحن في هذه الأرض حجّاج ارضيون بدأنا مسيرتنا لنصبح من آل بيت الرب. ولنسأل دائماً: هل نجعل مسيحنا خلف ظهرانينا ثم نعود إليه بعد انتهاء احتفالاتنا ومناسباتنا كوننا الهة الزمان!  أم نحن شخصيات صماء !  هل تعلمون أن الحقيقة هي حقيقة مسيحنا وليس حقيقة أنفسنا وأنانيتنا وكبريائنا. فإذا ما ركعنا قدّام أرجل الناس فنحن أقوى منهم وأجرأ لأن معلّمنا سبقنا في ذلك. فلا نتقاعس عن تأدية واجب إنسانيتنا وعيش حقيقة دعوتنا، ولا نخون المسيح الذي أحبنا ونسلّمه مرة ثانية لبيلاطس، ونأمر بجلده، ونضع إكليل الشوك على رأسه، ليحاكمه قيافا الزمن وحنان كبير المنافقين ،  ونسلّمه إلى الموت من جديد، ففي ذلك نشترك في إهانة وتشويه وجه المسيح الحق وهذا يدلّ على مدى أبتعاد المسيحية الحقيقية عن الرؤوساء الارضيين الزائلين ومدى توغلها في الشهرة والامجاد الارضية للتفاخر والتباهي ليظهروا أنفسهم للناس البسطاء ما مدى تقواهم وورعهم بينما الروح المسيحية ماهي إلا لاجل عمل المسيح وأنجيله... ليس إلا!.
الله ، في المسيح يسوع ، يدعونا نحن الكهنة ، أن نكون شجعاناً كي لا نيأس من الحياة ولا ينطفئ ضوء شمعتنا في مسيرة الدنيا، فالحياة مليئة بالأشرار والمصالح وفساد القيم، كما هي مليئة باناس صالحين وقديسيين،  وهناك مَن يسير عكس أفكارنا وتياراتنا المُحِبَّة، ويقولون فينا سوءاً قدر ما أستطاعوا ، ويحاولون جهدهم كي يغيروا الأمور نحو مساراتهم الأنانية والتدميرية،بسبب غرورهم من حقيقتنا، ويجعلونا أحياناً محاصَرين كي يكونوا سبب إحباطنا أو تشاؤمنا، فلا نيأس فقد أبغضوا قبلنا معلّمنا (يو18:15). فما علينا إلا أن نكون لهم مثالاً، فاليوم كثيرون فقدوا الأمل في الحياة، ويرون حياتهم تموت أمام قسوة مجتمع لا يُصغي، فدروس الأخلاق الآن لا تنفع، وقد ارتفع صوت الكثير على وسائل التواصل الاجتماعي ضدنا، وعلى نوعية الكلام والشتائم التي نسمعها (وللأسف) على الهواء وتحت الهواء وفوقه، وإن ذلك لأمر مشين، ولكن لندرك مهما كان فأولئك هم أولادنا، وتربّوا في رعايانا وهم يحبون كنيستهم ويعيشون إيمانهم .وهذا ما يدعونا إلى أن نبدّل واقعنا فقدْ فقدَ الكثيرون ثقتهم بكل ما حولهم وما ذلك إلا لندرك  لومهم لنا ونفحص ضميرنا أفراداً ومؤسسات لنعيد بناء هذه الثقة وبعدها نحاسبهم. إنهم أملُنا وغدُ كنائسنا ومجتمعنا، إنهم أولادنا، لنفحص ضمائرنا. فمهما كان فلنكن لهم إيماناً يحوّلهم إلى نور الحياة ورسالة تحملهم إلى حقيقة الشهادة،وليس سبباً في إبتعادهم عن معابد الله وهياكل الصلاة ،  ولنؤمن أن ظلام الدنيا مهما كان كبيراً ومخيفاً ستزول معالمه وتفنى هيبة الظلمة ونجد دعوتنا شمساً تضيء لنا طريق الحياة فلا يمكن أن نكون عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يصنع سيده، أما نحن فدعانا الرب أحباء أحراراً لأنه أعلمنا بكل شيء (يو15:15). فلنتحمل مسؤولياتنا بأمانة، ونكون أوفياء للذي دعانا،مملوئين من عطاء الأباء والقديسين ونحمل مواهبنا في "آنية من خزف" (2كو7:4).فشجاعتنا عبر مسيرة أيماننا كي نشهد بها أمام ثعالب الزمن وذئاب الدنيا شهادة لحقيقة ايماننا بالمسيح الاله .فرسالتنا ليست النظر إلى الوراء وإلى التافهات من الأمور بل إلى الأمام فمَن ينظر إلى الوراء لا يستحق أن يكون تلميذاً للمسيح الرب الذي دعانا (لو62:9). فالقرار بأيدينا، والنعمة من الحي القيوم.في أن نكون "ملحاً ونوراً" (متى13:5-14)،وهذا ما يدعونا اليه البطريرك ميشيل صبّاح  قائلاً:" في أن نكون بشراً ناضجين ونتعلم كيف نكون شعباً بشجاعة لا مثيل لها " إذ بقدر ما نكون أمناء لمشيئة الله يقول البابا فرنسيس "نكون أكثر فرحاً ونحمل ثماراً وافرة " وأيضاً حينما نكون ذلك نُبعد عن المجتمع الذي نحن فيه جراثيم الفساد ونقاوم التردي الأخلاقي والخطيئة " ، لأننا بذلك نؤدي شهادة لقيم النزاهة والأخوّة بدون السقوط في الإغراءات الدنيوية مثل الأصولية والسلطة والثراء والمحسوبية والوثية الصنمية ، وإن سقطنا (لا سمح الله) وأخفقنا في مسيرة ما ننهض من تراب أخطائنا لنسير بشجاعة مجدَّدة وصبر أمين لنكون من جديد حضوراً ولو متواضعاً، وما ذلك إلاّ بناء أمين. فنحن هنا نور لنزيل ظلام الدنيا ونفسح المجال لرؤيانا، فالمسيح الذي دعانا يحمل نوره إلينا لنضيئ بدورنا ونعلن إنجيله عبر أعمالنا الصالحة (متى16:5).
 لذا لنتوجّه بشعوبنا نحو الله لاختبار صلاحه ورحمته من أجل إزالة الأحكام المسبَقَة والتشهير، ونجعل نور الحقيقة يعود إلى أوضاع لوَّثها الرياء والكذب، والذين يخلطون الدين بالسياسة ، فما نحن إلا أدوات كي نوصل نور المسيح إلى الآخرين وليس التبشير بنورنا .فقد قال قداسة البابا فرنسيس،لا نخاف من العيش في العالم حتى وإن كانت في العالم نزاعات وخطايا، فنحن أمام العنف والظلم والقمع ، لا يمكننا الانغلاق على ذواتنا أو نختبئ من أجل أماننا، ولا نجعل كنيستنا تنغلق على ذاتها وتغلق أبوابها بسبب الاوبئة والتهجير والحروب ، فلا يمكن أن نهجر كنيستنا ولا أن نهجر دعوتنا، فدعوتنا رسالة بشارة وخدمة، فنحن في العالم من أجل العالم وخلاصه ، والرب يحمينا من روح هذا العالم لنسمع صراخ البائسين وآهات المرضى والحزانى، ونكون لهم ملحاً ونوراً... إنها دعوة البشارة كي نتفوّق في عمل البِرّ لأننا متفوقون "في كل شيء، في الإيمان والبلاغة والمعرفة والإقدام على كل شيء" (2كو7:8)، فلنحفظ الوديعة (1طيم21:6) بأن نمتلئ من نور المسيح ونكون ملحاً للشعب البائس ولا نحابي الوجوه أو نخاف من الملوك والسلاطين والمسؤولين كبار زمننا أو صغار دنيانا ، فيوحنا قاوم سلطاتهم الدينية والمدنية اليهودية إذ قال " يا اولاد الافاعي من دلّكم على الهرب من الغضب الأتي " ( لوقا 7 : 7- 9) فقد كان يوحنا بطلَ الأنبياء ثائراً وشاهدا للحق ، وشهيدا من أجل الحقيقة ففي ثورته كانت ثورة التوبة والتغيير لاعادة اصلاح مفاهيم الايمان ومنظومة الحياة وإخلاقية الجمال والغنى لان الايمان هو الحياة والعمل،  والجمال هو وجه الله في وجه الانسان والغنى الحقيقي هو الفقر بالروح من أجل الله والانسان . فنحن بذرة نبوية في أيامنا هذه فلا نساوم على مبادئنا بمجاملة مصلحية زائلة ، في سلطان كبير أو صغير في عبوديتنا لكبار زماننا،  فالوضع الحالي يحتاج من يرعى مؤمنينا جميعاً على السواء دون تفرقة  وتمييز اجتماعي ، ويخدمها ويحمل عنها الضيم والكبرياء والانانية والمصلحة بالتواجد معها والعيش بجوارها ومقاسمتها الحياة بمرّها وحلوها كما يقول البابا فرنسيس " أن يشمَّ ريحة( رائحة) خرافه "، وليس رائحة عطره ونوعه، - ومن المؤسف هذا ما يحصل اليوم- ومهما كان لا نيأس من الحياة بل فلندرك أننا لسنا لأنفسنا (1كو19:6) ولا يمكن أن يفتح لنا الرب باب السماء دون غيرنا، فنحن نورٌ وملحٌ لشعبنا لنضي له درب الحياة في شهادة لحقيقة ايمانه بالاله إبن مريم القديسة ، أم الله  ، فصراعنا مع الارواح الشريرة وحيلها العالمية ومع كبار الزمن وسلاطينه والذين يعملون من أجل مصالحهم ومناصبهم لن ينتهي إلا بحقيقة مثالنا في أن نكون أيليا النبي حامل حقيقة الله ويوحنا شاهد الحقيقة الجريء،  ليس إلا!. ( شكرا لمتابعتكم ، والى الحلقة الخامسة )



97
اليوم، إلامَ يدعونا الله!! ( الحلقة الثالثة)

المونسنيور د. بيوس قاشا
 الله ، في المسيح يسوع ، يدعونا نحن الكهنة  إلى حمل بشرى الخلاص بفرح عظيم وإذاعتها دون خوف، فقد قال في إنجيله المقدس "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني .. (بشارتي)" (متى29:11) و"إعلنوها للخليقة كلها" (مر15:16). فإنسان اليوم متعطش إلى ملء جعبته رجاء الحياة وفرح الأيام، وإن كانت ايامنا قاسية فالله أرسلنا جميعاً لندرك حقيقة الألم والضعف والموت التي يقاسيها إنسان اليوم فنكون له أملاً في مسيرته ومستقبله ، ورسلاً من أجله، وخدّاماً لأجل خلاص شعبه. فلا نخاف أن نفتح قلوبنا للمسيح الحي، ونملأ زيتاً في مشاعلنا وفي آنيتنا (متى4:25)، ولنطلب روح الحياة ليرينا طريق السماء فنحمل التعزية ونحن منتبهين إلى كل صراخ يعلو في منتصف الليل (متى6:25)، كي لا نكون عبئاً آخر على شعوبنا فربما نعرّض مسيرتنا للخطر بسبب ما يظهر في مسيرتنا من شوائب، فنحن في كل لحظة أمام خبر مشبوه لا نعرف حقيقته من عدمها ، وإذا ما كانت بشارتنا مبنية على رمل الحياة فالويل لنا، فالضياع نصيبنا، و"أعداؤنا من أهل بيتنا" (متى36:10)، وأما إذا كانت حقيقتنا مبنية على صخرة الإيمان بالمسيح الحي فلا نخاف،ولا نخجل من إعلان بشارة الانجيل  أمام  كبار الدنيا ، ورؤساء الزمن، وامام كبار الدار فهم صامتون كي لا يفقدوا دنياهم وهداياهم وصداقاتهم ، وصدق فيهم قول المسيح الحي " اضطهدوني قبلكم" (يو20:15)، فما علينا إلا أن نعلنها بشارة محيية، مخلِّصة، فالمسيح  كلمة أُرسل الينا ليقاسمنا الحياة وليشاركنا إنسانيتنا " فهو لمْ يأتِ ليُخدم بل ليَخدم" (متى 28:20) ويعمل معنا في روحه عبر مثالنا ولغتنا وصوتنا ومسيرة حياتنا وخدمتنا وإخلاصنا ووفاءنا، فنحن له ولزماننا أنبياء .
    لذا علينا أن نحمل رسالتنا في البشرى على أكتافنا وفي أعماق قلوبنا، نحملها بكل همّة ، ونصغي إلى صوت الروح ونستحضره ليرافقنا في مسيرتنا الدنيوية والروحية. " فما نحن له الا هياكل " (1كو19:6)، فالله لم يعطنا ـــ يقول مار بولس ـــ " روح الخوف بل روح القوة والمحبة والفطنة كي لا نستحي بالشهادة لربنا " (2طيم7:1-8). فلا نيأس إذا ما رفَضَنا كبار الزمان ورؤساء المكاتب والدنيا،  ومهما كان ، علينا أن نكون  صوتاً صارخاً في  وجه قوى الظلم والشر والكبرياء والذين يتاجرون بمستقبل الخليقة ويبيعون مقدسات الدنيا والزمن، لان بشارتنا تستدعي عدم لهونا باحترامات الزمن وتحيات الكبار ومجاملاتهم وما تلك إلا أمور الدنيا،  بل بالعكس تدعونا لنتاجر بالوزنات التي منحنا إياها الرب يسوع، ونكون لوزناتنا أمناء ولإيماننا وإنسانيتنا ولشعبنا أوفياء، ولنحمل حقيقة البشارة كما يريدها معلّمنا وربنا وسيدنا يسوع المسيح في الخدمة والعطاء، ولنكن آباءً لكل يتيم، وتعزية لكل بائس، ورحماء، وليس فقط مرشدين وواعظين وآمرين .وهذا ما يجعلنا ان  ننتبه كي لا نقلع البسمة من فم المحتاج والفقير اللذين هما " أعمدة لمسيرتنا ولهيكل صلاتنا"  كما يقول البابا فرنسيس وما علينا إلا أن " نمسح كل دمعة من عيونهم " ( رؤيا4:21) ، وتلك حقيقة بشارتنا السماوية والخلاصية ، شاركنا الله معاناتها في شخص يسوع المسيح، وإنْ صدَّنا مَن كان يحسب نفسه ملاكاً ورئيساً فلنطيعه ولكن لنقل له كلمة في الحق وفي المحبة ، مع أحترامنا الواجب،  فإن قبلها فخير على خير وإن لم يقبلها فتلك إرادته ، فلا مساومة على الإيمان، فالسير نحو الاستشهاد من أجل المسيح والإنجيل دون خوف أو تردد فمن سبقنا كانوا توّاقين وعلى استعداد دائم لتعذيبهم وقتلهم من دون تردد، وطُرحوا أحياء في حلبات المصارعة لتفترسهم الأسود والحيوانات الكاسرة بعد أن يقوموا بتجويعها. والبعض الآخر كان يُطرح حياً في براميل زيت محمّاة إلى درجة الغليان، أو كانوا يقومون بحرقهم أو بتقطيع أجسادهم إرباً إرباً. لقد قدّموا في ذلك أروع مثال للمؤمن المسيحي الحقيقي وإنْ وُجِدَ هنالك لقب ما على الأرض من ألقاب القدسية والتمجيد ــ بالطبع بعد المسيح ــ فيجب أن تُعطى لهم ولِمَن سار على دربهم ونهجهم القويم والسليم.كما سبق بولس الرسول وأعلمنا أنه قد ظهرت تعاليم مختلفة من كل جانب وضاع غنمنا في مراعٍ غريبة بين كثيرين فطوبى لوفائنا لأننا في ذلك نربح السماء"  ونكنز ما لا يُفسده سوس الكراهية"  (متى19:6) وتلك حقيقة دعوتنا  فهي تدعونا الى عدم التوقف عن إعلان البشارة الخلاصية ، فنحن خلق جديد لبشارة المسيح في عهده الجديد (2كو16:5).فلا نقلق للغد فالغد سيهتم بنفسه ، إلا لشيء واحد ، وهو دورنا في نشر كلمة الله فما نحن إلا شهادة في بلاد مضطربة فلا سلام لنا إلا في السماء . ليس إلا!.
 الله، في يسوع المسيح ،  يدعونا نحن الكهنة، كي نكون علماء في الحاسوب لا أن نكون عبيداً لآلة نحن اخترناها، بل في خدمتنا فاليوم يجب أن نعرف حقيقتنا بأننا نمثل الله على الارض وصحيح أننا بشر كالاخرين ولكن الله أختارنا وأعطَينا جواباً بكل حريتنا ومع إختيارنا لنا أصبحنا تلاميذ له بسياماتنا بل رسلاً . ومسحاء آخرين،  وعبر الحاسوب نُدرك خطوات مستقبلنا ففيه نكتشف شخصياتنا وكراماتنا، وفيه نقرأ ما يطيب لنا ولرغباتنا وربما لشهواتنا، وفيه نشاهد ما يُرضي نظراتنا ومبتغانا وعقولنا ويريح نفسياتنا... كل ذلك جميل ولكن ليكن في سراط مستقيم، فكل شيء يَحِلُّ لنا ولكن لا ينفع كل شيء كما يقول مار بولس  "كل الأشياء تحلّ لي، لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحلّ لي، لكن لا يتسلّط عليّ شيء" (1كو12:6). فمواهب السماء أُعطيت لنا ونِعَم العلياء سُكبت على هاماتنا عبر أفكارنا العملاقة والالكترونية وحريتنا الإنسانية وعقولنا الإيمانية وعلومنا الغزيرة وكل ذلك كي نكون بُناة لمستقبل أفضل فنكون لرعايانا رسل الايمان في علم الروحانية والحياتية فنحن "أنبياء ومعلمين ومترجمين" (1كور13).
لذا فلنناشد بعضنا البعض في أن نكون في علاقة حميمة مع إنسانيتنا وعِلْمنا وعقولنا وحواسيبنا "لاننا إناءٌ مختار" (أع15:9). ولننتبه إلى ما نقرر ونتذكر تلك العبارة الكتابية ، "ليس كل شيء ينفع وليس كل شيء يفيد" (يشوع بن سيراخ31:37). كي نعيش أحراراً بقراراتنا وليس عبيداً لشهواتنا واستعباداتنا فنخسر زمننا إذا ما كنّا نقضي أوقات أيامنا باللهو وضياع الحقيقة ، ومستقبلنا المباع لمصالح النميمة والافتراء وإفساد مسيرة أيامنا عبر لهونا بشاشات زرعناها أمام عيوننا وأوجدناها امام أنظارنا ولم نعد نرى غيرها وهذا ما جعلنا ننسى صورة رعايايانا ومؤمنينا وربما نرتكب فيها خطايانا ونحن لا ندري وذلك يعني أن الشيطان هو الذي يحكمنا ويُسيِرنا كما يشاء ،وننسى انّ دعوتنا المقدسة هي أن نغسل أقدام بعضنا كما فعل ربنا (يو4:13-14). كي لا  نخسر ساعات زماننا عبر اللهو في مشتهى شهواتنا ورغباتنا في الحاسوب والاي بات ، وفي النوم واللهو واللعب والرحيل،  وكما قال مار بولس " اسهروا ، والويل للعبد الذي يبدأ في السكر واللهو وبضرب غلمان سيده " (لوقا 45:12) . فقراءة حاضرنا وواقعنا بنظرة مستقبلية علامة لقدسية أجسادنا وحقيقة دعوتنا عبر التقدم العلمي والالكتروني والانفتاح العالمي والتكنولوجي والبعد الإنساني والذي يشكّل أساس كل إعداد ودعوة وتنشئة، وهذه متطلبات حاجاتنا في زمننا هذا وفي أيامنا هذه، وليكن افتخارنا ليس بأعمالنا ومزايانا البشرية وإنما "ليكن افتخارنا بالرب" (1كور31:15) وبعطاياه. ومثالنا في ذلك  امرأة وضيعة وهي خادمة الرب إنها العذراء القديسة مريم ، وإنْ هي صارت عظيمة وأنشدت للإله فليس لأنها عملت بنفسها ما لم تعمله امرأة بل لأن الله هو الذي "صنع بها العظائم " (لو48:1). لذا علينا أن نتّعظ في مسيرة حياتنا فنكون أمناء لحقيقة دعوتنا، وأوفياء لعلمنا وتقنياتنا،فالشيطان يتربص فينا لذا فلنقدس ذواتنا بالروح القدس ومسيرة النِعَم التي توهَب لنا... ليس إلا!. ( شكرا لمتابعتكم ، والى الحلقة الرابعة  )

98
اليوم، إلامَ يدعونا الله ( الحلقة الثانية )

المونسنيور د. بيوس قاشا
واليوم نسأل أنفسنا كما يسأل العديد من المدعوين "إلامَ يدعونا الله؟"،
 وفي هذا الزمان بالذات المليء بالكراهية والطائفية في عراقنا الجريح،الغائص
بالمحسوبية والقومية، والمشبَّع بالدنيوية القاتلة والعولمة المزيَّفة وشراء الحقائق بدينار فاسد ودولار مسروق، ، وانحصار مسيرة الأيام ، وأخرى أمثالها ، وأصبحنا نتساءل اين الله أمام بيع الضمائر لمصالح أنانية ومنافع زائلة، وازدياد اتّهام الأبرياء، وأصبح الكذب مقدساً والتمليق والمجاملات والمظاهر الخارجية سبيلاً ومسلكاً للوصول إلى مبتغى الحياة في احترام خالٍ من محبة أمينة. ومما زاد في الطين بَلَّة استعمال الأجهزة الألكترونية الحديثة والحاسوب والاي بات  بتشويه صور الآخرين الأبرياء لغايات مدمِّرة للإنسان الحكيم والعاقل والبريء وتدمير مستقبله غشاً وتزويراً وانقياداً للرغبات الشخصية كما كانت خطيئة آدم، وكأنّ الله فوّض القائمين على العمل البائس هذا،  فضحَ الآخرين لغايات في نيّات، إنها حقيقة المسيرة، وأمام هذه الحقائق كلها والمؤلمة، نسأل جميعا اين الله في مسيرة دعوتنا الكهنوتية  ودنيانا ؟ هل أبتعد الله عن الانسان ؟ أم الانسان أنكر وجود الله ، وأهمل دعوته ؟  وأسلم نفسه وأصبح من أملاك الشرير والشرور،أم ماذا؟  لذا اسأل "إلامَ يدعونا الله اليوم وفي هذا الزمن بالذات؟".
 الله ، في المسيح يسوع ، يدعونا أولا وقبل كل شيء ، نحن رجال الكهنوت ، أن نكون رجال صلاة، بقراءتنا لكلمة الرب والتأمل بها كي نعيش حقيقة الصلاة فالرب يقول "صلّوا ولا تملّوا" (لو1:18)، ونكون أمامه في مسيرة الحياة علامة إخلاص لأنه أحبّنا، فهو حي في داخلنا، كما يقول الكتاب "حيٌّ الرب الذي أنا واقف أمامه" (2مل16:5). فالصلاة تقودنا على المحافظة على عدم ضياع مفتاح باب السماء للدخول ونتعشى مع المسيح الرب(رؤيا 20:3) فصلاتنا ما هي إلا مجموعة فيتامينات روحية وهي تملأ نفوسنا كي نبقى أقوياء وشجعانا لمحاربة كبير الأشرار ، وهيرودس الثعلب ، وحية عدن، وتلك حقيقة دعوتنا ورسالتنا  فإيليا بالصلاة كثّرَ "حفنة الدقيق وقطرات الزيت" (1مل16:17)، وبالصلاة "أحيا ابن الأرملة في صرفة صيدا" (1مل22:17)، وبالصلاة أنزل المطر بعد احتباسه ثلاث سنوات وحلّ الجفاف (1مل1:18) ،معنى ذلك أنّ  الله اختارنا من أجل الناس وخلاصهم، كي نساعدهم على حمل صلبانهم كسمعان القيرواني (لو26:23)، ولنقاسمهم كل السبل التي تقود الى حقيقة الحياة ولننتبه كي لا  نجعلها غطاءً لمصالحنا بل مقدمةً لرسالتنا كما علّمنا الرب يسوع حيث" كان يصعد الجبل ليصلّي" (متى23:14)، "كما كان يقضي الليل كله بالصلاة" (لو12:6). فلترتفع أصوات صلاتنا كبخور نحو العلياء، ولتكن صلاتناأصواتاً لا لرضى الناس وكبار الزمن ولكن أصواتاً تمجّد الله من أجل الإنسان كي تقوده إلى حقيقة الدعوة في لقائه فهو يعرفنا حق المعرفة.ولنجعل الناس يقولون كما قالت المرأة لايليا " الان علمت أنك رجل الله وان كلام الرب في فمك حق " (1ملوك 24:17).
لذا فلنناشد بعضنا البعض في أن نشارك مؤمنينا في ابتهالاتهم وصلواتهم، ونكون منتظرين إياهم في هيكل الرب وليس هم الذين ينتظروننا _ ومن المؤسف وهذا ما يحصل اليوم _  فتلك علامات الراعي الصالح .ولنكن بجانبهم وليس الابتعاد عنهم أوتركهم يرعون لوحدهم ،ونحن نذهب ونجيء من أجل أمورنا الدنيوية،  وفي صلاتنا لنتحلّى بروحانية عميقة وقيم إنسانية في مسلك نقّي عبر طهارة القلوب وصفاء النيات، وعبر ضمير حي ومميز، وأجمل صلاة نشاركهم فيها هي قداسنا اليومي حيث المسيح في قلوبنا يجدد دماء إيماننا،  وحقيقة دعوتنا ، وسبحة مَريمانا والتي نخجل _ ومن المؤسف_  أن نحملها معنا في ذهابنا وأيابنا،  وهل أجمل من هاتين الصلاتين ،  كما هو فرضنا الصباحي والمسائي والتأمل اليومي وتلك سبل قداستنا ووفاء لدعوتنا ومسالك أمانتنا كما أنها منشطات روحية وغذاؤنا اليومي ، ولنقل للرب دائماً " يارب علمنا أن نصلي " ( لوقا 1:11) فنعلّم أبناءنا صلاة القلوب وحقيقتها، ولنسأل أنفسنا دائماً أين عمل الله في  صلاتنا ؟ كما كان ايليا النبي،  وماهي الاعاجيب التي أجترحناها؟  بعدما قال يسوع ربنا " الحق اقول لكم لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم"(متى 20:17) فإيماننا هو حقيقة صلاتنا ، فنحن في ذلك رجال الله في كهنوتنا ، يعني رجال صلاة ، أي كنيسة صلاة ، نعم كنيسة صلاة ، ليس إلا .
 

99
أليوم ، إلامَ يدعونا الله !!( الحلقة الاولى)

د. المونسنيور بيوس قاشا
من المؤكد أن كل إنسان مدعــو لحيــاة خاصة عبر مسيـرته الدنيوية الحيــاتية،
 وهذه المسيرة الخاصة بإمكاننا أن نسميها "دعوة"، وهي ناشئة من عمق إيمان الانسان
إيمان الإنسان، وعليها يبرمج المدعو مسيرته إما في الكهنوت أو في الرهبانية أو
 التكريس أو البتولية أو الزواج أو أخرى , وما أكثرها . وقد كتب العديد من الأخوة المحترمين والاباء الافاضل مقالاتٍ وفصولاً وخاضوا في هذا الموضوع الحساس ، ومعهم يسرني أن أخوض اليوم في هذا المضمار وفي هذا الزمن بالذات، فكل إنسان مدعو ، يؤمن أن تلك رسالته الشخصية، اختارها بحريته الكاملة دون ضغط أو إكراه، إلا القلّة القليلة من البشر يُجبَرون على اختيار دعواتهم بسبب إرادات وطلبات كبارهم لأنها تتناسق مع مصالحهم ومراكزهم ومناصبهم ومستقبلهم، وتلك حقيقة مُرّة ومبتغى بائس، وأنقياد للرغبات الشخصية واستعبادٌ لأرادة الانسان ليس إلا .
والدعوة بذرة سماوية ـــ حياتية مليئة بمحبة واهبها... إنها بذرة تحمل ثماراً يانعة كشجرة خضراء مثمرة. فالشجرة جميلة بمنظرها وحسنة بأوراقها وظلّها، ولكنها أجمل حين " تعطي ثمرها في حينه"( لوقا 42:12) ، فهي غذاء للجياع وما أكثرهم، فبذلك ما هي إلا هبة يمنحها الله للمدعو، وهي تختلف من شخص إلى آخر وحسب ظروف حياته وعيشه وحقيقة إنسانيته وتربيته ومحبته. فالله يبادر ويدعو كل إنسان بحريته، والإنسان يجيب أيضاً بحريته واختياره حسب قول الرب يسوع "لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم" (يو16:15). والمهم في هذه المسيرة أن يكون حاملها مخلصاً، وفيّاً، أميناً، لا أنانياً أو مصلحياً، لذا فهي تحمل جواباً شخصياً وحساساً لأنها مصير الإنسان، وعليها يبني المدعو حقيقته في أن يكون حراً في اختياره... ليس إلا!.
كان هذا تعريف بسيط عن الدعوة والمدعو، وسوف لن أتطرق في هذا المقال إلاّ إلى المدعو إلى السلك الكهنوتي والرهباني والتكريسي ، وحسب خبرتي ورسالتي المتواضعة، وقد تطرقتُ إلى نفس الموضوع ـــ سرّ الكهنوت ـــ (  بمناسبة السنة الايمانية التي أعلنها البابا بندكتس السادس عشر في 19 حزيران 2009 وحتى 11 حزيران 2010)  واليوم وبعد أربعين سنة من الخدمة أسأل نفسي ودعوتي فما نحن إلا عائلة واحدة  : هل الله لا يزال يدعونا وخاصة في هذا الزمن الإلكتروني والتكنولوجي والحاسوبي والفايروسي  ، ومرور الوطن بأحداث عديدة من حروب إلى حصار إلى احتلال إلى محاصصة مقيتة  وطائفية بغيضة ،  وأخرى وأخرى؟.ليس إلا !.
في هذا الزمن كَثُرَ الحديث عن المدعوين في مسيرة الكهنوت، كما نحن اليوم بل في كل ساعة أمام خبر جديد، فالدنيا عرّفتنا وعلّمتنا كل شيء، وفتحتْ لنا أبواب الحياة والعلم والحاسوب "وبإمكان الإنسان، كل إنسان، أن يكون مدرسة لنفسه"، وهذا ما يقوله الإرشاد الرسولي "الكنيسة وتمييز الدعوة". والمدعوون يسألون أنفسهم: هل نحن في مسيرة مقدسة أم دنيوية عالمية؟، في مسيرة صائبة أم منحرفة؟، هل نحن في مسيرة صحيحة أم مشكِّكة؟، في مسيرة صادقة أم وظيفية؟، في مسيرة رئاسية أم مسيرة قيادية؟، وأسئلة عديدة تحمل كلها علامات استفهام وتعجّب أمام مجتمع متغيّر نحيا فيه ومعه، ونقاسمه مجالات لا تُحصى ولا تُعَدّ، ونشاركه أفراحه وأحزانه، صراعاته وآماله، وربما مآسيه، وما إلى ذلك.كما نعلم أن الوطن مرّ بأزمات الحروب والحصاروأرهاب القاعدة وأزلامها وإضطهاد داعش ومسيرته الوحشية  والاحتلال ، وفي هذه كلها قاسيتُ بوحدي مرارتها ومصابها وتبعياتها وعذاباتها ، ببقائي في العاصمة إيمانا مني بوفائي لدعوتي وعيشي لحقيقة رسالتي ، ولا زال الوطن حتى الساعة يئنّ تحت نير الاحتلال والفساد والمحسوبية والمصلحة الكبريائية، وقد سبقته في ذلك العنصرية والطائفية التي عشنا أيامها وسنيها بالخوف والألم والفزع، وكذلك العنصرية والسياسة البائسة والفوضى الحياتية وفساد القيم واختيار مَن هو لمصلحتي، وفضح الأبرياء لغايات في النفوس، وشراء الدنيا ومناصبها، وبيع الحقائق وقدسيتها،  بتقديس الدجل والكذب، واحتضان الفاسدين من أجل المصالح والغايات، وكأننا في زمن"  بابل وبرجها حيث الله الخالق بَلْبَلَ لغة سكانها"( تك 9) ، فنحن اليوم أيضاً مثلهم، لم نعد نفهم بعضنا بعضاً إلا غاياتنا ومصالحنا ورؤانا، وتلك حقائق الزمن وإنْ جمّلناها أحياناً عبر عقولنا وبياناتنا وخطبنا ومواعظنا برفقة أصوات تهلّل وترنّم، وأيادٍ تصفق وأذرع تحضن، وهذه الأمور كلها تجعل من دعوتنا مشتراة أو مباعة حيث لا ندرك حقيقتنا "ولا تصل إلى نضجها الإنساني والإيماني والمسيحي والخدمي، ولا تسمح لنا أن ندرك حقيقتها بوضوح " ، وإتمام نقاط مسيرتها لغياب الثقة والحقيقة والمحبة الخالصة وتفاقم الاحترام والتصفيق (مؤتمر الكنيسة وتمييز الدعوات؛ 9/11/2008)... ليس إلا!.
يحدثنا الكتاب المقدس عن شخصيات عديدة كأمثلة جريئة لمسيرة الدعوات المختلفة، فلنا في ذلك شخصان مثالان جديران بأن نتشبّه بهما وبحقيقة مسيرتهما وهدف رسالتهما وعمق إيمانهما وحبهما لخالقهما ألا وهما: النبي إيليا (الياس)، والصوت الصارخ (يوحنا المعمذان)، حيث كانا شاهدين وبكل جرأة مليئة برحمة الله ومحبته وبحقيقة الإنسان ودعوته، متّقداين بنور حب السماء وفي خدمة رب العلياء، وحملا رسالتيهما بكل جرأة إلى كل إنسان وإلى كل مَن ظلَّ طريق الحقيقة، طريق الإيمان والعبادة الحقة بروح النبوّة والالتزام الأمين. فالله يعرفهما وهما يعرفان الله حق المعرفة، ولم ينصاعا يوماً لأنانية الدنيا ولمصالح الزمن. وقد أكّد هذه المسيرة ربنا يسوع المسيح حينما جعل من هيرودس الملك ، ثعلب الزمان (لو32:12)، ولم يساوم يوماً حنّان أو قيافا من أجل قدسية الهيكل وخلاص الإنسان كما لم يؤلهما يوما، ولم يلقِ يوماً عليهما حتى التحية ، لأنه أدرك جيداً أن مديح الناس ما هو إلا في حالات الزمن. فصاحب الفضيلة "ليس مَن عظَّم نفسه بل مَن عظَّمه الرب" (2كو18:10)، وإن الحقيقة ما هي إلا قبول مشيئة الله وتحقيق رغبته. ليس إلا!.
لذلك يتميز الإنسان ـــ الذي خُلق على صورة الله ومثاله ـــ بدعوته وأمانته وغيرته وعلاقاته النابعة من عمق الحقيقة الإنسانية عبر المحبة "مَن أحبّني يحبه أبي وعنده نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يو23:14)، فحيث نكون يكون الله أمامنا ومعنا وعوننا، مرافِقاً وملهِماً لنكون علامة مميزة لاستمرار عمل الله في الإنسان، ومعلناً ومنشداً "حيٌّ الرب الذي أنا واقف أمامه" (2ملوك16:5). فالله اختارنا بنعمته، فهو دعانا وفرزنا من بطون أمهاتنا (غلا15:1)، وبهذا الاختيار اعلمنا توما الاكويني " أنَّ عظمة وكرامة الكهنوت تفوق عظمة وكرامة الملائكة " من أجل ذلك أرسلنا في مسيرة الحياة وزوايا الألم لنعلن للشعب حب الله ورحمته كي نكون نحن رحمته "كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم" (لو36:6)، ورحمته تكون لجميع البشر ومن أي أمّة كانوا أو دين أو عِرق أو لون(2كو20:5 و2كو1:6-10)... فما نحن إلا سفراء وكما يقول البابا فرنسيس " ممثلين للمسيح الكاهن الأعظم" من أجل رعاية شعب الله " . ليس إلا. ( والى حلقة قادمة )



100
أسطرٌ من مسيرة الحياة 

المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
   إننا نحيا في زمن لا نعرف فيه إلى أين تتجه بوصلة مسيرته وأين سيستقر مستقبلنا كما مستقبل أجيالنا ؟. كما نحن في عالم مخيف حيث يغدو الإنسان وإن كنّا من طينة واحدة أكثر شراسة في كراهيته لأخيه الإنسان إذ لا يرى فيه إلا عدواً ومنافساً، وحيث الزمن غدّار وأيامه قاسية، ونهاراته متعبة، ولياليه مخيفة، فيه نحسب عدد سنينا وأيامنا بسبب عبودية المصالح الكبريائية والمحسوبية الطائفية والانفرادية المليئة بفيتامين الأنانية البائسة الرابضة في الضمائر المشتراة في مجتمعنا حيث يُقدَّس الفاسدون ويُبجَّل شهود الزور والمنافقون من أجل مصالح مغشوشة لمنافع دنيوية زائلة .
منعطف خطير
نعم ، يمرّ بلدنا اليوم بأخطر منعطف في تاريخه الحديث،وربما سيدخل نفقاً مظلماً لا يعلم ساعة خلاصه إلا سبحانه تعالى ( وهذا مالا نتمناه). وما نراه اليوم فاننا نرى بلدنا يعيش مرحلة عاصفة اختلطت فيها السياسة بالدين، والحق بالباطل، والصواب بالخطأ، والمصالح بالفساد ، عبر حملات إعلامية  غايتها تشويشنا جميعاً، وزيادة انقسامات بعضنا على بعض، وبعضنا مع بعض ، وصار الكل ضد الكل والكل ضد البعض وكما يقول المثل ، اختلط الحابل بالنابل ، فبيعت الحقيقة لمصلحة الاغلبية والاقوياء وحياة السماء بركعات معدودة وسجدات محسوبة ، وبرسائل كاذبة وصمت مشبوه وغرقنا في فوضى عارمة لا يستفيد منها إلا أصحاب المخططات وذوي الروح العدائية ليس إلا .
   فلك نوح
ما أدركه، معترفا بحقيقة المسيرة : إن اختلافاتنا في مواقعنا المسيحية ربما يعود إلى أننا قد أضعنا بوصلة حقيقة إيماننا ، وهدف إنسانيتنا، وكلمات إنجيلنا،في المسيح الحي، فاصبحنا نُسيّر رسالتَنا كما نشاء ومتى ما نشاء وحسب مانشاء أصبحنا نؤله أنفسنا ونقول للسماء نحن الهة الزمن وهذا ما جعلنا نستعبد فقراءَنا وصامتي زماننا، ونبيع أنفسنا لكبار دنيانا ومصالحهم، وأصبحنا وكلاء لاناس رسموا مخططاتهم فوق رؤوسنا، وعبر شخوصنا الضعيفة ينفذّون غاياتهم ويملأون بطوننا بخبز الدنيا، وبكلام الطاعة والخضوع، وإذا ما فشلوا فيظهرون ذلك عبر إنساننا الضعيف فيقرروا رمينا خارجاً بعقوبة يهوونها مدعين اننا لا نصلح لأية مسيرة، فنقوم ببيع أرضنا وإنْ خفية لأننا أصبحنا نخاف حتى من ظلهم كما من ظلنا ومن سبب وجودنا، فبذلك تزول روح الاخّوة وتفسد حقيقة الصلاة، ولا مجال لساعة الغفران ، وكبار الزمن لا يدركون خطاياهم وإذا ما أدركوها لا يقروا بحقيقتهم وانما يقدسون مناصبهم  ومكانتهم ، من أجل نجاح مصالحهم ومبتغاهم ، وهذا ما يفسر أننا أهملنا إنجيلنا وجعلناه كتاباً لا يقرأه ولا يتعلم منه إلا " صاعدو فلكَ نوح" (تك 14:6)  والويل لمن يتجاهل صوت السماء  ليس إلا!.
   البابا فرنسيس
نعم ، المرحلة الحالية تحمل لنا تحديات خطيرة بل خطيرة جداً، فوجودنا في امتحان قاسٍ، ودورنا لم يعد له مكانٌ في الدستور والقانون والتجمع إلا في المجال الاجتماعي الاحترامي. فهذا يدعونا الى أن ندرك جيداً ، أنه إذا ضاع شرقنا أو مات حبه في قلوبنا ستموت مسيحيتنا في علامة شرقنا. فالبابا فرنسيس يقول:"إذا افتقر الشرق الأوسط من المسيحيين لن يصبح شرقاً أوسطاً" (لقاء باري للصلاة العالمية بحضور كل رؤساء الكنائس الشرقية، السبت  7/7/2018)، فالويل لنا إذا أضعنا أرضنا. لأننا مسؤولون شهادة للتاريخ أن نقف في وجه كل مَن يريد أن يشوّه مسيرة اصالتنا، وينظر إلينا مستهزئاً بانقساماتنا وطائفيتنا وقوميتنا من أجل المصالح المزيفة والكراسي الزائلة، وكي لا نكون في  خانة المهمَلين،  علينا أن نكون صداً منيعاً أمام ما يحصل، فالمستقبل لا يُبنى في ظل انقساماتنا وإنما في حقيقة وحدتنا ووحدة كلمتنا ومسيرة تواضعنا . فإيماننا نابع من المسيح الحي ورجاؤنا في كلماته ، وليس في أشخاص زائلين. ومار بولس يقول في هذا الصدد "إِنْ كَانَ رَجَاءؤنا في المسيح  لا يَتعَدى هذهِ الحَياة ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ" (1كورنتس15: 19).
حقيقة وجودنا
هل كُتب لنا أن تكون أوقاتنا مصيرية في ثقل صليبنا، أم ذلك امتحان من رب السماء كي ندرك عظمة كبريائنا وثقل خطيئتنا في مصالحنا وأنانيتنا فنتوب ونطّهر أنفسنا من كل شائبة متأصلة في عمق تفكيرنا وحدقة عيوننا فنقلع عنها كي لا تعيق مسيرتنا وحبنا لصليبنا، فمسيرة حياتنا على المحك فإما أن نبقى نشهد لحقيقة وجودنا وحبنا لترابنا وايماننا بانجيلنا وحملنا لصليبنا، وإما أن نبيع حقيقتنا وعند ذلك نكتب بدء زوالنا عبر ثقافة بائسة، فنكون لها ولهم عبيداً فنشوه مسيرة إيماننا، وتضيع الحقيقة ويسود الكلام المعسول والمجاملات البائسة ليس إلا.
لوحة قاتمة
   صحيح إن تاريخ مسيحيتنا مجبول بالإضطهاد ومليء بألعوبة الحياة والعيش، وإن كان هناك فترات نقول عنها مريحة في بعض الأحيان ولكن،  عامةً لا زال الاضطهاد والسياسة تغدر بنا وتجعلنا مشاريع لمصالحها، وهذا ما يدفعنا إلى أن نقول: لم يعد لنا بعد خبزةٌ في هذا البلد، فننشد ، ها هو شرقنا يطردنا، والأرض تلفظنا، والسياسة تكتب لنا الرحيل، فنرحل الى أرضٍ تنصفنا والسبب كبار دنيانا وزماننا، وهمّهم ، حقائق مزيفة، ومصالح أبدية ، ورؤوساء المناسك لا ينظرون إلا إلى طوائفهم وكراسيهم وقيامهم وجلوسهم، والإعلام البائس يرسم لنا لوحة قاتمة لمستقبل أجيالنا. فيالها من محنة لا توصَف بقساوتها ولا تُرسم حقيقتُها إلا عبر فسادها، فهواء الزمن قد أتعبنا ومفسرو الحقيقة المزيّفة ،سرقوا حقيقة الحياة ،  وأصبحنا راحلين وإنْ كنا بعدُ من هواء شرقنا نتنفس ليس إلا .
الخاتمة
أرجو، طالباً سماحكم، أقول مناشداً كبار دنيانا ورؤوساء مناطقنا وأبناء وطننا وشرقنا : كفانا تشتّتاً وانقساماً، كفانا كلاماً وصراخاً وربما بكاءً، كفانا رحيلاً وضياعاً،كفانا طائفية وأنانية ، كفانا حبَّ ذواتنا ومصالحنا،  كفانا استعطاءاً فنحن أغنياء الزمن كما الدنيا، وكفانا أستفقاراً وملء خزائننا، فالحياة جميلة بعطائها وليس بكبريائها ومناصبها وطائفيتها ،  ولنعلم أنّ الوطنَ أرضُنا، والشرق شرقنا،  وهو ذهبُنا ومالُنا وحامي عيالنا، وزينة دنيانا ، وما علينا إلا أن  نحيى حقيقته عبر حبنا له وليس عبر شفاهنا وبياناتنا واحتراماتنا المجاملاتية ، فالرب اوصانا وصية واحدة ولا اكثر إذ قال وصيتي لكم  " أحبوا بعضكم بعضا كما أنا احببتكم" ( يوحنا 12:15) فالمحبة اليوم ، وللأسف،  ماهي الا  للأقوى ولأمير الزمن ولرئيس الحارة والمحلة والباسط سلطته على الأبرياء المساكين، من أجل صداقة زائفة،  ومجاملات بائسة ، ومصالح معروفة. وننسى أنّ كل شي زائل الا الحقيقة التي يكتبها أبرياء التاريخ ورجال الشهادة فان عشنا حبَّ أرضنا وحبّض بعضنا، عشنا حقيقة وجودنا، وأدركنا، أننا تاريخ كتبنا أَسطرَه بدماءٍ ودموعٍ. فحقيقة وجودنا شاهدة لمسيرتنا ،فلنملأ خطوات مسيرتنا بحقيقة الحبِّ والشهادة ، بالمسيح يسوع الحي ،  فهو الذي قال " أنا الطريق  والحق والحياة "( يوحنا 6:14) ، فما الحياة إلا نعمة من السماء، وما علينا إلا أن نكون أُمناء للنعمة وأوفياء للسماء ،  نعم وأمين .


101
أطراف الميلاد (الحلقة الرابعة والاخيرة )
ولد المسيح ... هاليلويا

المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
   أتمنى لكم جميعا أيها القراء الأعزاء ومحرري المواقع الالكترونية ميلاداً مجيدا وسنة مباركة وليبارككم طفل المغارة ويمنح لشرقنا السلام والامان .
   بعد سلسلة البشارات التي بدأ بها لوقا إنجيله تحضيراً للحدث الأهم، ها هو الحدث يتم اليوم "ولد لكم مخلص" (لو11:2). هذه العبارة هي المفتاح من البداية إلى النهاية في مسيرة الحياة وثقتنا بالله المخلص والإيمان به. فبداية تاريخ الإيمان ترتكز على الخلاص الذي عمله الله الخالق للإنسان المخلوق ودخول المسيح ابن الله تاريخ البشر وتبناه هذا ونظمّه. فمع يسوع يصبح التاريخ الطويل تاريخ خلاص للبشرية كلها ليحقق ما تاقت إليه منذ البدء بأن تُصبح شبيهة بالله. ومسيرة هذا التاريخ الإنساني يتجدد دائماً إذ ليست سوى مسيرة خلاص بسبب عدم أمانة الإنسان، فهل يئس الله من خلقه؟، وهل على الإنسان أن ييأس من نفسه؟، إنه السؤال الذي أجاب الله عليه بتجسد إبنه.

     في الميلاد
   ففي الميلاد يتجلى مجد الله وهو لا يزال يتجلى في العالم. أحداث العالم اليوم تشكل هي أيضاً إطار لهذا التجلي، لذا علينا أن نعرف كيف نتخطى الإطار الخارجي لنصل إلى الحدث الأهم، كيف نرى تجلي الله في حياة عالمنا؟، فاليوم أحداث عالمنا أكثر مأساوية وخاصة في شرقنا واحيانا يساورنا الخوف مما يحدث ولكن لله طرقا واساليب عديدة ليزيل هذا الخوف فقد اظهر ذاته للبشر "ولما تم ملء الزمان، أرسل الله ابنه الوحيد" (غلا4:4) فكان المخلّص بيننا. نعم "سكن بيننا "(يوحنا 14:1) ، فقد طال انتظار البشرية لهذه البشرى التي تحققت أخيراً. في ملء الازمنة  فالموعود صار واقعاً والحلم حقيقة. ابن الله صار جسداً وشابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة وكأنه يريد أن يشدد عزائمنا لكي نتحاشى الخطيئة في حياتنا على غرار الذي لم يقع  فيها أبداً، والذي تجسد ليخلّصنا من الخطيئة وعبوديتها.

    مولود جديد
   نعم، "اضجعته مريم في المذود لأنه لم يكن لهما محل في الفندق" (لو7:2)" يقول لوقا الانجيلي ولا شيء ميّزه عن أولاد الفقراء في أيامه، ومع ذلك جاء الرعاة "مسرعين " ( لوقا 16:2) ويُخبرون بكل ما قيل لهم من شأنه. كان في بيت من البيوت، ومع ذلك جاء إليه المجوس، هؤلاء الوثنيون الذين يمثّلون البشرية منذ سام وحام ويافث، فسجدوا له (متى 2:2) وقدمو هداياهم من ذهب ولبان ومّر. فمَن هو هذا الموضوع في القمط والذي لا يتميز في شيء عن الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الليلة الفريدة التي فيها أنشد الملائكة "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والمسرة الصالحة لبني البشر" (لو14:2).ونسأل هل هذا هو دليل ضعف إلهي أن يولد ابن الله في كل ما قد يظنه البعض ضعفاً هو بالحقيقة درس في التواضع ونكران الذات لأجل الأهم. وإذا كنا اليوم نلوم يهود ذلك الزمن لأنهم لم يؤمّنوا مكاناً يليق بالمولود الجديد، فهذا يلزمنا أن نعوّض اليوم تقصيرهم بالأمس، أي أن نجد المكان اللائق بالضيف العزيز، وأي مكان هو الذي يطلبه؟ بل هو لا يرغب بأماكن مكلفة أو غالية بل هو يرغب بالقلوب فقط وهي في النهاية عمل يديه.

   ولد في ملء الزمان
   هذا الذي" وضع في مذود"  ( لوقا12:2 ) ، ولد في ملء الزمن هو فوق الزمن، ذاك الذي كُوِّن جسمه مثل كل الأجسام يتميز عن كل إنسان. إنْ كان ابن البشر فهو أيضاً ابن الله، وسلطته سلطة الله، وقدرته قدرة الله. به خُلق كل شيء وبدونه ما وُجد شيء من الموجودات. هو يقيم في الارض ولكنه هو الذي أسس الأرض منذ البدء. وهو يقيم في السماوات ولكن السماوات بعظمتها هي صنع يديه. " الأرض والسماء تزولان"( متى 35:24) ، تبليان كالثوب، أما الابن فهو منذ الأزل. ويسوع هو الابن، عرشه إلى دهر الدهور. صولجانه صولجان الاستقامة بعد أن أتمّ تطهير الخطايا ،  جلس عن يمين الجلالة في الأعالي. جلس عن يمين الله ليدين معه البشرية كلها، فهو في ذلك صورة الله الكاملة. صار الله منظوراً، لمسناه، رأيناه، سمعناه، قال لنا "مَن رآني فقد رأى الآب" (يو9:14)، فالبشر كلهم خليقة الله، والملائكة وحدهم خلائق الله، ووحده يسوع هو جوهر الله، فهو مساوٍ للآب في الجوهر. فالقديس بولس يقول في رسالته إلى العبرانيين "هو شعاع مجد الله، هو صورة الله وجوهره، هو ضابط الكل بكلمة قدرته" (عبر3:1).

    إنه كلمته
   كلمته تحققت، تجسدت. ابن الله هو الكلمة، معنا وعندنا. ونحن كيف نتكلم مع الله؟، ما هي كلمتنا؟، وكيف هي؟، هل تخرج كلمتنا من نطاق الأحرف والألفاظ لتصير "جسداً" حقيقة، عملاً، التزاماً وحياةً. كلمة الله صار جسداً وعاش بيننا، رأيناه ، عمانوئيل، إلهنا معنا، كلمتنا.وانا كلمتي هل يمكن أن تكون "أنا مع الله"، كلمتنا إن تجسدت علامة في العمق مع الله وحقيقة مع الناس قد تصير قوة تغيير وخلاص في قلب العالم، وقد تصير "علامة" لتحقيق وعد الرب وحضوره في قلب البشرية "كلامه لأجل سلامي" على الأرض وإعلان ملكوته في السماء.   كلمتنا اليوم كشهادة الرعاة الذين انطلقوا من حيث هم "ذهبوا ليروا" (لو15:2)، وأخبروا بما رأوه فأدهشوا سامعيهم ومجّدوا الله، فهل لكلمتنا أن تُدهش لأنها شهادة حية، وتمجد الله لأنه منه وبه وإليه. نعم، ولد اليوم مخلص بتجسده بيننا، فلا خلاص إلا بابن وحده.

    خاتمة
بالامكان ان اسال هل ممكن ان يولد المسيح في قلوبنا هل المسيح موضوع في قلوبنا، في حياتنا، في اهتماماتنا؟.
هل تعلم أنه ولد من أجلك؟، هل أنت مستعد لأن تقبل اليوم بشرى الرب في حياتك؟، هل تعتبر أن المسيح مخلص لحياتك؟، وكيف تعيش الميلاد حدثاً لكل يوم؟.هل أنت مستعد لأن تسهر مع الرعاة وتنتظر مجيء الرب؟.ما هي المسيرة التي تقوم بها من أجل الوصول إلى الرب؟.هل يدعوك حدث التجسد للتأمل في سر الله وفي سر خلاصنا؟، هل تستطيع أن تقرأ هذا الحدث بعيني مريم وتتأمل به كما كانت ؟.هل تدرك أن المعنى الذي يعطيه الله للتاريخ هو غير المعنى الذي يعطيه البشر؟، فالبشر يتوقون عند فوضى الأحداث والأخطاء المرتَكَبة أمام الله، فيتجاوز هذه الفوضى ويستغل أخطاء البشر ليحولها إلى خير لهم. فهل نعرف كيف نقتنص الرجاء والفرح ونزرعهما من حولنا  ولكي ننزع  الخوف ونحوّله رويداً رويداً إلى رجاء وفرح؟.
ختاماً ، هذا هو الميلاد ، نعم إنه لقاء السماء بالأرض، الملائكة والرعاة، الله والإنسان، في شخص يسوع ابن الله وابن مريم .فالميلاد حدث عظيم التقى فيه الله مع الانسان ، و السماء والارض ، المسيح الاله الانسان ، نعم ولد المسيح ، هاليلويا .. نعم وامين

102
أطراف الميلاد (الحلقة الثالثة)
يوسف البار ... صامت كبيروإيمان مُعاش

المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
   حَدَثُ تجسد المسيح يسوع في تاريخ البشر هو الذي يعطي التاريخ معناه. فالتاريخ ليس تراكمَ سنين
 وأجيالاً تمضي وتفنى بل هو مسيرة خلاصية تتمحور حول الكلمة الذي تجسد بيننا "ولما تمّ ملء الزمان أرسل الله ابنه". (غلا4:4). فالتجسد حدث نحياه في إنسانيتنا، ونعيش أبعاده عبر إيماننا وصبغة عماذنا، وهو يبدو في أوسع آفاقه حدثاً ثالوثياً من جهة ومشاركة بشرية تامة من جهة أخرى. فالآب السماوي بتدبيره الإلهي، والابن المتجسد في حضن الآب بروحه القدوس الذي قدس الإنسان للمشاركة في هذا الحدث إذ سكن في أحشاء العذراء لإتمامه، وانتسب بشرياً إلى أب أرضي يرعاه كسائر أبناء البشر. إنه الصامت الكبير، يوسف البار، حيث أعلمه الروح ببيانه عن الحبل الإلهي ليتهيأ لاستقبال وليد السماء عبر طاعة أبدية وتامة لإرادة الله، فقد أدرك بصمته وبرارته "سرَّ المسيح" (أفسس1:3-3).
رجلاً باراً
يقول متى الانجيلي أن " يوسف كان إنساناً بارّاً"( متى18:1)،  والبارّ يعني المحافظ على شريعة الرب، والشريعة بالنسبة إليه كانت الهدف الأسمى. صَمَتَ وبصمته كان حقيقة كلامه، فلا يناقش ولا يطلب تفاسير لأنه رجل التقوى، ويعني السالك في مسار الشريعة. فقد أظهر الله له إرادته فأصبح وذاته كلاًّ لله وليس بعضاً من جوارحه كما هو حال الكثيرين في دنيانا، فهم خُلقوا من أجل مصالحهم وأصدقائهم، بينما يوسف البار أحبّ من عمق قلبه ولم يفكر يوماً بانانياته ومخططاته. عاش بهدوء عزيز وصمت كبير وطاعة أمينة فأقدم بكل همّة كما قال له الملاك، وتخلّص بعد قيامه من النوم من قلقه وتردده وتراجع عن قراره وعن حقه ، وفكّر هل يحق له مخالفة الشريعة وهو البارّ "وكَانَ يُوسُفُ رَجُلُها بَارّاً، ولا يُرِيدُ أَنْ يُشَهِّرَ بِهَا، قَرَّرَ أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرّاً" (متى18:1-25)، والشريعة تخوّله الحق بمحاكمة مريم ورجمها "كزانية"، لكنه عمل بكل جرأة إيمانية مع دعوة الخلاص، فتخلّى عن هذا الحق الانتقامي وصمّم على طلاقها سراً. كيف يتم هذا الطلاق بالسر؟ ربما يوسف الصامت صمّم على الرحيل بعيداً وتَرِكْ مريم وشأنَها، فموقفه هذا يعبّر عن المحافظة على الشريعة من جهة وعن نبل إنساني عظيم من جهة ثانية. فهو الرجل الصالح، ولأنّ للصلاح أرضية لابدّ منها لأهلية المزمع أن يطّلع على الوحي الإلهي. وصلاحه ليس إدّعاءً خادعاً قد يعزوه إلى نفسه، فحياته مسيرة تقوى وليس كلمات تباهي وإعلام إيماني مخدوع، وإنما كلَّ همّه إرضاءُ الله فيعرف أيَ منحى يسلك عندما يطرأ عليه حدث مفاجئ.
ملاك ويوسف
   اختار يوسف أن لا يعرّض مريم للمهانة عندما وجدها حبلى وإنما يهجرها سراً من دون أن يضيق عليها بأسئلة مربكة، فاختيار الفضيلة يفرض على الإنسان سلوك طريقٍ غير عادي ولا يأخذ بأحكام البشر ولا يركن إليها ولو كانت سليمة، وهذا ما جعله ـــ كما قال له الملاك ـــ أن يأخذ مريم امرأة له" قم خذ مريم أمرأتك " (متى 20:1) ، أي أن يطمئن إلى أبوّته في الصلاح. فيوسف الصامت ولانه كبير بصمته " ولم يشأ أن يشهرها " (متى19:1). لم يستسلم لشيء بسبب صلاحه، ولم يتهوّر في التشهير بمريم بفضل براءته (كما هو شأن الكثيرين في هذا الزمن القاسي )، فالإنسان يُعرَف عند المحنة وأمام صدمة كبيرة وخاصة إذا كان قد تسبّب بها أحبُّ الناس إليه. فالنبل الإنساني والموقف الإيماني يتجليان في ردة فعل والقرار الذي يتّخذه. إنها ثقة لا ينبغي الامتناع عن قبولها إذ هي صادرة من الله نفسه، العامل في مريم، والتي باتت مسكن العليّ وبات هو جزءاً من التدبير الإلهي، وهذه كلها تحمل معانٍ تدلّ عن مدلولها وعلى الورع الذي تتّسم به نفس يوسف البار. فماذا كشف الملاك ليوسف؟ كشف له أن حبل مريم هو من الروح القدس. كشف له هوية يسوع" عمّانوئيل " الله معنا"  (الله يخلّص) " لأنه يخلص شعبه من خطاياهم"(متى 21:1) ، وبكلمة كشف له أن الأزمة التي يمرّ بها لا تخصّه ولا تخصّ مريم فقط، إنها لخير البشرية جمعاء.
   الزمن المسيحاني
نعم الله ذاته كشف السرّ ليوسف. هذا الولد الذي في حشا مريم لا يشبه سائر الأولاد. حُبل به بواسطة الروح القدس. هذا السر لم تعرفه الأجيال الغابرة وأُعلن الآن، صار معروفاً، ما عدنا في انتظار بعيد أو قريب كما كان حال الأنبياء. قال إشعياء للرب "ليتكَ تشق السماوات وتنزل" (اشعيا1:64 )، والآن شقّ الله السماء ونزل لا بواسطة حلم في الليل مع ما في هذا الظهور من نور وعتمة، ولا بواسطة ملاك، الله ذاته نزل، أخذ جسداً من جسد مريم، ويوسف يرى هذا الحبل دون أن يفهم، ولكن الله بيّنَ له حقيقة الحبل. فكان الحلم هو إحدى الوسائط التي يعلن الله من خلالها عن إرادته، وهي عند الأنبياء ظاهرة من ظواهر الزمن المسيحاني، ويدعوه الملاك "ابن داود"(متى 20:1)  ليذكّره بهويته الملوكية.
     فطنة وحكمة
   هناك دائماً اسباب تدفعنا للتشكيك بغيرنا وربما بأقرب الناس وأحبّهم إلينا، لذا علينا أن لا نحكم أو نَدين غيرنا بل نحاول أو نجد حلولاً تحفظ كرامة الآخرين وتترك مجالاً لجلاء الحقيقة، لأن المنطق البشري وحده لا يكفي أحياناً كثيرة لكي نعرف كيف نبني أحكامنا وتصرفاتنا، فنحن بحاجة إلى إلهام (رؤيا)، فهل نصلّي ونسأل الله ليمدّنا بوحيه وينير عقولنا وقلوبنا.فهل نتحلّى بالفطنة والحكمة ونترك مجالاً للفهم فلا نجعل الأوضاع أكثر تأزماً، بل نسعى لاقتناص المناسبات فنحصل على ما يكفي من أنوار لفهم الآخرين ومساعدتهم. لذا نحن مدعوون إلى أن نعي إيماننا لنتمكن من الإصغاء إلى المهمة التي سيوكلها إلينا في هذه الحياة ونحن نحمل صفة الصمت بل الصمت العميق، فلا نَقْدمْنَ على أي تصرف ينبع من انفعال بشري بل ننتظر بصمت كبير ورجاء بيان مشيئته.
       الخاتمة
هوذا يوسف يدفعنا إلى التفكير في تصرفاتنا،كي تتماشى مع الرغبة الإلهية بأن لا نظلم أحداً أو نفتري على أحد. جميل أن نطيع الذي أحبنا. جميل أن نتمّم إرادة الله لخلاص نفوسنا.لذا علينا أن نصغي إلى ما يريده الله من خلال تأملنا بكلامه دون انتظار إجابة واضحة، في الأوقات العصيبة، فنحن متأكدون بأن لا حلول ممكنة، لولا تدخل الرب في حياتنا ليكشف لنا سرّ ما نتحمّله ويعطيه المعنى الجوهري. لذا نسأل حتى ما نجعل الآخرين يعانون من ظلمنا لهم وتشويه صورتهم!من أجل مصلحتنا وسهولة وصولنا حاملين قساوة الافتراء وأنانيتنا وخاصة عندما يكون الظلم من  كبار دنيانا ، لأنَّ عالمنا اليوم ، ومن المؤسف ،  يدعونا إلى أن نكون في محطة الكبرياء، وأن نزرع الأنانية في مواقف مسيرتنا،  وننسى أن الحقيقة هي أن نقف مع المظلومين لا أن نكون من جماعة الظالمين والفاسدين لتدمير الاخر البريء، وأن تحمل نفسنا صمتاً كيوسف البار، وروحنا هدوءاً، ونجابه الشر بقول الحقيقة مهما عاث الفاسدون ومهما تسلط كبار الزمن ناسين أنهم في الحياة ليس  لتدمير الإنسان الآخر بل لبنيانه ، ولندرك جيدا أنه مهما عمل أصحاب المصالح والطائفيات إلى زرع الفتن والشقاقات وتفضيل شخص على آخر من أجل الدنيا وكراسيها بل ومملكتها، سيأتي يوم الديان ، لذا فالمطلوب أن نكون في الحقيقة فهي علامة صمت كبير وثقة عمياء بالذي أحبّنا حتى الموت ، إنها إيمان مُعاش ، ورجاءٌ في قوة الصمت والصلاة، فاختبار يوسف هو دعوة لنا لسماع صوت الرب الذي يكشف لنا البُعد لكل ما نعيشه. ، إنه صوت الصامت الكبير.. نعم وامين

   
   


103

والى من لم يذكر اسمه ايضا وان كنا نعرفه جيدا ولكن نقول ايفاء للكلمات ان كلمة الشكر واجب
وان كان المقال قد عجبك فلك الشكر وان لم يعجبك فتلك مسألتك لوحدك فقط
ولم اكن اعلم ان الحقيقة تختفي بالقلوب وليس بكلمات الافواه والعجب
ومع هذا ما قلته سابقا كان عليك ان لا تقوم بمثل هكذا عملية فانت معروف من انت
ولكن الرب يكون في عونك لكي لا تظلم الناس وان تعرف الحقيقة والحقيقة هي ماذا ستقول
يوم الحساب امام الرب
مع التحية
اخوك الخوري بيوس  وليس فقط الاب وبدون احترام كما كتبته
والرب يغفر لك

104
أطراف الميلاد: (الحلقة الثانية)
مريم... مسيرة الروح في الأيمان
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
وهانحن نواصل مسيرتنا الميلادية برفقة مريم العذراء ، نقرأ ما كتبه  متى الإنجيلي "أما مريم فكانت تحفظ هذا  الكلام كله " (لو19:2)، وبحفظها لهذا الحدث السماوي عاشت بجسدها حقيقة عمل الروح في حشاها. فبولس الرسول يقول:"أرسل الله إبنه مولوداً من عذراء" (غلا4:4)، وفي هذا الإرسال جمع الله كل تاريخ شعبه منذ يعقوب وإلى داود ليكون علامة يجمع تاريخ الشعوب حين يكون المُلك له (1 كورنتس 24:15-26) فتراه يملك على قلوب الكثيرين بفيض حبه واحترامه لإنسانيتنا الضعيفة والتي قدسها بمسيرته الإلهية هذه. فقد أمسك الرب بيد الذين إختارهم ليقودهم في طريق لم يكونوا ليحلموا بها. وها هي مريم، تلك الفتاة الوضيعة، المسكينة، الفقيرة، المتبتّلة في الهيكل، الطاهرة، أقرّت بذلك عن نفسها إذ قالت "صنع القدير بي عظائم" (لو48:1).

مسيرة ايمانية
   إنها مسيرة مريم الايمانية ، بل إنها مخاطرة في الإيمان في اختيار الله لها. فقد سبقها في ذلك موسى الذي استطاع أن يكلّم الله على الجبل، وقبله إبراهيم في تقدمة إبنه اسحق، ويشوع في حبسه للشمس ، ولكن مريم اختلفت عنهم جميعاً لأنها "امتلأت من نعمته" كما قال لها الملاك "يا ممتلئة نعمة" (لو28:1). وإكراماً لهذا الاختيار ولهذه المخاطرة في الإيمان كان الفعل الشخصي لها بذاتها والاستسلام الكامل لمشيئة الله وإرادته، وعبر النعمة التي أُعطيت لها أعطت قلبها بعد أن امتلأ من الله وتمّ التجسد في حشاها فصارت هيكلاً لسكنى الله بل أصبحت حشاها أوسع من السماء، بعد أن تواضعت امام مخطط الله ورسالة الخلاص  .

    مريم بتول
   ففي ذلك ادركت مريم ان دعوتها ما هي الا عبر تواصلها الشخصي بينها وبين الله، فأنشدت "نعم"، وما ذلك إلا دعوة وتعليم لنا إذ حينما يسكب الرب نِعَمَه، علينا أن نقول "نعم" جواباً لسؤال الرب لنا. ولكونها وفية وأمينة لدعوتها البشرية طلبت من الملاك أن يوضّح لها سر النعمة هذه فقالت "كيف تريدني يا رب أن أكون في الوقت عينه أمّاً وعذراء؟"" أنا لا اعرف رجلا " ( لو 35:1) ، أجابها الملاك "الروح القدس نفسه يحلّ عليكِ" (لوقا 35:1)، " ويتكون في حشاكِ يسوع الذي يدعى المسيح" (لو11:2)، حينها ادركت أنه يجب عليها أن تترك الأرض وأفكارها، والناس ومشاغلهم، والمسيرة وكبريائها،والكراسي وعناوينها والرئاسات وازلامها لتسكن متواضعة أمام جواب الرب.من اجل السماء وعمل خلاصها . وهذ الروح هو نفسه الذي حلّ على وجه المياه كما يقول سفر التكوين (2:1) فأخرج منها كل حياة، هو نفسه يحلّ اليوم على مريم لتصير أرضاً للحياة، وفيها يقيم الإله مَن هو الحياة (يو4:1) ومَن هو الطريق والحق والحياة (يو6:14). وهو نفسه الذي رافق مريم طوال المسيرة، هو نفسه يرافقنا. فمنذ قبولنا سر العماذ المقدس نقبل نفحته، ومريم التي غطست في يسوع المسيح فقد تعمّذت بقوة روحه. كما إن الرسل تعمّذوا بموت وقيامة المسيح فما احتاجت مريم ولا احتاج الرسل إلى معمودية الماء، ولكن بالنسبة لنا كان رسالة أسمية فقد أعتمذنا باسمه ،"  من آمن واعتمذ خلص " ( مر 16:16) فنكون من رعيته" الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف " ( يو11:10) ومن أغصانه " أنا الكرمة وانتم الاغصان " ( يو 5:15)، فهو يسلك معنا وهو لن يسمح أن يمسنا الشرّ، كما لم يسمح لأحد أن يمس حشا العذراء، فحفظها بتولا  مدى الايام وحتى النهاية.منذ الحبل بها وحتى انتقالها .

أمناء وأوفياء
إنَّ الحياة توصينا دائما أن كل كلمة "نَعَم" والتي قالتها مريم ترسم لنا طريق السماء حينما نقولها و ما هي إلا لتحقيق مشروع الله الخلاصي الذي عُرض علينا واخترناه. إنه مشروع الله وليس مشروعنا، وعلينا أن نحمل العهد على أكتافنا" أحملوا  نيري عليكم" (متى29:11) "كما حملته مريم وحفظته ( لوقا 19:2) كما يقول الرب ايضا والذي قطعناه على عاتقنا يوم صبغتِنا بماء العماذ ونفحة الروح التي حلت علينا  كي نكون أوفياء وأمناء لتحقيق ما بدأنا به ولا نحتاجه لتمجيدنا من البشر المائتين، وهنا تكمن الحقيقة في مسيرة نحملها نعمة في قلوبنا و إيماناً بعقولنا ، كي نواجه صعابنا وما يعترض طريقنا. فالعذراء مريم تعلمنا انها ليست لنا مثالاً فقط ولكنها مسيرة ايمان  ووفاء تجاه مخطط الله وليس مخططات الدنيا المزيفة وكبار الزمن ومصالحهم لأن الحقيقة هي أساس الحب وعليه يعتمد كل شيء..ومن يحب يترك كل شي ( لوقا 22:18) من اجل الذي احبه .

الخاتمة
   ما نحتاج إليه استسلامنا لمشيئة الرب، وان نجعل من مريم مثالَ مسيرتنا في طريق الحياة وان لا نجعل من أمراء الدنيا آلهتَنا، ومن كبارِ زماننا أسياداً علينا، ومن أصحابِ المركبات والكراسي حقيقةَ وجودِنا،  ونعمةَ عالمِنا، فلا يجوز تأليه من نشاء من أجل مصالحنا المميتة والفاسدة،  بسبب دنيانا ومشيئتها ، ونهمل بل ننسى أن الحقيقة ما هي إلا حقيقة ايماننا وعبر النعمة التي وُهبت لنا وليس من اشخاص يتزعمون براءتنا ويدعون أنهم  كبارُ زماننا ورؤساءُ ديارنا ، فيجعلون من انفسهم أسيادَنا ، ويعلنون أنَّ الربَّ  أرسلهم،  وينسون أن كل نِعَمِهم ليست بهمّة عقولهم ونعمة قلوبهم بل بالروح الذي اختارهم ليكونوا مَثَلاً كما كانت مريم العذراء. وليدركوا أنَّ مريم سارت امامهم لتعلمّهم عملَ الروح بقولها" نظرَ الى تواضع أمته فصنع بي عظائم "  (لوقا 1: 52) ، فعظمتنا ليست فقط في وجودنا البشري ولكنها بعظمة الروح الذي يحيا فينا ويعمل معنا ويشاطرنا مسيرة الحياة ، كما كان مع مريم،  فما علينا الا ان نكون أوفياء لسؤال الرب لنا،  وأُمناء جواباً لسؤاله هذا ، وليرشدنا الروح الى هذه الحقيقة ، إنها مسيرة ُحياتنا ، وهذه رسالتنا إنه عملُ الروح عبر إيماننا وصبغةِ عماذنا ، نعم وامين .

   

105
أطراف الميلاد: (الحلقة الاولى)
   وجه الله الحقيقي

المونمسنيورد.  بيوس قاشا

   في البدء
نقرأ في سفر التكوين  " خلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه " (تك27:1)، وهذا إيماننا، خلقه الله بملء محبته لكي يكون معاوناً له في تحقيق تصميم الخلاص عبر التاريخ البشري، ومن أجل هذا كشف الله عن نفسه إذ يقول مار بولس:"فلمّا تمّ ملءُ الزّمان، أرسلَ اللهُ ابنَهُ مَولوداً من عذراء تحت الناموس، ليفدي الذين هم تحت الناموس" (غلا4:4). فالابن صار إنساناً مثلنا ليكلّمنا عن حقيقة الحياة، ويسير معنا في طريق الإنسانية، ففي ذلك يشهد الله عن حبه عبر إبنه يسوع المسيح وحياته وأعماله وأقواله ومشيئته إذ قال "إن كل إنسان يرى الأبن ويؤمن به له الحياة الأبدية" (يو40:6)... إنها رسالة الخلاص، بل مسيرة حياة.وهذا ما جعل مريم العذراء تحمل إبنها في أحشائها إذ يقول لوقا الانجيلي  "فذهبت مريم مسرعة إلى بيت أليصابات" (لو39:1)، انطلقت لتعلن بشرى الخلاص التي ستتمّ في أوانها، وستظهر جلية من أجل الإنسان لخلاصه، وهي تعلّمنا أن نحمل رسالة المحبة والبشارة  بدورنا الى الأخر وفي ذلك نعرف أن الله أحبنا، وحينما نعرف هذه الحقيقة نسير في طريق الخلاص بل في طريق الحياة الأبدية.
   تجربة آدم
نعم ، من المؤكد أن عالمنا اليوم يتخبط في شروره وفي مشاريعه الدنيوية المزيفة، وشروره في كل مكان تنشر أذيالها، حروب، نزاعات، إرهاب، ظلم، تهجير، مصالح فاسدة، غايات مزيفة لحقائق دنيوية قاتلة،وطائفية مقيتة ،  وسبب كل ذلك جهل حقيقة الله في إبنه بل في حبه، لأنه لو أحسن العالم تدبير مسيرة التاريخ لنجح في تدبير مسيرة الحياة وجعلها رسالة ليس للحرب بل للسلام، ليس للتهجير بل للعيش المشترك، ليس للمصالح المزيفة بل للحقيقة الفاخرة، فيكون العدل والإنصاف والأمان، ويستتب السلام، ويتعايش المختلفون، وكما يقول إشعياء:"الذِّئْبُ وَالْحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعاً..." (إش25:65). وهذا فعلاً ما يجب أن يتّصف به الذين لهم مسؤولية في عالمنا سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية لأنها كلها تصبّ في مجرى واحد وتنبع من ينبوع واحد فيكون للبشر حقوقهم، وإن هذا لم يحصل فلأن أصحاب القرار والمسؤولية لم يعرفوا الله لأنهم لا يعرفون حقيقة مسؤوليتهم، وقد يرون ذلك عبر عيون أجسادهم ولا يتأملون ذلك بعمق عيونهم وفي افئدتهم . فلا يمكن أن يعرف الإنسان الله على حقيقته إنْ لم يعكس وجهه بأعمال مسيرته الإنسانية والاخلاقية والشفافية دون انانية وكبرياء وإذا ما كان عكس ذلك فسيقع في تجربة آدم بل فيُهمل الحقيقة التي وُضعت في المذود، ورُفعت بعد ذلك على الصليب. ففي المذود حَمَلٌ، وعلى الصليب هو الحَمَل ذاته، إنه وجه الله الحقيقي، فمَن يرى هذا الوجه لا يتخبّط في أزمات الدنيا وفساد معيشتها الكبريائية وأنانية مناصبها المزيفة.
معرفة الله
صحيح أن الإنسان سيد الدنيا كما هو سيد العالم، ويبدو أن السيد لا يفكر إلا بمصالحه وحروبه وينكر حقيقة عبيده الأبرياء، فيستغل كبرياءه من أجل استعبادهم، وهذا ما يجعل ضمائرنا ترسل لنا رسائل عتاب، ولكن زخم الدنيا ومصالحها لا تجعلنا نبالي بها لأن أنانيتنا قد غطّت على بياض عيوننا.وفي هذا يصدق قول النبي أشعيا فينا " قد أعمى عيونهم ، وأغلظ
 قلوبهم ، لئلا يبصروا بعيونهم ، ويشعروا بقلوبهم ، ويرجعوا فأشفيهم وقال اشعيا هذا حين رأى مجدَه وتكلمَّ عنه " ( يوحنا12: 40-41). إنها الحقيقة السماوية ، ولكن ما نراه في كثير من الاحيان هو حقيقتناالشخصية  ، وننسى الحقيقة السماوية وعمقها لذلك وصلنا إلى ما نحن عليه. فرغم ذلك فان الله ومعرفته تفتح  فينا أبواباً للخروج من أزمات المسيرة لأن مفاتيحها محبة وخير وعدالة واستقرار ونزاهة كما هي معرفة الإنسان، وكذلك معرفة الكرامة والشهادة للحقيقة وليس للفساد والكبرياء.
   
    الخاتمة
ما نحتاج إليه ونحن في زمن الميلاد ، أن ننير ، صورة الله التي فينا،  والتي أبدعها رب السماء والتي جُبلت عبر إيماننا في قلوبنا ومسيرة حياتنا ، فنعرف حقيقة وجودنا. فالله يجعل لكل إنسان برنامجاً خاصاً فيه يزداد تقدماً يوماً بعد يوم في هذه المسيرة إذ فيها يرافقنا الابن الذي تجسد في أحشاء بشريتنا لينير لنا دروب الحياة الأبدية فيجعلنا في ذلك أن نعلن الشهادة ونحمل الرسالة بكل أمانة كل يوم وبكل شجاعة ، ونتأمل كلامه كما نشاهد تقدمته على مذبح الخلاص... إنه الحقيقة التي وُلدت فينا ومن أجلنا ، فوُضعت في المذود ، ورُفعت فوق الصليب . إنها رسالتنا ومعنى وجودنا، وهذه حقيقة حياتنا. فما علينا إلا أن نبحث عن الله لنرى وجهه ثم نشهد له بأقوالنا وتصرفاتنا، وهذه هي حقيقتنا أن الله خلقنا على صورته (تك27:1) وفي ذلك سنجد أنفسنا في أطراف الميلاد المجيد إنها حقيقة الميلاد ألا وهي إعلان الحقيقة والبشارة في مسيرة حياتنا والتي حملتها مريم العذراء ونحملها إلى الاخرين رسالة وخلاصاً عبر عمق مسيحيتنا وإيماننا ، فما نحن إلا صورة الله بل وجه الله الحقيقي وما علينا إلا أن نحافظ على صفائه عبر عيشنا الايمان وليس التباهي باطار ايماننا وبهرجته فقط . إنها حقيقة السماء . نعم وآمين.

106
صباح الخير ايها السيد المحترم الذي يتخذ من اسمه اسما مستعار
باركك رب للسماء لتعرف حقيقة الامور
انها المرة الثانية تكتب باسماء مستعارة وان كنت تعمل في الكنائس كشماس ومن المؤسف ينقصك ان تقرأ حقيقة الاستشهاد من كتب الكنيسة لتدرك كيف كانت الام تقف بجانب ابنها قبل استشهاده وتعرف كيف كان الكاهن والمطران والرئيس الكنسي يسشهد قبل ان يُقتل شعبه ليكون مثالا وهل تعلم ايها الكاتب باسم مستعار اننا نعرف جيدا من انت وكيف تلعب ادورا مخجلة من اجل مصالحك وتغني على هواك وكانك الفطحل الامين لحقيقة الانسان ونسيت ان حقيقة التراب اغلى من حقيقة الهزيمة واخذ التاشيرات لتعيش بهناء فالمسيح لم ينهزم من الصليب وانت وعشيرتك ركبت البحار لكي تحصل على تاشيرة لمدة عشر سنوان بجاه الضحايا والابرياء الذين سقطوا. فاتمنى لو لك شجاعة مسيحية ان تشهر عن اسمك الحقيقي واذكرك ان لا تنسى نحن نعرفك جيدا جدا جدا ولكننا ساكتين عن ادراج اي شي فالمسيحية تعلمنا ان نحمل صليبنا فاعداء الانسان اهل بيته . واوصيك اذهب واقراء سير الشهداء القديسين ثم تعال ودافع عن المسيحية التي ربما لا تؤمن بها الا عبر هوية الاحوال وكفاك من هذا الاسلوب الغير الانساني والمسيحي وان تبعث رسائل هنا وهناك كي تنشر الغسيل أخرج اولا الخشبة  من عينك كي ترى وتخرج القذى من عين اخيك  والرب يمنحك النعمة لتدرك الحقيقة وليس اطارها بل مركزها .
واللبيب من الاشارة يفهم وليبارك رب السماء وارفع صلاتي لتعود الى ماء الحياة فتشرب منها ما يكفيك انت وافكارك واسماؤك المستعارة واعلم انه ليس خفي الا سيظهر ولا مكتوم الا سيعلم ولك جزيل الشكر دمت
مع محبتي ابونا بيوس ولست كما تقول للكهنة قاشا بدون احترام وكما قلت الان وشكرا .

107
المنبر الحر / حقيقتنا في إيماننا
« في: 08:05 15/11/2019  »


     في البدء
لعديد من العصور والسنين ولا زال حتى اليوم يعاني المسيحيون من الاضطهاد الديني، وارتبط اضطهاد المسيحية ارتباطاً استشهادياً وهو يسير معها جنباً إلى جنب حتى الموت، فلقد بدأ الاضطهاد في وقت مبكر وفي وسط يهودي حيث صُلب المسيح، كما رفض اليهود رسالة المسيح وتلاميذه فحكموا عليهم بالقتل والتعذيب والتهديد والصلب والموت. وسارت مسيرة الاضطهاد  والأسشهاد ، حيث دخلت المسيحية الناشئة في صراع من الوثنية المتمثلة بالإمبراطورية الرومانية، ووصل هذا الصراع في أحيان كثيرة إلى حد الإبادة إذ لم يكن للإيمان الجديد ما يشهده من قوة زمنية أو سلاح اللهمّ "إلا ترس الإيمان ودرع البر وخوذة الخلاص وسيف الروح" (أفسس16:6-17).

     الضحايا الابرياء
الضحية أو ضحايا أبرياء: إنهم أشخاص أبرياء، أصيبوا بسبب مرض أو صدمة أو حادث أو خطأ أو نزاع أو حرب وهو خارج عن إرادتهم ،  وهم بريئون . والضحايا تشمل الإصابات والوفيات، وضحايا الحروب تشكل نسبة كبيرة من المدنيين. فقد أفرزت الحرب العالمية الثانية أكثر من (97) مليون ضحية، كما أفرزت  ضحايا الإرهاب بسبب التفجيرات، أكثر من مليون ضحية.  والعراقيون يشكلون أكبر ضحايا الارهاب في العالم بسبب القاعدة وداعش وغيرها ، وغالبيتهم هم من النساء والأطفال. ذنبهم أنهم يعيشون في تلك المنطقة التي تشهد أعمالاً إرهابية. والضحايا هم مَن يموتون، أما مَن يبقى على قيد الحياة فيعيش إلى آخر عمره في إعاقة معينة جرّاء الأعمال الارهابية، والشعب العراقي كان ضحية لمختلف أنواع الإرهاب،

     في العربية
في العربية يقال "استشهد" بمعنى "قُتل في سبيل الله"، هذا هو المعنى الإصطلاحي. أما المعنى الإيماني، فالاستشهاد مشتق من الشهادة، و"استشهد" بمعنى "سُئل الشهادة" أو "طُلب للشهادة". والشهادة هنا هي الشهادة لحقيقة الإيمان الذي يدين به ويذود عنه ، لأن إنكار المسيح خيانة "مَن ينكرني قدام الناس لأنكرته قدام أبي الذي في السماوات" (متى33:10).  والإعتراف به وفاءً وتكريماً لِدِينه، ، مؤمناً أن الإيمان رسالة تعاش في مسيرة الحياة وليس فخراً وجاهاً أو تباهياً أمام حكّام الزمن وكبار الدنيا ورجال المعابد وأعدادٍ من شعوب حوالينا.

     إيمان الشهداء
يقول القديس يوستينوس الشهيد(100-165) : ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه حينما تُقطَع رؤوسنا، ونُصلَب، ونُلقى للوحوش المفترسة، ونُقيَّد بالسلاسل، ونُلقى في النار وكل أنواع التعذيب، إننا لا نترك إيماننا ولا نترك وطننا ولا نرحل بعيداً من أجل الحياة والرفاهية والعيش الهنيء، فالرب يقول "مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا" (يو25:11)، بل بقدر ما نعاقَب بهذه الضيقات بقدر ما ينضمّ مسيحيون أكثر إلى الإيمان باسم يسوع المسيح. فالكرّام يقطع أغصان الكرمة التي تحمل ثماراً حتى تنمو أغصان أخرى.

     حقيقة الاستشهاد
فما هي حقيقة الاستشهاد في المسيحية؟، هل هي نوعاً من الجنون والجهل والحماقة؟، أم هي نوعاً من الهروب من الحياة أو الانتماء تحت ظروف قاسية؟. بالطبع لم يكن هذا، بل كان مجداً لأولئك الشهداء ، فقد سنحت فرصة لبعض منهم للهروب من الموت، لكنهم رفضوا وثبتوا- عكس ماحصل في بلداننا،حيث تخلوا عن الأرض وقدسيتها ، والوطن واصالته -  وهذه كانت شجاعة لم يكن يألفها العالم بدكتاتورية حكّامه، ومسلَّطي كراسيه، ومحسوبية كباره، فقد كانت البشارة بالإيمان بالاستشهاد أكثر من التعليم، لذلك قال ترتليانوس العلامة ( 160-220) "دماء الشهداء بذار الإيمان"، إذ لم تنجح الشدائد في أن تجعلهم يتخلّون عنها حتى بعد الموت. ولولا الإيمان بالقيامة والدينونة الأبدية لما كان الشهداء يجدوا ما يدفع بهم إلى قبول العذاب في سبيل إيمانهم.

     مسيحيون شهداء
لا يوجد في كل تاريخ البشرية شهداء مثل شهداء المسيحية في حماسهم وشجاعتهم وصبرهم واحتمالهم أيام زمانهم، فقد كانوا يقبلون الموت في فرح وهدوء ووداعة تُذهل مضطهديهم، وجعلتهم يقبلون الاستشهاد على أن ينكروا إيمانهم، فقد كان أول سؤال يوجَّه إليهم "هل أنت مسيحي؟"، وكان مجرد اسم "مسيحي" في حد ذاته يحمل أبشع جريمة تلصق بصاحبها الشبه بالعصيان وتدنيس المقدسات، فكان لهم رداً واحداً لا يتغير "نعم، أنا مسيحي"، فيجاهر بإيمانه ويعلنه في جرأة مذهلة فيصرخ الحكّام "الموت للمسيحي".
     صبر الشهداء
في رسالة كتبها أهل أزمير في القرن الثاني (107) إلى القديس اغناطيوس النوراني ، في وصف الصبر الجميل قالوا: إن المعترفين ضُربوا ضرباً عنيفاً بالسياط حتى ظهرت عروقهم وأعصابهم، وكانوا في معمعة هذا العذاب ثابتين بلا ضجر، في حين أن الحاضرين كانوا ينفرطون شفقة عليهم. فما كنا نسمع من جند المسيح هؤلاء أدنى صراخ أو أنين بل بالعكس كنا نشاهد الدماء تجري من جراحهم في غزارة، ومع ذلك ما كانت ألوانهم تتغير. تقدموا للعذاب بسرور وابتهاج، وتألموا وهم صامتون، لم يفتحوا أفواههم إلا ليباركوا الرب ويسبّحوه كأنهم ليسوا في أجسادهم أو منزَّهون عن الآلام، لأنهم أصغوا بالحري إلى صوت الرب يسوع يناجي قلوبهم، ومن فرحهم بحضوره إزدروا جميع العذابات وعدّوا أنفسهم سعداء لاجتناب العذابات الخالدة في الأبدية باحتمال عذاب لبعض دقائق، وهذا كله احتمله الشهداء بصبر ليس له نظير، وعيونهم شاخصة إلى السماء. وأحياناً كان المعذِّبون يتوبون إلى رشدهم كما فعل الشهيد أريانوس ( مستشار في الامبراطورية الرومانية ) الذي ـــ بعد أن قتل الألوف ـــ مات هو نفسه شهيداً بعد أن رأى صبر الشهداء وقوة إيمانهم. واليوم أين نحن من هذا الإيمان؟، نبكي على حالنا قبل أن تحل ساعة الألم والإضطهاد، ونناجي دولاً كي تنقذنا من الاضطهاد الآتي كي لا نقع في غياب الموت، وكي تفتح لنا حدود بلدانهم من أجل تأشيرة الدنيا الزائلة ، وننسى حقيقة استجابة رب السماء لنا إذ قال:"إنَّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متى8:6).
 
   تعذيب الشهداء
وأما وسائل تعذيب الشهداء فكانت متنوعة بقدر ما كانت قاسية، كان من بينها الضرب والجلد، والإلقاء للأسود الجائعة والوحوش الكاسرة والنيران المتأججة، والإنزال في براميل كبيرة من الزيت المغلي، والسلخ ونزع الأظافر والكي بالحديد في مناطق مختلفة من الجسم، وأيضاً تقطيع الأعضاء وتمشيط الجسم بأظفار من حديد وضعت على صفائح محميّة، وتعذيبه بسكاكين حادة حيث يتمزق جسم الشهيد إرباً إرباً، ووسائل أخرى متعددة إضافة إلى الصلب في وضع عادي أو في وضع مقلوب، وكان أسهلها قطع الرأس بالسيف أو الفأس إما على حجر أو على هواء .

     دور الكنيسة
يؤكد تعليم الكنيسة الكاثوليكية (رقم 2473) أن الشهيد هو ذاك الذي يشهد للمسيح حتى الموت. وانطلاقاً من هذا التعليم كانت الكنيسة تقف وراء المقبوض عليهم في السجون تمهيداً لاستشهادهم، وتشجيعهم لبسالتهم وعمق إيمانهم، وتعزّيهم عمّا هم فيه من ضيقات وآلام. وقد كتب مرة القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة(200-285) قبل استشهاده للسجناء تمهيداً لقتلهم قائلاً لهم:"وكأننا محبوسون معكم لأننا بالقلب معكم، نشعر مثلكم بما أنتم مدينون به من الشرف لعطايا السيد المسيح. إن القيود التي في أيديكم وأرجلكم ليست سلاسل من حديد بل هي جواهر ذهبية تزيّنكم في أوقات الاضطهاد. الموت يغلبنا لكن الخلود ينتظرنا. تنتهي هذه الحياة القصيرة وتبدأ الحياة الأبدية... فيا له من شرف، يا له من فرح، أن نرحل هكذا في مجد وسط الاضطهاد والضيق والهوان، ونغمض أعيننا عن العالم والبشر لنفتحها هنا في الفردوس أمام وجه حبيبنا القدوس".

     كلنا شهداء
إن سحابة الشهداء في عمق بعض مؤمنينا ما زالت مضيئة في الكنيسة إلى يومنا هذا، فعيشنا لإيماننا ـــ وبالرغم مما يحيط بنا من ضنك ومن ضيق ومن ألم ومن مرض ومن ظروف قاسية، ومن ظلم وحكم فاسد، وتدنيس للحقيقة وتشويه لوجه الله بسبب كبريائنا وأنانية مصالحنا ـــ فلا زلنا نعيش مبادئنا على الرغم مما يعترضنا من أجل الحفاظ على حقيقة عقيدتنا التي ورثناها من جرن عماذنا، ونحيا على الرغم من مثيرات الخطيئة والشهوات والظلم والمصلحة المزيفة والكبرياء المتباهي. فصمودنا أمام الإغراءات والمثيرات وشهادات الزور الكاذبة والتقارير المزيفة والاحكام الكبريائية ، وأمام العذابات والاضطهادات يجعلنا أن نحيا شهداء لحقيقة الحياة. فالمؤمن الشهيد هو مَن يكون أميناً حتى الموت، فالآية تقول "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" ( رؤيا 12:2) ، وهذا يعني أن السماء هي للإنسان الهدف الأسمى، وليس الدنيا وأخضرها وعبادة كبار زمانها وتبجيل مناصب كراسيها وهنائها، في بيعها أو شرائها أو تحقيق مصالحها،  والحقيقة قالها الرب يسوع في إنجيله المقدس "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْكَ المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" (متى34:25).

بذار وحدة
   نحن اليوم مدعوون إلى السير على درب الشهادة الحقة ــ وليس عيش الإيمان المتباهي والإعلامي المزيّف ـــ برفقة هؤلاء الضحايا الأبرياء، الذي يُعتبر دمهم المسفوك بذار وحدة. ففيها مسكونية الدم(16 شباط 2015) كما يقول البابا فرنسيس " دماء أخوتنا المسيحيين شهادة صارخة قلّما يهم سواء كانوا من الكاثوليك أو الأرثوذكس أو الاقباط أو اللوثريون ، إنهم مسيحيون والدم هو عينه"  ،  فالاستشهاد ليس مجرد سفك دم، ولا هو مجرد اعتراف شفهي بالسيد المسيح، لكنه ممارسة كمال الحب حتى بذل الذات "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو13:15)، وهذا ما يجعل إيماننا ثابتاً بقول المسيح "إنْ لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو24:12). فنحن شهداء وإن لم نمتْ ـــ وإنْ لم نُعلَن بعدد من الأوراق الخضراء والبيضاء والحمراء ـــ كما كان القديسون الشعبيون "بهنام الشهيد وأخته سارة والأربعين شهيداً والشيخ متى الناسك" فهم شهداء من الشعب وإلى الشعب من أجل السماء، كنّا ولا زلنا، كلنا شهداء في مسيرة الحياة، وسحابة شهادتنا لا زالت مضيئة أو تضيء دروبنا في هذا الزمن القاسي بعيش إيماننا والشهادة لمسيرة مسيحيتنا، وهذه هي حقيقتنا ولا شي أخر .

الخاتمة
نعم ، اليوم كلنا شهداء، وكلنا يجب أن ننظر إلى الصليب على أنه علامة الحب كما يقول مار بولس "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله" (فيلبي29:1)، وأيضاً "إنْ كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رومية17:8). وليس من المبالغة في شيء إنْ قلتُ: أن الإيمان المسيحي انتشر في العالم كله باستشهاد القديسين الأبرياء أكثر من  انتشاره بوعظ المبشرين وتعليمهم، فنما الإيمان، وأتى بثمار كثيرة لحساب ملكوت الله، فقد كانوا فخورين بدينهم وبتبعيّتهم للمسيح، ولم يكن الصليب عندهم عاراً وإنما كان لهم عزّاً وافتخاراً رسموه على وجوههم وأياديهم.

أمّا اليوم نحن ، ومن المؤسف ، نحمل رزق زماننا بحيلة أو بمكر أو بقصة كاذبة أو حتى بإدّعاءات زائلة، لننال مآربنا ونفوز بدنيانا وبعيش رغيد، وننسى أن الحقيقة ما هي إلا شهادة الإيمان بالمسيح الحي. نعم علينا أن ننظر إلى الصليب ونسبّح الذي مات عليه من أجل خلاصنا، ونناجيه بفرح وحبور وليس فقط إلى لمّ الشمل من أجل الدنيا والزمن، أو الحصول على شهادة سفر حيث الجنة الزائلة والملكوت المباع  وبعيش إيماننا كما نشاء ، فالكنيسة تقول "الإيمان شهادة حياة في وقت الألم وليس ساعة رحيل"، والرب يسوع قال " من أحبَ أباً أو أُماً اكثر مني فلا يستحقني " (متى 37:10)  وما هذا الملكوت الدنيوي الذي نبتغيه في هذه الحياة إلا مزرعة للزؤان" ( متى 36:13) ، ومن المؤسف أن تكون هذه الحقيقة هي المتربِّعة اليوم على عرش الإيمان الصوري، بينما حقيقة السماء تدعونا لنحيا الإيمان بعمقه وصليبه وليس تباهياً وشهادةَ زورٍ وكبرياءً ومصلحةً وإعلاماً ، ، فما أجمل أن نحيَ حقيقتنا في مسيحيتنا وليس إعلاماً وإعلاناً  ، فالرب يعرف ما في القلوب إذ ما من مكتومٍ إلا سيُعلَن ( لوقا 17:8) ، نعم وآمين. 


108

حضرة الاخ والسيد المحترم   ow17  " البوم  الحكيم " .
صباح الخير، سلام المسيح يكون في داخلك .
شكرا جزيلا لانك تنازلت وقرأت المقال وكتبت حقيقة ما يجيش في فكرك وكشفت ما في عقلك وقلبك من محبة واحترام لتقول الحقيقة كما شئتها وكما اردتها . فاسمح لي ان اقول :
المقال . فقرات وكل فقرة لها عنوانها وعليك ان تدرك ماذا يحمل العنوان لتدرك عمق الفقرة في كلماتها العديدةوبعد ذلك ستدرك الغاية واللحمة الي تقصدها انت يا كاتبنا الفخري باسمه المستعار . فاللغة يميني والعربية لغتي وامتي كنيسة السريان.
اما ايات من الكتاب المقدس  التي ذكرتها بطريقة الترقيع ربما هذا ما انت تؤمن به ، فالايات ماهي الا خلاصة وتاكيد لفحوى الفقرة ان كانت الاية كلمة او فقرة واما انتقادك انني غير مطلع بالكتاب المقدس حيث استعملت كلمة حمل بدل كبش كما جاءت الكلمة في سفر التكوين ، عليك ان تدرك ان المسيحيين في هذا الزمان يعيشون حياة الحملان وليس حياة الكباش فاحتراما لمسيحيتي كانت هذه الكلمة ، فالمسيحيون ليسوا كباش ولا هم اسماء في هوية بل هم حملان يا ايها السيد المستعار الاسم .
اماالفقرة ما يحصل في عراقنا من تهميش ، اني اجدها مسبوكة لغويا سبكا رائعا بعربيتها فالمسيحية في العراق امتداد لمسيحية الشرق وما هذا الا تاريخ نحياه .
واما كلامك في تفسير الكلمات ، انت تدرك جيدا اين حقيقتك ، فحينما ينقص عددنا تزول اصالتنا ويبقى الكلام من على المنابر كلام في كلام فلا احد ياخذ به . واما كلامك عن كلمات قداسة البابا فرنسيس اطال الله في عمره فالترجمة اخذتها من مقال ادرجه الفاتيكان على موقعه ولم ارد ان ادخل عليها تعديلا عربيا ، نعم يااستاذنا الجليل ، فكلام قداسة البابا ماهو الا كلام لحقيقة الحياة .
واعلم جيدا ايها السيد " البوم الحكيم" ان المسيحين عبر التاريخ ما كانوا الا مطيعين لدستور ربما لا ينصف حقوقهم ، اقول بامكانك ان تكون مناديا من اجل نيل حقوقنا حين ذاك سنقدم لك التحية الواجبة ، لذلك عليك ان تقبل الحقيقة بكلمتها اولا ولا تختبى خلفها .وتذيعها من اوطان غير وطنك .
ختاما ، سابقى احب وطني واشهد لتراب ابائي واجدادي ولن ابيع وطني كما باعه الكثيرون وربما انت واحد منهم وسابقى شاهدا للحقيقة وان اردت ان تشوه سمعتي ، في كل فرصة سانحة ، وسابقى اقول اقرا المقال جيدا فتدرك ان صاحب المقال يؤمن بمبدا الحياة ، عنه قال البابا بندكتس السادس عشر ، انه الشاهد للحقيقة ، . لذا اذا سمحت لي وتسمع نصيحتي اقول ، اولا اكتب اسمك واضحا ولا تخبى حقيقتك خلف حروف وارقام مبهمة فليس خفيّ الا سيظهر هكذا يقول الرب يسوع  واكتب اسمك صريحا لتنال احترام القراء الكرام فانت معروف بهمتك وغيرتك وما احلاها الحياة بصفات النصح والارشادوبامكانك ان تنقد نفسك قبل ان تنقد غيرك لتدرك ما في داخلك واللبيب من الاشارة يفهم. وليبارك الرب يسوع وانشاء الله  وارجوك ان لا تحمل اسمه في هويتك بل في مسيرة ايمانك وحياتك ، فلا تظلم الابرياء فالمثل المصري يقول نم مظلوما ولا تنم ظالماً ..نعم امين وتحياتي لك ومحبتي واحترامي . ودمت تحت شفاعة القديسة مريم ويوسف البتول الصامت الكبير . وشكرا
محبك الاب بيوس قاشا

109
مسيحيينا ... قراراتنا من كبريائنا !!! 

المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
   يقف العراق والشرق ومنذ سنين عديدة على مفترق طرق وخاصة في هذه المرحلة الراهنة،
ومعه يمرّ المسيحيون بمواقف قاسية ومؤلمة بل مميتة في الكثير من الأحيان، وينسبون إليهم الكفر وما عليهم إلا أن يكونوا كحَمَل إبراهيم وحينما يشاؤون، وهذا ما يسبب خوفاً وخطراً على
وجودهم بل عاملاً أكيداً لهجرتهم وإفراغ الشرق منهم، ولمحو أصالتهم وتدمير حضارتهم وإن أمكن حتى تشويه إيمانهم ومسيرة عقيدتهم، والسبب يكمن في أن حقوقهم قد صودرت وأصالتهم قد شُيّعت وأصبحوا غير مرغوب بوجودهم إلا عبر كلمات مؤتمرات فيها التعليق والتلفيق، والسبب سببنا فما نحن إلا عملاء لمصالحنا ومصالح مطيعينا وأزلامنا ، وأوفياء لمناصبنا، وحقيقة وجودنا، وكبار دنيانا، ومنشغلون بأمور كثيرة فنهمل ماذا يحصل، ولا نملك "غير صوت صارخ" (مرقس 3:1) ، ونحن ندرك جيداً (ومن المؤسف) أنه لا أحد سيسمع صراخنا، فما نحن إلا تقدمة الوجود وضحية المذابح... أليس كذلك!.

     جهل شعبنا
في عراقنا... ما يحصل في عراقنا الجريح من تهميش لمسيرتنا وعدم تلبية حقوقنا ما هو إلا تفتيت لوجودنا، وما يحصل في شرقنا ألا يجعلنا نحن المسيحيين ـــ وإنْ كان لأبنائنا رؤى مختلفة ومتعددة لحل مشاكل شعبنا بحرية فكرية وليس بطروحات خيالية يعلنها كبار الزمن ورجال المعابد، وهذا ما يؤدي إلى تقطيع شعبنا وتقسيمه، وفقدان الثقة بكبار رجالاتنا وبتراب سهلنا. فكلنا نعاني، وكلنا تحت هذا الثقل واقعون ـــ نقول لأنفسنا: ألم نتعلم درساً مما حصل لتاريخ داعش معنا؟، ألا يكفي أن نرسم حقائق وجودنا كما تشاء مصالحنا؟، ألا يكفي استغلال جهل شعبنا من أجل مستقبل مناصبنا وديمومة كراسينا وحقيقة مصالحنا حينما نبيع مقدساتنا من أجل سياسة مزيفة ومصلحة مبرمجة؟، ألا يكفي أن نكون علامة خلال بدل أن نكون علامة حوار لحلول أمينة يطمئن إليها شعبنا ويستعيد ضميرنا حقيقته وعقيدته دون تمييز أو إلغاء أو تهميش أو تشويه... أليس كذلك!.

    نطمر رؤوسنا
في عراقنا... إن خطر محو المسيحية لا زال يُسرع الخطى نحو تحقيقه شئنا أم أبينا، والمشكلة ليست في معرفتنا ذلك بل الحقيقة تكمن في أننا غير مبالين، ونجعل أنفسنا نعامة ترى كل شيء ولكنها لا تُدرك شيئاً لأنها تخبئ رأسها أسفلاً. هكذا نطمر رؤوسنا كي لا ترى عيوننا من أجل توحيد كلمتنا وتجاوز خلافاتنا، وكبار زمننا ليسوا إلا حُماة كراسيهم ومناصبهم، ويبقى قداسة البابا فرنسيس ينادي كما نادى قبله أسلافه "إن الشرق الأوسط من دون مسيحيين لن يكون شرقاً أوسطاً"، لذا اسمحوا لي أن أقول: إن ما يحصل اليوم بعالمنا وفي شرقنا وخاصة في عراقنا ما هو إلا إبادة وإخلاء، وما ذلك إلا قراءة واضحة لواقعنا، ومن المؤسف ما نحن إلا مشاهدون بل متفرجون... أليس كذلك!.

     حقيقة السماء
   في عراقنا... هرب أولادنا وشبابنا بسبب ما حلّ ببلدنا من مآسي مؤلمة، وتكفير القاعدة وتهجير داعش، وضياع القيم والأخلاق، وفساد السيرة والمسيرة، وتحقيق الأماني كذباً وغشاً ورياءً، وتقديم التحايا والسلام المزيف الذي نصطنعه لتبجيل مسيرتنا، ونرسم على جباهنا ديناً وإيماناً حسب ما نشاء، فنؤلّه مَن نشاء ومتى نشاء وحسب ما تراه حقيقتنا وإن كانت مزيفة. إنها سياسة مصالح، وليس ذلك حقيقة السماء، والنجاح يُكتب لها لأننا نريد أن تكون هكذا. فهذا الوضع الهش الذي فيه ربما نبيع مقدساتنا بأسباب سياستنا لنكسب ما قسمه الله للذين يسألون على الأخضر لتدمير "الشجرة المثمرة " (لوقا 43:6) ، وما ذلك إلا سيمونية مدروسة لحقيقة معاشة. فأين نحن من حقيقة أيامنا؟. فلنصلح حالنا ولا نبقى ساكتين على واقعنا المزيف الذي يرسمه لنا كبار زماننا، فالرب أوصانا أن نسهر لئلا يأتي "السارق فيزرع زؤان الدمار" (متى 24:13-30) ، لذا علينا أن نكون شجرة مثمرة (لوقا 43:6) كما قال متى الانجيلي كي "تُثْمِرُوا ثَمَراً يَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" (متى8:3) أليس كذلك!.

     عزة كبرياء
في عراقنا... علينا أن ندرك أين نحن من الذي يحصل في مسيرة حياتنا اجتماعياً وسياسياً وإيمانياً. فهزيمتنا في هجرتنا حقيقة خوفنا " من الآتي إلينا" ( لوقا 19:7) ، وهذا ما جعلنا نتشتت في أصقاع الأرض ونفتش عن مأوى آمن وأمين ليضمن أيام حياتنا ومستقبل أطفالنا ـــ والسبب واضح ـــ بسبب الحروب وشراستها ومآسيها. كما ندرك أنه لا دور لنا في قانون البلد ومرحلته الدستورية، فما نحن إلا خاضعون بل أحياناً خانعون (وعذراً للكلمة)، ولا نفتش إلا عن حقيقة تباهينا وفخرنا وعزة كبريائنا وشهرة أنانيتنا، وهذا ديدن كبار زمننا ورجال معابدنا. والقول يصح إذا ما قيل "فليأت الطوفان من بعدي". إنني اليوم موجود، آمر وأنهي ما أشاء، ففي ذلك يقول البابا فرنسيس (في كلمته أمام أعضاء عون الكنيسة المتألمة التي تهتم بكنائس الشرق الأوسط):"إنها خطيئة التسلط والهيمنة". وهذا ما يقودنا إلى السكوت عن حقيقة إيماننا حينما ندرك جيداً أنهم يعملون ما يشاؤون، ويفسرون حقائقنا بما يهوون، والسبب كان ولا زال ـــ ومع الأسف الشديد ـــ تمسكنا بطائفيتنا وننسى أن نُصلح حالنا، وكلنا ندعو أننا كنيسة المسيح ولكن كل واحد منا يعيش مسيحاً يشاءه، وغنىً وثراءً باسم عون الفقير، وهذا ما يعلّق عليه البابا فرنسيس قائلاً "إن البعض يدعون كنيسة المسيح الفقيرة وهم يعيشون الثراء"، إنها خطيئة كبرى... أليس كذلك!.   
    زمن عصيب
في عراقنا اليوم وفي هذا الزمن العصيب المؤلم يعتبر بلدنا من البلدان الخطيرة التي فيها قلّ عددنا. ففي عراقنا اليوم يبكي أولادنا على مسيرة أيامهم في دستور غائب عن حقوقهم، وتعليم بعيد عن إيمانهم وفحوى عقيدتهم، وإن كانوا يقولون عنا أنتم أصلاء البلاد وأوائل بلاد بين النهرين، والحقيقة أقوال بلا أفعال. فما يحصل يتناقض مع وجودنا وحقيقة أصالتنا، وما ذلك إلا سبب نقص عددنا عبر هجرة مؤلمة. فالأرض كانت لآبائنا ولنا، واليوم سُلبت من صدورنا وأمام عيوننا. فالمعاناة كبيرة، والمأساة أكبر، والمحنة مؤلمة... أليس كذلك!.
     
     الخاتمة
   لذا أقول: حتى ما نبقى نتفرج على ما يحصل في عراقنا وما يعانيه شعبنا. ولنعلم جيداً أن شعبنا يموت كل يوم من خوفه من الآتي المخيف ونحن نداويه في تخدير مسيرته بأقراص مهدئة، جاعلين من أصالته رمزاً لوجوده وإن كانت لإبادته، ولم ندرك بعدُ أن كلامنا ما هو إلا ثرثرة بشرية. فالمستقبل ليس بين أيدينا وإنما ما نراه، فالمستقبل يكسوه ضباب السياسة والمصالح المزيفة والأنانيات والمحسوبيات المحسوبة والمبرمجة لتدمير الأصلاء والأبرياء، وحقيقة الاحتلال تلعب دورها لإفساد معالمنا، وفي ذلك ضاعت حقيقة وجودنا، ويئس أطفالنا وشبابنا، لأننا لا ندرك إلا غاياتنا. وأختم بكلام حقيقة الحياة ماقاله قداسة البابا فرنسيس في قداسه في كابيلة سانتا مرتا (25 تشرين الأول 2019):"إن الروح الشرير يحبطنا على الدوام لكي يتغلّب علينا. لذا أوجّه الدعوة إلى كل فرد لكي يسأل نفسه إن كان شخصاً في مسيرة ولكنّه لا يتنبه لما يجري حوله، وإن كانت قراراتنا من الرب أم انها تنبع من كبريائنا ومن الشيطان. من المهمّ أن نعرف ماذا يحصل في داخلنا، من المهمّ أيضاً أن نعيش قليلاً في داخلنا وألا نسمح بأن تكون نفسنا درباً يمرُّ عليها الجميع. لأننا أحياناً نعرف ما يحصل في الحي وفي منزل الجيران ولكننا لا نعرف أبداً ما يحصل في داخلنا". وأخيراً سنبقى ننادي "أنبقى مهمشين، أنبقى بلا حقوق ، أنبقى نحيا بما يريده ، دستورهم، وطائفيتهم، وكراسيهم، أنبقى نقدس الكذب والتزوير والفساد ،من أجل مصالحنا ،أنبقى نُشيّع الحقيقة وحامليها، ألم يُعلمنا الخوف والخطف والتهجير والقتل، ألم تعلمنا الأيام البائسة التي مرّت علينا ولا زلنا نحياها ، حتى ما!.نعم حتى ما تبقى قراراتنا من كبريائنا!"كماقال قداسة البابا فرنسيس !نعم وآمين... أليس كذلك!.                   


110
لماذا ... إنني لا أعلم

المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
    لماذا .. كلمة مَلكَت على قلوب الكثيرين أطفالاً كانوا أم شباباً ، رجالاً أم نساءً ، وبعدَدٍ مِن لماذا أَردتُ في هذا المقال، أن أسأل لماذا . فهذه الكلمة ترافقنا في مسيرة الحياة، ونسأل فيها، ولكن لا أحد يجيب جواباً يُعلن فيها حقيقةَ وجودِها، وإذا ما أُعطي فيها تفسيراً ،فلا يأتيك إلا ناقصاً، فلا تعلمْ لماذا كانت لماذا، ولماذا لا تعلمْ لماذا كانتْ لماذا، فاليكم قليلاً من كثير ، مِن لماذا.
  لماذا نقول ما لا نؤمن به ، ونجعل أنفسنا آلهة الزمن على فقراء الدنيا ومساكين الحياة ، طالبين الى فقرائنا  أمراً أن يكونوا خاضعين له فما نحن إلا اسيادٌ عليهم  وإلا سيُطرَدون خارجاً، معتبرين إياهم متذمرين ويسمّونهم عبيداً وصانعي البلبلة، بينما المسيح الحي دعا الجميعَ قائلاً "أَنْتُمْ أَحِبَّائِي" (يو14:15)... لا أعلم!!!.
 لماذا نلوّن أيامَ مسيرتنا لحساب مصالحنا، فيكون ترحيبُنا حقيقةَ أنانيتِنا، وهي نفسها تدغدغ قلوبَنا، فنحضنَ مَن نراهم بقبلة مزيفّة ونرى ذلك أنها أعمالَ السماء، ولكن الزمانَ يكشف حقيقةَ المسيرة المزيفّة يوماً، إذ المسيح الحي  يقول "ما مِن خَفِيٍّ إِلاَّ سَيُظهَر، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَمُ ويُعلَن" (لو17:8)... لا أعلم!!!.
 لماذا نخاف قولَ الحقيقة أمام أقوياءِ الزمن ولكننا بدل ذلك نلتفّ حولَها مستنبطين ما نراه حقيقةَ مناصبِنا ومكانتِنا وصداقتِنا ، وننسى أن فكرَنا هذا ما هو إلا حساب فشلِنا، وما علينا إلا أن نكون شهوداً للحقيقة لاّن المسيح الحي يقول "تَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يو32:8)... لا أعلم!!!.
 لماذا يقولون لا تغادروا، فهذه أرضُكم وحقيقةُ وجودِكم، وآباؤكم فيها كانوا شهوداً كما كانوا شهداءَ وهم يسابقون زمنَهم في دعوة أبنائهم وأقربائهم ومعارفهم وعائلاتهم إلى حيث الهناء والوطن الجديد والاخضر العزيز للعيش الكريم وراحة البال، والمسيح يسوع يقول:"إنْ كُنْتُمْ أنتمْ الاشرار تَعرِفُونَ أنْ تِمنِحُوا أَولادَكم عِطايا جَيدة فْكِمْ بِالحِري أَبُوكُم الذي في السماء يُعْطي الروحَ القدس للذين يَسألونَه " ( لوقا 13:11) ... لا أعلم!!!.
 لماذا دخل داعش أراضينا ونهب منازلَنا وكسّر صلبانَ كنائسنا وأحرقَ معابدَنا وشتّتَ أبناءَنا وعوائلَنا، وجعلنا نازحين وغرباءَ عن أرضنا وكفّارَ إيماننا،إننا نؤمن بالمسيح الحي ، وذلك ما يقوله الكتاب،  ولكن أقولُها ، مهما حلَّ بنا ومهما حصلَ سنبقى أُمناءَ له ، فقد علَّمنا المسيح الحي ان نقول " أَحبّوا أَعدائَكُمْ باركوا لاعنيكم أحسنوا الى مَنْ يبغضكم وصَلّوا لاجلِ الذين يُسيئون أَليكم ويطردونكم " (متى 44:5)... لا نعلم!!!.
 لماذا نطالبْ بحقوقنا الدستورية الشرعية في مؤتمراتٍ ومناسباتٍ وأجتماعاتٍ ولقاءاتٍ ، عبر أصواتٍ متألمةٍ وقاماتٍ يافعاتٍ وصراخاتٍ عالية ، والكل يعرف أنّ حقوقَنا منقوصةٌ وأنّ الحقوقَ ليست إلا للأغلبية ومع ذلك لا يجيبون الى أسئلتنا وأدعيتِنا ، لا أعلم لخوفهم منّا أم ماذا ؟ فنحن لا نخيفُ أحداً،  فهم يحترموننا ويطيّبون خواطرَنا بكلمات ملؤها الحلاوة والعسل ، والحقيقة تبقى بعيدةَ المنال ، والمسيح الحي يقول " مَن ليسَ معي فهو عَليَّ  ومن لا يجمع معي فهو يُفرق" ( لوقا 23:11) وايضاً " أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذا كله يُزاد لكم " ( متى 33:6) ... لا نعلم!!!.
 لماذا نميّز شخصاً عن آخر وكلّنا نؤمن بالإنسانية وكرامةِ الشخصية، وكلّنا نفتخر بحقوق الإنسان ومشروعِه القويم في أبوّة واحدةٍ ودستور واحدٍ إذ يقول في المادة (14) منه "كلنا متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي" والحقيقة أنّ لا احد يؤمن بذلك لذا اصبحت هذه العبارة بين اسطرِ الدستور  وفي هذا يدعونا المسيح الحي ربنا ويقول لنا ان نقول ماقاله يوما لتلاميذه "أنتم جميعاً إخوة ( متى 9:23 ) وأيضاً ، إنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى9:23) فكونوا كاملين كما أنّ اباكم الذي في السماوات هو كامل" ( متى 48:5) ... لا أعلم!!!.
 لماذا يشترون ويبيعون ويغرسون ويشتلون وكأنهم إمراءُ الزمن الذي لا نهاية له، ويبنون ويهدمون بصكوك مزيفّة مليئة بالحسابات المرتشية ليمجّدهم أناسُ الدنيا وبشرُ الحياة، ويرسمون لوحةَ عملهِم أمام أقدار السماء فتخضع لهم حتى العلياء، فيقدسون الفاسدَ ويجعلونه بريئاً بتواقيع وأختام ملؤها حبراً أحمراً أو أخضرا... ما هذا الذي يجري في مسيرة الزمن؟ وهل المسيح يقول "أصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ" ( لوقا 9:16) فقط .ألم يقول لنا أَلأمينُ في القليل أَمينٌ في الكثير والظالمُ في القليل ظالمٌ في الكثير(لوقا 10:16)... لا أعلم!!!.
 لماذا تملك الطائفية على أفكارنا، والمحسوبية تتربع على كراسي عقولنا، والقرابة هي الحقيقة في أمورنا، ومصالحنا هي كل شيء في مسيرة زماننا، والأنانية غذاءٌ لما نختاره وما نرسمه، والمسيح الحي يقول "ابوك الذي في السماواتِ يَعرفُ ما تحتاجون اليه وهو الذي يَرى في الخفيةِ فهو يُجازيكَ"  ( متى 4:6)... لا أعلم!!!.
 لماذا نضع خطوطاً حمراءَ وزرقاءَ وصفراءَ أمام أُناسٍ ظلمناهم إذ لم يذعنوا لمصالحنا ولحقيقة مخططاتنا، فجعلناهم خطأة لا يستحقون الحياة، فما عليهم إلا أن يتربعوا على تراب الارض فقراء ، مهمشين ، وننسى أن الله قد أبدع الإنسان بحبه الذي لا يوصف، وجعلنا أخوة في مسيرة جنة عدن فالذي يعتبر نفسه طاهرا فليقرأ ما قاله المسيح الحي "إنّ ابن الانسان لم يأتِ ليهلك الناس بل ليخلص الناس  "( لوقا 56:9)" فكما تريدونَ أَن يفعلَ الناسُ بكم أِفعلوا أَنتم بهم هكذا " ( لوقا 31:6)... لا أعلم!!!.
 لماذا يبقى الإنسان في هذه الكينونة وينسى أن التوبة لها كراسي في زوايا المعابد حيث تعلّم حقيقة الإنسان مجاناً ودعوته إلى التوبة ليلمس الغفران بعد أن ركب كراسي الزمن، ومركبات الحياة يجرّها مستضعفو الطرق والسياجات لحقيقة مقدسة بل مزيفة، فيجد نفسه في خانة الاطهار والابرار واما الآخرين ما هم إلا عشارون وخطأة بينماالحقيقة تدعونا حينما نحيا الانجيل ان نغفر للناس زلاتهم فالمسيح  الحي يقول "إذا ماتذكرت انّ لاخيك شيئاً عليك فاترك قُرْبَانَكَ هُنَاكَ أَمَامَ الـمَذْبَح، وَاذْهَبْ أَوَّلاً وصَالِحْ أَخَاك، وحينَئِذٍ عُدْ وقَدِّمْ قُرْبَانَكَ"(متى 23:5)... لا أعلم!!!.
 لماذا نخطب في الناس ونأمرهم أن يعملوا مشيئتنا وما ذلك إلا مراد الدنيا، فننقل إليهم تعاليم اصدرناها كبرياءً لمسيرتنا ، بينما الحياة تأمرنا أن نكون سبّاقين في المثال والتواضع وكرجال صلاة ومحبة وبساطة كي ندرك حقيقة قدسيتنا ومسيرة قداستنا، فيتأثروا بما قلناه وما عشناه، إذ المسيح الحي يقول " إن أَحبَبْتُم الذين يُحبونَكُم فأي أَجرٍ لكم " ( متى 46:5) وأَيضاً كلَّ مَا عَمِلْتُمْ لَمْ تَعْمَلُوا إلاّ ما أُمرتم به وليس ما أَمرتُكُم به"( لوقا 10:17) ... لا أعلم!!!.
 لماذا ولماذا ولماذا، وستبقى "لماذا" تزهو في حقيقة الإنسان ومسار الحياة. فما نراه وما نسمعه، ما نشاهده وما نفكر به، ما يخطّطون له وما يرسمونه ـــ حقيقة كان أم زيفاً ـــ لمصالحهم وطلب رغباتهم، كباراً كانوا أم أسياداً، من أجل حياة لا تموت بفكر عقولهم وديمومة وجودهم، وينسون أن القدير في السماء يدرك ما هو خفي عن حقيقة أذهانهم. فليكن مخطّطنا كما رسمه لنا مار بولس يقول عن المسيح الحي "أَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً" (1كور2:2).نعم .
 
الخاتمة :
الحقيقة رسالةٌ يحملها فقراءُ الزمن فهم شهودُها البسطاء وهي تدور في أفئدتهم وترافقهم في مسيرة حياتهم ، إنها شاهدةٌ لهم وشهيدة من أجلهم . فهي تعلو درجاتٍ سامية عبر خطواتِ حياتهم وأعماقِ أنفسهم وهي تشهد عن وجودهم وليس كما يفعل كبارُ زمننا، فما هم إلا كبارٌ بكلامهم ، وليس بافعالهم ، فإن أنتهوا من كلامهم ، أنتهى تعبير وجودهم ، وهذه كانت بعضٌ من لماذا، تحكي مسيرة الزمن والحياة ، شاهدةٌ لحقيقة السؤال، وشهادةٌ للزمن القاسي وأقولها خاتماً: إنني أعلم، أنني لا أفهم لماذا ، والحقيقة تعني أَنني في كل ذلك لا أعلم لماذا ، .. " فيَارَبّ ، نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ" (متى13:6) ، وستبقى الحقيقة شاهدةً ، فلا أعلم.. لماذا.. لا أعلم !!! نعم وآمين.





111
   بمناسبة زيارة البابا فرنسيس إلى العراق الجريح

المونسنيور د. بيوس قاشا
  قداسة البابا...
إنَّ الذي تحبه مريض ... تعالَ وضع يدك!
     في البدء

نعم، مرّ العراق في أوضاع مأسوية أدّت إلى هجرة العديد بل الآلاف من العوائل المسيحية كما الإسلامية، فمنهم مَن سكن شمالنا الحبيب، وآخرون لجأوا إلى دول الجوار ينتظرون موعدهم من أجل الرحيل، ولا زال نزيف الهجرة قائماً، وما ذلك إلا هاجس مؤلم وضياع شعب أصيل. وها نحن اليوم أمام حدث إنساني نرتقبه بشغف الروح من أجل عراقنا الذي عانى من الحروب والحصار والاحتلال والتهجير والنزوح، ولا زال يعاني اليوم من التشرذم والفساد وعبودية الطائفية، وتقديس الأشخاص، وتثبيت المحاصصة وأزلامها، وضياع الوطنية وجنودها، وخاصة ما حلّ بنا بسبب القاعدة وداعش ولا زال حتى الساعة يعاني من الجراح المثخنة بسبب أبنائه البعيدين القريبين.

     فكرة ملّحة
زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق الجريح تُعَدّ الأولى من نوعها في تاريخنا الحديث، وقد أعلن قداسته أن تفكيره في هذا البلد ترافقه فكرة ملحّة إذ قال "لديّ استعداد للذهاب إلى هناك العام المقبل (2020)"، ليتمكن هذا البلد من المُضي قُدُماً من خلال مشاركة سلمية ومتعاونة في بناء الخير العام" (أمام أبناء الكنائس التي تساعد جمعيات الشرق الأوسط 21 حزيران 2019). وقد أكّد زيارة البابا للعراق نيافة الكاردينال بيترو بارولين أثناء زيارته للبلد في أعياد الميلاد 2018، كما استقطبت دعوة رئيس الجمهورية الأستاذ برهم صالح إلى قداسة البابا فرنسيس اهتماماً متزايداً على الصعيد الرسمي ومن جميع الشرائح والمكونات وخاصة من لدن البقية الباقية من المسيحيين العراقيين.

     الماضي القريب
لقد أراد قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني عام 2000 وبمناسبة احتفالات الكنيسة الجامعة بيوبيل الألفين أن يكون العام مكلَّلاً بزيارة قداسته إلى أور الأثرية والتي تُعَدّ مسقط أبينا إبراهيم أبي الآباء والأنبياء، وكان من المقرر أن تكون الزيارة هي المحطة الأولى ضمن رحلة تشمل العراق ومصر وإسرائيل، ولكن المفاوضات بهذا الشأن من الجانب العراقي انهارت، ولم يتمكن قداسته حينها الذهاب والحج إلى حيث بيت إبراهيم.

 

     جيوب الدنيا

إن زيارة البابا فرنسيس إلى عراقنا الجريح تُعتبر إنجازاً رائعاً بل مميَّزاً، بدأ في نسيج مسيرته نيافة البطريرك الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية (الكلي الطوبى) وتوالت دعوات عديدة وخاصة بعد سنوات الحروب المميتة والصراع الطائفي ومسيرة القاعدة القاتلة بحق أبناء شعبنا، كما كان هجوم داعش الإرهابي شرساً علينا وعلى مدننا وقُرانا ولا زال حتى الساعة يعمّر الخوف في قلوب الكثيرين، كما لا زالت الفوضى في كل اتجاهات الوطن، والكل يسأل: أين نحن من بلدان شعوب المنطقة ومن تقدمهم؟، أين نحن ومستقبل أجيالنا؟، فالأجواء لا زالت متلبّدة وكلٌّ يفتش عن مصلحته وحصته من الغنيمة، والفساد لا زال يملأ جيوب كبار الدنيا والزمن والزوايا الخفية، وسيبقى الشعب على صفيح ساخن، لينكشف كل مستور، وكي لا يقدّس الفاسد كذبه، فيكون بريئاً أمام أعين البشر المرائين المائتين، وتبقى الحقيقة معلَّقة على خشبة العار كما كان شأن المسيح الحي، لحين إعلان السماء نهاية الحكم.

     صفحة جديدة
أيجوز أن نستقبل قداسته بقلوب متوشّحة كانت ولا زالت بسواد الخطيئة والفساد؟، أيجوز تلك الأيادي المقدسة البيضاء أن تحضن وتصافح الأيادي التي نهبت أموال الفقراء، وخبزة اليتامى، ورغيف المهجرين، باسم القداسة أو غيرها، وظلمتْ أبرياء المسيرة للبقاء في المناصب والكراسي، وشوَّهت مسيرة الفقراء، فظلمتهم وسُرِق مستقبلهم كما حقوقهم، وباعت حقيقة الأبرياء من أجل حفنة خضراء، واستولت على العروش بالكذب والنفاق وبضمائر كُتب لها التشييع! أيجوز أن نبقى إخوة أعداء!... أيجوز أن يبقى شعبنا نازحاً ومهجّراً ونحن في إحتفال الاستقبال!... أيجوز أن نستقبل قداسته وكلنا لا زلنا طوائف منقسمة على ذاتها ولا تفتش إلا مبتغاها!... أيجوز أن نستقبل قداسته ونحن لا ندرك مفهوم رسالة الإخّوة الانسانية وحقيقة كلماتها!. فزيارة البابا دعوة لنا لكي نترك الماضي ونفتح ليس صفحة جديدة فقط في مسيرة الحياة ولكن صفحة ناصعة البياض في مسيرة من أجل الوطن ومن أجل المواطن، ليس كلاماً ولكن قولاً وفعلاً ورسالةً.

    فقير وفقراء
نعم، إن زيارة البابا ليست زيارة عاطفية وترفيهية وسياحية، بل هي رسالة حج ٍسامية من أجل أن يملك السلام والأمان بين أبناء هذا البلد الجريح، وليست الزيارة من أجل الوقوف في الصفوف الأمامية، وإلقاء الخطب الرنّانة والكلمات المُبجِّلة وربما الغير الصادقة، وتوزيع البسمات المصطنعة، والوقوف أمام الكاميرات قامة وموقفاً، والجلوس أمام المآدب الفاخرة وشعبنا يستعطي على الطرقات خبزة وفلساً، ويأوي خيمة وكرفاناً، ويعاني حراً وبرداً، كما أنّ زيارة قداسته ليست من أجل ملئ صفحات الإعلام والتواصل الاجتماعي بأخبار منمّقة، بل هي زيارة رجل متواضع ومحب، وحبيب للفقراء والمساكين... إنه آتٍ ليقاسمَنا جوعنا، ويعيش فقرَنا، ويشاركنا آلامنا، بعد أن أدرك أن الشعب قاسى سنين الحروب والخصام والطائفية والمحاصصة وفي عمق ديارنا ومعابدنا التي فيها عادينا إخوتَنا... زيارته هي من أجل أن يشاهد ويطّلع بأمّ عينه ماذا حلّ بنا بسبب الحصار والقاعدة وداعش والميليشيات والتهجير والنزوح، فهو يحمل رسالة الخير والبركة من أجل شعوب المنطقة في شرقنا المعذّب وشعبنا الجريح، ومن أجل حكّام البلد ليملأ قلوبهم خدمة وأخوّة ومواطنة وحباً لشعوبهم ولترابهم من أجل وحدة العيش وحقيقة الحياة.
 
     زيارة تاريخية
إن هذه الزيارة التاريخية يجب أن نستعد لها أولاً ـــ وقبل أن تكون رسمية ـــ ليكن أستقبالنا لقداسته بروح البساطة التي تجمعنا مع بعضنا، وروح الأخوّة التي توحّد مسيرتنا، لأنني متأكد تماماً أن انفتاحنا يجب أن يكون من أجل وطن بآفاق جديدة وعبر مسيرة تقودنا إلى الحوار المسيحي الإسلامي، لأن ذلك سيعزّز مبدأ التعايش المشترك بين أبناء الديانات المختلفة بعد أن نكون قد منحنا حقوق شعبنا بأقلياته ومكوناته بدستورنا، في حرية الحياة والإيمان، وبيّضنا فسادنا، وأعدنا المال إلى أصحابه، وأنزلنا المتربّعين من على عروش مسروقة، وجعلنا كلامنا صادقاً وحقيقةً، نابعاً من عمق أفئدتنا وليس من بيان شفاهنا، وتركنا الكذب والمصلحة جانباً. فالعراق عزيز في عيني قداسته، إنه عراقنا، فها هوذا آتٍ ليضع يده عليه، فيكون الشفاء روحاً ونفساً قبل أن يكون ظاهراً وإعلاماً، عبر مواطنة ودستور يجمع شملنا ويبني وطننا.

     الخاتمة
لنسأل أنفسنا هل نحن فعلاً تهيأنا لهذا الحدث المميَّز في تاريخ الشعوب؟... هل هيأنا أنفسنا لهذه الزيارة المُحبة؟... هل يمكنني أن أسأل؟... هل إستعد كبار زمننا ورجال معابدنا ليكونوا كلاًّ للكل وليهيئوا كل شيء وليس بعضاً من شيء؟ (رسالة بولس الرسول الأولى إلى كورنتس 22:9)، ولنتهيأ "ليس لإكليل يُفنى بل لإكليل لا يفنى"؟ (آية 25). فالبابا أدرك جيداً أن الوطن الذي يحبه مريض، ونحن هل أدركنا ذلك، لنسأل أنفسنا، أم لا زلنا نصارع بعضنا بعضاً وعلى هوانا نُسيّر مركبَنا؟. فمرقس الإنجيلي يقول "قوموا فها هو ذا آتٍ" (41:14) "لئلاّ يغلبكم النعاس" (متى 43:26) فيضيع الوطن والحقيقة، وسنكون كلنا من الخاسرين. فلنقل: تعال أيها البابا... تعال إلى ديارنا، فالوطن الذي تحبه مريض" (يو3:11)، "تعال وضع يدكَ" (يوحنا 43:11)... نعم وآمين.



112
المنبر الحر / زوالنا آتٍ إنْ لم...
« في: 19:17 05/08/2019  »
زوالنا آتٍ إنْ لم...

المونسنيور د.بيوس قاشا
     في البدء
   حروبٌ عديدة مرّت على عراقنا الجريح وآخرها عام 2003 والتي خلّفت دماراً كبيراً في الأنفس كما في أرض الوطن، وبسبب ذلك هاجر عدد كبير من المسيحيين كما من المكوِّنات بعد استهدافهم من قبل جماعات متطرفة وخاصة بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي إلى أراضي أهلنا في سهل نينوى والموصل عام 2014 والذي فرض على المسيحيين الأصلاء شروطه الثلاثة: إشهار الإسلام، دفع الجزية، قطع الرؤوس ومصادرة الأموال في حالة الرفض، أو عليهم الرحيل. وكانت المسيرة المؤلمة تأخذ معايير مختلفة ومنها كانت إبادة المكوِّن الأصيل حتى 28تشرين الأول من عام 2016 حيث حُرِّر سهل نينوى والموصل.

     على مدار التاريخ
   لن نخوض الآن في ما تعرض له المسيحيون وما يتعرضون إليه ولا زالوا وإنْ بطريقة أبطأ، ولكن بإمكاننا أن نقول أن المسيحيين على مدار التاريخ لم يعيشوا في بحبوحة ورخاء بل مورست ضدهم وخلال الأنظمة المتعاقبة على الحكم بالعراق سياسات مختلفة فيها التعصب أحياناً وفيها الاحترام الواجب أحياناً أخرى، فيها التعامل بعنجهية وفيها التعامل عبر غياب العقل والتحزب، وهذه كلها أدت إلى جعلهم مرة جالية لا ذكر لها وأخرى أقلية مستَضعَفَة، وكم شهيد أو جريح سقط ضحية هذه السياسات، وكم نازح ومطرود ومهاجر شهدت بلادنا بسبب السياسات المؤلمة التي مورست ضدهم وفي مناسبات عدة كان استخدام الدين من أجل الإرهاب تبريراً للأعمال الإجرامية التي كلفت المئات من حياة المسيحيين الأبرياء.

     خابت آمالنا
   هذه الممارسات أفرزت نتائج وخيمة على مستقبل وجودنا المسيحي في العراق خاصة وفي الشرق الأوسط عامة، وتناقصت أعدادنا وخابت آمالنا في العيش مع الآخر المختلف. وما يواجهه مسيحيو اليوم من تحديات هي الدافع الأكيد لإفراغ البلد منهم. فقد ضربوا الناس بتدينهم، وفي داعش بلغ التطرف الديني أقصى حدود القوة واللاإنسانية. إنهم يجهلون وجودنا سواء متنا أم حيينا، فذاك بالنسبة إليهم سواء.ومن هذه التحديات:
فبين فترة وأخرى يتنامى الخطاب الديني المتشدد.ولا زلنا نعاني من عدم إصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولا يوجد تطبيق فعلي لمبدأ "لا إكراه في الدين" حيث أسلمة الأطفال القاصرين قسراً حين إشهار أحد الأبوين إسلامه.وقانون توزيع الأراضي السكنية من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في مناطق تواجد الأقليات، هذا هو العامل الأكثر خطورة في زوال الوجود المسيحي بزوال أراضيهم ومنها قرار (117).ووجود تخوف وتشاؤم من مستقبل الأقليات وبقاء وجودهم في الشرق والعراق بسبب إفرازات العنف المتشدد ضدهم والذي ولا زال الخوف مسيطراً ويؤدي في النهاية إلى زيادة نزيف الهجرة بشكل كبير.والكتب المنهجية التي لا تعير اهتماماً بالأقليات ودياناتها ومكوناتها.وتوفير الأمن والاستقرار في مناطقهم واستنباط وظائف للحصول على أرزاقهم وإشراكهم في الحياة العامة وليس التمييز الطائفي الموجود بالأغلبيات عربي، كردي، تركماني... وأخرى عديدة...

     في الختام
   هل صحيح إن المصالح تريد أمرين، هل فعلا يريد الغرب أن يكون الشرق بلا مسيحيين، ويريد مسيحي الشرق عنده وهل يريد الشرق ان يرحل كل المسيحيين الى الغرب ،  هل هي فعلا محاولة لأسلمة المنطقة وهناك قاعدة شرعية تقول "لا يكون دينان في جزيرة العرب".ولا اعلم أين تكمن الحقيقة هل في واحد من هذين السؤالين أم في كليهما. والحقيقة ، حقيقة لا يعرفها إلا المخططون لها ، ولا ينفذها إلا راسمو مستقبل الشعوب إن كان هناك مستقبلاً أم استعماراً أم احتلالاً أصولياً لكرامة وحقوق الإنسان "شماعة الخلاص" فالمطلوب منا توحيد كلمتنا ، وعيش حقيقة وجودنا ، وتبديل مواد دستورنا ليكون دستورا للمواطن والمكون على سواء وليس للاغلبية الحاكمة والحزبية المتسلطة ، والطائفية المقيتة ، والكراهية الحاقدة ،والمصلحة المالكة والمستكبرة ، وللحقيقة المزيفة ، وما نحتاج اليه غسلا اوتوماتيكيا،  في ماكنة تحمل حقيقة وجودنا ، وكسرٍ لزيف مصالحنا ،  وانانية الوهيتنا، ومسك الختام ما نحتاجه ان نركع امام كرسي التوبة والاعتراف ، فما نحتاج ليس كلمات احترامية نقولها ونعلنها في مؤتمرات وبيانات تنتهي مع خاتمة أعمالها، بل حقيقةً ودستوراً واضحاً يمنحنا حقوقَنا ويُختَم على ورقة يعلن فيها المبادئ التي نادى بها البيان، وإلا كله لا يحرّك ساكناً في مسيرة الشعوب بل كلام "گرانيل" كما يقول المَثَل المصري ليس إلا!. والا فزوالنا آتٍ شئنا أم أبينا ، وهذه هي مسيحيتنا ، نعم وامين !.




113
الإرشاد الرسولي والأخوّة الإنسانية
سكّة واحدة لمسيرة الحياة

المونسنيورد. بيوس قاشا
     في البدء
   ممارسات الكراهية والتكفير، وإفرازات العنف والتمييز وعدم الاستقرار، وإبعاد الأقليات عن نيل حقوقهن، أفرزت نتائجَ وخيمة على مستقبل وجودِنا المسيحي في العراق خاصة وفي الشرق الأوسط عامة، وبسببها تناقصت أعدادُنا، وخابت آمالُنا في العيش مع الآخر المختلف. وما يواجهه مسيحيو اليوم من تحديات هي الدافع الأكيد والأكبر لإفراغ البلد رغم أن الكنيسة ـــ عبر إرشادها الرسولي والأخوّة الإنسانية ورسائل عديدة ـــ لعبت دوراً ولا زالت حتى الساعة تنادي بحقيقة العيش ومقاسمة الحياة مع الآخر المختلف، وبالمواطنة الصالحة، وبأصالة الوجود المسيحي، ولكن لا زال قلب المسيحي يحسب للخوف حساباً ولمسيرة المستقبل كتاباً.

     البابا فرنسيس
   نعم، أقولُها: إن البابا قد أحسن قراءة مسيرة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه، واستدرك أن الآتي ربما يكون خطة ممنهَجَة، مدروسة، منظَّمة، لتفريغ الشرق الأوسط من سكانه الأصليين، حاملي اسم المسيح، من أجل رسم خريطة جديدة لواقع البشر الأناني، لغاياتٍ ومصالح. فالقرار صعب، وتنفيُذه بحاجة إلى شجاعة إيمانية تقف ندّاً أمام الذين يستغلون خيبة أبناء الشرق، فيجعلون من معتقدِهِم إرهاباً مؤلماً كما حصل في العديد من بلدانِنا الشرق أوسطية، بدءاً من عراقِنا الرافيديني مروراً بمصرَ الكنانة ووصولاً إلى سوريا. ولا زالت المسيرة المؤلمة تدور فصولُها مما يجعل من مسيرة الحياة ناقوساً يعلن خطرَ البقاء وفراقَ المثقفين وتشتيتَ المتعايشين وازدياد عدد المهجَّرين وكره الأصوليين بدلاً من ان يجمعهم لصلاةٍ واحدة وفي معبدٍ واحد وتحت اسمٍ واحد ولوطنٍ واحد.

     الإرشاد الرسولي
   لقد جاء الإرشاد الرسولي عام 2010 قبل أيامٍ معدودة من كارثة كنيسة سيدة النجاة في العراق، والتي فيها استؤنفت إبادة مكوِّننا الأصيل. وقد جاء الإرشاد بعد لقاءٍ جمع أباءَ الكنيسة الكاثوليكية في العالم أجمع وخاصة بمشاركة رؤساء كنائسنا الشرقية، وحمل عنواناً "شركة وشهادة"، وسُلِّمت الوثيقة من قِبَل البابا بندكتس السادس عشر في الرابع عشر من أيلول عام 2012 في بيروت ـــ لبنان إلى رؤوسائِنا الموقَّرين.   ويقول الإرشاد في وثيقته "شركة وشهادة"، ومن خلال المواضيع التي نوقشت وحُلِّلت إنطلاقة الوحدة بين الكنائس المختلفة، وانطلاق الحوار في الإنسانية، وبعد تأمل عميق لإدراك واقع عالمنا المعاصر وكوراثة لتضع المبادئ الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية من أجل غدٍ مشرق لكل بني الإنسان ومن أجل التآلف بين أصحاب الديانات، كما كان الإرشاد علامة السلام والمشاركة في شهادة واحدة.
سكة واحدة   
   إنها سكة واحدة ، فالإرشاد دعوة لإقامة الحوار مع أعضاء باقي الديانات، حوار لا تفرضه سياسات المصالح بل يستند قبل كل شيء إلى أسس لاهوتية مرتبطة بالإيمان، فيدركوا أنهم يؤمنون بإلهٍ واحد، ومن هنا يكتشفون في المؤمن الآخر أخاً يُحتَرَم ويُحَب من أجل شهادة جميلة للصفاء والمودّة بين ابناء إبراهيم. وبما أن المسيحيين يتقاسمون الحياة اليومية مع المسلمين حيث وجودهم لأنهم في ذلك جزء لا يتجزأ من محيطِهِم. فالمشاركة في حياة الوطن من واجب وحق كل مسيحي لأنهم أصلاء البلاد ولذلك يعملون على بناء أوطانهم. من هنا ينبغي أن يتمتعوا بمواطَنَة كاملة، ويتمنون أن يكونوا أمناء تجاه كرامة الشخص البشري في حريته الدينية التي يرتأي الشخص إليها والتعبير على ذلك علانية وبحرية دون أن يعرّض حياتَه الشخصية للخطر، لأن الإكراه فيما يتعلق بالدين غير مقبول خصوصاً إذا تمّ بواسطة العنف، حينذاك سيكون التسامح رسالة يحملها المؤمن في عيشه المشترك والذي سيكون مثالياً عبر الحياة اليومية، ومن خلالِها يدركون غِنى الحوار الذي يجمع بينهم.
   أما الوثيقة "الأخوّة الإنسانية" فقد وُقِّعت أبوابُها من قِبَل البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب في الرابع من شباط عام 2019، وقد جاءت الوثيقة ـــ بتقديري الضعيف ـــ بعد تحرير أراضي سهل نينوى، وبدأت تتغير مفاهيم السياسة بسبب المصالح والطائفية وتهميش الأصلاء والمكوِّنات، وفرض الأغلبية وشريعتها على الأقليات ودياناتهم، فكانت الحصيلة مآسي الحياة، حينها أدركَ جيداً قداسة البابا فرنسيس فقد قام الفاتيكان وبكل حكمة وذكاء وعقلانية إنسانية بإطلاق محادثات أخوية صادقة مع سماحة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ومع الدوائر الأزهرية المتعددة، فكانت أنْ وُلِدتْ الوثيقة الإنسانية حاملة عنواناً إنسانياً "الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والتعايش المشترك".فالأخوّة الإنسانية تدعونا إلى أن التعددية واختلاف الدين واللون والجنس والعِرق ما هي إلا حكمة لمشيئة الله، فلا يجوز إكراه الناس على دين معين أو ثقافة محدَّدة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر. فاليوم حان الوقت لتقدم الأديان نفسَها بطريقة فعّالة وشُجاعة كي لا تقتصر الحرية الدينية على حرية العبادة بل ترى في الآخر أخاً في العقل،  كما في الفعل،  كما في الإنسانية. لأن أهم أسباب أزمة العالم يعود إلى تغييب ضمير الإنسان وإقصاء الأخلاق الدينية والنزعات التي تؤلِّه الإنسان. فغياب الصوت المسحي ووجودُه سبّبّ في افتقار المجتمعات وخسارة للتعددية التي تميزت بها بلدان الشرق الأوسط.

     في الختام
   نعم، لنفتح أبوابَ قلوبِنا وكناشسِنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً. ولنفتح الأبوابَ ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشِركة والشهادة والتواضع. فالإرشاد كما الاخوة الانسانية أعادَا التصويب لبوصلة الحياة، وحسما الجَدَلَ القائمَ ومفاده بل سؤاله: أين سنكون اليوم وغداً؟... والكنيسة، هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟، إنها مبنية على صخرة البشارة عمرها ألفين عاماً، لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه إرث الكنيسة جمعاء. فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق، ولنرى الأيام، إنها أفضل مستشار.
   أرجو ختاماً أن لا يكون الإرشاد إعلاماً فقط ، ولغة المثقفين لشريحة كبار الزمن ورؤساء الدوائر وكبار المسيرة والمعابد ، وكذلك وثيقة "الأخوّة الإنسانية" ، ومن المؤسف اقولها فلقد طويناهما ووضعنا نصوصهما على الرفوف لترتاح حيث الراحة الأبدية، نعم ، من المؤسف ما هذه إلا الحقيقة وأقولها بالمٍ . فاليوم شعبنا بسيط وبريء وجريح الحياة، ولا يحتاج إلا أن يتفاعل بقدر ما وهبه الله من النِعَم لكي لا يكون شعباً مسيَّراً بل مُحبّاً، شاهداً وشهيداً لحقيقة البشارة والحياة والإيمان من أجل العيش بسلام وأمان... وهذا هو الرجاء في الإيمان بقوة الروح القدس (أفسس17:6)، والذي سيجعلنا على سكة واحدة من اجل مسيرة الحياة عبر ما رسمه الارشاد الرسولي والأخوة الانسانية. في ان نكون أُمناء تجاههما واوفياء تجاه تعليمهما والعمل به في كنيسة أم ومعلمة،  وفي المسيح الحي ،وما هذا إلا ايماني بكنيستي ،  نعم وامين . 

 
     الختام (2)
   ختاماً ما نحتاج ليس كلمات احترامية نقولها ونعلنها في مؤتمرات وبيانات تنتهي مع خاتمة أعمالها، بل حقيقةً ودستوراً واضحاً يمنحنا حقوقَنا ويُختَم على ورقة يعلن فيها المبادئ التي نادى بها البيان، وإلا كله لا يحرّك ساكناً في مسيرة الشعوب بل كلام "گرانيل" كما يقول المَثَل المصري ليس إلا!.


114
صراع من أجل البقاء أم من أجل الفناء

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء...
   أسباب عديدة دفعت المسيحيين للهجرة من بلدان الشرق الأوسط وبالخصوص من بلادنا ، بسبب ما حلّ بنا من قتل وتهجير، وتراجع الظروف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وصعود التيارات المتطرفة، والاضطهاد الديني الذي مارسته بعض الجماعات التكفيرية وأحياناً كثيرة بسبب معاداة الأقليات وفقدان مناخ وغياب رسالة التسامح الديني والتعددية والإختلاف، وهذا مؤشر أكيد لتلاشي الوجود المسيحي في المنطقة بعدما كانوا أعداداً وجماعات يفتخرون بوجودهم في بلدانهم، وتفتخر المنطقة بعطائهم وعقولهم.
  صراع وبقاء
   ما يجب أن ندرك جيداً، اليوم وليس غداً، نحن أمام وضع مأسوي، فالواقع تُمَرَّر مصالحه ومخططاته بين ظهرانينا، وما أشاهده فنحن لسنا إلا من المتفرجين والناطرين قسمتنا دون إرادتنا وإن كانت ليالينا لا ترزقنا خبزتها، فالمنطقة في غليان وفي صراع المصالح والعقول، كما المحسوبيات والوجبات، وكل يريد أن يحصد غلاّت غيره، حقيقة أو زيفاً، يسلبون ما لهم وما ليس لهم بعد أن أصبح الفساد سيرة مقدسة ومسيرة مستدامة. فعراقنا يقود اليوم صراعاً طائفياً لا شريك له، ومذهبياً لا ينافسه قول، وإقليمياً لا تحسده الأوطان. إنه صراع من أجل البقاء، صراع النفوط والمصالح والسياسات المدمِّرة في قانون اسمه "شريعة الأنا"، فحيث الجثة، يقول الإنجيل المقدس، هناك تجتمع النسور (لو37:17). فالإرهاب المزيف بأشكاله المختلفة وبأدبياته الفاسدة ينهشنا من حيث لا ندري، والزمرة المزيفة تصفق لهذه المسيرة من أجل مصالحها ومراكزها ومناصبها غير مبالين بالحقيقة والحياة، بالوطن والإنسان، بهبات الله ونِعَم السماء. فهم المخطِّطون وهم المنفِّذون وهم المكفِّرون، وهم في كل ذلك هيرودس الشرير الذي خلط دماء الجليليين بذبائحهم (لو1:13)، وما أكثرهم للحق كارهون (وفي هذا يفسدون ضمائرهم) في الحياة... إنها سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال، وأخيراً الموت.ما هذا الذي يحصل إنه سؤال بلا جواب ، ليس إلا . 

   آيات عجاب
   أبناء شعبنا لا زالوا يطرقون أبواب الهجرة والرحيل، والكنيسة ورؤساؤها يضعونهم أمام حريتهم في إختياراتهم، والسبب أنهم لا زالوا في شكٍّ من وجودهم كما هم في حالة يأس من مستقبلهم، يصبحون وينامون تعساء وبؤساء على مصيرهم ومصير صغارهم. إنني أتعجب لكبار يقولون أنهم قادة الزمان ، يملأون بطونهم بوعود كاذبة، ، فيقررون ما يحلو لهم وإن كان ذلك بغيضاً في حقيقة أعينهم ولكنه محبوباً في أفكار عقولهم ومسيرة سلطتهم، فهم ينزّهون أنفسهم من كل دنس وكأنهم أُنزلوا من السماء كآيات عجاب، ويُصدرون فتاوى انتظار بالبقاء في أوطانهم وهم يذهبون ويجيئون كأسياد مسلَّطين بمالٍ ليس لهم ويولولون قائلين "من أجلكم نُمات كل يوم وقد حُسبنا مثل غنم للذبح"  (مز 22:44) ويزيدون في شكواهم إننا من اجلكم نعمل ونذهب ونجيء" فقد تعبنا الليل كله" ( لوقا 5:5)  والحقيقة إنهم يستهزأون بشعبهم والله بعيد عن مآربهم وعن عقولهم فهم آلهة لانفسهم ليس إلا.

   خوف وضعف
   نحن المسيحيين نتخبط اليوم أمام مآسي عديدة لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل، وإنما قادونا مثل الخراف خضوعاً وخنوعاً، ولا زالت المسيرة مستمرة هنا في وطننا وفي أنحاء عديدة من شرقنا المعذَّب وأنحاء أخرى من هذا العالم البائس حيث الظلم والألم واليأس والمستقبل المجهول لنا ولأجيالنا ولأحفادنا، ولا نعلم أين صوب مسيرتنا وإلى اين نحن نتجه أمام صراع لم نكن فيه مستعدين. وأمام ما يحصل يجعلنا أن نحمل أفكاراً ملؤها الخوف والجُبن والضعف والتعاسة بسبب انتشار الشرّ وانعكاساته على الأصعدة الإجتماعية والسياسية والعائلية والطائفية في فوضى عارمة وشغب وحروب تكفيرية وديموغرافية، وظلم وقمع الآخر البرئ في تدمير الإنسان الآخر المختلف، وكما يقال "يدنا على قلبنا"، وبالتعبير الشعبي "إيدنا على قلبنا" ممّا سيحلّ بالمسكونة وبالمسيحية، فالكثير منا يعيش بلا هدف واضح، يرقص مع الأغنية ويولول مع العدّادين، ولا يعلم ماذا يصنع وأين محلّه من الإعراب في مجال وجوده وحقيقة ترابه. إنه صراع نفسي، فإذا سألتَه: لماذا ترقص أو تولول؟، يجيبك: هذه هي الحياة. وإن كان الهدف الوجودي قد ضاع فحتى متى سنبقى من المهمَّشين؟، وحتى ما ينتهي الصراع؟ هل هو صراع من أجل البقاء أم صراع من أجل الفناء... ليس إلا!.

   نؤمن ونعلم
   يراهن الكثيرون اليوم على ترحالنا أو على تقلّص أعدادنا بصورة كبيرة، ولكننا نؤمن أن الله سيد التاريخ وهو يرعانا ويرعى كنيسته في الشرق. إننا نؤمن بيسوع المسيح القائم من الموت والمنتصر على كل شرّ. وبناءً على إيماننا هذا نقول "سوف يبقى في الشرق مسيحيون يحملون إنجيل ربنا يسوع المسيح، ويشهدون لقيامته المجيدة، ولو بقينا عدداً قليلاً"، وقد سبق وأنبأنا "ستعانون الشدة في العالم، ولكن ثقوا إني قد غلبتُ العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو33:16 و27:14). نؤمن ونعلم أن الإيمان صعب، بينما تغشانا ظلمات هذا العالم ومظالمه. نرى شقاء الأرض، نرى قسوة الناس بعضهم على بعض وعلينا، نعيش في زمن استشهاد وننظر إلى صلاح الله ونسأله تعالى القوة لقبول نعمته، نسأله أن يرافقنا سواء حضرت ساعة شهادة الدم أم بقينا في بيوتنا وكنائسنا المهدَّمة أم تشتّتنا في أنحاء العالم، نسأله القوة لنبقى مؤمنين به وبصلاحه، ومع الموت الذي نتعرض له نؤمن أن الله ما زال يرسلنا في بلداننا أو في العالم وفينا صلاح من صلاحه وقوة من قوته ومحبة من محبته ليس إلا .

   الخاتمة
   نعم ، إننا اليوم أمام أسئلة لا أحد يجيب عنها، وإنْ أجابوا عنها فما جوابهم إلا كلام ليس إلا، فلا رجاء فيه ولا أمل لتحقيقه. فقد طال الزمان، ومالت السنون إلى النسيان، وغابت الشمس عن كشف حقيقة وجودنا وقضيتنا... وعود ووعود ووعود. فالأغنياء إلى أوطانهم الجديدة رحلوا، فهم لا يحتاجون إلى درهم أو أخضر، هاجروا وتركوا أصالة بلدانهم. والفقراء ركبوا المراكب القاتلة والمهرِّبة بسبب دخلهم المحدود ينتظرون ساعة رحيلهم، فلا عون لهم، لا من رؤسائهم ولا من كبار دنياهم وزمانهم. فرؤساؤهم لم يرحّلوهم لأنهم ليسوا روّادهم وكبار دنياهم وأبناء عشيرتهم ، يتركونهم إعلاماً لمصالحهم، وكبار زمانهم يقولون عنهم إنهم عادوا والحقيقة مؤلمة وإن قلناها، فحتى متى!!!. هل يبقون ينتظرون ما يقع من فتات الغني (متى27:15) ليشبعوا ويملأوا بطونهم، فهم ليسوا من أقرباء الكبار ولا من حشم الموائد بل هم فقراء الرحمن ومعوَّقو البابا فرنسيس... إنهم الأغلبية المهمَلَة. فصراعنا هو من أجل الحفاظ على الوجود المسيحي كمكوِّن أساسي في نسيجنا الإجتماعي، ولا نكن من الخاسرين في هذا الصراع من أجل البقاء كما خسر الوطنُ المكوَّنَ الموسوي، لأن التنوع ما هو إلا مدعاة فخر وسمو، إنه تاريخ التسامح والعيش المشترك. ويبقى السؤال إذا ما خسرنا في صراعنا هذا سنكون في خطيئة لا غفران لها، إنها خطيئة التلاشي، إنه صراع مميت ، وخيارنا واحد فهو إما بقاء أو فناء ، ليس إلا!.

   



115
هل نقرأ السلام على الشرق المسيحي ؟؟
المونسنيور د. بيوس قاشا
إنَّ الكنيسة اليوم، وفي شرقِنا المعذَّب بل في عراقنا الجريح ،
 تمرُّ بمرحلةِ إرتباكٍ وغليانٍ وأزمةٍ، في حالةِ ضياعٍ وفقدانِ الهوية الوجودية. 
والسؤال يبقى بلا جواب: هل ستدوم مسيحيتُنا؟، هل سيبقى وجودٌ للمكوِّن المسيحي في مجتمعاتِنا الشرقية؟، هل سيبقى الإنجيلُ محافظاً على كلمةِ البشارة؟، وهل سيبقى المسيحيون في ضبابيةِ المفاهيم الإنجيلية، التي لا تقتصر فقط على مجتمعاتِنا الشرقية بل تتخطّاها لتشمل العالَمَ بأسره؟، هل فعلاً سنتَّحدُ يوماً بعدما عُرِفنا بطائفيَّتِنا وانقساماتِنا وخصوصيات معابدنا وقومياتنا وتسمياتنا ؟، وهل نحن نؤمن أنّ لنا إيمانٌ واحد، وربٌّ واحد، ومعموديةٌ واحدة، وإلهٌ واحد (أفسس5:4-6)؟، وإلا ما نفعُ كراسينا ومناصبِنا، وما نفعُ كلمةِ المسيح الذي قال:"أتركْ كلَّ شيءٍ واتبعني" (مر21:10)... نعم أسئلةٌ عِدَّة ترافقُ مسيرتَنا المشرقية.
لاشكَّ أن الكنائس الشرقية ــــ والتي تضمّ العائلات الروحية المسيحية من كاثوليكية وأرثوذكسية وإنجيلية ــــ تنظر إلى الإعلام بوصفه وسيلةً فعّالةً في إيصال الرسالة المسيحية، رسالة الخلاص والفداء، فكنائسنا ما وجودها إلا شهادةٌ للمسيح وعملاً بقوله:"إذهبوا وتلمذوا جميعَ الأمم وعمّذوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أنْ يحفظوا جميعَ ما أوصيتُكم به. وها أنا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 19:28-20).
إنّ مجيءَ وحلولَ عصرِ المعلوماتية أدخَلَ الكنيسةَ الشرقية في أزمةٍ حقيقية، وفي هذا المزيج الصاخب من المشهد المعلوماتي الجديد تجدُ الكنيسةُ نفسَها في مواجهةِ تحدٍّ، وهو تحديد موقعِها في علاقةٍ حِوارية بين متطلبات هذا الوضع المُسْتَجِدّ في فوائدِهِ كما في مخاطرِهِ، بحيث يجب عليها أنْ تحافظَ على هويَّتِها دون التخلّي عمّا تؤمن به.
والسؤال هنا يطرح نفسَهُ: كيف تستطيع الكنيسة في مجتمعاتِنا الشرقية، وأمامَ هذا المشهد الإعلامي والمعلوماتي، حيث الثقافاتُ المتنوعة والعديدة، أنْ تُتِمَّ رسالتَها التبشيرية الإنجيلية، وأنْ تجيبَ على سؤالٍ يتردَّدُ باستمرار: ماذا يعني أنْ يكونَ الإنسانُ مسيحياً اليوم؟، وهل ستدوم المسيحيةُ في مجتمعاتِنا الشرقية كما دامت منذ ألفي سنة ونيفٍ، ونحن لا زلنا نعيش عدمَ إتحادِنا وإعلامِنا المنقسم.
صحيح إنَّ هذه الضبابية في المفاهيم حول المسيحية والمسيحيين، لا تقتصر فقط على مجتمعِنا الشرقي بل تمتد الى مجتمعات أخرى، والذي يقاوم الإرهاب والشرّ والخطيئة، خاصةً بعدما إستفحلَ داعش الإجرامي، الذي أبادَ كلَّ شيء دون وجهِ حق، ودمّرَ كلَّ شيء، ونحن لم يكن في يدِنا حيلةٌ، بل كنا ضحايا ومهجَّرين ونازحين وراحلين أمامَهُ وأمامَ غيره، ولا زلنا حتى الساعة. وحتى الذين إدَّعَوا حراستَنا وحِفْظَ أراضينا، تركونا وحيدين، فكُتِبتْ علينا الهزيمةُ، وهذا كلُه يدعونا إلى أنْ نسمّي الحقائق بأسمائِها كي نستطيعَ مناقشتَها واستيعابَها.
من المؤكَّد إننا شرقيون، بل مشرقيون، بعودةٍ إلى سببِ وجودِنا. فالشرقَ وطنُنا، وفيه نجدُ مسكَنَنا ومستقبَلَنا، وفيه أملُ أولادِنا وأحفادِنا وسبب حياتِنا. وحينما يكون المواطن في حبّ وطنه يتجسّد الوطن في داخله، فيكون الوطن هو العنوان، وهنا يتكاتف الوطن والمواطن في إتحاده، وينتج عنهما حبّ الوطن، وما أغلاه، وما أجمله، بل وما أقساه!!!، وهنا تبدأ رسالةُ الإعلام في جعلِ مسيرةِ الحياة تتبلور بتقنيةٍ عالية، لذا يجب أنْ نُدرِكَ مَن نحن، وإلى أين متَّجهون، في إرادةٍ واحدة، لأنَّ استخدامَ وسائل الإعلام الحديثة بطريقة صحيحة ومعلوماتية مُوجَبَة، تساعدنا في نهضةِ الإعلام الكنسي في العيش المشترك، بيننا أولاً ثمّ مع أبناء وطننا، وخاصةً مع أبناء شرقنا بل مع مؤمني كنائسِنا، وإن كان هذا ليس سهلاً.
نعم، إنَّ الأوضاع في شرقِنا مؤلمة، وهي تدعونا إلى إفراغِ البلاد والهجرةِ والرحيل، ولا تستطيع كنائسُنا الشرقية ومجتمعاتُنا أنْ تزرعَ وجوديةَ البقاء للشهادة في أرضِنا لسببٍ أو لآخر، فهي تنادي عِبْرَ الإعلام أنَّ قدسيةَ مشرِقِنا وطينَ شرقِنا مقدسٌ لأننا مخلوقون منه، وهناك يقابلها إعلامٌ رخيص ملؤه النفاق والتطبيل والمراءاة والكذب والمصلحة والطائفية، لذا عليها أنْ نُدرك ذلك كي ترسمَ كنائسُنا الشرقية سويةً رؤيةً واحدةً خاصة، في وحدة الكلمة واتحادِ الرسالة، وإنَّ ذلك لهو مَطْلَبُ الإرشادِ الرسولي "من أجلِ كنائس الشرق الأوسط: شركة وشهادة" والذي عُقد في روما للفترة من 10-24 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2010، وبطلبٍ من رؤساءِ الكنائس الشرقية الكاثوليكية من أجلِ معالجةِ أمورِ المنطقة بعد الإضطهادات التي حلّتْ بالكنيسة وبالمسيحيين وهجرتِهم، وسُلِّمَت الوثيقةُ إلى رؤساءِ الكنائس في بيروت من قِبَلِ البابا بندكتس السادس عشر في إحتفالٍ مهيب في 16 أيلول (سيبتمبر) عام 2012.
فماذا تنفع الإنفرادية والطائفية والمحاصصة إذا كان كبارُ معابِدِنا قد علّموا مؤمنيهم بصورةٍ أو بأخرى هذه الطائفية الانفرادية والتسميات المختلفة والقوميات المتعصبة ، وكأنَّ الإرشادَ الرسولي الذي أُعْطِيَ لنا قد وضعناه على رفِّ التاريخ ليكونَ كلمةً صامتةً بعد أن تجاهلناه إعلاماً وجودياً ومسيحياً وحياتياً، والذي كان يجب أن نسلك طريقه، بدلاً من تجاهله!.
فرجال المعابد ومؤمنيها ، هم أنفسهم،  بل كلنا،  مدعوّون أن يعيشوا حقيقةِ وجودنا، فلا وحدة ولا إتحاد، كما لا إرشاد ولا رسالة،إن كنّا فقط بحاجةٍ إلى قراءةِ أسطرٍ ملؤها عبارات قواعدية إيمانية شرتونية ، وما فائدتها إذا لا تعمل فينا ولا في مسيحيتِنا، وخاصةً نحن أمامَ سيلٍ من المعلومات الضديّة، فتكون النتيجة حتماً إفراغَ الشرق والرحيل وحينذاك نقول:"إقرأوا السلامَ على الشرق المسيحي"، فقد أفرغناه من وجودِنا لأننا لم نحيا وحدَتَنا ولا إتحادَنا، فضاعَ إعلامُنا، وماتت كلمتُنا في داخلِنا، وأصبحنا تائهين في صحراءِ الضياع، والسبب سببُنا وليس تعاليمَ مسيحِنا والرسول بولس يقول:"مَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا، وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ" (1كو5:3).
نعم، عذراً أقولها: أليست زيارة البابا فرنسيس الى ديارنا المعذبة رسالة ، يحملّنا اياها وهو يدعونا الى ان نسلك طريقا يقودنا الى التوبة والمحبة والخدمة كي لا نكون إلا مسيحيين، نعم نكون مسيحيين في إتحادنا وليس في فرقتنا ‘ في صلاتنا وليس في انقساماتنا ، فالزيارة تدعونا الى ان نلملم جراحاتنا ، أليس هو الذي قال يوما بعد استيلاء داعش على ديارنا وسُكبت دماؤ شهدائنا ،ما معناه  "ان دماءَنا امتزجت وتوحدت في مسيرة إيماننا  " اليست هذه قوتنا في وحدة إيماننا ،  أليس هذا من صميم إعلامنا ، وما يدعونا إليه إرشادُنا لكنائسنا وإلا ماذا .. نعم وآمين.
                               ( نص الكلمة التي أُلقيت في مؤتمر الاعلام المسيحي نحو الاتحاد)

116
حقائقنا… كلام في كلام!!!

المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
من المؤكَّد أن المسيحيين في الشرق هم مكوّن أصيل وليسوا أرقاماً وأعداداً، كما هم جزء لا يتجزأ من هذا الشرق ومن مكوناته. فالمسيحيون أصلاء بوجودهم وليسوا بقايا شعوب، وهويتهم شرقية الوجود، وحضارتهم سامية التاريخ، وديانتهم لا تحمل إلا السلام والخير والمحبة وتتقاسمها مع الشعوب
والحضارات المتعددة. فوطنهم واحد، وهم في مجتمع واحد، ويؤمنون بل ويعلمون أن إيمانهم صعب، وممارسته تخيّم عليه ظلمات الفاسدين ومظالم المحسوبين، فهم يرون قسوة الناس بعضهم على بعض. كماهم يعيشون زمن الشهادة والإستشهاد، إذ يرون كنائسهم مهدَّمة وأموالهم مسروقة، وتشتُّت أبنائهم أمام عيونهم يرسم خارطة الضياع في أنحاء العالم، ومع هذا يبقى المسيحيون يؤمنون أن الله ما زال يرسلهم في بلدانهم، ويرافقهم في مسيرة الحياة القاسية، مدركين أن الرب قال:"ستعانون الشدة في العالم، ولكن ثقوا إني قد غلبتُ العالم" (يو33:16) و"فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو27:14).

    وشك المغيب
ما أدركناه أن التضحيات قد تمّت بالإنسان وبشعوب المنطقة ومكونات الأوطان في سبيل مصالح طائفية وأخرى قومية وربما حزبية، ومرّت معظم بلداننا بمرحلة دمار شامل، ومع هذا لا زلنا في تهديد دائم، وهذا ما نراه عبر صراعات مليئة بالحقد والكراهية بإنشائها الخطابي عبر تكفير الآخر المختلف، وقد قالوا عنا يوماً: أن المسلمين المتطرفين هم الذين قتلوا أبناءنا المسيحيين، وغايتهم إقصائهم وإلغائهم من الوجود، وهذا صحيح وظاهر، إنهم متطرفون مسلَّحون، هم الذين قتلوا المسيحيين والمسلمين بسنّتهم وشيعتهم والإيزيديين وكل مَن عارضهم، والقاتل الحقيقي معروف بأهدافه فهو صاحب القرار وحلفاؤه في ديارنا من أجل مشرق جديد وبحسب مصالحه ورؤيته، فهل اليوم نعيش مصيراً جديداً مختاراً من ذوي القرار؟... وما أقساها إزدواجية القرار، ونتيجتها عدم الاستقرار، ولا يمكن أن نستقر إذا لا تستقر حقائقنا.

    أجيال رحماء
أمام هذا الواقع الأليم والمخيف نتوقف لنتأمل ونحاسب أنفسنا: أين هو موقعنا؟، أين هي مواقفنا الموحَّدة؟، أين نحن من مسيرة الألم بعد كل الذي عشناه ورأيناه ولمسناه بأعيننا وأيادينا وأفكارنا؟، هل استطعنا أن نبدّل مواقفنا من أجل خير أمّتنا وكنائسنا؟، هل تواضعنا حتى نكران الذات من أجل كلمتنا الموحِّدة والموحَّدة؟، هل أدركنا أن الألم الذي جاءنا وعشنا مراحله المؤلمة ما هو إلا للتآلف بين القلوب، لا فقط كلمات تبجيل واحترام متبادَلَة؟، هل أدركنا أننا نحمل رسالة إلى العالم تحمل الحياة للآخرين، إذ أن رجال المعابد وكبار الزمن عليهم أن يربّوا أجيالاً رحماء لا قتلة أشقياء، وإن المحبة تتجاوز حدود الإنسان لأنه لا حدود لها؟، وتقول رسالة بطاركة الشرق (2018) ألم ندرك جيداً أن الشرق قد إرتوى بدماء آبائنا وأجدادنا حتى الموت؟، ألا يدعونا هذا إلى حاجتنا إلى قيادات ترشدنا إلى طرق الحياة وحقيقة الإيمان والشهادة في مقاومة التفرقة والموت التي لا زالت فاعلة في مجتمعاتنا وإنْ كانت صغيرة، وتعمل في طائفياتنا بنسب أعمارنا؟... إننا بحاجة إلى قيادات تملك القدرة والإحساس بكل آلام الناس، ومنهم نتعلّم أن الآلام ليست للموت بل هي طريق إلى الحياة، فطريق الصليب كان طريقاً من الموت إلى القيامة.

    فاجعة ودمار
إن ما حصل في مناطقنا في سهل نينوى خاصة، وما حلّ بأبناء العراق عامة، فاجعة ودمار وتخلّف وفساد. فالعديد في سهل نينوى _ كما في المناطق الأخرى _ تركوا ديارهم ومنازلهم ومناطقهم الأصيلة وحضارتهم التاريخية من أجل الحفاظ على حياتهم بسبب القاعدة وأزلامها، ثم داعش وإرهابه، والميليشيات وأفرادها، والدستور وأبوابه. فالهدف واحد وإنْ تعددت المسارات، والتقصير تجاه الشعب ومكوِّناته أكيد، فهي في هذا تواجه خطر الإنقراض إضافة إلى التهميش والإقصاء في كثير من الأمور وفي وضع مهلهل ومستباح، وبأيادي تفكر عشوائياً ولا تدرك جيداً حرصها إلا على المصلحة الخاصة والكبريائية، ناسية أن المصلحة يجب أن تكون من أجل الوطن والشعب ومكوِّناته، وبعد أن أدركنا أن داعش على وشك المغيب، وقد أنهى مهمته في تدمير ما رُسم له، وقد أكمل ما طُلب منه، وأعماله الإجرامية تركت آثاراً مؤلمة وعميقة في نفوس شعبنا، تركت نزعة تكفيرية بحقنا، ومقاتلتنا بأية طريقة كانت، وأصبحنا ضحايا لسياسات فاسدة ولفتاوى متعددة، وهذا ما زال يعكّر صفو عيشنا، وفي هذا نسأل أنفسنا هل نبقى أم نرحل؟.

     تربية جديدة
نعم، نحن بحاجة إلى تربية جديدة لأجيالنا الصاعدة من أجل إنسان جديد يحمل عبء الحياة بروح المحبة، وعلى قواعد المساواة والكرامة التي منحنا إياها رب السماء. فكلنا مسؤولون أمام الله وأمام الضمير الحي، فالدولة مسؤولة، والكنيسة مسؤولة، والمسجد مسؤول، وكلنا كرجال معابد _ ومن أي معبد كنّا _ مسؤولون لكي نبني وطناً للجميع وفوق الجميع، حيث ولحد الآن هناك تفرقة وتفضيل مواطن على آخر بسبب دينه أو قوميته أو طائفته، وما زال حتى الساعة تكفير واضطهاد وفساد، خفيّاً كان أم ظاهراً. فما نحتاجه أن نجعل من الدين طريقاً يوحدّنا وليس مسلكاً يفرّقنا، فالمختلف مهما كان دينه أو عقيدته أو لونه هو أخ لنا، وكل أبناء الوطن هم إخوة. فأنتَ أولاً إنسان وخليقة السماء، وفي هذا الصدد يقول الإمام علي "إنْ لم يكن أخوك في الدين فهو نظير لك في الخلقة"، وهذه التربية توصينا بمحبة المسيح لناإذ يقول "أحبوا بعضكم بعضاً" (يو34:13) و"أحبب قريبك مثل نفسك" (يو15:12 وغلا14:5)، والقريب هو كل إنسان.

     في الختام
نعم، نحن أصبحنا اليوم نعيش تحدّياً نواجهه معاً، والخوف لا زال يملك على صدورنا، فما نحتاجه اليوم هو مسيرة إنسانية وطنية ودينية، مبنية على أساس أن كل إنسان هو خليقة الله الواحد الأحد، كما على كبار زمننا ورجال معابدنا أن يكون لهم الدور الرئيسي في معالجة أسباب الفكر الديني المتطرف في تجديد الخطاب من أجل إنسان جديد، وروح مشاركة، وإشاعة روحانية المودّة واحترام التعددية الدينية، وقبول الآخر المختلف بفكره وعقيدته، ونبذ الطائفية المقيتة والمحسوبية المزيّفة، والعشائرية القاتلة، فواقعنا يطلب منّا حواراً وقبولاً متبادلاً وباباً مفتوحاً أمام الجميع وللجميع، يسمع من الجميع، غرباء كانوا أم أقرباء، وإن كانت هناك تيارات دينية مناقضة لا تقبل التعاون والمساواة بين مؤمني الديانات المختلفة بل حتى من الديانات المشتركة بكتبها وايمانها. فشرقنا يجب أن نجدّده نحن لا غيرنا، ولا يكون بتبديل حدوده أو ديموغرافيته أو شعوبه، بل ننظر إلى القلوب، فالشرق بأهله، وأهل الشرق لشرقهم، كلهم متساوون ولا أحد يفرض سيطرته على الآخر، وبهذا نبني وطناً وأجيالاً ورسالةً. إنها رسالتنا، إنها حقيقتنا، أكيداً إنها حقائقنا، وفي هذا السراط تكمن الحقيقة، وأرجو أن لا تكون كلام في كلام، ولكن إيماني يقول: أنه مهما قيل فالنهاية لتشييع الحقيقة، ولدفنها، وتبقى الدنيا وحقائقنا كلام في كلام ليس إلا!!... نعم وآمين.


117
الكذبُ كذبٌ وإن كان أبيضاً

المونسنيور د. بيوس قاشا
    البدء
بداية ، لنقرأ الفصل الخامس من سفر أعمال الرسل حيث قصة حننيا وسفيرة،
 فقد قال بطرس لحننيا "أنت لم تكذب على الناس بل على الله" (أع 5:5)، وما إن سمع حننيا هذا الكلام حتى وقع ولفظ روحه، وهكذا زوجته من بعده (أع 10:5).وقال المسيح الحي:"أنا الطريق والحق والحياة"( يو6:14). ويُحكى أن واعظاً وقف وسط شعبه وقال لهم هذه العبارة "رأيتُ جنّازة يشيّعها مليون، فقلتُ: مَن المتوفى؟، فقالوا لي: الحق"... ونحن اليوم أمام عالم نقول عنه عالماً فاسداً، وأمام مهمات وظروف تجعلنا أن نقدس كلامنا وإنْ لم نكن صادقين، وأصبحنا نسمّي الفساد موهبة، والكذب مقدساً وأبيضا ، والحياة مسيرة سُجلت محطاتها باسمائنا ، ومن المؤسف أن تصل بنا الحياة إلى هذه الحالة التي فيها نحن سادة القوم بلا منازع ، فنحن الامراء بكلامنا واوامرنا وكبريائنا متى نشاء ومتى كانت فيه مصالحنا  . 

     ماهو الكذب؟
   الكذب ، هو إخفاء حقائق أو جزء منها وقولها بإيحاء يتنافى مع الواقع أو يعطي انطباعاً آخر يخالف الحقيقة، يعني هو قول أمر يعني به القائل أمراً آخر ليجعل السامع يفهم الكلام على محمل غير سليم، فهو حلّ سهل وإليه تلجأ جميع شرائح المجتمع بمختلف درجاتهم وأماكنهم ومراكزهم، فهو في أفواه الأغلبية الساحقة. ومن المؤسف أن الكذب أصبح اليوم عادة سلبية، وحلاً مقدساً ، أخذت تنتشر بسرعة هائلة.وتزداد بشاعته كلما عظمت مكانة مَن تكذب عليه أو تملّقه أو تكون بوجهين من أجل مصالح دنيوية وأرباح زائلة وصداقة مزيَّفة، وكما يحمل صاحبه إلى خلق جو من التذبذب وعدم الثقة والمصداقية مثلاً: بين الزوج والزوجة، بين رئيس الدائرة وموظفيه، بين العاملين ورب العمل، بين الأولاد ووالديهم... وما ذلك إلا دليل على الخوف وضعف الشخصية، أما الإنسان الصادق فهو شجاع إذ يتحمّل مسؤولية أعماله حتى لو أصدر كبار الزمن حكماً كبريائيا بحقه من اجل تبرير انفسهم . وفي هذا المجال تدخل المحطات الاخرى لمسيرة الكذب ، التمليق ، المحاباة ، والمديح الزائد والتباهي وخاصة اذا كان صاحبه بوجهين، والظن السيء والرياء والنفاق والذي يقول نصف الحقيقة او يعكس مفهوم الحقيقة .

     سؤال لأنفسنا
لنسأل أنفسنا: لماذا نكذب؟، هل البشر كلهم ينتحلون صفة الكذب؟، لماذا يكذب بني البشر؟ هل بسبب الخوف؟هل من أجل مصلحة أنانية شخصية وهدفية؟ هل لإبعاد الحقيقة عن الإعتراف بها؟ هل لينجو من مواجهة أو عقاب أو الخروج من مأزق وضع نفسه فيه؟، هل يدرك الإنسان حينما يكذب ماذا يترتب على ذلك؟ والرب قال في وصاياه إلى موسى "لا تشهد بالزور" (خروج16:20) الوصية الثامنة)؟، أيجوز جعل قول الكذب حقيقة؟، وابن سيراخ يقول في هذا الصدد "الكذب عار قبيح في الإنسان" (سيراخ 26:20).
   إذاً دوافع عديدة وأسباب متعددة يضعها الإنسان من أجل تبرير موقف خاطئ ارتكبه، أو تغطية عيب، أو ضعف عنده. فالموظف الذي يتأخر عن الذهاب في الموعد المحدد إلى دائرته قد يكذب ويدّعي أن المواصلات لم تأتِ في موعدها المحدد، أو هناك ازدحام في السير، وتفتيش وسيطرات أو حادث اصطدام. والطالب الذي لم يكمل واجباته المطلوبة قد يكذب ليخلّص نفسه من توبيخ المعلّم، وقِسْ على هذا المنوال.

        الكذب الكذب
   قد يكون الكذب مباشراً أو غير مباشر، وناقل الكذب يعتبر كاذباً أيضاً لأنه شريك في الكذب ونشره (مثل مروّجي الاشاعات)، فالذي يسمع الكذب ويقبله إنما يشجع الكاذب على الاستمرار بكذبه، لذلك فخطيئة الكذب يشترك فيها ثلاثة: الكاذب، ناقل الكذب، متلقي (قابل) الكذب. فالإنسان ينقل خبراً قد يكون جاهلاً حقيقة أمره أو مبالِغاً فيما يسرده من أخبار، أو أن مصادره التي استقى منها المعلومات غير سليمة وقد يكون فاسد النيّة بضمير تجاري مصلحي  فيما يقوله. فالرب قال في وصاياه العشرة لا تشهد شهادة زور(لا تكذب) .. فالكذب خطيئة وعصيان لوصايا الله. فحالة الكذب خطيئة مزدوجة، أي أن هناك خطيئة أخرى دفعته إلى الكذب. فلو كنا نعيش في عالم مثالي لأمكن أن تصدق كل ما يقال، ولكن ما دام الكذب موجوداً في العالم فيجب علينا أن نحقق وندقق قبل أن نصدق. فلا يجوز استعمال أساليب ملتوية، فمهما يبدو الكذب نبيلاً لا يمكن أبداً أن يغيّر من حقيقة أنه كذب، ولا يمكن للأمور أن تستقيم إن كان الكذب هو الأسلوب المتَّبع لإخفاء الحقائق أو لتحقيق مكاسب بأسلوب لا يليق. ومار بولس يقول "اطرحوا عنكم الكذب وتكلّموا بالصدق كل واحد مع قريبه" (أفسس25:4)، وايضا "ابتعدوا عن كلام الكذب" (خروج7:23).
   فنحن هنا نقول: إن الكذب كذب وإنْ اختلف شكله ومضمونه وألوانه، فلا يوجد كذب أبيض أو مقدس أو أسود. فالكذب مهما حاولنا إخفاءه أو معالجته فهو كذب، وما هذه التعابير أو الصفات لتجميل لون الكذب إلا محاولات الناس لإقناع الآخرين بقبول كذبهم، كأن يقول البعض أن الكذب حلال غذا كان هدفه هدفاً نبيلاً أو عظيماً كإخفاء حقيقة مرض خطير عن المريض، أو أدراك الحقيقة ونقلها بأسلوب ملتوٍ محشو بروح كاذبة . واعلم ان الكذب يأتي بمزيد من الكذب، ومثال في ذلك قصتنا مع أبينا آدم، ثم حواء، ثم الحيّة، أغوتهما الحية ليأكلا من الثمرة فيصيران شبيهان بالله، عارفين الخير والشر، فأتت الشهوة بكسر وصية الله، ثم كان السقوط نتيجة الخطيئة بسبب محاولة كل طرف إلصاق التهمة بالآخر، وأخيراً وُجِّهت التهمة لله نفسه وكأنّ آدم يقول لله "لو لم تكن أنتَ قد أعطيتني هذه المرأة لما كنتُ قد أخطأتُ هكذا" (تكوين12:3)، ثم النتيجة كانت الطرد من الجنة... فالكذب في المسيحية غير مباح مهما كانت الأسباب، كما قد يوجد أحياناً في أديان أخرى.
   
        الخاتمة
   ليعلم كل إنسان أن ما يخفيه اليوم أو ربما يهرب منه أو يداريه بالكذب لابدّ أنه سيدفع ثمنه غداً، وهذا هو القانون الطبيعي لا محالة، وسيأتي الوقت الذي فيه سينكشف الكذب مهما طال الزمان، فالمسيح الرب يقول "ليس خفيٌّ إلا سيظهر، ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (لو17:8). ومن المؤكَّد ستبقى الحقيقة تقاوم الشر والشرير وإن لبسا أثواباً ملونة بأصنافها ودرجاتها ومعالمها. والإنسان الصريح والواضح في فكره له الإحترام الكبير من مجتمعه، والإعتراف بالخطأ يزيد ثقة في نفس صاحبها... للاقلاع عن الكذب يتطلب قناعة تامة وتصميماً إرادياً،. ، لذا فالاستقامة والصراحة والوضوح كلها مفاتيح مهمة، ثم التصميم الذي يجعلني أكون حاسماً مع نفسي، فالرب يسوع قال "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (متى37:5) .
فلا تصدق كل ما يقال، ولا تحكم بدون تحقيق حتى لو قالها كبار الزمن أو صغاره ، هم الذين يقولون كلاماً يُظَنّ منه حقيقة، فكلامهم ملون حسب مصالحهم وحسب مشيئتهم من أجل دنيويات زائلة فهو مليء بالمحاباة والتملق والنفاق ، ولاسباب شخصية تدفعهم إلى طمس الحقائق أو إلى الدسّ والإيقاع بين الناس، ولهم رغبة خاصة في إيذاء شخص معين أو جماعة معينة لغايات مشبوهة ومصالح أنانية. فلا يصحّ أن يكون الإنسان سماعاً يصدق كل ما يسمعه، أو يكون توّاقاً لسماع الاتهامات الباطلة،. وفي هذا المجال ما أكثر الاتّهامات التي توجَّه إلى الأبرياء ولكنها كذباً ودسّاً ووقيعة، وللأسف تكون مثل هذه التهم أحياناً محبوكة حبكاً عجيباً حسب مهارة الشيطان في تبرير الشر، وفي كثير من الأحيان تكون أخباراً مختلفة جداً عن الواقع والحقيقة وأخيرا لنصرخ مع المزمّر(2:120 ). " فيا رب نجِّ نفسي من شفاه الكذب ومن لسان الغش" والرب يسوع يقوللا تخافوا ان تعرفوا الحق فهو " يحرركم " (يو32:8) ، ومع غاندي أجعلني أن اقول الحق في وجه الاقوياء .




118
أيها الشباب : أقامكم الرب شهوداً
المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء
بسبب ما يجري في شرقنا وبالخصوص في عراقنا الجريح وفي مسيرة الرحيل، وما نراه من حولنا من ثورات وحروب وتهجير واضطهاد وتفجيرات وتكفير، دأبت الكنيسة المقدسة على إدراك هذه المواقف الصعبة، وأعطت زخماً قوياً لمسيرة الشباب في الكنيسة والمجتمع والعالم عبر عقدها سينودس خاص للاساقفة من الثالث وحتى الثامن والعشرين من اكتوبر الماضي موضوعه "الشباب، الإيمان وتمييز الدعوة". وعملا بايصال صوت سينودس الشباب ، عقدت رعيتنا مار يوسف في بغداد مؤتمراً خاصاً في العاشر من أيار الحالي حمل عنوانً "أنتم مسيرة الإيمان"، دعت فيه العديد من الشباب إيماناً منها بأن الشباب متى يعيشون إيمانهم بإمكانهم أن يكونوا رسلاً لمسيرة الدعوة التي اختاروها، وهذا ما فرضه واقعنا علينا من أجل مستقبل كنائسنا وشبابنا كما هو مستقبل أجيالنا. فشبابنا اليوم يبحثون عن المادة ولقمة العيش وبناء مستقبل حياتهم والتفكير في السفر بسبب الأوضاع الراهنة، ومغريات الحياة ربما استحوذت عليهم وهذا من حقهم في ذلك، هذا من جانب. ولكن من جانب آخر للأرض حقوق، وللوطن حقيقة الوجود، وللكنيسة حقيقة الرسالة والدعوة.

        البابا بندكتس 16
لقد وجّه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني رسالة إلى الشباب في ختام أعماله ودعاهم "أنتم مستقبل الكنيسة وأملها". كما إن البابا القديس يوحنا بولس الثاني وجّه رسالة رسولية عام 1985 إلى جميع شباب العالم قال فيها:"عليكم تعقد الكنيسة الرجاء لأنكم للمستقبل، وعلى عاتقكم تقع مسؤولية ما سيُصبح معكم يوماً ما واقعاً وهو لا يزال الآن عالم المستقبل".والبابا بندكتس السادس عشر يدعو الشباب كي يتغذّوا من الإنجيل، ويقول لهم:"إصغوا بانتباه كلي إلى كلام المسيح الذي بإمكانه أن يغيّركم. فأنتم لستم فقط مستقبل الكنيسة، أنتم حاضرها. فتغذّوا من الكتاب المقدس، واحفظوا كلامه في قلوبكم على مثال مريم. فالمسيح هو الطريق والحق والحياة، وهو يريد أن يكون حاضركم ومستقبلكم، فافسحوا له المجال كي يغيّر حياتكم ويوجّهها فهو ينتظر منكم أجوبة قادرة على أن تُشبع توقعاتكم الأصيلة للحياة. فإذا أردتم اكتشاف مشروع لحياتكم فاصغوا إلى كلام الله فهو يُشبع توقكم ويقضي مشاريعكم".
   
        أسئلة مصيرية
   صحيح أن شبابنا اليوم أمام أسئلة مصيرية وربما تسير عكس التيارات العقلية الحالية. فالشباب اليوم أمام عقلية تدعو إلى حرية مطلقة، حرية "ما يعجبهم" و " ما يشاؤون " ، وربما خالية من القيم والقواعد، وتدعو إلى رفض كل حاجز أمام الرغبات الآنية، وهذا التحرر من المؤكَّد أنه يجعل الإنسان عبداً لذاته ولملذّاته ولعبادة شهواته وأهوائه، إضافة إلى العبودية الدنيوية كالسلطة والمال والطائفية والقومية واللذة وإغواءات العالم وإغراءاته، فيُصبح الإنسان عاجزاً عن إتّباع دعوته الأساسية إلى الأسمى في المحبة والحب. أمام حيرة وتساؤل وتردد، يساور بعضهم القلق العميق حيال المصير، ويبحثون عن مستقبل يطمئنون إليه.

        مسيرة الإيمان
نعم، ماذا تعني "أنتم مسيرة الإيمان... أنتم مستقبل كنيسة الغد" قالها يوما مؤتمر رعية مار يوسف في المنصور ؟، إنه سؤال مصيري، حيث تسألون: ماذا علينا أن نفعل؟، وفي داخل كل واحد منكم تتشابك الأفكار والهموم الحاضرة والمستقبلية والأهواء، ولا زال الطريق في شرقنا فيها شوك وحجارة، وتغيب أمامكم صورة مستقبلكم وحقيقة اختياركم، وتبقى أحلام مسيرتكم تراودكم، وتشعرون أحياناً أنكم مكبّلي الأيادي وأحياناً _ رغم الأزمات والأحداث الأليمة ـ تبحثون عن الأفضل لمسيرة الحياة من أجل التحدث عن المسيحية وقيمها، فتقعون في مشكلة البحث عن مَن يقودكم ويعلّمكم بأن مسيرة الحياة جميلة في لقاء شخصي مع المسيح  من أجل حوار أمين كتلميذي عمّاوس (لوقا13:24-35) عبر تساؤلات وأجبة من أجل أجوبة أمينة وحقيقية، وذلك من خلال التعمّق في الإيمان، والوثوق بمعرفة الذي يرافقكم... وأكيداً أنه يسوع المسيح.
        رسالة ودعوة
   من المؤكَّد أن لكل شاب رسالة يحملها وليس دوراً يؤديه. فالرسالة أعمق وأقوى من الدور، والفرق بين الدور والرسالة هو: أن الدور ينحصر في التمثيل ويستمر ما دامت الأحداث تدور، بينما الرسالة تحملونها في قلوبكم وترافقكم طيلة مسيرة الحياة لتحملونها إلى الآخرين. وبما أنكم تعيشون في وطن مليء بالمتناقضات، ويعاني من هشاشة الأمن والاستقرار سياسياً واجتماعياً، لذا عليكم أن تُدركوا جيداً أن رسالتكم هي بناء وطنكم وتحقيق أماني مواطنيكم وعيش إيمانكم، وكمايقول البطريرك ميشيل صباح ( مطران اللاتين في الاردن سابقا)  "لا يمكن للمسيحي أن يعيش على آلام غيره ثم يطالب بالمواطَنة الكاملة" فلا تختبئوا خلف شعارات دينية أو نداءات قومية لتعبّروا عن إيمانكم الحي وأنتم تُهملون حقيقة ترابكم ومسيرة وجودكم. فرسالتكم هي أن تكونوا جسور اتصال مليئة بالثقة والنزاهة، أساسها الحوار وقبول الآخر، وهذا يتطلّب منكم أن تحملوا تنشئة إيمانية اجتماعية وعقلية ثابتة كي لا تقعوا في تجربة العزلة أو الذوبان أو الفساد ، فأنتم أحرار في ذلك، ولكن عليكم أن تُدركوا أنكم مسؤولون عن غيركم، وفي هذا تقررون مصيركم.وأدركوا جيداً أن إيمانكم ليس نظريات وأفكار فلسفية أو مجرَّدة، ولا هو تنفيذ حرفي لوصايا وشرائع وقوانين جافة، بل هو مسيرة حياة، هو لقاء معرفة مع يسوع لتوطيد العلاقة معه. كما أن المسيحية ليست مجرد شرعة أخلاقية، بل هي لقاء محبة مع يسوع "ينظر إليكم ويحبكم" (مر21:10)، "فلما نظر إلى الشاب أحبه" (مر21:10)، وهو يحب كل واحد منكم شخصياً حتى عندما ندير له ظهرنا كما فعل الشاب لأنه كان ذا مال كثير (مر22:10)، وتجلّت محبة يسوع لنا على الصليب حيث بذل نفسه في سبيل أحبائه (يو13:15).

        نعم... دعوتكم
   فدعوتكم المسيحية هي اقتراح حب من قبل الرب، ولا يمكن تحقيقها إلا بواسطة الحب، وهذا الحب ما هو إلا هبة الذات. فالشاب الغني لم يقبل دعوة يسوع بل مضى حزيناً (لوقا18:18-27) إذ لم يجد الشجاعة الكافية للتجرد عن الخيرات المادية ليجد الخير الأسمى الذي يقدمه يسوع. فيسوع الشاب يدعوكم إلى خيارات أكثر جذرية، فأنتم مدعوون لقبول الدعوة بإيمان والإلتزام مع وضع أسس متينة لعيش حب أكبر وأمين ومنفتح على هبة الحياة، وقد قَبِلها قبلكم شاوول (بولس) الذي قال:"لقد أحبني وبذل نفسه لأجلي" (غلا20:2). فلا تخافوا أن تغوصوا في المحبة التي عمقها الأخوّة الإنسانية، لأنه إن حييتم منفردين في محبة الله لن تحظون أبداً بثمار الحياة، لأنه لا يمكن حب الله الذي لا ترونه ولا تحبون أخاكم الذي ترونه" (1يو20:4). وتشير الوثيقة الختامية لسينودس الاساقفة للشباب ، "الى أن الله يكلّم الكنيسة والعالم من خلال الشباب الذين إذ يحملون قلقاً سليماً يمكنهم أن يكونوا سبّاقين، ولذلك ينبغي قبولهم واحترامهم ومرافقتهم. إن يسوع لا يحرمنا الحرية بل يحررها لأن الحرية الحقيقية ممكنة فقط في إطار الحقيقة والمحبة، ويرتبط مبدأ الدعوة بمبدأ الرسالة ارتباطاً وثيقاً أيضاً. وكل حياة بالنسبة لله دعوة، وكل دعوة معمودية هي دعوة للجميع،  إلى القداسة" .
        كرامة الإنسان
   نعم، أنتم مسيحيون، وهذه أرضكم ، وأنتم في ذلك تشكّلون نسبة من سكان هذا البلد، لذا فأنتم مواطنون وأصلاء ولستم أقليّة. فلا تخافوا من هذه التسمية، ولا تنكمشوا على ذواتكم أو تهربوا أمام صعوبات تلاقيكم في هذا السراط، أو تتعرضون لخيبة أمل قاسية، فعددكم قليل وهذا لا يعني أبداً أقل مواطَنة، فأنتم لستم عدداً بل مواطنون، وحقوقكم يجب أن تكون على هذا المقياس ولكم الحق، وعليكم ما لغيركم، فأنتم كرامة الإنسان وبالتالي أنتم كرامة الله نفسها. ويقول المطران لحّام ( مطران الاردن سابقا) لا تخافوا أن تكونوا الخميرة والملح من الداخل وليس في الجوانب، والمسيحي الذي هو ملح العالم يجب أن يكون في داخل العالم لا بجانبه ولا على الهامش. فكونوا أمناء على رسالتكم، لأن صاحب الرسالة أمين تجاهكم، " لأنه هو الذي انتدبكم إليها وهو أمين " (1كور9:1).لذا عليكم أن تُدركوا أن هذه أرضكم، وتعلّقكم بها يعني مسيرة حياتكم. فما عليكم إلا أن تكونوا _ كما يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني:"كونوا شعلة نار القيامة التي أضاءها المسيح. تسلّحوا بالروح القدس، وفجّروا طاقاتكم الروحية والفكرية في سبيل خير الإنسان. فلا تخافوا، فأنتم مستقبل الكنيسة".

منعطف خطير
   نعم ، مسيرة عيش شبابنا تتفاعل اليوم، فيها أفكار ونظريات على مختلف الأصعدة، دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكأنكم في سباق إلى حريات شخصية ونظريات جديدة في مسيرة الحياة. ولاشكّ أن من حق أي شاب أو إنسان أن يوظّف طاقاته وقدراته وإمكانياته من أجل بناء مستقبل أفضل. نعم، هذا المنعطف منعطف خطير واساسيّ لمسيرتكم ومسيرة الوطن، إنه تاريخ وطننا وكنيستنا وهو يجبرنا أن نعيش في صراعات عديدة، فلا الماضي يرضينا ولا الحاضر يفرحنا ولا المستقبل يشجعنا... ما العمل؟، هل نراوح في أماكننا؟، هل نسكت أمام ما يجري حولنا؟، أنبقى متفرجين وكأن الأمر لا يعنينا؟. أظنّ أن هذه المواقف ليست مواقف إنجيلية بل بالعكس، فالأمر يعنينا جميعاً. فحاجتنا اليوم إلى شباب مسيحي ناضج، متّحد، يُدرك غايته، يحيا دعوته، يقاسم رسالته، فالبابا فرنسيس يقول:"تحمّلوا مسؤولياتكم في جميع الحقول التي تنفتح أمامكم في عالمنا لتغيّروه، وتجعلوه أكثر إنسانية وأخوّة، وفي الوقت نفسه مشدوداً أكثر إلى الله".

الخاتمة
   أنتم معروفون بشغفكم للحق والحرية والخير والجمال، ورسالتكم أن تميّزوا بين الحقيقة والكذب، وبين ما هو إنساني مصلحي وما هو دنيوي. لذا عليكم أن تتمسكوا بهذه الخصال، واصمدوا أمام التيارات الزائفة وفي وجه محاربيها، كونوا شهوداً للحقيقة في أن تحملوا الإيمان والإنسانية كتلاميذ حقيقيين للمسيح يسوع، فيوحنا يقول:"أكتب إليكم أيها الشبّان لأنكم قهرتم الشرير، ولأنكم أقوياء، وإن كلام الله مقيم فيكم" (1يو13:2-14).
   وأختم وأقول نعم ، إنكم تفكرون بطريقة مختلفة عن والديكم ورؤسائكم، وقد لا يرضى الكبار دوماً عن آرائكم وعن تصرفاتكم، ويسوع يقول:"دعوهم" واعملوا ما يأمركم به "(يو 5:2) . لكم شخصيتكم ولكم مواهبكم المختلفة ولكم دعوتكم ومهمتكم الخاصة التي لا بديل لها ولا ينوب عنها غيركم. عيشوا حياتكم ودعوتكم، واذهبوا "واعملوا في كرمي" يقول الرب يسوع (متى4:20-7) فقد "أقامكم الرب شهوداً" (أع8:1).فأنتم مسيرة الايمان بل أنتم اكثر من ذلك شهود للمسيح القائم فلا تترهلوّن نتيجة تراكمات الحرب وعدم وجود خارطة طريق واضحة من أجل اعتمادها وتطبيقها بشفافية وكأنكم تتخبطون في حلقة مفرَغَة بسبب الحروب. فالكنيسة أعطتكم الإرشاد جواباً ولم تعطكم  حلاً اجتماعياً وسياسياً، لأن الحل مرتبط بكم ، فاحملوا هذه الرسالة أن تكونوا شهودا للحقيقة فهو المسيح الحي الذي اقامكم شهودا " (مرقس 15:16)عبر ايمان معاش لحياة انسانية مسيحية حقيقية، والبابا فرنسيس يقول " أن ثقافة اللقاء هي نداء ودعوة للتحلي بشجاعة أن نبقي حيًا حلمًا مشتركًا. حلم كبير قادر على إشراك الجميع... حلم اسمه يسوع... حلم يجري في عروقنا ويحرّك قلوبنا كل مرة نسمع "أحبُّوا بعضُكم بعضًا. إذا أحبَّ بعضُكم بعضًا عرفَ الناسُ جميعًا أنَّكم تلاميذي".(يوحنا 13، 34 -35) ( اللقاء العالمي للشباب 2019 ) وأن تكونوا شهودا كونوا في محبة الحياة  .نعم وامين.   



120
بمناسبة صلوات الشهر المريمي
مدعوون مع مريم

المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
واقعنا عالم في بلبلة متواصلة، وشعبنا في مسيرة مشوَّشة، والإضطرابات تتعاقب، والمآسي هي من صميم تاريخ البشرية، والإرهاب لا زال يعمل في عدة محاور ليفسد مسيرة الحياة، وحب الأنا وإكراه الآخر من مقدسات الحياة، وحقيقة الدنيا بفساد كبار زمانها، والكذب رسالة سامية يحملها الحاقدون والكارهون لتشويه صور الأبرياء لغايات في الغيرة والكراهية، وازداد عدد التجّار الذين يتاجرون بقدسية الحقيقة والوجود بسبب ضياع كرامة الإنسان وحقيقة الحياة .
وفي عالم كهذا، يشعر العديد من ذوي الارادة الصالحة وفقراء الروح ونحن أبناء الله إننا معزولون ويائسون، ويأخذ الشك محله، والتجربة الإيمانية تهب قوية لفتور السبل المسيحية... أمام كل هذه البلبلة أدركتُ عبر تأملي نحو مسيرة مريم أن الرب يريد أناساً ممتلئين رجاءً لا يخيب، رجاءً موعده في الله الآتي إلينا، وليس الرجاء الذي يعطيه انسان الدنيا وكبارها ومواعيدهم ،  وما هذه الدعوة إلا أن نذهب إلى مريم كما ذهب صاحب العرس في قانا ونقول لها "لم يبقَ معنا خمرٌ" (يو3:2).
   مريم رحمة
   يعلمنا الكتاب المقدس أن كل ما خلقه الرب هو" حسن" (تك1) ، وأن أهم حَدثٍ في التاريخ حَدَثَ على ألأرض هو تجسد الرب من مريم في مغارة. فمنذ خطيئة الإنسان الأول بانت رحمة الله، فغفر للعائلة الأولى، وجعل عداوة بين الحيّة والمرأة بانتظار أن تأتي بنت حواء "مريم" لتدوس رأس الحيّة (تك15:3). وعبر نشيد الرحمة الذي انشده زكريا الكاهن ، بهذه الرحمة وعد الله الآباء (لوقا 72:1) ، وعد بها شعب عرف أنه مدعو لكي يحمل اسم الله، ولكن وعده لم يتوقف عند زمن من الأزمنة بل هو وعد لجميع الأزمنة إلى أن يأتي وقت يجمع الله في المسيح كل ما في السماوات وعلى الأرض ( لوقا 75:1). فالعهد الجديد ما هو الا بداية ثانية للعهد القديم، إنه عمل الله الذي وعد فكان صادقاً في وعده "فأرسل الله ابنه مولوداً من امرأة.." (غلا4:4). حَدَثَ في تدبير الخلاص، أرسل الله ملاكه (لوقا 26:1)  والملاك يدلّ على حضور الله ـــ إلى عذراء في الناصرة. إنها مريم، مخطوبة شأنها شأن كل فتيات عمرها. لم تتميز مريم في الخارج عن بنات الناصرة، بل اختيار الله لها هو الذي يميزها. ونداء "السلام عليكِ" نداء الفرح والسلام، هو البركة التي تملأ قلوبنا وحياتنا وبيتنا. نالت مريم ملء البركة "ممتلئة نعمة" ( لوقا 28:1) ، نالت أن تكون أمّ ابن الله،  حين أعطانا الله ابنه أعطانا كل شيء، وكانت مريم أول مَن تسلّم هذا العطاء فانتقلت مريم من الإصغاء إلى الخوف والسؤال قبل الجواب النهائي "أنا أَمَةُ الرب" (لو38:1).
   مريم مسيرة 
من هنا تميزت مسيرة مريم عن أي مسيرة بشرية أخرى، وعرفت أنه يكفي للمؤمن أن يرى الحاجة لكي يلبّيها.ها هي ذي العذراء في مسيرة نحو اليصابات( لوقا 39:1  ) ... كما هو الحال مع السامري في مسيرة نحو العمل الصالح (لوقا 25-37) . حملت مريم يسوع ليحمل إلينا يسوع بركات وحب الآب السماوي لأبناء البشر. فما حصل لمريم من أمومة ومن قبض نور هو ما يحصل لنا نحن أيضاً إذا عرفنا كيف نسمع كلام الله ونعمل به( لوقا 30:1   ) ، وكيف نستقبل الله في قلوبنا فيكون لنا قبض نور. قبلت مريم كلام الله "وكانت مريم تحفظ هذا الكلام وتتأمّل به في قلبها" (لو19:2). بهذا الكلام وبهذا التأمل بلغت مريم أسمى درجات الكمال في حياتها وطاعتها للرب. إنها التلميذة الأولى التي جسّدت نموذجاً للحياة الجديدة في المسيح. لقد فتحت مريم لنا طريقاً جديدة لنلتقي إبنها، إنه طريق الصلاة والتأمل والرجوع إلى الذات والخضوع لإرادة الآب. هكذا أصبحت مريم طوباوية، واشتركت في المهمة الرسولية فعاشت المسيح وشهدت له. ولم تؤسس الكنيسة ولم ترأسها بل رمزت إليها وعاشت دعوتها كأمّ تلد أبناءً جدداً لحياة جديدة... إنها المؤمنة والمعطية والمتأملة والمتألمة مع ابنها، إنها أم الكنيسة .
   مريم سراج
إذاً علاقة مريم بيسوع ـــ قبل أمومتها الجسدية له ـــ هي علاقة على مستوى الإيمان بالبشرى والطواعية التامة لإرادة الله. تكون مريم مثالاً للعلاقة الإيمانية التي تربط كل مؤمن بيسوع وتوطّد معه أواصر القربى، لا مكان للحم والدم فيها ( متى 17:16) بل فقط للإيمان بالبشرى التي أتى يسوع من أجلها. نعم، مريم هي حقاً أمّ يسوع بالجسد، إنها الجسدية، فملاقاتها بابنها هي أبعد من أن تشرحها العلاقة البشرية التي تربط الأمّ بابنها.لقد برهنت مريم خلال حياة يسوع وبعد قيامته وصعوده وببقائها بين التلاميذ الأُوَل على أنها الشاهدة الأولى لابنها، لقد كانت حقاً سراجاً مضيئاً أمامهم(يو 35:5)  ينير دربهم ويهديهم إلى المسيح، وهكذا بقيت وما زالت في أيامنا ـــ بواسطة ظهوراتها ـــ نوراً يهدي الناس إلى الإيمان.
مدعوون مع مريم
مع مريم نحن أبناؤها وأبناء الله في آنٍ، ومع يسوع نحن أخوة وأبناء الله في آنٍ، ويكون الحظ لكل منا بأن يكون بدوره لا مسيحاً فقط ولا ابناً تابعاً لمريم بل يكون بدوره مسيحاً آخر وابناً لله، وبدوره يكون ـــ على غرار أبينا الذي في السماوات ـــ أباً للآخرين وأخاً بالرحمة. بعد أن ألغى الإنسان الله ألغى أخاه وقتله، أما مريم فراحت تحمل الفرح إلى مَن ماتت فيها قوى الحياة ( اليصابات)، وبهذا سارت مريم مسيرة معاكسة لبداية الخليقة. بدأ الإنسان يرفض الله فكانت الخطيئة، وجاء جواب مريم كجواب الإنسان على نداء الله وفق مخطط المحبة الذي وضعه الآب منذ الأزل. على هذا المستوى الإيماني نحن مدعوون مع مريم لأن نبني على الأرض عائلة، عائلة الله الآب التي أتى يسوع ليجمع إليها وفيها كل المؤمنين بالله. إن الروابط التي ترتكز عليها هذه العائلة أقوى بكثير من روابط اللحم والدم لأنها تبقى للحياة الأبدية، أما روابط اللحم والدم فتزول مع زوال الحياة.
مريم بشرى
إن مريم كانت خادمة للبشرى، بشرى الخلاص والسلام. في قلب هذه البشرى تجد مريم مكانها الحقيقي وتلقى الإكرام اللائق بمقامها. البشرى السارة "الإنجيل" تلقّتها مريم وآمنت بها فنشأت علاقة كيانية. فالبشرى ليست خبراً بل هي شخص ابن مريم... إنها بشرى يسوع المسيح ابن الله الذي صار إنساناً. ببشارة الملاك أصبحت مريم مؤتَمَنة على ابن الله الذي أخذ إنسانيته منها، ووقَّفت حياتها على خدمته.إن هذه البشرى "الإنجيل" كانت محجوبة عن الجميع إلا عنها هي. لقد عاشتها في العمق كما تعيش الأمّ خبرة الأمومة " أما مريم فكانت تحفظ هذا الكلام كله وتتفكر به " ( لوقا 19:2). عاشتها بخبرة إيمان فريدة جعلتها تزداد يوماً فيوماً بثقة وتعلّق بالذي اختارها، فكانت معه في مسيرته حتى النهاية المفجعة على الصليب مشاركة له سر الخلاص ، ومن ثم القيامة المجيدة ، والصعود إلى السماء. ويمكن القول أن مريم كانت المبشِّرة الأولى بابنها، والخبيرة بامتياز في سرّ ابنها، وهي بالتالي مثال وقدوة لكل مؤمن، بل لكل رسول .
صوت مريم
على هذا المستوى الإيماني نحن مدعوون مع مريم للسير نحو الاخر حاملين معها المسيح ونوره وبشارته فهي تقودنا لتقول لنا " افعلوا ما يأمركم به"(يو5:2)  كي نكون معها بناة لارض السلام والمحبة،  رغم جريمة داعش ، ومنصتين الى صوت مريم بعدما اعلنّا "ليس لهم خمر " ( يو2:1-11)  ولم يعد بامكاننا ان نواصل العرس بسبب فسادنا وكراهية شبكة عيوننا اللذان لايسمحان لنا ان نرى الا انفسَنا . نعم ، لقد فتحت لنا مريم طريقاً جديداً لنلتقي ابنها، إنه طريق الصلاة والتأمل والرجوع إلى الذات والخضوع لإرادة الآب. لنسأل ؟ هل سمعنا نداء الرب كما سمعته مريم؟ ام لازلنا نلهو بالدنيا وما فيها ونعمل من انفسنا الهة الدنيا بعد ان اصبحنا عبيدا للحقيقة المزّيفة ، والكراهية المشروعة،  والفساد المقدس ،  وننسى ان الاله الحقيقي في المذود بيته ، ومع الابرص والاعمى مسلكه ، وعلى الخشبة موته ، ونحو السماء كانت قيامته ، فلننتبه لئلا يسيطر علينا الضباب والقلق والتراخي،وتجارة الحقد والكراهية ، وتشويه سمعة الاخرين ،  وربما بدأ يعشعش في صدورنا كما سيطر على واحات مسيرتنا ،  فإذا ما أصابنا ذلك ليس لنا إلا أن نعود بتصحيح مسار الضمير ، وحقيقة الايمان ، ومسلك الحياة ، وبكل ايمان وثقة .
في الختام
 لنسمع ثانية صوت مريم ، ولنجعله يتردد في داخلنا "هأنذا أَمَةُ الرب" ( لوقا 38:1)، فالله اختار مريم لمهمة ما بعدها مهمة،إنها سماوية أرضية ، الهية بشرية ، اشترك فيها الاله والانسان، وهو يختار كل واحد منا، للشهادة للحقيقة دون كذب او رياء ،  والحقيقة تدركها السماء كما ادركت مريم حقيقة الحياة فآمنت واعطت حياتها .  عسى ألا يكون جوابنا ابن ساعته فنرى مصالحنا وننسى حقيقة مسلكنا ، فنصرخ " اصلبه اصلبه" (لوقا 21:23)  ، بدل " لم يبق لنا خمر"  من اجل طلب معونته في العمل اليومي خدمةً ومحبةً وعطاءً، شهادة لحقيقة الحياة وطاعة لرب السماء وفي ذلك نحن مدعوون مع مريم وهي مثالنا نعم مريم مثالنا ، نعم وامين .


121
حقيقة وطنٍ ام حقيقة ايمانٍ

المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
إنني أجد نفسي اليوم أمام حسرات لا تنتهي وتأوهات لماضٍ قد مضت أيامه بسوادها وهجرِها، وتألمت كثيرا لما احتمله آبائي وأجدادي بسبب الكراهية التي حملها الآخرون المختلفون فحُسبوا فيها أعداءٌ بسبب مسيرتهم المسيحية الايمانية ، وبسبب عنصرية الإنسان وحقده تجاه المختلف عنهم ديناً وعِرقاً وطائفةً. واليوم لا زال التاريخ يعيد نفسه بمجاميع أخرى وبأسماء متعددة، وأدركتُ أننا أمام ضياع أكيد بسبب تراجع قيم الإنسان، وبتُّ أخاف من تسميات دينية تتحدث باسم الله، وباسمه تعالى يكون العنف كلمة قاتلة ومسيرة تكفيرية، وهم في ذلك ليسوا إلا آلهة مزيفة عبر مخططات همجية بائسة من أجل إراقة دماء المصلّين الأبرياء وضحايا الشعوب الفقيرة وكلها باسم الدين ـــ والدين منهم براء ـــ عبر كراهية حاقدة من أجل إبعاد الأصيل والأصلاء، وإلى إفراغ البلدان وتهميش المكونات.
تطرف ديني
   ظهرت في هذه السنين الأخيرة تيارات دينية متشددة، وإنْ كانت في الماضي هذه التيارات تُحسب من التيارات الهادئة والقريبة من الآخر، ولكنها اليوم لا تقبل المساواة بين المؤمنين في ديانات مختلفة، ولا تحمل إليهم استعدادها من أجل بناء دولة مدنية لأنها ترفض المواطنة، وهذا ما يجعل التطرف الديني سائداً في مسيرة الحياة ويعمل على إقصاء الآخرين بعيداً، كما لا يزال تلوح باستمرار عصبيات طائفية تقسم بين المؤمنين وتفرّق بين الشعوب باسم الله الواحد الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله
(تك 27:1)، وفي ذلك يكون القتل والسلب والإرهاب مساراً باسم الله، بينما البابا فرنسيس يقول في وثيقة الأخوّة الإنسانية "لا يجوز القتل باسم الله".أمام هذا كله تدعونا الحياة إلى عدم تسييس الدين لخدمة مصالح معينة، بل يجب احترام جميع الأديان والحريات والسهر على عدم تحويل الدين إلى طائفيات، وهذا يتطلب مواطنين قادرين على معانقة إخوتهم جميعاً وليس بعضاً منهم، ومن هنا ينشأ المشروع الوطني ويعمل على بناء وطن للجميع وفوق الجميع، وهذا ما ننادي به ولكنه لم يتحقق حتى الساعة، فما زال هناك تفرقة وتفضيل مواطن على مواطن بسبب دينه، ومؤمن على مؤمن بسبب قرابته وطائفته، بل ما زال هناك اعتداءات ودمار وحقد وكراهية. فما نحتاج هو تربية المؤمن على أنه إنسان، فكلنا بالخلق إخوة، وكلنا في الوطن سواء ، وفي هذاالصدد يقول الامام علي " إن لم يكن اخوك في الدين فهو نظير لك في الخلقة "
وطن ومستقبل
   علينا أن نطرح سؤالاً على أنفسنا وعلى الذين يعملون معنا: أي نوع من المؤمن المسيحي أو المسلم أو الصابئي أو الإيزيدي نعدّ!؟، أي مستقبل نعدّ للوطن ونعدّ أجيالنا لحمل مستقبل وطننا!؟، كيف نربي أطفالنا وأجيالنا لمستقبل الحياة في التعايش المشترك وقبول الآخر؟، ما هي الأسس التي عليها نبني إيماننا؟، أي نوع من المواطن نعدّ للمستقبل الآتي، وأي مستقبل نعدّ للوطن؟، هل نعمل لوطن واحد متماسك بمختلف مكوناته، أم نعمل على نشر روح الطائفية والمحاصصة كما هو الحال اليوم عند الكثيرين من كبار الزمن؟، أي نوع من المؤمنين نريد؟، هل نريد أو نعدّ أن يكون المواطنون مؤمنين أم أن يكون المؤمنون مواطنين!؟، هل مصلحة الشعب هي مصلحة الله؟، هل نحمل إلى الآخر محبة إيماننا "أحبوا بعضكم بعضاً" (يو12:15)؟، ألا ندرك أنه سيأتي يوم ـــ بل نحن في هذا اليوم ـــ الذي فيه بدأنا نحصد ثمار الحروب القاتلة وتدمير الشعوب البائسة وبالخصوص إذا كان كل ذلك باسم الله والدين!؟ لذا أسأل: هل يجوز وضع مصالح الشعب ومصالح الأوطان من أجل مصلحة الله، وفي ذلك يقول سعد زغلول "الدين لله والوطن للجميع"؟.
حقيقة وحياة
   بما أننا اليوم أمام إرهاب العنصرية الحاقدة والطائفية المتطرفة والتي زُرعت حتى في قلوب أجيالنا وأطفالنا فأنتجت عقلية كارهة للأقلية وللآخر المختلف، هذه الشرور يجب أن تجعلنا أن نأخذ مصيرنا بيدنا، فالوطن لا يُبنى على رمال الفاسدين وجالسي الكراسي المسروقة ، وإنما على صخرة المؤمنين المخلصين والمحبين، وهذا يدعونا إلى خوض صراع مرير كي ننقذ الدين من حقيقة الحياة والوجود،. ولنترك جانباً جدلية العلاقة بين الدين والسياسة لنحيا الإيمان بحقيقته. وعلينا جميعاً أن نتضامن من اجل هذا المسار كماعلينا أن لا نتمسك بقشوره .فالمحرمات حددها الله في كتابه ولا يستطيع كائناً مَن كان أن يزيدها محرماً واحدا، وننبذ الإرهاب والمحاصصة والتطرف  التي يلهو بها كبار زمننا، وكما تقول وثيقة الأخوّة الإنسانية "يجب وقف دعم الحركات الإرهابية" بجميع أشكالها من أجل السير نحو مستقبل أكثر إنسانية.
البابا فرنسيس
   وفي خطاب البابا فرنسيس قبل توقيع وثيقة الاخوة الانسانية في الامارات يوم 4 شباط الماضي قال  " إن استعمال اسم الله لتبرير الكراهية والبطش ضد الأخ إنما هو تدنيس خطير لاسمه فلا وجود لعنف يمكن تبريره دينياً ، ولا يجب على أحد "استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى أو استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش. وتقول وثيقة الأخوّة الإنسانية " إن التديّن الحقيقي يقوم على محبة الله من كل القلب، ومحبة القريب كمحبتنا لأنفسنا، وبالتالي يحتاج التصرف الديني لأن ينقّي على الدوام من التجربة المتكررة لاعتبار الآخرين أعداء وخصوم" . فكل ديانة مدعوّة لتخطّي فجوة التمييز بين أصدقاء وأعداء كي تتبنّى وجهة نظر السماء التي تعانق جميع البشر بدون محاباة وتمييز.
ختاماً
   لنتمسك بقيمنا وآمالنا وما يجمعنا، فالعديد من النقاط تعطي زخماً لحروف الحياة بغضّ النظر عن مَن نكون أو المكان الذي جئنا منه. فلنعمل من أجل التغلب على هذا الظلام، فقول طاغور عظيم لمسيرة الحياة "الإيمان طائر يشعر بالنور حينما يكون الفجر ما زال مظلماً". لقد حان الوقت لنسأل عن الدور الذي لعبتُه: هل هو دور الطائفية والمحاصصة أم دور الإنسانية والأخوّة؟، فنحن لا زلنا اليوم نفتش عن مصالحنا وتبجيلنا وننسى أن يوحنا الرسول قال:"إن قال أحد أني احب الله ويبغض أخاه فهو كاذب، لأن مَن لا يحب أخاه الذي يراه كيف يستطيع أن يحب الله الذي لا يراه" (1يو20:4). فالانسانية ليست اعداء وخصوم،  وإنما مواطنون ومؤمنون،  والوطن رسالة سامية كما ان الايمان رسالة عقيدة،  ومن يحيا حقيقة وطنه يحيا حقيقة ايمانه .فالمسيح الحي يقول " ما من حب اعظم من هذا ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه " (يو 13:15) فكلنا في انسانيتنا احباء الله، وكلنا في ايماننا نحيا لله ،  وفي ذلك يقول القرآن الكريم " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (سورة القصص؛ آية 56).نعم وامين


122
الإرشاد الرسولي والأخوّة الإنسانية
رسالة حوار واحدة لعيش مشترك في مسار السلام

في البدء
ظلّت المسيحية ـــ وحتى اليوم في شرقنا ـــ تلعب دوراً هاماً وعلى مدى قرون، وها هي اليوم تواجه التحديات القاسية، فاصبحت ضحية للسياسات المصلحية والطائفية التي يقودها كبار زمننا، وجالسو الكراسي المسروقة ،  وإن كان أبناؤنا لا يدركون هذا الواقع الأليم جيداً بسبب تطييب الخاطر في صور احترام عديدة من اجل البقاء وعدم الرحيل ، ولكن رغم كل ذلك يجعلنا الواقع أن نسأل، بل يدفعنا إلى التساؤل: هل هناك مستقبل للمسيحيين في شرقنا الجريح؟، ومَن يتحمّل أخطار هذا السؤال؟. فهم لحدّ اليوم يعيشون في أوطانهم رعايا وليسوا مواطنين، فلا اعتراف بحقوقهم إلا ما يحلو لدستور الأغلبية وحقيقة إيمانها. فرسالة الحقيقة والوجود عبر حوار العيش مخيفة، والقضاء على الهوية أصبح بأيدينا فليس لنا إلا قول الحقيقة في وجه الزمن ، ولنقلها دون أية رتوش أو مبالغة. نحن اليوم أمام عالم أضاع القيم والمبادرة، الحقيقة والاصالة ، كما ضيّعنا البوصلة والإتجاه، وهذا ما يدعونا الى ان  نتصرّف على صورتنا الحقيقية والتي تُخرجنا عن تشوّهاتنا.

