الملفونو أبروهم نورو ... مجاهد في حقل اللغة السريانية
بقلم : جميل دياربكرلي إن وفاة الملفان أبروهوم نورو كانت مفاجأة كبرى تلقاها العالم الكلداني السرياني الأشوري بأسى عميق. وقد أنتشر الخبر الحزين في المواقع السريانية, وقنوات التلفزيون، أسرع من البرق. خاصةً وأن أبرشية حلب هيأت له جنازة مهيبة رغم قصر المدة, فكانت الوفاة بحدود الساعة السادسة من الصباح الباكر ليوم الثلاثاء السادس من شهر كانون الثاني سنة 2009, وهو عيد الدنح (الغطاس), وأما صلاة التجنيز فتمت في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر اليوم نفسه، فأهتم نيافة مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم مطران حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس اهتماما بالغاً, في أن يجعل جنازة الملفونو أبروهوم نورو بمثابة حفلةً تكريميةً له.
فهبَّ أهالي حي السريان عن بكرة أبيهم, يتقدمهم نيافة المطران يوحنا وجميع الإكليروس، والشمامسة، ونائب رئيس وأعضاء المجلس الملي في مرعيث مار جرجس ـ حي السريان، ورؤساء وأعضاء المؤسسات واللجان العاملة كلها. وكان على رأس المشيعين نيافة المطران شخصياً, الذي مشى مع إكليروسه أمام النعش من منزله إلى المذبح. وفي الكنيسة التي توشحت بالحزن، جرت مراسيم التشييع في جوٍّ خشوعي رائع, وكانت كلمة نيافته معبرة عن حزنه العميق شخصياً، وعن ألم حزن أهالي حي السريان على هذه الخسارة الفادحة التي وقعت بالأمة كُلِها.
كنتُ قد أعددت كلمة لمناسبة تكريمية للملفونو لم تحصل بسبب الوفاة، أنشرها لتبقى في أرشيف مواقع أبناء شعبنا لكي يكون ذِكرُ الملفونو أبروهوم نورو مؤبداً.
تقع الرها جنوب شرق تركيا, وكانت عاصمة إقليم أوسروين من أقاليم بلاد مابين النهرين، والمدينة ذاتها كانت من أمهات مدنها، من حيث موقعها الاستراتيجي، والمكانة العلمية، والأدبية المرموقة، التي حازت عليها.
وقد مرّ على الرها عدة محطات تاريخية هامة وعرفت فاتحين ومتسلطين عليها منهم: البابلي, الأشوري, السلوقي، والفتوحات الإسلامية، إلى زمن إعلان الجمهورية التركية.
لقد استنارت الرها, التي عُرِفت في ما بعد بـ : عاصمة الآداب السريانية, بنور المسيحية في زمن حاكمها الملك أبجر الخامس معنو الملقب بأوكاما Ukomo، وهنا نذكر قصة المنديل وحاننيا والوفد المرافق الذي أرسله الملك أبجر مع رسالة إلى السيد المسيح.
وبعد ذلك أضحت الرها مركزاً هاماً من مراكز المسيحية في العالم خاصة في اللاهوت والأدب الكنسي، وعرفت كواحدة من أهم المتروبوليتيات المشرقية اللائذة بالكرسي الأنطاكي.
وأهم ما ميَّز الرها كان مدرستها الشهيرة التي أصبحت منارة من منارات العلم والأدب, تشع بعلومها الفلسفية واللغوية واللاهوتية على الشرق كله, وكما أُشتهرت الرها باستعمالها أنقى لهجات السريانية 1 بحسب رأي الباحثين اللغويين.
وقد درج في تاريخ هذه المدينة المباركة ـ التي تعددت تسمياتها وتنوعت ما بين : أوديسا, الرها, أورفا اليوم شانلي أورفا ـ أسماء لامعة لأدباء وشعراء وفلاسفة و رجال دين منهم : الفيلسوف السرياني برديصان (222), الملفان مار أفرام النصيبيني كنارة الروح القدس وشمس السريان (373+) وقد كان أشهر من تسلم إدارة مدرستها, ومار رابولا الرهاوي صاحب الابتهالات أي التخشفتات (435+), الملفان نرساي الشاعر والأديب واللاهوتي الكبير (492+)، وكبير ملافنة السريان مار يعقوب الرهاوي (708+) وآخرون.
