عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - يعقوب أفرام منصور

صفحات: [1]
1
المهرجان العربي والكلداني

يقيم المهرجان العربي والكلداني مهرجانه السنوي الخمسون في قلب مدينة ديترويت الكبرى (هارت بلازا) يومي السبت والاحد المصادف 29 و 30 من هذا الشهر( تموز).
سيشارك في المهرجان الفنانون أحمد حاطوم, سوسن كيزي, توني عيد, وأدم نادر بألاضافة الى فرقة اللأوج والمطرب خالد كمر وكذالك يوجد فرق أخرى للرقص الشعبي الفولكلوري, وعرضأ للأزياء الشعبية والاكلات المتنوعه وكلاون للأطفال وايضأ يوجد معرض تراثي.
الدخول مجانأ لمزيد من المعلومات الرجاء الاتصال 248-960-9956
ملاحظة: المهرجان يفتح الساعة الثانية عشر ظهرأ والبرنامج يبدأ السا عة الخامسة والنصف مساء   


2
ألإنسان أقسى مخلوق على نوعه
                                                             
يعقوب أفرام منصور

يتميّز الإنسان بكونه أرقى الأنواع الحيوانية إطلاقًا بفضل كونه حيوانًا ناطقًا ذا روح أو نسمة  حياة إلاهيّة، وذا عقل وضمير، وميزات التفوّق هذه تضعه حيال مسؤوليّة أخلاقية في مجال تصرّفاته وميوله وأفعاله في التعامل والتعاشر وممارسة الأنشطة، واتخاذ المواقف. لذا منذ البدء الوجودي المدرك حدّدت الشرائع السماوية، ثم الوضعية حدودًا للممكن والجائز من أفعاله وميوله وتصرّفاته. ولمّا وصل إلى الدرجات الأولى من الإرتقاء، إرتسمت له (  في ضوء الشرائع والقوانين ) حدود للمناسب والفاضل والصالح وأضدادها: المنكَر والردىء والطالح من الأفعال والميول والتصرفات والمواقف، وخصوصًا النهي عن القتل، والحث على الحب والتحابب  فيكون ما يصدر عنه من أفعال خلافًا للحسنات والإيجابيات، وتجاوزًا للمحرّمات، يُعدّ شرعًا وقانونًا خطيئة وإثمًا وجُرمًا، يستحق عليهاالعقاب والقصاص.
      ثمّةَ حقيقة صارخة مؤسفة ومؤلمة ـ حقيقة  ملموسة عن الإنسان، هي إن أشرس  الحيوانات الوحشية المفترسة ـ وهي من فصيلة السباع ـ الأسد والنمر والفهد والذئب والكلب والقط والثعلب ـ من جهة ـ ثمّ المسلحة بمخالب وقرون وأنياب ـ من جهة ثانية ـ  لا تبطش بأنواعها المماثلة إلى حد القتل والسفك والتمزيق والولوغ في الدم ، كما تفعل الذئاب في فرائسها وليس في أفراد نوعها (ألذئب) ! ووحيد القرن  لا يبقر  بطن أو صدر  وحيد القرن، والدب لا يفترس دبًا ، والقرد لا يقتل قردًا، والفيل لا يبطش بنظيره بالخرطوم أو بالنابَين، والحيّة لا تلدغ الحيّة، لكنها تلدغ أنواعًا غيرها ـ كما فعلت بأسد على الرغم من ضخامته وشجاعته، بالإلتفاف حول رقبته حيث لدغته لدغة الموت، كما شاهدتُها تفعل ذلك في شريط سينمائي، وانفكّت عنه بعد دقيقتبن حين غدا جثّة هامدة!
       لكنّ الإنسان الحضري المتمديِن، ذا النسمة الإلاهيّة، الذي تنهاه شريعة كتابية عن القتل، ويجرّمه قانون مدني، فهو يقتل مخلوقًا نظيره وأخاه من نوعه الآدمي بأشكال وأساليب في منتهى القسوة والهمجيّة أحيانًا، لا تقترفها أنواع وحوش الغاب! فما أقسى الإتسان، وما أوحشه وأكفره !
     تتجلّى مصداقية عنوان هذا المقال على مضامينه المشهودة والمدوّنة منذ القِدم، والمتواصلة بتصاعد وتفاقم مع الأرتقاء المدني والصناعي والتكنولوجي، حين يستعرض الإنسان تاريخ الجنس البشري االحضاري، ووقائع عيش المجتمعات الكبيرة في الحواضر وحتى في  أصغر القرى.
      ما أفظع قتول ضحايا الحربين العالميتين: ألأولى (20 مليونًا) والثانية (49) مليونًا ! وما  أكثر ضحايا الحروب الموضعية اللا حقة  في فلسطين ومصر وكوريا وفيتنام وأوستراليا وأقطار الشرق الأوسط منذ  50 عامًا ! ما أكثر ضحايا القتل والسفك والذبح بسبب خلافات وأحقاد وكراهيات عنصرية ودينية ومذهبية وطائفية!
     بلغت قسوة الإنسان على الإنسان أن آباءً قتلوا أولادهم، وأبناءً قتلوا آباءهم، ورجالاً قتلوا نساءهم وأمهاتهم وشقيقاتهم،  ونساءً قتلن أزواجهن وأولادهنّ !
      أيّ جريمة فظيعة إرتكبتها أمريكا وحلفاؤها في قصف هيروشيما وناغازاكي في آب  1945 بقنابل ذرّية، وأيّ جريمة فظيعة إقترفتها أمريكا بحق شعبها في قصف ناطحتي سحاب في سبتمبر 2001 في أمريكا نفسها، تمهيدًا لإشعال حروب في الشرق الأوسط حتى الأن؟!
       ما أكثر ضحايا ثورات الشعوب المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة والإستقلال من حكّامها الظالمين والمستبدّين، ومن دوَل الغرب المستعمرين !
     قبل 300 سنة من مولد المسيح، قال (لآوتسو) الحكيم الصيني : " إن نظام الحكم الذي يُمجّد الحرب، ويؤلّه السلاح، يغدو الموت في ظِلّه أعذب من الحياة .. وإن شرّ الأسلحة والجيوش أكبر من جميع الشرور الأخرى !" وبعد 2300 سنة من هذه المقولة الذهبية الإنسانية، ها إن البشرية تلمس حُمّى تسابق الدول الكبرى إلى ممارسة جريمة التسلّح التي كانت  قد انحسرت  قليلاً قبل بدء العقد الأخير من القرن العشرين، لكنها  عادت ساخنة مع مطلع عام 2001 المشؤوم! أجل تسابق لأجل الإبادة الجماعية، وبباعث من تباهي وتبختر الرؤساء الكبار، وتفاخر العلماء عديمي الضمير، وبحثّ من القوى الهدّامة العاملة منذ ثلاثة قرون. كم تربح شعوبكم من هذا التسابق الحثيث المذنب، وكم تخسر ؟!
    من المضحك والمبكي أيضًا أن نسمع بوجود جمعيات للرفق بالحيوان في حين عدم وجود رفق بالإنسان !
      ما جدوى منظمات  حقوق  الإنسان التي جلّ همّها المشهود إعلامي  وإعلاني وإحصائي، إذ لم نسمع أو نقرا يومًا إن إحدى هذه الجمعيات ناشدت الدول المعتدية والمحاربة أن توُقف سفكها الدماء، وتكفّ عن تخريبها الدور والمؤسسات والمستشفيات، وأن ترفع نداءاتها الى مجلس الأمن الدوَلي، وفي حين الأنكى من ذلك أن هذه الدول الكبرى الي تنتج الأسلحة المتطوّرة المهلِكة، وتربح المليارات من بيعها لتعميم ومضاعفة الشرور بالقتول والتخريب والحرق، هي التي أوجدت المنظمات الإرهابية، وتزوّدها بأحدث نتاجاتها المميتة والفتّاكة لتحقيق أطماع هذه الدول الكبرى الجشِعة في المال والغطرسة والإستعباد وبسط نطاق سيطرتها وتجارتها، وذلك لصالح تلبية أهواء أشرار العالم المتفرّجين على المذابح والمهالك والحرائق والإبادة الجماعية؛ ومؤخّرًا في مطلع هذا العام بحرب وربما لاحقًا بحروب بيولوجيّة!!
      والذين يعيشون يرون!           

3
خصائص رئيس الدولة الحاكم
                                               
يعقوب أفرام منصور
      نُماثِل تركيبة الدولة تركيبة العائلة من وجوهً عدّة، فكما أن تركيبة العائلة تتألّف من رئيس هو الأب، ثم الأم المساعدة له والمدبّرة لشؤون البيت، ثم العيال ـ اي الأولاد وربما الأحفاد أيضًا ـ وحتى الخدم في بعض البيوت، هكذا هي تركيبة الدولة في أيّ نظام حاكم كانت :جمهوري، ملكي، أميري؛ وقاعدتها الكبرى الواسعة هي الشعب بكل فئاته وطبقاته وانتماءاته وعقائده، ثم الحكومة التي تمثّل السلطة التنفيذية، ثم البرلمان الذي يمثّل السلطة التشريعية والرقابية، ثم الرئيس ـ رئيس الجمهورية، أو عاهل المملكة الذي غالبَا ما يكون حاميًا للدستور.
     من صفات العائلة السعيدة هي إستتباب أحوالها ، وذلك حينما يكون رأسها، الأب أو الأم أحيانًا ـ إن كان الأب غائبًا أو متوفّى  ـ  ممتلكًا عقلاً راجحًا وقلبًا وسيعًا، محبًا لكل من هم تحت سقف بيته، حليمًا، صبورًا، رشيدًا، مستعدًا للبذل الأقصى الممكن، ولتوفير ضرورات العيش الكريم لأفراد بيته. هكذا يكون رئيس الدولة متّسمًا ومتميّزًا بهذه الصفات الآنف ذكرها، حاملاً هذه الخصال الحسنة، كي تغدو غالبية أفراد شعبه حائزة على عوامل العيش الرغيد الكريم بفضل ما منحهم من حريات عامة، وأتاح لهم فرص عمل تناسب قابليا تهم ومؤهلاتهم، وبفضل ما عمّ مجنمعَه من أمن واستقرار وعدل في تطبيق الحقوق والواجبات على الرعية؛ وكل هذه العوامل الفاعلة بالتالي تصبّ في صالح إزدهار النظام الحاكم وديمومته إبان حياة ذلك الرئيس الرشيد الصالح.
     وأيّ خلل أو نقص أو عجز أو تجاوز أو طغيان في التعامل والأداء والتصرّف من أيٍّ  من الطرفين ـ الحاكم ممثّلاً بالرئيس ، والمحكوم ممثَلاٍ بالشعب ـ  يؤدّي إلى نشوب القلاقل والفوضى والإضطراب والإستياء في أوساط المجتمع، ثم بروز فرقاء معارضين في حالة انعدام  التحاور بغية تلبية بعض المطالب الملحّة والمشروعة للشعب الذي يضمّ جمهرة كبيرة من المحرومين والمضطهَدين والعاطلين والمهمَشين والمنبوذين الذين غالبًا ما ينضمّون إلى صفوف المعارضة الموضوعيين والمحقّين في معارضتهم. جدير بالذكر هنا أن صفوف المعارضة يجب أن تكون موحّدة الهدف والمطالب الحيوية، وعاملة داخل القطر و ليس خارجه، ومجرّدة من الأنانيات الذاتية، ومن التصلّب في التحاور، ومن الإسراف في المطالب الآنية.
      من الممكن الإستشهاد ببعض الدوَل التي تحيا شعوبها في بحبوحة من عيش رضيّ كريم، خالٍ من التمرّد والنقمة والنفور والتهجير القسري، وهي الدول الإسكندنافبة : النروج، السويد، فنلندة، الدانمارك، وفي بعض أقطار أوربا الوسطى : سويسرة، هولندة، ألمانيا، النمسا، وإذا تحرّينا أسباب هذا العيش الرضيّ الهادئ فيها، ألفينا توفّر المواصفات والعوامل القائمة بين طرفَي الدولة : ألأصغر حجمًأ ممثّلاً بالرئيس الحاكم، والأكبر حجمًا ممثّلاً بالشعب المحكوم.
      منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم فصاعدًا، تفاقم ظهور الأنظمة الحاكمة التي ترأّسها رؤساء حاكمون شموليون طغاة قساة، يعزفون عن منح بعض الحريات العامّة للهيئات المعارِضة، ويميّزون ويحابون في منح الحقوق والواجبات بين الفئات والطوائف والإيديولوجيات، وقد إستغلّ الغرب ـ في موجة عارمة من " إستعماره الجديد " الشَرِه ـ  هذه الصفات الرديئة والخصال الذميمة لدى الرؤساء الشموليين من خلال بِدعة عملية  " الربيع العربي !" المزيّف ، التي إبتدعها الإعلام الغربي، تمويهًا بشكلٍ هو أسوأ من تقسيم " سايكس بيكو 1916 "، تنفيذًا لإرادة وزارة الدفاع الأمريكية التي بدورها نفّذت إرادة برنارد لويس الصهيوني في عام 1980 ـ فأدّى ذلك إلى ظهور رؤساء أنظمة في الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين، تعاملوا ويتعاملون الآن مع شعوبهم بتحيّز وقسوة شرسة بلغت حدّ القتل والسفك الجماعيين، والتهجير القسري، والتخريب والهدم الشامل، واستخدام التنظيمات الإرهابية، واستعمال الأسلحة المحرّمة دوَليًا، وإلقاء الغازات السامّة الخانقة، والبراميل المتفجّرة المشبعة بالغازات السامّة !
     كل هذا يجري على مرأى من الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية الكبرى  خصوصًأ في أمريكا وأوربا، وعلى مسمع ومراى المنظمة العالمية ومجلس أمنها، من دون عمل جاد لإيقاف هذه المقترفات الجُرمية إستنادًا إلى بنود القانون الدوَلي، حتى إن المنظّمات الإنسانية للحقوق والسلام ونظافة البيئة تذيع أنباءًا وتحقيقات وتعرض مشاهد من هذه التجاوزات على حقوق الشعوب من قِبل  أنطمة حاكميها وبأوامرمن رؤسائها الحاكمين  العتاة الجناة إلى حد لم يسجّل التاريخ قبلئذٍ عديلَها.
       هنا ثمة سؤال يطرحه الموضوع : من هي الدوَل التي تنتج هذه الأسلحة الفتّاكة المحرّمة دوَليًا ؟! ومن يبيعها ويزوّدها ويوصلها إلى الدوَل التي يرئسها رؤساء حاكمون شموليون قساة جناة على شعوبهم ؟! وإذا كانت محرّمة ، فلماذا تنُتجها الدول الكبرى كي يذهب ريعها إلى خزائن تلك الدول التي تصنعها وتبيعها  وتؤمّن إيصالها ؟! هل إرضاء شركات تصنيع الأسلحة أمر مُتاح كي تُستخدم لقتل الأبرياء من السكان والبشر لصالح الدوَل الكبرى المنتِجة الغاشمة؟! أترك الجواب للقرّاء   وللدول المصنِّعة للأسلحة المحرًّمة دُوَليًا !!
 
   
 
     

4
وباء كورونا19 يدقّ جرس النذير

                                                  يعقوب أفرام منصور
       كان النذير الأول الخطير للبشرية هو الصادر عن الرب البارئ إلى عبده  الصالح (نوح) بواقعة طوفان غامر كاسح شامل مُبيد قبل حوالي 7600 عام،إستنادًا إلى عملية مسح استكشاف جيولوجي، قام به  فريق مؤلّف من عالِمين أمريكيين في العقد الأخير من القرن الأخير من القرن العشرين هما وليم ريان ووالتر بتمان، بمعيّة علماء محيطات من بلغاريا وروسيا وتركيا، لإستكشاف البحر الأسود الذي منه ـ خلال وادي البسفور الضيّق ـ حصل الدفق الطوفاني الهائل بقوة لا يمكن تصوّرها بسبب انصباب مياه البحر الأبيض المتوسط، متدفّقة فوق الشواطئ والأنهار واليابسة، مدمّرة ومطاردة جميع أشكال الحياة والحضارة في طريقها، وجرى هروب الناس منها إلى غير رجعة. فقد كشف الباحثان العالمان أدلّة آثاريّة ووراثية ولغوية مشيرة إلى حصول تشتّت بشري سريع، وامتدّ إلى غرب أوربا وآسيا الوسطى والصين ومصر والخليج العربي وشعوب منطقة البحر الأسود، حتى إنه يمكن أن يكون ضمنَهم السومريّون الذين أسسوا أول حضارة مدوّنة في بلاد ما بين النهرين، فكانت هي منبع حضارة العالم. (أنظر كتاب " طوفان نوح " من منشورات "بيت الحكمة " ومجلة "ألفكر المسيحي " ـ دار البستان للصحافة والنشر ـ بغداد 2005) .
        هذه المعلومات الموثّقة تذكّرنا بما ورد في ( أسطورة جلجامش )  السومرية عن  الخلق والطوفان ، كما تذكّرنا ب (سِفر التكوين) من (الكتاب المقدّس) في فصوله 6 ـ 9  عن الطوفان، وبذا تبرز بعض نقاط التقاء وإنجازات قويّة بفضل طاقة نوح (الصالح الوحيد آنئذٍ) لتوجيهات الرب، إذ يُعَدّ الأب الثاني للجنس البشري، ورجل الصبر والثبات، وبنّاء عظيم للسفن !
      غِبّ الطوفان جرى تنامي عدد البشر من نسل أبناء نوح : سام ـ حام ـ يافت، كما تعددت أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم، وانتشرت الخلائق على أطراف سطوح كوكب الأرض خلال زهاء 5500 سنة قبل بداية التقويم الميلادي ب (2020 سنة) . في بحر هذه الحقبة الطويلة من التاريخ الحضاري البشري قامت دويلات ثم دُوَل وممالك وسلطنات وإمبراطوريات، شاعت فيها الديانات الوثنية، حتى ظهور إبراهيم أبي المؤمنين في حوالي عام 1800 ق.م. ـ اي  بعد حمورابي ب 100 سنة، فكان إبراهيم أول مخلوق مؤمن بوجود الله خالق البشر والأكوان وهو رب العدل والحق والصلاح والإستقامة.  ولما ظهر موسى (كليم الله) كان الزمان حوالي 1300 ق.م.، وكانت السُنن والشرائع المعروفة آنذاك هي شريعة حمورابي حوالي عام 1750 ق.م.، وشريعة نرام سن الأكدي في عام 2000 ق.م. ، لكنها كانت قليلة البنود والشهرة. مع العلم أن إبراهيم عاصر مَلْكي صادق ، ملك وكاهن للعلي في أورشليم حيث التقى إبراهيم وباركه، وكان المديانيون المقيمون على ساحل البحر الأحمر وفي صحراء سيناء في زمان  موسى قومًا موحّدين الله لأنهم نسل إبراهيم من زوجته الثانية قطورة.
       مع وجود هذه الأديان الوثنية، ووجود الشرائع والسُنن الأنف ذكرها حينئذٍ ـ قبل شريعة موسىى ـ التي من شأن جميعها تنظيم الحياة الحسنة وتطبيق العدالة وصيانة الحقوق الفردية والعامة، وترسيم الحدود المتاخمة بين الدول، لكن تخللتها الحروب والمطامع والمفاسد والتآمر وشيوع الغش والمظالم والرذائل والسيئات التي أ!زعجت وأغضبت الله الخالق أيضًا كما  كانت  قبل الطوفان وربما أكثر !
       شاء الرب بعدئذٍ أن يظهر النبي موسى من الشعب العبراني الذي يحمل عقيدة إبراهيم بعد حوالي 500 سنة، أي حوالي عام 1300 ق. م. وفي العهد الأخير من فراعنة وادي النيل وفي مصر وفي العصر الوسيط من حقبة الدولة الآشورية، ليُقَفّي  على موسى بأنبياء عديدين من بني إسرائيل العبريين خلال فترات متفاوتة، وكان كل نبي منهم بمثابة منذر ومرشد وهادٍ لقوم أسرائيل (غلاظ الرقاب ، كما نعتهم موسى) وجميع أنبيائهم تنبأوا بمجيء نبي مخلّص يُدعى المسيح المنتظَر، شاءه العبرانيون مخلّصًا  سياسيًا. لكن الشعب الإسرائيلي لم يسلك السلوك الإيماني المنصاع لإرادة الله ووصاياه، ولا بالإعتماد عليه في امور حياتهم، ولم يُحبوا الله كما طلب ووجب عليهم كما شرح لهم موسى ذلك في سِفره (تثنية الإشتراع)، فكان أن سلّط الله عليهم قضبان غضبه من خلال حكّام آشور والكلديين مرارًا عديدة، كما أنذرهم عبرَ االنبوءات، غير أنهم قتلوا معظمهم.
     في غضون ألفي عام تقريبًا من تاريخ البشرية، قبل مولد السيّد المسيح، وعلى الرغم من بروز إبراهيم على مسرح الوجود والتاريخ، ثّم موسى كليم الله وشريعته ذات الوصاياالعشر، ومحتوى سِفر "تثنية الإشتراع"، سادت الحروب والمظالم والأطماع والموبقات والرذائل والنفاق، وعبادة الأوثان والبقر، برغم اشتهار وتطبيق شريعة حمورابي وقوانين الفرس واليونان والرومان، وشاع الفجور والأسترقاق والسفك بدوافع الإستملاك والإشتهار والإستعباد والغطرسة، حتى إن قياصرة روما عدّوا أنفسهم ألهة أرضيين تستوجب الشعب أن يسجدوا لهم ويُبخّروا لهم كما للأصنام !
   بعد600 سنة من التاريخ الميلادي أُستُهِلّ إنتشار عقيدة الإسلام التوحيدية في أقطار المشرق أولاً ثمّ في أقطار الغرب الأوربي فالأمريكي ففي كل القارات. لكن برغم انتشار العقائد والمذاهب الإيمانية للأديان التوحيدية الكتابية أمست البشرية غارقة في بحر من الآثام والذنوب والشرور إلى حد الكفر وإطاعة غوايات إبليس على نحوٍ متصاعد منذ (عصر التنوير!) والثورة الصناعية، وتعاظم الثروات والغنى الباذخ وجالب الشرور والإنحرافات المرافقة للمد الإستعماري، واستفحال الأطماع التي لا تشبع أبدًا إلى حد الفتك والسفك في حربين عالميتين رهيبتين، رافقتهما وعود زائفة من القوى الكبرى بمنح الإستقلال للشعوب والقوميات الصغرى، وتحريم الحروب كما نصّ ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945. لكن برزت حُمّى تسابق التسلّح ( قبلاً وحاليًا )  هوالمنذر بالإهلاك الشامل، والأنكى هو الإعداد لغزو الكواكب والعوالم الفضائية بدافع الغرور المظلم وكبرياء التعالم، متجاهلين حقيقة علمية هي إستحالة عيش خلائق الأرض على كواكب أخرى ـ إن وُجدت !  لقد بلغ الإنسان الذروة في الإرتقاء الحضاري التكنولوجي، وليس الأخلاقي وهو الأوجب، وعلّته الكبرى هي بعده الشاسع عن الله ، واعتماده على القوة والذكاء في حل معضلاته ومشاكله، وليس على سبل الله القويمة،؛ ثمّ علّته الثانية : إغراقه في الطمع الذي لا يشبع بكل أشكاله !
     وآخر ما شهدته البشرية حاليًا، منذ مطلع آذار 20، من سوء فعل وقسوة واستهتار بالقِيَم الأخلاقية والإنسانية، وبأرواح الناس عمومًا في كل القارات، هو نشرٌ مفتعل متعمّد لفايروس وباء كورونا19  شديد الفتك، وسيع الإنتشار، غزير التكاثر، وقامت ـ  ـ بهندسته الإعدادية لتوليده وتكثيره وتطويره في مختبرات خاصة ـ ثلاث قوى إقتصادية متناحرة متنافسة تنافسًا حادًا : شرقية وغربية وأوسطية، وحدة التنافس بين القوتين الأولَيين تبلغ درجة التحرّق لبلوغ الهيمنة الإقتصادية على دوَل وشعوب العالم، وبينهم كيان ثالث ثانوي أوسطي، إنتهز فرصة الإنتشار الوبائي هذا لتحقيق مآربه الطموحة إلى الإمتداد والتوسّع لينافس القوّتين؛ وتسعى القوى الثلاث لتحقيق أغراض إيذائية موغلة في القسوة والأنانية الجرمية القاتلة التي تستحق المساءلة والعقاب، وستكشف الأيام وشيكًا عن أسرار هذه المساعي الجرميّة، فليس من خافٍ إلاّ سيُعلَم !
     هذا الفعل الجرمي يوحي بتكراره، لذا اقول ، وآخَرون يقولون : [ إن وباء كورونا19  يدقّ جرس النذير الخطير] وذلك لنهاية مأساوية لخلائق هذا الكوكب قبل نهاية إفنائها بالأسلحة النووية المخزونة في عنابر الدوَل  الجشعة المستهترة بأرواح المليارات، إذ إن الشائع قبل شهور هو التحضير لإنتاج وباء يحمل الرقم 33 ـ أي بعد 13 سنة ! ولعلّ الراسخين  في العلم والعرفان يدركون مغزى هذا الرقم المشهور بالشؤم، ومرامه ومصدره ! ولا أستبعد إنتاج وباء قبله وآخّر بعده ! والذين يعيشون يرون! ولكن من مدعاة الأسف الشديد والمحزن هو إن (الإنسان)  يبدو جليًا الآن ( ليس سيّد نفسه ) ـ كما  يجب أن يكون ـ لذا فهو ليس سيّد مصيره،  بل هو مسودٌ عليه !













   

   


5
موجات الحداثة في النصوص السردية
                                           
يعقوب أفرام منصور
     لا ريب في أنّ دلالات أجناس النتاجات الأدبية في القصّة والرواية والمسرحية والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، ثم الأقصوصة، نص مفتوح، وربما غيرها أيضًا، هي من مفاهيم أحياء العصر الحديث الحالي من العرب ولدى الشعوب الأخرى كذلك. فلو أخذنا جنس الرواية الحديثة التي ظهرت في الغرب في أواسط/أواخر القرن التاسع عشر، ووصلت إلى البلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر (عصر النهضة العربية)، مترجمة أو باللغتين الفرنسية  والإنكليزية،  لوجدنا مفردتهاالإنكليزية (novel) ونظيرتها الفرنسية (nouvelle) تعنيان رواية ـ قصّة ـ حكاية ـ غريب ـ غير عادي ـ نادر ـ جديد ــ حديث العهد، ومثلها ( romance ) التي تعني رواية ـ قصّة ـ حكاية ـ رواية تخيلية. والرواية الحديثة في نشأتها إنبثقت أصلاً من النص التاريخي والرومانسي، وهي تفيد أيضًا حالة من حالات النص السردي الذي أُجريت عليه تعديلات أو تغييرات إمّا بفعل النسّاخ أو الرواة أو المترجمين. ثم  تطوّر مفهوم الرواية في النتاج الأدبي، ليغدو بعيدًا عن الدين، ويصير سردًا نثريًا طويلا خياليًا. وهكذا نستطيع عَدّ  بعض القصص القديمة حاملة بذور الفن الروائي  عند العرب، نظير "قصة البرّاق" التي هي إحدى قصص عمر بن  شبة (المتوفّى في 262 هجرية) المعروفة بإسم "ألجمهرة" و "حرب اليسوس"، وقصص عاطفية مثل ( كُثيّر لُبنى) و (جميل بُثينة) و (مجنون ليلى)، وقصة (حَي بن يقظان) المشهورة لإبن طُفيل الأند\لسي.
     كثيرة جدًا هي الشواهد على النصوص السرديّة العربية التراثية  في أجناسها : من السِيَر والمسامرات والليالي والمقابسات والمقامات، وكثرتها  عسيرة الحصر والجرد إلاّ بعد جهد جهيد.
      منذ أوائل عصر التهضة العربية حتى يومنا هذا، ما فتئت جمهرة من المبدعين والنقّاد العرب منشغلة بدراسة التقاليد الأدبية الملحوظة في النصوص السرديّة الحديثة : الرواية ـ المسرحية ـ القصّة بأنواعها؛ تلك التقاليد التي تنطوي على مكوّن أوعامل تراثي عربي، أو مؤثّر أجنبي ضاغط، ، إذ إنّ هذا العامل أوالمكوِّن التقليدي ظاهر وفاعل أيضًا في مجال جميع الأجناس الأدبية والفنيّة، والنتاجات الفكرية والثقافية،  كما هو بادٍ في النتاجات السرديّة. وحقيقة الأمرإنه لا مُنتَدَحَ عن سريان المؤثّرات الغربية( وخصوصًا الأوربية منها) إلى الأقطار العربية، لعوامل معروفة في القرنين المنسلخَين، في جميع مرافق الحياة المدنية : كالملبس والأزياء والتأثيث وطُرُز البناء،، والأنشطة الإبداعية والثقافية في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، واستمرار هذه المؤُثرات الغربية حتى الآن وإلى حين قابل غير محدود. ومع أن المؤلّف السردي العربي المعاصر سعى بشكل وافٍ في إبراز نتاجه ضمنَ خصوصيّتة  القوميّة وأصالته الثقافية، فالتأثيرات الغربية في نتاجاته السردية المعاصِرة هي الأبرز وضوحًا في وعيه ذاتيًا كما يقول الأستاذ عبد الله أبو هيف في كتابه الموسوم (القصة العربية الحديثة والغرب) من منشورات إتحاد الكتّاب العرب في دمشقق  ـ عام 1994. ويستطرد المؤلّف قائلاً : إن أوربا لم تكن مصدر تِقنيّة وعلم  وآلات ومصانع فقط، بل كانت أيضًا مبعث تحَدٍ حضاري جاوز المحاكاة أو التقليد نحو وضع نموذج من شانه أن يمسخ القِيَم القوميّة والصوَر التاريخية التي تُميّز أصالة الثقافات. وإذا كان المثقف العربي قد أفصح عن تساؤله إزاء الغرب مُبكّرًا في شأن مقدار ما أخذ من الغرب، ومدى تأثّره بالغرب، وتأثيره في العرب المعاصرين، ومدى الإقتباس  منه، فإنّ الأديب أو المتفنّن العربي سرعان ما انغمس في التجربة ومعاناة التأصيل والتحديث، باحثًا عن هُوِيّته (ص 90) .
      إن صورة الغرب في القصة العربية ( مفردة القصة هنا تشمل كل أجناس النتاجات السردية) قد عولجت إلى حد كبير بدراسات كثيرة في الموضوعات والأفكار والعلائق السياسية والإجتماعية والإقتصادية، فقد عُنِيَ باحثون كثيرون بالتجلّيات الروائية والقصصية لعلاقة الشرق العربي بالغرب الأوربي، وأبرزهم ـ كما يقول عبداللة أبو هيف ـ جورج طرابيشي، ومحمد كامل الخطيب، ونبيل سليمان (ص 19).
       وما يُلفت النظر أن الطرابيشي والخطيب قد نظرا إلى علاقة الغرب بالشرق من خلال تجنيس العلاقات الحضارية، مشبّهين ذلك بالعلاقة المتبادَلة بين الرجل والمرأة ـ القرين وقرينته ـ  حيث المتبوع والتابع، والمؤثّر والمتأثّر؛ فعامل المثاقفة ـ أي إستيراد الثقافة المتروبوليّة أي ( المتسلّطة ـ المهيمِنة)  حاسسم الأثر في جعل الأمّة المستعمَرة تستمرّ في تبعِيّتها للثقافة الوافدة الغازية (ص 19). ثم يستكمل  نبيل سليمان دراسة صورة الغرب في الرواية/القصة العربية على أنه وعي للذات والعالم، إذ إنتقلت معالجة الروائيين/القصصيين للعلاقة بين الشرق والغرب من الوطن العربي إلى مركز الآخَر، الذي تنوّع بعد أن كان حَكرًا على باريس ولندن، فابتدأ ظهور المركز الآخَر ـ الغرب الإشتراكي ـ ثمّ تغيّرت نوعية البطَل : من الطالب الذي يقصد الغرب للدراسة، إلى البطل المناضل النثقّف المهزوم في وطنه أو المنفي عنه، وبرز دور المرأة الكاتبة وبطلة التجربة، وظهور نوع جديد من معالجة صورة الغرب، ألا وهو تعبير التجربة من جديد للمرحلىة التاريخية التي أعقبت هزيمة حزيران بخاصّة (ص 19 ـ 20).
      بعد انتهاء أحداث الثورة العربية التي إندلعت في عام 1916 ،  طفق المثقفون العرب يحددون رؤية المستقبل العربي، وكانت هذه الرؤية عمومًا وغالبًا ميّالة إلى تبنّي إطار التقدّم الأوربي، ، ثم سعى التقدّميّون من عَلمانيين ومستغربين إلى تكييف تصوّراتهم للواقع في ضوء أنماط جديدة من المعرفة، في حين واصل الرجعيّون ممالأة الواقع وتبريره، تكريسًا للفكرة العثمانية، أو لفكرة الإستعمار، أو محاولة تحييد الجماهير الشعبية. ونتيجة لهذه المواقف المتباينة، إستطاع الغرب جاهدًا قولبة الثقافة العربية وِفقًا لسياسته، كي يرى المثقف العربي نفسَه ومستقبلَه من خلال المنظار الغربي إلى مصالحه الذاتية في المنطقة العربية، فكانت " المُثاقفة" بجانب القناعة السائدة في الموقف من الغرب الذي حمل ـ ولا يزال يحمل ـ أجنحة المعرفة والتحضّر.
       لكن لبث القلق الوجودي القومي مُستكِنًّا في اعمال المثقفين العرب ، ومتجلّيًا في إبداعاته وممارساته ومواقفه من ذاته والعالم عِبر الأحزاب والتنظيمات والمؤلّفات والتعليم والتربية والإتصال بالجماهير. وما عتّم هذا القلق  ظاهرًا ملموسًا حتى الوقت الراهن ولو بدرجة أقل ممّا كان عليه قبل زهاء عقد ونيّف.
      مع ذلك، ثمة شبه إجماع على قناعة بأن من المقوّمات الأساسية للثقافة العربيىة وجود تعلّق بالماضي ، والتزام بالذات في نفوس المثقفين لغرض قيام الإنبعاث الثقافي والتحقق الذاتي، كما أن المثقفين يرتأون أنّ التحديث خارج هذين العنصرَين  (تعلّق بالماضي والتزام التراث) إنما هو ضربٌ من  الدوران  في مدار الإغتراب الثقافي.
      والمهم في الموضوع أنّ تعامل النقد الأدبي مع معضلات التحديث ينطوي على مَهَمّة إضافية، فضلاً عن توافر العنصرين المذكورَين آنفًا، وهذه المَهَمّة هي تعريب الحداثة عن طريق استنباط عيِّنة إجتماعية ثقافية عتيدة، تنقل الثقافة والمجتمع العربيَين من طرازهما التقليدي الحالي إلى طراز جديد، كما قال عبد السلام المسدي في كتابه (ألنقد والحداثة) الصادر عن دار الطليعة البيروتية في 1983 .
       والجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ مجموعة البحوث السوفيتية الجديدة في الأدب العربي للإستشراقيين  الروس، تُعدّ بكونها المقاربة الأكثر توفيقًا في رؤية إشكالية التحديث، إستنادًا إلى التقاليد الأدبية، إذ تلتحم هذه التقاليد في بلدان الشرق العربي عفوِيًا مع الثقافة الجديدة، وتُمثّل تراثًا حيًا وكلاسيكية قوميّة (ص 24 ). ويقترح أبوهيف ـ في هذا المجال ـ أربع وسائل للإجابة عن سيرورة التقاليد الأدبية في الأعمال السردية العربية الحديثة، أوّلها: إعادة فحص التراث القصصي العربي من حيث منظور عناصر هذا القص واستمراريتها،؛ ثانيها : إعادة فحص مراحل تطوّر السرد العربي الحديث إزاء تحدّي الغرب ؛ ثالثها : إعادة فحص المؤثّرات الأجنبية من حيث تطوّر  الموضوعات والأفكار والفن السردي؛ رابعها : دراسة تجلّيات علاقة السرديات العربية المعاصرة بالغرب من جهة، وبالتراث السردي العربي من جهة أخرى.
                           ×         ×       ×
     من مطالعتي مقالة عنوانها( ألسرد العراقي القصير بعد انعطاف 2003 ) بقلم الأستاذ علي شبيب ورد، المنشورة في العدد الثالث عشر من مجلة (مسارات) لعام 2009، بدا لي أننا حيال أحدث موجة من موجات النتاجات السردية، وهي (موجة السرد العراقي القصير بعد انعطافة 2003 ) . فكي يتيح الكاتب للقارئ أن يقارن   بين هذا النوع من السرد حينما كان قبل انعطافة 2003، وبين نظيره بعد الإنعطافة المذكورة نفسها، أورد أولاً المشهد قبل الإنعطافة هذه في إطلالة أولى، قائلاً : ـ
      [ حفل المشهد القصصي العراقي، منذ (أعوام) نصوص  (عبد الملك نوري) بمحاولات مغايرة  جادّة  ومتأثّرة بمنعطفات المشهد العراقي العام. بل إن القصّاص (فؤاد التكرلي) يرى أن القصة القصيرة العراقية لها الريادة في موجة الحداثة العربية، بقوله : " ألقصة  العراقية القصيرة كانت تؤسس لموجة حداثة غير مسبوقة في العالم العربي وليس في العراق، ولكن قلّة من النقّاد من التفت إليها لأن الثقافة العربية تحتفي بالشعر. كانت الدعاية وراء انتشار موجة الشعر الحر العر اقي."  ] ص 97ـ إستنادَا إلى حوار / فاطمة الحسن/ جريدة الرياض ـ تموز 2007 .
      وبعد أن يذكر ريادة القصة القصيرة جدًا بقلم (نؤئيل رسّام) في قصته (موت فقير) المنشورة في عام 1930 ،  يشير إلى توالي العقود حتى استُحدِثت مُغايرات نصيّة بفعل مُتغيّرات المشهد االعراقي العام بفضل عوامل عالميّة في الفلسفة والعلم،  فتعَملقَت (أنا) السارد  في الستّينيات، وتحوّلت مناخات السرد إلى يوتوبيّات متباينة، رافقتها إحتدامات فلسفات العبَث والوجوديّة واللامعقول، وأفضت التحوّلات التحديثيّة اللاحقة إلى بروز السارد الرائي، ثم المنغّلِق على ذاته، فالمتبرّم بالأحداث، مع الإستفادة من تِقنيّات السرد في الأدب العالمي، وكذلك بالإستفادة من نقدات علي جواد الطاهر، وعبد الإلاه أحمد، وعناد غزوان، وفاضل تامر، وناجح المعموري، وياسين النصيّر، وجميل الشبيبي، وعلي حسن الفوّاز، وجاسم عاصي وغيرهم. وكان السارد في ذلك المشهد آنئذٍ حريصًا على التعبير عن معاناة الطبقات المسحوقة بحميمية عالية، وكان يستبطِن في نصوصه نزعة تمرّد على صانعي القهر؛ ثم ذكر نموذجَين من مشهد تلك الحقبة كمنتوج تطبيقي هما: قصة (مساقط الضوء) للقاص جاسم عاصي، وقصة قصيرة جدًا بعنوان (التمثال) بقلم صلاح زنكتة.
      أمّا بخصوص المشهد ما بعد انعطافة العراق الكبرى  في عام 2003 ، فيرى الكاتب أن المشهد الثقافي قد انفتح وسيعًا بشكل عام، والمشهد القصصي القصير منه تحديدًا، وهو ـ  برغم ضبابيته ودموِيّته ـ قد منح القاص إمكانيات شتى للتواصل الداخلي والخارجي.. ومن ملامح هذا السرد القصير حاليًا : التنصّل من متاريس الإيديولوجيا عن سبيل تنبيه ما هو وطني وإنساني حر ـ إرتقاؤه بالخاص نحو العام ـ حياديّته في قراءة الفائت ، والتناص المنتَج مع الموروث الشفاهي والمدوّن ـ إحتفاؤه بالهامش والمغَيّب والكامن والمُطلَق والقصّ المُهمّل ـ مواصلتُه على خرق الثابت والمركزي والمألوف ـ توطيد علاقته بشبكة المعلومات وتِقنيّات الصورة ـ بحثه الحثيث لإكتشاف الإغوائي والمُستفِزّ والمثير والمريِك لمنظومة التلقّي. ومن.نماذج السرد القصير التي أوردها الكاتب، أذكر قصة (الستّون) لمحمد خضيّر، المنشورة في مجلة (فنارات) الصادرة عن إتحاد أدباء البصرة ـ عدد تموز ـ آب/ 2003 ، وقصة (قطرة دم لاكتشاف الجسد) للقاص لؤي حمزة عباس، المنشورة في مجموعته المعنونة (إغماض العينين)، الصادرة في عمّان عن (دارأزمنة) في حزيران  2008 .
       يختم الكاتب (ورد) مقالته برأيه المعقول أن النص السردي القصير سيبقى مفتوحًا عل احتمالات مغايرة في تِقنيّاته السرديّة، إستجابةً لمتغيّرات المشهد العراقي العام، وربما ستبرز أنماط جديدة ، وكل جديد هو نتاج طبيعي لقانونالتطوالحياتي؛وإذابدا الجديد هشًّا وغير وافٍ بالمرام، فالزمن كفيل بمآله ( ص  102 ).
                         ×          ×          ×
     أختم موضوعي بالتعريج العاجل على معضلة أو إشكالية التحديث في الأنماط السردية كافة، من حيث التقاليد الأدبية في السرد الحديُ المحتوي على مُكوِّن  تراثي، أو مُؤثّرأجبي ضاغط، فأقول : إني لا أرى بعد الآن معضلة أو إشكالية عصيّة على الحل الموائم في ضوء الدراسات والحلول المقترحة التي أسلفتُ ذكرها، لا سيّما وهي مطروحة من قِبل متخصصين وملمّين بالموضوع بشكلٍ وافٍ. والمهم هو الإستفادة منها والعمل بهديِها. وأضيف إليها الإستفادة من حسنات التِقنيّات ـ إن وُجدت في النتاجات السردية التراثية العربية ملائمة لعصرنا الراهن والمقبِل، كا الإستفادة أيضًا من التِقنيّات الموجودة في الأعمال السردية العربية العصرية، وبعد عملية استخراج التقنيّات تلك، يُؤخذ بنظر الإعتبار أن يكون  النتاج الجديد ملائمًا لأذواق جماهير  الأجيال الثقافية، وللإيقاع السريع في مسيرة الحياة اليومية والإجتماعية ومُتَغيّراتها العجلى في البيئات المختلفة، مع المحافظة على رونق وبهاء اللغة، وجمال أساليبها الكتابية، وعدم الإفراط في الإختزال إلى حد الجفاف في صياغة القصص القصيرة والقصيرة جدًا على غرار أسلوب البرقيّات، الذي تخلو فيه كليًا من الطراوة، ومن قليل من المُحَسّنات البيانية والبديعية، لأنها آنذاك ـ إن كانت على تلك الشاكلة من اليبوسة وشدّة الإختزال ـ لن تُصَنّف بكونها نتاجًا أدبيًا رائقًا، جيّدًا، وهذا ما لا نرومه لأدبنا العربي .














l    
                      ْ        .
                       


6
عوامل الهجرة من أقطار العالم الثالث
ووسائل معالجتها
                                             
يعقوب أفرام منصور
     هناك فجوة حضارية بين "التقدم" و "التخلّف"، آخذة في الإتساع والتعمّق من يوم لآخر، وموقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الدائرة في فلكها ، حيآل قضية التنمية في دول العالم الثالث، هو من أخطر العوامل المؤدّية إلى اتساع تلك الفجوة.
     يبدو الآن جليًا للمتأمل كما لو ان النوع الإنساني قد أضحى نوعين متميّزين من وجهة النظر الأمريكية ـ الغربية ، هما : نوع (الذين يملكون) ونوع (الذين لا يملكون). ولا يُفهم من هذا التصنيف النظري/ السياسي/ الإقتصادي قيامه على أساس من ئراء الدوَل، بل على أساس الإنتماء إلى " منتدى" أو " تجمّع" القرن الحادي والعشرين ـ  " منتدى البقاء" كما يراه واضعو الإستراتيجية الأمريكيةـ الغربية.
     وليس في هذا غموض أو ريب. فالوثبة الحضارية المقبلة إلى الفضاء وعالم القرن الحادي والعشرين تتطلّب تركيز وتجميع الموارد البشرية والطبيعية في العالم الثالث. وما عملية " إستنزاف العقول والمهارات " التي تقوم بها أمريكا والدوَل الغربية السائرة في محورها تحت إسم  "الهجرة" غير عملية يُراد بها تحقيق تلك الوثبة، ومرحلة من مراحل ذلك (التجميع الإستراتيجي.) . إذ هي مرحلة استخلاص كافة العناصر البشرية من علماء ومتخصصين وفنيين وأثرياء مؤهّلين للإسهام في المسعى الكبير نحو إنجاز ذلك الإقتحام ـ الوشيك جدًا ـ لعالم الغد. وهي عملية ذكيّة ( برغم أنانيتها وأذاها)، لأن إعداد تلك الكوادر المتخصصة المتميّزة المؤهّلة، يُكبّد الأقطار التي ينزحون منها تكاليف غير قليلة بسبب حرمانها منهم، في حين هذه العملية لا تُحمّل الأقطار التي تستقبلهم  وتستوعبهم  إلاّ شيئا يسيرًا خلال فترة وجيزة لتدريبهم مجددًا وتوجيههم ـ كما يقتضي ـ لإحتياجات المستقبل، وبذلك تُحقق تلك الأقطار الغربية غرضين، أولهما : إعاقة التنمية في الدول التي تستنزف عقولها وطاقاتها البشرية المصنّفة بشكل متواصل متصاعد، وثانيهما : إنقاذ تلك الكوادر البشرية المتفوّقة المتميّزة من المصير الذي يتراءى بأنه ينتظر شعوب العالم الثالث ( في تصوّر أمريكا والغرب وتصوّر النازحين والمهاجرين).
       أما الموارد الطبيعية، فلا بدّ من  استغلالها موضعيًا أو نقلها بوسائط النقل المعلومة، وهي موارد لابدّ من التوصّل إلى استخدامها الأمثل حتى يكتمل تجميع موارد العالم الثالث كله أو معظمه، بغية توجيهها نحو إنجاز الوثبة الحضارية المخطَط لها.  وتحقيق ذلك لا يخلو من مشاكل بسبب مواجهة معضلات تنجم عن بروز تيارات مناهِضة: : كالتحرر الوطني، واليقظة القومية، وإرادة بعض الشعوب في أن تمسك بيدها زمام أمورها. ونظير هذه التيارات لا يقتصر على أقطار العالم  الثالث، بل يشمل بعض الدول الأوربية والشرقية، نظير وقفة الرئيس الفرنسي الراحل ( شارل ديغول) حيال الإجتياح لأمريكي، ووقفة اليابان  وبعض دول المجموعة الأوربية حيال الهيمنة الأمريكية خلال الأعوام الي سبقت  وتلت الحرب على العراق في عام 2003. بيدَ أن هذا التيار في آسيا وأفريقيا يشكّل تهديدًا لمصالح ومخططات أمريكا التي لا حدود لأطماعها، ، جنبًا إلى جنب مع الأطماع الصهيونية الشّرِهة في التوسّع والإستغلال والتغلغل. ومن هنا نشأت الكوارث والحروب والإتقلابات التي توالت على أقطار هاتين القارتين خلال العقود الخمسة الأخيرة، وهذه عوامل خفيّة ـ نوعًا ما ـ أدّت إلى خلق أجواء وأحوال قلقة تُحفّز على الهجرة.
      غيرَ أنّ هناك عوامل بادية للعيان تؤدّي إلى هجرة الناس من أوطانهم إلى أمريكا خصوصًا وإلى أقطار غربية أخرى : إنكلترا وأوستراليا ونيوزيلندة والسويد وفنلندة وهولندة؛ وأهم هذه العوامل ناتجة من عدم إستتباب الأوضاع السياسية والإقتصادية إستتبابًا كافيًا في الأقطار التي تتدفّق منها موجات الهجرة بسبب بعض الإضطرابات الداخلية التي تُدبّرها الدوَل الإمبريالية، او التي تحدث بسبب الصراعات المذهبية والإيديولوجيّة :ـ
1 ـ تقلّص موارد الرزق  وسبل العمل من جرّاء عدم الإستقرار الإقتصادي أو السياسي.
2 ـ عدم شيوع الحريات العامة بشكلٍ وافٍ كحرية الرأي والكلام والنشر، وممارسة الحقوق الثقافية للأقليات.
3 ـ عدم إشاعة الحريات الديموقراطية بشكل وافٍ كحرية الأحزاب والعقيدة والإنتماء.
4 ـ ظهور تيارات تعصّبية مذهبية أو طائفية تحمل بعض المواطنين على النزوح خوفّا من الترويع والإرهاب والمضايقات التي ترافق هذه التيارات التعصّبية.
5 ـ عدم رعاية الدولة للقابليات والكفايات رعاية  وافية تحمل ذويها على ملازمة أوطانهم لخدمتها وتطوير مؤهّلاتهم واستثمارها لخير المجموع.
6 ـ الخدمة العسكرية الإلزامية الطويلة الأمد المفروضة في بعض الأقطار على خرّيجي الدراسة الإعدادية والجامعية فور تخّرجهم، مما يسبب لهم نقلة نوعية شديدة التباين في نمط العيش، وعدم تطبيقهم ما تعلّموه في انتقالهم إلى واقعهم العملي الجديد، وعدم انتفاعهم من دروسهم وتثقيفهم  وتدريبهم المِهَني إلاّ بعد مدّة ليست قصيرة، فيكونون آنذاك قد نسوا أهم القواعد العملية والنظرية لدراساتهم وتدريباتهم، وربما  يكونون قد أُصيبوا بشيء من الإحباط وعدم الرضا، فيفضّلون أن يُجرّبوا حظوظهم خارج أوطانهم، فور إتمامهم بعض مراحلهم الدراسية في ميادين العمل الحر المتاحة، أو أن يواصلوا  دراستهم العالية في أقطار أجنبية إرضاءً لطموحاتهم، وحبًا للإطلاع على ما في الغرب من مزايا وحرّيات ومجالات، حتى إنّ بعضهم يفضّل المكوث هناك، والإقتران بأجنبيات، مدفوعين إلى ذلك ـ  خصوصًا إذا كانوا ضعيفي الإرتباط بتربة الوطن ـ بعوامل الإنبهار بمظاهر الحياة الغربية ومزاياها،  وبالترحيب الذي يلقونه مع غيرهم من ذوي القابليات والكفايات) على استيعابهم وتوفير وسائل العمل والسكَن والإستقرار لهم..
     أما وسائل معالجة هذه الظاهرة المؤسفة الضارّة بأقطار العالم الثالث، النافعة لأعداء شعوبه، فهي تهيئة ألمضادّات التي تُزيل أو تقلّص كثيرًا من الأسباب الآنف ذكرها، فهي ـ كظاهرة مرضية قد تتفاقم ـ لا تزول أو تُعالَج إلا عن طريق التزوّد ب " العقاقير" الناجعة، وتحصين الأجسام ب " المناعات " المعروفة، واتّباع المشورات ب " الوصايا " الصائبة !
                                                                                                                                                                                                                                                                                                 
                                                                       

7
تأخير  انتشار  الثقافة

                                           
يعقوب أفرام منصور
     لكل عمل نافع عائق أو عوائق وعَقَبة، وتًبِعة، والتبِعة تُقال للنتيجة الحسنة والسيئة، لكنها غالبًا تُطلق على النتيجة السيئة. والروتين أحد أقوى العوائق والتَبِعات، فهو يُعرقل ويُبطِئ  انتشار الثقافة. والروتين (Routine) مفردة فرنسيّة تعني في العربية : النمط، السياق، الرتابة، سيرالعمل، كما تعني التمسّك بإجراءات شكليّة تستغرق وقتًا، والوقت ـ كما قال عنه الموسيقار الراحل فريد الأطرش ـ :" أغنى شيء في الوجود " ! وكل عملية ثقافية غالبًا، في البلاد العربية جمعاء، وخصوصًا خلال القرنين الأخيرين وحتى الآن وجب ويجب أن تمرّ بعملية الروتين النمطيّة، قبل وصولها إلى الجمهور.
    من مساوئ هذا النَمَط العجيب " الروتيني " على سبيل المثال: تَطبع مؤسسة حكومية في دولة ما عربية كتابًا نافعًاً لميدانَي الثقافة والمعرفة، لكنها ـ بعد عام أو عامين ـ تُوزّعه بَيعًا وإهداءً إلى الناس. فالبطء في التوزيع عملية سلبيّة، تُسهِم في عرقلة سرعة انتشار الكتاب المفيد معرفيًا أو ثقافيًا، والإبطاء في هذا المجال عمل ضار. وتطبع مؤسسة حكومية كُتبًا وتودِعُها في الأقبية والسراديب التي قد تكون ذات نزيز لتبقى بانتظار إنهاء الإجراءات والمعاملات الخاصة الروتينية بالإفراج عنها لتوزيعها.  ويحدث أيضًا أنّ إدارة حكومية تصدر نشرة أو مجلة دورية ذات طابع إعلامي صرف، ومن أوجب مَهَمّاتها سرعة نقل الأنباء الإعلامية والمعلومات الي احتوتها إلى الجماهير، لكنّ  يُفرَج عنها لِتُوَزّع بعد شهر أو شهور، فتصل إلى القرّاء بعد شهر أو أكثر بدلاً من أسبوع أو ثلاثة أيام.
      في الأقطار العربية أمست غرائب الروتين موضوعًا للهزل والتندّر في المجتمعات، وبقدر المعلوم عن وجود تنافر شديد بين النسق الروتيني وبين المفاهيم التقدّمية والتحرّر من الجمود والتقليد والإعاقة في عصرنا الراهن المتّسم بالسرعة والفوريّة، نلاحظ في الجانب الآخر حتى عند بعض الأقطار العربية ـ التي تدّعي وجود قطرات  من الإشتراكية فيها ـ  هيمنة هذا الروتين، وتَشبّثه بالبقاء وحيلولته دون التخلّي عنه  وعن أيّ مسعى للتغيير واتّباع البديل الأنفع والأسرع في الإيصال والإبلاغ والتعريف في عصرنا المطبوع بالسرعة الفائقة في جُلّ إنجازاته وإجراءاته.
     ومن نظرة تحليلية ثاقبة إلى الإجراء الروتيني،  نرى أنها إمتداد واستمرار للعقلية البيروقراطية ( المكتبية)، وللذهنية التي سادت أيام زمان العهد العثماني المليء بالمساوئ والتخلّف. فدور البيروقراطية هو تحكّم وتوجيه في المستويات الإدارية العليا، ودور الروتين منوطٌ به التسيير والتنفيذ في المستويات الدنيا من الأعمال اليومية.
       وثمة أسلوبان أو سياقان آخران في تصريف الأعمال الإدارية، وهما (ألمركزية) و (ألتقليدية). فالمركزية هي التركيز الإداري القائم على حصر سلطة البت في المسائل الإدارية في يد الوزارات والمصالح الرئيسية في العاصمة، واتّباعها  غير ملائم في حالات  فوق العادة كالإضرابات العمّالية والمهنية والشعبية، وفي حالات الطوارئ والكوارث كالفيضانات والحرائق والزلازل  وتفشّي الأمراض والفساد الإداري.  أمّا (ألتقليدية)، فهي أقرب ما تكون إلى "ألروتين" التي تعالج الأمور اليومية التي لا تحمل طابع العجلة والفورية.
      يقول الأستاذ أديب اللجمي رئيس تحرير مجلة (ألمعرفة) الدمشقية في أواسط ستينيات القرن المنصرم: : [ والروتين يبدأ تعوّدًا على نمط مُعيّن من العمل والإنجاز، مرتبط بمفاهيم معيّنة، ثمّ يصبح هذا التعوّد قسرًا، ويتخذ صفة القانون، أي ليستقلّ عن الأشخاص الذين كانوا يُمارسونها، ويصبح قِوى قائمة بذاتها، محرّك أجهزة الدولة وفق مشيئتها بطريقة غريبة في نوعها تتجلّى بما يشبه حالة السيرأثناء النوم ! فالإنسان يحرّك الأمور بصورة آليّة، ويوقّع على الأوراق بصورة آليّة، ويقرأ بصورة آليّة  كأنما لا إرادة له فيما يفعل، كأنما قد غفا الشعور عنده، والخوف كل الخوف أن يغفو الضمير أيضًا بعد غفوة الشعور]! ـ مجلة (ألمعرفة) عددها63 عام 1967  ص 196.
      بفضل شبه الإستقلال هذا لدى النسق الروتيني غدا الروتين صنمًا أو غاية  ذاتية، ونجم عنه التطويل بقصد الإطالة، لكن من المسؤول عن هذه الإطالة في الإنجاز والإنتاج والوصول إلى الجهة/الجهات المقصودة، كما ينجم التأخير في العلاج والحسم  والإستفادة ؟ هنا تبرز شطارة النسق الروتيني !  إنه تطويل يقصد تجزئة المسؤولية إلى أجزاء  لا نهايةَ لها، تستهدف التنصّل من المسؤولية ! كل جزء منوط بشخص، لكن هذا الجزء لا يتحدّد بشكل منفصل عن الأجزاء الأخرى. لذا تضيع المسؤولية عن الإطالة والتأخير في متاهة لامتناهية.
      فإن كان مستطاعًا إنجاز الأمور الشائعة والمألوفة بهذا النسق الروتيني المطوّل، فيقينًا لا يمكن إنجاز الأمور الجديدة والحيوية والخطيرة والمستعجلة بهذه الطريقة البالية. فسدّ العالي في مصر وسدّ الفرات في سوريا ـ مثلاً ـ  لم يتم إنشاؤهما عِبر أساليب روتينية، بل من خلال أساليب تنفيذ جديدة إعتمدت على تشريعات نوعيّة خاصّة تُحقق الإنجاز السريع المجرّد من النسق الروتيني المتمهّل السائد آنئذٍ هناك. ومثل ذلك ينطبق على وسائل نشر "ثقافة الشعب"  بأساليب تُحقق الإندفاع النشِط الذي يُحفّز الأجيال الناشئة على تلقّي أقباس الثقافة وروافد المعرفة النهضويّة المُبتَكرة التي شاعت في الغرب وفي الشرق الأقصى، حيث الصين واليابان وكوريا، التي أقلعت عن السبل الروتينية المتباطئة.
      فكل تحرر إجتماعي يُستَهل وجوبًا بتحرير الفكر أوّلاً وبإشاعة الثقافة بين الجماهير، ومن أول مستوجبات هذه الإشاعة الثقافية هو محو أمّيّة الأمّيين بين الجماهير، ومن الضار كثيرًا أن يبقى أكثر من نصف ملايين سكّان الأقطار العربية على أميّتهم الحالية ومنذ عقود، لأن طرائق النسق الروتيني في تحرير هذه الملايين من أمّيّتهم قد أخفقت.
      لذا يتحتّم على الطلائع المثقفة التقدّميّة أن تعمل جادّة في سبيل النهوض بهذه المَهَمّة الجديرة بها، فقد برهنت في سوريا ولبنان على قدرتها في الأداء االمطلوب لأنها أفلحت في التقليل تدريجًا من التخلّي عن اتِّباع السُبل الروتينيّة في محو الأمّيّة، ثمّ في نشر الثقافة والمعرفة بين الجماهير من خلال تطبيق التعليم الإلزامي من خلال المدارس الإبتدائية في المدن والقرى.

8
" في الليلةِ الظلماءِ يُفتَقَدُ  البَدرُ "
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     تتعرّض أوضاع الدول الكبرى والصغرى وشعوبها، أو أنظمتها الحاكمة الزاخرة بالمساوئ والمفاسد، أو التي تسعى شعوبها إلى التخلّص من عيوبها وإخفاقاتها، أقول تتعرّض  تلك الكيانات في تلك الأوضاع إلى مجابهة  أحوال عصيبة وظروف  شديدة الحراجة والخطورة إلى حد احتياجها إلى إنقاذ يماثل إنقاذًا من الغرق أو من  حريق او ظلمة دامسة حالكة طويلة، او من السقوط في وهدة  عميقة مهلِكة.
     وقد يكون الإنقاذ المنشود ممكنًا خلال تفاهمات وتآلفات سليمة وإيجابية سلِسة تؤدّي إلى نجاح واقتناع الأطراف المتنازعة أو المتصارعة أو المتضاربة. أمّا في حالة رفض الطغمة الحاكمة والمتحكّمة والمُهيمِنة على إصدار القرار، والمتمسّكة بمقاعد ومراكز السلطة ـ على الرغم من قصوراتها ومساوئها الجمّة  وسوء سمعتها ـ أن تتنحّى عن مواقعها في السلطتين التشريعية والتنفيذية إلى حد العناد والرفض الشديد في التخلّي عن مواقعها في السلطتين، فلا يبقى آنئذٍ لدى جماهير الشعب النافر من الحكومة ومن جلّ  أحزاب البرلمان المريض وتكتّلاتها، والفاقد ثقته تمامًا في صلاح بقائها قي السلطة، وترشيح أحد أفراد ممثّليها في السلطتين؛ أقول فلا يبقى آنئذٍ لدى جموع الشعب الثائر الغاضب المطالب بالحقوق المشروعة (لكن مسلوبة) إلاّ اللجوء إلى البحث والتفتيش عن شخص أو شخوص تتوفّر فيهم أو فيه المؤهّلات والقدرات التي يملكونها في مجال إمكانية تحسين الأحوال، والتمهيد في قترة أنتقالية قصيرة إستثنائية، ، لاستبدال أوضاع رديئة وأداءٍ مُزرٍ،  معيب، جلب الأذى الجسيم والعميم على غالبية الشعب أعوامًا طِوالاً، وعلى ثروات الوطن، والإساءة إلى سيادة الدولة، كما ألصقت بأزلام السلطتين وصمة عار وشنار وصلت بعضًا إلى حد الخيانة العظمى والجرم الكبير، واستلاب إرادة الذات والحكم الوطني المستقِل؛ فقد أضحى الآن معلومًا لدى حتى الأميين والمراهقين مدلول المبدأ العالمي ( ألشعب مصدر السلطات) في أنظمة الحكم الدستوري البرلماني.
     عراقنا الحبيب أمسى الآن ، وبعد شهرين من المظاهرات والإحتجاجات والإعتصامات في أغلب المحافظات التي قدّمت مئات الشهداء مع مئات معاقين ومختَطَفين ومطعونين ومحروقين ومقتولين غدرًا وغيلةً، ومع  20 أف جريح،  يرفع كثيرون من محبّي وغيارى شعبه اليوم أنظارهم إلى عنان السماء، يبتهلون إلى الفدرة الإلاهية أن تُنعم على وطنهم  الغالي ، الجريح ، المنكوب بأن تُهديهم إلى اختيار شخص منقِذ من بلاء وخيم وشرّ أليم، ولسان حالهم يقول " في الليلة الظلماء يُفتَقَدُ البدرُ".  فهل من منقِذ ذي خبرة سياسية وقانونية، ويُحسن اختيار وزراء قديرين مخلصين ومستقلّين لتشكيل سلطة حاكمة لستة شهور كي تهيئ لإقامة برلمان نظيف تنبثق منه سلطة تنفيذية خالية من المثالب كي تحقق المقاصد الشعبية والوطنية ؟
      أجل .. تروم جماهير الشعب مُنقِذًا قديرًا نزيهًا مستقلاً لينقذ وطنهم المبتلى طويلاً بأسوا برلمان وُجد في عمر العراق، وبأبعد أحزاب عن سمة حب الوطن المفروض، كما ابتُلِيَ بجماعات بَصَمت على ولائها للأجانب الطامعين في خيراته وثرواته منذ القِدَم في عهود سومر وأكد وبابل وآشور! أجل .. فقد أمسى العراق حاليًا في ظلمة حالكة، تنطبق عليها مقولة الشاعر ـ الشاب المستشهد في ساحة الوغى ـ أبي فراس الحمداني : ـ
              سيذكرني قومي إذا جدّ جّدّهُم        وفي الليلة الظلماءِ  يُفتَقَدُ البدرُ
     ويخطئ من يستهين هذه الظُلمة الحالكة المُفزعة، بل يُذنِب من يُسهم في إطالتها وتفاقمها !


9
ألبرلمان مرآة تعكس واقع السلطة
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     في الأول من كانون الأول 2014 نشرَت جريدة (ألزمان) البغدادية مقالي المعنون ( صحة البرلمان والقضاء والنوايا) ، ورد في الفقرة الثانية منه هذا النص في شأن البرلمان : ( عوامل نجاح الأنظمة الحاكمة في كل زمان ومكان، قديمًا وحاضرًا وقابلاً، هي عوامل تتمثّل في صحة البرلمان ـ بأن يكون هُمامًا، ساهرًا، يقِظًا، صريحًا ،غيورًا، بفضل سلامة أعضائه الغيارى من الدَغَل في قلوبهم ونفوسهم وضمائرهم.
       فهل عكس البرلمان العراقي في دوراته منذ عام 2006 ـ  حتى هذه اللحظة من يوم 5 ـ 12 ـ 2019 ـ مشاهد وتشريعات وتصرّفات وسلوكيات عكست إلى عموم الشعب صورة حسنة لِتُبدي تفاؤلاً وارتياحًا ـ كأغلب برلمانات الدول الراقية ـ للحاضر ولِبناء مستقبل أفضل يتّسم بالرفاه وبالسيادة غيرالمثلومة، والنزاهة والأمانة في داخل القبة وخارجها في المجالين  الإداري والتنفيذي في الدوائر والمؤسسات والوزارات ؟! هل  من فرد حسَن الإطّلاع، متجرّد وثاقب البصر، حاد البصيرة، يستطيع أن يشير إلى حسَنة واحدة من الحسنات اللائقة والواجبة في مجلس الشعب العراقي، التي أسلفتُ ذكرها آنفًا،  طيلة هذه الأعوام  العجاف ؟! إن وُجدت، فليتفضّل بذكرها لطفًا.
     كان الوضع العام في الوطن ـ خلال هذه الحقبة البرلمانية ـ  في حال من الرداءة والقلق واليأس والتشاؤم، ووقوع حوادث جسام يومية رهيبة ودموية وتخريبية وتناحرية وتصفوية، مع انقسامات طائفية وتوافقات تحاصصية، واغتيالات واختطافات؛ ـ فاستوجبت كلّها من رئيس البرلمان ـ الساكت على رؤية وسماع هذه المساوئ ـ أقول إستوجبت كثيرًا من رئيس البرلمان في بداية كل جلسة إعتيادية أو طارئة،أن يلقي بلهجة جادّة لا تخلو أحيانًا من عتاب او لوم على النوّاب الحاضرين كلمات توجيهية تحضّهم على الإخلاص، وتحثّهم على أن يضعوا نُصبَ أعينهم عمل الكثير لتشريع كل ما من ِشأنه أن يصبّ في حوض صالح الوطن أولاً، ثم إلى الحث على التآخي والتعاضد والتوحّد وتحاشي الشقاق، لأن الوطن كبيت كبير جدًا، إنْ ينقسم على ذاته ينهدم ! لكن  أعضاء البرلمان  كانوا أصلاً ومنذ البداية مُسببي الخلافات والإنشقاقات والأحقاد والأطماع والتهجير والإنقسام، حتى إن أفرادًا منهم  حملوا جنسية أجنبية (!)، ، ولهذا لم يكونوا أوفياء للقسم المقدّس الذي نطقوا به  في البرلمان أمام الله والناس ! لكننا مع كل ذلك لم نسمع  يومًا من أحد رؤساء االبرلمان،  طيلة 13 عامًا، جملة واحدة تنبيهية مرشدة ناصحة وعاتبة ومنذرة بسوء المصير وتردي الأوضاع وتفاقم التقصير في تقديم الخدمات، وأداء الواجبات كما ينبغي وبنظافة اليد، وشحذ همم الأعضاء بتشخيص الخلل والإنحراف والخيانة والتقصير في الأداء من قِبل الأفراد والفئات مع ذكر بعض السلبيات والأخطاء والفضائح التي كانت تُكتشف بين آنٍ وآخر. وأحسن مثال على مرض البرلمان وامتلائه بالدغَل، أُفيد وانا أنشئ هذه السطور في ليل 6 كانون أول، بما حدث بعد ظهر البارحة يوم الخميس 5 ، [ والبرلمان منعقد لمناقشة قانون الإنتخابات الجديد، وقد تزامن معه قدوم موجة عارمة من المتظاهرين السلميين نحو ساحة التحرير، وقد اندسّ بين صفوفهم أفراد حاملو سكاكين، بها طعنوا 17 متضاهرًا في ساحة التحرير، فكان بين المطعونين 7 افراد في حالة خطرة، وفي اليوم التالي الجمعة  6ـ12 مساءً، والمتظاهرون في  ساحة الخلاّني ومنطقة السِنَك  داهمهم مسلّحون ملثّمون أوقعوا فيهم 25 قتيلاً  و130 جريحًا، والبرلمان لم ينبس بكلمة (!) لأن ما وقع من جُرم  فاجع كان لصالح الكثرة الموغلة في الأنانية في  نفوس أحزاب البرلمان المتآمرين على سلامة الدولة ولصالح اعداء غرباء وطامععين.]
       معلوم أن البرلمان مُشرّع ورقيب ومحاسب، لكنّه لم يشرّع  أهم قانون وهو قانون تأسيس الأحزاب مُجازة في العمل السياسي الوطني، كما أنه لم يعدّل عددًا من المواد الدستورية أو إضافة أو تعدبل فقرات من موادّه، وقد أدّى هذا الإهمال إلى حدوث أضرار ومشاكل. أمّا في مجالي الرقابة والمحاسبة، فقد كان ضعيف الإنتاج، وأقرب ما يكون إلى الأصم والأبكم والضرير وأحيانًا إلى التحيّز.
       لم نسمع من البرلمان إحتجاجًاً واعتراضًا على انتشار المخدّرات لإفساد الشباب وتخريب النفوس وتخدير العزائم، ولم نسمع من أحد أعضائه شجبًا أو رفضًا لإنتهاكات سيادية وإملاءات إدارية أجنبيىة، ولا لومًا على تقصير فاضح في أداء إداري أوأمني أوإستخباري، ولا دعوة لمحاسبة ومعاقبة كبار الفاسدين والمفسدين  والمرتشين، وكان البرلمان عرصة لهؤلاء في عقد الصفقات واحتساب وتسلّم الحصص القومسيونية لبعض نوّاب الأحزاب المتنفّذة مقابل إبرام العقود المليونية والمليارية المدنية والعسكرية.
      هكذا غدا البرلمان لغالبية الشعب مرآة عاكسة أردأ صورة من واقع الحكومة العراقية، وعن أحوال الفقر المدقع لزهاء خمس أو سدس السكّان، والتخلّف الإجتماعي والدراسي والثقافي، وانعدام النخوة والسؤدد، ، وجلب سوء السمعة على العراق في جميع أطراف العالم، وأذكر ان تلك السمعة الرديئة انتشرت بشكل واسع  في صبف عام 2019 .
     كل هذه المساوئ سببتها الأحزاب البرلمانية (غير المجازة)، فأساءت الى سمعتها أولاً وإلى الوطن ثانيًا، لأنها كانت راضية وراغبة في الزَيَغان والأعوجاج ببواعث من الجشَع وعدم الإخلاص للواجب والوطن، وسيدوّن التاريخ المعاصرعنها الصحائف السود التي يندى لها جبين اللإنسانية. فقد عكست مرآة البرلمان أن الأحزاب العراقية كانت في مرتع تنعم وتكتنز، وديدن منتسبيها الإثراء والتنعّم بألأطايب والمخصصات والعلاوات والرواتب الخيالية، ومعظمهم إستغلّوا الإنحياز نحو الأحزاب الدينية المذهبية، مما حدا بالمحتجّين والمتظاهرين في السنوات الخمس الأخيرة أن يصرخوا في هتافاتهم بالقول :  " بسم الدين باكونا الحراميّة "  !
       خلال 13 عامًا كانت هوّة عميقة بين الشعب والبرلمان، فقد كان الشعب في وادٍ، واحزابه في وادٍ آخر بعيد.  وما كان أبعد البرلمان وأحزابه عن  حب الوطن الواجب  وعن مضمون بيت شاعر العراق عبد المحسن الكاظمي القائل :
                 وطني  أنت كلّ ما أتمنّى       من حياةٍ وأبتغي وأريد
وما أنسب إيراد بيتي الشاعر أبي تمّام الطائي في هذا الظرف العصيب، الذي يمر به الوطن ، الناجم عن جسامة تقصير البرلمان في فترة أعوام سلطته :
                 إذا  لم  تَخشَ  عاقبةَ   الليالي        ولم  تَستَحْيِ  فافعل  ما تشاءُ
                 يعيشُ المرءُ ما استحيا كريمًا        ويبقى  الساقُ ما بَقِيَ  اللِحاءُ
         

                                               

10
ألغباء وعلّة  التغابي
                                             
يعقوب أفرام منصور
     
معذ ور هو الغبي في غباوته ، لأنه هكذا أوجدته نواميس الخَلق في الطبيعة، وكوّنته قوانين الوراثة المعروفة بحساباتها من الأسلاف إلى الأعقاب. أمّا أن يتغابى الإنسان، وهو غافل عن تغابيه، مع  كونه  واعيًا سليم الإدراك، فذا ما يشينه، إذا كان  فردًا عاديًا في مجتمعه، لكن هذه النقيصة  تتضاعف إذا كان المتغابي سياسيًا أو حزبيًا أو إداريًا في سلطة أو مؤسسة،  لأنها مثلبة جسيمة الضرر، وخيمة العواقب في المجتمعات الحضرية حتى التي قلّ حظّها من الديمقراطية نوعًا وسعةً.
     من المؤسف جدًا، والمخيّب لمأمول الشعب العراقي أن تكون غالبية أفراد  الأحزاب السياسية في السلطة الحاكمة في الوطن مُصابة بهذه العلّة المرضيّة ـ  علّة التغابي الشائنة ، إذ جليًّا بدت الأحزاب أنها لا تعترف بحقيقة صارخة مرئيّة  كرؤية قرص الشمس الساطع لكل مبصِر في وضح النهار، ألا وهي أن غالبية الشعب فقدت الأمل المرجو من أحزاب البرلمان الحالي ـ المولود من رحم التزوير ـ  ومن أحزاب البرلمانات السابقة ، في تحقيق أمانيه الوطنيّة في السياسة الرشيدة المستقلّة وكاملة السيادة، وفي  تعميم العدالة، وتحقيق الأماني الشبابية، والإزدهار في ميادين الزراعة والصناعة والإقتصاد، وفي العدول عن أالطائفية المقيتة وقرينتها المحاصصة المخرّبة  وتكوين المليشيات المسلّحة، والعدول عن  الولاء لغير الوطن ورؤسائه المخلصين  ومرجعياته الأمينة ،  كما فقدت الأمل والرجاء من الإستفادة من قدرات وكفاءات متخصّصيه ومجرّبيه في كل الحقول.
      أجل.. أيها الساسة ونوّاب الشعب في البرلمان الحالي المريض والغائب عن مصلحة الوطن العليا :  برغم كل عيوبكم وقصوركم وتهافتكم على مقاعد برلمانكم الهزبل والفاشل، تتمسّكون بالكراسي المعبودة ومعكم الوزراء أيضًا،  كما لو كانت مقاعدكم البرلمانية مقيّدة بسندات تملّك عقاريّة (طابو) على الرغم من سماعكم ورؤيتكم جهرًا وعلَنًا حشود ملايين الشعب تروم اقتلاعَكم وخروجكم من قبّة البرلمان، ومرامهم هذا مقرون بأضاحي 500 شهيد  و20 الف  جريح ومعاق. وهكذا تبدون للشعب والمثقفين والمحللين وللغيارى في الوطن وخارجه بكونكم خارج نطاق جماهير بني جلدتكم . أجل .. تبدون غرباء ، لا تُبالون بما ترون وتسمعون، ولا تعتبرون، بل تتغابَون !
وتَظهرون لجماهير الشعب بأنكم لا تعرفون أو لا تصدّقون ما يدور حولكم من حِراك  شديد الفاعلية، عالي الصوت، وحاد النبرة في ساحات الإحتجاج والتظاهر والإعتصام والمطالبات ! فاللامبالاة في ظرفٍ كهذا هي ضربٌ من  التغابي  الذي دافعه الطمع الشديد في المكسب والجاه والمكابرة ـ الطمع الذي يعمي البصيرة، وفد قيل فيه " الطمع  مَفسَدة الدين "، كما قيل " طمعه قتله ".
وقبل شهور قليلة طرق سمعي أن فئات من نواب البرلمان الحاليين إعترفت بفشل  الأحزاب السياسية والدينية (غير المُجازة) سابقًا ولاحقًا وحاليًا ، وبأنها لم تقدّم شيئًا نافعًا للوطن والشعب، بل على النقيض تسببت وأوجدت  أكوامًا من المساوئ والأضرار والتخلّف والمفاسد والإيذاء والتشرذم، حتى وصلت قناعة الشعب بأنه لا يُرتجى منكم الخير المنشود والإصلاح المقصود والإستقامة المبتغاة والسيادة التامّة، وأنه قد حان للأحزاب المتسلّطة أن تتنازل عن غطرستها، وتقلع عن أنانيتها القاتلة في تمسّكها بمواقعها الحالية السلطوية في ساحة السلطة العليا ـ التشريعية ـ  كي يُتاح لآخرين يملكون الإخلاص  والإرادة الخيّرة والقدرة والأهلية اللازمة لإيجاد نظام أفضل وأكفأ وأخلص من الذي شوهد وجُرّب واكتُشف خلال الأعوام المنصرمة العُجاف !

 

11
موازين العظَمة الحقيقية والخلود والمجد
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     وقفتُ بضع دقائق حِيالَ نبأ في شأن أحد "الكبار" ضِمنَ أعلام العصر الأحياء، إذ أفاد النبأ أن "الكبير"، المشار إليه آنفًا، ما برح مهددًا بدخول السجن بسبب فضائح مخالفات إرتكبها، كُشِف عنها الستار الآن، في تمويله الحزب الذى يرئِسه، مما حمله على العيش شهورًا في حالة إفلاس مثيرة، دفعته إلى رهن مسكنه في إحدى الضواحي.
     هذه الوقفة القصيرة، أدّت بي إلى استعراض سيَر ووقائع بارزة في حياة أعلام بارزين ومشهورين في مطاوي التاريخ البعيد والقريب والحاضر، فألفيتُ كثيرين لا يستحقون هذا النعت الَباذخ، الشامخ : "كبير" أو "عظيم"، حتى إنّ بعض المفكّرين والمؤرّخين وكاتبي التراجم قد عدّهم من زمرة الخالدين!
     حياة العظماء أو الكبار تذكّر الناس بأنّ في وسعهم أن يرتقوا بحياتهم، وأنهم عندما يبارحون الحياة يتركون خلفهم آثارَ خُطاهم على أديم الزمن، لتغدو تلك الخُطى جديرة بالإقتفاء لخير البشرية في سيرها الطويل الشاق نحوَ محجّة الفضيلة والحق والعدل والجمال المطلق، حيث المجد والعظَمة الحقيقيان. بيدَ أنّ طائفة كبيرة من "الكبار" و "المشهورين" إكتنفت مسيرتَهم الحياتية مثالب ونقائص وأخطاء وجرائر عديدة ، متفاوتة في الجسامة والشناعة. والشهرة ـ بنوع خاص ـ تحتوي نقيضَين : شهرة خيِّرة حسنة، و شهرة سيّئة شرّيرة
      ومع أن العظَمة  الحقيقية الأولى السامية هي لله ذي الجلال الأعظم والإكرام الأسمى، فقد درجت الشعوب المتحضّرة في مجتمعاتها وفي أسفار تواريخها على إطلاق صفة  العظَمة والخلود ٍوالمجد على كثيرين من أعلامها ومشاهيرها بباعث من تقييم أفعالها واعمالها ومواقفها المتميّزة  النبيلة والإنسانية المجيدة خصوصًا كالتضحية بالنفس والإيثار والتمسّك بالمُثُل العليا.
     كاترين الكُبرى الروسيّة، جرمانية الأصل،  من يطّلع على سيرتها ينكر نعتَها ب"الكبيرة" أو "ألكبرى"، في حين أن جورج واشنطن، المعدود أبا الولايات المتحدة الأمريكية، وزعيم كفاحها من أجل اللإستقلال، وُصِفَ بحق : "كان الأول في الحرب، والأول في السِلم، والأول في قلوب مواطنيه". ومثله كان بنجامين فرانكلِن وإبراهام لنكولن، وتوماس جيفرسون الذي كان أحد أعظم الأميركيين في كل العصور؛ وهؤلاء الأربعة الأخيرون لا يمكن أن يكونوا رُصَفاء للرؤساء: ترومان، جونسون، كلنتون،وبوش الأب وبوش الإبن الأمريكيين، فالبون شاسع بين أؤلئك السابقين وبين هؤلاء اللاحقين، الزاخر ماضيهم وحاضرهم بجرائم وأخطاء وموبِقات.
في وسع المصنِّف النزيه لعظمة الأشخاص الحقيقية أن يعدّ كلاً من شكسبير وغاليلو ودافنشي وباستور وبيتهوفن ومدام كوري ومدام رولان الشهيدة وأديسون وصن ـ يات ـ صن الصيني، على سبيل المثال، عظيمَا أو كبيرًا، وكذلك المهاتما غاندي، وخالد بن الوليد وسقراط وجاندارك وابن رُشد وابن خلدون والرازي والخوارزمي و جابر بن حيّان وابن النفيس، وأرنولد توينبي وفيليب حِتّي والمعرّي والحلاّج والرصافي ضمن الكبار، ولكن عسير عليه أن يضع في زمرة الكبار أو العظماء كلَّ من أسهم من العلماء في صنع القنبلتَين الذرّية والنوويّة وأجاز  استعمالهما في الحروب، ولا المرأة الشهيرة بإسم (شجرة الدرّ)، ولا بطرس الأكبر قيصر روسيا، لانغماسه في الملذّات وتعذيب إبنه وسَجنه حتى مماته لإنضمامه إلى معارضيه، ولا تاليران الفرنسي ( 1754 ـ 1838)، الزاخرة حياته بالأخطاء والإنتهازية، وبرغم دهائه السياسي كان مراوغًا وبلا وازع من ضمير، ومنغمسًا في علاقات غرامية مخجِلة، لا تليق بمكانته؛ ولا كليمنسو، ولويد جورج وبلفور وسايكس وبيكو، لأنهم كانوا من أساطين الإستعمار الإمبريالي الإستعبادي، والتقسيم والتجزئة ونكث العهود والمواثيق، ممّا أدّى إلى نشوب الحرب العظمى الثانية والحروب الفرعية الموضعيّة اللاحقة : في كوريا وفيتنام، وإلى خلق الكيان  الإسرائيلي الصهيوني اللاشرعي، وما نجم عنه من حرب العدوان الثلاثي على مصر، وحرب حزيران/67 ، ومعاهدة كمب ديفد، والحرب العراقية ـ الإيرانية ، وحرب عام 2003 على العراق. في اعتقادي، إنّ دقّة موازين العَظَمة الحقيقية ،التي تُطلق على الأفراد الأعلام، تنفي عن أفراد هذه الزمرة الأخيرة صفة "الكِبار" أو "العظَماء"
       في هذا الصدد يُذكر مبنى أو صرح (ألأنفاليد) ـ مثوى الخالدين ـ وأحد معالم  باريس ، ومشيّد في النصف الثاني من القرن 17 ليضمّ أولاً  رفات القادة العسكريين الفرنسيين، فضمّ مؤخّرًا رفات المارشال (فوش) المتوفى في عام 1929 ، وهو الذي قاد جيوش حلفاء أوربا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى.، وساء صيتُه بسبب سوء سياسة حكمه في سوريا ولبنان إبان عشرينيات  القرن الماضي. كما ضمّ (الأنفاليد) رفات نابليون بونابارت في تابوت غرانيتي أحمر. وهنا تتضارب الآراء بخصوص مكانة ودرجة  التكريم في مجال إسباغ الصفات على الراحلين الكبار، التي تُطلق عليهم، مثل: العظيم، الكبير، الأكبر، الخالد، الفاتح، المعظّم، المجيد، الأمجد، نظير المشاهير: الإسكندر المقدوني، صلاح الدين الأيوبي، ريكاردوس قلب الأسد، نابليون، خالد بن الوليد، فشعوبهم وأسفار التاريخ تُعدّهم كبارُا وعظامًا وأماجد وخالدي الذكر، ولا يخلو هذا الإضفاء من الصفات والإكبار من المبالغة أو الإطناب أحيانًا لدى البعض والفرقاء والأقوام. لكن ّ نعت العظَمة ـ في اعتقادي ـ  لا يستحّقه المشهورون االآنف ذكرهم لأنّ سِيَرَهم ووقائع حياتهم لم تخلُ من سلبيات وجرائر تثلب مزايا العظمَة الإنسانية ونُبلها في مجالات العلوم االمفيدة والمعرفة  والمآثر والإنقاذ والنجدة والتضحية والإستشهاد في سبل قويمة ومثل عُليا.
      فمن الذين لا جدال في عظَمَتهم ـ في تقديري ـ  أذكر توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي والحاكي  وغيرهما؛ والعالمَين أنشتااين ونيوتن؛ وشارل فوكو الفرنسي المستشهد في الجزائر في عام 1916  بفضل دوره النبيل في التآخي بين أبناء العقيدتين المسيحية والإسلامية؛ والراهبة تريزا الألبانية ذات الدور الإنساني  في إسعاف الفقراء ومرضى وجِياع الهند المهمَلين والمعدمين، وفي زيارتها العراق في أعقاب حرب 1991؛ والبابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي غفر جريرة العتدي على حياته، ونادى كثيرًا دول الغرب العديدة بعدم شن الحرب على العراق في عام 2003 ، لكن مشعلي أوار الحرب أسهموا كثيرًا في حجب ندائه وخنق صوته وحذف كلماته؛  ولا أنسى الشهيد اليوتوبي توماس مور ( ت 1535) ناقد الإرهاب والإستبداد والظلم وجشع الحكّام، والمطالِب في عام 1553 بحرية الكلمة في البرلمان، ولما كان مؤمنًا بالقيَم والمثل  العليا التي يدين بها جميع دعاة  "الحركة الإنسانية "، وعمل طول  حياته على تحقيقها، وصار هو الوزير الأول للملك هنري الثامن، كما هو كبير القضاة، أبى أن يوافق على طلاق الملك من قرينته للإقتران بأخرى، كما رفض رئاسة الملك العليا للكنيسة بدلاً من رئاسة البابا، فكانت النتيجة الحكم على توماس مور بالإعدام بقطع الرأس في 6 تموز 1535. فهذه عظَمة ما بعدها عظَمة ، في نظري ،  تضاهي عظمة سقراط في تجريعه السُم، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية عدّته قديسًا في عام  1935 ، أي بعد أربعة قرون ونصف من إعدامه.
      قالت الدكتورة أنجيل بطرس سمعان، مترجمة كتاب (يوتوبيا ) كاتبة أطول مقدمة  طالعتها في حياتي (66 صفحة) لترجمتها في ص 36ـ  37 : " ولعل أكبر شاهد على  عظَمة ( مور ) هو أنّ صورته ما زالت ماثلة أمام عيوننا إلى الآن وأن أعماله ما زالت متداولة مقروءة، وخصوصًا تلك التي تعالج فيها أمورًا شغلت رجال إنكلترا وأوربا في مستهل عصر النهضة كما لم تزل تُشغل العالم كله اليوم، ربما بدرجة أكبر من ذي قبل. فقد شغلته أمور ستظل تُشغل الإنسانيىة ما دام هناك ظلم وجشع واستبداد وطغيان .......وجميعها أشياء ما أحوج الإنسانية إليها في هذا العصر وكل عصر." ـ تاريخ المقدّمة يناير 1973 ـ كلية الآداب جامعة القاهرة.
      لسمير شيخاني كتاب معَنوَن (مع الخالدين) صادر في عام 1959 عن دار المعارف اللبنانية، إحتوى نُبَذًا عن صنوف من المشاهير والخالدين والكبار بحسب أدوارهم في الإسهامات الحضارية العديدة، لكن كثر فيها من لا يستحقون صفة العظَمة نظير هتلر وموسوليني وماكيافِلّي وجنكيز خان ونيتشة وبوذا وكالفِن. ويؤآخَذ المؤلف على عدم احتواء كتابه على مشاهير من الأدباء والشعراء والمفكرين والفنانين العرب قديمًا وحديثًا حتى من الراحلين قبيل بضعة عقود من تاريخ تأليف الكتاب، لكن هذا الباب إقتصر على أسماء أوربية وأمريكية وروسيّة معاصرة.
     
       

12
أزمات شباب العراق حاضرًا وأسبابها وعلاجها

                                                 
يعقوب أفرام منصور
           في رأيي إن الأزمة الرئيسة التي يعاني منها شبابنا اليوم هي أزمة انعدام الإستقرار النفسي والإقتصادي. فهي تؤدّي إلى عدم إطمئنان الشباب إلى مستقبل حياتهم، وإلى حسن المآل، مما سيحدّ من انطلاق الشباب بكامل طاقاتهم نحو العمل الجاد البنّاء، بل سيقودهم إلى الإنكفاء والجمود، وربما إلى الإتحراف عن جادة الصواب، وسبيل الفضيلة، محاولةً منهم للتنفيس عن طاقاتهم الحبيسة، وتصريف خزين المشاعر والأقكار والأنشطة المختلفة التي يُراد لها أصلاً أن تستهلك أوقات الفراغ، وتجلب المتعة الذهنية والروحية، وتُثبت الذاات، وترفع المستوى الفكري والثقافي.
     ألسبب الأكبر لظهور هذه الأزمة واستمرارها حتى الآن، يعود(أولاً) إلى الحرب العراقية ـ الإيرانية، و(ثانيًا) إلى حرب العدوان الثلاثيني وما سبقها ورافقها وتلاها من حصار شديد أدّى إلى أوضاع إقتصادية عسيرة بسبب الغلاء الجنوني المتصاعد، وشحة المواد المعيشية الضرورية، فأمسى الدخل لا يوازي الإنفاق على ضرورات المعيشة، وعمّت الضائقة الإقتصادية التي أرغمت فئات شبابية كبيرة على الإنحراف ومجانبة سواء السبيل، والإنقطاع عن دراستهم المتوسطة والثانوية.  (ثالثًا)  طول أمد الخدمة العسكرية الإلزامية المفروضة على خرّيجي الإعداديات والمعاهد والكليات، فخلال عامي الخدمة يكون الخرّيج قد نسي كثيرًا مما تعلّم وأتقن، وتكون همّته قد فترت، وهذا يؤدّي إلى تعقيدات نفسية، وانتكاسة في التفاؤل المستقبلي.  ومما يضاعف وخامة هذه النتائج هو عدم وجود منظّمات شبابية منوّعة وافية، تحتضن هذه الشريحة الإجتماعية الحيوية، برعايتها نفسيًا وفكريًا وثقافيًا وفنيًا، إذ تكاد الرياضة البدنية وألعاب الساحة والميدان والسباحة مجالها الوحيد أوالغالب في هذا الإتّجاه، وهو دون الكفاية. (رابعًا) هناك عوامل أخرى لهذه الأزمة، بادية  في المجالات التعليمية والتثقيفية والتربوية:
1 ـ إضافة إلى الحصار الفكري والثقافي الذي فثرض علينا من الخارج حتى الربع الأول من عام 2003،هناك ـ قبله ـ حصار داخلي فُرض على أنفسنا فكريًا وثقافيًا، نتيجة لفرض ضوابط صارمة على استيراد وتصدير المطبوعات،  وقيود تضييق الخناق على النشر وإبداء الرأي.
2 ـ فرض التعليم الإلزامي بقرارات سريعة ووسائل قسرية أحيانًا، مما أتعب المسيرة الثقافية، وأربك الأمور بسبب عدم ثبوت ركائز وخطط هذا المنحى الإلزامي،  والإبتعاد عن النفَس  الطويل في إصدار القرارات، فغاب عن مُتّخذي القرارات ملاحظة الخلل الذي يجعل الطالب الضعيف عالة على النابهين والأذكياء، ومطالبة المعلّمين بعدم  ترسيب الطلاّب سنوات، فأوصلهم ذلك إلى مراحل دراسية غير مؤهلين لها، فأربك التعليم، بدلاً من إعداد دورات ومدارس رعاية خاصّة بالمتخلّفين والضعفاء في تحصيلهم.ففشلت فئة شبابية كثيرة العدد غير ناضجة تحمل سلبياتها.
3ـ محو الأمّيّة:  برغم كونه مشروعًا حضاريًا جليلاً، خلق سلبيات عدّة ضمن شريحة الشباب، بسبب الأساليب القسرية التي اتُبعت في بعض الأماكن. وأضرارهم للمجتمع تفوق أضرار الجهلاء الأمّيين.
4 ـ عدم تثقيف وتعليم الجميع بطرق منسجمة مع واقع مجتمعنا بشرائحه وعقلياته ونفسياته وإمكانياته الواقعية. فاليابان مثلاً،  رأت أفضلية  التأكيد على الثقافة العامّة، قبل الشروع في التصنيع والتقنية. فغدا العمّال اليابانيون الإعتياديون وذوو المهن الحرّة مثقّفين تثقيفًا جيّدًا، فيقطعون مراحل دراسية جيدة قبل اتصرافهم إلى أعمالهم.
5 ـ إقتصار المعلمين والمدرّسين على تلقين العلوم للتلاميذ والطلبة من دون الإهتمام بتوجيههم وإرشادهم نحو انتهاج السبل القويمة في الحياة، والتحلّي بالفضائل، والإستزادة من المعارف والتثقيف الذاتي. وهناك قصور من ا لوالدين في هذا المضمار أيضًا.
6 ـ أما الخَواء الفكري الذي يُشكّل أحد أسباب أزمة الشباب، فمردّه إلى عدم الإقبال على المطالعات الرصينة الراقية، أسوةً بما فعل سابقوهم من إقبال قبل جيل أو جيلين، فقد اكتفى شباب هذا الجيل بالتلفاز والمجلات التافهة والمسلّيات والملاهي، مقصّرين في التحصيل الجاد الذي يتطلّبه المستقبل الواعد لحياتهم، ويطلبها منهم مجتمعهم، فهم فاقدو الطموح..  قال أحمد شوقي في هذا المجال:
          شبابٌ قُنّعٌ لا خيرَ فيهم        وبورِك في الشباب الطامحينا
وعلاج هذه الظواهر السلبية يتم بوضع خطّة شاملة طويلة الأجل، مدروسة من سائر النواحي ومن قِبَل أوساط متخصّصة حسنة الإطّلاع في شأن الفقرات ( 1، 4، 6) وتلافي قصور المعلّمين والمدرّسين والوالدين كما ورد في (5) في أعلاه، وحثّ الشباب على المطالعات الخارجية الرصينة.
طريقة تفكير الشباب قبل 2003 وبعده، وإلى أين بتّجه

     غالبية الشباب كانت  قبل 2003 تفكّر وتتّجه، وما برحت تفكّر وتتجه ـ مع استثناء الخدمة العسكرية الإلزامية الآن ـ هكذا : ضمان وسيلة للرزق، وإثبات الذات بعد التخرّج، بعضهم على مستوى معتدل، وبعضهم على مستوى عالٍ، ثم السعي الحثيث إلى الإرتباط الزوجي لأنه أفضل أسلوب للإستقرار العاطقي والإلتزام الإجتماعي. فإذا كان على خرّيج الدراسة ا‘لإعدادية في سن العشرين أن يؤدّي خدمة العلم في الجيش عامين في الأحوال الإعتيادية، فهذا يعني تسريحه من الخدمة في سن 22، وكي يستعد للزواج، عليه أن يعمل خمسة أعوام في الأقل.  والمعلوم أن سن الزواج الملائمة هي (25 ـ 30 ). أما خرّيج الكلية، فيكون بعد تسريحه من الجيش قد ناهز الثلاثين في أحسن الأحوال، وإذا تجاوز تلك السن، تكون جذوة الرغبة في الحياة الزوجية المستقرّة قد فترت أو تلاشت؛ وهذا يخلق مشكلة شبابية، لأن إسهام الدولة في تقديم العون اللازم للراغبين في الأقتران محدود جدًا، ولا يوازي نفقات المتطلّبات الأساسية المعتدلة. وقد أدّى هذا الوضع إلى ابتعاد جزء كبير من هذه الشريحة عن الدراسة والتعلّم بعد يقينهم أن مسعاهم الدراسي لن يدرّ موردًا يكفيهم للعيش الكريم المرفّه، فالتجأوا إلى العمل في سن مبكّرة، نابذين العلم والمعرفة والثقافة. وفي هذا أضرار إجتماعية غير خافية على المتخصّصين والمطّلعين.
     وعلاج هذه الظواهر السلبية، بحسب اعتقادي، يتم بإنشاء مصرف خاص لتقديم الإعانات أو السِلف إلى الراغبيبن قي الأقتران، وبتقصير أمد الخدمة العسكرية الإلزامية للخرّيجين إلى 3 ـ 6 شهور، ثم دعوتهم  كل سنتين ( مثلاً) للخدمة لمدة شهر أو شهرين. وفي هذا الصدد، يقول الفيلسوف (برتراند رسِل) : " إن الجيل الذي لا يستطيع تحمّل الأعباء، سيكون جيلاً من الأقزام، لأنه مؤلّف من رجال فُصِلوا عن عملية التقدّم أو التطوّر البطيء، فذوى ووهنَ فيهم كل داففع حيوي."
     إستنادَا إلى كتاب (ألفوز بالسعادة)، يرى ( برتراند رسِل) إن الحياة الهادئة من خصال الرجال العِظام، وملذّاتهم ليست من النوع المثير بالنسبة إلى غيرهم. وكل إنجاز عظيم يتطلّب عملاً دائبًا متواصلاً وشاقًا، على أن يتخلل ذلك العمل في أثناء العطلات وفترات الإستجمام بعض الرياضات البدنية، بقصد تجديد الطاقة الجسمية، وتنشيط الدورة الدموية، كتسلّق الجبال والسباحة ذات المسافات الطويلة ومسافات ركض الضاحية وما إلى ذلك. فكلما نما بين الشباب ذلك العدد من الرجال، كان ذلك  أجدى للمجتمع بفضل تناقص مشاكل شبابه.
                                                 ـ  3  ـ
     من الكتب المفيدة للشباب، في إغناء ثقافتهم في هذا الباب خصوصًا، وبناء شخصيتهم وتسليحها بالمعارف والوسائل الكفيلة بالفلاح في خوض معمعان الحياة، هي كتب المربّي المتمميّز سلامة موسى، وأخصّها بالذكر ، هي :  [ أحاديث إلى الشباب ـ مشاعل على الطريق للشباب ـ هؤلاء علّموني ـ التثقيف الذاتي ـ عقلي وعقلك.] ومن كتابه (ألتتثقيف الذاتي) أجتزئ هذه الفقرة من موضوعه( التربية للحياة) حيث يذكر وجوب نجاح الفرد في ميادين الحياة : [ يجب أن تنجح في الحياة، أي تنجح في الأسرة، بعلاقات زوجية حسنة، وعلاقات أبويّة بارّة، وننجح في المجتمع، بأن نكون إجتماعيين، نقدّر الصداقة، ونمارس الصداقة، ونشتغل بالسياسة، وننغمس في  المشكلات الإجتماعية، ولنا أهداف  نحو خير المجتمع.]
     فهل تدرِك غالبية شبابنا، وتعمل وتمارس هذه العوامل التي تؤهّلهم للخوض في معمعان الحياة بنجاح وتوفيق ؟  ثم يبيّن المؤلف كيفية الفلاح في كل مجال من هذه المجالات لبلوغ الرضى المناسب عن الذات، ونيل السعادة بالمقدار الممكن نسبيًا ـ كما هو معلوم في كل آن ومكان دائمًا.


                                             ـ 4 ـ


 
     

13
خصائص رئيس الدولة الحاكم
                                               
يعقوب أفرام منصور
      نُماثِل تركيبة الدولة تركيبة العائلة من وجوهً عدّة، فكما أن تركيبة العائلة تتألّف من رئيس هو الأب، ثم الأم المساعدة له والمدبّرة لشؤون البيت، ثم العيال ـ اي الأولاد وربما الأحفاد أيضًا ـ وحتى الخدم في بعض البيوت، هكذا هي تركيبة الدولة في أيّ نظام حاكم كانت :جمهوري، ملكي، أميري؛ وقاعدتها الكبرى الواسعة هي الشعب بكل فئاته وطبقاته وانتماءاته وعقائده، ثم الحكومة التي تمثّل السلطة التنفيذية، ثم البرلمان الذي يمثّل السلطة التشريعية والرقابية، ثم الرئيس ـ رئيس الجمهورية، أو عاهل المملكة الذي غالبَا ما يكون حاميًا للدستور.
     من صفات العائلة السعيدة هي إستتباب أحوالها ، وذلك حينما يكون رأسها، الأب أو الأم أحيانًا ـ إن كان الأب غائبًا أو متوفّى  ـ  ممتلكًا عقلاً راجحًا وقلبًا وسيعًا، محبًا لكل من هم تحت سقف بيته، حليمًا، صبورًا، رشيدًا، مستعدًا للبذل الأقصى الممكن، ولتوفير ضرورات العيش الكريم لأفراد بيته. هكذا يكون رئيس الدولة متّسمًا ومتميّزًا بهذه الصفات الآنف ذكرها، حاملاً هذه الخصال الحسنة، كي تغدو غالبية أفراد شعبه حائزة على عوامل العيش الرغيد الكريم بفضل ما منحهم من حريات عامة، وأتاح لهم فرص عمل تناسب قابليا تهم ومؤهلاتهم، وبفضل ما عمّ مجنمعَه من أمن واستقرار وعدل في تطبيق الحقوق والواجبات على الرعية؛ وكل هذه العوامل الفاعلة بالتالي تصبّ في صالح إزدهار النظام الحاكم وديمومته إبان حياة ذلك الرئيس الرشيد الصالح.
     وأيّ خلل أو نقص أو عجز أو تجاوز أو طغيان في التعامل والأداء والتصرّف من أيٍّ  من الطرفين ـ الحاكم ممثّلاً بالرئيس ، والمحكوم ممثَلاٍ بالشعب ـ  يؤدّي إلى نشوب القلاقل والفوضى والإضطراب والإستياء في أوساط المجتمع، ثم بروز فرقاء معارضين في حالة انعدام  التحاور بغية تلبية بعض المطالب الملحّة والمشروعة للشعب الذي يضمّ جمهرة كبيرة من المحرومين والمضطهَدين والعاطلين والمهمَشين والمنبوذين الذين غالبًا ما ينضمّون إلى صفوف المعارضة الموضوعيين والمحقّين في معارضتهم. جدير بالذكر هنا أن صفوف المعارضة يجب أن تكون موحّدة الهدف والمطالب الحيوية، وعاملة داخل القطر و ليس خارجه، ومجرّدة من الأنانيات الذاتية، ومن التصلّب في التحاور، ومن الإسراف في المطالب الآنية.
      من الممكن الإستشهاد ببعض الدوَل التي تحيا شعوبها في بحبوحة من عيش رضيّ كريم، خالٍ من التمرّد والنقمة والنفور والتهجير القسري، وهي الدول الإسكندنافبة : النروج، السويد، فنلندة، الدانمارك، وفي بعض أقطار أوربا الوسطى : سويسرة، هولندة، ألمانيا، النمسا، وإذا تحرّينا أسباب هذا العيش الرضيّ الهادئ فيها، ألفينا توفّر المواصفات والعوامل القائمة بين طرفَي الدولة : ألأصغر حجمًأ ممثّلاً بالرئيس الحاكم، والأكبر حجمًا ممثّلاً بالشعب المحكوم.
      منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم فصاعدًا، تفاقم ظهور الأنظمة الحاكمة التي ترأّسها رؤساء حاكمون شموليون طغاة قساة، يعزفون عن منح بعض الحريات العامّة للهيئات المعارِضة، ويميّزون ويحابون في منح الحقوق والواجبات بين الفئات والطوائف والإيديولوجيات، وقد إستغلّ الغرب ـ في موجة عارمة من " إستعماره الجديد " الشَرِه ـ  هذه الصفات الرديئة والخصال الذميمة لدى الرؤساء الشموليين من خلال بِدعة عملية  " الربيع العربي !" المزيّف ، التي إبتدعها الإعلام الغربي، تمويهًا بشكلٍ هو أسوأ من تقسيم " سايكس بيكو 1916 "، تنفيذًا لإرادة وزارة الدفاع الأمريكية التي بدورها نفّذت إرادة برنارد لويس الصهيوني في عام 1980 ـ فأدّى ذلك إلى ظهور رؤساء أنظمة في الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين، تعاملوا ويتعاملون الآن مع شعوبهم بتحيّز وقسوة شرسة بلغت حدّ القتل والسفك الجماعيين، والتهجير القسري، والتخريب والهدم الشامل، واستخدام التنظيمات الإرهابية، واستعمال الأسلحة المحرّمة دوَليًا، وإلقاء الغازات السامّة الخانقة، والبراميل المتفجّرة المشبعة بالغازات السامّة !
     كل هذا يجري على مرأى من الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية الكبرى  خصوصًأ في أمريكا وأوربا، وعلى مسمع ومراى المنظمة العالمية ومجلس أمنها، من دون عمل جاد لإيقاف هذه المقترفات الجُرمية إستنادًا إلى بنود القانون الدوَلي، حتى إن المنظّمات الإنسانية للحقوق والسلام ونظافة البيئة تذيع أنباءًا وتحقيقات وتعرض مشاهد من هذه التجاوزات على حقوق الشعوب من قِبل  أنطمة حاكميها وبأوامرمن رؤسائها الحاكمين  العتاة الجناة إلى حد لم يسجّل التاريخ قبلئذٍ عديلَها.
       هنا ثمة سؤال يطرحه الموضوع : من هي الدوَل التي تنتج هذه الأسلحة الفتّاكة المحرّمة دوَليًا ؟! ومن يبيعها ويزوّدها ويوصلها إلى الدوَل التي يرئسها رؤساء حاكمون شموليون قساة جناة على شعوبهم ؟! وإذا كانت محرّمة ، فلماذا تنُتجها الدول الكبرى كي يذهب ريعها إلى خزائن تلك الدول التي تصنعها وتبيعها  وتؤمّن إيصالها ؟! هل إرضاء شركات تصنيع الأسلحة أمر مُتاح كي تُستخدم لقتل الأبرياء من السكان والبشر لصالح الدوَل الكبرى المنتِجة الغاشمة؟! أترك الجواب للقرّاء   وللدول المصنِّعة للأسلحة المحرًّمة دُوَليًا !!
 