الوجود المسيحي
إن الوجود المسيحي كان ولا يزال يواجه خطر الزوال، وهذا يعني أنه لن يرحل الجميع بل من المؤكَّد أنه سيبقى هناك عدد ضئيل جداً منهم في شرقنا وفي وطننا الجريح، ربما بضعة آلاف أو مئات كما حصل يوماً في تركيا مثلاً. فبالحقيقة إن المسيحية هناك انتهت كوجود فعّال والسبب كان ولا زال ذلك التطرف الديني بتشويه مسيرة الحوار وتدمير التعايش وقبول الآخر المختلف وخاصة المختلف دينياً، فهذا التطرف ليس إلا مسيرة معادية لمسيرة السلام وللوجود المسيحي بل لوجود الانسانية ، فكان أن انتهى. وفي هذا الصدد يقول الإرشاد الرسولي كما وثيقة الأخوّة الإنسانية "إن إفراغ الشرق من مسيحييه هو أقسى جريمة تُرتَكَب ضد المسيحية على الإطلاق. فالشرق دون مسيحيين، شرق بلا حوار. فالمسيحية التزمت الحوار ولا رجوع عنه، لانها نبع الشرق هذا وتاريخه، ومنه يشعّ نور بشارة المسيح الحي". فالمسلمون مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ عن بقاء المسيحية وكل مكوِّنات الشرق وعلى قاعدة المساواة.

الارشاد الرسولي
يقول الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط ـــ والذي وقّعه قداسة البابا بندكتس السادس عشر عام 2012 ـــ وسلمه الى رؤوساء كنائس الشرق الاوسط الكاثوليكية  في عدد (28):"إن أنظار العالم كلها متجه صوب الشرق الأوسط حيث الإضطرابات المستمرة والإرهاب المميت والتعايش المخيف والكراهية الحاقدة"، وعبر هذا كله تصاغ أسئلة مخيفة تنذر أحياناً ـــ بل في كثير من الأحيان ـــ بانتهاء الوجود المسيحي التاريخي، وربما يكون في طريق انقراض منظَّم إنْ لم يتغير شيء على أرض الواقع لتغيير النظرات والأهداف بسبب افرازات الماضي الأليم وسياسة المحاصصة والصراعات الكرسوية، إضافة إلى الانقسامات المذهبية والتي بسببها كانت الحروب وأصبحت اليوم بضاعة يتاجر بها المستفيدون كما يشاؤون.

الاخوة الانسانية
قالها البابا فرنسيس في خطابه في الأخوّة الإنسانية "لا يمكننا أن نكرم الخالق دون أن نحافظ على قدسية كل شخص وكل حياة بشرية ، لذا لا يجوز استعمال اسم الله لتبرير الكراهية، ولا يوجد دين يبرر العنف، ولا يجوز لأحد استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى"،. فالحروب لا تجلب معها انتصاراً بل تجلب دماراً ومزيداً من الكراهية تورَث للأجيال القادمة.كما قال قداسته:"إن التعدد الديني هو تعبير عن التنوع والاختلاف بين الأخوة، وهذه شجاعة الاختلاف هي روح الحوار الذي يقوم على صدق النوايا. فليس بالإمكان أن نعلن الأخوّة ونتصرف بعدها عكس ذلك. فقد قال أحد الكتّاب المعاصرين: إن الذي يكذب على نفسه ويصغي إلى أكاذيبه، يصل إلى حد عدم القدرة على تمييز الحقيقة لا في داخله ولا من حوله، ويبدأ بفقدان احترامه لنفسه وللآخرين". لذا فالحوار الواحد يقود إلى التعايش المستمر لأنه حمامة سلام. ولكي تحلّق الحمامة في حقيقة الوجود فهي تحتاج إلى جناحين يرفعانها، جناح تربية الحوار وجناح العيش الواحد في قبول الآخر من أجل حقيقة السلام الدائم. إنه التزام ومعرفة من اجل حقيقة الآخر، كي لا يضيع مسار السلام.

حوار وجسور
أقولها: الدين حوار، ورسالة السماء من أجل الإنسان هي عيش مبادئ الحقيقة وقيم الحق، ولكنه ينقلب إلى حالة سلبية عندما يُدار بأيدي مجموعة من المتعصبين مِمَّن نصبوا أنفسهم ناطقين بلسان الحق، يحلّلون ويحرّمون، يفسّرون جانباً ويغفلون جوانب، فيرفعون شعارات التعصب وإلغاء الآخر، ويدعون إلى فرض لائحة من اللاءات والمحرَّمات... إنها قنابل عنقودية مؤقتة لتفجير الثقافات والصراعات الدينية والطائفية.وطريق الحوار هذا دعت إليه الكنيسة والأحبار القديسون ومنهم قداسة البابا فرنسيس، ولا زالت على مرّ أزمنة التاريخ. فالكنيسة تريد متابعة بناء جسور الصداقة لأن ذلك مساهمة حقيقية وقيّمة في بناء السلام، فقد غدا لزاماً علينا جميعاً الانخراط في حوار نابع من العقل النيّر، حوار مبني على احترام كرامة وحرية كل شخص، حوار يرى فيه كل إنسان في الآخر تتميماً له وليس نقيضاً. فالحوار اليوم ليس خياراً إضافياً بل هو ضرورة حيوية يتوقف عليها مستقبلنا، وقد لا يخلو من الصعاب ولكنه يتطلب صبراً لا حدود له.فالمسيحيون والمسلمون مدعوون جميعاً للمُضي قُدُماً مهما اشتدّت الصعاب، ولا يمكن للاختلاف أن يكون سبباً للمشاحنة والاقتتال وقد سبقنا في ذلك قداسة البابا فرنسيس إذ بدأ يرسم لنا طريق الحوار بكل هدوء وصمت وصلاة.وهذا ما يدعو اليه الإرشاد الرسولي ووثيقة الإخوّة الإنسانية فهما يناشداننا بأنه لا بديل آخر إلا عبر الحوار والتعايش، فإمّا أن نبني المستقبل معاً وإلا فلن يكون هناك مستقبل. فلا يمكن للأديان أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان وبكل شجاعة وإقدام أن تظهر رؤية ملؤها الرجاء واتّخاذ مسار السلام الحقيقي، فالسلام أثمن عطية وأثمن من كل المكاسب، من اجل العمل معاً وقُدُماً في درب الحوار، وعِبْرَ حوارٍ أكيد، بل واجب، من أجل عيش السلام في بلاد الله الشاسعة، لمنع دخول الحقد والكراهية والعدوانية قلب الإنسان".

    الحوار رسالة
ولنعلم أنَّه مهما كان الحوار طويلاً أو قصيراً، صعباً أو سهلاً، فهو رسالة سماوية، رسمها الله لنا من أجل العيش والمسامحة. فالكتاب عندنا يقول "إِذهبْ وصالِحْ أخاكَ، ثُمَّ عُدْ وقَرِّبْ قُربانَكَ" (متى23:5-24)، يعني: إذهبْ وحاوره، لكي يتطهَّر القلب، وتصفى النيَّة، ثمّ تقدِّم الذبيحة.لذا علينا أن نثلم أسِنَّة الرماح، ونكسر كبرياء السلاح، ونبتعد عن أعمال العنف والدمار، من أجل تعزيز وتمتين وصقل سلاح الحوار لتكون رسالتنا رسالة الإعتراف بالآخر المختلف، وحقوقه في المحبة والغفران، لأنهما أساسان جوهريّان لبناء السلام، عِبْرَ فتح قلوبنا للآخرين. ووفق الإقرار بالتعددية والإيمان بها، لذا كان من المنطق والعقل أنْ يتوصَّل البشر إلى قانون يمنع التعرّض لمقدَّسات الناس، ما دام جميعهم مؤمنين بأنبيائهم ورسلهم وإلهٍ واحد. والحوار طرقه التواضع والتسامح، فقد قال الخليفة عمر بن الخطاب (رض) "إذا سَمِعْتَ الكلمةَ تؤذيكَ، فَطَأطِئ لها حتَّى تَتَخطَّاكَ". ومرةً رأى رجلاً يطأطئ رقَّبته فقال "يا صاحِبَ الرقَّبَةِ، إرفعْ رقَّبَتَكَ. ليسَ الخشوعُ في الرِقابِ، إنَّما الخشوعُ في القلوبِ". وقد قال الإمام علي بن أبي طالب "واللهُ، لو ثُنِيَتْ لِيَ الوِسادةُ، لَقَضَيْتُ بين أهلِ التوراةِ بتوراتِهِم، وبين أهلِ الإنجيلِ بإنجيلِهِم، وبين أهلِ الزُّبورِ بزبورِهِم، وبين أهلِ القرآنِ بقرآنهم"، وأخرى "الناسُ صنفان: أمَّا أخٌ لكَ في الدين، أو نظيرٌ لكَ في الخَلْق .
ختاماً
نعم، إنّ دعوتنا في الحقيقة تكمن في مسار الحوار المشترك. فنحن وكلاء لرسالة السماء، وعلى الوكلاء أن يكونوا أمناء، في حمل سلاح الحوار، وليس في عداد تجّار الحروب باسم الله والدين. فالعالم في حاجة لجهود مَن يشيّدون جسور التواصل والحوار، وليس لِمَن يبنون جدران العزلة والإقصاء ". فنحن الآن أمام مفترق طرق: فإمّا أن ندرك حقيقة وجودنا وأصالتنا وتنوعنا، وإما أن نستمر في بناء الجدران وإقامة السواتر والتي تفصل الثقافات والتعارف، وتفاقم الطائفية، وتزيد في الفرقة والانقسامات وضياع الإنسانية المشتركة التي تنادي بحقيقة العيش وإن اختلفت الأجناس والأعراق والديانات.
نعم، للإرشاد الرسولي والأخوّة الإنسانية مسيرة واحدة من أجل فتح صفحة بين المسلمين والمسيحيين ، فالعلاقة بينهما ساءت كثيراً في السنين الأخيرة بسبب ما تعرّض له مسيحيو الشرق الأوسط من اضطهاد وتنكيل وتهجير وقتل وتفجير طالتهم أينما هم. والحقيقة ليست إعلاناً لحرب بالسلاح والصواريخ وإنما حروب متتالية لحقيقة الوجود من أجل المصالح المزيَّفة عبر فوضى اجتماعية وديموغرافية وإفراغية . لذا علينا ان نكون رسل الحوار ورسالتنا مهمة للغاية ولا يمكن الاستغناء عنها .ومن هنا ندرك أنّ الارشاد الرسولي والاخوة الانسانية عاملان يحملان كلاهما راية واحد ورسالة حوار امينة لزرع نبتتة السلام . نعم وامين .

123
حقيقة " الوثيقة الانسانية "
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء...
     في الرابع من شباط الماضي (2019) وقّع قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب في أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة الوثيقة المسمّاة "الأخوّة الإنسانية" والتي دعت إلى الحوار وقبول الآخر المختلف والعيش المشترك بين الأديان واحترام الرموز الدينية، كما دعت إلى مكافحة العنف والكراهية والتطرف والترهيب باسم الله، كما نادت بفتح صفحة جديدة وتجديد روح الحوار والمسؤولية في تاريخ العلاقات بين جميع الأديان والمؤمنين وبالخصوص بين المسيحية والإسلام واللذان يجدان نفسيهما أخوة في الإنسانية جمعاء،
   أمل للشعوب
   إن الوثيقة وُضعت ووُقِّعت لترجمة ما تضمّنته من إرشادات أمينة لمسيرة الإنسانية كي تكون علامة بارزة في التعايش من أجل طوي صفحة الإضطهاد والترهيب باسم الدين والتزام مسلك الحوار المنفتح عبر الحرية الإيمانية، وفي هذا السبيل نكون أملاً للشعوب المعذَّبة في منطقتنا والغارقة في الحروب الأهلية والطائفية المقيتة والأغلبية المستكبرة على الشعوب، ولكي تكون أملاً مستقبلياً لأجيالنا وشعوبنا في صنع قرار الحوار والتعايش الأمين... ليس إلا!.
   في الحقيقة
   إن الدين وحده ليس كافياً لتحقيق الخيور والسلام إنما الأنسانية المندمجة والمتأصلة في الدين والإيمان تعمل على نشر التآخي والوئام بين الشعوب، وهذا ما تدعو إليه الوثيقة وبكل وضوح. فالمبادرة التي قام بها قداسة البابا وشيخ الأزهر الشريف أمينة بأسسها وبمسار تسميتها. وربما هناك سؤال يُطرَح من شعوب المنطقة: لِمَن هذه الوثيقة، هل هي للمسلمين أم للمسيحيين أم لشعوب الدنيا والزمان؟... ما أدركه جيداً أن الوثيقة إنسانية بفقراتها وحقيقة بهدفها، فهي ملزَمة للمسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط وفي عوالم المسكونة، لأن الزمان يقول لنا أن الخطر لا زال يهبّ على منطقتنا، وفي أرضنا تدور صراعاته حيث كُتب على المسيحيين الهجرة والرحيل لأنه لا بديل لإحلال السلام إلا الهروب من التكفير، لأن الخوف قد ملك على النفوس ولا ثقة بعد بالتراب وبالإنسان، وقد يقود ذلك إلى الخطر الوجودي والإفراغي جرّاء استمرار الإعتداءات الممنهجة والمخيفة بل والمميتة في كثير من الأحيان وفي عديد من البلدان ليس إلا.
   مسيحيو الشرق
   قبل الغزو الإسلامي أو الفتوحات الإسلامية لبلاد الشرق المسيحية كان المسيحيون بطوائفهم يؤلفون أكثر من 95% من سكان هذه البلدان، واليوم وبعد أكثر من 1400 عام فبدلاً من أن يتزايد عدد مسيحيي شرقنا الجريح تراجعت نسبة الوجود المسيحي إلى أقل من 8% من نسبة سكان المنطقة، وهذا التراجع لا يعود فقط إلى تحول المسيحيين إلى الدين الإسلامي في ظروف صعبة، إنما بسبب تعرضهم لسلطة بدأت ولن تنتهي، فهي تتصاعد وتهدأ بين فترة وأخرى، تحمل في طياتها جريمة الإبادة الجماعية والهجرة والتهجير القسري من بلدانهم الأمّ، وقد كانت واضحة جداً أيام الاحتلال العثماني، وفي زمننا الداعشي حيث تفجير الكنائس والمعابد ونذكر منها كنيسة سيدة النجاة عام 2010، وقد وصف ذلك جيداً كبير أساقفة كانتربري قائلاً:"إن التهديدات اليومية بقتل المسيحيين هي أسوأ وضع منذ الغزوات المغولية للمنطقة في القرن الثالث عشر. فمَن قُتل قُتل، ومَن طُرد طُرد، ومَن هُجِّر قسراً هاجر ولم يعد، والبقية الباقية تسأل اليوم عن سبب بقائها" أليس كذلك.
   في الختام
   إنني أقول خاتماً: إن وثيقة "الأخوّة الإنسانية" هي إحدى الوثائق التي تدعو إلى إنقاذ المسيحيين والمسلمين في الشرق من خطر الزوال والكراهية والمعاداة. فالمسيحيون أمام أعينهم الهجرة والرحيل والنتيجة الإنقراض والزوال، والمسلمون أمامهم خطر الحوار والتعايش وقبول الآخر وهدفه تشييع الإنسانية. فما نحتاجه هو حاجتنا إلى دساتير جديدة تُكتَب سوية ولا تُملأ من قِبَل الأغلبية على الأقلية، كما حاجتنا إلى قرارات دولية ووطنية ليس للإدانة فقط ولكن حاجتنا إلى قرارات ملزِمة لأناس ورجال كبار الزمن الذين يرفضون تكفير الإرهاب بتنظيماته المختلفة وخاصة الإرهاب الداعشي، أكثر التنظيمات توحشاً وإرهاباً والذي جرائمه طالت المسيحيين كما المسلمين أيضاً.
   فلتكن الوثيقة ومبادئها وأهدافها غاية لمسيرتنا البشرية والإنسانية والإيمانية، فنتقاسم حقيقة الحياة وحرية الإيمان، ونتعايش أخوة في الإنسانية في زمن ضاعت فيه بوصلة الحقيقة واستولى الإرهاب على محطات حياتنا.وانني خائف ان لا توضع الوثيقة على رفوف المكتبة وتبقى بلا تفعيل  من أجل مسيرة حياتنا وهذا مؤسف جداً والزمن ينذرنا قائلاً "إمّا علينا أن نتعايش كي نصنع المستقبل وإمّا أن أن نتعادى فلا مستقبل لنا".
لذا علينا أن نكون  أمناء لحقيقة الأخوّة... نعم وآمين.


124
اطفالنا حقيقةُ وجودِنا
المونسنيور د. بيوس قاشا                                                         
في البدء
بألم كبير وأمانة للتاريخ، أروي لكم هذه القصة كما عشتُ فصولها المؤلمة عام 2006 حيث كانت درب الطائفية عنوان المسيرة الحياتية آنذاك.
جاءني أحد أبناء الكنيسة برفقة زوجته وإبنه الصغير والبالغ من العمر خمس سنوات وقال إن إبنه الصغير المسجَّل في الروضة الفلانية قد روى له ما يلي: قال الوالد متالماً عن لسان الطفل بأن المدرِّسة تقول عنه أنه نصراني ولا يحق له ان يصادق أي طفل في الروضة، كما أوصتهم انه لا يجوز للطفل الشيعي أن يأكل ويشرب مع الطفل السنّي. وفجأة صرخ الطفل "أبونا إحنا أطفال ، ليش تعلّمنا المعلمي (المدرِّسة) أنْ ما أحب صديقي المسلم وأنا ما أعرف شنو سنّي وشيعي ونصراني... بابا، أنا بعد ما روح للروضة"... كان هذا الحديث سهماً في قلبي، وكانت الرواية مؤلمة. حملتُ نفسي في اليوم التالي وقصدتُ الروضة وطلبتُ من السيدة المديرة أن أتكلم مع المدرِّسة إنْ كان بالإمكان، فسمحتْ لي. وبعد إلقاء التحية على المدرِّسة المعنيّة، شرحتُ لها دورها الأبوي والأمومي والتعليمي لهذا النشئ الجديد، أطفالنا وأجيالنا ومستقبل لبلادنا، وكيف يجب أن نربّيهم على المحبة وليس على الحقد والكراهية الواحد تجاه الآخر، وعدتُ أدراجي وسألتُ نفسي: أين اصبحنا؟، وما مستقبل أجيالنا، ووطننا؟.

الاخوة الانسانية
أمام هذه القصة المؤلمة أردتُ أيها القرّاء الكرام أن أكون بينكم كلمة عبر أسطر قليلة أُعلن فيها أنّ وثيقة "الأخوّة الإنسانية" التي وقّعها قداسة البابا فرنسيس والدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في الرابع من شباط (فبراير) الماضي في دولة الإمارات تناشدنا لتكون لنا جميعاً، مسلمين ومسيحيين ومكوِّنات أخرى، ولمربّي أجيالنا وأساتذة مدارسنا وجامعاتنا موضوع بحث وتأمّل لتساعدنا على خلق أجيال جديدة تحمل الخير والسلام، تحمل الوطن والمواطن، تحمل الإنسان وحرية الإيمان.

ارض خصبة
نعم، أليست المدرِّسة او المعلم والمعلمة ، هم مَن ينشئون أجيالاً ويزرعون حقيقة الطفولة في أهدافها وغاياتها، فالبيت كما المربّي أرض خصبة تقبل الحقيقة بكل صفاء لزرع بذرة المواقف التي تنمو في مسيرة الأطفال، ومنها بذرة القبول الآخر المختلف في دينه وعِرْقِه ولونه، لذا يجب علينا مسلمين ومسيحيين أن ندرك مسؤوليتنا الكبيرة تجاه تنشئة أجيالنا الصغار وأطفال مدارسنا البيتية، لأن التربية تجعلنا أن نقيم بناء مشروع وطني جديد حيث الكل إنسان،  والكل مواطن ، والكل مؤمن في دينه ، ومخلص له بمسيرته الحياتية الزمنية لأجل غاية أسمى... إنه مشروع يبني وطناً للجميع ، وفوق الجميع.

حروب بفتاواها
لقد عاش شعبنا خبراتٍ مؤلمة في هجرته ونزوحه، فمنه مَن إفترش العراء، ومنه مَن سكن الخيم غصباً وخوفاً من داعش، ومنهم مَن رحلوا بعيداً وهم بأسف وآهات على ما حلَّ بهم، فاختلط الدين بالسياسة، وأصبحنا جميعاً ضحايا الحروب الدينية بفتاواها وآياتها، وبتكفيرنا، وأعدنا إلى أذهاننا في مسيرتنا الحياتية قصة قايين كيف قتل أخاه هابيل وهو من لحمه ودمه ، وإبن أمّه وأبيه،  بل وإبن وطنه وأرضه.

حقيقة صغارنا
مسؤوليتنا مقدسة ، انسانية بعمقها،  والهية بهدفها ، إن كانت في مدارسنا الخاصة أو الرسمية، وعلينا ان نطرح كلنا على أنفسنا السؤال المزعج: أيَّ نوع من المؤمن المسيحي أو المسلم أو الصابئي أو الإيزيدي أو البهائي نعدّ لمستقبل وطننا؟، أيَّ نوع من المواطن بجيله نُعدّ؟، ما دور أجيالنا في مستقبل وطننا؟ ما هي حقيقة تربيتنا ومن أي نوع هي؟ هل نربي لوطن متماسك بجميع مكوناته واختلافاته العقائدية والدنيوية؟، هل نربيهم على روح الطائفية المقيتة والأغلبية السائدة لتفسدا يوماً أرضَ وطننا وتدمر رسالةِ أجيالنا في عقر وجودهم، أم نعدهم لحروب عشوائية تُشعل الأخضر واليابس وتزرع الطائفية بسنّتها وشيعتها ونصرانيتها ومكوناتها، وتجعل من كنائسنا وجوامعنا ومساجدنا ومعابدنا أماكن للتكفير والتدمير، للتفرقة والإنشقاق؟، هل نعلّمهم القتلَ باسم الله كما فعل داعش؟... ما يؤلمني أخاف يوماً نحصد فيه ما إبتلينا به بسبب فكر داعش الإرهابي وفي ذلك تموت بذرةُ أرضنا ويكون التكفيرُ والكراهيةُ حقيقةَ أجيالنا. فأيَّ نوع من المواطنين نحتاج، بل نُعِدّْ عبر بيوتنا وروضاتنا ومدارسنا وجامعاتنا من أجل أن نكون مؤمنين بالرب ومحبّين للآخر، أقوياء بإنسانيتنا، لا يستقوي أحد على آخر ولا يسمح لأحد أن يستضعف الآخر. فالقوة بأصالتها وحمل رسالتها لا تكون إلا في المحبة كما يقول المسيح الحي " أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم " ( يو 12:15)   وفي الاختلاف، وفي بناء جسورها وإعمار مساكنها وإعلان شأن مدرّسيها بمدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وروضاتهم.

كلنا معلمون
إذاً، علينا تنقية أذهاننا قبل أذهان الأطفال من شوائب الكراهية والأنانية، والحقيقة لا تكمن إلا بالتعايش وقبول الآخر المختلف بكل صفاء. فأطفالنا دعاهم رب السماء أن يكبروا في القامة والحكمة والنعمة أمامه وأمام الناس(لو2: 52) . ففي قامتهم بطولها وصحتهم، وبحكمتهم بأن يكونوا أمناء وأوفياء لمواهب الرب لمسيرة الدنيا، وبالنعمة ليعيشوا قوة الإيمان بروح المنوّر فيعتبر الطفل أخاه وإن إختلف عنه شكلاً ولوناً وديناً فهم كلهم سواسية ومتساوون في طفولتهم وكرامتهم ، فبقدر ما يكبر الإنسان في الإيمان ويحياه بقدر ذلك يتقبّل الآخر الغريب منه والمختلف عنه. لذا على كل المربين أن يتعاونوا مهما اختلفت أديانهم وعقائدهم، فكلنا معلّمون وخصوصاً كل رجل دين مسيحياً كان أم مسلماً هو المسؤول الأول والأخير، على تربية النشئ تربية جديدة راسخة على قواعد الرحمة والمساواة والكرامة التي منحها الله لكل إنسان. فمسؤوليتنا تضعنا أمام أجيال جديدة تنشئ دولة جديدة لكل مواطنيها أي كان دينهم.

في الختام
ختاماً ، أسال وأناشد المسيحيين والمسلمين ، عبر المّربين والمعلمين والمعلمات،  والمدرسين والمدرسات ، أنبقى نحيا صراعات مريرة؟، أنبقى نزرع في قلوب أطفالنا وأجيالنا الصغار ديناً يقودني إلى تشويه الايمان  ومسيرة الحياة؟... فالإيمان ليس في ديننا أولاً بل في مواطنتنا وإنسانيتنا ، ثم ديانتنا وإيماننا. فنحن من هذه الأرض جُبلنا وما نحن لها إلا مواطنون وخلقنا رب السماء على صورته ومثاله ( تك 27:1) فمنه نحيا إنسانيتنا، وما ديانتنا إلا هذا الرابط الذي يرتقي بنا من الأرض إلى نحو السماء فنحمل رسالة إلى الآخر من أجل ذرى الحياة ومجد السماء. لذا لتكن تربيتنا جديدة كي نكون مواطنين غير منغلقين على ذواتنا بل منفتحين وقادرين على معانقة إخوتنا وأخواتنا جميعاً عبر مسيرة حرية الإيمان التي اكتسبناها يوماً وزرعناها في عمق أفكار أجيالنا الصغار وأطفال مستقبلنا، فيناجي كل واحد ربه بطريقة يريدها ، وفي ذلك كلنا مسؤولون أمام الله وأمام الضمير، الدولة مسؤولة والكنيسة مسؤولة ، والمسجد مسؤول ، والمعبد مسؤول،  وما ذلك إلا حقيقتنا عبر مدارسنا بمختلف مسمياتها،أمام أطفالنا وصغارنا، فهم حقيقة وجودنا وعليهم يُبنى حاضر ومستقبل دنيانا ، إنهم اخوة في إنسانيتهم ، إنهم عطايا السماء لبناء الوطن... هذه هي دعوة وثيقة "الأخوّة الإنسانية" في أن نكون مربين لأجيالنا عبر رسالة تحمل الخير والسلام.كي يكونوا لنا اليوم وغداً رسل المحبة والتآخي ، إنهم حقيقة وجودنا ،  نعم وآمين.


125
الحوار... ركيزة اساسية
لوثيقة "الأخوّة الإنسانية"

المونسنيور د. بيوس قاشا
                                                         
   في البدء...
عُرف الشرق بمسيحييه ومسلميه، فهما توأمان لا ينفصلان في مجتمعاتنا، وأي مساس بأحدهما يضرّ الآخر ويشوّه وجهه وحقيقة إيمانه ،  فقد قال الكاردينال بول بوبار رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان يوما:"إنّ العالم بحاجة إلى مسيحيين ومسلمين يتبادلون الإحترام، كما يؤدّون شهادة المحبة، ويعملون معاً وقُدُماً في درب الحوار من أجل عيش السلام في بلاد الله الشاسعة، نعم والحاجة اليوم مُلحّة أكثر ممّا مضى".
   الحوار... تعايش
   إن الدين رسالة مقدسة تحمل المؤمن الى الحوار عبر مسيرة التعايش مع الاخر المختلف ، ومن أجل تكريس القيم والمُثُل العليا، وإذا كان عكس ذلك فقد يكون حالة سلبية وخاصة عندما يُدار بأيدي مجموعة من المتعصبين وأصحاب الفتاوى والذين نصّبوا أنفسهم ناطقين بلسان الحق، فهم يحلّلون ويحرّمون، ويفسرّون جانباً ويغفلون جوانب، كما يرفعون شعارات التعصب وإلغاء الآخر، ويدعون إلى فرض لائحة من اللاءات والمحرَّمات، وقد يتحول إلى قنابل عنقودية مؤقتة لتفجير التناقضات والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، ويصبح الدين حينذاك أداة سلبية وليس غاية كما ينبغي أن يكون.
   الكنيسة ... والأبواب
   نعم ، إن طريق الحوار دعت إليه الكنيسة ولا زالت عبر أحبارها وعلى مرّ أزمنة التاريخ، وها هي اليوم مع البابا فرنسيس تظهر عمق رسالتها الإنسانية في الأخوّة بتوقيعه في الرابع من شباط الماضي وثيقة "الأخوّة الإنسانية" مع الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وفي دولة الامارلات العربية المتحدة  ، وهذا ما يؤكد أن الكنيسة كانت ولا زالت وستبقى أبوابها مفتوحة للحوار، من اجل مد جسور التواصل عبر  الثقة المتبادلة بين الشعوب، والتعايش من أجل السلام مع جميع الديانات، إيماناً منها بأن السلام لا يصنعه إلا الحوار،وقد جاء في الوثيقة "الاخوة الانسانية "   أنَّ الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ، من شأنِه أن يُسهِمَ في احتواءِ كثيرٍ من المشكلاتِ التي يعاني منها البشربسبب الاقصاء والطائفية . وهذا يحث جميع كبار الزمن ورؤساء المسيرة الدنيوية ومفكري الايمان ورجال العبادة إلى سلوك السبيل الذي يجمعهم من اجل اقامة حوار صادق مبني على الثقة المتبادلة لرسم خريطة العيش المشترك والمواطنة عبر العدالة في توزيع خيرات الوطن . وهكذا يكون  سبيلنا من أجل الحقيقة والحياة لانه حوار صادق، حوار مبني على احترام وكرامة كل كائن بشري وحريته الضميرية عبر إيمانه ومعتقده ، وليس الانتماء الى الاخر حسب مشيئته  ، وبالخصوص بين الديانتين المسيحية والإسلامية.
   وثيقة ... وحوار
   إن الوثيقة تدعونا اليوم جميعاً إلى أن ندرك مفهوم المواطنة كي يبنى على اسس وركائز امينة لصياغة حقيقة السلام وسبل الحوار الاكيد والمحب ، فعبره تزول الفوارق وتتلاشى الأحقاد، ويرى كل إنسان في الآخر تتميماً وليس نقيضاً، وبذلك يحفظ المصالح المشتركة دون اللجوء إلى العنف، كما يعمل على بناء وإقامة علاقات حقيقية وصادقة، كما يحث الجميع إلى سبيل الصفح والمصالحة... وما هذه العلامات إلا علامات لبناء السلام الحقيقي الذي تنشده شعوب الأرض عامة وشعوب المنطقة خاصة.فهي جسر عبور آمن الى المختلف الاخر .
   الحوار ... ضرورة
   لذا أمام هذه الوثيقة بإمكاننا أن نقول: إن الحوار لا يمكن أن يكون خياراً إضافياً بل هو ضرورة حيوية يتوقف عليها مستقبلنا ومستقبل وجودنا وشراكتنا في الإنسانية والأخوّة الصادقة، وشهادة لإيماننا بالله الخالق الذي اوجدنا بحكمته الالهية لنحافظ عليها . وما هذه الا دعوة  لشعوب المنطقة وبالخصوص إلى جميع المسيحيين والمسلمين للذهاب قُدُماً في هذا السراط مهما اشتدت الصعاب ومهما علت الأصوات من اجل  بناء حوار حقيقي مبني على حقيقة التعايش وقبول الآخر المختلف، وكما يقول البابا بندكتس السادس عشر: إن الحياة البشرية هي مُلك لله وحده، ولذا فكل مَن يتعدى على حياة الإنسان فكأنه يتعدى على الله نفسه، لأن الحياة ما هي إلا هبة من عند الله وهي عطيته وصورته. لذا فمهما كان الحوار طويلاً أو قصيراً، صعباً أو سهلاً فهو رسالة سماوية، رسمها الله لنا من أجل العيش المشترك. فمن هنا ندرك ان الحوار ما هو الا  الركيزة الأساسية للاخوة الانسانية تحت خيمة الخالق الواحد ،  رب السماء.
   الحوار ... والفتن
   نعم، إننا اليوم بحاجة ماسة إلى آلية عميقة لتفعيل الحوار وفق الإقرار به وبتعدديته، فمن المنطق أن يتوصل البشر إلى قانون أو عقد إنساني يمنع التعرض لمقدسات الناس جميعاً ما دام جميعهم مؤمنين بأنبيائهم ورسله، فإلههم إله واحد. فتفعيل الحوار يعمل على تحاشي زرع الفتن الكبرى التي تعمل عليها أيادٍ بغيضة وسوداء تعيش فقط على صناعة الفتن والحروب والإقصاء، فالمسيح الحي يقول ،  "إذهب وصالح أخاك، ثم عُدْ وقدّم قربانك"، يعني "إذهب وحاور أخاك لكي يتطهر القلب وتصفى النية ثم تقدم الذبيحة" ، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب:"والله لو ثُنِيَت لي الوسادةُ، لَقَضَيْتُ بينَ أهلِ التوراةِ بتوراتِهِم، وبينَ أهلِ الإنجيلِ بإنجيلِهِم، وبينَ أهلِ الزبورِ بزبورِهِم، وبينِ أهلِ القرآنِ بقرآنِهم"... وأخرى "النّاسُ صِنْفانِ، إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ"، ممّا يعني تجسيداً حقيقياً لعدم جواز تكفير الآخر.
   الخاتمة
وفي الختام ، فالحوار لا يعني الا الاحترام، ملؤه الشراكة الإنسانية والأخوّة البشرية. فالإنسان هنا وكيل لربّ السماء وعلى الوكيل أن يكون أميناً في حمل سلاح الحوار ، وإلا سنكون في عِداد تجّار الحروب باسم الله والدين،وتكون ارضنا ساحة للحروب والقتال ومثيرة للعنف والارهاب واراقة دماء الابرياء وما يزيد في الالم انها ستكون "عبر سياسات التعصب والتفرقة كما تقول الوثيقة والتي تعبث بمصائر الشعوب " . ففي ذلك  سنميت الخليقة التي أبدعها الله بالمتاجرة بكتب السماء وبآياتها الكريمة. والويل لنا إذ جعلنا من أرضنا مكاناً للفساد والعنف والحروب ، فقد يكتب التاريخ عنا مأساة تدمير الآخر المختلف، فلنعلم ان الأرض منها جُبلنا كلنا، والسماء خيمة لدياناتنا." ولا يمكن تاجيج الكراهية والتعصب"  لان الوثيقة هي لنا " نداء  ومطلب كلِّ ضَمِيرٍ حيٍّ ليَنبذُ العُنْفَ البَغِيضَ والتطرُّفَ الأعمى" ، وكما هي "لِكُلِّ مُحِبٍّ لمَبادئِ التسامُحِ والإخاءِ التي تدعو لها الأديانُ وتُشجِّعُ عليها " من اجل رسالة سامية الا وهي  الحوار الامين والصادق ، الذي يقيم جسوراً ويفتح سبلاً للتعايش وزرع بذرات السلام من أجل أن نكون تاريخاً لمستقبل أجيالنا.وما رسالة الاخوة الانسانية الا الحوار ، انه لبنة البناء وطريق الحياة وسبيل العيش المشترك وضميرالعدل والحرية وتلك حقيقة الاخوة فالحوار من المؤكد ما هو الا ركيزة للاخوة الانسانية. نعم وامين .



126
رسالة إلى أبناء بخديدا الأحبة 
بخديدا ... أمّ الشهداء

المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء
مع محبتي لكم، أستميحكم عذراً، وأضع مسيرة حياتي ووجودي المتواضع ومقالاتي وكتاباتي ورسالتي المقدسة، أمام أنظاركم ومسامعكم، ولكم كل الحق بل كل الحقيقة إذا ما شاءت إرادتكم أو أيّدت ضمائركم وتتصور أهدافكم أنْ تكتبوا ما يطيب لكم وما شئتم، وقولوا ما هو مبتغاكم، فأنتم رسالة سامية تحملونها عبر مسيرة متعَبَة، فهي متأصلة في ضمائركم كسلعة أبدية ولكن بعيدة عن روح الحقد والكراهية، عن روح البغض والأنانية، ولا تُعَولِموا أو تؤلِّهوا مشيئتكم كي لا تُفرغوا من قلوبكم الإله الذي معكم "إنْ كان الله معنا فَمَن علينا" (رو31:8-39) الذي فداكم وفداني، بل أظهروا محبتكم، ولا تبيعوا غايات بائسة، كما لا تشتروا كلمات مزيفة لتجدوا أنفسكم أمام كبار الزمن، فالحياة راحلة يوماً ما. ولا تجعلوا الشيطان يملك على قلوبكم، أو يستولي على مسيرتكم الإيمانية في حبّ الأرض الجريحة والوطن الأسير والمكلَّل بأشواك الطائفية والقومية والأغلبية في زمن العشائرية والقبلية من أجل تقديس الفساد وتكريس الكذب، عملاً بإرادة كبار الزمن، بل احملوا مدينتكم ومآسيها وأفراحها عبر مسيرتكم الزمنية، وكونوا ذائعين لحقيقة إيمان أجدادكم وآبائكم، فأنتم لها أمناء... لذا يسرني أن أرافقكم في هذه الأسطر القليلة، لأكون لكم وبينكم ومن أجلكم، ومن أجل حقيقة إيماننا ووجود شعبنا، كلمةً مُحِبَّة ملؤها الحقيقة والشهادة والتاريخ، فقد قال بولس الرسول:"أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي13:4)... فهأنذا معكم، وشكراً لكم.

     أمّ الشهداء
مَن منّا لم يقرأ تاريخ بخديدا... إنه تاريخ مقدس، بخديدا قبلة المؤمنين، والشاهدة للمسيحية، فهي أمّ الكنائس السبعة والأديرة التاريخية والتلال الأثرية... أمّ الشهداء... عاصمة المسيحية المتربّعة على بساط سهل نينوى... حاملة لرسالة الإيمان، حيث الكثير من أبنائها خلطوا عرق جباههم بتربة حقولهم وأراضيهم، حاصدين غلاّت زرعاتهم وهم مليئين بالتقوى وبساطة الحياة في عيشهم ولبسهم ومسيرتهم ليكونوا صالحي السيرة والمسيرة، ويربحوا أرزاقهم بالحلال والوصية. وكم احتمل أبناؤها المآسي وتبعاتها، وآفات الحروب ومصائبها، والمجاعات والرحيل والإنتقال من مكان إلى آخر ولحد الآن، بل حتى الساعة، لا زالوا شهداء المسيرة المؤلمة من أجل الوطن الجريح.   نعم، فهي تفتخر بعدد كنائسها وبعطاء أبنائها وعقولهم العلمية المبدعة ومواهبهم المتنوعة في الكتابة والعمران، في الرسم والنحت والهندسة وأنواع الفنون، وبدماء الشهداء التي سُكبت من أجلكم ومن أجل وطنكم، فهي حضارة مملكة، وثقافة وطن، فهي لكم ولمجتمعات وطنكم كلمة وبناء وحضارة، فلا تخافوا بل تشجعوا يا أبناء بخديدا العزيزة، كنتم ولا زلتم أحفاد الرجال الأوفياء وبُناة المعابد الأمناء: كنيسة بخديدا ايتاربثا، مرحانا، مار يعقوب، مارزينا، سركيس وباكوس وبشموني. فالأرض أرضكم، فلا تتهاونوا في إعلاء شأنها، فكونوا لها حرّاساً أمناء، فالغيرة في نفوسهم قد ملكت، ومن حولكم كثيرون يتمنون أن يدخلوها غزاة وليس فاتحين من أجل نيل غنائمها، فهي تناديكم: لا تتركوني وحيدة كأرملة، فالذئاب كثيرون وإنْ لبسوا ثوب القداسة والمهابة، وتزيّنوا بزينة الكلام والقدسية، فغايتهم الجلوس على كراسيكم المقدسة ليحصدوا ما لم يزرعوه (متى24:25). فأرضكم وكنائسكم وسبل إيمانكم وروح شبابكم أمام مصير مجهول عبر زمن بائس، فإنْ غادرتموه أو تغادروه من أجل البطون فأنتم للدنيا أمراء، وإنْ سعيتم الإبتعاد عنه من أجل راحتكم وراحة عيالكم فقد بعتم حقيقتكم واستسهلتم إيمانكم وغيّرتم ترتيلتكم "هذي البيعة ما ننطيها، يشوع ومريم ساكنين بيها" إلى أنشودة يعلنونها "بداثي يوما هر بشقلاخ بخديدا" ما معناه "سيأتي يوم سنحتلّها بخديدا". فاعلموا واعملوا على أن لا تكونوا سبب تفتيت كيانكم وهدم حضارتكم، فيتلاشى وجودكم ولن يبقى لكم ذكر إلا ما قيل "بالأمس كانوا هنا واليوم قد طُردوا"، عذراً "قد رحلوا"، فهم الغزاة الطامعون في مقتنياتكم، وزمناً أحرقوا كنائسكم ودياركم وقتلوا آباءكم وأجدادكم واليوم أحفادكم.
    سلعة للجيران
كنائسكم مقياس حبّكم لأرضكم ولعشيرتكم، ومعبدكم عمق إيمان علاقاتكم، ومستقبلكم واسم موطنكم نداء لا تساويه أثمان بل هو أغنى حتى من عيالكم وأثمن من أجفان عيونكم، فالرب منحكم إياه وطناً ورأى ذلك حسناً (تك1). فلا تكونوا أنتم ومعابدكم سلعة للجيران، شرقاً أتوا أم غرباً، شمالاً أو جنوباً، فهم يوماً قتلوا آباءكم وأجدادكم، وغاياتهم سلب أموالكم وحرق كنائسكم وتدنيس معابدكم كما فعلوها في الزمن الغابر والماضي القريب. فأنا أوصيكم أن تكونوا حكماء النيّة (متى16:10) و"شهود للحقيقة" (يوحنا32:8)، وكلمة شجاعة أمام وجوههم، فلا يملأ الخوف قلوبكم، فقد قال ربنا:"لا تخافوهم"، ولا "تكونوا أمامهم كَحَمَل إبراهيم" (تك2:22)، ولا تهرولوا مذعورين من همجيّتهم ولحاياهم وسيوفهم وفتاواهم، وتشجعوا، والبسوا ترس الصلاة، وتقوّوا بالذي فداكم على خشبة العار (مز10:95)، فهي لكم خلاصاً وبها ستنتصرون، كما قال الرب لقسطنطين الملك:"بهذه العلامة تنتصر". تماسكوا بعضكم بعضاً، وعيشوا في المحبة، فوصية الرب واحدة وهي "أحبّوا بعضكم بعضاً" (يو12:15)، و"احملوا أثقال بعضكم بعضاً" (غلا2:6)، وكونوا قلباً واحداً حيث يسند الكبير صغيركم، ويسقي الشاب شيخكم، وتقود أياديكم الأرملة إلى مسكنها، و"بهذا يعرفونكم أنكم تلاميذي" (يو35:13). فلا تسلّموا أنفسكم لهيرودس الزمان، وما أكثرهم اليوم. لذا فلتتماسك أياديكم بقلب واحد ونيّة واحدة، وكفى أن تكونوا بضاعة للأحزاب والسياسات والحركات والتوجهات والعشائريات والطائفيات المقيتة كخدم للمناصب الزائلة، فأنتم أمامهم دخلاء وإنْ كنتم أصلاء، وكونوا كما قال البابا فرنسيس:"إرفعوا دائماً أصواتكم لكبارهم بإسكاتهم كي لا تغيب قِيَمكم، ولا تكونوا ضحايا للخديعة، فإنّ مَن بيدهم القرار لهم أساليب كثيرة ليجعلوكم صامتين" (فرنسيس؛ أحد الشعانين 2018). فهؤلاء كلهم يتاجرون بمصائركم، فلا تخافوا أن تقولوا الحقيقة في وجه الأقوياء، ولا تقبلوا أن تسيروا في تشييعها كي لا تشوّهوا وجه الله الحق والمحب، وكفى أن تكونوا حماةً لأناسٍ عُرفوا بفسادهم، فإنْ تموت شاهداً أفضل من أن تبقى في الحياة بائساً وخانعاً.
    قلباً واحداً
الشكر للرب الذي أوصلكم إلى هذه المرحلة من مسيرة المحنة التي حلّت بكم في السادس من آب عام 2014، وقبلها التي دامت أسبوعاً واحداً، والتي فيها كنتم "كخراف أمام ذئاب خاطفة" (متى15:7)، وكنتم تائهين في الشوارع ومفترشين الساحات، وكنتم حينها فريسة لمصالح سياسية ديموغرافية وحزبية... مرّت الفاجعة بما حملتها من مآسي، لذا أقول كونوا جميعاً _ أكليروساً وشعباً _ أمناء لرؤسائكم، بطاركة وأساقفة، الذين أعطوا حياتهم من أجلكم ومن أجل إخوتكم، كهنتكم الأوفياء، الذين كانوا من أجلكم شهادة للمسيح الحي في مسيرتهم. فكونوا قلباً واحداً، وكونوا للشرير والفاسد بالمرصاد أينما كنتم وفي أي خدمة أؤتُمنتم. وانتبهوا، فالكثير "يأتونكم بلباس الحملان" (متى15:7)، وبكلام ملؤه العسل وطيب المذاق، وأنتم لهم مصفِّقون من أجل ورقة خضراء أو أكلة صحن عدس. فانتبهوا، إن المستقبل لا يرحم أحداً، والتاريخ لا يجامل الحقيقة ولا يقبل التزوير وإنْ دُفن وأُحرق وشُوِّه تراثنا وحضارتنا وتاريخنا، فالحقيقة "هي هي أمس واليوم وإلى الأبد" (عبر8:13). واعلموا انّ كل ذلك مدوَّن في كتاب مُبين (سورة النساء؛ 144). فلا تخافوا، ولا تكونوا خبزاً للسياسات الكاذبة، فأنتم أغنى حضارة وأسمى ذاكرة على وجه البسيطة. فانتبهوا وتحرّزوا من العقول المزيَّفة ومن الحكماء الفاسدين، فأنتم شعبكم وشعبكم أنتم، وكهنتكم أحباء مخلصين لكم، ويليق بهم كل الإحترام، ورؤوساءكم وأساقفتكم رعاة بسطاء محبّين لخيركم ولعمران مدينتكم ولتعميق إيمانكم، وكنيستكم مسكنكم السماوي، فهي لكم أمّ وحارسة، فاعملوا من أجل أرضكم وأصالة وطنكم، وتذكروا أن ما حدث في كنيسة سيدة النجاة (31/10/2010) _ وكنتُ حينها شاهداً لآهات الشهداء والضحايا والجرحى _ لن تكون الأخيرة إلا إذا عرفتم مقام أنفسكم وسبب وجودكم. فلا تسمحوا للكوارث والمآسي والمحن تنتابكم مرة أخرى كما حصل لكم في الماضي القريب بسبب داعش.
     لا ترحلوا...
وإلى الذين رحلوا أقول: أنتم أحفاد المؤمنين الغيارى، بل أنتم أحفاد رجال الإيمان وبساطة الحياة. وعمق المسيحية التي حملوها تحت صدورهم جعلتهم مِمَّن يفتخرون دائماً أنهم للرب (2كور17:10)، فالأرض أرضكم، فلا تتشتّتوا في أقاصي الأرض من أجل لقمة الحياة وملء البطون والورقة الخضراء، فالحياة أسمى من هذه كلها، وحب الأرض والدفاع عنها وبناء مسيرتها أسمى بكثير مما أنتم ساعون إليه، وأولادكم _ كما تقولون _ ندافع عنهم، فهم ليسوا أولادكم بل أولاد الله، هو الذي رزقكم إياهم وليس أنتم. فلا تتركوا هذه الأرض الطيبة وإن كانت اليوم جريحة، فأنتم بذلك مشارِكون في محو تاريخكم لأنكم بذلك تعملون على قلع جذور إيمانكم منها، بل أقولها: إرجعوا إلى كنائسكم المقدسة وزيّنوها بطقوسكم، عودوا إلى دياركم واسكنوها، فأنتم أبناء واديها وسهلها، وكونوا رسالةً وطريقاً لإعادة بناء حياتكم وحياة شعبكم. فلا ترحلوا وتتركوا المريض والأرملة واليتيم والفقير والشيخ يصرخون "أغيثوني"، فالأرض أثمن عطية منحها لكم رب السماء، "فتحمّلوا، كما يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني القديس، أمانة إيمانكم في قلوبكم". فالقضية ليست في الرحيل والهزيمة، ولكن القضية أسمى من ذلك، فأنتم وطن والوطن أرضكم، فلا تتهاونوا في حمايته، فبينكم أطباء ومهندسون ومهن أخرى، خُلقتم لتخدموا مرضاكم وتشفوهم بنعمة المسيح وبعلمكم، كما جُعلتم لبناء دياركم، ولم تُخلَقوا لتتركوا مرضاكم يتأوّهون واليتامى يصرخون والأرامل تطلبن الشفاعة. وما يؤلمني أن أجد شعبي يستعطي في الطرقات والساحات، شعباً مهجَّراً شارداً ونازحاً، يرحل عبر البحار والمحيطات والقارات، فأعداءكم هكذا خططوا فمنحوكم لفة همبركر وعلبة ببسي، فضاعت حقيقتكم وأُفرغت دياركم وأصبحتم عبيداً لهم ولدستور مزيَّف شغله هدم كينونتنا وقلع إيماننا بسبب قلّة عددنا وهجرة كوادرنا، ونسينا أننا أصلاء وأننا أبناء هذه الأرض قبل غيرنا. وأقولها بكل صراحة إن مستقبل وجودكم رهن بمستقبل بقائكم وعودتكم واستملاككم لأرضكم، لذا عليكم أن توحّدوا أهدافكم، وتعملوا على تراصف صفوفكم، فالمرحلة خطيرة، نعم خطيرة، والزمن ليس زمن البكاء والآهات بل زمن الشجاعة والشهادة، وهذا لا يعني أن أبيع وجودي بسبب خوفي، ولا يجوز أن أخاف، فالشكر لله، ولكنيسته دور كبير في حمايتكم، وصوتها يصل إلى علوّ السماء حيث ينشد أحباءه، وأساقفتنا وكهنتنا أمناء لمسيرتهم، فَلِم الخوف والهزيمة والرحيل!.
     في قارب واحد
نعم، نعم أدرك جيداً أنكم تقفون اليوم أمام مخاطر تداهمكم، ولا زلتم أهل ذمة، والجزية لابدّ من دفعها لإصلاح مسيرتكم، كما لا زلتم تعيشون أياماً قاسية وأوقات عصيبة فُرضت عليكم، ولا زال الخوف يساور أفكاركم ويملك على عقولكم، وإنكم كما أعلم لا زلتم تشعرون بالمذلّة والهوان وأنتم قابعون في دياركم، ولا زالت الثقة بعيدة عن أفكاركم عبر أرضكم التي أصبحت قبلة الغرباء وشهوة الطائفية، وغاية الأغلبية، كما أؤمن أنهم إنْ كان بإمكانهم ذبحكم لَذَبَحوكم دون خجل أو حياء، فهكذا تعلّموا وهكذا يعلّموا كوادرهم، فإنهم في ذلك يرجون رضى الإله، فهم شياطين بل شياطين سود، ولا زال عدوّكم يزداد لحظة بعد أخرى، وفي ذلك يُدركون أنهم يشيّعون الحق إلى مثواه الأخير.   لذا أوصيكم أن تحملوا رسالة شعوبكم، أفرغوا عنكم روح التعصّب والحقد والكراهية، وامحوا سبل الطائفية المقيتة والأنانية الحزبية، ولا تزيدوا مساحات الإختلاف بينكم بل إعملوا على ردمها، فأنتم أصلاء، أبناء أمّة واحدة، وشعب المسيح الواحد، فليكن لكم مَن يتكلم باسمكم أمام الرئاسة والسلاطين ومَن يدافع عن حقوقكم، فهذه بخديدا مستقبلها في رقابكم وخطيئتها على أعناقكم، وبنكرانها تخونون إيمان آباءكم وأجدادكم، لذا ارفعوا عنكم التفرقة والأنانية فكلكم واحد، وكفاكم الثرثرة (عذراً) والخوض في غايات زائلة، واختاروا مَن يناسبكم ومَن ترونه صالحاً وذكياً وفهيماً وأميناً ومؤمناً _ وما أكثرهم _ لينوب عنكم وعن مشاكلكم ومشاريعكم، فكلكم مسؤولون عن كلكم. واعلموا جيداً أن أعداءكم يعملون حتى في ظلمة الليل على إبعادكم عن بخديدا الشهيدة، فأنتم جميعاً في قارب واحد، تخوضون غمار حياتكم، ففي هذا القارب تعيشون وفيه تموتون. فكفاكم الخوض في مشاكل جانبية ومعارك وجودية. اتركوا كل ذلك جانباً، فالزمن بائس وقد حانت "ساعتكم الآن لتفيقوا من نومكم" (رو11:13)، فمستقبل أرضكم وأجيالكم وأحفادكم في رقابكم، وأنتم تتحمّلون وزر خطيئتكم لأنكم ضيّعتم بخديدتكم بسبب خلافاتكم وصراعاتكم ومصالحكم وأهواءكم، ونسيتم أن تكونوا أمناء لوصية الرب، فاعملوا "كل واحد منكم ما يُرضي أخاه لخير البنيان المشترك" (رو3:15)، "مسالمين مع الجميع" (رو4:12).
    الخاتمة
وختاماً أقولها: بدون وحدتكم ستخسرون ليس بخديدا فقط بل أرضكم ووجودكم وتراثكم وأنفسكم، فكونوا أمناء وليس أمراء، أوفياء وليس بخلاء، فحبكم لأرضكم وشعبكم يدعوكم أن تسهروا الليالي "على القطيع من الذئاب الخاطفة" (متى15:7)، كحرّاس أمناء، ولتكن قضيتكم بخديدا الأولى والأخيرة في مسيرة وجودكم. فلا تتصارعوا بينكم، فالتاريخ لا يرحم أحداً. وإنكم ترون أمام أنظاركم كيف يُسلَب سهلكم خطوة تلو خطوة من أجل أن تموت أصولكم ويتيه شعبكم، لذا عليكم أن تتّفقوا برأي واحد وبقلب واحد ولسان واحد (رو5:15)، و"ليكن أكبركم خادمكم" (متى11:23)، وكفاكم طرق أبواب الدنيا الزائلة، واحفظوا لسانكم تجاه كباركم ورؤسائكم وكهنتكم الموقرين من أية كلمة مميتة وجارحة من أجل الفضيحة وتدمير معنوياتهم، واشفعوهم بصلاتكم فهي الساعد الأيمن ليكونوا لكم أمناء وأوفياء، فسلطتهم هي من الله (رومية1:13) "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا الله" (1تيمو1:2-3) فأنتم معهم إخوة أشدّاء، و"أبوكم واحد هو الآب السماوي" (متى8:23). فبخديدا ستبقى أمّ الشهداء وأمّ الكنائس إذا أنتم أردتم ذلك، وإلاّ فاقرأوا السلام إذا ما وجدتم ملء البطون والورقة الخضراء وهناء العيش وراحة البال أثمن من حبكم لأرضكم ووطنكم وكنيستكم وأساقفتكم وكهنتكم وشعبكم... ودمتم في محبتي واحترامي نعم وآمين.

127
بمناسبة زيارة قداسة البابا فرنسيس
      إلى دولة الإمارات

هنيئاً لكِ . ..يا دولة الإمارات
أرض البحر والشمس والعقلاء
المونسنيور د. بيوس قاشا
أمام النزاعات والحروب الإقليمية والمصالح الدولية في تدمير الإنسان، كل إنسان... وأمام إقتلاع المسيحيين من أرض الأجداد من قبل داعش الإرهابي... وأمام المفاهيم القاتلة والأفكار المميتة بتفاسيرها وفتاواها، تطلق دولة الإمارات العربية المتحدة، أرض التسامح وحق الحياة وحقيقة الإنسانية، برئيسها وشيوخها الأجلاء شعاراً لهذا العام سمّته "عام التسامح".
كلنا نعلم أن هذا العنوان ما هو إلا تتويج لرسالة دولة الإمارات الإنسانية والتي أنشأت وزارة خاصة لها لخدمة رسالة السماء المُحبة بين أبناء البشر مسمّية إياها "وزارة التسامح". وفي 20 تموز (يوليو) 2015 أقرّت هذه الدولة الكريمة قانون تحريم وتجريم الإساءة إلى الأديان، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف الوسائل وطرق التعبير، من أجل إعمار سبل التعايش، وفتح آفاق الحوار في قبول الآخر المختلف. وانطلاقاً من هذه الإنسانية التي تزيّن حقيقة مسيرتها، تسجل اليوم دولة الإمارات علامة تاريخية ناصعة في أن تكون أول دولة خليجية مسلمة تستقبل قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، قديس المسيحيين، ذو الرداء الأبيض، ليكون أول بابا يزور دولة من دول الخليج. وهذه الزيارة لها بُعدها الإنساني والإيماني والحواري حيث تتزامن مع التجمّع الدولي الذي تنظمه دولة الإمارات صاحبة المبادرات الإنسانية وحاملة حوار المحبة بعنوان التسامح، والجامعة لأتباع الديانات المتعددة، ففيها يعيش الآلاف بل الملايين من مختلف العقليات والأجناس واللغات والقوميات والطقوس والشعائر بروح المودّة والإحترام.
   في هذا المؤتمر الذي تنظّمه دولة الإمارات، تسطّر الدولة برئيسها وشيوخها وشعبها تاريخاً جديداً عبر المسيرة الإنسانية، ونفحة حوارية تجعل حقيقة التعايش حقيقة إلزامية، وتشهد بذلك أمام هذا التجمّع الدولي وعبر شخصيات دينية ورسمية، عالمية ومحلية، عربية وأجنبية، حاملة عنوانه "المؤتمر العالمي حول الأخوّة الإنسانية"، من الثالث وحتى الرابع من شباط (فبراير) القادم، حيث يتبادل المشاركون ويتحاورون حول سبل العيش المشترك في إنسانية خلاّقة عبر ديانات سماوية قاسمها المشترك إله واحد، خالق السماء والأرض. وما أجمل ما يحمله شعار زيارة قداسة البابا، فهو يمثّل حمامة السلام، حاملة غصن الزيتون ومزيَّنة بألوانها الإماراتية والفاتيكانية، وما أجمله من شعار بل وما أبلغه، فهو رسول السلام بين الإخوة المختلفين، كما كان يوماً فرنسيس الأسيزي في لقائه بالسلطان الكامل بن الملك السلطان العادل الأيوبي في حزيران عام 1219، ومن خلال هذا اللقاء كان الحوار الإسلامي ــ المسيحي شعاراً عبر التاريخ.
   إن هذه الفعاليات الرسمية والإيمانية والحوارية والأخوية ما هي إلا علامات مضيئة على طول درب الحياة في عالم بائس، وعبر عولمة مزيَّنة بطائفيتها المقيتة وتكفيرها القاتل، وفي هذا كله أدركت دولة الإمارات، برعاتها الكرام، أن كلمة السيف لا يمكن أن تحلّ محلّ كلمة الحوار، وإن التعايش ما هو إلا حقيقة الخالق، فما على الإنسان إلا بناء الجسور، كما يقول البابا فرنسيس "إنه ليس هناك دين يمكنه إثارة الحرب بحد ذاته، فلا يمكن إشعال فتيل الحرب وفقاً لأي دين، وبالتالي فإن الإرهاب والحرب لا علاقة لهما بالدين، بل إنهما يستخدمان تشوهات دينية لتبرير أعمالهما، وفي ذلك فالإسلام براء"... وما هذه الإنطلاقة إلا علامة تفاؤل ورجاء من أجل أن يأتي هذا المؤتمر بثمار، وتدوم هذه الثمار، في إقامة علاقات دولية متبادلة في تعايش أخوي عبر العديد من الديانات المختلفة، وكل من دينه ومذهبه، في جامعه يرفع الصلاة كما في كنيسته ومعبده، وما الصلاة إلا علاقة الإنسان بالله من أجل الحياة. فقد جاء في الإنجيل المقدس "أدخل إلى بيتكَ وصلِّ، وأبوكَ الذي يرى في الخفية هو يجازيك" (متى 6:6)، كما جاء في القرآن الكريم: لا فرق بين مؤمن ومؤمن إلا بالتقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (سورة الحجرات 13)، وأيضاً "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى (خطبة حجة الوداع؛ 2-4).
أمام هذا كله أقول: لنحتذِ كلنا، نحن العرب والمسلمون، برسالة دولة الإمارات وما تحمله هذه الرسالة من صفحات الحياة البيضاء، ولنكتب على أسطرها كلمات تنشد الحقيقة والسلام ضد روح البغض والحقد والكراهية، وتحمل معول البناء لتشييد جسور المحبة والتسامح والغفران... فطوبى لكِ، بل هنيئاً لكِ يا دولة الإمارات... طوبى لرجالكِ الشجعان... طوبى لشيوخكِ الأجلاء... طوبى لشعبكِ الوفي الأمين... يا مَن حملتم وأدركتم أن حقيقة الحياة تبدأ بروح التسامح ليس إلا!.
كم أنتِ شجاعة، وهل من رسالة أسمى من هذه في أن تتجرّئين لقول الحقيقة من أجل الإنسانية والخليقة، وما إرادتكم ايها الأمارتيون ، إلا إرادة ذوي الإرادة الطيبة بمفاعيلها المختلفة، ملؤها الخير والبركة من أجل صناعة مسيرة، وصياغة قرار يحمل في طياته حبات التسامح، ليشهد له القاصي والداني، العربي والأجنبي، المسلم والمسيحي، اليهودي والتركماني، الصابئي والإيزيدي. فكم هي عظيمة خصالكم، وكم هي جميلة طيبتكم، كنتم لها بالأمس في الشيخ الكبير، باني صرح دولة الإمارات وقائد المسيرة الشجاعة، الشيخ "زايد بن سلطان آل نهيان" (رحمه الله)، واليوم بكم يا سليلي الباني الكبير، فقد ملأ كرمكم مسارات أفئدتنا وأنتم تجمعون في خيمتكم مسلمين ومسيحيين، وما أجملها تلك الجوامع والكنائس التي تقيمونها على أرض الخير والمحبة، فإنني أتذكر ما قاله وزير التسامح الشيخ "نهيان بن مبارك" ساعة إفتتاح الكنيسة الثانية في أبو ظبي (يونيو، حزيران 2015) "بلدنا، بلد التسامح والحوار".   
نعم ، حينما إستقبل البابا فرنسيس أعضاء من جمعية "مدينة السلام" (4/12/2018) تحدث عن السلام قائلاً:"إنه مسؤولية الجميع، وعلينا بجهود الجميع إزالة الحرب من العالم ومن تاريخ الإنسانية، وهذا يحتاج إلى ساسة قادرين على الحوار مع الآخر، هؤلاء فقط يقيمون السلام"، فالبابا فرنسيس لا زال يرفع صوته عالياً من أجل الدفاع عن شرائح العائلة البشرية الأكثر ضعفاً وتهميشاً عن المساعي الرامية إلى بناء جسور بين الشعوب، وإعادة النظر في المصير الإنساني المشترك.
ختاماً، يا شيوخنا الأجلاء: سماحة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان (رئيس دولة الإمارات)، وسماحة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم إمارة دبي)، إسمحوا لي أن أقول:
أرضكم أرض الخير والبركة، أرض البحر والشمس والخليج، أرض السيرة والمسيرة من الحياة المنفتحة نحو الآخرين، ومن هذه الأرض تشهد منابعكم الإنسانية. وما رسالتكم إلا الحقيقة التي تحملها أرضكم من دعوات ومؤتمرات كلها تنادي بالسلام والوئام والتقريب بين البشر، فأصبحت بذلك مثالاً لدولة حاملة راية التسامح والتصالح مع الله ومع الذات ومع الآخر، وإنكم بذلك تكتبون تاريخكم بأحرف الحقيقة، وتحفظون حقيقة تراثكم ومسيرتكم وعنوانكم لأجيالكم. فاسمحوا لي أن اقول لكم: طوبى لكم... طوبى لكِ يا دولة الإمارات... يا أرض البحر والعقلاء... يا أرض الشمس والشيوخ الأجلاء... نعم، طوبى لكِ... بل هنيئاً لكِ... نعم وآمين.


128
وإن كانت أيامنا قاسية.. فالميلاد بيننا
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
يقول بولس الرسول "ولما تمَّ ملءُ الزمان، أرسل اللهُ ابنَهُ( كلمته)  ، مولوداً من امرأة تحت الناموس، ليُفدي الذين هم تحت الناموس" (غلا 4:4)... هكذا كان مخطط ربّ السماء... إنها مسيرةُ الله نحو شعبِهِ الخاطئ ، فتجسَّدَ وسكنَ بيننا، وكما يقول القديس أوغسطينوس "نزل اللهُ إلينا ليرفَعَ الإنسانَ إليه"... إنها مسيرةُ حبٍّ وإيمانٍ تجسّدت بظهور الملاك مُعلناً فرحةَ ولادة طفل المغارة قائلاً للرعاة:"إنكم تجدون طفلاً ملفوفاً مُضجَعاً في مذود" (لو12:2).. إنه الحملُ الذي يُبطِلُ حِملانَ التقادم .إنه الكلمةَ التي أيَّدَها الروحُ القدس كان هو نورُ الناس، وفيه كانتِ الحياة، واللهُ كان الكلمة (يو1:1)" إن الله يبشركِ بكلمة منه إسمه المسيح" ( سورة عمران 38)  .وما الميلاد إلا هذه الحقيقة، إنه رسالةُ السماء لأبناء الأرض، ولكن لا أحدَ يُدركُ ذلك إلا الذي "وُلِدَ من عَلُ"( يو7:3).  ورسالتنا في أيامها قاسية ، وقساوتها بسبب الخطيئةُ التي لا زالت تعملُ في قلب الإنسان كما تشاء وكما يشاءُ هو، ولا مجال لنبذِها، فهي حلالٌ في حرام، وهي سيدةُ الموقف وسيدةُ العبيدِ والأحرار. هي عاشقةُ لوط وحبيبةُ هيرودس وشهوةُ داود، كما هي خطيئتُنا اليوم.فاليوم كلُّ شيءٍ مُباح، هكذا تُعلنه العولمةُ المزيَّفةُ عِبْرَ تلفازِها ومذياعِها والفيسبوك وآي باتِها، ويبقى صوتُ البابا بيوس الثاني عشر يرنُّ في الآذان بصداهُ الواسع "أنَّ الناسَ يؤمنونَ أنْ لا خطيئة اليوم".

فساد مقدس
أيامُنا قاسية، فقد شُوِّهت حضارتُنا بتشويهِنا للاخر المختلف، بِتُهَمٍ باطلة وبفسادٍ مقدس، وتبقى الدنيا لطالبيها يزمّرونَ فيها ويرقصون، وبكبريائِهِم يَقيسون مسافات الحياة ليكونوا فيها أمراء، بينما الحقيقة هي ان المولود في المغارة ما هو الا "الطريق والحق والحياة" (يو6:14)، كما أننا نقدّس الدنيا ونكرِّسُ أزلامَها في الأمر والنهي. فيها نعبدُ صَنَمَ الخطيئةِ والوثَنَ والإنسانَ، ونجلس على الكراسي لنحاكِمَ الآخرين الأبرياء كي نبرِّءَ أنفُسَنا نحن المتَّهمين، ونستأزر بالمناصبِ ونبخّر الفسادَ ساعاتِ الفجرِ والصباح والظهرِ والغروب والمساء، وكل ذلك مدَّعين أنّ الجنةَ واحةٌ لأحلامِنا، فنُعلنُها جنّةً موعودة كي يدومَ زَيفُهُم في تدمير الآخرين وقتل الحقيقة في صحّتها ورسالتِها المقدسة.فهم يقتلون ويحرقون ويهدّدون ويدنّسون باسمِ الدين كلَّ كلمةٍ وكلَّ عملِ الله الذي بناهُ بحبِّهِ لخليقتِهِ، فشوَّهوا مسيرتَه وغيّروا مفاهيمَهُ.

صورةالله
أيامُنا قاسية، نعم هُجِّرنا من بيوتِنا، ولا زال الألمُ حتى الساعة يملأُ قلوبَنا ويخيِّمُ على صدورِنا، والغفرانُ سلعةٌ بِعناها ولم نشتريها. ورغم ذلك فالمسيحية لا تكرهُ أشخاصاً فهم صورةُ الله إذ قال:"وخلق اللهُ الإنسانَ على صورتِهِ" ( تكوين 1) ، بل نكرَهُ أعمالَهم وشرورَها، وبسببها تُشوَّهُ صورةُ الخالق. وان كانوا يعملون  على قصرِ ثيابهم ،  وتطويلِ لِحاهم  ، وعنترةِ شواربِهم، وتنوع تسريحاتِهم ، وقّصات شعر رؤوسهم  ، باختراعاتِ عولمية مزيفة وآيات مفبركة. ولم يبقَ لنا إلا أن ندركَ عددَهُ ولونَه، ولكن لا حيلةَ في ذلك فالخالق العظيم أسمى، وعالِمٌ بكلِّ شيء فقد قال:"شعورُ رؤوسِكم كلُّه مُحصى" (متى 30:10). كما أرادوا أن نكونَ من أكاديميةِ الرحيل. وأخذنا نحملُ حقائِبَنا وإنْ كنا في بطونِ أمَّهاتِنا بدعوةٍ من إرهابٍ أو حوّاء أو مكاتبَ بيع التذاكر والتأشيرات بشرعيتِها أو بسرقَتِها، ونسينا أنّ الوطنَ أغلى من الإنسان، والترابَ مُلْكُ الأُصلاء. وما قيمةُ الإنسان بدون وطن. فالوطن حضنني في رحمِ أمّي، والوطن أرضعني حليبَ ترابي، والوطن هلَّلَ معي يومَ فرحي، والوطن أعادني إليه بالسلام يومَ نهاية عمري. إنه لأبي ولإبني ولحفيدي مهما طالَ أو قَصُرَ عمرُ الإنسان. ولكن الفساد والخطيئة جعلاهُ بعيداً ومرذولاً ومُداساً، وننتظر منه ساعةَ تموتُ رحمتُهُ، وما يزيد من قساوتِها وجود الفكر الداعشي الذي لا زال يكفّرنا ويضعنا في صفوف الغرباء. كما إنّ الخطابَ الديني لا زال ينشد بأننا لا ندخل جنَّةً قد ورثوها لحسابِهِم، وما ذلك إلا رسالةُ إبادةٍ وتدميرٍ للمكوِّن الأصيل. فقد أباحوا لأنفسِهِم التدميرَ والتهجيرَ والإستيلاءَ على أموالِهِم، ومن المؤسف إنه تشويه لحقيقةٍ، ولا يعرفون إلى أين هم سائرون، فقد أضاعوا بوصلة الحياة كما أضاعوا كلَّ شيء.

حصاد الحقيقة
أيامُنا قاسية، فاليوم بدأنا نخافُ حتى من ظلِّنا. بإطلاقةٍ واحدةٍ يكتبون لوحةَ قبورِنا. عِبْرَ أصواتِنا ينكرونَ حقيقتَنا، يسرقون أرضَنا ويقولون تلك مُلْكٌ لنا. إنها ايامٌ فيها يشوِّهونَ صورَ قديسينا. لم يعدْ لنا مكانٌ نسمعُ فيه حُكمَنا ونُعلنُ فيه حقيقتَنا وخوفَنا، فنكتبُ رحيلَنا لساعةِ الدنيا، ولا يكونُ للدموعِ آهاتٍ وحَسَراتٍ بل هزيمةٌ من دُنيانا.فبسبب خوفِنا تركنا بيوتَنا وحاراتِنا، قُرانا ومدنَنا، وأمست كنائسُنا بلا أنشودة، واصواتُ أجراسِنا خرساء، وهلهولةُ العرسِ بُحَّت أصواتُها، كما لا زالت قبورنا تنشد مصلّيها فلا من مجيب، وربما كان الضياعُ كما قال تلميذا عمّاوس:"وهل كان قلبُنا ملتهباً بنا" (لو32:24). ولكن مهما كانت الحياةُ قاسيةً بمسيرتِها ستبقى أرجلُنا تحرثُ أرضَنا وتزرعُ الرجاءَ والأملَ في حقولِ قلوبِنا، وسنبقى ننتظر حصاد الحقيقة بثمارٍ تعلنُ أزمنةَ التاريخ ومسيرةَ الحضارة، وسنبني قُرانا وكنائسَنا، وستبقى أجراسُنا تدقُّ وتُنشدُ "المجدُ للهِ في العلى...".

صراعات مذهبية
أيامُنا قاسية، فقد غرقنا في صراعاتٍ مذهبية وقومية وطائفية، بل أكثر من ذلك صراعاتٍ عشائرية وقَبَلية ومحلية وحتى وظيفية، ولا يجوز أبداً أنْ نموتَ ساكتين، أو أن نصمتَ صمتاً مخيفاً ومريباً أو أنْ نرحلَ خوفاً، فالمسيح السيد المولود يقول لنا:"أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى 20:28). وأملُنا بحكَّامِنا المخلصين، وبرؤساءِنا الأمناء والأوفياء على رعايتِنا، بل أكثر من ذلك أملُنا في الذي أحبَّنا حتى الموت بأنه يكون معنا. فالأيام أيام الشهادة والحقيقة وليست أيام الكذب والتزوير،  والفساد ، والمصلحة ، والعمومية ، والعشائرية،  والطائفية المقيتة. كما أن الكثيرون يقولون لنا كلاماً جميلاً وطيباً ومعسولاً، وكثيرون يفتحون لنا أبوابَ بلدانِهِم وما ذلك إلا علاماتٌ إنسانية، ولكن لا يكفينا قولاً بل ما نحتاجه هو، نحتاج قانوناً يحكم لنا بحقوقِنا، ويفعّلون ما في نيّاتِهِم أقوالاً كي تحمل دستوراً وطنياً يحمي الترابَ والوطنَ والمواطن دون النظر إلى الديانة والأقلية والأغلبية.

تقسيمات شعبنا
أيامُنا قاسية، فلا مكانة لنا من الإعراب في مسيرةِ الوطن، والأغلبية شيعية مسلمة وأخرى سُنيّة مسلمة، والثالثة كردية سُنيّة وفيلية ثم التركمانية والشبك، ثم نحن المكوِّنات. ومن المؤسف هذه تقسيماتُ شعبِنا، فأين محلُّنا نحن وهذا إقرارُ التاريخ ومسيرةُ الأيام وليس إقرارَ أشخاصٍ. وكأنه مخطط إبادتِنا، وما أكبره وما أقساه. والتاريخُ مليءٌ بالمؤامرات وإنْ كان التاريخُ نفسُهُ ليس مؤامرة بل حواراً وتعايشاً. فهم يبغون اليومَ اقتلاعَ جذورِ المسيحية من الشرق باضطهادِ مؤمنينا علناً أو خفيةً، باشكالٍ مختلفة ، ولكن لنعلم أنه مهما كانت الصِعاب ومهما زاد الظلمُ والإضطهاد ستبقى المسيحية تبني جسورَ الحوارِ في كسرِ حواجزِ الإختلاف. وهذا ما يدعونا إلى عدم الهرب من الشرِّ والألم بل أنْ نقاومَ هبوبَ العواصفَ وأمطارَ الشتاء وسيولَ المياه ورياحَ الإضطهاد، وإطلاقةَ الحقد والكراهية، فلا نقبل أنْ نَفنى ونموت، فإمّا أنْ نوجدَ كشعبٍ أصيل وإلاّ فلا حقيقة في مسيرة الزمن لأنَّ معركَتَنا ليست مع اللحمِ والدم بل مع الأرواحِ الشريرة (متى 17:16).

لسنا هنا للبكاء
مهما تكن أيامنا قاسية فهي تدعونا إلى أن نغيّرَ ونعبرَ إلى الحافةِ الأخرى من جحودِ الإيمان وإيمان العاطفة إلى إيمانٍ نابعٍ من دماءِ الشهداء، فكانوا أوفياءَ لنكون نحن أمناء، ونحمل مسيحيَّتَنا ليس على أفواهِنا بل في عيشِنا عمقَ رسالةِ عماذِنا. ومسيحيتُنا ليست أنشودةً وتنتهي بل رسالة سامية تُنشدُ "قد حلَّ الولدُ المطلوب، ضمنَ المذودِ فوقَ التبنِ". فنحن لسنا هنا للبكاء رغم الأيام الظلامية والجاهلية، ونحن لسنا خرافاً بل نحن ضميرُ الشرق، ، نحملُهُ في مسيرةِ حياتِنا، ، في طريق الحضارة والثقافة والبناء. فنحن لا نموت، لأننا في  شرقِنا لنا رسالة، إنها رسالةُ الحوار والمحبة.

الخاتمة
   نعم ونعم، أيامُنا قاسية، ومع هذا فالميلاد آتٍ ، إنه يسكن بيننا، في ولادته يثمر  الرجاءٍ ويزهر الأمل ، حلَّ بيننا لأنه أحبَّنا، وفيه تمَّ ملءُ الزمان ، وليس زمانَ الأيام والساعات فقط، ولكن بمولدِهِ كانت حقيقةُ الخلاص، واكتمل مخططُ الله فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبر8:13 ). نعم، سنبقى نحملُ رسالةَ الخير والسلام والغفران، وسنبقى نُنشد مع الملائكة "المجدُ للهِ في العلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناس المسرَّة الصالحة".فمهما كانت ايامنا قاسية سيبقى الرجاء وافرا في مسيرتنا ومالئاً قلوبَنا كي لا نخاف ، إنه الرجاء ،إنه الميلاد ، إنه تجديدٌ لأيماننا  ولمسيحيتنا ، فالنبي اشعيا يقول " أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّئاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ ( اشعيا 6:9). هذه هي الحقيقة تنشدها سماء الحياة ويبقى الوطنُ شاهداً لها . وما أجمَلَها فقد كتبناها بدمائِنا شهادةً بل إعلاناً. وعِبْرَ تربةِ وطنِنا نعلنُ عماذَنا ومسيرةَ إيمانِنا... نُعلنُ حبَّنا الموعودَ، وبكلماتِ إنجيلِنا نُعلنُ وَسْمَ حقيقتِنا... إنها حقيقةُ المحبة. فما نحتاجه أنْ نعزّزَ علاقاتِنا، ونثبِّتَ حقوقَنا في دستورِنا أولاً، ثم لا يجوز أنْ نهدأَ أو نسكتَ أو تُرهِقنا الحياةُ فالواجبُ أهم من أن نبقى نطرقَ أبوابَ الداعين من الأوطان. وما علينا إلا توحيدَ كلمتِنا ومبدأَ مسيرتِنا وهدفَ غايتِنا ورسالتِنا، وما ذلك إلا لأجل أجيالِنا كي لا نكون مهمَّشين أو منسيِّين.فإيمانُنا ليس إلا بولادةٍ طفلٍ إسمه يسوع المسيح الحي ،. فكل يوم ، هو ميلاد، وكل يوم ، هو تاريخ ومسيرة، وكلُّ يوم ، رسالة تنمو وتزدهر،  في عقولِنا وأفكارِنا. وليبارك صاحب العيد بلدنا وشعبنا وليحل السلام والامان في ربوع ديارنا من أجل عودة  مهجرينا الى ديارهم نعم وامين . نعم ولد المسيح هاليلويا .





129
بمناسبة حلول عيد الملاد المجيد
إنتظرتُكَ ... أنتَ الرجاء
المونسنيور د. بيوس قاشا
   انتظرتُكَ
   ومللتُ الانتظار
   سئمتُ ... وسألتُ
   بحثتُ عنك...
   في بيوت الأقوياء ... فافترسوني
   في عقول العلماء ... فأصابوني بسهامهم
   في خطب الكبار ... فأخرسني كلامهم
   في مجالس الاقدار ...فهمشوا حقيقتي .. بل وجودي
   بحثتُ وبحثتُ ... فقادني النجم
   إلى كهف صغير ... مغارةٍ لرعاةٍ
   أبرياء .. بسطاء
   هناك وجدتُك ...
   في مذود حقير ...
   في برد وثلج ...
   بين رجل وعذراء...
   بين دفئ الثور والحمار...
   ما هذا الإله ... هل فيه سأجد الرجاء؟
   سألتُ الضيوف الرعاة
   مَن أنتَ؟ ... عن مَن أفتش؟
   أنا الفقير ... الضعيف ...
   عن وليد السماء ..
   فكان الجواب من ملاك
   ترتيلةً ... انشودةً
   مجداً وسلاما وصلاحاً..
   حينها أدركتُ حقيقة المجيء
   ارتعشتُ ... وسجدتُ
   وكررتُ سؤالي ... أفي هذا المشهد رجائي؟
   للعالم الجائع إلى قول الحقيقة؟
   للتائه في صحراء الدنيا والزمن؟
   للحق الذي افترسه الفاسدون؟
   للكبار الذين باعوا ضمائرهم؟
   للإنسان الناكر صراخ الفقراء ؟
   صرختُ عالياً ... وسُمع صراخي
   في الرامة ... بيت لحم ..
   في بيت ساحور ... وأورشليم
   في بلدي ... وحارتي
   يا طفلاً ... يا مضجعاً في مذود
   يا حَمَلاً ... يا صامتاً ومطيعاً
   هكذا أدركتُ
   أنتَ الرجاء ...
   أنتَ الرجاء الذي أختار الصليب
   أنتَ الخاطئ الذي سجد ليوحنا
   أنتَ الحي الذي وُضع في قبر
   أنتَ الاله  الذي لا يموت
   أنتَ الحياة ... انت ستغلب العالم
   لقدغزوتَ نفسي ... وسرتَ معي
   فلا أعلم أراكَ اليوم
   تشبهني  أم أشبهك.. وأسأل
   هل انا صورتك .. هكذا خلقتني
   هل أنتَ اليوم فرحي ... ووجودي
   هل أنتَ اليوم إسمي ... وإيماني
   هل أنتَ اليوم دنياي ... وزماني
   هل أنت اليوم دعوتي ...وقداستي
    نعم ...أنت كل شيء لي...
    نعم انتظرتُكَ ... حينها سمعتُ المنادي ينادي
   ما أجمل الانتظار في الرجاء
    لعالم الفقراء .. البؤساء ..
    فهم الحقيقة والدعاء ...
   همُ الدليل والعذراء
   نحو المغارة  نحو السماء
   ما أبهاكَ ياطفل البؤساء 
   رضيع أنتَ ...بل ملؤه رجاء
   انتظرتك يا طفلنا ..
   للعالم رجاء ...
   وسأعلن الحقيقة..
   مهما كانت الدنيا حمقاء
   فأنا شاهد لها ...وأعلنُ
   أنت ربي .. ورب السماء ...
   انت ربي... أنت الرجاء
   نعم إنتظرتك ...
   وما أقدسه وما أقدسكَ...
   نعم ونعم ونعم وأمين
 
 
 

130
يا مسيحيينا ... كفانا بكاءً ودموعاً

المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
   عالمنا، عالم واقعه بلبلة متواصلة. فالإضطرابات تتعاقب والمآسي هي من صميم التاريخ البشري، والفكر الداعشي لا زال يعمل في قلوب الإرهابيين، والأغلبية السائدة لا زالت تعمل لإلغاء الأقلية بمكوناتها الأصيلة، والطائفية تتقمّص أدوارها في مسيرة الحياة في إلغاء الآخر... وهذه كلها تتراكم علينا وتخنقنا وأخرى مثلها. ففي عالم كهذا قد نشعر نحن المسيحيون أننا معزولون ويائسون، وإننا نكتب تاريخ محو وجودنا.
مستوى المشاركة
وفي شرقنا الجريح ، عانى المسيحيون في كل الأزمنة ، من أشكال عديدة من التمييز من قِبَل الحكومات ومن قِبَل كبار الزمن وحسب ما يحلو لهم، ومن الدساتير ومستواها القانوني، أو على مستوى المشاركة في الحكومات والأنظمة السائدة، أو التمثيل، أو المناصب السياسية لجهة أو لأخرى، كما هم أقلّ حظاً في نيل حقوقهم عبر مجالات الحريات الدينية أو الوظيفية أو الدستورية، فما عليهم إلا أن يكونوا في درجات أدنى في المجتمعات من المختلف عنهم دينياً وقومياً وأقلية وأغلبية وما شاكل ذلك.
محاولات بائسة
نعم، لقد كان المسيحيون أبناء المنطقة وأصلاء الثقافة والحضارة والتاريخ، كما كانوا دُعاة حرية وتحرر ونهضة وتنوير، وعُرف عنهم إخلاصهم لوطنهم وحبّهم لتربتهم ومناصرين لوحدة أوطانهم في دولهم ومجتمعاتهم، ومساهمين أساسيين في البنيان والثقافة وتطوير المجتمعات اقتصادياً وحضارياً وعلمياً.ورغم هذا كله ، هناك محاولات هنا وهناك تقلّل وتغيّب وجودهم وما ذلك إلا محاولات بائسة ويائسة تقوم بها جهات متطرفة تدّعي أنها الأغلبية فتتعامل بالطائفية من أجل إقصاء الأقلية، والنظر إليها نظرات ثانوية وربما أحياناً يحسبونهم جيوباً وبقايا للإستعمار البائس أو جاليات وافدة إلى مشرقنا، والحقيقة عكس ذلك تماماً فالمسيحيون ليسوا هؤلاء بل هم أهل حضارة مشرقنا وثقافته وتراثه، وأكثر من ذلك حقيقته ووجوده. ووجود المسيحية لا يقبل المقايضة أو القسمة أو الانتقاص والمساومة فهم كما يقول التاريخ،  إن تاريخ المسيحيين ما هو إلا صفحات ناصعة من تاريخ هذه المنطقة، حملوا استقلال بلدانهم على أكتافهم، وبناء أوطانهم في عقولهم، فكانوا مواطنين، بل مواطنين أصلاء ليس إلا...!!.
تدمير الاخر
وأمام ظاهرة صعود الإسلام السياسي في بعض دول مشرقنا ومجتمعاتنا العربية بدت هذه المجتمعات أقل تسامحاً حيال بعض مكوناتها خصوصاً في ظل خطابات مدمِّرة وقاتلة، وانتشار تفسيرات لقراءات متطرفة وشاذّة لتعاليم الدين الإسلامي، بالإضافة إلى تفشّي بين العديد من الأصوليين ، مظاهر الإقصاء والتكفير وتدمير الآخر المختلف ، ومنعه من ممارسة حقوقه وجعله من المنبوذين في هذه المجتمعات، فيبقى الإرهاب هو السبيل، والجزية هي المسار، والهزيمة هي الحل... أليس كذلك؟.ومع هذا يجب علينا نحن المسيحيين أن نميّز بين هذه الحركات التكفيرية والتهجيرية والجزيوية وعدم وضعها في سلّة واحدة مع المعتدلين والذين يفتشون ويقرّون بالمواطنة الحقيقية وليس المواطنة التابعة لإرادة الأغلبية، فما تلك إلا تيارات تكفيرية وإلغائية للآخر وتدمير حقوقهم في سلب حرياتهم ومحو وجودهم، وما على الإسلام المعتدل إلا أن يحارب بجدية تلك تيارات التطرف والتكفير ليس إلا...!!.
البابا فرنسيس
من المؤكد أننا سنبقى في دوامة كان لها بداية ولن يكون لها نهاية إذا كانت مسيرة الزمن تقودنا إلى إقصاء الآخر المختلف، وإلى تكفير المختلف عقيدةً وإيماناً، وسيأتي يوماً نراه أم لا فتلك مشيئة الله. ستفرغ أوطاننا من وجودنا بسبب المختلف عنّا، وسنبيع ترابنا وأرضنا ومياهنا إن لم نكن نغادرها ونتركها لأناس أرادوا بإيمانهم أن يمحوا وجودنا ورسالتنا، وفي ذلك يتحقق قول البابا فرنسيس "إذا ما فرغ الشرق الأوسط من المسيحيين فلن يبقى شرقاً أوسطاً" (لقاء أسيزي للسلام مع بطاركة الشرق؛ 7 تموز 2018)، بل أقولها شرقاً إسلامياً وربما (إسلاموياً)، وما تلك إلا نبوءة وهي الحقيقة بالذات ليس إلا...!!.
تثبيت مسيحيينا
ما نحتاج إليه ومع كل التقدير وآيات الشكر والإمتنان للجهود التي تبذلها أطراف عديدة رسمية كانت أو إنسانية أو دولية بمنظماتها العديدة في المجتمع الدولي والتي تقوم بإعمار ما خرّبه المجرمون وما دمّره الإرهاب، وبتقديم القوت الدنيوي والعون الإنساني لمئات بل لألوف النازحين واللاجئين والمشرّدين، فكل هذا وذاك جميل جداً بل واجب وحقيقة إنسانية ولكن الأولوية تكمن في نقطتين ولا أكثر من ذلك: ففي الأولى يجب أن نعمل كل ما في وسعنا لتثبيت مسيحيينا في أوطانهم الأصيلة والأصلية عبر توفير حسّ الإيمان للثبات في أرضهم وتقويتهم وتشجيعهم على حمل الشهادة في مواجهة المخاطر وإن كانت التحديات تعترضهم. كما على دول المنطقة والدول الغنيّة أن تعمل عبر حكوماتها ومجتمعاتها ومنظماتها من أجل الحفاظ على الوجود المسيحي وتعزيزه في الأيادي العاملة إذا ما أرادوا أن يحيا المسيحيون في مجتمعاتهم المختلفة الأديان والأعراق، وإلا هم أنفسهم يساهمون في إفراغ بلدان مشرقنا من مكوننا هذا. فبدل تسهيل هجرة المسيحيين والمكونات الأخرى لغايات سياسية مصلحية ديموغرافية ، فليكن الصدق والانسانية ولتكن الحقيقة والوطنية هما القاسم المشترك ، كي يكونا البرهان الأكيد في كلامهم وتصريحاتهم ،  وحقيقته في تثبيت المسيحيين في أرضهم ، وليس تهجيرهم لغايات،  نعم فالاولويه هي  في تثبيتهم  وليس في ترحيلهم.
   الختام
      ختاماً... إنني أجد نفسي في ضياع من الحقيقة الأصيلة، ومع هذا الضياع هناك رجاء " إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ. (1كو 19:15) ولكن رجاؤنا في القيامة " حيث المسيح جالس عن يمين الله الاب" ( عبر 2:1-3 ) فهو يملأ مسيرة إيماني. فنحن جميعاً مدعوون لأن نبني أرضنا عبر طرق جيدة وإنْ كان الضباب يسيطر علينا أحياناً والقلق والتراخي، وإذا ما أصابنا ذلك فلنذكر ما قاله الرب يسوع "لا تخافوا"، إنها كلمة ثقة بل كلمة انتماء، فالله اختارنا هنا لنحمل رسالة الإنجيل وليس لنبكي ونولول ونذرف دموعاً على ما ضاع منا  وما حصل لنا وما حلّ بنا ، فلم يكن ذلك أغلى من الجمعة العظيمة، التي فيها حُكم على المسيح ، ففكروا أنّ الرسالة أنتهت وانتهى معها مسيحها ،  بل ليملأ الرجاء قلوبنا ، ولننظر إلى القيامة فنلتقي بالمسيح القائم ن إنه السيد الرب ، إنه ليس في القبر .. إنه الطريق والحق والحياة( يو 6:14) ، وهو كنزنا في السماء ( متى 20:6) ولنبدأ ببناء الحياة، بانتمائنا الى تربتنا وجرن عماذنا ، وكنائسنا ، فانتمائنا هو حقيقة وجودنا، كما هو حقيقة ايماننا .. نعم وآمين.


131
نعم ، كلنا مهاجَرون وشهداء وإنْ كنّا أحياء
   
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
نعم،.. هذا هو حالنا، فنحن اليوم وسط عالم ملؤه الكراهية، ويسوده العنف والحقد والطائفية،
 فضاعت كما تاهت فيه قِيَم الإنسانية بشهوة السيطرة على الأقلية وإذلالها عبر سبل الطائفية المقيتة والعشائرية المنبوذة والقبلية المتخلفة بتمييزها العرقي والديني والمذهبي من أجل قلع جذور الأصلاء والذهاب إلى طريق النزوح والهجرة والمغادرة نحو الغربة القاتلة في بلاد الغربة، متسلّحين بذرائع عديدة وحجج مختلفة، وهذا ما يزيد الحياة فساداً وتهميشاً، ويملك حب السلطة والابتزاز من أجل مصالح أنانية... وما تلك إلا مشيئة مسيَّسة.
زيارة حج
حالفني الحظ أن أقوم بزيارة حج ، نعم بزيارة حج إلى دير مار بهنام الشهيد المشيَّد في (القرن الرابع الميلادي حيث يرتبط بقصة الأمير الآشوري مار بهنام الذي أصبح مسيحيا مع أخته سارة وأربعين من اتباعه على يد مار متي ، فلما علم والده الملك سنحاريب بالأمر أمر بقتلهم جميعا. غير أنه ندم ندما شديدا على ذلك فاعتنق المسيحية ، وأمر ببناء الدير تكفيرا عن ذنبه.  فلقد تم بناء الكنيسة والدير في عهد شابور الثالث (383م-388م) ثم بهرام الرابع 388(م-399م) ويزدجر الاول (399م - 420م)  والدير يتربع في حضرة قرية الخضر، وهو شفيع باخديدا وسهل نينوى بامتياز، وكم كنتُ أتطلّع باشتياق إلى هذا الحج وهذه الزيارة، فالفارس بهنام شفيعنا وشفيع مدينتنا وسهلنا بأكمله،مسلمين ومسيحيين ،  وهي المرة الأولى التي أقوم فيها بالحج إليه بعد تحريره من داعش الإجرامي من قِبَل قوات جيشنا العراقي الباسل والحشد الشعبي والعشائري، وقد آلمني ما رأيتُ والدمار الذي أصابه بعد ما اقترفته أيادي الأثمة من تنظيم الدولة، فقد مَحَوا تاريخ الدير من أصوله وحضارته، ومسحوا صفحات تاريخه، ونهبوا ممتلكاته واستولوا على مقتنياته، والأنكى من ذلك أنهم أبادوا كل ما هو مسيحي وكل أثر يحمل علامات إيمان مؤمني المسيح الحي من صلبان وتماثيل وأيقونات مرمرية فدمّروه بفأس العار لا لشيء إلا لأنهم يحسبون أصحاب الإنجيل المقدس كفّاراً ومشركين، فهكذا يقول فكرهم البائس، فنالوا من قدسية الدير مبتغاهم، ولو سألناهم كم وكم من المرات ملأ الدير بطونهم وأتخم كروشهم بما أكلوه من خيراته وما شربوه من ينابيع مياهه فلا جواب لهم إلا إننا كفّار، ومع هذا فهم يحسبون كل شيء يقومون به حلالاً طاعة لإله تنظيمهم البائس،إنه دمار وموت وتهجير وتكفير وذبح وجزية وشهادة وأكثر من ذلك.نعم ، هذا ما خلّفه وراءه تنظيم الدولة الإسلامية، ومما زاد في نهجه التدميري،  انه أنشأ صراعات طائفية، وسيَّس الدين وأولجه في قوالب القتل والدمار والذبح. فالمسلمون والمسيحيون حلال قتلهم إنْ لم يكونوا في طاعة الإرهاب في أي بلد عربي كان،بل في العالم باسره ،  وما هذا إلا ديدنهم. فلقد تمت التضحية بالإنسان وبحضارته وعلمه وبشعوب المنطقة في سبيل مصالح أجنبية وعمالة مربحة، فهذه السياسة المدمِّرة هي التي تسبّبت بقتلنا وتهجيرنا من بلادنا، وفي ذلك ما نحن إلا مشاريع استشهاد في سبيل الحقيقة وإن كنّا أحياء، وما جريمتنا ، إلا أن الأرض أرضنا ونحبها، إنها أرض آبائي وأجدادي، دُفنوا في ترابها، وجَبلوا ترابها بدماء رقابهم ضحايا، شهداء، فعُجنوا فيها كالخميرة وستبقى( متى 6   ) ، ومهما كان زمن الإرهاب طويلاً ستبقى أرض أرضنا ، وبدوننا ستعود الأرض صحراء قاحلة لا نَفَس فيها ولا حياة، كما ستبقى أسواقاً للجاهلية والتخلّف والارهاب .
هجرة وضياع
أكيد إن الأحوال اليائسة التي نحياها جعلت مكوِّننا الأصيل يفكر في الهجرة والضياع بسبب ما يعانيه من الأمان الهشّ وسرقة ممتلكاته وأراضيه. إنهم يريدوننا أن نكون لهم عبيداً. إنهم يريدون أن يستملكوا عقاراتنا، أراضينا، بيوتنا، مدّعين أن ذلك ما هو إلا غنائم حصلوا عليها عبر إجرامهم البائس. فنحن كفرة ولا يجوز أن نمكث ديار آبائنا قائلين "هذه ليست دياركم، اخرجوا ولا تبقوا في البلاد وإلا ستدفعون ثمن بقائكم شئتم أم أبيتم. فارحلوا"... إنها عبارات قيلت لكثيرين من الذين خطفتهم القاعدة بالأمس، واليوم تنظيمهم البائس.
البابا فرنسيس
في الثامن من تموز 2018، قال قداسة البابا فرنسيس خلال لقائه البابا تواضيروس (بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية)، قال:"لقد سادت في السنوات الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط حروب وظلم وعنف وهجرة إجبارية، وأمام كل هذا صمت الكثير وأصبح الشرق الأوسط مهدَّداً بهجرة المسيحيين منه. ولكن إذا افتقر الشرق الأوسط من المسيحيين لن يصبح شرقاً أوسط، وستتغير طبيعته ووجهه"... وما ذلك إلا صوت الحقيقة.
خارطة طريق
   أحبائي المسيحيين... تعالوا نرسم لنا خارطة طريق، فالمرحلة المقبلة تحمل لنا تحديات خطيرة بل مميتة. فوجودنا في امتحانٍ قاسٍ، ودورنا قد انحسر في بيوتنا، فكفانا تشتّتاً وانقساماً، وكفانا كلاماً وصراخاً، فالوطن وطننا ولا يمكن أن نسترجعه إذا ما اضعناه أو إذا ما طُردنا منه، فالحجّة اليوم هي للأقوى، ومع موت الوطن يموت الحوار المتبادَل ويعقبه موت العيش المشترك، وتنحسر فيه التعددية وتموت الاقلية، فيتحقق قول قداسة البابا فرنسيس إذ قال:"إذا افتقر الشرق الأوسط من المسيحيين لن يصبح شرقاً أوسطا، وستتغير طبيعته ووجهه"، والويل لنا إذا اضعنا أرضنا.
   مخططات ومغامرة
نعم، لندرك أن مخططات عديدة تترقبنا وهذه كلها ستحدد مصيرنا ومصير وجودنا في أرض أجدادنا، فما نحن إلا حملان لإبراهيم، ساعة يشاؤون علينا أن نكون لهم ومن أجلهم، فنحن أمام مخططاتهم عناصر معادية يجب القضاء عليها. كما نحن مدعوون إلى أن نخوض المغامرة وإن كان" الاضطهاد " ( متى 44:5     ) يلفّ المسيحيين في العالم وعلى مستويات عالية، فما علينا إلا أن نكافح من أجل البقاء. إننا نرى وطننا يتداعى، وما ذلك إلا وصمة عار على جبيننا كلنا، فنحن على شفير الهاوية، وعبثاً نحن نفتش عن شعبنا ونحن متنازِعون.وإنني متعجب، فلم أجد ولم أسمع ولم أحضر اجتماعات ومؤتمرات ومناشدات وبيانات وإعلانات وصراخات و... و... هذه السنين بقدر ما سمعته في  السنين السابقة التي كنّا فيها لا نحتاج إلى شيء، فكل شيء كان واضحاً، والمسيرة أوضح ومع هذا فالمخطط واضح وظاهر أمام الملأ ولكن ربما لا نريد ان نسمع وأن نرى والقافلة تسير نحو الضياع ، حتى ما ؟؟.
صوت صارخ 
فكونوا أمناء لكنيسة أمّنا، لأنكم أنتم رجاؤها... بالمسيح الذي هو رجاؤنا ، أنتم رسل المحبة بعيشكم القيم المسيحية المتجسدة في الخدمة المجانية من أجل نشر العدالة والسلام. فتعالوا نعود إلى جذور إيماننا، فإنني أقولها: إن إيماننا لا زال ربما سطحياً بل عاطفياً، لا ندرك كيف نحياه في مراحل مسيرتنا الصعبة، وفي الغالب يصيبنا الإحباط والملل بل ربما نقع في مسيرة ضياع تقودنا إلى الهجرة شئنا أم أبينا. واعلموا أن مشكلتنا لا تُحَلّ بالبكاء والعويل والرحيل، فالحياة لا تقاس بسندويج المساء ونعاس الليل، بل أن نكون صوتاً صارخاً متحدّين صوت المخططات السيء الصيت، وفي ذلك ندرك _ كما يقول الكاردينال البطريرك ساكو _ أن كنيسة اليوم هي غير كنيسة الأمس (كنيسة أيام زمان)، فنحن بحاجة إلى مواجهة تحديات جديدة من أجل معالجة ملائِمة وطروحات ينبغي التعامل معها.
موقف تاريخي
      وهنا اذكر ما قاله يوماً قداسة البابا شنودة الثالث مُظهراً موقفه التاريخي في مسيرة الكنيسة القبطية ألأرثوذكسية، قال:"إنْ كانت أمريكا ستحمي كنائس مصر فليَمُت الأقباط وتحيا مصر"، وجاءت هذه المقولة في إطار ما كان يشاع من محاولة تهجير المسيحيين في بلدان الشرق بدءاً بمصر ومروراً بالعراق وسوريا ولبنان.
   إن هذه المقولة علامة أكيدة أنْ لا أحد يحمي المسيحيين والمكوِّنات إلا المصالح والمخططات، وما أكثر الذين يعلنون عكس ذلك عبر البيانات والإعلانات والتصريحات والزيارات. وأما الحقيقة فهي غير ذلك لأن الأيام تظهرها لنا جلياً وتفسرها لنا مسيرة حياتنا، وأصبحنا لا نكترث بالمظاهر الخارجية المفعَمة أحياناً بالنفاق إنما نبتغي نفوساً صدقت في إيمانها، وجسّدت تعاليمها السماء، لأن مثل هذه المظاهر لا يمكن أن تخدعنا لفترة طويلة ولكنها تعجز عن خداع حقيقة الحياة. فما نحتاجه ليس فقط الصمت والسكون بل علينا أن نكسر حداد الصمت ونعلنها واضحاً وجلياً وبصوتٍ عالٍ كي تُعلَن شهادتنا لمسيرتنا ولإيماننا، فإذا خسر المسيحيون حضورهم وتأثيرهم في هذا الشرق فمن المؤكَّد أننا سنكون مع مَشْرِق متطرّف ومتعصّب، وتبقى الحروب ومآسيها جاثمة على صدورنا حتى تدفع بنا إلى الرحيل والهجرة والنزوح والشهادة والموت وفقدان الثقة. فلا يجوز أن نختبئ خلف هموم تافهة فنكون عملاء لغايات شريرة ومسيسة ، فيظيع وجودنا وتموت حقيقتنا.ولنملك رجاء الحياة بالمسيح الحي وان كنا نعيش ازمة رجاء فالواقع يرفض كل حقيقة ويعلن الفساد حقيقة، وهذا ما يجعل الإنسان تعيساً لأن رجاءه وُضِع في هذه الدنيا،  ليس إلا .
الختام
وختاما اقول ، ومع هذا أيها الإرهابيون، اعلموا أنّ الرب المسيح الحي أوصانا بكم وقال لنا "صلّوا لأجل أعدائكم وأحبوهم"(لوقا 6: 27-38) ، فنحن اليوم _ كما في الماضي _ نرفع صلاتنا إلى الإله الحق بالمسيح الحي لكي يمنحكم نعمة التوبة والندامة على أعمالكم الإجرامية. واعلموا جيداً _ أنتم وغيركم من الدواعش _ أن أجدادنا وآباءنا هم علّموا آباءكم وأجدادكم القراءة والكتابة والحساب، وترجموا لكم كتباً لتكون دليلاً لعلمكم البائس القاتل والمميت، وبنوا وأسّسوا لكم مدارس ومعاهد لكي تدركوا علم الحياة. ألبسوكم يوم كنتم عريانين، وطيّبوكم يوم كنتم مرضى في بيوتهم ومستشفياتهم، واسكنوكم حضارة الحياة عبر مساكن الراحة بدل خيم الصحراء، ووضعوكم في مسار التاريخ لتدركوا حقيقة الأثر حينما يُبنى السلام والتعايش، ولكنكم لم تفلحوا في ذلك شيئاً. علّموا أسنانكم أكل حنطة الحياة من أجل سنابل الحضارة والحوار، ولكنكم لا زلتم متعوّدين على افتراس البريء وسحق الحقيقة وقتل الضحية، ولكن اعلموا مهما ذبحتم، ومهما هدمتم منازل وكنائس وأديرة، وسرقتم أموالاً وممتلكات، وحرقتم بيوتاً، فنحن سنبقى نسير بقاماتٍ طوال، ونبقى نحرث أرضنا ونزرعها لتُنبت سنابل السلام بحبات الحوار، وعندما نكبر،  وتتعبون أنتم من حروبكم البائسة، وتفرغون عقولكم من حقدكم وكراهيتكم وتكفيركم وأعمالكم الإجرامية، ندعوكم ضيوفاً لتستظلّوا بظلّها. فالمسيحية شجرة باسقة تعطي ثمراً للجائع في أوانه وفي غيره (لوقا 43:6) ، كما هي ظلّ للمتعَب وحياة للمائت (  يو 25:11 ) . ونعلمكم إذا ما تبتم عن أعمالكم ورجعتم عن جرائمكم، تأكدوا أننا سنسامحكم ونقول لكم "إننا نحبكم" ( لو6: 27-38 ) ، فهكذا علّمنا إلهنا، المسيح الحي، الذي لا يموت.نعم هذه شهادتنا وهذا أستشهادنا ، نعم وامين .


   

132
البابا فرنسيس : إن جذور أنفسنا هي في الشرق الأوسط
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
في كلمة لقداسة البابا فرنسيس أمام رؤوساء وممثلي الكنائس الشرقية في الصلاة المسكونية
على نية السلام ووقف الحرب والعنف في منطقة الشرق الأوسط في مدينة باري بأسيزي الإيطالية( اسيزي 7 تموز 2018) قال قداسته"أذهاننا وقلوبنا موجَّهة نحو الشرق الأوسط، من هناك انتشر في العالم أجمع نور الإيمان".إنّ هذا التقليد هو كنز ينبغي علينا الحفاظ عليه بكامل قوانا لأن جذور نفوسنا هي في الشرق الأوسط، ولكن تكاتفت على هذه المنطقة ــ ولاسيما خلال السنوات الأخيرة ــ غيوم الظلام، حرب وعنف ودمار، إحتلال وأشكال من التطرف، هجرات قسرية وترك، وهذا كله في صمت العديد وتواطئ الكثيرين، فأصبح الشرق الأوسط أرض أشخاص يتركون أرضهم. وأضاف قداسته ايضا:  "نريد أن نعطي صوتاً لِمَن لا صوت له"، فالمسيحيون في الواقع هم نور العالم، ليس فقط عندما يكون كل ما يحيط بنا مشعّاً وإنما أيضاً في لحظات التاريخ المظلمة، فهم لا يستسلمون إزاء الظلام الذي يخيّم على كل شيء، ويغذّون فتيل الرجاء بزيت الصلاة والمحبة". ليحلّ السلام... إنها صرخة العديدين، هابيل اليوم، التي تصعد إلى عرش الله، ومن أجل هؤلاء لا يمكننا أن نسمح أن يقال بعد الآن في الشرق الأوسط كما في أي مكان آخر "أحارس أنا لأخي ؟".
ابواب مفتوحة
كما قالت منظمة بورت اوفيرت (أبواب مفتوحة)، وهي منظمة فرنسية غير حكومية مختصة في الدفاع عن الحرية الدينية للمسيحيين، في تقريرها لعام 2018 أن في عن خمسين دولة حيث يتعرض المسيحيون لاضطهاد وتهجير، فقد قالت: أن هناك 215 مليوناً مسيحياً يتعرضون للاضطهاد والتهجير حول العالم، وقد أتت عشر دول عربية ضمن المراتب العشرين الأولى في القائمة، وأحد الأسباب واضحة وجلية ألا وهي انتشار الأصولية والإسلاموفوبيا.
أصبحنا تائهين
   أمام هذا الاضطهاد والتهجير هناك أهواء سياسية عديدة لا زالت تقذفنا اليوم من شاطئ إلى آخر ومن بلد إلى آخر دون أن ندرك ماذا نريد وكيف نحصل على ما نريد وما غاية ما نريد. فَعِلْمُ السياسة والإعلام لم نَتقن حتى الآن فنونَه وقواعدَه ومطاليبه وأهدافَه وغاياتِه، فهو بحر قد غرقنا فيه منذ أعوام، ولا زلنا حتى الساعة لم نتعلم كيف نسيّر مركبَنا وإن كانت الرياح عاصفة، وإلى أي صوب نوجّه بوصلتنا. فما يحصل لنا ولوطننا قد أعمى حتى عيوننا، وأصبحنا تائهين في ساحات التاريخ لا ندرك أين نحن وإلى أين ماضون.. فهل نحن باقون أم ضائعون!!!؟.
   رسالة حوار
   إن الوجود المسيحي العريق والأصيل، ومبتغاه العيش المشترك والحوار المتبادل النزيه مع المسلمين، هو بحدّ ذاته رسالة. وما أراه هو المستَهدَف والذي يراد من قِبَل البعض بل من قِبَل الكثيرين أن ينتهي، ولكن الكنيسة الجامعة توصينا دائماً بمواصلة الحوار. ومهما كانت المسيرة قاسية، فعيشنا المشترك ما هو إلا رسالة حوار وقبول الآخر المختلف لإدراك ما هي القواسم المشتركة الكبيرة التي تجمعنا، لنكون علامة استقرار وازدهار في تحقيق العدالة، وهذه رسالة ملؤها الحيوية لأمن وسلام العالم، والنظر إلى الطموحات والتطلّعات في سبيل هذا العيش المشترك. فنحن مسيحيون ننظر إلى مبادرات قداسة البابا فرنسيس، والبابوات من قبله، ومواقفهم الإنسانية النبيلة والكبيرة والمسالِمة وهم ينادون بالتفكير الجدّي في حل النزاعات والمشكلات، وينظرون إلى التحديات التي تواجه منطقتنا بعين المحبة والإنسانية والتسامح على أساس احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان وقِيَم الإنسانية الرفيعة والمواطنة، وهذه أمور كلها تضمن الحرص على العيش المشترك وعلى أهمية الحفاظ على هذا العيش المشترك كنموذج يُحتذى به في المجتمعات ذات التنوع الديني والعرقي، وما ذلك إلا مباردات يمكن أن تُسهم في إرساء الحوار والتعاون لتكون الشراكة إنسانية وثقافية وحضارية بدلاً من أن تتحول إلى مستنقع للموت والتهجير والتكفير.
   طرق مختلفة
نعم، لا زالت المسيحية في شرقنا عامة وفي عراقنا الجريح خاصة أمام قصص مأسوية لا تنتهي، غريبة بواقعها ومخيفة بفحواها وجريمة بارتكابها، ولا زالت تهاجمنا وبطرق مختلفة كوارث متعددة من أجل النيل من وجودنا. فأزلام الموت ــ الإرهابيون ــ لا زالوا متأهبين دائماً بل مستعدين لتدميرنا وتكفيرنا، ولا زال الفكر الداعشي يريد قتلنا ويصبو إلى نهب أموالنا واستباحة خيراتنا، وما ذلك إلا من أجل محو إسمنا وطمر حضارتنا وإنهاء وجودنا وتغيير ديننا وإيماننا، وفي أرضٍ كانت لنا أصولاً وكنا نحن فيها أصلاء كما كنّا لها حضارةً وعلماً وتاريخاً.

اين نحن
أسأل نفسي: هل هو زمن الهزيمة، هزيمة القِيَم والأخلاق، هزيمة الصدق والحقيقة، أم هزيمة الحضارة والأصالة؟... إنها هزيمة في كل المجالات، هزيمة لتشويه وجودنا وسجلات أحوالنا ومسيرة تاريخنا ليكتبوها لنا دوماً هزيمة أبدية، وما تلك إلا مصيبة ابتُلينا بها واكتنفتنا حينما استولى داعش على أملاكنا، وهجَّرنا من بيوتنا، وسرق أملاكنا وحلالنا، ففي ذلك يعيدون التاريخ وسجّل آبائهم وأجدادهم والتي ارتكبوها بحق شعوبنا وآبائنا وأجدادنا،. وهذا ما يصفه المسيحيون بالاضطهاد، فتعلو أصواتهم "أن هذا البلد لم يَعُد لنا"، "لننفض غبار أرجلنا" (لوقا 5:9)، "علينا أن نهاجر إذ لم يبقَ لنا فيه خبزة نتقاسمها". فالمؤامرة جرفتنا بسيولها، وازدادت همومنا، وتاهت عقولنا في مستقبل مجهول، وما نحن إلا في مستنقع المستقبل المخيف.ما أراه: الدمار والألم والحقد هذه كلها تحوم حولنا، والكراهية تسجل محو وجودنا، والبغضاء في مسيرتنا تنتقل من شخص إلى آخر ومن حارة إلى أخرى ومن دار إلى دار، وازدادت المساحة فصارت من بلد إلى آخر، وأصبحنا مذهباً مكروهاً وديناً كافراً وأمّة لا حول لها ولا قوة، وشعباً يقاسي وحدة، وكل يدلو بدلوه لأمته فلا يجوز ابداً ولا نقبل أن نفنى ونموت لاننا في ذلك سنكون سبباً في ضياع إيماننا وفقدان مسيحيتنا، فتُقلَع جذورنا وتموت أصولنا في أرضٍ غنّينا لها أغانينا ورقصنا من أجلها. وان كان هناك هناك مخططات عديدة تتنازع مسيرتنا في أرضنا الأصيلة، وفي قلع اصولنا وجذورنا لشهوات سياسية ، وديموغرافيات مسيّسة ، لمصالح وغايات تكفيرية، وما رسالتنا الا ان نكون أمناء لايماننا واوفياء لمسيحيتنا فنكون مخلصين لانجيلنا في ان نكون عناصر حوار وتعايش مهما قست الينا الايام علينا ، فالمسيحية نور للعالم ولا يمكن كما لا يجوز ابداً ان ينطفئ هذا النور من شرقنا فلا تهزّكم العاصفة واعملوا على ان لا تغمر السيول والأمواج زورق مسيحيتكم وايمانكم  ، لأنّ إيمانكَم يأمر الهواء والسيول ، الرياح والأمواج بالهدوء والسكون ، عندئذٍ يختفي الخطر .لا تنسىوا أبداً أننا نحن أيضًا كالرسل نُبحِر على بحيرة هذا العالم ولا ينقص فيها لا الهواء ولا الرياح ولا العواصف ولا الأمراض ولا الصعوبات ولا الاضطهاد  بشتّى أنواعها . انها تجارب هذا العالم اليوميّة فهي تغمر سفينتنا كل يومٍ وفِي كُلِّ لحظةٍ ودقيقة .وربما نسأل من أين تأتي هذه الرياح والعواصف ؟ هذه الصعوبات والتجارب ، هل بسبب أن الرّب يسوع نائم او قد نسانا ام ماذا  ” ؟أقولُ لكم : لا ، لو لم يكن الرّب يسوع نائمًا فينا، لما خضعنا لهذه العواصف ، ولكن بإيماننا سننتصر وسنفرح وسنبقى في طمأنينة داخليّة وسعادة كبيرة ، لأنّ الرّب يسوع ساهرٌ معنا  ولا يتركنا  أبداً ، فهو الذي قال  : ” لا تخافوا ، هاءنذا معَكم طَوالَ الأيام إلى نهايةِ العالم ” ( متى ٢٨ : ٢٠ ) هذه هي جذورنا انها جذور ايماننا ، انها رسالة سامية نحملها في مسيرة الحياة ليس الا . نعم وامين 
الخاتمة
نعم كما أعلن قداسة البابا فرنسيس قد أمام المشاركين في لقاء حول الأزمة الإنسانية في سوريا والعراق في أيلول 2018ــ وبصوت يهدر
دون انقطاع، وبشجاعة ملؤها المحبة والغفران ــ "هناك خطر أن يُلغى الحضور المسيحي من تلك الأرض التي منها انتشر في العالم نور الإنجيل" ، فمن المؤكد ليس من السهولة مقاومة هبوب عواصف التكفير وسيول الاضطهاد، وهذا ما يجعلنا أمام أزمة ارهاب تطردنا من ديارنا، ومسيحيتنا لا زالت مجبولة بالمآسي. " إن اللامبالاة تقتل، ونريد أن نكون الصوت الذي يتعارض مع جريمة اللامبالاة. نريد أن نعطي صوتاً لِمَن لا صوت له وللباكين، لأن الشرق الأوسط اليوم يبكي ويتألم ويصمت فيما يدوسه آخرون بحثاً عن السلطة والمال" .لذا عملاً بنداء الكنيسة وبما يقوله قداسة البابا فرنسيس ، لا يجوز ابداً الاستسلام لظلمات العنف، ولنحافظ على شعلة الرجاء متّقدة بنعمة الله، ولننظر إلى المستقبل"... فأنا أؤمن أن الله يرى مآسينا، ويدرك تماماً كم هو" ثقيل صليبنا ومن المؤكد انه سيحمله معنا" (متى 32:27) ، ويسمع صراخنا، وينتبه إلى أنين أمّهاتنا وبكاء أطفالنا وحسرات شبابنا... " فهل سيأتي لينقذنا" (مرقس 4:35) !؟. وما هذا إلا صوت البابا فرنسيس والارشاد الرسولي لكنائس الشرق الاوسط ، صوت ابائنا ورؤوسائنا الاجلاء ، نعم وامين .

133
والشاهدُ على درب الحقيقة يروي قصةَ مسيرةِ الألم (6-4)
                                             
المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء
اقول يارب منك الرحمة لضحايانا وشهدائنا في عراقنا الجريح واسكنهم خدرك السماوي مع الابرار والصديقين نعم وامين .
ويسرني ان اسرد اليكم ما كتبته عام 2010 وبالتحديد يوم 31 تشرين الاول  وما الكارثة التي حلّت بالمسيحيين بل بالعراقيين جميعا ساعة تفجير كنيسة سيدة النجاة  وقد الفّتُ كتابا عن الكارثة ب 666 صفحة ومن الحجم الكبير واعطيته عنوانا  " مريم العذراء .. سيدة النجاة ، سيدة الشهداء ، سيدة الضحايا الابرياء " وقدمته بتاريخ الاربعاء  11 كانون الثاني 2012 الى قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس - بحضور سعادة  السفير البابوي المونسنيور جورجيو لينغوا لدى جمهورية العراق انذاك -  فقال لي قداسته حينها وهو يقلب صفحات الكتاب : يا ابانا انت شاهد للحقيقة فاجبته واية حقيقة  ؟ قال هذه ، مشيرا الى الكتاب وهو يقلّب صفحاته .
    اليكم يا احبائي وبناء على طلب العديد من القراء الكرام ولاظهار حقيقة  الحدث الاجرامي ، لنتصفح الكتاب،  ونقرأ سوية الصفحة الاولى ، وساقوم مساء كل يوم بنشر صفحة من صفحات الكتاب الستة تباعا، , ، ولكم الشكر . نعم وامي.

الصفحة الرابعة
الأربعاء، الثالث من تشرين الثاني2010
   إنه اليوم الثاني بعد تشييع ضحايا الكارثة...
   وبعد ليلٍ طويل من الألم والنزاع كما قال ربنا يسوع:"إن نفسي حزينة حتى الموت" (تمنت 867:90)... الحقيقة لم نكن نفكر يوماً أن الموت سيجابهنا بهذه القساوة، ولكن للرب شؤون... وفي وقت لا نعلمه (مكنم 98:98)... إبتدأ هذا الصباح بالذبيحة الإلهية بمناسبة صلاة اليوم الثاني التي أقيمت في الكنيسة نفسها... كنيسة مار يوسف للكلدان في خربندة... وقام بخدمة القداس كهنة وشمامسة قَدِمُوا لموآساتنا ومشاركتنا الألم، ومقاسمتنا مقياس الحزن الذي خيّم على كنيسة العراق عامة وعلى أبناء الأبرشية السريانية في بغداد خاصة... ويُشهَد هنا للأب بيوس عفاص الذي قاد جوق الشمامسة البغداديين والمصلاويين، في خدمة نافورة الذبيحة الإلهية.
   من جانب آخر، لا زال المؤمنون والمسؤولون وأصحاب المناصب والكراسي يترددون إلى كنيسة سيدة النجاة ليروا بأمّ أعينهم الفاجعة التي آلمت بكنيسة السريان، ويقيّموا مدى الحقد الذي يدخل قلوب الأشرار ليبيد كل شيء، ويقتل كل شيء، صالحاً كان أم طالحاً.
   كل شيء يبكي أمام الزوّار... جدران الكنيسة الملطَّخة بدماء الأبرياء... سقف الكنيسة المصبوغ بدماء المصلّين... مذبح الكنيسة، قدس الأقداس، الذي فيه فجّر الإرهابي نفسه فدنّسه بدمائه الفاسدة والمليئة بحقد الآخر الذي ليس من دينه أو مذهبه أو ليس تابعاً له... وهناك متطوعون كثيرون يلملمون ما خلّفته الهجمة الوحشة، ويُخرجون من الكنيسة آنيتها ومصطباتها ولوازمها لتضع محلاً جانباً... يا رب ما أقدس اسمكَ، وما أجمل أحباءكَ، وما أقوى شجاعة أبنائك... فلتكن مشيئتك (نتن 66:08).

الصفحة الخامسة
الخميس، الرابع من تشرين الثاني2010

   إنه اليوم الثالث والسابع كما يُسمّى في طقوسنا الشرقية ومسيرة شعبنا، حيث تحتفل الكنيسة بالذبيحة الإلهية بهذه المناسبة، ذاكرةً ضحايا كنيسة سيدة النجاة. وأيضاً أُقيمت الذبيحة في كنيسة مار يوسف للكلدان في خربندة... هيّأ للقداس كاتب هذا المقال، ثم ترأسه مطران الأبرشية، واشترك فيه العديد من الأخوة الكهنة، وبحضور أهالي وأبناء وأقرباء الضحايا. بعدها توجه الجميع إلى مدافن كنيسة سيدة النجاة التي تأخذ محلاً تحت مذبح الكنيسة (السرداب)، وهناك تُليت صلاة التشمشت والجناز، ورافقها وضع البخور... وهكذا طُويت الصفحة الأولى من الألم، ومع هذا لا يمكن لأحد أن ينسى ما حدث.
   والمؤلم في ذلك أن الجميع يتحدثون عن الرحيل وعدم البقاء، سائلين: لماذا البقاء في بلد لا يحمي شعبه وأبناءه؟... ما الذي عمله لنا الوطن؟... منذ سنين نحن نعاني الحروب والحصار والإحتلال، واليوم حلّت الكارثة... ومن جانب آخر أصوات الأحباء كثيرة، ارتفعت هنا وهناك، نحن معكم... سنحميكم... لا ترحلوا... فالبلد بدونكم لا يمكن أن يستمر... وكلام كثير هنا وهناك.
   واليوم ظهراً كان موعد وفد رؤساء الكنائس مع سعادة دولة رئيس الوزراء نوري كامل المالكي، ليشرح له ما حلّ بالأبرياء الذين ذهبوا ضحية الشر والإرهاب. ضمّ الوفد كل من: نيافة الكاردينال البطريرك عمانوئيل الثالث دلي بطريرك بابل على الكلدان، المطران متي متوكه مطران السريان الكاثوليك، المطران آفاك أسادوريان مطران الأرمن الأرثوذكس في العراق، المطران شليمون وردوني المعاون البطريركي الكلداني، الخورأسقف بيوس قاشا حيث كان الشاهد الأول والوحيد في ما حصل وما حملته المجزرة المخيفة، وكيف دخل مع الجنود وهم يقتحمون الكنيسة... إنها عناية ربانية... وقد روى للحاضرين كيف رأى عدّة رمانات ملقاة هنا وهناك، وكيف أن الإرهابي كان لا يزال دمه ينزف ساعة الإقتحام، وكيف أبعد عن المذبح المقدس (قدس الأقداس) قطع من جسم الإرهابي ووضعه جانباً بعيداً عن المذبح، وكيف رافق جنود الإطفاء والدفاع المدني وساعدهم في حمل حمّالة المرضى وإخراجهم إلى حيث سيارات الإسعاف، وكيف استطاع أن يُحصي الضحايا البريئة، وأخرى كثيرة.
   جاء ذلك خلال استقبال سيادته بمكتبه الرسمي اليوم وفداً من الطائفة المسيحية برئاسة الكاردينال مارعمانوئيل دلي رئيس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق والعالم... وقال رئيس الوزراء خلال اللقاء: أعزّيكم وأعزّي جميع العراقيين وأبناء شعبنا من الطائفة المسيحية ونعزي أنفسنا بهذا المصاب، ونحن نعتز كثيراً بأبناء الطائفة المسيحية ونبذل قصارى جهودنا لتوفير الحماية اللازمة للكنائس وجميع دور العبادة، ليعيشوا في وطنهم بأمان واستقرار ويساهموا في بنائه وإعماره والدفاع عنه، ومستعدون لتلبية جميع المطالب والإحتياجات التي تخص أبناء الطائفة المسيحية العزيزة. من جهته قال الكاردينال مار عمانوئيل دلي: نحن جزء من الشعب العراقي الأصيل، ونعيش مع جميع طوائفه متحابين ومتعاونين فيما بيننا، وإن الأعمال الإرهابية لن تنجح في إبعاد المسيحيين عن وطنهم، ومن واجبنا العمل في وطننا والتمسك به والمساهمة في بنائه وإعماره جنباً إلى جنب مع بقية أابناء الشعب العراقي .
    نعم، لابدّ من القول: فقبول التعازي لأيام الألم والحزن، حيث قصد العديد العديد... مسؤولين ومواطنين، مسلمين ومسيحيين وديانات أخرى، قاعة كاتدرائية مار يوسف للاتين (السنتر)، حيث قُبلت التعازي، ومن كل حدب وصوب... جمعيات... حركات سياسية واجتماعية... لجان... منظمات رجالية ونسائية... أفراد... وفود ومبعوثون... ولمدة ثلاثة أيام حضرها مطران وكهنة أبرشية السريان وأهالي الضحايا الذين بعض منهم قبلوا التعازي في بيوتهم الخاصة وفي قاعات أخرى لكنائس مختلفة... وفي قاعة السنتر، كانت التعزية مخصصة للأبوين ثائر عبدال ووسيم القس بطرس.

الصفحة السادسة
الجمعة، السابع من كانون الثاني2011

   تكريماً لشهجاء وضحايا سيدة النجاة الأبرياء، أقامت رعية مار يوسف في المنصور قداساً إحتفالياً احتفل به الخورأسقف بيوس قاشا وشارك فيه أبناء وأهالي الضحايا والشهداء. وقد ألقيت بالمناسبة عظة قيّمة عن العطاء ورسالة الشهداء وبذل الدم ورسالة الألم، شهادة لِمَا يحمله الإنسان من معاني المحبة.   وبعد القداس التقى خوري الرعية أهالي الشهداء في قاعة الكنيسة، وتبادلوا كلمات العزاء والمحبة وسموّ التضحية التي حملت شهدائنا إلى سماء الأبرار والقديسين. ختاماً الراحة الابدية أعطهم يارب ونورك الدائم فليشرق عليهم أمين .



134
والشاهدُ على درب الحقيقة يروي قصةَ مسيرةِ الألم (2)

                                             
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
اقول يارب منك الرحمة لضحايانا وشهدائنا في عراقنا الجريح واسكنهم خدرك السماوي مع الابرار والصديقين نعم وامين .
ويسرني ان اسرد اليكم ما كتبته عام 2010 وبالتحديد يوم 31 تشرين الاول  وما الكارثة التي حلّت بالمسيحيين بل بالعراقيين جميعا ساعة تفجير كنيسة سيدة النجاة  وقد الفّتُ كتابا عن الكارثة ب 666 صفحة ومن الحجم الكبير واعطيته عنوانا  " مريم العذراء .. سيدة النجاة ، سيدة الشهداء ، سيدة الضحايا الابرياء " وقدمته بتاريخ الاربعاء  11 كانون الثاني 2012 الى قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس - بحضور سعادة  السفير البابوي المونسنيور جورجيو لينغوا لدى جمهورية العراق انذاك -  فقال لي قداسته حينها وهو يقلب صفحات الكتاب : يا ابانا انت شاهد للحقيقة فاجبته واية حقيقة  ؟ قال هذه ، مشيرا الى الكتاب وهو يقلّب صفحاته .
    اليكم يا احبائي وبناء على طلب العديد من القراء الكرام ولاظهار حقيقة  الحدث الاجرامي ، لنتصفح الكتاب،  ونقرأ سوية الصفحة الاولى ، وساقوم مساء كل يوم بنشر صفحة من صفحات الكتاب الستة تباعا، , ، ولكم الشكر . نعم وامي.

الصفحة الثانية

الاثنين، الأول من تشرين الثاني2010

   بدا النهار عند إنبلاج فجره كئيباً... حزيناً... بل يتيماً... وأشرقت الشمس كعادتها ولكن لم تكن تلك الشمس التي تضحك أمام وجوه السائرين على طريق البسيطة... بل شمسٌ تحكي أشعتها عظمة الحزن الذي يلفّ كنائس العراق بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة... أشعة تحكي خيوطها عظمة الحقد والكراهية اللتين يحملهما الأشرار، فكانت أشلاءً ودماءً بريئة... سُكبت دون إذن من أحد، ولعلّ في ذلك لرب السماء شؤون... أشعة إصطحبت معها خوف المسيحيين من الآتي، فأخذوا من بدء النهار يمشون الخطى ويفتشون عن مكان للرحيل... وأين ستقودهم عاصفة الأمس ليلاً؟... وإلى أين ستحملهم؟... فها هم أبواب السفر ينشدون... وملف الهجرة يكتبون رغم تطمينات ذوي الإرادة الصالحة ورجال المعابد ومسؤولي السلطة وهم يردّدون: هذه أوطانكم فلا ترحلوا... فنحن معكم. نعم، ما حلّ فينا حلّ في غيرنا، ولكن كارثتنا كانت صعبة الإدراك... قاسية القبول... مهجِّرة للشباب ومسجِّلة أنْ لا مكان للمسيحي في بلد الأعراب عامة وفي بلد الأموال خاصة.
   ومنذ باكرة الصباح... توافد كثيرون... وتقاطر عديدون... زرافاتٍ ووحداناً... جماعاتٍ وأفراداً، لزيارة ما حلّ وما حصل أمس، وراموا دخول بيت الله لرؤية الفاجعة... لقياس الكارثة... لمعرفة مَن ارتكب ذلك ولمن إرتكبها ولماذا إرتكبها... وللإطّلاع على دماء الأبرياء... كاهنان في عمر الربيع وأربعين طريحاً على أرض مقدسة حملوهم مساء البارحة إلى مشافي مختلفة ليسكنوا برادات تحت رحمة الجليد، وحوالي أربعين جريحاً آخرين نُقلوا إلى العناية في مستشفيات الكندي وأبن النفيس لعّل وعسى يكون العلاج سبباً منقذاً لحياتهم.
   نعم، كانت جدران الكنيسة ملطِّخة بدمائهم، فصبغوها بأحمر الفداء، كونهم هم الأبرياء... هنا وهناك وفي كل مكان تجد بقع دماء... صور لأيادي رُسمت على جدران الكنيسة... آثار ذلك الشهيد أو ذلك الجريح... فكانت كلمة وحقيقة أنْ مهما جارى الزمان، فإن الدماء بذار الحياة... وما المسيحية إلا حياة وفداء. نعم، الكل كان ينوح ويبكي، فبالأمس كانوا هنا والليل سرقتهم يد المنون، وأي منون شرير... فالموت أحياناً صديق الإنسان، أما موتٌ كهذا ما هو إلا شهادة وإستشهاد، إعلان وبيان... وهل الذين خطّطوا ورسموا ونفّذوا أدركوا أنهم بشر أم شرّ؟... هل أدركوا انهم  يقتلون بشراً أجمل خلائق الله أم يقدمون قرابين على مذبح الحقيقة، أم أن قلوبهم مليئة بالحقد والكراهية والشر حتى أمعنوا بأنيابهم في قتل الأبرياء من أجل مصالحهم وأنانياتهم ليأتوا بما يؤمنون به، بمبادئ أو بأشخاص، فيسود الجو كبرياءً مليئاً حقداً وأنانية؟؟... يا لهم من ذئاب خاطفة، وإنْ سَمُّوا أنفسهم حملاناً بيضاء، ولا يمكن أن يعيشوا مَن هم بأعينهم أشرار وهم أبرياء. إنها مذبحة مروّعة، هكذا أرادوها وهكذا نفّذوها... إنهم جبناء الزمن... فحتى الكبار يسجدون لمآربهم، وأصحاب السلاطين يُفسدون كلماتهم ومطالبهم... فماذا لو رُفضت أفكارهم ونياتهم!... ألا يكن ذلك درسٌ في القيم والإصلاح، في الإعتراف والندم، في التوبة وقبول الآخر... فالذئب ذئبٌ حتى لو عُلِّق في رقبته جرس المرعى وفارس "المرياع"، ومهما طال الزمان فلابدّ للسلاطين وأصحاب القرار أن يفهموا أن الأقداس ما هي إلا للقديسين، وإن الأشرار ما هم إلا أشرار، وإنْ جعلوا من أنفسهم حملاناً، ولغتهم هذه ما هي إلا لتشويه الحقيقة التي يجب أن نسمعها ولا نصدقها لندرك عظمة الغيرة والحقد والكراهية التي يملأون بها أوعيتهم العقلية والفكرية، وأن التوبة ما هي إلا مسيرة القداسة.
   فلماذا دماء الأبرياء تُسكَب بقلوب باردة... هكذا مرت قاسية ساعات ذلك النهار... وكم كان النهار طويلاً... وكم كان مساؤه قاسياً، بل كم كان ليله متعباً ومؤلماً وموجعاً رغم طوله، وبعد ساعات سواده... إنه يوم بين الذبيحة والوداع... يأخذ من الأول ليكون في الثالث وهو الثاني... ثلاثية في واحدة... ضحايا ودماء وفراق... أبرياء ودموع وشهداء. نعم، لقد كان النهار بليله أمسية لا ينسها التاريخ إلا ويكتب صفحاتها على ورق الزمن وسجلات المسيرة... وإلى الرب إستسلمتُ، وبين يديه أودعتُ روحي.


135
والشاهدُ على درب الحقيقة يروي قصةَ مسيرةِ الألم (3)

                                             
المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء
اقول يارب منك الرحمة لضحايانا وشهدائنا في عراقنا الجريح واسكنهم خدرك السماوي مع الابرار والصديقين نعم وامين .
ويسرني ان اسرد اليكم ما كتبته عام 2010 وبالتحديد يوم 31 تشرين الاول  وما الكارثة التي حلّت بالمسيحيين بل بالعراقيين جميعا ساعة تفجير كنيسة سيدة النجاة  وقد الفّتُ كتابا عن الكارثة ب 666 صفحة ومن الحجم الكبير واعطيته عنوانا  " مريم العذراء .. سيدة النجاة ، سيدة الشهداء ، سيدة الضحايا الابرياء " وقدمته بتاريخ الاربعاء  11 كانون الثاني 2012 الى قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس - بحضور سعادة  السفير البابوي المونسنيور جورجيو لينغوا لدى جمهورية العراق انذاك -  فقال لي قداسته حينها وهو يقلب صفحات الكتاب : يا ابانا انت شاهد للحقيقة فاجبته واية حقيقة  ؟ قال هذه ، مشيرا الى الكتاب وهو يقلّب صفحاته .
    اليكم يا احبائي وبناء على طلب العديد من القراء الكرام ولاظهار حقيقة  الحدث الاجرامي ، لنتصفح الكتاب،  ونقرأ سوية الصفحة الاولى ، وساقوم مساء كل يوم بنشر صفحة من صفحات الكتاب الستة تباعا، , ، ولكم الشكر . نعم وامي.


في البدء
الصفحة الثالثة

الثلاثاء، الثاني من تشرين الثاني2010

   يوم الوداع... يوم الرحيل... يوم الفراق... يوم التشييع... يوم الصلاة... يوم الضحايا الأبرياء... يوم سيدة النجاة... سيدة الشهداء... أمّ الشهداء... الكارثة كبيرة بحجمها... قاسية بحلولها... فظيعة بدمائها... والسؤال: لماذا، ولماذا، ولماذا كل هذا؟... قالها يوماً شهيدنا، بل شيخ الشهداء، المطران بولص فرج رحو وهو يؤبّن الأب الشهيد رغيد كنّي، الذي سبقه إلى الأبدية: لماذا قتل الأبرياء من شعب العراق مسلمين كانوا أم مسيحيين أم؟... لماذا قتل المسيحيين؟... إنهم أناس مسالمون... إنهم أناس المحبة... لماذا هذا الحقد؟... لماذا هذه الكراهية؟... لم يقترفوا شيئاً... هل الجريمة كانت كونهم مسيحيون، أم ماذا؟... من أجل مناصب وكراسي وزعامات أم ماذا؟... سالت دماؤهم دون أي سبب، بعد إحتجازهم نحو ثلاث ساعات... كانوا حينها في دعاء البسطاء إلى رب السماء في قداس المساء... لم يفكروا أبداً أن أيادي الأشرار ستصل إلى هذه الساعة الرهيبة... وإن أقدامهم ستدنّس تلك الأرض المقدسة (خروج 12:99) ، ولم يخلعوا حتى نعالهم (خروج 23:344)، كون الشرّ قد ملك فيهم أميراً قاتلاً شريراً، لا رحمة في دواخله، ولا حنان لجاره، ولا إحترام لإنسانيته... إنه وحش مفترس إنقضّ على فريسة، على حَمَل بريء، بل على حملان بريئة... وكان ما كان.
   واصلت الساعة مسيرتها لتقترب من الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، الثلاثاء، الثاني من تشرين الثاني عام 2010، إنها ساعة لا يمكن أن تُنسى... إنها ساعة الذاكرة... وها هي كنيسة مار يوسف للكلدان في خربندة قد امتلأت بالمشاركين... قصدوها من كل حدب وصوب ليحملوا النعوش، ويرفعوا الصلوات، وعيونهم تذرف الدموع حباً وألماً وسؤالاً... وأيضاً، لماذا؟... لماذا؟... لماذا؟... هل أذنبنا وأذنبوا ضحايانا بشيء؟... هل اقترفنا نحن وضحايانا جريمة لا سمح الله؟... لماذا كل هذا العِداء؟... لماذا كل هذا الدمار؟... لماذا كل هذا؟... وهكذا حتى حانت الساعة الرابعة عشرة ظهراً والنصف حتى أخذ العديد من المسؤولين والمندوبين والرؤساء الكنسيين أمكنتهم على مذبح الكنيسة، والشعب حول النعوش والجثامين، جالسين وراكعين وواقفين، كما كان قسم آخر في صالة الكنيسة.
   ودقت ساعة الصفر... وصلاة الرحيل والوداع... صلاة الجناز والبخور... وكل مرة كان يتقدم نعش، كان خوري التشييع يعلن بصوت ملئ آهاتٍ وحسرات: هوذا شهيد آخر يُحمَلُ إلينا فلنصفق... ليعلو التصفيق، فكنتَ تسمع صوتاً واحداً بنغمة واحدة، ترافقه دموع المحبة والألم، فاختلط الفرح والألم في الحاضرين... إنها دموع الألم... إنه تصفيق الفرح... فرح الشهادة.
   وحلّ خمسة عشر جثماناً... نعشاً... تتقدمها نعشان للأبوين الكاهنين ثائر ووسيم... صُفَّت أمام مذبح الرب لتزيّنها أكاليل وورود وأزاهير... وابتدأ خوري التشييع يعلن عن بداية صلاة ترأسها نيافة الكاردينال البطريرك عمانوئيل الثالث دلي بطريرك بابل على الكلدان، ومطارنة الكنائس الأجلاء وعدد كبير من الكهنة والرهبان والراهبات قَدِمُوا من العاصمة ومن شمال البلاد ومن موصل الحدباء... كما شاركت شخصيات سياسية وحزبية وجماهيرية... وابتدأت صلوات الجناز... وكانت هلاهل النسوة وتصفيق الحاضرين تقاطعها لتضع المصلّي في حيرة من أمره... فالحادثة، فاصلة في تاريخ المسيحية في بغداد، بل في العراق... ومسألة وجوده وبقائه مسألة وُضعت على المحك... بل وضعوها هم من أجل مآربهم. وبعد إكمال الصلوات الخاصة بالتجنيز والدفن والتشييع، إنبرى نيافة الكاردينال، وألقى كلمة قال وأكد فيها على القيم المسيحية الحقة، مبيّناً أن الإرهاب ليس من العراق، ومَن يقوم به يريد التفرقة بين المسيحيين والمسلمين في الوطن، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك لأننا السكان الأصليين لهذه الأرض. مطالباً إياهم بالتماسك وعدم ترك العراق، والوقوف بوجه مَن يريدوا زرع التفرقة والفتنة بين مسلمي ومسيحيي العراق، كما دعاهم أن يكونوا صفاً واحداً مع المسلمين.
   ثم كانت كلمة المطران متي متوكه الذي أكد أن هذه الجريمة نكراء، وإن الذين قاموا بها ما هم إلا أناس أشرار يريدون الشرّ بالأبرياء، ويحتقرون الناس. فقد قتلوا كاهنين هما الأب ثائر والأب وسيم مع اثنين وخمسين ضحية... لماذا كل هذا؟... وطلب في ختام كلمته الرحمة لشهداء الكنيسة.
   ثم قرأ المونسنيور يوأنس لحظي جيد مستشار السفارة الفاتيكانية في بغداد رسالة الأب الأقدس البابا بندكتس السادس عشر هذا نصّها:
   سيادة المطران أثناسيوس متي متوكه رئيس أساقفة بغداد للسريان الكاثوليك
   لقد تأثرتُ بشكل عميق عندما سمعتُ بالموت العنيف لكثير من المؤمنين وللأب ثائر سعد الله عبدال وللأب وسيم صبيح القس بطرس، ولهذا أرغب في هذه اللحظات، الخاصة بالصلاة الجنائزية، أن أكون حاضراً روحياً معكم. وأصلّي من أجل أن تشمل رحمة السيد المسيح جميع هؤلاء الأخوة والأخوات فيجدون مكان في بيت الآب القدوس.
   منذ سنوات والعنف غير المتوقف يضرب هذا البلد الحبيب مخلّفاً آلاماً، وقد أضحى المسيحيون هدفاً لهجمات وحشية، هجمات تعبّر عن احتقار الحياة، الحياة التي هي هبة من الله تعالى، لا يجب المساس بها. فنحن نريد بناء الثقة والتعايش الأخوي.
   وها أنا أجدّد ندائي، لكي تكون ذبيحة إخوتنا وأخواتنا هؤلاء بذوراً للسلام ولميلاد جديد، ولكي يقوم كل الأشخاص، ولكي يجد في ذوي الإرادة الحسنة من الذين يريدون المصالحة، الأخوّة، والحياة المشتركة القائمة على المساواة، قوةً لكي يصنعوا الخير.
   ولتصل إليكم جميعاً، إخوتي وأخواتي الأعزاء، بركتي الرسولية لتعضيدكم، وبصفة خاصة لجميع الأخوة والعائلات الذين يمرّون بهذه اللحظات المؤلمة.
   وبعدها كانت كلمة الأب يوأنس مستشار السفارة البابوية وهذا نصّها:
   كتب ديوجنِس (حوالي القرن الرابع) في إحدى رسائله عن "السرّ المسيحي" أن "لا وطن، ولا لغة، ولا لِباس، يُميّز المسيحيين عن سائر الناس. لا يقطنون مدناً خاصة بهم... يُجارون عادات البلاد في المأكل والملبس ونمط الحياة... يُقيم كلّ منهم في وطنه، إنّما كغريبٍ عابر. يتمّمون واجباتهم كمواطنين، ويتحمّلون كلّ الأعباء كغرباء. كلّ أرضٍ غريبة وطنٌ لهم، وكلُّ وطنٍ أرضٌ غريبة... إنهّم في الجسد، ولكنهم لا يَحيون حسبَ الجسد. يَصرفونَ العمرَ على الأرض، إلاّ إنّهم مِن مواطني السماء. يمتثلون للشرائع القائمة، إلاّ أنّ نمطَ حياتهم يسمو كمالاً على الشرائع. يتودّدون إلى الجميع، والجميع يضطهدونهم ويتنكّرون لهم ويحكمون عليهم، وبموتهم يربحون الحياة. إنهم فقراء، وبفقرهم يُغنونَ الكثيرين. يفتقرون إلى كلّ شيء، وكلُّ شيءٍ فائضٌ لديهم. يحتقرُهم الناس، وباحتقار الناس إياهم يتمجّدون... يشتمونهم فيبارِكون، يُهينونهم فيكَرِّمون. لا يعمَلون إلاّ الصَلاح، ويُعاقَبون كالسفلاء، وفي عِقابهم يتهلّلون، كأنهم يُولدون للحياة... (يضطهدهم الجميع)... وإن سألتَ مُبغضيهم عن السببِ، فلا يعلَمُون".
   إنها كلمات تلخص "السر المسيحي"، سر المحبة الكاملة للجميع، سر الحياة المسيحية التي تقوم على الإيمان بأن الشهيد، بحسب الإيمان المسيحي، ليس مَن يقتل الآخرين بل مَن يقدّم حياته لأجل خلاص الآخرين... ليس مَن يفجّر الأبرياء ولكن مَن يضحّي بحياته لإنقاذ كل حياة... ليس مَن يدافع عن إله كاذب، فالإله الحقيقي يدعو للمحبة ولا يحتاج إلى مَن يدافع عنه... الشهادة في المسيحية هي التشبّه بالسيد المسيح الذي قدّم ذاته ليخلص الجميع.
   لقد أكد قداسة البابا بالأمس أن السلام هو عطية إلهية ولكنه أيضاً ثمرة لمجهودات ولعمل ذوي الإرادة الحسنة، ولهذا يجب على الجميع تحمل مسئوليتهم ومسئولياتهم والتحرك السريع والمدروس لحماية كل دور العبادة، مسيحية وغير ومسيحية، وحماية الجماعات المسيحية المستهدفة. وقد أكد قداسة البابا أيضاً رفضه لهذا العمل الخسيس والحقير لاسيما وأنه استهدف مصلّين أبرياء لم يرفعوا قط أصواتهم ضد أحد ولم يحملوا قط سلاحاً في وجه أحد... كل ذنبهم أنهم "مسحيين"... كانوا يصلّون من أجل السلام والمصالحة... فويلٌ لأمة لا تستطيع حماية أبنائها الأبرياء.
   ولهذا فنحن نقدّم تعازينا القلبية لأهالي الشهداء ولكل أهل العراق الطيبين والمسالمين ولكل عراقي حُرّ ولكنيسة السريان الكاثوليك التي فقدت كمّ هائل من أبنائها الغاليين من آباء كهنة وشعب مسيحي... ونقدم عزاءنا لشهداء الشرطة ولرجال الأمن المخلصين.
   ونشكر جميع الذي اتّصلوا وقدّموا العزاء من الدول الصديقة وجميع مَن شرّفونا بحضورهم من المسئولين ومن الدبلوماسيين ومن أهل العراق الحزين.
   وليحفظ الرب العراق وجميع العراقيين. ثم قُرئت كلمة رؤساء الطوائف المسيحية في العراق. كما ألقى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السيد عمار الحكيم كلمة أشار فيها إلى الفاجعة الأليمة التي ألمّت بالوطن في هذا الحادث الأليم، فتحت جرحاً أليماً في نفوس كل العراقيين. وإن الحزن والألم والعزاء ليس للمسيحيين فقط بل لكل العراقيين. فهذا عزائنا جميعاً وألمنا جميعاً مسيحيين ومسلمين وصابئة وايزيديين وكل القوميات والديانات والمذاهب في العراق وكل مواطن بالعراق هم معزى في هذا اليوم. وأوضح أن هؤلاء الأبرياء استُهدفوا وهم يصلّون لله، فالإرهاب يقتل المسلم والمسيحي والصابئي والإيزيدي بظلم، فهؤلاء الإرهابيين الدين منهم براء. وأقول لهؤلاء المجرمين: مهما قتلتم فينا ونكلتم بأبناءنا واعتديتم على حرماتنا فذلك لن يزيدنا إلا إصراراً على إعمار وبناء هذا البلد. والمسيحيين ليسوا جزءاً طارئاً على هذا البلد وهذه الأمّة بل هم الشركاء الأساسيين للوطن وسوف ندافع عنهم وعن ممتلكاتهم وأعراضهم، وأقول لإخوتي وأعزائي المسيحيين أن الرسالة التي تقدمونها لهؤلاء الإرهابيين الظلاميين هي بقاؤكم وثباتكم وإصراركم على الثبات في هذا البلد الكريم.
   وقد أكد زعيم المجلس الإسلامي الأعلى عمار الحكيم خلال حفل التأبين لشهداء كنيسة سيدة النجاة في كنيسة مار يوسف ببغداد إن "الحزن على ضحايا الكنيسة ليس حزن العوائل المسيحية على عوائلها فقط بل هو حزن كل العراقيين, وإن ضحايا أبناء الشعب المسيحي هم ضحايا العراق كون المسيحيين ليسوا جزءاً طارئاً على العراق بل هم من أبناءه الأصلاء".
   ودعا الحكومة والقوات الأمنية إلى ضرورة التحقيق في ما حصل وتعويض العوائل, واعداً أبناء الشعب المسيحي في العراق بتحقيق الأمن لهم ولدور عبادتهم, مطالباً إياهم بالتماسك وعدم ترك العراق والوقوف بوجه مَن يريدون زرع التفرقة والفتنة بين مسلمي ومسيحيي العراق.
   ولفت إلى أنه "إذا كان ذوي الشهداء المسيحيين يعتقدون أنهم أصحاب العزاء فهم مخطئون, وإن كان المسيحيون في العراق يعتقدون أنهم أصحاب العزاء فهم مخطئون أيضاً, بل إنه عزاء العراقيين جميعاً, مسيحيون ومسلمون صابئة وإيزيديون من كل القوميات والديانات, وكل مواطن في العراق هو معزّى لما حصل لإخوته المسيحيين".
   وأشار إلى أن الضحايا الذين استُهدفوا كانوا يمارسون طقوسهم الدينية وهذا أبسط حق من حقوقهم, وكانوا يصلّون لربهم, وهي ظلامة أخرى للإرهابيين تضاف إلى ظلاماتهم, منادياً رب العالمين بالقول:"يا ربنا أنت شاهد على ظلاماتنا وتجد كيف أن المسلم والمسيحي والصابئي والايزيدي يتعرضون إلى القتل على أيدي الإرهابيين".
   وتابع الحكيم: إن الإرهاب الذي استهدف الأبرياء من المسيحيين العزّل لا دين له, وإنهم استهدفوا المسيحيين لإنسانيتهم, ولأنهم أرادوا الحياة في بلدهم العراق, وإن رسالتهم في تأدية طقوسهم هي رسالة الحياة.
   وبعث الحكيم برسالة إلى الإرهابيين من خلال كلمته قائلاً:"مهما فعلتم فينا، ومهما نكّلتم في أبناء شعبنا, ومهما اعتديتم على حرماتنا, فإن ذلك سوف لن يزيد العراقيين إلا إصراراً على الإعمار والبناء في العراق والبقاء فيه".
   ولفت زعيم المجلس الأعلى إلى أن المسيحيين ليسوا جزءاً طارئاً على العراق بل هم شركاء أساسيين في بناء العراق, وسوف ندافع عنهم وعن حرمتهم وعن أعراضهم وممتلكاتهم مهما كلف الأمر.
   ودعا المسيحيين في العراق إلى التمسك ببلدهم وثباتهم وتماسكهم وإصرارهم للبقاء في العراق ليكون ذلك شوكة في عين الإرهاب ومَن يريد زرع الفتنة بين أبناءه من الإسلام والمسيحيين, داعياً إلى تراصف الصفوف العراقية بكافة طوائفها وقومياتها ودياناتها, والتماسك ووضع اليد باليد من أجل العراق وشعب العراق وبناءه. ومن أجل الدفاع عن العراق والإعمار, ومن أجل أن ينطلق العراق إلى الأمام ليكون اسمه شامخاً في المنطقة والعالم. وطالب الحكيم بضرورة تعويض العوائل والعمل الجاد من قِبَل قوات الأجهزة الأمنية على توفير الحماية الكافية للكنائس ودور العبادة ولكل المسيحيين في العراق.
   بعدها ألقى الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية الدكتور علي الدباغ كلمة بالمناسبة الأليمة وقال: إن الحكومة تعمل جاهدة وستعمل أكثر على توفير الأمن والأمان لدور العبادة والكنائس وتوفير الحماية اللازمة وتعويض مَن تضرروا من جراء الإستهداف الغاشم على كنيسة سيدة النجاة، وإنها فتحت تحقيقاً في ما حصل ولن تتوانى في كشف الحقائق أمام الشعب العراقي والرأي العام في مثل هذه الجرائم. ودعا المسيحيين في العراق إلى تفهم الوضع وما يحصل، وأن لا يتأثروا بما يريد الإرهاب والمجرمين من وراء أفعالهم الإجرامية.
   كما عبّر الناطق باسم الحكومة عن أسف الحكومة الشديد لما حصل بحق المسيحيين الأبرياء العزّل وما طالهم من استهداف أثناء تأديتهم لمراسيمهم الدينية. وقال الدباغ:"إن الإرهابيين وبفعلتهم الشنيعة واستهدافهم لمواطنين عزل واعتقالهم واحتجازهم وقتل عدد منهم لن يمكنهم من زرع الفتنة والفرقة بين مسلمي العراق ومسيحييه. وإنهم لن يستطيعوا أن يحدثوا أي شرخ بين العراقيين بمختلف دياناتهم".
   وأضاف الدباغ: إن مسيحيي العراق هم أبناء العراق الأصلاء ولهم مثل ما لكل الطوائف والقوميات والديانات من حقوق، وإن العراق بلدهم ولن يتمكن أي مجرم أو إرهاب من إخراجهم منه، هم يحاولون بفعلتهم هذه أن يجعلوا المسيحيين يغادرون العراق، لكننا نعتقد أنهم لا يمكن أن يتركوا بلدهم الذي ولدوا وعاشوا فيه.
   ثم كان التبخير ورش ماء الحياة... ليُبرد أجسامَ الفتية في آتونهم... هو يمهد الطريق ليدخلوا ضحايانا باب السماء... ولتكن دماؤهم غفراناً لنا ولهم... ثم تُليت صلاة الختام.
   وكانت الخاتمة بتصفيق حار صعد كبخور إلى حيث رب السماء... وحُملت النعوش إلى مثواها الأخير... والعيون دامعة... والأكفّ مصفّقة... والبكاء علامة... إنها ساعة ما أصعبها وما أقساها، ولكن ما أحلاها حينما نكون في سعادة الله في الأبدية، كقول يسوع:"تعالوا إليّ يا مباركي أبي، رثوا المُلْكَ المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم". و"حيث أكون أنا تكونون أنتم" (يو 76:090). ونُقل جثمانا الكاهنين ثائر ووسيم الى كنيسة سيدة النجاة حيث أودعا مدفن الكهنة، أما الجثامين الأخرى فنقلت إلى المقبرة العامة .
وأُسدل الستار عن مشهد أليم، ليوم لا تنساه الذاكرة، وعن كارثة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال... نعم، لقد كانت حالة فاصلة... بل حدثاً ولا أفجع.


136
والشاهدُ على درب الحقيقة يروي قصةَ مسيرةِ الألم

                                             
المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء
اقول يارب منك الرحمة لضحايانا وشهدائنا في عراقنا الجريح واسكنهم خدرك السماوي مع الابرار والصديقين نعم وامين .
ويسرني ان اسرد اليكم ما كتبته عام 2010 وبالتحديد يوم 31 تشرين الاول  وما الكارثة التي حلّت بالمسيحيين بل بالعراقيين جميعا ساعة تفجير كنيسة سيدة النجاة  وقد الفّتُ كتابا عن الكارثة ب 666 صفحة ومن الحجم الكبير واعطيته عنوانا  " مريم العذراء .. سيدة النجاة ، سيدة الشهداء ، سيدة الضحايا الابرياء " وقدمته بتاريخ الاربعاء  11 كانون الثاني 2012 الى قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس - بحضور سعادة  السفير البابوي المونسنيور جورجيو لينغوا لدى جمهورية العراق انذاك -  فقال لي قداسته حينها وهو يقلب صفحات الكتاب : يا ابانا انت شاهد للحقيقة فاجبته واية حقيقة  ؟ قال هذه ، مشيرا الى الكتاب وهو يقلّب صفحاته .
    اليكم يا احبائي وبناء على طلب العديد من القراء الكرام ولاظهار حقيقة  الحدث الاجرامي ، لنتصفح الكتاب،  ونقرأ سوية الصفحة الاولى ، وساقوم مساء كل يوم بنشر صفحة من صفحات الكتاب الستة تباعا، , ، ولكم الشكر . نعم وامين

الصفحة الأولى
مساء الأحد، الحادي والثلاثون من تشرين الأول2010 (وذاك الاحد طقسياً وسريانياً كان يُسمى أحد تقديس البيعة)
   صدمة كبيرة أبعدتني عن عالم الكتابة، ألا وهي نكبة مساء الأحد، الحادي والثلاثين من تشرين الأول الماضي... نكبة الهجوم على المصلّين في كنيسة سيدة النجاة... ومن حينها لم أستطع الكتابة حتى الساعة، ولم يرافقني يراعي في مسيرة الحدث، كما ولم أنبس ببنت شفة بسبب هول الفاجعة... إذ ما حصل لم يكن بالبال ولم يكن بالحسبان، كما ولم يكن يفكر كائناً مَن كان أن الإجرام سيصل إلى هذه الدرجة من العنف والبشاعة، وإنّ الذين خططوا له ونفّذوه ما هم إلا وحوش في غاية العِداء وفي غابة الإفتراس، أبرزوا عن أنيابهم من أجل مآرب دنيوية مصلحية شريرة، فحرقوا أجساداً بريئة، وقطعوا أيادٍ مرتفعة نحو ربّ السماء، مصلّية إليه ومبتهلة.
   مرّت الأيام، وإيماناً بعطاء الرب لنسمة الحياة لتواصل المسيرة كونه هو الحياة (يو4:1)، ها أنا ذا أعود إلى قلمي، وجدتُه يعاتبني إذ وجد نفسه ضائعاً _ بل مهمَلاً _ بين أوراقٍ ومسودّات وقصاصات، شاكياً حاله إلى عالم التاريخ. فاعتذرتُ وأدركتُ أن الحقيقة أحياناً تدعونا إلى الصمت والتأمل بالآتي، وقبول ما لم يكن بالحسبان أو حسب المشيئة من أجل الحياة... من أجل الحقيقة... هذا هو قول الرب:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8)... وها أنا أعود خاضعاً ومطيعاً لرسالة القلم لأروي قليلاً من كثير عن نكبة الكنيسة وما حلّ فيها وفينا وعن المذبحة، وسقوط الضحايا وشر العنف القاتل، والعقل الشيطاني المخطط لهذه الفاجعة، والمارقين الذين قاموا بتكميل المخطط... والسؤال يبقى: لماذا هذا؟، لماذا بيت الصلاة؟، لماذا الأبرياء المصلّين؟، لماذا المؤمنين المسالمين؟، لماذا باعوا الإنسانية كأخوة يوسف، وكما قتل قائين أخاه؟... لماذا ولماذا؟ وتعددت اللماذات... كل هذا والأسئلة تطول... ومهما كتبتُ وصوّرتُ الفكرة، فلا من جوابٍ وافٍ، كما لا تسع الكتب صور الدماء البريئة، ولا يمكن إدراك سرّ تلك الضيقـة، فقـد أعـادني التاريخ إلى ما حصل في الجيل الثاني من القرن العشرين، يوم ساقوا كهنتنا ومؤمنينا إلى ساحات الإعدام، ونكلوا بهم أبشع التعذيب، وأخذوهم بحدّ السيف، ورموهم أمام أنياب الوحوش، وهدموا الكنائس ودنّسوا الأديرة، وسرقوا ونهبوا، وكل ذلك في فكرهم حلال بل أكثر من حلال، إنها الغنائم _ ولكن أبهذه الطريقة تُجمَع الغنائم _ بالحقيقة لم يُدركوا جيداً أنهم قد شوّهوا وجه الله الذي خلقهم على صورته كمثاله، وإنهم جعلوا من جنة عدن زريبة (حظيرة) للوحوش الضارية، وطارت أرواح الضحايا إلى حيث فردوس السماء.
   وها هي اليوم تتجدد الأحداث وتعاد المآسي في شرقنا، بل في عراقنا الجريح، وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بأبشع من سابقاته، وعبر وحوش شطرنجية لغايات ومآرب لا يعلمها إلا راسموها ومخطّطوها... ولكن، "لا من خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيُعلَن" (لو 2:12)... و"كل ما يقال في الخفية سيُعلَن على السطوح" (لو 3:12)، وربما فاعلوها هم أحفاد أولئك.
   ولنبدأ فنقول: بينما كنتُ أمنح البركة الختامية لأبناء رعيتي المشاركين في قداس مساء الأحد، قداس ختام شهر الوردية المقدسة، أُعلمتُ بقيام زمرة من الإرهابيين بدخول كنيسة سيدة النجاة في الكرادة عنوة، واقتادوا المصلّين في الكنيسة رهائنَ... منحتُ البركة، ورجوتُ المؤمنين بعدم الوقوف في ساحة الكنيسة وتبادل الأحاديث كون ذلك المساء كان مظلماً بل قاسياً، ودعوتهم إلى الإنصراف حالاً إلى بيوتهم بسلام الرب وحِرسِه، وركبتُ السيارة، وكنتُ أنهب الطريق نهباً، وتوجهتُ إلى حيث الحدث، ووصلتُ المكان بسرعة هائلة ولا أعلم كيف وصلتُ وكيف كان ذلك، وما لا أعلمه كيف استطعتُ عبور السيطرات وازدحام الطرق والحواجز،... نعم، لا أعلم... المهم إنني وجدتُ نفسي واقفاً أمام مدخل الكنيسة أتابع الحدث المأسوي المريع وكأنني أمام مشهد تراجيدي رُتِّبَ له مسبقاً، ويمثَّل أمام الملأ.
   بدأتُ بالاتصال مع الأبوين الضحايا عبر هاتف الحياة الدنيوية، يرنّ الهاتف ولا من مجيب، إلا مرة واحدة لم أسمع فيها إلا كلمة "هلو" من الأب وسيم... وانتهى كل شيء... فكان الإقتحام ودخول الكنيسة... ومعها كان الألم... وبعد لقائي لبعض الدقائق مع الأحياء الناجين الهلعين من هول الكارثة،ومنه الشماس فائق كساب وعائلته ، واخرين  والذين خلطوا دموعهم بأصواتهم "أبونا، أبونا"، دخلتُ صحن الكنيسة وكلّي إيماناً وأملاً بمشيئة الرب، ولكن الموبايل كان يزعجني بكثرة دقّاته وأسئلته عن الضحايا الذين سقطوا بسبب ناسفة ورمي رمّانات وإطلاق عيارات نارية، وبدأتُ أقلب الجثث، جثّة جثة، علّني أصل إلى جثث الكهنة.
   وبينما الجنود ينقلون الجرحى، بدأتُ أفتش الجثث وأقلبها لأتعرف عليها 1، 2، 3، 4، قلبتُ جثة وكانت منطرحة على وجهها، فوجدتُ الوجه ممخّضاً بدماء جامدة، وتمعّنتُ جيداً فلاحظتُ بطرشيل الغفران في رقبته، عندها أدركتُ أن الضحية هذه هو الأب وسيم حاضناً غفارته القصيرة، فقلبتُه على ظهره وطلبتُ من أحد الجنود مساعدتي في نقله إلى سيارة المحبة _ سيارة الإسعاف _ التي كانت في انتظار الجرحى والضحايا أمام بوابة الكنيسة. وواصلتُ مسيرة الجلجلة ثانية وهي مملوءة شجاعة إيمانية، ولكن كانت أصوات العسكر تناديني بالإنتباه وأخذ الحيطة والحذر حيث هناك أسلحة لم تنفجر بعد... وبعد برهة رأيتُ رمانتين غير منفجرتين، وطلبتُ من أحد العساكر معالجتها لكي أواصل أنا اكتشاف ثقل المسيرة، وصعدتُ درجة كرسي الإنجيل وصحن المذبح ، وقلبتُ جثة، ولم أصدق ما أرى... قلبتُها ثانية وثالثة، حينها تأكد لي أنه الأب ثائر بحلّته الكهنوتية _ حيث كانت الإطلاقة قد اخترقت رقبته من الجانب الأيسر _ وهو ممخَّض بالدماء، هو وحلّته، كان رأسه على الدرجة الصغيرة وجسمه ممدَّد عند الدرجة الاولى من قدس الاقداس في صحن مذبح الكنيسة، فطلبتُ نقله أيضاً إلى حيث سيارة الإسعاف... وكانت المأساة... صعدتُ درجة أخرى من درجات المذبح... جثة أخرى... إنها جثة رائد شقيق الأب ثائر... وهكذا أحصيتُ اثنتين وأربعين جثة ، ثم ثلاث جثث اخرى . حينها قفزت إلى فكري رؤية أعادتني إلى الماضي السحيق يوم استشهد مار بهنام وأخته سارة ورفاقه الأربعين.وما هي الا زمن يسير ويرن هاتفي  ابونا قلت له نعم من أنت ؟ قال انا ابونا يوانس( سكرتير السفارة البابوية انذاك )  لا يسمحوا لي بالدخول فقلت له اذا خرجت لا استطيع الدخول مرة اخرى . ثم رن مرة ثانية وهو نفسه ابونا يوانس ابونا اشلون ؟ قلت له سآتي اليك . واصطحبني احد العساكر من الداخل حتى الباب الرئيسي للكنيسة ، فناديته فقد كان واقفا عند الباب الحديدي الخارجي واقترب من باب الخشب الرئيس" والمفلش "  واستطعت ان اسحبه من يده واصطحبته  الى داخل الكنيسة ، ولم يعرفه العساكر انه كاهن لانه كان يرتدي قميصا ابيض وبنطلوناً اسود ،وقد تغيرت ملامح وجهه بسبب ما عانه من الممنوع من الدخول الى الكنيسة  ، نعم فكان معي وكانت كاميرة موبايله الشاهدة الاولى معنا على حقيقة الجريمة ، فوثقت بها كل الصور والمشاهد المؤلمة لضحايانا وشهدائنا وكنيستنا ودماءَهم التي سالت ولطخت جدرانها .
   وما هي إلا دقائق وهاهو سائق الإسعاف يخبرني أن المستشفى الأهلي لا يمكنها استقبال جثث الأبوين، مما حدا بي أن أطلب إليه نقلهما إلى مستشفى حكومي ليتسنّى لي في اليوم التالي نقلهما إلى المستشفى القريبة من الكنيسة الشهيدة، كون شهادة الوفاة لا تُنَظَّم إلا في مشفى تفجير أحزمة حكومي... وبينما أنا أتأمل ما حصل، وأجول هنا وهناك حيث قدس الأقداس الملطَّخ بدماء الإرهابي وجسده المقطَّع... إلى غرفة السكرستيا حيث سقط الجرحى والضحايا إلى المحيط حيث الجوانب ملطَّخة بدماء المصلّين الأبرياء الذين قُتلوا عبر العيارات النارية، والذين استُشهدوا بتفجير الإرهابيين لأحزمتهم الناسفة ورميهم للرمانات القاتلة... وبقيتُ أجول وأصول من ركن إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى، ولم أكن أتخيّل ما الذي حصل ولماذا بهذه الصورة البشعة وفي أقدس مكان وزمان... وهل للرب شؤون في ذلك!!... يا رب لتكن مشيئتك.
   وهكذا واصلتُ التفتيش في كل ركن من أركان الكنيسة وزواياها ومساحة صحنها... أسأل عن سبب ارتكاب هذا العمل الإجرامي، لماذا هذه البشاعة؟ وأسئلة أخرى كثيرة أوقفت شعرات رأسي القصيرة مستقيمة ومتعجبة... وهل الذي حدث حقيقة أم لا زال خيالاً؟... لا، إنه واقعة أليمة أتى بها الشر والحقد ليس إلا.
   وبقيتُ على هذه الحال حتى الثانية بعد منتصف الليل، ثم قفلتُ راجعاً إلى حيث رعيتي في المنصور بعد أن رتّبتُ وضع الجنود والسهر على الكنيسة وحراسة الأبواب لحين اصل الى رعيتي واعود ثانية وهذا ما حصل حيث في تمام الساعة الثالثة والنصف فجرا عدت ادراجي الى حيث الكارثة رغم اوامر منع التجول انذاك فقد سمح الحراس لي بالمرور رغم ان ممنوع التجول كان ينتهي في تمام الخامسة ولعلمهم بالكارثة وما حصل .
   وأنا عائد إلى حيث يجب أن أكون، تأملتُ الحدث الذي أعادني إلى الماضي القريب، حيث كان المسيحيون أهدافاً لموجات من الهجمات على كنائسهم وأديرتهم وبيوتهم وأعمالهم وعليهم شخصياً، فقد قُتل المطران بولس فرج رحو، وذبحوا عدداً من الكهنة بدم بارد، وفُجّرت باصات الطلبة وهم في طريقهم لنهل العلم في الجامعات، وأرهبوا عوائل عديدة وقتلوا أغلب أفرادها بعد نهب وسلب وسرقة أموالهم ومجوهراتهم، وكل ذلك في عيونهم حلال حتى دماءهم... هكذا كانوا يقولون، ولا زالوا يقولون!!!.
   نعم، تلك الليلة المأسوية لم أغمض فيها جفنيّ ولا عينيّ، فالحدث يمرّ أمامي كمشهد تمثيلي رُتّبت له لغاية في نفس المشاهد. تخيّلتُ صور الضحايا وكيف فتك بهم الأشرار وسقطت أجسادهم البريئة إرباً إرباً هنا وهناك... رأيتُ الجرحى ممخَّضين بدمائهم... حالة الهلع والفزع والخوف لا توصَف... وكنتُ طوال الليل أرسم في مخيّلتي شراسة الحدث وعنف الإنسان، وكيف خلع صورته ولبس صورة المتوحش والكاسر ولم يبالي بالقيم والأعراف، حيث الدنيا جعلته ذئباً أمام حملان... بُرَكٌ من الدماء... أشلاء ملقاة ومبعثرة هنا وهناك... كتب مقدسة مدنَّسة بالدماء ومبعثرة... قربانٌ ملطَّخ بدماء الإرهاب... هيكل الرب قد دُنّس حيث فجّر الإرهابي نفسه وكأنه يكمل ما جاء على لسان عيسى الحي:"وما يعملونه فيكم، إنهم يقدمون قرباناً لله"... وما إن دقت الساعة الرابعة فجراً حتى غيّرتُ ملابسي وأكملتُ صلاتي وقصدتُ الكنيسة فجراً في الخامسة والنصف.
   إن ما حصل ما هو إلا شيء محزن ومؤلم وفاجعة وكارثة ومذبحة تلك التي حصلت... التاريخ لم يسجل مثل هذه الكارثة.... إنها أسوأ مذبحة في تاريخ المسيحيين العراقيين منذ الغزو والإحتلال الأمريكي للعراق... إنه حدث مأسوي. وربما هناك منظمات دولية معروفة تختفي وراء لافتات إنسانية، لكنها في الحقيقة تحاول إفراغ العراق من الطائفة المسيحية، والأسباب غير معروفة بالنسبة لنا.
   والحقيقة يجب أن تقال: إن الغزاة ومخططي الإرهاب ليسوا أبرياء من دمائنا ودماء سوانا، غير أن أبرز ما في المسألة أنهم ينظّمون القتل والإرهاب من بعيد ثم ينكفئون تاركين الفرق القاتلة والمميتة ومنظماتها لتُمضي فينا فتكاً وخراباً وتهجير كنائسنا الأصيلة في أرض الرافدين من أجل إبراز وجودها وديمومتها، لتحلّ محلّها وحسب مخططاتهم وإراداتهم الشريرة... نعم، أقولها "الأصيلة" كونهم اليوم يقولون عنها أنها شاخت في أيامها وعلينا تغييرها، وما هذا التعبير إلا لغة سخيفة لكسب بسطاء الشعب وأبرياء البلاد  فإمّا الخضوع لهذا الشرير، وإمّا قبول الضربات وحالات التهجير، وكأن الزمن هو زمن النهايات لأصلاء الأرض والعقائد الإيمانية الصحيحة لتحلّ محلّها ما يخدم، وما يبشر به وما يُصفَّق له من أجل مصالح بلباس سماوي، وهم من الداخل سياسات منظمة لطوبوغرافية معينة وجيوفزيائية مقيتة!!... إنهم ذئاب خاطفة (لو3:10)... وفي هذه النهايات سيكون مؤمنو كنائسنا ذبيحةً ومذبحاً، قرباناً ومقرَّباً... فعقيدتهم الأصيلة ما هي إلا عقيدة الآباء والأجداد... عقيدة بعيدة عن كل تشويه وتزييف وبدع، لم تشترها الأيام بحلل الزمان، ونِعَمْ المكان، وعطاء السفر والترحال... إنها عقيدة فيها تأصل إيماننا كما تأصلنا في كنائسنا، لذلك فهم يحاولون ضربها بالأكاذيب والعولمة والدعايات، وشراءها بما يملأ البطون، وفتح طرق الرحيل لهم، والذين يدعمونهم ما هم إلا زنادقة القرن الحادي والعشرين.
   ومن المؤسف أن نقولها إن الشر ذبحنا بأدواتنا وبإيماننا، وأشرارنا ومنافقينا، فرقصنا أمامهم وغنّينا لهم فكان ما كان إلى أن أصبحنا في هذه الحال، ومنهم تعلّمنا كيف نحمل حقائبنا إلى المنافي ولتستقر حقائبهم في أرض النهرين بل الرافدين وكما يقال في أندلس العرب.       
   لقد كان العراق مزيجاً رائعاً من المعتقدات والعادات والتقاليد، غير أن الهجوم على الكنيسة وضع حاجزاً جديداً داخل الدولة التي قسمتها الحروب والإحتلال والحرمان، حيث ارتفع الحديث عن الهوية، وتراجع التنوع في المجتمع العراقي، ونمت الهجرة، ولكن الهجرة ليست حلاًّ للكارثة هذه، واستمرارها يمثّل تحدياً صعباً، كما أن خطورة وسخونة هذه المرحلة لا تتقبل أي تهاون أو تقاعس من أي طرف، ولا يجوز أن نكون أحجارَ دومينا أو حصناً شطرنجية.
   إن رسالتنا إلى كل واحد يريد أن يلغي وجودنا على الأرض... إلى كل واحد يريد أن يُسكت صوتنا... إلى كل واحد يحس إننا لسنا أبناء هذا الوطن... هي أن تمسكّنا بإيماننا وبكنائسنا يزداد قوة... إن وجودنا مرتبط بأرضنا... نفتخر بعراقيتنا... نفتخر أن دماء شهدائنا بذارٌ تروي هذه الأرض... كفى دماء، فقد جاء وقت البناء... نحن باقون والإرهاب زائل.           يا رب، لتكن الدماء المهدورة نبع سلام وتآخي، اجعل أن يتمكن شرقنا الأوسط العزيز من أن يخرج من نفق التخلف والتعصب والتمييز والكراهية إلى نور المحبة والإخاء والعيش الكريم، فنحن لا ذنب لنا كوننا تلاميذك الذين حملوا السلام ولكنهم ينكرون.
   نعم، ذنبنا الوحيد هو تمسكنا بإيماننا وأرض آبائنا وأجدادنا التي هي أرضنا منذ كانت وكانوا ولا زلنا، والذين ضحّوا في خدمتها وازدهارها والدفاع عنها بكل غالٍ ونفيس.
   فيا رب، أحلّ السلام والأمان في عوائلنا وفي عائلتنا،العراق الجريح، بشفاعة أمّنا القديسة مريم سلطانة السلام.


137
عاجل وترقبوا
ونحن نستقبل الذكرى الثامنة لكارثة سيدة النجاة يدعوكم الشاهد للحقيقة المونسنيور الدكتور بيوس قاشا لقراءة الصفحات اليومية لمسيرة الالم حيث سيروي حقيقة احداث كنيسة سيدة النجاة كما عاينها وشهدها وقد تتبعها كلها من اصولها لتتيقنوا صحة ما حصل وما حلَّ وما افجعها منة كارثة .
وذلك بدءا من يوم الاربعاء 31 تشرين الاول 2018 لذا نسترعي انتباه المتابعين لصفحتنا الكرام
مع تحياتي وشكرا


138
نعم، إنه الپاپا فرنسيس ... فقير بين الفقراء

المونسنيور د. بيوس قاشا
  في البدء
يُعرف الفقر بأنه حالة من الحرمان المادي تتجلّى في أشكال متعددة أهمها:
تناقص مستويات التغذية، تدهور الحالة الصحية، تراجع المستوى التعليمي والوضع السكني. وللفقر مخاطر عديدة منها: مخاطر صحية تتمثل في إنتشار الأوبئة والأمراض، مخاطر إقتصادية تتجلّى في إرتفاع معدلات البطالة، مخاطر إجتماعية وهي الأكثر إيلاماً ونراها في زيادة معدلات الجريمة والعنف والرذيلة والتخلف والعنصرية الجغرافية وارتفاع الغضب الشعبي الذي قد يؤدي إلى أعمال شغب وانقلابات، وموت الآلاف من السكان من الجوع والعوز دون أنْ نفكر أنّ خيرات الأرض ما هي إلاّ لأهل الأرض.

  الكنيسة والفقير
نعم، لا زال الفقر منتشراً رغم ما يتمتع به العالم من خيرات أرضية تنتشر من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. والكنيسة الكاثوليكية لا زالت تفتش عن الفقير أينما كان، لا لكي تكون بجانبه فقط، بل لتحميه من عولمة الدنيا المخيفة، وتوصله صوت المسيح في البشارة الحية، وتُفهمه أن الفقر ما هو إلا دعوة في تمجيد اسم الخالق وفي حمده وشكره، وهذا ديدن الكنيسة الكاثوليكية في الدفاع عن الفقير، ومرات عديدة يرتفع صوتها من على المنابر الدولية والمحلية والإقليمية تنادي بالوقوف مع الفقير.

     وأطلّ الپاپا
في الثالث عشر من آذار (مارس) عام 2013، أطلّ الپاپا بيرغوليو ــ أول پاپا من الأرجنتين كما هو أول پاپا من خارج أوروبا منذ عهد الپاپا غريغوريوس الثالث، وأول پاپا راهب منذ الپاپا غريغوريوس السادس عشرــ الذي اختار اسم فرنسيس، واختياره لإسم "فرنسيس" تيمّناً بقديس الفقراء إذ قال:"إن فرنسيس هو اسم السلام، وهكذا دخل هذا الاسم قلبي"، ولعلاقته بالفقراء فكرت في فرنسيس الأسيزي في الحروب، رجل الفقر ورجل السلام. ولقد روى ــ وهو في مَجْمَع الإنتخاب ــ قال: خلال الإنتخاب كنتُ إلى جانب رئيس أساقفة ساوپاولو كلاوديوهوميس، الصديق الكبير، شجعني عندما أصبحت الأمور خطيرة، وعندما بلغت الأصوات المؤيِّدة لي الثلثين، غمرني بذراعيه وقبّلني وقال لي:"لا تنسَ الفقراء" ــ أطلّ من على شرفة بازيليك مار بطرس، على  جميع المؤمنين المحتشدين في ساحة القديس بطرس ليمنحهم بركته الأبوية الرسولية.

 نعم، إنه الپاپا فرنسيس، وقد أتانا من بلاد بعيدة ومعقدة بقضاياها السياسية، وفيها تقلّد عدة مناصب، وتم إنتخابه پاپا في مَجْمَع يُعتبر الأقصر في تاريخ المجامع المغلقة، كما اعتبرت الصحافة الإيطالية إنتخابه ثورة في تاريخ الكنيسة.

 نعم، إنه الپاپا فرنسيس... عُرف عنه رجل هادئ في مسيرته وفي قيادته الحكيمة حيث الفكر والتأمل والتبصّر. يطلب عون الجميع في صلاة إلى رب السماء. ومقولته الشهيرة "أرجوكم إذكروني في صلاتكم"، كل هذه  الصفات قادته إلى أن يكون متواضعاً وبسيطاً وبعيداً عن كل التكلّفات في التقليدات، ومؤمناً أن الصلاة سبيل في عيش الإيمان. ناظراً إلى قضايا العالم بنظرة صائبة، متفائلة. مؤمناً أن يد الله ستقوده إلى الخير. مشجِّعاً الحوار بين أبناء المسكونة المختلفين في الثقافات والقوميات. وقد أظهر ماضيه في بلاده "الأرجنتين" دلالات عميقة في إتجاه مسيرة الكنيسة. إنه نهج جديد يقود إلى البساطة والتواضع وعيش الفقر، وينشد كنيسة فقيرة وقريبة من الفقراء ومن أجلهم وفي خدمتهم، وهذا ما جعله يتوقف بين الناس ليصافح الجميع وخاصة المعاقين والأطفال، ويقبّل المشوهين والمهمَّشين، فما كان منه إلا أن عمل على تعيين أسقفاً يوزع حسنات الپاپا للفقراء بدلاً من أن يكون بقربه في الإحتفالات الكنسية.

    نعم، إنه الپاپا فرنسيس... إنه الفقير الذي بقي يلبس الحذاء الأسود الذي أتى به من الأرجنتين، واضعاً صليب الحديد... إنه الفقير الذي يتسلّل، أحياناً، ليلاً خارج أسوار الفاتيكان لزيارة المرضى والفقراء وفي أحياء فقيرة من روما كما كان شأنه في بلاده، إضافة إلى إتصاله بالكثيرين تلفونياً ليشكرهم ويعزّيهم أو يردّ على طلباتهم. إنه في أرض الفقر يحيا ليعيش فقره، ويكون فقيراً شاهداً لآلام المتألمين والمظلومين من أجل إعلان شأن الحق والحقيقة. وفقره وحبه لهم جعله يعلن يوماً خاصاً عالمياً للفقراء خلال نوفمبر الماضي (2017)... وهذه هي لمسات الپاپا فرنسيس، پاپا الفقراء "كي لا تكن محبتنا بالكلام بل بالعمل والحق" (يو18:3).

 نعم، إنه الپاپا فرنسيس... قريب من الفقراء، فهو لا يملك شيئاً إلا حبه لفقره. يدافع عن فقراء بلاده الساكنين بيوت الصفيح، ومحبته لهم تجعله أحياناً يخاطر في سبيل محبته لهم. كما واصل شأنه مسيرته في ذلك حيث اختار ــ بعد أن أصبح "پاپا" أن يسكن في بيت الضيافة مع الزوار في بيت القديسة مرتا، وليس في القصر الرسولي، ليكون بذلك أول پاپا منذ پيوس العاشر لا يتخذ من القصر الرسولي مقراً دائماً لسكناه. كما ألغى العديد من التقاليد البابوية. غسل الأرجل في السجون في السنة الأولى لإنتخابه، وفي السنة الثانية أعاد رتبة غسل الأرجل في بيت للمعاقين. وفقره يظهر محبته لفقراء الدنيا أجمعهم، وهذا ما جعله يستقبل فقراء مدينة أسيزي، ويوجّه لهم كلمة عفوية قائلاً:"لا يستطيع المسيحي أن يعيش مع روح العالم ذلك أنه يقود إلى الغرور والكبرياء والعجرفة كما ويتعارض مع روح التطويبات"، ودعاهم إلى التجرد من روح العالم الذي يقتل.

 نعم، إنه الپاپا فرنسيس... إنه جواب لسؤال كل فقير ومهمَّش ومرذول... إنه جواب لكل عطشان إلى حيث هو ينبوع الماء الحي... إنه جواب لكل سائل أين أجد خبز الحياة؟، أين هي الكنيسة؟، أين هو إنجيل المسيح المخلص؟، أين هو المسيح الرب؟... إنه صوت المتألمين ونداء المظلومين، يزيل الحواجز بين الشعوب، ويمدّ جسور الوفاق والسلام والمصالحة من أجل بناء القِيَم وحمل الأخلاق عبر مسيرة الإنسان ليسود الخير، فلا طبقات ولا أجناس، حاملاً محبة واحتراماً عبر كلمات تهزّ القلوب بعد أن تفعل فعلها في العقول.
   
 نعم، إنه الپاپا فرنسيس... بفقره وتواضعه وبساطة حياته، وبكلماته الرحومة وقوة صلاته الدائمة. علّم الكبار كما أفهم الصغار، كبار الزمن وصغار الدنيا، بأنّ أقوى سلطان هو الخدمة. فدعا الكهنة إلى أن يعرفوا رائحة غنمهم وخرافهم، وأوصاهم أن يسيروا أمام القطيع وفي وسطه وخلفه، وهذا الحب من أجل غنم القطيع، مما دعا قداسة الپاپا إلى يكون على المائدة مع الفقراء مشاركاً آلامهم، يبادلهم الكلمة، فهو لهم ومن أجلهم، فيزرع الأمل هنا والتعزية هناك، وينطلق ليعاني المرضى ويباركهم، ويواسي المعوّقين ويشاطرهم أتعابهم، ويزور المساجين ويَعِدَهم بالصلاة من أجلهم كي يكونوا يوماً ما في حرية إنسانية ببركة رب السماء.
 نعم، إنه الپاپا فرنسيس... يدعونا لنفتح قلوبنا ليسوع. لنساعد الفقراء والضعفاء. لنهتم بالمستضعفين في هذه الحياة. شاهدين لحقيقة إيماننا ومسيحيتنا، وفقرنا لغنى المسيح في الكنيسة كما في المجتمع الذي نعيش فيه. لنهتم بالمرضى الذين يعانون ولا يجدون مَن يهتم بهم. لنزرع الحب ونوزّعه لكي نجده في الآخر. لنساعد ونعلّم الأطفال، ونرعى كبار السنّ ونحترمهم. لنعمل  مع المهمَّشين والغير المقبولين في هذه الحياة لأنهم علامات محبة من قبل السماء. وحينما نعمل ذلك فنحن صورة المسيح الذي أوصانا بالمحبة والخدمة، وفيهم ومعهم تكون لمسات الحقيقة التي نحياها في مسيرة دعوتنا.

  الكرسي الرسولي
لقد أكد مراقب الكرسي الرسولي الدائم لدى الأمم المتحدة ــ في 18 تشرين الأول 2016ــ في موضوع إلغاء الفقر، قال:"إن الفقر يشكّل حلقة مفرغة يكون فيها التهميش السبب والنتيجة في الآن الواحد. فالتهميش يزيد من فقر العائلة البشرية ككل، فيما تهميش الفقراء يعني أيضاً حرمانهم من حقهم في العيش كأحد مكونات العائلة البشرية، وتجريدهم من آمالهم وأحلامهم ونجاحاتهم وإنجازاتهم". كما أكد مراقب الكرسي الرسولي أن إستئصال الفقر يتمّ من خلال إشراك الفقراء في الحياة العامة على الأصعدة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، وهذا يعني دعوة الفقراء ليكونوا "شركاء" بكل ما للكلمة من معنى، وهذا الأمر يساهم في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وجعلها تعزز الشراكات من خلال الإفادة من خبرة وكلمة أشخاص يواجهون التحديات اليومية التي تطرحها آفة الفقر بصبر وشجاعة.

   الخاتمة
إننا مدعوون جميعاً لنكون فقراء، ونتجرد من ذاتنا، ولهذا بالذات ينبغي أن نتعلم المكوث مع الفقراء. كما نحن  مدعوّون للتجرد من خوف فتح الأبواب والخروج للقاء الجميع لاسيما الفقراء والمعوزين والبعيدين. ولنعمل على أهمية إتّباع طريق الفقر الذي يعني أن نتضامن مع المعوزّ، وما على الرعاة كما يقول قداسة البابا فرنسيس إلا" أن يعرفوا رائحة غنمهم وخرافهم، وأوصاهم أن يسيروا أمام القطيع وفي وسطه وخلفه، وهذه هي الحقيقة ان نكون لله  وان نكون اغنياء بفقرنا ، فهو الذي يغنينا هكذا يقول مار بولس. ولنذهب الى لقاء الفقير حيث ما هو ولندرك ان ربنا من اجل ذلك دعانا والمثل شاهد بيننا انه البابا فرنسيس ،فهو يعلمنا كي نذهب الى حيث السياجات والطرق وندعوهم ليدخلوا الى حيث السيّد الرب ينتظرنا وينتظرهم . نعم أختم فأقول: إنه قام بيننا فقير غني، فأغنانا بصلاته وبفقره... إنه الپاپا فرنسيس... نعم، إنه الپاپا فرنسيس... فقير بين الفقراء... نعم وآمين.

139
  يقولون "لا ترحلوا .. !!!"
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
منذ أن عرفتُ علمَ الحياة وما يعنيه في دنيا الزمن، وعرّفتني الدنيا بمسيرتها،
لم أجد في منطقتنا العربية والشرق أوسطية فترةَ هدوءٍ وراحةَ بال. فالأهواء السياسية كانت ولا زالت تقذفنا جميعاً من شاطئ إلى آخر، ولم نكن ندرك ـــ وحتى اليوم ـــ شيئاً من هذه الأهداف والاهواء وما غايتها ، بمعنى آخر أن منطقتنا ووطننا ومسيرة إيماننا مرّت ولا زالت تمرّ في مراحلَ صعبة، وفي أغلب الأحيان يصيبنا الإحباط وتعلو أصواتُ الهجرة، ولولا إيماننا بالمسيح الحي وشهادتنا لتربتنا لما بقي مسيحي واحد إلا وهاجر من هذه الأرض الطيبة والتي كانت تدرّ حياةً وخضاراً، واليوم نفطاً وكبريتاً، دولاراً وديناراً، نزوحاً وهجرةً، أحزاباَ جشعة، وخطاباً مميتاً، طائفية وعشائرية، حروباً مرعبة ومخيفة جعلتنا ضحايا وعبيداً لمصالح سياسية ، ولمحاصصة حزبية، للقاصي والداني، للغريب والقريب، للفساد والسرقة، وتفاقمت حتى أصبحنا تائهين في مجال الوجود والبقاء ، ليس إلا.

الرحيل والعويل
   نعم، إننا اليوم نقف على مفترق طرق مخيف ملؤه الضياع والخوف وأمام مواقف صعبة ومؤلمة، فالخطر يداهمنا من زوايا شتى ومن أماكن متعددة، وأيامنا تعلن ـــ شئنا أم أبينا ـــ خطرَ محو المسيحيين من هذا الشرق وإبادة وجودهم وتغيير أماكن سكناهم بديموغرافية مزيَّفة ساندتها العشائرية والطائفية ، والأغلبية هي الحربة ورأسها، ولم تترك مجالاً لإعلان حقيقة وجودنا، فبقينا خائفين، معلنين فشلنا في سكوتنا، وتكون الخاتمة والرحيل والعويل.

مكوّن اصيل
   مَن منا لا يقول أن المسيحيين كانوا هم الأوائل في هذه البلدان الشرق أوسطية. ومَن منا لا يقول أن هذه البلاد كانت مهدَ المسيحية وبدء رسالتها السماوية. ومَن منا لا يقول أن المسيحية مكوِّن أصيل وقد سبقت الشعوب والقبائل في وجودها وفي مسيرة حياتها ، وفي كتب تاريخ الزمن ... كل ذلك حسن وجميل لأسطر التاريخ، ولكن لقد سئمنا من هذا الكلام لكثرة تكراره فالواقع والدستور وما يحصل يقولون غير ذلك، والحقيقة لا تكمن بالأقوال بل بالأفعال إذ يقول مار يعقوب الرسول "ماذا ينفع الإنسان يا إخوتي أن يدّعي الإيمان من غير أعمال... فالإيمان بغير الأعمال يكون في حدّ ذاته ميتاً" (يعقوب14:2)... نعم، الواقع ليس كذلك مطلقاً.

بيانات ومؤتمرات
   نعم، تعرضنا للذبح والطرد والتهجير، وما اقترفه تنظيم الدولة "داعش" بحق المسيحيين والمكونات الأخرى لهو دليل أكيد على تهجيرنا، فقد كان حينها الكثير من أبناء العروبة يتفرجون، وآخرون يصدرون بيانات ويعقدون مؤتمرات ويلقون خطبهم،  ونحن لهم كنا شاكرين ، ولكن كل ذلك لم يكن إلا نقطة في محيط وعلى حديد ساخن فلا أثر لها بعد أيام بل بعد ساعات ، وكأنّ كل شيء قد تمّ وأُصلح. فالحقيقة يجب أن تقال، فاليوم الكثير من المسيحيين وفي جميع بلدان الشرق الأوسط والعالم لا يستطيعون التعبير بحرية عن إيمانهم وعيشهم في مجتمعاتهم وهم يكافحون من أجل البقاء والوجود والعيش بسلام في أراضيهم، والعدد لا زال في تناقص مستمر، والاستمرارية هنا ما هي إلا ضياع الوطن وفقدان الوجود والأصالة وطعن مسيرة الحوار كي لا تقوم لها قائمة.

فقدان وثقة
   إن عددنا يتناقص بمرور السنين والأيام والأزمنة، ولا أظن هناك مَن يريد العودة بعد أن هاجر وترك وغادر، فمِحنَتَهم كبيرةُ الحجم والمأساة، فهم لم يكونوا ذلك ولكن أجبروهم بشتى الأساليب على فقدان الثقة بأرضهم ووطنهم وهم الذين سكب أبناؤُهم دماءَهم من أجل تربتهم وأرضهم. واليوم ما يعانوه في شرقنا المعذَّب لم يكن بالحسبان وبالصورة التي نحن نحياها، فما هي إلا صورة بائسة لمستقبل قاتم ولأيام ملؤها الغيوم والعواصف، وهذا ما يجعلنا أن نقلق على مستقبلنا ومسيرة إيماننا، وكفانا أن نقول وما نفعله هو عكس ذلك تماماً لأنهم لا زلنا عرضة للاضطهادات والقتل والتهجير شئنا أم أبينا، وانسلاخ مسيحيينا عن أرض آبائهم وأجدادهم ما هو إلا كونهم ضحايا لقادة فاسدين فاشلين، ولمخططات مشبوهة أرادها لنا كبار الدنيا والزمن وأصحاب المعالي والقصور ليشوّهوا سلام مسيرتنا وصفاء إيماننا في حبنا لأرضنا وإنجيلنا وكنيستنا، لأن المسيحي قوته في إنجيله، في مسيحه الحي ، ليس إلا .

البابا فرنسيس
   هناك صوت يهدر دائماً دون انقطاع وبشجاعة ملؤها المحبة والغفران والتسامح، إنه صوت كبير الفاتيكان، بابوات روما ومنهم  البابا فرنسيس، حيث قال للمشاركين في لقاء حول الأزمة الإنسانية في سوريا والعراق في أيلول الماضي (2018) ما نصّه:"هناك خطر أن يُلغى الحضور المسيحي من تلك الأرض التي منها انتشر في العالم نور الإنجيل. فلا يجوز الاستسلام لظلمات العنف وليحافظوا على شعلة الرجاء متّقدة بنعمة الله ولننظر إلى المستقبل".. إنها الحقيقة في الصميم، فما يحصل يقودنا الى أن نسأل ، هل هو تهميش متعمَّد لإنساننا المسيحي في العراق؟، هل هو تدمير لتاريخنا الحضاري الموغل في القِدَم والسنين والأزمنة؟، هل هو محو لديانة من أقدم الديانات التي نادت بالتوحيد؟، هل نحن في زمن يخبئ تحت عباءته طائفيتَه وفساده فيقيم صراعاتٍ دموية وعشائرية وحتى إيمانية لتحقيق مآربه وإعلانها؟... إنها ظلمات العنف ليس إلا!.

في الختام
   ختاماً أقول: نعم، لقد تضاءل عددُنا وهذا لا يعني ضياعنا ورحيلنا بل على الإسلام أولاً حماية البقية الباقية من أجل ضمان بقائهم وحقوقهم. فالعديد من الذين رحلوا يتردّدون في العودة إلى موطنهم الأمّ، ولا يفكرون إلا بالبقاء في الغربة لأسباب عديدة منها الوضع الأمني الذي يعيشه شرقنا المعذَّب. وهناك، أي في الغربة، يجدون ضالّتهم حيث كل إنسان له قيمته وحقوقه، له كرامته وإنسانيته في حرية إيمانه وممارسته لعقيدته دون خوف وعلانية، فلا يحكمه إلا قانون الوطن والدولة الذي يحميه من جميع التعرضات والمعاكسات بل أكثر من ذلك "إنه خُلق على مثال خالقه" ( تك27:1). ويقول الكتاب:"إن الله رأى كل شيء حسن" ( تك31:1). فنحن لسنا بحاجة إلى عودة داعش بنسخ أخرى أو بصراع طائفي فقد أكلتنا نارُ الحروب والصراعات وأخاف أن يؤول البلاد إلى الغرباء عاجلاً أم آجلاً.
   شكراً..وكفانا وعوداً، بل بالأحرى نحن بحاجة إلى تثبيت وجودنا. أعملوا ... ولا تقولوا  بعدُ "لا ترحلوا ، بل قولوا هذا وطنكم، سنكتب دستورنا معاً ، أعلنوا فيه وجودكم". واعملوا معنا كي نحمي تراث آبائنا وأجدادنا، وحضارتنا وكنوزها الروحية والزمنية، وما عليكم إلا العمل والاجتهاد في سبيل ذلك. ولا تجعلوا مسيحيتنا تمزقها الحروب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل فنتيه في المجهول،مثل نزوحنا في زمن داعش الارهاب، ولم نعد نحتمل ما حصل وما حلّ بنا ، وهذه حقيقتنا، فأملاوا قلوبنا الامل والرجاء واعملوا من أجلنا وأشهدوا لاصالتنا وليس لهجرتنا ، ولا تخافوا أن تقولوا الحق فالمسيح الحي يقول " قولوا الحق والحق يحرركم " ( يو 32:8)  وجبران خليل جبران يقول " يا رب ساعدني أن أقول كلمة الحق في وجه الاقوياء وألا اقول الباطل كي أكسب تصفيق الضعفاء "  والمهاتما غاندي يقول ايضا " حتى وإن كنتم أقلّية تبقى الحقيقة حقيقة " !والقرآن الكريم يقول " وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ  وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهَ "( صورة البقرة آيه 282)...نعم وامين .



140
يقيم المنتدى الثقافي لكنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك في المنصور محاضرة ثقافية ضمن البرنامج الشهري للملتقى بعنوان (ثقافة التطوع وأثرها على التنمية والتطوير في العراق) يلقيها ألأستاذ وليم وردا وذلك في الساعة السادسة من مساء يوم السبت 1 أيلول 2018 في قاعة معهد الكلمة الرعوي التابع للكنيسة
حضوركم يشرفنا ومشاركتكم تغنينا
والدعوة عامة للجميع
مع محبتي
أبونا بيوس

141
مسيحيّونا ... بين الحق والحقيقة
   في البدء
   شاءت إرادة الخالق في سمائه أنْ حلّ ما حلّ فينا، وما ذلك إلا إرادته، فليكن إسمه ممجَّداً ومسبَّحاً مدى الدهور وكما يقول مار بولس:"كل شيء فيه وبه وله، فليكن إسم الرب مبارَكاً" (رومية37:11). أما الدنيا فقد شاءت بإرادتها أن تحمل إلينا هموم الحياة ومتاعب الزمن وحقيقة الألم ودنيا المصائب، فطُردنا من منازلنا، وهُدِّدنا في قرانا ومدننا، وأُجبرنا على ترك كل شيء، نعم كل شيء، وسُجّلت بيوتنا وعقاراتنا بأسماء تنظيمهم الإرهابي، وألصقوا حرف النون على أبوابنا مدّعين أن لهم الحق بكل شيء، وما نحن إلا كفّار في الدين والدنيا، ولا يحق لنا أن نملك حتى ما يكسو أجسامنا، وكل ذلك بسبب كوننا مؤمنين بالمسيح الحي. أرادونا أن نتخلّى عن إيماننا، فعملوا ما استطاعوا من أجل إهانتنا وتحقيرنا وتكفيرنا، كما أمعنوا في تدميرنا، ولكن نقول: مهما كتبوا عنّا ومهما نوّعوا في تحقيرنا فلا نكران لإيماننا مهما خسرنا من دنيانا، فما نحن إلا شهود لحقيقة الإيمان ولمسيرة الحقيقة... ليس إلا!!!.

   أقلية بائسة
   بعد خمسة عشر عاماً مرّت بمآسيها وطياتها المؤلمة، بطائفيتها وعنصريتها، ولا زلنا نراوح من أجل نيل حقوقنا، بل لا زلنا ننظر إلى مستقبل مجهول فيه نسأل وهو يتساءل فينا قائلاً: ماذا تنتظرون؟، ما رؤيتكم للمستقبل؟، ألا تكفي هذه الأعوام وما حملته إليكم لتدركوا حقيقة كبار زمنكم وكلمات دستوركم؟، ألم تعرفوا أن لا حقوق لكم إلا في ملء كنائسكم، ولا صيانة لحريتكم في الإيمان والحياة إلا ما يشاؤون وما يرسمون؟... فما نحن إلا أقلية بائسة موضوعة على رفّ الدنيا والمصلحة، يجمّلون مسيرتنا متى ما شاءوا، ويقدموننا قرباناً إذا كان ذلك من أجل دنياهم وأهدافهم ليلاً ونهاراً، فنخاف من ظلّنا، ونتألم على وجودنا، ونسأل عن كبارنا وشهدائنا فهم "ليسوا في الوجود" (متى18:2)، وشبابنا قد رحلوا، فدنياهم وأرضهم أصبحتا هيرودس بظلمه الفاحش (متى13:2)، هذا حالنا حتى الساعة... أليس كذلك!!!؟.

   تجربة مأسوية
   إن التجربة المأسوية التي خيّمت علينا منذ أمد بعيد، وفي هذه السنين الأخيرة عشنا مآسيها، فقد كانت مليئة بالمعاناة والألم والصعاب وقسوة الحياة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرّقتنا الطائفية وجعلتنا العشائرية والقبلية أعداءً، وملأتا قلوبنا عداوةً وحقداً وكراهية، فأصبحنا نتكلم عن أنانيتنا وكأن المُلك والعالم هو لنا (  يو10:1)، ونسينا أن هناك أخوة من أديان أخرى، من مكوِّنات مختلفة، تقاسمنا حب التراب والوطن، وتشاطرنا المسيرة المتعَبَة... وأمام هذه تتّجه أنظارنا وتطلعاتنا على حكومة مدنية عابرة للطائفية والمحاصصة والعشائرية، ويحكمنا الدستور الذي كتبناه بعرق جبيننا، وليس الذي أُعطي لنا، كي نكون عبيداً له، وننادي بمبدأ المواطنة في العدالة والمساواة... أليس كذلك!!!؟.

   ثمناً باهضاً
   إنها الحقيقة بالذات... شعبنا كله دفع ثمناً باهضاً عن خطأ لم يرتكبه. فالسياسة في كثير من الأحيان تجعل الشعوب عبيداً للمبادئ المزيَّفة، ومطيعاً لمنافقي المسيرة. نعم، إستشهد عديدنا، وقالوا لنا يوماً "إرحلوا عنّا، فهذه ليست أرضكم"، وعانينا، ولا زلنا نعاني عدم الاستقرار وهجرة أبنائنا، وبالأمس القريب طردنا داعش الإرهاب، وأزاد الفوضى في مسيرة حياتنا بسبب نفاق كبار الزمن وغواية الشر الذي مَلَكَ في قلوب المستعبدين، فماتت الضمائر. ولكن، من أخطر الأمور عندما يُقنِع المنافق الآخرين أنه ذو ضمير حيّ ولا يرضى أن يخالف تأثيره على حياته. ومن المؤلم حقاً عندما يكون المنافقون من كبار الدنيا ورجال الزمن الذين يحلّلون كل حرام، وينسون أنهم يلوّثون سمعتها بوصمة عار يتعذر على التاريخ محوها، فيقرأها الأجيال ويترحموا على الأبرياء وعذاباتهم... أليس كذلك!!!؟.

   غبار السياسة
   أين هي الرؤية الواضحة لمستقبل أجيالنا من قِبَل حكوماتنا الموقرة؟، فالمسيحيون أمناء لتربتهم وأوفياء لمسيرتهم وحقيقة إيمانهم وحبّهم لشعبهم، ويُبان هذا جلياً في صلواتهم إلى ربّ السماء من أجل الحكمة والعدالة. وأمام هذا كله لا زالت حقوقنا في نسيان الطلب، ومآربنا وآمالنا في تهميش، شئنا أم أبينا، وربما وُضعت فوق رفوف الطلب تنتظر مَن يمسح عنها غبار السياسة المزيَّفة والحقوق المكتوبة لتُبان جلياً أصالتنا وعمق وجودنا قبل غيرنا، فنستطيع أن نقوم بدورنا ونجدّد حيويتنا كي نبني ما دمّره الإرهاب القاتل، وما هدمته الطائفية اللعينة، وما رسمته العشائرية المقيتة، وما ظلمه الدستور في مواده وأسطره، فنكون أخيراً مواطنون بحقوقنا وواجباتنا... أليس كذلك!!!؟.

   ضاع الحق
   مرات عدّة ــ وعملاً وطاعةً لرؤسائنا ــ كنا نقف من أجل الدفاع عن حقوقنا، فكنا ننادي بكتابة حقيقتنا وإعلان بياناتنا ومحو مواد كُتِبَت من أجلنا لتدميرنا ولإهانة كرامتنا، وتصغيراً لمسيحنا وتقليلاً من شأننا، وكنا كلنا أملاً أن هذه الهتافات ستحصد ثمارها، وهذه البيانات سنقطف عناقيدها، وهذه الصراخات سترفع عالياً شأن احتياجاتنا كي نكون أمناء لمستقبل أجيالنا وأطفالنا كي لا يكتبوا يوماً على صفحات قلوبهم أننا لم نكن لهم أمناء، فيرحلوا ويهاجروا بعيداً، نعم بعيداً، معلنين أن الإنسانية قد فقدت مصداقيتها، وإنها ليست من زرعات وطننا، وحقوقنا لم تُكتَب في صفحات أسفارنا. فنحن لا حول لنا ولا قوة إلا أن نهتف وننادي ونلجأ إلى الأقوى وأغلبيته كي ننال ما نشاء وإن كان ناقصاً، فنحن في ذلك لهم شاكرون. ولكن هل نعلم جيداً أن حقوقنا هُضمت وبيعت وقُسمت ولم يبقى منها إلا الأثر والتراث، فضاع الحق ومَلَك الظلم... أليس كذلك!!!؟.

   الارشاد الرسولي
   ما سبب دنيانا وما بالها اليوم في شرقنا، تطرد أبناءَها وتُجبرهم على أن يكونوا في صفوف المهجَّرين والنازحين والمسجَّلين في دفاتر الأمم من أجل التفتيش عن السلام والاستقرار وقد رفع البابا بندكتس صوته في الارشاد الرسولي  لكنائس الشرق الاوسط مناديا " أنه لا يجوز أن يخلو الشرق الاوسط من المسيحيين " . فهل هناك من كبار الزمن مَن يراهن على زوالنا وعدم بقائنا؟، وهل هناك مَن يتألم لنقص أعدادنا وإن كانوا يتأهون لذلك؟، أليست هذه مأساتنا وقضيتنا التي لا نريد لها إلا البقاء في صفحات الدستور جبراً؟، أليس في ذلك مصالح لسياسات الموت سواء رفعنا أصواتنا أو تضامنّا مع غيرنا؟، فما مصيرنا إلا مجهولٌ سواء متنا أم حيينا وذلك لا يهمّ صنّاع القرار وتجّار الأوطان، فالمهمة الأولى والأخيرة ضمان مصالح كبار الحكم والدنيا والزمن... إنها سياسة الدمار التي تسببت في مقتل وتهجير ونزوح الآلاف منّا ومن غيرنا، وما كان الدستور لنا إلا صفحات لكتاب نحلف بوجوده وهو لا يقرّ بوجودنا، فلا آذان صاغية، ولا أسطر وافية، فما حصل لنا ترك في نفوسنا آثاراً عميقة وبائسة، وأصبح الخوف علامتنا، بل حقيقتنا... ليس إلا!!!.

   الختام
   أمام ما يحصل في بلادنا الجريحة، وأمام ما قاسيناه منذ عقود وأجيال وسنين، سنبقى أمناء لتربتنا وسيبقى صوت الكنيسة والبابوات يرنّ في اذاننا أننا أصلاء الارض ، ولا يمكن أن نبيع أرض آبائنا، فهذه قد عُمّذت بعرق جبين أجدادنا، وجُبلت بدماء شهدائنا الأبرياء، شهداء سيدة النجاة، ولا يمكن أن نكون ضحية لتجّار الناس فيخرّبوا ما بنيناه. فأرضنا ليست للبيع، وعراقنا ليس للتهميش، فنحن لسنا عبيدَ المال بل نحن أبناء الرافدين الذين صمدوا بإيمانهم وبسالة احتمالهم فكان النور مضيئاً (يو9:1) بعد ظلام مَلَك علينا (يو5:1). ونقولها وبكل شجاعة: من المؤسف أن أبناءنا الأبرياء قُتلوا بسبب مصالح في حروب شُنّت علينا، كما أن جرحانا ملئوا المستشفيات ودور الشفاء فجعلونا معوّقي الحياة من أجل أن نكون بلا حركة ولا بناء، بل أن نحيا بتأوّه وأسف. وأصبح الدواء بعيداً عن مرضانا كما أصبحنا لا نملك دينارنا، كما أن نفوطنا حلّت نقمة علينا.
لذا أقولها: ألا يكفي مما أينعت وأثمرت مصالحكم يا كبارنا، يا جيراننا؟، أتركونا نبني ديارنا، فأمّهاتنا تبكي فلذّاتها ولا من يواسيها (متى18:2) كما يقول الكتاب "صوتٌ سُمِع في الرامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير. راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين"... إنها آلام الحزينة، فَمَن يعزّيها؟. فاتركوا ــ بحق المسيح الحي، بحق الله الذي أحبنا (يو34:13) ــ أتركونا نناجي ربنا، ندعو إليه لينعم علينا برحمته، ويزرع بذرة السلام في قلوبنا، وننمو وطناً عزيزاً، وشعباً مُحبّاً، وغداً لأجيالنا، ومستقبلاً لأولادنا وأحفادنا.فذلك حقنا وتلك حقيقتنا..وما رجاؤنا إلا بالله.. أليس كذلك! نعم وآمين!!؟.