ففي هذه المدينة المباركة أبصر النور إبراهيم بن نوري كهلجي (أبروهوم نورو) سنة (1923) من عائلة سريانية أرثوذكسية 2.
وبتاريخ 25 شباط من عام 1924 ترك السريان الرهاويون مدينتهم، وتركوا ما فيها من أمجاد وعظمة آبائهم السريان, وقصدوا مدينة حلب, وحلّوا في رابية من روابيها, سميت بـ : برّاكات السريان وقتئذٍ, ومن بين الذين هاجروا نوري كهلجي وعائلته, بينهم ابراهيم وكان ابن سنة واحدة.
ولا حاجة لذكر الأسباب الحقيقة التي وقفت وراء انتقال هذا الشعب من الرها إلى حلب والذي أُقتُلِعَ من جذوره ولكن باختصار شديد كانت الأسباب لاإنسانية وتراجيديا فعلية.
عندما وصل الشعب السرياني إلى حي السريان بنى أولاً كنيسة صغيرة مصنوعة من خشب وإلى جانبها مدرسة بدائية بسيطة، وكان حلمهم أن تكون مدرستهم في حلب امتداداً لمدرسة الرها العريقة, في هذه المدرسة درس الفتى أبروهوم, أولاً على يد المعلم أسحق طاشجي مبادئ اللغة السريانية, والصلوات الفرضية البسيطة المعروفة في كتاب الإشحيم والألحان الكنسية في كتاب البيث كازو .
أنتقل بعدها إلى مدرسة كنيسة مار أفرام في حارة الهّزازة , حيث زادت محبته للغة أبائه اللغة السريانية وبخاصة لأنه تعرف إلى شخصيات سريانية كانت من وجوه الكنيسة ووجهاء الطائفة في ذلك الوقت، مثل : منصور شيلازي, شكري طراقجي3, يوحانون قاشيشو4، وغطاس مقدسي الياس5.
فكّر أولاً أن يتطوع في الجيش السوري، فخدم فترة قصيرة كضابط, ولكن أراد أن يستفيد من شهادة البكالوريا أكثر, فانتقل إلى بيروت, وتحديداً إلى جامعة القديس يوسف حيث درس الحقوق, ولكن بسبب مرض أنتابه انقطع عن الدراسة، وبدأت اتصالاته بالمهتمين باللغة السريانية وآدابها وتراثها خاصة بين السريان الموارنة.
بعد سنتين عاد إلى المدينة التي كبر فيها، وإلى حي السريان الذي نشأ فيه، والذي كانت في نفسه له ذكريات, وبدأ الحماس يدب فيه, فاهتم بالتنشئة، فأسس مع العاملين في الطائفة أخوية الإيماس للمرحلة الإعدادية, والإيتاس للمرحلة الثانوية.
وهنا بدأت محبة الشاب أبروهوم تكبر للغة السريانية بشكل منقطع النظير, حتى وصلت لحد العشق, على عكس الشباب الذين بعمره وكانوا يبحثون عن الزواج، أخذ هو بالبحث والتعمق في هذه اللغة ومصطلحاتها، فلقّنها في البداية لأفراد أسرته لتصير بذلك أول أسرة سريانية رهاوية معاصرة تتكلم بالسريانية الفصحى في البيت.
وتفرغ كلياً بالتعمق بلغة آبائه اللغة السريانية، ومنذ عام 1947 أنخرط في سلك تدريس اللغة السريانية عن طريق الدورات التي كانت أولاها في القدس، وهكذا تتالت الدورات في كلٍّ من دمشق, حلب, جبل لبنان، ودير مار أفرام في العطشانة، وفي أديرة الرهبان الموارنة خاصة في جامعة الكسليك.
وفي عام 1967 زار معظم المراكز السريانية 6 في العالم, وألّف في هذه الزيارات كتاباً أسماه : جولتي وفيه معلومات عن هذه المراكز، وعن الكتّاب، والأدباء السريان.
