عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - عبد الحسين شعبان

صفحات: [1] 2 3
1
المنبر الحر / ثلاثية التنمية
« في: 23:46 14/03/2024  »
ثلاثية التنمية

عبد الحسين شعبان

   ثلاث عناصر أساسية تقوم عليها عملية التنمية، أولها - الثقافة؛ وثانيها - السلام؛ وثالثها - العدالة؛ وهذه العناصر مترابطة عضويًا، حتى وإن كانت منفصلة ولكلّ منها حقله.
   فالثقافة ركيزة أساسية للتنمية، وهي مصدر كلّ تنوّع وينبوع كلّ ازدهار، وهي صمّام أمان لنجاح التنمية، والانتقال من التخلّف إلى التقدّم، لأنها تمثّل روح التنمية.
   أما السلام فهو الحاضنة التي تزدهر فيها عملية التنمية، ولا تنمية دون سلام، لأن الحروب والنزاعات المسلّحة تحول دون إنجاز مشاريع التنمية، وبالتالي تضع عقبات وعراقيل كبيرة أمامها.
   وهدف التنمية هو العدالة وتحسين حياة الناس، فلا تنمية حقيقية دون عدالة اجتماعية بحدّها الأدنى، والمقصود بذلك توفير مستلزمات حياة حرّة كريمة وعمل مناسب، والاستثمار في التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي، فضلًا عن تأمين المتطلّبات الأولية للحياة الروحية للناس بتوسيع خياراتهم.
   وهناك أربعة أبعاد للتنمية؛ أولها - الاقتصادي؛ وثانيها - الاجتماعي؛ وثالثها - الثقافي؛ ورابعها - البيئي؛ وهذه الأبعاد جميعها ترتبط ارتباطًا عضويًا بالسلام، فكلما ازدهرت ثقافة السلام انخفضت ثقافة الحرب.
   وحسب الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونو، أن أحد أسباب تطوّر اليابان، هو امتلاكها ثقافة مناسبة، وادّخارها واستثمارها في التعليم، وكانت الكونفوشيوسية خلفية فكرية لتنمية اليابان، مثلما كانت التاوية والبوذية مصدرًا ملهمًا لتنمية الصين الجديدة وسنغافورة وكوريا، وساهمت اللوثرية في نجاح دول اسكندنافيا في عملية التنمية.
   ويمكن للثقافة العربية - الإسلامية أن تكون مرجعًا مهمًا لعملية التنمية في البلدان العربية، إذا ما توفّرت مستلزمات الإرادة السياسية والإدارة الناجحة والرشيدة والمساءلة والشفافية، وذلك بقراءة انفتاحية على المستقبل بعيدًا عن القراءة الماضوية الانغلاقية.
   مفهومان للتنمية، أحدهما ضيّق، والمقصود به النمو الاقتصادي، والآخر واسع، والمقصود به التنمية الإنسانية، التي تقوم على المساواة وعدم التمييز والحريّة والعدالة، وتحسين حياة الناس، وذلك أساس للشرعية السياسية، التي لا بدّ أن تستند إلى المشروعية القانونية، والمقصود "حكم القانون"، وحسب مونتيسكيو القانون ينبغي أن يطبّق على الحاكم والمحكوم، فهو مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحدا.
   وكانت مؤسسة البابطين الثقافية (الكويت)، قد نظّمت مؤتمرها العالمي الثالث في القاهرة تحت عنوان "المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل"، وناقش في جزء منه مشكلات الدولة الوطنية فيما يتعلّق بالتنمية والسلام العادل، فإضافة إلى التحديات الخارجية، ولاسيّما محاولات فرض الهيمنة والاستتباع ومشاكل العولمة والذكاء الاصطناعي والتنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فثمة تحديات داخلية، أساسها الدولة الريعية، واتّساع الهوّة بين الحكام والمحكومين وضعف البنية المؤسسية واختلال مفهوم المواطنة، وصعود ما دونه إلى ما فوقه، لاسيّما تفشي الطائفية والعشائرية والجهوية وعموم الهويّات الفرعية، خصوصًا حين يتم تجاهلها، وعدم حل مشكلة المجموعات الثقافية، فضلًا عن قلة مشاركة المرأة في الحياة العامة، وتضخّم الجهاز البيروقراطي.
   وكان إعلان الحق في التنمية (1986)، قد ركّز على عدد من الحقوق الأساسية الفردية والجماعية غير القابلة للتجزئة، والتي أساسها الإنسان وارتباطها بتكافؤ الفرص وعملية السلام واحترام مبادئ القانون.
   ولبناء تنمية مستدامة لا بدّ من الترابط بينها وبين الثقافة والسلام والعدالة، وهذه جميعها تتعزّز بالتراكم والتفاعل والتداخل، وتلك جدلية تمتدّ من التراث إلى الحداثة، فثمة علاقة بين الأصالة والمعاصرة، مثلما هناك علاقة بين الأنا والآخر، ونحن والغرب، وهو ما يحتاج إلى مشروع نهضوي حضاري عربي بالتعاون والتنسيق والتكامل بين البلدان العربية، علمًا بأن اللغة العربية هي التي يمكن أن تجعل التكامل ممكنًا، في ظلّ تاريخ وثقافة مشتركة ومصالح ومنافع آنية ومستقبلية جامعة، وثمة لحظة وعي جديد لابدّ من التقاطها اعتمادًا على كلّ ما قام به نهضويو القرن التاسع عشر، واستنادًا إلى تطوّر المجتمع البشري، وكلّ ما أنجزه على هذا الصعيد.
   وإذا كان اختيار "السلام العادل" طريقًا للتنمية، فقد كان ذلك جوهر رسالة عبد العزيز سعود البابطين، الذي عمل على الإعداد لهذا المؤتمر، لكنه رحل قبل أن تتكحّل عينه بتحقيقه، وترك لنا تراثًا غنيًا على هذا الصعيد، وهو ما بلوره كحصيلة لتجربته في كتابه "تأملات من أجل سلام عادل"، بتحديد 7 أسس لتحقيقه، الأول - الاحترام والصدق بحيث يصبح السلام صيغة تعليمية فاعلة تُربى عليها الأجيال، الثاني - السلام العادل ضرورة، لأن المجتمعات الإنسانية بطبيعتها لا تستمرّ إلّا بالتواصل فيما بينها ماديًا وقيميًا، والثالث - السلام العادل إجماع، بمعنى التمييز بين التوافق السياسي وبين الاجماع الاجتماعي، فالأول لا يدوم، في حين أن الثاني يقوم على القيم، وهي لا تختلف حولها الإنسانية، والرابع - السلام العادل حاجة تاريخية، بمعنى نقل السلام من مستوى الصورة إلى مستوى الواقع الفعلي، بحيث يكون حاجة تاريخية ملحّة، والخامس - السلام العادل مسار متواصل، أي أنه غير مكتمل، فالإنسانية هي مشروع يظلّ أبد الدهر يكتمل لبنة لبنة؛ والسادس -  السلام العادل ثقافة، وذلك بجعلها شكلًا معيشًا ومتاحًا وممكنًا؛ والسابع - السلام العادل تربية وتعليم، أي الاهتمام بثقافة السلام من الحضانة وحتى الجامعة وفي الحياة أيضًا.
 وتلك هي صرخة البابطين القلبية الموجهة للبشرية جمعاء قصد اعتناق السلام كقيمة عليا، كما عبّر عن ذلك مايكل فريندو، وزير خارجية مالطا الأسبق، وأضاف أن "العالم بلا سلام هو عالم مظلم"، وتلك رسالة عالمية دعا إليها المهاتما غاندي لاعتماد المقاومة السلمية اللّاعنفية.

2
الموصل: ذاكرة وأسئلة وأمل

عبد الحسين شعبان

   "نحتاج إلى خيال كبير لنتصوّر تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء"، ذلك ما كتبه الناقد الفرنسي جيرارد جينيه، وهو ما كنت أردّده مع نفسي، وأستعيده طيلة الأيام التي قضيتها في الموصل، خصوصًا حين شاهدت مظاهر الخراب والدمار، التي خلّفها "داعش" بعد احتلاله للمدينة (2014 - 2017)، حيث اسْتمعت إلى قصص وحكايات أقرب إلى الخيال.
   وأكثر ما استوقفني هو موضوع التعليم، الذي خصّصتْ له جامعة الموصل العريقة، التي تأسست في العام 1967، مؤتمرًا دوليًا ضخمًا بمناسبة اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف (12 شباط / فبراير) بالتعاون مع كرسي اليونيسكو والوكالة الجامعية الفرنكوفونية وجامعة النور الفتيّة الواعدة، التي زرتها هي الأخرى، واطّلعت على منجزها بعد إعادة إعمارها.
   في تلك الأصبوحة الموصلية المشرقة الجميلة، طرحت السؤال المحوري، لماذا استهدف داعش التربية والتعليم بشكل خاص؟ وهو سؤال فاصل بين المدنية والتوحّش، وبين الظلامية والتنوير. فكيف لمن يريد "بناء دولة" أن يدمّر صروحًا أكاديميةً وثقافيةً وتاريخيةً؟ ألم يقل الرسول العظيم "أطلبوا العلم ولو في الصين"، أوَليس ما جاء في القرآن الكريم "وقل ربي زدني علمًا" ؟ فكيف إذًا يُجهز على 83% من مباني جامعة الموصل، ويفكّك أجهزتها المخبرية، ويستولي على 300 عجلة وواسطة نقل وسيارة، ويعدم 5 ملايين كتاب ومطبوع ومخطوطة، في محاولة لتغيير فكر الناس، فهل تمكّن هولاكو، الذي أحرق ربع مليون كتاب ومخطوطة، من تغيير فكر الناس وقناعاتهم؟ وهل استطاع "هولوكوست الكتب"، الذي قام به هتلر في ألمانيا والنمسا، تجريف العقول وتحريف الأفكار، أم أن ذلك ولّد العكس؟
لم يتمكّن "داعش" بالترغيب أو الترهيب، من الاستحواذ على العقول أو استمالة القلوب، بل إنه، بأفعاله الإرهابية، حوّل السخط إزاء التمييز ومحاولات الاستتباع، التي كان الموصليون يعانون منها، إلى ردّ فعل ضدّه، وهكذا تدريجيًا، لم يجد بيئةً حاضنة أو مستعدّة أو مولّدة لأفكاره. والموصليون، الذين جار الزمان عليهم، لم يرضخوا ولم يستسلموا، بل نظموا مقاومة ثقافية ضدّ داعش وأساليبه الإرهابية بالصبر والمطاولة والدفاع والامتناع، وبجميع الوسائل تصدوا لمحاولات احتوائهم أو إرغامهم، ودفعوا بسبب ذلك أثمانًا باهظة.
وما أن انتهت العاصفة الهوجاء، حتى شمّر الموصليون عن سواعدهم لإعادة بناء مدينتهم بمحبة وألفة وتعاون، وحاولوا تدويل قضيتهم للحفاظ على التراث والإرث الحضاري لمدينتهم، كما حدثني البروفيسور طارق القصار، رئيس قسم العلوم السياسية، وكان لليونيسكو دور في ذلك، وهو ما أشارت إليه البروفيسورة قبس حسن، مديرة كرسي اليونيسكو بجامعة الموصل، وشارك المجتمع المدني بحيوية في ذلك، لاسيّما مبادرات بعض الشباب، وهو ما لمسته من إعادة بناء قاعة "مؤسسة بيتنا للثقافة".
   وحسب رئيس الجامعة، البروفيسور قصي كمال الدين، فقد استعادت الجامعة عافيتها، وهي تضمّ 24 كليّة و 142 قسمًا و7 مراكز أبحاث مختصّة، من بينها "مركز السلام والتعايش السلمي"، وثمة مساعدات وصلتها من عدد من البلدان، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، إضافة إلى المتحف البريطاني، وغيرها.
سأل الجنرال شارل ديغول، وهو يتقدّم بجيشه لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي: وماذا عن الجامعات؟ فقيل له أن جامعة السوربون تناقش أطروحات الدكتوراه والماجستير في الأقبية، ويتلقى الطلبة محاضراتهم ودروسهم في أجواء من السريّة والكتمان، وهنا علّق ديغول يومها: إذًا فرنسا بخير طالما الجامعات بخير، وهذا ما فعلته الموصل في مقاومتها "لداعش"، فلم تتوقّف الدراسة في الجامعة، بل كانت امتحانات الطلبة قد استُكملت في مناطق بديلة، خارج سيطرة داعش، ومع مطلع العام 2018، أُعيدت إليها الحياة، حيث كانت المدينة بأكملها في ورشة عمل جماعية متصلة، فأُعيد بناء وترميم المباني المهدّمة والمكتبات وتجهيز المختبرات، ومع بداية العام الدراسي (2023 - 2024)، بلغ عدد الطلبة في جامعة الموصل لوحدها نحو 60 ألف طالب.
   وبقدر ما في الموصل الحدباء "أم الربيعين" من حزن وذاكرة وسؤال، لماذا حدث كلّ ذلك؟ وكيف حدث؟ ومن المسؤول؟ لكن المهم عندها أنه ثمة أمل وإرادة وإصرار على إعادة البناء والنجاح والتفوّق، وهو ما لمسته في النخبة الأكاديمية والفكرية والثقافية، التي تفيض إبداعًا وجمالًا وعلمًا.
 كل ما في الموصل يدلّ على أنك أمام مدينة عظيمة، فهناك ينتصب تمثال أبو تمّام، وهنا تستذكر أبو فراس الحمداني وقوله الأثير:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ / أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟
وعلى الضفة الأخرى تستعيد اسحاق الموصلي وتلميذه زرياب، الذي أضاف وتراً خامساً لآلة العود، وهو صاحب فن الإتيكيت وأول من أدخل لعبة الشطرنج إلى أوروبا. كما يحضر التاريخ الإنساني بكلّ ثقله من حضارات الأكديين إلى الأشوريين، وصولًا إلى أعلام الموصل ورواد الثقافة العراقية المعاصرة، وقسم منهم من الأصدقاء، مع استحضار الدور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والتربوي لمدينة الموصل، التي تعرف التنوّع والتعايش القومي والديني والاجتماعي والثقافي.
   وإذا كان الانتصار على "داعش" عسكريًا قد حصل، فثمة جبهات بحاجة إلى تعزيز وتعضيد، مثل الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والقضائية والإعلامية والمدنية والأمنية والاستخباراتية والدينية، وذلك لاستكمال الجهة التعليمية والتربوية، لتوفير الأمن التعليمي بشكل خاص والأمن الإنساني بشكل عام، وتلك هي إحدى مخرجات مؤتمر الموصل وكرسي اليونيسكو.


 

3
كلمة د. أوغاريت يونان
ندوة تكريمية للدكتور عبد الحسين شعبان

 "زمن فلسطين والثقافة العربية"
مجلّة تحوّلات، بيروت
 6/2/2024

 

يسرّني أن أكون هنا في تكريمكَ.
شكرًا العزيز الأستاذ سركيس أبو زيد ومجلّة "تحوّلات"؛ لبّيتُ الدعوة من أجل د. شعبان ومن أجل فلسطين.
ورأيت أنّنا ثمانية متكلّمين! قلتُ، أختصر ما عندي في القلب، منّي ومن وليد، وعلى طريقتي.

شعبان. فلسطين. الثقافة: ثلاثة عناوين في ندوة.

لكَ العزيز حسين شعبان،
الأنيق المحبّ للفرح المنصرف إلى أسلوبه في الحياة بنجوميّة وديناميّة وكرم وثقافة ومرونة... ليس سهلاً على مَن انخرط في إيديولوجيّات مُحكَمة، باكرًا، أن يعود ويخرج إلى ضوء المرونة والتجدّد. خلال معرفتي بك، رأيتُ هذا الصحافي، الكاتب، المحلّل، المنتشر شرقًا وغربًا، المثقف، الباحث والمنجذب إلى أكثر وأكثر، الراوي الحافِظ لذاكرة بإبهارٍ كأنّ في نصوصك رزنامة زمن ودفتر أسماء وعناوين وحكايات وسردٍ بكلّ الأحرف والأرقام، ومعها هذا الربط الشاغل بالك بين السياسة والتاريخ والسوسيولوجيا والدين والنضال من النجف إلى الماركسيّة إلى القوميّة إلى حقوق الإنسان والحرّيات إلى اللاعنف...
سأحرص، بصداقتي لك ومعك، أن تستقرّ هنا في اللاعنف في هذه الخاتمة الفكريّة الإنسانيّة السعيدة، وفيها تغربل أنت بأسلوبك، ممّا سبق في مسيرتك، من جذورٍ متجانسة لفكر الخير والعدالة.

التقينا بدايةً في مؤتمرات حقوق الإنسان العربيّة، وكنتَ رمزًا للآتي من العراق. ثمّ مرّت سنوات... وحين أسّسنا جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان، عام 2009، أول جامعة من نوعها في المنطقة والعالم لاختصاصات أكاديميّة ودراسات عليا غير مسبوقة، اتصلتُ بكَ وقلتُ: هذا مكانك، وهذه إضافة في تلك المسيرة. وجئتَ أنتَ بكلّ اندفاعٍ وسرور، وغدوتَ من أسرة الجامعة. وعرّفتُك على وليد صلَيبي، المفكِّر المؤسِّس، وحلّ الانسجام الودّي بينكما من ’أول نظرة‘. أقول لكَ اليوم، أنّني حينها تأثرتُ جدًا بهذا الفرح بينكما. وليد، يقول عنه أصدقاؤه، إنّه كطفل لا يتفاعل إلاّ متى أحسّ بشيء حقيقي يلامسه من الداخل، يعبّر بصدق عمّا يشعر به وحسب، وبذكاءٍ فائق لا يوهمه شيئًا من أوهام الدنيا أو البشر... فعلاً أحبَّك وأحبَّ شخصيّتك.
إصرارُكَ على الشباب والحبّ والتنوّع والسلام، يكفي لي كي أعرف من أنتَ، بدون أن أقرأ كتبك. شخصيّتُك تسير أمامك. وحتّى بعد أن أقرأ، وحتّى لو كتبتَ أنتَ أمرًا آخر، لن أصدّقك. صفاتُك هذه التي تطلّ بها علينا هي أنت. خلّيك هيك...
الصديق حسين شعبان،
في الحياة، ليس هناك من أصدقاء، بل لحظات صداقة؛ لا سعادة شاملة، بل لحظات سعادة. لحظاتٌ لديها نعمةُ الوردة بدون أشواك. نعمةُ الوردة، ربّما عنوان مقال جديد لك، ما رأيك؟
وليد كان يقول لي، "نحبّه كما هو". من جهّتي، أقول، لا نفكر لا في الماضي ولا في المستقبل، بل نعطي الحاضر للصداقة. أنتَ صديق.

تقول في كتابك "مذكّرات صهيوني" في الصفحة 14-15: «...طريقة التفكير الصهيونية...من وسائل ماكيافيلّية يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علمًا أنّ الغاية هي من شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إنْ لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتما غاندي، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة، فهما مترابطتان عضويًّا...». 

من هذا الركن أذهب معك إلى فلسطين. مع محبّتي وتضامني مع أهل فلسطين في كلّ مكان، وفي غزة اليوم والضفة اليوم والقدس اليوم... لن أقول أكثر اليوم، فالندوة تكريميّة.
من البديهي أن تكون هذه قضيّتك، وأن تكتب لها وعنها. هذا بديهي. قضيّة فلسطين النبيلة لا تستحقّ إلاّ غايات ووسائل نبيلة، أي ما نسمّيه نحنُ مقاومة لاعنفيّة. إنّها "نعم للمقاومة لا للعنف"، عنوان كتاب وليد صلَيبي، الذي أطلق أسُسَه في منتصف التسعينات، ثمّ أصدر الكتاب كاملاً عام 2005 وأعيدت طباعته عام 2015، واعتُبِر في فلسطين هديّة استراتيجيّة لا مثيل لها، وكان أطلق أولى التدريبات على "انتفاضة الحجارة" منذ العام 1988 وهي في عزّها في فلسطين...
كتبُك عزيزي الدكتور شعبان التي صدرت مؤخرًا، وقد أهديتني إيّاها، وفي توقيعك كتبتَ "إلى جامعة اللاعنف هديّتي مع الاعتزاز بزمالة الفكر ورفقة العمل والإخلاص للّاعنف"، فيها كشفٌ لأسرار ومعلومات من مصادرها أعطيتَ لها الكثير من وقتك وجهدك وحسّك البحثي وتنوّع علاقاتك وأسفارك ومقابلاتك مع الشخصيّات الصانعة تلك الأحداث، ومن كلّ هذا استخلصتَ مواقف تدين عنف الخارج وتشير إلى هلاك الداخل، تميّز بين المقاومة لغاية نبيلة والعمل السلطوي المشوِّه لها، تضيف توضيحات (كتابك "عصبة مكافحة الصهيونيّة") عن الصهيونيّة وزيف تمثيلها اليهود في العالم، وعن الصهيونيّة والنازيّة في لحظةٍ مصلحيّة واحدة، تساعد على الوعي ونشر الوقائع، وتتيح الحُجج بوجه السياسات المهيمِنة والقرارات المضلِّلة...
أنت تناضل في ميدانك، ميدان البحث وكشف المعطيات، ببراعة.
فشكرًا على توثيق التاريخ للعدالة ولبناء تاريخٍ آخر. 