142
بالامس كنا واليوم أصبحنا

المونسنيور د. بيوس قاشا
إن عالمَ اليوم أكثرُ عنفاً وفتكاً بأبناء الأرض الأبرياء، وعلى المسيحيين أن يدركوا أنّ ارضهم كانت بذرة ايمانهم وان مسيرتهم ما هي الا شهادة فهناك من يريد ان يفرغ البلدان منهم  ، وذلك ليس سرّاً فوسائل التواصل الإجتماعي تفضح كل شيء وتُعلن المستور حسب قول المسيح الحي:"ليس خفيٌّ إلا سيظهر، ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (لو17:8)، كما تُظهر الوسائل تزييف الحياة التي يحملها الفاسدون والسرّاق المبارَكون من قِبَل رجال الدنيا والزمن والمهمات والمناصب والمعابد بسبب المصالح والقربى، كما إن الصراع الطائفي السلطوي البغيض أزاد في الطين بلّة وبدأت معه النزاعات والخصومات والالتفافات العشائرية والعقائدية والطائفية والمحسوبية ، وأخذت تمزّق أصالتنا من أجل أن نكون أو لا نكون.فما اقساه الزمن الذي نحن نعيش ايامه ومن المؤكد ان رؤوساءنا ورجال زماننا -وأنا كلي ثقة - بأنهم ملمّين بكل حيثيّات المسيرة المسيحية المؤلمة ومسيرة البلد المتعبة ، لذلك تراهم  يعملون في الرجاء من اجل مواصلة الحياة ، لذا سنبقى نشهد للحقيقة بعينها، إذ لا بدّ أن نعرف مسيرتنا الى اين نحن ماضون وكيف كنّا واين اصبحنا وهذا قليل من كثير وموجز لمواضيع شتّى فأقول :
بالأمس كنا مواطنين أصلاء، واليوم نحن مهجَّرون ونازحون؛ بالأمس كنا وطناً واحداً وكنيسة واحدة بإيمانها، واليوم أصبحنا نفتش عن تسميات كنائسنا وعن طائفياتنا وعن أمكنتنا وكراسينا والويل إذا دخلتُ عتبة كنيسة لا انتمي اليها؛
بالأمس كنا شعباً سعيداً مُلمّوماً شمله، واليوم تشتّتنا في بقاع الأرض عبر الطرق البعيدة الشاسعة؛ بالأمس كنا نملك وطناً وأرضاً وعراقاً، واليوم نحن لا نملك حتى الهواء الذي نستنشقه فما نحن إلا غرباء وأناس مأجورون؛ بالأمس كنا ننعم بأجواء بيوتنا وقصورنا، واليوم نلف الكرفانات والخيم والمعسكرات  ؛ بالأمس كنا نزرع حدائقنا وروداً ونقطفها باقات، واليوم نجمع دموعنا ونقطفها آهات ؛
بالأمس كنا نبني ونحصد والحرية ترافقنا، واليوم أصبحنا نفتش عن فلك نوح خوفاً من الطوفان؛بالأمس كان الفرح يملأ صدورنا والرقصة( الدبكة ) تشاركنا بهجة الحياة ، واليوم حسرات هي نتاج امراضنا وعاهات في صدورنا ؛ بالأمس كنا نعمل في دورنا وبعرقنا نربح أيامنا، واليوم فقدنا حتى بيوتنا فقد نُهب كلُ شي وأُحرق ما بقي من شيء ولم يبقَ لنا إلا نون ؛
بالأمس كانت خزائننا مليئة بما تعطيه الحياة، واليوم أمام المنظمات نقف طوابيراً نستعطي ارزاقناً؛ بالأمس كنا ننام وأبواب دورنا مفتوحة احتراماً لضيوفنا، واليوم نتّفنن في كيفية تحصين أبواب دورنا خوفاً من الآتي؛  بالأمس كنا نجول نشامى في شوارع مدينتنا، واليوم أضعنا حتى عنوان حارتنا؛
بالأمس لم يكن لنا لجانٌ تهتم بشؤوننا وكانت المسيرة صادقة باهلها ورجالها، واليوم مجالس وشؤونهم ولجان والقائمون عليها فاسدون يخفون فسادهم وما إصداراتهم إلا بيانات ومناجاة عبر المنابر والمايكروفانات ؛
بالأمس كانت الحياة طبيعية برجالها الأوفياء الأمناء، واليوم فسدت الدائرة بفساد مدرائها وموظفيها وأهداف طائفيتها؛ بالأمس كان الإعتذار من كبير القوم والاقرار بالخطأ سبيلاً ، واليوم أصبح فاسد القوم قديساً تُحجَز له المقاعد الأولى  وله تنحني القامات كما له يجب الإكرام والمجد والتسبيح والترحيب ؛
بالأمس كانت الشهادة هي الحقيقة فانجيلها نورها لسبيلي واليوم اصبح الكذاب والمنافق والسارق وشاهد زور هو الشاهد لحقيقة مزيفة ؛ بالأمس كان عدد مؤمنينا يفوق المليون والنصف واليوم اصبحنا نحصى بعدد ايام السنة ؛
بالأمس كانت قرانا مفعة بالحياة ، بالذهاب والاياب في البناء والعمران واليوم نسال هل سنبقى نواجه التحديات الداعشية وديموغرافية المطالب ويبقى السؤال لماذا البقاء؛ بالأمس لم نكن نفكر في هجرتنا ومغادرتنا وكنا نحسب ارضنا لنا ونتشبث بها واليوم الهجرة هاجسنا وموضوعنا ولا ثقة لنا بارضنا التي احببناها لان الزمان قد غدر بنا وبدات تلفضنا ؛ بالأمس كان لنا ماء وخضار ونهران وكم كانت حياتنا جميلة بخالقها الذي أبدع كل شيء ، واليوم نفتش عن خضار لنلاعب اطفالنا فيها وندغدغ حركاتنا فكل شي قد ضاع ؛
بالأمس لم نكن نعلم ماهي الاحزاب والتقسيمات وماذا تعني الحركات واليافطات فكل شيء كان على بساطة الحياة محبوباً وموقراً واليوم نحن احزاب باسماء ومكونات وعددها يفوق عدد اصابع اليدين وحركات واقليات وطوائف وقوميات ومهامها مسموعة وغير مرئية ومصالح لا تعد ولا تُحصى ولا تُرى بالعين المجّردة نسمع بآياتها وما نعرفه وما نسمعه ماهو إلا بياناتها ولا نرى افعالها وتوضع على اكتافنا  ونحملها ونحن لهم راكعون فالكبار لها ساندون والصغار من اجلها واجلهم مطيعون خانعون ؛
انا لست متشائما ولكني سابقى اقول كما قالها يوما المسيح الحي " تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو32:8) وقالها غاندي " ان اقول الحق في وجه الاقوياء"  والخوف لا زال هاجسا مخيفا فهل سيعود ثانية فقد كان لنا تجربة قاسية واجهناها برجاء اكيد في ايماننا بالمسيح الحي ولكن اسال السنا امام تحديات جديدة تحديات المستقبل تحديات التشبث بالارض والبقاء فيها شهادة لايماننا ووفاء لمسيحيتنا ولحوارنا وسيبقى السؤال يراوح في محله وبدون جواب هل  سيعطى للمسيحيين حقوقهم ويعودوا يعيشوا مطمئنين الى قراهم .
ولكن إذا ما بقينا على هذه الحال فالقادم مخيف، وشعبنا لا زال يرحل، ولنعلم أننا بعد أن جُرّدنا من كل شيء، من المال والمجوهرات، من الأملاك والحاجيات، سنترك شعبنا ومعابدنا ونقصد جمعيات وافدة بسبب عدم إدراكنا للطرق الملتوية والغريبة التي يأتون بها أصحابها، فهم يعلّمون أولادنا أن هذه كلها كنائس ولا فرق بين هذه وتلك، وتضيع الحقيقة،ويضيع الوطن ،  ويتم المَثَل القائل "بطني عبادتي، وإلهي دنياي"، والويل إذا كان الراعي في سبات عميق أو كان أجيراً إذ لا يهمه أمر الخراف "فيأتي السارق ويذبح ويُهلك" (لو39:12)... وياليتنا كنا أمساً في يومنا. وسأبقى بنعمة الرب متفائلاً وسأبقى أقول " لتكن مشيئتك يارب: تلك مسيرة إيماني ، نعم وأمين ، أليس كذلك .


143
رسالة مفتوحة الى غبطة ونيافة ابيناالكاردينال مار روفائيل الاول ساكو السامي الاحترام
نعم : أنتم لنا ملاّحٌ وراعٍ

في البدء
أعلن البابا فرنسيس يوم 20 أيار الماضي في صلاة التبشير الملائكي عن ترقيته لأربعة عشــــر كاردينـــالاً جديداً، وجاء اسم غبــطة البـــطريرك لويس روفائيل ساكو (الكلي الطوبى) في المرتبة الأولى، من بينهم أحد عشر ناخباً للبابا و3 من المتقاعدين، والبطريرك ساكو من ضمن الكرادلة الناخبين.ان هذا الحدث الذي شهدته كنيسة العراق بطائفتها الكلدانية ما هو إلا علامة لتأكيد إيمان الشعب الذي شهد لمسيرة الهجرة والنزوح والتكفير وفي هذا الزمن القاسي .بهذا الخبر رقصت قلوبنا وابتهجت افئدتنا وزغردت افواهنا واستولى الفرح على وجودنا وتجسد العيد بيننا بمسيرة الحياة في كنيسة العراق الشاهدة والشهيدة .

طوائف ومسيرة
في 9 شباط 2010، أُعلن عن تأسيس مجلس رؤساء الطوائف، وقد استبشرنا حينها كلنا خيراً، وتنفس المؤمنون رائحة المسكونية التي نحن في انتظارها كي تتفتّح في حياة المؤمنين فتكون وحدة الكلمة والإيمان، وأن يكون المجلس ممثِّلاً للحضور المسيحي، ويعمل على تفعيل التعاون المشترك دون التدخل في خصوصيات الكنائس أو الكيانات الخاصة لأيٍّ منها.. وكل هذا وبعد ثمان سنوات لم يتحقق منها شيء إلا النزر اليسير، وهذا ما جعل غبطته حينها أن يُظهر عدم ارتياحه لهيكلية مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق، فأصدر في 3 كانون الثاني 2017 بياناً أعلن فيه إنسحاب الكنيسة الكلدانية، وطالب بإجراء تعديلات واعتماد تسمية "مجلس كنائس العراق" بدلاً من "مجلس رؤساء الطوائف المسيحية"، وتفعيل دوره خصوصاً وإنه حتى الآن لم يقدم شيئاً كبيراً يُذكر.
 نعم يا رؤوسائي الكرام إنَّ كنيستي اليوم في وطني تشعر إنها وحيدة وحائرة ومضطَهَدة وشهيدة، ويحمل أولادها مستقبلاً مبهَماً من أجل البقاء أو الرحيل، وهذا ما يجعل أن تتسرب إليها المياه وخوفي أن تغرق في أفكار ضالّة كموجات عارمة، لأن كبار الزمن ورجال العابد  غير مهتمين بشأنها وشأن ركّابها وقوة الأمواج التي تناطحها، فهناك مَن يتركها دون أن يعرف لماذا قائلاً: لا يجوز البقاء فيها، فالقائمون عليها من المتعصبين والمختلفين والطائفيين، وقل ما شئت في هذا الشأن والسبب ربما يعود إلى أن حضورهم في الكنيسة لم يكن إلا تماثيل صامتة، فلم يتعلموا طرق الإيمان في رفع الصلاة بتقوى القلوب.فما أقسى الزمن الذي نحن نعيش أيامه، هل هو زمن الإضطهاد ربما؟، هل هو زمن المآسي والأنانية ربما؟، هل هو زمن التهجير والرحيل ربما؟، هل هو زمن النزوح وإفراغ البلد ربما؟... كل هذه تذكّرنا بمأساة القرن الماضي، ما حلّ بأجدادنا وكيف فتكوا بهم وقتلوهم ورحّلوهم وذبحوهم كخراف ونحروهم ككفرة وكأنّ تلك الغيمة السوداء توقفت على رؤوسنا فأصبحنا دخلاء في أرضنا، وغرباء عن تراب خُلقنا منه، ولا يمكن أن ننسى ما حصل للشهيد المطران فرج رحو والاب رغيد والشمامسة رفاقه وما حصل بكنيسة سيدة النجاة واستشهاد 47 بينهم الابوان وسيم وثائر ، كما  لا زلنا نذكر ما قام به الارهابيون من أعمال شريرة وراح ضحيتها أبرياء.ولا زالوا حتى اليوم يفتكون بنا كما لا زال السطر لم ينته. أتساءل: أين المجلس الموقر، من هذا كله ، وأين أصبحنا؟، أين أصبحت أمّنا الكنيسة المقدسة؟، هل ضيّعنا السبيل وتهنا في طرق الدنيا والزمن وأصبحنا نلفّ دنيانا لنجد أبواب معابدنا؟، وهل إيمان آبائنا وأجدادنا كان إيماناً صورياً وعاطفياً؟، وأخذنا نتساءل: أين هو المعيار الحقيقي للإيمان، للعبادة؟، وأين هو الإيمان الصحيح؟، أين نحن وأين هي كنيسة العراق اليوم، بل كنيسة الغد، بل كنيستنا الآن؟. ولكن لنعلم أن الكنيسة قبل كل شيء ليست فقط طائفة أو رعية أو حظيرة أو مسمّيات مختلفة وبإسم أشخاص بل هي لراعيها يسوع المسيح الذي قال:"انا هو الراعي اصالح ...." (     )، فهو يعمل فيها كونه الكائن الحي، نولد به بالعماد، ونتغذى بقربانه فننمو ونتوحد معه، وهذا سبيل كنيسته وأما سبيل كنائسنا ؟

ساكو كاردينال
الحقيقة أن الكنيسة اليوم بحاجة إلى عَنصرة جديدة تهبّ على العالم وعلى ساكني هذا العالم وعلى القائمين عليها، وهنا كانت نفحة الروح بمواهبه بأنْ أعطت لنا السماء رسولاً يحمل صليب المسيح ليشهد على ذلك بإيمانه، ويعمل بضميره وبالروح والقلب من أجل تجديد ونفض الغبار عن مسيرة الكنيسة عبر مجالس كنسية، جاعلاً أن لا تبقى أسيرة الخوف وسجينة الطائفية، فما عليه في هذا الزمان إلا أن يحضن حتى الأعداء -وان لا عداوة في المسيحية - الذين يظنّهم خارجين عن سياق مسيرته، فالمسيح الرب قال:"أحبوا أعداءكم... صلّوا من أجل الذين يضطهدونكم" (لو27:6-28)، يذهب إليهم _ وربما هم الخروف الضال _ فيأتي بهم لأن الكنيسة لا تتجدّد إذا لا تحمل سِمات الروح ومواهبه على مرّ الأجيال، فهي تجمع في شبكتها من كل جنس، وتجمع من بينهم الخطأة فيشعرون بما أحدثته الخطيئة في داخلهم من تمزق، فهم بحاجة إلى غفران لينهضوا من كبوتهم وليس معاداتهم بسبب آخرين شوّهوا سمعتهم وبصائرهم، وربما هؤلاء الآخرون هم أفسد الأصدقاء، ويتراؤون انهم  أقدس الحكماء. فما نحتاجه هو الغفران لتبدأ الكنيسة مسيرة جديدة براعٍ حمل أفكاراً ونظرات ومثالاً وحقيقة لابدّ من أن تكون من أجل حقيقة الكنيسة، فهي تحتاج إلى تقديس ذاتها فالمسيح قال:"لأجلهم أقدس ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدَّسين بالحق" (يو19:17) وهنا كان مخطط الرب عبر اعلان قداسة البابا فرنسيس بتسمية البطريرك ساكو كاردينلا للكنيسة الجامعة . 
غبطة ونيافة ابينا ساكو ، أن يعيَّن كاردينالاً من قبل قداسة البابا فرنسيس ، فما ذلك الا عَنصرة جديدة لكنيسة العراق وليس فقط للكنيسة الكلدانية وإنْ كان من حقها أن تقول هذه الحقيقة، ولكننا نحن اليوم في زمن نُحسَد عليه، فالعراق يفرغ من مسيحييه، ومؤمنونا يقصدون جمعيات وافدة، وخلافات بين كبار المعابد وخدّامها، آفة تشكّك مسيرة الكثيرين. وهنا أعاتب سيدنا( سيادة المطران يوسف توما ، مطران كركوك ، الجزيل الاحترام ، بعد أن أطلب بركته فليس من الصحة أن يقول انّ هدية البابا إلى كنيستنا وان الكنيسة الكلدانية التي كانت تناضل ضد التعصب والإرهاب فإنها ذات مغزى، فإنها قدمت العديد من الشهداء ربما فيه شيء من الصحة. ولكن يا سيدنا لا تنسى الماضي القريب الذي شهد كارثة كنيسة سيدة النجاة وضحاياها فهي الشاهد الأكيد، وإذا عدنا إلى القرن الماضي ستجد ما أعطته العديد من الكنائس شهداء ليعجز اللسان عن ذكر أسمائهم وأعدادهم، فأرجو عفواً سيدنا أن تزيل أحياناً الطائفية والمصلحة في مثل هكذا مناسبات، فالبابا أهدى الكاردينالية لغبطة سيدنا ساكو وما هو إلا لكنيسة العراق المتألمة والمهاجرة ، وهذا ما قلته أنت في سطر سابق لكلمتك "إن هذا الترشيح هو علامة على شموليتنا"، ما أجملها من عبارة!، ولكن ألا يكفي من أن نكون طائفيين أو إنفراديين لوحدنا وكأنّ الدنيا لنا والسماء لمصيرنا، فهذا لا يجوز في هذا الشرق القاسي. والكلدان ليسوا فقط السكان الاصليون للعراق بل كل المسيحيين وكل العراقيين هم السكان الاصليون وإنْ كان المسيحيون بصورة خاصة أصلاء، فالعلاقة بين الكنائس اصيلة ومتجذرة. وفرحة الكنيسة هي فرحة كنيسة العراق حيث توجهها البابا فرنسيس بان جمع شملنا حول غبطته ونيافته لنكون معه صوتا من اجل كنيسة العراق ويكون لها راعيا امينا ومحبا.
علامة متميزة
نعم، يكفينا فخرا واعتزازا ، ان كاردينالنا السامي الوقار غبطة ابينا سيدنا ساكو ، عمل ولا يزال يعمل  من أجل السلام دون كلل، ذهب، رحل، حطّ رحاله، قال، صرّح، عبّر، قل ما تشاء فهو يستحق هذه الألقاب، وقد شهدناه في الأيام القاسية لداعش كما شاهدنا وسمعنا آباءنا الروحيين ورؤساء كنائسنا والعديد من الخَدَمة الصغار كانوا علامة لروحانية واحدة حملها الروح إلى العالم حيث الكنيسة تشهد بتاريخ مسيرتها، فقد دافع وناشد الحكومات والسلطات المحلية والدولية والذين بيدهم القرار إنْ كانوا رجالاً رسميين أو مقدسين أو مسؤولين من أجل أن يعود السلام والأمان ويعود شعبنا إلى بناء قراه ومدنه، نعم حملَ هموم الكنيسة والشعب والمؤمنين وقضاياهم ، انها علامة متميزة في مسيرة الكنيسة الواحدة. ليس إلا!.
فاسمحوا لي ان أناشدكم يا سيدنا الكاردينال أن كان مستطاع ان تعملوا على تغيير الوجوه والنيات في جميع مجالات الكنيسة وفعالياتها ، من أجل صفاء الجو المشحون الذي تمرّ به الكنيسة، وإبعاد الفاسدين والمسؤولين المهتمين بشؤوننا كما يقولون والذين شوّهوا بمسيرتهم أصالة المسيحية وإنْ كانوا قريبين منكم أو من طائفتكم أو من طوائف عدة،أو مراكز مهمة ، او دوائر محتلفة ، وجعلوا من انفسهم قادة وقديسين ،  فالله لم يخلق شخصاً ابديا واحداً لقيادة سفينة الحياة او لاجيال لا تحصى ولسنين عديدة ، بل خلق ومنح مواهب عديدة لأشخاص عديدين فقراء كانوا ام اغنياء ،ولزمن محدود ، واعملوا على تشكيل لجان انقاذ يحملون حقيقة العمل والايمان فالوجوه الجديدة سمة تجديد الكنيسة وتحمل رسالة سامية ولو لفترات عبر الكنيسة من اجل المسكونية وبالامكان تغيير وجوههم واتيان بوجوه اخرى  لم نتعود على مشاهدتها ، فكونوا لها من أجل قول الحقيقة دون خوف، وتغيير مجال المسيرة كي تنهض كنيسة العراق. فإذا ما فاقت الكنيسة ورجالها من نومها يفيق العراق كله من سباته مع مسؤوليه، فأنتم صفحة  بيضاء نكتب عليها ما نشاء، وهذا ما علّمتَنا إياه نيافتكم في مناسبات عديدة ولقاءات متعددة في ان نقول الحقيقة في وجه الاقوياء . وكفانا رجاءً عيش المحسوبية والطائفية والقومية، وليُغلَق باب العشائرية والقبلية والقرابة والمصلحة، فالزمان ليس لصالحنا، ووجودنا على المحكّ. فاعملوا سويةً، فكنائسكم تكتب لكم تاريخكم، ومؤمنيكم ينتظرون منكم ثمار وحدتكم وخدمتكم "فالشجرة الصالحة تثمر ثمراً صالحاً" (متى17:7)... أنتم هذه الشجرة التي من أجلها أتيتم وضحّيتم ومنحكم الرب أقدس ما يملك فكونوا من أجل شعبكم قديسين "فالرب هو قدوس" (1بط16:1).ومبروك لكم الكاردينالية وكرسيها وسلطانها وابوتها .
المونسنيور د. بيوس قاشا
ختام وتهنئة
نعم هنيئا لكم قبعتكم الكاردينالية فسفينة الكنيسة في العراق الجريح تنظر اليكم وانتم لها وتنتظر منكم وانتم ملاحها ، نعم أنتم ملاح ماهر ، وراع ساهر ، فمبروك لكم يا نيافة ابينا الكاردينال هذا المنصب المقدس والرفيع ، ولننتظر لنقطف يوما ثمار الروح ، والله على ما اقوله شهيد ، واختم طالبا بركتكم الابوية بعد تقبيل يمينكم المقدسة ، ودمتم . نعم وامين 

144
رسالة مفتوحة إلى الفائزين للدخول في قبة البرلمان

عذراً .. يا ممثلي شعبنا .. كونوا أمناء وأوفياء
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء
أستمحيكم عذراً في بدء مقالي هذا، وإنني أضع نفسي وأقوالي ووجودي المتواضع
ورسالتي المقدسة أمام أنظاركم ولكم كل الحق والحقيقة في أن تكتبوا تعليقاتكم كما تشاء إرادتكم وكما تتصورون أهدافكم، وقولوا ما يطيب لكم وما شئتم أن تقولوه، وسجّلوا ملاحظاتكم وكونوا شهوداً لما أقوله وما أفكر به، ولكن كونوا أمام مسؤولية ضمائركم، وحقيقة إيمانكم، ووفاءكم لشعبكم، فأنتم من أجل رسالة سامية أتيتم، ومن أجل فدائه إنتخبكم شعبكم، فلا تبيعوا حقيقة إيمانكم ومسيرة ضمائركم كسلعة من أجل الغيرة والحقد والحسد والكراهية والتجارية، فالأنانية إذا سمحتم لها مجالاً ستتربّع في قلوبكم، والمصلحة تنتظر وتراقب ساعة ضياعكم، والعولمة المؤلَّهة تُفرغ عقولكم وقلوبكم من الإله الحقيقي يسوع المسيح كي تتربعوا أنتم على كراسي مسروقة، ومناصب مباعة، وغايات مشتراة، وأوليات مبهمة، فتسترخصوا ضمائر شعبكم وتبيعوها في مزاد ساحاتكم، وتجعلون من أنفسكم أبرياء من خطايا إرتكبتموها بحقكم كما بحق شعبكم البائس الراحل والمهاجر بسببكم، وبعد أن لعب الشيطان الرجيم دوراً هاماً في مسيرة حياتكم، فانتبهوا إلى أن لا تعودوا إلى زمن الكراسي والمناصب، وزمن الطائفية والقومية، وزمن العشائرية والقبلية، وزمن المصلحة والمحسوبية، ولكن بالعكس إعملوا على إحياء زمن الشهادة للحقيقة وإنْ كلّفتكم حياتكم، لذا أقول لا تبخلوا أن تكونوا لها حاملين، ولإسمها ذائعين، وتحت شفاعتها مؤمنين.

  مسيرة الصراع
نعم، إنتهت مسيرة الصراع في سباق الإنتخابات. قاسيتم ما قاسيتم، سهرتم، خطّطتم، ذهبتم ورحلتم هنا وهناك من بلدة إلى أخرى ومن مدينة إلى جارتها ومن قرية إلى قرية، فكان السهل، كما الوطن، أمامكم ساحة واسعة لنضالكم ومستقبلكم، ومن المؤكَّد كنتم رسلاً لتحملوا رسالة إيمانكم سياسياً واجتماعياً، ونعمة العماذ تتراءى على وجوهكم كما على جبين كل واحد منكم، وها قد وصلنا جميعاً إلى نهاية المطاف وحُسمت الإنتخابات بنتائجها، ففاز مَن فاز، ومبروك للفائز، وهاردلك للآخر.

  كلمة حق
نعم، أكتب أسطراً ملؤها حقيقة الحياة وشهادة الإيمان كملحق لرسالة كتبتُها تحت عنوان "كلمة من أجلكم" قبل حوالي فترة من الزمن وبالتحديد في 9 نيسان 2018، وما أتمناه منكم أن تكون لكم آذاناً صاغية لإدراك وفهم ما تسمعون وما تقرأون، وما يتردد عبر إعلام موجَب أو سالب في رسالة الوطن والكنيسة والدنيا. ولا يسعني إلا أن أقول بدءاً مبروك، إنها كلمة الحق أمامكم وإنْ كان في داخلي يحاربني التشاؤم بشكل غريب ولا يسمح مجالاً للتفاؤل ليكون أمام الأنظار بسبب ما حلّ بنا وبسبب البؤس الذي ملأ قلوبنا وعشناه في الحروب التي دارت على رؤوسنا، والحصار الذي أنهك قِوانا، وكم كنتُ قريباً في هذا كله من آلام شعبنا ومرارة حياتنا. ولا يزال السؤال يجدد استفساره: إلى أين نحن نتجه؟، وصوب أي هدف نتوجه؟، فهل ستكونوا أمناء للشعب الذي انتخبكم أم لمصالحكم؟، وهل ستقولون بكل شجاعة حقيقة الحدث في وجه الأقوياء من رجال الدنيا والزمن والمعابد، أم ستكونون خاضعين وخانعين لمراكزهم وكراسيهم وتخوتهم، ولا تشعرون بجوع أبنائكم أو بعطشهم إلى الحقيقة في دستور الحياة والوطن؟. لذا إنني أرى همومي أكبر من طاقتي، والحياة بالنسبة لي ما هي إلا ضياع وكفر بحقيقة الإنسان البريء، كما هي  مسيرة مؤلمة نحو مستقبل مجهول، ولا زالت الهجرة كما الرحيل ينخران في أجسادنا ووجودنا، وأصبح كل واحد منا يعلن من على المنابر أو في المجالس بأننا يوماً سنرحل ولا يجوز البقاء في هذا البلد المخيف وأمام رجال خانوا شعوبهم، فذلك اليوم ليس ببعيد.

   السبيل الصحيح
إن مستقبل شعبنا رهنٌ بمستقبل وحدتكم، وحدة أفكاركم وأهدافكم، ومدى بُعدكم الواحد عن الآخر، فهل فكرتم بأن تعملوا من أجل تراصف صفوفكم؟، فالمرحلة التي نجتازها خطيرة أكثر من خطر داعش الإرهابي، واعلموا أن الحروب التي خضناها كُتبت علينا دون إرادتنا، ولا زال أولادنا في صفحة عدم الوجود منذ سنين طويلة، وبعد حروب عديدة، كما إن قوانين بلدنا تجعلنا من التبعية المحبوبة لمصالح محسوبة، وأمام هذا كله وأخرى عليكم أن تعرفوا أننا ذقنا آلاماً لم تكن في الحسبان، لذلك أخاف أن لا تكون إنقساماتكم تؤدي بنا إلى نهاية المطاف وهو الضياع الأكيد، فتعمل على إفراغ قراكم ومدنكم وكنائسكم من مؤمنيكم وأبناء شعبكم، فما عليكم إلا أن تنسوا الماضي ومآسيه لتبدأوا حاضراً ومستقبلاً بربيعه وليس كالربيع العربي البائس، وهذا لن يكون أكيداً إلا بتضامنكم وما ذلك إلا السبيل الصحيح والسراط المستقيم "والله بكل شيء عليم" (سورة الحجرات؛ آية 16) وهذا سيرسم لكم صفحة تاريخ وجودكم ليقول لكم: أنتم كنتم ولا زلتم وأحفادكم، وستبقون أصلاء كما أنتم، فالعراق أرضكم أولاً وأخيراً، أصلاً وأصالةً وأحراراً، والمسيح الحي يقول:"إذا حرركم الابن صرتم بالحقيقة أحراراً" (يو36:8).

   مذلّة ... وهوان
أحبائي... إنكم تقفون اليوم أمام مخاطر تداهمكم أنتم ونحن من الداخل كما من الخارج، فأنتم لا زلتم أهل ذمّة، ومرشَّحين لدفع الجزية والتكفير عند بعض من أبناء الدنيا. ومن المؤكَّد أنكم تعلمون جيداً كم عشتم أياماً قاسية وأوقاتٍ عصيبة فُرضت عليكم، كما لا زلتم عند البعض تشعرون بسببهم بالمذلّة والهوان في كل الأزمنة والأوقات وهم أنفسهم الذين دنّسوا أرضنا وكنائسنا، وأجرموا بحقنا، وجعلوا من أرضنا غابة أدغال، ومحوا الإنسانية من وجوههم فأصبحوا ذئاب الحياة، وأفسدوا ما استطاعوا، وإنْ كان بإمكانهم ذبحنا لعملوه دون خجل ولا حياء، فهم من أجل هذا كانوا وسيبقون، وفي هذا كله أدعوكم أن تحدّدوا رؤيتكم ومصيركم، فلا تبيعوا الحقيقة من أجل مصالحكم، ولا تخافوا أن تقولوها أمام كبار الزمن الفاسدين والذين يحتضنون الحيتان الصغيرة، ويكتبون أسماءهم إنهم من الأبرياء، وهم شياطين سود إذ عملوا على تشييع الحق إلى مثواه الأخير. إحملوا رسالة شعوبكم وهمومهم، وأفرغوا عنكم روح التعصب والحقد والطائفية المقيتة والأنانية الحزبية والخضوع سجوداً للفاسدين من أجل حمايتهم، ولا تزيدوا مساحات الإختلاف بينكم بل إعملوا على إزالة التفرقة والأولية، فكلكم واحد، وأنتم كلكم متساوون في حبّنا لكم واحترامنا لشخوصكم، وكلكم مسؤولون عن شعوبكم وشعبكم، وبكلمتكم الواحدة الموحَّدة تكونون صوتاً واحداً لأنكم جميعاً قطيع المسيح الحي "أنتم خرافي" (يو4:10)، ومسؤوليتكم جميعاً هي أمام الله. فقضيتكم ليست فقط قضية وجود بل أيضاً تحملون رسالة خاصة في عالم مضطرب يشهد تحديات لا حصر لها، فأعدائكم يعملون في ظلمة قراراتهم على إبعادنا وإفراغ ديارنا، فيطيّبون رحيلنا، وأنتم جميعكم في قارب واحد تخوضون فيه عباب البحر الواسع، وفي هذا القارب تعيشون معاً وتموتون معاً. لذا أناشدكم: كفاكم الخوض في معارك جانبية ولا تدوروا بعدُ في حلقات مفرغة وفي صراع من أجل المصالح والمحاصصة، واعلموا أن لكم أباً واحداً هو "الآب السماوي" (متى9:23) فقد حانت "ساعتكم الآن لتفيقوا من نومكم" (رو11:13) فلكم سيد واحد هو المسيح (متى10:23)، ومستقبل أجيالنا وأحفادنا في رقابكم وأنتم تتحملون وزرهم لأنكم ضيّعتم مستقبلهم بسبب خلافاتكم وصراعاتكم ومصالحكم وأهوائكم ولهوكم ونسيتم أن تكونوا أمناء لمسيحيتكم، فوصية واحدة أوصانا الرب إذ قال:"أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم" (يو34:13) واعملوا "كل واحد منكم ما يرضي أخاه لخير البنيان المشترك" (رو3:15) "مسالمين جميع الناس" (رو4:12).

   الإرشاد الرسولي
نعم، إرفعوا أصواتكم في وجه الشرّ والفساد والإرهاب والتطرف، وقاوموا ثقافة الخوف والموت، واحملوا شجاعة الإيمان و"ترس الحياة" (أفسس16:6)، وقدّسوا تراب أرضكم، وارفعوا شأن وطنكم، ولا تقبلوا تفسير آياتٍ وفتاوى من أجل تدميركم، ولا تسمحوا بإصدارها، فالإرهاب داعش أسود يفسد الحقيقة والخير والبركة، وضعوا في هذا كله ونصب أعينكم رسالة المحبة والتعايش والحوار، فالإرشاد الرسولي "شركة وشهادة" أوصى بهذا كله ونادت به كنائسنا المشرقية إذ يقول:"إن كنيستكم في الشرق الأوسط تحجّ إلى هذه الأرض المباركة منذ فجر الإيمان المسيحي وهي تواصل بشجاعة شهادتها ثمرة حياة شركة مع الله ومع القريب" (عدد1) و"شركتكم هي حياة الله نفسها التي يعطيها لنا بالروح القدس وهي جامعة كما أنها منفتحة على أشقائنا اليهود والمسلمين وعلى جميع الأشخاص" (عدد3).
   
   الختام
واليوم، وإذ وصلتم إلى قبة البرلمان، لا تكونوا ممثّلين لأحزابكم ولأقربائكم ولمصالحكم ولمنابركم، بل كونوا من أجل شعبكم ووجوده، واعلموا أنه بدون وحدتكم ستخسرون أرضكم ووجودكم، وماذا ينفع إن ربحتم جيوبكم ومناصبكم ومصالحكم وخسرتم أنفسكم (مرقس 36:8). فاصلحوا الفاسدين، ولا تكونوا من الحامين عنهم والذين لا يقرّون بسرقتهم وحقدهم لأنهم مؤمنين بأن كبار الزمن عنهم يدافعون. وفي الختام، أدعو لكم خالق السماء وساكنها أن يطيل في أعماركم، ويأخذ بأياديكم ويبارككم، لتكونوا أمناء وليس أمراء، وأوفياء وليس بخلاء، فحبّكم لأرضكم وشعبكم يدعوكم أن تسهروا الليالي "على القطيع من الذئاب الخاطفة" (متى15:7)، ولتكن قضايا شعبكم مصائر مسيرة أعمالكم ومسؤولياتكم وواجباتكم، ولا تكونوا متصارعين فيما بينكم فالتاريخ لا يرحم أحداً، فأمام أنظاركم يُسلَب سهل نينوى خطوة تلو خطوة فتموت أصولكم وتغادركم أرضكم ويتيه شعبكم "واتفقوا برأي واحد وبقلب واحد ولسان واحد" (رومية5:15)، واحملوا أثقال بعضكم بعضاً وهكذا تقضون شريعة المسيح (غلا2:6) و"ليكن أكبركم خادمكم" (متى11:23) وكفاكم من طَرقِ أبوابِ السياسة المزيفة التي تضعكم في حلبة الصراع من أجل البقاء في تدمير واحدكم الآخر، حتماً ستكون هذه نهايتكم (لا سمح الله) إذا ما واصلتم صراعاتكم الزائلة وأقوالكم المزيفة وأهدافكم المتعصبة، فأنتم إخوة أشدّاء و"أبوكم واحد هو الآب السماوي" (متى8:23). واعلموا أن الأشد خطراً هو أن يتخلى المسيحيون عن رسالتهم وشهادتهم، فالمسيحية لا تزول إذا أراد لها المسيحيون ألاّ تزول. فالكنيسة معكم، فهي ليست حاكماً أو نظاماً بل مهمتها أن تربط مسيرة حياتكم وشعبكم بالمسيح الرب ، وحرية العيش والإيمان، وليبارككم ربّ السماء، فلا تخافوا أبداً من قول الحقيقة، فالمسيحيون أصول وأصلاء وليس طوائف وغرباء... ليس إلا!، نعم وآمين. 

145
محطات في مسيرة الرجاء
المونسنيورد. بيوس قاشا
في البدء
إنها المحطة الاولى من محطات عديدة مرّت علينا من أيام الأحتلال وإلى الآن ،  أرويها لكم أيها القرّاء الكرام   لتعرفوا حقيقة الأمور( لوقا 4:1)  دون رتوش، ولتُدركوا وتعلموا أنّ  الإتّكال على رب السماء شجاعةٌ إيمانية، فهو الذي  وعدنا أنه سيرسل مَن يتكلم ويجيب عنّا أمام كبار الزمن الأشرار الذين يشوّهون مسيرة الإيمان، فليكن لكم رجاء باسم
يسوع، فإنه أحبّنا حتى الموت(1كو 15: 19)  وفدانا ليعلّمنا أنّ طريق السماء هو غير طريق الدنيا المزوَّرة، فأرجوكم أن تعيشوا وتثبتوا في إيمانكم ولا تخافوا ولا تشكّوا ( متى28:10) . فمسيرة حياتنا محطات املٍ  ورجاء ، فإلى المحطة الأولى .
كان ذلك الصباح مشرقاً بشمسه، وعظيما بقداسته، وكبيراً بمناسبته، وكم كان هواءُه عذباً، الساعة تشير إلى العاشرة والثلث صباحاً. غادرتُ مقرّ رعيتي مار يوسف الكائنة في منطقة الكرخ ، إلى منطقة الرصافة ، حيث مقرّ الأبرشية السريانية ، للمشاركة في الإجتماع الشهري لكهنة الأبرشية ومأدبة الغداء التي أقامها المطران متي شابا متوكه (رئيس الطائفة آنذاك) بمناسبة سيامته كاهناً وأسقفاً. وكان قد فُجِّر قبل يوم بالضبط سيارة مفخخة امام مقهى شعبي قرب مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني في منطقة باب الشيخ وسط بغداد.وراح ضحيته اربعة قتلى و24 مصابا " .   إنتهى الإجتماع، وبعد المشاركة في الغداء الذي دعانا إليه سيادته _ والذي أقيم في دار إحدى العاملات في دار المطرانية حينها (الآنسة "م")، حيث كانت تقيم في بناية خاصة تابعة للطائفة _ كانت الساعة تشير إلى الثالثة والربع عصراً بتوقيت بغداد،. ألقيتُ التحية على الحاضرين من سيادة المطران والكهنة، وشكرتُ الآنسة "م" على الدعوة، لأعود بعدها إلى رعيتي مار يوسف في المنصور. كان الوضع الأمني متأزّماً جداً في بغداد بين الإخوة الأعداء، وحرب الطائفية على أشدّها وفي أماكن متفرقة، فالضحايا الأبرياء يسقطون، وجثث ملقاة هنا وهناك، وكان القتل على الهوية ، والأسماء كانت هي الفاصل المميت، وكان للإرهاب دورٌ في عدم إستقرار الأمن في بغداد. وكوني أحد سكان منطقة الكرخ، كنتُ قد أستأجرتُ _ للعمل معي _ سائقاً ويدعى "أبو علاء" من أجل ذهابي وإيابي فهكذا كان يتطلب الأمر حينها.

ساحة التحرير
وصلتُ إلى منطقة ساحة التحرير وسط بغداد، وبعد إجتيازي إيّاها بأمتار قليلة، وأمام بناية وزارة الإعلام سابقاً، أوقفتني سيطرة شرطة لا أعلم هل هي سيطرة وهمية أم سيطرة حكومية إذ لا يوجد علامة تشير إلى أن السيطرة نقطة رسمية وحكومية وكان تعدادها ثلاثة أشخاص، شرطيَّين وضابط، يرتدون زي الشرطة وبرفقتهم سيارة زرقاء اللون بلون الشرطة العسكرية المعتاد،  وبدون لوحة تعريفية مرورية، مما يعني شكاً أنها سيارة للشرطة. نظرتُ فإذا بالشارع خالٍ من المارّة تماماً. نعم، إستوقفني الشرطيان الواحد عمره لا يتجاوز (19سنة) والآخر ربما يقترب من (24سنة) ، وأشهر أحدهما سلاحه في وجهي، وفتحا بعنف باب السيارة، وفي حالة هجومية أنزلاني بسرعة غريبة من مقعدي، وما هي إلا لحظات حتى وجدتُ نفسي خارج السيارة، فيما دخل الخوف إلى قلب سائق السيارة ، حيث كانت حرب الطائفية مستعرة تماماً في العاصمة بغداد، ومن خوفه أخذ يتلعثم في الكلام، حينها أجبروه على البقاء في  السيارة وعدم الكلام والحركة "يلا إركب السيارة واكعد وما تحجي شي وما تتحرك"، وأشاروا إليه مجبرين إيّاه بالبقاء في السيارة دون حركة. وأنا لم أكن أبالي بشيء ولم يكن الخوف قد ملك قلبي وحواسي، كما لم أكن أظنّ أنّ مشكلتهم معي ، كوني أولاً مسيحياً، وثانياً رجل دين، وثالثاً كنتُ مرتدي جبة رجال المعابد، كما لم أكن أحمل سلاحاً، وهذه علامة أكيدة لمسيحيتي ولدرجتي الدينية. وحتى هذه اللحظة لم أشعر بأي خوف، ولكن الحقيقة كانت غير ما كنتُ أفكر، إذ كنتُ أنا المقصود من قِبَل هؤلاء. صرخ أحدهما في وجهي وبكل شراسة وقال:"تعال إنزل حالاً هنا أنت مطلوب من الجهات الأمنية وأكو كتاب بإلقاء القبض عليك"، فقلتُ لهم:"عفواً يمكن أنتو متوهمين"، ردَّ بكل عصبية:"لا إحنا ما متوهمين"!!!.

منع التجول
نعم، أُمرتُ بمغادرة مقعد السيارة. أنزلاني خارج المركبة، ومدّ أحد الشرطيين يديه في جَيْب الجبّة الأمامية وأخرج للحال _ ودون إذن _ بطاقتي الشخصية (هوية الأحوال) وجهاز الموبايل ومفاتيح الكنيسة وقال لي مرة أخرى:"إنتَ أكو عليك إلقاء قبض"، قلتُ له:"على ماذا؟ وشنو المشكلة أو الجريمة اللي عملتها"، فقال:"إحنا ما نعرف هسة راح ناخذك للضابط مالنا ونشوف بعدين". وبدأ يفتش ويقلّب في الموبايل عن الأسماء الموجودة وأرقام الهواتف، ثم قادني إلى ضابط كان جالساً في مقدمة سيارة شوفرليت زرقاء اللون أيضاً خلف العمارة (كما قلت عمارة وزارة الإعلام سابقاً) التي أوقفوني بجانبها، لا أعلم هل هو ضابط أم لا، لا أعلم، لأنه كان مرتدياً زيّاً نصفه الأعلى يدلّ على أنه زيّ الشرطة والقسم الأسفل بنطلون جينس بلون خاكي، وسيارته هذه كانت تبعد عن مكان توقيفي حوالي عشرين متراً.
في هذه الأثناء طرق بابَ مخيّلتي قولُ الرب يسوع:"لا تخافوا، أنا معكم" (متى 20:28)، "الروح هو الذي يتكلم عنكم" (متى20:10 و مرقس 11:13)، فشعرتُ في داخلي أن قلبي قد إمتلأ شجاعة إيمانية، وأية شجاعة!. ولما قادوني إلى الضابط لم أشعر بأية حركة فيها علامات الخوف. وسألني كعَلامة إستجواب عن إسمي بعد أنْ إطّلع على بطاقتي الشخصية التي سلّمها إليه الشرطي، وقال لي:"إنتَ شسمك واشعندك إنت هنا لي هسة"، فأجبتُه:"إسمي هو شخصيتي وهويتي، وأنا رجل دين مسيحي، واسمي مكتوب عندك بالبطاقة الشخصية اللي موجودة بين إيديك"، فأجابني:"وين تعمل؟ وشنو شغلك؟ وليش إنت هْنَا؟ ما تعرف أكو منع التجول بهالمنطقة!!"، فقلتُ له:"لا ما أعرف أكو منع التجول وبعدين كنت بواجب خاص بالكنيسة وهذا شي يخصني"، فقال:"إنت ما تعرف شكنسويت"، ثم أعاد السؤال بطريقة أخرى:"شنو الجريمة اللي سويته حتى يكون عليك أمر إلقاء القبض؟"، أجبتُه:"أنا ما عملت أي جريمة وإنت توجّه تهمة عليّ هذا ما مقبول منك وهذا إدّعاء باطل وغير صحيح ورّيني أمر إلقاء القبض أنا ما عندي شي أنا رجل دين مسيحي لا أقول إلا الحق وما ممكن أقول كلمة كذب وهاي كلها من شيمة مسيحيتي وإيماني"، وواصلتُ الحديث وقلتُ له:"أترجاك إعطيني هويتي الشخصية حتى أرجع للكنيسة قبل ما تبدي الدني تظلّم وأروح أعبر إلى منطقة الكرخ وتعرف اليوم عدنا عيد القديسة السيدة مريم العذراء، مريم أمّ عيسى اللي القرآن الكريم يبجّلها ويقدّسها واليوم عدنا صلوات لتكريمها" (وفعلاً كان ذاك النهار يوم الخميس، عيد الحبل بلا دنس، 8 كانون الأول 2005).

أمَرَ الضابط
   بعد هذه الاثناء، عاد الشرطي إلى حيث صديقه الآخر بأمر من الضابط قائلاً له:"أتركنا وَحدْنا روح إنت لشغلك". تركنا لوحدنا، وبقينا أنا والضابط، حينها أحسستُ بحركة شجاعة في داخلي تدفعني ولم أشعر بشيء إلا بحرارة الشجاعة تلتهب بي دون أن أعرف لماذا. مددتُ يدي لأصافحه، وقلتُ له:"أنت هوني بوحدك وأكيد تعبان وعطشان"، أجابني:"لا أنا مو تعبان ولا عطشان"، فقلت له:"العفو"، وفي حركة غير مرسومة مددتُ يدي إلى جيبي فوجدتُ فيه قطعتين من جكليت الماكنتوش _ وهما اللتان حفظتهما من دعوة الغداء التي أقامها سيادة المطران متوكا إذ كنت آملاً أن أقدمهما لساعور الكنيسة المدعو "ف"  فأخرجتُ واحدة وقدمتها له احتراماً، وأعطيتُه إياها وقلتُ له:"الله يساعدك وأكّلك ليش ما تحلّي ثمّك أنتَ هوني بوحدك والوضع مو زين وأكيد إنت شوية تعبان"، وللحال تغيرت ملامح وجهه وأخذته "الصفنة"، وفي حركة رياضية إستطعتُ أنْ أعطيه "الجكليت" وأسحب من يده بطاقتي الشخصية بحركة لا أعلم كيف قمتُ بها، فصرخ في وجهي وقال:"إنت وين رايح"، قلت له:"أروح أشوف السايق مالتي"، وبسرعة تركتُه عائداً إلى حيث ينتظرني السائق ولا أعلم ما حصل له بعد أن تركته لأكون أمام الضابط، الذي لم يستطيع متابعتي ربما خوفاً من مرور دوريات الحكومة آنذاك، أقولها وأنا شاكٌّ في ذلك.
   
موبايل واسماء
وقصدتُ الشرطيين، فقال لي أحدهما:"شنو طلعت بريء ماكو أمر إلقاء القبض عليك"، قلت له:"لا ماكو أنا رجل دين مسيحي ما عندي شي"، وطلبتُ من الذي بيده الموبايل أن يعطيني إيّاه، فوجدته لا زال يقلّب بلائحة الأسماء الموجودة في الجهاز، فقلتُ له بكل هدوء:"هذا الجهاز ما يفيدك، لو يفيدك كان إنطيتونو إلك هدية، هو جهاز قديم وما بينو شي إلا أرقام خاصة برجال الدين والكنيسة"، فقال لي:"ما يهم ما أعطيلك هو إلا أشوف الأسماء والأرقام، ولازم تدفع مبلغ من المال"، وأضاف:"يعني شكد تكدر تدفع؟"، فقلتُ له:"ما عندي ولا فلس بجيبي، حتى اليوم أنا ناسي محفظتي وفلوسي بالكنيسة"، ونظرت هنا وهناك وفي داخلي غليان وأقول "يا رب ماهذه اللعبة وما هذا الإتهام وما هذه الرشوة"، نظرت وكان الشارع خالٍ من البشر، من الرايح والجاي، فقلت له:"يا أخي يا سيدنا يا محترم إذا إنت جوعان خليني أروح أجيبلك شي اللي أشوفو فرد لفة حتى تاكل واللي راح أجيبو هو بركة بس أظن ماكو واحد مفَتِّح"، فأجاب:"لا أنا أريد فلوس"، قلت له:"أنا ما عندي فلوس ما تشوفني لابس ملابس الفقراء هاي اللي يسمّوها جبة مال رجال الدين هذا يعني أنا مُلْك الناس والفقراء"، ثم سألتُه راجياً:"أرجوك أعطيني جهاز الموبايل خلّيني أروح لكنيستي والوقت هسّة متأخر"، فقال لي:"شلون أخلّيك تروح وإنت ما أنطيت شي؟"، قلتُ له:"عندي جكليت ماكنتوش بجيبي وهذا جكليت مشهور وطيب"، وأخرجت الجكليت من جيبي، وقدمتها له فأخذها واستطعتُ أن أمدّ يدي الأخرى وأصافحه، ثم أخذتُ جهاز الموبايل بسرعة غريبة وصديقه الشرطي الآخر لا زال ينظر إلينا، وانذهل، وحالاً، وفي لحظات صعدتُ السيارة، والسائق لا زال جالساً أمام المقود لا يستطيع الحركة أو الوقوف أمام الشرطي بسبب الخوف الذي كان يملأ قلبه والأمر الذي فُرِض عليه وأُلزِم به، وبقي ساكتاً صامتاً متفرجاً على ما يحصل، ومن المؤكد أنّ الشرطي قال في نفسه بأنه لا يمكن أن يربح مني شيئاً لذلك لم يبالي بشيء حينما صعدتُ السيارة.

ساعة الفرج
   وإذ أقفلتُ الباب، ما كان من السائق (أبو علاء) إلا أن قاد السيارة بسرعة جنونية كالبرق، نظرتُ إليه فوجدتُه يرتجف من الخوف ووجهه أصفر، وقد بانت عليه ملامح الفزع، فقلتُ له:" إنها ساعة الفرج ، روح بسرعة، يلا سوق بسرعة ولا تخاف أبو علاء، المسيح الحي راح يخلّصنا، أكو الله يحمينا وشفت شلون حمانا"، ولم تكن إلا دقائق حتى وجدنا نفسينا عابِرَين جسر السنك الذي يربط منطقة الرصافة بالكرخ من جانب ساحة الوثبة ومنطقة السنك والجانب الآخر وزارة الإعلام في الصالحية، فاطمئنّ السائق كونه عبر إلى منطقته، ولاحت علامات السكينة على محيّاه، وهدأت أعصابه الخائفة. أما أنا فقد أخذتني (الصفنة) وقلت في نفسي:"عظيم هو الرب، نعم الروح يتكلم فينا وهذا ما شفتونو فعلاً... شكراً إلك يا رب، وشكراً للقديسة مريم اللي حَمِتْنا"، حينها قلتُ للسائق (أبو علاء):" تعرف يا أبو (أبا) علاء إحنا الناس الأبرياء ما نخاف أن نكون صادقين لأن نعرف أنّو ربنا راح يحمينا، وإنتَ شفتْ عيسى الحي شلون جا وخلصنا"، فرددتُ مرة أخرى "شكراً لك يا رب".    

صلاة الصليب
من بعد هذه الحادثة قمتُ بتأليف صلاة أسميتُها "صلاة الصليب المقدس"، وكان ذلك صباح الاثنين 12 كانون الأول 2005 وأنا في كنيسة مار كوركيس بالغدير إذ كنتُ أعمل كقاضي بداءة في المحاكم الكنسية الموحَّدة. كتابتها كانت عبر تلقين وحديث بجهاز الموبايل مع سكرتيرة الكنيسة _ ولتأليفها حَدَثٌ سنرويه لاحقاً بمشيئة الرب _ والتي لا زلتُ أتلوها كما نتلوها كل يوم أحد مع أبناء الرعية وبعد نهاية القداس الإلهي أي بعد البركة الختامية، وكان للحدث "حقيقة الإيمان" أنْ لا تخافوا" (متى 20:28).
نعم، هذه محطة  من محطات زمن الرجاء التي عشتُ مراحلها ومسيرتها المؤلمة، حيث كنتُ الكاهن الوحيد في منطقة الكرخ الذي لم يغادر بغداد بسبب الحصار والحروب التي مرّت، فكان الرب حافظي وكانت العذراء حاميتي، وسأطلب من ربّ السماء نعمةً كي أواصل الحديث عمّا حصل عبر حلقات " محطات في مسيرة الرجاء".


الخاتمة
وبعد حوالي نصف ساعة من الحدث، أُدرج الخبر من على أحد المواقع الألكترونية، وقرأه أحد الأساقفة الأجلاء (م. و) واتصل بي وقال:"أبونا أرجوك بلكي تطلب من مسؤول الموقع أن يلغي الخبر لحساسية الأيام والزمن"، فكان أنْ إتصلتُ بمدير الموقع وبعد جهد جهيد إستطعت أن أكلّمَه عبر الموبايل وطلبتُ منه راجياً أن يرفع الخبر من على أسطر صفحات الموقع، فأُخفي الخبر الألكتروني وهذا ما حصل... ربما هناك مَن لا يأخذ الحكاية على منظر الجدّ، أو ربما هناك مَن يستهزء قائلاً كيف أنّ قطعة من الماكنتوش كان لها دور في مسيرة الخلاص التي حصلت. لذا أقول عزيزي القارئ: الحقيقة تُقال مهما كان الحدث ،  هل تعلم يا اخي ،أن ما هو مستطاع عند الله هو غير مستطاع عند البشر (لو27:18 ومر27:10)، لذا فمن الناصرة كان شيء صالحٌ (يو46:1)، كما أن ربّنا بإمكانه أن يقيم من الحجر أولاداً لإبراهيم (متى9:3)... هذا هو إيماني في حقيقة ما رويتُه لكم.إنه محطة من محطات الرجاء .. نعم وآمين.
                             (كُتب هذا الحدث في يوم الخميس، الثامن من كانون الأول عام 2005، عيد العذراء المحبول بها بلا دنس،
                                         الساعة الثامنة والربع ليلاً، وعلى ضوء الفانوس بسبب إنقطاع التيار الكهربائي). 

146
عذراً...كلمتان في مسيرة الحياة
المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
   عندما ننظر إلى تاريخ عالمنا وحالته الحاضرة بعلومه وتقدمه
وبدواعشه تغمرنا التعاسة والقلق حيث نرى ونسمع ونشاهد ما يحدث وما يحصل من إجرام وظلم وفساد، وما تنتجه الكوارث
 من مآسي وخسائر بشرية ومادية، والأدهى ، أن الإنسان الذي مارس قديماً إجرامه ووحشيته على أخيه الإنسان ما زال يقوم اليوم
بالاعمال عينها. وبسبب هذه التناقضات الصارخة كثرت هموم الإنسان ومشاكله، وأصبحت مسالك الحياة خطرة، ولا زال البشر الأبرياء يتألمون من آفات الحروب والنزاعات التي تلقي  بثقلها على الحياة الخاصة، فردية كانت أم عامة، وأصبح وجودنا نحن المسيحيين في الشرق قضية موت أو حياة. نعم، إنها مرحلة شديدة الخطورة ولا نعلم مداها وتبعاتها، هل هي على المدى القريب أو على المدى البعيد!.

هذا حالنا:
   هذا هو حالنا أمس واليوم، ففي الأمس القريب والبعيد ثمّة توترات وصراعات نشبت منذ البدايات بين البشر كما بين أتباع المسيح حول السلطة والأولوية، وكذلك خلافات في البقاء والوجود، وهذه كلها كانت مليئة بمشاعر الحسد والغيرة والأنانية والبغضاء والكراهية، كما نخرت في جسم الكنيسة الواحد، في حين أن الرب وصية واحدة أعطانا وهي" وصية المحبة الإلهية"(     ) ، لذلك نرى الكثيرين ومنهم الأقربين تعساء أكثر من كل الناس لأنهم لم يعيشوا هذه المحبة بكل أبعادها، بل بالعكس فقد راحوا يعيشون أحياناً إنسانهم القديم الذي لا يصير أو يرفض أن يصير إنساناً. وكما كان حال التلاميذ أمس هكذا حالهم اليوم إذ ليس أفضل من حال مَن سبقوهم.
   يكفي أن نلقي نظرة سريعة إلى حالهم اليوم لنرى كم أن هناك خصام وانقسام ونزاع وصراع،  وعشائرية وطائفية وقومية ومحسوبية بدل الوئام والإنسجام والسلام ووحدة الهدف والغاية، وهذا ما يجعلنا أن نرى أيضاً كم أن مشاعر الغيرة والحسد والحقد والكراهية والإنفرادية والمصلحية تعتمر قلوب الكثيرين منهم ، ويستثمرون هذه بدل تلك، وهذا ما يجعلني أن أقول أننا لم نستفد من عِبَر الماضي البعيد والقريب، ولم نحصد ثمار آلامنا وهزيمتنا وتهجيرنا كي نكون في الوحدة والتماسك والتجديد واحترام القيم في قول الحقيقة عبر مسيرة الحياة.

رسالة حقيقة :
   أقولها، إذا أردنا أن نكون أوفياء لمسيحيتنا علينا أن لا نخاف مظالم الناس بل نعلنها للملأ بكل شجاعة، كما علينا أن نبقى في مقاومة الظلم والعنف والفساد، وكفانا أن نُجلس الفاسد في أولى الصفوف ونبجّلُه بما لا يستحق، ونستقبله بأجمل ترحيب وكأنه أمير أُرسل من قِبَل ربّ العباد، وهذا ما يجعل رسالتناالمسيحية رسالة خنوع وليست رسالة حقيقة. وصحيح أنه لم نُخلَق ولا يجوز أن تكون مهمتنا الدخول في صراع، بل لا يجوز أيضاً أن نكون خانعين أمام المظالم وعبيداً سيئين أمام محبّي المصالح الضيقة وإرادتهم الفاسدة وشهواتهم الشريرة وشهاداتهم المزيَّفة والزورية.

حواء الامس:
   صحيح نحن المسيحيين عانينا ولا زلنا، واحتملنا الآلام بصبر وإيمان ولا زلنا حتى الساعة، والخوف يملأ قلوبنا من الآتي إلينا، ولا زال لبعض منا بذرة الإيمان لديهم لا تدعهم يغادرون أرض أجدادهم، ولكن كما كانت حواء بالأمس ،لا زالت اليوم تلعب دور الرحيل والهجرة بطرق بائسة مدَّعية أن الله لا يتذكّرهم، وأن أقرباءها ينتظرونها في أرض الله الواسعة، فتُفسد حياة الشهادة في أرض الأجداد من أجل الرحيل نحو أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً، فتُهدي لآدم تفاحة ألكترونية ، لأنه لا يمكنها أن تبقى صامتة أمام ما يحصل دون أن تلعب دوراً في إفساد بذرة الخليقة على صورة العلي ومثاله (تك26:1) من أجل أن تجعل من حب الأرض ضياعاً وفقداناً وموتاً، وهذه علامة من علامات الزمن... إنها أميرة الدنيا أمام آدم الضعيف، ووزيرة الجنة أمام الثقافة الإلكترونية، وفي هذا فقدنا الإنسان وفقدنا قيمته كما فقدنا الأرض ومُلكيتها، وغفلنا عن نداءات المعابد وخدّامها في أن نكون شهوداً وشهداء ليس إلا!.

حياة وموت:
   من المؤكد أننا بقدر ما نتغنّى بالمسيحية ورسالتها وعظمة إنجيلها إنْ لم نحياها كمسيحيين فأي دينونة تنتظرنا؟، وكيف سنقف أمامها؟، فعلينا أن نصغي ونحفظ ما كُتب إلينا وما سلّمنا إيّاه سيد السماوات حيث عاشه الكثيرون ولم يكن يوماً كلاماً ونظريات، بل كان المسيح بيننا ومن بعده رسله، وما تلك إلا وديعة الإيمان. ولنعلم أن الله يريد أن يجلب الحياة حيث يوجد الموت، وكفانا من الفقر الإيماني والروحانية الصحراوية، فلا زلنا نفتش عن المال والسلطة بينما الحقيقة تدعونا إلى أن نقرأ كتاب حقيقة إيماننا ووجودنا ومسيرتنا لندرك أنه كتاب مؤلم بسبب انقساماتنا وطائفيتنا ومصالحنا. ولا يجوز أن يبقى الإنجيل بعيداً عن مسيرة حياتنا، فإذا استمر التباعد بيننا وبين معابدنا ورجالها ، فلن يكون هناك مستقبل لمسيحيتنا ولمسيحيينا في أرضنا وربما نقرأ السلام في آخر المطاف.
   
مواطنة واصالة :
إنني أخاف أن تضيع المواطنة والأصالة في أرض أجدادنا بسبب انقساماتنا وفي ذلك سنشابه الجنود الذين "ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" (يو19: 23- 24، مز22: 18). ، كلٌّ يريد حصّته ويرحل، وفي هذا أخاف أيضاً أن يمحو التاريخ وجودنا بعد الذي نشهده على ساحة الوطن وساحة بخديدا من خلاف واختلافات، من مصالح وعشائريات، من طوائف وكيانات، من تكتّلات وتشكيلات، من أقوياء وضعفاء، من فقراء وأغنياء، من آدم وحواء، من مصالح وفساد، ويُكتَب بدلَ هذا التاريخ الأصيل الذي عاشه أجدادنا وآباؤنا وبُناة ديارنا ومعابدنا وكنائسنا وحضاراتنا، يُكتَب تاريخاً مزيَّفاً يهوى مصالح البشر وأهداف الحركات والأحزاب والتكتّلات والطائفيات والأئتلافات ، بأسطر حماية الفاسد المعروف والذي يحميه كبار الزمن، فما ذلك إلا تدمير لحقيقة التاريخ ومسيرة المسيحية في أرض الوطن المباع مع الشعوب الأصيلة، وإعلانٌ بزوالنا من حقيقة أرضنا بسبب غايات ومسمّيات وديموغرافيات متعددة لأنه لا مجال للأصلاء أن يُظهروا حقيقتهم خوفاً من أقرانهم البائسين والفاسدين الذي يطلقون شعارات فارغة لكسب عددٍ من الأبرياء الأصلاء، لذا فمن المؤكَّد أن حقيقتهم ستموت يوماً شئنا أم أبينا إذا ما استمرت حالة انقساماتنا في مسيرتنا المؤلمة كما هي اليوم.
   إنني أتألم حينما أرى المواطن البريء سلعةً تُباع وتُشترى، وهذا ما أراه في مسيرة الوطن وما نجده، ومن المؤسف هذا حال الكثيرين أمام رجال الدنيا وكبار الزمن وحرّاس المعابد، وكما يقول المَثَل "الفقير فقير وإنْ لبس ثوباً من ذهب"، فكفانا كبرياءَنا وحمايةَ مصالحنا ، وعن أناس عُرفوا بفسادهم والذين سرقوا قوت المهجَّرين وأحوال المواطنين. فحتى ما يبقى شاهد الحقيقة وفقير الدنيا مكبَّلاً بالسلاسل ومقيَّداً بأوامر مصلحية وسلطوية، وربما أحياناً يُمنح الفقير والشاهد جرعةً مسمومة للتخلّص من شكواه وصراخه ليبقى الفاسد متربّعاً على عرش الدنيا المزيَّف بسندٍ ودعمٍ وحمايةٍ من كبار الدنيا ومن أجل تجارة المصالح، وننسى أن ننظر إلى يسوع الحي الذي علّمنا وسار أمامنا ليرشدنا إلى طريق الحقيقة في" مقاسمة الفقراء والخطأة"  ( متى 11:9) وشهود الحقيقة مسيرتهم.

شاهد وفقير:
   ما أكثر الذين يتراكضون وراء المال الحرام على حساب الأيتام والأرامل والمهجَّرين والنازحين الذين يفتشون عن امتيازات ليست من حقهم وليست مكتوبة بأسمائهم، بينما الشاهد والفقير يبحثان عن لقمة عيش ومكان آمن ليستقرا فيه داخل الوطن وخارجه. أين الضمير الذي يسمع نداء واستغاثة الشاهد؟، أين النخوة المسيحية التي تشهد لحقيقة الإيمان؟، فإنني حتى اليوم كنتُ أفتخر بوطني وبشعبي، وإنني أخاف لعلّني أكون من الذين يخجلون حتى من جوازاتهم، فأكون لاجئاً، فلا آذان تسمع الحقيقة، ولكن بدلا منها نجد أيادي تحضن الفاسدين ليس إلا!.
 إن أشد الأخطار هو أن يتخلّى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بالإبتعاد عن الصليب ومسيرته، ويهملون آيات الإيمان والصبر والرجاء حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فلا يمكن للمسيحيين أن تزول مسيحيتهم إذا أرادوا لها ذلك. فالكنيسة مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفعة فوق الجميع، ومهمتها ربط كل شيء بالمسيح يسوع. فما نحتاجه أن نتعامل بالضمير وليس بالمنصّات والمنابر ، والتهديد والوعيد، بالغيرة والكذب ، ولا يجوز أن يكون رجال المعابد والعاملين فيها ، تابعين لأحزاب أو حركات أو جمعيات لغاية أو لغايات، فلننتبه هناك مصالح عديدة تُمَرَّر ومخططات بين ظهرانينا وخلف شخوصنا. فلنكفّ عن تقطيع بعضنا البعض وزرع بذور الطائفية المقيتة، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق المسيرة المسيحية والإيمان الإنجيلي، ومَن بإمكانه أن يعمل فليعمل لأجل شعبنا المظلوم والإصطفاف معه إنْ كان شخصاً مستقلاً أو حركةً أو حزباً سياسياً أو منظمة كبار كانوا ام صغاراً، فلا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ، ولا تفتخر الكنيسة إلا بأشخاص أخضعوا ذواتهم شهادة للحقيقة من أجل الشعب البائس. فحامل مشعل الإيمان _ وإنْ كان ضعيفاً أمام أقوياء الزمن والذين بيدهم سلطة الدنيا المزيفة _ فهو لا يمكن أن يحني قامته لغير السيد المسيح الحي، وهو يدرك أن شهادته ما هي إلا حمل هموم شعبه وفكر المتألمين والمظلومين دون الانغماس في ترّهات الدنيا.

مرحلة حاسمة:
   إنتبهوا، أقول ، لا تشوّهوا صورة الأصيل والمواطن البريء وإبن شعبكم، بل اسمحوا له بتحقيق وجوديته وإنسانيته فهو اليوم مرهون كما أن صورته مرهونة بعدة عوامل وبعدد من الأسباب ومن أجل غايات، واعملوا أن يحلم بمستقبل ينقله من حالة يائسة وبائسة إلى كرامة إنسانيته ليكون حراً مستقلاً، فهو الركيزة الأساسية وكلنا أبناء هذا الشعب الجريح، فلا يمكن بعدُ أن تكون الطائفية أو العشائرية أو المحسوبية هي مَن تحمي شعبنا وخاصة نحن على أبواب الانتخابات، فإنها خطوة مهمة للغاية في اختيار الناس الكفوئين لخدمة الوطن والشعب والكنيسة، وليس لأنه من قوميتي أو طائفتي أو طاعةً لفلان وفلان واحتراماً لمنصب ومركز، فلا يجوز أبداً أن يكون الناخب شاهدَ زور فمن هنا يبدأ الفساد وهنا تبدأ الخطيئة ، ويبدأ التغيير... إنها مرحلة حاسمة. نعم، إنها دعوة كي نداوي إنشطارنا، كي لا تخيّبنا عواقبه بعد أن نكون قد ضيّعنا مسار طريقنا بانتماءاتنا المختلفة لمصالح متعددة منها كبريائية وأنانية، فالإنقسامات للمسيحيين ما هي إلا خسارة فادحة واضطهاد من أنفسنا لشعبنا، و"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10). فلنفتح أعيننا لمسيح الإيمان وليس لمسيح التاريخ والثقافة، فإذا ما كان لنا إيمان عميق به سنرى كل شيء قد تغيّر بقوته ونعمته وبشهادتنا الحقة.

الخاتمة :
   ختاماً: فاليوم أبناء شعبنا ليسوا جائعين إلى الخبز وليسوا عطاشى إلى الماء بل إلى سماع كلمات الرب إذ يقول:"كونوا واحداً كما نحن واحد" (يو21:17)، "أنا والآب واحد" (يو30:10)، لأنني أُدرك أن سبب ضعف الكنيسة في شرقنا ووطننا حاجتها إلى الصليب الضائع منها. فكل إنسان يشتكي ويصرخ من ظلم وقع عليه ويلوم الله على كل شيء، والحقيقة إننا محتاجين أن نعود إلى الصليب بحقيقة الخلاص وشهادة الحقيقة التي علّمنا إياها ربّ الحياة يسوع المسيح ، فشعبنا يتقوى ويمتلئ رجاءً وشجاعة عندما نرى المسيحية التي نتكلم عنها، عندما نرى السيد والإنجيل الذي نحبه، ونرى أشخاصاً يحبون ويجسّدون هذا الإيمان حتى النهاية... فشعبنا صليبنا، وعلينا حمله بكل فرح وإيمان وليس كسمعان القيرواني جبراً ومصلحةً، فأنتم لا تستعطون شيئاً من أحد حينما تطالبون بحقوق شعبكم. فكفانا نقطّع بعضنا البعض، وان كنّا ضحية السياسات الفاسدة ، لنعمل من اجل عودتنا الكريمة وبناء سهلنا وديارنا ومعابدنا وتلك رسالة ووصية الاجداد في أن " لا نخاف" ( متى 28:10) . فإنْ كان شعبنا مظلوماً فلأنكم حافظتم على فسادكم ومصالحكم وغاياتكم ومناصبكم... فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم لأنكم أمراء الديرة بل كونوا خدّاماً لبناء الديرة، ولا تكن أسماءكم في الحصاد ومنجلكم مكسور، وايضا لا تنزلوا الى المعركة وانتم غير مسلحين بايمان المسيح الحي . . نعم إنه ايماننا بالمسيح ، إنهما كلمتان وبس ..نعم وآمين.

147
شكرا لمشاركتكم وليبارككم رب السماء

اسس الايمان هي ما تعلمني الكنيسة المقدسة من تعاليمها وشرحها للانجيل المقدس وتعاليم الرسل والاباء القديسين
والاصنام التي انجرفنا بها هي عبادة من اشاء مفسرا الانجيل كما اشاء واعلن تعليمي كما اشاء والايمان ما هو الا هبة من رب السماء واحياه كما تريد مني الكنيسة المقدسة والجامعة الرسوليه نعم هذا هو الايمان الصحيح ايماننا بالثالوث الاقدس بالاب والابن والروح القدس ولكل من الاقالنيم رسالته السماوية والخلاصية وهم بايماننا اله واحد وقد اعلمنا ذلك يسوع المسيح ربنا عبلر انجيله والكنيسة امنا نعم ربما هناك تعابير جادل فيها الاباء في نشاة المسيحية في طبيعة المسيح ودور العذراء ووصل الينا وهذه من خلال اللجان اللاهوتية ستجد طريقها والمهم ان يكون لنا ايمان بالمسيح الحي وبانجيله المقدس ورسالة الروح القدس المعزي وما تعلمه الكنيسة امنا من شرحها للعقائد المسيحية وتعاليم الاباء فنحن نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسوليه . وشكرا ومحبتي لكل المشاركين ولتباركم يد الله القديرة ودمتم .

المونسنيور بيوس قاشا

148
كنيستنا أم ضعف ايماننا

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء
إننا في ظروف صعبة من الحياة، وإزاء تخلّي بعض المؤمنين عن التمسك بإيمانهم وطقوسهم ، بأمانتهم ووفائهم ، بمسيحهم وكنيستهم، وتسللهم الى ما يسمى بكنائس او جمعيات او معابد ، وفدت الى ارضنا بالامس القريب ، وحتى اليوم ، ولا زالت . لذا نتساءل مثل إيليا: إنْ كان الله قد نبذ شعبه، إنْ كان الرب قد نسي كنيسته الاصيلة في عمق المشرق المعذب ، ما هذه الاوجاع ، لماذا نُضطهد ، حتى ما قتل الأبرياء ، في هذا كله نشعر أيضاً مثل النبي إيليا بالوحدة والغربة في وسط شعبنا، ونتعجب أشد العجب من خيارات أبناء جيلنا ومن تهاملهم وتخلّيهم عن أسس الإيمان الصحيح، وانجرافهم وراء أصنام جديدة ، وتعاليم جديدة ، وجمعيات جديدة ، شكلاً ولوناً وحجماً وغاية ... ويعود السؤال نفسه مرة أخرى إلى أذهاننا: هل نبذ الله شعبه؟... أين أصبحت أمّنا الكنيسة المقدسة؟ هل ضيّعنا الطريق التي توصلنا إلى أبوابها؟ هل ايمان ابنائنا واجدادنا كان ايمانا صوريا ... أين هو المعيار الحقيقي للإيمان؟ للعبادة؟ وأي إيمان هو الصحيح ؟ وهل طقوس كنائسنا سندٌ لايماننا ، ام اصبحت طقوسنا  حركاتٍ بالية لا يابه بها احد ... أين نحن، وأين  هي كنيسة اليوم ،بل كنيسة الغد،  بل كنسيتنا الآن؟.

شعب الله
من المؤكد ان ملامحَ الكنيسة الأولى بدأت مع مخلّع كفرناحوم، حيث الجماهير المحتشدة والأربعة الذين حملوا الُمقعَد إلى حيث يسوع...نعم  هنا ظهرت ملامحُ أبناء الله في اجتماعهم في بيت لسماع كلام الله، وبيت الله يعني كنيستنا، كما هي خيمة العهد القديم... فالكنيسة، قبل كل شيء، هي شعب الله، وهي الحظيرة والرعية التي فيها وبها يَعمل المسيح القائم ، وهي ككل كائن حي ، تولد بالعماذ وتتغذى بالقربان، فتنمو وتتوحد. وهي مقدسة، وقداستها تقوم في المسيح القدوس لانه اساس قداستها ، . وهي جامعة كما أرادها المسيح بالذات، أي لا يحدّها زمان أو مكان، وهي لكل إنسان،فهي ليست مسجلة باسم شخص مهما كان بل هي خاصة المسيح ، وتنتشر في كل الأقطار كما دعاها المسيح ان تذهب " اذهبوا الى العالم كله" ( متى 19:28) فيها يتابع المؤمن خبرتَه الإيمانية التي بدأت بالعماذ، وتتوضح معالمُها يوماً بعد يوم من خلال قراءة أحداث حياتنا على ضوء خبرة يسوع لاسيما خبرة الموت والقيامة. والكنيسة تحمل طابعاً شمولياً، فهي الوحدة والقداسة والرسالة. فهي تسعى إلى تقديس الناس لتقربهم من الله بما تضع في متناولهم من وسائل وخصوصاً الأسرار المقدسة. ففي ذلك تعني الكنيسة المقدسة الفصل والتكريس. ففي سفر الخروج، عندما اقترب موسى من أرض تجلّى فيها الله، سمع صوت الله يقول له:"لا تدنُ إلى هنا. اخلع نعليكَ من رجليكَ، فإن الموضع الذي أنت فيه قائم أرض مقدسة" (خر 5:3)... هكذا حضور الله يوجب علاقة جديدة.

ايمان وبشرى
لقد شبّه الرب يسوع ملكوت الله بشبكة أُلقيت في البحر ، فجمعت من كل جنس. والكنيسة تجمع جميع أنواع الناس ، ومن بينهم خطأة يشعرون بما أحدثته الخطيئة في داخلهم من تمزق. وهي تقدم _ على مثال مؤسسها السيد المسيح _ ما يحتاجون إليه من غفران لينهضوا من كبوتهم، فهي تحتاج إلى تقديس ذاتها في شخص المنتمي إليها، "لأجلهم أقدس ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين بالحق (يو19:17). كما ان  الكنيسة شاهدة لرسالة الإيمان والبشرى، وشهيدة من أجل أبنائها في تقديسهم... إذن هي مدعوة لأن تنطلق في رسالتها إلى العالم كله من الجليل، المكان الذي يرمز إلى الشمولية والخطيئة، لان العالم يحتاجه اليوم وكل يوم ومن المؤسف هناك من  ينصب نفسه داعية ، في أنه اكتشف طريقا جديدة بل مسيحا جديدا قائلا: كفاكم بعبادات وطقوس بالية بل ميتة فلا غير المسيح حسب قول مار بولس إلى تلميذه " لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (1تيمو 5:2) فيجد نفسه مصلحا بل اكثر من ذلك، يترك كنيسته الاصيلة ويعود يقول ان كل الكنائس هي واحدة .

الكنيسة وبلدي
واليوم تشعُر الكنيسة في بلدي بأنها وحيدة وحائرة ومضطهدة وشهيدة ، كأنها على متن سفينة سريعة العطب، تتسرب إليها المياه من كل جانب،فهناك من يتركها دون ان يعرف لماذا ، متأملا انه لا يجوز البقاء فيها  وهناك من يدرك  وهناك من لا يدرك أنها لن تثبت إلا عبر الصلاة في الإيمان والمحبة لكي تنتصر على كل المحن والصعوبات، وأيمانها الوحيد والأخير هو أن الله أصبح في يسوع وبصورة نهائية عمانوئيل "الله معنا"، الذي يقودها لتشرح وتعلّم أبناءها كأمّ ومعلّمة، تشرح لهم كلمة الله وتحفظ لنا وديعة الإيمان، وتتابع تنشئة الأمم كي يصبحوا رسلاً يتبعون طريق المعلم ليشهدوا حتى أقاصي الأرض.اذن عطاء كنيستنا يعني قوة إيماننا، فإذا كانت كنيستنا خائرة أحياناً في نقل البشرى إلى العالم، فما ذلك إلا دليل على ضعف محبتها للرب، وعدم تجاوبها مع الروح القدس الحال فيها. لذلك يترتب علينا كمؤمنين أن نعي القدرة الكامنة فينا. قدرة الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة يوم العَنصرة وما زال يحلّ على المؤمنين في المعمودية. هذا الروح، متى دُعينا وأَصغينا لحركاته، يجددنا ويقوينا، وما من تجديد ممكن في الكنيسة أو في حياة المؤمنين إلا من فعل الروح القدس.

كنيستنا وهوانا
اليوم كثيراً من الأحيان نبيع كنيستنا بسبب هوى هوانا، ومصلحة من مصالحنا، وبسبب أشخاص يعملون لكبريائنا ، ومن اجل ارازقنا خضراء كانت ام حمراء أم صفراء ، أو حجز بطاقة سفر الى أرض الله الواسعة ، لأننا نؤمن أن الخلاص بنا وليس بغيرنا ، او بعيش رغيد وهذا لا يعني إلا إدراكنا الناقص لإيمان آبائنا وأجدادنا الذي استلمناه وورثناه من جرن العماد وفي كنيستنا الجامعة .. نعم، ربما ذلك صحيح حينما نقول: أن كنيسة اليوم بحاجة إلى عَنصرة جديدة تهب على العالم، عالم الباطن، عالم الضمير والروح والقلب من أجل تجديده ونفض الغبار عنه.وهذا لا يعني ان اجعل نفسي مُصلِحا لها ولرجالها ، لذا يطيب لي ان اتساءل ماذا تعني الكنيسة التي لا تحتفل بعشاء الرب القائم؟.ماذا تعني الكنيسة التي تشتري أناساً بزاد الدنيا الزائل؟.ماذا تعني الكنيسة التي لا تؤمن بالأسرار وبسلطة الأولوية البابوية  والرسولية والولاية الكهنوتية؟.ماذا تعني الكنيسة التي لا تحمل أولادها الخطأة إلى كرسي الاعتراف - وان كنّا اليوم قد استبعدناه عن ضمائرنا - أمام مَن خوّلته ليربط ويحلّ بسلطان مؤسسها يسوع الفادي؟.انني ارى اننا نحن لسنا اليوم بحاجة إلى كنيسة تجمعنا فقط يوم الأحد وان كان ذلك عملا بوصية الرب " قدس يوم الرب" (     )  وتقديسنا هو كسر الخبز وكاس الخلاص .ما يجعلنا ان ننظر بكل عمق  نحن اليوم بحاجة إلى كنيسة تحيا وتعيش إيماننا، وترشدنا إلى طريق الحياة في رسالة المسيح الخلاصية.نحن بحاجة إلى كنيسة تحتفل بعشاء الرب وليس باجتماع لاكل الخبز ، ورجالها يربطون ويحلون وكانهم اولياء الله عليها ، وتدفع بأبنائها إلى تبشير كل إنسان، والحقيقة لا ولاية لهم ولا كهنوت،  وهل تلك دعوة مقدسة؟ ان امنا الكنيسة  هي التي تعلّمنا دائماً في أن نقول:"ماران آثا" تعال أيها الرب يسوع. لأنه معها ومعنا حتى نهاية العالم "ها أنا معكم طوال الأيام حتى نهاية العالم" (متى 20:28 ) ، فهو معنا منذ البداية وحتى النهاية، معنا يرافقنا لنكون معاً جماعة الكنيسة، جماعة الملكوت.

الكنيسة والروح
نعم، خاف الرسل عندما اختبروا غياب الرب، ووبّخهم ربنا على ذلك (لوقا 36:24)  وخافوا من عاقبة تنكّرهم له، ولكنهم خافوا أكثر عندما تراءى لهم بعد قيامته، في ذلك كلنا أسرى الخوف، ولكن المسيح الذي أحب كنيسته وأسسها لتنطلق في مسيرة الخلاص، حرّرها من الخوف بكل أنواعه... وهذا النداء كان لهم دور الشهادة للرسل الذين حملوا الكنيسة عبر إعلانهم البشرى السارة. لا نيأس ولا نفقد الأمل، بل لنتسلّح بالتوبة والصلاة مبتعدين عن كل ممارسة دنيوية، وواضعين حياتنا في يدي الله حتى يأتي ملكوته.

نفخة وسلطان
بعد مرور حوالي ألفي سنة على حدث القيامة لا يزال الرب يضرب لكنيسته موعداً ليلتقيها، فيجدد لها عطية السلام ونفخة الروح القدس وسلطان مغفرة الخطايا، ويعطيها ذاته جسداً ودماً كي يغذيها ويرسلها ملحاً للأرض ونوراً للعالم.فهلاّ وجدت الكنيسة في ذلك رجاءً وعزاءً في مواجهة تقاعس الكثيرين من أبنائها، وحصناً وملجأً في مواجهة هجمات المشككين والمضطهدين؟... فكنيسة اليوم ما زالت تتجدد وتعيش بقوة الروح القدس وإرادة الرب في وصية المحبة ، ففتور الكنيسة في نقل البشرى دليل على ضعف محبتنا، وعدم تجاوبنا للروح القدس. لذا يترتب علينا أن نعي القدرة الكامنة فينا، قدرة الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة مازال يحلّ على المؤمنين في المعمودية، هو يجددنا ويقوينا، وما من تجديد ممكن في الكنيسة أو في حياة المؤمنين ولو توفرت له جميع العناصر البشرية إلا هو من فعل الروح القدس.
    الختام 
اليوم يدعونا المسيح، وكل واحد باسمه، لنكون حاملي رسالته الخلاصية الى عوائلنا ثم إلى العالم كله. اختارنا المسيح لنكون كبطرس ومتى ويوحنا، وليس كيهوّذا الذي خانه ونحن نخونه بتقاعسنا عن تأدية واجبنا، ولهونا بامور الدنيا المزيفة ،فنقضي اقدس اوقاتنا في اللهو واللعب وكأنّ الرب لا يرانا فنشهد حقيقة أنفسنا غشاً ورياءً كي نكون للكبار عبيدا، وما ذلك إلا مصالحنا ،  وعن تقاعسنا في احترام اساقفتنا القديسين وكهنتنا الغيارى ،  إننا في ذلك نخون المسيح ونسلّمه إلى الموت من جديد... ولنسأل أنفسنا ، هل نحن اليوم نفتح له آذاننا والقلوب، أم أن صخب هذا العالم ووسائله الصارخة تمنعنا من رؤية ما يريده الروح القدس، وسماع ما يأمر به.فما ينقصنا أحياناً شجاعة لكي نكون أمناء لله،وليس الى اصحابنا ومصالحنا فلا نهوى الا ما نهوى وليس لنا الا هم وهنّ ، لاسيما عندما نقف موقف الدفاع عن إيماننا... ولنسأل أيضاً أنفسنا:أين نحن من المسيح؟... أين نحن من كلمته حينما يقول لنا في بولس الرسول  " وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»"( غلاطية 8:1)! "؟... أين نحن من كنيسته؟.مَن هو المسيح بالنسبة لنا؟. كما يقول مار بولس " أفأستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس، لم أكن عبدا للمسيح " ( غلاطية 1:10).ولنعلم إن يسوع حاضر بيننا ، ليساعدنا على عيش هذه الساعات الصعبة ، من مسيرة زمننا فلا نخاف مادام الرب معنا فمن علينا ، وليدرك الجميع وبالاخص الذين يكتشفون طريقا جديدة انّ أمنا  الكنيسة تقول في طقسها السرياني ما نصه " ان جاء احد وبشركم بخلاف ما بشرناكم فليكن محروما من البيعة فقد ظهرت تعاليم مختلفة من كل جانب وطوبى لمن بتعليم الله يبدا ويكمل " . نعم وامين



149
إلى المرشحين من أبنائنا لدورة البرلمان المقبلة

كلمة من أجلكم

في البدء
 
يسرني في البدء أن اهنئكم، بحلول أعياد القيامة المجيدة، من صميم الفؤاد وأدعو
لكم ولبلدنا بالخير والسلام والمحبة، ولينصر الرب شعبنا على الأشرار والإرهاب بجاه المسيح الذي إنتصر على الموت وغلب الجحيم وخلّصنا. ومار بولس يقول في رسالته:"لنخلع الإنسان القديم ونلبس الإنسان الجديد. فكل شي جديد بالمسيح القائم" (أفسس22:4-24). نعم، "فهو حيّ بيننا". ومع مسيرة الإنتخابات _ التي نحن سائرون نحوها _ أُمنيتي أن أرافقكم لأكون لكم كلمة من أجلكم ومن أجل حقيقة شعبكم وما ذلك إلا رسالة سماوية وإن سمحتم فهأنذا.

حقيقة وإيمان
 
إسمحوا لي أن أقول _ وأنتم أعلم مني بذلك _ كنّا وكانت أرضنا وكان سهلنا وربوع ديارنا عامرة، بالأمس بأجدادكم، واليوم بكم وأنتم أهلها، وهي لكم أمّاً حملتكم في صغركم، وهلهلت يوم عماذكم، وزغردت ساعة زفافكم وعرسكم، وبعد أيام وسنين تعودون إليها فتحتضنكم لتذكر ذكراكم ومقامكم في السماء كما على مذابح الرب. نعم، تذكّروا دائماً أنكم الأصول والأصلاء، أنتم الأصالة وعمود البقاء، وحين تموت أصولكم فلا تذكار لكم، وما أتعس الإنسان بدون جذور، فلا تجعلوهم يقلعون أصولكم والويل إذا كنتم لهم مساعدين.
لا تخافوا، فأنتم لستم مستَورَدين... نعم، أنتم لستم جاليات ولا أقليات في إنتماءاتكم، ولا عابري سبيل أو أهل ذمّة أو ضيوفاً عند أحد أو عند شعوب، وارفضوا أنْ يُنظَر إليكم كذلك، فأنتم مكوَّن أساسي، حاملون كرامة الإنجيل وحرية المعتقد، فلستم كفّاراً بل أنتم مؤمنون بالذي أرسله الله كلمة إلى مريم (سورة آل عمران؛ 45) وهو من عمل الروح القدس. ومسيحيتكم من صميم أرضكم وشرقكم، وفي هذه الأرض المشرقية إنتشرت البشرى السارة (مرقس15:16) فكانت نوراً للأمم ومجداً للشعوب. فأرضكم أرض المسيح الحيّ الذي أحبّكم حتى الموت (فيلي8:2)، وحضوركم علامة يعمل الكثيرون على دفنها وتشييعها ورحيلها وإنْ أمكن حتى قراءة الفاتحة على بقائها، فأنتم أعرق وأقدم مراكز روحية مسيحية في المشرق الجريح وإنْ كان صحيحاً بانّ أعدادكم تراجعت وبشكل مقلق بسبب الظروف السياسية والأمنية التي ألمّت بكم وهمّشتكم وجعلتكم تُبّاعاً من أجل مآرب المصالح المزيفة والكراسي المسروقة والمناصب المشتراة والتي عنها يدافع كبار الزمن بأنهم الحقيقة، وفي ذلك يغشّون أنفسهم أو يضعون على عيونهم ما لم تره العيون حقيقة. فلا تستسلموا للواقع الذي يرسمه لكم الأعداء بل إعملوا وخطّطوا لغدٍ أفضل من يومكم، وعالجوا قضاياكم وهمومكم وهواجسكم ـ التي تعصف بكم ـ في تكريس الخطاب الديني المُحبّ والمليء بالرحمة والتسامح، والمتصالح في قبول الآخر المختلف والمهمَّش المنبوذ، بعيداً عن ثقافة التكفير والتحريض والكراهية. فبدلاً من التحريض الطائفي والمذهبي ليكن خطابكم خطاباً ملؤه روح الأخوّة والمحبة والخير واحترام الآخر، ولا تكونوا من المكفّرين، فأنتم بدلاً من ذلك إملأوا عقولكم حكمةً وتفكيراً للنهوض بواقعكم الأليم، واجعلوا من سلبياتكم إنموذجاً إيجابياً يُحتذى به في معالجة الأمور والقضايا بالتروّي والتعقّل... نعم، إنجيلكم يحثّكم على أنْ يُشار إليكم بالبنان.

أجراس وكنائس

أقولها: ما يؤلمني أن أجد شعبي مهجَّراً شارداً نازحاً... ما يؤلمني أن أجد شعبي يستعطي في كل الطرقات... ما يؤلمني أن أجد شعبي يرحل إلى كل المحيطات... ما يؤلمني أن أجد حكمة شعبي قد تاهت في كل القارات، وضاعت الحقيقة، وأصبح الفساد قداسة، والكذب حقيقة، والغش رياء، والكراهية سبيلاً، والعولمة المزيفة طريقاً، والصلاة رياء، والمختلِف عدوّاً، والأرض غريبة، واعلموا أن مسكني قد هُدم وأُفرغ من ساكنيه ومن أهله وأصحابه ومالكيه، وأصبحنا عبيداً لدستور مزيَّف شُغْلُه هدمَ كينونتنا وقلعَ جذورِنا، ومُشرَّعاً ضد عقيدتنا وحرية إيماننا في محو تاريخنا وتدمير حضارتنا، فلا شي غير المال والجاه والكراسي، ومن المؤسف أن تكون تلك أحاسيسي. واعملوا أن إنحيازكم إلى كل إنسان مظلوم ومضطَهَد _ وهذا هو عمق الإنجيل ورسالة الإيمان _ أن تكونوا معزّين للمظلومين والمعذَّبين والمأسورين والمضطَهَدين والمستَهدَفين، وكونوا ملحاً وخميرةً لهذه الأرض، وبقاؤكم هو مصدر خير وبركة وبناء وتضحية. فاعملوا على إعادة بناء أوطانكم ودوركم ومنازلكم، وفكّروا في مشاريع رزق لأولادكم وأحفادكم، ولا تستسلموا لليأس والقنوط وتجعلوا التاريخ يضلّكم ثم يشهر بكم بأنكم بعتم أرضكم ووطنكم بأكلة عدس كما فعل قبلكم عيسو من أجل معدته ودنياه. فواجبنا أن نفتش عن حقيقة الإنسان والله، وعن الحاجة إلى العمل معاً كي لا نعيش في قلق الحياة والخوف من القادم والإرهاب من الجار، فأنتم ملتزمون للعمل لصالح أرضكم وكنيستكم وأصالتكم بعمل يهدف للخير معاً.
نعم، أنتم باقون في منطقتكم، وستبقى أجراس كنائسكم في هذا المشرق العربي تدقّ وبأصوات متناغمة ومعلِنَة أنكم شهود للحياة وشهداء من أجل الحقيقة في إعلان قِيَم المحبة والأخوّة والتلاقي. وتذكّروا دائماً أن المسيح قام حقاً قام. واعلموا أنكم قضية، وقضيتكم أرضكم وكل الوطن، فكونوا مدافعين عن حقوقكم وأرضكم ولا راحلين عن وطنكم، فأنتم وطن والوطن أرضكم وإنْ كان الكثيرون قد غادروه فذلك شأنهم، فالمسيح الرب واحد، أرسله الله لخلاصنا ولا يمكن أن يكون هناك مسحاء آخرين إلا دجّالين، وخوفي أن لا تكونوا كذلك... فلا تيأسوا، فمن المؤكد أن الإرهاب في النهاية سيختفي.

أرملة ... وذئاب

تشجعوا، لا تخافوا يا أحفاد الرجال الأوفياء وبُناة المعابد الأمناء، فالأرض أرضكم فلا تتهاونوا في حمايتها، فهي تناديكم لا تتركوني أرملة فالذئاب كثيرون وإنْ لبسوا ثوب القداسة، وتزيّنوا بزينة الطهارة، وجلسوا على كراسي الزمان، فما هم إلا فاسدون يتاجرون بما لا يملكون، ويحصدون ما لم يزرعوه (متى 24:25)، فأنتم اليوم، وأرضكم ووطنكم أمام مصير مجهول إنْ كنتم قد غادرتموه من أجل ملء البطون وراحة البال وتربية العيال، فالهجرة نخرت صفوفنا وشتّتت كياننا وهدمت حضارتنا فتلاشى وجودنا، ولم يبق لنا من ذكر في تاريخ مسيرة الوطن. واعلموا أن الأرض بمقياسها بنت عشيرتكم ومعبدكم وعائلتكم كما هو وليدكم، ومستقبل أرضكم نداء لا تساويه أثمان بل هو أغلى حتى من عيالكم، فالرب أعطاكم ما لم تفكروا فيه، وما لم تتعبوا به، ومنحكم وطناً ورأى ذلك حسناً (تك 1) فلا تكونوا سلعة للجيران _ شرقاً كانوا أم غرباً، شمالاً أو تيمناً (جنوباً) _ الذين قتلوا آباءكم وأجدادكم يوماً، بل كونوا معهم حكماء النيّة وسليمي السيرة وقائلي الحقيقة وإنْ كانوا أقوياء، ولا تكونوا خروفاً أو حَمَلاً كحَمَل إبراهيم لأنهم يوماً سيسوقونكم إلى المحافل ويطردونكم ويذبحونكم وتُقادون بالسلاسل، بل إحملوا مشعل الإيمان وتشجعوا وترس الصلاة وتقوّوا بالذي فداكم على خشبة العار (مز10:95) فكانت لكم خلاصاً، بهذه ستنتصرون.
تذكّروا قسطنطين وأمّه هيلانة، ولا تسلّموا أنفسكم لهيرودس الزمان _ وما أكثرهم في هذه الحال _ ولا إلى بيلاطس الجائر بحكمه وما أكثر كراسيهم، فأنا بينكم ومعكم نعمل إرادة الإله من أجل الإنسان وخلاصه في شهادة للحقيقة. فلتتماسك أيادينا بقلبٍ واحدٍ ونيّةٍ واحدةٍ، وكفى أن نكون بضاعة للأحزاب والحركات، والديمقراطيات والتوجّهات، والعشائريات والقبائليات والمناصب الزائلة، ولا زلنا نعاني الأمَرَّين كبقية الشعوب والمواطنين على أيدي فئات لا تُقيم أي إعتبار لنا واحترام لمشاعرنا الدينية، وتتلاعب بمصيرنا ومستقبل أبنائنا وكأننا دخلاء على هذا البلد وما شابه ذلك. كونوا كما قال البابا فرنسيس:"إرفعوا دائماً أصواتكم لكبارهم بإسكاتهم كي لا تغييب قيمكم ولا تكونوا ضحايا للخديعة، فإنّ مَن بيدهم القرار لهم أساليب كثيرة ليجعلوكم صامتين"  (البابا فرنسيس في أحد السعانين؛ 2018)، قولوا الحقيقة في وجه الأقوياء، ولا تسيروا في تشييعها وأنتم قتلتموها، ولا تكونوا من الذين يؤمنون بالإنسان وانتم تشوّهون وجه الله المحب.

لحظة ورجعة
 
مرّت المحنة بداعشها وبمآسيها وآلامها، بزواياها المظلمة وسقوفها المهدومة، وإنْ كانت أذيالها طويلة وقاسية. والشكر لربّ السماء الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة من مسيرة المحنة التي نكبت بنا في السادس من آب عام 2014، والتي فيها كنتم كالخراف أمام ذئاب غادرة، وفي تلك الليلة المخيفة والمفزعة كانت الهزيمة، حيث افترشتم حدائق أرض الشمال، وأصبحتم حينها تستعطون حتى منازلكم وكرامتكم بعد أن دُمّرت بيوتكم ونُهبت أموالكم، وأصبحتم تائهين في شوارع المدينة وساحات الإنضباط والتفتيش، وربما _ بل من المؤكد _ أن الغلطة لم تكن غلطتكم، بل كنتم فريسة لمصالح سياسية وديموغرافية وحزبية، من قريب أو من بعيد. إنها لحظة ولّت دون رجعة، وإن شاء الله وبعون سيدة بغديدا أمّنا القديسة مريم بثولتا (العذراء). ولكن إنتبهوا من الآن _ عبر أساقفتكم الحكماء وكهنتكم الأوفياء ومؤمنيكم البسلاء _ أن تكونوا بالمرصاد للشرير والفاسد أينما كان، وانتبهوا أنْ "لا يأتونكم بثياب الحملان" (متى15:7) وبكلام ملؤه العسل والمذاق، وأنتم لهم مصفّقون، فالمستقبل لا يرحم أحداً، كما إن التاريخ لا يجامل الحقيقة، ولا يطاله التشويه أو التبديل أو التزوير، كما إنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة، نافعة أو ضارة، إلا ودوّنها في كتاب مبين (سورة النساء؛ 144).

خبز وسياسات

إنّ ذاكرة الشعوب لا تمحوها الحروب والإرهاب، فلا تكونوا خبزاً للسياسات المزيَّفة، بل كونوا مِمَّن يريدون أن ينتفعوا من تجارب الماضي، واستخلاص العِبَر والدروس، فأنتم أغنى حضارة وأسمى ذاكرة على وجه البسيطة. وانتبهوا واحرزوا من العقول المزيَّفة ومن الحكماء الفاسدين. واعلموا أنكم شعبكم وشعبكم أنتم ، فلا تتقدموا للبرلمان من أجل جيوبكم ومصالحكم الكبريائية الدولارية، ولا من أجل محسوبياتكم وأقربائكم وطائفياتكم، بل إعملوا بكل شجاعة من أجل أرضكم وأصالتكم ووطنكم، ولنتذكر وأقول لكم: إن ما حدث في كنيسة سيدة النجاة _ وكنتُ سامعاً وحيداً للآهات، وشاهداً لِمَا حلّ بها من تدمير وقتل الأبرياء المصلّين _ لن تكون الأخيرة إلا إذا عرفتم مقام أنفسكم وقيمة سياساتكم ومنهج مسيرتكم بروح المواطنة والتمسّك بها وحبّ الوطن، كي لا تسمحوا للكوارث والمآسي والمحن تنتابكم مرة أخرى كما حصل مع داعش. فلا أحد معكم إذا كنتم مشتّتين، منفردين، محبّين لذواتكم وأنانياتكم، بل إعملوا من أجل وحدة وطنكم ومحبّة ترابكم وشعبكم، وإعادة بناء مدنكم وقُراكم، وحقيقة مسيرتكم المسيحية والإيمانية والإجتماعية، تاركين الخيارات الطائفية والمذهبية والسياسية والمصلحية والقومية الضيقة خلف ظهوركم، وانتبهوا من رفع الشعارات التعبوية من أجل دغدغة المشاعر فما تلك إلا بالونات وزوبعة في فنجان، فأنتم أحفاد المؤمنين الغيارى. فكونوا شهوداً للحقيقة وشهداء من أجلها، واعلنوا من بينكم الفاسد واعملوا على إصلاحه وليس على تقديسه، قولوها بأعلى أصواتكم فالمسيح الحيّ ربنا كان لها شاهداً، وإلا سيكون الضياع والفشل وداعش أسود آخر، فلا تحلموا بالعودة، فالأحلام تُشيَّع نهاراً، بل عودوا إلى دياركم، وكونوا أحفاد الذين كانوا من أجل العراق، أبناء الرافدين وأبناء دار السلام وأور أبينا إبراهيم. أنتم أبناء الجبل والوادي والسهل، والقرى والمدن. عودوا إلى دوركم واسكنوها، وارجعوا إلى كنائسكم المقدسة وزيّنوها بطقوسكم السريانية والكلدانية والآشورية والأرمنية... كونوا رسالة وطريقاً نحو السماء.

الختام
 
حينذاك لا تخافوا، فالشعب سينتخبكم لأنكم له ومن أجله، ومنه كنتم وأتيتم ولا زلتم. سيبقى المسيح حيّاً فينا، فلا تخافوا مهما كانت الجمعة العظيمة قاسية فهناك نور أمل ورجاء بالقيامة المجيدة وفيكم، ألم يقل المسيح:"مَن آمن بي وإن مات فسيحيا" (يو25:11). فشهادتكم لمسيرتكم، مسيرة من أجل أحفادكم ومدنكم، ورجاؤكم ورجاؤنا بالمسيح الحي "فالمسيح قام حقاً قام"، واعلموا أن الإنسان هبة من عند الله وهو عطيته وصورته، والله وحده سيد الحياة، وهو الذي أرادنا هنا لنؤدي شهادة حسنة ليس لها بديل، وتلك دعوتنا السامية. وفي ذلك سنتمنى للكفوء أن يأخذ مكانه ويفتح عينيه (لو:28:24) ليقرأ ما أرسلَتْه السماء من أجل الإنسان، وما أبدعه المسيح الحي بقيامته من أجل إعلان ملكوته، وهكذا تقضون شريعة المسيح وإن ظنّ أحد أنه شيء... لا تتطلّعوا إلى أمجادكم الشخصية وإبراز ذاتكم وعضلاتكم من أجل صورة مزيّفة، ولا تكن رغبتكم بالكلام والمواعيد، فستنجرفون وراء الأخضر، وتبيعون الفقير وقضية وطنكم، وتحمّلكم لمسؤولياتكم يعني القدرة على زرع نبتة الحقوق وليس لزرع المنافسة والقتال والغيرة بينكم. فلتكن ضمائركم يقظة خوفاً من هبوب العاصفة، فستجدون أن منازلكم وقصوركم قد بُنيت على الرمال الكاذبة والمواعيد المرجوَّة الفاسدة فيكون سقوطها عظيماً (متى 27:7). ويقول مار بولس:"إعلموا أن كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهراً بل قد تنجس ذهنهم أيضاً وضميرهم. يعترفون بأنهم يعرفون الله ولكنهم بالأعمال ينكرونه إذ هم رجسون" (1تيطس 15:1-16)، و"كونوا قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة، في قول الحقيقة في وجه الأقوياء دون خوف والشهادة لحقوقكم..." (1طيماثاوس 12:4).
وأخيراً يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني:"لا تيأسوا ولا تستسلموا أبداً، لا للإحباط ولا للخوف، بل عليكم أن تحملوا أمانة إيمانكم في قلوبكم"... ومبروك لكم ترشيحكم، وإن شاء الله فوزكم... فالمسيح قام... حقاً قام... نعم وآمين.



150

الى الاخ العزيز ظافر شنو الموقر
تحياتي ومحبتي
ربما يكفي لي شرفا وفخرا انني تعرفت عليك عبر المراسلة من موقع عنكاوة الاغر وتعليقاتك على مقالات عديدة وهذا لي شرف كبير ان يكون لي اخ دون ان اراه كما يقول ربنا يسوع " كلكم اخوة "
عزيزي استاذي ظافر
اني ما كتبته في هذا المقال " الى من يهمه الامر " اخوض فيه مواضيع عديدة واذهب لاعاتب الذين شنوا الحروب علينا والزمونا الحصار دون ارادة منا فنحن شعب ووطن لم يكن لنا لا ناقة ولا جمل في موضوع الحروب والحصار والطائفية الا اليسير من الذين باعو انفسهم لمصالح سياسية واخرى غيرها ومن جميع المكونات والعقائد . هذا اولا اما ما جاء في الرد على مقالتك اقول هل نحن فعلا مهيئين لنفهم ماذا يريد شعبنا كما تقولون" شعبنا " وهل فعلا لنا ثقافة حب الارض والوطن وان كانت ظروف الوطن قاسية فما يحصل هو اننا لانجسد اطلاقا ما جاء في الانجيل لربنا يسوع المسيح الذي سبق واعلمنا انهم يضطهدونكم ويطردونكم وووو بمعنى ذلك ان نصف الانجيل يجب ان يوضع على جانب ( استغفر الرب ) فانا ما قلته ايضا لمل البطون ويلهو بالحياة ما اقصده اننا احيانا على مسيرة حياتنا بالكذب امام رؤوسائنا كي لا نظهر انفسنا الا  قديسين ونحن من الداخل غير ذلك ز هذا جانب ايضا وهل يجوز افراغ البلد من مسيحييه وعفوا داعش اراد ذلك اليس كذلك . هل تعلم انني قاسيت الامرين منذ عام 1983 حيث استلمت رعاية كنيسة مار يوسف في بغداد واقولها " الحقيقة لا اعلم انت اين تسكن يا سيدنا ظافرداخل البلد ام خارجه " فقاسيت الحروب والخوف والحصار والحرب الايرانية العراقية وحرب الخليج الثانية ثم الحرب الامريكية وايضا الحصار وكم قُتل من الاطفال في الحصار واليوم شعبنا يموت بسبب امراض قاتلة ، ولم اترك بغداد حتى في اعتى الايام وخاصة الحرب الطائفية كما تركها الكثيرون ايمانا مني وحبي للمسيح الحي وان اكون وفيا له وللانجيل المقدس ولكن كل هذه الايام القاسية التي مرت لم تخيفني يوما لان الرب كان معي ومعكم فلا نخاف اذا هناك ايمان وان كان كبار الزمن لا يفتشون الا عن مصالحهم ويزينون مسيرة حياتهم بحقائق مبهمة .ولم اسمع منهم كلمة معزية في ذلك .وهذا لا يعني انني احبهم واحترمهم .نعم انا لا انكر اولئك الذين احتملوا الالام والعذابات وشهادتهم للمسيح من ابناء شعبنا الطيبين فلا داعي ان نسال عن شعبنا وبحجته كي نربح تصفيق كبار الدنيا والزمن والمعابد  ونكون مثالا يحتذى به ونحن غير صادقين حتى مع انفسنا . ثم اسالك هل حينما تمر ذكرى كارثة سيدة النجاة وفيها كنت الاول من اقتحم وعاين كل شيى فالذين كانوا ضمن الكارثة ربما يقولون او قالوا وهم في حالة مؤلمة وغير طبيعية ولكنني رايت وعاينت وحينما اتكلم عنها اقول حقيقة ما رايت فهل تعلم في ذكراها لا احد من اهلي الضحايا والشهداء يشاركوننا في الصلاة لان كلهم رحلوا . فهل كانت سيدة النجاة سببا للهزيمة ام للشهادة ولا اخوض اكثر في هذا المجال فقد اكون في اعين الكثيرين غير صائب فاقدم اعتذاري .
اخيرا نعم سيدنا ظافر الموقر ، خضت في مواضيع عديدة وغايتي فيها معروفة امام القراء وواضحة وضوح الشمس. فارجو اعتذاري منك للاطالة وسابقى لك وفيا ولشعبي ومهما قالوا عني او ظلمني كبار الزمن لمصالح او لاسباب اخرى كما اتهمني ربما الاحبة والاصدقاء بامور عديدة لغايات في قلوبهم فتلك محطات مؤلمة ولكنها مواقف تجعلني ان اثبت ايماني في المسيح الحي الذي من اجله ساموت متى يدعوني وسيذكر التاريخ كذب ونفاق الكثيرين وما اجمل التاريخ حينما يكون شاهدا للحقيقة ويكفي فخرا انني علمت ابنائي ما نحن الا شهود وشهداء واخذ الكثيرون يستعملون هذه العبارة . وشكرا لنعمة الرب يسوع ومحبتي لك وكل احترامي
محبك بيوس


151

شكرا جزيلا لكما من كل قلبي يا سادتي يا كرام الاستاذ الجليل يوسف ابو يوسف
والاستاذ ميخائيل ديشو المحترمين
ما كتبته هو سؤالنا كلنا ان حقيقة المواطنة لا يفهمها الا الذي يدرك عظمة ترابه وارضه وليس هزيمته فقط ليملا
ليملا البطون ويلهو بالحيات ومن جميع الدرجات
ونحن اما تغيير كما نشاءه
ومطالب كما نحتاجه واننا نؤله بشرنا من اجل غايات
واللبيب من الاشارة يفهم
فاذا كنت تسمعني فارجو منك ان تفهمني
مع محبتي الغالية وشكرا

152
إلى من يهمّه الأمر
هل مَن يسمع ويفهم؟... أم ماذا!!

المونسنيور د. بيوس قاشا
     في البدء
مرّت بلادنا بحروب عديدة كُتبت علينا، وبحصار واحتلال، وهُدمت بيوتنا وشُتِت أبناء وطننا،
وقُتِل وفُقد أعدادٌ من مواطنينا، بل أعداد لا تُحصى،  وجُرح الالاف !!  فهل تعلمون ما عدد الذين قُتلوا وخُطفوا وشُرّدوا إضافة إلى الجرحى الذين لا تُحصى أعدادهم. والمخيف أننا لا زلنا ندفع الثمن غالياً بسبب الحروب التي شُنَّت علينا وما حلّ بنا، كما لا زلنا حتى الساعة نعيش أزمات تلو أزمات، وطائفيات وعشائريات، ولم نعد ندري إلى أين نتوجه وأين هو السبيل الصحيح والسراط المستقيم.

    كبار الدنيا
أقولها: لنسأل مَن هم الذين قادوا الحروب؟، ومَن هم الذين قرّروا الحصار؟ وفرضوا الإحتلال ؟على شعب لم يكن له لا ناقة ولا جمل، لا في الحروب ولا في الإحتلال ولا في الحصار، والذي راح حينها حوالي (3000) طفل عراقي ضحية لقرار بائس!. ألم يكن بإمكانكم أيها الكبار أن تدركوا أن ذلك يأتي في مجال تدمير الطفولة وإهانة  حقوق الإنسان وفساد القيم والأخلاق وتشتت العوائل والشعوب؟ ولكن ألم تكن تلك إرادتكم؟ فعملتم على دفن حقوق المكوّنات والأقليات وأنتم تنادون بحقوق الإنسان، فجعلتمونا، كما أصبحنا رغم شهدائنا، من الدرجة الأخيرة في الحفاظ على حقوقنا؟، ألم تكونوا أنتم والآخرين والمصالح السبب في هذه الأزمات وخلق النعرات في الطائفية والعشائرية؟، ألم تدركوا أن شعبنا قد أُهين في كل المجالات وأصبح في قوائم مهملة ومنسية في إحصائيات الدول؟، هل يجوز ذلك؟، هل تعلمون إننا لا زلنا نعاني ضياع السلام والأمان منذ سنين عديدة ومن نصف قرن تقريباً؟، فإن أردتم أن تنعم بلادنا بمستقبل آمن فاعملوا من أجل أن يكون السلام في شرقنا عبر مسيرة الخير والمحبة وليس عبر البيانات والقرارات ومن على منابر الدول، أليس كذلك؟. فهل من الأخلاق أن يضيع السلام في طرق ديارنا، ويُباع بمصالح بائسة ، وتبقى شعوبنا تئنّ من وطأة الحروب والقتال، ويبقى وطننا ضحية لصراعات دولية ودينية وديموغرافية وحسب مشيئتكم !!. فإنني أسأل: أين دور كبارنا قبل كبار الدنيا؟، هل هو عبر أسطر الجرائد وإذاعة الإعلام أم ماذا؟.

     وطن الحروب
كان وطننا في السابق ـــــ كما الأزمنة التي مرّت بأجيالها وقرونها ـــــ وطن الحضارات والعلم، وأصبحنا اليوم وطن الحروب والخصومات، فلم نعد نجد أمام أبصارنا إلا تهجيراً ونزوحاً وداعشاً، فآثارنا سُرقت، وهُدمت بيوتنا وديارنا، ونُهبت أموالنا وحلالنا، أمَا كنتم تعلمون ما سيحصل لنا وبنا من داعش الإرهاب؟. والسؤال هو: مَن أتى به ليكفّرنا ويطردنا ويسرق رزقنا الذي ربحناه بعرق جبيننا (تك 1      )؟، نعم، أليس ذلك من أجل دولار أخضر أشتريتم وطنيتنا وإخلاصنا ونفوطنا بل وانسانيتنا ؟ وأصبحنا نحن والوطن سلعة تباع وتشترى كما تشاء المصالح، فضاع كل شيء ولم نعد نملك شيئاً، وما نملكه ليس مُلْكنا، كما أنعم الله على بلدنا بالخيرات والبركات، بالنفوط والغاز، فهي من أجل أولادنا وشعبنا، من أجل تقدمنا وبناء وطننا، فقد كنا نحيا ملء قدر إمكانياتنا، ونرضى برزقنا، ونهنأ بنهارنا وراحة في ليالينا.

    كرامة شعبنا
ألم يكن ـــــ ونحن نمرّ بمأساة الحياة ـــــ أن تعيدوا إلينا علمنا، وتعلّمونّ حب وطنكم (وطننا)؟. ألا يكفي ملء بطوننا ، ونهب كنوزنا وتهجير عقولنا، وسرقة كفاءاتنا ، ولمّ شمل مواطيننا، وتمزيق رباط وطنيتنا ومواطنتنا، بحجّة حمايتهم والمحافظة عليهم. وحصل ماحصل، وهو إننا ذُبحنا كلنا، كما أصبحت نفوطنا وخيرات بلدنا مُلْكاً لمصالحكم ومحرَّمة علينا، وأمسينا فقراء، وأصبح شعبنا بسببكم فقيراً يتسوّل بين طرقات الأزقّة والشوارع ويستعطي من كبار الزمن،ومن منظمات مصلحية دولية ، وأمست أجيالنا بلا مدارس، ومستشفياتنا بلا دواء ولا أطباء، فأين كرامة شعبنا، وأين حقيقة نعمتنا؟ أليس كذلك؟، وهل تعلمون أنه بسبب ما حصل أصبحنا تائهين في مسيرة الحياة، وأصبح الرزق فساداً، والنهار مخيفاً، والراحة لم تعد ذكرى؟، وفي كل ذلك كنتم تتفرّجون علينا، وتطبخون مواعيد تحريرنا كما كنتم تقولون، إذ كنتم مدركين تماماً أنه ليس باستطاعتنا سوى الطاعة والخنوع وليس فقط الخضوع، وربما السبب سببنا.ألستم أنتم من تقولون ، إن كبارنا ورؤساءنا وسياسيينا غير متّفقين ولا متّحدين، بل منقسمين وغير منتمين إلى حقيقة وطنهم، ويفتشون عن مصالحهم وعشائرياتهم وطائفياتهم وقبائلهم، وربما حسناً تقولون وفي ذلك كثير من الحقيقة، ولكن أليس السبب هو سببكم أيضاً؟، ألستم أنتم الذين تشجعونهم على بيع مصالح أوطانهم ؟من أجل ملء جيوبهم ونسيان حب وطنهم وفدائه وخلاصه من أزماته؟، فأنتم تشترون وتبيعون كبارنا، وكل هؤلاء جعلتموهم سلعة للمصالح وحسب ما تهوى نيّاتكم لأجل خير غاياتكم ومن أجل أمان بلادكم. أليس كذلك!.

    حدود حريتنا
نعم، فبعد تهجيرنا آويتمونا في كرفانات، ومنحتمونا دواءكم، وكنا راضين بنعمتكم وعطاءكم، ودعونا بالسلام لشعوبكم ولأوطانكم، ولكن ألم يكن هذا الغذاء وهذا الدواء وهذه الكرفانات مفيدة لشعوب بائسة ودول فقيرة لولا عملية داعش الإرهابي التي خيّمت على نفوسنا وبيوتنا، والتي كتب التاريخ مسيرة الألم التي عشناها؟. كما كان لنا حرية العبادة ولا أكثر من ذلك، وهنا تقف حدود حريتنا، وبئس الحدود التي تؤشَّر من قبل البشر، ففي ذلك ينسون أن الله قال:"هي ذي الأرض كلها لكم" (تك1)، يعني لجميع الشعوب، فلماذا تعلّموا حكّامنا أن حرية الإيمان حرية مقدسة ؟ كما هو الحال في بلادكم. ولكن أين هو تحقيقها وعيشها كما ولا زالت قضايانا في أروقة مكاتبهم وكأننا من الكافرين ولا نستحق العيش إلا حسب تعليماتهم وتعليماتكم ؟ والتي أنتم أتيتم بها ، وهذا ما قاد الإرهاب إلى هدم معابدنا وكنائسنا وتنزيل صلباننا من على قببها كما كان شأن ساعات الحرب بعد أن فجّرها داعش الإرهاب.

     مستقبل أجيالنا
نعم، لقد قدّمتم لنا دستوراً لحريتنا ولديمقراطيتكم من أجل ديمقراطيتنا، ونحن نفتخر بأول قانون للحياة ودستورها، بحمورابي وآخرين، فقد كنّا ندرك دورنا ومواطنتنا على قدر ما وُهب لنا من نِعَم السماء، فأعطينا شهداء، فما كُتِب فيه لا يليق بنا وبكم قبل أن يكون عاملاً من أجل وطننا وحرية إنساننا وسعادة شعبنا، وما فيه يكفي ليفرّق بين شعبنا وأرضنا ويجعلنا جميعاً أقليات بائسة ،ولا نملك شيئاً، فكلنا مُلْكٌ للكلمة وإعلامها وليس للأرض الطيبة، ولكن بسبب الدستور الذي كتبتموه وصادرتموه لنا ولمسيرة أيامنا ، فهو مليء بثغرات الدمار والقتال والتفرقة والتقسيم وتدمير الحقوق؟، وجعلتم من ديمقراطيتكم وحريتكم سبيلاً لنا للدمار ولكم فيها حقوق مصالحكم. فلقد كنا شعباً واحداً متآلفاً، وكنا وطناً واحداً، متساوين في الحقوق والواجبات، كما كنا بلداً آمناً نحيا فيه ونبني مستقبلنا ومستقبل أولادنا، ولم نكن نحلم إننا يوماً سنكون من الحاملين لحقائبهم وراحلين، أو من المهجَّرين على طرق العالم، فلماذا عملتم على تقسيمنا مسيحيين ومسلمين وصابئة وايزيديين ؟. وفي اختيار منهاجكم التقسيمي هذا، جعلتم منا طوائف سُنيّة وأخرى شيعية وثالثة كردية ورابعة تركمانية ثم مسيحية وأنتم تدركون جيداً إن ذلك سبب لتدميرنا ليس إلا!. فلماذا جئتم بالحروب والحصار،وفي ذلك كنتم  سبباً في تفشّي الفساد بديارنا وهدم مستقبل أجيالنا، وأصبحنا مشرَّدين ومهجَّرين من بلد إلى آخر.فنحن عراقيون ، رافديون ، أليس كذلك؟.

     دعوات الرحيل
أليس من الواجب الأخلاقي أن تعيدوا بناء ما هُدمتم في وطننا، أليس من الاخلاق أن تحافظوا على مواطنينا من أجل عدم إفراغ أوطانهم؟ بدل أن تأخذوهم تحت عناوين ومسميات مختلفة ، لم نسمع بها من قبلُ، ولم تخطر يوماً على بالنا، من أجل بقاء شعوبكم وخدمة بلدانكم ، بل لا زلتم أحياناً تُصرّحون بأنه بعد سنوات لن يبقى مسيحيٌ في العراق أو في الشرق وما شاكل من هذه الأقاويل،فأنتم تعلنون وأنتم تصرحون ،  وهذا ما يؤيّد مرادكم ويحقق مطالبكم الظاهرة والخفية،  بدل أن تكونوا روّاداً لسموّ الأخلاق في إعادة البناء والأمن والاستقرار وتثبيت أبناء الوطن في أرضهم، من أجل الشهادة لمسيحيتهم ، والتعايش مع الاخر المختلف ، وأنتم كل يوم تغنون بالتعايش والمعايشة والبقاء في الارض ، فبئس هذه الازدواجية في التعامل مع الشعوب المضطهدة والاصيلة ، وأصبح القارئ والسامع لا يدرك غاياتكم ، ومآربكم .  فبحق المبادئ التي تؤمنون بها واليافطات الانسانية التي ترفعونها ، الم تحن الساعة كي تنصفوا الأنسان العراقي وتعودوا إلى حقيقته،  والذي دُمّر قلبه قبل أن يموت جسده، وبيع شخصه وهو جنين في بطن أمّه، وقبل أن يرى شمس الوطن المحرقة وجفاف الشتاء؟ كما أليس من واجبكم الأخلاقي أن تعيدوا وتعملوا على إيقاف دعوات الرحيل وإفراغ البلد بمشاريع ترفد الكفاءات، وتزرعوا بذار العلم في أرض الوطن الجريح... فأنتم بلاد الحرية والعلم والتكنولوجيا، ونحن نقرّ ونعترف بذلك ،أليس كذلك؟.
    الخاتمة
إلى متى نبقى صامتين؟، وإلى متى نسجد لكبار المصالح ؟ ونكون عبيداً لأناس وظيفتهم خدمتنا والمحافظة على وجودنا والإعلان عن أصالتنا وليس إستعبادنا؟، فالرب أوصانا أن نقول الحق فنكون أحراراً (يو32:8) وليس شهود زور من أجل حفظ ماء وجه الكبار الفاسدين، الذين يسرقون بكل أدب واحترام ، وهم من آل بيت الحقيقة يُسمّون ،  فلماذا نركض وراء العبودية؟، ألا يكفي ما حلّ بنا وما قاسيناه؟. إنهم يجلسون ويحاكموننا في المجالس التأديبية، وينهبون ويكذبون ويسرقون بأصول ولا أحد يعرف مكنوناتهم إلا الله (العلي العظيم) والذي على كل شيء قدير، ويعلنون أخباراً مزيّفة عبر التواصل الإجتماعي المزيّف ولا أحد يحاسبهم، بل لا لوم عليهم لأنّ الدنيا تحميهم، والدستور يقيهم،  والمناصب تستر خفاياهم.
نعم، فاليوم قبل الغد لنطالب برفض الوجوه التي إستعبدتنا دون أصل حق، وحَكَمَتْنا زمناً كبيراً، فاليوم نحتاج شباباً هم رجالٌ يخافون الله (لو19:16-31) ويقدّسون اسمه (لوقا 2:11)، ويخدمون البشر، ويعلّمون طريق السماء، ويعلنون الحق، ويصلحون الفاسدين بدل حمايتهم وتسميتهم بما لا يستحقون من ألقاب ومهما كانت المصالح والنيات. ولكن هل هي معبَّدةٌ تلك الطريق بعد أن صار الإنسان يعبد الدنيا وكبارها ولهوها، وهو لهم ولها خَرَّ سجوداً، ومن المؤسف أقولها؟فنحن اليوم نؤله بشراً ، وختاماً اُردد، ما يقوله المسيح الحي "من له أذنان سامعتان فليسمع"(متى43:13)، بل من له أذنان سامعتان فليفهم ، فهل هناك مَن يسمع ويفهم؟ وعذراً ، نعم ،إنها الحقيقة ولكن الحقيقة شُيِعَت والعزاء لحامليها . نعم وآمين.
 


153
بمناسبة الذكرى الخامسة لانتخاب البابا فرنسيس

فرنسيس الفاتيكان من أجل الإنسان

المونسنيور د. بيوس قاشا
من المؤكد إن الكنيسة أمّنا تحمل إلينا حقيقة الإنجيل المقدس أمانةً منها حسب وصية الرب، كما تؤكد رسالتها وفقاً لقصد الله الآب في رسالة الابن والروح القدس... هكذا يقول المَجْمَع الفاتيكاني الثاني (الدستور العقائدي في الكنيسة؛ عدد1). وقداسة البابا يرعى الكنيسة المقدسة عملاً بقول الرب يسوع لبطرس "أنتَ الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى18:16) وأيضاً "إرعَ خرافي" (يو16:21) و"ما ربطتَه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما حللتَه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (متى19:16) ثم "وأنتَ إذا شئتَ، فثبّت إخوتكَ" (لو32:22).
نعم، إن خليفة بطرس أول الرسل يقود الكنيسة ويسوسها بعصمة وسلطة إلهيَّتَيْن، كما أقامه الرب يسوع راعياً على رأس الرسل، واضعاً في شخصه مبدأً وأساساً دائميَّين ومنظورَيْن للوحدة في الإيمان والشركة، ليقود سفينة الكنيسة في هذا العالم المتلاطم والذي تضربه أمواج العولمة المزيَّفة، وأعاصير الإلحاد واللامبالاة، ونقل الأخبار الكاذبة، ودمار الحروب والتهجير واللجوء، والربّ يمنحه شجاعة وقوة وإيماناً مردّداً من أجله وأجلهم "لا تخافوا" (متى27:14).
البابا هو للعالم كله "كلاًّ للكل" (كور22:9)، وهذا ما يتصف به البابوات جميعاً. واليوم البابا فرنسيس قد إشتهر بتواضعه ودفاعه عن العدالة الإجتماعية والمحافظة عن شؤون العقيدة، وإذ إكتفى بالعيش في شقته الصغيرة، جعل من شخصه أباً وأخاً للفقراء كما للأغنياء، يشارك الفقراء همومهم ومآسيهم وصعوبة معيشتهم، ويعمل في فكره كما في مسيرة حياته أنْ لا يترك فقيراً أو مهمَّشاً ينام دون عشاء أو قوت الدنيا، فتلك المطاعم شاهدة على محبته... إنها إنسانيات مسيحية، وما ذلك إلا شهادة على تفانيه ومحبته "كنتُ عرياناً فكسوتموني" (متى36:25)، فإليه يقصد الفقراء كما الرؤساء، فلم يجد نفسه إلا من أجل الإنسان، مسيحياً كان أم مسلماً، يهودياً أم بوذياً، عربياً أم أجنبياً، أسوداً أم أبيضاً أم أسمراً، فقد إستطاع أن يستقطب أنظار العالم قاطبةً، مخبراً بحقيقة الفقراء ووجودهم بيننا، ومعلِّماً للأغنياء وأصحاب المناصب والمعالي، سموّ الخدمة والعطاء، كي يحمل إلى الجميع سلاماً وخيراً وبركة وكلمة صادقة من أجل حقيقة أمينة.
البابا فرنسيس: أكيد لا ينسى تثبيت إخوته في الإيمان (لو32:22) كما في حقيقة المسيرة، حيث يوجّههم أن يكونوا بجانب خرافهم، وأن يتعلّموا شمّ رائحة خرافهم كراعٍ صالح (يو11:10) يفتش عن غنمه وحملانه، ويحمل الشهادة للمسيح القائم من بين الأموات، فهو  يقرأ علامات الأزمنة على ضوء إنجيل الفقراء، فانفرد بخطّ مسيرته. وفي ذلك يرى أعمال الله التي لا تُحصى، مكمِّلاً ما قاله البابا بندكتس السادس عشر:"إن الطريق إلى روما يشكّل جزءاً من شمولية رسالته كمبعوث إلى الأمم والشعوب كي يؤسس الكنيسة الكاثوليكية الجامعة... لذا فعلى روما أن تكشف الإيمان للعالم أجمع، وعليها أن تكون مكان التقاء الإيمان الواحد" (عصر تسلّمه مقاليد الأبرشية روما؛ 5 أيار 2005).
البابا فرنسيس: منذ بداية حبريته، وعبر خِطَبه وعِظاته الموسمية واليومية في البازيليك أو دار القديسة مرتا، يؤكد على التزامه ونهجه طريق إكتشاف الفقير وحاجاته، وفي الدفاع عن المهمَّش والسجين والمقعَد والساهر على طرقات البشر الغير المبالين، الغير المهتمين، الذين يجعلون من الدنيا ولهوها واللعب فيها سبيلاً للوصول وتحقيقاً لمآربهم، كما يعلن قداسته التزامه الثابت بالدفاع عن حقوق هؤلاء وآخرين، فهم سريعو العطب ولكنهم ثمينو القيمة لأنهم يستأهلون البحث عنهم وحمايتهم، محاولاً أن يدرك الجميع، مؤمنون وعلمانيون، إنه من أجل ذلك جاء المسيح وجال في شوارع اليهودية والناصرة وليس في قصر هيرودس وبيلاطس، وصَرْحِ حنّان وقيافا، وما إلى ذلك.
البابا فرنسيس: هو ذا يفتش عن طُرقٍ مظلمة ليجد مشرَّداً متروكاً على حافة الطريق وقد أنهكته الدنيا ومآسيها كسامري صالح، فيحمله في قلبه، ويوصي به كي يُعتنى به، ومهما كانت المسافة يجاهد ليلتقي بالبعيدين كما القريبين، ويدعو الجميع رجالاً ونساءً، أفراداً وجماعات، إلى العطاء والخدمة، والإهتمام بالمقعدين والمعوزين.
البابا فرنسيس: يناشد الشباب أن يشهدوا لحقيقة الحياة والحب، ويكلّم الأطفال ويقبّلهم عملاً بقول معلّمه الإلهي "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم" (لوقا16:18). يعمل جاهداً لتفقد الملاجئ والمستشفيات والمصحّات، ويفتش عن المرذولين والمنبوذين والذين رماهم المجتمع بعيداً عنه، وما أكثرهم، كما كان حال الأبرص (لاويين46:13)، ولا يهتم إلا في رفع صوته عالياً حيث يسود الظلم والقهر والتهجير والفساد، ويجد الرحمة سبيلاً. ينادي بالحرية للمأسورين وبالغفران للتائبين، فرحمته تجعله أن يترك ذبيحته ويذهب ليأتي بالنعجة الضائعة، فسبيل الرحمة التي يحملها يعيشها في حقيقة المسيح الذي إختاره.
البابا فرنسيس: يدعو جميع الذين بسلطانهم زمام أمور الدنيا بإبعاد شبح الحروب والنزاعات ودمار الإرهاب، ويدعو للشرق كما للغرب بالسلام والأمان، ومن أجله يدين بقوة جميع أشكال الظلم والفساد، فهو يسير في المسيح مهاجراً على الدروب ليحمل الجميع إنجيل المحبة والسلام.
البابا فرنسيس: نعم، إنه يرفض ثقافة الحرب من أجل بناء ثقافة الحياة، وهذا ما جعله ينادي بسلامٍ آمن لمنطقة الشرق الأوسط وبالخصوص لسورية والعراق ومصر وليبيا ولبنان، ولمناطق العالم المشتعِلة بنار الحروب والقتال والتفجير والإرهاب، كما يعمل على مدّ الجسور، جسور الغفران والمسامحة، من أجل محو النفعية والأنانية والمصلحة الضيقة في قتل الأبرياء أبناء الله الخالق، وما أكثرهم اليوم في هذا السبيل سائرون، من الأقربين كانوا أو من البعيدين.
البابا فرنسيس: ما أجمله حينما ينحني على الإنسان مليئاً برحمة السماء، فيحمله من عذاب الدنيا وسوء المعيشة وإهانة كرامته إلى سموّ المسيح، بالمحبة التي يحتضنه بها، وبالرحمة التي يُظهرها عملاً بتعليم الرب "كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم" (لو36:6)، وإنْ كانت رحمته هذه إزعاجاً للسامعين ولكبار الزمن والدنيا، فهو بعمله هذا إمتدادٌ لرحمة الله.
البابا فرنسيس: يدعو بصوته الجهوري أن يكون الأغنياء وكبار الدنيا، وجليسو الكراسي وأصحاب المناصب،  وأمراء الدنيا ومسلّطو الحكم، أن يكونوا رحماء ومحبّين للمهمَّشين والمرذولين، ولعلّ في ذلك يطلب آذاناً صاغية من الأقربين كما من البعيدين، ليتعلّموا أن تلك أقدس رسالة يحملها الإنسان من أجل الإنسان، من أجل عدم تشويه وجه الله، وفي ذلك يناشد الرعاة أن يكونوا قديسين، ويعلنوا كرازة الخلاص وبشارة الحياة، وأن يكونوا صدىً لكلمة الله الذي صار جسداً مثلنا.
البابا فرنسيس: إنه يقرأ علامات الأزمنة في ضوء الإنجيل ليرى من خلالها أعمال الله وفعل الإيمان، كما يعمل على أن يكون للعائلة محامياً ولكرامتها، كي تنال حقوقها، داعياً ومظهراً مكاناً يليق بما جمعه الله كي لا يفرّقه الإنسان (متى6:19)، مدافعاً عن كرامة الكائن البشري منذ اللحظة الأولى لتكوينه... إنه صوت الحقيقة والحياة كما هو صوت المتألمين والمظلومين... إنها كلمات ومسيرة حياة تهزّ القلوب بعد أن تفعل فعلها في العقول، لتعلن حقيقة بركة الكنيسة في سر الزواج المقدس واهتمامها. 
البابا فرنسيس: يعمل جاهداً أن يبقى واقفاً وصدّاً ثابتاً لا يخاف ولا ييأس ولا يرتاب رغم مخاوف الإرهاب وتهديدات الأشرار، وفي ذلك لا يحمل إلا إنفتاحاً وحواراً وشجاعةً ورجاء في أن يكون علامة حوار مع العالم ومع الديانات، حواراً مع المؤمنين وغير المؤمنين... وما تلك إلا علامات ملكوت الله في التاريخ.
البابا فرنسيس: يقطع مسافات ليملأ الساحات معلناً حقيقة الحياة والبقاء في عيش السلام، ومن أجل التعايش وقبول الآخر المختلف وغير المختلف في القومية والدين والطائفة والعشيرة، من أجل التناغم بين الشعوب والتي أصبحت اليوم هذه التسميات بضاعةً للتجارة كما للمتاجرة بها، وفي هذا كله تراه مليئاً بألم وحب، بألم مشاركاً فيه الفقراء والمهمَّشين، وحبٍ من أجل أن يحيا الجميع كراماً، حاملين خبزة واحدة لقوت حياتهم.
البابا فرنسيس: مسيح الصلاة والإيمان، وما أحلاها وما أعمقها حينما يعلن "من فضلكم إذكروني في صلاتكم"  في كل مناسبة. إنه يحملنا أن نكون في صلاة مستدامة من أجله كي يكون الرب في عونه. وفي طلبه البسيط هذا للصلاة يعلّمنا أن لا شيء يمكن أن يكون نافعاً كمفعول الصلاة الإيمانية النابعة من قلب الإنسان البسيط. إنه فعل تواضع من أجل الإنسان ليعلن عون الله وعظمة نعمته، وفي ذلك يعلن لنا جميعاً إن الإتّكال على الله ما هو إلا صلاة ودواء لرحمة الله كي تحلّ علينا جميعاً، فنكون بذلك رجال صلاة قبل أن نكون رجال حكمة دنيوية مزيّفة... وما أكثرهم في هذا الزمان الفاسد، ليس إلا!.
نعم هذا هو البابا فرنسيس، بل هو أكثر من هذه الأسطر... إنه كتاب مفتوح يقرأ كل إنسان صفحاته البيضاء ليكتب عليها كل ما يشاء، من إحترام ومحبة لهذه الرسالة التي يحملها قداسته بتواضعه السامي وبساطته المعهودة ونظرته المُحِبّة ومشاعره المتألمة من أجل الذين يقصدونه، وفرحاً من أجل الذين يطلبون بركته الأبوية، معتبراً إيّاهم أبناءً يفتشون عن حقيقة الكلمة لإعلانها معه بين الشعوب والسامعين.. إنها كلمة المسيح الحي.. إنها البشرى السارة.. فهو بحق وحقيقة رسول بيننا، بل مسيح يحمل عاهاتنا ويفرح في عرسنا ويتألم لمآسينا، وفي هذا كله ، تعلنون ملكوت الله الذي أحبنا... فأنتم من أجل الإنسان... ليس إلا!.
نعم، إنه قاموس الرحمة والتواضع والمحبة والحقيقة في بساطة الحياة. فمبروك لكم يا قداسة البابا ذكرى إنتخابكم، ونعلن لكم إننا لن ننساكم في صلواتنا. فلتباركنا يمينكم، لنبقى أمناء لإيماننا، وشاهدي لحقيقة المسيح الحي وليس لكبريائنا وأنانياتنا، ولا لعبادة مصالحنا وتأليه إنسانيتنا، بل أوفياء لكنيستنا المقدسة الجامعة الرسولية... نعم يا قداسة البابا، فأنتم ذلك الوجه الذي يظهر لنا إنكم أباً رحيماً وصبوراً دائماً... نعم وآمين.

154

احبائي
نحن خلقنا بمحبة الله لنا والرب ارادنا رسل الحقيقة وما موضوعي الا ان اكون امام واجب الحياة
فالزمن ليس لصالحنا والحقيقة يدفنها اصحاب المصالح وشهود الزور ويا ما اكثرهم
في هذا الزمن البائس فارجو ان تكون كلمتكم وان يكون تعليقكم بسمو محبتكم وحقيقة شخصكم فكلنا اخوة
والاختلاف سمو وعطاء اما الخلاف لن يجعلنا ان نصل الى الحقيقة واعلموا ان اصحاب المصالح
ينتظرونا خلافاتنا ليثبتوا في مناصبهم ويجعلوا من انفسهم الهة مزيفة
ختاما لكم محبتي فانتم امام مسؤولية تاريخية مسيحية ايمانية بل وجودية وشكرا لكم جميعا ايها الكتاب المحترمون
محبكم بيوس قاشا

155
مرة أخرى...
أنرحل .. أم نبقى .. أم ماذا؟

في البدء

أقولها في حقيقة المسيرة إننا لا زلنا أمام واقع جديد ومؤلم وفي مسيرة متعِبة وفي قلق أخذ من سنّي أعمارنا والخوف من مستقبلنا ومن الآتي إلينا وما الذي سيلاقيه
أجيالنا، بل أين سيكون إيمان مسيحيتهم وخاصة في ظروف عشناها بسبب داعش وإرهابه، فاليوم من المؤكد إننا أمام مفترق طرق بل أمام مجهول وضياع لم نشهد مثلهما، فالفرقة قد مَلَكَت على عقول أبناء وطننا، والكراهية أخذت مسارها في قلوبنا، والطائفية المقيتة أصبحت بركة مقدسة، والمصلحة والقومية قد ثبّتتا ركائزهما في بلد كان يُعرَف بحضارته وسموّه بأخلالقه وتفانيه وعلمه وقِيَمه، وهذا قليل من كثير نحن لا زلنا فيه بل لا زلنا نحياه... نعم ونعم.   واليوم حضورنا المسيحي مرتبط بتاريخ مميت وبانقسامات ومآسي وآلام لا حدّ لها، فكلٌّ يريد أن يكنز حضيرته ويجمع خرافه، فلا وحدة إلا بالبيانات والتصريحات وهذا ما يُضعف قوتنا ويبقى عائقاً كبيراً إذ أهملنا إدراكنا لمفهومنا الوحدوي لمسيحيتنا دون أن ندرك أن الخراف ليست خرافنا إنما خراف المسيح الحي الذي جمعنا في إنجيل واحد ومعمودية واحدة وإيمان واحد (أف5:4)، فكلٌّ منا يريد أن ينشئ مشاريعه بحسب ما يراه دون النظر إلى الراعي الواحد (حزقيال23:34) بينما يتناقص عددنا وتضعف همّتنا في عيش إيماننا فنقع في حيرة منه، وتملك علينا الأقدار لتقودنا إلى الخسران في كل المجالات... ليس إلا!.

موت بطيء

نعم، ماذا نقول عمّا يحصل في وطن أحبّنا في صغرنا وأحببناه ونحن في بطون أمّهاتنا؟. نعم، ماذا نقول عن مسيرة شرقنا المعذَّب والمعذِّب بأيامه؟. نعم، ماذا نقول بشأن وجودنا وبحقيقة أرضنا وتاريخ عيشنا في أيام قيل عنها إنها حَسَنة وأصبحت اليوم لنا كابوساً؟، فهل سيكون مصيرنا الإنقراض والضياع ولا حتى ساعة سلام؟. وهنا أسأل نفسي وأسألكم يا كبار زمننا والذين بأياديهم مقاليد دنيانا ودون منازع: هل بدأ الموت البطيء يتسلل إلى أجسادنا فيكسر قاماتنا ويهدد وجودنا؟، وهل سيفرغ وطننا وشرقنا من وجودنا كما حصل يوماً؟، وهل هناك مخطط لطرد الأصلاء بعد وجود دام أكثر من ألفي سنة لفسح المجال أمام جمعيات وافدة بل مستورَدة لتشهد لبقائها؟، وهل أصبحنا في طاعة داعش والإرهاب أو مساعدين له في حالة ضياعنا ورحيلنا؟، أليس هذا كله مبدأه الفساد بينما الإنجيل المقدس يذيع ما أعلمنا به الرب في أنه "سنتألم ونُضطَهَد فلا تجزعوا وستُسلَّمون إلى العذاب وتُقتَلون" (متى6:24-9)؟، وهل أصبحنا لا نفرّق بين حقيقة الإيمان ومآرب داعش؟، وهل لا زلنا ننظر مصالحنا ولا شيء آخر وأصبحنا لا نبالي إلا بها ونسينا شعبنا وقضاياه عملاً بالمَثَل الفرنسي "من بعدي الطوفان"؟... فإن كان الأمر هكذا فبئس لنا!.

مؤمنون حكماء

نعم، لندرك حقيقة أمورنا وخطورة شهادتنا ومخاوف وضعنا، ولنعلم أن الإنجيل المقدس لا يحمله إلا المؤمنون، ومؤمنون حكماء وليس تعساء. ولنعلم جيداً أنّ هنا كانت ولادتنا وهنا يجب أن يكون موتنا، ولكن مع الأسف أصبح العديد يسألون عن مآربهم وغاياتهم الدنيوية وهنائهم وراحة بالهم وملء بطونهم ووقوفهم صفوفاً لنيل ما قسمته الدنيا من السيد الأخضر كي يخبروا بالمال الحرام بطلبات وإنْ كانت أحياناً كاذبة ومزورة  ومصطنعة. إنها مسيرة هذا الزمن، ولا حاجة لوجوب وصية الرب التي تقول "لا تكذب ولا تشهد للزور" وما أكثرهم في هذا الزمان شهود في الزور والكذب، من أجل غايات فاسدة... أليس كذلك!.

صبغة وجودك

نعم، هل كُتب علينا الرحيل كي نفرغ بلدنا إلى أوطان تخصّنا بإنسانيتها؟، فغايتنا فيها ليست فقط العيش الهنيء ولكن نتطلع إلى أبعد من ذلك، إلى جمع مبالغ تعوّضنا عمّا فقدناه بدل أن ندرك أن بقاءنا هو قوة لضعفنا، هو صخرة لبنائنا، هو شهادة لإنجيلنا، وإلا ماذا يعني لمّ الشمل، هل نحن مضطَهَدون؟، وإنْ كنا مضطَهَدين أليس ذلك كلام المسيح الحي؟، ألم نعد إلى ديارنا؟، ألم تقف معنا المنظمات الكنسية المسيحية والإنسانية وتعمل من أجلنا ومعنا كي نعود ونثبت في أرضنا كي لا نقول يوماً إنهم سرقونا وسرقوا عقاراتنا وسجّلوها بأسمائهم إنْ لم يكن أولاً السبب سببنا؟، فهل فقدنا ثقتنا بربّنا وبكنيستنا وبأرضنا وبوصيته التي دعتنا أحبّاء وليس عبيداً أو ضيوفاً؟، فالرب قالها دون أن يعلن ذلك في مؤتمرات حنّان وقيافا وهيرودس عبر إعلامهم، بل قال "مَن آمن بي..." (يو25:11) "مَن أحبّني" (يو23:14)، وقال "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو5:15)، أليس ذلك إقراراً بإيمان ورثناه من إيمان أجدادنا وآبائنا وجرن عماذنا؟... وإلا ماذا يعني الرحيل!، وهذا كله يعبّر خير تعبير عن فكر مسيحي وذهنية متجذرة في إنجيلنا، فلا يمكن بل لا يجوز أن يكون الإضطهاد والطرد سبباً في أن يثني عزيمتنا ويُثني همّتنا عن إيماننا بل يجب أن يكون لنا قوة وشهادة وإلا لماذا كتب الرسول بولس رسائله وقال:"هأنذا يُراق دمي" (2طيم6:4-7). إن هذا كله يجب أن يزيدنا إصراراً على الشهادة لمعتقدنا، فرجائنا لا يخيب يقول الرب (مز18:9). فقد سبقنا الشهداء في هذه المسيرة من أجل حياة الحق، وصحيح إنك برحيلك تُبقي على حياتك ولكنك إذا كنت تدري أو لا تدري فإنك تدفن صبغة وجودك فلا يحقّ لك الرحيل أبداً لأنك سئمتَ من الحياة في بلاد محتلَّة أو في وطن أفسدته النيّات، فقوتك معي ببقائك، وحقيقتك في وجودنا أنت وأنا، وشهادتك في إنجيلنا، وإنسانيتنا في عملنا سويةً بمستشفياتنا ومدارسنا وعياداتنا وملاجئ معمّرينا... إنها شهادة المسيحية فلا يحق لك الرحيل بسبب دعوة الدنيا، فالرسولان بطرس وبولس لم يذهبا إلى روما ليعيشا الهناء بل كانا مدركَيْن إنهما سيموتان في عاصمة الرومان المحتلين، ولكن إدراكهما لمسيرة الإنجيل وحقيقته قرّرا الذهاب، أما أنتَ فإنْ كان رحيلك لإعلان بشارة المسيح والإنجيل فهدفك مقدس وطوبى لك، وإنْ لم يكن ذلك فمع الأسف الشديد!.

صوت البابا

نعم، يقول البابا فرنسيس في رسالته الميلادية إلى مهجَّري العراق وسوريا 2014:"لدينا جميعاً مسؤولية كبيرة ولن تكونوا وحدكم في مواجهتها ولهذا أشجّعكم وأعبّر لكم عن مدى قيمة حضوركم ورسالتكم في هذه الأرض... فأنتم وسط معاناتكم روّاداً لحياة الكنيسة والبلد الذي تعيشون فيه. واعلموا إن الكنيسة قريبة منكم وتؤازركم وسنواصل مساعدتكم من خلال الصلاة والوسائل الأخرى الممكنة. فآلامكم تقدّم إسهاماً لقضية الوحدة ولا يقدَّر ذلك بثمن، إنها مسكونية الدم التي تتطلّب إستسلاماً واثقاً لعمل الروح"، ويواصل قداسته رسالته بقوله:"أنتم في وضع مأسوي وأنتم تعيشون في بيئة غالبية مسلمة ويمكنكم أن تساعدوا مواطنيكم المسلمين على أن يقدموا باستبصار صورة أكثر أصالة عن الإسلام كما يريد كثيرون منهم التعايش بين الجميع وهذا يعود بالفائدة على الجميع وعلى المجتمع. فأنتم مدعوون في المنطقة لتكونوا صانعي السلام والمصالحة والنمو لتعزّزوا الحوار وتبنوا الجسور تماشياً مع روح التطويبات (متى3:5-12) وتعلنوا إنجيل السلام وتكونوا منفتحين على التعاون مع كل السلطات الوطنية والدولية".

عبر البحار

نعم، الخوف والهاجس إستوليا على نفوسنا ومقدّراتنا، وأصبحنا مطيعين بل خاضعين، وبدأنا نفعل ما نشاء وكما نشاء دون أن ندرك أحياناً إننا قد غيّرنا مسيرتنا الإيمانية بهاجس مزوَّر وبخوف مصطنع لا يتوافق وتعاليم المسيح الحي، وأصبح الإنجيل مثل الحقائق الأخرى، ولا يمكننا أن ندافع عن وجودنا بسبب ما حُشر في عقولنا وما هُدّدت به أفكارنا، وما ذلك إلا تناقض واختلاف حيث أصبحنا نعامل إنجيلنا وكلماته المقدسة بإنجيل كتبناه وسطّرناه للمسيرة المزيفة ولم نعد نستطيع أن نخبر به حتى أجيالنا وتسلسل أولادنا، أليس ذلك أزمة إيمانية؟، فجعلنا من الحقائق المزيفة حقائق سماوية وأهملنا تعاليمه، وأصبحت مسيحيتنا في مسيرة الدنيا التي تروق لنا وتطيعنا لأننا آلهتها، ومن المؤسف إننا قد نسينا عصور الإضطهاد ومآسي الشهداء وأصبحنا لا نهتمّ لمناسباتهم، فشخوص أهاليهم كلهم أصبحوا عبر البحار والمحيطات في دنيا الإغتراب، يأكلون ويسهرون، يشترون ويبيعون ويخزنون (لو28:17) وهذا حقهم الطبيعي، ولكن أين الحقيقة الإنجيلية؟... أقولها وإنْ لن تقبلوها مني فذلك شأنكم، ولكنني أؤمن بما أقول في وجه كبار الزمن والدنيا، فنحن شهود وشهداء، وهذه مسيرتنا الإنجيلية... ليس إلا!.

شهادة وحقيقة

أحبائي، "لا تخافوا أو تخجلوا من كونكم مسيحيين، يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر، إن العلاقة مع يسوع تجعلكم مستعدين للتعاون مع مواطنيكم مهما كان إنتمائهم الديني"... فعيشوا حقيقة مسيحيتكم في قول الحقيقة في وجه كبار الزمن الذين باعوا الوطن وباعونا دون أن ندري من أجل مصالحهم، لذا فالشهادة ليست بهذه السهولة، والسبب لا زال ثعالب الحياة وحيتان الفساد وبائعو الإرهاب وحاملو الحقد والكراهية يحسبون حساباتهم، ومع هذا أقول لكم: آمنوا إن الحقيقة لن تموت، وستظهر يوماً شئنا أم أبينا، ففي بقائنا شهادة لمسيرة أبنائنا وأجدادنا وحبّنا لتربتنا وشهادتنا عبر صليبٍ حملناه عملاً بكلام المسيح الرب والذي أصبح لنا خلاصاً.

أقدام ... وصليب

نعم، نرحل أم نبقى! دعوة لنا كي نتمسك بالصلاة وبالحوار مع الله قبل أن نحاور أنفسنا من أجل الشهادة للحقيقة وليس لتزييفها، فعلينا أن نكون طلاباً في مدرسة "تحت أقدام الصليب" فحينذاك لو رحلنا سيكون رحيلنا برفقة صليب المسيح الذي سيقودنا إلى الخلاص، وإنْ بقينا سيبقى الصليب علامة شهادتنا، وسيكون عنواناً في شجرة حياتنا كي تعطي ثمراً صالحاً لجائعي الزمان والدنيا. لذا لا يجوز أن نفقد إيماننا وأخلاقياتنا وإنْ دُمّرت منازلنا ونُهبت وسرُقت وأُحرقت ديارنا وأُنزلت صلبان كنائسنا من قببها، وهذا كله لا يعني أن نجعل إيماننا سلعة للرحيل، ولكن علينا أن ندرك أن الرب خلقنا هنا لنبقى هنا، ودعانا إلى أن ندرك أن الحياة لا تخلو من صليب، وإنه لا قيامة بدون الصليب، وهذا ما يجعلنا أن نجعل من المحنة مخرجاً كما يقول مار بولس:"استفيقوا أن تحملوا" (1كو13:10). فلابدّ من حمل الصليب وبه سندرك أن الحقيقة مهما تعذبت واضطُهدت وزُوّرت وبيعت لا تموت ولا تفنى وإنْ إشتراها كبار الزمن من أجل مصلحة مزيفة... فلا تخافوا مما يحصل، فالحياة لنا بالمسيح يسوع وليس الهناء بالرحيل، وليس البقاء بالهجرة والرحيل، إنه موت الأصالة وضياع ترابنا، فلا داعي الغناء بحب أرضنا، بل مَن يرحل فتلك إرادته وذلك شأنه، ومَن يبقى فذلك حسّه وهذا إيمانه، ولكن لنعلم إننا قوة في وحدتنا، وإننا موت في فرقتنا، ولننتبه كي لا نضيّع مفتاح ملكوت السماوات، فالمفتاح قد ضاع عندما إنشغلنا بأموال الدنيا وأملاك العالم، وجاء الإرهاب فحصد الأخضر واليابس، ففي ذلك مسيحيتنا موضوعها إنسان وشهادة وملكوت، فالمسيح الحي لم يأتي ليؤسس مملكة إقتصادية أو سياسية أو مصلحية بل جاء ليُتمّ مشروع الخلاص... إنه جاء ليطلب ما قد هلك (لو10:19).

الخاتمة

ختاماً، للمسسيحي حريته الشخصية في البقاء أو في الرحيل عن الوطن، وهجرته نتيجة الأزمات المتلاحقة والحروب المستمرة دون الرجوع إلى الكنيسة ودون أن تكون الكنيسة مسؤولة عن كل تصرفاته، وبالمقابل فالكنيسة تعمل على تحصين مؤمنيها بالإرشاد والصلاة، وعلى المؤمنين المواطنين المسيحيين أن لا يجرحوا ضميرهم المسيحي الذي يُملي عليهم مسؤولية "الشهادة في الإيمان" لتاريخ وتراث آبائنا وقديسينا وشهدائنا، وسيبقى السؤال يتردد في معابدنا ومنازلنا وبيننا: أنرحل أم نبقى أم ماذا؟... نعم ماذا بعدُ!... نعم وآمين.

156
عذراً... يا كبارَ شعبِنا، لا تدفنوا رجاءَ شعبِكم!!!
المونسنيور د. بيوس قاشا
   في البدء... والانتخابات على الابواب:
   كانت المسيحية ولا زالت تنشد السلام والخير وتسعى إلى تفادي الحروب وتنشر علامة الحوار والعيش المشترك من أجل ثقافة لمحو لغة السيف والتي نهايتها سقوط الأبرياء، وازدياد مساحة الحقد والكراهية بين الشعوب، وولادة العنف والدمار لبشرية خُلقت لتكون ساعداً
لبناء الخير والمحبة، وليس سبباً في تدمير ما عمّره الإنسان. ولكن مع الأسف إن أوضاعنا السياسية والإجتماعية متأزمّة إلى درجة تدمير الوطن وتقسيمه، وجعل الضعفاء الأبرياء يحملون حقائبهم ليرحلوا إلى حيث أرض الله الواسعة، إذ لا يمكنهم بعدُ تحمّل ما يحصل في البلد من أزمات وخاصة في وطننا كما في شرقنا، حيث أصبح العيش (المعيشة) والحصول عليها بعرق الجبين _ كما أرادها سبحانه تعالى _ من المستحيلات، كما حلّت الطائفية رائداً أولاً، ثم المحاصصة والمصلحة والأنانية في سراط شيطاني لغايات في الفساد ومن جميع جوانبه حيث القِيَم والأخلاق ليس إلا!!!.

   حدث وطني
   أحبائي، ونحن مقبلون على حدث وطني واجتماعي يرسم مستقبلنا في البقاء أو في الرحيل، وبعد أربع سنوات عشناها في الخوف والفزع ولا زلنا، وتحت أمرة الفاشلين والفاسدين والذين نصّبوا أنفسهم قديسين في مسيرة حياتهم البائسة ليكونوا في الصفوف الأولى، فها هي الإنتخابات وفي دورتها الرابعة تناشدنا جميعاً وتذكّرنا بأننا مسيحيون قبل أن نكون طائفيين، وبأنّ الله أرادنا في هذا الشرق. صحيح إن القومية رسالة الأصلاء ولكن ما نفع القومية بدون إيمان في المسيحية!!، وما نفع المسيحية دون التشبّه بربنا يسوع المسيح في أن نحيا الإنجيل وحسب تعليم الكنيسة أمّنا!!، فرسالة المسيح سامية في القِيَم والأخلاق ومسيرة الحياة.

   بشر أم غنم
   تعلمون جيداً إن الإنتخابات على الأبواب ، وبعد أن طُردنا من قرانا ومدننا وعدنا وأية عودة! إنها بائسة حتى فقدان الأمل، ولكن بهمّة الطيبين من كبار المعابد والمخلصين للوطن ولتربتنا عدنا مطيعين لأوامر وتعاليم كنائسنا وكبارنا وأنتم أيضاً، ولكن نحن بشر أم غنم!! ومع هذا عدنا من أجل أرضنا وإيماننا ومن أجلكم، فلا خدمات ولا أمان ولا كهرباء ولا حتى أبسطها ومختلفها _ لذا أرجو منكم أيها السياسيون المحترمون وأناشدكم أن تعلموا وأنتم ترشّحون أنفسكم _ وهنيئاً لكم هذا المسار وهذه الغاية _ إن شعبنا أمام مفترق طرق بل أمام ضياع أكيد إذا ما استمرت الأوضاع بهذه الطريقة وبهذا المسلك، إنها إشارات الموت والرحيل لا بل إشارات الضياع في قلع أصولنا من أرض أجدادنا وآبائنا التي رَوَوْها بعرق جبينهم. فكفاكم من إنقسامات في أحزاب مختلفة وجميل أن تكونوا في مكوِّن ما و ليس في خلاف الرأي، ولكن ما أجمل الإختلافات بين الأحبة... إنها سموّ التعددية وعطاء الكلمة الموحَّدة. فالله هو الوحيد الذي يعطي معنى لحياة الإنسان. 

   وحّدوا كلمتكم
   نعم، سياسيّينا ومرشحي شعبنا، إن مستقبلكم ومستقبل شعبكم رهن بوحدتكم وإدراككم لمسؤولياتكم، فمن خبرة شعبنا الذي قاسى الأمرَّيْن في هذا البلد ومنذ زمن قد يكون أكثر من مائة عام، وما الآلام التي ذاقها بسببكم أنتم لأنكم لا تعرفون أن توحّدوا كلمتكم بل تنتمون إلى مصالحكم الخاصة ولا تنظرون إلا إلى مناصبكم، وكم هي الفائدة التي تجنونها من خلالها، وكم هي المبالغ التي ستقتنونها، ومَن هم الذين عليهم تتّكلون وإن كانوا فاسدين، ففي ذلك تنسون أن الرب يسوع قال:"دعوتُكم أحبائي ولم أدعكم عبيداً لأنني أحببتكم فأعلمتُكم بكل شيء" (يو15:15)، فكلنا أحبّاء الله فهو لم يدعُ بعضاً بل كلاً، ومن المؤسف أن تختاروا كبرياءكم وأنانياتكم ومصالحكم الخفية والظاهرة فتأتون بِمَن تشاؤون وإنْ كانوا فاسدين فتجعلوا منهم أسياداً فاشلين، أو تعملوا على اختيار أمكنة تجعلكم أن تستولوا على حقوق الشعب البائس بمصالحكم وما هي الضرائب التي يجب أن يدفعونها لكم في معاملاتهم وتمشية أمورهم والسبب يعود لأنكم أسيادهم... لا... لا... هذا لا يجوز بل إحملوا الحقيقة والخدمة في آنية من خزف من أجل الحياة فالرب قال:"أنا الطريق والحق والحياة" (يو6:14)، وما أنتم إلا كبار أمناء بل يجب أن تكونوا أمناء وأوفياء لخدمة شعبكم وليس لضرائبكم "مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً" (متى 26:20؛ مر43:10)، وإذا كان المسيح مات على الصليب من أجلنا فهذا يعني إنه يرى في كل منا أكثر من شخص خاطئ ومحدود. لذا أرجو منكم أن تحددوا رؤيتكم ومصيركم، وأفرغوا عقولكم وقلوبكم ونيّاتكم من روح التعصب وحبّ المال في الطائفية المقيتة وفي الأنانية الحزبية، ولا تجعلوا إرادتكم في مناصب مصلحية أو تأتون بأشخاص من أجل مصالحكم وأنتم تعرفون جيداً إنهم من الذين شوّهوا مسيرة الحياة بفسادهم وشرورهم. وأوصيكم أن لا تخافوا في أن تعملوا ذلك لأن عالم شعبنا مضطرب إلى حدّ بيع كل شيء والرحيل بعيداً عنكم وإن كان ذلك "فمَن يأتمنكم على ما لا تملكون؟" (لو1:16-13). فكلنا معكم وفي قارب واحد فإذا إنقسمتم وانقسمنا، إنقسم المركب وغرقتم وغرقنا وغرق شعبنا، وماتت قِيَمُنا ورُحِّلَت أخلاقنا وحقيقة شعبنا لأننا قد شيّعنا حقيقة وجودنا وعمق إيماننا في مسيحنا الحي والرب، وما نستحق في ذلك إلا قول المسيح الحي:"اذهبوا عني يا ملاعين..." (متى41:25).

   لعنة أجيالنا
   نعم، أقولها أحبائي، إنتبهوا فالوقت ليس لنا، والمستقبل لن يُكتَب لنا، والتاريخ سيسجّل فرقتنا، ولعنة أجيالنا ستلاحقنا، والأصالة ستُنزَع منا شئنا أم أبينا لأننا بدأنا نكتب تاريخاً مزيَّفاً من أجل أشخاص أشرار نرقص لاستقبالهم ونهلّل لهم وكأننا في عرس قانا (يو1:2-11)، ونكرمهم بما لا يستحقون كون مصلحتنا هي المبتغى، ونُطعمهم بما يحلو لهم ثمّ لنا، ونودّعهم بتحية وبأحسن من إستقبالهم، بينما يطرق الفقير إبنُ شعبنا  بابنا فنقول له "إنتظر فالزمان ليس زمانك!"، ومع الأسف ففي هذا كله كتبنا مصالحنا لأننا نؤمن إنهم يملكون كل شيء وهم في الحقيقة لا يملكون شيئاً وإنما خائنون لأمانات ليست مُلكهم بل سُلِّمت بأياديهم، فهم يجعلون من بيوتهم بيوت المال لتوزيع الأموال، فيوزعونها كيفما يشاؤون وحسب ما يشاؤون ولمن يشاؤون، والمسيرة في مثل هذه الطريق بائسة ويائسة ومزيفة، والشعب يدرك ولكن لا يمكنه إلا أن يكون مطيعاً خنوعاً صامتاً، لأن القوي قد حطّ رحاله والضعيف يقترب من دعائه لرب السماء، ليُنزِل مراحمَه ، وإذا ما قال الحقيقة أُدرج في سجل المعارضين، وقُدِّمَ للقضاء ، وجُعلتْ حياته أياماً معدودة.
نعم ، سأبقى أقول لكم يا أحبائي، لا تخافوا أبداً، كونوا شهوداً للحقيقة ، فالمسيح الحي علّمنا أن نفتش عن المرضى والبرص والعميان والعرج، فكونوا مسيحاً آخر يقول ربنا:"إذا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ: الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ، فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافئُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَئ فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ" (لو13:12-13)، وكما يقول مار بولس:"أكمل في جسدي ما نقص من آلام المسيح" (كولوسي24:1)، وكفاكم الذهاب إلى هيرودس وحنّان وقيافا وبيلاطس والفريسيين والكتبة والسامريين فهؤلاء كلهم تلقون عليهم التحية بمناسبة أو بغير مناسبة، وتكتبون أسماءكم في سجلاتهم عربون حبّكم لوفائهم المزيّف وشعبكم يئنّ، فهولاء كلهم وصفهم ربنا بالثعلب كما قال لهيرودس:"امضوا وقولوا لهذا الثعلب" (لو32:13). بينما ، ابناء شعبنا  يدعونكم أن تنزعوا الأقنعة من وجوهكم وتذهبوا للقائهم ، فالمسيح الرب يقول لنا " أنا الكرمة وأنتم الاغصان " ( يو5:15) معنى ذلك كلنا في المسيرة شاهدون ، فلا يجوز بعدُ وبعدَ كل الذي حصل فينا وبنا،أن يُترك شعبنا ، فبئس أناس تعلن إنها تفتش عن شعبنا وتهتم به في إحتياجاته ومطالبه وحقيقة عيشه فما ذلك  إلا إعلانات ويافطات يقرأها السائر في دروب الحياة، ومثل هؤلاء لا يستحقون إلا كلمة المسيح أن ينالوا بئس المصير (متى41:25).

   حرية وكلمة
   أحبائي كبار شعبنا ، أحبكم أكثر من نفسي ومن ذاتي، وكل يوم أرفع صلاةً كي تحملوا شجاعة إيمانكم، وما تقولونه عني قولوه،  فتلك حرية الكلمة سلباً كانت أم إيجاباً وحسب ما ترونه، فالغيرة والحسد والأنانية مسالك في مثل ذلك، ولكن سأبقى أنشد الحقيقة في وجه الأقوياء الذين باعوا الحقيقة بمصالح سيكشفها التاريخ في يومنا أو غدنا وفي ذلك يقول ربنا:"ليس خفيٌّ إلا سيظهر ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (لو17:8). وسنقرأ عنها في سفر الحياة (رؤ12:20و15؛ رؤ19:22) وليس في أخبار مزيَّفة ينقلها كبار الدنيا والزمن لأسيادهم ، ليكونوا يوماً تحت سترهم ورحمتهم، ويرسموا لهم مستقبلاً فيمجّدهم البشر الفقير، ويصفقوا لهم جائعو الحياة، فدنيانا تدعونا اليوم أن نؤلّه كل بشر وكل شيء وننسى أن السماء تعاش في أرضنا شهادة للحقيقة ومن أجلها، وفي التفتيش عن الشعب الفقير الذي يقاسي ليلاً ونهاراً طبيعة دنيانا وخوفاً وبرداً، وكبارنا ينعمون صباحاً ومساءً بما تشتهي القلوب والمَعِدات والمجالسُ الفاسدة والضحكات المزيَّفة وينسون إن من مواهب الروح مخافة الله... نعم، ليس إلا!!!.

  عرس وبشارة
   أحبائي، إختاروا لكم مَن يعمل في التفتيش عن شعبكم ومستقبله، ولا تغلقوا أبوابكم أمام الفقير والمهمَّش وتفتحونه على مصراعيه أمام كباركم وأسيادكم، فلا فرق بين إنسان وإنسان، فالمسيح أحبّ بطرس وأحبّ يهوذا وكلاهما دُعيا إلى عرس قانا والبشارة، ولكن نعم وإنْ كان لكل واحد مكانه فالمحبة لا تعرف ذلك أبداً، فلا تدفنوا الكفاءة والذكاء، وافرحوا لغيركم حينما ترونه بموهبة الله أي بثماره يحيا، فالروح يمنح نِعمَه على مؤمنيه ولا يتاجر بها "فموهبة الروح هي العلم والمعرفة والتقوى والحكمة" (غلا22:5)، وغيّروا وجوهاً كانت جالسة على كراسي لا تستحقها وكانت لكم مصلحة وتيقّنوا فغداً لناظره قريب، فبعد خلاف قد يحصل بينكم سيقولون عنكم كل سوء ويفضحون أعمالكم الخفية والظاهرة ويسرقون مال الشعب المهجَّر والنازح والمطرود وأنتم صاغرون (سورة التوبة؛ سورة 9؛ آية 29).

  الختام
وختاماً، إنني أحبكم لأن الربّ يسوع أوصاني وأوصاكم "أن نحبّ" إذ قال إنها وصية جديدة أن "تحبّوا بعضكم بعضاً" (يو34:13)، فالوصية أُعطيت لنا ولكم وليس لغيرنا، وحينما نشهد للحقيقة لا يعني أنكم أعداء بل تلك حقيقتكم، فلا تتصارعوا بينكم كي تأخذوا كل واحد منكم حصّته من الفريسة بل كونوا كلمة واحدة، ولا تبيعوا أرضكم وحقيقة وجود شعبكم ومستقبل أبنائكم بصحن عدس كما فعلها عيسو (تك31:25-34)، ولا تكونوا سبب هزيمتنا، فنحن نشكر مساعيكم وعطاءكم في سبيلنا وسبيل شعبكم ولكن ما نحتاجه أن تكونوا شهوداً للحقيقة وشهداء لها ولمحبتكم، وكونوا في خدمتكم لشعبكم أوفياء ولإيمانكم أمناء كما لتربتكم، ولا تجعلوا شعبكم ينام جائعاً، فبئس أمّة ترقص لموت أبنائها، وبئس شعبٍ يُهان من أسياده، فلا تكونوا شهود زور في مجالس كبار الدنيا والزمن وما أكثرهم اليوم، واجعلوا من حياتكم شهادة أصيلة وما ذلك إلا أصالة إيمانكم.
عودوا للإنجيل إلى الرب الذي هو الخير، فلا تدفنوا الرجاء الموجود في قلب كل إنسان، كما أدعوكم أن تجعلوا عودة أبنائنا إلى أراضيهم ومدنهم وقراهم سبباً أكيداً لرجائهم، ولنضع إيماننا في الرب. والدعوة التي هي لنا كي يبقى هذا الشرق المختلط بين المسيحيين والمسلمين يقدم رسالة إلى العالم أن أهله قادرون على العيش معاً والسير معاً إلى الأمام. وسأرفع صلاتي وأسأل ربي أن يمنح ماهو لخير شعبكم وشعبنا ، ولكم أن تكبروا في مواهبه المقدسة في العلم والمعرفة والحكمة والتقوى أمام الله وأمام الناس (لو52:2). وكل ذلك يدعوكم الى تغيير الوجوه الفاسدة وإن كانوا من المقربين ، وختاماً مبروك لكم فوزكم وحصولكم على أصوات شعبكم، وتهنئتي واحترامي ومحبتي  لكل واحد منكم باسمه وشخصه ،  ولشعبنا المحبة والتحية . فكلّكم أخوة معي، وكلّكم أبناء شعبنا ولا فرق بينكم "فالمسيح ، ربكم واحد ، وايمانكم واحد،  ومعموديتكم واحدة " ( افسس5:4) إلا بالعطاء والخدمة فأنتم عراقيون قبل أن تكونوا مسيحيين  وانتم مسيحيون قبل أن تكونوا طائفيين ، وانتم من شعبنا وشعبنا منكم ، فرجاءً لا تدفنوا رجاءَ شعبكم وإن كنتم كباراً ، نعم و نعم وآمين.

   
   


157
احبائي
كل عام وانتم بخير
وليبارككم رب السماء ويمنحكم النعم والركات وما يحصل من النقاش والتعليق على المقال لا يجوز بهذه الطريقة التي تجرح مشاعر الاخرين بل يجب التعليق بكل حرية ولكن مع احترام الاخر ورموزه وقوميته وايمانه فالرب ربنا جميعا وليس رب كتلة واحدة او قومية واحدة او طائفة فاناشدكم ان نكون يدا واحدة في هذا الزمن القاسي الذي ابعدنا عن اهلنا واقاربنا واملاكنا واصبحنا نتيه في ديار عبر البحار والمحيطات شاكرين كل واحد قدم لنا خدمة او وقف معنا بكل محبة
فارجو واناشدكم ان لا يكون التعليق في جرح الاخر وليكن بكل حرية ولكن باحترام يفوق مصالحنا الشخصية  وختاما شكرا لكم على تعليقاتكم وادعو لكم بالنعم والخيرات واياما مباركة


158
رسالة مفتوحة إلى سماحة الفقيه العلاّمة الشيخ عبد اللطيف الهميّم
المونسنيور د. بيوس قاشا
إلى سماحة العلاّمة الفقيه الشيخ عبد اللطيف الهميّم السامي الإحترام
رئيس ديوان الوقف السني في العراق
والأمين العام لجماعة علماء ومثقفي العراق

   في البدء    
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ونحن نحتفل بذكرى ميلاد المسيح الحي الذي به بشّرت الملائكة في الإنجيل كما في القرآن، يسرني أن أرفع إلى مقامكم السامي أجمل التهاني وأطيب الأماني طالباً من الذي كان كلمة إلى مريم:"يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" (سورة آل عمران؛ سورة 3؛ آية 45) "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا" (سورة التحريم؛ سورة 66؛ آية 12). كما يسرني أن أهنئكم بحلول العام الميلادي الجديد طالباً من ربّ السماء أن يمنح بلادنا السلام والأمان وأن يعيد أبناءنا إلى دياره وقراه ومدنه وكفانا حروباً وقتالاً... وبعدُ؛
بهذا الإيمان وبهذه الثقة بربّ السماء الذي ينظر إلينا بعين الرحمة والحنان "الرحمن الرحيم" أكتب إلى مقامكم السامي أسطراً قليلة نابعة من محبتي لكم واحتراماً لمركزكم السامي وشخصيتكم الموقرة، كما أتمنى فيها لكم عمراً مديداً وساعداً أميناً لخدمة شعبنا المهجَّر والمطرود من دياره، ولنداوي سويةً جراحات عراقنا الذي إبتُلي بالحروب والحصار والإحتلال وأخيراً بداعش الإرهابي، ولندرك فساد الفكر الداعشي وسموم المسيرة الداعشية بتفسيره لآيات الكتاب كما يحلو له وكما يشاء، وهذا ما يجعل شعبنا المسيحي أن ينازعه الخوف ويصارعه الأمان، ولأن ذلك قد حصل فينا فقد يتجه إلى حمل حقائبه ويرحل بل ويهاجر متأملاً عظمة الحياة وبؤس الدنيا التي يحياها وفساد المسيرة الزمنية التي يعيشها، ففكره يقوده إلى أجياله وأحفاده وأولاده مفتشاً عن بلد أمين وعن وطن وفيٍّ له.

  نحن وداعش
سيّدنا العلاّمة: ما يحصل في عراقنا مؤلم جداً، فهل رأيتم شعباً أصيلاً مهجَّراً ونازحاً من دياره دون أي سبب ودون وجه حق؟، ومن المؤسف أن المهجَّرين من ديارهم لحدّ اليوم قد بلغ عددهم حوالي مليون ونصف المليون، ونتساءل: هل بنينا ليحرق داعش ديارنا؟، هل زرعنا ليشعل داعش حقولنا؟، هل خلّفنا نسلاً ليقتله داعش ويمحو أصوله وأصالته؟، هل جمّلنا مدننا وقرانا لكي يأتي داعش ويهدمها ويفجّرها على رؤوس أصحابها ويفخّخها فتكون حجارةً وركاماً وكأنه قد فُوِّض من العلي ليجعل من الأرض التي حملت الحياة والإنسان، يجعلها موتاً ودماراً؟.

   شجرة وتهنئة
فباسم دينكم الحنيف ورسالتكم السامية وفقهكم المشرِّف أتوجه إليكم أن تُدركوا الخطر الذي لا زال يداهمنا كما يداهمكم، والموت الذي ينتظرنا وينتظركم، والرحيل الذي كُتب علينا وعليكم، والنزوح الذي أُصدر بحقنا دون إرادتنا، أنْ تُسكتوا أفواهاً تزرع الفتنة والبلبلة، وتُدينوها بل وتكفّروا أناساً يحملون الحقد والكراهية في مسيرتهم الزمنية. فالمسيحيون بميلاد المسيح يفرحون، بشجرة الميلاد أو بزينة، وما الشجرة إلا زينة الخضراء والحياة فأيّ ضرر منها أن لا يحتفل الأخوة الإسلام بشرائها، وحسب قول الشيخ المحترم إمام جامع "أبواب الجنة"، كما إن التهنئة بالعيد رسالة محبة وفرح واحترام وسلام وليست رسالة قتل ودمار وكراهية. أليس أنتم القائلون "وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا" (سورة النساء؛ سورة 4؛ آية 86)؟، وألستم أنتم مَن تقولون "السلام عليكم" وهذا يعني سلامكم يحلّ على جميع الناس كما نحن علّمنا المسيح الحي أن نقول دائماً "السلام معكم" وكلانا نعمل من أجل السلام. وهنا يسرني أن أنقل إليكم البادرة الإنسانية المُحِبَّة من شيخ الأزهر حيث نشرت جريدة صوت الأزهر على صفحتها الأولى صورة احتفالية كُتِبَ عليها "كلمة الله المسيح عيسى بن مريم. سلامٌ عليه يوم وُلِدَ"، وأضافت الجريدة "إن المشيخة الأزهرية بشخص رئيسها الشيخ أحمد الطيب اهتمت بالميلاد، وهو حَرَصَ دائماً على تهنئة البابا وخصوصاً منذ خروج دعوات تحريم تهنئة غير المسلمين في أعيادهم، وتعتبر ذلك من البِرّ".    
فأناشدكم كي تكونوا علامة لمحو الخوف من قلوب أبنائنا، ولزرع الفرح في حقيقة مسيرتهم، وكونوا أمناء لرسالة الرحمة التي أُرسلتم من أجلها، واحملوها إلى أهلكم وجاركم وأصيل بلدكم كي لا نضيع في مجاهل الدنيا ونرحل عبر المحيطات والبحار والرب شاهد على أفعالنا فهو القدير الذي قال "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ" و"هُوَ السَّمِيعُ المُجِيبُ" (سورة سبأ؛ سورة 34؛ آية 50 وسورة المائدة؛ سورة 5؛ آية 76).

   جامع وخطيب
نقلت إلينا وكالات الأنباء خبراً مفاده أن خطيب جامع "أبواب الجنة" في منطقة عَرَفَة بكركوك وخلال خطبة الجمعة 15/12/2017 قد حرّم زينة أعياد الميلاد وتهنئة المسيحيين بهذه المناسبة، ووصف تلك الأعمال بأنها أعمال الكفّار... انتهى الخبر.
   وفي اليوم التالي علمت بطريركية الكلدان بهذا الخبر ومن مصادر موثوقة ووصفته بأنه خبر مسموم للتعايش بين المكونات المختلفة في كركوك، فأدانته بشدة. كما إن غبطة أبينا البطريرك مار روفائيل الأول ساكو بطريرك بابل على الكلدان أدان محذِّراً من أن هذا الخطاب يؤجّج الكراهية بين المسيحيين كما يصبّ في مسار عدم التعايش المشترك ويُبعد قيم التسامح والأخوّة والاحترام والتي أحوج إليها البلاد في هذا الوقت بالذات، كما أدانت هذا العمل مما يتعارض مع التعاطف الكبير الذي نراه في بغداد ومدن أخرى مع المسيحيين في عيد الميلاد من خلال إقامة أشجار الميلاد في أماكن عديدة، كما أضاف أن مثل هذا الخطاب يعمل على تفكك النسيج العراقي والعيش المشترك.

   البقية الباقية
   أمام هذا الخطاب وخطابات أخرى، ستبقى مسألة وجودنا وحقيقة مسيرة حياتنا على المحكّ في هذا الوطن الذي نحن أصوله وأصلاءه، وربما مثل هذه الخطابات ستجعل الضعفاء منا أن يحملوا حقائبهم ويرحلوا خوفاً من تكرار مسيرة داعش الإرهابية والأفكار التي زرعها في العديد من الأنفس الضعيفة، كما يسبّب هذا الخطاب خوفاً عميقاً من تقاسم الحياة والتعايش مع غيرنا والمختلف عنا وبالخصوص مع الأخوة المسلمين، ويصبح تعايشاً قاسياً وصعباً بعد أن كنا إخوة في التنوع وعبر ديانات مختلفة. وإنني في هذا المسار لستُ متشائماً بل أقولها حقيقةً أخاف إذا ما تكررت هذه الخطابات وأمثالها إذ لا يمكن أنْ تُحمَد عقباها، فوطننا اليوم بحاجة إلى أن نداوي جراحاته بسبب ما حلَّ فينا وبشعبنا بعد أنْ طُردنا من قرانا ومدننا وبدخول داعش الإرهابي، فقتل ما قتل، وسبى ما سبى، جاعلاً من نفسه إلهاً شريراً لدنيا فاسدة، وأخاف أن لا تُفسَد نياتِ آخرين كانوا ولا زالوا من الخلايا النائمة لتكون يوماً داعشاً آخر وبلباسٍ آخر فتهلك بقيتنا الباقية فنبقى بلا وطن، وتلك كارثة وأقل ما تعني هو الهلاك في عاصفة هوجاء من الكراهية وحبّ الأنانية بروح آيات تُفسَّر بما يحلو لهم.

   طاعة وانصياع
   أليس هذا مسارٌ مُنَظَّم ليزيلوا المسيحية من الوجود في العراق كما في الشرق؟، وماذا سيقول المسيحي حينما يسمع نفخات الهلاك وخطب الموت من على المنابر والمنائر، والسامعين فاتحين أفواههم ولا يفقهون شيئاً كما لا يفهمون إلا ما يقوله الخطيب ــــ مع احترامي ومحبتي للخطباء المعتدلين ولخطاباتهم أيضاً ــــ الذي جعل نفسه وليّاً وأميراً بآيةٍ أُنزِلَت إليه من السماء ويفسّرها ويحلّلها بالشكل الذي يطيب له وما على السامعين والآخرين إلا الطاعة والإنصياع، فلا مَن ينطق ببنت شفّة ولا من شجاع يسدّ أفواهاً كهذه؟، فالله محبة، قبل أن يختار رجالاً يبث فيهم روح الحقد والكراهية، وقبل أن يجعل من النصارى كفّاراً وأهل ذمّة ويدعو إلى قتلهم وإهلاكهم وطردهم، لذا فلا يجوز تهنئتهم ولا المشاركة في أعيادهم... ليس إلا!.

   حقوق ودستور
   نحن لا نريد شيئاً غير حقوقنا في وطنيتنا وفي دستور عادل وأمين، فيه الجميع متساوون، فليس هناك أغلبية أو أقلية بل هناك وطن ومواطنون، ولا نقبل أن تحكمنا قوانين وشرائع لا تعترف بحرية إيماننا وبحرية عباداتنا، وتُملي علينا ما تراه مناسباً قبل أن يكون مناسباً لنا. وليعلم الجميع إننا فقدنا الكثير الكثير مثل بقية المواطنين، نعم فقدنا أولادنا في الحروب وفي الحصار وفي هذه السنين الأخيرة مع داعش الإرهابي، كما خسرنا ما ربحناه بعرق جبيننا وما جمعناه لمستقبل أجيالنا وأولادنا، فكل شيء قد ضاع ولم يبقَ لنا إلا الوجود الصوري، فهل قد أتت الساعة وحلّ وقت محو وجودنا؟، فقد ضاع منا الكثير بسبب وجودنا وعيشنا في بلدان كانت مُلْكُ آبائنا وأجدادنا، كما كنا أخوة للمسلمين والمسيحيين، واعلموا كنا في بلدنا نزرع حقولنا ونحصد سنابلنا ونجمع غلاّتنا ونربّي مواشينا وأبقارنا، وكم كنا في بلدنا هذا نبنيه بطابوقة عقلنا النيّر وفكرنا المسالم ويدنا المليئة بالحنان وقدمانا السائرتان في طريق الخير والمحبة والسلام، نعم نحو السلام، ولم نقتل يوماً أو نتكبّر يوماً على جارنا بل كان جارنا أخانا نتقاسم الحياة بمُرّها، فللمسيحيين تاريخ أصيل في هذا البلد وفي الشرق بأكمله وبالخصوص في بناء حضارة الرافدين وما بين النهرين... والله عالم بكل شيء، إنه عالم الخفايا والظواهر... فنجّنا يارب "رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (سورة التحريم؛ سورة 66؛ آية 11).

   وقف ... وكركوك
لقد صرّح مدير الوقف السنّي في كركوك الشيخ الأستاذ أحمد المدرّس بقوله:"لقد وصلت مثل هكذا أقاويل"، وأضاف قائلاً:"لقد اتصل بي محافظ كركوك وكالة راكان سعيد حول ذلك وبدورنا أبلغناه بعدم علمنا بهكذا أمور"، ثم أضاف:"إن الوقف السنّي يتبرأ من هكذا أفعال ولا تمثّله"، كما أكد عزمه على فتح تحقيق في الموضوع والإيعاز بتشكيل لجنة لتحقق وتحلل الخطبة وسوف تتخذ القرارات المناسبة.

   داعش والنهاية
نعم، إستنكر مدير الوقف السنّي الشيخ أحمد المدرّس في كركوك هذا الخطاب التحريضي وصرّح بأن خطيب الجامع المذكور ليس تابع لمديرية الوقف السنّي إنما هو شخص متبرع في أن يكون إمام وخطيب جامع دون مقابل. أتساءل: هل يمكن أن نفهم ماهي الصورة الحقيقية؟، أليس الذي يعمل إماماً في الجوامع والمساجد مُعيَّن من قِبَل الوقف السنّي؟، هل يمكن لإمام أن يصعد المنارة دون تعيينه رسمياً في خدمة المسجد والجامع لأنّ مهمته لا تنحصر فيما يقول فقط بل بما يسمعه الحاضرون من خطب وأحاديث؟، وهل يجوز تحريض الإخوة المؤمنين في الإسلام على غير ما ينادي به الدين الحنيف؟، ألا يعلم الشيخ الخطيب أن مدينة كركوك يسكنها العديد من المكوِّنات والأقليات (العربية، الكوردية، التركمانية، السريان والكلدان والآشوريين) ويختلفون في المذاهب؟، فمن الصحيح أن يبشّر بعيش مشترك وبسلام وأمان والعمل به ومن أجله، وأكثر من ذلك بأن يُشعرهم دون خوف إن وطنهم واحد وإن كلّهم للوطن ومن أجل الوطن، أليس مثل هذه الخطابات التحريضية والقاتلة خطابات مميتة وتحمل أفكاراً داعشية وربما من نوع آخر؟.
نعم، لقد أعلن معالي رئيس الوزراء إننا قد قضينا على داعش عسكرياً، والشكر لقواتنا المسلحة بانتماءاتهم المختلفة، إن ذلك حقيقة، ولكن ما نحتاج إليه الآن أن نقضي على أفكاره وآياته وخطاباته وتفسيرها القاتل والمميت، ومحاربة التطرف بجميع أشكاله وتسمياته، وتعزيز الأخوّة بالوطن والإنسانية، والتعاون على الحب والتسامح، وقد يختلف الكثيرون في طرق وطقوس العبادة والمقدسات ولكن يبقى المسيحيون والمسلمون أخوة بل أكثر من ذلك... إنه فساد بصور داعشية، أليس كذلك؟!.

   احترام وحوار
هل تعلم سيّدنا الفقيه والعلاّمة الهَمِيْم والهميّم ــــ وأنت من كبار العارفين ــــ أنه حينما يدخل الحقد والكراهية والعدوانية قلب الإنسان يضيع كل شيء وتبدأ العنصرية والطائفية والأنانية والأصولية بحصادها ودمارها للحياة كما يفعل الجراد، وتحرق الأخضر واليابس، وتدمّر ما بنته الإنسانية المتطلعة إلى حياة آمنة، وتهدم أركان السلام، وتشوّه وجه الحقيقة السماوية، وهنا يأتي دور الأديان والحوار من أجل العيش في العمل وبكل اجتهاد على محاربة كل أشكال العنف والدمار والإرهاب ومن أجل الحفاظ على القيم عبر حوار أمين ورسالة محبة. وفي الدين المسيحي كما في الإسلام دور إنساني ثم إيماني لزرع الإنسجام والاحترام وقيم الحياة، وفي هذا الصدد يقول وإليه يدعو رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الكاردينال توران:"إن العالم بحاجة إلى مسيحيين ومسلمين يتبادلون الإحترام والتقدير، وعليهم العمل معاً والمضي قُدُماً في درب الحوار. وإذا كانت قد نشأت على مرّ القرون منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين فالمَجْمَع الفاتيكاني الثاني المقدس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي ويتصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل ويصونوا ويعزّزوا سوية العدالة الإجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة الناس" (تصريح "في عصرنا"، رقم 3). وفي هذا الصدد أيضاً يقول قداسته مؤكداً أن العنف لا يتوافق وطبيعة الله ولا مع طبيعة النفس البشرية بل الحوار الذي يساعد على البحث في دروب المصالحة والعيش ضمن احترام هوية الآخر. والمَجْمَع الفاتيكاني الثاني واضح أمام الإخوة الإسلام حيث ينطلق المَجْمَع الفاتيكاني الثاني تجاه الإسلام "تنظر الكنيسة بعين الإعتبار أيضاً إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، القيوم الرحيم، الضابط الكل، خالق السماء والأرض، إله كل البشر". فقد صرّح البابا بندكتس السادس عشر في زيارته إلى جزيرة قبرص (4-6/6/2010):"على الرغم من الإختلافات، فالمسلمون إخوة لنا وعلينا أن نشجّع على رؤية مشتركة للحوار معهم".
فليس هناك دين صحيح أو غلط، فكل الأديان صحيحة إذا ما كنت تدعو إلى المحبة والتفاهم كون علاقتها مع الله عمودياً ومع الإنسان أفقياً، وحتميتها سماوية بالذين يؤمنون بها. فالأمر ليس متعلق بالله بقدر ما هو متعلق بمحبتنا ورسالتنا الإنسانية، فالله أعطانا الخلاص وعلّمنا طريق السماء، وعلينا أن نكون أوفياء لهذا العطاء ولهذا التعليم ولهذا الحب، ولايجوز أن نشوّه ذلك.

  الخاتمة
   ولكي لا أطيل عليكم أختم ببعض الكلمات شاكراً صبركم ومعتذراً من طول رسالتي، فإنني أكنُّ لكم المحبة الخالصة والاحترام المتبادل. نعم، قلنا إن مسيحيي العراق أصلاء أرض الرافدين، وقد استقبلوا الإسلام بروح التعايش والمحبة، وعاشوا بروح التسامح مع مكونات أرضنا الجريحة، وأطاعوا الحكومات والقوانين، ولما جاء داعش فتك بهم وكأنهم أعداء، وطردهم من قراهم ومدنهم... إنها مأساة الزمن.
   لذا أسأل: أليس بالإمكان أن نكون لهم أخوة ونتمسك جميعنا بأرضنا وأصالتنا؟، أليس من الوجدان أن نقول إن أرضنا حقنا قبل غيرنا؟، ألا يكفي الاضطهاد الطائفي والتبديل الديموغرافي؟، أليس من الواجب تبديل الدستور إلى مواد وأبواب تكون في خدمة الشعب والوطن وليس من أجل الأغلبية والعشائرية والقومية؟. فشعبنا يهاجر ويرحل، نعم بسبب داعش ولكن بسبب الوضع الأمني الغير المستتب، وفي ذلك لا زالت السياسة الرسمية تتجاهل العواقب التي تنجم عن وحدانية الانتماء وإلغاء وتهميش الهويات وهذا سيقودنا إلى غياب المسيحيين، وكما ويعني طغو وطغيان الصراع الطائفي على السطح، ذلك إن وجود المسيحيين إلى جانب المسلمين يعطي للأمّة هذا الطابع المتنوع.
   أمام هذا كله أناشد سماحتكم وأقول: إن المسيحيين هم بحاجة إلى مساندتكم في أن تسدّوا الأفواه التي تضطهدنا من أشخاص جعلوا أنفسهم وكلاء السماء، وأن تُصدروا توضيحاً وتعليمات من قِبَلكم باسم وقفكم الموقَّر أن تصمت هذه الخلايا النائمة كي لا يعود داعش جديد بلباسٍ جديد، وأن تزرعوا كلمات المحبة والتسامح من على المنائر والمنابر وتُعلنونها جهاراً بأن المسيحيين أخوة للإسلام، وكلانا نتقاسم مسيرة جراح العراق، وما علينا إلا أن نكون أمناء لتربتنا وأوفياء لوطننا ومتعايشين في المحبة والأخوّة، فالمسيح الحي يقول:"أَحِبُّوا بَعْضكُمْ بَعْضاً كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُمْ" (يو12:15).
   وختاماً، أدعو ربّ السماء أن يمنح بلادنا السلام والأمان وأن يحفظكم من كل مكروه وشر... ودمتم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



159
السفير الايطالي الجديد لدى العراق يزور كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك
زارَ صباح  الاربعاء 13 كانون الأول 2017 سعادة السفير الايطالي الجديد المُعتمد لدى جمهورية العراق السيد برونو انتونيو باسكوينو كنيسة  مار يوسف للسريان الكاثوليك  في المنصور، وكان في استقباله المونسنيور بيوس قاشا خوري الكنيسة
وفي هذا اللقاء تناول الطرفان الحديث عن وضع المسيحيين والمكونات في سهل نينوى وقد تمنى السفير الايطالي الجديد ان يبدا العراق بانفتاح نحو مستقبل جديد بعد تحرير اراضيه من داعش كما تمنى ان يعم السلام والامان والاستقرار في العراق والمنطقة واكد ان ايطاليا مستعدة للمشاركة في اعمار المحافظات المتضررة ومنها سهل نينوى ومن جانبه اكد المونسنيور للسفير الايطالي الجديد على ان العراق محتاج الى مساعدة جميع الدول في مجال الاعمار بعد ان شرح له باسهاب عن الاوضاع في سهل نينوى وفي الختام تمنى المونسنيور لسعادة السفير طيب الاقامة والموفقية في مهمته في العراق


160
بمناسبة عيد الميلاد المجيد
                                                               
سادتي، شكراً ..أحبّوا شعبَكم.. نعم أَحبّوه!!
المونسنيور د. بيوس قاشا

   في البدء
بمناسبة حلول طفل السماء بيننا، يسرّني أن أرفع إلى مقامكم السامي أجمل التهاني وأقدسها في روحانيتها، طالباً لكم عمراً مديداً بنعمة ربّ السماء والأرض، ذاك الذي أشرق علينا من علوّ السماء ليزورنا نحن الجالسين في ظلال الموت وتعب الحياة. ويسرني أن أكتب إليكم أسطراً ملؤها الحقيقة والشهادة بنعمة السماء وحقيقة الحياة شاكراً تفانيكم وعطائكم من أجل شعبكم، مقدِّماً لكم الاحترام الكبير لمقامكم السامي وهذه إحدى خصالي، فأنتم إخوتي وما أنا بينكم إلا مثل الذي يخدم (لوقا 27:22). كما يسرني أن أهنئكم وأبناء وطني بتحرير أراضينا من داعش الإرهاب، ولتكن يمين الرب بركة على شعبنا ووطننا، وليحلّ السلام بعودة أهلنا إلى ديارهم شاكراً رب السماء على منحه وخيراته، طالباً إليه أن يساعدنا في احتمال آلامنا وهموم حياتنا، واسمحوا لي أن أقول؛    

   خوف ورعب
نقول الحقيقة وإنْ كانت مؤلمة، فاليوم نحن أمام أخطار تداهمنا من الخارج كما من الداخل، من القريبين ومن البعيدين، ولا يزال مخطط طردنا وإفراغ البلد منا يسير بأدب وتوازن وبحسب المرسوم والمطلوب، نعم إنه المخطط، إذ لا زال الخوف والرعب مسلَّطين على مسيرة حياتنا كما هو السيف على رقابنا شئنا أم أبينا، وإنْ كانت تُخمد حقيقته بين فترة وأخرى ولكن لا زلنا وسنبقى كفّاراً وأهل ذمّة شئنا أم أبينا. كما إننا نعيش أياماً قاسية وأوقات عصيبة فرضتها علينا تحديات لم تكن مسبوقة من داعش الإرهابي ومن ضياع القانون وفساد الأشخاص بألوانهم وأطيافهم وما ذلك إلا مذلّة زمان عبر زمان، ولا زالت الأغلبية والطائفية والعشائرية كما القومية تزرع بذور التعصب والمصلحة للنيل من وجودنا وحقيقة وطنيتنا "كي نُحسَب مثل غنم للذبح" (رو36:8). ومن المؤسف أن أقول، إنه زمن سيء للغاية حيث بدأنا نضيّع طريق مسيرتنا، فالضمائر قد بيعت من كبار الزمن كما من صغار الدنيا، والكراهية كما الأنانية قد أثمرتا مصلحة وطائفية، وجعلتا من هذه الضمائر آلهة مدنَّسة تجالس الكبار من أجل المناصب والكراسي، وأصبحت الضمائر البريئة مجرمة ومحكوماً عليها بالإعدام أو بالطرد أو قضاء حياتهم في السجون، بينما الضمائر الفاسدة تُنشد الحقيقة المزيفة فنسيت أن الحقيقة لا تُشترى ولا تُباع وإنما هي موهبة من رب السماء.

  مرارة العيش
نعم، ربما يقول الكثيرون إنني متشاءم ولا أملك ذرة من التفاؤل، وكل واحد حُرّ فيما يقول أو يأكل أو يشرب أو يلبس، تلك حرية الإنسان، وعليّ احترامها، ولكن أقولها ليس لكي أوصَف بالمتشائم بل لكي أقول الحقيقة مجرَّدة كما حصلت وكما حلّت فينا. فما حلَّ بنا وبعراقنا وبشعبنا مؤلم للغاية، فالبؤس قد ملك على العديد من عوائلنا فأصبح الكثيرون يستعطون في الطرق والأزقة وساحات المدينة، وشوارع الحارة، في المناسبات كما في الأعياد، صباحاً وظهراً وعصراً ومساءً وحتى ليلاً من أجل جمع ثمن القوت الذي يقيته ويقيت عائلته، إنها مرارة العيش بعدد من الآهات والحسرات، ولا نعلم كيف ستكون خاتمتنا، وحتى ما ننتظر بعدَ أن أدركنا البؤسُ والفقرُ والموتُ ونحن أحياء!!!.

   كرامة شعبكم
أحبائي؛ أرجو أن تدركوا أن مصيركم واحد، فهيئوا قلوبكم ليس بروح التعصب والأنانية المصلحية، ولا تعملوا على ربح مساحات في الاختلاف والخلاف، في العزلة والقومية البائسة، من أجل  قطعة في قرى وأرض وسهل، وكل واحد منكم ما يطيب له، فيكون الجسد فريسة لكم قبل أن تكونوا حرّاساً له ولأصحابه ولشعبكم، فأنتم أؤتمنتم على بقاء شعبنا وليس على تقسيمه غنيمة بينكم وبين أحزابكم وقومياتكم وطائفياتكم وحتى عشائركم والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ولا أعلم إنْ كنا قد تعلّمنا الدرس المفيد أم لا. ففي فرقتكم هذه ذقنا المرارة، وجاءنا الدمار ليقودنا إلى الموت أو الضياع أو إلى الرحيل لأن انقساماتكم أكبر وأعمق من حبكم لشعبكم والتضحية من أجله، وأسأل مَن منكم ينام جائعاً أو أي واحد منكم يسأل عن حاجة البؤساء الذين جعلتموهم تجارة لمآربكم تربحونها ربما بفضّتكم أو بقليل منها وبذلك تضيع كرامة شعبكم، كي يبقوا دوماً مستعطين، فكرامة الحياة أثمن من بياناتكم ومؤتمراتكم إذا كنتم لا تُنصفون محبتكم وكرامة شعبكم.

   صوت الحقيقة
نعم، يقول مار بولس في رسالته "كل سلطة هي من الله" (روم1:13-7) لأن ليس سلطة إلا من الله فليست للتسلط بل للخدمة على مثال ربنا يسوع (يو1:13-16)، لذلك أدعوكم إلى إفراغ عقيدتكم الطائفية والعشائرية والقومية  من محتوياتها ومن تعصبها، وتُميتوا أنانية أحزابكم، فخراف شعبكم قد إلتهمتها الذئاب لأنها رأتكم نائمين ومأجورين ولا يهمكم أمر الخراف (يو1:10) فهي لا تتبعكم لأنها لا تعرف صوتكم (يو4:10) بل تسمع أصواتاً. فآذان الخِراف لا يمكن أن تسمع أكثر من صوت واحد، فكيف وأنتم تعلنون أصواتاً عشرة أو أكثر، وكيف ستستطيع الخراف أن تفهم وتدرك أين هو صوت الحقيقة من هذه الأصوات، لذلك أقول، مسؤوليتكم هي أمام الله مسؤولية واحدة وليس مسؤولية أحزابٍ عديدة وحركات مختلفة وهيئات متشعبة، واعلموا أيضاً أن قضيتكم واحدة ما هي إلا وجود شعبكم وحقيقة قراكم ومدنكم بل أكثر من ذلك وطنكم... إنها رسالتكم السامية، فاحملوها في قلوبكم قبل أن تكون على أفواهكم، فإنني من أجلكم أحمل هموم الحياة والضياع ومسيرة مؤلمة لمستقبل مجهول، وكم أتمنى أن أتفاءل ولكن روح التشاؤم يرفرف فوق مسيرتي وما ذلك إلا شهادة لحقيقة نعيشها معكم إنْ كنتم لا تُخلصون لشعبكم وتنقذونه ليس بكلمة أفواهكم ولا بسبب مصالحكم أو بيد منفردة وحيدة بل بشجاعتكم وإيمانكم بمسيحكم الحي وبكلمتكم الواحدة من أجل هدف واحد، فمستقبل شعبكم كما مستقبلكم رهنٌ بوحدتكم وبقراركم الواحد الموحَّد، وفي تراصّ صفوفكم، فلا تجعلوا أنفسكم تجارة أو سلعة يبيعونكم فيها المصلحيون كعملاء ويشترون ضمائركم ويقتلون كلمتكم وينزعون وجوهكم ويجنون ثمار إيمانكم وربما السبب سببكم. واعلموا جيداً أن السبيل إلى وحدة الكلمة هو تضامنكم قلبياً وليس صورياً كي تعودوا لتحمّل مسؤولياتكم في إعادة البناء والعمران، وما ذلك إلا مهمتكم التاريخية في إثبات شعبكم بركائزه الوطنية والمسيحية قبل العشائرية والطائفية والقومية ليس إلا!.
 
   مرة اخرى
   قبل أيام خاطبكم داعش الإرهابي مرة أخرى بقوله البائس "تهديد جديد من داعش للمسيحيين، يتوعد فيه بتحويل احتفالات العيد إلى بكاء وعويل"، أيجوز أن نبقى ضحية للقاصي والداني، للإرهاب والإجرام، للقتل والتكفير، للذمة ودفع الجزية، لحرف النون والنصراني... إنها ثقافة الموت كما هي ثقافة العبودية. فهل لا يدعوكم إيمانكم عبر كلام المسيح الحي أن تحملوا رسالة كنيستكم المقدسة وتصدّوا هكذا تصريحات بائسة وتقفوا موقف التضامن في شجاعة الإيمان من الأصول الداعشية والأفكار الإرهابية والتفسيرات المتطرفة والخطب القاتلة والمميتة فما ذلك إلا من الشيطان، بل من الشيطان الأسود ــ وما أكثر الشياطين هذا الزمان ــ فهو يريد حرق مخطوطات ماضيكم وأوراق حاضركم وأصالة عقيدتكم. فنحن، أقولها، أمام حروب دينية وعقائدية، وكل يدافع عن إلهه بحلال الذي يشاؤه، لأنهم أرادونا أن نكون بائسين ويائسين وخائفين، بل هكذا وجدوا أنفسهم ووجدونا حملاناً تحت الطلب ومتى يشاؤون، ومن المؤسف من الهاربين. لذا أرجو أن تعلموا أنّ كنائسكم ومعابدكم وتربتكم تناديكم، فاصغوا إلى آهات مؤمنيكم وحسرات أمهاتنا وأمهاتكم وبكاء أطفالكم وأطفالنا، وكونوا أنتم قادة صالحين ورعاة متفانين، يعلنون المسيح وإنجيله، وقِفُوا في وجه الفاسدين وإنْ كانوا من أقربائكم أو من أحبّتكم أو سبباً لمصالحكم، وأقولها إعلموا أن وجودكم على المحكّ إذا ما  خنتم الأمانة التي أُعطيت لكم من ربكم كما من شعبكم ليس إلا!!!.

  تجارب وقنابل
أمام ما يحصل أقف اليوم متعجباً وأتمعّن جيداً بما يدور في محيط وطني من ربح كبار زمننا وهم يتصارعون بينهم وأبناء شعبي ضحية لهم. وأقول مَن سيقودنا إلى الخلاص وإلى إدراك الحقيقة؟، فالعذاب قد ملك على مسيرة أيامنا ولم نربح شيئاً من حروب دارت في ديارنا، فمَن سيعيننا في حمل صليبنا، هل نرسل في طلب سمعان قيرواني آخر؟، والموت قد ملك على نفوسنا كما المرض الخبيث حصد نصف رجالنا ونسائنا بسبب هزيمتنا، كما لا زلنا نعاني من الحروب التي شُنّت علينا، فأصبحنا تجارب لقنابلهم وساحة لمعاركهم، وما ذلك إلا شهادة أمينة لحقيقتنا. لذا فالزمن يدعونا أن لا نلهوا بضياع وقتنا وانشغالنا بأمور كبريائنا وحماية فاسدينا وشهداء زور يشهدون على خيانتهم لوصية الرب التي أوصانا بها قبل أن يحملها إلينا موسى نبي العبرانيين (خر21:19)... فهل شهادتنا هي أصالة إيماننا؟.

   الخاتمة
نعم، أقول خاتماً، كونوا مخلصين بضمائركم، وحكماء في تسيير أموركم، وأوفياء في عيش وحدتكم. وقولوا كلمتكم الواحدة والموحَّدة، فالتاريخ لا يرحم الذين يعبدون بشراً أو يبيعون ويشترون مصلحة لأن الغاية هي أن نكون لساكن السماء وليس لعبيد الدنيا والجاه. فأمانتكم لشعبكم هي إخلاصكم لمسيرتكم الإيمانية والمسيحية، فربّ السماء كان وفياً وأميناً لنا إذ أرسل ابنه من أجلنا ليخلّصنا... إنها حقيقة الحياة... إنه الكلمة التي تجسدت بيننا ليعلّمنا أنْ "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8). فليحفظكم الرب القدير، متمنياً لكم سنة مباركة وكل عام وأنتم بخير وشعبنا قد عاد إلى أرضه من أجل وطنه وإيمانه ودمتم... نعم وآمين.


161
المنبر الحر / وجودنا صليب دائم
« في: 08:09 21/11/2017  »

وجودنا صليب دائم


في البدء
صحيح إن عالمَ اليوم عالمٌ مريضٌ في روحه وجسده وحواسه ، وإن كل ما في العالم يخيف ويزرع الهمّ، ويغدو الإنسانُ أكثرَ شراسةٍ في كراهيته لأخيه الإنسان إذ لا يرى فيه إلا عدواً ومنافساً.هذا ما نراه، وما نسمعه، وما نشاهده عبر التلفاز والمذياع وحديث الإعلام بجميع جوانبه وعديد منابعه وهذه كلها تؤرّق وجودنا ومسيرة أيامنا،اقولها شهادة للحقيقة نحن اليوم أمام مفترق طرق بل أمام ضياع مقياس زمننا وإشارات مسيرة حياتنا،نعم ،انها  أزمنة بائسة وأيام سود ونهارات متعبة وليالي مخيفة وسط المصالح المتبادَلَة والضمائر المشتراة، وفي زمن يُقدَّس فيه الفاسدون ويُبجَّل فيه شهود زور ومنافقون.

ايام قاسية
هل تعلمون إننا في وطن لا نعرف اين محلّنا وأين مكاننا بل نفتش عن ديارنا ونخاف أن نسكن فيها لأن الزمن غدّارٌ والأيام قاسية،وما نحن الا مرادهم وارادتهم  والأغلبية مسلمة بشيعتها وسُنّتها، والثانية كردية بسنّتها وفيليّتها، والتركمانية بعدها تتقدم  ومعهم الشبك والكاكائيين، ثم نحن يُقرأ إسمُنا وإسم وطنِنا، وما غايتهم إلا تقسيمات طائفية مهينة لمكونات الوطن المختلفين وخاصة الأصلاء منهم، ومن المؤسف إنهم يريدون أن يكتبوا تاريخاً جديدا كما فعل السابقون لمصالحهم وطائفيتهم ... ما هذا المسلك المشين؟، وما هذه الطرق البائسة؟، وما هذا القانون ؟، وما هذه الإرادة السيئة والمشبوهة؟.

عرش الامراء
ما أكثرهم في الدنيا شهود زور وكذّابون من أجل حقائق مزيفة ومنصباً مسروقاً ودولاراً مباعاً لأنانية دنيوية في تشويه حقيقة الإنسان بحماية كبار الدنيا وهمّة أوليائها الفاسدين والطائفيين والإعلاميين المدجَّجين بسلاح الدمار، والذين يجعلون أنفسهم علماء ومفسّرين وإداريين وقادة في زوايا حقيقة الحياة ليسكنوا في عرش الأمراء وينسون أنهم في ذلك ما هم إلا منتسبو الزوايا المظلمة الذين إذا كُشِف أمرهم أصبحوا علكة لسان من القاصي والداني، إذ "ليس خفيٌّ إلا سيظهر ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (لو17:8).

حقيقة ارضنا
نعم ، مرة يقولون لنا أنتم أصلاء ويبعدوننا عن حقيقة أرضنا ويوقّعوا لنا جوازات رحيلنا، أو يقبلوننا نازحين ومهجَّرين، أو ينعتوننا بأقليات بائسة، وفي ذلك لا سلاح لنا إلا الطاعة والخضوع والقبول بما حصل وما حلّ وبما يحدث لنا شئنا أم أبينا، فالتاريخ شاهد لمسيرة آبائنا وأجدادنا كيف كانوا أمراء الزمن عليهم في دنياهم وفي سهولنا وودياننا وأراضينا، وكم كانت الحياة بهية بشروقها على حضارتنا وثقافتنا، أما اليوم فنحن نباع ونُشترى بثلاثين من الفضة كما حصل للمسيح الحي، بل بأبخس الأثمان ليس إلا!!!.

فقراء الزمن
هل تعلمون يا أبناء شعبنا إن اختلافنا في المواقف المسيحية يعود إلى إننا قد بعنا أنفسنا واشترينا دولاراً مسروقاً من كبار فاسدين، وضيّعنا سياستنا، وفشلنا في إظهار مطالبنا، وتعرضنا إلى ضغوط كبيرة كي نبيع أرضنا لأطرافٍ قد ملكت إرادتنا وملأت بطوننا خبز الدنيا الجائع، وأصبحنا نخاف من ظلنا ومن سبب وجودنا ونحيا بلا حماية وحراسة حتى أراضينا التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا المخلصين المؤمنين الذين عملوا في كل مجال لينقلوا إلينا ملكيتها ونحن اليوم لا ندرك ذلك جيداً لأننا بعيدون عن الصلاة ومناجاة ربنا، وثانياً عن روح إنسانيتنا وعمق إخوّتنا، ولم نعد ندرك ماذا يعني الغفران والمسامحة "أترك كل شيء على المذبح..." (متى23:5-24) وذلك ليس سببه فقراء الزمن وبؤساء الحياة وعميان المسيرة بل كبار القانون والسلطان والكراسي كما المناصب والتي سُرقت وبيعت والمصالح شاهدة ، والرب يقول:"مَن كان فيكم كبيراً..." (متى26:20)، ومن المؤسف اننا أهملنا أنجيلنا ودستورنا المسيحي وجعلناه كتاباً لا يقرأه ولا يتعلم منه إلا صاعدو سفينة نوح ليس إلا!!!.

ذئاب مفترسة
ماذا لو عرف كبار الزمن حقيقتهم ووقفوا معلنين توبتهم ، قبل شعوبهم ،  وما هم إلا عبيد لمصالحهم، فيتنازلوا عما اشتروه بدولار أخضر، بمعانقةاستعراضية ، وبكلمة منمّقة ؟ولكن اقولها متى ندرك ذلك؟، ولكن مهما بقينا على ما نحن فيه لا يمكن أن نصعد مركب نوح أبداً أبداً. ومن المؤسف فيما يغلق كبار الزمان والمعابد آذانهم كي لا يسمعوا إلا كلماتهم وتبرئتهم من دنسهم وخطيئتهم، إنهم صغار الذئاب. لذلك أوصيكم يا أحبائي أن تعيشوا حقيقة مسيحيتكم في لقاء الألم، وقولوا الحقيقة في وجه كبار الدنيا والزمن وإنْ كلّفكم ذلك حياتكم،فالمسيح الحي ربنا يقول " قولوا الحق والحق يحرركم " (    ) وغاندي يقول " اقول الحق في وجه الأقوياء "  فثعالب التزييف وشهود الزور وحيتان الفساد وبائعو الإرهاب وحاملو الحقد وتجّار الكراهية لا زالوا يراقبونكم لكي يُميتوا إرادتكم وشجاعتكم وهم يعبثون في الأرض فساداً. فقد وصفهم ربنا بقوله:"امضوا وقولوا لهذا الثعلب" (لو32:3)، وما أكثرهم اليوم ونحن في زمن دواعش الكذب والنفاق والمراءات والمصالح. نعم، قولوا الحقيقة فلا يمكن أن تموت يوماً بل عودوا إلى دياركم فهي ملك لكم  وعمّروها ولا تخافوا من مسيرة الأبالسة الأشرار، فلا يمكن أن يموت الخير إذا ما كنتم أقوياء بالمسيح الحي....

ابناء شعبنا
مرة أخرى أقولها وبألم كبير وبآهات ساخنة وتمنيات غير مستجابة: وجدتُهم أصلاء ولكن مختلفين، والخلاف يسود انظاره كل طرف بعيداً عن الآخر، ينشدون الغرباء ولا يمدّون أياديهم لأبناء جلدتهم من عظمهم ولحمهم حسب قول آدم:"هذا عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك23:2). وانتهى الاحتفال وكل طرف ينظر إلى الآخر باشمئزاز وبزاوية من عينيه مظهراً أنه لا يرى أحداً فيزيّف حقيقته رافعاً شعاراً "أبناء شعبنا"، ويا للأسف!. إن الواجب يدعونا في هذا الزمن أن نطرق أبواب أبنائنا لنظهر لهم إننا خدّامهم لأننا أوائلهم. علينا توحيد كلمتنا من أجل مسيرتنا الحياتية وليس تفريق مكوناتنا فنكون أحزاباً وحركات وممثلين، ناسين أن في ذلك لا نكون إلا صيداً سهلاً ومكوَّناً مهمَّشاً، وسيبقى صراخنا لا يسمعه إلا القادر على كل شيء  ، اما الراؤون الفاسدون، يعملون كل شيء كي نبقى بلا حقيقة من أجل حقوقنا، بل نحن كنا ولا زلنا وسنبقى كما نحن كنا ولا زلنا وسنبقى وما تلك إلا حالة الأعراب ، وأدركنا جيداً في ذلك إننا لا نعرف معنى المحبة (يو34:13) ولا نميزها عن معنى النفاق وتوابعه  (    ) ولا معنى الخدمة والتواضع، فتضيع الإرادة وتُدفن الحقوق ونموت نحن ويموت الوطن برحيلنا إلى الآخرة أو إلى المحيطات والبحار حيث الدنيا والضياع ليس إلا!.

اهلها ولها
لقد تعلّمنا فن الرحيل وعبور المحيطات بتأشيرة مزوَّرة، وبالوقوف أمام أبواب الإقامة لتكون يوماً من حصتنا لكوننا أضعنا بوصلة الإله والحياة والتراب، وغيّرنا اتجاهنا حسب إرادتنا وغايتنا وإنْ كانتا مزيَّفَتين ولكن لأن الحقيقة هكذا يجب أن تكون لأننا نحن نشاء، فنحن لسنا إلا إله الدنيا والمصالح والغايات، وكما يقول ربنا " ألم يقل الكتاب أنكم الهة " (     ) .  أن نكون في هكذا مسيرة ونحن ندّعي إننا أهلها وآلها، وإن الأرض أرضنا والهواء هواءنا، ولا ينقصنا شيء إلا مدحاً وتبجيلاً لمكانة مركزنا ولضخامة منصبنا ولعظمة وجودنا، بل أكثر من ذلك ما نحتاجه خنوعاً وركوعاً سجَّداً لننال بركتهم وحصتنا من الميراث الدنيوي الزائل... إنها كبرياء بأَمّ عينها، وأنانية بحقيقتها، ومصلحية بمركزها،وعشائرية بفحواها  ويبقى المسكين لعازر منطرحاً على تحت المائدة  (لو21:16) ينتظر الفُتات وإنْ كان يستحق أن يكون على المائدة، ولكن المصالح أروته كذلك ، والمراد هو السامي المتعالي شئنا أم أبينا... يا بئس هذا الزمان!!!.
احبائي : لا يجوز أن نبيع ضمائرنا الحية إلى إبليس الكراهية والأنانية وإلى ذوي المصلحة ومن أجلها، والذين يجعلون من البشر آلهة وينسون أن الله هو إله الحق والخير وإله السماء، وإنه خلقَ بشراً كفوئين، متواضعين، أذكياء من مواهب الروح، وليس أشرار يجالسون الكبار من أجل الدنيا ورؤسائها وزمانهم ومناصبه وكراسيه.

الارشاد الرسولي
انه الإرشاد الرسولي لكنائسنا الشرقية والمشرقية، ثمرة إجتماعات ودراسات وأخذ وعطاء بين الفاتيكان وكنائس الشرق من أجل المسار والمصائر، فقد ضاع صوته وسط طبول الحرب التي عادت إلى الشرق الأوسط لتُقرَع وسط أصوات الترنيم والصلاة للبابا فرنسيس من أجل إسكات تلك الطبول. فالشرق الذي هو جوهر الإرشاد لم يمنح سكانه هدوءاً وسكينةً لكي يفكر بطرق النزول بالإرشاد إلى الشارع وإلى حيّز التطبيق إلى جانب الحثّ على قراءته، فضاع صوت الإرشاد وسط ضجيج أصوات اللاجئين والمهجَّرين وأنين الطائرات التي نقلت عشرات الألوف من أبناء الشرق ومن بينهم ألوف مؤلَّفة من المسيحيين الذين يحثّهم على "البقاء" في الشرق وعلى الاستمرار بإغنائه بالفكر والعلم والتواضع. فوسط هذا الضجيج المكثَّف ماذا ترانا نعمل بالإرشاد. فبواسطته يجب الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية، ولكن لا زال اسم الله يُستَخدم لتبرير المصالح والسياسات، وتبرير لجوئنا إلى العنف، إن ذلك لفي غاية الخطورة. ولكن مهما كان سيبقى الإرشاد علامةَ انتصارٍ ورجاءٍ وأملٍ في حياة المسيحيين تماماً كما شاهد قسطنطين رؤية الصليب وسمع صوتاً يقول له "بهذه العلامة ستنتصر".

الخاتمة
أخيراً ، لنعلم إن مستقبلنا لن يتحقق في ظل انقساماتنا وما أكبرها، وما أكثر أطرافها، وما أعمق طائفيتها وقوميتها، ومن حق شعبنا أن يفتش عن مهرب أو ملجأ وسط تنامي الأحقاد والحركات المتطرفة وما أقساها إذا كانت منا وفينا.ولنعلم إن آلام القديسين وآلام شعبنا  هي ذات قيمة خلاصية إذا أُشركت بآلام الجلجلة وكوبدت باستسلام إلى مشيئة الله، بل بفرح، لأن الله تنازل وقبل إشراكنا في تدبيره الخلاصي الذي هو فرح الإرادة البشرية ولذّتها.فالله جعل الإنسان سيداً على الخليقة ليجمّلها بالفضائل لا ليشوّهها بالنقائص.نعم وجودنا صليب دائم وحمله لا يكون بالهزيمة والرحيل بل نزرعه بالرجاء والثبات ، ولا يمكن للرجاء إلا أن يكون في عمق الواقع هدفاً واحداً هو الوصول إلى الحقيقة والشهادة لها ومهما قالوا عنا وارادونا كفارا واهل ذمة فما نحن إلا اصلاء ، فليدركوا أنّ صليبنا ما هو إلا رسالتنا ولا يمكن أن ننكر حبنا للذي حمل الصليب من أجلنا فمنه تعلمنا أنّ وجودنا وحقيقتنا ما هي إلا صليب دائم وسنشهد لهذه الحقيقة ما دمنا في مسيرة الحياة ،وسنبقى اوفياء وأمناء لهذا الحب مهما شوِهَت الحقيقة وبيعت الدنيا والكراسي وليفهموا هولاء  اننا ابناء الحقيقة والشهادة  في رسالة المسيح الحي ومن له اذنان سامعتان فليفهم " (    ) ،  نعم وامين  .