   
 
     

14
أمريكا بالأمس واليوم وغدًا
                                           
يعقوب أفرام منصور
     إن المتأمّل جيدًا في الخط البياني لمكانة الولايات المتحدة الأمريكية في قناعات  المفكرين الأحرار والمحللين الموضوعيين في مجالات الإعلام والسياسة، وفي الخط البياني لمنزلة أمريكا في نفوس وقلوب الشعوب بعامّة، يلاحظ بجلاء إنحدارًا شديدًا منذ مطلع ستينيات القرن المنصرم. ومن عهد رئيسها جونسون عام 1964 حتى الآن يؤشّر الخط البياني هبوطًا متواصلاً ؛ وتنعكس نتائج هذا الإنحدار السيئ على جميع بقاع  وشعوب العالم.
     كان مأمول الشعوب بعد خروج أمريكا من الحرب العالمية الثانية، ثم حروب كوريا وفيتنام وغيرهما أن تتحسّن أحوال العالم نحو الإنتعاش والإستقرار والتعايش بعيدًا عن الإنتكاسات والأزمات، ونحو الإرتقاء الإجتماعي في ظل العدالة، ونحو التفاهم والتعاون ضمن الأنظمة االسياسية للدوَل الكبرى بلغة الحوار البنّاء المشفوع بالإرادة الصالحة لبلوغ السلام ومرفأ الأمان لمسيرة البشرية التي أنهكتها الحروب السِجال فزعزعت أركان الحضارة الشاملة وثقة الشعوب بمصداقية المنظّمة العالمية للأمم المتحدة، وخصوصًا بمجلس أمنها، لأن هذا المجلس قد غدا في العقود الأربعة الأخيرة منفّذًا لإرادة الدولة الأمريكية التي صارت الشعوب تُطلق عليها مختلف انعوت : الطاغوت ـ دولة الإرهاب الرسمي ـ عدوّة الشعوب ـ  دولة الجشع والأمركة والعولمة والتشرّد والتعسّف ـ وحليفة الشر والأشرار وأعداء البشرية والسلام في االكيان العنصري الصهيوني.
     أمست أمريكا ـ كالمدمنين على تعاطي المخدّرات ـ مصابة بالإدمان على القتل والإرهاب والتنكيل والتخريب وانتهاك حقوق الإنسان بشكل فظيع. وبعد كل هذا الجور والعسف وإيغلها في الأنانية المفرطة والإستكبار، تستغرب الإدارة الأمريكية، منذ عقود، النقمة المتصاعدة عليها من كل حدب وصوب، بل  من شريحة كبرى في شعبها نفسه.!  وبدلاً من أن تُزيل الإدارات المتعاقبة عوامل التقمة عليها بعد " هجمات " 11 أيلول (سبتمبر) 2001، دأبت بعدها على مضاعفة النقمة عليها من جرّاء خطل سيايتها، وسوء تعاملها مع الحقائق والثوابت  والشعوب.
      جمهرة واسعة من الشعب الأمريكي باتت في العقدين الأخيرين متململة ومغلوبة على أمرها، لكن بين ظهراني شعبها أناس من أخبث الخبثاء والماكرين الذين ينخرون في أصل شجرة أمريكا، ومصير هذا النخر معلوم لكل بصير وأريب، ؛ وأشد هؤلاء خبثًا ومكرًا هو المدعو هنري كيسنجر، الداعي إلى فكرة (صراع الحضارات) بدلاً من (حوار الحضارات) المؤدّي إلى التعايش السلمي، لأن فكرة دعوته منطلقة من سليقته العدوانية الصهيونية التي يضمرها الصهيونيون عمومًا وأنصارهم في أمريكا وفي بعض أقطار أوربا تجاه البشرية جمعاء والحضارات كافّة. فهل بعد هذا الشر من شر أفجع منه وأعمّ على البشريّة ؟! لكنّ لكيسنجر هذا  مشاركين ومخططين وواضعي سيناريوهات  آنيّة ومرحليّة  و "أخيرة "، وشاءوا أن يكون رئيس أمريكا بوش الأبن ورؤساؤها اللاحقون أداةً طيّعة لتنفيذ هذه السيناريوهات، ومن هؤلاء المعرفوفين : صموئيل هتنغتون ـ لورنس  هاريسون ـ فوكوياما، صاحب كتاب (نهاية التاريخ) ـ واينبرغر ، صاحب (ألحرب القادمة) ـ بيرجنسكي، صاحب نظرية (قوس الأزمة) ، أي إحداث الأزمات التي تؤول إلى إطلاق شرارات الحروب. وقد اعتنق أفكارهم الجهنميّة هذه بعض رؤساء أمريكا السالفين، أحدهم (ريغن) ، وبعده بوش وكلنتن وبوش الثاني واوباما بدليل حرب 1991 و "هجمات " 11 أيلول 2001 وتهديدات بوش الإبن  دوَلاً شرق أوسطية عديدة والفلبين وكوريا الشمالية والمنظمات الفلسطينية التي تقاوم الإحتلال والأعمال البربرية الصهيونية، ثم حرب 2003.  فبدلاً من أن تركن أمريكا إلى الحوار،  رأيناها دائمًا تُقحِم نفسها في ساحات جديدة لارتكاب الشرور والمظالم، ودعم الباغي والمعتدي والعدواني، ، وتمضي في عهد الرئيس الحالي (ترامب) في سُبُل التضليل الصهيوني الأرهابي الشرّير الماثل في ما يُدعى (ألصفقة) ولتهويد القدس ثم فلسطين بأسرها، برغم ان الكيان الصهيوني لم ينفّذ أيّ قرار مُلزِم بخصوص فلسطين وعملية السلام صادر عن مجلس الأمن بعد حرب 1967 وحتى الآن، ولم تفعل أمريكا ذرّة عمل لصالح عملية السلام برغم تنصيب نفسها راعيةً لعملية السلام !! وهي لا تتوانى عن جرّ جميع مخالفيها نحو حرب مُهلِكة شاملة ، لا تُبقي ولا تَذَر طبقًا للخطوط العامة للسيناريو الأساسي.
      في رسالتي إلى الرئيس المنتخب الأمريكي ترامب في 23 ـ11 ـ 16، أبديتُ رأيي أن يُثبت ترامب إرادته الصالحة لتحسين أحوال العالم المتردّية من خلال تحسين سياسة الدولة الأمريكية في تعاملها مع الشعوب بعيدًا عن استعمال السلاح وعن استخدام الإرهابيين في زعزعة وتفكيك أركان الدوَل، وكذلك من خلال إنهاء مظلومبة الشعب الفلسطيني، فإنهاؤها يقلّل كثيرًا ويزيل عمليات العنف والتطرّف والإرهاب في الشرق الأوسط وفي الغرب.
      إن كانت أمريكا إدارةً ـ والأهم شعبًا ـ  داريةً بكلّ هذه الأمور والأحوال والأسباب، وراغبة فيها، فهذه مُصيبة، وإن كانت لا تدري، فتلك مُصيبة دهياء ! إن التاريخ مُسجّل صادق، وسيدوّن كل شيء عن أمريكا وعن أنظمة دولتها المتعاقبة بصدق وأمانة، لأن ما يكتبه سوف يكون بوحي الضمير الإنساني النبيل، لأنه حيّ يقِظ نزيه.  فلتختر أمريكا كيف تُفضّل أن تغدو  صفحتها من ذلك السجلّ في الظرف الحالي وفي قابل الأيام والأعوام.
      بيدَ أنّ من المناسب والمُجدي إبداء ما أفصح عنه حكيم البوسنة الراحل في عام 2003  ( علي عزّت بيجوفيتش) بخصوص منزلة أمريكا بين الدوَل والقوى العظمى في العالم في عام 2030 :
       [  ستكون أوربا كيانًا سياسيًا واحدًا، وسيكون الشرق الأقصى هو مركز العالم، وستفقد أمريكا سيطرتها في العالم بسبب سقوطها الأخلاقي.]
       ورد هذا النص المهم في مجلة (ألهلال) القاهرية ـ عددها لشهر أيلول (سبتمبر) 2004 ـ ص 48. وعقّبت المجلة عليه بهذه الكلمات : " والإشارات على هذا المصير تتأكد في مجرى الأحداث ."
     فأحياء اليوم، الذين تُكتب لهم الحياة في العام 2030 ،  سوف يشهدون مدى حدوث  هذه التوقّعات من " حكيم البوسنة ".
                                                 

15
صحَّ النوم: مجلس الأمن!
                                                 
يعقوب أفرام منصور

     في الأسبوع الأول من تموزهذا العام (2019 ) بثّت أجهزة التلفاز في العراق وأقطار العالم  نبأً أفاد إن مجلس الأمن الدوَلي في منظمة الأمم المتحدة قد أوفد إلى العراق هيئة خاصّة ـ أظهر التلفازصوَرأعضاء الهيئة ـ التي مرامها العمل على تحقيق إستقرار ودعم العراق، وذلك بباعث من اعتقاد المجلس المذكورأن إستقرار العراق يُفضي إلى إستقرار منطقة الشرق الأوسط برمّتها، ففيها فد تنامى اَلإضطراب المقصود، والدمار المخطط له قبل عقود، كما تنامى التخلّف وتلوّث البيئة المرسومَين أيضًا،، وذلك بعد أمدٍ قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية لضمان تفوّق الغرب الإمبريالي في وسائل التحضّر والتمدين على أقطارالشرق الأوسط لأهداف انتفاعية موغلة في الأنانية والتسلّط والتعالي، وكي تكون أقطارالشرق الأوسط أسواقًا لإستقبال صادرات  دول الغرب الإمبريالية وأهمها : بريطانيّة، فرنسية، إيطالية، أمريكية.
     ومن ملاحظاتي أُبدي إن مصطلح (الشرق الأوسط) جغرافيًا وسياسيًا وإعلاميًا لم يكن دارج الإستعمال قبل الحرب العالمية الثانية، بل شاع بعدها بقليل، وأول من استعمله من الساسة كان (ونستون تشرشل) كما ورد في مذكّراته  المشهورة (أنظر ص 292 منها  ـ منشورات مكتبة المنار، بغداد) في عام 1948 ، وبعد خلق كيان إسرائيل اللاشرعي. فقبل ذلك التاريخ كان المصطلح الشائع على هذه المنطقة، الذي يحقق مطامع وطموحات الغرب الإمبريالي، هم مصطلح (ألشرق الأدنى)، بالنظر إلى قربه من الغرب الأوربي الذي هو منبع  أوج الإستعمار في القرن 19 ثم منبع الإمبريالية في القرن العشرين.
      ثمّة ملاحظة أخرى على علّة إضطراب منطقة الشرق الأوسط، فوسيلة إستقرار هذه المنطقة لا يكمن في أستقرار ودعم العراق أولاً، كما يحسب مجلس الأمن الدولي، بل يكمن في التسوية النهائية ببين الكيانين الفلسطيني والإسرائيلي طبقًا لقرارات عدّة صادرة عن مجلس الأمن نفسه في عقود النصف الثاني من القرن العشرين! فأين هو إجتهاد وسعي المجلس في هذا السبيل المؤدّي إلى أستتباب الأمن والإستقرار في منطقة الشرق  الأوسط؟ّ! قبل عقد من السنين أجاب العاهل الأردني عبد الله الثاني عن أستفهامه في ندوة أو لقاء بخصوص حل مشاكل الشرق الأوسط، قائلاً إن حل هذا المعضلة يتم في حل القضية المستعصية بين إسرائيل المتعنّتة  وبين الكيان الفلسطيني. لكن لا أسرائيل ولا حلفاؤها وأصدقاؤها وحُماتها الساهرون عليها يرومون الحل المنشود ، وكأن إسرائيل هي المظلومة والمستباحة وليس فلسطين وشعبها المشرّد  والمهجّرفي كل القارات، والمضطهد حتى على أرضه منذ 70 عامًا!  وقد أبديتُ رأيي المماثل لرأي الملك عبد الله مرارًا في بعض مقالاتي قبله وبعده. لكن الأصوات الصائبىة الحقانية غير المنحازة تتبدد كالصياح في بلقع، ولا تُسمع في منزلٍ  سكّانه طرشان !  يبدو أن  الإرادة الدوَلية غير جادّة في هذا السبيل. فإذا كانت الإرادة الدوَلية غائبة أو جامدة أو مسيّرة نحو الخطأ والضلال والإنحراف، فما ذا يُقال عن إرادة المجلس في هذه القضية التي على مستقبلها يتحدد او يتبلور وضع الشرق الأوسط؟!
      في الحقيقة غريب حقًا سماع هذا النبأ، إذ هو يستوجب التمعّن في مضمونه  وغايته الحقيقية ، والتحليل والتعليل يبعثان على التساؤل باستغراب : أين كان مجلس الأمن الدوَلي منذ شنّ الغرب الحرب الظالمة المشجوبة أصلاً على العراق في عام 2003 ، وعانى بعدها في عهد (بريمر) شعب العراق، ويعاني حتى الآن، وما قاست أقطار الشرق الأوسط: أفغانستان، لبنان،  تونس ، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن منذ 16 عامًا؟! أحقًا كان مجلس الأمن حاضرًا خلالها، أم كان في إجازة، أم غائبًا عن الوعي وغارقًا في نوم عميق؟!
 منذ عام 2001 بدت لوائح على ضعف وتقصير أو تراخي المجلس المذكور، فهذه دلائل على شبه عجزه عن أداء واجباته الخطيرة الحيوية. كان في الحقيقة مجلسًا مسيّرًا من [ القوى الكبرى العظمى] المتجبّرة، ومن قِبل " المفسدين في الأرض" ومن أعداء البشريّة منذ ألفي عام ! كيف يُصدّق جَيّد الإطّلاع الحصيف أن مجلس الأمن كان حريصًا على أن يسود السلام والإستقرار في ربوع العالم عمومًا والشرق الأوسط  خصوصًا، في حين كانت التشكيلات الإرهابية  العديدة قد شُكّلت بتوجيهات من العنصري المتميّز (برنار لويس) لتُعيث فسادًا، وتُربك الأوضاع، وتنشر صناعة الموت والهدم والحرق  والعداوات بين الأديان والقوميات، والإجرام بأشكاله العديدة في أقطار " الشرق الأوسط الجديد "، وتفتيت كياناته القائمة، تطبيقًا "للنظام" الجديد المنخور (!) الذي أعلن تصميمه الرئيس بوش الأب قبل أمدٍ قصير من شن الحرب على العراق في 1991 ، ونفّذ  شطره اللاحق  الأوسع والأشرس بوش الإبن، سيئ الصيت، في عام 2001 ثم في عام 2003 وبعده رديئ الصيت (أوباما) الذي خلّف أسوأ ترِكة رئاسية لخليفته المُبتلى (ترمب)!
       أليست فصول الإرهاب المستهتر بالقِيَم الإنسانية والأعراف الحضارية تجري على مراى ومسمع من المجلس الهُمام وهي تُمَثّل على مسرح الأحداث الجسام الشنعاء بكل صلافة وجلاء حاليًا على ساحات اليمن وسوريا وليبيا ؟! ألم  يصل رشاش الإرهابيين إلى ديارفرنسا وبلجيكا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وغيرها؟!
     هذه الوقائع كلها تشكّل جرائم كبرى، أسهم في الإعداد لها والوفاق عليها دوَل الغرب: أمريكا وفرنسا وإنكلترا بمباركة ودعم  كيان معروف، مع تدريب وإعداد وإرسال وجباته وأفراده من تركيا وفق الإتفاق المستور المنكشِف! أجل، كل هذا يجري بجلاء بمعرفة مجلس الأمن، والباعث عليه  تهافت شديد من أنظمة الغرب الحاكمة على أقطار الشرق الأوسط حيث آبار النفط ومناجم اليورانيوم والزئبق والفوسفات والكبريت، ولكن من خلال إشاعة " الفوضى الخلاّقة"، وليس من خلال الإستقرار والأمن المستتب والبيع والشراء بهدوء وأصول التعامل التجاري ! فالثروات الطبيعية في أقطار الشرق الأوسط ليست محتكرة ولا مهزومة، بل عُرضة للبيع والشراء لمنفعة الطرفين. فلماذا تُعدّ لها عمليات " الفوضى الخلآقة" التي لا ينجم عنها أو يراد بها إلاّ خلق الإضطراب والبلبلة والتناحر والإحتراب بين المكونات والمعتقدات والأجناس ؟! فهذه السيئات شهدناها بكل وضوح مع إجراء عمليات " ألفوضى الخلاّقة"، فضلاً عن استخدام الإرهاب الوحشى أو الرسمي والغزو والتنمّر والتنافس بين الأقطاب الكبار، وتنافرهم  وتحاسدهم المتبادّل ، لكنهم يتضاحكون ويتصافحون وهم  متباغضون، كما ملحوظ بين الرؤساء والزعماء في الغرب والشرق !
      لم يعد حَسَنو الإطّلاع النابهون، وبعيدو النظر من المراقبين الحاذقين يصدّقون حُسن النوايا من مجلس الأمن الدوَلي، واقول هذا بأسف مرير ويقين راسخ، فلا يُرتجى منه خير في المجال الذي أُعلِن عنه متلفزًا في الأسبوع الأول من تموز2019، لأن تجربة العراق خلال نصف قرن سلف تثبت عدم التفاؤل والتصديق. يُضاف إلى ذلك كون العاملين على إفشاله هم أقوى كثيرًا من قوة إرادة أعضاء مجلس الأمن في مجال هذا القصد النبيل، بسبب تصارع  الأحزاب الوطنية (داخل البرلمان وخارجه) على المناصب والكراسي وموارد السحت الحرام، وعدم الولاء التام من شعب العراق للوطن فقط ؛ فالمنافقون كثيرون، والأوفياء نادرون، واللامبالون والجهلاء واالعشا ئريون المتعادون كثيرون جدًا؛ ولأن أعداء العراق والطامعين في ثرواته من بعض الدول المجاورة لا يروقها هذا الإستقرار المنشود للعراق ولأقطار الشرق الأوسط. لذا سيبقى العراق عُرضة للنهش والتمزبق والتفتيت لصالح أطماع  [المُفسدين في الأرض وأعدائه التاريخيين وأعداء الإنسانية]، منذ  25 قرنًا في الأقل؛ خصوصًا وأنّ عددًا من قرارات مجلس الأمن، الصادرة قبل ستة عقود بخصوص القضيّىة الرئيسية والجوهرية لمعضلة الشرق الأوسط ( فلسطين ـ إسرائيل)  لم تُنفّذ  بعدُ ، كما أن قرارَي المجلس المرقمين 678 و 986 بخصوص فرض الحصار على العراق عقب حرب 1991 ، تلبيةً لإرادة الدول الكبرى والصغرى المعتدية على العراق ظلمًا وعدوانًا، يُعدّان من دواعي عدم تصديق نيّة مجلس الأمن في العمل على إستقرار ودعم الكيان العراقي، فقد كان القراران بمثابة مكافأة للمعتدين الكبار والصغار عليه !  ومن يعِشْ يَرَ.!

16
كوارث الطبيعة بين حقائق العِلم وعقائد البشَر

                                                 
يعقوب أفرام منصور
    مروّعة جدًا كانت كارثة (تسونامي)  التي أصابت جنوب شرقي آسيا، ودهمت 26 بلدًا من القارّة  يوم 26ـ 12ـ 2004، ودامت بضعة أيام، فأحدثت من الإغراق والإجتياح الزاحف المتصاعد، والتدمير والإنهيارات والوفيات مقدارًا من السِعة والأعداد ما عدّه العلماء حدثًا وحيدًا من نوعه خلال القرنين الأخيرين، وسيبقى أثره المفجِع الهائل في ذاكرة ومخيلة الشعوب أمدًا طويلاً، يماثل تقريبًا ما ترك طوفان نوح العارم من أثر في ذاكرة الشعوب، الذي وقع في (أوقبل) الألف الثامن ق.م كما ثبت ذلك علميًا في أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم قبل انتهاء الحرب الباردة ( بجهود  فريقين علميين أمريكي وروسي  برفقة علماء محيطات من روسيا وبلغاريا وتركيا)، وعُلّل سببه بكونه ذوَبانًا جليديًا هائلًا غمر الأقاليم المتاخمة لحوض البحر الأسود من جميع أطرافه الشمالية والجنوبية وعلى مساحات شاسعة. أنظر كتاب (" طوفان نوح" في ضوءالإكتشافات العلمية الحديثة ـ الترجمة العربية من منشورات مجلة الفكر المسيحي البغداديىة وبيت الحكمةـ مطبعة النهار الجديدـ بغدادـ  2005).

        بعد تلك الكارثة الآسيوية الإستثنائية في هولها وسعتها ونوعها، تطارقت على ألواح ذاكرة الكثيرين  من البرايا أحداث كوارث  طبيعية لا تُنسى، حدثت إبان مطاوي آلاف السنين التي تعود بعضًا إلى كوارث طبيعية وقعت في أدوار ما قبل التاريخ، بدءًا من كارثة فيضان نوح الآنف ذكرها مرتين، والبراكبن العديدة التي اندلعت في أنحاء شبه جزيرة الأناضول(  تركيا الحالية)، وما تلاها من كوارث طبيعية في عهود من التاريخ المدوّن، وإلى أوائل القرن الحادي والعشرين، نظير كارثة (كنوسوس) التي وقعت في جزيرة (كريت) في بحر (إيجه) قرابة عام 1400 ق.م. التي نجمت عن زلازل عنيفة، عفت حضارتها الزاهرة التي بلغت أوجها في عهد الإمبراطورية الأكدية؛ فبركان(فيزوف) قرب ( نابولي) الإيطالية، المحفورة عميقًا في ذاكرة الشعوب، إذ طمرت حِمَمه   في عام 79م مدينتَي بومبي وهركولانوم)، واندلع لاحقًا في عامَي 1906 و1944؛ ثم بركان (فوجي ياما) في اليابان ـ بلد الزلازل والإتهيارات؛ وزلزال (أغادير) المخرّب في المغرب المراكشي عام 1960 ؛  فزلازل تركيا المتوالية المدمّرة من عقود خلت وأزمان موغلة في القِدم، وبراكين إندونيسيا العديدة، فكارثة (المارتنيك) التي دوّى صداها المروّع بعد اندلاع بركانها في عام 1902، وبقي عالقًا في أذهان الكثيرين لقربه زمنيًا، ولهوله نسبيًا، ولخصوصيته، فقد كانت ضحاياه البشرية يونم 8 أيار 26 ألف نسمة بعد خمسة ثوانٍ فقط من انفجاره المرعب المدوّي والمؤدّي إلى تفحّم معظم الجثث، وتفجّر بعضها، وخلّف أرض الجزيرة بلقعًا مجرّدة من كل نبات بفعل النيران  الصاعقة المُذيبة كل شييء حِيالها، وذلك من شدّة ضغط الغاز المنحصر في أعماق طبقات الأرض، ممّا أدّى إلى التهابها المتفجّر من سقح الجبل.
                                    عوامل وقوع الكوارث
       هذا هو التعليل العلمي لعوامل وقوع كارثة (المرتنيك) والكوارث المماثلة، إستنادًا إلى الدكتور (نيريس) أحد الناجين من كارثة، (المرتنيك) المروّعة، وكانت مجلة [ألضياء] للعلاّمة الشيخ إبراهيم اليازجي قد نشرت في 30ـ 6 ـ 1902 موجزًا لهذا التقرير العلمي التاريخي الذي علّل عوامل حدوث هذه الكارثة الطبيعية الفريدة الهائلة وهول الكوارث الطبيعية والفواجع المدمّرة المُهلكة التي تداهم البرايا بين آنٍ وآخر عبر مئات القرون.
      في هذا الصدد يُذكر أن أناسًا كثيرين في أيامنا يتساءلون، كما تساءل أسلافنا المؤمنون قبل قرون : ( أين هو الله من كل هذه الويلات المهلكات، والكوارث المُفجعات التي تلحق  البشر عباد الله، وجودًا وعمرانًا وحضارةً؟!) وبعد وقوع كارثة (تسونامي)  الآسيوية، إنطلق هنا وهناك من أصقاع البسيطة هذا التساؤل من أصناف  وشرائح مختلفة من الملأ :[  أين الله  ـ سبحانه ـ من كل هذا الدمار الوسيع، والهلاك الجماعي الذي لحق الأحياء الذين غالبيتهم من الفقراء والمعدَمين والأبرياء والمهمّشين والقاصرين والمضطهَددين والمسحوقين، في حين لبث الألوف بل الملايين من عتاة المجرمين والجناة  والعدوانيين والفاسدين يسرحون ويمرحون ويقترفون الموبقات في أركان عديدة من الأرض، وهم في منأى عن قصاص العدل الإلاهي الذي يصبو إليه كثيرون من عباد الله؟!]
       وممّا نجم  عن كارثة (تسونامي ) عام 2004 ، وتبيّن لاحقًا، هو أن محور دوران الأرض حول نفسها ـ المائل أصلاً ـ قد ازداد ميلانه بمقدار درجة تقريبًا؛ والمعلوم أن ميلان المحور المذكور هو الذي يسبب حصول الفصول المناخية الأربعة كل عام. ولا يُستبعد أن الزيادة  هذه قد ولّدت تأثيرًا مناخيًا طفيفًا.
        وقامت مواقع  إلكترونية عدّة باستجلاء آراء الزائرين في هذه المسألة من خلال الردود على هذا السؤال: هل توافق على  أن الزلزال غضب ربّاني، كما يُشيع بعض الأصوليين من مختلف الديانات ؟ فكانت الردود :  40,3  نعم، و 51,7  كلاّ  و  9,7 %  لا أدري.   أي أكثر من نصف المجيبين، نزّهوا الله عن مصائب البشر.  ومع ذلك كانت "نعم" قويّة أو غير هيّنة نسبيًا.
                      آراء وتعليقات بخصوص أحداث تمسّ الواقع
في هذا الصدد يقول الأب يوسف توما، رئيس تحرير مجلة (ألفكر  المسيحي)، في عددها المزدوج لشهرَي كانون الثاني وشباط 2005 : ( من المحزن أن الذين إعترفوا بجهلهم هم ـ للأسف ـ أقلّيّة، وهذا يُثبت أن مشكلة العالم ليست في نقص العلماء، وإنما في إدّعاء الكثيرين أنهم يعرفون. وهذا شأن الناس في  تديّنهم وتعاملهم مع المعطيات الغيبية، إذا ما مسّت الواقع، فالكلّ يُدلي بدلوه باعتماد الرأي والرأي الآخر،  وهذا ممّا حوّل الديانات ـ في تعاملها الشعبي والأمّي ـ إلى ديانات قلق وخوف  ووسواسيّة، أو مجرّد محاولات للتخلّص من مشاعر الذنب والنقص. فالسؤال هنا لم يَطرح:   كيف حدثت الكارثة،  وإنما: أين الله منها؟ فجاءت الأجوبة متسارعة، ملفلفة،  وبعضهم أخذ يدردش ويتخرّص.)
      وفي 8ـ2ـ2005 طالعتُ في جريدة (ألزمان) البغدادية مقالاً للدكتور حسن حنفي (مفكّر مصري) تحت عنوان( ألعمل الإلاهي في جنوب شرقي آسيا)، فلم يرُقني العنوان لكونه يوحي في أول وهلة للقارئ بأن الكارثة الآسيوية كانت قصاصًا إلاهيًا لشعوب جنوب شرقي آسيا (!)، تطبيقًا للعدل الإلاهي، وكأن شعوب هذه المنطقة هم أكثر من بقية شعوب العالم رداءةً واستحقاقًا للعقاب الإلاهي !! ولمّا كنتُ مرجّحًا أن صيغة العنوان  الكبير للمقال ليست من قلم الكاتب، خاطبتُه برسالة في 12ـ 2ـ 2005 مبديًا رأيي أن الأنسب منه  كان سيغدو الإكتفاء بصيغة العنوان  الصغير (ألكوارث الإنسانية مدعاة للتأمّل) وهو الذي وُضع فوق العنوان الكبير( ألعمل الإلاهي في جنوب شرقي آسيا)، خصوصًا وأن  مضمون المقال ينطبق على مدلول العنوان الصغير وليس على العنوان الكبير.
                                  أسباب حدوث الكوارث الطبيعية
     إن تعليل هذه الكوارث الطبيعية، على اختلافها،  ينطوي على ثلاثة أبعاد، أولها بُعد إيماني، لاهوتي، غيبي،؛  وثانيها بُعد علمي ؛ وثالثها بُعد فلسفي. ويبدو أن التعليل العلمي هو الأكثر قبولاً لأنه قائم على حقائق علمية راسخة موثوقة جيولوجيًا وفيزيائيًا وكيميائيًا، وليس على أوهام وغيبيات واجتهادات نائية عن الواقع أو الآراء الفلسفية التي من شأنها التنوّع والتضارب وعدم الصمود أمام الحقائق التجريبية الملموسة، وتتنافى مع الكمال الإلاهي المطلق الذي من سماته البارزة: العدالة الإلاهية، وحبه للبشر؛ في حين أن تلك العدالة نفسها، يُعزِي إليها بعض الخلائق: ألإيذاء والإهلاك العشوائي على نطاق واسع وبشكل لا  يميّز بين الصالحين والطالحين، وبين الخيّرين والأشرار، وبين المساكين والمتجبّرين، حين يعدّون الكوارث قصاصًا وتطبيقًا للعدل الإلاهي! وكيف يكون تطبيق هذا العدل حين يكون نازلاً على مجموعة أو مجاميع تضمّ صالحين وطالحين في حين يستحيل أستثناء وعزل الصالحين من الطالحين والأشرار  والأثمة ( وهم كثرة  دائمًا) مثلاً وافتراضًا؟!! فالعزل والإستثناء بين الفئتين (في أثناء الكوارث) مستحيل منذ البدء، ولم يحدث ولن يحدث.     
     

ا                                                           


17
المهرجان العربي والكلداني

يقيم المهرجان العربي والكلداني مهرجانه السنوي ألثامن والأربعون في قلب مدينة ديترويت ألكبرى (هارت بلازا) يومي السبت والأحد المصادفين 27 و28 من شهر تموز 2019.
سيشارك في المهرجان عدد كبير من الفنانين العرب والكلدان منهم حسام الرسام , عادل عكَلة,  لندا جورج , همام منصور, خضر العؤاد على ألعود وفرقة أحباب ألطرب سامر ديدي ألتراثي  ( الجالغي البغدادي).
ويتخلل المهرجان عروض ورقصات فولكلورية، وكلاون للأطفال والاكلات المتنوعه.
وسيشمل المهرجان عرضا للأزياء الشعبية الفلكلورية يوم الاحد الساعة السابعة والربع مساءْ. وكذلك يوجد معرض فني وتراثي.
لا تنسوا موعدكم مع المهرجان العربي والكلداني في هارت بلازا في داون تاون ديترويت. الدخول مجانأ. لمزيد من المعلومات الرجاء الاتصال 8197-840-248



18
بلد  التمر  يستورد  التمر
                                             
يعقوب  أفرام منصور
 فبلَ اكتشاف النفط  (ألذهب الأسود) في باطن أرض العراق، وتحديدًا في حقول     كركوك، خانقين، الموصل،  البصرة وميسان، وبذا غدا العراق أحد أغنى أقطار العالم بهذا النوع من الثروة الطبيعية، عُرف العراق  بغناه في محصول أصناف عديدة من التمر، فوُصِف بكونه  [بلد التمر]، وكانت أرقى أصنافه تُصَدّر إلى إنكلترا وأمريكا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بصناديق خشبية مبطّنه بكاغد مشمّع ابيض وأسمر. وعُرف التمر في أسواق دياربكر وغيرها من مدن جنوب الأناضول في أوائل القرن العشرين. وأغنى محافظة بهذا الحاصل الغزير كانت محافظة البصرة، فكانت غزارته سبب رخص أسعاره ردحًا طويلاً، حتى قيل عنه في الأمثال ( أرخص من التمر في البصرة !). وكانت ولاية البصرة  في أواخر العهد العثماني ـ المتداعي للسقوط ـ اوسع  ولايات العراق المعروفة آنئذٍ رقعةً، إذ كانت حتى أوائل القرن العشرين تشتمل على منطقة الأحواز ( عربستان الحالية في إيران، وكانت تُسمّى أيضًا " ناصرية العجم"، وفيها عبدان والمحمرة ونهر كارون الذي يصب  في  شط العرب.) كما كانت ضمن أراضي البصرة في الجانب المقابل من خليج البصرة ( أوالخليج العربي): قضاء الكويت الوسيع ليضم  شبه جزيرة  " فَطَر" الحالية. وتمتاز  البصرة بإنتاجها أجود وألذّ الأنواع وأكثرها عددًا ، وبعضهم يقول  إنها  تربو على عشرين نوعًا. وما برحتُ أذكر أكثرها شهرةً : ألحلاّوي، الخضراوي، ألبرحي، اللِلوِي، ألبرَيم، الكنطار، ألحِمري.  أمّا من أنواعه  الرخيضة المبتذلة، فأذكر الساير والزهدي.
      شاع في البصرة ،منذ مطلع القرن العشرين، إحتواؤها على مكابس التمور على الضفة اليمنى المعمورة من شط العرب، وعُرفت مواقع المكابس بإسم (جراديق)  ومفردها (جرداق)، حيث في كل مكبس يقوم عمّال مدرّبون بصفّ وكبس أجود أنواع التمور في صناديق خشبية مستوردة ، طول أحدها قدمان وعرضه قدم واحد وعمقه قدم، وفي  صناديق مماثلة أحجامها  تعادل نصف حجم التي أسلفتُ ذكرها وكان ه، يزن الكبير رهاء  10 كغم من التمر، ويزن الصغير زهاء 5 كغم من التمر. والعمّال يَرتدون "الصدريات " البيض، وهم أصحّاء الأبدان وعرضة للتفتيش الصحّي في فترات غير محددة طيلة موسم الكبس والتحميل في " مهيلات" شراعية كبيرة ومتوسطة تنقل الصناديق المعبّأة إلى السفن البحرية الراسية وسط شط العرب مقابل الجراديق من منطقة " المعقل" إلى " أبي الخصيب" قبل (الفاو). وكان هذا الموسم ينتهي في أواسط أو أواخر الخريف.
     أمّا التمور الرخيصة أسعارها، فتُكبس في خِصاف، زنة الواحد منها  زهاء 20 كغم، وفي الناصرية والديوانية وغيرهما تُكبس تمورها في خِصاف أيضًا، ومنها يُرسل الكثير إلى بغداد وكركوك والموصل. أمّا الصنف الجيّد والمشهور في بغداد، فهو "ألأجرسي"، وكان من تمر واسط الجيد والنادر نوع "ألبدرايي" نسبةً إلى بلدة "بدرة"  (بادِرايا التاريخية)، وثمة  صنف آخر يأتي منه إلى بغداد في الخريف، ويُعرف ب "الديري" وهو قليل الطراوة غير دَبِق، أملس، لونه بنفسجي غامق، ولعلّه من بُليدة (ألدير) قرب البصرة أو التي قرب اليوسفية أو الإسكندرية جنوبي بغداد.  وثمة صنف آخر نادر يُعرض  في بغداد في أول الشتاء ويُسمّى (ألأزرق).
      ونقلاً عن شبكة الإنترنت، إستنادَا إلى (الموسوعة الحرّة) و (عراق برس)، ورد ما يأتي : [ تُعد البصرة في مقدمة أكبر المدن العالمية في تصدير التمور، حيث توفرت أجهزة المقاييس والسيطرة النوعية والتعاون مع مراكز البحوث. واستنادًا إلى " ألموسوعة الحرّة"، يُعد العراق في مقدمة أقدم  مواطن زراعة النخيل في العالم؛ إّذ أظهرت بعض الآثار والمكتشفات التاريخية صُوَرًا  للنخيل في مناطق من جنوب العراق. وفي عام 1888 أُدخِل عدد من مكابس التمور إلى البصرة لغرض تعبئة وكبس التمور قبل تصديرها من عدة موانئ ومراسٍ وسط شط العرب. وبعد عام 1968 ظهرت عدة محاولات لإنشاء مؤسسة مركزيّة واحدة لجميع متطلّبات خدمة ورعاية النخيل وحاصل التمور، فتمّ تأسيس (ألشركة العراقية لتصنيع وتسويق التمور.) وعندما وصل سوء حال النخيل في العراق إلى هلاك 16 مليون نخلة، شرعت الكويت تُصدّر التمر إلى العراق !]. ومعلوم أن الدبس العراقي المستخرج من التمر يُعد  مادة غذائية  متميّزة، وكان أحد مصانع تعليب المواد الغذائية في كربلاء ينتجه على نطاق واسع في السبعينيات والثمانينيات.
     مع نهاية الخمسينيات كان عدد النخلات في العراق بربو على 30 مليون نخلة، منتشرة على مساحات واسعة من بساتين النخيل في جميع محافظات الوسط والجنوب، وفي ظلالها تُزرع الخضروات وأشجار الحمضيات والفواكه والكروم، فأرض هذه المناطق الحارّة نسبيًا، حين تُقارن بمناطق المحافظات اشمالية، كما أنها ذات تربة رسوبية ومرويّة جيدًا قليلة  الملوحة المفيدة ، وبيئتها ذات رطوبة قليلة مفيدة لإثمار النخيل. وكان في وزارة الزراعة فريق ومواد لمكافحة  الأمراض التي تصيب النخيل ومنها حشرة (ألدوباس). وكان ملاّكو بساتين النخيل يغتنون بالواردات التي يحصلون عليها من بيع التمور المصدّرة إلى أقطار الغرب وأسواق أقطار الخليج العربي وعمان والهند والشرق الأقصى ( أندونيسيا  والفلبين وغيرهما) والمستهلكة محليًا. واغتناء الملاّكين المذكورين كان يُسهم في إزدهار الحركة التجارية والريع والإقتصاد.
     لكن دخل العراق من بيع النفوط أخذ  بالتدريج يفوق دخله من بيع التمور والشعير والجلود والمصارين والعظام، والعفص من منطقة كردستان، فهبط  مستوى الإهتمام بالنخيل، مما أدّى إلى تناقص إنتاج التمور وصادراتها وصادرات بقية المواد الزراعية والحيوانية . كما أن االحروب المتوالية على العراق 1980 ـ 1988 ، 1991 ، 2003 ـ 2019 أدّت إلى اقتلاع واحتراق عدد كبير من النخيل، فضلاً عن اتّساع رقعة البناء والعمران والنمو السكّاني في الحواضر، فنجم عنه بتر واقتلاع  عدد كبير من النخيل كما نجم عدم شتل فسائل النخيل لتدارك هذا التناقص المستمر في عدد النخيل في ظل تردّى أوضاع البلد التي عمّها الإهمال والفساد خلال العقدين الأخيرين حتى أمسى العراق قطرًا مصدّرًا فقط بامتياز وتفوّق على أقطار أخرى مجاورة لا تمتلك مياهه ولا تربته ولا أياديه العاملة، ووصل به الحال السيئ إلى إستيراد التمر من الكويت والسعودية وإيران منذ أعوام بعد 2003 حتى الأن وبتصاعد، حين غدا عدد النخيل في بلد النخيل  3 ملايين نخلة أو ربما أقل بعد أن كان في الستينيات المنصرمة زهاء 33   مليونًا!
      أمّا الذي نشاهده من التمر المكبوس محليًا وللإستهلاك المحلّي في علب أو أكياس نايلونية متفاوتة الأحجام، فهو من المحزِن المبكي والمخجِل، شكلاً ونوعًا وتعليبًا وتعبئةً، فأمسى هذا البلد المشهور بوصفه " بلد التمر"، يستورد التمر م.ن أقطار مجاورة دونه  شهرةً بهذا المنتوج. ومما يضاعف حزن وغم المواطن العراقي الغيور المثقّف ألاّ يستشفّ أصلاً أيّ تحسّن في أحوال النخيل في البصرة خصوصًا وفي غيرها عمومًا: كربلاء، النجف، الحلة ، ديالى، ميسان.
     إن وصع النخلىة العراقية وضع موجِع، ويعكس صورة واضحة عن وضع العراق المتدهوِر من النواحي السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والأخلاقية؛ إذ كلّما كانت النخلة في حالة زاهية ومزدهرة، وفي إنتعاش وانتشار وعطاء، يكون العراق بأسره، في كل مجالات الحياة،  أفضل وأسعد وأرقى عزًّا وسؤدَدًا. والعكس هو النقيض تمامًا. وهذه سطور قطعتي في شأنها عندما نشرتُها في عام 2008  تحت عنوان  (رفقًا بالنخلة). أنظر مجلة (نجم المشرق) البغدادية في عددها 56 لعام 2008  وعن تمور وجراديق البصرة أنظر مقالي (ألبصرة في أعماق الذاكرة) النشور في كتابي (بين الأصيل والغسق)  بغداد ـ 2012 .

        رِفقًا  بالنخلة
رِفقًا بالنخلة يا أبناءَ الوطن
طالَ عليها العُسف والجور والمِحن
من خمسة عقودٍ عُجاف تُعاني
حَرقًا وبترًا وسحقًا وظمأ
فإلامَ تبقى نخلتنا تُعاني، يا بني وطني ؟!
أيُرضيكم ما قاست من حيفٍ وعسفٍ ووَهَن ؟!
أما كفاها تمزيقًا وتجريفًا وضنىً؟!
نخلتكم هذي، أبناء العراق،
صِنوُ الأرز في البهاء والخلود
فغدت حاضرًا عجفاءَ مطروحةَ القدود
ظلّت نصفَ قرنٍ زينةَ شعارِ الوطن
ثمّ خبا زَهوُها وتوالت عليها الدِمَن
فحروبٌ ونيرانٌ واقتلاعٌ وعِلل
ثمّ إهمالٌ وهجرانٌ من أهلِ نِعمتها
ونَبذُها ونسيانُها من حرّاس الوطن
بعدَ أن غدا الِنفطُ في هذا الزمن
سلطانًا تَدينُ له الرِقابُ والذِمم !
فواأسفاه ! ثم أسفاه ! وواأندباه !
يا أبناء الرافدين والشطِّ والنَخيل ـ عِزّكم وعُنوانكم
ما أجهلكم، ما أظلمَكم  وأقساكم على باسِقاتِكم !
أينَ عبيرُ الطَلعِ والتمرِ  وشذا الأرطاب
من رائحة النِفطِ، تزكمُ الأنوف وتسبّبُ الصداع !
أين بهاءُ النخلات الحِسان بسعفاتها وعَذوقِها
من سوادِ النِفطِ الذي يَشري الذِمم  ويُردي القِيًم ؟!
ألا رِفقًا بالنخلة يا أبناء الوطن
فقد كفاها ما قاست من حيفٍ وعُسفٍ ووَهَن !
لا يستعيدُ الوطنُ عِزَّه وسؤدَدَه
إلا إذا استعادَ النخلُ نَشرَهُ ورونقَهَ .

19
ألأخوّة في الإيمان الإبراهيمي
                                                   
                                             
يعقوب أفرام منصور
     في مقال بقلم الأستاذ قاسم محمد محمود نشرته جريدة (بابل) البغدادية في 6-5- 1992 في ركن "الدين والحياة" عن كتاب "ألعهد القديم"، جاء فيه [ وجوب كون ورثة (ألعهد) موحّدين ولا يشركون في الله شيئًا؛ وبما أن اليهود ـ إستنادَا إلى التوراة ـ قد قلّدوا المصريين ـ بعد خروجهم من مصر ـ  في عبادة (العجل) عندما تركهم موسى (ع) ليرتقي الجبل، كما عبدوا (البلعيم) ربّ الكنعانيين، فاليهود، إذن لا يستحقون كونهم ورثة " العهد "]
      لكنّ عبادة اليهود المؤقّتة آنذاك للعجل والبلعيم لم تشمل اليهود كافّة أولاً، كما لا تعني إستمرارها بينهم بعدئذٍ ثانيًا، لأن موسى أخيرًا أفلح في إقناع بني إسرائيل بالتوحيد. والدليل على ذلك تقديس "تابوت العهد" الذي إحتوى لوحَي الوصايا العشر وعصا موسى، ثم تشييد الهيكل والتعبّد لله وفق طقوس معيّنة، وتتابع الأنبياء من بني إسرائيل، إنتهاءً بالمسيح ابن مريم  التي من سلسلة نسب النبي داوود، وبمولده إنتهى "ألعهد" الذي بين الله، وبين ذرية إسحق بن إبراهيم. قال يوحنا الإنجيلي عن المسيح: " جاء لخاصّته، وخاصّته لم تقبله".
     إن إبراهيم أبو المؤمنين  الموحّدين، فكلّنا ـ نحن الذين نؤمن بإلاه واحدٍ أحدٍ صمَد: من يهود ومسيحيين ومسلمين وصابئة وأحناف، أبناء إبراهيم بالإيمان. فهو يوحّدنا  جميعًا، مع وجود الخصوصيات لكل دين من هذه الخمسة. أمّا صفة أو تسمية (حنيف و أحناف)، فتعني المستقيم أو القويم أو كل من كان على دين إبراهيم، أو الموحّد في دينه. ونعت أيّ دين بالحنيف لا يخرج عن هذه المعاني مطلقًا.
     لمّا كان إسماعيل إبن (هاجَر) ـ الأمة المصرية ـ فهو لا يرث مع إبن (الحُرّة الشرعيّة) سارة والدة إسحق، وعلى هذا الأساس، يرث إسحق، الإبن الشرعي، مالَ وعهدَ أبيه إبراهيم، إستنادًا إلى العهد اذي أعطاه الله إلى إبراهيم طبقًا للتوراة (تكوين 17 :2). ثم إن الآية 20 من الفصل 17 من التكوين  تنصّ نصًا صريحًا : "وأمّا إسماعيل، ققد سمعتُ قولك فيه، وها أنذا أباركه وأنمّيه وأُكثره جدًا جدًا، ويلد إثني عشر رئيسًا، وأجعله أمّةً عظيمة". أمّا عن إسحق، فتنص الآية 21 من الفصل 17 على أن الله قال لإبراهيم: " غير أن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة ...". والقرآن يصدّق ذلك بقوله في الآية 27 من سورة العنكبوت : " ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب". فالمعلوم أن كل أنبياء اليهود هم من بني إسرائيل الذي هو يعقوب بن إسحق. (أنظر "تفسير الجلالين") لهذه الآية.
      بيدَ أنه من المعلوم جيدًا أن ليس كل اليهود إسرائيليين خالصين، بل هم أشتات من أمم مختلفة دخلتها اليهودية، فالشعب الإسرائيلي اليهودي حاليًا – ومذ قرون – غير نقي من أصل واحد عبراني (من ذرية إسحق)، وأحسن مثال على ذلك هو " يهود الخزر" الذين تغلغلوا في العنصر السلافي الذي يتميّز بزرقة العيون بشكل غالب. والراجح إن أغلبية يهود أوربا الشرقية يتحدّرون من أولئك يهود الخزر.(أنظر تفاصيل ذلك في كتاب الأستاذ نجدة فتحي صفوت : " ألعرب في الإتحاد السوفياتي ودراسات أخرى") ص 15-25.
     إن [أليهودية العالمية] أفسدت فكر وعقيدة اليهود، بدافع ترويج الفكرة الصهيونية، وفي الوقت الحاضر، ومنذ سبعة عقود في الأقل، إنتفت الفكرة القائلة بالتفريق بين اليهودية باعتبارها ديانة وعقيدة سماوية، وبين الصهيونية كمذهب عنصري وعقيدة سياسية باطلة تتسم بالتزوير والشوفينية والغطرسة واحتقار ومقت الشعوب الأخرى – ساميّة وغيرها – وإذا وُجد بين اليهود أنفسهم حاليًا من يفرّقون بين اليهودية بكونها دينًا على شريعة النبي موسى وتعاليم أنبيائهم وتعاليم كتابهم الأرضي "ألتلمود"،  وبين الصهيونية بكونها عنصريةً متمثّلة في "إسرائيل"، ولا يعترفون بها شرعًا وعقيدةً، فأولئك قلّة لا يُعتدّ بها، وهم جماعة (ناطوري كارتا) ـ أي حُرّاس الأرض ـ ألضئيلة عددَا وتأثيرًا.
    وممن أخذوا بالأباطيل اليهودية- الصهيونية من المفكرين المعاصرين : جان بول  سارتر الفرنسي وبرتراند رَسِل البريطاني  وبعض الكتّاب الأمريكيين، كما أن أنشتاين كان يهوديًا وصهيونيًا في آنٍ معًا.( أنظر كتاب" اليهودية العالمية وحربها المستمرّة على المسيحية" للمؤلف إيليا أبي الروس، ص135- 137). لكن مع ذلك نطالع في كتاب الدكتور الأستاذ محمد عبد الرحمن مرحبا، المعنون " أنشتاين والنظرية النسبية ص 49 " هذه السطور عن بعض  مواقف حميدة لأنشتاين، منها ( عندما حاول زعماء الصهيونية إقناعه أن يتربّع رئيسًا لدولة إسرائيل، رفض العرض وقال قولته المشهورة : "إن دولة تنشأ كما نشأت إسرائيل جديرة بالفناء ". وأبى الرجل الإنساني أن يزجّ نفسه في دولة الظلم والعدوان) ـ  ألكتاب من منشورات مكتبة النهضة/ بغداد ـ 1982 .
      وأفضل مثال واقعي  على حصول هذه الأخوّة،  في مجال معتنقي الإيمان الإبراهيمي، هو ما حصل طوال عهد الخلافة العباسية قي جميع  أمصار سيادتها وخصوصًا في العراق، حيت كان حسن التعايش والتآلف والتآزر  والإحترام المتبادَل بين المسلمين وبين كل المِلل والِنحَل التي طُبّق عليها مفهوم وأحكام " أهل الذمّة": يهود ومسيحيين، ثم أضيف إليهم  صابئة ومجوس، بعد أن عدّهم الففهاء من مصاف "أهل الذمّة" من حيت الحقوق والواجبات، بشرط أن يوافقوهم في أصل المعتقد ـ أي توحيد الله تعالى.
     ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن جميع أعياد وطقوس وممارسات التقوى والتعبّد، لدى جميع أهل الذمّة الآنف ذكرهم. قد وردت  في مؤلّفات مسلمين وعرب في كتب مشهورة للمسعودي والمقريزي والقلقشندي والشهرستاني والدمنهوري والطبري وابن الفوطي والمقدسي والبيروني والحموي واليوزبكي والنويري. كل هذا عدا مؤلفات ومراجع أخرى غربيّة، منها (ألحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) لآدم متز الألماني، و(إيران في عهد الساسانيين) لآرثر كرستنسن، وكتاب (الفندبداد)المترجم من قِبل داود الجلبي الموصلي.
     ويفيدننا رفائيل بابو إسحق بكتابه عن (أحوال نصارى بغداد في عهد الخلافة العباسية) بالأستناد إل مصادر عربية موثوقة أن المسلمين راعوا حقوق التصارى، كما راعىى النصارى حقوق المسلمين، فعاشوا متحدين، متضامنين، تسودهم المعاملة الحسنة، ويظللهم التسمح التام.  وبمرور الزمن إزداد تمازج المسيحيين والمسلمين، واشتدّ الإتحاد بينهم، وقلّد المسلمون المسيحيين في بغداد في بعض عاداتهم وتقاليدهم، واشتركوا في أعيادهم، كما تصفّحوا كتبهم الدينية، وعرفوا مذاهبهم الكنسية. فقد بحث المقريزي بالتفصيل عن النصرانية، ونكلم عن أعيادها ووصف طوائفها. وأورد المسعودي في كتابه (ألتنبيه والإشراف) قصة الترجمة السبعينية للتوراة، وعدد المجامع الكنسية، وفِرَق الهراطقة والمعتقدات المختلفة . وألمّ إبن خلدون جيدًا  بالإنجيل وبالتنظيمات البيعية التي استعان بها  في وضع مقدّمته المشهورة للتاريخ. وراعى البيروني في كتابه ( ٌانون مسعودي) الدقّة التامّة في معالجة النظم المختلفة لتوقيت الزمن. وأكّد القلقشندي على الكاتب أن يعرف أعياد (الذمّيين)، وروى القصص المتعلّقة بها والعادات المرعية فيها. أما إبن حزم الأندلسي، فوقف تمامًا على نصوص "ألعهد الجديد"، وعلى الأسفار اللاهوتية( ص 64 ـ  إستنادًا إلى الحوادث الجامعة لإبن الفوطي البغدادي ص 66 ـ 69)  واستنادًا إلى مؤلّف غربي يُدعى (ترتون)   وترجمة كتابه اامعنون (أهل الذمّة في الإسلام  ص 184 ـ 185) من قِبل حسن حبشي ، طبع مصر عام 1949 ص 49)، يعلمنا أن المسلمين في بغداد شاركوا المسيحيين   في أعيادهم، فأصبح عيد الصليب ( في 14 أيلول من كل عام) لديهم يوم بطالة وعطلة عامّة، واتخذوا عيد السعانين عيدًا يحتفلون به معًا، وعُرف هذا العيد في المصادر العربية بيوم السباسب أو الشعانين( ص 65ـ إستنادًا إلى "المخصص" لابن سيّد و"تاج العروس". ومما قاله الشاعر محمد بن عبد الرحمن الثرواني في عيد الشعانين هذه الأبيت:
            خرجنا في شعانين النصارى         وشيّعنا   صليبَ    الجاثليق
            فام أرَ منظرًا أحلى   بِعيني           من المتقنّياتِ على الطريق
          حملنَ الخوصَ والزيتونَ حتى           بلغنَ  إلى   ديرِ  الحريق
ودير الحريق هذا هو من ديارات الحيرة العديدة ( ص    65ـ إستنادًا إلى "مسالك ألأبصار وممالك الأمصار" لإبن فضل الله العمري ـ تحقيق أحمد زكي باشا ـ  مصرـ  1924ج1ـ ص 316.
     سبق أن أوردتُ سطور هذه الفقرة في مجلة (بين النهرين) البغدادية بعددها المزدوج 109/110 لعام 2000 وفي كتابي (ألأماني والأهواء بين الدين والدنيا ) ص 243، 245 ، 246.
           من كل ما أسلفتُ ذكره يبدو جليًا أن حسن التعايش والتآزر والتسامح واحترام الآخَرالمتبادَل في العهدين الأموي والعباسي، كانت عوامل إيجابية وسمت عيش المؤمنين الموحّدين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ونِحَلهم ومِللهم ، حتى إنها أثمرت إزدهارًا رائعًا للحضارة العربية الإسلامية في القرون الأربعة الهجرية  الأو لى شهدت له مؤلفّات الغربيين، وأسهمت كثيرًا في بروز عصر النهضة  الأوربية وما تلاها. فلولا هذه العناصر الإيجابية في عيش  هذه المجتمعات المتنوعة أنئذٍ، لما كان ممكنُا بلوغ ذلك الإرتقاء والإزدهار.
      يسير مما أسلفت، إستنتاج أن عنصر الأخوّة الإنسانية  كان عنصرًا حافلاً  بتلك العوامل الإيجابية. والآن ها قد صرنا إزاء حدث تاريخي في أبي ظبي يوم 4 شباط 2019 حيث تمّ توقيع (وثيقة الأخوّة الإنسانية) بين شيخ الأزهر الإمام أحمد الخطيب، وبين قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس، وثيقة تُجسّد معنى التسامح واحترام الآخر وحسن التعايش. فالوثيقة تهدف لتكون إعلانًا مشنركًا عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله، وإيمانُا بالأخوّة الإنسانية أن يتوحّدوا ويعملوا معًا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلاُ للأجيال المقبلة يؤدّي بهم إلى ثقافة الإحترام المتبادَل في جوٍ من إدراك النعمة الإلاهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعًا إخوة.
     في هذا الظرف الحالي ومنذ عام 2001، وسباق التسلّح المُرعِب على قدم وساق، وتناحر الإيديولوجيات ألدموي، والحروب الموضعية على ساحات أقطار الشرق الأوسط  تتوالى، مما يشين جبين الإنسانية، سيكون إعلان (وثيقة الأخوّة الإنسانية)  إمتحانًا لقدرة إنسان هذا القرن على أن يقرر إن كان جديرًا بالحكمة القائلة (ألإنسان سيّد نفسه فيكون سيّد مصيره ) وخصوصًا بفضل دروس أحداث الحرب العالمية الثانية ونتائجها، وبفضل محتوى وهدف هذه الوثيقة الحكيمة التاريخية. 



   

20
صوَر وذكريات من الماضي القريب
                                               
يعقوب  أفرام منصور
     تحتوي حقيبتي التراثية على نَزرِ يسير من صوَر وذكريات من الماضي القريب والأفضل من الزمان الحاضر الزاخر بالمساوئ والمثالب. وفي ما يأتي بعض هذه الصور والذكريات السالفة:ـ
مذكرات العقيد الطيّارموسى علي
     رحل العقيد الركن الطيّار  موسى علي إلى عالم البقاءعن عمر ناهز التسعين، مخلّفًا مذكراته الكاملة مخطوطة وموسومة ( من خواطر وذكريات طيّار).
      هو أحد الطيّارين العراقيين الخمسة الذين تدرّبوا على الطيران العسكري في لندن، وبعد إتمامه عادوا إلى الوطن، يقودون طائراتهم في ثلاثينيات القرن المنصرم. وكانوا الوجبة الأولى لدراسة الطيران، والتدرّب عليه بمقتضى تشكيل القوة الجوية العراقية، فتمّت عملية شراء الطائرات هناك لتغدو نواة الأسطول الجوي المقاتل.
     عرضت المذكرات تفاصيل محاولة الإنكليز إفشال عودة الطيّارين المذكورين إلى بغداد، وهم يقودون طائراتهم بأنفسهم، وذلك بباعث يحمل الطيّارين على شحن طائراتهم على ظهر باخرة، على غرار ما فعلته الوجبة الأولى من الطيّارين المصريين الذبن أقلّتهم الباخرة مع طائراتهم إلى مصر.
عندما تساءل صادق البصّام :
" هل انتقلت دار الخلافة إلى لندن ؟!"

       كثيرًا ما حدث، عند حصول بعض الأزمات الوزارية في العهد الملكي، أن لجأ بعض رؤساء الوزارات المزمنين إلى زيارات خاطفة إلى لندن لمقابلة بعض المسؤولين فيها، مستمدّين العون منهم بقصد الترشيح لرئاسة الوزارة المقبلة!
     ÷ذه الظاهرة المتكررة، حملت صادق البصّام على نشر مقال في جريدة (ألدفاع) تحت عنوان(هل انتقلت دار الخلافة إلى لندن؟) مُشيرًا بذلك إلى أن (إستانبول) سُمّيت ردحًا (دار الخلافة) التي كانت لمرجع النهائي لتعيين (الولاة) في العراق  أيام العهد العثماني.  مقاله هذا أحدث دويًا في الأوساط السياسية، لكونه أشار إلى ( لندن) بشكل واضح، بكونها هي التي ترشّح من تروم لرئاسة الوزارات.
     بعد ذلك الدويّ الناجم عن نشر مقاله، تندّر أحيانًا بعض أصدقائه في إستفهامه : " لماذا لا تزور دار الخلافة الجديدة، لعلّها تعيدك إلى الوزارة بعد إقصائك عنها؟!" فما كان منه إلا أن يضحك!
     هو مولود في عام 1897 وتوفّي عن عمر 64 في عام  1960، ومذكور في كتاب ألحسني (تاريخ الوزارات العراقية)، واشتهر بمواقفه المستقيمة الصريحة، وبحسن السمعة في كل أدوار الحكم التي إشترك فيها.
عبد اارزاق الحَسَني  1903 ـ 1997
ألتعد يل المتواصل على (تاريخ الوزارات العراقية!)

       في العهد الملكي صدر هذا الكتاب بثلاث طبعات متعاقبة، وفي العهد الجمهوري طُبع يثلاث طبعات أيضًا في لبنان. وبسبب نفاد هذه الطبعات السِت ظهرت الطبعة السابعة في عام 1988، وقد تولّت الطبع وزارة الثقافة والإعلام، وسرعان ما نفدت هذه الطبعة أيضًا.
      فبذل المؤّلّف أقصى جهده في مراجعة أجزاء الكتاب العشرة، وأوعزت الوزارة المذكورة آنفُا بطبع الكتاب طبعة  ثامنة في أوان شحّة الورق والرقوق والحِبر بسبب الحصار الإقتصادي المفروض على القطر آنئذٍ، ممّا أدّى إلى تأخير تنفيذ الطبع إلى حين. وفي هذا الصدد قال المؤلّف في 22ـ 7 ـ 1993 : " لا أعتقد أن كتابًا عربيًا بمثل هذه الأجزاء الضخمة طُبع بمثل هذا العدد من المرّات، إذا استثنينا من ذلك الكتب المدرسية، ومع هذا، فإني أمارس التعديل والإضافة والتهذيب"
مذكرات المناضل الكردي رفيق حلمي  1898 ـ 1960
       يُعتبر الراحل رفيق حلمي في طليعة المربّين المجتهدين في خدمة النهضة الإجتماعية والثقافية، فضلاً عن إسهاماته في مواقف وطنية. إضافةً إلى مؤلفاته ورسائله المنشورة، صدر له في عام 1993 الجزء الأول من مذكراته عن الأعمال الوطنية التي أسهم فيها، على أمل أن تصدر الأجزاء الأخرى لاحقًا، نظرًا لأهميتها لدى الأوساط السياسية والإجتماعية في القطر.
     ورد عنه في موسوعة  الأستاذ حميد المطبعي (أعلام وعلماء العراق ـ عام 2011) بكونه مولودًا في كركوك في أسرة عريقة معروفة بإسم (همزة أغا). وفي عام 1959 قدّم طلبًا لتأسيس حزب سياسي بإسم (ألحزب الجمهوري)، فرُفض طلبه. وهو من أوائل الأكراد الذين كتبوا عن الإشتراكية في عام 1930، وفي ندواته دعى إلى (الأخوّة العربية ـ الكردية). وله (دراسة في الشعر الكردي) منشورة في عام1939.( ألموسوعة المذكورة ص 281).
 



21
تعليق على حقائق وملاحظات
بخصوص المسيحية والمسيحيين
                                             
يعقوب أفرام منصور
     في اليوم الثاني من هذا العام طالعتُ وقيّمتُ فحوى (عشر حقائق جوهرية عن المسيحية والمسيحيين) بقلم الأستاذ سعد سلّوم، وأُبدي أنّ نظير أو عديل هذا المقال الحقائقي كان قمينًا بصدوره عن كاهن مسيحي متضلّع أو من مطران أو من بطريرك قبل عشرة أعوام في الأقل، بباعث من إفادته إعلاميًا ومعرفيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
     وفي اليوم الخامس من هذا العام قرأتُ وثمّنتُ مقالاً تحت عنوان (ليس دفاعًا عن مسيحيي العراق فقط ولكن عن عراق المحبة)، يُشكر عليه كاتبُه الأستاذ سعد ناجي جواد، منشورًا على موقع (الكاردينيا)، فقد كشف عن مواقف ووقائع إسلامية مشرّفة تعود إلى عهد الخلافة الراشديّة، من شأنها التنبيه والنصح والقدوة الحسنة والأخوّة بين معتنقي الإيمان الإبراهيمي، والإمتثال لبعض نصوص كتاب الإسلام المقدّس في شأن أتباع السيّد المسيح.
     إضافةً إلى الحقائق العشر للأستاذ سعد سلوم، المتخصص في الأقليات العراقية، أعرض الحقائق الآتية بباعث من يقيني أن الغالبية العظمى من الإخوة المسلمين في العراق خصوصًا وفي الأقطار العربية والأجنبية عمومًا ـ بضمنهم كثيرون جدًا من المثقفين ورجال الدين والمدرّسين والمعلّمين والعلماء، دعك من العامّة الجاهلة والأميين ـ  لا يعرفون هذه الحقائق، بل بعضهم يتجاهلها أو ينكرها. وكل هذه العوامل السلبية في مجال التنوير والثقافة والمعرفة تولّد أولاً الجهل بالحقائق الجوهرية للديانة المسيحية في عقيدتها الأساسية وفي رموز وطقوس ممارساتهم التقويّة، ينجم عنها بالتالي : عدم الإلفة والتفاهم والتحابب والتناغم بين سواد المسلمين من جهة، وبين المسيحيين من جهة ثانية؛ والمثل في هذا المجال يقول (ألإنسان عدوّ ما جهل).
     وهذا الوضع النفسي، وهذا الرأي الخاطئ أو الغامض أو المشوّه وغير المنتعاطف بين الجانبين، يقفان كجدار عالٍ سميك مانع من التآلف والتعاطف المنشودَين  والمفيدَين لعيش مشترك مزدهر، رغيد، آمِن، تتجلّى في محبة الوطن والعمل لصالحه، وخلافًا لذلك، أي مع بقاء الجدار الحائل  المعنوي بين الديانتين، تُتاح الفرصة والمجال للمتطرّفين والمتشددين والتكفيريين لإقتراف الفتك والتدمير وارتكاب المجازر والمحرّمات بين أفراد وجماعات وجماهير أتباع المسيح وفي كنائسهم، كما يؤدّي إلى لجوء رؤساء وعلماء الدين الإسلامي إلى بث التعصّبات والفتن والفتاوى التي تحضّ على وتفضي إلى الكراهية والتعادي المجتمعي والتناحر والإنغلاق في التعايش والإجتماع تجاه الآخَر المختلف. هذه الأوضاع المنغّصة الموجعة المنفّرة، تلحق الضرر بالوطن العزيز من عدة نواحٍ، فينتفع منها الإرهابيون والإمبرياليون الغربيون الطامعون في خيرات وطننا العراق وأقطار الشرق الأوسط قاطبةً، والأمثلة على هذه النتائج السيئة المحزنة والكارثية بادية للعيان، يلحظها حتى بعض السُذّج والبسطاء منذ عام 2003 وحتى الآن! ومن يرتكبون ويُسهمون في ارتكاب هذه الخطايا الجِسام لا يُحبون وطنهم حتمًا. وماذا يُقال في من لا يحبُ وطنَه؟
     من حقائق الإنجيل في ألوهية المسيح ـ التي ينكرها الإخوة المسلمون ويعدّونها كفرًا، لحسبانهم إياها ألوهية منفصلة عن ذات أو روح الله الواحد الآب السماوي ـ أورد هذين النصّين المقدّسين :
 1 ـ من إنجيل متّى3/13ـ 17  .  في يوم عماد المسيح في تهر الأردن، حيث النبي يوحنا (يحيى بن زكريا) كان يعمّد الناس في الماء للتوبة، ورد هذا النص (ولما صعد يسوع من الماء، إنفتحت له السماء ورأى روح الله هابطًا ونازلاً عليه كأنه حمامة، وإذا صوت من السماوات يقول " هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ كل سرور."). هذا مصداق لقول النبي يحيى (المعمدان) القائل " ألذي أرسلني لأعمّد في الماء قال لي "إن الذي ترى الروح ينزل عليه فيستقر هو ذلك الذي يعمّد في الروح القدس"، وأنا رأيته وشهدتُ أنه هو إبن الله". يوحنا1/ 3ـ5.
 2 ـ من إنجيل متى 17/ 3ـ 5 .  على جبل عالِ في يوم التجلّي بحضور التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا، تجلّى المسيح أمامهم، فشعّ وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتحدّثان معه.....وإذا سحابة منيرة قد خيّمت عليهم، وصوتٌ من السماء يهتف " هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ كل سرور، فله إسمعوا".
     لذا لا مجالَ لتكفير أتباع المسيح بسبب اعتقادهم بألوهية المسيح وبكونه إبن الله الخالق الصمد، فاعتقادهم مدعوم برؤية وسماع شهود وجموع بينهم النبي يحيى، وبتدوين قُدسي، وهذه البنوّة ـ كما هي جليّة ـ ليست بنوّة تناسلية بشريّة ناشئة من مشيئة رجل، كما يشهد القرآن الكريم ( سورة مريم ألآيتان  19 و 20 ) .                   فالله تعالى روح قدّوس، والأرواح لا تتناسل. وأفضل مثال لتشبيه " التثليث" في "واحد" في العقيدة المسيحية هو مثال قرص الشمس،  فهو " الكل" الكامل ويضم العنصرَين :.  نورَه وحرارتَه، وهما يصدران عنه بدون انفصال. كما ان نور وحرارة الشمس لا ينفصلان عن قرصهما. ثم أليس المسيح هو القائل عن ذاته [ أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام]  ؟ يوحنا 8/12 .
     وهنا تجدر الإشارة إلى التعريف بمدلول شبه الجملة (كلمة الله). ف (الكلمة) في هذا المجال عند المسيحيين هي مؤنّث لفظي ومذكّر معنوي: هو الله الذي صار إنسانًا، وهذا مصداق لمطلع إنجيل يوحنا اللاهوتي أحد التلاميذ المقربين إلى المسيح، وذلك في إشارة إلى مطلع  (سِفر التكوين) : [ في البدء خلق الله السموات والأرض] به كان كل شيء، في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله. هو كان في البدء عند الله. به تكوّن كل شيء، وبغيره لم يتكوّن أيّ شيء ممّا تكوّن. فيه كانت الحياة، والحياة هذه كانت نور الناس. 1/1ـ 5.
      إضافةً إل ذلك، ثمة شواهد أخرى عديدة على ألوهية المسيح، وأقوى شاهد هو إقامته (لعازر) من القبر حيًا في اليوم الرابع بعد موته ، إستنادًا إلى إنجيل يوحنا (11/ 39 ـ 45). ثم شاهد قيامته من الموت في اليوم الثالث من دفنه (الفصل 20 ). ثم إرتفاعه إلى السماء أمام التلاميذ وآخرين، إستنادًا إلى إنجيل لوقا (24/51)، مع العلم أن ارتفاع المسيح حيًا إلى السماء منصوص عليه في القرآن الكريم (سورة آل عمران آية 54 ).
فمع  هذه  المعجزات الآنف ذكرها هل يُخَيَّل لأيّ مؤمن عاقل إمكانية أن يُنَسِّب حصولها واجتراحها إلى كائن بشري، وليس إلى كائن إلاهي؟!
     ومن كتاب (ألعهد القديم) من (ألكتاب المقدّس) يكفي أن أختار نصًا واحدًا شاهدًا على ربوبية المسيح، هو من سِفر أشعيا ـ الفصل 9 الذي أفاد بأن الله سيُخرج الشعب اليهودي من الضيقات والشدائد والمتاعب والمعانيات والأحزان "عندما يتّقون الله من كل قلوبهم" كما في الآيتين 6 و 7  من هذا الفصل المنبئ بمجيء المسيح المنتَظَر (ألمسيّا) المخلّص :[ لأنه يُولد لنا ولدٌ ، ويُعطى لنا إبنٌ يحمل الرياسة على كتفه، ويُدعى إسمه عجيبًا، مشيرًا، إلاهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام، ولا تكون نهاية لنموّ رياسته والسلام اللذين يسودان عرش داود ومملكته ليُثبّتها ويعضدها بالحق والبِرّ، من الآن وإلى الأبد. إن غيرة الأب القدير تُتَمّم هذا.] وقد تحققت  نبوءة الرجاء هذه في مولد المسيح، وإقامة ملكوته الأبدي، فقد أتى ليخلّص كل الناس من عبوديتهم للخطيْة. لكن اليهود لم يتّقوا الله "من كل قلوبهم" بل اعتمدوا على جهودهم وذكائهم وأساليبهم، وكان ملوكهم أردياء غالبًا، مع أن المسيح جاء ليُخلّص الشعب اليهودي قبل غيره، فوُلد بينهم، لكنهم لم يقبلوه، بل اضطهدوه وحكموا عليه بالموت. أمّا الذين قبلوه، فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله.(كتاب التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس ـ ص 1392).
     لو تمعّن الذين يجهلون حقيقة توحيد الله الكوني الأحد الأزلي، كما وردت في البسملة والمجدلة وقانون الإيمان و"الصلاة الربّيّة" التي علّمها المسيح لتلاميذه، لأدركوا بيُسرحقيقة كونهم غير مشركين. فخلاصة هذه الصلوات هي إيمانهم بإلاه واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، وكل ما يُرى وما لا يُرى، وإيمانهم بالعقاب والثواب واليوم الآخِر، والخلود للأرواح في النعيم السماوي أو العذاب الجهنّمي. وفي العالم كثيرون لا يرومون معرفة حقيقة توحيدهم برغم انصرام عشرين قرنًا على انتشارها في أرجاء المسكونة.
     تعقيبًا على رأي الأستاذ سعد سلّوم ، في مستهل مقاله الذي أورد فيه (عشر حقائق عن المسيحية والمسيحيين)، المنشور على المواقع الألكترونية في مطلع العام الحالي ( بأن كتبنا التاريخية ومناهجنا الدراسية خلت من ذكر المسيحيين من مسرح التاريخ العربي ـ الإسلامي، وأن الأمانة التاريخية تستوجب التأكيد والإعتراف بأن المسيحيين يُعَدّون أهم أعمدة بناء الحضارة الإسلامية، وصنّاع الفضاء الثقافي الذي دفع المسلمين لمواجهة أسئلة أنطولوجيّة كانت كفيلاً بانطلاقة الحضارة الإسلامية عالميًا.)، أفيد بأنّ الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي في كتابه (المسيحية والحضارة العربية) قد أبدى ملاحظة شبيهة لفحوى الرأي الآنف نصّه، في تمهيده لكتابه المذكور، إذ قال (ولمّا دعاني صديقي الدكتور محمد خلف الله أن أحضر بحثًا في مساهمة المسيحيين في تكوين الحضارة العربية، وأثرها في الغرب، سُررتُ لدعوته لأنها جاءت بمثابة إستجابة لأمنية طالما داعبت ذهني وإحساسي العميق اللاشعوري).  ورجا الأب قنواتي أن يكون كتابه قد أسهم (في تعريف بعض مظاهر حضارتنا العربية العظيمة، وإبراز ما قام به المسيحيون العرب من علماء وشعراء ومؤرّخين ولاهوتيين مع إخوانهم المسلمين يدًا بيد ".
    في هذا الصدد أذكر في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بروز رغبة في بغداد على مستوى ثقافي وإداري عالٍ، مؤدّاه " إعادة كتابة التاريخ"، وتمخّض عنها مؤلفات تاريخية شبه موسوعية قيّمة بجهود لجنة تأليفية ضمّت نخبة من الباحثين العراقيين، منها كتاب (حضارة العراق ج 8 ـ 1985  عن التربية والثقافة والعلوم في العصور العربية الإسلامية) وكتاب ضخم (ألعراق في التاريخ ـ 1983) ، وفيه لم أجد ذكرًا للترجمة إطلاقًا من قِبل أساطينها السريان المسيحيين ولا المسلمين بفضل تأسيس مدينة بغداد، غير هذه الفكرة ( في سياق أسباب الإزدهار في حركة التأليف والتدوين، حيث عزا الإزدهار إلى(تراكم المعرفة خلال قرنَين). لكن هل كان " ألتراكم المعرفي" ليحصل من دون جهود جبّارة من الترجمة خلال قرنين من مؤلفات التراث اليوناني والسرياني والهندي؟
     أما في كتاب( حضارة العراق)، فقد وردت في صفحاته 256، 291، 362، 378، 379، " ألجهود الرائعة التي بذلها المترجمون السريان في النقل من اليونانية والسريانية، فضلاً عن شروح بعضها ، كما أيّد ذلك الدكتور إبراهيم مدكور المصري" ـ .  ثم مدرسة بغداد الفلسفية في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري حين كان يجتمع أعضاؤها وفيهم المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والملحد والمانوي والزرادشتي ليناقشوا أية مشكلة ـ ثم لماذا استطاعت الأمة العربية الإفادة من التراثين اليوناني والسرياني في قترة وجيزة لتحقق تقدّمًا كبيرًا في جميع العلوم؟ ـ ثم ورود أسماء  بعض المترجمين : إبن البطريق، يوحنا بن ماسويه، حُنَين بن إسحق، قسطا بن لوقا، أولاد موسى بن شاكر، الحجاج بن مطر، ابن شهدي الكرخي، محمد الفزاري الذي ترجم للمنصور كتابًا في الحساب ثم في حركات النجوم.
    مع ذلك، لم أجد في الكتابين ذكرًا صريحًا لدور المسيحيين في العراق خصوصًا وفي الأقطار العربية عمومًا ـ الدور الفعّال المعلوم في بناء أعمدة الحضارة العربية الإسلامية، لا في مقدّمة عامّة لكل من الكتابين ولا في سياق ملائم ضمن تضاعيف الكتابين؛ مع أن بعض المؤرّخين الغربيين أدرك وذكر هذا الدور المتميّز الدال على الفطنة والتفاعل والتقابس المجدي لصالح التحضّر، وذلك في الترجمة والتأليف في سوريا والعراق في مجال علوم ومعارف الهند والإغريق والسريان في الطب والصيدلة والجراحة والهندسة والكيمياء والطبيعيات والميكانيك والجغرافية والفلك والفلسفة والفنون  وما وراء الطبيعة. وهذا النقص يؤكّد صحة ملاحظة الأستاذ سعد سلوم، وقد عوّض عن هذا النقص بمقدار قليل المؤرّخ اللبناني المصري جرجي زيدان في مواضع من كتابه الموسوعي (تاريخ التمدّن الإسلامي ـ 5 أجزاء) وخصوصًا في ميدان الترجمة، في حين عوّض عن النقص الكبير الأب قنواتي في كتابه الآنف ذكره.أمّا النقص في المناهج الدراسية (الإعدادية والجامعية خصوصًا)، فيعود إلى النقص في المؤلفات التاريخية قديمًا وحديثًا، وليس في العراق فقط بل في جميع الأقطار العربية.
     



22
رسالة  إلى ألسيد دونالد ترامب المحترم
ألرئيس المنتَخَب لدولة الولايات المتحدة الأمريكية
 
                                 

تحيّة
                                                                     أربيل ـ 23 11ـ 2016

    أقوى بواعثي على تحرير هذا الخطاب ألآن هو شعوري الصادر عن اعتقادي بأن حياة مليارات البشر غدت الآن عند مفترق الطرق، وشعوري هذا مقرون بتوجّس  خطرٍ غير قليل، وبشكل ملحوظ بعد عام 2001، بوتيرة متصاعدة. فالمُشاهِد الواعي النبيه وبعيد النظر، يصل إلى قناعة أن غالبية شعوب هذا العقد المضطرب المسعور سائرة في سبل الحياة  بأساليب لا تجعل الحياة على الأرض سعيدة للجميع. فالسعادة لجميع البرايا هي مُنية البشرية القصوى، وهذه السعادة الشاملة لا تتحقق عندما يكثر في ميادين الحياة أناس لا يعتقدون بأن " الإنسان سيّد نقسِهِ"، ليكون " سيّد الأشياء " ــ أي أن لا يترك الإنسان حِبال الأمور الحيوية المصيرية ليتصرّف بها أناس كما يشاؤون لإجتلاب الأضرار والإيذاء والتعاسة لعموم البشر، والمتاجرة بالحروب والأديان والإيديولوجيات والعقائد المذهبية والعنصرية، زاخرة بالظلام والتكفير المجرّدين من المعرفة النيّرة والتقافة الحضارية السليمة من الأوبئة الفكرية. فشأن هذه الفئات من الخَلق هو التعادي والكراهية والإستعلاء على مُخالفيهم، والإحتراب والتخريب والإقساد، فهم أجناد الشر والجهل والتخلّف.فهل يلبق بإنسان اليوم أن يُغَرر به من أناس  من هذا الطراز الضال والمضلّل والشرّير؟! أو أن يتغافل عن مساعيهم المُهلِكة للبشرية، ليقودوها إلى سوء المصير، وكل ذلك لتنفيذ إرادة " المفسدين في الأرض"؟! 
    إن الأمل معقود عليك، يا سيادة الرئيس المنتخّب، فبعض أقوالك في أثتاء الحملة الإنتخابية ، وأثناء الإقتراع وبعده، يوحي بمقدار من الأمل في بزوغ عهد جديد في نهج الإدارة الأمريكية؛ وحصول تقدّم في هذا الإتجاه يعتمد عليك أولاً في ثلاثة عوامل: (1) مدى قوة صدق وثبات إرادتك الصالحة في تحسين أحوال العالم المتردّية، من خلال تحسين سياسة الدولة الأمريكية في تعاملها مع الشعوب، بعيدًا عن إستعمال السلاح واستخدام الإرهابيين في زعزعة وتفكيك أركان الدول. (2) إمتلاكك مقدارًا وافيًا من الحكمة والصبر والقدرة على إقناع فئات الشعب الأمريكي بصوابية نهجك. (3) إنهاء مظلوميّة الشعب الفلسطيني.، فإنهاؤها يقلل كثيرًا من حدّة العنف والتطرّف والإرهاب.
   لذا يتطلّع العالم اليوم إلى ما ستقدّمه من تغيير يُنتج إختلافًا نوعيًا لمعالجة معضلات العالم التي ابتُليت بها البلدان وشعوبها، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط التي تَعقد الأمل عليك في مستقبل أفضل وأجدر بكرامة الإنسان.
    تروم غالبية شعوب العالم أن تكون أمريكا دولة عُظمى لا في مجال السلاح والتكنولوجبا، بل عظمتها الحقيقية في تأدية رسالتها الإنسانية من خلال برامجها الثقافية والإقتصادية والعلمية، فهذه كلها تُسهم في إعادة بناء ما هدمته الحروب المتوالية ، وما دمّره الإرهاب اللعين من واجهات ورموز الحضارة، وإنجازات الإنسان في ميدان الإرتقاء فكريًا ومدنيًا وتعايشيًا، كما هي تُعيق مساعيه الشرّيرة للفتك والتخريب والتعادي بين الشعوب والأديان.
   تتمنى البشرية في عهدك أن تكون أمريكا في طليعة الدول الفاعلة في منع أسباب حدوث المظالم، وفي إشاعة إرادة السلام والأمن والإستقرار، وإيجاد الوسائل لتطبيق هذه الإرادة من خلا ل مكافحة عوامل الجوع والمرض والتشرّد، وتطبيق شرعة حقوق الإنسان في كل المرافق والمؤسسات في الأقطار ودوائر المنظمة العالمية خصوصًا.
     ما أسلفته أمنيات مواطن غيور على الأنسانية وخيرها، ويمثّل نيّات الطيبين من البشر؛ ومع يقيني بوجود كثيرين يُخالفونك ويقاومون أفكارك الطيبة، ومشاريعك المفيدة والمنقِذة من المساوئ والمهالك والتردّي، فأنا موقن أيضًا أن إرادة الخير لدى غالبية الأنام هي الأقوى والمنتصرة على مخالفبها ومقاوميها بوسيلة بزوغ الإرادة الصالحة لبلوغ ألأفضل،  ويقظة الضمير بعد خَدَر يشبه الموت. أملنا وطيد أن التوفيق سيكون حليفك، وأن التاريخ سيسجّل مساعيك الحميدة بأحرف نيّرة، وأن الله سيبارك جهودك ، ويسدد خطاك نحو الخير الشامل.     
                                                       يعقوب أفرام منصور
                                            مواطن عراقي ـ أربيل 23ـ11ـ2016

رسائلي السابقة إلى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية
1 ـ إلى آيزنهاور، مفتوحة ومغلقة  مؤ رّخة في 1ـ5ـ58                               
2 ـ إلى كارتر مفتوحة  مؤرخة في 30ـ3ـ 79
3 ـ إلى بوش مفتوحة بالإنكليزية مؤرخة في 3ـ9ـ90
4 ـ إلى بوش والشعب الأمريكي مفتوحة ومؤرخة في 27ـ2ـ91
5 ـ إلى أوباما مفتوحة  ومؤرخة في 25ـ9ـ2014                                                                                                                                                                         

23
ماتا هاري  بين  الفن  والإغواء  والجاسوسيّة
1876 ـ 1917
                                                         
يعقوب أفرام منصور
     في مطلع القرن الحالي صدر في باريس عن دار "بلون"   Plon   كتاب بأربعمئة صفحة عن ماتا هاري الراقصة والجاسوسة، أندونيسيّة المنشأ، ومؤلّف الكتاب هو فيليب كولاّس حفيد القاضي العسكري الفرنسي الذي أجرى التحقيق مع هذه المرأة ذات الأطوار الغريبة، وساقها إلى الإعدام.
     عُدّ ظهور هذه المرأة على مسرح الأحداث في مطلع القرن العشرين في غرب أوربا  ـ وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ـ ظاهرة غريبة إسترعت إهتمام وتأمّل بعض المثقفين والباحثين عن الغرائب والأسرار، وبعض علماء الأجناس البشريّة، ودارسي حضارات الشرق الأقصى بعد معرفتهم بموطن نشأتها الأولى في أندونيسيا.
      كانت قصّة هذه المرأة مدار إهتمام وأحاديت عائلة هذا القاضي، كما كانت مثار خيالات حفيده،  مؤلّف الكتاب، إلى حد الإفتتان بها ومرافقتها إياه كأسطورة غامضة، حتى إنه في نضوجه عثر على أوراق جدّه  في شأنها، التي كانت مودَعة في صندوق على سقيفة في بيت العائلة. فانتهز فرصة الأسترسال في مطالعة الأوراق، وغِبّ انصرام ثلاثة أرباع القرن المنصرم أجرى نوعًا من إعادة التحقيق، جمع خلاله شهادات ومذكّرات أشخاص، ونقّب أرشيف المحكمة، وراجع الصحف التي أوردت تفاصيل هذه القضيّة، وانشغلت بأنباء ووقائع الفضائح والتجسس، ثم قارن بين الأقوال والإعترافات، ثم إطّلع على ما تكشّف  بعد إعدام هذه الشخصية المُلغِزة؛ فآل كل ذلك التحقيق والمقارنة والكشف والتثبّت إلى تأليف كتابه.
خصائصها الجسمية والحياتية
      فارعة القامة، سوداء الشعر، مهيبة الشكل، صبيحة الوجه، فاتنة القَسَمات، أنيقة الزيّ. عندما وصلت إلى باريس في عام 1904 نزلت فندق الأوبرا، وسجّلت إسمها في سجل الفندق بإسم (ليدي ماك ليود) إذ هي قرينة السكوتلندي (ماك لويد)، ولم يكن في محفظتها غير عشرة فرنكات، لكنها سوف توجد سُبُلاً لإغتنائها بعد الإختلاط بأرقى طبقات المجتمع والساسة، بل تغدو شخصيّة يتهافت كثيرون على دعوتها والتباهي بصحبتها.
     في جيئتها السابقة إلى باريس قبل 1904 ، حاولت العيش بفضل جمالها من خلال كونها نموذجًا للرسّامين الكثيرين آنئذٍ في المدينة، لكنها رفضت طلبهم بالجلوس عارية حين يرسمونها، فضجرت من دفع إيجارغرفتها الوضيعة، وعن تناول وجبة طعام ساخنة.
     هي هولندية الجنسيّة، إندونيسّة الأصل، واسمها ( مارغريتا زلا)، منفصلة عن قرينها ماك لويد رسميًا لكن بلا طلاق نهائي. بعد صعود إسمها إلى كونها من أشهر راقصات زمانها، غيّرت إسمها إلى  ( ماتا هاري) ويعني في لغة (جاوا) الإندونيسية " عين النهار".
     مصدر رأسمالها جمالها وخِبرتها وثقتها بنفسها، لكنها بعد إخفاق محاولتها الأولى، عزمت على توظيف ذكائها وخبرتها وتأثير جمالها، والتخلّي عن الصدق. وكان اآنعصرآنذاك في فرنسا خصوصًا عصر مظاهر وأساطير وبدايات السينما، وتزاحم الفنون، وتدفّق الثراء من المستعمرات، والتلذذ بالغرائب الآتية من البلدان النائية. ولبثت ماتا هاري ردحًا طويلا مجهولة المنشأ ونوعية علاقتها بالشرق، وهل هي من أصلين (آسيوي  وأوربي ) أم أندونيسيّة بسبب ورود ذكر أحد ألقابها (أميرة جاوا)؟!
       بنت ماتا هاري شهرتها على الغرابة والطرافة واستغلال فتنة الشرق وغموضه وأساطيره وقصصه الخيالية ـ كما تصوّرها الأوربيون بتأثيرات حكايات ألف ليلة وليلة ـ وكان ذلك في مرحلة ( 1906 ـ 1908) أعوام صعود إسم راقصة أخرى حينئذٍ تميّزت بالغرابة والإبتكار هي (إيزادورا دَنكِن) التي ذكرها مرّةً جبران خليل جبران  في إحدى رسائله إلى صديقته الأمريكية ماري هاسكل، فما قامت به ماتا هاري كان شبيهًا نوعًا ما برقص كاهنات المعابد الهندوسيّة، وهي سمّت رقصَها " رقصة شيفا" بحسب تخيّلها وابتكارها وإخراجها بشكل يُطابق تصوّر الأوربيين وتخيّلاتهم عن الشرق. فما ارتدته كان قريبًا من الصُوَر ألتي إلتقطها الرحّالون الغربيون إلى الشرق، في حين كل أرديتها وزينتها كان مقتنى من مخازن باريس.  ومن الأماكن الراقية التي رقصت فيها : مكتبة متحف "غيميه"  في ساحة " يينا " الشهيرة، وفي قصر البارون " دي روتشيلد"، وصالة الأولمبيا. وكان إعجاب الجمهور الباريسي وطبقاته الأرستقراطية كبيرًا ـ بتأثيرمشاهد رقصات تُماثل رقصات "كاهنات المعابد الهندوسيّة " لأنهم مزجوا بين (الهند) وبين ( أندونيسيا )! وهذا ما حمل إحدى الصحف أن تكتب  : "إذا كانت الهند تمتلك مثل هذا السحر، فكل الفرنسيين سيرحلون إلى ضفاف نهر الكنج ."
     لكنّ ماتا هاري لم تكتفِ بما ارتجلته في البداية من عروض ورقصات لم تكن رقصًا بالمعنى الدقيق، بل شرعت في أخذ دروس في الرقص، ومع ذلك ظلّت تُصمّم رقصاتها وفق  نمط شرقي، وبدأت تطالع وتشاهد عروضًا وهي تواصل الصعود. ومن صحف تلك المرحلة، والأحاديث التي أُجريت معها، يبدو أنها لم تكن سطحيّة أو عديمة الثقافة، بل تكلمت عن الرقص بكونه فنًا يحيل الجسد إلى روح، وفسّرت التعرّي بكونه تساميًا.
     رقصت في (مسرح أنطون) الشهير وفي (أوبرا مونتي كارلو)  " رقصة النار"، وأضحت شهرتها " فنّانة العصر"، حتى  إنّ المتموّلين وذوي المناصب والمراكز الرفيعة في المجتمع الفرنسي كانوا يدعونها لحضور حفلاتهم، وتكاثر حولها القناصل والموظّفون الكبار العائدون من المستعمرات وأصحاب التُحَف والصُوَر عن الشرق الخيالي الغرائبي ليسألوها عن أصلها وموطنها، فكانت تروي لهم كثيرًا وتزيد فضولهم، وتبتكر الرقصات والأزياء الشرقية، وسكنت دارًا فخمة، وسافرت تلبيةً لدعوات كثيرة لتقديم رقصاتها.
     ربما لم تكن رفيعة العِفّة، لكنها رفضت عروضًا عديدة للإقتران بها، لكنها أصرّت دائمًا على كون القرار صادرًا عنها، وأن تلبث سيدة مصيرها ومعتمدة على نفسها. والمعروف عن بداية حياتها أنها نشأت في بيئة فقيرة، واقترنت بضابط هولندي في أندونيسيا، ورُزِقت منه بإبن وبنت، وعانت الأمرّين من ظلم وقسوة قرينها الضابط بسبب سلوكه المتعالي على السكّان الأصليين، وإزاء النساء الأندونيسيات. لكن الشجار  الدائم بينهما أرغم الزوج على طلب نقله إلى موقع ناءٍ، فلبثت مع طفليها، وتأقلمت في العيش مع السكّان الأصليين، وصارت تتفاهم معهم باللهجة المحليىة حتى سمّت نفسها ( ماتا هاري) إنسجامًا مع الأسماء الأندونيسية، وحضرت كثيرًا من احتفالات السكّان، وشاركت رقصاتهم. لكن ذلك أزعج قرينها، فعمل على نقلها مع طفليها إلى المنطقة النائية المعزولة التي عُيِّن فيها، حيث تفاقم الخلاف، لا سِيّما بعد مقتل إبنهما من قِبل المستعمرين الهولنديين إنتقامًا. ولما إنتقل الزوج إلى هولندة، حيث حاولت الطلاق،  غير أنها حصلت على الإنفصال  وحضانة إبنتها، لم يكتفِ القرين بعدم دفع النفقة المفروضة عليه،  بل قام بخطف البنت. عندئذٍ واجهت ماتا هاري الفقر، فكان لا بدّ من مورد لتعتاش منه، فوجدته في باريس حيث نجحت، وغدا نجاحها مادة صحافية رائجة، وعمّت شهرتها أوربا. ولمّا علم القرين بالنبأ، حضر على مسرح الأحداث، ونشر صورتها، وأقام عليها دعوى طلاق، وطلب التعويض. وبذا كشف عن أصلها الهولندي، وليس لها علاقة ببريطانيا ولا هي أميرة جاوا. غير أن هذا الحدث جاء متأخرًا، إذ إستطاعت شهرة ماتا هاري وثروتها أن تُسكتا هذا القرين، غير أن الطلاق  مكّن الزوج  أن ينتزع منها حضانة إبنتهما قانونيًا.
ألفصل الأخير من حياتها
     ضمن المغرمين بها كان ضابط ألماني كبير يُدعى ( ألفريد كيبر)، وبعد طلاقها أمَلَت  في الإقتران به، ولذلك غادرت باريس إلى برلين، غير أنه بعد عامين إنتهت العلاقة بالفراق، فعادت إلى باريس لتجد نجومًا غيرها قد صعدت.
    وفي بحثها عن عقود فنيّة وجدت نفسها مجددًا في برلين عام 1914 حيث حصلت على عقد مع دار للأوبرا. لكن قبل استهلال العروض فيها نشبت الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) وبين ألمانيا. فأُلغِيَ العقد مع دار الأوبرا، ، ولم تقبض (ماركًا) واحدًا، ثمّ جًمّدت أموالها في المصرف وكذلك مجوهراتها بوصفها مقيمة في فرنسا، وحجز الفندق أمتعتها لأنها لم تدفع الأجرة، وصادر أحد الباعة حقائبها لأنها كانت قد اشترت منه قماشًا للمسرح، فوجدت نفسها في الطريق بِلا حفائب. ودفعت آخر مارك لديها في محاولة فاشلة للهروب إلى باريس، وفي عجزها عن العودة إلى باريس، وحرمانها من المجد والأضواء، وجدت أنها في الشارع. وتوالت عليها عدة عوامل أرغمتها على قبول عرض مكتب الجاسوسية الألماني بالعمل لصالحهم مقابل مبلغ كبير من المال مع إعادتها إلى باريس، غير أن عملها مع الألمان كان قصير الأمد، لأن الإنكليز إشتبهوا بها، كما سرّب الألمان إسمَها ليمنعوها من العمل مع غيرهم. في تلك الأثناء، أُغرمت بضابط فرنسي، وتقرّبت من الفرنسيين وعملت معهم في التجسس، لكن أمر تجسسها للألمان  قد انكشف، ولم يُصدّق الفرنسيون في أثناءالتحقيق معها أنها كانت صادقة في تعاملها معهم، وأنها لم تلعب لعبة العميل المزدوج، فحكموا عليها بالإعدام. وقدّم فيليب كولاّس، مؤلّف الكتاب الأدِلّة على صدقها، ورأى ان جدّه تسرّع في الحكم عليها بالإعدام ولم يمنحها أسبابًا تخفيفيّة.
ألمشهد الأخير
     غِبّ شهور من الإعياء والجوع والإحباط والشكوى من سوء أحوال الحبس في السجون المفتقرة إلى توفّر الشروط الإنسانية، وصلت ماتا هاري ماشيةً مرفوعة الرأس، مُتوكّئةً على ذراع راهبة عجوز واستها في محنتها. كانت في أبهى زينتها وأناقتها، ولم يعرف أحد من أين حصلت على الملابس، فذُهِل الجميع إذ رأوها. نظر إليها صفّ الضبّاط ِ المكلّفين بإطلاق النار عليها .  مرّةً أخرى رفعت رأسها وقالت :" أنا بريئة ولا أخاف ". وهنا أجهشت الراهبة العجوز في البكاء، وطيّبت  ماتا هاري خاطرَها . ودّعت محاميها، وسلّمته وصيّتها الأخيرة وما تبقّى لدديها. ورفضت أن يعصبوا عينيها، ونظرت إلى الضابط المكلَف بإعطاء الإشارة وحيّته. أُطلقت الرصاصات من البنادق السِت، ثمّ أُطلِقت رصاصة الرحمة القاضية، وأُعلِنت مِيتتُها.
       لبثت الجثّة في موضعها، ونُودِيَ على ذويها كي يتسلّموا الجثّة، فلم يُطالب بها أحد. وهكذا دفن الفرنسيون حُلمَهم الشرقي بعد أن إستغلّوه ووظّفوه وعبثوا به ثمّ  قتلوه!