وكان الملفونو أبروهوم قد أبتكر طريقة تعليم جديدة بأسلوب سمعي بصري حديث أسّماها طريقة السولوقو, طبعت في كتاب بهولندا سنة 1989.
ولم يخطر على باله أن يرتبط بالزواج إلا عندما بلغ الواحد والسبعين من عمره، فبارك نيافة مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم إكليله على السيدة أنطوانيت باندو التي بقيت وفية له و معه حتى وفاته, وكانت خير عون له، وذلك في كاتدرائية مار يعقوب النصيبيني بالقامشلي في 15/أيار/1994.
وفي عام 1997 أصدر كتابه الثالث المعنون بـ(تولدوثو سريويوثو) أي المصطلحات السريانية المستحدثة, وهو حصيلة جهد كبير وأعوام عديدة من الدراسة والبحث.
يملك الملفونو أبروهوم مكتبة ضخمة, تعتبر من أكبر وأهم أمهات المكتبات السريانية التخصصية الخاصة, فهي مكتبة شاملة جمع كتبها خلال ستة عقودٍ من الزمن، فيها كتب باللغات السريانية, العربية, التركية, الإنكليزية, الفرنسية, الألمانية. وأما موضوعاتها فهي تتنوع ما بين: التاريخ, اللغة, النحو, الدين, الصحة, الطب, وعدد كبير من القواميس (من وإلى السريانية) بينها بعض الطبعات الأولى النادرة والمفقودة.
أما محبته للغة السريانية والغوص بتاريخ شعبه وعشقه للتراث والآباء والملافنة فحدث عنه ولا حرج ! كان يقول دائماً : نحن نعرف بأننا تلاميذ الملفان نعوم فائق، ونسير في خطاه بحسب كلماته ونصائحه وإرشاداته, ونعمل على إتمام ما كان يرغب ويجب أن يكون لشعبنا. وأما عن الملفونو يوحانون قاشيشو فكان يقول : إنه أول من فتح أعيننا على هذه الطريق. وكانت علاقته مميزة مع المثلث الرحمة المطران يوحنا دولباني مطران ماردين سابقاً، والمرحوم الملفونو غطاس (دنحو) مقدسي الياس الذي بقي يراسله حتى أيامه الأخيرة.
بقي الملفونو أبروهوم ملتزماً دائماً بخدمة كنيسته السريانية الأرثوذكسية وخاصةً في مرعيث مار جرجس، إذ كان يقف يومياً صباح مساء على الكود مع الكهنة وبعض الشمامسة، ويصلي في كتابي الإشحيم والفنقيث, ولم ينسَ أن يسجل ملاحظاته على الكلمات والعبارات والمصطلحات، ونظراً لمحبته الكبيرة للكنيسة رسمه مطران الأبرشية مار غريغوريوس يوحنا شماساً قارئاً ثم أفودياقوناً بتاريخ 4/3/2001 في كاتدرائية مار أفرام السرياني بحلب.
كان الملفونو أبروهوم قومياً في فكره, وكان يحلم أن تتم وحدة التسميات للشعب الكلداني السرياني الأشوري الواحد, وباعتقاده إن هذا أكبر مكسب لشعبه, وكان يحلم مثل غيره أن يرى شعبه قد حصل على حقوقه الثقافية أولاً, وقد عمل كثيراً من أجل أن يجعل تدريس اللغة السريانية في كل مكان رسمياً، وعندما صدر قرار منح الحقوق الثقافية في العراق، كان أول من هلّل لهذا القرار، وسافر إلى بغداد لكي يهنئ الحكومة هناك بهذا القرار الجريء والحكيم. لقد آلمه جداً ما وقع في العراق من أحداث خطيرة وخاصة أنها قد أثّرت على الوجود شعبنا الكلداني السرياني الأشوري, مما أضطر أعداداً كبيرة من أبناء شعبنا على الهجرة إلى ما وراء البحار، أي تركوا وراءهم أرض آبائهم، ولغة شعبهم، وأغلقوا صفحة من صفحات عطاءاتهم المجيدة, وفتحوا صفحة جديدة لا أحد يعرف مستقبلها. وكان الملفونو أبروهوم يحارب الهجرة بكل أنواعها , وقد زار سهل نينوى أكثر من مرة وكان يبدي آراءه بشكل واضح تجاه التطورات, وكان له الأمل بأن يكون هذا السهل منطقة حكم ذاتي لشعبنا.