162
وين الحل؟ ... وين مستقبلنا؟

المونسنيور د. بيوس قاشا
    في البدء
إننا ـــ والحقيقة شاهدة ـــ نعيش في زمن من أحرج أزمنة تاريخ كنائسنا ومسيرة إيماننا كما هي مجتمعاتنا، والأزمة ضاربة أطنابها في سائـر الميادين الإيمانية والإجتماعية والحياتية، والكل  يسأل عن سبب هذه الأزمات والظلمات، "والكثيرون بل كلّهم ينتظرون أجوبة لأسئلتهم ويحلمون بمستقبل واعد". كما يسأل المؤمن هل لا يزال المسيح الحي في نظرنا نحن المسيحيين نور العالم
(يو12:8)؟، والحقيقة فلا من جواب إلا بيانات واستنكارات وشجبٍ، واليوم بعد أن أخذ وجود المسيحيين في الشرق الأوسط يتضاءل باستمرار "فهناك خطر حقيقي من أن يضمحلّ تماماً. إنهم يتعرضون إلى عملية محو تقريباً" حسب قول الكاردينال بيترو بارولين في مؤتمر نظّمته جمعية الكنيسة المتألمة في شهر أيلول الماضي (2017). كما إنّ الهجرة نزيف خطير يجب إيقافه، والوقت يمرّ بسرعة، والتغييرات في البلاد عديدة، وهذا يستدعي إصدار حزمة من القوانين الضامنة لحقوق المكوِّن المسيحي وصيانة حقوقه والمشاركة الفعّالة في القرارات التي تخصّ شؤونه.
     أشنعمل
وين الحل، وين مستقبلنا؟... ما أدراك ما هذه العبارات وأخرى مثلها في هذا الصدد وكلها ناتجة عن آلام نفسية مصاب بها شعبنا بأكمله والمسيحيون والمكوِّنات بأسرها، هم ونحن لا ندرك جيداً ما الذي يحصل وما هو المخطط الناتج عن مسيرة الحروب والاحتلال والدواعش وغيرها وأين تكمن المصالح الدولية في الكبرى منها، كما هي عبارات يطلقها شعبنا المسيحي ليفتش عن ملاذٍ آمن، فهو لا يفكر في الرحيل والهجرة لو كان هناك مَن يُؤَمِّن له طيبةَ مسيرةِ الأيام وحلاوتَها، وحريةَ الإيمان وعباداتِه، وعيشَ الحقيقة في حريتها، ولأنه لا يجد مَن يثبّت أقدامه في حقيقة الوطن فأين يرحل! وأين الحل؟ أين المستقبل؟ شوقت يرتاح البلد؟ أشنعمل! وين الحل؟ وين مستقبلنا؟ "نهاجر وإلاّ لأ"! "إنْ هاجرنا ضعنا وإذا بقينا قُتلنا بل كُتِبَ علينا الموت أو الخنوع!"، متى نرى أرباب الكراسي يملأون قلوبهم خدمةَ شعوبهم بدلاً من ملء جيوبهم وزيادة حساباتهم، وتدقيق وارداتهم، وإصدار أوامر قضائية وتحقيقات شيطانية؟، راح نبقى نعيش هالحياة! كل يوم حرب! كل يوم حصار! اليوم انخطف فلان! اليوم صار تفجير مفخخة! اليوم الطرق مغلقة! وكل يوم يمرّ بأعجوبة الباري وليس بحكمة العبد المخلوق وذكائه الخارق، بل هي يد الله القوية التي تحمينا وتجعلنا نواصل مسيرة الأيام بلياليها ونهاراتها. هذه كلها كانت لنا مانشيتاً مخيفاً ومحرّماً وساخناً وعنيفاً، يُقرأ في راحتنا كما في نومنا، وأخذنا نخاف حتى من ألوانه ومن ظلّه، فقد أصبحنا عبيداً لمدراء فاسدين بحماية كبار الزمن ورجاله، والشعب البائس يفتش عن مَن ينشده نحو المراعي الخصبة ليكون في نعمة الحياة وليس نقمة الفساد، أو في الذين سرقوا أموال المهجرين بحجّة إنهم قائمون على رعايتهم، كما اشتروا البراءة مِمَّن سرقوهم بين أوراق الزمن فيكونوا أبرياء بل أولياء الله أمام عيون البشر.
    ليلة سوداء
نعم، إننا أمام أوضاع عاصفة ومؤشرات سياسية مخيفة مليئة بالأزمات والتباينات، فهي تورق وجودنا وتشوّه حقيقة مسيرتنا، وربما هناك نداء قد نبت في داخلنا يجعلنا أن نخاف، بل مَلَكَ الخوف علينا بسبب ما يحصل من زمن بعيد وبالخصوص من زمن احتلال داعش الإرهابي لقرانا ومدننا والذي لم تشهد أجيالنا ولا نحن مثله قط. ففي تلك الليلة السوداء كانت الهزيمة المُرّة (6/8/2017)، بل الجريمة التي إرتُكبت ضدنا فكان أن إستولى الإرهاب على ممتلكاتنا، وطُردنا من ديارنا عنوةً وبكل قساوة مريرة، وأعلَمَنا التاريخ بعد ذلك أن ما حصل من ترتيب شرير من أجل مصالح دنيوية زائلة، فكنا نحن الضحية شئنا أم أبينا، فما كان علينا إلا الطاعة... وأية طاعة!؟.

     جمال وقتال
نعم، إن وطننا اليوم ممزَّق إلى طوائف وأقليات وقوميات ومذاهب وأحزاب ومكونات لا تُعَدّ ولا تُحصى، ففي وحدتها جلالٌ وجمال، وفي فرقتها دمارٌ وقتال، وهذا ما يرسم فينا آثاراً يزيّفها التاريخ، ممّا حدا بالكثيرين أن يقولوا "وين نروح"،... هذه الأقاويل جعلت من تعايشنا مع الآخر المختلف والمشارك في هزيمتنا تعايشاً مُرّاً وقاسياً إضافة إلى الزمان الذي أخذ يخذلنا وكأننا عبيد لا حول لنا ولا قوة، فعاصفته جعلتنا في مهبّ الرحيل، وسُمّيت بإسمنا عناوين مختلفة في الكراهية والمذهبية والعرقية وحتى القومية بدلاً من أن نكون أصلاء بمسيحيتنا كما كان أجدادنا بمسيحيتهم، ويبقى السؤال: ما العمل أمام هذه السنين العِجاف؟، مَن ينقذني من يد الموت هذا؟ كما ردّدها قبلنا بولس الرسول (رومية7:24). وإذا كانت  ظروف عديدة عصفت بمنطقتنا وهجّرتنا من ديارنا فلا أظن هناك إمكانية لإيقاف هذا النزيف خاصة بعد أن تأصّلت في الأنفس تدمير الثقة في الأرض التي وَلَدَتْه، وبالناس المرائين الذين يعتبرون أنفسهم مخلصين وقديسين وهم في الحقيقة سرّاق ولصوص. فالشرخ كبير بين المسيحيين والمكوِّنات الأخرى المختلفة، ولا أمل بعودة هذه الثقة، واتجاهها ما هو إلا خيبة أمل لأنها لا تنسجم مع المبادئ الإنسانية كما مع المبادئ الاحترامية.
     داعش وبعده
كنّا نتساءل قبل تحرير أراضينا وقرانا ومدننا إذا ما إنتهى داعش الإرهابي فماذا بعده؟، وما هو مصيرنا؟، وكان هذا السؤال لغزاً مخيفاً لنا ولغيرنا وخاصة بعدما أدركنا إننا ندخل قتالاً لنُزَجّ في حربٍ مميتة، وندخل حصاراً كي نحارب ثالثة، وهلمّ جراً. حيث كنا نرى أنفسَنا أننا وسط هذا القتال ونحن لا نحمل سيفاً ولا بندقية، وهنا كانت مصيبة المصائب وحقيقة النوائب، وجُعِلنا ولا زلنا نرى إننا سنختفي من الوجود بعدما خسرنا مناطقنا وكنائسنا وممتلكاتنا، وأخذوا يقتسمون على ثوبنا (متى35:27) ووجودنا كما شاءوا وطاب لهم ولأحزابهم ولمقدّراتهم الإستهلاكية مستهدفين بذلك دون أن ندري مسيرة أجيالنا وأصالتنا، وعاملين على تهجيرنا أو صَمّ أفواهنا... وإلا فما الرحيل إلا حلاً!!!. فالبُنى التحتية قد دُمّرت بطريقة شبه كاملة، وبالتالي فالعودة صعبة، والهاجس على المستقبل لا يزال يتربّع على مسيرة أيامنا وجرّنا إلى صراع لا علاقة لنا به ولا يجوز ذلك لأنهم عملاء لغيرهم ونحن خاضعون لهم شئنا أم أبينا، هذه كلها كانت سبباً في صراعاتنا، فالشمال تمدّد، وعمليات الديموغرافية وقطع الأراضي على قدمٍ وساق في إحتلالنا وفي تسجيلنا تبعية شئنا أم أبينا. فهل هناك مخطط لتهجيرنا وبيعنا وشرائنا!!؟، لأن كل شيء مباح،  فالمصالح قد التقت، وراحت الدول تفتح أبوابها بتأشيرات الرحيل، وهناك مَن يعمل تحت عباءة جهات سياسية لإفراغ العراق من المسيحيين وإضعافهم حتى داخل الوطن.
     مصير مجهول
صحيح إن مناطقنا تحررت بيد جيشنا والمقاتلين النشامى، ولكن دماراً كبيراً لحق بها، وبالتالي فالعودة إليها صعبة وقاسية، فهاجس المستقبل بدأ ينمو من حينها، وبعد ثلاث سنين أثمر هجرةً وخوفاً وآلاماً نفسية. فكم وكم سرقه المنون بسبب مرض عضال وأخرى، وآخرون رسموا لنا خارطة نزاعهم على صدرورنا ونحن لا ناقة لنا في أمرهم ولا جمل، بدلاً من أن يقَدَّم الدعم لمناطقنا كي تكون جزءاً أمينا لوطننا وليس مناطق نزاع يتصارعون على إصطيادها. فبعد أن كنا أحراراً في مدننا جعلونا عبيداً لقراراتهم، كما تمّ قضم أراضينا دون علمنا ولا موافقتنا، وأصبحنا في مصيرٍ مجهول لأننا كنا ولا زلنا الحلقة الأضعف في الوجود. فكبارنا في هذا الزمن لا زالوا متفرقين بعد أن عانينا منهم الكثير بسبب دوافعهم المصلحية وطرق وصولهم، فلا نعلم اليوم برحمة مَن نكون: برحمة المجاهدين المكفّرين أم برحمة ملوكنا المتخاصمين أم برحمة حدودنا التي فيها نحن متنازعين؟، هل نحن تحت رأفة الخالق العظيم أم إرادة كبارنا الحاضرين والمنقسمين؟، ألا نعلم أن التاريخ سيحاكمنا كما سيحاكم كبارنا، وإنه لا يمكنهم تزييف ما كتبوه وإنْ كانوا يختارون فرصاً ليزيّفوه؟، ولنعلم إننا ما نحن إلا أقلية مَحْمِيّة وعلينا إدراك ذلك كي لا نتعرض لعملية محو تقريباً ليس إلا!!!.

     عقل حكيم
لنقرأ واقع وطننا جيداً وكذلك واقع مسيرتنا كي نستطيع أن نرسم لنا الطريق الصحيحة بِحَنَكة سياسية وعقل حكيم إنطلاقاً من مصلحة مؤمني كنائسنا وليس من مصلحة أحزابنا وحركاتنا وقومياتنا الشخصية أو الفئوية، وكفانا دغدغة المشاعر كما يفعل الكثيرون منهم كي يرضوا نزواتهم من أجل مكاسب مسروقة ومزيَّفة تكون لصالحهم. فَعِلَّتنا هي في ثقافة الفساد الطاغية في شراء الذمم. فنحن لا ندرس التاريخ، فهل تعلمون أنه تم إذلالنا بإبادة تاريخنا ونخاف أن نقول الحقيقة خوفاً على مصالحنا التي أصبحنا لها عبيداً بعد أن أفرغنا حقدنا وكراهيتنا وغضبنا وبغضنا على بعضنا البعض لأننا لا نُدرك إننا رعاة ورعاة لشعب الله وليس أسياد ورجال مناصب وكراسي وكبار الإدارات، فالبابا فرنسيس يقول:"أنتم رعاة لشعب الله" (موعظة قداسة البابا فرنسيس لدى ترؤسه قداس الرسامة الكهنوتية لكوكبة جديدة من أبرشية روما بتاريخ 7/5/2017).
     مشروع واضح
يعاني المسيحيون من إغتصاب لحقوقهم في العديد من الوجوه، إذ أن هناك العشرات من الذين تم الإستيلاء على عقاراتهم وأراضيهم بأساليب الغشّ والإبتزاز والسرقة الواضحة، لذا علينا أن نتعلّم كيف نواجه إستحقاقات البقاء أو الدفاع عن حقوقنا في حياة آمنة، والشراكة الوطنية مع المكوِّنات الأخرى في رسم حاضر أو مستقبل العراق ضمن مشروعٍ وطني. لا يمكن أن تتحقق آمالنا التي نطمح لها إذا لم يكن لدينا برنامج عمل متكامل وآليات تنفيذية، عليه يجب أن نوجّه كلامنا لمسؤولينا الموقرين أولاً: لماذا هذا التفريط الواضح لعراقيين وطنيين لا غبار على وطنيتهم وأغلبهم من الخبرات التي يمكن أن تساهم مساهمة فعّالة في بناء وطنهم العراق؟. فما نحتاجه هو مشروع واضح ودعم من قبل الأطراف المتنفذة في البلاد حفاظاً على بقاء المسيحيين.
ولنعلم إننا نسكن مناطقنا منذ قرون، ولنا تاريخ واسم وهوية وحضارة، ولا يجوز فرض واقع جديد وهوية جديدة وحضارة جديدة علينا تحت مُسمَّيات أرادوها مُلْكاً لهم ونحن ساكتين وسائرين _ كالطرشان في الزفة (مع إعتذاري لهذا المَثَل الشعبي). فالكاردينال ماورو بياتشينتا يقول:"إنه وضع يسبّب القلق للكنيسة الجامعة بأسرها لأن اختفاء المسيحيين من الشرق الأوسط من شأنه أن يسبّب إضعاف التاريخ والثقافة والمجتمع في تلك المنطقة". ومن المؤسف أن نرى أوروبا العجوز تخجل من جذورها المسيحية، فهناك مناطق كالشرق الأوسط قد يفقد فيها المرء حياته لكونه مسيحياً، لذا بالإضافة إلى حمل مساعدتنا إليهم علينا أن نتعلم فهم شهاداتنا البطولية، فالحل الوحيد هو أن نواجه تاريخنا، ونرحب به ونعانقه. فمستقبلنا رهن ببقائنا وتحمّلنا رغم إختلافاتنا... فهل البقاء في الإختلاف وليس في مغادرتنا؟.
    الخاتمة
أحبائي: إن الرسالة تدعونا لا أنْ نهرب من الشرّ والألم بل أن نقاوم هبوب العواصف وأمطار السيول ورياح الإضطهاد وإطلاقة الحقد والكراهية بعجين في تراب وطننا نبني فيه مسيرة حبّنا لأرضنا كي لا نضيع بين قتلى الزمن، فنحن شعب نوجَد في أرضنا بل أرضنا توجد فينا وتحيا من دماء عروقنا، ولا نقبل بأن نفنى ونموت كي نكون سبباً في ضياع إيماننا وفقدان مسيحيتنا، فتُقلع جذورنا وتموت أصولنا في أرضٍ غنّينا لها أغانينا وزمّرنا لها ورقصنا من أجلها "هذي الكاع ما ننطيها، إيشوع ومريم ساكن فيها". فما حصل حصل، وما حلّ فينا حلّ دون إرادتنا وعدم علمنا وإستعدادنا، فقلوبنا لا زالت وستبقى تفيض بِنِعَم إيماننا ولا أجمل، فمعركتنا كما يقول مار بولس "مصارعتنا ليست مع اللحم والدم" (أفسس12:6)، فإمّا نوجد كشعب مسيحي أصيل في أرض الله وإما أن نموت، وهذه الحقيقة هي التي يجب أن نحملها لأجيالنا ونشهد لها فإننا شهود الحقيقة وليس شهود الزور، وهذا حلّنا ومستقبلنا ليس إلا... نعم وآمين.


163
السيد عبدالاحد سليمان بولص المحترم
شكرا جزيلا على مداخلتك المفيدة والمختصرة واسمح لي ان اقول بان العنوان طريق الى معرفة الحقيقة التي ربما ستحصل ما تراه من تطورات في المنطقة وفي سهل نينوى ليس بالهيّن ونحن اليوم نحتاج الى الهنا الرب يسوع المسيح وليس التغني بقوميتنا وطائفتنا وطائفيتنا وعنصريتنا ومصالحنا ولا نحب الا من نحبهم بسبب مصالحنا ونجلس الفاسد في مقدمة المصلين الا يكفي في هذا الزمن هذه المصالح علينا ان ننظر الى شعبنا انه يموت انه يُرحل انه يهاجر لاننا لم ندرك اين الهنا وماهي الحقيقة التي يجب ان نحياهنا وعذرا اليس الهنا من نحن نريده
نعم غايتي الاولى والاخيرة هو ثباتي في المسيح الحي فلا اخاف ما دام الرب يسوع معي وحسب ماقلته يا سيدي المحترم وما علينا الا ان ننظر الى السماء ونرفع رؤوسنا لنرى ماذا يحدث ولنفهم ما تريده السماء وما يريده شعبنا مناصبنا وكراسينا ام وحدتنا وهدفنا في الخدمة والعطاء ليس الا وشكرا وباركك رب السماء

164
حبيبي سيد غيث موسيس المحترم
اشكرك من كل قلبي على مداخلتك واقول لك ان العنوان ما هو الا الخوف من الاتي اذا لا نوحّد كلمتنا وندرك جيدا هدفنا في مسيرة الحياة وغايتي الاولى والاخيرة ان افتخر باصالة المسيحية في العراق وحضارتهم وان اكون نموذجا في العيش وفي الحياة . واذا لم نوحد افكارنا وكلمتنا فالرحيل هو يشتتنا ولا نبقى الا اثار كما بقيت اثار البابليين والسومريين واسف ان اقول ربما نقرا السلام على المسيحية في العراق
مع محبتي

165

سيد وليد حنا بيداويذ المحترم
محبة الرب معك وسلامه يحلّ عليك
شكرا على مداخلتك ولكن اسالك بحق المسيح الحي متى أُعطيت لنا الحقوق واذا ما اُعطيت لنا فبالقطارة تُعطى والسبب يعود الينا لاننا نفتش عن اله بطوننا واله احزابنا وطائفتنا وطائفيتنا وقوميتنا ولا نفتش عن اله يسوع المسيح الحي الذي احبنا حتى الموت ومشكلتنا اننا ننحني لرجال مخلوقين مثلنا وربما فاسدين ونخضع لهم من اجل مصالحنا وكراسينا ومناصبنا ولا نكشف الفاسد بيننا لانه ربما سيكون يوما ذراعنا المساعد من اموال لا يملكها وهذا ما يحصل اليوم . فحينما اقول هذه المقوله احزموا حقائبكم فالرحيل غدا لا اقصد فيها اطلاقا ان نهاجر او نتشاءم او ان نرحل من البلاد بل بالعكسما هي الا صوت صارخ في البرية ليسمع كبار الزمن وكبار المعابد والرئاسات الموقرة اننا بحاجة الى كلمة واحد وهدف واحد فان كنا ننشد البقاء فلنوحد الهدف واما اذا بقينا على هذه الحال ونجعل الفاسد قديسا ومن الطائفية دربنا ومن القومية رسالتنا ومن طائفتنا الاقرب الى السماء فقد ضاعت حقيقة الانجيل المقدس بشرى الحياة وفي ذلك سنترك ونرحل ليس الا وشكرا ومع محبتي

166

شكرا جزيلا للسيد وليد حنا بيداويذ والسيد اخيقر يوخنا لمداخلتهما في الموضوع احبائي لنحزم حقائبنا فالرحيل غداً"
نعم انتم في الطريق الصحيح الذي يقودنا الى حقيقة البقاء للشهادة لمسيحيتنا وربما هذه اقولها من الناحية العاطفية فاسمحوا لي ان أقول ان الجالسين في البلدان الاوربية او امريكا او استراليا يتنعمون بمسيرة الحياة الدنيوية وهذا من حقهم ومن صميم الانسانية فهل تعلمون ان كل يوم تغادر من بغداد عائلتين او ثلاثة وانا كنت من الرجال الكنائس الاوفياء انادي لا للرحيل فالعراق ارضنا ونحن اصلاءه وهذا ما كنات تنادي به الكنيسة الجامعة والتي احبها وقداسة البابا وقد قالها الارشاد الرسولي عام 2012 بان نحن القلة  يجب ان تكون للشهادة للمسيح .
باسم المسيح الحي اسالكم هل نحن اليوم نشهد لمسيحنا ام نشهد لاحزابنا ولقوميتنا ولطائفتنا ولطائفيتنا ومصالحنا فاليوم قُسمنا اكثر من انقساماتنا والمسيحي لا يعلم اليوم الى اين يتوجه والى اين سيكون مصيره ألم تعلمون اننا يوما كنا مسيحين قبل ان نكون طائفيين واحزاب وكتل وقوميات هل نميت فينا المسيح بسبب قوميتنا وطائفتنا وكتلنا واحزابنا كم وكم من البيانات صدرت وكم وكم وقفنا امام المايكروفونات لنعلن حقوقنا ومنذ 2003 ولحد اليوم لم يلتقِ المسيحيون عبر احزابهم وكتلهم وقومياتهم وطائفيتهم واسال اين هي الحقوق التي اكتسبناها فالمسيحي الذي يشهر اسلامه الا تدرون ان اولاده القاصرين يُسجلون قاصرين واين هي المادة 26 واين هي حقوقنا في التعليم ولعلك لم تطّلع على كتب اللغة العربية التي يقراها طلابنا ، وحرية الايمان واين هي  مكانتنا بين القوميات العراقية  فنحن لسنا عنصريين ولا نريد دولة باسم المسيحيين فبلدنا واحد ووطنا واحد وشعبنا واحد عُرفنا وعشنا ولا زلنا وما هذه إلا دروس الاستعمار ، هل سنبقى نستعطي حقوقنا وهل سنبقى مطيعين خنوعين ام سيكون الحل الرحيل ليس الا واخرى واخرى
فيا احبائي سيدنا وليد وسيدنا اخيقر انا معكم فان العنوان مخيف  وانا معكم ان احمل صوت الرجاء والامل وانا معكم ان لا نفرغ بلادنا من وجودنا وخاصة انا رجل الايمان واحمل بكل وفاء نداء المسيح الحي وانجيله الطاهر ان اكون علامة رجاء وان كانت الغيرة قد تدخل قلوب الكثيرين بما اقوله ولكن سابقى شاهدا للحقيقة كما قال عني البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة الخاصة في الفاتيكان يوم 11 كانون الثاني عام 2011 وان كان الكلام غير مقبول عني فتلك مشكلة من يقرا مقالاتي ففيها حبي لابنائي ووفائي لكنيستي وامانتي لوطني وان كانت هذه الامور قد تغيرت بسبب المصالح والقرابة المزيفة والعواطف البائسة و و و .
عذرا ان كنت قد اطلت ولكن كنت ولا زلت من الذين كانوا اوفياء قبلنا واستشهدوا بسبب الحقيقة ومنهم المطران بولس فرج رحو الذي تكلمت معه ظهرا قبل استشهاده وفي نفس النهار وربما انا ايضا ساسلك نفس الطريق وتلك مشيئة الله . وختاما ما نحتاج اليه رجالا مؤمنين  بالقضية وليس مذيعين لها ، رجالا يحلمون بمستقبل امين لمسيحيينا الذين لحد اليوم لم يجدوا راحة في نفوسهم منذ اربعة عقود ولنا من هؤلاء الكثيرين المخلصين من رجال الكنائس والمعابد والاحزاب ولكن شيئ واحد ينقصنا وهو مانحتاجه كلمة موحدة ، اناساً مؤمنين بوطنهم ، اناساً يحبون كنيستهم ، اناسً يعرفون رجالاتهم المخلصين الاوفياء وليس الجالسين على مناصب الدنيا لمصالح مزيفة  وهم غير مستحقين .فمار بولس يقول " لنا رب واحد ومعمودية واحدة وايمان واحد واله واحد "
شكرا والف شكر لكما يا احبتي فلتكن يدكم بيدي وايادينا كلنا سواء كي نقول كلمة الحقيقة في وجه الاقوياء ليس الا والمجد ليسوع المسيح . مع محبتي انا الفقير

167
أحبائي لِنَحزِمَ حقائبَنا ... فالرحيلُ غداً
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
إن الأوضاع السياسية والمتأزّمة تؤرق وجودنا وحقيقة مسيرة حياتنا، وتجعلنا نحمل حقائبنا    لنرحل اليوم قبل غدٍ، كما إن تقلبات هذه الأوضاع في شرقنا الممزَّق وما تخلّفه من آثار مدمِّرة
 دفعـــت العديــــد بل الآلاف من مسيحيينـــا إلى الهجـــرة وإلى الرحيــل وهذا ما جعـــل تعايشنــا مع غيرنـــا والمختلف عنا تعايشاً قاسياً وصعباً بعد أن كنّا إخوة في التنوع وعبر ديانات مختلفة، ولكن ما حصل أنه قد فسدت النيّات، وملكت الطائفية، وأصبح الجهاد باسم الدين كما باسم الإله كارثة أودى بالبشر الضعفاء إلى حيث الهلاك، فكان حرف "النون" عنواناً كما كانت الحرب الدينية، وكانت نتائجها الرحيل والهجرة، وحملت في عاصفتها عناوين مختلفة في الكراهية وحبّ الأنانية بملء روح الطائفية بعد أن كنا بلاد الأصلاء والملاذ الآمن والعيش الرغيد والمسامح الكريم.
خشبة ... ومسيرة
في مثل هكذا زمانٍ أسود وتاريخٍ مزيَّف وحياةٍ بائسة ومصالح متبادلة وضمائر مشتراة، وفي زمنٍ تكثر فيه الكراسي المسروقة وتزداد المناصب المَحْمِيّة من كبار زمننا ودنيانا بسبب الفساد والنفاق، كما في زمن دعتنا الطائفية أحبابها والحدود المرسومة دستورها والمناطق المنزوعة جيرانها بسبب الصورة المزيَّفة، حيث تبقى الحقيقة معلَّقة على خشبة العار لا أحد يهتم بها ولا مَن يسأل عنها ولا عن أصولها وأصلائها بعد أنْ ملكت ثقافة الموت على قلوب الكبار الفاسدين، وجعلت من مسيرة الحياة خطفاً وإرهاباً ونزاعاً وتدميراً للحقائق وللمقدَّسات، وهدماً للقِيَم، والإعلان عن زوالها عبر زوال المسيحية بسبب الخوف والحروب كما بسبب فقر إيماننا، وانحسار شركائنا، وانغلاقنا على طائفتنا، وحبّنا لأنانية مصلحية للحفاظ على مواقفنا وأمكنتنا،وإنْ كنا ندرك أن ذلك نفاق وخطيئة جسيمة لا يغفرها إلا الغسل بالماء وبنفحة الروح الإلهي السماوي، لأننا نحن أردنا ذلك من أجل أن تبقى ألوهيتنا فينا وأن يكون الآخر البريء تحت ظلها... تلك هي الحقيقة المزيَّفة التي يريدونها، ونتساءل: هل بدأ الموت البطيء يأخذ مجاله في مؤمنين كانوا يوماً أقوياء بالمسيح الحي وأصبحوا اليوم مجتهدين في الرحيل كما في الضياع؟، وهل يمكننا أن نقول إن المسيحية بدأت في الزوال رغم بقاء المسيحيين حاملين الهوية الرسمية التعريفية دون الهوية الإيمانية العماذية؟.
مسيحية ... وزوال
نحن نتساءل: هل المسيحية في الوطن كما في الشرق إلى زوال؟، ماذا يقول المسيحي عمّا يحصل في عراقنا الجريح وفي شرقنا الممزَّق من عداءٍ وانقسامٍ واستملاك واستحداث؟،هل سنواجه الإنقراض والضياع؟، هل سينتهي وجودنا التاريخي والحضاري والإيماني؟، هل سيأتي داعش علينا مرة أخرى بلباس إرهابي جديد ويحتلّ نفوسنا كما سهولنا وأرضنا ويدنّس ترابنا ومعابدنا؟، وهل بإرهابه يُكتَب لنا الخلاص ويُسجَّل لنا البقاء أم سنكون في هزيمة ثالثة وأكيدة لا تُعرف عقباها بسبب الذين أرادونا في حمايتهم فكانوا هم الأوائل في هزيمتنا؟، وهل سنفترش مرةً أخرى الحدائق والشوارع وتُبدَّل مساكننا بخيم بائسة وبكرفانات خانقة؟.
مصالح ... وفساد
لقد أتت الساعة، وهي الآن، أن نعترف بسلبياتنا قبل إيجابياتنا، وبأنانياتنا الحزبية والمكوِّناتية والوجودية قبل شموليتنا وحقيقة شعوبنا، بطائفيتنا ومصالحنا قبل كفاءاتنا، وقدرتناعلى الهدم  قبل قدرتنا على البناء، بحقيقة الفاسدين السرّاق قبل الدفاع عن فسادهم، وسرقتهم لمال الضحايا والمهجَّرين، بمعرفة أنانيتنا قبل وحدة كلمتنا،فلا يجوز أن تُستباح القِيَم من أجل النفعية والمصلحية، ولا يجوز إستغلال عبثي للدين وإخضاعه للسياسة ولمصلحة كبار المعابد والزمن.ومن المؤسف أن يكونوا هم الأوائل في نكران أصولهم وإنسانيتهم ومسسيحيتهم وهم يدركون جيداً قيمة أرضنا وأصولها، وتواجد شعبنا وسيرته الحياتية المؤلمة. فاليوم نحن بحاجة للتحرك نحو النظر لِمَا تشهده أيامنا من الإقتتال الأخوي وكسب المصالح الفاسدة، وتلك دعوة لنا أن يدرك كل منا مدى مسؤوليته إزاء المواطن من أجل حقيقة الوطنالواحد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، كي لا تُفسَد تربتنا المقدسة فتولد لنا أجيالٌ شريرة، كما آن الأوان أن نقرّب شعوبنا قبل أن نفرّقهم لأننا بأمسّ الحاجة إلى عمل مشترك وكلمة موحَّدة ونظرة صائبة، فالزمن والساعة لا يرحمان أحداً، ولا نعلم توقيتهما(متى13:25)، فيقولوا لنا "إرحلوا، فدياركم قد بيعت، وأرضكم قد سُلبت، ودنياكم ليست هنا، بل إحملوا حقائبكم، والرحيل حلالكم، ولا مَخْلَص لكم غيره".
وجوه ... ومصالح
إن الأوضاع الحالية لا يمكن أن نغيّرها بسبب تأصّلها في مسيرة حياتنا، لذلك ما نحتاج إليه هو نشر ثقافة الحقيقة عملاً بقول المسيح الحي:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8)، ولا يجوز أن نكون تبعية لأناس كبار أو صغار يستهزءون بوجودنا وبمستقبلنا، ويجعلون من أنفسهم آلهة لدنيانا بكلامٍ معسول وأذرعٍ مفتوحة وضحكاتٍ مزيَّفة ومناداةٍ قضائية، وهذه كلها ربما ليست إلا عواطف كي يزرعوا في نفوسنا ترتيلة الأشرار والمنافقين "بالروح بالدم"،فيسجل التاريخ حينذاك أسماءنا فاسدين، لمشاريع خاصة ومصالح آنية،لأشخاص أحببناهم كي يكونوا مُلْكَنا وحسب إرادتنا، ومستعدين لخنوعهم أمامنا،وإنني متأكد أنّ هذه ستُميتنا يوماً لأننا سنشهد ـــ كما يقول قداسة البابا فرنسيس ـــ "لمشاريعنا الخاصة" وهذا ما يحصل فعلاً، والحقيقة أقول إننا لسنا أمام هموم الناس ومعاناتهم بل نحن نواجه همومنا كي نميت جارنا، نشهد لتزيّف حقيقتنا، وإذا ماحصل هذا كله فلنرفع رؤوسنا (لوقا21:28)،ولنهيئ حقائبنا، فإنّ رحيلنا قد دنا، لأن كبار الزمن لا يجالسون إلا كبار الفاسدين ولا يمجّدون إلا هم أنفسهم. فحتى متى تتغير الوجوه وإسطوانة الإحترام الكاذب والتباهي والتعالي!،فهل يجوز أن يكون بعض الفاسدين تحت رعايتنا؟، ألم يخلق الساكن في السماء كفوئين آخرين؟، هل لأننا نحبهم؟، ولكن بئس ذلك الحب إنْ كان ضد وصية السماء، ففي ذلك نحن غافلون عن كتاب المحبة والحياة الذي سطّره إنجيل المسيح الفادي بقوله:"إن كنتم تحبون مَن يحبكم فأيّ أجر لكم" (لو32:6).
خراب ... ودمار
بعد وجودٍ دام أكثر من ألفي سنة، وأصالةٍ في أرض الأجداد، ها هوذا داعش يخرّب كل ما بنيناه، فحمل إلينا الخراب والدمار والألم النفسي،فكان أنْ مَلَكَتْأمراضٌ علينا،وبغتةً تموت الحياة أو نُبتلى بمرض آخر عضال سببه هذا كله،والخوف من البقاء بسببه وبسبب الجماعات المتطرفة، وهذا ما حصل لنا،ربما من خوفنا وربما بسبب تصفيقنا واحتضاننا لأنظمة جائرة ولكبار مزيَّفين بشعارات حملناها إليهم كي يكونوا دائماً تماثيل صمّاء على كراسي الحقيقة ونحن لهم عبيد خاضعون، فهم يدّعون إننا في حمايتهم وتحت أنظارهم والحقيقة عكس ذلك فما نحن إلا عبيد لرجالات فاسدة، ووكلاء غير أمناء على مسيرتنا ورعايتنا، كما هم طغاة وآلهة لأنانياتهم، ومن المؤسف أن يكون كبارنا مخدوعين بأشكالهم وجمال قاماتهم وطيب ألسنتهم وشرتونية كلامهم، وما ذلك إلا شهادة لحقيقتهم البائسة، فبئس ما يملكون... إنهم جائرون.
مفترق طرق
أحبائي،نعم نحن أمام مفترق طرق بل أمام ضياع مقياس زمننا وإشارات مسيرة حياتنا، فمرّة يقولون لنا أنتم أصلاء ويُبعدوننا عن حقيقة أرضنا، ويوقّعوا لنا جوازات رحيلنا، أو يقبلوننا نازحين ومهجَّرين، أو ينعتوننا بأقليات بائسة، وفي ذلك لا سلاح لنا إلا الطاعة والخضوع والقبول بما حصل وما حلّ وبما يحدث لنا شئنا أم أبينا. فالتاريخ شاهد لمسيرة آبائنا وأجدادنا، كيف كانوا أمراء الزمن عليهم في دنياهم وفي سهولنا وودياننا وأراضينا، وكم كانت الحياة بهيّة بشروقها على حضارتنا وثقافتنا، أما اليوم فنحن نُباع ونُشترى ليس بثلاثين من الفضة كما حصل للمسيح الرب بل بأبخس الأثمان ليس إلا!.
في الختام
في الختام أقول: أين إنتمائنا إلى المسيح الحي؟، فمسيحيتنا ليست حديثة العهد، ونحن لسنا غرباء أو ضيوف وإنْ كنا قد أصبحنا لها شئنا أم أبينا، ومع هذا لا يجوز أن نفقد قِيَم إيماننا وأخلاقيتنا وجوهرها، فإنْ كان داعش قد دمّر منازلنا ونهب وسرق وأحرق ديارنا ومعابدنا فهذا لا يعني أبداً أن نجعل إيماننا إيماناً خائفاً، فالمسيح كان أول الذين أُضطُهدوا،كما كان أول الشهداء من أجل حقيقة حبّ السماء بقوة قيامته. فما علينا إلا أن نجعل من المحنة مخرجاً كما يقول مار بولس:"لتستفيقوا أن تحتملوا" (1كو13:10). فلابدّ من حمل الصليب وعبور نفق الموت من أجل رجاء الحياة، ولنعلم أن الحقيقة مهما تعذّبت واضطُهدت لا تموت وإنْ باعها كبار الزمن. فلا نخف من ذيول الرذيلة المزيَّفة التي تخدّر شعوبها بكلمات تجميلية وألسنة عاطفية ودعائية، أمام ذلك كله علينا التمسك بالصلاة والحوار مع الله ومع الإنسان، وهذه هي الشهادة الأمينة وهي أنْ نكون طلاباً في مدرسة "تحت أقدام الصليب"، حينذاك حتى لو رحلنا فرحيلنا يكون برفقة الصليب وحامله وهو سيقودنا إلى جبل الخلاص، هناك نسمع صوته يقول:"لا تخافوا،أنا معكم حتى إنقضاء الأزمان"(متى20:28). فلنتمسك بأرضنا، ولنعيد بناء منازلنا، ففيها لنا تاريخ واسم وهوية وحضارة، ولا يجوز أن ننحني عبيداً لمخطط تهجيرنا وإضعاف وجودنا وإنْ كان الوضع صعباً ـــ يقول الكاردينال ماروبياتشينا،كاردينال الكنيسة المتالمة:"علينا أن نتعلم من شهادتنا".فحمل الحقائب والرحيل لا يعني إلا إضعاف تاريخنا وثقافتنا، وإخلاء شرقنا ومسيحيتنا. فلننتبه إلى أنفسنا ولنكن أحراراً وليس عبيداً، فما علينا إلا أن نداوي مجتمعنا، ونجتثّ من بيننا الفاسد الكريه الذي يتظاهر بوداعة الحَمَل البرئ وهو من الداخل حاقد كريه، فاسد شرير، ولنضع محلّه الكفوء النزيه، فلا يجوز أن يبقى الفاسد السارق مهما كان صنفه ، حاكماً على كرسي الزمن فما ذلك إلا خطيئة لا يغفرها ربّ العلاء الذي يدعونا إلى تخطّي حواجز الزمن والتاريخ من أجل مستقبل أجيالنا وأفضله لأبنائنا وحقيقة لأصالتنا.
نعم، أمام ما يحصل، أسأل ، هل سنحمل حقائبنا ونرحل يوماً؟،هل نقبل أنْ نُفنى ونموت ، فنكون سبباً في فقدان مسيحيتنا.فياربّ، إجعلنا أنْ نحمل إيماننا فنثّبت أقدامنا في أرضنا،فثقتنا ما هي إلا بكَ وليس في غيرك ،لأنك أنت الحقيقة، وعلى كلامك سنلقي شباكنا ( يو6:21 )  مؤمنين بشهادتك، لذا ،وبعونك، لن نحزم حقائبنا ونرحل مهما كانت المصائب لا اليوم ولا غداً، فالأرض أرضنا ونحن فيها أصلاء ليس إلا... نعم،آمين.



168
نص الكلمة التي القاها المونسنيور الدكتور بيوس قاشا في المؤتمر الإعلامي المسيحي الثاني برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي  تحت عنوان الاعلام المسيحي ... نحو الاتحاد . والذي عُقد في لبنان في دير سيدة البير لجمعية راهبات الصليب ـــ بقنّايا – لبنان في 29 ايلول 2017 .

أقدم شكري الجزيل للقائمين على رعاية هذا المؤتمر "الإعلام المسيحي نحو الإتحاد"، وبالأخص الأخ نور وقناة نورسات وتيلي لوميار الفضائية. واسمحوا لي أنْ اقول: ما أنا إلا صفحةٌ تحملُ تاريخَ أمَّةٍ ووطنٍ أَحبَبْتُهُ وإنْ كان جريحاً، أحْبَبْتُ لبنان الأرز كما أحْبَبْتُ رافدينَ العراق، وأرزتُه تعانق نخلةَ العراق وشربل القديس يعانق سيدةَ النجاة، شفيعةَ شهدائنا وضحايانا. نعم، أنا بينكم صفحةٌ بيضاء فلنكتب عليها سويةً، أنتم وأنا، إعلامَ مسيحيتِنا في إتحادنا وليس في طائفيتنا.
إنَّ الكنيسة اليوم، وفي شرقِنا المعذَّب، تمرُّ بمرحلةِ إرتباكٍ وغليانٍ وأزمةٍ، في حالةِ ضياعٍ وفقدانِ الهوية الوجودية. والسؤال يبقى بلا جواب: هل ستدوم مسيحيتُنا؟، هل سيبقى وجودٌ للمكوِّن المسيحي في مجتمعاتِنا الشرقية؟، هل سيبقى الإنجيلُ محافظاً على كلمةِ البشارة؟، وهل سيبقى المسيحيون في ضبابيةِ المفاهيم الإنجيلية، التي لا تقتصر فقط على مجتمعاتِنا الشرقية بل تتخطّاها لتشمل العالَمَ بأسره؟، هل فعلاً سنتَّحدُ يوماً بعدما عُرِفنا بطائفيَّتِنا وانقساماتِنا؟، وهل نحن نؤمن أنّ لنا إيمانٌ واحد، وربٌّ واحد،  ومعموديةٌ واحدة، وإلهٌ واحد (أفسس5:4-6)؟، وإلا ما نفعُ كراسينا ومناصبِنا، وما نفعُ كلمةِ المسيح الذي قال:"أتركْ كلَّ شيءٍ واتبعني" (مرقس21:10)... نعم أسئلةٌ عِدَّة ترافقُ مسيرتَنا المشرقية.
   لاشكَّ أن الكنائس الشرقية ــــ والتي تضمّ العائلات الروحية المسيحية من كاثوليكية وأرثوذكسية وإنجيلية ــــ تنظر إلى الإعلام بوصفه وسيلةً فعّالةً في إيصال الرسالة المسيحية ، رسالة الخلاص والفداء، فكنائسنا ما وجودها إلا شهادةٌ للمسيح وعملاً بقوله:"إذهبوا وتلمذوا جميعَ الأمم وعمّذوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أنْ يحفظوا جميعَ ما أوصيتُكم به. وها أنا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 19:28-20).
   إنّ مجيءَ وحلولَ عصرِ المعلوماتية أدخَلَ الكنيسةَ الشرقية في أزمةٍ حقيقية، وفي هذا المزيج الصاخب من المشهد المعلوماتي الجديد تجدُ الكنيسةُ نفسَها في مواجهةِ تحدّ،ٍ وهو تحديد موقعِها في علاقةٍ حِوارية بين متطلبات هذا الوضع المُسْتَجِدّ في فوائدِهِ كما في مخاطرِهِ، بحيث يجب عليها أنْ تحافظَ على هويَّتِها دون التخلّي عمّا تؤمن به. والسؤال هنا يطرح نفسَهُ: كيف تستطيع الكنيسة في مجتمعاتِنا الشرقية، وأمامَ هذا المشهد الإعلامي والمعلوماتي، حيث الثقافاتُ المتنوعة والعديدة، أنْ تُتِمَّ رسالتَها التبشيرية الإنجيلية، وأنْ تجيبَ على سؤالٍ يتردَّدُ باستمرار: ماذا يعني أنْ يكونَ الإنسانُ مسيحياً اليوم؟، وهل ستدوم المسيحيةُ في مجتمعاتِنا الشرقية كما دامت منذ ألفي سنة ونيفٍ، ونحن لا زلنا نعيش عدمَ إتحادِنا وإعلامِنا المنقسم.
   صحيح إنَّ هذه الضبابية في المفاهيم حول المسيحية والمسيحيين، لا تقتصر فقط على مجتمعِنا الشرقي بل تمتد الى مجتمعات أخرى ، والذي يقاوم الإرهاب والشرّ والخطيئة، خاصةً بعدما إستفحلَ داعش الإجرامي، الذي أبادَ كلَّ شيء دون وجهِ حق، ودمّرَ كلَّ شيء، ونحن لم يكن في يدِنا حيلةٌ، بل كنا ضحايا ومهجَّرين ونازحين وراحلين أمامَهُ وأمامَ غيره، ولا زلنا حتى الساعة. وحتى الذين إدَّعَوا حراستَنا وحِفْظَ أراضينا، تركونا وحيدين، فكُتِبتْ علينا الهزيمةُ، وهذا كلُه يدعونا إلى أنْ نسمّي الحقائق بأسمائِها كي نستطيعَ مناقشتَها واستيعابَها.
   من المؤكَّد إننا شرقيون، بل مشرقيون، بعودةٍ إلى سببِ وجودِنا. فالشرقَ وطنُنا، وفيه نجدُ مسكَنَنا ومستقبَلَنا، وفيه أملُ أولادِنا وأحفادِنا وسبب حياتِنا. وحينما يكون المواطن في حبّ وطنه يتجسّد الوطن في داخله، فيكون الوطن هو العنوان، وهنا يتكاتف الوطن والمواطن في إتحاده، وينتج عنهما حبّ الوطن، وما أغلاه، وما أجمله، بل وما أقساه!!!، وهنا تبدأ رسالةُ الإعلام في جعلِ مسيرةِ الحياة تتبلور بتقنيةٍ عالية، لذا يجب أنْ نُدرِكَ مَن نحن، وإلى أين متَّجهون، في إرادةٍ واحدة، لأنَّ استخدامَ وسائل الإعلام الحديثة بطريقة صحيحة ومعلوماتية مُوجَبَة، تساعدنا في نهضةِ الإعلام الكنسي في العيش المشترك، بيننا أولاً ثمّ مع أبناء وطننا، وخاصةً مع أبناء شرقنا بل مع مؤمني كنائسِنا، وإن كان هذا ليس سهلاً.
   نعم، إنَّ الأوضاع في شرقِنا مؤلمة، وهي تدعونا إلى إفراغِ البلاد والهجرةِ والرحيل، ولا تستطيع كنائسُنا الشرقية ومجتمعاتُنا أنْ تزرعَ وجوديةَ البقاء للشهادة في أرضِنا لسببٍ أو لآخر، فهي تنادي عِبْرَ الإعلام أنَّ قدسيةَ مشرِقِنا وطينَ شرقِنا مقدسٌ لأننا مخلوقون منه، وهناك يقابلها إعلامٌ رخيص ملؤه النفاق والتطبيل والمراءاة والكذب والمصلحة والطائفية، لذا عليها أنْ نُدرك ذلك كي ترسمَ كنائسُنا الشرقية سويةً رؤيةً واحدةً خاصة، في وحدة الكلمة واتحادِ الرسالة، وإنَّ ذلك لهو مَطْلَبُ الإرشادِ الرسولي "من أجلِ كنائس الشرق الأوسط" " شركة وشهادة" والذي عُقد في روما للفترة من 10-24 تشرين الأول (أكتوبر) عام  2010، وبطلبٍ من رؤساءِ الكنائس الشرقية الكاثوليكية من أجلِ معالجةِ أمورِ المنطقة بعد الإضطهادات التي حلّتْ بالكنيسة وبالمسيحيين وهجرتِهم، وسُلِّمَت الوثيقةُ إلى رؤساءِ الكنائس في بيروت من قِبَلِ البابا بندكتس السادس عشر في إحتفالٍ مهيب في 16 أيلول (سيبتمبر) عام 2012. فماذا تنفع الإنفرادية والطائفية والمحاصصة إذا كان كبارُ معابِدِنا قد علّموا مؤمنيهم بصورةٍ أو بأخرى هذه الطائفية المقيتة، وكأنَّ الإرشادَ الرسولي الذي أُعْطِيَ لنا قد وضعناه على رفِّ التاريخ ليكونَ كلمةً صامتةً بعد أن تجاهلناه إعلاماً وجودياً ومسيحياً وحياتياً، والذي كان يجب أن نسلك طريقه ، بدلا من تجاهله!، فرجال المعابد، هم أنفسهم مدعوون أن يعيشوا حقيقةِ وجودنا، فلا وحدة ولا إتحاد، كما لا إرشاد ولا رسالة، فلسنا بحاجةٍ إلى قراءةِ أسطرٍ ملؤها عبارات قواعدية إيمانية، وما فائدتها إذا لا تعمل فينا ولا في مسيحيتِنا، وخاصةً نحن أمامَ سيلٍ من المعلومات الضديّة، فتكون النتيجة حتماً إفراغَ الشرق والرحيل، وحينذاك نقول:"إقرأوا السلامَ على الشرق المسيحي"، فقد أفرغناه من وجودِنا لأننا لم نحيا وحدَتَنا ولا إتحادَنا، فضاعَ إعلامُنا، وماتت كلمتُنا في داخلِنا، وأصبحنا تائهين في صحراءِ الضياع،  والسبب سببُنا وليس تعاليمَ مسيحِنا والرسول بولس يقول "مَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا، وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ "( 1كو 5:3) ، نعم عذراً اقولها،  لنسلك طريق التوبة والمحبة والخدمة كي لا نكون طائفيين بل مسيحيين، نعم مسيحيين في إتحادنا وليس في فرقتنا وهذا من صميم إعلامنا وما يدعونا إليه إرشادُنا لكنائسنا..ومن له أذنان سامعتان فليسمع وليفهم ( متى 43:13) نعم وآمين.

169
اخوتي المعلقين

شكرا جزيلا وبارككم الرب وما ينقصنا ان نؤمن بحقيقتنا وليس بمصالحنا وماربنا
جعلنا الرب في هذه الارض ليس لبناء برج بابل بل لبناء كنائسنا ومسيحيتنا بعيش انجيلنا
وفي ذلك سنكتشف حقيقتنا وشكر للسيد ظافر شنو وحسام سامي وادور عوديشو وعمار
فليبارككم رب السماء وكفانا يارب مما يحلّ بنا فلتتغير الوجوه ولتمت المصالح والكراسي الفاسدة والمزيفة ولتذهب الى غير رجعة الطائفية والانانية وحب الاصدقاء
المزيفين والمدراء السارقين واجعلنا في حمايتك فلا نثق الا بك نعم وامين

170
عفواً ومغفرة ياإلهي... أنا إلهُكَ
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء:
   الحقيقة إننا نعيش في مجتمع مجنون _ وخاصة في مجتمعنا _ يدفعنا إلى حافة الانفجار، ومن النادر أن تجد إنساناً وسط هذا الصخب والجنون لا يشكو من التوتر والقلق والتوجس على المستقبل، يشكو الإكتئاب والحزن والناس وسوء معاملتهم وحبهم لأنانيتهم المهلكة ، وعصبيتهم المقيتة ، وكبريائهم القاتلة، وطائفيتهم المميتة ،ومحسوبيتهم المصلحية ،ومحاصصتهم الطائفية، ومناصبهم المسروقة ، ومراكزهم المباعة ، كما ويشعر البشر بأنهم تائهين لا أهداف لهم، وإنْ وُجدَتْ فهي متناقضة مبعثرة، ولم تعد هناك لذّة في العمل أو منفعة في الحياة... إنها سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال وأخيراً الموت .
عالم مجنون
إنسان العصر الحديث إنسان قلق ومتوتر، والبشر عامة ونحن المسيحيين خاصة نتخبط اليوم أمام مآسي عديدة لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل وإنما قادونا مثل الخراف خضوعاً وخنوعاً هنا في وطننا وفي أنحاء عديدة من شرقنا المعذَّب وأنحاء أخرى من هذا العالم البائس حيث الظلم والألم واليأس والمستقبل المجهول لنا ولأجيالنا ولأحفادنا، ولا نعلم أين صوب مسيرتنا وإلى أين نحن نتجه.وأمام ما يحصل يجعلنا أن نحمل أفكاراً ملؤها الخوف والجبن والضعف والتعاسة بسبب انتشار الشر وانعكاساته على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والعائلية والطائفية في فوضى عارمة وشغبٍ وحروبٍ تكفيرية وديموغرافية، وظلمٍ وقمعِ الآخر البرئ في تدمير الإنسان الآخر المختلف. وكما يقال "يدنا على قلبنا" وبالتعبير الشعبي" إيدنا على قلبنا" مما سيحلّ بالمسكونة وبالمسيحية، فالكثير منا يعيش بلا هدف واضح، يرقص مع الأغنية ويولول مع العدّادين ولا يعلم ماذا يصنع وأين محلّه من الإعراب في مجال وجوده وحقيقة ترابه... إنه صراع نفسي ، فإذا سألتَه: لماذا ترقص أو تولول؟، يجيبك: هذه هي الحياة، وإنْ كان الهدف الوجودي قد ضاع .
أين نحن
ما نحتاج إليه أن نقف أو نتوقف ونتأمل وننظر بعيداً عن المحاصصة والطائفية المقيتة، فالرب يسوع لم يقل "إذهبوا إلى القرية الفلانية" بل قال:"إذهبوا إلى العالم كله وأعلنوا بشارة الإنجيل" (مر15:16). فالزمن ليس لصالحنا، وهو يدعونا أن نرى أين نحن منه، ولا نقتل طموحنا، فالفيلسوف "توماس كارليل" يقول:"ليس علينا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتاً من بعيد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بيِّنٍ". وإنْ كنا نفكر في بقعة أو غنيمة لعل وعسى تكون حصتنا من وعود الساسة المصلحيين،  وكبار الزمن الفاسدين،  فصعب علينا فمَن يحمينا ومَن يحترمنا، أقولها: ألم يتركوننا لوحدنا نتقاسم الألم والهجرة والرحيل بسبب داعش واخواته وهم على بساط الحرير نائمين؟، ألم يسرق داعش أموالنا وأحرق بيوتنا ونهب أمتعتنا وهم يعلنون إنهم في حمايتنا ؟، ألم يكن بإمكانهم الوقوف معنا قبل أن يجلسوا على موائد عشائهم؟، يكفي إننا افترشنا الحدائق والشوارع تائهين ولا أحد يبالي بنا، فالمصلحةُ كانت الحقيقةَ ولكن قوتنا وشجاعتنا واحتمالنا وصبرنا بالمسيح الحي، وثباتنا على قوة إيماننا بعماذنا،  جعلتنا نحمل الرجاء رغم المصائب التي حلّت بنا ، ونحن نستعطي وجودنا ، ولقمة عيشنا ، بعد أن كنا نملأ الدنيا فرحاً وخبزاً وصلاةً.
ماذا نريد
أقولها إننا كثيراً لا نعرف ما نحن فيه، بل كلنا أصبحنا اليوم بلا هدف واضح وهذا ما يظهر أن ذلك أحد صراعاتنا النفسية والتي قد لا نلاحظها أحياناً. إننا لا نعرف بالضبط ماذا نريد، وقد نتهرب من الإجابة، لذا علينا أن نعرف أين نحن مما يحصل في البلاد، ولندرك جيداً أننا لسنا أدوات فتنة ولسنا في وطن غريب بل في وطننا وإنْ خسرنا ثقتنا بوكلائنا وبرؤسائنا ولم تكن بالمستوى المطلوب، فمنذ الاحتلال عام 2003 ولحد اليوم، تصريحات مطمئنة، بيانات قواعدية، كلمات ترحيبية، زيارات تفقدية ، وعود بائسة ، وعبارات للأصلاء، ولكن كل ذلك كلام في كلام، ولا نملك ما يجب أن يكون ،اذ لا شيء في ايدينا وإذا وجدناه سرقناه ، وجعلناه من حلالنا ، وتلك مشكلة كبارنا ،فنحن كنا ولا زلنا ضحية القانون والدستور والبرلمان، وضحية الطائفية والمحاصصة، وضحية عنف وحسابات سياسية وضحية فساد حمله كبار الدنيا والزمن الذين اقاموهم مسلطين علينا وهم من اصولهم فاسدون، فقد عُرِفوا في زمن النظام واليوم أصبحوا حملاناً وديعة ليس إلا .
هويتنا سلاحنا
لندرك جيداً أن هويتنا تتخطى مشرقيتنا، فهي هوية تتّسع وسع الكلمة حيث تشمل الجميع، وهي سلاح نعتزّ به ومختلف عن باقي الأسلحة. فنحن مسيحيون ولكننا لسنا مسيحيين من أجل ذواتنا بل من أجل العالم،والمسيحي ليس مسيحياً بالهوية بل بعيش حياة العماذ، والنور ليس نوراً لذاته كما إن المسيح لم يكن لذاته( يوحنا 12:8). لقد كان واضحاً في كلامه "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم" (متى19:28) فأنتم شهود لي، شهود الحق وليس الخضوع والخنوع أمام قياصرة المال والفساد من مكونات مختلفة وشهود القتل والانتقام بل أنتم شهود للملكوت، وليس كلمات غانية لعظماء مزيّفين ، ولكبار فاسدين،  ولأناس طائفيين ، لأننا اخترنا هويتنا مع رسالتنا فعرفنا مصيرنا إذ أن الهوية تكشف الرسالة، والرسالة تبقى هوية، وهويتنا ليست شهادة نحملها، بل نحملها من الغائب إلى الحاضر. إنْ صعدنا إلى السماء وجدناه وحتى إلى الجحيم (اف 8:4) فهو هناك لأن المسيح دخل جحيم بشريتنا فأنار ظلمته"( افسس 8:4).. هذه هي رسالتنا أن نقول حقيقة هويتنا في وجه الأقوياء، فنحن أبرياء، وسبب خطيئتنا ، هم ، كبار الزمن ، وسرّاق المناصب،  ومنافقو المسيرة، كان أنْ أصبحنا ما نحن عليه بلا كلمة ولا وجود بل مسيَّرين وخاضعين وأكيداً خانعين، وهذه نتيجة حبّنا لمصالحنا وأنانياتنا وكبريائنا ودفاعنا عن الفاسدين الذين نحسبهم قديسين كي نُعطى ما لا يملكون،  لتبرير محبتنا واحترامنا، وما هم في الحقيقة إلا أناس يحتاجون الى قانون العدل والسؤال إنهم ضالمون بل اكثر من ذلك إنهم ذئاب الزمن.
غابة ادغال
إننا اليوم نقف أمام أخطار تداهمنا من الخارج كما في الداخل، وإننا نعيش أياماً قاسية ، وأوقات عصيبة فرضتها علينا تحديات لم تكن وغير مسبوقة، ووفرت فرصة للمتطرفين وذوي النزاعات الطائفية والأنانية ومن كافة الألوان والأطياف فشنّوا علينا حربهم البغيضة التي كرّست الطائفية وزرعت بذور الحقد والكراهية والتعصب فكان دخول داعش الإجرامي إلى بغديدا الحبيبة وقرى ومدن سهل نينوى تدنيساً لأرضنا،وإجراماً بحقنا ،بعد أن جعلوا منها غابة أدغال إذ لم يبقَ للإنسانية وجود، وللحضارة تاريخ، وبات الخطر مضاعَفاً من خلال تهجير مبرمج وعبر فرض الشريعة والتعاليم الأصولية كي نكون أهل ذمّة ودافعي جزية، وحُسبنا من الذين عليهم التكفير والقتل، ونسوا أو تناسوا ما نحن إلا أحرار ، وأبناء أحرار،  عكس ما هم عليه، ولكن لا حيلة لدنيانا،  فقد زيّفوا التاريخ ، وباعوا الأسماء ، وغيّروا المناصب والكراسي ، وهدموا الحضارة في ماضيها ، كما في حاضرها، وأصبحنا ــ شئنا أم أبينا ــ عبيداً مرة لهؤلاء ، وأخرى لأولئك ونحن لهم شاكرون وممجدون ، وبئس شعوب تزيف تاريخاً وتقتل أصلاء وتقول ما نحن إلا أمناء في حمايتكم.
دولار الزمن
هذه الأمور وأخرى في مسيرة الألم والوجود والتي قادتنا إلى المجهول، يؤلمني أن أقول إننا لم ندرك جيداً _ نحن بالذات _ وجودَنا ، فسارعنا الخطى وراء الفاسدين لنحصل منهم على دولار الزمن، وأجلسناهم في مقدمة الأبرياء البسطاء ، في المحافل أو في مؤتمرات أو في المعابد ،كي نقدم لهم الشكر المصلحي والطائفي، فيكونوا لنا عوناً وما هم إلا قادة عميان. هذه المسيرة المؤلمة تقودني إلى أن أقول نتيجة ما أعيشه وأراه أن إله السماء لا ينفعني بشيء فأنا إله الدنيا وعلى الإله أن يكون في طاعتي وسماع أوامري، فكل واحد منا هو إله لذاته، يؤلّه مَن يشاء ومتى ما يشاء ومن أجل مَن يشاء، وهذه هي شريعة اليوم، وكما يقول المزمّر " قال الجاهل في قلبه " ليس إله " فَسَدوا ورجسوا بافعالهم وليس من يعمل صلاحاً" (مز 1:14) فمَن منا إذا ما سمع نصيحة في بيت عبادة حملها إلى عائلته وأولاده ، وعلّمهم إياها ليكونوا في مسيرة المسيحية والشهادة الإيمانية، لا أظن!!!، عكس ما شهد التاريخ بالامس إذ إن آباءنا وأجدادنا كانوا يحملون كلمة الحق في أفواههم ومسيرة الصدق بأقدامهم ، ووفاء الأمانة بأياديهم، أما اليوم فقد تغير الموقف والهدف واستُبدل بمواقف تجعلنا أن نكون آلهة لهذا الزمن العولّمي المزيف، فالحقيقة يجب أن تقال وهو أنه لا يمكن أن نقوم بعمل إلا متى ما نشاء وحسب ما نشاء وننسى أن هناك معبد الرب يدعونا إلى أن نكون للإله الحي، لإله السماء وليس لإله الدنيا والزمن وربما لا توافقوني على هذه المسيرة ولكن ذلك ما أراه حقيقةً. ومسيرة الحياة أكبر وأجلّ برهان لما يحصل اليوم لعالمنا، وفي هذا يقول ربنا "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو32:8).ولنعرف جيداً يا أحبائي إننا نعيش لحظتنا هذه، فالماضي قد انتهى ولا نملك أن نستعيده، والمستقبل لا نعلم منه هل ستتمّ جملتنا التي نقولها أم لا! إذ ليس من السهل إذا كنا لا نخوض معركة طويلة وملزمة تدور بين إلهي المزيَّف وإله السماء الحقيقي إله يسوع المسيح الرب . وما حصل لنا ما كان إلا تجربة قاسية وربما ذلك كان من إله السماء ليقول لنا:"لا تؤلّهوا أنفسكم، وكفاكم تقدّسون الفاسدين وتقرّبون شهود الزور وتُفسدون ضمائر الأبرياء ، كما تشاؤون ، وتعاملون معارضيكم بخباثة المسيرة لغنائم مصلحية كي تدوم مصالحكم ومناصبكم وحملاتكم، ولكي يقول الناس عنكم كل جيد وصالح وما ذلك إلا تزييف الحقيقة وتأليه الذات بينما يقول ربنا:" ولا تدعوا أحداً على الأرض يا أبانا لأن لكم أباً واحداً هو الآب السماوي" (متى8:23).
ختاماً...
   نعم، نحن في زمنٍ فاسد، ونكتب تاريخاً مزيَّفاً، ونعيش حياةً صاخبة، ونظلم أبرياء لأنهم قالوا كلمة الحق كي نُفسد حياتهم في زورٍ وبهتانٍ وقضاءٍ مرتشٍ، وهكذا يحلو لنا كي نكون في صفوف المؤتمرات الأولى فنبيع القداسة بالفساد، والبرارة بالدنس، والوفاء بالحقد والكراهية، والأمانة بحبّ الذات، والعدالة بالكذب والوجوه،والكفاءة بالمصلحة، وفي ذلك كله ما نحن إلا آلهة لدنيانا ولزمننا وللمحيطين بنا والذين سلبوا إرادتنا ، وسرقوا عقولنا ، بكذبهم وغشّهم، ويحسبون أنفسهم في ذلك إنهم أبرياء، صدّيقون، مخلصون، أمناء، والحقيقة عكس ذلك بالتمام والكمال.
   نعم ، إن المسيح الرب يدعونا إلى أنْ نحمل حقيقة البشارة والشهادة الأمينة لحقيقة الحياة والوفاء الأكيد لحقيقة عماذنا، فلتتوحد كلمتنا قبل توحيد مصالحنا ولتتفق قلوبنا قبل تكاتف أيادينا ، والحقيقة إما نحن في الوجود أو في الرحيل أو نحن مطيعون ، خانعون بل أبكميون ولا يجوز ان نقول كلمة من أجل حريتنا وحقوقنا وهنا تكمن الحقيقة كي نعرف من نحن واين سنكون لنحيا سر عماذنا بصعودنا إلى الجبل من أجل حقيقة صلاتنا، فندرك حقيقة الاله المزّيف ونعبد الاله الحقيقي في يسوع المسيح الرب ، وختاماً ، عفواً يا إلهي فأنا عبدُكَ ومسبحّك ولستُ إلهَك، فاقبلْ يارب إعتذاري وإعترافي بك.فأنت إلهي وليس لي غيرك اثق به إلا أنت . نعم وآمين.



171
آهات في مسيرة الحياة

المونسنيور د. بيوس قاشا
ما أجملها مسيرة الحياة ، وما أغناها حياة الحقيقة ، انها سِمة المحبة والخير والبركة ، سِمة التواضع والوداعة ، وتلك شهادةٌ لحياة الالم التي أُعطينا فداءً بها ، ومحطاتها رسالة وانبعاث ، وإن كانت مؤلمة ، ومكللة بشوك الزمن ، وهذا ما دعاني أن أقف في تلك المحطات ، لأعاين رسالتي ، وهمومي وآهاتي ومآسي الزمن ، وكبرياء الكائن الذي طُرد من فردوس العلي ، بسبب شهوته وفساده ، فاليكم ما أدركته وما تعلَّمته ، إنها محطات لحقيقة الحياة ، ليس إلا .
- أين نحن من الذي يحصل، يقتلون منا ويذبحوننا ونحن نُصدر بيانات ونسكت،وأصوات الكبار والصغار والجمعيات واللجان وما شاكلها تعلو وفي اليوم التالي تَبُحّْ. وهنا يكون التساؤل: أين كبار زمننا ، وقادة أحزابنا ، وأمراؤنا، ومندوبو لجان خلاصنا، هل تركوا ساحة الشرف كي لا تُكتَب لهم الشهادة؟.
- الكفاءة نعمة من رب السماء، والذكاء رسالة يحمل فيها الإنسان نِعَمها ، ولكن أنْ تُدفَن الكفاءة والذكاء بحديث أشخاص فاسدين وحاقدين فذلك تشويه للسماء ولنِعَمِها. إنها حرب شعواء بين الشياطين السود والملائكة البيض،فضاعت المسؤولية وتاهت القوانين ،  وفي ذلك يقول أفلاطون:"الشخص الصالح لا يحتاج القوانين لتُخبره كيف يتصرف بمسؤولية، أما الشخص الفاسد فسيجد دائماً طريقة ما للإلتفاف على القوانين".
- إنه زمن فيه نبيع حقيقتنا كي نربح أيامنا وأمكنتنا وأزلامنا، فنرسم لنا ملامح مستقبل ونهاية لمعارضينا، ونميت الكفوئين كي لا نبقى نحن في خانة المدراء الفاسدين فنُبعد عنا كل حقيقةِ وطنٍ وإخلاصِ شعبٍ. فهل سمعتم بوطن يبيع شعبه، وبرئيس يبيع أعداده؟، أليس ذلك زمن الضياع والفساد وشهادة زور؟، ومع هذا كله سيبقى الله على كل شيء شهيد وقدير.
- حتى ما يكون النفاق سبيلاً إلى الأعالي، وتكون الوجوه آيةً للتسامي، نعرف الحقيقة ونزيّفها، ونعرف الكذب وأحباله ونقدّسه، ونعرف الزور وشهوده فنزكّيه إلى الصلاح والبِرّ، ونشير إلى الفاسد ونباركه، وله يليق الإحترام والخضوع. ولا زلنا  نخاف أن نقول الحقيقة، من أجل عدم ضياع مناصبنا ومآربنا واحتراماً لها كي لا نفقدها، فهي لنا آلهة ونحن لها عبيد، والحقيقة هي "إن العبد لا يعلم ما يصنع سيده" ( يو 15:15).
   - حتى ما نبقى في حالة إتّهام الأبرياء ونحن مدركون براءتهم، ونُنسب إليهم أباطيلَ وأحاديثَ شيطانيةً فنجعل منهم مجرمين ونحن نعلم أنهم أبرياء، لا جريمة تشوب مسار حياتهم، ونعمل هذا كله كي نُبعدهم عن سبيل الحياة من أجل الدنيا وحلاوتها والمصلحة ومكوناتها... ألسنا نحن الشياطين، بل شياطين سود ليس إلا!!.
- حتى ما نبقى نتاجر بخرزات سبحتنا وطولها ولونها وصنفها وقيمتها وقينات عباداتنا، ونجعل السامعين والرائين والمطيعين أن يُدركوا أن هذه دنيانا وهذه مآربنا في تمجيد اسم الله (جلّ جلاله) وننسى إننا في ذلك لا نمجّد إلا أنفسنا ولا نعبد إلا كبرياءنا، وطريق السماء ومآرب تمجيد الإله تكون في السيرة والمسيرة، في الطهارة والبرارة، في الشهادة والحقيقة، وليس بوقوفنا أمام أنظار مَن لهم العيون كي نُحسَب عندهم قديسين ونحن قد ملكنا كبرياءً ورياءً وغشّاً ليس إلا!!!.
- كنائسنا تحمل رسالة الإنجيل للبشارة بالمسيح الحي، فهي أماكن عبادة وصلاة، وفيها يرتفع الدعاء ببخور المصلّين إلى حيث الأعالي، وما ذلك إلا خبر مفرح لبشرى الحياة. أتمنى أن لا تكون كنائسنا مذياعاً للحفلات والسهرات من أجل الدنيا ومحاسنها، بل أن تكون ورقة بيضاء. فالأنشودة تقول "يا إله الخير أيها الرحمن، إقبل منا هذه الصلاة، واجعل منها يا ربنا للخطأة غفراناً"، فلا يمكن أن تكون الكنيسة قناة فضائية دنيوية.
- كنائسنا معابد صلاة، فيها نرفع دعاءنا إلى ربنا العليّ العظيم، وأيادينا ضارعة إلى ملك الكون، ولكن أن تكون صلاتنا وأن يكون دعاؤنا ورفع ايادينا بقلوب فاسدة ونيّات قذرة، في القتل والسرقة، فما ذلك إلا " فرّيسية الروح " (لوقا: 18) " وصدّوقية الشريعة وكتّابها " ( متى: 23) ، ونجعل من رب الكون عبداً (أستغفر ربي)، وعليه أن يعمل ما أشاء وليس ما يشاءه... ألسنا في ذلك مطيعون، وربّ السماء يقول لا ييليق السجود إلا لربّ الكون ليس إلا!!!.
- عجيب الإنسان في أمره، يعمل على طول بقاء حياته وهو يدرك جيداً أنه في قبضة الباري وإرادته، يربح جوازاً للخلاص والهروب كي لا تفنى دنياه وينسى أن يربح جوازاً للعبور نحو العلياء والمحبوب، ينادي بإنه باقٍ حتى دهر الدهور وينسى أنه في لحظة يُعلَن مجرى الأمور... فما أتعس الحياة حينما لا نفهم إرادة باريها، ولا نحب خالقها، ولا نقدس ساعتها.
- كانون كباراً ودون استحقاق، فلا علم ولا علماء، ولا شهادة ولا امتياز، بل تابعون أمناء وعبيد أوفياء وإنْ كانت الحقيقة تنادي بأنهم لا يستحقون، فلا آذان تسمع ولا عيون تؤمن، والسامعون لهم مراؤون، والناظرون إليهم مصلحيون، وهكذا شاءت إرادتهم. فعبيد اليوم مهانون خاضعون خانعون، وكبار الزمن _ وإنْ كانوا سرّاقاً _ فهم قديسون معلَنون.
- قالوا عنا إننا سرّاق وعلى القضاء إكمال إجراءاته، فسرقتهم لا يغفرها لا إله الحياة ولا إله الزمن، فيكتبون السماء بأسمائهم فهي مُلْكٌ لهم، هكذا أرادت آلهتهم وهذا الذي يجب أن يكون، فالحقيقة لا تكمن في القول والتهمات بل الحقيقة تحمل شهادة الحياة ، وفي ذلك يدركون جيدا من هم السراق وكيف يلتفون على الحقيقة لغاية في قلوبهم ، ليس إلا!!!.
- شاءت إرادة السماء أنْ حلّ ما حلّ فينا، وتلك إرادته سبحانه وتعالى. كما شاءت الدنيا أنْ تسيّرنا حسب هواها وأهدافها ولكن علينا أن نمتلئ من نِعَم السماء فتتلاحم أيادينا وتتعزز إرادتنا، فثقل الحياة ليس بإمكاننا حمله إلا إنْ كنا أوفياء لتربتنا ولأجيالنا وأحفادنا، ونطلب عون الله، وإنْ كان الإرهاب قد منح حياة لا يملكها، وتوصل الدنيا إلينا رسالة الدمار والتهميش والتهجير فيكتب لنا الزمن تاريخاً مزيَّفاً بالتهنئة وكباره... فتلك مصيبة المصائب وحقيقة النوائب.
- ألا يكفي زمن الحروب المميتة والطائفية المقيتة والعشائرية الهزيلة والقومية القبلية كي ننادي بالمواطنة الصالحة والعمل المشترك، وأنْ نضع الحقيقة والشهادة من اجلها وفي مكانها من أجل الوطن كي لا يبقى محتَلاًّ، فتُسلَب إرادته وإرادتنا، ويبقى مشتَّتاً بأبنائه وانتماءاتهم.والله بكل شيء عليم ، نعم وآمين .

172

نداء عاجل ..أين رمزنا ، "صليبو دحايي"
شكرا جزيلا اخي وعزيزي ظافرشنو السامي الاحترام
ان عبارة " ولا نقف مكتوفي الأيدي فنحني رؤوسنا لكل عابر سبيل يريد منا أن نكون ذبيحةً وقرباناً كإسحق ابن إبراهيم"
لم اكن اقصد فيها ما فسرته انت او شرحته
فالعبارة قسمتها الى ثلاثة اقسام
1-   " عبارة ولا نقف مكتوفي الأيدي" معنى ذلك ان الزمان هذا يجب ان يعلمنا وحدة الكلمة في المشسيحية الواحدة ونعمل جهدنا كي نعود الى ديارنا ونبني قرانا والا ضعنا في متاهة المصالح والسياسة .
2-   " وفنحني رؤوسنا لكل عابر سبيل " اعني فيها علينا ان نقلع الخوف من قلوبنا ولا نبقى على هامش المسيرة اذ يعتبرنا كل واحد يعبر الطريق ان الخوف يملك على قلوبنا ، فيعيبوننا كما استهزوا بالمسيح الحي وهو في طريقه الى جبل الجلجلة .
3-   اما عبارة  " أن نكون ذبيحةً وقرباناً كإسحق ابن إبراهيم"  اننا بسبب خوفنا وضعفنا اما نرحل او نستسلم للامر الوقع فنكون بذلك ضحية لليمين واليسار ويقدموننا قربابا كما قال الرب يسوع حينما يضطهدونكم " انهم يقدمون قربانا لله ."
في هذا الجواب البسيط اكيدا انا مؤمن انك ادركت الحقيقة وانني منتبه اكثر من القارئ المحترم الى ما يخطه يراعي وانتبه جيدا في كل حرف او كلمة اسطرها . لان المسيرة ليست في الكتابة فقط ولكن الكتابة ما هي الا سبيل الى الطريق المستقيم في حقيقة الايمان والحياة . فانا منتبه جدا لما اكتب ولما اقول ولما اسطر .
واذ اقدم شكري اتمنى من الرب ان يمنحك نعمة تحتاجها لمسيرة الحياة واقبل داخلتك بصدر رحب فذلك ينبوع الخير والمحبة في حقيقة الايمان
ودمتم في محبة المسيح
محبك المونسنيور الدكتور بيوس قاشا

173
  بمناسبة الذكرى الثالثة لاحتلال أراضي سهل نينوى

نداء عاجل ..أين رمزنا ، "صليبو دحايي"!؟
المونسنيور د. بيوس قاشا

   نعم، أربعة عشر قرناً ومسيحيو الشرق يعانون من الإرهاب والإضطهاد، فقد قدّمــــــــوا ملايين الضحايــــا لأجل الحفــــاظ على عقيدتهــــم الدينيــــة وكيــــــانهم المسيحي وبنـــــــاء
أوطانهم بروح التضحية والإخلاص، ومع هذا فإن حملات اضطهاد المسيحيين أخذت منذ القِدَم مسلكاً واحداً هو القضاء عليهم بمختلف الوسائل، بدءاً بأجدادنا وأسلافنا _ ونحن اليوم أولادهم وأحفادهم _ الذين كانوا يعيشون في الوسط الأصولي الداعشي الإرهابي وبمختلف مسمّياته في أراضي سهل نينوى وفي ظلّ رحمتهم المزيَّفة، مدّاً وجزراً وفي أغلب الأماكن كانوا وكنّا ولا زلنا، وفي كل الأزمنة نشعر بالمذلّة والخوف والرعب والسيف المسلَّط دائماً وأبداً على رقابنا، وإشعارنا بأنّ حياتنا لا قيمة لديهم.
   والحديث عن ما حلّ بنا لا يوصَف بإنشائه ولا يُحكى بمسيرته الشيطانية المجرمة ولا يُقاس بميزان السرقات المتعددة والمختلفة، ولا يمكن للأسطر أن تحكي قصتنا البائسة، فقد كان طوفاناً إرهابياً أصولياً حمل معه مالاً وتاريخاً وحضارةً وتعايشاً، ولم يترك للتاريخ سوى حكايات يندى لها الجبين في قصص مرعبة، ويتأوّه أمامها السامعون وتصمت الألسن ولا يبقى للحديث مجالاً لأن كل شيء قد أصبح في خبر كان.
   نعم، فليكن ذلك مقبولاً بالرغم منا، ولكن أنْ تُسرَق رموزنا وتُهان سبل إيماننا وتُدَنَّس بأيادي وارجل الدواعشيين، فتلك جريمة لا تغفرها آيات أُنزلت مهما طالت أو مهما قصُرت، وما على الجهات الحكومية وقوات الإقليم أن تكون أمام الحدث سيفاً لإعادة مقدّساتنا ورموز إيماننا، وكنوزنا الأثرية والحضارية من مخطوطات وكتب دينية ووثائق وسجلات كنسية، وهنا الحديث يكثر عن أن أُخبر عن أمر كل كنيسة في باخديدا المطرودة، حيث كان لكل كنيسة "صليب الاحتفالات" وهو الصليب الحي "صليوا دحايي" " صليب الحياة "  علامةً ورمزاً تحتفل به في مناسبات أعيادنا وأزمنة عقيدتنا السماوية الإلهية. ففي كنائسنا الخمسة (الطاهرة الكبرى، مار يوحنا، مار بهنام وسارة، مار يعقوب، مار زينا) صلبان من فضة ومطلية بذهب خالص تحمل أيقونة مقدسة من خشب صليب المسيح الحي أو ذخيرة قديسين، هذه كلها سُرقت، ولا زالت حتى الساعة في مجال الضياع والفقدان، وهي أثمن من كل ممتلكاتنا وحضارتنا، إنها رموزنا وقدسياتنا، ولكن الوحشية التي لبسها الداعش الأصولي قد دنّست كل شيء، والذي ابتُلينا به في عراقنا خاصة وفي شرقنا عامة.
   أمام ما حصل، أناشد حكومتي الموقَّرة وقوات البيشمركة والحشد الشعبي في ربوع شمالنا العزيز أن تعمل جاهدة على العثور عليها، وأن تدخل بيتاً بيتاً من بيوت الأعراب الذين أحاطوا حوالينا في سهل نينوى، وعبر إمكانياتهم الأمنية ومقدراتهم الإستخبارية أن تعمل جاهدة ومخلصة من أجل العثور عليها، وإلا ماذا تعني نداءات العودة والعيش المشترك وإعادة بناء ما دمّره داعش إذا كانت رموزنا قد سُرقت ودُنّست من أناس يحملون أصولية بائسة وإرهاباً مجرماً، وفي هذه الدعوة أناشد جميع رؤسائنا الدينيين وشعبنا الأبيّ _ الذين ذاقوا الأمرَّين في هذا العراق العظيم من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه _ على التضامن والمطالبة بحقنا الإيماني والسماوي المشروع، ولا نقف مكتوفي الأيدي فنحني رؤوسنا لكل عابر سبيل يريد منا أن نكون ذبيحةً وقرباناً كإسحق ابن إبراهيم، وكفانا خضوعاً وخنوعاً وهروباً وحمل الحقائب من أجل ملء البطون والنوم الهانئ، فالقلوب أدرى بربّها وبقوة إيمانها وبحقيقة عقيدتها، وكفانا تقاعساً وصياحاً وصراخاً وإصدار بيانات ليسمعنا العالم، فبئس ذلك إنْ كنا لا نسمع أولاً صياحنا وصراخنا وندرك تقاعسنا قبل غيرنا.
   كما أناشد رجال الكوتا المحترمين والأحزاب السياسية والمنظمات المسيحية والإسلامية الإنسانية وشعب سهل نينوى وجميع ذوي الإرادة الطيبة وبالخصوص أبناء بخديدا الكرام، أناشدهم أن يوحّدوا كلمتهم أمام النهر الجارف لمسيرة إيماننا والخطر الآتي إلينا. فلنعلن مطالبنا، ولنناشد كبار الزمن ومسؤولي الدنيا والضمائر الحية، أن تعمل الجهات الرسمية على اكتشاف مَن هو الداعشي السارق ومَن إشترك وشارك في هذه الجريمة في سرقة صلباننا _ صلبان المسيح الحي _ وإلا ما الفائدة أن نعود إلى ديارنا ولا زال الحرامية واللصوص والسرّاق يجولون ويمرحون وينتظرون فرصة أخرى سانحة ليقتلوا ويميتوا ويذلّوا ويذبحوا البقية الباقية لشعبنا.
   هذا نداء أوجّهه لجميع ابناء شعبنا وذوي الإرادة الصالحة في عراقنا العزيز أن نقف موقفاً واحداً موحَّداً، ولنشارك مخلصين في كشف مَن سرق رموزنا وحرق كنائسنا وهدم مذابحنا وكسّر صلباننا، وإلا عبثاً نحاول أن نحافظ على شعبنا ببقاء كراسينا وصوت بياناتنا وعدم وحدتنا، وما ذلك إلا حقيقة مزيَّفة. إنه مطلب وسؤال من صميم حياتي كتبتُه، وفي مسيرة عقيدتي أرسله إليكم، فأنتم شهود على ذلك، أليس كذلك!؟. وشكراً لكل مَن ساهم ويساهم في لمّ شملنا سياسياً ودينياً وشعباً وأحزاباً، فقد قال الرب المسيح الحي:"مَن ليس معكم فهو عليكم" (لوقا 50:9)، و"مَن ينكرني قدّام الناس أنكره أنا أيضاً قدّام أبي الذي في السموات" (متى33:10)... نعم وآمين ودمتم.

174
بمناسبة الذكرى الثالثة لاحتلال اراضينا في سهل نينوى

بين المسلمين والمسيحيين ... خناق أم عناق؟
المونسنيور د. بيوس قاشا
  في البدء...
ربما شاءت الإرادة الإلهية أنْ نُطرَد من بيوتنا وتُسرق أموالنا وتُحرق منازلنا ونلجأ إلى الغربة من أجل بقاء الحياة. وأمام هذه المأساة بل الإبادة والضياع لم يُسمَع صوت بكائنا ولا أنين آهاتنا ولا ألم معاناتنا إلا من قليل من كبار الزمن ورؤساء الدنيا والجالسين على كراسي الحكم والنظام، فكان مَن مَدّ لنا يد الرحمة والعون وكلٌّ حسب قدرته وإمكانياته، ولذلك نحن لهم شاكرون. ولكن الحقيقة لم تقال بعدُ، والسؤال يظهر جلياً ليجد نفسه بلا جواب: هل بين المسلمين والمسيحيين حروب وخصام أم عِداء عبر آيات وحقيقة الإيمان؟، وهل لا زال المسلمون _ ومنذ أمد بعيد _ يكفّروننا ويصغّروا قاماتنا ويقلّلوا من وجودنا وقيمته؟، وهل الإسلام الأصولي أدرك أن عليه أن يترك مسار التكفير والذمّة والجزية كي يكون في مسيرة العيش المشترك وقبول المختلف عنه في كامل الحقوق عبر إنسانية الحياة ونِعَم السماء، بل أقولها حقيقة وتلك إرادة المسيح الحي الذي أوصانا بها إذ قال:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8)؟، هل بين المسلمين والمسيحيين _ وبعد صراعات فكرية وطائفية _ وعلى مدار الزمن والسنين، عناق أم خناق؟.
   المجرم الداعشي
   يقول لنا الزمن في كباره ومصالحه أنْ عودوا إلى دياركم وابدأوا الحياة وكأنّ شيئاً لم يحصل، أو لم يكن، وما أجمله من كلام بل وما أغناه من فكر ومسيرة، وهكذا يُنشد أيضاً كبار معابدنا وسياسيّو حكوماتنا دون أن يُظهروا لنا ما هي السبل التي يجب إتّباعها لمستقبل لا يتكرر علينا هجومه الداعشي الوحشي في شراسة البشر القاتلة وأصوليتهم. وهل بناء الجدران والحيطان أهم بكثير من إعادة ثقة الإنسان في مسيرة الزمان ومستقبل الأيام؟، لا أعلم، وليس بإمكاني أن أعطي جواباً لسؤال لا أجد له حلاً بسيطاً، بل عليّ أن أدفن الحقد الذي يسكن في قلبي والكراهية التي ترافق مسيرتي والبغض الذي ينظر إلى الذي ظلمني وقتلني وسرقني، ويزأر أمام كل وجه شوَّهَتْه آيات التكفير وعلامات الذمّة والتصغير، ولم أجد في ذاتي وأمام عيوني إلا الأصالة المذبوحة والهجرة البائسة والتراب المدنَّس بأرجل الدواعش الأشرار، وما تلك إلا أخطار تداهمنا ليلاً وحتى نهاراً.
      أصوات ... وأصوات
   وأيضاً أسأل المرجعيات والمشايخ والعلماء الموقَّرين، وعلى اختلاف مذاهبهم ومدارسهم وعلمائهم وانتماءاتهم، هل أتت فتاواهم بإيقاف تكفير المسيحيين، وهل حرّمتهم من قتلهم أو منعتهم من فرض جزية عليهم أو إجبارهم على إعتناق الإسلام وحرمان أي نوع من الممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية التي تمسّ أمان واستقرار وسلامة المسيحيين وممتلكاتهم؟.
   نعم، كانت أصوات من عدد من المرجعيات الموقَّرة والعلماء المحترمين تُعلَن من على منابر الخطابة في المساجد والجوامع، ولكن أية فائدة تعمل في قلبٍ يؤمن بما يقوله إيمانه بقتل كل كافر مختلف عنه وذلك حلال عليه وكأنه يقدّم خدمة لرب الجلالة الذي جعله نائباً عنه ليفتك ويقتل ويطهّر الأرض منهم ومن بلاياهم. فنحن اليوم نعيش في وسط أصولي داعشي إرهابي، ملأ الأرض فساداً وجريمةً وتكفيراً. أليس من حقهم أن يشعر المسيحيون _ أنهم على مدار الزمان ومسيرة الأيام _ بالمذلّة والخوف والرعب والسيف المسلَّط دائماً وأبداً على رقابهم، وإشعارهم بأنهم "صاغرون" (التوبة 29).
   وطن واحد
   إننا نحن المسيحيين نشعر إننا مع المسلمين شعب واحد، وهمومنا ومعاناتنا واحدة وفي وطن واحد، إنها رسالة وهذه ليست صدفة بل إرادة من الله تجسدت في أرضنا ومشيئته علينا، وندرك جيداً أن ألمنا واحد ونحن كلنا نركب قارباً واحداً لا وجود فيه للحواجز والجدران العازلة، وليس فيه نبوءات عن القتل والتكفير والذمم، بل في هذا القارب نتقاسم الحياة، وفيه نعيش معاً ونموت معاً ونواجه مصائبنا وعواصفنا معاً عبر تظافر جهودنا، ونعمل جاهدين كي لا تنقسم إرادتنا وهدفنا، فإذا انقسمنايغرق قاربنا ونغرق جميعاً معه... أليس كذلك!!!.
   رجال الإيمان
   ما أراه على الأخوة الإسلام أن يعلو صوتهم في وجه الإرهاب والتطرف حقاً وحقيقةً لإزالة ثقافة الخوف والترهيب والموت والتي يحملها الأصوليون الذين يدّعون أنهم إسلام ولا إسلام غيرهم والعكس صحيح، إذ أقول لا يمكن للدين أن يكون سبب تفرقتنا، فالوقوف في وجه الموت المهدِّد لنا رسالة سامية بل مقدسة، وهذا ما يدعونا إلى تعزيز الحوار والتلاقي في اكتشاف النقاط والخطوط البيضاء التي تجمعنا وليس الخطوط الحمراء والتي تفرّقنا في محو مساحات الاختلاف والعزلة والتفرقة، فالدين لله والمواطنون مؤمنون كلٌّ بدينه ولا دين فرّق عن آخر إلا بعيشه وقبوله وما نحن إلا رجال إيمان وليس رجال دين، فالدين علاقة ما بين الخالق والمخلوق، بين الإنسان والعليّ العظيم، أما رجال الإيمان فهم مَن يحملون الإيمان في صدورهم وسواعدهم، في غفرانه وتواضعه، لأن رجال الإيمان هم رجال خدمة في تواضع مسيرة الحياة.
   تفسيرات متطرفة
هل يجوز في هذا الزمن أن نقبل التفسيرات المتطرفة للنصوص الدينية؟، ألم يقل يوماً سماحة السيد عمار الحكيم:"إن النصوص المجتزأة يُراد منها إثارة الفتنة بين الطوائف" (17/5/2017)؟، أليس هو الآن زمن مراجعة المناهج في مدارسنا وكتبنا من أجل أن يزداد كل واحد معرفة بالآخر، وننشّئ أجيالنا بمسؤولية تجاه الجار والقريب والآخر المختلف؟، ألم يحن الوقت لإيقاف إصدار الفتاوى وآيات تكفّر أهل الكتاب وحاملوه؟، ألم يأتِ الزمان الذي فيه يُنَزَّل الخطيب من على المنارة وهو يلقي خطابه الديني المميت؟، أين هي حرية العبادة والدين والهوية؟، أين مسار قومية كل إنسان وبطاقته الوطنية؟، فالمكونات _ ومنهم المسيحيون _ وإنْ كانوا أقليات فهم مع الأغلبية يتقاسمون، وينشدون دستوراً واحداً يُصاغ فيه حقوقنا وواجباتنا وعلى السواء، فالدين لله والوطن للجميع، وللمؤمنين دينهم وإيمانهم، وللدولة دستورها وقانونها، فلا يمكن أن تدين الدولة بما تشاء الأغلبية، ولا يمكن للمؤمنين أن يؤمنوا بما يُكتَب لهم وما ليس بإرادتهم، وهذه هي الحقيقة بأَمِّ عينها، وهذا ما يجب أن يكون، بل وهذا ما يجب أن يحمله الدستور ليس إلا!!!.
   مستقبل شعبنا
   لاشكّ إننا نقف جميعاً وعلى حافة مرحلة تاريخية خطيرة وحساسة من حياة بلدنا العزيز ومستقبل شعبنا، وصحيح إن المنطقة تمرّ بتطرف لا يوصف وثقافة التعصب والطائفية المقيتة، وهذا لا يعني أن نسير مسارها بل أن نحدّد رؤيتنا ومصيرنا وما هي الدولة التي نصبو إليها ولتكن لكل المواطنين فهي مبنية على احترام هوية الآخر وحرية إيمانه ومبادئه واحترام رموز دينه وليس في السيطرة الدينية أو العددية أو الطائفية أو العشائرية أو القرابة أو النسابة، لأن قضيتنا ليست قضية وجود فقط بل قضية رسالة وخاصة في هذا العالم المضطرب وسط تحديات لا حصر لها. وقد قيل كثيراً أن الإرهابيين لا يمتّون إلى الإسلام بِصِلة ولكنهم يمضون في تجاهل الفكر الذي يتغلغل بين الأجيال الصاعدة والذي يعلن أن الجنة تُضمَن بقتل الأبرياء. فالمسيحيون لا يبغون هكذا جنّات، ولا يسعون إلى إقتنائها أو ربحها وحتى لو مجاناً، فجنّتهم هي في رسالتهم المُحِبّة لتراب إحتضنهم من أصولهم.
   فقد قال يوما سماحة السيد عمار الحكيم:"إن المكوِّن المسيحي ليس إضافة عددية بل نوعية، يحمل حضارةً وفكراً وتاريخاً في هذا البلد، وقوة العراق تكمن في هذا التنوع"، ودعا إلى الوقوف متضامنين لكسر الحواجز والتأكيد على القِيَم المشتَرَكة وهذا يحتاج إلى سعة صدر واحتواء وتقريب وجهات النظر (12/3/2013)... أمام هذا الحديث، أليس من أحكام واضحة من الإسلام تجاه المسيحيين وهي إشهار إسلامهم أو دفع الجزية أو القتل، ويجب قتال اليهود والنصارى لإرغامهم على الدخول في الإسلام، كما يجب قتال الصابئة والمجوس... فهل يجوز العودة إلى الخناق بعد ألفي عام من مسيرة الدنيا.
  الخاتمــة
   إن المسيحية رسالة محبة ولا غيرها، فالمسيح الحي قال "وصية جديدة أعطيكم أنْ أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"(يو34:13) . فالحب يوصل إلى العناق في القيم المشتركة وفي تضامن الإنسانية أولاً ثم في المواطنة، والمأساة التي حلّت بنا تدعونا جميعاً نحن أبناء العراق بجميع مكوّناتهم أنْ يكونوا يداً واحداً وصوتاً واحداً ولا نكون عبيداً لجيراننا وتبعية لدول الاقليم والذين من حولنا ، مطيعين وخنوعين  رغم إرادتنا ، بل علينا أن لا نصنع إلا إرادة شعبنا وما هو خير لأجيالنا. فعناقنا يدعونا إلى نبذ الخناق، وما العناق بين الأخوة إلا رسالة السماء... فليتعانق المسلمون والمسيحون وما أجمله ليس إلا... نعم وآمين.


175
المسيحيون أمام عناوين مخيفة 
المونسنيور بيوس قاشا
  في البدء
   تاريخ المسيحية مجبول منذ ولادته بالإضطهاد والقتل والمجازر والصلب والطرد، ذلك كان شأن كل التلاميذ ثم الكنيسة الأولى المضطَهَدة (لو12:21-19)، ونسير في تاريخ الإضطهاد في شرقنا حتى نصل إلى مذابح سيفو والإبادة التي حصلت على يد العثمانيين.
كما ولا زالت اليوم تُكمّل الإبادة مسيرتَها بطرق متنوعة وبخطط عديدة في قلع الأصلاء من أرضهم وطردهم من حقيقة ترابهم وإفراغ الشرق منهم ومن بلاياهم _ كما يزعمون _ إنها جراثيم ضد الإنسانية تجعل من الدين إعلاماً لتدمير الآخر بتشويه التفسير، وجعله علامة في رفض المختلف ورفض الآخر وإنْ كان كتابياً، وهذا ما يجعل أنْ يقال أنّ المسيحيين على وشك الإنقراض وضحايا للإبادة الجماعية المخيفة وسلوك سيئ لمسيرة الإنسان المتحضر.

  هبة العلي
على المسيحيين أن يعودوا إلى الأصل وإلى الينبوع الذي لا ينضب، إنه المسيح الحي. فالتنوع مطلوب، وقبول الآخر المختلف ضرورة، وتلك خبرة كنسية إيمانية عاشها قبلنا مسيحنا الحي مع تلاميذه بخبرته وخبراتهم، ولكن ما جمعهم هو "المحبة الكاملة" (يو34:13) التي ملكت على قلوبهم دون محاباة. فالإيمان بالله يعني الإيمان بأن المحبة أقوى من كل شيء "وأعظمهنّ المحبة" (1كو13:13) حتى من الإنسان نفسه، لأنها هبة من العلي، فهي أقوى من الموت، وهي ركيزة الحقائق كما إنها حقيقة الإيمان وبها إجتاز المسيح وتلاميذه كل الحدود دون تحديد صعوبة الحياة وعمق الألم، وما ذلك إلا نداء لمسيرة مسيحيتنا كي يكون المسيح الحي حاضراً في كل لقاء ومع كل إنسان، لأن الموقف المسيحي نابع من موقف المسيح الحي ولا يجوز أن تسود الإنسانية إلا المحبة، ليس إلا!!.

  رسالة أم ضياع
إن المسيحيين يشعرون بالألم من مسيرة بعض السياسيين وكبار الزمن والدنيا الذين لا يسألون إلا عن مآربهم ومصالحهم ومنافعهم، ولم يكن بإمكانهم أن يردّدوا إلا بعض البيانات والإستنكارات، والكلام الصارخ،  والتأوّه تجاه ما إرتكبه تنظيم الدولة الإسلامية حيث الدواعش وما هم إلا قادة أشرار لمسيرتها. كما إن الغرب لم يتّخذ إلا موقفاً متفرجاً مما حصل حتى أدرك أن ذلك ربما سيمزقهم في دورهم، فكانت الحرب ضد الدواعش الأشرار. وأمام هذين الموقفين أتساءل: هل المسيحية ستختفي، تلك التي عُرفت وسبقت حضارتها الإسلامَ
بـ (600) عام؟، أليس ذلك إجحاف بحق المسيحيين في أن يبادوا في بلدانهم!، وهل لا يمكن للكوتا الخاصة بالمسيحيين أن تُدرك ما رسالتها أمام هذا الضياع؟، فإنني أخاف أن أقول: لعلّ الكتل الكبيرة تتنازع فيما بينها كي تكون جزءاً منها، والكتل لهم خاضعون.

   عنف وقتل
كَثُرَ الكلام عن التشدد الإسلامي والإرهاب الداعشي، وعن حركات تكفيرية تقود المجتمع إلى زعزعة وحدته وإداء مكوناته في إختلافاتهم، كما إن الحديث عن هيمنة المجتمع السلفي على المجتمع الإسلامي إضافة إلى ما يحمله من العنف والقتل والإبادة، هذه العناوين وأخرى مثلها عناوين مخيفة لا تحمل إلا الدمار والعنف وإهانة الآخر مختلفاً كان أم لا. إنه تشدد وتعصب وتكفير في حق مَن يخالف الآراء والمعتقد، والمسيحيون ليسوا في منأى عن هذه العناوين المرهبة، فهم ضحاياها شئنا أم أبينا، لذلك تراهم يخافون من الآتي وينامون بقلق ويصبحون بخوف على مصيرهم ومصير عوائلهم وأموالهم وممتلكاتهم وإنْ كانت حال كل الناس هذه الأيام من مسلمين ومسيحيين، وإنْ كان الفكر الديني المتشدد والمتطرف ما عاد حكراً على أتباع دين من دون آخر، فالكل في باحة الخسارة، والكل يعيش واقعاً مريراً.

   شهادة لأصالتنا
ما نحتاج إليه خطاباً دينياً معتدلاً من على المنابر، يقبل الآخر المختلف ويقرّ بحقوق كل إنسان في العيش وعدم التكفير، في دولة مدنية تصون المواطن في حقوقه وتضمن مستقبله بغضّ النظر عن إنتمائه، فآية الكهف (29) تقول:(مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر). فلنتضامن ضد الشر والإرهاب من أجل مشاركة فاعلة في محاربة كل داعش لوقف هذا الجنون، ليس فقط في الميدان وساحة العمل بل في مجالات الإعلام والمدارس والجامعات من أجل وقف كل سلاح ومال عن إرهاب الزمن وأشرار آخر الزمان، والعمل على البقاء في الوطن شهادة لأصالتنا ومسيرة إيماننا.

   رجاء ودعوة
   هل نتفاعل من أجل مستقبلنا وبالذات في وطننا الجريح، وأنا في ذلك لستُ بسيطاً وساذجاً وإنْ كان ما نراه لا يمكن أن نتفاعل مع كل ما يحدث حولنا وأمام عيوننا ومسمع آذاننا ومرأى أبصارنا، ولكن ما أدركه أن الكلمة الأخيرة هي لله وليس للشرّ. ولنتذكر التجربة الثالثة للمسيح الحي بعدما صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً قال للشرير:"اذهب يا إبليس، للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (لو8:4).
نعم، إن هذا الإيمان سبيلنا في عيش الرجاء "والرجاء لا يخيب" (رو5:5) وإنْ كان الوضع الراهن لا يشير بأي حلّ قريب أو نهاية الفاسد الشرير فإن الذي هو أقوى من الموت لا يمكن أن يقتله أحد في داخلنا لأن إيماننا رسالة سامية من أجل وجودنا، ورجاؤنا ما هو إلا في يد الله القدير، وتلك دعوة كي نقف ونستمر في مقاومته وليس للتنازل له. فطريق الجلجة كان طويلاً ولم يكن مريحاً بل متعباً، فلننهض إذا ما سقطنا، فمعلّمنا ومسيحنا سقط ثلاث مرات ولم يتراجع عن الوصول الى جبل الجلجلة (متى 32:27) فما بلانا؟، فالعزيمة هي إيماننا في قيم سامية وليس رحيلنا في حمل حقائبنا واختفائنا.
   دمعة وصمود
إن الكنيسة تحافظ على وديعة الإيمان، كما إنها تسهر عليها وعلى نموّها حيّة في نفوس المؤمنين، لتكبر يوماً بعد آخر إنطلاقاً من واقعها ورسالتها. وإذ تؤمن المسيحية بأن الله قادر على كل شيء، وهو الذي يُخرج الحياة من الموت ويُحيي العظام بكثرة رحمته فهو يقودنا إلى العمل والصمود وتحدّي الصعاب وبرجاء أكيد في العزيمة. فالمسيحيون أبناء القيامة، وبسبب ذلك يجب أن يبقوا شهوداً في الشرق ولا يمكن الرحيل عنه أو تركه، ومسؤوليتهم دعوة إلى الصمود والثبات كي لا نصبح كلنا من المهجَّرين قسراً والنازحين والراحلين لأنه دون ذلك تكون سياستنا وبياناتنا لعبة أمم ولا أكثر... وتلك حقيقة توصلنا إلى الله الرحمن، ونمتلكها كشهادة لمسيرتنا.

   يحيا الرئيس
كانوا في زمن مضى يفرضون علينا قوميتنا بدكتاتوريتهم، وكانوا يسجّلون تاريخنا ولغتنا من أهل الأعراب، والحقيقة لم تكن لمصلحتنا بل لمصالح سياسية آنية في حينها، واليوم وإن تغيّرت الصورة _ فالملقى واحداً _ فكل واحد منا يفتش عن قومية تأويه ليسكن في تاريخ الحياة ومن المؤسف لحد الآن لم نعرف سبيلنا ولا مصالحنا الأصيلة، بل أنانياتنا في مصالحنا وأحزابنا وحركاتنا وطائفيتنا. ولم نكن ندري عنوان قوميتنا التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا بل من أرضنا وأصالتنا، كما كنا في ذلك اليوم عبيداً مطيعين لِمَن يقودنا في الخوف والتهديد، من أجل المصالح والمدائح، وكنا نهتف لكبيرهم وقائدهم ورئيسهم "يحيا الرئيس" و"بالروح والدم نفديك"، واليوم نحن أحرار مضطَهَدون ولا زلنا نهتف " تحيا أنانيتنا وقوميتنا المنغلقة في عزلتنا، وطائفيتنا الانفرادية"، ولكن الحقيقة إننا نسبح في بحر هائج وأمواجه ترتطم في صخرة تاريخنا. ومن المؤسف نحن سعداء حينما نكون لها ولكن بئس تلك السعادة، فلو سألت اليوم أحد أبسط أبناء شعبنا ورجالاته، عن قوميته وطائفيته، فيجيبك وبكل بساطة وسذاجة "أنا مسيحي" ولا شيء آخر.

  زوال وشدة
إننا نعيش في محنة لا توصف بقساوتها وفسادها، كما إن أوقاتنا مصيرية وحاسمة تجاه شعبنا ووجودنا، ولعلّ ذلك إمتحان من ربّ العلا كي يطهّرنا من الداخل وينقّينا وينزع من قلوبنا كل ما من شأنه يعيق مسيرة إيماننا ووفائنا، حاملين روح المحبة رغم مسيرة العداوة التي نلاقيها، وإنْ كانت أحياناً تضعنا على المحك، فأمّا أن نبقى ونشهد لحقيقة وجودنا أو نزول مع أجيالنا وأحفادنا. فزوالنا هو زوال شعبنا، فما علينا إلا أن ندافع بعضنا عن بعض، والشدّة التي تلاقينا تعكس ظلّها على الجميع في أماكننا المقدسة وفي عقر دورنا، وتقودنا إلى ثقافة بائسة في إقصاء الآخر والتعالي، وترافقها مسيرة زرع الأحقاد والسلبيات المدمِّرة.

   الخاتمة
نحن مسؤولون أمام العالم لنشهد معاً للتاريخ والوقوف في وجه كل مَن يريد أنْ يشوّه هذا التاريخ. فالعالم يتفرج علينا أكثر مما ينظرنا ويستهزء بنا وبانقساماتنا وبطائفيتنا وعشائريتنا وقوميتنا، بمصالحنا المزيّفة وكراسينا الزائلة، فيزرع الفتنة والخصام ويقودنا إلى الإقتتال فنفني بعضنا بعضاً شئنا أم أبينا، وما ذلك إلا نفاق وخبث ورياء. فنحن نرفض الموت عبيداً من أجل حياة شوهها الفاسدون وأصحاب المصالح والأصوات العالية، وما علينا إلا أن نقف صدّاً منيعاً أمام ثقافة الخوف والعزلة، ونرفض المبدأ القائل أن هناك أقليات دينية بحاجة إلى حماية، فنحن كلنا جزء من تراب هذه الأرض، والقانون العادل دستورنا، وكلنا شعب هذه الأرض، لنا ما نعمل فيها، ولنا فيها ماضينا، ونحيا حاضرنا من أجل مستقبلنا ومستقبل عيالنا وأجيالنا، عند ذاك لا نخاف من العناوين التي تُسمّى لنا أو نُنعت بها من أجل طردنا ونكران إيماننا، والحقيقة في وحدة كلمتنا، وكلمة في شهادة مسيرتنا، ليس إلا... نعم وآمين.

176





177
رد للدكتور زهير بني
ان مقالي هو بحت مقال ايماني ولا علاقة له بالسياسة
فالنا مقالاتي كلها من الجانب الايماني وليس السياسي وشكرا وان كان احيا مثل هذا المقال يشتم منه رائحة السياسة
مع محبتي
المونسنيور بيوس قاشا

178
المنبر الحر / نعم ... أنا "سورايا"
« في: 19:41 24/03/2017  »
نعم ... أنا "سورايا"

المونسنيور بيوس قاشا
  في البدء
   المسيحية رسالة، والإنجيل ليس كتاباً بل مسيرة حياة نحياه في مسيحيتنا كي نحمله إلى الآخرين، فالمعلّم علّمنا قائلاً:"اذهبوا إلى العالـم وتلمـذوا الأمـم"(متى19:28)، فالمسيح ليس مُلْكنا بل هو لكل إنسان آتٍ إلى العالم، فنعلن له رسالة الإنجيل في البشارة الحسنة، وما هذه البشارة إلا
نبوءة السماء وعطاؤها، فكلنا واحد في جسد المسيح "فإذا تألم عضو تألم الجسد كله" (1كور26:12) وهذا ما يجعلنا أن ننفي من مسيرة حياتنا طائفيتنا وأقليتنا وأغلبيتنا كي نجعل الآخرين أخوة لنا وليس عبيداً أو تابعين لإرادتنا أو لأفكارنا أو حتى لمخططاتنا، فالمسيحية تنادي بقبول الآخر المختلف واحترام إيمان الآخر وفي ذلك نحمل البركة إلى الآخرين إذ قال:"باركوا ولا تلعنوا" (رو14:12).
   الرجاء بالمسيح
عمَّذتُ طفلاً، وطُلِبَ مني أنْ أُعطيه إسماً، فأسميتُه "سورايا"، وإنْ كان زمانُنا مخيفاً وضائعاً، فالأسماء فيه مبتلاة والتسميات مشترات خوفاً من أو استعباداً لغيره، فلم أسمّيه "كلدو" ولا "آشور" ولا "نهرين" ولا "رافدين"، ولم أسمّيه "آرامياً" أو "سريانياً" أو "كلدانياً" أو "أرمنياً" ولا حتى "مارونياً" خوفاً من أن يكبر في القامة عنصرياً أو طائفياً أو أقلياً، ويعيش أغلبية فيكره الأقلية، ولكن أردتُ أنْ يكون إسمه مسموعاً في الآذان ومقبولاً في الرحيل والهجرة، في الغرب وغروبه وفي الشرق ومشارقه. فعند الغرباء الأجانب ربما يفسّرون إسمَه من تبعية العنصرية فلا يقبلون بَصْمَتَهُ ثم رحيلَه، وعند الآخرين ينعتونه طائفياً فلا يسمحون له بالمواطنة وينجح الأصوليون في تسميته كافراً ويحلّلون دمه، ومن خوفي من تسميته في هويته أو في جوازه كي لا يكون مرفوضاً ومهجَّراً علّمتُه أن لا يخاف من الدنيا، فالرجاء بالمسيح الحي. تمنيتُ أنْ أسمّيه كاثوليكياً أو أرثوذكسياً ولكن خوفاً من أن لا يكون أميناً لِدِينِه وإيمانه، ولا يعرف عنهما شيئاً إلا سطحيات الزمن، ومع هذا تراجعتُ فبدأتُ أرشده وأعلّمه مبادئ الإيمان، فهو خُلِقَ لله ولمسيحه ولإنجيله، ثم لشعبه وأرضه، وأردتُ أن يعرف أنّ الكنيسةَ أرضٌ مقدسة وإنّ وطنَه ترابٌ أحبّه الله فمنه خَلَقَه وفيه وضعه، فهو مسيحي له ولغيره.
   في مركز الناصرة
شبّ الطفل وكبر في القامة أمام الناس (لوقا 52:2) فسجَّلتُه طالباً في مركز الناصرة للتعليم المسيحي ليكبر أيضاً في الحكمة والنعمة أمام الله (لوقا 52:2) وكنتُ له معلِّماً، وأرشدتُه في طريق الحقيقة ليقف في وجه كبار الزمن الفاسدين من الداخل وهم عنهم _ قال المسيح الحي _ ذئابٌ خاطفة (متى15:7)، فيقدّسون ذواتهم ولا يقبلون أنْ تُكسَر كلماتهم وتُعدَّل أفكارهم... إنهم الكبرياء بالذات.
   تعليم وإيمان
علّمتُه، أنّه حُمِلَ صغيراً إلى بيت الرب بكراً وفاتح رحمٍ ليحمل الضعفاء إلى حيث المتعَبين والثقيلي الأحمال فالمسيح الرب يريحهم (متى28:11).
علّمتُه، أنّ الإيمان ليس أغلبية وأكثرية أو أقلية وطائفية بل إنّ الإيمان هو في مسيرة الحياة وفي قلبها، وما نعيشه في السيرة والمسيرة، وإنه صدق ومحبة ورحمة وعمل، وقول المسيح للأبرص:"هل تؤمن؟"... إنها الحقيقة (لوقا 19:17).
علّمتُه، أنّ المسيحية رسالة سماوية قبل أن تكون بشرية، وإنّ الإنسانية حقيقة وليس وَهَم، وما علينا إلا أنْ نكون خدّاماً لكلمة الحقيقة، فالمسيح الربّ قال:"مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً" (مر43:10).
علّمتُه، أنّ الجائعَ يجب أنْ يُعطى ويُزاد لا أن يكون مرفوضاً ومطروداً، فالمسيح جائع إلينا (متى31:25-46) قبل أنْ نجوع لأنفسنا، وإنّ الظلمَ والفسادَ مرفوضان مهما صَغُرا أو كَبرا، فهو قال:"لا تسرق ولا تظلم" (الوصية السابعة).
علّمتُه، أنْ لا يسرق من مال غيره، أو يجعل نفسه طاهراً فيسرق فساده من دنياه ليكون طاهراً أمام الناس والملأ، فيكون قديساً أمام ناظريهم ولكن الربَّ يعرف النوايا والخفايا (أع 21:4).
علّمتُه، أن المسيحية لا تحمل خطوطاً حمراء بل هي الحياة لكل الناس "فيه كانت الحياة" (يو4:1)، ولا يكون رئيساً يحب بعضاً ويكره بعضاً، ولا يجامل أقاربه ومعارفه وأصدقاءه وأحبّاءه، ولا تكن المصلحة هدفه، بل أردتُه أن يكون خادماً للكل، فالمسيح الرب قال:"أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لو27:22).
علّمتُه، أنّ الله يحيا في القلوب، ففيها كانت الحياة قبل الطوائف والمعابد والمذابح، فربّنا يدعونا أنْ نترك كل شيء على المذبح ونصالح أخانا، وليس أنْ ننتمي لذواتنا أو نعتبر أنفسنا نحن وليس غيرنا (متى23:5-24).
علّمتُه، أنّ اللهَ أمينٌ حتى الموت وليس مخافةً أو جبروتاً. فالمخافة حكمة وسبيلها الله، والجبروت قوة وسبيله الحب، والرب يسوع لم يمت من أجله، ولا من أجل عشيرته ولا طائفته، بل أعطى حياته من أجل العالم كلّه وأعطاها حتى الموت (يو16:3).
علّمتُه، أنّ الفاسدين فاسدون، ومَن يحامي عنهم يسرق وصية الله، ويشوّه صورته، ويشترك في خطيئته مهما كان مركزه أو مقامه، فبالفساد يمكن شراء كل شيء. والإنسان لا يملك شيئاً حتى الذي له ليس له، فالرب يقول:"والذي أعدَدْتَه لِمَن يكون" (لو20:12).
علَّمتُه، أنْ لا يرافق النميمة ولا مسيرة الإفتراء، وأنْ يكون مسيحياً يحفظ أسرار الآخرين وليس إشهارهم، وعلّمتُه أنْ لا يجالس مثل هؤلاء الناس ولا يصدق كل ما يقال له من قريب أو بعيد، بل أن يكونَ مؤدباً في مسيرته ومحتشماً في كلامه ولا يحابي أحداً من أجل مصلحته، صادقاً في كلامه، لا يهاب كبار الزمن ولا صغار الدنيا لأنَّ أساسه مبني على صخرة المسيح (متى 7).
علّمتُه، أنْ يقول الحقيقة في وجه الأقوياء والفاسدين الذين يقفون في الصفوف الأولى والأمامية في المعابد بحجّة أنهم أطهار القلوب وسليمي النيّات وقادة الشعوب وقلوبهم مليئة حقداً وبغضاً وكرهاً... إنهم شيطان اسود وشجرة رديئة لا تعطي إلا ثمراً رديئاً وإنْ إخضرّت أوراقها (متى 18:7).
علّمتُه، أنّ ما يجب أنْ يكون هو ما ينقصنا، وإنّ ما عندنا ليس مُلْكَنا، فكل شي هو لله، ومنه وإليه يعود، وما نحن إلا وكلاء، وما على الوكيل إلا أنْ يكون أميناً، والأمانة رسالة ومحبة (متى45:24).
علّمتُه، أنّ الرحمة سبيله إلى العيش، وأنَّ لا مناص من ذلك ليكون كريماً في عينَي الربّ، كما كان السامري صالحاً (لوقا10).
علّمتُه، أنْ يقول "آمين" لمشيئة الرحمن عملاً بقول المعلّم "لتكن مشيئتكَ يا الله" (متى39:29) كي لا يتكبّر في الدنيا والأزمان (متى39:29).
علّمتُه، أنْ لا يكون في خلاف مع معبده ليتركه ويذهب إلى معبد آخر معتبراً أن مسيح معبده قد أضاع الحقيقة ونسي أنه هو الابن الضالّ الذي ترك معبده ووالده( لوقا 15) .
علّمتُه، أنه مهما حصل عليه أن يقول "أنا سورايا" كي يمحو من عقله وقلبه كل التسميات والأنانيات، كل العشائريات والطائفيات والقَبَليات، كلّ الأنا وحبّ الذات، ولكي أعلّمه أنّ الربَّ جائعٌ وعطشانٌ إلى نفوسنا وليس إلى سواعدنا، وإنّ الربَّ غريبٌ بيننا ومسجونٌ بسبب نكراننا له، وحبّنا لأنفسنا ولمناصبنا وكراسينا وزماننا ومواقعنا، "والعبد الشرير، يقول ربنا، يُرمى في الظلمة البرّانية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (متى42:23).
علَّمتُه، أنْ يكونَ مطيعاً لرؤسائه وإخوته وليس عبداً، وأن يعبد الرحمن الرحيم وليس أولياء الأمور والزمن، فاللهُ حيٌّ لا يموت.
علَّمتُه، أنْ يكونَ أميناً للحقيقة ولا يفتش عن القضاء من أجلِ منصبٍ مسروقٍ لكبار الدنيا في مصلحة "الأنا"، فالمسؤولُ خادمٌ وليس قاضٍ.
علَّمتُه، أنْ يعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ ولا أنْ يتلاعبَ بميزانِ اللهِ وعدلِهِ من أجلِ نيَّةٍ أو مصلحةٍ أو نظرةٍ أو حسابٍ.
  الخاتمة
ختاماً، علّمتُه، أنْ يكون شاهداً للحقيقة مهما جارت الدنيا والزمن، وأنْ يكون كلاً للكل وخادماً للكل ومُحبّاً للكل، لأنه ينتمي إلى الكلّ، وليس إلى قوميته أو طائفته، ولا يمكن أن يكون خادماً لمذبحه ومعبده، بل هو مُلْكٌ للآخرين (مر35:9). فالمعبد والمذبح لله في مجده، وللكلّ في صلاته... نعم، سَمَّيتُه سورايا، بل أنا سورايا من أجل الكل، حينذاك بإمكاني أن أكون كلدانياً أو سريانياً أو أرثوذكسياً أو أرمنياً أو حتى مارونياً... نعم أنا سورايا... نعم وآمين.


179
عذراً:... المسيحيون أصلاء
مهجَّرون ، راحلون ، مطرودون أم عائدون

   في البدء
   ما هذا الواقع المرير الذي نعيشه، بل ما هذه القساوة التي تتّسم فيها قلوب البشر؟، وما هذا الاضطهاد الذي تعانيه شعوبنا وأبرياؤنا بالحق والحقيقة في أرض الوطن التي أصبحت مجبولة بدماء الشهداء والضحايا الأبرياء، وملونة بألوان الشعوب البائسة في العراق الجريح؟... مشاهد مؤلمة ترينا حقد وكراهية الدواعش الذين دنّسوا أرضنا بأعمالهم الشيطانية، وباعوا ضمائرهم بحلّ الآيات والتكفير مدّعين أن كل ذلك غنائم ونسوا أنها سرقات في وضح النهار والسارق لا يرث ملكوت الله (1كو9:6)، ولكنهم في ذلك يشترون جنّتهم، هكذا يقول لهم دينهم وتعليمهم. ولكن مهما توغّلوا في الجرائم ستبقى أصولنا في أرضنا وجذورها في سهلنا، ومهما كانت المصالح السياسية يتقاسمها كبار الزمن وأسياد دنيانا ستبقى الحقيقة في تاريخ المسيرة ولن نموت، وإنْ متنا سنحضن ترابنا ونُنشد لسمائنا كلمات الحب وأغنية السلام وأنشودة الرجاء وترتيلة الأمل والبقاء.

ضحايا أبرياء
   هذا المشرق عُرف بأصالته وبأصوله، والمسيحيون أصلاء، والتاريخ شاهد على حقيقة الحياة هذه، والأجيال ترافق هذه المسيرة. إنهم أصلاء الأرض وأصيلو الحضارة ولكن قد ملأأ الخوف قلوبهم وسالت دماؤهم دون ارتكاب أية جريمة، فهم ضحايا أبرياء منذ الإبادة في زمان قد ولّى وحتى اليوم، فهم مطرودون ومخطوفون، سلبوابيوتهم وعقاراتهم ومساكنهم، وقد نهبوا كل ما يملكون حتى ما وهبهم الله من خيرات وبركات، ولكن ما ذلك إلا مؤامرة بل جريمة لإهلاك مسيحيي الشرق وطردهم من ديارهم من أجل بناء عالم وحيد في الكلمة والآية وكأنه في عمل الإرهاب هذا يدافعون عن حقيقة قول السماء في مجتمع لا يقبل مجتمعاً مختلفاً عنه وكأنهم أُنزلوا من علُ فيحمّلوننا وزر إنزالهم فنكون ضحايا وحملاناً لإبراهيم، وكل ذلك مُحال أمام عيوننا ومسامعنا وإحساسنا وليس لنا لا حول ولا قوة إلا استنكار وبيان، والمؤامرات رغم ذلك تزداد عنفاً واضطهاداً وتدميراً ولا أعلم إنْ كنا نُدرك مداها كي نمدّ أيادينا في قبضة واحدة فيساعدنا وينقذنا مَن بيديه القرار والحلّ.

حقيقة الاضطهاد
   نعم، مرّ السادس من آب 2014 وما حمله إلينا بلياليه ونهاراته، لقد كان يوم الإبادة بالحق والحقيقة، ولا يمكن لإبن سهل نينوى _ مواطن القرى المسيحية والمكونات المسالمة _ أنْ ينسى ما حلّ به وما قاساه وما احتمله، فقد تعرض للنهب والسلب، للتهجير والتكفير، في إبادة تاريخية لم يُسجّل قبلها التاريخ إلا في الأزمنة الغابرة ولا زال يدفع ضريبة التهجير حتى الساعة ويشدّ الرحيل حتى اللحظة وحقيقة الاضطهاد في المسيرة كلها... ما هذا النهج الأصولي المقيت؟، أسألكم _ بالله عليكم _ ما هي الخطيئة التي ارتكبها شعبنا حتى يُطرَد من دياره؟، ما هي الجريمة التي ارتكبها شعبنا حتى تُنهَب أمواله وتُسرَق ممتلكاته وتُحرَق بيوته ومساكنه؟، وما هي الحيلة التي قام بها شعبنا حتى تُنهَب مخازنه ويُطرد بلباس الليالي؟، عرياناً خرج من بطن أمّه (سفر الجامعة 15:5) وهاهو عرياناً يطرده داعش الإرهابي المجرم، وما الإجرام إلا كلمة لا تفي بحقه.
   شعوب جارتنا سنيناً وأعواماً، أكلت من أرزاقنا، خُدمت من على موائدنا، عُلّمت ووُضعت في صف الحضارة من قِبَل كفاءاتنا بثقافتها وعلمها وعقولها النيّرة لكي تنيرهم، ولكنهم أحبوا الظلمة على النور (يو3:19)، فهجموا علينا كوحش، والوحش حين يصيد صيده يأكل فيشبع وينام ولكن ما حمل هؤلاء الإرهابيون إليهم، إنهم أكلوا وشبعوا وفي بيوتنا ناموا لياليهم ثم أحرقوا ودمّروا وكسروا وحفروا مغاور خنادقهم كجرذان تمشي في ليالي الدنيا الفاسدة وهم يحملون على جباههم ما رسمه الله لقائين القاتل(تك 15:4)... وبئس تاريخ إذا كان ينصفهم يوماً بآية أو بكلمة أُنزلت عليهم.

إلى دياري
   أليس من حقي أن أخاف من العودة إلى دياري؟، أليس من حقي أن أسأل مَن هذا الجار الذي كان يوماً عبداً وخانعاً أصبح قاتلاً وإرهاباً ويريد اليوم أن تتحنّن عليه الدنيا والحياة فتُنصفه عن سرقته وإرهابه وتدميره للأبرياء الأصلاء الذين كانوا في مسيرة البناء والعطاء حيث لم تحمل قلوبهم يوماً حقداً على جارهم أو كراهية تجاهه، فلماذا هذه المجازاة؟، وما تلك إلا جرائم نناشد فيها أنْ لا تعبر عبور الفساد بل في حقيقة العدالة وقانون الزمن.
   نعم، إبتُلينا في صراعات طائفية مقيتة، ومذهبية مميتة، في عولمة مزيفة ودنيا فاسدة ومصالح أنانية ودينية مكفّرة بفتواها، ومَن يرتكبها لا يعتبر نفسه إلا من حقه أن يكون جاراً لكبار الزمن ولكراسي الدنيا. فهل ابتُلينا بهم أو بوطن باعوه لأنانياتهم، أو طاعة خانعة ومزيفة لرئاسات أُدرجت في مسار الدستور الذي مزّق شعبنا ومكوِّناتنا، وكسّر أعمدة الوطن وحبّه وأصخبوا نشيد مقامه؟.

رجاء وبقاء
   نعم، سيبقى أملنا كبيراً ورجاءً ملؤه الحياة والبقاء، وشوقنا سيتجدد كل صباح ومساء في العودة لاستنشاق هواء سهل نينوى ونسماته العليلة، ورائحته ستبقى عالقة في أنوفنا تصعدها كل صباح ومساء شهيقاً لأنفاسنا ينشد عودتنا وإنْ كانت مؤلمة وأليمة، فالأرض أرضنا مهما دنّسها الأشرار، والأرض أرضنا مهما لوّثها الفاسدون، والأرض أرضنا مهما قالوا عنّا راحلون، وصحيح أننا في عودتنا متألمين، فالله رحمن رحيم وأمين سيرافقنا في مسيرتنا، إنه سبيل المستقيم في قلوب الأبرياء وليس في كتب وآيات الإرهاب ولو كَرَه الكافرون
(سورة الصف؛ آية 8)، فنحن الحقيقة بعينها وبأَمِّ حقيقتها، وعودتنا ستكون بعونه لوحة نزيل فيها عن قلوبنا الخوف لكي نقف يوماً صدّاً إذا ما كان الإرهاب يعاود جرائمه وسرقاته ومسالكه البغيضة، وأرضنا لن نبيعها ولن نبكي عليها إلا بأغلى دموع نسكبها ونحن لها صادقون (سورة الحجر؛ آية 64).
   ما نحتاجه أن تكون الأجهزة الأمنية أمينة على حماية كل أبناء سهلنا، أمينة على بقائنا ووجودنا، وفيّة على أصالتنا وتاريخنا، فما مزّقه داعشه وما نهبه وسلبه وما أحرقه ودمّره سنكون له بُناة من جديد ولن نسمح بعد اليوم أن نكون مهجَّرين أو مطرودين، ولن نترك ديارنا من أجل خبزة الصباح وجلسة المساء والنيام حتى الظهر بل سنسهر من أجل حماية أرضنا، وسنذيع عبر مزمار داود "عودوا إلى مساكنكم فربّ الجنود ينتظركم"، فلا تيأسوا ولا تخافوا مِمَّن يقتلون الجسد (متى28:10)وليس بإمكانهم أن يعملوا شيئاً آخر فأنتم حقيقة الحياة والحياة فيكم لأن خالقكم ربّ الجنود وليس ربّ الإرهاب، لأن خالقكم يسمعنا حينما ندعوه بصراخنا ليلاً ونهاراً "فهو من جميع مضايقهم ينقذهم" ( مز34: 18).

مسيرة الرحيل
   نعم، من حق شعب أن يرحل، هكذا تقول مسيرة الحياة وتُنشد عولمة الزمن، ونحن في عالم لا يعرف كيف يسكت ولا يعرف متى يكون الصمت والهدوء. إننا في عالم يزداد في الصخب والصياح، وكلٌّ ينادي "ما أتعبني وما أشقاني"، فلا تخافوا وإنْ طالت ساعات ليلنا، ولا تكونوا سبباً في اقتلاع جذورنا من أرضنا برحيلنا وهجرتنا وطردنا، فأنتم أصلاء الحضارة بل بُناتها، ولا تكن أرضكم الموعودة (تك 15:18-21) إلا أرضكم التي من ترابها خُلقتم وما أعظم عمل الله فهو أرادكم في هذه الديار شهادة لحقيقة حب الله وشهوداً لمسيرة الخلاص في المسيح الحي الذي أحبّنا حتى الموت من أجلنا (رو8:5)، وإلا هل يعجبكم أن تُخلى هذه الأرض من مسيحية إيماننا، من إيمان أجدادنا، من مذابح كنائسنا، من صوت يصدح بالصفرو والرمشو والذبيحة؟، ما بالكم أيها الأحبة فأنتم لستم إلا خراف بين ذئاب (متى16:10) فلا تخافوهم (متى27:14)ندعوكم أن تكونوا شجعاناً، فالرب يسوع يقول لا تخف أيها القطيع الصغير (لو32:12) فالحياة ليست في عالم الزمن بل في دنيا الملكوت، فحيث إيمانكم هناك حقيقتكم، وحيث شهادتكم هناك دياركم، وحيث أنتم شهود فأنتم لها آمنون.

والعـودة صوت
   هل ستبقى العودة صوتاً إعلامياً أم رسالة إنسانية أم جواباً سياسياً أم إخراجاً تلفازياً؟، فالخدمات تنادي بعد تدميرها، والسرقات تصيح بعد غياب كل شيء، وحتى الزوايا المظلمة تشهد _ وبكل تأكيد _ على جرم داعش وجريمة الإرهاب، والمخازن والصومعات والأديرة والمعابد تنشد حقيقة تدميرها، وأزاد الظلاميون في تدمير كل شيء، وطال الاحتلال كل شبر وكل بيت وشارع، وحتى أبراج الهاتف قُلعت وأُذيب رصاصها، شاهدة على أخلاق السرقة التي تشهدها العناصر المجرمة... إنهم مملكة الشرّ، بل هم جوقة بعلزبوب(2ملوك1: 2؛ متى22:12-24)... والله في ذلك خير العارفين.

  في الختام
   نعم، متى تشهد الحياة لحقيقة الوجود ومتى تنزع من الأصوليين أفكارهم الإرهابية، ومتى يحمل الجميع الحوار والحكمة في الكلمة والمسيرة وفي وحدة الهدف!... أيجوز أن نبقى ضحايا العنف والإرهاب؟، أنبقى مطرودين من ديارنا رغم أصالتنا وأصولنا؟، أنبقى مهجَّرين بين أصقاع العالم والدنيا رغم تعلّقنا بأرضنا؟، ألا يرحمنا التاريخ ونحن الذين كتبناه؟... حتى متى نُشترى بصدقه ونُباع بفلسين في زوايا الدنيا المظلمة.
   فيا كبار الزمن وأسياد الكراسي، كفانا كلاماً وبيانات واستنكارات وشجباً وكل ذلك أوهام إنْ لم تكن الحقيقة شاهدة على مسيرة الأيام والوطن. فدرب المسيح في الجلجلة انتهى بالقيامة، أما دربنا نحن كان ولا زلنا وهل سنبقى نسير فيه!، فمتى تكون القيامة ومتى يقال عنا "لكم حقوقكم، والدستور ينصفكم، ومسيرة الحياة ترافقكم. فأنتم الأصالة والحضارة والتاريخ"، وفي ذلك تُكتب نهاية المأساة، فلا مطرودون ولا مهجَّرون ولا راحلون بل عائدون... نعم، إنها الحقيقة بأَمِّ عينها ليس إلا!.



180
عذراً عذراً...
نحن كنائس وليس طوائف
المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
كل الاحترام والتبجيل لرؤساء الكنائس الأجلاء، وما مقالي هذا إلا غيرة على بيت
الرب وشعبنا الذي يعيش طريق الجلجلة والشهادة والإضطهاد، وما أنا في ذلك إلا مطيع وخادم وأمين على ما أُعطيتُ من النِعَم والخيرات لأن الوكيل يجب أن يكون أميناً ووفياً. وأعتذر بكل قوة عن عبارات ربما ستُحسَب إنها ليست في محلّها، فأنا لا أطلب إلا الغفران والصفح وما غايتي إلا أن أكون صوتاً صارخاً في السهل الذي كُتب باسمنا ولم يُرسَم بعد على خارطة الحياة والطبيعة. فلا زلنا مشتّتين ورُحَّل من بلد إلى آخر وبؤساء، نصطفّ في طوابير كي نأخذ قوتنا وأرزاقنا ونأكل وننام ولا يُطلَب منا أكثر، وهذا ما يجعل رسالتنا تضيع وإرادتنا تموت.

   هذا ماحصل    
في صبيحة الثلاثاء، 3 كانون الثاني 2017، أُعلن من على قناة عشتار الفضائية بأن رؤساء مجلس الطوائف المسيحية في العراق عقدوا اجتماعاً في كنيسة الروم الأرثوذكس ببغداد وأعلنوا فيه عن إعادة تأسيس المجلس بعد انسحاب الكنيسة الكلدانية من المجلس. ومما جاء في بيان رؤوساء مجلس الطوائف المسيحية:
"إن أعضاء المجلس يعبّرون عن أسفهم لقرار غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو انسحاب الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية من المجلس ومنذ الثالث عشر من كانون الأول من العام الماضي (2016)".
كما ذكر البيان "أن المجلس عمل على انتخاب أمانة سرّ جديدة له مجدِّداً كما تمّ وبالإجماع انتخاب الأمين العام للدورة الثالثة بعد تعديل المادة الخامسة من البند الأول من قرار تشكيل المجلس".
ولكن لم يذكر ماهي المواضيع التي أُدرجت في جدول الأعمال، فالبيان جاء مقتَضَباً وذكرها عابراً بتواقيع السادة الأساقفة الحاضرين لهذا الاجتماع.

   من الماضي القريب
وبعد ستة أعوام ونيف، وفي صباح الثلاثاء، التاسع من شباط عام 2010، أُعلن عن تأسيس مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق، وقد إستبشرنا حينها خيراً، وتنفس المؤمنون رائحة المسكونية في مرحلتها الأولى ولكن!!!... وقد جاء في بيان التأسيس ما نصّه:
"إن المجلس يهدف إلى توحيد الرأي والموقف والقرار في الشؤون بين كنائس العراق فيما بينها وتجاه الدولة من أجل ازدهار وتقرير الحضور المسيحي وتفعيل التعاون والعمل المشترك دون التدخل في خصوصية الكنائس أو الكيانات الخاصة لأيٍّ منها".
كما ذكر البيان أيضاً "إن المجلس سيضطلع بتنشيط الحوار والمبادرات المسكونية بين الكنائس الأعضاء مع كنائس العالم والرئاسات الكنسية المختلفة، والانفتاح على الآخر، والعلاقة مع الأخوة المسلمين، فضلاً عن رعاية قضية التعليم المسيحي وتحديد مناهجه في المدارس الحكومية بالتنسيق مع الجهات الرسمية. والعمل على تشريع قانون الأحوال الشخصية للمسيحين في العراق وتعزيز التزام المسيحيين في الحياة العامة ضمن حقوق المواطنة والمشاركة وبناء الوطن الواحد".
وذكر البيان أيضاً "إن المجلس ضمّ في حينها جميع الطوائف المعتَرَف بها من قبل الدولة العراقية وعدها (14) طائفة كما جاء في الجريدة الرسمية لوقائع العراقية بعددها 2867 في 18/1/1982".

   من دار البطريركية
وفي التاريخ ذاته والنهار عينه صدر بيان موقَّع من رئاسة البطريركية الكلدانية فيه يعلن غبطة أبينا البطريرك مار روفائيل الأول ساكو (بطريرك بابل على الكلدان) عدم إرتياحه لهيكلية مجلس الطوائف المسيحي في العراق والذي انعقد في الثالث من كانون الثاني الحالي (2017)، ومن تسميته مقترحاً إجراء تعديلات واعتماد تسمية "مجلس كنائس العراق" بدلاً من "مجلس رؤساء الطوائف المسيحية"، وتفعيل دوره وخصوصاً أنه حتى الآن لم يقدم شيئاً كبيراً. كما أعلن البيان أن المجلس لحدّ الآن غير معتَرَف به من قِبَل الدولة ولا يمثّل جهة رسمية. وأظهر البيان في نصوصه أيضاً بعض المقترحات التي يراها غبطته مناسبة لهذه المرحلة منتقداً هيكلية المجلس الإدارية وترؤُس جلساته، ودعا إلى التعديلات التي يجب أن تكون لوضع المجلس في المسار الصحيح ومُبدياً أفكاره البنّاءة لذلك.

   الحقيقة وحاملها
في مقابلة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر في الحادي عشر من كانون الثاني عام 2012، وبينما أنا أهدي لقداسته كتاب كارثة كنيسة سيدة النجاة _ التي عشتُ ليلها وهولها، وأحصيتُ ضحاياها وشهداءها، وصوّرتُ مآسيها وكارثتها _ وبينما أنا أهدي الكتاب قال قداسته:"يا أبانا، أنتَ شاهد للحقيقة"، فقلتُ:"أية حقيقة؟"، أجاب:"هذه"، ومن حينها أكّدتُ على نفسي أن لا أقول إلا الحقيقة بعينها وأن أواصل قولها وإنْ كانت مؤلمة وتقودني إلى تحمّل المآسي، فالمسيح الرب قال:"قولوا الحق والحق يحركم" (يو 32:8).
كم من مرة منذ تأسيس المجلس _ وبأمانة سيادتكم، وحديثي إلى سيادة المطران آفاك أسادوريان (الجزيل الاحترام)،  الأمين العام لمجلس رؤساء الطوائف المسيحية،الذي أكنّ له الاحترام الكبير _وفي مناسبات ولقاءات عديدة، كم وكم قدّمتُ نفسي لخدمتكم وخدمة المجلس إعلامياً، معلناً كل خدماتي وبكل أمانة، منذ تأسيس المجلس ولحدّالساعة وخاصة بعدما نلتُ شهادة الماجستير في الإعلام والصحافة، فكان يأتيني الردّ إمّا بالصمت أو بعدم الجواب أو ببسمة خفيفة لا يبقى ظلّها إلا ثوانٍ، وإمّا بقوله "ليس هناك مَن يرشّحك في هذا المجال أثناء الاجتماع"، وإنْ كنتُ أعرف أن أحد كبار المجلس قال لي يوماً أنه  قد اقترح اسمي مرة ولكنه لم ينل الموافقة،  فتلك آية البشر وهذه مسيرة الأيام.أسأل: هل أنا غريب عن بغداد التي قاسيتُ فيها الحروب والحصار؟، هل أنا غريب عن آلام مسيحيي بغداد والعراق بعدما تركها الكثير من الرعاة، بل جميعهم، خوفاً من هول الصواريخ والقنابل، وقمتُ أزور المؤمنين بدراجة هوائية وقاسيتُ معهم خوفهم وفزعهم، كما وقمتُ في سنة الحرب عام 2003 بدفن عدد كبير من ضحايا الحرب في حدائق الدور والمنازل إذ لم يكن من السهولة الوصول إلى المدافن وقمتُ بنقلها بعد أن توقفت الحرب والقصف بمساعدة أناس طيبين ذوي مروءة ورجولة؟، ولا زلتُ لحدّ الساعة أعمل بما أعطاني الرب من النِعَم من أجل خدمة أبناء شعبي ومصالحهم. فأنا لم أقترف إثماً بتقديم ذاتي لخدمة المجلس وأمانته، وإنْ لم يحبّذ البعض أن أكون لغاية في النفس لا يعلمها إلا الخالق العظيم... فليكن اسم الرب مبارَكاً.

   سادتي الكرام:
إنا نعيش في زمن لا نُحسَد عليه، فهو زمن يذكّرنا بالاضطهاد والوعيد والتهجير والنزوح الذي حلّ بآبائنا وشعبنا، ولا زلنا نتذكر مجازر 1915 في تركيا و1930 عندما ذُبح الآف من المسيحيين وطُردوا من ديارهم في طور عابدين وماردين وهو نفسه اليوم ما يحصل في سهل نينوى وبوحشية لا توصَف، ولا زال شعبنا يحتمل نير الهجرة البائسة. فكثرة الآلام والمآسي والحروب وما عانيناه منذ الاحتلال عام 2003 وحتى اليوم لا يوصَف ولا يصوّره إلا الأعداء الذين دمّروا كل شيء وأحرقوا بيوتنا وأملاكنا وسرقوا ونهبوا غنائماًمن الكفّار والنصارى، إضافة إلى أنهم ينعتوننا بتسميات تحلو لهم ولوحشيتهم. وهل يمكن أن ننسىما حصل بكنيسة سيدة النجاة من حيث تذكّرنا بالأعمال الشريرة التي قام بها الإرهابيون المجرمون، وراح ضحيتها ضحايا وأبرياء كانوا مجتمعين للصلاة؟.

   حوار مع الزنبقة
في حوار نُشر على صفحات مجلة الزنبقة عام 2010مع سيادة الأمين العام لمجلس الطوائف المسيحية في العراق_ وربما كنا قد سبقنا الحدث _ أنقل إليكم نصّه:
** الزنبقة: أنتم سيادة الأمين العام لمجلس مطارنة العراق، هناك مجالس كنسية متعددة: مجلس مطارنة بغداد، مجلس مطارنة نينوى، مجلس مطارنة الشمال. هل هناك توافق بين هذه المجالس في عمل مشترك من أجل الرسالة المسيحية في العراق؟.
* سيادته: هناك اتصال متواصل ومستمر في التشاور الدائم بين جميع رؤساء الكنائس المسيحية ومجالسهم، ونحن الآن في طور التنسيق بين الجميع لتشكيل مجلس عام للطوائف المسيحية في العراق. وقد خوّلني المجلس في بغداد أن أتصل بالمجالس المحلية وبالسادة المطارنة والأساقفة، لذلك سافرتُ إلى المحافظات الشمالية، وزرتُ السادة الأساقفة وتباحثتُ معهم في كيفية تأسيس مجلس يضمّ كافة الطوائف المسيحية في العراق. ولكي يكون هذا المجلس موفَّقاً في أعماله يجب أن يصاغ له نظام داخلي، وهذا ما قمنا به، إذ وضعنا مسودّة النظام. وكوننا نعيش في العراق في ظروف إستثنائية وغير طبيعية منذ عام 2003 وإلى اليوم، فقد كان من الصعوبة إلى عقد لقاء نتبادل بيننا العديد من الأفكار من أجل إعداد مسودّة النظام إعداداً جيداً، ولكن ومع الأسف هناك العديد من المطارنة لا يحبّذون المجيء إلى بغداد، وبعض منهم لا يريدون السفر إلى المحافظات الشمالية، وبهذا لم يرَ النظام الداخلي النور لحدّ الساعة. فمتى سيكون موعد ولادة النظام!!؟.
** الزنبقة: ولكن يا سيدنا، ألا يعني هذا، أو ألا يقودنا إلى التفكير بالعنصرية حينما نقول "رئيس طائفة"؟.
* سيادته: صحيح، ولكن الكنيسة هي المكان حيث يلتقي المؤمنون بالمسيح، فهم مسيحيون. وعلينا أن نستخدم كلمة "طائفة" كما تستخدمها جريدة الوقائع العراقية، كما أحبّذ في نفس الوقت استعمال كلمة "كنيسة" و"رؤساء كنائس".

   حقائق وتساؤلات
عالم اليوم أكثر عنفاً ممّا كان عليه في الأمس، فالتقدم العلمي التكنولوجي والتسليحي سائر نحو إبادة المخلوق والمخلوقات، ووسائل الاتصال الإجتماعي سلاح ذو حدّين فهي تذيع المستور والمعلَن، وتخلط أحياناً بين الاثنين لتُظهر تزييف الحياة التي يحملها الفاسدون والسرّاق المبارَكون. كما لقد فشل التحالف في توفير الأمن في العراق الذي إنحدر إلى الفوضى، وأصبح المسيحيون ضحايا صراع السلطة الطائفي البغيض. فالنزاعات العشائرية والعقائدية تمزقنا جميعاً،ولقد تأخر الكثير من قادة الغرب إلى إتّخاذ الخطوات الملموسة لحماية المسيحيين في الشرق.
منذ عام 2010 _ حيث في هذا العام إنبثق مجلسكم الموقَّر _ وإنه من المؤكد أنكم تعرفون كيف كنا قبل تشكيل المجلس وأين أصبحنا بعد تشكيله. سابقاً كنا مواطنين واليوم نحن مهجَّرون... بالأمس كنا سكّاناً واليوم نازحون وبائسون... بالأمس كنا ننام في بيوتنا واليوم نلفّ الكرفانات والخيام ودفع الإيجارات... بالأمس كنا نزرع حدائقنا ونقطف ورودها واليوم نجمع دموعنا ونقطف آهاتنا... بالأمس كان المدير منزَّهاً طاهراً فكراً وجيهاً ونيّةً واليوم المدير والموظف سارق وفاسد يتعامل بالطائفية والعشائرية والقرابة المزيَّفة لمصالح معينة وهو قديس في أعين البشر المرائين... بالأمس كنّا نملك وطناً وأرضاً وعراقاً واليوم نحن لا نملك حتى الهواء الذي نستنشقه، بل نحن غرباء وأناس مأجورون، وشعبنا يموت على جانب الطريق وحافته... بالأمس لم يكن لنا لجاناً وشؤوناً تهتم بنا وكان الفرح يملأ صدورنا واليوم لنا لجان وشؤون ومجالس، والقائمون عليها يهتمون بأنفسهم أولاً ويملأونا صدورنا ألماً وحزناً وآهات وحسرات... بالأمس فقدنا دورنا وأعمالنا وكسب أرزاقنا والآن فقدنا حتى بيوتنا، وما هو القادم أن نرحل ونترك لهم كل شيء، جرّدونا من كل شيء، المال والمجوهرات...بالأمس كنّا ننام وأبواب دورنا مفتوحة فلعلّ هناك مَن يقصدنا فالبيت بيته وأما اليوم لا نعلم أين توجهت أبواب دورنا... بالأمس كنّا نجول في شوارع مدينتنا واليوم قد أضعنا حتى عنوان حاراتنا...إننا قلقون على كل شيء.

   أتساءل:
أين مجلس الطوائف من كل الذين يُقتَلون، فراداً أو جماعات أو وحداناً؟، من الذين يرتزقون من أجل لقمة العيش والذين عملوا في البسطات وفي الخدمة في مخازن الخمور أو عمال في الصيرفة، أو من الذين يُطرَدون من وظيفتهم ويحاربونهم ليتركوها، أو من الذين يسرقون أموالهم وعقاراتهم؟.وأين أصبحنا من الأحوال الشخصية التي لحدّ الآن لم يتحرك فيها ساكنٌ، وقد قُرِّر منذ إقرار المجلس أنكم ستسعون، والمسعى بعد ست سنوات لم يراوح إلا في محلّه، فالقاصرون إسلام شئنا أم أبينا، والشريعة توصي بذلك ولا مجال آخر؟.
أين المجلس من سقوط قرانا ومدن سهل نينوى بيد داعش الإرهابي؟، ما الذي فعله أبناء هذا السهل المميت؟، ما الذي اقترفته أياديهم حتى يلوَّث بدماء الضحايا والأبرياء من أهله وسكانه؟. فالسهل كان مهمَلاً ومتنازَعاً عليه واعتبرنا ذلك طبيعياً، والحياة فيه آمنة،بهمّة أهله وأبنائه. ولولا إرادة سكّانه ونزلائه وأهله لكان أكثر تأخراً، فكانوا علامة بناء لمدنهم بإصرارهم.
   أين المجلس وبياناته ولجانه المتنوعة العناوين وحاملة الإعلام؟، وعن أي إعلام مسيحي تتكلمون اليوم؟،وهل هناك من إعلام مسيحي مسؤول في هذا البلد الجريح؟... تعجبتُ مرة من أحد الرموز المحترمة _وقد حضر مؤتمراً عن دور الإعلام في كنائس الشرق وبلدانهم في بيروت ممثِّلاً لكنائس العراق _فما كان منه إلا أن تكلم عن مجلتين فصليَّتين خاصتين بكنيسته ونسي أن هناك إعلاماً مكتوباً آخر، ونسي الإعلام الحقيقي ومآسي الشعب الجريح... أي إعلام هذا؟.
أين نحن من لمّ شمل المسيحيين؟، صحيح إن كلاًّ يهتم بشؤون كنيسته، وماذا يعني بعدم التدخل بخصوصيات، ولكن نسيتم ما هو دور الجمعيات الكنسية التي دخلت العراق منذ الاحتلال عام 2003 ولحد اليوم، فهل تعلمون أن روّادهم ومؤمنيهم يملئون كنائسهم وهم من أبنائنا من الكلدان والسريان والأرمن بطوائفهم وكنائسهم بكاثوليكيتهم وأرثوذكسيتهم؟، وهل تعلمون أنهم يعملون على إقرار حقوقهم في الدولة وأمام دستور يهتم بتشكيل مجلس خاص يجمعهم تحت مسمَّى واحد وعقيدة واحدة؟، فأين نحن من أنفسنا، من أصلاء الشرق المسيحيين؟، وما هي خصوصياتنا؟.
أين المجلس من كتب الدراسة الإعدادية والمتوسطة والإبتدائية- وحتى اطفال الحضانة -، التي يقرأ ويتثقف فيها أولادنا وطلابنا وطالباتنا المسيحيين؟، هل تصفحناها لنجد ما لا يطيب لإيماننا ولحريتنا وعبادتنا؟، وهل أدركتم ما محتواها؟. فهل تعلمون إنني أتذكر أحد أصدقائي السبتيين كان لإبنته إمتحاناً وزارياً (بكلوريا) عليها أن تؤديه يوم السبت، وكون السبت يوماً مقدساً عند السبتيين فهل تعلمون أن إبنته لم تمتحن احتراماً ليوم السبت وأجّلت الامتحان إلى الدور الثاني؟... لا أقول شيئاً في هذا الشأن ولكن هذه حقيقة إيمان والدها وإيمانها...أين نحن من مسكونيتنا؟، فإنْ حضرنا الصلاة في كنيسة غير كنيستنا فمن باب الاحترام أو نرسل مَن ينوب عنا كي لا نكون سبيلاً للحديث والعتاب؟.
هل يمكن لأبنائنا المسيحيين البقاء في ظل الإضطهاد الديني والداعشي والنزاعات الدائرة في أرض العراق التي فيها وُلدنا وترعرعنا، وفيه بدأنا مسيرة أيامنا ووضعنا أساساً لعمل أرزاقنا؟... فاليوم لسنا إلا نازحين بائسين مهجَّرين، بعدما دمّر داعش الإجرامي كل شيء. فأين الإعلام المسيحي "العراقي"، نعم "العراقي"_ كما قلتُ سابقاً_لكي يفضح ذلك؟، ومَن قال هذه أرضنا، نعم نعلن عنها، والحقيقة فحتى أرضنا ليست لنا؟... ولكن أسال: ما الذي اقترفناه، وما الذي صنعته أيدينا حتى نُطرَد؟، ولماذا من قُرانا؟... سؤال لا جواب له.   هل الكنيسة اليوم تحتاج فقط إلى بيانات إستنكار أو طلب استرحام من أجل تعديل مادة أو باب من الدستور أو من أحد القوانين؟، ألسنا من الأصلاء؟، ألا يجب أن يكون الدستور مُنصفاً للجميع؟، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات وأنتم أدرى بذلك مني أنا الإنسان البسيط.

   ما أتمناه...
* أن أجد كنيستي في العراق في مسيرة وحدة الكلمة، فإنجيلنا واحد ومسيحنا واحد وعماذنا واحد وقرباننا واحد، وكنائسنا بيوت عبادة للثالوث الأقدس وآباؤنا في إيمانهم واحد. فزمن الإضطهاد ليس زمن الكراسي والرئاسات.فالبابا فرنسيس يقول:"إن دماء شهداء المسيحيين واحدة"، فلم يقل هذه دماء الكاثوليكي وأخرى دماء الأرثوذكسي أو الآثوري، وهذا ما يدعونا إلى أن نجعل من رئاساتنا "كلمة خادمة" إذ يقول الرب:"مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً" (مرقس 43:10) وأيضاً "أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا 27:22). فالسريان بكنائسهم المختلفة والكلدان والأرمن كلهم يحملون مع الصليب قطعة قماش علامة للمسيح الذي مسح أرجل تلاميذه بمنشفة واحدة. نعم، وهذا زمن الشهادة ما هو إلا رسالة يحملها إلينا المسيح عبر الأحداث لنُدرك عظمة توحيد الكلمة، وكما قلتُ "الكلمة الخادمة".
* أن أجد كنيستي في العراق تضع المؤمن المناسب في المكان المناسب، فهو لا يملك مالاً بل هو مال الدولة في يديه وما عليه إلا أن يكون أميناً ونزيهاً وأن يبتعد عن القرابة والنسب، عن الطائفية والعشائرية المقيتة، عن المحسوبية والمصلحية،فالمسؤول خادم أمين للمحتاج وليس لبقاء الدنيا الزائلة، وفي نفس الوقت من حقنا أن نفتخر بطقوس كنائسنا وبقومية شعبنا ليس إلا!.
* أن أجد كنيستي في العراق تحمل الإنجيل قبل القنديل، وأن تحمل الحقيقة في وجه الأقوياء كما يقول غاندي، والمشبوهون الذين يرسمون لأنفسهم قداسة المسيرة وهم "في الداخل ذئاب خاطفة" (متى 15:7)،كما يقول ربنا، يذهبون ويرحلون ويمرحون ويسرقون، يلعبون كما يشاؤون فهم في حسابتهم مخلصون، منزَّهون، ويرون الأمور بعينين مفتوحتين، ويرفعون صلاتهم بيدين مفتوحتين، ويقفون أمام قدس الأقداس وأمام أنظار الفقراء والعشّارين والمشاهدين المصلّين، أزكياء النفوس وقديسي الزمن والحقيقة هي مزيَّفة بأشخاصها وأعمالهم، ولا يدرون أن "الرب هو فاحص القلب ومختبر الكلى" (ارميا 10:17)، وما الإنسان إلا حامل المصالح، وأما الرب فحامل الحقيقة، والقداسة الحقة هي في السيرة والمسيرة، وكما يقول قداسة البابا فرنسيس:"هؤلاء لا يحملون من فضائل المسيحية شيئاً وهم عار على المجتمع الكنسي".
* أن أجد  كنيستي يداً واحدة وكلمة واحدة أمام رؤساء الزمن وفي حقيقة الإيمان، فالرب قال:"ليكن الجميع واحداً"(يو21:17)، فالحقيقة أن نكون مجتمعين وليس فراداً، فمن المؤكد أن الكل يحملون غيرة إيمانية ومآسي الشعب القاسية وهذا ما يدعونا إلى أن نكون في رسالة واحدة وليس أي شيء آخر.
* أن أجد وأقرأ أننا نُسمّى "أبناء الكنيسة" بمعنى أبناء كنيسة المسيح وليس "أبناء الطائفة"، فنحن لسنا تبّاع السياسة التي تُفرَض علينا شئنا أم أبينا، بل نحن أبناء "كنوشتو" أو عيتو (كنيسة)، كنيسة واحدة، أبناء كنيسة المسيح يسوع، وبذاك يكون رؤساؤنا، رؤساء كنائس وليس أمراء طوائف أو عشائر كما يقول غبطة أبينا البطريرك مار روفائيل الأول ساكو.
هل يجوز أن تعلّموا أولادنا سبل الطائفية والعشائرية والحزبية!، فالنرجسيات لا مجال لها في قاموس المسيح المُحبّ والخادم، ولا تدرّسوهم حيث الأنا والذات، فالمسيح لم يقل يوماً أنا كاثوليكي أو أنا أرثوذكسي أو أنا ناصري أو أنا من بيت لحم،ولم يقل أنا كلداني أو أنا سرياني أو أنا آثوري أو أنا أرمني، كذلك لم يقل أنا عبراني أو يهودي أو سامري أوكرمليسي أو قره قوشي أو عينكاوي أو مصلاوي _ وإنْ كانت هذه كلها واجبة وثابتة وحقيقية _ ولكن الحقيقة الأولى إننا للمسيح. فالمسيح مات من أجل الجميع ومن أجل خطايانا (رو23:3؛ و2كو14:5) وأيضاً"حياتي هي المسيح" (فيليبي20:1-23)وليس شيئاًآخر. فللعنف أشكال مختلفة ومؤدَّبة في كثير من الأحيان ولكنه عنف بحدّ ذاته، والعنف ليس العلاج لعالمنا المُفتَّت يقول البابا فرنسيس(رسالة السلام؛ 1 كانون الثاني 2017).نعم، لقد أُصِبنا بأمراض وعاهات،نُهبت أموالنا، وسُرقت أرواحنا، ورحلنا قبل زمانناإلى حيث الآخرة. فالمرض أكل في أجسادنا، والحقد والكراهية تعشعش في قلوبنا وعقولنا، والحزبية والطائفية والمصلحة أضاعت حتى ساعات مستقبلنا وآمال أجيالنا التي ستحاكمنا يوماً، فلا تغيير حصل بل كل ينتهي من حيث يشاء، و"حيث الجثة هناك تجتمع النسور" هكذا يقول الإنجيل المقدس (لو 37:17؛ متى 28:24).

   الخاتمة
فلنسأل: لماذا الذي حصل؟، هل أدركتم أننا ضحايا السياسة البائسة والمصالح الفاسدة المزيفة وأصبحنا حَمَل إبراهيم؟،أكيداًإنني أؤمن أن حقل المعركة الحقيقي هو القلب البشري لأنه من باطن الناس ومن قلوبهم تنبعث المقاصد السيئة (مر21:7)، كما أؤمن بأن راحيل ستبقى تبكي على بنيها ولن تكفّ عن البكاء ما دامت المسيرة عاطفية واحترامية ومصلحية، إذ نخاف أن نقول أننا خدام ولسنا رؤساء، والحقيقة تكمن في أن الخدمة هي رئاسة ليس إلا!، ونخاف أن ننبّه الفاسد والمخطئ "بسبب المصلحة والقربى والجيرة"، ففي ذلك أضعنا حتى أبناء الديرة، وجعلنا من الحقيقة كلمة عارية، كيف ونحن أبناء القيامة. نعم، إنها ظروف قاسية نعيشها ونحياها ولم نكن نتوقعها، ومَن منا كان يتوقع أن يحصل ما حصل؟، فشعبنا يتألم وهو قلق على مستقبل الساعة قبل مستقبل الغد... إنه يستحق أن نقف معه ليس عبر البيانات والإستنكارات والنداءات والزيارات الموسمية واستقبال الأصدقاء والأحبّة والأقربين، فلندرك إننا خدّام وليس أصحاب مصالح، رؤساء كنائس وليس أمراء عشائر وطوائف،  ولنعلم أن مسيحيتنا رمز لإيماننا، ولتكن كنيستنا _ وليس طائفتنا _ بيت مسيحنا ومسيحيتنا، فيها نحيا وفيها نموت، لها نمدّ أيادينا وإليها تتوجه عقولنا، فنحن أهلاً لها وهي كنيستنا، إنها أمّنا، هكذا يقول البابا بولس السادس، نعم أمّنا ليس إلا!... وعذراً نعم عذراً، ولكن سأبقى أسأل:ما الذي حصل من ذلك اليوم إلى الآن؟، وما هو التغيير؟.فلتتحد أيادينا وقلوبنا، ولنعمل مجتمعين في حمل رسالة واحدة وفي مسيرة واحدة أمام كبار الزمن والمسؤولين، فنكون بذلك من العاملين بقول المسيح الرب "أنتم في المسيح يسوع قريبين"(أفسس13:2)، وأنا أومن أنكم جديرين بالمحبة والإحترام، وإنكم من أجلنا كنتم وستبقون كنيسة واحدة ليس إلا!، نعم كنائس في المسيح الواحد لا طوائف... نعم وآمين.




181

إلى الأخوة مايكل سيبي وأوديشو يوخنا وكنعان شماس وناظر عناي
سلام في المسيح يسوع

أهنئكم في بداية كلمتي وأقدم لكم شكري الجزيل على تعليقاتكم واهتمامكم بكتاباتي وبالرسالة التي وجهتُها إلى سماحة السيد عمار الحكيم. نعم، أقرّ وأعترف أن الرسالة طويلة بل طويلة جداً وإني ككاهن لا أقول إلا الحقيقة فقد قال عني البابا بندكتس السادس عشر يوم مقابلتي له في 19/1/2012 "أنتَ شاهد للحقيقة" فكلماتي في هذه الرسالة المطوَّلة كلمات الحقيقة وليست كلمات (بايخة) كما قال بعض منكم وهذا من حقكم أن تقولوا ما تشاؤون فكل إنسان حر بأعماله وبأقواله ولكن الحقيقة لا يقولها إلا مَن يؤمن بها وأنا ككاهن سأبقى شاهد للحقيقة مؤمناً بقول المسيح "قولوا الحق والحق يحرركم" وهذه الجملة كتبتُها في بداية رسالتي ليس إلا. فشعبنا وتاريخه لا يحتاج فقط إلى هذه الرسالة المطوَّلة ولكن يحتاج إلى كتب تحكي قصتنا ما فعله بنا الإرهاب والدواعش والإسلام الأصولي والعصابات المجرمة فأنا ما رويتُه وما كتبتُه نقطة في بحر من العذاب والآلام في هذا الشرق الجريح فالمسيحيون هم خميرة هذا الشرق ولا يجوز أن نُفسد الخميرة لأننا حاملين إيمان المسيح وسنواصل المسيرة لنفتش عن الخاطئ ليتوب فهو الذي قال:"أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم" والحكيم من الكلام يفهم.. ورسالتي هذه كانت شهادتي لحقيقة مسيرة الحياة التي نحياها ويا ليتكم تكونون طرفاً إيجابياً كي نعالج قضايانا بطيبة خاطر وبحقيقة الوجود وليس بحمل الحقائب والرحيل والكلام من البلد البعيد فنحن في وسط الأزمة وفي وسط الحريق، ما نحتاجه أن تُدركوا ذلك ليس إلا!... ودمتم لنا إخوة أحبّة وليبارككم طفل المغارة وربّ السماء مع محبتي.
المونسنيور بيوس قاشا

182
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
"قولوا الحق والحق يحرركم" (المسيح يسوع)
 "مَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق" (الإمام الحسين)
إلى/ سماحة السيد عمار عبد العزيز الحكيم السامي الوقار (حفظه الله ورعاه)
رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي ورئيس التحالف الوطني العراقي

    سلام ومحبة واحترام...
أتمنى لكم كل الخير والبركات، ولشعبنا التحرير وحرية الحياة من داعش الإرهاب، ولوطننا الأمان والسلام، داعياً ربّ السماء، الرحمن الرحيم، المحب والغفور، المسالم والكريم، أن يمنحكم وافر العلم والإيمان للسير في تحرير الإنسان وخدمته في الحقوق والقانون والعدالة، كما يطيب لي أن أكتب إلى سماحتكم الموقرة _ ومن خلالكم _ إلى المجس الأعلى الإسلامي العراقي والتحالف الوطني العراقي هذه الأسطر في رسالة أخوية، مسؤولة _ وأنتم أدرى بمحبتي واحترامي لسماحتكم الموقرة _ وأنا ابن هذه الأرض الطيبة والجريحة من سنين بل من عقود، أكتبها بملء المحبة والحقيقة، بعد إنعقاد مؤتمر المجلس الأعلى للصحوة الإسلامية التاسع، والذي ترأستموه أنتم، سماحتكم الموقرة، وذلك للفترة من الثاني والعشرين وحتى الثالث والعشرين من تشرين الأول لماضي، وفي عقر داركم المَضيف، وأمام أنظاركم وسماعكم ورؤيتكم، وبداية عمليات "قادمون يا نينوى" لتحرير مدن وقرى وقصبات نينوى فجر السابع عشر من أكتوبر الماضي، ولمّ شملها في سهولها ووديانها إلى الوطن الأمّ بعد إغتصابها من داعش الإرهابي الأصولي.
فأنا جئتكم _ أنا الضعيف، وبثقة تامة، ومحبة خالصة، وشعور وطني، واحترامي لمرجعيتكم لا حدّ له _ هنا لأقول ما ينتظره المسيحيون في بلادنا ولعلّه يختلف عمّا ترونه وتسمعونه، ولماذا ينادون بحقوقهم، إنهم شعب أصيل، وما يحملونه هو رسالة سامية، بإخلاص وتفانٍ... وبعد؛

في البدء
إنني مواطن عراقي بأصولي، ومن المكوّن المسيحي الأصيل، ابن هذه الأرض الرافدينية، وفي بغديدا (الموصل _ نينوى) سكني وأصالتي، فيها ترعرعتُ، وفي مدارسها نلتُ قسطي من الثقافة، وفي كنائسها إرتويتُ من ينبوع إيمانها. فأنا مسيحي محافظ وفي الآن ذاته منفتح نحو جميع المكوّنات وأولهم إخوتي المسلمين الذين إستقبلهم أجدادي بترحاب ومحبة، وعاشوا وتعايشوا لحدّ العقد الأخير رغم بعض النزاعات والخصومات في الزمن الغابر، وكذلك نحو الشبك والإيزيدية والصابئة المندائية والتركمان. وأعمل جاهداً في حمل شعلة المحبة في مسيرتي الكنسية من أجل الآخر المختلف حينما يقصد بيتنا للصلاة والمشاركة، وسماحتكم كانت المَثَل الرائع في هذه المسيرة، وفي كنيسة مار يوسف في المنصور، واليوم أنا أخدم في بغداد ومنذ 37 عاماً، وبعد قره قوش وبرطلة، ولا أعتبر مهام رسالتي إلا أن أفتش عن الإنسان وكل إنسان في المحبة والاحترام، ولا أريد أن أطيل بل إيجازي في المقدمة واجب في ملء الضرورة.

مسيرة ورسالة
 أنا كاهنٌ، يعني خادمٌ، وشعار خدمتي "أنا بينكم مثل الذي يَخْدُم". فأنا إنسان أحمل في داخلي مسيرة الألم والفرح، هموم الحياة وهموم أهلي ووطني، في أحداث تتسابق مع كوارثها في الحروب كما في الحصار وأيضاً في السقوط والإحتلال، وفي كل هذا لا صوت يُسمَع بسبب ضجيج الدنيا وإطلاقات البنادق وانفجار القنابل وصعق البارود، فيقع الأبرياء قتلى بل شهداء، ولعلّكم أنتم كبير السماحات والسيادات أدرى بعلمي وهموم الوطن. ففي رسالتي _ أنا الضعيف _ تجدون فيها الحقيقة حيث علّمنا السيد المسيح أن نقول الحق إذ قال:"قولوا الحق والحق يحرركم"، في كلماتها ورسالة في أسطرها، وما أرويه هنا ما هو إلا مختصر جداً جداً للحالة البائسة التي يعيشها شعبنا المطرود وما يجب أن نكون بعد طرد داعش الإرهاب من قُرانا ومدننا وقصباتنا. إننا نتوجه إليكم ومن خلالكم إلى شعبنا، فأنتم رفيق الدرب وزميل الرسالة وعطاء المسيرة، فأنتم ونحن شعب واحد ووطن واحد ولغة واحدة، وتقاليدكم ونحن نفسها، وهمومنا ومعكم واحدة كما المعاناة وكذلك الشكليات، فنكتب تاريخاً واحداً لكيانٍ واحد. فمن طينة واحدة خُلقنا وجُبلنا ولا يمكن أن نقبل القسمة على اثنين أو السير في مسارين أو سكّتين. وأنتم كبار العارفين والمدركين لحقيقة الحياة، فلقد كان _ نعم كان _ بلدي يئنّ تحت حكم الدكتاتورية المقيتة والحروب التي أحرقت شبابنا في أتون النار القاتلة، ومنها إنطلقنا إلى الحصار حيث العديد من أبرياء الدنيا من الأطفال ماتوا بسبب نقص الغذاء والدواء، وكانت الدنيا بعوالمها تنظر إلينا وتتألم لشعبنا المسكين الرازخ تحت نير العبودية والحروب والحصار، فلا حرية ولا كلمة ولا صوت، بل تأوّه وبكاء وأسف. فالإرهاب دمّر كل شيء، إنها جرائم فريدة وشاذة لا نعرف أصولها ولم نسبر غورها وفروعها وتفرعاتها في تاريخ عُرِفَ بالألف الثالث.

الإرهاب وداعشه
لقد مرّ عامان ونيّف على إقتلاع شعبنا من أرض آبائه وأجداده في قرى ومدن سهل نينوى في السادس من آب (أغسطس) عام 2014. نعم، مرَّ عامان ونيّف _ حتى فجر التحرير في 17 تشرين الأول 2016 _ على إقتلاع شعبنا من أرض آبائه وأجداده في قرى ومدن سهل نينوى،  بعملٍ إجراميٍّ شنيع، بلغ درجة الإبادة العِرقية والدينية، إرتكبَتْه زمر داعش الإرهابية الإجرامية، ومثيلاتُه من المنظمات الإرهابية، التي تكفّر الإنسان، وكلَّ كائنٍ لا يَدين بما تَدين ولا يسلم بما تسلم به. وفي الوقت نفسه يواصل فيه الإرهاب المزيَ من جرائمِهِ البشعة ومحاولاتِه المتوحشة. نعم، طردونا من منازلِنا، وقتلونا أمامَ أنظارِهم، وأَبعدونا عن قُرانا قسراً وكرهاً وحقداً، وعن مدنِنا كفراً وتكفيراً، وعن أحبّائِنا عنوةً، وعن جيرانِنا غدراً، والسبب يعود إليهم وإلينا، فهم سبقونا في الهزيمة ونحن لم نكن مستعدين لها، بل بالأحرى لم يعلّمونا حمايةَ مدنِنا وقُرانا وأملاكِنا، فضاع كلُّ شيءٍ، وأصبحنا تائهين في العَراء ليلاً ونهاراً، وفي شوارعِ المدينة وساحاتِها وأرصفتِها وحدائقِها وساحاتِ دور العبادة، والتترُ لَبِسَ حُلّةَ الإرهابِ بداعشِهِ وسوادِ الدواعشِ بإرهابه، وشرّعوا سيوفَهم تخويفاً وتنكيلاً، وعقيدتَهم جبراً أو جزيةً، وكأنَّ الكلمةَ الطيبة لم تُمْسِ صَدَقَةً بل دُفِنَتْ، وأنشودةَ الحياة قد غاب صوتُها ولم يبقَ للإنسانيةِ وجودٌ ولا للحقيقةِ إعلانٌ، بل أصبحت غابةَ أدغالٍ، وما حصل وما يحصل أعادَنا إلى القرون الغابرة، وإلى ما كُتِبَ عن أجدادِنا وهروبِهم وهزيمتِهم أمام السيف الذي شُرِّع عليهم غدراً وقسوةً وكرهاً لأبناء المسيح الحي في الماضي القريب والحاضر الجديد من الجيرةِ والدير،. فكانوا ضحيةَ عنفٍ وإرهابٍ ومصالحَ، لم يكن لهم فيها لا ناقةً ولا جمل، بل حساباتٍ سياسية ومصالحَ دنيوية لتسوية الحسابات وإعادة ترتيب المِنطقة بالمنطق الذي يشاؤه كبارُ الدنيا في مؤامراتِ المخططين، كما هو حال الزمن.

في الماضي القريب
كنتم قد صرّحتم سماحتكم بتاريخ 1 تشرين الثاني 2010 ودنتم حينها الجريمة البشعة التي طالت أبناءنا المسيحيين في كنيسة سيدة النجاة في منطقة الكرادة وسط بغداد، حيث جاء في بيانكم ما نصّه:"... ضحايا راحوا بسبب همجية هذه العصابات الإجرامية. وإنّ ما يدمي القلب ويستفز الضمير الإنساني أن يتعرض الأبرياء في العراق ومنهم إخوتنا المسيحيين إلى القتل بدم بارد، وما يدمي القلب أن تتم هذه الجرائم من قبل تنظيمات تدّعي زوراً وكذباً إنتماءها إلى الإسلام والإسلام منها براء"... كما أوضحتم حينها في بيانكم:"أن الإسلام دين التسامح والتعايش وهو يرفض أشد الرفض هدر الأرواح وقتل النفس ظلماً وعدواناً، وما جرى من جريمة بشعة تعتبر واحدة من أجلى مصاديق الظلم والعداوة"، وأضفتم أيضاً:"إننا ندين بشدة هذه الجريمة البشعة ونوجّه أنظار الحكومة وأجهزتها الأمنية أن تضع في أولوياتها حماية أرواح المواطنين العراقيين من الإستهداف الدموي كما ندعوها إلى التحقيق في هذه الجريمة النكراء ومحاسبة المقصرين".

نعم ... ونعم
إن وطننا موطن تعايش بين أديان وطوائف وقوميات متعددة، وليس في تاريخ العراق حروب أهلية أو قتل أو غدر بالجار القريب. والذي يزور العراق يجد أن الصابئة يعيشون بجوار المسلمين، والمسيحيين بجوار الإيزيديين، وليس هناك أحياء منعزلة أو منفصلة عن بعضها البعض إلا في هذه السنين الأخيرة ومع مجيء الإحتلال وفي زمن داعش الإرهابي الإجرامي، والدم المسيحي الذي أُريق مساء الأحد 31 تشرين الأول 2010 شاهدٌ على همجية الفكر الصحراوي ورعونته، الذي يمنّي نفسه بتناول الإفطار في جنة الفردوس ويعانق حور العين بعد وجبة عشاء دسمة مع الأولياء والصالحين، فراح ضحيتها مسلمون ومسيحيون ومكونات، ولا أدري أي وليّ أو أي صالح يجالس هؤلاء السفّاحين، فالجنة ليست للقتلة المجرمين، وليست الرحمة للشياطين الذين ذبحوا وفجّروا وقتلوا وسرقوا ونهبوا وحلّلوا كل حرام وغزوا كل آمن وأبعدوا كل مسالم وأحرقوا الأطفال وهم على صدور أمهاتهم. أين هي الضمائر الحية؟، وأين نحن من هؤلاء الذين يكفّروننا وهم في وجودهم كفرة وقتلة؟، إنهم يحملون تراثاً جنونياً قاسياً وضميراً حيوانياً مميتاً، فلقد دمّروا كل شيء، حتى الحجر أدانهم فما حال البشر!... فويل للقتلة من جحيم إستعجلوها في الدنيا قبل الآخرة، فنحن لا زلنا على صليب العذاب والغربة، والتهجير جريمة بحق الشعوب المسالِمَة والمُحبّة للتعايش.

فعل الإرهاب
نعم، إننا نعيش هذه الأيام أوقات عصيبة فرضتها علينا تحديات لم تكن، وغير مسبوقة، ووفرت فرصة ثمينة للمتطرفين وذوي النزعات الشعوبية والطائفية من كافة الألوان والأطياف لشنّ حربهم البغيضة التي تكرّس الطائفية وتزرع بذور الحقد والكراهية والتعصب، ويبدو هذا جلياً في عراقنا أكثر من غيره من البلدان. ومنذ دخول داعش الإرهابي إلى أرض وطني دنّس قريتي ومدينتي، الموصل وسهل نينوى وحتى اليوم، من حينها راودتني فكرة كتابة الرسالة إلى سماحتكم، كونكم أنتم الرئيس الأعلى للمجلس الإسلامي، واستلامكم للمهمة الجديدة في رئاسة التحالف الوطني العراقي، وطوال هذه الفترة كانت الفكرة تنمو يوماً بعد يوم في داخلي ومخيلتي، والأحداث تتسارع في مسيرة مؤلمة، إلى أن أتت الساعة ليسجّل يراعي الضعيف هذه الكلمات عبر أسطر تسقيها دموع الحياة القاسية، ومسرّات ألم الإضطهاد، في رسالة تكون هي الأولى، حاملة حقيقة الإنسانية المتألمة في شعبنا الجريح. فغاية رسالتي هو تخفيف المصيبة التي يعيشها أبناء بلدتي وشعوب منطقتي المسالمين، بعد أن طردهم داعش الإرهابي وعملاؤه من ديارهم وفقدوا كل شيء، منازلهم ومحتواها، أملاكهم وأحلامهم، ولم يبقَ أمامهم إلا الهزيمة والإلتجاء إلى كوردستان حيث الأمان، وفي دول الجوار وعبر المحيطات، وهناك فرشوا الحدائق وملأوا الشوارع ذهاباً وإياباً، جلوساً ونظرةً، واليوم أغلبهم يسكنون عمارات بائسة لم يكتمل بناؤها وحتى محيطها، وآخرون هاجروا وقلوبهم حزينة حتى الموت على فراق أرضهم.

نعم، رحلوا إلى بلدان الجوار شمالاً وغرباً، جنوباً وشرقاً، باحثين عن ملجأ يَقيهم، وعن أمن يحميهم، وعن يد تعانقهم، وعن كلمة تواسيهم، وعن محبة ترافقهم، وعن شعور بنجدتهم، ولكن لا من مجيب ولا من حديث ولا من عزاء، ولا زالت حتى اليوم مسيرتهم دون هدف وإرادة، دون علم ودراية، ووضعهم مأسوي بدرجة إمتياز... هذا هو بيت القصيد، إنهم مهجَّرون، إنهم نازحون، فالحقوق مسلوبة، والحقيقة مصلوبة، والعدالة حوكمت، والقضاء إرهاب، شعوب تائهة أم أصيلة، هل نستحق أن نحيا ونواصل مسيرة البناء أم علينا أن نكون تبعية مهمَّشة لا دور لها إلا ملء البطون والنوم والصمت المريب؟، ألستم أنتم زارعي بذار حقوق الإنسان، ألا يجوز أن تزرعوا ذلك في حقول قُرانا ومدننا وحول مساكننا؟، ألا يجوز أن تمدّوا أياديكم كسحابة لحماية شعبنا الممزَّق والمضطَهَد والمطرود من مساكنه وقُراه ومدنه؟، هل لا يجوز تعويض أبناء بلدي وأبناء ديرتي لِمَا فقدوه من أموال وممتلكات كما رفعتم ذلك رايةً في مناسبات عدة، حيث كنتم كلمة الحقيقة، ودولار التعويض، وطابوقة البناء، وكونكريت الحياة لمدّ الجسور بين الأبناء والأصلاء في إعادة الإعمار والبناء واستمرار الحياة هبة الله، رب السماء والأرض، وكعطية لنحميها أنتم ونحن؟.

نعم، لقد ذقنا لوعة الإرهاب والتهجير والتقاتل مع الآخرين وفيما بيننا، وعرفنا _ وما زلنا _ كل التجارب المدمِّرة. إننا نقف اليوم أمام هذه الأخطار التي تداهمنا من الخارج كما في الداخل، ونطرح تساؤلات علّها توقظ في القادة والقوى والمراجع المعنية والمحترمة حسّ المسؤولية الكبيرة بل التاريخية، وهذا ما لنا فيه رجاء وأمل في الحياة والتعايش وتفعيل البيانات والإعلانات وكل الإمكانيات في ضمائر حية ليس إلا!.
نعم، أربعة عشر قرناً ومسيحيو الشرق يعانون من الإرهاب والإضطهاد، قدّموا ملايين الضحايا لأجل الحفاظ على عقيدتهم الدينية وكيانهم وبناء أوطانهم بروح التضحية والإخلاص، ومع هذا فإن حملات إضطهاد المسيحيين أخذت منذ القدم مسلكاً واحداً هو القضاء عليهم بمختلف الوسائل. فالمسيحيون يعيشون في الوسط الأصولي الداعشي الإرهابي في أراضي سهل نينوى وفي أغلب الأماكن وهم يشعرون في كل الأزمنة بالمذلّة والخوف والرعب والسيف المسلَّط دائماً وأبداً على رقابهم، وإشعارهم بأن حياتهم لا قيمة لها لديهم، كما إن ممتلكاتهم ليست لهم بل يستولي عليها كل قدير شرير، فالسلبيات التي تركها داعش على المجتمع كبيرة جداً، وحل تلك السلبيات يحتاج إلى جهود جبارة من الحكومة المحترمة وبتعاون كل الشعب ومن المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والمدنية، ولا يوجد بديل آخر إلا نبذ التحاصص والطائفية والعشائرية والأغلبية، فالبلد والوطن للجميع.

أنتم لها
نعم، نحن في حاجة إلى زعماء أمثالكم، ورجال دولة يخاطبون المستقبل، ويدركون أن دور المسيحيين لن يُمحى إلا بفكر حضاري متطور حقيقي ذهب من أجله شهداء ودفعوا حياتهم ثمن إعلان حقيقتهم وحقيقة إيمانهم. فالمسيحيون ليسوا أدوات فتنة وليسوا أكياس رمل، وليسوا في وطن غريب بل في وطنهم، وفيه لهم كرامتهم، أما الغريب فلا كرامة له فيه، ومرضهم إنهم يحبون وطنهم ولا يفصلهم عنه الألم والشدة والضيق، فهم ماتوا ولا زالوا من أجل وجود وطنهم، إنهم شهداء أحياء. لذا نناشد سماحتكم في أن نخرج من كهوف الماضي، فنمدّ أيادينا كما نحن مع أمثالكم الطيبين، فأنتم كلمة وراية من أجل الأقليات والمكونات، وأنتم المرجعية التي تُنشد الحقيقة، فالمسيحيون أمناء وليسوا تُبّاع للغرب بل مخلصين لأوطانهم، فهم يحترمون كل شخص، لذا علينا أن نتكاتف معاً ونقبل كل منا الآخر وعلى دينه ولونه ومعتقداته، فنحن اليوم لا نحتاج إلى إزدواجية المعايير فالوضع العام معقَّد بغياب المشروع السياسي وبتعدد السيناريوهات حيث لا تلوح في الأفق مؤشرات إيجابية، فهناك أطماع في الأرض كما في السلطة كما في المال، والمراكز وملامح التقسيم واضحة، والخوف من الآتي _ ولا سمح الله _ يقودنا إلى خسران بلداتنا في سهل نينوى، وهذا ما يدعونا إلى أن نمدّ الأيادي ونشارك الأفكار في الحوار، ونناشدكم أنتم السماحات المحترمة  والمرجعيات الموقرة أن نكون شركاء لكم في مسيرة الوطن ومصير الحياة، فأجيالنا تناديكم وتنادينا أن نكون أمناء لمستقبلهم، وعلينا أن نكتب لهم تاريخ بنائنا لأوطاننا وليس بطرد أو تهميش مكوناته بدستور يهمل الحقوق في القانون والواجبات. ومن هنا كانت بدايةُ الكارثةِ بحقٍّ وحقيقة، بمآسيها وتَبِعاتِها، ولا زالت تجرُّ أذيالَ اليأسِ والقنوط حتى الساعة، كما مَلَكَ القَدَرُ الأسودُ على مسيرةِ الحياة.

ونحن من حقنا
أليس من حقّي أنْ أسأل: حتى ما نكونُ أرقاماً هزيلة؟، أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً، مهجَّراً، أنا المسيحي ابنُ هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعَرَقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبِّراً بألوانِ رايتها؟، أليس ذلك من حقي وحق حريتي أنْ أكونَ رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟، أليس من حقي أنْ أدافعَ عن وجودي وإلا عبثاً أنا هنا؟. فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلبُ حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقةَ من أجل كراسي الزمن ومتاعبِ الدنيا، فالحقيقة علامةٌ وليست بضاعةٌ، وإنْ كانت تُباعُ اليومَ في سوقِ النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي وبأرضِهِ رسالةَ وجودي وعراقيّتي... فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعتُهُ قاضٍ يعلن حكم الحقيقة، وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعلَ إيماني، وما ذلك إلا رسالةُ الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا!.

ومن هنا أقول: على المرجعيات الدينية المحترمة _ وعلى إختلاف مذاهبها _ إصدار فتاوى صريحة تُحرّم على الأصوليين قتل المسيحيين أو فرض الجزية عليهم أو إضطهادهم أو إجبارهم على إعتناق الإسلام وحرمان أي نوع من الممارسات اللاإنسانية التي تمسّ أمان واستقرار وسلامة المسيحيين في العراق وبلدان الشرق الأوسط.

في ذكرى الأربعينية المؤلمة
ونحن نحتفل بالذكرى الأربعينية الأليمة لإستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي جاء لإصلاح أمّته، فقد قال لأخيه محمد بن الحنفية في وصية له:"إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين"، وكما قال يوماً الإمام علي (عليه السلام):"إذا أُعطي لي الكرسي لحكمتُ لليهود بالتوراة، وللنصارى بالإنجيل، وللإسلام بالقرآن".
من هذه الذكرى الأليمة أناشدكم يا سماحة السيد (حفظكم الله ورعاكم)، وأناشد معكم الأخوة المسلمين في عراقنا الجريح في التحالف الوطني العراقي والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي، والمكونات العراقية الأصيلة والمحتَرَمة، داعين لكم وللوطن السلام والأمان والخير، وحاملين الصفح والغفران من أجل إعادة بناء وطننا الجريح كنزاً لأجيالنا القادمة، في طرد الإرهاب بعيداً عن ديارنا وعن ترابنا، وكل عام ونحن وأنتم أخوة في المسيرة وفي الأصالة كما في السيرة، بكل صفاء النية، مؤمناً أن كل شيء هو مُلْك الله، فكانت المحبة تقدمةً وعطيةً من السماء كي لا تزداد الإنقسامات والتصدّعات الإجتماعية، مما يستدعي تعزيز التسامح والوحدة لوضع حدّ لموجة الخوف والحقد والكراهية التي تسود في المنطقة عامة وعراقنا خاصة. فقد أصبح لزاماً علينا جميعاً أن نعمل يداً بيد _ في هذه الأوقات العصيبة تحديداً _ لتعزيز روح التسامح وترسيخها بغض النظر عن الدين والجنس والتراث والثقافة، وتعزيز قدرة التصدي لنزعات التطرف والحقد والكراهية والإنقسام، وعلينا أن نعمل جاهدين لنسمو فوق خلافاتنا، والعمل على ترسيخ قيم الرحمة والإعتدال والعدالة ومحاربة الفاسدين في مجتمعنا.   

معكم ومع الأخوة المسلمين
إننا شعب واحد، ووطننا واحد، وهمومنا ومعاناتنا واحدة... إنه تاريخ المسيرة، وربّ السماء سيد التاريخ. وهذه الرسالة ليست صدفةً أو قَدَراً أو حالةً عابرة بل هي مشيئة الله علينا، فله نطيع إرادته وإليه نسلّم أمرنا، وهذا ما أكده الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط أيضاً عام 2010، ولا زلنا نتقاسم الآلام والإرهاب والتطلعات معاً، فقد أُقتلعنا من أرضنا، وحُصرنا في بعض أطراف وطننا، وشُتّتنا في كل بقاع الأرض، وهُجّرنا من بيوتنا وقرانا ومدننا، فألمنا واحد وألمنا وحدنا، فنحن واحد في قارب واحد لا وجود فيه للحواجز والجدران العازلة، في هذا القارب نتقاسم الحياة، وفيه نعيش معاً ومعاً نموت، ولا يمكن أن نواجه العواصف والأعاصير إلا معاً بتظافر جهودنا، أما إذا إنقسمنا أو إنقسم القارب على نفسه فإنه يغرق ونغرق جميعنا معه.   هذا كله يجعلنا مسؤولين بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ والعالم، أمام الله الذي نمتثل لمشيئته، ونمثل أمامه معاً، وإليه نرفع أدعيتنا وصلواتنا، وإليه نوجه همومنا وهموم إخوتنا وآمالهم وآمالنا وتطلعاتنا. ومن المؤكد أمام التاريخ أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبنا على حبّنا لتاريخ وقدسية ترابنا، وعلى مواقفنا أحدنا من الآخر، ويحاسبنا عمّا كسبت أو خسرت نفوسنا، فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام التاريخ، نشهد للماضي الجريح وللحاضر الذي نواجهه وللمستقبل الضبابي وكيف سنبنيه، فإذا كان الله معنا سيساعدنا على حمل مسؤولية رصيدنا في الحاضر والمستقبل. وأمام العالم نحن مسؤولون ونشهد معاً لتاريخنا في الدفاع بعضنا عن بعض في وجه كل مَن يريد أن يشوّه هذا التاريخ. إن العالم ينظر إلينا، ويستقوي علينا بانقساماته، ويتسلل إلينا من خلال طائفياتنا وعشائرياتنا ليزرع الفتن أو يؤجّجها ومن ثم يتفرج علينا ونحن نتقاتل، ليأتي بعد ذلك بِلَومٍ ونفاق وحنين ليضع السلام فيما بيننا وفق مصالحه وأنانياته ومخططاته في تقسيمنا أو توحيدنا.

أما التطرف الديني
لقد ظهرت أصوليات التطرف الديني كموجة عاصفة عصفت بنا جميعاً بعيداً الواحد عن الآخر، لا بل عصفت بالعالم كله، وملأتنا تعصباً وأيّ تعصب، إنه التعصب الأعمى وإلى الإقصاء والموت، وهذا ما حصل في بلادنا ووطننا، وملأت الطائفية والمذهبية والمحسوبية قلوبنا، وحملناها تطرفاً دينياً في تعاليمنا، وما نريد أن يستمع المختلف عنا حقيقتنا المزيَّفة وتعصبنا المقيت، ومن المؤكد أن هذا التعصب لا يرحم أحداً، وما نجم منه ما كان إلا قتلاً وتشريداً وخطفاً وإرهاباً باسم الدين وشراً ضد الله والإنسانية. إنها معاناة بلداننا، وهذه لا يمكن أن تكون صوت الله، فالخالق يعلّمنا أن لا نقتل بل يأمرنا بالمعروف، يأمرنا بالتعارف والتحبب والتعاون لأن التطرف يشوّه صورة الله ويشوّه صورة الإنسان، ولا يمكن أن يكون الله مصدر القتل وهو الذي علّمنا أنه أحبنا فخلقنا على صورته ومثاله. فالله مصدر الحياة وله الحق وحده باستردادها، وفي ذلك يقول البابا فرنسيس:"لا يمكن لأي جريمة أن تُرتَكَب باسم الله، لأنّ الله ليس إله فوضى بل إله سلام"، وأيضاً "لا أعتقد أنه من الصواب الربط بين الإسلام والعنف".
نعم، هاهوذا جيشنا الباسل وشرطتنا الإتحادية ومتطوّعو الحشد الشعبي والعشائري _ وبقرار من حكومتنا الموقرة _ يهبّ لتحرير نينوى وأقضيتها وقراها من براثن داعش الإرهابي ومنذ فجر السابع عشر من تشرين الأول الماضي (فالرحمة لشهدائنا والشفاء لجرحانا والنصر لشعبنا)، وهذا ما يدعونا إلى أن نحارب التطرف معاً _ كما كان هدفكم في المؤتمر التاسع للمجلس الأعلى للصحوة الإسلامية _ فرسالتنا هي أن نرفض الموت ونطالب بالحياة وبكرامة كل إنسان، ويجب أن يعلو صوتنا معاً في وجه الإرهاب والتطرف، لذا يجب أن نكون جبهة واحدة تقف في وجه ثقافة الخوف والترهيب والموت، فلا يمكن للدين وأساسه أن يكون سبب تفرقتنا، فإنسانيتنا وعروبتنا وماضينا وحاضرنا ونضالنا المشترك وإيماننا بالله الواحد خالق هذا الكون وخالق الإنسان، فالوقوف معاً في وجه الموت المهدِّد لنا رسالة سامية بل مقدسة، وهذا ما يدعونا إلى تعزيز الحوار والتلاقي، وما علينا إلا أن نكتشف نقاط التلاقي ولا نزيد مساحات الإختلاف والعزلة والتفرقة، فالمواطنون مؤمنون كلٌّ بدينه، فلا أقليات ولا مكوِّنات ولا جماعات بل أصلاء، وكلنا من تراب هذا الوطن، وكلنا شعب هذه الأرض، فيه يعلو صوتنا وفيه تقوى سواعدنا وفيه تقدس الحياة مسيرتنا كما في الماضي هكذا في حاضرنا وغداً في مستقبلنا، وهذا ما يدعونا إلى أن نحمل رسالة واحدة وقانوناً واحداً ودستوراً عادلاً تكتبه قلوبنا بأقلام عدالة الله وعدالتنا وحقوقنا ومساواتنا في المسؤوليات والواجبات والحقوق والحريات. وبالمحبة والتعايش وقبول الآخر علينا جميعاً أن نواجه التفسيرات المتطرفة للنصوص الدينية، ونضع في قالب نصوغه لمصالحنا ولهوانا، وننسب كل ذلك أن تلك آية من الله وفتوى من العلياء، بل تدعونا الحقيقة في الحوار والإلتزام بقدسية الإنسان وعقيدة الحياة في أنّ كل أخ له في الإنسانية مساحة محترَمَة فيها يدلو بإيمانه ويحيا بنِعَمه، وما دينه إلا عبادة لخالقه. فليس أحدٌ وليٌّ على الآخر، فالله خالقنا وهو وليّنا، ولا يجوز القول أن كل دين غير دين الإسلام كفرٌ وضلال، وكل مكان للعبادة على غير دين الإسلام هو بيت كفر وضلال، أو مَن إعتقد أنّ الكنائس والمعابد هي بيوت الله وإنّ الله يُعبَد فيها، أو أنّ ما يفعله اليهود والنصارى والمكوّنات الأخرى عبادة لله فهو كافر. أليس من المؤلم أن نحرّم ما نشاء ونحلّل ما نشاء وكأننا قد فُوِّضنا من رب السماء أن نكون على الآخرين أمراء، فنحرّم عليهم حتى تهنئة العيد وأخرى لأنهم من الكفرة؟، أليست القلوب هي التي تناشد الرحمن الرحيم في الصلاة وتناشد الإنسان في الحياة؟، فما ذلك إلا علامة الإنسانية التي أبدعها الخالق العظيم، فلماذا هذه المواقف والتي تُنتج أشخاصاً يحلّلون قتل الكافر وبرأيهم ذلك حلال لأنهم يقتلون الكفّار والمرتدّين، وما ذلك إلا حاضنات للإرهاب؟، فما علينا إلا تجفيف مصادر هؤلاء الإرهابيين وإفراغ أفكارهم من القتل المدمّر لمسيرة الحياة.
   كما علينا أن نراجع مناهج مدارسنا وكُتُبنا لنثبت للشعوب أننا شعب واحد، وإن كل واحد منا يزداد معرفة بالآخر وتقديراً لدين الآخر، فندرس تاريخنا المشترك، وننشأ نحن وأجيالنا بمسؤولية تجاه الجار والقريب والآخر المختلف، ونبني بتربيتنا الإنسانية مجتمعاً سِمَتُه المحبة والتسامح والإخاء، وهذا ما يدعونا إلى إعادة كتابة الدستور من أجل بناء وطننا، في جعل الحق والحقيقة مسيرة للحياة في دستور مدني منصف وعادل، يحمي شعبي ومكوّناتي وحقوقي، وعدم السماح لتفتيت الشعب بإصدار فتاوى ومواد وأبواب وآيات تكفّر أهل الكتاب وحاملوه، كالمادة (26) من الدستور، فتغييرها حق من أجل مسيرة شعبنا الأصيل في حرية العبادة والدين والهوية والقومية في البطاقة الوطنية، وتلك علامات النجاح من أجل العيش المشترك، ورسالة الآخر المختلف، والتعامل بالمساواة بين الأغلبية والأقلية، فالدين لله والوطن والدولة للجميع، وللمؤمنين دينهم وللدولة دستورها، فلا يمكن أن تدين الدولة بما نشاء كذلك لا يمكن للمؤمنين أن يؤمنوا بما يُكتَب لهم وما ليس بإرادتهم.   
   علينا أيضاً أن ندافع عن رموزنا من أي تهجّم أو إعتداء في محاربة إقصاء الآخر باسم الدين والذي يريده العدو أن يكون فتنة بيننا، وأن يصبح وسيلة لزرع الأحقاد والكراهية بدلاً من أن يكون وسيلة لنشر المحبة والوئام. فالإعلام الديني الملتزم هو الطريق الصائب لتعزيز ثقافة الإخاء والوحدة والعيش المشترك، والحقيقة والعدالة تدعونا أن نكون أمناء للوطن وللشعب، وهذا ما يدعونا إلى فتح ملفات جرائم داعش الإرهابي ومحاكمته، ولكن لحدّ الآن لم يتم فتح ملف جرائم داعش ولم يتعرض مَن يُلقى القبض عليهم لمحاكمات علنية، بل هناك بلدان لا تزال في قوانينها تعتبر الإنتماء إلى داعش جنحة وليس جريمة، أليست هذه أمكنة وأوطان لإحتماء داعش والمجرمين فيها؟، فتهديد داعش يطال الكل بل إن فكره المتطرف يختفي وراء بعض المنظمات من حاضنات الكراهية وعدم قبول الآخر، والسير ضد شرعية حقوق الإنسان وحرية التعبير والأديان، وتمويله بأموال الشعوب البريئة وتشجيعه عبر القنوات الفضائية والمؤسسات الإعلامية، وفي بعض دور العبادة ورجالاتها.
   نعم، إن الأوقات والأزمنة والسنين والأيام التي نحياها في عراقنا الجريح حاسمة ومصيرية وخاصة بعد أن لوّثها داعش بإرهابه المجرم، فهذا ما يدعونا إلى تحمل مسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض ومزيداً من الإيمان أمام الله والإنسان، إيماناً منفتحاً وليس حاقداً أو بغيضاً، وعلينا أن نصطبغ بشجاعة غير مسبوقة _ بل تكلّف ربما حياتنا _ لنقف في وجه الفاسدين الحاقدين الذين يزرعون بذور الحقد وإقصاء المختلف وينادون بالموت، وإلا سنجعل من مستقبلنا مستقبلاً على المحكّ نحن وأجيالنا وأبناء منطقتنا، والحقيقة تتطلب إمّا أن نزول معاً أو نحيا معاً من أجل حياة أجيالنا وأحفادنا.
   صحيح إن حياتنا قاسية بل مُرّة بمرارة مسيرة الأيام المؤلمة، فمنذ سنوات نعاني الظلام والحصار والحروب والإحتلال بصوره المختلفة وبإتجهاته العديدة، إنها محنة وأيّة محنة، فقد أودت حتى بإنسانيتنا وربما بإيماننا، ولكن لا زلنا ثابتين على حقيقة الوطن الجريح، وربما للرب شؤون في ذلك كي ينقّينا من الداخل ويجعل قلبونا في مسيرة صائبة لا تعيقها محن الدنيا، كي نربّي إنساناً مؤمناً يدعو إلى نقاء الأفكار وصفاء القلوب وجميل الحياة.
   ربما هناك حقبات حصلت في تاريخ مسيرة الوطن والمنطقة وشعوبها فيها تعصُّب وقتل باسم الدين، ومن المؤكد أن هناك مَن يستخدم الدين لأغراض سياسية أنانية، فالتطرف لا دين له، وهو ليس حكراً على أتباع دينٍ ما دون سواه، فالجميع يجب أن يكونوا في محاسبة النفس وتطهير البيت من أي تطرف لأجل قدسية وحقيقة إيماننا.
   نعم، إن مستقبلنا رهن بوحدتنا وتراصّ صفوفنا. لقد عاش شعبنا خبرة آلام سنين عديدة في الحروب والحصار والإحتلال، وارتدّت علينا بشكل مأسوي لا يوصَف، وهذا ما يدعونا أن نتعلم منها الكثير، وأهم ما تُعلّمنا هذه الآلام هو أن الإنقسامات لا تؤدي إلى الدمار، ولكن كلما تضامنّا معاً ووضعنا أيدينا في أيدي بعضنا سنكون في السبيل الصحيح، ولكن إذا أضعنا شعبنا نكون قد غرقنا بل مُتنا قبل تشييعنا.
ولا شكّ أننا نقف جميعاً على حافة مرحلة تاريخية خطيرة وحساسة من حياة بلدنا العزيز ومستقبل شعبنا الكريم، ولا ريب أننا ندرك أيضاً ضرورة أن تتلاحم كل الجهود الوطنية المخلصة لتقول كلمتها وتتحمل مسؤولياتها إزاء التحديات التي تواجهنا من أجل مهمة تاريخية في بناء الوطن والسير به نحو برّ السلام والأمان والتقدم بعد أن تخلّفنا في مسيرتنا وفي جميع الإتجاهات أعواماً عديدة.
   صحيح أن المنطقة تمرّ بتطرف لا يوصف، وثقافة التعصب والطائفية المقيتة، وهذا لا يعني أن نسير مسارها بل أن نحدد رؤيتنا ومصيرنا وما هي الدولة التي نصبو إليها، ولتكن لكل المواطنين، ومبنية على إحترام هوية الآخر وحرية الإيمان والعبادة واحترام الدين في المساواة والعدل والحرية وليس في السيطرة الدينية أو العددية الأغلبية، أو الطائفية، أو العشائرية، أو القرابة والنسابة. فمسؤوليتنا هي أمام الله، كما هي قضيتنا، فقضيتنا ليست قضية وجود فقط بل قضية رسالة وخاصة في هذا العالم المضطرب وسط تحديات لا حصر لها، وما علينا من جديد إلا أن نطلق معاً صرخة أمل "أنّ الله أمين وعادل وحكيم"، ومن المؤكد أن حكمته ستنتصر على الكراهية وشرّها، حينها سنرى إنساناً جديداً يسمو بروحه حتى يبلغ محبة كل أخ وأخت في هذه الأرض.
نعم، نقول: إنَّ شرقَنا يشهد إحتلالاً من الأصوليين ومن الإرهاب، كما إنَّ المسيحيين في الشرق يواجهون ما هو أخطر من التحديات، إنهم يواجهون أزمةَ وجودٍ وحضورٍ وضياع، فهل سيصبحون آثاراً أو بقايا أو ذكريات؟، فقد أصبحت كنائسنا خربةً، وهُدمت بِمِعْوَلِ داعش والإرهاب، وهذا ما كشفه جيشنا الباسل البطل يوم تحرير قرانا ومدننا وقصباتنا في سهل نينوى في السابع عشر من تشرين الاول الماضي . فكنائسنا حُرقت، ومساكننا أُشعلت وسُرقت وهُدمت ونُهبت، والبعض لم يبقَ لها أثر عين. كُسرت صلباننا، وأُنزلت من على مناراتها، وأقول: لماذا يخاف الدواعش من الصليب، فالصليب لا يخيف؟، فما هو إلا علامة محبة المسيح الحي _ كما جاء في القرآن الكريم _ لكل الناس. أليس المسيح رسول المحبة؟، فالصليب ليس علامة خوف أو فزع، بل علامة للخلاص وحسب إيماننا.
هكذا أرادوا لنا أن نكون، فأَسْمونا مرة أقليّةً وأخرى طائفة وثالثة جالية، وإعلامهم ينقل مآسينا ولكن لا يوجد مَن يواسينا،وما ثقتنا إلا بهمتكم ،  وباتَ الخطرُ مضاعَفاً علينا من خلال تهجيرٍ مبرمجٍ وعِبْرَ فرضِ الشريعةِ والتعاليم الأصولية كي نعيش كأهلَ الذمّة. ندرك أيضاً أن تلاحم كل الجهود الوطنية المخلصة بأصعب وأحلك مراحلها، وكل خطوة في الإتجاه الخاطئ يمكن أن تؤدي بنا إلى المزيد من الكوارث، فمستقبلنا رهن بوحدتنا وتراصّ صفوفنا، وإن أي خلل من هذه الزاوية سيرتدّ سلباً، لا بل بشكل مأساوي، ومن أهم ما تعلّمه هو أن الفرقة والإنقسامات لا تؤدّي إلا إلى الدمار، كلما وقفنا معاً وتضامنّا ووضعنا أيدينا في أيدي بعضنا البعض أخذ مسارنا الوطني الوجهة الصحيحة، وإذا تفرّقنا غرقنا.
كفانا تكراراً لما يحدث، فقبل قرن بالتمام (1915) تعرّض عدة ملايين منّا في هذه المنطقة لمأساة إبادة مروّعة، وكان العثمانيون لها أمراء، وجاءت داعش الآن لتكررها، وهي لا تختلف عن متطرفي العثمانيين، لذا على الدول والمرجعيات الدينية اليوم أن تقف معاً بمواجهة هذه الآيديولوجية وتفكيكها من خلال نشر ثقافة الحرية والعمل بالعقل، والإنفتاح والتسامح والمحبة والإخاء والتعايش واحترام حقوق الإنسان والإختلاف والتعددية، وحرية الأديان في ممارسة الإيمان، وهذا لا يمكن إلا عبر عملية تنشئة وتثقيف وتطوير للمناهج الدراسية التي باتت مصدراً للتشدّد الديني بشكل كبير، وتهيئة أُسس السلام والإستقرار والتعاون والعدالة، واعتماد الحوار الحضاري والهادئ والشجاع في حلّ الأزمات التي طالت كل البلاد وأنهكت العباد، والسعي لبناء دولة مدنية، دولة قانون ومؤسسات تُبنى على المواطنة لا غير.
فلنعلم جيداً أن الأمريكان شدّدوا _ لدى إحتلالهم العراق عام 2003 _ على الطائفية والمسمّيات والمحسوبيات والأغلبيات والعشائريات، فربحوا المعركة وخسرنا نحن رسالة الوطنية والقومية وحبّ التراب، ولم تجمعنا راية واحدة بل عدة رايات، وقُسّم الشعب ولم يتم إحتواء كل العراقيين في فكرة واحدة مؤمنة بالدولة العلمانية والمدنية واختيار الديمقراطية الحقيقية، ولم نعد نشعر بضرورة العمل الواحد المشترك، فكلنا مهمَّشون وبدرجات متفاوتة، إنهم هكذا أرادونا وهكذا شئنا، إنها الحقيقة، وهذا ما حصل.   
صحيح إن الإرهابيين لا يمتّون إلى الإسلام بِصِلَة، ولكنهم يمضون في تجاهل الفكر الذي يتغلغل بين الأجيال الصاعدة، والذي يعلن أن الجنة تُضمَن بقتل الأبرياء، وهذا في القرن الحادي والعشرين، ومَن يعنيه هذا التحذير باستمرار وهو يرى التقهقر بين طبقات شعوب حُشرت في زوايا العجز والجهل؟. ألا يكفي الخوض في معارك جانبية؟، ألا يكفي ما حلّ بنا كي نتصالح تحت راية واحدة وفوق تربة مقدسة واحدة؟، ألم يشعر السياسيون أنهم أحياناً يدورون في حلقات مفرغة من صراعات المصالح والمحاصصة، وهذا لكَ وتلكَ لي، وأعطني حصتكَ فأعطيكَ مقعدكَ؟، وتاهت الحقيقة بين أقاويل المسيرة المزيفة. أليس المفكرون غارقين في مسائل الهوية غير آبهين بالهدف في إسقاط داعش فكرياً بعد أن طردته حكومتنا الموقرة بجيشها وحشدها وبشمركتها وعشائرها؟. فالداعش مرض خبيث، بل رسالة شريرة، كما كانت يوماً النازية والشيوعية والفاشية. أَمَا آن الأوان لكي يبادر المسلمون المعتدلون والحضاريون وقابلو الآخر المختلف وغير المسلمين من ذوي الإرادة الطيبة للعمل سوية ولخروج بموقف واضح ومحدّد للتعامل بجديّة وليس بسطحية مع قضايا الوطن ومكوناته من موضوع التطرف والإرهاب الذي يشكل خطراً علينا وعلى البشرية كلها، وأن ينصهروا في جبهة موحَّدة لمواجهة الإنغلاق والتطرف والكراهية الرافضة للعيش المشترك والمواطنة والحضارة والحداثة وبناء مستقبل أوطاننا وأجيالنا؟، فخطيئتهم في رقابنا إذ لم نهيئ لهم مستقبلاً بسبب خلافاتنا وصراعاتنا ومصالحنا وأهوائنا، ونعمل جاهدين كي نزرع ثقافة الحياة وليس الموت والقتل والدمار، فداعش وجهاديّوه يعتقدون أن الجنة تحت أقدامهم، ويضمنونها بقتل الأبرياء بحزام ناسف أو بسيارة مفخخة أو بعبوة لاصقة أو بإطلاقة صامتة أو بتهديد مميت، وما شابه ذلك من إنجازات شريرة لتدمير الإنسان، بينما الإمام علي (عليه السلام) يقول:"إنْ لم يكن أخوكَ في الدين فهو أخوكَ في الخلقة"، فهل نحتاج إلى قرن كامل لنفهم النتيجة الحتمية؟، أنبقى نراوح في محلاّتنا بسبب مصالح القريبين والبعيدين؟، أليس الوطن هو الغاية وسبيل المسيرة من أجل مستقبلنا جميعاً؟، أيجوز أن نسجّل عقارات وطننا بأسماء جيراننا كي لا تُدفَن مصالحنا وننسى أن ذلك من حق أبنائنا وأجيالنا؟. ربما يقول البعض: لعلّ الحوار سيُنتج شيئاً إيجابياً؟، وهل يمكن الحوار مع داعش؟، لماذا تتكرر الأخطاء ولا تَعالج الأمور؟، وهذا ما يجعلنا تقديم ملايين الضحايا من الأبرياء!.
    خاتمة
أختم رسالتي هذه _ وإنْ كنتُ أريد أن أطيل معكم، فالحديث معكم رسالة حب وحقيقة وإحترام ، كقول المسيح الحي " قولوا الحق والحق يحرركم " ليس إلا!_ ولكن أقدم إعتذاري لعدد صفحات رسالتي هذه وطول أسطرها، ولكنها حقيقة الحياة في مسار الوطن ، وكم يقول الامام الحسين (عليه السلام ) " الله أولى بالحق " . كما أدعو ربّ السماء أن يطيل في أعماركم وذوي الإرادة الطيبة، وأن يبارك ربّ السماء شعبنا ووطننا، ويمنح السلام والأمان، لكي ننشد كلنا أنشودة الوطن الواحد "حبّنا لوطننا وأرضنا وترابنا"، ولتكن قضايا شعبنا المسيحي ومكوّناتنا من أولويات مسؤولياتكم وواجباتكم تجاه أصلاء الوطن، ولتكن مسيرة الحوار تجمعنا لبناء وطن حضاري لأجيالنا وأحفادنا، فالتاريخ لا يرحم أحداً إنما يسجّل عظمة العطاء في مسيرة الإنسان، وليكن ربّ السماء شاهداً على حقيقة الكلمة كي نكون أمناء وأوفياء لأصلاء البلاد ولمكوّناته، في التعايش والحوار وقبول الآخر المختلف، في حرية الدين والعبادة والإيمان، في المساواة في الحقوق والواجبات، وليس هناك درجات في المكونات متفاوتة أو ناقصة، ولا أغلبية أو أقلية، بل الكل أصلاء ومواطنون.
وفي الختام أدعو لكم بالعمر المديد في العطاء والسيرة والمسيرة، فأنتم الراية، وما تشهدون له للحقيقة والعطاء سيكون سجلاً حافلاً في مسيرة مرجعيتكم الموقرة، وليكن تحرير اراضينا من قِبَل جيشنا الباسل وشرطتنا الاتحادية ومتطوعي الحشد الشعبي والعشائري والبشمركة وبقرار من حكومتنا الموقرة ، ليكن نقطة انطلاق في المصالحة ، في دستور يضمن حقوق الجميع دون تفرقة ، وفي حكومة مدنية تراعي الجميع في حرية الكلمة والايمان وقبول الاخر المختلف ، من اجل اعادة بناء العراق الجريح ، في المحبة والاخلاص للوطن وللتراب وللأنسان ، " فكلنا إخوة وما علينا إلا أن نحب بعضنا بعصاً هكذا يقول السيد المسيح الحي ، " وإن لم نكن إخوة في الدين فنحن إخوة في الخلق " هكذا يقول الأمام علي عليه السلام . وختاماً
                      ( الرحمة لشهدائنا والشفاء لجرحانا والنصر لشعبنا والسلام لبلدنا والمصالحة لأيادينا ).
                                                  والله على ما أقوله شهيد... ودمتم.