ألمصدر: مجلّة نسائية " لها" ركن "نساء شهيرات"
           ألموسوعة الميسّرة 1987

                       

24
س  و  ج  بخصوص المكوّن  المسيحي
 في  العراق  والأقطار العربية
                                               
يعقوب أفرام منصور
س 1   كيف ترى وضع أبناء المكوّن المسيحي في العراق خصوصًا، وفي البلاد العربية عمومًا ؟
ج ـ   أرى وضع جمهور المكوّن المسيحي في  وطنهم العراق اليوم أنه في وضع مفترق طرُق، فهو أمام فرصة تاريخية هي فرصة لتحديد مصير ومستقبل ان يكونوا أو لن يكونوا. فإن لم يُحسن شعب المكوّن هذا إختيار الطريق الصائب السليم، تذهب هذه الفرصة المؤاتية الآن من دون الإستفادة منها لبلوغ مصير أفضل ومزهر، وربما لن تتكرر الفرصة بعد  مئة سنة لاحقة ( أنظر جريدة " بيث عنكاوا عدد 76 ص 1  أيلول 2017. ) .
 س 2  هل سبق أن حدث  لأبناء المكوّن المسيحي ما قد حدث له الآن؟
 ج ـ  نعم قد حدثت مجازر وكوارث ومآسٍ وأزمات في عامي 1915 و1916  في أواخر العهد العثماني، وعُرفت تاريخيًا بأسماء : سيفو/ تطهير عرقي/ إبادة جماعية، وفي عام 1933 مجزرة سمّيل،  وفي ستينيات أو سبعينيات القرن المنصرم في شمال العراق، لكن أحداث اليوم في أعقاب غزوة  (داعش) الظلامية في عام 2014  نجم عنها سبي واضطهاد واغتصاب وقتول ونكبة تهجير المسيحيين  قسريًا وجماعسَا
 وتسليبًا بالآلاف من مدينة الموصل وبلدات سهل نينوى، فقد أُخليت كاملاً قرى من سكّانها الأصليين القدماء الذين كانوا موجودين قبل الفتح العربي الإسلامي، كما أن دُوَل الغرب أسهمت في هجرة العديد من هذه العائلات المهجّرة قسرًا (أنظر جريدة " سورايا" ص 1 عدد 2063  تموز 2017 ـ كلام البطرك ساكو).
 س 3  هل يُحتمل أن تكون مدينة الموصل في المستقبل خالية من المسيحيين كما حدث لغيرها من المدن العراقية قِدمًا ؟
 ج ـ  هذا يعتمد على النهج الذي سيختاره رؤساء وأبناء  "المكوّن المسيحي "ـ أي إذا حسُن اختيار السبيل الصائب  والعمل المُجدي الذي يهيئ الفرصة التاريخية ـ التي ألمحتُ إليها في الجواب عن السؤال الأول. إذ في حالة عدم إختيار النهج الصحيح للعمل الواجب، فلا أستبعِد أن تكون مدينة الموصل ـ بعد عقد أو أقل ـ بدون مسيحيين، كما حدث لمدينتي الحيرة والنجف الزاهرتين في عهد المناذرة العرب المسيحيين على المذهب النسطوري.
 س 4   كيف ترى سيكون مستقبل أبناء المكوّن المسيحي  في وطنهم العراق؟
 ج ـ  نظرتي الحالية إلى مستقبلهم تتراوح بين التفاؤل والتشاؤم، بين التحسّن التدريجي، وبين الإنتكاس. وعوامل هذه النظرة هي مدى صحّة النهج الملائم والفاعل من اتّباعه للإستفادة من الفرصة التاريخية السانحة والملائمة الآن لتحسين وضعهم في المستقبل، وأيضًا مدى الإستجابة لصوت هذا " المكوّن المسيحي" من قِبل صُنّاع القرار في الدوَل الكبرى ومنظّمة الإتحاد الأوربي الذين يهندسون خارطة منطقة ( الشرق الأوسط  ألجديد) الذي فيه مكوّنات مسيحيّة" ، فأقطار هذه المنطقة وبسبب ثرواتها الطبيعية الغنيّة، وبيئتها المتخلّفة فكريًا واجتماعيًا وثقافيًا، وبسبب  تناحراتها المذهبيىة والعرقيّة ـ هي مطمح أطماع ومنافع هؤلاء المهندسين الغربيين ومؤسساتهم ومصالحهم  الإقتصادية  النفعيّة قبل كلّ شيء  ( جريدة "سورايا" ـ 2 تموز 2017).
 س 5  بماذا تنصح أبناء المكوّن المسيحي أن يفعلوا ؟
 ج ـ  أنصحهم أن يتوحّدوا فكريًا ووجدانًيًا، وينبذوا التسميات الفئوية التي برزت للوجود بعد عام 2003 ، التسميات الطائفيّة : الكلدانية ـ السريانية ـ الآشورية، وأن يكون رؤساؤهم السياسيون الموجّهون في مقدّمة هذا التوحّد والتوحيد، إذ عليهم أن يكونوا رؤساء " المكوّن العراقي المسيحي "، وليس رؤساء ثلاثة تيّارات أسلفتُ ذكرَها، فهي غير منظور إليها بنظرة الإعتبار إطلاقًا لدى الدوَل في الغرب ومؤسساتها ومنظّماتها السياسية والإجتماعية والثقافية، حيث يوجد صُنّاع القرار. فبقاء السياسيين والحزبيين المسيحيين على فرقتهم هذه الطائفية الفئوية المتخلّفة " فئويين، راغبين في الزعامات والرئاسات الطائفية الأنانية، يشكّل خطيئة لا تُغتفر حاضرًا ولا مستقبلاً  أبدًا. فعلى أبناء " المكوّن المسيحي العراقي " أنفسهم أن ينتخبوا رؤساء غيرطائفيين. وقبلي نصحهم بذلك البطرك ساكو في تموز 2017 ، كما نصحهم المهندس صفاء خليل إبراهيم بذلك أيضًا  ومنشور على الصفحة الأولى من جريدة " بيث عنكاوا" لشهر أيلول 2017
 س 6  كيف تنظر إلى الهجرة التي غدت أمرًا واقعًا؟
 ج  ـ  نظرتي إليها كونها واقعًا مؤلمًا ومؤسفًا، وبأنها كانت قبل الغزوة الداعشية، وفي مقالي حول الموضوع نشرته مجلة (نجم المشرق) البغدادية في عددها 72 لعام 2012، حمل هذا العنوان (ألهجرة ألخطر الأكبر على مستقبل مسيحيي الشرق ثم على مسلميه العرب)، وها إن الملأ يشاهدون بعد ستة أعوام من تاريخ المقال جسامة أعداد المهاجرين (مسيحيين ومسلمين) من العراق وسوريا ولبنان ومصر إلى أمريكا  وأوستراليا وأوربا حتى أقطارها الإسكندنافية التي تداني القطب المنجمد الشمالي. هذا فضلاً عن أن الهجرة لا تُعالج مشكلة عدم إمكانية التعايش بانسجام مع إخوتهم من المواطنين غير المسيحيين، بل تُزيدها صعوبة، لأن تناقص المسيحيين ضمن المكونات الأخرى يزيد تفاقم المشكلة التعايشية ـ كما يقول المطران جرجس القس موسى في كتابه (أحاديث .. حتى النهاية).
 س 7  كيف يمكن توحيد كنائسنا وتوحيد أبناء مكوّننا المسيحي؟
 ج ـ  عندما تُختَزَل كثيرًا كراسي الروحانيين الفئوية الطائفية الطقوسية، حبًا بالوحدة الكنسية، وامتثالاً لطلب السيّد المسيح بقوله : " كونوا واحدًا ..." تغدو في العراق كنيسة واحدة" محترمة.. مهيبة الجانب ، ومثلها يكون في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، وعندما يتخلّى الرؤساء الزمنيون المسيحيون عن أنانيتهم الشديدة، وبالتالي يتخلّى أبناء الكنيسة عن كراسي الزعامات والرئاسات الحزبية المتنافسة المتنافرة فئويًا وطائفيًا وأهدافًا، فلا يُعدّ أفراد المكوّن المسيحي بعدئذٍ كونهم كلدانيين، سريانيين، نسطوريين، إنجيليين، سبتيين إلخ ... بل سيعدّون أنفسهم عراقيين مسيحيين. فآنذاك يكون أتباع المسيح قد توحّدوا واتّبعوا كنيسة واحدة؛  إذ هم الآن ليسوا واحدًا، بل هم عديدون ! فمحبة الله واجبة أولاً، ثم محبة الوطن ثانيًا، ثم الإعتقاد ثالثًا بأيّ عقيدة إيمانية‘ خِلوًا من أيّ فئة أو طائفة أو نِحلة.
                                 خلاصة رأيي في التعايش
     "  يطيب العيش في العراق لشعبه بكل مكوّناته حين يعتقد شعبُه، ويعمل كل ّ ما يجب عملُه كي لا يعود ساحة تتصارع فيه مصالح الغرباء من القوى الكبرى والصغرى، وأن يتصرّف قادتُنا كبنّائين وليس كحاصدي غِلال ! "
     [ هذه الخلاصة هي أمنية ومشورة مُستقاة من كتاب المطران جرجس القس موسى، معنون  "أحاديث .. حتى النهاية " صادر في الموصل عام 2014 . ]
     

25
حقيقة  هذا البلد  (ألعراق)
                                                         
                                                         
يعقوب أفرام منصور
     اول جانب من حقيقة واقع العراق هو كونه بلدًا مرّت عليه  أحقاب  كثيرة  جدَا عانى خلالها كثيرًا وطويلاً من غزوات وعمليات سلب ونهب متكررة من أقوام مجاورين لأراضيه الخصبة ومياهه العذبة الوفيرة ، ومعظم تلك الغزوات والعمليات من جهات الشرق والشمال والجنوب، منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وحتى  منتصف القرن الأول ق.م. ومن الأقوام التي غزته مرارًا وتكرارًا في عهود سومر وبابل وآشور: الحثّيون والكاشيون والميديون والعيلاميون والفرثيون . ثم  بعد سقوط بابل الكلدانيين  في منتصف القرن الأول ق.م. غزاه الفرس مرارًا. ومنذ بدايات الألف الثاني بعد الميلاد كان العراق ـ الذي  يشكّل القسم الأكبر والأهم من بلاد  ما بين التهرين(الهلال الخصيب) ـ  تحت السيادة الفارسية قرونًا، وتحت السيادة العثمانية إبان الفرون الأربعة الأخيرة المنتهية في عام 1917.
      أمّا ما عاناه هذا البلد في الداخل وبشكل موضعي محدود، فقد كان من بعض بتي قومه في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين من جرّاء ثورة الزنج بدعم من قوم القرامطة في وسط وجنوب العراق( الكوفة والبصرة) طيلة 15 عامًا نجم عنها كارثة وخراب عميم في حاضرة البصرة ونواحيها، عُرفت تاريخيًا وبالأمثال ب "خراب البصرة"، حتى قضى عليها الخليفة العبّاسي (المكتفي) في عام 906. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، عانت إمارة (أفراسياب) في نواحي البصرة من أجانب(إيرانيين) قاموا بعمليات سلب ونهب واجتياح بغية السيطرة عليها، لكنها إنتهت بإخفاق الغزاة واندحارهم.
     أمّا بعد اكتشاف غِنى العراق بخام الذهب الأسود في مطلع القرن العشرين في حقول نفط كركوك وخانقين وعين زالة (الموصل) وبعد عقود في حقول البصرة ثم (مجنون ـ ميسان)، فقد تهافتت على العراق دول الغرب الإمبريالية، بدءًا من إحتلاله في عام 1917 من قِبل بريطانيا، ووصل الأمر بتلك الدوّل الإمبريالية إلى الإجهاز على البلد بقوة السلاح مرّتين، أولاهما في العقد الأخير من القرن العشرين، وثانيتهما في مستهل العقد الأول من القرن 21 الحالي، وبتحالف عسكري غاشم ضخم جاوز عدد المسهمين فيه ثلاثين دولة وجيشًا بقيادة أمريكا( !) لإشاعة الفوضى والخراب والتدمير والتخلّف والتناحر الطائفي والعنصري في مكوّنات شعبه ومؤسساته، كي يسهل أنتفاعها من ثرواته النفطية والمعدنية بمقدار أكثر ممّا لو كان الوطن مستقلاّ ومالكًا زمام أموره بأيدي أبنائه الغيارى؛ فنجم عن الغزوة الهمجية الظالمة بداية الجشع الغربي والطغيان الإمبريالي الأمريكي والأوربي لاستنزاف دماء وموارد العراق والشرق الأوسط وتفتيت كياناته الحالية ( من 2003 الى الآن ولاحقًا) بدءًا بالعراق بعد غزو أفغانستان،لإقامة شرق أوسط جديد ـ كما صرّح مجرم الحرب بوش الأب (1990 ـ 1991)، وتمّ تنفيذه في عهد نجله مجرم الحرب الثاني عام 2003 : كل ذلك خدمةً للصهيونية العالمية ذات المطامع التوسعية وذات الهيمنة على تسيير الإدارة الأمريكية والسياسة الأوربية.
     واللبيب المتجرّد يتساءل: هل يحدث كل هذا السوء والإيذاء والتخريب للعراق من دون أن تكون في داخله نفوس وأذرع ومكونات وطوابير مساعد ة ومتواطئة مع الغزاة لإنهاك هذا البلد وإفقاره وتفكيك لُحمته وتخريبه ؟! لقد أثبتت التحريات ووسائل الإعلام وسجلاّت هيئة النزاهة وبعض الوقائع قبل غزوة داعش وبعدها على وجود كثيرين في البلد متهمين بالخيانة والتآمر والفساد والإفساد والمتاجرة بالدين والولاء للطائفة أولاً والولاء لغير الوطن. ففي شعب العراق كثيرون لا يحبون وطنهم، وكثرة لا تمتلك إرادة البناء لمستقبل أفضل ، بل تنطوي نفوسها على ميول الهدم والعنف.  بيدَ أنّ ممّا لا شكّ فيه  وجود عوامل عدّة داخلية ساعدت الغربيين الطامعين على غزو العراق، المذكور آنفًا،  أولها عدم حكمة الرئاسة العراقية في سياستها الداخلية أولاً ، والخارجية ثانيًا؛ ثمّ إن أمريكا وبريطانيا إستفادتا من عدم تلاحم الشعب في مكوناته المذهبية والعِرقية، فكان الغالب عليها التناحر والكراهية والتعصّب الشديد، والطمع في الحصول على المكاسب والمغانم من خلال الحكم الأجنبي. فكانت ثالثة الأثافي من الغزوة الهمجية الظلامية المتطرّفة (داعش) بتآمر في عهد الرئيس الأمريكي (أوباما) وتأمر طائفي عِرقي على حساب الشعب العراقي، الضعيف في وعيه، والمغلوب على أمره، وبمعرفة الحكومتين البريطانية والفرنسية والحكومة التركية باستخدام الإرهابيين وتزويدهم وتدريبهم في تركيا للقيام بهذا الغزو الإجرامي اللئيم الذي سجّل صفحةً سوداء من تاريخ هذه الأربع دُوَل في مجال الإساءة إلى العراق أولاً، وإلى الشرق الأوسط ثانيًا.
      ألجانب الثاني من حقيقة العراق، هو كونه قطرًا تحفل أذهان شعبه ـ منذ القِدَم التاريخي المعروف والمدوّن  وبالآثار المكتشفة في أواخر القرن التاسع عشر ـ بذكاء وألمعيّة وفطنة، وتزخر نفوسه بإرادة وعزم وشجاعة في مجال قهر الصعاب والعسير من الأمور، وفي ليّ الشدائد، وفي أحيان قليلة كان ينتصر على أعدائه الحاسدين والطامعين في خيراته. وسبب قلّة انتصاراته على أعدائه الخارجيين، وعلى غُزاته القريبين والبعيدين هو كون الشطر الأكبر من سكّانه قَبَلي، عشائري النظام والتقاليد والقِيَم، يسودهم التنافر وعدم التناصر، وهذا ناجم حتمًا عن قلّة الوعي، وضيق الإدراك، ممّا لا يجعلهم سورًا حصينًا عصيًّا على طامعي غُزاة الغرب المسلّحين، وبذا يُسَهّلون للأجانب إختراق ديارهم وتدمير الوطن. فهم متواكلون، ضعيفو الهِمّة والمقاومة إزاء قوى الطامعين، وبأس المتحفّزين للهيمنة والسيادة على الضعفاء والشراذم الجهلاء، القنوعين في عصرٍ لا يفهم  ولا يحترم أو يهاب جُلّ ناسه الحضريين غير لغة القوّة والإقدام والمقاومة بأحدث وأفتك الأسلحة،  وأوّلها الإرادة الصلبة،  في حين يفتقر إليها القَبَليّون.
     ألجانب الثالث من الحقيقة هو كون غالبية شعوب العالم عمومًا، والطامعون والعدوانيون  ضِمنهم خصوصًا، تجهل مكانة العراق المتميّزة بين بلدان العالم، في مجال خصائصه الذاتيّة الموروثة من أرصدة أقدم الحضارات والمدنيّات، ويستحق النظر إليه نظرة نائية عن اعتباره مَطمَحًا لهم في إشباع أطماعهم في خيراته وثرواته المعدنية والنفطية من خلال الهيمنة على مقاليد أموره وأوضاعه الداخلية، وبوسائل بثّ الشقاق والعنعنات بين أبنائه ذوي العقائد المختلفة، والألسن والثقافات العديدة المتباينة التي تبلورت عِبر عهود حضاريّة شتّى، إتّسمت غالبًا بقبول الآخَر المختلِف، وبالتعايش  معه والتقابس والتمازج منذ أقدم الأزمان.
     الجانب الرابع من  هذه الحقيقة هو كون أعداءِ هذا الوطن الرئيسيين وتابعيهم الأقربين والأبعدين في داخله وخارجه ـ بعد عام 2003 وعام 2014 لا يُعيدون النظر في حساباتهم الإقتصادية والنفطيّة والجيوفيزيائية تحت أضواء من الإنصاف والإعتراف بالذنب والخطأ الجسيم المذنِب الذي إقترفوه بحقّه قبل ربع قرن على الرغم من حقيقة أنّ الوقت قد أزف، بل تجاوز الحد الزمني المعقول والمناسب لوجوب إعادة النظر في تلك الحسابات بدافع منصف من إلغاء الغبن الحالي في التعاطي والتعامل والمضايقات بباعث من رغبتهم في عدم الترفيه عن شعب العراق، وعدم إزدهاره في المجالات الحضارية الحديثة، والتعاصر والتمدّن.  فكفاهم من حوافز الجشع والمكابرة والمغالطات. فعلى المدى الطويل  سوف يكونون هم وأنسالهم خاسرين. والذبن يحيون في عام 2025 أو 2030 يرون ذلك. ولاتَ ساعةَ مَندمٍ !


26
يهود  معارضون  للصهيونية
1 ـ  يوري  أفنيري  نموذجًا
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     قليلون هم اليهود الحاليّون الذين لا يحملون بِزرة الصهيونية التي تسمّم عقول هذه المِلّة، وتملأ قلوبهم بالأحقاد والكراهية تجاه " الأغيار"، وتشحن نفوسم بالعُقد ومركّبات النقص والأمراض النفسية، وتحشو أدمغتهم بالإستعلاء على أجناس البشر كافّة، منطلقين من وهم " نقاوة " عنصرهم العرقي، في حين ثبت بالأدلّة القاطعة، علميًا وتاريخيًا،  أنّ نسبة عالية من اليهود أنفسهم، والصهاينة بشكل خاص، متحدّرة من أعراق غير ساميّة، هي آرِيّة وسلافيّة وخَزَرِيّة، وأفضل دليل ـ علاوةً على الأدلّة التاريخيىة الدامغة التي لا مجالَ لذكرها هنا ـ هي أن تلك النسبة غير القليلة يحمل أفرادها خصائص وراثيىة هي خارج نطاق الخصائص المميّزة للعنصر السامي لليهود أصلاً، إذ عيونهم زرق اللون، وشعورهم شُقر اللون، وأنوفهم صغيرة أو مفلطحة ( آريّة ـ أوربية)، بينا اليهود الأصليون متحدّرون من الشعب العبراني السامي، سود العيون أو بُنّيتها، وسود الشعر أو كستنائية، وأنوفهم طويلة دقيقة مسطّحة.
      إن المستشار النمساوي ( برونو كرايسكي) ليس هو اليهودي الوحيد المعارض، بل الرافض للصهيونية، فثمة يهود آخَرون غربيون بارزون، وغيرهم سَلَفِيّون عاديون يشاطرونه موقفَه، مع كونهم قليلي العدد، ومنهم مقيمون في الكيان الصهيوني منذ عام 1948، وهم في شبه قطيعة وعزلة ( ويُعرَفون بجماعة " ناطوري كارتا" ـ أي " حُرّاس الأرض "، فهم لا يسمحون للإدارة الرسمية الإسرائيلية بالتدخّل في إدارة شؤونهم المدنية والدينية والإجتماعية، إذ لهم محاكمهم ومجالسهم الخاصّة للبت في شؤونهم ودعاواهم،لأنهم لا يقرّون أن يكون لإسرائيل كيان سياسي، إذ هي رمز ديني فقط.).
     من هؤلاء اليهود المستنيرين المعارضين للصهيونية هو المدعو (يوري أفنيري) الذي نزح إلى فلسطين في أيام الإنتداب البريطاني في عام 1933، الذي حلّ فيها برفقة والديه، فقد حمله تحمّسُه للصهيونية آنئذٍ أن يحسبها  "أرض  الأجداد "، حتى إنه عدّ قتل العرب، وإزاحة المنتَدِبين البريطانيين إلى خارج فلسطين هو الأسلوب الذي يرتضيه. بَيدَ أنه طفق ينحو نحوًا مغايرًا إلى  حدٍ ما منذ انفصاله عن منظمة (الأرغون) الإرهابية بسبب  إنشقاق داخلي، وقبل شهور قليلة من إقامة الكيان الصهيوني الملطّخ بالدماء العربية، وبالاثام التي رافقت اغتصاب أرض فلسطين من قِبل عصابات توارثت الآثام منذ عهود أنبياء بني إسرائيل، إذ أنشأ تنظيمًا سياسيًا صغيرًا إستهدف إقامة جبهة ساميّة لتضمّ العرب واليهود، ولتقود نضالاً مشتركًا يرمي إلى توحيد المنطقة السامّيّة. وشرع يُبدي طروحات تخالف طروحات الصهاينة، وأفصح إنه بعد قيام الكيان الإغتصابي قد تحوّل إلى " داعية تفاهم مع العرب "،. وقد كانت إصابته بجرح في جبهة سيناء عام 1948 مدعاة لتركه الجيش لاحقٌا، وتفرّغه للعمل السياسي غِبّ شرائه إمتياز صحيفة " هعولام هزّه " ـ (هذا العالم)، غير أنّ أهم نتاج فكري صدر عنه عام 1968  هو الكتاب الموسوم (إسرائيل بلا صهيونيّة ).  كتابه هذا يُفشي حقيقة أفكار وهواجس  متباينة تتنازعه، وتصبّ في مجرى محاولة البحث عن تسوية للصراع العربي  ـ الصهيوني تُرضي العرب (!!) من غير أن تمس الكيان الصهيوني الذي كان قائمًا قبل حرب عام 1967 . وهذا يعني، في نهاية الأمر،  بالنسبة إليه،  تقليص النزاع بين حركتين أو قوتين للتوصّل إلى ترتيبات جانبية، غير جذريّة، تُعيق الإمتداد الصهيوني السرطاني في فلسطين والأراضي العربية، وتعيد إلى العرب الجانب الغربي  من نهرالأردن وقطاع غزّة المُحتلّين،  ليُقيموا عليهما دولة فلسطينية إلى جانب الكيان الصهيوني، التي سمّاها " الدولة اليهودية "، وهذه التسمية تعني دولة دينيّة (ثيوقراطيّة)، كي يتعايش الكيانان الفلسطيني والإسرائيلي ضمن صيغة سلام مكتوبة.
     فقال في هذا الصدد : " إن المناعة القومية في البلاد تتحقق بإيجاد دولتين : هما " دولة إسرائيل " و " دولة فلسطين"، على أن ترتبط الدولتان بروابط إقتصادية وسياسية وأستراتيجية"، وعلى الكيان الأول أن " يُشجّع قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقطاع، بشرط دخول هذه الدولة الفلسطينية بدءًا في حلف سياسي ودفاعي" مع الكيان الأول الذي أطلق عليه تسمية " دولة إسرائيل ".
      وفي موضع آخر من كتابه قال: (إن على دولة إسرائيل ألا تمدّ يد المساعدة إلى أيّ جسم عالمي أو من المنطقة يهدف  إلى سلب شعوب المنطقة حقوقها الكاملة في ثروتها الطبيعية أو إلى  إستعبادها من قِبل المصالح الإستعمارية والرأسمالية. )  أنظر مجلة (الدوحة) القَطَريّة ـ ك/1   سنة 1981ـ ص 30 ـ 31.
     



27
نكبات وتخريب البصرة قديمًا وحديثًا

                                                 
يعقوب أفرام منصور
     تعرّضت البصرة للتخريب والتدمير والنكبات أكثر من مرّة منذ القرن التاسع الميلادي حتى الآن، وأشدّ هذه النوائب هولاً وضررَا كانت نائبة ( ثورة الزنج) التي صارت  مضرب المثل الشهير " بعد خراب البصرة !". فحوادث هذه الثورة الهمجية المخرّبة دامت 15 عامًا ( 868 ـ 883 م )، وكان من عوامل ديمومتها الطويلة : المساعدة التي  قدّمها لضِرامها وخرابها قرامطة الكوفة، وهم قوم من الباطنية، قضى عليهم في العراق الخليفة العباسي (المكتفي) في عام  906م (أنظر الموسوعة العربية الميسّرة). وفي عقود القرنين السابع عشر ـ الثامن عشر الميلاديين عانت إمارة (إفراسياب) في نواحي البصرة من غزوات سلب ونهب واجتياح من الفرس الإيرانيين  بباعث السيطرة عليها، إنتهت بإخفاق الغزاة واندحارهم.
      ويفيد (ألمُنجِد في الأعلام ص 435 )  كون القرامطة منسوبين إلى حمدان قِرمِط ( أي أحمر العين)، وهم أصحاب حركة دينية سياسية منقرضة. وقِرمِط من دُعاة الإسماعيلية، ظهرت في العراق عام 871م ، ومن أتباعه (زكرَوَيه) وأبي سعيد الجنابي، وإبنه أبو طاهر، وانتشروا في البحرين واليمن، واستولوا على مكة عام 930م. وأوردت (الموسوعة العربية المُيَسّرة) عنهم أن ميمون القدّاح الكوفي، أحد دُعاة ولده  عبد الله المهدي جد الفاطميين، أرسل  إثنين من الدعاة إلى اليمن عام 904م،وهما علي بن الفضل الحِميَري اليمني، ومنصور بن حسن الكوفي للدعوة له. فنجح  علي المذكور نجاحًا كبيرًا، واستولى على ذمار وصنعاء في عام 906م (عام القضاء على الفرامطة في العراق)، وتغلّب على جيوش الإمام الهادي. وقامت في اليمن حروب وفِتن  كثيرة، واستباح أتباع علي بن الفضل كثيرًا من المحرّمات، وادّعى النبوّة، وكان يُذكر في أذان الصلاة. لكن الحالة هدأت في عام 915 عندما مات علي، لآنف ذكره، مسمومًا بيد أحد الأشراف، الذي دعاه لِحِجامته بوضع السُمّ له في المِبصَع، وبموته إنتهى أمر دولة الفرامطة في اليمن. لكنّ مبادئها ظلّت مستمرّة في بعض أنحاء اليمن إلى وقت قريب، إذ يُعرَفون بإسم (المكارمة) أو (ألباطنية) في (حراز) وقرب صنعاء، حتى قضى على نفوذهم   في مطلع القرن الماضي إمام اليمن يحيى حميد الدين (1904 ـ 1948) بعد توَلّيه المُلك  حين استولى على ما كان لديهم من مخطوطات تشرح مذهبهم وتعاليمهم.
  كانت ثورة الزنج فتنة كبيرة عمّت القسم الجنوبي من العراق، وكان التخريب والإيذاء والإضرار على منطقة ومدينة البصرة وسكانها بزعامة المدعو علي بن محمد بن عيسى المعروف بالبرقعي، وبمعاونة القرامطة.
      أماالإسماعيلية، فهي فرقة دينية من الشيعة الباطنية، ومن أشهر دُعاتهم (ميمون القدّاح) وولده عبد الله كان إمامًا للقرامطة، وزعيمهم الحالي أغا خان عام  (1957 ) ولهم أتباع كثيرون في أواسط آسيا والهند وعُمان والشام وزنجبار وتنجانيقا. ودعوتهم ذات مراتب، ومن معتقداتهم أن العقل الإنساني لا يستطيع إدراك حقيقة الذات الإلهية، وانه ليس لهذه الذات صفات، ومحل الصفات هو العقل الكلّي الذي أبدعه الله بالأمر، وفيه يتمثّل الله. وتحصيل السعادة عندهم يكون بتحصيل العِلم. (الموسوعة العربية المُيَسّرة ـ 1987).
     وما أصاب اليصرة من تخريب وتدمير في الزرع والضَرع والحضَر والمدَر إبان  أعوام الحرب الإيرانية ـ العراقية (1980 ـ 1988 ) فاق ـ حجمًا ونوعًا ـ  الدمار والخراب اللذين أصابا محافظات العراق الأخرى، إذ قلّما انصرم يوم خلال هذه المدة من غير أن تنهال الصواريخ الإيرانية على بقاع محافظة البصرة.
     ويبدو أن الضَيم واننكبات الآنف ذكرها ـ التي ألحقها أعداء غرباء عن سكّان اليصرة الأصلاء ـ  لم تكن كافية، بل تألّب عليها للإيذاء والإضرار والإفساد في كل جوانب العيش زُمَرٌ جانية من بني قومها وجِلدتها، وخصوصًا من رؤساء وإداريي حكومتها المحليّة وحكومتها المركزية، منذ هجوم موجة الغزوة الثلاثينية الغاشمة في عام 2003 حتى الآن، مع أنها صمدت في أثناء الموجة، وقدّمت تضحيات وشهداء في صدّ هذه الموجة قرابة أسبوعين( 20/3 ـ  2/4/2003 ) حتى امتلأت أجواؤها وتربتها بإشعاءات اليورانيوم المنضّب، ويقاسي من تلوّثها أشدّ المقاساة سكّانها وزرعها وماشيتها. فعمّتها المفاسد والمظالم والإهمال في كل مرافق الحياة الكريمة المتوسّطة، ومن دون أيّ اعتبار لكونها الرافد الرئيس لواردات خزينة الدولة، ومن دون تقدير لجدّية العاملين فيها لتحقيق إستمرارية تدفّق هذا المورد الحيوي الغزير، لكن واقعها المُزري ينطبق عليه المثل : " كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ/ والماءُ على ظهورها محمولُ ".
     فما  أظلم  حّكّام ومسؤولي وإداريي البصرة ! مرحى، مرحى برعاة وحماة  مصالح الشعب في محافظة البصرة ، وبأعضاء البرلمان الهُمام، الرقيب اللبيب الذي لم ينطق أحد أعضائه يومًا بكلمة لصالح البصرة المهمَلَة برغم استغاثاتها المكررة الصارخة لتحسين أوضاعها الرديئة، حتى يئست من الإستجابة والإنصاف وتلبية حقوق ناسها  المظلومين. ظلمكم مُجسّم في فسادكم وقصوركم الطويل الكبير، وإهمالكم بني جِلدتكم، فهو أقسى من عُسف ومظالم الغرباء والمستعمرين والغزاة، وينطبق عليه قول الشاعر (طَرفة ) :
        وظُلمُ ذوِي القُربى أشدُ مَضاضةً ً      على  المرءِ من  وقعِ الحُسامِ  المهنّدِ

   الظلم من الرؤساء واولي الأمر، على أبناء شعبهم وبني جلدتهم، يُهيّج الحزن والغضب ، وإذا دامَ دمّر. وشععب العراق عمومًا والبصرة خصوصًا كان حتى الآن حليمًا طيلة 15 عامًا، لكن في الأمثال مقولة:  إتّقوا  غَضَبَ الحليم!
     


28
من ينقذ البصرة من مُخرِّبيها ؟

                                               
يعقوب أفرام منصور
     فبل ثلاثة أعوام نشرت جريدة (الزمان) البغدادية في  1ـ  10 ـ 15 مقالي  المعنون كما في أعلاه، وأروم الآن إعادة نشره  على مواقع إلكترونية تزامنًا مع مظاهرات واحتجاجات واعتصامات البصريين الجارية منذ شهرين لإطلاع المواطنين والمثقفين والإعلاميين عمومًا، والبصريين خصوصًا على مضامينه في نواحي تشخيص اللوم والتقصير واللامبالاة، مع الإفصاح عن أسفي المرير، ولومي الشديد، وغضبي الصارخ تجاه مسببي جميع المآسي والإيذاء ـ للبصرة وناسها  ـ ضمن المسؤولين الإداريين والبرلمانيين والمتنفّذين والرؤساء الحكوميين السابقين عمومًا وفي الحكومة الحالية خصوصًا الذين عايشوا ويعايشون حتى الآن هذه المساوئ والأحوال المزرية الكارثية في محافظة البصرة بشكل يَندى له جبين البشرية، وينتهك حقوق الإنسان، التي من أجل تطبيقها وصيانتها ُأُسست الحكومات ، وكُتبت الدساتير، وتفجّرت ثورات، وتبنّت شرعتها منظمة الأمم المتحدة. لكن يظهر أن من أسلفتُ ذكرَهم من المسببين : مسؤولين ومذنبين كانوا يتناومون ويتطارشون ولا  بعبأون بكل الهدير العالي من المطالب الحيوية للبصرة المُهمَلة ولسكّانها المظلومين والمضنَكين منذ عقدين. وأرجّح أن تهاونهم وتقصيرهم الجسيم بلغا حدّ تناسيهم قَسَمَ الإخلاص الذي أدّوهُ للواجب وللوطن والشعب حتى تضاعفت وتفاقمت المساوئ والخيانات والمظالم، فلم يتحسّن وضع واحد من الأوضاع السيئة خلال الأعوام الأربعة من عمر الحكومة الحالية.
       ماذا سوف يسجّل التاريخ عن المسهمين في ظلم البصريين وتخريب محافظتهم ؟! في الأمثال قيل : " يُعرف الإنسان من فعلهِ ". ماذا قدّم هؤلاء لوطنهم وشعبهم عمومًا وللبصريين وبلدتهم خصوصًا غير الأذى والضرر واالإفقار والدمار والإهمال وسقوط الأضاحي؟ هل يخافون الله إذا كانوا مؤمنين؟! أم تراهم  يحسبون حساب العواقب في دنياهم وسوء العاقبة في آخرتهم؟!
      ومن المضحك وهزال قول مسؤولين سابقًا وحاليًا كون ضمن جماهير المتظاهرين والمحتجّين والمعتصمين عناصر مندسّة ! وكأن هذا الإندساس ـ إن صحّ وثبُت ـ  يخفف ذنوبهم، ويمحو قصورهم ويشفع لفسادهم وإفسادهم! هذا عدا كون وجود مندسّين بين الجماهيرالغاضبة ، المخذولة من أعوام، يدلّ على كون الأجهزة الأمنية  والإستخبارية مقصّرة في أداء واجبها في التقاط وعزل هؤلاء وإقصائهم، كما على العناصر الأمنية أن لا تتخذ حسبان وجود مندسّين ذريعة لتشويه سمعة الأكثرية المتظاهرة،  فتتعامل معها بعنف وقسوة تبلغ حد القتل والتعذيب والتغييب ، كما فعلت سابقًا مرارًا  ومؤخّرًافي الشهرين الأخيرين. كان صبر البصريين للحكومة مضرب  المثل في طوله واحتماله، ومع ذلك  لم يلقوا منها غير التسويف والإهمال والامبالاة؛ فلا تلومي ولا تتّهمي، بل كان عليكِ أن تقدّري جسامة ردّ فعل الغاضبين بعد صبرهم الطويل المُضني !
      في ما يأتي نص المقال الذي نشرته (ألزمان) قبل ثلاثة أعوام، فما أشبه الليلة بالبارحة ! :
      طالعتُ بفيض الأسى، المقال الموسوم (ماذا بعد خراب البصرة ؟) بقلم المواطن البصري طارق عبد الأمير، المنشور في جريدة (ألزمان) البغدادية ليوم 20 أيلول 2015  في ركن (رأي المواطن)، وبما أني من أبناء هذه المدينة التي انهالت على محافظتها النكبات والمصائب من داخلها ومن جيرانها، بعد أن كانت ـ حتى أواخر العقد السابع من القرن الماضي ـ تُنعَت بِ " ثغر العراق الباسم "، وكانت زهيّة بمناظرها الخلاّبة، وبهيِّة بناسها المتّسمين بطيبة نادرة آنئذٍ وما برحت غالبيتهم كذلك، كما امتلك غالب سكّانها وعيًا ذا مستوى أرفع قليلاً من مستوى الوعي في المحافظات الأخرى، وتميّزت بتعايش الأثنيات بتآخٍ وتحابب قلّ نظيرهما في محافظات  الوسط والجنوب، فقد داهمني الإكتئاب الشديد الذي استدرّ عبراتي، لِما آلت إليه أوضاع وأحوال محافظة هذه المدينة من زراية وإهمال فظيع متجنٍ إلى حد فاق الحدود الدنيا من التحضّر والتمدّن والعيش الكريم الوسط، والقيام بواجبات المسؤولين الإداريين والأمنيين  والصحيين وبعض رجال الدين، وخصوصًا أحدهم من خارج المحافظة.
      يصوّر تقرير المواطن البصري سوء الأحول التخريبية في المحافظة عمومًا، وفي المدينة خصوصًا بشكل يفوق مثيلها في محافظات الوطن كافّة، ويتجاوز المسموع والمقروء عنها منذ عدة شهور. فأي اعتبار بقي لمقولة الحديث الشريف في شأن حسن الإدارة، ومسؤولية الرؤساء عن مرؤوسيهم عباد الله ـ جماهير الشعب ـ الذين يكدّون ويكدحون لصالح الرؤساء أنفسهم ولصالح الشعب قاطبة، بموجب هذه المقولة الذهبيىة  (كلّكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيّته). أهكذا تؤدّى المسؤولية بإيصال مستوى  عيش الأهالي " ألرعيّة " إلى مستوى الحضيض، وإيصال العمل وأداء الواجبات إلى الدرك الأسفل ؟!
     ما هذه القسوة لدى الإداريين والمسؤولين والموظفين ورجال الأمن وعلى الأخص لدى محافظ البصرة المرشّح والمزكّى والموصى به من السيّد عمّار الحكيم؟! أهكذا يقول الكتاب، أم ينصّ الشرع، أم يوحي الضمير، أم يستوجب يمين الإخلاص؟! وهل بلغ الضمير فيهم إلى هذا الحد من الخَدَر أو الشلل أو الموات ؟!  فما جدوى بقائهم في مناصبهم بعدُ، ما داموا يتسببون عمًد ًا في إلحاق  الضرر والأذى والخُسف والظلم والفساد والإفساد والتخريب إلى هذا القدر من التدنّي المزري وطول هذه الأعوام العجفاء التي قبضوا خلالها أضخم الرواتب علاوةً على دخولهم من السحت الحرام؟  مع كل هذه المساوئ والذنوب، لا يُعزَل مُرتكبوها ولا يُحاكَمون ولا يعلَقَبون، فأي طراز من الحكم والإدارة هذا؟! هل حقًا هم يتّقون الله كما يتوجّب عليهم إيمانًا وخُلُقًا؟ وهل فعلاً تحمل راية الوطن كلمتَي (ألله أكبر)؟ أم هذا رياء ونفاق يستحقان عقاب الله وغضبه؟ هل تبخّر الإخلاص، وتلاشى أداء العمل والواجبات بأمانة ونزاهة وحِرص، فغدت التعاسة في البصرة شاملة، وأمسى البؤس سائدًا أنحاء المحافظة جمعاء، بدلاً من أن يسودها الرضى والإكتفاء في تلبيىة الحاجات الضرورية للبقاء،وإدامة عافية الأبدان، وصحة العقول، وضبط الأمن، وتحقيق الإنصاف، وبذل الحدب على ذوي الحاجات والفاقة، ومراعاة ذوي الكفاءات والمهارات، واستخدام الأيادي العاملة لأبناء المدينة والمحافظة قبل غيرهم من أبناء المحافظات الأخرى، وبدلاً من إستيراد وتشغيل عمّال  أجانب ! يبدو أنه قد غاب عن ذهن هؤلاء سوء العاقبة في الدنيا والآخرة !

***  غدت البصرة حاليًا كإمرأة تلاشت قسماتها الجميلة، غِبّ ارتحال بعلها البريء، مقتولاً غدرًا، وموت نجلها في حادث تفجير سيّارة مفخخة، وبارَحَها شقيقها مهاجِرًا إلى فنلندا بلاد الثلج، وغابت عنها شقيقتها مختَطَفة أو مسبيّة. فارتدت لباس الحداد، وترك الدمع المتواصل على وجنتيها خطوط التجاعيد بعد ان كان وجهها أسيلاً صبيحًا قبل أن تغدو أرملة تنتابها الفواجع المتلاحقة، حتى أمسى الفقر لها رفيقًا، والتهميش ملازمًا، واللامبالاة بمن حولها، حيث سكناها في خَرِبة تنعق على بقاياها الغربان، وتؤمّها الأبوام.

 ***  مياه شربها باتت شديدة الملوحة، رديئة الطعم، ومياه شط العرب زادت ملوحته، وتضاعف تلوّثه من جرّاء رمي فضلات  منازل بيوت الجارة إيران والنفايات النووية السامّة المزاحة إلى نهر كارون الذي يصب في شط العرب عند منطقة عبدان/ألمحمرة حتى ترسّب في قعر شط العرب عشرون طنًا من مواد زِئبقية أماتت أسماكه وأسماك سواحل الكويت. هذا علاوة على طغيان المد البحري المالح على شط لعرب مرتين في اليوم من دون أيّ معالجة لتقليل هذه الملوحة، وعدم مطالبة إيران بالكف عن رمي الفضلات والنفايات الإشعائية والسامّة في نهر كارون. ولما استُهِلّت عملية الإصلاحات التخديرية وغير الجذرية ومعظمها لم يُنفّذ أصلاً، جاءت ـ مع ذلك ـ خالية من معالجة واحدة من هذه العيوب الشائنة والخطيرة في مياه البصرة، وكأنها لا شيء !

 ***  يشكو أهالي البصرة كثيرًا من سوء وشبه انعدام الخدمات العامّة، وانسداد المجاري في الشتاء، وانغمار شوارعها بمياه الأمطار التي تشكّل بِرَكًا عديدة فتتسرّب مياهها إلى المساكن، ومع كثرة هذه التشكيات من أعوام، لم تلقَ من المسؤولين إلاّ الأذن الصمّاء. فمرحى، مرحى أيها المسؤولون في البصرة!

 ***  أما نهر العشّار الذي زال رونقه وبهاؤه، فقد غدا مستودعًا آسِنًا للنفايات التي تقزّز النفس، وتزكم الأنوف، واختفت من المشهد " ساعة سورين" التي كانت مُطِلّة على الجسر الحديدي الصغير الذي يربط شارع النهر بِ " شارع المغايز" أو " سوق الهنود".

 ***  ألأزقّة والمقاهي تلوح للناظر مكتظّة بالعاطلين عن العمل، وعسير جدًا أن يحصل المواطن البصري على فرصة عمل من الشركات النفطية العاملة فيها، في حين تُمنح فُرًص عمل لعمّال أجانب مستورَدين أو لمواطنين من محافظات أخرى، ويُحرم خرِّيجو أهالي البصرة من كل ما يؤهّلهم لرفع مستواهم المعيشي الواطئ.

 ***  يعاني البصريون من أزمة حادّة في السكن، فأدّى ذلك إل تضاعف   عدد الصرائف عن ذي قبل بشكل ملحوظ، وباتت تُدعى الآن ـ تلطّفًا واقتباسًا من القاهرة المصرية ـ "ألعشوائيات " !

 ***  ألشوارع الرئيسة فقط تحظى بالتنظيف، أما الشوارع والأزقّة الداخلية، فملأى بالأزبال والنفايات والأنقاض.

 ***  كانت معامل ومصانع الحديد والصُلب والبتروكيماويات والورق وغيرها، موئل وملاذ  العمّال الفقراء البصريين، لكنها توقفت في أوج أعوام الفساد الكالحة، وأضحى أنفار عديدون من عمّالها لا يقبضون أجورهم إلا مرة  كل ستة أشهر، أو إعتبار بعضهم فائضين عن الحاجة، أو أن يُحيلوا أنفسهم على التقاعد.

     فما أظلمكم يا حُكّام وسؤولون وإداريون! يا رُعاة وحماة مصالح الشعب في المحافظة،  يا أعضاء البرلمان الرقيب الهُمام الذي لم نسمع  من أركانه وصفوفه في يومٍ ما كلمة واحدة تنافح عن مظالم ومثالب البصرة، أو تطالب بتحسين أوضاعها، وتخليصها من بؤسها ويأسها، بعد أن بُحّت حناجرها من المطالبات، ويئست من الإنصاف وتلبية حقوق ناسها المهضومة. ها إنّ أبناء البصرة يسمعون أنين وصراخ نخل أبي الخصيب وكردلان ومهيجران تستغيث، وقد مالت رؤوسها نحوَ الثرى، واحدودبت سيقانها، طالبة الرعاية والعناية والعلاج، قائلة بصوت عالٍ سمعَته أُذني : " أعيدوا إليّ مجدي وبهائي وزهوي كما كانوا في سابق عِزّي!"
      فلأجل كل هذا البؤس والخذلان والتقصير الجسيم، والإهمال المتجنّي، يرفع العراقيون عمومًا أصواتهم، وخصوصًا المتظاهرون المنادون بالإصلاح الجذري وبمحاسبة ومعاقبة المقصّرين والمذنبين طويلاً،صارخين : " من يُنقذ البصرة من مُخرّبيها ؟!"
 

29
ألعَولَمة وغزوها الفاتك المدمِّر
                                                 
يعقوب أفرام منصور

     كما أن القمار يُعدّ خطيئة ورذيلة إجتماعية في غالبية الثقافات والمعتقدات، نلاحظ أيضًا أن النظام العالمي الجديد ( من خلال حركة العولمة النشطة منذ تسعينيات القرن الماضي) وهو يقامر بمصائر وأموال الدول ـ عن طريق قيامه بدور (ألراهن) في هذا المضمار ـ يقترف خطيئة مماثلة هي خطيئة المقامرة بمصائر الأمم، وثروات الشعوب، لكن خطيئته أجسم وأخطر وأعم بألوف المرات من خطيئة المقامرين العاديين في أندية القمار!
      لفد انهتكت الحُجُب عن إفرازات ومرامي العَولمة، فبات من الواضح معرفة نتائجها على المديات الحاضرة والقريبة والبعيدة، ومعالم هذه النتائج بادية في انهيار العملات الوطنية، وتكديس الأموال في عدد من المصارف الضخمة لصالح قلة ضئيلة من أصحاب المليارات الحاصلة من تراكمات أموال الشركات الكبرى العاملة لامتصاص ثروات الشعوب، من خلال تهافتها الجنوني المتهالك على الإستهلاك السِلعي، كما هي بادية أيضًا من مناورات ومداورات ألبنك الدوَلي من خلال حقيبته " حقيبة الإنقاذ" ! ومن إفلاس كثير من الشركات الوطنية في العالم التي يسودها نظام السوق الحر. بل إن أساطين الإقتصاد الغربيين يعترفون بأن العولمة حيال تحديات عصيبة، بل مخاوف لا يمكن لأحد التنبؤ بها وبما ستؤول إليه، لأن حركة العولمة حركة مادية بحتة، مجرّدة من أي وازع أخلاقي، ومنظور ديني.وما رافق المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي عُقد في (سياتل) في غرب الولايات المتحدة في أواخر تشرين الثاني وأوائل كانون الأول عام 2000، وما تمخض عنه من أحداث صاخبة وغاضبة وردود أفعال شاجبة ومناهضة، كل ذلك يعطي خير مؤشّر بارز إلى هذه التحديات والمخاوف والسلبيات والكوارث الإقتصادية،  وبالتالي جميع ذلك ينعكس بشكل مأساوي على الجوانب الأخلاقية والقيم الإجتماعية، وهي الجوانب التي تشكّل ركنَا أساسيًا  من أركان الدين . وجدير في هذا المقام إلقاء  بعض الضوء الكاشف على نظرة الدين إلى العولمة والإيديولوجيات المادية المرتبطة بها.
     من ذلك ما أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني في سنة 1998 في أثناء زيارته إلى كوبا قائلاً : " إن انعدام المساواة في توزيع الثروات على نحوٍ مفرط بين الدول، وبين الأفراد ضمن الدولة الواحدة، يُعد مؤشّرًا غلى اختلال الإدارة وإلى الإفراط في الرأسمالية العالمية ". للمقارنة مع المقالة السالفة، نقرأ مقالة ( جون بوتنغ) ـ رئيس المدراء التنفيذيين السابق لمصرف (فيرست  بنسلفانيا ـ فيلادلفيا ): " نحن نقرر من الذي سيعيش ومن سيموت"!
      وفي مجلة ( ألفكر المسيحي) لشهرَي آذار ونيسان  العام الحالي، شخّص رئيس تحريرها جذرين من جذور العولمة هما:  ألعلمانية المؤدية إلى الإلحاد، والفردانية المؤدية إلى التفكك والعزل الإجتماعي.. وفي العدد المذكور من المجلة مقال مهم بقلم : الأستاذ فوزي نعيم جرجيس تحت عنوان (ألعولمة ومصير الأرض) ، فهو بمثابة نذير. أما مجلة (ألهلال) المصرية في عددها لأيلول 2004، فقد إحتوت 3 مقالات مسهبة بخصوص جذور العولمة ومراميها:  اللعب بالعقول بعد عام 2001، وشمولية ديمقراطية، والفضائيات العربية من خلال خطابها الإعلامي المتآمر على ثقافتنا وهويتنا وتراثنا عبر طغيان المضمون التلفازي المسطّح بدلاً من عمق الإهتمام بعوامل البناء والنهضة.
      وورد في القرآن الكريم كثير من النعي على الأغنياء والأقوياء والأباطرة لكثرة تفاخرهم، وتكاثرهم بالأموال  والأنصار والأحساب، كما جاء كثير من الإنذارات بأن هذا لن يجديهم نفعًا، وأنهم محشورون إلى ربهم، مجرّدون من جميعه، وليسس معهم إلا عملهم كسائر الناس. مثال ذلك : " ليس البِر أن تولّوا وجوهًكم قِبل المشرق والمغرب، ولكن البِر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ..."( سورة البقرة الآية 177). أنظر كذلك ألآيتين 16 و 17 من سورة (الأعلى) وسُوَرًا أخرى.
     إن العولمة غزو عام شامل، مباشر وشرس يستهدف مجتمعنا الشرق أوسطي خصوصًا، وجموع المؤمنين ومجتمعات العالم الثالث عمومًا، لتجريدهم جميعًا من ذاتيتهم في مجالات الثقافة الوطنية  والتراث الحضاري والإبداع الفكري والفنّي والفولكلوري، وفي مجال الغنى الروحي عن طريق البثّ التلفازي المباشر عبر الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنيت، لتحويل هذه المجتمعات إلى مستهلكين يستهلكون  كل مواد الغرب  الإستهلاكية، وإلى  موالين ومقلّدين ومتبنّين ثقافاتهم وأفكارهم وإيديولوجياتهم   المادية الصِرفة التي تغذّي الرغبات والنزوات البشرية والغريزية الواطئة فحسب،  قصيًا عن كل ما هو إيماني وروحي ورفيع.  فما أحوج هذه المجتمعات إلى أن تتعبّأ وتحتاط ثقافيًا ومعرفيًا، وأن تتحصّن نفسيًا ضد هذا الغزو الفاتك المدمِّر !
     

                           


30
تهافت الغرب على الشرق الأوسط
                                                             
يعقوب أفرام منصور
     ألتسمية الجغرافية والإعلامية الحالية ( الشرق الأوسط) تضم كيانات : تركيا، إيران، ألعراق، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، مصر، ألسودان، أقطار شبه الجزيرة العربية، قبرص،؛ وأحيانًا يضم إليها البعض كيانات الشرق الأدنى في الشمال الأقريقي : ليبيا، تونس، ألجزائر، المغرب، كما يضم إليها الهند  وباكستان وأفغانستان؛ مع العلم أن مصطلح "ألشرق الأدنى" كان هو الشائع لجميع هذه الكيانات تقريبًا حتى بعد أعوام قليلة من عام العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، بدليل وجود محطة عربية ذائعة الصيت في عام 1946 بإسم  (محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية) في يافا الفلسطينية، لكنها بعد أمدٍ قصير من منتصف 1948 إنتقلت إلى (ليماسول) في جزيرة قبرص.  لكن (تشرشل) في مذكراته لأعوام الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) إستعمل مصطلح (ألشرق الأوسط) مرات عديدة، ومع أوائل الستينيات والسبعينيات شاع استعمال وتداول مصطلح "ألشرق الأوسط" إعلاميًا وجغرافيًا، واقتصاديًا، وتجاريًا وعسكريًا، وغاب مصطلح " الشرق الأدنى".
      بقعة (ألشرق الأوسط) الشاسعة هذه تُعدّ الموطن الأصلي للعروبة والإسلام (إستنادَا إلى " الموسوعة الميّسرة" لعام 1987)، وهي ذات أهمية بالغة من حيث توسّطها بين القارات الثلاث : آسيا، أوربا، أفريقيا، ولهذا  كانت ذات أهمية عظمى منذ فجر التاريخ المدوًن حتى الآن، وهذه الأهمية ناشئة أولاً من التبادل التجاري، وثانيًا من كونها مهد الحضارات العديدة المدوّنة منذ الألف الخامس  ق.م. ـ كالحضارة السومرية وما قبلها ـ حين لم يكن للغرب كيانات سياسية ولا وجود حضاري مدوًن إلا في بداية ألألف الأول ق.م.، في حين نشأت عدة حضارات مدوّنة زاهيةخلال الألفين ق.م. في أصقاع المشرق: الآشورية، الكنعانية ، الفارسية، البابلية الكلدانية  واليمنية( سبأيةـ حِميَريةـ معينية)،، في حين أول ظهور حضاري مدوّن سيادي في الغرب( إنكاتراـ فرنسا  ـ ألمانبا)، كان في مطلع القرن الأول الميلادي. أما في أواسط أوربا، فقد نشأت حضارة "هالشتات" نسبةً إلى قرية بهذا الإسم في جنوب النمسا، شرقي سالزبورغ ـ عصر الحديد  الأول 750 ق.م). وكان تأسيس روما في إيطاليا في عام 853 ق.م.، واللومبارديون كانوا في إيطاليا في القرن السادس الميلادي. وصَولات شارلمان (معاصر الخليفة العباسي هرون الرشيد) ضدّ السكسون في القرن الثامن الميلادي، وغزوات النورمان في أواخر القرن 8 الميلادي في إنكلترا، ثم قي بداية القرن 9 الميلادي في فرنسا، ودخول العرب إلى إسبانيا في عام 711 م. والسكسون حلّوا في بريطانيا عام 408م بعد أن غادرها الرومان بوقت قصير. وفي عام 476م وبعده نشأت
الممالك البربرية في أوربا : الفرنج في فرنسا، والفيزيغوط في إسبانيا، والجرمان في منطقة الراين. وكانت نشأة باريس في القرن 5م، ونشأة لندن في أواخر القرن 9م، في حين قامت  ثلاث حضارات زاهرة في اليمن، أسلفتُ ذكرها، إبان القرنين 8 و7 ق.م.
        ولما كان التهافت الغربي على الشرق الأوسط يتمثّل بالحركة الإستعمارية في القرون الثلاثة الأخيرة من الألف الثاني الميلادي، واستمرار التهافت عليه حتى الآن وبتصاعد، ولو بشكلٍ آخَر، إرتأيتُ نقل هذا النص عن الإستعمار الغربي من (ألموسوعة الميّسرة ) ،ـ ص 143 : [..وفي الغرب ظهر الإستعمار بظهور الدوَل القومية الحديثة، كما ظهر في عصرالإرتياد والإستكشاف، ويُقصَر الآن معنى الإستعمار على هذا اللون من الإمبراطوريات، فبرزت سيادة أوربا بالإستحواذ على مستعمرات تقطنها شعوب استُذِلّت بالقوّة، واغتُصبت أراضي أهلها الوطنيين، وأقام الإسبان والبرتغاليون إمبراطوريات " تجارية". أما البريطانيون والفرنسيون، فشيّدوا إمبراطوريتي "إستيطان"، وكان الدافع الأكبر لهذه الحركة الإستعمارية إنتشار النهج التجاري في بدء النهضة الأوربية الحديثة لتوسيع نطاق التجارة، واحتكار حاصلات المستعمرات، واستغلال  مواردها الطبيعية. واتّجه إمتداد السلطان والنفوذ في روسيا نحو الشرق، أما في الولايات المتحدة، فسار قدمًا لإستعمار الجهات الغربية، ولم تقم إمبراطورية إلا بعد الحرب الإسبانية ـ الأمريكية( 1898). ولم تدخل ألمانيا وإيطاليا واليابان ميدان الإستعمار إلا في أخريات القرن 19.  ومبدأ حرية التجارة والديمقراطية يتعارضان في إسميهما مع الإستعمار، غير أنهما طُرحا جانبًا في النضال على امتلاك أسواق لبيع المنتجات الصناعية للدول الإستعمارية الكبرى !]
      قامت النهضة الأوربية خلال القرنين 15 و16 الميلاديين على رصيد غنيّ من علوم وفنون ومعارف وثقافات في مجالات الطب والهندسة والفلك والميكانيك والجغرافية والملاحة والفلسفة  التي كلها أنتقلت من بغداد وأثينا وفارس والهند إلى الأندلس الإسبانية حيث تُرجمت من العربية إلى اللاتينية أولاً ثم منها إلى اللغات القومية الأوربية، ومن الأندلس إنتقلت إلى صقلية وسردينيا ومالطة وإيطاليا وأواسط أوربا، وكانت بعض مؤلفات إبن سينا والرازي العلمية تُدَرّس  في بعض جامعات أوربا  في القرنين 17 و 18 ، وبعد قرنين من اختمار ونموّ النهضة الأوربية، التي أسلفتُ  كيفية قيامها، أرتقت الحضارة الأوربية في غرب وأواسط أوربا إبان القرنين 17 و 18 حين استُهِلّت الثورة الصناعية في عام 1770 باكتشاف القوة البخارية، واختراع القطار المسيّر بالطاقة البخارية على سكك الحديد، وأعقب ذلك حدوث تغييرات على أساليب الإنتاج، وأهمها إحلال الآلة محل الأيادي العاملة، وتقريب المسافات واختصار الوقت بالسكك الحديد والسفن البخارية، وبظهور المصانع الكبيرة والسرعة في نقل البضائع.  وكان لكل هذه العوامل ،آثار عميقة إقتصادية واجتماعية، فزاد الإنتاج زيادة كبيرة، تطلّب تصريفها بإيجاد الأسواق. فاتّسع التبادل التجاري داخل الأوطان الأوربية وخارجها، وارتبطت أقطارالعالم بعضها ببعض بوسائط النقل السريعة، وظهرت التكتلات العمّالية والفوارق الطبقية، وبذا نجم عن الثورة الصناعية إنتهاء النظام الإقطاعي الزراعي وبداية الرأسمالية الحديثة. فهل كان مشروع  حفر قناة السويس وإنجازه وافتتاحه في عام 1869إلا وسيلة فُضلى لمواصلة تنامي التجارة العالمية واختصار الوقت وتقليل كلفة نقل  البضائع والتنافس للهيمنة على الأسوق؟!
      من الملاحَظ  أن تولّد هذه النتائج الإيجابية في القرنين 18 و 19 قد تزامن مع أوان تخلف الإمبراطورية العثمانية عن اللحاق بمواكبة هذا الركب الصناعي الإنتاجي التجاري، إذ إنّ  أقطارًا عديدة من منطقة الشرق الأوسط في القرنين المذكورين كانت تحت السيادة العثمانية التي تميّز أغلب سلاطينها ـ بعد سليمان القانوني ـ  بالجمود  والتخلّف على الرغم من وجود قلّة من ولاّة ووزراء وخلفاء  ينزعون إلى الإصلاح ومجاراة الغرب في تبنّي الوسائل الحديثة الأوربية في الإدارة والإنتاج والمتاجرة، فاستغلّ الغربيون ذلك الضعف والتخلّف بغزو أسواق تلك الأقطار التابعة  للإمبراطورية العثمانية في منطقة الشرق الأوسط بسيول من البضائع.
      هذا الطراز من الإستعمار التقليدي بلغ ذروته في القرن 19 وأوائل  ال 20 ، إذ كانت أسواق الشرق الأوسط الكثيرة قبلة أكبر دولتين إستعماريتين أنئذٍ (إنكلترا وفرنسا) في مجال تزويد الأسواق بالمنتوجات الصناعية والزراعية والطبية الحديثة، مما جلب الثراء إلى خزائنهما وشعبيهما، وبالتالي إرتقى مستوى العيش في الدولتين ، ووصل بالكثيرين فيهما إلى درجة  المليونير فالملياردير !
      وفي ما يأتي أهم تواريخ إستعمار بعض أقطار الشرق الأوسط من قِبل الدولتين :
ألإنكليز يُنهون حكم المغول في الهند عام 1858
                ألإنكليز يعلنون الملكة فكتوريا إمبراطورة الهند عام 1877
                ألإنكليز يحتلّون مصر عام 1882
                ألفرنسيون يحتلّون الجزائر عام  1830

                 الفرنسيون  يعلنون تونس محميّة عام 1881
                أ لفرنسيون يحتلّون المغرب خلال 1901 ـ  1904
                 إسبانيا تُعيد الصحراء إلى المغرب  عام 1976         
                 ألمهاتما غاندي يبدأ عملية تحرير الهند عام 1919                     
     لكن الدولتين الإستعماريتين لم تكتفيا باغتنائهما عن سبيل المتاجرة بل دفعهما الطمع إلى الإستيلاء حربًا على بعض ممتلكات دولة " الرجل المريض" في رقعة الإمبراطورية  العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مع تشديد قبضتَيهما على ممتلكاتهما الكثيرة قبل الحرب، وإدامة هيمنتهما على بعض المستعمرات: أوستراليا، نيوزيلندة، تسمانيا، الهند الجوهرة)، سيلان،، الصومال، كندا، ( البريطانية)، وعلى بعض المستعمرات الفرنسية في افريقيا وسيام والهند الصينية وبعض جزائر بحر الكاريبي وغيرها !
       قوبل إستيلاء الدولتين بالحرب ،  ثم السيطرة على أملاك الإمبراطورية العثمانية،  باستياء وخيبة أمل أغلب شعوب المنطقة، وخصوصًا في كيانات الشرق الأوسط العربي ـ الإسلامي بفضل تنامي الشعور القومي  والتحرري فيها ، برغم الوعود التي بثّها الغربيون إعلاميًا، أو التي وُثّقت بمراسلات (حسين ـ مكماهون 1915 ـ 1916) قبل مدة قصيرة من معاهدة عرفت بأسماء بعض دُهاة الإستعمار الغربي سيئ الصيت ـ  سايكس ـ بيكو1916 . ( أنظر كتاب (يقظة العرب) لجورج أنطونيوس، لكنهم نكثوا العهود والمواثيق، مع العلم أن الجيش العربي بقيادة الأميرين فيصل وعبد الله إبنَي الحسين في الحجاز قد أسهما في مقاتلة الجيش العثماني لصالح الدولتين الحليفتين، إذ عمدت الحليفتان   إلى احتللا ل العراق وسوريا الكبرى، وبسط النفوذ البريطاني على كل أطراف شبه الجزيرة العربية برًا وبحرًاـ حصة الأسد! لقد تزامن  ذلك المد العالي الإستعماري مع وجود النفط الغزير في العراق الحالي وفي عربستان (الأحوازـ المحمرة ـ عبدان) التي كانت عراقية ثم سُلخت منه لتُعطى إلى إيران،، كما وُجد النفط بفزارة في بر وبحر كيانات الخليج العربي ورقعة المملكة العربية السعودية الشاسعة.
       إبان ثلاثة أو أربعة عقود الخمسينيات قبل استخراج نفوط ليبيا والجزائر، وقبل قيام منظمة (أوبك)العالمية لتصدير النفط (1960)، بيعت نفوط العراق وإيران والخليج والسعودية بأسعار واطئة، ووارداتها كانت مُجدية للطرفين طبعًا ـ ألمُصدّر الشرق الأوسطي والمستورِد الغربي، مع العلم أن صادرات نفوط الشرق الأوسط من خلال (أوبك) في أواخر الستينيات بلغت زهاء 50% من مجموع الصادرات العالمية، ، أما بعد الألفين فنسبة الشرق الاوسط اخذت تتصاعد، لكن المشتري الغربي عمومًا كان أكثر أنتفاعًا من البائع الشرق أوسطي، لأن الكميات الغزبرة من النفط كانت أرخص مصدر طاقة للإنارة واستخدام وسائط النقل وتشغيل المصانع الإنتاجية الكبرى المصممة للتصدير التجاري الوسيع إلى كل أطراف العالم، فظهرت في الغرب ( بريطانيا، فرنسا، أمريكا) طبقة من الأثرياء المليونيريين أولاً، في حين كانت أقطار الشرق الأوسط المصدّرة آنئذٍ في حاجة ماسّة إلى الواردات من مبيعات النفوط لإنفاق معظم الواردات على مشاريع البناء والتنمية والتطوير بسبب تخلّفها في أثناء القرون ألأربعة الأخيرة من الحكم العثماني حتى أوائل القرن  19.
      بفضل وجود منظمة (أوبك) وارتفاع مستوى أسعار المبيعات النفطية وتضاعف القدرة على رفع كميات تصدير النفط إلى الغرب، وتضاعف الإنتاج الصناعي الخفيف والثقيل خلال العقد الأول من القرن 21، فقد تضاعف أيضًا إرتقاء مستوى العيش والرفاه والرغد في الغرب كثيرًا، وفي الشرق الأوسط قليلاً‘ فبينما صار المليونيريون في الغرب  مليارديريين كثيرين، برز في أقطار الشرق الأوسط مليونيريون قليلون، لكن  مع فقراء كثيرين ومعدَمين وجائعين.
      في أواسط الستينيات كان 85% من كميات نفط الشرق الأوسط تُستخرج من آبار الكويت والعربية السعودية والعراق وإيران، وبعد اكتشاف النفط في ليبيا والجزائر سترتفع النسبة إلى 90 أو 95% من منطفة الشرق الأوسط. ومع الزيادة المتوقعة من القطرين المذكورين وتعاقب الأعوام نحو العقد الثاني الحالي فصاعدًا، وبسبب التنامي السكّاني، وازدياد وسائط النقل والمصانع الإنتاجية الضخمة، سترتفع نسبة النفوط المصدّرة من منطقة الشرق الأوسط قاطبة إلى الغرب بمقدار يفوق الكميات المستخرجة من مناطق أخرى بملايين الأطنان سنويًا، بدليل أن الكمية المصدّرة من الشرق الأوسط في عام 1965 بلغت 265 مليون طن، وفي عام 1975 بلغت 800 مليون طن.
     ولما كانت الأنظمة الحاكمة الكبرى في الغرب تنظر إلى الثروة النفطية في الشرق الأوسط نظرة شَرِهة مقرونة بنزعة إستحواذية على مقدرات وسياسات أقطار الشرق الأوسط  مع نزعة الإبقاء عليها في مستوى دون مستوى الغرب من التقدّم في جميع نواحي الحياة العصرية  (وأحد الأدلّة على ذلك إغتيال الغرب عددًا من علماء الذرّة في الشرق الأوسط، والحيلولة دون التزوّد بالطاقة النووية للأغراض المدنية)، دأبت القوى الغربية الكبرى الرأسمالية في الغرب الأوربي والأمريكي على خلق العديد من مسببات الإرباك والقلاقل والإنقلابات العسكرية والثورات الداخلية في أنظمة حكم الشرق الأوسط بشكل أو بأشكال تضمن لها إمكانية إستمرار التزوّد بنفوط تلك الأقطار بيُسر وبأسعار ملائمة لها ولإحتكاراتها وارتقائها التقني؛ فهي  كثيرًا ما خلقت أسبابًا لحروب في المنطقة وغزوات تحالفية في عقود الثمانينيات والتسعينيات، وفي أوائل  العقد الأول  من القرن الحالي، وذلك بحجج واهية وأسباب مزيّفة وبواعث شرّيرة لصالح تلبية أطماع توسّعية  عنصرية.  وهل تنسى شعوب الشرق الأوسط، وأوساط الرأي العام  العالمي المستقل النزيه عدم استقرار أحوال المنطقة ، بل أرجاء العالم كافّة بسبب  انعدام  الجدّية لدى الغرب عمومًا، وخصوصًا لدى أمريكا، في حلّ المعضلة الكبرى المسببة لإضطراب أحوال العالم منذ عام 1967، وهي المشكلة المتعَمّد  خلقها وبقاؤها بين فلسطين العربية وإسرائيل العنصربة برغم انصرام 51 عامًا عليها ؟!
       علاوةً على كل ذلك، كانت وما برحت ثالثة الأثافي تعمل منذ ربع قرن  بنشاط جسيم، وذلك بعامل ولادة الخطة الخبيثة المؤذية للبشرية والمدنيّة، المتمثّلة بتنظيرات المدعو( برنارد لويس)، المرسومة لتفعيلها من قِبل القوى الغربية الكبرى الإستحواذية ، من خلال بثّ عوامل الإحتراب بين الطوائف المذهبية الإسلامية والعناصر العرقية، واستخدام الفصائل المتطرّفة الإرهابية، وكل ذلك بقصد تفتيت كيانات الشرق الأوسط الحالية لتغدو زهاء 80 كيانًا هزيلاً بدلاً من الأربعين حاليًا، وذلك بقصد عدم قيام إتحاد شرق أوسطي إقتصادي أولاً ثم سياسي على غرار الإتحاد الأوربي الحالي، وتسهيلاً لبلوغ مآرب توسعية عنصرية مرسومة ومعلومة لدى المطّلعين.  فكان ما كان وما زال من بروز طنين ورنين ممسوخ وهو مصطلح  أطلقه الإعلام الغربي الأمريكي والأوربي، المشهور بِ "ألربيع العربي" الذي مهّدت له كارثة 11 أيلول 2001 المصطنعة ذاتيًا، ثم غزو إفغانستان فالعراق، ثم تجسّم  في أحداث ثورات وانقلابات مشوبة بالإرهاب والعنف والتطرّف في تونس وليبيا ومصر والصومال والسودان وسوريا  والعراق واليمن وإيران حتى الآن، والحبل على الجرّار المؤدّي إلى شفير الهاوية المهلكة التي تُنهي أطماع الطامعين الذين لا يشبعون، ما داموا على سطح هذا الكوكب الذي أفعموه بأفعال جمّة تُغيض البارئ، وتُفرِح الشيطان القبيح إسمه وشكله وفعله !
      لفد اغتنى الغربيون غَناءً مفرطًا إلى  حد التُخمة والبطَر والعربدة والإلحاد والإستهتار بكل القِيَم والمبادئ التي نافحت عنها البشرية في تاريخها الحضاري الطزيل، دَعكَ من تعاليم الرسالات السماوية، وكان غناهم مطبوعًا بتهافتهم على ثروات نفوط ومعادن الشرق الأوسط طيلة ثلاثة قرون ونيّف،، ونتيجةً لتوفّرهذا النفط لديهم أنتجت مصانعهم ألوف الأنواع من المنتجات وملايين الأطنان من البضائع التي أغرقوا بها أسواق الشرق الأوسط وأبعد منها كثيرًا؛ فأضحى غناهم الهائل مُهَيِئًا لإنشاء شركات ومؤسسات إنتاج صنوف الأسلحة الحربية، وأمسى تصديرها إلى أقطار الشرق الأوسط وغيرها مصدرًا آخر من مصادر الإغتناء " بفضل" إثارتهم العنعنات والتناحرات الطائفية والأثنية في هذه المنطقة الحيوية. كل هذا فعله الغرب ويفعله ويستمر على فعله من غير وازع من ضمير حي ولا مبادئ مسؤولة، في حين نجحت حكومات الغرب ـ على مرأى ومسمع من شعوبها ـ في مساعيها غير الإنسانية لإبقاء أقطار الشرق الأوسط مُتخَلّفة كثيرًا عن مستوى ركب تمدّن الغربيين، لأنهم كانوا وما برحوا منساقين  لتلبية نداءات انانيتهم المفرطة، وخلوّهم من المسؤولية الأخلاقية التي جوهرها وعمادها العدالة.
 
     

 


31
                       
تحيّة بَصريّ  صميم لمتظاهري المثنّى والبصرة

                                                   
يعقوب أفرام منصور
     ما  أروع وأبدع أن تتزامن إحتجاجاتكم وتظاهراتكم المطلبيّة، يا أهل المثنّى في الديوانية، ويا أهل الفيحاء في البصرة في تموز المجيد، شهر الثورات العالمية الكبرى، وخصوصًا ثورة 14 تموز العراق 1958 ـ أي قبل 60 عامًا ! وتحيتي هذه إليكم في المحافظتين لا تعني عدم شمولها محافظات ذي قار وميسان والنجف وكربلاء وبابل، بل هي حتمًا ضمن هذه الموجة العارمة والغاضبة غضبًا ثوريَا مقدّسًا، مع توخّي الإختصار في مفردات العنوان، إذ إنّ همومكم وشجونكم ومظلوميتكم، كما غاياتكم ومطالبكم الشعبية والوطنية مماثلة تمامًا لتلك التي أفصحت عنها شعارات ولافتات وهتافات المحافظتين.
     كان تحديد مطالبكم في مجال توفير الخدمات الحيوية الضرورية من ماء نقي وكهرباء متواصل ونظافة بيئة وعناية صحية وتعبيد وترميم طرق ونشر الأمن وتهيئة فرص عمل للأيدي العاملة والخرّيجين، أمر مطلوب منكم،  وكان مطلبكم محاكمة الفاسدين أمرَا  حيويًا لازمًا لتغيير أحوال البلد نحو الأحسن، ولضمان إرتقاء مستوى العيش المنشود بعد انحداره إلى الدرك الأسفل منذ 15 عامًا، لكن الحكومة الحالية لم تستجب لتلبية المطاليب العديدة سابقًا، وتركت الفاسدين يسرحون ويمرحون، بل يتربّصون ويخططون للعودة إلى تبوّء المناصب وإشغال الكراسي
     منذ عام 2015 طالبت جماهير الشعب ووسائل الإعلام في أغلب المحافظات الوسطى والجنوبية في مظاهراتها الغاضبة بتوفير لوازم العيش الكريم وفرص العمل ومحاكمة الفاسدين  المحميين بأحزاب شتّى مسلّحة، فلم تلقَ الجماهير المطالبة والمُحِقّة في نقمتها على تمادي المساوئ الكثيرة، غير العزوف عن التلبية وعن الإهتمام بتحسين الأوضاع، بل تطارشت آذان المسؤولين الكبار والصغار حتى وصلت الأحوال إلى أسفل درك من الإنحطاط والتخلّف، وإلى أدنى مستوى من الفقر في العالم، في حين يُعد العراق أغنى وطن نفطي ! وهكذا تضاءلت الثقة المتبادلة بين الحكومة وبين االشعب عمومًا ، وبينها وبين المحرومين والمضنكين والمهمَلين خصوصًا، حتى غدت الآن معدومة.
      ومع ان السيد رئيس الوزراء، منذ أربعة أعوام، لم يفعل شيئًا واحدًا لتلبية أيّ مطلب من المطالب الحقانية المكررة بصوت عالٍ مُجلجِل ومُزلزِل في أثناء ولايته،  نراه الآن في ما صدر عنه من كلام عِبر وسائل الإعلام المُتًلفز في 14 و15 تموز، قد تحاشى الإقرار بوجود  أسباب غضب ونقمة أوساط غالبية الشعب من خلال احتجاجات ومظاهرات شباب وكهول وشيوخ صرخوا ونادوا وطالبوا بأصواتهم وشعاراتهم ولافتاتهم، وسمعناه يلوم المحتجين والمتظاهرين في تجاوزهم على حرمات ومقرّات أحزاب سياسية، في حين هو يعلم جيدًا أن هذه الأحزاب والحرمات هي المولّد والمغذّي الأساس للمفاسد والعجز والفشل الذريع في الأداء الإداري الجيّد النزيه. وإذا كانت هناك شكوك في وجود بعض مندسّين ومخرّبين بين صفوف المتظاهرين والمحتجّين، ألا يجدر بقوات الأمن إلتقاطهم وإقصائهم عن تلك الصفوف؟!
      إن إدارات المحافظات ومجالسها الغارقة في الفساد والإفساد، وحرمات الأحزاب الأنانية جدًا تروم ضمان إستمرار سوء الأوضاع في الوطن والشعب ـ من تخلّف ومساوئ وخيانة الأمانات ـ وبذا يعملون لإطالة بقائهم الضار المؤذي، في حين أحجم السيد رئيس الحكومة عن لوم الذين قاوموا المحتجّين والمتظاهرين بخراطيم المياه وقنابل الغازات المسيّلة للدموع، بل وجّهوا الرصاص القاتل والجارح لمجرّد عزم الجماهير، الغاضبة المستاءة طويلاً من سوء الأوضاع، عل اقتحام مقرات رؤساء المحافظات ومجالسها المقصّرة والفاسدة. فهل منع السلطات الأمنية الجمهور الغاضب من الإقتحام يكون  برشقات من الرصاص، أم يجب ان يكون بالحسنى والإقناع الموصَى بهما في التعامل مع تلك الحالات الحرجة ؟ّ! وماذا يُقال عن السكوت إزاء صدور الرمي بالرصاص الحي عن أفراد أحد الأحزاب المسلّحة وليس عن الشرطة؟ وماذا يقال عن فئة وصفت المتظاهرين والمحتجّين بكونهم (رعاع) وعن فئة أخرى بكونهم خائنين ؟!
     إن الفاسدين ـ الذين بلغ بهم السوء درجة الخيانة ـ قد أساؤوا طيلة 15 عامًا؛ فهل تتناسب إساءات طويلة الأمد مع إساءة محاولة اقتحام أو حدّة كلام أو عنف بسيط في التعاطي  عند صدور ذلك عن اامتظاهرين وهم في حالة غضب  وشعور بالغبن والظلم؟!
     وفّقكم الله في مسعاكم النبيل لنيل مطالبكم المشروعة لخير الشعب والوطن، وقديمًا قيل في أمثالكم ( ما ضاع حقٌ وراءه مُطالِب).

32
إلامَ الخلفُ بينكم والغفوة؟!
                                                   
يعقوب أفرام منصور
أربيل
    كثيرة جدًا هي المقالات التي تنشرها جرائدنا المحلية في أعمدتها الداخلية، الحافلة بالحس الوطني والضمير الشعبي، وتعكس للرأي العام ولطبقات المجتمع، وخصوصًا للمسؤولين والساسة : هموم الشعب ومآسيه وكوارثه وتطلعاته نحو حياة لائقة بعيش حضاري نظيف معتدل في القرن الحادي والعشرين، يوازي ـ في االأقل ـ  مستوى العيش في أقطار أوربا الوسطى وإسكندنافيا.
     كل هؤلاء الذين يُسهمون في نشر هذه المقالات هم من نُخب حُذّاق المحللين السياسيين والإستراتيجيين  والإجتماعيين والنفسيين، ومن نخب المثقفين والأدباء والمؤرخين والقانونيين، والمتميّزين بامتلاكهم تجارب  وحكمة ومعرفة بحقائق ووقائع وأسباب الثورات، وعوامل نجاح الحكومات وسقوط الأنظمة، وبامتلاكهم بعد نظر في الأمور الخاصة والعامّة. هذا الكم الهائل من الكتابات يحفل بالتوجيه السليم الصائب للحاكمين والرؤساء والإداريين والحزبيين والكتل ( المفرطة في أنانيتها، المتنافرة فيما بينها)، وتوصي بالإطّلاع اللازم على خفايا الأمور المخيفة، الرهيبة، المهلكة والمخطط لها بإيذاء الكيان العراقي والكيانات العربية عمومًا، وتحذّر من عواقب الإهمال، ومن عدم حسم المعضلات، وعدم التناوم والتغافل وترك الحبال على الغارب، بل تطالب أيضًا باستحداث سلطة قضائية نزيهة خالية من الفساد، وبانتهاج الحزم والصرامة في التعامل مع المفسدين والفاسدين والمرجفين والمقصّرين الكثيرين الطلقاء حتى الآن الذين أوصلوا الوطن وشعبه إلى هذا الدرك السحيق من سوء الأوضاع المعيشية، وتردّي الأخلاق العامة إلى حد شيوع الإجرام والإنفلات في المسلك والتصرفات الهوجاء الوحشية فرديًا وجماعيًا، المؤدّية إلى تضاعف الفوضى التخريبية التي أساءت إلى سمعة العراق في العالم المتمدن حتى بلغت أوطأ المراتب في مجال الإدارة والأخلاق والسلوك.
      ما أحوج الساسة والسياسيين، ورجال الدين بكل عقائدهم الإيمانية خصوصًأ، وما أحوج المثقفين والكتاب والإعلاميين والمفكرين عمومًا، إلى الإطّلاع على البروتوكولات الصهيونية، وأسرار ألستراتيجيات الغربية بشأن العراق والشرق الأوسط، كي يقفوا على حقيقة المنظمات التي تحكم العالم من أكثر من قرن ونصف. إني أرجّح أن غالبية الذين أسلفتُ ذكرهم لم يسمعوا بهذه المطبوعات أصلاً، وإذا كانت ثمة قلة قد قرأت ووعت وقدّرت الأمور والأحوال، ولم يفعلوا شيئًا مع المسؤولين والرؤساء والحاكمين من تنبيه وتوعية وحيطة وإجراء، فهي لا ريب تُعدّ مقصّرة.
   
       بيدَ أنه ـ مع كل هذه الأصوات والنداءات والمطالبات المشروعة، والتحذيرات الصائبة المعلنة جهارًا على الملأ والرؤساء والإداريين في دست الحكم والتشريع والمناصب الفارهة منذ عام ونصف ـ يَشعر أرباب الفكر والقلم والرأي والنصح والإرشاد والتحذير والتنبيه بكونهم في حالٍ أشبه بالغفلة أو التغافل، لا تعي، ولا  تُبصر، ولا تُدرك، لأن ستائر صفيقة من الظلام والجهل والأميّة في ميادين المعرفة والإدارة قد حَجَبت عن أسماعهم وأبصارهم وأذهانهم  حقائق الأشياء والأمور والخبائث وسوء المصير، ولأن فقر أو فقدان الإخلاص للواجب وللقَسَم الذي أدّوه لا يلتزمون به، بل تناسوه وجحدوه، وكأنهم غدوا أقرب ما يكونون إلى بيت الشاعر القائل :
           تبًّا لمن يُمسي ويُصبح لاهيًا       ومرامُه  المأكولُ  والمشروبُ                               وكما قال إبن جبير الرحّال:
         عجبتُ للمرءِ في دنياه تُطمِعُه       في العيشِ، والأجلُ المحتومُ يقطعُه                             يُمسي ويُصبح في عشواءَ يخبطُها        أعمى البصيزةِ، والآمالُ تخدعُه                               ويجمع المالَ حِرصًا لا  يفارقُه            وقد درى أنه للغيرِ  يجمعُه                                     تراهُ يُشفقُ من تضييعِ  دِرهمه           وليس يُشفقُ من دينٍ  يُضيعُه !
     قضلاً عن كل هذه التوجيهات والتنبيهات والتحذيرات الصُحفية، ثمة رافد آخر للتوعية والإسماع والكشف والإيضاح، مصدره القنوات التلفازية التي تُسفر عن هموم الشعب المنكود، وسوء أحوال عيش نصفه في مستوى بدائي وضيع! ورافد آخر يحمل ما تفرزه مظاهرات الشعب الحاشدة من صيحات جهورية تبوح بالتظلّم والإمتهان والبؤس، ولكن مُنذرة وزاجرة وناشدة بالركون إلى الصواب والتهج القويم، والعدالة الإجتماعية، والمطالبة بالعلاج الناجع الذي آخره الكَي، غير أن الرؤساء والربابنة والإداريين ومن والَوهُم قديمًا وحاليًا كأنهم بلا حواس تدرك ما هم فيه من تخلّف في ميدان الخدمة الإدارية القديرة الصالحة، لأنها إدارة  خائفة ممن هم حولها من متربّصبن ومتحفّزين للإنقضاض والعرقلة. فإدارة هذه صفاتها وهذه هِمّتها الواهية لا يُرتجى منها صلاح ولا إصلاح، ولا مداواة لعِلل، ولا شفاء لأمراضٍ وجراح!
     غالبية الشعب العراقي لا تعرف المخططات السرّية الغربية لِما يُراد لأقطار الشرق الأوسط من سوء المصير والتمزيق والتقطيع لبلادهم، والعراق أولاً، منذ 1991، وبشكل أوضح في 2001 ثم 2003 ، وإذا عذرنا الغالبية العراقية وحتى الغالبية العربية في جهل حقيقة هذه المخططات الكارثية، فجهلها أو تجاهلها من قبل الساسة والحكام والرؤساء والفادة، كما من قبل كثير من المثقفين والقارئين والمؤلفين والإعلاميين في الوطن والبلاد العربية، الذين لا يقرأون الكتب التي ينبغي قراءتها ولا يسمعون الأقوال التي تستوجب سماعها، لمما يُلامون عليه. إذ هم الرعاة والربابنة والحُرّاس، يحتّم الواجب عليهم أن يزوّدوا أذهانهم بالمعرفة والإطّلاع الوافي على كل ما يُحاك للأوطان من وبيل المهالك والإفناء، وأن يقراوا الكتب الحديثة والمجلات  التي تدلّهم على حقائق تلك المعلومات الخطيرة، ويضعوا تفاصيلها ومفرداتها نُصبَ أعينهم ويحتاطوا لدرئها، ويستعدّوا لصدّها وإفشالها بحنكة ودهاء وعزم لا يلين، وبذ ا لا يكون مصير وسائل المعرفة والإطّلاع والتحذير كمصير صيحاتٍ في الأودية، أو حرثٍ في البحر.! وبخلاف ذلك يصم التاريخ قصورَهم  بوصمات لا ترحم.
      في أوائل نيسان 2016 أُرسلتُ هذا المقال إلى الجريدة  العراقية التي فضّلتها على كل الجرائد البغدادية اليومية  منذ عام 2004، لكنها لم تنشره، وأعرضت عن نشر موادّي بعد نيسان  2016، مع العلم أنني كرّستُ جُلّ نتاجي الصحفي لهذه الجريدة منذئذٍ. واللبيب المتمعّن في قراءة المقال يدرك سبب الحجب الذي يؤكّد القصور المذكور في المقال، وخصوصًا الصادر عن إحدى وسائل الإعلام المقروء. 19 ـ 6  ـ 2018.



 

33
ألأخوّة بين المؤمنين  ونماذج لها
                                           
يعقوب أفرام منصور
     ألمؤمنون بالله إخوة في الإيمان بالله الواحد، والآية الكريمة 285 من (سورة البقرة) تنصّ :" آمن الرسول بما أُنزِل إليه من ربّه، والمؤمنون؛ كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله، لا نُفرّقُ بين أحدٍ من رُسلهِ". وفي حديث، يرجّح البعض كونه حديثًا شريفًا، يقول :" الأنبياء إخوة، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد".
    ألشاعر السوري المهجري، زكي قنصل، قد جسّد هذه الأخوّة بين الأنبياء، وبالتالي بين أتباعهم، لأن دينهم في الجوهر الأساس واحد، ألا وهو السجود والتعظيم والطاعة لله الواحد، ربِّ السماوات والأرض ومهندس الكون الأعظم؛ منه البدء، وإليه الإنتهاء. وقد ورد هذا التجسيد في قصيدته (عِرس الضياء) لمناسبة " عيد الفطر المبارك" :
               عِرسَ الضياءِ وغُرّةَ الأعيادِ        إنَ القلوبَ إلى نِداكَ  صوادِ                          هشّت لمقدمِكَ السعيدِ حَواضِرُ        وتهللتْ - لمّا  هللتَ -  بَوادِ                          إني   لتربطني  بركبِكَ نزعةٌ         عربيةٌ  ملكت  عليّ  قِيادي                         رمضانُ هَبني من أريجِكَ نفحةً         ندياءَ تُحيي بالرجاءِ  قؤادي                          يا من  يعيبُ  عليّ أني  شاعزُ      متعصّبٌ  لعشيرتي وبلادي                           ما حيلتي في  خافقٍ بأضالعي         لا يَرعوي لِنَصيحةٍ ورشادِ                          حبُّ العروبةِ  فيه  داءٌ مُزمنٌ           تمتدُّ   عَدواهُ  إلى   العوّاد                           عبثًا تحاولُ  أن تهزّ عقيدتي          مَنذا يهزّ رَواسخَ  الأطوادِ؟! 
     فمع كونه مسيحيّ العقيدة، نراه يحمل الطابع العربي الذي فرضته عليه بيئة مدينة (يبرود) السورية العربية، حيث قضاء (النبك) وسفح (القلمون)، بشكل خاص، والبيئة المجتمعية  الوطنية بشكل عام، ذات اللسان العربي والثقافة العربية منذ أكثر من 1500 سنة، وهذي سمة غالبية مسيحيي سكّان سوريا الكبرى ( بلاد الشام = فلسطين ، لبنان، سوريا الحالية "المنكوبة الآن"، ألأردن) عمومًا، وجلّ مئات شعرائها وأدبائها ومفكّريها المعاصرين وعلمائها( منهم رشيد سليم الخوري، جورج صيدح، ألياس فرحات، شفيق معلوف، رشيد أيوب، جبران ،إيليا أبو ماضي ، ميخائيل نعيمة، البستانيون، اليازجيان)؛ حتى نجد زكي قنصل يطلب من شهر رمضان المتسم بمسحة إيمانية ـ روحية لدى العرب المسلمين خصوصًا، سائلاً  إياه أن يلبّي له رجاءً لم يُسَمِّهِ،   لكنّه مفهوم ـ بدليل الأبيات الأربعة لاحقًا ـ بكونه " رجاء "  التآخي والتحبب والتوحّد في السرّاء والضرّاء بين أتباع الديانات الكتابية السماوية المشتركة بإيمان خليل الله إبراهيم، حتى إنه في بيت لاحق يُفصح بأنه لا يعبأ بمن يعيب عليه التعصّب لعشيرته العرب ولبلاده العربية، لأن فؤاده مفطور على هذه المشاعر الأخويّة، فلا جدوى من نُصحٍ وإرشااد يوجّهان إليه بالتخلّي عن هذه الأحاسيس الأخويّة، لأنها راسخة كالجبال، فيقول في ذلك:
                   عبثًا تحاولُ أن تهزّ عقيدتي       مَنذا يهزّ رواسِخَ الأطوادِ ؟! 
     وتتجلّى هذه الأخوّة بين المؤمنين أيضًا في قصيدة (كنانة الله)، حيّا بهاً وقفةَ مصر الخالدة ضدّ العدوان الثلاثي في عام 1956، خاطب فيها الغربيين الذين وعدوا الشعوب َ بالسلام تضليلاً وكذِبًا:
          تلك الوعود التي انقادت لها انفضحت      فبانَ تحت إهابِ الشاةِ سرحانُ                 أبحتُمُ    القدسَ     للشُذّاذِ  فاقتسمتْ       عارَ الهزبمةِ  أصلالٌ  وذؤبانُ                  لو يستطيعُ  لثارَ "المهدُ" من غضبٍ       وانصبّ منه على الفُجّارِ طوفانُ                أتباعُ  طهَ  حموا  بالروحِ    حُرمتَه       وعزّ في  دولةِ  الإسلامِ  رُهبانُ            فكيفَ يحمي نصارى الغربِ من عبثوا       فيهِ   ويجري مع التيّارِ (جيرانُ)؟
      ويشرح الشاعر في الهامش أن المقصود بكلمة (جيران)، هم الأتراك - جيران العرب - وكانوا من أوائل المعترفين ب "إسرائيل" قي عام 1948!!
       في هذا الصدد تتوارد على الذكر أسماء نماذج أخرى جديرة بالذكر من شخصيات العراق البارزة، منهم: يعقوب نعوم سركيس، الولود في بغداد  سنة 1876 من أسرة حلبية الأصل، أرمنية النحلة، ، وأنفق من عمره زهاء أربعين  عامًا متنقلاً بين أنحاء الشطرة والحي وفلعة سكر والناصرية في لواء المنتفك، ليعيش شهرًا  في الخيام والدور القروية، متعهّدًا أملاكه وزراعته. ولم يتخلَّ عن ذلك إلا في سن الكهولة، وكثيرًا ما تفاخر بأنه نصف بدوي أو فلاّح. عمل ونشر في الصحف  والمجلات العراقية، وجمع كل الوثائق والمؤلفات الصادرة بلغات مختلفة عن تاريخ العراق و\اهمها مجموعة ضخمة من كتب الرحلات، كما آل إليه 61 دفترًاحوت مذكرات يوسف زفوبودا البغدادي الذي كان كاتبًا في شركة (لنج) للملاحة النهرية ( البصرة ـ بغداد) خلال 46 عامًا، وتوفي في 1908. ومن أهم مؤلفاته ( مباحث عراقية في التاريخ والجغرافية والآثار وخطط بغداد) بثلاثة مجلدات. وصف رقائيل بطّي ـ صاحب جريدة البلاد ـ  أسلوبه بأنه أسلوب العلماء لإمتيازه بالمواد الدسمة والمراجع القصيّة. أمّا الأديب اليهودي مير بصري، فقال عنه ( إن أبحاث يعقوب سركيس ودراساته سوف تبقى مصدرًا من مصادر تاريخ العراق في العهد العثماني الأخير، يرجع إليها مؤرخ المستقبل في تحقيق موضوعه وتدوينه). كان موضع إعجاب عديدين من أجانب، منهم ماسينيون الفرنسي، ومن العراقيين مصطفى جواد، كوركيس عواد، مير بصري، وكتب عنه الأب الموسوعي أنستاس الكرملي في مجلة (لغة العرب)، كما كتب أسعد داغر في مصادر الدراسة الأدبية.
      ومن الجدير بالذكر هنا الأب الجهبذ أنستاس الكرملي، المخلّد بمجلته (لغة العرب) وموسوعته (ألمساعد) وبمقولته الشهيرة :",ولدتُ عربيًا وعشتُ عربيًا وأموتُ عربيًا." والرسائل المتبادلة بينه وبين أعلام الفكر والأدب واللغة: أحمد تيمور ومحمود شكري الآلوسي؛ فهذه الآثار وغيرها كثير  لهي دلائل تنطبق على مغزى عنوان المقال. كما لا أنسى ذكر العوّادَين كوركيس وميخائيل والصحافي والأديب والوزير رفائيل بطّي.
     وقمينٌ بالذكر أيضًا ـ مع توخّي الإيجاز ـ  إيراد أسماء ثلاثة شخوص بارزين من النحلة اليهودية الأصلاء: أولهم ساسون حسقيل وزيرالمالية في عهد الملك فيصل الأول، ثم الأديبان مير بصري وشاؤول. إضافة إلى ذلك، ثمة أفراد عديدون من ذكور وأناث إحترفوا الفنون الموسيقية عزفًا وإنشادُا، وتركوا خلفهم للوطن تراثًا أصيلاً وقيّمًا، ما برح قائمًا في ذاكرة ووجدان الكثيرين من المواطنين على اختلاف نِحَلِهم  وأذواقهم
       الشعور والإعتقاد بوجود هذه الأخوّة بين المؤمنين بإيمان أبي المؤمنين  إبراهيم، بشكل  سائد وعميم، والعمل الدائم بذلك الإيمان، يولّدان الضمان لمستقبل أفضل وأمثل لمكونات شعب الشرق الأوسط المتنوّع المتنافر حاليًا ومنذ عقدين،  وخلافًا لذلك تخترق القوى الكبرى والصغرى كيانات هذه المنطقة، وهذه القوى الكبرى خصوصًا هي التي نجحت في تسخير الإرهابيين المتطرّفين لنشر الدمار والخراب والسفك والهمجية في الكيانات المذكورة، كي تحقق هذه القوى الطامعة مطامعها في الثروات الكثيرة في هذه الكيانات، وبقصد تفريق شملها، وإشاعة الفتن والتناحر والإحتراب الذي يرومه ويبثّه دهاقنة االساسة الطامعين و"المفسدين في الأرض"، كما حدث قبل قرن، وحدث في مطلع هذا القرن، ويجري حتى الآن باستخدام داعشيين  وأندادهم، وسيجري طالما لبثت شعوب الشرق الأوسط غافلة متناحرة محترِبة بسبب تجرّدها من هذه الأخوّة  الإيمانيّة.
                                             

34
           ألبصرة : ألضًرع المدرار
   " من  وحي مدينة البصرة حتى نهاية القرن العشرين"

                                          يعقوب أفرام منصور
 ما أسخى ضَرعكِ يا بصرتي الفيحاء !
 ما أبهى نخلكِ يا بلدتي المِعطاء !
 في ظِلالهِ رقدتُ 
 وقرأتُ وحلمت وكتبتُ وعزفتُ
 على العودِ والكمان والناي
 من جُمّاره  أكلتُ، من تُموره جنيتُ
 من رحيق دِبسِه رُويتُ
 جذوعَه  صعدتُ، بسَعفِهِ لهَوتُ
بشوكهِ وُخِزتُ، فما باليتُ ولا عدلتُ
 بل علّمني الوخزُ الثبات
 أفادني القطفُ الأناة
 والتهمتُ أرطابَه  وتمراتَهُ
 ومنحتُ ما جنيتُ من لُبّهِ
 مَن شِئتُ من قريب وخليل
 أكلتُ من صنوفه فما شبعتُ
 غرفتُ عصيرَه بالفنجان فما اكتفيتُ
 ولبثتُ ظامئًا  إليه
 وسامكثُ جائعًا إلى جُمّارهِ ما بقيتُ .
                ***
 ما أزهى قدّكِ يا بصرتي الهيفاء !
  ما أسمى شأنكِ با بلدتي الغيداء !
  أمواجَ شطّكِ الزاهي كم ركبتُ !
  أنوارُ بدركِ البهيّ كم طلَت هامات النخيل
 والشراعُ الجميل يَميسُ مع النسيم العليل 
  بعدَ أويقات الأصيل !
  على الشاطئ كم وقفتُ !
  ففُتِنتُ وابتهجتُ، وهمومي سلوتُ
  وأصواتًا سمعتُ، وأنغامًا وعَيتُ
  وأشباحًا  رأيتُ للجاحظ والسندباد
  والأصمعي وشهرزاد
  ورابعة وبشّار
  وغيرهم أفذاذ وأخيار
  من ضرعكِ رضعوا وحِداءَكِ سمعوا !
  إلى أفنان دوحِكِ كم سعيتُ !
  وتحت جدائلها كم جلستُ !
  لتغريد العنادل كم طرِبتُ !
  بِنَوحِ المطوّقةِ كم شُجِيتُ !
               ***
  ما أنقى ضَرعكِ يا بصرتي الفيحاء !
  ما أحلى تينكِ يا بلدتي الشمّاء !
  حليبَه رضعتُ، لُبابَه مضغتُ
  مِن تُوتِكِ قطفتُ وسلِالي منه ملأتُ
  من سِدرِكِ جمعتُ النَبَق، وجيوبي به حشَوتُ
  لا حارسَ بزجرني، لا زارعَ ينهرني،
  كأنّي ربُّ البيت، كأني شيخُ الأرض !
                  ***
  ما أغنى ضَرعكِ يا بصرتي السمحاء !
  ما أعلى كعبكِ يا بلدتي الوضّاء !
  برغمِ الصروفِ والخطوب
   برغم الكلوم والحروب !
  نصفُ قرنٍ عدا مُذ بارحتُكِ
  لم أزل كالطفل عالقًا بِرِدائكِ
  أحنُّ  كالمفطوم إلى  صدرِكِ
  لأستقي المزيد من ضرعِكِ
  فهو حافلٌ ملآن، وانا جائعٌ إليهِ ، ظمآن
  رضع منه الأفذاذ  قبلاً فما شبعوا
  واليوم ينهل منه الأحفاذ  ولن يقنعوا !
                  ***
 أحنُّ من فرطِ حبّي أن تُطبق أهدابي
فوق ثراكِ المجيدِ، في ظلِّ نخلٍ تليدِ
قُربَ رميمِ جدودي.
                  ***
يا عروسَ الأمصار لن يغزوكِ " التتار "
مهما حرقتكِ النار، يا أحلى من جلّنار
على تاجٍ من نضار!
يا أبهى من فنار، تحفّهُ الأقمار
يا قِبلَةَ انتصار
على أعداءٍ وأشرار في عراق الفِخار.
      ***          ***     ***    ***
كل هذه المزايا وحلو الذكريات
ظلّت عالقة بحنايا الذاكرة والجَنان
حتى مُنسَلَخ قرن الثورات والحروب
بعدها، جُلّها  زال، قليلها ماثل
إذ بارحها طيّبون ، أمناء، قديرون
فبصرتي بعد الألفين إنكسفَ بهاؤها
وهبط شأنها، وطفا أردياؤها
وما عادت مدينة التعايش والتحابب
وباءُ الفساد والشَحناء عمّها
والتفسّخ مسخَ نفوسَ شبابها
والقصور ساد مرافق إدارتها
 من أناس غير مؤهّلين
لا يحملون إخلاصًا ونزاهة ومقدرة
يستنزفون دمها، يستدرّون ضَرعَهاا
هم بنوها ، وبنو جِلدتهم من حواليها !
ويتمادون في إهمالها وعدمِ تحسين أوضاعها
فما أظلمهم وأبعدهم  عن البِرّ بِضَرعِها المِدرار !



35
   
حقائق وآراء عن العرب والشرق الأوسط بمنظور غربيين
                                               
يعقوب أفرام منصور
 أربيل
1ـ  كثيرًا ما وقفتُ متأمّلاً ومقيّمًا إزاء مقاطع من الحق العربي وآراء عن الحاضر العربي، صادرة من فم غربيٍ نزيه، لم تُعطَ حقّها الوافي من الإصغاء والإتعاظ.هوذا `(جاك بيرك) الإستشراقي الفرنسي، صديق العرب، وحليف الحق والحقيقة والمنطق، يقول من حديث في حوار أجرته معه الصحافية اللبنانية (ميراز عكر) في ربيع عام 1978 بشأن " أزمة الشرق الأوسط"، الناجمة عن إقامة كيان صهيوتي لاشرعي، مسخ، ما يأتي: " ...باختصار، لقد ارتكب العرب أخطاءً كثيرة، وما يزالون كذلك، مع العلم أن التاريخ والشرعية الدوَلية والحق، كما يؤمن بها الضمير العالمي، هي لصالح العرب بصورة شبه مطلقة. من هذه الأخطاء الدعم البسيط جدًا الذي قدّمه العرب للقضية الفلسطينية في عام 1948.  فبعض الجيوش العربية القليلة تحرّك بأوامر متفرّقة ومشتّتة. وفي عام 1956، تحملت مصر وحدها مَهَمَة الدفاع. وعندما اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان، لم يتحرّك غير الفلسطينيين! أهذه هي الوحدة العربية المزعومة حيال قضية فلسطين في الأقل، المعروفة " بوحدة منطقة الشرق الأوسط، المسمّاة اليوم:  سورياـ لبنان ـ فلسطين ـ الأردن ـ العراق ؟ "  ".
    " ألأخطاء مستمرّة حتى الآن بالأشكال القديمة، وبأشكال مغايرة، وبالأمس فقط (شباط 1998) قال الأستاذ (المسفِر) في بغداد، مدرّس العلوم السياسية في جامعة قطّر : ما برح العرب يرتكبون الأخطاء"، مصداقًا لمقولة (بيرك) الذي فاهَ بها قبل عشرين عامًا. فمتى يتعلّم الساسة العرب من أخطائهم الماضية والحاضرة كي يخدموا وطنهم وشعبهم بأمانة وإخلاص ؟ "
2 ـ  ألإستشراقي الإنكليزي (ديزموند ستيوارت) كاتب وروائي، عمل في التدريس الجامعي في العراق في عام 1948، حيث بدأت إهتماماته بالسياسة والأدب العربي، وصادق كثيرين، منهم جبرا إبراهيم جبرا من المفكرين الفلسطينيين والعراقيين، ثم درّس أعوامًا عديدة في لبنان، وفي أواخر الخمسينيات كرّس جهده للكتابة فقط.
    رأى ديزمومد ستيوارت أن التعايش مع الصهيونية مستحيل، نظير التعايش  بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، وأن فضيلة الصبر العربية تجعله يرى بالفعل، على المدى الطويل، أرضًا مقدّسة هي فلسطين . إنه رفض بعنف طردَ الفلسطينيين من وطنهم، وبشأن هذا الموضوع كتب وحاضر بمنتهى الحماسة والقوة. من المشهور عنه رفضه أن يصف آخرون الشرقَ عادةً بالغموض، فهذا عنده بلا معنى، لأن الناس في نظره هم الناس أينما كانوا، متفاوتون: إذ ليس هناك جنس آدمي يمكن القول عنه بكونه يحتكر الحسنات والفضائل، وآخر يحوز السيئات والرذائل.
    أصدقاؤه من العرب تقبّلوا آراءه كما لو كان واحدًا من الذين نذروا أنفسهم للقضية العربية، وكان يستاء كثيرًا من الإنقسام الذي يحصل في ما بين العرب من حين لآخر وفي أحايين لا يجب أن يكونوا فيها منقسمين.
      فماذا يسعنا أن نقول بشأن أفراد وجماعات من العرب يكرّسون هذا الإنقسام والتشرذم، برغم كل ما حاق بالأمة العربية من مصائب وويلات وكوارث بسبب الإنقسام والتشرذم؟!
     لقد برهن هذا الإستشراقي النبيل في كتابه عن حياة (هرتزل) وعن حياة (لورنس العرب) مقدرة فائقة على إلقاء أضواء جديدة على موضوعين، كان يُظَنّ أنهما قُتِلا بحثًا وندقيقًا، بالرغم من كون الرجل معدودًا ضمن الرومنطيقيين العالميين، إذ هو لم يعتنق أفكارًا مسبقة مصبوبة حيال الناس والأدب والفكر.
3ـ  في  فصل عنوانه (أليهود والغرب الحديث) من كتاب (توينبي) الضخم الشهير بعنوان " دراسة في التاريخ"، قال (أرنولد توينبي) : " إن جرائم إسرائيل أفظع من جرائم النازية"، فهاجمته الصحافة اليهودية في أميركا،  وهاجت وتزعّمت الحملة على المؤرّخ البريطاني  النزيه الموضوعي، جريدة صهيونية أميركية تُدعى " جويش فرونتير" ـ أي "الحد اليهودي " ـ ، فأرسل إليها ردًا نشرته في عددها الصادر في 5ـ2ـ 1955، ورد فيه : "...وأول المتعصّبين الذين عرفتهم في التاريخ ليسوا أقربائي البرابرة ( التيوتون والمسيحيين الفيزيغوت)، بل هم المكابيون (أنظر سفر المكابيين التوراتي)؛ هذا إذا كانت كلمة "متعصّب" تعني ـ كما أعتقد ـ  ليس مجرّد ظالم، بل الشخص الذي يضطهد شعبًا من غير دينه بسبب إختلافه عنه في الدين والعقيدة. والمكابيون أجبروا (الأدوميين والجليليين) على اعتناق اليهودية بالقوّة، وبذلك مهّدوا لأن يكون هيرودس والمسيح يهوديين وليسا من الأمميين. وإنه لمُحزنٌ حقًا أن تكون مجرِمًا بالتعصّب أو تكون ضحيةً له. إن مأساة التاريخ اليهودي الحديث هي أن اليهود ـ بدلاً من أن يتعلّموا من مصائبهم وآلامهم ـ قد صنعوا بغيرهم (العرب) ما صنعه الآخرون بهم ـ أي النازيّون ".
     وقبل توينبي بنصف قرن تقريبًا ، فال جبران خليل جبران في أمريكا في معرض فنون الشعوب : " فن اليهود في النكبة !"، وهي كلمة تُعدّ مصداقًا سابقًا لمقولة توينبي.
4 ـ   ألكاتب الفرنسي (شارل سانت بروت) في كتابه ( فرنسا والإنبعاث العربي) خاطب مواطنيه الفرنسيين، قائلاً: " إن رجل المستقبل العربي ليس هو ذلك المقيم في كازينوهات الريفييرا، ولا هو ذلك العامل المهاجر المقيم في ضواحي مدننا الصناعية. رجل المستقبل العربي يدرس في أحسن الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية   أوبريطانيا وفرنسا، وكذلك في الجامعات العربية المتزايدة. هو يتخصص في أكثر أنواع التقنية تطوّرًا، ويركّز اهتمامه بشغف في قضايا التقدّم الإقتصادي ـ الإجتماعي. وهو قد يكون سعوديًا أو كويتيًا أوعراقيًا أو جزائريًا أو فلسطينيًا. وهذا الرجل يجد خلفه حضارة عريقة جدًا، يستمد منها العزّة والمسؤولية، في حين يلقى أمامه إمكانيات هائلة يستمد منها الأمل."
     صدر هذا الكلام من يراعِ فرتسيٍ متخصص في شؤون الشرق الأوسط، وهو مدير لإحدى مجلات العلاقات الدوَلية في باريس، وقد أسس قبل أعوام (جمعية السلام في الشرق الأوسط) على أساس الحق الفلسطيني الكامل في وطن ودولة. ومحتوى الكتاب يعكس وجهة نظر واتجاه الجيل الصاعد الحالي في أوربا بعامّة، وفي فرنسا بخاصّة حيال حقيقة العرب وقضاياهم المصيرية والمستقبلية. وهو في جوهره يُعدّ بذرة جيدة من البذور التي غرستها الديغولية في حقل التفاعل الخصب المثمر بين أوربا والعرب. وفي فقرة من كتابه، أضاف الكاتب ـ بقصد التنبيه والكشف، لإخراج الفرد الأوربي من طوق تجاهله حقائق العرب وقضاياهم ـ قائلاً:
     " إن العربي، في الحقيقة، لم يخرج لتوّه حديثًا من الصحراء، فليس هو ذلك البدوي القابع في خيمته منذ القِدَم، بانتظار مكتشفي النفط ليشعروه بوجوده، فحتى قبل الإسلام ـ الذي أسس حضارة عالمية لا تُنكَر ـ كانت ثمة حضارات عديدة متطوّرة في المنطقة العربية قبل الميلاد، عندما كانت البلدان الغربية في طور البربرية. ولهذا، فإن العربي المعاصر ينظر بتهكّم، وأحيانًا بغيظ، إلى كل أولئك الذين يبدو أنهم لم يكتشفوه إلا في هذا النصف الثاني من القرن العشرين".
.