أمّا عن الثقافة، العنوان الثالث في موضوع هذه الندوة، واختصارًا، فألتقي معك في عنوانٍ ورد في كتابك "الغرفة 46 سرديّات الإرهاب"، وسؤالك: "العنف والثقافة هل يلتقيان؟ الضفّتان هل تلتقيان؟" وجوابنا معًا، على ما أعتقد، أنّه بالطبع لا. فالثقافة هي زرعٌ، بينما العنف تدمير. الثقافة بناءٌ وتواصل، أمّا العنف فأذىً وقطع صِلات... برأيي، إنّ من أولويّات المثقّف، بالأخصّ المثقّف العضوي المناضل المحبّ للحياة، إعادة النظر في العنف. إنّها المهمَّة التي على عاتق كلّ منّا. قلّةٌ قامت بإعادة النظر هذه، في ظلّ تنشئة ومفاهيم وتقاليد وإيديولوجيّات وتبعيّات دينيّة وسياسيّة إلخ، مجّدت العنف أو جمّلته أو حتّى جعلته نهجًا لا مجرّد وسيلة ظرفيّة. ما من شيء اسمه الضرورة إلاّ بارتباطه بالخير. هذا ما نعرفه منذ أفلاطون الذي بحث عميقًا في ماهيّة الضرورة وماهيّة الخير. من جهّتي، أخلص هنا إلى القول، إنّه حين نضع في قلب كلمة الضرورة أو بدلاً منها، اللجوء إلى العنف على أنّه ضرورة، يصبح إذذاك العنف في خطٍّ مستقيم موصول بالغاية التي هي الخير، وهنا تكون الواقعة قد وقعت وعطّلت المفاهيم في أذهاننا، إذ إنّ العنف والخير خطّان لا يلتقيان، فكلّ منهما من طينة نقيضة للآخر. القضايا المحقّة تحتاج إلى القوة والشجاعة، إلى جرأة المقاومة. والقوة ليست العنف. نحن نحتاج أن نكن أقوياء لكن ليس عنيفين. وإذا كنّا لا نعرف كيف أو لم نتعوّد على ذلك، فالتواضع أمام معرفة جديدة كفيلٌ بمعالجة هذه الهوّة في ثقافتنا. وهذا بالتحديد أحد أهداف جامعتنا، جامعتك دكتور شعبان. إنّه دور الثقافة أولاً في أن تعود وتساعدنا في إعادة النظر بين القوة والعنف، في سائر مجالات الحياة. لقد شوّهوا القوّة حين دمجوها بمعاني العنف. لقد جمّلوا العنف حين أضفوا عليه معاني القوّة. وها نحن نرتكب الإعدام ونقول "عدالة"، نرتكب جريمة عائليّة وعاطفيّة ونقول "شرف"، نعلن "السلام" ونرتكب الحرب، نعلن "اللجوء إلى القوّة" ونرتكب العسكرة، نقول "ثورة" ونرتكب القتل، نقول "تربية" ونرتكب صفع الطفل والطفلة... إنّ مسؤوليتنا الثقافيّة الأولى هي في إعادة معاني شجاعة اللاعنف إلى القوّة، وجعل العنف مكشوف الاسم والمعنى كما هو. 

دمتُم بخير،
ومبروك للعزيز الدكتور المفكِّر عبدالحسين شعبان،

أوغاريت يونان
مؤسِّسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR

h
 


4
كلمة الشاعرة والإعلامية الدكتورة نوال الحوار
في تكريم الدكتور عبد الحسين شعبان
تحولات - بيروت



السيدات والسادة الحضور
السلام عليكم ورحمة الله..
    في هذا المساء الشتوي البارد، الدافئ بحضوركم يسعدنا أن نلتقي معاً في هذا الجمع الكريم بمناسبة جمعتنا في فضاءاتها الفكرية والانسانية وتجمعنا اليوم في دفئها وغناها، في الامها واحلامها.
     مرّ اربعة شهور على عملية "طوفان الأقصى" وعلى اطلاق الحرب التدميرية من قبل الجيش الاسرائيلي على غزة واهلها. 
تابعنا واياكم ملاحم البطولة والفخر التي سطّرها أهل غزة، كما تابعنا بألم وحزن اداة القتل والتدمير التي حصدت عشرات الألاف من الأرواح البريئة وجلُّهم من نساء واطفال غزة وفلسطين.
ولايسعنا الا أن نكرر ما يقوله اهل الثغور في غزة هاشم، ألا إن النصر أت وقريب بإذن الله.
ولأن غزة  هي الحدث والبوصلة فجلّ أنشطتنا الفكرية والثقافية تتمحور حولها، واليوم نحتفي بمفكر موسوعي، ومناضل كبير عمل حثيثا من أجل تحقيق العدالة، بكل ابعادها وشروطها الإجتماعية والسياسية والانسانية وفي المقدمة حق تقرير مصير الشعوب، وحق الشعب الذي ينتزعه بيده لا بيد من يصادر قراراه.
من أبرز مراحل حياة هذا المناضل هو البعد الفلسطيني، الذي أعطى له جزءً كبيراً من حياته ولايزال يعطي إلى الأن وأقصد الدكتور عبد الحسين شعبان الذي، نحتفي بحضوره بيننا اليوم، بكل ما حمل ويحمل من رصيد فكري ووجدان عربي، وتجربة يسارية، وعمق نجفي، وشخصية عراقية، وبعد حقوقي انساني، عبد الحسين شعبان بلا تكلف هو بيت العرب بمنازل شتى، مشرعة ابوابها لنسيم الشام وارز لبنان، ولنشامة الاردن، وفضاء مصر والسودان، من المغرب الى المشرق بيت عبد الحسين شعبان المطل على فضاء عالمي، يأنس هذا الرجل بفضاء انساني غني، كانت فلسطين جذره ونجمته التي لا صباح بدونها، يطول الكلام وتتشعب المسارات في الطريق الى من تحيطونه اليوم بإلفتكم علّها تنجح في اختصار الطريق والمسافة الى جوهرة شعبان التي تشع وتضيئ، وكلما اشتد الظلام تزداد حضورا، وتشدُّ الأبصار اليها بلا كلل ولا ملل.
 يغري الحديث عن صديقنا الكبير بالمزيد، لكثرة ما لديه من ابواب الكلام والمعنى، لكن ما يدفعني الى الاقتضاب هي المرايا التي تحملونها، وحبرُ اللغة والفكر الذي تخطونه. لذا نتشوق لسماع انغامه في ليلنا هذا، وعلى طريق الفجر الذي نكابده. عبد الحسين شعبان نجمتنا  فهللو لفلسطين، وهاتو الينا بضوء الحسين في زحمة السواد.
ولا بد قبل وبعد أن أوجه الشكر للأستاذ سركيس أبو زيد مؤسس مجلة تحولات الفكرية الذي نلتقي برعايته اليوم علّنا نلتقط بعضا من التحولات التي لا بد ان تختصر الطريق الى المحتفى به.
 


5
شهادة سعد الله مزرعاني

 في تكريم د. عبد الحسين شعبان

تحولات – بيروت






آثرت في هذه الشهادة، أن اقتصر على جانب قد أكون معنياً به، أو مطالباً، بالحديث عنه أكثر من الآخرين. لقد تعرفت إلى الدكتور شعبان في دمشق أواخر عام 7198 حين كنت مديراً لمكتب الحزب الشيوعي اللبناني هناك. زارنا فرحبت واستمعت. كان ذلك على خلاف تقليد سيء شائع بين الأحزاب الشيوعية. ذاك التقليد يجعل مجرد الاستماع إلى شكوى أو انتقاد لحزب ما أمراً محرَّماً يسيء إلى قيادة الحزب المعني، ويعد تدخلاً في أموره الداخلية... بمجرًد أن تستمع، فهذا يعني أنك تشجع الانقسام. وهكذا يصبح التعسف محمياً بقوة التواطؤ والتضامن "الأخوي" والجامع الرفاقي الأممي، الذي عوض عن أن يكون أداة  لتنظيم الحملات، ولتبادل الخبرات، ولتعميم النجاحات وتفادي السلبيات والإخفاقات، يصبح وسيلة فظة للتستر والقمع والإمعان في الخطأ ومنع المساءلة والنقد!!. هل قلنا النقد: لن يرضى أبداً، الرفيق "أبو عمار" كبير الشيوعيين والمفوض السوفياتي الأعلى في المنطقة. لن يرضى أيضاً لفيف الأمناء العامين المؤصلين في تقاليد المدرسة الستالينية السوفياتية التي استمرت بعد وفاة صاحبها عام 1953، وحتى، بعد إنتفاضة خروتشيف علىيه(ومع خروتشيف نفسه) في المؤتمر ال20 عام 1956!!
كان على الرفيق شعبان، عضو الحزب الشيوعي العراقي، الشاب آنذاك، أن يواجه  أسباب الخلل، من وجهة نظره، في المنطلقات، حتى الفكرية منها، وكذلك في بعض التوجهات والعلاقات والسياسات والممارسات..والواقع أنه انصرف إلى هذه المهمة، مباشرة، أو بشكل غير مباشر. وضمن مسار ومخاض فكري وسياسي وكفاحي جاد وجدي، وبعيد عن ردود الفعل الصغيرة المعتادة، فكان "تحطيم المرايا" أحد أهم انجازاته الفكرية والنقدية والتصحيحية في هذا الحقل. وهو استند في ذلك،  إلى ما ارتاده من آفاق واسعة، وما راكمه من ثقافة موسوعية، ومعرفة وعلاقات عامة متنوعة ومساهمات وتفاعلات فكرية وأدبية وسياسية وقانونية( خصوصاً في الموضوع الفلسطيني.
هاكم، على سبيل المثال، استنتاجاته وبعضها في غاية الأهمية، بشأن التعامل مع التراث كجزء من مشروع التغيير في شروط وظروف ملموسة. كتب: "هنا أدون رأي الذي تبلور خلال العقود الثلاثة ونيف الماضية والذي مفاده أننا تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية للأحزاب الإسلامية أو الإسلاموية، وأدرنا ظهورنا للتراث العربي الإسلامي... كما أهملنا الإنتماء التاريخي لشعوبنا واعتبرناه من اختصاص قوى وأحزاب قومية أو قوموية...". الزمن والنخب" ص 197.
إذن، لم يكرر "د. شعبان ما مارسه آخرون من ردود فعل على الخلاف، ومن ثم على الفصل، ومن أخطرها التخلي عن المبادىء والقيم، خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، بل هو ثابر على مواصلة رحلة بحث ومعرفة ونشاط وفعًال، استغرقت كل عمرة وأثمرت الكثير مما يصح معه القول: "رب ضارة نافعة". لكن هذا القول ذو حدين: أحدهما تكلس المؤسسات الحزبية وتحولها بيئة طاردة للإبتكار والإبداع. ثانهما، أن يحفز على مراجعة، لم تحصل، بشكل جدي، حتى الآن، رغم الانهيارات الكارثية التي كشفت أن الخلل لم يقتصر على جانب واحد فقط( رغم صدق النوايا غالباً، ورغم الكثير من الإنجازات التي كانت ذروتها هزيمة النازية والفاشية بتضحيات هائلة وبأثمان باهظة!). كتب الشهيد مهدي عامل: محاوراً ومحذراً : "يتكون فكرنا الماركسي بنقد الفكر الماركسي المتكون". هذه المعادلة الجدلية هي فقط، بإنتمائها إلى المنهج الجدلي الماركسي، كان من شأنها أن تعيد تصويب البوصلة والحياة إلى عقائدية مراوِحة، باتت أشبهه بدين جديد يحرسه المقدس وكهنة الهيكل وعبادة الفرد...
هل كان ينبغي أن ينخرط الفرد في مخاض معرفي وفكري، خارج أسر القيود والإلتزام الشائع، لكي يبدع؟ هذا سؤال خطير يُطرح على كل مشاريع التغيير وأساسها الأيديولوجي وصيغها التنظيمية. لا بد من مأسسة النقد لإطلاق التصحيح والابتكار والمبادرة. إذا غاب النقد، غابت هذه وحضر الصراع والتآمر والخواء... مأسسة النقد هو ترجمة لمبدأ لينيني شهير وثمين أدخله صاحبه في صلب التنظيم والحياة الداخليين للحزب الطليعي: النقد والنقد الذاتي. لم يؤمن ستالين بذلك أبداً. وهو طبع المرحلة التأسيسية الأولى للتطبيق بكاملها حين "جمع في يده سلطات" لا ينبغي جمعها ولاقدرة له على ضبط وحسن إدارتها، كما لاحظ لينين وهو على فراش المرض فالموت . تأسيس أو إعادة تأسيس مشروع التغيير التحرري العام، يجب أن ينطوي على عملية إبداع وابتكار شبه متكاملة، تستند إلى إعادة تقييم جدية وجذرية لكل تجاربنا التحررية السابقة، في المنطلقات والممارسات والنجاحات والإخفاقات..هذا حكماً، دون الإخلال بالأساسيات في الأفكار والمباديء والمواقف، وخصوصاً من امبراطورية الهيمنة والإستعمار والتسلط والإستغلال... على ما يدور في غزة الملحمة والبطولة والمقاومة والصمود وعظيم التضحيات.
تحية متجددة لصديقنا ورفيقنا د, عبد الحسين، الأكاديمي والمفكر والمجتهد والمناضل، وهو يواصل رحلة عطائه، بكثير من الدأب والإصرار والإنجاز .

بيروت في 6/2/2024


 

6
      
كلمة د. شيرزاد النجار في تكريم د. عبد الحسين شعبان

ندوة مجلة تحولات – بيروت

المفكر شعبان يحلق عالياً فوق زمن فلسطين والثقافة العربية

 

أيها الحفل الكريم!
   بعد صداقة ومودّة ومحبّة تمتد لستة عقود مضت، أتسأل كيف ليّ أن أكتب عن صديق العمر المفكر الدكتور عبدالحسين شعبان؟ ومن أين أبدأ؟ وبماذا أساهم في هذه الاحتفالية التكريمية؟
   أعتقد أنه من الأفضل تقديم لمحة عن أفكاره المتّسمة بالجرأة والنقد الموضوعي وبعض الإضاءات الفكرية السريعة، حيث أن المفكر شعبان انطلاقاً من أرضية فكرية عميقة تبدأ من بيئته العائلية مروراً بالحياة الجامعية ووصولاً إلى الفكر الماركسي، أطل على عالم الفكر باحثاً ومراجعاً ومجدداً وناقداً ومفككاً للأفكار لأجل إعادة ترتيبها وتركيبها.

(I)
البيئة والوعي الأولي
   أول تساؤل مهم يتبادر إلى الذهن هو: من أين بدأ المفكر شعبان وعيه الأولي وانفتاحه للحياة؟
   يجيب بنفسه على التساؤل ويقول:
   "بدأ وعيي الأول ينفتح في أجواء العائلة ومحيطها، وكانت هذه الأجواء شيوعية ويسارية وثقافية وأدبية... لقد عشت في بيت، وقُلْ بيوت من الكتب والمجلات والصحف، وكل ما حولي كان له علاقة بالكتاب موضوعاته ومحتواه".
وهذه البيئة دفعته مبكّراً للانخراط في العمل السياسي الذي كان، بحكم صغر سنّه، يجهل دروبه الوعرة وبنائه الفكري المعقّد، المتمثل بالفلسفة الماركسية، لذا نراه يقول:
   "لم يكن أحد منّا قد قرأ حينها الماركسية لكي يقول إنه اهتدى إليها، كان إحساساً سليقياً وجدانياً بالظلم من جهة، وبالرغبة في تحقيق العدالة والمساواة والرفاه والتطلّع العصرنة والحداثة من جهة أخرى، هو ما دفعنا للانخراط في العمل السياسي الماركسي”.
   وهكذا وجد عبد الحسين شعبان نفسه وهو ينخرط في العمل الجماهيري ويشارك في المظاهرات ويلقي أشعاراً وهتافات ثورية معبّراً فيها عن آلام الشعب ومعاناته ومطالبه بـ"إسقاط النظام"، وهكذا أخذت هويّته الخاصة تتكوّن بالتدريج.