محبكم وأخوكم
المونسنيور بيوس قاشا
خوري كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك


183
للكاتب نمرود قاشا
شكرا جزيلا ايها الكاتب والاعلامي الكبير نمرود ميخا قاشا لتفضلك ونشر الخبر وباسم ابناء رعية مار يوسف اقدم لك الشكر الجزيل .
عزيزي نمرود انها بادرة اعلامية وتوثيقية وذي روابط وطنية وجيشنا وحشدنا والبشمركة والشرطة كلهم يحتاجون الى مؤازرتنا عبر الصلاة وقول الحقيقة فليباركك رب السماء ويمنحك النعمة لتواصل مسيرة الاعلام للمسيح الحي الذب احبنا حتى الموت فلنقدس الهنا وليس الهتنا ولنسجد لربنا وليس لبشرنا .دمت اخا عزيزا وشكرا ولا تخف ابدا ان تقول الحق في وجه الاقوياء فالمسيح الرب علمنا ان نقول الحق وهو يحرركم . وحقيقتنا هي تحرير اراضينا فلنعمل على بنائها ولنكن ليس حاملي الحقائب بل حاملي ارجاء والامل ودمت
محبك بيوس قاشا

184
السيد ظافر شنو السامي الاحترام
شكرا جزيلا على تحيتك واحترامك ومحبتك في بداية ردك فمحبتك هي التي جعلتك ان تكون كلمة واحتراما . وبعد
نعم في الفقرة الاخيرة ذكرت ما نصه " ونكون نحن القادة في هذا المجال الوثني " بمعنى اننا حينما نؤله دنيويتنا وانانيتنا وما يطيب لنا فذلك كله يعمله الوثنيون بينما نحن لا اله لنا الا الخالق المحب والرب يسوع المسيح والروح القدس.. فدنيانا تجعلنا اليوم ان ننسى الاله الحقيقي يسوع المسيح من اجل ارادات مزيفة ودنيوية .
اما سؤالك يا عزيزي " ان تسمية مخلصنا يسوع المسيح بالاله الحقيقي .. هذا اساس من حقيقة ايماننا ولا يمكن ان اوضح ذلك في اسطر قليلة فالمسيح الرب قد تميز بصفات الهية بانه " هو الله " "الابن" الذي ظهر في الجسد كما يقول مار بولس وولد من مريم العذراء ويقول ايضا " لما تم ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من عذراء تحت الناموس ليفدي الذين هم تحت الناموس " وقد ظهرت الوهيته جليا بالاعاجيب والايات واقامة الموتى وطرد الارواح .. وتوما يظهر علنا ذلك حينما يقول " ربي والهي " ( يو: 28:20) واشعيا يقول هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا " ( اش 14:7) واشعيا ايضا يدعوه " الها قديرا "(  6:9)وفي 2كو 7و8 يقول " يحل فيه كل مل اللاهوت.
اما في انجيل يوحنا فيا عزيزي ظافر شنو الموقر كله يتكلم عن الوهية ربنا ومخلصنا يسوع المسيح ويوحنا المعمذان يقول " انا قد رايت وشهدت ان هذا هو ابن الله " ( يو1: 32-34) .
هذا قليل من كثير في ايضاح الوهية المسيح وبامكانك ان تراسلني على البريد الخاص وانا لك خادم ومطيع واقول خاتما ان دعاك الرب فتقدم في محبته وازد ايمانك فمسيرة الحقيقة هي في المسيح يسوع .
والف شكر وتمنيا لك الخير ونعمة المسيح تحل عليك وتباركك . نعم وامين
 محبك
المونسنيور بيوس قاشا

185
كنائسنا معابد صلاة لله ... ليس إلا !!!
المونسنيور بيوس قاشا
حلّ ما حلّ بنا بعد هزيمتنا من قُرانا ومدننا بسبب داعش الإجرامي، وما حلّ بنا ألقى
بضلاله على كنائسنا ومسيرة عوائلنا وسبل معيشتنا  وربح أرزاقنا، وأصبحنا نتساءل:
أين دور كنائسنا ورؤسائنا؟، أين الكنيسة من جريمة داعش؟، هل خَفَتَ صوتُها من خوفِها أم تندب حظَّها ومسيرتَها بسبب ما حصل بتشتّت أبنائها؟، ولكن رؤسائها وبجاه حكمتهم جعلتهم يسألون عن أبنائهم، فطوبى لكنائسنا وطوبى لرؤسائنا، فلولا هذه الحكمة لتاهت شعوبنا في مجاهل الزمن وأماكن النزوح والهجرة والطائفية المقيتة بين الأحزاب والحركات، بين الجمعيات والإتحادات، بين العولمة والإيمان. والسؤال اليوم: متى ستُعيدنا الكنيسة أو رؤساؤنا إلى ديارنا ومنازلنا؟. إننا نعيش رجاءً مهزوزاً، فهي تُملي علينا آمالاً ربما لن تتحقق، وتنادي بالأرض التي لفظناها أو أرادونا أن نهاجر منها، وربما (لا سمح الله) نلوم كنائسنا ورؤسائنا، وكنا نحن السبب والمسبِّب، إذ لا يخلو العتاب من عتاب أنفسنا نحن أهل الديرة والدار، آل البيت والأبناء، أبناء المحلة والقرية والمدينة.
   يعلّمنا إيماننا المسيحي أن الكنيسة هي جماعة المؤمنين، ويكونون جسداً واحداً في المسيح، وهي واحدة جامعة مقدسة رسولية، كما هي بيت الله المكرَّس للعبادة، وبيت الملائكة الذين يسبّحون معنا. لو عدنا إلى ماضي الآباء، فقد كانوا يعتبرون الكنيسة هي الأسقف يحاط به جماعة المؤمنين، وكلهم حول مذبح الله. فالكنيسة في معناها الحقيقي ليس فقط جماعة المؤمنين ولكن جماعة المؤمنين حول سرّ الأفخارستيا.
   إذن، في الكنيسة تعيش جماعة المؤمنين التي تحيا حياة مقدسة، وتشترك في الأسرار الإلهية التي يمارسها كهنوت مقدس مثلما يتضح من قول القديس بولس لرعاة مدينته أفسس:"احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أفسس 28:2). السؤال الذي يطرح نفسه وبكل ثقل إيماني ووجودي: أين هي الكنيسة من مسيرة الألم والنزوح؟، هل الكنيسة تستطيع اليوم أن تعيدني إلى دياري؟، لماذا الذي حصل بأبنائها؟، مَن هو السبب ومَن هو المسبِّب؟، ولماذا اليوم وليس أمس، وبعد 13 عاماً من النزاع المناطقي؟، أين هو الجواب الوافي الأكيد لحقيقة الواقع والواقعة؟.
أكيداً كان الناس سابقاً يهتمون بأمور دنياهم والحصول على أرزاقهم، فكان منهم فلاحون وأصحاب حِرَف بسيطة أو يملكون دكاكين فقيرة، وكان رزقهم حلال، لم تعرف مسيرتهم الفساد المالي أو الغش في التعامل والمعاملة كمدراء هذا الزمن، وقرابتهم لم تعرف لا الطائفية ولا المحسوبية أو العشائرية، بل كانوا كلهم يحترمون الآخرين بدرجاتهم وأماكنهم، وكانوا حينما يمرّ الكاهن في حارتهم يخلعون "جراويتهم" من رؤوسهم وينحنون، وإذا ما قال الكاهن أمراً ما أو وصيةً أطاعوا بكل احترام ودون جدل ولا نقاش، كما كانوا يستشيرون الكنيسة في كل شاردة وواردة، ومنها ينهلون الجواب الشافي في قبول الصلح بين المتخاصمين. كانوا أناساً بسطاء ومؤمنين، والميرون شاهد على جبينهم، فكانت الشهادة سبيل الحياة، ويعشّرون ما يملكون عملاً بوصية الكنيسة، وهمّهم الوحيد أن يكونوا أوفياء لإيمانهم وأمناء لمسيحيتهم، يعملون من أجل خلاصهم، طائعين ومطيعين لرؤوسائهم، وإن جادلوا رؤوساءهم فبالاحترام واللياقة والحُسنى، مملوئين من إيمانهم، غيورين على إنجيلهم ومسيحهم، ولكن لما بلغوا مسيرة العولمة أو بالأحرى دخلت العولمة إلى قدس أقداس حياتهم، وتحولت الحروب من قوس ومنجنيق إلى قاذفات وصواريخ، وانتقل العلم من الطب الشعبي إلى الطب الإلكتروني، وتوصل الإنسان في تغيير مسار الإتصالات من الحَمَام الزاجل إلى الإلكترونيات والذبذبات وأجهزة تنصّت غريبة عجيبة بحجم الذبابة ممكن أن تنقل لك جواب أسئلة الإمتحان الوزاري بغشّ مؤدَّب، وأكثر من ذلك فقد وجد الناس ضالّتهم في هذا العلم القادم إليهم بمسيرة سهلة وتركوا جانباً عاداتهم العائلية واحترامهم للدرجات والمرتبات وأصبحوا لا يبالون بها، فأخذ كبار العمر يقولون: لقد ماتت القِيَم ورحلت الأخلاق، ولا حرية إلا أن نكون آلهة نؤلّه مَن نشاء، فما الذي حدث؟، ولماذا تغيرت قِيَم الناس وعلم البساطة وحقيقة الإيمان إلى الحرية المزيفة، وإلى علم الضياع والثراء والجنس والخطيئة، وإلى الإيمان بمَن نشاء، واختراع الإله الذي نريده، بل نؤله مَن نشاء وننسى الإله الحقيقي يسوع المسيح؟... وأمام هذه الأحداث تقف الكنيسة لتعلن بصوتها:"لا تتركوا إيمانكم وقِيَمكم. انتبهوا من الآلهة التي تعبدونها"، فالإله الحقيقي ما هو إلا يسوع المسيح الوسيط الوحيد (1تيم5:2) وهو في صميم الكنيسة بل هو صميم رسالتها وعمق إيمانها، ولا تخترعوا لكم كنائس جديدة مدّعين أن كنائسنا قد هرمت، فبنينا لنا كنائس خاصة بدل كنيسة المسيح الحقيقية التي هجرناها وأصبحت غريبة عنا.
إذن الكنيسة بناء مخصَّص للعبادة المسيحية، أي محل اجتماع المؤمنين الحالّ بينهم الروح القدس. يقول سفر أعمال الرسل:"فأقاما سنة كاملة يجتمعان إلى جماعة الكنيسة فعلّما جمعاً كبيراً" (أعمال 26:11)، وهو المبنى المشيَّد لهذا الغرض. ويقول بولس الرسول:"لكي نعلم كيف يجب أن نتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته" (1تيمو 15:3). وللكنيسة رسالة سامية هي السير بالمؤمنين نحو خلاص أنفسهم وأجسادهم في إعلان محبة الله للبشر أجمعين، إذ يقول البابا فرنسيس: الكنيسة بيت جميع الناس لأن المسيح هو لكل الناس، ولن يقوى عليها الشيطان ومكائده "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16)، "كنيسة ممجَّدة لا عيب فيها ولا غضن ولاشي يشبه ذلك بل تكون مقدسة غير معيبة" (أفسس 21:5)... هذه حقيقة الكنيسة.
أما اليوم وقبل كل شيء، واجب الشكر والإحترام للكنائس القديمة التي تخلع فيها نعليك (موسى في سفر التكوين) قبل أن تطأ قدميكَ أرضها المقدسة، وتلبس ما هو مخصص لدخول قدس الأقداس ومذبحها، فقد علّمتنا الكتب وكذلك اللاهوت أن قدس الأقداس ما هو إلا سكنى الله "الخاص"، أما ما يحصل اليوم، فأبناؤنا يريدون أن تكون الكنيسة من بُناة تعاليمهم ومن صياغتهم، وإنجيلها يساير حياتهم العولمية، وقدسيتها لا مكان لها، وقدس أقداسها لا معنى له، ففي هذا يسعى بعض القائمين عليها أن تكون كنائسهم وحتى قدس أقداسها مسرحاً، ولباسهم لا يليق بالمكان المقدس بحركاتهم البهلوانية ذهاباً وإياباً، وساحة لمسيرتهم وعودتهم، ومرتعاً لمدعوّيهم وبالخصوص إذا كانوا غرباء عن الدار، جالسين يضحكون، يمرحون، يصفّقون، يثرثرون بما طاب من الحديث المعسول والمرغوب والمكروه، وكأنهم في مسرح مفتوح فيه تلتقي الناس لتسأل عن أحوال بعضها البعض قبل أن يدركوا أن هذا مكان الصلاة والصمت والهدوء والتأمل والحديث مع الخالق المعبود، ويرون أن كل شيء لديهم جميلاً، وأجواء الإختلاط بلا ضوابط بحركات غريبة عجيبة، مدّعين أنهم بعملهم هذا يبشّرون بالإنجيل الجديد للعهد الجديد، ما قبل داعش وما بعد داعش، وفي ذلك يدركون فيعقلوا، أنهم حاملو رسالة، ونسوا أو تناسوا أن ذلك ما هو إلا وثنيات، وتدنيس للقدسيات والمقدسات، والقائمون غير مبالين بل مشجعين لما يحصل ولما يشهدون، ومن المؤسف ان تكون تلك إرادة القائمين عليها، وكأن ذلك حقيقة الإيمان، ثم يبرّرون أنفسهم فيسرعوا _ وكما يحلو لهم _  في إتّهام الجمعيات المستورَدَة وإنْ كانت غير بريئة، والحقيقة تقال أصبحوا هم المستوردين والمخترعين، ونسوا أنه كان من الواجب أن يُخرجوا الخشبة من أعينهم قبل أن يُخرجوا القذى من أعين الآخرين (متى 5:7)، فأولئك تلك خدمتهم وذلك ديدنهم، أما نحن فالحقيقة مختلفة تماماً.
هناك مَن يريد من الكنيسة أن تتبع تعاليمهم وإرشاداتهم فهم الآمرون والمنفّذون، وما رسالتهم في الحضور إلى الكنيسة إلا مراقبة المؤمنين وراعيهم لكي يُصدروا أوامرهم بشكواهم بحقيقة الكنيسة التي هم فيها يؤمنون، متناسين أو ناسين أنهم مؤمنون، فلا هم مسيحيون ولا المسيح، مؤسِّس الكنيسة وبانيها ومركزها. وهنا يكمن التساؤل ونتساءل: يا ترى، أهذا هو دور المؤمن تجاه مسيرة كنيسته؟، أليس ذلك فشل في مسيرة الروح والمسيحية والإيمان؟، وهل الكنيسة المسيحية بالنسبة لهم سبيلاً لغايات وعنواناً لهوية؟، وهل الكنيسة هي كما أشاء أنا، أم كما يريدها يسوع المسيح بانيها؟، فأنا أذهب لأصلّي، لا أذهب لأمارس دور "الحاكم المنافق" و"شاهد زور" و"القاضي الظالم" (لوقا 6:18). 
وإذا دعتهم الكنيسة إلى الصلاة والسجود والتأمل مؤمنة بما يقول الرب يسوع:"صلّوا كل حين ولا تملّوا" (لوقا 1:18) وأيضاً "إن هذا الجيل الشرير لا يخرج إلا بالصوم والصلاة" (مر29:9)، فتراهم لا يبالون، وإذا ما أدركوا فقلّة منهم. كما ويريدون من الكنيسة إقامة القداديس على هواهم وهديهم وحسب توقيتاتهم دون تطويل وتعريض، وإذا ما عتبتهم على عدم حضورهم إلى كنيستهم يبرّرون ذلك أن لهم أصدقاء في الكيف واللهو في معابد أخرى. وإذا ما كان الحديث معهم بالطاعة، تركوا كنيستهم ورحلوا إلى كنائس أخرى، زرافاتٍ ووحداناً، وإلى حيث الجمعيات، ففي ذلك كلها تكون النتيجة حتمية، ربحية، تأليهية، تشهيرية وتشويهية، وهناك يقدمون حساب وجودهم (متى 15:25)، حساب ذهابهم وإيابهم، ويوقّعوا بصماتهم بأنهم حضروا فيأخذون المقسوم راضين ومرضيين، مرتاحين متأوهين، لِمَا حصلوا عليه ولِمَا جنوا من أرباح لم يجنوها في عقر دارهم ودورهم، ويبرّرون عدم حضورهم وتعلّقهم بكنيستهم بقولهم "أنتم لا تعرفون أن تفسروا لنا الكتب" (لوقا 27:24)، ففي الجمعية الفلانية ينجحون في ذلك، والقائم على ذلك ليبرالي منفتح إلى حدّ الضياع ونسيان مركز دعوته، ويبدأون بشتم القائمين عليهم من كنيستهم والتقليل من إحترامهم وربما إتّهامهم بسرقة ما هو لهم حسب تفكيرهم، ويعتبرون أنفسهم أنهم حقيقة لا لبس فيها، وينسون ذواتهم أنهم أصبحوا آلة للنميمة والإفتراء.
يا أحبائي، نعم الكنيسة تعمل بالروح القدس، هذه ناحية أساسية فيها، وإنها تنمو في العدد، وهذه ناحية جانبية، وإنها مصدر الآيات والمعجزات، وتلك ناحية ثالثة "وجعل كل شيء تحت قدميه رأساً للكنيسة التي هي جسده" (أفسس 23:1)، كما هي خيمة موسى التي التقى فيها بربّه ليكون عوناً له وقوةً لساعده. فالكنيسة التي تتحدث بالروح القدس تصارع الخطيئة، فمن الكنيسة ترتفع صراخات البشر نحو الله في وقت الضيق، وعلى مذابحها تُرفَع وتُقدَّم ذبائح عن خطايا البشر، فتداوي جراحاتهم. فالكنيسة رسالة يحملها بعد إتمام صلواته وفرضه، ومهمة تشهد عن حب الله لنا جميعاً، فقد "أحبّ المسيح الكنيسة وسلّم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة ليجعلها كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن ولا شيء يشبه ذلك بل تكون مقدسة غير معيبة" (أفسس 27:5).
نعم، الكنيسة جسد المسيح القدوس "ليكون هيكلاً مقدساً في الرب" (أفسس 21:2)، يطهّر المؤمنين من كل خطيئة، "وبه أنتم أيضاً مثبتون معاً لتصيروا مسكناً لله في الروح" (أفسس 25:27)، فمهمتها الأولى تقديس النفوس وإشراكهم في خيور النظام الفائق الطبيعة، فهي تجعلنا أن ننمو بنور وقوة كلمة الله، وترشدنا إلى طريق الخلاص، وتحمينا من الشرور، وتعلّمنا القيام بأعمال الرحمة (البابا فرنسيس)، فهي في هذا مهتمة بمقتضيات حياة الناس اليومية... فلنجعل محبتنا واحترام كنائسنا في قدسيتها دليلاً أكيداً على حبّنا، فنحن لها ومن أجلها وفيها نكبر بالقامة والنعمة أمام الله وأمامها.
فلا يجوز أبداً أن نجعل من قدس الأقداس ما هو غير لائق لتشويه أمكنة عبادتنا مبرّرين ذلك بأعمالنا المؤلَّهة، ونكون نحن القادة في هذا المجال الوثني، فتصفيق الشعب والحاضرين ونحن نلعب ونمرح على صحن قدس الأقداس ما هي إلا وثنيات كما فعلها الرومان حينما كانوا يقدمون أو يرمون الشهداء المسيحيين أمام أفواه الأسود. فاحترامنا لقدس الأقداس هو احترامنا لمسكن الله، وعلى القائمين أن ينتبهوا بأن يملأوا قلوبهم صلاة ودعاء، وأن يكونوا أنموذجاً ومثالاً في السيرة والمسيرة، وإذا أرادوا أن يلهوا بمسيرة حياتهم فلكل كنيسة قاعة تجمعهم للإحتفال والترفيه وليس للهو والغناء، وأخيراً وأخيراً "فمَن لا يُحسن تدبير بيته فكيف يعتني بكنيسة الله" (1تيمو 5:3)... إنها أمّنا ومعلّمتنا، منها ننهل في سبيل الحياة، وفيها نرفع أدعيتنا إلى رب السماء.
ختاماً، للكنيسة رسالة سامية مقدسة، لذا يجب علينا نحن القائمين عليها أن نحافظ على قدسيتها كما يقول الكتاب "قم إخلع نعليك فالأرض مقدسة" (موسى في سفر التكوين). ولنتعلّم أن نكون في الصلاة قبل المؤمنين، نتهيأ للذبيحة الإلهية، فالكاهن الذي يصلّي تجد رعيته خلية صلاة، والقائم على الكنيسة يجب أن يتعلم "كيف يجب أن يتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته" (1تيمو 15:3)، لكي تبقى الكنيسة معبداً للتأمل والصلاة ليس إلا !!!.. نعم وآمين.

186
في رحاب شفاعة القديس البابا يوحنا بولس الثاني

شاهد على حكاية الطفل "الأعجوبة"


يقول ربنا يسوع في بشارته الإنجيلية:"دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم فإن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات" (متى 14:19)... إنها دعوة المعلّم لأبناء الأرض لعيش قداسة السماء مع قلوب الأطفال البريئة، فهي حقيقة المسيح الرب وشهادة للبشرى الحسنة.

الطفل (الشاب) مهند (يوسف) بكر لأبيه (كندي فريد حنا نور الدين) وأمّه (نادية عكوبي شمعون جزراوي). توفي عمّه "مهند" يوم الثلاثاء، العاشر من أيلول عام 2002، بمرض عضال واختطفه الموت في فترة قصيرة جداً لم تدم أكثر من شهر واحد. كان مهند المرحوم ضابطاً في الجيش العراقي برتبة ملازم أول، وعُرف بقامته اليافعة، أسمر اللون، عريض الكتفين، قويّ البُنية. بعد ستة عشر يوماً بالتمام والكمال من وفاة عمّه، وُلد مهند (يوسف) يوم الخميس، السادس والعشرين من أيلول عام 2002، حمله والداه وجدّته يوم الجمعة الخامس والعشرين من تشرين الأول  2002 إلى الكنيسة لينال سرّ العماذ المقدس وسرّ التثبيت من يديَّ الضعيفتين آنذاك (حسب سجلات الكنيسة)، حسب طقس كنيستنا السريانية الكاثوليكية، ودُعي الطفل بأربعة أسماء: مهند (تذكاراً لعمّه)، يوسف (تكريماً لاسم رعيتنا مار يوسف)، بيوس (محبةً براعي الكنيسة)، وبطرس (علامة لصخرة الكنيسة)... هذا ما فسّرته لي جدّته (صبيحة اسطيفان البنا) آنذاك.

بدأ الطفل ينمو ويكبر في القامة والنعمة والحكمة أمام الله وأمام الناس (لوقا 52:2)، وسارت مسيرة أيامه وأشهره وأعوامه، وإذا بـ "يوسف" الصبي يشعر فجاة بألم في صدره، ويعاني من ضيق التنفس الشديد فقيل أنه مصاب بـ "ربو أطفال حاد" وكاد يخنقه أحياناً، ولمرات عدة خلال ساعات النهار كما في ساعات الليل، فأُدخِلَ يوسف مستشفى الطفل المركزي في حي الإسكان ببغداد والقريب من موقع الكنيسة وسكنى والداه يوم الجمعة، الخامس عشر من تموز عام 2005، وعمره لا يتجاوز الثلاث سنوات، وفي المستشفى سأل والد الطفل وجدّته الطبيب المشرف على علاج مهند، مِن ماذا يعاني وما هو المرض الذي أصابه فجأة، فتشكّلت لجنة من 8 أطباء (3 طبيبات و5 أطباء)، وترأس اللجنة مدير المستشفى آنذاك الدكتور حقي إسماعيل (الراوي أو الغراوي أو العزاوي لا أتذكر بالضبط)، وقد عُرف بذكائه وحذاقته وخبرته الطبية في مجال تخصصه الطبي للأطفال. ولكن بعد شهرين غدره الإرهابيون في سني الحرب الطائفية في العراق فأردوه قتيلاً بعمل إجرامي شنيع.

وبعد إجراء العديد من الفحوصات قررت اللجنة أن الفايروس الذي يحمله هو أمر مميت، فصدر من مساعد الطبيب الدكتور "مكي حمادي" وبمعيّة اللجنة أن الطفل مصاب بـ "ذات الرئة الحاد" ومسبباً للوفاة أو الإصابة بمرض عضال لا شفاء منه، وهذا ما سُجِّل على طبلة الطفل المريض، فقرروا إسعاف الطفل بجرعة كيمياوية ضد مرض السرطان، وبسبب هذه الجرعة بدأت أمعاء الطفل تنزف دماً مما إستدعى أن تُجرى له عملية فحص مختبرية مستعجلة  بالناظور، فنُقل الطفل على الفور إلى مستشفى مدينة الطب يوم الأربعاء، 20 تموز 2005، لاجراء الفحص اللازم بواسطة الناظور ولمعرفة سبب النزيف، ولكن الطبيب (أخصائي الناظور) لم يستطع أن يقرر شيئاً رغم نتيجة الناظور، فأُعيد الطفل ثانية إلى مستشفى الطفل المركزي.

إنها ليلة الأعجوبة
ليلة الأحد، 24 تموز 2005
أتتني جدّته (صبيحة اسطيفان) تبكي وبدموع لا سخونة مثلها، وكانت ساحة الكنيسة حينها قد فرغتْ من مؤمنيها من بعد حضور قداس مساء يوم الأحد، وأما أنا فكنتُ لا زلتُ أتخطى في ساحة الكنيسة، فأتت ووقعت عند رجليّ تقبّلها طالبة مني أن أرفع صلاة لشفاء مهند الصغير، فأقمتُها وعزّيتُها وطلبتُ منها الإستسلام لمشيئة الله والكفّ عن البكاء، واصطحبتُها إلى الكنيسة ورفعتُ معها صلاة قصيرة أمام القربان المقدس، وغادرنا الكنيسة، وقلتُ لها:"ليس لي شيء أعطيكِ إياه (أعمال 6:3)، ولكن في محفظتي صورة للبابا القديس يوحنا بولس الثاني، لقد شفاني من مرض عانيتُ منه 12 عاماً بالتمام والكمال، وأنا كلّي يقين إذا كان لكِ إيمان بهذا فاذهبي واعملي (يو 27:4) ما أقول. خذي هذه الصورة _ بعد أنْ قبَّلتُها _ وضعيها تحت وسادة الطفل مهند ولننتظر يد الرب الصانعة العجائب"، ووعدتُها إنني غداً صباحاً ساقوم بزيارة الطفل في المستشفى، فأجابتني:"إذا تلحق علينو أبونا"، فقلتُ لها:"ألم أقل لكِ إنْ كان لكِ إيمان فستنالين مرادكِ (يو24:11)"، فشكرتني وغادرت ولا زالت الدموع تنهمر من عينيها ولكن بوادر وجهها جعلتني أؤمن أن الحقيقة المنتظرة ستتحقق، فأخذَت الصورة وعادت إلى المستشفى مسرعة (يو28:4) وكلها رجاء أن الشفاء آتٍ لا محالة، وعند وصولها المستشفى أخبرتني بأنها وضعت الصورة تحت وسادته كما طلبتُ منها، وكان الليل قد أسدل سواده على المسكونة (يو1:20) والطفل في غيبوبة الألم بل الموت المحتم، والوالدان لم تفارق أنظارَهما وجهَ الطفل.

ومع ساعات الفجر الأولى (متى 1:28) صرخ الطفل باكياً "ماما ماما، بابا بابا"، فانذهل الوالدان والجدّة، وأخذت مسارات الدموع مجراها نحو الخدود مما حصل للطفل، وقاما مسرعين (لوقا 33:24) فوجدوا الطفل وقد فتح عينيه وهو ينظر إليهم، ودقائق معدودة وعاد الطفل للنوم ثانية. وفي الصباح جاء طبيب الدورية ليزور مرضاه فرأى الطفل بعافية كاملة وقد فتح عينيه، أما والديه فكانت الإبتسامة قد ملكت على وجوههما، فقرر الطبيب مغادرته المستشفى. فانذهل الأطباء وتعجب الحاضرون... إنها يد الرب القديرة _ كما كانت مع الرسل _ لا زالت تعمل فينا.

وصباح الاثنين، 25 تموز 2005، "صباح الأعجوبة" كنتُ قد قررتُ الذهاب إلى زيارته في المستشفى، ولكن جهاز الهاتف كان لي بالمرصاد، حيث اتصلت بي جدّته لتعلمني بالأمر الذي حصل (لوقا 35:24)  وبالخبر المفرح، ومن فرحها تلعثمتْ بكلمات حديثها ولكنني فهمتُ أنها قالت "أن البابا القديس يوحنا بولس الثاني قد زار الطفلَ ليلاً ومنحه الرب بشفاعته الشفاء التام"، مما دعاني الواجب بعد ذلك على زيارته، وتقديم الشكر لِنِعَم القادر على كل شيء. واليوم الشاب (مهند) منذ أن نال الشفاء يتمتع بصحة جيدة، وقد رُسِمَ شماساً في كنيستنا يوم الجمعة، 12 أيلول 2014، وكان هميماً في خدمته مُحبّاً لكنيسته ومطيعاً لإخوته الشمامسة، حيث في فترة قصيرة تعلّم خدمة القداس وبعض الأمور الطقسية الأخرى، وله صوت رخيم وطفولي، ولكن آلمني فراقُه حيث غادر بغداد مع والديه إلى الديار المصرية طالباً اللجوء إلى أستراليا في آذار الماضي 2016.

ما دفعني إلى كتابة هذه الحكاية هو الروح الذي تحتفل به الكنيسة هذه الأيام بـ "سنة الرحمة و"أيام الشبيبة العالمية"، فهناك صوت كان يتردد في داخلي "قم كلّم الناس بهذا الخبر"، حيث دعاني مرات عدة إلى سرد هذه الحكاية، ولكن كنتُ أتردد في ذلك حتى اليوم خوفاً من حديث السذاجة أو البساطة الذي ممكن أن أُوصَف به من الأقربين أو من الغرباء. ولكن بعد أن سردتُ قبل أيام "حكاية الأعجوبة"، تشجعتُ، فدفعني الصوت لأقصَّ هذه حكاية "الطفل الأعجوبة"... إنه الروح نفسه الذي جعلني أن أكون شاهداً لحقيقة كنتُ أومن بها برجاء أكيد... فكنتُ شاهداً في الألم كما كنتُ شاهداً في الشفاء، فهناك مَن يصدق حكايتي وشهادتي وهناك مَن لا يأخذها على محمل الجدّ، فكل إنسان حُر بما يؤمن أو يقول، المهم أن نعيش إيماننا (لوقا 6:17)... كما إنني سردتُ هذا الحادث بعدما طلبتْ أمّي الكنيسة أنْ تُكتب فضائل البابا يوحنا بولس الثاني لإعلان تطويبه، وقدّمته إلى سيادة المطران (س) الجزيل الاحترام والذي قال حينها إنه سيرفع التقرير إلى الجهات المعنية بهذا الشأن في الفاتيكان.
إنها إرادة الرب... أليس ذلك عمل السماء بشفاعة القديس البابا يوحنا بولس الثاني!!... ما مطلوب من الإنسان هو أن يؤمن ولا يشكّ بعمل الله ويده القادرة على كل شيء، فهو سينقذنا من المرض ومن الشرير، ألا نقل في صلاة الأبانا "ولكن نجّنا من الشرير"!... ما عليه إلا أن نستسلم لإرادته السماوية "لتكن مشيئتك" (متى 10:6)... إنها الحقيقة... نعم، إنها الحقيقة... نعم يا رب زد إيماني في هذا الزمن القاسي... والمجد ليسوع المسيح... وآمين.   

187

لقد مرّ عامان على إقتلاعِ شعبنَا من أرض آبائَه وأجدادَه في قرى ومدنِ
سهل نينوى في السادس من اب ( اغسطس) عام 2014 بعمل إجرامي شنيع بلغ درجةَ الإبادة العرقية والدينية إرتكبته زمرُ داعش الإرهابية الأجرامية ومثيلاتُه من المنظمات الإرهابية التي تكفّر الإنسان وكلَّ كائن لا يدين بما تدين ولا يسلم بما تسلم به.
نعم، ونعم وصحيح، حلّ ما حلّ فينا بسبب داعش والإرهاب، ومن عامِنا هذا حيث الذكرى الثانية للنزوح البائس وبدايةُ الكارثةِ بحق وحقيقة، بمآسيها وتبعاتها، ولا زالت تجرّ أذيالِ اليأس والقنوط حتى الساعة، كما ملكَ القدرُ الأسود على مسيرةِ الحياة مما جعلني أعيدُ ذكرياتي إلى ما حلّ بكنيسة سيدة النجاة وكأنَّ الكارثةَ آنذاك كانت جرسَ إنذارٍ وناقوسَ ميعادٍ لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21) وأصبحنا أداةً لصنّاع السياسة ولمخططي خارطات الطرق الاستعمارية.
نعم هوذا الإجتياح الداعشي يدخل عامه الثالث في سهل نينوى، وفي الوقت نفسه يواصل فيه الإرهابُ المزيدَ من جرائمه البشعة ومحاولاتِه المتوحشة. نعم، طردونا من منازلنا، وقتلونا أمامَ أنظارهم، وأبعدونا عن قُرانا قسراً وكرهاً وحقداً، وعن مدننا كفراً وتكفيراً، وعن أحبائنا عنوةً، وعن جيراننا غدراً، والسبب يعود إليهم وإلينا، فهم سبقونا في الهزيمة ونحن لم نكن مستعدين لها، بل بالأحرى لم يعلّمونا حمايةَ مدننا وقُرانا وأملاكِنا، فضاع كل شيء وأصبحنا تائهين في العراء ليلاً ونهاراً، وفي شوارع المدينة وساحاتِها وأرصفتِها وحدائقِها وساحاتِ دور العبادة والتترُ لبس حُلّةَ الإرهاب بداعشه وسواد الدواعش بإرهابه، وشرّعوا سيوفَهم تخويفاً وتنكيلاً، وعقيدتَهم جبراً أو جزيةً، وكأن الكلمةَ الطيبة لم تُمسِ صدقةً بل دُفنت، وأنشودةَ الحياة قد غاب صوتُها ولم يبقَ للإنسانية وجودٌ ولا للحقيقةٍ إعلان، بل أصبحت غابةَ أدغالٍ، وما حصل وما يحصل أعادنا إلى القرون الغابرة وإلى ما كُتب عن أجدادنا وهروبِهم وهزيمتِهم أمام السيف الذي شُرع عليهم غدراً وقسوةً وكرهاً لأبناء المسيح الحي في الماضي القريب والحاضر الجديد من الجيرة والديرة. فكانوا ضحيةَ عنفٍ وإرهابٍ ومصالحَ لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل بل حساباتٌ سياسية ومصالحُ دنيوية لتسوية الحساباتِ وإعادةِ ترتيبِ المنطقة بالمنطق الذي يشاؤه كبارُ الدنيا ومؤامراتُ المخططين، واصبحوا بعد ليلة الهزيمة أمام مستقبل مجهول ولم ترافقهم إلا الآهات والدموعُ وضربُ الخدود، فبعد أن كانوا شعباً آمناً _ وإنْ بلا حقوق .امسوا شعبا تائهاً في صحراء الدنيا وغاباته .
نقول: إن شرقنا يشهد احتلالاً من الأصوليين ومن الإرهاب، كما إن المسيحيين في الشرق يواجهون ما هو أخطر من التحديات، إنهم يواجهون أزمة وجود وحضور وضياع، فهل سيصبحون آثاراً أو بقايا أو ذكريات؟... هل تصبح كنائسهم خرباً وتُهدَم بمعول داعش والإرهاب؟.... هل سيرحمنا التاريخ حينما يقولون كانوا هنا، لقد مرّوا من هنا؟.. فقد أصبحنا أقلية وبات الخطر مضاعَفاً علينا من خلال تهجير مبرمج وعبر فرض الشريعة والتعاليم الاصولية نعيش أهل الذمّة.
ألا يخجل الاصوليون عندما يقولون إنهم مسلمون والإسلام مصدر شريعتهم؟والاسلام منهم براء . عن أية شريعة يتكلمون أمام جرائم داعش؟. أو أية شريعة يطبّقون وأبناء الوطن مشرَّدون ومهجرون ونازحون ؟...إرحموا العراق الجريح وشعبه، فسبحانه وتعالى منح لنا شريعة لتجمعنا وليس حقيقة لتفرقنا؟.. هل أرادنا سيوفاً وحراباً ثم خراباً ودماراً أم أرادنا غصناً وزيتوناً؟...ألم نعلم أن هذه الآلات ماهي إلا لقائين(تك4) ولهيرودس(متى 17:2-18)، وللمحاربين الفاشلين الذين لا يدركون سموّ الحوار، الذين يقتلون الأبرياء من أجل كبريائهم وغزواتهم.
 من حقي أن أسأل: حتى ما نكون أرقاماً هزيلة؟... أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً مهجَّراً أنا المسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعرقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبّراً بألوان رايتها؟... أليس ذلك من حقي وحق حريتي أن أكون رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟... أليس من حقي أن أدافع عن وجودي وإلا عبثاً أنا هنا؟... فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلب حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقة من أجل كراسي الزمن ومتاعب الدنيا. فالحقيقة علامة وليست بضاعة وإنْ كانت تباع اليوم في سوق النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى، وفي ذلك يصنعون إرادتهم ويتبعون أنانيتهم ويرفعون علامة كبريائهم من أجل تدمير الآخر المختلف عنهم فكراً وعقيدةً وحواراً، فهم في عملهم يحقدون، وفي فكرهم يقتلون، وفي حوارهم يفرضون ليس إلا!، وكأن السماء قد سُبيت إليهم كما بيع يوسف(تك37) في الأزمنة الغابرة، وما تلك إلا جريمة إبادة بمعناها الإجتماعي والإنساني، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي وبأرضه رسالة وجودي وعراقيتي... فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعته قاضٍ يعلن حكم الحقيقة، وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعل إيماني، وما ذلك إلا رسالة الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا،
يا رؤساء الدنيا والزمن ،  يا سادة يا اجلاء 
هل تعلمون ما حلّ بنا ، بسبب حروبكم وبدواعشكم ، قُتل ابرياؤنا ، هُدمت اوطاننا ، هُجر ابناؤنا ، ماتوا من الخوف والفزع والارهاب ، اصيبوا بامراض مميتة ، طُردت عقولنا من اوطاننا ، بيع شعبنا بصفقات بائسة ، فاسمعوا صراخنا فلا تتهاونوا في ما يحصل لنا فالاصولية غايتها غزو العالم،  وتدمير الشعوب ، وانتم ادرى بذلك منّا ، يا من  حملتم وبلدانكم  راية حقوق الانسان وشعار الدفاع عن الشعوب المضطهدة ، انتم تعرفون في بلادكم الحرية باصنافها، وقبول الاخر وحماية الطفولة وحقوق المراة ، فنحن ننتظركم وننشد همتكم وانسانيتكم لتحرير اراضينا ونعود اليها وندخلها آمنين .فقد طالت مصيبتنا وصودر صبرنا ولا قوة لنا الا برب السماء وبحقيقتكم ليس الا فانشدوا معنا كي نعود الى ارضنا فانظارنا نحو ارضنا نعم وامين.

188
في رحاب شفاعة القديس البابا يوحنا بولس الثاني
حكاية أعجوبة
   المونسنيور بيوس قاشا
   باشرتُ ببناء كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك في المنصور بجانب
 الكنيسة القديمة التي لم تعد تفي لاستيعاب المؤمنين وكان ذلك في آب 1989،
 بعد أن تم وضع حجر الأساس لها في 17 تموز من عام 1989، وبعد ثلاث سنوات من العمل والتوقف بسبب الحرب (1990)، كان تكريس الكنيسة في التاسع عشر من آذار عام 1993 وفي عيد شفيعها مار يوسف، من قبل المطران متي شابا متوكا (الجزيل الاحترام)، مطران الأبرشية حينها،ومن هنا كانت حكايتي، بل وقبلها بشهر بدأتُ أعاني آلاماً في مفصل الركبة اليسرى وبالتحديد في 21 شباط 1993، وإذ كان الألم يزداد يوماً بعد آخر، وبإلحاح من الطيبين من أبناء الرعية، بدأتُ بمراجعة أطباء عديدين _ وكان الألم جداً قاسياً _ وبين فترة وأخرى كان العلاج الطبيعي أحد المسكّنات الضرورية، وتناول الأدوية وإرشادات الأطباء المحترمين كلها لم تُجْدِ نفعاً، وما كان ذلك إلا علاجاً نفسياً، وتهدئةَ أعصاب، وإسكاناً لحالة الألم، ولم أكن أشعر بأي تحسن، حتى كانت تنتابني أحياناً حالات اليأس والقنوط ولكن كنتُ أتشجع، أقولها بكل حقيقة وصراحة، إذ كنتُ أفكر أن كل يأس هو صليب، وكل صليب هو علامة محبة ومشاركة، وبقيتُ على هذه الحالة سنين طويلة، حتى ساءت نفسيتي جداً ولم أعد أستطيع ركوب السيارة أو قيادتها أو صعود الدرج، أو الوقوف لفترات طويلة، أو ثني الركبة في حالة الجلوس، وكم وكم بكيت من الالم  ، كل هذه كانت تزيد من مخاوفي ،  وأنا في الأربعين من عطاء السنين، وبعد مراجعاتٍ عدّة ولأطباء عديدين كان إتفاق الجميع على إستبدال المفصل، ومن هؤلاء الأطباء الدكتور نظير مطلوب (أخصائي الظهر والعمود الفقري) والدكتور أحمد محمد صالح الراوي (أخصائي الظهر والعمود الفقري)، والدكتور مظفر كركجي (أخصائي المفاصل والعظام)، وقد نصحني الأطباء الثلاثة بالسفر إلى خارج العراق لاستبدال المفصل وبالخصوص الدكتور نظير مطلوب-  وهو من أبناء رعيتنا - الذي كان يلحّ عليّ كثيراً، وإنني لا زلتُ أحتفظ ببعض الوصفات الخاصة بالأطباء الذين راجعتُهم حينها، وبسبب الحصار الإقتصادي الظالم الذي كان مخيِّماً على العراق لم يكن باستطاعتي أن أذهب خارج العراق لضعف إمكانياتي المادية، كما لم أفاتح رؤسائي الكنسيين حينها بأنني أعاني من ألم في الركبة بحالتي المادية وخوفاً واحتراماً وشيئاًآخر، ولكن بمساعدة إحدى الرهبانيات العامرة، سافرتُ إلى إحدى دول المنطقة وأجريتُ عدة فحوصات وكان القرار قائماً لكل المراجعات الطبية "لابدّ من تبديل المفصل" وقرروا ان الحالة ممكن تتحسن ، ولكن ليس مئة في المئة. ولما علم  المطران ماريان أولش، البولوني الجنسية (سفير الفاتيكان في العراق) بحالتي هذه، والذي كان لي معه صداقة حقيقيه وأخوية بمعنى الكلمة حيث كان يزورني بين فترة وأخرى وأحياناً برفقة الأب المرحوم لويس شابي ( كاهن_ خوري _  كنيسة مار يوسف للكلدان خربندة) _ بعد أن يزور السفارة الروسية والتي كانت قريبة من الكنيسة جداً، حيث كان له صداقة خاصة مع السفير الروسي حينها، قبل أن تنتقل إلى المكان الحالي _وفي أيام التحول الروسي (بروستريكا) أتاني مرة ورآني في حالة أليمة جداً فقال لي:"عليك أن تسافر على حسابي الخاص للعلاج في الأردن"، فطلبتُ منه حينها التريث لعلّ وعسى، وقلت له:"لقد راجعتً مستشفى وأطباء وأكّدوا لي أن علاجي لا يكمن إلا بتبديل المفصل"، وبقيتُ على هذه الحالة أتعاطى المسكّنات والأدوية العلاجية سنين عديدة حتى وفاة البابا القديس يوحنا بولس الثاني.
  ليلة 5 نيسان 2005:
وبينما كنتُ أتابع الصلوات الخاصة التي كانت تُتلى وجسد القديس مسجّى أمام الزائرين في بازيليك مار بطرس بالفاتيكان لإلقاء النظرة الأخيرة، كنتُ أتابع معهم صلاة الوردية والقداس الإلهي والصلوات الأخرى، وفي تلك الليلة ركعتُ أمام فراشي على الأرض (رغم الألم الشديد الذي كنتُ أعاني منه ) وصلّيتُ وطلبتُ من الرب طلباً خاصاً قائلاً:"يا رب، إنْ كنتَ تريد مني أن أواصل عملي ورسالتي فامنحني الشفاء بشفاعة البابا يوحنا بولس الثاني، أعطني شفاءً لركبتي ولحالتي النفسية اليائسة، وإذا كنتَ لا تريد فتلك إرادتكَ ( لوقا 42:22    ) وليتمجد اسمك"... هذا ما قلتُه ولم أُزِدْ عليه شيئاً، وكانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً، وبينما كنتُ أتطلّع إلى الجماهير الزائرة لإلقاء النظرة الأخيرة عبر التلفاز، والتي  كانت تصلّي صلاة الوردية المقدسة، كنتُ أصلّي معها باللغة الايطالية رغم ضعف لغتي حينها. نعم،بكل حرارة كنتُ أصلّي، وبدموع ساخنة، وطلب نابعٍ من أعماقي قائلاً "يا رب، حتى ما هذا الألم"،وإذ أنا على هذه الحالة غلبني النعاس ونمتُ على البسيطة (الأرض) حيث كنتُ راكعاً، دون أن أدري ما الذي حصل، إنما ما علمتُ أنني استيقظتُ حوالي الخامسة فجراً، وهي ساعة إستيقاظي غالباً، ولم أجد نفسي إلا وأنا منبطحاً على الأرض والتلفاز يبثّ وينقل مراسم النظرة الأخيرة وصلوات الجماهير، فاستيقظتُ حينها ورسمتُ إشارة الصليب على جبهتي، وقمتُ متّكأً على حافة الفراش كي أنهض من مكاني، ولكن أحسستُ أن لا شيء يؤلمني،ولم أتذكر إنني كنتُ أعاني من ألم في المفصل، فقلت:"سبحانكَ يارب"،فكانت لي تلك الليلة، ليلة التحول الإيماني والنفسي والعلاجي والصحي، فوقفتُ بقامتي المتواضعة وشكرتُ ربّ السماء على ما حصل لي بشفاعة البابا يوحنا بولس الثاني، حينها قمتُ وارتديتُ ملابسي الكهنوتية كي أذهب وأقيم قداسي اليومي السري في حوالي السادسة والنصف.
نعم، كانت لي تلك الليلة ، ليلة الشفاء، ومنذ ذلك اليوم وحتى الساعة لا أعاني أبداً من أي ألم، وقد راجعتُ العديد من الأطباء بعد ذلك، وأجروا الفحوصات الضرورية لي في مستشفى اليرموك التعليمي،  وكانت فحوصاتهم إيجابية، فأمسكت عن العلاج، وتركتُ الأدوية بعيداً، وها أنا حتى الساعة _بنعمة الرب _أعمل في ميدان رسالتي بكل إخلاص ، شاهدا للحق والحقيقة ولشفاعة البابا القديس يوحنا بولس الثاني .
وبعد حوالي شهر من حالتي الجديدة، أعلمتْ الكنيسة المؤمنين في العالم، عبر الصلوات والإعلانات الكنسية أنْ تُكتَب فضائل البابا يوحنا بولس الثاني والأشفية التي تحصل بشفاعته وإِخبار المراكز الكنسية بذلك للتهيئة لإعلانه طوباوياً، فقمتُ بسرد هذا الحادث تفصيلياً مع بعض العلاجات الطبية من الأطباء الذين ذكرتُهم وقدمتُه إلى سيادة المطران (س) الجزيل الاحترام الذي قال لي أنه سيرفع ذلك إلى الجهات المعنية في هذا الشأن في الفاتيكان ، وثقتي كبيرة .المهم إنني أعلم(    )   أن الرب شفاني بشفاعة البابا يوحنا بولس الثاني وقال لي:" قم إحمل نفسك وامضِ فإيمانكَ خلّصكَ"(يوحنا 1    ) ... أنا الذي كنتُ أعاني من عام 1993 حتى عام 2005 _أي ما يقارب اثنتي عشرة سنة _من الآلام القاتلة، وأصبح الرقم 5و6 من فجر شهر أيار من كل عام ساعة الشفاعة.
نعم،إنها حقيقة عشتُها وها أنا أرويها بعدما سمعتُ صوتاً يتردد في داخلي منذ حوالي شهر يقول  " قم كلّم الناس (     )   بهذا الخبر،فالبشر بحاجة إلى حقيقة الإيمان"، فقمتُ ، وها أنا أقصّ لكم يا قرائي الأعزاء ما حصل معي... من هنا أقول:إن الإيمان موهبة سماوية يمنحنا إياها ربّ السماء لكي نحياها ونعيشها في الألم كما في الفرح، فهي تجعلنا أن نكون رسلاً لبشارة الخلاص(متى 19:28    ) ، لإنجيل الرب يسوع المسيح الحي الذي أحبنا حتى الموت، وهذه رسالتي أن أكون للمسيح، مهما قاسيتُ في طريق الدنيا من عذابات، فالرب لن ينسَنا، وهو الذي قال:"لا تخافوا، أنا معكم"( متى 19:28     )  و"فليكن لكم إيمان" ( مرقس 22:11   )...نعم يا رب أنا أؤمن.
أكيد هناك مَن يعرف بحكاية ألمي ، وهناك من يصدق حكايتي هذه مع الألم، وهناك مَن يأخذها في مسيرة جادة، وهناك مَن لا يأخذها على محمل الجد، أو يقول عنها إنها رواية ساذجة، أو ربما يفكر أموراً أخرى تخصّه، فكل واحد له حرية الإيمان والتفكير والتعبير ، المهم أن نعيش إيماننا ( لوقا 6:17)، ولا تبرد حرارته فينا، أو نتشكك فيه بسبب ماحصل وما حلّ فينا بسبب داعش والاهاب .وأقول بكل ثقة وبعمق إيماني وبحقيقة بينّة ما حصل لي كلُ ما أعلم(    ) ،" إنني كنت أعاني سنين، والآن أعلم أن الرب شفاني بشفاعة البابا القديس يوحنا بولس الثاني"،والله على ما أقوله شهيد... نعم وآمين، وما لي أن أقول إلا "المجد ليسوع المسيح".
                                                                             مع محبتي


189
بمناسبة ذكرى النزوح الثانية

بداية النهاية
الخاتمة: مضطَهَدون ومتأصِلون في الرجاء

المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
ها قد وصلنا إلى مسك الختام في مقالنا "بداية النهاية" بعد حلقتين متتاليتين
حملت الأولى عنواناً "اضطهاد وسؤال في المصير" والثانية "أصلاء ومستقبل في المجهول" وهاهي الخاتمة، خلاصة الحلقتين، تحمل عنواناً "مضطَهَدون ومتأصِلون في الرجاء"، ندرج كلماتها لفائدة القرّاء عبر نظرة لعلّها تكون في مسيرة الحقيقة وكشاهد لها، فالحياة ما هي إلا حقيقة المحبة التي تجسدت لأجلنا(غلا4:4) .وأرادَتنا أن نعتمذ باسمها فنكون شهوداً وشهداءَ ليس إلا!.
نعم هوذا الإجتياح الداعشي يدخل عامه الثالث في سهل نينوى، وفي الوقت نفسه يواصل فيه الإرهاب المزيد من جرائمه البشعة ومحاولاته المتوحشة لكسر إرادة العراقيين وتكريس جراحهم وارتكاب أبشع الانحرافات المدمِّرة ضدهم بعد أن خلّفت هذه الجرائم نتائج غير مسبوقة من القتل والتهجير والاختطاف وتدمير الممتلكات والاعتقال والسبي وإجبار المواطنين على تغيير إنتماءاتهم الدينية بما يُرضي نزعته البدائية الضالّة ونسف المعالم الآثارية الحضارية التي يتميز بها تراث وطننا.
نقول: إن الشرق الأوسط _ إنْ جاز القول _ يشهد احتلالاً من الأصوليين ومن الإرهاب، كما إن المسيحيين في الشرق يواجهون ما هو أخطر من التحديات، إنهم يواجهون أزمة وجود وحضور وضياع، فهل سيصبحون آثاراً أو بقايا أو ذكريات؟... هل تصبح كنائسهم خرباً وتُهدَم بمعول داعش والإرهاب؟... وهل ستسمّى كراسي كنائسنا إنهم على أنطاكيا وسائر الاغتراب أم بابل وسائر الشتات؟... هل سيرحمنا التاريخ حينما يقولون كانوا هنا، لقد مرّوا من هنا؟... وإنْ كانت هذه الحقائق مُرّة في حقيقتها وشؤم في مصيرها فهي حقيقة في واقعها، فمن هنا أقول: إن المسيحيين مسؤولون هم أولاً عن مصيرهم قبل كل شيء، هل يؤمنون بأن لديهم رسالة لشرقهم؟... هل هم مستعدون للتضحية أم أنّ قِبْلَتهم الجديدة والمزمَعَة هي الرحيل إلى الغرب وإلى الهجرة حيث أرض الله الواسعة؟، فيزداد القول الذي يؤكد بعدم انتماء المسيحي إلى شرقه وإن هذا الشرق لا يقدم له شيئاً، ففي بلده لا كرامة ولا حرية أو مساواة ولا حتى مستقبل، فقد أصبحنا أقلية وبات الخطر مضاعَفاً علينا من خلال تهجير مبرمج وعبر فرض الشريعة والتعاليم الإسلامية إرتدائياً لأثوابنا ولطبيعة أكلنا وشربنا وغيرها من الممارسات وكأننا نعيش أهل الذمّة.

في الماضي القريب
من المؤكَّد ومن دون شك أن الحملة العسكرية على العراق أدخلت شعوبنا وشعوب الشرق في مرحلة تاريخية جديدة أكثر سوءاً ومأسوية وبشكل خاص ومضاعَف على الأقليات المسيحية، فالاحتلال أجّج النزاعات والاحتقانات الطائفية والمذهبية والصراعات العرقية الكامنة بين شعوب المنطقة وداخل الدولة الواحدة، كما تنامت في ظل الاحتلال بشكل لافت ومخيف الإتجاهات الإسلامية المتشددة والتكفيرية وانتشار المنظمات الإرهابية، كما كان الاحتلال فرصة للإرهاب بدأ يقتل العشرات ويهجّر الآلاف من مسيحيي الموصل وسهل نينوى وكأنه استهداف منظَّم ومن غير أن يكونوا طرفاً في الصراعات المذهبية والطائفية، فهل هناك من وجود مخطط لإفراغ الوطن والشرق والمنطقة من المسيحيين بتعاون محلي وإقليمي ودولي وحاملين مبدأ على أن الصليبية ما هي إلا حملة على الإسلام والمسلمين بمساعدة بعض وسائل الإعلام والفضائيات العربية والإسلامية الرسمية والخاصة والتي أصبحت منبراً مفتوحاً لفقهاء الإرهاب والقتل ولتأجيج العِداء الآيديولوجي ضد المسيحيين؟، وقد أزاد في هذا الاضطهاد الدساتير وقوانين الدول العربية والإسلامية التي تهمّش المسيحيين وشعوبهم وتنتقص من حقوقهم وكأنهم رعايا وليسوا بمواطنين، وفي ذلك كله تتفاقم محنة المسيحيين المشرقيين وتغضّ النظر عن الأعمال الإرهابية ضد المسيحيين، وتساوم على حقوقهم مع قِوى المعارضة الإسلامية، وهذا ما جعل المسيحيين يدفعون أثماناً باهظة جرّاء الاحتلال.

الواقع والاضطهاد
لقد مرّ عامان على إاقتلاع شعبنا من أرض آبائه وأجداده في قرى ومدن سهل نينوى بعمل إجرامي شنيع بلغ درجة الإبادة العرقية والدينية إرتكبته زمر داعش الإرهابية الأجرامية ومثيلاته من المنظمات الإرهابية التي تكفّر الإنسان وكل كائن لا يدين بما تدين ولا يسلم بما تسلم به.
نعم، ونعم وصحيح، حلّ ما حلّ فينا بسبب داعش والإرهاب، ومن عامنا هذا حيث الذكرى الثانيةللنزوح البائس وبداية الكارثة بحق وحقيقة، بمآسيها وتبعاتها، ولا زالت تجرّ أذيال اليأس والقنوط حتى الساعة، كما ملكَ القدر الأسود على مسيرة الحياة مما جعلني أعيد ذكرياتي إلى ما حلّ بكنيسة سيدة النجاة وان كان بعض يغنّون باسمها، مصلحةً وجهاراً، ليس إلا!، أما نحن فلها محقّون وما كان إقتحامي إلا لإحصاء عدد الشهداء والضحايا والقتلى _وإلا كيف عرف الإعلام أعدادهم _وكأن الكارثة آنذاك كانت جرس إنذار وناقوس ميعاد لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21) من طرد واضطهاد، وقتل وتهجير، ونهب لأملاكهم، وسرقة لأموالهم، والاستيلاء على بيوتهم، كما تذكرتُ جيداً تلك المخطوطة التي قرأتُها _ وهي في حوزتي _ والتي تحكي بالوقائع والتفاصيل مذابح تركيا 1915، وما حلّ بهم أيام العصمليّة والإبادة العثمانية، وبعد مائة عام أُعيدت الإبادة _ وإنْ كانت الأولى لم يُحكَم عليها بعد _ وهذه المرة بتقنية فائقة وبمخطط شيطاني إجرامي بعلم كبار الزمن وتخطيط من أجل مصالح واهداف لا يدركها إلاّ صنّاع القرار، ويُراد بها رسم خريطة عراقنا والشرق، وأعادوا أعمال العنف والقتل والدمار والنهب والسلب والخطف وتصدير الأملاك وتحقير الكيان بـ "نون" نكرة ليسإلا، ولم نسمع إلا نداءات وبيانات واستنكارات من على المنابر وكما يقول المَثَل "زرعوا ليأكلوا هم"، فحصدونا ضحايا لهم والدول وقانونهم معطَّل بسبب مخططاتهم، وأصبحنا أداة لصنّاع السياسة ولمخططي خارطات الطرق الاستعمارية.
فراغ وضياع
إن عدم إدراكهم (المسيحيين) للمتغيرات الزمنية وتَجَدُّد شكل العالم وبقائهم شكلاً ومضموناً دون الإنتباه بحكم تغيير الأزمنة التي هي سُنّة المخلوقات بحيث أصبحت حكايات كبارنا وسياسيّينا ومدرائنا وكلماتهم ونصائحهم حديثاً فارغاً، مُملّة في آذان السامع، من كثرة تكرار مفرداتها خلال عشرين قرناً ولم ينتبهوا إلى مَن الذي يخاطبونه في كل مرحلة خلال هذا الزمن الطويل. هذا ما جعلنا نصل إلى حالة الفراغ والضياع والتساؤل: ما العمل ونحن نعاني سكرات الفناء بل الموت والنهاية والختم بحجر كبير (متى 64:27)، فنحن الآن قومٌ لا وجود لنا، وفي عالم سريع التغيير علينا أن نصحو ونبني الإرادة اللازمة لإعادة العليل إلى حالته الصحية، وهذا لن يتم إلا بقطع حبل السُرّة مع الإدارات الفاسدة والحركات والأحزاب الغير المدركة لحقيقة الوطن، وغير المهتمة للشؤون الحياتية لأبناء قومنا والسهر على مصالحهم، وذلك في التحرر من عباءة الإتّكاليين الذين يعتبرون أنفسهم آلهة الزمن وهم ساسة فاسدون، يشترون مناصبهم بحيل ماكرة ومحسوبية مزيَّفة وعنهم كبارنا يبرقون، والطاعة هنا واجب وخنوع، فهم يرون أن قوتهم في غيرهم أو في محتلّهم، والحقيقة هي غير ذلك. فالتعامل بالضمير ليس تعامل المنصّات والمنابر والتهديد والوعيد،وفضح الآخرين وتشويه سمعتهم برسائل لا تليق بمرسليها مكانةً وإدارةً ومركزاً، إنهم فاشلون،وليسوا إلا صوتاً مزّيفاً، عكس يوحنا، فيوحنا كان صوتاً صارخاً في البرية (مر3:1) حيث الصدى إلى مدى غير محدود عكس الأصوات العاكسة من على المنابر.إنها تحولات مرعبة... فما هي القراءة لدى مَن يَدّعون تمثيلنا من مدنيين ودينيين لهذه التحولات على مجمل الساحة الدولية كما في المنطقة عامة؟.لنتعلم ونقول إنه لا يجوز إدانات فقط ولا عدم الإكتفاء بالمناشدة بل بالضغط وبجميع الوسائل السلمية عشائرياً ومحلياً ودولياً بإيقاف كافة المساعدات المالية والعسكرية لتنظيم داعش وسائر التنظيمات الإرهابية والأصولية، وإيجاد طرق حاذقة للوصول إلى مركز القرار لإحقاق حق شعبنا المظلوم ومناشدة الدول الإسلامية إلى عدم تشجيع التيارات الإرهابية والدينية التكفيرية والتي تنادي بالجهاد وتجعل الدين رأس حربة لقتل الآخر المختلف، وتدعوهم بالكفّار، وتفرض عليهم الجزية أو الانتماء أو القتل أو يكونوا من أهل الذمّة لديهم.
لذاعلينا أن نرفض هذه المهازل عن طريق جعل المطالبة بحقوقنا الوطنية قبل القومية والدينية هدفنا جميعاً، حتى وإنْ اختلفت نظرة أحدنا إلى المفهوم الوطني والقومي عن الآخر في هذه المرحلة الحرجة خصوصاً لأن مسألة وجودنا أصبحت على المحكّ.لنحدّد مواقفنا ولا نحافظ على عروشنا،لنعرف جيداً أننا ننتمي إلى وطن وليس إلى طائفة أو دين.نحن اليوم لا نحتاج إلى التفاعل العاطفي وكيف إذا كان صوت المؤمن هو صوت الحقيقة!.من المؤسف أن نبيع الوطن أو لا يكون لنا دور وكأننا من المتفرجين.إننا نحتاج إلى مشروع مسيحي ولكن غياب هذا المشروع جعلنا بلا قرار، لذا لا يمكن لمسيحيي الشرق أن يبقوا ساكتين وصامتين، ولا نريد أن نجابه العنف بالعنف، نريد أن نعيش مواطنين متساوين بالحقوق، فنحن هذه بلداننا مع إخواننا ونحن حرّاسها، نحن بُناة حضارة المحبة والحياة.

البقاء في الوطن
نعم،أمام ما يحصل يجب أن لا نسكت...أين صرختنا بل أين صرخاتنا؟... هل لم يكن ممكناً أن نكون شبيهين بسيدة الأيزيدية فيان الدخيل ونوصل صوتنا بل نجعل من أصواتنا ترنّ في المحافل الدولية وقضايا الأمم المتحدة، كما فعلت فأوصلت صوتها إلى العالم؟... لذا أسأل: هل أصبح صوتنا خافتاً بين الناس؟... فإنْ خَفَتتْ أصواتنا فأين صوت المهتمين بشؤوننا، الذين يُدعوَن، أنهم لشعبنا وللشعوب الأصيلة، بينما الحقيقة لا يفقهون منها نقطة،ولا يعرفوا إلا غاياتهم ومصالحهم، فهم لا يفهمون في السياسة علمها،ولا يحملون إلا عناوين فارغة؟... كما أسأل:أين دمعتنا من هذه الأحداث الأليمة التي تدعونا إلى التعمق في فهم وعيش إيماننا المسيحي لكي نزيل من قلوبنا وعقولنا كل الهواجس والمخاوف؟... ولابدّ لهذه الأحداث من أن تدفعنا إلى وقفة ضمير وتضامن مع إخواننا المعذَّبين والمضطَهَدين، فلا يمكننا أن نسكت عن هذه الجرائم بحق شعوبنا، ولا يمكن أن نمرّ على قصة لاجئ وكأن شيئاً لم يحصل، ولا يمكن أن نغرق في بحر اللامبالاة... نعم، عدم السكوت وتوظيف القِوى عما يحدث والأخطر أن كثيرين منهم أصبحوا غير مبالين لما تقوم به داعش،كما أن كثير من المسيحيين هاجروا إلى الخارج وأصبحوا ضحية داعش مرتين، مرة عندما هاجروا ومرة ثانية عندما يمرّون على الخبر مرور الكِرام، والحقيقة الأشد خطراً بل فشل ذريع هو أن يتخلى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بحمل الصليب في سبيل بقائهم، لذلك على المسيحيين التمسك بالإيمان والرجاء والمحبة والصبر حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فالمسيحية لن تزول إذا أراد لها المسيحيون ألا تزول،والمخطط في ذهننا، هو ضعفنا، هو المخطط بعينه. عدم ثقتنا بذاتنا وبسبب ما نعيشه في طائفية ومحسوبية القشور مبتعدين عن مسيحيتنا، أن يتصرف رجالنا وكبارنا بأنانية تجاه  بعضهم البعض لغايات في العدد والأغلبية، والحقيقة أن المسيح ربّنا علّمنا عكس ذلك تماماً.

الإرشاد الرسولي
وفي العودة إلى الإرشاد الرسولي نتساءل:أين نحن من الإرشاد؟... ألم يفهم شعبنا ماذا يعني الإرشاد ولماذا وُقِّع قبل أحداث كنيسة سيدة النجاة؟... أليس ذلك رسالة سماوية إيمانية لشعوب منطقة الشرق الأوسط لكي يتهيئوا لمسيرة قاسية ولتجربة إيمانية كعاصفة البحر التي حلّت بالرسل (لو22:8).ففي الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2012، وبمناسبة احتفال الكنيسة الجامعة بعيد ارتفاع الصليب المقدس، سلّم قداسة البابا بندكتس السادس عشر وثيقة الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط _ والذي حمل عنواناً "شركة وشهادة" _ في احتفال مهيب أُقيم في بيروت، وحمل الإرشاد إلى مسيحيي الشرق مخطَّطاً إيمانياً داعياً إياهم إلى التمسك بالأرض وعيش الرجاء، في إبعاد اليأس مهما كانت طريق الزمن قاسية، كما ناشد الإرشاد المسيحيين وحثَّهم على البقاء في الوطن وعدم بيع الأملاك (فقرة 32)، وأكّد حقيقة الألم والاضطهاد:"يشعر المسيحيون بنوع خاص في هذا الشرق بأنه شرق تقييدي وعنيف، ويجدون (أي المسيحيون) أنفسهم غالباً في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان الأمل، بسبب الصراعات وحالات الغموض. كما يشعرون بالمهانة، ويعلمون أنهم ضحية محتملة لأي اضطرابات قد تقع" (فقرة 31)، وأيضاً:"الشرق الأوسط بدون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله" (فقرة 31)، وأيضاً:"إن الشهادة المسيحية أولى أشكال الرسالة، وهي جزء من دعوة الكنيسة الأصيلة" (فقرة 66)، و"سيبارك الله سيرتكم وسيهبكم روحه لمواجهة التعب اليومي، "لأنه حيث يكون روح الرب تكون الحرية"" (2كو17:3) (فقرة 36).
     الكنيسة ومهمتها
للكنيسة مهمة واحدة وهي ربط كل شيء بالمسيح. نعم،لقد لعبت الكنيسة برجالها وكهنتها وعلمانييها دوراً رائداً أمام الأحداث الأليمة التي أحاطتها من حولها فكانت هي الملجأ الأول للكل، وكان حضورها فاعلاً وواضحاً وثابتاً. فتحت أبوابها للاجئين والجائعين، للمتألمين والجرحى، وتحولت قاعاتها لمنامات وعيادات ومستشفى للاعتناء بالمرضى، وفي وسط كل هذا التهديد والضغط الشديد وقفت سنداً وعاموداً ثابتاً للشعب المؤمن محاوِلَةً تشديد عزمه وتثبيت أقدامه على أرضه، محافظةً على الإرث المسيحي بكل صمود ومحبة.ولكن مهما كان الدور كبيراً فالمأساة لا توصَف والكارثة التي حلّت لا تُقاس إلا بمعيار الإبادة وقتل الشعوب البريئة وخاصة أمام التحولات التي يشهدها العراق والمنطقة والتي إنسحبت على الكنيسة، وكذلك بسبب نزيف الهجرة إلى بلدان الانتشار المختلفة وتحديات التشتت والتبعثر والذوبان، كلها تشكّل خطراً على وحدة الكنيسة وحضورها وأمام وسائل الاتصال الاجتماعي والتي قلبت القِيَم. هذا الوضع المعقَّد والمتنوع لا يمكن تجاهله أو المرور عليه مرور الكرام، إنما يتطلب دراسة وتحليلاً لتقديم رؤية واضحة وبرنامج عمل منهجي لمستقبل الكنيسة.وللوصول إلى رؤية واضحة ومعالجات عملية بعيداً عن العقلية الإتكالية، ولا يجوز الجلوس في أماكننا نراقب وننتظر، والمنطقة تغلي وتزحف نحو مستقبل مجهول الملامح في النظر القريب وربما إلى ضياع وانقسام في النظر البعيد.نتغلب على أنفسنا ونكفّ عن تقطيع بعضنا البعض، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق مَن بإمكانه العمل من أجل وحدة ومصلحة شعبنا المظلوم والإصطفاف معه إن كان شخصاً مستقلاً، حزباً أو حركةًأو تجمعاً سياسياً، رجل دين، منظمات إنسانية واجتماعية أو غيرها، فالتاريخ أمين ولا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ.

بندكتس ورسالته
حاول قداسة البابا بندكتس السادس عشر في رسالته "خلصنا في الرجاء" والتي أصدرها عام 2008 على إظهار المسيحية على أنها دين مبني على الرجاء، وقد أعطى أمثلة عديدة من الكتاب المقدس ومن حياة الكنيسة ليؤكد على أنه مهما اشتد الظلم والاضطهاد، ومهما تعاظمت شكوك الإنسان وهمومه، يبقى لنا الرجاء بالخلاص، فالمسيح نال الخلاص من أجلنا ونحن لا نزال نرجو ثمرات هذا الخلاص في الحياة الأبدية.
نعم، عاش المسيحيون إيمانهم الملئ بالرجاء منذ عصر الاضطهادات وعلى مرّ العصور لأنهم يعرفون أنهم يمتلكون خيرات أفضل من الخيرات الآنية، لذلك كانوا قادرين على ترك كل شيء لأنهم وجدوا أساساً لحياتهم، أساساً باقياً لا يستطيع أحد أن ينزعه منهم، وإيماننا يرتكز على هذا الرجاء الذي حمله إلينا الإله _ الإنسان. من المؤكد أن الله موجود رغم الألم والشر، ويقيننا أن لا شرّ يدوم ولا ألم يبقى سوى الله ومحبته، فالتجسد مجّد ذاته وسط كثير من الألم وأرض تئنّ من قتل عشرات من أطفال بيت لحم حينها، بحد ذاته دليل على حضور الله في الألم، وتكتمل المسيرة بالصلب والموت، ولا تنتهي بل تبدأ بتحول جذري بالقيامة وتبدأ مسيرة ليست بجديدة بل مكمّلة لها وبلا نهاية، وكما قال أحد الكتّاب:"لا أعرف الجواب لمعضلة الشر ولكني أعرف المحبة".

     الكاردينال بورك
اعتبر الكاردينال ريمون بورك الأمريكي في 25 أيار 2016، أن الشهادة هي الردّ على تدهور وضع الكنيسة والعالم!.تحدث الكاردينال بورك، خلال منتدى روما من أجل الحياة، عن الاقتراف المحتَمَل للأخطاء من داخل الكنيسة بشأن حقائق العقيدة والأخلاق داعياً المطارنة إلى "فهم الحاجة الطارئة إلى التعبير بوضوح وشجاعة عن حقائق الإيمان"، وأضاف: أنه على المسيحيين أن يكونوا جاهزين للشهادة محبةً بالمسيح وكنيسته.وعبّر عن قلقه بشأن هذا المنظور المتمحور حول الانسان والعالم خاصةً داخل الكنيسة مما يؤدي بالبعض إلى الإمتثال للواقع الموضوعي لنعمة الزواج على اعتبارها مثالاً بسيطاً نسعى إلى الإمتثال له. قد تأخذ الشهادة أشكال مختلفة: شهادة الدم لكن أيضاً الاضطهاد الذي يمنع المسيحيين من ممارسة إيمانهم. لكن شهادة الاضطهاد ليست سوى مشاركة في آلام ربنا يسوع المسيح وهي بالتالي تعطي فرحاً أعمق للمسيحيين بغض النظر عن الألم، ويضيف:"إن الكاثوليك مدعوّون اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، إلى الدفاع عن الحقيقة التي يعلّمنا إياها يسوع حتى ولو نتج عن ذلكخسارة الممتلكات والمضايقة والسجن. لا يسعنا سوى أن نبقى أوفياء لربنا يسوع المسيح وللحقيقة التي ينقلها من خلال كنيسته المقدسة مهما كانت الآلام ومهما بلغت حدة الاضطهاد الذي يتربّص بنا".

حقي وجودي
من حقي أن أسأل: حتى ما نكون أرقاماً هزيلة؟... أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً مهجَّراً أنا المسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعرقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبّراً بألوان رايتها؟... أليس ذلك من حقي وحق حريتي أن أكون رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟... أليس من حقي أن أدافع عن وجودي بصوتٍ مُحب وأيادٍ ضارعة وصلاةٍ خاشعة لأعلن معنى وجودي وإلا عبثاً أنا هنا؟... فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلب حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقة من أجل كراسي الزمن ومتاعب الدنيا. فالحقيقة علامة وليست بضاعة وإنْ كانت تباع اليوم في سوق النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى، وفي ذلك يصنعون إرادتهم ويتبعون أنانيتهم ويرفعون علامة كبريائهم من أجل تدمير الآخر المختلف عنهم فكراً وعقيدةً وحواراً، فهم في عملهم يحقدون، وفي فكرهم يقتلون، وفي حوارهم يفرضون ليس إلا!، وكأن السماء قد سُبيت إليهم كما بيع يوسف(تك37) في الأزمنة الغابرة، وما تلك إلا جريمة إبادة بمعناها الإجتماعي والإنساني، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي وبأرضه رسالة وجودي وعراقيتي... فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعته قاضٍ يعلن حكم الحقيقة، وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعل إيماني، وما ذلك إلا رسالة الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا، مؤمناً أن الرب معنا حتى الموت. وسأقول هنا: إذا كنّا لا نؤمن بتاريخ آبائنا وأجدادنا فقد أضعنا الحقيقة، ألم يكتبوا لنا لنقرأ ونفهم ونحيا؟... فنحن لم ولن نكون سرّاقاً للحواسم أو إرهابيينَ للجواسم.
ألا يخجل الإسلام الأصولي عندما يقولون إنهم مسلمون والإسلام مصدر شريعتهم؟... عن أية شريعة يتكلمون أمام جرائم داعش؟... أوأية شريعة يطبّقون وأبناء الوطن مشرَّدون في الشوارع؟...إرحموا العراق الجريح وشعبه، لنسأل سبحانه وتعالى هل منح لنا شريعة تفرقنا أم حقيقة تجمعنا؟... هل أرادنا سيوفاً وحراباً ثم خراباً ودماراً أم أرادنا غصناً وزيتوناً؟...ألم نعلم أن هذه الآلات ماهي إلا لقائين(تك4) ولهيرودس(متى 17:2-18)، وللمحاربين الفاشلين الذين لا يدركون سموّ الحوار، الذين يقتلون الأبرياء من أجل كبريائهم وغزواتهم.

     مرة أخرى
قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ وعبر الإرشاد الرسولي _ يضعنا اليوم ، كما وضعنا بالأمس ، أمام مسؤوليات الإيمان التي استلمناها من جرن العماد، وَوَسَمت وجوهنا بميرون مقدس، لنكون جنوداً أوفياء من أجل كنائسنا، من أجل تثبيت وتقوية هويتنا المسيحية، فنرى الرؤيا الواضحة عن معنى حضورنا ووجودنا وتقاسمنا للحياة. نعم، لنمشِ على دروب الشهادة التي سلكها المسيحيون في بلادنا الشرقية، وفي ذلك يشجعنا قداسته وجماعاتنا المسيحية كي نظلّ متجذرين في أرض أجدادنا في شراكة القلب والنفس مع جميع المؤمنين المعمَّذين، ليس فقط أمانةً وحفاظاً على الوجود والهوية والتراث، بل أيضاً كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة والإستشهاد، وقد تميز بها عبر قرون عديدة حضور المسيحيين في الشرق، وما أجمله من كلام.،بل طوبى لِمَن يدرك معناه.
نعم،إن غياب الصوت المسيحي ووجوده سبّب في افتقار المجتمعات وخسارةً للتعددية التي تميّزت بها بلدان الشرق الأوسط. نعم، لنفتح أبواب قلوبنا وكنائسنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً، ولنفتح الأبواب ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشركة والشهادة والتواضع، فالكنيسة هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟... إنها مبنية على صخرة البشارة وعمرها ألفين عاماً، لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه أرث الكنيسة جمعاء. فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق ولنرى الأيام، إنها أفضل مستشار، فلنأخذ خوذة الخلاص (أفسس 17:6) و"سيف الروح الذي هو كلمة الله" (17:6) من أجل الإعلان جهاراً بسرّ الإنجيل الذي لأجله نحن سفراء بدلاً من سماع دقات ناقوس الخطر بل الفشل في الإيمان للصمود في الرجاء... وهذه هي البشارة الجديدة.

في الختام
ختاماً، الكنيسة مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفعة فوق الجميع من أجل خدمة الجميع وليس لخدمة بعض منّا، ومَن هَوَتهم أفئدتنا من أجل مصالحنا، أصيلة وقديمة قِدَم التاريخ بل ومن قبله... هذا هو عالمنا اليوم، فأين نحن من فهمه؟. نحن لسنا هنا لندغدغ العواطف ونضحك بوجوه الفاسدين تمليقاً وكذباً ورياءً ومصلحةً، ونقدّسهم في صفوفنا وديارنا ومعابدنا، وفي أول السطور نُجلسهم ونجالسهم وكأنهم أمراء ديرتنا وعندهم تكمن مصالحنا وملء بطوننا بأموال ليست أموالهم ونحن لهم خانعون، وننسى إن شعبنا لا زال يئنّ في بستان الزيتون، والإرهاب _ ولسان حالنا يقول:إنْ كان مستطاع أطرد الداعش والإرهاب والحاكم الفاسد ومدراء السرقات وأصحاب المصالح والغزوات، ولكن "لا مشيئتنا بل إرادتك" (لو42:22)، " ولا مشيئة النزاهة بل حقيقة عدالتك" ، فنحن نؤمن بما يقول ربنا:" ليس خفيّ إلا سيظهر ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (مر22:4). فما نحتاج إليه اليوم  هو مشروع مسيحي، ولكن غياب هذا المشروع جعلنا بلا قرار، وهذه الأحداث ما هي إلا مناسبة لنعيد قراءة حياتنا المسيحية ونكتشف أن هذا الليل المظلم الذي نعيشه سيعبر لا محالة، وإن السلام والأمان سيعمّان على هذه الأرض طالما أن إيماننا يرتكز على شخص السيد المسيح، إيماناً مبنياً على الرجاء، ورجاءاً يتحقق فيه الخلاص، فالمسيح هو رجاؤنا،ورجاءنا فيه لا يخيب، فقد قال في إنجيله المقدس:"ها أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى20:28)، وأيضاً "إرفعوا رؤوسكم فإنّ خلاصكم قد دنا" (لو28:21).
أكيد إن فجر القيامة قادم لا ريب فيه، فلا الحقيقة إلا وتُبان، وأكيد سيعود أبناؤنا إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم عبر ضمانات قوية ودولية ووطنية لصيانة أمنهم وكرامتهم وإرادتهم في الحياة الحُرّة ضمن فضاء الوطن. فلنشدّ على أيادي شعبنا، ونحثّه على إبقاء جذوة الرجاء، ولابدّ لليل أن ينجلي ويبزغ فجر العودة عمّا قريب، فنحن نثق ملء الثقة بوعد الرب بأن يبقى وسط كنيسته فلا تتزعزع أبداً... فلا تفقدوا إيمانكم، بل تشجّعوا وتشدّدوا ثابتين في الرب يسوع القائل:"لا تخافوا، ثقوا إني غلبتُ العالم" (يو33:16).فالرسل وأباؤنا أُضطهدوا بالأمس واليوم نحن بدورنا ، ولكن الحقيقة تبقى أننا ثابتون في الرجاء فمهما قامت به الجماعات الأصولية الداعشية،  من تدمير وهدم لكنائسنا واديرتنا ، وسلبت أملاك أبناء شعبنا ومقتنياتهم ناشرة ظلامَ الموت والدمار، وطردتنا من قرانا ومدننا، سنبقى ثابتين في أرضنا ،ومتأصلين في وطننا ، في الرجاء ، ليس في هذه الدنيا فقط ، بل بيسوع المسيح ، القائل:"لا تخافوا، ثقوا إني غلبتُ العالم" (يو33:16) وشكرا للقراء الأعزاء الذين رافقوني في مسيرة المقال حتى الختام. نعم وامين .

190
بمناسبة الذكرى الثانية للنزوح

بداية النهاية
الحلقة الثانية: أصلاء ومستقبل في المجهول


في البدء
حملت الحلقة الأولى من موضوعنا بداية النهاية عنواناً "اضطهاد وسؤال في المصير"، وأما الحلقة الثانية فعنوانها "أصلاء ومستقبل في المجهول".
نتساءَل، أليس من حق شعبنا أن يعيش؟... أيبقى يفتش عن ملاذٍ آمن في الهجرة إلى الخارج، وتكون النتيجة شعب مشتَّت في سبل الحياة بسبب ما حلّ بهم من مظالم، وما هي إلا ردّة فعل يائسة بعد كل الذي حصل والذي لم يكن فيه أحد ولم يأتِ على بال أحد؟... إنها مهزلة التاريخ، بل مهزلة المصالح والمخططات الفاسدة. شعوب تُحرَم من أراضيها، تُسرَق أملاكها وأموالها، تُطرَد من ديارها، تُهجَّر رغماً عنها، تُدمَّر حضارتها التي ترقى إلى آلاف السنين، وتُهدم كنائسها ومزاراتها... إنه فعل صارخ بل قبيح بحق الشعوب البريئة. فمدننا وقُرانا وبلداتنا والتي استولى عليها داعش أصبحت عرضة للنهب خاصة من قِبَل الجيران الذين أصبحوا داعشيين هم أنفسهم أو ساندين لهم.

     نكون أو لا نكون
كان العالم صامتاً، ولا يزال صمته أمام كارثة تهجيرنا وقتلنا، إلا ما هو له ولمصالحه. وكلنا نعلم كيف أن داعش قام بتوجيه إنذار من خلال منابر المساجد للمسيحيين بإعلان براءتهم عن الديانة المسيحية واعتناق الإسلام مقابل بقائهم أو مغادرة المدينة وقرى وبلدات سهل نينوى في الموصل خلال 48 ساعة، وباشر بعدها بقتل العشرات من المسيحيين كما وهرب مئات الألوف، ثم قامت عناصر التنظيم بكتابة الحرف "نون" على بيوت المسيحيين لكي يميزوهم عن المسلمين. فالمسيحيون شعوب غير مرغوب فيهم، وما ذلك إلا مخطط إجرام وإفراغ ليس إلا، فإفراغ الوطن من شريحة المسيحيين والأقليات فعل إجرامي وظلم صارخ بحق الشرعية الدولية والإقليمية والمحلية، بحق شريحة مسالمة، كانت وفية في أصولها وفي تسلسلها. أيجوز أن تكون المسيحية المسالمة في حكم المنتهية حيث ترقى حضارتها إلى آلاف السنين، وقد بدأت تفقد قاعدتها ووجودها؟... أليس ذلك هدم وتحطيم للأسس الأخلاقية وقيم الحضارة الإنسانية والثقافية التي بدأتها ولا زالت تحياها عبر مسيرة الإنجيل المقدس؟... فالحقيقة إننا نعيش حقبة تاريخية غير مسبوقة في عصرنا، أيجوز أن نُحرَم من حقوقنا المدنية؟... إنه ظلم يستحق أن يُرفَع أمام منبر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كما توصل الغرب، أو من خلال ضعفنا إلى شراء ضمائر بعض منا، فأدرك جيداً أن أمضى سلاح في تدمير هذه المجتمعات هي التيارات الإسلامية الأصولية وليس التدخل المباشر فيها. فماذا يعني هذا كله!، وهذا ما يجعلنا أن ننسى هويتنا المسيحية والوطنية كي نكون في مهب الريح... نكون أو لا نكون.

ألم الماضي
نعم، طردونا من منازلنا، وقتلونا أمام أنظارهم، وأبعدونا عن قُرانا قسراً وكرهاً وحقداً، وعن مدننا كفراً وتكفيراً، وعن أحبائنا عنوةً، وعن جيراننا غدراً، والسبب يعود إليهم وإلينا، فهم سبقونا في الهزيمة ونحن لم نكن مستعدين لها، بل بالأحرى لم يعلّمونا حماية مدننا وقُرانا وأملاكنا، فضاع كل شيء وأصبحنا تائهين في العراء ليلاً ونهاراً، وفي شوارع المدينة وساحاتها وأرصفتها وحدائقها وساحات دور العبادة في قيظ الصيف وحرّ السماء، أصبحنا شعباً تائهاً يتسوّل من أجل الوجود، ويفرش العراء من ثم إنتقل إلى خيم بائسة في حدائق الكنائس والمعابد والمزارات وفي أروقتها وساحاتها ومماشيها في حالة يرثى لها... بؤس وشقاء، عويل وبكاء، راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزّى (متى 18:2)، فأولادها في عمارات عارية يسكنون، ولا أحد يبالي بهم إلا الأرض الطيبة التي احتضنتهم               _ أرض شمالنا العزيز _ وجعلتهم من آلِها وأهلها حيث هزيمتهم لم ترى ساعاتها الفجرية، فواحد رصد مسيرتهم، وراقب سيرهم، بِعُراهم وبلباسهم... إنه الرحمن الرحيم، وهو في علوّ سمائه، كما إطّلع على عبيده وهم يفتشون عن مأمن آمن ومسكن هام وعبور أكيد... نعم، لقد كانت عملية تهجير المسيحيين عملية أشبه ما تكون "الإبادة الجماعية" بل هي الإبادة الجماعية، بالحقيقة والواقع.

من المؤسف
في 13 تشرين الثاني 2014، زار الرئيس أوباما (بورما) لإجبار الحكومة هناك لحماية الأقلية المسلمة ومنحهم كل الحقوق، والمعلوم إنهم ليسوا أصول الوطن ولا من أصله بل هم مهاجرون من بنغلادش وما جاورها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن مسيحيي العراق شُرِّدوا وقُتلوا وقُطعت أرزاقهم وهُجّروا وفُجّرت كنائسهم تحت أنظار ومسمع كبار الدنيا والزمن والأمم المتحدة، ولم تحرَّك عضلة في جسم الرئيس، وربما كانوا يستمتعون بمشاهد انفجارات الكنائس، ولم نسمع إدانة قوية واحدة يوم وقوع الكارثة بل ما سمعناه إدانات بسيطة لا تليق بشعب أبيّ حامل الحضارة والسلام وقيم الأخوّة والمحبة... فحتى ما يكون شعبنا في الدرجات الدنيا!! والحقيقة شاهدة نحن أصلاء وأصول هذه البلاد، ومن المؤسف لم يبدأ الغرب في إلقاء بال لمن تبقّى من مسيحيي العراق إلا بعد السلوكيات الوحشية لتنظيم داعش، بعد تفاقم خطر داعش، بدأ الزعماء الدنيويون والسياسيون في الغرب يلقون بالاً للمسيحيين ولكن ذلك متأخراً وضئيلاً جداً، فلم يحصل كما فعل الرئيس كلنتون في يوغسلافيا حينها، بل أعلن الرئيس أوباما أن داعش لا يمكن القضاء عليه وإخراجه من العراق إلا بعد 3 أو 5 سنوات وكأن القضية مدروسة ومعروفة وحُدِّدت أُسسها وقد حان وقتها، ومن المؤسف أن لا تخترق منهجية العقل وحقيقة الحدث رسالة الحياة، ألم يقل أنه معجب برسالة قداسة البابا وبمواعظه الأخلاقية والوجدانية والمثالية والتي زلزلت مشاعره ودغدغت عواطفه (جريدة النهار ايلول 2013)؟... ألم تكن رسالة قداسة البابا وإعلاناته المتكررة عن إبادة المسيحيين حافزاً للرؤساء ودافعاً أميناً وأكيداً لرفع أصوات الإدانة عالية؟... ألم يكن بإمكان أوباما أن يقوم بزيارة إلى هؤلاء الذين هُجِّروا قسراً ونزحوا من بيوتهم وهم فيها كانوا أمينين ليطّلع على الحقيقة؟... ألم يحن الوقت لإنصاف هذه الشعوب الكريمة البائسة؟... أليست سرقة أموالهم وممتلكاتهم إهانةً وإذلالاً للشعب المسيحي؟... ألم يحن الوقت بعد أم لا زالوا حُملاناً تحت سكين إبراهيم بل ساطور داعش والإرهاب وكبار المصالح؟... وحتى ما يبقى هذا مصيرنا!!!.

     حوادث وحقائق
في كتاب بول بريمر عن الحديث الذي دار بينه وبين المرحوم البطريرك عمانوئيل دلي (رحمه رب السماء)، طالب هذا الأخير أحقيّته في تمثيل المسيحيين في مجلس الحكم، فكان جواب بريمر:"إن وجودكم في العراق هلامي"، فذلك لا يعني شيء للوجود المسيحي في البلاد، فالعالم مليارين ونصف مسيحي بهويته وأوطانه، والشعب العراقي بلا هوية وطنية وقومية، وما هذه الشريحة إلا ضئيلة، ولا شيء تعني بالنسبة إليه بأن تكون مسيحياً، وعندما لم يرضى البطريرك لهذا الجواب غضب، فكان تعليق بريمر وجوابه:"إنك لا تمثل شيئاً.أين مسيحيتك من ردّة فعلك؟، ماذا يعني هذا النقيض؟"، أي بمعنى أنكم تبشرون بشيء، وتطلبون نقيضه.   
نسأل: ما الذي تغيّر على حال المسيحيين في باكستان حيث يُشْوَون على النار في ساحات عامة باحتفالات جماهيرية وبحضور مسؤولين، وهذه دولة عضوة في هيئة الأمم وحليف أمريكا منذ أكثر من نصف قرن؟... ألم يسمعوا رؤساء الدول والقادة الكبار حالة المسيحيين في نيجيريا وكينيا وليبيا ولبنان القريب وما حلّ بسوريا والعراق ومصر؟... أليست هذه أمام مرأى من عيونهم وأمام مسمع من آذانهم؟... إنها حقيقة مُرّة وإنْ قلناها باحترام تجاه الذين يعرفوننا في زياراتهم ويواسوننا، ولكن... المؤلم المقصود هو إذلالنا لإدراكهم بأننا لا هوية لشخوصنا ولا لشعبنا، ولا مجال لمسيرة الحياة وقيمة شموخنا، فلا حدود لنا ولا معرفة بنا ولا حقيقة لوجودنا إلا حقيقة ظاهرنا وربما مزيَّفة في داخلهم.

    نحن والمسؤولون
مَنْ مِنَ المسؤولين الكبار في العالم يلتقيه بطاركتنا المغبوطون وأساقفتنا الأجلاء عبر سفراتهم المكوكية إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا والصين، إنهم وهم يزورون ويتزاورون مع المسؤولين، من أجل قضيتنا يحملونها في قلوبهم وعلى لسانهم ومطالبهم ويستقبلونهم بكلمة طيبة وروح أخوية منفتحة (مزيفة)، وتكون النَعَم كلمة الحق والحقيقة، ولكن الحقيقة لا تصل إلا إلى توجيه الجمعيات الإنسانية إلى حقيقة البطون وملؤها ليس إلا، فنحن لا نحتاج إلى مساعدات بقدر حاجتنا إلى كرامة كي لا نتحول شحّاذين يطرحون قضية شعبنا وأحقيّته في الوجود في أرضه وما هي أسباب طرده وتهجيره، وليس فقط طلب المساعدات من ألبسة مستعمَلَة وشيء من السيولة وكأننا خُلقنا شحّاذين ومتسوّلين على قارعات الطرق، عاجزين عن تدبير خبزنا كفافنا وكفاف عيالنا، وحتى لو أتيحت لهم فرصة الله عزّ وجلّ... ومن المؤسف أنهم يطرحون ذلك إيماناً برسالتهم أمام المسؤول ولكن لا يعير أحد أهمية لكلامهم لأن العالم المعاصر وساسته لا يؤمنون إلا بما هو لصالحهم ولمخططهم، فنحن مطارَدون في كل أرجاء الكرة الأرضية، وإنها الحقيقة شئنا أم أبينا.

     ما نحتاج
ما نحتاج إليه أمام هذا الوضع المأسوي، بل قبل كل شيء، أن نؤمن بالواقع الذي تُمرَّر مصالحه ومخططاته بين ظهرانينا، فنحن لسنا إلا من المتفرجين والناطرين قسمتنا دون إرادتنا ليأكل الأسد والنمر أولاً... فالمنطقة في غليان، ولا سكون، والأحزاب والأقوام يحصدون غلاّت الشعوب ويمصّون دماءهم ويسلبون ما لهم وما ليس لهم بعد أن أصبح الفساد سيرة ومسيرة. فالعراق في صراع طائفي ومذهبي وإقليمي، صراع وجود من أجل البقاء، صراع النفوط والمصالح والسياسات المدمِّرة وشريعة الغاب... إنه جثة هامدة، كلٌّ ينهش من حيث يشاء ومتى ما يشاء وحين يشاء (لو 37:17)، فنحن ليس مَن ينهشنا نسراً ولكن إرهاباً مزيَّفاً، كلمة حاقدة، إرادة شريرة، داعشاً إسلامياً أصولياً، ومحسوبية قاتلة وطائفية مميتة، حيث قتل ملايين من المسيحيين وبالخصوص من الأرمن، في الماضي القريب، وحتى الساعة، أليس هذا ما يجعلنا أن ندرك أن الواقع هو الاضطهاد، والحقيقة هي القتل والذبح والتهجير، وآلتها السيف والإطلاقة والساطور والتحقير والتكفير من كبار الخلفاء وعبيدهم الأمراء ومن صغار الزمن سرّاق الحياة وغير مبالين بأن الوطن والإنسان هبتان من الله لأبنائه، وإن الخليقة صورته؟... وبئس المخططين والمنفذين والمدّعين والمكفّرين فما هم إلا أشرار... إنهم أحفاد هيرودس وبيلاطس الذي خلط دماء الجليليين بذبائحهم (لو1:13)، وكأن التاريخ يصف لنا السيوف والمسلّطين ورسالتهم الشريرة في الدنيا للبقاء، ففي ذلك ما هم إلا بشر مفترسون، وأمّة قاتلة، ودولة إرهابية تذبح الأبناء الأصلاء كي تقلع جذورهم من التاريخ والحياة، وجعلوا من حقيقة الكتب رسالة مزيَّفة ليس إلا!!!.

سؤال اليوم
سؤال اليوم، سؤال ناقص بلا رجاء ولا أمل: هل سنعود؟، فقد طال الزمان ومالت السنون إلى الغروب والنسيان، وغابت الشمس عن كشف قضيتنا... وعود ووعود، فالأغنياء قد رحلوا أحراراً، كونهم يملكون نِعَماً وخيرات، درهماً ودولاراً، بحيلة أو بشراء تأشيرة بمال فاسد أو عبر المراكب والأمم، فالمهم أن يرحلوا، أن يكون كل منهم إله الساعة وأهل الواو وفيتامينه، ومن حقهم أن يسبقونا في الرحيل، فهل هناك حقاً أمل في العودة إلى ديارنا وقُرانا ومدننا؟... إنه سؤال الفقراء ومحدودي الدخل... سؤال الذين لا معين لهم كونهم ليسوا أصدقاء أو أقرباء روّاد دور العبادة والأديرة لكي يرحّلوهم ويلمّوا شملهم، وكأن خلاص أصدقاء أرباب العبادة فقط، هم من مدعوّي العرس وهؤلاء فقط يجب أن يذوقوا العشاء (يو1:2-11)؟ إنه سؤال الذين يؤمنون بقدسية ترابهم دون النظر إلى غنى المصالح وبهجة الدنيا والزمن، وهؤلاء أعدادهم بعدد الأصابع إنهم فقراء وساكنو الساحات وفارشو الطرق، وهؤلاء ليسوا في المحسوبية ولا في الطائفية وليسوا من أقرباء الأمراء وحاشياتهم، ولا من السادة وكبار القوم ومديري الحركات وقائدي الثورات، بل هم فقراء الرحمن ومعوَّقو البابا فرنسيس، إنهم الأغلبية الحقيقية وليس الأغلبية الكبريائية المصلحية.

نعم، إنه سؤال الساعة، هل يطرقوا أبواب الهجرة والرحيل، والكنيسة، أيضاً، تضعهم أمام حريتهم واختياراتهم؟... هل يبقون وينتظرون مَن يملأ بطونهم ويشفي غليلهم بكلمات الرجاء والأمل وإنْ كان بعض منهم في حالة الشك واليأس، صباح مساء، ويزداد شكّهم صباحاً حينما يخافون من المستقبل، وينامون مساءً تعساء وبؤساء على مصيرهم ومصير أولادهم؟ إنني أتعجب لأناس يملئون علينا إراداتهم، ويعتبرون أنفسهم قاداتنا زوراً، ويسيرون واذيال أثيابهم وبناطيلهم تدعونا للأنحناء، ويزداد تعجبي حينما يقدسون فاسدي الزمن، وينزهونهم من كل دنسٍ، وهؤلاء يعتبرون أنفسهم أسياداً ومسلطين بمالٍ ليس لهم، وكأن الله (سبحانه وتعالى) لم يُنزِل من السماء غيرَ هؤلاء، ويستمعون إلى آخرين وهم يطوّلون كتاباتهم، ويملكون جوازات الرحيل، يسافرون حينما يشاؤون، فيلعبون ويمرحون ويقولون بتوصية تعبدية:"إبقوا ثابتين في بلادكم"، إقرأوا آيات الإنتظار، أيَ إنتظار؟ إنتظار المستقبل المجهول؟ ويطيّبوا خواطرهم بكلام الأحبّة "أنتم أصلاء، ولكن حقيقتكم لا تعلمونها"، وهي أنّ مستقبلكم في مجهول، ليس إلا   نعم وآمين... وإلى الحلقة الأخيرة... إنها الخاتمة.


191
   بمناسبة الذكرى المؤلمة الثانية للنزوح

بداية النهاية
الحلقة الأولى: اضطهاد وسؤال في المصير

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
في صحف"الغارديان ونيويورك تايمز" المعروفةوالعريقة بشهرتها وبوسع
انتشارها بدأت تتصدّر إيحاءات واضحة وجليّة من المراكز القريبة منها بأن الشرق في مدى السنوات الخمس القادمة سوف لن يبقى فيه مسيحيٌ واحدٌ ، إنه تصريح خطير وبالغ الأهمية ، ويحمل حقيقة مؤلمة إذا ما تحقق، وإنه لمن يفهم لغة الغرب أي إنه قرار وسينفَّذ ضمن هذه الفترة، بالخصوص إذا كانت مصالحهم تتوافق مع هذا الإيحاء أو هذا المخطط. كما نشر مراسل صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية "دانيل ويلياميز" في العراق وباحث سابق في مؤسسة هيومان رايتس وتش تقريراً حول معاناة المسيحيين العراقيين تحت عنوان "انتهاء المسيحية في العراق"، قائلاً:"إن جزء من خطاب الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" في 10 سيبتمر2015، والذي دار حول تنظيم داعش، كان ضرورة مساعدة المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية الذين طُردوا من المدن والقرى في شمال البلاد".
وحسب تقرير جديد صدر عن مؤسسة الإعانة البريطانية التي يدعمها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، فإن المسيحية يمكن أن تنقرض في العراق في غضون 5 سنوات.وكان هذا التقرير الذي يبحث في شؤون الاضطهاد الذي تتعرض له جماعات المسيحيين عبر أرجاء العالم، حيث جمعته المؤسسة الناشطة في مجال الإغاثة لصالح الكنيسة، معروضاً للقراءة أمام مجلس اللوردات البريطاني قبل أيام قليلة. وبموجب ملاحظات أدلى بها رئيس الوزراء البريطاني كاميرون لصحيفة "كاثوليك هيرالد"، فقد بدا واضحاً دعم الأخير لتفاصيل التقرير وما ورد فيه، لاسيما حقيقة أن المسيحية تتعرض إلى عملية تمييز ممنهجة ضدها، وإن أبنائها يُستَغَلّون ويُطرَدون من أوطانهم ومنازلهم حتى، وإن ذلك يجري كل يوم دون إنقطاع.وتقول مجلة "نيوزويك": إن "هذا التقرير يسلط الضوء على محنة المسيحيين في العراق، هذا البلد الذي عانى عدم الاستقرار السياسي منذ حرب العام 2003 فضلاً عن الاضطهاد الذي جاء به تنظيم داعش الإرهابي الذي أمكن له أن يقلّص أبناء هذه الطائفة إلى حوالي ربع مليون مسيحي عراقي بعد أن كان عددهم يربوا على 1,5 مليون في زمن النظام السابق.
نعم، إنها مقدمة مخيفة ومسيرة متشائمة وإن كانت كذلك فأنا لستُ متشائماً ولكن يجب أن نكون حكماء العقل والفهم والإدراك أمام هذه التقارير حقيقة كانت أم لا، واقعية كانت أم لا،أكيدة كانت أم لا، المهم أن ننتبه ونحن حاملين أملاً ورجاءً... فالمسيحي لا يُعرَف بدينه ولا بمذهبه وقوميته بل بوطنه.

   أمل ودمار
ما هذا الذي يحصل في عراق الخير، في أرض الآباء والأجداد، في سهل نينوى المسيحي وبلداته؟. هل هو حقيقة الحقد والكراهية، أم عراك من أجل كراسي المصالح والمحسوبيات، أم أحداث أليمة خلّفتها ظروف قاسية وأوقات حاسمة ومصيرية مرّت بالعراق بسبب حكّامه ومناصبه وكراسيه، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من حالة اقتتال وتهجير ونزوح وتشريد؟. ظروف قاسية بسبب حروب بالية أكلت أموالنا وحصدت أجساد أبنائنا وإنْ لم يكن لنا فيها غير إخلاصنا وحقيقة إيماننا وحبنا لذرات ترابنا، وربما هذا لم يدركه إخوتنا في الوطن إلا أننا غرباء، فاجتمعوا من أجل إزالتنا ومحو أصالتنا وتشويه سلوكنا من أجل حقيقة بائسة أرادوها ليبرّروا مآربهم، وأصبحنا لا نرى إلا إننا راحلون، ولا نقرأ إلا إننا مغادِرون ولا مصير لنا في أرضنا، ولا نفكر إلا بأن الأرض تلفضنا. فبعد حروب مرّت علينا كغمامة سوداء، وحصار ظالم حصد أجساد الأبرياء والأطفال والنساء، ودخلنا تاريخ الاحتلال وكنا نأمل ولكن أملنا أصبح لنا دماراً، فأتانا داعش الإرهابي، أخافنا باسمه وهجّرنا بأعلامه وأجبرنا على ترك بيوتنا وممتلكاتنا، وفرض علينا جزيته وذمّته لا لسبب إلا لأننا مسيحيون، وأصبحنا صيداً سهلاً أمام أنظار كبار الدنيا ومخططات المصالح، وكُتب علينا الموت أو الرحيل من أجل شعوب أخرى وإنْ كانت غريبة الأصول. هكذا هو الألف الثالث، وذلك يجب أن يكون.

   حلول وقرارات
بالأمس كما اليوم لا زلنا نفتش عن حلول ناجعة وقرارات جدية لوجودنا المسيحي وحقيقة أرضنا ونقاء ديموغرافيتها في قُرانا ومدننا وبلادنا المسلوبة قسراً ودون إرادتنا وبلا أحقية، ولكن حتى الساعة بلا جدوى ولا أمل لعودتنا إلى ديارنا، ولا مجال للوعود التي قيلت ومن على المنابر تُذاع، ولا بصيص نور يرينا سبيل الحقيقة في سؤال لماذا الذي حصل؟... وما هي الخطيئة التي ارتكبناها وطال صبرنا؟... وفي ذلك يتجدد سؤالنا كل صباح من صباحاتنا الأليمة وكل مساء من مساءاتنا الحزينة حتى ما يا أبانا؟...حتى ما يا سيدنا؟... حتى ما يا إلهنا؟... ويأتينا الجواب خيالاً نعتبره حقيقة "إن شاء الله غداً"، نعم غداً ستُقرَع أجراس العودة، ومَن سيقرعها؟... هل الرحلات المكوكية لأصحاب الصفوف الأولى أو المؤتمرات العالمية التي فيها نكشف أسرارنا ليقرروا أهدافهم، أو اجتماعات إقليمية ومحلية وعائلية ليسألوا عن عددنا وكم بقينا، وهل سنبقى أو هل سيدوم وجودنا أم ستموت حضارتنا. فالإعلام شيطان أخرس وعليم في سرقة أخبارنا وأقليتنا وبطاقة وطنيتنا وهوية أحوالنا ليعلن كثعلب ماكر أن هؤلاء لا زالوا في الحياة فلا حسم لقضيتهم، وهو يدرك أن لا قضية لنا لأن مصالحنا وكبرياءنا أعمتا أنظارنا، وأضاعتا حقوقنا، وأطرشتا آذاننا، وأصبحنا عمياناً نقود شعوباً تائهة (متى 14:15) وكأننا آلهة المسيرة (يو34:10)، فكُتب علينا النزوح وبمذلّة ، لم أقرأ عن مثيلاتها ، إلا أيام الحزب الشيوعي والماسونية، وافترشنا أراضي الجيران في حدائق وكرفانات وأخرى، وأعلنّا فشلنا بسبب تقديس فسادنا وفساد مدرائنا وأصحابنا وكبار مسيرتنا، وإن لم تكن الدراهم مُلكهم بل مُلك سيدهم وسجّلنا مالهم مالنا... إنها معاناة في أزمنة صعبة وحالة أسوأ.

   حضور واستهداف
نعم، يقول غبطة أبينا البطريرك روفائيل الأول ساكو:"إن معظم المسيحيين كانوا يعيشون في المدن الكبرى وفي الريف لاسيما في قرى سهل نينوى، ويشتغلون "في مجالات الحياة"، وحضورهم كان مؤثراً بسبب ثقافتهم وإخلاصهم، ولكن بسقوط النظام (الاحتلال) بدأ مسلسل استهدافهم بشكل مباشر مما دعاهم إلى الهجرة وهدّد وجودهم الكارثي في المنطقة" (ساكو؛ كانون الأول 2004). هُجّروا وتوزّعوا على أرض كوردستان في ليلة مشؤومة مساء وفجر 6 آب 2014 أي قبل حوالي اثنين وعشرين شهراً ومنها إلى أرجاء المسكونة بدءاً من الأردن _ لبنان _ تركيا _ مصر على أمل الوصول حيث اللجوء بأنواعه، وما هو إلا جواب السؤال إلى أين؟. وهناك قرّروا البقاء ولا أمل في العودة. إنها أوقات حاسمة ومصيرية. إنها هزيمة وأية هزيمة. إنها إبادة جماعية لا وصف لها ولا مقياس، فالضحايا لا يقاسون اليوم بأعدادهم بل بوفاء مرؤوسيهم. إنه زمن الطائفية والمحسوبية والعشائرية والـ "عمّك خالك"، زمن المصالح والأنانيات ، بدءاً بكبار الزمن وانتهاءً بصغير الخدم وهؤلاء يُكتَب لهم النجاح إذا كنّا لهم من المهتمين وقارئي علامات الزمن وإلا ضاعت حقوقنا وأصبحنا تائهين في مسارات البحار الهائجة، لا ندري أين يحلّ مركبنا، وهل سنبقى نصيد شملنا فقد تعبنا كما تعب أحباءنا طوال الليل "تعبنا الليل كله ولم نَصِدْ" ( يوحنا 6:21). إنه ضياع.

  مصير وكارثة
أهذا هو مصيرنا!... أناس يموتون لأنهم مختلفون. نحن شعوب مسيحية لألفي سنة ونيف، بالأمس القرني ذَبَحَنا الجيران في إبادة لا توصَف، واليوم يعيدون تلك الكارثة وبصور أكثر تقنية. فعدوّ الأمس هو عدو اليوم، فهُدّد وجودنا حسب قانون الدول ووفق معاييره. ألم يؤكد ذلك الإعلان المشترك الذي وقّع عليه البابا فرنسيس والبطريرك كيريل للكنيسة الأرثوذكسية( كوبا 12شباط 2016) بـ "أن جميع العوائل والقرى والمدن لإخواننا وأخواتنا في المسيح تمّ إبادتها كلياً في العراق وسوريا، ودعا المجتمع الدولي إلى توحيد الكلمة في مواجهة الإرهاب والعنف"، وهذا ما أكّده البرلمان الأوروبي في مؤتمرات عدّة وكيف أن داعش ترتكب الإبادة الجماعية ضد المسيحيين والأقليات الدينية.
   نعم، قلتُها، ما حلّ بالمسيحيين كارثة بل إبادة واقتلاع من أصولهم، وهذا يعكس المسيرة المؤلمة لهم في أزمنة الحكم المختلفة، فهم كانوا ولا زالوا بلا حقوق حتى الصورية منها، والجريمة الكبرى هي الحروب التي خاضوها دون إرادتهم بأوامر صدرت إليهم وأودت بحياة عدد كبير من أبنائنا، منهم قُتلوا ومنهم سُجّلوا في سجلات المعوقين، ومنهم أُسروا ولحد الآن لا زالت عودتهم في خبر كان،ولا أحد يسأل عنهم، واليوم داعش يفتك ولا يزال يفتك كما يشاء بمدنهم وفي تدمير كنائسهم وأديرتهم وسلب ممتلكاتهم وتجريدهم من كل شيء وكأنهم آلهة الشر _ بل هم كذلك _ وأمام أنظار الجميع، الصغار والكبار، الحكّام والمرؤوسين... إنهم ضحايا. إنهم بين المطرقة والسندان عبر جرائم لا تُعَدّ ولا تُحصى، مرة في الخطف والسلب وأخرى في التهجير ومصادرة الممتلكات وثالثة في تغيير الانتماء الديني والقومي والديموغرافي لا لسبب سوى لأنهم مسيحيون، ووضعوهم أمام مستقبل مجهول وخيارات ثلاث أما إعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، وأذاقوهم العذابات المريرة وأصبحوا تائهين كما حصل لقايين (تكوين 14:4)، وأصبحت الأرض التي رافقتهم في مسيرة الحياة لغيرهم وبعد أجيال وأجيال من العيش والإقامة، والحقيقة شاهدة إنهم ارتكبوا بحق المسيحيين أفعالاً بقصد التدمير بشقَّيه الكلي والجزئي، وأمام هذا كله كان ردُّ الفعل الدولي غيرَ منصفٍ وعادلٍ بحقهم، فمنذ سنوات وعصابات إرهابية تعيث فساداً في أرضنا أمام مرأى ومسمع الجميع من دول عظمى ومنظمات دولية، وإذا ما كان هناك ردّ فلم يكن بالمستوى المطلوب إزاء التدمير الذي لاقوه، فقد طالت أيام النزوح، وزادت قوة العصابات التي قتلت واغتصب ونهبت مدناً بأكملها وشرّدت مئات الآلاف من المسيحيين العراقيين... أليست هذه كلها إبادة وفق معايير القانون الدولي في ارتكاب أفعال بقصد التدمير!!!.

  مسيحية ووجود
ألا يحق لنا السؤال عن مصيرنا جميعاً؟... هل نحن سنبقى في حالة حرب وهزيمة، في حالة نزوح وهجرة ورحيل؟... هل ستطول الحالة أم ستنتهي؟... ماذا سنقول لأجيالنا؟... ومتى سنساهم ونشارك في سن قوانين بلدنا لنعلن حقوقنا وحقيقتنا ؟... هذه الأسئلة وأخرى تجول في فكر وخاطر كل مسيحي عراقي في الداخل والخارج. فالمسيحيون الذين خدموا هذا البلد بتفانٍ وإخلاص منذ آلاف السنين استبشروا خيراً حينها بسقوط النظام لعلّه سينصفهم ويحقق حقوقهم، إلا أن الذي حصل كان عكساً تماماً، فلا أحد سائلٌ عن وجودهم، والمقولة التي تقول "أن المسيحيين هم خميرة الشرق في ثقافتهم" أصبحت في خبر كان كما هو حال الحضارة في أصولهم... إنها ساعة _ أقولها _ على المسيحيين وضع استراتيجية في الصمود لمساعدة المسيحي على الثبات في أرض الأجداد، فلا يجوز بعد للمسيحي أن يفكر فقط في الرحيل وهو يخلع عنه أصوله في أرضه، ولا يجوز له أن يبقى دون رؤية حقيقية لوجوده وإلا كل شيء ماضٍ نحو الخراب والدمار واستئصال الجذور والوجود، صحيح، فإذا بقينا نعتمد الأعمال المرتجلة في عقد اجتماعات وحضور مؤتمرات، والتراخي أمام المنظمات وكأننا أفقر الفقراء ومن دون نتيجة، فلا مستقبل لنا، ولكن الحقيقة تدعونا إلى تظافر الجهود ككنائس ورؤساء. فالكنيسة تمثل حضور الله على الأرض، والمسيحيون أحراراً ولدوا وأحراراً يموتون كما كانوا للشرق نوره وملحه. فالمشكلة ليست في الوجود فقط بل في النعاس (متى 2:25)، فإذا نعسنا ضاع شرقنا ونبقى عمياناً وتموت الهوية ورسالتنا، وتتكرر خيانة يهوذا (مرقس44:14) وإنْ كانت ليست الخيانة الوحيدة في التاريخ ولكنها الأعظم، وستُحدّد خيانتُنا مصيرَنا وحقيقة وجودنا إذ بعنا ضمائرنا وعقولنا ليس مقابل المال فقط بل جعلنا شعبنا يصيح "أصلبه" وهم لا يدركون أن المسيح أتى إلى العالم ليخلّصنا.
نعم، يمضي العمر وقد تم ذبحنا "وحُسِبْنا مثل غنم للذبح"(رو36:8) وأكيداً توهم الذين يقتلوننا أنهم يقدمون لله عبادة (يو 2:16)، وهنا يجب أن نتوقف ولننتبه فالجلوس في أماكننا لنراقب الأحداث وننتظر الآتي ونراوح محلّنا ونرى بأعيننا غليان الشرق وفيضان المستقبل المجهول والعديم الملامح وصدور الحلول بحقنا، فقد أضعنا قضيتنا، وشاركنا في محو وجودنا، ولا يملون علينا إلا ما يريدونه هم، وسنبقى مشرَّدين نفتش عن أفراد عائلاتنا ولن نجدهم إلا مشتتين في أقاصي الأرض. فاليوم لن نحتاج إلا إلى مشروع مسيحيوليس إلى التفاعل العاطفي، ولكن غياب هذا المشروع جعلنا بلا قرار، ولا زالت الذكرى الثانية البائسة للنزوح تجرّ أذيال اليأس والقنوط حتى الساعة، مما جعلني أعيد ذكرياتي إلى ما حلّ بكنيسة سيدة النجاة واقتحامي لإحصاء عدد الضحايا والشهداء والقتلى وكنت فيها الشاهد الواعي للحقيقة التي حلّت ، وكأن الكارثة آنذاك كانت جرس إنذار وناقوس ميعاد لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21) من طرد واضطهاد، وقتل وتهجير، ونهب لأملاكهم، وسرقة لأموالهم، والإستيلاء على بيوتهم، كما كان الحال في مذابح سابقة... فكان الرحيل والهجرة.

   الهجرة والحقيقة
أمّا نزيف الهجرة، فتلك مصيبة الكوارث وحقيقة مؤلمة، ورسالة المصالح وغاية الحقد وعدم قبول الآخر في أن نكون أو لا نكون. وما يؤلمني أن أكتب _ إذ قال أحدهم _ يكفي لي أن أصبغ أحذية أهون لي من أعيش في... ربما وربما أمام سرقة كل ما ملكوا ويملكون من مستمسكات رسمية وأموالهم التي كانوا يظنون أنهم سيورثونها لعيالهم وأحفادهم باتوا اليوم بلا مأوى، و"حتى فلس الأرملة" (مر42:12) ضاع عن أنظارهم فراح العدد الأكبر منهم يبحث عن مستقبل في بلد آمن، من أجل ملجأ هادئ، فلا بلد بعد اليوم، بلد الأصلاء والأصليين، فبقلاوة نينوى بدهنها وسكّرها دُعشت، والكنيسة الخضراء هُدمت، والدولاب كُسّر وأَجلُه قد حانَ، وشيّعوه بالتفخيخ والتفجير، ولم يعد يسأل عن أحبائه وأصوله، والفرات نشف ولم يعد يكون، وهكذا أراد أصحاب الأمر والشؤون، فكل ذلك وأخرى تركوها خلفهم ورحلوا مدّعين أن لا وجود لهم بعدُ في هذه الدِيَار، متمّمين قول الشاعر:"بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا"، وقول أصولهم رحل من هنا على رجاء القيامة أبناء البلد الأصلاء، فقد أبعدهم الإرهاب إلى عبور البحار والمحيطات بدعوة رسمية وبرسالة ولادية وبناتية وشملية وبأشكال أخرى متعددة وطرق لا يعرفها إلا مطابع القرار وختم الأسرار.فالحروب والصراعات الطائفية وتداعياتها على تدهور الوضع الأمني والاقتصادي وغياب سيادة القانون والمساواة خلافاً لما هو موجود في الدول المتقدمة وتنامي التطرف الديني، كل هذه الأمور أدّت وتؤدي إلى اجتثاث المسيحيين وتدفعهم إلى الهجرة، علماً أن هذا النزيف هو خسارة للبلد والمنطقة.
نعم،لقد نخرت الهجرة صفوفنا وشتّتت كياننا وهدمت حضارتنا فتلاشى وجودنا ولم يبقَ لنا من ذكر في تاريخ مسيرة الوطن وخاصة نحن السريان بشقَّينا، ففي الأمس القريب أصابتنا تدريجياً مع الحروب والحصار ونكران الحقوق وباسم الأقليات والمكوِّنات، واليوم بسرعة لم تكن في الحسبان بالخطف والإرهاب والقاعدة وداعش، ففقدنا حقوقنا وخسرنا أملاكنا أو بعناها برخص من أجل عدم العودة والفرار، ومحى التاريخ ذاكرتنا ولم نعد نبالي بوجودنا إنسانياً ومسيحياً في أرض الرافدين التي عشنا فيها وبنينا حضارتنا ورفعنا اسم أجدادنا وآبائنا.
صحيح إن الهجرة اختيار حُرّ وكل حسب قناعاته واختياراته، ولكن يجب أن ندرك أن الهجرة، فردية كانت أم جماعية، فهي ليست بحد ذاتها حلاً مثالياً وإنْ كان آنيّاً بسبب الوضع الراهن، فالخوف من الرحيل وعدم العودة وخاصة ما سنعانيه من أطفالنا الذين سيكبرون في الخارج فلا أرض لهم إلا حيث هم، فهذا ما يدعونا إلى الخوف من الآتي و من المؤسف لازال البعض لا يبالي به ، بل أقولها حقيقة وليس شؤماً _ شئنا أم أبينا _ إننا لا نملك من مقومات تجعلنا أن نصلح ما أفسده الدهر وما جناه الخوف، وما شوّهه صاحب السلطان وذو الضمير الفاسد، والشيطان القديس ،ونخاف أن نقول الحقيقة كي تهمل مشاريعنا ، وان كان على حساب الضمير والايمان ، وكأننا عبيد لا نملك سوى الخنوع ولا مستقبل لنا إلا بوجودنا عبيداً ، أليست هذه تحديات قاسية .

خاتمة الحلقة الاولى :
إنها تحديات... نعم تحديات الضياع والتبعثر والذوبان وهذه هي الحقيقة، إنه قد ضاع صوتنا، وضاع وجودنا، فهل يمكن للمسيحية البقاء في ظلّ الامتداد الديني والمذهبي والقومي والطائفي ،ومسيرة  النزاعات الدينية والقبلية والعشائرية و..و .. الحاصلة والأمن الغير المستتب، بسبب الدواعش والميليشيات؟ أليست هذه التحديات إضطهاد وابادة ، اليست هي التي  قادتنا الى السؤال في المصير، اقولها بكل ألم نعم والف نعم  ، والى حلقة قادمة (الثانية) من "بداية النهاية"... نعم وآمين.


192
شكر و تقدير من الاب المونسنيور بيوس قاشا

وإذ تحلّ علينا الذكرى (20) لصدور مجلة الزنبقة (15 أيار 1996- 15 أيار 2016)
يتقدم

المونسنيور بيوس قاشا رئيس تحريرها بالتهنئة القلبية إلى جميع القراء الأعزاء وأبناء رعية مار يوسف ويقدم لهم الشكر الجزيل فهم سندوا وساندوا مادياً ومعنوياً في استمرارية وديمومة صدورها وانتشارها لكي تبقى شاهدة لمسيرة الحياة رغم الظروف القاسية التي مرّت فيها. كما يشكر جميع مدراء المواقع الالكترونية الذين كانوا  يعلنون  مواعيد صدورها على صفحات مواقعهم  وباخصوص موقع ابونا الاغر وموقع عنكاوة وزينيت وليباركنا جميعا رب السماء لاعلان كلمة الحقيقة في البشرى السارة في وقته وغير وقته .


193
لنحكّم عقولنا في السيرة والمسيرة

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
أُهنئ قرّائي الكرام بقيامة المسيح الحي من بين الأموات، ذاك الذي أحبنا حتى الموت، فقد بُعِثَ حياً، فهو يحيا فينا... إنه رسالة وحياة... وكل عام وجميعنا رسل الخير والسلام والبشرى والخبر السار ودمتم.
نعم، تحدياتٌ عديدة تواجه المسيحيين في بقاع الشرق الأدنى والشرق الأوسط، كما أخذ الإرهابيون بقتل المسيحيين وتكفيرهم وطردهم من قراهم ومدنهم وهدم حضارتهم وإنزال صلبان كنائسهم وكسرها ورميها وإجبارهم على دفع الجزية وبيع ممتلكاتهم أو الإستيلاء عليها باسم ممتلكات الغزوات من غنائم حروب وقتال، كما قامت بعض التيارات الأصولية بنهب وسلب عقارات المسيحيين الأبرياء والذين لم يرتكبوا خطيئة بحق شعوبهم سوى أنهم أمناء لإيمانهم وأوفياء لأوطانهم، وأجبرتهم القوة وأصوات الوعيد والتهديد بأن يهاجروا ويتركوا بلدانهم فيكونوا ضحايا التعصب الأعمى، وهذا أخذ يمتد في مساحات هذا الشرق، وفي أوطان مختلفة، كما أخذت التيارات المنغلقة تمتد جذورها في أسس الحياة اليومية وإجبار الضحايا أن يكونوا مطيعين خنوعين وإلا بقاؤهم فناء، والسيف هو فانيهم... وهذا ما يجعلني أنشد أنّ الأديان لا تحمل إلا دعوة إلى التسامح والغفران، كما تدعو إلى الخير والعدالة والأخوّة ومحبة الإنسان "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات؛ 13) وهذا ما يتطلب من المؤمنين بشريعة قبول الآخر بالتسامح. فالتسامح رسالة تعترف بوجود الآخر وبالغير، المختلف، فرداً كان أم جماعة، كما يعترف بشرعية ما لهذا الغير من وجهة نظر ذاتية في الإعتقاد بكل حرية، فلا إكراه في الدين، وما الدين إلا علاقة الإنسان مع خالقه، ثم مع مَن في دنياه، من أجل تنمية وتعزيز المساحات الإنسانية المشتركة بين البشر أجمعين، وكأخوة في رحاب الله الواسعة.
وأمام هذه التحديات يقف المسيح الحي مناشداً البشرية بأهلها بعيش المحبة عبر مسيرة الحياة من أجل الإنسان في حقيقة الرحمة والغفران والكلمة... وفي هذا يوصي قداسة البابا فرنسيس في مرسومه "يوبيل الرحمة" _ الذي فيه تلتزم الكنيسة _ بكرازة جديدة، وفيه يدعو الجميع ويدعوكم إلى طريق العودة في التوبة نحو الآب الذي أحبّنا، لذلك لنعرف ونفهم بعضنا بعضاً بشكل أفضل، ولنترك كل شكل من أشكال الإنغلاق والإزدراء، ولنبعد كل شكل من أشكال العنف والتمييز.

   بولس وشاوول
من المؤكَّد أنكم قرأتم سيرة بولس الرسول، والرسول هذا أحد حواري السيد المسيح الذي قال عنه القرآن الكريم "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا" (التحريم؛ 12 والأنبياء؛91)، "وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (البقرة؛ 87 والبقرة؛ 253 والمائدة؛ 110)... نعم، إنه المسيح الحي، وإنْ لم تكونوا قد قرأتموها فهي ذي الحكاية كما أُنزلت، وإذا ما استأنستم بمسيرة حياته، أتمنى أن يكون مَثَلَكم في السيرة والمسيرة، في الإيمان والحياة، في الشهادة والحقيقة، فبولس هذا هو نفسه الذي حمل اسم "شاوول" وكان يهودياً واشتهر بسطوته على الكنيسة وعلى مؤمنيها، وكان يدخل بيوتهم ويطرد مَن فيها ويسبيهم كما أنتم  اليوم، كما كان يجرّ رجالاً ونساءً ويسلّمهم إلى السجن، وفي هذا كله كان "يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ" (يوحنا2:16)، كما يقول هو عن نفسه في شهادة أمينة (يقول):
"أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ (الحاخام) وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ:"شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟" فَقَالَ:"مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟" فَقَالَ الرَّبُّ:"أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ". فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ:"يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟" فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:"قُمْ وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ". وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ الأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَاقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، إِلى أَنْ ذَهَبَ إِلى حيثُ أَرادَهُ الله، وهُناكَ وَضَعَ حَنَانِيَّا يَدَيْهِ عَلَى رَأسِهِ فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي الْحَالِ، وَقَامَ وَاعْتَمَدَ. وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي الْمَجَامِعِ بِالْمَسِيحِ (أعمال الرسل 1:9-20)... وما أصدقها من مسيرة في حقيقة هدفها.

   وشاهد آخر
   كما يقول شاهد آخر من حواري المسيح وهو إسطيفانوس، أول شهداء المسيح الحي الذي تظطهدونه، والذي إستشهد حباً بسيده _ والتي يحلو لكم تسميتها بالنصرانية، والحقيقة ما أدراكم ماهي المسيحية وما هي النصرانية _ قال لليهود:"يا قساة الرقاب، لماذا تقاومون الحقيقة"، وتملئوا آذانكم صوت القنابل وطبول تدمير الحضارة، وفي ذلك جعلتم من إنسانيتكم الملوَّثة بالدماء حقيقة مزيَّفة، ورذيلة واضحة في قتل الأبرياء وتكفير المؤمنين الأتقياء، وحرقتم كتب الثقافة والإيمان بالله والعليّ القدير، وجعلتم من سيرتكم إجراماً وإرهاباً وخطيئةً وسواداً، واقتفيتم ما شئتم، ومكرتم وسع أفكاركم ولكن كان "اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (آل عمران؛ 54).

   صراخ وأمهات
لا أعلم هل أنتم ملائكة لأبالسة الشرّ أم أبالسة لملائكة الجحيم؟... هل أتيتم من أرضٍ ملأتكم حقداً وشرّاً أم أنتم تجسيد لأفكار صُنعت في مقرّ الجحيم وفي سواد الظلام؟... فلا ترتوي أفواهكم إلا من دماء الأبرياء، نعم من دماء الأبرياء، ولا تشبع بطونكم الجوفاء إلا من أشلاّء ملائكة الجنة، الصغار والرضّع والصبيان، ولا تمتلئ آذانكم إلا من صراخ الأمّهات التقيّات على المغدورين من فلذّات أكبادهم وأنين جرحاهم وفقدان أحبّتهم، ولم تُشبِعوا شهواتكم إلا بسبي البريئات من المختلف عنكم لأنهن أَطهر منكم، وفي ذلك ما أنتم إلا مخالب للشيطان الرجيم بسواد اللباس المميت، وله أنتم صاغرون،"إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة؛ 115).
   
  المسيح حيّ
بإمكانكم أن تتصفّحوا بشارة الإنجيل للمسيح الحي حيث"يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (آل عمران؛ 48)، فهو الذي قال:"أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران؛ 49)، أو أن تقرأوا بعض آيات من إصحاحاته، سترون أنه يقودكم إلى حقيقة الحياة "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ" (البقرة؛ 119) "فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَرَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ" (هود؛ 57)، فهو يرسم لكم مخططاً لمسيرة السلام والتوبة والحقيقة والدفاع عن الله، إنه الرحمن الرحيم."فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ فستجدوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً" (النساء؛ 64)، وإذا ما اعتبرتموه كتاب الكفّار والنصارى فأنتم "فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (الأنعام؛ 74). نعم، ولا تكونوا من الظالمين كي لا تكونوا "فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (مريم؛ 38)، فقد قال القرآن الكريم أيضاً:"قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (القصص؛ 85)، نعم "لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (الشعراء؛ 97 والأنبياء؛ 54).
فإنه _ أي المسيح _ هو كلمة الله "إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" (آل عمران؛ 45)، و"هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا" (لوقا 35:9)، وقد أعادها مرتين وفي حدَثَيْن هامَّيْن من مسيرة الخلاص والفداء والتي أعلنها المسيح الحي داعياً إياكم إلى محبته تعالى والإعتراف بخطاياكم كي تُدركوا ما أعظم حب الله، فقد قال:"لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (يوحنا 13:15)، فالله دعانا جميعاً أحبّاء وليس عبيداً، "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً،لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي" (يوحنا 15:15) وهذه هي الحقيقة "إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران؛ 37)، "إِنَّهُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (البقرة؛١٢٧).

   سلاح وحوار
نعم، أنتم أقوياء بسلاح القتل وتتوعدون ولكن الحقيقة أنتم أضعف خلق الله، لأن القوة ليست بسلاح الغرب ومصانعه وفتاوى الشرق ورجاله بل بسلاح الحوار المحب. فالقوي رسالته الحوار، والكلمة الطيبة "صَدَقة"، والسلام ليس إلا، وما أراه لا تؤمنون بقضية غير تدمير الآخر المختلف وكأن الجاهلية وعصورها وثقافتها قد تجسدت فيكم، فأفرغتم في عقولكم المظلمة جهلاً وتخلّفاً، وسكنت فيكم خطيئة سادوم وعامورة، وجعلتم ورسمتم مسيرتكم وأنفسكم أنكم سفّاكي دماء النقاء لتُظهروا فساد دمائكم، وزرعتم في زوايا العالم والموت والبلدان شرّاً ودماراً وكأنكم آلهة لأشرار القصور، فدمّرتم حضارة السماء، وأَمَتّم إنسانية النطفة، وشوّهتم صورة خالقها بأعمالكم المشينة في حرق الضحايا الأبرياء "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ" (الكهف؛ 13)، وسكبتم غضب جهلكم وظلاميّتكم ليظهر إرث وحشيّتكم وعلم أصولكم، وأظهرتم ما أنتم إلا "ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ" (متى 15:7) لتعيدوا البشرية إلى عصر الغاب في حكم الظلام، وبئس مَن كان لكم دليلاً ومرشداً، "وكان الله خير الراشدين وهو "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران؛ 165).

   جنة ونون
ما أجمل البشارة بجنّة الله وبالسماء السابعة، ومن الواجب علينا كلنا أن نحمل هذه البشارة إلى الخلق أجمعين، ولكن الحقيقة أنكم جعلتم منها جنّة لأوهامكم وأحلامكم وسباياكم وحورياتكم، فرسمتم أسطورة العبث بخلق الله، وكتبتم مسيرة الإغتصاب نهج أفكاركم، فبعتم ما شئتم من جنّتكم إلى عبيدكم، فهل الجنة الموعودة قد سَلَّمت إليكم مقاليد مفاتيحها أم أنتم سرقتم ذهب الملأ لتصوغوا لكم مفاتيح الشر، فتتقاسموا بأجواء السماء وتزرعوا الشرّ والكراهية في طيّات الأرض، فأنتم عبيد جنّاتكم، ونحن أحباء سيدنا، وأصبحتم _ وما ملكتم _ قبوراً وأنتم لا زلتم تدبّون البسيطة بهواكم ورذيلتكم... أهذه هي بشارتكم؟. "فاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ" (هود؛ 52)، و"تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ" (هود؛ الآية 61).
هل تعلمون أن السماء التي يبشر بها المسيح الحي تحوي على "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (1كورنثوس9:2)؟... وهل تعلمون أن الناس فيها يوم القيامة "لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَيُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ" (متى 30:22)؟، عكس جنّتكم التي تجري من تحتها جداول الدموع وأنهار الدماء، ويقطنها أشلاّء القتلى وصراخ الأمهات إنه "مَثْوَى الظَّالِمِينَ" (سورة آل عمران؛ الآية 151)، بسبب ما ذبحت سيوفكم وسواطيركم وهي تشكو ربها "لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف؛ 2)، "وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (النمل؛ 93).
هدّدتم روما وقداسة البابا، والبابا فرنسيس _ رسول الرحمة والمحبة _ قابلكم بالصلاة والغفران عملاً بقول المسيح الحي:"لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا. وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟" (لوقا 27:6-32).
هدّدتم وسلبتم بيوت النصارى، ورسمتم حرف (ن)، وتعني أننا خاصة المسيح الناصري، وهذا ما نفتخر به إذ قال مار بولس يوماً ونحن اليوم نرددها ونحياها "حياتي هي للمسيح" (فيليبي22:1)، وجعلناها علامة وكلمة إيمان وخلاص وقوة لنا "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (1كورنثوس18:1)، ومار بولس يقول:"وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ" (غلاطية 14:6)، وأيضاً "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً" (1كورنثوس2:2). فالصليب الذي كان جهالة عند اليهود والأمم أصبح عندنا علامة خلاص وفداء، وحملناه على صدورنا، وعلّقناه في رقابنا، ووضعناه في واجهات ديارنا إيماناً وشهادةً وبشارةً وما ذلك إلا حقيقة ومبين "وَاتَّقُو اللهَ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" (الأنعام؛ 72)، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً" (النساء؛ 58).
   من المؤكد أنكم سمعتم ولا زلتم تسمعون بالمسيح الحي، صانع الأعاجيب، والقدير المرسَل من الله لخلاصكم وخلاص كل إنسان من الخطيئة، فهو روح الله وكلمته، وقيل عنه في القران الكريم:"السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" (مريم؛ 33)، بهذا جئتُ لأشرح عنه لكم، وأروي مسيرته كما جاءت من الحواريين الأربعة الذين حملوا الحقيقة إليكم وإلى كل سكان المعمورة... إنه حَمَل إليكم البشرى السارة، وأَحَبَّ الجميع حتى الموت، وصرخ بأعلى صوته:"وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ" (يوحنا10:10)، "فتُوبُوا،لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ" (متى 2:3)، وشهد عنه يوحنا (يحيى) بن زكريا الكاهن (النبي) حينما قال:"يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يوحنا 13:3)، ودعا تلاميذه (يوحنا) إلى إتّباعه بقوله أنه مشيحا الذي ننتظره، إنه الحَمَل.


   محبة وحقيقة
بهذا أدعوكم إلى اكتشاف حقيقة هذا المسيح الحي الذي تضطهدونه وتقتلون أتباعه ومؤمنيه، وتهدمون مزاراته وكنائسه ومعابده وأديرته، وتدنّسون مقابرهم ومقدّساتهم، وتنعتونهم بالنون والكفّار والمشركين، والحقيقة تقول "إنهم المرجعية الأكيدة"... ألم يقل:"فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، وأيضاً "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (الأنبياء؛ 7).
نعم، فيه تجدون الحياة وتجدونها أوفر، وإذا آمنتم تكون لكم أوفر وأوفر. فقد حمل هو محبته إليكم، وأوصى أتباعه أن يحملوها إلى كل كائن وإنسان فدعاهم أحباءَه فهل أبلغ من هذه الكلمات، وهل أسمى من هذا الفكر؟، إنه فكر سماوي يقود الإنسان إلى الحياة والخلاص من الشر والخطيئة ومن عبودية إبليس، ليكون حراً طليقاً أكيداً، وما الحقيقة إلا أن "تَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يوحنا 32:8).
أليست لكم، تلكم دعوة مجانية بالذي فيه الحياة؟... هل يجوز أن تنشدوا الجنّة بقتل الأبرياء بأحزمة التفجير وسيوف النحر ومناجل الدمار؟... أليست السماء مكاناً لملائكة الله وأنتم جعلتم من أنفسكم أبالسة الجحيم، وتنادون بالحق وتتأزّرون وأنتم تذبحون شهود الحق والحقيقة؟... أبهذا تكحّلون وجوهكم وتظهرون للناس أنكم مرسَلين من رب السماء وأنتم بالحقيقة طاردو الأصلاء وزارعو العبوات ومفخِّخو الأبرياء، وتتمنطقون بأحزمة ناسفة لتُميتوا الذين خلقهم الله على صورته ومثاله؟... أهكذا تزرعون بذور ثقافة السيف وحضارة الكراهية والتفخيخ وسكب الدماء؟، فالمسيح قال:"لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (متى 52:26)، وقال القرآن الكريم:"وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ" (البقرة؛ 190) و"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة؛ 256)، وأيضاً:"وَلاتُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت؛ 46)، فهم مؤمنون ويحبّون حتى أعدائهم ولا يقاتلون أحداً.
ولكي تكونوا أمناء لمسيرتكم عليكم أن تكسروا سيوف الذبح والقتل، وأن تغسلوا أياديكم كما فعلها يوماً هيرودس لعلّ وعسى، وتلك آية "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة؛ 183)، واعلموا أن "لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة؛ 104). وأن المسيحية كانت قبلكم، والحقيقة إنها لا تعرف الحقد والكراهية والعداوة، فهي لا يهمّها الشدة والضيق والإضطهاد والجوع والعُري، ولا الخطر ولا السيف ولا أية خليقة تفصلها عن الإيمان بالمسيح ومحبته واتّباعه، اذ يقول مار بولس الرسول:"مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ (النبذ أو الموت بسبب عدم قبولنا)، أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ (التهديد بالموت بأي وسيلة؟)، وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا (بالرغم من كل هذا) يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا (المسيح)، حتى إنه مات من أجلنا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ (في قناعة تامة) أَنَّهُ لا شَيء يَقْدِرُ أَنْ يَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية 35:8 و37-39). وهل أسمى من هذه الرسالة أن تكون مسيرة محبة ، فتوبوا وعودوا الى ينابيع الحقيقة فالأنجيل رسالة محبة ليس إلا .

   الخاتمة
   نعم، إنها دعوة لنا ولكم أنْ نحكّم عقولنا من أجل بناء مجتمع تعيش فيه الإنسانية بالتسامح والمحبة والغفران، كي نبني لأجيالنا أوطاناً وعمراناً، ونزرع بذور العلم والمعرفة، في مسيرة الحياة، فأجيالُنا تنادينا، وكُتُبنا ترشدنا إلى الحقيقة، وإنسانيتنا تدلّنا على العيش والغفران، فنحمل المحبّة في مسالك الطرق، فتكون مشعلاً لنا ينير دروبنا، وملحاً لنا لتطعّم أعمالنا، حينذاك نُنشد سويةً لرب السماء، السبح والحمد للإله الذي أحبّنا، فخلقنا كي نحيا ونحمل رسالة السلام والمحبة في أزمنة الدنيا...إنها دعوة المسيح الحي وما أقدسها، إنه الرؤوف والكثير الرحمة... إنه الرحمن الرحيم... نعم ونعم وآمين.


194
عذراً ... لندرك أين وجودنا
المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
إن الإرهاب يُكفّر المسيحيين ويقتلهم ويهدد حياتهم في العديد من مختلف دول العالم وتحديداً في الشرق الأوسط في العراق وسوريا ومصر ولبنان وليبيا... ونسأل من أين جاء هؤلاء الذين يتشدقون باسم الدين، والدين منهم براء، لينكلوا بالبشر والحجر دون حياء وأمام  مرأى من أبناء البسيطة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وربما بتواطئ من الجيران في مسيرة لاستعمار جديد يعيدنا إلى مآسي الزمن البائد
وإلى نكبات المسيحيين أمام العثمانيين والسلاطين. فالوضع المربك الذي نحياه في العراق ربما سيطول لسنوات على مستوى طرد الإرهاب والداعش ثم البناء والإعمار والعودة وعلى جميع المستويات، وهذا يستدعي منا أن ندرك أين وجودنا وهل سنكتب مستقبلنا، أم سنرتكب خطيئة جسيمة.

   أوهام فاسدة
نحن اليوم في مواجهة أساليب إرهابية مختلفة التنوع وغريبة الأفكار، فما يلزمنا أن نواجه بعقلانية حاملين الحوار والحكمة في الكلمة وفي المسيرة، في وحدة هدفنا وليس تعداد نوعياتنا. فاليوم أقولها: لن يرحمنا التاريخ إذا كنا منقسمين حباً بكراسينا ومناصبنا وغير مبالين بفقراء شعبنا ومهمَّشي ديارنا وحاملي أفكارنا الذين أردناهم لنا عبيداً وإنْ أُشترينا بصدقة وحيكت مهامنا في زوايا الدنيا المظلمة، وإنْ قُدّست مهامُنا بسبب أوهام فاسدة لتدمير الأبرياء كما فعل بيلاطس يوم أدان المسيح الحي كلمة الإله، وجعله ضحية نفاق قيافا وحنّان وشكوى يهوّذا ونكران بطرس (متى 69:26)، ولكن البريء سار في درب الجلجلة ولم يبالي بكبار الزمن ورجال الحكم، ولم ييأس أبداً لأنه آمن أن الله لا يتركه  (يو10:14)، وإن الآب الذي أرسله سيجده... وهذه الحقيقة لابدّ أن يدركها الذين على أرجل الزمن قاسوا قاماتهم وقوالب المناصب أهداب أثوابهم فكانوا هم، وليمت الضحايا الأبرياء وإلى غير رجعة ومن بعدهم الطوفان كما يقول المَثَل.

   الإرشاد الرسولي
ما قاله الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط في احتفال مهيب أُقيم بعد القداس في بيروت وترأسه قداسة البابا الفخري يبندكتس السادس عشر في الرابع عشر من أيلول عام 2012 وحمل عنوانً "شركة وشهادة"، وقد جاء في صفحاته ما نصّه:"الشرق الأوسط بدون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله" (فقرة 31)... أمام هذه الفقرة يضعنا الإرشاد الرسولي أمام الحقيقة، حقيقة وجودنا. فالأرض أرضنا، وإفراغنا لها يعني هناك لا أرض شرق أوسطية. فالأصلاء _ وإنْ بعدد محدود _ هم أصلاء وما عليهم إلا أن يتمسكوا بأرضهم في عيش الرجاء وفي إبعاد اليأس مهما كانت طريق الزمن قاسية، ويحثهم على البقاء في الوطن وعدم بيع الأملاك (فقرة 31)، ويؤكد حقيقة الآلام والإضطهاد، فهو ضحية محتَمَلة لأي اضطرابات (فقرة 31).

  حقيقة وغفران
ما الذي صنعناه واقترفناه كي نُطرَد من بيوتنا وتُنهَب أملاكنا وأموالنا ونستوطن أوطاناً مختلفة خوفاً، هل لأننا أمناء لإيمان المسيح الناصري أم لأننا أوفياء لحب أرضنا وتربتنا؟... فما الذي صدر عنا؟، هل لأننا حملنا شعاراً ملؤه المحبة والحقيقة والغفران؟، هل لأننا أردنا بحضارتنا أن نجدد الأرض بروح رب السماء؟، أليس الذي حصل هو اضطهاد لمكوِّن، وتدمير لحضارة عريقة، واقتلاع لجذور أصيلة؟، هل الحقيقة أن ما حلّ بنا من حقهم في غزوات عفا عليها الزمن؟، وهل حقيقة العيش هي في النهب والسلب وقتل الآخر وتدمير البريء في مصالح إحصائية فاسدة؟، فالأملاح قاتلة للبشر بارتفاع ضغطها، والمصالح آفة لذبح الأبرياء في تقسيم الأرض وتشتيت الأبناء.
   الهجرة مرة أخرى
وإنْ كان الحديث عنها قد فات زمانه، فالبلدان قد إرتوت من عرق جبين المهاجرين الذين ضحّوا بالغالي والرخيص، فعبروا البحار والمحيطات من أجل البقاء، ولكن الحقيقة لم يكن بإمكانها أن تُزيَّف، فهو خائف على عائلته وأولاده وأمواله، فهو ينشد بلداً ملئ بالإنسانية غير بلده... وهذه حقيقة مؤلمة في أن نكون أو لا نكون. وما يؤلمني أن أكتب _ كما قلتُها سابقاً _ يكفي لي أن أعمل صباغاً للأحذية أهون لي من أن أعيش هنا... فهم ينشدون مستقبلاً في بلدٍ آمن بدلاً من رقصة الجوبية وبقلاوة نينوى، وهذه كلها أصبحت أملاك الداعشيين الإرهابيين. وكنيسة الطاهرة والدير الأعلى وبهنام وسارة ويونان (يونس النبي) ترسم العذابات التي قاسها مسيحيو الموصل ومدنها وقُراها، والعالم يتفرج وكأننا أمام وحوش كاسرة تفترس مَن تشاء وتهدم ما تشاء.

   التاريخ شاهد
المنطقة بشكل عام، والعراق بشكل خاص، تشهد تطورات مخيفة ومرعبة، وممكن أن تكون مدخلاً لحرب كونية جديدة، وعراقنا لحد اللحظة لا يعرف أين هو من كل هذه الأحداث وما يجري من دوامة مخيفة، والنار تأخذ ذيول أثواب الشعب قليلاً فقليلا، فهو يفكر في عدة خيارات بل خيارات عدة، فهم يرحلون عنوةً وغصباً بسبب داعش ومسيرته المميتة، وآخرون فقراء في صراع ونزيف الدم وكأنه عقاب ليس فردي بل جماعي. فشعب بأكمله، ومواطنو مدن وقرى بأعدادهم يُرحَّلون والتاريخ شاهد وبئس تاريخ لا يحكي الحقيقة، فأفرغوا البلد من الكفاءات والثقافات وحاملي العقول والعلوم وصانعي التاريخ، وأصبحوا نكرات في شوارع المدن وساحات الدول، ولم يعد أحد من الساسة يفكر ماذا يأكل الشعب وماذا سيشرب، ليس هذا المهم، فاحتلال أرضنا حصل دون إرادتنا واحتلال عقولنا مآرب ومصالح، ويبقى المهم مَن الجالس على الكرسي بل الكراسي، ومَن يعانق المنصب أو يبتلع لكي لا يظهر أنه المصيبة، ومسيرة المشروع الطائفي يسير قُدُماً ليسكن في قلوب كبار الزمن بمختلف أديانهم وطوائفهم ومحسوبياتهم وقومياتهم، وهمهم أن يبيعوا الهوية العراقية، هوية الحقيقة، بفساد الزمن والمصلحة ،من أجل هوية أنانية ودنيوية، بدلاً من ان يكونوا شهوداً لحقيقة الكلمة، وكنا نحن ولا زلنا الضحية لِسِمان البطون، والشهية لحاملي السيف والساطور، ومسحوا هويتنا وكم كانوا يتمنون أن يقولوا لنا "إرحلوا"، وقد رحلنا حقاً ومُسحت أسماء قُرانا وسكنانا وأصبحنا من المتوطنين ليس إلا!.

   الخاتمة
رسالتنا هي اللقاء مع الله في مسيرة أديان غايتها خدمة الإنسان من أي دين أو طائفة انتمى. فدعوات التهجير والقتل ومصادرة الأملاك وتهديد المكوِّنات بمختلف أجناسها ما هو إلا خطر يمحو وجود الإنسان مع تشويه الأديان في حمل عنفوان التكفير والإرهاب... لذا فرسالة الأديان هي واحدة عندما تلتقي في الإله الذي أحبنا حتى النهاية، وهذا الحب شهادة يحمل إلينا احترام الآخر،  ويجعله أمانة في أعناقنا، وذمة في مسيرة حياتنا... هذا ما ننشده بدلاً من رقصة الجوبية ليس إلا!. فالرقص حركة تنتهي بساعاتها أما الأمان فرسالة تدوم مدى حياتنا، فهل أدركنا أين وجودنا، وبُعدَ هدفنا، ورسالة إرشادنا الرسولي، أمام الذي يحصل فينا، أم بعدُ لا زلنا نراوح في مكاننا، كي نحصد ثمار مصالحنا، من حقل لم نتعب فيه!!. إنها مأساة الزمن الفاسد، ألا يكفي تزوير الحقيقة، فالحقيقة شهادة وحرية (يو 31:8)، نعم شهادة وإن بيعت لمصالح من أجل تشويهها، والحقيقة حينما تقال، يكون قائلها قريباً من الله، إنها المسيح الحي، الذي سكن بيننا... نعم، فلندرك أين محلنا ووجودنا، ولا نَخَف المصالحَ مهما كان البحر مالحاً، وكل عام والجميع بخير، وبركة رب السماء تحل علينا جميعاً، الرحمن الرحيم، نعم وآمين.


195
ربي والهي ... أين كنتَ ... في النزوح؟

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
   من المؤكد إننا نعيش في كوكب هش، وفي عالم يشوبه المرض والفيضانات والزلازل والحروب والإرهاب والدواعش وأخواتها، كما نحن في بلد سادته أعمال العنف والقتل والفساد، ويهيمن فيه الحذر ويخيم عليه الحزن والسؤال حول المصير والمستقبل، ويستسلم فيه الناس للهشاشة والضعف والمعاناة، وسواء كانت المعاناة مأساوية أم عادية فإنها تتربص بنا عن قرب... فما هذا الذي يحصل؟... وما هذه المأساة؟... وإلى ماذا يهدف إليه الله في عالـم مجنون
كهذا؟... ولماذا يسمح الله بذلك؟... أين الله الذي يُنسَب إليه الفضل بالأشياء الصالحة ولا يتلقى اللوم على الأمور السيئة؟.

  أيوب والمزمّر
   وبعد النزوح وفي زيارتي إلى بلدة عنكاوة في السادس عشر من شهر آب (أغسطس) 2014، وأنا أتجول بين الذين كانوا يفترشون الحدائق والأرصفة والشوارع بعد طردهم من قراهم ومدنهم، وفي كل ركن من أركان البلدة كنتُ أسمع أصواتٍ لسؤال يؤرق التاريخ ومسيرة الأيام المتعَبَة: لماذا لا يتدخل الله؟... لماذا يسمح الله بالحرب؟... لماذا يسمح الله بالجوع؟... لماذا لم يُستأصل داعش والإرهاب قبل أن يغزو قُرانا ومدننا؟... لماذا طُردنا منها؟... هل هذا هو جزاء أمانتنا ووفائنا لوطننا وإيماننا وانسانيتنا؟... ما الذي اقترفناه بحق الجيران وبحق البشرية؟... أليس في قُرانا كنائس ومعابد؟... لماذا يسمح الله في النزوح، بل أين كان الله في النزوح؟... هل نحن اخترنا ذلك؟... هل أصبحنا مثل أيوب الذي كانت له النظرة الصحيحة وسط بؤسه عندما كان يفكر في إمكانية الانقراض إذ قال:"إذا رجوت الهاوية بيتاً لي، وفي الظلام مهدت فراشي وقلت للقبر أنت أبي وللدود أمّي وأختي، فأين إذاً آمالي؟ آمالي مَن يعانيها (أيوب 13:17-14). والمزمر ينشد:"تعبت من صراخي، يبس حلقي، كلّت عيناي في انتظار إلهي"، وأيضاً "إنه وقت عمل للرب فقد نقضوا شريعتك ( مز3:69)؟... وهنا يبدو أن الله يدرك تماماً أسباب احتجاجنا بالإضافة إلى حاجتنا لأن نستنبط غضباً ضد الألم.

   شر وإرهاب
   صراعي مع الإيمان يدور حول السبب الذي جعل الله لا يتدخل، في حين كان في وسعه أن يُنهي كل أزمة ويُفشل كل مخطط. فالله أب سماوي يحبنا حتى بذل الذات وأكيداً يرسل خيراته وبركاته لشعبه ولعبيده، وأما لماذا ينظر إلينا دون أن يرافقنا في المسيرة، وخاصة في مسيرة النزوح والاضطهاد والطرد؟ هذا ما جعلني أقول وأسأل: أين الله عندما أتألم؟... ولماذا هذه الأمور السيئة تحدث؟... لماذا يسمح الله للشر بأن يأخذ مجراه؟... وهل يمكن أن يكون شيئاً صالحاً في مثل هذه الأحداث؟... في هذه الحالة سيستمر صراعي ولن يتوقف، ومن المؤكد فكري يصرخ أنه لا يوجد كتاب يستطيع أن يحلّ مشكلتي في الألم كما في النزوح إلا هو نفسه الذي أسأل عنه. وربما السؤال يعود أن الله صالح ونحن أحرار، بمعنى ذلك نحن مسؤولون عن الضياع والمعاناة اللذين نسهم في صنعهما، فلماذا يسمح الله بالشروالإرهاب؟... بل لماذا يسمح الله بجريمة داعش؟.

   ويستمر السؤال
   ويستمر السؤال: لماذا تحدث أمور سيئة للأشخاص الصالحين؟... لقد نظروا إلى العالم كأنه أرض للعدو، كوكب فاسد يحكمه أبو الأكاذيب، ساحر المصيبة. وماذا ينبغي لنا أن نتوقع من كذب الشيطان؟. فعندما قدم رئيس هذا العالم حلاً مغرياً ومختصراً لمشكلات الأرض، لم يسخر يسوع بافتراضه امتلاك السلطة لكنه اختار نقيض ما قدمه في صالح حل أبطأ وأكثر كلفة لكنه حلّ دائم.
   يقول الكاتب فيليب يانسي في كتابه "السؤال الذي لا يغيب": عندما يقول الإنسان الحقيقة يكون قريباً من الله، فإذا قلت لله "أنا منهك ومكتئب بشكل لا يمكن أن تعبّر عنه الكلمات، وأنا لا أحبك بتاتاً الآن، وأبتعد عن معظم الأشخاص الذين يؤمنون بك"، فهذه تكون أصدق العبارات التي نطقتُ بها يوماً. وإذا أخبرتني بأنك قلتَ لله "كل ذلك ميؤوس منه وليس لديّ أدنى دليل على أنك موجود لكني أحتاج إلى مساعدة، فهذا يجلب الدموع إلى عيني، دموع الفخر بك للشجاعة التي احتجتَ إليها لتكون صادقاً، صادقاً حقاً.
   قوة وصمت
   إيماني يجعلني أن أصدق بما سيكون له معنى، فقط عند النظر إلى ما حدث في الماضي، وإيماني يعلّمني أنه عندما يصيبنا الألم فإن الله يتيح لنا الفرصة لنزيد قوة في الصمت وننتبه إلى الرسائل المصيرية التي كنا بخلاف ذلك سنتجاهلها. فالله يهمس إلينا في ضعفنا ويتحدث في ضميرنا، لكنه يصرخ في آلامنا. إنه يستخدم مكبّراً للصوت لإيقاظ عالم أصمّ في داخلنا وإشعار إحساسنا الإيماني بحقيقة العماذ الذي اصطبغنا به والذي يجعلنا أن نفهم الحقيقة وهي أن الله يدخل العالم من خلالنا، ومع ذلك لا تزال أسئلة عدة تصرخ: لماذا حصل ذلك يا الله؟... هل تريدنا أن نعاني ونموت؟ أم تقودنا إلى جواب بولس الرسول الذي قال:"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقنا حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله (2كو 3:1-4)؟. من المؤكد أننا بشر، والبشر من التراب وإلى التراب سيعودون، هكذا يقول سفر التكوين. غير إن الحقيقة في الكيفية التي تكون بها حياة بعضنا مع بعض في حضور المحبة غير المشروطة وغير المحدودة يخفف ألم القلوب المحطَّمة وقهر النزوح المخيف، ويضمّد الجراح ويعزّي النفوس ويجدد الحياة في سيرتها وفي ذلك تكون الحقيقة أي أن الله يصبح مرئياً عبر أشخاص يعيشون الرسالة من خلال الكنيسة.
   
   جوا ب لسؤال
   من المؤكد إننا نتوق إلى معرفة جواب للسؤال: أين هو الله في الألم؟ أين هو الله في النزوح؟ أين هو الله في جريمة داعش المميتة؟ أين الكنيسة عندما أتألم؟ ألا يهتم الله لذلك؟ كيف يمكن أن يسمح الله بشيء من هذا القبيل؟ فقد تجاوز الألم والإرهاب حدود اللامعقول، فهل ذلك سيدعونا إلى إرسال رسالة إلى الله، رسالة فيها يُسطّر تجاوز حدود المعقول ما يحلّ بنا. إنها معاناة قاسية ولا وصف لها غير القاتلة والمميتة مجالاتها النفسية والجسدية والمادية والثقافية والصحية. وهل ربنا يسوع نحى جانباً الأسئلة التي تهدف إلى معرفة السبب إلا عندما كان يريد أن يدحض نظريات الفريسيين والتلاميذ التي لا تقبل الجدل والقائلة أن المعاناة عقاب؟. أكيداً نحن جميعاً سنموت، والبعض سيموتون وهم مسنّون، في سنّ صغيرة بصورة مأسوية أو في عمر الشباب أو في سن الرجولة والشيخوخة، "فالخليقة منذ ولادتها وحتى الساعة لا زالت تئنّ وتتمخض كما هي الحال في الألم والولادة" (رو 22:8)... أمام كل هذا ليس لنا سوى الرجاء العتيد، المختلف عن التفاؤل الساذج بأن قصة يسوع في الموت والقيامة معاً تعطي الدليل الساطع على ما سيفعله الله للكوكب كله. وبولس الرسول يذهب إلى أبعد من ذلك ليعترف بصراحة أنه دون القيامة فإن كرازته وإيمانه باطلان، ثم أعلن بوضوح بلمسة حزن:"إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس" (1كو 19:15).
   صحيح إن مسيحيتنا ربما لا تخفف بأية طريقة من وطأة المعاناة وعواقبها وآلامها، ولكن إن ما تفعله هو إنها تمكّنك من قبولها ومواجهتها والعمل من خلالها، وفي نهاية المطاف تمكّننا من معرفة الحقيقة، وإلى أن يحين ذلك الوقت نتمسك بالوعد القائل: إن إله كل تعزية لم يهجرنا لكنه يستمر في عمله البطئ والثابت ليعيد إلى حالته ما أفسده الشر والموت، والله يمنحنا النعمة ويقدم لنا حلولاً في طريق الحقيقة حينما نرى محبة الله عبر الألم. فالله لم يسيطر على حرية الإنسان ولم يمنع الشر من الحدوث بدلاً من ذلك ما قصد به البعض شراً جعله الله خيراً.

   أسبوع وأنموذج
إن أسبوع الآلام أجمل أنموذج لنا في المعاناة والطرد والقتل والإهانة، وكلنا نؤمن ونعرف من خلال الأناجيل المقدسة ما احتمله الرب يسوع من الإهانات، وما تلقّاه أسوأ ما يمكن للأرض أن تقدمه. فالشر والموت اتفقا في ظلم المسيح، ولكن الحقيقة لم تكن فيهما بل في فجر الأحد حيث المسيح القائم الذي قاد التلاميذ إلى إدراك ذلك جيداً تدريجياً في إشارات صغيرة عرفاه، فمع تلميذي عماوس عند كسر الخبز، وعلى بحيرة طبرية في شيء من السمك، ومع توما "ربي وإلهي"، وهكذا بدأ يتغير نمط حياة التلاميذ وإنْ كانت في البداية لم يتغير منها كثيراً ولكنها أعطت لهم طريقاً جديداً للولوج إلى عالم الزمن مصدقين ومؤمنين وراجين أن كل شيء سيتغير ذات يوم، وستكون البشارة هي الدافع الأكيد لإعلان الكرازة في شوارع الجليل واليهودية وأورشليم، في شوارع بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت، ومنها إلى العالم، حاملة أخباراً سارة في الخلاص... وما تلك إلا حقيقة الإيمان ومسيرة الرجاء.
   
   أين الله؟
   من المؤكد أننا نرغب في معرفة الإجابة على سؤال: أين الله؟ أين الله في نزوحنا؟ أين الله حينما تواجهنا تجارب مؤلمة وإرهاب مميت ونزوح قاتل؟ وتنتابنا الشكوك في مسيرة حياتنا الزمنية وتصل حتى أدراج إيماننا. وهنا لابدّ أن نقول أن الرب يسوع نفسه تساءل على الصليب:"إلهي إلهي لم تركتني" (متى 46:27)... أمام هذا الصراخ والسؤال يبدو وكأن الله قد تخلى عن المسيح، ولعله سيتخلى عنا وفي أحلك اللحظات، ولكن عندما نستمر في دراسة الأحداث التي توالت بعد الصليب فإن الحقيقة تنكشف بأنه "لا يوجد شيء يمكن أن يفصلنا عن محبة الله ولا حتى الموت" (رو 37:8-39). وهذا ما يؤكده لنا أن الله معنا حتى حينما لا نشعر بوجوده وسطنا، ويمكننا أن نثق بمواعيده بـ "أنه لن يهملنا" (عبر 5:13)، وأقول: فالله أحياناً يسمح بما يكرهه حتى يخفف ما يحبه. نحن نثق بأن لدى الله المهيمن القدرة على فعل أكثر من هذا.
   وإذ نحن نبني ثقتنا على حقيقة أن الله لا يكذب ولا يتغير ولا يُهمل بل أمين معنا إلى الأبد، فلا نضع رجاءنا بما هو منظور أو مفهوم "فإن ضيقاتنا الأرضية تعطينا مجداً أبدياً يفوق كل معاناتنا" (2كو 16:4-18)، "فلنا ثقة في كلمة الله التي تقول أنه دائماً ما يجعل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبونه، الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو 28:8).

  قوة ونعمة
إن يسوع ربنا دخل العالم في أوقات بائسة ومفجعة ليرسم لنا طريق السماء في الجانب الآخر. ويوضح سفر الرؤيا كيف سيكون ذلك الجانب "وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت... ها أنا أصنع كل شيء جديداً" (رؤيا 4:21).
   وإنه قادر على جعل الخير يسود حتى في أسوأ الشرور. ما أحتاج إليه أن أجعل ما يحدث يتلاءم مع رسالة الخير. هذه الأفكار لا تغيب عن فكري، إننا نتلمس طريقنا باستمرار نحو النور بينما نعيش في الظلمة.
   كما لي الثقة بأن الله سيكون معنا وسيمنح لنا لكل حالة طارئة قدر ما نحتاج إليه من قوة ونعمة للمقاومة وللاحتمال ولكن لا يمنح ذلك في ماضينا لئلا نعتمد على أنفسنا بل يعيطنا إياه في حينه كي نعتمد عليه وحده، وهذا الإيمان يجعلني أن أتغلب على كل خوف وعلى كل قلق بشأن المستقبل والسؤال. فالله ينتظر منا حقيقة صادقة ومصيراً أبدياً عبر صلوات نابعة من الفؤاد لتأتي بثمار وثمار صالحة. فالموت سبيل لطرق الحرية وهو بداية الحقيقة وإذا نظرنا إلى ذلك اليوم في الجلجلة يبرز أنموذج أمامنا عن الله الذي يحوّل هزيمة ظاهرة إلى نصر حاسم.

   الخاتمة
   لهذا فرغم عدم رؤيتنا للخير الذي يحرك الله الأمور تجاهه، إلا أننا يمكن أن نثق أنه سيأتي وقت عندما نفهم الأمور بوضوح. فاليوم نحن نعيش ولنا مفهوم محدود لأمورالله، "ولكن سيأتي اليوم الذي نعرف ونفهم فيه كل الأشياء" (أيوب 5:8 وإشعيا 29:40). و"يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُراً. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ" نفهم أين يكون الله عندما نتألم؟ فرسالتنا في هذه الظروف القاسية والنزوح القاتل والانتظار المميت أن نؤمن أنه هو لنا "الرجاء الأكيد الذي لا يخيب" (رو5:5) وأيضاً "لأنه وعدنا فهو أمين" (عبر23:10). وإن هذا الإيمان وهذا الرجاء عاملان أساسيان هدفهما عندما لا يتمكن الإنسان من رؤية يدي الله فإنه يرى قلبه في ثقة الأبناء للآباء والآباء للأبناء، وإنه لن يهلك أبداً. فعندما تخور قوى الإنسان هو هذا الوقت الذي تستطيع فيه أن تستريح في حضرته عالماً أن "قوته تكمن في ضعفك" (2كو 9:12-10). ما حصل لنا في النزوح من المؤكد ان يسوع المسيح ربنا كان معنا، معنا نحن أبناء هذا الجيل الفاسد الشرير، كان معنا كي لا نحزن ولا نخاف ولا نيأس، لأن تعزيتنا تكمن في إيماننا بأن "يوم الرب قريب" وما علينا إلا أن نكون مستعدين ونصرخ مثل توما "ربي وإلهي"، حينذاك نرى الله يرافقنا في مسيرة الحياة فنعرف أين كان، كان فينا ومعنا،  نعم وآمين.


196
   في الذكرى الخامسة لكارثة سيدة النجاة

حقيقتنا في ذكرى شهدائنا

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
نعم، إن عالم اليوم وبعد إرهاب داعش، يغرق في مادية الدنيا والعولمة، مساءً أكثر منه
صباحاً، والمحسوبية والطائفية تغزو الأفكار والنيّات، وبخطى حثيثة لم يسبق لها مثيل وكأن عجلتها تدور بسرعة البرق، حاملة رعوداً وصواعق تملأ النفوس خوفاً وفزعاً، في اتّهام
الأبرياء بحقائق مزيفة. وباتت مسيرة الإيمان مناسباتية، وكلٌّ منا يؤلّه مَن يشاء ومتى يشاء ليكون له وثناً كما كان لسارة زوجة أبينا إبراهيم. وحقيقة التقوى أمست عاطفية واحترامية وانتقائية، والصراع في النفس داخلها وخارجها وفي كل ساعة من ساعات نهارنا وليلنا، ولا زال يحتدم لغايات دنيوية زائلة، ولمصالح أنانية مسروقة، ولصداقات احترامية مميتة، فيضيع الوقت في الحديث الفارغ بكذبة نعتبرها صادقة بل واجبة، كما يفقد الحاكي رسالته وحقيقته أمام أشخاص نضيرهم ولا يربط بينهم إلا المصلحة والضحكة المزيفة والمقولة التافهة في لسانٍ مزيف ومملِّق ولاعن للحقيقة بوزنها وكبرها عبر صداقات العصر والمساء، وأمسينا نحن وإيماننا ربما من الذين يخجلون في إعلانه كما هو شأن بشارة المسيح، وخائفين أن تُعلن الحقيقة أمام الجالس والمسامر كي لا نخسر دنيانا، فتضيع الحقيقة التي نشأت في قلب عالم يشهد لتحولات تدميرية في طرد واضطهاد الإنسان، وتبقى الرسالة تنتظر حاملها والوفي إلى إيصالها، وفي هذا تُدفن الإنسانية وتفوز المصلحة والمادية والمحسوبية... وهذا ما تريده عولمة الدنيا في أن ننظف ثوب الرئيس من أدران الزمن، ونمسح غباره من ذراتٍ كي يكون طاهراً أمام أنظار العولمة، والحقيقة هي غير ذلك!.

   الشهادة وفاء

   أمام هذا كله مَن منا لا يستذكر شهداء الحياة بمسيرتهم وعطائهم، الشهداء الذين خطفتهم العصابات، شهداء كنيسة سيدة النجاة، والحياة لا تبخل اليوم بإعلان ذكراهم، وهذا فخر لنا أن نكون أمناء في أن التضحيات ما هي إلا شهادة للإيمان ولحقيقة الحياة وحب الوطن وتربته، وفي ذلك نخلّد لحظة عماذهم وصبغتهم، ونرسمها في ضمائرنا رسالة وكلمة وأبدية، لتكون لنا سبيلاً في الحقيقة، وطريقاً في الحياة، ومنارةً نقتبس منها ضوء الخالق، سبحانه وتعالى الذي أحبّ حقيقتنا فأوصلنا إلى هذا الدرب الأمين. فالشهادة هنا أسمى معاني الوفاء لتحرير الذات من أنانية الفكر في لقاء المحب الأسمى والحياة في الأبدية الموعودة.

   البابا فرنسيس

   قال البابا فرنسيس:"إن اضطهاد المسيحيين اليوم أشدّ مما كان عليه في القرن الأول للكنيسة. والكنيسة اليوم تشهد عدد شهداء يتجاوز كثيراً فترتها الأولى، وإننا نرى إخواننا يُضطَهدون وتُقطَع رؤوسهم ويُصلَبون بسبب دينهم أمام أعين الجميع وكثيراً مع صمتنا المتواطئ، وهم لا يخجلون من الصليب وما هم إلا أمثلة رائعة. إن العنف في الشرق الأوسط يُرتَكَب باسم الله، وهو الأمر الذي لم يعد يتّفق مع عصرنا الحالي"، وأضاف:"أنه لا يتصور استمرار هذا الفكر حتى يومنا هذا حيث وصلنا إلى تناقضات خطيرة جداً" (14 حزيران 2014؛ دار القديسة مرتا)... ودعا إلى صحوة الضمائر بشكل واسع لدى جميع الذين يتحملون مسؤوليات على المستوى المحلي والدولي (نوفمبر 2014؛ ديسمبر 2014).


   حقائق وشواهد   
   ما يقوم به داعش، الحامل للتعصب التنظيمي والمنهج القاتل والفكر المميت والهدّام والذي لم يستثنِ أحداً، وحتى حرمة القبور ونبشها وكسر الصلبان وهدم الكنائس، فقد دنّسوا وسكبوا حقدهم على المسيحيين حتى النهاية دون أي رادع، وهدموا الآثار حاملة الحضارة الإنسانية والتاريخية بمسيرة سنيها وأجيالها والعائدة للبدايات الأولى لظهور إيماننا المسيحي وحمل عقيدتها... وما هذه الحقائق إلا شواهد أمينة في رسالة حملها إلينا شهداؤنا الذين صبغوا جدران أديرتنا بمسيرة حبّهم ولون دمائهم. والأحياء اليوم يسيرون على النهج نفسه، فهم يصبغون حياتهم بصبرٍ يفوق صبر أيوب، ويخلطون عرق جبينهم بخبزتهم وهم خائفين، وهم لا زالوا ثابتين على إيمانهم، وحامين لجدران كنائسهم وأديرتهم.

  سلعة رخيصة
في كل ساعة من ساعات نهاراتنا وحتى ليالينا نشهد مشهداً مؤسفاً ومؤلماً، مشهداً مخيفاً يحملنا إلى حالة نفسية غريبة لا توصَف، لا بصراعها ولا بعبئها، أو نسمع أخباراً تقصف مسيرة إعمارنا في خطف وسلب ونهب وتفجير، وأصبحنا في حالة غريبة ومريبة، فكلها إهانات واحتقارات وعدم مبالاة، فلا حقوق ولا وجود، وأصبحنا في مسيرة مليئة بمتفجرات الدنيا وألغام الطرق وعبوات المفترقات، وبقنابل عمياء تقتل الأبرياء وتجعلهم في زنزانات ظلماء لا نسمة فيها ولا هواء. وما يحصل ما هو إلا طغيان واستبداد وإجرام... إنه واقع مُرّ نعيشه رغم أنفنا _ شئنا أم أبينا _ فأصبحنا بذلك سلعة رخيصة بسعرها، وحقيرة بوجودها، وضياعاً بل مشردين في شوارع المدينة ونسينا كتابة ملفاتنا، فدفاتر مدارسنا قد بيعت وأقلامُنا انكسرت ولم يبقَ لنا إلا التأوّه والسؤال. ولم نعد نجد اتجاهنا وطاعتنا وإلى أين نحن ماضون _ بل سائرون _ على مدار الزمن القاسي. أنقبل المجازفة أم نخاف الموت أم نسعى للبقاء أم نخشى الفناء؟... أنحمل الصليب أم نرفض الصلب؟... كل شيء نراه موتاً وفناءً وصلباً، وحتى مسيرة الأيام كلها رعب وسؤال لماذا ولماذا ولماذا... إنها كلمات وفقرات وألفاظ تقودنا إلى هدم حائط رجائنا وكسر معنويات إيماننا، إنها محطات تقتلنا قبل قتلنا.

  حوار وحوارات
   قالوا عنّا كفّار، وإننا سنرث جهنم يوماً ما، والنار تنتظرنا لتميتنا لأننا من الذين كفروا وليس من الذين هادوا، وفي ذلك نحن أعداء الله وأعداء الإسلام، ولا يجوز الكلام عن الجنة فقد سُلبت من أيادينا فأصبحنا بلا مساحة الحقيقة، ولم نعد نعرف حدود التفكير، وختموا الكلمة بلعننا (لعنة) وأية لعنة، لعنة بتاكيدها، فضاع الحق والحقيقة، ولا يجوز السؤال والمناقشة، ولا التحليل والمجازفة. وإنْ كانت مبادرات عدة وندوات ولقاءات عُقدت، وبيانات صُدّرت ضمن برامج حوار الأديان، أو الحوار وقبول الآخر المختلف... نعم، حوار وحوارات، ولكن كل شيء انتهى إلى لا شيء، وفي ذلك كان الفشل مطلقاً.

   سؤال ولاجواب   
نسأل ونحن ننتظر جواباً: لماذا كُتب علينا الاضطهاد؟، ولماذا حتى الساعة نخاف فنهرب والإعلام يُعلمنا إنها مؤامرةٌ إقليميةٌ بل دوليةٌ، فمن أجل شعب تموت شعوب وما سيحل وحتى ما. ما يخيفنا ما حلّ فينا، هل حققت المؤامرة أهدافها؟، هل اكتمل مخططها أم لا زالت هناك زوايا مظلمة في مسيرة نعتبرها حقوقيةً للإنسان وحياتيةً للشعوب، فالجيران الاشرار لا زالوا بداعشهم وإرهابهم يجولون في ديارنا وحاراتها، في مخادعنا ومنازلنا، في الأزقّة وحنايا المعابد، يسرقون ويستبيحون كل شيء، يدنّسون كنائسنا، يكسرون صلباننا، باسم الله يحلّلون غزواتهم ويحطّمون تماثيل رموزنا، إنها أملاكُ النصارى والكفار، ويعلنون أنفسهم حماةً لسابع جار، فبئسهم، فأولُ جار لهم سرقوه ثم قتلوه دون أن يدركوا أنهم هم الكفّار. ما أراه إن صمودنا وثباتنا بإيماننا _ وفي قيد الحياة بعد المآسي التي ارتُكبت بحقنا، وجحافل الشهداء التي سارت أمام أنظارنا، وهدم كنائسنا، وبيع أوطاننا وأراضينا _ مرهونٌ بثباتنا في المسيح الحي، المسيح الكرمة، وفيها نحن الأغصان، وبغيره لا يمكن أن نحيا أو نحمل ثمراً كي نكون أغصاناً تحمل الخير ولا شيء غير الخير، كي نكون أملاً في الرجاء ومسيرة الإيمان.

   نرفض الموت
    إننا أصلاء وها نحن اليوم شهداء بلا قضية، فالقضية دارت في أروقةِ الكبار والانتظارُ مرضٌ لنا ودمار. ما أُدركه حتى الساعة، إننا عنوان الحياة في وطن نرفض فيه أن نموت، فنحن أبناء القيامة، وإن الرب لا زال ينادينا لا تخافوا، ثقوا بالمسيح الحي وبالصليب كُتب لنا النصر بل هو انتصر بالصليب وأرادني أن أشاركه الانتصار بالقيامة ومهما كان النهار قاسياً والظلام مخيفاً ستكون القيامة فرحاً ونوراً مضيئاً وما علينا إلا أن نكون صوتاً للإيمان. فإن كان الصليب صلبَ الموت فنحن بإلهنا المسيح الحي أبناءُ القيامة، أبناء الحي بين الأموات. ومأساتُنا دعوةٌ لنا للتوبة، لكبار كنائسنا وصغار معابدنا وخدّام أديرتنا ومؤمني رعايانا.

   الخاتمة
   نعم، الرب يعلم بحالنا، وهو يعلم أن صليب الحياة لا زال ثقيلاً كما لا زال الألم يتنهد فينا. فيا رب بحرُنا هائج وأنفسنا ترتعد خوفاً من الغرق وإيماننا يقول أنك أنت خلاصنا وما يدك إلا القدرة بالذات... فشرقنا يموت معذَّباً ولكن رجاؤنا أننا سنقوم من جديد. فيا رب، ألا تكفي سنة من الهجرة والنزوح، ألستَ أنت الذي زرتَ أرضنا بعد تسعة أشهر في مغارة هي الكون بأكمله، فلتكن مشيئتك، وما الدماء التي سفكت في أرض وطن الشهادة، وفي صحن سيدة النجاة، إلا رسالة سامية نحملها زاداً للطريق وخبزاً للجياع إلى الإيمان، وينبوعاً يروي العطاشى إليك، فاقبل أرواح شهدائنا التي انتقلت إليك واجعل من وجودنا رسالة محبة سامية نحملها إلى مبغضينا، وتلك حقيقتنا وفي ذكرى شهدائنا نصرخ إليك قائلين: نعم، تعال أيها الرب يسوع فنحن بحاجة إلى زيارتك، لتجدد عقولنا وأفكارنا بكلمة الحقيقة وقلوبنا بدماء القداسة، كي نبقى شهداءَ أُمناء، وشهوداً أوفياء، وما تلك إلا حقيقتنا، في أقدس ذكرى لشهدائنا، نعم وآمين.


197
بمناسبة الذكرى السنوية الأولى
لنزوح أبناء سهل نينوى من قراهم


نسمات في مناجاة العذراء

المونسنيور بيوس قاشا
صباحُكِ خيرٌ يا سيدتي، يا سيدةَ السماء، يا قديسة، يا عذراء
صباحُكِ خيرٌ من المهجَّرين النازحين، يا أمَّ التعساء
إليكِ أشكو حالي، هذا الصباح، يا مزيلةَ الشقاء
فالأرضُ قد دُنِّسَتْ، والترابُ يناجيكِ صباحاً ومساء
وأهلي قد رحلوا، ولم يبقَ منهم إلا أنا والفقراء البؤساء
قتلوا شعبَنا، وأهانوا رموزَنا والأبرياء
بإطلاقةٍ صامتة، وبعبوةٍ لاصقة... إنهم جبناء
زرعوا في النفوسِ خوفاً، وأقاموا فزعاً في حي الأقوياء
والبشر أمرُهُم عجيب، يحتفلون بالظلم نصراً، وهم في ذلك سعداء
ويقتلون الحقيقةَ والحرفَ والكلمة، وعيونُهم عمياء
ويقدّسون الفاسدَ والظالمَ باسم رايةِ السماء
يقولون إنه نزيه... أليس ذلك بئسَ الثناء
من أجل مصالِحِهم ومراكزِهم... فما هم إلا تُعساء
حقدٌ وبغضٌ وكراهية، وجورٌ في غيرةٍ حمقاء
فالحقيقةُ شُيِّعت بعدما أدانها زوراً كبارُ الرؤساء
نشروا عني وكتبوا ما شاءوا... صوراً ورسائلَ ونداء
واليوم مصالح ودولار وقصور... وما تلك إلا حالة وجفاء
ومع هذا سيبقى قلمي يحكي الحقيقة، ولكنهم عن ذلك غرباء
وأسأل قلمي: هل أنتَ رمزٌ، أم قتلوكَ لأنكَ عطاء
أمشي وحدي وسريعاً كالبرق، كي لا أنظر إلى الوراء
وأُنشدُ هذه أرضُنا، وهنا أصلُنا، وسنبقى فيها أوفياء
لا زلتِ يا مريم هذا الصباح، كما في عرسِ قانا، مع العروس السمراء
هناكَ كانت كلمة وحقيقة، وأعجوبة من الناصرة الخضراء
تاجَرْنا بكلِّ شيء، حتى القضية ضاعت بين الفرقاء
قتَلْنا الإنسانية، ومزَّقنا الهوية، وكأنه لا حياةَ ولا بقاء
وهنا كما هناك، فالموصل مدينتُنا، وفيها تُشرقُ شمسُ الحدباء
إحفظيها يا مريم، يا سيدةَ العالمين، يا أُمَّ الكونِ والرجاء
ففي أُمّ الأعجوبة، كنتِ للزائرين حمايةً وحصناً وشِفاءْ
فاليوم نناجيكِ، لتكوني لنا سَدّاً منيعاً، وللشرفاء
فبغدادُ بغدادُنا، والعراقُ وطنُنا، والتكبيرُ يُرفَعُ في كربلاء
فمهما طالت مدةُ العَثَرات، وانفجارُ العبوات على الأبرياء
لن نرحلَ عن بلدِنا، فقد كُتِبَ باسمِ الأحفادِ والأبناء
فبلدُنا أيقونةٌ، وصورتُكِ يا مريم عليها نُقِشَتْ... بإرادةِ العلياء
سنبقى نزرعُ الفرحَ، مهما كَبُرَت أرضُ اليَبسِ ومياهُ الجَفاء
سنبقى نَنشُدُ البسمةَ، ونزيّنها على الثغور، فلا بكاء
فاجعلي وطني لا يموت، ولن يموت، ما دمتِ أنتِ مريمَ العذراء
فلا تحوّلي ساحاتِنا إلى دمار، وأحياءَنا إلى ضياع، فكلُّنا معكِ أحبّاء
رطّبي قلوبَ الحاضرين يا مريم، وامنحي الشجاعةَ والدواء
للمرضى والحزانى، والمسافرين والباكين، فأنتِ لهم ضياء
يا رسولةَ الصلاة، تحت ظلِّ جِلبابِكِ استُرينا، دونكِ نحن بؤساء
يا أمَّ العالَمين، ازرعي الأملَ في القلوب، فأنتِ سيدةُ النساء
ومهما ارتفعتْ أسِنَّةُ الحِراب، وامتُشِقَت السيوف، سنبقى معكِ شهوداً وشهداء
ومهما أُضيعت الحقيقةُ، وهوجِمت البرارةُ، ستبقى الأسماء
فالقلوبُ تعشقُ الحقيقةَ، والعيونُ لا تحتاج إلا إلى حبٍّ وضياء
فحينما أركعُ أمامَ تمثالِكِ، أرى في عينيكِ ذلك البهاء
فأتأمّلُ العراقَ بشعبِهِ وأرضِهِ، بأطفالِهِ وشيوخِهِ الأبرياء
وأرسمُ أمامَ وجهي خارطةً، ملؤها سلاماً يا عراق
أنتِ السلامُ... أنتِ أُمُّ الحنا... فاذكرينا يا مينا الضعفاء
وقولي له: ألا يكفي العذابُ لأبناءِ بلدٍ، ارتوتْ جداولُهُ من دماء
فرياح الخريفِ، وحرُّ الصيف اللاهب، ما هي إلا فناء
نحن نضحك على أنفسِنا، والعيون تبكي على سوءِ الحالِ والبلاء
وسأظلُّ أحرقُ البخورَ، وأُوقِدُ الشموعَ، وأصلّي بكلِّ حناء
ومهما خنقَتْني أشواكُ التُهَم، وإهلاكُ الآخر من السُفَهاء
أرفضُ الاستسلامَ لليأسِ والكذبِ والاتّهام، وما ذلك إلا إدّعاء
ومهما بُنيت الجدرانُ والحدودُ العازلة، أمام السكان والأحياء
سأبقى جسراً للمحبةِ والتسامحِ والغفران، فأنتِ أمّي يا عذراء
أريد من هذا النهار، أنْ تتشابكَ أيادينا، وبكلِّ صفاء
وفي ذلك أصوغُ لكِ تاجاً، وأضعه إكليلاً على رأسِكِ، يا أُمَّ الأولياء
فأنا لا أبيع المفردات ولا الكلمات، بل أنا كلمةٌ صامتةٌ وصمّاء
فَبِصَمتي أقولُ حقيقةً على السامعين والسامعات، يا أُمَّ الشرفاء
فالعراقُ سيبقى يفتخرُ بأعجوبةِ وحمايةِ، سيدة العالمين والسماء
فأنتِ الطبيبُ لجُرحي، وأنتِ الحبيبُ لحبّي، ومن أجلي دون عناء
أبحثُ عنكِ في الطرقات، وأكتبُ عنكِ الذكريات
أنحني إجلالاً وحباً وشكراً، حيث كنا في النهار معكِ، سعداء
فيا مريم، يا سيدةَ الرافدين، يا أُمَّ النهرين، يا أُمَّ العراق
أنتِ سيدةُ الشهداء، أنتِ أمُّ الضحايا، وكل الأبرياء
إحفظي شعبَنا، وباركي بلدَنا، وقدسي ترابَنا، يا قديسةَ السماء
ختاماً، مهما جارتِ الدنيا علينا والزمان، وإنْ كنا تعساء
فاليوم يوم رجاء، مهما قال عنا الإرهابُ التعساء
سأبقى أُحبُّ العذراء، وأقولُ لها دوماً، نهارُكِ سعيد
نعم، نهارُكِ سعيد، يا سيدتي، يا عذراء
نعم، نعم، نهارُكِ سيدتي، سعيدٌ، يا سيدةَ السماء، يا مريم، يا قديسة، يا عذراء




198
عزيزي الغالي واستاذي الجليل الاستاذ بطرس نباتي
السامي الاحترام
سلام ومحبة
شكرا جزيلا على ردك وتعليقك على الرسالة فان غايتي الاولى والاخيرة كانت ان لا ينسى كبار الزمن ورؤساؤنا هذه الجريمة التي
ارتكبت بحق ابناء سهل نينوى ومنهم المسيحيين كما اردت من هذه الرسالة ان ابقى صوتا صارخا في برية الحياة لان اليوم كما العلم
ان الحقيقة شُيعت والاسالة هُدمت وان الانسان الفاسد اصبح نزيها وننسى قول الرب يسوع الذي علمنا ان نحيا المحبة في الحقيقة والرحمة
نعم سرق كل شي منا ولكن لا زال الايمان وسيبقى يحيا فينا الة الموت وسنيقى نكنز كنوزا في السماء حيث لا يصل اليها سارق ولا يفسدها داعش
شكرا جزيلا مرة اخرى استاذي بطرس نباتي الموقر ما نحتاج الية قول الحقيقة وليس تزيييف الحقيقة كما نشاء ولمن نشاء ومتى نشاء
فاليوم تباع القيم لمصالح الدنيا كما ذكرت والغرب واعس او غير واع فما يحصل ابادة الانسانية التي قدسها الله بسكونه بيننا ليقاسمنا الحياة
فاليوم صراع بين الخير والشر بين الاله المحب والشر المزيف الحاقد والفاسد من اجل تدمير الانسان بعولمة مزيفة .
 مرة اخرى شكرا والف شكر واجعلني ان اكون دائما تلميذا في مدرستكم
مع محبتي وتحياتي لكم وللعائلة الكريمة والشكر لعنكاوة كوم
محبك بيوس قاشا


199

عزيزي نزار مارزينا ججي عناي السامي الاحترام
شكرا جزيلا على مشاركتك وردك
واعلم ان الحقيقة لا تخفيها الظلمة واتمنى ان تراقب دائما كما قلت فحقيقتنا المسيح نور العالم وكن كلمة الحقيقة في زمن الفساد
ومحبتي لك وصلاتي من اجلك ليباركك الرب يسوع
شكرا والف شكر
محبك المونسنيور بيوس قاشا

200
عزيزي الغالي سيزار ميخا هرمز السامي الاحترام
سلام ومحبة
اتمنى لك كل الخير وللعائلة الكريمة وشكرا على تعليقك وما ذلك الا علامة المسؤولية وتضميد الجراح
فنح اليوم شعب مضطهد وما كبار الدنيا والزمن الا ان يكونوا صوتا صارخا ليس لمصالحهم بل لخدمة كل انسان
مرة اخرى شكرا جزيلا وسارفع غدا صلاة لاجلكم ليكون الرب في عونكم
محبك بيوس قاشا


201
  بمناسبة مرور عام على التهجير والنزوح

                 ولكم الشكر ...
                                         والشكر واجب يا قداسة البابا فرنسيس

     سلام بالمسيح الرب...
في البدء... نقبّل يدكم المباركة ونطلب بركتكم الأبوية وشفاعة صلاتكم... وبعد،
تحية بنوية مليئة بصبغة الإيمان التي اقتبلتُها يوم عماذي مع عظمة نعمة الكهنوت التي مُنحت لي وأنا لا أستحق، إذ ما أنا إلا بشر ضعيف... ولكي أكون وفياً وأميناً لرسالتي الإنسانية والكهنوتية والاجتماعية، أردتُ أن أسطّر لقداستكم أسطراً قليلة أحمل فيها هموم شعبي ورعيتي وهمومي إليكم، ناقلاً لكم حقيقة ومسيرة شعب يُضطهد ويُطرد ويُشتَّت ويُنزح ويهاجر، وفيها أقدم لكم الشكر الجزيل لمشاركتكم ألمنا وهجرتنا ونزوحنا وطردنا في الصلاة اليومية والبركة الأبوية والرسائل الرسولية والمبعوثين الشخصيين نيافة الكاردينال فيلوني والكاردينال ساندري والكاردينال بارباران والكاردينال أنجلو سكولا ورؤساء الكنائس الذين تعاضدوا معنا، وواجب الشكر واجب مقدس، وأرجو أن تعتبروني مثل ذلك الأبرص الوحيد الذي عاد ليقدم الشكر للرب يسوع، فما شعبي وأنا إلا بحاجة إلى بركتكم ووقفتكم المُحبّة كما في الإنسانية والمسيحية... وبعد،

     مسيرة ... وحياة
   أنا من سكنة قره قوش (بغديدا) المسيحية الكاثوليكية بنسبة 97% من سكانها. ترعرعتُ فيها، ومن ثقافتها وأصولها تعلمتُ، وضمن جدران المعهد الكهنوتي للآباء الدومنيكيين تربّيتُ وتدربتُ في مسيرة كهنوتية، كما احتضنتني كلية لاون للاهوت والفلسفة في القاهرة، وارتُسمتُ كاهناً لمذبح الرب بنعمة من لدنه وأنا البشر الضعيف في 1 تموز 1979، ولا زلتُ أخدم في بغداد منذ عام 1983 بعد أن خدمتُ في قره قوش خمس سنوات وعايشتُ الحروب والحصار والاحتلال والسقوط ثم إرهاب داعش ولحد الساعة، وقد تشرفتُ بمقابلتكم مع وفد من رعية مار يوسف في بغداد في الرابع من أيلول عام 2013 وأهديتُ لكم كتابي المسوم "فرنشيسكو... فقير الفاتيكان" وهو أول كتاب صدر باللغة العربية بعد 100 يوم من حبريتكم كحبر أعظم في الفاتيكان، وشكري للرب الذي قاد مسيرتي إلى هذه اللحظة.
   في ظل ما يجري في بلادنا من حروب ونزاعات ومجازر حصدت مئات الآلاف من البشر، وشرّدت الملايين عن منازلهم وقُراهم، لابدّ _ أقول _ من إتّباع المسيح ومن السعي في نشر العدالة والسلام والمحبة إذا ما أردنا الاقتداء بربّنا، ويجوز لأي ظرف أو حدث أن يمنعنا من الالتزام بالعمل في سبيل المحبة والسلام... فأنا أؤمن أن المسيحية الحقة مبنية على المحبة الفادية، والصليب فخر المسيحية الحقة بالمسيح يسوع الرب، فحينما تلتقي المحبة بالألم يتغير مفهوم الألم وتصبح الحياة هبة روحية، ويتحول الموت من مخيف ومرعب إلى جسر ذهبي يعبر بنا من حياة الأرض إلى السعادة الأبدية الدائمة كما يقول الرسول بولس:"إني أحسب كل شيء خسارة من أجل معرفة المسيح يسوع ربي" (فيليبي 8:3).

     قداسة البابا فرنسيس
     واقع ... وحقيقة

   نعم، كان بلدي يئنّ تحت حكم الدكتاتورية المقيتة والحروب التي أحرقت شبابنا في أتون النار المميتة، وهجّرتهم بدموع الألم والأسى، ومنها انطلقنا إلى الحصار حيث العديد من أبرياء الدنيا من الأطفال ماتوا بسبب نقص الغذاء والدواء والحليب، وكانت الدنيا بعوالمها تنظر إلينا وتتألم لشعبنا المسكين الرازح تحت نير العبودية والحروب والحصار، فلا حرية ولا كلمة ولا صوت، بل تأوّه وبكاء وأسف.
   نعم، كنا ننتظر قرار التحرير وليس قرار الاستعباد والاحتلال... كنا ننتظر التحرر من الخطيئة والعبودية، وكنا نأمل خيراً لمستقبل أولادنا وأجيالنا، ولكن ما حصل لم يكن في الحسبان، فقد أصبحنا حملاناً يذبحوننا متى شاءوا وحسب طلبهم، وأُحصينا في عِداد الموتى، وكُتب علينا الضياع والتشرد والتيه، فتُوِّجت الطائفية أميرة بدكتاتوريتها، وأخذت المذهبية مسيرة قاتلة بزواياها المتعددة، وبدأت المحسوبية الخانقة والمصالح الأنانية، وأصبح الإنسان قايين آخر، فتفشّى الكذب والسرقة والسلب والنهب والتفجير والتفخيخ والتهديد والوعيد وكأن الدنيا لم تكن حسب قول إلهنا:"ورأى الله كل شيء حسناً" (تك 1). فدمّرت الحروب بلدنا، وجاء الحصار فأركعنا كلنا، وحلّ ما حلّ فينا من مآسي، ولا أعلم هل كان ذلك لتدمير البلاد أم لسقوط الرئيس أم لسقوط الحكم، وكنا في كل لحظة ننتظر ما الذي سيحلّ في المسكونة (متى 24) مؤمنين بقول ربنا يسوع:"ارفعوا رؤوسكم فإن خلاصكم قد دنا" (لو 28:21)، ولا زلنا لحد الساعة ننتظر اكتمال قول المسيح الرب، وما يحصل الآن ما هو إلا بداية دمار الأرض بدءاً بأرضنا وأجيالنا.

     الموصل ... وسهل نينوى
   في العاشر من حزيران عام 2014، إستولى داعش الإرهابي على الموصل العريقة بمسيحييها، والمتعايشة مع المسلمين والمكونات الأخرى، فطرد المسيحيين وسبى نساءهم واستولى على أملاكهم وأجبرهم أن يدفعوا الجزية أو يعلنوا إسلامهم أو يغادروا مدنهم وقراهم... وهكذا لما حلّ السادس من آب عام 2014 دخل داعش الإرهابي أرض سهل نينوى ففقدت القرى المسيحية سكانها وأموالها، وتشتت أهلها في الشوارع والأزقة والساحات والكنائس والمباني الفارغة يفتشون عن ملجأ آمن في كوردستان، وهؤلاء الإرهابيون تسلّحوا بغرائز الوحشية وهم مجرَّدين من أية مسحة إنسانية... إنها حقيقة مُرّة... إنها حرب الشر والخطيئة بحق الشعوب البريئة.
   كما إن الإرهاب دمّر الدولة وهياكلها، أنزل الصلبان من قبب كنائسنا، وأحرق صور قديسينا ورموزنا، هدم المدارس وأحرق مكاتب علمها، فرض تعليمه الإرهابي في رياض الأطفال، أهان المرأة وسباها... نعم، قبل أيام استذكرنا الذكرى الأولى المؤلمة لطردنا في 6 آب (أغسطس) 2014، وقبل يومين من توقف الحرب الشرسة والمدمِّرة العراقية – الإيرانية في 8 آب 1988 والتي راح ضحيتها مئات الألوف من القتلى وملايين من الجرحى والأسرى والمفقودين، وترمّلت الملايين من النساء ومن جميع المكونات، وكم كنتُ أتمنى أن تكون هذه المناسبة ذكرى تحرير وليس ذكرى تدمير... وأمام هذه المشاهد المؤلمة كنتم أنتم الكلمة والحقيقة والشهادة _ كما فعل أسلافكم المقدسين _ ونظرتم إلى شعبي بعين الرحمة والحنان، وتكلّمتم _ وبصوت سمعه العالم بأسره بحكّامه وشعوبه _ وقلتم: لا للإضطهاد، فالمسيحيون أصلاء وأبناء الحوار والعيش المشترك... كنتم حينها ولا زلتم حتى الساعة روّاد الدفاع عن قول الحقيقة عملاً بقول ربنا يسوع:"قولوا الحق، والحق يحرركم" (يو 33:8)، وأعلنتم "أن اضطهاد المسيحيين المشرقيين بمختلف طوائفهم هو اضطهاد للكنيسة، وإن دماء المسيحيين دماء واحدة".

     قداسة البابا فرنسيس
   منذ دخول داعش الإرهابي أرض وطني دنّس قريتي ومدينتي الموصل وقرى سهل نينوى، وبدأت الأحداث تتسارع في مسيرة مؤلمة وحاملة للحقيقة الإنسانية المتألمة في شعبنا الجريح الذي طرده داعش وعملاؤه من ديارهم وفقدوا كل شيء: منازلهم ومحتواها، أملاكهم وأحلامهم، ولم يبقَ أمامهم إلا الهزيمة والإلتجاء إلى كوردستان حيث الأمان، وهناك فرشوا الحدائق وملأوا الشوارع... واليوم، لا زال أغلبهم يسكنون عمارات بائسة لم يكتمل بناؤها، وآخرون كرفانات لا تليق بسكنى أناس احترموا إنسانيتهم ومسيرة حياتهم، وآخرون هاجروا وقلوبهم حزينة حتى الموت على فراق أرضهم... نعم، رحلوا إلى بلدان الجوار شمالاً وغرباً، جنوباً وشرقاً، باحثين عن ملجأ يقيهم، وعن أمن يحميهم، وعن يد تعانقهم، وعن كلمة تواسيهم، وعن محبة ترافقهم، وعن رحمة تسترهم، وعن شعور بنجدتهم، ولكن لا من مجيب ولا من حديث ولا من عزاء _ ولم يكن صوت الدول الكبرى إلا صوتاً خافتاً، أما صوت الكنيسة بكم كان صوت الشهادة وقول الحقيقة _ ولا زالت حتى اليوم مسيرتهم دون هدف وإرادة، دون علم ودراية، ووضعهم مأساوي بدرجة امتياز... إنهم مهجَّرون... إنهم نازحون... فالحقوق مسلوبة، والحقيقة مصلوبة، والعدالة حوكمت، والقضاء إرهاب، شعوب تائهة أم أصيلة؟، لباسنا سواد وما كسوتنا إلا أكفان... هل نستحق أن نحيا أم علينا أن نكون تبعية مهمَّشة لا دور لها إلا ملء البطون والنوم والصوت الحزين، وممنوع علينا أن نحيا إنجيلنا ونعلنه ونعلّمه، ولا زال الصوت يصرخ كل صباح ومساء هل سنعود؟، متى سنعود؟، كيف سنعود؟، مَن يحمينا؟، مَن يدافع عنا؟، مَن يعيد حقوقنا ومَن يعوّض أموالنا؟، وما أملنا إلا بكم أن تمدّوا أياديكم كسحابة ببركتكم الأبوية لحماية شعبنا الممزَّق والمضطَهَد والمطرود... فالحياة استمرارية في هبة الله رب السماء والأرض، وهي أسمى من المصالح، والإنسان أسمى من المخططات، والتاريخ حقيقة سيعلنها لأجيال الدنيا وأجيالنا. ولا زالت الدنيا والشر والخطيئة يمجدون الموت والقتل والدمار وازدراء الحياة من قبل إرهاب مميت لا يحترم الحياة بقدسيتها والدنيا ببشرها... إنه التحدي الأكبر للإنسانية أن يعالَج من جذوره، بل تُقلَع جذوره.
   نعم، منذ دخول داعش إلى أرض قرانا ومدننا في سهل نينوى، كنتم يا قداسة البابا فرنسيس بصوتكم الإيماني المعلِن للحقيقة تصرخون كيوحنا المعمذان على مسامع كبار العالم وحكّامه أنْ "أوقفوا قتل المسيحيين واضطهادهم"، وإلى الأبناء المهجرين النازحين "كونوا على ثقة أن المسيح معكم، وليكن الرجاء سبيلكم، والتعزية مرافِقة لأية شدة تحتملونها"، وما إرسالكم لمبعوثين من قداستكم إلا علامة مضيئة في حقيقة مسيرة الألم لشعوب المسيحية في الشرق، ورسائلكم وخطاباتكم لمناسبات عدة ومختلفة.

    رسالتكم الميلادية...
   فرسالتكم يا قداسة البابا فرنسيس في عيد الميلاد 2014، والموجَّهة إلى مسيحيي الشرق الأوسط، كانت تحمل رجاءً أميناً إذ أمعنتم كيف أن نغمات الترانيم الميلادية تمتزج بالدموع والتنهدات، وأعلنتم كيف أن ولادة ابن الله في جسدنا البشري ما هو إلا سر تعزية يفوق الوصف. فقد ظهرت نعمة الله ينبوع الخلاص لجميع الناس (طيما 11:2)، وفيها أعلنتم حقيقة الآلام والمحن التي تافقمت بسبب النزاعات التي تعذب المنطقة وممارسة شتى أنواع الانتهاكات والممارسات لا تليق بالإنسان، وصرختم مع الرسالة أنه لا يمكنكم نسي الجماعات التي تعاني الاضطهاد وخاصة حملتم أفكاركم بشكل خاص بالأطفال والأمهات والمسنّين والمهجَّرين واللاجئين، وأعربتم عن قربكم وتضامنكم مع الجميع. كما أعلنتم قرب الكنيسة وتضامنها... إنها كلمة تعزية ورجاء، وتمنّيتم أن يكون المسيحيون شهوداً ليسوع، ويتحملون مسؤولية في الأرض حيث ولدت المسيحية وانتشرت، وقلتم مناشداً المسيحيين "إنهم الكنز الأثمن للمنطقة"، شاكراً إياهم على جهدهم. كما أعلنتم معانقتكم للشباب عناقاً أبوياً طالباً أن ينمو نمواً إنسانياً ومسيحياً، مذكّراً إياهم أن لا يخافوا أو يخجلوا من أن يكونوا مسيحيين... حملت الرسالة إلى الجميع مشاعر عزاء وحقيقة محبة نائب المسيح لأبناء الشرق العزيز، محمِّلاً إياهم مسؤولية كبيرة، وإنهم ليسوا وحدهم في المواجهة فالبابا يشجعهم، وشهادتهم مفيدة لقداسته مذكّراً أن لا ينسوا الصلاة لأجله وسط معاناتهم (عيد الميلاد، 23 ديسمبر 2014).

     شاهد ... وصوت
   نعم، بصوتكم من أجل المتألمين تعلنون الحقيقة من على منابر الفاتيكان، منابر الدول الكبرى، الفقيرة والغنية، تقودون سفينة الإيمان في بحر هذا العالم المتلاطم بأمواج هائلة وزوابع وأعاصير لم يسبق لها مثيل حيث يتم البحث عن أبعاد المسيح خارج العالم. فأنتم اليوم كلاً للكل (1كو 22:9)، للشرق والغرب، من أجل كرامة الإنسان وكرسول للسلام والمحبة وكلمة الحق، أي بمعنى ذلك أنتم مكان التقاء الإيمان الواحد كما يقول البابا بندكتس (7 أيار2005)... تجوبون العالم لتفتشوا عن الفقراء، لتناشدوا الشباب، لتكلموا الأطفال. تفتقدون المرضى والمهمشين، وتسألون عن المرذولين والمنبوذين، وترفعون الصوت عالياً حيث يسود الظلم والقهر والتهجير. تنادون بالحرية للمأسورين ولإبعاد شبح الحرب للدفاع عن كرامة الإنسان وإدانة بقوة جميع أشكال الظلم. ترفضون ثقافة الحرب من أجل ثقافة الحياة. تمدّون جسور الحب والمسامحة والغفران لبناء في عائلة مسكونية واحدة. أنتم شهود للضمير الحي الذي أخذ كبار الزمن يتاجرون به ربحاً وخسارة، ويعلو صوتكم لكي تكون كنوز الأرض لخدمة بناء جنة الله. تناشدون الأساقفة لكي يكونوا رعاة قديسين ويتوجهون نحو الشواطئ. تدعون الكهنة لكي يكونوا خدّاماً أمناء... فأنتم صوت المتألمين ونداء المظلومين ورحمة المستضعفين... إنكم انفتاح وحوار، حوار مع سائر الديانات، وحوار مع كل البشر حتى غير المؤمنين.
   أنتم في روما وعيناكم على القطيع والحظيرة معاً، على الشاطئ وفي داخل الحارة. لقد انكشفت فيكم أعظم قوة هي المحبة حتى بذل الذات، وأعلنتم لكل الناس أن الرب لا يجوع في جوهره بل في قديسيه، ولا يعطش بطبيعته بل في فقرائه، وفي ذلك أعلنتم أنكم مع الفقراء لأجل المسيح الفقير.

    القديس يوحنا بولس الثاني
   إنه لمن الفخر والاعتزاز أن أذكر هنا المسيرة الرائعة والمُحبة لقداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني تجاه عراقنا الجريح بشجاعة إيمانية وأبوية مسؤولة إذ وقف البابا يوحنا بولس الثاني في وجه محبي الحروب عبر خطاباته وتصريحاته، مندداً بآلات القتل الهمجية وبفكرة الحرب المعتادة، فقد كان يعرف أن الأقليات الأتنية والدينية في العراق هم مَن سيدفعون ضريبة الحروب.
   في 25 كانون الأول 1990، طلب من الحكومة العراقية الانسحاب من أرض الكويت وأن ترعى الأمم المتحدة مصالحة جدية بين الدولتين، فقد وجّه نداءً مناشداً الدول الكبرى بضرورة نبذ الحرب لأن الحرب مغامرة لا تعرف التوقف.
   في 4 كانون الثاني 1991، طالب وزراء الدول الأوروبية بالسعي إلى إرساء السلام دون اللجوء إلى آلات الموت المدمِّرة والمرعبة... نداءات عديدة وجهها إلى صدام حسين وجورج بوش (الأب) وإلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى البطاركة والأساقفة المعنيين بشأن العراق ولكن لم تفلح، وقصفت طائرات التحالف العراق ومحصّلتها آلاف الضحايا.
   حاول قداسته الضغط على الأمم المتحدة بفكّ الحصار المفروض والذي اعتبره بالغير الإنساني والمجحف بحق الشعوب. وبمبادرة منه في كسر الحصار، طلب زيارة العراق في 1999 خارقاً العقوبات ولكن الزيارة لم تكتمل.
   في 25 كانون الأول 2002، ناشد المجتمع الدولي بوقف الحملات العمياء والغير المبرَّرة لشنّ الحرب على العراق إذ قال:"الحرب ليس بنكبة وتنتهي، الحرب أداة تدمر الإنسان"... في رسالة حملها الكاردينال تشيغاراي، حث البابا النظام بضرورة التعاون مع الأمم المتحدة للتوصل إلى السلام... بدأت الحرب 2003، ودخل الجيش الأمريكي إلى العراق وأسقط النظام فغرق في الفوضى والسرقات والاغتيالات وتصفيات الحسابات، وكان المسيحيون أولى ضحايا الحرب العراقية الأمريكية في عملياتٍ انتحارية وخطف من قبل جماعات متطرفة وعصابات وميليشيات.

     الشكر واجب
نعم، شكراً لكم يا قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس... شكراً لكل كلمة صارخة في وجه الشر والألم والإرهاب... شكراً لكل نظرة ملؤها الألم على ما يحصل وما يحلّ بمسيحيي الشرق وسكانه... شكراً لكل وقفة شامخة أصبحتم لنا، بل معنا وفينا، سمعاناً قيروانياً، فأزحتم عنا الألم بمواساتكم، ومسحتم دموع عيوننا بتعزيتكم... شكراً لأياديكم التي ملأت دنيانا وأجسادنا خبزاً وخيراً وبركةً... شكراً لكم وليمينكم التي باركتنا ورافقتنا في الهجرة والنزوح وضلّلتنا غمامة كما كانت يدا موسى لشعب إسرائيل... شكراً لكم فقد اصبحتم لنا نعمةً وكسوةً وبيتاً وخيمةً وأملاً، وأصبحنا معكم حجاجاً نمشي في طريق متعرجة كجبل تجلى عليه ربنا يسوع المسيح، فهناك ينتظرنا الله ليطرد عنا شياطين الدنيا وأشرار الحارات وإرهاب الدواعش.
شكراً لكم لأنكم علّمتمونا _ ورغم صعوبة مسيرتنا _ أن نحمل الإنجيل إلى الآخرين، وسلاماً وحواراً للتعايش، ومقاسمة الطبيعة وخيراتها... فالكنيسة كما يقول البابا بولس السادس تحتاج إلى قديسين وليس إلى أبطال.
فشكراً لكم يا قداسة البابا فرنسيس، ومهما كُتِبَت الكلمة "شكراً" بعدد وأرقام لا تفي بحقكم فأنتم المسيح الرب الذي أحبنا حتى بذل الذات، وسيبقى صوتكم يرنّ في آذان رؤساء الدنيا أنْ أوقفوا اضطهاد المسيحيين... اضطهاد الإنسان... وسنبقى للكنيسة الكاثوليكية الجامعة ولكم أوفياء وأمناء في الإيمان كما في المسيرة... وتأكدوا من صلاتنا لأجل نياتكم كل يوم... وأتمنى أن أقابلكم قريباً في لقاء الأربعاء... نعم، شكراً وشكراً وشكراً... نعم وآمين.

                                            بيوس قاشا


202
بمناسبة الذكرى الأولى لنزوح أهل سهل نينوى

رسالة مهجَّر إلى الرئيس أوباما
المونسنيور بيوس قاشا
     سيادة الرئيس باراك حسين أوباما السامي الاحترام/ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
     السادة أعضاء مجلس النواب والشيوخ الأمريكي الأجلاء
     سلام ومحبة واحترام...
   أتمنى لشعبكم ولبلدكم ولكم كل الخير والبركات، وأدعو رب السماء، الرحمن الرحيم، المحب حتى الأبد، أن يمنحكم وافر النِعَم للسير في خدمة الإنسان وبناء الأوطان في الحقوق والقانون والعدالة، كما يطيب لي أن أكتب إلى سعادتكم هذه الأسطر بمناسبة الذكرى الأولى لنزوح شعبنا من قرى ومدن سهل نينوى... وبعد؛
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب   
إنني مواطن عراقي من أصلاء البلاد ومن المسيحيين، وفي بغديدا سكني وأصالتي، وفيها ترعرعتُ، وفي مدارسها تثقّفتُ، وعلى صفات أقلامها نشأتُ، وبصبغة العماذ اصطبغتُ. فأنا مسيحي محافِظ وفي الآن ذاته منفتح إلى جميع المكونات من المسلمين والشبك والإيزيديين والصابئة، وهذه كانت دائرة حياتي ومسيرتي، واليوم أنا أخدم في كنيسة ببغداد منذ 33 سنة بعد أن خدمتُ خمس سنوات، في بغديدا وبرطلة، ولا أريد أن أطيل بل الإيجاز في ذلك هو الواجب.
   أنا كاهنٌ، يعني خادمٌ، وشعار خدمتي "أنا بينكم مثل الذي يخدم". فأنا إنسان أحمل في داخلي مسيرة الألم والفرح، هموم الحياة وهموم أهلي ووطني، في أحداث تتسابق مع كوارثها في الحروب كما في الحصار كما في السقوط والاحتلال، وفي كل هذا لا صوت يُسمَع بسبب ضجيج الدنيا وإطلاقات البنادق وانفجار القنابل وصعق البارود، فيقع الأبرياء قتلى بل شهداء، ولعلّكم أنتم كبير الرؤساء وحكّام الأوطان والدول وقائد لأكبر دولة عُرفت بتاريخها وأيامها، وأعضاء برلمانها عُرفوا بتضحياتهم ودقة رؤيتهم ومسيرة المخطط من أجل الحياة. فتَقدُّم علمكم وقوةُ اقتصادكم ما هما إلا رسالة لبناء العالم الحُرّ والحقوق... فهذه رسالتي أنا الضعيف، تجدون فيها الحقيقة في كلماتها، ورسالة في أسطرها، وما أرويه هنا ما هو إلا مختصر جداً جداً للحالة البائسة التي يعشها شعبنا المطرود.
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب
نعم، كان بلدي يئنّ تحت حكم الدكتاتورية المقيتة والحروب التي أحرقت شبابنا في أتون النار القاتلة، ومنها انطلقنا إلى الحصار حيث العديد من أبرياء الدنيا من الأطفال ماتوا بسبب نقص الغذاء والدواء. وكانت الدنيا بعوالمها تنظر إلينا وتتألم لشعبنا المسكين الرازخ تحت نير العبودية والحروب والحصار، فلا حرية ولا كلمة ولا صوت، بل تأوّه وبكاء وأسف.
   المهم كلنا كنا ننتظر قراركم، ولكن لم نكن نعلم ملحقاته. فقرار تحرير العراق، عنوان الحياة... إنه التحرير من الشر بل من الخطيئة التي أُجِّلَ مفعولها. فالكلمة قوية بمعناها ورائعة بشكلها وعظيمة بتحقيقها. وكم من آمال كنا نبني _ ومن المؤكَّد _ منها على صخرة الإيمان ومنها في وديان الرمال، ومهما كان من أمرٍ كنا نتأمل خيراً، وكنا نقول أن المستقبل سيكون زاهراً، وإن الحياة ستُصاغ من جديد وملؤها رغد العيش وحرية الفكر، وإن العراق بأرضه وشعبه سيحمل رقم (21) من ولايات بلد الخير والعلم والتقدم أمريكا، بل العولمة بعلمها وبمراجيحها، فلا خوف بعدُ ولا يأس بعدُ، لا فقر ولا فاقة، لا حكم ولا سيطرة، وستكون الطرق سالكة بلا حواجز فاصلة وعازلة وقاتلة، تحمل اليأس وقطع الرجاء، فهي علامات سلبية بوجودها وإيجابية بدمارها لنفسية الإنسان وحقيقة الأخوّة، وفي كل ذلك بدأ حلمنا يكبر ويكبر حتى أصبحنا ضفدعاً بكبريائنا، ولكن كانت النتيجة أنْ إنفجرنا وأصبحنا في عِداد الموتى، وكُتِبَ علينا الضياع والتشرد والتيه، فتُوِّجت الطائفية ملكة، وأخذت المذهبية زواياها، وبدأت المحسوبية مسيرتها المميتة، فتفشّى الكذب والسرقة والسلب والنهب والتفجير والتفخيخ والتهديد والوعيد وكأن الدنيا لم تكن حسب قول كتابنا "ورأى الله كل شيء حسناً" (تك1)، وكأنّ بلدي يتأمل عظمة البناء بعد حروب مدمِّرة وبعد سقوطٍ قادته أميركا العظمى، وبدأتُ أتصور أن بلدي سيكون أنموذجاً من عدة نماذج أقامتها أميركا بتجارب قوية الثبات وحقيقة الوجود كالألمانية واليابانية والكورية والكويتية، لأن أعمدتها ستؤسَّس من أعظم دولة في العالم، والمسكونة بعلمها وتقنياتها، باقتصادها ودولارها، بقانونها وحمايات حقوقها. وحلمتُ _ ومن حقي أن أحلم _ أن بلدي سينعم بالرخاء وبفضاء الحرية والقانون، بعطاء الفكر ورسالة الحياة، وسيكتب رصاص القلم تاريخاً مشرقاً، وسنكون أكيداً بلداً حضارياً.
   وأمام كل هذا لم أكن أفكر ماذا وراء كل ذلك، من الحروب إلى الحصار إلى السقوط. خيالات تراودني وأنسج أحلاماً، وأردد في داخلي "هل هذه هي الحقيقة أم مصالح الحقيقة أم حقيقة المصالح؟"، ولم أكن أعلم هل أنا مُحتَل أم مُحرَّر؟، هل كان السقوط لرئيس أم سقوط لحكم أم سقوط لوطن؟، أإلى الوادي القريب أم إلى عمق الوديان أم إلى الهاوية القاتلة؟... فالإيجابية كانت أول كلمة في ضميري وفكري ومعالم عيوني بحدقتها ونظرتها وتأملها، ولم أكن أسمع يوماً أن هناك صوتاً يقول أننتظر الآتي أم لا. فحقيقة الخطوبة لا تكون في الرقص بل في خاتمة الموسيقى، والحكم ليس في عاطفة الضحك بل انتظار الآتي كما علّمنا المسيح الحي، ما الذي سيحلّ في المسكونة (متى 24).
   وجالت الخواطر في أفكاري، وبدأتُ أتأمل وأتمرّد على ذاتي، وأصف أفكاري بالمراوِغة، هل الحقيقة التي حلّت بنا هي وهم أم نشوة من أساليب الفرح؟، وهل التحرير أصبح حلماً للرجال التعساء وسرعان ما ذهبت خيوطه مع الريح؟... بين أفكاري والفشل دارت مسألة طلاق الواحد للآخر. فالفشل كان مطلَّقاً، ربما من أبناء شعبي حيث الوفاق بعيداً عن القلوب، ولا مجال للغفران ليتربّع في مكانه بل يراوح خائفاً مذعوراً، والأحاديث على طاولات هباء ليس إلا، وكل شيء أصبح معكوساً وفي اتجاهات مختلفة للظاهر والمستور، والسبب أن أحباء الوطن أوصلوا البلاد إلى هذه الحالة المؤلمة، وإلى مسيرة نحن ندور اليوم في فلكها.
   نعم، لقد استيقظتُ على حلم لم أكن أعلم أنه سيتحقق، عكس ما حلمتُ. أفقتُ وكأنني في عالم عنوانه قبل التاريخ. دخان ونار وقتل وكارثة، وأية كارثة أصابتنا... إنها بداية دمار الأرض بدءاً بأرضنا.
   أتمنى أن أسأل، ولكن لا أعلم هل مسموح لي بذلك أم لا، ولا أريد أن أجرح شعوركم أو شعور شعوبكم الأبيّة، فالشعوب محتَرَمة بقيمها وأخلاقها وعلمها وكوادرها، والسؤال: هل لا تعملون لإنقاذ بلدي؟، هل أنتم سمحتم للإرهاب المتوحش أن يدمّر وطننا ويطردنا من منازلنا ومساكننا؟، هل أنتم سمحتم للإرهاب أن يسرق أموال الفقراء وخيرات الوطن بوحشية لا توصَف بل لا يمكن وصفها لمختلف الأساليب الوحشية التي قام بها وارتكابه جرائم بحق البشر والحجر، بحق الحيوان والجدران، بحق الحضارة والآثار، بحق الإنسانية والطفولة؟، هل أدركتم أن ما يحصل هو من صناعة الموت ونشر الظلام والقتل، وما الشعار الذي رفعه الإرهابيون "أكثر عنفاً" إلا علامة سيئة في مسيرة الحياة والحرية التي تقودها دولتكم الموقَّرة بين دول العالم؟، هل أدركتم أن الإرهابيين مسلَّحون بغرائز الوحشية وهم مجرَّدون من أية مسحة إنسانية؟... إنها حقيقة مُرّة. هل أدركتم أن مغازلة الشر خطيئة بحق الشعوب البريئة؟، وإنْ كان الحق لا يُحتَرم، كيف نؤمن بدوائر حقوق الإنسان؟، وكيف سنقول الحقيقة ونحن جُهّالها من أصولها وحتى منابعها وشواخصها؟.
   هل أدركتم أن الإرهاب دمّر الدولة وهياكلها، ونهب المستشفيات والخستخانات، وهدم المدارس وأحرق كتبها، وفرض تعليمه الإرهابي في رياض الأطفال، وحتى مشاعل العلم أخذت تنطفئ؟، أهان المرأة وكرامتها والحياة وعنوانها. هل أدركتم جيداً عنف الإرهاب في قتل الأمريكيين الأبرياء من الصحفيين والأطباء والعاملين في الحقول الإنسانية؟... وسارت مسيرة الإرهاب في تدمير كل الشعوب والأوطان ومنها وطني وشعبي... إنها جرائم فريدة وشاذة، لا نعرف أصولها ولا نسبر فروعها وتفرعاتها في تاريخ عُرف بالألف الثالث.
   هل تعلمون ما حصل بعد الإحتلال؟، لقد أصابنا الفقر والجهل والمرض والتخلف، وأصبحنا نفتقر إلى كل مقومات الحياة في الحرية والأمن والكرامة، ولا أعلم إنْ كان هذا المبتغى مما حصل بعد التحرير، لم يكن إلا تدميراً وانتهاكاً قادنا إلى الذبح والتفخيخ والتفجير وعلى بركة الله وباسم الله، وضاعت ثقافة التسامح، وشُيّعت سبل الحوار، وكل ذلك تحت راية سوداء مقدسة وأحكام مخيفة، كل ذلك أمام أعينكم يا سيادة الرئيس وسماع آذانكم وأنظاركم، وهذا ما جعلني أن لا أتخيل _ بل لا استطيع أن أتخيل _ عنوان هدفكم إنْ كان التحرير أم غيره، وما هي الأهداف المعلَنة والخفيّة السريّة من مسؤوليتكم، فنحن اليوم نعيش في قبور حُفرت للأحياء قبل الأموات، بل نحن في عِداد الموتى ومشاريع استشهاد وإنْ كنا أحياء وعلى أرض الله نُرزَق ومن عنده الخيرات.
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب
   نعم، إنني أنحني إجلالاً للتضحيات الكبيرة التي قدَّمتها قواتكم المسلحة بمختلف أصنافها، وكل الوقار للشباب الأميركي الذي أعطى حياته من أجل حقيقة وطنه. فالدنيا بكم سخاء، والمليارات التي صُرفت هي عرق جبينكم ومن نتاجه، وفي هذا يسعدني أن أذكّركم أننا وقفنا قلباً وروحاً وصلاةً معكم يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1991، بكينا من أجلكم ومن أجل شعبكم، وإن خفيةً، ومن أجله صلّينا في كنائسنا وبيوتنا، ورحمةً دعونا لشهدائكم كما اليوم لشهدائنا، وكنا معكم كلمةً وحقيقةً وإدانةً لهذا الإجرام، ومرّت السنون وكانت كارثة كنيسة سيدة النجاة _ والتي رأيتُ تفاصيل أحداثها بكل دقة من الألف إلى الياء، وكنت شاهداً لها _ وقد نقلتُ هذا الكلام تفصيلاً إلى السناتور المحترم جون ماكين رئيس وفد الكونغرس الأمريكي والسيناتور لندس كراهام والسيناتور جو ليبرمان المحترمين وبحضور السفير الأمريكي آنذاك، الذين قاموا بزيارة إلى بلدي الجريح بعد أحداث كنيسة سيدة النجاة وبالضبط يوم الثلاثاء 9/11/2010.
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب
   بعد أيام سنحتفل بالذكرى الأولى لطردنا من قُرانا ومساكننا في سهل نينوى، 6 أغسطس 2014، وكم كنتُ أتمنى أن تكون مناسبة تحرير وليس ذكرى تدمير، أمام هذه المشاهد المؤلمة، ألم يحن الوقت أن تنظروا إلى شعبي بعين الرحمة والحنان؟، ألسنا في ديانتنا المسيحية _ كما الإسلام كما الأخرى _ أن الله رحمنٌ رحيم؟، ألم يقل ربنا يسوع في إنجيله:"كونوا رحماء فإن أباكم السماوي هو رحيم" (لوقا 36:6)؟، وفي القرآن الكريم أليست البسملة علامة رحمة رب السماء؟... وأسأل الآن: كيف سنعود؟، ومتى سنعود؟، مَن يحمينا؟.
منذ دخول داعش الإرهابي إلى أرض وطني دنّس قريتي ومدينتي، الموصل وسهل نينوى وحتى اليوم، من حينها راودتني فكرة كتابة الرسالة إلى معاليكم وإلى السادة أعضاء مجلس النواب الكرام، وطوال هذه الفترة كانت الفكرة تنمو يوماً بعد يوم في داخلي ومخيلتي، والأحداث تتسارع في مسيرة مؤلمة إلى أن أتت الساعة ليسجّل يراعي الضعيف هذه الكلمات عبر أسطر تسقيها دموع الحياة القاسية، ومسرّات ألم الاضطهاد... في رسالة تكون هي الأولى، حاملة حقيقة الإنسانية المتألمة في شعبنا الجريح، فغاية رسالتي هو تخفيف المصيبة التي يعيشها أبناء بلدتي وشعوب منطقتي المسالمين بعد أن طردهم داعش الإرهابي وعملاؤه من ديارهم وفقدوا كل شيء، منازلهم ومحتواها، أملاكهم وأحلامهم، ولم يبقَ أمامهم إلا الهزيمة والالتجاء إلى كردستان حيث الأمان، وهناك فرشوا الحدائق وملأوا الشوارع ذهاباً وإياباً، جلوساً ونظرةً، واليوم أغلبهم يسكنون عمارات بائسة لم يكتمل بناؤها وحتى محيطها، وآخرون هاجروا وقلوبهم حزينة حتى الموت على فراق أرضهم. نعم، رحلوا إلى بلدان الجوار شمالاً وغرباً، جنوباً وشرقاً، باحثين عن ملجأ يَقيهم، وعن أمن يحميهم، وعن يد تعانقهم، وعن كلمة تواسيهم، وعن محبة ترافقهم، وعن شعور بنجدتهم، ولكن لا من مجيب ولا من حديث ولا من عزاء، ولا زالت حتى اليوم مسيرتهم دون هدف وإرادة، دون علم ودراية، ووضعهم مأسوي بدرجة امتياز... هذا هو بيت القصيد، إنهم مهجَّرون، إنهم نازحون، فالحقوق مسلوبة، والحقيقة مصلوبة، والعدالة حوكمت، والقضاء إرهاب، شعوب تائهة أم أصيلة، هل نستحق أن نحيا ونواصل مسيرة البناء أم علينا أن نكون تبعية مهمَّشة لا دور لها إلا ملء البطون والنوم والصمت المريب؟، ألستم أنتم زارعي بذار حقوق الإنسان، ألا يجوز أن تزرعوا ذلك في حقول قُرانا ومدننا وحول مساكننا؟، ألا يجوز أن تمدّوا أياديكم كسحابة لحماية شعبنا الممزَّق والمضطَهَد والمطرود من مساكنه وقُراه ومدنه؟، هل لا يجوز تعويض أبناء بلدي وأبناء ديرتي لِمَا فقدوه من أموال وممتلكات كما رفعتم ذلك رايةً يوم احتلال الكويت حيث كنتم، كلمة الحقيقة، ودولار التعويض، وطابوقة البناء، وكونكريت الحياة لمدّ الجسور بين الأبناء والأصلاء في إعادة الإعمار والبناء واستمرار الحياة هبة الله، رب السماء والأرض، وكعطية لنحميها أنتم ونحن؟.
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب
نعم، بحق رب السماء إعملوا على إعادة شعبنا إلى مدنه، وحرّروا بلداننا من أيدي داعش الإرهابي واطردوهم إلى غير رجعة، فالحياة أسمى من المصالح، والإنسان أسمى من المخططات، والتاريخ هو الحقيقة سيعلنها لأجيالكم وأجيالنا... إنكم كنتم هنا من أجل إعادة الحياة بسموّ التضحيات، وكم كنتُ أتأمل أن نحتفل بعودتنا إلى قُرانا ومدننا وليس بمرور الذكرى الأولى لإرهاب داعش على أبناء سهل نينوى ومكوناته المختلفة... إنه الضمير الحي الذي به نُظهر الحقيقة بدلاً من أن يكون التاريخ أسطر الخزي والعار. فعمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي طالت أبناء شعبنا والأقليات لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام وأن تكون ريحاً في صحراء قاحلة، بل أن تحمل رسالة الإدانة... ألا يكفي الإهانة بحقنا؟... فاليوم كلنا سواد، وملابسنا سوداء، وما كسوتنا إلا أكفان... ألا يكفي تمجيد الموت والقتل والدمار وازدراء الحياة من قِبَل إرهاب مميت لا يحترم الحياة بقدسيتها، والدنيا ببشرها؟... إنه التحدي الأكبر للإنسانية إن لم يُعالَج من جذوره، بل تُقلَع جذوره.
     سيدي الرئيس
     السادة أعضاء مجلس النواب
   نعم، أطلتُ في رسالتي، فالمختصر كان مفيداً، ولكن حالي وأحوالي قد فسدا في الحياة، وما يخلّصني هو الرجاء والأمل. فأنا لستُ أضع لكم سياسة وخططها _ وأنتم أستاذ وبلدكم علماؤها _ فما أنا إلا أشكو حالي وحال شعبي الذي يُنعَت اليوم بالأقلية والجالية والطائفة، إنه يجول شوارع الدنيا وحدائقها ليجد مَن يلوذ به، ومكاناً يحميه بعد أن خسر كل شيء ولم يبقَ له إلا شفاعة السماء. فالمسيح الرب الحي قال:"ثقوا، فقد غلبتُ العالم" (يو33:16)... فنحن بحاجة إلى قدراتكم وعلمكم وإنسانيتكم وسلامكم ليس إلا، ولا أكثر!. فلكل شيء نهاية، ولكل حرب خاتمة، ولكل إرهاب نهاية، ولكل معضلة حل، وما نراه إلا وجه الله.
   وأخيراً، نعم، كل إحترامي لكم يا سيدي الرئيس السامي الإحترام، ولكم أيها السادة أعضاء مجلس النواب الأجلاء، وأملي أن أجد آذاناً صاغية ومكاناً في قلوبكم... ليحفظ الله بلدكم وليبارك شعبكم. وأترككم وبلدكم في حماية الرب القدير... وكما هو شعاركم، أردد أنا وأقول I TRUST IN MY GOD... ودمتم في حماية سيدة السماء، سلطانة السلام، نعم وآمين.