36
حركات  جيل 68   وتأثيراته
                                             
يعقوب أفرام منصور
      أعرب الأستاذ  المحاضر في جامعة هامبورغ الألمانية غيرنوت  روتر Gernot Rotter         في مجلة ( فكر وفن) الألمانية بعددها 88 لعام 2008 ، عن تردده ، لأول وهلة ولفترة قصيرة، في الإستجابة لطلب البعض  أن يكتب مقالاً عن جيل 68 الثوري المعارض والمتمرّد، وعن علم الإستشراق الألماني.  بيدَ أن ذكرى  واقعة  تافهة ،  عايشها في عام 2001 في الجامعة المذكورة،  سوّغت له الإستجابة للطلبة بأن يكتب عن الموضوع.  ففي نهاية إحدى محاضراته أجرى مع بعض طلبته حديثًا أفصح عن دهشته من عدم قيام الطلبة بإبداء إمتعاضهم جهرًا، من خلال العمل السياسي، من الحالة التي آلت إليها عملية التعليم الجامعي عمومًا، وكذلك من الوهن المالي الذي تئنّ  من وطأته فروع الدراسات الخاصّة بقضايا الشرق. فردّت على دهشته تلك طالبة بنبرة ساخرة، بوصفه كونه أحد أجداد المعارضة غير البرلمانية! وبعد الحيرة التي دهته أول الأمر، لم يلبث كثيرًا حتى اعتبر ذلك الوصف الساخر إطراءً وليس ذمًا!
     وفي ما يأتي أعرض موجزًا لآراء الكاتب في هذا المجال: " إن كانت المسمّيات : " المعارضة البرلمانية"، "ثورة الطلاّب" ، "جيل 68 " ما عادت لدى طلبة اليوم الراهن غير كونها مصطلحات لا تزيد معرفتهم بها على ما سمعوه عنها من خلال الرواية فقط، ، فإنها لدى جيل الشيوخ تُبرز وقائع ذلك الزمن الذي فيه رأوا تحريرًا من قيود إجتماعية وسياسيّة عتيقة، يعترضون عليها بشدّة، وربما راموا نسفها بعد أن ركن إليها المجتمع بلا إمعان نظر، أو بلا إختبار مدى صوابها، إذ في الأقل شاء المجتمع الستيني، على أقل تقدير، إمعان النظر في تلك القيود واختبار مدى  صحتها. بهذا المغزى، إن ذكرى هذا الزمن تُعيد إلى أذهان الشيوخ ذكريات عصر أراد من وجهة نظرهم السياسية تجديد السياسة والمجتمع ، وتسبّب في تدهور الأخلاق، وإشاعة الدمار والفوضى بحسب وجهة نظر الآخرين.
    " ولا ريب في أن هذه الفترة الزمنية " الستينيات" المنصرمة قد أيقظت في فروع عديدة من العلوم الإنسانية المتعارف عليها في الجامعات ( الفلسفة، ألإجتماع، القانون، ألتربية، التاريخ، ألإقتصاد، الثقافات)  مقدارًا من الإهتمام بضرورة طرح مسائل جديدة على بساط البحث؛ ومن حقائق الأمور أيضًا بأن فروع الإستشراق  لم تستطع أن تبتعد بشكل مباشر وطويل عن التحوّلات التي مرّت بها الفروع العلمية والمعرفية الأخرى، وسيوافق على هذا التقييم حتى الطلاّب الذين لم يتعاطفوا مع النزعات الثورية في ذلك الجيل الستيني، ولم يمتلكوا حتى رغبة الإطّلاع على مغزى ومرامي ذلك العصيان والتمرّد الثوريين. والمهم تبيانه أنّ عمق التأثير المباشر الذي خلّفه ذلك العصيان والتمرّد على الفروع العلمية والمعرفية قد توقّف،  وما برح متوقّفًا،  أي بعد جيل من تلك الفترة الستينية من القرن الأخير المنسلخ. أجل، فد توقّف تأثيرها المباشر في خصائص السيرتين الإجتماعية والسياسية،  وهي خصائص إتسمت بها حياة كل فرد من الأساتذة والباحثين. فالإنتماء الطبقي والبيئة الإجتماعية والتعليم  والمدرّسون المشرفون على التعليم، والأساتذة الجامعيون خصوصًا الذين علّموا النشء آنذاك قد أثّروا جميعًا بشكل أساسي في صياغة المواقف التي وقفتها الأطراف المتباينة حيال الثورة الطلاّبية في الأقطار الأوربية والأمريكية.
      " في أواخر عام 1967 شهدت الدراسات الشرقيةـ الإسلامية حادثة أثارت إهتمامًا كبيرًا في جامعة هامبورغ التي كانت تركّز على قضايا الأقطار العربية تحديدًا، والحادثة هي أنّ في أحد إحتفالات رئاسة الجامعة، تجمهر الأساتذة في رواقها، مرتدين رداء (روب) الأستاذية، ومغطّين أكتافهم بالفرو، ومطوّقين أعناقهم بقماشة دانتيل، تماشيًا مع تقاليد العهود  الماضية، فتظاهر طلبة القانون ضد مظهر  الأساتذة بذاك الزي، رافعين لافتة تحمل هذه الكلمات [ ما في جُبّة الأستاذية غير عفن آلاف السنين] . فأثارت تلك اللافتة إمتعاض أستاذ الدراسات الإسلامية آنئذٍ ( برتولد شبولر) الذي صرخ في وجه المتظاهرين قائلاً : " معسكر الإعتقال هو مكانكم المناسب". فغدت هذه الواقعة في ألمانيا الإتحادية رمزًا لتمرّد الطلبة على الهيكل الجامعي المحافظ، وثورتهم على الأفكار النازيّة الدارجة بنحوٍ مستتر في الجامعات، لكن تداعيات  هذه الواقعة تضاعفت بعد برهة قصيرة، حين اكتُشف أن الأستاذ (شبولر) كان في دولة النازيين عضوًا في فريق الصاعقة."
        إشتمل مقال الأستاذ (غيرنوت) على جانب مهم هو بواعث الثورة الطلاّبية في الغرب عام 1968، إذ أفاد أن عموم المعاهد والجامعات كانت أرضًا خصبة لإنبات عقول تفكّر تفكيرًا نقديًا، وتهتم بالمسائل السياسية. فلما أعلنت الحشود الطلاّبية المسيطرة على الشوارع في ألمانيا  أن ثورتها هي تمرّدٌ على سوء الأحوال الإجتماعية في ألمانيا  وأوربا، كما هي تمثّل أستنكارهم عملية الإستغلال من قِبل الدول الإستعمارية والقوى الإمبريالية في دوَل العالم الثالث، كما تؤكّد على معارضتهم للحرب الفيتنامية، وعلى مساندتهم لحركات التحرر، وعلى إحتجاجهم على نظام الشاه في إيران، وقيامهم بتحويل هذا الإحتجاج إلى نقاشات طفقت تتسرّب تدريجًا إلى قاعات البحث الخاصّة بالدراسات الشرقية أيضًا حين  كانت الدراسات الإسلامية عمومًا والدراسات المتخصصة بإيران تحديدًا ـ حتى ذلك الحين ـ  غير آبهة بما يدور حولها من تمرّد واحتجاج. والباعث على هذا الإهتمام هو أن أساتذتهم  ظلوا متمسّكين باهتمامهم الأكبر بالإطّلاع  والإحاطة بكل ما يتعلّق بفقه اللغة العربية، وبدراسة الحقب المبكرة من التاريخ العربي والإسلامي.
       أعقّب على ما أسلفتُ من آراء ومعلومات الأستاذ (غيرنوت) بقولي : والآن  بعد نصف قرن تمامًا من تاريخ (حركات 1968)، ها هي الشعوب تلاحظ تصاعد المساوئ والمثالب في تضاعيف الشعب الإيراني، كما ترى دمار وحرائق سوريا وليبيا وتونس واليمن وفلسطين والصومال، وماجرى في العراق خلال 14 عامًا، ، وهبوط مستوى الأخلاق، ، وازدياد الفساد والجشع، وتفاقم التناحرات المخططة، وتهافت الرؤساء المتغطرسين على الكراسي المعبودة التي ‘عُهِد إليها تلبية شهوات ومشيئات المفسدين في الأرض وأعداء البشرية ..ألا يرى حسنو الإطّلاع، والذين يفوقونني سعةً وموهبةً وحكمةً في ميدان حسن التعليل والتقدير، أن أوضاع حياة كوكبنا غدت في مسيس الحاجة إلى ثورات طلاّبية جديدة وعاجلة وأفعل من سابقاتها،  منبّهةً شعوب القرن الحادي والعشرين إلى وجوب  أن ( يكون الإنسان سيّد نفسه ) وليس ان يكون مسودًا عليه، كي يقرّر مصيرَه السليم بنفسه؟ إذ لا يليق بالبشرية المهذّبة العارفة المتحضّرة أن تترك حبلها على الغارب، فتتيح الفرصة لأعداء العالم والإنسانية أن يقرّروا مصيرها الكارثي حتمًا. هكذا أبدى (أرشيبالد روبرتسن) البريطاني قبل سبعين عامًا، إذ قال ( ألإنسان سيّد نفسه) في عام 1948 ـ أي بعد  دروس أحداث ونتائج  الحرب العالمية الثانية بثلاثة أعوام.
                                                       




37
مطامع تركيا الإمبريالية بين الهيمنة الأمريكية
والنازية الجديدة للصهيونية
                                                     
يعقووب أفرام  منصور
     تلتقي مصالح الهيمنة الأمريكية مع النزعة التوسّعية والشوفينية لدى تركيا، ونزعة مماثلة لدى الصهاينة النازيين الجُدد. والتقاء هذه المصالح أوجد من هذا الثلاثي حِلفًا غير مقدّس بات يُخشى منه على المصير البشري، لأنه يشكّل خطرَا جسيمًا، نظرًا لنزعات الشر والإيذاء والقسوة المستحكمة في نفوس ساسة وحكام هذا الثلاثي الغاشم، الآخذة الآن في التصاعد بعد غياب الإتحاد السوفياتي عن الساحة الدوَلية، الذي كان وجوده عامل توازن  بين القوى. وما كان دور أمريكا وتركيا وإسرائيل في العدوان الأمريكي الأطلسي الثلاثيني على العراق إلا أنصع برهان على تماثل هذا الخطر الداهم للعيان، الذي ينبغي على الشعوب كافة أن تحتاط جيدًا للحيلولة دون وقوعه.
     في كتاب موسوم (تركيا مثيرة الإضطراب في البلقان) صدر في عام 1988 مترجمًا إلى الإنكليزية، للكاتب التقدمي اليوناني ( نيكوس مارانغوس)، نقف على حقائق وشواهد هذه الرغبة الجموح في التوسّع والنزعة العدوانية  في نفوس الساسة الأتراك، اللتين تلقَيان هوىً وتشجيعًا لدى نفوس الساسة الأمريكان والصهاينة.
     وليس تصريح الحكومة اليونانية في 7 ـ 12 ـ 91 في إدانة أهداف تركيا التوسّعية ببعيد عنا، إذ قال (مانوليس كالاميداس) في  6 ـ12 ـ91 : إن تصريحات (تورغوت أوزال) في أسطنبول في إطار مؤتمر حول الأولويات الإستراتيجية لتركيا يكشف،  من دون أدنى شك، الأهداف التوسّعية الفعلية التركية والدور الذي تعتزم تركيا القيام به في المجال الأوربي( جريدة الثورة ـ 8 ـ 12 ـ 91).
       لم يكن عبثأ وصف الدولة العثمانية ب " الرجل المريض" ، قبل أن يتسلّم مقاليد الحكم فيها رجال "تركيا الفتاة"، وهذه الحقيقة جعلت الأتراك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يدركون جيدًا، وهم يلاحظون إزدهار أوربا،  أن بلادهم سيعتريها الإنحلال، وأن رقعتها الوسيعة المترامية الأطراف ستغدو وشيكًا في مهب الرياح، وستتناهشها الدول الأستعمارية طبقًا لإتفاقية سايكس ـ بيكو.
     وفي عام 1921، وقبل أن يتقرر مصير تركيا، شاء مصطفى كمال ـ الذي تشرّب بعمق نزعات رجال "تركيا الفتاة" ـ شاء أن يبقى على علاقات ودّية مع الإتحاد السوفياتي لغرض الحفاظ على مصالحه على الرغم من الحقيقة بكونه تركيًا، كان ثمة حدثان  تاريخيان عظيمان لم يكن بمستطاعه قبولهما أو احتمالهما : الثورة الفرنسية الكبرى التي أيقظت المشاعر القومية للشعوب، وثورة (أكتوبر) الإشتراكية التي بددت أحلام تركيا الإستعمارية، ونادت بنهاية إستغلال الإنسان للإنسان ( ص 210).
     لكن حتى في أيامنا هذه، بعد انصرام عشرة عقود، لم يتقلّص عدد حُماة ومناصري تركيا، فترومان ودالس وكيسنجر وريغن وواينبرغر  وآخرون، نظرُا لنزعات وخصال خاصة لدى رجال الحكم في تركيا، سمحوا لهؤلاء الحكام الأتراك الجدد بالظهور على المسرح الدوّلي، فصار كيانهم يخلق  الإضطراب في دول البلقان وفي أصقاع أخرى، ومع ذلك يدعمه الرؤساء الأمريكيون  ويمّدونه بوسائل الحياة، ويتحمّلون عيوبّه وضعفه، ولو يكرهونه وينفرون منه. . فالدوَل التي تُجاوره: سوريا ـ العراق ـ قبرص، بل حتى في بعض  مناطق الأناضول الجنوبية التي يقطنها أكراد وأقليات أخرى نالت  من الإضطهاد والجور والإبادة وسوء المعاملة والمعاداة ضروبًا عديدة في مختلف الأزمان والحقب.
      هؤلاء الحُماة والأنصار يوجهون الدعوات إلى هذا الكيان المصاب بالشوفينية، ويقدمون له الوجبات السخية الشهيّة على موائد ناصعة السِمط، برغم معرفتهم أنه لم  يغسل يديه الملطّختين بالدماء، بل وهم يشاهدون أنه لم يغيّر ملابسه الملوّنة، ويشمّون رائحة الإدانة المنبعثة من أردانه، الممتزجة بالعفونة ورائحة اللحم البشري المتفسّخ. إنهم يفتخرون برؤية هذا الذي يمارس التعذيب بفظاظة ووحشية، وهو يقدّم لهم قِطعًا ثمينة من المجوهرات والأعمال الفنية التي انتزعها من أصابع ضحاياه أو من المتاحف الوطنية  لشعوب أخرى، يرضيهم فقط أنهم قد حصلوا على أحجار كريمة لنبلاء أدّوا دورًا بارزًا في التاريخ، غير عابئين بكيفية بلوغ هذه المجوهرات إلى أيدي هؤلاء العتاة الغرباء عن شعوب شبه جزيرة الأناضول العريقة ـ هؤلاء العتاة الذين لم يكونوا أهلاً  لمعرفة القيم الإنسانية.(ص 210).
     هؤلاء العتاة يروقهم، بصورة خاصّة، سماع بعض البيانات التي أدلى بها ناطق حكومي يوناني في 13 ـ 5 ـ 86، إذ تم الكشف بجلاء عن موقف تركيا "المحميّة": (موقفنا واضح حيال مسألة جعل البلقان خاليًا من الصواريخ. إن الأسلحة النووية يجب أن تُنزع . لم نغيّر وجهة نظرنا. إننا نقود حملة بغية التوصل إلى إتفاقية تضم دول البلقان كافة، باستثناء تركيا التي لها وجهة نظر مناقضة) ـ (ص 211).
      من خلال التوتر والتشوش والأزمات الحادة ،التي تكتنف العالم بأسره في المنافع المتبادلة المضطربة، يبدو ان خطر الكارثة الأرضية ينذر بسوء العاقبة. ومن خلال تلك السحب الكثيفة الداكنة، والجو الخانق المسموم، والشعور السائد بالقلق، كان لتصريحات الإتحاد السوفياتي، قبل أعوام قليلة، مجلبة لشعاع من الأمل، إذ أعلن : " لن نكون البادئين باستخدام الترسانة النووية، ولن نهاجم البلد الذي يروم الذود عن حريته".  لم تكترث القوى الكبرى بهذا التصريح، ولم تهتم بالبحث عن سبيل لتفادي خطر مَحرقة نووية على كوكب الأرض. وفي الصفحة الأخيرة من كتابه قال ( نيكوس مارانغوس) :
     [إننا في هذه الزاوية (اليونان) من بلاد البلقان بخاصّة ونحن في مقدمة قاعدة البحر الأبيض المتوسط، لدينا أسباب بأن نكون أكثر من غيرنا قلقًا، لأن علينا أن نتعامل مع بعض الخصوصيات المتميّزة، وهذه الخصوصيات المُقلقة هي: إن زعماء السياسة في جناحنا اليميني قد وقّعوا إتفاقات مع الأمريكيين التوسعيين، تعرّض قطرنا لمخاطر عديدة. إن قواعد الموت منتشرة على كل ترابنا الوطني، وسواحلنا تمثّل أجسم خطر مباشر علينا. وهناك الموقف الإستفزازي لإذاعة (صوت أمريكا) حيال الأقطار المجاورة لنا التي نود ان نقيم  معها علاقات صداقة، وهو موقف لا يقلّ إزعاجًا وخطرًا بالنسبة إلينا. لكن الحقيقة الأكثر إزعاجًا لنا وللعالم بأسره هي جنون رغبة التوسع الأمريكي الذي بانضمامه إلى رغبة إحياء الشهوات والأحلام الإستعمارية والنزعة الطورانية لدى تركيا، والنازية الجديدة لدى الكيان الصهيوني  العنصري تنبئ بمخاطر جسيمة على منطقتنا والعالم أجمع. إن المؤسسة الصناعية الحربية الأمريكية قد اختارت الممثّل السينمائي من الدرجة الثانية (ريغن) ليؤدّي في الساعات الأخيرة من سلطته أردأ دور على الإطلاق يمكن لفرد أن يؤدّيه، وهو أن يضغط على زر الترسانة النووية فوق كوكبنا. إن الزمرة العسكرية التركية تأمل أن يكون اتجاه التوسعيين الأمرييكيين بهذا المنحى كذلك، على أمل الخروج من الطريق المسدود الذي مهدت له العصابة الصهيونية في إسرائيل، لأن هذه الزمرة ترتجي من ذلك فوائد إقتصادية".

   





38
أصول عربية في خرائط جغرافية أوربية
بين القرنين الميلاديين  13 و 18
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     يفيد الأستاذ فؤاد سزكين   Fuad Sezgin   في مق
اله المنشور  في مجلة (قكر وفن) الألمانية الموسوعية بعددها 85/ 2007 إنه  حين شرع في عام 1991 في تأليف القسم الجغرافي من كتابه الموسوم ( تاريخ التراث العربي)، لم يحتج إلى بحث مسهب كي يطّلع على نتائج  دراسات المتمشرقين، ألتي تفيد  بأنّ الجغرافيا البشرية قد وصلت إلى مستوى لا يصادف قبل القرن 19 الميلادي  في أوربا.  لكنه كان يعلم آنئذٍ أنّ جملةً من المتمشرقين والجغرافيين العرب والمسلمين قد اهتمّوا طوال قرون باستخراج درجات خطوط الطول والعرض للقسم المعمور من الأرض، وطوّروا ما ورثوه من الأمم السابقة في هذا المجال، حتى إنهم إستطاعوا جمعَ معلومات وافية مكّنتهم من وضع خرائط جغراقيّة قائمة على أسس رياضية وفلكية. فهل استُعمِلت هذه المعلومات في رسم الخرائط في الأقطار العربيةـ الإسلامية، أو وصلت إلى أوربا، واستُخدمت في إخراج  الخرائط الجديدة المصحّحة التي صارت تنتشر منذ أواخر القرن الثالث عشر االميلادي وخلال القرن الرابع عشر؟
      يرجّح الكاتب فؤاد أن المعنيين بالموضوع  لم يبادروا إلى طرحهم هذا التساؤل لأنهم  آنذاك لم يعرفوا بوجود أيّ خريطة صُنعت في الأقطار العربيةـ الإسلامية على أساس درجات خطوط الطول والعرض. فالخريطة الوحيدة التي جلبت أنظارهم بدقّتها حينئذٍ كانت خريطة العالِم الإدريسي الذي أنجز صنعها في عام 549 هجري في جزيرة صقلية، تلبيةً  لرغبة العاهل النورماندي روجر الثاني ( Roger 2 )، لكنها كانت بدون خطوط الطول والعرص. كما يستحيل صنعها من قِبل شخص مقيم في جزيرة من دون الإستفادة من عمل الذين سبقوه في هذا المجال. ومن الطبيعي أن يفكّروا بأن العمل السابق المقصود هو خريطة العالَم لبطليموس، ومن دون اعتبارهم أن خريطة بطليموس هذه تختلف كثيرًا عن خريطة الإدريسي. ففي خريطة بطليموس يوجد المحيط الأطلسي الشمالي والمحيط الهندي بشكل بحرَين مُغلقين، بخلاف وضعهما في خريطة  الإدريسي بشكل بحرين طليقَين، ويشكّلان قسمًا من المحيط المائي الكبير لكوكب الأرض.
     إضافةً إلى ذلك، ثمة تأثير آخر على تصوّر المتخصصين في طبيعة الخرائط العربية ـ الإسلامية، وهو أن نوعًا من رسم البلدان بخطوط غليظة وصل إليهم ضمن كتب الجغرافيا العربية والفارسية منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بلا مراعاة خطوط الطول والعرض. وفي بداية عمله كان الكاتب يتساءل عن سبب عدم تطرّق الجغرافيين العرب والمسلمين إلى وضعهم الخرائط على غرار الخرائط الموضوعة من قِبل الأوربيين، مع أنهم قد حددوا درجات خطوط الطول والعرض، وأنتجوا الكثير في هذا المجال، فضلاً عن غناهم في علوم الرياضة والفلك والجغرافيا البحرية؟! بيد أن سعيه الحثيث للتوصّل إلى جواب مُقنع عن تساؤله، أوصله أخيرًا إلى اكتشافه خريطة العالم وبعض الخرائط الجزئية من جغرافية الخليفة العبّاسي (المأمون)، التي صاغها عدد كبير من الجغرافيين والفلكيين بفضل عملهم وجولاتهم طولاً وعرضًا في أطراف الشطر المسكون من الكرة الأرضية. فخريطة العالَم (المأمونية) التي وصلت إليهم كانت تلك الموضوعة بين دفّفتَي (موسوعة مسالك الأبصار) لإبن فضل الله العُمري، من نسخة عام 740 هجري، التي لم تخلُ من تحريف وتصحيف بسبب كونها حصيلة استنساخات متوالية إبان أكثر من 500 سنة. واستنادًا إليها تُعدّ ـ بلا ريب ـ من أهم الوثائق الكرتوغرافيّة في مجال تاريخ الجغرافيا.
      فنوع " الإسقاط المِجسامي" فيها، وشكل القارّة الأفريقية فيها المماثل لشبه جزيرة، وإحاطة البحر المحيط بالقارّات، وعرض البحر الأبيض المتوسّط الذي يقارب الصحة، وغير ذلك من مزايا يفاجئ مُؤرّخ الجغرافيا ويُحيّره في السعي إلى التوفيق  بينه وبين التصوّر المأثور عن نشأة الخرائط الجغرافيّة . فلم  يستغرب حين وجد أن أحد العلماء قد كتب في عام 1990  بحثًا خاصًا عن إسهام العرب والمسلمين في كتاب "تاريخ الكرتوغرافيا" ( History of Cartography ) حيث زعم أن نسخة كتاب إبن فضل الله العُمري لا يُمكن أن تكون أقدم  من القرن السادس عشر الميلادي، وأنها مُستنسخة بناءً على طلب بعض الخلفاء العثمانيين،  وأن " الإسقاط المِجسامي" قد وُضع عليها تقليدًا لِما وصل إليهم من أوربا. مع ذلك، تحاشى الكاتب فؤاد الخوض في صحة الخرائط، وقضية " الإسقاط المِجسامي" فيها، واكتفى بالقول إن جداول درجات خطوط الطول والعرض للخرائط قد وصلت إليهم (إلى علماء العرب والمسلمين) بشكل مستقل وتُمَكّن من رسم الخريطة كاملةً، وتُؤكّد أصالة الخارطة، وتُمَكّن أيضًا من رؤية التغييرات التي حصلت فيها بفعل الإستنساخات المتوالية فيها خلال عقود.
     فبفضل هذه الخريطة "المأمونية" والخرائط الجزئية معها التي بدأها العرب ـ المسلمون، ليس من نقطة الصفر بل بعد انطلاقهم من أعمال بيئات ثقافية سابقة، ومنها خصوصًا خريطة العالَم لِ (مارينوس)  Marinos```  من أحياء النصف الأول للقرن الميلادي الثاني، ثم من جغرافية بطليموس الذي جمع ورتّب وفسّر المواد الكارتوغرافية لسَلَفِه مارينوس ( الصوري الإغريقي  ومن أوائل مؤسّسي الجغرافيا الرياضية) . وبعد نصف قرن من عمل جغرافيي (المأمون)، بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الجغرافبا والكارتوغرافيا، وإبان ثمانية قرون لاحقة كانت تتطوّر، ومن بواعث تطوّرها أولاً : كون القسم الأكبر من الربع المسكون من سطح الأرض كان تحت السيادة العربيةـ الإسلامية الممتدّة من إسبانيا (ألأندلس) إلى الهند، وثانيًا : كون عامل انتقال معرفة كروية الأرض من الإغريق إلى العرب المسلمين في القرن الهجري الثاني بلا ريب. كما أن تطوّرهم في علم الفلك  بالتقابس مع بعض العلماء في القرنين الرابع والخامس الهجريين أفضى إلى قولهم بدوران الأرض حول نفسها. ولهذا لم يستغرب العلماء الغربيون كون بعض الفلكيين العرب ـ المسلمين صنعوا آلاتهم الفلكية على أساس دوران الكوكب الأرضي. وثمة خطوة مهمّة لحصول التطوّر المذكور آنفًا، وهو طلب الخليفة (المأمون) إلى بعض الفلكيين قياس درجة طول ،  فبمقاييسهم المعتَمَدة والمتنوّعة وصلوا إلى النتيجة أن الطول  المذكور يبلغ 56 ميلاً وثلثي الميل، وبالتالي حسبوا طول خط الإستواء بكونه 20400 ميل، وهذا يختلف قليلاً عن القياس الحالي 40 ألف كيلو متر.
      وجدير بالذكر في هذا الصدد، أن العمل المستمر بعد الخليفة المأمون في استخراج تلك القياسات في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، أفضى إلى تصحيح جذري في طول البحر الأبيض المتوسّط ، فقد خُفّض إلى درحة 44 أو 45  ـ أي أقل من رقم بطليموس بمسافة 9 درجات. وعندما توصل الفلكيون والجغرافيون في  القسم الغربي من الكرة الأرصية، أي بين المحيط الأطلسي وبغداد، قام العالم (البيروني) بعمل جبّار وفريد في القسم الشرقي من كوكب الأرض اليابس بقياس المسافة بين (غزنة) وبغداد  بوحدة قياس (الذراع)، كما إستخرج درجات العرض لأمكنة معيّنة ليتمكّن من حساب درجات الطول باستعمال المثلثات الكروية، فكانت صحة الأطوال التي استخرجها ل (60) مكانًا لتدهش حقًا، لأن الإختلاف بين نتائجه ونتائج القياس الحديثة لا تتجاوز 6 إلى 4 دقاق فقط.
      بعدئذٍ توصّل (البيروني)، كما تُثبت كتبه العديدة، إلى تأسيس الجغرافيا الرياضية كعلم مستقل، وهو عالِم خوارزمي فارسي( 973 ـ  1048)، مؤلفاته عربية، كان موسوعيًا في مجالاته: مؤرّخًا، لغويًا، أديبًا، عالمًا في الرياضيات والطبيعيات والفلك والطب والفلسفة والتصوًف والأديان. بيدَ أن المؤسف هو كون التطوّر الذي تحقق لعلم ( الجغرافيا الرياضية) قبل البيروني وبعده في الأقطار العربيةـ الإسلامية لبث مجهولاً لدى مؤلّفي الجغرافيا والكرتولوجيا إلى حد بعيد. وبالتالي لم يُكتب تاريخ الجغرافيا الرياضية إطلاقًا. لذا حاول الكاتب (فؤاد سزكين)، وبخطوة أولى في كتابه المنشور مؤخرًا تحت عنوان ( ألجغرافيا الرياضية والكرتوغرافيا عند العرب والمسلمين واستمرارها في الغرب).

39
" يوم الأرض"  الفلسطينية
في الذاكرة والخاطر
                                                                   
يعقوب أفرام منصور

    في أعوام السبعينيات ربطتني علاقة صداقة قلمية بشاب مغربي،  يُدعى محمد البشواري، ومما زوّدني به ثلاثة أعداد سنوية من مجلة (ألمناهل) الموسوعية للأعوام 1977 ـ 1979 وببعض أعداد من جريدة (ألمحرّر) المغربية التي تصدر في الدار البيضاء. في تلك الأعوام كان الحدث المجَلجِل هو مؤتمر ومعاهدة ( كمب ديفيد)، وبطل إخراجه إلى حيّز الوجود وعلى المسرح السياسي هو الرئيس الأمريكي جِمي كارتر؛ ولمّا كنتُ من المهتمين بالقضية الفلسطينية منذ مطلع شبابي في عام 1948 ، وكنتُ قد حررتُ وأرسلتُ تسع رسائل إلى أساطين العالم خلال الفترة 1958 ـ1970، إرتأيتُ أن أحرر وأنشر  رسالة إلى الرئيس كارتر، فأبردتُ نصّها إلى الصديق المغربي المذكور كي يسلّمها إلى إدارة تحرير جريدة ( ألمحرّر) المغربية، فوعدتْهُ هيئة التحرير أن موعد نشرها سيكون يوم 30 آذار 1979 الذي  يصادف مناسبة يوم الأرض الفلسطينية.
       فكان أن صدر العدد 1518 في ذلك اليوم وهو يحمل كلمة العدد تحت عنوان :  أليوم وقفة الشعب التاريخية، وفي قمة صدر الصفحة الأولى من الجريدة إطار مستطيل يحوي هذه الكلمات : ألجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني تدعو الشعب المغربي إلى رفض الأتفاق المنفرد بين مصر وإسرائيل ـ ألتعبير عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني والحق العربي يومه الجمعة، يوم الأرض ـ المساهمة بحماس في الإكتتاب لدعم الثورة الفلسطينية من 30 مارس إلى 30 أبريل.
     وعلى الصفحة الثانية من الجريدة نُشر نص رسالتي إلى : السيد ج .كارتر، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، تحت عنوان (من مواطن عربي إلى الرئيس الأمريكي) وعن يسار العنوان ظهرت صورة الرئيس:
       [،غدًا، عندما يُدوّن التاريخ الأحداث والوقائع التي عاصرتَها وعالجتَها، سوف ينبئ أنك لم تكن أفضل من سالفيك، بل ـ لأنك لم تتعظ بأخطائهم، وكنت تعمل بوحي من توشوش الصهيونية في مسمعك، وتخطو الخطوات، وتتخذ المواقف بعد أن تنظر إلى الأمور والقضايا من وراء زجاجات ملوّنة أو عدسات خاصّة وضعتها أمام ناظريك الأطماع اللاهثة النهمة، ورجالات الكونغلرس  المستعبَدين من أقطاب من أقطاب " المفسدين في الأرض" الذين  ستذهب أمريكا ضحية لهم، إن لم تتدارك أمرها، وتكفّ عن الإنسياق الأعمى خلفهم ـ  سوف ينعتك  مدوّنو التاريخ في أرجاء العالم وفي قطرك  بعينه، بانك في طليعة قصيري النظر ضمن رجال الحكم والسياسية في أمريكا وخارجها.
     [  غدًا عندما يسجّل التاريخ أحداثه ووقائعّه، ويكشف الخطل والزيف بعيدًا عن المهابة التي تحيط رؤساء الدول، سيقول إنك لم تفهم منطق التاريخ، فهو عندما كان مشرّقًا ، كنت أنت مغرّبًا مع بِطانتك، وسيقول:  كان على كارتر أن يفقه أن الإتفاقات والمعاهدات الدوَلية التي لا تدعمها إرادات الشعوب، مصيرها الإنهيار السريع والنسف الشنيع. غدًا عندما يسجّل التاريخ تسجيلاً مقرونًا بالتحليل والتعليل،، وكشّافًا للدخائل والبواعث، سيقول أحفادك ومواطنوك: كنا نتمنى أن يكون رئيسنا (كارتر) غير الذي كان، لينتشل أمريكا من وهدة سمعتها المتردّية والسيئة طيلة نصف قرن.
    [ غدًا، عندما يدوّن التاريخ أصحابُ عقول نيّرة، وأفلام نظيفة، وضمائر حيّة نقيّة، سيقولون:  كانت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد رئيسها (كارتر) نصيرة للتمييز العنصري ولإضطهاد الحريات، وللباطل الصهيوني، داعية للحرب، مؤازرة للدكتاتوريات، عدوّة للحق العربي، وبأسلحتها لقِيَ الملايين حتفَهم، وأُهرقت دماؤهم، دفاعًا عن أوطانهم وكرامتهم ومقدساتهم. فهل من صفة حَسَنة أو خصلة حميدة تبقّت لتغدو بعض رصيدك في التاريخ؟!
     [ نفط بلادك لها ، أما نفط أقطار العالم فمُلك شعوبها، إن شاءت باعته لبلادك، وإن شاءت حجبته. أمّا أن " تبتاعه " بلادك عنوة وتُطلق التهديدات من فمك وأفواه مساعديك باستعمال القوة لضمان تدفّقه إلى بلادك، وتُسَيّر القلاع الحربية العائمة المزوّدة بالصواريخ والطائرات والجنود، فهذا يوحي للسامع أن بلادك ما برحت تحمل عقلية متخلّفة، لا تواكب هذا العصر، ، وكأن هيئة الأمم المتحدة ليست في الوجود، وهي الهيئة التي إرتأت شعوب العالم إقامتها منعًا للإستغلال والقهر والتهديد والتسلّط والإستعباد. فهل أنت حقًا من رجال العقد الثامن من القرن العشرين ؟!ً
       [ هل تملك راسخ الإعتقاد بأن " حَليفك " أنور السادات سيطول به الأمر إلى أمدٍ يُتاح  فيه لك ولبلادك إستخدامه آلة طيّعة لتنفيذ مآرب الإستعماريين في بلادك، والحاقدين على الخلائق بجوار القدس الممتهنة، وتل أبيب المفترِسة الملطّخة أكفّ أشقيائها بالدماء العربية منذ واحد وثلاثين عامًا؟ ألم تُعطِك أحداث إيران، وتبعثر عُرى حلف  " السنتو " صورةً واضحة لِما سيقع في أحوال مماثلة ومغايرة في المستقبل القريب؟
     [ إن الضمانات التي قدّمتَها لحماية إسرائيل ولأمن (المنطقة)، التي عَيّنتَ أنور السادات  شرطيًا لها، ووضعتَ في يديه  هراوة أمريكية ليستخدمها لهذا الغرض، ستعصف بها العواصف العاتية وشيكًا، لتُمسي كعصف مأكول وهباء منثور. ومثلك ومثل هذا "الشرطي" سيكون كإثنين وضَعا على عيونهما حجابًا صفيقًا، وانطلقا بملء الثقة والإطمئنان متكاتفَين متماسكَين في أرض تكتنفها حُفرٌ  عميقة كثيرة، وآبار خانقة غير مسيّجة بعيدة القرار، فلا يلبثان حتي يسقطا في إحداها. وسيكون لسقوطهما ادويٌّ هائل، وخروج مُحال، ومصير مأساوي وهزلي !  فتدبّر وتبصّرر  قبل فوات الأوان.
يعقوب أفرام منصور.]
     كان مصير "السادات" الإغتيال بعد عامين من تاريخ الرسالة، وبعد عام من انتهاء ولاية الرئيس كارتر في عام 1980 ، وبعد ثلا ثة أعوام من منحه جائزة نوبل للسلام في 1978. وها هي الآن أوضاع العالم عمومًا وأوضاع الشرق الأوسط  خصوصًا  مستعِرة برغم انصرام أربعة عقود على إبرام معاهدة (كمب ديفد) ـ سيئة الشهرة والفعل ولنتيجة ، فلسطينيًا وعربيًا وتاريخيًا ! ـ وقد شهد العالم في يوم الأرض الفلسطينية والعربية  في 30 مارس(آذار) هذا العام سقوط 16  شهيدًا في تظاهرة نصفها أطفال وقاصرون ، كان ذنبهم تذكير الرأي العام العربي والعالمي ب ( يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني في استرداد أرضه السليبة)؛  وأعلنت حكومة فلسطين الحِداد العام، ولم يعبأ  مجلس الأمن بالنظر في شكواها !! لا عجب!  ففي غيبوبة الضمائر تُرتكب الجرائر!
     


40
ألأخوّة بين المؤمنين  ونماذج لها
                                         
يعقوب أفرام منصور
     ألمؤمنون بالله إخوة في الإيمان بالله الواحد، والآية الكريمة 285 من (سورة البقرة) تنصّ :" آمن الرسول بما أُنزِل إليه من ربّه، والمؤمنون؛ كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله، لا نُفرّقُ بين أحدٍ من رُسلهِ". وفي حديث، يرجّح البعض كونه حديثًا شريفًا، يقول :" الأنبياء إخوة، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد".
    ألشاعر السوري المهجري، زكي قنصل، قد جسّد هذه الأخوّة بين الأنبياء، وبالتالي بين أتباعهم، لأن دينهم في الجوهر الأساس واحد، ألا وهو السجود والتعظيم والطاعة لله الواحد، ربِّ السماوات والأرض ومهندس الكون الأعظم؛ منه البدء، وإليه الإنتهاء. وقد ورد هذا التجسيد في قصيدته (عِرس الضياء) لمناسبة " عيد الفطر المبارك" :
               عِرسَ الضياءِ وغُرّةَ الأعيادِ        إنَ القلوبَ إلى نِداكَ  صوادِ                          هشّت لمقدمِكَ السعيدِ حَواضِرُ        وتهللتْ - لمّا  هللتَ -  بَوادِ                          إني   لتربطني  بركبِكَ نزعةٌ         عربيةٌ  ملكت  عليّ  قِيادي                         رمضانُ هَبني من أريجِكَ نفحةً         ندياءَ تُحيي بالرجاءِ  قؤادي                          يا من  يعيبُ  عليّ أني  شاعزُ      متعصّبٌ  لعشيرتي وبلادي                           ما حيلتي في  خافقٍ بأضالعي         لا يَرعوي لِنَصيحةٍ ورشادِ                          حبُّ العروبةِ  فيه  داءٌ مُزمنٌ           تمتدُّ   عَدواهُ  إلى   العوّاد                           عبثًا تحاولُ  أن تهزّ عقيدتي          مَنذا يهزّ رَواسخَ  الأطوادِ؟! 
     فمع كونه مسيحيّ العقيدة، نراه يحمل الطابع العربي الذي فرضته عليه بيئة مدينة (يبرود) السورية العربية، حيث قضاء (النبك) وسفح (القلمون)، بشكل خاص، والبيئة المجتمعية  الوطنية بشكل عام، ذات اللسان العربي والثقافة العربية منذ أكثر من 1500 سنة، وهذي سمة غالبية مسيحيي سكّان سوريا الكبرى ( بلاد الشام = فلسطين ، لبنان، سوريا الحالية "المنكوبة الآن"، ألأردن) عمومًا، وجلّ مئات شعرائها وأدبائها ومفكّريها المعاصرين وعلمائها( منهم رشيد سليم الخوري، جورج صيدح، ألياس فرحات، شفيق معلوف، رشيد أيوب، جبران ،إيليا أبو ماضي ، ميخائيل نعيمة، البستانيون، اليازجيان)؛ حتى نجد زكي قنصل يطلب من شهر رمضان المتسم بمسحة إيمانية ـ روحية لدى العرب المسلمين خصوصًا، سائلاً  إياه أن يلبّي له رجاءً لم يُسَمِّهِ،   لكنّه مفهوم ـ بدليل الأبيات الأربعة لاحقًا ـ بكونه " رجاء "  التآخي والتحبب والتوحّد في السرّاء والضرّاء بين أتباع الديانات الكتابية السماوية المشتركة بإيمان خليل الله إبراهيم، حتى إنه في بيت لاحق يُفصح بأنه لا يعبأ بمن يعيب عليه التعصّب لعشيرته العرب ولبلاده العربية، لأن فؤاده مفطور على هذه المشاعر الأخويّة، فلا جدوى من نُصحٍ وإرشااد يوجّهان إليه بالتخلّي عن هذه الأحاسيس الأخويّة، لأنها راسخة كالجبال، فيقول في ذلك:
                   عبثًا تحاولُ أن تهزّ عقيدتي       مَنذا يهزّ رواسِخَ الأطوادِ ؟! 
     وتتجلّى هذه الأخوّة بين المؤمنين أيضًا في قصيدة (كنانة الله)، حيّا بهاً وقفةَ مصر الخالدة ضدّ العدوان الثلاثي في عام 1956، خاطب فيها الغربيين الذين وعدوا الشعوب َ بالسلام تضليلاً وكذِبًا:
          تلك الوعود التي انقادت لها انفضحت      فبانَ تحت إهابِ الشاةِ سرحانُ                 أبحتُمُ    القدسَ     للشُذّاذِ  فاقتسمتْ       عارَ الهزبمةِ  أصلالٌ  وذؤبانُ                  لو يستطيعُ  لثارَ "المهدُ" من غضبٍ       وانصبّ منه على الفُجّارِ طوفانُ                أتباعُ  طهَ  حموا  بالروحِ    حُرمتَه       وعزّ في  دولةِ  الإسلامِ  رُهبانُ            فكيفَ يحمي نصارى الغربِ من عبثوا       فيهِ   ويجري مع التيّارِ (جيرانُ)؟
      ويشرح الشاعر في الهامش أن المقصود بكلمة (جيران)، هم الأتراك - جيران العرب - وكانوا من أوائل المعترفين ب "إسرائيل" قي عام 1948!!
       في هذا الصدد تتوارد على الذكر أسماء نماذج أخرى جديرة بالذكر من شخصيات العراق البارزة، منهم: يعقوب نعوم سركيس، الولود في بغداد  سنة 1876 من أسرة حلبية الأصل، أرمنية النحلة، ، وأنفق من عمره زهاء أربعين  عامًا متنقلاً بين أنحاء الشطرة والحي وفلعة سكر والناصرية في لواء المنتفك، ليعيش شهرًا  في الخيام والدور القروية، متعهّدًا أملاكه وزراعته. ولم يتخلَّ عن ذلك إلا في سن الكهولة، وكثيرًا ما تفاخر بأنه نصف بدوي أو فلاّح. عمل ونشر في الصحف  والمجلات العراقية، وجمع كل الوثائق والمؤلفات الصادرة بلغات مختلفة عن تاريخ العراق و\اهمها مجموعة ضخمة من كتب الرحلات، كما آل إليه 61 دفترًاحوت مذكرات يوسف زفوبودا البغدادي الذي كان كاتبًا في شركة (لنج) للملاحة النهرية ( البصرة ـ بغداد) خلال 46 عامًا، وتوفي في 1908. ومن أهم مؤلفاته ( مباحث عراقية في التاريخ والجغرافية والآثار وخطط بغداد) بثلاثة مجلدات. وصف رقائيل بطّي ـ صاحب جريدة البلاد ـ  أسلوبه بأنه أسلوب العلماء لإمتيازه بالمواد الدسمة والمراجع القصيّة. أمّا الأديب اليهودي مير بصري، فقال عنه ( إن أبحاث يعقوب سركيس ودراساته سوف تبقى مصدرًا من مصادر تاريخ العراق في العهد العثماني الأخير، يرجع إليها مؤرخ المستقبل في تحقيق موضوعه وتدوينه). كان موضع إعجاب عديدين من أجانب، منهم ماسينيون الفرنسي، ومن العراقيين مصطفى جواد، كوركيس عواد، مير بصري، وكتب عنه الأب الموسوعي أنستاس الكرملي في مجلة (لغة العرب)، كما كتب أسعد داغر في مصادر الدراسة الأدبية.
      ومن الجدير بالذكر هنا الأب الجهبذ أنستاس الكرملي، المخلّد بمجلته (لغة العرب) وموسوعته (ألمساعد) وبمقولته الشهيرة :",ولدتُ عربيًا وعشتُ عربيًا وأموتُ عربيًا." والرسائل المتبادلة بينه وبين أعلام الفكر والأدب واللغة: أحمد تيمور ومحمود شكري الآلوسي؛ فهذه الآثار وغيرها كثير  لهي دلائل تنطبق على مغزى عنوان المقال. كما لا أنسى ذكر العوّادَين كوركيس وميخائيل والصحافي والأديب والوزير رفائيل بطّي.
     وقمينٌ بالذكر أيضًا ـ مع توخّي الإيجاز ـ  إيراد أسماء ثلاثة شخوص بارزين من النحلة اليهودية الأصلاء: أولهم ساسون حسقيل وزيرالمالية في عهد الملك فيصل الأول، ثم الأديبان مير بصري وشاؤول. إضافة إلى ذلك، ثمة أفراد عديدون من ذكور وأناث إحترفوا الفنون الموسيقية عزفًا وإنشادُا، وتركوا خلفهم للوطن تراثًا أصيلاً وقيّمًا، ما برح قائمًا في ذاكرة ووجدان الكثيرين من المواطنين على اختلاف نِحَلِهم  وأذواقهم
       الشعور والإعتقاد بوجود هذه الأخوّة بين المؤمنين بإيمان أبي المؤمنين  إبراهيم، بشكل  سائد وعميم، والعمل الدائم بذلك الإيمان، يولّدان الضمان لمستقبل أفضل وأمثل لمكونات شعب الشرق الأوسط المتنوّع المتنافر حاليًا ومنذ عقدين،  وخلافًا لذلك تخترق القوى الكبرى والصغرى كيانات هذه المنطقة، وهذه القوى الكبرى خصوصًا هي التي نجحت في تسخير الإرهابيين المتطرّفين لنشر الدمار والخراب والسفك والهمجية في الكيانات المذكورة، كي تحقق هذه القوى الطامعة مطامعها في الثروات الكثيرة في هذه الكيانات، وبقصد تفريق شملها، وإشاعة الفتن والتناحر والإحتراب الذي يرومه ويبثّه دهاقنة االساسة الطامعين و"المفسدين في الأرض"، كما حدث قبل قرن، وحدث في مطلع هذا القرن، ويجري حتى الآن باستخدام داعشيين  وأندادهم، وسيجري طالما لبثت شعوب الشرق الأوسط غافلة متناحرة محترِبة بسبب تجرّدها من هذه الأخوّة  الإيمانيّة.
                                             

41
"مسيح اليهود المخلّص" الذي ينتظرون !

يعقوب أفرام منصور
أربيل
    ما  انفكّ المؤمنون اليهود يعتقدون أن  السيّد المسيح لم يأتِ بعدُ بل  سيأتي، وهم ما برحوا ينتظرون مجيئه، مع ان النصارى المسيحيين قد آمنوا برسالته واتبعوه منذ أكثر من عشرين قرنًا كما آمن به أقوام أخرى من فُرس  ويونانيين وقلائل من اليهود، كما من العرب فبل الإسلام وبعد الإسلام؛ وذكره القرآن الكريم في أكثر من سورة، وذكرته وثائق وكتابات تاريخية، وتنبأت عن مجيئه مخلّصًا روحيًا أسفار من " العهد القديم" من الكتاب المقدّس بآيات وبعلامات وأدلّة تحققت كلّها، ومن هذه الأسفار( إشعيا 7: 24 و 53: 2 ـ12 ، و تثنية الإشتراع  لموسى 18: 18 و 19، ومرمور 2: 2 ـ8، ودانيال 7: 11 ـ 14) أقول: ما برح البهود يعتقدون إن المسيح ( روح الله يسوع "عيسى" ابن  مريم ) لم ياتِ بعدُ، بل سيأتي " ليخلّصهم"، وأن كثيرين منهم  الآن  يعتقدون أن أوان مجيئه قد اقترب !
     إن المطّلع إطّلاعًا جيدًا على مضامين التوراة وأسفار العهد القديم من الكتاب المقدّس وكذلك على مضامين اليهودية العالمية، يخرج بنتيجة قاطعة أن دين اليهود ذو طابع سياسي، فسياستهم  ديانة، وأكبر دليل على ذلك أن حاخامات اليهود قاطبةً حتى اليوم تخالط السياسة معتقدهم الديني، وأن دينهم مشوب بمعتقدهم السياسي؛ وأقرب وأنصع دليل على ذلك هو ما صرّح به الحاخام ( دوينكي) على الملأ مع حاخاميين آخرين  في خريف عام 1992 بشأن (مؤتمر مدريد 1992) للتسوية السياسية بين إسرائيل والعرب ـ وهو المؤتمر السرابي! الذي أعدّوه لتضليل الغربيين خصوصًا وبعض العرب عمومًا ـ وعدّوه إشارةً إلى دنوّ مجيء المسيح، وهو موضوع ديني بحت، شاءوا أن يمزجوه بالسياسة !
     ذلك لأن اليهود يبتغون  " مسيحًا سياسيًا" !، وأقدم دليل على ذلك أن يهوذا الإسخريوطي ـ تلميذ المسيح الحقيقي ـ  الذي أتى فعلاً قبل اكثر من عشرين قرنًا ـ كان طموحًا إلى المجد الدنيوي، وكان يروم من معلّمه أن يُعلن نفسه ملكًا على اليهود، وأن يضع التاج على هامته، بَبدَ أنه أدرك أخيرًا أن مملكة المسيح روحية وليست زمنية من هذا العالم ( كما ردّ المسيح  نفسُه على أحبار اليهود وعلى بيلاطس الحاكم الروماني في أثناء محاكمته). فأصيبَ يهوذا بالإحباط الذي أدّى به إلى خيانة معلّمه، فتأمر مع شيوخ اليهود على تسليمه إليهم(1).
     يشتمل كتابا المسيحيين والمسلمين على نصوص وآيات وشواهد على واقع مجيء المسيح الموعود به، وعلى معجزاته ورسالته وأقواله وأفعاله وارتفاعه إلى السماء حيًا، وهما يفنّدان بشكلِ وافٍ أكاذيب وأباطيل حاخامات اليهود الذين سمّموا أفكار ملّتهم تجاه أتباع المسيح وغبرهم من الأغيار والمؤمنين قديمًا وحديثًا،، لكن مؤمني الشرق يرون في تلك الفذلكات والأباطيل جنوحًا لتضليل مسيحيي الغرب بباعث من أغراض سياسية.
     إن كان " مسيح اليهود" سيأتي ـ كما يعتقد موجّهوهم ـ  فمسيحهم حتمًا يرومونه ذا مواصفات خاصّة على وفق تصوّرهم، أي مسيحًا أخرَ من المُسَحاء الكذبة الذين تنبّأ عنهم السيّد المسيح نفسه، نظير (باركوبا) ـ المسيح الدجّال ـ  فقد حاولوا بقيادته عام 135م إقامة مملكة يهودية في القدس.، وذبحوا المسيحيين فيها.
     لقد خاطب المسيح اليهود، ممّن أنكروا شخصه بينهم، قائلاً : " لكنني قد عرفتكم أن ليس فيكم محبة الله. كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون المجدَ، بعضكم من بعض، ولا تبتغون المجد الذي من عند الله وحده؟ لا تظنّوا  أني أشكوكم ...لأن موسى، الذي فيه رجاؤكم، هو من يشكوكم. فلو كنتم تؤمنون بموسى، لآمنتم بي، لأنه كتب عنّي (يو 5:  42ـ46).غير أن اليهود، منذ زمن بعيد، لا يؤمنون بأسفار موسى كما يقتضي ـ كما قال المسيح ـ  بل يؤمنون بكتاب  غير مقدّس هو (التلمود) الذي يزعم إن المسيح موجود في لُجج الجحيم، وإن أمّه مريم قد ولدته حرامًا، وإن أباه عسكري يُدهى (باندارا)، كما ينص إن اليهود مُلزَمون أن يلعنوا رؤساء المذهب المسيحي ثلاث مرّات يوميًا(2).
    إذا كان المسيح الحقيقي لم يأتِ فعلاً من مريم البتول من نسل داوود النبي ومن " بيت  لحم"، كما نصّت نبوءآت أنبياء بني إسرائيل ونصوص الإنجيل، فلماذا سعى اليهود حثيثًا إلى استصدار " وثيقة الفاتيكان"  في سنة 1964 بشأن تبرئة اليهود من دم المسيح؟! (3) أليس سعيهم دليلاً  ضمنيًا علي إيمانهم الباطني بأن المسيح  قد جاء؟ لكنّ نبيّهم ( أشعيا) نعتهم قائلاً: "ينتظرون نورًا، فإذا ظلام". إنهم لذلك لن يبصروا النور طالما أنكروا المسيح الناصري، وهم الذين عناهم المسيح بقوله:" أقول الحق لكم، إن العشّارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (متى 21 : 31). كما قال لهم:" ألويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون، فإنكم تغلقون ملكوت السماء في  وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا الداخلين تتركونهم يدخلون " (  متى 23: آية 13).
    إذا كان أئمّة اليهود يعتقدون أن للمسيح مجيئًا آخَر، مغايرًا للعقيدة المسيحية، فهو سيكون مجيئًا لغرض أخَر لا ينتفع منه اليهود، لأن مجيئه الآتي  سيبكون في يوم القيامة (يو 5: 28 و 29).
     يعتقد رجال الدين المسيحيون في الشرق أن ملّة اليهود ( التي جحدت المسيح المرسل إلى بني إسرائيل خصوصًا وإلى الشعوب عمومًا) قد حكم الله عليها بالتشتت على وجه الأرض وبمرارة النفي وخُسف الإذلال منذ عشرين قرنًا، لأنهم أبوا الإنقياد إلى رسالة المسيح إبن مريم، الناطق بينهم بكلام الله، طِبقًا لنبوءة كليم الله موسى في الآيتين 18و19 من الفصل 18 من سِفر (تثنية الإشتراع). قال يوحنا الإنجيلي، وهو يهودي مثل تلاميذ المسيح قاطبةً : "أتى إلى خاصّتِه، وخاصتُه لم تقبله "  (يو11:1). لقد أورد عقيدة التشتت هذه الخوري أنطون قندلفت الحلبي في كتاب مواعظه (عقود الجُمان) ص199. وفي الغرب نظير هذه العقيدة كانت سائدة بين غالبية المؤمنين في كثير من المعاجم العصرية مع إختلاف بسيط في التفاصيل في أقطار الغرب. ((The Wandering Jew
          لقد إنصرم ربع قرن على يوم أُكذوبة ( دوينكي ) ولم يأتِ مسيح مِلّته، وهو المسيح لن يأتيَ أبدًا للغرض الذي يتمنون ويعتقدون زورًا وبُهتانًا وتضليلاً، لأنه سيأتي ديّانًا للأحياء والأموات المُنبعثين من لحودِهم. 
    ـ (1) كتاب  " اليهودية العالمية وحربها المستمرة على المسيحية " ص145، دار الإتحاد ـ بيروت 1964.
    ـ (2) الكتاب المذكور في (1) أعلاه لإليا أبي الروس، ص 120ـ 123.
   ـ  (3) أنظر كتاب " نحن والفاتيكان وإسرائيل " لأنيس القاسم، صادر عن منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث ـ بيروت 1966.   

ه لم تقبله" (يو11:1). لقد أورد عقيدة التشتت هذه الخوري أنطون قندلفت الحلبي في كتاب مواعظه (عقود الجُمان) ص199. وفي الغرب نظير هذه العقيدة كانت سائدة بين غالبية المؤمنين المثقفين وهي المعروفة عندهم بمقولة " اليهودي التائه "، وهي تدور حول المغزى عينه، وموجودة في كثير من المعاجم العصرية مع إختلاف بسيط في التفاصيل في أقطار الغرب ..
     لقد إنصرم ربع قرن على يوم أُكذوبة ( دوينكي ) ولم يأتِ مسيح ملّته، وهو المسيح المنتظر لن يأتيَ أبدًا للغرض الذي يتمنون ويعتقدون زورًا وبُهتانًا وتضليلاً، لأنه سيأتي ديانًا للأحياء والأموات المُنبعثين من لحودهم.

42
عندما بكى المطران جرجس في فرنسا
                                                   
يعقوب أفرام منصور
    إبّان التجمّع العالمي للشبيبة المسيحية في مدريد العاصمة الإسبانية عام 2011، إستغرب المطران جرجس القس موسى رؤية مظاهرات مناوئة للتجمّع المذكور،التي  قام بها عَلمانيو إسبانيا ضدّ إسهام الحكومة الإسبانية في مجال تحمّلها تكاليف هذا التجمّع، فذكّرته هذه المظاهرات الإسبانية بمظاهرات مماثلة سابقة، بإسم العَلمانية  الفرنسية التي جرت في فرنسا عام 1997، فكانت تلك المظاهرات الأولى مدعاة لبكاء المطران،لأنها دلّت على ضعف أو شبه انعدام الشعور بقوام أو روح الإيمان المسيحي، وبالتالي عدم التعاطف مع قضايا وهموم مسيحيي الشرق من قِبَل المتظاهرين  ومَن يمثّلونهم في هذا القطر الغربي؛ وها هي المظاهرات المناوئة عينها  تسير بعد 14 عامًا في شوارع مدريد، وهذه ليست مصادفة، بل تنمّ على تغلغل الأفكار والقيَم والنزعات المتماثلة في مجال العَلمانية، وثمة إحتمال كبير أنْ سوف تتكرر هذه المظاهرات  المناوئة بعد أعوام في مدن الغرب الأخرى وبشكل أوسع وأشدّ حيالَ روح الإيمان المسيحي الشرقي الذي شقّ سبيلَه الصعب المصحوب بالإضطهادات والتضحيات الجِسام بالأرواح نحو أعماق القارّة الأوربية، بدءًا من روما القياصرة، وحلّ ذلك الروح الإيماني الحار بين ظهراني شعوبها في جميع الأقطار، ووسمهم بميسم المسيحية.
    ومن الجدير بالذكر، في هذا الصدد، هو استياء الكهنة والأساقفة الشرقيين من اوربا حين لمسوا ـ في العقود الثلاثة الأخيرة ـ من قسم من مواطنيها رفصَهم الإعتراف بالجذور المسيحية لقارّتهم (أنظر ص 41 من كتاب " حتى التهاية .. أحاديث " بقلم المطران جرجس القس موسى ـ 2014) في حين أن الغالبية المسلمة العربية وغير العربية ترى أن الطابع المسيحي هو السمة الدينية الغالبة على شعوب أوربا خصوصًا وعلى شعوب الأقطار الغربية عمومًا. فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن مسيحيي الشرق العرب وغير العرب، كثيرًا ما يقاسون من نظرة المسلمين هذه الواهمة الي تتمثّل بسوء ظن  وطوية غالبية المسلمين في مسيحيي الشرق، إذ يعدّون هؤلاء المسيحيين الشرقيين نسخة مماثلة للشعوب الأوربية والغربية قاطبةً الذين تتمثّل فيهم جميع سلبيات  وعيوب ونقائص الغربيين عمومًا، وخصوصا جفاف العاطفة الدينية ، وهذه نظرة خاطئة ومتجنّية يحملها الرأي العام الإسلامي العربي وغير العربي إزاء المسيحيين الشرقيين. كما أن النظرة هذه تؤذي ونضرّ الطرفين المؤمنَين في تعايش الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، وأعداء الإسلام والمسيحية يستغلّون هذه النظرة الخاطئة المتجنّية أبشع إستغلال لبلوغ مآربهم الشرّيرة المخرّبة من خلال إشعال الفِتَن والإصطياد في الماء العكِر، وبث الكراهية والأحقاد. هذا فضلاً عن حقيقة أنّ غالبية شعوب الغرب ما عادت تستحق عدّها مسيحية بعد أن سرت العَلمانية  وتفشّى الإلحاد في كياناتها ومكوّناتها، واعتناق البوذية ونبذ المسيحية.
     بعد أن نشأت غالبية الشعوب الغربية من قرابة سبعة عقود على النظام الَعَلماني الذي يغلب عليه عدم المبالاة بالمشاعر الدينية والإيمانية التوحيدية، لأن العلمانية تعتنق قِيَمًا واعتبارات وآراء تغلب عليهاالصفات المادية والعلمية البحتة وجفاف الروحانية، أضحى من العسير على الغربيين في القارّتين أوربا وأمريكا، بل من المستحيل أن يدركوا حيوية الدور الفاعل الذي يؤدّيه الدين والتُقى في المجتمعات العربية والإسلامية عمومًا، وفي العراق خصوصًا لدى المسيحيين والمسلمين والمؤمنين الآخرين؛ ففي حين تشيع في البيئة العَلمانية معتقدات الإلحاد واللاأدرية والزندقة والإنكار، وتقل فيها أو تنعدم دُور العِبادة، أو عدم حضورها إلا بأعداد قليلة جدًا من كبار السن فقط،     يشيع في الشرق العربي والأوسطي ذكر إسم الجلالة بين خلائق الشرقين في مجالات الحياة اليومية، وتبدو بجلاء دلائل الحضور الدائم للديانة في الكنيسة والجامع والكنيس والمعبد والهيكل والكاهن والإمام والساجد والصائم والقِباب والمآذن، في حين يندر أو ينعدم وجود هذه المواضع التقوية والرموز الشخصية والعلامات الإيمانية والمذهبية، والمعالم الروحية والتعبّدية في الغرب الأوربي والأمريكي، ما خلا بعض القرى النائية، وقليلاً جدًا في الحواضر الكبرى والعواصم.
     فلا عجبَ أن نرى في الآونة الأخيرة كثيرًا من الكنائس في الغرب قد خلت منذ أعوام من المصلّين والقسس، وستُمسي بعد عقد دُورًا سياحية ومعالم آثارية، كما حدث في دُوَل اوربا الشرقية أيام هيمنة الإتحاد السوفياتي عليها، وشاهدنا بعضها في بلغاريا عام 1979 غاصّة بالسيّاح الأجانب، وهم ينظرون إلى بعض شموعها المضيئة أو يشعلون بعضها، وكما شاهدنا كنائس خاوية في برن وزوريخ السويسريتين في عامَي 1982 و 2005، وفي فرنسا وهولندة عام 1975.
    لكنني أرى لوائح مشاهدة قريبة لندرة الإقبال على حضور دُور العبادة في عراقنا وفي كل أقطار الشرق العربي والأوسطي كنتيجة لانتشار المفاهيم والمبادئ العَلمانية فيها، لتغدو بعد عقود شواهد إيمانية وشواخص عهود مضت كانت أفضل إجتماعيًا ونفسيًا وروحيًا، وقد تحوّل بعضها إلى فنادق ومقرّات إدارية وعسكرية ومستودعات !         

43
متى يكون الإنسان سيّد نفسه ؟!

يغقوب أفرام منصور
    ثمة بون شاسع بين أن يكون الفرد الإنساني سيّد نفسه وبالتالي سيّد مصيره، وبين أن يكون مسودًا عليه من آخَر أو آخرين يقررون ويحددون مصيره الوجودي. وخير قيلس على مدى رقي المجتمعات البشرية في ركب الحضارة هو النسبة العالية المتوفّرة في سكّان ذلك المجتمع، الذين يعتنقون هذا المبدأ أو الإرادة عن سليقة أو وعي تربوي، ثقافي أو معرفي، فيتصرّفون في مناهج حياتهم بهديٍ من هذه العقيدة الجوهرية تلقائيًا وبسلاسة وقناعة، بدون حاجة إلى الإقصاح عنها، أو بكونهم سادة أنفسهم، ومتحكّمين في مجال تقرير مصيرهم كما يرومون في عالم يكون فيه العمل المجدي  شاملاً ومؤهِلاً لبلوغ الكفاف والسعادة النائية عن الأنانية المفرطة، والغلوّ في الإستملاك والطمع.
     وفي حالة انخفاض وجود هذه النسبة في المجتمعات البشرية، تكون غالبية أي مجتمع كبير أو صغير ـ في المدينة وشعب القطر وشعوب القارّة والقارات وشعوب العالم قاطبة ـ أي عندما لا تملك هذه المجتمعات والشعوب زمام أمورها، لأن غالبية أفرادها ليسوا سادة أنفسهم، وبالتالي ليسوا سادة مصيرهمم الوجودي ـ تغدو هذه الغالبية المجتمعية مسيّرة ومقودة بإرادات وأهواء ومطامع وانحرافات وشرور ونزوات الأخرين من بيئتهم نفسها، أو من خارجها وبعيدة عنها، ومن أفراد وأحزاب وزُمَر خفيّة أو منظورة، ومن ذوي نزعات إستعمارية، إستغلالية، وبعضًا مجرّدة من أقل درجة من درجات الإنسانية الشاملة، ومن يقظة الضمير، ومن نهج سواء السبيل.
     ولمّا كانت أبرز عيوب ونقائص البشرية هي الأنانية المفرطة القاتلة، والطمع  إلى حد الجشع بكل أنواعه : في السلطة والرئاسة والشهرة والتملّك والجنس، كما ومن مثالبها الغطرسة والكبرياء  والحسد، كان من الطبيعي أن يكون تاريخ البشرية زاخرًا بالحروب الفاتكة الهدّامة الدمويّة.
     في الحربين العالميتين كانت بواعث إشتعالهما جملة من هذه العيوب الكبرى في تاريخ البشرية، فقد أوحى سياسيون  "دُهاة" إلى الشعوب الغافية والمتحفّزة والمغلوب على أمرها، والمتطلّعة إلى الإنعتاق والإستقلال، وذوي الأماني القومية، بوعود خلاّبة لتحقيق أمانيهم وتطلّعاتهم هذه، وإذا بهذه الوعود المعسولة المغرية ـ بعد أمد قصير من  إبرام معاهدات الصلح ـ تتحوّل إلى اقتسام تلك الكيانات وتفتيتها من قبَل الدول "الكبرى" بأشكال من الإستعمار والإسترقاق والوصايات والحمايات.وقد رافق وعود هؤلاء الساسة الدهاة دعمٌ وترويج مُعلن وخقي من رأسماليين كبار، وعاملين في الظلام والسراديب ومُنتجي ضروب الأسلحة. هذه النتائج المُخيّبة لأماني وتطلّعات الشعوب النامية والمستضعفة، حصلت كلها في أعقاب الحربين العالميتين، إضافة إلى كساد  في أواخر العشرينات و اوائل الثلاثينات من القرن الماضي في أوربا، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين في أمريكا، والأخطر من كل ذلك هو أن مستقبل البشرية غدا عند مفترق الطرق وعلى شفير الهاوية والفناء الشامل ـ غِبّ فاجعة جريمة هيروشيما وناغازاكي/1945، وأحداث  جريمتي 11 أيلول /2001وحربي أفغانستان/2002 والعراق بعد عام ـ بدليل التهديدات والتوعّدات المتبادلة التي يطلقها كبار أقطاب الساسة من شهور خلت بإشعال فتيل حرب نووية وهيدروجينية، ومن إطلاق "أم القنابل" وتتحدّاها قنبلة "أبي القنابل"" !، وكأن الشعوب جرذان أو صراصر وحطب هذه الحرائق الهوجاء، وهذا الإفناء الآثم!
     وكيف لا تنطلق هذه التهديدات الرعناء المستهترة بحق البشر في الحياة الآمنة، وقد عمّ سواد الخلائق إنحدار القيَم الأخلاقية، وشيوع الفساد بأنواعه والنفاق الأجتماعي والسياسي، وانتشار الجرائم والإرهاب المنظّم، في حين أن الأوساط الثقافية والفكرية والأخلاقية والمدنية لم ترفع صوتها  بعلوٍ كافٍ  لأيقاف  هذه السيول  الهادرة نحو الهاوية المأساوية الكبرى،  وخصوصًا توجيه الأصوات العالية إلى الساسة الكبار في الشرق والغرب والشمل والجنوب ؟!  كما أن هذه الأوساط  عينها لم  تُلفت نظر الشعوب الغافلة عن دنو الخطر الماحق بسبب عدم الإستفادة من أحداث ومؤامرات ونتائج الحربين العالميتين لتحاشي  ارتكاب  مثيل سيئاتها وجرائمها ومظالمها. ألأوساط  التي أسلفتُ ذكرها أعدّها كربابنة حكماء يحسنون قيادة السفينة البشرية لتبليغها ميناء السلام الدائم الوطيد من خلال المناداة بأن يكون [ الإنسان سيّد نفسه، ولا تسود عليه وبالتالي على مصيره ومستقبله أهواء ومطامع ونزوات وانحرافات تؤدّي به إلى الهلاك والفناء. فالعقل الراجح والتفكير المستقيم السليم يؤكّد أن لا شيء أفضل من العيش النظيف الرغيد الآمن على هذا الكوكب الجميل الحافل بالطيّبات والخيرات والثروات، وأن لا شيء أنفع من تحريم الحرب الجماعية التي تهدم ما بنته الأجيال السالفة بالكد الجهيد والعرق الصبيب والتضحيات الجسام، ولا شيء أسوأ من مجاراة المفسدين في الأرض وذوي المطامع الأشعبية، والخنوع لإرادات أصنام العنصرية والشوفينية والفاشية ودُعاتها.]
     ألإنسانية ليست مفلسة، ماديًا  ومعنويًا وروحيًا، من التفكير السليم المستقيم، والإرادة الصالحة، وهي قادرة بصوتها الجهير العزوم أن تجعل ساستها وزعماءَها ورؤساءها وشعوبَها يتخلّون عن الأنانية المفرطة، والنفعية الذاتية الموغلة في الطمع والعجرفة. فعندما تمادت ألمانيا النازية في غزواتها واختراقاتها ومحاربة جيرانها شرقًا وغربًا، وصار مصير هذا الككوكب على كفّ عفريت نَزِق يؤدّي إلى الهلاك الشامل، تحالفت القوى الكبرى ( يريطانيا، الولايات المتحدة، ألإتحاد السوفييتي) لوضع حد حاسم لتجاوزات ألمانيا العنصرية العدوانية الوسيعة، واستهتارها وغرورها، فكان ما كان من اندحار ألمانيا في ربيع 1945 أعقبه أستسلام اليابان في صيف 1945. تمّ ذلك الإندحار بالقوة والتدمير الجزئي، لكن بفضل  توحيد الإرادة للحيلولة دون اتساع  مدى الدمار أكثر مما حصل. فماذا كانت نتيجة ألمانيا وغطرستها واستهتارها بحقوق جيرانها في العيش الكريم الآمن؟ كانت النتيجة كارثية مأساوية: رئيسًا وشعبًا وأرضًا. حتى تشرشل نفسه، رئيس حكومة بريطانيا، نطق بعد انتهاء الحرب قائلاً " لم نكسب الحرب، بل كسبنا السلام." لكن من جهة أخرى، إستفاد إنتهازيون كثيرون ـ أسلفتُ ذكرهم ـ من استمرار الحرب 6 سنوات، ونظير هؤلاء برزوا  ثانيةً راقصين هازجين على أشلاء 30 مليونًا من شهداء وضحايا الحرب. فبعد شهور قليلة من انطفاء أوار الحرب، أُسست (منظمة الأمم المتحدة) في سان فرانسيسكو، وكان الهدف الرئيس المعلن من تأسيسها هو منع الحروب، ولما انتقل مقر المنظّمة العالمية إلى نيويورك، تصدّر صدر قاعة الجمعية العامّة ـ وما زال متصدّرًا ـ  هذه العبارة المنقوشة من مطلع ميثاق المنظّمة [ نحن شعوب العالم أنشأنا هذه المنظمة لمنع الحروب في العالم]. لكن ما كاد ينصرم عام واحد على قيام هذه المنظمة حتى كانت الدول الكبرى، المؤسِسة للمنظمة،  أول من خرق نص مطلع الميثاق الدوَلي المنقوش في عام 1946، حين أشعلت فرنسا حرب فيتنام. وفي عام 1948 حرب أمريكا في كوريا التي أدّت ألى تقسيمها : شمالية وجنوبية، ثم حرب العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ، ثم حرب أمريكا في فيتنام خلال الأعوام  67 ـ 75.
     يلاحظ القارئ المطّلع على أحداث الحرب العالمية الثانية أن بداية إشعالها  في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كانت مع ظهور مُشعِلِها (هتلر) زعيمًا للرايخ الألماني، إذ غزا بولندة في أيلول 1939، فدوَل البلطيق وإسكندنافيا ففرنسا، ثم  التحرّش وضرب بريطانيا بحرًا وحوًا على سواحلها الجنوبية والغربية وعاصمتها ليلاً ونهارًا بكثافة، ثم تورًط ألمانيا في غزو روسيا، مرتكبًا بذلك الخطأ المماثل لخطأ  نابوليون في غزو روسيا قبل قرن وربع. وهنا من المناسب طرح هذا التساؤل: هل آلاف الذين أرسلهم نابوليون إلى روسيا ليهلك جلّهم مع خيولهم بثلوجها وبالمجاعة، ثم آلاف الذين أرسلهم هتلر ألى روسيا لينفقوا بثلوجها ونيرانها.. أقول : هل ذهبت هذه الآلاف إلى حتوفها المأساوية بباعث من أنانيتهم وأطماعهم، أم بباعث من أنانية وأطماع  وعجرفة وغرور نابوليون وهتلر ورهطهما وزمرتهما، وببواعث أنانيات وأطماع ونزعات خفية وظاهرة من آخَرين أسلفتُ ذكرهم؟ وهل كانت هذه الآلاف المرسلة إلى ساحات الوغى المهلِكة  مالكة زمام نفوسها، لتكون سيدة أنفسها ومصائرها، ؟ طبعًا، الجواب (لا)، لأن الجنود هم من المجموع الغالب من الشعب الناشئ على الطاعة للرؤساء والقادة في الميدانين العسكري والإداري المدني، إذ خلافًا للطاعة، ثمة عقوبات مفروضة على المتهمين بالخيانة في حالة رفضهم الطاعة ـ مع العلم أن جيش نابوليون المرسل الى روسيا لم يكن مدافعًا عن وطنه فرنسا، ولا جيش هتلر كان مدافعًا عن ألمانيا، بل بالعكس تمامًا. فالشعب الألماني برمّته لم يكن سيّد نفسه ومصيره آنئذٍ، مع انّ ألمانيا لم تكن حينئذٍ مُعتدى عليها أرضًا وسماءً  وشعبًا، بل هي نفسها كانت الغازية والمعتدية  على جيرانها وأبعد من ذلك بكثير(البلقان ـ كريت ـ شمال افريقيا)
     لهذا ارتأت أمريكا الرأسمالية أن تنجد بريطانيا الإستعمارية ونظيرتها فرنسا فبقية دول أوربا، وارتأت روسيا الشيوعيةـالإشتراكية أن تنضمّ إلى التحالف الأمريكي ـ الأوربي في عام 1944 بباعث شبه مقدّس لدحر هذا التمدد الألماني المرعِب بجبروته وشوفينيته وفاشيته، ودحر التمدد الآخر الرديف من إيطاليا، والرديف الأخر من اليابان التي تمددت في الشرق الأقصى. وكان هذا التحالف ، البادئ تنفيذه من ساحل نورماندي الفرنسي في حزيران 1944، مثالاً مصغّرُا على إمكانية درء الخطر الداهم والمصير السيئ من خلال توحيد الإرادة الصادقة الصالحة لمقاومة الشر والعدوان والإهلاك بقوة وعزيمة تفوقان قوة وعزيمة المعتدي والغازي العازم على مزيد من الإختراق والتمدد والإستيلاء. وكان ذلك مثالاً بسيطاً على أن يكون الإنسان ( الذي يرمز إلى الإنسانية.. البشرية) سيّد نفسه وبالتالي سيّد مصيره ، فثمة دلائل ان الإنسانية ومرادفها ( المروءة) غير مفلسة من عناصرها المادية والمعنوية والروحيّة.
     واليوم وقد برز بجلاء ، منذ عقدين، وجود أكثر من (هتلر) واحد على سطح كوكبنا، المُشوّه بالتلوّث، الموبوء بالشرور والآثام والمفاسد، فما هو موقف  إنسان هاا القرن  الحادي  والعشرين؟ فمفردة (إنسان) هنا تعني شعوب العالم قاطبةً، أي الإنسانية، البشريّة جمعاء، وها هي تسمع وتبصر ما يدور ويُنشر، فيتراءى لي ولكثيرين أن أوضاع الحياة على هذا الكوكب باتت توحي أن الجنس البشري أمسى عند مُفترق الطرق، منذرًا بأوخم العواقب،، فالعارف والمتأمّل جيدًا يلاحظ تشابهًا بين أحوال العالم  في أول عامَي الحرب 1939 و 1940 وبين أحوال العالم في عامَي 2017 و2018  وفي ظروف وأجواء  نفسية وإعلاميّة مهياة، مساعدة لإندلاع حرب عالمية ثالثة. فكل (هتلر) جديد غطريس يهدد  نظيره وغريمَه الآخر النائي عنه كثيرًا بأنه سيفني ويمسح كيانه من الوجود والخارطة بكذا  قنبلة وبكذا صاروخ، فلا يُبقي ولا يذر غير الفناء المحتّم، والخراب والرماد والعدم. فهل تظل الشعوب صامتة هامدة كأبي الهول لتغدو حطبًا ووقودًا لسعير قلوب ومطامع ونيران "الهتلريين" الجدد المتغطرسين المغرورين الأنانيين الموغلين في نزعة السحق والهدم!؟
      متى سوف يكون الإنسان الحالي، في رُقيّهِ المادي وتقنيّتِهِ، سيّد نفسه ومصيره السليم الآمن؟ ألم يَحِن الوقت بعدُ ليرتفع صوت  الشعوب عاليًا تجاه الرؤساء والقادة والزعماء والسياسيين والمنظمة العالمية لتحريم الحروب وانتاج أسلحتها، أم تُرى سوف تترك الشعوب حبلها على الغارب، لتهلك كما يروم الطامعون والأشرار والأنانيون وصُنّاع السلاح، وعبَدَة الشيطان، وهم لن يكونوا بمنجى من الإفناء العام؟!
     
.

44
المنبر الحر / ألقن والفنّانون
« في: 21:03 30/10/2017  »
ألقن  والفنّانون
                                               
يعقوب أفرام منصور
     ما زال كثيرون من الفنّانين في شرقنا الأوسطي في مهمه التقليد أوغرائب وغوامض الحداثة والسريالية لإخراج إبداعاتهم إلى حيّز الوجود في مجالات المسموعات والمرئيات، فبعضهم يلجأ إلى نسجيل الماضي، بلا قليل من التطوير، في حين هم مطالَبون ليس بالتقليد ومحاكاته ، بل بالإغتراف من مأثورات ووقائع وثقافات وأساطير الماضي والتراث، وبالتعلّم من تجارب ونتاجات نظرائهم الحديثين والمعاصرين في أقطار شتّى، شريطة أن يخلقوا لذواتهم شخصيّة مستقلّة، متطوّرة وحافلة بالقدرة على العطاء الجيّد المبتكر، الرفيع، المعبّر عن أحوال وأمثلة يزخر بها الواقع، وعن صوَر ونماذج تعكس طموحات المستقبل نحو ارتقاء المشاعر، وترجمة الأحاسيس السمعيّة والبصّريّة.
      ألفنّان العراقي مطالب في هذه الآونة بنشر التوعية الفنية، وهذا يتطلّب منه جهدًا شاقًا، كما يتطلّب من الجمهور ومنه أيضًا إسهامًا فاعلاً ونشاطًا جمًا في إقامة معارض  للرسوم واللوحات والتمائيل المنحوتة والمصبوبة،  وللصوَر الفوتوغرافية، ونشر كتب فنيّة مبسّطة ومجلات تُعنى بالفنون، ومضاعفة المساحات في المجلات والدوريات لنشر الأعمال الفنية التشكيلية، وتبيان أهمية الفنون في حياة الشعوب ، والدعوة إلى إقامة معارض فنيّة ومتا حف للإقبال عليها من قِبل التلاميذ والطلبة والمدرّسين والمثقفين ومختلف طبقات الشعب، وتشجيع زائري هذه المعارض على اقتناء ما يروقهم من المعروضات. ففي تلك المعارض والمتاحف تتوفّر للمشاهد أن يرى ويتمعّن في مشاهدة المنظر الطبيعي، أو الموضوع الواقعي أو التأثّري أو ألرمزي أو الإنطباعي، أو الشكل الزخرفي أو المنمنم أو التجريدي أو الرسم على الزجاج أو الحفر على الخشب والنحاس، بل حتى على روائع من الخط العربي والسرياني، والرسوم الكاريكاتورية.  وما يُقال عن هذه المعروضات البصَريّة كلها، يقال أيضًا عن الموسيقى وتسجيلاتها ومدوّناتها المخطوطة والمطبوعة، أسوةً بمتحف الموسيقار( فاغنر) في مدينة (لوسرن) السويسرية،  وعن آلاتها الجميلة المنوّعة التي تعبّر عن عواطف ومشاعر وأخيلة البشر في شتى ألأمصار، وهي تهذّب وتثقّف  نفوسهم، وتفعمهم وجدًا وحماسًا إذا تهيأ لها عازفون مهرة ومؤلفون حاذقون ترفع ألحانُهم مستوى أفكارهم نحو مراتب تعلو على السطحيات والماديات والإبتذال. فمستوى التذوّق الموسيقي السائد بين شعبٍ ما ينمّ على مستواه الثقافي ومدى رُقيّه النفسي والحضاري.
    قصدت ُ يومًا، وأنا أناهز اليَفاع،  عيادة طبيب موصلي شهير، يدعى عبّو اليونان قبل زهاء سبعة عقود، فاسترعى نظري صوَرٌ كريكاتورية في غاية الروعة معلّقة على جدران عيادته، ولما إستفسرته عمّن رسمها، أفاد بأنه هو نفسه، فدُهِشتُ وأنزلتُه من نفسي منزلة عالية.
     وهناك تشكيليون غربيون قدّموا في نتاجاتهم أعمالاً إبداعية متباينة لمظاهر ومشاهد من الحياة اليومية للمجتمعات الشرقية على اختلاف بيئاتها ومستوياتها، بعضهم قدّ مها بصورة جيّدة وافية وأمينة. أفلا يجدر بالفنانين التشكيليين المحلّيين عندنا أن يبذلوا الآن وفي المستقبل قصاراهم في إنتاج لوحات يُكتب  لها الخلود وتحظى بالتثمين والإنتشار بفضل احتوائها على روح الشرق وروائعه ومزاياه وتقاليده وتراثه؟! سيبقى هذا التساؤل مشروعًا حتى نلمح الإستجابة له واقعًا ملموسًا وآخذًا في الإزدهار.
     يجدر بالذكر في هذا الصدد تبيان موقف عباس العقّاد من "الفن الحديث" (والسريالية أحد أساليبه) كما ورد في مجلة (ألهلال) لشهر نيسان 1967 ص 148ـ152، وخلاصة رأيه تفيد [ إن الصوَر التي رسمها عباقرة التصوير قبل مئة سنة ما هو أجمل وأفخم وأدل على القدرة والأستاذية من أحدث الصور التي إبتدعتها قرائح المعاصرين.]
     ألكثرة الغالبة على النتاجات الموسيقية الغنائية في قطرنا وفي مصر، إبان العقود الثلاثة الأخيرة،  سيلفّها النسيان، وتنزوي في أركان الإهمال بعد عقد من الأعوام لأتها غير معبّرة عن خلجات الأفئدة وحالات النفس من طرب رصين وشجن ووجد؛ والإيقاع فيها سريع صاخب وسريع جدًا، وفي كثير من مسموعاتها مصحوبة بقرقعات وصرخات أقرب ما تكون إلى زعيق، مما يوحي إلى السامع النبيه المطّلع أن ملحّن الأغنية قد صمّم أو حدّد  قالب إبقاع سريع مسبقًا قبل أن يتسلّم النص الغنائي وقبل ترجمة فحواه ومدلولاته إلى صِيَغ جُمَل لحنية كي يتلقّاها السامعون. إنتقلت إلينا هذه العدوى من مصر، فالكلمات تافهة، غير موحية، ولا ترفع النفوس والعقول إلى مراتب من شأنها تهذيب المشارب والميول والنزعات والغرائز، وتصقل المشاعر، وتهذّب أذواق الجماهير المتحضّرة لتسمو بها إلى طبقة أعلى من الذوق الفج أو الواطئ. وإذا كان قد قيلَ قِدمًا: "لا جِدالَ في الذوق"، فثمة مقولة أخرى تقرّر حقيقة لا يجوز إغفالها ولا نكرانها، ألا وهي: (ألأذواق مستويات).فالمستوى الواطئ المماثل لّذوق زنوج غابات أفريقيا الوسطى مع طبولهم، وهم شيه عراة  يهزجون ويدبكون ويصرخون، ينمّ على مستوى ذوق بدائي متخلّف إزاء أعمال غنائية كثيرة شرقية وغربية راقية هي بعينها ذوات مستويات متباينة في الرفعة والذوق.
    أجل ـ واأسفاه ـ قد غدت كلمات النص المغنّى مبتذلة إل حد الإسفاف وشيوع مفردات الحديث  الدارج السوقي بعضًا ونابية بعضًا، ومجرّدة من الشاعرية، والعاطفة الرفيعة الموحِية.


45
حقائق وآراء عن العرب والشرق الأوسط بمنظور غربيين

يعقوب أفرام منصور
 أربيل
1ـ  كثيرًا ما وقفتُ متأمّلاً ومقيّمًا إزاء مقاطع من الحق العربي وآراء عن الحاضر العربي، صادرة من فم غربيٍ نزيه، لم تُعطَ حقّها الوافي من الإصغاء والإتعاظ.هوذا `(جاك بيرك) الإستشراقي الفرنسي، صديق العرب، وحليف الحق والحقيقة والمنطق، يقول من حديث في حوار أجرته معه الصحافية اللبنانية (ميراز عكر) في ربيع عام 1978 بشأن " أزمة الشرق الأوسط"، الناجمة عن إقامة كيان صهيوتي لاشرعي، مسخ، ما يأتي: " ...باختصار، لقد ارتكب العرب أخطاءً كثيرة، وما يزالون كذلك، مع العلم أن التاريخ والشرعية الدوَلية والحق، كما يؤمن بها الضمير العالمي، هي لصالح العرب بصورة شبه مطلقة. من هذه الأخطاء الدعم البسيط جدًا الذي قدّمه العرب للقضية الفلسطينية في عام 1948.  فبعض الجيوش العربية القليلة تحرّك بأوامر متفرّقة ومشتّتة. وفي عام 1956، تحملت مصر وحدها مَهَمَة الدفاع. وعندما اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان، لم يتحرّك غير الفلسطينيين! أهذه هي الوحدة العربية المزعومة حيال قضية فلسطين في الأقل، المعروفة " بوحدة منطقة الشرق الأوسط، المسمّاة اليوم:  سورياـ لبنان ـ فلسطين ـ الأردن ـ العراق ؟ "  ".
    " ألأخطاء مستمرّة حتى الآن بالأشكال القديمة، وبأشكال مغايرة، وبالأمس فقط (شباط 1998) قال الأستاذ (المسفِر) في بغداد، مدرّس العلوم السياسية في جامعة قطّر : ما برح العرب يرتكبون الأخطاء"، مصداقًا لمقولة (بيرك) الذي فاهَ بها قبل عشرين عامًا. فمتى يتعلّم الساسة العرب من أخطائهم الماضية والحاضرة كي يخدموا وطنهم وشعبهم بأمانة وإخلاص ؟ "
2 ـ  ألإستشراقي الإنكليزي (ديزموند ستيوارت) كاتب وروائي، عمل في التدريس الجامعي في العراق في عام 1948، حيث بدأت إهتماماته بالسياسة والأدب العربي، وصادق كثيرين، منهم جبرا إبراهيم جبرا من المفكرين الفلسطينيين والعراقيين، ثم درّس أعوامًا عديدة في لبنان، وفي أواخر الخمسينيات كرّس جهده للكتابة فقط.
    رأى ديزمومد ستيوارت أن التعايش مع الصهيونية مستحيل، نظير التعايش  بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، وأن فضيلة الصبر العربية تجعله يرى بالفعل، على المدى الطويل، أرضًا مقدّسة هي فلسطين . إنه رفض بعنف طردَ الفلسطينيين من وطنهم، وبشأن هذا الموضوع كتب وحاضر بمنتهى الحماسة والقوة. من المشهور عنه رفضه أن يصف آخرون الشرقَ عادةً بالغموض، فهذا عنده بلا معنى، لأن الناس في نظره هم الناس أينما كانوا، متفاوتون: إذ ليس هناك جنس آدمي يمكن القول عنه بكونه يحتكر الحسنات والفضائل، وآخر يحوز السيئات والرذائل.
    أصدقاؤه من العرب تقبّلوا آراءه كما لو كان واحدًا من الذين نذروا أنفسهم للقضية العربية، وكان يستاء كثيرًا من الإنقسام الذي يحصل في ما بين العرب من حين لآخر وفي أحايين لا يجب أن يكونوا فيها منقسمين.
      فماذا يسعنا أن نقول بشأن أفراد وجماعات من العرب يكرّسون هذا الإنقسام والتشرذم، برغم كل ما حاق بالأمة العربية من مصائب وويلات وكوارث بسبب الإنقسام والتشرذم؟!
     لقد برهن هذا الإستشراقي النبيل في كتابه عن حياة (هرتزل) وعن حياة (لورنس العرب) مقدرة فائقة على إلقاء أضواء جديدة على موضوعين، كان يُظَنّ أنهما قُتِلا بحثًا وندقيقًا، بالرغم من كون الرجل معدودًا ضمن الرومنطيقيين العالميين، إذ هو لم يعتنق أفكارًا مسبقة مصبوبة حيال الناس والأدب والفكر.
3ـ  في  فصل عنوانه (أليهود والغرب الحديث) من كتاب (توينبي) الضخم الشهير بعنوان " دراسة في التاريخ"، قال (أرنولد توينبي) : " إن جرائم إسرائيل أفظع من جرائم النازية"، فهاجمته الصحافة اليهودية في أميركا،  وهاجت وتزعّمت الحملة على المؤرّخ البريطاني  النزيه الموضوعي، جريدة صهيونية أميركية تُدعى " جويش فرونتير" ـ أي "الحد اليهودي " ـ ، فأرسل إليها ردًا نشرته في عددها الصادر في 5ـ2ـ 1955، ورد فيه : "...وأول المتعصّبين الذين عرفتهم في التاريخ ليسوا أقربائي البرابرة ( التيوتون والمسيحيين الفيزيغوت)، بل هم المكابيون (أنظر سفر المكابيين التوراتي)؛ هذا إذا كانت كلمة "متعصّب" تعني ـ كما أعتقد ـ  ليس مجرّد ظالم، بل الشخص الذي يضطهد شعبًا من غير دينه بسبب إختلافه عنه في الدين والعقيدة. والمكابيون أجبروا (الأدوميين والجليليين) على اعتناق اليهودية بالقوّة، وبذلك مهّدوا لأن يكون هيرودس والمسيح يهوديين وليسا من الأمميين. وإنه لمُحزنٌ حقًا أن تكون مجرِمًا بالتعصّب أو تكون ضحيةً له. إن مأساة التاريخ اليهودي الحديث هي أن اليهود ـ بدلاً من أن يتعلّموا من مصائبهم وآلامهم ـ قد صنعوا بغيرهم (العرب) ما صنعه الآخرون بهم ـ أي النازيّون ".
     وقبل توينبي بنصف قرن تقريبًا ، فال جبران خليل جبران في أمريكا في معرض فنون الشعوب : " فن اليهود في النكبة !"، وهي كلمة تُعدّ مصداقًا سابقًا لمقولة توينبي.
4 ـ   ألكاتب الفرنسي (شارل سانت بروت) في كتابه ( فرنسا والإنبعاث العربي) خاطب مواطنيه الفرنسيين، قائلاً: " إن رجل المستقبل العربي ليس هو ذلك المقيم في كازينوهات الريفييرا، ولا هو ذلك العامل المهاجر المقيم في ضواحي مدننا الصناعية. رجل المستقبل العربي يدرس في أحسن الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية   أوبريطانيا وفرنسا، وكذلك في الجامعات العربية المتزايدة. هو يتخصص في أكثر أنواع التقنية تطوّرًا، ويركّز اهتمامه بشغف في قضايا التقدّم الإقتصادي ـ الإجتماعي. وهو قد يكون سعوديًا أو كويتيًا أوعراقيًا أو جزائريًا أو فلسطينيًا. وهذا الرجل يجد خلفه حضارة عريقة جدًا، يستمد منها العزّة والمسؤولية، في حين يلقى أمامه إمكانيات هائلة يستمد منها الأمل."
     صدر هذا الكلام من يراعِ فرتسيٍ متخصص في شؤون الشرق الأوسط، وهو مدير لإحدى مجلات العلاقات الدوَلية في باريس، وقد أسس قبل أعوام (جمعية السلام في الشرق الأوسط) على أساس الحق الفلسطيني الكامل في وطن ودولة. ومحتوى الكتاب يعكس وجهة نظر واتجاه الجيل الصاعد الحالي في أوربا بعامّة، وفي فرنسا بخاصّة حيال حقيقة العرب وقضاياهم المصيرية والمستقبلية. وهو في جوهره يُعدّ بذرة جيدة من البذور التي غرستها الديغولية في حقل التفاعل الخصب المثمر بين أوربا والعرب. وفي فقرة من كتابه، أضاف الكاتب ـ بقصد التنبيه والكشف، لإخراج الفرد الأوربي من طوق تجاهله حقائق العرب وقضاياهم ـ قائلاً:
     " إن العربي، في الحقيقة، لم يخرج لتوّه حديثًا من الصحراء، فليس هو ذلك البدوي القابع في خيمته منذ القِدَم، بانتظار مكتشفي النفط ليشعروه بوجوده، فحتى قبل الإسلام ـ الذي أسس حضارة عالمية لا تُنكَر ـ كانت ثمة حضارات عديدة متطوّرة في المنطقة العربية قبل الميلاد، عندما كانت البلدان الغربية في طور البربرية. ولهذا، فإن العربي المعاصر ينظر بتهكّم، وأحيانًا بغيظ، إلى كل أولئك الذين يبدو أنهم لم يكتشفوه إلا في هذا النصف الثاني من القرن العشرين".
.

46
كتابات مصدرها أعماق الذاكرة وصفحات المذكّرات
                                                 
يعقوب أفرام منصور
     كما أن الكتابات الأدبية الإبداعية ( قصص، روايات، أشعار، مقالات، خواطر، إبتهالات، أمثال، رسائل) مَعِينها الرصيد الثقافي والمعرفي والفكري ، وحاصل الإعتمال الداخلي للفرد بين العقل والقلب وما يتوالد عنه من مشاعر وآراء وتصورات وعواطف وأخيلة، هكذا هي الكتابات الموصوفة ب (المذكّرات) التي مصدرها دفاتر المفكّرات وكراريس المذكّرات والأجندات الحَولية.
     كانت بداية تدوين "يومياّاتي" في عام 1947، وأنا في الحادية والعشرين من عمري، وقد مضى عام على إنهاء دراستي الإعداديّة في سنة 1946، وارتباطي بعمل وظيفي كتابي، مستخدمًا مفكّرة صغيرة، لا تشغل مساحة غلافها اكثر من مساحة باطن الكف، قهوائية اللون، تحمل عنوان (المفكّرة العصرية 1947) صادرة عن ( المكتبة العصرية) المشهورة آنئذٍ لصاحبها محمود حلمي. ولما لاحظتُ أن مكتبة العم (فرجو) الموصلي وأولاده (أكرم، سامي، ....؟) في العشّار، البصرة، قد عرضت للبيع دفاتر مذكّرات مستوردة من إنكلترا (LETTS DIARY) زرقاء أنيقة التجليد والمظهر والصفحات، شرعتُ في اقتنائها كل عام بدءًا من 1948، حتى أوان انفطاع استيرادها في أوائل الستينيات حين تغيّر لون غلافها من أزرق إلى رصاصي ذي حروف سود؛ وكان سبب انقطاع استيرادها صدور دفاتر مذكّرات وأجندات، وطنية الصنع غالبًا، عن مؤسسات تجارية وصناعية وثقافية عديدة، يوزّع عدد كبير منها على سبيل الهدايا لغرض الدعاية والإعلان.
     بفضل مطالعاتي العديدة والمتنوّعة منذ أعوام دراستي الإعدادية وبعدها، تبيّن لي أن اليوميات المدوّنة من قِبل بعض مشاهير المؤلّفين في الغرب، وبأقلام المفكرين والمتفننين والسياسيين قد غدت مصدرًا مهمًا لحقائق ووقائع تاريخية وحياتية، وأضواءً كاشفة عن سِيَر وتراجم أفذاذ وأساطين، بعضها أو جُلّها في غاية الأهمية والجدوى من حيث التوثيق والتثبّت والكشف عن غوامض ومستورات وأسرار وألغاز. فكنتُ في الغالب، قبل الخلود إلى النوم الليلي،  أُدوّن على صفحات دفاتر مذكّراتي ما عنّ لي من خواطر ومشاعر وأفكار وآراء وملاحظات وانتقادات، وما سمعتُ من أنباء مدهشة أو خطيرة، أو ما طالعتُ من مقال أو بحث في مجلة أو جريدة، أو ما أرسلتُ من رسائل، أو ما وردني من بريد أو مطبوع مُهدى من الداخل او الخارج، فقد كنت مولعًا  بالتراسل مع الأصدقاء  والمفكّرين والأدباء.
     بيدَ أن الذاكرة لها سجلّها الخاص اللامرئي في الأعماق وطيّ الكتمان إلى حين أو إلى  المنتهى، تبعًا للظروف وبعض الإعتبارات، وبعضها يتصل بعهد الصِبا والمراهقة واليفاعة والدراسة، حين لم يكن  لأحياء جيل الأربعينات والخمسينات ـ شبابًا وكهولاً وشيوخًا ـ إهتمام أو عِلم أو إطّلاع على "اليوميّات".
     وممّا رسا في ذاكرتي ولم يُدوّن في اليوميّات، مقالان أحدهما بعنوان ( ألبصرة في أعماق الذاكرة) نُشر في جريدة (العراق) البغدادية في 1993، والآخر بعنوان (مدرستي : مدرسة القديس ألبير) نُشر في مجلة (ألفكر المسيحي) البغدادية في عام 2000، ثم نُشر الإثنان لاحقًا في كتابي( بين الأصيل والغسق ـ 2011) مع مقالات أخرى : ( جزيرة أم الفحم وفندق شط العرب) و( من أعماق الذاكرة " أم الجدائل البصرية") و(أطياف مرج أبي عُبيدة =  سهل الموصل أو سهل نينوى)   و( ألقبلة المنسيّة) و ( مشاهد من أغوار الذاكرة) إحتواها كتابي الآنف ذكره. إضافةً إلى ذلك، يشتمل كنابي المعنون( من أدب الرحلات ومن وحي السفر والتجوال والذاكرة ـ 2012) على هذه العناوين: (دهوك في أعماق الذاكرة ـ من وحي السفر: قطرات من مداد القلب ـ رحلة دهوك، سولاف، العمادية، ديري 1955ـ سفراتي العديدة إلى ألقوش، شهر في سويسرة).
      أورد هنا بعض مدوّناتي في (المفكّرة العصريّة 1947) كنماذج كتبتها أوّل مرة في هذا الباب من الكتابة قبل  70 سنة :
ألأربعاء  1ـ1ـ 47    للمرة الأولى أُسجّل مذكّراتي، وشئتُ هذا بعد أن قرأتُ كتاب "بيرون" بالعربية لمؤلّفته أمينة السعيد، حيث بان لي قيمتها وفائدتها وغايتها.
ألخميس   2ـ1ـ47    سأضمّن هذه المفكّرة بعض أسراري وخوالجي التي قد استقرّت زمنًا طويلاً في أركان قلبي الصغير، وسأجتهد ألاّ يعثر عليها أحد ما.
ألجمعة   3ـ1ـ47    زيّنتُ مفكّرتي بصورتين لعزيزيَّ فريد و أسمهان، حبيبيَّ في هذه الدنيا. أنا في هذا اليوم سعيد جدًا لأنني استمعت إلى ألحانهما الجميلة تتوارد على مسمعي بوساطة أجنحة الأثير.
ألإثنين   3ـ3ـ 47    كثيرًا ما أغضب على هذه المفكّرة لآنها لا تسع الشيء الذي أرغب في كتابته إلاّ مبتورًا ناقصًا مشوّهًا.
ألجمعة   14،3ـ 47    كان ابتهاجي وانبساطي اليوم كثيرَين، إذ  كنت في نزهة مع بعض الجيران والأصدقاء في غابات (الأثل) الجميلة. إلتقطنا صوَر بعض المناظر الجميلة.
ألأربعاء  2ـ4ـ47     إستفدتُ كثيرًا من الوعظ الذي ألقاه علينا الأب لويس نقّاشي في كنيسة السريان الكاثوليك.
ألخميس  10ـ4ـ47     كثيرًا ما أختلي بنفسي ساعة الغروب للتأمّل في جمال السحب الملوّنة، وفي وجه الشمس الذي ينحدر ليضيء ظلام قسم آخر من العالم.
ألثلاثاء   23ـ9ـ47    يقول صديقي الدانماركي (كرستيان نيلسن) في رسالته إنه  يود ان يزورني في بلدتي ويعيش فيها إذا تمكّن من الحصول على وظيفة أو عمل. فأشرتُ عليه بالعدول عن هذا الرأي، لأن المعيشة في هذه البلاد لا تعادل شيئًا. فالعمر خسارة في هذه البلاد.
.