(II)
الحياة الجامعية
            كنّا من الجيل العراقي الجديد الذي أنهى توّاً الدراســــــــــة الإعدادية 1963-  1964 ، وتمّ قبولنا في جامعة بغداد. وفي أول أيام الدراسة الجامعية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- قسم العلوم السياسية (هذه الكلية كانت تقبل فقط أعلى درجات التخرج من الإعدادية) لم يكن الاندماج بهذه الحياة الجامعية الجديدة   ” سهلاً “، حيث جئت من مدينة أربيل التاريخية العريقة ذات الطابع المحافظ والديني مع وجود نشاطات وحركات تميل إلى الصبغة اليسارية والوطنية والقومية، وواجهت مجتمعاً منفتحاً حراً وغير متعصّب، واختلطنا مع طلبة أكثرهم من بغداد العاصمة الجميلة الجذابة الراقية وكذلك من مدن عراقية أخرى، سواءً في الوسط أو الجنوب أو الشمال وكان من ضمنهم الطالب النجفي عبدالحسين شعبان، وطلاب من اليمن والجزائر وفلسطين والأردن. ومصر وغيرها من البلدان العربية. 
ومن هذا الزمن بدأ شعبان يهتم بالقضية الفلسطينية وأقام علاقات قوية مع الطلبة الفلسطينيين في الجامعة وخارجها. وساعده هنا المعرفة السياسية التي كنا نتلقاها في المحاضرات والتي كانت تُلقى علينا من قِبل أساتذة أجلاء مقتدرين وعن طريق هؤلاء الكبار( الذين درسوا وتخرجوا من جامعات مرموقة في فرنسا، بريطانيا وأمريكا) انفتحت عقولنا على عالم جديد من الأفكار والاتجاهات والتحليلات وزرعت لدينا الشجاعة في قول ما نفكر به بطريقة علمية ومنهجية. كل ما كان يُذكر في المحاضرات جديداً ومثيراً ومحركاً للعقل، تعلمنا كيف نناقش ونطرح آراءنا، ونتقبّل وجهات نظر الآخرين تدريجيّاً.
      وفي ربيع عام 1967، جرت انتخابات طلابية في الجامعة بعد انقطاع طويل، حيث كانت آخر انتخابات في العام 1960، ولعب المفكر شعبان دوراً محورياً فيها كممثل للتيار الوطني التقدمي المتمثل في اتحاد الطلبة العام. وفي إحدى مناقشته مع أحد الأساتذة الذي سأله: ماذا أنتم فاعلون؟ قال شعبان له:
" نمدّ أيدينا للتعاون مع الجميع فعسى أن نتمكن من عقد “جبهة طلابية” وكان ذلك شعارنا، لكن الأمر لم يتحقّق لإشكاليات وعُقدٍ سابقة، فضلا عن محاولة تضخيم الحجوم، وفضّل كل فريق أن ينزل الانتخابات بمفرده، وعلى الرغم من تخوّفنا من احتمالات الصِدام إلّا أنّ الأمر تمّ بسلاسةٍ واعتياديةٍ نسبياً باستثناء ما حصل في كليتي الحقوق والتربية الرياضية التي انسحبنا منها بسبب أعمال شقاوة وتهديدات، وفعلنا ذلك احتجاجاً.
وكانت النتائج أن أحرزناها 80% من الأصوات و76 من المقاعد الانتخابية، وهذا ما كان مفاجئاً حتى لنا، بل مفارقة حقيقية، فقد كانت التقديرات التي توصّلنا إليها قبل الانتخابات بأننا يمكن أن نحصل على 20-25 %، وإذا بنا نعبر أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، ويعود السبب في ذلك إلى أننا نزلنا بقائمة موّحدة وشعارات مهنية واخترنا أفضل الوجوه الاجتماعية والآخرين كانوا متفرقين ومنقسمين"
هذا ما أراده المفكر شعبان في“ مجلة المستقبل العربي” 2013 في مراجعةٍ للتجربة، وأضاف يقول في تلك اللحظة:
"شعرت إنّ مسؤوليتنا ستصبح أكبر وأننا حتى لو حصلنا على 99% فإننا لن نستطيع أن نقود الاتحاد أو البلاد دون تعاون وطني عام وتلك هي قناعتي التي كانت تتعزّز مع مرور الأيام، فالتعددية والتنوّع من طبيعة المجتمع العراقي التي لا بدّ من أخذها في عين الاعتبار." 
(III)
المفكر شعبان والقضية الفلسطينية
إرتبطت القضية الفلسطينية بالثقافة العربية إرتباطاً عضوياً ، وأن الفكر التقدمي العربي كجزء من الفكر التقدمي الإنساني العالمي جعل من فلسطين والقضية الفلسطينية جوهر ومحور أعماله ونشاطه.
المفكر شعبان لم يكن إستثناءً من هذا الإرتباط، لكن ما يميزه عن الآخرين، هو تكريس جزء غير قليل من نشاطه وجهده الفكري والثقافي، النظري والعملي لقضية المقاومة، والذي أنتج نحو 10 كتب وعشرات الأبحاث والدراسات، إضافة إلى مقالات على مدى 5 عقود الماضية للدفاع عن حقوق الشعب العربي الفلسطيني في المحافل العربية والدولية، كما أنه أسس وشارك في فعاليات وأنشطة ومؤتمرات عديدة.
وكان الهم الفلسطيني حاضرًا معنا في المرحلة الجامعية، حيث كان معنا العديد من الطلبة الفلسطينيين واختلطنا معهم وبدأت ملامح التضامن مع القضية الفلسطينية ومع المنظمات الطلابية الفلسطينية في جامعة بغداد.
يرى المفكر شعبان أن الإنسان الفلسطيني هو النموذج الأممي للاضطهاد على المستوى الكوني، لاسيما أنه قد أُقتلع من أرضه وصودر حقه الإنساني الأول في تقرير مصيره، جماعياً وفردياً، وذلك بإلغاء كيانيته في أكبر عملية سطو على التأريخ، لذا كان وما يزال  د. شعبان مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني العادلة والمشروعة وغير قابلة للتصرف، ولاسيما مع مبدأ حق تقرير المصير. وعليه فهو منحاز مع قضية فلسطين وحقوق الشعب العربي الفلسطيني. وكما عبّر عنه صديقنا د. إياد البرغوثي في حفل تكريمه بتونس (2016)، بقوله: شعبان مع التعددية والتنوّع في الحياة، بل في كلّ شيء، إلّا باستثناء القضية الفلسطينية والفقراء، فهو أحادي فيهما.
(IV)
المفكر شعبان والقضية الكردية
   ولأن شعبان لا يقبل تجزئة الحقيقة أو الانتقاص منها، فقد وقف مع حق تقرير المصير للشعب الكردي، وظلّ ثابتًا على هذا الموقف الفكري المبدئي، بعيدًا عن تقلّبات السياسة وعلاقات القوى مع بعضها.
   وإذا كانت نظرة معظم القوى السياسية العراقية نحو القضية الكردية قد تطوّرت، لكن الاختلاف بينها ما زال قائما ويتعاظم أحيانًا، خصوصاً بتعاظم دور الكرد وبعض النزعات التي برزت على السطح بعد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق حول مضمون هذه الحقوق وحدودها ومستقبلها، فضلاً عن اختلاف زاوية النظر إليها بما فيها ما يتعلق بوحدة العراق أرضًا وشعباً.
وفي رأيه أن المعالجة السليمة للقضية الكردية تحتاج إلى نقاشات علنية وصريحة وواسعة وإلى توفير اقتناعات مشتركة وعامة في ظل ضمانات قانونية ومشروعة لتطور العلاقات العربية الكردية في عراق مستقل وحر ودستوري موحد.
من الضروري إيجاد صياغات دستورية مقبولة فيما يتعلق بالعلاقات بين عرب العراق وكرده لتأسيس علاقات على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي جديد.
ويعتقد مفكرنا، بأكاديميته المعهودة، أن ما ورد في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية 2004 وفي الدستور العراقي 2005، يثير الكثير من الإشكاليات والتداعيات وربما ستثير المزيد منها في المستقبل، لأنهما احتويا على ألغام يمكن أن تنفجر في أية لحظة، مما يقتضي البحث عن صياغات مقبولة فيما يتعلق بهذه الضمانات أو بغيرها لتأسيس العلاقات والاتحاد الطوعي على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي جديد وليس بنصوص مشوشة.
يضاف إلى ذلك أن صدور الدستور في وقت وقوع العراق تحت الاحتلال بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1443 الصادر في 22 مايو/أيار 2003 أو القرارات التي تبعته يجعل تلك "الضمانات" غير مضمونة، فضلا عن إمكانية الطعن فيها من الناحية القانونية والسياسية، ولذلك وعلى صعيد الوضع المستقبلي اقتضى الأمر البحث عن ضمانات دستورية لتأمين الشراكة العربية الكردية مع بقية الأقليات وفي ظل أوضاع سليمة وبعيدة عن التداخلات الخارجية التي تجرح السيادة الوطنية العراقية وتعوّمها.
ويمكن القول، يضيف د. شعبان، إن هناك تحديات وتهديدات ومخاوف تعترض طريق العلاقات العربية الكردية ليس على صعيد الوضع الداخلي العراقي فحسب، بل على الصعيد العربي والإقليمي وكذلك على الصعيد الدولي أهمها:
•   محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في تاريخ العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي. وأن بعض القوى الخارجية والإقليمية التي ظلّت تعزف على هذا الإيقاع لأسباب مصلحية تعود إلى رغبتها في تأمين مصالحها السياسية، التي قد تكون على حساب الكرد والعرب بل إن الوقائع في السابق والحاضر تقودنا إلى القول إن تلك القوى لم تكن بعيدة عن إثارة وتعميق النعرات وتضخيم نقاط الاحتقان والتوتر.
•   ويضيف: إن هناك مساعي حثيثة لعزل العرب عن الكرد واتهام الكرد باعتبارهم أحد المسؤولين عن الاحتلال، خصوصا أن الحركة الكردية تعاملت مع نتائجه.
وفي هذا الوضع فإن العرب غير مسؤولين عن الاجتهادات أو المواقف الخاطئة لبعض النّخب العربيّة، مثلما هي اجتهادات بعض النّخب السياسية الكرديّة بخصوص العامل الخارجي والتعويل عليه في الإطاحة بالنظام السابق، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مبرّرًا لاتخاذ مواقف سلبية أو لا مبالية إزاء الكرد ومن حق تقرير المصير أو الفيدرالية أو غير ذلك من الصيغ المناسبة لحل القضية الكردية.
•   وينبغي، يؤكد د. شعبان، أن لا يُقدم ما هو طارئ ومؤقت وآنٍ على ما هو إستراتيجي وثابت وبعيد المدى، إذ إن ما يربط الكرد بالعرب سيكون بالتأكيد أكثر بكثير مما يربطهم بالولايات المتحدة، حتى وإن بدت الصورة الحالية غير ذلك، لكنها ستكون بلا أدنى شك مؤقتة وآنيّة وطارئة، بل إنها لا تعكس حقيقة العلاقات بين الشعبين رغم بعض المشكلات. ولا يمكن استبدال العرب بشعب آخر كما لا يمكن استبدال الكرد بشعب آخر، ولهذا اقتضى الأمر التعايش والتفاهم والبحث عن المشترك الإنساني، ومثل هذا الأمر يشمل علاقة الكرد بالفرس وعلاقتهم بالأتراك وغيرهم.
•   وفي رأي د. شعبان أنه إذا كان موقف العربي الذي يعتز بقوميّته من حقوق الشعب الكردي ومن قضيّة حقوق الإنسان يشكل محكّاً للموقف الإنساني، فإن موقف الكردي المعتز بقوميته من حقوق شركائه في الوطن العراقي وبشكل خاص عرب العراق وبالتالي من القضية الفلسطينية التي تشكل جوهر الصراع هو الآخر محكّاً للانفتاح القومي والإنساني وبخاصة إزاء الشركاء. ويشكل هذا الموقف العربي والكردي الأساس لعلاقة صحيحة بين عرب وكرد العراق وبين العرب والكرد بشكل عام.
•   وحول تحديات تخص العرب والكرد، يؤكد د. شعبان، فإن التحدي الدولي هو التحدي الأول، خصوصا استمرار الوضع العراقي كما هو عليه من وجود قوات محتلة أو متعددة الجنسيات وانفلات أمني وعنف مستمر وغياب مرجعية الدولة وضعف مفهوم ومبدأ المواطنة والقسمة الإثنية الطائفية.
•    أما التحدي الثاني فهو التحدي الإقليمي الذي هو إحدى التحديات التي تعيق تطوّر الوضع العراقي بشكل سليم وبحكم التأثير والامتداد الإقليمي، والضغط على بعض القوى الداخلية لاستحقاقات إقليمية بما يعكر الوحدة الوطنية خصوصا بعض دول الجوار مثل تركيا وإيران.
•   التحدي الثالث من أهم التحديات هو التحدي الداخلي(الوطني)، فإذا كانت الحرية مقدمة للديمقراطية فإن المواطنة هي التحدي الأول للدولة القانونية، ومن دون مواطنة كاملة ومساواة تامة، لا يمكن تحقيق التعددية وضمان حق المواطن في الانتخاب الحر واختيار الحاكم، وفي ذلك إحدى ضمانات حقوق الإنسان.
•   ويحتاج الأمر إلى قدر من العقلانية في التعاطي مع تركة الماضي البغيض وإلى قدر من التسامح لتجاوز هذا الماضي، مع ضرورة إنصاف الضحايا أو عوائلهم في حالة وفاتهم وإدانة المرتكبين وكشف الحقيقة كما هي في الماضي والحاضر لكي لا تتكرر المآسي والآلام، وفي ذلك خطوة مهمة لسيادة مفاهيم حقوق الإنسان، ولكن قبل الحديث عن الديمقراطية وآلياتها لا بدّ من بناء الدولة، إذْ لا ديمقراطية دون وجود دولة لها هيبتها وسلطتها ووحدتها.
•   وكلّما ترسخت قاعدة الحريات الفردية والعامة وتمت إعادة النظر في القوانين والأنظمة السائدة وتخليصها من كل ما له علاقة بكبح حقوق الإنسان انتقلت الدولة من الاستبداد والتسلط إلى الحرية والديمقراطية.
•   ولأجل تحقيق ما جاء أعلاه، يرى د. شعبان أنه ينبغي الاعتراف على قدر المساواة بحق القوميتين العربية والكردية في الاتحاد الاختياري في العراق على أساس الشراكة ومراعاة التفاهم والعيش المشترك في المناطق الجغرافية المتداخلة.
وكتطبيق لأفكاره، نظم د. شعبان العديد من المؤتمرات والندوات، ومن أهمها
تنظيم أول حوار عربي – كردي 1992، وتنظيم حوارات تونس وحوارات عمان حول الحوار العربي- الكردي وحول حوار الأمم الأربع. كما أسس، في العام 1986، اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379، الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، وكان أمينها العام.
•   وفي مقابلة تلفزيونية في شهر حزيران 2023 في أربيل ناقش المفكر شعبان عدة قضايا تتعلق بالعلاقات بين حكومة إقليم كوردستان العراق من جهة والحكومة الاتحادية والدول الاقليمية والعالم من جهة أخرى، لافتاً الى أن هناك تقدماً وتطوراً كبيراً وملحوظاً في تجربة إقليم كوردستان، وعلى الرغم من الضغوط والتحديات التي واجهتها، ويجب أن يُنظر اليها على الاقل بأنها تجربة ناجحة و على الرغم من الأخطاء والنواقص التي عانت منها.
•   وأوضح أنه يجب "ان تقدم الحكومة العراقية التنازلات للكورد وكذلك يجب ان يقدّم الكورد تنازلات للحكومة العراقية، بما يمنع اتساع فجوة الصراع لحين التوصل الى اتفاق تاريخي، والذي يتم من خلاله تحقيق كافة مطالب الكورد".
•    الجدير بالذكر أن شعبان كان قد كتب أول نص للمعارضة العراقية عام 1992 عن حق تقرير المصير، وكانت هذه المرة الاولى التي تصدر فيها وثيقة سياسية عراقية تضع الحل الاستراتيجي كهدف واضح، بالرغم من تحفظات بعض القوى والشخصيات.
وأشار عبدالحسين شعبان الى أن "وجود كوردستان قوية وعراق ضعيف سيكون العراق بأكمله ضعيفاً، ووجود كوردستان ضعيفة وعراق قوي سيكون العراق ضعيفاً أيضاً، لذلك نحن بحاجة الى إقليم قوي بكافة حقوقه ونحتاج الى دولة عراقية فيدرالية قوية بوحدتها ومواطنتها المتكافئة والمتساوية أيضاً. هنا يمكن حل جميع القضايا العالقة بين إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية، وفقًا لاحترام الخصوصية في إطار العراق الموحّد وبالاختيار الحر، انسجامًا مع مبدأ حق تقرير المصير، علمًا بأن النظام الفيدرالي هو أحد تجلياته، التي تم الاتفاق عليها بعد عام 2003.
وفي الختام أتمنى للمفكر شعبان دوام الصحة والمزيد من التألق في عالم الفكر والثقافة، متمنيًا أن تسود قيم العقلانية والحوار والتسامح واللّاعنف والسلام، التي يدعو لها، الصديق شعبان.

7
المنبر الحر / رهان بوتين
« في: 18:47 02/03/2024  »
رهان بوتين

عبد الحسين شعبان

هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 شباط /  فبراير 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحًا، تكتلًا ضدّ تكتل، خصوصًا بتعزيز المحور الروسي - الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرةً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم المادي والمعنوي إلى أوكرانيا، التي وضعها حظّها العاثر في طريق روسيا.
وكان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ( 1977 - 1981)، كتب "من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تُصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، فقد كانت أوكرانيا تاريخيًا جزءًا من المجال الحيوي لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثاني دولة انسلخت عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وأبدت سعيًا حثيثًا للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علمًا بأن واشنطن كانت قد قدمت تعهدات لغورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى الناتو، بعد تفكك حلف وارشو، لكن واشنطن تنصّلت من وعودها، وسعت إلى تطويق روسيا، بل خنقها داخل حدودها.
لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل في مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتي تبعها شنّ الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمرّ كما حصل في ضمّ شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئًا تمامًا، لأن الأمر مختلف هذه المرّة، فأوكرانيا تمثّل بوابة روسيا إلى الغرب.
صحيح أن وضع منصّات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازًا كبيرًا لها، وتهديدًا لأمنها القومي ومصالحها الحيوية، وهو ما حذّرت منه، إلّا أن عوقب شنّ الحرب واستمرارها كانت كارثيةً على الجانبين.
وسبق لبوتين أن اتهم واشنطن بتنظيم انقلاب في أوكرانيا لدعم أنصارها وإقصاء الرئيس المنتخب الموالي لروسيا فيكتور إنيوكوفتش، واستبداله بشخصية موالية للغرب، عبر حركة احتجاج شعبية، تلك التي عُرفت باسم "الثورة الملوّنة" (2014)، التي أوصلت بترو بورشنكو ومن بعده فلاديمير زيلينسكي.
من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية - الروسية، يفاجئ أن هذين البلدين السلافيين الجارين، اللذان يدينان بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيرهما بشكل عضوي، وهو ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأساويةً وتعقيدًا، إذْ أن أكثر من 20 % من الروس والأوكرانيين، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكرانيين يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخيًا، حين تكونت أول دولة في كييف، في العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.
فقط في الحرب العالمية الأولى أُعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفيتي في العام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شنّ الألمان النازيين الحرب على الاتحاد السوفيتي في 22 حزيران / يونيو 1941، وذلك على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضًا، انخرطوا في الدفاع عن الوطن السوفيتي، حيث ساهم الجيش الأحمر في تحريرهم  في العام 1945.
وخلال فترة الحكم السوفيتي، وسّعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2 ، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدةً من تدليل زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلّنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها في العام 1956، لكن بعد 58 عامًا أقدم بوتين على استعادتها وفصلها عن أوكرانيا في محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معًا، على حدّ تعبيره، مما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلًا من محاولات "الترويس".
تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عديدة مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافةً إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة "أكرنتهم" والتمييز ضدّهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما في ذلك في الدونباس وشبه جزيرة القرم، وخصوصًا بتقرّبها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية - الروسية.
لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلّح، وخصوصًا ببرنامج حرب النجوم، في عهد الرئيس رونالد ريغان، والآن تسعى لتوريطها في أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكراني، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغاني في مواجهة السوفييت، ردًا على هزيمة فيتنام.
كل هذه الأوضاع عبّر عنها، بحزن وألم، الكاتب والديبلوماسي السابق الروسي - الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، حين كتب يقول "هذه الحرب تمزقني، كانت والدتي روسيةً ووالدي بطلًا أوكرانيًا في الحرب العالمية الثانية..."، ولم يكتف بذلك، بل حذّر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، وذلك في كتابه الموسوم "بوتين - أوكرانيا: الأوجه الخفية"، الصادر عن دار النهار، بيروت، 2023.




8
كلمة العلامة سماحة الشيخ حسين شحادة

حفل تكريم د. شعبان
بيروت - 6 شباط /  فبراير 2024

الدكتور عبد الحسين شعبان
  قديس حريّة الكلمة
 وصانع اللوبيات القانونية والحقوقية من أجل فلسطين
 

   يوم كتب المفكر العربي الكبير، الدكتور عبد الحسين شعبان عن فقه التسامح، كنا سيادة المطران جورج خضر وأنا وآخرين من المتابعين لأعماله الفكرية من يساريين وقوميين وعلمانيين، قد انتبهنا إلى سنّ قلمه المضيء، في منعطف الأسئلة الحرجة من تحولات الفكر السياسي العربي المضطرب، تحت لعلعة البنادق، التي سبقتنا وسبقت محابرنا، فكانت وفق الروزنامة الفلسطينية هي الزمن الفلسطيني.
   كان الفجر العربي داكنًا، لم يكن العقل سيّد التنوير، وقد التبس النهوض العربي بالشروط والشروط المضادة بالتخوين والتخوين المضاد، إلى أن انتهى المشهد الظلامي عن الكوارث الدامية، التي أصابت الجميع ومن دون استثناء، في واقع ملتهب وبائس، امتلأت فيه أقبية السجون.. بسجناء الرأي وسجناء الجهل المقدّس، فيما الأحزمة الإرهابية الناسفة، كانت، إذا فرغت من جنون انتحاري إلى انتحار حضاري، تسأل عن دم البعوض، أطاهر هو؟ أم نجس؟!
   وأمام هذا التحدي، اتّجه الدكتور شعبان إلى لملمة شظايانا ومراجعة تجاربنا بروح انتقادية منفتحة وجامعة، وفي باله سؤال المستقبل الجارح والمجروح، وكان لابدّ من البوصلة، وكانت بوصلته كل فلسطين، من النهر إلى البحر، ولا ابالغ إن قلت:
أن الدكتور عبد الحسين شعبان، الأكاديمي الثوري، واليساري الصوفي، والإنساني الشاهد والشهيد على العصر الفلسطيني، والمحب للحياة أيضًا، هو صانع اللوبيات القانونية والحقوقية من أجل فلسطين على المستويين العربي والدولي.
   فخاض معاركه الفكرية والثقافية والنهضوية، وهو يرى بأحزانه، ومن عمق قلبه وفؤاده، كيف انهار البيت العربي، وكيف سقط  سقفه على رؤوس الجميع، ورأى بآلامه كيف لوينا عنق الزمن الفلسطيني، وأدخلناه في جدل انقساماتنا حول الحريّة والهويّة وبناء الدولة الحديثة وأولويات النهوض، واحتدم السجال عميقًا، هذه المرّة ليصبح، ويا للأسف حول أي فلسطين نريد؟ هل نريد فلسطين الدينية أم فلسطين العلمانية؟
   أقول، أمام هذه التراكمات المتصحّرة والمتكلّسة، كان لا بدّ للدكتور شعبان أن يخوض معاركه على أكثر من جبهة،  بدءًا من جبهة الوعي بالذات، مرورًا بجبهة تصحيح المفاهيم والمصطلحات وصولًا إلى جبهة الخندق الفلسطيني الأمامي المتقدّم، ويسعني القول أن:
الجبهة الأولى - على الصعيد الفكري، التي فتحت أمامه الأفق ليكون من فرسان الحوار، فنادى بوجوب ردّ الاعتبار لحوار التكامل، لا بين  العروبة والإسلام فحسب، ولا بين الماركسية والإسلام وعموم الأديان، بل بين ثلاثية الدين والسلطة والمجتمع من منطلق إيمانه، أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لشرف الدخول إلى الزمن الفلسطيني بأفقه العربي - الإنساني، القائم على الحق والعدل والتعدّدية والتنوّع وقبول الآخر.
والجبهة الثانية، كانت على الصعيد العملي، فقد بذل جهودًا  حفظتها لنا وثائق المؤتمرات والندوات والمحاضرات، ليلفتنا جميعًا إلى قدسية الاهتمام بتنقية الذاكرة من دواحس العلمانية ومن غبراوات السلفية التكفيرية ومن أوهام التغريب والانبهار بأمركة العالم وعولمته، كذلك أرادنا الدكتور شعبان، بوصفه قديسًا لحريّة الكلمة، أن ندخل إلى الزمن الفلسطيني بثياب نظيفة وصلاة طاهرة وبنادق تتّقي الله بسفك الدماء وتتقي الله بجاهليات العنف والتطرّف وصنميات العقول، التي لم تدرك مغزى أن نخلع نعالنا الحزبوية والسياسية والطائفية في حضرة فلسطين.
الجبهة الثالثة - نقض السردية الصهيونية، ونقض السرديات المنبهرة بأوهام التطبيع مع العدو "الإسرائيلي"، هكذا حفر الدكتور شعبان رؤيته الصادقة بين الحفرتين، وقارب بموضوعية عميقة  أسئلة النهضة ذاتها، ولكن من وجهة  مغايرة ومختلفة، قوامها:
 أولًا - تحرير الحوار من الأدلجة
ثانيًا - تحرير المعرفة من المخيلة الموروثة
ثالثًا - تحرير الشموليات من نزعة التفوّق وذهنية الإقصاء ولوثة الهويّات القاتلة.
   ولأن قلم الدكتور عبد الحسين شعبان، هو القلم المعافي الخالص من الشوائب، شوائب الفتن وشوائب الانقسام وشوائب التنظير للتسويات المهينة والمذلّة بشهادة الأوسمة والدروع، التي منحته إيّاها بغداد وبيروت ودمشق وعمّان والقاهرة وتونس والخليج، وسواها من العواصم الأوروبية وغير الأوروبية، فقد أصبح الدكتور شعبان، من بيننا، قدوةً للمثقف العربي المناضل، ومثالًا يحتذى للذين جاهدوا ويجاهدون بالقلم.
 إنه ربيب النجف، ربيب الكلمة الروحية، وبكامل أوصافه العلمية والأخلاقية، لم يُصب شعبان بالوهن ولا أخذته العزّة بالغرور.
 قبّل شعبان الخريطة العربية وقبّل ترابها وأخذنا إلى "دين العقل وفقه الواقع"، واستراح، لكنه لم يهدأ وكمثل عصفور الشرق، حطّ على أغصان كرمته، واعدًا بأن نهاية التاريخ لم تُكتب بعد، وبأن الزمن الفلسطيني قد بدأ، وبأن فضّ الاشتباكات الفلسفية والدينية والسياسية، تبدأ من سؤال الحريّة قبل سؤال التحرير، وبأن الزمن الفلسطيني الواعد بالحق والخير والعدل والكرامة والجمال والعنفوان، هو للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وهو للقابضين على مفاتيح العودة الكاملة إلى فلسطين الكاملة.
وتلك هي فرادة الاستثناء، وفرادة المفكر والفيلسوف السياسي عبد الحسين شعبان، وتلك هي فرادة أصحاب القيم وأصحاب الرسالات من جيل إلى جيل.