203
أنسعى للبقاء ام نخشى الفناء

المونسنيور بيوس قاشا

   في البدء
   من المؤكد نحن اليوم أمام مستقبل مجهول، وشعورنا بالوطن وبقدسية ترابه
والانتماء إليه أصبح في خبر كان بل حتى في خبر إنّ، لا بل نلوم الوطن ومَن أتوا ضيوفاً وكانوا جيراننا نلومهم على طردنا دون أن نقترف إثماً بحقهم بل هم في سنين عديدة كانوا يرتزقون من محبتنا واحترامنا، وهذا ما جعل الكثير من أبنائنا يستعطوا ليكونوا مسجَّلين في سجلات الرحيل لأجل راحة البال وحقيقة الحياة وكان ذلك مبتغى الإرهاب ونداء الأشرار، وحتى في رحيلنا نخاف هل سيقبلوننا نزلاء أو سنبقى دخلاء، وإنْ كُتب علينا أننا مهجَّرين ومهاجرين، وهل ستطول مدة بقائنا في الأرض التي أرادتنا ضيوفاً؟، وهل فعلاً سيكون رحيلنا إلى البعيد البعيد عبر البحار والمحيطات، عبر القارات والمحطات، فالأمر لا يكهن به حتى كُهّانه المصريين وسحرتهم، كما ليس من السهولة أن تُرسَم لنا مسيرة الحياة وقد نحتاج إلى سنين وأعوام... فلماذا، نعم لماذا؟، ألم نكن أصلاء بيوتنا وأحجار مساكننا، فلماذا الذي حصل؟

   البابا فرنسيس
   ندّد البابا فرنسيس بالاضطهاد الذي وصفه بـ "الوحشي" الذي يمارَس ضد الأقليات، وأدان البابا قتل وتشريد السكان في مدنهم وقال:"أمام أعيينا وأمام صمتنا، إنهم هيرودس المعاصرين الذين تلطّخت أياديهم بالدماء. أفكّر أيضاً في الأطفال الذي يُقتَلون في هجمات بالقنابل". وقال ايضا بابل هي رمز للشر والخطيئة، وهي تسقط بسبب الفساد،هذا ما قاله البابا فرنسيس في عظته في القداس الالهي ليوم الخميس، 27 تشرين الثاني 2014، القديسة مرتا فقد كانت تعتبر نفسها سيدة على العالم وعلى ذاتها، ولكن عندما تكثر الخطيئة تضعف القدرة على المواجهة ويبدأ العفن والانحلال، وهذا ما يحصل أيضاً مع الأشخاص الفاسدين ذلك لأن الفساد يمنحكَ أولاً بعض السعادة والسلطة ويجعلك تفتخر بذاتك فلا يترك مكاناً للرب ولا للارتداد. ففساد الخطايا المتعددة، هوفساد الروح الوثني وروح العالم، وهذا النوع من الفساد هو الأسوأ. وهذه الثقافة الفاسدة تجعلنا نشعر بالاكتمال والاكتفاء كما ولو أننا في الجنة، ولكنها عفنة ومُنتَنَّة في داخلها. وفي صورة بابل يمكننا أن نرى كل مجتمع وكل ثقافة لا بل كل شخص بعيد عن الله وعن محبة القريب. فهل نحن شبيهون ببابل الفاسدة المكتفية بنفسها أو بأورشليم المتلهية.

   ملء العقول
   وستبقى لماذا.. تُزعج مضجعي وتبلبل أفكاري حتى أوراقي؟... لماذا كانت لماذا... كي نعيش هذه الحالة البائسة؟... أليست المقالات والبيانات والتعقيبات والردود وحضور المؤتمرات وإلقاء المداخلات وغيرها من الأمور أن تصنع لنا معجزة فتظهر وتشرح لنا لماذا حلّ بنا ما حلّ. فشعبنا التائه والمشرَّد، المسكين الضائع، المهجَّر والنازح، بدأ يتقزز من كل الأحداث والحوادث ومن رائحتها الكريهة، فربما حاملوها ليسوا مخلصين لقضيتهم أو لا يهمهم حمل الصليب الذي فُرض عليهم. فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى مناصب وزيارات تعاطفية لمسؤولين وإداريين ودوليين إلى لاجئينا وإنْ كان هذا في باب القبول، ولكن ما نحتاج إليه إلى ترجمة هذه العواطف وهذه الاحترامات إلى أعمال حقيقية على أرض الواقع وفي صفحات الدستور، وهذه هي الشهادة للحقيقة، لأن الحقيقة _ وإنْ كان قسم منها في ملء البطون _ ولكن الحقيقة الثابتة هي في ملء العقول كي تملأ البطون. فأرضنا بيعت، ومساكننا نُهبت، وأديرتنا دُنّست، وكتبنا أُحرقت، وأسأل لماذا هذا كله؟، نحن لم نقترف شيئاً بحق الأشرار والصالحين، وهذه هي الحقيقة بعينها .

   قديم وجديد
   أمام هذا كله ولا زلنا حتى الساعة لسنا بمستوى يؤهلنا تجاوز مشاكلنا الداخلية وتعويض خسائر شعبنا وإيجاد مجال للثقة والرجاء بالعودة والبناء من جديد، ولسنا بمستوى من الإيمان في خلع الإنسان القديم ولبس الإنسان الجديد (أفسس 24:4). وإذا كان هذا لحد الساعة فمن العبث الحديث عن حقوقنا وعن وحدتنا، فالصلاة الموحَّدة لا تنبع من الشفاه بل تلهج بها القلوب، وليست صفاتها القوة والتأسف بل دليلها دموع الألم والحب كي تصل إلى الفداء وله ينبغي أن يكبر ولي أن أنقص (يو30:3). فكلنا نريد أن نكبر، ولا أحد منا يريد أن ينقص لتظهر الحقيقة والكلمة، وفي البدء كان هو الذي علّمنا أن نثق به حتى الموت (يو27:16). فنحن لسنا بحاجة إلى شفقة كمستَعطين في شوارع العالم، بل حالنا يجب أن يكون كبقية أطياف ومكونات وأصلاء البلد، لذلك علينا أن ندرك جيداً كيف نمدّ الأيادي نحن في الداخل وأبنائنا في الخارج فنكون صوتاً واحداً وحقيقة واحدة في محاربة فساد المحسوبية والمحاصصة، وكفى الخنوع والخضوع باتّضاع _ وليس بتواضع الذات حيث تعليم السماء _ لأشخاص مزيفين يرسمون لنا مسيرتهم وعلينا أن نكملها حرفياً شئنا أم أبينا وإلا كنا من الضالّين.
   واقع اليم
   نعيش اليوم واقعاً مريراً، بل قاسياً، بل اضطهاداً بالحق والحقيقة. فهل لا زالت الكبرياء والأنانية تتسلط على بَنات أفكارنا؟، هل لسنا بعدُ بالمستوى الذي يؤهلنا تجاوز مشاكلنا الداخلية وبجوانبها المتعددة؟، هل لا زال هناك عدم الفهم والتحزبات والمحاصصة والصداقات والمحسوبيات والاصطفافات الضيقة من آل البيت أو من الأقرباء والتي أضاعت على الواقع حقيقته فأصبح الفساد نزاهة، والكذب حقيقة، والمراوغة والإلتواء سبيل النجاح، والغش علامة الفوز بالآتي... أليس الواقع الأليم هذا من صنع أنانياتنا وكبريائنا ومحسوبياتنا؟، ألا نتحمل جميعاً المراتب الدنيا إلى العليا وكل واحد جزء منه، إنه خلل لا نعرف دواءه وإنْ كنا نعرف داءه، وحدّث ولا حرج في ذلك، فالحقيقة ستُبان إنْ الآن أو لاحقا.

   طال ليلنا
   ما أطول ليلنا ولا أعلم إن كان ينجلي، فقوى معروفة بأهدافها من مشرقنا أو من غربنا تريد اقتلاعنا من هذا المشرق، مهد المسيحية، أصلاء الأرض وأصيلو الحضارة، وأقولها _ والخوف والفزع يدغدغ أفكاري ومسارات دمائي _ إنها تنجح ونجاحاً باهراً، مرة في الرحيل وأخرى في الأرض الموعودة، وثالثة في الخطف والسلب والنهب وأخرى بأفكار بائسة ويائسة مليئة بعدم الثقة والرجاء حتى وإن كان الإيمان إيماناً بالمسيح الرب إضافة إلى الشكوك، إنها مكائد ومؤامرات تُحاك أمام عيوننا ويقرأونها على مسامعنا ولا أعلم هل كنا ندرك مداها كي نمدّ أيادينا إلى مَن ينقذنا فنحن شعب لا نعرف إلا بساطة المسيرة سذَّجاً نصدّق الكل وكل شيء من غير فهم ولا حيطة ولفقرنا نستَغَل وليس مكائد الحياة لبقية الشعوب كما يقول المثل "يقتلونه ويسيرون في جنازته"... يقتلونهم ويغسلون أياديهم علامة لبراءتهم، يقتلونهم ويعلنون أنهم المدافِعون عن حقوقهم وهم الأَولى بالمعروف والركوع والخضوع والخنوع، وهم المستمعين صراخ الفقراء "بالروح بالدم نفديك يا باشا". ويبقى السؤال: لماذا ولماذا ولماذا؟... إنها لماذا بقدر دموع الرجال حيث تحت أقدامهم اهتزت الأرض فزعاً واضطربت خوفاً... إنها لماذا المسيح حيث قال لخادم قيافا:"لماذا تضربني؟"... نعم، لماذا تضربني؟.

   العمل غائب
لماذا ونحن نحتفل بالذكرى الأليمة لمرور سنة على طردنا وتهجيرنا، السادس من آب (أغسطس) 2015، والعمل الدولي غائب وبدون تنسيق وغير مبالٍ بمسيرتنا المؤلمة، فأحبارنا الأجلاء كانوا يوماً أمراء على منصاتهم وصرخوا وأعلنوا بأعلى أصواتهم "يا قوم، يا عالم، هناك شعب يموت، هناك شعوب تُستأصل من جذورها، هناك أصلاء يُطرَدون من أرضهم، ورؤساء كنائسنا وغبطات آبائنا ركبوا البحر والجو والبرّ وقابلوا واستقبلوا كبار الدنيا ومخططي المؤتمرات والأوطان ومنسقي الأزمنة وسمعوا وعوداً وتمنيات ولا زال لحد اليوم لم نشهد حلاً أو بشارة بحلٍّ سريع وشامل لقضيتنا، فإن كانت قضية فلسطين قد باعها أعرابنا أخاف نحن أيضاً لا نبيع قضيتنا بسكوتنا وقبولنا بواقع كُتب على جباهنا وأُودع في قلوبنا وما علينا إلا أن نخضع خانعين أو خائفين ولكن ثقتنا مهما ملك اليأس على قلوبنا فرجاؤنا بمسيرتهم الشاهدة يكون انتعاشاً ليس إلا!... ولكن أقولها خائفاً أن لا تطول حتى قضيتي كما طالت قضية فلسطين حينذاك سيخرس لساني إلى الأبد.

الاضطهاد لماذا
نعم، نستمر بسؤالنا: لماذا كُتب علينا الاضطهاد، ولماذا حتى الساعة نخاف فنهرب ونتزعزع، والإعلان يُعْلِمنا أنها مؤامرة إقليمية دولية؟... ما يخيفنا بعدما حلّ ما حلّ بنا، هل حققت المؤامرة أهدافها وهل اكتمل مخططها، أم لا زالت هناك زوايا مظلمة في مسيرة نعتبرها حقوقية للإنسان وحياتية للشعوب؟، لماذا نحن قبل مائة عام مجازر ومذابح بسبب مصالح أهل الحروب البائسة، فيها كان المسيحيون ضحايا وكِباش فداء؟... وهاهو التاريخ يعيد نفسه بصورة بشعة في زمن منظمات تدّعي إنسانيتها فهي تتحسّر علينا ولا حلّ في يديها، فقد كُتب علينا أن ندفع ضريبة الشر لوحشية الإرهاب، ضريبة الماء والحياة، بل حتى ضريبة الهواء، ولا أعلم إنْ كانوا في مسيرة إنسانية أم في حقيقة حيوانية شريرة بائسة.

لنتّقِ الله
لماذا نحن شعبٌ ممزَّق بأحزابنا وأهدافنا، بتعددنا، بأعلامنا وراياتنا، أليس من الحقيقة أن نرجع إلى صوابنا وإنْ كان ماضينا لم يعلّمنا حقيقة مسيرتنا وعيش إيماننا؟، أليس من الواجب اليوم _ ونحن في هذه المحنة متخبّطون _ أن نتَّقِ الله في شعبنا المظلوم على أمره؟، أليس من الواجب أن نرجع إلى صوابنا لكي يتفقد الله بقيتنا الباقية أو ما تبقّى من شعبنا ليزيد المحبة ويفيضها في النفوس أجمعين، فنتصافح ونتنازل ونغفر ونتوحّد هدفاً ورايةً وعلماً؟، ألسنا نحن الذين زرعنا أصول الحضارة وعلامة التاريخ في أرض الأجداد وأصبحنا اليوم _ بسبب عدم تمسكنا ووحدتنا وشرذمتنا _ خرافاً أمام أشرار الدنيا في الدواعش الإرهابية حاملي عنوان الهمجية وقطع الرؤوس والسقوط الأخلاقي، وجعلوا بلدنا خراباً وعاثوا به فساداً وجعلونا أسفل السافلين، وأصبحنا في فوضى لا توصَف؟... فلا نعلم لمن نمدّ أيادينا ليخلصنا من الغرق، فبحرنا هائج وأنفسنا ترتعد خوفاً، وإيماني يقول أنْ لا أحد يخلصنا إلا يد الرب القدير.
الخاتمة
   كل يوم نتساءل: أنقبل المجازفة أم نخاف الموت؟، أنسعى للبقاء أم نخشى الفناء؟، أنحمل الصليب أم نرفض الصلب؟، كل شيء نراه، موتاً، فناءاً، صلباً. وحتى مسيرة الأيام كلها رعب، والسؤال: لماذا ولماذا؟... إنها كلمات وفقرات وألفاظ تقودنا وتسعى لتهديم حائط رجائنا وكسر معنويات إيماننا. إنها كلمات تقتلنا قبل قتلنا، بل أحياناً كلمات تنافي مسيحيتنا وربما كلمة الشكوك وقطع الرجاء هي العليا، نعم رفض الرجاء وإبعاد الإيمان، وفي النتيجة لا حياة، بل بعيدة عن حقيقة الحياة الأبدية. ولكن ما أدركه أن ربي وإلهي كتب لنا النصر بالصليب بل هو انتصر بالصليب وأرادني أن أشاركه الانتصار بالقيامة فنكون صوت الإيمان، فإن كان الصليب صلَبَ الموت فنحن بإلهنا المسيح الحي أبناء قيامة، أبناء الحي بين الأموات، نعم وآمين


204

مأساة النزوح .. وتسعة أشهر مرّت

المونسنيور بيوس قاشا
هاهي مأساة النزوح تدخل شهرها التاسع ولا زال صليب الحياة ثقيلاً كما لا زال الألم يتنهد
 في داخلنا، لماذا؟، نعم لماذا؟، فنحن عنوان الحياة في وطن نرفض فيه أن نموت فالأمل فيه رجاؤنا والمسيح فيه إيماننا.
   ѻ نعم، تسعة أشهر مرّت ولا زال السؤال: لماذا، لماذا، لماذا؟، إنها لماذا بقدر مأساتنا ودموع الرجال تزلزل الأرض تحت أقدامهم. نعم، اهتزت الأرض فزعاً واضطراباً وخوفاً... إنها لماذا بقدر حجم مأساتنا كما قال ربنا يسوع المسيح يوماً لخادم حنّان وقيافا:"لماذا تضربني؟"، والساعة نقول: نغم، لماذا أُطرَد من دياري، ألا أنها كلمةُ الحق.
   ѻ تسعة أشهر مرت والجيران الأشرار بداعشهم وإرهابهم يجولون في ديارنا وحاراتها، في مخادعنا ومنازلنا، في الأزقّة وحنايا المعابد، يسرقون ويستبيحون كل شيء، يدنّسون كنائسنا، يكسرون صلباننا، باسم الله يحلّلون غزواتهم ويحطّمون تماثيل رموزنا، إنها أملاكُ النصارى والكفار، ويعلنون أنفسهم حماةً لسابع جار، فبئسهم، فأولُ جار لهم سرقوه ثم قتلوه دون أن يدركوا أنهم هم الكفّار.
   ѻ تسعة اشهر مرت ونحن لا زلنا نُعرَف بساكني الخيام وناطري الكرفان وحاملي الآلآم وشاردين بين الأنام لا نعرف متى ينبلج الفجر والصباح ومتى تغيب الدنيا والزمان، وأصبحنا ضياعاً بل مشردين في شوارع المدينة ونسينا كتابة ملفاتنا فدفاتر مدارسنا قد بيعت وأقلامُنا انكسرت ولم يبقَ لنا إلا التأوّه والسؤال.
   ѻ تسعة اشهر مرت ونسأل: هل سنعود؟، وإذا عدنا هل سنكون أم نرى ما لم تره عين ونسمع ما لم تسمع به أذن؟، فنموت صغاراً في عقر دورنا كما مات لعازر، فلا رابوني في الدار وما الجيران إلا أشرار الزمان.
   ѻ تسعة اشهر مرت ولا زال ليلنا لم ينجلِ، ولا زال الخوف والفزع يدغدغ أفكارنا ومسارات دمائنا مرة في البقاء وأخرى في الرحيل إلى الأرض الموعودة وثالثة في الخطف والسلب والنهب... إنها مكائدٌ ومؤامراتٌ تُحاك أمام عيوننا من كبار الدنيا بشرقهم وغربهم، بأقاليمها وبلدانها، ويقرأون بياناتهم على مسامعنا ولا نعلم هل كنا ندرك مداها كي نمدّ أيادينا إلى مَن ينقذنا.
   ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال الألم يقلق مضجعي ويبلبل أفكاري في سؤال "لماذا"، لماذا هذه الحالة البائسة، أليست المقالات والبيانات والتعقيبات والردود وحضور المؤتمرات وإلقاء المداخلات من شأنها أن تصنع لنا معجزاتٍ، فشعبنا تائه، مسكين، ضائع، مهجَّر ونازح، وبدأ يتقزز من كل الأحداث والحوادث ورائحتها الكريهة، فربما حاملوها ليسوا مخلصين لها أو لا يهمهم أمر صليبهم، فالشعب ليس بحاجة إلى مناصب ومزيّفات وزيارات إعلامية لمسؤولين وإداريين ودوليين إلى لاجئينا وإن كان هذا في باب القبول والشكر، ولكن السؤال: لماذا لا نترجم ذلك إلى جوابٍ شافٍ في صفحات الدستور لأن الحقيقة _ وإنْ كان قسم منها في البطون _ لكن الحقيقة الثابتة في ملء العقول، فأرضنا بيعت ومساكننا هُدمت ونُهبت وأديرتنا دُنّست، وأسأل لماذا؟، فنحن لم نقترف جرماً وإنما كنا أبرياء.
   ѻ تسعة اشهر مرت ونحن لا زلنا أمام مستقبل مجهول وشعورنا بالوطن وقدسية ترابه والانتماء إليه أصبح في خبر كان بل حتى في اسم إنّ، نلوم الوطنَ ومَن أتوا إليه ضيوفاً، كانوا جيراننا، سنين عديدة كانوا يرتزقون من محبتنا وكَرَمنا واحترامنا، وهم اليوم أشرارٌ بدواعشهم وأصبحنا نحن مُهجَّرين ومهاجرين، نزلاء ودخلاء، وعيوننا في الرحيل إلى البعيد البعيد، عبر البحار والمحيطات، عبر القارات والمحطات... فالأمر لم ينتهِ بعدُ. فحتى في رحيلنا نخاف هل سيقبلوننا نزلاء أو سنبقى دخلاء وإن كُتب علينا أننا مهجَّرون ومهاجَرون؟، وهل ستطول مدة رحيلنا ولن نعود؟.
   ѻ تسعة أشهر مرت وشعبنا لا يعرف إلا بساطة المسيرة سُذجاً، نفتح أبوابنا للقاصي والداني وليس لنا مكائد كبقية الشعوب، أما هم فيقتلون ويغسلون أياديهم كبيلاطس ويعلنون أنهم أنزلوا علينا آياتهم، وإنهم الأَولى بالمعروف وما علينا إلا الخضوع ةالركوع تمجيداً لهم بالروح بالدم نفديك يا باشا.
   ѻ تسعة أشهر مرت والعمل الدولي غائبٌ يراوح في ساحة الميدان، وربما غير مبالٍ بمسيرتنا المؤلمة، فأحبارنا ألأجلاء كانوا يوماً أمراء على منصاتهم وصرخوا وأعلنوا أصواتهم "يا قوم، يا عالم، هناك شعب يموت، يهجَّر، يُشتَّت. هنالك شعب يُستأصل"... وكبار كنائسنا الأعزاء ركبوا البحر والجو والبر وجالوا وقابلوا واستقبلوا كبار الدنيا ومخططي المؤتمرات وتغيير الأوطان ومنسقي الحروب والأزمنة فأسمعوهم وعوداً وتمنياتٍ ولا نزال حتى الساعة ننتظر بشارةً تنقلنا إلى الحل الأمين فقد أصبحنا قضية وأتمنى أن لا نكون قضية فلسطين فقد باعها الأعرابيون وأنا أيضاً أخاف من أن نبيع قضيتنا بسبب خوفنا بسكوتنا وقبولنا بواقع كُتب على جباهنا وما علينا إلا الخضوع صغاراً وأن نردد بنعم لا نهاية لها وإن كان لها بداية.
   ѻ تسعة أشهر مرت ونحن نتساءل: أنقبل المجازفة أم نخاف الموت أم نسعى للبقاء أم نخشى الفناء؟... أنحمل الصليب أم نرفض الصلب؟... كل شيء نراه موتاً وفناءً وصلباً وحتى مسيرة الأيام كلها رعب وسؤال لماذا ولماذا ولماذا... إنها كلمات وفقرات وألفاظ تقودنا إلى هدم حائط رجائنا وكسر معنويات إيماننا، إنها محطات تقتلنا قبل قتلنا.
   ѻ تسعة أشهر مرت ونحن ننتظر جواباً لسؤال: لماذا كُتب علينا الاضطهاد؟، ولماذا حتى الساعة نخاف فنهرب والإعلام يُعلمنا إنها مؤامرةٌ إقليميةٌ بل دوليةٌ. ما يخيفنا ما حلّ فينا، هل حققت المؤامرة أهدافها؟، هل اكتمل مخططها أم لا زالت هناك زوايا مظلمة في مسيرة نعتبرها حقوقيةً للإنسان وحياتيةً للشعوب.
   ѻ تسعة أشهر مرت وإبادةُ العثمانيين لنا لا زالت سيوفُها مشرَّعةً في وجوهنا لقطع رقابِنا، ومذابحُها تذكرنا بمصالحَ المتحاربين. كان أجدادُنا حينها خرافاً وضحايا وكباشاً وفداءً وهاهو التاريخ يعيد اليوم ذاكرتَه بصور بشعة في زمنِ منظماتٍ تدّعي إنسانيتها، فقد كُتب علينا أن ندفع ضريبة الشر لوحشية إرهابها، ضريبة الماء والحياة، وحتى ضريبة الهواء.
   ѻ تسعة أشهر مرت وفيها أصبحنا ضياعاً وأمسينا مشرَّدين في شوارع المدينة وأزقتِها وساحاتِها، نفتش عن هويتنا فقد ضاعت منا البصمةُ والأختامُ ولم نعلم أين القريب وأين الجار، أين الوطن وأين الدار، اين مسيرتنا عبرَ الأجيال... إننا أصلاء وها نحن اليوم شهداء بلا قضية فالقضية دارت في أروقةِ الكبار والانتظارُ مرضٌ لنا ودمار.
   ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال شعبنا ممزَّق في أحزابه وأهدافه وتعددِ أعلامه وراياته، أليست الحقيقة أن نرجع إلى صوابنا؟.. أليس من الواجب أن نتَّقِ الله في شعبنا المظلوم على أمره؟. أليس من الواجب أن نسأل الله كي يفتقد شعبه ببقيتنا الباقية أو ما تبقى من شعبنا ليزيد المحبة ويفيضها في النفوس فتتصاغر وتتنازل وتغفر وتوحّد هدفاً ورايةً وعلماً؟ ولنعلم أننا حضارةٌ وتاريخٌ، أصلاء في أرض الأجداد والشهداء ومن المؤسف أصبحنا في فوضى لا توصف وأصبحنا مستأجرين بعد أن كنا أصليين.
   ѻ تسعة أشهر مرت ولا زلنا حتى الساعة لسنا بمستوى يؤهلنا تجاوز مشاكلنا الداخلية وتعويض خسائر شعبنا وإيجاد مجالاً للثقة والرجاء بالعودة والبناء ولسنا بمستوى من الشهادة للحقيقة بدل الفساد في خلع الإنسان القديم ولبس الإنسان الجديد، ومن العبث الحديث عن حقوقنا وعن وحدتنا إذا لا نوحّد صلاتَنا فهي لا تنبع من الشفاه بل تلهج بها القلوب وليست صفاتُها التأوّه والتأسف بل دليلُها دموعٌ ومحبة كي تصل إلى الفداء "له ينبغي أن ينمو ولي أن أنقص"، فكلنا نريد أن نكبر بأساليب خادعة ولا أحد يريد أن يتواضع ليقول الحقيقة، فنحن لسنا بحاجة إلى شفقةٍ كمستضعفين في شوارع العالم بل إلى مدّ الأيادي في الدتخل كما في الخارج فنكون صوتاً واحداً في محاربة المحسوبية وفسادِها والمحاصصةِ وكبارِها وكفى الخنوع لأشخاص يزيّفون مسيرتهم وإلا كنا من الضالّين.
   ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال الواجب يناديني أن نزيد اجتماعاتنا في بيوتِ الرب وكنائسنا، نُمضي ليالينا في الصلاة والسهر والتوبة ونقضي أيامنا في الصوم والغفران، إن مؤتمراتِنا أكثرُ كلماتٍ من صلواتنا فالنفس في الصلاة تنتعش وأما الجسد ففي السفر يستجم... وربنا قال "صلّوا ولا تملّوا"، ويذكّرنا أنجيلنا أن ربَّنا يسوع كان يصعد الجبل ليصلّي، ليقضي الليل كله في الصلاة... أليس هذا هو سؤال الرب لنا في هذا الزمن؟... نعم، لنصلِّ فالصلاة مفتاحُ باب السماء وما علينا إلا أن نكون طلاباً تحت أقدامِ الصليب إنَّ ذلك مفتاحاً لنزوحنا ولمأساتنا.
   ѻ نعم، ما أُدركه بعد تسعة أشهر... إن الرب لا زال ينادينا لا تخافوا، ثقوا بالمسيح الحي وبالصليب كُتب لنا النصر بل هو انتصر بالصليب وأرادني أن أشاركه الانتصار بالقيامة ومهما كان النهار قاسياً والظلام مخيفاً ستكون القيامة فرحاً ونوراً مضيئاً وما علينا إلا أن نكون صوتاً للإيمان. فإن كان الصليب صلبَ الموت فنحن بإلهنا المسيح الحي أبناءُ القيامة، أبناء الحي بين الأموات. ومأساتُنا دعوةٌ لنا للتوبة، كبار كنائسنا وصغار معابدنا وخدّام أديرتنا ومؤمنو رعايانا ليس إلا!.
   ѻ نعم يا رب... أنت تعلم بحالنا... فيا رب بحرُنا هائج وأنفسنا ترتعد خوفاً من الغرق وإيماننا يقول أنك أنت خلاصنا وما يدك إلا القدرة بالذات... فشرقنا يموت معذَّباً ولكن رجاؤنا أننا سنقوم من جديد.فيا رب ألا تكفي تسعة أشهر من الهجرة والنزوح ، الستَ أنت الذي زرتَ أرضنا بعد تسعة أشهر في مغارة هي الكون بأكمله ، فلتكن مشيئتك ، نعم تعال أيها الرب يسوع فنحن بحاجة الى زيارتك .. نعم وآمين

205
نحو العراق 00 على أجنحة الصلاة
نحن والمهجرون (النازحون) ... معاً نصلّي كي نعود
الجمعة 22 أيار 2015

   بمناسبة مرور تسعة أشهر على نزوح عوائلنا من سهل نينوى، وتضامناً مع صلوات الشهر المريمي وعيد القديسة ريتا (22 أيار) والذكرى (98) لظهور عذراء فاتيما (13 أيار 1917) تدعوكم الخطوط السماوية، عبر رعية مار يوسف للسريان الكاثوليك في المنصور _ بغداد _ العراق، إلى المشاركة معنا في رحلة سياحية قصيرة في رحاب السماء، تحملنا فيها أجواء التوبة والصلاة نحو عراقنا الجريح لفترة ساعتين فقط. وعلى كل مسافر أن يحمل معه، بالإضافة إلى تذكرة السفر، حقيبة مليئة بالصلاة والتأملات والأزهار والهدايا، لتُقَدَّم لأمنا القديسة مريم العذراء، وهمومنا ومشاكلنا لإبنها يسوع المسيح. وإذا ما نسي المسافر حقيبته في المطار، بإمكانه الإستعانة بحقيبة برنامج الرحلة.
   للحجز والمعلومات والإطلاع على برنامج الرحلة: أنقر على   www.maryousif.org
   لتقديم آرائكم واقتراحاتكم وانطباعاتكم، الإتصال بـ   al_zanbaqa@ymail.com
   ثمن التذكرة: هبة مجانية لجميع المؤمنين من المسيحيين وغير المسيحيين مقدَّمة من رب السماء عبر رعية مار يوسف ونرجو من الجميع المشاركة في هذه الرحلة.
   بإمكانك اصطحاب مَن تريد: صغاراً وكباراً، شباباً، أطفالاً وأجنّةً. فالطائرة وسعها وسع الكرة الأرضية، فهي تستوعب كل القلوب، سماوية كانت أم أرضية.
   على المشاركين في الرحلة ملء استمارة المشاركة بإرسال صلاة أو دعاء أو طلبة لقراءتها أثناء رحلة الصلاة أمام المسافرين المصلّين.
   لغرض الحصول على الإقامة: راجع مدرسة "تحت أقدام الصليب".
    يتمنى كابتن الرحلة، رب السماء:
          أ) أن تجتمع العائلة بأكملها للصلاة.
         ب) أن تتكون فرق شبابية أو أصدقاء أو صديقات للاجتماع للصلاة سوية.
          ج) من المحبَّذ وضع تمثال المصلوب وأمّه القديسة مريم أو أي صورة.
   إذا ما حصل قطع في التيار الكهربائي بسبب الظروف الجوية، يتمنى الكابتن أن تُشعل كل فرقة صلاة شمعة من بدء الصلاة.
   أثناء الرحلة يرجى الابتعاد عن العالم في غلق الموبايلات وأجهزة التلفاز والمذياع والمسجّلات كي لا تؤثر على الإلكترونيات الروحية للطائرة، كما يرجو كابتن الرحلة أن تتوقف عملية السير للمركبات وللأفراد مدة فترة الصلاة لغرض فتح باب الله والإنصات  إلى السماء عبر التأمل والتوبة والصلاة..
    لغرض فتح باب الله، أدخل إلى مخدعكَ، فتجد المفتاح ينتظركَ، ليفتح لك باب الله، لتبدأ الصلاة.
   بعد انتهاء الرحلة والنزول إلى أرض الله، ستُقدَّم وجبة عشاء شعبية لجميع الركاب المصلّين ، فيها بهارات إيمانية للحماية من الضغط والسكر والدهون... مع الممنونية.

   مدير الرحلــــة: خوري الرعية بيوس قاشا
   طاقم الرحلة: أعضاء جمعية أصدقاء القربان وأعضاء المجلس الرعوي
   موعد الرحلة: 5:00 عصراً
   تاريخ الرحلة: الجمعة 22 أيار 2015
برنامج الرحلة

    الافتتاحية 00 موسيقى هادئة
    صلاة الأبانا
    ترتيلة "اليوم كنتُ":
1)   اليومَ كنتُ راكعاً أصلّي / ربّي دعاني ثمَّ قالَ لي / يا ولدي أعطني قلبََكْ / خُذْهُ يا خالقي وربّي / يا ولدي أعطني قلبََكْ / خُذْهُ يا مالكي وحُبّي
2)   الكلُّ حقاً إلى الموتِ واصلْ / والعمرُ أيضاً كالظلِّ زائِلْ / مَنْ دونَكَ يا ربَّ السماء / أعطي لكَ قلبي السقيمْ / مَن دونكَ يا ربَّ السماءْ / أنتَ أنتَ ملكي الكريم
    مزمور 25:
   إِليكَ يا ربُّ أرفَعُ نفسي / يا إلهي عليكَ توكَّلتُ / فلا تَدَعني أُخزى / لا تَشمَتْ بي أعدائي / أيضاً كلُّ مُنتظريكَ لا يَخْزَوا / ليَخزَ الغادرونَ بلا سببٍ / طُرُقَكَ يا ربُّ عرِّفني / سُبُلَكَ علِّمني / درِّبني في حقِّكَ وعلِّمني / لأنكَ أنتَ إلهُ خلاصي / إيَّاكَ انتظرتُ اليومَ كلَّهُ / اذكُرْ مراحِمَكَ يا ربُّ وإحساناتِكَ / لأنها منذُ الأزل هي / لا تذكُرْ خطايا صِبايَ ولا مَعاصِيَّ / كرَحمَتِكَ اذكُرني أنتَ من أجل جودِكَ يا ربُّ / الرَّبُّ صالِحٌ ومستقيمٌ / لذلك يعلِّمُ الخُطاةً الطريقَ / يدرِّبُ الوُدَعاءَ في الحقِّ / ويعلِّمُ الودعاءَ طُرُقَهُ / كلُّ سُبُلِ الربِّ رحمةٌ وحقٌّ / لحافِظي عهدِهِ وشهاداتِهِ / مِنْ اجلِ اسمِكَ يا ربُّ / اغفرْ اثمي لأنَّه عظيمٌ / مَنْ هو الإنسانُ الخائفُ الربَّ؟ / يعلِّمُهُ طريقاً يختارُهُ / نفسُهُ في الخيرِ تبيتُ / ونسلُهُ يَرثُ الأرضَ / سِرُّ الربِّ لخائفيهِ / وعهدُهُ لتعليمِهِمْ / عَينايَ دائماً إلى الربِّ / لأنه هو يُخرِجُ رِجلَيَّ مِنَ الشبَكَةِ / التَفِتْ إليَّ وارحمني / لأني وحيدٌ ومسكينٌ أنا / افرُجْ ضِيقاتِ قلبي / مِنْ شدائدي أخرِجني / انظُرْ إلى ذُلّي وتعبي / واغفِرْ جميعَ خطايايَ / انظُرْ إلى أعدائي لأنهمْ قد كثُروا / وبُغْضاً ظُلماً أبغَضوني / احفَظْ نفسي وأنقِذني / لا أُخزى لأني عليكَ توكَّلتُ / يَحفَظُني الكمالُ والاستقامةُ / لأني انتظرتُكَ / يا اللهُ اِفْدِ إسرائيلَ / مِنْ كلِّ ضِيقاتِهِ. 
    صلاة جماعية
    ترتيلة "يا رب ارحمنا"
    صلاة الوردية المقدسة معروضة على الداتا شو
    التأمل اليومي ... طلبة مريم العذراء
    سكوت 00 تأمل (5 دقائق)
    ترتيلة "حبُّكِ يا مريم"
    فصل من الإنجيل المقدس 00 تعليق بسيط (الأب فيليب الدومنيكي)
    سكوت وتأمّل (5 دقائق)
    طلبات ...
    صلاة القديسة ريتا في الشدائد والأمور المستحيلة:
في الشدائد والمصائب المؤلمة/ إني أستغيثُ بكِ/ أنتِ المدعوَّة قديسة الأمور المستحيلة/ وأملي كبيرٌ جداً/ للحصول بشفاعتِكَِ على جميع طلباتي/ إنقذي قلبي المسكين المحطَّم/ والمحاط بأشواك الشدائد من كلِّ الجهات/ ووفري الراحة لبالي/ والهدوء لأفكاري المضطَرِبة/ من أهوال الحوادث القاسية.
وإني أرى من المستحيل/ أنْ أحصلَ على النِعَم بواسطة خليقةٍ أُخرى/ أُكرِّر يا شفيعتي الحنون/ إنَّ لي ثقة عظيمة بكِ/ أنتِ التي اختاركِ الله عزَّ وجَلّ/ لتدافعي عن قضايانا واحتياجاتِنا/ أمامَ عِزَّتِهِ الإلهية/ مع سائر القديسين/ وبالأخص في الأمور الأشدّ صعوبةً وتعقيداً.
إنْ كانت خطاياي الكبيرة/ تجعلُ منّي حاجزاً/ مِنَ الصعب جداً إجتيازه بسهولة/ لِنَيل النِعَم والمواهب/ فأرجو أيتها القديسة العظيمة الشهرة والإستجابة/ أنْ تلتمسي لي مِنْ لَدُنِ الله الرحوم/ المغفرة والتوبة الحقيقية عن خطاياي الكثيرة/ واعداً بعدم الرجوع إليها حتى الموت/ ولا تسمحي أنْ يطولَ أنيني كثيراً/  وكسّري القيود/ وفرّحي قلبي الحزين بمنحي المطلوب يا بحرَ النِعَم/ وأجيزي الأملَ الكبيرَ نحوكِ/ وأنا أتعهد بدوري/ أنْ أشهرَ وأذيعَ في كلِّ مكان/ فعل رحمتَكِ وشفاعتَكِ الفعّالة/ أمام جميع منكسري القلوب والبائسين/ يا أيتها العروس البهيّة ليسوع المصلوب/ تضرّعي لأجلي الآن ودائماً آمين.
    حمل الصليب وزياحه داخل الكنيسة ... ثم الختام بصلاة الصليب المقدس
         ثم نتقاسم كلنا عشاء المحبة الشعبي
                 وشكرا جزيلا للمشاركين
 
صلاة جماعية

أيّها الربُّ الإله/ يا مَن أَبْدَعْتَ الكونَ والطبيعةَ والحياة/ بكلمةٍ منكَ/ ولمّا أخْطأت البشرية/ كان حبُّكَ هو الفداء بالمسيح يسوع/ الذي مات على الصليب/ وكانت القيامةُ حياةً جديدة/ إننا نتوسَّلُ إليكَ بكلِّ ثقةٍ/ أنْ تستجيبَ إلى دعائِنا/ فتُرسِلَ روحَكَ القدوس/ ليُنيرَ عقولَ البشر/ فيُدركوا أنَّ أعظمَ عطيَّةٍ وَهَبَها الله للإنسان هي الحياة/ نرفعُ إليكَ قلوبَنا/ طالبينَ غفراناً وصفحاً/ عن كلِّ ما ارتكبناه تجاهَكَ/ وتجاه الإنسان الذي يعيشُ معنا/ وتجاه ذواتِنا/ جدِّد فينا روحَ الإيمان/ لكي نواصِلَ مسيرةَ بشارةِ الإنجيل بروحٍ جديدة/ وتبشيرٍ جديد/ وطرقٍ جديدة/ واعملْ فينا لكي نُعطي ثمراً/ يكونُ شهادةً لمسيحيتِنا/ يا يسوع القائم من بين الأموات/ اجعلْ منا دُعاةَ سلامٍ ومحبة/ وكفانا حرباً وألماً/ فبحقِّ بكاءِ الأطفال/ وآهاتِ الشيوخ/ ودموعِ النِسوة/ ولهفةِ الشباب/ وتطلُّعاتِ الشابات/ وتسبِحةِ الشمامسة/ وبركةِ الكهنة/ ونحنُ جاثونَ أمامَ صليبكَ/ إرفعْ كلَّ المعانات عن كواهلِنا/ وأَعِدْنا إلى بيوتِنا ومنازلِنا وقرانا/ واجعلنا أنْ نعملَ إرادَتَكَ/ فأنتَ العطاءُ/ ونحنُ صورتكَ ومثالكَ/ لا تجعل أنْ نشوِّهَ هذه الصورة بعلاماتِ السيوفِ والحروب/ بل أجعلنا أداةً لمحبتِكَ/ وكلُّنا ثقةٌ بأنكَ تواصِلُ المسيرةَ معنا/ رغم صعوبةِ حياتِنا/ فانظرْ إلينا بعينِ الرحمةِ والحنان/ وهَبْ نعمةَ السلام والأمان لنا/ ولعراقنا الجريح وللعالم أجمع/ واملأ قلوبَنا محبةً/ فنزرع الحب حيث البغض/ والغفران حيث الحقد/ والمسامحة حيث الإساءة/ ولتكن أمّنا مريم محامية لنا من كَيْدِ الأشرار/ واجعلنا أنْ نتأمّلَ عَمَلَكَ الإلهي في مسيرة الحياة/ بصمتٍ وإصغاء/ فباركنا يا رب/ بشفاعةِ العذراءِ مريم/ ومار يوسف شفيعِ عوائلِنا/ آمين.


206
خوفنا نعم خوفنا .. ورجاؤنا

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء :
   احتفلنا قبل أيام بحدث القيامة ، وكل عام ، والقرّاء الأحبة بألف خير. حدث القيامة حدثٌ
سماوي، أثبت إيماننا في مسيرة إنسانيتنا بعد أن شوّهناها بخطيئتنا ومسيرة فسادنا وكبرياء صداقاتنا ومصالح أنانياتنا وحقد غيرتنا وبغض أفكارنا وقتلنا أبرياء الحقيقة، إنها الإنسان العتيق كما يقول بولس الرسول، فكانت القيامة ، الإنسان الجديد (افسس 24:4)  الذي فيه يتنازل كبير الزمن ويتّضع ويطلب الغفران من فقير الحياة، ويعلن أمام الجميع أنه لا يستحق شيئاً، بل ومهما كان مستحقاً فليس ذلك من فضله بل من مشيئة رب السماء... إنها دعوة ليظهر بياض أفكاره وحقيقة محبته وفساد صداقته وزيف ثرثرته وما ذلك إلا حقيقة القيامة في زمن عولمت الدنيا مسيرتها بفساد حامليها وطغى الشيطان واستعبد العالم والقلوب والشعوب، ومهما كان فالله خير العابدين ،  ليس إلا!.

   بعد مائة عام :
   السادس من آب 2014، يوم ليس كبقية الأيام وليلة ليست كبقية الليالي، يوم الإبادة بليلها، لا يمكن أن ينساه المرء من أهل سهل نينوى ومواطني القرى المسيحية المسالمة والمكونات الأخرى، فيه تعرضوا إلى طرد ونهب وتهجير وقتل في إبادة جماعية لم يسجل مثلها التاريخ إلا قبل مائة عام حيث الإبادة الأولى (1915-1917)،  التي أودت بحياة مليوني مسيحي بأرمنه وبمكوناته. فبعد مائة عام لا زال شعبنا المسيحي يدفع ضريبة الوجود والحياة، ضريبة الحمايات والسياسات البائسة، والنهج الأصولي المقيت، وبسببها أضعنا حتى مقدساتنا بأحجارها ومعابدها وهياكلها وأصبحنا حَمَلاً نُذبَح متى يشاؤون إلى أن أوصلونا إلى داعش الإرهابي وأقرانه البائسين الذين تفننّوا في القتل والذبح والسبي والتهجير ليس فقط في بلدنا بل طالت مسيحيينا في شرقنا وفي أفريقيا، في نيجيريا كما في الصومال ووصولاً حتى كينيا وأثيوبيا ، فنحن كنا ولا زلنا نحمل صليبنا ليس فقط في أسبوع آلام واحد بل أصبحت الأيام لنا أسابيع وأسابيع آلام، وفي كل ذلك بقي إيماننا بالمسيح الحي حامينا وشاهدنا ومقوٍّ لمسيرتنا مؤمنين بربنا الذي قال:"ثقوا فقد غلبت العالم" (يو33:16)، ولنعلم أن الله معنا وهو مع المتّقين .

   الخوف ،  نعم الخوف: 
   الخوف.. حالتان في الصحيح ، حلم العودة يراودنا، والرحيل يكتب محطاته، نحن، المهجَّرون، النازحون، كلنا قد وقعنا في الفخ الذي نُصب لنا، ولا زال الزمان وغابره ولحد اليوم وساعته في صراعات طائفية مقيتة، ومذهبية مميتة، ودينية بفتواها، وفي هذه كله لم يكن لنا ولن يكون لنا ناقة ولا جمل ولكن ابتُلينا بجيراننا، إنهم يرسمون لنا مخططاً ويكتبون لنا علامة أنْ اتركوا، فالتراب بل الوطن ليس لكم، ويمحون من أفئدتنا حبّه وميزته، ويكسرون أعمدة البناء والبقاء، التشبث والثبات في أرضنا والتي تقيّأَتْنا رغم حبنا لها، ولا زال أملنا وشوقنا في العودة لاستنشاق نسماته، ورائحته لا تزال _ نعم لنا _ شهيق أنفاسنا ينشد عودتنا وإنْ كانت مؤلمة وأليمة، فنحن في عودتنا متألمين ولأجلها فاعلين، وإن كان الألمُ أشدَّ من ليلة طردنا، فالله رحيم وأمين سيرافقنا في مسيرتنا ، إنه السبيل المستقيم ولو كره الكارهون .
   الخوف .. من المؤكد أن العودة ستكون لوحة خوف حقيقي لا يرسمها لنا إلا خيالنا،ولن تراها إلا عيوننا ، ولن نبكي لها إلا بدموعنا ، الخوف من كل شيء، والسؤال سيكون حينها: هل دورنا مفخَّخة؟، هل مداخلها مفخَّخة؟، هل شوارعنا وأزقّتنا مفخَّخة؟، ويزداد السؤال: هل العناصر الأمنية ستكون أمينة على حمايتنا بعدما سلّمت مساكننا وأملاكنا ومخازننا ومعابدنا بغمضة عين ، وبمزمار خافت صوته،  في ليلة لا تضاهيها ليلة في الهروب والخوف والفزع وصراخ الأطفال ، وبكاء النساء،  وتأوهات العجائز (العجزة)،  وكبار السنين ،  وفي حالات بائسة ويائسة ودون أن يرجف لهم جفن، وهذا ما سيجعل الثقة وعنصرها متزعزعاً خوفاً من أن الحالة ستتكرر ثانية، بصورة ناقمة وبرجال غير الذين كانوا وستكون الكارثة أكبر من سابقاتها وعزرائيل الأصوليين سيلعب حُرّاً طليقاً فيبيد ويهدم ويكسر...فنحن اليوم في قبضة الارهابيين والشياطين إنه زمن الشر بالحق والحقيقة، زمن قبضة الشيطان على العالم البائس .
   الخوف .. ويُعاد السؤال ثانية: هل ستكون الأصوات من أجل العودة عملاً إعلامياً أم رسالة سياسية أم جواباً تلفزيونياً. فالخدمات أساسياتها هُدمت وفُجّرت، والسرقات طالت حتى الزوايا المظلمة في الطابق العلوي كما في السفلي، وحتى المخازن والصومعات بأديرتها ومقدساتها، بكتبها وسجادها، وأزاد الظلاميون في حقدهم حتى إبادة كل شيء، فعطية الكهرباء وأنابيب المياه ومضخات الحقول والمزارع، فكل شيء في صناديق القمامة، وأصبحت جبال تأوي الذئاب والقوارض والجرذان والحشرات القاتلة ولم يبقَ لنا أن نعلن إلا أن احتلال الشر طال كل شبر وكل بيت وكل شارع، فلم يبقَ حتى ما نعلن ونبثّ إشارة وذبذبة فأبراج الهاتف قُلعت وأُذيب رصاصها وسرق فولاذها، ونُبش الكيبل لإخراج هاتفه ولإحراق محتوياته، فلا بثّ ولا توصيل، لا ضوء ولا تحميل، لا ماء ولا إسالة، لا بلدية ولا وحدات، لا أمانة ولا منظّفين، خوف وجنون إنها مملكة الشر، إنها جوقة الشياطين... والسؤال يختم بقوله: هل نحن في صراع بين الخير والشر؟، هل العالم كتب نهايته؟... لعلّ وعسى! نعم ،  وكان الله خير العارفين.
   الخوف... باخديدا وقُرانا ومدننا في سهل نينوى، معالمها دُمّرت، مراقدنا ومزاراتنا ، اثارنا ، كلها في مجاهل الموت والدمار والتهديم ، ونُهبت آليات البلدة باسم الغنائم ،  وفُكِّكت مكائنها وحُلّت مساندها، كيف سيعود أصحابها بعد أن استنزفوا جميع مدخراتهم وما ملكت أيمانهم بمال الدنيا وليس بحريم اللهو، حيث الهجرة كانت ملاذهم والنزوح كان إيوائهم، فالشهادة قائمة على أن مقتنياتهم بعثرتها الأيادي السوداء أصحاب القلوب الغليظة والنيات الشريرة والأدمغة الإرهابية، فلا أثاث ولا موجودات ولا شيء، أموال جُمعت في سنين عمر كامل وممتلكات أفنوا اصحابها أعمارهم في وجودها ولمهّا، ماذا ستكون الحال؟، بل كيف ستكون؟... لا أحد يكهن بها إلا حاملوها ومرضاها والتعويض حينذاك يكون الفيتامين الأكيد لفقر الحياة بعصير التعويض للمتضررين جراء العمليات الحربية والعسكرية إضافة إلى ما دمّره الإرهاب الشرير بداعشه وهذا ما يحتاج إلى إرادة صلبة في جهدٍ مضنٍ يمنح منحاً لمشاريع تكون آية في إعادة الحياة لضمان البقاء والاستمرار، وهنا يجب أن تلعب المنظمات الإنسانية في الإغاثة الدولية وهيئات بلا حدود دوراً كبيراً وأساساً في أن تكون يد الخير والعون.ولا نحتاج للمصالح المزيفة لكبار الدنيا الفاسدين والذين قتلوا حقيقة الحياة بكبريائهم المزيف وحسبنا الله وهو رب العرش العظيم .
      الخوف... مشاهد مؤلمة سنراها كما سبقنا فوصفناها، وربما يبقى السؤال والذي من أجله كان داعش وحاضنه، كان إرهابه وشروره، أن تتصرف لبيع تربتنا وعرض أملاكنا ودورنا للمزايدة بدولار مزيَّف، وبدينار بخس، فالداء نفسي ولا دواء إلا الرحيل، والأكثر ألماً أن تباع، فهم من أجل ذلك حصل ما حصل وحلّ ما حلّ، ومن أجل ذلك أعلنوا تحريرها، واللعبة الديموغرافية نتيجة حتمية شئنا أم أبينا، فلا من يحمينا ولا من يهيب بنا لإعادة أصولنا وجذورنا مرة أخرى، فالساحة السياسية مشتعلة، والمصالح تتقاسم كبار دنيانا وأسياد زمننا، وهم في اجواء غير أجوائنا ، والبسطاء في حيرة من أمرهم، فتموت العادات وتُمحى التقاليد بعد أن أُحرقت كتب ثقافتنا وإشحيم صلواتنا، وبيعت مخطوطاتنا ، وطُمرت حضارتنا ومُحي تاريخنا ، كي لا يقول كائن ، انهم كانوا هنا يوما ، وهذا أمر شيطاني لتغيير نسيج بساطنا باجتماعيته وإنسانيته، وأصبحت تركيبتنا فراداً أو جماعة متباعدة ومتصارعة ومتشتتة. نعم، الداء النفسي وحالة أحوالنا إما يقوداننا إلى الموت والانفجار وإما إلى المرض وداء العار، والحكاية سنحياها ونشاهدها وسنسمع أنين المبتلين بها،إذا ما أطال الله في أعمارنا بنسيم أنفاسنا،  والتي أخذت مسارها في النفوس وفي الواقع ، ولكن الله فاحص الكلى والقلوب ، بكل شيء عليم.
   الخوف... في الجانب الإيماني والمسيرة المسيحية ربما يتخلل الشك أو يقوى لدى البعض، فللوازع الديني في مثل هذه الحال يلعب دوراً مزدوجاً ربما سيأخذ مَنحاً قوياً رغم الألم والمعاناة أو يقلّ لدى الآخرين، ومن المؤكد كل ذلك حسب المعطيات آنذاك والتنشئة كعامل في الحكمة والوعي والهوية والانتماء، وفي هذا يجب على رجال الكنيسة أن يلعبوا دوراً مسؤولاً وكبيراً، ملؤه المسيح الحي في التجسد في قلوبنا ومسيرة حياتنا من أجل كلمة المحبة والمسامحة والصلح وقبول الآخر المختلف،  من أجل نبذ كل خلاف نشأ وينشأ، والعمل من أجل وحدة الُّلحمة الوطنية بين الأبناء المختلفين، وحمل الرسالة المسيحية في حب الأعداء لأجل توبتهم، فالمسيح مات من أجلنا كلنا وهذه أقدس رسالة يحملها المسيحي في شهادة لإيمانه وعملاً بإنجيله المقدس، فنحن لا نحمل حقداً إلا لأعمال الشر والموت ولا يجوز أن يكون لنا وزرة مثل وزرتهم، فالرب قال:"أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا" (متى 44:5). وكان الله غفوراً رحيماً .
   الخوف... عن ماذا سينتاب النازح على أثر الصدمة والواقعة الأليمة التي حلّت، بما سيعانيه وبما سيلاقيه، من أحداث عبر أشخاص، وهذا ربما سيدعو السكان إلى نزوح عكسي حينذاك سيكون المصير مؤلماً بل أسوأ بسبب حضور إرادات وغايات انتقائية، ربما كانت دفينة أو كانت مبيتة وربما هذا يدعو إلى اتهام الجماعة بِقُراها ومدنها وساكنيها، وننسى أن الفرد لا يمثل الجماعة، وحالة التعميم لا يجوز فرضها أو تسميتها. فالمسيحية تدعو كل واحد منا حمل أخطائه ويجب أن نميز ونفرز بين الصالحين والأشرار الفاسدين والأبرياء ونكون علامة خير للحقيقة من أجل إيجاد الحلول في التقارب بين الناس وفرزها كي تكون الحقيقة ليس في زارع البغض والكراهية والتفرقة بل في حاصد الغفران والمسامحة والقبول ولله الحمد محب الابرار والصديقين .

   لا خوف ولا يأس
لا ينبغي على المسيحي أن يستسلم لليأس ، انه كلام قداسة البابا فرنسيس (عظته ليوم الخميس 27 نوفمبر 2014 ، في دار القديسة مارتا بالفاتيكان) . واضاف ، عندما تكثر الخطيئة تضعف القدرة على المواجهة ويبدأ الضعف والانحلال وهذا ما يحصل مع الاشخاص الفاسدين ، فالفساد يمنحك اولا بعض السعادة والسلطة ويجعلك تفتخر بذاتك فلا يترك مكانا للرب ولا للارتداد ، انه فساد الخطايا المتعددة ، فساد الروح الوثني وروح العالم ، انه أسوأ فساد ، وان هذه الثقافة الفاسدة تجعلنا نشعر بالاكتمال والاكتفاء كما لو اننا في الجنة ولكنها عفنة ومنتنة في داخلها ، فالرسالة التي تحملها الينا الكنيسة ليست رسالة خراب وإنما هي وعد ورجاء فربنا يسوع يقول لنا بوضوح " واذا اخذت هذه تحدث فانتصبوا قائمين وارفعوا رؤوسكم لان افتدائكم اصبح قريبا " (لو 25:21) ، وعندما نفكر بالنهاية مع خطايانا وتاريخنا الشخصي لنفكر بالفرح الذي دُعينا اليه ولنرفع رؤوسنا ، صحيح ان الواقع اليم وهناك العديد من الحروب والكراهية والحسد والفساد ولكن نطلب من الرب نعمة ان نكون دائما مستعدين للفرح السماوي الذي ينتظرنا .

   الخاتمة . المسيح رجاؤنا:
   ومن المؤكد أن الحالة التي ستواجهنا تدعونا إلى أن نكون حكماء وعقلاء، فمجتمعاتنا العائدة لا تحتاج مع احترام المسمّيات ، إلى أحزاب تنهش بأجسامنا وتسرق أولادنا وانتماءاتهم، ومنظمات وجمعيات تكبر على فقراتها، وحركات تحتكر لنفسها مال غيرها وتحلل ما تشاء وتستهزئ ببسطائها، ومجموعات تفتخر بكبريائها كما لا تحتاج الى كبار يدّعونا انهم هم البيه ولبعض من أَحبَتِهم وإن كانوا من الفاسدين ، بل الى خدام بين شعوبهم ( لو27:22) ، وكل واحد منا له مدلولاته وغاياته ناسياً أو متناسياً مأساتنا ونزوحنا ومدّعياً أن ما حصل كان حدثاً ومضى، وعلى الحقيقة ما تحتاجه أن تشكل في كل محلة أو زقاق أو قرية أو مدينة أو محافظة مجلساً محلياً يقوده العقلاء والحكماء لوضع حلول أمينة وأكيدة وتابعة لكي يكون دعامة لجميع الوجهات الرسمية كي تطبق القوانين من اجل تفعيلها بعدالة الحقيقة واحترام المكوّن مهما كانت درجته ومكانته ، فلا نيأس فالله نصير البائسين ، فلا نخف بل لنملأ قلوبنا علامات الرجاء ورموز الأمل والحقيقة ، فالرجاء تاريخ أمين وحصن منيع ، أما الخوف ما هو إلا حالات بائسة .. فلا نخف فالمسيح الرب معنا ، وهو رجاؤنا ،  وسبق وأعلمنا أن لا نخف . إنه الرحمن الرحيم،  نعم وآمين.


207
عذراً... تلك هي الشهادة الأمينة!!
المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
دلائل عديدة تشير إلى الآتي إلينا، بعد داعش، والمجتمع الدولي، أمام ما    حصل وما يحصل، من المؤكد أنه يخطط لمرحلة ما بعد داعش. فبعد الربيع العربي المزيّف والداعش الإرهابي، ماذا سيحصل لنا؟، وما هو الخفي الذي لم
يُعلَن حتى اليوم، بل حتى الساعة؟، وماذا بعد تهجير المسيحيين والمكونات الإيزيدية والشبكية وأخرى؟، ماذا بعد سلب ونهب بيوتنا، ومساكننا وأمتعتنا،  وطردنا من مساكن قضينا فيها مسيرة أيامنا، وفيها زرعنا أمل أجيالنا وأملنا، وكان جيراننا أول الفائزين بالحواسمية ، وأقرباء إنسانيتنا، ومَن كان يدّعي يوماً، أنهم حماتنا بعروبتهم الأصولية أو بأخرى، لأنهم أول جار، وأصبحنا أمام مستقبل مجهول كُتب لنا، فكنا حروفه وعلينا تطبيقه... إنه شريعة، وأية شريعة، إرهابية بالحق والحقيقة، بالكلمة والواقع، وهذا سرد قليل من حيوانية الإرهاب، وشريعة الغاب، وأمطار الربيع العربي المزيفة.

  شهود وأصلاء
نعم، نحن مسيحيين ولكننا لسنا مسيحيين من أجل ذواتنا بل من أجل العالم، فالنور ليس نوراً لذاته كما لم يكن المسيح لذاته. لقد كان واضحاً في كلامه "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعلّموهم" (متى 19:28) فأنتم شهود لي، شهود الحق وليس الخضوع والخنوع أمام قياصرة المال وبائعي الملكوت من أجل التكفير في ولاية، وإمارة مليئة  بشهوة القتل والانتقام، شهود للملكوت،  وليس لكلمات خاوية ولملوك مزيفين، شهود حتى الشهادة... هذا هو دورنا، فلماذا نخاف ساعة الموت، ولكن أو ليس من أجل تلك الساعة، ساعة الحقيقة مدعوون!، نعم ساعة المحبة والحقيقة ما هي إلا ساعة الموت ، بل ساعة الخلاص ، ومن اجلها جاء ربنا (يو27:12)  ولِمَ التعجب، ألم يلبس إلهنا ضعفنا وحمل الصليب ؟، ألم يتجلى في هشاشة سر الغفران؟.
نعم، قلتها وقالوها وكتبها التاريخ ، ويدركها الأعداء قبل آل البيت إنّ المسيحيين أصلاء، نعم أصلاء ونسيج في الأصالة، ولا يجب أن يُنظَر إليهم بقصر النظر بل بحقيقة وأصالة الوطن والمواطن، فهم شركاء لخيرات الوطن ومع جميع أبنائه، والحقيقة إنهم ليسوا أقليات ولا يجوز معاملتهم بهذه النعرة البائسة كما ليسوا من الجاليات أو طوائف فهم لم يأتوا استيراداً عاماً أو خاصاً بل هم في ضمير الوطن وحقيقة الشعب، فلا يجوز الاعتداء عليهم أو طردهم وتكفيرهم، كما لا يجوز تسفيرهم وتهجيرهم وترحيلهم بل أن يكونوا وحدة واحدة، وبحرية القانون والأصالة أن يمارسوا إيمانهم لإنجيلهم وعباداتهم لمسيحيتهم. فالإيمان عقيدة يختارها الإنسان بهبة الحرية، إنها هبة من رب السماء وليس فضلاً أو مكرمةً من حكّام هذا الزمن البائس أو كبار الدنيا الزائلين وبتسلسل عناوينهم أو رؤساء المنابر وبأعدادهم الرقمية والمسؤولية.


   حالنا وزمننا...
حالنا يزداد سوءاً، وزمننا زمن الأزمات والهزيمة والفساد، ليس هزيمة الموصل وسهل نينوى، وليس فساد السرقة وما شاكلها فحسب بل هزيمة الأخلاق والصدق والحقيقة والثقافة والتاريخ والشجاعة، وفساد المصلحية والطائفية وعقودها وتبرئتها وأوراق المحسوبية وأسطر الكبرياء والأنانية لقتل الأبرياء وهم في دورهم ساكنين، وفي حالهم سالكين، وفي طريقهم سائرين، ولشهادتهم حاملين، ولقيم إنسانيتهم مبجّلين، ولكن صراع الحقيقة سيبقى شامخاً مهما اخترع الأشرار ما يسيئ إلى الآخرين وعقيدتهم ومسيرة إيمانهم وغيرة رسالتهم ووفاء عطائهم،من كسر الصلبان وتزييف الصور ونشرها وهدم الكنائس،  فبين الهزيمة والحقيقة صراع وأي صراع، صراع طائفي ومصالح تتآمر بعضها ضد بعض من أجل تسجيل الفساد آيةً، والكذب حقيقةً، ومن الزور شهادةَ حسنِ سيرةٍ وسلوكٍ، بمساحة عباءاتهم، وعلوّ أياديهم، يسيرون في أسواق المدينة ويتربّعون في ساحاتها ليعلنوا الزيف والكذب والمحسوبية والطائفية حقيقة للتجارة البخسة لتدمير الآخرين الأبرياء والمختلفين وهذا ما أوصلنا إلى حال لا نُحسَد عليه بل كله سوءاً، ويأتي السؤال: هل نبقى نطمطم على حقيقة مزيفة؟، وهل مَن يسأل ومَن يجيب؟، وهل سنشهد يوماً لأولئك المزورين والكذابين والفاسدين والمزيفين في أقفاص الاتهام وتُعلَن الحقيقة من على منارات الزمن، في الجوامع والمساجد ودور العبادة، عبر البلاد وعبر البحار والمحيطات والأوطان؟، أم أن كبير الدنيا _ وإنْ كان فاسداً _ يبقى صنماً معبوداً ومبجَّلاً وله يجب الانحناء، ولسلطته الخضوع والخنوع، وله يُنشَد "بالروح بالدم نفديك يا بيه"... فبئس الحال وبئس الزمان حيث الفاسدون يتسابقون في نهب حسابات الوطن في وضح النهار، باسم فقراء الدنيا،  وبائسي الحالة،  ومهجري الحروب، إنهم من المفلسين، والرب يسوع قال:"تعرفون الحق والحق يحرركم" ( يو32:8)، وهو الذي قال للخادم الذي لطمه أمام منبر قيافا:"لماذا تضربني، ألأني قلتُ الحقيقة؟" (يو22:18). فحقيقتنا إننا اصلاء الوطن وأبرياء المسيرة في عيش الإيمان بوفاء وحمل الرسالة بوداعة كي نكون أمناء... ليس إلا!.

   انتماؤنا وإيماننا
إن انتماءنا الديني انتماء إلى إيماننا بالمسيح ومسيرة تراثنا وحقيقة تأريخنا انتماء إلى عقائد عرفناها خلاصية لمسيرتنا ضد الخطيئة وشرائع مُنحت لنا من أمّنا الكنيسة انطلاقاً من حقيقة إنجيلنا، في عبادات ووصايا أُعطيت لنا عوناً كي يُكتب لنا الخلاص، بقيم وفضائل وأخلاق لجمال أجسادنا وحقيقة أفكارنا وبراءة أرواحنا، وهذا كله يتجسد في الإنسان الحامل أيضاً لحقيقة المحبة والسلام واحترام الآخر المخالف، لأن إيماننا يعلمنا أن إلهنا لا يحتاج إلى مَن يخدمه بل إلى مَن " يخدم الإنسان أخاه الإنسان" (متى28:20) ، وفي هذا كله بل في هذا فقط يكون قد خدم الله خير خدمة، وفي ذلك تكون الألفة هي أساس الانتماء في التعاون مع الشريك الآخر من أبناء الوطن الواحد وعلى قاعدة المساواة والاحترام المتبادل، ولكن المخيف حينما يصبح الانتماء الديني مكوناً أساسياً في الوطن فقد يصيبه الخلل آجلاً أم عاجلاً.


   خطابات وبيانات
ألا يكفي ما نسمعه من خطابات وبيانات وأحاديث عبر الهواء، فلا آذان صاغية ولا عيون رائية أمام صور كبار الدنيا والزمن. فاستعراض الضحكات والبسمات أمام الكاميرات ينقل لنا أخباراً مزيفة، وإن القرارات قد أينعت وأثمرت وحان قطافها، والحقيقة هي غير ذلك، فالحال لا زال في شرقنا مأسوياً ولا زلنا متألمين، وكلنا نفتش عن ملاذٍ آمن وعن بلدٍ يأوينا وعن قانون يحمينا، فقد اتُّهمنا بالكفر والتكفير، بعبادة الأصنام وتابعي النصرانية وعدم التوحيد، ليحلّلوا قتلنا، ويخلو شرقنا منا، فالشرق للعرب والإسلام والغرب للمسيحيين النصارى والكفار... إنه الإرهاب في حقيقته والإهانة بكبريائها، إنه فساد يضاف إلى فساد المال ألا وهو فساد في القيم والأخلاق، إنها الإهانة بضميرها وتهمة بعمق كنايتها، وأمام هذا كله نتساءل: هل نحن أبرياء من دماء أبنائنا؟، هل غسلنا أيدينا كما فعل بيلاطس؟ (متى 24:27)... أم ماذا!.
   
   مصالح وسلطة
من المؤسف أن تكون مصالح السلطة والاستعباد والبترول أهم من مصلحة الإنسان، كما من المؤسف أن يكون البترول العربي والإسلامي أغلى من الإنسان المسيحي أو المسلم المنفتح أو المكون الآخر، فخيرات بلادنا في خدمة إنساننا يجب أن تكون، وليس لمصلحة المحتل... وهذا ما يجب أن يكون. والعكس هو الإسلام العربي والأصولي والذي ينادي بثقافة وكراهية الآخر ونبذه فتكون خيرات البلاد لهم وليس لغيرهم لأنهم كفّار الدنيا. فعملية إدانة قتل المسيحيين والمكونات واضطهادهم عملية ضد الله وضد الإنسان وضد أديان السلام، فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى فتاوى تكبر في نفوسنا وتخيفنا حتى من ظلّنا، فالأصولية لا زالت مسؤولة عن تعميم ثقافة البغض بين العديد من المذاهب الإسلامية والديانات الأخرى في غاية منهم لقتل الآخر البرئ، وهذا ما جعل الانقسامات والخلافات الدينية ما بين المسلمين أنفسهم تأخذ مسارها بين أبناء المنطقة إضافة إلى الخطاب الديني المتشدد الذي بدأ يأخذ مساحة أكبر من استحقاقه، كما تكاثرت الحركات الشاهدة والمؤيدة للعنف من أجل تحقيق أهدافها. إنهم يكفرون الأفراد والمجتمعات تتبنى الإرهاب سبيلاً وحيداً للوصول إلى ما يصبون إليه، فتخاف الصلبان وتكسرها، وتهدم الكنائس وتقتل المصلّين فيها، تسرق وتستولي على أموال المؤمنين كحالة كتبها الشرع وقرروها بالسيوف وقطع الأعناق ولم يبقَ شيء إلا أن يقال للخالق (سبحانه وتعالى، عذراً وسماحةً) "عليك أن لا تخلق مَن هم كفرة ونصارى ومشركين"... ليس إلا!.

  مصيره ومصيرنا
سبق ربّنا وأعلمنا أن مصيرنا لن يكون أفضل من مصيره "سيخرجونكم من المجامع وستأتي ساعة يظن فيها كل مَن يقتلكم أنه يقرّب قرباناً لله" (يو 2:16)، وهذا ما تحقق في المسيح، وهاهو يتجسد في مسيرة حياتنا، إنها حقيقة شهد لها المسيح ليعلّمنا أن نشهد بدورنا للحقيقة ولا نخفي في أعماقنا وما يجعلنا أن ندمّر ونقطع مسيرة الأبرياء أو نشكّ بمسيرتهم غيرةً وحسداً وكبرياءً ، وهم أمام ربهم يرزَقون. فالمسيح حَمَلُ الحقيقة، والحقيقة اليوم حَمَلُ الإيمان، والإيمان قاعدة مسيحيتنا، ولنا الثقة أن المسيح فادينا. مهما كانت الحقيقة مزيفة في أفكار الطائفيين والمَصلحين في المحسوبية والمنصوبية والكُرسَوية، فالمسيح يبقى اللاهوت الناصع في القيامة المجيدة، وهكذا أبطال الإيمان يموتون وهم يشهدون ضد الحقيقة المزيفة التي يتغنى بها المتربعون على سلطان الزمان ولكن ليس ذلك نهاية المسيرة، فالمسيرة الحقيقية للابطال هي الشهادة لقيامتهم على مثال قائد المئة الذي أعلن "بالحقيقة كان هذا ابن الله" (مر39:15). فالقيامة آتية لا ريب فيها، وقول الحقيقة ، كما يقول المهاتما غاندي ، في وجه الاقوياء ، أمر لابدّ منه وقد أتت الساعة، فاليوم نحياها عبر آلامنا وشهادتنا لحقيقتها أمام قيافا الدنيا (يو22:18) وحنّان الزمن (يو24:18) وبيلاطس الفاسد ، وهيرودس المراوغ... إنهم ثعالب... ليس إلا!.

  حبنا وسلاحنا
سلاح الحب هو ينير هويتنا، نعم اخترنا هويتنا ونتألم كما تألم تائهاً وأن نُذبَح كما ذُبح وأن نُصلَب ونموت كما صُلب هو فنستحق حينها أن ندعى مسيحيين ليس حروفاً على ورق بل شهادة للهوية. فالهوية ليست شهادة نحملها بل نحملها من الغائب إلى الحاضر، من المسيح الذي اعتمذنا باسمه إلى مسيرة حياتنا التي نحياها في أعمارنا، وإذا صعدنا إلى السماء وجدناه وحتى إلى الجحيم فهو هناك. نعم، لقد دخل المسيح جحيم بشرنا فأنار ظلمته وحسب التلميذ أن يكون مثل معلّمه (متى 25:10)، فعواصف الشتاء لا يقبلها إلا الغفران وربيع الحريات لا يدخله إلا الأحرار والأحرار هم الذين يشهدون للحقيقة وليس لمصلحة الطائفية والمحسوبية والمعرفية وإنْ كانوا أقوياء بظهرانيهم، فالظلم اليوم يغطي سماء وجودنا ولا زلنا نتنفس وننام في حين يذهب المعلّم ليصلّي فقد قال لتلاميذه:"أمكثوا ههنا" (متى 38:26)، وبين هنا وهناك يجب أن نصير حيث سجد المسيح ونصب لنا صليبه جسراً تعبر المحبة فوق وادي الموت الذي ابتلعنا بعولمة فاسدة، فالبابا بندكتس السادس عشر قال:"أترك الصليب لأعانق المصلوب"... هذا هو سبيل الحقيقة في عالم الدنيا المزيف، فالمأساة يومية وعلينا أن نعيد قراءة هذه المأساة بمقياس مسيرتنا، فلا يجوز أن نحب مصالحنا كي ندفنَ أبرياء الإيمان، ونفضّل أفكارنا من أجل مصالح مزيّفة، كي يقال عنا ما هو في الكذب والنفاق ، هو الحقيقة ، بئس مثل هذه الشهادة ،إنها إرهاب الثرثرة كما يقول البابا فرنسيس ( سانت مرتا 23 اذار 2015) ، بل علينا ان نشهد وبصوت السماء ، ما أجمل حقيقة الحياة ، كما علينا أن نحلّ محلّ القيرواني في حمل ثقل الصليب، ولنعلم جيداً أن كنائسنا لا تُعرَف بصلبانها بل بحياة سيدها في مؤمنيها، بمصلوبها، فالصليب بحمله يرسم لنا لوحة الفداء والمصلوب بموته يُتِمُّ لنا مخطط الله الآب في سر التجسد والفداء،  فلنكن صوت الحقيقة في زمن الهزيمة والفساد، تلك هي الشهادة الأمينة ، نعم وآمين.

208
أحبائي المُهجَّرين ... الحقيقة لا تموت

المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
تُجابهنا اليوم تعقيدات الحياة بفروعها وساحاتها، بوسعها واختلافها، وأمامها تصيبنا الحيرة،
وينتابنا اليأس، ويزداد همّنا ويثقل نير حياتنا ويعلن السؤال وجوده، ويدرك جيداً أن لا أحد
 يطلق عنان الجواب ليقول لنا من أين نبدأ وإلى أين ننتهي..هل نبدأ بالداعش وإرهابه، أم بالهجرة وضياعها، أم بالوطن الجريح ودمائه، أم بالنزوح وآلامه أم بالمستقبل وجهله أم باقتناء المال وفقدانه، أم بفساد الزمن وعقائده، أم بقتل الأبرياء وسياساته، فنحن نسأل اليوم ولا أحد يشفي غليلنا ولو بحقيقة بحجم الخردل تفرز مفارق حياتنا، وتهدّئ روعنا، ومسيرتنا ترسم الطريقَ التي نسلكها لعلّ وعسى سنجد ضالّتَنا ونعود إلى حقيقة إيماننا ومحبتنا لأرضنا، فترانا لا نعرف أين نمضي وأين هو الاتجاه، فنصاب بالأرق ليلاً من خوفنا وبالوهن والضياع نهاراً من عطبنا، وربما يصدق في ذلك ما قاله يوماً هنري كيسنجر:"إن كنت لا تعرف أين تريد الذهاب فكل طريق سيذهب بك إلى لا شيء".

ساعة الحرب
   نعم لأننا لم نكن نعرف أية طريق نسلك ولذلك لم نحصد غير الفشل وكل شيء توقف في مسيرة حياتنا. فساعة الحرب قد أُعلنت دقاتُها ضدنا وضد الإنسان والضآن وضد كل ما هو مسيحي ونصراني (هكذا أسمونا)، وبوق العساكر قد أعلن موافقتَه، وهاونات الشر بدأت تدكّ مرابَعنا وخرابها ملأ المسكونة وكل ذلك كان في مخطط لم نشهد له وكنا نائمين عن إدراك عمقه وأسراره وهاملين وقوعه، فأكلنا وشربنا ورقصنا وبنينا وزوّجنا وتزوّجنا وزرعنا وحصدنا، وكل شيء توقف وأزاد في فشلنا سؤالُنا لأنفسنا عن ماضي ارتكبناه بحقنا بعدما تركنا ديارنا وقُرانا ومساكننا وهرولنا مثل غنم أمام ذئاب الأصولية والإرهاب الشرير، وعصاباته وزواياه ،  التي لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية والتي أجرمت بحقنا جميعاً يا أبناء أمتي.
   وها نحن نلحف أرض الله الواسعة بِحَرِّها وبردها، بمطرها وثلجها، بقساوتها وعنفوانها، بجوعها وعريها، بغربتها وعبوديتها، وهذا ما يذكّرنا بربنا يسوع برفقة يوسف ومريم وصوت هيرودس يلاحقهم إلى حيث مصر الآمنة (متى 13:2)، مصر الفراعنة، إلهة النيل الأبدية، وفي كل ذلك أستُبيح قتلنا وهُدرت دماؤنا ونُهبت منازلنا وقُتلت مواشينا وأخرى بيعت في سوق نخاستهم وأسواق الحرامية وحلّلوا كل حرام فكانت آياته قد أُنزلت علينا ولكنهم لم يدركوا أن المسيحية لا تبالي بكنوز الأرض وخيرات الدنيا (متى 20:6) بل بحقيقة السماء وفي ذلك كانوا وسيبقون من الأشرار، ومع المسيح لسانُ قولهم يسمعهم "لرب السماء تسجدون وإياه وحده تعبدون" (متى 10:4).

الرب يرافقنا
   من المؤكد أن المسيح الرب وقع مراراً تحت عبء الصليب (متى 32:27) لكنه لم يرزح تحت نير الألم ولم ييأس من أن قوة الله هي ثقته وإن الله معه على مواصلة الطريق، فكان ينهض ويتابع مسيرته. ولنعلم جيداً أن الرب يرافقنا على الطرق، والضعيف منا يحمله على كتفيه "فَكَتِفَي الرب القائم من بين الأموات مكان يتّسع للجميع" هكذا يقول القديس فرنسيس السالسي. فالوقوع _ كما حصل لنا في الهجرة الحالية والنزوح _ أمر طبيعي في محاربة الشر لنا والإرهاب ولكن ذلك لا يجوز أن يتركنا في اليأس أو يتحكّم بنا وفي جميع المجالات الوطنية منها والمهنية والعائلية والأخلاقية والروحية. فإيماننا يعلّمنا أنّ درب الصليب انتهت بالمسيح إلى القيامة، فإنْ شئنا أن يكون نصيبنا مثل نصيبه ينبغي أن يكون تحمّلنا مثل تحمّله إبتداءً من بستان الزيتون، إذ أن واقع موت المسيح على الصليب وقيامه يصيبنا جميعاً نحن الذين نحمل بذور الملكوت (متى 28:26-29). وبولس الرسول يقول:"إن مجد الله يتجلى في الصليب" (1كو 2:2-5)، والصليب هو قمة المحبة وحكمة الله ومحور الخلاص الذي هو نعمة الله المجانية للبشرية قبل مجيئه وفي مجيئه وبعده.

صليب المسيح
   نعم، لنعلم جيداً أن شجرة الصليب تُغرَس في عظامنا اليابسة الجافة فنقول "لا للموت" لأن الصليب فينا ما هو إلا شجرة الحياة وثمارها الحب، والحب أقوى من الموت، والمسيحي هو الذي يحمل صليبه مع المسيح بروح الاشتراك في سرّ الفداء وبحمل صليب غيره، مثل المسيح، بروح التضامن والمحبة. وهو حينما يحمل صليب غيره يحمل صليب المسيح لأن صليب الغير وصليب المسيح صليب واحد. وعلى حد قول القديس أوغسطينوس "مسيح آخر" يحمل صليبه وصليب قريبه لأن صليب المسيح صليبنا وصليبنا صليب المسيح. ونحن، نعم، وإنْ كنا مهجَّرين نعرف أن الله أمين ولا يدعنا نُمتَحَن فوق طاقاتنا بل يجعل أيضاً مع المحنة مخرجاً لتستفيقوا أن تحتملوا (1كو13:10)... فلابدّ من حمل الصليب وعبور نفق الموت.

وصية جديدة
   كثيرون يكفّروننا ويتاجرون بضمائر الشعب وكما يشاؤون، وكثيرون يتعاملون بشكل خبيث ليعيدوا غنائمهم المصلحية في الكذب والنفاق، في المراوغة والملاطفة، في الحيلة والمكر، في الحقيقة المزيفة والكلمة المنمَّقة، إنها تجارة بخسة ورسالة بائسة ومسيرة خاسرة وإن ثبتت أياماً وأشهراً وسنين ستنجلي الحقيقة وإن قالوها في المخادع، وستعلن على سطوح المنازل (لو12:3)... إنها أزمة عقل وضمير وجريمة إبادة الآخر في نشر القيم الفاسدة عبر قيادة مزيفة لدنيا الزمن والعولمة بسبب عيش البغضاء بدل أن نخرج من ذواتنا لنشهد لحقيقة الحقيقة ونذهب إلى الآخر المختلف عنا فكراً ونظرةً، والرب يسوع علّمنا أنه لم يثأر على ذاته إنما أعطى دماءه حُباً إذ قال:"أعطيكم وصية جديدة..." (يو34:13). ومهما يكن سنبقى نختار هدفاً، وهدفنا ما هو إلا عودتنا إلى أرضنا. فنحن لا نريد أن نبقى قضية كبقية القضايا التي حيكت من أجل تدمير الشعوب، بل نختار هدفاً يستحق منا العناء والدماء والفداء، هدفاً يحمل معناه وحقيقته في رجالٍ أشدّاء حاملين الشجاعة والأمانة والوفاء، أمام رجال يحملون أسماء بلا حقائق وشهادات بلا وقائع، وعلامات مزيفة بلا ضمير، ويرفعون أصواتهم بضاعة أمام قوى الزمن "اقتلوهم إنه معارضون... إنهم نون" في غيرة ضد الأصلاء والأصيلين، فالمسيحي مدعو أن ينخرط ويتقوى لا أن يسامح ويبتعد، ولا أن يُهمَّش لمجرد مهاجتمه.

خسارة ارضنا
   مهما كانت الذاكرة المسيحية مجبولة بالمآسي والاضطهادات فهي مدعوّة إلى تذكّر العلامات المضيئة في التاريخ، فالرب يصنع الصلبان لكنه يصنع معها الأكتاف. لنستذكر القديسة شموني وأولادها السبعة والتي استشهدت في زمن الطاغية أنطيوخس ملك أنطاكية وبعد أن رأت بأَمِّ عينها الطاغية وهو يعذّب أولادها ويقتلهم، كَبُرَ إيمانها وتشجعت إرادتها وأدركت أن تلك صلبان الرب لها أكتاف الحياة، فقد شهدت أنها امرأة جبارة في إيمانها وثباتها وعاطفتها بعمق روحانيتها... ويكفي أن يحمل المؤمن اسم المسيحي حتى يصبح حمل الاسم تحدياً له ولمعنى حياته، وفي هذا كله يكون التاريخ شاهداً لعدم خسارة أرضنا. فكبار الزمن ومخططاتهم ما هي إلا خسارة أرضنا. إنه ابتزاز دنيء، فدماؤنا في كنيسة سيدة النجاة لم تنشف ودموعنا لم تنقطع،ورسالتنا كانت شهادة شاهدة ليس إلا،  فأين المنطق والإنصاف إذا كنا فقط نولول ونثرثر من على ما يكروفونات الزمن، فالتنظيم الإرهابي يهجّرنا وآخرون يفتحون أبوابهم لترحيلنا والغاية الوحيدة التي ننشدها هي العودة إلى ديارنا وهذه هي المسؤولية الحقيقية، أن لا نبيعَ أرضنا، لذلك يقول البابا فرنسيس:"ما أراه اليوم أن يسوع يبكي، فقد قفلنا قلوبنا وقلوب رعاة الكنيسة في وجهه" (20 نوفمبر 2014، قداس في سانتا مرتا).

علاقة وحوار
   لتدخل الكلمة أعماقنا، فنلمس حقيقتها ودفئها وعنوانها، فنقبلها ونستسلم بثقة لإلهنا ليحقق فعله الخلاصي من خلالنا، لأن إلهنا لا يريد تحقيق فعله الخلاصي لحياتنا لوحده بل يريد أن يشارك الإنسان في ذلك لأنه مبادرة مجانية وبدون استحقاق منا وبقبول حُرّ من الإنسان. لذا علينا أن نبدأ بمعرفة مَن نحن وحقيقة الإله الذي يطرق أبوابنا ليهذّبنا ويرينا ثقل النير وكنوز السماء فنريه همومنا وآلامنا ومعاناتنا إنْ كنا في الخيم ساكنين أو في الكرفانات لاجئين أو في عمارات عارية أو في فنادق عامرة أو مهجَّرين بعد أن تركنا دورنا ومنازلنا ومقتنياتنا وأحلامنا ونجونا بأنفسنا، ونسينا أن أبوابنا لا زالت مغلقة أمام الرب ولا أحد يفتح له، وهاهو يبكي، فهو يمثّلنا في هجرتنا ونزوحنا من أجل أن يهذبنا ويرينا ويسمعنا أنه "هو الطريق والحق والحياة" (يو6:14).
   فاليوم نحن مدعوون إلى أن ندخل في علاقة مع الآخرين، فالحوار الذي دار بين الرب يسوع وإبليس بعد أن صام أربعين يوماً كان حوار الحقيقة والإيمان وهُزم الشر وللرب سُجد وله تجب العبادة (متى 10:4)، وبئس مَن يبني جدراناً فاصلة بدل الجسور الموصِلة، وبئس مَن يعتبر نفسه إله الدنيا وينسى أن يقيم علاقات الحوار. وبئس مَن يقتل الحقيقة بضمير الفساد، وبئس مَن يحصد المصالح بمناجل الاشرار، والعلاقة الصحيحة ما هي إلا أن نكون مثل إلهنا، أن نطرق أبواب الأخوة المختلفين، وهذه هي المتعة الحقيقية في الحياة، في أن تكون مشغولاً بهدف تعرف أنه ذا قيمة كبيرة بدلاً من أن تكون كتلة أنانية صغيرة من الأوجاع والمظالم شاكياً أن العالم لن يكرّس نفسه من أجل سعادتك" (جورج برناردشو).

هذا ما حصل
   خائفون، هكذا هُزموا من أرضهم وديارهم وقُراهم وسكناهم، كل شيء توقف في مسيرة حياتهم بعد أن تركوه خوفاً وفزعاً من الإرهاب الشرير. وها هم اليوم في أرض الله الواسعة... نعم، أيها المهاجرون، ظروف الغدر أجبرتكم على النزوح هرباً من عصابات لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية، وأجرمت بحقكم يا أبناء أمّتي، آلاف العائلات قُتلت ودُمِّرت واستُبيحت أرضكم وسُبيت غنائمكم وكريماتكم، فهم ليسوا إلا وحوش كاسرة لا تنشد إلا الموت والشقاء، ففيهم مات كل شيء لأنهم لا ينتمون إلا إلى إرهاب وما ذلك إلا ضعف حياتهم.
   نعم، لقد كانت قُراكم ومدنكم هي تاريخكم ومسيرتكم الإيمانية هي ماضيكم وحاضركم ومستقبلكم كما كانت مستقبل أجيالكم... نعم، تركتم مدنكم بعيونٍ تبكي دموعاً وحزناً على مواطنيكم وأرضكم وتاريخها، إذ ليس من السهل مغادرة أرضكم جبراً وقسراً لكي تفترشون الحدائق والأرصفة والعراء بعد أن سرقوا أموالكم وخزائنكم وأكياس معيشتكم وحتى بطاقات تعريفكم... فالوحوش الكاسرة كفّرتكم وحلّلت أموالكم غنائم، والحقيقة ما هم إلا سرّاق، وما حلّ بكم إبادة جماعية، لم يشهد العراق على مرّ العصور والأزمنة مثل الجرائم التي أُرتكبت بحقكم... إنه الإجرام بعينه. واعلموا أن الحقيقة لا تموت وإنْ باعها كبار الزمن لمصالح لهم ولأتباعهم، وما هم إلا ذيول الرذيلة المزيفة الذين يخدّرون شعوبهم بكلمات منجدية بعمق شرتونيتها، ويعتبرون ذلك أنه السراط المستقيم، بينما حقيقة الحياة لا تكمن إلا في خلع أثواب ملوكيتنا كي نعيش فقرهم وعوزهم، ونعاني برداً وعُرياً وخوفاً، وليس تمنيات وبيانات ودعوات، بل شهادات وحقائق، وإن حصل ما حصل، "وإنْ وقعنا سنقف ثانية" كما يقول المثل الياباني، المهم أن لا تفترّ رغبتكم، عليكم أن تتمسكوا بالصلاة وبالحوار مع الله، وهذه هي الشهادة الأمينة ليس إلا!. أن نكون طلاباً تحت أقدام الصليب.

الخاتمة
نعم، هذه شهادتنا ليست إلا. فانتبهوا يا أبناء جلدتي، أحملوا إيمانكم في آنية من خزف (2كور 7:4) وعيشوا حقيقة مسيحيتكم في لقاء الألم، وقولوا الحقيقة في وجه كبار الزمن، وثعالب الحياة، وحيتان الفساد، وبائعي الإرهاب والشر، ومعلمي الطائفية والمحاصصة والمحسوبية ،  كما قال ربنا يسوع يوماً لهيرودس:"إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب" (لو32:13)، وما أكثر اليوم ثعالب زمن الإرهاب ، وحيتان الفساد ، نعم وما أكثرهم. ولا تخافوا أن تجعلوا صليب الرب يسوع مرافقاً لمسيرتكم ، فما أنتم إلا تلاميذه ، آمنوا بأن الحقيقة لا تموت، إننا سنرجع يوماً إلى ديارنا، نعم ونعم إلى ديارنا ، وهذه حقيقة إيماننا بصليب ربنا يسوع... نعم وآمين.   


209
بدل الرحيل ..
لنعانق الصليب ونحيا الإنجيل..
المونسنيور بيوس قاشا

في البدء

   نحن اليوم امام قصص مأسوية لا تنتهي ، وابطالها 
فقهاء الفتاوى القاتلة ، وأزلام الموت الارهابيون ، والذين كفرّونا ،
 ولا زالوا يكفروننا، ويعملون على محو إسمنا ، وطمر ديانتنا ،
 ويريدون منا ان نكون لهم عبيدا وسبايا تباع في سوق نخاستهم العفنة ، ويكتبون لنا الهزيمة دوما وابدا وليس هزيمة الموصل فقط بل ان استطاعوا هزيمة الوطن باكمله ، هزيمة القيم والاخلاق ، هزيمة الحضارة والأصالة ، والحقائق والصدق ، من اجل تشويه وجه التاريخ ، وفقرات كتاباته ، وسجلات احواله ، معتبيرن انفسهم المصلحين والأولين والخاتمين ، الامرين والناهين ، عبر تدمير الابرياء في نفوسهم كما في مجتمعاتهم واوطانهم ، كما انه ، ومن المؤكد ، أن الوطن خيمة مواطنيه والأنتماء اليه رسالة العلا ، ولا يمكن أن يكون لطائفة أو لعشيرة أو لقومية أو لديانة بل لجميع الأطياف بمذاهبهم وطوائفهم ودياناتهم، إذ أن تقسيم الوطن ما هو إلا محاصصة قاتلة، وإهانة لعمل السماء الرائع ، واحتقار لعمل الإله الخالق سبحانه وتعالى إذ قال:" أنموا وأكثروا وأملاوا الارض" (التكوين28:1)، وأيضاً في القرآن الكريم " إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (سورة الحجرات 13) ، وليس لنكون حصصاً وأجزاءً ومذاهبَ وطوائفَ وكفارا ونصارى ومسبيين ،وما ذلك من مسميّات ، كما أنّ الانتماء إلى الوطن رسالة سامية يؤكدها الانتماء إلى العقيدة الإيمانية والحقيقة القيمية في الفضائل ومسيرة الأخلاق عبر تاريخ الزمن ورعاية الشرائع والعبادات والوصايا من أجل دستور انتماء أكيد يحمل في طياته احترام الآخر وقيم عبادته وخدمة الآخر ونشله من بؤسه في رسالة سامية ملؤها المحبة والسلام والرحمة، فالله ما هو إلا رحمن رحيم.
مسيرة إيمان
   نعم، إن عالم اليوم ، يغرق في مادية الدنيا والعولمة ،  مساءً أكثر منه صباحاً، وباتت مسيرة الإيمان مزيفّة،وكلّ له إلهه ، وحقيقة التقوى أمست عاطفية واحترامية، والصراع بينهما في النفس وداخلها في كل ساعة من ساعات نهاراتنا وليالينا. وأمسى المسيحي خجلا من إعلان بشارة المسيح عيسى الحي وخائفاً مما سيُقال عن المُعلِن والمُعلَن والمؤمن، فتضيع حقيقة وجودنا وتُشَوَّه صورة دورنا في قلب العالم وننسى أن نكون أمناء لحمل الرسالة وأوفياء لإيصال البشرى في المُثُل والقِيَم والانتماء في الفضائل والأخلاق، في الرحمة والسلام، فنفكر في الرحيل وحمل حقائب الزمن، مدَّعين ومتأسفين أنه لم يبقَ لنا أحد من أهلنا وأقربائنا وحارتنا فيعشعش فكر الرحيل في أدمغتنا حتى تكتمل الآية والأعجوبة في أنْ نفرغ أوطاننا من انتماءاتنا برحيلنا وتبقى بشارة الحياة تنادي هذا وطنكم ، أباؤكم عاشوا هنا وأرضية عقاراتكم باسمائكم ، فلمّ الرحيل ، ولكن لا آذان لتسمع، فقد رحلّوا ورُحِلُّوا كلهم وليكن وراءهم الطوفان كما يقول المَثَل الفرنسي، فيموت قلب الوطن ولسانه يقول بحقيقة القول "مَن يحمي أولادي"، وينسون أن الله هو الحافظ الأمين ، والرازق الأكيد .
سفر جديد
   إن حمل رسالة الصليب والإنجيل حقيقة سماوية، وهذه الحقيقة واحدة متحدة في عمقها وفي وجودها، لا ترسم لنا إلا طريق السماء في الشهادة، فهي الجواب الشافي الأمين في حضور المسيح مهما كانت العقبات الطبقية والطائفية والثقافية... إنها قصة إيماننا، وحب السماء لنا في أرضنا، ومهما فقدنا من أموال وخيرات وجاه ومناصب وكراسي ومهما كان جلساؤنا وكبار زمننا وبائعو حقوقنا وسُرّاق أموالنا، فالحقيقة أكيدة أننا مدعوون إلى كتابة سفر جديد عن أعمال مسيحيينا ومؤمنينا  وتسطير رسائل رجائية وأَمَلية إلى أجيالنا النازحة والمهجَّرة والمهاجرة. فلا عمل سِلْمٍ دون بذل الذات من أجل الآخرين، ومشاركة المسيح في حمل الصليب، فلماذا الخوف إذاً!، ولا يمكن أن تكون حياة دون موت وصليب، والسبيل هو الخروج عن ذواتنا والتعرّي عن أنانيتنا وجشعنا ولامبالاتنا، فقد أصابنا الجمود والفتور والجهل، وأَلَّهْنا مَن نشاء ومتى نشاء، ولهم تنحني قاماتنا مطيعين وخائفين خوفا كي يكتبَ لنا الوجود والمكانة والكلمة ومع الاسف هذه هي اليوم شريعة المحبة المزيفة، ورقصنا حتى فجرنا، وتمرّدنا على الحياة وعطائها، وأكملنا مسيرتنا بفوضى ذاتية وعائلية ومجتمعية ووجودية وكأننا مراهقو الزمن وبائعو الطرق، ولم تعد بيوتنا تَسَعُنا " فأكلنا وشربنا وَبَنَيْنا وغرسنا وزوّجنا وتزوجنا الى أن دخل الارهاب مدننا" (لو27:17).
إنجيلنا وصليبنا
   أمام ما يحصل لنا من متغيرات، بل وما حلّ فينا، وفي ظل الظروف العصيبة التي مرّت بنا ولا زالت تشاطرنا مسيرة أيامنا فأُفرغت مناطقنا، وسلبت أمتعتنا، ونُهبت خيرات دُنيانا، وسُرق ذهب أعراسنا، وما ذلك إلا دعوتنا وحاجتنا إليها كي تتفاعل أفكارنا ونظراتنا وأحكامنا وتتعاضد طاقاتنا في لَمّ شملنا، في لقاء عيوننا، في نقاش أدوارنا، في غاية وجودنا، عبر مسيرة صلاتنا وعمق تأملنا بإرادة الله التي أضعناها أو حُجبت عن أنظارنا. كلنا رعاة ورعايا، مؤمنون رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، فيسند شبابنا أقدامَ شيوخنا وعجائزنا وكبار دنيانا كي لا يفني بعضنا بعضاً، فالحقيقة افترقنا أكثر مما اتّحدنا، وتكبّرنا أكثر مما أعلنّا أنفسنا خدّاماً، ورسمنا لنا طريق الخلاص بفكرنا ونسينا أن الحقيقة إنجيلنا وصليبنا طريق الأيمان وحقيقة المسيرة في حياة نحو البقاء من أجل الأبدية، كما عملت مريم فقد اختارت النصيب الأفضل الذي لن يُنزَع منها (لو 41:10-42).   
   نحن اليوم أمام خطاب تأييسي وتخويفي وتشجيعي على الهروب، بل نحن أمام أسئلة لا جواب لها إلا واحد وهو "لم يعد لنا دور في وطننا، ونحن لم يعد لنا أقرباء نحتفل معهم أو نحيا بجانبهم أو بقربهم" وكأننا نعامل دنيانا كي تكون مطيعة لأفكارنا وخيالاتنا، ومن المؤسف أن القريبين من أسماء الجاه ومناصب الكبار في زمننا ، هم الرسل الأولون ، لهذا التحول المخيف، وخطابهم وسؤالهم ما هو إلا خطاب وسؤال يدلان على أننا أناسٌ تنقصنا القناعة بأننا أصحاب رسالة، وينقصنا الإيمان بأن الله الذي خلقنا يشاركنا آلامنا ومسيرتنا كما كان مع الرسل في السفينة ( متى 26:8). وفي ذلك ترك الله لنا قِيَماً روحية تملأ رسالة خلاصية في البشارة الإنجيلية نسلك حسبها وحسب مضمونها ولم يترك لنا خرائطَ عسكرية وانسحاباتٍ تكتيكيةً، بل عيشَ المحبة والشهادة وهو معنا حتى نهاية العالم... ولنثق بهذا الكلام.
ألوان حقائبنا
   وانطلاقاً من هذه الثقة علينا أن نجعل من فكرنا منطلقاً فيتحول ضيقنا إلى اطمئنان وفرح وإيمان،" ثقوا إني غلبتُ العالم " (يو33:16) . فالمسيح ربنا لا يمكن أن يقف متفرجاً علينا أو على الحياد وهذا ما تقوله ثقتنا به. لذا علينا أن نكسب الثقة ونحافظ عليها ونُنميها في فحص ضميري وشخصي حول مسيرتنا وسلوكياتنا، فنحن شهود ليسوع المسيح، ومصير إيماننا لا يتوقف إلا على سموّ عطائنا وقيمة شهادتنا ونوعية حامليها وليس على ألوان حقائبنا وكبر حجمها أو صغرها أو قوة متانتها أم خفة حملها، وهذا ما يجب أن يتجسد في واقعنا الأيماني . ولنعلم ، لقد بات المسيحي مستَهدَفاً بشكل موجَّه ومركَّز. إن تكرار الاضطهادات بات أمراً خطيراً. فاحترام الكيانات المختلفة والعمل على درء الانتهاكات المروِّعة لحقوق الإنسان وسياسات المحاور الإقليمية والدولية التي قد تعرِّضه لخطر استباحة أرضه وتحويله إلى مسرح لصراعات الآخرين.
   فلا يجوز اليوم _ وعلى كل القيادات الإسلامية في المنطقة العربية _ أن تتوقف عن القول "أن داعش لا يمثّلنا".  فالحراك ضد هذه الموجة خجول جداً، وإن هذه نقطة هامة ، فالواجب الأول على الأخوة الإسلام أن يكونوا صوتاً فاعلاً وأكيداً للدفاع عن المسيحيين، فالإرهاب شوّه الدين الإسلامي كما كفّر الديانات المختلفة عنه ، كي لا يقول التاريخ أنّ إلأسلام والعروبة مسؤولان عما جرى ويجري تجاه إضطهاد المسيحيين. فما نحتاج إليه هو العودة إلى أخلاقنا المسيحية من أجل الضمانة الوحيدة والأكيدة لبقاء المسيحيين في الشرق وليس أي شيء آخر. فإذا رأى الشرق أننا مختلفين فإننا نُزيد على الحياة معنىً لا يوفره الآخرون، عندئذٍ يحافظ الشرق علينا. ولكن ما ينقصنا الشجاعة أحياناً لكي نكون أمناء لله لاسيما عندما نقف موقف الانفتاح إلى الآخر والدفاع عن إيماننا، وهذا ما يدعونا إلى أن نُحْسِنَ الإصغاء إلى الله وفي ذلك سنُحسِن الإصغاء إلى الآخرين، وبهذا نبني عالماً غير هذا الذي نتذمّر منه الآن.
مصيبة وكارثة
   أمام عالم المصيبة التي حلّت بمؤمنينا وكنائسنا، والكارثة التي أودت برحيل أبنائنا وضياع أموالنا وممتلكاتنا وفقدان خيراتنا. ألا يقودنا ذلك إلى ما قاله الرب يسوع:"اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها سوس (داعش)"؟. أليس أمام هذا كله نتصرف وكأننا لسنا أصحاب رسالة، وكأن المسيح لم يَعِدُنا بشيء ولم يثبّتنا برجاء دعوتنا؟... فنبدأ بالقول: أن هذا البلد لم يعد لنا، بل يجب أن نتركه، وتتعالى أصوات حواء بتأكيد تركه وإهماله بقولها "لا خبزة لنا فيه بعد"، أليس ذلك مؤامرة ننفذها على أنفسنا وآية أدخلت إلى سماع آذاننا صباحاً ومساءً، ليلاً ونهاراً، لحظةً ودقيقةً وساعة، ونقول: أن الدولة الفلانية تتآمر علينا، تنفذ مؤامرتها عبر آخرين، وفي ذلك ألا نتآمر كلنا على أنفسنا وننفذ المؤامرة على بعضنا البعض؟. أليس هذا حديث أصحاب مصالح وسوّاح رفاهية أم حديث أصحاب رسالة وبشارة إيمان؟. فلقد ازداد خطابنا في تشجيعه للهروب وعلى التفتيش عن الرفاهية والحصول على تأشيرة سفر إلى أرض الله الواسعة، هل هذا هو حديث أناس يؤمنون بأنهم أصحاب رسالة وبأن الله معهم فيثقوا بكلامه أم يريدون أن يعمل الله لهم ما يشاؤون هرباً ورحيلاً وهجرةً ومالاً وجاهاً وبنيناً وبناتٍ،  وإلا لا فائدة من كلمات البشارة ولا حياة في كلمات الإنجيل ولا مسيرة مع صليب الألم..."احملوا نيري عليكم وتعلموا مني"(متى29:11) ، و"على التلميذ أن يكون مثل معلّمه"(لو 41:6). ألم نكن في ذلك قد شابهنا أهل الأرض وتمركزنا واهتممنا بأنفسنا ورفاهيتنا وأكثر من ذلك بكبريائنا ونا. نا؟.وما أكثرها  هل أصبحنا في عالم لم يعرف المسيح أم في عالم يحمل اسم المسيح؟. أليس ممارسة التخويف والتيئيس  والتشجيع على الهروب كقناص نحتمي من قنصه؟.. أين نحن نحتمي ما دام القناص فينا وفي بيتنا وفي حارتنا ويعشعش في عمق عقولنا وأدمغتنا؟.
جائعون .. جائعون
نعم، أنا أؤمن أن الله يرى مآسينا، ويدرك ثقل صليب وأتعاب آلامنا، ويسمع صراخنا وأنين أمهاتنا وبكاء أطفالنا، فهو أكيد سيأتي لينقذنا وهو يؤكد ذلك في بشارة الحياة، وهذا أكبر ثقة وخلاص. فكلنا أولاً جائعون إلى كلمة الله بمقدار جوعنا إلى الخبز والدواء، وما علينا إلا أن نتضامن ونتقاسم، وإذا لم نشبع من كلمة الله لتصبح فينا حياة فذهابنا إلى الصلاة وإلى الكنيسة ما هو إلا أنشودة فقط وننسى أن كلمة الله نور لسبيلي (متى 4:4). ولا يجوز أن نطلب دون أن نحيا، فربنا يسوع لا يطلب منا أن نلغي الآلام والشقاء والتهجير وإنما يطلب منا أن نرى الشقاء وأن نسمع الأنين والصراخ والبكاء والأتعاب وإلا تكون قلوبنا من صخر بينما هي من لحم ودم... وإذا لم نكن قد تعلمنا من المسيح فما نفع مسيحيتنا، فهل من شرف أكبر من هذا أن يرسلنا المسيح كما أرسله الآب (يو 21:20)! وارسَلَنا رسلا من اجل كلمة الانجيل وليس قائد مؤسساتٍ واداري مكاتب ، وهل ضمانة أكبر من أن يكون المسيح معنا حتى نهاية العالم؟... ولكن هل نثق نحن بأنه معنا اليوم كما كان مع الرسل في الأمس ؟... فيومها لم يعودوا يرون إلا البحر الهائج والخطر المحدق بهم، ولم يعودوا يرون المسيح. نعم الله عالم بما هو خفي وهو يعرف ما شان مستقبلنا ومسيرة حياتنا والأكيد نحن الذين اعتمذنا باسمه انه سيقف الى جانبنا اذا اردنا عيش ايماننا به ففي مسيرة الايمان يعلمنا ان يكون ملجأنا وقوتنا ولكن علينا ان نقوم بالحديث عنه في داخلنا فنجده على الدوام معنا ولهذا علينا ان نمر بالعاصفة  واوقت صعبة وهذا ما اكده الرسول بولس اذ قال نعاني الصعاب ولكننا لا نُسحق ،  نُضطهد ولكن لا نياس وهذه حقيقة تظهر لنا اننا سنعاني خلال حياتنا فالمرور في الصعاب عبر مسيرة الايمان يكون الرب مصارعا من اجلنا وحاميا لنعمة حياتنا فهو ملجأنا في الشدة وهو قريب لمن يدعونه فنحن افضل من عصافير كثيرة . (متى 31:10) .
الخاتمة
واليوم في السبي، هل لا زال المسيحُ غايتَنا، والإنجيلُ لا زال بشارتنا والصليب قوة خلاصنا _ فالمسيح ربنا "هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عبر8:13) أم أصبح إيماننا شعارات مفرغة لحياة عولمية عقيمة؟ فهم يريدون أن نحيا العيش الهانئ مع جليس الدنيا ولا نبالي بإرضنا وشرقنا المقدسين،وتموت قضيتنا كما ماتت أخرى ، فَلِمَ الخوف ولِمَ الرحيل، بل لنبقى شهوداً وشهداء، وهذا نداء الرب، والشهادة ليست إلا مسيرة حياة كما هي بذل الدماء من اجل المحب ، لنكن كنيسة ، فيها شجاعة في الشركة والمشاركة ، نحمل شجاعة الأيمان ، فراداً أو جماعةً ، كما كانت جماعة الكنيسة الاولى " قلباً واحداً ونفساً واحدةً"  (أع 32:4) وكما يقول البابا فرنسيس " لا تقفل الابواب بوجه الرب والصليب يرينا حب يسوع الذي يدفعه الى البكاء اليوم على الكنيسة ( 20 نوفمبر 2014 – دار القديسة مرتا) . فلمَ الخوف ، وبدل الرحيل لنعانق الصليب ونحيا الإنجيل. ولا نكون تباعاً لمؤسسات تجعلنا بين غريب ودخيل فنحن لسنا علاماتٍ بل شهادات ،  نعم وآمين.

210
يا مسيحيينا ... كفانا أن نكون عبيداً!
المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء:
في زمنٍ فاسدٍ وتاريخٍ مزيّفٍ وحياةٍ صاخبةٍ ملؤها حب المال والدنيا وكراسيها، ومناصبها، وجاهها وجمالها، وحواءها وأنانيتها، وحسدها ونفاقها، وحيث ثقافة الموت تتصدر الحياة، وفي مسيرة الخطف المخيفة والإرهاب وتدمير المقدسات وهدم القيم والابتعاد عن المسيحية الأمينة. أمام هذا كله أتساءل:
هل المسيح لا زال بعدُ يدعونا لحمل البشارة؟. هل المسيح لا زال يريد منا أن نشهد لمسيحيتنا ووجود جرن عماذنا؟. هل المسيح بعدُ يدعونا لنحيا الإيمان ونأمل الرجاء ونلمس المحبة وعملياتها في الخدمة والطاعة والفقر والعفة والتواضع والغفران والمسامحة وقبول الآخر في حوار اللقاء؟. لماذا يكره المختلف مسيحية المسيحيين، وينعتهم بالكفّار؟. هل لا زالوا يقولون عنا إننا نحب مسيحهم ولا نحب مسيحيتهم؟. هل نحن فعلاً مسيحيون سطحيون لا ننشد إلا شهادةً للرحيل وكتابَ حسن السيرة والسلوك دون استحقاقنا ودون علمنا برسالة إيماننا وكنيستنا؟. وهل الصليب أصبح لنا عثرة مرة أخرى كما كان لليهود (كو23:1)، أم إن الإنجيل لا يجوز إعلانه خوفاً من أن يكون رسالة التبشير أو الإفصاح عن إعلانه بشارة الحياة والخلاص خوفاً من الأصولية الإرهابية المزيفة للدين؟. هل أصبح حديثنا لغة الهجرة وإنْ كنا مهجّرين، أم لفّةً هانئة وعلبةَ مشروب متربعةً قارسةَ المذاق؟.   

   إبادة جماعية...
هل وهل وهل... وأخرى مثلها. وأقول: أليست الحياة تظهر لنا رسالة تقول أن الحياة معركة يومية، وكما تقول مادري تيريزا:"الحياة فرصة عليك استغلالها". وصراعٌ أبدي بدأ بولادتنا ولا ينتهي حتى مع رحيلنا بل بانتهاء سني أرضنا، ونغادر الفانية وماضيها إلى حيث دُعي المخلوق من خالقه ليسكن في النعيم أو في الجحيم؟. مما لاشكّ فيه أننا كمسيحيين عشنا صعوباتٍ كثيرة ومآسي لا تُحصى ولا تُعَدّ، ولا يمكن أن نسمّي مسبّبيها لخوفنا من الآتي عنهم، فلا زلنا نعيش حاضرنا بمآسي ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، طردٌ واتهام وتكفير وتهجير وسلب أملاكنا وتهديم بيوتنا وقتل أبنائنا، ولا زال المستقبل وما يحمله يعشعش في ضباب الفكر والهموم والعيش الأليم، وتحيط بنا الاضطهادات من كل حدب وصوب وتقتل همّتَنا جنيناً كي لا نكون، وإذا ما كنا بقدرة الخالق فعلينا أن نكون لهم عبيداً أو علينا أن نغادر في ليلةٍ لا ترانا فيها حتى نجوم السماء كون الخوف قد ملك على قلوبنا وأصبحنا كما يقول ربنا يسوع:"أنتم خراف بين ذئاب" (متى 16:10). وفي ذلك يكون تهجيرنا وتكون الغربة خارطة طريق لواقعنا، ليحلّ محلنا آخرون، وبسبب ذلك ترانا راحلين ولا نرى غير هذا وإن كانت هذه الأمور تلف كثيرين من مكونات شعبنا، إضافة إلى رسالة الإرهاب السيئة في حمل الضيق إلينا والعنف والتعب والطائفية فيكون العالم وعولمته متفرجاً وعارفاً بما يحصل ولكنه لا يحرك ساكناً وإذا ما حرّكه فكما يشاء، تهديدٌ واضح وإبادةٌ جماعية نظير الشمس، والظلام يزداد بكبر مآسينا وكوارثنا وبلايانا، فأين الشاهد الأمين لحقيقة الإبادة والتهجير والقتل والتدمير، فهم يعرفون إنها من صنعهم كما يعرفون ما نحن إلا أبرياء. ولكن!!!.

   أن نموت...

   المسيحية تعني شمولية الحياة، ومعنى ذلك إننا نتقاسم المسيرة في بناء الجسور وكسر الحواجز عبر البشارة بالعطاء والغفران والتوبة، ونشهد للدم من أجل الحياة "في أن يبذل الإنسان نفسه فداءً عن أحبائه" (يو13:15). والرسالة تدعونا لا إلى أن نهرب من الشر والألم بل أن نقاوم هبوب العواصف وأمطار السيول ورياح الاضطهاد وإطلاقة الحقد والكراهية بعجين في تراب وطننا، نبني فيه مسيرة حبنا لأرضنا كي لا نضيع بين قتلى الزمن. فنحن شعبٌ نوجد في أرضنا بل أرضنا توجد فينا وتحيا من دماء عروقنا ولا نقبل بأن نفنى ونموت كي نكون سبباً في ضياع إيماننا وفقدان مسيحيتنا، فتُقلَع جذورُنا وتموت أصولُنا في أرضٍ غنّينا لها أغانينا وزمّرنا لها ورقصنا من أجلها وأنشدنا "هذي الكاع ما ننطيها، ايشوع ومريم ساكنين فيها"... وما حصل حصل، وما حلّ فينا حلّ دون إرادتنا وعدم علمنا واستعدادنا، فقلوبنا لا زالت وستبقى تفيض بنِعَم إيماننا ولا أجمل، فمعركتنا              _ كما يقول مار بولس _ وصارعتنا ليست "مع اللحم والدم" (أفسس 12:6) فأما نوجَد كشعب مسيحي في أرض الله وإما أن نموت ليس إلا.

   قامات شامخة...

لنا كل الفخر بما قام به آباؤنا وأجدادنا وقد عُرفوا ببُناة الحضارة وبدورٍ كبير في النهضة، في التحرر من الدولة المستعبدة، المستعمرة، وهذا ما يُظهر أنهم رجالٌ أقوياء بالإيمان، وهذا ما يدعونا نحن أبناء هذا الجيل أن ننهض من سُباتنا لنسير برفقة المسيح فهو ينتظرنا كي تكون ثقتنا به حتى الموت فقد قال لنا:"ثقوا فقد غلبتُ العالم" (يو16:33). وفي ثقتنا هذه ما يجعلنا أن لا يخيب رجاءنا والعمل في ذلك ما نحتاج هو بلورة مسيرة حضورنا المسيحي وليس الرحيل بل يجب أن يبقى الأمل فينا حياً فهكذا فعل أجدادنا في الماضي وآباؤنا في القرن العشرين، وواجهوا حد سيوف الأعداء بقامات شامخة وبصدور عارية وبرقاب لا تنحني إلا لله، وعبر قرارات ظالمة حملوا حقيقة المسيح الحي فيهم، وبدمائهم سقوا شجرة الحياة الوافرة فكانت دماؤهم علامة سلام وينبوع خلاص، وحافظوا على وجودهم ودينهم المسيحي فكنا نحن أحفادهم نحدو الحياة كأبطال من أجل أرضهم وإيمانهم، وبدمائهم بذروا زرع الحياة لنحيا وننمو ونكبر ثم نشهد.

   رسالة وبقاء...
لننتبه قليلاً، فالمخططات عديدة تنازع مسيرتنا في أرضنا الأصيلة، ولا زال الربيع الدامي تجاهنا يفتك بنا ونفتش عن ملاذنا فلا علم لنا ولا دراية في ذلك، فالدمار والألم والحقد تجاهنا، والكراهية نحو وجودنا والبغضاء في مسيرتنا تنتقل من شخص إلى آخر ومن حارة إلى أخرى ومن بيت إلى آخر، وزادت المساحة فصارت من بلد إلى آخر وأصبحنا مذهباً مكروهاً وديناً كافراً وأمةً لا حول لها ولا قوة وشعباً يقاسي وحده، فكلٌّ يدلو بدلوه لأمته، فقد أدركوا إنهم زائلون إنْ لم يكونوا متحدين. ونحن، هل ندلو بدلونا؟ كي نجمع أفكارنا، ونوحّد هدفنا، فهناك المخلصون لا تغمض لهم أجفان فهم أصلٌ وأصلاء، رسالةٌ وبقاء، وهناك مَن يصعدون المنابر كبرياءً ويصيحون ويحيّون بأحسن التحايا وأروع الكلمات بأمريكيتها وغربيتها وعربيتها الشرتونية والحقيقة هم بعيدون عن إيمانهم في أصالتهم وأصولهم، ولا يرون إلا أنفسَهم وقاماتهم كنخلةٍ بطولها ليس إلا، ولا أظن يحملون رسالتهم بأمانة ووفاء وهم ينعتون أنفسهم بمخلّصي شعوبهم مدّعين أنهم سياسيو وأمراء الدنيا وأولياء الزمن والحكم وما هم إلا المارشال الأوحد، فهم فيتامين للهروب والنزوح، والطرد وإفراغ الوطن من حقيقة الأصول، وفي النهاية للرحيل، بكلمة غير مسؤولة أو بتجارة تدرّ بشراً وديناراً وقبلةً وضحكةً، من أجل ضحكة للحاضر المزيف، من أجل مستقبل الضمان، هؤلاء عُرف ماضيهم ولكن عجلة الدنيا سارت معهم فأضحوا بين ليلة وأخرى وصبحٍ وآخر أمراء وأولياء، وأمسوا وأصبحوا ثانية رؤساء، ومسلَّطين، وعناوين، وهذا ما جعلنا أن نكون من الخاسرين وإنْ كنا أو لا زلنا من الشاربين والآكلين، ولكن لا وجود لنا والحقيقة إنما هي للمتأوهين، نعم للمتأوهين على ظلم المسيرة، وهذه هي مزيفّات الحياة ليس إلا.

  درهم النفاق...
فنحن وطننا اهتزت أعمدته بسببنا وبسبب أهلنا، ألم يقول المسيح عيسى الحي:"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10)؟. نعم، اهتزت أساساتنا وابتُليت شعوبنا بفقر الاتحاد وزيادة الإنجماد في مال الدنيا والفساد وكأننا أصبحنا مدراء بنوك بعناد أو بمراد، فبيعت الحقيقة بأموالٍ مسروقة ودرهم النفاق والغش والرياء وكأن هذه هي الأصالة، ونسينا أن حقيقة الأصالة هي أن نكون للحقيقة شهداء وللإنجيل أمناء وللصليب أوفياء كي لا يقولوا عنا إننا دَفنّا حضارتنا ورفعنا راية الموت على حدود قرانا ومدننا وقصباتنا... إنها مظالم لم نتعرف إليها بشكل أمين، وكل ذلك ما سوى إلا صفقات مشبوهة لغايات دفينة في تجميل الصورة أمام المجتمع المسيحي البسيط والمجتمع الدولي المتفرج. فلماذا الهروب من الشر وكأننا غنم تهرول أمام ذئاب الزمن وعلامة الخوف على جباهنا تقول أنتم تركتم قريتكم ومدينتكم والساكن فيها ينتظركم؟. فقد هرولنا قبل طردنا، وطُردنا وسُرقنا بِبُعد نظرنا، وأصبحنا علامة خوف وهروب، وجعلنا من حياتنا فزعاً وضياعاً لحقيقة إيمانية، وفكّرنا أن أرضنا قد عشقت الإرهاب الآتي إليها ليدنّسها، ولكن الحقيقة يجب أن تقال هو إننا أحببنا الحياة المزيفة لغاية بقائنا، والرب يسوع قال:"اكنزوا لكم كنوزاً في السماء" (متى 20:6).

   أُصلاء ... أصلاء...

نقولها حقيقةً وواقعاً، فضروب الاعتداء على المسيحيين والمكونات الأخرى تجاوزت الحدود والأعداد، فقد تعرض شعبنا للإبادة منذ الستينات وحتى اليوم وكأننا كرة طائرة، مرة يرفعوننا ويهيبون بوجودنا وينشدون لنا "أصلاء، أصلاء"، وأخرى بكبسة قاسية وحاقدة يدمّرون كل شيء ويقتلون أجنّة الأمهات في بطونهن أو يرسمون لنا حلولاً ترقيعية ومبادرات مغلَّفة ببسمة سياسية وحقوق إنسانية مزيفة ويقولون إننا متساوون كما المكونات الأخرى، ولكن الفساد رسالة والكذب حقوق، لذا، لماذا يريدون منا الحضور المسيحي وهم لأبسط حقوق قد لا يفقهون وكأن الدستور مقدس أُوحي به من العلياء. فالدستور وضعته الأفكار والعقول وكتبته الأيادي والمطابع فبإمكان مَن وضعه وأبناءهم وأحفادهم ووكلاءهم أن يغيّروا ويعدّلوا ويحذفوا ما هو ضد الإنسان.

   ملحاً وطريقاً...
ما نحتاجه هو محاسبة أنفسنا، سائلين عن معوقات عملنا، هل نريد التغيير؟. هل نستطيع أن نحرر مناطقنا؟. هل حضورنا إيماني الرسالة والتزامنا حقيقة أرضنا أم تُحسَب الأيام بتسلسلها وكأننا هامشيين على هذه البسيطة وخُلقنا كي نكون بل كي لا نُحسب؟. أيجوز أن نعيد ذاكرتنا إلى تاريخ آبائنا وأجدادنا والتفكير في التزامنا برسالتنا وإيماننا؟... لذا يجب أن نجدد إيماننا بكنيستنا لتبقى نوراً كما هي ملحاً وطريقاً وخبزاً وماءً لعطاشى الحاضر وجائعي الحياة بأبواب مفتوحة كي ينير النور مسيرة أبنائها... لذا ما نحتاجه هو أن ندرك ما معنى حضورنا المسيحي في بلدنا الجريح... أكيد ما نحتاجه هو كلمة حق في شجاعة الكلمة. فلا يجوز أبداً أن ننغلق ونتقوقع على ذواتنا أو نذوب أو نستسلم للعنف خائفين، بل يجب أن يكون التحدي هو السراط المستقيم، هو القائم وسيبقى قائماً ومصيرياً. فالوطن وطننا وما نحن إلا أبناؤه ولسنا غرباء عنه، بل أن نكون شهوداً حقيقيين لإيماننا كما سنبقى لطريق الحق سالكين.
نحن كمسيحيين أمام أكبر أزمة إرهاب تطردنا من ديارنا باسم الإسلام (والإسلام منه براء)، إرهاب باسم الدين ولا يجوز ذلك. كما إن المسيحية وإنْ لا زالت منذ قيامها وحتى الساعة مجبولة بالمآسي فهي مدعوة إلى أن تكون العلامة المنيرة في تاريخ الإنسانية وتاريخ بلادنا، تاريخ مجبول بدماء قديسينا. فالأرض مقدسة، والتراب مكرَّس، وبقاء الأرض يعني بقاء الإنسان وما علينا إلا المشاركة في صنع التاريخ، تاريخ أرضنا وتاريخ شرقنا وتاريخ عالمنا، فحمل اسم المسيحي ما هو إلا تحدٍّ له معناه، وله رسالته، فهو خميرة العجين. صحيح ومن المؤكد نحن نبقى أقوياء بإيماننا وليست قوتنا بمحسوبيتنا أو مذهبيتنا، بطائفتنا أو بجاليتنا، بمكانتنا أو بجاهنا، بمالنا أو بمنصبنا، بحوّائنا أو بعنادنا، لأن دعوتنا هي الانخراط في التقوى، فما الطائفة إلا إطار الإيمان بينما الحقيقة هو إننا مؤمنون.

   البابا فرنسيس...
ومع البابا فرنسيس نشهد مثالاً حياً عن المحبة الخالصة والرحمة الإلهية داعياً مخلصاً لرفع الغبار عن مسيرتنا الكنسية والانطلاق نحو آفاقٍ جديدة هي بالأصل أساس مسيحيتنا... والجميع يتحمل المسؤولية في تحقيق تجديد الإيمان. ويقول قداسته أيضاً: ليفهم المسيحيون بعمق معنى انتمائهم إلى الكنيسة وبأن قائد هذه السفينة "هو هو اليوم وأمس وإلى الأبد" (عبر8:13)... فما نحتاجه هو شجاعة الإيمان ورسالة الشركة والشهادة، وليس أن نشاركهم في سيرة أعداء صليب المسح (قداس للبابا في دار القديسة مرتا 7/12/2014).
من المؤسف أن شبابنا وصلوا إلى حالة اليأس والشيخوخة قبل الأوان، فكفروا بأنفسهم وأصبحوا لا يبالون بسبب خوفهم، وأصبحنا ننتقم حتى من ذواتنا ولا نعرف هدف حياتنا. فالمسيحيون لا يجوز أن يقفوا متفرجين ولا محايدين بل أصلاء وأصيلين كونهم حاملو قدرات وكفاءات على مستويات عديدة. الحقيقة إن أبناء كنائسنا يشعرون اليوم بالإحباط وخيبة الأمل من جراء الوضع الحالي، ولا زالت الخيبة قائمة بالرغم ما حصل من متغيرات في المجالات الكنسية والحضارية، وقد زاد إحباطهم بنزوحهم وهجرتهم وتركهم لبلادهم وأصبحنا في زمن الاحتقار. بالأمس كنا مناطق متنازَع عليها، واليوم أصبحنا مهاجرين. بالأمس القريب قرروا أن لا قومية لنا بل نحن طائفة وأحياناً أقلية وأخرى جالية وأخرى جماعة، وبذلك أحنوا رؤوسنا وإرادتنا وأرادونا أن نصلّي كما يشاؤون وأن نقول لا كتاب لنا ولا مؤمنين، فكتابنا هو أوامرهم وخطبهم، وعنواننا ما زاد عنهم وكتبوا لنا ما علينا إلا قراءته وأرادونا عبيداً مطيعين، خنوعين، إذا ما ناشدنا حياة أمينة وكريمة، وإلا حُسبنا من المعارضين المارقين البائسين... إنها إبادة لحقيقة الجماعة ومسيرتها.

   الخاتمة...
مشكلتنا من هنا تنطلق ولا تُحَل بالبكاء والعويل والرحيل وكلام الخوف ولغة الهجرة، بل بالمثابرة تحت لواء الشجاعة والحقوق والاستمرار في أن نكون صوتاً صارخاً (مر3:1) ، ليس في الفيافي بل في آذان كبار الزمن والدنيا وأصحاب القرار ليس إلا، لأن ما يجري في شرقنا من المؤكد ليس صدفة بل علامة، وما إعلانها إلا علامات الأزمنة. لذا علينا أن نصنع مستقبلنا بحكمتنا ووداعتنا والمطالبة بحقوقنا، فنحن لا يجوز أن نكون عبيداً بل "نحن أخوة" كما يقول البابا فرنسيس و"نحن أحباء" كما يقول ربنا يسوع. وعلينا أن ندرك جيداً ماذا نريد وما ينتظرون، فإذا أرادوا لنا الرحيل والهجرة فَلِمَ الحديث عن الأصالة والأصلاء، عن الحضور المسيحي وقبول الآخر... فالأرض لنا ولهم، وفوقها نعيش نحن وهم وليس تحتها... وإذا خسرنا حقنا في أرضنا _ أقولها وبصوت مخيف ومؤلم _ فقد خسرنا كل شيء، وفي نهاية المطاف نذوب ونضمحل لأن الرحيل والتهجير كان بداية الحكاية ومن المؤسف، نهايتها أيضاً.
      فيا مسيحيينا،لا يجوز أن نكون عبيداً، فالمسيح ربنا سبق وأرشدنا إلى طرق الحق حيث يحررنا (يو32:8)، سلّحنا بثقة عدم الخوف وأعلمنا حقيقة الإيمان والمسيرة، فلا يجوز أبداً أن نكون عبيداً مطيعين، خنوعين، بل صوتاً وحقيقةً معلنة، كما لا يجوز أن ننتحل، كما يقول البابا فرنسيس، اسم المسيحية وفي باطننا وثني المسيرة، في عيش النفاق، بقول قداسته:"هؤلاء هم أعداء صليب المسيح، يأخذون الاسم ولكن لا يتبعون تعاليم المسيح". ألسنا اليوم، نحن مجانين الزمن، بحرب لا ربح منها بل كلنا فيها من الخاسرين، إن لم نوّحد كلمتنا، ومسيرة غايتنا، وإلا لا وجود لنا؟. أقولها خاتماً: كفاناً أن نكون عبيداً (يو15:15)، فنحن أحباء المسيح الرب، نعم وآمين.

 

211
في زمن .... فيه تمَّ ملْ الزمان
المونسنيور بيوس قاشا
  في البدء
ما أجمل هذه الكلمة، ففيها انتظرنا ملء الزمان كما يقول مار بولس الرسول:
"ولما تم ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة تحت الناموس" (غلا 4:4). وفي الزمان سارت مسيرة الله نحو شعبه الخاطئ ليخلّصه بفداء ابنه من الخطيئة، فتجسد وسكن بيننا، وكما يقول القديس أغوسطينوس في زمان:"نزل الله إلينا ليرفع الإنسان إليه"... والزمان أدخل الرجال والنساء والأطفال في مسيرة الخلاص وأصبحت ساعته فاصلاً بين عهدين قديم وجديد، قبل الميلاد وبعد الميلاد. وفي الزمان بعد أن أبدَعَنا الخالق قادنا إلى جرن العماذ لنكون في زمن الخلاص. وفي زمان أرسل الرب يسوع تلاميذه قائلاً:"اذهبوا وعمّذوا كل الأمم..." (متى 19:28)، وفيه بدأت بشرى الإنجيل، وكانت الكنيسة في زمن البشارة وهاهي لحدّ اليوم أمينة لمؤسِّسها وفاديها، ومخلصة بيسوعها ، لشعبها ومؤمنيها، ونحن فيها، أولادها بالعماذ وعشاء سيدها.وهاهو الزمن يتجدد ثانية بمسيرته الأليمة في قُرانا ومدننا منذ التاسع والعاشر من حزيران أولاً واستمرت المسيرة أكثر تعقيداً بل تهديداً وطرداً في زمن الرحيل الثاني يوم السادس من آب عيد تجلي الرب.ولعظمة كلمة الزمن في مسيرة الحياة ومسيرتي، اخترتُ فقرات من هذه المسيرة لتكون فقرات للتأمل والصلاة وإعلان حقيقة يسوع المسيح الرب الذي فيه كانت الحياة ونور الناس (يو4:1)... نعم الزمن .. والزمان تلك حقائق ، اليكموها:
  في زمن ** لا سلطان على الذات في السيرة والمسيرة، ولا مجال لنبذ الخطيئة من قريب أو بعيد، فهي حلال في حرام، وهي سيدة الموقف والمواقف وسلطانة العبيد والأحرار، عاشقة لوط وهيرودس وداود وأكيداً آخرين... فكل شيء مباح بل يجب أن يباح هكذا تقول العولمة في تلفازها ومذياعها وانترنيتها وآي باتها، والحقيقة مهما كانت رسالتها فصوت البابا بيوس الثاني عشر يبقى يرنّ قائلاً:"من المؤسف ، أن الناس يؤمنون أن لا خطيئة" ليس إلا.
في زمن ** تَعَلَّمنا حضارة تشويه الآخر ، بسوء كلمةٍ وبِتُهمٍ باطلة وإطلاقة رحمة قاتلة وكل ذلك كي تبقى الدنيا لهم. فيها ومن خلالها يزمّرون ويرقصون، وبكبرياء القامة يقيسون مسافة الطريق غير متذكرين _ ومن المؤكد غير مؤمنين _ أن الحقيقة "هي الطريق والحق والحياة "( يو6:14) ، وما تلك إلا حقيقة المسيح يسوع ليس إلا.
في زمن ** يقدّسون الدنيا ويكرّسون أزلامها في الآمر والناهي، ويعبدون الصنم والوثن والإنسان، ويجلسون على الكراسي ويستزأرون بالمناصب ويعلون بالجاه ويبخّرون الفساد ساعات الفجر والصباح والظهر والمساء وكل ذلك كعبيد لجنّة آدم الموعودة وطاعةً للشيطان الرجيم كي يدوم زيفهم في تدمير الآخرين الأبرياء وقتل الحقيقة في صمتها الكبير أمام البعيدين والأقرباء.
   في زمن ** تُقتَل الحقيقة بجنينها وفي عقر أصولها وعنوانها كي لا تظهر أكاذيب الزمن وحيل الكبرياء في تدمير الآخرين لمصالحَ رُسمت ولغاياتٍ مزيفة. وتُملأ البطون بلا شرعية، وتثرثر الأفواه بلا علم ومعرفة، وتَلعن الألسن رجالها ونساءها بضمير حاقد كريه.
في زمن ** ينعتون الإسلام بالإرهاب (والإسلام منهم براء)، وباسم الإسلام يقتلون ويحرقون ويهدمون ويدنّسون كل كلمة وكل عمل الله وما بناه الإنسان، وكل ذلك باسم الدين... ليس إلا.
في زمن ** كُتب على المسيحيين أن يدفعوا الجزية ويُعلنوا الشهادة بالثلاث، ونسوا أو تناسوا أصحاب الأمراء ودليل الوصايا والشرائع. إن المسيحيين مؤمنو الإنجيل قد سبقوهم إلى تعاليم السماء في شريعةٍ لعهدٍ جديد اسمه عيسى الحي يسوع المسيح... ليس إلا.
في زمن ** تموت الحقيقة ولا تُبان في الأيام عبر مسيرتها في ضوئها أو ظلامها بل في نهاية الأزمان حينما يأتي صوت العلي الديّان. وكيف أنهم فيها وبها ومعها أبعدوا الحقيقة فاهتزت الكراسي ودخلوا قاعة الاجتماع لدراسة خطة الدنيا والبرلمان ، وأُعدم الأبرياء وعلا صوت رب السماء: كان عليكم أن تفعلوا خيرا ً لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، وفي ذلك تكونون قد فعلتم لي ، "بما انكم فعلتموه باحد أخوتي هؤلاء الصغار( متى 40:25) "... ليس إلا.
في زمن ** هجّرونا من بيوتنا ولا زال الألم يملأ قلوبنا، والغفران سلعة بعناها ولم نشتريها، بل لم نشترِ مثلها أو شبيهة بها. فالمسيحية لا تكره أشخاصاً فهم صورة الإله بل تكره أعمالاً وشرورها فهي من صنع إبليس. ألم يقل ربنا:"أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم..." (متى 44:5).
في زمن ** أضعنا بوصلة الإله، "لتكن مشيئتك" (متى 10:6)، كلمتا بوصلة لمسيرة الحقيقة نحو السماء، ألم يقل ربنا:"اكنزوا لكم كنوزاً في السماء" (متى 20:6)، فلا زلنا حتى الساعة نولول على حالنا وما فقدناه، ومن حقنا أكيد، ولكن أليس "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً" (أيوب 21:1)... ألم أقل إننا أضعنا البوصلة شئنا أم أبينا وبدّلناها باتجاه لا نعرف نحو مَن وإلى أين، فقد ضاع كل شيء، وإذا جاء ابن الإنسان فهل سيجد إيماناً على هذه الأرض ( لو 8:18)؟.
في زمن ** تخرّجنا كلنا من أكاديمية الرحيل، وأخذنا نحمل حقائبنا وإنْ كنا في بطون أمهاتنا بدعوة من إرهاب وحواء ومكاتب بيع التذاكر والتأشيرات بشرعيتها أو بسرقتها، ونسينا أن الوطن أغلى من الإنسان، وما قيمة الإنسان بدون وطن!!!. فالوطن لأبي وابني وحفيدي وتسلسلي مهما طال أو قصر عمر الإنسان ومهما تكبّر ومهما قسى ومهما أرهب ومهما دمّر ومهما قتل لا محالة في ساعةٍ سيموت، عرياناً يفوت، والوطن يبقى شاهداً للحقيقة... وما أجمله حينما تكون تلك الحقيقة بدمائنا مكتوبة، وبتربة وطننا وعماذنا مجبولة، وبمسيرة إيماننا بالمسيح يسوع موعودة، وبكلمات إنجيلنا مرسومة وموسومة ، وتلك حقيقة المحبة ، ليس إلا .
   في زمن ** عذراً كثُر فيه الحديث الغير المسؤول عن موقف آبائنا المغبوطين وأساقفتنا الأجلاء وكهنتنا الأحباء ، وما الذي عملوه لنا ؟ وما قدموه لنا  ؟  ولكن نسينا أن نشد على ايديهم لنيل بركتهم بشفاعة صلواتهم ، شاكرين عطاءهم ، ووقوفهم مع كل انسان في ازمته ، وان نصلي لأجلهم جميعاً كي تكون نِعَم الرب معهم ومعنا، فالراعي لا ينام إذا ما ضاع غنمه، والشكر واجب لهم فهم يعطون بكل طاقاتهم وحسب إمكانياتهم وسهروا على حياتنا وذاعوا مصابنا من على منابر روما والأمم والدول والحكومة والإقليم، وإنني مؤمن إنهم يحملون عبء حياتنا ومعاناتنا في الصيف كما في الشتاء، ويجب أن نستمر ونبقى،هم ونحن ، أن ندق ويدقوا على ابواب أصحاب القرار ، حتى يقوم مخططو القرار ويعطوا كل شيء كالحاح الأرملة (لو3:18) ... وما تلك إلا رسالة سامية، وإذا حصل ما هو عكس ذلك فلكل حالة وقواعد شواذ... وتلك هي الحقيقة... ليس إلا.
   في زمن ** وبعد الشكر للمخلصين الاوفياء ، لا مكان لنا في البلاد، فالأغلبية شيعية مسلمة وأخرى سنيّة مسلمة وأخرى كردية سنيّة وفيلية وبعدها التركمانية والشبك والكاكائيين، ثم نحن والمكونات... هذه تقسيمات شعبنا... فأين محلنا من الإعراب وإنْ كنا أصلاء، وهذا إقرار التاريخ ومسيرة الأيام وليس إقرار أشخاص. ما نحتاجه أن نطرق أبواب الحكومة والإقليم _ وبكل قوة _ وأنْ نعزّز علاقتنا مع الشيعة والسنّة والأكراد والتركمان، ونثبّت حقنا وحقوقنا في دستورنا أولاً ثم لا يجوز أن نهدأ أو نسكت أو يحيط بنا التعب والإرهاق، فالواجب أهم أن نبقى نطرق أبواب الواعين من الأوطان، لذا علينا توحيد كلمتنا ومبدأ مسيرتنا وهدف غايتنا في ألمانيا وإنكلترا وبريطانيا العظمى وأستراليا وأمريكا، نبقى ندقّ وبلا هوادة فلا راحة في الليل ولا سكوت في النهار. ورسالتنا هذه من أجل أجيالنا كي لا نكون مهمَّشين ومنسيين وحَمَل إبراهيم ، وهنا لابدّ من إبداء الشكر لرؤسائنا المغبوطين الذين أدركوا الغاية فكانوا لها مخلصين وهكذا أساقفتنا وكهنتنا _ وللرب الشكر،  ان اكون في المسيرة ذاتها _ الذين حملوا عبء الرسالة في قلوبهم ونصبوها أمام أعينهم وعاشوا مرارة شعبهم، فطرقوا الأبواب ولا زالوا، وسيبقون في هذا الخط سيراً وسهراً، كلمةً وصراخاً، صوتاً وحقيقةً... هذه أرضنا ونحن لها ولابدّ لنا من حقوقنا فيها مع حبّنا لغيرنا ، نعم ونعم .
في زمن ** من خوفنا تركنا بيوتنا وحاراتنا، قُرانا ومدننا، وأمست كنائسنا بلا أنشودة وأصبحت بلا سدرو الصباح، وأصوات أجراسنا خرساء وهلهولة العرس بُحت أصواتُها، ولا زالت قبورنا تنشد مصلّيها فلا من مجيب... وكان الضياع... وهل كان قلبنا  ملتهبا فينا ( لو32:24) في نفسنا حتى لا نقرأ أزمنة التاريخ ومسيرة الوطن... ألم يكن خطف المطرانين إبراهيم واليازجي علامة البداية!!... ألم يقل ربنا وكانت هذه البداية ( متى 8:24)، ولم تكن النهاية... ليس إلا.
في زمن ** أبواب منازلنا على مصراعيها مفتوحة، وهواء الدنيا بِحَرّه وبرده، بهبوبه شمالاً وجنوباً، من التيمن والمغرب... في حمله وفي انفراده قد ملأ أسطح مكاتبنا وشوّه صور قديسينا ولم يعد لنا مكاناً نسمع فيه حُكمنا، ومتى تكون عودتنا؟... وهل ستكون أم لا؟.
   في زمن ** يقلعون جذور المسيحية من الشرق ويضطهدون مؤمنيها علناً وخفيةً، ونقولها صراحةً شئنا أم أبينا إلا القلّة المؤمنة بالتعايش والحوار وقبول الآخر، ولكن مهما كانت الصعاب ومهما زاد الاضطهاد وتفاقم ستبقى المسيحية والمسيحيون يتقاسمون الحياة ويبنون الجسور ويكسرون الحواجز ويبشرون بالعطاء ويغفرون بالتسامح ويشهدون للدم من أجل الحياة في "أن يبذل الإنسان نفسه فداءً عن أحبائه" ( يو 15:13). والرسالة المسيحية تدعونا إلى عدم الهرب من الشر والألم بل أن نقاوم هبوب العواصف وأمطار الشتاء وسيول المياه ورياح الاضطهاد وإطلاقة الحقد والكراهية بحمامة السلام والغفران... فنحن شعبٌ لرسالة وبشارة ولا نقبل أن نفنى ونموت، فمعركتنا _ يقول مار بولس _ ليس مع اللحم والدم بل مع الأرواح الشريرة  (متى 17:16) ، فإما أن نوجد كشعب أصيل وإيمان أكيد وإما أن نموت على حنايا الطرق وزوايا الإقامة ليس إلا.
في زمن ** أصبحت الصلاة عبئاً، بل نيراً، لا يحمله حتى المدّعين بتقواهم إلا بعد تردد وتأوّه، والواعظون بخطبهم والقائمون على فروضهم لم يعد في جعبهم بضاعة الصلاة بل باعوا واشتروا ما شاءوا فأضاعوا، والصلاة _ كما أعلم _ مفتاح باب السماء، والويل لنا إذا أضعنا المفتاح ، نعم ونعم .
في زمن ** قصّرنا فيه ثوبنا، وأطلنا ذقننا، وعنترنا شواربنا ونوّعنا قَصَّةَ شَعرِنا، ولم يبقى لنا إلا أن نحصاه عدداً ولوناً، ولكن لا حيلة في ذلك فالخالق العظيم أسمى وعالم بكل شيء، فقد قال:"شعور رؤوسكم كله محصى" (متى 30:10).
في زمن ** لم يعد للكتاب مجالاً ولا قيمةً تُذكَر ولا فائدة منه في العالم كما في الحكاية، ولا للقلم يداً تمسك ولا لليراع مَن يحرّر بحبره ورصاصه، فكل شيء بلمسة زر يأتي أمام الشاشة ضمن قرية عالمية يأتيك ما يحلو لك وما تشاء وما لا تشاء، ما تشتهي وما لا تشتهي. والمشكلة هنا ربما لا نعرف أن نختار في الإصلاح ولا يقبله أبناء الدنيا، ولأن الفساد ربما مسيرة الكثيرين،وهل ستنتقل عدوته الى اجيالنا ، وسنبقى أمام سؤال وجواب، والنهاية ستكون ما نشاء وتموت القيم ، ويضيع الكتاب ، ويُشيّع المعلم ،  ليس إلا.
في زمن ** نبرّئ أنفسنا وأجسادنا، ونجعل من أفكار ذواتنا طاهرة نقية، والحقيقة لا يعلمها إلا خالق الخفايا والظاهر. وما يبان ما هو إلا حقيقة مزيفة وما هي إلا من صنع الإنسان، بل من صنع الشيطان.
في زمن ** الحكم لكبار الدنيا بأوامر هواهم وليس بما هو خفاهم، ولهم يجب أن نكون عبيداً ومطيعين وخنوعين وإلا فنحن متمردون وعلينا يصدر القرار والقانون، ومهما أرادوا لغيرهم فقد سبقوا  وسلبوها ، وما نحن إلا أرانب ، ويريدون أن نعيش تحت رحمتهم فهم الكلمة والآية، والآمر والناهي والرسل يعلموننا ان نكون خاضعين في الطاعة وليس عبيدين في الخنوع (رومية 3:12)  ، والحقيقة وقبول الاخر برأيه وفكره وعيشه ومهما دُنست الحقيقة ستظهر يوماً " لانه ليس خفي الا سيظهر"  ( متى 26:10)  ،  ليس الا .
في زمن ** نقدّس يوم الرب، نحياه بعشائه، والشعب يصرخ نهاراً وليلاً:"تعال أيها الرب يسوع" (رؤيا 20:22) ، فيه نقرأ كلمة الحياة، في إنجيل الخلاص، والمسيحي يشارك إذا شاء أو متى شاء، ولا يسأل إن كان واجباً أو محبةً أو إيماناً أو عادةً، فإنْ طالت الصلاة ضاع القداس بالدمدمة والتأوه، وإن اختُصرت الصلاة على الكلمة وبس ، دخلنا وخرجنا، والويل إذا سَببُ كل ذلك من القائمين عليها، فكل شيء حسب المزاج والأوقات، ولكل حالة حالها ولكل حادثة حديثها ولكل قداس صلاته، وأعمال الرسل يقول:"وكانوا يجتمعون بقلب واحد ونفس واحدة (أعمال 32:4) لكسر الخبز"... إنها القيامة... نعم ، ليس إلا .
   في زمن ** يدعونا الزمن إلى أن نغيّر، نغيّر ونعبر من عادة جمود الإيمان وإيمان العاطفة والإيمان الاحترامي إلى إيمان نابع من دماء الشهداء فكانوا أوفياء لنكون نحن أمناء، ونحمل مسيحيتنا ليس على أفواهنا بل في عيشنا وعمق عماذنا ومسيرة شهادتنا واستشهادنا، والحقيقة في حملي لحقيقة سيدة النجاة أن الشهداء هم في كل حين أحياء ولا يجوز أن تعبر هذه المحنة وهذه الكارثة _ وهي الواقعة الأليمة _ دون أن نكون قد عرفنا حقيقة إيماننا، وإلا لماذا نعيش فيه ونحيا!!!.
   في زمن ** مخطط إبادتنا أكبر من أفكارنا وأبعد من عقولنا، والتاريخ ملئ بالمؤامرات ولكن التاريخ ليس مؤامرة... علينا أن ندرك جيداً نحن المسيحيين لسنا هنا للبكاء رغم الأيام الظلامية والجاهلية، فالمسيحيون ليسوا خرافاً، بل نحن ضمير الشرق وحضورنا يجب أن يغيّر المجتمع وألا يبقى الإنجيل كلمة فارغة. فالإنجيل مشى على الطريق، أرض الحضارة، لا نموت، نحن في الشرق لنا رسالة وحضور وحقيقة. نعم، لقد غرقنا بأخطائنا وخطايانا، إننا في صراع مذهبي وقومي، وما ينقصنا هو أن نرفع أنظارنا إلى العلى فإن خلاصنا قريب... فلن نموت ساكتين، ولا يجوز أن نصمت صمتاً مريباً أو أن نرحل خوفاً، فلنا رجاء بالمسيح الذي قال:"أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى20:28). وأملنا برؤسائنا الكنسيين المخلصين الأمناء والأوفياء لرعايتنا وخدمتنا ببذل الدم والعطاء رغم مسيرة الأيام وقساوتها. فالزمن زمن الشهادة وليس زمن الخذلان، ليس إلا.
   في زمن ** جعلنا الكذب بخفيفه وثقيله، ببياضه وسواده، بضاعة رابحة في سوق الدنيا والجاه، والحقيقة لا تقولها إلا الوصية "لا تكذب"، ولكن الناس آلهة هكذا قال المسيح الحقيقة . ألم يقل الكتاب "أنكم آلهة" (يو34:10) . وفي الكذب يكمل المراد إذ قيل: اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون. ومن المؤسف أن يكون كلامنا ، وأي كلام، بضاعة لزماننا بها نشتري ذمماً ، ونبيع ضمائراً . المهم في ذلك أن نكون في حسن سيرة امام الاسياد ، ومن اجلهم ، وكما يشاؤون ، وننسى ان الرب قال: دعوتكم احبائي لاني اعلمتكم بكل شيء" ( يو15:15) ، وايضاً "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (متى 37:5).
   في زمن **مع الكذب جعلنا أيضاً من الرياء طريقاً وفي الفساد حقاً ومن الرجاسة نعيماً، وأبدلنا وصية الحقيقة بوصية الزمن، وأرجعنا حكم السواد وكتبنا دستوراً بتوقيع أخنوخ وثبّتناه ، فغسل بيلاطس يديه ليعلن براءته ( متى 24:27) ، وأكد حنان وقيافا أنه لابدّ أن يموت (الحقيقة) فقد جدّف ( متى 65:26) ، ولكن الحقيقة كان " صامتاً لم يفتح فاه أمام الشر" ( اشعيا 7:53) ، فبسكوته أعلن جريمة الإنسان في الرياء والكذب والفساد، في الخطيئة والرجاسة، في الغيرة والحسد، في الشر والإثم، في السلب والنهب... وكل هذه اجتمعت في قبر الجمعة، وفي مخطط الله كانت القيامة، ففضُحت الشرور وهُدمت القبور وزال النفور وحتى الدهور تبقى الحقيقة هي القيامة بل هي المسيح يسوع... فما أطيب حكمكَ يا رب، وما أعدل أوامرك يا رب، وما أطيب نعيمكَ يا رب، وما أجمل طريقكَ يا رب... نعم وأمين، ليس إلا.
   في زمن **عُكست الآية فقيل "كن ظالماً وانعم بمقتناك حتى في ليلاك"، وحقيقة الآية تقول:"نم مظلوماً ولا تنم ظالماً"... والظلم رسالة يحملها الظالم عن حقده وغيرته على الحقيقة. فالكتاب يقول:"لا يرث الظالم ملكوت الله"، كما يقول:"بعرق جبينك تأكل خبز حياتك". فهل فكّرنا في غيرة وحقد قائين على أخيه هابيل، وامتلأ قلبه وأكمل مخططه القاتل... واليوم ، الظلم أنواع متعددة يُرسَم ويُخطط وينفذ، في الغاية والمسيرة والهدف... فلكل غاية مسارها ولكل مسيرة رجالها ولكل هدف غايته، أحياناً بكلمة نظلم بشراً وأخرى بشهادة زوّر نقتل بريئاً، وثالثة بسرقة نُميت عائلة،  وأخرى يرسمها الإنسان كما يشاء فيكون مخيفاً في واجهته وشريراً في عمق أفكاره وظالماً في حقيقته... فلا تنم أبداً ولا تسكت أبداً في قول الحقيقة، ولا تخف إذا ما كنتَ مظلوماً فالرب قد ظلموه قبلك، هو الذي قال:"لماذا تضربني ( 23:18) "، فهو لم يظلم أحداً، وهذه هي الحقيقة ، ليس إلا.
   ختاماً في زمن ** يشوّهون فيه وجه المسيحية كما ينكرون صليب المسيح، والحقيقة إن المسيحية صليب وإنجيل وكلاهما يحملان سلاماً ووئاماً إلى الناس فراداً ، ووحداناً،  وزرافات،  وجماعات. والبابا فرنسيس يقول:"لا وجود للمسيحية بدون الصليب، ولا وجود للصليب بدون يسوع المسيح. فالمسيحي الذي لا يفتخر بالمسيح المصلوب هو شخص لم يفهم معنى مسيحيته... هذا هو سر الصليب. فالصليب الذي نجده في كنائسنا وعلى المذبح ليس للزينة وليس مجرد علامة تميّزنا عن الباقين، بل الصليب هو سر، سر محبة الله" (القديسة مرتا، الثلاثاء 13/5/2014). والكنيسة تقوم على الصليب كما قامت على الدماء.. وصليبنا أن نشهد لوطننا وتربتنا وان نحيا له حبا به وبانجيل مسيحنا ولكن اليوم اصبحت شيئاً آخر. كما نشاء فنحن نختار ايات لنا فنجعل لنا انجيلنا وننسى انجيل ربنا فنحذف منه ما نشاء ونجعل ايات كما نشاء ، فالحقيقة ان شهداءنا الاوائل حملوا الصليب وحملوا الشهادة وغسلوا تربة الوطن بدمائهم ولم يحملوا حقائبهم ورحلوا ، بل كاموا شهداء للحقيقة وشهود للأيمان ، واقروا بان يسوع المسيح ربنا هو مخلصنا وهو ابن العلي كما دعاه الملاك ،، وما رسالته إلا الحب ، أحبَّ حتى أعداءَه ،  وعلّمنا بدورنا ان نحَّب،  ففي الزمن .. تمَّ ملء الزمان .. بل ملء الحب .. نعم وآمين .

212
سنبقى ننشد  قالاتِ إيماننا  ..
بأفرامها ويعقوبها .. مهما كان برديصانها

المونسنيور بيوس قاشا
في البدء :
   نعم، أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا، وعاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها، وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار، ومنها أخذنا هويتَنا واصطبغنا بلون عماذنا وبنينا حضارتَنا ومذابحَ قرابينِنا. ونحن نفتخر بأننا شرقيون مسيحيون ولسنا مسيحيين من الشرق، فنحن لسنا أقلية بل نحن سكانٌ أصليون، فمسيحيتنا غنىً لشرقنا ولا يجوز إنكارُ ذلك فنحن منه وله ومن أجله، وفي ذلك يقول الإرشاد الرسولي:"إني أشجعهم على ترسيخ
هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان" (عدد35)، وأيضاً:"لا تخافوا من أحد ولا تضطربوا، بل قدّسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه رباً، وكونوا في كل حين مستعدين للردّ على كل مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم" (1بط 13:3-15عدد 36).

الإرشاد الرسولي:
   قال : المسيحيون، لكونهم جزءاً لا يتجزأ من الشرق الأوسط، أقاموا على مرّ العصور نوعاً من العلاقة مع محيطهم يُشكل مثالاً يُحتذى به، وتفاعلوا مع تديّن المسلمين وواصلوا عيش حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم حسب إمكاناتهم وضمن حدود الممكن، ونتجت عن ذلك حياة تكافلية متميزة. ولهذا السبب من المنصف أنْ نقرّ بإسهام اليهود والمسيحيين والمسلمين في نشأة ثقافة غنية في الشرق الأوسط (عدد 24).
   نعم، وكما يقول الكاردينال بارولين أمين سر حاضرة الفاتيكان في 7/10/2014 وفي القداس الإلهي الذي شارك فيه السفراء البابويين في الشرق الأوسط قال:"إن هذه المجتمعات التي تقطن في هذه الأراضي منذ العصور الرسولية تجد نفسها تواجه حالات الخطر الجسيم والاضطهاد، وكثيراً ما تجبر على التخلّي عن كل شيء والفرار من بيوتها وبلدها. ومن المحزن أن نرى كيف أن قوات الشر مستمرة وكيف أن بعض العقول الفاسدة أقنعت أن العنف والإرهاب أساليب يمكن استخدامها لفرض إرادة المرء وسلطته على الآخرين وتحت راية دين معين".
   فالمواجهة ضرورية، وكلمة الحماية يجب أن تكون، فقد قال أيضاً:"الكنيسة لا يمكنها أن تبقى صامتة أمام اضطهاد أبنائها وبناتها، ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى محايداً إزاء الضحايا والمعتدين"، وأكد "أنه لا يجب إهمال أي وسيلة قد تُعَدّ نافعة لتخفيف معاناة المحتاجين ووقف المعتدين الذين لا لغة لهم سوى العنف والإرهاب".

حقيقة حياتية :
   أردتُ في هذا المقال وبشفاعة محبتي لقرائنا الكرام ، أن أواصل المسيرة مع الحقيقة وأبدأ فأقول: إن كلامي ليس إلا غيرة ايمانية " غيرة بيتك أكلتني " (يو 17:2)   وليس كبرياءً وتعالياً ، كما ، ليس ألفاظاً تجارية ولا دعاية إيمانية ولا مساحة إعلانية تلفازية، وإنما حقيقة حياتية تشهد لمسيرة الألم في بلد خُلقتُ من ترابِه، وجُبلتُ من طينه، ونُفختْ نسمةُ الروح كي أكون لله الخالق المحب في المسيح الذي باسمه اعتمذتُ، وبنعمته بدأتُ مسيرة الحياة في مآزيق وزوايا طرق الدنيا، وعبرها بدأتُ أقرأ وجودي كدعوة واختيار إلهي يساعدني لعيش مخطط الله ومشيئته مع رفاق المسيرة، وفيها اكتشفتُ إرادتَه وما يريده مني، حاملاً ضعفي إليه ليكون قوتي كي لا أتكبر بل يحيط بي تواضع الزمن في خدمة العلي.
   أقولها وعذراً ، كما ، وليست غايتي أن أجرحَ مشاعر الآخرين أو أقف مانعاً في مسيرة طرق الحياة، للسائرين على دروب الزمن ان حصلت كما ليس في جعبتي حقدا وكراهية ، ولكن أقول: إن مسيحيتَنا إذا ما سلكت سبل الهزيمة، وطرقَ الرحيل، تعني ذلك ساعداً أيمناً للإرهاب بصوره وتنوعاته، وإنْ كان المخطط إفراغَ بلدنا،  فالعتب علينا إنْ كنا في الوقت نفسه عبر مسالكَ أخرى عديدة تُؤَمِنْ لهم سبلَ الرحيل بانواعها المختلفة في لمّ الشمل ، وفي الكفالة بانواعها ، الدنيوية، والعائلية، والمقدسة، والمرتشية، والحقوقية، ولكل واحدة منها ، اسعارها وثمنها وحساباتها وتأشيراتها، وأمام بوابات عديدة ، من حيث ندري أو لا ندري،  فقد حصل لهم ما أرادوه وما خططوا له، واكتمل لهم المشوار وكما طاب لهم. أما الحقيقة، بالنسبة لي،  تعني أن نواجه الحياة بمآسيها وجلجلتها، بزيفها وخياناتها، كما هي واقع الحال كي لا تتعرض للنقد والطعون، بل الحقيقة تدعونا إلى أن نتحمل المسؤولية التاريخية إزاء صوت السماء بصوت الآب ورب الأكوان إذ قال:"وإذا ما جاء ابن الإنسان، أترى يجد الايمان على الأرض ( لو 8:18) ؟".

خطوات حازمة:
   نعم ، الحياة هي للأقوياء في الايمان ، وفي شهادة الدم ، والحقيقة ليست للراحلين والضعفاء أو للانتهازيين،الذين يزيّفون صباحات النهارات ويهللّون لساعات المساءات معلنين انهم ربحوا بالمال الفاسد ما شاءوا وجعلوا لهم " اصدقاء من مال الظلم"  ( لو 9:16) ،  بل علينا أن نخطو خطوات حازمة لتأمين الحياة والوجود وإنْ أصبحت أيامنا كأيام سواد حصلت قبلنا لشعوب بريئة، ومرّت على أوطان آمنة، فاليوم صحيح نتعذب ولكن أقولها ليس بوحدنا، كما إننا ليس بوحدنا في العالم نُضطَهَد، ولكن ما تدعونا إرادة الله أن ننظر بعين الحكمة في انتظار كلمة الآتي الينا والعريس الذي " لا نعلم ساعته" ( متى 36:24) ، فإيماننا بكنائسنا هو السبيل والحقيقة كي لا نكون دائماً أهدافاً للقتل والتكفير، ولا حملاناً كما أراد إبراهيم لابنه... فالصمود رسالة بلا خنوع، ولا يجوز أن نتنكّر لإيماننا وحضارتنا وثقافتنا وإلا تعرضنا للذبح بطرق حضارية منها قطع الرؤوس أو التشريد،او الابعاد او النكران، وحيل الزمان عالمة بما يصنعه الانسان  فهذا ما هو إلا عملية تدمير لوجود أثني،  وتطهير عرقي،  وجريمة إبادة جماعية وضد الإنسانية بل جريمة حرب... صحيح ربما لا يكون مَن يحرك ساكناً ليحمينا من حقيقة الواقع، ولكن التاريخ لا يكتبه إلا حاملو رجاء الإيمان بلا خوف في إعلان فساد وظلمة وجريمة تباع بجزية مرفوضة لخلافة بائسة من اجل رحيل مخيف  .

دينا ودنيا:
صحيح _ ولا جدل أو نقاش على الحقيقة _ أن هناك دواعٍ عديدة لترك الوطن، وأسباب ومسببات وافية لحمل الحقائب والرحيل وإعلانات الأغراء للمودة الحياتية في عيش مسيرة تائهة كان لها بداية ولم نعلم أصولها ولا زلنا لا نعلم نهايتها وختامها ومداها في البعيد أو القريب، بل كل شيء كالحٍ أسود، غائم، مسبباً عواصفَ اضطهادية، وبروقاً تدميرية، ورعوداً اقتلاعية، والحقيقة واحدة ليس إلا ، إنهم طردونا وقتلونا وشُنَّت حربٌ معلَنة على كنائسنا وصلباننا وحتى إنجيلنا وإنْ ذُكر في الآيات والكتب فنحن أمام أنظارهم لسنا إلا أقواماً غرباء على مسيرة الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله، وأقرباء من غابات الوحوش وقوتها ومن مسميات سماوية تكفيرية ملؤها البغضاء، فيُمارَس ضدُنا الاضطهادَ والتمييز والتخويف وترك الآلهة وكأنهم لا يعملون إلا لحقيقة إيمانهم، وما ذلك إلا صوت الله وآيته ، وإرادتهم صورة وكلمة شئنا أم أبينا لتصوير الجنة إنها مُلكهم ولا يحق لنا أن نكون حتى جيرانهم، فنحن لا نستحق إلا الرجم والقتل والطرد والعيش خارج المدينة بل الرحيل بعيداً وبعيداً، فالأرض التي نملكها ونحن أصولها أصبحت لهم ديناً ودنيا، سياسةً ومسيرة، وتلك حقيقةٌ لندركها وعلامةٌ منيرة ليس للقلق فقط بل نقطة ضياع في حقيقة الحياة.

اله الحقيقة:   
إننا أمام زمانٍ فاسد، وتاريخٍ مزيف، وحياةٍ صاخبة، ملؤها حب المال والدنيا والمنصب والجاه، وكل هذه تباع وتُشترى من كبار الزمن، بعددهم وانتماءاتهم، وميولهم وشهواتهم بفلس مسروق وبدينار ملؤه شهوة الدنيا والعين وما إلى ذلك. وما تواجهه كنائسنا وشعوبنا وصلباننا ما هو إلا خطراً كارثياً ،بل خطراً مستوحشاً، يجعلنا في ضياع الزمن هذا، وفي مجاهل الدنيا. والحقيقة يوصينا بها الرسول بولس قائلاً :"تجنبوا كل طمع وغش"، وكلَّ إِثْمٍ وَزِنًا، وَشَرٍّ وَخُبْثٍ،وحَسدٍ وَقتلٍ،  وَخِصَامٍ وَمَكْرٍ وَسُوءٍ ( رو1: 29 ) ، وفي ذلك تُصلَب الحقيقة، ومن على الصليب تنشد السماء وترتفع فوق موجات الأثير معلنة لتجّار النميمة، والافتراء والدرهم، والدينار والسلاح والساطور والحربة والإطلاقة، وهم لا زالوا على بسيطة الأرجل،أنَّ الحقيقة لا تموت ، وأنّ التاريخ يعلنهم، أنهم ليسوا الأقوياء وإنْ كانوا على الكراسي جلساء، بل أضعف الضعفاء، فقد بيع إله الحقيقة لشراء منصب العسكر والإطلاقة والحربة، وستبقى كلمة عيسى الحي المسيح يسوع ترنّ في أجواء الدنيا وأثير الزمان "تعرفون الحق والحق يحرركم" ( يو32:8) و"لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد..."(متى 10: 28)  ولا تهتموا إنْ سرقوا منكم أموالكم ومقتناكم ومناصبكم وكراسيكم وجاهكم فالحقيقة ستبقى حقيقة مهما ألبسوها ثياب الصفاء المزيف والاستحقاق المباع والكمال المفقود، والفساد المنّزه، ودعوة السماء المزورة في الافتراء، فالسماء لا تتكلم في مسيرة الزمن بل تُصدر حكماً في نهايته، بقولها "تعالوا يا مباركي أبي رثوا المُلْكَ المُعَدّ لكم منذ تأسيس العالم" ( متى 34:25)  فلا نخافهم وإنْ قالوا عنا نصارى وكفّار... أليست هذه الحقيقة!!.


بوصلة السماء :
   وفي الإنجيل المقدس كتاب الحياة المفتوح في مسيرة الإنسان وخلاصه مساحة أولى لمفهوم المواطن والانتماء، مفهوم الحقيقة والعدل، مفهوم المسامحة والغفران، إضافة إلى أكبر مساحة ألا وهي المحبة والحب حتى بذل الذات... هذا الابداع في قيمة الحياة منحها الله للإنسان حيث نفخ فيه، وأرسل روحه، فجعلنا في ملكوت جديد ودعانا حاملي بشرى المحبة والخلاص، وجعلنا والصليب مسيرة الألم من أجل حقيقة القيامة في الحياة فقد قال:"مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا" ( يو25:11). فالمشكلة  أننا أضعنا بوصلة السماء وأتينا بدلها بوصلة الجحيم، وجعلناها حقيقة مزيّفة، وأصبحنا نتعاطى مع الجنة وكأنها مزرعتنا وحقلنا، نُدخل إليها وإليه، مَن نشاء ونسجلها بأسماء شياطين لأنه هكذا أردنا وهكذا فَتَونا بين جنة السماء وجنة الإنسان، وبدأنا نفسر فنطيع أحلامنا بمفهومنا، ونقرأ آياتِنا بألسنتِنا وعيونِنا، وصممنا على السير في ظلام السيرة والمسيرة بعد أن نصّبنا أنفسنا أسياداً وبامتياز، وأصبحنا لا نرى حقيقة الكتاب المفتوح من أجل الحقيقة، وحقيقة الصليب من أجل الخلاص.   وفي ذلك أقولها: مهما حصل، ومهما قيل، ومهما كُتب، ومهما أُنزل، ومهما ومهما...، سيبقى المسيحي وفياً لإنجيله وأميناً لحمل صليبه، ففي ذلك تكمن الحقيقة مستسلماً لرجاءٍ لا يخيب.
   
أفرامها ويعقوبها:
   ما نحتاج إليه أن نتعلم طريق الحكمة فلا نخاف من هبوب الإعصار ورياح الاضطهاد حتى لو كان السبيل رسالة الاستشهاد.والبابا بندكتس يقول في هذا الصدد " المسيحي قبل كل شيء شاهد والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الايمان بل تنشد ايضا حياة متوافقةمع هذا الايمان نفسه للرد على متطلبات اناس زمننا " ( الكنيسة في الشرق الاوسط فقرة 67)  فالحب لأرضنا صبغة عماذنا وشهادتنا ، وقلوبنا تفيض بنِعَم إيماننا ولا أجمل!!!. أيجوز أنْ نفنى ونموت وننكر حب أرضنا فنشارك في اقتلاع جذورنا التي زمّرنا لها سنين عديدة وأنشدنا فيها تراتيل المحبة للوطن وقالات الإيمان بأفرامها ويعقوبها وغيرهم، ومن المؤسف أن يكون ذلك قد سبّب في  خوفنا وفزعنا وعدم تلاحمنا... أخاف من سلطان الدنيا على الذات ومن والي الخلافة على حقيقة الصياد.

عوسج وشوك :
   نعم، كل يوم تتفاقم معاناتنا ويتعمق عوزنا وتزداد إهاناتنا وتهميشنا، ويكبر ألمنا نفسياً واجتماعياً وفكرياً. وهاجس المستقبل وما يحمله إلينا في طيات مسيرته يُورق نومنا ويبلبل أهداف أفكارنا ويشتّت أمنياتنا ونُمسي ونُصبح ونُضحي سؤالاً بلا جواب، وإذا ما كان الجواب فكله حسرات وآهات، وأصبحنا عمياناً ولا نرى وأفواهاً ولكنها بكماء وألسنة ولكنها بلا نطق وحديث، وصَدَقَ قول المسيح:"لهم آذان ولا يسمعون ولهم عيون ولا يرون" ( متى 13:13) ، وأصبحت حياتنا لا تُنبت إلا عوسجاً وشوكاً ولماذا كل هذا!!!... أليس ذلك دليل وضياع وتشويه للصورة الحسنة التي خلقنا فيها إله إبراهيم وإسحق ويعقوب... واله اسمعيل ..الاله المحب والغفور!!!... أليس ذلك ضياع للقيم بمفرداتها ودمار في وصمة عار على جبين المنادين باسم الله وباسم القيم وحقوق الإنسان بعناوينه المتعددة في إبادة بشرية وإنسانية، كما تاهت حقوق الحيوان والنبات والذي لم تؤذيه شراك النار لا زال متسلقاً في مسارات فكره الضيقة في غايات وأنانيات وفي حياة حاقدة وكريهة وتحت أنظار منبر قادة العالم المزيَّف ورؤساء الأزمنة، عبيدِ الدنيا، وكراسي الصفوف، أمكنةِ الغش والرياء،  وقراراتِ كبار العالم وحكّامِه. وأمام هذا الشر كلِه ، والتجارة المزيفة هذه تبقى كلمة المسيح ترنّ في أذان المخلصين،  حاملي حقيقة الحياة "السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول" ( متى 35:24)

الخاتمة
   نعم، تلك حقيقة الحياة، ومعها لن نكون عبيداً لسياسات خارجة عن إرادتنا، والسكوت ما هو إلا علامة الردّ والرفض ليس إلا... فبئس وطن لفظ أبناءه وسارت قوافلهم وفي أحمالها يأس وقنوط.   لذا فلا خيار لنا إلا الصمود والبقاء في أرضنا كي لا نضيّع تاريخاً رافقناه في أيامه ورافقنا في مسيرة حضارتنا وبنائنا، وكُنّا له شهوداً وإيماناً، وحملناه في قلوبنا رسالة ومحبة كما هو الحال مع المسيح ربنا وصليبه المقدس... وهذا هو صليبنا... فمَن خسر أرضه خسر كل شيء.
   فالضرورة هي الوجود المسيحي في بلدان الشرق أوسطية، كما إن الرجولة ما هي إلا أن تجعل الناس يعيشون بأمان ورجاء لأن المستقبل هو لِمَن يزرع الرجاء في القلوب... فالأرض أرضنا، ولنا الحق فيها، ونحن فيها أصيلون منذ ألفي سنة ولا يجوز إنكار المسيح ، ولا يجوز الرحيل في ازقة الحياة تائهين وكأننا لا نملك أرضاً ولا مسكناً ، فأرضنا ، أرض الميعاد ، أرض الله والأنبياء ، ونحن أصحابها ، فلا نسيلُ دموعَ أرضنا بسبب جرمنا وتدميرنا لذراتها ، إنه تراب مقدس ونحن أبناء هذا التراب مهما لوّنه الاشرار وهذه تجربة المسيح الثالثة " قال له ابليس : "أعطيك كل هذه الممالك إن خررت لي ساجدا" ، أجابه ربنا يسوع : " للرب الهك تسجد وإياه وحده تعبد " ( متى 1:4-11).. نعم مع المسيح الرب نقولها كلمة وبشرى وحقيقة فللرب السجود وبه يليق العبادة وسنبقى ننشد ونزمّر قالات ايماننا بافرامها ويعقوبها مهما كان برديصانها ليس إلا .. نعم وآمين .

213
مسيحيونّا .. بين سراق الحواسم وإرهاب الجواسم

المونسنيور بيوس قاشا
   في البدء
   عذراً... أبدأ هذا المقال بما كتبه وعلّمه وبشّر به روح النبوّة في الكنيسة
 وصوت الحقيقة في حمله لرجاء الخلاص... إنه الإرشاد الرسولي، إرشادالمسيرة  والشهادة والاستشهاد، شركة وحياة، إنجيل الألف الثالث في حقيقة ربنا يسوع  المسيح، الحقيقة المطلقة والوديعة الحسنة والإعلان السماوي في الخلاص والقيامة "وفيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس" (يو4:1)، فهو "الحي الذي لا يموت" (لو5:24).

   حقيقة الارشاد
   ففي الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2012 وبمناسبة احتفال الكنيسة الجامعة بعيد ارتفاع الصليب المقدس، سلّم قداسة البابا بندكتس السادس عشر وثيقة الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط وحمل عنواناً "شركة وشهادة" في احتفال مهيب أُقيم في بيروت، أصل الشرق ومنبعه، قلبه وكلمته، وحمل الإرشاد إلى مسيحيي الشرق مخطَّطاً إيمانياً لعيش الرسالة الإنجيلية في إيصال بشرى الخلاص إلى أبناء المشرق المعذَّبين، داعياً إياهم إلى التمسك بالأرض وعيش الرجاء، في إبعاد اليأس مهما كانت طريق الزمن قاسية.
   فقد جاء في الصفحات التي حملها ما نصه:"الشرق الأوسط بدون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله" (فقرة 31). وأيضاً "إن الشهادة المسيحية أولى أشكال الرسالة، وهي جزء من دعوة الكنيسة الأصيلة" (فقرة 66) و"سيبارك الله سيرتكم وسيهبكم روحه لمواجهة التعب اليومي، "لأنه حيث يكون روح الرب تكون الحرية"" (2كو17:3) (فقرة 36).
   ويناشد الإرشاد المسيحيين ويحثهم على البقاء في الوطن وعدم بيع الأملاك (فقرة 32)، ويؤكد حقيقة الألم والاضطهاد فيقول:"يشعر المسيحيون بنوع خاص في هذا الشرق بأنه شرق تقييدي وعنيف، ويجدون (أي المسيحيون) أنفسهم غالباً في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان الأمل،  بسبب الصراعات وحالات الغموض. كما يشعرون بالمهانة، ويعلمون أنهم ضحية محتملة لأي اضطرابات قد تقع" (فقرة 31).

   الواقع والاضطهاد
   نعم، ونعم وصحيح، حلّ ما حلّ فينا بعد التاسع والعاشر من حزيران الماضي، ثم السادس من آب الماضي أيضاً ومن عامنا هذا حيث النزوح الثاني وبداية الكارثة بحق وحقيقة، بمآسيها وتبعاتها، ولا زالت تجرّ أذيال اليأس والقنوط حتى الساعة، كما ملك القدر الأسود على مسيرة الحياة مما جعلني أعيد ذكرياتي إلى ما حلّ بكنيسة سيدة النجاة واقتحامي لإحصاء عدد الشهداء والقتلى وكأن الكارثة آنذاك كانت جرس إنذار وناقوس ميعاد لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21) من طرد واضطهاد، وقتل وتهجير، ونهب لأملاكهم،  وسرقة لأموالهم، والاستيلاء على بيوتهم، كما تذكرتُ جيداً تلك المخطوطة التي قرأتُها عن مذابح تركيا 1915 وأودت بحياة ملايين المسيحيين وبالخصوص من الأرمن، حينذاك أدركتُ أن الواقع هو الاضطهاد، والحقيقة هي القتل والذبح والتهجير، وآلتها السيف والإطلاقة والساطور والتحقير والتكفير من كبار الخلفاء وعبيدهم الأمراء ومن صغار الزمن سرّاق الحياة، وغير مبالين بأن الوطن والإنسان هبتان من الله لأبنائه، وإن الخليقة صورته. وبئس المخطِّطين والمنفّذين والمدّعين والمكفّرين فما هم إلا أشرار... إنهم أحفاد هيرودس وبيلاطس الذي خلط دماء الجليليين بذبائحهم (لو1:13) وكأن التأريخ يصف لنا السيوف والمسلَّطين ورسالتهم الشريرة في الدنيا للبقاء، ففي ذلك ما هم إلا بشر مفترسون وأمّة قاتلة ودولة إرهابية تذبح الأبناء الأصلاء كي تقلع جذورهم من التاريخ والحياة، وجعلت من حقيقة الكتب رسالة مزيَّفة ليس إلا.

   دموع راحيل
   كان العالم صامتاً أمام كارثة كنيسة سيدة النجاة، وواصل صمته أمام كارثة تهجيرنا وقتلنا ،  إلا ما هو له ولمصالحه... فهل صمته هذا كان استجابة لغنى خزائنه من نفوط الوطن الجريح، أم لأنه كان راضياً ليرى ويشاهد بل ويتفرج وربما كان عاجزاً عن قيامه بأي عمل ما، يوقف زحف الإرهاب في أرض القداسة حتى أدرك الأشرار إنهم ينتشرون بسلاح من خزائنهم، ويعبثون بالقيم في هدم المزارات والكنائس والمعابد والمقابر وتفجير المنائر والمراقد، في تشييع اليونسكو وحضارتها وآثارها وكأنهم أُرسلوا من إله الشر لينشروا الجُرم ويسيلوا الدماء البريئة، وحتى دموع راحيل (متى 18:2) لم توقظ ضمير العالم إلا بعد فوات الأوان، وما على الحقيقة إلا أن تجابه، فقد كان صمته مخيفاً، وسكوته جريمةً، وانتظاره مشاركةً... وجريمة الإبادة حلّت، وإبادة الإنسانية حصلت، وأُعيد صلب الحق بقرار الإرهاب ودولته، وإبادة البائس، وكتبوا علامة على بيوتهم، وسجّلوا عقاراتهم بأسمائهم كما حصل للمسيح الحي حيث اقترعوا على ردائه وكتبوا علامة على صليبه (متى37:27)، ولما جاءت ساعته (يو4:2) أعلن أنه مشيئة الله (لو42:22) وإنه سيحارب الشرير وفعلته وسيقف ضد الشر وأنواعه، وهذه كانت مشيئتهم بعد أن دفنت نسوة أورشليم أطفالها الأبرياء وفقدت آخرين .

   الجيرة والديرة
   نعم، طردونا من منازلنا، وقتلونا أمام أنظارهم، وأبعدونا عن قُرانا قسراً وكرهاً وحقداً، وعن مدننا كفراً وتكفيراً، وعن أحبائنا عنوةً، وعن جيراننا غدراً، والسبب يعود إليهم وإلينا، فهم سبقونا في الهزيمة ونحن لم نكن مستعدين لها، بل بالأحرى لم يعلّمونا حماية مدننا وقُرانا وأملاكنا، فضاع كل شيء وأصبحنا تائهين في العراء ليلاً ونهاراً، وفي شوارع المدينة وساحاتها وأرصفتها وحدائقها وساحات دور العبادة في قيظ الصيف وحرّ السماء، ولا أحد يبالي بنا... والشكر هنا واجب للأرض الطيبة التي احتضنتنا أرض شمالنا العزيز، وجعلتنا من آلِها وأهلها حيث هزيمتنا لم ترى ساعاتها الفجرية، فواحد رصد مسيرتنا، وراقب سيرنا، بعرانا وبلباسنا... إنه الرحمن الرحيم، وهو في علوّ سمائه، كما اطّلع على عبيده وهم يفتشون عن مأمن آمن ومسكن هام وعبور أكيد... فالزمان لنا معيد، والتتر لبس حُلّة الإرهاب بداعشه وسواد الدواعش بإرهابه، وشرّعوا سيوفهم تخويفاً وتنكيلاً، وعقيدتهم جبراً أو جزيةً، وكأن الكلمة الطيبة لم تُمسِ صدقة بل دُفنت، وأنشودة الحياة قد غاب صوتها ولم يبقَ للإنسانية وجود ولا للحقيقة إعلان، بل أصبحت غابة أدغال، وما حصل وما يحصل أعادنا إلى القرون الغابرة وإلى ما كُتب عن أجدادنا وهروبهم وهزيمتهم أمام السيف الذي شُرع عليهم غدراً وقسوةً وكرهاً لأبناء المسيح عيسى الحي في الماضي القريب والحاضر الجديد من الجيرة والديرة.

   الهجرة مصيبة
   أما نزيف الهجرة، فتلك مصيبة الكوارث وحقيقة مؤلمة، ورسالة المصالح وغاية الحقد وعدم قبول الآخر في أن نكون أو لا نكون. وما يؤلمني أن أكتب _ إذ قال أحدهم _ يكفي لي أن أصبغ أحذية أهون لي من أعيش في... ربما وربما أمام سرقة كل ما ملكوا ويملكون من مستمسكات رسمية وأموالهم التي كانوا يظنون أنهم سيورثونها لعيالهم وأحفادهم باتوا اليوم بلا مأوى، و"حتى فلس الأرملة" (مر42:12) ضاع عن أنظارهم فراح العدد الأكبر منهم يبحث عن مستقبل في بلد آمن، من أجل ملجأ هادئ، فلا بلد بعد اليوم، بلد الأصلاء والأصليين، فبقلاوة نينوى بدهنها وسكّرها دُعشت، والكنيسة الخضراء هُدمت، والدولاب كُسّر وأَجلُه قد حانَ، وشيّعوه بالتفخيخ والتفجير، ولم يعد يسأل عن أحبائه وأصوله، والفرات نشف ولم يعد يكون، وهكذا أراد أصحاب الأمر والشؤون، فكل ذلك وأخرى تركوها خلفهم ورحلوا مدّعين أن لا وجود لهم بعدُ في هذه الدِيَر، متمّمين قول الشاعر:"بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا" وقول أصولهم رحل من هنا على رجاء القيامة أبناء البلد الأصلاء، فقد أبعدهم الإرهاب إلى عبور البحار والمحيطات بدعوة رسمية وبرسالة ولادية وبناتية وشملية وبأشكال أخرى متعددة وطرق لا يعرفها إلا مطابع القرار وختم الأسرار.

   ما الذي فعلناه
   رحلوا وهم يسألون ويتساءلون، ما الذي صنعناه؟... هل لأننا مؤمنو فقير الصليب (يو25:19)؟... ما الذي فعلناه هل لأننا أبناء السلام والمجد في الأعالي (لو14:1)؟... ما الذي صدر عنا هل لأننا حملنا شعارنا محبةً وغفراناً كما أراد سيدنا "احبوا بعضكم بعضاً" (يو34:13) ؟... وأسئلة أخرى. ألم نكن نحن قد ضيّفنا جيراننا ولما حلّوا بيننا كنّا لهم ضيوف وهم آل بيوتنا؟... أهكذا تكون الجيرة في سرق أموالنا ونهب ممتلكاتنا، وتقولون لنا امكثوا ولا تتركوا بيوتكم وما عليكم إلا الجزية العتيقة الزمان أو ترك إيماننا الذي باسمه اعتمدنا وأصبحنا له شهود وسنبقى من أجله شهداء... يا بئس المطالب ويا سود الحقائق، وحتى شجر منازلنا شيّعته عواصفُ الإرهاب فيبس وأحنى قامتَه ومات، وأما أليفنا عطش وجاع وسُرق وأُخبر عنه أنه فارق الحياة خنقاً وجوعاً وعطشاً، فكان غذاءً للدود عبر رياح كريهة... أهذا هو الإله الذي تفتشون عنه وتؤمنون به وتعاليمه تنشرون؟... أهكذا أوصاكم يا أزلام الشر والإرهاب؟.
فنحن رغم رحيلنا لا نبالي بما فقدناه، فالمسيح ربنا علّمنا قائلاً:"لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت"  (متى32:12) وأيضاً:"أكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها سوس" "داعش" (متى33:12)، ومعها علّمنا أن نحب أعداءنا، وما هي إلا أعمالكم وشروركم وإرهابكم. وسبق وشرح لنا مسيرة حياتنا إذ قال:"يضطهدونكم ويقتلونكم" (متى9:24)... ولكن مَن أولاكم علينا وعلى أولادنا وأموالنا وممتلكاتنا؟... بأي أمر أصدرتم فتاواكم؟... هل تعملون عكس ما أوصاكم إله السماء.

   سرّاق وإرهاب
إنها محطات اضطهاد، من حكومات أو من دساتير أو مسيرة حياة وضعوها وكانت من أجل مصالحهم دون النظر إلى حقوقنا كشعب أصيل. فالمواطنة أمر الحقيقة وليس عنواناً ذليلاً، فهُمِّشت تعاليمنا وشُوّهت رسالتنا ودُمّرت حقوقنا وإنْ كنا أصلاء وأصيلين، وما علينا إلا الطاعة ولا يجوز النقاش، فالمرسوم لنا لا يسمح بذلك لأننا أقلية مهمَّشة، أكيداً مهمَّشة أو لا فائدة منها إلا لإعلانها عبر مايكروفونات الإعلام لإصلاح الصورة والسيرة، وفي ذلك أقول: ظهر لنا فرعون، ولكن أي فرعون!!!.
شعبنا المسكين يتعذب، يتألم بل ينازع أحياناً حتى الموت وقطع الأمل وضياع الرجاء. وسياسيو بلدنا وأبناء شعبنا يتصارعون على النوازع الخاصة، والمناصب الرفيعة، وطُرق صيد الحيتان،  لديمومة مسيرة الأنانية والكبرياء ، عبر نيّات تكاد تكون قد هُيّئت ، لإنجاح عملية النيات الفاسدة ، وحركاتنا،وجمعياتنا ، وأحزابنا،  ومُسمّياتنا الخاصة بنا لا زالت تراوح في محلها، وكل فخرها أن تكون لها ولضيق صدرها ليس إلا، بدلاً من أن يتضامنوا ويتآلفوا ويتكاتفوا للعودة إلى جذور الحقيقة في تشخيص الألم بسببه وأيامه واستفحاله لإدراك دواءه الناجع وعلاجه الأكيد، ولكن بالعكس تماماً وإعلاماً، وعدم التضامن والتآلف يقودنا إلى العنف والظلم والتهميش وقتل فقير الحياة لإعلاء غنى الدنيا وفي ذلك ما هم إلا من سرّاق الحواسم، وارهابي الجواسم، وقاتلي الأبرياء، وعسكر الخطف والإرهاب،  والتهديد والوعيد، وهذه الحقيقة لا يعلمها إلا الذي أحبنا وعلمنا أن نخرج الشياطين باسمه "باسمه تنبأنا وأخرجنا شياطين" (لو1:9).

   الخاتمة
حتى ما نكون أرقاماً هزيلة؟... أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً مهجَّراً أنا المسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعرقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبراً بألوان رايتها؟... أليس ذلك من حقي وحق حريتي أن أكون رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟... أليس من حقي أن أدافع عن وجودي بصوت مُحب وأيادٍ ضارعة وصلاةٍ خاشعة لأعلن معنى وجودي وإلا عبثاً أنا هنا؟... فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلب حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقة من أجل كراسي الزمن ومتاعب الدنيا. فالحقيقة علامة وليست بضاعة وإن كانت تباع اليوم في سوق النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى وفي ذلك يصنعون إرادتهم ويتبعون أنانيتهم ويرفعون علامة كبريائهم من أجل تدمير الآخر المختلف عنهم فكراً وعقيدةً وحواراً ، فهم في عملهم يحقدون وفي فكرهم يقتلون وفي حوارهم يفرضون ليس إلا!، وكأن السماء قد سُبيت إليهم كما بيع يوسف في الأزمنة الغابرة، وما تلك إلا جريمة إبادة بمعناها الاجتماعي والإنساني، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي، وبأرضه رسالة وجودي وعراقيتي... فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعته قاضٍ يعلن حكم الحقيقة. وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعل إيماني، وما ذلك إلا رسالة الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا، مؤمناً أن الرب معنا حتى الموت ، ورجاءنا فيه لا يخيب ، فقد قال في إنجيله المقدس:"ها أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى20:28)، وأيضاً "ارفعوا رؤوسكم فإنّ خلاصكم قد دنا" (لو28:21)، وسأقول هنا إذ كنا لا نؤمن بتاريخ آبائنا وأجدادنا فقد اضعنا الحقيقة. ألم يكتبوا لنا لنقرأ ونفهم ونحيا؟. فنحن لم ولن نكون سرّاقاً للحواسم أو إرهابيينَ للجواسم، بل نحن" سنحب أعداءنا " ( متى 44:5) ، وسنبارك لاعنينا، و" سنصلّي من أجل مضطهدينا" ( متى 44:5) ، فهم أخوة لنا في الإنسانية وفي الخلاص، وصلاتنا هي أن يتوبوا، نعم أن يتوبوا... نعم وآمين.

214
أمام أنظار الأمم والجلالات والحكام والأمراء :
من المؤسف : المسيحيون شعبٌ تُقلعُ أُصولُهم
المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
   مرة أخرى ، وأمام الصمت العربي والدولي المريع ، وأمام ابادة انسانية لا حدود لها ومحو لتاريخ وتراث مسيحي
 عمره من عمر نشأة المسيحية في هذا الشرق،  يُصاب بلدنا بسهام العنف وسلاح الإرهاب وحراب الدمار وقتل الأبرياء وتكفير
 المؤمنين إضافة إلى حروب عديدة أودت بدمائنا الزكية وآخرها كان عام 2003  وما حصل حتى اليوم  مع الاحتلال الذي
 ملأ أفواهنا دماءً، وعيوننا دموعاً، وقلوبنا حسرةً وألماً على مَن فقدناهم، وحملت ما حملت موجة الاحتلال مدى الأيام دماراً في النفوس، تهجيراً للشعوب، وتقسيماً للمؤمنين، وكان الضياع عنواناً والمخطط الكبير رسالةً ولا أحد يعرف لماذا كل هذا من أولئك الذين ينادون باسم الإنسان الذي جعلوه عبداً وفريسةً وتائهاً على شكل قائين. فأخوه هابيل قد قُتل وكان يفتش عن مأوى آمن، ولكن صوت الله كان الرقيب الأمين. فمَن يكون رقيبنا الأمين ليقول لنا حقيقة الإرهاب واحتلال بلدان وشعوبها، وتشويه وجه إنسان خُلق على صورة الله ومثاله. وفي ذلك يتباهى أقوياء الزمن حينما يرسمون مخططات الحروب وهم مدركين جيداً أن مفتاح البناء بيدهم ومفتاح الدمار بأياديهم، وفي كل ذلك تكبر حسرتي وتطول نظرتي ويسألني رجائي حتى ما أكون شهيداً لعنف وإرهاب وإجرام ، حتى أقول بئس انسان استوحش  ، وبارك الرب بوحش مفترس استجلس حملا ( اشعيا).
وطني يُصلب
   صحيح لم يكن ببالي أو لم يخطر في أفكاري يوماً أن أتناول مقالاً لأصف ما حصل في التاسع من حزيران الماضي، فوجدتُ اليأس قد ملك على قلبي، وقلمي لم يعد يطاوعني، ونفسيتي التي بدأت تنسى ما حلّ يوم كارثة كنيسة سيدة النجاة حيث بدأتْ نبتة الأمل تنمو، ولكن ما جاء في الرابع والعشرين من حزيران الماضي برحيل أبناء بلدتي وقراي وهزيمتهم ليكونوا نازحين في قرى أخرى آمنة... أخذتُ أفكر ولكن دون جدوى، بل أردتُ أن أجمع أفكاري فلم أستطع حتى الساعة. فالواقع مؤلم، ووطني يُصلب ،  والهجرة قاتلة، والعنوان سخيف والطغاة لم يفكروا إلا بأنفسهم، والسلاح يعمل في الشعوب البريئة قتلاً وتدميراً وتهجيراً. لمسيحيين وآخرين ، فالمسيحيون تقلع اصولهم ، فبئس شعوب تبيع أوطانها للقتلة وللمجرمين ، وبئس شعوب تقلع اصولها من التاريخ والحياة ،  وبئس كبار لا يمدون أيادي المحبة في سلام الله، وبئس نفوط من اجل  نفوذ خزائن الجيوب إلى حقد وكراهية ليس فقط مميتة بل قاتلة للأصلاء الذين بعقولهم أدركنا أن نفوطنا ما هي إلا نعمة الله لشعوبها.
بحثاً عن الأمان
   نعم، دوامة العنف قد عادت من جديد لتؤكد هيمنتها على أشخاص باعوا ضمائرهم وملئوا صدورهم حقداً وكراهيةً وبغضاً، كما تؤكد هيمنتها على أرض عُرفت بحضارتها وثقافتها وعراقتها وتاريخها وشموخها في الماضي ومن هذا الزمن القاسي شراسة الحياة وقينة المسيّرة، وهذا كله جعلنا نحن المسيحيين الأسوأ حالاً بين مسيحيي العالم. فالانقسامات الحادة أخذت صدارتها في المناصب، والأوضاع الأمنية تواصل مسيرتها المتعَبَة، ولم نسلم من الاضطهاد والعنف والتكفير والقتل على هوية بائسة في ظل احتدام نزاع مذهبي وطائفي وأخرى لا تُحصى ولا تُعَدّ، وهذه أزادت في هواجس أبنائنا، فحملوا حقائبهم ورحلوا بحثاً عن أمان... وإلا ماذا يعني البقاء ونحن أمامهم في مجاهل الزمن والتاريخ والوجود، ولا يبالون إلا بغاياتهم وسهراتهم وممتلكاتهم وينسون أن الآخرين يذرفون دموعاً كونهم ليسوا في الوجود، وإنْ وُجدوا... إنهم شعوب تقاسي الألم، وتشكو التوتر والقلق، وتعاني الاكتئاب والاختناق والانفعال ،  فنكون تائهين في دروب الأصدقاء والحلفاء وربما الأعداء، فيملك اليأس ويزداد الاحباط وتموت الدنيا ومآربها والحياة وأمالها أمام كل ذلك يُكتب على قبورنا "يرقد هنا طريد الأوطان وقتيل المذهبية وبريء اللصوصية وكافر الحقيقة"، وما إلى ذلك من مسميات مزيَّفة شئنا أم أبينا، وما علينا إلا أن نبصم على ذلك خوفاً أو إيماناً فهذا مسار الدنيا وهذا مراد الأغلبية وذلك دمار الشعوب وقتل الحوار ودفن الأبرياء في قبور جماعية.
الارشاد الرسولي 
   كل الثناء وكل الحمد وكل الشكر لآبائنا المغبوطين ولسادتنا الأجلاء حاملي رسالة الإيمان من أجل الحياة لإعلان الحقيقة في عِظاتهم ورسائلهم، في زياراتهم الرسولية الرعوية وتفقدهم للمهجرين والمهاجرين، عاملين وحاثّين مؤمنيهم على التمسك بأرضهم وعيش الرجاء وإبعاد اليأس مهما كان طريق الزمن قاسياً ورسالة الألم سالكة، فالأرض أرض تبقى، والشعوب تفنى وتزول والتاريخ لا يرفع إلا راية المحبة والحضارة والسلام... وهذه مسيرة حملها إلينا الإرشاد الرسولي، تقودنا إلى العيش في الحقيقة، والشهادة لمسيرة الإيمان، والشراكة مع المتشابهين والمختلفين والمتضادين حتى الأعداء... فتلك رسالة تقدس الإنسان بحضوره وسط الجماعة أي الكنيسة . فالبابا فرنسيس يقول:"الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، وبطرس يمجد المسيح في الكنيسة. وإلهنا هو إله بشر وليس إله حجر"... إنها علامات زمن الله وليست علامات من صنع الإنسان.
سماح رباني
   من المؤكد أن ما حلّ فينا وما حصل لنا وراءه مشيئة إلهية أو سماح رباني ليقول لنا كلمة الحقيقة في زمن عاد إلينا قائين ثانية بحقده وكراهيته، ببغضه وأنانيته، وما نحتاج إليه أن يكون ربنا على الصليب من أجلنا ليقول لنا "عبر الألم كانت القيامة، والقيامة بالألم أصبحت الحياة"، وما هذا إلا عمق إيماننا... ورغم الظلمة التي غطّت عيوننا، يملؤنا التساؤل عن حقيقة القيامة ونحن سالكون دروب المشقات كما حصل لتلميذي عماوس من أجل كلمة البشارة، ولكن في الواقع في هذا الزمن القاسي نحن مَن يحتاج للبشارة، لأنها لا تقوم على توصية بشرية يخطّها مِداد أرضي بل على وصية إلهية يكتبها الله بالذات بقوة روحه الحي فينا لمحو حقد الانتقام، لأن الانتقام يدعو إلى الانتقام، والدم يدعو إلى الدم، والأشخاص الأبرياء الذين قُتلوا ما هم إلا ضحايا قُدموا على المذابح الشيطانية كُرها وحقداً .
البشارة والأيمان
   ما ينقصنا أحياناً بل دائماً شجاعة كي نحمل الأمانة بكل وفاء ولاسيما عندما نقف موقف الدفاع عن إيماننا. فعالم اليوم يغرق أكثر فأكثر في المادية، وبات الإيمان والتقوى محارَبين من كل اتجاه، وصار إعلان البشارة خجولاً سواء بالنسبة لِمَن يعلن الإيمان ويبشر به أم بالنسبة لِمَن يسمع البشارة ويقبل الإيمان، فقد قال أحد الرهبان الفرنسيين في القرن التاسع عشر:"إن الحقيقة تخلص أحياناً مَن يسمعها، ولكنها تخلص دائماً مَن يقولها"... فالعالم يرفض الكنيسة لأن يسوع المسيح هو الشهيد الأكبر، جاء ليقول من على الصليب "وُلدت الكنيسة من على الصليب، وانتشرت وخلقت مجتمعاً جديداً بالقيامة المجيدة"... فيسوع المسيح لم تنته قضيته يوم الجمعة في ختم القبر بل انتهت في أحد القيامة، وفي ذلك أحمل قيماً لمجتمع يرفضها لأنه ليس منها في هذا زمن الانحطاط وإحقاق الكذب والغش وقول الدجل والنفاق بدل إعلان الحقيقة من أجل الحياة... تلك راية لا يحملها إلا المؤمنون مهما اشتدّت أزمنة الألم وازدادت حسرة المسيرة.
المحبة والمحبة
   من المؤكد أن المسيحي كان ولا زال وسيبقى رجلاً مسالماً وإنساناً يفتش عن الآخر عملاً بقول ربنا يسوع:"تحبوا بعضكم بعضاً" (يو17:15)، وفي ذلك لا يمكن أن تكون رسالته أو مهمته الدخول في صراع مع أبناء جلدته أو حارته أو سكان زقاقه، ولا يُطلب منه أن يكون خانعاً أمام المظالم وعبداً سيئاً أمام محبي المصالح الضيقة وإرادتهم في الأنانية المظلمة وهذا ما يدعوه أن لا يعيش على هامش حقائق الحياة خوفاً وهزيمة لكي يكون غريباً عن أرضه بعد أن سلبها الآخرون دون خجل، ولا يجوز هذا الموقف أن يجعله يبتعد عن تحمل المسؤولية والأمانة، بل تلك رسالة لأعلان الحقيقة "قولوا الحق والحق يحرركم" ( يو32:8)، وهي أنه مهما ابتعد أو أبعدوه عن أرضه وتراب وطنه فهو جزء منها ومنه، وما عليه إلا أن يكون شاهداً لهذه الحقيقة، مؤمناً أن الأوطان لا تزول، والتراب شهادة للخليقة، والتحديات لابدّ من مجابهتها بـ "وداعة الحمام" ( متى 16:10  ) و"حكمة الحيات" ( متى 16:10)، وما ذلك إلا دعوة الإرشاد الرسولي "شركة وشهادة" في أن يكون المسيحي شاهداً لمسيحه ومشارِكاً الجميع بمسيحيته، وهذا ما يجعله أن يشارك الآخرين لا أن يعلن إيمانه على طرق الحياة.
ثقة في الله
   صحيح إن عددنا يتضاءل، وكما قلتُ سابقاً في مقالات عدة، إن هذه المسيرة المؤلمة ستستمر ما دامت الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ وخاصة ما حدث بعد التاسع من حزيران الماضي حيث لا أحد كان يفكر أن ما وقع كان مخطَّطاً له وما يقابله لا أحد يفكر في حلول ناجعة تجعل الإنسان ثابتاً في أرضه ومُحباً لحبات ترابه... فالظروف التي تمرّ علينا، والإرادات السيئة التي تستحوذ على نفوسنا وأملاكنا وطرق معيشتنا وبغضهم لأمانتنا رغم أصالتنا في أرضنا، فالتاريخ لا يُزيَّف مهما حمله السيئون على صفحات مزركشة بكتاباتهم وإنشاءاتهم، فذلك لنا تحديات وتحديات هائلة لا مناص منها كما لا خلاص منها إلا بالثبات والشجاعة وإعلان الحقيقة مهما زُيّفت الكلمات والغايات، وما علينا إلا أن ننظر بعيون الإيمان ونستوقف أفكارنا ونثبّت لا فقط أقدامنا بل صوت أمانتنا كي نسمع صوت الرب وصداه يعمل في مسامعنا ومنها عبر سواعدنا، فنكون سفينة نوح الخلاصية بحقيقة الإيمان وليس بزيف الكبرياء والأنانية وبحكم الدنيا المزيفة، وفي ذلك نرسم نافذة منها نطلّ على الحدث دون خوف فهو معنا "لا تخافوا، أنا معكم" (متى 31:10). فمهما رقصت الأقدار وقصفت الهاونات وقعقع السلاح واطلقت النيران، ما يهمنا في كل ذلك أن نحافظ على إيماننا لننقله إلى أجيالنا لا لنجعله زوادة لحقائبنا، فالعالم الهائج يدعونا أن نفتش عن النجم حيث المولود (متى 2:2) فهو يكون لنا الدليل وسط شوائب العولمة المزيفة بأناس قدّسوا مآربهم المشوِّهة لوجوه الأبرياء، فغيّروا بوصلتهم وحالهم من أشرار إلى أبرار، وكتبوا أسماءهم في سجل الدنيا المزيفة، وأعلنوا أن لهم الحياة قد كُتبت، وما ذلك إلا كذباً وافتراءً كي يكون بجانبهم مَن هم أحباءهم فكانت ثقتهم فيهم ونسوا أن مَن لم تكن ثقته بالله فهو زائل، وتلك مسيرة الزمان في الغش والطغيان.
علامات ايمانية
   نعم، تحاليل عديدة تبثّ في أجسامنا سموماً من أجل هجرتنا وترك أوطاننا، ويمكن أن تقال الحقيقة إذا ما شئنا بأن شعبنا قد قاسى الأمرَّين في الماضي والحاضر، وتخوفنا من أن يأخذ الدرب منحاه مرة أخرى في المستقبل فتضيع الرسالة والرسول، وربما يشوهها أهلها وآل بيتها فتكون في خبر كان. فلا يمكننا بعد البقاء والشهادة، وتموت العلامات والسمات والحياة، وتضيع الحقيقة في أن الشهادة أثمن من الرحيل من أجل لقمة الزمن والوقوف ساعات أمام بيوت الإقامة لنيل دولار الأسواق. في ذلك علامات لنا ولسكان الأرض ومؤمنيها في أن نكون للرب... ألم يقل توما:"إلى أين نذهب يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك" (يو 68:6). لا يجوز أبداً مهما علت جبال الصعاب ومهما ارتفعت أصوات الاضطهاد ومهما زادت حالات التنكيل والعذابات، ستبقى مسيرة إيماننا هي هي لا تُباع ولا تُشترى لا بروح المال والقرابة والطائفة والعشيرة والحماية وحتى القومية، وتبقى العلامات ايمانية الحياة وما هذه إلا أصوات تجربة من إبليس حاملاً روح الايمان المزيف الذي يعلن  صوته إلهاً بل عجلاً كما حصل في الزمن الغابر لحين سماع صوت موسى وهو يكسر لوحي الوصايا ليعلن أننا لم نحفظ وصية الرب الذي أرسلنا وعطية الكنيسة التي علّمتنا وإرشاد الآباء الذي رسم لنا مسار خارطة لطريق إيماننا كي نحمل إلى الآخرين محبة في أن "أذهبوا" (متى 19:28 )... ألم يكن يدرك ربنا أن في ذهابنا ربما سنُقتَل!!، وإلا لقال لنا ستُقتَلون، بل قال "ارفعوا رؤوسكم فإن خلاصكم قد دنا" (لو 28:21)... إنها لحظة إيمان بل حقيقة ليس إلا.
حقائق وخفايا
   لم نكن بحاجة إلى مغادرة أرضنا إن لم يكن هناك مخططات خفيّة ورسوماً سرية وقرارات أمنية وخرائط مخيفة تُرسم لنا وتخطط لتنفيذها، وما نحن لها إلا مطيعون، فليس بيدنا أن نجابه أو نضادد أو نصرخ أو ننتفض أو نتظاهر أو نعلن سوءها وحقارتها ونجاستها وكرهها وحقدها وشرها وإبليسيتها، فنحني لها قاماتنا المقدسة راحلة إلى حيث المحيطات وعبور البحار وكما هم يشاءون وليس كما نشاء، فنصبح بذلك علامات مسيَّرة لأهداف مدبَّرة لرسالة مؤامرة لإفراغ أكيد ورحيل بعيدٍ  فلا عيد لنا، وفي ذلك يصبح المثل القائل "إذا صاحب العيد بعيد يبقى العيد بعيد"... صاحب عيدنا حقيقة إيماننا، مسيحنا الحي، فإذا ما أبعدناه عن مصير زماننا فلا عيدٌ يُكتب لنا، ولا شهادة تعلَن لغيرنا لأننا نحن أردناها مطيعين مطأطئين بل وحتى خانعين وإن كانت الأفواه تصرخ وتزمجر.
   أن نغادر بلداننا وأوطاننا لطيب الإقامة حيث نحن راحلون لهدوء السكن، تلك غاية مبيتة وهدف من أجله حلّ ما حلّ فينا، فنكون بقولهم لنا كحيّة، تصيرون مثل الله وتعرفون كل شيء، هكذا يحلو لهم أن يقولوا لنا وننسى أن الله يطلب منا نفسنا في تلك الليلة (لو 20:12). يا لغباوتنا ويا لغشاوة عيوننا... ألم يكن قلبنا يبكّتنا على قلّة إيماننا، فالذي فعلناه ما هو إلا غاية ولأجلهم ليس إلا!!!.
ضحايا ابرياء
   من دون شك أسأل: ما الذي اقترفه المسيحيون كي نكون ضحية ويا للأسف، فعندما تهب عواصف الحروب وتحلّ أزمات الحياة يُتَّهم المسيحيون بأنهم هم السبب بل أسباب رغم علمهم أنهم شعوب مسالمة لا يتعاطون السياسة ولا حتى أبوابها يطرقون، فيبرّرون الاعتداء عليهم وتكفيرهم وهذه مسيرة أمينة للأشرار يعملون بها منذ قرون وأجيال وحتى اليوم بل حتى الساعة، وهذا ما يجعل الخوف يملك على قلوبنا وينصّب نفسه أميراً على بلداننا فنموت في أنفسنا أو نرحل ولا مسلك ثالث يغيّر اتجاهنا، فنخسر وجودنا ويخسرون كل حقيقتهم وهم لها مدركون ولكنهم يفعلون ذلك لأنهم هكذا كُتب لهم وعليهم أن يعملوا بما كُتب، والويل لمسيرة بهذا الطعم السيئ وبهذا الذوق الشرير وبهذا المسلك البائس، فقد أرادوها أن لا تكون تلك حقيقة مهما قيل غريباً عنها.
تساؤلات واخرى
   سنبقى نسأل أنفسنا _ وطالما تساءلنا منذ القرن الماضي وحتى اليوم على وطننا وشرقنا وخصوصاً بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة، تلك الحملة الشرسة التي استهدفت وجودنا، وعن السبب الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه حيث نُتَّهم في توتر العلاقات وفي طلب حماية المحتلين وتكفيرنا كما يحلو لأناس هذا الزمن _ هل لنا من حماية دولية أو وطنية أمام الذي يحصل في بلادنا وأوطاننا المشرقية أين نحن متجهون؟، أين موقعنا على خريطة الدنيا؟، ما هو دورنا في شرقنا الذي ينعتوننا به أننا منه ومن أجله خُلقنا؟، هل فعلاً ستصحو شعوب الشرق غير المسيحية بأديانها المختلطة أن المسيحي واحد منهم وأنه لأجلهم عمل أصيلاً في حضارة وثقافة وكرامة ومحبة، هل فعلاً سنسمع من على منائر المساجد والجوامع والمعابد مَن يدافع عنا قلباً وقالباً، فكراً وحقيقةً، عملاً وتعبداً، رسالةً ومسيرة، حياةً ومقاسمة، أم تنقلب الآية بأنهم سيغزون أموالنا وسيأمروننا بدفع جزيتهم ويفرضون علينا مآربهم ومشاربهم في المأكل والملبس والسيرة والمسيرة في القيام والقيام في الصحو والغفو، في العمل والراحة، في الحقوق والواجبات، في الكلام والصمت؟... هل ستُقطَع ألسنتنا كي لا نجدّف ولا نتذمر؟، هل ستُمحى أسماؤنا كي تُعلن أحوالهم؟، هل ستُقطع آذاننا كي لا نسمع أجراس كنائسنا؟، هل سيُقَص شعر رؤوسنا كي يعلنونا من زمرة الكافرين؟، هل سيُمنع عن أنوفنا نسيم وطننا كي يكتبوا مسيرة جهادهم بأن لا يحق لهم إلا عيشاً كعبيد، كغرباء، كدخلاء، يؤمَرون ولا يُرفَضون، يطيعون صغاراً شاءوا أم أبوا أمام هذا كله؟... زادت أسئلتنا أيضاً ولابد من قولها: هل ستُحرق دساتير منطقتنا المشرقية بل الأوسطية والآسيوية كي تكتب لحقيقة العيش وحوار الكلمة وحقيقة الوجود وعظمة الساعد، فلا للأغلبية شروط ولا للأقلية الخضوع، فيصحّ في ذلك قول يوحنا المعمدان الشهيد يحيى بن زكريا أمام المسيح عيسى الحي "كل واد يمتلئ" (لوقا 5:3). أمام هذه الأسئلة وأخرى بعددها وأضعافها يبقى المسيحي متردداً في مسيرته وحائراً في عنوانه وضائعاً في دنياه وخائفاً في محرابه وتائهاً في عمله وشارداً في أفكاره وبعيداً عن أمنياته، فلا الإنسانية في داخله تحيا مجالها، ولا الكرامة في عمقه لها رسالتها، ولا مسيحيته  في إيمانه لها حقيقتها.
الخاتمة : الصلاة هي الحل
   حلّ ما حلّ فينا ، وفي ذلك أقف منذهلاً (أرجو المعذرة) فتلك حقيقة... إنهم يحسبوننا أنه لا وجود لنا... فيوماً يطيّبون خواطرنا بأننا أبناء أصلاء لبلداننا وإننا حاملين حضارة الحياة وثقافة المسيرة فيصدرون قراراتهم وأوامرهم وتوصياتهم وأرقامهم، وينعتوننا بأننا جالية وأقلية وطائفة وتبعية ونصارى وأخرى، ولا يرسمون لنا مكاناً في ذلك إلا في ملحق أو تابع ولا أكثر، وهنا الشكر واجب للمخلصين الذين ينادون بحقيقة وجودنا.
   سبق البابا بندكتس السادس عشر وأدرك ألآتي إلى شعوب كنائس الشرق الأوسط، فأعلن مناشداً إياهم أن يكونوا شهوداً في هذا الشرق مهما عانت الكنيسة من الاضطهاد واشتدّ الظلم عليهم متمسكين بالرجاء وعدم اليأس بأن المسيح هو الخلاص الذي ناله من أجلنا ربنا يسوع كي نحيا فيه وله ومن أجله فنحمل ثماراً لحياة جديدة كما عاشها أجدادنا الذين سبقونا وعلى مرّ العصور والأجيال... وهذا ما حصل حيث يشهد المسيحيون في المرحلة الراهنة أبشع أنواع الترهيب والقمع والتهجير القسري والضغط المعنوي والإساءة لديهم، فما يتعرض له شعبنا في مناطق مختلفة من دول الشرق وخاصة في مدينة الموصل هو ذروة الهجمات الإرهابية الشرسة التي تستهدف هذه المرة وجوده في أرض الرافدين، وتهدف إلى استئصاله كلياً من أرض أجداده، وهذا الاستهداف أرهب المجتمع المسيحي في العراق ودفع بأبنائه إلى الرحيل من مناطق سكناهم.
      نعم، الصلاة تضطلع بدور بالغ الأهمية في معالجة القضايا القومية والسياسية الصعبة. فطوال تاريخ البشرية استطاع الأنبياء أن يخففوا من حدّة الأوضاع المتوترة من أجل الوصول إلى السلام والعدل. فتذكروا غاندي ومارتن لوثر كينغ والقديس يوحنا بولس الثاني، كم شهدوا على أن الدين يمكن أن يربح حرب مستعرة من دون حتى أن يرفعوا يداً واحدة... فدعونا نكنس من أفكارنا ما تعشعش، ونرفع قلوبنا إلى السماء... دعونا نخرج من مبانينا ونتجه إلى ذلك النور الساطع الذي ينير درباً واحداً لنتحرر من انانيتنا ونتجه إلى هناك وننهلّ من نفس المنبع الذي جمعنا يوماً، ولنعد من هناك متعانقين لنتعايش في حب وتفاهم "ولتكن كلمة عفوك لعدوك كلمة شكر لله الذي أحبك"... فرسالتنا هي تغيير القلوب من خلال كلمة الله في محاربة خطايا عصرنا من أجل حقيقة الحياة في الوصول إلى الوحدة في المواقف بعيداً عن أشكال العنف.وسيبقى ايماننا في الذي قام من القبر المسيح الحي يحيا فينا حتى ميناء الحياة ، فمهما طُردنا ومهما سُلبنا سنبقى امناء لانجيل المسيح وسنعود نبني كنائسنا ونرفع صلباننا ونكرّم تماثيلنا ولن نرحل عن ديارنا، ارض اجدادنا واماكن عبادتنا ،   فنحن ابناء الرجاء و لا حزن ولا خوف يبعدنا عن محبة المسيح ومحبة بعضنا البعض مسيحيين ومسلمين .. ومهما يكن من امر تبقى اجراس كنائسنا تقرع وصلوات رعايانا ترتفع وتلك رسالة الحقيقة في تاريخ الزمن .. فالمسيحيون اصلاء وأمناء مهما أُقتلعت  جذورهم واصولهم ، شاءوا أم أبوا ، مؤمنين بقول الرب يسوع " يقتلونكم ويطردونكم ويقولون عنكم كل كلمة من أجل اسمي ، إفرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السماوات " ( متى 10:16-24   ) فوجودنا ليس في حياة الزمن بل في منازل الرب . ..  نعم وامين

215

عزيزي الاخ امير المالح السامي الاحترام
سلام
باسم ابناء رعية مار يوسف وباسم كادر تحير مجلة الزنبقة وباسمس شخصيا اعزيكم بوفاة المرحوم اخوكم سعدي اسكنه الرب سماءه الخالدة مع الابرار والصديقين وصلاتي اليوم لاجله ولراحة نفسه
وتعازينا القلبية وسيكون صوت الرب يسوع يدعوه من امن بي وان مات فسيحيا
عرفه التاريخ وعرعه الوطن وعرفته الكنيسة وكان علما وراية انه القضية وما اجملها ان تحملونها وان نحملها معكم
دمتم
محبكم المونسنيور بيوس قاشا


216
هذه أرضي .. هنا وطني .. هذا أيماني .. هنا شهادتي

المونسنيور بيوس قاشا

  في البدء حقيقة المقال
قبل أنْ أبدأ بتسطير هذا المقال، انتابني قلق ، وملأ الخوف زوايا مسيرتي، وتردّدتُ مرة ومرات إذ مَلَكَتْ على أفكاري صورٌ أتعبتني، وأُوحي إليَّ أن هناك انتقادات حادة تنتظرني وستلاحقني حيث أكون بسبب ما يحمله المقال ومضمونه، لأنني أنادي بعدم الهجرة، وكفى الرحيل إلى المعلوم أو المجهول، فأكون بذلك ضد خط مسار المخطَّط الخفي والذي يرسمه لنا الغرباء، وأيضاً أبناء الديرة والجيرة، عبر أشخاص لهم غايات وأساسات كما هم علامات في مسيرة الزمن من أجل تدمير شعبنا _ بدراية وتصميم وإن غير معلَن _ بإفراغ الوطن منهم وتهجيرهم إلى حيث كُتِبَ عنهم بعلمه المحدود كما في فكره القصير المدى... ولكن لنداء إيماني وإحساسي في عيش الحسّ الإيماني والحسّ الوطني سطّرتُ هذا المقال عملاً وطاعةً ووفاءً لرسالتي الكهنوتية، ولِمَا تقوله الكنيسة أمّي والإرشادات الرسولية، وما يوصي به آباء الكنيسة الأجلاء في مؤتمراتهم ولقاءاتهم، وأكثر من ذلك الحسّ الوطني الذي به أكون رايةً وكلمةً في مسيرتي وشاهداً للحقيقة أقول: هذه أرضي.. هنا وطني.. هذا إيماني.. هنا شهادتي.. ولا غير، مهما تكالبت الظروف وصَعُبَت مسارات الحياة، وقُتِلَ الحوار وإنْ كان جنيناً، ومُنِعَت الحقيقة من إعلانها وقولها على مسامع كبار الزمن وصغار الطرق، نفاقاً وغِشّاً وكذباً، والويل لنا ولزمننا ولكبار عالمنا الذين جعلوا من دنيانا حقيقة سماوية في عولمة مزيّفة.
    نعم صحيح ... وصحيح
صحيح إننا ندرك جيداً مخاوفنا ومعاناتنا، فبعضٌ منا فقدوا أعزّاءهم وأحبّاءهم وأهاليهم وحتى أموالهم وأملاكهم وهُجّروا من بيوتهم، وبهذا يكون المسيحيون في مقدمة المكوّنات التي تعرضت _ ولا زالت تتعرض _ للإقصاء سياسياً واجتماعياً وأيضاً ديموغرافياً وحتى وظيفياً، وفي ذلك كله يتناقص عددنا يوماً بعد يوم، إضافة إلى الآلاف من الشهداء السعداء الذين سكبوا دماءهم بسبب حقد الآخر وكراهيته للمسيحي المسالم، وأيضاً ما قاسوه بسبب تدمير أماكن عبادتهم وكنائسهم عبر انفجارات وإحراق وتهديد من قِبَل جماعات متشددة مدّعية إنها تعمل من أجل الله، وإنها نصّبَت نفسها الناطق باسمه تعالى ولها الحق في تفسير الإيمان وإصدار الفتاوى كما يحلو لها وكما تشاء، ولكل حالة ميزان خاص بها، وحكم بمرسوم معلَن على الملأ، وضاعت الحقيقة. إضافة إلى العصابات المسلحة المنفلتة حيث تم استخدام الدين لتبرير الأعمال الإجرامية والتي كلّفتنا أرواحاً وأموالاً وضحايا أبرياء _ ولهم الحق هكذا يقولون _ لأننا أصبحنا لهم غنائم حسب تبريراتهم واجتهاداتهم المزيفة المختلفة، وبسبب العنف الذي أخذ محلّه متصدّراً الكلمة الأولى والأخيرة، أصبحنا في متاهة المسيرة، وبمرور السنين تعرض أبناؤنا إلى أنواع الاضطهادات، إنها اضطهادات من حكومات أو من دساتير وضعها آخرون من أجل مصالحهم دون النظر إلى حقوقنا كشعب أصيل، فهُمِّشت تعاليمنا، وشُوِّهت رسالتنا، ودُمِّرت حقوقنا وإنْ كنا أصلاء وأصيلين، وما علينا إلا الطاعة ولا يجوز النقاش، فالمرسوم لنا لا يسمح بذلك لأننا أقلية ربما مهمَّشة، أكيداً مهمَّشة، أو لا فائدة منها إلا لإعلانها عبر مايكروفونات الإعلام لإصلاح الصورة والسيرة، وفي ذلك أقول: ظهر لنا فرعون، ولكن أي فرعون!... بل فراعنة.