47
رسالة في عام 1992 إلى وزير الثقافة والإعلام
تُسفر عن مسيئين إلى الصحافة والناشرين
                                             
يعقوب أفرام منصور
سيادة وزير الثقافة والإعلام المحترم
بغداد
      تحية
      في 2ـ11ـ91 نشرت جريدة( بابل) على صقحتها الأولى مقالاً تحت عنوان (زمن مجيء المخلّص بدأ في مدريد بالنسبة لليهود)، وبجانبه رأي الشيخ عبد الوهاب الطعمة حول الموضوع. وعندما فرغتُ في 14ـ 11 من إعداد تعليقي على الموضوع (الذي هو من صميم اهتماماتي، وألمّ به إلمامًا جيدًا) كانت جريدة( بابل) قد احتجبت عن الصدور قبل أيام. فارتأيتُ إرسال تعليقي إلى جريدة (ألقادسية) برفقة رسالة إلى رئيس تحريرها في 21ـ11، وفي 7ـ12 هتفتُ إلى رئيس التحرير بشأنه، فأفاد :" إن الموضوع غير صالح  في الظرف الحالي للنشر(!) زوّدنا بمادة أخرى". أضع برفقة الرسالة نسخة من التعليق لتقدّر إن كان رأي رئيس التحرير مصيبًا أم مخطئًا، في حين كان مؤتمر (مدريد) للتسوية الإستسلامية ما يرال صداه مدويًا، ورشاش فذلكاته الحاخامية ما انفكّ متطايرًا هنا وهناك، ليسمّم الأرواح ويبلبل الأفكار داخل الوطن العربي وخارجه. إن رئيس تحرير جريدة هامّة يملك هذا المنطق، ويتخذ هذا الموقف، لا يصلح ـ في اعتقادي ـ أن يكون رئيس تحرير (ألقادسية). . وأزيدك علمًا، أن لي تجربة سابقة مع أمير الحلو في عام 1990، عندما زوّدتُه بخطاب مفتوح إلى الشعب الأمريكي ورئيسه بوش، فوعدني بعد مطالعته حين لقائي به في 11ـ4ـ 90 أن ينشره، لكنه أخلف الوعد. فما هي صفة رئيس تحرير جريدة يخلف الوعد وفي موضوع كذاك في أوان الغليان الإعلامي المعادي للعراق؟! وكان أن إضطُرِرتُ إلى توجيه الخطاب المفتوح الآنف ذكره إبان ذروة العدوان الثلاثيني، نشرته جريدة (ألثورة) يوم 27 ـ 2ـ91 ، أي متأخّرًا ـ وتأخّره القهري حزّ في نفسي عميقًا.
      ثم بعد عودة  (بابل) إلى الصدور، سلّمتُ التعليق إلى رئيس تحريرها الجديد في يوم 8 ـ12 مع رسالة في 7 ـ12، وبرغم انصرام فترة ثلاثة أسابيع حتى 31 ـ12، لم يُنشر حتى الآن، على الرغم من أن السيد مظهر عارف، حين التقيتُه في اليوم عينه في المكتبة العالمية مصادفةً، رحّب بموضوع التعليق. كيف تفسّر ـ سيادة الوزيرـ موقف الجريدتين من هذا الإعراض؟! أهذه صورة لحرية إبداء الرأي في موضوع خطير؟ أم هناك توجيه من وزارتكم بعدم نشر نظير هذه المواضيع ؟!
     وهناك حالة أخرى من شهور أربعة أو ينوف، والصحف عندنا توالي نشر أنباء وصوَر عن المقابر الجماعية التي تم العثور عليها ضمن حدود العراق وخارجه، ولا ينصرم أسبوع دون أن يظهر خبر أو خبران. فأثارني الموضوع (وأنا في دير قرب خرائب النمرود في تشرين الثاني المنصرم)، وهيأتُ مقالاً  مقتضبًا لا يتجاوز صفحة فولسكاب، ودفعتُ به إلى رئيس تحرير (ألثورة) في 16ـ11، فأحاله إلى السيد ستّار ألماز ذهب، فأكّد صلاحيته للنشر، وبدلاً من نشره،أُرسل إلى إضبارة المواد المحجوبة! وبعد أن تأكّدتُ أن ذلك يعني عدم نشره، أرسلته بعد 3 أسابيع إلى رئيس تحرير (ألجمهورية)، وانصرمت على تسليمه ثلاثة أسابيع حتى 31ـ12 بدون أن يٌنشر. وفي هذا التاريخ سلّمتُ إلى السيد لؤي، مدير التحرير، نسخة من المقال إستجايةً لطلبه، فطالعه ووجده صالحًا للنشر ووعد بنشره، وقلتُ له : إن الموضوع من الأمور الخطيرة، والخبر الإعلامي مهما كان مثيرًا، فهو لا يرقى في تأثيره إلى مستوى الكتابة الأدبية حول نظير هذه القضايا. فأيّدني في ذلك ووعد خيرًا. وفي 15ـ 1ـ92 واجهتُ السيد لؤي ثانيةً، فاستدعى محررًا يُدعى (عبد القادر)، تبيّن أثناء إستنطاقه أنه هو الذي حجبه حتى آنذاك، فتلكّأ في نشره، وحدد لي الغد (تهرّبُا) موعدًا لمواجهته ظهرًا. ولمّا واجهته وعد بنشره بعد أسبوعين كأقصى حد، وها قد انصرم الأسبوعان. أرفق لمطالعتكم نسخة من رسالتي إلى الأستاذ لؤي في 24ـ1 لتقف على ما يجري من مماطلة وتسويف وحجب لتقدّر ما يعاني الأديب الحر المخلص من تصرّفات صغار المحررين، التي بعضها مشينة بحق الأخلاق وبمهنة الصحافة النبيلة.
     وإ ني أتساءل تجاهك ـ بصفتك المسؤول الأول عن الصحافة ـ هل نظير هذا الموضوع المثير المهم يحتمل مثل هذا التأجيل، وجدير بالحجب والمماطلة والكذب؟! ألا ترى في ذلك عدم  الإنسجام مع التوجّه الإعلامي، وأسلوبًا بيروقراطيًا؟! تجد برفقة الرسالة نسخة من المقال، لتقدّر بنفسك إن كان من اللائق والإنصاف  أن يُعامَل المقال بهذا الأسلوب الملتوي، وأن يُعامَل صاحبه بمثل هذا الشكل من عدم التقدير؟ إن مفعول الخبر حول أي موضوع، معزّز بالصوَر، لا يرقى مطلقٌا إلى مفعول المقال الأدبي الجريء البليغ أوالتحليلي المقنع، ومقالي المذكور، على صغر رقعته، هو من هذا الصنف الذي أسلفتُ وصفه. فلماذا تُعامل الجرائد والمجلات أصحاب الأقلام الجريئة الشريفة البليغة بهذا الشكل من الإجحاف في أحيان كثيرة؟! إن نظرة إلى بعض جرائد ومجلات الأردن تعطي القارئ صورة جليّة أن حرية الكلام والكتابة والتعبير أفضل وأرقى مما هي عندنا، بينما وطننا يحتاج إلى حرية أكثر من التي تمارسها الأوساط الثقافية والإعلامية في الأردن. لابدّ من وجود علّة أو علل لهذه الوضعية، وأمر التحرّي عنها ومعالجتها متروك لسيادتكم.
     كثير من الكلام عن (بوش) و(تاتشر) و(ميتران) بالأسلوب االصحفي الدارج وبأقلام غير متميّزة، ملأ الصفحات والأعمدة، فكان تأثيرها ضعيفًا أو باهتًا، خلافًا للرسائل المفتوحة التي وجّهها بعض الكتاب بالعربيىة والإنكليزية، والتي وجّهتُها أنا على الصفحات الأخيرة من جريدة (الثورة) إلى بوش والشعب الأمريكي في 27ـ2ـ91 وإلى ميتران في 17ـ2،91 وإلى تاتشر في 12ـ9ـ90 ؛ ومعظم المثقفبن الذين طالعوا رسائلي تلك ما برحوا يتذكّرون جيدًا ويُدركون البون الشاسع بين كلام الصحف الدارج، وبين كلام يعقوب أفرام منصور. وتكلمت الصحف كثيرًا عن زيارات فانيسا ريدغريف، والأم تيريزا، ومنظمة أوكسفام بلجيكا إلى القطر في أيار وحزيران 1991، ونسي المثقفون كلام الصحف الدارج، ولكن طائفة كبيرة منهم ما برحت تتذكّر رسائل يعقوب أفرام منصور على صفحات (ألثورة) إلى هؤلاء في 29ـ5ـ91 و23ـ6ـ91 و    24ـ5ـ91 ، واعترف لي بعضهم أنه بكى  حين مطالعتها,
     أنتم تبتغون من الأديب أو المفكّر أن يُدلي بدلوه في هذا المعترك المصيري، لكن الأديب الحر يفعل هذا تلقائيًا ومسرورًا، غير أن ما يؤذي الأديب الحر كثيرًا، ومثله صاحب قلم متميّز غير إنشائي، أو تزويقي، أو ضعيف المحتوى،  أن يلقى محررًا مماثلاً لعبد القادر في (الجمهورية) ولأضرابه أو أعلى منه مقامًا في جرائد أخرى ممّن يحجبون مقالاته بحجج واهية، منها إيثارهم السطحي والتافه (لغرض خاص)، ومنها إتّباعهم لتقليد خاطئ هو أن الكاتب الفلاني ينشر في الجريدة الفلانية، فلا يجوز أن تنشر له أكثر من جريدة، في حين أن هذا يُضرب عرض الحائط أحيانًا بالنسبة إلى بعض الأشخاص، أو أن الجريدة الرافضة تفضّل ذوي الأسماء البرّاقة الرنّانة، أو ذوي المحسوبيات والمراكز المرموقة وذوي الألقاب والدرجات. أما من يحبّر مقالة (مع الحق مع العراق) التي نشرتها (ألثورة) في 1ـ11 ، بعد جهد جهيد، غِبَ حجبها شهرين في الأدراج وبين القراطيس، فقد اضطُرَّ إلى مراجعة المحررين، وأخيرًا رئيس التحرير، الأستاذ صباح ياسين في 29ـ10، ليوعز بإخراجها من مدفنها، ثم نشرها في اليوم التالي، وبإشعار أحد المحررين أن رئيس التحرير عندما يبعث بمادة قد وافق عليها، لا يحقّ لأي محرر تأخيرها إلى هذا الحد أو حجبها. ولك أن تعلم، سيادة الوزير، أن السيد( ستّار ألماز ذهب) بعد أن إطّلع على مقالي غِبّ إخراجه من "المدفن" في أيلول، قال للمحرر الذي حجبه بالحرف الواحد :" هذا كلام مواطن عراقي عربي " ملجوع"، ولو كنتُ مكان رئيس التحرير،لأمرتُ بنشره على الصفحة الأولى وليس الصفحة الأخيرة". لكن برغم هذه الشهادة التي أعتزّ بها، ظلّ المقال محجوبًا لأكثر من شهر آخر، حتى ظهر ـ بعد الإيعاز الهاتفي من رئيس التحريرـ في 1ـ11.
      قلمي معروف، سيادة الوزير، فالسيد عبد الأمير معلّة يعرفني جيدُا، والسادة حميد سعيد، سعدون الزبيدي, حميد المطبعي، صباح ياسين، أحمد شبيب، ياسين طه حافظ (ألثقافة الأجنبية) يعرفوني تمام المعرفة. والسيد  صباح ياسين قال لي مرتين: "أنت معدود عندنا من أسرة تحرير الثورة". وآخرون يعرفون من هو الذي ن نشرت له جريدة (العراق): " تحية إلى المُرضعات الفلسطينيات" في 17ـ10ـ90، ومقالات عديدة عن التعصّب الصهيوني، والروح العدائية اليهودية، ومن هو الذي نشرت له (ألثورة): "عبيد إسرائيل" في 27ـ12ـ90، و "رؤوس حان قطافها" قي 3ـ2ـ91، و" صلاة إمام المجرمين" في 9ـ2ـ91 ، وقبلها وبعدها كثير ممّا سيتصدّر يومًا (أدب الحرب). ومع كل صولات قلمي تلك، ألقى من صغار المحررين وكبارهم أحيانًا ما يسيء إليّ وما يشينهم.
     عندما نشرتُ مقالي (فلسطين مقبرة اليهود) في جريدة (صوت الكرخ) في 9ـ5ـ50، و(خذوها كلمة)عن فلسطين في جريدة ( صوت الفرات) في 21ـ1ـ52، و(الثالوث الرهيب) عن الماسونية والصهيونية واليهودية العالمية في مجلة (ألورود) اللبنانية في أيلول 1967، وسلسلة رسائلي "إلى أساطين العالم"، منهم نهرو، بولغانين، آيزنهاور وماكملان وغيرهم من الأقطاب في مجلة (ألفكر المسيحي) الموصلية خلال الأعوام 75 ـ80 والمحررة أصلآً في أيار عام 1958 ، ومقالي " ليس اليهود أبرياء من دم المسيح) المنشور في جريدة (ألثورة العربية) في 30ـ11ـ 1964، وحتى رسالتي إلى قداسة البابا في تموز 1967 التي نشرتها مجلة (ألعدل) النجفية في عدد أيارـ حزيران 1968، كان السيد( أمير الحلو) ورهطه وأنداده يرضعون أو يحبون أو في عداد المراهقين، واليوم غدت مقاليد الصحافة والنشر بأيديهم، لكنهم يُسيئون إلى الصحافة والنشر بحجب المقالات ـ كما رأيتَ بعض الحالات ـ فيقررون عدم صلاحيتها تبعًا لمقاييس خاطئة أو إعتباطًا، أو إنحيازًا أو لدوافع تثيز الشبهات أحيانًا، كما أشار إلى جانب منها، ذات مرة،  خيّون دوّاي الفهد في جريدة (العراق) ـ الصفحة الثقافية بتاريخ 7ـ10ـ91 (القصاصة مرفقة).
     هزُلت والله ـ يا سيادة الوزيرـ هزُلت !
     رحم الله القائل :
                      نَعيبُ زماننا والعيبُ فينا        وما لزماننا عيبٌ سوانا
      ألمرجو منك، سيادة الوزير، أن تنقذ شجرة الصحافة من السوس الذي ينخر في جذورها وساقها وفروعها.
    هذا، والله من وزاء القصد، ولا غيره.
                                 مع تحيتي وتقديري
                                                           
                                                  يعقوب أفرام منصور
                                         بغداد ـ 4ـ2ـ1992
ألمرفقات/2
ألعنوان: ص.ب. (20190) بغداد الجديدة ـ بغداد                                                   أ

48
عدم انطباق الإسم على المسمّى
                                                                     
يعقوب أفرام منصور
     نساء كثيرات حملن إسم (جميلة) ، لكن الجمال كان قصِيًا عنهنّ  كبعد القمر عن الأرض. ورجال كثيرون حملوا إسمَي  (شريف) و (أمين)، فكانوا في أنظار عارفيهم ومجرّبيهم المتجرّدين نائين عن الشرف والأمانة. هذه المقارنة تنطبق على كثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات العالمية والإقليمية.
     ولدى إمعاني النظر في ماضي (عصبة الأمم) ، التي أقيمت بعد الحرب العالمية الأولى  في سويسره، ألفيتُ ان ما اقترفته الدوَل " الكبرى " في ردهاتها من مخالفات وتجاوزات  على حقوق الدوَل الصغرى، وعلى القانون الدوَلي، ونقضها المواثيق والعهود، حملني أن أطلق عليها تسمية " عصابة الأمم" ! ولدى إستعراضي تاريخ (هيئة الأمم المتحدة) بعد عام 1947، وحتى هذه اللحظة، تبيّن لي ـ مع الأسف العميق ـ أن جملة من إجراءاتها وقراراتها ومناوراتها جاءت مخالفة لضوابط العدل والإنصاف، ومناقضة لميثاقها، ومثبّطة لأماني الشعوب التي انضوت تحت خيمتها الوسيعة. أما مجلس الأمن الدوَلي المنبثق من منظمة الأمم المتحدة، فكثيرًا ما خرقَ حدود الأمن، وهدّد وزعزع أركانَه ودعائم الإستقرار، ولم يتصرّف تصرّفَ من يروم الحفاظ على الأمن الدوَلي، بل من يخشى ان يعِمّ الأمن دوَل العالم، ويسود السلام بين الشعوب. لقد كان هذا منذ البدء، أما الآن، فحدّث عنه بلا حرج عن مهازله والعبث به من بعض أعضائه المتجبّر ين الخارجين عن سبل الحق والعدالة والسلام ! وما فتِئتُ أتذكّر شاعرًا مصريًا في خمسينات القرن المنصرم حين نعته ب "مجلس الخائف من الأمن !". في هذا الصدد أنسّب مطالعة سلبيات منظمة (هيئة الأمم المتحدة في عدد مجلة (الهلال) لنيسان 1949 ص 3ـ5 وفيه سخرية صريحة بمفردة (السلام) الذي تلوكه الألسن وتذكره كثيرًا الجرائد والإذاعات وتنعته ب ( السلام الغائب !).
     وقبل أن تكون العلّة في المنظمة العالمية ومجلسها الأمني، لاحظتُ "جامعتنا العربية"،ـ وقد عاصرتُ نشأتها الأولى ، وواكبتُ حيثياتها وقراراتها وما تمّ ويجري في كواليسها منذ مطلع شبابي وحتى االآن ـ أنها سائرة بعكس عقرب الساعة، وسابحة ضد التيار التقدّمي للشعب العربي، فقد  ناصرت الرجعيين والمارقين والمتحكّمين، وتظاهرت بجمع الصف وتوحيد الكلمة، في حين الواقع البادي للعيان ولكل ذي عقل صائب، يُبدي أنها عملت وتعمل خلاف ما يقول سدَنَتُها ومسيّروها من وراء الستار، أو على المكشوف، وعكس ما تُشيعه ـ دجلاً ـ أبواق الزور والبهتان والتضليل الإعلامي للجماهير العربية التي عانت عقودها السبعة الماضية ضروبًا من الخيبة والإنكسار والإحباط، والتي يقاسي منها جيلها الحاضر ضروبًا من البلبلة والإيذاء اللذين هما  من أعمال الشياطين الملعونين ! لذا درجتُ على التساؤل بين آنٍ وآخر في شأنها: أهذه جامعة أم مفرّقة؟!
     وأورد هنا مثالاً على أن جامعة الدوَل العربية كانت مسيّرة من الأجنبي  وغير مستقلّة في إدارة شؤونها واتخاذ القرارات المصيرية، إستنادًا إلى النص الأتي من مذكّرات الصحافي والأديب العراقي ( رفائيل بطّي) في كتابه ( ذاكرة عراقية) ج2 ص 53 تحت عنوان صغير : (القاهرة آذار 1951) : [ نقل لنا ... الحسيني بأنه سمع من توفيق مفرج بالقاهرة قوله :" كنتُ دعوتُ  البريكاديرـ عميد، قائد لواء ـ كلايتون على مأدبة، فتأخّر قليلاً على غير عادته، ولما وصل سألته عن سبب تأخّره، على غير عادته فأجاب: كنتُ منشغلاً، وأنا الآن كما يبدو لك مسرور منشرح، ومتألّم. مسرور لخدمتي بلادي. لقد نجحتُ في إقناع ممثلي الدول العربية في الجامعة أن يقبلوا الهدنة، في حرب إسرائيل، ومتألّم لأنني غششتُ هؤلاء المساكين فانطلى غشّي عليهم" ] 19ـ3ـ1951.
     إن حال شعبنا العربي إزاء " جامعته " ، وخصوصًا الشباب، يمثّلها بيتان لشيخ الشعراء الراحل، وشاعر الشباب خليل مطران، القائل:
            بني العُربِ، فيمَ الصبرُ والحالُ ما نرى       ويأبى علينا الخُسفَ تاريخُنا قِدما ؟!                      وحتامَ  نطوي  العمرَ ، والليل   دامسُ       ونحتمل الإجحافَ والضيمَ  والظلما ؟!
     والغريب في انطباق هذين البيتين على واقع حال  الجامعة العربية منذ تأسيسها حتى الآن، وبعد تطارق المصائب والكوارث والنكسات التي سببتها، هو أن البيتين الشعريين من مطلع قصيدة وطنيّة ثائرة، نُظمت في أواخر العهد العثماني المتخلّف. فما أشبه الليلة  بالبارحة ـ إن لم تكن أحلك وأردأ ! والغريب أيضًا أن عبد الرحمن عزّام، أول أمين عام للجامعة العربية، قال في نيسان 1948: " ينبغي ألآّ تكون البلاد العربية منطقة نفوذ لأحد، ولا سلطان عليها لأحد، وألّا تنحاز لغير مصلحتها، وأن تقرر سياستها بمقتضى هذه المصلحة، حسب ما تمليه الظروف والملابسات. إن مصلحة السلم الدائم تقضي بأن يكون الشرق الأوسط بعيدًا عن نفوذ أيّ دولة من الدوَل الكبرى. فهذا النفوذ، فضلاً عن كونه خطرًا على السلام العالمي، فيه تصغير لشأن البلاد العربية." (مجلة الهلال نيسان 1948).
     فهل مراعاة (مصلحة البلاد العربية) و (مصلحة السلم الدائم) تكون بتكريس الفرقة، وإشاعة الإيذاء والبلبلة بين الشعب العربي من خلال قرارات جامعته ؟! ـ قرارات تُشجي الضمير، وتُسخِطُ المولى، وتُنزِلُ النفسَ من عليائها ؟!

49
أدب / مناجاة وخواطر في الدجى
« في: 19:43 08/07/2017  »






50
المنبر الحر / كيف ..؟! وكيف ..؟!
« في: 20:48 25/06/2017  »
                             كيف ..؟!  وكيف ..؟! 
(من وحي أيام الحصار وهجمة داعش جالب الدمار)                                  يعقوب أفرام منصور
 
     في يوم22 نيسان 1996 كان كاتب هذه السطور يسمع أزيز طائرات إستطلاع  عدوانية محلّقة فوق مرج ناحية (نمرود ـ الخضِرـ البساطلية) وهو آنئذٍ على تلّة آثارية تُحاذي جُب وديرمار بهنام الشهيد القائم منذ 1500 عام، فكانت هذه النفثة الوجدانية بعد ساعات قلائل من تلاشي هدير الطائرات المزعج:
     [ بعد كدّ الصيف وجَني الخريف وجُهد واحتباس الشتاء، لا بدّ من استجمام واستراحة من كلال وعناء لإراحة الذهن والجسم واليراع، فلا معدى حينئذٍ من هدأة واسترخاء وغناء وترتيل، كما لا يُستغنى عن قسط من ضحك ومرح يبدّدان ما رافق ظروف الشهور المنصرمة من جد واهتمام وهموم ومنغّصات ومثبّطات. ولكن كيف يتأتّى للمفكّر أو الكاتب أو الأديب أن يُغنّي ويبتهج ويهزج في الربيع الزاهي؟! وكيف يتيح له مزاجه الحسّاس أن يغتبط بتنشّق الأريج من كل زهر بديع، ودونه غول فظيع، وعدوٌّ طاغٍ، تُزمجر طائراتُه في فضاء وطنه، وقرب منسَكِه أو منتجَعه أو مأواه؛ وتُنذرُ بالبلاء والحرق والتدمير، قادمات من ديار نائية عبر البحار؟! وكيف تدَعُه زمجرة الطائرات أن يجني شقائق النعمان لتقديمها هدية إلى قرينة أو حبيبة أو صبيّة، في حين طائرات الشؤم والخراب توحي له بهديرها صوَرَ النجيع والأشلاء والسعير في الأرجاء والميادين والمنشآت؟
     كيف يستطيع شاعر بليغ رهيف الحس أن ينظم للحبيب أنشودة حب وهيام، ولطفله أغرودة، ولأمّه قصيدة، في حين أقدام عساكر الأغراب الأعداء تسحق النرجس، وتدوس السندس والزهور الغضّة بالبساطيل في ربوعنا الحبيبة بين زاخو وبيخال، وبين الزاب وبنجوين، وبين الخازر والشلاّل؟! فها هي نمرود تُنتَهَب كنوُزُها وآثارها، ومروج نينوى تَنتحِب، حيث البابونغ يتأوّه هامسًا:  " ما لي لا أجد بجانبي مَن يقطفني ويريحني من حِملي كسابق أعوام الرَغَد، قبل أن يُميتني الجفاف التموزي، وتذروني الرياح؟!" وهاهي الزنابق الصغيرة تتململ، والسنابل تتشكّى من ندرة الحاصدين، والسنونوهات تتوارى وتهجر أعشاشها! ]
                                 *     *    *    *     *
     غِبّ انصرام أعوام على ذلك الربيع المثقَل بالتباريح والأشجان، تزاحمت على مسمع ومرأى الكاتب أنباء ومشاهد الفواجع والكوارث والمجازر والموبقات التي إقترفها وألحقها أجناد جهنم القرن الحادي والعشرين ـ غُزاة داعش ـ بأرض الرافدين، فكانوا جُناة عُتاة، ليس لبربريتهم ضريب، ولا لشرورهم مثيل في حقب التاريخ. فأفعالهم الشنعاء في مدن الموصل وصلاح الدين وألأنبار وكركوك وسهل مروج نينوى وجبل سنجار والشرقاط بلغ صراخها الوجيع وسخامها الكثيف عنان السماء!
     منذ ثلاثة أعوام وأنا أحيا ـ مع آخرين نظيري ـ كما لو كنتُ تحت غمامة سوداء وسيعة البقعة، لا يحلو لي فيها إبتسام ولا انشراح ولا مرح ولا إنشاد وغناء واستئناس وعزف، فهذه كلّها من شأنها أن تخفف عنّي وطأة الشجون وأوجاع العيش ووقع الأنباء المؤلمة الواردة من أصقاع العالم في أعقاب عام 2001، وأخبار أوضار المجتمعات  في أرجاء الوطن والأقطار المجاورة في أعقاب عام 2010. علاوةً على تلك الأحوال العالمية الموحية بتفاقم تردّي الأوضاع، وغياب التفاؤل بالتحسّن وانقشاع الضبابية والتشاؤم، تضاعفت المساوئ حِدّةً وحجمًا في أحوال الوطن بغزوة( داعش) الظلامية في حزيران 2014، وسرعان ما توارد على لوح خاطري ورؤيتي، في هدأة الأنواء والضجيج والعتمة، مشاهد مُجَندلين من شهداء ومغدورين وجرحى في أرماقهم الأخيرة، كما تواردت على سمعي أنّات متصاعدة من حناجر المختطَفبن والمحترقين، وصراخ الأيتام، وعويل الأرامل، وغصص المعذّبين، والأصوات المخنوقة التي تحاول صدورها عن ثغور المغتصَبات من قِبل أجناد داعش، ومن أفواه ضحاياهم من جوع وعطش ومرض وذبح المئات في الأنحاء والزوايا والمخابئ والعراء.
     وسطَ هذه الحالات النفسية، كيف يتسنّى للكاتب والمفكّر والأديب أن يبدع في مجالي الفكر، ورحاب الخيال لإبداع صِيًغ الجمال، ورسم الروائع، وتجسيم الفضائل؛ وكيف يستطيع أن يدعو للتحابب والخير والسلام؟! وكيف يهزج الشاعر إزاء مأساة أو مجزرة، ويَطرَب المنشد بقصد تسلية الحزانى والمضنكين والمنكوبين والمضطهدين في ميادين الحياة ؟! وكيف يُتاح للعازف في ربوع نينوى وكردستان في آذار ونيسان هذا العام، والحال فيهما هذه الحال من مساوئ وضراوة واحزان وأوجاع وخراب وحريق وفواجع، تقطّع النياط أنباؤها ومشاهدها، وتستدرّ العبرات؟! حتمًا كلّ هؤلاء المبدعين والمُنشِئين لا تؤاتيهم تلك الحالات المأساوية أن يُبدعوا ويُنشِئوا إلا إذا خلت مشاعرهم من تبريح ومرارة وتعاطف، فهؤلاء ضِمن جمهرة اللامبالين بغير أهوائهم وملاهيهم! فهم ـ يا لَتفاهَتِهم ـ لا يملكون المشاعر الإنسانية والوطنية، وينطبق عليهم بيت شاعر:
                 تَبًا لِمن  يُمسي  ويُصبحُ  لاهيًا                                                                             ومَرامُهُ  المأكولُ  والمشروبُ                                                               كما ينطبق عليهم مضمون بيت المتنبّي:                                                                                   في الناسِ أمثلةٌ تدورُ حياتُها                                                                                 كمماتِها    ومماتُها  كحياتِها                                                                           

 
     مع كل هذا المد من الطوفان المهلك والمبكي، ذُهِلتُ أيّ ذهول إذ بدا لي كثيرون هنا وهناك وهنالك في كردستان والوسط والجنوب من أرض الوطن، وكأنهم بعيدون تمامًا عن هذه المآسي والآثام التي ُترتكب على مسرح الحياة المشهودة الآن ومنذ نيسان 2003 وحزيران 2014. فتساءلتُ في صمتي:هل الرقص لائق في المجازر والمآتم؟ هل الإحتراب والإقتتال والسلب والنهب والخطف والحرق والتهديد والوعيد وسطَ المِحَن والعواصف الهوجاء والأحداث الجسام من سمات التحضّر والتعايش والرشاد والإخلاص لله والوطن؟ ماذا يروم كتيرون ضمن شعب هذا الوطن المنكوب من خلال تكالبهم وتنافرهم وأحقادهم وخياناتهم بأشكال عديدة، وإفسادهم وانتماءاتهم إلى من ينوون امتصاصَ دمائِهم، واستعباَدَهُم ومَحقَهُم تاريخا ووجودًا؟!
       ألا يكتفي هؤلاء الكثيرون بما هم فيه من تخلّفٍ شنيع، وتصارعٍ شائن، وتعادٍ وتنابز، ومسارهِم نحو المجهول، ودنوّهِم من شفير الهاوية، ليكونوا أقوى سبب لعرقلة تحسّن الأوضاع، بدلاً من أن يقتدوا بآخرين سبقوهم نحو الإرتقاء والصلاح  والفلاح حين نبذوا المساوئ، ورَكنوا إلى التآخي والتعايش المثمر المزدهر؟! فكبف يتسنّى للفضلاء والأكارم والمفكّرين والكتّاب والأدباء والفنّانين أن يعيشوا عيشًا رضِيًا يرفعون فيه شأن الوطن بين الأمم الراقية المزدهرة في حين هذه النخبة الجادّة الغيورة المنتِجة تعيش وسطَ شعبٍ تَعِجّ فيه هذه الكثرة الفوضوية المربِكة المؤذِية للمجموع وصالحِه العام بسبب حِدّة التناحر والإقلاق واستزراع الفتن العمياء؟!
    قال شاعر مؤمن:
                          يا صديقي، إن مضى الوقتُ نزاعًا وحروبا
                         واستمرّ الحالُ  مثل الأمسِ  صعبًا  وعصيبا
                         فادخلِ المخدَعَ واركع واسكبِ النفسَ  سكيبا
                         قُل يا ربُّ: ضاقت،  فافتحِ  البابَ   الرحيبا
     وقال شوقي:
                         إلامَ  الخُلفُ    بينكُمُ    إلاما
                        وهذي الضجّةُ الكبرى علاما ؟
                        وفيمَ  يكيدُ   بعضُكُمُ   لبعضٍ
                        وتُبدونَ   العداوةَ  والخِصاما؟!
 
 
       
                                                                                   

51
إستنزاف  الإنسانيّة
                                               
يعقوب أفرام منصور
 أربيل
    سلاح، تسلّح، ومزيد من سلاح وتسلّح، ثم تدمير، إبادة، فاستئصال؛ والنتيجة النهائية هي تضاعف الإستنزاف الإنساني المستمر. فمنذ سبعة عقود لاح لذوي الرأي الصائب والبصيرة الثاقبة أنّ أهمّ شيء في الوجود لدى الخلائق المتحضّرة هو إنتاج وبيع وشراء السلاح بقصد إشاعة القتل والإبادة واقتلاع الأنام والعناصر والأجناس من الجذور.
    تصنيع الأسلحة والمتاجرة بها ـ خصوصَا من قِبل " الدوَل الكبرى"ـ باتا أقدس من كل المقدّسات المعروفة، وتستحق العبادة، أكثر من عبادة الله، وتستحقان الإهتمام أكثر من الطعام وإنتاج اللباس والدواء، ما دام السلاح أقوى من كل المواد والمبادئ والمَهَمّات الروحية، والملابس والعقاقير! إذ هل من شيء يصمد حيال الأسلحة، والفتّاكة منها خصوصًا ؟! أليس السلاح هو الأعظم قوّةً ؟ أليس هو السلطان غير المتوّج على هام الجنس البشري بأسرهِ الآن؟!
     أليس هو الرب الأقدس لدى الطغاة، وعبيد المال؟ أليس هو جذّاب الإحتكارات والكارتيلات والمتحكّمين بالأسعار؟ أليس هو السيّد الأقدس لدى عبيد الأطماع الجشعة ومصّاصي الدماء، وعميان المحرّمات،  وكذلك عند الراقصين على الجثث والجماجم والأضلاع، ومروّجي العنف والإرهاب؟!
     ألآن وقد أمست الشرائع السماوية ليست ذات اعتبار أو قيمة وقدسيّة لغالبية الجنس البشري، فقد غدا من العبَث تذكير هذه الغالبية بالقوانين السماوية بخصوص تحريم الحروب والقتل الجماعي والإفناء الشامل، وأن البغضاء والعجرفة قد أصبحتا حاليًا غير جديرتين بالذكر نهائيًا، بل كل هذه التذكيرات والمقتبسات القدسية تجتلب السخرية والإستهزاء إلى جمهرة عظمى من الغالبية المذكورة آنفًا، وفضلاَ على ذلك تُؤدّي إلى نفور المعوجّين والمنحرفين!
    إذن يحق لذوي الفطنة والمنطق السليم أن يتساءلوا: هل المدنيّة تحثّ على التدمير؟ هل  التهذيب أو التثقيف يوصي بشنّ الحروب ؟ هل الإنسانية تدعو أبناءها للإفناء الشامل؟ هل الجنس البشري يعلّم أجياله أن ُيرتّب لقتول جماعية لغرض اقتراف ومضاعفة استنزافهِ ؟ هل أهمية وهدف التِقنية المتقدمة والمتطوّرة  هما لإبتكار أوسع وأسرع وسائل التخريب والإهلاك الوحشيَين؟
     إن كانت كل هذه المظاهر من الحياة الحديثة، ذات المستوى الرفيع، لا تقبل حدوث هذه الجرائم والآثام والمساوئ المدنية، لِمَ إذن لا تمنع جميع الدساتير إنتاج السلاح نهائيًا؟ ولماذا لا يمنع ميثاق منظمة الأمم المتحدة كليًا ونهائيًا إنتاج السلاح، بل على النقيض هي تُجيز السباق الجنوني في إنتاجه؟!
     ينصّ مطلع ميثاق منظمة الأمم المتحدة : " نحن، شعوب الأمم المتحدة، قد عزمنا على إنقاذ الأجيال المقبلة من كوارث الحروب ..."، لكن بعد أعوام قليلة فقط من إصدار الميثاق في عام 1945، شُنّت حروب كوريا وفيتنام ومصر، تلتها حروب العراق والبلقان، وما برحت حروب تُشن هنا وهناك في الشرق الأوسط المستباح! لذا كيف نفسّر لجوء بعض " القوى الكبرى" إلى الحروب العديدة التي سببت دمارًا وسيعًا   وملايين الضحايا؟!
     ألا يلاحظ الجنس البشري أنّ  كيان منظّمة الأمم المتحدة قد أضحى كيانًا فاسدًا وعاجزَا عن السيطرة والعلاج؟ ألا تعتزم البشرية أن تتخلّص من الحروب الوحشية ومن مثيري الحروب، وذلك لتحول دون هذا الإستنزاف البشري الفظيع المديد جدًا؟  ألم يَحِن الوقت الأن للجنس البشري أن يثور، أن يتمرّد على الحروب ومُشعِليها؟ فمِن دون أن تفعل البشرية ذلك، سيكون الإنسان مماثلاً لأولئك الذين يغتالون أنفسَهم أو ينتحرون. وقديمَا قال شاعر:
            إن يدُم للناسِ سلطانُ القَدَر       فعليهِم بل على الكونِ العَفاء
     قبل ستة قرون من مجيء السيّد المسيح، قال الفيلسوف الصيني (لاوتسى)، مؤسس مذهب " الطاويّة" هذه السطور عن (ألأسلحة) في كتابه " ألطريق والفضيلة" :
         ألأسلحة أدوات الشر/ ليست أدوات الرجل النبيل/ فلا يسكن قريبًا منها/ وداعة السلام مَثَلُه الأعلى/ ومن يفرح بقتل غيره من البشر/ لا يصحُّ ان بفرضَ إرادتَه على المملكة/ ومن ينتصر في المعركة/ فعليه أن يحتفل بانتصارِهِ كما يحتفل بجنازة.
    وهل حقًا تحيا البشريّة في القرن الحادي والعشرين، وهي في حضارتها الراهنة الراقية، بعد المسيح الذي نهى عن استعمال السيف، لأن مَن يأخذ بالسيف، يهلِك به؟! 

   
                       

52
كيف تُواجَه الحياة؟
                                             
يعقوب أفرام منصور
أربيل
      سُئل أحدهم: كيف تواجِه الحياة؟ فأجاب: بالشجاعة والثبات. وسُئل آخَر السؤال عينه، فأجاب: بالصبر والإحتمال. وسُئل غيرُه السؤال نفسه: فأجاب بالعقل والتبصّر. وسُئل رابع، فقال: بالأمانة والصدق.
     والحقيقة إن مواجهة الحياة في صعابها ورزاياها ومعاكساتها القدّرية وأكدارها ومواقفها المُحرِجة أو المثبّطة، تكون بكل الوسائل والعلاجات  التي وردت في الأجوبة المتباينة، الآنف ذكرها،، مجتمعة أو منفردة، تبعَا للأحوال ومتطلّباتها، ولا ريب في أنّ كلاً من المسؤولين الأربعة قد أجاب عن السؤال منطلقًا، من منظوره الخاص، إلى النقطة الأهم في الموضوع.
     وإذا كانت الشجاعة طليعة اساليب المواجهة الحياتية ـ وقد تكون الشجاعة في هذه الحالة أمضى من الشجاعة المطلوبة في سوح القتال وفي مواجهة الحتف، وخصوصًا إذا كانت من أجل الحفاظ على المبادئ والعقيدة والكرامة ـ فللثبات الراسخ والصمود البطولي دورهما البارز في قهر الصعاب والمظالم، ودحر الشدائد والمُلمّات  مهما طالت واشتدّت. قال الشاعر المهجري ألياس فرحات:
                حياةُ مشَقّاتٍ ولكن لبُعدِها       عن الذُلِّ تحلو للأبيِّ وتَعذُبُ
فليس كالجُبن والتخاذُل والإنهيار النفسي من جالبٍ لسوء المغبّة في مجالات الحياة المكتَنَفة بالمشاق والأهوال وتعليل الجُبن والتخاذل واليأس، لدى كثيرين من أحياء هذا القرن ، هو ضعف أو انعدام الإيمان بالله أو بقدرته أو رحمته أو إرادته، وعدم الإعتقاد بطاقات الفرد الذاتية، فهؤلاء يُمسون كمن يرى ذاته محاصَرًا ضمن أسوار عالية ذات أبواب مُحكمة الغلق دونَه، يعجز عن الخروج من أحدها.
     وإذا قيل في الأمثال: بقاء الحال من المُحال، فالصبر هنا خير مِعوان لمواجهة أيّ مُلِمّة أو غُمّة، فقيل في ذلك: دواء الدهر: ألصبر عليه. والمتنبّي هو القائل:
                  صبرتُ وكان الصبرُ منّي سجيّةً       وذلك أنّ الله أثنى على الصبرِ
وقال أبو تمّام:
                   كل الحادثاتِ وإنْ تناهتْ        فموصولٌ بها فَرَجٌ قريبُ
وقال نَهشل بن ضَمرة:
                       صبرنا له حتي يبوخَ وإنّما        تُفَرَّجُ أيامُ الكريهةِ بالصبرِ
     أما العفل والتبصّر، فقد قيل فيهما: العقل وزير ناصِح. وقيل أيضًا: من كانت فيه خُصلةٌ أرجَحُ من عقله، فبالحري أن تكون سبب حَتفِهِ  وقال بعض العلماء: كل شيء إذا كثُر رخص، إلاّ العقل، فإنه إذا كثُر غلا.
      أما الصدق والأمانة، فقد أوصى بهما الحُكماء والمُجرِّبون في التغلّب على العُسر والشدّة والضغط والضَنَك؛ نظير هذه الواقعة في مطلع القرن المنصرم من حياة عامل في مطعم : إستغنى عنه يومًا صاحب المطعم، فهام على وجهه باحثًا عن مورد رزق، وفي جيبه ديناران فقط. ثم عزم أن يعمل بائعًا متجوّلاً يبيع الملابس النسائية. فصادفَ أنّ جاريةً إبتاعت منه ثوبًا، تـقاضى منها ضعفَ ثمنه. لكنّه باتَ ليلته مؤرّقًا بتأنيب الضمير. ولمّا حبّب مولى الجارية أن تبتاع لها ثوبًا آخَرَ، وقصدته في اليوم التالي للتزوّد بثانٍ، أبى البائع أن يتسلّم ثمنّه، مُفيدًا إنه قد قبض منها البارحة ضعفَ ثمن الثوب الأول. فلمّا وقف سيّدها على جليّة الأمر، جعله ناظرًا على جميع مشتريات قصره الباذخ، فأصاب ـ بقضل أمانته وصدقه ـ  ثراءًا عظيمًا، وعاش عيشًا رغيدًا مرفّهًا !
     غير أنّ كثيرين في أيامنا ، نأت عنهم القناعة والصدق والأمانة والرضا بالمقسوم، فهؤلاء قيل فيهم:
                     واقنعْ بما أُوتيتًهُ، تَنَلِ المُنى          وإذا دهتْكَ مُلِمّةٌ، قتَصبَّرِ
                 وإذا سَخَطتَ لِضَرِّ حالكَ مرّةً            ورأيت نفسَكَ قد عَدَتْ، فتبَضَّرِ   


53
المنبر الحر / ألحلُم بحياة أفضل
« في: 20:17 15/03/2017  »
ألحلُم بحياة أفضل
                                                     
يعقوب أفرام منصور
     في يوم 30ـ10ـ 2010 لبّيتُ دعوة مركز الرجاء الثقافي في بغداد لحضور محاضرة ألقاها  القس الدكتور فاروق بديل حمو، راعي كنيسة في أوستراليا، وبعنوان (الحلُم بحياة أفضل) تناولت مفهوم الغربة والهجرة إستنادًا إلى الكتاب المقدّس، ومن شأن مفاهيم ومعلومات  المحاضرة أن تزيد صبر وإيمان المواطن العراقي المسيحي كما إعتقد المحاضر. وفي اليوم التالي 31ـ10ـ2010 أبردتُ إلكترونيًا مداخلتي إلى مدير مركز الرجاء الثقافي، ألأستاذ هاني قسطو؛ وقد حوت النقاط الأربع الآتية، شئتُ تبيانها الآن في أوان تصاعد موجات الهجرة بوتيرة متهافتة لها مضارّها ونتائجها السيئة حتى على المهاجرين أحيانًا وبعضًا بعد مُدد متفاوتة:
1ـ الحالات الفردية القليلة جدًا، المستقاة من (سفر التكوين)، الموحاة من الله إلى أشخاص معيّنين قليلين للغاية، وضمن نطاق ضيّق فحسب، هي حالات إيمانية بَحتة، واستجابة نادرة لنداء ربّاني، وليست موحاة إلى جماعات وشعوب وقبائل وأفراد كثيرين بسبب إضطهادات ومجازر وتغيّرات مناخية وبيئية وكوارث وحروب وقحط وفيضان ومجاعة وتمييز عنصري وعقائدي... أقول: هذه الحالات الفردية ( المستقاة من سفر التكوين) لا تنطبق أبدًا على هجرة وتهجير وتغريب العراقيين على مختلف أديانهم.
2ـ بخصوص وجوب تحدّي كنيسة العراق لبواعث إستمرار موجات هجرة وتهجير المسيحيين من وطنهم الأصلي ـ كما أشار إليه المحاضر، وأوصى باللجوء إلى الصلاة الدائمة كأداة لهذا التحدّي، أقول: ليس بالصلاة وحدها يمكن أن تصمد الكنيسة، وتتحدّى موجات الهجرة العارمة الجارية منذ أعوام ما بعد حرب 2003، بل ينبغي عليها ـ في التحدّي المقترح ـ أن لا تشجّع على الهجرة بأيّ شكل من الأشكال: في السكوت عنها، بل عليها أن توصي في المواعظ ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة بعدم مغادرة الوطن، لأن المغادرة تعني تناقص الحضور الكنسي وضعف الإيمان، وتفاقم الخوف الذي نهى عنه السيّد المسيح بالقول: " لا تخافوا ...."، وعدم إعطاء المثل الرديء لأبناء الكنيسة من خلال مشاهدتهم بعض أقارب القسس والمطارين يبارحون الوطن للهجرة، بل حتى أفراد من الإكليروس هاجروا ويفضّلون الهجرة على المكوث في الوطن للتثبيت والصمود. ألصلاة هنا يجب أن تكون مقرونة بعمل جاد حثيث من خلال التوعية وتبيان مضار ومساوئ الهجرة العديدة.
3ـ ألهجرة قبل 2003 منذ أواسط الستينات، وبعدئذ حتى الآن، لم تشمل المسيحيين
 فقط. فالإرهاب المقصود في المحاضرة والمؤدّي إلى التهجير شمل جميع الطوائف غير المسيحية، إذ الغاية القصوى من الإرهاب هي تفريغ البلد من الكفاءات والقدرات والمتميّزين بشكل خاص، فضلاً عن تقتيلهم وتفجير معابدهم وحرمانهم من فرص العمل. وليس الإرهاب في العراق ـ كما أفصح المحاضر  ـ مقصودًا للمسيحيين فقط، ولأنهم تخلّوا عن التشبّث بالإيمان والثقة بملازمة كنائسهم، إذ الواقع الفعلي لأطياف ونِحَل وقوميات المهاجرين تنفي مقولة المحاضر تمامًا.
4 ـ ألهدف الأهم من التهجير ـ كما يريده المفسدون في الأرض ـ هو إفراغ العراق وجاراته من المؤمنين الموحّدين إلى أقطار غربية يشيع فيها الإلحاد واللاأدرية وضعف التديّن وعدم ممارسة التقوى والعبادة، وتصاعد نزعات التحلل والفساد والشذوذ، ليقتدوا بهم في سيئاتهم ورذائلهم ومحرّماتهم وكفرهم، بدءًا من صباهم وشبابهم؛ وبعد العراق يلي دور الأقطار العربية حتمًا بعد عقد أو عقدين ـ إذا بقيت الحال على هذا المنوال ـ خدمةً لأهداف المفسِدين في الأرض الذين لم يُشِر إليهم المحاضرإطلاقًا، وذلك بحسب " مخطط الشرق الأوسط الجديد"، سيئ الصيت، وهو أهم وأقوى وأخطر حلقة في هذا المقصد الشرّير!
    إلى هنا تنتهي مداخلتي، وأضيف الآن هذه السطور:
1ـ  فتح أبواب الهجرة من قبل بعض الدول الغربية: ألمانيا، فرنسا، إنكلترا، السويد، أمريكا، كندا، أوستراليا، ناجم عن احتياجها إلى أيادٍ عاملة عديدة الأصناف، فضلاً عن مهارات وكفاءات؛ وعامل الإحتياجات هو قلة الولادات في هذه الأقطار لعدم رغبة شعوبها في الإنجاب إطلاقًا أو الإقتصار على فرد واحد فقط.
2 ـ تعقيبًا على رأي المحاضر ـ كما أوردتُ في النقطة الثالثة من مداخلتي ـ إذ قال (إن الإرهاب الذي لحق مسيحيي العراق كان نتيجة تخلّيهم عن التشبّث بالإيمان والثقة بملازمة كنائسهم)، أقول: إن المسيحيين عمومًا، المنتشرين في المهاجر الأوربية والأمريكية والأوسترالية، واجهوا ويواجهون حاليًا شحّة كبرى في الكنائس والقسس، فغَدَوا أقلّ ترددًا على الكنائس، وبالتالي أقلّ حرارةً في الإيمان والتقوى، كما أقلّ التزامًا بالآداب وفضائل التربيىة المسيحية في مغترباتهم، وبسبب احتكاكهم بشباب الغرب، ذكورًا وأناثًا، واعتناق أفكارهم المادّية وقِيَمهم الأدبية والخُلقية. وأكرر قولي السابق إن الإرهاب لم يكن موجّهًا إلى الكنيسة فقط، بل كان إلى جميع مؤمني وأجناس العراق، وقبل موجات الهجرة بعد 2003، جرت موجات عديدة منذ الستينات حتى نهاية القرن الماضي، لكن المحاضر لم يُشِر إليها.
3 ـ ثمة بوادر لوحظت منذ شهور، هي حدوث حالات هجرة معاكسة على نطاق ضيّق، بسبب كثرة الضرائب المفروضة على المهاجرين بعد توطّنهم، أسوةً بالسكّان الأصليين في معظم الأقطار الغربية، فضلاً عمّا سادها من تحلل القِيَم والأخلاق، وعمّها من انحرافات مسلكية، ةتلاشي العقائد الإيمانية. وتوقّعاتي أن هذه المساوئ ستتفاقم وسيعاني منها أكثر العراقيين في مهاجِرِهم، ويعيدون النظر في أحوالهم ومستقبل عيشهم في المغتربات.

54





55
السلام وحوار الحضارات والثقافات

                                                                         
يعقوب أفرام منصور
أربيل
    يعني الحوار الإصغاء بأناة إلى رأي مقابل من الآخرـ إن كان الآخر فردًا أو جمعًا كفريق أو مجموعة أو هيئة ـ على أن يسود الإصغاءَ جوٌ من الإحترام المتبادل بين الظرفين، ورغبة صادقة  جادّة في إدراك حقيقة ومغزى أو مفهوم الرأي الآخر؛ وكي يكون الحوار مجديًا وإيجابيًا في نتيجته، من الضروري أن يكون الطرفان المتحاوران مجرّدَين من نيّة مسبقة في عدم التوصّل إلى إتفاق مع الطرف الآخر، أو عدم القبول به، برغم وضوح الرأي والرؤية والفكرة بخصوص حقيقة أو قضيّة ما  مسندة أو عقيدة ما هي مدعومة بنص مادّي أو قُدسي لدى الطرف المقابل، أو بقانون وضعي لدى الطرف الأخر. فعملية الحوار الصادق، في نيّته، هي عملية تفاهم متبادَل لغرض تقارب وجهات نظر المتحاورين، ومعرفة ما عند الآخر من جوهر أوخلاف أو إبتعاد، لغاية وضع أسس إتفاق لحل معضلة إقتصادية، إجتماعية، عائلية، سياسية، بيئية، أو للقيام بمشروع مُجدٍ أو قبول الآخر بما يحمله من قناعات إيمانية، وافكار مذهبية توصل إلى تعايش متبادَل، واحترام خصوصيات الأخر في الجنس واللسان والعِرق والرأي والعقيدة. وكلّما زاد توفّر نقاط التقارب أو الشبه المشتركة بين الطرفين المتحاورين، غدا بالتالي من الأسهل قبول الطرف المتحاور بنظيره المقابل في معظم أو جميع النقاط التي تمّ طرحها على بساط البحث في الحوار.
     متعددة هي أطراف التحاور: جوار مع الله ـ مع الإنسان ، مع العدو ـ مع المخالف ـ مع الحليف ـ وتحاور بين الرئيس والمرؤوس، بين الزوجين، بين السيّد والعبد،  تحاور الأولاد مع ذويهم، تحاور بين جمعَين ، بين رفيقين او زميلين أوخَصمَين.
    أمّا أهم المحاور في الحوارات التي تحتاج إلى إجرائها الشعوب في هذا القرن، فهي: محور" أثر الثقافات والحضارات في التوصّل إلى بلوغ السلام "                            محور" الحوار المسيحي ـ الإسلامي"                                                     وأهم الحوارات: حوار الشرق والغرب  ـ الحوار اليهودي/المسيحي/ الإسلامي                                الحوار اليهودي / المسيحي
      جدير بالذكر في هذا الصدد خطاب قداسة البابا  الراحل يوحنا بولس الثاني في  اليوم العالمي للسلام ( 1 ـ1ـ 2001) إذ قال: [ ثمة نحدّيات  عذيدة ينبغي أن يجابهها العالم من خلال تفاهم أفضل بين الشعوب، فعلى الجميع أن يشعروا بالواجبااالأدبي الأكبر لكي يحققوا عاجلاً خيارات واقعية لتحريك قضيّة السلام والتفاهم بين الناس]. وحَرِيّ بالعلم أن أحبار الفاتيكان قد كرّسوا هذا اليوم من كل عام للصلاة من أجل السلام العالمي قبل 49 عامًا ـ أي منذ عام 1967، وكانت رسالة البابا تحمل هذا العنوان ( الحوار بين الثقاقات من أجل إقامة حضارة المحبّة والسلام بين الشعوب).
     فضلاً عن ذلك، لقد انسجم خطاب قداسة البابا، الآنف ذكره، في هذا المجال مع قرار هيئة الأمم المتحدة في اعتبارعام  2001" سنة دوَلية للحوار بين الحضارات". (أنظر مجلة "نجم المشرق" عدد 26 لعام 2001 ص 146).
       وفي اليوم الأول من أيلول 2001 صدر البيان الختامي لمؤتمر مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الذي ورد فيه " إن العالم اليوم قي مسيس الحاجة إلى حوار الثقافات والحضارات، بدلاً من تصادمهما، وليس من شك قي أن الأديان المختلفة جديرة بأن تؤدّي دورًا فاعلاً في هذا المجال،  وهذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع".
     وفي مناسبة افتتاح سينودس الأساقفة الذي انعفد في روما خلال الفترة 30 ـ 9/ 27ـ10ـ 2001  خطب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قائلاً [ الشجاعة تستوجب الإشارة إلى الخطايا الإجتماعية الناتجة عن النزعة الإستهلاكية، وإلى الإقتصاد الذي يُحدث فجوة مؤسفة بين قلّة من الأغنياء وبين العدد الهائل من البؤساء. وفي كل عصر تقف الكنيسة إلى جانب المستضعفين بواسطة رعاتها رسل المحبة الذين يُعلّمون ويدعون إلى مبادئ التضامن والعدالة الإجتماعية ]. جريدة الرقيب الروماني عدد 40 في 3ـ10ـ 2001.
     بعد ستة أعوام من انصرام اليوم العالمي للسلام، صدر [ بيان كيوتو عن مجابهة العنف ودفع عملية الأمن المشترك قدمًا ] في إعقاب الإجتماع العالمي الثامن لِ "الأديان من أجل السلام" في آب 2006]، إذ التأم مؤتمر الفمّة العالمي للأديان من أجل السلام  الثامن في مدينة كيوتو اليابانية للفترة 26ـ29 آب 2006، إشترك فيه ممثلو كافة الأديان في العالم: ألمسيحية، الإسلام، اليهودية، البوذية، الكونفوشية إلخ، ومثّل العراق فيه نخبة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، إجتمع فيه أكثر من 800 مرشد ديني مثّلوا كل التقاليد الدينية الرئيسية، وكل منطقة في العالم، جاوزت المئة قطر. وقد وفد هؤلاء من الشبكة العالمية للأديان من أجل السلام التي تتألّف من مجالس ومجاميع محلّية، وطنية وإقليمية، كما من شبكات إيمانية شبابية ونسائية، عبّروا عن اعترافهم بالإسهامات والبيانات المهمة التي جرت في اجتماعانهم، وبأنهم سيبنون عليها. إخترتُ من البيان هذه الفقرات:
** " إننا اليوم نعيش في عالم تمسك به أشكال عدّة من العنف المباشر والمركّب: صدامات وصراعات عنف ـ بين الدول وعبر الحدود، تجري بين دوَل ومجاميع، لإنتزاع الحياة وتدمير المجتمعات."
** " على المجتمعات الدينية بالأخص أن تقوم بدور مركزي في تشخيص ومجابهة العنف بكل أشكاله ومظاهره. لفد قاست أديان العالم ذمًا ونبذًا سبّبهما أولئك الذين سعوا إلى سوء التوسّل بالدين لأغراضهم الخاصّة. وفي إستمرار الإقتتال العنيف في أرجاء الغالم، يُستخدم الدين تبريرًا أو عذرًا للعنف. ومن المؤسف وجود التسليم أن بعض المجاميع ضمن جماعاتنا الدينية قد سعت في الحقيقة إلى استخدام العنف، فعلينا أن نرفض هذا ونلتزم مجددًا بالأديان في سبيل بلوغ السلام."
** " اليوم باتت مقترفات الإبادة الجماعية والقمع برعاية الدولة، وأفعال الإرهاب، وأشكال أخرى من امتهان وانتهاك حقوق الإنسان، أفعالاً تخرق القانون الدوَلي، وتستهدف المدنيين الأبرياء، وتهدد امن الكثير من المجتمعات. كما أن قوانين الدولة، التي تُقيّد حقوق الإنسان والحريات المدنية، هي أيضًا نوع من العنف، فالأمراض التاجمة عن الحروب والجوع والتهجير والكوارث البيئية تشكّل تهديدات خطرة للحياة". (أنظر الصفحات 38 ـ43 من كتابي ( ألأماني والأهواء بين الدين والدنيا) صادر في أربيل ،2015).
     بعد هذه المقتبسات من مصادر روحانية فردية وجماعية، لا يخلو بعضها (كما في الفقرة الثانية في أعلاه من بيان كيوتو) من لوم وانتقاد موجّهين إلى " الذين سعوا إلى سوء التوسّل بالدين لأغراضهم الخاصّة، في استمرار الإقتتال العنيف في أرجاء العالم، يُستخدم الدين تبريرًا أو عذرًا للعنف"، أشير إلى صدور كتابين موسوعِيَين جديرين بالإهتمام والإطّلاع على مضامينهما، وهما [حوار الحضارات.. المعنى ـ الأفكار ـ التقنيات ] الصادر في عام 2009 عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، من تأليف مجموعة من الباحثين الروس واللبنانيين؛ والكتاب الآخر مُعنوَن (عاشق الإسلام مؤمن بعيسى) مؤلفه الفرنسي/الإيطالي؟ [ باولو دالوليو] ـ "الراهب بولص"ـ المترجَم من الفرنسية إلى العربية من قبل الأستاذة رجاء شلبي، وصادرعن دار الفارابي/بيروت 2013ـ مع العلم أن المؤلّف شخصية "معتمدة من قبل بابا روما" كما ورد في ص10.
      من الكتاب الأول، أنقل ما ياتي من ص 13 من ناحية " الإستنتاجات والآمال" المعقودة على الحوار القائم على أبحاث المسهمين في ثلاثة مؤتمرات دوَلية، موضوعاتها الرئيسة كانت حول (حوار الحضارات)، وقام بتنظيمها البيت اللبناني/الروسي بتعاون مع آخرين كثيرين:
  [ إن المكان الذي وُلدت فيه الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيححية والإسلام، سيبقى ساخنًا لمدة طويلة، ما دام أتباع هذه الديانات لم يتمكنوا حتى الآن من إيجاد لغة عقلانية هادئة لحوار طويل ومثمر لهم. فإن أرض القداسة فلسطين ستبقى مصدر قلق وتوتّر. وما دامت فلسطين ساخنة، فإن عقول المسيحيين والمسلمين واليهود في العالم تسخن معها. فالشعب الفلسطيني لم يحصل على حقوقه العادلة، وما دام الصراع الدموي يجري على هذه الأرض، فهذا يُغذّي احتمال استمرارية الصدام بين الأديان والحضارات والشعوب التي لا تزال تشكّل المرجعيّة الدينية فيه واحدة من أهم مرجعيّاتها في الأخلاق والروحانيات.]
     [ إن الضرورة الحيوية تستدعي دق ناقوس الخطر الدائم لما يجري من محاولات لتأجيج الصراعات في كلٍ من روسيا والشرق العربي. ففي استمرار هذه الصراعات والحروب الدموية تتجزّأ الأمم وتُصبح عرضة لتسلّط الأقوياء عليها.]
    ومن ص 14 هذه الفقرة:                                                                     [ علينا أن نُبعد صورة الشبح العدو، التي تسكن في داخلنا، ونسعى للتركيز على صورة الصديق الذي أشاركه  وأتعاون معه في كل الظروف.]
    ومن الكتاب الثاني، فصله السابع بخصوص (الوحي)، أنقل من ص 175 النص الآتي تحت عنوان فرعي (الحوار هبة الروح):
   [ واجهتُ بعض الإنتقادات التي مفادها أنني أخلط في كتاباتي المفاهيم المسيحية بالمفاهيم الإسلامية، والأسوأ من ذلك، أنني أخلط أستشهادات كتابية باستشهادات قرآنية. من الضروري في الحوار ـ هذا إذا أردنا تجنّب حوار الطرشان ـ بناء لغة مشتركة تقوم على أدلّة نستخلصها من كلا التقليدَين على صعيد النص المقدّس والأدبيات الدينية، طالما أنه ينبغي على كلٍ منّا أن يتعلّم لغة الآخر الدينية. وهذا صحيح أيضًا في عملية إنثقاف الإيمان وتجذّره في المحيط الثقافي، حيث تصبح مختلف مصادر قِيَم ومعاني الثقافة المستهدفة بالإنثقاف حقلاً أساسًا لهذا التجسّد الجديد، وذلك وفق منهجية الحوار والقياس.]                                                                                                                                                                                                     

.
                                                 
                                 

56
رسالة  إلى ألسيد دونالد ترامب المحترم
 ألرئيس المنتَخَب لدولة الولايات المتحدة الأمريكية
تحيّة

    أقوى بواعثي على تحرير هذا الخطاب ألآن هو شعوري الصادر عن اعتقادي بأن حياة مليارات البشر غدت الآن عند مفترق الطرق، وشعوري هذا مقرون بتوجّس  خطرٍ غير قليل، وبشكل ملحوظ بعد عام 2001، بوتيرة متصاعدة. فالمُشاهِد الواعي النبيه وبعيد النظر، يصل إلى قناعة أن غالبية شعوب هذا العقد المضطرب المسعور سائرة في سبل الحياة  بأساليب لا تجعل الحياة على الأرض سعيدة للجميع. فالسعادة لجميع البرايا هي مُنية البشرية القصوى، وهذه السعادة الشاملة لا تتحقق عندما يكثر في ميادين الحياة أناس لا يعتقدون بأن " الإنسان سيّد نقسِهِ"، ليكون " سيّد الأشياء " ــ أي أن لا يترك الإنسان حِبال الأمور الحيوية المصيرية ليتصرّف بها أناس كما يشاؤون لإجتلاب الأضرار والإيذاء والتعاسة لعموم البشر، والمتاجرة بالحروب والأديان والإيديولوجيات والعقائد المذهبية والعنصرية، زاخرة بالظلام والتكفير المجرّدين من المعرفة النيّرة والتقافة الحضارية السليمة من الأوبئة الفكرية. فشأن هذه الفئات من الخَلق هو التعادي والكراهية والإستعلاء على مُخالفيهم، والإحتراب والتخريب والإقساد، فهم أجناد الشر والجهل والتخلّف.فهل يلبق بإنسان اليوم أن يُغَرر به من أناس  من هذا الطراز الضال والمضلّل والشرّير؟! أو أن يتغافل عن مساعيهم المُهلِكة للبشرية، ليقودوها إلى سوء المصير، وكل ذلك لتنفيذ إرادة " المفسدين في الأرض"؟! 
    إن الأمل معقود عليك، يا سيادة الرئيس المنتخّب، فبعض أقوالك في أثتاء الحملة الإنتخابية ، وأثناء الإقتراع وبعده، يوحي بمقدار من الأمل في بزوغ عهد جديد في نهج الإدارة الأمريكية؛ وحصول تقدّم في هذا الإتجاه يعتمد عليك أولاً في ثلاثة عوامل: (1) مدى قوة صدق وثبات إرادتك الصالحة في تحسين أحوال العالم المتردّية، من خلال تحسين سياسة الدولة الأمريكية في تعاملها مع الشعوب، بعيدًا عن إستعمال السلاح واستخدام الإرهابيين في زعزعة وتفكيك أركان الدول. (2) إمتلاكك مقدارًا وافيًا من الحكمة والصبر والقدرة على إقناع فئات الشعب الأمريكي بصوابية نهجك. (3) إنهاء مظلوميّة الشعب الفلسطيني.، فإنهاؤها يقلل كثيرًا من حدّة العنف والتطرّف والإرهاب.
   لذا يتطلّع العالم اليوم إلى ما ستقدّمه من تغيير يُنتج إختلافًا نوعيًا لمعالجة معضلات العالم التي ابتُليت بها البلدان وشعوبها، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط التي تَعقد الأمل عليك في مستقبل أفضل وأجدر بكرامة الإنسان.
    تروم غالبية شعوب العالم أن تكون أمريكا دولة عُظمى لا في مجال السلاح والتكنولوجبا، بل عظمتها الحقيقية في تأدية رسالتها الإنسانية من خلال برامجها الثقافية والإقتصادية والعلمية، فهذه كلها تُسهم في إعادة بناء ما هدمته الحروب المتوالية ، وما دمّره الإرهاب اللعين من واجهات ورموز الحضارة، وإنجازات الإنسان في ميدان الإرتقاء فكريًا ومدنيًا وتعايشيًا، كما هي تُعيق مساعيه الشرّيرة للفتك والتخريب والتعادي بين الشعوب والأديان.
   تتمنى البشرية في عهدك أن تكون أمريكا في طليعة الدول الفاعلة في منع أسباب حدوث المظالم، وفي إشاعة إرادة السلام والأمن والإستقرار، وإيجاد الوسائل لتطبيق هذه الإرادة من خلا ل مكافحة عوامل الجوع والمرض والتشرّد، وتطبيق شرعة حقوق الإنسان في كل المرافق والمؤسسات في الأقطار ودوائر المنظمة العالمية خصوصًا.
     ما أسلفته أمنيات مواطن غيور على الأنسانية وخيرها، ويمثّل نيّات الطيبين من البشر؛ ومع يقيني بوجود كثيرين يُخالفونك ويقاومون أفكارك الطيبة، ومشاريعك المفيدة والمنقِذة من المساوئ والمهالك والتردّي، فأنا موقن أيضًا أن إرادة الخير لدى غالبية الأنام هي الأقوى والمنتصرة على مخالفبها ومقاوميها بوسيلة بزوغ الإرادة الصالحة لبلوغ ألأفضل،  ويقظة الضمير بعد خَدَر يشبه الموت. أملنا وطيد أن التوفيق سيكون حليفك، وأن التاريخ سيسجّل مساعيك الحميدة بأحرف نيّرة، وأن الله سيبارك جهودك ، ويسدد خطاك نحو الخير الشامل.     
                                                       يعقوب أفرام منصور
                                                مواطن عراقي ـ أربيل
رسائلي السابقة إلى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية
1 ـ إلى آيزنهاور، مفتوحة ومغلقة  مؤ رّخة في 1ـ5ـ58                               
2 ـ إلى كارتر مفتوحة  مؤرخة في 30ـ3ـ 79
3 ـ إلى بوش مفتوحة بالإنكليزية مؤرخة في 3ـ9ـ90
4 ـ إلى بوش والشعب الأمريكي مفتوحة ومؤرخة في 27ـ2ـ91
5 ـ إلى أوباما مفتوحة  ومؤرخة في 25ـ9ـ2014                                                                                                                                                                         

57
خَطَل سياسة الولايات المتحدة الأمريكية
ينعكس على شعبها
                                             
يعقوب أفرام منصور
أربيل

     كثيرون حمدوا الله ربَّهم لأنهم لم يُخلَقوا أمريكيين، لأن الولايات المتحدة الأمريكية قد طغت أشدّ الطغيان، وعربدت وأخطأت طويلاً في انتهاج تعاملها مع الشعوب بأسلوبِ دانى، في أحيان كثيرة، الإستهتار واللؤم والظلم.
     جريمتها الشنعاء السوداء في هيروشيما وناغازاكي ستظل وصمة عار أبدية، تلطّخ تاريخ صفحتها في القرن العشرين، أعقبتها جريرة خلق الكيان الصهيوني العنصري اللاشرعي الإرهابي(إسرائيل) في عامي 1947 و1948؛ إذ أدّت أمريكا على مسرحها دور التجنّي الرئيس في الموافقة على تأسيسه في عام 1947 من خلال موافقة أقليّة ضئيلة جدًا في أعضاء الهيئة العامة للأمم المتحدة ـ وليس من أعضاء مجلس الأمن  كما وجب ـ ثم الإعتراف به، بعد خمس دقائق من إعلان تأسيسه في العام اللاحق، بلسان رئيسها (ترومان)، ثم دعمها بالمال والسلاح والمقاتلين على حساب تشريد وذبح الشعب الفلسطيني ـ صاحب الحق الهضيم ـ وامتهان مقدّساته المسيحية الكثيرة والإسلامية القليلة، إستنادًا إلى وثيقة إحصائية جرديّة صادرة عن مكتب الجامعة العربية في عام 1957 تحت عنوان (محنة المسيحية في إسرائيل).
     إن  مجازرها الحربية ، طويلة الأمد، في كوريا وفيتنام، ما برحت مشاهدها تثير الإشمئزاز، وروائحها العفنة تقزّز النفوس. أما حروبها اللاحقة في افغانستان والعراق، فقد بلغت الذروة في الطغيان والعدوان، حتى إنها اذلّت أكبر إذلال مكانة المنظّمة الدوَلية التي كانت مطمح الشعوب في التعايش والحؤول دون نشوب الحروب بعد تأسيسها.
     مواقفهاالنفاقية المخجِلة إزاء تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، ورفضها  تمويل مشروع السد العالي، وإدامة الحرب الأهلية اللبنانية ستة عشر عامًا، كل ذلك حمل البرايا في الشرق والغرب، على نعت أمريكا بصاحبة " الوجه القبيح" و "راعي البقر" و "شقي تكساس".
     من معامل أمريكا ومختبراتها سُرِّب لينتشر فايروس ( الأيدز) وفايروس فلاونزا الخنازير، وفلاونزا الطيور بقصد إشاعة الوفيات  في العواصم والمدن والموانئ والصحارى في أطراف الآرض، وإغناء مصانع الأدوية والمضادّات العلاجية في بلادها والأقطار الأوربية.
     فكيف لا يحق للأحرار في العالم، وللواعين والمثقفين والعارفين أن يلعنوا أمريكا وقد أمست بشكل سافر مرتعًا لعصابات المافيا، ومسخّرة للصهيونية العالمية والجمعيات السرّية الهدّامة والمروّجة للإلحاد والجريمة منذ مئتَي عام وبوتيرة متصاعدة؟! وكيف لا تلحق اللعنة الفردَ الأمريكي بسبب هذه الموبقات  والمساوئ والشرور التي تقترفها الإدارة الأمريكية منذ سبعة عقود؟!
     كل هذا لم يشفِ غليلها، ولم تكتفِ بالدماء التي سفحتها في سبيل المطامع التي لا تعرف الإكتفاء، وبدافع الغطرسة، والأحقاد الكالحة، والنزعات العقربية، بل أردفتها بجرائم حرق البيادر في العراق، وقصف منتجعاته، و "مؤسسة النداء"، و "فندق الرشيد" بالصواريخ يوم 17/1/93، وقصفها مناطق سكنية في بغداد يوم27/6/93 بثلاثة وعشرين صاروخًا، وذلك بذريعة لم  تثبت صحتها، فهل التذرّع بمحاولة اغتيال رئيس مجرمي الحرب (بوش)، يجيز لدولة ذلك مجرم الحرب أن تُطلق صواريخها عشوائيًا على شعب ومؤسسات الدولة المتَّهَمة باطلاً بكونها مدبِّرة تلك المحاولة؟! ومتى كان كلنتون من مُحِبّي بوش؟! ألم يقل بوش في عنفوان المعركة الإنتخابية إن كلبته تفهم في السياسة أكثر من كلنتون؟! هل يخفى على العقلاء أن كلنتون قد لجأ إلى ضرب الصومال أنئذٍ والعراق أيضًا بعده بأيام في أعقاب هبوط شعبيته ومحاولةً منه لرفع مستواها، فحقّ فيه القول بكونه أتعس من سلفه؟!
     وما هو ماضي أمريكا في مجال الإغتيالات؟  كم هو عدد الضحايا الذين دبّرت مخابراتها إغتيالهم ضمن علماء الذرّة العرب وغيرهم؟ الفرد الأمريكي يستطيع أن يجيب. وإذا كان هذا الأمريكي على درجة من الوعي، ويمتلك حياءً وشرف المواطنة، فلا أستبعِد أن يقول في السر أو العلَن: ليتني لم أكن أمريكيًا.
    ولمزيد من التدليل على عدم رضا شريحة واسعة من مثقفي ومعتدلي المواطنين الأمريكيين عن سياسة وتوجّهات ومواقف الأنظمة الحاكمة في بلادهم خلال العقود الخمسة الأخيرة بعد لنكولن وولسن، عرضت قنوات فضائية حوارًا علنيًا متلفزًا جرى بين أستاذ جامعي وطالبة جامعية مع رفيقات لها أمام جمهورسامع ومشاهد، دار موضوعه حول إستفهام إن كانت الولايات المتحدة الأنريكية هي الآن أعظم دولة في العالم. فكان الرد الحاسم والمفحم من الأستاذ الجامعي أن أمريكا ما عادت الآن هي الدولة العظمى. فالذين عدّوها كذلك، كانت حجّتهم بوجود الحريات العامة التي يتمتع بها شعب الولايات المتحدة، وكان جواب الأكاديمي: إن حريات مماثلة لحريات أمريكا سائدة في كندا الجارة وفي دول أوربية عِدّة، ثم أضاف "لكننا نحن صرنا نفرح بالفواجع التي نُلحِقها بغيرنا من الشعوب، ونتباهى بالكوارث التي نُسببها لهم بانفجارات وتدمير وحرق وأمراض وفقر وامتهان وتعذيب وسلب وغزوات، وحرمانهم من الحريات التي ننعم بها، فقبل قرن لم نكن نحمل هذه السلبيات وغيرها من العيوب."
     لا ريب أن ما نطق به الأكاديمي الأمريكي في هذا المجال، يُعَدّ لسان حال  فريق واعٍ كبير من الأكاديميين، كما يشاركهم عدد غفير من العقلاء والمعتدلين ومن المستائين من مناهج السياسة الملتوية والعشوائية بتصاعد في العقدين الأخيرين، وخصوصًا في فترة ولايتي ألرئيس أوباما، وقد غدت الإنحيازية الأمريكية للباطل والتعنّت الصهيوني منذ 67 عامًا أمرًا مفروغًا منه، لكنه مدعاة استياء كبير في الشرق والغرب، إذ أعلنت إدارة أوباما مرارًا مسؤوليتها عن أمن الكيان الصهيوني برغم مظالمه وباطله وإرهابه وعدوانه السافر على سكّان قطاع غزّة؛  حتى بلغت هذه الإنحيازية وهذه المسؤولية أهم سببين لكره أمريكا وشعبها أيضًا من قِبل أغلبية شعوب العالم. فاتحيازها يعني عدم العدالة والإنصاف، ومسؤوليتها الإنفرادية المذكورة المتبنّاة تُعدّ مشاركة في جرم الطرف المتجنّي(الكيان الصهيوني)، وهذان يشكّلان أس الإضطراب والإحتراب في الشرق الأوسط بل في العالم، كما هما أقوى باعث على تفاقم الإرهاب، وتعاظم النقمة على الغرب عمومًا وعلى أمريكا خصوصًأ ـ إذ هو الأشدّ!
    فالفرد العراقي، جيّد الإطّلاع، المخلص لوطنه وشعبه، وقد اكتوى شديد الإكتواء مع شعبه بنيران الحرب العدوانية في عام 2003 التي شنّتها أمريكا، مستقطبةً دولاً أخرى أجنبية وعربية، برغم الإعتراف المتأخّر غير المجدي بخطيئة وخطأ قرار هذه الحرب ـ كما أبدى مؤخّرًا وزير العدل البريطاني لورد جارلز فوكنر في حكومة بلير) ـ انظر جريدة الزمان ليوم22  حزيران ص 1 ـ  وما نجم عنها وينجم حتى الآن من ضحايا وخراب وفساد وفقر وتهجير ونزوح واضطهاد وسبي وجرائم، تلتها المؤآمرة الخبيثة ( التي قادتها أمريكا مع دول وعناصر داخلية وخارجية) لغزوة داعش في عقر دار العراق في حزيران14 ، بعد غزوات إرهابية سابقة سلفية وأصولية وتكفيرية في تونس وليبيا وسوريا واليمن برعاية الناتو وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وأقطاب الإسلام السياسي خلال فترة الربيع العربي! ، أقول ألا يحق لكل عراقي سبق لي آنفًا وصفه ، كما يحق لكل عربي شريف أن يقول جهرًا: أحمد الله أني لستُ أمريكيًا؟! أنا نفسي قلتُ ذلك في عام 93 :كما جاء في جريدة (العراق) ليوم 29 حزيران 93، وختمته بمقولة تعبّر عن لسان حالي في ذلك الحين كما في هذا الآن، مستدركًا:
                            صاحِ، لستَ قادرٍا على صدِّ يدِ الجاني                                                                     فصبرًا ثم صبرًا، وارقب سقوطَ جدارِهِ

58
ألسامقة  الغائبة
 في دير الشهيد  مار  بهنام  العجائبي
                                                                         
يعقوب أفرام منصور
       أربيل
     قاصد( دير مار بهنام الشهيد) من مدينة الموصل أو من بلدة قره قوش (باخديدا)، أو من جهة الطريق المؤدية إلى كركوك (كرخ سلوخس)، كان يلمح على بعد بضعة أميال من الدير، وقبل بلوغه إلى المنعطف الأيسر نحو السبيل المبلّط إلى الدير، كان يلمح قمّتَي شجرتين سامقتين حتى عام 1995 ، إحداهما وهي الأعلى ـ شجرة (يوكالبتوس)ـ يناهز عمرُها أنذاك خمسين عامًا، تتوسط الباحة الأولى المحاذية لمدخل الكنيسة العتيقة، والأخرى ـ دونها إرتفاعًا ـ  أثَلَة غامقة الخضرة، كثيفة الأفنان.
     هذه (الأثَلَة) محاطة بأشجار زيتون في جنينة مربّعة في الباحة الداخلية للدير، التي كانت في أواسط القرن المنصرم مخصّصة  لإقامة الرهبان. ولبثت حجراتهم المربّعة الصغيرة حتى العقد الأول من القرن الحالي قائمة برغم خلوّها منهم منذ زهاء سبعة عقود. ويحدّ الجنينة آنئذٍ جنوبًا مكتبة الدير، وشرقًا قاعة الإجتماعات والمحاضرات والإحتفالات في الطبقة الأرضية، وصالة الأستقبال وغرفة رئيس الدير ومكتبه وخمس غرف للزائرين والضيوف في الطبقة العلوية من هذا الجناح الشرقي. في الباحة الثانية الداخلية.
    منذ زيارتي الدير عام 1989 وحتى زيارتي عام 1994، ألِفتُ مشاهدة هذة (الأثَلَة) الظريفة. كانت مَجمعًا ومَهجعًا ومأوىَ مفضّلاً لكثير من فصائل الطير: الزرازير والعصافير، الحمائم واليمائم، الهزارات والقنابر، العنادل والخطاطيف وغيرها. حتى (الدرّاج) كان يحوم حولها في أوقات متباينة من النهار من غير أن يحطّ عليها، مفضّلاً الحومَ حولها، والإجتياز وربما الإغتباط بالأغاريد والزقزقات الصادرة عنها. أمّا طير (البوم)، فهو ينعب بصوته القبيح بين حين وآخَر عليها أو قربها في أثناء الليل، وربما يقتنص في هدأةٍ منه بعضًا من عصافيرها وقُبّراتها.
      مع الأصيل، وقبل الغَسَق تتقاطر صفوف الطير الشادية والمزقزِقة والنائحة لتؤلَف جوقة إنشاد عجيبة غريبة، كأنها جوقة ضخمة تعزف ألحانًا سمفونيّة من سمفونيات الطبيعة  في أوان الغروب، تماثلها ثرثرات  ألف طفل، وخرير مئة ساقية، وحفيف آلاف من أوراق الشجر. ومبعث الغرابة والدهشة أن المُصغي إلى كل هذه الأصوات لا يشعر بنشاز أو تنافر. إنها أنغام توافقية ذات انسجام خاص، لا نظير له في قواعد الموسيقى البشرية. أمّا إيقاعها، فهو كذلك إيقاع خاص لا مثيل له في جميع المدوّنات الموسيقية المعروفة في الشرق والغرب أو أفريقيا. سبحنك اللهمّ !  ما أبدعّ خلقك، وما أجمل قدرتك !
     وإذا كان مرهفو الإحساس من الأدباء أو الشعراء إو الموسيقيين يلمسون بعض الشَجَن في نبرات أنغام الغروب هذه، فهم حتمًا لا يشعرون بما يحاكيها في ما يصدر من تراتيل عن جوقات تلك الطيور وقت السَحَر والفجر والشروق؛ إذ هي مفعمة بالبهجة، زاخرة بالطرب، مغمورة بالحبور، طافحة بالأمل والسعادة والإنتشاء بميلاد يوم آخَر، وبزوغ ضياء مبين، وانبلاج صبح جديد. وهنا يحضرني بيتٌ شعري يقول:
             قُم، لقد قامتِ الطيورُ تغنّي        لا يكون الحمامُ أطربَ مِنّا
وهذا البيت من أغنية قديمة، لم أسمعها يومًا من إذاعات الصباح ! 
     وفي نيسان 1996 قصدتُ الدير المذكور للإستجمام والتأمّل، يحدوني الأمل المنشود بأن أُصغي كل يوم إلى سمفونيَتَي (الأثَلَة) في الشروق والغروب، ولكن واحسرتاه! فما إنِ ارتقيتُ الدرج المؤدّي ألى الرواق حيث حجرتي، حتى ألفَيتُ جذعَ (الأثَلة) السامقة مكسورًا ـ بعضه مُنطرِح على أرض الجُنينة، وبعضه مرتكز على المِظلّة الخشبيّة، وقد قصفته ريح ساهِجة عاتية كعتوّ صاروخ مدَمِّر بتّار. وهكذا إنصرمت أيامي هذه المرّة في الدير بدون أن تكون صلاتي بعد الغروب مصحوبة بسمفونية المساء من تلك (الأثَلة)، ومن دون أن أتلو صلاتي في الفجر مصحوبة بسمفونية الصباح التي كانت تنبعث من تلك (الأثَلة) في الأعوام السالقة.

59
السلام وحوار الحضارات والثقافات

                                                                         
يعقوب أفرام منصور
أربيل
    يعني الحوار الإصغاء بأناة إلى رأي مقابل من الآخرـ إن كان الآخر فردًا أو جمعًا كفريق أو مجموعة أو هيئة ـ على أن يسود الإصغاءَ جوٌ من الإحترام المتبادل بين الظرفين، ورغبة صادقة  جادّة في إدراك حقيقة ومغزى أو مفهوم الرأي الآخر؛ وكي يكون الحوار مجديًا وإيجابيًا في نتيجته، من الضروري أن يكون الطرفان المتحاوران مجرّدَين من نيّة مسبقة في عدم التوصّل إلى إتفاق مع الطرف الآخر، أو عدم القبول به، برغم وضوح الرأي والرؤية والفكرة بخصوص حقيقة أو قضيّة ما  مسندة أو عقيدة ما هي مدعومة بنص مادّي أو قُدسي لدى الطرف المقابل، أو بقانون وضعي لدى الطرف الأخر. فعملية الحوار الصادق، في نيّته، هي عملية تفاهم متبادَل لغرض تقارب وجهات نظر المتحاورين، ومعرفة ما عند الآخر من جوهر أوخلاف أو إبتعاد، لغاية وضع أسس إتفاق لحل معضلة إقتصادية، إجتماعية، عائلية، سياسية، بيئية، أو للقيام بمشروع مُجدٍ أو قبول الآخر بما يحمله من قناعات إيمانية، وافكار مذهبية توصل إلى تعايش متبادَل، واحترام خصوصيات الأخر في الجنس واللسان والعِرق والرأي والعقيدة. وكلّما زاد توفّر نقاط التقارب أو الشبه المشتركة بين الطرفين المتحاورين، غدا بالتالي من الأسهل قبول الطرف المتحاور بنظيره المقابل في معظم أو جميع النقاط التي تمّ طرحها على بساط البحث في الحوار.
     متعددة هي أطراف التحاور: جوار مع الله ـ مع الإنسان ، مع العدو ـ مع المخالف ـ مع الحليف ـ وتحاور بين الرئيس والمرؤوس، بين الزوجين، بين السيّد والعبد،  تحاور الأولاد مع ذويهم، تحاور بين جمعَين ، بين رفيقين او زميلين أوخَصمَين.
    أمّا أهم المحاور في الحوارات التي تحتاج إلى إجرائها الشعوب في هذا القرن، فهي: محور" أثر الثقافات والحضارات في التوصّل إلى بلوغ السلام "                            محور" الحوار المسيحي ـ الإسلامي"                                                     وأهم الحوارات: حوار الشرق والغرب  ـ الحوار اليهودي/المسيحي/ الإسلامي                                الحوار اليهودي / المسيحي
      جدير بالذكر في هذا الصدد خطاب قداسة البابا  الراحل يوحنا بولس الثاني في  اليوم العالمي للسلام ( 1 ـ1ـ 2001) إذ قال: [ ثمة نحدّيات  عذيدة ينبغي أن يجابهها العالم من خلال تفاهم أفضل بين الشعوب، فعلى الجميع أن يشعروا بالواجبااالأدبي الأكبر لكي يحققوا عاجلاً خيارات واقعية لتحريك قضيّة السلام والتفاهم بين الناس]. وحَرِيّ بالعلم أن أحبار الفاتيكان قد كرّسوا هذا اليوم من كل عام للصلاة من أجل السلام العالمي قبل 49 عامًا ـ أي منذ عام 1967، وكانت رسالة البابا تحمل هذا العنوان ( الحوار بين الثقاقات من أجل إقامة حضارة المحبّة والسلام بين الشعوب).
     فضلاً عن ذلك، لقد انسجم خطاب قداسة البابا، الآنف ذكره، في هذا المجال مع قرار هيئة الأمم المتحدة في اعتبارعام  2001" سنة دوَلية للحوار بين الحضارات". (أنظر مجلة "نجم المشرق" عدد 26 لعام 2001 ص 146).
       وفي اليوم الأول من أيلول 2001 صدر البيان الختامي لمؤتمر مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الذي ورد فيه " إن العالم اليوم قي مسيس الحاجة إلى حوار الثقافات والحضارات، بدلاً من تصادمهما، وليس من شك قي أن الأديان المختلفة جديرة بأن تؤدّي دورًا فاعلاً في هذا المجال،  وهذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع".
     وفي مناسبة افتتاح سينودس الأساقفة الذي انعفد في روما خلال الفترة 30 ـ 9/ 27ـ10ـ 2001  خطب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قائلاً [ الشجاعة تستوجب الإشارة إلى الخطايا الإجتماعية الناتجة عن النزعة الإستهلاكية، وإلى الإقتصاد الذي يُحدث فجوة مؤسفة بين قلّة من الأغنياء وبين العدد الهائل من البؤساء. وفي كل عصر تقف الكنيسة إلى جانب المستضعفين بواسطة رعاتها رسل المحبة الذين يُعلّمون ويدعون إلى مبادئ التضامن والعدالة الإجتماعية ]. جريدة الرقيب الروماني عدد 40 في 3ـ10ـ 2001.
     بعد ستة أعوام من انصرام اليوم العالمي للسلام، صدر [ بيان كيوتو عن مجابهة العنف ودفع عملية الأمن المشترك قدمًا ] في إعقاب الإجتماع العالمي الثامن لِ "الأديان من أجل السلام" في آب 2006]، إذ التأم مؤتمر الفمّة العالمي للأديان من أجل السلام  الثامن في مدينة كيوتو اليابانية للفترة 26ـ29 آب 2006، إشترك فيه ممثلو كافة الأديان في العالم: ألمسيحية، الإسلام، اليهودية، البوذية، الكونفوشية إلخ، ومثّل العراق فيه نخبة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، إجتمع فيه أكثر من 800 مرشد ديني مثّلوا كل التقاليد الدينية الرئيسية، وكل منطقة في العالم، جاوزت المئة قطر. وقد وفد هؤلاء من الشبكة العالمية للأديان من أجل السلام التي تتألّف من مجالس ومجاميع محلّية، وطنية وإقليمية، كما من شبكات إيمانية شبابية ونسائية، عبّروا عن اعترافهم بالإسهامات والبيانات المهمة التي جرت في اجتماعانهم، وبأنهم سيبنون عليها. إخترتُ من البيان هذه الفقرات:
** " إننا اليوم نعيش في عالم تمسك به أشكال عدّة من العنف المباشر والمركّب: صدامات وصراعات عنف ـ بين الدول وعبر الحدود، تجري بين دوَل ومجاميع، لإنتزاع الحياة وتدمير المجتمعات."
** " على المجتمعات الدينية بالأخص أن تقوم بدور مركزي في تشخيص ومجابهة العنف بكل أشكاله ومظاهره. لفد قاست أديان العالم ذمًا ونبذًا سبّبهما أولئك الذين سعوا إلى سوء التوسّل بالدين لأغراضهم الخاصّة. وفي إستمرار الإقتتال العنيف في أرجاء الغالم، يُستخدم الدين تبريرًا أو عذرًا للعنف. ومن المؤسف وجود التسليم أن بعض المجاميع ضمن جماعاتنا الدينية قد سعت في الحقيقة إلى استخدام العنف، فعلينا أن نرفض هذا ونلتزم مجددًا بالأديان في سبيل بلوغ السلام."
** " اليوم باتت مقترفات الإبادة الجماعية والقمع برعاية الدولة، وأفعال الإرهاب، وأشكال أخرى من امتهان وانتهاك حقوق الإنسان، أفعالاً تخرق القانون الدوَلي، وتستهدف المدنيين الأبرياء، وتهدد امن الكثير من المجتمعات. كما أن قوانين الدولة، التي تُقيّد حقوق الإنسان والحريات المدنية، هي أيضًا نوع من العنف، فالأمراض التاجمة عن الحروب والجوع والتهجير والكوارث البيئية تشكّل تهديدات خطرة للحياة". (أنظر الصفحات 38 ـ43 من كتابي ( ألأماني والأهواء بين الدين والدنيا) صادر في أربيل ،2015).
     بعد هذه المقتبسات من مصادر روحانية فردية وجماعية، لا يخلو بعضها (كما في الفقرة الثانية في أعلاه من بيان كيوتو) من لوم وانتقاد موجّهين إلى " الذين سعوا إلى سوء التوسّل بالدين لأغراضهم الخاصّة، في استمرار الإقتتال العنيف في أرجاء العالم، يُستخدم الدين تبريرًا أو عذرًا للعنف"، أشير إلى صدور كتابين موسوعِيَين جديرين بالإهتمام والإطّلاع على مضامينهما، وهما [حوار الحضارات.. المعنى ـ الأفكار ـ التقنيات ] الصادر في عام 2009 عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، من تأليف مجموعة من الباحثين الروس واللبنانيين؛ والكتاب الآخر مُعنوَن (عاشق الإسلام مؤمن بعيسى) مؤلفه الفرنسي/الإيطالي؟ [ باولو دالوليو] ـ "الراهب بولص"ـ المترجَم من الفرنسية إلى العربية من قبل الأستاذة رجاء شلبي، وصادرعن دار الفارابي/بيروت 2013ـ مع العلم أن المؤلّف شخصية "معتمدة من قبل بابا روما" كما ورد في ص10.
      من الكتاب الأول، أنقل ما ياتي من ص 13 من ناحية " الإستنتاجات والآمال" المعقودة على الحوار القائم على أبحاث المسهمين في ثلاثة مؤتمرات دوَلية، موضوعاتها الرئيسة كانت حول (حوار الحضارات)، وقام بتنظيمها البيت اللبناني/الروسي بتعاون مع آخرين كثيرين:
  [ إن المكان الذي وُلدت فيه الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيححية والإسلام، سيبقى ساخنًا لمدة طويلة، ما دام أتباع هذه الديانات لم يتمكنوا حتى الآن من إيجاد لغة عقلانية هادئة لحوار طويل ومثمر لهم. فإن أرض القداسة فلسطين ستبقى مصدر قلق وتوتّر. وما دامت فلسطين ساخنة، فإن عقول المسيحيين والمسلمين واليهود في العالم تسخن معها. فالشعب الفلسطيني لم يحصل على حقوقه العادلة، وما دام الصراع الدموي يجري على هذه الأرض، فهذا يُغذّي احتمال استمرارية الصدام بين الأديان والحضارات والشعوب التي لا تزال تشكّل المرجعيّة الدينية فيه واحدة من أهم مرجعيّاتها في الأخلاق والروحانيات.]
     [ إن الضرورة الحيوية تستدعي دق ناقوس الخطر الدائم لما يجري من محاولات لتأجيج الصراعات في كلٍ من روسيا والشرق العربي. ففي استمرار هذه الصراعات والحروب الدموية تتجزّأ الأمم وتُصبح عرضة لتسلّط الأقوياء عليها.]
    ومن ص 14 هذه الفقرة:                                                                     [ علينا أن نُبعد صورة الشبح العدو، التي تسكن في داخلنا، ونسعى للتركيز على صورة الصديق الذي أشاركه  وأتعاون معه في كل الظروف.]
    ومن الكتاب الثاني، فصله السابع بخصوص (الوحي)، أنقل من ص 175 النص الآتي تحت عنوان فرعي (الحوار هبة الروح):
   [ واجهتُ بعض الإنتقادات التي مفادها أنني أخلط في كتاباتي المفاهيم المسيحية بالمفاهيم الإسلامية، والأسوأ من ذلك، أنني أخلط أستشهادات كتابية باستشهادات قرآنية. من الضروري في الحوار ـ هذا إذا أردنا تجنّب حوار الطرشان ـ بناء لغة مشتركة تقوم على أدلّة نستخلصها من كلا التقليدَين على صعيد النص المقدّس والأدبيات الدينية، طالما أنه ينبغي على كلٍ منّا أن يتعلّم لغة الآخر الدينية. وهذا صحيح أيضًا في عملية إنثقاف الإيمان وتجذّره في المحيط الثقافي، حيث تصبح مختلف مصادر قِيَم ومعاني الثقافة المستهدفة بالإنثقاف حقلاً أساسًا لهذا التجسّد الجديد، وذلك وفق منهجية الحوار والقياس.]                                                                             

60
الخيانة علّة مآسينا الكبرى وليس  الفشل
                                                                 
يعقوب أفرام منصور

      ألخيانة جليّة كجلاء الشمس في  يوم صحوٍ مشرق، وهي: إنعدام الأمانة والنزاهة والإخلاص والعدالة والضمير في الفرد والمسؤول بشكل خاص. فوجود هذه العناصر الإيجابية، أي الخصال النبيلة التي يجب توفّرها في أعضاء البرلمان وفي دوائر المناصب الوزارية، بات ومنذ زهاء عقدين في حكم المفقود في غالبية البرلمانيين وفي غالبية موظّفي السلطة التنفيذية.
      في مجالات وسائل الإعلام، وفي أجواء وموجات التظاهرات الجارية منذ أوائل آب، ترددت كثيرًا كلمتا (الفشل)  و (الفاشلين) برغم كونهما سبب الفسادين المالي والإداري، دعكَ من المفاسد الخلقية والضميرية والنفسية، فكل هذه المفاسد العفنة هي التي ألحقت الخراب الفظيع، واليباب المتجنّي الشنيع بكل مرافق العيش، وتدبير الأمور، وتصريف الشؤون، حتى بلغت الدرجة الأدنى من الأنحطاط التي تُداني الصفر: إجتماعيًا واقتصاديًا وتجاريًا وصناعيًا وزراعيًا وإروائيًا وتشريعيًا وسياسيًا. ومما  يحزّ في النفس عميقًا، ويثير غضب الشعي جدًا، ويثير إسمئزاز الأجانب، انّ الفاسدين والمفسدين والخائنين لم يكتفوا بعدُ بما جنت اياديهم الملوّثة بوصمات العمل السيئ، ليوصلوا البلد والشعب إلى درجة أحطّ من الصفر. فيا لهذه القسوة ولهذا الظلم والإستهتار بالحقوق والواجبات الملقاة على عواتقهم، والتنكّر للقسم الذي أدّوه أمام الله وشعبهم! وقد بلغ مستوى لامبالاتهم حدّ عدم الإهتمام أو الخشية من أن أولادهم وذويهم سيواجهون دلائل الإمتعاض والإحتقار من الشعب والغرباء بسبب إرتكابهم المعاصي والمعايب والجرائر والخيانات، وخصوصًا بعد ان تُعلن أسماؤهم على الملأ
     فحقيقة الأمر هي أنّ العلّة الأصلية لكل هذه المثالب الشائنة ـ وعي علة العلل ـ ليس " الفشل" المزعوم،  بل ، وبباعث كبير : الجشع المهول، هو الخيانة بكل معاييرها: ألأمانة والمسؤولية والواجب والإخلاص والعدالة والضمير، إضافة إلى اليمين الجهوري الذي حنثوه ـ  يمين الإخلاص الذي أدّاه الإداريون الكبار، والعسكريون أصحاب الرتب العليا ودونها. فالفارق كبير بين الفشل أو الإخفاق في النجاح والتوفيق بسبب عدم المقدرة وقلة الكفاءة لوجود عجز ذاتي في الفرد المسؤول، وبين الخيانة التي تعني التقصير المقصود والمتعمّد في أداء الواجب بشكل تام وأصولي ونزيه، والمنوط بالمسؤولين الكبار أولاً في إدارة شؤون البلد والجمهور، ثم بالمسؤولين الأدنى رُتبًا، متناسين أو غير مبالين بالقسم الذي أدّوه قبل تسنّم مناصبهم، فكان التهاون على مسهد ومسمع من رجال الدين والمرجعيات الدينية الذين هم أولى من غيرهم في تقدير مكانة القسم بإسم الجلالة الية تحمله الراية العراقية منذ ربع قرن، فكان التهاون في الأداء الناجز النزيه النظيف وخصوصًا في مجالات إبرام العقود مع المقاولين واالشركات الحقيقية أو الوهمية، والتخلّي عن ملاحقة والقبض على المقاولين الأصلاء أو الثانويين المتهرّبين من ميادين العمل بعد تسلّمهم أول أو ثاني دفعة على الحساب مقابل المرحلة الأولى او الثانية من تفيذ عمل المقاولة او المشروع.
     إن الذين جيء بهم منذ الوهلة الأولى ـ بعد كارثة 2003 ليتبوّأوا مناصب السلطة التنفيذية ( وزراء، مدراء، خبراء)، وليُشغلوا كراسيهم في قاعة البرلمان، لم يكونوا في غالبيتهم مؤهلين ولا قاصدين أن يخدموا الوطن ويبنوه بعد خراب جزئي ونكسات وعثرات وحروب متوالية، ولا ليخدموا شعبهم المنكوب والمنكود، وليعينوه في رفع مستوى العيش، وتحسين أوضاعهم المزرية المتخلّفة الزاخرة بالجهل والفقر والمرض، بل لقد تقاعسوا كبارًا وصغارًا عن تأدية الواجبات بأمانة وإخلاص ونزاهة، وعن تقديم الخدمات الحيوية العامة في نواحي الماء النقي والكهرباء الوافية، والنظافة ومجاري الصرف الصحّي، وتبليط الشوارع والطرق والأزقة، وتوفير العقاقير والعلاج ودور الأستشفاء، وتشييد المدارس وتزويدها بحاجاتها، وبناء المساكن لذوي الدخول الواطئة، وتوفير الأمن ( على الرغم من أنّ  شاشات التلفاز كانت تعرض كل تلك السلبيات والإحتياجات الضرورية)، لكنهم تهافتوا كالذباب والزنابير على تبوّإ المناصب والكراسي والوظائف، ليجنوا من خلالها(عبر وساطات وتزكيات طائفية، بل عبر شراء وظائف ومناصب بأسعار محدّدة ) أموال الحرام والإرتشاء، علاوةً على رواتبهم العالية، حتى لو كان المتهافتون على تلك  المناصب والكراسي غير مؤهّلين أو قادرين أو مخلصين أو نزيهين بعد ثبوت ذلك خلال الشهور الثلاثة الأولى ـ مثلاً ـ من تبوّء مناصبهم. كان دور الطائقية دورُأ شديد الفاعلية في استشراء ضروب الفساد، لأنه كان مجرّدًا من فضيلة حب الوطن ومراعاة توفير فرص العمل النظيف الكفوء المجرّد من نزعة الإنحياز الطائفي الذي يصبّ في حوض عدم العدالة والديقراطية والمساواة، وكلها ئؤدّي إلى الفساد والعجز الشامل في كل مرافق الدولة والمجتمع. فقد كانت نزعة الطائفية إحتكارية ومفرطة في انانيتها.
     وثمة مفردة أخرى كثر تداولها على ألسن الإعلاميين والمتظاهرين، هي كلمة " سياسيين"، لتعني (عن غير جدارة وأهلية واستحقاق) غالبية نوّاب البرلمان الهمام، وغالبية الوزراء وخبرائهم ونوّابهم ومدرائهم، وأعضاء مجالس المحافظات ، منذ نيسان 2003 وحتى هذه اللحظة من الرابع والعشرين من آب 2015، فأفراد هاتين الأغلبيتين ليسوا " سياسيين" ، بل هم لصوص من نوع خاص في الجشع والحرام، وهم خائنون أولاً ثم فاسدون ومفسِدون، ويستحقون العقاب بدرجات متفاوتة، والإعدام في مقدّمتها. فقد جرّعوا الشعبَ سمومًا، وأفعموه همومًا، وأثخنوه جراحُا، وأغرقوه دِماءً، ومع كل هذه المقترفات والمآثم التي اقترفوها وما برحوا يتمسّكون بها، لا يبدو الإكتفاء عليهم. فكلمة "سياسي"  تعني المخلص ، الأمين، النزيه، المستقيم، الوطني.
      وعلى ذكر الرشوة، يُطرح هذا التساؤل : أليس الأرتشاء من المحرّمات الكبرى في الإسلام ، ويُجرّم طرفاها: الراشي والمرتشي؟ ما كان أوطأ الأصوات الشاجبة لهذه المعصية السيئة ـ صوت رجال الدين! (أنظر سورة البقرة 188). وما كان أضعف الإجراء الرادع لإستشراء الرشوة ـ إجراء ممثلي السلطتين التنفيذية والقضائية!  ( أنظر القانون المرقم 111 من قانون العقوبات البغدادي لعام 1969 وتعديلاته النافذة (المواد 307 ـ 314). فكم قضية من آلاف آلاف هذه المعصية الشرعية والقاانونيية قد سُجِلت وأحيلت إلى القضاء ، وبتّ القضاء فيها بالتجريم المنصوص عليه"  فليتفضّل السلطويون والمتسلّطون والقضائيون بإطلاع الرأي العام على عدد هذه القضايا! أتوقّع أنّ عددها قليل جدًا، أو غير موجود أصلاً !
    لقد صبر الشعب العراقي على الظلم والجبروت الحكومي  وعلى إهمال حكومته وتعسّفها الأمني والإداري صبرًا جميلاً وطويلاً جدًا (12 عامًا) ولم يصبر نظيره( بمظالمه وتخلّفه وكوارثه) شعبٌ أخَر في القرن الماضي وأعوام هذا القرن، ومع كل تلك المساوئ  ما انفكّ خائنون  كثيرون، يُسمّون ساسة، في البرلمان ومجالس الوزراء الحاليين والسابقين  يحيون حياة الجنوح والإقراف والفساد، ويعربدون ويغالطون ويزيّفون لكونهم سكارى بخمرة السلطة الغاشمة، فبات الآن جليًا ـ كما يبدو من بعض الأراجيف والإنكار والتنكّر والإجتماعات والتصريحات الجوفاء ـ وسط إعلان التصريحات الترقيعيةـ  أجل بات جليًا أن من الحق والصواب والواجب على الشعب والعقلاء والمرجعية الرشيدة أن يلجأوا إلى إنزال خونة الشعب والوطن عن كراسيهم، ويُقصوهم عن مواقعهم ومناصبهم بكل الوسائل الثوريّة المنظّمة الموحّدة، وإذا أحجمت الوسائل القضائية والإدارية عن تلبية مطالب الشعب المعلنة رسميًا وجهرًا، والبدء بتنفيذها جذريًا وآنيًا، فمن حق الشعب أنئذٍ أن يلجأ إلى العنف الثوري ،وهذا العنف الثوري معلوم عالميًا وجرى اتّباعه في وقائع ثورات الشعوب من أجل الإصلاح ونشر العدل، وسيادة القانون فعلاً وتطبيقًأ على الجميع سواسية.
     إن المحللين وحسني الإطّلاع يتوقّعون إخفاق أو إحجام الوساشل القضائية المنشودة لتكون في طليعة السلطاات التي يجب ان تقوم بتفعيل الإجراءات الإصلاحية التي يلحّ الشعب على إجرائها عاجلاً وكا أفتت بذلك المرجعية الرشيدة، وبما ان السيل قد بلغ الزبى، وصبر الشعب الطويل قد نفد، في حين لم يفق خائنو السلطة من سُكرهم السلطوي الإنتفاعي المنكَر، بل هم ما برحوا في جهلهم وإثمهم يعمهون ويدّعون إن الحق بجانبهم(!) وأن الشعب غير جدير باحترامهم وصونهم واهتمتمهم، بل هم وحدهم ( رغم خياناتهم ومفاسدهم) يستحقون الحياة والكرامة وخيرات الوطن!    فالجماهير الشعبية حينئذٍ تغدو ( مدعومة تمامًا بفتاوى المرجعية الرشيدة ومؤيدة بالتظاهرات الشاملة وبوسائل الإعلام الوطنية الرشيدة المخلصة) مُحقة في إنزال الفاسدين والمفسدين والخاثنين عن كراسيهم الوزارية والبرلمانية، لأنّهم تنكّروا لتلبية مطالب الشعب العادلة الضرورية التي حُرم منها أعوامًا برغم دستوريتها. فالشعب أولاً وآخِرًا هو مصدر السلطات.
    بلغت سوء النية وضحالة الرأي بوزير النقل قبل أيام قلائل، وبعد ضجّة الإصلاحات التي يبدو أنها أزعلته،  أن يقول إن كل المتظاهرين لا يمثّلون كل الشعب العراقي. فأقول متسائلاً: هل البرلمان بكل أعضائه يمثّل  كل أطياف الشعب العراقي في أمانيه وطموحاته ومطاليبه وحقوقه الدستورية والتشريعية، كما يعرفها المفكرون والحقوقيون والمثقفون. ما هو عدد المثقفين بحق في البرلمان؟! كل عاقل ومنصف يقول : كلا،أعضاء البرلمان لا يمثلون أطياف وأصناف وطبقات كل الشعب العراقي .إنهم يمثلون أنفسهم وأطماعهم المادية حتى لوكانت من خلال الفساد وسرقة المال العام، فلو كان البرلمان يمّثل كل الشعب العراقي، لما إضطرَ الشعب ان يثور مطالبًا بالإصلاحات وبإسقاط البرلمان ، ولما سرى الفساد بأنواعه الى الوزراء والدوائر والمؤسسات. وما يُقال عن البرلمان في هذا الصدد يقال أيضًا عن الكابينات الوزارية ، فجميع أعضاء الكابينات الوزارية، خلال 12 عامًا لم يُمُثّلوا يومًا كل الشعب في أطيافه وطبقاته وصنوفه  وحاجاته وتلبيتها كما أعلنتها جماهير المظاهرات قبلاً ومؤخّرًا. والحقيقة إن عناصر المظاهرات بشعاراتها ولافتاتها ونداءاتها ومطاليبها كانت حتى الآن أقرب وأصدق تمثيلاً لجميع شعب العراق والمطالبة بتحقيق أمانيه الوطنية والمعيشية،وحقوقه المهضومة والمحرومة، من كونها ممثلة في البرلمان ومؤسسات السلطة التنفيذية، وما يَدعمها ويُكملها أصوات المثقفين والأدباء والكتّاب والحقوقيين والمحللين وحتى المتفننين جميعًا على صفحات جريدتَي (ألزمان) و (المدى)، فضلاً عن منبر قناتَي التلفاز (البغدادية) صوت الشعب ، و (الشرقية نيوز).
     لم يكتفِ السكارى بخمرة السلطة بمقولة وزير النقل الآنف ذكرها، بل نطق السيد نوري المالكي، بعد يومين من  رجوعه إلى بغداد،  بمقولة تقارب الكفر وزنًا لا نوعًا، وتضاهي الجورَ على الحقيقة والمنطق: إنّ المتظاهرين أوالمظاهرات هي ضدّ الدين! فهل حقًا ـ يا عباد الله المُتّقين ـ أصحيح إنّ المتظاهربن هم ضدّ الدين؟ ماذا قالت وتقول المرجعية العارفة الآن في هذا الصدد؟ وماذا يقول فقهاء الشريعة والقانون؟ ألم يُجِز الدستور تظاهر الشعب، أم أن الدستور يضادد الدين في هذا الموضوع؟! يبدو أن موبقات اللصوصية والأبلسة والخيانة والفساد (التي بلغت ألأوج في عهد ولايتَي المالكي) ما تزال أعمالاً وأقوالاً مبرّرة وليست ضدّ الدين والشريعة والقانون !
     أمّا مقولة خبير لجريدة"الزمان" ( ليوم18 /8)  بكون (القضاءغير مُلزَم بتقرير لجنة سقوط الموصل، وبكون قانونية البرلمان تؤكّد حق المتهمين في الطعن)، فأُعَلّق بالقول: لماذا إذن أُضيع الوقت الطويل جدًا (سنة يعد تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية) لإنجاز هذا التحقيق؟! ألا يعني صمت الخُرس في مجلس القضاء، وعدم مبادرة رئيسه إلى تأليف لجنة خاصّة، لإجراء التحقيق قبل تشكيل اللجنة البرلمانية، أنّ مجلس القضاء كان مقصّرًا في أداء الواجب الآني، أو كان متواطئًا مع الخائنين والفاسدين والمفسدين الذين لبثوا ناشطين في حكومة العبادي؟  منذ البدء في 2003 جرى الفساد والقصور والخيانة في مرافق الدولة والجيش والأمن الداخلي، وكان مولده وسببه الرئيس في مجلس القضاء الأعلى، أعضاءً ورئيسًا. فجُرم مجلس القضاء كبير وخطير وشديد الضرر. ولو لم يكن البرلمان مفعَمًا بالفاسدين والخائنين في كل دوراته، لما فسد القضاء والحكومات المتعاقبة حتى الآن. وجُرم البرلمان أيضًا كبير وخطير وشديد الضرر.
      متى يتقي اللهَ الفاسدون والمفسدون والخائنون، ومتى يعترفون بجرائرهم ومثالبهم، ويندمون على ما جنت ايديهم بحق الوطن والشعب؟ إنّ لسان حال الشعب اليوم وغدًا هو:
                        أنا الشعبُ دَومًا أُريدُ الحياة                                                                                                    ولا بدّ للحقِ أن ينتصِر                                                                    أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد                                                                                                   ولا بدّ للبغيِ أن يندثِر                                                                                                                                                                                     