9
جورج جرداق والعشق على طريقته

عبد الحسين شعبان



تمهيد
   صورتان تحضران كلما ورد ذكر الأديب والكاتب والصحافي الساخر والمتعدّد الانشغالات اللبناني جورج جرداق هما: الإمام علي وأم كلثوم، ولعلّ من يطّلع على سيرته يجد الجواب على هذه المفارقة، فبقدر شهرة موسوعته عن الإمام علي وذيوع صيتها، فإن أغنية أم كلثوم لقصيدة "هذه ليلتي" لا تقلّ شهرةً إن لم تزد عنها، خصوصًا وأن عشرات الملايين كانوا يستمعون إليها. وهكذا طغت هاتين الصورتين على اسمه ، وربما جاءت على حساب العديد من الكتب التي ألفها وعشرات الأغاني التي كتبها لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرها، فضلًا عن عمله وتولّعه بإذاعة "صوت لبنان" التي كان يعتبرها بيته الثاني ويطلّ من خلالها على الناس في  برنامجه المعمّر "على طريقتي"  لمدة زادت عن 15 عامًا .
كنت قد تعرّفت على جورج جرداق (1931 - 2014)  في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم، وكانت المحامية الصديقة هدى الخطيب شلق قد نظّمت هذا اللقاء، وتبادلتُ معه الرأي واستأنست بوجهات نظره وأفكاره بخصوص العديد من القضايا الفكرية والثقافية وشؤون الأمّة العربية بعامّة. وحين عرف موقع  عائلتي الديني والروحي وخدمتها في حضرة الإمام علي لأكثر من خمسة قرون من الزمن  بموجب ثلاث فرامين سلطانية من الدولة العثمانية (سرخدمة أي رؤساء الخدم / المرشدون الدينيون)، انفتحت أساريره  ففاض في حديثه عن الإمام علي وكان ذلك جسر تواصل وصداقة .
سألته كيف اهتدى إلى الإمام علي؟ فروى لي ما دار بينه وبين شقيقه فؤاد الذي أهداه كتاب "نهج البلاغة" وقال له: ادرسه واحفظ ما تستطيع منه. يقول جرداق ما إن استلمت الكتاب حتى استلمني، فكنت  أحيانًا أهرب من المدرسة إلى كنف الطبيعة لأجلس تحت شجرة في قريتي "مرجعيون" بقضاء النبطية في الجنوب اللبناني، لأستغرق في قراءة وحفظ نصوص من هذا السِفر الشائق والممتع والعميق والمزدان بالمعرفة والحكمة.
لم يكن ذلك الكتاب الذي طبع حياة جرداق هو الوحيد، بل كان يتأبّط معه كتاب "مجمّع البحرين" للشيخ ناصيف اليازجي الذي تتلمذ فيه على فقه اللغة العربية، كما تأثّر بأدباء  وكتاب كبار مثل رئيف خوري وفؤاد افرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وميشال فريد غريب أستاذ الأدب الفرنسي، إضافة إلى "ديوان المتنبي" الذي لم يفارقه فحفظ الكثير من شعره، وغالبًا ما كان يستشهد بالأبيات الآتية:
فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ  .........   وَعُمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ
وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ .........   وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ
   وتعدّدت لقاءاتي معه عند إقامتي في لبنان بعد العام 2003، وكان آخر لقاء بيننا في العام 2010، حيث أهديته كتابي عن "الجواهري جدل الشعر والحياة" الذي صدر عن دار الآداب، وبعد أن تصفّحه قال لي سألتهمه التهامًا، مبديًا إعجابه الكبير بالجواهري. وكم كان حزينًا في آخر لقاء لي معه لما حلّ بالعراق وأهله، خصوصًا بُعيد صعود الموجة الطائفية المقترنة بالاحتلال الأمريكي وتفشّي النزعات التكفيرية وشيوع مظاهر جديدة من الإرهاب ارتباطًا بتنظيمات القاعدة حينها.

مقهى الحاج داوود
   أتذكّر أنني في أحد المرات دعوته على العشاء وكانت برفقته مساعدته الحسناء في مطعم "مقهى الحاج داوود " الشهير في عين المريسة في بيروت والتي تغيّر اسمه إلى "الدروندي" وهو المقهى المشهور بتقديم وجبات السمك اللذيذ، الذي كنت قد تعرّفت عليه في أوائل الستينيات مع أخوالي جليل ورؤوف وناصر شعبان، وقد فاجأني بأنه نباتي وقال أنه يستغرب ممن يأكلون لحوم الحيوانات وكيف تعطيهم أنفسهم فعل ذلك، وكان العديد من روّاد المطعم يختلسون النظر إليه وجاءت إحدى الفتيات الجميلات لتستأذن منه بالتقاط صورة معه وبعد موافقته دعت أحد المصورين الجوالين ليقوم بذلك، وقد استدعى مساعدته ليلتقط معها ومع الفتاة التي اقتحمت مائدتنا صورة أخرى.

مدرسة العشق
   قلت له هل أنت عاشقٌ؟ قال العشق تولّه وهيام وصبابة، فأنا أعيش بين عشقي وكتبي  ولا أستطيع التفريق بينهما، فهما متلازمان ومترابطان عضويًا، وأضاف: العشق حالة إنسانية من لم يجرّبها فهو لم يتعرّف بعد على طعم الحياة.
   وهل المرأة ملهمتك؟ سألته، فقال المرأة ليست بالضرورة ملهمة للإبداع، فليس في أشعار شكسبير أي أثر لها ولا في سمفونيات بيتهوفن أو منحوتات مايكل أنجلو أو غيرهم من كبار المبدعين. قلت له أين تضع كتابك الأول "فاغنر  والمرأة"، قال لي اعتبرته سيرة قصصية  في بدايات كتاباتي انطلاقًا من رؤية وحدة الفن بجميع جوانبه وأشكاله. وبالمناسبة فقد عرفت من خلال متابعاتي وقراءاتي أن  طه حسين أدرج هذا الكتاب ضمن لائحة الكتب المقرّر قراءتها على طلبة الدكتوراه في الأدب بدقّة وإمعان. وكانت كتبه قد تُرجمت إلى العديد من اللّغات بينها الألمانية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية.
   ربما كان العشق الحقيقي لجرداق  قد تملّكه بحبّ الإمام علي، بما فيه من فضائل إنسانية ومناقب شخصية ومعان سامية مثلت بالنسبة له شعاعًا للقيم ونبراسًا للمثل، فقد وقف معه عند دين الرحمة والعدالة والإنسانية والحياة وهو ما وجده بصورته الأصفى والأنقى والأبهى.

خماسيّة جرداق
وكنت قد ذكرت في أكثر من مناسبة أنني كنت مهتماً في فترة الفتوّة بمتابعة سيرة الإمام علي، مثلما هو اهتمامي بالأفكار اليسارية والتقدمية الحديثة، واطلعت حينها على "نهج البلاغة" وقرأت فصولاً منه، ولكن ما استوقفني على نحو لافت للتفكّر والتأمل والاستشراف ما كتبه جورج جرداق في موسوعته الخماسية، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت بعنوان "الإمام علي ... صوت العدالة الإنسانية"، وهي:  "علي وحقوق الإنسان" و " علي والثورة الفرنسية" و " علي وسقراط" و "علي وعصره" و "علي والقومية العربية" وأضاف إليها مؤلفاً سادساً بعنوان "روائع نهج البلاغة".
وكانت حين صدورها حدثًا كبيرًا شديد الرقي منهجاً وأسلوباً وتوجّهاً، وإن اختلفت بعض وجهات النظر بشأنها، خصوصًا مقاربتها لعدد من فلاسفة الثورة الفرنسية الكبار مثل: روسو  ومونتسكيو  وفولتير، والفلسفة عمومًا ابتداءً من سقراط أبو الفلاسفة، ناهيك عن  روح العصر واستلهاماته في تأكيد السياق التاريخي، وتسليط ضوء على اعتزاز الإمام علي بأرومته وانتمائه ولغته، ناهيك عن بعض "جواهره" التي وردت في نهج البلاغة.
   والشيء بالشيء يُذكر فأودّ هنا أن أشير إلى  ثلاث كتب مرجعية إشكالية مهمة تناولت فصولًا من التاريخ الإسلامي، أولهما – كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" لأحمد عباس صالح الذي قرأت حلقات منه نشرت في مجلة الكاتب (المصرية) التي كان يرأس التحرير فيها، وذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي، ثم صدرت لاحقًا بكتاب بالعنوان ذاته، وثانيهما – كتاب: "علي إمام المتقين" لعبد الرحمن الشرقاوي الذي قرأته في العام 1986، وثالثهما –  كتاب "علي: سلطة الحق" لمؤلفة المغدور عزيز السيد جاسم (1987).
   قلت لجرداق لقد اتّهمتَ بالشعوبية وهو ما قرأته، قال ولذلك كتبت "علي والقومية العربية" وهي مرافعة للدفاع عنه وعني، وهي دعوة للاعتراف بالآخر خارج دوائر العرقية والفئوية والطوائفية والدينية والأيديولوجية، فقد امتاز علي بصفات عربية وإنسانية أصيلة كحب الخير ومساعدة المظلوم والعدل والإنصاف والمروءة والشجاعة والحكمة.
   وسألته عن من يحاول إطفاء صورة الصحابة الآخرين بإضفاء صفات أقرب إلى الربوبية على الإمام علي، فقال الإمام علي بشر مثل سائر خلق الله، لكن قدرته في خلق وعي عابر لما هو قائم تُعطيه بعض المزايا، وهي التي تجعل منه إنسانًا كونيًا، فحديثه عن "الفقر في الوطن غربة" يتمثّل في رؤية مستقبلية اجتماعية عميقة. كما أن  في تسامحه ردّ على أولئك الذين يتّهمون العرب والمسلمين بأنهم غلاظ القلوب وقساة ومتوحشون وبرابرة ودينهم يحضّ على ذلك، فحين ضربه بالسيف  عبد الرحمن بن ملجم قال كلمته الشهيرة آنذاك: إن عشت فأمره لي، وإن متّ فضربة بضربة، وهو ما دعاه لاستذكار السيد المسيح عيسى بن مريم  الذي تمتم بعبارات الاستغفار والترحّم لمن يعلّقونه على الصليب قبل صعوده إلى السماء.
   وقد تناول المؤرخ اللبناني الكبير حسن الأمين كتاب صديقه جورج جرداق عن الإمام علي بقوله أنه وضع جرداق في قمة أدباء العربية وهو بيان متدفق أصيل كشف عن كنوز خبيئة.
   وحين سألتني قناة الفضائية  العراقية لماذا لم يكتب جرداق عن الحسين؟ كان جوابي كما سمعته منه، أن الحسين كان على خطى أبيه في الدفاع عن الحق والعدل، وهو يمثل رمزية جهادية شجاعة، وبما معناه "هذا الشبل من ذاك الأسد"، فعلي كان مشكاة للفلسفة والحكمة والأخلاق. وإذا كان قد ترك لنا تراثًا زاخرًا بالفكر وفلسفة الحكم وزهد الحاكم وعدله وشجاعته، فإن الإمام الحسين ترك لنا تراثًا غنيًا في مواجهة الظلم والدفاع عن الحق والعدل.

"هذه ليلتي"
   سألته عن قصيدة هذه ليلتي التي تُعدّ إحدى تحفه الرائعة والتي يقول فيها:
هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي    /   بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ
        الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي      /        فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ
بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا    /   وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا
 وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا      /      سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا
سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر    /     فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر
   قال لي كانت أم كلثوم قد أعلنت في العام 1968 عن رغبتها في أن تغنّي قصيدة لشاعر من كلّ بلد عربي، وأنها اختارت قصيدة لشاعر لبناني، لكنها لم تفصح عن الاسم، وكنت أعلم ما دار بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب وبينها ، فقد أبلغني بذلك هاتفيًا، وحين زار محمد عبد الوهاب لبنان وأقام في فندق شبرد في مصيف بحمدون التقيت به، وطلب منّي إعادة قراءة القصيدة له، ثم التقينا في أوتيل أمبسادور مع فريد الأطرش ونجاة الصغيرة وإحسان عبد القدّوس، فأخذني عبد الوهاب إلى الشرفة المطلة على وادي لامارتين  لأقرأ عليه مجدّدًا بعض أبيات القصيدة، فقال هذا ما أريده لأم كلثوم، وفرحت كثيرًا وكنت تعرفت عليها العام 1965، وقد لحّن محمد عبد الوهّاب القصيدة وغنّتها أم كلثوم. ولقت استحسانًا وحماسةً كبيرةً من الجمهور الذي اعتبرها من أهم أغانيها.
   وسبق ذلك اللقاء أن اجتمع عبد الوهاب وأم كلثوم وجرداق في القاهرة في منزل أم كلثوم في شارع أبو الفدا (المطل على النيل) وأبدت أم كلثوم إعجابها بالقصيدة ذات الأجراس الموسيقية كما سمّتها، ووصفها عبد الوهّاب بالسهل الممتنع وكان كثير الإعجاب بجورج جرداق.
   قلت له ماذا كان شعورك وأنت تسمع القصيدة مغنّاة، فأجاب أنها مثلت ثلاثية رائعة بين الأداء والموسيقى والنص، وكما اعتبرتها  الصحافة حينها نتاج لقاء "ثلاث قمم".  وقد دُعيت لحضور الحفلة التي ستغنّي بها أم كلثوم في القاهرة على مسرح سينما "قصر النيل"، وحضرت أنا وزوجتي، وقد  عادت أم كلثوم وغنّتها في بعلبك العام 1970، وكانت تلك آخر حفلة لها في لبنان، فقد رحلت عن دنيانا في 3 شباط / فبراير 1975.
نشرت في دورية أفق (التي تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)، عدد 149 شباط / فبراير،  وفي جريدة الوطن (السعودية) 22 شباط / فبراير 2024.   


 

10
المنبر الحر / ستالين مستعادٌ
« في: 19:45 27/02/2024  »
ستالين مستعادٌ
عبد الحسين شعبان

   "بعد موتي، ستُرمى على قبري أكوام النفايات، لكن رياح التاريخ ستبدّدها"، هذا ما توقّعه جوزيف ستالين قبل بضعة أشهر من وفاته في 5 آذار / مارس 1953، ولعل موجة الحنين،  التي تجتاح بعض الشباب الروسي إلى "الديكتاتور الأحمر"، هي التي تذكّر بذلك، إذْ سيعتبر ستالين "الشخصية المجيدة في روسيا الخالدة"، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية (24 شباط / فبراير 2022)، ذلك ما توصّل إليه الكاتب والديبلوماسي، الذي عمل مع غورباتشوف، وكان المتحدّث باسم البريسترويكا، فلاديمير فيدروفسكي، في كتابه المثير "بوتين: أوكرانيا - الأوجه الخفيّة". وهو ما يؤكده مركز ليفادا الروسي المستقل والمختص بالأبحاث الاجتماعية وإجراء الاستطلاعات، الذي صنّف ستالين على رأس الشخصيات التاريخية الأكثر تميّزًا.
   وهكذا يُبرَّء ستالين "الكاريزمي، الجذاب" من الأخطاء والخطايا، التي ارتبطت باسمه، فهو صاحب الإرادة الفولاذية والعناد الثوري والتواضع الإنساني، وتلك الصفات أخذت تقرّبه من لينين سلفه المباشر، ومن القيصر بطرس الأكبر، ومن "إيفان الرهيب" باعتبارهم رموزًا لقوّة روسيا.
وتترافق استعادة ستالين، الذي "تسلّم روسيا الفقيرة وحوّلها إلى قوّة عظمى"، مع توجّه فلاديمير بوتين، الذي تولّى دست المسؤولية الأولى في روسيا منذ العام 2000، وحاول "إعادة العافية إلى روسيا" بعد أن غرقت في الفساد والانحلال، إثر الإطاحة بالنظام الشيوعي.
   وحين تُقدّم صورة ستالين - بوتين، فإنها تُظهر الاختلاف والتعارض مع صورتي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن، على المستويات السياسية والنفسية والأخلاقية، فالأول ضعيف وساذج، والثاني عاجز وسكّير، في حين أن ستالين يقدَّم باعتباره رجل الدولة المستقيم، ويبرر النيوستالينيون أعمال القمع، التي قام بها بأنها كانت من اختراع لينين، وأنها ماكينة حكم ثورة أكتوبر، المحاطة بالأعداء الداخليين والخارجيين، وهذه فرضت مثل هذا النوع من الحكم لمواجهتهم وحماية أمن البلاد.
وكانت المفكرة والاقتصادية الماركسية روزا لوكسمبورغ، المعروفة باسم "روزا الحمراء" والتي أطلق عليها لينين اسم "صقر الماركسية المحلّق"، أول من احتجّ على هذا النهج، وكتبت إلى لينين تقول "الثورة ليست حمام دم"، مثلما عارضها الروائي مكسيم غوركي، الذي مات مكسورًا بعد أن اضطرّ أن يتدثّر بالصمت، وانتقد كارل كاوتسكي، الديكتاتورية البلشفية، التي قامت عليها السلطة السوفيتية، علمًا بأنه يُعتبر أحد زعماء الأممية الثانية، والمنظّر الأبرز بعد وفاة صديقه إنجلز، وكان يُلقّب ﺑ "أبو الماركسية"، علمًا بأن لينين خالف الكثير من أطروحاته وردّ على أفكاره  بكتاب عنوانه "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي".
والحجج التي تقف إلى جانب ستالين كنت قد سمعتها من العديد من الشيوعيين بشكل مباشر، مثل القيادي البارز آرا خاجادور والمفكر حسقيل قوجمان، اللذان ظلّا، حتى آخر أيامهما، يتغنّيان بمجد ستالين ويرفضان الاتهامات الموجهة إليه، علمًا بأن بعض الكتابات تستبعد الأرقام المبالغة بشأن الضحايا، وتختصرهم إلى مجرد بضع مئات آلاف، في حين يقدّرهم البعض الآخر بالملايين، وهنا يمكن استعادة كلام ينسب إلى ستالين "موت رجل واحد مأساة، أما موت ملايين فتلك إحصائية".
   كان ستالين بارعًا في الدراما السياسية، فهو شديد التواضع في ملبسه ومسكنه ومأكله، غرفته تتزيّن بسجادتين بسيطتين وستائر سميكة وطاولة خشب مصقول وسماور للشاي وعلبة تبع وغليونين أو ثلاثة، وهذا ما يذكره المؤرخون، وقد رفض بناء قصر خاص له وأصرّ على البقاء في موسكو خلال الاجتياح النازي.
   كما استطاع ستالين اللعب على الخصوم، فتحالف مع زينوفييف وكامينيف ضدّ تروتسكي، ثمّ أطاح ﺑ بوخارين وتومسكي وريكوف، وتدريجيًا أعدم بعض هؤلاء الزعماء، بمن فيهم بوخارين، الذي كان يلقّب "بمحبوب الحزب" وأعدم ابنه معه بتهم الخيانة والتجسس في محاكماته الشهيرة، الـتي أودت بالكادر القيادي، وصعد هؤلاء منصة الإعدام وهم يهتفون بحياة ستالين، وتلك مفارقة أخرى.
   وفي ذاكرتي الطفلية، استعدت صورة ستالين، التي رأيتها أول مرّة مخبأة في إحدى كتب عمي شوقي شعبان المدرسية، فسألت عن هذا الرجل، وإذا بي أسمع اسم "ستالين"، باعتباره رئيسًا للشيوعيين في العالم. وحصلت المفاجأة والدهشة حينما عدت من المدرسة بعد أسابيع، ورأيت عيني عمي شوقي الزرقاوين الجميلتين وقد اغرورقتا بالدموع، وبدا الحزن واضحًا على وجه عمي ضياء، الذي كان من أنصار السلام، ثم عرفت الخبر: لقد مات ستالين، وبسذاجة طفولية سألت، هل ستلبس بيبتي (جدتي) السواد حدادًا عليه؟
   ولم يمض وقت طويل وإذا بالصورة "المشرقة" تبهت وتتغيّر، بل اهتزت بعد التقرير الذي قدّمه خروتشوف إلى المؤتمر العشرين للحزب العام 1956، وتدريجيًا أخذت تسبّب لي نفورًا بمرور الأيام، ارتباطًا مع تعمّق وعيي، وانخفاض منسوب الحمولة الآيديولوجية، خصوصًا بالانتقال من اليقينية الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية النقدية.
النظرة التقديسية إلى حد المعصومية أخذت تتبخّر، حتى وإن كانت ببطء شديد، بسبب ادعاء الأفضليات، وغضّ الطرف عن الأخطاء والنواقص، بل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، فضلًا عن منظومة الدعاية التوجيهية المضلّلة، التي كانت تُضخّ إلينا، ناهيك عن الجهل بالكثير من الحقائق والمعطيات الصادمة.
وكان صدور كتاب اسحق دويتشر الموسوم "ستالين - سيرة سياسية"،  قد أحدث هزّة جديدة وعنيفة في النفوس، لاسيّما بكشفه معلومات لم نكن نعرفها، وهو ما أشرت إليه في مراجعتي للتجربة في محاضرتي في الكوفة كاليري في لندن بتاريخ 2 شباط / فبراير 1994 والمنشورة في كراس بعنوان "بعيدًا عن أعين الرقيب". 