   مسيرة حياة ... وسياسات قسرية
ومهما يكن من أمرٍ، ومهما قيل أو يقال، فالمسيحيون يعتزّون بجذورهم وتاريخهم الموغل في القِدَم والعائد إلى الحضارات العريقة، كان الإيمان لهم عقيدة بشهادتهم ومسيرة حياتهم ومنذ ألفي سنة وحتى الآن بِعُسره ويُسره، بمسيرته المؤلمة وبأيام انشراحه، وكانت حياتهم انحناءً للملك وخضوعاً وخوفاً، فالأنظمة المتعاقبة على مدار الألفيَّتَين، مورس ضد المسيحيين سياسات قسرية وتصغيرية إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً عبر تهجيرهم من قُراهم شمالاً ومن مدنهم في الوسط وامتداداً حتى الجنوب، ولا زال لحدّ الساعة يُنظَر إليهم أحياناً وكأنهم غرباء بل أكثر من ذلك دخلاء، ولا يحق لهم إلاّ النداء عبر الهواء ولا من سامع إلا لغايات.

   بين الوطن والرحيل
صحيح وصحيح وصحيح، هناك دواعٍ لترك الوطن، والحقيقة ليس من قِبَل المسيحيين فقط إنما من قِبَل أقوام وطوائف وشعوب ومسمّيات، بسبب الظروف الأمنية والمعيشية والأصولية، وخطورة الوضع ومأسويته، والتوجه إلى الغرب لحفظ النفس من أجل العيش بحرية وأمان بعيداً عن العنف والاضطهاد والتمييز والذي أصبح يُمارَس ضد المسيحيين عبر محاولات إقصائهم من مناطقهم ، عبر إغراء الخضراء، وتسهيل مسارات الهجرة بتصوير الآتي بالجنة الموعودة... هكذا أرادها أحبّاء اليوم ومصالح الأمس والمستقبل، وما تلك إلا علامات مثيرة للقلق إلى حدٍ بعيد، وبذلك تواجه كنيستنا خطراً كارثياً بل خطراً إيمانياً ووجودياً.

   بين المواطنة والانتماء
في مفهوم المسيحية، الإنسان هو المساحة الأولى لمفهوم المواطَنة والانتماء، وهذا الإبداع المسيحي رسمه ربنا يسوع في ملكوت جديد، ودعانا لنشره بالطاعة لمشيئة الآب على الأرض كما في السماء، ولكن أضعنا البوصلة فأتينا الجحيم بدل السماء، وأصبحنا نتعاطى مع الشياطين أكثر من الله. نبشّر بقوة إبليس أكثر من الله، وأضعنا ربيع المسيحية بسبب ربيع الكون، وأصبحنا نفسّر حلمنا بمفهومنا لا بمفهوم المسيح وندائه،وتحت انوار الروح،  وبدأنا نشعل نورنا في ظلامنا ونسينا هبة الله أننا نور العالم لظلام العالم، ونصّبنا أنفسنا أسيادَ أنفسنا بالمطلق عكس أن نكون أسيادَ أنفسنا بسيادة المسيح ربّنا علينا، ونسلّم حالنا للذي دعانا. فالمسيحيون يوحّدهم حب الوطن وكلمة الحقيقة، ومسيرة الايمان، ننادي وننشد وبكل شجاعة أن الوطن يجمعنا وهو الهدف كي ننال حقوقنا.

   شهادة الحياة والدم
أقول: على المسيحيين قبل كل شيء أن يكونوا أوفياء للإنجيل، والإنجيل ليس صيغة تحريرية وحسب بل هو أيضاً في بعض الأحيان التخلّي عن بعض الوسائل والنظر إلى الآخر نظرة احترام وكرامة، والتسلّح بالرجاء. فمََن يعيش في اليأس لم يختبر المسيحية... كما إن عيش المسيحية يعني الشمولية، بمعنى أن على المسيحيين عيش كل الصفات التي يتمتعون بها، لا لأنفسهم وحسب بل مشاركتها والعمل بها في المجتمع أيضاً، وإشعاعهم يتخطى أشواط الواقع الرقمي... والكنيسة ما تحتاجه اليوم هو حاجتها إلى شهود وليس مبشرين، فإنّ على الواعظ التعليم ولكن أيضاً شهادة الحياة وشهادة الدم، والبشارة هي العطاء للآخر وبناء الجسور وتكسير الحواجز، وما ذلك إلا تحدٍّ... إنه إنجيل الالف الثالث.

   آباؤنا البطاركة
في مقالٍ قديم كنتُ قد سطّرتُه على المواقع الإلكترونية حينها، وفي بعض فقراته سطوراً من رسالة أصدرها آباؤنا الأجلاء البطاركة وعنوانها "الكنيسة وأرض الوطن" جاء فيها: أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا، عاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها، وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا. وحضورنا في هذا الشرق حيث أرادنا الله، يقتضي منا الأمانة للمسيح والتزام الشهادة لمحبته وتطبيق مبادئ إنجيله المقدس. ومهما تفاقمت الصعاب فإن لنا علامات رجاء ساطعة، فيما لكنائسنا من غنى روحي وثقافي واجتماعي ووطني " ( مؤتمر البطاركة السادس عشر بزمّار- لبنان  16 -21 تشرين الاول 2006) .

   آثار في الذاكرة
لنعلم جيداً أنه لا أحد يحرّك ساكناً ليحمينا في حقيقة الواقع، فالأصوات التي تحمل إرادة طيبة وانفتاحاً نحونا في الداخل هم أكثر من أولئك الذين يسمعون إلينا في الخارج. والذين يسجّلون في دفاتر ملاحظاتهم هم أسرار ليس إلا لما نعانيه، ولكن مخططاتهم لا علم لنا بها إلا ربّ السماء. وأما في الداخل يريدون لنا خيراً، ولكن الخوف أحياناً يملأ قلوبهم بسبب مجتمعهم أو أصولييهم فتضيع الحقيقة ويبقى السكوت والصمت جالسان على عرش الاضطهاد أمام ملأ الدنيا. والصمت هنا ليس حياداً، إنه سكوت عن فساد وظلم وجريمة... وتسير قافلتنا ونحن عبيد، أما لهؤلاء وأما لأولئك، والحل يكمن في الأخير في الرحيل والهجرة وبيع الممتلكات خوفاً من!... فلا أمل في العودة ولا حقيقة في الحياة... وهذا ما يدعونا إلى أن نفهم واقعنا جيداً حتى لو كان واقع يشهد الموت المرير، المهم أن نتعلم كيف نكون حكماء، فنخرج من هبوب الإعصار ورياح الاضطهاد والدمار إلى حياة الشهادة، حاملين حبنا لأرضنا، وقلوبنا تفيض بِنِعَم إيماننا ولا أجمل. فاليوم معركة الوجود أعتى من أي سلاح يحمله الأشرار، فإمّا أن نوجد كشعب مسيحي في أرض الله يسعى للسلام وإلى البناء، وإمّا أن نفنى ونموت وننكر أرضنا المشرقية ويضيع إيماننا وتضيع مسيحيتنا، وتُقلع أصولنا التي غنّينا لها آلاف السنين وزمّرنا بوجودنا فيها وأنشدنا تراتيل المحبة والإيمان والوطن. وسنبقى آثاراً في الذاكرة، ومن المؤسف ربما أضعناها بسبب خوفنا وفزعنا وعدم تلاحمنا، ومن ذلك  حتى شجرُنا لم يعد يُذكر أصوله، ونهرانا نشفت مياههما وحلّت محلّها دموعنا وآهاتنا، وكأن الدنيا ضاعت ولم تعد، ونسينا إن دنيانا ليست هنا وإنما حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها سوس (لو33:12 )... إنها الحياة الأبدية حينما يشرق وجه المسيح علينا، فيقيمنا بغلبة الانتصار على الموت بشفاعة دمائنا وقديسينا وشهدائنا.

   الهجرة ... وسلطان اليوم
   من المؤكد نحن نواجه قرار المصير والوجود الإيماني المسيحي بسبب استمرار الهجرة، فالوجود رسالة يدعونا إلى أن نكون أمناء إلى حسّنا الإيماني والوطني، وعلينا أن نختار بوعي وإدراك ومسؤولية بين أن نصبر ونتحمّل، ونحمل الصليب ومسيرة الألم والمصائب والمعاناة والمظالم، وأن نتقبّل حتى قرار الموت ونكون في بلداننا شهوداً وشهداء... هكذا فعل أجدادنا في الماضي وآباؤنا في القرن العشرين، وواجهوا حدّ سيوف الأعداء بقاماتٍ شامخة وبصدورٍ عارية، وبرقابٍ لا تنحني إلا لله. وعبر قراراتٍ ظالمة حملوا حقيقة المسيح الحي فيهم، وبدمائهم سقوا شجرة الحياة الوافرة، فكانت دمائهم علامة سلام ومحبة وينبوع خلاص، وحافظوا على وجودهم ودينهم المسيحي، فكنا نحن أحفادهم، تحدّوا الحياة كأبطال من أجل أرضهم وإيمانهم.
نعم، دعوات مُحِبَّة من أجل البقاء، ومما لا شكّ فيه أن هذه الدعوات تحمل كلاماً جميلاً ونياتٍ بصور متعددة، وأهدافاً مختلفة ونوايا ومقاصد صادقة في معظمها أو في بعضها، كما صدرت نداءات مماثلة عن العشرات من القائمين في سلك المختارين من مسيحيين ومسلمين بتعدد طوائفهم وانتماءاتهم، ولم يستجب لها حاملو السيوف والبنادق، لأن المخطط أكبر من هؤلاء وأولئك، ولا زلنا في الربيع الدامي وهو ينتقل من عشيرة إلى عشيرة، ومن حارة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد، ومن مذهب إلى آخر، وأصبح الجميع في المعركة من الخاسرين. وهُزمت الأوطان، وابتُليت الشعوب بفقر الحال والمال والحياة، فضاعت القِيَم وبيعت الحقيقة بأموال مسروقة، ودرهم النفاق والغش والرياء، برفقة دينار المصلحة والأنانية والمحاصصة والمحسوبية، ودُمّرت الحضارة، ورُفعت راية الموت وثقافته، بينما الآية تقول. مظالم نتعرض لها بشكل شبه يومي، فالكراسي وكبارهم، كلّها وكلّهم، ليست سوى صفقات مشبوهة لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي، وخداع العامة وإسكاتهم مقابل تحقيق منافع ومصالح شخصية لا أكثر، ولإظهار الأنانية قبل أي شيء آخر، وفي ذلك قد أضاعوا السراط المستقيم _ وإنْ كانوا له _ وكما يشاءون.

   يسوع ... أيقونة الاضطهاد
قال البابا فرنسيس:"إن الاضطهاد لم ينتهِ بعد موت وقيامة يسوع، بل استمرت المضايقات على الكنيسة، واضطُهدت من الداخل إلى الخارج. ثم إذا قرئنا حياة القديسين، هم أيضاً عانوا الاضطهاد والعذاب لأنهم كانوا أنبياء"... وقال أيضاً:"إن كل الناس المختارين من الروح القدس _ ليقولوا الحقيقة ويعلنوها لشعب الله _ يعانون الاضطهاد. ويسوع هو أيقونة الاضطهاد الذي أخذ على عاتقه كل اضطهادات شعبه وحتى اليوم"... وأضاف:"نحن نعاني عقوبة الإعدام أو السجن إذا وُجد الإنجيل في المنزل، أو تمّ تعليم التنشئة المسيحية في بعض المناطق... إن تاريخ الاضطهاد هو مسيرة الرب، ومسيرة كل مََن يريد اتّباع الرب، إنما ستنتهي هذه المسيرة بالقيامة مثل ما فعل الرب... لم تنتِه بالصليب" (9 نيسان 2014؛ القديسة مرتا)... وقال أيضاً:"لا وجود للمسيحية بدون الصليب. فالمسيحية هي شخص رُفِعَ على الصليب. شخصٌ أخلى ذاته ليخلّصنا، فلا وجود للمسيحية بدون الصليب، ولا وجود للصليب بدون يسوع المسيح، فالمسيحي الذي لا يفتخر بالمسيح المصلوب هو شخص لم يفهم معنى مسيحيته... هذا هو سرّ الصليب. فالصليب الذي نجده في كنائسنا وعلى المذبح ليس للزينة، وليس مجرد علامة تميزنا عن الباقين، بل الصليب هو سرّ، سرّ محبة الله، (القديسة مرتا؛ الثلاثاء 13/5/2014).

   مسيرة تاريخية تناقصية
ابتدأت المسيرة المؤلمة منذ دخولنا عتبة الألف الثالث (2001)، وما حصل في 11 أيلول كان سبباً للهلع والخوف والمصير وبداية الربيع العربي القاتل، وازدادت في الثمانينات. كان تعدادنا ما بين المليون والمليوني نسمة ثم انخفضت هذه النسبة بسبب الهجرة خلال فترة التسعينات وحرب الخليج الثانية. وبعد احتلال العراق عام 2003 بدأت أعدادنا بالتناقص، ولوحظ انحسار كبير لوجودنا في العاصمة بغداد، فقدّرت المنظمات الدولية عدد المهاجرين المسيحيين من العراق بأكثر من 850 ألف مسيحي خلال الأعوام العشرة الماضية. فهُجّرت الآلاف من العوائل المسيحية من بيوتها عنوةً وعلناً أمام أنظار الحكومة وأمام أنظار المجتمع حتى أصبحت مدننا شبه خالية. لذلك نحن مدعوون إلى إبراز هويتنا ووجودنا وحقيقة حضورنا، عبر الوحدة والكلمة وليس عبر حمل الحقائب والرحيل إلى حيث أرض الله الواسعة، ومغريات الهجرة إلى خارج العراق، وعلى ما يبدو هناك مصالح لأشخاص وأحزاب واتجاه لإفراغ البلد من سكانه الأصليين... إنها نظرة خاطفة وسريعة على أوضاع أبنائنا المسيحيين في شرقنا، تبيّن لنا الحجم المخيف والمروّع للمعاناة والمآسي والمذابح التي تعرضوا _ ولا زالوا يتعرضون _ لها بسبب انتماءاتهم الدينية ومعتقداتهم ومبادئهم السلمية أمام أنظار العالم ومسمع حقوق الإنسان. أيليق بنا أن نتحدى وضعنا بحمل حقائبنا وببيع أملاكنا وبيوتنا والهجرة إلى البعيد البعيد شهادةً... لماذا ولمن!!!؟. ألا يجب علينا أن نكون بذاراً صالحة لأجيالنا، فتكون شهادتنا هي حقيقتنا، ولا يجوز أن نبقى تائهين على دروب الزمن، ومهاجرين وحاملين همومنا وبلايانا وصلباننا من أجل اللجوء والتوطين، وبذلك نقلع جذورنا من أرض أجدادنا، ونفرغ كنائسنا التي علينا واجب إنعاشها وحمايتها لتواصل مسيرة الإنجيل الخلاصية مسارها.
   نعم، رغم كل النداءات والدعوات التي يطلقها رجال الدين وغيرهم، فإن هجرة المسيحيين من العراق لا زالت مستمرة بشكل مخيف، وسبب ذلك معروف وواضح ولا يحتاج لتوضيح أو تفسير. إن الهجرة تستنزف وجودنا، وتسدّ آفاق مستقبلنا، ونحن نفتخر بأننا شرقيون مسيحيون ولسنا مسيحيين من الشرق، فنحن لسنا أقلية بل نحن سكان أصليون، لنا تاريخ أصبح جزءاً من تاريخ الشعوب، كنا ولا زلنا بُناة حضارة بلاد الرافدين والنيل، وساهمنا في نهضة اللغة والثقافة والمجتمع... فمسيحيتنا غِنىً لشرقنا ولا يجوز إنكار ذلك، فنحن منه وله ومن أجله.
لا يليق أن تكتظّ بوابات السفارات الأجنبية بنا خفيةً وبصورة لا يعلم بها إلا سبحانه وتعالى، ولا يسمع بها الجيران والأحبة وآل البيت، بطلبات اللجوء والهجرة ، وكأن العراق كله يهاجر هرباً من فقدان الهوية والفوضى والانهيار. ولكن من بين العراقيين مَن شهدوا هجرةً لا مبرر لها، ونزوحاً لا سابق له، مع إنهم جذوة العراق. فإنْ كان هناك أصوات تدعونا إلى أن نهمل البلاد ونغادرها بطرقٍ شتى وبسبلٍ مختلفة عبر منابر الزمن وسلاطين الدنيا وعبيد الكراسي بحجّة لمّ الشمل وحقوق الآخر، فالكنيسة ستبقى الشاهدة الأمينة مع أبنائها الأمناء على حقيقة الكرازة في أرض الوطن، ولكن أنادي قائلاً: أوقفوا نزيف الهجرة... أوقفوا هجرة المسيحيين عن العراق وسوريا ولبنان ومصر، بل والشرق الأوسط بأكمله.

   نعم... لنحافظ على أرضنا
الصمت والسكوت عن جرائم تُرتَكَب بحقنا ما هو إلا انسحاب غير مشرّف من المواجهة الحقة. والصمت ليس حياداً، إنه سكوت عن فساد وظلم وجريمة. فالأعداء لا يريدون أكثر من سكوتنا وصمتنا، وينشرون هم القتل والدمار والتنكيل. أيجوز أن نبقى على هذه الحالة وستبقى أوطاننا مرويّة بدمائنا، وتبقى مناجلنا سيوف مكسورة، ويبقى الغرب يشتري ضمائرنا ليحوّل حقولنا إلى مزرعة أشواك وعوسج وعلّيق؟. نعم، لنحافظ على أرضنا، فنحن لا قيمة لنا دون وطن يحمينا وليس يأوينا، وكفى أن نعيش مذلّة الغربة بلفة همبركر وعلبة بيبسي. فضياعنا ضياع لحضارتنا وأرثنا وتراثنا، وانقراضنا الحتمي آتٍ إذا تساهلنا في هذه المسيرة واستسهلناها خلال السنين القادمة، وسننصهر في أجيال وكيانات دون أن ندري... فالموت بكرامة حياة شاهدة، راية تعلن حقيقة الوجود، والموت في أرض الآباء والأجداد لابدّ أن ينبعث من جديد، والانبعاث سيكون أخضراً مثمراً زاهراً إذا ما كانت إرادة البقاء مُلكنا وفي يدنا وفي عمق حسّنا الإيماني، والحياة في الغربة موت إلى الأبد.
ما علينا إلا بالصبر، شبيه أيوب، وحتى قبول الموت من أجل البقاء في أرضنا وأرض أجدادنا وآبائنا... وإنْ بقينا اليوم بقية باقية، فكما قلتُ سابقاً، ما نحن إلا شهود وشهداء، وما نحن إلا خميرة لا تَفسد. فالوطن لا يُشترى بالعيش الرغيد والنوم الهانئ وسعادة الرحيل، إنما بالشهادة في حمل الصليب والإيمان، بعيش المسيحية والثبات في أرضه، كي نخصّبه ونرويه ونسقيه، وتسكنه أجيالنا أمانةً منا إليهم، ووفاءً منا لآبائنا وأجدادنا والذين سبقونا وقبورهم شاهدة على عطائهم وبقائهم وعرقهم ودمائهم.

   الخاتمة : سأبقى أُنشدُ
كفانا أن نكون أرقاماً هزيلة وشواهد شاخصة، فأنا لستُ لاجئاً في بلدي، أنا مسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بعرق جبيني وسواعدي، وحملتُها حباً في أعماق فؤادي، وزيّنتُها بدماء بريئة. لماذا الخوف؟... ألم يقل نبي الرجاء وخادم الله يوحنا بولس الثاني:"لا تخافوا ولا تستحوا أبداً عندما يجب أن تدافعوا عن حرياتكم وخاصة عن حرية القيم الإنجيلية التي تحيونها معاً". ما نحتاجه إلى تعبئة روحية ونظرة جريئة وبعيدة المدى في معنى وجودنا، وإلا عبثاً نحتمي خلف أنظمة، ونتحصّن وراء ضمانات، ونتطلّع إلى حمايات وسياجات، وعبثاً نسعى إلى تثبيت وجودنا على أرض نظنّها ثابتة تحت أقدامنا إذا لم نسمع كلمة الرب في أن ننعش إيماننا، فالروح _ حسب اعتقادي _ قد ابتعد عن مسيرة دعوتنا، وصوت الرب يوقظنا قائلاً:"حتى متى أكون معكم يا قليلي الإيمان" (لو25:8). إننا أبناء الرجاء، فلماذا نخاف _ نعم نحن _ من الاضطهاد... فعيشنا في الشرق كوننا جذور المسيحية الأصيلة، ونعيش الصليب، وبعد الصليب قيامة، حيث سيتعرف كل الشرق إلى وجه يسوع المسيح، لذلك علينا أن نؤمن أننا الخميرة ولسنا أرقاماً أو نسبة، ونحن لسنا من اللاجئين بل أنا مسيحي من بلدتي وقريتي ومدينتي وحارتي ووطني... وهذه رايتي. فنحيا شهادتنا حسب قول الكتاب:"فما نحتاج إليه من حرية وشجاعة، شهادة منا لما نحن عليه من رجاء" (1بط15:3)
نحن عراقيون قبل أن نكون مسيحيين، وهذه هويتنا ونعتزّ بها، واعتزازنا بمسيحيتنا وببلادنا ما هو إلا حرص على أمنه واستقراره. وهذه رايتي، أحملها ليس نفاقاً ولا كبرياءً مزيفاً بل أحياها حباً ووفاءً وعطاءً لأصولي وأصالتي، وستبقى الحقيقة شاهدة مهما تجبَّر كبار الدنيا ورجال الزمن، وجعلوا لهم آلهة من دنياهم وأزمنتهم... نعم سأبقى أُنشد "هذه أرضي... هنا وطني... هذا إيماني... هنا شهادتي..".إنها انشودتي حتى مماتي فلا نخف فالرب معنا حتى النهاية .. نعم وآمين


217
نحن اليوم ... كنيسة شاهدة وشهيدة
المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
   في زمن عصفت على الوطن العربي المعاصر ، عواصف الفتنة ، ومسيرة
العنف القاتلة ، وحالة التمييز المخيفة ، والمطالبة باللون الواحد والطيـف الواحـد،  حتى
 داخل الدين الواحد، وفي خضمّ التخبّط العربي يجد المسيحيون أنفسهم غرباء عن أرضٍ أحبّوها وحملوها
إلى الحضارة، كما وفي خضمّ الأزمات التي يمرّ بها وطننا  وتأثره بما يجري من حوله في المنطقة من تحولات جذرية، وفي حالة الاضطراب التي تعصف بالشعوب والأوطان في منطقتنا المشرقية والاضطهاد المنظَّم والمخطَّط له في عقول كبار الزمن من أجل غايات ومصالح حاقدة تعصف بشعوبها الآمنة وبالخصوص بمسيحييها... أليس ذلك حالة اضطهاد وإنْ كانت تطال فرداً ثم جماعات، هاهي اليوم تطال الآن شعوباً وعشائر وأوطاناً.ا فلا المسيحيون واثقون من بقائهم في هذا الشرق ولا ربيع في تلك المنطقة التي عاشوا فيها منذ أكثر من ألفي عام.
الربيع العربي
   أسأل: مَن أطلق تسمية ما يحدث في الشرق العربي بـ "الربيع العربي"؟... ومن أين أتت هذه التسمية ومَن اذاعها على الملأ ؟... هل هي من صنع أعمالنا وأيادينا، أم تجارة خارجية استوردناها لمصالح أنانية، أم آخرون كتبوها لنا وصاغوها كي نتزين بها فتضيع كرامتُنا ويحكم السيفُ فينا والقتال والتكفير والكفار والتدمير والخراب؟... هل هم أحباؤنا الذين زيّنوا مانشات صحفنا بهذا العنوان البائس رغم ربيعه المدمّر أم أرادوه لنا كي نلوي ذراع بعضنا بعضاً ونتصارع ليس في ساحة الحلبة فقط بل حتى بيوتنا ومأوانا وساحات احتفالاتنا اصبحت حلبة صراع، وأي صراع ليس بين الأعداء بل بين الأخوة الأعداء؟... ما أقساه وما أحقره وما أدناه.
   وما يلفت النظر أكثر هو ارتفاع الأصوات في السنوات الأخيرة هنا وهناك وبشكل ملحوظ انعقاد مؤتمرات وندوات وإجراء حوارات في بلدان وأكثر في المنطقة العربية كما في الدول المنتمية إليها، إضافة في المحافل الدولية في أوروبا وألمانيا وأمريكا وعلى مستويات عالية بين المسؤولين في الحكومات والمنظمات الإنسانية والشعبية، وكلٌّ يفتش عن فرسه ليُسمع صهيلُ مصالِحِه في صدور دعوات عديدة وكلها تدعو وتنادي وتصرخ أوقفوا الاقتتال الطائفي، أوقفوا نزيف الهجرة، أوقفوا هجرة المسيحيين عن العراق وسوريا ولبنان ومصر بل والشرق الأوسط بأجمله. ومما لاشكّ فيه أن هذه الدعوات تحمل كلاماً جميلاً ونياتٍ بصور متعددة وأهداف مختلفة أو نوايا ومقاصد صادقة في معظمها أو في بعضها، كما صدرت نداءات مماثلة عن العشرات من القائمين في سلك المختارين من مسيحيين ومسلمين بتعدد طوائفهم وانتماءاتهم ولم يستجب لها حاملو السيوف والبنادق لأن المخطط أكبر من هؤلاء وأولئك، ولا زلنا في الربيع الدامي وهو ينتقل من حارة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ومن عشيرة إلى أخرى ومن مذهب إلى آخر، وأصبح الجميع في المعركة خاسرين، وهُزمت الأوطان وابتُليت الشعوب بفقر الحال والحياة ودُمّرت الحضارة ورُفعت راية الموت وثقافته.وبئس من  أطلق تسمية الربيع العربي ، على حالة أوطاننا ، ما أخبثه.
مخططات
صحيح إننا نعلم أنه يوجد أكثر من مخطط أصولي واحد في بلدان عربية ـ يقول أمين فهيم (عضو المجلس الحبري للعلمانيين) ـ أو غير عربية، وتهدف هذه المخططات التوسعية إلى غزو العالم بدءاً بالدول العربية، مستغلة استغلالاً أساسياً سلاح الدين وأموال النفط، هذا بالإضافة إلى هدفها النهائي ألا وهو (أصولة) العالم، لذا فإن الأقليات غير المسلمة في الأراضي الإسلامية والعربية ، هي في هرج. ومن الخطأ الجسيم أن نضع إخوتنا المسلمين جميعاً في كفّة واحدة لاسيما وأن الأغلبية الساحقة لا تحبذ تلك المخططات وإن كان التصاعد المقلق يشجع قدوم المتطرفين ، فنشهد اليوم رفعاً للحواجز بقيادة مفكرين مسلمين يريدون الدفاع عن جوهر دينهم ضد الأصوليين ويتهمونهم بتشويهه. كيف نتصرف حيال كل ذلك مما يتجاوز بكثير مسألة الأقليات الهزيلة ويهدد المجتمع بأسره ، كيف نتصرف أمام خطوة بهذا الحجم قد تستمر سنوات و سنوات.
ربنا يعلمنا
ما يعلّمنا ربنا أنْ لا نردّ على العنف بالعنف حتى لو دفاعاً عن النفس " أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم " ( متى 44:5)  وإلا لأنتهكنا قاعدة المحبة، والمسيح قد أعطانا المثل على ذلك كيف نكون رسل سلام ومحبة إنْ نحن استعملنا الرصاص. إن الرسالة المسيحية تدعونا إلى عيش القيم بأنفسنا، فكيف نتوقع أن نستطيع نقل شيء لا نملكه أمام ترديات اجتماعية تُنتَهك فيها العدالة أحياناً، نحياها ونعيشها قبل أن نجرؤ على المناداة بها وإلا وبدلاً من أن نكون فاعلين لا نكون سوى مدعاة للشك والعثار، كيف لي أن أجرؤ على التحدث عن الفساد عندما أبتاع الضمائر بالرشاوي.
بعض حقوقنا
يقال عنا أقليات... وإن انتُهكت بعض حقوقنا فمن السذاجة لا بل من الخطورة بمكان أن نطالب بها بصفتنا مسيحيين، بل من الحكمة أن نقوم بذلك بصفتنا مواطنين، أي أن نطالب في بلدنا مثلاً من خلال تحرك مشترك أصله الحقيقة في المحبة من مسلمين ومسيحيين دفاعاً عن الحقوق التي حُرم منها عراقيون آخرون... إنها الشجاعة بعينها. هنا تكمن حقيقة سبب التمييز بحق المسيحيين، فالطريقة المثلى والنموذج للتحرر من أغلال الأقلية والطائفية أو الأتنية تكمن في الدفاع عن هذا المبدأ ذي الأهمية الكبرى، فقياس الأكثرية والأقلية في كل حالة، ليس الدين أو الجماعة أو العنصر، بل الحقوق، إذ كل شخص له الحق في الحصول على ما منحه دستوره وهذا ما يدعونا إلى أن يكون المسيحي علامة مصلحة كنيسته ومصلحة المسيحيين... وهذا ما يدعونا للتحرر من عقدة الأقلية في مغامرة من أجل الوطن. إنها مغامرة مخيفة ولكنها سموّ الشجاعة. فبناء المدينة الأرضية يعود إلى المسيحيين وإلى الإسلام، والبابا القديس يوحنا بولس الثاني يناشدنا قائلا:"ابنوا مدينتكم الأرضية مع إخوتكم المواطنين المنتمين إلى ديانات أخرى" (ر ج ك 10). 
بقية باقية
   مَن نحن؟... نحن بقية باقية بعدما غادَرَنا العديد من أهلنا وجيراننا وأصدقائنا وأقربائنا ومعارفنا، وهذا ما يدعونا وما يؤكد لنا أن نعرف وأن ندرك ما يجري وما يحدث ولماذا هذا كله يحصل في هذا الزمان ـ زمن الربيع العربي  المزيّف ،  ـ ويحصل ضدنا بالتحديد والتخصيص وإنْ لم يُعلَن عنه فالزمن له اصحابه "فالمثل يقول " لكل زمان دولة ورجال"، فهل يجوز نحن البقية الباقية وبعدما أدركنا ما يريده رجال الزمن ودولة الزمان (أيجوز) أن نخبئ أنفسنا في زوايا التاريخ وإنْ تركَنا الكثيرون وغادَرَنا العديدون وهاجرت الأغلبية للفّة شهية ومسكن وهوية وجرعة دوائية وولولوا علينا قائلين إنهم أقلية، فلنرحم بهم كي نكتب لنا نجاحاً بهياً.
   نعم، من المؤسف لقد تركَنا الكثيرون ولم يجربوا ولو لسقطة واحدة في حمل صليب يسوع ربنا، وهربوا مهرولين بأفكارهم قبل أقدامهم، وحاملين آذانهم قبل أن ترى عيونهم، وحازمين حقائبهم قبل رحيلهم وبئس مَن قادهم إلى حيث هم، فلا وطن ولا رسالة بل حضور وأيام ليس إلا. فاليوم مسيرتنا وشعبنا ومجتمعنا مسيرة طويلة وصعبة، متعرجة ومخيفة، تداخلت فيها عمليات وأنانيات ومحسوبيات وظروف وتضاريس ومصالح وهي تفرض ذاتها لأنها الأقوى حسب تحليلها وأن تبقى حتى أبد الآبدين حسب تقويمها الكاذب وكما تشاء وترسم لها مستقبلاً كي تنفذ مخططاً لا نعلم أصوله ولا نعلم غايته وإنما ما نعلمه إننا راحلون بلا حدود وهم باقون، وهكذا يتنبئون... وإلى أين ومتى تنتهي الرحلة، ولماذا لا نعلم؟... وما هي ملامحه؟... وحتى ما؟... وكل شيء في سؤال واستفهام.

مكّون أصيل
نحن مدعوون في هذا الزمن القاسي أن ندخل بستان الزيتون (متى 36:26) ، كما دخله ربنا يسوع المسيح متسلقاً جبله، حاملاً رسالة سامية ملؤها الحب  ومعلّماً إيانا أن لا نيأس من الحياة لأننا نخاف من الكأس، فهو من أجلنا سبقنا ومن أجلنا دعانا إلى الدخول دون يافطة السماح بالدخول ودون موافقات بشرية. فالدعوة الإلهية والبستان مساحة الإله ومسيرة الإنسان، فيه ينجلي صوت الروح وعمق الصلاة من أجل شعب ووطن، واختيارنا الدخول إليه لا يعني عيش الخنوع ولا الذمية بستار التبعية، وبقاؤنا فيه ما هو إلا شهادتنا كي نبقى ليس شواهد ولا أحكام هزيلة، بل شهود لمسيرة دعانا إليها الرب من أجل أرضنا، وأرضنا تقول لنا: أن الوطن ليس قضيتنا وإن الشهادة في الوطن تلك هي وما نعانيه ما هو إلا أزمة إيمانية خطيرة بسبب عقول مخرِّبة ونيات شريرة حاقدة تمنعنا من العيش وتؤكد لنا طيب الرحيل، داعين أن لا خيار أفضل مما يُرسَم لنا وإن كان هزيلاً ومخيفاً... أمام هذا كله أقول: لنصحو من سباتنا المعيب ولننطلق إلى البستان ولنصلّي، فالصلاة مفتاح القدر إذا ما رُسم لنا ذلك القدر. ولنعلم إن  دعوتنا وشهادتنا تتحققان في هذه البقعة من العالم حيث شاءت العناية الإلهية أن نحيا إيماننا ورسالتنا. في هذه المنطقة يحتشد أحد أعتى أعاصير الأحداث الدولية والإقليمية فهي تتأرجح بين السلام والحرب. كما أن تيار التعصب يمكن أن يطفح وامام تيار العيش المشترك بين مختلف الشعوب والثقافات والأديان. فالمسيحيون في هذا الشرق هم بذاره وسهوله ووديانه وجباله، مكوّن أصيل وجوهري في عمق الأرض ووجهه متطلع إلى السماء يختزن في ذاته ثم تجسده تلك الذات على الأرض.

هل بتنا نخاف الصليب
أقولها، نحن كلنا في المسيرة، ولكن أسأل: هل استسلمنا دون أن يطلب أحد منا الاستسلام؟... هل نسينا أننا رعاة وشهود حق؟... لقد التزمنا بقضية هذه المنطقة أشهرها شراسة ولكننا نتخاذل وننسحب عن وعي أو عن لا وعي. فرسالتنا تُفقَد يوماً بسبب فشلنا بأخذنا مبادرات جريئة تقوقعنا، وخوفنا على المصير واستباح أسطورة بقائنا في هذا الجيل، لأننا لا نريد أن نتذكر أننا كنا وسنبقى صوت حق وسط أصوات الكذب والرياء، فقدر الحق أن يُصلَب قبل أن ينتصر. هل بتنا نخاف الصليب والموت؟... هل نسينا أن نكون في الموقع الأمامي أو لا نكون؟... هل نسينا أننا يجب أن نسلك هنا في قلب الصِعاب والشدائد حياة مبنية على تطويبات الإنجيل ( متى 1:5-11) ؟. إن المسيح يرافقنا هو بنفسه في خضمّ الأمواج العواصف "ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان" (متى 26:8) وهو الذي يساعدنا ويسامحنا ويجمع شملنا ويوحّدنا، وهو الذي يغيّر حياتنا ويجعلنا ننمو في الإنسانية ويتقوى به رجاؤنا وهذا ما يدعونا إلى أنه يجب علينا أن نجيد بناء المستقبل بكل ما أُوتينا من الشجاعة والرجاء اللازمين لا فقط في إيجاد السبل وتوفرها بل أن نكتشف رسالتها ونرسمها في مسيرة الحياة عالمين ـ كما قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني ـ "أنه جاء اليوم الذي علينا القيام فيه بالتبشير الجديد" (ع. م. 34).
كنيسة شاهدة وشهيدة
   الكنيسة ليست كنيسة تتباهى بأمجادها السالفة وتبكي على ما أخفقت فيه، فهذه علامات الشيخوخة. بل كنيسة شاهدة وشهيدة ، تحمل الشهادة بل شجاعة الشهادة كما قال بطرس الرسول" ما نحتاج إليه من حرية وشجاعة، شهادة منا لما نحن عليه من رجاء"  (1بط 15:3) ، من أجل أن تكون شعلة النور في الظلام(متى 14:5) ، والخميرة في العجين( متى 33:13) ، والملح في الأرض ( متى 13:5) أينما كانت، والشرق الأوسط مهيأ خير تهيئة لعمل كنيسة مسيحية هدفها الله لا ملكوت قيصر. فإن أخطر شهادة عكسية تكمن في عجز الجماعة الكنسية أو الرعية أو الحركة الرسولية عن الانفتاح على الآخرين، وعن توسيع حدود البشارة، وعن الخروج عن الحرم المقدس. فكل جمود وتخاذل رسولي خطيئة بحق الروح القدس وبحق البُعد النبوي المدوَّن في كل دعوة مسيحية، وأما الخوف من التجدد فهو خوف من الروح الذي يعطي الحياة. ، فمسيحيي الشرق الأوسط هم أمل شعوبهم. وإذ نحن في العشرة الأولى من الألف الثالث نحتاج إلى كنيسة توجه إليهم الكلام نفسه "لا تخافوا، انهضوا وامضوا فالمسيح بانتظاركم" ( متى 10:28 ) .
شهود للمسيح
   إن حضورنا في هذا الجزء من العالم يعني أن نكون شهوداً للمسيح ولمحبة الله نحو الجميع دون أية تفرقة. محبة تشهد أن الله واحد وثالوث حيث الوحدة لا تنفي التمايز وحيث تتقبّل الآخر وترحب به وتحترم اختلافه عنّا. قد نشعر يوماً بأن الصعوبات تفرّقنا وإن التشاؤم ينتاب نفوسنا بسبب المحيط الاجتماعي والثقافي والديني وهذا يجرنا التفكير أحياناً إلى اعتبار هذه الصعوبات لا تُذلَّل، إنها فرصة كي نتأمل ونفكر بالمسيحيين الأولين الذين نشئوا في شرقنا الأوسط، ولنتذكر أنهم واجهوا أوضاعاً أشد صعوبة من تلك التي نحن فيها فذلك ما يساعدنا على المُضي قُدُما مهما كلّف الأمر ولا أن نحمل حقائبنا لنرحل من أجل مسكن هانئ ولفّة دسمة وعلبة بيبسي مع الاضافة المجانية ومرح وسرح في دنيا العالم  وكأن الدنيا هي الختام المرجوّ. لقد جعلنا المسيح شعلة، أسأل وأخاف أسأل: هل انطفأت الشعله ومال النهار، نهار هذا الشرق، أم فُقدت البصيرة بعد فقدان البصر؟... ألا من مجال لندرك ـ ولو لفترة ـ نجاحنا في إرساء مفهوم الوطن وأتينا بمعجزة، فالرياح العاصفة أوصلته إلى شاطئ بعيد عن الحقيقة، والمسيحية إذا ابتعدت عن عمل الروح سيموت فيها روح الحضور والوجود.
في الختام
ما أفهمه جيداً وما أدركه إيمانياً وما أقبله مسيحياً أن المسيحية ليست استسلاماً ولا حياداً إيجابياً بل نحن رسالة محبة ونحن حروفها، نحن كرامها والكرام قليل، وبقية شاهدة وشهيدة، فإن بقينا في هذا الشرق فمن أجل قضية ورسالة وسنبقى هنا حتى إنجاز المهمة، وبهذه الرسالة وحدها كان ويكون بقاؤنا ومنها نستمد قوتنا ورجاءنا وعلّة وجودنا، وكاننا دُعينا إلى دعوة موسى في جبل حوريب.
فنحن في الشرق شمسه وعند مغربه ومضته الأخيرة، فلمسيحيتنا بداية ولا نهاية، وهكذا تسقط كل عظمة أمام وجودنا. إننا هنا منذ البدايات وسنبقى حتى النهايات مساهمين في تطور شؤون المنطقة كشهود بل كشهداء، والانتقال بها من زواريب الطائفية وأزقتها إلى ساحات الوطن وانفتاحه، فالمسيحية مواجهة وتحدّ، مواجهة الظلم والعنف والإجرام وتحدٍّ للقتل والتخلف.وعملا بقول قداسة البابا لشابين " لا تخافا، كونا شاهدين على الأمور التي عشتماها. إن بلديكما بحاجة إليكما. انهضا وامضيا"  (البابا يوحنا بولس الثاني في 25 كانون الثاني 1995؛ الأيام العالمية للشبيبة في مانيلا).
 نعم  في زمن المحن، إن الله موجود في قلب العاصفة، في قلب الأرض، في قلب الوفاء، في قلب الخلافات، في قلب الفشل وفي صميم النجاح، وفي الانتصار وفي فرح الأعراس ، وما وجودنا إلا شهادة حية ومن أجل قضية رسالتنا"  أن أذهبوا الى العالم بأسره وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما اوصيتكم به " ( مت 20:28) ،أليس ذلك دعوة كي نكون كنيسة .. وكنيسة شاهدة وشهيدة ،  نعم وآمين .









218
نحن ... لا نجد في الآخر عدواً بل أخاً

المونسنيور بيوس قاشا
  ** في البدء
   واقع مؤلم ، وضع قاس ، والإرادات قلقه ، فلا مستقبل بانفراج قريب ولا مجال للأمل في
 تصحيح ما أُدرج في الخطأ ، والطريق لازالت وعرة المسلك ،  ومات الحس الوطني ومعه الحس
الإيماني. كل هذه تساؤلات على طاولة الحياة واستفسارات يحملها البسطاء اليوم كما حملها
بالأمس آخرون قبلهم، فهم يرسمون لمستقبلهم كما يقولون إنهم لم يعيشوا أيامهم ولم يــروا شيئاً من أعمارهم وينظرون بعيداً بعيداً عبر البحار والمحيطات وهم يحلمون كي يكونوا سراً في صفوف الهجرة أمام دعاة الرحيل دون علم من أقربائهم وكذلك بالغرباء، ويرفعون صلاة ويوقدون شموعاً ويحرقون بخوراً كي تكون التأشيرة ونيلها هذه الليلة قبل صباح غد فيحددون السفر في سواد الليل بلا وداع ولا سلام لا من الغريب ولا من الجار خوفاً من الحال وغدر الماضي وجهل الأتي فتُحمل الحقائب بأثمان وأي أثمان بعد أن بيع كل شيء، كل أرث، كل دار، فكل شيء من أجل إخلاء السبيل، من أجل الرحيل ، بل من أجل ألخلاص،  رافعين شعاراً "كفى تسمّراً في بيوتنا، وكفانا خوفاً على أولادنا وأموالنا، فقد ملك الإجرام وقتلنا الإرهاب ولم يبقَ لنا سبيل ، سوى الرحيل".

   ** كل الخوف
   مَن منا لا يقول _ وتلك حقيقة قبل إقرارها _ إننا نعيش أبشع مراحل اللاإستقرار وأضيق مراحل المصالح الشخصية والفئوية والتداخلات الفضولية والتكبرية والكبريائية والتعاليوية، والخوف كل الخوف من الحاصل ومن المصير. فالانقسامات ترصدنا، والشرذمات تنتظرنا، والاختلاف يتربع على عرش الإنسانية المتوحشة منادياً باستمرار صراع الحضارات في هدم الجسور وتركيز الجدران الفاصلة وتعميق الهوّات والحلافات فالنار لا تلتهب إلا بعد دخان بسيط وريح خفيفة... هكذا مسيرة الخلاف لا تستعير إلا عبر كلمة بسيطة وكلام حقير، فتُعلَن المصالح وتُستَكبر القلوب في عنصرية مقيتة وبتصنيف هزيل، فتموت الانتماءات وتُدفَن النظريات وتُشيَّع الحريات وتُتوَّج العزلة في بلدان الأصول وما الثمار إلا قوانين مزيفة لشعب يرى نفسه عذاباً أبدياً، بينما الحقيقة يقولها الرب يسوع المسيح في أن الشهادة هي للحق قولوا الحق والحق يحرركم " ( يو32:8)، والحقيقة في البدء وحاضراً وإلى الأبد.

  ** عامل قلق
   أليس التعصب شكلاً من أشكال نكران الله والإنسان معاً، حيث علامات المحبة الكائنة في قلب الإنسان، تتحول علامات للكراهية، وسمات التسامح تتحول إلى دعاوى القتل والتكفير... أليس الكراهية والحقد والإقصاء صفات الإرهاب؟. أليس الإرهاب محرَّماً؟... ألم تُعلن الكثير من التصريحات وصدرت العديد من المواقف من مسلمين ومن مسيحيين تحرّم العنف والإرهاب وتدعو إلى العيش المشترك وتقاسم الحقوق والواجبات في الوطنية بعد الإنسانية؟. أليس تكفير الآخرين وحلال قتلهم وطردهم وإهانتهم وتحقيرهم، عامل قلق لدى المسيحيين أينما حلّوا وتواجدوا، ولا يمكن أن نرتاح أوالقبول بمثل هذه الشعارات المهلكة؟... أليس ذلك تشييع لحرية الإنسان ورسالته الد ينية؟. أليس الآخر أيضاً ، يؤمن برسالته ، سماوية كانت أم طبيعية؟. أيجوز أن يُفرَض عليه إيمان الأغلبية وإرادتها ومآربها فيكون بذلك صاغراً مطيعاً شاء أم أبى ؟ إنها شريعة الأقوياء ،  والحقيقة تكمن في أن الدين لله والوطن للجميع، ولكل واحد دينه، في حلّه وترحاله. وما الرسالة إلا المحبة والآلفة وما ذلك إلا مسؤولية دينية ودنيوية، فبقدر ما تزداد الحياة قامة تزداد تحدياً ليس إلا.



  ** تنوعّنا تحدٍّ
   تنوّعنا نعمة سماوية، والتاريخ شاهد لحضارة المسيحيين في عيشهم مع إخوتهم الأسلام ، وما كانت المسيحية إلا ديانة السلام والمحبة، فهكذا حملها المسيح يسوع إلى سالكي طرق الحياة، فلا عِداء ولا ظلم ولا كراهية في مسيرة الدنيا، وعوض ذلك محبة ومسامحة وغفران... مبادئ سامية يدعو إليها مؤمنو الأديان من أجل التلاقي والعيش المشترك، وما ذلك إلا موقف يشهد لفهمنا لهبة الحياة وثمار الحوار وعطيته. فتنوعنا هذا ما هو إلا تحدٍّ دائم، والحوار والعيش المشترك ما هما إلا جناحا هذا التحدي... إنه رسالة خيار، فهو يدعو أهل الكتب السماوية أن يتقاسموا الحقوق بمسؤولية إنسانية دون تكفير  طرف صغير لإرضاء الأغلبية، ولا فرض وصاية أو حكم ارتداد شخص ينادي بإيمان يراد أن يحياه ولا أن يُفرض عليه. فحرية الإنسان في حرية إيمانه وليس في وصاية يقرّها المخلوق بدستوره الخاص، وليس بأمر من جبل حوريب كليم الله، وهذا ما يجب أن يكون خارطة طريق لمسيرة حياة شرعاً وقانوناً، وما ذلك إلا رسالة الخالق الرحمن الرحيم والباري العظيم.

  ** الإرشاد الرسولي
   والإرشاد الرسولي رسالة سماوية حملها إلينا البابا بندكتس السادس عشر، حمله إلى مسيحيي الشرق بأسره، يقول الإرشاد الرسولي:"يشعر المسيحيون بنوع خاص ولكونهم يجدون أنفسهم غالباً في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان بعض الأمل بسبب النتائج السلبية لتلك الصراعات ولحالات الغموض، ويشعرون غالباً بالمهانة، ويعلمون بفعل خبرتهم أنهم ضحايا محتَمَلة لأي اضطرابات قد تقع ومن الأهمية إذاً أن يفهم القادة السياسيون والمسؤولون الدينيون هذه الحقيقة ويعملوا على تفادي السياسات والاستراتيجيات الساعية إلى تفضيل جماعة بعينها لقيام شرق أوسط أحادي اللون، لا يعكس بأي شيء واقعه الإنساني والتاريخي الغني (31).
لا تخافوا من أحد ولا تضطربوا بل قدسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه رباً وكونوا في كل حين مستعدين للرد على كل مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم (1بط 15:13) (36). بينما يقرر كاثوليك من أبناء الشرق الأوسط إما بسبب الحاجة والتعب أو اليأس اتخاذ الخيار المأسوي بترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة، فإن آخرين وبالعكس ممتلئين بالرجاء يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم. إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان (35).

   ** الحق وكل الحق
   ما يخيفنا، التطرف الديني، والخطاب التحريضي، والعودة إلى الأصولية، والتهديدات المميتة في عيش الإيمان، وما تلك إلا ذرائع ووسائط لتدمير الآخرين بألوهية بشرية وبأوامر مدمِّرة لعلاقات بين المؤمنين ودياناتهم، فذلك اعتداء على الأديان ورموزها وإقفال لأبواب الحوار، وطريقة لتقوية تيار التطرف، وتسويق طروحات لتعميق الصوت الطائفي، فتكون التفرقة والتباعد، فلا يمكن أمام هذه كلها أن نناشد المسيحيين أبناء كنائسنا أن يستمروا في العطاء عبر دورهم الحضاري والإيماني، فالضغوطات أصبحت أكثر من طاقتهم ومعاناتهم النفسية قبل الإيمانية من الإعلانات والنداءات التدميرية واستمرارها دون رادع أو حساب، وهذه كلها علامات أضرّت بالمسيحيين، فهي تهديدات لمسيرة إيمانية، وبها يشعر المسيحيون بنكران وجودهم... ومن المؤسف... وكأن لهم الحق وكل الحق.

   ** لنقف بثبات
   مع ما يحصل ، ما المانع أن يمارس كل فرد دوره بأمانة، كيف نقف نحن كمعلمين مكتوفي الأيدي، مطرقي الرأس، ننتظر دوماً أن تأتينا قرارات على أطباق جاهزة لا تتناسب وأذواقنا ولا تتناسب مع حواسنا ونلتهمها ونصمت فنصاب بعسر الهضم والقرحة والنفاخ أو نملأ بطوننا فننام ولا يُسمَع إلا شخيرنا ويضيع صوت الحقيقة وإعلانها لأن صاحبها قد أضاعها بدنياه... لماذا لا نمدّ أيادينا، ولا نحرر عقولنا، ولا نطلق ألسنتنا، لنحاول، لنقف بثبات، لنرصّ الصفوف ونحاكي الأديان والمؤمنين ونحاورها من أجل كلمة شجاعة وإيمان محب وروح تسامح وعطاء بلا حدود في خدمة أبوية، أخوية، وحرية مسؤولة دون استعباد، أو مذلّة أو تتابع، فنُرحَم لأننا فقراء الوجود وغير مبالين بحقنا في ذلك، ولنعلم أن الحوار رسالة سامية فيها يزول الغمام وتتضح المعالم، فالحوار منطقي ، مرجعه الأديان ، وحقيقته الأوطان ، وحامله الإنسان ولا شيء غير، فهو الغاية والرسالة، الوسيلة والسبيل، الحضارة والثقافة، لأن الأديان لا تدعو إلا إلى الخلق الحسن وعكسه يكون الجهل فجوة، وحوار الجاهلين ما هو إلا إنذار بكوارث تفوق مخاطرها الزلازل والبراكين... إن ذلك دعوة لنا كي نستأصل ما يؤلمنا من أصوله وليس من وجوهه، وبذلك نكون في السراط المستقيم وحقيقة الحياة في العيش والحوار.

   ** البابا فرنسيس
   وهاهو البابا فرنسيس، بابا الرحمة والفقراء، وكليم الحقيقة يعلن على الملأ حقيقة الشهادة فيقول:"إن زمن الشهداء لم ينتهِ، وإن لدى الكنيسة شهداء تفوق أعدادهم أعداد الشهداء في القرون الأولى من تاريخها. وفي الكنيسة أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يتعرضون للوشاية ويُضطَهَدون وتقتلهم الكراهية ليسوع، فمنهم مَن قُتل لأنه كان يعلّم المبادئ المسيحية، ومنهم من قُتل لأنه كان يحمل الصليب، وفي عدد كبير من البلدان كانوا ضحايا الوشاية وتعرضوا للاضطهاد وهم إخوتنا وأخواتنا الذين يتألمون في زمن الشهداء".
   أقولها: هؤلاء هم المسيحيون، شهداء بالأمس واليوم وإلى الأبد، عملاً بقول الرسول بولس:"هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد" (عبر 8:13) ، وإيمانا بما قاله قداسة البابا فرنسيس ، اقول ،  لا يجوز أبداً إفراغ البلد من حضورنا مهما كان المخطط قاسياً بحقنا ومهما كان المخطط علامة إفراغ، المهم أن لا تسكت أفواهنا عن قول الحقيقة، فكلنا نتحمل مسؤولية إفراغ البلد من أصلائه واستئصال أصوله، فالرب يقول:"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10). فوجودي في بلدي علامة رجاء رغم عمق الألم وضباب الكراهية. ولنعلم أن بقاءنا ثابتين في بلداننا شهادة للمسيح الحي بيننا.حيث تجسد ما احتمله المسيح يسوع (كو 14:3)،

   ** شتاء دموي
      هذه فقرات يسيرة من مراحل الحياة الشاهدة على واقع المسيرة المؤلمة، فما يحصل في ساحات حياتنا وربوع بلداننا من الربيع العربي وغيره من الأصوليات القاتلة ما هي إلا شتاء دموي وصقيع مميت بمصالح معروفة ومعلَنة وإنْ لم تكن على الشفاه فهي في حسبان القلوب والبيوت وبمخطط واحد لا غيره وهي كفى بقاءنا في أرضنا، علينا أن ندفع فاتورة حسابنا كي يمرّروا ما في بالهم وما في نظرهم وعقيدتهم بدلاً من أن أن يسجدوا للذي أرادنا هنا خليقة محبة  ومسالمة، وعلامة وئام، وبسبب حبنا له حملنا حضارتنا فأعطينا خدمتنا للجميع وبيوت الشفاء لكبار السن والمعوقين، وزرعنا ثقافتنا في قلوب الطفولة والشباب، ورفعنا من قيمة النصف الآخر البشري عملاً بأن نكون رسل السلام والخير والرحمة، طاعة للكنيسة التي أحببناها وأحبتّنا فأحببنا وأخرى وأخرى.
   أقولها وبكل شجاعة وإيمان وشهادة الحياة... إن الواقع الذي نحياه _ كما قلتُ في مقالات سابقة _ مهما كان قاسياً فنحن لا نجد في الآخر عدواً بل أخاً نعانقه ونغفر له ولا ننتظر من ألآخر إلا مد اليد لتصافح بسلام وليس لتصرعه وتهدده بالرحيل بعيداً وبعيداً جداً، فنكون بذلك سلعة تُباع وتُشترى في أسواق التجارة مقابل شحنة بترول تجري في أنابيب لتُحيي بشراً وتُميت شعوباً.

   ** في الختام
   أمام كل هذا إنني واثق أن الرب لن يتركنا هكذا قال البابا فرنسيس ، " بل إنه باقٍ معنا ومن سماء مجده يقصدنا ويقودنا ويشفع بنا " ، فالمسيح لن يغيب عنا وهو قريب من كل واحد منا ، فنحن لسنا ابداً وحيدين في حياتنا فالمسيح الرب القائم ، محامي لنا يدافع عنّا ، .. كما انّ الزمن اليوم يدعونا ان نكون ، ونكون بكل بشجاعة وبملئ الشهادة ولا ان يُقال عنا ، كانوا هنا ،  بل أن نكون صوت الحقيقة نعلنها من على المنابر والدساتير والقوانين والحقوق والواجبات ، لأن الاصالة في ارضنا والامانة لايماننا تدعونا ان نبقى لوطننا شهداء ولايماننا شهود وفي هذا كله سننشد الحياة بكرامة الكلمة ومهما كان طريق الالم مخططا لنا لن يكون اقسى من درب الام المسيح والدعوة واحدة والكلمة واحدة اننا سنبقى اوفياء وأمناء وأصلاء وما هذه الا بلادنا وما هذا الا ترابنا .. ومهما سالت دماؤنا ودموعنا وطالت ايامنا واسودت ليالينا فالحقيقة واحدة نحن لسنا الا شهود وما وجودنا الا طعم الشهادة والدم ، وسيبقى وسنبقى للبلد علامات وئام وليس خصام ، وما وجودنا الا ضمانة لشعوب اوطاننا فلا يمكن يقول البابا فرنسيس" ان نجد شرقا اوسطيا بلا مسيحيين " .. من هنا نقول لا يمكن أن نكون عدواً لأخر مهما قاسينا الألم وحملنا الصليب بل أخاً واخاً نحبه حتى النهاية فمعلمنا يسوع المسيح  اوصانا أن نحب إذ قال "  احبوا بعضكم بعضاً " ( يو12:15) ، وقال أيضاً ، أحبوا اعداءكم  " ( متى 44:5)  نعم نعم .. نعم وآمين .  




219
عذراً أسألُ وطنَنا ..  أنبقى نستعطي حقوقَنا

المونسنيور بيوس قاشا
   
   البدء : الحقيقة
            " عذراً وعفواً لجميع القراء الأحبة .. لهذا العنوان ، وبكل ما يحمله من ألم ومعاناة ، فالراعي يحّب غنمَه والحقيقة صوتُ القطيع وراعيه " . حقيقتنا واقعنا، وواقعنا لا زال يثير قلقنا ، وخوفنا من المستقبل يضيف علامات على واقعنا بسبب قلة الأمن عبر التفجيرات التي تُصبح وتُمسي مع حياتنا ومسيرة إيماننا، والاغتيالات أزمنتها مصلحية، والانقسامات تزداد ، وأسبابها طائفية ومذهبية وربما عشائرية وقومية، واتهامات عرفتُها تدميرية وكبريائية ،  وأخرى بعيدة عن أنظارنا وقريبة من جيرتنا، كل ذلك يدفع على بقاء الوضع تعيساً مخيفاً مميتاً وفي غيبوبة لا نعرف مداها إلا في صالة الإنعاش، ووجودنا حقيقة وهو أننا كنا ولا زلنا نواصل المسيرة، فلا سلام لنا ولا أمن لنا ، للمواطنين وللمؤمنين وللآخرين عامة وهذا كله عامل مساعد بل رئيس في كشف الحقيقة عن واقعها تجاه وجودنا، كما وهذا ما يمنعنا من إحقاق حقوقنا ورسم خريطة وجودنا وحقيقة أرضنا التي شهدت لنا، ونحن لها أصولها وأصيلوها.
   دار .. دور
   نعم ، وبكل أمانة أقولها: نحن جزء أساسي من نسيجنا الوطني والمشرقي، وهذا ما يقرّه آباؤنا في الكنيسة ، بالأمس كما اليوم ، مثل غبطة الكاردينال بشارة الراعي وابينا البطريرك يوسف يونان وابينا البطريرك ساكو فما هم إلا أصوات محبتنا وحقائق لرسالتنا . فمن حقي ان أُعلن،  أليس نحن الذين تقاسمنا وجودنا وعبء حياتنا ونداءات وطننا منذ كنا وحتى الساعة رغم ما حوكمنا به وما قيل عنا ظلماً أكثر مما هو خطأ، ولا زلنا نتقاسم وجودنا الاجتماعي بكل صفاء في سبيل السلامة ووجودنا التاريخي والذي تشهد له الأجيال والأيام والقرون والقائم على العيش المشترك ونبذ الطائفية والعنف والحقد وتكفير الآخر.
   أكيداً وليس كبرياءً بل حقيقةً ومن واجبنا الإيماني نقول ونعلن: إننا نحب وطننا، ونلهث إلى الفخر بحبات ترابنا بجانب حبنا وفخرنا بكنيستنا وعقيدتنا وقوميتنا ، وفي هذا كله لن أجعل أنانيتي أقدس من الآخرين والأخريات دون أن أُسيء إلى مَن هم مختلفين عني سجوداً وكتاباً ، رسالةً وصلاةً ، كلمةً وثقافة ، فقراً ومسيرةً ، دعاءً وبخوراً. فأيامنا غريبة ببشرها ومتنوعة بعشائرها وعديدة بسكانها ، وما يزيد ألمنا أن كتبَنا لا تبشر إلا بنا، وننسى أن مَن منحها لها طلب منا أن نكون له أمناء، ولأبناء حارتنا أوفياء، ولكن الأسف كل الأسف لا زلنا لم نتعلم ولا حتى الدرس الأول "دار، دور"، ولم يجمعنا حتى "داران"، فنكون بذلك داراً، وفي الدار يسكن الآباء والأمهات والأولاد والبنات، ويحميهم سقف واحد، لغة واحدة، وأكثر من ذلك إنسانية واحدة... إنها الوحدة، بل إنها التحدي الأكبر والهدف الأسمى، ولا مستقبل لهذه الدار وسكانها من دونها، فمن خلالها يتحمل الجميع مسؤولياتهم بروح التواضع والمحبة والخدمة دون تشويش الأجواء التي بُنيت على حب الأشقاء.
   ألم تأتِ الساعة
   معروف هو تاريخ مسيحيتنا، وقليلون قرءوا عنه لأعتبارنا أصغر منهم، أو إهمالهم لنا بسبق الإصرار أو بدونه وهذا ظنهم، فهم لا يعرفون شيئاً عن تنشئتنا فكرياً ودينياً واجتماعياً ووطنياً، وتناسوا أحياناً دورنا الرئيس في بناء الحضارة النهرينية والرافدينية كي نكون في خانة المتفرجين أو ربما الناظرين أو الناطرين ليس إلا، فلا يحق لنا أن نقيم علاقات أساساتها تاريخية ، وحقيقتها أهمية التعايش أو العيش مع الآخرين بصورة أفضل.
   ألم يحن الوقت، ألم تأتِ الساعة، ألم يتم ملء الزمان ( غلا3:4) حتى ننتقل من الكلام إلى الأعمال. ألم ننتهي من تنقيط الحروف من أجل كلمات ، فنقلب صفحتنا إلى صفحة متقدمة وننمو كما هو حال الذين كانوا من قبلنا والذين هم معنا فنكون مثلهم أو على حالهم أو حتى أدنى منهم بقليل، كلمة وشهادة وحقيقة. فالحقوق يجب أن تكون متساوية كون الواجبات سادت بيننا في صفحات دستورنا، ومن المؤسف أقول: لا أعلم إنْ كان وُضع لنا أو لأجلنا أم لغيرنا، أو وضعوه لهم ولغاياتهم، وما علينا إلا أن نقول "نعم لا بأس به، إنه لنا" جاعلين من أنفسنا رجال سلام كي لا نُضطَهَد من ديارنا ونُقلَع من أصولنا وتقودنا المسيرة إلى حمل حقائبنا لأن الخوف ملأ قلوبنا ولا يُسمَح لنا أن نقول في وجه الأقوياء "لا"، كما فعلها غاندي يوماً وقالها.
   الحياة هبة :
      إن الحياة هبة من الله، والبابا بندكتس السادس عشر يقول: " إن الحياة البشرية هي مُلْك لله وحده، ولذا فكل مَن يتعدى على حياة الإنسان فكأنه يتعدى على الله نفسه. وعندما يفقد الإنسان معنى الله فهو يجنح إلى فقدان معنى الإنسان أيضاً وكرامته وحياته. حياة الإنسان هبة من عند الله وهو عطيته وصورته، والله هو إذن وحده سيد الحياة ولا يسوغ للإنسان أن يتصرف بها. فعلينا أن نحب ما يحبه الله ويرضاه ونبتعد عمّا لا يحبه" . والأديان تأخذ صميم رسالتها وأهميتها البالغة في إبعاد شبح الحروب والنزاعات الدينية والاجتماعية التي تُدمي قلب البشرية لأن اسم الله يجب أن يشكّل اسم سلام ومحبة بعد ثلم أسنّة الرماح وكسر كبرياء السلاح والابتعاد عن العنف والدمار من أجل تعزيز وتمتين وصقل مسيرة الحوار من أجل الاعتراف بحضور الآخر.
   إرثنا ثقيل
   نحن مدعوون ضميرياً بل وجدانياً بل أكثر من ذلك شهادة لمسيحيتنا إلى أن نحوّل واقعنا إلى نور القيامة (متى 6:28)  عبر حياة التجدد الملتزم والوفاء الأمين لقضية وجودنا. وعلينا أن نتقدم نحو صفحة جديدة ونترك صفحة الماضي الأليم التي خططنا لها بسكوتنا وخوفنا وهربنا وهزيمتنا ورحيلنا بعيداً عن أقوياء الزمن المتسلّحين بآلات القتل والتنكيل في التهديد والوعيد والتي كتبناها بحبرٍ أُجبرنا عليه فكنا مخطوطة سطّرناها بدمائنا وسجّلناها في سجلات الزمن والتاريخ ولكن لم يقرأها أحد كي يقول لنا ما هو حقنا، وأين وصلت قضيتنا. فإن إرثنا ثقيل، وما أراه إننا نقف عند مفترق الطرق وخاصة إذا ما نظرنا بجدية الإيمان وحقيقة الزمان وما حصل ويحصل لنا وحولنا بالأمس كما اليوم في شرقنا من آلام المخاض، وربما تكون الولادة عسيرة جداً أو إلى عملية قيصرية الظهور بسبب الظاهرة السكوتية التي في تاريخ الأيام تتسلط على الرؤية الحقيقية، ولا زال داء النسيان ينهش في جسمها كي لا تكون، وإنْ كانت فلتكن هزيلة ليس إلا.
   وقفة جادة
لأننا لا زلنا نُمتَحَن في إيماننا وفي سلوكنا وفي تحمّلنا وفي خيراتنا وترابنا وعبر مسيرتنا مرة ومرات، فلابدّ أن تتوحد كلماتنا وتتحد مشاريعنا وتُعرف قضيتنا، ولابدّ من وقفة تأملية عميقة أصيلة بجذورها من أجل معرفتها وإعلانها وحقيقة بوجودها من أجل عيشها والمطالبة بها كشجرة أصيلة في ترابها وعظيمة بثمارها ويافعة بجذوعها وخضراء مُحِبة بأوراقها، وكل ذلك أيضاً في وقفة جادة بما تحويه هذه الكلمة من آمال وآلام كي نرى وضعنا الحالي وما قاسيناه في الماضي ولا زلنا نستعطيه ونطالب به ولا من مجيب أو سميع أو فهيم، ولكن سنبقى نقول مع ربنا يسوع المسيح الذي قال:"قولوا الحق والحق يحرركم" ( يو32:8).
   امام هذا كله لا يمكن أن يتوقف نزيف الهجرة إذا لا نقف مواقف وجودية. فالهجرة اليوم مستمرة في العلن كما في الخفية، وبيوت مؤمنينا يبيعونها أو تُباع لهم بطرق مختلفة وبأنواع شتى، وكل ذلك سرطان في جسم الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية، وسرطان مخيف بدأ يستفحل في جسمنا، وتفرغ كنائسنا، ويخسر مجتمعنا شريحة أصيلة. فالهجرة شتّتتنا وشتّتت عيالَنا وأولادنا وحتى أجنّتَنا وهم في بطون أمهاتهن إلى أقطار العالم بدءاً بأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندة وانتهاءً ببريطانيا وأوروبا و.... فما معنى وجودنا إذا لا ندرك عظمة مسؤوليتنا ، وإيماننا بربنا يسوع المسيح إنه لا يتركنا ولن يتركنا على الإطلاق بل يوجّه ضمائرنا ويدلنا على الطريق ويعرف حقاً مَن هو أمين له ومَن يخون الأمانة.
   قلق دائم
   فنحن لحد اليوم لا زلنا لم نتعافى من الحقبة الماضية المؤلمة ولن نتعافى، وواصلت الحقبات الأخرى المختلفة نجاحها بترويج الحقد والقتل والتهميش والإذلال والاستغلال، وأخذوا يحاسبوننا على عدد قتلاهم إنْ كانوا قد قُتلوا، ولا يحاسبون أنفسهم على عدد قتلانا فذلك حق مقدس لهم ولكنه وللأسف واقع ظالم... لذا سأبقى أقول إن أرثنا ثقيل وثقيل جداً، ، فالمخاوف كثيرة بعددها وكبيرة بحجمها ، وسط براكين الكراهية والحقد والعنف التي تهدد قضيتنا التي نخاف أن نظهرها على صفحات كتاب الحقيقة ودستور الحياة ، ومسيرتها تحيط بمسيرة حياتنا من الوضع الأمني إلى الهجرة، إلى التصغير والتحقير، إلى الطائفية واللامبالاة، إلى كشف الحقيقة من مرتكبي الجرائم بحقنا ولماذا أسيلت دماؤنا، وأخرى كثيرة... هل نحن لا زلنا نشهد لأرضنا ودماء آبائنا لا زالت تصبغ ذرات ترابنا؟... هل نسينا ألوان ترابنا القانية ولونه الشهادي الكبير أمام منفعتنا الشخصية كأنها هي أساس كل شيء، بل هي كل شيء؟. إضافة إلى أننا نرى التطرف الديني يزداد أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم وخاصة في زمن الربيع العربي المتعب، والحقيقة هناك مَن يقف وراءه ويغذيه ويخصص له أموالاً وبشراً وماكينة، وهذا ما جعل من طوائفنا المختلفة وخصوصاً مسيحيينا وأصحاب الديانات أن تعيش، ليس فقط وضعاً صعباً وغير مستقر، بل في قلق دائم محايد منهم إلى الهجرة وترك الوطن إلى دون رجعة. كما إن انتشار ثقافة الانفرادية والمحاصصة في الغالبية والأقلية ما يعني الإقصاء والتهميش على حساب المساواة في المواطنة الواحدة، إضافة أيضاً إلى ما تعلّمه ثقافة التخويف بخطابات دينية عبر هدم الجسور وتأسيس الفواصل وتقاطع البناء.
   انبقى بلا حماية
   أليس من حقنا أن نسأل أو نتساءل أو نستفهم: أين هو العراق الجديد؟... ما درجة المواطنة وما دور الدستور؟... فكما سردتُ، قبلاً وماضياً  فنحن منذ سنين وسنين ومرت أجيال وأجيال، واستُحدثت أحكام وقوانين وأبواب ونحن كما نحن، بل في تناقص مستمر وكي لا نكون مرضى وعليلين منذ ولادتنا فنقبل بمخططات حصلت لنا ولا زالت تُرسم لنا لتقسيم أفكارنا وكنائسنا ومؤمنينا قبل أرضنا، وقرارنا قبل منازلنا، وولائنا قبل عراقنا... أنبقى بلا حماية تُذكَر أولاً بقوة إيماننا ثم بحب ترابنا ثم بوحدة كلمتنا وهدفنا ومشاريعنا وقضيتنا؟...    وأسأل: هل لنا قضية نعمل من أجلها؟... هل لنا مَن هم نحتمي تحت إرشادهم ونخلص بفدائهم أم نحن لا زلنا مجموعات ومكوّنات وأحزاب كلٌّ يفتش عن شؤونه ورسومه ومخططاته، وننسى أن الأسمى هو الإنسانية المسيحية والحقيقة الحياتية والمساواة القانونية والعبادة في الضمير وحريته الإيمانية؟...
   وإلا، أليس من حق الكثيرين حمل الحقائب والرحيل؟... أليس من حق العديدين التفتيش عن ملاذ آمن دون الاستعاضة والاستعارة؟... أليس من حق عوائلنا أن تفتش عن مستقبل كنيستهم وأولادهم؟... أليس من الحق وبلا خوف أن نطالب بحقوقنا وأفكارنا وسبيل حريتنا وعيشنا؟... أليس من حقنا أن نتحرك كلنا سوية وأن لا نبقى جامدين؟ انبقى نستعطي ( عذراً ) كل يوم وفي كل جيل ،  فالرب يطلب منا أن نعمل ما دام النهار فهو رجاؤنا (2كو 10:1) ويريدنا أن نتحرك في العالم آخذين قرارات ومواقف تجنّبنا الوقوع في مغالط الحياة، فنخسر البقية الباقية، وسيبقى الذي لنا ( متى 29:25 ) ليس لنا.

   مجيء رجاء
   أقول: ما عشتُه من بعد الاحتلال والسقوط، لهو في صميم مسيرة حياتي فالاحتلال والسقوط عنوان واحد ، غيّرا وجه الوطن ، وفتحا باب الديمقراطية المزيَّفة ، فحلّ ما حلّ فينا حيث الطائفية والعشائرية والاغلبية والاقلية والمذهبية والمناطقية والديموغرافية والمحسوبية والبلدية ووية عديدات لا تُعد ولا تُحصى ، وأصبحنا لا نبالي إلا بأنفسنا كقبائل في زمن الجاهلية، وأصبحنا نحن المسيحيين أقلية، والإرهاب أخذ مجالاً كبيراً في طردنا وتهديدنا وقتلنا ونهب بيوتنا وأملاكنا، وظهور الأصوليات أزادت في البليّة ألماً... ومع هذا فكنيسة الشهادة _ وإنْ لا زالت تعيش مرحلة الألم في درب الصليب _ ستبقى وفيّة لإيمانها. فمجيء قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى بيروت عام 2012 ومعه الإرشاد ، ومن بيروت إلى شرقنا العزيز، ما هو إلا مجيء رجاء وأمل لأجيالنا الصاعدة وشبابنا. ولكن ما يجب أن نعمله هو أن نوعّي أنفسنا وأولادنا بأن الرب له رسالة خاصة لنا في هذه الأرض المباركة، وفيها خلقنا الله ولها أرادنا. ورسالتنا اليوم ما هي إلا رسالة الحوار المثمر كما يقول السينودس، والثمار لا يمكن أن تُحصَد إذا لا نقوم بالاهتمام بالشجرة المثمرة. فثمار إيماننا تنضج بقوة عيشنا هذا الإيمان عبر الإرشاد الرسولي الذي سلّمه لنا قداسة البابا. فالمسؤولية ليست لرجال الكنيسة وحدهم فقط بل كلنا مسؤولون عن تجسد الإرشاد في مسيرة الإنجيل التي نحملها عبر بذرة الإيمان التي زرعها والدانا يوم عماذنا، فنكون بذلك أوفياء لهذه الرسالة وأمناء لكلمة البشارة.
   الختام عذراً
   أيجوز أن نبقى ننهش بعضنا بعضاً، كلٌّ يفتش عن مربعه وحصانه وقلعته وفيله عبر تناقضات تجعلنا أعداء، واختلافات تعلن منا دعاة حرب وصانعي جرائم بدل أن نكون طلاب سلام وتلامذة الحياة؟... هل نبقى دائماً من الخاسرين في معركة الحياة؟... أليس من الواجب الإيماني أن نكون ملحاً ونوراً وخميراً وزيتاً لمجتمعنا دون خوف لأن بقاءنا علامة أمل ورجاء ومشاركة بالرغم من تهديدات الموت والهلاك، وما ذلك إلا امتحان في إيماننا وسلوكنا. فعلينا أن نحمل الإنجيل حتى النهاية ولا يجوز المساومة على ذلك مهما كانت الشعارات واليافطات واللافتات . وما الأولوية إلا للإنسانية المسيحية في حمل حوار السلام من أجل التعايش، بل العيش الواحد المشترك ، وما ذلك إلا ضرورة من أجل علاقات مُحِبة على جميع الأصعدة لأننا أولاد لإبراهيم أبي الأنبياء كما يقول البابا بندكتس السادس عشر:"علينا مواصلة الحوار انطلاقاً من كوننا أولاداً لله الواحد الخالق الأسمى، وحاملي رسالة تستمد قوتها ونبوّتها وروحها كوننا أولاداً لإبراهيم" ، ومن خلال الحوار يدعو قداسته الى حرية العقيدة والعبادة والعيش المشترك .. وما ذلك إلا دندَنَنا وحمايتَنا وحقَنا . عبر وحدتنا في كلمتنا وغايتنا ومسيرتنا ليس إلا ، وعذراً عذراً . إنها الحقيقة  ، وشكراً ،  بل كل الشكر للمخلصين ذوي الارادة الطيبة والصالحة والذين يعملون ويشهدون لرسالتنا وبقائنا وعيشنا الواحد المشترك وما اكثرهم ، وإن شكرتم لأزيدنكم،  ..نعم وآمين. 



220
من المؤكد .. لا فائدة ولا معنى

المونسنيور بيوس قاشا
  * من المؤكد،
وفي علم الجميع، أن شرقَنا عامة وعراقَنا خاصة، موزائيكي بأديـــــانه ومذاهبه ومؤمنيه، وتعددي بطقوســــه
وتقاليده وعاداته ، وكبيرٌ في اختلافاته وانتماءاته وقبائله وعشائره، كما إن شرقَنا حاضنٌ لرسالات سماوية
لله الواحد الأحد ، اليهودية والمسيحية والإسلام ، رباطها المحبة والشهادة والرحمة، وفقدان أية واحدة مـــــن
هذه سوف يفقد غناه وتنوعه وفرادته وشهادته وأثره وحتى وجوده ، وربما حتى كيانه، فتتخلخل السواتر بسبب هشاشة البنيان وربما تحلّ كارثة يسجلها التاريخ ألماً وأسفاً وغباءً إذا ما سقط بسبب رياح الحقد والكبرياء والطائفية والأنانية والمذهبية والكراهية القاتلة بل والمميتة، معلناً أن كل ذلك كان مبنياً على رمال البحور ومن صنع جليد الشتاء، حينذاك ستجد الفتنة أرضيتها وأيّما أرضية ، خصبة، مهيأة، فتأتي وتسكن وتعمّر في القلوب كما قال ربنا يسوع المسيح (متى 45:12)  وتنادي الجارة فتجد فتنة أخرى ومن نوع آخر كونها تعشعشت في عمق القلوب وماتت الإنسانية بعدما شُيّعت صفات الحوار بسبب أناس وأشخاص حملوا رايتها وباعوا أنفسهم لكبريائهم ونكروا الحقيقة بسبب حقدهم وحبهم لمجال الشرير، فضاع الجوهر ودُمّر الكيان وقُتل الخيار وقُبر التنوع وضاع المجتمع وأصبح شرقنا أخيراً بلا شموس ولا أنوار، وضاعت معه أسطر الحياة في كتاب الزمن فلا حضارة ولا رافدين ولا تاريخ .

     * من المؤكد،
   ما حصل في بلدي من مآسي لا تُعَد ولا تُحصى، عديدة في تسلسلها ومخيفة في رواياتها حتى تقدمت عناوينَ الأعلام وملأت صحفَ الأخبار ودورَ الوكالات ومقراتِ أبنائها، وصُوِّرَ شعبُنا ويا للاسف بشعب دموي سِمته القتل والتدمير وسفك الدماء، وأية دماء!، دماء الأبرياء وضحايا في ضحايا العبوات وشهداء اللاصقات عبر مخطط لا نعلمه ولا نفهمه ولا ندري إتجاه مسيرته ، وإلى أين يكون مداه، شهداء مسلمون ومسيحيون وآخرون لمصلحة مَن لا أعلم ولن أعلم ما دامت الأخوّة عداوة ، والأخوة أعداء ، وما دامت الحياة حقد وكراهية وكبرياء، غيرة وأنانيه ،  بتخويف الفقراء والبسطاء وبسفك دمائهم وإن شاركوا في مسيرة البناء، والذين لا يملكون لا سلاحاً ولا سيفاً ولا حول ولا قوة، بل جُلّ ما هم ، أناس بسطاء ، كل ذلك لم يكن في الحسبان ولا على البال . فهُمّشت المهارات وأُبعدت الكفاءات وطُردت العلاقات ودُنست بيوت المقدسات ، ونُصبت موائد الحلفاء ، وحيكت المؤامرات وقُتل أبناء أقلياتنا ، فضاع وجودنا وشُرّد كياننا ولم يبقَ إلا قلة قليلة وهذه تنتظر الرحيل غداً مع دقات اجراس الهجرة ثانية وثالثة . بعددها واختلافاتها ومعهم قُتلَ الحقُ وصُلبت الحقيقة، وما حصل كان مخيفاً بل ومخيفاً جداً.

    * من المؤكد،
   إنني واحد من ملايين العراقيين الذين يحبون وطنهم وترابهم، ومن أجله يرفعون الصلوات. كما إنني واحد من الذين يعيشون حضارةَ الآخرين وتاريخها ومياهها وهواءها ومعجب بها، وإنني أحمل فكراً إنسانياً مُحباً صادقاً بريئاً لجميع أطياف بلدي ، فأنا شاهد لحقيقةٍ _ هكذا قالها لي يوماً البابا بندكتس السادس عشر _ وهكذا ارادتني سيدة النجاة ، وإن أخفاها آخرون ، كانوا أصلاً في المجهول ، أن اكون الشاهد الاول والوحيد حينها وساعتها وأن ارى ما كان وما حدث ، وسأبقى لها في احترامي لديانات ورموز مؤمني وطني بمذاهبهم وطوائفهم، وأحترم مقدِّراً غالبية الوطن كي تكون للأقلية رسالة وخدمة. وأنتمي بفكري إلى الإنسانية في إنجيل المسيح الحي في المحبة وفي الأخوة وسلوك طريق السلام وعيشه في البشارة وفي الشهادة وحتى الاستشهاد، فأنا رسالة مُحبة إلى العقول وكلمة بريئة إلى القلوب، فنمدّ الأيادي لتتلاحم الكلمات في أفكار حاملة للمسؤولية في الخدمة والعدالة وحرية الضمير، وما أنا في ذلك إلا خادم وضيع وعامل أمين ، شاهد وشهيد ،  ليس إلا.

     * من المؤكد،
   صوت الأرشاد الرسولي ، لا زال وسيبقى يعمل فينا من خلال كنيستنا المقدسة ، فهو يقول في الفقرة (فقرة 35):"إن المسيحيين بسبب الحاجة والتعب أو اليأس، يقررون اتخاذ الخيار المأسوي بترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة. وإن آخرين وبالعكس ممتلئين بالرجاء، يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم. إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان. وآخرون هرباً من غياب الاستقرار والأمل في بناء مستقبل أفضل يختارون بلدان المنطقة ليعملوا فيها ويعيشوا".
   وكذلك في الفقرة (فقرة 67) فالمسيحي قبل كل شيء شاهد، والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الإيمان بل تُنشد أيضاً حياة متوافقة مع هذا الإيمان نفسه للرد على متطلبات أناس زمننا". وأما في الفقرة (فقرة 82) و"إن الأوضاع البشرية المؤلمة والناجمة عن الأنانية والقلق والرغبة الجامحة في السلطة قد تلد الإحباط وفقدان العزيمة. مع ذلك يوصي المسيح بالمداومة على الصلاة"... فلابد من الحفاظ على وجودنا عبر الشراكة والتفاعل.
   وخلال ذلك أستطيع أن أقول أنه ، على المسيحيين أن يؤمنوا أن ربنا وضعنا هنا لعيش المحبة، وعليهم أن يُدركوا النعمة الكبيرة التي أعطاهم إياها الله بأنهم ولدوا في الشرق وعلى أرض آبائنا ، وأجدادنا ، أرض الأنبياء ،  وهذا شرف كبير لهم .

     * من المؤكد،
   إننا إذا لا ننتبه إلى مسيرة الحياة وكل ما يحصل ستتبعثر مسيرتنا الزمنية وينفتح باب الضياع على مصراعيه وتضيع الحقوق وتفشل المنظمات المدنية ونصبح بلا قانون فلا هدف لنا ولا خطة طريق لمسيرتنا، والزمن سلاح سيفتك بأبنائه ولا يستثني من هذا المصير أحداً بسبب منظمات أو مؤسسات أو حركات أو أحزاب أو ائتلافات تختفي خلف لافتات ويافطات وشعارات إنسانية، والحقيقة غير هذا تماماً وحقاً وعملاً، وهذا ما لا يعلنه أحد ، فمصالحها وأهدافها اقدس من قبول الآخر وأهدافه وتطلعاته وإذا ما إختلفت عن أهدافه عُدَّ الاخر عدواً وأُضيفت الى صفاته وتعامله حقداً وغيرةً مميتة ، ومن المؤسف أن يكون هذا ،  وكما قال غبطة البطريرك مار بشارة الراعي:"هنالك أناس لا يريدون أن نقول الحقيقة، ولي حق أن أقول ما أراه مناسباً ما دمتُ حياً، ويجب على العالم أن يعي ما يجري من حولنا"... "أنا لستُ ضد أحد _ ويقول غبطته أيضاً _ أنا مع كل الدول والشعوب ولكن لا أريد أن نرى أنفسنا نُذبح كل يوم أمام مصالح وسياسات دولية ، أو غايات سوء لأشخاص لا يرون إلا كبرياءهم ، ونحن نريد أن نعيش سوية باحترام متبادل، فالمسيحيون لم يلعبوا ولو مرة واحدة دوراً معادياً ، والجميع يقولون إننا مواطنون صالحون، فلماذا يريدون قتلنا" ، أو تهميشنا ، وأن نخضع لأوامرهم ولألوانهم .

    * من المؤكد،
   إن التنوع الديني لغة الغِنى لوطني، ومسؤولية الحفاظ لا تقع فقط على عاتق الفاتيكان والكنيسة وقداسة البابا، أو على عاتق المجتمع الدولي وحده، بل من المؤكد وبدرجة أساسية على عاتق السلطات الممثِّلة للغالبية العربية والمسلمة وغيرها ، فهي مطالَبة بإظهار قبولها وحرصها على التعدد والتنوع _ ليس فقط عبر بيانات بل عبر تفعيل البيانات إلى حقائق واقعة بل ودامغة _ ورعايتهم واحتضانهم في دولهم للثبات والرسوخ من أجل بناء عالم الحضارات في تحقيق المساواة والشراكة الحقيقية والمواطَنة الصحيحة، وبدستور لا يعنيه الابواب والفقرات وصياغتها بل بالانسان وكل الانسان ، وكل انسان ، أولاً وأخيراً ، ليس إلا، بدلاَ من الانصياع إلى ما يسمى صراع الحضارات، فتنزلق إلى نموذج بعدم قبول الآخر في مذهبية واحدة وقومية واحدة وطائفة واحدة ودين واحد ولغة واحدة... فالشرق غني بتنوعاته، وبائس وفقير بانفراداته ، وبعدد تعدد المذاهب والطقوس والعادات والتقاليد بقدر ذلك يتجسد الحب والإنسانية وترتفع راية الوطن فوق هامات ابنائه ملؤها سلاما ووئاماً  .

     * من المؤكد،
   إننا عانينا في شرقنا وعبر اسفار التاريخ ومجلدات الزمن ، اضطهاداً منظَّماً وعاتيا ولا زلنا نعاني  _ عبر مضايقات لا تُعَد ولا تُحصى _ شئنا أم أبينا، علناً أو سراً، وظيفياً أو وجودياً، عقائدياً أو عاداتياً، مما يجعل الهجرة مصدر قلق. والأرض التي قامت عليها المسيحية بدأت تفرغ من اصلائها ومؤمنيها شيئاً فشيئاً، فمستقبل الوجود المسيحي _ بقاؤه أو زواله _ بدأ يشمل المنطقة بدولها وشعوبها، وبدأت بعض البلدان تعاني من فقدان الوجود المسيحي في أرضها، بأسباب داخلية كانت أم خارجية، وهناك مَن يموّل الإعتداءات عليهم بهدف عدم استقرار الحياة ،عبر تنامي التيارات الأصولية وملحقاتها، فكانت الهجرة حلاً،  حيث الراحة والأمان وتأمين فرص العمل، وبعد أن فتح الغرب ابوابها ، تسهيلات أُعطيت لهم وشجعتهم على الهجرة... فالهجرة مأساة، فمَن يتحمل مسؤولية تلك المأساة!... إنها كارثة إنسانية، فما هي المعالجات الممكنة؟.
   كما إن وجودنا كمسيحيين وفي شرقنا العربي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى، فالهجمات والدعوات إلى التكفير، والفتاوى القاتلة والنداءات إلى المحرَّم والممنوع والعنف الممارَس ضد الأبرياء باتت عنيفة ومميتة، وهذا ما حلّ بنا في السنين التي مرّت ولا زال القلق على المصير  يلاحقنا أو يزأر بنا ينتظر ساعة الصفر لكي يحاكمنا، ومن هنا نعيش حالة من الخوف على مستقبلنا إضافة إلى أننا دائماً ندفع ثمن الأزمات التي تهب على المنطقة وهذا ما يجعلنا دائماً نفتش عن ملاذ آمن في مكانٍ ما من العالم بعدما بدأنا نفقده في وطننا وأوطاننا وكأننا أصبحنا شريحة أو مجموعة أو أقلية أو طائفة... أو... أو... والتسميات عديدة، لم يعد مرحَّباً بنا إلا من قلّة حكيمة واعية وعاقلة.
   وأيضاً ، كمسيحيين نرفض رفضاً قاطعاً أن نعيش أهل ذمة كما حصل في الأمس، بل نحن شركاء مع الآخر، وهذه الشراكة عمرها الاف السنين، وإصرارنا على العيش في هذا الشرق ما هو إلا علامة وجودنا ، وما على الأخر إلا أن يكون دستورا جديداً وكتاباً مفتوحاً يقرأه الجميع ويذيعه على الجميع فيجعل من حقوق الأخر قويمة وحسب ايمانه وما ذلك الا شجاعة ايمانية نحتاجها اليوم وليس كنزاً مخفياً لا ينفع إلا صاحبه وفي ذلك اخاف من العث ( متى 19:6)  ومن السارق ولله في ذلك شؤون بل واعلم .
    
     * من المؤكد،
   نعم، " نحن لسنا زوّاراً في هذا الشرق أو مهاجرين إليه " ، كما يقول غبطة البطريرك يوسف الثالث يونان ( رسالة الميلاد2013 )  بل نحن أهل الأرض ومشرقيون أصليون وأصيلون، ومن المؤسف لم يوضَع يوماً ملفّنا على طاولات ومناضد المحاورين، وهذا ما يؤكد إننا لسنا على بال أحد، وبقاؤنا _ أقولها _ يعتبر مرهون بانتصار المعتدلين الذين يقبلون الآخر. أسأل: ألم يحن الأوان للمجتمعات أن تتحرك بدل أن تطلق الكلمات والشعارات وتصدّر البيانات فقط بعد أن كثرت المؤتمرات واللقاءات والمنتديات والاجتماعات ، أقليمية ودولية ووطنية ، حول مسيحيي الشرق ووجودهم والتحديات، وهذا ما حلّ فينا ، وما رأيناه ولمسته أيدينا ، ولكن لا زال يسجل ضياعنا؟. هل هو مخطط للشرق الأوسط الكبير أو الجديد وهل بدأ ينجح في زرع فكرة اقتلاع المسيحيين من هذا الشرق؟... الا يكفي صمّ الاذان عن الجرائم النكراء بقتلنا وحرق كنائسنا وأديرتنا ، وقتل كهنتنا ، واساقفتنا ، ومؤمنينا ، وخطفهم فرادا ووحدانا التي تمزق نسيج مسيحيتنا، وانسانيتنا ووطننا ،  فلا نحتاج بعد إلى خطابات تذكّر بضرورة الحفاظ على المسيحية المشرقية وعلى مشرق متنوع، بل نحتاج اليوم إلى تفعيل ما نقول عبر توقيع وإثبات، وإلى دستور واضح وصريح ومحق لحقوق كل إنسان... فالتاريخ قالها يوماً _ ويرددها كل يوم حاملو لسان الحق والحقيقة _ وهي أن المسيحيين ما هم إلا سكان الشرق ولم يتركوا بلدانهم ، لا مع مجيء الإسلام ودخوله ، ولا مع نشوب الحروب ، في المنطقة على امتداد التاريخ . فلا فائدة  ولا معنى أن يطالب المسلمون مقاسمة العيش المشترك ، والتضامن الإسلامي – المسيحي إذا ما تمّ تفريغ المنطقة من المسيحيين او يهجّرون حيث يُرسم لهم أو يُقتلون بصبغة تكفيرية ، مما حدا بالبابا فرنسيس أن يرفع صوته قائلاً " أنه لا يتصور شرق اوسط بدون مسيحيين "  ، وهذا ما نراه  اليوم في بعض المناطق في شرقنا العزيز .

    * من المؤكد،
   نعم ونعم ، هاهم المسيحيون اليوم يُقتَلَعون من جذورهم من قِبَل أناس متعصبين وأصوليين ، فأين هم كبار الزمن ، وأين هي وسائل الإعلام لكشف الحقيقة ؟... لا ينفكّ المسيحيون يطلبون المساعدة ويناشدون المجتمع الدولي ، بتنوعاته ومنظماته ، ولكن "لا حياة لِمَن تنادي". للأسف، يخشى عدد من كبار الزمن انتقاد الأصوليين والمتعصبين، ولكن كل ذلك على حساب مَن؟... نعم، على حساب كل مسيحي وكل الأقليات، وبسبب ذلك فإن فرارنا وانقراضنا بات وشيكاً ، وسيقولون أنهم كانوا يوماً هنا .
   أليس من حقنا أن ندافع عن حضورنا ووجودنا  ونؤكد على شهادتنا المشتركة في كل المجتمعات ، والمحافل الوطنية قبل الدولية والإقليمية ؟ وإنْ كنا وكانت أوطاننا تعاني من ترسبات الماضي، هذا لا يعني القبول بالأمر الواقع بل علينا النظر إلى المستقبل كي لا يكون مقترناً بالخوف والجزع بقدر ما يكون مرتبطاً بالموضوعية ، والواقع الايماني بحس المسيحية . فمن سالت دماؤه ، وحبر قلمه من أجل العيش المشترك ، وزرع السلام ، ويافطة الوئام ،  والحوار في تأكيد الضمير وحريته ، وقبول الاخر بايجابياته وسلبياته ، ما هو إلا رجل تاريخ ومسيرة . بل شجاع من اجل الشهادة للحقيقة ، من أجل معالجة المشكلة على الصعيد الكنسي وعلى جميع الاصعدة وإلا فلا فائدة ولا معنى،  .. نعم وآمين .


221
صرخة في  دروب الحقيقة

المونسيور بيوس قاشا
في البدء..تهنئة
مع حلول ذكرى ميلاد طفل المغارة يسرني أن أُهنئ قداسة البابا فرنسيس وأباءنا المغبوطين ، وساداتنا الأجلاء وإخوتي الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين ،
ومسؤولي المواقع الالكترونية والعاملين في مجال الاعلام ، والساهرين على ايصال كلمة الحق ، وندعو الرب الذي سكن بيننا أن يمطر نعمه وخيراته وبركاته ،
 وان يجعلنا طلابا في مدرسة المذود الفقير ، حاملين الحس الايماني ، وحب الأرض ، وعطاء السماء وفقر البابا فرنسيس ، وأقول وكل عام والجميع بخير .

أحداث .. وعولمة
أحداث مؤلمة لا زالت ترافق مسيرة أبنائنا في شرقنا في هذا الألف الثالث، وقدازدادت وتيرتها منذ أشهر وحتى اليوم، فهي بذلك تذكّرنا بما احتمله وقاساه آباؤنا من الاضطهادات منذ نشأة المسيحية، واستمرت عبر قرون وأجيال وحتى الحربين العالميتين الأولى والثانية وحروب السنين العثمانية الأخيرة من الألفية الثانية. هذه الحروب أحرقت ضحايا لا تُعَدّ ولا تُحصى، كما رافقتها هجرة أجدادنا وآبائنا، واليوم نحن أحفادهم... وها هي المسيرة تتجدد حاملة الخوف والفزع عبر العنف الذي يحمله الأصوليون، والاضطهاد الذي تصمت أمامه أفواه لا حول لها ولا قوة، وعيون تنظر ولا ترى، كما إننا نتحرك كل يوم على وقع أحداث تتوالى وتتعاقب أمامنا ونحن فيها وحولها، ولا زالت تعمل فينا وتحصد أرواح الأبرياء، إضافة إلى عالم العولمة المزيفة التي تدغدغ حقيقة قلوب مؤمنينا ليحملوا حقائبهم ويرحلوا عبر هجرة منسَّقة ومخطَّط لها في عقول مريضة، ومعلنة أن شعب الله لا يجوز له العيش بعدُ في أرض أصوله ووطن أجداده. فالعنصرية قد ملكت في القلوب، والطائفية والمذهبية قد قتلت الأماني والإرادات، والتهميش كان الحقيقة، والاحتقار والتكفير كانا الكلمة الأولى والأخيرة والسبيل إلى الضياع والرحيل وإفراغ البلد.

   كنيسة الشرق
   نعم، في هذا الشرق وُلدت الكنيسة المقدسة، وبولادتها حمل أبناؤها إيمانهم بالرب ركيزة أساسية لإعلان بشرى الخلاص وحقيقتها، وهذا ما تعلنه كنيسة الشرق لتكون شاهدة حية على ينابيع الإيمان وأصول المسيحية، فهي الرئة الثانية لجسد المسيح حسب قول البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني، وهي تبشر وتشهد لكل ما قاله الرب يسوع وأعلمنا به ونبّهنا إليه كي نكون في استعداد دائم، وكي تبقى شهادتنا واعدة وشعلتها مشتعلة لا يقوى عليها قوات الشر والظلام.

   صوت المعلّم
   أمام ما يحصل يبقى صوت المعلّم، صوت الحق ينادينا. ويبقى العالم بحاجة إلى ثقافة الإنجيل، ثقافة الرجاء، بشرى الأمل من أجل الحياة. وتبقى الكنيسة برجالها ونسائها ومؤمنيها حاملة صوت الحق هذا كي تجمع ما تبقى لنا، وتسأل: أين نحن، وأين أصبحنا، وإلى أين نحن سائرون؟، وما هي زاوية اتجاهنا كي تكون أمينة لراعيها الإلهي الأول في نقل الكلمة أنْ "اذهبوا وعلّموهم" (متى 28:20)، حاملين رسالة المحبة والخدمة والحياة، إذ لا يجوز أن نبقى واقفين في أماكننا دون حراك، نراوح دون هدف وبلا رسالة بسبب خوفنا من الذي يحدث ومن الآتي إلينا، بل بالعكس علينا أن نحمل رحمةً ورجاءً وغفراناً، وهذه كلها تتطلب الكثير من الشجاعة والكثير من صلب الإرادة في نسيان الذات ونكران الأنا فهو علمنا قائلا ، في أن نطعم عدوّنا إذا جاع ونسقيه إذا عطش ولا نغلب الشر بالشر بل بالخير (رو 17:12-21).

   الحس الإيماني
   ما نفتقر إليه هو الحسي الإيماني وإلى إرادات الثبات في أرض الأجداد وعدم الهجرة والرحيل، فالحياة لا تقاس بسندويج النهار ونعاس الليل ووقفة أمام دار الإقامة، بل بالرسالة والهدف السامي، بالحس الإيماني النابع من عمق الأصول، لأن غياب أبنائنا يعني انتحار لوجودنا وافتقار لمسيحيتنا وخسارة لتعدديتنا وفقدان لأصولنا في مشرقنا الذي من أجله خُلقنا، ولأجله ُثُبتنا بمسحة إلهية كي نكون خميراً حية وعلامةً للحوار وقبول الآخر، ورسالةً لبناء جسور العبور والشراكة. فهجرتنا تعني هزيمتنا وقبولنا لخسارة نحن أردناها ليس إلا. أما حضورنا فما هو إلا من أولى واجباتنا وإعلان حقيقتنا في أننا حاملي بشرى الحياة وليس حقائب السفر.، في أننا أعمدة الوطن وليس أناس الرحيل. وفي ذلك أدعو أن يكون لنا آذاناً صاغية لدى عامة الناس كي يُدركوا ويعملوا ليس فقط من أجل يومهم بل من أجل رسالتهم. لذا ما نحتاج إليه هو الوعي، فالوعي قليل بل غائب، والحرب ضد المسيحية لن تنتهي، وإسكات الإرهاب لا يمكن أن يتوقف لا بل ربما يتحول إلى سبل أخرى وطرق مستَنبَطَة جديدة. ومهما يكن سيبقى الإنجيل، فالإنجيل حقيقة. كما لا يمكن أن نخجل من أن نكون مسيحيين، فلا تيأس، ولا يلج القنوط إلى قلبكَ، بل عش إيمانك بفرح وسلام بالرغم من الصعوبات ، عبر إتجاهات جديدة وسبل حاملة للرجاء والثقة.

   ضحية... وأية ضحية
   نعم، من المؤلم أن أرى المسيحي سلعة يُشترى ويباع في حقيقة واقعة خوفاً من، وهزيمة من، بسبب مفسدي الدهر عبر التعصب وقتله بدم بريء واضطهاده بتغذية فكر حاقد، ومعلنين أن الحياة لا تُكتَب للأبرياء بل لأقوياء الزمن ومفسدي الدهر الحالي بدولار عبر حوالات مزوَّرة في بيع ممتلكات وإنْ كانت مقدسة، وبخفية العيون وهمسة القلوب دون إدراكهم أن الله عليم بكل شيء.
   أليس ربنا هو الذي قال:"ما عملتموه في الخفاء سيُعلَن على السطوح" (متى 27:10). فيا لهم من فاسدين وإنْ كانوا مقرَّبين من الأعالي كفريسي الإنجيل... كم إنهم منافقون، يتظاهرون أمام واجهاتنا بأنهم لله ومن أجله يعملون وإياه يقصدون، ولكن الحقيقة هي غير ذلك بالتمام والكمال، بالحقيقة والأمان. وكم يحنو البشر أمامهم خاشعين وخاضعين بل وخانعين، وما غايات هؤلاء وأولئك إلا المصالح الأنانية والأهداف السوداء وتدمير الأبرياء مدّعين أن مواقفهم المضلِّلة لا تحارب إلا المتَّهمين، ولكن الحقيقة هي أن أنفسهم متهمّون ،  وما المتَّهمون إلا أبرياء، فقد باعوا حتى ضمائرهم بل لا ضمائر لهم، وإنما ما يملكون ما هو إلا من فضلات الضمائر، فمن المؤسف أن مَن يصفح ما هو إلآ صاحب القلب الكبير، وهو الضحية، وأية ضحية.

   اضطهاد... وإيماننا
   إنه اضطهاد واضح في العلن أو في الخفية، حينما ينعتوننا بأننا لا نستحق الحياة ، وبذلك يرسمون مخططاً لإهلاكنا واضطهادنا لكي يقلّ عددنا وتتطهر البلاد وتفرغ من وجودنا ، فإذا بهم بهذه الشهادة يولد مسيحيون جدد ومن أحسن طراز لأن الشخص الذي يدخل المسيحية في أيام الاضطهاد يكون من العناصر الشاهدة لإيمان الأصول التي لم تأتِ للإيمان نتيجة إغراء مادي أو منصب رئاسي، ولكن ما دفعه إلى المسيحية هو التضحية وعمق الإيمان اللذان دفعا هؤلاء الشهداء فتأثر بصمودهم وصبرهم وحبهم فجذبه المسيح بنعمته بوساطتهم، وحسب قول ترتليانوس "دماء الشهداء بذار الحياة". فإن كان الاضطهاد والاستشهاد لابدّ منه ولا مفرّ منه فهو مفيد لكيان الكنيسة، فهذه الهزّة العنيفة لحقيقة الإنسان كالشجرة التي يترتب عليها أن تسقط بعض أوراقها الصفراء ليكون هناك مكاناً للبراعم الجديدة والخضراء، وفي ذلك تبقى المسيحية وتدوم أعواماً وقروناً وستدوم إلى الأبد "إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16). وكثيراً ما نشعر بأن الله لا يصغي إلينا ولا يستجيب إلى صلاتنا، فهذا دليل على ضعف إيماننا من جهة وعدم قوة صلاتنا من جهة أخرى، ودافع لنا بأن نثابر على الصلاة دون ملل وبلا انقطاع في هذه الأيام الصعبة أكثر من أي وقت مضى علّ الله يرأف بنا ويباركنا منيراً بوجهه علينا، فنحصل على المعجزة التي نحتاج إليها وهي أن يبارك الله أرضنا بالسلام.

ألقاب ..وصمتٌ
ما نحتاج إليه هو تفعيل قوانين دستورنا. يقولون "لا تهاجرون" ونِعْمَ القول، ولكن أعطونا حقوقنا، وقّعوا على حقيقة أصالتنا، اطردوا العنف من خطاباتكم، فالنزيف من صنعنا قبل أن يكون من صنع الغريب... فأين هي المعاهدات؟، وأين هي البيانات؟، وأين هي الاستنكارات؟... ألم تتجسد لحدّ اليوم؟، ألم تظهر للملأ لحدّ الساعة؟... فلا زلنا نلقَّب حسب إرادة الأشرار، مرة خنازير وأخرى كلاب وثالثة كفّار ورابعة وخامسة، والمعلّم صامت، والكنيسة مثل معلّمها، ورؤساؤنا ليس في يدهم حيلة إلا الصوم والصلاة، فأصواتهم قد بُحَّت ولا أحد يسمعها. الأمم المتفرقة تتّحد لتدميرنا ببياناتها، وتتّحد لإدانة قتلنا. ومن المؤتمرات تُسمع منا أخبارُنا كي تُرسم خططٌ لتدميرنا ولتهجيرنا عبر دول تحتاج إلينا وإلى سواعدنا وورقتنا ونفوطنا، وإنْ كنا لا نعلم فنحن نباع ولا في العلن، ونُشترى بأقل من ثلاثين من الفضة، ويملئوا بطوننا كلاماً وبيانات واستنكارات و، و، ومؤتمرات، مرة لأبناء أحزابنا وأخرى لقادة كنائسنا وثالثة لروّاد حركاتنا، فيعود المؤتَمِرون ولم يحملوا إلا صوراً وأحلاماً وذكريات وضاعت القضية ، بل تركوها عند مخارج القاعات أو في مداخل المطارات والمحطات .

نحن.. وألارملة
   صحيح إنهم يمتلكون سلاحاً، ويمتلكون قوة، ويبطشون بفقراء الله، ولكن لا يمكن أن تبقى لغة القوة تسود على ذوي الإرادة الصالحة، فبطشهم هذا يعني خوفهم، وقوتهم هذه تعني هزيمتهم، وسلاحهم هذا يعني رعبهم، فلا يمكن أن يبقوا إلى ما لا نهاية. نعم، إنهم خصم ظالم وشرير، إنهم جانب مظلم ومكفرّ، ولكن مهما نجحوا في مسيرة شرهم هذه لا يمكن أن يواصلوا، فالحقيقة يجب أن تنتصر أخيراً. ما ينقصنا أن يكون لنا الثقة بالرب والاستسلام لإرادة الله القدير.
   قد تكون المشكلة فينا وفي ضعفنا كوننا فقدنا الثقة بإله الرجاء بقولنا: طال مصابنا وزادت آلامنا ونسينا الله وتربّع اليأس على مجالس الحكم في داخلنا، وبدأنا نشكّ ونتردد ونتراجع بل ونتقهقر لأننا نخاف السيف وفعله وننسى أن هناك مَن سبق وأعلمنا أنّ "كل الذين ياخذون بالسيف بالسيف يهلكون" ( متى53:26). من هنا يجب أن نأخذ العبرة من كلام الحياة، فالأرملة لم تبطل ولم تسكت عن طلب حقها. ألم يقل المَثَل العربي "لا يضيع حق وراءه مُطالِب"، ولا يجوز أن نكون مِمَّن قال عنهم المسيح:"ولكن إذا جاء ابن الإنسان أتراه يجد الإيمان على الأرض" (لوقا 18 : 8  ). فالعالم الآن غارق في المادة، لذلك يسير في خطى متسارعة نحو الهلاك. فنحن المؤمنين لا نريد أن ننزلق في هذا المنزلق بل نبقى ثابتين على الإيمان والرجاء والمحبة.

مَن .. بطول عمرِنا
   نحن كشعوب مسيحية مظلومة شئنا أم أبينا وإنْ كان يُبكى على حالنا أو يشاركوننا ألمنا،وهولاء ذوي الارادة الطيبة لهم كل الشكر والتقدير،  فالحقيقة يجب أن نقولها، والحرية ومسيرة الحياة التي نحياها مقيَّدة بتعاليمهم الماورائية فيفرض علينا كيف يجب أن نحياها وكيف يجب أن نكون لها. واحتلال أرضنا وقُرانا وبلدنا ما هو إلا باحترام أحياناً وأخرى بغصب والأنكى بالتحايل من أجل إقامة مشروع أو ما شاكله، ولا زلنا نصرخ منذ أجيال وأجيال: أين أولادنا؟، مَن قتل أساقفتنا؟، أين كهنتنا؟،من خطفهم ؟  مَن قتل شعبنا؟، مَن أحرق كنائسنا؟، ومَن هذه تطول بطول عمرنا وطول سني حياتنا، ولسان حالنا يقول:"يا رب أنصفنا من خصمنا"... فأنا مؤمن بلجاجتنا وإلحاحنا ولا يجوز التراجع أمام القاتل، أمام الظلم، أمام الحقد والكراهية، سنبقى نصرخ وبصبرنا نحفظ صراخنا لننال ما نبتغيه وليس بحمل الحقائب والرحيل وترك الكنيسة جدراناً وشموعاً، مذبحاً ويسوعاً، بكاءً ودموعاً... فالظلم لا يمكن أن يستمر، ولابد أن تتحرك الضمائر مهما كانت قاسية، فمَثَلنا قاضي الظلم في إنجيل لوقا والذي قال لنا "لا تخافوا"، لم يقل ذلك ليُكتَب في الإنجيل بل لنحياه أيضاً ونؤمن ونثق ونبشر ونرجو. صحيح إن العنف لا زال يمزق أرضنا، والكثيرون محاصَرون يعانون ويشعرون بتهميش يزداد يوماً بعد يوم ويكبر معنا بساعاته، ومع هذا نحن القطيع الصغير مدعوون أن نفكر في بشارة جديدة كون الكنيسة تحتاج إلى قوة متجددة لتعيش إيمانها، وأن تكون علامة حية لحضور الرب القائم بالرجاء الذي يقوينا بثبات الإيمان وشجاعة الحياة وقول الحقيقة، لأنّ كنائسنا المشرقية ما هي إلا شاهدة حية على أصول المسيحية.

فوضى .. وإرهاب
   نحن المسيحيين ندفع ثمناً إضافياً لحالة الفوضى والصراع والعنف، فهم يستهدفون مباشرة كنائسنا ورجالنا وممتلكاتنا وصلباننا وأديرتنا في موجة اقتلاع مبرمجة وسط ذهول عربي وإسلامي ودولي وصمت ، وكل ما يجري مسرح اللامعقول، وما الخطف إلا نموذج آخر للاعتداء والتهجير وهدم وتدمير عشرات الكنائس التي يعود تاريخها إلى القرون الأولى للميلاد لا زال يعكّر المشهد على يد الإرهاب والعصابات المسلحة والمنفلتة والخارجة عن القانون حيث يتم استخدام الدين لتبرير الأعمال الإجرامية التي كلّفت المئات من حياة الأبرياء في مختلف مناطق وطننا وشرقنا، والاستيلاء على ممتلكات المسيحيين معتبرين إياهم غنائم يحق جمعها حسب تبريرات واجتهادات مختلفة.
   كفانا نقبل بوضع قضية وجودنا على شماعات مختلفة، مرة الإرهاب وأخرى العصابات والثالثة العنصريات والرابعة الحرامية والخامسة والسادسة وأخرى عديدة وبكل سهولة، وتسجَّل التهمة ضد مجهولين وغالباً ما يفلت المجرمون من العقاب. لقد بعنا أرضنا بحقيبة الرحيل، ولا زال استمرار نزيف الهجرة بشكل يومي، وهناك أكثر من عدد من الأشخاص يغادرون، وهذا لا يجوز. فصوت رؤساء كنائسنا ينادينا ويدعونا أن لا نبيع، لا نبيع مهما كان ذهب الدولار، فالأرض أسمى من ملايين الدولارات وإنْ سُرقت نصفها. من المؤسف أن تكون الورقة الخضراء دليلنا إلى حيث الضياع، فهناك مَن يبكي على حالنا ويولول على مصابنا فيسألنا عن عددنا، ولا أعلم ماذا يعني السؤال عن عدد وجودنا، وإنْ كان العدد ليس إلا قيمة رمزية.

   خاتمة
المسيحي الحقيقي الثابت في إيمانه مهما قيل عنه ومهما اضطُهد ومهما قاسى من الآلام في مجتمعه فهو ملح ونور وخميرة، يتفاعل وإنْ لم يكن بالحالة التي فيها، فهو يتفاعل بصلاته وبغفرانه وبحمله لرسالة المحبة وبدعوته الإنسانية بروح الوطنية من أجل إعلان الهوية المتأصلة في قداسة ترابه. مهما حصل فلا تفقدوا شجاعتكم، فاعلموا وتشجعوا "أنا غلبتُ العالم" (يو 33:16)، وسنبقى حاضرين ومستمرين بحضورنا وشهادتنا لمسيحييتنا. فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى مَن يصيح على هواه ففي ذلك تضيع ليلاه، فإننا ندق ناقوس الخطر مع تنامي استهداف الجهاديين لمؤمنينا. ما نرجوه هو بقاء المسيحيين والتشبث بالأرض والوطن ، وإلا تبقى رسالتنا لا معنى لها ، ولا يمكن اعتبارها إلا لذرّ الرماد في العين كي لا يكون التفكير بهجرة الوطن هو الخيار المفروض أمام مواجهة خط الإرهاب وفقدان الحياة. هذه حقائق مرة ، لا يجوز أن نضع قناعاً عليها ، بل أن نكون يقظين أمام ما يحصل، ليس بعواطفنا بل بالتزامنا ومسؤوليتنا. نعم، إنها ظروف تاريخية معقدة عاشها آباؤنا ولا زلنا نحن أحفادهم نحياها وإنْ بصور متعددة واتجاهات مختلفة، وعبر تحديات هائلة لا مناص منها كما لا خلاص لها. ولكي نضع الأحداث في مكانها وزمانها وحجمها غير مكترثين بالناقمين والفاسدين والمجرمين، فإننا بذلك نعطي صورة وصدى عن واقع حقيقي وصورة موضوعية.فلنكن صرخة حق وليس عابري سبيل على دروب الحقيقة .



222
أصوات مسؤولة... ولكن

المونسنيور بيوس قاش
     في البدء
أسئلة واستفسارات عديدة نطلقها كل يوم منذ إعلان مسيرة الربيع العربي المتعبة، وإذا ما كانت هناك ردود وأجوبة فلم تكن ولن تكن إلا تخمينية وتحليلية ليس إلا. فالوضع الذي يعيشه المسيحيون، وواقع مستقبلهم الإيماني والوجـودي واقع مخيف، هذا ما يعلنه الجميع، وهذا ما يؤكده الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط "شركة وشهادة":"إن الأوضاع البشرية المؤلمة الناجمة
 عن الأنانية والقلق والرغبة الجامحة في السلطة قد تلد الإحباط وفقدان العزيمة" (82)، وأيضاً "إن خليفة بطرس لا ينسى محن وآلام المؤمنين بالمسيح ولاسيما العائشين في الشرق الأوسط، أن البابا يتحد معهم روحياً" (96). نعم، إنه واقع فيه الأصولية تدمر الانفتاح وتغلق أبواب الحوار وتهدم الجسور وترفض قبول الآخر، وتشوّه حضارة الثقافة عبر لقاءات وجوهها منظورة وخططها مستورة وآياتها طائفية ومناداتها عنصرية وفتاواها تكفيرية، وأخرى لا يعلمها إلا عالم الخفايا وما في القلوب والنيات، وفي هذا كله لا مستقبل ولا ثبوت ولا مجال غير إخلاء السبيل وحمل الحقائب من أجل الهجرة والرحيل، فتموت قضيتهم ويموت حسّهم الإيماني والوطني، وتبدأ حينئذٍ مسيرة الزمن المؤلمة.

     الحقيقة والتاريخ
   من دون شك أو أية نظرة تردد، فالحقيقة يسجلها التاريخ الأمين وهو أنه مهما قيل بحق المسيحيين ما هو إلا الحقيقة في الصميم، فهم سكان أصلاء لأوطانهم ومواطنون أصليون في بلدانهم، ولم يكونوا يوماً ضيوفاً أو لاجئين أو أقليات أو من المشفوق عليهم، بل حتى أصغر ذرة تراب تشهد لإيمانهم المسيحي ولحضارتهم الإنسانية ولتاريخهم الأمين لبناء دنياهم، وما ذلك إلا دعوة من الإرشاد الرسولي الذي يوصي بمسيحيي الشرق قائلاً:"اسعوا للعيش في اتحاد وشركة أخوية مع بعضكم في المحبة والاحترام المتبادل للشهادة" (36). وفي هذا كله عُرفوا بإخلاصهم والدفاع عن كرامة أوطانهم وشعوبهم وعملوا على بناء مجتمعاتهم، فكانوا شهداء واحتملوا الآلام والعذابات وقاسوا الحصار والظلم والاضطهاد، وسكبوا دماءهم دفاعاً عن مقدساتهم وتربتهم، وذلك ليكونوا دوماً شهوداً وشهداء لمسيرتهم الإنسانية والمسيحية، وما ذلك إلا انطلاقاً من حبهم وإيمانهم بالمسيح الحي له المجد، وهذا ما يدعو إليه الإرشاد الرسولي "إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان" (35).

     حكم... وفتاوى
   وأمام هذا كله، بل ومع هذا كله، لا زالت الأفكار التكفيرية تخرج لنا بفتاوى القتل والطرد والتهجير والإبعاد وهدم الكنائس مدّعين أنهم لا يستحقون الحياة بل يضيفوا بوصفهم بأنهم خنازير بشرية، ويعلنوا ذلك على الملأ ولا مَن يحاسبهم أو يحاكمهم أو... أو... ففي الداخل نيات مبيَّتة ومخطط متَّفق عليه ومدفوع ثمنه من خيرات الأرض وإنْ كانت تحت أقدامنا، ويزيدوا من واجبهم أن يحاكموا مَن يشاءوا، فهم حاملو شريعة الله وإن الله كلّفهم بأن يكفّروا مَن يشاءوا فيضعوا الشعوب الأصيلة تحت حكم الفتاوى المخيفة والمدمِّرة، معلنين بقاءهم وموت الآخرين لتنحسر الساحة لمفسدي الدنيا وكبارهم وأسيادهم... إنها حالة الشيطان الرجيم ليس إلا. هذه المهمات الشريرة التي أعلنها الربيع العربي والغايات المقيتة التي تجسدت على واقع المسيرة أثّرت على وجودنا المسيحي تأثيراً أكيداً وواضحاً، تأثيراً مرعباً حتى النخاع، وبدأ عراقنا ورافديننا يفرغ من أصوله ومن أهله الأصلاء، والويل لشعوب تعيش بدون أصول، فمن المؤكد أن مسيرتهم ما هي إلا نحو الهاوية. واليوم _ وبعد الربيع العربي _ أصبح المسيحيون قلّة، وهذا ما خططوا له وأصبحت كلمتهم (المسيحيون) في مهب الريح وما هم إلا غرباء وإنْ ادّعوا وطنيتهم.

     المسيحي شاهد
   نعم، هكذا وبسبب ذلك واصلت عجلة الرحيل والهجرة دورانها ولن تتوقف حسب علمي بسهولة أو بإشارة أو بدعوة أو برجاء أو ببيان أو استنكار ليس لشيء لأن الأغلبية الساحقة التي هاجرت ورحلت إلى الأبد والذين لا زالوا أحياء في أوطانهم لم تعد تؤمن بما تتداوله الألسن وما تعلنه الأفواه، وما تلك إلا أصوات هزيلة وإنْ كانت محترمة، عبر الأثير، ولا تشعرهم بحسّهم الإيماني وحسّهم الوطني لا بل قد مات فيهم وشُيّع هذا الحس في نعوش الفناء، وأيضاً لأن كبار الزمن هم الواسطة في ذلك، وهم المشجّعون خفيةً في عدم البقاء والمكوث بدءاً بالأقرباء وآل البيت والأغنياء والأصدقاء، ويبقى الشاهد الوحيد للمسيح هو فقيرٌ وفقراء... وفي ذلك يقول الإرشاد الرسولي قائلاً:"المسيحي قبل كل شيء شاهد، والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الإيمان بل تنشد أيضاً حياة متواضعة مع هذا الإيمان نفسه للرد على متطلبات أناس زمننا" (67).
   
     أصوات محبة
   رغم كل الأصوات المُحبّة للبقاء، سارت قافلة المهاجرين في العراق، ولا زالت _ وفي أشدّها _ حتى الساعة وتنتظر مواصلة مسيرتها انطلاقاً من أبواب السفارات في الداخل والخارج... هذا في بلد إبراهيم. وانتقلت العدوى إلى مصر الفراعنة وسارت بكل رحابة إلى سوريا الحبيبة بمخطط أكثر خوفاً وأكثر ظلاماً، بمخطط لا نعرف القائمين عليه وما غاياتهم وإنما ما نعرف عنه أنه دمار لشعوب وبلدان، وهدم لأوطان من أجل بلدانهم وأوطانهم وشعوبهم، ولهم الحقوق ولغيرهم المآسي والهجرة عبر أحضان دافئة وأيادٍ مليئة وبدعوات مجانية عبر أجواء السماء، والوصول إلى حقيقة الحياة هي في الأرض التي إليها هرب قائين وإنْ كان صوت الله يلاحقه بمقتل أخيه هابيل.
   فالأرض ماتت، والحسّ شُيّع، والإيمان بعيسى الحي قد مُحي من الوجود، وهذا في شرقنا ما يطيب لنا لأننا تماثلنا بالشعب الصاخب بصوته أمام بيلاطس زماناً "أصلبه، أصلبه"، واليوم "كفانا، كفانا"، فبرأبّا أصبح لفة همبركر وعلبة بيبسي، وقرار بيلاطس وثيقة الحكم المزيف أصبح حقيقة هي نفسها اليوم دعوة الأرض لملء البطون، مكرَّسة لله بعلمنا، ومقدسة لنا بحياتنا... والسؤال يبقى: حتى ما الخوف يملأ قلوبنا؟... حتى ما لا يتجسد إنجيل بشارتنا في عمق رسالتنا وحياتنا؟... حتى ما ننسى ما قاله ربنا يسوع المسيح عبر جبال اليهودية ووديانها وتلالها وشوارع الناصرة والجليل وقُراها في نهاراتها ولياليها، "لا تخافوا" (متى 31:10)، "أنا معكم"  (متى 20:28)، وفي ذلك يقول الإرشاد الرسولي:"لا تخافوا من أحد ولا تضطربوا بل قدّسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه رباً، وكونوا في كل حين مستعدين للردّ على مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم" (1بط 13:3-15) (36).

     أصوات مسؤولة
   أمام هذه المآسي التي تشهدها شعوبنا المسلمة والمسيحية يندفع رؤساؤنا الكنسيون حاملو رسالة الشهادة والمحبة لإعلان حقيقة الحياة وإنْ كان من جانب واحد... إنهم أصوات مسؤولة، ويزرعون بذار السلام هنا وهناك عبر كلمات ولقاءات واجتماعات ومؤتمرات، وهذا ما يزرع فينا نحن القطيع الصغير الأمل والرجاء بأنّ هناك أصوات لا تنسنا وهناك مَن يشعر بأننا لا زلنا في الوجود، وهؤلاء الرؤساء نحمل إليهم كل احترام وتقدير، فهم رعاة أصلاء ورسل أمناء على حقيقة المسيح ووجوده في الكنائس والأديرة والشعوب والأوطان، وبأن الشهادة ستبقى أصيلة مهما قست مسارات الحياة وكلمات المنابر والكراسي، وفي ذلك نرجع إلى أيام الرسل الأولين الذين لم يخافوا حنّان وقيافا وأحكام كبار الزمن.

     مسيحيون مؤمنون
   ما يجب على المسيحيين هو أن يعيشوا حياتهم في أرض أجدادهم ويعملوا فيها ناظرين إلى رسالتهم الإنسانية والإيمانية قبل أي شيء آخر، فعليهم أن يكونوا مسيحيين مؤمنين ولا يكونوا فقط طائفة كأية طائفة مختلفة عنهم أو فئة اجتماعية في إحدى زوايا البلاد لأنها تدين بديانة مختلفة عن ديانة غيرهم، بل أن يحملوا إيمانهم في مسيرة إنسانيتهم دون خوف، ولا يُطلَب منهم ـــ أي من مؤمنينا المسيحيين ـــ أنْ يُظهروا الخنوع أمام المظالم والتكفير والتهجير وأنواع أخرى من الاعتداءات، وفي نفس الوقت لا يجوز للمسيحي أن يضع نفسه على هامش الوطن والمجتمع ولا أنْ يُستَغَل كَحَمَل فقير أو كعبد مطيع، ويقف حائراً في ما يدور حوله ويعلن أن ترابه يلفظه ولا خبزة له فيه، فهو لغيره وليس له، فتموت المسؤولية ويموت الحسّ وتضيع الحقيقة، بينما المسيحي الحقيقي يعرف إنه جزء من مجتمعه يشارك الجميع في البناء والتحديات في تحمل المسؤوليات عبر الحقوق الأكيدة والواجبات الجامعة.

     مسيحيتنا في أوطاننا
   صحيح إن الصراع في شرقنا أودى بنا إلى مآسي وقادنا إلى الضياع ولا يزال يقودنا إلى عدم الثبوت والاستقرار والضياع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى جيرانياً وحسيّاً وجغرافياً بسبب ما به امتلأت قلوبنا من حقد وكراهية وعدم قبول الآخر مقاسمته الحياة. فنحن نرى اليوم معاناتنا أكبر من طاقاتنا وتصورنا ولا مفرّ من احتمال آلام المسيرة مهما كانت قاسية، فالمآسي التي حلّت لم تتوقف حتى الساعة، فحتى ما يكون الاستقرار والقرار؟... وحتى ما تكون الحقيقة والكرامة؟... أيبقى الظلم بيلاطس آخر والقتل هيرودس، ويبقى الظالم حُرّاً يبني ويهدم حسب عقله وفكره الشرير ومصالحه الظالمة وأنانياته المدمِّرة، ويستهزئ بالأحرار الأبرياء الذين حوله ليكسبهم إلى دائرته المهينة والسير في خططه السوداء؟... وهذا ما يجرّ الناس إلى الهجرة والرحيل طلباً للطمأنينة ولمستقبل آمن لهم ولأبنائهم، وخوفاً من حكم الأقوى الأصولي الذي لا يراعي كرامات الإنسان وإنسانيته ورسالته.
   فمهما يكن من محطات المسيرة المؤلمة، فالمسيحية تدعونا أن نقبل دعوتنا أي أن نحيا مسيحيتنا في أوطاننا وليس في بلد آخر في العالم، فالمسيرة ما هي إلا دعوة إلى حياة صعبة اليوم وغداً، وعلينا أن نفتح عيون عقولنا وندرك ونقبل ونعي إن دعوتنا هذه علينا أن نقبلها برحابة الصبر ونقبل البقاء مضحّين بالمنافع مهما كبرت ومهما قُدّمت والتي قد نجدها في المهجر أو بلد الرحيل.
     الخاتمة
   وفي كل الأحوال _ وأقولها بكل إيمان _ مهما كانت الهجرة حلاً لبعضٍ منها ومهما قلّ عددنا أمام الغرباء سنبقى وسيبقى منا مَن يشهد ليسوع المسيح في أرضه مهما عملت زوايا التاريخ على إخفاء الإيمان المسيحي، وهذا ما يدعونا إلى أن ننتبه لمخططات سياسية، عالمية، أنانية، تكفيرية، تتجاهلنا أو تجهل مسيحيتنا ومؤمنينا، فلا العدد له أهمية في مسيرة الإيمان، لأن الإيمان لا يحيا في الأعداد وإنما في القلوب التي تحمله إلى الآخرين وتذوب كملح وخميرة، كما إن العدد ما هو إلا مصيدة ولسان حال الصحافة والإعلام لنُتَّهم بأننا لسنا إلا أقلية بين الأقليات، فئة صغيرة بل ضعيفة بين الفئات الكبيرة فتكون الشفقة حلاً ورحمة علينا، وتضيع بذلك هويتنا ويُمحى مسيحنا، وهكذا شاءوا وهكذا خططوا وهكذا يجب أن يكون، فيُحكَم علينا بسياسات مفروضة وفتاوى مدمِّرة، ويعلن الاضطهاد أو واقعون تحته بعيش الصراع والتخطيط... ويا ويل للمسيحي الخائف والذي أفرغ نفسه من الحس الترابي والإيماني، وأبعد عن قلبه عطاء الشهادة، ومحا رسالة الاستشهاد وكأنه إلى التراب عاد ولا يزال هو في الحياة. ولكن علينا أن نمتلئ من الرجاء الحي والأمل الأكيد أن الذي باسمه اعتمدنا يسير معنا في طريق عمّاوس، ويظهر معنا على شاطئ الجليل، ويزورنا في العليّة، ويرسلنا إلى العالم بأسره... نعم، بأسره وليس إلى وطن واحد أو بلد أبدي، بل إلى العالم كله... وما أصوات رؤسائنا الروحانيين إلا أصوات نبوية ومسؤولة في قول الحقيقة والشهادة أمام الله والناس، وما علينا إلا أن نقبل دعوتنا، ونحيا مسيحيتنا في أوطاننا وليس في بلد آخر، وعلينا أن نقبلها برحابة صدر مضحّين بالمنافع الدنيوية الزائلة مهما كبرت وزادت ومهما سهّلت لنا حياة الدنيا وأروت سهول الحياة، وأخفضت تلال المسيرة... فالحياة لا تعطي معناها إلا بالصليب، ولكن ما علينا إلا أن نكون أمام الصليب أُمناء .وما هذه الأصوات إلا أصوات مسؤولة ،  ليس إلا، نعم وآمين.

223
عزيزي الغالي برديصان السامي الاحترام
اعتذر اذا اسأت في التعبير فانا حينما اقول عروبتي كوني في بلاد العرب  وسنبقى نردد اننا اصلاء البلاد واصيلي الدار اما انا سابقى وفيا للمسيح الرب حتى مدى الحياة ولكل شريحة من المجتمعات تاريخ والحقيقة شاهدة واكرر اعتذاري واشكرك من كل قلبي ولو كان لي عنوانك لارسلت الاعتذار مباشرة اليك
مع محبتي
اخوك بيوس


224
 بمناسبة الذكرى الثالثة لكارثة سيدة النجاة                 
                                                          ملفُ وجودِنا .. وقِمَم العرب
المونسنيور بيوس قاشا
     في البدء
الإنسانية حوار وحياة... إنها كلمة مسؤولة، هذه الكلمة المسؤولة قادتني إلى أن أطالع ميثاق جامعة الدول العربية وبنوده وأبوابه وفقراته وملحقاته المتعددة، وإنْ كان حباً في الإطلاع فهو إيمان بأن الجامعة العربية بيتنا الكبير نحن أبناء اليعربية، وما يجمعنا ما هو إلا لغة الضاد وعروبة المسيرة. فالجامعة _ كما أعلم _ تعمل مـــــــــافي وسعها لتكون خادمة للجماهير وللشعوب
بمختلف أديانهم وبعديد معتقداتهم وانتماءاتهم عبر طوائفهم وأقلياتهم في المساواة وعيش  المحبة والاحترام المتبادل. فالمسيح يسوع، عيسى الحي، يقول:"مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً" (متى26:20)، وأيضاً "أحبّوا بعضكم بعضاً" (يو34:13)، "فالإنسان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق" (الإمام علي عليه السلام)، من المؤكد، وما الإنسان إلا الهدف والغاية للجامعة، فما يؤلمنا تداويه وما يفرّقنا تجمعه، وما يُبعدنا تطرده وما يضطهدنا تلاحقه.
     كلمة مشجعة
في هذه الحالة المسؤولة، ومن إيماني بإنسانيتي وعروبتي ومسيحيتي بابن مريم، ولأننا نؤمن بكتب أوحى بها الله إلى رسله الأطهار وأخرى أنزلها على أصفيائه المختارين، أردتُ في هذه الكلمة أنْ أداوي جرحي بوصفة الجامعة الطبية وميثاقها، وأن أدغدغه ومهامها طارقاً عدداً من أبوابه ومعلِّقاً على العديد من فقراته انطلاقاً من الرسالة السامية التي تُعرف بها الجامعة وتحملها عبر مسارات الحياة وطرق العرب في بلدانهم المختلفة، وعبر زواياها الاجتماعية والإنسانية والحوارية والعيش المشترك، كي أكون حقيقة لصوت مجتمعنا العربي المسيحي ليس عبر الأثير ولكن من أجل قضية الوطن، والمواطن العربي والمسيحي، المواطن المخلص لبلده وإنسانيته وانتمائه والذي ينشد العيش المشترك والحوار الصادق منتظراً عبر كلمة الجامعة المشجعة وميثاقها واجتماعاتها الدورية أن يكون له ملء الحقوق في العبادة والإيمان، في الضمير والحياة، دون نقص أو تنقيص، بل في المساواة وإنْ اختلفت دياناتهم وعقائدهم وانتماءاتهم ليس إلا.
     ميثاق ومسيرة
وقبل كل مقام لابدّ من مقال، وهذا ما دعاني إلى أنْ أقرأ وأسجل على مسمع ومرأى من قرّاء الكلمة الأحبة فقرات من نصوص لميثاق الجامعة العربية. وتتضمن كلماتها أبلغ المعاني بل ولا أبلغ.
•   ففي الملحق (28) من مشروع تعديل ميثاق جامعة الدول العربية ما نصه: إدراكاً منهم (أعضاء الجامعة العربية) لواقع الوطن العربي وتعزيزاً لمكانته الحضارية وإمكاناته البشرية والمادية ولأهمية دوره في الإسهام في تقدم الحضارة الإنسانية وفي الحفاظ على السلم.
•   المادة (1) (فقرة 2): السهر على أن تضمن الدول العربية سلامة الإنسان في الوطن العربي وحقوقه بأشكالها كافة وتمكينه من ممارسة حرياته الأساسية لتحقيق مجتمع عربي يقوم على الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
الفقرة (5): دعم السلم والأمن الدوليين والعمل على إقامة نظام دولي جديد يُبنى على الحرية والعدل والمساواة وفق مبادئ الأمم المتحدة.
•   المادة (2): تحقيقاً للأهداف المبينة في المادة الأولى:
فقرة (1): تعتبر الجامعة وأعضاؤها الإنسان غاية كل عمل سياسي واقتصادي واجتماعي، وإنه العنصر الأساسي في تحقيق كل تقدم حضاري.
(فقرة 6): تلتزم الدول الأعضاء بتسوية النزاعات بينها بالطرق السلمية وبالعمل على حلها في نطاق الجامعة.
     مَن.. ومَن.. ومَن!
      هذا، وحسب علمي المتواضع وإدراكي الفقير والمحدود، كان يجب أن يكون إستهلالاً كي أقول: مَن منا لا يذكر ما حلّ بمسيحيي العراق كما بمسلميه وشعبه منذ الاحتلال عام 2003 وحتى الساعة، لا يزال الإنسان يعاني ويقاسي مأساة الحياة والوجود والبقاء، ولا زال الموت الإرهابي يحصد أرواح الأبرياء (الإنسان) في الجوامع والمساجد والكنائس والمعابد، في التجمعات الشبابية، في الفواتح الاحترامية، في صفوف الطلبة وساحات المدارس، والمقاهي، والحدائق، ولم ينجو أحد من هذا الإرهاب المميت. والسؤال يبقى غامضاً: مَن وراء ذلك، مَن يخطط له، مَن يسنده، مَن ومَن ومَن...؟، هذا كله جعل شعبنا المسيحي ومؤمني كنائسنا، أصلاء الوطن وأصيلي الجذور، يغادرون ويرحلون جماعاتٍ ووحدانا، عوائل وأفراداً.
     كارثة ومآسي
      ولما حلّت كارثة كنيسة سيدة النجاة، والهجوم على المصلّين الأبرياء مساء الأحد، الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 2010، ووصفتُها حينها في مقال بأنها كارثة أودت بحياة الأبرياء وقصمت ظهر وجودنا، فقد فتحت أبواب الهجرة والرحيل على مصراعيها، وبدأ الرحيل والترحيل إضافة إلى الهجرة والتهجير الطوعي والقسري، ليس في قلب الوطن ولكن حتى جهاته الأربعة وأصبحت تنشد الغاية ومن كل حدب وصوب، من الشمال كما في وسط البلاد وجنوبه، من مدنه وقراه، من شرائح مختلفة ومتعددة، ومَلَكَ الخوف قلوبهم فباعوا ممتلكاتهم بثمن لغاية التجّار وربما هكذا أرادوا لها، وفُتحت آفاقُ الرحيل عبر المحيطات البعيدة والبحار القريبة، كما ملئوا بلدان الأعراب منتظرين أمام أبواب الأمم الإنسانية أياماً وربما أشهراً وأحياناً سنيناً كي تمحى هوياتهم وتقطع انتماءاتهم من ترابهم الأصيل الذي لم يعد يحبهم، ومن جيرانهم الذين أصبحوا لهم أعداء المسيرة. نعم بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة، حلّت مآسي الهجوم على بيوت المسيحيين في كل حيّ وشارع ومحلّة، من العاصمة الأبيّة بغداد السلام. وانتقل بعدها مخاض الألم من الرافدين إلى النيل إلى الهجوم على كنيسة القديسَيْن في مصر الفراعنة، والشعار واحد والصوت واحد والنيّة واحدة أنْ ارحلوا، أنتم كفّار المسيرة والإيمان، وما إلى ذلك من نداءات مقيتة ومميتة. وما هذا إلا محو الإنسانية من القلوب وشطب الآخر من الوجود بدعوة وبتفويض من رب الوجود، ويا للأسف، ليس لِمَا حصل وما يحصل وما سيكون ولكن للعقول والقلوب التي نست دماءها وعملية نبضها لتكون الحياة، وما الحياة إلا نعمة الخالق وليس فتوى العابد كي نكون له مطيعين.
     زيارة وتصريح
      أمام هذا كله، كانت زيارة الرئيس عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية في التاسع من كانون الثاني (يناير) عام 2011 إلى العراق الحبيب والعاصمة بغداد، والتقى حينها بكبار البلاد الرسميين، كما قام بزيارة خاطفة وسريعة إلى كنيسة سيدة النجاة وجولة في صحن الكنيسة المقدس وشاهدَ ما شاهدَ... دماءً، دماراً، آثارَ حريق، آثارَ تفجير، بل تفجيراتٍ. كلُّ شيء وكلُّ غرض، وكلُّ خطوة تنادي "هنا كان الإجرام، ومن هنا مرّ الإرهاب، وهنا قُتل الشهداء، وهنا سقط الأبرياء"، و.. و.. ، وببادرة إنسانية دبلوماسية، ربما سياسية، عقد سيادتُه _ وبعد لقائه قادة كنائسنا الموقرين _ مؤتمراً صحفياً قال فيه: إن زيارته إلى كنيسة سيدة النجاة هو لتقديم العزاء لأُسَر الضحايا الذين سقطوا في الهجوم الإرهابي الذي استهدف قبل أكثر من شهرين، مؤكداً أن المسلمين والمسيحيين أخوة عاشوا وسيعيشون مع بعضهم البعض... كما أكد أن المسيحيين جزء لا يتجزأ من النسيج العربي المشترك، مشيراً إلى ما حصل من استهداف للكنائس، كان مصدرَ قلق لنا جميعاً، داعياً الدول العربية إلى تحمّل مسؤولياتٍ مواطنيها كي تقطع الطريق على تدخل الغير في شؤونها الداخلية. كما أضاف الرئيس موسى: إن الأيام المقبلة ستكون أفضل للجميع، "نحن أخوة عشنا سوياً وسنبقى سوياً، وهذه الجريمة استثناء، والقادم هو بالتأكيد سيكون الأفضل...". كما أعرب عن أسفه لِمَا يتعرض له المسيحيون من هجمات إرهابية تستهدفهم في المنطقة العربية، وتعهد الأمين العام للجامعة العربية بدعم المسيحيين والوقوف بقوة ضد ما يتعرضون له من شرور بحسب قوله، كما أكد الرئيس موسى لقادة الطوائف المسيحية في العراق، إنه سيعرض قضية المسيحيين وتهديد أمنهم على القمة العربية المقبلة في الأسبوع المقبل في شرم الشيخ (حينها 2011) لحلّ هذا الأمر، مشدداً على أن موقف كبار الكنيسة يجب أن يدعم بقاء المسيحيين في أوطانهم العربية وعدم الانصياع وراء دعوات التهجير التي فتحتها بعض دول أوروبا. هذا وكان من بين الحاضرين نيافة الكاردينال عمانوئيل الثالث دلي بطريرك بابل على الكلدان والسفير البابوي المونسنيور جورجيو لنغوا والسادة أساقفة الكنائس وعدد من الآباء الكهنة والرسميين وبحضور بعض أهالي الشهداء والجرحى الذين لم يكونوا بعدُ قد رحلوا وهاجروا... أمام هؤلاء كلهم ناشدتُ بصوتي الضعيف وبمساعدة الحاضرين، وانطلاقاً من حبنا لوطننا ولقضيتنا، مطالبين الأمين العام للجامعة العربية الرئيس عمرو موسى بتضمين جدول أعمال القمة العربية المزمع عقدها في الأيام الآتية (حينها) قضية استهداف المسيحيين ووضع الحلول المناسبة، عملاً بما جاء في (الفقرة 2، مادة 1)، وأن يكون هناك خطوات واضحة من قبل الدول العربية لمساندة المسيحيين في الشرق الأوسط. وقد تفاءلتُ وآخرين خيراً لأن القضية أتت على لسان سيادته في تصريحه قبل أن تكون مطلباً ملحّاً من جميع الحاضرين ولكن...
     ثلاث سنوات
      وهاهي كنيسة العراق تحتفل في الحادي والثلاثين من هذا الشهر تشرين الاول (أكتوبر) 2013 بالذكرى الثالثة للكارثة والتي كنا فيها شهوداً حقيقيين لِمَا حلّ ولِمَا حصل، فرحمة العلياء للذين استشهدوا والشكر لرب السماء مانح  جرحاها الشفاء. وما يؤلمني _ ونحن في هذه الذكرى _ أن لا أجد أحداً من آل الشهداء والجرحى وأقربائهم إلا النزر اليسير اليسير في أرض الشهادة كي يحكوا القصة وواقعها ومداها لأجيالنا الصاعدة. فاليوم تجّار كثيرون يتاجرون بآلام البشر، مؤمنون ودنيويون، والتاريخ لم ولن يكتب لهم موقفاً في الحدث، أو حقيقة في مسيرة الألم، وإن رفعوا أصواتهم كبرياءً وصخباً، فقد أخذوا أجرهم قبل حلولها، وما ذلك إلا مصالح أنانية ضيقة الإطار ليسوّقوا طِباعهم ومصالحهم، وقساوة قلوبهم، ويعلنوا سلطتهم وشراكتهم وتضامنهم، ويحسّنوا صورهم بأن الله أرسلهم. فالحقيقة ليست في ذلك لأنها مسيرة مزيَّفة، بل الحقيقة لِمَن كان بشخصه شاخصاً، وبعينيه ناظراً، وبعقله متأملاً، وبقلبه متالماً، وبأذنيه سامعاً ومصغياً إلى صوت الأنين والتكبير كما إلى صوت الإنفجارات والدمار والانتحار وما إلى ذلك.
     شهداء العراق
      أمام هذه الكارثة وأمام قبور شهداء العراق، مسلمين ومسيحيين وصابئة وايزيديين وشبك وديانات، مؤمنين وغير مؤمنين، أقف إجلالاً وأحني قامتي امتثالاً وأصلّي رحمةً وإيماناً في أن الحياة ليست في الدنيا، فهي زائلة، وإنما بما يقوله التاريخ، وما تسجله صفحاته، وسأبقى أشعل شموعاً، إيفاءً وحباً وأيقونةً لأولئك الذين باسمهم سُجّل العراق... ولولا دماء الشهداء ما كان للحياة نسمة خضراء، ولا للمسيرة أمل ورجاء، ولكن ويا للأسف،  فلا دماء ، بل رحلة في عبور البحار والفيحاء، بحقائب لا تنفع حتى للنزلاء، والعذراء تسأل: أين الدماء؟، فكان الجواب من تحت السماء: لا منظر إلا ذكرى ، فلا عيون ولا ناظرون ،  فلا المارّة يمرّون ولا عابري السبيل يسألون، فلا تاريخ ولا دعاء. ولم يبقى إلا أناس يتذكرون ، فنحن لم نخلق للذكرى بل خُلقنا كي نحمل الدماء رسالة لنا نحو السماء ، لنحيا إيماننا ونرشد أجيالنا كي لا نكون فقط لهم أوصياء بل نحن محبين وأولياء وفي ذلك نكون أوفياء .
      مرّت سنوات ثلاث، ومرّت سنوها وأيامها وساعاتها، مرّت بمخاوفها ومآسيها، وغادَرَنا العديد، وفارَقَنا المزيد، ولكن أعود فأقول إلى سيادة الرئيس عمرو موسى السامي الاحترام والأمين العام (حينها): ما أجمل ما وُعدنا به، وما أغناه ما نُثر على الحاضرين حينها برداً وسلاماً بقوله إنه سيعرض قضية المسيحيين ووجودهم وتهديد أمنهم على أصحاب المعالي والسيادة في قمّة عربية.
      في ثلاث سنوات عُقدت ثلاث قِمَم: فالأولى عُقدت في شرم الشيخ 2011، وها قد رحلت. والثانية في بغداد السلام والمحبة 2012، خُتمت ودخلت التاريخ. والثالثة في الدوحة 2013 ، ولا زالت تعزّ علينا أيامُها. فماذا لو أُدرج ملف وضع المسيحيين خصوصاً والأقليات عموماً في أعمال هذه القمم الثلاث!، وماذا لو أُدرجت على أعمال قمة بغداد لدراسة وضع المسيحيين في العراق ووضع المسيحيين والأقليات حيث الأقوياء يأخذون حقوقهم والأصلاء يُبعَدون عن أرضهم ودون حق، ومنذ عام 2003 وحتى قمة الدوحة 2013، عُقدت اجتماعات عديدة للجان الجامعة العربية ومجالسها المختلفة. والرئيس عمرو موسى، وتدعو له بالموفقية، انتقل من قيادة الجامعة ليدخل عالم السياسة من باب الوطن الأصيل مصر القبط والفراعنة، فالشهرة والسمعة والعمل الدبلوماسي كلها عوامل وأعمدة للمسيرة الجديدة، ولا زال المسيحيون في العراق ينتظرون تحقيق العهود والوعود والوفاء بها وانعقاد القمة، وينتظرون قائلين: متى يوضع ملفّنا على مناضد الاجتماع؟، ومتى يكون للجامعة وقتاً مستَقطَعاً من أجل مسيحيي الشرق عامة والعراق ومصر وسوريا خاصة؟، فالله سبحانه قد أكمل خليقة الكون وما فيه في ستة أيام وفي "اليوم السابع استراح الله من جميع ما عمله" (تك 2:2)، ففي ذلك تم ملء الزمان (عب 4:4)، وكان حب الله متجسداً في الإنسان الذي خُلق على صورته ومثاله (تك26:1). نعم، ولا زلنا ننتظر ملء الزمان ليكون الأمثل، وهل سيكتمل الآتي، وهل هناك غير الأيام السبعة في أجندة الجامعة ربما، أم ننتظر رحيل البقية الباقية وتهجيرهم، وهو الذي قال (سيادته): إن الأيام القادمة ستكون أفضل؟ والعكس كان صحيحاً. فحتى الساعة نئنّ ونتألم ونقف على أبواب الغرباء فهم لنا دواء وإنْ كانوا أعداء، وهذا لم يره أحد ولا شاء ولكن للدنيا أحكام وأقدار وجلاء. نعم، بعد سيدة النجاة كانت عاصفة الهجوم على بيوت المسيحيين، ثم انتقلت عدوى الإرهاب إلى مصر القبط والفراعنة، الأصلاء وآل البيت، ثم رحلت نحو سوريا، واستمر مسلسل اغتيال المسيحيين وتهديدهم وتخويفهم وتدمير حضارتهم وشطب حتى ذكراهم، ولا زال المؤمنون يسألون: مَن قتل المطران فرج رحو؟، مَن قتل الآباء رغيد وبولس ويوسف؟، مَن خطف مطرانَي حلب إبراهيم واليازجي؟، وآباء آخرين... وأيضاً مَن أحرق الكنائس والكتب المقدسة و... و...، وستبقى "مَن" هي الأميرة السائدة، والقائد الأوحد، وسؤالاً لا جواب له في قاموس المحيط أو الجامع كما في منجد العرب الشهير، كما ولا زالت الجامعة تفتح أبواباً بِقِمَمِها من حينها، حتى اليوم، كما لا زال المسيحيون ينتظرون ملفّاتهم، فلعلّ الرقم قد غُيّر والتاريخ قد بُدّل، فلا الصادر ولا الوارد يعطي الجواب، وسيبقى الملف موضوعاً لا يؤخذ وارده ولا يصدر منه قراراً، فالأفضل الآتي ما هو إلا ملف بلا ترقيم وبلا تاريخ. وهنا لابدّ من إبداء الشكر للرؤساء ذوي الإرادة الصالحة في أنهم وضعوا أنفسهم لدراسة وضع المسيحيين أو افتتاح كنائس في بلدانهم تقديراً واحتراماً لمؤمني مسيحيي الشرق ولرسالتهم السماوية  .
     البابا في أوطان العرب
   تألّم البابا بندكتس السادس عشر لما رأى ما يحلّ بمؤمني كنائس الشرق الأوسط، فحمل مآسيهم وغيرهم في ضميره، وفكّر في قلبه، وأحبّ حتى النهاية، ولما أدرك قداسته تخوّفه من أن تفقد الكنيسة ثبات وجودها وعمق هويتها وأصالة إيمانها ونزوح أولادها وفقر مؤمنيها، فكان أن أعلن عن دعوته لإنعقاد سينودس خاص بكنائس الشرق الأوسط من أكتوبر (تشرين الأول 10-24/2010). وفي هذا أصاب قداسته المعضلة في عمقها وقوة مركزها، وأدرك _ وأكيداً بقوة الروح القدس _ أنه لابدّ من سينودس يدعو الكنيسة إلى تعميق مفهوم الشركة ورسالتها في الشهادة مع الكنيسة الكاثوليكية الأمّ، وكذلك مع الكنائس الأخرى على قول بولس الرسول:"إذا تألم عضو..." (1كو 26:12). نعم، إن قداسة البابا أدرك جيداً _ ومعه الكنيسة ورجالاتها _ بأن المسيحيين يتعرضون إلى مستقبل وجودهم في هذه أوطان العرب، مما حدا به أن يجعل من الإرشاد الرسولي عاملاً على تثبيتهم في عيشهم، وتشجيعهم على الاندماج في مجتمعاتهم، ليكونوا في عيش مشترك جامع في لبنان والعراق ومصر وسوريا وفي كل أنحاء الشرق الأوسط بكامله... فهذه المواقف وغيرها لا تزال الصوت، والضمير المسيحي الحقيقي الصادق والنقي، الذي لا يحمل إلا صفات الحبّة التي ماتت حباً كي تكون شاهدة لحقيقة الحياة وليس للأطماع الفاسدة في المنطقة ونهب خيراتها وتحقيق مصالحها الأنانية والذاتية.
     حكّامنا وطاعتنا
      نعم، نحن المسيحيون نكنّ الاحترام الكبير والواجب لكبار جامعتنا، وهذا الاحترام الكبير يوصينا به إيماننا والبابا فرنسيس ، بأنْ نصلّي من أجل حكّامنا والمسلَّطين علينا لأن سلطتهم هي من الله "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لانه ليس سلطان الا من الله " (رو 1:13). نعم، نحني قاماتنا لله عبادةً، ولهم احتراماً وخضوعاً وطاعةً ومحبةً. وربما هذا من جانب، ومن جانب آخر في هذه الفترة التي مرّت أكثر من ثلاث سنوات، التقى رؤساء كنائسنا سوية عبر مؤتمرات ولجان عمل ولا زالت الكنيسة تحمل نيرها لوحدها من أجل تقوية ذراع الحوار المشترك، من أجل زرع بذرة حوار الحياة، من أجل إقامة جسور توافق والعبور بكل أمانة إلى الحياة الفضلى، من أجل هدم الفواصل والعوازل. فالأرض أعطاها (منحها، سلّمها) الله في خلقه لجميع الناس على حدٍّ سواء "أنموا واكثروا وأملاوا الارض وأخضعوها" (تك 28:1)، وكل ذلك لتُعرف العالم، كي تتحمل المنظمة الأممية والجامعة العربية مسؤولياتهما تجاه هذه الشريحة الأصيلة التي ابتليت بالفتاوى والتهم وبأقوال التصغير، وما هذا إلا اضطهاد واضحً وإنْ كان خفيّاً أحياناً... وهنا لابدّ من ذكر بعض الرؤساء الساميي الاحترام في عقد بعض لقاءات ومؤتمرات في هذا الصدد. نعم، عملت الكنيسة عبر رؤسائها ما يجب أن يكون، ولكن هل اليد الواحدة تصفّق لما يجب؟... نعم، إنها تصفّق رائعاً إذا كانت يد الله هي اليد الأخرى، لذا فالكنيسة تنتظر من الجامعة وأعضائها يد العون والمساعدة، يد الصوت والكلمة، مدّ يد الشجاعة وإقرار الحقيقة. فالمسيحيون الأصلاء يستحقون كل ثناء لِمَا قاموا به في جعل بلدانهم مواطن الحضارة والثقافة والبناء بكل إخلاص وتفانٍ، وما كلمات وتصريحاتُ وبياناتُ رؤساءنا الأجلاء أمثال الكاردينال بشارة الراعي والبطريرك يونان السرياني الأنطاكي والبطريرك ساكو الكلداني البابلي وغريغوريوس لحّام وآخرين ما هي إلا أصوات المحبة والحوار والتعايش. وأظن من حقيقة الحياة وعملاً بميثاق الجامعة الموقرة أن تدعى هذه الاصوات إلى مقر الجامعة مجتمعة، وللاجتماع بالرؤوساء والأعضاء ليقدموا شرحاً عن مسيرة المسيحيين في بلدانهم الشرق أوسطية والتي يعتزون بها ومن أجلها ضحّوا بحياتهم ومن أجل بناء بلدانهم، وذلك من أجل ترسيخ أسس التعايش السلمي وما أجملها من أمنية. وكما أظن من أجل ذلك كانت الجامعة، ، فكم أتمنى إصدار بيان خاص يدعو الجميع إلى تقاسم حب الوطن وكلٌّ ينال حقوقه عملاً بواجباته في المساواة. وشكراً لحكامنا الاجلاء ،  ولرؤوسائنا المغبوطين ، في قممنا العربية ، للعمل من أجل ملف المسيحيين ووجودهم وما ذلك إلا راية نحملها لنعلن للناس وشعوب العالم بتكاتف الأديان السماوية عبر الكتب المقدسة والموحى بها والمنزلة، إنها رسالة ولا أجمل.
    لازلنا ننتظر
      ونحن الصغار من مكاننا نصلّي لمسيرة الكنيسة ونجاحها، ولا زلنا ننتظر جامعتنا وأفعالها وحقيقة وجودها، ننتظر أن نسمع صوتها عبر ملفّاتنا كي نبطّل قول "متى وأين"، ولسبع مرات... هل في ذلك نيات داكنة في الصورة التي تحملها الجامعة في أن لا نكون؟، هل في ذلك رسالة أو مخطط للرحيل، ؟... فالجامعة بأعضائها وربما بسبب ظروف شرقنا الأليمة يظهر أن لا مجال لها لدراسة ملف المسيحيين واضطهادهم، والفتاوى التي تصدر بحقهم من أشخاص يكفّرونهم متى شاءوا وكأنهم أقيموا حكّاماً عليهم. فأين الحرية الخاصة واين حرية العمل والإيمان والضمير؟ (فقرة 2و5 من المادة 1)... أليس الإنسان غاية؟، أليس هو العنصر الأساسي لتحقيق كل تقدم حضاري؟، أين المساواة والعدالة والديمقراطية (فقرة 2 مادة 1)؟، أين المساواة والحرية والعدل (فقرة 5)؟، فنحن لن نرضى أن نكون حُملاناً لإبراهيم في وقت منع الله إبراهيم أن يقدم ابنه ضحية، فكان الحَمَل "الخروف كبشاً" بدلاً، وإلا ماذا تعني الفتاوى أحياناً بتقديم مشروع القانون الذي يهدف إلى التضييق على بناء الكنائس أو هدمها أو أي مبانٍ دينية ، أو تدمير جميع الكنائس الموجودة في بلاد العرب، أو بعدم إلقاء التحية والتهنئة... أليس العيد ساعة الله في قلوبنا؟، أليس العيد عيد الحياة وفرح السماء.
      ماذا يعني صدور فتاوى من هذا النوع في زمن يتجه العالم نحو إقرار قانون الحريات وحق العبادة للجميع والضمير؟... فَهَدْم الكنائس لا يعني إلا هدم الآخر وقتله، فلم أسمع يوماً أن الكنائس كانت سبباً للدمار والهلاك والقتال، ولكن ما هي إلا بيوت الصلاة والدعاء وحمل رسالة الخلاص والمحبة وبشارة الحياة، وأبواب الكنائس مفتوحة للجميع أنْ يدخلوا ويصلّوا ويسمعوا ويشاركوا. فالكنائس تجمع المؤمنين باسم المسيح، وإنْ كانت لهم، فهي بيوت لجميع الناس للصلاة باسم عيسى الحي، يسوع المسيح. والذي علّمنا أن "اذهبوا إلى العالم كله ..." (متى 24).
      فلماذا التعصب ولماذا التحريض على القتل، ولماذا خلق مآسي؟، فالفتاوى المحرِّضة على القتل لا تُحمَد عقباها، وما هي إلا انحدار أخلاقي ونزول إلى الهاوية، والله أوصى بعدم القتل "ومن أجل ذلك... فمَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (القرآن الكريم: سورة المائدة: 32).

     الإرشاد الرسولي
      الإرشاد الرسولي خارطة طريق لسكان ومواطني الشرق الأوسط، ومن الفقرات المهمة التي تضمنها:
      فقرة 24: يتقاسم المسيحيون مع المسلمين الحياة اليومية نفسها في الشرق الأوسط حيث وجودهم ليس عرضياً أو حديثاً إنما تاريخي.
      فقرة 21: تنظر الكنيسة الكاثوليكية إلى المسلمين بأعين التقدير، أولئك الذين يعبدون الله خصوصاً بواسطة الصلاة والزكاة والصيام.
      فقرة 28: يعيش المسيحيون الشرق أوسطيون منذ قرون الحوار الإسلامي _ المسيحي. إنه بالنسبة لهم حوار عبر الحياة اليومية ومن خلالها، ويدركون غنى الحوار وحدوده.
      فقرة 12: الشهادة الأصيلة تتطلب الاعتراف بالآخر واحترامه والانفتاح على الحوار في الحقيقة.
    خاتمة
    ختاما ، نعم ، إن الحضور المسيحي في بلادنا اليعربية  كان ولا يزال يشكّل تعبيراً واضحاً عن حقيقة الإنجيل المعاش عبر السلام والحوار، وما هذا إلا التزام الكنيسة من أجل قبول الآخر. فأهمية المسيحية ووجود المسيحيين في الشرق ودورهم، كتب عنه الكثيرون، وذاعت أنباؤه عبر قنوات وإذاعات سمعية وبصرية وحتى الكترونية لا تُحصى ولا تُعد، شهادة لإحقاق الحق وإنصاف الضعيف والبريء في مسيرة الحياة، ومعلنين أن على المسيحيين أن لا تُحبط عزيمتهم ولا تكلّ إرادتهم إذا ما صادفتهم عواتي الزمن، وقد أظهر ذلك جلياً قداسة البابا بندكتس السادس عشر حينما خاطب شريحة من الشباب في بكركي في الخامس عشر من أيلول 2012:"أعرف الصعوبات التي تعترضكم في حياتكم اليومية بسبب غياب الاستقرار والأمن... وفي عالم دائم الحركة تجدون أنفسكم أمام تحديات كثيرة وعسيرة... ورغم كل ذلك عليكم أن تكونوا كصنّاع لمستقبلكم ومستقبل بلادكم، وقوموا بدوركم في المجتمع وفي الكنيسة".وقبل أن اختم هذا المقال أنحني إجلالا ، لجميع العاملين من أجل الحياة ، في العيش المشترك،  والمساواة ، وحرية الضمير،  واحترام الآخر، ورافعا صلاتي لأجل ذلك ليس إلا ،والمقال هذا ، ما هو إلا شعوري الأيمانيي المسيحيي من أجل الغاية هذه،  وهذا ما علّمنا إياه البابا فرنسيس الذي قال في قداسه اليومي في كابلة القديسة مرتا في السادس عشر من أيلول " سبتمبر 2013 ، "ان كاثوليكيًّا صالحًا لا يتدخل في السياسة؟ هذا خطأ. هذه ليست الطريق الأصحّ. بل ان الكاثوليكي الصالح يتدخل في السياسة ويقدّم أفضل ما عنده. حتى تتمكن الحكومة من الحكم. ولكن أفضل شيء يمكننا ان نقدمه للحكومة هو الصلاة.: "صلّوا لجميع الرجال، الملوك وجميع الحكام " (رو1:13) وقال أيضاً" مسيحيّ لايصليّ للحكام ليس بمسيحيّ صالح. لا يمكننا أن نحكم دون حبّ الشعب ودون تواضع "." نعم سنشهد لإيماننا وسندعو من إجل إيصال رسالة الحياة والمحبة بالمسيح يسوع وسنصلي من أجل حكامنا وما ذلك إلا إنجيلنا ، والرحمة من رب العلياء ، لشهدائنا الأبرار في بلداننا اليعربية ، مسلمين، ومسيحيين، وديانات ،. نعم وآمين

225

عذراً..  من كنيسة الشهداء
 الى كنيسة الهجرة والرحيل!!

المونسنيور بيوس قاشا

   في البدء
حضورنا في هذه البلاد ليس صدفةً أو عبثاً أو ضياعاً لهدف أو لمسيرة أو لغاية، بل هو رسالة تحملنا إلى حيث مشيئة الله. وما يحصل معنا وبإمكاننا أن نخافها إذا لا نرغب في إتمامها فالله في ذلك خلقنا أحراراً وهو غفور رحيم. فحضورنا والوضع القائم لشعبنا ومؤمنينا اليوم في وطننا كما في شرقنا يتطلب وقفة حقيقية أمام الجميع لإثبات وجودنا لأننا أصبحنا غنيمة حرب للآخرين من حيث التجاوز على ممتلكاتنا وأراضينا لا بل أكثر من ذلك محاولات إبعادنا فارغي الأيدي كي يسجلوا عقاراتنا بأسماء مزّورة، هذا إضافة لِمَا خلّف الوضع لنا من مآسي ومن بينها تشتت شعبنا في أرجاء المعمورة .
   ما يحصل لنا
   لماذا العجب ! إن الهجمة البشعة التي تطال أبناءنا المسيحيين في شرقنا هي نفسها التي طالتهم في أزمنة غابرة وعابرة، وما حصل في الألفية الأولى وحتى اليوم وإنْ على فترات، أحياناً هادئة وأخرى مظلمة، فلكل مرحلة أساليبها وأدوات دمارها ولكن كلها تحمل نفس الحقد والكراهية أمام حالة التكفير والاستغلال ، والسجود للوثن والاستعباد، وتمثلت كلها بقتل المسيحيين وذبحهم ورميهم بين أنياب الوحوش بطرق وحشية أو عدائية لا تمتّ بصلة إلى النغمة الأنسانية، إضافة إلى إحلال حلالهم ونهب ممتلكاتهم ، وإطلاق السيوف تعمل بيد سيّافيها في رقاب الأبرياء في سفك دمائهم الزكية مبررين عمل ايديهم الملوثة بدماء الأبرار وتدمير معابدهم وكنائسهم وأديرتهم وحرقها، وهذه حقيقة لا ينكرها إلا المزيَّفون الحاقدون الذين أقاموا أنفسهم وكلاء عن الله على هذه البسيطة دون وجه حق ولا في مسيرة حلال، ولكن استهتاراً واستخفافاً وتأليهاً لمآربهم وأنانيتهم وكبريائهم بعيداً عن تعاليم الرحمن الرحيم. وفي كل ذلك يعملون على إطفاء نور شمعة الإيمان كي يُسدلوا الستار عن حقيقية المسيح والمسيحيين ، ولا زال  السيف هو السيد الحاكم في قطع رقاب الأبرياء والضعفاء، ؟....دون رادع من انسانية الحقوق ولكن حتى ما تبقى  لغة السيف هي الفاصلة، والسيّاف حاكما في قطع الرقاب ، انها لغة هجرّت اولادنا ورحلّت اكبادنا ، ومحت أسماءَنا من سجلات تربتنا .
   في الحقيقة
   في الحقيقة إن الكنيسة تحتاج من وقت إلى آخر إلى هزّة لتطهيرها، لتطهيرها من العناصر الضعيفة، والمعطَّلة، كي تتنقى من أجل حمل رسالتها إلى الأجيال الآتية بكل صفاء. فالاضطهادات مفيدة، وفترات الاستشهاد مفيدة لبيان الثبات والصمود، لبيان محبة الإنسان لله إنْ كان حقاً يحبه من قلبه. هناك كثيرون يتبعون الدين لأن تبعيتهم للدين تنفعهم، تنفعهم لدنياهم، لتأليه منافعهم. فالإنسان المتدين هذه تكسبه شهرة ونحن على حساب المسيح نكسب، على حساب الدين نكسب، والحقيقة أن نكون صادقين" فدماء الشهداء بذار الإيمان"، أي أن دم الشهداء يتحول إلى بذور تنبت منه نبتاً جديدة، وهذا ما لاحظناه على مرّ العصور، فثبات الشهداء ووقفتهم الشديدة والأمانة لسيدهم بهر بها غير المؤمنين فآمنوا.
   لذلك لا يجوز للمسيحي أن يعيش إيمانه على طرقات الحياة. صحيح أن عددنا يتضاءل وسيستمر في هذه المسيرة المتعِبة ما دامت الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ، وما دام لا أحد يفكر في الحلول الناجحة لثبات الإنسان في أرضه، وما دام أصحاب القرار يعملون مخططهم وإنْ كان في تدمير الآخر وبالخصوص المسيحي المنفتح والمسيحي المشرقي المتمسك بعقيدته حتى الموت.


   وطن بديل
   لم يبقَ لنا خبزةٌ في هذا البلد! تربتنا تضطهدنا! حتى ما نبقى على هذه الحالة!... فقرات قالوها وأزادوا في قولها الكثير من المؤمنين، كما أضيفت إليها أخرى بقولهم: هل من الضروري التشبّث بالأرض التي تلفظني؟ لماذا السكوت أمام ما يحصل ؟... ما أثقلها هذه الفقرات التي ترددها الأفواه، كل الأفواه، في كل آن وأوان .
   نعم، في الحقيقة إنها مرحلة دقيقة وهذا لا يقود إلا إلى طريق واحدة ألا وهو الهجرة والرحيل، وستبقى الرسالة التي تتطلب منا أن نفهم لماذا نهاجر من بلدنا أو لماذا نهجَّر من بلدنا معطّلة. مشرقية كنيستنا في خطر، وما يحصل مخيف ومخيف جداً، فموضوع الهجرة مؤلم فهو يفقرُ الحسَّ الإيماني الأرضي ويُغلّبُ حسَّ العولمة المزيفّة، ويشعر الإنسان أن الأرض التي احتضنته لم تعد تحبه ولا هو يبادلها الحب، فلا مجال للبقاء فيها، لذلك فهو يفتش عن أرض بديلة ووطن بديل من أجل الانتماء حتى وإنْ ارتاب في ذلك. وما يؤلمني اليوم أن أرى أن هناك حملة واضحة ينظّمها الغرب السياسي بواسطة أشخاص من شرقنا تهون مصالحهم وأنانياتهم ولا يفكرون إلا بإله المال والنفوط  فيكونوا علامة لتهجير مسيحيي الشرق من منازلهم وأوطانهم، والصمت مطبق أمام كل ما يحصل في هذه السرقة البشرية. فلكبار الزمن ولأسياده آذان ولا أعلم إنْ كانوا يسمعون أو يفهمون "مَن له أذنان سامعتان فليفهم" ( متى 13:13  ). وما يؤلمني أن أرى أبناء شعبنا يرحلون جماعاتٍ ووحدانا ، عوائلَ وأفرادا ، بدعوة من لمّ الشمل الدنيوي ، في ليلة وضحاها نصحى على جارنا وإذا به ليس في الحارة وإنّ أملاكه قد سُجلِّت عقاراتُها لأخرين أفسدوا الدنيا بأموالهم وفي هذا يصح القول من له الاولاد له البلاد وأرض العباد ، واخرون يكونون اذكياء ويعتبرون أنفسهم حكماء ، فيبيعون من بعيد عبر الايميل والانترنيت او بوسيط فرضَ نفسَه وان سرقَه ، المهم حفنةُ دولارات تصل الى الراحل بطريقة الحوالة السوداء او بدي جي ال الخضراء وأمتلا فكرنا من تداعيات تدعو الى الرحيل وأُفرغ عقلُنا وأُحبطت عزيمتُنا وقلَّ اعتزازُنا وربما نسينا أنَّ هذه كانت ارض ابائنا وأجدادنا وبدمائهم قد اقتنوا أمتارها ، وبألمِ سواعدِهم أخضرّت بساتينها ، واليوم ، نحن على الماشي نبيعها لا لشيء الا لكي نطّلقها من سجلات احوالنا فنلحق بالذين سبقونا فنكون مطيعين لأوامر صدرت من قاتلي الأصلاء ، مكرسين كانوا ام دنيويين ، وأخاف جدا حينما يكون القريب، من سماء الله ، ومن آلِه،  هو الوسيط الامين في ان يجعل الرحيل حلا نهائيا ناسيا انه سيموت يوما ويلفظه التاريخ وصفحات الزمن تلعنه وان كانوا قد زينوا صدره بنياشين الحكومات والحكام لانهم كان لهم عميلا وخادما اياما وزمانا ، وهم سبب رحيلنا وهجرتنا ، فهم الدعوة والكفالة والتحليق ،  وهذه هي الحقيقة بعينها ومن يلومني على حقيقة الكلمة فتلك اوسمة من اجل حب الوطن والحس الايماني وحقيقة الحياة التي بها امنت ومن اجلها اموت .. نعم هذا ما يحصل .
   هنا نموت  
   ولكن ، أيجوز أن نرحل ونهاجر بهذه الطريقة المزّيفة والتي فيها تستهوينا لفة الهمبركر وعلبة البيبسي المسمومة؟ أينَ هي كلمات إنجيلنا ؟ أين هي تحذيرات ربنا لرسله ثم لنا ؟ ... أين أصبح عطاؤنا، وأين أصبحت غيرتنا الإيمانية؟... أين دور معلّمينا وأطبائنا وكوادرنا والذين جميعاً عملوا من أجل إيصال ثقافة الإنجيل؟... ألم نقل دائماً أن مدارسنا كانت دائماً بيوت علم للأخوة الإسلام العرب ولغيرهم، وما للمسيحيين العرب من دور إلا وكانت الثقافة المسيحية رمزاً، ورمزاً من أجل الحياة. ألم نقل هنا ولدنا وهنا نريد أن نموت؟... أليست عبارة كررناها كلنا؟... أليست يافطة نحملها عبر طيات أيامنا ومساحات لقاءاتنا أم ماذا؟.
   كنيسة الشهداء
   عُرفت كنيستنا المشرقية منذ بشارة توما الرسول ثم مار ماري وأدي، ومنذ ولادتها، بكنيسة الشهداء. فقد ولدت من رحم الألم وفي مخاض الشدة العسير، وبقيت شاهدة وشهيدة وحتى الساعة إذ لا زالت مضطَهَدة علناً أو ضمناً كي لا يواصل أبناؤها حمل رسالة المسيح وإعلان بشرى الخلاص، فهي "عثرة لشعوب الأرض" ( روم33:9 . 1كو23:1  ).
   فما الشهادة إلا عنوان كنائسنا المشرقية ومسيرتنا الإيمانية وهذا ما سبق ربنا وأعلمنا به "سيسلمونكم الى المجالس .. شهادة لهم ، سيضطهدونكم ويطردونكم" ( مرقس 9:12). فسلاح مقاومتنا نابع من عمق إيماننا بجرن عمادنا، وما حمله إلينا آباؤنا في رحيلهم وترحالهم في زمن الشدة كما في زمن راحة البال... وهذا ما يجعلنا أن نقول: أنهم أعطوا ذواتهم وقدّموا رقابهم، وإلينا وجّهوا أنظارهم كي نقتفي آثار أقدامهم المبشِّرة فنكون بذلك شهوداً  وشهداء.
   وشهادة آبائنا لم تكن إلا شهادة حق، شهادة صدق، حملوها فخورين بدينهم وبتبعيتهم للمسيح، ولم يكن الصليب وحمله عاراً وإنما "فخراً وعزةً وقوة " ( 1كو18:1  )، رسموه على وجوههم وأيديهم، ووسموا به جباههم. من هنا كان للمسيحيين علامة دق الصليب في اليد إيماناً منهم كي لا تُمحى مسيحيتهم وخاصة في أزمنة الاضطهاد وعصور الاستشهاد، أزادوا في حبهم وتعلقهم بالمسيح أنهم خوفاً على أطفالهم الصغار غير القادرين على الكلام كانوا يدقون علامة الصليب على أياديهم تحسباً لو أوتي بالطفل أمام الحاكم، كانت هذه العلامة تنطق أنه مسيحي.   "مَن اعترف بي أمام الناس، أعترف به أمام ملائكة السماء. ومَن أنكرني قدام الناس، أنكرتُه قدّام أبي الذي في السموات" ( لوقا 9:12).
   مسيحية صامدة
   ستبقى المسيحية التي انطلقت شرارتها من شرقنا، وشعّت أنوارها في المسكونة باتجاهاتها الأربعة عبر الرسل والشهداء ستبقى صامدة ثابتة في قلوب المؤمنين الحقيقيين لا تزعزعها رياح الهجرة والرحيل رياح الزمن الهابّة من شرق أليم ومسموم رياح العولمة المزيَّفة، فالرب معها إذ قال:"وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16)،  ستبقى ثابتة كما في الماضي كذلك في الحاضر، أمام الأباطرة الوثنيين وأمام المكفّرين ألأصوليين أمام هبوب العواصف المؤلمة في طردهم وقتلهم وإزعاجهم كي ينالوا منها ومن مؤمنيها، وصمودهم جعل كل المحن تعبر وتتبدد وتتلاشى أمام حقيقة الإيمان التي حملوها في صدورهم، والقداسة التي عنونوا فيها مسيرة عطائهم، وإثبات أن صخرتهم ما هي إلا المسيح الرب، المسيح الحي، المسيح القائم من الموت.
   مسيحنا حيّ
   أحبائي القراء : أنقلوا هذه الحقيقة الى اجيالكم وعوائلكم وأحفادكم قبل أن تسموّا لهم اسماء وهم بعدُ أجنة في البطون ، وتشترون لهم حقائب وتأشيرات مرور بمال الدنيا وصكوك مزورة ،وهم على مقاعد العلم والحكمة ،  علموّهم حقيقة عماذهم ووسم صليبهم ووصية معلمهم وربهم ، وكونوا لهم رسلا وقولوا لهم ،  نحن باقون وشهادتنا باقية، فإيماننا حيٌّ فينا، ومسيحنا حيٌّ مهما هُجّرنا ومهما صُلبنا وطُردنا، فتلك رسالتنا أن نزرع الحب حيث البغض، والمسامحة حيث الحقد والكراهية. وكنيستنا ليست الا كنيسة الرجاء وليس كنيسة الهجرة أو الرحيل .
إنه زمن يدعونا إلى تجسيد الإيمان وليس إلى الهجرة او الرحيل... إنها الحقيقة. أقولها وكلي إيمان إن الشرق يحتاج إلينا، ليس إلى شخصنا ولكن إلى إيصال إنجيل المسيح في السلام والحقيقة، لأنه إذا فقد العالم هذا الإنجيل يعيش حالة دمار وخراب كالتي نعيشها اليوم ولنتذكر آباء كنائسنا المشرقية العِظام بشجاعة وعمق إيمانهم كيف وقفوا في وجه الحاكم المستبد والرئيس القاتل مدافعين عن إيمان أبنائهم ومؤمنيهم بكلمة الحقيقة كي لا نكون سبباً في أن نقبل مفهوم اختفاء مؤمنينا . لنكن شهوداً للمسيح في كل مجالات حياتنا دون خجل أو خوف، فنحن شهود  للمسيح بالقول والعمل، للمحبة والأخوّة الإنسانية في مجتمعاتنا العربية.
   المسيحي شاهد
   سيبقى المسيحيون الأمناء ،  متمسكون بجذورهم المسيحية في الشرق ومَن يريد أن يرحل ويهاجر، فليهاجر وليرحل، ولكن ليعلم أن الأرض ستبقى تشهد لحقيقة المسيح في إنجيل الحياة مهما أُفرغت من أهلها، ومهما أفرغها أهلها. فالمسيحية غيّرت وجه التاريخ، وجذورها ليس في المهاجرين والراحلين بل في الأصليين، والثابتين على صخرة الايمان ، لا يتزعزعون  فهي موجودة بعمق ثقافتنا وحضارتنا في هذه الأرض... نعم ، مسيحيتنا بسلوكنا ورسالتنا وليست بكلامنا وهويتنا. كما أنَّ الحضور المسيحي يجب ويجب أن يكون حقيقة إيمانية كما نادى بها آباؤنا البطاركة يوماً في رسالتهم "الحضور المسيحي في الشرق" (رقم 17)، "وتكونون لي شهوداً" (أع 8:1)، فالمسيحي شاهد للمسيح بإعلان الكلمة وحياة الحقيقة.


   خاتمة
   فلا خوف أبداً من حمل الرسالة بشجاعة ورجاء بالرغم من المحن، فالاتحاد بالمسيح هو الموضوع الأكيد والشهادة والرسالة هو الالتزام بالإيمان. فلا للقنوط ولا لليأس ولا للخجل أو للخوف من أن تكون مسيحياً... وإنْ كنا قطيعاً صغيراً (لو 32:12)... لا تنسوا أن كنائسنا وأديرتنا ومعابدنا ومزاراتنا ما هي إلا رموز لمسيحنا وكفانا نحمل حقائبنا أو نحزم حقائب أولادنا كما نشاء ومتى نشاء وحيث نشاء  ونرحل كما يرحلون ،إعلموا أنكم برحيلكم عملتم على إفتقار العنصر المسيحي وإفراغ الكنائس ، وأضعتم سجلات حضارتنا وتاريخ شهدائنا وآبائنا وجعلتم هويتنا بلا توقيع وصلواتنا بلا مرنمّين ، فإفراغ البلد من مسيحيينا ارتكاب لخطيئة جسيمة إذ أننا نتنكر لحقيقة الألوهة المشرقية الساكنة فينا إنها خطيئة وربما لا غفران لها لأنها ضد الروح القدس وعظمة إلهنا وربنا يسوع المسيح له المجد.اليس هو قطع الرجاء حينما نجعل من الكنيسة التي جمعتنا اداة للرحيل بعلامات مزيفة ومن رجال باعوا مشرقهم من اجل هواهم ودنياهم . لنذكر اننا شهود وشهداء وليس مهاجرين وراحلين فالثبات في ارضنا علامة ايماننا ولا نترك اخرين يقولون عنّا بالأمس كانوا هنا وهذا المساء قد رحلوا،  وأعلموا أننا لسنا بدو رحّل نحل حيث الخضار والماء بل نحن مؤمنون راسخون في الأيمان ، وشهود الحقيقة ، وبشرى الخلاص ، ورسل الحياة ، لزمن القيامة والبشارة السارة . لا لن نكون إلا ذلك فلا يمكن أن نكون كنيسة الهجرة والرحيل حتى وإن ارادوها لنا كفالة أو وكالة فالحقيقة صميمها ، أن لا أجمل من أن نكون كنيسة الشهداء وسنبقى ما دام مسيحنا حيّ فينا وما دامت مسيحيتنا شاهدة وشهيدة .. نعم ولا أجمل .. أن تُسمى كنيستنا ،  كنيسة الشهداء .

226
المنبر الحر / نبض من الحقيقة
« في: 13:26 25/09/2013  »
نبض من الحقيقة
                 
المونسنيور بيوس قاشا

في البدء :
إن ما يحصل لنا وما يحلّ بنا لا أعلم إن كان حكماً بحقنا قد أصدرته محكمة العوالم الدنيوية _ عادلة كانت أم مزيفة _ حكماً انتقامياً، أم استحقاقياً،إنْ لم يكن حكماً تأديبياً بل إبادياً من أجل غاية واحدة ولكن بهدفين... فالهدف الأول يعلمه الجميع ودون أن يُذكَر عنوانه وتُعلن أحرفه واضحة من أجل أمن وغاية، أما الهدف الثاني منه ما هو إلا بلبلة الشعوب واحتقار المسالمين وعِداء لأبرياء غُلب على أمرهم، عبر الفواصل وهدم الجسور، تدمير القيم بعولمة مزيفة، وإيصال الخليقة إلى طاعة عمياء شاءت ام أبت. فالناس يُساقون كغنم، بل كخراف وكعبيد، بينما هم أحرار، إذ يقول ربنا يسوع:"دعوتُكم أحبائي ولم اسميكم عبيداً، فالعبد لا يعلم ما يعمل سيده" ( يو15:15)، وأيضاً "تعرفون الحق والحق يحرركم"(يو32:8)... ما هذا الانحدار القيّمي ، والانحطاط الحضاري.

واقع أليم :
نعم، في كل ساعة من ساعات نهاراتنا وحتى ليالينا نشهد مشهداً مؤسفاً ومؤلماً، مشهداً مخيفاً يحمّلنا حالة نفسية غريبة لا توصف لا بصداعها ولا بعبئها، ومرضاً يجعلنا في حالة (شيزوفرينية) غريبة عبر انقسامات الروح في الاتهامات والتجاوزات وما إلى ذلك من إهانات واحتقارات وعدم المبالاة في استعمال لغة الأنا قبل الأنت، وحمل سياط القوة في مسيرة الغاب بقنابل عمياء لا تقتل إلا الأبرياء وجعلهم في زنزانات ظلماء لا نسمة فيها ولا هواء. وما يحصل ما هو إلا طغيان واستبداد وإجرام... إنه واقع مُرّ نعيشه وخصوصاً في هذه السنين الأخيرة، العشرة الثانية من الألفية الثالثة. وقد أفرز مظاهرَ قاسية وغير مألوفة في الحياة، فيها العنف الدموي والموت الدائم والقتل اليومي، وكأن أرواح المواطنين باتت كائنات رخيصة الثمن، وأصبح الانتماء في درجة لا يملك شعوراً ولا حساً إيمانياً، وتحولت أفكارنا من الوطنية وحب التراب المقدس إلى مذهبية بل أحياناً إلى مذهبية مفرطة وممارسات لغايات من قِبَل أفراد هم لها، ولدنياهم منفذين، ولمخطط يُرسَم لهم... وما ذلك إلا علامات ضياع وتفكك ودمار. كما عانينا ولا زلنا نعاني، وباتت قلوبنا _ كما باتت الصراعات والتيارات _ إقليمية، وعيون الطائفية تتربص بنا وبصوت حقيقتنا، وأصبحنا لا نميز بين حقيقة الإله وإله الحقيقة ، ولا من آمال أو رجاء. ولم يبقَ سلامنا رمزاً لنا، فحتى لغتنا وأرضنا قد زالتا من الوجود ومن كُتب العلم والتاريخ، ولم نعد نجد اتجاهنا وطاعتنا ، ألله ، أم للوطن ، أم لغيرهما ، وذلك لأنه قال لنا : اترك... فتمسّكنا ، وقال: أحبب... فحقدنا، وقال: إشهد... فتخاذلنا .

بين الضمائر والمخططات :
نعم، ربما أسأنا وأساءت شعوبنا، ولكن هذا لا يعني قتل شعوب من أجل شعوب، وتدمير أوطان من أجل أوطان. فالوجوه مهما كانت سوداء أو حنطية أو حمراء أو بيضاء أو بنيّة أو شقراء، فكلها بألوانها، لون الخالق العلي العظيم، المحب والرحمن الرحيم... ألم يقل سفر التوراة في الكتاب المقدس :"إن الله خلق الإنسان على صورته كمثاله"
( تك26:1) ، و"إنه رأى كل شيء حسناً جداً" ( تك31:1).
نعم، ربما أساءت شعوبنا، وربما لم يكونوا حكّامنا في السراط المستقيم، وما تلك إلا بليّة الشعوب، ولكن هذا لا يعني تدمير بلداننا وقتل مواطنينا وإجبارهم على الرحيل، وترك ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم، وإبادة أصالتهم من أُسسها، وتدمير ما بنوه في حضارة القيم والتاريخ وما رسموه لتقدم الشعوب والأمم. هل فسدت الضمائر وأصبحت الجيوب تُحصى بما فيها قبل أن تمتلئ القلوب من سرقة الحرام ليكون حلالاً مقدساً. فبسبب الذين أرادونا أن نكون لهم عبيداً أذلاّء، وبسببهم اتّهمنا الأصوليون إننا لهم ومنهم ولأجلهم، فقتلونا بلا رحمة وسرقوا ما نملك (سرقوا كل شيء حتى آثارنا وشواهدنا) كما سرقوا ، هم عقولنا، وأفرغوا ، ما في جيوبنا، وطردونا من أرضنا، وفي عملهم هذا ،  لا يدرون ما يفعلون
( لو34:23). ربما يعملون ما يحلو لهم أو ما كُتب لهم. لنسأل إدارات الجمعيات الخيرية ومحلات النجارة والموبيليات كم وكم من التوابيت الخشبية صادروا، ولنسأل بزّازي الأقمشة كم وكم من الأمتار من الخام كفّنوا بها موتانا وقتلانا وضحايانا الأبرياء، نساءٌ ترمّلن ويتامى يتضوّرن جوعاً وألماً ويقاسون حرماناً، ولا من سجل يحفظ وجودهم وكينونتهم، فقد وقّعوا عنهم إنهم يجب أن يكونوا حطباً ولا خير فيهم... هذا كان قرارهم... إنه حقيقة حقدهم وسلوكهم... هم موتى في سجلاتهم ومخططاتهم ولكنهم أحياء في ضمائرنا وعقولنا وزوايا بيوتنا ومعابدنا وكنائسنا، نعم إنهم أحياء عند ربهم يُرزَقون.
هذه الحالة جعلتنا في حالة حرب وصِدام، حالة تشتت وانقسام، حالة بقاء أو رحيل... حربٌ فُرضَت علينا لغايات ومصالح وإنْ بطرقٍ كاذبة وملتوية وبأساليب واهمة ومسالك وعرة كي يبقى الكذب حقيقة، وتتبخر الحقيقة في الأجواء فتسمّم براءة السماء، وتشوّه وجوه العقول، وتبقى البشرية حائرة بين الحقيقة والرياء، بين النفاق وإبعاد الأبرياء، بين الكلمة ولغة الفساد والحقد وتدمير ذوي الإرادة الصالحة.
بين الصمت والرحيل :
أمام كل ذلك أسأل نفسي أو أتساءل: هل ذلك مخطط الدنيا في حكمته؟... ما يحصل يقول لنا بلغة الإشارات وكابوس الصمت أنْ ارحلوا، واعبروا المحيطات فلا عودة لكم بعدُ إلى أرضكم، ولا مجال للصلاة في كنائسكم. قالوها يوماً إنّ كنائسنا قد ترهلت، وإن كنيسة الشهداء استعارت اسماً آخر وسُمّيت بكنيسة الرحيل... تلك الشاهدة على حضارة الشرق وإيمانه... تلك الشاهدة على حقيقة الحياة المشتركة والمتبادَلة، فوضعونا في صفوف الأعداء وإنْ لم نكن نحمل أية سِمَة تدل على الصفة، ولا علامة تشير إلى الحقيقة المزيفة التي تبنّوها كي يكونوا هم أمراء أسيادهم، وتكون كلمتهم فاصلة في أفواه كبارهم... يا لهم من قائين آخر، وهيرودس الألف الثالث.
إنّ جراحنا مؤلمة، وهمومنا مورِقة، ومشاهداتنا قاسية، كوننا نحمل رمز الإنسانية وحقيقة المحبة والخدمة بصمت وسكوت، لأن قناعتنا ما هي إلا سِمَة مزروعة في أعمق أعماقنا، وراية نرفعها بعلو هاماتنا بل فوقها، وما كلماتنا إلا قيمنا الحقيقية... فكم أتمنى أن لا تتحول الكلمة إلى هتك لهذه الحقيقة، فالوضوح ليس في الثرثرة واتّهام الآخرين والتلويح لهم أنه لا يحق لهم العيش أو أن يقاسمونهم عيشهم، بل عليهم الرحيل والعودة إلى من حيث أتوا... إنها بلبلة الزمن في دروب الحياة، وما هم إلا أبطالها، وبذلك يرسموا زمناً في أزمات ومحن بينما الحاجة إلى التروّي والتحليل وإعلان الحقيقة بالصمت المقدس رغم الواقع المضنوك والمتأزم، ومهما علت أصوات من على الأبراج وعبرها، ومن على المرتفعات وهضابها... وبما أن عالمنا اليوم عالم صعب المزاج، وأفراده يعملون عملاء لطرق مبطَّنة، والصامت ما هو إلا الحقيقة الذي تتمنى الأشواك خنقه فلا يستطيع أن يعلن ذلك على الملأ، وإنْ أعلنها فيقفلوا عقولهم كي لا يقبلوا حقيقتهم متوهمين أنهم على مسلك ومسار صادقين... لذا يجب جمع الزوان ( متى30:13 ) والشوك أولاً ثم تُبان الحقيقة ناصعة وإنْ آلمت أصحابها ردحاً من الزمن ومسيرةً من الأيام، حينها تنكشف أفكار من قلوب كثيرين، كما تظهر غايات من أعماق مبطنة ومتوشّحة بلباس وإنْ كانت محتَرَمة المنظر. لذا علينا إيصال صوتنا إلى العالم بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً في استشهاد أبنائنا، وجعلوا وطنيتنا في مهب الريح، كما أرادوا من العالم وكباره أن لا يعطوا أُذناً صاغية كي تفهم الحقيقة .

الحقيقة .. حقيقة :
نعم، الله أرادنا أن نحمل آلام بعضنا من أجل عرض حقائق منظورة أو خفيّة، وما أذكره من أحداث ما هو إلا أحداث تتوالى وتتعاقب أمامنا، وواجب الحقيقة يجب قولها، نسبية كانت أم عمومية، رغم المخاطر والمطبّات، وذلك لأجل إيقاظ الضمائر وكشف حقيقة الحدث وبراءة الأبرياء والحقد الذي تسلّحوا به من أجل نيل مآربهم وإكمال مخططاتهم في عيش حريتهم المزيَّفة كما هم لها متوسّمون. ومن المؤسف أن كبار الدنيا ورجال الزمن يسمعون لهم وربما صاغرون، فيحكموا على وطن وشعبه هل يحق له العيش أم لا ، مستصغرين قول الإله المحب:"هذه الأرض كلها لكم" (تك1) ، ويزيد الالم في عدم تداوي جروحاتنا في التجاوز والعبودية والاستصغار... أرادوا محو حضارتنا كما فعل سابقهم في الماضي القريب من القرن العشرين "هولاكو"، وآخرون شبيهون به، فغيّروا عبوديتنا إلى استعبادنا، فكنا عبيداً بالأمس، واليوم أصبحنا أكثر استغلالاً وعبيداً لعبيد.
 لذا فلابدّ من وقفة حقيقية من الجميع لكي نُثبت وجودنا وأصالتها، ونُظهر حضارتنا التي ما كانت وما زالت راية لأوطاننا، كي نُظهر حقاً إننا من هنا وإلى هنا ننتمي ولا يمكن أن نتخلى عنها، فقد اختلط ترابنا بعرق جباه شهدائنا ورجالاتنا، ولا زالت دماء أبنائنا تصرخ إلينا، كما حصل زماناً مع قائين "إنّ دم أخيك يصرخ إليّ"( تك10:4).
الحقيقة المؤلمة هو الإحساس بالإحباط الشديد من الحاضر، والغياب المطلق للثقة بالمستقبل، هو الواقع اليومي الذي يسيطر على عقولنا، فلا أمل من الخروج من هذا النفق المظلم، ولا يحمل أي أمل أو بصيص رجاء لواقع، ولا يُظهر أنه يسمح بتحقيق أي حلم ولو كان صغيراً في ظل الأوضاع السيئة التي نعيشها.

شهادة وكلمة :
ولكن، مهما طال الزمن، ومهما قست الحياة، ومهما استعبدنا الضالمون والمستكبرون بزيفهم ومكرهم وحقدهم ومآربهم ،لا يمكن أن نتنكر للإنجيل ولتعاليم الكنيسة، فهناك مَن تلفّنا بجلبابها كي تحمينا.. إنها ملكة السماء والأرض.. مريم القديسة ، كي تُنمي فينا قيم الحقيقة من أجل دعم رجالات الحب والسلام بدلاً من المدمّرين والمخرّبين... فاليوم لسنا بحاجة إلى سياسة الفوضى الهدّامة التي سُمّيت بالخلاّقة، فالأمر لا يُخفى على أبناء البصر والبصيرة. فالمسيح وحده هو كل شيء، وحده يستطيع قول الحق...وإن لم يعد للحق مكاناً، وإن حُجب وجهُ المسيح بغيوم أنانيتنا، ولكن سنبقى نشهد ونعلن بالحق مَن هو الله. وستبقى كلمته هي تحاكينا في كل مناسبة وحدث وسنبقى واقفين امام الصليب نرسم سمته على جباهنا،  فيتحول جسدنا ونتحول إلى جلجلة آلام ، فنموت مع المصلوب لنحيا معه في قيامته المجيدة. وسنبقى نشهد للحق من أجل الأبرياء ، هذه هي البشرى السارة، رجاء الله الذي وافانا ، هذه هي قضيتنا، نعم إنها قضيتنا، بل حقيقتنا ،  نعم ، ما ذلك إلا نبض من الحقيقة .


227
عذراً ... لنصعد السفينة .. فالطوفان آتٍ

المونسنيور بيوس قاشا
من كتابنا المقدس
   بعدما تنامى فساد البشرية، وبعد أن اعتبر الإنسان أنه يشبه الله (تك 5:3)، تكاثر العنف بحيث ندم الله أنه خلق البشر، والناس ما ندموا. وبما أن الخطيئة تحمل الموت، كادت البشرية تفنى لولا رحمة الله التي وجدت باراً في شخص نوح ز فالفصل السادس من سفر التـــــكوين يــــقول  ما نصه (5):"رأى الرب أن مساوئ الناس كثرت على الأرض وأنهم يتصورون الشر في قلوبهم ويتهيئون له نهاراً وليلاً، فندم الرب أنه صنع الإنسان على الأرض، وتأسف قلبه، فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض هو والبهائم لأني ندمتُ أني صنعتهم. أما نوح فنال رضى الرب (13). فقال الله لنوح: جاءت نهاية كل البشر، فالأرض امتلأت عنفاً على أيديهم، وها أنا أهلكهم مع الأرض. فاصنع لكَ سفينة من خشب السرو واجعلها غرفاً واطلِها من داخل ومن خارج بالقار. واجعل نافذة للسفينة، واجعل باب السفينة من جانبها. ها أنا آتٍ بطوفان مياه على الأرض لأزيل كل جسد فيه نسمة حياة تحت السماء، كل ما في الأرض يهلك، ولكني أقيم عهدي معك. فتدخل السفينة أنتَ وبنوك... لأني رأيتُ أنكَ وحدكَ صالح في هذا الجيل... سأمحو كل كائن صنعتُه عن وجه الأرض... وعمل نوح بكل ما أوصاه به الله (23) ومحا الله كل حي كان على وجه الأرض.

     المسيحي الحقيقي
   بعد هذا الفصل المقدس أقول: عُرف عن المسيحية في شرقنا وعند عرباننا وبدون جدل بأنهم حاملو ثقافة الحياة وحضارة الزمن عبر كرامة الإنسان وقبول الآخر في الحرية والعيش المتبادَل، إضافة إلى حمل قيم الحداثة وسبل التاريخ التي كانت ولا زالت وستبقى شاهدة على الحضارة المسيحية التي طبعت مسيرة وهويات أبناء العرب وغيرهم في الشرق الأوسط. هذه المفاهيم تتجسد في المسيحي الحقيقي لأنها تنطلق من المحبة التي أوصاه المسيح الحي بها، يعيش المحبة وسط الجماعة والتي فيها يرى وجه الله في كل إنسان، من أي دين كان وإلى أية قومية ينتمي وفي أي وضع كان من مسيرة الحياة... هو خليقة الله الواحد الأحد، وهو يحمل مجد الله والعمل على حمده وتسبحته، وهذا ما يدعوه أن يتعامل مع الناس، كل الناس، دون تمييز وليس فقط مع الناس الذين يحبهم أو يتّكل عليهم، وهم خاصته ليكونوا له ولكلمته سنداً، ولعكازته وعصاه قوةً ودرعاً حصيناً وسداً مانعاً لغاياته من أجل تأكيد حقائقه وإنْ كانت .... فرسالة المحبة هي نكران الذات، وهي تحول تعامل المسيحي مع الناس _ كل الناس، أياً كانوا _ إلى تعامل مع الله خالق الناس، فقد قال ربنا يسوع:"أحبوا الجميع حتى الأعداء" (متى 44:5)، ولم يقل "أحبوا مَن يحبكم أو أحبوا أصدقائكم"، وفي ذلك يصدق القول:"إنْ أحببتم مَن يحبكم فأي أجر لكم" (متى 46:5).

     المسيحي وأرضه
   انطلاقاً من هذه المسيرة المُحِبَّة، تدعو الضرورة المسيحي إلى أن يكون علامة مغفرة، لأن المغفرة ما هي إلا تنقية القلب من الكراهية والحقد والانتقام، من روح التهميش واللامبالاة والأنانية، للعمل من أجل أن تكون الحقيقة هي العليا وليس مصالح البشر والدنيا والعولمة المزيفة التي تُدَكتِرُ وتستعبد كل إنسان كي يكون عبداً وعبداً مطيعاً وليس أن يواصل مسيرته كي تجعله إنساناً مخلوقاً سامياً، وما هذه إلا رؤية إيمانية إذا ما كان المسيحي وفياً لمسيحيته وعُرف بهذه القيم. فإذا ما تجسدت هذه فيه لا يخاف قوة الصعاب ومظالم الناس، ولا ينال منه اليأس، بل يستمر في مقاومة الظلم والعنف على أي وجه كان، ويقوم بعمله ورسالته حسب ما دعاه الله إليهما.
   فإذن ليست رسالة المسيحي أو مهمته الدخول في صراع مع أبناء حارته أو مجتمعه أو زقاق عمله، وفي نفس الوقت لا يُطلَب منه أن يكون خانعاً أمام المظالم وعبداً سيئاً أمام محبي المصالح الضيقة وإرادتهم في الأنانية المظلمة، كما لا يحق للمسيحي أن يعيش على هامش حقائق الحياة في مجتمعه، مدّعياً أنه لا يملك أرضه، وإن أرضه هي لغيره فيبتعد عن تحمل المسؤولية والأمانة. بينما المسيحي الحقيقي هو مَن يعرف جيداً أنه مهما استُبعد عن أرضه ووطنه فهو جزء من هذه الأرض، وإن عليه أن يكون مشاركاً في المسؤوليات ومواجهاً للتحديات، وما ذلك إلا دعوة الإرشاد الرسولي "شركة وشهادة" في أن يكون شاهداً لمسيحه ومشاركاً الجميع بمسيحيته.
   نعم لا يحق، بل لا يجوز للمسيحي أن يعيش إيمانه على طرق الحياة. صحيح أن عددنا يتضاءل وسيستمر في هذه المسيرة المتعبة ما دامت الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ، وما دام لا أحد يفكر في الحلول الناجمة لثبات الإنسان في أرضه، وما دام أصحاب القرار يعملون مخططهم وإنْ كان في تدمير الآخر وبالخصوص المسيحي الكاثوليكي المنفتح والمسيحي المشرقي المتمسك بعقيدته حتى الموت. فالظروف التاريخية المعقدة التي عشناها ولا زلنا نعيشها وإنْ بصور متعددة واتجاهات مختلفة وعبر تحديات هائلة وكثيرة لا مناص منها كما لا خلاص لنا إذ كل واحد يريد أن ينمو وأن يصبح أكبر وأقوى من غيره، وكل جماعة تريد أن تكون أكبر وأقوى من غيرها... وما هذا إلا سبيل الضياع.

     إيماننا... وفرنسيس البابا
   أطلّ علينا في الثالث عشر من آذار الماضي البابا فرنسيس بعطية من الروح القدس ليسير بالكنيسة إلى روح الشهادة والمحبة، رغم زمن الألم والمآسي، فهو يقول: أمام المشاكل وآلام الحياة ينتابنا الشك ، ويرافقنا حتى آخر رمق من مسيرة حياتنا. لننظر إلى يسوع لا إلى مشاكل العالم، لأن فيه خشبة خلاصنا". فعندما غادر يسوع أرض شقائنا حذّر تلاميذه من حزن الفراق والقنوط إذ قال:"إذا لم أذهب لن يأتيكم الروح المعزي"، الذي يثبّت التلاميذ بعد حلوله، وبه حملوا حياتهم شهادة للمسيح.
   إن بولس الرسول يعلّمنا أن الإيمان الحقيقي يتعرّض دائماً للاضطهاد، ولا يوجد مسيحيون مؤمنون ولا يُضطَهَدون، فالإيمان يترافق دائماً بالاضطهاد "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهَدون" (2تيمو 11:3-12).
   صحيح إننا نعيش في مجتمع مجنون يدفعنا إلى حالة الانفجار، ومن النادر أن نجد إنساناً وسط هذا الصخب والجنون لا يشكو التوتر والقلق أو لا يهاجمه الاكتئاب والاختناق. أو ليست حياته سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال، فإننا حينما نشكو الاكتئاب والحزن والناس سوء معاملتهم ونشعر إننا تائهين لا هدف لنا _ وإنْ وجدت فهي متناقضة، مبعثرة _ فذلك ما يجعلنا أن نشعر باليأس والإحباط وحتى درجة غياب الدنيا ونهاية الكون... أمام كل هذه لا نملك في حياتنا غير هذه اللحظة التي نعيشها، فقيمة الحياة في أن نحياها، في أن نحيا كل يوم وكل ساعة وكأنها كل حياتنا.

     الحقيقة يقولها التاريخ
   نقولها من عمق إيماننا أن سيدة النجاة أيقونة نحملها في رقابنا كما نحياها في قلوبنا. فالسيدة هي لكل الناس وليس لبعض سواء كانوا أمراء في الدنيا أو وزراء الزمن أو عاطفي العبادة وروّاد الهياكل والمعابد، وما حلّ بالكنيسة وضحاياها أزاد قدسيتها إلى درجة الامتياز، والذين كانوا شهوداً للحقيقة وأرادهم الرب أن يكونوا شاهدين، فقد عاينوا كل ذلك بترتيب. فهم يعملون بخفية وليس علناً من أجل إعلان الحقيقة وليس المتاجرة بحدثها ،كما هو شأن الكثيرين لم يكونوا حينها ، كما قد ترتفع الأصوات هنا وهناك إنهم كانوا كذا وكذا وما إلى ذلك، فما ذلك إلا أصوات في أثير الفضاء وقلوباً تحب ذاتها ولا تشهد لحقيقة الذين كانوا كي يكونوا هم في الصفوف المتقدمة عملاً لأمير الزمان، بينما الذين رأوا وسمعوا وعاينوا وكتبوا وأعلنوا، هم أنفسهم الذين قالوا أن المحبة تشمل حتى الأشرار، فاللقاء مع الرب لا يكون إلا بالغفران، وهاهو لص اليمين ينل النعمة "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 43:23)، وهاهو قائد المئة يقر بحقيقة الحدث "في الحقيقة كان هذا الانسان باراً" ( لو47:23 ). فحدث سيدة النجاة مؤلم إلى درجة الموت ولكنه حدث يجددنا إلى درجة القيامة في الروح وليس بزينة الدنيا وبهرجتها ومصالحها وغاياتها، ومهما عملنا من أجل هذا ، في أن نكون ، فالحقيقة لا يقولها إلا التاريخ ومعه الشهود الذين أرادهم الرب أن يكونوا ليعلنوا الحقائق الواقعة وليس الحقائق الماورائية... فحتى اليوم لا زال المسيحيون يقدمون أنفسهم شهادة للحقيقة، وكما كانوا في الأوائل هكذا هو الحدث اليوم وبملء الحرية لا قسراً، لأن الإيمان علامة فارقة في مسيرة المسيحية. فحينما يُطلَب منهم إنكار إيمانهم وجحده كانوا يرفعون أصواتهم "لن نخاف الموت" حتى لو نالوا قبل الاستشهاد قسطاً من العذابات وضرباً مبرحاً مع الاستجوابات كي يجحدوا إيمانهم، كان كل مرة يرتفع صوتهم "نحن مُلْكٌ للرب"، وإذا ما ثبت المسيحي في إيمانه غير مستسلم لرغبات الملك والجلادين كان يلقي حتفه بقطع رأسه وأحياناً بصلبه أو احراقه بالنار أو عذابه بربطه بالسلاسل وما إلى ذلك من وسائل مخيفة ومريعة ومميتة، أما مَن كان يجحد إيمانه ويرتدّ فكان يُخلى سبيله ويعود إلى سكناه، والتاريخ للحقيقة شاهد وليس فقط حكايات الزمن.

     الأحياء شهداء
   نعم، إن المسيحيين الأبرياء الذين يقعون ضحايا في أماكن عدة، في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، ليسوا أقل من شهداء كما هو الحال في كنيسة سيدة النجاة، فما جرى في أثناء احتجاز الرهائن في الكنيسة، ماذا كان الحديث وماذا كانت الأوامر الصادرة من الانتحاريين بحقهم، هل إنكار لإيمانهم وجحده؟، هل إقرار بإيمان غيره؟، هل ثبت بعضهم أم أنكر بعضهم؟، كل ما نعرفه وجلّ ما ندركه وما رأيناه وما سمعناه مترقبين الموقف المؤلم، كل هذا وذاك كان في علم الله وفي علم بعض الرائيين الذين كُتب لهم النجاة، فتصفهم مع حقيقة الواقع. من المؤكد أن الأزمة وأطنابها، والعملية وثقلها، جعلتنا في الداخل كما الذين كانوا في الخارج في مأزق حقيقي وفي شهادة للإيمان، وكل ذلك أيضاً في علم الله عبر الحقيقة والعاطفة والحادثة والمأساة.
   وبعد أن حلّ ما حلّ، ما أراه شخصياً مؤلماً (أرجو المعذرة عن الرأي) أن يكونوا في ديارهم ولا يغادروا جحيم العراق، ليس خوفاً من الدنيا ورجالها بل إيماناً وشهادةً لحقيقة الكنائس التي جعلتنا شهوداً وشهداء للذي نتعشى معه في وليمة الأحد المقدسة، وشهادةً للدماء التي سُكِبَت. وما الرجاء إلا هذا كي يكونوا شهداء، ولكن ومع الأسف رحلوا وكأن الموقف المؤلم والكارثي الذي حلّ كان دعوة لهم من دول يدّعون الإنسانية وينسون الأبرياء الأحياء الذين لا زالوا يعيشون في جحيم الحياة، هؤلاء هم الشهداء وليسوا من أقرباء وأهالي الشهداء الذين رحلوا ولم يبقَ من ذكراهم إلا القليل.
   إنني مؤمن أن ما حصل معنا وما حلّ فينا وراءه مشيئة إلهية ليقول لنا كلمة من أجل الخلاص، ويقرأ لنا صفحة في مسيرة الشهادة، ويعلّمنا أن المسيح لم يأتِ إلى القيامة إلا عبر الألم، وبقدر ما كان الحب عظيماً بقدر ذلك كان الألم قاسياً، عند ذاك أدركنا أن القيامة أعطت معنىً لألمنا، كما أن معنى الألم بحدث القيامة حصل... وهذا هو عمق إيماننا وحقيقة ديانتنا.
   فلم نكن بحاجة إلى مغادرة أرضنا وحقيقة واقعنا إن لم يكن هناك مخططات خفية ورسوماً سرية وخرائط مخيفة تُرسَم لنا وتخطط لتنفيذها، ونحن لها علامات وبولات وكما يشاءون وليس كما تشاء كنيستنا أو مسيحنا أو إيماننا.

     الإرشاد الرسولي
   وكم أثني اليوم على رؤسائنا الروحيين وبطاركتنا المغبوطين ومنهم الكاردينال بشارة الراعي ويوسف يونان وفؤاد طوال وساكو وابراهيم اسحق ، عبر رسائلهم التي بها يحثوننا على التمسك بإيماننا وبأرضنا، وهذا ديدن الإرشاد الرسولي الذي أُعطي لكنائسنا المشرقية قبل أن يكون كتاباً لكنائس الغرب وملفاً سينودسياً. لقد وُضع الإرشاد بإلهام إلهي وأصبح لنا وثيقة بعد توقيعها تقودنا إلى العيش في الحقيقة والشهادة لمسيرة الإيمان والشركة مع المتشابهين والمختلفين والمتضادين لنا، ولكن ويا للأسف أقولها حملناه في قلوبنا وشرحناه وأذعنا خبره، ولما حلّ يوم الأربعين نسيناه ووُضع حتى الساعة على رفوف المكتبات وفي قاعات اللقاء لا يعمل شيئاً سوى أنه من منتسبي الموجودات ليس إلا!.
   فالإرشاد يدعونا إلى أن ندرك أنه ليست الأمكنة التي تقدس الإنسان بل الإنسان بحضوره وسط الجماعة _ مع المؤمنين الرافعين قلوبهم ودعواتهم وصلواتهم _ يجعل المكان مقدساً وذي معنى وحاملاً للرسالة، وكما يقول البابا فرنسيس:"إن الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، وبطرس يمجد المسيح في الكنيسة"... وهذا ما يجعلنا أن نقول أن الله الذي أحبنا هو إله بشر لا إله حجر، فقد قال ربنا يسوع للسامرية:"ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب" (يو21:4). فالرب يسكن قلوباً مُحبة تحمل صفة الشركة والشهادة، وهذه ليست علامات من صنع الإنسان.
   من هنا أقول: أن الإرشاد يدعونا لا أن نغادر بلداننا أو مدننا حيث عبر المحيطات وطيب الإقامة وهدوء السكن وكأننا حينما نأتمن على وجودنا فقد جعلنا الله يخضع لهذا الائتمان، وننسى أن في تلك الليلة تُطلَب نفسنا (لو20:12)... فهل نحن (أغبياء )، والذي أعددنه لِمَن يكون. من خلال ذلك بإمكاننا أن نقول: إن الكنيسة لا تواصل المسيرة بدماء الشهداء وحسب بل أيضاً بحبات العرق التي تتصبب من جبهة المؤمن وهو يصلّي ويتأمل ويسجد ويركع ويشعل الشموع ويقرأ الكتاب المقدس ويحياه، ويقدم الذبيحة ويتعشى مع الرب، وما ذلك إلا نسمة حية تسري في عروق المؤمن لتكون سنابل تغذي الأحياء للسائرين في دروب الزمن ويعلنون بشارة الحب إلى البعيدين عن عشاء الرب ودعوته بدلاً من الذين يعتذرون عن حضور وتلبية الدعوة (لو18:14)... فالشهادة نهاية للشهداء ، وللأحياء شهادة دائمة.
من دون شك نحن المسيحيون ضحية ويا للأسف، فعندما تنشب حرب أو أزمة عنف يسأل المسيحيون سؤالهم: حتى ما نحن ضحايا هذه الشرور التي ما هي إلا تدمير وهلاك؟... إنه يُعتدى عليهم من دون سبب كما ولأنهم شعوب مسالمة بين سكان منطقة الشرق الأوسط، فهم لا يتعاطون السياسة وحتى الشؤون السياسية وإنْ كان لابدّ فهو من أجل الخير والحقيقة والعدالة. ومع هذا، مع أي حرب أو أزمة يُصار إلى الاعتداء عليهم، ومن غير المفهوم لماذا يُساء إليهم، وهذه المسيرة معمول بها منذ قرون ولحد اليوم، وفي ذلك خوف كبير من أن يضعف الوجود المسيحي عندها تكون الخسارة كبيرة لأولئك الذين كانوا مواطنون أصليون بعمر أكثر من ألفي سنة، هكذا يقول البطريرك الراعي، فمواطنيتهم هي حمايتهم، وحضارتهم هي سبيلهم والتي طبعت شرقنا الأوسط.

ليس خوفاً
   أمام هذه المحطات نستوقف أفكارنا ونثبّت أقدامنا وننظر بعيون الإيمان ونصمت كي نسمع صوت الرب وصداه يعمل في مسامعنا، أليس كل هذا دعوة كي نصنع لنا سفينة ونطليها من الداخل بحقيقة الإيمان وليس بزيف العاطفة، ومن خارجها بروح المسيحية الشاهدة وليس بحكم الدنيا الزائل، ونجعل فيها نافذة نطلّ منها على الحدث في أن الله أحبنا وبشرنا بالمخلص، وباباً يكون لنا دليلاً نحو المسيح القائم في السماء حيث الأبدية، ندخلها وكلنا ثقة بالمسيح ربنا الذي شجعنا ولا يزال بقوله:"لا تخافوا أنا معكم" ( 31:10)!!... فمهما رقصت الجماهير وغنّت لأمراء الدنيا والزمن، ومهما جاءت العولمة بالعلم والتقنية المزيفة، فلا نيأس حتى لو ملكت الدنيا على حديث الناس، وتعامل أبناء الناس مع أبناء الله بأنانية الحياة. فما يهمنا هو أن نحافظ على إيماننا لننقله إلى أجيالنا. فصعودنا إلى السفينة ليس خوفاً من الآتي بل أن نكون لله وسط هذا العالم الهائج، في أن نكون هياكل تحمل الراحلين من دروب الزمن المتعَبَة والمفتشين عن المسيح قائلين:"أين هو المولود، فقد رأينا نجمه" ( متى2:2). الذين يريدون أن يكونوا من المدعوين الغرباء الآتين من المشارق والمغارب، لذا فصعودنا إلى السفينة كي نصطحبهم ونكون لهم صوتاً ودليلاً... صعودنا هو أن نجعل بذرة الإيمان طاهرة نقية من شوائب العولمة المزيفة التي غزت حتى أحلامنا وأفكارنا وخططنا، فغيّرت بوصَلَتَنا وأحوالنا، ووسْوَسَت في أفكارنا، وزعزعت ثقتنا، وأعلمتنا أن كل شيء باقٍ لا يزول وإنْ كان دنيوياً، بينما ربنا يسوع يقول:"اعملوا للطعام الباقي، للحياة الأبدية" (يو27:6 ).

لنصعد السفينة

   نعم، لنصعد إلى السفينة، وما ذلك إلا دعوة محبة وحقيقة وإيمان، وشهادة أكيدة لخلاص الله... نصعد ونحمل معنا إنجيلنا وخبزتينا وخمرنا وسمكاتنا الثلاث وإرشادنا، وجرة السامرية من ماء الحياة وحبات الوردية وجبل الصلاة وجلباب سيدتنا مريم، وحمامة نهر الأردن وسعف أوشعنا وترتيلة "آمين،واقرار القائد بالحقيقة، وزوّادة الخلاص" فالرب آتٍ"... هذه كلها ترافقنا في الصعود. فالدنيا اليوم تعلّمنا أن نحلّل ما حرمته السماء علينا، وتجعله واقعاً لمسيرة إيماننا، فتلك غرائب تبثّ سموماً من أجل هجرتنا وترك أوطاننا. وماذا يعني لو بقينا في أرضنا شهوداً وشهداء، آيات وعلامات، سمات وحياة... أليست الشهادة أثمن من الرحيل من أجل لقمة الحياة في لفّة الهمبركر وعلبة البيبسي، والوقوف ساعات أمام ساحة الدولار في دوائر الإقامة الغربية.
   لا نتأخر أيها الأخوة، فالزمن علامات، ولسكان السماء نداءات، قالوها ولا زالوا يرددونها في أن نكون للرب "أين نذهب يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك"، (يو68:6).. والبابا فرنسيس جاءنا مبشِّراً بذلك... فلنصعد السفينة ليس من أجل خلاصنا بل من أجل إيمان طاهر من كل شائبة كبريائية وأنانية، كي لا نحمل غايات تُباع وتُشترى بروح المال والقرابة والصداقة والطائفة والعشيرة وحتى القومية، وروح الديانة المزيَّفة التي تعلن نفسها قبل إلهها، والغيرة القاتلة كصوت بوق يُثرثر ويميت الآخرين وهم أحياء.
   لنفهم ما يقوله الروح لكنائسنا، بل لنا أيضاً، أقول: إن الرسل لم يفتشوا عن الشهادة في تعليمهم بل أرادوا طاعة المعلّم في أن يوصلوا الحقيقة، حقيقة البشارة إلى العالم كله "أذهبوا وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" ( 20:28)، "أذهبوا" قالها ولم يقل لهم "ستقتلون"، بل قال "أذهبوا"، فكانت فضيلة الطاعة والبشارة، ثم كانت الشهادة حباً متوَّجاً.

