1
المنبر الحر / أراد أن يرى ابنته
« في: 22:26 25/04/2020 »أراد أن يرى ابنته
(قصة حقيقية بأسماء مستعارة). خلف القضبان تصطبغ السماء بالألوان بكل هدوء وأمان. كل لون يحمل أمنية، والأولى في هذه الأمنيات كانت حلمه الوحيد: رؤية ابنته التي لم تكن قد ولدت بعد، إذ كانت زوجته حامل ببسمة وهي لما تكمل سن الثلاثين. هل ستكون ذات خد أسيل ووصف كامل؟ وهل سيبهر لون عينيها النفس ويشرح القلب؟ وقد كان يتمنى في نفسه وهو في السجن: ليته يستطيع أن ينظر إلى وجه بسمة ولو للحظة واحدة ويضع يديه على خديها لتشعر بحنان الأبوة، ويقول لها: أحبك كثيراً يا نجمتي الصغيرة. لكن هل سيرى بسمة؟ ذلك كان حلمه الوحيد وأمنيته الكبرى. وهل سيسمع صوتها وهي تطلق الأصوات الأولى عند البكاء بعد الولادة؟ تلك هي أعذب الأصوات في هذا العالم!
يا للروعة! أي حلم هذا؟ أية أمنية عظيمة؟ عندما يتفاعل الأب مع ذاته ويكشف عما في فكره من حلم مشروع له وهو من حقه الطبيعي، لكن أين حقك أيها الأب؟ أين تلك الأيام التي ستجلب لك الطمأنينة ولو للحظات قصيرة حين تشم خدّي بسمة؟ ترى هل تتحقق الأمنية عندما يبتغيها الأب لمجرد أنها أمنية تأسر نفسه وفكره وتنقله من حالة التمني إلى بلوغ السعادة القصوى؟
ولد بطل هذه القصة عام 1935 في إحدى القرى الصغيرة في زاخو واسمه أوراهم. عمل برتبة صغيرة في الجيش في موقع الموصل. في عام 1959 اشتدت عليه الخطورة بعد أحداث الشواف، واهتزت أم الربيعين واختلط الحابل بالنابل وارتبكت الأمور وانتشر الخوف بين الناس، وقال له أصدقاؤه المقربون: "ابتعد عن عدوك واختف"، فقال لهم: "ليس لدي ما يدعو لذلك".
ألقت السلطات القبض عليه وأودعته السجن، ووجهت له تهمة قتل ضابط كبير كان يعمل بأمرته، وفي عام 1963 رموه بالرصاص حتى الموت. لم يرَ بسمة، إلا أن بسمة رأته من خلال كلمات أمها.
كان أوراهم عفيف النفس، ذكي الفؤاد، سلس الطباع، رابط الجأش، شديد القلب وجريء على الليل؛ وكان يرتقي بتفكيره إلى معالي الأمور فيستقر باله وتسر نفسه. أحبّ اللون الأزرق الفاتح لأنه لون السماء، وأحب عيون المياه وأشجار الصفصاف.
تميز ببعد نظر فريد للغاية، فكان يريد أن تمتلئ الأرض بالأمن وبالألوان بكل هدوء وأمان، فلا يخاف أحد من الناس.
وكان في العيش من الذين يرضون بالكفاف، سباقاً إلى عمل الخير عندما يرى أن الحالة تناديه إلى ذلك، ولم يكن يضجر إذا حال حائل دون ما يجب أن يقدمه للناس، فقد كان كبير الثقة بنفسه وبكل أحد وموضع ثقة عند الآخرين. أجل، كان كريماً إلى أبعد الحدود بحيث أن الفرحة كانت تغمره عندما كان يساعد الآخرين. وكان يدعو الذين يعرفهم إلى المبيت في منزله بدل المبيت في الفندق رغبة منه في المساعدة وليس مخافة أو لغرض معين؛ كانت السعادة تغمره حينما كان يرى الآخرين فرحين. ما أروع الحالة عندما يكون الإنسان سعيداً! نعم، ليس في الحياة ما يفوق سعادة الإنسان على الأرض!
د. أمير يوسف
نيسان / 2020