11
مظفر النواب وعبد الحسين
ورحلة البنفسج

النجف الأشرف – وكالات

   بحضور نخبة متميزة من المثقفين والأكاديميين وجمهور واسع من عشّاق الأدب بعامة والشعر بخاصة، ولاسيّما شعر مظفّر النواب، التأمت الندوة الحوارية عن كتاب المفكر عبد الحسين شعبان الموسوم "مظفر النواب – رحلة البنفسج"، والتي أقامها اتحاد الأدباء والكتّاب ودار النهار اللبنانية وإدارة المعرض في قاعة القدس بمعرض النجف للكتاب الدولي.
   أدار الندوة، الباحث المقتدر د. باقر الكرباسي، وافتتحها رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الروائي أ. محمود جاسم عثمان النعيمي، وذلك احتفاءً بقامتين أثيرتين، هما مظفر النواب وعبد الحسين شعبان، المثقفان الملتزمان.
   وقال النعيمي أن المثّقف يمثل أعمدة الحضارات وسيكولوجيته تختلف عن سيكولوجية السلطة، وأشاد بعلاقة شعبان العضوية بالنواب، والتي كان من نتاجها هذا الكتاب المميّز والمهم.
   وقدّم الكرباسي د. شعبان مشيدًا بمنجزه الفكري والإبداعي والثقافي على مدى يزيد عن نصف قرن، وأشار أنه تناول ثلاثة من كتبه بالتقريظ، وهما "فقه التسامح" و"المثقف في وعيه الشقي" و"دين العقل وفقه الواقع". وألمح إلى أن هذا الحضور البهي هو تعبير عن الاعتزاز بابن النجف البار عبد الحسين شعبان، الذي ظلّ طوال عقود من الزمن يتغنّى بمدينته الأثيرة.
   واختتم الندوة عبد الحسين شعبان بتقديم عرض مكثّف عن كتابه، مشيرًا إلى أن النواب مع فلسطين ومع الفقراء ومع العدل ومع الإنسان، وتلك مثلّت محور شاعريته وشعره، الذي يتمتّع بالإدهاش والجمال والسؤال والصور المتدفقة من المحسوس واللّامحسوس، والشعر يتحدّث عن الكلّي من الأشياء، وتناول شعبان شعره المحكي (العامي) وشعره الفصيح، وأشار إلى أن الشعر الشعبي قبل مظفر النواب ليس كما هو بعده، فهو المجدّد بالقصيدة المحكية (الشعبية) ومن جاء بعده سار على خطاه.
   وبعد أن أجاب شعبان على أسئلة الحاضرين، قدّم هديّة إلى اتحاد الأدباء والكتاب، حيث تقدّم رئيس الاتحاد في النجف، الأستاذ النعيمي لاستلامها، وهي عبارة عن كتابين، الأول "جواهر الجواهري"، الذي صدر مؤخرًا (2024)، والثاني "عصبة مكافحة الصهيونية" (2023). ووجّه رئيس الاتحاد دعوة لشعبان لإلقاء محاضرة عن الجواهري في النجف.

 

12
أمسية الاحتفاء بعبد الحسين شعبان
زمن فلسطين والثقافة العربية

بيروت / المحرر الثقافي - خاص

   اكتظّت قاعة جريدة السفير ببيروت بحضور نوعي متميّز احتفاءً بالمفكّر والأكاديمي العراقي د. عبد الحسين شعبان، وبعد أن قدّم رئيس تحرير مجلة تحوّلات، الأستاذ سركيس أبو زيد كلمة ترحيبية أشاد فيها بمناقبيته  ودوره في الثقافة العربية، وأوضح أن الاحتفال به ليس ترفًا وإنما هو احتفاء بفلسطين واحتفاء بغزّة المقاومة، حيث كرّس شعبان جهدًا وافرًا من عمله الفكري والثقافي والنضالي لفلسطين وقضايا الحريّة والعدالة.
   وأدارت الجلسة، التي زادت على ساعتين، الإعلامية والشاعرة نوال الحوار، التي رحبت بالضيوف وقالت عن د. شعبان :نحتفي بحضوره بيننا اليوم، بكلّ ما حمل ويحمل من رصيد فكري ووجدان عربي وتجربة يسارية وعمق نجفي وشخصية عراقية وبُعد حقوقي، عبد الحسين شعبان، بلا تكلّف هو بيت العرب بمنازل شتى... يأنس هذا الرجل بفضاء إنساني غني، كانت فلسطين جذره ونجمته التي لا صباح بدونها، واختتمت بقولها عبد الحسين شعبان نجمتنا فهلّلوا لفلسطين، وهاتوا إلينا بضوء الحسين في زحمة السواد.
  وتوالى على المنصّة العلامة الشيخ حسين شحادة، فألقى كلمة قال فيها أن شعبان قدّيس حريّة الكلمة، وهو صانع اللّوبيات القانونية والحقوقية من أجل فلسطين، كلّ فلسطين، وقال: أن شعبان يوم كتب عن فقه التسامح، لفت انتباهنا سيادة المطران جورج خضر وأنا وآخرين من المتابعين لأعماله الفكرية من يساريين وقوميين وعلمانيين، فقد شعرنا أنه يلملم شظايانا ويراجع تجاربنا بروح انتقادية منفتحة وجامعة، انطلاقًا من سؤال النهضة والحريّة والتنمية، خصوصًا بدعوته للحوار ومحاولة ترزينه وعقلنته وإبعاده عن الأدلجة، وتحرير المعرفة من المخيلة الموروثة وتحرير الشموليات من نزعة التفوّق وذهنية الإقصاء ولوثة الهويّات القاتلة، وكذلك في تنقية الذاكرة ونقض الرواية "الإسرائيلية".
وأشار العلّامة شحادة إلى أن قلم شعبان معافي وخالص من الشوائب: شوائب الفتن وشوائب الانقسام وشوائب التنظير بالتسويات المهينة والمذلّة، بشهادة الأوسمة والدروع التي منحتها إياه بغداد وبيروت ودمشق وعمّان والقاهرة وتونس والخليج وسواها من العواصم الأوروبية وغير الأوروبية، لأنه قبّل الخريطة العربية وقبّل ترابها وأخذنا إلى "دين العقل وفقه الواقع" واستراح لكنه لم يهدأ كمثل عصفور الشرق حطّ على أغصان كرمته، واعدًا بأن نهاية التاريخ لم تُكتب بعد، وبأن الزمن الفلسطيني قد بدأ.
   ثم تحدّث بعده الدكتور محمد الحوراني، رئيس اتحاد الكتّاب العرب، الذي قدِم من دمشق للمشاركة في الاحتفاء بالدكتور شعبان، فقال من الصعب بمكان أن تجد أديبًا بارعًا في السياسة ومن النادر أن ينجح مثقّف في الإمساك بخيوط الاقتصاد والقانون ويناقشك فيهما نقاش الخبير العارف بتفاصيلهما على اختلاف المدارس الفكرية الأدبية، فضلًا عن دفاعه عن حقوق المظلومين في أصقاع المعمورة، ولعل كتابيه "عصبة مكافحة الصهيونية" و "مذكرات صهيوني"، يضعانه في صف أبرز المؤرخين، فضلًا عمّا يملكه من براعة في التحليل وسلاسة اللغة، مما يجعل كتبه ذات قيمة عالية، وقد وظّف ذلك في خدمة القضية الفلسطينية ومقاومتها من موقعه اليساري، منتقدًا بقسوة آراء كثير من المثقفين الغربيين المتحاملين عليها والراغبين بتدنيس طهرها... إنه الباحث والمفكر الأديب الأستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان.
   وتناولت د. أوغاريت يونان ، المفكّرة التربوية ومؤسسة جامعة اللّاعنف علاقتها مع د. شعبان وعملهما المشترك في جامعة اللّاعنف، ليس فيما يتعلّق بكتبه، ذات القيمة الأكاديمية الرفيعة، بل وبسلوكه الأخلاقي الأنيق وإنسانيته الطافحة وحبّه للحياة وفهمه للمتغيّرات وإيمانه باللّاعنف، وكذلك قدرته على التجدد والمرونة، فهو الصحافي والكاتب والمحلل المنتشر شرقًا وغربًا، والمثقف والباحث والمنجذب إلى الأكثر وأكثر، الراوي الحافظ لذاكرة بإبهار، كأن في نصوصه رزنامة زمن ودفتر أسماء وعناوين وحكايات وسرد بكلّ الأحرف والأرقام في السياسة والتاريخ والسيسيولوجيا والدين والنضال والماركسية والقومية وحقوق الإنسان واللّاعنف.
 وخاطبت شعبان بقولها: إصرارك على الشباب والحب والتنوّع والسلام، يكفي لي، كي أعرف من أنت بدون أن أقرأ كتبك... وأكملت: من هذا الركن أذهب معك إلى فلسطين... من البديهي أن تكون هذه قضيتك، وأن تكتب لها وعنها، هذا بديهي. قضية فلسطين النبيلة لا تستحقّ إلّا غايات ووسائل نبيلة، أي ما نسميه نحن مقاومة لا عنفية... أنت تناضل في ميدانك، ميدان البحث وكشف المعطيات ببراعة. فشكرًا على توثيق التاريخ للعدالة ولبناء تاريخ آخر. وقد أحبّك وليد صليبي وأحب شخصيتك منذ أول لقاء بينكما.
   أمّا الأستاذ سعد الله مزرعاني، وهو نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني (سابقًا)، فأشار إلى أنه تعرّف إلى د. شعبان في الثمانينيات، ولاحظ منذ لقائه الأول أنه كان يواجه أسباب الخلل في الحركة الشيوعية في جانبها الفكري، وكذلك في التوجّهات والعلاقات والسياسات والممارسات، وأنه انصرف لتلك المهمّة ضمن مسار ومخاض فكري وسياسي وكفاحي جاد وجدّي، بعيدًا عن ردود الفعل الصغيرة المعتادة، ولعلّ أحد أهم منجزاته على هذا الصعيد، هو كتابه "تحطيم المرايا"، فضلًا عن بعض استنتاجاته التي هي في غاية الأهمية، لاسيّما في التعامل مع التراث كجزء من مشروع التغيير.
   وقال مزرعاني: لم يمارس شعبان ما مارسه أخرون من ردود فعل على الخلاف، بالتخلّي عن المبادئ والقيم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بل ثابر على مواصلة رحلة بحث ومعرفة ونشاط فعّال، استغرقت عمره وأثمرت الكثير، وختم كلمته بالتحيّة المتجددة للصديق والرفيق شعبان، الأكاديمي والمفكّر والمجتهد والمناضل.
   وتوقّف الروائي مروان عبد العال عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث قال: الدكتور عبد الحسين شعبان ايها السادة ، نتشرفُ  ونعتزُ أنَّه رفيقُ وحبيب فلسطين والجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين، منذُ انطلاقتِها بعد نكسةِ  حزيرانَ عام ١٩٦٧ وهو من صفوة حوارييها الخُلّصِ، وأشهد أنه  كان بمثابة العقل المدبّر، الذي يستشار في مواقفها وقراراتها ووثائقها، وهو  الصديق الوفيُ  لعددٍ كبيرٍ من قادتِها الأوائل ومنهم  تيسير قبعة  وغسان كنفاني وأبو علي مصطفى وصابر محي الدين وليلى خالد وصلاح صلاح وخاصة جورج حبش  رفيقُه  في الزمن الدمشقي، يومَ  كان  "الحكيمُ"  يلحُ على قراءةٍ جديدةٍ لمعرفةِ  ليس من هو العدو فقط،  بل ماهيّة هذا العدو؟"
وأكمل عبد العال: كنتُ قد  قرأت وتعلمت وتعرفتُ على الخارطةِ الفكريةِ  للعزيز الدكتور  عبد  الحسين شعبان  من صفحاتِ مجلةِ الهدف، التي لم يبخلْ عليها بمقالٍ او اضاءةٍ وبحث جاد حتى عددها  ال 55 الرقمي الخاصِ الاخير الذي صدرَ   بالأمس،  واتحفنا بمقاله  " طوفان الاقصى: صراعُ الاراداتِ والعقول" .
وتناول كتابيه الأخيرين " عصبة مكافحة الصهيونية" و"مذكرات صهيوني"، كما توقّف عند كتابه "الزمن والنخب - في أنطولوجيا الثقافة العربية"، مشيرًا إلى أنه المفكّر والمناضل والأكاديمي، الذي ظلّ مع فلسطين، على الرغم من كلّ المتغيّرات. وبصدد كتاب "مذكرات صهيوني" كتب يقول: ما هذا السرُ الذي نهشَ عقلَ وتفكير د. جورج حبش؟ وبعد اجتماع للتبيان والتخطيط  والدرس، بدأت رحلة البحث مذكراتِ ريدليخ، وبإلحاح منه طار د. عبد الحسين الى براغ،  للتفتيش عن أوراقٌ تحتوي معلوماتٍ مثيرةً تتعلقُ بالصفقةِ اللاخلاقيةِ بين النازيةِ والصهيونيةِ، الأمرُ الذي يعكسُ حقيقةَ أن الصهيونيةَ والنازيةَ هما وجهان لعملةٍ واحدة، وكلاهما يستمدّان أيديولوجيتِهما من الفكرِ العنصريِ الاستعلائي.
وأنه تقاطع مع جورج حبش بشأن موضوع حل الدولتين، حيث كنت تتلّمس أن المسألة أبعد من ذلك وأي حل لا يستجيب للحق الثابت وغير القابل للتصرّف لفلسطين، ستعاد المسألة مرّة وأخرى وثالثة حتى يتحقق حلم الفلسطينيين بتقريري المصير والعودة، وهو ما يؤكده شعبان.
   وكان آخر المتحدثين، البروفيسور شيرزاد النجار، أستاذ العلوم السياسية والمستشار السابق لدى رئيس إقليم كردستان، فتناول علاقته بالمفكر شعبان منذ نحو 6 عقود من الزمن، وتوقّف عند منشئه الأول عائليًا ومدينيًا، ثم دوره الثقافي ولمعته الفكرية منذ سنوات الجامعة، وأشار أنه مع فلسطين والفقراء أحاديًا، كما ذكر ذلك د. إياد البرغوثي، في حين أنه تعدّدي في كلّ شيء، وقال أن علاقته مع المقاومة الفلسطينية بدأت من بغداد، وكانت أحد أبرز الناشطين في تظاهرات العام 1967 بعد عدوان 5 حزيران، وساهم خلال السنوات المنصرمة في تقديم أنواع الدعم لفلسطين عبر المؤتمرات والاجتماعات الدولية.
 وقال أن قضية العدالة لديه لا تتجزّأ، مثلها مثل قضية الحرية وحق تقرير المصير، وهو في الوقت نفسه وقف مع الشعب الكردي وحقه في تقرير المصير، وأول من صاغ فكرة الحوار العربي الكردي (1992)، ونظم فعالية كبرى لإنجاز الفكرة، علمًا بأن أول نص لفكرة حق تقرير المصير للمعارضة العراقية في العام 1992 أيضًا كانت من بنات أفكاره ومن نسج قلمه.
وأشار النجار إلى قول عبدالحسين شعبان أن "وجود كوردستان قوية وعراق ضعيف سيكون العراق بأكمله ضعيفاً، ووجود كوردستان ضعيفة وعراق قوي سيكون العراق ضعيفاً أيضاً، لذلك نحن بحاجة الى إقليم قوي بكافة حقوقه ونحتاج الى دولة عراقية فيدرالية قوية بوحدتها ومواطنتها المتكافئة والمتساوية أيضاً
   ووصلت، إلى حفل تكريم الدكتور، رسالة من البروفيسور مكرم خوري مخّول من جامعة كامبريج  - دارة فلسطين لعدم تمكنه من الحضور، أشاد فيها بالدكتور شعبان وبالجهة التي دعت إلى تكريمه كقامة فكرية عربية وأممية كبيرة، وأن له أياد فواضل في حقول متعددة كالقانون والسياسة الدولية والأديان، وما يلفت، هو تركيزه على الشعب الفلسطيني ونضاله، وذكر دوره على الصعيد الدولي، وخصوصًا مساهمته المتميزة في مؤتمر ديربن ضدّ العنصرية.
   وحيا المفكر والكاتب والصحفي نصري الصايغ الاحتفال وأشار بكلمة قصيرة إلى دور شعبان الذي يمثّل مكتبة متحركة وقرر أن ينشر كلمته الموسعة في وقت لاحق
   واختتم د. شعبان الحفل بكلمة قصيرة، قال فيها أن الاحتفاء هو بفلسطين، والاحتفال هو بالمقاومة والتضامن مع غزة.
   وأعرب عن حرجه وقلقه وارتباكه إزاء ما قيل بحقه، وأضاء على عدد من القضايا أهمها التركيز على المقاومة الثقافية والقانونية والديبلوماسية، وضرورة الاستمرار بذلك.
   وسلّط الضوء على بعض إجراءات محكمة العدل الدولية التي انعقدت بدعوى من حكومة جنوب أفريقيا، تلك التي تدمغ "إسرائيل" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهي التي تهدد شرعية وجودها واستمرارها.
   وأشار إلى أنه منذ 4 عقود من الزمن كان قد اشتغل على هذا الملف، ولاسيّما متابعة تقديم "إسرائيل" إلى القضاء الدولي لارتكابها جريمة تهديد السلم والأمن الدوليين وجريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضدّ الإنسانية وجريمة العدوان والاستيطان، وهذه كلّها جرائم مدانة بموجب القانون الدولي. ومن هذه الزاوية دعا الدول العربية للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست في روما العام 1998، ولفت الانتباه إلى كتاب كان قد صدر له في العام 1987 عن دار شرق برس بعنوان " سيناريو محكمة القدس الدولية العليا"، وكتاب آخر صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2010 تحت عنوان " لائحة اتهام: حلم العدالة الدولية في مقاضاة إسرائيل".
   وأكّد إلى أن هناك تحوّلًا بالمزاج العالمي إزاء القضية الفلسطينية وعدالتها، بل يمكن القول ثمة انعطافة جديدة ومهمة وأنه هناك تغييرات في النظام الدولي العالمي، خصوصًا بصعود الصين ومعافاة روسيا.
   ولفت الانتباه إلى الدور الأوراسي، قائلًا أن الذي يسيطر على أوراسيا كأنه سيطر على العالم ، كما قيل، ليس من زاويته الجيوسياسية حسب، بل هذه المرة من زاويته العلمية التكنولوجية في ظلّ التعددية القطبية التي هي الآن في طور التكوين والنشوء، .
   واختتم شعبان بشكر النخبة المتميزة والكوكبة اللامعة، التي شاركت في إحياء هذا الحفل وفي هذه الأمسية البيروتية العربية الأممية بامتياز كما عبرّ المتحدثون.
   الجدير بالذكر أن العديد من المتحدثين أشادوا بدور الأستاذ طلال سلمان وصحيفة السفير، التي كانت مدرسة حقيقية للعروبة ولفلسطين وصوت من لا صوت له.

 

13
المنبر الحر / لغز "أوراسيا"
« في: 11:30 10/02/2024  »
لغز "أوراسيا"

عبد الحسين شعبان

   يتخطّى اسم أوراسيا الكلمة المركبة، التي تجمع أوروبا وأسيا، ليصل إلى جمع الجغرافيا بالسياسة (جيوبوليتيك)، في إطار استراتيجية دولية، تتصارع فيها وحولها قوى كبرى من داخلها ومن خارجها. وقديمًا قيل من يمتلك أوراسيا يهيمن على العالم.
   تبلغ مساحة أوراسيا 55 مليون كم2، أي ما يعادل 37% من مساحة اليابسة على سطح كوكب الأرض، ويسكنها 70% من سكان العالم (نحو 5 مليارات وثلث المليار نسمة)، وكان بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981)، يُدرك أهمية البعد الجيوستراتيجي لهذه المنطقة، ولاسيّما نفوذ الولايات المتحدة فيها، خصوصًا صراعها الأيديولوجي مع الدب الروسي في فترة الحرب الباردة، وهو ما تناوله بعمق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى".
   ويُعتبر المنظّر البريطاني هالفورد ماكيندر، المتخصص بالجيوبوليتيكا، من أبرز دعاة فكرة الأوراسيا، منذ مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة التي عاد وطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ العام 2000.