إنه آتٍ
   نعم، إنه آتٍ ، فلا نتأخر ، لنصعد السفينة لعلّ العريس يأتي ويجدنا بعدُ في أزقة الدنيا نجول ونطوف، نتعشى ونتمشى، نغني ونرقص، نقهقه وننمنم، في الخفاء أو في العلن حينذاك لا يجدنا... فلنصعد إلى السفينة ولا نخف وإنْ كان المسيح نائماً فهو معنا بروحه وخلاصه، بجسده وقيامته... نعم نعم إنه زمن يدعونا كي نصعد السفينة... إنها سفينة الله... سفينة كنيستنا... نعم، هذا هو ايماني ورجائي ولا احمل اطلاقاً علامة شؤم في هذا المقال بل هو الحقيقة فما علينا الا ان نلبي الدعوة والحقيقة واقعة لا محالة ان المسيح آتٍ منتصرا لا كما هو مخططنا بل كما هو عّلمنا قائلا " ارفعوا رؤوسكم فان خلاصكم قد دنا : (لو28:21) إنني به آمنتُ وعرفته حقيقة انه المسيح ابن الله الحي ،(16:16) نعم هذا رجائي وفيه خلاصي وهذا اقراري فالحقيقة ان المسيح هو الحقيقة ، وستعلنُ لاحقا،  وسيُكتشف يهوذا وان كان تلميذا للرب يسوع فبولس الرسول يقول فليكن محروماً ، وان كان ملاكا من السماء فقد ظهرت تعاليم بشرية مزيّفة ،  من أجل غايات وأنانيات ، فالحقيقة لا تدفنها الانانيات والثرثارون الدنيويون ، والمصالح حاملة للغيرة والتعالي ، بل بالتواضع والصمت والسكون ،   بل بحقيقة القيامة وإعلانها في عيشها ليس إلا ،  فالمسيح الرب هو هو أمس واليوم والى الابد ، إنه آتٍ ، وهذا كله علامة لنا،  كي نصعد السفينة . آمين وآمين.
   


228
قالوا وقال ... ولا زلنا في قالوا وقال...!!
وضاعت الحقيقة في قالوا وقال... وحتى ما!!

المونسنيور بيوس قاشا
     قال غبطته
   بالأمس القريب، وبالتحديد في السادس من شباط (فبراير) الماضي، أطلق غبطة أبينا البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو وفي احتفال تنصيبه بطريركاً لكنيسة المشرق الكلدانية كلمةً شاكراً فيها الحاضرين من رسميين وشعبيين والذين شاركوه هذه الفرحة الكنسية، ووجّه نداءً إلى المسيحيين بمختلف انتمـاءاتهم الكنسية وخاصة إلى البقية
الباقية بعدم الهجرة والثبات في أرضهم حرصاً منهم على قدسيتها وتاريخها، كما ناشد المهاجرين بالعودة إلى وطنهم ليشاركوا في بنائه. كذلك أعلن غبطته أنه سيعمل من أجل توطيد العيش المشترك الكريم، كما جدد عزمه بالتواصل مع الجميع لنشر ثقافة السلام والألفة والأخوّة والاحترام المتبادل والتعاون لتغدو الكنائس والجوامع والحسينيات مراكز إشعاع روحي وإنساني كما يريدها الرحمن، ونادى إلى رفع حاجز الخوف وعيش الواقع بإيمان ورجاء.

     وقال دولة رئيس الوزراء
   أما دولة رئيس الوزراء الأستاذ نوري كامل المالكي، والذي حضر حضوراً شخصياً مشرِّفاً، دعا في كلمته المهجرين المسيحيين بالعودة إلى مناطقهم وإلى بلدهم للتكاتف والعمل مع إخوتهم في الأديان الأخرى للعمل سوية، فلهم تاريخ زاهر في حضارة وادي الرافدين، فهم أصلاء هذا البلد. كما طلب من الباقين، البقاء والثبات في بلدهم، ووصف غياب المسيحيين بالوحشة على الجميع إذ يراهم يهاجرون بسبب تهديدات من ثلّة منحرفة. وأعلن بصوت عالي النبرة:"نحن لا نريد أن يخلو العراق والشرق من المسيحيين، كما لا نريد للغرب ان يخلو من المسلمين. فالهوية الوطنية هي التي تجمع المواطنين بمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية"، وأردف قائلاً متسائلاً:"لماذا يخاف المسيحيون، فهم ليسوا طارئين على هذا البلد، هم أهل البلد الأصليون، هم أصحاب العقول الذين ساهموا وأسهموا كثيراً في بناء هذا البلد عبر محطات مختلفة من التاريخ".

    كلمات... وأمنيات
   كلمات في نصوص تؤكد على السلام والتسامح والمحبة وتعزيز العيش المشترك بين كل المكونات عبر الهوية الوطنية للعراقيين، وإذ نقدّر هذه الأصوات وهذه الكلمات والأمنيات وننحني إجلالاً لقائليها، شهادة لحقيقة القضية في مسيرة الحياة، دون تمييز في الوحدة الوطنية والمساواة وقول الحقيقة في أن المسيحيين ليسوا أقلية طارئة بل هم أصل البلاد، وعليهم أن لا يهاجروا ولا يخافوا بهدف المساهمة في بناء الوطن وعودة الموجودين منهم في المهجر إلى الوطن الأمّ كي لا يصبحوا جزءاً من الذاكرة، بل يكونوا دائمة حقيقة أصيلة... ما أجملها من كلمات... إنها أمنيات، معها نقدّم شكرنا لرؤوسائنا الزمنيين.

     صرخات وتصاريح
   وإزاء هذه الكلمات والأمنيات تنطلق صرخات استغاثة وتُسمَع كل صباح ومساء، بل أحياناً على مدار النهار تطلع علينا أنباء مختلفة ومن جهات عدة ومن شرقنا المتعدد البلدان بتهجير أو قتل عبر أوامر مجحفة وقرارات أنانية بغيضة، إضافة إلى أخبار هدم الكنائس وتكفير المؤمنين أتباع المسيح عيسى الحي ومحاسبتهم وترتيب منزلتهم ودرجتهم كما يحلو لهم أو كما يقول اجتهادهم، وفي الأخير اقتيادهم نحو مسيرة الموت المفاجئ والمنتقى. نعم، كما إننا نسمع كل يوم تصاريح وبيانات واستنكارات، وكل هذا ضمن مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في العيش والمواطنة، ولكن في الجانب المتنفّذ، ولا أحد يسمع تلك، حتى القائلين ربما لا يسمعون أصواتهم ، وهذا ما يجعلنا أن نكون الرحّالة بإقامة مؤقتة، ونازحين بنزيف دائم، ومهاجرين من بلداننا شئنا أم أبينا، فالمهم أن نكون باعاً وأكيداً (بصوت خافت) لِمَن يسوقنا، وخاضعين لمن يرسم لنا مخططنا. فما أعلمه أنه لم يكن ذلك لا في الحسبان إطلاقاً ولا في العيان تحديداً، فما يحصل مخيف ومخيف جداً.

     الحقيقة والقيامة
   مهما قلنا ومهما وصفنا مسيرة حياتنا عبر بسيطة الزمن، فالحقيقة هي هي، إنه يُرتَكب بحقنا وإنْ كان في النيات ما يهين وجودنا وما يُفقد كرامتنا، وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل سيبقى الوطن وطننا؟... وهل سيبقى لنا وطن؟... هل نحن الأصلاء، فعلاً أصلاء، أم أن التاريخ قد غيّر إشارته أم غيّروه ليسجلوا تاريخاً كما يشاؤون، تاريخاً من جديد، تاريخاً مزيَّفاً، عبر آليات مختلفة وسياقات متعددة ومنابر عديدة، كما عمل السابقون؟... فهناك أناس، بل هيئات، بل مجتمعات، بل دول، تفتش عن دفن التاريخ ليس في بطون الأرض ليكون يوماً شاهداً على قبورهم الجماعية أو يحرقوه في محرقة التزييف التي فيها تعشعش مصالحهم وشرورهم وحتى مكائدهم قائلين:"سنبيدهم عن بكرة أبيهم" (متى 28:21)، وسنقلع جذورهم الرافدينية، وسنسجل ما يملكون بأسمائنا، فنحن آلهة الزمن، وينصّبون الله شاهداً على صنيعهم ليبرروا أنفسهم ويتبرءوا من مسؤولياتهم كما فعل بيلاطس (متى 24:27)، بل وأكثر من بيلاطس الجبان الذي خاف أن يقول كلمة الحقيقة في وجه الطواغيت الذين أمكروا بقصة مزيفة لقتل المسيح يسوع، الحَمَل البريء، وما أكثر الأبرياء الذين يقتلهم الحاقدون بسبب الغيرة والأنانية، بل ما أكثر الذين يمثلون دور بيلاطس في مسيرة هذه الحياة الزائلة، ولكن مهما طال أمد الزيف يُكشَف يوماً بقيامة الحياة وبالقبر الفارغ.

     الخوف والمخططات
نقولها: إن ما اضطرّ المسيحيين إلى ترك أوطانهم وإلى الهجرة والرحيل إلى حيث البعيد هو الخوف والذعر من الذي حصل وحلّ فيهم عبر القتل والتهجير وبأوامر مميتة، ولا زالت المسيرة مؤلمة والهدف الطائفي يتحقق ويوصل عمقه في أصول الوطن، وربما قادم الأيام سيكون مخيفاً أكثر من الماضي، فلا علم لي في ذلك، وأقرّ أن رب السماء، الرحمن الرحيم، عالمٌ بذلك. فما نشهده اليوم على ساحات حياتنا من توترات طائفية ومصالح أنانية وغايات خفيّة ومخططات سرية ربما سيؤدي بنا إلى أن تُكتَب أسماؤنا في سجلات تاريخ صُحفَت أوراقه لهذه المأساة ولهذه الفاجعة، وربما من على مستوى الدرجات الصغرى فالكبرى وحسب تسلسلاتهم ومصالحهم ومآربهم ليس إلا!.
   نعم، لستُ رسول شؤم أو فاقد الرجاء أو نبي الآتي المخيف، والعكس صحيح، ولا يمكن أن أكون، بل أنا شاهد للحقيقة، والحقيقة لا يعلنها إلا المؤمنون بالرب القائم. ولكن ربما هناك مَن يدّعون أنه بيدهم الحلّ والربط وإصدار قرارات العيش والطرد والتهجير ويعملوا كي يُسكتوا أصوات أهل الحق عن الباطل، فيجعلون من كلام أهل الباطل أنهم على حق... وهنا الكارثة بل هنا المصيبة. فالواقع مهما كان قاسياً يجب أن نعلنه، ومهما كان صافياً يجب أن نذيعه.فنحن لا نجد في الآخر عدواً بل أخاً نعانقه، ومع هذا فالكراهية في تزايد مستمر، والبغض والغيرة والحقد في نمو مضطرد، وما نراه على خارطة الزمن مخيفاً حتى الموت، وهنا يصحّ قول المسيح الرب:"إنْ كان مستطاع فلتعبر عني هذه الكأس" (متى 38:26)... فأمام عيوننا تزداد الاختراعات العسكرية المدمِّرة، وتتضاعف ميزانيات التسليح، فتجوع شعوب كي ينتج الحكّام سلاحاً فتّاكاً مدمِّراً للبشرية، ويعملون جهدهم كي يضعوا الأيادي على الزنّاد متأملين أنّ مَن يطلق الأول يكون هو المنتصر. ولكن الحقيقة هي بئس مَن يستعمل السلاح لتدمير الآخر... وما انتصار هذا إلا مزيف. كذلك أُدرجت مراحل مسيرتنا عبر عولمة سلبية جعلت من الإنسان وسيلة لقتله ولتدميره فرداً كان أم جماعة، عائلة أم مجتمعاً وحتى أوطاناً، فكل شيء يباع في سوق العولمة كي يكون الإنسان رقماً في بضاعةٍ سيئة الطالع ومدمرة الواقع.

     إذا كان هناك فعلاً
   نعم، لقد كان لكبار الزمن بعض المجالات أو الحمايات التي جعلت نوعاً ما شعبنا يطمأن وأغلب هذه الحمايات ما كانت إلا إلى التنسيب إلى حيث سكناهم في هنا وهناك من أرض الوطن الواسعة والتي كانت يوماً عقاراً باسم وأجدادنا وباسم محاريثهم ومناجلهم، واليوم كُسرت، وأصبحنا عندهم نازحين مؤقتاً ولاجئين دوماً. ولكن الحقيقة الأكيدة أن شعبنا تُرك يعاني مصيره وحيداً ويقاسي المصاعب والويلات والمحن والظلم والتهجير من دون أية حماية قانونية أو ربما بعض الإجراءات الفعلية التي تطمئنهم، لأن مستقبلهم حسب مفهومهم وفي وطنهم ما هو إلا على كفّ عفريت أو أدنى من ذلك، ومهدد بالانقراض والزوال. والسؤال هنا واجب بل ضرورة قصوى بل حقيقة يجب أن تعلن من على المنابر: إذا كان فعلاً لنا أصدقاء، إذا كان هناك مَن يؤمن بأصالتنا ورسالتنا، إذا كان هناك مَن يؤمن بحضاراتنا ولا يريد تغييبنا، إذا كان هناك فعلاً مَن يريد ثباتنا، فلنعلن ذلك على الأثير، إذا كان هناك مَن يعتبرنا أصلاء البلاد وأصليي المسكن، إذا كان هناك مَن يؤمن بأن الأرض أرضنا فَلنُدَستِر ذلك... فلماذا نُعامَل في الدرجة الرابعة أو أدنى منها، ونُعتَبَر في الدرجة نفسها في قوميتنا ولغتنا وحتى حقوقنا؟... هل نحن ديانة سماوية يجب الإقرار بها _ فالمسيح سلامٌ عليه في ولادته وموته وانبعاثه حياً (القرآن الكريم) _ أليس ذلك ما تقوله الكتب؟... ألا يجب الإقرار بهذا الإيمان؟... نحن لا نقبل أن نكون حملاناً لإبراهيم، يسوقوننا كما يشاؤون وحيث يشاؤون ومتى يشاؤون، ويقدّموننا على مذابح الزمن لغايات وحقائق هم من أجلها ولسنا نحن إلا حطبها. وهكذا هم يفكرون فينا، وهذه هي صورتهم عنا، وهذا هو استحقاقنا في حساباتهم، وهذه هي مساحتنا في مزاميرهم.

    أمّات ولا جواب...!!
   نعم، إننا نواجه أزمة حضور مصيري بل اقتلاع الجذور وأزمة كيان، فعددنا في تناقص مستمر بسبب ما ذكرتُه من الانتهاكات التي تُرتَكَب بحقنا، إضافة إلى التهميش والإهمال والاستعطاء وما إلى ذلك من خطط سوداء في تاريخ الزمن القاسي. لقد عُرف شعبنا بحضارته وقبوله الآخر وبتراثه العميق وتعايشه المسالم، واليوم تُصوَّر شعوب الشرق بشعوب إرهابية، دموية، عنصرية، طائفية، عشائرية، لا تحب إلا القتل والتدمير وسفك الدماء وتهميش الآخر، ولعلّه مخطط لابدّ من أن يكتمل بحرق الأبرياء بمسلميه ومسيحييه ولمصلحة مَن!، هل هي دولية أم إقليمية أم جيراينة أو مصلحية أم، أم...؟، وأمّات كثيرة وعديدة ولا جواب وفياً لذلك.
   فالقلق لا زال يدغدغ مسيرتنا، والخوف يتربع في عقولنا، والمأساة تسير في طرقنا معلنةً أن المفاهيم ما هي إلا للدين الواحد، وإنْ كانت الأبواب والفقرات لا تحترم حقوق الإنسان ولا تتوافق في أحكامها، فذلك ما يخيف المصير كونه يخلق درجات احترام مختلفة للمجتمع، ونقاط فشل أكثر منها نجاحاً. وأقولها: إذا ما كانت الكرامة مصانة والحقوق في بداية الدستور، والواجبات في صميمه، فلماذا القتل والتهجير والدمار ومآسي لا حصر لها وغايات سيئة المنال وشريرة الأهداف في غيرة حاقدة، وطلبات كاذبة وقرارات مليئة بالحقد والكراهية، فتُثمر بدورها دماءً ودموعاً وتخريباً وتعطيلاً لمسيرة الحياة، وهذا هو الصميم في مسيرة المسيحية في بلدان الشرق أوسطية عامة وخاصة بعد أن تركنا قضيتنا الأساسية المصيرية بسبب ما ألهتنا به مآربنا _ وإنْ كانت شريرة الهدف _ عبر إفراغ البلد وطرد العقول وتكفير الأصحاء وفرض الضرائب وما شابه ذلك.

     الأصالة والشهادة
   في ظل أوضاع سياسية وأمنية صعبة ومعقدة، إضافة إلى كونها مقلقة، يمرّ بها الوطن والشرق ويقاسيها شعبنا، ولا زلنا نتأثر نحن وبلدنا بتداعيات الاستقطابات الدولية كما هي الصراعات الإقليمية والغنائم الجيرانية الاستهلاكية، مما يجعلنا أن نكون جزءاً منها، بل أصبحنا جزءاً منها... عبر هذه المحطات وفي هذه الظروف الصعبة والمسارات الانتقالية القاسية تُمارَس ضدنا سياسات التمييز والإقصاء بطرق شرعية أو احترامية أو حتى انتقامية، وبالتالي تكون الهجرة هي الحل الوحيد، والذهاب نحو المجهول هو الهدف، فنُصاب بمرض عضال ألا وهو محو هويتنا في أرضنا، وقضية وجودنا لا تبقى إلا أسوةً بقضية العرب المستعصية، وينام أجدادنا في قبورهم وتبقى سِمَة رحيل آبائنا صفة بلا موصوف. فنحن عُرفنا بأصالتنا، والأصالة تدعونا إلى أن نشهد إلى عدم التهاون، لأن المسؤولية خطيرة. وما يحثنا إلى ذلك أن نثبت وجودنا كي لا نكون ورقة في أيدي أعادينا، وإنْ كنا نعلن أن لا عدو لنا، فسلامنا من المسيح يسوع ورثناه... هكذا عُرفت مسيحيتنا، وبهذا نعلن ونبشر، ولا يجوز أن نكون إلا هذا السلام وليس وقوداً لصراعات أرادوها لدمارنا أو لتدميرنا إن عرفوا بسبق إصرارهم أو لم يعرفوا. ولكن، ما هو الحقيقة أننا نعرف ذلك وفي علم الصميم.
   فالمحب للعيش المشترك، للمسلمين وللمسيحيين، عليه أن ينسى نفسه وأصحابه الذين أرادهم له أحجاراً كي يسند إليهم رأسه (لو 58:9)، فالحب والحوار هنا سينقلب أنانية وطائفية وإنْ كانوا غير مؤهلين للسير في طرق الجليل والشرق دون الحوار عبر رسالة الحب والخلاص بل رسالة حماية الآمر والناهي، وما ذلك إلا تدمير التعايش الواحد. بل محب الحوار عليه أن يذهب مفتشاً عن الحقيقة في الحَمَل المحب عبر قطيع الأكثرية، وقبول الآخر المختلف عنه وتصاميمه. فالإنسان لا يعمل لكي يبقى بل يعمل كي يبقى سلام المسيح رسالة الحوار هذه، ومن خلال المسيح يبقى هو كما يقول البابا السابق بندكتس السادس عشر:"إن الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، ولكن بطرس من خلال الكنيسة يُعلن المسيح"... هكذا هي قضية وجودنا، فالوطن ليس للشعوب التي لا تتعايش بل للأصلاء فيه، ولكن مع الأصلاء ومن خلالهم يكون نشر العيش المشترك... إنها الحقيقة في الصميم ولا أجمل.

    رجاء ... وحوار
   نعم، أمام هذه الحقائق _ وإنْ كانت مآسي بروح التشاؤم العالي _ ستبقى دعوة المسيح يسوع ربنا هي الأعلى التي ستنتشلنا من هذه الحالة الفقيرة البائسة إلى حالة الرجاء والأمل المنعشة والمحركة عبر روح السماء النازل مثل حمامة (يو32:1)، الذي يعمل فينا بكلمته "الذي به كان كل شيء" (يو3:1) و"فيه كانت الحياة" (يو4:1)... وهو الذي أعلن إذ سبق وأعلمنا في حوار مع تلاميذه:"ستُطرَدون وتقادون إلى المحاكم من أجل اسمي، ولكن بصبركم تقتنون نفوسكم" (لو 19:21). أقولها: لا نستطيع أن نكون مسيحيين دون فتح الحوار، والحوار ليس أن نؤمن بالآخر بل أن نسمع الآخر عبر حب الله. علينا أن نفتش عن الحقيقة بالحوار ومن أجل الحوار، ولا يمكن للحوار أن ينجح إذا لا يتجه نحو العقل.

     قالوا ... وقال
سيبقى وطننا بأرضه وسمائه ومياهه وجباله وسهوله ووديانه وأهله الطيبين ومن أطيافه المختلفة، سيبقى واحة خضراء، إليها يصبو القريبون والبعيدون. فنحن أخوة مع المسلمين ومنذ مئات السنين، وشركاء في الأساس والحقيقة في السرّاء والضرّاء، في عيش التآخي ومدّ يد التسامح والمحبة من أجل لقمة الحياة. ومهما فتكت بنا اليد الطولى، وما تعرضنا له ولا زلنا في المسيرة المؤلمة ذاتها في التهديد والتهجير وإكمال مخطط الرحيل وإفراغ دورنا وبيع ممتلكاتنا بوساطة أم بغيرها، فلا يمكن لهؤلاء التابعين لقائين وشروره أن يوقفوا حبنا للذي خلّصنا بدمه وفدانا وصالحنا، وهذا سندنا في عدم إيقاف عقارب الزمن والتاريخ لكي نكون للتاريخ حدثاً، وللزمن كلمةً، وللحياة رسالةً، ورسالتنا هي أن نفتخر بالضيقات... وفي هذا ندعو الذين قالوا أن يكونوا أمناء، وللذي قال أن يكون نوراً في ضلال الموت وصوتاً للتعايش المشترك، أن يكون قوله وأقوالهم حقيقةً في دستور الوطن، ونُنهي زمن الـ "قالوا" والـ "قال"، فتبقى الحقيقة هي القمة المنشودة، لأنه إذا ما سارت الأمور بهذه الصورة لن يُكتَب لنا الخلاص من بعد، بل سنواجه الهزيمة بترك أديرتنا وديرتنا، ويعلن الغرباء حينها أننا كنّا هنا يوماً ولا يعلموا أين رحلوا... وحتى ما، يبقى زمن "قالوا وقال".
   ولا يمكن أن نبقى شعوباً ترزح تحت نير العبودية، وتتغذى بالفتات الباقية، فنأكل خبزاً عفناً كما طحنّا سابقاً عرانيص ونواة تمر، وخَبَزْنا على جمرة نار سرقنا خشبه من غابات الله. فالعدو شرس ويتربص شراً بالمسيحيين في شرقنا ووطننا، والهدف معروف رجاءً، فلنعمل على تحليل نفسيته. إنهم يريدوننا أن نتناحر من أجل هجرتنا... فكفانا في مجال الدنيا والعولمة الشريرة... كفانا العمل على ملئ بطوننا وهؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم (رو18:16)، كي لا نكون فريسة للأمراض المهلِكَة وللصحة الفاسدة، ومن المعيب أن يكون حل قضيتنا في مضمار القتال والاضطهاد والاستقصاء وعدم القدرة على التعايش أو اتّهام الأبرياء بغيرة الكبرياء بدلاً من رسالة الحوار.فبقاؤنا شهادتنا وإن كان ذلك في استشهادنا، وخوفنا على عيالنا (أولادنا) أقل بكثير من خوف الرب عليهم "ألسنا أفضل من عصافير كثيرة" (متى 31:10). فالرب أعطانا إياهم أمانةً كي نكون لهم أوفياء في إيصال رسالة الخلاص إليهم، واشتراكنا في إفراغ شرقنا حدسٌ ايماني مقبور، وعبره تضيع رموز دماء الشهداء الذين تشهد لهم قبورهم ومزاراتهم وأديرتهم، ولندرك جيداً إننا لا نعيش لأنفسنا بل للرب وكذلك "إنْ متنا فللرب نموت" (رو 7:14)، "فلنزداد في الرجاء بقوة الروح" (رو 13:14).
إن المسيحية تدعونا إلى أن نفتخر في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكيةً، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يُخزى (روم 3:5). ففي المسيحية الحقيقية لا أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، لأننا إنْ عشنا فللرب نعيش وإنْ متنا فللرب نموت، فنحن رسالة مكتوبة في قلوب معروفة ومقروءة من جميع الناس، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية (2كو 2:3)، حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع في جسدنا (2كو 8:4)، وهذا هو رجاؤنا، إنه الرجاء الذي رسمه لنا الرب، فهو ثابت وفيه كل سرور وسلام في الإيمان لنزداد فيه بقوة الروح القدس (روم 13:15)، وبه سنخلص مع علمنا أن الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً (رو 24:8)... لذلك فلنتشجع ولنعمل على أن نكون متحيرين ولكن غير يائسين، ومضطَهدين ولكن غير متروكين، ومطروحين ولكن غير هالكين (2كو 8:4).

    الختــــام
يقول البابا فرنسيس:"إن زمن الشهداء لم ينتهِ، وإن لدى الكنيسة شهداء تفوق أعدادهم أعداد الشهداء في القرون الأولى من تاريخها. وفي الكنيسة أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يتعرضون للوشاية، ويُضطَهَدون، وتقتلهم الكراهية ليسوع، فمنهم مَن قُتِلَ لأنه كان يعلّم المبادئ المسيحية، ومنهم مَن قُتِلَ لأنه كان يحمل الصليب. وفي عدد كبير من البلدان، كانوا ضحايا الوشاية وتعرضوا للاضطهاد، وهم إخوتنا وأخواتنا الذين يتألمون في زمن الشهداء".
ما أجمل ما قاله وما قالوه، فليكن ذلك أفعالاً وليس أقوالاً. فقد قال البابا تواضروس الثاني: إن التعبير عن المشاعر الطيبة لا يكفي أبداً، ويُفتَرَض أن تكون هناك وقفة حاسمة. نحن نريد عملاً لا مجرد أقوال لمواجهة الاعتداء الصارخ. ففي شرقنا حيث يتعرّض المسيحيون  للاضطهاد بشتى الطرق المختلفة وبأساليب قهر متعددة ورغم ذاك فالمسيحية لا تخاف الاضطهاد ولا تخشى الموت ولا تيأس من المحن والصعوبات لأنها بحدّ ذاتها لم تلد إلا من رحم الضيق والألم والشدة والاضطهاد. ووجودنا في بلداننا، بلدان الشهادة علامة رجاء  تجسدت في المسيح الذي أحبّنا حتى الموت على الصليب. فلا نخف أن نحمل في أجسادنا ما احتمله المسيح يسوع (كولوسي 14:3)، رغم عمق الألم وضباب الكراهية، ولنعلم أن بقاءَنا ثابتين في بلداننا شهادة للمسيح الحي بيننا، ولا يجوز أبداً إفراغ البلد من حضورنا مهما كان المخطط قاسياً ومهما كان التصميم علامةً، فإنني أظن أننا كلنا نتحمل مسؤولية إفراغ البلد من مؤمنينا، فـ "أعداء الإنسان أهل بيته" (متى 36:10)... فالهجرة التي تنادي بها بلدان العالم لكي نخلص تعيدني إلى ما قاله الرئيس الفرنسي ساركوزي قبل عام لغبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي:"إذا ما ترك المسيحيون بلدانهم، فسنقوم باحتوائهم في بلدان أوروبا ونُنهي مشكلة اضطهادهم وتمييزهم".
أقول ذلك راجياً كي لا نكون سلعة نُباع ونُشترى في سوق المصالح كما يباع البترول في أسواق التجارة العالمية، فنحن لسنا بضاعة مكدَّسة بل نحن شهود لشرقنا وشهداء لإيماننا وإخوة لمسلمي ديرتنا ، مهما كان الدرب قاسياً، فأنا متيقن وبإيمان ثابت أن الغلبة لن تكون إلا لدماء الشهداء، تلك الرموز التي ربما نمحوها برحيلنا أو بعولمتنا أو بمسيرة مآربنا. لذا فلننظر إلى البعيد البعيد وليس إلى القريب البعيد، فالحياة في العطاء أكثر منها في الأخذ (أع 35:20)، أليس هو الذي قال:"ثقوا لقد غلبتُ العالم" (يو33:16)... إنه زمن الشجاعة والشهادة للحقيقة وليس زمن الهزيمة والرحيل وإفراغ الكنائس، فإذا لا نشهد كي نُحيي كنائسنا فما هي الرسالة التي أوكلها إلينا الرب يوم عمادنا وتناولنا وتكريسنا له؟... هل هي أن نأكل ونشرب؟... أليس غذاءُنا مسيرة إيماننا!؟... فنحن رسالة المحبة بين المتخاصمين، ورسالة الغفران بين الحاقدين، ورسالة الحياة في ظلال الموت، ومشعل النور في دروب الحياة، وما علينا إلا أن نقود الشعوب حيث أوصانا الرب يسوع بأن نعلّمهم ونعمّدهم، ذلك ما قاله البابا فرنسيس في مقابلته العامة ليوم الأربعاء، 17 نيسان 2013: فلنكن واثقين إنه لن يتركنا، إنه باقٍ معنا ولن يتركنا، ومن سماء مجده يعضدنا ويقودنا ويشفع بنا. فالمسيح لن يغيب عنا، بل إنه حيّ بيننا وبشكل جديد، وهو قريب من كلّ واحد منا. فنحن لسنا أبداً وحيدين في حياتنا إذ لدينا ذلك المحامي الذي ينتظرنا ويدافع عنا، إنه الرب المصلوب والقائم من الموت. فأظن أن الزمن يدعونا اليوم أن نكون، لا أن يُقال عنا أو قالوا عنّا، بل إعلان الحقيقة من على المنابر والدساتير والقوانين، فنحن أُصلاء، وسنبقى في وطننا شهادة للمسيح الحي، وهذا ديدن أُمّنا الكنيسة ودعوة الإرشاد الرسولي، وفي ذلك سننشد للحياة بعد تغيير "قال وقالوا" إلى قوانين ودساتير وحقوق وواجبات، والكرامة للكلمة التي تشهد للحقيقة، وربنا يسوع يقول:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8) ومهما كان من أمرٍ فنحن سنبقى أُمناء وأوفياء ، لمن قالوا ، ولمن قال ، بصلاتنا ومحبتنا وهذا إيماننا ... نعم وآمين.



229
بمناسبة الذكرى الثانية لكارثة كنيسة سيدة النجاة

المسيحية لا تد رك لغة الانتقام

المونسنيور بيوس

المدخل :

كارثة كنيسة سيدة النجـــاة، مأســـاة حقيقية، قصمت ظهر وجودنا، وغيّرت بطاقة أحوالنا في هذا العراق الجريح. فقد أفزعتنا وملأت الخوفَ قلوبَنا، ونحن لا زلنا نعيش ذيولها وما تحمله من مآسي وضيقات وضياع، وحتى الساعة. ومن المؤسف أن تقع هذه الجريمة
 النكراء بقتل الأبرياء في بيت العبادة والصلاة، وفي زمن نحن بحاجة إلى نشر ثقافة
المحبة والتسامح والتعايش والحوار وقبول الآخر مهما كان جنسه ولونه وفكره، وكذلك من المؤسف أن تأتي الكارثة ونحن لا زلنا نحتفل في العشرة الثانية من بدء الألفية الثالثة وفي القرن الحادي والعشرين حيث يشهد تقدماً في جميع المجالات الإلكترونية والتقنية.

من أجل أن:
من اجل أن نكون رجال الصلاة والغفران، رجال السلام والمسامحة ، من اجل ان نقبل الاخر ، وندفن انانيتنا وكبرياءنا وحقدنا وكراهيتنا ، من أجل أن نطرد عن مسيرتنا الأنسانية الغيرة والنفاق وحب الذات ومصالح الدنيا ، من أجل ان نحمل رسالة الحوار كما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر ، من أجل ان نكسر سياج العداوة والمراءاة ، من أجل بناء الجسور مع المختلف مهما كانت أصوله والوانه ، من أجل أن نكون ارشادا رسولياً للاخرين في الشركة والشهادة ، من أجل عيش الحقيقة وأن نكون شهودا لها ، من أجل أن نكون أُمناء لرسالة الأنجيل وبشارته ، من أجل أن نكون اوفياء لفضائل الأيمان والرجاء والمحبة ، من أجل أن نكون معلنين لتجسد طفل السماء في قلوبنا ، من أجل أن لا نكون تجاراً في الهيكل وطرق البسيطة ، كي لا نتاجر باسم سيدة النجاة مدعين اننا لها ، ولكن لم نغير ما يجب ان نكون لها ،  في السيرة والمسيرة ، من أجل أن نقطع حبال الزيف والكذب والغش ، من أجل أن نسمع صوت الدينونة العذب تعالوا يا مباركي رثوا الملك المعد لكم منذ الأبدية ، من أجل ان تثمر دماء الشهداء ثمارا يانعة كي نحقق قول ربنا  الفادي من ثمارهم تعرفونهم (متى 7: 16 ) ، من أجل السؤال المعلن من سيدة النجاة ، أين نحن من مسيحيتنا وايماننا ؟، من أجل أن نكون الجواب الذي يجب أن نحرره ، دون غش كونه الأمتحان الصعب ، كي لا نجيب عن الأخرين وكأننا اولياء لهم ، فنربح نجاحنا بالفساد والرشوة والابتسامة الماكرة ،من أجل أن لا نكون حكاماً على الأخرين ، من أجل أن لا نصدر احكاماً مزيفة (متى 7:1) ، من اجل أن لا نسيّر الأخرين كما نحن نشاء بل كما يشاء الرب الاله ، من اجل أن نكون سبباً لخلاص الأنسان ، من أجل ان نعطي أولادنا سمكة ورغيفا(متى 7 : 9-10 )  من أجل أن يكون الصمت أيمان البار ، كم كنتُ اتمنى أن نعلن قداستنا بسبب ما حلّ فينا ولكن ... ،
 وأقولها مؤمناً بما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"إن العالم سئم من الوعود الكاذبة والأجوبة الجزئية، فوضعوا الله جانباً بل همّشوه زوراً وبهتاناً باسم الحرية الشخصية والاستقلالية البشرية". من أجل كله هذا ، كان المقال هذا .


الحقيقة :
نعم، إن هذه الكارثة - كارثة كنيسة سيدة النجاة حيث دماء أُهرقت، وأرواح زُهقت، وفيها سقط العديد من أثر الرصاص الغادر من ذئاب بشرية مجرمة - هزّت الضمائر الحية، وأرجعتنا إلى زمن التخلف وشريعة الغاب، وجعلتنا نئنّ من ثقل الصليب الذي كُتِبَ باسمنا، فحملناه كَنِيرٍ ثقيل، ولا زلنا نتساءل: إلى أين نحن ماضون؟، وإلى أي اتجاه نحن سائرون؟، وهل ستبقى المسيحية تشهد لرسالة المسيح الخلاصية؟، وهل سيبقى إيماننا شاهداً لحقيقة المحبة التي بشرنا بها الرب يسوع وحملناها عبر مسيرة حياتنا؟، وهل سنبقى أوفياء للنعمة التي مُنحناها من جرن العماد؟... فنحن اليوم أصبحنا في سؤال من ذواتنا، من وجودنا، من كينونتنا، من مهمتنا، من حياتنا، ولا سؤال غير: لماذا؟، لماذا وحتى متى كل هذا؟، لماذا نحن حزانى، مضطَهدون، مهاجرون في داخل وطننا وخارجه، ولا نعلم أن نرسم مستقبلنا ومستقبل أجيالنا؟، فحتى عيوننا أصبحت عمياء لم تعد تفرّق بين الحقيقة والدجل، بين الغش والصراحة، بين المحبة والانتقام، وأصبحنا نخاف حتى من ظلّنا ومن الذي يكلّمنا، ولم يعد باستطاعتنا بعدُ أن نقرأ علامات الأزمنة، ولا أن نحدّق مليّاً وجليّاً وبكل هدوء نحو غدٍ... وما يخيفنا عددنا الذي يتضاءل كل يوم، بل كل نهار وليل، وبدأ دورنا ينحسر في خسارة شبابنا ورجالنا وأزلامنا، ولا نفكر أن النهار قد أشرقت شمسه، وإن الليل قد بسط سواده، كون الضياع والاضطراب والقلق قد ملئوا أفكارنا وعقولنا، فأضعنا مصيرنا بتيهنا عبر المحيطات، والوقوف أمام السفارات والأمم المتعبة، والأنكى من ذلك إننا بدأنا نشعر أن حتى أرضنا أصبحت لا تسع لنا ولسكنانا، ولم نعد نشعر إنها تحبنا كما أحببناها ولا زلنا نحبها، وإننا لا زلنا نسير نحو القمم الوعرة في حياة متلاطمة الأكوام والأطراف والأمواج ، لم نعد نعرف هل لا يزال الساهرون علينا لا يغمض لهم أجفانٌ ، أم أشتروا نومهم بجزية قيصر .

 
سؤال :
نعم، همومنا أمام عيوننا، وبلايانا في سجلات مسيرتنا كتبناها، وكل يوم نتساءل: ما هذا العذاب؟، بيوتنا بيعت، جيراننا رُحِّلُوا،أولادنا قُتلوا وهم على مصطبة الصلاة يرفعون الدعاء وينشدون الرحمة من الرحمن الرحيم، فهل هناك أكثر من ذلك...!!.
ألسنا حملاناً سيقت للذبح كما حصل لمعلّمنا الصالح، ومع هذه الآلام _ التي ما هي إلا نسيج الحياة الزمنية، ولغة ناس الدنيا، أمام كل هذه علامات الاستفهام والحيرة والضياع _ أليس هناك من نعمة تدعونا بأنه لابدّ أن ننظر إلى فقير الصليب، حيث المسيح فاتحاً ذراعيه، يحضن الأخيار والأشرار، الصالحين والطالحين؟... أليس من واجب الإيمان أن نسجل أسماءنا في مدرسة تحت أقدام الصليب، فيوحنا ومريم نظرا إليه ولم يقولا أن كل شيء قد انتهى، بل كان الأملُ هو قائدهما، وكان رجاؤهما بأن الذي رُفع على الصليب هو نفسه أقام لعازر من القبر (يو1:11)... هو نفسه شفى الأبرص (لو12:5)... هو نفسه فتح أعين العميان (لو35:18)... هو نفسه قال للمخلَّع:"إيمانك خلّصك، لك أقول قم أحمل سريرك" (متى6:9)... هو نفسه سمح وغفر خطيئة الزانية... هو نفسه أدخل اللص فردوس الأبرياء... هو نفسه غفر توبة بطرس... هو نفسه الذي قال:"ليكن لكم إيمان"، وبذلك قوّى وثبّت إيمان الرسل المتزعزع... هو نفسه سيتوّج كل هذه الآيات والعلامات بقيامته في اليوم الثالث منتصراً على الشر والحقد والبغض والكراهية، منتصراً على الذين بيدهم زمام أمور السلطة والحكم، منتصراً على الذين يجولون الهيكل ويُصدرون أوامرهم ويدنّسونه ويجعلون أنفسهم أبرياء، منتصراً على هيرودس الحاقد... وهو نفسه الذي قال:"أذهبوا إلى المسكونة كلها، واكرزوا بالبشارة للخليقة كلها"، وما البشارة إلا المحبة والغفران، فاحملوا الشفاء للمرضى وقولوا:"لقد اقترب ملكوت السماوات"، وقولوا:"لقد اقترب ملكوت السماوات".
أمام المصلوب :
أمام هذين المشهدين: في الأول ضياع وبكاء وفقدان الرجاء، وفي الثاني يقودنا الإيمان إلى الثبات وحمل الرجاء في آنية من خزف... فمن الأول رسالتنا تدعونا أن نأخذ عبرة الصليب وقوته التي تُعبّرنا من فقدان الرجاء إلى الثبات فيه، كما تعبّرنا من ضياع الإيمان وفقدانه حيث ترتيلة كل شيء انتهى إلى حالة الثبات بأن كل شيء يتجدد بروح المسيح حيث نكون مثله، إذ نحن له تلاميذ، وعلى التلميذ أن يكون مثل معلّمه (متى25:10)، فنحمل الرجاء والغفران، وما هذه إلا بطولة... وما أشجعها، بل وما أقدسها في ساحة المصير الأبدي. لذا علينا أن نتعلّم - ورغم ما قاسينا وسنقاسيه - إننا أعمدة صلدة في عمق الحياة من أجل مدّ جسور الغفران، وما ذلك إلا رسالة علّمنا إياها الطوباوي يوحنا بولس الثاني. ففي ذلك علينا أن نتجاوز أنانيتنا وكرهنا لغيرنا ولأعماله كوننا ندرك أن المسيح جاء ليشفي المرضى وليس الأصحاء (متى12:9). فإنْ كنا نحن أصحاء فتلك رسالة سماوية مُنحت لنا لكي نشفي المريض ونداوي البائس، فنزرع بذرة الرجاء، وما علينا إلا أن ننميها فتأتي بثمار وافرة لكي يأكلوا، ويمتلئوا من حقيقة إيمان تلاميذ المسيح، كما سنشارك في حمل أثقال بعضنا بعضاً، وفي ذلك سندرك أن الصليب وحمله ما هو إلا رسالة والتزام، محبة وغفران، إذ لا تُكتَب الغلبة إلا للذين يضعون أمام أعينهم صورة المسيح المصلوب (غلا1:3)، كما لا تُكتَب الغلبة للقائد المعروف بل للجندي المجهول الذي أعطى ذاته حتى الموت... إنها الغلبة بالذات، حينما نغلب الحقد والكراهية بالمحبة والتسامح والغفران، فهو قال لنا:"أحبوا أعداءكم، وادعوا لمضطهديكم" (متى44:5).
لازلنا :
نعم، دفعنا ثمناً باهظاً وربما لا زال الآتي أقسى وأعتى وأغلى، إنما الدعوة الحقيقية لا تكمن في الهروب والهجــــرة وبيع الممتلكـــات والتفتيش عن نعيــم  الدنيا، بل إنها تكمن في الحفاظ على عيش الإيمان وحب الأوطان، فيسوع ربنا سيكون لنا سمعان القيرواني، فهو سيحمل عنا أوجاعنا وأمراضنا وهمومنا ليقوينا ويجعلنا أن نخلص لحقيقة تربيتنا ومحبة وطننا ونيل حقوقنا، فالحقوق لا تصان في سجلات الأمم ومجالسها، ولا في بيانات الاستنكارات والتنديد والمسيرات والمظاهرات، فهذه قد ولّى زمانها ولن تعيد إلى الضحايا حياتهم ولا إلى الشهداء دماءَهم، بل إن حقوقنا قد نلناها أولاً بوعد ربنا يسوع إذ قال:"ستجلسون على كراسي أسباط إسرائيل الاثني عشر"، ووعدنا بأن نرث المُلْك السماوي "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْك المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" (متى35:25)، ووعدنا بأنه يكون شاهداً لحقيقة الحدث دون خوف "قولوا الحق" (لو1:12)، ووعده لنا بقوله:"لا تخافوا... آمنوا بي" (مر40:4).
الخوف :
لا نخاف، فمهما طال ليل العذاب، ومهما ثقل الصليب، فالسيد الغائب آتٍ، ولن تنفعنا عندها القوة والمال والجاه والسلطة والدنيا، والأقوى هو مَن يحيا ليومه منتظراً سيده (متى48:24)، ليقيمه على أمواله (متى45:24)... فلنطرد الإحباط المعَشعَش في صدورنا، والهزيمة الساكنة في أفكارنا، والهروب المتربّع على أعناقنا، ولنحمل سلاّت المحبة والمسامحة والغفران تجاه أعدائنا ومَن وَسَموا جرائمهم بطابع أعمالهم المشينة، ولنحمل الرجاء... وهذه حقيقة إيمانية وليست نداءات بشرية دنيوية من أجل الانتقام والحقد. فما حصل دعوة لنا كي نتقدم إلى العمق، فهناك صفاء الأفكار وبياض القلوب والغذاء الأمين لخلاص البشر أجمعين... علينا الركون إلى العقل والتحلّي بالإيمان والصبر، وأن نكثّف صلاتنا وننمي إيماننا حاملين راية الرجاء إزاء راية الغفران من أجل المسيح الحي.



مسيحيتنا :
فالمسيحية لا تدرك إطلاقاً لغة الانتقام والموت والحقد، بل هي تَجَدُّد وانبعاث وعدم انتهاء، ولا يمكن أن يكــــون المسيحي تنيناً يحرق الآخر، ولا ينفث سمّه بعمق الكراهية في مسيرته إزاء الآخرين، بل نعمة يحمل آيات السلام والمحبة والغفران... لذا علينا جميعاً أن نعمل بحكمة الحيّات ووداعة الحَمام، فنظهر الظلم وذيوله، ونعلن الحق وراياته، كي لا تصبح مسيحيتنا مجرد هوية نحملها، وكي لا تكون صلواتنا طلبات لنا ولأجلنا ولأحبّتنا، بل لنشارك أعداءنا ومضطهدينا، كي لا نمجّد أنفسنا ونسبّح أعمالنا، بل الحقيقة تدعونا إلى تمجيد اسم الله وتسبيحه.
خاتمة :
لتكن دماء الشهداء علامة خصب، لتكن علامة الزرع والثمرة والعرس والهناء... فشرقنا زاخر بدماء الشهداء... فنحن شعب شهيد ليس إلاّ... ولنُنشد ترانيم الحقيقة، حقيقة الرجاء الذي نحمله عبر إيماننا ومسيحيتنا حسب قول الطوباوي يوحنا بولس الثاني: "إن الله جعلنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدي للمسيح شهادة حسنة، شهادة ليس لها بديل"... فإذا ما انهزمنا نكون قد أهملنا دعوتنا، وانحرفنا عن رسالتنا، وزوّرنا الشهادة في الكثير من تصرفاتنا مع غيرنا لأجل مصالحنا... "فكل مَن أراد أن يحيا في المسيح حياة التقوى، أصابه الاضطهاد" (1طيم13:3)... و"إذا متنا معه حيينا معه" (2طيم12:2).
فليرحم الرب شهداءنا وضحايانا برحمته الواسعة، وليُحلّ أمنه وسلامه في قلوب المؤمنين، وليسكن السلام في زوايا وطننا الحبيب، ولينبذ البشر من عقولهم أنواع العنف والشر والحقد من أجل العيش بالسلام والأمان والمحبة...ولنحمل رسالة سيدة النجاة في قلوبنا وليس على شفاهنا أو مراكز دنيانا ، فنكون تجارا لهياكل الزمن ،  كما نحمل الأرشاد الرسولي وتوصياته عبر عيش الأيمان في سنة الأيمان ليس إلا ، بل ، ولا أجمل!!!.

230
الإرشاد الرسولي ... 

ناقوس خطر أم خوذة خلاص

المونسنيور بيوس قاشا

       في البدء

   هاهو ذا الإرشاد الرسولي... هاهي ذي وثيقة وخلاصة مناقشات آباء         
سينودس الأساقفة لكنائس الشرق الأوسط "شركة وشهادة" بين أيادي رؤســـــــاء           
كنائسنا الأجلاء، ومؤمني رعايانا الأحبة... إنه هبة السماء لأبناء هذه البسيطة، وسراج لكنائس مشرقنا، ليضيء لشعوبها بمسيحييها ومسلميها وطوائفها الجالسيـــن  في انتظار نهاية الصراع (لو26:21)، ليكونوا من يقين بأن الحياة أُعطيت لهم وأُفيضت بالمسيح يسوع (يو2:17)، فقد أحبّ خاصته (يو1:13)، أحبهم إلى الغاية (يو1:13)، أحبهم كلهم فكان للكلّ كلاًّ (1كو22:9)... وهذا كان ديدن قداسة البابا بندكتس السادس عشر... جاء إلى شرقنا المتألم لكي يكون مسيحاً مُحباً إلى الغاية (يو1:13)، بعيداً عن الطائفية والعشائرية والقومية والعنصرية والاستغلالية والغنى والفقر... جاء فسكن بيننا بالجسد (يو14:1)، وأفاض بمواعظه نعماً وخيراتٍ وبركات، ووعد كنيستنا بأن يكون معنا بروحٍ معزٍّ ومدافع (يو16:4-17)، وفسّر لنا الكتب بمعناها الأكيد في الشهادة والشركة، من أجل مسيرة واحدة وحوار واحد وهدف واحد ألا وهو الإنسانية.
      إنه بيننا
   نعم، حلّ الزائر الأبيض _ قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ على أرض لبنان المقدسة، وبحلوله أعلنت نواقيس الكنائس وأجراس المعابد إعلاناً واحداً أنه "آتٍ بمجدٍ عظيم" (متى30:24)، وباسم الرب (يو13:12)... ما أجملها من ترتيلة... إنها سبيل الشهادة... وصوتٌ ينذر بمجيء نائب المسيح... يوصي بالتهيئة والإعداد لطرق الرب وجعل سبله قويمة (متى3:3)... وكم كنتُ أتمنى أن تُدَقّ نواقيس كنائس شرقنا في توقيت واحد وميعاد واحد كي تكون رمزاً واحداً، وصورةً وشركةً لمحبة رجال كنائسنا، وعلامةً لاتفاق رؤسائنا، ومؤمنينا، ومدبّرينا، ورمزاً لأبراج معابدنا... فلبنان يعني شرقنا، بلداناً وشعوباً، بمسلميها ومسيحييها، بعربها ويهودييها، بأكرادها وطوائفها... فإليها وفيها ومنها تنطلق مسيرة وثيقة الإرشاد الرسولي لتكون دماءً حية في عروق أبناء هذا المشرق الشاهد على حقيقة الإيمان.
       شجاعة إيمانية
   نعم، أقولها، إن البابا قد أحسن قراءة مسيرة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه، واستدرك أن الآتي ربما يكون خطة ممنهجة، مدروسة، منظَّمة، لتفريغ الشرق الأوسط من سكانه الأصليين، حاملي اسم المسيح، من أجل رسم خريطة جديدة لواقع البشر الأناني، لغايات ومصالح. فالقرار صعب، وتنفيذه بحاجة إلى شجاعة إيمانية تقف ندّاً أمام الذين يستغلون خيبة أبناء الشرق، فيجعلون من ربيعهم خريفاً مؤلماً كما حصل في العديد من بلداننا الشرق أوسطية، بدءاً من عراقنا الرافديني ومروراً بمصر الكنانة ووصولاً إلى سوريا... ولا زالت المسيرة المؤلمة تدور فصولها مما يجعل من مسيرة الحياة ناقوساً يعلن خطر البقاء وفراق المثقفين وتشتيت المتعايشين بدلاً من أن يجمعهم لصلاة واحدة وفي معبد واحد وتحت اسم واحد ولوطن واحد.

      في عليّة الفاتيكان
   أمام هذه القراءة، اعتبر المعنيون بشؤون مسيحيي الشرق أنفسهم، من رؤساء وقادة كنسيين وروحيين ومدنيين، أنهم بحاجة الى من بسندهم لتحمل هذه المسؤولية التاريخية، فكان قداسته حريصاً، بل أكثر حرصاً وأعمق فكراً وأفهم وعياً، على مسيحيي الشرق من أولئك أنفسهم، فكان معهم في علية الفاتيكان (مر15:14)، وأعلمهم قائلاً:"أن هذا الشرق وطنكم، ومسؤوليته تعود إليكم، وخلاص مسيحييه يأتي من وحدتكم وشركتكم وشهادتكم، وليس اللهو والضياع في تفاصيل صغيرةومصالح انفرادية وغايات زمنية "... فالحياة هي انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء، وإن كان الفاتيكان يملك نظرة استراتيجية لهذا البُعد المسيحي وأهمية المسيحية المشرقية.
       سؤال وإرشاد
   ضمن هذه المسؤولية ترتفع أصوات المتعَبين والثقيلي الأحمال (متى28:11)، قائلين ومستفسرين: أين هو الإرشاد الرسولي؟، ماذا يقول لنا؟، ماذا يحمل إلينا؟، ما هو واجبنا؟، هل نحن بحاجة إلى إرشاد ثالث جديد إن كان هذا لا يفتح لنا باب السلام ويحملنا إلى أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً؟، هل سيعطي ثماره كي نتذوقها؟، هل سيصفّ لنا مائدة الهناء، ويلغي المسافة الشاسعة بين الرؤساء والمرؤوسين، ويقرّب القائمين على معابد إيماننا بعضهم عن البعض الآخر من أجل كلمة واحدة وهدف واحد؟، هل سيمحو الإرشاد من قاموس مسيرتنا، البغض والحقد والكراهية والانتقام والأنانية وغايات النفس وادّعاءات المرائين والمزيفين والذين يجعلون من أنفسهم حملاناً وهم في داخلهم ذئاب خاطفة بل مفترسة (متى15:7)، شياطين تتفوّه بآيات مقدسة لتغشّ سامعيها وناظريها من أجل رسم خريطة مسيرتهم كما يشاءون، فيؤلّهوا مَن يشاءوا؟... إنها العولمة المدمِّرة والعلمانية البائسة عبر ثقافة عصر الانحطاط والمادية المزيفة وفي العلمنة القاتلة، ويزيدوا في أقوالهم أنه قد مرّت سبعة عشر عاماً على الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، وعامان على هذا الإرشاد الأخير، لكن معظم التوصيات التي يرشدان إليها بقيت حبراً على ورق.
   نعم، ربما يكون الحديث مهماً في الأسئلة، ولكن المهم جوابنا على هذه الأسئلة. لنسأل أنفسنا: كيف تهيّأنا وكيف سنتصرف مع فقراته، أساقفة وكهنة ومؤمنون؟، فالبابا أتى ليشدد عزائمنا، وحمل إلينا رسالة محبة عظيمة وسلام أكيد ووئام ثابت... هل نتذوق فعلاً من ثمار الإرشاد الرسولي، فهو بنا ومعنا، وكلانا في المسيح نحمل هذه الثمار (متى16:7)، وبدون المسيح لا يمكن أن نعطي ثماراً (متى17:7)... فالإرشاد لنا كلنا وليس لفئة، كي نكون قلباً واحداً ونفساً واحدة (أع32:4).
       رحلة الإرشاد أم إرشاد الرحلة
   تسليم الإرشاد الرسولي إلى رؤساء كنائس الشرق الأوسط مغامرة إيمانية، حوارية، وجودية، إنسانية، مسكونية، حقوقية... هذه كلها قادت البابا بندكتس السادس عشر إلى المنطقة، ولم يبالِ قداسته بموجات التطرف ودعوات الإرهاب وقرارات التكفير رغم الزمن الصعب، وهذا ما جعل أن تكتسب زيارة قداسته إلى لبنان معنىً رعوياً بامتياز في زمن العولمة المُتعَبة والربيع المؤلم، عملاً وتكميلاً لما قاله يوماً البابا العبقري العظيم لاون الثالث عشر، وذلك في عظة الميلاد:"أيها المسيحي أعرف قيمتكَ وكرامتكَ"... إنها علامة تشجيع لمسيحيي لبنان وسائر المشرق، حيث أنظار العالم متجهة كلها إلى هذا الشرق المسيحي لأنه يدعوهم كي يعودوا ويكتشفوا مكانتهم الروحية ورسالتهم التاريخية ومسيرتهم الوطنية، ويقضوا بذلك على نزيف الهجرة في الشعور الأمين والأكيد عبر الانتصار على تجربة الشعور بالغربة في أوطانهم، مدركين جيداً مخطط إفراغهم من بلدانهم، والعمل على استسلامهم لأفكار هدّامة يروّجها الأناني والخصوم، وتتلخص كلها بأن أبناء الأعراب لا تتعايش ولا تحترم التعددية، ويستهينون بالمختلفين عن عقيدتهم، وإن كان ذلك اتّهام مرفوض.
   في هذا كله وضع البابا بندكتس السادس عشر اصبعه على الجرح الشرقي العميق، وأعلن أن المسيحيين يجب أن يكونوا حاضرين في هذا الشرق إذا هم أرادوا ذلك، وإذا أدركوا الدور الحقيقي الذي أراده منهم التاريخ وفرضته الجغرافية ورسمته الثقافة الوطنية... فالتفاعل مع قضايا المجتمع يبرر الصمود في الأرض والعكس صحيح، فالمسيحيون أبناء الشرق الأعزاء يهجرون بلدانهم عندما يشعرون أنهم أصبحوا غرباء عن قضاياهم، ولا دور لهم في صناعة مستقبلها، وربما إنهم من الدرجات الدنيئة ليس الثانية ولكن ربما الرابعة والخامسة، وكان البقاء والصدارة للقوي الذي يسيّر مَن يشاء حسب هواه.
   من هنا كان الإرشاد كتاباً مقدساً لأنه تعليم الكنيسة وآبائنا الأجلاء، وما هو إلا ملحق لإنجيل ربنا يسوع المسيح، فيه رسم لخارطة المسيرة في طريق الحياة من أجل أن نكون رسل البشارة الصادقة والمُحبة... لذلك:
       الإرشاد الرسولي: يدعو الكاثوليك، بل من حقهم، أن يدركوا جيداً أنهم من السكان الأصليين ولهم حق المشاركة التامة في حياة الوطن، ويجب أن يكونوا مواطنين بدرجة امتياز لأنهم أصلاء وأصليين، لا أن يُعامَلوا كمواطنين من الدرجة الثانية بل أدنى... إنهم روّاد النهضة والثقافة في كل بلدان الشرق الأوسط، ولهم حق كرامتهم الإنسانية، ويحق لهم حرية الإيمان والدين والتعبير، وهذا ما جعلهم أن يكونوا مستقبلاً لأبناء الوطن الآخرين، وتقديم الخدمات عبر بناء المدارس والمستشفيات. ولأن الحرية الدينية _ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ هي تاج كل الحريات، وحق مقدس غير قابل للتفاوض، وتشمل الصعيد الفردي والجماعي وحرية اختيار الديانة وأن يمارسها بكل أمانة، ويعبّر عن ذلك باحترام رموزه دون أن يعرّض حياته وحريته الشخصية للخطر.
   الإرشاد الرسولي: ناقوس خطر تجاه العولمة السالبة، فقد تحدثت وثيقة الإرشاد عن العولمة والعلمانية موضحةً أن في الشرق الأوسط واقعَيْن متضاربَيْن: أولهما العلمانية بأشكالها التي تصل أحياناً للتطرف والأصولية الضيقة والتي أساساتها مبنية على أصول دينية. والعلمانية الإيجابية تعمل على تحرير المعتقد من ثقل السياسة، وإغنائها بإسهامات لازمة وضرورية. وهذا ما يدعو إلى التأكيد على الاحترام المتبادل بين السياسة والدين، أي العلاقة بين ما هو روحي وما هو زمني، وتعني أيضاً العمل بالسياسة دون استغلال الدين.
   الإرشاد الرسولي: ينبّهنا إلى قلق رعاة الكنائس الكاثوليكية الشرق أوسطية والأرثوذكسية بسبب تناقص أعداد مؤمنيهم وخاصة في الأراضي المقدسة والشرق العربي. كما كانت الوثيقة كلاماً مسهباً في هذا الصدد قائلة:"يشعر المسيحيون بالشرق الأوسط بشيء من الإحباط وفقدان الأمل والمهانة بسبب الصراعات والتي تجعل من الهجرة ملاذاً آمناً وإنْ كانت عسلاً مُرّاً وخياراً مأسوياً. فهو من ناحية يقلّص عدد السكان ويساهم في نقص الفهم الثقافي في الشرق الأوسط، والذي كما هو معروف، أنه بدون المسيحيين لا يُعَدّ شرقاً أوسطاً، لأن المسيحيين يشاركون في صنع الهوية الخاصة بالمنطقة... وهذا ما جعل البابا يشجّع ويحثّ المؤمنين للبقاء في وطنهم وعدم بيع أملاكهم.
   الإرشاد الرسولي: رسالة لزرع الثقة حينما انعدمت بسبب الأحكام المسبقة والتي بدلاً من أن تلتقي من أجل الخير العام فقد تاهت في مجالات الحقد والكراهية وحب الأنانية وبناء الفواصل القاتلة والمدمِّرة بين شعوب المنطقة، وهدم الجسور الموحِّدة بين المختلفين... فالمسلمون يتقاسمون مع المسيحيين القناعة بأن الإكراه في الدين غير مقبول خاصة إذا تمّ بواسطة العنف والذي يُستخدم لتحقيق مآرب سياسية باسم الدين، وهذا ما يؤكد أنه أداة للتمييز والعنف، ومن المحتم أنه يؤدي إلى الموت.   وإن كان التسامح الديني في بعض البلدان يؤدي إلى نتيجة ملموسة، فهو يبقى محدوداً في نطاق تطبيقه، والعمل على الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية والتي تقودنا إلى إعادة النظر في العلاقة مع الدين والله، وليست تعدياً على الحقائق المؤسِّسة للمعتقد.
   الإرشاد الرسولي: يدعونا إلى إقامة حوار مع جميع الديانات في الشرق الأوسط بعد الارتكاز على العلاقات الروحية والتاريخية والإيمانية التي تجمع المسيحيين مع اليهود والمسلمين، وما ذلك إلا دعوة كنيسة اليوم الكونية... وهذا الحوار يدعو إلى اكتشاف البعض للبعض الآخر لأنهم يؤمنون بإله واحد خالق جميع البشر. فمع اليهود ترتكز العلاقة على الإرث الروحي وذلك عبر الكتاب المقدس، والذي أجزاء كبيرة منه مشتركة، والعودة إليها يقرّبنا من بعضنا البعض، ويذكّرنا بأن المسيح يسوع عاش ومات يهودياً كما هي مريم العذراء. ففي الكتاب جذور المسيحيين، وهذا إرث تعتزّ به.
الإرشاد الرسولي: فيه حثّ البابا أن تكون الشبيبة في الكنيسة ومع الكنيسة، وخاطبهم مشدداً بقول الطوباوي يوحنا بولس الثاني:"لا تخافوا، افتحوا أبواب عقولكم وقلوبكم للمسيح"... التجذر في الأرض.نداء إلى شباب اليوم ليقيموا علاقات أمينة وصداقة حقيقية مع يسوع بقوة الصلاة والشهادة للإيمان اللتان تتيحان للقاء حقيقي مع الله ومع الآخرين في الكنيسة. لذلك على شباب اليوم _ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ أن لا يخافوا أو يخجلوا من أن يشهدوا للصداقة مع يسوع في كل مكان، عبر المُثُل الإنسانية والروحية، كما يجب أن لا يخافوا أو يخجلوا من أن يكونوا مسيحيين. فمن خلال محبة المسيح وكنيسته _ يقول قداسته _ يستطيع الشباب أن يميّزوا بحكمة بين القيم المفيدة التي تبني الحياة، وبين الشرور التي تسمّم ببطء الحياة. ويعلّم قداسته الشباب أن الكنيسة تعتمد على إبداعهم والتزاماتهم من أجل خدمة المسيح والكنيسة والمجتمع.
الإرشاد الرسولي: إنه ينظر بأعين التقدير إلى الأخوة المسلمين، فهم يعبدون الله خصوصاً بواسطة الصلاة والزكاة والصيام، كما إنهم يقدّمون الإكرام ليسوع (عيسى الحي) كنبي. صحيح إن اللقاء بين الإسلام والمسيحية اتخذ غالباً شكل الجدل العقائدي والذي شكّل ذريعة لدى هذا الطرف أو ذاك ليبرر _ باسم الدين _ ممارسات التعصب والتمييز والتهميش وحتى الاضطهاد. وعلى الرغم من ذلك فالمسيحيون يتقاسمون مع المسلمين الحياة اليومية نفسها لأنهم جزء لا يتجزأ من الشرق الأوسط، ويتقاسمون عيش الحياة، ويعمل المسيحيون على تعزيز إيمانهم في ثقافة أوطانهم، مما نتج عن ذلك حياة تكافلية، فيها ساهم اليهود والمسيحيون والمسلمون في نشأة ثقافة غنية بالشرق الأوسط، وحوار دائم من أجل التفاهم والاحترام المتبادل. وفي هذا الصدد يشدد المجلس الحبري على أهمية الحوار لأنه الموضوع الأكيد للعيش المشترك وقبول الآخر ضمن وطن واحد ولغة نفسها وثقافة عينها.
الإرشاد الرسولي: يهدف إلى مساعدة كل مؤمن بالمسيح على أن يعيش حقيقةً ما جعلت منه المعمودية ابناً للنور. فالمعمودية اسمها سرّ الاستنارة، والإنسان ابن الله وليس ابن الشيطان. والمسيحي سراج وشمعة مضيئة في ظلمة العالم، ظلمة الكذب، ظلمة الحقد والكراهية والأنانية، ظلمة الأنا والكبرياء وخيانة الدعوة وأمانة الرسالة وعدم قبول الآخر. إنه يساعد حقيقةً على أن يكون سراج إيماننا مضيئاً دائماً، فقيمة وجودنا نحن شمعة من أجل تنقية الإيمان وأن يضمّ بهاء ونور المسيح، شركة اتحاد حقيقي بالله عبر المسيح. فإذا ما عطلت علاقتي مع الإنسان، أسأل ما هي علاقتي مع الله.
   الإرشاد الرسولي: أعطى دفعاً مسكونياً، وأقام علاقات مجددة في وحدة كاملة بين المسيحيين. وما حصل في دير الشرفة في اللقاء المسكوني في جوّ من الودّ الصريح وبراءة الحوار، ما هو إلا علامة بكل تنوعاتها، متحدة بعمق مع الحبر الأعظم، وتبين مدى صدق المحبة التي يكنّها قداسته لأبناء كنائس الشرق.
   الإرشاد الرسولي: دعوة الكنيسة إلى عيش الحب في المسيح يومياً، فتكون بذلك كنيسة بيتية، تربي على الإيمان والصلاة لأنها الخلية الحية والأولى للمجتمع على شاكلة عائلة الناصرة التي عاشت هي أيضاً محنة ضياع يسوع الطفل، وألم الاضطهاد والهجرة، ونشوة التعب اليومي. فالدعوة تكمن هنا في المساعدة على النمو في الحكمة والقامة والنعمة، وتحت نظر الله والبشر، وما ذلك إلا استسلام للمسيح عبر إرشاد الروح القدس.
   الإرشاد الرسولي: من المؤكد أن الإرشاد الرسولي يعلن أن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة لبلدانهم، لأن الجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله... صحيح هناك من أبناء الشرق الأوسط _ يقول الإرشاد _ يقررون ترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة بسبب الحاجة والتعب واليأس وغياب الاستقرار والأمل في بناء مستقبل أفضل، ولكن هناك ممتلئين بالرجاء يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم.
       خاتمـــــة
   نعم، لقد امتدح قداسة البابا بندكتس السادس عشر مسيحيي الشرق الأوسط اعتزازاً بإيمانهم بقوله:"لا تخفن، لأن الرب حقاً معكن حتى انتهاء العالم. لا تخفن، لأن الكنيسة الجامعة ترافقكن بقربها إنسانياً وروحياً"... وفي هذا أراد قداسته أن يكون الإرشاد الرسولي نقطة انطلاق وثبات في الإيمان، وشهادة في الحياة، وشجاعة في إعلان البشارة، وأن تواصل الكنائس الشرق أوسطية نشاطها الرسولي المعهود، مواصلة السير نحو الوحدة أولاً بين أبنائها وعاملة على ازدهارها ثانية. وفي نفس الرسالة تواصل تقدمها في سبيل التألق بين الكنائس والأديان المختلفة.
   فقداسته يضعنا اليوم أمام مسؤوليات الإيمان التي استلمناها من جرن العماد، ووسمت وجوهنا بميرون مقدس، لنكون جنوداً أوفياء لهذه الرسالة ثم نتعامل مع فقرات الإرشاد من أجل كنائسنا، من أجل تثبيت وتقوية هويتنا المسيحية، فنرى الرؤيا الواضحة عن معنى حضورنا ووجودنا وتقاسمنا للحياة.    فالإرشاد الرسولي حلول لا يكتمل نصابها ولا تعطي ثماراً إلا إذا عشناها، ليس فقط في داخلنا، ولكن أن نكتشف مع الآخرين الطريق الموصلة إلى عمق الحقيقة في معرفة سرّ المسيح من أجل غور سر الإنسان ووجوده ومساهمته في مسيرة الحياة بروح المحبة والحقيقة، ودعوة المؤمنين إلى أن يدركوا ويفهموا بأن الحس الإيماني لوجودهم هو رسالة سامية في مخطط الله... إنها رسالة البشارة والخلاص والمحبة.
   نعم، لنمشِ على دروب الشهادة التي سلكها المسيحيون في بلادنا الشرقية، وفي ذلك يشجعنا قداسته وجماعاتنا المسيحية كي نظلّ متجذرين في أرض أجدادنا في شراكة القلب والنفس مع جميع المؤمنين المعمَّذين، ليس فقط أمانةً وحفاظاً على الوجود والهوية والتراث، بل أيضاً كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة والاستشهاد. وقد تميز بها عبر قرون عديدة حضور المسيحيين في الشرق... وما أجمله من كلام... بل طوبى لِمَن يدرك معناه.
   فغياب الصوت المسيحي ووجوده سبب في افتقار المجتمعات وخسارة للتعددية التي تميزت بها بلدان الشرق الأوسط... نعم، لنفتح أبواب قلوبنا وكنائسنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً، ولنفتح الأبواب ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشركة والشهادة والتواضع... فالإرشاد أعاد التصويب لبوصلة الحياة، وحسم الجدل القائم ومفاده بل سؤاله: أين سنكون اليوم وغداً؟... فالكنيسة هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟... إنها مبنية على صخرة البشارة عمرها ألفين عاماً... لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه أرث الكنيسة جمعاء... فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق ولنرى الأيام ، أنها أفضل مستشار.
   أرجو ختاماً أن لا يكون الإرشاد لغة المثقفين وشريحة كبار الزمن ورؤساء الدوائر وكبار المسيرة... فاليوم شعبنا بسيط وبريء وجريح الحياة، ولا يحتاج إلا أن يتفاعل بقدر ما وهبه الله من النعم لكي لا يكون شعباً مسيَّراً بل مُحباً، شاهداً وشهيداً لحقيقة البشارة والحياة والإيمان... وهذا هو الرجاء في الإيمان بقوة الروح القدس (أفسس 6: 17).
   فلنأخذ خوذة الخلاص (أفسس 13:15).وسيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس 17:6) من أجل الإعلان جهاراً بسرّ الإنجيل الذي لأجله نحن سفراء (أفسس 19:6) بدلاً من سماع دقات ناقوس الخطر بل الفشل في الإيمان للصمود في الرجاء والعيش بالمحبة... وهذه هي البشارة الجديدة، حملها المسيح ولا زال يحملها ونحملها اليوم معه ، نحن بدورنا... فالإرشاد ملحق لإنجيل ربنا يسوع... إنه سفر أعمال آخر... ولا نخجل بشهادة ربنا (2تيمو 8:1)... نعم، وآمين.




231
توفير الحماية ... بداية لنهاية أم نهاية!!

في البدء... ما دفعني إلى كتابة هذا المقال وتحت هذا العنوان، صبي في التاسعة من عمره، طالب في مركز الناصرة للتعليم المسيحي في رعيتنا مار يوسف. جاءني مسرعاً قبل دقائق من بدء درس التعليم المسيحي وسألني الآتي:                                                                                                                                                    
يا أبانا، ماذا تعني كلمة "توفير الحماية"؟... فقد أنصتُّ البارحة عصراً لحديث دار بين والدي        المونسنيور بيوس قاشا
وصديق زائر له، وكان كلامهما يدور حول مَن يحمينا، مَن يحمي المسيحيين، لماذا قَتْلُ المسيحيين، لماذا تهجيرهم، مَن يوفر لهم الحماية... لم أفهم شيئاً فالموضوع كان أكبر من إدراكي وأعمق من تفكيري، ولكني إستطعتُ أن أحفظ هاتين الكلمتين "توفير الحماية"، فقررتُ أن آتي وأسألكَ، إذ لا زال السؤال يدغدغ أفكاري مستهزئاً بحماية الأيام. إذ كنتُ قد تعلّمتُ الأسبوع الماضي من مدرّستي أنَّ مَن يحمينا هو الرب يسوع، المعلّم الإلهي، هو الذي يوفر لنا هذه الحماية، وهو الذي قال:"لا تخافوا" (لو 4:12).
قبّلتُه، وتأمّلتُ مجيئه وسؤاله وانصرافه، وأدركتُ ساعتئذٍ عظمة أجيالنا الصاعدة وهم يحملون حماية يسوع في قلوبهم بإيمانهم وشجاعتهم وشهادتهم، وشكرتُ الرب على هذه النعمة.
توفير الحماية... وما أدراك ما تعنيه... كلمة سيادية... إستضعافية... تَهين طالبَها وتَذلُّ ناطقَها... مَن يحتمي تحت عنوانها يُهان، والمُهين هيرودس آخر، يفتش عن قتل الطفل (متى 16:2) تحت ذريعة حمايته، وخوفاً من أن يُحتَلّ كرسيه ومنصبُه... إنها غذاء الساسة ومفتشي الغايات والنهايات، كما رُوِّجت دواءً مسكِّناً، وبروفيناً مخفِّظاً لضغطٍ ثائر خوفاً من هيجانه... ما أقساها من كلمة، وما أخجلها من مهنة... فالحامي الحقيقي هو القدير على كل شيء (متى 25:11)... والحامي الحقيقي هو الراعي الصالح الذي يفتش عن رعيّته، بل عن قطيعه، عن غنم رعيّته (يو11:10)... أما مَن يحتمي تحت مسمّياتٍ أخرى فهو قصير النظر في فكره، وبعيد المحبة في أخلاقه، ومحتّلُ الإرادة في إنسانيته... وإهتمامه بِمَن يحميه ما هو إلا غطاء، فهو يعمل على إحتلالهم وكبتهم وتصغيرهم، بل حتى إهانتهم... والسؤال دائماً سيبقى يطرح نفسه: ما هو مصيرنا... ومَن يحمينا... ومَن سيدفع الثمن... نحن المحتمين أم أجيالنا التي ستولد صغيرة أمام مَن يحميها؟.
لندرك جيداً، وأقولها حقيقة، إن الكنيسة أمَّنا تعلّمنا أن المسيحيةَ قامت على دماء الشهداء، ونشأتها حافلة بمآثرهم وبقديسيها... والعبارة التي ذاع صيتها ونرددها منذ ترتليانوس وحتى شهداء العراق الأبرياء "دماء الشهداء بذار الحياة"، لا زالت تُنمي فينا بذرة الرجاء... فكلما زاد الإضطهاد، كلما زاد تجدد الروح، وليس حمل الحقائب والهزيمة... وعبر هذه الشهادة أقول: لا نيأس، فاليأس كلمة لا وجود لها في قاموس الإيمان المسيحي. فكل الإضطهادات ما هي إلا لتجديد الإيمان في الكنيسة، وفتح عيون المسيحيين وغيرهم على حقائق ثابتة، وهي أن الشهادة سِمَة المسيرة المسيحية، ولا خوف من القتل والإضطهاد والتهجير، فهذه صفات قائين، وأما تلك ما هي إلا حماسة الإيمان (متى 10:8).
ومن هنا أسأل: لماذا الناس يُقتَلون أبرياء؟، فنحن في فكرنا صوّرنا أن توفير الحماية يعني غذاء ديمقراطيتنا، ولكن تحت هذه المسمّيات لا زلنا نؤجّج صراعات دامية من أجل مصالحنا وسياساتنا المدمِّرة والبهلوانية، والتي جعلتنا رماداً لحروب بربرية، طائفية، إستغلالية، مصلحية، أنانية، تمّت في أرضنا المقدسة فدنّسنا قدسيتها، وتاجرنا بحقيقتها وكرامتها، وأصبحنا تجّاراً أشراراً نختبئ من صوت الخالق "كما في آدم" (تك 9:3)، ومن نظر الرب "كما في قائين" (تك8:4).
إذن، هل الحماية تعني تسميات يطلقها أصحاب القرار عن وطنيين وُلدوا أحراراً في أرضهم؟... فيوماً يقولون عنا إننا أقلية من أجل حمايتنا... وفي الليالي وظلمات الكواليس المخطَّطة نحن جالية... وتحت ذرية الحق والحقوق نحن طائفة أو طوائف... كل هذه تسميات أو مسمّيات بغيضة لا تليق بالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (تك 27:2)... إنها تسميات من صنع الإنسان الحاقد والمحتَل لإرادة البريء والضعيف والمسالم... إنها تسميات وُضعت تحت قانون مصلحي للحماية ولتوفيرها من زمن العصمليّة وحتى الساعة، وإنْ كانت اليوم بظروف غير التي سبقتها... بينما الحقيقة نحن أبناء وطن، مهما كان إنتسابنا، ومهما كانت شريعتنا، ومهما كانت طريقة عبادتنا ومسيرة إيماننا ورموز مرجعياتنا... فالوطن تربة أبنائه ومُلكهم، وكلنا من ذرّاته جُبِلْنا، وعلى أرضه وُضِعْنا... لذا تحت كنف حمايته وُجِبْنا، وكفى ترويج مثل هذه التسميات بأية حجة كانت، لا في فاعلها ولا في مفعولها. فنحن فعل ولسنا أشباه أفعال، ونحن مواطنون، وتلك حقيقة ولا أصدق.
والكنيسة اليوم مدعوّة لتحمل رسالة الإنجيل في خدمة الإنسانية، وتاريخنا لا تكتبه الأحداث من الخارج فحسب، ولكن يُكتَب قبل كل شيء من الداخل... إنه تاريخ الضمائر البشرية، التي إمّا أن تنتصر وإمّا أن تندحر... ولكن أتساءل أو أسأل: هل اليوم هناك ضمائر حية تمجّد الله في نظرتها، أم هناك ضمائر سياسةٍ حصيلةِ أنانيةِ الفرد، لا تحب التعايش مع الآخر ويقولونها جهراً وكأنهم آلهة يستكبرون بقولها، وما إدّعاؤهم هذا إلا باطل، وما هم إلا ضالّون في زنكة الزمن، ومَن يستمع إليهم يشترك معهم في خطيئتهم ضد روح الله المحب؟.
فالمسيحية دون الآخر ديانة كبرياء واستكبار، لأنَّ المسيحَ ربَّنا إنحدر من السماء وأخذ صورة عبد وجسداً مثلنا (يو14:1) ليحيينا وينقلنا إلى حيث هو... إنّ ذلك لأسمى حماية!... واليوم هناك مَن يفتخر حينما يقول:لا أستطيع العيش مع الآخر، فنعمة الخليقة إعلان لبشارة الآخر "إذهبوا وعلّموهم" (متى 20:28). وهذا ما يدعونا إلى أن نكون خبراء في الشؤون الإنسانية، وأن لا نغلق قلبنا على أحد، ولنجعل من كل إنسان أخاً لنا... فمسيحنا يدعونا إلى الإنفتاح والغفران من أجل أن نفهم قلب الإنسان المعاصر فهماً محكماً كي لا تكبر مأساتنا، فنرى الملحَ يَفسَد والنورَ ينطفئ، والمسيحييين تائهين دون رجاء حقيقي ولا أمل في الحياة، وهم الذين أثبتوا خلال مسيرة التاريخ إننا متمسكين بتربتنا، ونحن شعب بنى هذا الوطن من شماله إلى جنوبه، وأثّرنا وتأثيرنا واضح ولا يمكن إزالته مهما كانت الصعاب... فنحن حتى الساعة ندفع ثمن إنتمائنا من دمائنا... من عرق جبيننا... ولا تهون علينا دماؤنا إقتداءً بالمسيح الذي فدانا... وهناك سؤال يطرح نفسه: لماذا كل هذا الحقد الأعمى تجاه شعب مؤمن كل ذنبه أنه مسيحي؟... لماذا يجب على المسيحيين وحدهم أن يدفعوا ثمن حروب الآخرين على أرضهم من دماء أجسادهم الطاهرة؟... أإنّ ذلك لحماية مثالية ؟... فنقولها: إن الحماية وتوفيرها لا تكون عبر الألسن والبيانات والرحيل، بل عبر الأفعال... فلا يمكن أن تنتهي حضارة عمرها مئات آلاف السنين مهما كان العنف والإضطهاد مخيفاً، كون الحق لا يموت مهما علت الأصوات الزائلة من أجل ضياعه ودفنه، ففي ذلك هم يدفنون حقيقة الله "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو17:17)... ثم يقولون "توفير الحماية"... إذا كانت غايتهم ثقافة النفاق والإنغلاق ، وحضارة الكذب والرياء ، وموسوعة قتل الأخر بأساليب مختلفة وإن كانوا أبرياء ، ونفي الآخر وعدائه، فأية حماية ننادي بها، وأي عيش مشترك هذا؟... فلا يمكن أن تكون بغداد، بل أن يكون العراق، من دون مسيحييه وكنائسه. وتعايش المسلمين والمسيحيين واليهود في قلب بغداد ولمئات السنين علامة يفتخر بها وادينا الرافديني، ولا يجوز أن يعتبر حزب أو شخص ذو نفوذ إنه هو القاضي والمنفّذ والمطلق من الله، فذلك ذهنية إرهابية تؤدي بنا إلى الهلاك، وليس في ذلك أية نظرة إنسانية، فالمسؤول مسؤول عن كل أبناء الوطن والدولة أيضاً، بل واجب عليها أن تحافظ على سلامة كل ابنائها وليس شريحة منها، وهذا ما يكفله الدستور العادل وليس المصلحي الذي يصوغ الشعب بنوده وأبوابه وليس الغريب مهما كان شأناً أو رفعة أو منزلة... فنحن لا نعيش في العراق، بل العراق يعيش فينا.
إذن الضمانة للوجود المسيحي في بلدي هي الدولة، فإذا كانت الدولة عادلة، تحمل القانون ميزاناً يحتمي المسيحيون بسلطته ولا خيار لهم سوى ذلك. والتزام الدولة بالديمقراطية الحقة وليس المزيَّفة، وبحقوق الإنسان في إطار حكم مدني، راسماً خطاً فاصلاً كون الدين لله والدولة في خدمة المجتمع، والوطن لجميع أبنائه. حين ذاك تكون حماية المسيحيين وحماية مصالحهم وحرياتهم مرتبطة بصاحب السلطة والقرار في الدولة، وبكفالة أمينة من الدستور العادل والمنصف. وإلا لن تكون لنا حماية، بل تلك نهاية لبداية أرادوها، ولنهاية خططوا لها وحسب مآربهم ليس إلا.
ها قد حان الوقت ليتحمل المسؤولون مسؤولياتهم، ويحاسبوا ويعاقبوا كل مخطط أو منفذ لأعمال إجرامية أو تهجيرية ، غايتها ، تدمير البريء من أجل مآرب انانية ظالمة ،  وإفراغ العراق والشرق كله من مسيحييه، كذلك ليكن الاخوة أبناء الشرق العربي المسلم وفياً  لمسؤوليتة العربية والدولية في مجال الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، ليس فقط من أجل عقد إجتماعات طارئة، فيحضنوا أولادنا في سجلاتهم، بل ليعملوا جاهدين بأن الوجود المسيحي في الوطن العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص هو ضرورة إسلامية عربية قبل أن تكون ضرورة مسيحية، ولا يجوز خسارة المنطقة لهذا العنصر المسيحي، فذلك ما هو إلا كارثة... وحينما تنجلي الأمور بهذا الشكل الإنساني والمسؤولي، سنجد دماءنا تستصرخ إلينا أن لا نترك أرضنا، وأن نثبت فيها. وكي لا تذهب دماء أبريائنا هدراً، ولا تدعنا الحالة أن نستشهد مرتين. وعملاً بكلام قداسة البابا بندكتس السادس عشر الذي يدعونا إلى مواجهة الحدث بقوة وصلابة الإيمان، والبقاء في أرضنا... فلنعمل من أجل الحقيقة وإحقاقها، ومن أجل الحقيقة وإعلانها، ولنكشف المضلّين الذين يتراءون بثياب حملان وهم ذئاب خاطفة (متى 15:7)، فهم مفترسو الأبرياء ويدّعون أن ضمائرهم في راحة بال.
فالرب يسوع أعطانا المثال، ونحن على دربه سائرون... ولنعلم أنه مهما طال الليل لابدّ لفجر الأمل أن يشرق من جديد، ولا يمكن للكذب والرياء ولظلام الترهيب والتكفير والتهجير المنظم أن يطول لأن فجر الحقيقة آتٍ... وسيبقى إيماننا المسيحي بالرب يسوع حامينا، وهو سيفنا والحق صولجاننا، ومَن يملك السيف والصولجان لن ينكسر ولن يخاف مهما عصفت الرياح العاتية في وجهه.فلتتكاتف القلوب قبل الأيادي ولنعلن حقيقة وجودنا وأحقية عيشنا عبر دستور منصف وعادل ، لأنّ الدستور وُضع من أجل أبناء الوطن ليس إلا . ولنتمسك بحبال الله العلي العظيم الذي أحبنا حتى النهاية ولنقل مع المزمّر بكل الايمان " الهي صخرتي وبه أحتمي"( مز 2:18) " إنها غيرة إيمانية نعم ، وأمين  " .


232
استعداداً للاحتفال بمرور عام على كارثة كنيسة سيدة النجاة
المسيحية ... لا تُدرك لغة الإنتقام
 
                                                                                                           المونسنيور بيوس قاشا
   كارثة كنيسة سيدة النجاة، مأساة حقيقية، قصمت ظهر وجودنا، وغيّرت
بطاقة أحوالنا في هذا العراق الجريح. فقد أفزعتنا وملأت الخوفَ قلوبَنا، ونحن لا زلنا نعيش ذيولها وما تحمله من مآسي وضيقات وضياع، وحتى الساعة. ومن المؤسف أن تقع هذه الجريمة النكراء بقتل الأبرياء في بيت العبادة والصلاة،  وفي زمن نحن بحاجة الى نشر ثقافة المحبة والتسامح والتعايش والحوار وقبول الآخر مهما كان جنسه ولونه وفكره، وكذلك من المؤسف أن تأتي الكارثة ونحن لا زلنا نحتفل في العشرة الأولى من بدء الألفية الثالثة وفي القرن الحادي والعشرين حيث يشهد تقدماً في جميع المجالات الألكترونية والتقنية.
   وأقولها مؤمناً بما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"إن العالم سئم من الوعود الكاذبة والأجوبة الجزئية، فوضعوا الله جانباً بل همّشوه زوراً وبهتاناً باسم الحرية الشخصية والإستقلالية البشرية".
   نعم، إن هذه الكارثة - كارثة كنيسة سيدة النجاة حيث دماء أُهرقت، وأرواح زُهقت، وفيها سقط العديد من أثر الرصاص الغادر من ذئاب بشرية مجرمة - هزّت الضمائر الحية، وأرجعتنا إلى زمن التخلف وشريعة الغاب، وجعلتنا نئنّ من ثقل الصليب الذي كُتِبَ باسمنا، فحملناه كَنِيرٍ ثقيل، ولا زلنا نتساءل: إلى أين نحن ماضون؟، وإلى أي إتجاه نحن سائرون؟، وهل ستبقى المسيحية تشهد لرسالة المسيح الخلاصية؟، وهل سيبقى إيماننا شاهداً لحقيقة المحبة التي بشّرنا بها الرب يسوع وحملناها عبر مسيرة حياتنا؟، وهل سنبقى أوفياء للنعمة التي مُنحناها من جرن العماذ؟... فنحن اليوم أصبحنا في سؤال من ذواتنا، من وجودنا، من كينونتنا، من مهمتنا، من حياتنا، ولا سؤال غير: لماذا؟، لماذا وحتى متى كل هذا؟، لماذا نحن حزانى، مضطَهدون، مهاجرون في داخل وطننا وخارجه، ولا نعلم أن نرسم مستقبلنا ومستقبل أجيالنا؟، فحتى عيوننا أصبحت عمياء لم تعد تفرّق بين الحقيقة والدجل، بين الغش والصراحة، بين المحبة والإنتقام، وأصبحنا نخاف حتى من ظلّنا ومن الذي يكلّمنا، ولم يعد باستطاعتنا بعدُ أن نقرأ علامات الأزمنة، ولا أن نحدّق مليّاً وجليّاً وبكل هدوء نحو غدٍ... وما يخيفنا عددنا الذي يتضاءل كل يوم، بل كل نهار وليل، وبدأ دورنا ينحسر في خسارة شبابنا ورجالنا وأزلامنا، ولا نفكر أن النهار قد أشرقت شمسه، وإن الليل قد بسط سواده، كون الضياع والإضطراب والقلق قد ملأت أفكارنا وعقولنا، فأضعنا مصيرنا بتيهنا عبر المحيطات، والوقوف أمام السفارات والأمم المتعبة، والأنكى من ذلك إننا بدأنا نشعر أن حتى أرضنا أصبحت لا تسع لنا ولسكنانا، ولم نعد نشعر إنها تحبنا كما أحببناها ولا زلنا نحبها، وإننا لا زلنا نسير نحو القمم الوعرة في حياة متلاطمة الأكوام والأطراف.
   نعم، همومنا أمام عيوننا، وبلايانا في سجلات مسيرتنا كتبناها، وكل يوم نتساءل: ما هذا العذاب؟، بيوتنا بيعت، جيراننا رُحِّلُوا،، أولادنا قُتلوا وهم على مصطبة الصلاة يرفعون الدعاء وينشدون الرحمة من الرحمن الرحيم، فهل هناك أكثر من ذلك...!!.
   ألسنا حملاناً سيقت للذبح كما حصل لمعلّمنا الصالح، ومع هذه الآلام - التي ما هي إلا نسيج الحياة الزمنية، ولغة ناس الدنيا، أمام كل هذه علامات الإستفهام والحيرة والضياع - أليس هناك من نعمة تدعونا بأنه لابد أن ننظر إلى فقير الصليب، حيث المسيح فاتحاً ذراعيه، يحضن الأخيار والأشرار، الصالحين والطالحين؟... أليس من واجب الإيمان أن نسجل أسماءنا في مدرسة تحت أقدام الصليب، فيوحنا ومريم نظرا إليه ولم يقولا أن كل شيء قد إنتهى، بل كان الأملُ هو قائدهما، وكان رجاؤهما بأن الذي رُفع على الصليب هو نفسه أقام لعازر من القبر (يو1:11)... هو نفسه شفى الأبرص (لو12:5)... هو نفسه فتح أعين العميان (لو35:18)... هو نفسه قال للمخلَّع:"إيمانك خلّصك، لك أقول قم إحمل سريرك" (متى6:9)... هو نفسه سمح وغفر خطيئة الزانية... هو نفسه أدخل اللص فردوس الأبرياء... هو نفسه غفر توبة بطرس... هو نفسه الذي قال:"ليكن لكم إيمان"، وبذلك قوّى وثبّت إيمان الرسل المتزعزع... هو نفسه سيتوّج كل هذه الآيات والعلامات بقيامته في اليوم الثالث منتصراً على الشر والحقد والبغض والكراهية، منتصراً على الذين بيدهم زمام أمور السلطة والحكم، منتصراً على الذين يجولون الهيكل ويُصدرون أوامرهم ويدنّسونه ويجعلون أنفسهم أبرياء، منتصراً على هيرودس الحاقد... وهو نفسه الذي قال:"إذهبوا إلى المسكونة كلها، واكرزوا بالبشارة للخليقة كلها"، وما البشارة إلا المحبة والغفران، فاحملوا الشفاء للمرضى وقولوا:"لقد اقترب ملكوت السماوات".
   أمام هذين المشهدين: في الأول ضياع وبكاء وفقدان الرجاء، وفي الثاني يقودنا الإيمان إلى الثبات وحمل الرجاء في آنية من خزف... فمن الأول رسالتنا تدعونا أن نأخذ عبرة الصليب وقوته التي تُعبّرنا من فقدان الرجاء إلى الثبات فيه، كما تعبّرنا من ضياع الإيمان وفقدانه حيث ترتيلة كل شيء إنتهى إلى حالة الثبات بأن كل شيء يتجدد بروح المسيح حيث نكون مثله، إذ نحن له تلاميذ، وعلى التلميذ أن يكون مثل معلّمه (متى25:10)، فنحمل الرجاء والغفران، وما هذه إلا بطولة... وما أشجعها، بل وما أقدسها في ساحة المصير الأبدي. لذا علينا أن نتعلّم - ورغم ما قاسينا وسنقاسيه - إننا أعمدة صلدة في عمق الحياة من أجل مدّ جسور الغفران، وما ذلك إلا رسالة علّمنا إياها الطوباوي يوحنا بولس الثاني. ففي ذلك علينا أن نتجاوز أنانيتنا وكرهنا لغيرنا ولأعماله كوننا ندرك أن المسيح جاء ليشفي المرضى وليس الأصحاء (متى12:9). فإنْ كنا نحن أصحاء فتلك رسالة سماوية مُنحت لنا لكي نشفي المريض ونداوي البائس، فنزرع بذرة الرجاء، وما علينا إلا أن ننميها فتأتي بثمار وافرة لكي يأكلوا، ويمتلأوا من حقيقة إيمان تلاميذ المسيح، كما سنشارك في حمل أثقال بعضنا بعضاً ، وفي ذلك سندرك أن الصليب وحمله ما هو إلا رسالة والتزام، محبة وغفران، إذ لا تُكتَب الغلبة إلا للذين يضعون أمام أعينهم صورة المسيح المصلوب (غلا1:3)، كما لا تُكتَب الغلبة للقائد المعروف بل للجندي المجهول الذي أعطى ذاته حتى الموت... إنها الغلبة بالذات، حينما نغلب الحقد والكراهية بالمحبة والتسامح والغفران، فهو قال لنا:"أحبوا أعداءكم، وادعوا لمضطهديكم" (متى44:5).
   نعم، دفعنا ثمناً باهظاً وربما لا زال الآتي أقسى وأعتى وأغلى، إنما الدعوة الحقيقية لا تكمن في الهروب والهجرة وبيع الممتلكات والتفتيش عن نعيم الدنيا، بل إنها تكمن في الحفاظ على عيش الإيمان وحب الأوطان، فيسوع ربنا سيكون لنا سمعان القيرواني، فهو سيحمل عنا أوجاعنا وأمراضنا وهمومنا ليقوينا ويجعلنا أن نخلص لحقيقة تربيتنا ومحبة وطننا ونيل حقوقنا، فالحقوق لا تصان في سجلات الأمم ومجالسها، ولا في بيانات الإستنكارات والتنديد والمسيرات والمظاهرات، فهذه قد ولّى زمانها ولن تعيد إلى الضحايا حياتهم ولا إلى الشهداء دماءَهم، بل إن حقوقنا قد نلناها أولاً بوعد ربنا يسوع إذ قال:"ستجلسون على كراسي أسباط إسرائيل الإثني عشر" ، ووعدنا بأن نرث المُلْك السماوي "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْك المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" (متى35:25)، ووعدنا بأنه يكون شاهداً لحقيقة الحدث دون خوف "قولوا الحق" (لو1:12)، ووعده لنا بقوله:"لا تخافوا... آمنوا بي" (مر40:4).
   لا نخاف، فمهما طال ليل العذاب، ومهما ثقل الصليب، فالسيد الغائب آتٍ، ولن تنفعنا عندها القوة والمال والجاه والسلطة والدنيا، والأقوى هو مَن يحيا ليومه منتظراً سيده (متى48:24)، ليقيمه على أمواله (متى45:24)... فلنطرد الإحباط المعَشعَش في صدورنا، والهزيمة الساكنة في أفكارنا، والهروب المتربّع على أعناقنا، ولنحمل سلاّت المحبة والمسامحة والغفران تجاه أعدائنا ومَن وَسَموا جرائمهم بطابع أعمالهم المشينة، ولنحمل الرجاء... وهذه حقيقة إيمانية وليست نداءات بشرية دنيوية من أجل الإنتقام والحقد. فما حصل دعوة لنا كي نتقدم إلى العمق، فهناك صفاء الأفكار وبياض القلوب والغذاء الأمين لخلاص البشر أجمعين... علينا الركون إلى العقل والتحلّي بالإيمان والصبر، وأن نكثّف صلاتنا وننمي إيماننا حاملين راية الرجاء إزاء راية الغفران من أجل المسيح الحي.
   فالمسيحية لا تدرك إطلاقاً لغة الإنتقام والموت والحقد، بل هي تَجَدُّد وانبعاث وعدم انتهاء، ولا يمكن أن يكون المسيحي تنيناً يحرق الآخر، ولا ينفث سمّه بعمق الكراهية في مسيرته إزاء الآخرين، بل نعمة يحمل آيات السلام والمحبة والغفران... لذا علينا جميعاً أن نعمل بحكمة الحيّات ووداعة الحَمام، فنظهر الظلم وذيوله، ونعلن الحق وراياته، كي لا تصبح مسيحيتنا مجرد هوية نحملها، وكي لا تكون صلواتنا طلبات لنا ولأجلنا ولأحبّتنا، بل لنشارك أعداءنا ومضطهدينا، كي لا نمجّد أنفسنا ونسبّح أعمالنا، بل الحقيقة تدعونا إلى تمجيد اسم الله وتسبيحه.
   لتكن دماء الشهداء علامة خصب، لتكن علامة الزرع والثمرة والعرس والهناء... فشرقنا زاخر بدماء الشهداء... فنحن شعب شهيد ليس إلاّ... ولنُنشد ترانيم الحقيقة، حقيقة الرجاء الذي نحمله عبر إيماننا ومسيحيتنا حسب قول الطوباوي يوحنا بولس الثاني: "إن الله جعلنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدي للمسيح شهادة حسنة، شهادة ليس لها بديل"... فإذا ما إنهزمنا نكون قد أهملنا دعوتنا، وانحرفنا عن رسالتنا، وزوّرنا الشهادة في الكثير من تصرفاتنا مع غيرنا لأجل مصالحنا... "فكل مَن أراد أن يحيا في المسيح حياة التقوى، أصابه الإضطهاد" (1طيم13:3)... و"إذا متنا معه حيينا معه" (2طيم12:2).
   فليرحم الرب شهداءنا وضحايانا برحمته الواسعة، وليُحلّ أمنه وسلامه في قلوب المؤمنين، وليسكن السلام في زوايا وطننا الحبيب، ولينبذ البشر من عقولهم أنواع العنف والشر والحقد من أجل العيش بالسلام والأمان والمحبة... ولا أجمل!!!.

233
سينودس الشرق الأوسط
كلمة الله ... عنوان كهنوتنا

   وجّه آباء سينودس الشرق الأوسط في نهاية اجتماعاتهم (10-24 تشرين الأول "أكتوبر" 2010) نداءً إلى المؤمنين، وتوصيات للثبات في الإيمان، المبني على كلمة الله ، وإلى الشركة في شهادة المحبة في مجالات الحياة بمفرداتها... وإذ نحن ننتظر صياغة "الإرشاد الرسولي" الذي سيصدر لاحقاً، والذي يُعتبر وثيقة رسمية تتضمن النتائج التي آلت إليها الدراسات السينودسية والمداولات والتوصيات... وسيكون هذا الإرشاد الرسولي- بعد أن يوقعه قداسة البابا بندكتس السادس عشر - وديعة إيمانية تُسلَّم إلى كنائس الشرق الأوسط لتفعيلها وعيشها وشرحها لمؤمني كنائسهم، ويكون بذلك ربيعاً إيمانياً ورسالة رعوية واجتماعية ورجائية... وإذ أطرق باب توصيتين مهمتين وردتا ضمن توصيات السينودس، وهي تخصّنا نحن رجال المذبح وحاملي كلمة الخلاص عبر الكتاب المقدس، وعلينا أن نعمل بكل ما وُهب لنا من النِعَم كي لا يبقى السينودس كلمات قيّمة وشعارات براقة دون أن تُقيّم أنفسَنا وتُجمّل مسيرة كهنوتنا، خوفاً من أن تكون حبراً على ورق.
   فالخوف في بلادنا الشرقية من أنفسنا كوننا نُسكت، بل غالباً ما نُطفئ أو نخمد النار الإيمانية المتأججة بحماس وبسرعة غريبة وعجيبة، ونعود إلى بدء مسارنا كما عهدناه دون تحديث أو تجديد أو تغيير، كما هو حال كثير من المؤتمرات والرسائل الهامة التي تظهر في مناسبات مختلفة، وكأننا حينما نكتب نكون قد حصدنا الغاية المرجوّة، ثم ننعس وننام، ويأتي العريس ليسألنا عن حالنا، فنكون في حيرة من أمرنا، إذ نكون قد عشنا وهماً كبيراً بل حتى أوهمنا أنفسنا، ونكتشف أننا بعيدين بالحقيقة عن الكلمة وقراءتها وعيشها.
   ففي التوصية رقم (2) جاء ما نصّه:"يشجّع آباء السينودس على المثابرة اليومية على قراءة كلمة الله والتأمل فيها... كما يشجعون أيضاً الأبرشيات على تنظيم دورات بيبلية لشرح كلمة الله والتأمل فيها".
   أما في التوصية رقم (3):"إن آباء السينودس يوصون بالعمل على وضع الكتاب المقدس بعهديه في قلب حياتنا المسيحية، وذلك من خلال التشجيع على إعلانه وقراءته والتأمل فيه وتفسيره بالإرتكاز على المسيح... كما يقترحون أن يصار على إعلان سنة بيبلية يُعَدّ لها إعداداً وافياً ومن ثم يُكرَّس أسبوع سنوي للكتاب المقدس".
   من هاتين الوصيتين نفهم جيداً أن مسيحيتنا تدعونا ورسالتنا الإيمانية تؤكد كي نمتلئ من المسيح، ونكون معه ولأجله، وأن نتأمل في دور كلمة الله في حياتنا ورسالتنا الكهنوتية، وخاصة نحن الذين حملنا عهد الوكالة الكهنوتية، ولهذا العهد يجب أن نكون أوفياء، فلا يمكن أن نحيا دعوتنا ونحن بعيدين كل البعد عن كلمة الله لتتفاعل معنا وفينا كي نوصلها إلى مؤمنينا وشعبنا نزيهة من كل عيب لنحياها ونكبر في قامتها.
   ففي خطاب البابا الإفتتاحي لسينودس الأساقفة (10/10/2010)، وفي طرح الخطوط العريضة كما هو الحال في التوصيات وخطاب البابا الختامي (24/10/2010)، فقداسته يلخّص لنا كلمة الله في كل ذلك كونها مركز حياتنا الكهنوتية، وبأن كلمة الله في الكتاب المقدس ما هي إلا المصدر الأكيد والمرجع الحقيقي لاكتشاف معنى الحضور المسيحي، ومعنى الشهادة والشركة، ومعنى حضورنا في رسالتنا الكهنوتية، إذ يقول:
   إن كلمة الله تجعلنا أن نثبت في أرضنا، وتُظهر لنا هويتنا الصادقة وأرضنا المقدسة التي تنادينا أن لا نغادرها مهما حمى الوطيس (ت 2)، كون أن كلمة الله كانت بداية للمخطط الخلاصي، وانطلقت من أور بين النهرين، فكانت الدعوة الأولى لإبراهيم... وسارت المسيرة الإلهية حتى تجسد كلمة الله في شرقنا العزيز، فكان يسوع المسيح لنا محبةً وفداءً وخلاصاً، ثم كانت الكنيسة التي حملت الرسالة بقوة الروح القدس لتواصل استمرارية عمل الخلاص.
   ففي أرضنا المشرقية التي أصبحت أرض الآباء والهيكل والأنبياء، تفهمنا الكلمة إننا خُلقنا هنا لنكون رسلاً لها، فنكتشف إرادة الله في قراءتنا لكلمة الحياة، ونفهم أن وجودنا ما هو إلا لكي نُثبت هويتَنا على أرضنا، لأننا بالمسيح أصبحنا رسالة محبة لكل إنسان، ومشروع شامل للخلاص... لذا ينبغي علينا حقاً أن نكون أهل الكتاب لإيصال رسالة الإنجيل وثقافته (ت 2).
   واليوم، قضية وجودنا وربط حضورنا بكلمة الله لهو من أكثر ألأمور خطورة وإزعاجاً وإلحاحاً وألماً، لأننا إذا لا ندرك ونؤمن بصحة الوحي وبكلمة الله، نكون بذلك قد تجاهلنا حقيقة الكتاب وتعليمه الأساسي لفهم معناه فهماً صحيحاً (خ 7)، وهذا أمر خطير. لذلك علينا أن ندرك جيداً أن المعنى الصحيح للكتاب المقدس لا يمكن أن يكون إلا عبر تفسير المسيح في الكريستولوجيا والتقليد، كون المسيح هو المفتاح الرئيس للكتاب المقدس والمفسر وموضوع التفسير. "وبدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما جميع الكتب وما يختص به" (لوقا 27:24)... من هنا تقع على المؤمنين أن يعيشوا كلمة الحياة على ضياء الوحي وتعليم الكنيسة، وعلى رجال المذبح أن يتشبّعوا من روح الكلمة، إذ عليهم تقع مسؤولية تفسير الكتاب المقدس بالعودة والإرتكاز على المسيح الذي هو الرب... فهذه المسؤولية حمّلها إيانا آباء السينودس، أن يعمل الكهنة جاهدين في وضع الكتاب المقدس بعهديه في قلب الحياة المسيحية، وهذا ما يتطلب إستمرارية الكلمة في الحياة عبر التنشئة المستمرة دون توقف (ت 30).
   وفي هذا المضمار يعمل الكهنة على إفهام المؤمنين أن الكتاب المقدس ما هو إلا كتاب الجماعة المسيحية، وإن التقليد المتناقَل إلينا يدعونا إلى الاحتفال بكلمة الله مثل الجماعة المسيحية الأولى (ت 3)، والعمل على تجنب تفسيرات دخيلة تشوّه معنى وجود الكلمة، وكل ذلك عبر الاحتفال بالأسرار والممارسات الإيمانية (ت 30)... كما إن من واجب الكهنة الأول أن يقوم على إعلان كلمة الله، فهم يملكون موهبة خاصة لتفسير الكتاب المقدس عندما يعمدون إلى نقله، ليس وفق آرائهم الشخصية ، كما هو الحال في جمعيات عديدة ، بل وفق كلمة الله، مطبّقين حقيقة الإنجيل الأزلية في ظروف حياتهم الواقعية (ح ك خ، 4).
     ماذا تعني كلمة الله في رسالتنا الكهنوتية:
   إن كلمة الله هي أساس دعوتنا، وروح الخدمة واقع كهنوتنا، والكلمة في الكتاب رسالة إلينا من أجل اختياراتنا الحياتية في المسيرة الزمنية، كونها تساعد في مواجهة التحديات في الأوضاع الصعبة، الأمر الذي يستوجب علينا نحن الكهنة أن نعيد اكتشاف كلمة الله في الكتب المقدسة، وهي تفسر ما يدور حولنا لتقدم لنا نوراً ورجاءً ومستقبلاً من أجل حريتنا، كما تنير لنا الخيارات الحياتية، وهذا لا يتأتى إلا عبر قراءة الكتاب المقدس التأملية فردياً أو جماعياً، أو داخل أسرة أو مجموعة، مما يحدو بكل كاهن أن يشجع نفسه أولاً ثم يشجع كل أسرة من مؤمنيه أن تمتلك الكتاب المقدس، ويثابر معهم في قراءة يومية لنصوصه. كما أن يعمل الكاهن ويشجع على الإشتراك في دورات بيبلية خاصة في شرح الكتاب المقدس، والتأمل والتعمق في روحانية، وما يحمله من رسالة إلينا. وعليه أن يجعل نفسه متعطشاً _ كما المؤمنين _ إلى كلمة الله كي لا يحاولوا ري ظمأهم من معين آخر (ت 2)، كما يعمل في رعيته على إنشاء مراكز للتعليم المسيحي لتنشئة البالغين على الإيمان الحي.
   إن كلمة الله تدعو إلى الشركة بين رجالات الكنيسة، وهي توحّد الأساقفة والكهنة والمؤمنين. وإذا ما رافقت الصلاة كلمة الله يكون الإصغاء هو الشركة الأكيدة بين أبناء الكنيسة الواحدة والكنائس المختلفة، وتعمل على حمل رسالة الإنجيل ومتطلباته (خ 40) في الإبتعاد عن الأنانيات الأرضية والتخلي عنها، بل العكس على العمل للتحرر من هذه الأشواك التي تخنق كلمة الله (متى 7:13)، والسير بما يريد السينودس في إيجاد العلاقة الوثيقة بين شركة الجماعة وكلمة الله، كون الكنيسة لا تتغذى إلا بخبز الحياة على مائدة الله، كلمة الله وجسد المسيح... ولقاءنا مع كلمة الله في المسيح يسوع الحاضر في الكتاب المقدس وفي الافخارستيا، يُشركنا بجسده السري... فذلك ما هو إلا اشتراك جماعي وعمل فردي في آنٍ واحد.
   كما إن كلمة الله تدعو إلى الشهادة... قال الرب يسوع في وصيته:"اذهبوا في العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مرقس 15:16)... هذه الوصية دعوة إلى أن يكون كل مؤمن مسيحياً شجاعاً، يحمل إعلان الإنجيل كأمانة حياتية دون خجل أو خوف. فالرب مع المؤمن، ويقويه ليعلن البشارة (2تيم 17:4)... كلنا نحمل سمة البشارة، وكلنا جُعلنا رسلاً لإنجيل المحبة والخلاص والمصالحة والسلام، وهذا يدعونا إلى أن نعي جيداً مفهوم البشارة والتبشير الجديد في الإنجيل... وهذا أيضاً ما دعا إليه آباء السينودس في العمل على الدخول في آفاق البشارة الجديدة... كما يدعونا جميعاً أن نهيئ أنفسنا _ نحن الكهنة أولاً ثم المؤمنين _ والعمل على توبة عميقة من أجل تجديد الحياة والأمانة على ضوء كلمة الله، وهذا يتطلب منا أن نجد وسائل أمينة وتقنيات حديثة لنصبح شهوداً في هذا العالم عبر تنشئة اجتماعية وعلمية، وعبر وسائل الإتصال... ولكي نكون شهوداً حقيقيين وقديسين، لا نملك غير المسيح والكلمة، علينا أن نجعل إيماننا يدفعنا إلى عمل يفوق قدراتنا المحدودة معوّلاً على هبوب الروح القدس كي لا نُفشل مشروع الله الكبير ألا وهو الفداء الأكيد الذي يشعرنا بالقيم الإنجيلية تعمل فينا حتى لو كان ما حوالينا مخيفاً.
   من هذا كله أفهم وأقول لإخوتي خَدَمَة المذبح ورفاق الإيمان: إن الكتاب المقدس، تلك الكلمة المكتوبة، ترشدنا إلى خدمة محبة الله، وتضيء لنا الطريق التي ينبغي أن نسلك فيها كونها جوهر رسالتنا الكنسية وقلب رسالتنا الخلاصية. لهذا عمل آباء السينودس على إبراز أهمية دور الكتاب المقدس، داعياً الآباء الكهنة إلى إعلانه وتفسيره، كما دعاهم أيضاً ومع المؤمنين أن يعيشوا تعاليمه ويطبقوها في حياتهم اليومية. فتجسد كلمة الآب في مشرقنا ما يعني إلا أن تاريخ محبة الله للإنسان أضحى رسالة محبة لكل إنسان. لذا يجب أن تكون لنا وتبقى لنا مصدر إلهام لشركتنا ووفائنا ورسالتنا وشهادتنا، وفي ذلك نتحول إلى أناجيل حية، بل كل واحد منا إنجيل حي، تكون كالخميرة في البيئة التي نحيا فيها، وتكون كمنبع روحي يقودنا إلى أن نفهم واجبنا ألأول ألا وهو إعلان الكلمة. فنحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى أن تكون كلمة الله أساسية في إيماننا ومسيرة تربيتنا وعنوان كهنوتنا في كنائسنا كما في بيوتنا وأماكن تعليمنا، وكفانا نهتم بالأرضيات والثرثرات هنا وهناك لا فائدة منها إلا تشويه صورة كلمة الله التي في داخلنا، ومن ثم تشويه الآخر، مدّعين أنفسنا أننا بكلامنا نربح أرضنا، ولكن الحقيقة تكمن في كلمة يسوع لمرتا:"مرتا، مرتا، الحاجة إلى أمر واحد ". ( لو 42:10).."، هذا ما يجب أن نجسده إخوتي بناءً على توصيات آبائنا الأجلاء في السينودس الشرق أوسطي... فأن نحيا الكلمة يعني أن ننسى ذواتنا وننظر إلى مستقبل الله.فالحقيقة يجب الأقرار بها أننا أبتعدنا نحن رجال المذبح كثيراً عن قراءة كلمة الله وعيشها بل أهملناها بمحض إرادتنا مدعين أنَّ لا مجال لنا لانشغالاتنا بأمور الدنيا .. ولكن اليس ذلك من مصائب الزمن. نعم، مسنقبل الله عبر وجودنا ومسيرتنا ووفائنا لكهنوتنا وأمانتنا لخدمتنا المذبحية، ولنترك جانباً دردشات الزمن وخزعبلات العولمة، وننشّط فينا روح الخدمة الرعوية، وبذلك ننشّط حياة الكنيسة وأهمية الكتاب المقدس في هاتين المسيرتين.
   واسمحوا لي أن اقولها خاتماً: نحن بحاجة إلى كلمة الله لتملك في حياتنا، كي تقوم حياتنا بدورها على تغيير مافي أنفسنا ثمّ مجتمعنا، وتكون القيامة فينا قبل أن نرى القبر الفارغ ، ولا نفتخر بما نملك بل بما نحيا عبر الايمان بكلمة الله ، ولا ندعي أننا اولادا لإبراهيم...إذا لانسمع ونفهم ونحيا كلمة الله إنها يسوع المسيح .


234
الزنبقة تحاور...
النائب الإقليمي عن العالم العربي ورئيس دير الآباء الدومنيكيين في بغداد
الأب أمير ججي القس بطرس الدومنيكي




أول نائب إقليمي عربي عن العالم العربي ورئيس لدير الآباء الدومنيكيين في بغداد... الأب أمير القس بطرس... معه كانت مقابلتي من أجل هذا العدد من مجلتكم الغراء "الزنبقة"... إليه توجهتُ، شاكراً إياه على منحي دقائق من وقته، ليس الثمين فقط، بل الذي لا يمكن تعويضه... فالسفر والمهمة والرسالة والخدمة عناوين مختلفة لمسيرته الكهنوتية والرهبانية والمسؤولية... وبعمر الشباب يخطو خطواته نحو الإنسان من أجل المستقبل، كيف لا وهو في العام الثاني بعد الأربعين من عمره.
   قال ما يؤمن بحقيقته، آملاً أن الدنيا ستتغير مهما كان حجر القبر ثقيلاً... فكان الحديث معه كلمة وفكرة نابعة من أعماقه دون رتوش... قالها صوتاً وحقيقة... وقرر أن يقدم ذاته خدمة وتضحية... وملأ نفسه أملاً ورجاءً... مؤمناً أن الصبر قيامة ورجاء ولا غير.

الزنبقـــة: شكراً على منحك إيانا قليلاً من أعز ساعات نهارك لنحدّث قرّاءنا عن ما يجول في خاطرك عبر سؤالنا... فأبدأ وأقول: أبونا أمير... مسيرة حياتك والمراحل المهمة فيها!.

الأب أمير: أنت تعلم جيداً أبونا الخوري أنا من مواليد قره قوش في 22/6/1969، وفيها بدأتُ دراستي الإبتدائية ثم مرحلة المتوسطة وبعدها الإعدادية حتى عام 1989 حيث بدأتُ مرحلة جديدة في دراسة الفلسفة واللاهوت في معهد الدورة للكلدان. ارتُسمتُ كاهناً في 14/7/1995 على يد المطران المثلث الرحمات عمانوئيل بني. وفي معهد الدورة للكلدان، نمت في قلبي حب الدعوة الرهبانية وبالخصوص الإتجاه نحو الرهبنة الدومنيكية، ولم أستطع أن أجاهر بذلك خوفاً من بعض الحزازيات في سلوك الدعوات في المعهد أو السمنير ولاعتبارات رئاسية.
نعم، اتصلتُ بالآباء الدومنيكيين وطلبوا مني أن أواصل الدراسة حتى يوم رسامتي، بعدها فاتحتُ مطران أبرشيتي عمانوئيل بني وكان جداً متفاهم معي للإنتماء إلى الرهبنة الدومنيكية، ولكن طُلب مني أولاً أن أخدم رعية في الأبرشية مدة ثلاث سنوات، فعُيّنتُ في برطلة، وفي هذه الفترة حصلتُ على غنى رعوي كبير وخبرة جزيلة. وفي عام 1998 تركتُ العراق وسافرتُ إلى باريس. في 20/6/1998 دخلتُ الدير في ستراسبورغ وابتدأتُ سنة الإبتداء من أيلول 1998 وحتى أيلول 1999، ثم في 13/9/1999 أعلنتُ نذوري البسيطة ثم عام 2002 أبرزتُ نذوري المؤبدة. خلال هذه الفترة قضيتُ سنة في مدينة ليل، وعدتُ إلى مدينة ستراسبورغ حيث أكملتُ دراستي وتخصصتُ لنيل درجة الماجستير، وكان موضوع أطروحتي "مفهوم مكانة المرأة في الكنيسة الشرقية وتاريخ الأديان، ومكانة مريم العذراء في الفكر الإسلامي"، أما أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه فكان عنوانها "مفهوم الألم الخلاصي عند الشيعة" والتي ناقشتُها في 30/9/2010. وحالياً أنا في دير بغداد، حيث انتُخبتُ رئيساً للدير مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد من تشرين الثاني 2010. وفي كانون الثاني 2011 تمّ تعييني نائباً إقليمياً عن العالم العربي ويشمل دول العراق وسوريا ولبنان ومصر والجزائر... وبهذا أكون أول كاهن وراهب عربي وأخ دومنيكي يُعيَّن في هذا المنصب.

الزنبقـــة: رسالتكم في العراق حالياً؟.
الأب أمير: أنت تعلم جيداً يا أبانا الخوري أن رسالة الآباء الدومنيكيين أو الأخوة أو الآباء الواعظين هي رسالة كلمة، أي وعظ وإلقاء محاضرات في إتجاه لاهوتي وتثقيفي وروحي، إضافة إلى عملنا الرعوي في بعض الكنائس. وحالياً بإمكاني أن أقول إننا نعمل في ثلاث مجالات:
- المجال الأول: هو مواصلة إصدار مجلة الفكر المسيحي... والمجلة معروفة من الجميع، فهناك الأب يوسف توما وآباء آخرون يعملون على تحريرها وإدارتها وإيصالها إلى المشتركين، وكلهم يعملون كخلية نحل لتكون المجلة في موعدها.
- المجال الثاني: الجامعة المفتوحة... الحقيقة إننا ننظر إلى بناء الإنسان في المجالات العديدة وبالخصوص في مجال العلوم الإنسانية حيث هدف جامعتنا. فإننا نعمل على أن يكتمل البناء وتكون الجامعة مدينة العلم لجميع شرائح المجتمع دون النظر إلى قوميتهم وديانتهم... وهمّنا الوحيد من هذه الجامعة هو أن يعمل الآباء على إعادة بناء هيكلية الإنسان العراقي. وإننا حالياً في صدد الإعداد للمجلس العلمي إضافة إلى تشكيلة المجلس الإداري، كي نستطيع أن نبدأ بداية موفّقة ومدروسة. والحمد لله فهناك الكثير من الآباء حاصلين على شهادة دكتوراه، وآخرون يتهيأون للحصول عليها.
- أما المجال الثالث: فهو المجال الرعوي، حيث يقوم العديد من الإخوة الآباء بإلقاء المواعظ وإبداء الخدمات الكنسية ومساعدة كهنة الرعايا في العديد من النشاطات وفي العديد من دور العيادة والأديرة... وحالياً لنا في قره قوش دير الإبتداء ويديره الأب سمير، أما الأب نجيب فيعمل حالياً في مشروع أساسي وحيوي ألا وهو ترتيب وتنظيم أرشيف المخطوطات الكنسية... هذا التراث الإيماني الذي يجب أن نحتفظ به.

الزنبقـــة: أبانا أمير، سؤال شخصي... أرجو الإجابة إنْ كان بالإمكان بكل صراحة... أنتَ مشغول طوال النهار بحكم مركزك ورسالتك، هل تقرأ الإنجيل يومياً؟... كيف تقضي نهارك... قداسك... تأملك؟.

الأب أمير: الإنجيل هو غذائي الروحي... نعم، مشاغلي كثيرة ولكني أحاول أن أؤمّن لي يومياً وقتاً أكرّسه للدخول في أعماقي، للتأمل، للصلاة، لفحص الضمير، للقراءة، إذ لا يمكن أن يكون هناك غنى روحي، ولا يمكن أن أقطف ثماراً روحية، إذا لا أخصص دائماً وقتاً لقراءة الإنجيل، للمطالعة الروحية، فأنا أثمن وقت لي هو بعد الثامنة ليلاً وحتى الحادية عشرة، وهذا مخصص لكل هذه الفعاليات الروحية.

الزنبقـــة: بعد حادثة سيدة النجاة... لعبتم دوراً في نقل الجرحى للعلاج إلى فرنسا وإيطاليا، ثم بعد ذلك قدّمتم خدمات إنسانية جليلة... واليوم _ حسب علمي _ إن أهالي الشهداء والجرحى ربما هم خارج القطر... لا أعلم!، ولكن أرجو توضيح ذلك؟.
الأب أمير: هذا موضوع مثير ومؤلم، سأتكلم عن جانبين:
أولاً: عن الجانب الشخصي، كان لي علاقة مع المرحومين الأبوين ثائر ووسيم، وكون الأب وسيم أحد أقاربي ومن عشيرتي، فقبل ثلاثة ايام من الحادثة كانا الأبوان مدعوَّيْن إلى تناول الغذاء في الدير، وطُلب مني أن أقيم الذبيحة الإلهية في كنيسة سيدة النجاة مساء ذلك الأحد، 31/10/2010، ولكوني كنتُ مرهقاً من السفر، طلبتُ إليهم أن نحدّد موعداً آخر، بعدها سافرتُ إلى قره قوش، وهناك سمعتُ بالكارثة، وكانت لي صدمة وصدمة قوية وكأن جبلاً وانهار، وبدأتُ أتساءل في داخلي: هل هناك جدوى من العمل في العراق بعد الذي حصل؟، وبدأ الإيمان يتزعزع. تركتُ قره قوش ولحقتُ ببغداد وحال وصولي ذهبتُ لزيارة الكنيسة، هناك سمعتُ أصوات واستغاثات الآباء والأمهات، - وهنا اهنئك ابونا بيوس إذ كنت المقتحم الاول وعرفتُ انك عددتَ جثث الضحايا - ثم توجهتُ إلى زيارة المستشفيات، وهناك رأيتُ اليأس أمام عيني قائلاً: أنا الذي كرّستُ نفسي لخدمة الناس، هل يجوز هذا؟... وبدأتُ أفكر. كانت في البداية إرسال الجرحى إلى الخارج للعلاج، وخاصة بعد أن قدّمت فرنسا نداءً لقبولهم في مستشفاهم للعلاج فقط وبدون فترة محدودة. ومَن يكون في هذه الحالة، فالقانون الفرنسي يسمح إذا كان أحد في وضع اضطهاد أن يطلب اللجوء... ولكن هناك الكثير تلقوا العلاج وعادوا إلى البلد، وهناك كثير منهم أصابتهم حالة نفسية مؤلمة فهؤلاء يحتاجون إلى علاج نفسي أيضاً لمساعدتهم، وفي هذا كله أنا شخصياً ضد الهجرة ولا أشجع على ذلك، رغم أنه هناك لكل حالة حديث. فمعاناة الناس كبيرة، ومعالجتهم هو أن أعمل على إعادة توازنهم الإنساني والنفسي كإنسان.

الزنبقـــة: ولكن في العراق فُجِّرت دور عبادة كثيرة!.

الأب أمير: صحيح، نحن نتألم لكل هذه التفجيرات فهي تدمير الإنسان، والذين سقطوا ضحايا ما هم إلا أبرياء ونتمنى الرحمة لهم من عند الله... وأما نحن المسيحيين، فلكوننا أقلية صغيرة وأعدادنا معروفة، فهذا ما يؤثر علينا وعلى وجودنا. فهناك حوالي خمسين شخصاً من الضحايا إضافة إلى سبعين من الجرحى، وهذا عدد كبير يجعلنا أن نقول: ما هو مستقبلنا؟... فلا يمكن أن تقاس الأمور إلا أحياناً إنفراداً وأحياناً جماعةً.

الزنبقـــة: نظرتك لوضعنا الكنسي الحالي؟.

الأب أمير: أملي ورجائي من أجل مستقبل وطني، كونه بلدي ووطني، ولا يمكن أن يُمحى اسم العراق من ذاكرتي. ومع ذلك فأنا جداً متألم لحالة كنيستنا، حالة التشرذم الموجود والقاسي علينا. أكيد الواقع السياسي والفساد الإداري له تأثيرات، ولكن هذا الشيء قد إستشرى في جسم الكنيسة.
أمنيتي أن تتوحد الأقلية، ولا داعي لإنقسامات أو التفكير بالمصلحة الخاصة... إذ كل طائفة تتعامل لنفسها ولوحدها، وهذا جداً مؤلم. وعلى رؤسائنا وتسلسلاتهم أن يعيدوا حساباتهم بالعموم، وتكون هناك كلمة موحّدة من أجل الحوار... فكما هناك حوار ما بين الديانات المختلفة، يجب أن يكون أيضاً حوار بين الكنائس المختلفة. ورغم هذا الألم فأنا شخصياً لا يمنعني شيء أن أعمل في هذا المضمار، وأعمل كمسؤول وكأخ وككاهن، لكي نكون علامة لوحدة الكنيسة. فنحن في الرهبنة نمثّل مسكونية واحدة، فلنا أخوة كاثوليك من الكلدان والسريان، ولنا من الآثوريين والأرثوذكس ومن كل الطوائف، وهذا دليل على إمكانية وحدة الكلمة ووحدة الصلاة، ثم يكون الإنسجام كعائلة واحدة. بينما حين يعمل كل واحد لنفسه، ويكون كلٌّ في عالمه، فتلك ما هي إلاّ حالة التشرذم، وهي حالة مخيفة بسبب نقص الحكمة، ويا للأسف!!!.
لذا يجب أن يكون رؤساؤنا عند مسؤولياتهم، إذ كلنا نعمل كخدّام للمسيح دون النظر إلى النتيجة التي تكون لصالحنا بل لصالح خير الكنيسة العام. فعملنا خدمي هو، أي في مجال خدمة الآخر، هو الذي ينقذنا، ولا يجوز أن نضيّع وقتنا في تفتفات الحياة، فتلك حالة الهدم والتسلّط. ولننظر إلى معاناة شعبنا ومؤمنينا، ربما نراهم في جانب، ونحن الرؤساء في جانب آخر وكأنهما عالمَيْن متاقضَيْن... أدعو أن يُبذَل جهد كثير من أجل خدمة أبنائنا، ولا يجوز النظر إلى التفاهات بل أن ننظر إلى مساعدة الجميع، وفي مثل هذه الحالة سنكون على الطريق الصحيح في الحوار والمحبة.
فحينما تكون الكنيسة أو الرعية نشطة وفعّالة، فهذا يعطي أملاً للمسيحي كي يبقى. ولكن حينما يشعر المؤمن أن الكنيسة بعيدة عنه أخاف أن تحصل له حالة فقدان الأمل والرجاء... ورسالتنا نحن أن نزرع في قلوب المؤمنين هذا الرجاء والأمل. وهذه قضية ليست بالبسيطة، بل تحتاج إلى نفوس مسامِحَة ومُحِبّة. والرب يسوع علّمنا المحبة، والمحبة ليست في الأقوال والكلام، بل المحبة هو ما نحياه... وهكذا الغفران والمسامحة.
ما الفائدة أن نحفظ الضعينة والحقد في قلوبنا، ونوصي بها الآخرين ولا نوصي بها أنفسنا... فالكنيسة أمّنا وهي تجمعنا، وإنشاء الله ستكون نعمة الروح القدس فاعلة بيننا، إذا تعلّمنا كيف نصغي، وليس كيف نضع شروطنا وقراراتنا.

الزنبقـــة: ماذا تقول لأبناء شعبنا المسيحي؟.

الأب أمير: الصبر فضيلة مهمة في حياتنا، رغم أن هناك صعوبات كثيرة تزعزع إيماننا، فما علينا إلا أن نحارب اليأس بالصبر، كون اليأس هو الخطر الحقيقي المحدق فينا، وهو التجربة الحقيقية التي تواجه كل إنسان، وهذه التجربة تقودنا إلى التشكيك بإيماننا أو بمستقبلنا... فالصبر هو قوة من الإيمان المعاش، وهو يدلّ على قوة إحتمالنا... لذا علينا أن نعمل على توعية الناس، فمهما كانت الصعوبات قاسية يجب أن يكون الصبر هو مفتاح حياتنا... فالصبر والرجاء ولا شيء آخر.

    الزنبقـــة: كلمة ختام!!!.

الأب أمير: أقول لأبناء شعبنا، إن الصبر هو الأمل بالمستقبل. والرجاء والأمل حالة صعبة من دون الإيمان... فلنؤمن بأن القيامة مهما بعدت فستكون لا محالة، كون الصبر هو رجاؤنا... وشكراً جزيلاً.

أجرى المقابلة
الخورأسقف بيوس قاشا


235
مسيحيتنا غنىً لشرقنا .. فنحن منه وله

المقدمة
   من المؤكد أن بلداننا تعيش مرحلة شديدة الخطورة والتوتر، "والعالم قد تعب من الجشع والإستغلال والإنقسام، يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر، وسئم من الوعود الكاذبة والأجوبة الجزئية. كما إن العالم وضع اليوم الله جانباً، وغالباً ما همّش اسمه بصمت وباسم الحرية الشخصية  والإستقلالية البشرية، وجعل الديانة مجرد تقوى شخصية ، وأقصى الإيمان عن الساحة العامة... وحذّر قداسته من أن تخنق العقلية المنافية لجوهر الإنجيل حسن فهم   
 الكنيسة ورسالتها، ودعا إلى الجهر بالإيمان من دون خوف، لأن الإيمان يعلّمنا                       المونسنيور بيوس قاشا
أننا بيسوع المسيح الكلمة المتجسد نتوصل إلى إدراك عظمة إنسانيتنا وسرّ حياتنا على الأرض"...
فالحياة ليست مجرد تعاقب للأحداث والخبرات، إنما هي بحث عن الحقيقة، عن الحياة، عن الطريق، كون المسيح يسوع هو الطريق والحق والحياة (  يو6:14).
بشرى الحياة
   نعم، في قلب المتغيرات التي تحصل، هناك شيء واحد ينبغي أن يتابع مسيرته، إنها البشرى... بشرى الحياة والخلاص لجميع الأمم والشعوب... هذه البشرى ينبغي أن تحافظ دائماً على نظارتها كي تبقى جديدة... إنها مسيحيتنا. ولكن الحياة أتعبتنا، وأصبحت مسيرتنا المسيحية شاقة ومؤلمة، وأصبحنا نقف حائرين أمام ظواهر غريبة، ونقف صامتين ونسأل أنفسنا: لماذا نُلاحَق على مدار أيام السنة، بل على مدار الأجيال؟... لماذا نوصَف بالكُفّار وتُبّاع الغريب والأجنبي ونحن أصل هذه الدار وبنّاؤوها؟... لماذا يصوّروننا أعداءً لهم وهم يعرفون جيداً إننا مسالمون في سلوكنا؟... لماذا يبلبلوننا ويفرّقوا صفوفنا من أجل تحطيم عزيمتنا ونكران إيماننا، وهم يدركون حسناً إننا أصحاب السيرة الصالحة والسلوك الإنساني؟... لماذا يعتبروننا حملاناً مقرّبين للذبح متى يشاؤون؟.

حياة وما اتعبها
   أمام هذه الظاهرة الغريبة بل الفريدة، وأمام هذه الصور والأفكار، نتساءل: إلى أين نحن سائرون؟... وماذا سيكتبه عنا تاريخنا المسيحي المعاصر؟. ماذا سيكتب تاريخ الزمن عن مسيرتنا الإيمانية في دنيا الحدث؟... هل سيقولون عنه إنه تاريخ يحمل سرّ بطولة سماوية أم سيرة تخاذل وخوف دنيوية؟... فنحن اليوم _ ونقولها حقيقة وإنْ كان ذكرها مؤلماً _ نحن اليوم مرضى، حزانى، يائسون، قلقون، مرهَقون، مشرَّدون، مضطَهَدون، مهاجَرون ومهجَّرون، وما نرسمه أمام عيوننا ليس إلا مستقبلاً غامضاً، بل مخيفاً... فحروب تملأ الأرض، وضيقٌ لم نعد نحتمله، واصواتٌ تدعونا إلى أن نهمل بلادَنا بل أن نغادرها دون عودة بحججٍ واهية... نحن اليوم مهانَون بسبب الكبرياء والبغض والحقد الذي يحمله الآخرون، وأصبح عددنا يتضاءل يوماً بعد يوم، وينحسر دورنا في خسارة رجالنا ونساءنا وأزلامنا، ونعبّر شمس نهارنا وسواد ليلنا باضطراب وضياع المصير، وكأننا تائهون... رغم سكوننا في أرضنا نشعر إنها لم تعد تحبنا أو تسع لسكنانا أو تهملنا، وكأني بها تبكي على مصيرنا... همومنا أمام عيوننا... بلايانا في دفتر أفكارنا، وكل يوم نتساءل: ما هذا العذاب؟... هل لا تشرق الشمس وديعة ، صافية ، لتزيح عنا غبار الإنسانية المزيّف؟.   وإذا ما نظرنا إلى كنائسنا، ساعة دعاءَنا ، فجيراننا بالأمس كانوا معنا على مصطبة الصلاة، واليوم ليسوا في الوجود... قد رحلوا... واحد تلو الآخر ، ولا نعلم إلى أين... إلى أين قذفته أمواج بحر الدنيا الهائج؟... عبر المحيطات أم عبر البلدان أو على قمم الجبال أم في وديان الخوف والتهلكة. تساؤلات وتساؤلات وعلامات استفهام وتعجب، تجرح القلب في عمقه والحياة في صميمها، كون التعاسة لا زالت تعايش الإنسان، والعوز يرافقه، والحاجة تضايقه، ولم يعد يملك في الدنيا موطن قدم أو سمكتين أو رغيفاً يابساً يسدّ به رمقه... كل شيء سواد، حتى راحيل عادت تبكي على بنيها إذ ليسوا في الوجود، كما حُذفوا من سجل النفوس كونهم رحلوا إلى المجهول... وشيوخنا وعجائزنا يموتون قهراً وأسفاً، إذ لفظهم الأبناء الهاربون من جحيم الوطن المميت، وضاعت أرضنا واستُقطعت قطعة قطعة، وقالوا لنا أن إرحلوا، فالمكان لا يسع لكم، ولا يجوز أن تفرشوا أرضاً، فأنتم لستم أهلاً لها... هكذا ردّد على مسامعنا الأخوة الأعداء... والأنكى من ذلك دخل اليأس إلى قلوبنا، وبدأنا نتصور صوراً عن آثار أقدام شبابنا الذين كانوا يجولون في أزقّتنا مساء كل أحد، ونرسم في مخيّلتنا ما يجعلنا نتيه ونشرد إلى حيث لا ندري، واصبح أصدقاء الأمس غرباء، ولم نعد ندري إلى أين نتوجه، وإذا توجهنا تنادينا أصوات مشكوك في حبّها لنا، كي نسكن ديارهم، ليكونوا رحماء من أجل أن يكونوا أمراء وآمرين، ونكون بالتالي عبيداً وخاضعين... وآخرون يفضّلوننا على غيرنا، كوننا نملك من وسخ الدنيا ورقتها الخضراء، فيفرشوا لنا مسيرة الدخول... وآخرون يترحّمون علينا، فيسجّلوا أسماءنا من أجل العيش الحُرّ والمكان الآمن... وفي كل هذه أحياناً نضيّع مشيتَنا، وحتى المشيَتَيْن، كما يقول مَثَل الأبرياء.

سؤال وحقيقة
   نعم، شعبنا له كل الحق في أن يسأل ويتساءل، فنحن من أجله وُجدنا، ولأجله خُلقنا، فنحمل ألمه كسمعان القيرواني. وألم اليوم مشكلة لا زالت تشغله، وكما كان في حقبة التاريخ موضوع جدل حامي الوطيس، لا زال حتى اليوم دون حلّ مقنع، والحقيقة تقول: إنهم لم ولن يتعلّموا أبداً، وإنْ أفلحوا فذلك في خبر كان، كوننا أضعنا مسيرة إيماننا، وأفرغنا قلوبنا من محبة إلهنا، وحملنا آلهتنا أصناماً كما حملتها سارة في قديم العهد... وهكذا تمضي الأيام، وتتبخر السنون، ولا زالت التعاسة تملأ قلوبنا وتدغدغنا في الحصول على رزقنا خوفاً من الإضطهاد الآتي علينا ويلاحقنا، بعد أن خططوا له ورسموا صورته ، فيكون الإرهاب بالمرصاد، ويبقى إنساننا المسيحي، بل كل إنسان، في بلد الأعراب وربما في الإغتراب، عبئاً على مجتمع كان هو حضارته... إنها مسيرة طويلة ومؤلمة، ويزداد ألمها بمواكبتها لهجرة فلذّات أكبادنا، فتراها تستنزف وجودنا، وتسدّ آفاق مستقبلنا.   فيامسيحيي العراق... إنني أفتخر معكم كوننا شرقيون مسيحيون، ولسنا مسيحيين من الشرق، ولنا تاريخ أصبح جزءاً من تاريخ شعوب الدنيا... كنّا ولا زلنا بُناة حضارة، وإنْ أرادوا هدمها وتخريبها ستبقى شامخة في أرواحنا، ونحملها في عقولنا وأفكارنا، ونجتاز بها حدود أجيالنا، كون مسيحيتنا غِنىً لشرقنا، ولا يجوز إنكار ذلك. فنحن منه وله، وهذا ما يثبته الزمن بأننا لسنا أقلية بل سكان أصليون، نحيا الإيمان في مسيرة الزمن.

كنيستنا رجاؤنا
   إنها مهمتنا... إنها مهمة بطولة يومية لنقل البشارة الخلاصية التي تعطي الحياة معناها عن طريق إكتشاف طريق الرجاء رغم اليأس والخوف من أجل مدّ الجسور بين الجميع، وتجاوز الأنانية والكراهية، كون المؤمن يدرك جيداً في أعماقه أن المسيح لم يأتِ إلى أرضنا إلا ليزرع بذرة الرجاء،  كما حملها ألينا يوما ابونا الطوباوي مار يوسف الثالث يونان ، يوم أفتقدنا ، ونحن علينا أنْ ننميها في دواخلنا، ويحمل عن إنساننا الألم الجاثم على صدورنا، ويجعل منه سبيلاً لثمرة صالحة (متى 17:7)، شهية ولذيذة رغم مرارتها، لتكون مستقبلاً واعداً عبر شمولية الحدث وخصوصية المعنى، ومعلِّماً إيّانا أن الصليب وحمله ما هو إلا رسالة والتزام... فالحياة كانت _ من يوم كُتبت _ صراعاً، وما أقساه، ولكن لا تُكتَب الغلبة إلا للذين يضعون أمام أعينهم صورة المسيح المصلوب (غلا 1:3). إنها الغلبة بالذات.
نعم، دفعنا ثمناً كان قتلاً وموتاً وتهجيراً، وتخلّينا عن وطننا وممتلكاتنا، ومع هذا ستبقى رسالتنا شهادة لأرضنا، وتبقى حياتنا رايةً لتربتنا وإخلاصاً لوطننا... فشعبنا لن يركع ويترك أرض الآباء والأجداد مهما غلت التضحيات وطال الزمن، وإنْ كان الكثيرون قد غادروا من أجل غاياتٍ ومآرب. فحقوقنا لا تُصان فقط في سجلات الأمم، إنما في مسيرة الشعوب... إنها استحقاق وطني وإيماني ووجودي وتاريخي، وسيبقى نداء حب الأرض يعمل فينا مهما لعبت الأجندات المختلفة في إتجاه استهدافنا، كوننا دفعنا أثماناً لأجل حقيقة وجودنا، ولا نحتاج إلى شعارات أو كتابات على صفحات الجرائد لإثبات حقائق إيماننا ووجودنا، كوننا جزء أصيل من شعبنا، قدّمنا شهداء، وضحّينا بأموالنا، ولا زلنا _ رغم مسيرة الألم _ نرفد وطننا بكفاءاتنا ومواهبنا، ولم نكن يوماً طرفاً في نزاع أو صراع ولن نكون، فنحن للكل أخوة، وما نحتاجه، ليس فقط تشابك الأيادي _ وإنْ كان ضرورياً _ بل إلى تشابك القلوب من أجل رؤية مستقبلية واضحة لدى الرؤساء وعامة المؤمنين، إضافة إلى تعبئة روحية ونظرة جريئة بعيدة المدى وشاملة في معنى وجودنا وغاية رسالتنا، وإلا عبثاً نسعى إلى تثبيت وجودنا إنْ كنا لا نسمع دعوة المعلّم للتقدم نحو العمق... فأبداً، أبداً... لا للإحباط ولا للهروب... فأمانة شهادتكم في أعناقكم... وشهادتكم تعني حب وطنكم، هذه حقيقة رسالتكم .نعم، " قبلنا بشارة المسيح من جرن العماذ، هكذا علمّنا آباؤنا في السينودس المقدس ، لذا نحن شهود لها في عالم تتجاذبه التيارات المختلفة من أجل رسالة سامية " ، ونسأل أنفسنا قائلين: إلى أين نحن من هذا، وإلى أية جهة ننتمي بعد ألفي سنة على قول المسيح:"آمنوا بي... لا تخافوا" ( مر40:4)؟... فمهما طال ليل العذاب، فالسيد الغائب آتٍ، ولن تنفعنا عندها القوة والمال والجاه والسلطة والدنيا، فالأقوى هو مَن يحيا ليومه وينتظر سيده.

آباؤنا
والبابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني يقول: أحبوا أوطانكم .. ولا للإحباط أو للخوف، فالله جعلنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدي للمسيح شهادة حسنة، شهادة ليس لها بديل... وإذا ما إنهزمنا، نكون قد أهملنا دعوتنا، وانحرفنا عن رسالتنا، وزوّرنا الشهادة في الكثير من تصرفاتنا مع غيرنا لأجل مصالحنا.
وآباؤنا البطاركة قالوا في ختام مؤتمرهم: "إن أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا، وعاش عليها آباء كنائسنا وقدّيسوها. وحضورنا في هذا الشرق واجب ، حيث أرادنا الله، ويقتضي منا الأمانة للمسيح، والتزام الشهادة لمحبته... ومهما تفاقمت المصاعب فإن لنا علامات رجاء ساطعة، في ما لكنائسنا من غِنىً روحي وثقافي واجتماعي ووطني، من أجل الحياة الحرة كونهم في أرضهم " ، وكما يقول  ابونا الطوباوي مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان: " إن حق المسيحيين بالعيش الحُرّ الكريم على أرضهم في وطنهم ليس امتيازاً ينعمون به وحدهم، ولا هو فعل "مِنّة" من قبل حكومة مركزية أو محلية، إن هذا الحق واجب على الحكومة ومن مسؤولياتها... وكلنا مسؤولون عن حمل الأمانة لحضارة شرقنا العريقة" .
 
وجودنا .. أمانتنا .. وأرضنا
لذا، فأمانتنا للمسيح تقتضي أن نحافظ على وجودنا، والبقاء في أرضنا متضامنين ومتآزرين، ونتطلّع بأمل إلى شبابنا أن يكونوا شهوداً للإنجيل في هذه المنطقة، فدورنا مهم، ولا يجوز أن يتقلص هذا الدور.وإنْ كانت الشهادة ولابدّ، فلتكن بطولة تقوّي من عزيمتنا، وتضاعف جهودنا، وتثبّت تمسّكنا بإيماننا المسيحي، فنشارك المسيح آلامه، ونكمل ما نقص منها. ولنعلم جيداً أن تضاؤلنا في الشرق، أو إنحسار دورنا، هو خسارة للحضارة الإنسانية والمسيحية عموماً وللشرق العربي خصوصاً... فليكن الرجاء عامراً في قلوبنا، ولنعلم أن الطريق طويلة أمامنا، والرب يرافقنا وإنْ لم ندرِ به، فهو معنا، ويكلّمنا، ويكسر لنا الخبز... فيا لسعادتنا حين نعرفه، فماذا نعمل حينذاك!!!... والحياة التي نسلكها هي مسؤولية وأمانة، أُعطيت لنا لنؤدّي حساباً عنها يوم اللقاء مع الرب... علينا أن ننتبه إلى حضورنا... إنه وكالة وُهبت لنا... إنه صليب نحمله.
فلا معنى للصليب... إلا من خلال المصلوب.! ولا معنى للتلميذ وحياته... إلا من خلال المعلّم وتعليمه ! ولا معنى لإيماننا المسيحي... إلا من خلال علاقتنا بالمسيح يسوع! ولا معنى لحياة الشهادة... إلا حيث أرادنا الله أن نكون شهوداً وشهداء! ولنعلم جيداً، أن مسيرتنا ما هي إلا كمسيرة العهد القديم... مسيرة انتظار ورجاء. فقد كان الشعب في القديم قد وصل إلى قمّة الإنتظار في وقت حاصرته فيه المشاكل. ونحن أيضاً، كما كان الأمس هو اليوم، واصبحنا نتساءل: هل "نسي الرب شعبه"؟( مراثي 6:2) هل أُغلقت السماوات؟( سي 3:48) فالدعوة مُلحّة إلى تخطي ضعفنا وقلّة إيماننا، ونخطو صوب المسيح ولو على أمواج البحر العاصف. واعتمادنا في مسيرتنا المسيحية ليس على أنفسنا بقدر ما هو على مَن انتصر على الموت بالموت. وكل مرة نواجه ضعفنا وشكّنا، دعونا نردد من أعماق قلوبنا:"أنا قويّ بالذي يقوّيني" ( 1تس5:1).وإنْ كانت الشهادة ولابدّ، فلتكن بطولة تقوّي من عزيمتنا، وتضاعف جهودنا، وتثبّت تمسكنا بإيماننا المسيحي، فنشارك المسيح آلامه، ونكمل ما نقص منها.وأختم بما يقوله  قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"على المسيحيين أن يعلنوا رسالتهم بوضوح، ويقدّموا شهادة حياة متجذّرة بعمق في يسوع المسيح، حتى لو أنهم الجماعة الأكثر تعرضاً للإضطهاد لأسباب دينية، فإن المسيحيين مدعوون إلى عدم الشعور بالخوف"، بل إلى تجديد الرجاء في العالم .

المراجع

رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر الى الجمعيات الارسالية  16/2/2011.
كلمة ابينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان في المؤتمر الدولي للاخاء الاسلامي المسيحي في سوريا .
البيان الختامي لبطاركة الشرق الكاثوليك ( 16-20 تشرين الاول 2006 ) .
عنوان كتاب علامة الرجاء في أرض الاباء .


236
الــزنبقة ... في دير الشرفة بلبنان. تحاور غبطة أبينا الكلي الطوبى
موران طوبثونو مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان في مقابلة خاصة

                                                                                                                   أجرى اللقاء
                                                                                                            الخورأسقف بيوس قاشا
                                                                                                            رئيس تحرير مجلة الزنبقة




وأنا في طريقي، عبر الأجواء، إلى بيروت لحضور اجتماعات اللجنة الليتورجية في دير الشرفة للفترة من 20-25 أيلول الماضي، كنتُ أتأمل هل سيعمل الروح على استجابة رجائي لمقابلة موران طوبثونو غبطة أبينا الكلي الطوبى، البطريرك الذي يحمل اليوم هموم كنيسته ومسيحييه في العالم العربي كما في المهجر، وخاصة أبناءه في العراق الجريح، والذي تقتله عصابات المفخخات من دون رادع، كما ينظر إلى أن يُحلّ الرب السلام والأمان؟.
   خاطبتُ الروح، فأجابني بثقة إيمانية أن غبطته يفرح بمجالسة أبنائه ،  أليس هو علامة الرجاء... وكم يكون اللقاء جميلاً حينما يكلم غبطته أبناءه عبر صفحات الحياة... نما الرجاء في قلبي، كما كان الإيمان دافعاً لي... إلى أن حانت الساعة، فكان اللقاء مع غبطته، وكان مساء تلك الجمعة عظيماً، 19/9/2010، وفي مكتبه الخاص بمقرّه البطريركي الصيفي في دير الشرفة... فكان اللقاء والكلمة... الحقيقة والرجاء.    وهاهي ذي صفحات الزنبقة _ مجلة العائلة والإيمان _ تنقل إليكم المقابلة بنصّها الكامل .
     من أقوالــه ...
  أينما كنتُ يشعر قلبي بكل المعاناة التي يعيشها شعب العراق.
  السينودس خاص بالأساقفة، والأساقفة بدورهم عليهم أن يحملوا قضايا وتطلعات ورجاء المؤمنين.
  دعوتي كبطريرك، كالخادم الذي يعرف أن يرأس بالمحبة، وهي مؤسسة على اتّكالي على الله، وعليّ أن لا أنسى أن أكون أميناً لهذه الدعوة.
  المسيحيون من صلب المجتمع العراقي، ذوي حضارة عريقة وتنوّع ديني وثقافي.
  أرض الرافدين لها حضارتها وثقافتها وتراثها الإنساني.
  علينا أن لا ننسى الوجه المسكوني في كل إصلاح ليتورجي.
  لا نتكلم عن ديانة بقدر ما نتكلم عن حقوق ومساواة، أقليّة كنا أم أكثرية.
  لنا دور في هذا الشرق بأن نتابع حياتنا بالتعلق بوطننا.
  المسيحيون لم يكونوا ولن يكونوا طابوراً خامساً.
  لسنا من ذوي الإذعان لقوى أجنبية على حساب وطننا.
  نرفض أي ولاء لدول خارجية مهما كانت على حساب خير أوطاننا الشرقية.
  علينا أن نمتلئ من الرجاء حتى في أحلك الأوقات.



 
الزنبقة: السينودس على الأبواب... كُتب عنه الكثير، وأنا أعتبر انعقاد السينودس نفحة من الروح القدس تكلّم الكنائس في الشرق الأوسط... ما تعليقكم؟... وإلى أين سنمضي مع السينودس، خاصة وأنتم قد عُيّنتم من قِبَل قداسة البابا بندكتس السادس عشر عضواً في أمانة سر السينودس، والعمل مع الكاردينال ساندري لإدارة جلسات السينودس؟.
غبطته: أشكرك يا عزيزنا الخورأسقف بيوس قاشا. فإنني أقولها: أينما كنتُ يشعر قلبي بكل المعاناة التي يعيشها شعب العراق، لاسيما إخوتنا وأخواتنا المسيحيين في هذه الظروف الصعبة، لاسيما قبل الاحتلال ومنذ سبع سنوات من بعد الاحتلال.
صحيح ما قلتَه، إن السينودس هو نفحة من الروح القدس. نحن في زمن ارتفاع الصليب، نجدد رجاءنا، ونتطلّع إلى المصلوب الذي قهر الألم والموت بفعل محبته، وقاده إلى مجد القيامة.
كما تعلم أن جميع الكنائس الكاثوليكية في الشرق الأوسط مدعوّة مع أساقفتها لكي تتمثل في السينودس، فالسينودس هو سينودس أسقفي وليس مَجْمَعاً عاماً للكنيسة ذات الشرع الخاص، حيث يلتقي الأساقفة والاكليروس والرهبان والعلمانيون بحسب خدماتهم ورسالتهم في كنيسة معينة، ليتعمّقوا في رسالتهم ودعوتهم... إن هذا السينودس خاص بالأساقفة، والأساقفة بدورهم، عليهم، أن يحملوا قضايا وتطلعات ورجاء المؤمنين الذين يخدمونهم، كيما يتداولوا حولها مع باقي الأساقفة، ومن ثم كيما يصلوا إلى فعل النداء من أجل دعوتهم كمسيحيين لأجل تكميل مشيئة الله.


الزنبقة:  ربما هناك من ديانات أخرى ومن إيمان آخر يقولون بأن هذا السينودس لا يخصّنا نحن!.
غبطته: لسنا أبداً طرفاً منازعاً ضد الآخرين، ولا نتحدّى أحداً، ويحق لنا _ كوننا نتبع الإيمان المسيحي _ أن نتعمق في هذا الإيمان، ونراجع كيف نستطيع أن نعيش إيماننا بروح المحبة والحق، كما لا ننسى أن نعيش الحقيقة بأفعال المحبة والرحمة، وأن نمارس أفعال المحبة بروح الحق والحقيقة، مبتعدين عن الطروحات الكاذبة أو عن المواقف التي فيها نتجاهل الحق. لا نستطيع عيش المحبة الصادقة _ حتى الذين لا يشاركوننا _ إن لم نكن الداعين إلى تثبيت الحق والحقيقة ونقولها بمحبة.
هذا السينودس هو للأساقفة الكاثوليك، والبابا لا يستطيع أن يدعو غير الكنائس المتحدة معه، ولكن جميع المسيحيين مدعوون لمشاركة الرعاة الكاثوليك هذه الالتزامات نحو شعوبنا وأوطاننا في الشرق، وأن نتطلّع جميعاً بأمل ورجاء، ولا نشكل جبهة ضد أي كنيسة مسيحية ولا أية ديانة غير مسيحية _ مسلمة كانت أم يهودية. فالسينودس هو لكي نعيش دعوتنا المسيحية في الشهادة للإنجيل، والشراكة مع كنائسنا.

الزنبقة: ما هي نظرتكم الرعوية بعد استلامكم مهام أبوّة البطريركية منذ شباط من العام الماضي... أو بمعنى آخر: كيف ترون مسيرة الكنيسة السريانية، هل من محطات وقوف؟... وهل هناك تجديد أم مشروعاً ما؟.
غبطته: كل عضو في الكنيسة، إكليروساً كان أم علمانياً، مدعوّ لأن يعيش الإيمان بأبعاده المختلفة... نبدأ بعيش الإيمان في محيطنا القريب أي في رعايانا وأبرشياتنا وكنائسنا الخاصة. وكوني بطريرك _ أعني الأب الروحي للكنيسة السريانية الأنطاكية _ والراعي، والخادم الذي يعرف أن يرأس بالمحبة، لذلك كبطريرك عليّ أن أتذكر أن دعوتي هي مؤسسة على اتّكالي على الله، ورغم صعوبات المرحلة لا يمكن أن أنسى أن أكون أميناً لهذه الدعوة.
وكما تعلم، أن كل بداية هي مرحلة من مراحل مسيرة الكنيسة. ففي البيان الختامي للسينودس هناك أولويات وُضعت أهمها: ترسيخ المؤسسات السينودسية، بمعنى أن يلتفّ آباء السينودس حول البطريرك، وأن يتحدوا به لاكتشاف الحلول الناجعة والمناسبة، واكتشافات الإجابات الضرورية لهذه المرحلة الراهنة وذلك لخير الكنيسة... لذلك فقد تمّ الاتفاق مع آباء السينودس على إحياء وإعادة تشكيل اللجان السينودسية، كاللجنة الليتورجية _ الطقسية _ والمسكونية، ولجنة التنشئة الكهنوتية والرهبانية... هذه اللجان الثلاث ضرورية لكي يستطيع سينودسنا الأسقفي وضع حجر الأساس لمسيرة واعدة لكنيستنا العزيزة. واليوم، التأمت في مقرنا البطريركي اجتماعات اللجنة الليتورجية برئاسة أخينا المطران مار يعقوب بهنام هندو رئيس أساقفة الحسكة ونصيبين، والتي فيها يتمثل اكليروس طائفتنا في الشرق الأوسط. فهناك أعضاء من العراق وسوريا ولبنان، اجتمعوا هؤلاء من أجل دراسة وبحث شاملَيْن وعميقَيْن في كيفية إصلاح وتجديد القداس الإلهي كمرحلة أولى ومهمة، حيث تقدَّم الدراسة بعد الانتهاء منها إلى آباء السينودس ليُقرّوا الدراسة في وقت لاحق... وهناك كما تعلم لقاءات أخرى واجتماعات للوصول إلى نهاية المسيرة.

الزنبقة: وضع سكان العراق _ بمسلميه ومسيحييه _ وضع مأسوي بسبب ما يحصل، وبالخصوص بالنسبة للمسيحيين... هل من مخلص؟... هل أنتم إيجابيون بنظرتكم لمستقبله أم ماذا؟... هل لكم نظرة تفاؤل أم نظرة شك؟.

غبطته: كل مؤمن رسول، يحمل إلى الآخر تجربة الحياة في عيش إيمانه، ويحمل الرجاء كون الرجاء نعمة وفضيلة يسكبها في قلوب المؤمنين من خلال مسيرته البشرية. وفي كل التحديات التي نجابهها نستطيع أن نكتشف مشيئة الله تعالى الذي لا يريد إلا خير الإنسان وخلاصه. طبعاً _ كما سبقنا وأكّدنا مراراً _ إن المعاناة والمأساة والحالة المؤلمة التي عاشها ويعيشها ويختبرها الشعب العراقي ولاسيما أولادنا المسيحيين، كل هذه الأمور تملأ قلوبنا قلقاً، وتسبب لنا آلاماً نفسية، فهي تدعونا إلى أن نسعى مع ذوي الإرادة الصالحة لنوقف هذا النزيف الذي يحصل في العراق.
نعم، المسيحيون من صلب المجتمع العراقي، ذوي حضارة عريقة وتنوع ديني وثقافي، وأيضاً معروف عنه بطيبته وحبه للآخر. لكن لا نستطيع أن نتجاهل ما يحدث اليوم على أيدي عابثة ألا وهي الإرهابيين الذين يستغلّون قلّة الأمن وضعف الحكومة المركزية أو المحلية لكيما يستبيحوا الضعيف، ويبتزّوا ويهجّروا ويقتلوا وينهبوا ممتلكاتهم ويثيروا الرعب، سيما ما يعنينا اليوم هو أولادنا الروحيين الذين لا حول لهم إلا أن يهجروا ويغادروا وطنهم، وللأسف الشديد نحن نتابع مجريات الأمور هناك، ونعمل جاهدين صِلات ومداخلات لكيما يستتب الأمن، ويملك الحق والعدل بين الجميع، ونحترم ظروف الجميع أكثرية كانت أم أقليّة.
نعم، نتألم ولا ننسى هذا الوضع المأسوي، وإننا قلقين جداً بالأحرى تجاه المسيحيين الذين لا زالت الهجرة مستمرة عندهم _ ونستطيع القول _ وإن كانت قد خفّت نوعاً ما.

الزنبقة: الهجرة، قيل عنها الكثير، وقلتم في مناسبات كثيرة أن نتمسك بالأرض، وذلك ربما مخطط الرب أن نحيا في هذه البلاد... هل لكم هذه النظرة الإيمانية؟... أم كيف تنظرون إلى ذلك؟.
غبطته: طبعاً، بالنسبة لنا كمسيحيين، الأرض ليست عنصر أساسي لمعنى وجودنا في هذه الحياة لتتميم خلاصنا وللتدبير الإلهي، ولكن الأرض _ سيما تلك التي عاش على تربتها الأجداد والجدات لقرون طويلة، وجُبلت بعرقهم، والتي عرفت أيضاً أزمنة السلام والفرح، حالات الظلم والمعاناة _  هذه الأرض أيضاً لها خصوصياتها، أرض الرافدين لها حضارتها، وبثقافتها وبالتراث الإنساني والإيماني الذي حملته هذه الأرض تعطينا اليوم هذا الإنسان المسيحي العراقي، إنسان بلاد الرافدين. حتى _ ولو أننا كمسيحيين _ نسعى إلى أورشليم السماوية، نحن في هذا العالم نحو مسيرة حج نحو الأبدية أن لا ننسى أن مقومات الوطن بأنواعها مهمة جداً للإنسان لكيما يستطيع أن يحافظ على الفرح الداخلي، ويستطيع أن يعمل من أجل خير نفسه والآخرين، ويعطي مثلاً للأجيال الطالعة وحب الوطن والتضحية، وذلك _ نحن بشكل خاص في هذا الوقت _ نحث أولادنا أن يقوموا بفعل رجاء، ويلجئوا إلى الصبر حتى يترسخوا بالأرض مهما كانت الصعاب والتحديات. نحن على مدى 13 قرناً لم نصبح أقلية، ولكننا اليوم مهددين بالاندثار، ونعرف مثلاً البلاد التي حول العراق في آسيا الصغرى وإيران كم عاش المسيحيون وكم كان أيضاً غياب المسيحيين عن تلك المجتمعات والأوطان كبيراً، واليوم أضحوا قلّة لا تُذكَر.



الزنبقة: لقد كانت الزيارة الثانية إلى الهند في مسيرة عام واحد... ما كان هدف رحلتكم هذه؟.
غبطته: هي الزيارة الثانية خلال عام إلى كنيسة السريان الملنكار الكاثوليك... لقد وُجِّهت إلينا دعوة لترؤس احتفالات اليوبيل الفضي لتأسيس المعهد السرياني في مدينة كوتايام سانت أفريم ايكونوليك ريسمبرغ انستيستيو (معهد مار أفرام المسكوني للأبحاث)، وهو معهد فقط يبحث في التراث والدراسات السريانية ويمنح شهادات عليا _ معترف بها من قبل الدولة والحكومة والوزارة في الهند _ بالدراسات السريانية. وهو المعهد الوحيد من نوعه في العالم. أسسه كاهن سرياني منذ 25 عاماً وهو الأب جاكوب تيكمبار بيل (Seri)، ودعاني لأترأس وأشارك في أعمال المؤتمر السابع للدراسات السريانية الذي عُقد هناك، وشارك فيه ما يقارب من 80 عالم وعالمة وكلهم مختصون بالدراسات السريانية، وقَدِموا من القارات الخمس، حتى أنه كان هناك عالم أتى من جامعة يابانية. المؤتمر كان المحطتين الرئيسيتين لزيارتي الثاني إلى الهند، واستطعنا أن نلتقي بالعديد من الرعاة الروحيين والمهتمين بالتراث السرياني، وحضرتُ معهم في الاكليريكيات وصلّيتُ معهم في لغتنا السريانية.

الزنبقة: بإيعاز من غبطتكم وبموافقة آباء السينودس في حزيران الماضي، عملتم على تشكيل لجنة ليتورجية لتجديد الطقوس وخاصة القداس... وهاهي ذي اللجنة برئاسة سيادة المطران مار يعقوب بهنام هندو قد عقدت اجتماعاتها في مقركم البطريركي الصيفي في دير الشرفة... كيف ترون مسيرة كنيستنا السريانية في مضمار تشكيل اللجان؟... وماذا تتأملون من لجنة الليتورجية أن تقوم به؟... فذلك موضوع حساس وخاصة القداس حيث يجب أن تكون الكنيسة قريبة من أختها الأرثوذكسية وسائرة في خط الكنيسة الكاثوليكية... ماذا تقولون؟.
غبطته: الكنيسة السريانية الكاثوليكية مدعوّة كسائر الكنائس إلى القيام بعمل جريء في إصلاح طقسي هدفه العودة إلى الجذور، ومن ثم أيضاً تقدم الرتب الطقسية وعلى رأسها الذبيحة الإلهية، ذبيحة الأفخارستيا، إلى المؤمنين، ليغرفوا النِعَم الضرورية في زمنهم الحاضر. إن الإصلاح الليتورجي في الوجه اللاهوتي والطقسي والرعوي... هذه اللجنة كنا ننتظرها منذ سنوات، منذ دعا إلى الإصلاح الليتورجي المجمع الفاتيكاني الثاني منذ 45 سنة (1965)، لذلك نحن مسرورون جداً أن يكون باستطاعتنا عمل دراسة ما وتقديمها لأعضاء السينودس المقدس، ونتّكل عليها بمساعدة أخصائيين في الليتورجية حتى من سائر الناس ذات التراث الأنطاكي ولتحقيق هذا الإصلاح. عدا هذه الوجهة علينا أن لا ننسى الوجه المسكوني في كل إصلاح ليتورجي، لذلك نقول: إننا جوهرياً لن نقوم بتغييرات تبعدنا عن إخوتنا السريان الأرثوذكس، ولكن هناك إمكانيات لتعددية بعض الصلوات، وأيضاً نتوقع في القراءات التي دون شك ستُغني روحانيات، وتساعد إخوتنا السريان الأرثوذكس على الاهتمام في الانطلاقة بتجديد الليتورجية، وبالطبع ستعرف كل ما توصلنا لنكون على تواصل مستمر.

الزنبقة: سؤال أخير... كيف ترون أوضاع المسيحيين خاصة في شرقنا العربي... هل لا زالت التسمية "المسيحي العربي" تلعب دورها في أوطان أغلبيتها من الديانة الإسلامية؟... وهل للمسيحيين العرب حقوق في بلدانهم أم أصبحوا عاهة وثقلاً يجب أن يُزاح؟.
غبطته: المسيحيون في البلاد العربية هم المواطنون القدامى في جميع الأوطان العربية، لا نتكلم عن ديانة بقدر ما نتكلم عن حقوق ومساواة أقلية كنا أم أكثرية. فمساواة جميع المواطنين بالحرية الكاملة للجميع بما فيها حرية المعتقد والضمير. اليوم المسيحيون في البلاد العربية من حقهم أن يعيشوا بأمان وبمساواة مع إخوتهم المسلمين، في الأراضي المقدسة وإسرائيل أو فلسطين ليعيشوا مع اليهود بكامل حقوقهم. علينا أن نسعى لكي نضلّ نطالب بهذه الحقوق على المستوى الإنساني، ولا نطالب بامتيازات ولا بحقوق أكثر من الآخرين. إننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، وقد مرّت أكثر من ستين سنة على إعلان شرعة حقوق الإنسان عام 1948، وتقول المادة 18:"أن لجميع المواطنين الحرية ذاتها في العبادة وفي اعتناق الديانة وحرية الضمير"، بمعنى لا يحق لأحد ولا للدولة ولا لأية مجموعة أخرى أن يفرضوا على أحد ديانة معينة، ويقيّدوا حريته باختيار الديانة التي هو مقتنع بها.
لذلك علينا أن نتذكر أن المسيحيين أضحوا قلّة (لا أقصد فيها أمراً سلبياً)، هناك أكثرية، المهم أن تُحتَرَم الحقوق المدنية للجميع، ومن ثم علينا أن نتذكر أن لنا دوراً في هذا الشرق بأن نتابع حياتنا بالتعلّق بوطننا من أجل الانفتاح إلى الآخر وقبوله، وأيضاً علينا أن نتذكر أن المسيحيين لم يكونوا ولن يكونوا طابوراً خامساً مرتبطين بقوى أجنبية حتى لو كانت هذه من بلاد عُرفت غالبيتها بالمسيحية. نحن لا نقدم كما نقول، لسنا من ذوي الإذعان لقوى أجنبية على حساب وطننا، وإننا نرفض أي ولاء لدول خارجية أجنبية مهما كانت على حساب خير أوطاننا المشرقية.
أعود وأقول: علينا أن نمتلئ من الرجاء حتى في أحلك الأوقات، ونصلّي ونعمل من أجل إخوتنا المحتاجين إلينا في العراق، ولتجتمع القلوب كي نكون جميعاً دعاة المحبة والسلام بروح الحق.

الزنبقة: شكراً غبطة أبينا الكلي الطوبى... لقد استمعتم إلينا بصبر وأناة، وقلتم حقيقة الكلمة، بل كلمة الحقيقة، والتي كان يجب أن تقال... فأنتم الحق بعينه والحقيقة بذاتها... أنتم لنا موران طوبثونو، أباً وراعياً ورئيساً... سنبقى أوفياء لكم ولكنيستنا السريانية.  
غبطته: شكراً يا إبننا العزيز الخورأسقف بيوس قاشا... نتمنى لمجلتكم – الزنبقة - التقدم والإزدهار، وهي تحمل الرجاء إلى أبناء العراق العزيز... وإن شاء الله سيعم البلاد السلام والأمان كي ينعم الإنسان بحرية الرأي والعقيدة، وفي العيش المشترك... وحفظ الرب بلاد الحضارات، وتحياتي إلى العاملين في مجلة الزنبقة الغراء وإليكم يا إبننا العزيز.
              

237
الحقيقة ... وواقعـنا

الحلقة الثانية ... ختانة يسوع (عيد رأس السنة)

     
أتذكّر وأنا طفلٌ صغير كيف كان يصطحبني والدي [رحمه الله] في فجر كل يوم إلى الكنيسة لحضور صـلاة الصفرو "الصباح" ثم القداس، وأحياناً كان النعـاس
ثقيلاً عليّ. وتذكّرتُ أيضاً وأنا صبي كيف كنا نحضر القداس الإلهي، أنا وأصدقائي، وكان واحد من بيننا يقوم بدور المسجّل للحاضرين والغائبين ... ولما كبرتُ بدأتُ أشعر بعظمة إيمان آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يُمضون ليلة رأس السنة في السهر والصلاة حتى الفجر حيث تتوَّج هذه السهرة وهذه الصلاة بإقامة القداس الإلهي. وفي نهاية الإحتفال كان يتمنى الواحد للآخر بدخول عام سعيد وبدء مسيرة زمنية حولية جديدة ... ولم أكن أعرف غير هذا الشيء.
 بين الختانة والليلة
   مرت الأيام والسنون، ودعاني الرب لأكون خادماً لمذبحه. كما، ومنذ سنين عديدة، دعتني العناية الإلهية أن أقوم بخدمة الكهنوت في بغداد. وما حملتُه من ذكريات لهذه الليلة _ ليلة رأس السنة _ هو إنني كنتُ أشاهد الناس يقومون بتهيئة ما تحتاجه ليلتهم هذه من مأكل ومشرب ... كما كان البعض يقوم بحجز القاعات والفنادق ... وآخرون كانوا يوجّهون دعوات لأقربائهم وأصدقائهم ويجتمعون في دارٍ ما ... المهم أن الكلّ كان مشغولاً بما تحتاج ليلتهم، وما هو برنامجها الدنيوي، وما إلى ذلك، وكلٌّ على طريقته الخاصة.
   وإذا ما اقتربت ساعات الليل الأخير من السنة، يبدأ الفرح وتبدأ السهرة، ويعبر منتصف الليل ويأتي الفجر في ساعة متقدمة، وربما بعض منهم كان يسهر حتى الصباح، وفي هذه السهرة يتقاسم المحتفلون ما تجود به الدنيا من مأكل ومشرب، وما هيأته نساء العوائل من الطيّب واللذيذ، من المالح والسكّر، من الفواكه و... و...، ويضيف بعض الناس فرحاً إلى سهرتهم بلبس الأقنعة الوجهية كلعبة دنيوية ... وكل هذه الإحتفالات والبرامجيات من أجل أن يُنهي الناس آخر يوم من السنة بالفرح والمرح، بالضحك واللعب، بالجد والحب، آملين أن تبدأ ساعات نهارهم الجديد، وسنتهم الجديدة المقبلة، سنة مليئة بالأفراح، متمنين أن لا تعكّرها الأحزان ولا المشاكل ولا... ولا....
كما يتضمن احتفال رأس السنة عادات بذيئة لا يمكن أن يقبلها اليوم الواقع المسيحي الذي يجب أن يكون خميرة للمجتمع وليس شكوكاً. فالملابس التي ترتديها النساء والصبايا والشابات تكون في كثير من الأحيان عثرة للناظرين، وخاصة إذا كانوا غرباء عن مسيرتنا الإيمانية، ومدعوين بين الحاضرين. مدّعين إن العالم كله يسير في مثل هذه الطريق ... إنها العولمة الجديدة ... إنني هنا أتذكّر كلمة نبي الرجاء البابا يوحنا بولس الثاني الذي يدعونا إلى عدم الخضوع للعولمة الدنيوية الجديدة، وإنما في كل ما نعمله نضع أمام أنظارنا إننا مسيحيون ... وفي ذلك دعوة أن يكون المسيح فينا في كل حركة أو عمل أو قول ... وهذه ليست دعوة للإنغلاق، بالعكس، بل هي دعوة للإنفتاح نحو الآخر ... فلننتبه من تجربة الحيّة مرة أخرى ... يكفي مرة وما ورثناه من ألم وشقاء، فلا زالت الحواء تتصيّد لأنانيتها، وإنما العذراء فإنها تعطي كل شيء.

     تعليــق:
"إفرحوا بالرب كل حين" (فيلبي 4:4) ... هكذا يقول مار بولس في رسالته إلى أهل فيلبي، ويزيد ويقول:"وأقول أيضاً إفرحوا" ... الفرح الحقيقي هو الفرح النابع من عمق الإنسان الطيب، المؤمن، المحب، صاحب هذا الفرح يعكسه على الآخرين ولا يمكن أن يحتفظ به لنفسه لأنه ليس مُلكه بل هو هِبة من السماء ليهبها بدوره إلى إبن الأرض والزمن ... أما الفرح الظاهري ربما يكون مزيّفاً أو ربما يكون حالة أو غاية ما في قلب الشخص، وأكيداً يكون مزيّفاً إذ لا عمق له ولا أساس، فهو لساعته الزمنية ليس إلاّ ... إنه دنيوي بمعنى الكلمة ... إنه نداء الجسد، بل إنه نداء حواء من أجل الكشف عن كبريائها فكانت الخطيئة.
إن يوم رأس السنة، هو اليوم الثامن لميلاد طفل المغارة _ رسول المحبة والسلام، الرب يسوع المسيح وفي مثل هذا اليوم خُتن الطفل وأُعطي له اسم ( يسوع )كما دعاه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن (متى 1: 21). والختانة تعني أنه شخص مكرَّس ومخصَّص لله وليس للدنيا، وتعني بدء مسيرة جديدة مختلفة عن المسيرة السابقة، بدء عهد جديد _ عهد الإنجيل _ بعدأن إكتمل العهد القدبم بمجيء المسيح وتحقيق نبوءات الأنبياء. أليس هذا العيد دعوة لنا لكي نتهيأ في الصلاة ولو قليلاً، وأجمل صلاة هي المشاركة في الذبيحة الإلهية صباح رأس السنة؟ ... أليس الكثيرون منا بسهرهم ونومهم إلى ساعة متأخرة من النهار يغيبون عن هذه الفعالية الروحانية؟ ... أيجوز أن نستسلم للدنيا ونعطيها كل ما تحتاج ولا نبالي بذكرى الختانة التي حوّلها الرب يسوع لنا إلى العماد المقدس، وبالعماد يُعطى لنا اسم فنصبح من المسجّلين في سجل سفر الحياة "إن إسماءكم كلها" (لوقا20:10)، وإذا ما أردنا أن نفرح للدنيا فذاك مباح بحدود اللياقة وعدم البذخ وملء الموائد. تأمل في الفقير فهناك أناس يصرخون إلينا دون أن ندري، وقد جعلهم الله في الدنيا لنقوم نحن بواجب الإطعام "كنتُ جائعاً فأطعمتموني" (متى35:25).     

    الختام:
ختاماً، إحتفال رأس السنة _ عيد ختانة يسوع _ يعني عيد الله في قلب الإنسان، أو بمعنى آخر إن الإنسان جعل اسمه بين أسماء أبناء الله ، وحينما يُعطى لنا أسم توكّل الينا رسالة مثل ابراهيم وشاوول والصخرة ... المهم على الرسول أن يكون أميناً لرسالته وليس لدنيانا، ورسالتنا نحن لا أن نحمل أسما فقط بل عبر أسمنا نعطي المسيح للأخرين وفي الأخر نجد المسيح واسمه  ... وباسمه تكون لنا الحياة، وهذه أجمل رسالة مُنحت لنا.
أعزائي لننتبه دائماً إن الدنيا تغرينا من أجل غاياتها، والرب في كل هذه يعمل في هدوء من أجل الحياة.وما الاسم إلا رسالة وما الختانة إلا إنتماء ... نعم وآميـن. 

238
الحقيقة ... وواقعـنا


الحلقة الاولى ... ميلاد الرب يسوع

في قرار للمجمع الفاتيكاني الثاني _ في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية _  وبالتحديد في الفصل الثاني في خدمة الكهنة ومهماتهم، ما نصّه:"إنَّ الكهنة مدينون
للجميع، ومن واجبهم أن لا يعلّموا حكمتهم الخاصة لكن كلمة الله، وأن يدعوا الجميع بإلحاح إلى التوبة والقداسة". فالبشر مهما إختلفت أجناسهم ومشاربهم وأزمنتهم وبلدانهم، يشعرون بحاجة إلى الله، وإلى توثيق العلاقة به. والكاهن حامل رسالة الأرض إلى السماء، فهو الدليل والرسول والبشير والنذير، في قلبه سرّ الله، وعلى لسانه بشارته الخلاصية. وكل الديانات تشدّد على أن مهمة الكاهن الأولى هي إرشاد الناس إلى الخير، وهديهم إلى أفضل السبل للوصول إلى الله.
وبينما الأجيال تتعاقب، إذا بالكنيسة تُعرَف في الأرض كلها، ويُغرَس الصليب الذي هو عربون العهد وخشبة الخلاص وعلامة إنتصار فوق كل تلّة وجبل، وفي كل بقعة من بقاع الأرض الواسعة، " أنتم شهود لي " (يو 27:15)، واستمرت ولا زالت تواصل حمل رسالة المسيح رغم عصف أمواج الإضطهاد والحقد والضغينة، ورغم أهواء الإنسان ونزواته، ولا تزال الكنيسة راسخة الأسس، حيّة ناشطة لا تتزعزع أبداً.
فهي عمود الحق وقاعدته (2تيمو3:15)، هي أمّ ومربّية، وكما قال البابا بولس السادس، قد نذرت نفسها لترشد كل إنسان إلى طريق الخير والمحبة، بواسطة الكهنة والمرسَلين والمبشرين، وبعملها هذا تصرّ على الرسالة والوعظ.

     عيد الميلاد وعيد بابا نوئيل
   كلنا نروي لأطفالنا الأحبّة قصة بابا نوئيل _ القديس نيقولاوس أو "سانت كلوز" _ الذي كان يقوم ليلاً بتوزيع الهدايا والمؤن للفقراء ولعائلات المحتاجين. وتطورت الفكرة بقصة حاملها، وأخذ الناس يتخيّلون بابا نوئيل شيخاً ذو لحية بيضاء كالثلج، ويرتدي ملابس حمراء، وراكباً على عربة سحرية تجرّها غزلان ومن خلفها الهدايا، ليتمّ توزيعها على الأولاد أثناء هبوطه في المداخن، أو دخوله من النوافذ وشقوق الأبواب.

     تعليــق:
جميل جداً أن نعيش الفرح، بل أن نملأ قلوب الآخرين منه، وبالخصوص أفراد العائلة الواحدة، ومنهم أحبّتنا الصغار الذين، إذا ما كانت الهديةُ نصيبَهم،   ملأوا دنياهم لعباً لا يوصف ومرحاً لا يقاس ولهواً وضحكاً لا مثيل لهما. وطوبى للرجل الذي يزرع الفرح في قلوب الآخرين، فإنه رسول المحبة يُدعى.

     الواقـــع :
إن المعنى الحقيقي لعيد الميلاد هو، ببساطة الكلمة، إن الله أحبّنا فتجسّد بيننا، وظهر طفلاً صغيراً شبيهاً بنا وبأطفالنا، أي أنه أخذ جسدنا وصار بشراً مثلنا (يو1: 14) .. وهذه حقيقة إيمانية تلقّنها الكنيسة المقدسة كما يقول مار بولس:"لما بلغ ملء الزمان أرسل الله إبنه مـولوداً من إمـرأة" ( غلا 14:14) وطفلنا نحن واسمه يسوع (متى 1: 21) كما دعاه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن _ جاء ليكون معنا، ليقاسمنا الحياة بحلوها ومرّها، بأفراحها ومسرّاتها .. نعم، جاء ليخلّصنا.
   إن الهدية الكبيرة التي لا ثمن لها، وهي أثمن من اللآلئ، هي أن الله سكن بين الناس، وسكناه نعمة لأبناء الدنيا، بل سموّ محبة. وفي ولادته، قصد الرعاة الأرضيون المغارة فرحين _ مغارة بيت لحم _ وقدّموا له من خرافهم وما جادت به قلوبهم .. ومن السماء أتت الملائكة منشدةً فرحاً بالوليد الجديد .. فهل من وليد رتّل له جند السماء إلاّ طفل المغارة! .. لذا علينا أن نعلّم أطفالنا أن هذه الليلة _ ليلة الميلاد _ فيها يأتي الرب يسوع وليداً من مريم العذراء في مغارة بيت لحم، حاملاً لنا نعماً وبركات، وهكذا قليلاً فقليلاً نعمل على توعية أطفالنا على المعنى الحقيقي للعيد، وهذه هي التنشئة الصحيحة قبل الإهتمام بالهدايا والزينة والأمور الدنيوية الأخرى.
   فما فائدة الزينة والهدايا، والطفل لا زال في قلبه بغض أو نظرة سوء لإبن جاره؟ .. وما فائدة الإهتمام بأمور العيد، والوالدان يغلقان باب دارهما عن جارهما الفقير؟ .. وما فائدة الإحتفال الظاهري بالعيد، وأفراد العائلة لا يمارسون إيمانهم المسيحي ولا يعيشون إنتماءهم إلى مسيحهم، بل يحيون مسيحيتهم عبر عاطفة زائلة رملية تتطاير مع أدنى عاصفة أو ريح شديدة، فيضيع الإيمان بين رمال الزمان.
   في هذا العيد _ أقولها صراحة _ إن صاحب العيد هو "يسوع" ليس إلا .. إنه يدعونا الى أن نتقاسم لقمة العيد معه، لقمة القلب قبل لقمة الزمن. وإذا ما زرعنا هذه البذار الإيمانية في قلوب أبنائنا سوف لن نخاف على مستقبلهم المسيحي مهما إشتدّت الصعاب، وبإمكاننا أن نقول: إن يسوع الطفل يحبكم أيها الأطفال، فأرسل إليكم هذه الهدية بواسطة رجلٍ شيخ اسمه بابا نوئيل، لكي تحبوا أنتم أيضاً يسوع الصغير وتجدوه في الشخص الآخر.

   الختام :
   لذا أعزائي أسمحوا لي أن أقول: إننا لم نُخلَق لكي نملأ القلوب فرح الزمان أو لهو الدنيا، وإنْ كان هذا لابدّ منه، إذ في هذه يضيع العيد ومعناه، ويُشلّ الإيمان، ويموت الإنتماء. هل يجوز أن نجعل بذار الإيمان التي بذرها أجدادُنا في أرض قلوبنا بذاراً فاسداً ونبقى شجرة بأوراق خضراء ولكن بلا  ثمراً، أم علينا أن  نعيش! عمق الإنتماء إلى أرض الحياة عبر مسيح الإيمان؟ .. لننتبه ساهرين إلى الذين يزرعون التعاليم المظلّة ، بل المظلمة، لكي يقتلوا المسيح وهو جنين في أحشاء أفئدتنا، من أجل عولمة الإنسان، ولهو الزمان، من أجل هدية بابا نوئيل، وليس هبة السماء، بطفل المغارة. أليسوا هم الذين حوّلوا كلمة Christ mass  إلىX mass  ، وهل المسيح هو X mass  حياتنا، ألا نعلم ماذا يعني حرف X (يعني لا وجود له) فالصحيح هو، أنّ المسيح هو قداس حياتنا Christ mass .. لننتبه جميعاً،  أن لانغطي المسيح بثياب الزمن وهداياه  .. والقصة الآتية شبيهة بزماننا هذا:
رُزقت إحدى العوائل بطفل جميل بعد إثنتي عشرة سنة من الزواج وكان فرح العائلة فرحاً لا يوصف. وأحب الزوجان أن يعبّرا عن فرحهما بدعوة الأهل والأحبة يوم عماد طفلهما الوحيد، ولما كان الموعد توجّه المدعوّون إلى بيت والد الطفل وإذ كان الوقت شتاءً والبرد قارساً، كان المدعوون يدخلون الدار، ويذهبون يقبّلون الطفلَ النائم في مهده الصغير، ويرمون معاطفهم على المهد ليقتربوا بسرعة من النار، حماية من البرد. ولما ملأوا بطونهم، أخذوا يودّعون الزوجين والوليد الجديد، وبعد الإنتهاء من المراسم الأكاديمية المنـزلية، ذهب الوالد وزوجته يتفقدان طفلهما، فوجداه ميتاً .. صاح الوالد: يارب! لقد أختنق الطفلُ بثقل المعاطف؟؟ (بثقل المظاهر الخارجية). .. نعم، لقد إختنق الطفل.
إذن لننتبه لأنفسنا، فالدنيا تغشّنا ببهائها وبهلوانياتها، لتخنقَ طفلَنا الصغير ونبقى بلا خلاص .. وما أكثر البهلوانيين في ممرات الحياة، فيبقى العيد وصاحب العيد بعيداً .. يا أخي، ألا تعلم إذا كان صاحب العيد بعيد يبقى العيد بعيد؟ .. آميـن.



239
مؤتمرات آبائنا المغبوطين 
أمنية … ورجاء
                                           

                                           
 الخورأسقف بيوس قاشا

     المقدمــة ...
   إختتم مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك يوم الجمعة، 19 تشرين الأول 2007، مؤتمره السابع عشر الذي عُقد في المقر الصيفي لبطريركية الروم الملكيين الكاثوليك في بلدة عين تراز _ قضاء عالية _ لبنان. ومن الجميل أن ننقل بعض النقاط المهمة التي إحتواها البيان الختامي الذي تلاه غبطة أبينا البطريرك مار غريغوريوس الثالث لحام بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك. وبعد ذكر أسماء آبائنا البطاركة  المغبوطين والمشاركين في المؤتمر، جاء عنوان المؤتمر "طوبى لفاعلي السلام"، وهو إستكمال لموضوع المؤتمر السابق "الكنيسة ، وأرض الوطن والعدالة"، ومما جاء في هذا الصدد ...
   "أرض شرقنا مرويّة بدماء شهدائنا وعاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها، وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا".
   وفي ضوء هذه الرؤية، درس الآباء البطاركة موضوع الحضور المسيحي والصراعات السياسية التي تشهدها منطقتنا من الناحية الدينية _ المسيحية والإسلامية والسياسية والإقتصادية والإعلامية.

     من أسطر البيان الختامي  ...
   مما جاء في البيان: إن المؤتمر إستهلّ أعماله بصلاة إحتفالية في كنيسة المقرّ الصيفي لبطريركية الروم الملكيين الكاثوليك، كما أُلقيت كلمة الإفتتاح والتي فيها قُدِّمَ برنامج المؤتمر، ومما جاء في الكلمة:"إن يسوع المسيح قال: أنا نور العالم. وقال لكل مسيحي مؤمن به: أنتم نور العالم. محمِّلاً بذلك كل مؤمن صادق مسؤولية المساهمة في بناء المجتمع الذي يعيش فيه. والحضور المسيحي هو قضية تهمّ المسيحيين بجميع طوائفهم، كما تهمّ جميع المواطنين من كل المعتقدات الدينية في بلادنا العربية حيثما يتواجد المسيحيون والمسلمون معاً" ... ثم تتابعت جلسات المؤتمر والتي قُدِّمت فيها محاضرات عن الحضور المسيحي في الشرق والصراعات السياسية، وتقارير اللجان الشرق أوسطية العاملة تحت كنف المجلس وتحت إرشاده.
   وفي اليوم الثاني، خُصِّصَ للقاء مسكوني جَمَعَ بطاركة الكاثوليك مع الأرثوذكس لمناقشة بعض الأمور الراعوية. كما إنضمّ إلى المجتمعين أعضاء اللجنة المشتركة للحوار الإسلامي _ المسيحي في لبنان. ثم كانت الجلسة الختامية حيث نظر آباء المؤتمر في التوصيات والقرارات، وحدّدوا مكان المؤتمر القادم في دير الشرفة للفترة من 24-28 تشرين الثاني 2008، وموضوعه "بولس رسول المسيح لعالم اليوم"، بعنوان "صرتُ كلاًّ للكل" (1قو 22:9).
   ثم جاء النداء الختامي الذي تضمن إدراك آباء المؤتمر المخاطر الجسيمة التي يتعرض لها المسيحيون وسكان المنطقة وصعوبات الحياة والصمود أمام التحديات والصمود والصبر من أجل الأوطان وإيقاف نزيف الهجرة، ومن واجب الجميع البقاء من أجل إنشاء مجتمع أفضل للجميع، ودعم مساعي السلام والخير. وتمنوا أن تضع الآلام حداً لها في العراق، وفي لبنان أن ينظر المسؤولون إلى خير البلاد. وخُتم النداء بدعوة المؤمنين أن يكونوا أقوياء في الأوقات الصعبة. كما وجّهوا رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب لكي يعملوا من أجل السلام والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. وكانت كلمة مسك الختام أن آباء المؤتمر يرفعون صلاتهم لأجل رؤساء الدول للإهتمام بما جاء في الرسالة.

     في الواقع ...
   إنني من الذين تابعوا أعمال المؤتمر وجلساته بكل إهتمام وعناية، كما تعمّقتُ جيداً بفحوى البيان الختامي والذي جاء من صميم الحياة، واعتبرتُه رسالة مقدسة من الآباء المغبوطين إلى المسيحيين المشرقيين والشرقيين منهم كما يقول يسوع:"إنهم نور العالم".
   نعم، جاء البيان حاملاً بيدٍ أملاً ورجاءً، وفي اليد  الأخرى ألماً ونداءً ... ففي الأمل والرجاء طالبَ الآباء أن  يكون المسيحي في بلده حضارةً وخيراً لبناء الوطن الجريح رغم ما يعانيه من ألم وصعوبات ... وفي الألم والنداء: فالنداء لا يموت وصداه سيبقى يرنّ في آذان الأجيال وفي أفق الشرق "أنتم رسل المسيح ... لا تخافوا" فالمسيح ليس هزيمة بل إنتصار. صحيح إن الموت قاسٍ، ولكنه أقسى حينما نرى الوطن يموت، والأرض يسكنها أبناء قائين، ويبقى الأخيار بعيدين عن الواقع الذي يجب أن يعملوا فيه كأبناءٍ للخير ... كأبناءٍ لهابيل ... لأنه لا يجوز أن نخاف، فمسحة الميرون على جباهنا والصلاة في قلوبنا ... أليستا سلاحين أمينين لا يُريان! أنخاف مِمّن يقتل الجسد (متى 28:10) ... خوفنا هو إننا نترك أبناء قائين يفعلون ما يشاءون، ليس إلا!، لأننا تركنا حتى الصلاة رغم إنها أعتى سلاح، ولا نعرف بعد كيف نصلي. وإذا صلّينا ليس إلا لسويعات قليلة، فَنَمِلّ ويموت فينا الحدس الإيماني قليلاً فقليلاً، فيأتي ربّ الشرق والغرب ويطلب ثمرة ولن يجد. أيجوز أن يكون المسيحي شجرة حاملة للأوراق وبلا ثمر. فالأوراق الخضراء هي أفكارنا وأعمالنا ونيّاتنا، نحملها وكأنها ثابتة في الكرمة الحقيقية، ولكن في الحقيقة هي ثابتة في ماديّتنا وأنانيّتنا وكبريائنا، ولهذا نبقى بلا ثمرة، وتبقى أرضنا قاحلة لأننا فضّلنا لفة الهمبركر وعلبة الكوكاكولا على مداواة جريح طريق الإنجيل، واضعفنا قوة إخوتنا بهجرتنا من أجل هموم الحياة.
   أيها المسيحيين 00 إن بيان آبائنا المغبوطين دعوة ضمنية لنا في أن نكون رسلاً حيث نحن ... أنظروا قليلاً إلى الوراء، وتأمّلوا في ما حصل في الربع ألأول من القرن الماضي، ما حصل بآبائنا وأجدادنا وكيف أصبحت أديرتهم وكنائسهم أحجاراً تنطق بما فعله أبناء قائين بهم، وحتى قبورهم نُبشت. أين انتم يا شبابنا؟ هل تعلمون إن كنائسنا قد أُقفلت؟ وهل يجوز ذلك أن نرحل بسهولة لأن حواء لا زالت ترسل تأشيرات من أجل لمّ الشمل على الأرض الفانية؟ ألا يكون لمّ الشمل في السماء حيث القديسين أصفياء الله؟ 00 إلى متى سنكون أغنياء بالله وليس لأننا أغنياء الدنيا، فلنا قطعة أرض أو شقة في مجال الله الواسع، وفي بلاد البلدان المجاورة؟ 00 إلى متى يبقى الفقراء يفتشون عن لقمة العيش وينسون أن الصحيح هو أن يفتشوا عن الطعام الباقي (يو 27:6)؟ ..إلى متى يبقى الأغنياء يُحسنون للأغنياء وينسون أن أموالهم ليست مُلْكاً لهم بل للرسل (أعمال 32:4-36)؟.


     رجاءٌ ...  وأمنية
   إنتهت جلسات المؤتمر، وقُرء البيان، وحُفظ في سجل محاضر الإجتماعات والمؤتمرات كسابقيه، وأُسدل الستار عن الصورة الجماعية لغبطة آبائنا التي أُلتُقطت بالمناسبة ... كل هذا جميل، ولكن الأجمل:
   أولاً: أن تُوزَّع نسخ البيان على الأبرشيات لكل رئاسة كنسية، ويقوم أسقف الأبرشية بتشكيل لجنة مصغرة تتكون من كاهن الرعية وربما راهب أو راهبة وعلماني، وتُعقد ندوات لإفهام المؤمنين فحوى البيان الختامي، وما جاء فيه من أمور تتعلق بإيماننا المسيحي وحياتنا العائلية ورسالتنا في هذا المجتمع الذي أصبح بلا راعٍ (يو 12:10) وخاصة في هذه الظروف القاسية التي نحياها في شرقنا المبتلي بالحروب والإرهاب والقتل والدمار، خوفاً من أن تبقى البيانات حبراً على ورق، وتنسى القلوبُ ما حملته البيانات من مبادئ وقيم سامية كرسالة من أجل الحياة.
ثانياً: أن تتكفل جميع القنوات الإعلامية المسيحية  المرئية والمسموعة والمكتوبة في تحملها مسؤوليتها الإرسالية وقيامها بعقد ندوات من أجل شرح نصّ البيان وما علاقته بحياة المؤمنين، بدلاً من أن تبقى فنُحفَظ على رفوف المكاتب ثم تُنسى، كما هو الحال في الكثير من مكاتب الدوائر الرسمية وشبه الرسمية..
ثالثاً: نقولها للحقيقة كلنا ... قُرء البيان وهناك مَن أعطى أذناً للسماع، أُذناً صاغية (متى 14:11)، وهناك مَن لم يسمع. لا أظن أننا كلنا حملنا الرسالة وأوصلنا كلمات آبائنا المغبوطين إلى مسامع المؤمنين، وهذا ما يؤلمني. لأننا اليوم لسنا بحاجة إلى مؤمنين غير مبالين بمسيرة إيمانهم ورسالة كنيستهم وآبائهم وكهنتهم، ولسنا بحاجة إلى مؤمنين يأكلون ويشربون (لو 26:17) وكأن الدنيا هي الملكوت، فينظرون إلى البعيد عبر البحار والمحيطات من أجل غاية الدنيا ليس إلاّ. فاليوم نحن بحاجة إلى تضامن روحي مسيحي أكيد ليس إلا، ولا أجمل من أن يكون تضامننا هو إيماننا برسالتنا بالمسيح يسوع، فالكبير فينا خادم (لو 26:22)، والخادم فينا حبيب "دعوتُكم أحبائي" (يو 15:15).
رابعاً: ما المانع أن يقوم المؤمنون برفع صلاة خاصة من أجل إنجاح المؤتمر وإتفاق الآباء في المناقشات، وهل هناك أجمل معين وأقوى سلاح من الصلاة. فيوم تدخل الصلاةُ قلوبَنا يكون الله غايتنا، وما هذا إلا نداء يوجَّه في الكنائس عامة ليكون في منظور جميع المؤمنين الأعزاء.
خامساً: لقد جاء البيان راسماً لنا مسيرة الإنسان والمؤمن المسيحي للعيش المشترك مع أصحاب الأديان الأخرى، كما أفهمنا البيان رسالتنا المسيحية عبر أسطر حياتنا ... رسالتنا تجاه الله وتجاه الكنيسة وتجاه العائلة وتجاه الآخر ... رسالتنا تجاه ذواتنا ... رسالتنا تجاه أرضنا وحضارتنا وثقافتنا.
فشكراً للآباء البطاركة المغبوطين الذين حملونا في بؤبؤة عيونهم، وفي شرايين قلوبهم، وفي عمق إيمانهم ... وهذا ما عبّرت عنه كلمات بيانهم الختامي... فشكراً للرب على نِعَمِه ... وصلاتي ودعوتي أن يطيل الرب في أعمار أحبار الكنيسة المغبوطين والأجلاء ... إنهم رعاة الحياة ... والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف (يو 11:10).

     الختــام ...
   رجائي الوحيد أن يقرأ المؤمنون جيداً ما جاء في البيان، ويُدركوا عمق الكلمات التي صِيغَ فيها، وما هي الرسالة السامية التي يحملها ... إن البيانَ دعوةٌ لنا للرجوع إلى ينابيع الإيمان لنرتوي من ماء الحياة _ يسوع المسيح المخلّص ... فنحن رسلٌ ووكلاء، وعلى الوكيل أن يكون أميناً (      ) ... وما نملكه ليس مُلكنا بل مُلك الله ... فلا يجوز أن نكون على هامش المسيرة كما كان اليهود والذين رافقوا مسيرة الآلام، بل نحن من أبناء المسيرة ومن أهلها. فمدرسة تحت أقدام الصليب تنتظرنا جميعاً لنكون فيها طلاّباً ممتلئين بشجاعة الإيمان وتعاضد الحياة، وأمنيتي أن لايبقى المسيحيون على هامش المسيرة الأبمانية مدعين أن ذلك لا يخصهم .. كلا ثم كلا .. فآباؤنا مرجعياتنا وبياناتهم أنجيل لمسيرة زمننا ، لذا علينا أن نعمل لنكون شهوداً وشهداء ... وسيقولون نحبّ مسيحهم ونحب مسيحيتهم أيضاً، وليس نحب مسيحهم ولا نحب مسيحيتهم 00 نعم 00 وآميـن 00 وشكـراً.
                                    



240
  في الأول من تشرين الأول عام 2001 افتُتِحَت أعمال الجمعية العمومية العاشرة لسينودس الأساقفة بحضور قداسة البابا (خادم الله) يوحنا بولس الثاني، الذي وقّع الإرشاد الرسولي ما بعد سينودس الأساقفة _ رعاة القطيع _ في السادس عشر من تشرين الأول عام 2003، والذي عُقِدَ تحت عنوان "الأسقف.. خادم إنجيل يسوع المسيح من أجل رجاء العالم".
  وفي السادس والعشرين من نيسان 2007، انعقد في الفاتيكان سينودس الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية غير العادي، والذي ترأسه أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال ترشيزيو برتونه، وبتكليف شخصي من الحبر الأعظم البابا بندكتس السادس عشر، واختُتِمَ السينودس في الثامن والعشرين من نيسان. وعلى أثر انتهاء أعمال السينودس، التقى آباء الكنيسة السريانية في القصر الرسولي بقداسة البابا بندكتس السادس عشر، والذي وجّه إليهم خطاباً حيّاً، ومسطّراً أهمية هذا السينودس الذي عُقِدَ برغبة شخصية من قداسته للنظر والتفكير في سموّ ورسالة الكنيسة السريانية الأنطاكية، والتأكيد على الُّلحمة التاريخية التي تربطها بالكرسي الرسولي.

  ولغرض قراءة ما جاء في خطاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر لآباء كنيستنا السريانية الأجلاء، أُسطِّر بعض أفكار تصاحب مسيرة كنيستنا السريانية الكاثوليكية عبر الألف الثالث، وتحت ضوء الإرشاد الرسولي _ رعاة القطيع _:
 
1) قال قداسته في بدء خطابه:"إن مسيرة زمن الفصح المرتكزة إلى موت وقيامة المسيح تجعل من الكنيسة السريانية أن تسعى جاهدة لإظهار وجه الرب القائم من الموت".
  نعم، إن أسبوع الآلام (الحاش) الذي تحتفل به الكنيسة السريانية منذ مساء أحد الشعانين حيث رتبة النهيرة إلى سبت القيامة (سبت النور) هو مسيرة توبة، وهذا ما يظهر جلياً عبر القالات والتراتيل والقراءات وحتى الألحان الحاشيّة وبكلمة واحدة عبر الإحتفالات الليتورجية. والتوبة تعني الموت عن الخطيئة.. الموت عن الأنانية وحبّ الذات، أو بمعنى آخر التوبة تعني، عِبْرَ مسيرة هذا الأسبوع المقدس، فصحاً جديداً، أي عبور من حالة مشوَّهة إلى حالة بريئة طاهرة من كل خطيئة ومن كل دنس. وهكذا تُبان لنا الكنائس السريانية الأنطاكية _ بكهنتها ومؤمنيها _ أن جميعهم يسيرون نحو عبورٍ واحد، ألا وهو عبور القيامة.. وفي هذا، كما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"إن الكنيسة تسعى جاهدة لإظهار وجه الرب القائم من الموت"، عبر الإحتفال الفصحي المشترك.. عبر الإحتفال بقيامة الرب وخاصة حينما يُرفَع الصليب بعد إنهاضه من القبر أمام أنظار المؤمنين قبل بدء قداس القيامة الإحتفالي، فتشاهد بسمة القلوب ترسم ملامحها على وجوه أبناء الكنيسة.كما يقول مار بولس:"إنني أُكمّل ما نقص من شدائد المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كو 24:1)، ومن أجل إيمان إخوته "يقاسي الآلام"، وفيه تكمل صورة المسيح المصلوب فيكون بذلك شريكاً للمسيح في الفداء.وهكذا تكون كنيستنا عبر احتفالاتها مشاركة في عمل الفداء.

2) قال قداسته:"إن السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني حرص على رأب كل خلاف وتصدّع، وهذا ما يسعى إليه اليوم، كخليفة لبطرس، بالمحبة والمصالحة".
  "إن جميع الأساقفة، وبشركة كاملة مع كل الكنيسة، يعترفون بأن خليفة بطرس هو المبدأ والأساس المنظور للوحدة في الإيمان والشركة" (الإرشاد الرسولي "رعاة القطيع")
  نعم، بالحقيقة، يا قداسة البابا وهذا إيماننا بكم، إنكم خليفة مار بطرس، وقد خطَّطَتْ محبتكم لتجمعوا الأخوة في بيت بطرس، في بيتكم، حرصاً منكم على رأب كل خلاف كما كان سلفكم يوحنا بولس الثاني (نبي الرجاء وخادم الله)، وما أجمل هذه المحبة التي استطاعت أن تكون الداعي الأول إلى اللقاء.. بل ما أجمل أن يكون جواب آباء كنيستنا الأجلاء جواباً ملؤه المصالحة. فبمجرد وجودهم بين ذراعيكم فقد أعلنوا: أن المحبة أسمى من الفِرقة، والمصالحة أجمل هِبَة أُعطيت للإنسان وخاصة إذا كان هذا الإنسان خاصَّةَ الله وقريباً منه، أو أوكل إليهم الله مهمة الحفاظ على بذرة الإيمان. وقد صدق ما كتبه سيادة الحبر الجليل مار جرجس القس موسى اذ قال في الكلمة التي أرسلها بشارةً عبر البريد الإلكتروني:"إن المناقشات قد تميزت وتمّت في جو كنسي وراعوي بالصراحة وروح المسؤولية الجماعية من أجل تجاوز المحنة، ووضع الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية في سيرها الطبيعي ... وقد شاء قداسة البابا بندكتس السادس عشر أن يحضر بشخصه إلى قاعة السينودس ليلتقي الآباء مباشرة.. وما هذا اللقاء إلا علامة إرتباط الكنيسة السريانية بالكرسي الرسولي، وإعلان الشركة الإيمانية بين روما والكنيسة السريانية".

3) أضاف قداسة البابا بندكتس السادس عشر قائلاً:"إن ما توصل إليه آباء السينودس، بعد تفكير عميق، يحثّ كل الرعاة على إزالة العقبات التي تعترضهم، وهو ما يتطلبه خير هذه الكنيسة الأنطاكية".
  "الأسقف هو رجل إيمان، إذ يشهد على حضور الله في عالمنا، وهو إيمان بالله الذي انتصر على الموت. وينتظر بالتالي أن يعرف الأسقف كيف يقرأ علامات الزمن في المجتمع الحالي بكرازته بالإنجيل وبشهادة حياته دون خوف وضد ثقافة التشاؤم وإنعدام ثقة. ولأعلان الإنجيل يجب استعمال جميع الوسائل الفعّالة لإعلان بشارة يسوع المسيح السارة على الأمم" (الإرشاد الرسولي "رعاة القطيع")
  نعم، إن الروح يهب حيث يشاء، وحينما اجتمع آباء كنيستنا للتفكير بعمق، كان الروح على رأس كل واحد منهم (أع 4:2)، يُجلّله بنور السماء، فيرى أفكاره الأرضية قد تحولت إلى طرق سماوية، وكأن العقبات التي زُرِعَت وقتاً ما قد أصبحت في مهب الريح، وكأنّي بهم الرسل المجتمعين في العليّة والخائفين من اليهود، قد تغيّروا بحلول نور السماء، وأخذوا يعلنون _ بقوة الروح الذي نالوه _ شهادة حقيقية عن المسيح، ونسوا أنهم كانوا خائفين، أو أنهم قد وضعوا عقبات أمام بعضهم البعض، وحملوا الرسالة على أكتاف قلوبهم، وانطلقوا ليعلنوا للمسكونة عطيّة السماء.. هكذا ظهر لي وأنا أتابع، فكرياً وروحياً، لقاء آباء كنيستي السريانية، وكأنّ عَنصرة جديدة لألفٍ جديد ولكنيسةٍ جديدة قد ابتدأت وانطلقت من بيت بطرس إلى الكنائس الأخرى لتواصل مسيرتها لاحقاً حينما يكونوا رعاة الأبرشيات بين أبناء أبرشياتهم، ويحملوا إليهم بركة قداسة البابا، وعبر هذه البركة التي حلّت على هاماتهم ستحلّ على جميع الإكليروس والمؤمنين.

4)قال قداسته:"كذلك على الكنيسة السريانية الأنطاكية أن تقدّم الشهادة .
  "على الأساقفة أن يكونوا رجال رجاء كي لا تتحول خدمتهم الرعائية عملاً عقيماً، وفي ذلك على الأسقف أن يكون شاهداً ليسوع، وأن يُتمّ عمله بتواضع على مثال يسوع المسيح ..... إنما التبشير بالإنجيل وخدمته الأساسية والجوهرية هي من بين واجباته الرئيسية، ولا هدف له سوى بلوغ مجد الله وخلاص النفوس. إن الأسقف هو مُنعش رجاء في عالم اليوم، وشاهد لحبّ الله للبشر" (الإرشاد الرسولي "رعاة القطيع")
  نعم، إن وظيفة الأسقف الأولى هي التبشير بالإنجيل، وحمل البشارة يعني حمل الرسالة إلى الآخرين. وكما قلتُ في القراءة السابقة، إن الروح يهبّ ليعلن، ليعمل، والشهادة هي ثمرة الروح. ولكي يعمل الروح بين الجميع لابدّ هناك من وحدة متكاملة. والروح يشهد أن الوحدة لا تكتمل إلاّ بالمسيح يسوع، بمعنى آخر إن آباء كنيستي، بقوة الروح، قد حملوا في قلوبهم بالمسيح يسوع شهادة لي ولإخوتي المؤمنين، معلنين إن المسيح لا زال هو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبر 8:13) وهو الطريق والحق والحياة، ولا يمكن أن يُعلنوا ذلك إلاّ بقوة الروح، كما يقول مار بولس:"ولأجل ذلك أتعب وأجاهد بفضل قدرته التي تعمل فيّ عملاً قوياً" (كو 29:1).ووحدتهم تظهر جليا عبر كلمتهم الواحدة من اجل شعب الله المختار.

5) قال قداسة البابا بندكتس السادس عشر: تحديات كثيرة تواجه الجماعات المسيحية في العالم كله، وأخطار وكمائن عديدة تهدد بطمس وحجب قِيَم الإنجيل.، فمن الضرورة بمكان، تابع البابا، أن تعمل عائلة الكنيسة السريانية الكاثوليكية جاهدة للتبشير بالإنجيل. وأيضاً "إن الكنائس الشرقية المتحدة مع الكرسي الرسولي الروماني يعود بنوع خاص أمر تشجيع الوحدة بين المسيحيين ..... عبر الحركة المسكونية بالصلاة في بادئ الأمر ثم بسيرة حياتهم وبأمانة تقوية للتقاليد الشرقية القديمة ...".
  "اعتبر آباء السينودس أن الحوار هو من مهام الأسقف الرئيسية، كما سطّروا أن القضية المسكونية هي إحدى التحديات الكبرى في مطلع هذه الألفية، ونقطة أساسية في نشاطات الأسقف الراعوية، وبالتالي ينبغي أن تكون حياة الكنيسة الكاثوليكية في داخلها شهادة شفافة للوحدة في تنوعية تقاليدها الروحية الطقسية والتنظيمية".. والحوار الحوار المسكوني ليس واجباً يضاف هامشه على واجبات الأسقف، إنما يشكّل محوراً لنشاطه الراعوي. فالإلتزام المسكوني هو من أكبر التحديات التي تواجه الكنيسة في الألف الجديد، وأهم ثمار هذا الحوار هو إعادة اكتشاف روح التآخي بين جميع المسيحيين".فالاسقف الأسقف هو حقيقة رجل الشركة، ويدخل بطريقة كاملة وعضوية في الشركة مع الرب عبر الصلاة، لأن الأسقف هو معلّم الصلاة وخادم الشركة في الكنيسة الجامعة، ويعرف كيف يقيّم وزنات جميع أعضاء شعب الله بتعزيزه تنوعاتها، وتوفيقه بين مختلف التيارات التي قد توجد بين شعب الله" (الإرشاد الرسولي "رعاة القطيع")
الوحدة تزداد الحاجة إليها في كل كنيسة من كنائسنا أكثر من أي منطقة في العالم، لأن الإنقسام هو العثار الأكبر الذي يحول دون تأديتنا الشهادة الحقة للمسيح، وحضور قداسته إلى السينودس علامة ارتباط بين كنيستي روما وأنطاكيا... وتتحقق هذه الوحدة عبر المشاركة، وكلنا مدعوّون إلى السير معاً في طريق الوحدة. فالمسكونية هي حياتنا اليومية التي نحياها مع إخوتنا المسيحيين من أبناء الطوائف كلها. وهذه الحركة هي علامة محبة وخطوة نحو الوحدة.
  هنا لابدّ من ذكر نيافة أبينا الكاردينال مار أغناطيوس موسى الأول داود، الذي أعطى دفعاً كبيراً لمسيرة الوحدة في السنين التي كان فيها أباً ورئيساً أعلى للكنيسة السريانية الأنطاكية، عاد فأنشط حركة الوحدة ونصب لها شراعاً مليئاً بالمحبة لمواصلة درب الأخوّة عبر الكنيسة السريانية في إتحاد وتقارب، والذي كان ناشطاً منذ بداية القرن العشرين وعبره. وهكذا هبّت في حينها رياح الوحدة من أجل المزيد من الإنفتاح والإقتراب بين السريانية الكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية عبر لجانٍ مشتركة، وقد تُوِّجت اللقاءات ببيان ختامي مشترك صدر في الثاني من تشرين الثاني 1999 في دير الشرفة.
  نعم، إن الزمن يدعونا إلى التماسك والوحدة وخاصة في شرقنا المضطرب، ورسالة الوحدة أرسلتها لنا السماء عبر المسيح الفادي "ليكونوا واحداً كما نحن واحد" (يو 11:17)، "إنكم فيّ وإني فيكم" (يو20:14)، "كما أنكَ فيّ يا أبتِ وأنا فيك" (يو21:17)، "يا أبتِ، إن الذين وهيتهم لي أريد أن يكونوا معي حيث أكون" (يو24:17).. وهذه الرغبة وجدتُها ولا زلتُ أرى ملامحها تظهر ثانية عبر جبين آباء كنيستي الذين يسعون دون كلل من أجل نداء المسيح.. كما كان ولنا للتاريخ رجالاً في هذه المسيرة.

6) وختم قداسة البابا بندكتس السادس عشر خطابه لآباء كنيستي السريانية في سينودس غير عادي، حاثّاً إياهم وقائلاً:"أحثّكم على متابعة المسيرة الرسولية التي خطّها القديس بولس في الشرق بكل حماسة وثقة وثبات، والتي سار عليها كل من القديس أغناطيوس الأنطاكي والقديس أفرام وسائر قديسي الكنيسة. وأوكل إلى شفاعة وحماية العذراء مريم _ سيدة النجاة _ بطريرك وأبناء الكنيسة السريانية الكاثوليكية.
  إن هؤلاء القديسين الذين تفتخر بهم كنيستنا السريانية ليسوا إلاّ منارات لدروب أبناء الكنيسة، كهنة وعلمانيين، عبر مسيرة حياتهم وكتاباتهم وتضحياتهم وشهادتهم لإيمانهم، غير مبالين إلاّ بلقاء الله وخاصة في هذه الأيام القاسية.. وما أجمل حياة مار أغناطيوس الأنطاكي، بل ما أعظم مسيرة استشهاده.. كما ما أعمق ما كتبه أفرام _كنّارة الروح القدس _ عن المسيح وعن العذراء _ سيدة النجاة _ وعن القديسين وآباء الكنيسة.
  بعد هذه القراءة، اكتشفتُ أن الرسالة التي يحملها آباء كنيستي السريانية رسالة سماوية، وكم طابت نفسي حيث أدركتُ أن روح الوحدة كان هو السائد بين المجتمعين، وإن الثقة كانت الرابط الأكبر بين العقول والأفكار والقرارات، كما أن الصراحة لعبت دورها فكانت روح المسؤولية أمام حدث الإيمان، ونسجت إفتخاراً لهذه الفضائل السامية: الوحدة _ الثقة _ الصراحة، كلمة واحدة في بيت بطرس الذي لم يشأ صاحب الدار إلا أن يقاسم آباء السينودس كلمتهم، ويكون عوناً للجميع من أجل غاية أكيدة ألا وهي الدعوة. والدعوة ما هي إلا وكالة، وعلى حاملها أن يكون أميناً حتى النهاية. فالأسقف رجل الله وحامل البشارة إلى الآخرين.

  شكراً لآباء السينودس الأجلاء الذين جمعتهم كلمة المسيح. فقد اكتشفتُ عبر لقاءاتي مع عديد من الآباء الكهنة والمؤمنين، ما هذا إلا نفحة من الروح القدس هبّت في هذا الزمن القاسي على أبناء كنيستي السريانية الكاثوليكية الأنطاكية. نعم، ما أجمل وجوهكم أيها الآباء الأجلاء وأنا أقرأ على جباهكم عَظَمَة الأمانة التي سلّمكم إياها رب السماء. شكراً وألف شكر، سأبقى وفياً لكل واحد منكم وخاصة لراعي أبرشيتي المطران متي شابا متوكه الذي خطّ في أفكاري أحرفاً روحية عبر مسيرتي الكهنوتية.. وأجمل هِبَة أقدّمها وفاءً لكم أيها الأجلاء صلاتي المتواضعة، فالصلاة مفتاح باب الله، ولا أجمل منها!!!. وأرجو المعذرة إذا ما أخطأت في تفسير كلمة هنا أو هناك.

  في الختام، ألثم يدكم وأطلب بركتكم الأبوية وشفاعة صلاتكم يا غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد، وآباء السينودس الكرام. ودمتم في حماية الصامت الكبير _ مار يوسف البتول.

                                                                                           ولدكم المحب
                                                                                     الخوراسقف بيوس قاشا
                                                                         خوري رعية مار يوسف للسريان الكاثوليك

 
نصّ خطاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر

   البابا في كلمته إلى سينودس السريان الكاثوليك غير العادي... تقديم شهادة وحدة ساطعة في عالم ممزق ومنقسم.
  اختُتم يوم السبت، 28 نيسان 2007، سينودس الكنيسة السريانية الكاثوليكية غير العادي الذي انعقد في 26 نيسان في الفاتيكان برئاسة أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال ترشيزيو برتونه وبتكليف شخصي من الحبر الأعظم. عرض آباء السينودس للمشاكل والعقبات التي تعترض حياة الكنيسة السريانية الكاثوليكية وتدارسوا سبل تفعيل دورها في العالم عامة وفي الشرق خصوصاً.
  على أثر إنتهاء الأعمال، التقى المجتمعون في القصر الرسولي بالبابا بندكتس السادس عشر الذي وجّه إليهم خطاباً حيّا فيه البطريرك مار أغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد وسائر الأساقفة، ومسطّراً أهمية هذا السينودس الذي دعا إلى عقده برغبة شخصية منه للنظر والتفكير في دعوة ورسالة هذه الكنيسة الشرقية والتأكيد على اللحمة التاريخية التي تربطها بالكرسي الرسولي والتعبير عن إعجابه بها ومشاطرته هموم رعاتها ورعاياها.
  ربط الأب الأقدس مسيرة زمن الفصح المرتكزة إلى موت وقيامة المسيح بمسيرة الكنيسة الأنطاكية السريانية التي تسعى جاهدة لإظهار وجه الرب القائم من الموت رغم معاكسة الأوضاع والظروف الداخلية والخارجية، ولإيجاد الحلول الناجعة لنهضتها الروحية والإجتماعية والرسولية، كما ذكّر بإهتمام السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني وحرصه على رأب كل خلاف وتصدع فيها وهذا ما يسعى إليه اليوم كخليفة لبطرس بالمحبة والمصالحة.
  أضاف البابا: أن ما توصل إليه آباء السينودس بعد تفكير عميق يحث كل الرعاة على إزالة العقبات التي تعترضهم وهو ما يتطلبه خير هذه الكنيسة الأنطاكية والحالة الخاصة التي يعيشها الشرق الأوسط، كذلك الشهادة والوحدة التي يمكن أن تقدمها الكنائس الكاثوليكية.
  تحديات كثيرة تواجه الجماعات المسيحية في العالم كله وأخطار وكمائن عديدة تهدد بطمس وحجب قيم الإنجيل. فمن الضرورة بمكان، تابع البابا، أن تعمل عائلة الكنيسة السريانية الكاثوليكية جاهدة للتبشير بالإنجيل، وأن تطوّر سبلاً راعوية مواكبة لتحديات العصر، وأن تقدّم شهادة وحدة ساطعة في عالم ممزق ومنقسم. واستشهد بما جاء في مرسوم الكنائس الشرقية رقم 24 من أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني:"إلى الكنائس الشرقية المتحدة مع الكرسي الرسولي الروماني يعود بنوع خاص أمرُ تشجيع الوحدة بين المسيحيين سيما مع المسيحيين الشرقين وفقاً لمبادئ المجمع المقدس حول الحركة المسكونية بالصلاة في بادئ الأمر ثم بسيرة حياتهم وبأمانة تقوية للتقاليد الشرقية القديمة وبتعارف متبادل أعمق وبالتعاون والتقدير الأخوي للأشياء والبشر".
  ختم البابا بندكتس السادس عشر خطابه يحث فيه آباء السينودس على متابعة المسيرة الرسولية التي خطّها القديس بولس في الشرق بكل حماسة وثقة وثبات والتي سار عليها كل من القديس إغناطيوس الأنطاكي والقديس أفرام وسائر قديسي الكنيسة. وأوكل إلى شفاعة وحماية العذراء مريم سيدة النجاة بطريرك وأبناء الكنيسة السريانية الكاثوليكية ثم منحهم بركته الرسولية.
                                                                         ((نقلاً عن موقع راديو الفاتيكان))


صفحات: [1]