         
 

61
لا يُجنى من القتاد عنب ولا من العوسج تين
                                                             
                                                                       
يعقوب أفرام منصور
      أربيل
غِبَ التاسع من نيسان 2003 ساد حقلَ السياسة وإدارة أمور الدولة العراقية والمجتمع ، تحت وطأة الإحتلال العدواني الغاشم، نبتاتُ العاقول والقتاد والدَغَل والعُلّيق والعوسج والشوكران السام وكثيرٌ من النبتات السامّة، وصنوف شتى من الأشواك الضارّة والمؤذية.
     فهل يُجنى من حقل  كهذا  حلو الثمر، وأطايب الفواكه، وجيّد الحاصلات؟! إنّه لحقلٌ موبوء بهذه الأغراس والنبتات الضارّة، الرديئة، بعضها متجذّر فطريًا وقِدمًا منذ عشرة قرون أو ينوف، لكنّ أغلبها نشأت من أغراس حديثة العهد بعد نكبة العراق الكارئية السوداء، وقد أُنبتت في غفلة من الزمن الرديء والأبصار  الكليلة قصدًا وعمدًا حين غاب عن الحقل نواطيره بشتى الوسائل الخبيثة واللئيمة والمبيدة، إذ خلا الجوّ للغرّاس الجُدد من أبناء هذا الوطن المنكوب، ومن حاكمي أعدائه اللؤماء والجشعين وخدم المفسدين في الأرض من ألفَي سنة، أجل..خلا لهم الجو والمجال برًا وماءً وسماءً لإنبات أردأ وأخسّ النبتات، كما قال في الخلوّ الملائم، الشاعر طَرَفة البكري (564م) :
                       يا لكِ من قُبَرَةٍ  بَمَعمَرٍ                                                                                                 خَلا لكِ الجوُّ، فبيضي واصفِري                                                                  قد رُفع الفخُّ، فماذا تحذري؟                                                                                              ونقّري  ما  شئتِ أن  تنقّري                                                                  قد ذهب الصيّادُ عنكِ قابشري                                                                                           لا بدّ من أخذِكِ يومًا فاحذري !
     هذه الأبيات تنطبق مضامينها على إنتهازية الحكومات العراقية الضالّة الفاسدة التي تهافت ازلامها على كراسي الحكم المعبودة لديها بدلاً من الله، بلا أمانة وضمير وإخلاص، وغافلة تمامًا    حتى الآن عن مآتي مفاسدها وجرائرها ومظالمها التي صبّتها على الشعب المضنَك، بدلاً من إسعافه وانتشاله وتحسين أحواله المعيشية  والنفسية.
     هذه النبتات الرديئة الضارّة المسمومة الجارحة المُهلِكة، مثّلتها غالبية الوزراء والمدراء والرؤساء والموظفين والإعلاميين وجيش عرمرم من الفضائيين في القوات المسلّحة الدفاعية والأمنية، وجماعات موالية في الخفاء والعلن للإرهابيين والمتطرّفين، كما كان وما يزال بينهم أفراد معَمّمون، سرت بينهم أمراض الخيانة ـ فالفساد في حد ذاته هو شكل يمثّل درجة من التقصير المتعمّد ـ وعدم الإخلاص  أيضًا ضربٌ من الخيانة والإبتزاز والرشوة والسرقة والتزوير التي هي صنوف ذات درجات من الخيانة للوطن والواجب والدين والقَسَم.  الخيانة كانت، ولم تزل، هي العلّة الأقوى لتردّي الأحوال، بدءًا من القضاء الخاضع لإرادات الخائنين والجشعين والمفسدين والظالمين والمنافقين والمتواطئين مع الإرهابيين والمتطرّفين والمتزمّتين سرًا وعلنًا، في الموصل والأنبار وديالى وبغداد. فالمؤسسة القضائية تتحمّل الوزر الأكبر من الفساد العام الشامل، بددليل مئات من ملفات الفساد التي لم يُنظر فيها أصلاً أو التي لم يُبتّ فيها.
    هل يتوقّع عاقل سَوِيّ، عارف جيّد الإطّلاع، صائب التحليل، أن يصدر أيّ إصلاح جّذري أو بسيط، أو مِفصَلي وحازم وسريع، كما تقتضيه أحوال البلد الراهنة؟ حتمًا لا يتوقّع ذلك شخص يمتلك هذه الصفات.
   غدا العراق جسمًا عليلاً، شبه مشلول، مصابًا بعلل عصيّة على الشفاء من رأسه إلى قدميه، فقد نخرته ـ حتى نخاع العظام ـ الطائفيّة الموغلة في النفعيّة والأنانية ، قاتلة المحبة والتآخي والمواطنة والأهليّة والفضيلة والقناعة والأمانة والنزاهة ، وسمّمت حُجيرات جسد الفرد العراقي المزكّى والمرشّح من الجهات الطائفية والفئويّة والمخاصَصِية، وبات هذا الفرد عبدًا يعتنق فكرة أو نزعة إقصاء الآخرين المختلفين عنه دينًا ومذهبًا وعِرقًا ولسانًا. فنشأت الكتل على هذا الأساس المعوج الركيك، فكانت كتلاً لا تعمل لصالح الوطن، بل لمصالحها الذاتية الضيّقة التي همّها الأول  الإنتفاع بالمزايا في الرواتب الخيالية والحمايات والمخصصات، وتوفير الطاقة الكهربائية وتزويد الماء النقي لمساكنهم، في حين حرمان مساكن الشعب في كل المدن والأقضية من الطاقة والماء، فضلاً على حرمانهم من تقديم الخدمات الأخرى العديدة.
     علاوة على تسلّمهم كل تلك الخدمات والمدخولات العالية في أثناء الأداء الوظيفي والنيابي، ثم بعدهما في أثناء التقاعد الضخم عن خدمة قصيرة جدًا، إنغمست أيادي الغالبية في مناصب السلطتين التنفيذية والتشريعية في أحواض السرقات والرِشى والإبتزاز إلى حد جاوز التُخمة، حتى عمّت روائح مفاسدهم  وخياناتهم بين طبقات الشعب كافّة، إضافة إلى خذلان أماني شعبهم في أبسط حقوق المواطنة، وعدم الإستجابة إلى مطالب الشعب المُلِحّة الواجبة والمُعلَنة طيلة عشرة أعوام، والمعروضة عِبرَ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكلها كانت كأصوات وصرخات في فلوات. إنّ أجسم المفاسد والخيانات وأكثرها عددًا يندرج في العقوبات القانونية تحت بنود سرقة المال العام الضخمة إلى حدود المليارات، ليستحق عقوبة الإعدام.
     فهل حتى الآن ـ برغم انصرام أكثر من عام على تشكيل الحكومة الحاضرة، ومضيّ شهر ونصف على انطلاق أصوات التظاهرات الجماهيرية المدوّية، وإعلان الحكومة بعض الإجراءات الترقيعية التقشّفية، بدلاً من إجراء الإصلاح القضائي الخطير، تمهيدًا لمحاكمة جيش من المفسدين والخائنين، ولإجراء إصلاحات أخرى بعد البت فيها قضائيًا ـ  هل يتوقّع عاقل أن تقوم الحكومة الحالية بإجراء أيّ إصلاح صغير، في حين أن الحكومة الحالية محاطة بالمتآمرين في الداخل والخارج على مستقبلها، فضلاً على إحاطتها بالمفسدين الرئيسيين منذ 12 عامًا؟!  أرى كما يرى غيري  الملايين من الشعب أن قوة الحكومة الحالية، للقيام بذلك الإصلاح الثوري المنشود ، لهي أوهى من خيوط العنكبوت!
      لقد مدّ الفساد الذميم أطنابَه عميقًا في الواقع العراقي ماليًا وإداريًا واجتماعيًا ومعيشيًا، فبلغ حدّ الترهّل والمرض الخطير ،الذي لا يُنقذه ولا تعافيه عقاقير التهدئة والتخدير والتأميل والترقيع السُلحفاتي،  إذ قد أمسى الحقل الموبوء باكوام المفاسد والأضرار في مسيس الحاجة إلى عمليات الكَي والقلع والإصلاح الثوري الفوري والجذري، فبغير هذه الوسائل الناجعة لن يبقى عراق عرفه العالم المتحضّر في أدواره التاريخية قديمًا بأرض السواد وبلاد الرافدين، وكما عُرف حديثًا منذ عام 1921 وحتى الآن.
     أجل، غزا الفساد الكالح كل مرافق الدولة ومؤسساتها وطبقات الشعب ، حتي في ميادين الرياضة البدنية ، وبلغ سوء الأحوال إقتصاديًا ومعاشيًا إلى دون مستوى الفقر عالميًا، وإلى أدنى دركات مستوى تقديم الخدمات. أمّا أمنيًا، فحدّث عنه بلا حرج، حيث التفجيرات والحرائق والإغتيالات والخطف والتهجير والنزوح إلى وقوع الكارثة الدهياء بالغزوة الداعشية النكراء، فكانت ثالثة الأثافي! ولا ننسى الهبوط في المجالات الصحية والتعليمية والبيئية والإروائية، ونزلاء السجون العديدة المعلومة والسرّية وما يجري فيها من اغتصاب وتعذيب وعدم محاكمة الكثير منهم وعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بحق أخطر المجرمين والإرهابيين.
     وبلغ التنكّر للوطن، ونبذ الروح الوطنية حدًا شائنًا وهو إستحصال عدد من الوزراء والبرلمانيين والرؤساء جنسيّات أجنبية، شرقية وغربية، ، ومع ان الدستور  نصّ على التخلّي عن الجنسية الأجنبية في حالة إسناد منصب رسمي إلى حامل الجنسية الأجنبية، غير أن إلتفافًا على الدستور أو بصدورتعديل ينقض النص المانع هيّأ المجال لحاملي الجنسية الأجنبية ان يبقوا في مناصبهم الرسمية. هكذا  إنتهز الفرصة الفاسدون والخائنون ذوو المناصب الرفيعة هذه المنحة الأجنبية كي يعيثوا فسادًا، ويقترفون المحرّمات، منها سرقات المال العام التي تستوجب عقوبة الإعدام، ليهربوا إلى الدول الأجنبية التي منحتهم جنسياتها مقابل مراعاة مصالحها الذاتية على حساب الإضرار بمصالح الوطن، ومنها سرقة المال العام. فأيّ عقوق هذا، وايّ فساد وخيانة! ومعلوم أن بعض الدول الغربية والشرقية تمنح جنسياتها إلى شخوص ذوي مكانة رفيعة في المجالات العلمية والفنية والفكرية، وهذا المنح مدعاة لتشريف المتلقّي وتفدير المانح. فالبون شاسع جدًا بين الحالتين، علاوة على سوء القصد والإنتهازية غير اللائقة في الحالة الأولى.
     وبلع جشع الفاسدين لدى عدد كبير من المسؤولين الكبار الذين تآمروا على مستقبل الوطن مع الأجانب الطامعين خارج الوطن ـ بحجة معارضتهم النظام قبل سنوات من نيسان 2003 ـ أن يطالبوا بما سُمِّيَ بالخدمة الجهادية (!) لِتُحتسب خدمة لغرض التقاعد. فأيّ جهاد هذا للوطن في حين كان لخدمة مصالح بعض الدول الأجنبية التي أسهمت في غزو واحتلال العراق غير الشرعي بل إجرامي في عام 2003 ؟! ومع كل هذه المثالب والنقائص، إرتفع قبل أيام صوت أحد هؤلاء في دست الحكومة بالقول: إن حكومة جمهورية العراق حكومة ملائكة .. حكومة ملائكية(!) فشتّانَ بين الثرى والثريّا! وهل يُجنى من حكومة كهذه صلاح أو إصلاح مُجدٍ وناجِع ؟
     إقتبستُ عنوان مقالي من إحدى مواعظ السيد المسيح، إستنادًا إلى إنجيل متّى (7: 16 ـ 20)، إذ قال متسائلاً : ( أيُجنى من الشوكِ عنَب أو من العُلّيقِ تين ؟) .لا ريب أن الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل يكون بصيغة النفي إلى حد المستحيل. ويردفه السيد المسيح بالقول [ كذلك كل شجرة طيّبة، تثمر  ثمارًا طيّبة؛ والشجرة الخبيثة، تثمر ثمارًا خبيثة ....وكل شجرة لا تقمر ثمرًا طيّبًا تُقطع وتُلقى في النار.]
      فهل كان  رجال الحكم والسياسة والإدارة ومجلس الأمة في العراق من 2003 حتى الآن أشجارًا طيّبة الثمار ؟ الجواب: من ثمارهم  يُعرَفون. و"الإنسان يُعرف من فِعلِه "، أصالحًا كان أم طالحًا.
     فليمكث الشعب واثقًا أن إرادته وقراره هما فوق الدستور والقضاء  حين يأزف وقت الإصلاح. وليبقَ لسان حال الشعب في ثورته الإصلاحية طِبقًا لمضمون هذين البيتين:
                      أنا الشعبُ دومًا أريدُ الحياة                                                                                                ولا بدّ للحقِ أن  ينتصر                                                                      أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد                                                                                               ولا بدّ للبغيِ أن يندثر
                                                                                                                                                                                                                                                 

62
المنبر الحر / مسيحيّو المشرق
« في: 16:22 16/10/2016  »
مسيحيّو  المشرق
                                     
يعقوب أفرام منصور
أربيل
كرومُ وغارُ وأرزُ المشرقِ هم                                                                نخيله وسِدراتُه هم                                                                              أفنان هذه الأغراس والباسقات                                                                ممتدّةٌ نحو العَلاء شامخات                                                                    جذورها في الأعماق راسخات.                                                                                *                                                                               دماؤهم وخلايا جسومهم موروثة من أسلافهم                                                منذ الطوفان قبل تسعة قرون                                                                  قبل عهد عادٍ وثَمود                                                                            قبلَ سيلِ العرِم، وأرِم ذات العماد                                                             قبل إبراهيم أبي ألمؤمنين                                                                     فهم أحفاد أحفاد السومريين                                                                    وهم أعقاب أعقاب الأكديين                                                                    أسلافهم آشوريون وبابليون                                                                  فيهم دماءٌ وخلايا من قحطان وعدنان                                                         من نسلِ مناذرة الحيرة وقبيلة كندة                                                            من أنسال الغساسنة والعباديين                                                                من بني آرام وكنعان                                                                           من بني أياد وذبيان                                                                             وبني طيءٍ وشيبان                                                                             وبني بكرٍ وربيعة                                                                              وكانوا عهدَا من سكّان نجران ودومة الجندل                                                منابِتُهم قبل السيلِ أصقاعُ اليمن                                                               بعد السيلِ عُمان وسهوب الجزيرة                                                            تُربتهم ربوع الهلال الخصيب                                                                 مرويّةُ بالدجلة والفرات                                                                     
                                        2               
والنيلِ والعاصي واليرموك                                                                    والخابور والخازر والأردن                                                                   والزابين وديالى والأدهم( العُظَيم).                                                           ولطف الله الرحمان الأكرم                                                                    لم ينسَ الفيافي والقفار                                                                         فهيأ لها سُحُبًا هُتنأ وغيثًا سَكوبًا                                                            ليملأ بالأمواهِ وادي سرحان وجداولَ حوران                                                وآبارًا في الصحارى والواحات.                                                                                                    *                                                       من قال عن هؤلاء، في العراق أو غيرهِ، كونَهم جالية                                      كاذبٌ هو أو واهمٌ أو جَهول                                                                  من قالوا عنهم كونَهم مُشركين مخطِئون أو مغرِضون                                      فقانون إيمانِهم التليد خيرُ شاهدٍ يقول:                                                       " نؤمنُ بإلهٍ واحدٍ الآبِ الضابطِ الكُل " .                                                                                            *                                                              هذه حقائق جوهرية عن أصول وجذور مسيحيي المشرق في العراق والأقطار العربية،إستنادًا إلى وقائع وشواهد التاريخ والجغرافية البشريّة ومعطيات الأثنيات، وعن إيمانهم التوحيدي، وعن نفي الشِرك عن معتقدِهم الربّاني المسيحاني نفيًا باتًا.
       كثر الحديث والتساؤل عن التخطيط لإعداد خارطة شرق أوسط جديد، أو مشرق عربي مقبِل ليغدو بلا مسيحيين في المستقبل القريب أو البعيد!  ولا أستبعِد تحقيق هذا التفريغ المتجنّي، والإقصاء الظالم والخاطئ والضار للجميع وحتى لمهندسيه، أعداء البشرية بكل صنوفهم، لأنّ أطرافًا عِدّة ـ معادية  لكنيسة السيّد المسيح ـ  قد تواطأت في العقد الأخير من القرن العشرين، الزاخر بالشرور والآثام، على القيام بذلك التفريغ والتغيير الشرّير. وفي مقدّمة هذه الأطراف: المفسدون في الأرض منذ ألفي عام، وحلفاؤهم وأنصارهم أعداء الأيمان القويم بالله وبالإنسانية والتعايش والتآخي بين الأجناس البشرية ومعتنقي الديانات التوحيدية في ظل التسامح والتعاضد لبناء مستقبل تعايشي فضيل بنّاء حضاريًا وإنسانيًا، نائيًا عن الأحقاد المزمنة والعنعنات والقَبَليات،
   
                                         3
 وعن نزعة سفك الدماء، والكراهية والجشع والأنانية المفرطة. وهذه الخصال الحميدة تؤلّف السِمة الغالبة على خصال مسيحيي الشرق العربي الأوسطي منذ أقدم الأزمنة الني وُجدوا قيها.
    في هذا الصدد يجدر تبيان أن الجاهلين والمتزمّتين والمغرضين والمناصرين للتطرّف والإرهاب، ونبذ الآخرين المخالفين، الذين يَعدّون الشعوب الغربية بكونها مسيحية قاطبةً، ثمّ يُسقطونَ سيئاتهم ومفاسدهم الأخلاقية، وسلبياتهم المادية والتسلّطية والإستعلائية على مسيحيي المشرق العربي والأوسطي، مخطِئون أولاً في حملِهم  هذه النظرة الخاطئة المصحوبة غالبًا بحقد وكراهية، لأنّ جُلّهم باتوا الآن ـ ومنذ نصف قرنٍ خلا ـ غير مسيحيين حقيقيين، بل أمسوا لا دينيين أصلاً، بدليل خلوّ كنائسهم من المصلّين عدا أنفارًا قلائل كبار السن، وثانيًا إن روحانية وتقوى مسيحيي المشرق واعتدالهم السلوكي وأخلاقهم ومناهجهم في سُبل الحياة، والنظر إلى الآخربن يختلف كثيرًا عمّا هي لدى الشعوب الغربية، وأبرزها بُعدهم عن نزعة التسلّط والإستعلاء . فحرامٌ أن يتخذ المتزمّتون والمتطرّفون والإرهابيون هذه المساوئ والسلبيات والعيوب عند الشعوب الغربية كذريعة لإضطهاد مسيحيي المشرق وتهجيرهم وتدميرمعابدهم وامتهان مقدّساتهم، لأنهم بهذه المقترفات يخدمون غاياتِ أعداءٍ تاريخيين للبشرية جمعاء.
    ماذا يتبقّى من بهاء المشرق وزهوه حاضرًا وسابقًا بعد تجريده من كرومه الزاهية، واقتلاعِ غارِه وأرزاته وسِدراته ونخيله السامقة التي تمثّل أتباع السيّد المسيح، وهم منذ البدء حتى الآن كانوا وما برحوا بُناةَ حضارة وعناصرَ تمدين وارتقاء ونهوض، كما هم ملح الأرض، وناشرو الإيمان بالإله الواحد، واليوم الآخر، والعمل الصالح. أجل، هل يبقى غير القتاد والفيافي والفلوات واليباب والعرَصات الجرداء؟ فليتأكّد  ذوو الألباب في هذا المشرق حاضرًا، وأهل الحِجى والدراية والعرفان والعقل السليم فيه أنّ هذا ما سيبقى في المشرق  العربي الأوسطي بعد اقتلاع المسيحيين من أرضهم في هذه
                                        4
 الرقعة الوسيعة المباركة، ظلمًا وجُرمًا من جرّاء نزاعات وتناحرات واقتتال فيما بين فِئاته وطوائفه، ومذاهبه وأعراقه، وبسبب فسادهم الهائل ولامبالاتهم منقطعة النظير!
                                       5     
 ختامًا أقول: ليتذكّر عقلاء هذا المشرق العربي، وأهل الأمر والنهي، والحلّ والربط فيه أنّ المفسدين في الأرض سيعملون جادّين على تفريغ المشرق بأسره من مُسلميه غِبّ تفريغه من مواطنيه الأُصلاء المسيحيين، إذ إن ذلك الإخلاء منصوصٌ عليه في أدبيّات أؤلئك المفسدين في الأرض قبل عقود، وجُلُ من أسلفتُ ذكرَهم يجهلون، وقليلوهم يتجاهلون! رحم الله شاعرَنا الرصافي القائل:                   
                إذا ما الجهلُ خيَّم في بلادٍ      رأيتَ أسودَهم مُسِخت قرودا
                                         
                                                                                                                                                                                                                       
                                                                                                                                                                                                                                                               

63
مصير الأقليات العِرْقيّة بعد النزوح والتهجير
                                                             
يعقوب أفرام منصور
أربيل
       ألنزوح نوعان: محدود ومحلّي، وغير محدود بل متواصل (هجري وتهجيري). مثال على النوع الأول: نزوح موجات عديدة متلاحقة من مسيحيي العراق من قرى سهل نينوى وأرياف شمال العراق، بسبب حروب حركات الشمال في منطقة كردستان في أعوام النصف الثاني من القرن العشرين بين الجيش العراقي وبين المقاتلين الأكراد، التي نجم عنها تهدّم جزئي وكلّي في بيوت  ومزارع تلك القرى والأرياف؛ وكذلك في أعقاب موجة إضطهاد واغتيال مسيحيي الموصل في أثناء وأعقاب حركة الشوّاف التمرّدية في عام 1959. قارب نزوح سكّان هذه النواحي والمدن إبان تلك الموجات قرابة ربع مليون نسمة، معظمهم أقاموا في بغداد والموصل وكركوك، والقلّة أقاموا في محافظات الوسط والجنوب، حيث لبثوا في غضون العقود الستة الأخيرة من القرن الماضي. لكنّ أعدادًا غفيرة من هؤلاء النازحين المقيمين بارحوا الوطن إلى المهاجر ألأمريكية والأوربية والأوسترالية والزيلندية في حالات فردية متوالية وبوتيرة متصاعدة بعد أيلولة مقاليد الحكم إلى البعثيين في منتصف الستينيات، ومعهم هاجر الكثيرون من مسيحيي بغداد والبصرة والموصل وكركوك الأصليين.
      وتمثّل النوع الثاني من النزوح المتواصل (التهجيري) في نزوح زهاء مليونَي فرد من الأعراق السريانية المسيحية، واليزيدية والشبكية والمندائية من سهل نينوى ومدينة الموصل ونواحي سنجار إلى أربيل والسليمانية وكركوك ومحافظات الوسط والجنوب، إضافةَ إلى نزوح أعداد كبيرة من عرب مسلمي الأنبار وصلاح الدين وديالى إلى العاصمة وكربلاء ومحافظات الشمال. وكل هذا النزوح الهائل كان من جرّاء إجتياح  جيش (داعش) الإرهابي في العاشر من حزيران 2014 وما تلاه من وقائع وأحداث كارثية ومأساويّة، شملت فرض تخلّي المواطنين عن معتقداتهم الإيمانية، وارتكاب عمليات إغتصاب وذبح وفتك وتدمير مراقد وكنائس وأديار ومساجد ومواقع أثارية وأقتراف قتول جماعية.
    ولمّا كان الفساد المالي والإداري في أحطّ دركاته في سلسطة الحكم المهيمنة  على هذا البلد المبتلى بحاكمين خائنين وفاسدين ومنافقين في أعقاب الغزوة الداعشية الظلامية النكفيرية، وانعدام رؤية أيّ بصيص أمل يُرتجي من تحسّن أوضاع العيش حاضرًا ومستقبلاً ، إرتأى كثيرون من هؤلاء النازحين أفضلية مبارحتهم هذا الوطن، واللجوء إلى أقطار غربية عديدة. فالأوضاع السيئة للعيش  بعد غزوة (داعش) غدت عوامل مساعدة للتهجير، إضافةَ إلى العوامل التي برزت وتصاعدت  منذ أواسط الستينيات، فالثمانينات فالتسعينات فمطلع القرن الحادي والعشرين، وتصاعدًا إلى نكبة عام 2003 ، ثم تفاقم العمليات الإرهابية التفجيرية التي تخللها تفجير وإحراق دور العبادة المسيحية فِي الشمال والوسط، والأماكن المقدّسة الأسلامية في الوسط والجنوب.
     وفي كلا حالتَي النزوح، ثمة ضرورة ملِحّة لوضع خطّة صائبة لمعالجة كارثة النزوح الفردي والجماعي، فعن هذه الكارثة تنجم أخطار صحيّة تصيب النازحين الكثيرين المزدحمين من جرّاء إصابتهم بأمراض إنتقالية، وأخطار إجتماعية من جّراء التفكك الأُسَري؛  كما تؤثّر فيهم نفسيًا بفعل ما ينوبهم من إحباط وتشاؤم وتشرّد وعَوَز، وخُلُقيًا من جرّاء انهيار القِيَم والآداب العامّة لديهم، كالغالب حُدوثه عند نزوح القرويين الى المدن عمومًا، وجنوحهم إلى الإنحراف، وفقدان الأمل والعزيمة، وتزعزع عقائدهم الإيمانية، وانزلاقهم إلى ارتكاب المعاصي، والهبوط إلى مستوى التسوّل والسرقة.  ومن صميم إجراءات الخطّة العلاجية المقترَحة: توفير موارد مالية وافية للتشغيل والإعانة والإكساء، وإعداد كوادر كافية مؤهّلة لتوجيه وإرشاد صائبَين في مجال حث النازحين على تجنب اليأس والإحباط، وعلى التمسّك بالقِيَم والمبادئ والنصرّفات الحسنة مع الأفراد والجماعات التي يتعايشون معها في بيئاتهم الجديدة التي نزحوا إليها.
     والمهم في هذا المجال: الإشارة إلى نيّة ( مؤسسة مسارات) كونها تعمل على إصدار تشريع [ لحماية التازحين من خلال التصدّي لانتهاكات حقوق  النازحين في المناطق التي نزحوا إليها لحمايتهم وتوفير الضمان لحقوقهم الأساسية في المساواة وعدم التمييز، والحق في التعليم والعمل والسكَن، وعدم إرغامهم على تقييد حرياتهم الأساسية تحت أيّ مبرر أو ذريعة، وستُعقد في نهاية تشرين الأول ورشة داخل البرلمان، تُقدّم فيها نصَّا لمشروع قانون  الحماية الآنف ذكرها. ] أنظر مقال الأستاذ سامر ألياس سعيد في جريدة (الزمان) البغدادية ليوم 1 ت1/15 تحت عنوان ( سلّوم يوثّق أضرار تسونامي داعش ضد المسيحيين).
      إن النازحين مُؤخّرًا، الذين بارحوا الوطن خلال العامين الأخيرين، والباقين حاليًا ويرومون لاحقًا مبارحة الوطن، يرتكبون خطأً كبيرًا ـ في تقديري ـ  بحق أنفسهم أولاً، ثم بحق والديهم ووطنهم ثانيًا. فكلّما تناقص عدد مكوِّن من المكوّنات العِرقية عمومًا، ومن المكوّن السرياني المسيحي خصوصًا في الوطن، سهل وتواصل إقتلاع مكوّنيه من موطنهم الأصليى وجذورهم على نطاق أوسع فأوسع. فتمسكّهم في البقاء يتطلّب منهم صمودًا وتضحيات يستحقها وطنهم وتراثهم وانتماؤهم العِرقي. ثُمّ إن هجرتهم  بهذا التهافت وبتلك الكثرة المشهودة الآن في اللجوء إلى بلاد الإغتراب، سيقلّل فيها فرص إيجاد العمل على اختلاف أنواعه، حتى أوطأها قدرًا. هذا عدا الإنهاك الجسماني المضني في الأعمال التى يُتاح لهم ممارستها. علاوةً على ذلك، في بيئاتهم الجديدة في المهاجِر، تكون القِيَم الأخلاقية والسلوكية أرخص بكثير ممّا هي في بيئاتهم الوطنية. كما أن روحية التقوى والإيمان ستفتر وتتلاشى حتمًا بسبب طغيان النزعات المادية على الغربيين عمومًا. وهذا الفتور والتلاشي والإيغال المادّي هو الهدف الكامن وراء موجات التهجير المخطط  له من قِبل اللادينيين في أرجاء عموم الغرب ( منذ أوائل الستينات  بشكل محسوس ومنذ 1917 بشكل خفي) ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وخصوصًا الذين قد هاجروا والذين يعتزمون الهجرة. إذ إن الهدف هو إفراغ البلاد العربية ـ والعراق في مقدمتها ـ من المؤمنين المسيحيين أولاَ، ثم المسلمين، لكي ينصهروا في المجتمعات الأوربية والأمريكية، حيث غالبية الشباب والكهول ـ بمرور الزمن والإنهماك الشديد والمغريات والملاهي والتحلل من الضوابط ـ يفقدون كل إيمان واعتقاد بالله وباليوم الآخِر، وبالعقاب والثوا ب  وبكل الفضائل التي تعلّموها منذ الصِغر، فيتعاطون المخدرات ، ويعتادون الخلاعة والمجون، ويرتكبون المحرّمات، تاركين بلادهم خلفهم، ليرثها غيرهم من الطامعين فيها من قوم عُرِفوا بكونهم " من المفسِدين في الأرص، وأعداء البشرية جمعاء ". فما أجهل غالبية شباب وكهول بلاد الرافدين خصوصًا، وبلاد سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومصر عمومًا !
    هكذا يرى القارئ بجلاء تعرّض المسيحيين العراقيين قبل حدوث ( تسونامي داعش) لأنواع شتّى من انتهاكات حقوق الإنسان، انتهاكات حملت عددًاغير قليل منهم على النزوح ثم على الهجرة،  وبعذ وقوع (تسونامي داعش ـ حزيران 2014) وما أعقبه، تضاعف كثيرًا نزوح المسيحيين من مدينة الموصل ومن قرى وبلدات سهل  نينوى (مرج أبي عبيدة) ، إلى المحافظات الشمالية والوسطى.فلوحظ من شهور خلت حالات وظواهر سلبية من تصرّفات وسلوكيات الشباب بينهم  من الجنسين، وفي أربيل عمومًا وعنكاوا خصوصًا، إستدعت مؤخرًا بعض الكنائس فيها إلى تنبيه رعيّتها وهذه الشريحة الإجتماعية الناشئة وأولياء أمورهم إلى وجوب إلتزامهم بأهداب تربيتهم المسيحية في الملبس والمظهر والتعامل والتصرّف  كما كانوا عليها في مدنهم وبلداتهم وأريافهم التي نزحوا منها. إذ إن في المدن الكبيرة مرتع وسيع جدًا للحريات المنفلتة والإبتذال والتقليد ومجاراة الفاسدين وغير المنضبطين فيها.
     في نظري، من المجدي تشكيل لجان غوث للنازحين، غرضها معالجة هذه الظواهر السلبية المعيبة، وهذه  اللجان تسعى إلى إيجاد فرص عمل ـ ولو بسيطة ـ لأن البطالة تؤدّي إلى التسكّع، في حين أن إنبات إهتمامات ثقافية وفنية وحِرَفية في نفوس النازحين من الجنسين الشبابيين، من شأنها أن تصرفهم عن التسكّع الذي يجتلب مزالق الإنحراف، ويوصِل إلى هبوط مستوى الأخلاق الحميدة. وأن تكون في لجان غوث النازحين خلايا إرشادية تهذيبية تحثّ الشبيبة والنشء( في جموع النازحين) على التحلّي بالفضائل المسيحية، والتنشئة الحضَرية الصالحة السالمة من العيوب والنقائص. ومن المجدي تكوين خليّة خاصة مسعاها التنسيق مع الدوائر المعنية الحكومية لغرض إعادة توطين النازحين ( من غير الراغبين في الهجرة) في مواطنهم الأصلية التي نزحوا منها.
    في هذا الصدد يجدر بالنازحين بكل أعراقهم وأديانهم مطالعة كتاب الدكتور سعد سلّوم ( في مهب الريح أقليات العراق بعد تسونامي داعش) الصادر مؤخرًا قبل أسابيع. كما من المفيد مطالعة مقالي في مجلة ( نجم المشرق) عدد 72/2012  تحت عنوان (الهجرة الخطر الأكبر على مستقبل مسيحيي الشرق ثم على مسلميه العرب.)

64
خصائص رئيس الدولة الحاكم
                                               
يعقوب أفرام منصور
      نُماثِل تركيبة الدولة تركيبة العائلة من وجوهً عدّة، فكما أن تركيبة العائلة تتألّف من رئيس هو الأب، ثم الأم المساعدة له والمدبّرة لشؤون البيت، ثم العيال ـ اي الأولاد وربما الأحفاد أيضًا ـ وحتى الخدم في بعض البيوت، هكذا هي تركيبة الدولة في أيّ نظام حاكم كانت :جمهوري، ملكي، أميري؛ وقاعدتها الكبرى الواسعة هي الشعب بكل فئاته وطبقاته وانتماءاته وعقائده، ثم الحكومة التي تمثّل السلطة التنفيذية، ثم البرلمان الذي يمثّل السلطة التشريعية والرقابية، ثم الرئيس ـ رئيس الجمهورية، أو عاهل المملكة الذي غالبَا ما يكون حاميًا للدستور.
     من صفات العائلة السعيدة هي إستتباب أحوالها ، وذلك حينما يكون رأسها، الأب أو الأم أحيانًا ـ إن كان الأب غائبًا أو متوفّى  ـ  ممتلكًا عقلاً راجحًا وقلبًا وسيعًا، محبًا لكل من هم تحت سقف بيته، حليمًا، صبورًا، رشيدًا، مستعدًا للبذل الأقصى الممكن، ولتوفير ضرورات العيش الكريم لأفراد بيته. هكذا يكون رئيس الدولة متّسمًا ومتميّزًا بهذه الصفات الآنف ذكرها، حاملاً هذه الخصال الحسنة، كي تغدو غالبية أفراد شعبه حائزة على عوامل العيش الرغيد الكريم بفضل ما منحهم من حريات عامة، وأتاح لهم فرص عمل تناسب قابليا تهم ومؤهلاتهم، وبفضل ما عمّ مجنمعَه من أمن واستقرار وعدل في تطبيق الحقوق والواجبات على الرعية؛ وكل هذه العوامل الفاعلة بالتالي تصبّ في صالح إزدهار النظام الحاكم وديمومته إبان حياة ذلك الرئيس الرشيد الصالح.
     وأيّ خلل أو نقص أو عجز أو تجاوز أو طغيان في التعامل والأداء والتصرّف من أيٍّ  من الطرفين ـ الحاكم ممثّلاً بالرئيس ، والمحكوم ممثَلاٍ بالشعب ـ  يؤدّي إلى نشوب القلاقل والفوضى والإضطراب والإستياء في أوساط المجتمع، ثم بروز فرقاء معارضين في حالة انعدام  التحاور بغية تلبية بعض المطالب الملحّة والمشروعة للشعب الذي يضمّ جمهرة كبيرة من المحرومين والمضطهَدين والعاطلين والمهمَشين والمنبوذين الذين غالبًا ما ينضمّون إلى صفوف المعارضة الموضوعيين والمحقّين في معارضتهم. جدير بالذكر هنا أن صفوف المعارضة يجب أن تكون موحّدة الهدف والمطالب الحيوية، وعاملة داخل القطر و ليس خارجه، ومجرّدة من الأنانيات الذاتية، ومن التصلّب في التحاور، ومن الإسراف في المطالب الآنية.
      من الممكن الإستشهاد ببعض الدوَل التي تحيا شعوبها في بحبوحة من عيش رضيّ كريم، خالٍ من التمرّد والنقمة والنفور والتهجير القسري، وهي الدول الإسكندنافبة : النروج، السويد، فنلندة، الدانمارك، وفي بعض أقطار أوربا الوسطى : سويسرة، هولندة، ألمانيا، النمسا، وإذا تحرّينا أسباب هذا العيش الرضيّ الهادئ فيها، ألفينا توفّر المواصفات والعوامل القائمة بين طرفَي الدولة : ألأصغر حجمًأ ممثّلاً بالرئيس الحاكم، والأكبر حجمًا ممثّلاً بالشعب المحكوم.
      منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم فصاعدًا، تفاقم ظهور الأنظمة الحاكمة التي ترأّسها رؤساء حاكمون شموليون طغاة قساة، يعزفون عن منح بعض الحريات العامّة للهيئات المعارِضة، ويميّزون ويحابون في منح الحقوق والواجبات بين الفئات والطوائف والإيديولوجيات، وقد إستغلّ الغرب ـ في موجة عارمة من " إستعماره الجديد " الشَرِه ـ  هذه الصفات الرديئة والخصال الذميمة لدى الرؤساء الشموليين من خلال بِدعة عملية  " الربيع العربي !" المزيّف ، التي إبتدعها الإعلام الغربي، تمويهًا بشكلٍ هو أسوأ من تقسيم " سايكس بيكو 1916 "، تنفيذًا لإرادة وزارة الدفاع الأمريكية التي بدورها نفّذت إرادة برنارد لويس الصهيوني في عام 1980 ـ فأدّى ذلك إلى ظهور رؤساء أنظمة في الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين، تعاملوا ويتعاملون الآن مع شعوبهم بتحيّز وقسوة شرسة بلغت حدّ القتل والسفك الجماعيين، والتهجير القسري، والتخريب والهدم الشامل، واستخدام التنظيمات الإرهابية، واستعمال الأسلحة المحرّمة دوَليًا، وإلقاء الغازات السامّة الخانقة، والبراميل المتفجّرة المشبعة بالغازات السامّة !
     كل هذا يجري على مرأى من الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية الكبرى  خصوصًأ في أمريكا وأوربا، وعلى مسمع ومراى المنظمة العالمية ومجلس أمنها، من دون عمل جاد لإيقاف هذه المقترفات الجُرمية إستنادًا إلى بنود القانون الدوَلي، حتى إن المنظّمات الإنسانية للحقوق والسلام ونظافة البيئة تذيع أنباءًا وتحقيقات وتعرض مشاهد من هذه التجاوزات على حقوق الشعوب من قِبل  أنطمة حاكميها وبأوامرمن رؤسائها الحاكمين  العتاة الجناة إلى حد لم يسجّل التاريخ قبلئذٍ عديلَها.
       هنا ثمة سؤال يطرحه الموضوع : من هي الدوَل التي تنتج هذه الأسلحة الفتّاكة المحرّمة دوَليًا ؟! ومن يبيعها ويزوّدها ويوصلها إلى الدوَل التي يرئسها رؤساء حاكمون شموليون قساة جناة على شعوبهم ؟! وإذا كانت محرّمة ، فلماذا تنُتجها الدول الكبرى كي يذهب ريعها إلى خزائن تلك الدول التي تصنعها وتبيعها  وتؤمّن إيصالها ؟! هل إرضاء شركات تصنيع الأسلحة أمر مُتاح كي تُستخدم لقتل الأبرياء من السكان والبشر لصالح الدوَل الكبرى المنتِجة الغاشمة؟! أترك الجواب للقرّاء   وللدول المصنِّعة للأسلحة المحرًّمة دُوَليًا !!
 
   
 
     

65
إلامَ الخلفُ بينكم والغفوة؟!

يعقوب أفرام منصور
أربيل
    كثيرة جدًا هي المقالات التي تنشرها جرائدنا المحلية في أعمدتها الداخلية، الحافلة بالحس الوطني والضمير الشعبي، وتعكس للرأي العام ولطبقات المجتمع، وخصوصًا للمسؤولين والساسة : هموم الشعب ومآسيه وكوارثه وتطلعاته نحو حياة لائقة بعيش حضاري نظيف معتدل في القرن الحادي والعشرين، يوازي ـ في االأقل ـ  مستوى العيش في أقطار أوربا الوسطى وإسكندنافيا.
     كل هؤلاء الذين يُسهمون في نشر هذه المقالات هم من نُخب حُذّاق المحللين السياسيين والإستراتيجيين  والإجتماعيين والنفسيين، ومن نخب المثقفين والأدباء والمؤرخين والقانونيين، والمتميّزين بامتلاكهم تجارب  وحكمة ومعرفة بحقائق ووقائع وأسباب الثورات، وعوامل نجاح الحكومات وسقوط الأنظمة، وبامتلاكهم بعد نظر في الأمور الخاصة والعامّة. هذا الكم الهائل من الكتابات يحفل بالتوجيه السليم الصائب للحاكمين والرؤساء والإداريين والحزبيين والكتل ( المفرطة في أنانيتها، المتنافرة فيما بينها)، وتوصي بالإطّلاع اللازم على خفايا الأمور المخيفة، الرهيبة، المهلكة والمخطط لها بإيذاء الكيان العراقي والكيانات العربية عمومًا، وتحذّر من عواقب الإهمال، ومن عدم حسم المعضلات، وعدم التناوم والتغافل وترك الحبال على الغارب، بل تطالب أيضًا باستحداث سلطة قضائية نزيهة خالية من الفساد، وبانتهاج الحزم والصرامة في التعامل مع المفسدين والفاسدين والمرجفين والمقصّرين الكثيرين الطلقاء حتى الآن الذين أوصلوا الوطن وشعبه إلى هذا الدرك السحيق من سوء الأوضاع المعيشية، وتردّي الأخلاق العامة إلى حد شيوع الإجرام والإنفلات في المسلك والتصرفات الهوجاء الوحشية فرديًا وجماعيًا، المؤدّية إلى تضاعف الفوضى التخريبية التي أساءت إلى سمعة العراق في العالم المتمدن حتى بلغت أوطأ المراتب في مجال الإدارة والأخلاق والسلوك.
      ما أحوج الساسة والسياسيين، ورجال الدين بكل عقائدهم الإيمانية خصوصًأ، وما أحوج المثقفين والكتاب والإعلاميين والمفكرين عمومًا، إلى الإطّلاع على البروتوكولات الصهيونية، وأسرار ألستراتيجيات الغربية بشأن العراق والشرق الأوسط، كي يقفوا على حقيقة المنظمات التي تحكم العالم من أكثر من قرن ونصف. إني أرجّح أن غالبية الذين أسلفتُ ذكرهم لم يسمعوا بهذه المطبوعات أصلاً، وإذا كانت ثمة قلة قد قرأت ووعت وقدّرت الأمور والأحوال، ولم يفعلوا شيئًا مع المسؤولين والرؤساء والحاكمين من تنبيه وتوعية وحيطة وإجراء، فهي لا ريب تُعدّ مقصّرة.
   
       بيدَ أنه ـ مع كل هذه الأصوات والنداءات والمطالبات المشروعة، والتحذيرات الصائبة المعلنة جهارًا على الملأ والرؤساء والإداريين في دست الحكم والتشريع والمناصب الفارهة منذ عام ونصف ـ يَشعر أرباب الفكر والقلم والرأي والنصح والإرشاد والتحذير والتنبيه بكونهم في حالٍ أشبه بالغفلة أو التغافل، لا تعي، ولا  تُبصر، ولا تُدرك، لأن ستائر صفيقة من الظلام والجهل والأميّة في ميادين المعرفة والإدارة قد حَجَبت عن أسماعهم وأبصارهم وأذهانهم  حقائق الأشياء والأمور والخبائث وسوء المصير، ولأن فقر أو فقدان الإخلاص للواجب وللقَسَم الذي أدّوه لا يلتزمون به، بل تناسوه وجحدوه، وكأنهم غدوا أقرب ما يكونون إلى بيت الشاعر القائل :
           تبًّا لمن يُمسي ويُصبح لاهيًا       ومرامُه  المأكولُ  والمشروبُ                               وكما قال إبن جبير الرحّال:
         عجبتُ للمرءِ في دنياه تُطمِعُه       في العيشِ، والأجلُ المحتومُ يقطعُه                             يُمسي ويُصبح في عشواءَ يخبطُها        أعمى البصيزةِ، والآمالُ تخدعُه                               ويجمع المالَ حِرصًا لا  يفارقُه            وقد درى أنه للغيرِ  يجمعُه                                     تراهُ يُشفقُ من تضييعِ  دِرهمه           وليس يُشفقُ من دينٍ  يُضيعُه !
     قضلاً عن كل هذه التوجيهات والتنبيهات والتحذيرات الصُحفية، ثمة رافد آخر للتوعية والإسماع والكشف والإيضاح، مصدره القنوات التلفازية التي تُسفر عن هموم الشعب المنكود، وسوء أحوال عيش نصفه في مستوى بدائي وضيع! ورافد آخر يحمل ما تفرزه مظاهرات الشعب الحاشدة من صيحات جهورية تبوح بالتظلّم والإمتهان والبؤس، ولكن مُنذرة وزاجرة وناشدة بالركون إلى الصواب والتهج القويم، والعدالة الإجتماعية، والمطالبة بالعلاج الناجع الذي آخره الكَي، غير أن الرؤساء والربابنة والإداريين ومن والَوهُم قديمًا وحاليًا كأنهم بلا حواس تدرك ما هم فيه من تخلّف في ميدان الخدمة الإدارية القديرة الصالحة، لأنها إدارة  خائفة ممن هم حولها من متربّصبن ومتحفّزين للإنقضاض والعرقلة. فإدارة هذه صفاتها وهذه هِمّتها الواهية لا يُرتجى منها صلاح ولا إصلاح، ولا مداواة لعِلل، ولا شفاء لأمراضٍ وجراح!
     غالبية الشعب العراقي لا تعرف المخططات السرّية الغربية لِما يُراد لأقطار الشرق الأوسط من سوء المصير والتمزيق والتقطيع لبلادهم، والعراق أولاً، منذ 1991، وبشكل أوضح في 2001 ثم 2003 ، وإذا عذرنا الغالبية العراقية وحتى الغالبية العربية في جهل حقيقة هذه المخططات الكارثية، فجهلها أو تجاهلها من قبل الساسة والحكام والرؤساء والفادة، كما من قبل كثير من المثقفين والقارئين والمؤلفين والإعلاميين في الوطن والبلاد العربية، الذين لا يقرأون الكتب التي ينبغي قراءتها ولا يسمعون الأقوال التي تستوجب سماعها، لمما يُلامون عليه. إذ هم الرعاة والربابنة والحُرّاس، يحتّم الواجب عليهم أن يزوّدوا أذهانهم بالمعرفة والإطّلاع الوافي على كل ما يُحاك للأوطان من وبيل المهالك والإفناء، وأن يقراوا الكتب الحديثة والمجلات  التي تدلّهم على حقائق تلك المعلومات الخطيرة، ويضعوا تفاصيلها ومفرداتها نُصبَ أعينهم ويحتاطوا لدرئها، ويستعدّوا لصدّها وإفشالها بحنكة ودهاء وعزم لا يلين، وبذ ا لا يكون مصير وسائل المعرفة والإطّلاع والتحذير كمصير صيحاتٍ في الأودية، أو حرثٍ في البحر.! وبخلاف ذلك يصم التاريخ قصورَهم  بوصمات لا ترحم.


 

66
رحيل بطرس غالي يذكّر العراقيين بالقرار 986
                                                   
يعقوب أفرام منصور
اربيل
      تقترن مناعي الأعلام والمشاهير والبارزين في ميادين الحياة العامة بذكريات وأحداث ووقائع ذات صلة بشخوصهم من حيث مواقفهم ومأثوراتهم وأثرهم في المجالات الإنسانية والإجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية والفنية، وضمن هؤلاء الشخوص الراحل بطرس غالي، المتوفّى  في 16 شباط هذا العام، في مجال إشغاله منصب الأمين العام لمنظمة  الأمم المتحدة إبان الأعوام 1992 ـ 1996.
     من الأرقام التاريخية المشهورة في تاريخ العراق الحديث، وحصرًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، الرقمان الصادران عن مجلس الأمن الدُوَلي : 678 في 29 /11/ 1990 و986 الذي يرتبط ذكره بصدور قرار الحصار الجائر على الشعب العراقي حين كان السيد بطرس غالي  أمينًا عامًا لمنظمة الأمم المتحدة. 
     عندما حررتُ رسالتي المفتوحة إلى السيد بطرس غالي في حزيران 1995، ونشرتْها جريدة (ألقادسية) في 2 تموز 95، كان قد انصرم زهاء خمسة أعوام على صدور القرار الأول ( 678) القاضي بفرض الحصارعلى العراق، وبرفع الحصار بعد تطبيقه المادة 22 من القرار، ومضيّ قرابة عام على صدور مقالي المعنون (الحصار الجائر، والثبات والإيمان في بيان بطاركة الشرق الكاثوليك) المنشور في جريدة (ألعراق) في 18 آذار 1994. لكن القرار الثاني الصادر في ألربع الأول من 1995 قد  مدّد الحصار حتى تاريخ إنجاز العراق تطبيق المادة 22 من القرار السابق. فكان رد فعل العراق على نصيحة بطرس غالي أن قابله وزير خارجية العرق السيد (الصحّاف) يوم 15 أيار من عام 95 وشرح له أسباب عدم موافقة العراق على القرار 986، وذلك لإحتوائه على شروط تدخليّة ذات صبغة سياسية مغرضة تهدف إلى إنتهاك سيادة العراق ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي، في حين أن العراق جاد في التعاون مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإنهاء ما تبقى من مشاكل لتطبيق المادة 22 من القرار السابق، التي تقضي برفع الحصار عن العراق. (أنظر جريدة(القادسية) ليوم 16 أيار 95). مما أسلفت يبدو جليًا أن الحصار بعدئذٍ ظلّ ساريَ المفعول.
     خاطبتُ السيد غالي، بعد التحية، بهذه السطور:
   [ سبق أن خاطبتُ سلفك الصالح (داغ همرشولد) بخطاب  مخنوم  في 21/5/ 1958، واليوم أخاطبك برسالة مفتوحة في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن (986)  السيئ والخبيث جدًا، والذي حثّني على تسطيرها هو مباركتك القرار، وإبداء مشورتك للعراق بقبوله!  إن منصب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة يماثل منصب رئيس أو أمين حزب من الأحزاب، يُنتظَر منه أن يؤدّي دوره المطلوب في مجال الخدمة غلى أفضل وجه تتطلّبه مصلحة الشعب وخير الوطن وكرامة الدولة وسيادتها في ظِل من العدل والإنصاف  والإستقامة.]
    أعقب ذلك دخولي إلى صُلب الموضوع:
[ فكان القمين بك، وأنت أمين عام أهم وأأكبر منظمة عالمية، أنيطت بها  مقدّرات العالم وأمنه  وسلامته، وأُسِّست لرعاية وضمان حقوق الشعوب كافة والمستضعفة منها بشكل خاص، أن تكون  على مستوى تلك المَهَمّات الجسام والمسؤوليات الخطيرة، بيد أنك ـ مع مرير الأسف وعميق الأسى ـ وبقدر تعلّق الأمر بشعبنا الصابر المضطَهَد في العامين الأخيرين بخاصّة، كنتَ قصيًّا جدًا عن ذلك المستوى المنشود، بل المفروض في مسؤول كبير نظيرك، حتى كان القرار الأمريكي (986)، ألمضحك المبكي، ثالثة الأثافي في إلحاق الأذى الجسيم بالشعب العراقي معنويًا وماديًا. فكيف تبارك هذا القرار المنطوي على السم والخبث.؟! وكيف يُتاح لضميرك أن ينصح العراق بقبوله؟! أإلى هذا الحد أنت مُسَيّر وقد غررت بك الحبائل الصهيونية ، والأطماع الأمريكية النَهِمة؟!]
   وكي أبدي له إستياء بعض الأوساط الأمريكية من مضامين  القرار، أردفتُ نص رسالتي بهذه الفقرة: ( حتى  بعض الصحف الأمريكية شجب القرار، واستخفّ به.  لقد تزعزعت ثقة الشعوب بالمنظمة العالمية ومجلسها الأمني. وكثير منها يتذكّر جيدًا القرارين 242 و338 اللذَبن لم يُطَبّقا حتى الآن، برغم انصرام ثلاثة عقود على صدورهما. ألم تصل إلى مسمعك أصوات حرّة شريفة من أرجاء المعمورة تقول بظلم القرار وانطوائه على النيّات السيئة، وانبعاث رائحة التهالك على النفط إلى حد ابتزاز ثروات العراق ، والإستحواذ عليها، وإفقار وتجويع  شعبه؟ فعلامَ صمتُكَ بعد كل الذي بلغ مسمعكَ من اعتراضات وشجب وثلب؟ ولماذا ـ في الأقل ـ لم تعتصم بالصمت منذ اللحظة الأولى لصدور القرار؟!)
      وفي الفقرة اللاحقة شئتُ ـ على سبيل المقارنة ـ أن أفصح له إنه برغم انصرام عقود على ارتحال سلفه (همرشولد)، يحتفظ له الأحرار عمومًا والعرب خصوصًا باطيب الذكر، ويكنّون الإحترام والتقدير له، وهو غير عربي ولا شرقي، لكنهم لا يحملون الشعور نفسه تجاه سلفه الآخر (دي كويلار)، وإن التاريخ مدوِّن حدّي مستقيم  لا يعرف الإنحياز، لأنه يحمل بين طياته  ضمير البشرية الحي النزيه، فكان المرتقب منه أن يكون ـ في الأقل ـ  على مستوى سلفه الصالح، إن لم يكن أفضل منه، بسبب انتمائه إلى هذه الأمّة المبتلية بأطماع الأجانب وأحابيل الصهيونية، وخيانات رهط من حُكّامها الفاسدين، وهو يعرف كل هذة الحقائق؛ واستفهمته إن كان هو راضيًا في أعماقه عن اتخاذه ذلك الموقف غير الجدير به ـ لو أنه راجع نفسَه؟
      والفقرة الأخيرة من الرسالة حوَت هذه السطور: [ لا، سيادة الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة المحترم، لا  يا أخي العربي في أرض الكنانة وبورسعيد والسويس، لا يقبل منك أحرار العالم النبلاء موقفك الممالئ لأعداء الحق والفضيلة والعدل.......بعد أعوام قليلة، سيكتب التاريخ النزيه فصلاً، لا تروقكَ مطالعتُه، ولا تسرّكَ فحواه، بشان هذه المهزلة ـ المأساة الصادرة عن مجلس الأمن الدُوَلي بقرار 986! ]  وكان الختام: (أخيرًا، أنا وأمثالي لا نملك إلا أن نقول آسفين ومذكّرين : المكر السيئ يحيق بأهله، والمرء حيث يضع نفسَه.)
    في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى إلقاء إضاءة صحفية موجزة على صدى الحصار عالميًا، فقد وضعتُ في دفتر مذكراتي لعام 1993 قصاصة من جريدة (القادسية) ليوم 23 ك2 لعام 93  تحمل عنوانًا بالبنط الرفيع [ إستياء شديد وعام في الأوساط الكنسية في العالم بسبب العدوان على العراق ] وتحته عنوانًا بالبنط العريض [ الفاتيكان يجري إتصالات مع " الأمم المتحدة " لرفع الحصار .] وفي نبأ أوردَته صحيفة القادسية في 16 آب 93 أفاد [ إ ن البابا يوحنا بولس الثاني أكّد مرور الولايات المتحدة بأزمة أخلاقية.] وفي قصاصة أخرى من جريدة (العراق) ليوم 1 أيلول 93 نبأ أفاد بأنّ ( الرئيس الأمريكي السابق كارتر ، في مؤتمر صحفي في صنعاء اليمن ، إنتقد مواصلة الحصار على العراق، ويجب أن ينتهي.)
بالمقارنة مع موقف السيد غالي، المشار إليه آنفًا، أعرض ما يناقضه تمامًا في أثناء حضوري الجلسة الختامية لأعضاء وفد بطاركة الشرق الكاثوليك في (فندق الرشيد) يوم السبت الموافق 5 آذار 1994، الذين زاروا القطر بباعث  إنساني وتلبية ً لمشاعر الأخوّة والتضامن مع الشعب العراقي المحاصَر بأكمله، ومع حقوق الإنسان، وبقصد الإطّلاع على الحقائق عن كثب، فلمسوا لمس اليد، ورأوا رأي العين شدّتَنا العصيبة وآلامَنا المبرّحة من جرّاء الحصار الشامل الجائر المفروض على الشعب العراقي الأبي الصابر. لقد دعا البيان الختامي شعب العراق [ إلى المثابرة في الإعتماد على الذات، مع التسامي فوق المِحَن والشدائد، لأن في العالم قوى خير كثيرة، وبفضلها وبفضل جهود العراقيين سوف يُعاد بناء العراق، بل بناء العالم كله ليكون مستقَرًا للعدل والحق والسلام.]
     مقالي في هذا الصدد نشرتْه جريدة (العراق) ليوم 18 آذار 1994 ، قلت ُ في مقدّمته، مخاطبًا الوطن في شدّته ومحنته ( ما أنضر أن تعثر ـ في هذا الوجود ـ على دوحة عزلاء، ذات ظل وارف، تلجأ إليه في ساعات الهاجرة حيث يلتقيك مستوحِدٌ زاهد، يرتدي أسمال الفقراء، ويحمل عصا الدراويش، فتطلب إليه ان يعظكَ بكلمات موجَزة، وما إن تعي موعظتَه، حتى تنهض نَشِطًا لتستأنفَ السيرَ في سبيلِك.)
      ما يدعو إلى الإستغراب حقًا أن يلاحظ الإنسان السويّ فردًا متميّزًا، نظير بطرس غالي،  ومتخصّصًاا في القانون والقانون الدوَلي وحقوق الإنسان،  يتّخذ موقفًا تاريخيًا ممالئًا لإرادات أعداء  " حقوق الإنسان" !
   
     

67
مسؤولية ألأدباء والمثقفين إزاء الإلتزام
                                                   
يعقوب أفرام منصور
أربيل

     خلال أعوام العقد الثامن وحتى أواسط العقد التاسع من القرن المنصرم لِيمَ الأدباء والمثقفون (مفكرون، شعراء، فنانون، مسرحيون) من لدن البعض على انصرافهم إلى أدب الحدث والشأن الوطني والمواضيع التي تمتّ بصلة إلى السياسة، من بعيد أو قريب، كالمظالم والطغيان، وامتهان وتجاوز حقوق الإنسان، والخيانات والمحن التي قاساها الوطن، من تدمير وحصار متعسّف، وفضّل  اللائمون المقصّرون  إنصراف هؤلاء جميعًا إلى الأدب والإبداع الإنساني الصِرف، متناسين أولاً أن ألأديب أو المثقف، كعضو فاعل في المجنمع، ينبغي عليه بقضل تميّزه إحساسًا وإدراكًا ـ بحكم مواطنته وإنسانيته ورهافة شعوره وعمق وعيه ـ أن يكون إيجابيًا، فيعبّر بوسائله الإبداعية عن أفكاره وآماله وطموحاته الوطنية والقومية والإنسانية في ظل العدل، كما يعبَر عن احتجاجه وشجبه وغضبه إزاء العسف والطغيان والجبروت والإرهاب؛ ومتناسين ثانيًا أن الكتابات الأدبية والإبداعية في باب أدب الهموم والشؤون  المحلية والبيئية، بما فيها من عيوب ومثالب وتخلّف ،  تتسم  بالوطنية والإنسانية كذلك. فهل من العيب أو عدم الجدارة أن يكون الأديب أو المثقف منفعلاً وإيجابيًا بروحه ويراعه بباعث من وطنيّته ووحي ضميره الإنساني اليقظ؟! لا أعتقد  ذلك، بل أؤ كّد كون النقيض هو الصحيح، إذ بخلاف ذلك يكون الأديب أو المثقف  سلبيًا وجامدًا وذاتيًا فقط ونرجسيًا أيضًا، وهذا ما يشينه.
      في هذا المجال قال الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه (خواطر في عصر القمر) : " الإلتزام لا يعني الإلزام، فالإلتزام في الأدب والإبداع،  شعرًا أو نثرًا أو رسمًا أو لحنًا، هو السير في طريق محدد المعالم واضح المسالك، يلتزم به هؤلاء في نتاجاتهم من خلال التعبير عن شعورهم وأحاسيسهم وآرائهم ونزعاتهم بصدق وأمانة في مضامير مشاكل وهموم وشجون المرحلة الحياتية التي يعيشونها. فنتاجات هؤلاء  تُصنّف بكونها أعمالاً فنية، فهم إذن فنانون متخصّصون في صناعة التعبير والإفصاح والجهر والإبداء بشكل إدبي إبداعي متفنن ليس لأجل الفن نفسه بل لأجل خدمة المجموع والمجتمع والوطن والشعب بحسب تأثّرهم بمعاناة المحيط.  ولما كانت المجتمعات متعددة ، والأمم مختلفة، والحضارات متباينة، والإنسانية ما زالت في تناحر وتشاحن وتباغض، والأقوياء ماديًا ما زالوا يفتكون بالضعفاء ماديًا، والعقل ما زال  مسخّرًا لإنتاج وسائل البطش والإفناء التي ما برحت موجّهة لضرب البشرية، والفتك بالإ نسانية، والأطماع ما فتئت متأصّلة في النفوس  والقلوب؛ ففي خضمّ هذا البحر الهائج من التيارات والمعترك والتطاحن، يجدر بهؤلاء المتفننين في ميادين الأدب والثقافة والشعر والرسم والمسرح والإنشاد أن ينشطوا لإنتاج إبداعاتهم، وأن يعملوا ما في وسعهم من عمل لصدّ هذه التيارات عن مجتمعاتهم وبيئتهم وأمتهم عِبر التزامهم بفنونهم الإبداعية لصدّ هذه التيّارات ولتوعية الجماهير، ودفعها إلى العمل على التهوض بمجتمعاتهم  وتقدّمها وازدهارها. فالقائلون بالفن للفن فقط وليس لغيره ـ وإن يعمّموا فكرتهم هذه في مختمع أممي واحد وداخل أمة عالمية واحدة، فهيهات ثم هيهات أن يأتي ذلك اليوم، إذ هو حلم من الأحلام العبثيّة التي لا تتحققق، وتضادد طبيعة حياة البشر على هذه الأرض، وضد نفسيات البشر. فالإلتزام في الإبداع الأدبي والثقافي هو النابع من الإيمان والإقتناع بالعقيدة والفكر والرأي، وهذا النهج هو غير الإلزام الذي يعني الإجبار والإكراه على الإبداع لصالح عقيدة أو فكرة أو رأي ( ص 48 ـ 51)
     فالعقّاد ـ كأديب ومفكّر ـ  كتب كثيرًا من المقالات ذات نَسَب قوي إلى السياسة، وغاص بكتاباته ومعاركه القلمية في خضمّ أحداث سياسية، والأديب الصحافي إبراهيم صالح شكر كتب كثيرًا من المقالات في الصحف العراقية بأسلوب أدبي، فهل كانا مُسيئَين إلى وطنهما أم  إلى أدبهما أم إلى القلم الشريف؟ والرصافي له قصائد رائعة عديدة في مجالات السياسة، فهل أساء أم أحسن؟ والشاعر لامرتين ـ المشهور بقصيدة ( البحيرة ) ورواية حب (رافائيل) ـ كان سياسيًا ورجعيًا. وبرنارد شو ـ صاحب المسرحيات العديدة والمشهورة، كان إشتراكيًا فابيًا، وله مقالات تُعد أفضل من كتاباته المسرحية. وسان بيف ـ أكبر نقّاد فرنسا الأدبيين في القرن التاسع عشرـ كان من أتباع سان سيمون الإشتراكي الفرنسي الخيالي. ومحمد كرد علي ـ المفكر المؤرّخ ورئيس المجمع العربي السوري ـ كتب في السياسة. ومارون عبّود ـ شيخ نقّاد الأدب ـ كتب في النقد السياسي : " من الجراب"، "أشباح ورموز"، "حبر على ورق"، "قبل انفجار البركان". وجبران خليل جبران الشاعر والرسام والمفكّر، تشهد له أكثر مؤلفاته العربية بالألتزام الهادف إلي إيقاظ الشعب واستنهاضه ومقاومته الدخيل والفساد والإستبداد بشكل سافر وشديد في ( أرواح متمرّدة) ، (الأجنحة المتكسّرة)، (عرائس المروج) و (العواصف). فهل أساء كل هؤلاء الأمثلة في كتاباتهم الملتزمة إلى حِرفتهم أو أمّتهم أو رسالة الأدب والثقافة والفن والقلم؟ أنا شخصيًّا لا أعتقد أنهم أساءوا، بل أحسنوا صنعًا. فشؤون السياسة والحكم والإدارة لدى أرباب القلم والإبداع لا تشكّل ميدانًأ حِرَفيًا تخصصيًا مؤسساتيًا عمادها أفراد السلطتين التنفيذبة والتشريعية ، فضلاً عن دبلوماسيين ومنظّرين ومعلّقين  وزعماء وحزبيين، إذ إن كتابات الأدباء والمثقفين تمتّ بصلة ألى السياسة والحكم والإدارة والإيديولوجيات  بقدر تعلقها بقضايا الحق والعدل والمساواة، ومصلحة الشعب العليا في نواحي الإستقلال والسيادة والإقتصاد والإرتقاء في المجالات الإجتماعية والتعليمية والصحية والخدمية والبيئية، وكل ذلك يقومون به من خلال كتاباتهم الفنية الحصيفة بفضل رقّة مشاعرهم ، وغيرتهم الوطنية ومبادئهم الإنسانية، وبواعث الحق والعدل الي تزخر بها نفوسهم، وهي مزايا قلما تتوفر في نفوس الساسة والزعماء ورجال الإدارة والحكم في أقطار العالم كافّة.
     مضت سبعة عقود على طرح هذا الموضوع وتداوله إعلاميًأ وصحفيًا ومجتمعيًا، لكنه ما برح محناجًا إلى تذكير بين آنٍ وآخر، لأنّ  جمهرة كبيرة من المبدعين الأدباء والشعراء والمثقفين ما  فتِئت نائية عن الإلتزام في نتاجاتها عن القضايا الوطنية والمصيرية والإجتماعية والإنسانية، إذ هي موغِلة في ذاتيتها. فهل يكفي ويليق أن يكون أحد هؤلاء المبدعين ذاتيًا أو نرجسيًا فقط ، أو لامباليًا بما حوله من هموم وشجون وعسف؟ هل يحسن به أن يصوّر لواعج الحب والغرام وصنوف العبث واللهو والترّهات فحسب؟ ألا تثير فيه حروب القرن العشرين والعقدين الأخيرين، بما اكتنفهما من فظاظة وهمجية وجرائم وتدمير وتجويع ومظالم وطغيان وانتهاك حقوق وحريات وتهجير و إبادة في الوطن وأقطار الشرقين الأدنى والأوسط ؟! وكل هذا يجري في ظل وسائل إعلام مُلهية ومضلّلة ومسايرة للنظم الفاسدة  والسلطات الغاشمة، وتزوير حقائق، وتغاضٍ عن  تجاوزات صارخة لحقوق الأنسان، وإذلال الشعوب المستضعفة لتخنع لإرادة الشر المتجبّرة ؛ فيطوي الذاتيون والنرجسيون واللامبالون  كشحًا عن هذه المشاهد والمظالم، فيملأون الصفحات الثقافية الإبداعية بالقصص  والأشعار والسجالات الغثّة، بعيدًا عن كل هذه الشجون والأوجاع والمثالب حيالهم!
   قليلة جدّاهي القصص القصيرة التي تصوّر سوء أحوال النازحين، ونادرة جدًا هي القصص الطويلة التي تصوّر معانيات المهجّرين وبينهم الغارقين في البحر قبل بلوغهم بر الأمان، وأندر منها أشعار تصوّر ضحايا التفجيرات المتنوعة التي تحيل أجسادهم إلى هباء منثور وكأنهم  هم الظالمون ومسببو النكبات والفساد والخيانات؛ كما في حكم العدم إنتاج اي نوع أدبي يصوّر أحوال النكد والإستغاثة والخروقات الأخلاقية والجسدانية الفظيعة التي تٌرتكب في ظلمات السجون.ألا تثير إنتهاكات حقوق الإنسان عصبًا في أرباب القلم الإبداعيين لتجعلهمم ينفعلون، فيمتشقون أقلامهم ذودًا عن حق هضيم، ودفعًا لجورٍ جاثم، وتحفيزًا لنخوة ونجدة،، وإيقاظًا لوعيٍ في سبات، ودعمًا لمطالب جماهير مسحوقة مُهمَلة، ومناهَضَةً لطغيان وإرهاب بصنوفه : الرسمي والقئوي والظلامي المتخلّف الذي تخلقه وتغذّيه عِبر الحدود مطامع الغرباء الأشعبية، وتبصيرًا بالعواقب الوخيمة ؟!
     في بحث قٌدّم إلى مؤتمر الأدباء العرب السابع في 1969 بشأن [ دور الأديب العربي في المعركة ضد الإستعمار والصهيونية العالمية]، قال الأستاذ عودة بطرس عودة في تطرّقه إلى دعم جركات التحرر في العالم : " على الأديب العربي أن يعمل من أجل خلق الرأي المهتم والمؤيّد لكفاح الشعوب، ومن أجل تقديم الإنتاج الأدبي والفكري القادر على النفاذ من الأسوار العالية التي تقيمها الصهيونية والأستعمار والإمبريالية لحجب الحقائق عن شعوب العالم. ومن أجل ذلك، يتحتّم : (1) أن يكون ثمة تحليل علمي تاريخي لكل  قضايا الشعوب، وتطوّر هذه القضايا ، (2) فضح مستمر واستنكار متواصل لمرامي أعداء الشعوب وأهداف الأستعمار والإمبريالية وأعوانهم الخائنين ، (3) أن تكون ثمة قناعة تامّة ـ نابعة من حركة التاريخ وأحداثه ـ بأن التوحّد الفكري في هذا القصد هو السبيل إلى التحرر الشامل، فيجدر يالأديب في أقطارنا، وقد انفعل بهذه القناعة ، أن يتحول إلى  مناضل بقلمه وإنتاجه الأدبي من أجل هذا التوحّد في القصد. "
     يواجه أدباء أقطار هذه المنطقة من الشرقين الأدنى والأوسط، التي باتت مطمع الدول الغربية الرأسمالية الإستحواذية، بسبب غنى ثرواتها النفطية والمعدنية، وبسبب تشرذمها وقلة وعيها إلى حد الغفلة في بعض البقاع، وندرة الإنتباه إل حد الغفوة في بعض الأنظمة، في هذه المرحلة الحاضرة المصيرية، أقول يواجه  هؤلاء الأدباء مسؤولية إضاءة الطريق أمام الجماهير جمعاء، لكن بروز الرأي العام العالمي كسلاح أمضى من الأسلحة القتالية الحديثة، واتساع ميادين الكفاح وتعددها وتنوّعها في العصر الراهن، وارتباط شعوب العالم بعضها ببعض، وانهيار الحواجز الفاصلة التي كانت تفصل بعضها عن بعض قبل عقود، إتّسعت مَهَمّة الأدباء في أقطار هذه البلاد لتشمل الإهتمام بتوجّهات السياسة العالمية المُخيفة، وما يصطرع فيها من تيارات فكرية واقتصادية واجتماعية، والإهتمام بأوضاع الشعوب المتخلفة وتكتّلاتها وأحلافها، لما في ذلك من تأثير في وضع أمتهم وبلادهم. فمَهَمّة الأديب الغيور في هذه الأقطار واجبة وذات أهمية ، لأن هذه الأقطار قد واجهت منذ عقود عداوة وأطماع وأستغلال واستعباد الإستعمار القديم، كما تواجه الآن ومنذ أمد  عداوة ومطامع الإمبريالية المعاصرة والصهيونية العالمية  مقرونتين بالحرب النفسية والصراع الحضاري،آخذين يعين التقدير ما تملك هذه القوى المزدوجة، المادية، الجهنمية من سلطان  في العالم لا يدانيه سلطان أخر.
    من المناسب في هذا المقام أن أورد ما قاله القدّيس (إيرونيموس المتوفّى عام 420) : " إن الصلاة هي السياسة "، وفد عقّب الشارح على هذه العبارة قائلاً : " فالأبتهال هو السند الذي إليه يستند العالَم المائل نحو الهبوط. أفتحسبون أولئك الرهبان المنفردين في المحابس والمناسك أناسًا متوانين؟ حاشاهم من ذلك، لآنهم يقضون آناء الليل وأطراف النهار بالصلوة والضراعة والإبتهال الى الله لبكفّ غضبَه عن العالم المفعم بالشرور، أو هل تحسبون الإهتمام في إرضاء الله من أعمال البطالة؟ كلاّ أيها الإخوة’". وقال(غااندي)  قديس السياسة في القرن العشرين : " أقول من غير تردد وفي إتضاع كامل إن أولئك الذين يزعمون إن الدين لا علاقة لهم بالسياسة، لا يعرفون معنى الدين " (ص 577 من كتابه " قصة تجاربي مع الحقيقة " ) لكنّ وجود علاقة  بين الذين والسياسة لا يعني تدخّل رجال الين في السياسة، ولا تدخّل السياسيين في الدين.  فالدين  معنيٌّ بالمعاملة بين الناس، وهذه المعاملة التي يوصي بها الدين تلتزم الأمانة والصدق والعدل والنزاهة والكرامة الإنسانية، غير أن السياسة كثيرًا ما تتجاوز على هذه الحقوق والوصايا والمبادئ، حتي التشريعات المدنية منها وفي أرقى وأكبر الدول حيال شعوبها، علاوةً  على غير شعوبها. وخير الدول هي التي لا تتجاوز على تعاليم الدين أو قلّما تتجاوزها.
    فإذا كانت هذه مقولة قدّيس ديني، في مدى إرتباط الصلاة بالسياسة، وهذه مقولة قدّيس مدني في وجود علاقة بين الدين والسياسة،  فلعمري ماذا يقول وماذا عليه أن يفعل الأديب الغيور بيراعه، والكاتب الحر بنتاجه، والمفكّر الإنسان المنصف بصوته الجهوري في هذا المعترك السجال بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الجمال والقبح؟! أترك الجواب لحملة الأقلام، ولذوي الألباب خصوصًا، وللمثقفين عمومًا.
    وفي خاتمة الموضوع من المناسب طرح هذا التساؤل : خلال هذه الحقبة العسيرة الملأى بالعيوب  والمساوئ  في الوطن، من عام 2003 حتى الآن، هل كان الكتّاب الإبداعيون والمثقفون  ( أدباء، قاصّون، شعراء، مفكرون، متفننون) على المستوى المطلوب من الإلتزام، عددًا ونوعًيًأ، تجاه البواعث الوطنية، والمبادئ الإنسانية، وروح العدالة ونبضات الضمير اليقظ؟  بكل أسف، أجيز لنفسي القول بالنفي، وسيكتب التاريخ لومًا شديدً على كثيرين من حملة الأقلام والألقاب اللامعة، وعلى الإتحادات والمؤسسات الثقافية والإعلامية لتقصيرها الكبير في هذا الميدان .
 











68
ألجنس البشري عند مفترق الطرق
                                                                       
يعقوب أفرام منصور
أربيل
     في عام 1948 ـ أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية الحرب العالمية الثانية ـ نشرت (مكتبة المفكّر) اللندنية كتابًا عنوانه [ ألإنسان سيّد مصيره ] للكاتب أرشيبالد روبرتسون. وبمناسبة صدور عملي الجديد في كتاب (ألأماني والأهواء بين الدين والدنيا) في كانون الأول 2015، واشتماله على مقالات وبحوث تمتّ بصلة إلى عنوان هذا المقال ومواضيع مضامينه، منها مقالاتي : العالم الذي نتمناه ـ البلاد المحجوبة ـ الإنسانية والمجتمع ـ ألأنانية قاتلة الحب ـ  وبحثي " تقنيّة السلاح ومستقبل الإنسان"،  شئتُ أن أنقل من الفصل الأول من كتاب (روبرتسون) ، المعنون [ ألجنس البشري عند مفترق الطرق ]  معظم الأفكار والآراء في مواضيع كتابه، المشابهة  لمضامين كتابي، والمخالفة لها أحيانًا.
     في مطلع الفصل الأول، المذكور عنوانه في أعلاه، ورد إن الغرب قد غدا في حيرة بعد دحره أشرس تآمر على حضارته وقيَمِها، ومع ان حقيقة كون الغرب نفسه قادرًا على قهر المؤآمرة يُثبت كون الغرب غير مفلِس ماديًا أو معنويًا، يبقى الإعتقاد بأن الإنهزامية تتنامى بمقدار غير يسير. إذ يعمّ الإرتياب إنْ كان في مقدور الإنسان هيمنته على القوى المادية التي وجب وجودها لأجل الحياة، سواء أكانت تلك القوى غير مقدّرٍ أن تُدمّره ،أو أنّ قرعة ناقوس مُنذِرة بكارثة الحضارة  لم تُقرَع بعدُ.
     فالناطقون بدين  معترَف به، يقولون في هذا الصدد،  إنهم خلال القرون الأربعة المنصرمة كانوا سائرين في المسلك الخاطئ، إذ إن  فكرة [ جعل الإنسان سيّد الأشياء ] وجعل [ الحياة على الأرض  سعيدة للجميع ] كما يُقال لهم إنها فكرة خاطئة وشرّيرة تمامًا. فكما قيل لهم إن الصورة العلمية للكون هي نصف الحقيقة في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال هي تضليل، وكما قيل لهم إن الحقيقة الجذرية بشأن الإنسان هي كونه إنسانًا ساقطًا، عاجزًا وحَدَه عن إدراكه الحقيقة أو فِعل الصحيح. فأنانيته علّة كل رزايا العالم،  إذ يعجز عن البدء بكونه غير أناني، ويفعل الصحيح بدون (نعمة الله) التي بشأنها يُجاز للناطقين بدين مُعترَف به أن يتحدّثوا.
     كي يعلم أبطال معركة بريطانيا، وحركات المقاومة في أوربا والعلَمَين وستالينغراد وسواحل نورماندي  وهجمات الصواريخ أن مصائب العالم ناجمة عن أنانيتهم، يبدو ذلك أمرًا مُهِينًا لغير المؤمنين، كما يبدو سُخفًا لِمن يُراد إعلامهم بأن رأس الحكمة يكمن في الخضوع لتعليم دين مُعترَف به. فإذا كان الكل في أوربا وأمريكا قابلين وطيّعين للتعليم المسيحي، فإن فُرَص نجاتنا ونجاتهم من دمار حرب قابلة لن تغدو أكبر مما هي الآن (1948)، بل دونها حتمًا.  فسبل النجاة المنشودة لا تقوم على قبول تلك التعاليم والعقائد وتطبيقها والبرهنة على صحتها، ولا على ملاحظة أسلوب [ " مبدإِ هادٍ " في الإيمان والمناقب ]، بل تعتمد على تدريب تفكيرنا، وتفهّم العالم طبيعيًا واجتماعيًا، وعلى تعلّمنا السيطرة عليه وفق هذه المناداة:                                                                                             أخي، أخي، إستخدم ذهنَك !                                                                                 تعلّم التفكير، قبل ان تقضي نحبك !                                                                         أخي، أخي، تحوّل لمواجهة اليوم !                                                                         أخي، أخي، إرمِ عنك أصفادك !
     إن الجنس البشري على مفترق الطرق، لكنّ الخيار ليس بين الأنانية واللاأنانية. فأغلبنا تقريبًا قد تدرّبنا منذ الصغر على الخضوع للآخرين، وخلافًا لذلك نكون غير محتمَلين، بيد انّ اللاأنانية لا تكفي. لأن التعساء، الذين أرسلهم ( هتلر) إلى الهلاك في ثلوج روسيا  وصحارى أفريقيا، لم يمضوا إلى حتفهم بباعث من الأنانية. ألخيار هو بين فوضى عالم ما قبل المرحلة العلمية، حيث الإنسان لا يحاول تفهّم عالمه والسيطرة عليه، بل هو يتقبّل توجيهات الكهنة والحكّام، بكونها تتجاوز إدراكه وسيطرته عليها، وبأن واجبه الخضوع لمشيئة الله ـ كما يفسّرونها هم ـ  وبين  نظام عالم قائم على أسس علمية حيث يستخدم البشر وسائل المعرفة والقوة والتعاون والتهذيب التي طوّرها الإنسان ليُهَيمن على مصيره. لذا ينبغي الخيار في نواحي الإقتصاد والسياسة والدين والفلسفة والقانون،وقد عالج الكتاب  ناحيتَي الدين والفلسفة. وإذا أشار أحيانًا إلى نواحٍ أخرى، فلأن كل ناحية لا تخلو من تأثير في الناحية الأخرى. ففي الدين والسياسة ينبغي التخيّر بين الإيمان بوجود الخالق، الذي يؤدّي إلى صيغةٍ من دين سلطوي، وبين عدم الإيمان بوجود البارئ. فالمسألة بالتالي هي : في أيّ شكل من عالم نحيا، إذ عليه يُبنى تحديد معيار الحقيقة.
     لدى الأناس الإعتياديين، لا تظهر مشكلة في تحديد معيار الحقيقة، فعندما يؤدّي شاهدٌ ما قسَمًا في المحكمة بكونه مطابقًا للحقيقة، فهو عارف ما متوقّع منه، ألا وهو الإدلاء بالحقائق التي يعرفها، وبما أن المحاكم دليلها الأحكام الصائبة الحصيفة (أي معيار الحقيقة الشائع لدى العقلاء)، فجميعنا نستخدم الحكم الصائب في أعمال حياتنا اليومية، ونطبّق هذا بدقّة على فهم  وسيادة الطبيعة، لنسمّي ذلك (عِلمًا)، لكن العلم ليس طقسًا دينيًا، بل هو شيء يستطيع إستيعابه إيّ فرد مستعد لبذل الوقت الوافي لإجادة تقنيته. نتائج العلم مذهِلة أحيانًا، لكنها واضحة لكل صبور يتابع الخطوات المؤدية إليها، وتتجسّم خلال معيار الحكم الصائب الحصيف للحقيقة. غير أنه عِبر تاريخ الفلسفة، كان ثمة نزعة دائمة للإستخفاف بالحكم الصائب الحصيف، إذ شاع القول بأن الحواس خدّاعة، وبأن ملَكات الإنسان العقلية فاسدة، وبأنها لا تكشف عن سوى محتوى عقله، وبأن شاهدها مناقض، وعنت هذه الأقوال  وجود وسائل  أخرى لبلوغ الحقيقة: الإلهام أو الحدس الباطني الصوفي أو الرمزي، أو عن سبيل عقلٍ مَحض مستغنٍ عن الحواس والأدلّة المقبولة قانونيًا. ومهما كانت هذه الوسائل الفُضلى جليّة، فهي غير متّسعة للأناس العاديين الذين عليهم أخذها آنئذٍ من غير تحقّق أو برهان ـ أي ممن يدّعون إحتيازَها. وعَودًا إلى " المبدأ الهادي" ـ الآنف ذكره ـ نجد أن سيطرة الإنسان على الطبيعة آخذة في الإزدياد، وأن الإمكانية تكشف إمتداد تلك السيطرة نحو العمليات الإجتماعية التي قد زاغت عن السيطرة حتى الآن، فالصارخ يضاعف الصياح بأن معرفة الناس للطبيعة مُضلِّلة، أو ضارّة إلى حد تدمير البشرية حتمًا، إلا إذا أذعنَا إلى موزّعي الإلهام المتخصّصين.
     هذه موعظة مثابِرة إنهزامية ذات عامل فعّال في زيادة الحَيرة التي تترعرع البشرية على أرضها، فصعاب تكييف مؤسساتنا الإجتماعية والسياسية طبقًا للعالم الجديد الذي خلقه العلم والصناعة، لهي صعاب جليّة، لكن إذا فُهمت وعُولجت بروحيّة علمية، فلن تكون عصيّة على الحل. فالدعاوة التي تستثمر تلك المصاعب لبث التشخيصات والعلاجات الزائفة، وتواصل انتقاص وشتم العلم، تستحق التعامل معها بكونها رتلاً خامسًا أخلاقيًا وثقافيًا.
    وفي سياق مواضيع الكتاب يتم فحص معيار الحقيقة الذي إليه يحتكم العلم والدين على التعاقب، وفحص الأسباب المؤدّية إلى تفاوتهما، والإسهامات التي قام بها كلٌ منهما، وإمكانية المُتوقّع منهما لقولبة العالم العصري، وحل معضلاته. إن الفحص المذكور والمنشود سيثبت أن إتهامات الإفلاس الخلقي والثقافي ، الموجّهة إلى الإنسانية العلمية من قِبل ناطقي الأديان ترتد على مبدعيها، وآنئذٍ ستتمكّن البشرية من اختيار سبلها، والسير قُدمًا بثقة. والمواضيع المراد فحصها هي: ألبحث عن اليقين ـ تحدّي الإنسان نظريًا ـ تحدّي الإنسان عمليًا ـ إدّعاء الكنيسة ـ الثورة والتطوّر ـ حرب الإيديولوجيات ـ المُخادع متورّط في وضعٍ حرِج.

69
تكرير تركيا نغمتها الناشزة بخصوص الموصل

يعقوب أفرام منصور
أربيل

     بين أنٍ وآخر، وكلما صار العراق في وضع حرج أو عصيب بسبب غزوات أو حروب عدوانية، أطلقت الجارة التاريخية تركيا علنًا نغمتها المألوفة الناشزة بأحقية أمتلاكها محافظة (لواء ـ ولاية) الموصل في أعقاب إحتلال العراق من قِبل بريطانيا في أثناء الحرب العاالمية الأولى 1914 ـ 1918 وانسلاخه مع جملة انسلاخات أخرى من ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المريضة ذات الإدارة الفاسدة. وادّعاؤها ذلك الإمتلاك كان دومًا، وما برح، بحجّة غير صائبة وغير معترف بها عسكريًا وسياسيًا، فحجتها أن رقعة ولاية الموصل لم تحتلها بريطانيا قتاليًا ! إذ المعلوم ـ بعد سقوط عاصمة قطر أو نظام حاكم أو غالبية أجزاء قطر خسر الحرب وكفّ عن متابعة القتال ـ تُعد سيادة تلك الدولة الخاسرة أو القطر أو النظام الحاكم المتراجعة فلوله ( كما حدث للجيش العثماني) على كامل أراضيها وممتلكاتها ـ قد آلت إلى الجهة الغالبة والصامدة حتى لو كانت جزءًا. وثمة حقائق مماثلة لما أسلفتُ، منها أن قسمًا كبيرًا من كردستان العراق لم تحتله بريطانيا قتاليًا في الحرب العالمية الأولى، كما لم تحتل قتاليًا رقعتَي كركوك والأنبار بشكل كامل. وفي غزوالعراق  من قِبل التحالف الدولي العدواني عام 2003 ، سقط النظام الحاكم فيه بمجرّد سقوط العاصمة بغداد في 9 نيسان 2003  بسبب توقف الجيش النظامي العراقي عن مواصلة القتال، فتمّ احتلال العراق كليًأ  بدون قتال نظامي. فهل واصل الجيش العثماني مقاومته للجيش البريطاني بعد انكساره في معركة الكوت الفاصلة؟ ألوقائع تفيد تفكك الجيش العثماني وقد ِشاهد أهالي الأرياف في سهل نينوى الموصل تقهقر فلول الجيش العثماني  من بغداد وكركوك باتّجاه الأناضول. إذ لم تكن القيادة العسكرية التركية العثمانية  أنئذٍ قادرة على مواصلة القتال مع بريطانيا في أيّ شطر من العراق والموصل ضمنه بشكل خاص. فلماذا تُطلق تركيا نغمتها الناشزة بشأن الموصل فقط وليس بشأن أجزاء أخرى من العراق لم تحتلها بريطانيا قتاليًا بعد سقوط بغداد في آذار 1917 ؟!
     ألسر الخفيّ في هذه اللجاجة في المطالبة المزعجة، غير الحقانية والمنطقية، وغير المتعارف عليها عسكريًا وسياسيًا، هو وجود النفط بغزارة في منطقة (عين زالة) في لواء الموصل، ولأن تركيا لا تملك ثروة نفطية. آنذاك كانت (شركة النفط التركية) ذات رؤوس أموال أجنبية، قد مُنحت في أذار 1925 إمتياز إستخراج النفط في الموصل، حين تزامنت قصة هذا الإمتياز مع وصول لجنة التحقيق الأممية إلى الموصل في 27 ك2  1925، وشرعت في استجواب الأهلين عن مستقبل ولاية الموصل وانضمامها إلى مملكة العراق أم جمهورية تركيا، إتّضح للحكومة العراقية [ أن عصبة الأمم في جنيف لن تسمح  ببقاء (ولاية الموصل) للعراق ما لم يَمنح العراق (شركة النفط التركية) إمتيازًا للبحث عن وجود النفط في هذه الولاية " المتنازَع عليها" ] ، لأن الحكومة (العثمانية)  كانت قد منحت (شركة النفط التركية) موافقة أولية في 28 حزيران 1914 للبحث عن وجود النفط في ولايتَي الموصل وبغداد، لكن الحرب العالمية الأولى أدّت إلى إهمال تلك الموافقة الأولية. غير أن من شملتهم  تلك الموافقة راجعوا الحكومة العراقية في أوائل 1923  لمنحهم إمتيازًا جديدًا، فتم ذلك كما أسلفت آنفًا. كان المبرر لقبول الحكومة العراقية بمنح ذلك الإمتياز هو أن تكون " لبريطانيا من المصالح المادية ما يحملها على مؤازرة العراق في مطالبه الإستقلالية " !! وهل تعني مصلحة بريطانيا في ذلك الأمتياز غيرالريع الذي ستجنيه من سهم  رأسمالها  في (شركة النفط التركية)؟! ولما لم تكن ثمة مصلحة مضمونة للعراق في تلك الإتفاقية، إستقال من مجلس الوزراء وزير المعارف محمد رضا الشبيبي، ووزير العدل رشيد عالي الكيلا ني. أنظر (تاريخ الوزارات العراقية) للحَسَني، ج 1 ص 263 ـ 269.
    يفيد السيد علاء جاسم محمد، مؤلف كتاب (الملك فيصل الأول) ط 1990 عن علاقة العراق مع الدول المجاورة بشكل عام، ومع تركيا بشكل خاص في بداية عهد الملك فيصل، بأنه كان صعبًا على العراق إقامة علاقات جيدة مع تركيا حينئذٍ لسببين، أولهما: مطالبة الأتراك بالموصل، وثانيهما: طبيعة العلاقة بين الأتراك والعائلة الهاشمية التي قادت الثورة العربية على سيطرتهم. غير أن الملك بذل جهدًا لإقامة علاقة طيبة معها. فبعد حسم " مشكلة الموصل " لصالح العراق، أفصح فيصل " إن علينا أن نبني علاقات جيدة معها لأنها بالأمس كانت عدوّتنا وأصبحت صديقتنا". كما أكد لمراسل (التايمز) إن تركيا من الأقطار التي يحرص عل بناء علاقة جيدة معها، وإن العراق وتركيا دولتان صديقتان ونواياهما حسنة ولا يمكن لأحد أن يفرّقهما. (ص 253)
      ويفيدنا مؤلف (تاريخ الوزارات العراقية) الحَسَني في الجزء الثالث ص 147 (ط )1974 بأن الملك فيصل تلقى دعوة رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال لزيارة أنقرة، فقبل الدعوة وسُرّ بها. وسافر في الرابع من تموز 1931، وفي صحبته رستم حيدر وزير المالية ووكيل رئيس الوزراء، والمرافق تحسين قدري، واستُقبل في أنقرة  بحفاوة بالغة، وكان على رأس المستقبِلين الرئيس كمال أتاترك، ونزل الملك ضيفًا عليه مع بعض أفراد الحاشية الملكية. وتبادل الملك مع  اتاترك الكلمات الودّية، وصرّح للصحف التركية إن تركيا والعراق " يجب أن يعيشا كجارين يسكنان منزلاً واحدًا ذا غرفتين متجاورتين، وهذا هو أملنا جميعًا " ـ ص 157.
    كتاب الحَسَني يورد تفاصيل أكثر، تعكس حميمية وحفاوة بقدوم الملك ضيفًا مكرّمًا على تركيا ورئيسها، يُستدلّ منها عدم بقاء رواسب قديمة من الغبن تجاه تركيا بسبب "مشكلة الموصل"، وأن الرضا التام بين القطرين هو السائد على جو العلاقة بينهما، ومن تلك التفاصيل: مأدبة رئيس تركيا للملك في يوم وصوله، حضرها أكثر من 500 نسمة من وجهاء الجمهورية وأقطابها، وبعد ثلاثة أيام قصد الملك إسطنبول ورافقه رئيس الجمهورية. وفي أثناء الوليمة، ألقى الإثنان كلمة تاريخية عبّرت عن الترحيب والشكر. ومشاعر الود والصداقة والطموح إلى حسن العلاقات ومتانة الروابط، والنيّة القويّة لتوثيقها. وأهم ما أفصح عنه أتاترك في خطابه قوله: " وأرجو أن تثقوا بأننا مشتركون معًا في وجهات نظرنا وفي شعورنا." (ألحسني ص 148). فهل يُشتمّ من كل هذه المواقف والعبارات والمشاعر أن تركيا في عام 1931 كانت تُضمر المطالبة بضمّ  لواء الموصل إليها، أو أنها ستفعل ذلك يومًا في قابل الأعوام وتكرره كثيرا ؟! إنّ طلب الضم هذا، المكرر والباطل والممجوج هو ما عدًته المرجعيّة النجفية (جنونًا وخيالاً) كما أفصح عنه الإمام صدر الدين القبانجي  يوم الجمعة 25 ك1 ( جريدة الزمان 26 ك1 ص1)
      تلا ذلك التفاهم والتوافق والإنسجام بين المملكة العراقية والجمهورية التركية إبرام معاهدتين بينهما في عام 1932، إحداهما في شأن تسليم المجرمين، والأخرى تجارية، فضلاً على إتفاقية بخصوص تسهيلات رعايا كل من الدولتين في الدولة الأخرى. ( علاء جاسم ص 253)
    لمّا كانت "مشكلة الموصل"، الناجمة عن مطالبة ألأتراك بضم هذا اللواء إليها، واحدة من أخطر المشاكل التي واجهت الدولة العراقية في بداية تأسيسها، فقد أبدى الملك فيصل إهتمامًا كبيرًا جدًا بهذه المسألة الحيوية، إذ كانت بحق أس وحدة القطر الوطنية، فحرصَ فيصل على صيانتها، وسعى سعيًا جادًا في سبيل حسمها. وفي أثناء زيارته إلى الموصل في ت1  1925 أكّد إنّ فصل الموصل عن العراق سيغدو ضربة هائلة تؤدّي إلى تأخير القطر، وفشل حركة التقدّم، وتسبب إنفاق مصاريف حربية، لآن العراق لن يتردد في استرجاع اللواء بالقوّة. في هذا الصدد ذكر مراسل جريدة (الأهرام) القاهرية إنه " من الصعب دخول البيت من باب يرابط فيه الجنود". لكن الملك إستبعد أن يهاجم الأتراك الموصل بسبب مشاكلهم الداخلية. وهو إذ أكّد إن الموصل غير تركيّة من جميع النواحي القومية واللغوية والعادات، (إقرأ بخصوصها كتاب عبد الزاق الحسني، المعنون " العراق قديمًا وحديثًا")، أفصح في مناسبة أخرى إن الأتراك حاولوا خداع  العالم بادّعائهم إن أكثرية سكّان الموصل من الأتراك، برغم معرفتهم الجيدة أن العراق قطر لا يتجزّأ، وأن الموصل وأطرافها لا تختلف عن بغداد والبصرة في الدين والوطنية، كما دعا تركيا إلى نسيان " الحزازات"، مشيرًا بذلك  إلى كونه أحد الثائرين على الأتراك العثمانيين. (علاء جاسم ص 238)
     وفد أوردت جريدة  (ألأوقات البغدادية) في 2 ت1  1925 قول فيصل إن ضياع الموصل خطر كبير على فلسطين، لأن ذلك سيشجّع الأتراك على التعاون مع إبن سعود الذي سيضمّ بدوره الأردن، وهو ما سيؤدّي إلى ضياع فلسطين، ويهدد مستقبل قناة السويس، وهذا بالتالي  يسبب خسارة لبريطانيا. أما جريدة (العالم العربي) ليوم 22 ت2  1925، فقد أوردت تحليل الملك الصائب: إن حل قضية الموصل يعتمد كثيرًا على جهود بريطانيا في الحفاظ على مصالحها التي تقتضي ضمّ الموصل إلى العراق، كي تبقى منابع النفط العراقي تحت سيطرتها، لأن الأتراك سبق أن حاولوا إغراء بريطانيا بمنحها إمتيازات نفطية سخيّة ( سنة 1923 سبق الأشارة إليها آنفًا) إذا عملت على ضمّ الموصل إليهم! فكان الملك مطمئنًا إلى حدٍ ما أن المسألة ستُحسَم لصالح الغراق، وأكّد ذلك في كلمة ألقاها في حشد من الجمهور في الكاظمية، ذاكرًا إنه، من خلال زيارته  أوربا، وجد أن المحافل السياسية واقفة إلى جانب العراق في نزاعه مع تركيا حول الموصل، وأكّد ثقته بالشعب وببريطانيا. (علاء جاسم ص 238)ـ وفعلاً تمّ لاحقًا في 14 آذار عام 1931 تأسيس شركة جديدة بموجب إتفاقيتين جديدتين نسختا الإتفاقية الأولى المُبرمة في 1925، الآنف ذكرها.
      ما استطاع الملك فعلَه بجهده الخاص عملًيًا، لضمان بقاء الموصل ضمن العراق، هو انتدابه جعفر العسكري لتمثيل العراق في مؤتمر (لوزان) السويسرية في عام 1922 الذي عُقد بين تركيا ودُول الحلفاء لمناقشة المشاكل الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، ومنها "مشكلة الموصل"، كما انه رفض مغادرة العراق لتسوية المسألة بباعث من رغبة مقابلته لجنة الحدود، التي سلّم إليها مذكّرة أكّد فيها أن مسألة الموصل مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى العراق الذي ستشيع فيه الفوضى إذا اقتُطع منه اللواء، الأمر الذي سيحول دون استثمار رؤوس الأموال الأجنبية فيه .....فالموصل هي كالرأس للبدن، ومشكلتها هي مشكلة العراق بأجمعه.( فاضل حسن ـ مشكلة الموصل ـ مطبعة أسعد /بغداد 1967 ص 60 ـ61) ـ علاء جاسم ص 239 . إضافة إلى ذلك أبرق الملك إلى رئيس لجنة الحدود (دي فيرسن)، مُؤكّدًا ثقته بنوايا اللجنة، الطاهرة التي تملأ العراق أملاً بتحقيق مطالبه التي تتوقف عليها سلامته وسعادة شعبه.( علاء جاسم ص 239).
       غِبّ زيارة الملك فيصل ألى تركيا عام 1931، وإبرام معاهدتين واتفاقية في عام 1932 بين الدولتين، توقفت أصوات تركيا إعلاميًا عن المطالبة بضم الموصل إليها، والمعلوم جيدًا أنه قبل أمدٍ قصير من زيارة فيصل إلى تركيا، تلبية لدعوة أتا تورك، كان قد صدر في الموصل كتاب القس سليمان صائغ (تاريخ الموصل)، فاشار أحد الأعلام على البلاط الملكي أن يُستفاد من مضامين الكتاب المذكور في مجال دعم أحقية العراق في عائدية لواء الموصل إليه. جدير بالذكر في هذا الصدد أن هذا الكتاب وكتب أخرى عديدة قبله وبعده تثبت أن اللوء كان مربوطًا بتاريخ وجغرافية العراق منذ العهد الآشوري وربما قبله أيضًا وحتى في العهود الفارسية والفتح العربي  والعهد العثماني. وجيوش الآشوريين من الموصل غزت أصقاعًا من جنوب الأناضول، بلغت منطقة أرارات الأرمنية شرقًا  ومنطقة الحثّيين غربًا. ويقال إن الملك فيصل قد استفاد من مضامين تاريخ الصاثغ في أثناء تداوله مع أتاتورك عام 1931.
      بيدَ أنّ المفاجأة الكبرى للرأي العام دُوَليًا هو سَلخُ  (لواء الإسكندرون ـ أنطاكية) في عام 1939 من سوريا، وإعطاؤه منحة إلى تركيا، وقيل آنئذٍ ـ وسوريا يومذاك تحت الإنتداب الفرنسي ـ إن هذه العملية السياسية ، المجحفة بحق سوريا أولاً، ثم بحق الوطن العربي، كانت البديل عن مطالبة تركيا بلواء الموصل! ولكن، ما هي حقيقة الأمر والدوافع ليتمّ ذلك على يد فرنسا وعلى حساب سوريا ؟! وهل يُعقَل  عدم وجود دور لبريطانيا في هذه العملية الإنسلاخية؟! حدث ذلك وأنا يافع،  يوم أذاع راديو بغداد عصرًا إن لواء الإسكندرون ـ أنطاكية) سُلخَ من سوريا ومُنح إلى تركيا ـ أي بعد عام من وفاة أتاترك عام 1938 .
    فإذا كانت تركيا قد نالت (لواء الإسكندرون ـ أنطاكية) بدلاً من  (لواء الموصل)، فلماذا هي حتى الآن تطالب مرارًا بضمّ ( لواء الموصل ) إليها، وترصد ليرة تركية في جدول ميزانيتها المالية كل عام رمزًا عن ملكيتها المدّعاة للواء الموصل زورًا وبهتانًا؟!  ما هذه العقلية المريضة الإستحواذية لدى تركيا، برغم كل عمليات الحسم التي تمت دبلوماسيًا وأمميًا حتى قبل ارتحال أتاترك عام 1938؟! وإلامَ تبقى تركيا سادرة في أوهام التسلّط والتسلطن الموحى بهما إليها من الغرب الماكر؟! وما هو موقف الساسة العرب، والعمل اللازم من الجامعة العربية إزاء هذا التمادي التركي في الضلال والجموح والنشاز؟!