قدّم دوغين "الأوراسية" باعتبارها النظرية الرابعة بديلًا للنظريات التي سادت في القرن العشرين (الاشتراكية والفاشية والليبرالية) بدعوته تعزيز القوة الجيوبولوتيكية لروسيا، والتكامل مع المحاور البرية التابعة في "الحزام الأوراسي" و"الحزام الباسيفيكي"، و"الحزام الأورو أفريقي"، والشرق الأوسط (وبضمنه العالم العربي)، الذي أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة.
 وحسب دوغين، فإن هدف روسيا هو تكوين قطب عالمي منافس للقطب الأمريكي. وقد أثارت أطروحاته اهتمامًا من لدن نخبة من الأكاديميين والمعنيين العرب، وكنت قد التقيته واستمعت إليه في محاضرة تفصيلية بهذا الخصوص.
أما بريجينسكي فتحليله يرتكز على ضرورة هيمنة الولايات المتحدة على البر الأوراسي، الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضًا الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي، ويمتد من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية)، ومن لابلاند (أقصى الجزء الشمالي من فنلندا) إلى ماليزيا، وهي التي تمثّل رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يسيطر عليها، سيتم الاعتراف له بالقوّة والتفوّق.
   وبالعودة إلى ماكيندر، فإن "المنطقة المحورية" الأوراسية، هي تلك التي تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى، إضافة إلى الأرض المركزية، التي تشمل وسط أوروبا وشرقها بوصفها تشكّل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة، وبالتالي على العالم، في حين أن بريجينسكي حدّد 5 قوى جيواستراتيجية في أوراسيا هي: فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، مستبعدًا دولًا مثل بريطانيا واليابان وإندونيسيا على أهميتها، أما دولًا مثل أوكرانيا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فيمكن أن تؤدي دور المحاور الجيوبوليتكية الثابتة المهمة.
   وانطلاقًا من هذا المفهوم، نلحظ أن التوجّه الأمريكي نحو دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، وأوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا، ازداد كثافةً وتأثيرًا، بما فيه الصراعات الدائرة اليوم مع إيران وفي وسوريا ولبنان واليمن، وهو جزء من المواجهة مع روسيا وحليفتها الصين، سواء كان الأمر على نحو مباشر أو غير مباشر، والأمر يبدو أكثر وضوحًا في أوكرانيا وسوريا.
وإذا كان هذا هو الفهم الأمريكي لأوراسيا، فإن الفهم الروسي الأوراسي يعاكسه بشدّة، بما فيه تبريره للحرب في أوكرانيا باعتبارها "دفاعًا عن النفس"، في حرب مفتوحة اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا، لاسيّما فيما يتعلّق باستيراد بعض دول أوروبا الغاز الروسي (ألمانيا وفرنسا).
 وكان بريجينسكي يُدرك أنه "من دون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، والتعددية القطبية التي نظّر لها، منذ مطلع السبعينيات في كتابه "بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني"، هي التي أخذت تتبلور بعد صعود التنّين الصيني وبداية معافاة روسيا لتشكيل محور موازي للمحور الغربي.
   وإذا كانت الحروب في أوراسيا قديمة ومعتّقة، فهي تتجدّد باستمرار تحت عناوين إثنية أو عرقية أو دينية، وهي حروب موروثة من الماضي السحيق، حتى وإن كانت تختفي وتظهر، فإن الجديد فيها هو الدور غير الأوراسي، بدخول الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا بمحاولة نصب صواريخ بالستية لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية -  الروسية، بهدف إضعاف روسيا المتحالفة مع الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الأول.
صحيح أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى العرق السلافي، ويدينون بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ويرتبطون تاريخيًا بعلاقات عميقة ومتشابكة، إلّا أن الحساسيات القومية القديمة، وخصوصًا في الحقبة السوفيتية، تركت ندوبًا عميقةً في الذاكرة الجمعية الأوكرانية. وقد يكون من باب ردّ الفعل ميلها إلى الغرب وتطلّعها لتكون جزء منه، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991.
في الصراعات الأوراسية الجديدة - القديمة (الصين - تايوان)، لا يمكن إغفال دور واشنطن، إضافة إلى تأجيج الصراع الياباني - الصيني، مثلما هو بين كوريا الجنوبية والفليبين، وذلك بإيقاظ روح الكراهية والحقد، بما يعيق الرغبة في وصول هذا الجزء الأوراسي إلى الاستقرار والتعاون. وعلى حافة أوراسيا، تتعرّض غزّة إلى حرب إبادة جماعية من أكثر الحروب بشاعةً وتوحشًا من جانب "إسرائيل"، وبدعم ومساندة مادية ومعنوية من واشنطن، ولعلّ تلك الحروب وغيرها هي امتداد لتلك الحروب المعتقة، بما فيها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تسعى واشنطن لعرقلتها بشتى السبل، لأنها تُدرك أن أحد مفاتيح حل لغز أوراسيا بيد الصين.

   



14
غزة والمعركة القانونية

عبد الحسين شعبان

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024.
   أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والديبلوماسية.
   وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطلاع على حيثياته، التي تلزم "إسرائيل" باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب "إسرائيل" بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب "الإسرائيليين" واعتبارهم رهائن.
   لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007 ، وهو ما أعطى انطباعًا سلبيًا لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول: 
أولًا -  إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أولي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علمًا بأن المحكمة رفضت طلب "إسرائيل" ردّ الدعوى.
   ثانيًا - إن المحكمة أصدرت قرارًا أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة "إسرائيل" بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.
   ثالثًا - يمثل القرار تقويضًا لشرعية "إسرائيل"، خصوصًا حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الديبلوماسية والقانونية، استكمالًا لجوانب المعركة الأخرى.
   رابعًا - إن طلب المحكمة توفير الخدمات الاساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار "الإسرائيلي" المفروض عليها بقرار قضائي.
   خامسًا - صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى "إسرائيل" في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي "الإسرائيلي" صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.
   كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابيًا، وعلى نحو كبير جدًا، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات "الإسرائيلية" بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004، فلم تكن ملزمة، وإن كانت ذات قيمة معنوية مهمة، ويمكن البناء عليها. والقرار يطالب "إسرائيل" بتوفير وسائل الحماية المدنية لسكان غزة، بما يعني رفض القتل والتهجير وتدمير المرافق العامة.
    يُعتبر القرار سندًا شرعيًا وقانونيًا لدعم الحق الفلسطيني في المعركة الديبلوماسية والدولية، كما أن تنفيذ هذا القرار التاريخي يتطلّب، أولًا وقبل كل شيء، وقف إطلاق النار حتى وإن لم ينص عليه، إذْ كيف يمكن وقف الإبادة الجماعية دون أن تكون الخطوة الأولى في ذلك وقف إطلاق النار.
وهو وإن كان قرارًا احترازيًا مؤقتًا، إلّا أنه سيكون مدخلًا لإصدار قرار بات واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت "إسرائيل" من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم "حق الفيتو" من جانب حلفاء "إسرائيل"، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون "متّحدون من أجل السلام" الصادر بخصوص كوريا العام 1950، وتلك مسألة يمكن مناقشتها في حينها.


15
المنبر الحر / صورة ماركس
« في: 09:23 25/01/2024  »
صورة ماركس

عبد الحسين شعبان

   على الرغم من أن التيار الذي يطلق على نفسه "الماركسي"، لعب دورًا غير قليل في الحياة السياسية العربية، لاسيّما في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلّا أن إنتاجه المعرفي، لا يكاد يذكر قياسًا بالنشاط السياسي وباستثناءات محدودة.
 وقد واجهت "الماركسية العربية"، وماركس بالذات، نوعين من الإساءة والتشويه عن عمد أو دون قصد بسبب الجهل وعدم المعرفة، والجهل قسمان: إما من الاعداء والخصوم، حيث جرى أبلسة ماركس، ونُسبت إليه الكثير من المواقف لتشويهه لدرجة التأثيم والتحريم والتجريم، خصوصًا بتفسير بعض عباراته باعتبارها معادية للدين.
 أو من المريدين والأنصار، حيث جرى تقديسه، فاقترب من منزلة الأنبياء والأئمة، لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، واعتبرت آراءه واستنتاجاته صالحةً لكل زمان ومكان، وكأن التاريخ توقف بعده، وحاولت الأحزاب الشيوعية استثمار اسمه لأغراض سياسية وقومية أحيانًا، ففي روسيا جرى "روسنة" ماركس بإضافة اسم لينين ومن بعده ستالين إليه، وفي الصين "صيّن" ماركس، بإضافة اسم ماو تسي تونغ إليه، وفي ألبانيا كان اسم أنور خوجة جنبًا إلى جنب ماركس، وسميت الماركسية البولبوتية في كمبوديا، والماركسية الجيفارية في أمريكا اللاتينية، وفي عالمنا العربي تعاملنا مع ماركس كشيخ عشيرة أحيانًا، وهكذا تضبّبت صورة ماركس، فلم نعد نعرف أين هي صورته الحقيقية من صورته المتخيّلة؟
 وحين أطيح بجدار برلين 9 نوفمبر / تشرين الثاني 1989 هناك من سارع إلى إعلان وفاة ماركس مجددًا، مع أنه رحل عن دنيانا في العام 1883، وانتقل بعض الماركسيين العتاة إلى الضفة المعاكسة بزعم التجديد وتغيّر الظروف، حتى استبعد لفظ الإمبريالية عن الولايات المتحدة، وبين عشية وضحاها، أصبح "العامل الدولي" مرادفًا للحديث عنها، في حين كانت الماكينة الإعلامية تضجّ بأسوأ النعوت لها باعتبارها العدو الأكبر للشعوب، بل إن البعض استقوى بها في مواجهة أنظمة بلاده الاستبدادية.
    ليس غريبًا حين وجدنا من يقول: علينا وضع الماركسية في المتحف، لأنها من تراث الماضي، مثلما ظلّ نفرٌ يتشبّث بكلّ ما قاله ماركس باعتباره الحقيقة المطلقة، وبين التحلّل والجمود، ظلّت صورة ماركس تستخدم ذات اليمين وذات الشمال، حتى ضاع ملمحها الحقيقي، فمن الإمعان بالتنصّل من منهجه، إلى التمسك بتعاليمه، بما فيها تلك التي عفا عنها الزمن، ولم تعد تصلح لعصرنا، دون التوقف عند مراجعة أسباب فشل التجارب الاشتراكية، سواءً على المستوى النظري أم العملي.
ولعلّ الحديث عن صورة ماركس اليوم، إنما هو انعكاس لأزمة وعدم اطمئنان وقلق، وهو حديث عدم ثقة وضعف يقين وتشوّش رؤيا، فقد تخلخلت الأسس والقناعات السابقة والراهنة، ومثلما كان البعض منفصلًا عن الواقع في السابق والفجوة الهائلة بين النظرية والتطبيق، فإنه اليوم أشدّ انفصالًا عنه، سواء كان من أسرى الماضوية والسلفية والنصوصية، أم من المتفلتين من المنهج والمتحللين من تراث الماضي، حتى وإن ظلّ الفريقان يحملان الشعار والعنوان، لكن الزمن تغيّر، فلم يعد يصلح اجترار مقولات الماضي أو اللهاث وراء شعارات ليبرالية.
من يريد استعادة صورة ماركس فعليه اجتراح الواقع، فقد كان ماركس الحلقة الأولى في التمركس، ولا بدّ من الاستفادة من منهجه الاجتماعي، أما تعليماته والعديد من استنتاجاته، فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وقد تجاوزها الزمن، حتى وإن كانت صحيحة في حينها، وعلينا قراءة الواقع واستنباط الأحكام المنسجمة مع الحاضر والمتطلعة إلى المستقبل، لأن المرجعية هي للواقع وليست للنصوص، ولا قيمة لنظرية دون الواقع، والممارسة جزء لا يتجزأ من النظرية.
 وإذا كانت الغايات شريفة وعادله فلا بدّ من وسائل شريفة وعادلة أيضًا للوصول إلى تلكم الغايات، لأن الوسيلة من شرف الغاية، والوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، لذلك فإن العديد من التجارب الاشتراكية التي زعمت تحقيق العدالة والمساواة وإلغاء الاستغلال، فشلت بالتطبيق العملي، بل كانت نموذجًا آخر للاستبداد والطغيان، ولم يشفع لها التشبّث بالنصوص النظرية، لاسيّما بإهمالها الواقع ، فلا قيمة للنصوص إذا لم تأخذ الواقع ومتغيراته بنظر الاعتبار.
وهكذا كانت بعض النصوص الماركسية تقرأ باعتبارها مقدسة مثل الأسفار التوراتية والآيات الإنجيلية أو القرآنية، واقتربت من التعاويذ والأدعية بطريقة كهنوتية، لا تقبل النقد أو المخالفة أو التقريظ، حتى غدت آيقونات خالدة وسرمدية، وتنطبق على كل زمان ومكان، وفي ذلك خلافًا لماركس نفسه، الذي كان ناقدًا، وهو القائل "كلّ ما أعرفه أنني لست ماركسيًا"، بمعنى عدم رغبته في أن يكون خارج النقد، وحاول تعميم معارف عصره لاستنباط الحلول، التي تتلاءم مع تطوره، وسواء نجح أم أخفق، فقد كان منهجه حيويًا، لكن "الماركسية" المطبقة، جرى امتهانها، في ظلّ بيروقراطية حزبوية شديدة، قادتها إلى الفشل في مواطنها الأصلية أو في فروعها في العالم العربي، التي اكتست برداء ريفي أو بدوي أو طائفي أحيانًا.

16
الزملاء المؤسسون في الرابطة العربية للقانون الدولي
تحية واعتزاز
   سبق أن وجّهت رسالة إليكم أعلنت فيها عن تفرغي للكتابة وللبحث الفكري والثقافي، واعتذرت عن إمكانية مواصلة عملي كأمين عام للرابطة، وذلك بتاريخ 5 حزيران / يونيو 2023، وكنت آمل أن يتم عقد اجتماع لاختيار أمين عام جديد، ولكن الأمر لم يتحقق بسبب التباعد والانشغالات المتعددة لعدد من المؤسسين.
   وبما أن أوضاع العدوان "الإسرائيلي" على غزة تتطلّب أن نبذل جهدًا مضاعفًا، سواء في تصنيف الجرائم "الإسرائيلية" أو في الاتصال بالمنظمات والجهات الحقوقية والقانونية، بما فيه محكمة العدل الدولية، لذلك أقترح عليكم صيغة أولية، هي أن يتولّى الزميل عمر زين موقع الأمين العام لحين عقد المؤتمر، الذي يتم الاتفاق عليه.
   وكما تعلمون أن زين محام ولديه خبرة طويلة، وسبق له أن شغل موقع الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، وهو أهل للقيام بهذه المهمة، لما عُرف عنه من حيوية والتزام ومهنية وحسن إدارة.
   معًا سنواصل المشوار، وسوف لا أتردّد عن الاستجابة لأي تكليف من جانبكم قدر ما يسمح به وقتي، علمًا بأنه يمكنكم التواصل مع د. جورج جبور، رئيس الرابطة.
أشكركم على ثقتكم التي أوليتموني إياها طيلة الفترة المنصرمة، وأصافحكم فردًا فردًا
مع خالص التقدير

عبد الحسين شعبان
مؤسس وأمين عام الرابطة العربية للقانون الدولي
23 / 1/ 2023

17
غزّة وميزان العدالة

عبد الحسين شعبان

   في 29 كانون الأول / ديسمبر 2023، تقدمت دولة جنوب أفريقيا بدعوى إلى محكمة العدل الدولية، اتهمت فيها "إسرائيل" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان غزّة، بما يُعدّ انتهاكًا سافرًا للاتفاقية الدولية بشأن منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت الاتفاقية المذكورة بالإجماع في 9 كانون الأول / ديسمبر 1948، ودخلت حيّز النفاذ في 12 كانون الثاني / يناير 1951.
   ثمة التباسات وخلط يحدث أحيانًا بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فالأولى هي الذراع  القضائية للأمم المتحدة، وتتألف من 15 قاضيًا، يتم انتخابهم لمدة 9 سنوات من قبل الجمعية العامة، وهي مختصة بحل النزاعات بين الدول وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية؛ أما الثانية، فقد تأسست في روما العام 1998 ودخلت حيّز النفاذ في العام 2002، وهي تختص بمحاكمة الأفراد الذين يقومون بارتكابات جسيمة لحقوق الإنسان. وسبق لي أن زرت المحكمتين وأكاديمية القانون الدولي في المجمّع الذي يضم المؤسسات الثلاثة في لاهاي (هولندا).
   مارست جنوب أفريقيا واجبها القانوني والإنساني، حين توجهت إلى محكمة العدل الدولية، استنادًا إلى الاتفاقية الدولية المشار إليها، فيما إذا اعتقد أحد الأطراف أن طرفًا آخر فشل في الامتثال لالتزاماته، فيمكنه إقامة دعوى ضدّه لتحديد مسؤولياته، علمًا بأن المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، تنص أن على جميع أطراف النزاع الامتثال لقرارات المحكمة، وإذا لم يمتثل أحد الأطراف، فيجوز للطرف الآخر اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار، وبالطبع فإن من واجب المحكمة البت في استكمال هذا الطلب للشروط القانونية، وبالتالي الحكم بما يُلزم الأطراف الامتثال إليه، كما حصل في قضية النزاع بين البوسنة وصربيا (العام 1996).
 انعقدت المحكمة يومي 11 - 12 يناير / كانون الثاني 2024، وقدّمت جنوب أفريقيا لائحةً مؤلفةً من 84 صفحة و240 فقرة، قامت فيها بتوصيف الجرائم المرتكبة بالاستناد إلى توفر الركن المعنوي (النية في ارتكاب الجرائم وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع "الإسرائيلي"  وعدد من المسؤولين الآخرين)، إضافةً إلى توفر الركن المادي، الذي يتلخّص بطلب السلطات "الإسرائيلية" من السكان المدنيين الرحيل إلى جنوب القطاع، ثم قامت بإنزال العقاب الجماعي بهم، الذي يندرج في إطار الإبادة الجماعية لمجموعة بشرية عرقية باستهداف وجودها.
وحيثيات ذلك: القتل، والتسبب في إلحاق أذى عقلي وجسدي بالسكان، والإجلاء القسري، وانتشار المجاعة والجفاف، وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية، وقطع الماء والكهرباء والوقود عن القطاع، والفشل في توفير ما يكفي من النظافة والصرف الصحي، والرعاية الطبية، والتسبب في تدمير الحياة بتهديم البنية التحتية للمدارس والجامعات والمكتبات والمرافق العامة، وتعريض النساء إلى العنف الإنجابي، وما يتعرض له المواليد الجدد والرضع والأطفال، حسب ما ورد في لائحة الدعوى.
   وتكمن أهمية دعوى جنوب أفريقيا في أنها رسالة إلى الطرف المنتهك، بأن المجتمع الدولي لن يتسامح مع تلك الأفعال التي قام بها، وسيعمل على مساءلته، لذلك كان رد الفعل "الإسرائيلي" غاضبًا ضدّ جنوب أفريقيا، باتهامها الدفاع عن عنصريين يريدون "إبادة اليهود"، لاسيّما بعد عملية طوفان الأقصى، كما قالت الدفوعات "الإسرائيلية" في المحكمة.
   ودعوى جنوب أفريقيا هي غير لجنة التحقيق، التي شكلتها المحكمة الجنائية الدولية في العام 2021، والتي رفضت "إسرائيل" التعاون معها، زاعمةً عدم شرعية التحقيق، في حين أن دعوى محكمة العدل تستمد سلطتها من معاهدة انضمّت إليها "إسرائيل" العام 1950، وبذلك لا يمكنها رفضها، لكنها سعت بكل الوسائل لكي لا تقبل المحكمة الدعوى، كما تنكر "إسرائيل" أنها ارتكبت جرائم إبادة، وإن ما تقوم به إنما هو "دفاع عن النفس"، ولذلك فإن هدفها أن تثبت أنها ليست مسؤولة، بل تلقي بالاتهامات على حماس وحركة المقاومة.
ومن المتوقع أن تصدر المحكمة أمرًا قضائيًا عاجلًا بوقف إطلاق النار (ربما بغضون الأسبوعين المقبلين) لحين البتّ في القضية، الذي قد يستغرق عام أو أكثر (كما حصل في قرار المحكمة بشأن عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري 2004)، مما يشكل ضغطًا دوليًا كبيرًا على "إسرائيل"، وهذا سيربك مخططها الهادف إلى شنّ حرب طويلة الأمد لتمشيط غزة، وفصل شمالها عن جنوبها، على أمل التحضير لترتيبات جديدة بما فيها احتلال القطاع مجددًا.
   وإذا افترضنا صدور قرار من المحكمة يحمّل "إسرائيل" المسؤولية، فإن الاحتمال الأكبر هو عدم امتثالها له، وعند الطلب من مجلس الأمن إلزامها بتنفيذه، ستقوم الولايات المتحدة باستخدام حق الفيتو، ومع ذلك فإن الأثر القانوني سيكون بالغ الأهمية من حيث تداعياته الاقتصادية والأمنية، ناهيك عن جوانبه النفسية والمعنوية، والتي ستُظهر "إسرائيل" باعتبارها دولة مارقة خارج القانون، فضلًا عن ذلك سيكون مقدمةً لإلزامها بتوفير المساعدات الإنسانية ودفع تعويضات، وسيكون نقطة تحوّل في الصراع القانوني والديبلوماسي الذي أهمله الفلسطينيون والعرب طويلًا.

18
الكرد الفيليون
إشكالية المواطنة والجنسية
في ضوء القانونين العراقي والدولي



د. عبد الحسين شعبان

على سبيل الاستهلال

"كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة"
النفري

   تندرج مشكلة الكرد الفيليين وإشكالياتهم تاريخيًا بقضيتين أساسيتين هما:
الأولى - الجنسية وإشكالياتها؛
والثانية - المواطنة وأركانها، وهما مسألتان مترابطتان في الدولة العصرية، وتعتبران من صميم حقوق الإنسان، خصوصًا ما تعرّض له الكرد الفيليون من معاناة وحرمانات تتعلّق بهاتين المسألتين المتداخلتين حقوقيًا وإنسانيًا في السابق والحاضر، حيث كان النقص فيهما فادحًا على امتداد تاريخ الدولة العراقية وإلى اليوم.
   ظلّت "الجنسية العراقية" إشكالية قائمة في الدولة العراقية منذ تأسيسها وتنصيب الأمير فيصل الأول ملكًا عليها في 23 آب / أغسطس 1921. وشملت هذه الإشكالية أعدادًا واسعة من المواطنين العراقيين، وارتبطت بشكل أساسي بقوانين الجنسية المتعاقبة منذ تشريع أول قانون للجنسية، وهو القانون الأول رقم (42) لعام 1924 ، والذي سُنّ قبل كتابة دستور المملكة العراقية.