وبقيت لمدينة القامشلي مكانة خاصة في قلبه وعقله, كان ينظر إليها كمدينة وارثة لمدينة نصيبين ومدرستها، التي كانت بمثابة أول جامعة في بلاد مابين النهرين, وقد عبّر الراحل الكبير عن فرحه وسعادته للنشاطات التي جرت فيها منذ الخمسينيات وحتى اليوم، وظهرت محبته عندما قرر أن تتم مراسيم إكليله في القامشلي حصراً.
كان الملفونو يتقن اللغات السريانية والعربية والإنكليزية والفرنسية والتركية ويلم بالألمانية. وقد حاضر كثيراً في السريانية ولغتها وتراثها وآدابها في كامبريدج وأكسفورد والهند والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والبلدان العربية وتركيا وإيران.
وفاة الملفونو أبروهوم نورو خسارة كبيرة للغة السريانية، ولكن اسمه سيبقى بين أعلامها الخالدين، وستكتب عنه أقلام حرة تقرأ أفكاره ورؤيته للتاريخ.
بهذا أختم هذه اللمحة القصيرة عن أهم شخصية سريانية عرفها شعبنا في القرنين العشرين والحادي والعشرين خدم اللغة السريانية ومفرداتها ومصطلحاتها، ولكن يبقى السؤال هل نال الملفونو أبروهوم نورو حقه من التكريم من أبناء شعبه ؟
الحواشي : 1- لا تزال هذه اللغة مستعملة ليومنا هذا.
2- للملفونو أخوان جورج (حلب) , شمعون (السويد) وثلاث أخوات سلمى, هيلين, شاميرام (إيطاليا).
3- للمزيد عن حياته راجع كتاب : المربي، إعداد : مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم، نشر في دار ماردين ـ الرها حلب 1998.
4- يوحانون قاشيشو (1918-1997): من مواليد اسفس ويعتبر من الأدباء السريان الأكثر عطاءً في القرن الماضي وله سلاسل تعليمية باللغة السريانية وقاموسان (سرياني ـ سويدي) و أكثر من 200 قصيدة توفي في السويد.
5- غطاس (دنحو) مقدسي الياس (1911-2008): من مواليد مذيات دّرس السريانية و الفرنسية والعلوم الدينية ببيروت وتقلد وظائف مهمة في الدولة وله قصائد و مقالات وأشعار بالسريانية والعربية و الفرنسية توفي قي البرازيل، راجع كتاب : الأثمار الأخيرة، مقدمة لنيافة المطران مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم.
6- هنا أقصد المراكز التي تتخذ من السريانية لغةً لها من سريان مغاربة ومشارقة، أي السريان الأرثوذكس، وكنيسة المشرق القديمة، والكلدان، والسريان الكاثوليك، والسريان الموارنة، والكنائس السريانية في الهند.
المصادر :1- لقاءات شخصية في مناسبات كثيرة مع الملفونو أبروهوم نورو في حلب والقامشلي.
2- مقدمة بقلم المطران يوحنا ابراهيم في كتاب : مشاعل الرها للمربية سارة دوغرامجي،
الطبعة الأولى، دار ماردين حلب 2004.
3- أدب اللغة السريانية، للأب ألبير أبونا، الطبعة الثانية، دار المشرق بيروت 1996.
4- الأديب يوسف نامق، كتاب : القافلة الأخيرة، الطبعة الأولى، دار الرها حلب 1991.
5- كتاب الأثمار الأخيرة، للملفونو غطاس (دنحو) مقدسي الياس، نشر في دار ماردين ـ الرها
حلب 2007.
6- كتاب نسمات الجبل، أيضاً للشاعر غطاس (دنحو) مقدسي الياس، دار ماردين ـ الرها
حلب 2001.