70
إدّعاء تركيا بكونها دولة أوربيّة

يعقوب أفرام منصور
أربيل
     في الثامن والعشرين من تشرين الثاني 2015 ، وغِبّ أيام قليلة من إسقاط الطائرة الحربية الروسية من  قِبل تركيا ضمن حدود  سوريا الجغرافية، أذاعت القنوات الفضائية الإعلامية إدّعاء الرئيس التركي أردوغان بكون تركيا دولة أوربية. هذا الإدّعاء قديم، إذ يعود صدوره إلى عقدين سابقين، وهو ذو علاقة برغبة شديدة من تركيا في الإنتماء ألى "الإتحاد الأوربي"، لكن آراء دول الإتحاد المذكور مُجمِعة على عدم تلبية رغبة تركيا لأسباب عديدة، أهمها تفاصيل ماضي تاريخ تركيا إبان القرنين 18 و19 والعقدين الأولين من القرن العشرين من عهد الإمبراطورية العثمانية، وليس هنا موضع إيرادها بشكلٍ وافٍ لإرتباطها ب "المسألة الشرقية" (أنظر  هذه المسألة في الموسوعة الميسّرة ص 1693 ). إذ المهم هنا هو دحض إدّعاء تركيا بلسان رئيسها أردوغان بكونها دولة أوربية.
    من المعلوم أن شبه  جزيرة الأناضول هي موطن الأتراك منذ البدء المستَهَل بسلطانها الأول  مع عشيرته التي منبتها (تركستان في أسيا)، وسلطانها الفاتح هذا هو عثمان ( 1281 ـ 1324)، وأن الأناضول كانت وما برحت معروفة تاريخيًا وجغرافيًا بإسم ( آسيا الصغرى)، وهذه التسمية وحدها تكفي لدحض الإدّعاء بكونها دولة أوربية.  والمعلوم أن السلاجقة في الأناضول، بعد انزياح السيادة البيزنطية عليها، أقطعوا أراضيَ في آسيا الصغرى ـ الأناضول لعثمان وعشيرته بفضل مساعدتهم للسلجوقيين في دحر البيزنطيين في موقعة فاصلة. لكن الإمبراطورية السلجوقية سرعان ما انهارت، فأعلن عثمان أستقلاله، وخلفه نجله (أورخان)، وتلاه سلاطين أل عثمان حتى العقدين الأولين من القرن العشرين.
      المهم في هذا الموضوع هو أن آسيا الصغرى ـ قبل أن يكون البيزنطيون والسلاجقة فيها ـ كانت مسكونة بأقوام متحضّرة؛ ففي أواخر القرن الخامس ق.م.  وأوائل القرن الرابع  ق.م. ذكر المؤرّخ الإغريقي (زينفون) في كتابه (الحملة الفارسيةـ أو ألأناباسس = الصعود) أن آسيا الصغرى ـ وقد اجتازها في أوائل القرن الرابع ق.م.ـ  كانت خلال القرنين المذكورين آنفًا وربما قبلهما بقرون أيضًا، مسكونة بأقوام عديدة متحضّرة، منها البيزيديون، الميسيّون، الإغريق، الفريجيون، اللاكونِيّون، الكبدوكِيّون، وهؤلاء أقوام آسيويةـ غير أوربية، ثم أستوطن أصقاعَها الجنوبية الأرمن وبقايا الآشوريين والكلدانيين والسريان والعرب قبل الفتح العربي ـ الإسلامي وبعده في عهود السيادات العربية ـ الإسلامية المتعاقبة، وحصل امتزاج بين العنصر التركي الأسيوي وعناصر تلك الأقوام ألآسيوية. وهؤلاء جميعًا أصحاب حضارات وثقافات ولغات خاصة متنوعة، ولما أستوطن الأتراك تلك البقاع وجاوروا أقوامها وتعايشوا وتمازجوا، إنتقلت إليهم سمات  وميزات وخصائص تلك الحضارات والثقافات والألسن، ولذا من المعروف والمقول أيضًا أن الأتراك لم يتركوا خلفهم "حضارة تركيّة" لأن حضارتهم كانت مستقاة من حضارات عديدة متباينة تحمل سماتها وخصائصها وهي ليست أوربية ولا غربية، ، وشأنهم في هذا المجال يماثل شأن الشعب العبراني اليهودي السامي الذي  حين توطّن  فلسطين ( جزءًا من أرض كنعان) كانت قبلهم أقوام عديدة متحضّرة من المؤابيين والكنعانيين والعمّونيين والآراميين والقبرصيين، ولهذا لا يعرف التاريخ حضارة عِبريّة أوعِبرانية، لآنهم في مجال التحضّر كانوا عالة على حضارات غيرهم المجاورين لهم ومخالطيهم، وكما لا يعرف التاريخ حضارة تركية الطابع والسمة أيضًا.
     وإذا كان الغازي مصطفى كمال باشا، مؤسّس تركيا الحديثة الجمهورية بعد أعوام من نهاية الحرب العالمية الأولى  (وهو من يهود دونمة سيلانيك اليونانية) قد أوعز ونفّذ نبذ الأبجدية العربية ليتبنّى الأبجدية اللاتينية، ونبذ (الفيس ـ الطربوش ) الشرقي ليتبنّى القبّعة الإفرنجية الأوربية، ونبذ الحجاب ليتبنّى السفور، ونبذ الخلافة ليتبنّى العَلمنة، فهذه البدائل لا تغيّر شيئًا من أصل وأرومة وخصائص الأتراك في هويتهم الشخصية ودمائهم وعقائدهم ( منذ أن كانوا في موطنهم الأصلي : تركستان الآسيوية) كما لا تُغيّر تسمية موضعهم الجغرافي الأخير والحالي ـ أسيا الصغرى ـ ومن العيب أن ينكر الإنسان أصل جنسية دولته الجغرافية القارّية ليدّعي انتماء دولته إلى كيان دولي مفرد أو مركّب، ومغاير جغرافيًا وعرقيًا ولسانيًا وعقيديًا وتاريخيًا وحضاريًا.
    عندما نشبت حرب القرم (1853 ـ 1856) كانت تركيا (الأمبراطورية العثمانية) تُنعت ب       "دولة الرجل المريض"، وقد أطلق هذا الوصف عليها قيصر روسيا (الأسكندر الثاني) ـ 1818 ـ1881، ولبثت هذه التسمية ملازمة كيان دولة الإمبراطورية العثمانية، وعاملاً من عوامل  "المسألة الشرقيّة"  حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ودوّنتها صفحات التاريخ المعاصر، فكيف يسوّغ الرئيس أردوغان لنفسه أن يدّعي بكون دولته " دولة أوربية"، كي يُجمّل كيان دولته في أعين الأوربيين وكي ينتمي إلى (الإتحاد الأوربي) الراهن؟! هل يستطيع الشعب التركي أن ينسلخ من كل عناصر مكوناته الجغرافية والتراثية والتاريخية واللسانية والأثنية في سبيل الإنتماء إلى المكوّن الغربي الأوربي المركّب "ألإتحاد الأوربي" ؟ وماذا مكسبه ومغنمه من هذا الإنتماء او الإنضواء الذي يرومه؟ وهل سيحظى مرامُه بالقبول، والغرب الأوربي يعرف ماضي تركيا الإمبراطورية العثمانية وحاضرها المتطّلع إلى سلطنة ثانية على الشرق الأوسط بعد تقسيمه المخطط له ليشتمل على ثمانين كيانًا هزيلاً( لصالح الصهيونية العالمية) ـ كما أمّله الغربيون ـ منذ عقدين ـ فجعل من دولته جسرًا عريضًا لتعبر عليه عصائب الإرهابيين نحو الأقطار العربية؟!

71
هل غدا جيش داعش مضاهيًا جيشَ النازي؟!
                                                                   
يعقوب أفرام منصور أربيل

      يعلم جيّدو الإطّلاع على تفاصيل وقائع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) أن جيش ألمانيا النازية بلغ ذروته من الجبروت والصلابة في الغزو والثبات والعزم في عام 1943، لكنّ انهماك ألمانيا في حروبها التوسّعية شرقًا: روسيا، أوربا الشرقية ، البلقان، شمال أفريقيا بعد غزوها فرنسا وبلجيكا وهولندة وأسكندنافيا، وضرباتها الجوية على بريطانيا ومحاصرتها بحريًأ قد أضعف الجيش النازي تدريجًا، حتى أدّى ضعفه إلى خسرانها  الحرب وغزوها  في عقر دارها واستسلامها في أواخر نيسان 1945.
      وفي ما يأتي سطور من مذكرات تشرشل تكشف بوضوح عن بداية التعاون والتنسيق بين الروس والبريطانيين في مجال مجابهة الخطر الجسيم الداهم، الذي واجه الغرب الأوربي والوسط والشرق الأوربيين  والعمق الروسي الآسيوي في تموز 1941، من جرّاء توسّع الرقعة التي إحتلّها الجيش النازي، إذ قال:                                                                                           [ في 7 تموز 1941 وجّهتُ رسالة إلى ستالين، أخبرتهُ فيها عن عزمنا على تقديم مساعدة ممكنة إلى الشعب الروسي، وقد جاءني الرد في التاسع عشر من تموز، يقول فيه " .....إن موقف القوات السوفياتية في الجبهة لا يزال حرِجًا، لكنه يبدو لي أن وضع الإتحاد السوفياتي وكذلك وضع بريطانيا العظمى سيتحسّنان إلى حد كبير إذا تمكنّا من إقامة جبهتنا ضد هتلر في الغرب وفي شمال فرنسا، وفي الشمال في المحيط القطبي الشمالي. ولا شك أن فتح جبهة جديدة  شمالي فرنسا سيؤدّي إلى تحويل قوات هتلر من الشرق، كما يجعل من عملية غزو بريطانيا العظمى أمرًا مستحيلاَ. ومع علمي الأكيد بمصاعب ذلك ، فأنا واثق من ضرورة تحقيقه لأجل قضيتنا المشتركة ومن أجل بريطانيا أيضًا ." ] ( المذكرات ج2  ـ ص 6 ـ 7)
     كان هذا التقارب الروسي ـ البريطاني المُذهِل حينئذٍ، الذي انطوى على تبادل الآراء والمقترحات والتعاون ومساعدة روسيا في تزويدها ببعض المواد الضرورية من أمريكا وبريطانيا، عن طريق البصرة ـ شمال إيران المتاخم لحدود روسيا، عاملاً قويٍا في التئام الأطراف الأربعة في عام 1943 : روسيا ـ أمريكا ـ إنكلترا ـ فرتسا الحرّة بقيادة الجنرال ديغول، لقيام التحالف الرباعي لدحر الجيش النازي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من الحرب 1943 ـ 1945، وخلال عمليات شمال أفريقيا وعمليات إنزال بحري ـ برّي على الساحل النورماندي من شمال فرنسا، ثم الزحف على دولة الرايخ النازي من الشرق بجحافل  وطيران روسيا، ومن الغرب بجحافل وطيران ذات قيادة موحّدة (الجنرال آيزنهاور) من الدوَل الثلاث.
     ممّا أسلفتُ يتبيّن بجلاء أن التحالف الرباعي قد دحر الجيش الألماني النازي خلال ثلاثة أعوام (1943 ـ 1945) في حرب برية وجوية وبحرية بلا هوادة أو أسترخاء أو تلكّؤ، مع العلم أن الرقعة التي كانت مُحتلّة من قِبل ألمانيا في معظم الأقطار  الأوربية، وفي شطر من شمال أفريقيا قد حُرّرت كاملة من قبضة الجيش النازي، وكانت شاسعة جدًا.
      في هذا الصدد يجدر القول: إن الفضل في هذه الغَلَبة على الجيش النازي الجموح الضاري يعود إلى صِدق وتوحّد الإرادة لدى دُوَل التحالف الرباعي في دحر الجيش الألماني الهتلري؛ كما من المناسب أن نقارن هذه العملية الحربية الضخمة قبل سبعة عقود مع عملية التحالف الأمريكي ـ الأوربي ـ العربي (!) بقيادة أمريكا من خلال رئيسها أوباما، التي أستُهِلّت بعد الإعلان عنها في آب 2014 ، لضرب  جيش داعش ضربات جوية من قِبل دول التحالف المزعوم أو الركيك، ولقطع الموارد المالية عنه، ومصادر التسليح، ، مع أن حجم ومقدرة جيش داعش حاليًا لا تعادل (1) من ترليون من الجيش النازي، ورقعة داعش في العراق وسوريا  لا تعادل (1) من مليون من الرقعة ألتي  إحتلها جيش المانيا في 1943!
      أمّا النتائج، فالمقارنة الحيادية تُسفر عن البون الشاسع في الحصيلة التي حققها التحالف  الحديث والحالي منذ آب 2014 برئاسة أمريكا، وبين التي حققها التحالف الرباعي الجاد العزوم قبل سبعة عقود، بل الحقيقة تُبدي أيضًا أن جيش داعش قد ازداد انتشاره ونمركزه ونفوذه، وتفاقم أذاه وشرّه في عام 2015 عمّا كان كل ذلك السوء في عام 2014 . وهذا الفشل الذريع يؤيدّه كل المحللين العسكريين والسياسيين والإعلاميين الأمناء والموضوعيين في تحليلاتهم وتعليلاتهم حتى في أمريكا نفسها، ساسةً ومراقبين، إلا من كان الكذب حِرفتهم، والطمع في الكراسي والسلطة والباطل معبودَهم بدلاً من رب السموات والأرض والعدل ـ وما أكثرهم ! وألأحق ب "الفشل " أن يُعرّف بكونه "إفشالاً " مقصودًا لغايات خبيثة، لكنها مفضوحة، يسجّلها التاريخ المعاصر بوصمة كبرى على صفحة أمريكا ورئيسها الحالي  وعلى صفحات من والاها  وآزرها في أوربا والأنظمة العربية الخنوعة، بضمنها من برز الإرهابيون من تحت معطفها.
      منذ البدء، قبل وبعد تشكيل التحالف المزيّف برئاسة أمريكا، إدّعى أوباما ومن حوله من أركان حربه، أن القضاء على الإرهاب وداعش يقتضي أعوامًا من 4 إلى 7 ! فقال كثيرون وبينهم أناس عاديون، موجّهين كلامهم إلى أمريكا وحلفائها بالأمس واليوم : " حين غزوتم  العراق في عام 2003، قصمنم  ظهر الجيش العراقي القوي في 20 يومًا، فهل جيش داعش الصغير الضعيف صار أقوى وأكبر من الجيش العراقي آنئذِ ، حتى تطلبون الآن أعوامًا ؟! "
     أذاعت  وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في الإسبوع الأول من بدء تنفيذ الضربات الجوية على قوات داعش في العراق وسوريا، أن طائرات أمريكية وسعودية واماراتية وأردنية وبريطانية وفرنسية أوقعت ضربات جوية فاعلة على مواقع داعش في القطرين، وفي أثناء ذلك وبعده أعربت أمريكا عن رغبتها في انضمام إيران إلى هذا التحالف الدولي في آب 2014.
     لكن مع مرور الشهور لوحظ فتور محسوس في عمليات وفاعلية الضربات الأمريكية، وندرة الضربات من بريطانيا وفرنسا وكندا ، وانعدامها من الدول العربية ! كما تبيّن لاحقًا أن الطيران الأمريكي يرفد داعش بإلقاء الأعتدة والأسلحة على خطوط داعش الخلفية ليلاً ونهارًا بشكل إستطاع فيه أفراد من القطعات العسكرية العراقية، وأفراد مدنيون من مشاهدة المظلات التي تلقي تلك المساعدات من الطائرات (إستنادًا إلى ورود هذه المعلومات المرئية في بعض الصحف العراقية، وان هذه الطائرات لم تكن إلا أمريكية). فضلاً على ذلك، وعلى سبيل المثال، كانت منطقة (بيجي) ميدانًا لعمليات كرّ وفرّ عديدة حتى الآن بين الجانبين العراقي والداعشي، ناهزت عشر مرات في الأقل. وتفيد المعلومات في هذا المجال أن قوات داعش تتلقّى توجيهات بالكرّ والفرّ من امريكا جوًا بفضل  استعانة أمريكا برصد حركلت ومواقع الطرفين عِبرَ الأقمار الصناعية؛ وواضح أن الغاية من هذا الكر والفر هي إعاقة حصول العراق على نصر حاسم  في هذا الموقع أو ذاك بقصد إطالة أمد القتال لأغراض أنانية ومخططات نفعية. وإذا كان هذا قد جرى ويجري حتى كتابة هذه السطور (14 تشرين 1)، فلماذا لا يجري نظيره في الأنبار ومواقع أخرى في العراق وسوريا؟! وقبل أيام أذيع أن خطة أوباما في ضرب داعش جوًا في سوريا والعراق في آنٍ معًا كانت خاطئة، وأنه سيصحح هذا الخطأ بتكريس الجهد لضربات داعش في العراق فقط من الآن فصاعدًا !
     هنا ينبادر إلى الذهن تساؤل مهم: لماذا تروم أمريكا إطالة أمد الحرب على داعش لتبرير إدّعائها باستئصاله؟ وهل هي صادقة في قولتها؟ جوابي هو جواب كثيرين غيري من حَسَني الإطّلاع على الأمور والغايات، أفصَحوا أو أضمَروا، وباختصار: لمّا كان داعش صنيعة أمريكا أولاً وأساسًا، والغاية من صُنعه هي إنجاز مخطط الشرق الأوسط الجديد الكافر الجهنمي، المنطوي على تمزيق وتقسيم الأقطار العربية، ليغدو الشرق الأوسط مشتملاً على 80 كيانًا بدلاً من 50 حاليًا، فلا مناصَ لها (تبعًا لمؤهلاتها وسابق تجاربها في هذا الميدان)من إشعال حروب (الربيع العربي) الإجرامي الشنيع في العراق فتونس فليبيا فسوريا وغيرها من أقطار عربيىة في المستقبل من خلال إسقاط أنظمة حكم هذه الأقطار( التي أسهمت امريكا في تنصيب معظم رؤسائها) باستخدام إرهابيي داعش وأمثالهم الخارجين من عباءة الوهابية السعودية، لإشعال الحروب الداخلبة في تلك الأقطار العربية منذ 1991 فعام 2003 وما تلاه ويحدث الآن وسيحدث قريبُا. وإسقاط أنظمة هذه الأقطار بهذه الحروب الداخلية يستغرق وقتًا طويلاً لإكمال التخريب والهدم والسفك والحرق والإبادة والإغتصاب والتهجير في جميع الأقطارالمذكورة حاليًا والتي تلي. حصيلة جهودأمريكا الشرّيرة ـ لإنجاز هذه الأفعال الجرمية ـ ستعمل على تكوبن (هديّة) فريدة يقدّمها الغرب الأمريكي ومعظم دول الغرب الأوربي إلى الكيان " التنّيني " الرابض بجانب الجامع الأقصى وكنيسة المهد ومثوى الخليل، لأن الغرب الأمريكي والأوربي، الشَرِه والمطاوِع لمشيئة المفسدين في الأرض، قد أقسم يمين الولاء والخدمة المجّانية والحماية والطاعة  " للتنّين" الرابض المطمئن والمسرور بما يجري حوله من مآسٍ ومجازر وحرائق في العراق وسوريا وليبيا وتونس وغيرها، وهو ربّما، بعد إنجاز مخطط محرقة الشرق الأوسط  الكبرى، سيهب أشطرًا من هديته الكبرى إلى الغرب الأمريكي والأوربي، عرفانًا بالجميل الذي أُسديَ إليه على حساب دماء خلائق الشرق الأوسط، ورماد أجسادهم، وخراب بيوتهم وانتزاع أراضيهم، فإذلالهم على ترابهم، واندثار تراثهم.
      فما أسوأ خنوعَكم ، يا شعوبَ الشرق الأوسط ، لإرادة منفّذي هذا المخطط  الإجرامي!               وما أذلّ رضوخَكم ، يا رؤساءَ الشرق الأوسط ، لِما يدور حولكم من مظالم ومآسٍ تُبكي، ومهازل تُضحِك !                                                                                                  إنْ لبِثتم هكذا شُدهًا جامدين كالخيول الصافِنات، بلا تمرّدٍ ورفضٍ ووثوب، فأنتم لا تستحقّون الحياة.                                                                                                                                         أشقى بني الدنيا ـ وعيشِكَ ـ  أُمّةٌ                                                                           لَقِيَت بلايا العيشِ  من   رؤسائها
     

72
أدب / صولة الحق للإصلاح
« في: 15:28 17/09/2015  »
              صولة الحق للإصلاح
                                                        يعقوب أفرام منصور
                                                                                       أربيل
إنّ  للباطِلِ  جَولة                                                                              غيرَ أنّ للحقِ صَولة                                                                           شعبُنا يومَ الكفاح                                                                               عَزمُه خَيرُ السلاح                                                                             نصرُهُ يَعقِبُ قَهرَهَ                                                                               زَهوُهُ يَجلُبُ بِشرَه                                                                              لم يَدُم للبَغيِ عهدٌ                                                                               لم يَطُل بالظُلمِ حُكمٌ                                                                             يا لهُ من يومِ هَولٍ                                                                              يُدرِكُ الظُلاّمُ هَولَه                                                                             يَجرَعُ السَجّانُ مُرّه                                                                            يَرهَبُ السُرّاقُ وَيلَه                                                                                     ×  ×                                                                                   إنّ للخائنِ جَولة                                                                               غيرَ أنّ للحقِ صَولات                                                                          نَصرُهُ في كُلِ صَولة                                                                           إنّ للمظلومِ ناصِر                                                                              رَبُّنا القاهِرُ قادر                                                                                أن يُزِيلَ كُلَ جائر                                                                               ليسَ للباطِلِ دولة                                                                               وَهْوَ إنْ عادَ لِجَولة                                                                             يُفنِهِ الحَقُ بِصَولة                                                                               والبأسُ يَقصِمُ ظَهرَه                                                                            دَحرُهُ يُسقِيهِ مُرّه                                                                                ثورةُ الإصلاحِ حَملَة                                                                           جُندُها الحقُ وشُعلة.                                           
                                                                                                                                                                                                     




                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           






73
أدب / نشيد العزم
« في: 15:26 17/09/2015  »
         

 نشيد العزم



    يعقوب أفرام منصور           


                                         
أنا الشعبُ دومًا أريدُ الحياة
ولا بُدّ للحقِ أن ينتصِر
أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد
ولا بُدّ للبغيِ أن يندثِر
أنا الشعبُ حقًا أُبيدُ القتاد
وأغرسُ نخلاً وأجني الثمَر
وأقلَعُ شوكًا وأُفني الدَغَل
وأغرُسُ توتًا وأبهى السِدَر
فويلٌ لمن لا  يبغي الحياة
كريمًا عزيزًا يعافُ الجُناة
سيحيا ذليلاً رهينَ الحُفَر
إذا القومُ حقًا أرادوا  الفَخار
وراموا خلاصًا من خُسف الضَرر
فلا ريبَ حتمًا ينالوا الوطَر
ولا بُدّ للظُلمِ أن يحتضِر
ولا بُدّ للضَيمِ أن يندَحِر

   أربيل





                                                                                     

74
لا يُجنى من القتاد عنب ولا من العوسج تين

يعقوب أفرام منصور
أربيل

غِبَ التاسع من نيسان 2003 ساد حقلَ السياسة وإدارة أمور الدولة العراقية والمجتمع ، تحت وطأة الإحتلال العدواني الغاشم، نبتاتُ العاقول والقتاد والدَغَل والعُلّيق والعوسج والشوكران السام وكثيرٌ من النبتات السامّة، وصنوف شتى من الأشواك الضارّة والمؤذية.
     فهل يُجنى من حقل  كهذا  حلو الثمر، وأطايب الفواكه، وجيّد الحاصلات؟! إنّه لحقلٌ موبوء بهذه الأغراس والنبتات الضارّة، الرديئة، بعضها متجذّر فطريًا وقِدمًا منذ عشرة قرون أو ينوف، لكنّ أغلبها نشأت من أغراس حديثة العهد بعد نكبة العراق الكارئية السوداء، وقد أُنبتت في غفلة من الزمن الرديء والأبصار  الكليلة قصدًا وعمدًا حين غاب عن الحقل نواطيره بشتى الوسائل الخبيثة واللئيمة والمبيدة، إذ خلا الجوّ للغرّاس الجُدد من أبناء هذا الوطن المنكوب، ومن حاكمي أعدائه اللؤماء والجشعين وخدم المفسدين في الأرض من ألفَي سنة، أجل..خلا لهم الجو والمجال برًا وماءً وسماءً لإنبات أردأ وأخسّ النبتات، كما قال في الخلوّ الملائم، الشاعر طَرَفة البكري (564م) :
                       يا لكِ من قُبَرَةٍ  بَمَعمَرٍ                                                                                                 خَلا لكِ الجوُّ، فبيضي واصفِري                                                                  قد رُفع الفخُّ، فماذا تحذري؟                                                                                              ونقّري  ما  شئتِ أن  تنقّري                                                                  قد ذهب الصيّادُ عنكِ قابشري                                                                                           لا بدّ من أخذِكِ يومًا فاحذري !
     هذه الأبيات تنطبق مضامينها على إنتهازية الحكومات العراقية الضالّة الفاسدة التي تهافت ازلامها على كراسي الحكم المعبودة لديها بدلاً من الله، بلا أمانة وضمير وإخلاص، وغافلة تمامًا    حتى الآن عن مآتي مفاسدها وجرائرها ومظالمها التي صبّتها على الشعب المضنَك، بدلاً من إسعافه وانتشاله وتحسين أحواله المعيشية  والنفسية.
     هذه النبتات الرديئة الضارّة المسمومة الجارحة المُهلِكة، مثّلتها غالبية الوزراء والمدراء والرؤساء والموظفين والإعلاميين وجيش عرمرم من الفضائيين في القوات المسلّحة الدفاعية والأمنية، وجماعات موالية في الخفاء والعلن للإرهابيين والمتطرّفين، كما كان وما يزال بينهم أفراد معَمّمون، سرت بينهم أمراض الخيانة ـ فالفساد في حد ذاته هو شكل يمثّل درجة من التقصير المتعمّد ـ وعدم الإخلاص  أيضًا ضربٌ من الخيانة والإبتزاز والرشوة والسرقة والتزوير التي هي صنوف ذات درجات من الخيانة للوطن والواجب والدين والقَسَم.  الخيانة كانت، ولم تزل، هي العلّة الأقوى لتردّي الأحوال، بدءًا من القضاء الخاضع لإرادات الخائنين والجشعين والمفسدين والظالمين والمنافقين والمتواطئين مع الإرهابيين والمتطرّفين والمتزمّتين سرًا وعلنًا، في الموصل والأنبار وديالى وبغداد. فالمؤسسة القضائية تتحمّل الوزر الأكبر من الفساد العام الشامل، بددليل مئات من ملفات الفساد التي لم يُنظر فيها أصلاً أو التي لم يُبتّ فيها.
    هل يتوقّع عاقل سَوِيّ، عارف جيّد الإطّلاع، صائب التحليل، أن يصدر أيّ إصلاح جّذري أو بسيط، أو مِفصَلي وحازم وسريع، كما تقتضيه أحوال البلد الراهنة؟ حتمًا لا يتوقّع ذلك شخص يمتلك هذه الصفات.
   غدا العراق جسمًا عليلاً، شبه مشلول، مصابًا بعلل عصيّة على الشفاء من رأسه إلى قدميه، فقد نخرته ـ حتى نخاع العظام ـ الطائفيّة الموغلة في النفعيّة والأنانية ، قاتلة المحبة والتآخي والمواطنة والأهليّة والفضيلة والقناعة والأمانة والنزاهة ، وسمّمت حُجيرات جسد الفرد العراقي المزكّى والمرشّح من الجهات الطائفية والفئويّة والمخاصَصِية، وبات هذا الفرد عبدًا يعتنق فكرة أو نزعة إقصاء الآخرين المختلفين عنه دينًا ومذهبًا وعِرقًا ولسانًا. فنشأت الكتل على هذا الأساس المعوج الركيك، فكانت كتلاً لا تعمل لصالح الوطن، بل لمصالحها الذاتية الضيّقة التي همّها الأول  الإنتفاع بالمزايا في الرواتب الخيالية والحمايات والمخصصات، وتوفير الطاقة الكهربائية وتزويد الماء النقي لمساكنهم، في حين حرمان مساكن الشعب في كل المدن والأقضية من الطاقة والماء، فضلاً على حرمانهم من تقديم الخدمات الأخرى العديدة.
     علاوة على تسلّمهم كل تلك الخدمات والمدخولات العالية في أثناء الأداء الوظيفي والنيابي، ثم بعدهما في أثناء التقاعد الضخم عن خدمة قصيرة جدًا، إنغمست أيادي الغالبية في مناصب السلطتين التنفيذية والتشريعية في أحواض السرقات والرِشى والإبتزاز إلى حد جاوز التُخمة، حتى عمّت روائح مفاسدهم  وخياناتهم بين طبقات الشعب كافّة، إضافة إلى خذلان أماني شعبهم في أبسط حقوق المواطنة، وعدم الإستجابة إلى مطالب الشعب المُلِحّة الواجبة والمُعلَنة طيلة عشرة أعوام، والمعروضة عِبرَ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكلها كانت كأصوات وصرخات في فلوات. إنّ أجسم المفاسد والخيانات وأكثرها عددًا يندرج في العقوبات القانونية تحت بنود سرقة المال العام الضخمة إلى حدود المليارات، ليستحق عقوبة الإعدام.
     فهل حتى الآن ـ برغم انصرام أكثر من عام على تشكيل الحكومة الحاضرة، ومضيّ شهر ونصف على انطلاق أصوات التظاهرات الجماهيرية المدوّية، وإعلان الحكومة بعض الإجراءات الترقيعية التقشّفية، بدلاً من إجراء الإصلاح القضائي الخطير، تمهيدًا لمحاكمة جيش من المفسدين والخائنين، ولإجراء إصلاحات أخرى بعد البت فيها قضائيًا ـ  هل يتوقّع عاقل أن تقوم الحكومة الحالية بإجراء أيّ إصلاح صغير، في حين أن الحكومة الحالية محاطة بالمتآمرين في الداخل والخارج على مستقبلها، فضلاً على إحاطتها بالمفسدين الرئيسيين منذ 12 عامًا؟!  أرى كما يرى غيري  الملايين من الشعب أن قوة الحكومة الحالية، للقيام بذلك الإصلاح الثوري المنشود ، لهي أوهى من خيوط العنكبوت!
      لقد مدّ الفساد الذميم أطنابَه عميقًا في الواقع العراقي ماليًا وإداريًا واجتماعيًا ومعيشيًا، فبلغ حدّ الترهّل والمرض الخطير ،الذي لا يُنقذه ولا تعافيه عقاقير التهدئة والتخدير والتأميل والترقيع السُلحفاتي،  إذ قد أمسى الحقل الموبوء باكوام المفاسد والأضرار في مسيس الحاجة إلى عمليات الكَي والقلع والإصلاح الثوري الفوري والجذري، فبغير هذه الوسائل الناجعة لن يبقى عراق عرفه العالم المتحضّر في أدواره التاريخية قديمًا بأرض السواد وبلاد الرافدين، وكما عُرف حديثًا منذ عام 1921 وحتى الآن.
     أجل، غزا الفساد الكالح كل مرافق الدولة ومؤسساتها وطبقات الشعب ، حتي في ميادين الرياضة البدنية ، وبلغ سوء الأحوال إقتصاديًا ومعاشيًا إلى دون مستوى الفقر عالميًا، وإلى أدنى دركات مستوى تقديم الخدمات. أمّا أمنيًا، فحدّث عنه بلا حرج، حيث التفجيرات والحرائق والإغتيالات والخطف والتهجير والنزوح إلى وقوع الكارثة الدهياء بالغزوة الداعشية النكراء، فكانت ثالثة الأثافي! ولا ننسى الهبوط في المجالات الصحية والتعليمية والبيئية والإروائية، ونزلاء السجون العديدة المعلومة والسرّية وما يجري فيها من اغتصاب وتعذيب وعدم محاكمة الكثير منهم وعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بحق أخطر المجرمين والإرهابيين.
     وبلغ التنكّر للوطن، ونبذ الروح الوطنية حدًا شائنًا وهو إستحصال عدد من الوزراء والبرلمانيين والرؤساء جنسيّات أجنبية، شرقية وغربية، ، ومع ان الدستور  نصّ على التخلّي عن الجنسية الأجنبية في حالة إسناد منصب رسمي إلى حامل الجنسية الأجنبية، غير أن إلتفافًا على الدستور أو بصدورتعديل ينقض النص المانع هيّأ المجال لحاملي الجنسية الأجنبية ان يبقوا في مناصبهم الرسمية. هكذا  إنتهز الفرصة الفاسدون والخائنون ذوو المناصب الرفيعة هذه المنحة الأجنبية كي يعيثوا فسادًا، ويقترفون المحرّمات، منها سرقات المال العام التي تستوجب عقوبة الإعدام، ليهربوا إلى الدول الأجنبية التي منحتهم جنسياتها مقابل مراعاة مصالحها الذاتية على حساب الإضرار بمصالح الوطن، ومنها سرقة المال العام. فأيّ عقوق هذا، وايّ فساد وخيانة! ومعلوم أن بعض الدول الغربية والشرقية تمنح جنسياتها إلى شخوص ذوي مكانة رفيعة في المجالات العلمية والفنية والفكرية، وهذا المنح مدعاة لتشريف المتلقّي وتفدير المانح. فالبون شاسع جدًا بين الحالتين، علاوة على سوء القصد والإنتهازية غير اللائقة في الحالة الأولى.
     وبلع جشع الفاسدين لدى عدد كبير من المسؤولين الكبار الذين تآمروا على مستقبل الوطن مع الأجانب الطامعين خارج الوطن ـ بحجة معارضتهم النظام قبل سنوات من نيسان 2003 ـ أن يطالبوا بما سُمِّيَ بالخدمة الجهادية (!) لِتُحتسب خدمة لغرض التقاعد. فأيّ جهاد هذا للوطن في حين كان لخدمة مصالح بعض الدول الأجنبية التي أسهمت في غزو واحتلال العراق غير الشرعي بل إجرامي في عام 2003 ؟! ومع كل هذه المثالب والنقائص، إرتفع قبل أيام صوت أحد هؤلاء في دست الحكومة بالقول: إن حكومة جمهورية العراق حكومة ملائكة .. حكومة ملائكية(!) فشتّانَ بين الثرى والثريّا! وهل يُجنى من حكومة كهذه صلاح أو إصلاح مُجدٍ وناجِع ؟
     إقتبستُ عنوان مقالي من إحدى مواعظ السيد المسيح، إستنادًا إلى إنجيل متّى (7: 16 ـ 20)، إذ قال متسائلاً : ( أيُجنى من الشوكِ عنَب أو من العُلّيقِ تين ؟) .لا ريب أن الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل يكون بصيغة النفي إلى حد المستحيل. ويردفه السيد المسيح بالقول [ كذلك كل شجرة طيّبة، تثمر  ثمارًا طيّبة؛ والشجرة الخبيثة، تثمر ثمارًا خبيثة ....وكل شجرة لا تقمر ثمرًا طيّبًا تُقطع وتُلقى في النار.]
      فهل كان  رجال الحكم والسياسة والإدارة ومجلس الأمة في العراق من 2003 حتى الآن أشجارًا طيّبة الثمار ؟ الجواب: من ثمارهم  يُعرَفون. و"الإنسان يُعرف من فِعلِه "، أصالحًا كان أم طالحًا.
     فليمكث الشعب واثقًا أن إرادته وقراره هما فوق الدستور والقضاء  حين يأزف وقت الإصلاح. وليبقَ لسان حال الشعب في ثورته الإصلاحية طِبقًا لمضمون هذين البيتين:
                      أنا الشعبُ دومًا أريدُ الحياة                                                                                                ولا بدّ للحقِ أن  ينتصر                                                                      أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد                                                                                               ولا بدّ للبغيِ أن يندثر
                                                                                                                                                                                                                                                 

75
سُمّ الشوكران بين سقراط والمعرّي وزهير القيسي
                                                                     
يعقوب أفرام منصور
 أربيل
    في 31 تموز 1993 نشرت صفحة ( النافذة الثقافية) من جريدة العراق البغدادية، سطورًا قليلة لزهير أحمد القيسي، مفادها أن نبتة الشوكران شديدة السُمّية، وقد شرب الفيلسوف الإغريقي كأسَ الشوكران في أثينا، تنفيذًا لحكم الإعدام فيه بتهمة إفساده الشباب الأثيني بافكاره التعليمية المعرفية، فمات بعد أن قال قولته الشهيرة [ أعلمُ أن الخيانة شيء قبيح، وأن الموت قد يكون قبيحًا وقد يكون جميلاً. وأنا أفضّل ما يُحتمل أن يكون جميلاً على ما أنا واثق من كونه قبيحًا .حدث هذا في عام 399 ق.م.
     وفي معرّةِ النعمان قرب مدينتَي حلب وأدلب السوريتين، عاش قبل زهاء ألف عام الشاعر والمفكّر الضرير أبو العلاء المعرّي،  وقد عدّهُ زهير القيسي أعظم شعراء العربية بلا منازِع، إذ قال فيه ضمن تلك السطور القليلة : (وما أنا ممّن يطمح إلى أن يضيف سطرًا إلى الأسفار المكتوبة عن هذا الفيلسوف العظيم. فأنا إذ اقلّب النظر في هذا الرجل، أرى أن شيئًا صغيرًا فات على الناس والكَتَبَة عنه، وهو لا يزيد على نص صغير موجز، عثرتُ عليه خَفِيًا بين سطور التحرّي ودفع الظلم والتجنّي عن أبي العلاء المعرّي فيه : بعد المناظرة بين المعرّي وداعي الدعاة، أمر الداعي بأن يؤتى بأبي العلاء إلى حلب،  ويُخّيّر بين حياةٍ يَزينها الصحيح وتذهب بأنقاص الثروة الموفورة، أو قتلٍ يُريحُه ويريح منه، علِم أبو العلاء ذلك، فشرب السُمّ فمات. إذن فقد شرب المعرّي كأسَ الشوكران مثل سقراط .) وداعي الدُعاة هذا هو أبو نصر بن عمران في مصر، وأرجّح أنه كان فاطمي المذهب، وكان قد كتب إليه مستفهِمًا السببَ في تحريمه على نفسه تناول اللحوم والألبان، ومجادلته في ذلك.
     لقد أوقفتني سطور الراحل زهير القيسي آنذاك على مضمون ذلك " النص الصغير" الذي عثر عليه، ولم يشأ ذِكر مصدر الحقيقة، وهي أن المعرّي الخالد ذِكرُه قد جرع سمَّ الشوكران ليضع حدًا لحياته كما فعل الفيلسوف سقراط ، مع الفارق  بين السببين؛ فكان سقراط ـ حسب اعتقادي واطلاعي آنئذٍ وحتى الآن ـ أوّل شهيد رسمي وعلَني من شهداء الفكر الأفذاذ. فقرار محكمة أثينا ذاك قد أمات سقراط قبل أوان الأجل الذي تُحتّمه السماء ، ربما بخمسة أو عشرة أعوام، في حين كان سقراط مؤسًّسًا لعلم الأخلاق، وكان محور فلسفته أن يعرف الإنسان نفسَه، ويدرس تصرّفاته والنواميس الطبيعية التي تؤثّر فيها. لكن ّقرار الحكم ذاك  لبث حتى الأن ويلبث أبدًا وصمةً كبرى في تاريخ القضاء العالمي، وفي مجال طغيان الحاكمين، وغَلَبَة التضليل والجهل والتزييف على الحق الصريح، والمعرفة المستنيرة، والعدل الصارخ المقدّس.ويمكث (دفاع سقراط) عن نفسه غُرّة الدفوع في قاعات دور العدالة إبان 24 قرنًا، ودوّنته صفحات التاريخ، ودُرّة شديدة السطوع في عالم القانون والمرافعات، وتار يخ حرية الفكر، في حين يلبث قرار محكمة أثينا إلى يوم الحشر لطخة قاتمة في تاريخ القضاء العالمي، وسلوك المتسلّطين، والذين آثروا الصمتَ، فلم ينبَروا للدفاع الجماهيري عن سقراط كما يقتضي ويليق ويستحق سقراط، على الرغم من أن الدفاع السقراطي الشهير يُعدّ إدانة صارخة لمحكمة أثينا(  المدينة التي شهدت مولد الديمقراطية وحرية الفكر) وإدانة لقضائها والقابعين خلفه، وبالرغم من قولة أفلاطون في حق أستاذه :" أقول بصدق إنه بين كل الرجال الذين عرفتُهم كان هو الأحكم والأعدل والأفضل."
      ولأعُدْ الآن إلى المعرّي الفضيل العظيم، فأقول لقد خاطبتُ القيسي برسالة نشرتها جريدة (العراق) في 14/9/93، قائلاً : " أستفسرك من أين إستقيت المعلومة التي أفادتك أن المعرّي قد لجأ إلى تجرّع سُمَّ الشوكران بعد أن علمَ بعزم "داعي الدُعاة " على الإتيان به إلى حلب للغرض االذي ذكرتَه؟ فأنا بقدر اطّلاعي  على سيرة هذا العبقري الفذ، والبحر العجاج، وإحاطتي بأخباره، لم أُطالع ما يداني أو يماثل التفاصيل التي أوردتَها. وبعد مطالعتي مقالتك، رجعتُ إلى كتاب (زوبعة الدهور) في أبي العلاء المعرّي، للناقد الكبير مارون عبّود الذي أحاطني علمًا بجوانب مهمة من سيرة وعقيدة هذا الرجل الجهبذ، لم أقف على شيء من ذلك. كما رجعتُ إلى كتابَي المعرّي (رسالة الملائكة) و (رسالة الهناء) ورسالتيه إلى "داعي الدعاة"، لعلّي أقع في الهوامش على نتفة أو إلماعة من معلوماتك تلك، فلم أُوفّق. فهلاّ ترشدني إلى " البئر" التي استقيت منها تلك السطور؟" بيدّ أن الفيسي لم يُجب أو يُعقّب.
      إنطوت مقالة زهير، مع إيجازها الشديد، على إفصاحه الجريء بكونه  يعدّ المعرّي أعظم شعراء العربية دون نِزاع،  ووجه جرأته في الرأي هو كون الغالبية العظمى من أصحاب الرأي والإطّلاع والنقد، وضمن قناعات أغلب شعراء العربية حاضرًا ترى المتنبّي سيّد الشعراء؛ وأنا مثل زهير وقبل تاريخ مقالته بأعوام عَددتُ وأعدّ المعرّي شاعري العربي الأثير، وأعلمتّ القيسي في رسالتي إليه بأنه لم تُتَح لي فرصة سابقة لأن أُفصحَ عن رأيي هذا مكتوبًا، غير أني قد أفصحتُ عنه لبعض معارفي القليلين من الشعراء والأصدقاء. وقد حملني الإعجاب بقصيدته (ّذكرى) أو (عَلّلاني) على صياغة لحن من مقام الصَبا، وبعثتُ إلى القيسي بنسخة من "النوتة " الموسيقية للّحن من خلال الأستاذ عادل كامل( محرر صفحة النافذة الثقافية في " العراق " آنئذٍ) ليحتفظ بها للذكرى، وخيّرتُه أن يُطلِعَ عليها من يُحسن قراءة النوتة الموسيقية ضمن متفننّينا.
     وقد راقني من شعر المعرّي قصيدتُه (حنين المهاجر) التي مطلعها:                                                     متى سألت بغدادُ عنّي وأهلُها                                                                                                    فإنّي عن أهل  "العواصِمِ سَآّلُ                                                          وماءُ بلادي كان أنجعَ مشربًا                                                                                                    ولو أنّ ماءَ الكرخِ صهباءُ جِربالُ
والمقصود ب "العواصِم" هنا بلاد أنطاكية السورية التي سلخَتها تركيا في عام 1936، ولواء أنطاكية قريب من حلب وميناؤه الإسكندرونة.
    ودوّنتُ أروعّ بيت عندي في تلك القصيدة في دفتر خاص يحوي مختارات شعرية، وهو البيت القائل في مخاطبة وطنه:                                                                                                                فإن أستطِع في الحشرِ آتِكَ زائرًا                                                                                                 وهيهاتَ لي يومَ القيامةِ أشغالُ
    ويشتمل دفتر مختاراتي الشعرية على أبيات بشأن إيمان وعقيدة المعرّي، أوردها مارون عبّود في كتابه (زوبعة الدهور) في المعرّي:                                                                                                 ما الخيرُ صَومٌ يذوبُ الصا ئمونَ بهِ                                                                                                ولا صلاةٌ ولا صوفٌ على الجسدِ                                                   وإنما هو تَركُ الشَرِّ مُطّرَحًا                                                                                                        ونفضُكَ الصدرَ من غِلٍّ ومن حسَدِ
وأورد له مارون عبّود هذين البيتين، وكأنَ المعرّي يعيش في عصرنا المفعَم بالتطاحن والتفجير والسفك، يخاطب بهما مبتكري ومستخدِمي وسائل الفتك والترويع وأسلحة الدمار الشامل في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحالي، برًا وبحرًا وجوًا :                                                                          أقلقتُم السابِحَ في لُجّةٍ                                                                                                        ورُعتُم في الجوِّ ذاتَ الجناحْ                                                                  هذا وأنتم عُرضَةٌ للفنا                                                                                                        فكيفَ لو خُلِّدتُم  يا وِقاح ؟!                     
      ومن لزوميّاته هذا البيت:                                                                                                     إنّ الشرائعَ ألقت بيننا إحَنًا                                                                                                       وأودَعَتنا  أفانينَ العداوات
     ختم القيسي مقالته المقتضَبة بتمنّيه " أن يتذوَّق رشفةً من رحيق الشوكران "، وبرغم أن الأخ مهدي حمودي الأنصاري، في تعقيبه على مقالة القيسي في 10/8/ 1993 قد أعرب عن استغرابه صدورَ هذا التمنّي ـ كما إستغربتُه  أيضًا ـ ورجاه ألا يكون مُزمِعًا في ما تمنّى. لكنّ القيسي لم       يرد على تعليق الأنصاري، ولم يرد على رسالتي التي ختمتُها  بتحذيري : " إيّاكَ أن تُقبِلَ على هذه الرشفة إلاّ إذا  كنتَ ستغدو شهيدَ حقٍ هَضِيم، أو حقيقة صارخة مضطَهَدَة، أو عقيدة مستقيمة وفكرة نَيِّرة ". والسلام عليك.

       


     

76
المنبر الحر / وطن الجميع
« في: 13:23 31/08/2015  »
وطن الجميع
                                                                 
يعقوب أفرام منصور
     ألبيت وطن صغير، والوطن بيت كبير، مهما ترامت أبعاده، واتّسعت رقعته، والشائع عند الأنكليز إطلاقهم مفردة (بيت : هوم) على الوطن أو المَوطِن. إذا ناب فرد عن لفيف سكّان البيت ، في الحديث عن منزلهم أو في الإشارة إليه، قال : " بيتنا"؛ فهو ليس بيت الوالدَين فقط، أو بيت أحدهما، أو بيت أيّ فرد من العيال فقط، بل هو بيت الجميع. كل فرد من العائلة يسكنه، له فيه حصّة وحقوق عامّة ومشتركة وخاصّة. وكل عضو يقيم فيه، عليه نحوَه واجبات عامّة ومشتركة ومخصّصة بعضًا وأحيانًا. وكل تلك المواصفات تنطبق على الوطن (البيت الكبير) وعلى سُكّانه تمام الإنطباق.
    فما أحلى الواجبات والمَهَمّات، مهما بلغت مشقّاتها وقيودها وفروضها! وما أنبل وأقدس أن يُحافَظ على تلك الحقوق كما على الواجبات!
    هل بعد مناداة البرايا : يا إلهي! ، يا أبي!،  يا أمّي! ، يا أخي!، يا حبيبي! ....أعذب في الثغور من مناداة لفظة (وطني!)، والهتاف : يا وطني! ؟
    في العراق العزيز: هذا هو شعار العربي والكردي، وهكذا يلهج لسان التركماني ومثله لسان الإيزيدي، والصابئي والشَبَكي، والسرياني والكلداني والآشوري، كلٌ بلغته، وهؤلاء كلهم متآخون، متآزرون، متفا نون في الذودِ عنه ـ كالذودِ عن بيوتهم ـ ويؤدّون بإخلاص واجبات المواطنة الملقاة على كواهلهم. أجل ، هكذا يجب أن يكونوا، وإن شذّ أحدهم أو شطّ أو قصّر، إنتفت عنه صفة "الوطني"، ونأت عنه صفة المواطن الصالح المخلص. وقد أثبتت أصعب الظروف وأقساها التي إجتازها وطننا الغالي، أنهم جميعًا كانوا مواطنين بررة، بلا تمييز ولا استثناء، خلا أنفارًا قليلين يُنعَتون بكونهم طالحين بدلاً من صالحين.
      لكنّ المتصيّدين في الماء العكر، ومفرّقي الصفوف، ومثيري النعرات، سعوا وما انفكّوا ساعين لتفتيت هذا التلاحم، وتحطيم هذه البوتقة الجامعة الموحِّدة. ففي العراق العزيز: يصلّي المحمّدي في جامعه ومسجده وبيته كيفما ومتما شاء، ويصلي الموسوي في هيكله أو داره كما يحلو له، ويصلي المسيحي في كنيسته ومسكنه حسب طقوسه وبأيّ لسان. كما يصلي المؤمنون الآخرون في معابدهم، والنسّاك في صوامعهم، والزهّاد في خلواتهم، والفقراء في زواياهم، والبدو على بساط رمالهم، والجبليون على سفوحهم وهضابهم وفي وهادهم، وأهل الهور في صرائفهم كما يشاؤون ويُتاح لهم.
     في حديث شريف ورد: " الأنبياء إخوة، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد "، فمن العدل والمنطق أيضًا أن يكون أتباع الأنبياء إخوة كذلك. والأديان السماوية وشرائعها، بل حتى البوذية والكونفوشية والتاوية( وهذه الثلاثة ليست ديانات، بل هي عقائد نائية عن الربوبية التوحيدية) تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو لمكارم الأخلاق، وتحثّ على الفضيلة، وتأبى الرذيلة.
    وقال مؤسس الدولة(المملكة) العراقية، المغفور له الملك فيصل الأول: "الدين لله، والوطن للجميع".، وهو الشعار عينه الذي رفعه وردّده في سوريا، كما قال : " في هذا القطر لا توجد أقلّية أو أكثرية. فالأقلية أكثرية، والأكثرية أقلية" ـ إستنادًا إلى كتاب (الملك فيصل الأول) لمؤلفه الأستاذ علاء جاسم محمد، ط1 ص151 ـ 152.
    لكن المغرضين والحاقدين والمفسدين في الأرض، ومفرّقي الصفوف لصالح الأجانب والشياطين، إجتهدوا ويجتهدون في إحداث الفجوات والخروق والصدوع بين المنتمين إلى تراب هذا الوطن ضمن المؤمنين بالله والسماء والأتبياء والكتب المقدّسة، وبين أهل الورع والتقوى، ومحبّي الخير العام والإنسانية الشاملة.
     فلينتبه كل مواطن إلى هذه المساعي الشرّيرة، وليكن يقِظًا ! لأن انتباهه ويقظته يشكّلان سورًا منيعًا دون غلبة الشر على الخير، والتعادي على التآخي. ليتذكّر كل عراقي مخلص لربه ونفسه ووطنه، ما جرى في لبنان إبان العقدين السابع والثامن من القرن السابق، وما جرى بعدهما قي يوغوسلافيا خلال عامين من المآسي والفواجع. فهو سيستخلص من الوقائع الدامية والإحترابات  الكارثية دروسًا وعِبَرًا تحمي وجوده، وتصون كيان الوطن . وليكن شعاره قولاً وعملاً في السر والعلن: " الوطن للجميع، والجميع للوطن".
     أمجادنا تحتّم علينا هذا الولاء، وتاريخنا يفرض علينا هذا الإنتماء، بلا تفريق أو تمييز أو تفضيل. في دمائنا قطرات من دماء الأكديين والسومريين والآشوريين والبابليين والمناذرة والعرب قبل الفتح وبعده والعباسيين، تلك القطرات تسللت إلى أبداننا بالتوالد وتعاقب السلالات والتصاهر والتمازج، وحجيرات أجسامنا تغذّت من  خلال الجذور التي امتصّت عناصر غذائنا من أديم أأرض الرافدين والهلال الخصيب، المعجون بنجيع أبطالنا وشهدائنا الأبرار الذين شرّفوا تربتها بدماء الشهادة والفداء. فهل من الوفاء أن ننكر هذه الدماء ونسيج اجسادنا، ونتنكّر لهذه التضحيات؟ كلاّ تمّ كلاّ! فالوطن عزيز وحبيب ومقدّس.
     رحم الله شاعرنا الرصافي القائل:
                             إذا جمعتنا وحدةٌ وطنيّةٌ                                                                                                         فماذا علينا أن تعدّدَ أديانُ  ؟                                                                إذا القوم عمّتهم أمورٌ ثلاثةٌ                                                                                                      لسانٌ وأوطانٌ وباللهِ إيمانُ                                                                فأيُّ اعتقادٍ مانعٍ من أُخوّةٍ                                                                                                       بها قال إنجيلٌ، كما قال قرآنُ ؟
   
               

77
الخيانة علّة مآسينا الكبرى وليس  الفشل
                                                               
يعقوب أفرام منصور

      ألخيانة جليّة كجلاء الشمس في  يوم صحوٍ مشرق، وهي: إنعدام الأمانة والنزاهة والإخلاص والعدالة والضمير في الفرد والمسؤول بشكل خاص. فوجود هذه العناصر الإيجابية، أي الخصال النبيلة التي يجب توفّرها في أعضاء البرلمان وفي دوائر المناصب الوزارية، بات ومنذ زهاء عقدين في حكم المفقود في غالبية البرلمانيين وفي غالبية موظّفي السلطة التنفيذية.
      في مجالات وسائل الإعلام، وفي أجواء وموجات التظاهرات الجارية منذ أوائل آب، ترددت كثيرًا كلمتا (الفشل)  و (الفاشلين) برغم كونهما سبب الفسادين المالي والإداري، دعكَ من المفاسد الخلقية والضميرية والنفسية، فكل هذه المفاسد العفنة هي التي ألحقت الخراب الفظيع، واليباب المتجنّي الشنيع بكل مرافق العيش، وتدبير الأمور، وتصريف الشؤون، حتى بلغت الدرجة الأدنى من الأنحطاط التي تُداني الصفر: إجتماعيًا واقتصاديًا وتجاريًا وصناعيًا وزراعيًا وإروائيًا وتشريعيًا وسياسيًا. ومما  يحزّ في النفس عميقًا، ويثير غضب الشعي جدًا، ويثير إسمئزاز الأجانب، انّ الفاسدين والمفسدين والخائنين لم يكتفوا بعدُ بما جنت اياديهم الملوّثة بوصمات العمل السيئ، ليوصلوا البلد والشعب إلى درجة أحطّ من الصفر. فيا لهذه القسوة ولهذا الظلم والإستهتار بالحقوق والواجبات الملقاة على عواتقهم، والتنكّر للقسم الذي أدّوه أمام الله وشعبهم! وقد بلغ مستوى لامبالاتهم حدّ عدم الإهتمام أو الخشية من أن أولادهم وذويهم سيواجهون دلائل الإمتعاض والإحتقار من الشعب والغرباء بسبب إرتكابهم المعاصي والمعايب والجرائر والخيانات، وخصوصًا بعد ان تُعلن أسماؤهم على الملأ
     فحقيقة الأمر هي أنّ العلّة الأصلية لكل هذه المثالب الشائنة ـ وعي علة العلل ـ ليس " الفشل" المزعوم،  بل ، وبباث كبير : الجشع المهول، هو الخيانة بكل معاييرها: ألأمانة والمسؤولية والواجب والإخلاص والعدالة والضمير، إضافة إلى اليمين الجهوري الذي حنثوه ـ  يمين الإخلاص الذي أدّاه الإداريون الكبار، والعسكريون أصحاب الرتب العليا ودونها. فالفارق كبير بين الفشل أو الإخفاق في النجاح والتوفيق بسبب عدم المقدرة وقلة الكفاءة لوجود عجز ذاتي في الفرد المسؤول، وبين الخيانة التي تعني التقصير المقصود والمتعمّد في أداء الواجب بشكل تام وأصولي ونزيه، والمنوط بالمسؤولين الكبار أولاً في إدارة شؤون البلد والجمهور، ثم بالمسؤولين الأدنى رُتبًا، متناسين أو غير مبالين بالقسم الذي أدّوه قبل تسنّم مناصبهم، فكان التهاون على مسهد ومسمع من رجال الدين والمرجعيات الدينية الذين هم أولى من غيرهم في تقدير مكانة القسم بإسم الجلالة الية تحمله الراية العراقية منذ ربع قرن، فكان التهاون في الأداء الناجز النزيه النظيف وخصوصًا في مجالات إبرام العقود مع المقاولين واالشركات الحقيقية أو الوهمية، والتخلّي عن ملاحقة والقبض على المقاولين الأصلاء أو الثانويين المتهرّبين من ميادين العمل بعد تسلّمهم أول أو ثاني دفعة على الحساب مقابل المرحلة الأولى او الثانية من تفيذ عمل المقاولة او المشروع.
     إن الذين جيء بهم منذ الوهلة الأولى ـ بعد كارثة 2003 ليتبوّأوا مناصب السلطة التنفيذية ( وزراء، مدراء، خبراء)، وليُشغلوا كراسيهم في قاعة البرلمان، لم يكونوا في غالبيتهم مؤهلين ولا قاصدين أن يخدموا الوطن ويبنوه بعد خراب جزئي ونكسات وعثرات وحروب متوالية، ولا ليخدموا شعبهم المنكوب والمنكود، وليعينوه في رفع مستوى العيش، وتحسين أوضاعهم المزرية المتخلّفة الزاخرة بالجهل والفقر والمرض، بل لقد تقاعسوا كبارًا وصغارًا عن تأدية الواجبات بأمانة وإخلاص ونزاهة، وعن تقديم الخدمات الحيوية العامة في نواحي الماء النقي والكهرباء الوافية، والنظافة ومجاري الصرف الصحّي، وتبليط الشوارع والطرق والأزقة، وتوفير العقاقير والعلاج ودور الأستشفاء، وتشييد المدارس وتزويدها بحاجاتها، وبناء المساكن لذوي الدخول الواطئة، وتوفير الأمن ( على الرغم من أنّ  شاشات التلفاز كانت تعرض كل تلك السلبيات والإحتياجات الضرورية)، لكنهم تهافتوا كالذباب والزنابير على تبوّإ المناصب والكراسي والوظائف، ليجنوا من خلالها(عبر وساطات وتزكيات طائفية، بل عبر شراء وظائف ومناصب بأسعار محدّدة ) أموال الحرام والإرتشاء، علاوةً على رواتبهم العالية، حتى لو كان المتهافتون على تلك  المناصب والكراسي غير مؤهّلين أو قادرين أو مخلصين أو نزيهين بعد ثبوت ذلك خلال الشهور الثلاثة الأولى ـ مثلاً ـ من تبوّء مناصبهم. كان دور الطائقية دورُأ شديد الفاعلية في استشراء ضروب الفساد، لأنه كان مجرّدًا من فضيلة حب الوطن ومراعاة توفير فرص العمل النظيف الكفوء المجرّد من نزعة الإنحياز الطائفي الذي يصبّ في حوض عدم العدالة والديقراطية والمساواة، وكلها ئؤدّي إلى الفساد والعجز الشامل في كل مرافق الدولة والمجتمع. فقد كانت نزعة الطائفية إحتكارية ومفرطة في انانيتها.
     وثمة مفردة أخرى كثر تداولها على ألسن الإعلاميين والمتظاهرين، هي كلمة " سياسيين"، لتعني (عن غير جدارة وأهلية واستحقاق) غالبية نوّاب البرلمان الهمام، وغالبية الوزراء وخبرائهم ونوّابهم ومدرائهم، وأعضاء مجالس المحافظات ، منذ نيسان 2003 وحتى هذه اللحظة من الرابع والعشرين من آب 2015، فأفراد هاتين الأغلبيتين ليسوا " سياسيين" ، بل هم لصوص من نوع خاص في الجشع والحرام، وهم خائنون أولاً ثم فاسدون ومفسِدون، ويستحقون العقاب بدرجات متفاوتة، والإعدام في مقدّمتها. فقد جرّعوا الشعبَ سمومًا، وأفعموه همومًا، وأثخنوه جراحُا، وأغرقوه دِماءً، ومع كل هذه المقترفات والمآثم التي اقترفوها وما برحوا يتمسّكون بها، لا يبدو الإكتفاء عليهم. فكلمة "سياسي"  تعني المخلص ، الأمين، النزيه، المستقيم، الوطني.
      وعلى ذكر الرشوة، يُطرح هذا التساؤل : أليس الأرتشاء من المحرّمات الكبرى في الإسلام ، ويُجرّم طرفاها: الراشي والمرتشي؟ ما كان أوطأ الأصوات الشاجبة لهذه المعصية السيئة ـ صوت رجال الدين! (أنظر سورة البقرة 188). وما كان أضعف الإجراء الرادع لإستشراء الرشوة ـ إجراء ممثلي السلطتين التنفيذية والقضائية!  ( أنظر القانون المرقم 111 من قانون العقوبات البغدادي لعام 1969 وتعديلاته النافذة (المواد 307 ـ 314). فكم قضية من آلاف آلاف هذه المعصية الشرعية والقاانونيية قد سُجِلت وأحيلت إلى القضاء ، وبتّ القضاء فيها بالتجريم المنصوص عليه"  فليتفضّل السلطويون والمتسلّطون والقضائيون بإطلاع الرأي العام على عدد هذه القضايا! أتوقّع أنّ عددها قليل جدًا، أو غير موجود أصلاً !
    لقد صبر الشعب العراقي على الظلم والجبروت الحكومي  وعلى إهمال حكومته وتعسّفها الأمني والإداري صبرًا جميلاً وطويلاً جدًا (12 عامًا) ولم يصبر نظيره( بمظالمه وتخلّفه وكوارثه) شعبٌ أخَر في القرن الماضي وأعوام هذا القرن، ومع كل تلك المساوئ  ما انفكّ خائنون  كثيرون، يُسمّون ساسة، في البرلمان ومجالس الوزراء الحاليين والسابقين  يحيون حياة الجنوح والإقراف والفساد، ويعربدون ويغالطون ويزيّفون لكونهم سكارى بخمرة السلطة الغاشمة، فبات الآن جليًا ـ كما يبدو من بعض الأراجيف والإنكار والتنكّر والإجتماعات والتصريحات الجوفاء ـ وسط إعلان التصريحات الترقيعيةـ  أجل بات جليًا أن من الحق والصواب والواجب على الشعب والعقلاء والمرجعية الرشيدة أن يلجأوا إلى إنزال خونة الشعب والوطن عن كراسيهم، ويُقصوهم عن مواقعهم ومناصبهم بكل الوسائل الثوريّة المنظّمة الموحّدة، وإذا أحجمت الوسائل القضائية والإدارية عن تلبية مطالب الشعب المعلنة رسميًا وجهرًا، والبدء بتنفيذها جذريًا وآنيًا، فمن حق الشعب أنئذٍ أن يلجأ إلى العنف الثوري ،وهذا العنف الثوري معلوم عالميًا وجرى اتّباعه في وقائع ثورات الشعوب من أجل الإصلاح ونشر العدل، وسيادة القانون فعلاً وتطبيقًأ على الجميع سواسية.
     إن المحللين وحسني الإطّلاع يتوقّعون إخفاق أو إحجام الوساشل القضائية المنشودة لتكون في طليعة السلطاات التي يجب ان تقوم بتفعيل الإجراءات الإصلاحية التي يلحّ الشعب على إجرائها عاجلاً وكا أفتت بذلك المرجعية الرشيدة، وبما ان السيل قد بلغ الزبى، وصبر الشعب الطويل قد نفد، في حين لم يفق خائنو السلطة من سُكرهم السلطوي الإنتفاعي المنكَر، بل هم ما برحوا في جهلهم وإثمهم يعمهون ويدّعون إن الحق بجانبهم(!) وأن الشعب غير جدير باحترامهم وصونهم واهتمتمهم، بل هم وحدهم ( رغم خياناتهم ومفاسدهم) يستحقون الحياة والكرامة وخيرات الوطن!    فالجماهير الشعبية حينئذٍ تغدو ( مدعومة تمامًا بفتاوى المرجعية الرشيدة ومؤيدة بالتظاهرات الشاملة وبوسائل الإعلام الوطنية الرشيدة المخلصة) مُحقة في إنزال الفاسدين والمفسدين والخاثنين عن كراسيهم الوزارية والبرلمانية، لأنّهم تنكّروا لتلبية مطالب الشعب العادلة الضرورية التي حُرم منها أعوامًا برغم دستوريتها. فالشعب أولاً وآخِرًا هو مصدر السلطات.
    بلغت سوء النية وضحالة الرأي بوزير النقل قبل أيام قلائل، وبعد ضجّة الإصلاحات التي يبدو أنها أزعلته،  أن يقول إن كل المتظاهرين لا يمثّلون كل الشعب العراقي. فأقول متسائلاً: هل البرلمان بكل أعضائه يمثّل  كل أطياف الشعب العراقي في أمانيه وطموحاته ومطاليبه وحقوقه الدستورية والتشريعية، كما يعرفها المفكرون والحقوقيون والمثقفون. ما هو عدد المثقفين بحق في البرلمان؟! كل عاقل ومنصف يقول : كلا،أعضاء البرلمان لا يمثلون أطياف وأصناف وطبقات كل الشعب العراقي .إنهم يمثلون أنفسهم وأطماعهم المادية حتى لوكانت من خلال الفساد وسرقة المال العام، فلو كان البرلمان يمّثل كل الشعب العراقي، لما إضطرَ الشعب ان يثور مطالبًا بالإصلاحات وبإسقاط البرلمان ، ولما سرى الفساد بأنواعه الى الوزراء والدوائر والمؤسسات. وما يُقال عن البرلمان في هذا الصدد يقال أيضًا عن الكابينات الوزارية ، فجميع أعضاء الكابينات الوزارية، خلال 12 عامًا لم يُمُثّلوا يومًا كل الشعب في أطيافه وطبقاته وصنوفه  وحاجاته وتلبيتها كما أعلنتها جماهير المظاهرات قبلاً ومؤخّرًا. والحقيقة إن عناصر المظاهرات بشعاراتها ولافتاتها ونداءاتها ومطاليبها كانت حتى الآن أقرب وأصدق تمثيلاً لجميع شعب العراق والمطالبة بتحقيق أمانيه الوطنية والمعيشية،وحقوقه المهضومة والمحرومة، من كونها ممثلة في البرلمان ومؤسسات السلطة التنفيذية، وما يَدعمها ويُكملها أصوات المثقفين والأدباء والكتّاب والحقوقيين والمحللين وحتى المتفننين جميعًا على صفحات جريدتَي (ألزمان) و (المدى)، فضلاً عن منبر قناتَي التلفاز (البغدادية) صوت الشعب ، و (الشرقية نيوز).
     لم يكتفِ السكارى بخمرة السلطة بمقولة وزير النقل الآنف ذكرها، بل نطق السيد نوري المالكي، بعد يومين من  رجوعه إلى بغداد،  بمقولة تقارب الكفر وزنًا لا نوعًا، وتضاهي الجورَ على الحقيقة والمنطق: إنّ المتظاهرين أوالمظاهرات هي ضدّ الدين! فهل حقًا ـ يا عباد الله المُتّقين ـ أصحيح إنّ المتظاهربن هم ضدّ الدين؟ ماذا قالت وتقول المرجعية العارفة الآن في هذا الصدد؟ وماذا يقول فقهاء الشريعة والقانون؟ ألم يُجِز الدستور تظاهر الشعب، أم أن الدستور يضادد الدين في هذا الموضوع؟! يبدو أن موبقات اللصوصية والأبلسة والخيانة والفساد (التي بلغت ألأوج في عهد ولايتَي المالكي) ما تزال أعمالاً وأقوالاً مبرّرة وليست ضدّ الدين والشريعة والقانون !
     أمّا مقولة خبير لجريدة"الزمان" ( ليوم18 /8)  بكون (القضاءغير مُلزَم بتقرير لجنة سقوط الموصل، وبكون قانونية البرلمان تؤكّد حق المتهمين في الطعن)، فأُعَلّق بالقول: لماذا إذن أُضيع الوقت الطويل جدًا (سنة يعد تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية) لإنجاز هذا التحقيق؟! ألا يعني صمت الخُرس في مجلس القضاء، وعدم مبادرة رئيسه إلى تأليف لجنة خاصّة، لإجراء التحقيق قبل تشكيل اللجنة البرلمانية، أنّ مجلس القضاء كان مقصّرًا في أداء الواجب الآني، أو كان متواطئًا مع الخائنين والفاسدين والمفسدين الذين لبثوا ناشطين في حكومة العبادي؟  منذ البدء في 2003 جرى الفساد والقصور والخيانة في مرافق الدولة والجيش والأمن الداخلي، وكان مولده وسببه الرئيس في مجلس القضاء الأعلى، أعضاءً ورئيسًا. فجُرم مجلس القضاء كبير وخطير وشديد الضرر. ولو لم يكن البرلمان مفعَمًا بالفاسدين والخائنين في كل دوراته، لما فسد القضاء والحكومات المتعاقبة حتى الآن. وجُرم البرلمان أيضًا كبير وخطير وشديد الضرر.
      متى يتقي اللهَ الفاسدون والمفسدون والخائنون، ومتى يعترفون بجرائرهم ومثالبهم، ويندمون على ما جنت ايديهم بحق الوطن والشعب؟ إنّ لسان حال الشعب اليوم وغدًا هو:
                        أنا الشعبُ دَومًا أُريدُ الحياة                                                                                                    ولا بدّ للحقِ أن ينتصِر                                                                    أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد                                                                                                   ولا بدّ للبغيِ أن يندثِر                                                                                                                                                                                     
         

 

78
أقوال وآراء في الموسيقى

يعقوب أفرام منصور
أربيل

      مفردة (موسيقى) إغريقية الأصل، و (ميوز) بالإنكليزية تعني: يستغرق في التفكير، يتأمّل، أو يقول  متأمّلاً، كما هي مصدر لهذه المدلولات. و(الموزيّة) في الميثولوجيا الإغريقية تعني إحدى الإلاهات التسع الشقيقات اللواتي يحمين الغناء والشعر والفنون والعلوم، كما تعني مصدر وحي الشعر. كثر ت فيها الأقوال والآراء قديمًا وحديثًا.
     قال فيها بيتهوفن : " يجب أن تبعث الموسيقى النارَ من فكر البشر." ووصفها جبران بكونها "جسم من الحشاشة، له روح من النفس، وعقل من القلب.".
     هبطت إلى كوكبنا من أعلى علِّيين بإيعاز من البارئ ـ الروح العلوي، الكائن الأول فبل الكون. ألإغريق جعلوا قمة جبل(برناسوس) مستقرًا لمصدر استلهامها برعاية (أبولون) رب الفنون، حيث خصصوا لها واحدة من الربّات التسع المِلاح المكرّسات لرعاية الفنون وحمايتها. إنحدرت إلى كوكبنا، إذعانًا لإرادة الروح الأزلي، المهندس الأعظم، والمبدِع الأول لتصرع الخشونة والشراسة والجبروت، وتنشر الرقّة مع أغاريد الطيور، وخرير الأمواه، وحفيف الأشجار، وهينمات التسيم، ولألأة النجوم؛ ولتُضرم الوجدان بالمشاعر، والأفئدة بالمحبة والحنان، والنفوس بالحمِيّة والحماسة، والأذهان بشعاليل الإلهام والوحي، ولترفد دفقات النفس بالألحان من خلال الوتر والمزمار والحنجرة.
      أدرك البارئ بحكمته اللامتناهية أن الحياة على هذا الكوكب ما كانت لتُطاق من دون هذه النفحة العلوية المقدَسة. لكنّ البشرية لبثت دهورًا طويلة، وما برحت حتى الآن وفي غالبيتها العظمى، نائية جدًاعن المسار الذي عناه بيتهوفن في مقولته الخالدة الرائعة: " يجب أن تبعث الموسيقى النارَ من فكر البشر." فالأشرار والهمج توسّلوا بها في الشوارع والمغاور، والفاجرون أفسدوا بها مجالس وحيها وإلهامها. سراحين البشرية وشياطينها أهرقوا الخمورَ على هامتها في مقرّاتهم وأوجارهم، وجللوها بالأرجوان مقهقهين صاخبين، وفي مهاوي الأرجاس مرّغوا إسمها أمام الخنازير، وفي دور الملاهي الوضيعة والموبقات إلتذّوا بالإصغاء إلى أنّاتها، والنظر إليها تتلوّى من الألم، وأرغموها على الرقص الخليع، ليرقصوا هم على إيقاع أنغامها.
    في سوح القتال، وميادين الحروب والنِزال المفروشة بالجماجم والأشلاء والجثث أشعلوا بأنغامها المثيرة المحفِّزة نيران الخصومات والأحقاد والضغائن. أمّا الطُغاة والعتاة والبغاة والمتهتّكون، فقد سخّروا المنشدين، وأرغموا العازفين على الإنشاد والعزف في مجالس لهوهم وقصفهم ومجونهم. هكذا كانت الموسيقى، إبنة الروح العلوي،  وهكذا هي حتى يومنا، فقد بذلت نفسها فداءً عن ذنوب الأنام، وقاست التباريح فلم تتململ، وسيقت إلى المجازر والأهوال فلم تتأوّه، وضحكت مع المقهقهين، وبكت مع النادبين.
    لكنّ قِلّةً خيِّرة نبيلة من بني الإنسان أدركت سموَّ منزلتها، وشرفّ رسالتها، بفضل حكمة الحكماء، ووداعة الودعاء، وعباقرة الإلهام من صاتعي الألحان، وذوي الأرواح العظيمة من مبتكري الأنغام، فحملوا على كواهلهم أعباء المتعبين، وضمّدوا بمراهمهم وبلاسمهم جراح الأفئدة، وأدخلوا رسيس الحب إلى القلوب الوالهة، وسكبوا إكسير التعزية على التفوس الحزينة، واستدرّوا العبرات من مآقي المنكوبين والمضطهَدين والمعدمين، فأراحوهم وجلبوا البسمات الطفيفة إلى ثغورهم بعد أن أذبلتها الأشجان، ورسموا بنتاجاتهم الرائعة معالم الخير والحق والفضيلة والجمال المطلق، وبعد أن عانت البشرية طويلاً وكثيرًا من أعدائها وأشرارها  وجهلائها.
     قال جبران خليل جبران في الموسيقى: " الموسيقى كالصباح، تطرد ظلمة النفس، وتنير القلب، فتُظهر أعماقَه. هي نغمات رقيقة تستحضر على صفحات المخيّلة، ذكرى ساعات الأسى والحزن إذا كانت مُحزنة، أو ذكرى أويقات الصفاء والأفراح إذا كانت مُفرحة. هي مجموع أصوات محزنة ، تسمعها فتستوقفك وتملأ أضلُعَك لوعةً، وتمثّل لكَ الشقاءَ كالأشباح. هي تأليف أنغام مفرحة، تعيها فتأخذ بمجامع  قلبك، فيرقص بين أضلُعِك فرحًا وتيهًا. هي رنّة وتر، تدخل مسمعَك محمولةً بنموّجات الأثير، فقد تُخرجُ من عينيك دمعةً محرقة أثارتها لوعةُ نأيِ حبيبٍ، أو آلام كلومٍ خرقها نابُ الدهر، وربما خرجت من بين شفتيك إبتسامةٌ، كانت  والحق عنوانَ السعادة والرخاء. هي جسمٌ من الحشاشة، له روح من النفس وعقل من القلب."
                                      *      *      *
     قال (جان برتليمي) في الفصل الثالث من الجزء الثاني من كتابه ـ الترجمة العربية ـ (بحث في علم الجمال) : " وظيفة الموسيقى هي التعبير عن أعماق الحياة العاطفية". وقال أيضًا :" الموسيقى أشدّ الفنون تأثيرًا في النفس، وأشدّها تمرّدًا على التحليل. فهي في جوهرها لا تدين بشيء لعالم الملموسات، ولا لعالم اللغة، ولهذا يجري تشبيهها بهذا الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في الشعر، وفن التصوير، باعتبار أن تناسق الألفاظ وتناسق الألوان والخطوط يمتّان بالقرابة لتناسق النغمات. ويؤكّد ميكايل أنجيلو أن من الضروري أن يكون فن التصوير السليم موسيقى وميلوديا".
     ويقول (برتليمي) في موضع آخر عن بيتهوفن إنه قال: " الموسيقى هي الوسيلة الوحيدة التي تُوصلنا إلى عالم أرفع، ذلك العالم الذي يضمّ الإنسان، والذي لا يستطيع الإنسان أن يضمّه ". ويضيف برتليمي قائلاً : "الحقيقة إننا نرى الموسيقى ترتبط دائمًا بالدين . فالنشوة الموسيقية مثلها النشوة التصوّفية، تقرب من كل ما يعصى على التعبير والنطق، ومما لا يمكن  التعبير عنه باللغة . وفيلسوف من فلاسفة ما وراء الطبيعة مثل (شوبنهاور) قد يكون على حق حين يمنح الموسيقى صفة القدرة على إعطاء أسماء المظاهر الظواهرية، وعلى ضبط الشيء في ذاته، وعلى الإتصال بجوهر الطبيعة."

    وحينما يتطرّق إلى المستوى الروحي للموسيقى، يقول : " .... ولا ترتفع جميع أنواع الموسيقى ـ لا شك ـ  إلى مستوى واحد  من الروحيّة؛ فالنفس البشرية تضم قِممًا ووهدات...وهكذا الموسيقى، إذ هي قادرة على تهدئة غرائزنا، لكنها تستطيع أيضًا أن تبثّ فيها الهياج. فهي تساعد على إيجاد النشوة السفلى والنشوة العليا على حدٍ سواء. فالطقوس السحرية التي تغلب عليها القسوة والبذاءة في الأديان السفلى لا تتم إلاّ في انتشاء جماعي، تعمل على إيجاده أنغام "التام تام"، كما كان محاربو العصور كلها يذهبون إلى المذابح على أنغام الطبول.. والموسيقى تلطّف الأخلاق ما دامت تعمل على تنقية القوى الروحية والجنسية...ولا شك في ان مؤلّفي الموسيقى يتّصفون بالسطحية أو العمق تبعًا لنوعية روحهم، كما يتّصفون تبعها أيضًا بالجدّية أو الهزل، أو بالعذاب والهدوء، ولا يستطيع كل موسيقي على السواء أن يذهب بنا إلى قمة الهدوء الروحي الذي يوصلنا إليه الموسيقار جان سباستيان باخ."
      للموسيقى مكانة رفيعة على الصُعًد الإبداعية والثقافية والروحية والنفسية، فأقاموا لها صروحًا هي دور الأوبرا الفخمة الأنيقة، وابتكروا لها أجمل الآلات وأعذبها أصواتًا وأحسنها تعبيرًا عن خلجات النفس ومشاعر القلب. وأروع ما شاهدتُ منها مؤخرًا على شاشة التلفاز دار أوبرا (براغ)  الجيكيّة. وكان فردريك الثاني ملك صقلية، ثم الإمبراطور الجرماني (1194 ـ 1250)، يُجيد العزف على الناي(الفلوت). وقبله بألفي سنة كان ملك سومري يتباهى بعزفه على أربع آلات وترية. أما النبي داوود فكان ينشد مزاميره مصحوبة بآلة وترية أحيانًا وبالناي أحيانًا. ومن دور العبادة المسيحية، شرقًا وغربًا، تنطلق أنغام  أضخم وأصغر الآلات نحو العلاء لتسبيح رب السموات والأرض، مصحوبة بأعذب وأجهر الأصوات من حناجر عباد الله تمجيدًا وابتهالاً.
    منذ مطلع شبابي ترسّخ في ذهني أن للموسيقى رسالة سامية، هي رفع المستوى الروحي والمستوى الذوقي للإنسان، وأنها تعزية للأرواح الحزينة، ومجلبة للمسرّة إلى المرهَقين والمكلومين، وأنها حافز الأفراد والجماعات على النضال في سبيل الخير والحق والفضيلة والجمال المطلق. وقد ذكرتُ آنفًا بعض أقوال عظام وعباقرة منتخصصين تؤيّد معتقدي. وأختمها برأي(رومان رولان) ـ كاتب سِيَر العظماء ـ  في كتابه عن بيتهوفن، إذ قال : " في الواقع، إنه أكثر من أن يكون أعظم الموسيقيين فقط.. إنه أكبر وأفضل صديق لأولئك الذين يتعذّبون ويناضلون."     فالموسيقى للذين يتعذّبون تعزية وسلوى، وهذا شطر من رسالتها، والموسيقى للذين يناضلون حافز وباعث في مضمارهم، وهذا شطر آخَر من رسالتها. فرسالتها إذن مقدّسة وسامية.

79
             
خَطَل سياسة الولايات المتحدة الأمريكية                                      ينعكس على شعبها
                                             
يعقوب أفرام منصور
أربيل

     كثيرون حمدوا الله ربَّهم لأنهم لم يُخلَقوا أمريكيين، لأن الولايات المتحدة الأمريكية قد طغت أشدّ الطغيان، وعربدت وأخطأت طويلاً في انتهاج تعاملها مع الشعوب بأسلوبِ دانى، في أحيان كثيرة، الإستهتار واللؤم والظلم.
     جريمتها الشنعاء السوداء في هيروشيما وناغازاكي ستظل وصمة عار أبدية، تلطّخ تاريخ صفحتها في القرن العشرين، أعقبتها جريرة خلق الكيان الصهيوني العنصري اللاشرعي الإرهابي(إسرائيل) في عامي 1947 و1948؛ إذ أدّت أمريكا على مسرحها دور التجنّي الرئيس في الموافقة على تأسيسه في عام 1947 من خلال موافقة أقليّة ضئيلة جدًا في أعضاء الهيئة العامة للأمم المتحدة ـ وليس من أعضاء مجلس الأمن  كما وجب ـ ثم الإعتراف به، بعد خمس دقائق من إعلان تأسيسه في العام اللاحق، بلسان رئيسها (ترومان)، ثم دعمها بالمال والسلاح والمقاتلين على حساب تشريد وذبح الشعب الفلسطيني ـ صاحب الحق الهضيم ـ وامتهان مقدّساته المسيحية الكثيرة والإسلامية القليلة، إستنادًا إلى وثيقة إحصائية جرديّة صادرة عن مكتب الجامعة العربية في عام 1957 تحت عنوان (محنة المسيحية في إسرائيل).
     إن  مجازرها الحربية ، طويلة الأمد، في كوريا وفيتنام، ما برحت مشاهدها تثير الإشمئزاز، وروائحها العفنة تقزّز النفوس. أما حروبها اللاحقة في افغانستان والعراق، فقد بلغت الذروة في الطغيان والعدوان، حتى إنها اذلّت أكبر إذلال مكانة المنظّمة الدوَلية التي كانت مطمح الشعوب في التعايش والحؤول دون نشوب الحروب بعد تأسيسها.
     مواقفهاالنفاقية المخجِلة إزاء تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، ورفضها  تمويل مشروع السد العالي، وإدامة الحرب الأهلية اللبنانية ستة عشر عامًا، كل ذلك حمل البرايا في الشرق والغرب، على نعت أمريكا بصاحبة " الوجه القبيح" و "راعي البقر" و "شقي تكساس".
     من معامل أمريكا ومختبراتها سُرِّب لينتشر فايروس ( الأيدز) وفايروس فلاونزا الخنازير، وفلاونزا الطيور بقصد إشاعة الوفيات  في العواصم والمدن والموانئ والصحارى في أطراف الآرض، وإغناء مصانع الأدوية والمضادّات العلاجية في بلادها والأقطار الأوربية.
     فكيف لا يحق للأحرار في العالم، وللواعين والمثقفين والعارفين أن يلعنوا أمريكا وقد أمست بشكل سافر مرتعًا لعصابات المافيا، ومسخّرة للصهيونية العالمية والجمعيات السرّية الهدّامة والمروّجة للإلحاد والجريمة منذ مئتَي عام وبوتيرة متصاعدة؟! وكيف لا تلحق اللعنة الفردَ الأمريكي بسبب هذه الموبقات  والمساوئ والشرور التي تقترفها الإدارة الأمريكية منذ سبعة عقود؟!
     كل هذا لم يشفِ غليلها، ولم تكتفِ بالدماء التي سفحتها في سبيل المطامع التي لا تعرف الإكتفاء، وبدافع الغطرسة، والأحقاد الكالحة، والنزعات العقربية، بل أردفتها بجرائم حرق البيادر في العراق، وقصف منتجعاته، و "مؤسسة النداء"، و "فندق الرشيد" بالصواريخ يوم 17/1/93، وقصفها مناطق سكنية في بغداد يوم27/6/93 بثلاثة وعشرين صاروخًا، وذلك بذريعة لم  تثبت صحتها، فهل التذرّع بمحاولة اغتيال رئيس مجرمي الحرب (بوش)، يجيز لدولة ذلك مجرم الحرب أن تُطلق صواريخها عشوائيًا على شعب ومؤسسات الدولة المتَّهَمة باطلاً بكونها مدبِّرة تلك المحاولة؟! ومتى كان كلنتون من مُحِبّي بوش؟! ألم يقل بوش في عنفوان المعركة الإنتخابية إن كلبته تفهم في السياسة أكثر من كلنتون؟! هل يخفى على العقلاء أن كلنتون قد لجأ إلى ضرب الصومال أنئذٍ والعراق أيضًا بعده بأيام في أعقاب هبوط شعبيته ومحاولةً منه لرفع مستواها، فحقّ فيه القول بكونه أتعس من سلفه؟!
     وما هو ماضي أمريكا في مجال الإغتيالات؟  كم هو عدد الضحايا الذين دبّرت مخابراتها إغتيالهم ضمن علماء الذرّة العرب وغيرهم؟ الفرد الأمريكي يستطيع أن يجيب. وإذا كان هذا الأمريكي على درجة من الوعي، ويمتلك حياءً وشرف المواطنة، فلا أستبعِد أن يقول في السر أو العلَن: ليتني لم أكن أمريكيًا.
    ولمزيد من التدليل على عدم رضا شريحة واسعة من مثقفي ومعتدلي المواطنين الأمريكيين عن سياسة وتوجّهات ومواقف الأنظمة الحاكمة في بلادهم خلال العقود الخمسة الأخيرة بعد لنكولن وولسن، عرضت قنوات فضائية حوارًا علنيًا متلفزًا جرى بين أستاذ جامعي وطالبة جامعية مع رفيقات لها أمام جمهورسامع ومشاهد، دار موضوعه حول إستفهام إن كانت الولايات المتحدة الأنريكية هي الآن أعظم دولة في العالم. فكان الرد الحاسم والمفحم من الأستاذ الجامعي أن أمريكا ما عادت الآن هي الدولة العظمى. فالذين عدّوها كذلك، كانت حجّتهم بوجود الحريات العامة التي يتمتع بها شعب الولايات المتحدة، وكان جواب الأكاديمي: إن حريات مماثلة لحريات أمريكا سائدة في كندا الجارة وفي دول أوربية عِدّة، ثم أضاف "لكننا نحن صرنا نفرح بالفواجع التي نُلحِقها بغيرنا من الشعوب، ونتباهى بالكوارث التي نُسببها لهم بانفجارات وتدمير وحرق وأمراض وفقر وامتهان وتعذيب وسلب وغزوات، وحرمانهم من الحريات التي ننعم بها، فقبل قرن لم نكن نحمل هذه السلبيات وغيرها من العيوب."
     لا ريب أن ما نطق به الأكاديمي الأمريكي في هذا المجال، يُعَدّ لسان حال  فريق واعٍ كبير من الأكاديميين، كما يشاركهم عدد غفير من العقلاء والمعتدلين ومن المستائين من مناهج السياسة الملتوية والعشوائية بتصاعد في العقدين الأخيرين، وخصوصًا في فترة ولايتي ألرئيس أوباما، وقد غدت الإنحيازية الأمريكية للباطل والتعنّت الصهيوني منذ 67 عامًا أمرًا مفروغًا منه، لكنه مدعاة استياء كبير في الشرق والغرب، إذ أعلنت إدارة أوباما مرارًا مسؤوليتها عن أمن الكيان الصهيوني برغم مظالمه وباطله وإرهابه وعدوانه السافر على سكّان قطاع غزّة؛  حتى بلغت هذه الإنحيازية وهذه المسؤولية أهم سببين لكره أمريكا وشعبها أيضًا من قِبل أغلبية شعوب العالم. فاتحيازها يعني عدم العدالة والإنصاف، ومسؤوليتها الإنفرادية المذكورة المتبنّاة تُعدّ مشاركة في جرم الطرف المتجنّي(الكيان الصهيوني)، وهذان يشكّلان أس الإضطراب والإحتراب في الشرق الأوسط بل في العالم، كما هما أقوى باعث على تفاقم الإرهاب، وتعاظم النقمة على الغرب عمومًا وعلى أمريكا خصوصًأ ـ إذ هو الأشدّ!
    فالفرد العراقي، جيّد الإطّلاع، المخلص لوطنه وشعبه، وقد اكتوى شديد الإكتواء مع شعبه بنيران الحرب العدوانية في عام 2003 التي شنّتها أمريكا، مستقطبةً دولاً أخرى أجنبية وعربية، برغم الإعتراف المتأخّر غير المجدي بخطيئة وخطأ قرار هذه الحرب ـ كما أبدى مؤخّرًا وزير العدل البريطاني لورد جارلز فوكنر في حكومة بلير) ـ انظر جريدة الزمان ليوم22  حزيران ص 1 ـ  وما نجم عنها وينجم حتى الآن من ضحايا وخراب وفساد وفقر وتهجير ونزوح واضطهاد وسبي وجرائم، تلتها المؤآمرة الخبيثة ( التي قادتها أمريكا مع دول وعناصر داخلية وخارجية) لغزوة داعش في عقر دار العراق في حزيران14 ، بعد غزوات إرهابية سابقة سلفية وأصولية وتكفيرية في تونس وليبيا وسوريا واليمن برعاية الناتو وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وأقطاب الإسلام السياسي خلال فترة الربيع العربي! ، أقول ألا يحق لكل عراقي سبق لي آنفًا وصفه ، كما يحق لكل عربي شريف أن يقول جهرًا: أحمد الله أني لستُ أمريكيًا؟! أنا نفسي قلتُ ذلك في عام 93 :كما جاء في جريدة (العراق) ليوم 29 حزيران 93، وختمته بمقولة تعبّر عن لسان حالي في ذلك الحين كما في هذا الآن، مستدركًا:
                            صاحِ، لستَ قادرٍا على صدِّ يدِ الجاني                                                                     فصبرًا ثم صبرًا، وارقب سقوطَ جدارِهِ

80
تركيا .. "خدعوها بقولهم : حسناءُ "!

يعقوب أفرام منصور
أربيل


إستغربتُ فحوى عنوان تقرير في صفحة داخلية من جريدة (الزمان) البغدادية ليوم 12/7، يقول [ تركيا تعتقل 21 شخصًا بشُبهة انتمائهم إلى داعش]، ومصدر النبأ رويترز/ وكالة الأناضول، الذي أفاد أن الشرطة التركية ألقت القبض عل 21 شخصُا  معظمهم مشتبَهون بانضمامهم لتنظيم داعش  الإرهابي، ضمنهم ثلاثة أجانب، كانوا يخططون لدخول سوريا  كي ينخرطوا في صفوف التنظيم المذكور الذي يقاتل قوات الرئيس السوري كما يقاتل الفصائل المسلّحة المعارضة للنظام السوري التي يدعمها الغرب.
    ومردّ استغرابي فحوى النبأ هو يقيني أن تركيا كانت خلال العقد الأخير أرحب حاضن وداعم لهذا التنظيم المدمِّر، وكانت أراضيها خير مرعى لأفراده وعصاباته، حتى عُدَّت جسرًا عريضًا لعبورهم إلى سوريا، وذلك  تنفيذًا لتنسيق ثلاثي خبيث لئيم بين تركيا والتنظيم الداعشي والنظام السوري نفسِه لغرض ضرب قوى المعارضة السورية والجيش الحر السوري.(أنظر مقال الأستاذ فاتح عبد السلام، المنشور على الصفحة الأخيرة من (الزمان) ليوم 1/7). كما أن القبض المذكور قد جاء إستجابةً لضغوط على تركيا ـ  كما يذكر النبأ ـ من قِبل حلفائها  في حلف (الناتو) كي تسعى السلطات التركية للحيلولة دون عبور المقاتلين الأجانب لصالح داعش من حدودها نحو سوريا ـ كما ورد يصراحة في العمود الأول من التقرير.
     وليس من المستغرب الآن أن يضغط حلف (الناتو) الإستعماري على تركيا أن تحُول سلطاتها دون عبور هذا السيل الإرهابي التخريبي عِبرَ حدود تركيا مع سوريا، بعد أن أدرك الحلف المذكور والدول الأوربية المهووسة بتطبيق مخطط تقسيم الشرق الأوسط الجديد الإجرامي الصهيوني ـ الإستعماري العولمي ـ  أقول بعد أن أدرك الحلف المذكور والدوَل الدائرة في فلكه (متاخّرين !) أنّ ضربات موجِعة إرهابية شديدة، داعشية وغيرها ،  ستنهال على العواصم والمدن الأوربية والأمريكية وغيرها، بل ستليها العاصمة التركية نفسها وحواضرها، تطبيقًا للمثل الحِكَمي المأثور: (من حفر بئرًا لأخيه، وقع فيها)، ومن أشعل نارًا لحرقِ جاره، إكتوى بلهيبها. هذا قانون حياتي، يجهله ويتجاهله الغربيون الملحدون( في غالبيتهم مع ساستهم) الناؤون جدًا عن المسيحيّة الأصيلة التي يعتنقها  مسيحيّو المشرق، كما يعرفه ويقرّه المسلمون الحقيقيون المعتدلون المجرّدون من الإرهاب والتطرّف وسلوكيات الإسلام السياسي. إذ لا يجني الزارع إلاّ ما زرع. وكما لا يُجنى من الشوكِ عِنب، لا يُجنى أيضًا من العوسج تِين!
     كي يطبّق ساسة الغرب مخطط الشرق الأوسط الجديد لتغدو أنظمته الحاكمة ثمانين بدلاً من خمسين حاليًا، خدمةً لمآربهم الأشعبية، إرتأوا في مطالع التسعينيات أن يُتيحوا المجال لإيواء أعداد غير فليلة من جيل الإسلاميين المتشددين والمتطرّفين والإخوانيين يُقدّر بالآلاف في عواصمهم ومدنهم الإنكليزية والفرنسية والأمريكية خصوصًا: لندن/لستر/ باريس/ ليون/ نيويورك وغيرها، بعد أن تشبّع الغربيون وساستهم بآراء برنارد لويس الإنكليزي/الأمريكي/الصهيوني المسمومة، وبآراء تلميذه الخبيث كيسنجر الصهيوني المعدود مهندسًا للسياسة الأمريكية العرجاء الفلجاء العشواء، ألا وهي الآراء التي تبث الفِرقة والنزاع والتكفير إلى حد الإحتراب بين جناحَي الإسلام: (الشيعة والسُنّة)، وبذا يضمن الغرب السلام والأمن والعيش الرغيد، وضمان عدم قيام الحضارة الشرقيةـ ا لعربية ـاالإسلامية. فكانت أحدث عمليات تنفيذ المخطط من خلال عمليات ثورية إنقلابية أطلق عليها الإعلام الغربي صفة " الربيع العربي" تمويهًا، فإذا هي سيول وسلاسل من أعمال إرهابية إجرامية في العراق وتونس وسوريا وليبيا ومصر كما هي جارية الآن في هذه الأقطار، وقد وصلت مؤخّرٍا  إلى اليمن والسعودية والكويت. لكن الإرهابيين ـ الذين احتضنهم الغربيون في بلادهم منذ أوائل التسعينيات ـ  سرعان ما طفقوا يقضّون مضاجع الغربيين في عقر دورهم بقيادات سيف الله بن حسين التونسي (أبو عياض)، وسيف الدين الزرفي، وأبي قتادة الأردني الذي كان يُلقي دروسًا متطرّفة قرب محطة (بيكر ستريت) في لندن، وموصوف عند الغربيين بكونه سفير تنظيم القاعدة الروحي في أوربا. فما وراء إحتضان أوربا لهذا السفير من خيرات(!)؟ وما هي مَهَمَّة مسجد (فينزبري بارك) الذي سيطر عليه (ابو حمزة) المصري السجين الأن في أمريكا؟ وماذا عن جمال بيغال الجزائري الذى عاش في (لستر) البريطانية في التسعينيات، وقًبض عليه في 2011  في دُبي عند عودته من أفغانستان ، وكان قد قضى معظم ال15 سنة السابقة في سجون فرنسية؟  وإحتفظت بريطانيا بإرهابيين نظير هؤلاء خدمةً لآجنداتها الخاصّة للربيع العربي(!) في تونس وليبيا وسوريا ومصر. لكنّ هؤلاء الإرهابيين المتطرّفين قد جنّدوا الشباب الأوربي، وأرسلوهم للقتال في صفوف داعش وغيره كما حدث في فرنسا في حزيران المنصرم وقبله بشهور في باريس، وكما قُتل 27 سائحًا بريطانيًا في سوسة التونسية؛ وهوذا كاميرون البريطاني يتوقّع هجمات إرهابية مزلزلة على بريطانيا.
    رجوعًا إلى تركيا الأثيرة  عند أمريكا بصورة  خاصّة، نجد أنها قبل أعوام قليلة من انسلاخ العقد الأخير من القرن العشرين، أقامت أمريكا أكثر من قاعدة عسكرية جوية في تركيا. وزيّن لها الغربيون الطامعون ـ عِرفانًا بفضل امتثالها لإرادة أمريكا لإنشاء القواعد على أرضها ـ بأنها ستغدو ـ كما يريدون ـ أقوى دولة مهيمنة على الأنظمة الحاكمة في الشرق الآوسط الجديد ـ وهذا لا ريب قصدٌ مبطّن: هو الوقوف حيال النظام الإيراني الثيوقراطي والمخالف لتركيا إيديولوجيًا؛ كما أمّلوها في إحتمال انضمامها الى سوق دُوَل الإتحاد الأوربي. فانتفش ريش الديك الرومي (التركي)، وبات يحلم حتى نهارًا بإعادة أمجاد السلطنة العثمانية أيام زمان، لتقف حيال إيران التي هي أيضًا تحلم ليلاً ونهارًا باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية في عهود الأخمينيين والبويهيين والساسانيين والصفويين؛ غافلين أو متغافلين أن عهود الإمبراطوريات فد ولّى إلى غير رجعة، وأن الظروف أضحت مؤاتية لإقبال عهد العولمة.
      فبرزت للوجود في تركيا نزعات لتطعيم نظام حكمها العَلماني بجرعات خفيفة من توجّهات إسلامية معتدلة رويدًا رويدًا، ذوات أغشية إقتصادية وأجتماعية من خلال حزبين حاكمين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، يحملان مسمّيات  " العدالة" و "الرفاه"، حتى غدت  تركيا في الأعوام الأخيرة من مطالع القرن العشرين موئلاً للإسلاميين المتشددين، وداعمةً للإخوان المسلمين، فكان موقفها معروفًا إزاء مصر إبان الأعوام 2012 ـ 2014 وحتى الآن في انحيازه إلى الإخوانيين  على الرغم من مساوئهم العديدة، منها الإرهاب وعدم الإعتدال والفطنة والشعور الوطني، ومؤخّرًا غدت تركيا منتجعَا ومحطّة للإرهابيين والسلفيين والتكفيريين، وقبل عامين خصوصًا أمست بشكل سافر راعيةً ومصدّرةً لأرتال وأفواج من الأرهابيين من كل حدَب وصوب ومن جنسيات عِدّة إلى سوريا والعراق، بحافز إستعادة هيبة وأمجاد وهيمنة السلطنة العثمانية ـ التي اندثرت قبل قرابة قرن ـ على أقطار الشرق الأوسط الجديد، وطمعًا في شطر من شمال سوريا كما سبق لها أن نهشت لواء الإسكندرون السوري في عام 1936 بتواطؤ مع فرنسا وبريطانيا. وتأكيدًا لإحتضان ورعاية تركيا لداعش، أضيف أن بعض المانشيتات المتلفزة نقلت أنّ عناصر داعش في العالم تحتفل بعيد الفطر هذا العام في أنقرة ! غير أنه، كما توقّعتُ في الفقرة الثالثة من هذا المقال، وبعد يومين من تنضيدي هذا المقال في 19 تموز، أُذيع نبأ وقوع عملية إرهابية لداعش في مدينة (سروج) التركية في يوم 21، وتلتها عملية إرهابية لداعش في ميناء الإسكندرونة التركية (السورية قبل 1936) في يوم 23. .
      فهل عرف رؤساء الأنظمة الحاكمة الآن في أقطار الشرق الأوسط حقيقة دور تركيا في هذا المخطط الإجرامي التآمري من خلال معرفتهم وفائع الأمور التي جرت منذ عام 2003 حتى الآن وما سوف يجري قابلاً ، كي يكونوا مؤهّلين نفسيًا وفكريًا وماديًا لإفشال المخطط الغربي ـ الصهيوني، وليحولوا دون تحقيق المرام التركي، وقبل ذلك  أن ينبذوا الشِقاق والشحناء بين الطائفتين المسلمتين، ليقولوا لتركيا اليوم وغدًا وبعده: (خدعوكِ بقولهم " حسناءُ) ؟!
   