نظرة في المتن
إن مشكلة الكرد الفيلين وإشكالية وضعهم القانوني والإنساني ترتبط على نحو وثيق في بالتباس وغموض وإبهام وإغراض في تعريف "من هو العراقي؟"  ، وهو العنوان الذي اخترناه لكتابنا، الذي بحثنا فيه إشكالية الجنسية واللّاجنسية في القانونين العراقي والدولي، خصوصًا وأن هذه الإشكالية تفاقمت وازدادت تعقيدًا في العهد الجمهوري، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط /  فبراير 1963. وإذا كان قانون الجنسية الأول بذر التمييز على حساب المواطنة المتساوية، فإن صدور قانون الجنسية الثاني رقم (43) لسنة 1963 وتعديلاته ، زاد المشكلة تفاقمًا، والإشكالية تعقيدًا، حيث أدخل تقييدات جديدة للحصول على الجنسية بأن حصرها بموافقة وزير الداخلية بالنسبة للمولود في العراق ولأب مولود ومقيم فيه بصورة معتادة. وتشمل هذه الفقرة من لم يحصل على شهادة الجنسية العراقية قبل نفاذ القانون. وهو ما عانت منه شريحة كبيرة من العراقيين، وفي مقدمتهم الكرد الفيليين.
    وعشية غزو الكويت صدر "قانون الجنسية العراقية رقم (46) لسنة 1990" ، وذلك في يوم 18 تموز / يوليو، وأعقبه بعدّة أيام نشر مشروع دستور جديد في 30 تموز / يوليو، أي قبل غزو الكويت بثلاثة أيام ، الأمر الذي يُستنتج منه أن العراق كان مقبلًا على تغييرات جيوبوليتيكية ودرامية خطيرة أو أن حكومته كانت تتهيأ لذلك وتستعد له.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بقانون الجنسية المذكور فقد منح سلطات تقريرية كبيرة لوزير الداخلية في منح الجنسية أو سحبها، ويُعتبر هذا القانون أكثر تشدّدًا من جميع قوانين الجنسية وقرارات مجلس قيادة الثورة ذات الصلة، خصوصًا وأنه جاء بعد عملية التهجير التي شملت عشرات الآلاف من العوائل الكردية الفيلية، ناهيك عن تشتيت الكثير من العوائل وتفتيتها بتسفير أحد أركانها، لكن قانون الجنسية المذكور ومشروع الدستور الدائم طُويا ووضعا على الرف بعد حرب قوات التحالف على العراق، وفرض عقوبات عليه دامت نحو 12 عامًا وانتهت باحتلاله في العام 2003.
    ولا بدّ من التوقّف في موضوع الجنسية عند العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة منذ انقلاب 17 تموز / يوليو العام 1968 ولغاية العام 2003، ونشير هنا إلى ثلاث قرارات غاية في الغرابة؛ الأول  - القرار رقم 803 الصادر في 12 تموز / يوليو 1977، حيث أصبح اكتساب الجنسية العراقية للمولود في العراق متوقفًا على تقدير وزير الداخلية وأن لا يكون في وجوده ضررًا على سلامة العراق وأمنه. ولم يشفع لمن أدّى الخدمة العسكرية الإلزامية كعامل مجزٍ لاكتساب الجنسية العراقية، كما تقر معظم قوانين العالم؛
والثاني - هو القرار رقم (666) الصادر في العام 1980، القاضي بإسقاط الجنسية عن العراقيين من أصل أجنبي لاعتبارات سياسية تتعلّق بالولاء، وشمل الكرد الفيلية بالدرجة الأساسية في التطبيق؛
والثالث -  هو القرار رقم (199) في 6 أيلول / سبتمبر 2001  ، والذي منح المواطنين العراقيين من غير العرب الحق في تعديل قوميتهم إلى القومية العربية في محاولة لتغيير التركيب الديموغرافي والواقع السكاني الذي اتّبع كمنهجية سياسية، خصوصًا إزاء بعض المناطق ومنها كركوك.
   وقد أدّت تلك القوانين والقرارات إلى حرمان شرائح عراقية كبيرة من الجنسية، ومنهم بشكل خاص الكرد الفيليين، وخصوصًا عشيّة وخلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980 – 1988)، حيث شمل الأمر تهجير عشرات الآلاف منهم، ونزع جنسيتهم وسلب ممتلكاتهم تعسّفًا، وذلك بعد صدور القرار (666) في 7 ايار / مايو 1980  ، الذي قرّر إسقاط الجنسية العراقية عن كلّ عراقي من أصل أجنبي إذا تبيّن عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة، وعلى وزير الداخلية أن يأمر بإبعاده ما لم يقتنع بناءً على أسباب كافية بأن بقاءه أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير.
    وكان الرئيس الأسبق صدام حسين قد أمسك بشاربه في مدينة الطب وأقسم بعد حادث التفجير الذي حصل في الجامعة المستنصرية بالقول "سنرسل الخمينيين إلى خمينيهم". وأعقب ذلك مباشرةً تلقّي نحو 800 تاجر عراقي، قسم كبير منهم من الكرد الفيليين، دعوة من غرفة تجارة بغداد، اتضح أنها مكيدة، ليُنقَلوا بالسيارات إلى الحدود العراقية - الإيرانية ويُتركوا بالعراء.
   وقد فسّر مدير الأمن العام فاضل البراك يومها القرار (666)، ومفهوم التبعية الإيرانية بقوله: هناك فارسية بالجنسية وفارسية بالولاء، وذلك في حديث له لمجلة ألف باء، الأمر الذي يعني أن القرار سياسي، حيث "جرى تسفير العوائل التي ثبتت عدم ولائها للثورة، وإن حملت الجنسية العراقية"   .

رؤية استشرافية
منذ أواخر العام 1980 بلور الكاتب رؤية ثقافية حقوقية قانونية بخصوص عملية التهجير اللّاإنسانية، التي شملت الكرد الفيليين أو من أطلق عليهم من التبعيّة الإيرانية، خصوصًا وقد اطّلع على حالات مأساوية، فضلًا عن مراجعة العديد منهم له وطلبهم المساعدة. الجدير بالذكر أن حملة التهجير طالت بعض العرب من بني كعب وأسد ومالك الذين كانوا يتنقلون تاريخيًا ما بين العراق وإيران على الحدود الشرقية، وبموجب قوانين الجنسية المتعاقبة، أصبحوا عراقيين من الدرجة الثانية، في حين أن بعضهم لديه أفضال على  الأمة العربية ولغتها. ولعلّ تلك الرؤية استندت إلى عاملين أساسيين حقوقي وإنساني، سواء ما يتعلّق بالجنسية أم بالمواطنة، فضلًا عن جوهر حقوق الإنسان، بما فيه احترام الهويّات الفرعية والاعتراف بخصوصيتها وحقوقها.
كما شجّع الباحث على تأسيس ودعم جمعية للمهجرين العراقيين في الشام، وكتب رسالة باسمهم إلى كورت فالدهايم، أمين عام الأمم المتحدة ، يدعوه فيها للتدخّل إنصافًا للمهجّرين العراقيين الذين سُلبت منهم جنسيتهم وممتلكاتهم بما يشكّل خرقًا سافرًا لحقوق الإنسان، فالجنسية حقّ للإنسان، ولا يمكن انتزاعه تعسّفًا، كما لا يمكن حرمان أحد من جنسيّته.

حقوق الضحايا بمعيار العدالة الانتقالية
إذا كانت إشكالية الجنسية قد بدأت في العهد الملكي، إلّا أنها تفاقمت على نحو شديد خلال العهد الجمهوري، بل أصبحت ظاهرة مستمرّة ومؤرّقة لبعض الفئات، حيث اتّسعت دائرة الالتباس والاستهداف لأعداد واسعة من العراقيين، سواء بإبعاد بعض رجال الدين في العشرينيات أو بإسقاط الجنسية عن اليهود العام 1950 أو عبر عقوبات غليظة ضدّ سياسيين معارضين، خصوصًا عشية حلف بغداد (1954 – 1955) أو خلال عملية تهجير جماعية، اتسمت بطابع عنصري، لاسيّما عشية الحرب العراقية – الإيرانية وخلالها وما بعدها.
 ولعلّ ذيول هذه المشكلة ما تزال قائمة، بعضها يتعلّق باستعادة الجنسية المستلبة، فضلًا عن حقوق الملكية المترتّبة عليها والكشف عن مصير أعداد غير قليلة من المفقودين الذين احتُجزوا وفُصلوا عن عوائلهم التي جرى تهجيرها ثمّ غُيّبوا، وما زال مصيرهم مجهولًا. وأعتقد أن الكشف عن مصيرهم وإجلاء الغموض الذي لفّ حياتهم هو مسألة جوهرية ببعديها الإنساني والحقوقي وما يرتبط بها من تعويضات مادية ومعنوية للغبن والإجحاف والضرر الذي لحق بهم طيلة السنوات المنصرمة، إضافة إلى جبر الضرر، وبالتالي وضع المسألة في سياقها القانوني بما فيها إصلاح الأنظمة الدستورية والقانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون، فضلًا عن الأجهزة الأمنية، لكي لا يتكرّر ما حصل، وذلك باعتماد مبادئ العدالة الانتقالية. 
وهنا لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار أولًا وقبل كلّ شيء حقوق الضحايا وأسرهم في حال مفارقتهم الحياة، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية شيكاغو لعدالة ما بعد النزاعات، التي يمكن تكييف بعض موادها لتساهم في كشف الحقيقة وعدم طمس الماضي لكي لا ننسى، وذلك لتوثيق الذاكرة، وأخيرًا فإن الحقيقة لذاتها وبذاتها تجلب قدرًا من التطهّر الروحي والإنساني للفرد والمجتمع وتشكّل عنصر ردع مستقبلي، خارج دائرة الثأر أو الانتقام أو الكيدية.
وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن إنكارها أو التنكّر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق وإعادته  إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة وفي جبر الضرر وتعويض الضحايا، خصوصاً لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة.
لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح أو حرب أهلية إلى حالة السلم والانتقال الديمقراطي، أو من حالة انهيار النظام القانوني إلى إعادة بنائه ترافقاً مع إعادة بناء الدولة أو الانتقال من حكم تسلّطي دكتاتوري إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح وإقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة كيانية مستقلة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة، وخصوصاً ذات الأبعاد الجماعية.
قد يتبادر إلى الذهن أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا وتعويضهم معنويًا وماديًا، إضافة إلى عدم إفلات المرتكبين من العقاب.
ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطء في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا في ثمانينيات القرن الماضي، حيث شاع المفهوم إلى حدود كبيرة، الأمر الذي يحتاج إلى توسيعه ليشمل حالات مماثلة، وتكييف بعض فقراته ارتباطًا مع الارتكابات الأخرى لينطبق على حالة الكرد الفيليين.

المواطنة
تشتبك الإشكالية بالنسبة للكرد الفيلية بجوهر فكرة المواطنة "المعوّمة" أو الناقصة، تلك التي تقوم على أربعة أركان أساسية؛
 أولها- الحريّة، فستكون المواطنة ناقصة دونها؛
 وثانيها -  المساواة، إذْ لا بدّ من المساواة في الحقوق والواجبات، لاسيّما أمام القانون، ودون ذلك ستكون المواطنة مشوّهة؛
وثالثها - العدالة بمفهومها العام، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، وستكون المواطنة مبتورة مع الفقر، وفي ظلّ التفاوت الاجتماعي والطبقي، وعدم تكافؤ الفرص؛
ورابعها - الشراكة والمشاركة، حيث تفترض المواطنة شراكة في الوطن ومشاركة في اتخاذ القرار دون تمييز أو استعلاء من طرف على آخر بحجّة الأغلبية تارةً، أو ادّعاء الأفضليات تارة ثانية، أو لأية أسباب أخرى، فذلك يُصيب المواطنة بمقتل خطير ينتقص منها ويُفرغ محتواها.

معاناة بلا حدود
يمكن بشكل مكثّف إعطاء صورة أولية على ما تعرّض له الكرد الفيليين من حملات تهجير بدأت منذ العام 1963، تحت عنوان التبعيّة الإيرانية أو غير العثمانية، حيث ينفرد القانون العراقي للجنسية باشتراط شهادة الجنسية العراقية عن الغالبية الساحقة من قوانين الجنسية في العالم، الأمر الذي خلّف نوعًا من التعقيد والالتباس والغموض والتوظيف السياسي، خصوصًا في فترة اندلاع الأزمات، حيث تمّ استغلاله، لاسيّما بحق الكرد الفيلية.
وقد نصّت المادة الثالثة من قانون الجنسية الأول على ما يأتي: "كلّ من كان في اليوم السادس من آب (أغسطس) 1924 من الجنسية العثمانية وساكن في العراق عادةً، تزول عنه الجنسية العثمانية، ويُعدّ حائزًا على الجنسية العراقية، ابتداءً من التاريخ المذكور ، وكان يُفترض بالمشرّع اعتماد اتفاقية لوزان لعام 1923، إذْ يُعتبر كلّ من كان مقيمًا في العراق عراقيًا بالتأسيس بعد قيام المملكة العراقية.
فقد حصل عدد من اليونانيين والكرج والأرمن والألبان والترك وغيرهم ممن كانوا يحملون الجنسية العثمانية على الجنسية العراقية، في حين حُرم منها العديد من العرب والكرد، وخصوصًا الكرد الفيليين بموجب هذا القانون، واعتبرت الفئة (أ) هي من التبعية العثمانية، في حين أنهم اعتبروا من الفئة (ب) أي من الذين تقدّموا بطلب الحصول على الجنسية.
وبتقديري أن بريطانيا التي كان العراق تحت انتدابها، عملت على بذر الفُرقة في صفوف العراقيين بالتمييز بينهم، أو تحريك ما كان راكدًا منها، وذلك بتقنينه، بحيث أصبح لغمًا مستمرًا انفجر على مراحل طوال تاريخ الدولة العراقية، خصوصًا بوضع درجتين للجنسية لمن كانوا مقيمين في العراق عند تأسيس المملكة العراقية، الأمر الذي ترك تأثيراته السلبية على النسيج الوطني والاجتماعي للعراق.
 وخلال الستينيات وفي العام 1966 تحديدًا، تمّ تهجير بضعة آلاف من الكرد الفيلية، عاد قسمًا منهم بعد فترة قصيرة. وما بين العام 1969 والعام 1972 تمّ تهجير نحو 70 ألف مواطن عراقي غالبيتهم الساحقة من الكرد الفيليين، على الرغم من الاتفاق بين قيادة الحركة الكردية والحكومة العراقية على إصدار بيان 11 آذار / مارس 1970، الذي وضع أسس أولية لحلّ المسألة الكردية، وتم تعديل الدستور الدائم على أساسه ، وبعد اتفاقية 6 آذار / مارس العام 1975، بين صدام حسين نائب الرئيس حينها وشاه إيران محمد رضا بهلوي، جرت عملية تهجير داخلية شملت نحو 150 ألف مواطن كردي من قراهم ومناطق سكناهم بين أعوام (1975 – 1978)، لكن الحملة الأكبر كانت شاملة وواسعة خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث تمّ رمي عشرات الآلاف من العوامل العراقية على الحدود ، وقد بدأت عشية الحرب. 