81
المنبر الحر / مسيحيّو المشرق
« في: 13:45 30/06/2015  »





82
المنبر الحر / عجبتُ وأيّ عجب!
« في: 13:49 07/06/2015  »
عجبتُ وأيّ عجب!

يعقوب أفرام منصور
أربيل

     *  أجل عجِبتُ، للقائل بكونه يتمنّى أن يكون لتركيا دورٌ في تحرير الموصل وسهلها النينوي من وهدتهما العميقة! يبدو أن هذا القائل المتمنّي يحلم بأن تركيا ستقوم بهذا الدور من دون مكسب مقابل، غيرَ وجه الله الكريم، أو باعث النجدة والنخوة، أو حق الجيرة! كما يبدو أن القائل على جهل تام  بماضي الأتراك العثمانيين حيال العرب عمومًا، وحيال العراق خصوصًا، وعدم معرفته  بحاضر  معظم الأتراك الحاملين رواسب الإرهابيين، وجينات النزعات الطورانية ذات الرواسب الدونمية والمَندَرِسيّة والأوزالية. فما أجهل هذا القائل بذاك التمنّي!
    *  عجِبتُ، أيمُ اللهِ ،للقائلين بتقسيم وطنهم العراق الطعين المنتَهَك، وأيّ تقسيمٍ مُخزٍ، مُذِلٍ ، مُتَجَنٍ على الذات قد أضمروه! إنه لتقسيمٌ يُفرح الأعداء العديدين اللؤماء الحاقدين، ويُبكي مواطنيه النجباء المخلصين، لأن التقسيم المنشود هو تقطيع أوصال الوطن البهيّة الشريفة، وشرذمة مكوناته بحسب محافظاته الحالية، ومنذ الآن لاحت في الأفق بوادر التنازع  على أمتار وأشبار من حدود المحافظات المتاخمة بعضها لبعض! ولأن التقسيم ذو دوافع سموم طائفية متغلغلة في نخاع عظام ذوي النفوس العتيقة العليلة منذ 1400عام، حاسبين أن التقسيم يؤدّي إلى الخلاص والدعة والسلام والرفاه، متناسين أو جاهلين  دور دويلات الطوائف في فقدان العرب فِردَوسهم الأندلسي! في إيلول من العام المنصرم خاطبتُ بني قومي جهارًا: (حذارِ! ففي كؤؤس التقسيم سُمٌ زُعاف)، لكن قومي جُلّهم طرشان، مكفوفون أو يتطارشون ويتعامون، فالأعداء سيجرّعونهم السُمَّ الزعاف ممزوجًا بقليل من رحيق أو شهد! وليكن بعدهم الطوفان، وعضّ نواجِذِهم ، وصريف أسنانِهم، فانقراضهم. مع الأسف الشديد، يبدو أن دعاة وزعماء الطا ئفية يَعتبرون أقدمية الولاء للطائفة وليس للوطن ! ولا أعتقد إن أيّ دين يسمح بذلك.
    *  عجِبتُ أيّ عجب لإسناد قيادة القوات المسلحة العراقية إلى رئيس الوزراء الحالي، وعدم استقاء الدرس المفيد من خطأ كبير سا بق في إسناد هذه (المَهَمّة الحيوية الأولى في أيّ حكومة رشيدة) إلى رئيس الوزراء السالف، الذي تسبب في تسليم الموصل وسهلها إلى داعش، فكانت المغبّة لطخة أُلصِقت بالجيش العراقي، ثم كانت في منتصف أيار هذا العام مغبّة هزيمة القوات المسلّحة ، التي وصَمت الجيش العراقي وصمة ثانية؛ إنها وصمة أصابت الجيش العراقي أول مرّة في تاريخه منذ عام تأسيسه، بسبب عدم إسناد هذه القيادة إلى فرد كُفوء مؤهّل حازم، وكأنّ العراق قد خلا من الأكفّاء والمؤهّلين في هذا الميدان بالغ الخطورة والأهمية! وكأن الثقة المتبادلة ـ بين الطالب والمطلوب في هذا المجال ـ قد فُقدت تماماً، مع الأسف الشديد.
   *  عجِبتُ أشد العجب لولاء غالبية إخوتنا شيعة العراق " لولاية  الفقيه" الإيرانية، دون ولائهم للوطن أولاَ ولعروبة الشيعة الصِرفة ثانيًا،  والمعروفة والنافذة منذ القِدَم، أسوةً بشيعة العرب
                                            2
الأقحاح حتى الآن ـ كما أفصح عنها قبل أسبوع (في منتصف آيار) فضيلة السيد علي الأمين عِبرَ تلفاز (الحدث)؛ إذ إن أدبيات الشيعة العرب ترفض فكرة ولاية الفقيه الإيرانية الشيعية المنطوية   على إسلام سياسي طائفي ذي مقاصد إمبراطورية فارسية.
 *  عجبتُ ، وأيّ عجب ، لرؤيتي مثالب وسلبيات شيوخ في محافظة الأنبار، ومفاسد ونقائص
 إدارييها ووقوفهم على التل متفرّجين أو نائين عنها، ونكوص شبابهم ورجالهم عن الدفاع المستميت عن ترابهم ، وعن صون أعراضهم وكرامتهم من موجات إمتهان وغزو فلول داعش، إلى درجة التخلّي عن ديارهم، مفضّلين انتشارهم في الأردن وتركيا وأربيل وأسواقها المركزية (المولات) وبغداد، بدلاَ من واجب اقتحامهم خطوط الذين غزوهم وسبَوهم في عقر دارهم، في حين استوجب عليهم تأسيسهم حشدًا أنباريًا عنيدًا، فولاذيّ العزيمة منذ أعوام، ما دامت أزلامهم وعشا ئرهم، مُعرِضين عن قبول المدد والدعم الحشدي من إخوتهم في الجيرة والمواطنة والدين والعروبة، بل غدوتم لا أنتم تعملون الواجب ـ جهادًا واقتحامًا وصدًا ـ ولأ تَدَعون غيركم يعملون الواجب الوطني مع كون بعضهم  يحمل سلبياته  وعيوبه. فبعض الشرّ أهون من شر أعمّ وأعظم! وبات أكيدًا أن شيوخكم منقسمون على ذواتهم وأن فئاتٍ من شيوخكم وأناسكم يُؤثرون الإنحياز إلى  صفّ داعش! واأسفاه!
   *  عجبتُ شديد العجب للصفحات الثقافية والإبداعية في جرائدنا ومجلاتنا  في الإطناب باحتفالها بالنتاجات السردية وكأنها ذروة الإبداع وآيات من قمّة الأولمب، ومن طبقات سماء الإبداع التثري الوحيد القمين بالإعجاب والتثمين والسيادة على بقية ضروب التتاجات النثرية التي تهذّب النفس وتنير العقول، وتغمر النفوس بالفضائل والوجدان والبصيرة والحكمة، في حين هي مفتقرة كثيرًا إلى بعث النخوة  والحماسة والمنافحة في ظرفٍ كالذي يمرّ به الوطن الآن ـ على الأقل في مجال القصص القصيرة والقصيرة جدًا. كما أعجب شديد العجب لإفتقار تلك الصفحات إلى نتاجات شعرية ترقى أسلوبًا ومضمونًا إلى مصاف هموم وكوارث وأرزاء الوطن منذ عام سلف، ومنذ أكثر من عقد مضى، حتى خلت هذه الصفحات من شعر يغمر نفوس المواطنين، والشباب فيهم خصوصًا، بالحماسة والتحفيز وشحذ الهمم المتقاعسة لمقاومة الشرور، وللتمرد على الإستكانة والتفرّج على عبث ونفاق وأنانية ولاأبالية السياسيين المتهافتين والبرلمانيين الفارغين من إيجابيات للوطن والشعب.  أين الشعراء الذين يدّعون كونهم شعراء العرب والعروبة والوطنية في حين تخلو الصفحات الثقافية والإبداعية من نفثاتهم الآنية الفوّارة كالمرجل، ومن سياطهم على ظهور من خانوا وأفسدوا وأجرموا ونافقوا في حين هم يتنعّمون بخيرات الوطن حرامًا، ويملأون أجواءه بالبلبلة الطائفية المفسِدة في عرصات السياسة العرجاء، وتحت قبة البرلمان الضاجّة بالشحناء!
   *  وكيف لا يُذهِلني العجب، وأنا أتابع أحداث معارك بيجي والرمادي مُؤخّرًا، إذ أشاهد العروض التلفازية منغمسة في عرض مشاهد سباقات كرة القدم، ومشاهد هزلية تتصاعد قهقهاتها إلى الفضاء، وكأنّ أمور العراق وأحواله في رغد ودَعَة ونعيم! ما شاء الله على هذا الإحساس
                                                 3
 الوطني والإنساني النبيل! تساءلتُ أكثر من مرّة ، في أثناء مشاهدتي هذه العروض، : تُرى هل يستحقّ الحياة هذا الشعب؟!
       


83
رسالة إلى السيد أوباما المحترم
 رئيس الولايات المتحدة الأمريكية

تحية
   رسالتي هذه هي الخامسة إلى رئيس أمريكا، فالأولى كانت إلى الرئيس آيزنهاور في 1/5/58، نشرتها مجلة (الفكر المسيحي) في عددها لكانون الأول 1977، والثانية مفتوحة إلى الرئيس كارتر في 30/3/79، والثالثة مفتوحة إلى بوش الأب (بالإنكليزية) نشرتها جريدة (بغداد أوبزرفر) في 3/9/90 ، تجد نصّها بجانب خطابي هذا، للتفضّل بالإطّلاع، والرابعة هي المنشورة في( الثورة) في 27/2/91 ، وهي الخامسة عشرة من سلسلة  [رسائلي إلى أساطين العاالم].
    من المؤسف حقًا أن إدارة دولتكم العظمى تلوح للمتأمّل والمتبصّر والمستنتج بكونها سليبة الإرادة الذاتية، بل هي مستجيبة لحافز من هوى أو غرض أو طمع آخرين، ويصبّ في حوض صالح كيان آخَر غير الكيان الأمريكي وشعبه.  فهاهي الشعوب والأجنلس والأقوام جلّها يسمعون عنها وعن سساستها وأفعالها وشؤونها الأنباء المزعجة منذ عقود، ويشهدون الأفعال والمقترفات المنكرة، ويعلّلون ويفسّرون ما يسمعون ويرون من فضائح وجرائر تفضي إلى التجنَي على ذاتها وسكّانها أولاً، وعلى الشعوب والبشرية عمومًا، وعلى الحضارة والمدنية بأسرها. من تلك الأعمال والمقترفات ما سببته من أذى وأضرار وجرائم حرب وعدوان واضطرابات عرقية وتناحرات مذهبية/طائفية/ دينية في أفغانستان والعراق والصومال والسودان وتونس وليبيا وسوريا ومصر وفلسطين وغزة وأقطار أمريكا اللاتينية؛ وغير ذلك، كخلق تنظيمات إرهابية عدّة بالتنسيق مع المخابرات البريطانية والصهيونية (أحدها تنظيم داعش) وقبله تنظيم القاعدة" الأم"، وذلك لغرض تحقيق مخطط إجرامي، أُصطُلح عليه "خارطة شرق أوسط جديد" خدمةً لأطماع غربية وصهيونية تكون " بفضله" إسرائيل مُدلّلتُكم هي الدولة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط العتيد! فهل أنت ودهاقنة ساسة الغرب تستطيعون إنكار مسعاكم الحثيث لتحقيق هذا الغرض على حساب شقاء وعسف شعوب، وخراب مرافق ومؤسسات هذه المنطقة، واضطراب أمنها واستقرارها؟ حقًا لا أنت ولا سواك تستطيعون الإنكار، لأنّ نصوصًا موثّقة منشورة تثبت ذلك وتدحض الإنكار! أليس ذا جُرمًا، إقترفتموه وتقترفونه الآن باسم "الربيع العربي"  الذي اخترعته الصحافة الغربية المُغرضة،  وذاع صيتُه السيئ منذ عام 1910؟ فكل  هذه الأفعال العدوانية والطغيانية  والسعارية الدموية التخريبية المتجنّية قد أنهكت الميزانية المالية الأمريكية أيّ إنهاك جلب على المجتمع الأمريكي كسادًا إقتصاديًا منذ أعوام، ومضاعفة الضرائب، كما بسببه ستغدو الدولة الأمريكية بعد عقد في المرتبة الثانية من دُوَل العالم، تعادل مرتبة بريطانيا وفرنسا حاليًا، والزمن كشّاف.
    سيادة الرئيس: لقد تسلّمتَ تركةً سيئة جدًا من سلفك بوش الكارثي الإحترابي المتصَهيِن، المسيّر من قِبل المفسدين في الأرض، ضِمنهم أتباع مذهب " المسيحية الصهيونية الأصولية"، وعُرف عنه إتّباعُه سياسة حروب مُعلنة واستباقية، لكنك سلكتَ طريقًا آخَرَ  لتحقيق قوة وهيمنة بلادك، وذلك عن طريق إشعال حروب سرية وقائمة حاليًا في دول عديدة مذهلة الرقم، وقوام هذه الحروب غير المعلنة "قوات العمليات الخاصة"، التي كانت في أواخر عام 2013 منتشرة في 134 دولة، في حين كانت أقل من هذا كثيرًا قبل 11 أيلول 2001، وفي عهدك في عام 2010 كانت منتشرة في 75 دولة، والرقم الحالي (134 دولة) يعني أن حروبك السرية ليست أقل شأنًا من حروب سلفك العلنية، لكنها أكثر عقلنةً، وربما أقلّ كلفةً ، ويعني أنك رفعت حجم هذه القوات السرية الخاصة إلى أكثر من 100% بعد أحداث 11 أيلول 2001. وعلى ذكر هذا العام المشؤوم، أقول: من المؤسف أن كثيرين حتى الآن يتوهّمون أن الحركات الإسلا مية ـ العربية السلفية المتشددة هي التي ضربت بالطائرات ناطحتَي سحاب منظمة التجارة العالمية في نيويورك في ذلك اليوم، غير أنّ هذه الرواية كذبة هائلة،لأن إدارة بوش الإبن هي التي ألغمت أُسس الناطحتين لغرض تفجيرهما، وأن صور الطائرات (التي ظهرت قي الشريط السينمائي في يوم الحادث وهي تنطح الناطحتين) منتزعة من شريط سينمائي اُنتج قبل أعوام قليلة من 2001 ، مصوّرًا كيفية وقوع هجوم إرهابي مُتوقّع في يوم ما! إذ كيف يُعقَل تصوير الهجوم الحقيقي المباغِت بالطائرات على الناطحتين في لحظات الإرتطام الواقعي؟! أما المسجونون في (جوانتنامو)، المتهمون بالإسهام في الهجوم والإعداد له، فهذا للتمويه وخدع البسطاء والجهلاء، لغرض التستّرعلى من ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي الشنيع بحق الشعب الأمريكي أولاً، ثم بحق الإنسانية، وراموا من ارتكابه شن حروب استباقية على دول في الشرق الأوسط، أورد بوش أسماءها بعد ساعة من وقوع الحادث الجلل وهو ينزل من الطائرة التي أقلّته من البيت الأبيض، ذاكرًا الدول التي عزم شن الحرب عليها: أفغانستان/ العراق/ سوريا/ليبيا/ السعودية وغيرها، وقد شنّها على القطرين الأولين! إن ذكرى هذا الحدث الإجرامي الهائل، ترتبط   باستحقاق مرتكبيه والمسهمين الحقيقيين فيه أن يُحالوا إلى محكمة لاهاي الدُوَلية، وليس بسعي الإدارات الأمريكية المنعاقبة لخلق تنظيمات إرهابية تنفذ خططها، وتلبّي رغبات الكيان الصهيوني الشرّيرة، وعدم المساس به وبأمريكا وبالغرب بأيّ شكل من الأشكال العنفية، كما درجت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تفعل منذ ثلاثة عقود ـ مع الأسف الشديد . وأذكر أنه بعد عام أو عامين من2001 طالعتُ نباً مفاده أن تفجيرات 11 أيلول لم تكن من تخطيط أو تدبير بن لادن، كما لم تكن من فعل القاعدة. لقد كان المراد من تلك المنظمات الإرهابية التكفيرية أن تحصر أعمالها التخريبية/ العنفية/ التناحرية ضمن الأقطار العربية والإسلامية (فقط) في منطقة الشرق الأوسط، يساعدها في ذلك أفراد متخصصون في تدريس أنفار في كيفية إشعال الثورات والإنتفاضات، وإجراء التغييرات في الأنظمة الحاكمة في الأقطار التي عمّها الإستياء والنقمة بسبب نظمها الدكتاتورية، وتفشّي الفسادَين. فقد فعلتْ هذا في تونس وليبيا وسوريا ومصر منذ ثلاثة أعوام، وقبلاً في أفغانستان، وفي العراق منذ عام 2005، وإبان فترة حكم المالكي الحالكة وقعت من الفظائع والجرائم من قِبل التنظيمات الإرهابية الأصولية المتطرّفة ما يعدو الحصر عددًا، ويتجاوز الوصف هولاً وفظاعةً. أليس في عهدك أخرجتْ وكالة المخابرات  المركزية الأمريكية أبا بكر البغدادي من أحد السجون العراقية، وجنّدته دولتك ،ودرّسه (مكين) الأمريكي الفقه والشرع الإسلامي ( كما أظهرت شاشات الإنتر نيت العالمية)، ثم تفقّه وتدرّب لدى الموساد الصهيوني، ليفعل ما فعل من الهوائل الآن وفي عهد حكم المالكي وفي سوريا منذ عامين، وصولاً إلى إعلان نفسه خليفة للدولة الإسلامية؟! كانت أعمال الإدارة الأمريكية ومن آزرها ووالاها في خلق داعش أعمالاً ماكرة نادرة المثال في ميدان الإجرام السياسي. لكن المكر السيئ يحيق بأهله، ولو آجِلاً. فأحسستم الآن ـ بعد إمهال مقصود ـ  خطورة التمادي في إرخاء العنان لهذا التنظيم الدموي المتخلّف، لأن رشاشه سينوشكم ويبلغ أقصى أطراف المعمورة، فارتأيتم الآن إنشاء حلف دُوَلي لمقاومته ودحره قبل فوات الأوان. وعسى ان تتوفّقوا في ذلك المسعى الحميد.
      إنّ عدم امتلاك الإدارة الأمريكية إرادتها الذاتية الرشيدة، في سياستها الخارجية، منذ عقود، جعلها  تتخبّط في تبنّي مناهج التصرّف والتعامل مع القضايا الخطيرة والمصيرية والدُوَلية، وخير مثال على ذلك هو نشاطكم في استخدام جماعة الإخوان المسلمين (المعروفين بعنفهم وإرهابهم وعدم وطنيّتهم، لأنهم أصلاً غير مؤمنين بعقيدة وطنية) في بعض الدول العربية وخصوصًا في مصر،لإيصالهم إلى سدّة الحكم، وبذلتم في سبيل ذلك هِبات مالية سخيّة، ومساعيَ، وشحنًا طائفيًا وعقائديًا، ودعوتم أقطابهم إلى زيارة واشنطن لتلقينهم ما ينبغي أن يفعلوه لينتزعوا انتصار الثورة المصرية2011/2012 من جماهيرها الشعبية الحقيقية، ورفدتموهم بالمال قبل وفي أثناء حملة الإنتخابات الرئاسية، وتزوير نتائجها لصالح حزب النور والعدالة الإخواني. وبذا قد أسأتم إلى مصر تلبيةً لإرادة الكيان الصهيوني، كما ألحقنم الضرر بسمعة أمريكا وبالخزينة الأمريكية. ثم رأيتم ورأت الخلائق حقيقة وجوهر وشناعة أفعال هذه الجماعة المتخلّفة فكريًا ونفسيًا. فهل تدري كم من اللوم إنهال على إدارتكم لتسببكم في ذلك؟!
     الجماعات المتشددة التي تدَعي "الجهاد"، لم تضرب يومًا إسرائيل في العمق بطلقة واحدة: لا القاعدة أيام ين لادن، ولا بقية الجماعات الجهادية السلفية العربية السنّية العديدة التي انبثقت من رحم أو معطف القاعدة السلفي، فجماعة (أنصار بيت المقدس ) خصوصًا لم تقم بأي عمل لينطبق على إسمها وشعارها الجهادي داخل الكيان الصهيوني لتخليص بيت المقدس من إساره، بل هي ـ كما تعلم وغيرك يعلمون ـ تقتل أفرادًا من الجيش المصري والشرطة المصرية. فهل هذا من الجهاد في شيء؟! أليس إحجام هذه الجماعة عن قيامها بالعمل المنشود منها دليلاً على اتفاق متبادَل مسبق وبعلم إدارتكم؟!
     كل هذه الأفعال التحضيرية للإرهاب والعنف والبلبلة المنشودة بقصد تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي مساوئه الجسيمة تقسيم كل قطر عربي وإسلامي إلى أربعة أقسام أو أكثر، لتغدو كيانات هزيلة تحقق إمكانية وجود الكيان الصهيوني أقوى من بقية الكيانات؛ ولا ندري من عيّن أمريكا والغرب والصهاينة أوصياء على مقدّرات وشؤون ومستقبل الشرق الأوسط ، ليجعلوه مختلفًا وجديدًا، كي يُصار إلى تحقيق الأغراض الأنانية المفرطة الغالبة على نفسية الغرب والصهيونية العالمية؟!
    سيادة الرئيس أوباما: حبّذا لو اتّبعتْ إدارتك سياسةً من شأنها أن تكون أمريكا صديقة الشعوب، بدلاً من صديقة الحاكمين الذين تُزكّي تنصيبهم على الكراسي ثم تعمل على خلعهم واستبدالهم، فصداقة الشعوب أسلم وأفضل لكل الأطراف، ولا يعود لأمريكا أعداء يكرهونها، ومن الكراهية تتولّد خلايا العنف والإرهاب ضدّها. فنصف مسببات تولّد التنظيمات الإرهابية وخلايا العنف ضدّ دولتك هي عدم جدّيتك في الإشتراك مع الإتحاد الأوربي في مسعى حل معضلة الشرق الأوسط ، لا بتقسيمه لتفتيت كياناته الحالية، بل حلاً يبدأ من أسّ القضية، وهي الإعتراف بدولة فلسطين العربية بمقتضى نصوص قرارين صادرَين عن مجلس الأمن الدُوَلي بعد حرب عام 1967. إذ بعد حلّها ستتلاشى موجة العداء نحو أمريكا، ويليها إضمحلال نزعة الإرهاب حِيالها ونحو الغرب، وخلافًا لذلك ستمكث حواضن العنف والإرهاب والتكفير والسفك فاعلة ومتحفّزة إزاء الغرب في أقطار الشرق الأوسط ، خصوصًا وأنّ مولّدات عنف وإرهاب أخرى ـ قبل قضية فلسطين وإطالة وتسويف عملية حلّها بشكل مقصود طيلة خمسة عقود ـ ناجمة عن جشع أمريكا وبطرها وأنانيتها المفرطة، ونزعة هيمنتها على مقدّرات الشعوب، وتدخّلها في شؤونهم.
المرفق/ نص إنكليزي لرسالة مؤرخة في 3/9/90
                                                           يعقوب افرام منصور
                                                          العراق / اربيل  12/9/14
     
                                     
¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬         

84
للظروف والأحوال مقالات صحافية تناسبها
يعقوب أفرام منصور
 أربيل

      كما أن لكل مقام مقال، هكذا يكون لكل ظرف أو حال أو أزمة أو حدث جَلل مقال يناسبه. فعندما تداهم الوطن موجات عارمة من غزو وعدوان وامتهان، يجدر أن تنبري وسائل الإعلام ـ وأهمها الصحف اليومية ـ للتصدي لها شجبًا وانتقادًا وتحليلاً ومنافحةً وتعبويًا من خلال نفثات وإبداعات أقلام كتّابها الكثيرين اليوميين، فتحفل بها الأعمدة والتقارير والأركان والزوايا العديدة المتنوعة في الجريدة أو المجلة، قاصدة بها بعث الحميّة في نفوس أبناء الشعب في الذود عن عزّة وحياض الوطن ومصائر أبنائه، وصون سؤدده، والتفاعل مع أحداثه وهمومه وشجونه، وتشخيص التخاذل والقصور والخطأ، ومطالبة السلطات المعنية بمحاسبة المتخاذلين والمقصّرين والمخطئين والمذنبين، كما عليهم أن يُشيدوا بأعمال البطولة والتضحية والأستبسال والنجدة والنخوة.
     لكن إسهامات الكتّاب الدائميين، التي يغلب عليها الطابع الصحافي، لا تفي بالمرام المنشود في تحقيق المقاصد الآنف ذكرها لتلبية حاجات الوطن المصيرية المادية والروحية، ومطالب الشعب الحيوية في حالات من اشتداد الضرام وتفاقم الأخطار والكوارث والمصائب والمهالك والمجازر؛ إذ هنا تبرز قضية إلتزام أرباب القلم من مثقفين وأدباء وكتّاب ضمن المبدعين في مجالات الشعر والنثر بضروبه من رواية وقصة ونقد ومقال وخاطرة  وأمثال وسِيَر وتراث تدور في فلك إنهاض الهمم وبعث الحماسة، وإيراد قدوة حسنة، وإقبال على النجدة والإغاثة والمؤاساة والإنقاذ والإيثار.
    بعد العاشر من حزيران ، ويعد العاشر من تموز، غدا الوطن والشعب في وضع عصيب كارثي، حزين، مؤلم، مثخَن بالجراح، ووضعه هذا كان ـ في تقديري ـ أشدّ هولاً وعسرًا من الوضع الذي أعقب 9/4/2003. إنه وضع سوداوي مشؤوم، وأحسبه الحلقة الثانية من مخطط لقصد الغرب الطامع والصهييونية العالمية في إيذاء العراق في الصميم وطنًا وشعبًا. إنه لبيتٌ وسيع في مأتم كبير! فهل يليق بأحد القادمين إلى مجلس عزائه أن يذكر للحاضرين إنه قرأ قصيدةً ما .. ونشر فلان كتابًا ما ..وشاهد عَرضَا ..  أو أن يسرد نكتة أو مثلاً يستدعي ابتسامة أو ضحكة، أو أن يُلقي خطابًا، أو أن يحكي حكاية غريبة عن جو المأتم السائد آنئذٍ؟!
     في هذا المجال، أقول: لاحظتُ أن الكتّاب المواظبين في أعمدة جريدة (الزمان) لصفحاتها 2ـ8 لم يثقصّروا في ما أغنوا به الجريدة من نتاجاتهم المتنوعة التي لم تترك جانبًا من الجوانب الي ألمّت بوطنهم من حيف وضيم وكارثة، حتى إني احتفظتُ بأغلب مجزؤاتها، إعتزازًا بها وتثمينًا إياها، وللرجوع إليها أحيانًا.
     أما الصفحات (أ ـ ي) من الجريدة، فلم تكن محتوياتها على مستوى محتويات الصفحات 2 ـ 8 أبدًا. وقد آلمني كثيرًا ان ألاحظ هذا البون، لأنه عنى أن عددًا كبيرًا من المبدعين ( أدباء ـ شعراء ـ كتّاب) لم يكونوا ملتزمين بقضية الوطن الآنيّة التي أجدها في غاية الصعوبة والخطورة. وكي أدلل على صحة رأيي، أحيل القرّاء عمومًا والمبدعين من الشعراء والأدباء والكتّاب خصوصًا إلى مطالعة عناوين ومضامين صفحات (أ ـ ي) لشهرَي تموز وآب، وأستثني من محتوياتها ( قصائد سائحة 23/8 لكاظم الجبوري) و (في الهم العراقي 9/7  لباقر الكرباسي) و (الحدباء لا تنحني 9/7 لعبد اللرضا اللامي) و (حوار الثقتفات 9/7  للزمان ـ الشارقة).
    أهكذا تكون عناوين ومضامين الصفحات ( أـ ي) خلال الفترة، وهي قصيّة جدًا عن إفرازات الظرف العصيب المأساوي، حينما يكون الوطن والشعب في مأتم جسيم: قاتم جهنمي ملتهب، خذلان، دمار، حريق، إنفجارات، براميل متفجّرة عشوائية تقتل أبرياء وتهدم مرافق وليس الأعداء وأسلحتهم، نزوح، تهجير، تسليب، قطع رؤوس، إختطاف، نبش قبور، هدم جوامع ومزارات وتماثيل رموز ثقافية وتراثية، إحراق كنائس وآلاف من مخطوطاتها، مذبحة سبايكر، مجزرتا بعقوبة والحلّة. وفي حين لم تكن صفحات (أ ـ ي) للعامين 2004 و 2005 على المستوى المنشود أصلاً، جاءت هذه الصفحات عينها لشهرَي تموز وآب /14 في مستوى أدنى من سابقتها قبل عشرة أعوام!
     عند الأنسان السوي المؤمن الوطني، عزيز وحبيب هو الله البارئ قبل الوالدَين ثم الوطن.وها هو الأخ علي عزيز السيد جاسم، قد رفع صوته في خاتمة مقاله على ص 4 من يوم 25/8، قائلاً في شأن( مذبحة سبايكر) : [ ... وعلى الجامعات والمثقفين والأدباء أن يعمل كل واحد منهم ما يستطيع من موقعه لكشف الحقائق وعدم التعتيم على المذبحة الكبرى...] .غريب حقًا أن نقرأ عن هذه المذبحة مقالاً تفصيليًا لكاتب مغمور إسمه حسين محمد الفيحان، نقلاً عن أحد الناجين من الهلاك، في ص 13 من يوم 27/8،  وفي أسفله قطعة شعرية لشاعر مغمور يُدعى عبد صبري أبو ربيع من مهجره الدانماركي!
    الجفاف وعدم العطاء والتفاعل من لدن المبدعين من الشعراء والأدباء والكتّاب في نظير هذه الأحوال العصيبة المأساوية المصيرية التي يعجّ عجيجها  في الوطن المنكوب، ويتصاعد صراخها، وتتعالى إستغاثاتها، وتسيل دماؤها، لهيَ  أشبه بالمقيمين في أبراج عاجية عالية،غافلين عمّا يدور حولهم من أحداث وفظائع؛ أو كالواقفين على التل متفرّجين على ما يجري حيالهم من أهوال منكَرة من غير أن تصدر عنهم كلمة مؤاساة أو غضب مقدّس أو أن يهتزّ لهم عصب؛ أو كمن قد أُخِذوا بِسِنَةٍ من النوم! لكن هل يعرف الوطنُ النومَ، لا سيّما في مثل هذا الآن؟!

85
المنبر الحر / صخرة المسيح
« في: 23:04 28/07/2014  »
صخرة المسيح
يعقوب أفرام منصور
أربيل
أخي في الإيمان بالإله الواحد وباليوم الآخِر                                                               
أخي في المواطنة وفي الإنسانية الشاملة                                                                 
 أخي في التعايش الأمثل، وفي تطبيق وصيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر                     
أخي حَسَن النوّاب
      تحية
      طالعتُ مقالك الموسوم(المسيح مشرّدًا)، المنشور قي الصفحة الأخيرة من (الزمان) ليوم 22 تموز 14، فراقني محتواه وأسلوبه، وأكبرتُ فيك روحية المواطن الصالح، والمؤمن المنفتح، والإنسان المثال، وقد استدرّ في موضعٍ منه عبرتَين من مدمعي، تعبيرًا عن انفعالي وتفاعلي وتقييمي، برغم هفوتك في مطلع المقال، حيث نسبتَ إلى أم المسيح إسمَ (مريم المجدلية)، إذ هذه المريم هي شقيقة (لعازر) الذي أقامه المسيح من القبر قبل أيام قليلة من صلبِه.
     أما بعد، فأقول: قال المسيح لِهامَة حوارييه، المدعو(صخر= بطرس و سمعان) إنه يبني كنيستَه على صخرةٍ، لن تقوى عليها أبواب ألجحبم (إنجيل متّى 18:16). والمقصود ب "أبواب الجحيم" مشروح في الهامش: كناية عن السلطة والقدرة التي بيدها الربط والحل والتحريم والتحليل بإسم الله في مسائل العقيدة والأخلاق وغفران الخطايا للناس أو إمساكه عنهم.(ط 5 منشورات المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت 1977.)
     وفي موضع آخَر، قال المسيح عن الحجر الذي رذَلَه البنّاؤون (المذكور في المزمور 117 الآية 22) وقد صار هذا الحجر رأس الزاوية: " إن من وقع على ذلك الحجر، تهشّم، ومن يقع الحجر عليه يرضّه" (إنجيل لوقا 20/ 18ـ20). والتاريخ المدني والكنسي خير شاهد على تحطّم وثنيّات عديدة: رومانية/ فارسية(زرادشتية)/كنعانية وغيرها في مساعيها المتجبّرة الجائرة لتحطيم هذه الصخرة الإيمانية بوسائل شتى من الإضطهاد والمنع: القتل والحرق وطرح بعض اتباع السيد المسيح أمام الضواري لافتراسهم، وخلع مناكبهم، وحزّ رؤوسهم وتقطيع أوصالهم. وإذا قد حفل تاريخ الكنيسة الطويل بملايين الشهداء، في سبيل الثبات على عقيدة أبنائها، في موجات عارمة من العنف والإرهاب والفتك والسفك، فدماء وعذابات الشهداء كانت وستبقى حتى منتهى الدهر [ بِذار الحياة] لإنتشار المسيحية واستمرارها طيلة هذه القرون.
    للشاعر الضريرـ أعشى قيس النصراني ـ صنّاجة العرب، بيت شعري، من المناسب إيراده هنا في مجال مقاومة " الصخرة" الإيمانية المذكورة في عنوان المقال :
              كناطِحٍ صخرةً يومًا لِيَفلِقَها        فلم يَضِرها، وأوهى قرنَهُ الوعِلُ
   أجل. ستلبث صخرة المسيح صامدة، وستتفتت جميع القرون التي تنطحها، والسهام التي ترشقها، والسيوف التي تهطرها من قِبل قوى وزُمر وعصابات البغي والجور والتكفير الظلاميين الذين يسيرون القهقرى، والشياطين المجنّدين في العمل لصالح المفسدين في الأرض : " اليهودية العالمية" ـ والدة الصهيونية الإسرائيلية، والمتخرّجين في جامعة الثلاثي المخابراتي الشرّير: أمريكا ـ بريطانيا ـ إسرائيل، الذي أنجب داعش وأنصار بيت المقدس(!) ـ كما كشفت عنهما شبكات الإنترنت والصحف االعالمية مؤخّرًاـ وقبل هذين التنظيمين الإرهابيين، وما بعدهما من زُمر التقتيل والتفجير  والتهجير والإبتزاز والتهديد والإكراه، وكل ذلك لخدمة الأطماع والمرامي الغربية العولمية! فهؤلاء الإرهابيون لم يقوموا يومًا بعملية واحدة داخل الكيان الصهيوني لنصرة الشعب الفلسطيني المنكوب بالإحتلال، ولأجل إنقاذ بيت المقدس وقبة الصخرة والجامع الأقصى. لماذا؟! لأنهم صنيعة الثلاثي المخابراتي الإرهابي المذكور أنفًا، الذي أوكَل إليهم تخريب وتقسيم الأقطار العربية ــ الإسلامية (الشرق الأوسط) إلى مزيد من الكيانات لتغدو هزيلة كارتونية، وإلهأء وإشغال الأنظمة الحالية بأحداث جحيم ذلك " الربيع الأهوج الإجرامي الأسود !"، الجاري حاليًا ومنذ ثلاثة أعوام، بدلاً من توجيه عملياتهم الإرهابية نحو أمريكا وبريطانيا وإسرائيل! هل أدرك ساسة أقطار ألشرق الأوسط هذه الحقيقة، أم ما برحوا نائمين نومة أهل الكهف؟! وإذا أدركوا، فماذا فعلوا ويفعلون وسيفعلون؟!
     قبل يوم من صلب السيد المسيح، وفي أثناء العشاء الأخير مع تلاميذه ـ الذين مثّلوا أتباع المسيح بعد قيامته وارتفاعه، كما يمثّلون أتباع المسيح اليوم وفي المستقبل، خاطبهم قائلاً: " ستأتي ساعةٌ، يظنّ فيها من يقتلكم أنه يقرّب إلى الله قربانًا. يفعلون ذلك بكم لأنهم لم يعرفوا أبي ولا عرفوني. وما أنبأتكم بذلك إلا لتذكُروا، إذا أتت الساعة، أني قُلتُه لكم." ( إنجيل يوحنا 16/ 1ـ4)
     أخي حسن النواب: ما جرى مؤخّرُا لمسيحيي الموصل، وقبلاَ لمسيحيي بغداد والبصرة، وما جرى ويجري حاليًا ومنذ عامين لمسيحيي سوريا ومصر، هو هذا الذي نطق به السيد المسيح في يوم الخميس قبل الجمعة العظيمة! إنه جارٍ منذ عشرة أعوام بكل حذافيره! والعالم الغربي يتفرّج على مسيحيي الشرق في مآسيهم واضطهادهم وتهجيرهم، وساسةالغرب وشعوب الغرب هم مسببو كل هذا الحيف والإضطهاد لمسيحيي الشرق الأوسط.
    عليَّ أن أشكر نظيرَيكَ الموصليَين السيدين أحمد الصراف وأحمد خيري العمري على مقاَليهم ألمبردًين من الموصل. الأول لِمقالِهِ المرسَل في 23 تموز والمعنون( أخرجوا ايها المسيحيون من أوطاننا !)، والثاني لمقاله المرسَل في 21 تموز والمعنون (شريطان لرهائن الكنيسة) حيث أفصح الكاتب عن رأيه [ إن المسيحيين العراقيين لم يكونوا قط اقلّ وطنيّةً من بقية العراقيين، بل تستحضره مواقف كثيرة كان فيها بعض المسيحيين أكثر وطنيّةً من أغلب العراقيين، وشعورهم بعراقيتهم دفعهم إلى أن يكونوا مع العراق ضدّ محاولات الأنفصال والتقسيم، وهو ما جعلهم يدفعون ثمنًا غاليًا، وهذا مسكوت عنه أيضًا .. لا أحد يتحدّث عنه للأسف.]
     لكنّ ما يحزّ في نفسي عميقَا أن صوتًا واحدًا لم يصدر عن رجل دين مسلم موصلي يشجب فيه ويدين جريرة الإرهاب التكفيري والتهجيري المرتكَبة بحق مواطنيه المسيحيين، في حين أن مفتي تركيا في 23 تموز أعلن عاليًا أن تهديدات الإرهابيين بقتل المسيحيين تمثّل خطرًا على الحضارة الإنسانية، كما صرّح أن الخلافة الإسلامية غير شرعية وغير مرتبطة بواقع. كما لم يصدر صوت مماثل عن فرد يمثّل الجماعة النقشبنديّة، ولا عن شخص يمثل الضبّاط العسكريين المتقاعدين، والمسموع عنهم بكونهم وطنيين وقوميين. كما حزّ في نفسي كثيرًا مشاهدتي الشريط الذي أظهر إرهابيًا ينهال بالهراوة على ساقَي شاب ضربًا وكسرًا لأنه ارتدى بنطالاً محرّمًا (!) فلم ينبَرِ له فردُ يملك من الشجاعة ما يوقف بها الإرهابي عن فِعلته،  حتى لو استشهد الفتى الشجاع في هذا السبيل!

86
الطوفان العظيم بين الأسطورة والواقع التاريخي

يعقوب أفرام منصور
أربيل                                                                                                                                           
     في ص 14 من جريدة (الزمان) البغدادية الصادرة في 12/7، طالعت المقال المعنون (الطوفان في الأدب المندائي)، حيث ورد أن الباحثين يرجّحون حدوث الطوفان في القسم السهلي الرسوبي من جنوب  العراق في زمن يُقدّر ب 3500 عام ق.م. ـ أي قبل 5500 سنة. ويتساءل كاتب المقال ألأستاذ سميح داوود فائلاً " فهل كان الطوفان حدثًا تاريخيًا وقع فعلاً، أم أنه من باب الخيال الأدبي الذي جادت به قريحة الكتّاب العراقيين القدما؟ ".
     ومعلوم أن " حدث " الطوفان مذكور في المدونات المسمارية الرافدينية، كما ورد ذكره أيضًا في سفر التكوين التوراتي، وتفاصيله في هذا السفر كثيرة الشبه بالمدوّنات الرافدينية المسمارية التي يغلب عليها الطابع الأسطوري.
     وفي حين يبدي الكاتب أن " جميع المؤشرات" تؤكّد أن الطوفان قد حدث حقيقةً، وترك بصماته وتُيأثيراته على عقول وتصوّرات الناس في السهل الرسوبي المذكور آنفُا، يستطرد قائلاً إن الطوفان مذكور في الأساطير الإغريقية، كما في كتاب الصابئة المندائيين المقدَس (كنزا ربّا) الذي ينص على (مرور البشرية بمرلحل تدمير هذا الطوفان).
     في اعتقادي إن المغزى الذي يُستقى من الأساطير الوثنية، كما من نصوص الكتب المقدسة التوحيدية، هو أن تفاقم شرور وآثام البشر، وما اكتنفها من فساد وسفك، قبل مولد الأنبياء بقرون عدّة، بسبب الإبتعاد عن سبل الحق والعدالة والصلاح، كل ذلك قد استوجب غضب الله البارئ على خلائقه الآدمية، فشاءت مشيئة الخالق غسل البسيطة المسكونة من كل أرجاس وأدران ومفاسد  الأرض.
     لكن الإكتشافات العلمية الحديثة ـ بخصوص هذا الحدث الطوفاني الهائل، الذي غيّر وجه الأرض والتاريخ البشري ـ أثبتت بالأدلّة القاطعة أن " طوفان نوح" قد حدث فعلاً قبل زهاء 7600 ـ7500 سنة، أي فبل زهاء 2000 سنة من التاريخ الذي أورده مقال (الزمان) : 3500 سنة ق.م.، ولكن ليس في السهل الرسوبي  من جنوب العراق فقط ، بل قبلاً وفي منطقة واسعة جدًا، محيطة بالبحر الأسود الحالي من كل جوانبه، شملت أصقاعًا فسيحة من جنوب أوربا شمالاً، وأرجاءً من آسيا الصغرى (ألأناضول) وبلاد ما بين النهرين (الهلال الخصيب) جنوبًا.
     عن هذه الحقيقة، صدر كتاب علمي اكتشافي باللغة الإنكليزية في عام 1999 لمؤلّفَيه العالمين الجيوفيزيائيين (وليم ريان) و (والتر بتمان) في 320 صفحة؛ وصدرت ترجمته العربية في عام 2005 في بغداد عن (مطبعة النهار الجديد) لناشريه مجلة الفكر المسيحي البغدادية، وبيت الحكمة، بغداد، عنوانه (طوفان نوح)، ترجمه فارس بطرس، وراجعه أولاً وأشرف عليه وقدّم له الأب الدكتور يوسف توما رئيس تحرير المجلة المذكورة، وراجع ترجمته ثانيةَ كاتب هذا المقال.
    لقد فتّش علماء الآثار في حوضَي دجلة والفرات، طولاً وعرضًا، باحثين عن دليل على نظير هذا الطوفان، لكن بلا جدوى. ثم عندما حقق علماء الأرض إكتشافات جديدة بخصوص تاريخ تغيّر المناخ السريع، علموا أن البحر الأبيض المتوسط كان في وقت ما صحراءَ، وأن المحيط الأطلسي إندفع بقوّة من خلال مضيق جبل طارق، وأعاد ملء البحر الأبيض المتوسط قبل خمسة  ملايين سنة مضت.  فطرح الجيوفيزيائيان (ريان) و (بتمان) تساؤلهما العلمي: هل ممكن أن يكون أصل قصة طوفان نوح كارثة مشابهة وأكثر حداثةً ؟
    بعد انتهاء الحرب الباردة بين الدول الغربية الرأسمالية، وبين دول المعسكر الإشتراكي، أُتيح للعالِمَين (ريان) و (بتمان) أن يكوّنا فريقًا بمعيّة علماء محيطات من بلغاريا وروسيا وتركيا، لاستكشاف البحر الأسود (بحر البنط). وباستخدامهما الأجهزة الصوتية والتنقيبية لِسَبر قاع البحر ، إستطاعا إكتشاف دليل واضح على أن هذا الجزء الداخلي من المياه كان في وقت ما بحيرة وسيعة للمياه العذبة، عمقها مئات الأقدام تحت مستوى محيطات العالم . وأثبتت التنقيبات المتطورة لتحديد التاريخ أنه قبل 7600 سنة سلفت، إندفعت البحار المتعاظمة من خلال وادي البوسفور الضيّق، وصبّت مياه البحر الأبيض المتوسط المالحة في البحيرة المذكورة بقوة لا يمكن تصوّرها، متدّفقة فوق الشواطئ والأنهار، ومدمّرة أو مطارِدة جميع أشكال الحياة في طريقها. وقد أصبحت عموم " البحيرة"ـ التي كانت قبلاَ واحة فريدة وجنّة عَدْن لحضارة متقدمة في منطقة شبه صحراوية وسيعة ـ بحرًا من الموت، فهرب السكّان منه إلى غير رجعة (ص 11 ـ12). 
     لقد تسنّى للباحثَين العالمَين المذكورين استكشاف الأدلّة الآثارية والوراثية واللغوية المثيرة التي أفضت إلى أن الفيضان قد تسبب قي حدوث تشتت بشري سريع، إمتدّ إلى غرب أوربا، وآسيا الوسطى(تركيا الحالية) والصين ومصر والخليج العربي، وإلى أن شعوب البحر الأسود يمكن أن يكونوا أصل السومريين الذين أسسوا أول حضارة في بلاد ما بين النهرين ـ منبع حضارة العالم (ص 12) .
     فهل يمكن أن يكون الناس الذين هربوا من فيضان البحر الأسود، ثم نسلهم، قد حافظوا لآلاف السنين، على القصص التي غدت لاحقُا الأساطير المعروفة لدينا اليوم؟ فالباحثان في كتابهما يُطلعان القرّاء على أن رواة قصص الفيضان ـ وهم أمّيون ـ درجوا في القرن العشرين على سرد ألاف السطور من الحكايات التي تمّ تناقلها بأمانة كبيرة خلال الأزمنة. وبذا، فهما في الكتاب يناقشان أسطورة الطوفان العظيم كرواية شفاهية محتفظة بذكرى الحادثة المأساوية : الحدث المُمَيّز الكبير في تاريخ البشرية. فلا ريبَ أن لطوفان نوح جذورًا عميقة وقويّة في العِلم المعاصر، إذ هي قصة مذهِلة وتلقي ضوءًا جديدًا على جذورنا، وتعطي معنى متجددًا للأساطير القديمة (ص 12).
     جديربالملاحظة هنا أن سفر التكوين التوراتي يذكر أن مياه الغَمر العظيم " قد تفجّرت من اللجج العميقة في باطن الأرض، وهطلت من السماء مدرارًا وبغزارة متواصلة طيلة أربعين نهارًا وليلةً . أنظر بداية الفصل السابع من السفر. وهذه المياه عذبة، في حين أن المياه التي ذكرها العالِمان كانت مالحة وقادمة من البحر الأبيض المتوسط بدفق وزخم شديدين لتخترق  مضيق البسفور، وتملأ البحر الأسود المنخفض مستوى مائه العذب أصلاً، ولتغمر أصقاعًا شاسعة جدًا.
     في هذا الصدد، أقول: شاهدتُ قبل زهاء شهرين شريطًا سينمئيًا عن طوفان نوح في أربيل، ومما جلب انتباهي أن قرينة نوح أصرّت على بعلها بالسماح لإحدى "بنات الناس" أن تدخل الفلك وهو بعدُ في قَيدِ صنعه لتغدو قرينة أحد أبنائهما الثلاثة، وذلك بقصد استمرار تناسل الجنس البشري بعد الطوفان، لأن نوحًا كان قد هرم أنئذٍ وبلغ عمره 600 سنة. لكن قرينها رفض إرادة حليلته، لأن بنت الناس تلك كانت من ضمن الناس المغضوب عليهم ومن الأثمة والأشرار الذين كتب الله عليهم أن يهلكوا بالطوفان؛  لكنه نزل عند رغبنها واعتذر لها! في حين أن سفر التكوين التوراتي يذكر إن الفلك قد ضمّ ثلاث نساء من بنات الناس هنّ زوجات أبنائهما الثلاثة! (الفصل 7:7)
      والآن، وقد بُلِّغَت البشرية بالرسالات السماوية الثلاث، وبلغ مدرج الحضارة هذه المرتبة الحالية من الإرتقاء، وفي ظل شرعة حقوق الإنسان، لكن مع كل ذلك قد عمّت المفاسد، وشاعت المحرّمات، وسادت المآثم والجرائم والمظالم كل أرجاء المعمورة، فبلغت ألف ضعف ما كان سائدًا   أيام طوفان نوح، ألا تستحق أرضنا اليوم أو وشيكًا طوفانًا أعظم ومن نوعٍ آخَر ؟!

87
الشجرة المنخورة و "الرجُل المريض"
                                                                                                                          يعقوب أفرام منصور
     تفاءل كثيرون من رؤساء ومرؤوسين وعموم الشعب العراقي ببزوغ شمس النظام الحاكم الذي أسس أركانَه أزلام بوش، مقترف جُرم الحربين الظالمتين على أفغانستان والعراق، في حين أدركت قلّة ضئيلة أن التغيير ـ الذي بدت معالم نُشدانه واضحة وضوح الشمس في رابعة النهارـ لا يبعث على التفاؤل والإطمئنان إلى مستقيل مريح ومشرِّف، لأن تلك القِلّة قد حباها الله بقسط من نعمة الحكمة، ومن هِبة التبصّر وصواب تحليل الأمور، وصحة توقّع النتائج عن أخطاء قاتلة، وبواعث فاسدة طامعة، ووسائل خبيثة وأفكار طائفية لبلوغ المقاصد من التغيير الذي شاؤوه وسعى إليه أقطاب عديدون كوقئوا على مساعيهم من الأجانب حينما كانوا يسعون خارج وطنهم سعيَ العِطاش الى السلطة، وسعي َ المستميتين في سبيل اعتلاء الكراسي وتبوّء المناصب. ولهذا كثيرًا ما ردّد شخوص من تلك القئة القليلة، غير المتفائلة آنئذٍ، مقولةً مأثورة ـ أرجّح أن مَن أعمارهم في حدود الأربعين لم يسمعوا بها، وهي [ الشمس من مطلعها تبينُ] ، ومؤدّاها أن شروق الشمس في أوّله ، ودرجة سطوعها وصقاء ما يحيطها يدلاّن على مدى صَحوِ وجودة طقس النهار أو ساعاته الأولى في الأقل.
     أجل. لم تشهد تلك القِلّة منذ الوهلة الأولى بعد أيام قلائل من 9/4/2003 بوادر مُشرقة تبعث على التفاؤل والإطمئنان إلى مستقبل أفضل في العيش والسؤدُد والأمن،  وتأكّد للقلّة ذلك التشاؤم وفقدان الأمل في قدوم  الأفضل بعد أن أسفر مخاض تلك البوادر عن ولادة (مجلس الحكم)، سيئ الصيت،  ولادةً متعسِّرة وغير شرعيّة، لأن الوليد لم يكن " إبن حلال" بسبب تولّده من صُلب أجنبي، وخروجه من رَحِمٍ فاسد ومجهول النَسب  والمخبَر.
    ولما عاب المتفائلون الكثيرون على القلة تشاؤمَها، كظمت غيظَها وامتعاضَها من جهالة المتفائلين، ومن جَرَيانهم الحثيث خلف السراب لإجتناء المكاسب والمغانم والمناصب، سرعان ما أسفرت أعوام (مجلس الحكم) عن مآسٍ وكوارث ومهازل وإذلال من الداخل والخارج،  وعن أحداث دموية، سرّت الأعداء، وأبكت الأصدقاء والمخلصين للوطن. وعللت القلة نفسَها بالتصبّر والتريّث لمولد البرلمان الهُمام ، وإذا بمجلس الشعب هذاـ وهو وبمنزلة الرقيب والحارس على سلامة وصحة الدولة والوطن ـ قد ضمَ في دورتيه حتى الآن أعضاءَ تغلبُ على أكثر من ثُلُثَيهم عدم الكفاية والإخلاص والأهلية لأداء المهام التشريعية الضرورية لتلبية حاجات الشعب المشروعة وطموحاته؛ فالإنسان ـ كما يُقال ـ يُعرَفُ من فِعله، والبرلمان في الدول المتحضِّرة المتعافية في مقدوره إسقاط أيّ حكومة فاشلة في أداء واجباتها نحو الوطن والشعب عن طريق سحب الثقة من الحكومة تلك. كما لم يخرج من معطف البرلمان الموعود وزراء ورؤساء أكِفّاء على المستوى المنشود الذي يحتاج إليه المواطنون أشد الإحتياج، لأن البرلمان أثبت خُلُوَّهُ من هذه القدرات. وكيف لا يخلو منها لما كانت الإنتخابات البرلمانية في دورتها الثانية غير أمينة ولا نزيهة؟ وكيف لا يخلو منها في الدورتين وقد تخلّل تلك الأعوام الثمانية سلسلة طويلة من اغتيالات الحقوقيين والأطبّاء والمفكربن والإداريين، فضلاً على مبارحة القطر الكثير من أولئك القديرين والمؤهلين بسبب تردّي الأحوال الأمنية والإغتيالات والإقصاء والإلغاء ببواعث طائفية  وفكرية وثقافية؟! هذه أخطاء كبرى وجناية على الشعب والوطن. فكيف يكون التغيير نحو الأفضل مع ارتكاب هذه الأخطاء الفظيعة؟!
     كان البرلمان أشبه بساحة مباراة غير شريفة بكُتَلِه العديدة، فغدت في حَلَبَة تصارُعِها وتهافتها وانشغالاتها الفئوية كأفرقة متناحرة ومتنافسة باحتدام، في حين أعرضت عن الإهتمام بتحسين أوضاع الشعب البائسة المزرية، إذ كان أعضاء تلك الكتل يتطارشون عن سماع الإحتجاجات الجماهيرية والنداءات والإستغاثلت وتوجيهات الصحف الوطنية  والشاشات التلفازية، متناسين هموم الشعب الذي بأصواته الإنتخابية وصلوا إلى البرلمان ليؤدّوا ما عليهم من واجب الخدمة المخلصة للشعب والوطن؛ لكنهم تغافلوا عن رؤية مشاهد المآسي والتشرّد وعيش مئات الألوف من الفقراء والمعدمين في العراء وفي بيئات مغمورة بالقمامات والمياه الآسنة والجرذان والكلاب السائبة الجائعة. أما أفواه أعضاء البرلمان إزاء تلبية حاجات شرائح الشعب ، فمغلقة بإحكام، لكنها عالية النبرة في أثناء المحاججات المتبادَلة بين الكتل، والرد على الإنتقادات الفئوية والإعلامية الموجّهة إليهم، كما كانت عالية الصوت في مطالبهم المُغرِقة في الأنانية، ومنها ما يُضحِك ويُدهِش، كمطلب الرواتب التقاعدية عن خدمة في دورة برلمانية واحدة، فكان مطلبًا عجيبًا غريبًا، وخصوصَا وأن ضمن من وقّعوا في التصويت عليه إيجابًا كان السادة رئيس الوزراء ووزير حقوق الإنسان  ووزير العدل!
    أحوال هذا البرلمان القاصرة عن تحقيق مطالب الشعب الضرورية المشروعة، وأداء هذه الحكومة الهزيل أمنيًا واقتصاديًا وإداريًا وعدليًا، واتّسامها بالتقّرد في الرأي والإدارة والتدبير، ولجوئها إلى الكذب أحيانًا، وعدم الإعتراف بالخطأ ومن غير تصحيحه، وعدم الإعتذار للشعب عن صدوره واستمراره، وعدم الإستجابة لمطاليب الجماهير الغفيرة المُضنَكة التي وصلت أصواتها إلى عنان السماء ...كل هذه الأفرازات الرديئة والمساوئ الصارخة التي أظهرت عدم الأمانة في أداء الواجب، وكشفت عن التقصير في تقديم الخدمة الواجبة للوطن وشعبه، وتواصل عمليات الإرهاب  بشكل متفاقم، ولّدت عواملَ أوصلت الوضع في الوطن المنكوب إلى درجة من العجز عن انتشاله وإنقاذ شعبه من الوهدة العميقة التي أوقعته فيها طيلة عشرة أعوام عجاف ، زخرت بالسواد والمآتم وانتشار الجريمة والعوَز والفقر حتى دون مستواه المتعارَف عليه عالميًا، وتضاعف التلوّث البيئي، وبلغ مستوى الفساد المالي والإداري  حدّ الدرك الأسفل ـ ومع ذلك من غير معاقبة مقترفيه ومسببيه!
     أمسى النظام الحاكم وبرلمانه كشجرة منخورة، لا تعطي ثمرًا ولا ظِلاً، وشبيهًا ب " الرجُل المريض"، وهو الوصف الذي أُطلق على الدولة العثمانية الإمبراطورية قبل عقود من انقراضها. قبل أيام قلائل قال الأخ ماجد الكعبي قي جريدة (الزمان) : إذا فسد العلم في دولة، يُقرأ عليها السلام ، فقلتُ في صمتي : أنا وغيري كثيرون : قرأنا السلام قبل أعوام! والدليل على الشجرة المنخورة هو تشخيص إصابتها بعلل الدكتاتورية والهيمنة والفساد المستشري وإلغاء الآخَر ـ كما أبدى الأخ فاتح عبد السلام في (الزمان) الصادرة في 19/2/14. 
     ما أحوج ولاة الأمر والنهي والمسؤؤلية  ـ في كل زمان ومكان ـ  إلى تذكّرهم مقولة إتّقاء دعوات المظلومين، ومقولة الإتّعاظ بمصير الظالمين السابقين! وما أحوجَكَ يا عراق إلى هبّةٍ مُضَرِيّةٍ قعساء من شعبكَ المُضام!
                           

88
مستقبل الجنس البشري
                                                                                                             يعقوب أفرام منصور
     في 6 آب 1945 ، إقترفت الإدارة الأمريكية، في عهد رئيسها ترومان، أبشع جريمة شهدها العصر، ألا وهي إلقاء قنبلة ذرّية على مرفأ (هيروشيما) في جزيرة (هوتشو) اليابانية، نجم عنها (160) ألف إصابة بينَ قتيل وجريح ومُشوّه، وأعقبتها جريمة مماثلة في 9 آب على مرفا (ناغازاكي) في جزيرة (كيوشو) اليابانية، ونجم عنها (80) ألف قتيل.
     عند انتهاء الحرب مع ألمانيا في 7 أيار 1945، كانت الأغلبية العظمى من العلماء المسهمين في صنع القنبلة الذرّية، ترى عدم استخدامها ضدّ اليابانيين الذين كانوا على وشك الإندحار في الحرب، والذين لم يكونوا أبدًا يشكّلون خطرًا على العالم، يوازي خطر هتلر، فتقدّم كثيرون من تلك الأغلبية باعتراضات ونداءات مُلِحّة إلى الحكومة الأمريكية، دعوا فيها إلى تفجير القنبلة في صحراء، بعد إعلانها عن التفجير، بدلاً من استخدامها سلاحًا حربيًا ذا تدمير شامل، كما دعوا إلى وضع السيطرة على الطاقة النوَوِية في المستقبل في أيدي سلطة دُوَلية، وقد حرّر سبعة من أبرز علماء الذرّة ( تقرير فرانك)، ورفعوه إلى وزير الحرب الأمريكي في حزيران 1945.
للفيلسوف المعاصر (برتراند رَسِل)كتاب في غاية الأهمية والجدوى لمستقبل الجنس البشري على كوكبنا، وعلاقة هذا المستقبل بِتِقنِيّة السلاح، عنوانه (هل للإنسان مستقبل؟)(1)  ألّفه في عام 1961، وهو بمثابة خطاب وجّهه الفيلسوف إلى مئات الملايين من سكّان الأرض، بلا تمييز بين شرق وغرب، وبلا فروق بين الأقوام من حيث اللون والعقيدة والأنظمة السياسية والإقتصادية والأقاليم ( بحسب التقسيمات السياسية التي أدّت إلى أسباب تفرقة سكّانها), وقد أعرب المؤلف نفسُه عن تقييمه مضمون (تقرير فرانك)، قائلاً : " هذا التقرير وثيقة بعيدة النظر تستحق كلّ إعجاب، ولو أن الساسة وافقوا على العمل بها، لما وقعت أحداث الرعب التي توالت علينا بعدئذٍ".  جاء في التقرير:    "إن النجاح الذي حققناه في الحصول على الطاقة النَووية أعظم، بدرجة لا حدّ لها، من جميع المخاطر الناتجة من جميع مخترعات الماضي". وفي حين أن التقرير أبدى إستحالة بقاءِ سرٍّ مكتوم طوال الزمن، وأن روسيا ستتمكّن حتمًا من صنع قنبلة نَوَوية خلال أعوام قليلة، فقد استطاعت روسيا أن تحقق ذلك في أربع سنوات بعد فاجعة هيروشيما ". ويضيف رَسِل: إن السنوات اللاحقة قد حققت، بشكل يثير الرعب ، صحة اعتقاد التقرير الذي نصّ:     "إذا لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق دُوَلي فعّال، فالسباق للحصول على الأسلحة النَوَوية ( اي القنبلة الهيدروجينية) سيبدأ   جديًا في الصباح الذي يعقب أول استعراض يظهر فيه امتلاكنا السلاح النووي. بعد ذلك ، قد تحتاج الدول الأخرى إلى ثلاث أو أربع سنوات للتغلّب على تخلّفها عنّا بسبب سبْقنا لها إبتداءً ...وإذا كانت الولايات المتحدة أول من يُطلق هذه الوسيلة الجديدة للدمار العشوائي على الجنس البشري، فإنها ستفقد الإسناد الشعبي في جميع أرجاء العالم، وتثير عجلة سباق التسلّح، وتُلحق ضررًا بليغًا باحتمالات التوصّل إلى اتفاق دُوَلي للسيطرة في المستقبل على مِثلِ هذه الأسلحة" (ص 34).
     هذا كان رأي أغلبية العلماء الذين عملوا لصنع القنبلة الذرّية، وكان (نيلس بوهر) ـ أبرز فيزيائي يومئذٍ بعد أنشتاين، فناشد كُلاً من شرشل وروزفلت، بمنتهى الجدّية، أن يستجيبا إلى تلك النداءات، بيدَ أنهما لم يعيرا أيَ اهتمام لمناشدته. وعندما توفّيَ روزفلت، كان خطاب مناشدة (بوهر) موضوعًا على منضدة روزفلت في ظرفه المغلَق! ومما عرقل جهود العالم في هذا المنحى الإنساني النبيل أن الساسة الكبار وأساطين الإستعمار والتسلّط والجنرالات عدّوا العلماء نائين عن واقع العالم، ومبتوتي الصلة بالحقيقة، وعاجزين عن إصدار أحكام واقعية تتعلّق بالشؤون السياسية!! غير أن التجارب المريرة المؤسفة لاحقًا أكّدت أقوال العلماء، وكشفت أن العلماء ـ وليس الساسة والجنرالات ـ  هم الذين كانوا مدركين حاجة البشرية الماسّة (ص 35).
    بعد كارثة هيروشيما وناغازاكي، أوجد علماء الذرّة الساخِطون ( نشرة علماء الذرّة)، واصلوا فيها الإفصاح عن النظرة السليمة حِيالَ السلاح الذرّي والحرب الذرّية حتى أوان تأليف كتاب برتراند رَسِل في عام 1961 (أو بعده؟)  مع العلم أن رَسِل ألقى خطابًا في مجلس اللوردات البريطاني في 28/11/ 945، أفصح فيه عن وجهة نظر مماثلة، من حيث الجوهر، لتلك الواردة في ( تقرير فرانك)، ولم يكن آنئذٍ قد اطّلع عليه بعدُ، بَيدَ أن خِطابَه إلى المجلس المذكور لم يظهر منشورًا إلا في محضر وقائع مجلس اللوردات ـ الجزء المرقم 138. وعلى الرغم من هذا التعتيم التام على الخطاب، ومواقف الساسة والعسكريين الكبار، المأخوذين بِهَوَس الحرب والتدمير والإبادة، كرّسَ الفيلسوف رَسِل أيام حياته الباقية لدعوته النبيلة للسلم، وأدّت به دعوتُه تلك إلى اقتياده إلى السجن وهو في التاسعة والثمانين، وأسس من أجل ذلك ما عُرف ب "حركة بكواش " (Pugwash Movement )، وكانت وفاته في عام 1970. ومن المعلوم أن برتراند رَسِل كان معاصرًا للفيلسوفَين الوجوديَين مارتن هايدغر ألألماني وسارتر الفرنسي، وعاشا بعده، ولكن لم يؤثَر عنهما  موقفٌ إنساني مُشَرّف مُماثل لموقف رَسِل المشار إليه آنفًا. لكن لا بُدّ أن مفكّرين آخرين كانت لهم مواقف مشابهة لموقف رَسِل.
    من مشاكل عصرنا المستعصية أنه كلما ازدادت المهارات الفنية، وتطوّرت الطرائق التِقنيّة سراعًا، تضاءلت واضمحلّت الحكمة البشرية، وقد تصل يومَا إلى حد الجزر الأدنى. وخيرُ دليل على ذلك هو انحسار الحِكَم والأمثال في عصرنا، وتضاعف الخَبْل والجنون بأشكال وفنون عِدّة، منها جنون التسلّح، وهَوس التدمير اللامحدود إلى حد تدمير الإنسان نفسه. في هذا الصدد يقول رَسِل مُتأسِّفًا عميق التأسّف : " لم يبدُ على الساسة والرأي العام، سواء في أميركا أو روسيا أو بريطانيا أو فرنسا، أي أثر من تلك الحكمة، بعيدة النظر، التي جاءت وحيًا على ألسن خِيرةِ  العلماء، حبن كانت الكراهية تُعتَبَر مُرادِفًا للوطنية آنذاك ( أي في عام 1945)، وارتُؤيَ أن الإعداد للحرب هو الوسيلة الوحيدة لحفظ السلام، ووُضِع العالم في اتّجاه مغلوط، وتحرك في السنوات اللاحقة أبعدَ وأبعد على الطريق نحو الكارثة"، وذلك بعد استنباط القنبلة الهيدروجينية التي قوتها ألف مرّة من قوة القنبلة الذرّية ـ كما ثبتَ من الإنفجار الذي وقع في (بكيني) في 1/3/ 1954.
     قبل خمسة عقود، قال رَسِل في كتابه المذكور:" إن بعض الأشياء التي كانت وما تزال واضحة للمعنيين بأخطار السلاح النَوَوِي : أحدها هو الحاجة المُلِحّة إلى نزع السلاح النَووي، والثاني هو أهمية إيقاف التجارب  النَووية، وثالثها الخطر الكامن في السياسة الحالية الداعية إلى الإنتقام الفوري، والرابع هو منع انتشار الأسلحة النووية إلى الدول التي لم تحصل عليها بعدُ، وبالرغم من الإجماع على لزوم العمل وفقَ النقاط الأربع المذكورة، لم يتحقق شيء بالنسبة لأيٍ منها." وها نحن الآن، بعد انصرام تلك العقود، لم يتحقق شيء من تطبيق تلك النقاط لضمان سلامة مستقبل الجنس البشري.
    إن أهمية إلغاء التجارب النَووية تكمن في قضيتين، أولاهما أن الإلغاء سيجعل انتشار الأسلحة إلى دول جديدة ، أصعب مما في حالة استمرار التجارب، وثانيتهما أن الإلغاء سيضع حدًا للآفات المرضية( الناجمة عن تساقط الغبار الذرّي) في حالة ديمومة السلم، مع العلم أن التجارب النَووية حتى عام 1958 زادت من الوفيات الناتجة عن السرطان، ومن الأطفال الذين وُلدوا مُشوّهين أو متخلّفين عقليًا وجسديًا.
    ويستطرد رَسِل قائلاً: " إن الحكومات تصرف مبالغ معيّنة على البحوث الخاصّة بمنع السرطان، ولكنها تصرف مبالغ هائلة للتسبب في حدوثه. أما مدى وعدد الإصابات بضرر الجينات من جرّاء التجارب"، فحدّث عنه ولا حرج، قكيف يغدو هذا الضرر الجيني، حجمًا وبشاعةً،  في حالة وقوع حرب نَووية؟! من المناسب جدًا ـ يقول رَسِل ـ توجيه هذا السؤال إلى السادة المرفّهين الذين يتأملون بهدوء وسكينة إمكان الإنفجارات النَووية" ثم إلى  "معتنقي   مبدأ الإنتقام الفوري بالقنابل الهيدروجينية، الذي سرَت دعواه بصراحة في الغرب، ومن المحتمل أن الشرق أخذ به أيضًا". في هذه الحرب قد تكون نهاية الجنس البشري، أو في أحسن الظروف الممكن تصوّرها، ستؤدّي إلى " إشتراكية النكبة !". ص55
    إستنادًا إلى رَسِل، إن أغلبية ساحقة من العلماء البارزين قامت بما فيه استطاعتها لمكافحة الخطر النَووي ، وقد حال الساسة والجمهور والصحف دون الإطّلاع على مساعي العلماء بشكل واسع، وأحد تلك المساعي قد تمّ بمبادرة من الكونت برنادوت، حينما إجتمع عدد من أبرز رجال العلم الغربيين في جزيرة ماينو (Mainu )، وبعد أعوام من الإجتماع وفي 15 تموز 1955، وقّعوا البيان الآتي:                                                                     
 " نحن الموقّعين على هذا النداء، علماء من بلاد عديدة وعناصر متباينة وعقائد مختلفة ومعتقدات سياسية متفارقة، لكننا نشترك جميعًا في امتياز الحصول على جائزة نوبل للسلام. لقد أسعدنا أن نكرّس حياتنا لخدمة العلم، لأننا نعتقد أن العلم هو طريق الحياة الأكمل للجنس البشري. ولكن يُرهِبُنا أن نُدرك أن هذا العلمَ نفسَه هو الذي يُمَوّن الإنسان بالوسائل لتدمير نفسه. فالحرب الشاملة وباستخدام الأسلحة المتيسّرة الآن قد يُصبِحُ العالَم ملوّثًا بالإشعاع الذرّي، فتؤدي معها الحرب إلى تدمير أمم بكاملها، وإبادة المحايدين والمتحاربين على السواء. وإذا ما دخلت الدول الكبرى في حرب، من ذا الذي يضمن أنها لن تؤدّي إلى مثل هذا الصراع المميت ؟ وهكذا ستدعو أية دولة تثير حربًا شاملة الى تدمير نفسها وتهديد العالم بأسرهِ". ص66                                                                                                                                                                                                                  وفي الشهر الأول من عام 1958، رُفعت عريضة إلى الأمين العام الراحل (داغ همرشولد) في هيئة الأمم المتحدة، أعدّها الدكتور ( لينوس باولنج)، وهو من أنشط العلماء في البحث عن سُبل تقليل خطر الحرب النوَوية، حثّ فيها على عقد إنفاقات لإيقاف التجارب كخطوة أولى نحو إلغاء الأسلحة النَووية، ووقّع على مسوّدة العريضة 9235 عالِمًا. ومما ورد في مطلع العريضة :
     "إن كل قنبلة تجري تجربتها تنشر عناصر إضافية  مُشعّة على  كل أطراف العالم، وكل زيادة في كمية الإشعاع تُلحق أذىً بصحة الإنسان أينما وُجد على الأرض، وتسبب ضررًا لمجموع خلايا البلازما البشرية، مما يؤدّي إلى زيادة عدد الأطفال الذين يولدون متخلّفين في المستقبل ".
     وجاء في الفقرة الرايعة من العريضة:                                                                                                   " إن التوصّل إلى إتفاقية دُوَلية لوقف تجارب القنابل النَووية الآن قد يُؤلّف الخطوة الأولى نحوَ نزع السلاح بشكل أعم، ويؤدّي في النهاية إلى القضاء على الأسلحة النَووية، ويَحول دون احتمالات الحرب النَووية التي ستكون نكبة على البشرية كلها ". ص67 . كان هذا موقف العلماء والمفكرين منذ البداية حيال الموضوع، واستمرّ حتى الآن، ولكن كل تلك الجهود النبيلة والمواقف الحكيمة وما أعقبها حتى اليوم قد ذهبت بددًا كصرخة في وادٍ وكحرثٍ في البحر!
      لقد وضعت الحكومة الهندية تقريرًا،أعدّه رجال علم مُؤهّلون تمامًا، عنونوه " التفجيرات النَووية وأثَرها" ، ونشروه في دلهي عام 1956. ولما كان التقرير موضوعيًا وجديرًا بالإعجاب والإعتماد عليه، فقد جاء مُخالفًا لأغراض الساسة في الشرق والغرب، ولم يُلفِت نظر الصَحافيين الذين تهمّهم الأنباء المثيرة، بالرغم من ظهور الطبعة الثانية من التقرير في عام 1958 . ولذلك لم يُعرف عن مُحتواه إلا النزر اليسير في الشرق والغرب.
      وقبل عام من التقرير الهندي( أي في آب 1955)، عُقد إجتماع مهم في لندن " للرابطة البرلمانية من أجل حكومة عالمية"، حضره أربعة ممثلين من الإتحاد السوفييتي، وممثلون عن جميع الدول الأخرى المستقلّة، وشارك في الإجتماع علماء وفلاسفة وإجتماعيون،وجاء الروس بروح صداقة تامّة، نظير بقية المشاركين، وجرى الترحيب بهم من قِبل الأعضاء الغربيين بشعور مماثل من الصداقة، واتّضح حين تقدّم المباحثات أن شؤون العالم لو أوكِلت إلى مثل هذه المنظّمة، لخَفَّ التوتّر بين الشرق والغرب بسرعة، ولأمكنَ حلّ كثير من المسائل التي وَجدت الحكومات أنها غير قابلة للحل من غير أن يتنازل أيّ طرف من الأطراف عن مصالحه الحيوية. وفي نهاية المناقشة، اُتُّخِذ القرار الآتي بالإجماع:                                                                                                 " إذ إنّ هنالك خطرًا الآن في أن تُستَعمل الأسلحة النَووية في أيّ حرب عالمية تقع في المستقبل، وبما أن مثل هذه الأسلحة تُسبب معاناةً ودمارًا لا حدّ لهما، فإننا نهيب بحكومات العالم أن تدرك وأن تعترف عَلَنًا أن أهدافها لا يمكن أن تتحقق بوساطة الحرب، وعليه فإننا ندعو إلى القيام فورًا بفحص مدلول التطوّرات العلمية الأخيرة بالنسبة إلى البشرية عمومًا، وأثرها في تقدّم الوسائل السلمية لتسوية المنازعات الدُوَلية كافّة ". ص69
    بيدَ أنّ جوّ التفاؤل السائد آنئذٍ (عام 1955) بدّدته الحكومات الغربية التي بادرت إلى سحب مقترحاتِها حولَ نزع السلاح حالَما وافق عليها الإتحاد السوفياتي على غير انتظار. وأعقب ذلك أن الإتحاد السوفياتي إتّبع الأسلوب نفسَه في منع التوصّل إلى معاهدة تحربم إجراء التجارب النَووية. وهذا هو ما تشاهده البشرية الآن ملءَ السمع والبصر، وما يلازمه من قلق وخوف وتلوّث بيئي وإشعاعي مدَمِّر مُهلِك، وتصاعد حراري.
     لقد رأى العلماء، وما زالوا يرون أن عامّة الشعب وكثيرًا من الأشخاص في مواقع السلطة، لم يُدركوا ما ستؤدّي إليه الحرب بالقنابل النَووية. فعامّة الناس ـ كما قال رَسِل ـ ما تزال تفكّر في نطاق إبادة مدن من وجه الأرض. فإذا كانت قنبلة (ذرّية) واحدة قد أفنت هيروشيما، فقنبلة هيدروجينية (أي نّووية) واحدة تقوى على إزالة أكبر المدن من الوجود نظير لندن، نيويورك، موسكو. إن تِقنيَّة إنتاج السلاح ـ إستنادًا إلى معلومات موثّقة ـ قادرة على إنتاج قنبلة نووية تبلغ قوة تدميرها قوة (2500) قنبلة ذرّية دمّرت هيروشيما. ومثل هذه القنبلة، إذا فُجِّرت قربَ سطح الأرض أو تحت الماء، أرسلت جُسيمات صغيرة مُشِعّة إلى طبقات الجو العليا، ثم تهبط تدريجًا وتصل إلى سطح الأرض بشكل غبار أو مطر قتّال.ص73.
      وأحسن الثقات أجمعوا بأنّ حربًا بالقنابل الهيدروجينية يُحتمل أن تنهي الجنس البشري من الوجود. فهي تؤدّي إلى موت شامل، يقضي فورًا على أقلّية فقط ، ولكنه يأتي على الأكثرية بعذاب بطيء من المرض والإنحلال والتفسّخ. وهذا يعني ان الموت الفوري أهون كثيرًا من هذا العذاب البطيء! وقد تَبيّن أن الأشخاص الأكثر إطّلاعًا على هذه النتائج، بل الكوارث الجماعية الهائلة، هم الأكثر تشاؤمًا!
    على اليشر أن يُدركوا أن المشاكل بين الشرق والغرب، أو مشاكل أخرى مماثلة أو مغايرة : عنصرية، لونية، شمالية، جنوبية إلخ... يجب أن تُحسَم بأساليب التفاهم والتحاور، يسودُها روح السلم والتسليم بالحقوق الصريحة الواضحة النائية عن الأنانية الموغِلة، والكراهية والعجرفة، وليس بأساليب الإحتراب بأفتك الأسلحة تدميرًا وإبادةً.      فهذه حقيقة جلِيّة وصارخة، يتوجّب أن يعتبرَها ويفهمَها جميع الأطراف والشعوب.                                     _________________________________________________                                  (1) الناشر: شركة التايمس للطبع والنشر المساهمة ـ بغداد/ 1985
   
    .
    ا

89
أثر الديانات السماوية في المكوّنات الفكرية
 في البصرة القديمة
                                                       
يعقوب أفرام منصور
    تبيّن لي مؤخّرًا أن كثيرين من أحياء جيلنا الحالي في العراق لا يعلمون أن البصرة القديمة ـ قبل تمصيرها في عام 14 هجري(636م)  ـ حوت مسيحيين كثيرين من عرب وسريان ونَبَط أرومةً، منذ أوائل القرون الميلادية، علاوةً على يهود وصابئة وهنود وفُرس.  فقد أفادنا الدكتور أحمد كمال زكي في كتابه الموسوم (ألحياة الأدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري)، (1) أنّ من الخطأ إغفال حقيقة وجود ضروب من الثقافات وفدت إلى البصرة مع آثار المسيحية واليهودية والصابئية، فقد كان حَمَلة الفلسفة اليونانية بوجه عام نصارى قبل كل شيىء، إذ كان اليهود والمسيحيون  والصابئون منتشرين في الدولة الإسلامية العربية، وكان في البصرة عدد كبير من قساوسة ورهبان يُحاججون المسلمين في قضايا المِلل والنِحَل؛ ولما علِم أبو الهُذَيل العلاّف بقدوم أحد اليهود إلى البصرة، أعيا بجدلِه متكلِّميها، ذهب إليه وناقَشَه في أمور عقائدية، فأفحمه.
   ومن المعلوم أن مجلس الحسن البصري كان يغشاه رهبان النصارى ليسمعوا منه. وكان "النظَّام" يحفظ الإنجيل  إلى جانب التوراة، ويستطيع تفسيرهما؛ وكان يحيى (يوحنّا) النحوي الديلمي فيلسوفًا نصرانيًا في عهد الخليفة علي(ر)، وألّف كتابَا في الردّ على أفلاطون وأرسطو، ومنه أخذ الطب خالد بن يزيد بن معاوية ( ص 143- 144 ).
    نتج عن هذا الإتصال والإحتكاك والتقابس والتثاقف إصطراع العقليات والآراء، مما ألجأها إلى الأخذ بأطراف الثقافة المختلفة. وفي حين كان النصارى السريان، على اختلاف نِحَلِهم، عاكفين على ترجمة الفلسفة اليونانية، كانوا أيضًا يشتغلون بالجدل والمناظرة مع المسلمين، ولم يقتصر تعليم مدارسهم على المواضيع الإيمانية، لأن الدارسين كانوا معنيين بمؤلّفات أبقراط وجالينوس في الطب. وقد أثمر هذا الإحتكاك ثمارًا طيِّبة، تمثّلت في عكوف كثيرين من السريان على الترجمة، فأضافوا بذلك إلى التراث العربي آثارًا جليلة جمّة الفوائد لإغناء الفكر العربي، ولترقية الفنون وازدهار الحضارة العربية، " وما نزال نتذاكرها إلى اليوم " (ص 147).
    وكانت آراء أناكساجوراس وديموقريطس في الذرّة موضوعًا دسِمًا لمتكلِّمي اليصرة،كما كانت نظريتهم في الكون ومدَبِّره مَعِينًا دافقًا، وجد فيه المعتزلة دليلاَ على حدوث العالم. فأصحاب الذرّة قالوا إن العالم كلّه جواهر فردة ( أي ذرّات) متجزّئة إلى ما لا نهاية، وبينها جميعًا خلاء تتحرّك فيه بدون أن تتداخل بعضها في بعض، وكل تُغيّر فيها مرجِعه إلى عقل يصل ويفصل ويحرّك ويسكّن. والعلم الحديث ـ كما يعرف العلماء والمطّلعون ـ أثبت إمكان تجزئة الذرّة (الجوهر الفرد). ويرى الدكتور زكي أن المعتزلة تكلموا عن الإنسان وحقيقته كلامًا أُخِذ عن آراء فلسفية " تُعزى لأفلاطون وأفلوطين والرواقيين، ولكن لا يمكن إغفال أثر القرآن هنا بالذات، إذ إن المتكلّمين كلّهم، لاسيّما أبا  الهُذَيل والنظّام، قد حرصواعل تأييد آرائهم بآيات من كتاب الله". ـ (ص 141).
    أما عن أثر النَبَط( البابليين والآشوريين) في مجال الثقافة والفكر البصريين في القرنين الهجريين الأولين ولاحقًا وفي كل أرجاء وأقاليم الدولة العباسية، فقد أفاد " الشهرستاني" صاحب كتاب ( المِلل والنِحَل) عن  "من له شُبهَة كتاب" إنه كان للبابليين والآشوريين والهنود نظرات في كيفية الخلق والإبداع وتسوية المخلوقات في نظام تحصل منه حكمة الخلق الأزلية، وتنفُذ فيه مشيئته السرمدية، وأشار إلى بعض المسالك التي جاء بها إبراهيم، أبي المؤمنين للهداية فعُرفت له، وأُتيح لها البقاء بعده.(ص 121).
    وفي حين أنه غَير واضح تمامًا ما آل إلى البصريين من أمر تلك العقائد، يميل الدكتور زكي إلى الزعم أن النَبَط قد حفظوا شيئَا من تراثهم، وتعصّبوا لكثير من موروثاته القديمة، إذ نعثر على آثار ذلك التعصّب لدى صابئة البطاح، وذلك ظاهر في خلطهم مذاهب اليهود والنصارى بوثنيّة البابليين وثّنّوِيّة الخير والشر، ولما جاء الإسلام أدخلوا على آرائهم بعض تعاليمه، ثم جمعوا طقوسهم ودوّنوها في كتاب، معتمِدًا في ذلك الزعم على الدكتور مراد كامل في " تاريخ الأدب السرياني".    (ص 122).
      أما عدد سكّانها المسيحيين الأصليين في مطلع القرن العشرين، فاستنادًا إلى ما كتبه (لوريمر) عن البصرة "2" في كتابه الموسوعي "دليل الخليج "ـ القسم الجغرافي، الذي جمع معلوماته فريق من موظفي الحكومة الهندية خلال الأعوام 1903ـ 1908، فقد كان حوالي 2500 نسمة من مذاهب مختلفة، مقابل 2000 نسمة من اليهود. ويفيد الأستاذ الربّان البحري كاظم فنجان الحمامي في مقاله المدعوم بالصوَر، والمنشور في جريدة (المستقبل العراقي) تحت عنوان (البصرة تفقد كنائسها العتيقة) أن البصرة الحديثة حوت زهاء 20 كنيسة وديرًا، لكنها تناقصت، بسبب تردّي الأحوال السياسية والطائفية، خلال العقود السبعة الأخيرة، حتى بلغت في عام 2013 خمس كنائس مع دير لراهبات التقدمة؛ وأقدم هذه الكنائس هي كنيسة اللاتين للآباء (الكهنة) الكرمليين.
     والذي أعلمه أنا هو أن الآباء الكرمليين(نسبةً إلى جبل الكرمل في فلسطين) وُجِدوا في البصرة قَبلَ أن يُوجَدوا في بغداد، وأن عدد الكنائس المسيحية حاليًا في شطرَي المدينة ( العتيقة والجديدة في العشّار) يبلغ زهاء 10 ، مع العلم أن إثنتين، في الأقل، في البصرة العتيقة ( حيث أحياء السيمر والسِف والباشا والسبخة وجسر الغربان وغيرها) قد أُخليتا تمامًا. أما إسم البصرة الحالي والمتداوَل منذ تمصيرها في العام 14 هجري (636 ميلادي)، فمأخوذ من الأصل السرياني/النَبَطي/ المندائي (بصراياتا). والفرنسيون حتى الآن يُطلقون عليها (باسورا) في حديثهم وكتاباتهم.                                                                                                  ______________________________________________
( 1) الكتاب صادر عن دار الفكر ـ دمشق ط1 ـ 1961                                         (2)  كتاب (البصرة ذكرى ومدينة) تأليف أ.م.د. حامد ناصر الظالمي ، دار ومكتبة البصائر، بيروت لبنان /2012                                   

90
واقع الثقافة السريانية وسُبلُ النهوض بها
                                                       
  يعقوب أفرام منصور
      يتمثّل واقع الثقافة السريانية الحالي بما يصدر من مؤلفات ومنشورات دورية باللهجة السريانية الفصيحة وباللهجة الدارجة وباللغة العربية وأحيانًا باللغة الكردية، بأقلام مؤلفين ومترجمين وكُتّاب في العراق والمَهاجر العديدة وفي أقطار عربية، اُصطُلِح على معظمهم لتسميتهم بالسريان عِرقيًا، لأن العِرق السرياني، نِحلةً وجذورًا وثقافةً ولسانًا وطائفيًا ومذهبيًا ـ لكل طوائفهم في العراق وبعض الأقطار العربية الشرقية الشامية ـ  جعل منهم (هذا العرق) قاسِمًا مشتركًا، مع العلم أن المسيحيين السريان في الأقطار العربية الشامية (سوريا الكبرى) وبعض مسيحيي العراق في الوسط والجنوب خصوصًا، يَعدّون أنفسهم عربًا، لاعتبارات لسانية وتعا يشبة وبيئية مزمنة، علاوةً على تحدّر كثيرين منهم من ظهور وأرحام قبائل عربية عديدة وشهيرة إعتنقت الديانة المسيحية ونِحلتها السريانبة قبل الرسالة الإسلامية وبعدها، لكنهم غدوا الآن ومنذ قرون لا يعرفون التحدّث بها وقراءتها، وبعضهم قد يعرف ثقافتها وتاريخها وأمجادها وأعلامها.
     فالمجلات السريانية كثيرة، شهرية وفصلية،  أذكر منها : سفروثا، بانيبال،المثقف الكلداني، نجم المشرق، بين الهرين، الفكر المسيحي، الإبداع السرياني، مُوتوَا عمايا (المجلس الشعبي)، معلثا، صوت الشباب، الكرمة، برطلّي السريان، جريدتَي بيث عنكاوا، صوت بخديدا.
     أما الواجهات المؤسسية التي تمثّل مصادر الأنشطة والنتاجات الثقافية السريانية من خلال ما يصدر عنها من أعمال مطبوعة ومرئية ومسموعة، فهي : المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية/عنكاوا،جمعية الثقافة الكلدانية/عنكاوا، مركز السريان للثقافة والفنون/قره قوش، إنحاد الأدباء والكتّاب السريان/عنكاوا، قناة عشتار الفضائية/عنكاوا، المركز الثقافي الأكاديمي.
     جدير بالذكر أن المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في الأعوام الأربعة الأخيرة قد أقامت أربع حلقات دراسية في عنكاوا بخصوص [دور السريان في الثقافة العراقية]، دعت إلى حضورها والإسهام فيها أشخاصًا بارزين من إتحادات الأدباء والكتّاب العراقيين؛ ولهذه المديرية العامة فضل كبير في طبع ونشر عدد كبير من المؤلفات الأدبية والفكرية والثقاقية والتاريخية وفي مجال التراث السرياني والنتاجات السريانية الحديثة والمعاصرة. ومن آخر ما صدر عن هذه المديرية : (معجم المؤلفين السريان) للراحل مؤخرًا صباح المرزوك. وخير ما يمثّل نشاطها في حقلها هو عملها في سلسلة الثقافة السريانية رقم 31 الموسوم ( خمس سنوات من العمل الثقافي المُثمر 2008 ـ 2012 ج1) الصادر في أربيل/2013.
     من ناحية أخرى، لا ينصرم شهر من دون إلقاء محاضرة أو إثنتين في قاعة أور التابعة لجمعية  الثقافة الكلدانية/ عنكاوا، وفي قاعة متحف التراث السرياني/ عنكاوا.
     أما من حيث السبُل الفاعلة لإنهاض مستوى الثقافة السريانية في القطر والإقليم، فأهمّها وأفعلها ثلاث وسائل : أولاها توحيد عدّة إتحادات للأدباء والكتّاب السريان لتغدو إتحادًا واحدًا، بعيدًا عن التسميات الطائفية والفئوية التي لا تليق بحَمَلة الأقلام والأفكار النَيِّرة البَنَّاءة. وثانيتها إنشاء معهد موسيقي على أسس فنية وعلمية حديثة للنهوض بالمستوى الموسيقي عزفًا وإنشادًا وإبداعَا، وإنشاء مدرسة أو معهد  للتمثيل المسرحي والسينمائي لتخريج ممثلين أكاديميين. وثالثتها بعث النشاط مجددًا في جسم المجمع العلمي السرياني، لإيجاد المصطلحات والمسمّيات السريانية الجديدة للمئات والألوف من المبتكرات والمُستجدّات في حقول العلم والمعرفة والتقنية، فقد أضحى هذا النشاط ضروريًا وواجبًا بعد أن صدر عن مجلس النواب العراقي في 7/2/ 14 [قانون اللغة الرسمية] ، حيث نصّ في المادتين 7 و 9 منه على جواز فتح مدارس لجميع المراحل للتدريس  باللغة السريانية في المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة وفقًا للضوابط التربوية، وكذلك في الوحدات الإدارية ـ  التي يُشكّل فيها السريان كثافة سكّانية ـ تكون اللغة السريانية  اللغة الرسمية. فاللغة السريانية الفصحى حاليًا فقيرة جدًا في هذا المجال الحداثوي، وعلى محبّي هذه اللغة وحُماتِها من التلاشي والإنقراض أن يمدّوها بدماء جديدة من خلال جهود المجمع العلمي السرياني في هذا المجال، خصوصًا بعد أن لمستُ ـ مؤخّرًا في ندوة خاصّة غِبَّ صدور القانون المذكور ـ طموحًا إلى تدريس علوم الهندسة والفيزياء والكيمياء باللغة السريانية.

91
ألهجرة: ألخطر الأكبر على مستقبل مسيحيي الشرق
ثم على مسلميه العرب
                                                                                                                          يعقوب أفرام منصور
     طالعتُ باهتمام مقال الشيخ حسين المؤيد، المنشور على ص8 من (الزمان) ليوم 29/9/11 تحت عنوان (ألغرب ومصادرة مسيحيي الشرق)، فألفيته مقالاً يستوجب شكري وتثميني، لاشتماله على حقائق لا تُدحَض، ولجدواه تنويريُا وإعلاميًا وإرشاديًا وتنبيهيًا.فمن الحقائق الثابتة كون مسيحيي الشرق(الأرثذوكسيين والكاثوليكيين) حافظوا على انتمائهم المشرقي حتى الآن، وانتسابهم إلى تربة أوطانهم التي نشأ أجدادهم عليها قبل المسيح وبعده، وفي أثناء الحروب الصليبية وعهود الإستعمار الغربي بكل صنوفه، وفي عهد النهضة العربية إبان القرنين الساببقين وإلى الآن، واستمرّوا على أسلوب تعايشهم مع مواطنيهم المسلمين واليهود والمندائيين والإيزديين ـ دعكَ  من دورهم الريادي الفاعل في الإسهام في بناء الحضارة العربية – الإسلامية التي بلغت الذروة في القرن الرابع الهجري. وحقًا إن الدوائر الغربية السياسية والثقافية والدينية التي تبنّت فكرة صراع الحضارات وخارطة تقسيميّة جديدة لأقطار منطقة الشرق الأوسط ( حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون بسلام ووئام منذ 14 قرنًا، حاولت [ هذه الدوائر] من قرنٍ مضى ـ حتى الآن بتصاعدـ توظيف مسيحيي الشرق في اتجاه تحقيق أطماعها الأشعبية، ومراميها العنصرية، وأهدافها الإلحادية؛ وذلك من خلال مصادرة الوجود المسيحي في الشرق، وإذابته في المسيحية الغربية الآخذة في التلاشي والإنحلال، وبعضًا في الإنحراف والخروج عن الصُلب والجوهر، ومن خلال ضرْب مسيحيي الشرق مباشرةً، وأيضًا من خلال ما يُعرَف بالتطرّف الإسلامي، لخلق هوّة سحيقة بين المسيحيين والمسلمين، وتشويه صورة ألإسلام، وهدم نموذج التعايش الإسلامي ـ المسييحي، بقصد تمزيق النسيج الإجتماعي، وتيسير عملية التجزئة والتقسيم، فضلاً على معاقبة المسيحيين على وطنيتهم وأصالتهم المشرقية. وكل هذا التجنّي والتعسّف والإيذاء يصب في مصلحة الصهيونية العالمية ـ وليس الديانة اليهودية الصِرفة ـ كي يُصار إلى تثبيت الكبان الإسرائيلي التوسّعي اللامحدود الذي سيجرّ العالم المتمدّن إلى التهلكة، وأمريكا الجانية أولاً قبل غيرها.
     شئتُ في مقالي هذا أن أضيف واتوسّع في هذا الموضوع الذي عالجه قبلي فضيلة الشيخ المؤيّد، وذلك دعمًا وإشباعًا لمعظم جوانبه الحيوية والمصيرية، فأقول :ـ
1 -  في كتاب الأستاذ فوزي سابا اللبناني، المعنون (المؤامرة الكبرى على اللغة الفصحى)، ورد هذا النص في ص 10 :(في عام 1920 عُقد في (باكو) السوفيتية مؤتمر شيوعي صهيوني كبير، دعا إلى عقده الزعيم السوفياتي الصهيوني (راديك) ،وترأّس حفل انعقاده (تروتسكي) وزير حربية روسيا آنئذٍ، وتوصّل المؤتمر إلى قرارات جليّة، لا لُبسَ فيها، ترمي إلى محاربة رسوخ العقيدة الدينية في طباع العرب، كي لا يقووا على الوقوف في وجه المد الإمبريالي والشيوعية الدوَلية والصهيونية العالمية.)ـ منشورات صدى الأرزـ بيروت 1974 .
2 –من الحقائق المسلّم بها أن التجمّع قوّة، والتفرّق والتبعثر والتشتت ضعف، وأن الجماعة الكبيرة أقوى وأعظم شأنًا من الجماعة الصغيرة. وقبل الإسترسال في تبيان تأثير الهجرة سلبيًا في كنيسة العراق المسيحية، بشكلٍ سيغدو خطرًا كبيرًا على مصير مستقبلها، إذا استمرّت هجرة المسيحيين من القطر، حجيء بي القول إن أعداء كنيسة المسيح في العالم كثيرون، منهم لادينيّون، ملحدون، سياسيون إستعماريون، مافيّون، ومنهم أصحاب بِدَع وهرطقات ومارقون، وطوائف وفرق خارج نطاق الكثلكة والأورثذوكسية ومنحرفة عن الدبن المسيحي القوبم، وساعية سعيًا حثيثًا منذ أربعة قرون إلى صهينة المسيحية الأصيلة المشرقية بدعمٍ من الإمبرياليين وحلفائهم وأنصارهم والمنتفعين منهم دنيويًا، ومنهم الملحدون والمنتمون إلى جمعيات سرّية هدّامة أو مناهضة للتحاور والتعايش والسلام في هديٍ من الإيمان والتقوى.
     ولمّا كان هؤلاء الأعداء جميعًا يستهدفون  تحطيم الكنيسة المسيحية عمومًا وأوّلاً (قبل الديانة الإسلامية ثانيًا ) وكنائس الشرق العربي خصوصًا، وكنيسة العراق بالأخص في المقدّمة بسبب عراقتها ورسوخ جذورها في أعماق تاريخ وادي الرافدين، وفي أعماق نفوس المنتمين إليها منذ 19قرنًا وعهود المناذرة والغساسنة وبني تغلب وربيعة وبكر، بات لزامًا على الأعداء المذكورين أن يعملوا بوسائل وميادين شتّى لخلق الأجواء الملائمة لإضعاف الكنيسة كمؤسسة وجماعة. وإذ إن تهجير مسيحيي العراق هو أفضل السبل لبعثرة وتشتيت شمل المنتمين ألى كنيستهم، وبالتالي تقليل عددهم بالتدريج، فيصيب الهزال كنيسة العراق، وبالتالي خلق أوضاع يسودها عدم الإستقرار، فالقلق والحيرة والإضطراب والفوضى والفواجع، ثمّ حروب تُشعَل نيرانها هنا وهناك بين آنٍ وآخر، وتدبير انقلابات، وتعويم عملات، فغلاء مسعور يضرب أطنابه، وجرائم تُشاع، ورذائل تترعرع، وضمائر تُخدّر أو تموت، ونفوس تنحدر وتخرب ـ كما جرى ويجري اليوم منذ عقدين، وكما قال عنها شاعر قديم : 
                                       وليس بعامرٍبنيانُ قومٍ          إذا كانت  نفوسهم  خرابا                                   
     أوضاع مربِكة مؤذية مرعبة مهلكة كهذه، تحمل الكثيرين من المسيحيين الذين لا يقوون على تحمّل الصعاب والمشاق والصمود إزاء الإرهاب والأضاحي والتفجيرات وعدم التجمّل بالصبرـ كما أوصى بولس الرسول المؤمنين في إحدى رسائله، أقول أوضاع تحملهم على النزوح من العراق ومن أقطار عربية أخرى، تخلّصًا من الظروف السيئة التي خُطّط لإحداثها قصدًا لحمل المسيحيين على مبارحة ديارهم، ولسان حالهم يقول كما قال شاعر مهجري :
                               إذا لم تطب سُكنى ولا لذّ معشرُ        فلا كانت السكنى ولا كان  معشَرُ
      هنا يتبادر إلى الذهن نزوح عدد كبير من السكان العرب، مسيحيين ومسلمين،إلى خارج اقطارهم الشرقية العربية، إذ إستنادًا إلى مؤتمر (باكو) سنة 1920 ، لم يكن ثمّة تفريق بين العقيدتين في هدف تهجيرهم من ديارهم في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأرن ومصر بالدرجة الأولى ومن أقطار عربية وإسلامية أخرى  بالدرجة الثانية. إذ معلوم جيدًا أن العربي المسيحي أو المسلم في مَهاجره النائية يغدو في بيئة يسهل فيها كثيرًا التحرّر من أهداب الدين وما يتبعه من مُثُل أخلاقية سائدة في مجتمعه العربي، ومن أعراف وقيم تراثية أصيلة، وهذا " التحرّر" هو القصد الرئيس لأعداء الكنيسة المسيحية في العالم      طرًّا وفي الغرب خصوصًا ( كما هو القصد الرئيس لأعداء الإسلام) . فأعداء الديانتين في الغرب يرومون اقتلاع  العقيدة الدينية من نفوس الشرقيين عمومًا، ونفوس العرب والعراقيين خصوصًا ـ مسلميهم ومسيحييهم. وهذا " التحرّر" حصيلة طبيعية تنجم عن التشتت وقلّة دور العبادة، وبُعدها عن مناطق سكنى النازحين المؤمنين الجدد خصوصًا، وانهماكهم في أعوام غربتهم الأولى في الأقل في تثبيت أقدامهم، وضمان كفافهم من الرزق والعمل ساعات طويلة هن اليوم، ثمّ تهافتهم على الملاهي والمغريات في بيئاتهم الجديدة، ممّا لم يتهيأ لهم في بيئاتهم السابقة ، وهذه عوامل تقصيهم معنويًا وماديًا عن التشبّث بأهداب الدين وعن ممارسة فرائضه التقَوية، وبهذه النتيجة السيئة يتحقق مقصد أعداء كنيسة المسيح وأعداء الإسلام أيضًا في الغرب المادّي الشرِه إلى حد التهالك، الإلحادي إلى حد الظلم واقتراف الآثام,
 3 ـ  حقًا من المؤسف جدًا أن نظرة فريق من المتطرّقين المنغلقين المسلمين في العراق وبعض الأقطار العربية ينظرون نظرة خاطئة، بل ظالمة ، إلى مواطنيهم المسيحيين، فهي نظرتهم عينها إلى " الغرب المسيحي" ـ أمريكا وأوربا وأوستراليا ـ بكونهم  مماثلين للغرب المسيحي( السياسي المنحرف الضال والمضلِّل) في منحى الإساءة إلى الدين الإسلامي وإلى رسوله الكريم، ومنحى تشويه سمعة المسلمين ، وإضافة إلى تلك النظرة نراهم ونسمعهم يكفّرون الموحّدين أتباع السيّد المسيح ابن مريم ( الذي هو عيسى الحي في القرآن الكريم)، ويحللون قتلهم وإبادتهم واضطهادهم ؛ في حين أن أعداء المسيحيين المشرقيين في الغرب ـ المشار إليهم آنفًا ـ يدركون جيدًا شدّة حرارة العاطفة الدينية عند مسيحيي الشرق العربي، وحرارتهم هذه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بجذور وطنهم وتراثهم ومقدساتهم وقِيمهم ( ويعمدون إلى اقتلاعها أصلاً) ، علاوةً على أواصر تعايشهم مع غيرهم جنسًا وعقيدةً . ومِثلهم في هذه الخصال والمنازع والسلوك هم المسلمون العرب عمومًا الذين يشاطرونهم حرارة الإيمان والتديّن وحب الوطن بإخلاص مشهود.                                                                                                     
4 ـ أفليسَ من التجنّي أن تُسحَب سيئات الغرب ، الغرب المسيحي المسيّس الضال حيال الإسلام ورسوله الكريم على مسيحيي الشرق عمومًا والعراق خصوصًا من قِبل فئات مسلمة متطرّفة منغلقة ، فتفتي فتاوى ظالمة بحقّهم ، وهم أبرياء من كل تلك المساوىء الصادرة عن افراد أو جماعات عدوانية أو مغرّر بها في الغرب  ـ الغرب المسيحي إسمًا ،وليس فعلاً، متنكّرين لإخوانهم في دين حب الله الأحد ، وللتعايش الأخوي النموذجي غابرًا وحاليًا ؟ !           


                                                                                                                       

   

صفحات: [1]