المواطنة والجنسية: منظور حقوقي
   استهدفت عملية التهجير نزع الجنسية من جهة، وانتزاع الحق في المواطنة من جهة أخرى، أي قطع العلاقة بالوطن الأصلي، فضلًا عمّا صاحبها من إشكاليات تتعلّق بالملكية المنقولة وغير المنقولة، إضافة إلى تشتيت الآلاف من العوائل، حيث تم تمزيقها بتسفير الزوج والإبقاء على زوجته وأطفاله، أو بالعكس، ناهيك عن الطلاقات التي حدثت، سواء كانت شكلية أم حقيقية، وكلّ تلك الإجراءات تخالف القواعد الآمرة (الملزمة) في القانون الدولي JUS COGENS، وما يسمى بمبدأ حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية Pacta Sont Serevenda ، خصوصًا ما يتعلّق بحقوق الإنسان، حيث نصّت المادة الخامسة عشر، الفقرة الثانية على عدم جواز حرمان الشخص من الجنسية حرمانًا تعسفيًا، وحدّد الإعلان الضوابط القانونية التي تُبنى عليها قواعد الجنسية  .  وباختصار فإن تلك الضوابط ليست عنصرية، أو دينية أو طائفية أو لغوية، حيث تستند قوانين الجنسية في العالم على مبدأين أساسين هما:
1-    البنوّة: أي الولادة، وقد أخذ القانون العراقي بشأن الجنسية الصادر العام 1924 بهذا المبدأ، محدّدًا "الولد الشرعي" أساسًا لمنح الجنسية، وذلك في المادة الثامنة منه.   
2-    الإقليم: أي الأرض التي ولد فيها (المولود)، بغض النظر عن جنسية الأب، وهو ما تأخذ به بعض القوانين ومنها القانون البريطاني قبل تعديله في العام 1983. وهذا يتعلّق بالجنسية الأصلية. أما الجنسية المكتسبة فيمكن اكتسابها بالولادة ثم الاستقرار بشكل متصل في البلد المعيّن حتى سن الرشد، وتشترط بعض البلدان (الولادة إضافة إلى الإقامة المتّصلة حتى بلوغ سن الرشد). وهناك ما يُعرف بالتجنّس أي اكتساب الجنسية بعد فترة من (الاستقرار النهائي)، ويتم ذلك بتقديم طلب من الفرد للإقامة الدائمة في البلد المعيّن والحصول على جنسيتها بهذا المعنى فهو عمل إرادي.
استندت السلطة العراقية في تبريرها لتفسير المهجّرين على أُسس سياسية وغير قانونية، ناهيكم عن مخالفتها لمبادئ المواطنة المندرجة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لا سيّما موضوع الولاء، فضلًا عن نظرة عنصرية تتعلّق بالأصول العرقية، وهكذا طالت الإجراءات الجماعية وبصورة تعميمية الكرد الفيليين واعتبروا بشكل عام غير موالين لتربة الوطن ومن "أصول غير عراقية" وفقًا لنظرة شوفينية بالضدّ منها جميع مواثيق حقوق الإنسان كما جرت الإشارة إلى ذلك، في حين أن قوانين الجنسية في العالم، ناهيك عن العلم الحديث والأنثروبولوجي (علم الإنسان)، لم يعد يتشبّث بالصفاء العرقي والتعصّب الديني أو الطائفي، كما أن المجتمعات الحديثة والبلدان التي تسعى إلى التقدّم، لا تجد غضاضة في التنوّع العرقي والتعدّد والتعايش الديني والطائفي، الذي هو عنصر قوّة وليس عنصر ضعف، في إطار مواطنة جامعة وهويّة عامة (عراقية مثلًا) تتعدّد فيها الهويّات الفرعية.
      إن خصوبة بلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين) جعلت العراق عرضة لامتزاج الأقوام، وتركيبة الشعب العراقي الحالية، وبفعل التفاعل الحضاري، بُنيت من فسيفساء بشرية تعكس التنوّع مع الاحتفاظ بالخصوصية وبقاء العنصر العربي يشكّل الغالبية الساحقة من المواطنين العراقيين، والعنصر الكردي يشكّل الغالبية الساحقة من سكان كردستان - العراق. فهل في ذلك نقيصة أو عيب؟ وهل وجود مجموعات ثقافية أخرى في العراق، سواء قومية أو دينية أو تمايزات إثنية أو مذهبية أو غيرها، يدعو للاحتراب؟
      كان الصراع شديدًا وحادًا  بين الدولة العثمانية (الإمبراطورية) وبين الدولة الصفوية (الفارسية) قبل الاحتلال البريطاني، وخصوصًا في العراق وعلى العراق، وكل طرف حاول أن يطبع العراق بطابعه العنصري والمذهبي، علمًا بأن الفكرة القومية لم تكن قد ظهرت وتبلورت على نحو واضح، كما لم يكن مفهوم الجنسية بدلالاته الراهنة وأبعاده السياسية والاجتماعية والقانونية قد اكتسب هذا البعد الحقوقي والوطني أيضًا.
      وهكذا كان العراقيون مخيّرين في تبنّي "الجنسية" التي يرغبون فيها، دون أن يكون لتلك القضية دلالات قومية واضحة. وإذا كان الغالب الشائع كما يُقال قد شكّل المشهد السائد بحصول العراقيين على الجنسية العثمانية، فإن "النادر الضائع"، مثّل حصول بعضهم على الجنسية الإيرانية، دون أن يكون للأمر دلالة انتماء أو ولاء أو تبعية، طالما لم تكن الجنسية حينذاك تعني ما تعنيه اليوم.
      وعليه فإن إجراءات التهجير تخالف بشكل صريح وسافر ميثاق هيئة الأمم المتحدة ، حيث نصّت ديباجته على ما يلي: "نحن شعوب الأمم المتحدة قد آلينا على أنفسنا أن نؤكّد من جديد إيماننا بالحقوق الاساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية" .
       وأكدت المادة الأولى من الميثاق (الفقرة الثالثة) على تحقيق التعاون الدولي في حلّ المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإنساني، والمحافظة على حرمة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بدون تمييز في العرق أو اللغة أو الدين أو تفريق بين الرجل والمرأة. وهو ما أكّدته المادة (55) من الميثاق أيضًا.
      إن سلب حق الحياة وامتهان حريّة المهجرين وكرامتهم، والاعتداء على سلامتهم الشخصية يناقض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنصّ مادته الثالثة على "حق كل إنسان في الحياة والحريّة والسلامة الشخصية"، وتحرّم المادة الخامسة "تعريض أي إنسان للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو المذلّة للكرامة الإنسانية"، وأكدت المادة الثالثة عشر على "حق المواطنة والجنسية". كما نصّت على "حق المواطنين في مغادرة أوطانهم والعودة إليهم". 
      وحتى العمليات العسكرية والنزاعات المسلّحة والحربية، لا تبرّر تلك الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة بحق عراقيين أصبحوا بين ليلة وضحاها بمثابة "رعايا أجانب"، فإن قوانين الحرب وأعرافها لا تبرّر طرد المواطنين وتشتيت شمل الأسر والعوائل، حيث نصّت اتفاقية لاهاي لعام 1907 حول الحرب البريّة في المادة السادسة والأربعين على وجوب "احترام كرامة الأسرة وحقوقها وحياة الافراد والممتلكات الخاصة بهم". وذهبت المادة الخمسون إلى التأكيد على عدم جواز فرض عقوبات جماعية أو مالية وبأية صورة أخرى بسبب أعمال أفراد، حيث لا يجوز اعتبار المواطنين مسؤولين عنها بشكل جماعي.
      وتناولت اتفاقية جنيف لعام 1949 (الاتفاقية الرابعة بشأن احترام المدنيين وقت الحرب) موضوع احترام العقائد الدينية ومنع التهجير، حيث أكدت المادة السابعة والعشرون على احترام الأشخاص وحقوقهم العائلية والدينية، وحقهم في ممارسة عاداتهم وتقاليدهم، بعيدًا عن التعرّض والقذف العلني، وحظرت المادة التاسعة والأربعون التهجير الإجباري (الفردي والجماعي)، ومنعت الترحيل بغضّ النظر عن الأسباب. 
      إن القانون الدولي يحرّم الاعتداء على الرعايا الأجانب، ويمنع أي امتهان لكرامتهم وشرفهم وسلب حقوقهم، فحتى لو افترضنا أن المهجرين هم من التبعية الإيرانية، بقرار تعسفي من الحكومة العراقية، فلا يجوز معاملتهم أيضًا على نحو مسيء ومخل بالكرامة الإنسانية، وذهبت اتفاقية منع وقوع جرائم الإبادة الجماعية (Genocide) لعام 1948، إلى تحريم الأفعال المرتكبة عن سابق إصرار بهدف القضاء الكلي أو الجزئي على مجموعة ما سواء كانت قومية أم عرقية أم دينية.
      إن أحد الأسباب الأساسية في الموقف اللّاحق من الحكومات المتعاقبة، إزاء الأكراد الفيليين، يعود إلى الدور الذي لعبوه في إطار النشاط السياسي اليساري والقومي الكردي بشكل خاص ضدّها، وفي فترة لاحقة إلى دورهم في الحركة الإسلامية الشيعية.
      لقد كان الكرد الفيليين، وهم قبائل لور، تتألف من مجموعة عشائر، جزءًا لا يتجزأ من النسيج المجتمعي العراقي، وحسب المؤلف والجغرافي العربي الكبير ياقوت الحموي المتوفي العام 1229، في كتابه "معجم البلدان"، أن اللور هم جيل من الكرد بين أصفهان وخوزستان، وبلادهم تسمّى لورستان، وفي زمن المغول قُسّمت إلى لورستان الكبرى (لور بزرك)، ولورستان الصغرى (لور كوجك)، الأولى تقع داخل إيران والثانية داخل الأراضي العراقية.
      وحتى أواسط السبعينيات، كانت نسبة عالية من الكرد الفيلية تسكن جانب الرصافة، ولاسيّما في محلات الصدرية وباب الشيخ وعقد الأكراد والتسابيل والدهانة والشورجة وجميلة وغيرها، وأيضًا في مدينة الثورة والكاظمية، كما انتشر الكرد الفيلية على مدى قرون على سفحي جبال بشتكوة من الطرفين العراقي والإيراني، وفي سهول العراق الشرقية ومدنها الجنوبية، ولاسيّما علي الغربي والكميت والكوت وزرباطية وبدرة ومندلي وخانقين والناصرية وقلعة سكر وغيرها .
      برز من الكرد الفيلية علماء وأدباء وموسيقيون وفنانون ورياضيون، أبرزهم اللغوي والمؤرخ كامل حسن البصير، عضو المجمع العلمي العراقي وعبد المجيد لطفي الصحافي والأديب، والشاعران زاهد محمد وجليل حيدر، ومن أبرز الساسة حبيب محمد كريم (أمين عام الحزب الديمقراطي الكردستاني)، لعقد من الزمن (أواسط الستينيات – أواسط السبعينيات)، وعزيز الحاج أحد أبرز زعماء الحركة الشيوعية في العراق والذي قاد أكبر وأهم تيار فكري "يساري" (1967 – 1969). ومن الرياضيين محمود أسد، لاعب كرة القدم وعضو المنتخب العراقي، والرباع عزيز عباس وغيرهم.
      ولعب الكرد الفيليين دورًا في الحياة الاقتصادية والتجارية في العراق، وساهموا في جميع أنشطة المجتمع العراقي. وساهمت المدرسة الفيلية، التي تأسست في أواسط الأربعينيات في تخريج نخب سياسية وطنية انخرطت في صفوف الأحزاب اليسارية. وكان من الوجوه الاجتماعية للكرد الفيليين هادي باقر والحاج أحمد وحميد الملا علي والحاج علي حيدر والد عزيز الحاج الذي ربطته صداقة بالجواهري شاعر العرب الأكبر زادت على ثلاثين عامًا حسب تعبير الجواهري .
      تقول ثمينة ناجي يوسف، زوجة سلام عادل (حسين أحمد الرضي) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي، الذي استشهد بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، عن تلك الفترة "سمع أبي بفصل سلام عادل من وظيفته، وعرف بحصوله على شهادة الثانوي، وهو الذي تابع أخباره، فأرسل في طلبه واقترح عليه العمل في مدرسة أهلية للأكراد الفيلية، تُدار من قبل شخصيات كردية. وكان الحاج علي حيدر ينفق بنفسه على المدرسة، التي فيها الطلبة الفقراء من الأكرد الفيلية" .
      وبعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، جرت محاولات لتحقيق مبدأ المساواة ومنح الكرد الفيليين الجنسية العراقية، حيث تم تشكيل وفد من الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي وشخصيات كردية فيلية لمقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم وطرح قضية الكرد الفيلية عليه، لتصحيح الوضع القانوني الخاطئ الذي سببه قانون الجنسية العراقية عام 1924، وكان يقود الوفد عزيز الحاج، وأحد أبرز أعضائه حبيب محمد كريم، لكن هذا الوضع استمرّ وازداد اغلاقًا بعد حملا تهجير عديدة.
      وكانت مقدمات الحرب العراقية – الإيرانية التي جاءت في أعقاب سقوط نظام الشاه وصعود تيار ديني إسلامي شيعي في إيران، قد دفعت الحكومة العراقية لتجعل من الكرد والفيليين بشكل خاص كبش فداء هذه المرّة، فقامت بحملة تسفير طالت عشرات الآلاف منهم، بموجب القرار (666) حسبما ورد ذكره، واستمرّت طيلة فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها.
      يُذكر أن قرار التمييز بحق الكرد الفيليين أو غيرهم ممن تم تهجيرهم يتناقض تناقضًا صارخًا، ليس مع القواعد والقوانين الدولية حسب، بل مع الدستور العراقي النافذ حينها ذاته. حسبي هناك أن أشير إلى ما يلي:
1-    نص الدستور العراقي، المادة 19 الفقرة (أ)، على أن المواطنين سواسية أمام القانون دون تفريق بسبب الجنس أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الديني.
2-    نص الدستور العراقي المادة 16، الفقرة (ج)، على ما يلي "لا تنتزع الملكية الخاصة إلّا لمقتضيات المصلحة العامة، وفق تعويض عادل وحسب الأصول القانونية".
3-    نص المادة 20 من الدستور العراقي على إسقاط الجنسية العراقية عن أي شخص إذا ثبت أنه خدم في جيش دولة أجنبية دون إذن مسبق من الحكومة العراقية".
4-   نص المادة 20 من قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 التي أجازت للوزير (الداخلية) سحب الجنسية، في الحالات التالية:
أ- إذا قبل دخول الخدمة العسكرية لإحدى الدول الأجنبية دون إذن مسبق من وزير الدفاع.
ب- إذا عمل لمصلحة دولة أو حكومة أجنبية أو جهة معادية في الخارج، أو قَبِل في الخارج وظيفة لدى حكومة أجنبية أو إحدى الهيئات الأجنبية أو الدولية...
ج- إذا أقام في الخارج بصورة معتادة أو انضمّ إلى هيئة أجنبية لتقويض نظام الحكم في بلده.
      ودون الدخول في تفصيلا كثيرة، فإن التمييز ضدّ الكرد الفيليين وأصحاب التبعية غير العثمانية، كان واضحًا، فهم المشمولون بعملية نزع الجنسية أو التهجير القسري، حيث صودرت أموالهم وممتلكاتهم بشكل تعسفي دون وجه حق ودون تعويض ودون مهلة لتصفية أعمالهم أو الاحتفاظ بوثائقهم، ولا شكّ أن الكثير من الكرد الفيليين كان قد أدى الخدمة العسكرية، التي لم تكن مجزية لاكتسابهم الجنسية العراقية الأصلية، فضلًا عن التشكيك بعراقيتهم، حيث تم اتّهامهم خلال فترة الحرب العراقية - الإيرانية باعتبارهم من "الفرس المجوس" و "طابورًا خامسًا"، وهم حتى تلك اللحظة لم يخدموا أي جيش دولة أجنبية، فقد ولد غالبيتهم الساحقة في العراق، ولم يعرفوا وطنًا سواه، وقد تعاظمت مشكلتهم في إيران بعد تهجيرهم أيضًا، وهذا موضوع آخر عالجناه في كتابنا "من هو العراقي؟"، وذلك بتسجيل شهادات عديدة عن معاناتهم. 

المرأة الفيلية والمعاناة المركبة
      أشارت إحصائية رسمية بأن المحاكم الشرعية في العراق، وبعد صدور قرار مجلس قيادة الثورة رقم 474 في 15 نيسان / أبريل 1981، الخاص بتفريق الزوجين، إذا كان أحدهما لا يحمل شهادة الجنسية العراقية إلى أن نحو 10 آلاف حالة طلاق حصلت خلال مدّة وجيزة، وهي حالة تكاد تكون نادرة في مجتمع يميل إلى المحافظة وتحكمه العديد من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والعشائرية التي تحول دون اللّجوء إلى الطلاق كظاهرة لأسباب عرقية أو إثنية أو دينية أو أصول تاريخية.
      وقد نصّ القرار المذكور على "منح مكافأة" للزوج الذي يُطلّق زوجته إذا كانت من التبعيّة الإيرانية، وذلك بمنحه مبلغًا وقدره 4 آلاف دينار عراقي إذا كان عسكريًا، و2500 دينار عراقي إذا كان مدنيًا في حالة تطليق زوجته أو تسفيرها إلى خارج العراق، أو زواجه من امرأة ليست من التبعية .
الجدير بالذكر أن العراق وافق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948، حيث أكّدت مادته السادسة عشر على الحقوق المتساوية للمرأة والرجل عند الزواج، وأن لا يُبرم عقد الزواج إلّا برضا الطرفين ، كما انضمّ العراق إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966، وذلك بتاريخ 25 شباط / فبراير / 1971، حيث كان القانون رقم (93) لسنة 1970 قد صدر بذلك .
 ويعتبر القرار (474) وإجراءات الحكومة العراقية مخالفةً صريحةً لنص المادة (23) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي نصت على ما يلي:
1-   الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتّع بحماية المجتمع والدولة. وهنا في حالة العراق فإن الدولة هي التي بادرت إلى تفكيك العوائل والأسر وتمزيق شملها.
2-    "يكون للرجل والمرأة إبتداءً من بلوغ سن الزواج، حق معترف به في التزوّج وتأسيس أسرة"، ونلاحظ هنا أن الدولة في العراق قد تعسّفت بشكل صارخ حين شجّعت على إجبار الأزواج على ترك زوجاتهم من التبعية الإيرانية، والتشجيع على تفكيك العوائل وتفريقها، وحرمان الرجل والمرأة من حريّة اختيار الزوج، دون تمييز بسبب العنصر أو العرق أو اللون أو الجنسية أو الأصل الاجتماعي كما تقتضي اللوائح الدولية.
3-    "لا ينعقد أي زواج إلّا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضىً كاملًا لا إكراه فيه"، ونلاحظ هنا تدخّل الدولة في إكراه وتشجيع أحد الطرفين على تطليق زوجه بسبب الأصول العرقية أو ملابسات الجنسية العراقية، على الرغم من وجود رابطة الحب والعشرة والعلاقات الزوجية والأبناء، فليس للحب من وطن، وقد تزوج محمد رسول الله (ص) من أصول عديدة.
4-    "تتّخذ الدولة" الأطراف في هذا العهد، التدابير المناسبة لكفالة تساوي حقوق الزوجين وواجباتهما لدى التزوّج، وخلال قيام الزواج ولدى الانحلاله، وفي حالة الانحلال يتوجّب اتخاذ التدابير لكفالة الحماية الضرورية للأولاد في حالة وجودهم".
 ونلاحظ هنا أن الدولة بإجراءاتها ساعدت على انحلال العلاقة الزوجية، كما ساهمت في التمييز بين الزوجين بعد انحلال العلاقة، فمن اعتبرت أو اعتبر من التبعية، فقد تمّ وضع اليد على "ممتلكاته"، ولم يُسمح لها او له بالحصول على المكافأة الضرورية.
وأدّى حرمان الزوجة أو الزوج من جنسيتهما إلى ضياع الأولاد، سواء كانوا مع أمهم أو أبيهم، خصوصًا إذا كانوا صغارًا وفي سنوات الرضاعة، فإذا اعتُبر الأب عراقيًا، فالولد يمكن أن يتبع أبيه بعد ترحيل أمه من التبعية، وهنا نشأت مشكلة اجتماعية مهمة: وهي ماذا يفعل الاب بالأطفال الرضّع الصغار؟ وإذا كان الموضوع، من الناحية الإنسانية، يُثير تداعيات كثيرة، فإنه من الناحية الاجتماعية والنفسية ترك ويترك أبعاده الخطيرة على سلوك وتصرّف الأولاد ومستقبلهم.
أما المادة (24) الفقرة الأولى فقد ذهبت إلى تأكيد:
1-    "يكون لكل ولد، دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة او الدين أو الأصل القومي والاجتماعي أو الثروة أو النسب، حق على أسرته وعلى المجتمع وعلى الدولة في اتخاذ تدابير الحماية التي يقتضيها كونه قاصرًا".
ولعلّ من واجب الدولة والمجتمع، ناهيك عن الاسرة، توفير الحماية الضرورية للأطفال وبخاصّة القصّر. ومن أقدس الحقوق تنشئة الأطفال في اسر وعوائل متماسكة، فيها أمومة وأبوّة .
أما الفقرة الثانية والثالثة من المادة المذكورة، فقد نصّتا على وجوب تسجيل الطفل ومنحه إسمًا وجنسية، باعتبار ذلك حق أساسي لا جدال عليه، وتقول الفقرة الثانية "يتوجب تسجيل كلّ طفل فور ولادته، ويُعطى إسم يعرّف به"، أما الفقرة الثالثة فقد نصّت على ما يلي "لكل طفل حق في اكتساب جنسيته". ولا شكّ أن حرمان الأطفال من الحصول على جنسية، بسبب قرارات التهجير، يشكّل تحديًا صارخًا لكلّ المفاهيم والشرائع الدولية والوضعية لحقوق الإنسان، ناهيك عن التعاليم الدينية.
إن تلك الإجراءات تمثّل شكلًا من أشكال التمييز العنصري، تلك التي حرّمتها "الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.." التي اعتمدتها الجمعية العامة (الدورة العشرون) في 21 كانون الأول / ديسمبر 1965، والتي انضمّ إليها العراق في 14 كانون الثاني / يناير 1970، وذلك بصدور القانون رقم (135) في 28 آب / أغسطس 1969 .
تنص المادة الأولى من الاتفاقية المذكورة على ما يلي: "... يُقصد بتعبير (التمييز العنصري) أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يتتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الاساسية أو التمتّع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان الساسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة".
ونصّت هذه الاتفاقية في المادّة الخامسة، على ضمان حق كلّ إنسان دون تمييز في المساواة أمام القانون، لاسيّما في:
1-    الحق في المعاملة على قدم المساواة أمام المحاكم وجميع الهيئات الأخرى التي تتولّى إقامة العدل.
2-   الحق في الأمن على شخصه وفي حماية الدولة له من أي عنف أو أذى بدني..
3-   الحقوق السياسية.
4-    الحقوق المدنية، ولاسيما:
  أ- الحق في حريّة الحركة والإقامة داخل حدود الدولة.
  ب- الحق في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده.
  ج- الحق في الجنسية.
   د- حق التزوّج واختيار الزوج.
ه- حق التملّك.
و- حق الإرث.
ز- الحق في حريّة الفكر والعقيدة والدين.
ح- الحق في حريّة التعبير.
    ط- الحق في الاجتماع السلمي.
إن الاجراءات التي اتخذتها السلطة العراقية نفت بالكامل منظومة حقوق الإنسان المدنية، وجرّدت المواطن العراقي المهجّر من جميع حقوقه، فهي حرمت حقّه في الحركة والتنقّل، وحقّه في مغادرة البلد والعودة إليها، وحقه في الجنسية، وحقه في الزواج ممن يشاء، وحقه في التملّك وحقه في الإرث وحريّة الفكر والتعبير والاجتماع السلمي. وتلك القضايا لاحقته عند تهجيره بسبب حالة انعدام الجنسية.
وذهبت "الاتفاقية الدولية للقضاء على جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها" الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1973، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 18 تموز / يوليو 1976، والتي انضمّ العراق إليها في 9 تموز / يوليو 1975 بالقانون رقم (92) لسنة 1975  ، إلى أحكام مماثلة تلك التي تتعلّق بالفصل العنصري، خصوصًا المادة الثانية التي أكّدت على عدم حرمان عضو أو أعضاء من فئة أو فئات عنصرية من الحق في الحياة والحرية الشخصية، سواء بالقتل أو إلحاق أذى خطير بدني أو عقلي أو التوقيف أو السجن التعسفي أو إخضاعهم إلى ظروف معيشية تفضي إلى الهلاك الجسدي كليًا أو جزئيًا أو اتخاذ تدابير تشريعية وغير تشريعية تؤدي إلى حرمانهم من حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بما فيها حق العمل والتعليم ومغادرة البلد والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية، والحق في حرية التنقل والإقامة وغيرها، خصوصًا تلك التدابير التي تهدف إلى "تقسيم السكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عنصرية، ويُحظّر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلى فئات عنصرية مختلفة، ونزع ملكية العقارات المملوكة لفئة أو فئات عنصرية أو لأفراد منها"  .
إن تلك الوثائق الدولية تؤكّد أن الجنسية حق من حقوق الإنسان، وهو ما ذهبت إليه المادة (15) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حين أكّدت أن لكلّ فرد الحق في التمتّع بجنسية ما، مشيرةً إلى أنه لا يجوز حرمان أي شخص (تعسفًا) من جنسيته، ولا من حقه في تغييرها، بينما اكتفى الدستور العراقي بنص مبهم ومثير حين لم يتحدّث عن الجنسية باعتبارها حق.  وتُخالف إجراءات الحكومة العراقية، سواء التهجير أو القرار (474) في 15 نيسان/ أبريل 1981 الخاص بتفريق الزوجين الذي سبق أن عرضناه، أو القرار (1610) في 23 كانون الأول / ديسمبر 1982، الذي نصّ على منع العراقية (المتزوجة) من غير العراقي من نقل ملكية أموالها المنقولة وغير المنقولة إلى زوجها، وحرمان الزوج غير العراقي من حقه في التركة، واعتبار الأموال المتنازع عليها بين الزوجة العراقية وزوجها غير العراقي في حالة الوفاة ملكًا للزوجة، ما لم يثبت قانونًا ملكيتها للزوج.
إن هذا يتعارض مع الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة التي اعتمدتها الجمعية العامة بقرارها 34 / 180 في 18 كانون الأول / ديسمبر 1979، ودخلت حيّز التنفيذ في 3 أيلول / سبتمبر 1981. 
تنص المادة (9) من الاتفاقية المذكورة على الحقوق المتساوية للرجل والمرأة في اكتساب الجنسية أو تغييرها، أو الاحتفظ بها، ولا يترتّب على الزواج من أجنبي تغيير الزوج لجنسيته أثناء الزواج، أن تتغيّر تلقائيًا جنسية الزوجة، أو تصبح بلا جنسية أو تُفرض عليها جنسية الزوج، ولها نفس الحقوق بما يتعلّق بجنسية الأطفال. وقد نصّ إعلان وبرنامج عمل مؤتمر فيينا على أن حقوق الإنسان للمرأة والطفل هي جزء غير قابل للتصرّف من حقوق الإنسان العالمية، وجزء لا يتجزآ من هذه الحقوق".
وتبين هذه القرارات، إضافة إلى قرارات ونصوص أخرى، كيف تم التعامل باستخفاف وقصر نظر، بعيدًا عن المعايير الدولية في موضوع خطير ومستقبلي، ويهم شرائح واسعة من المجتمع العراقي، ويدخل في نسيجه القومي والمذهبي، بقدر كونه يمثّل جزءًا من إشكالية تاريخية وراهنية، فقد نزلت قرارات التهجير مثل الصاعقة على المجتمع العراقي، وحلّت بعشرات الآلاف من الأسر نكبات لا حدّ لها، بل أن بعضها لاحقتهم حتى في بلدان المنافي حين ظلوا يعانون من "تعويم الجنسية"، أي انعدامها. وكان التأثير الأكبر في ذلك قد وقع على المرأة والطفل. 
عوضًا عن الخاتمة
   بعد عرض معاناة الكرد الفيليين والمهجرين المُسقطة عنهم الجنسية أو الذين أصبحوا عديمي الجنسية، كنت قد بلورت مقترحًا عامًا، روّجت له في أكثر من مناسبة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، محاضرتي في ديوان الكوفة 1991 المشار الموسومة "المهجرون العراقيون القانون الدولي"، ومحاضرة لي في جامعة SAOS (ساوس) في 20 آذار / مارس 2001 والموسومة "حلبجة والأنفال: العين والمخرز" وكتابي "عاصفة على بلاد الشمس" في العام 1994  ، وكتابي "من هو العراقي؟" العام 2002.
   والمقترح كان قد أخذ مداه وأُدرج في وثائق العديد من القوى والتيارات السياسية، بما فيها اجتماع المعارضة وهيئاتها، ومفاده، لا بدّ من سنّ قانون جديد للجنسية العراقية، بما يتواءم مع الالتزامات الدولية التي أخذها العراق على عاتقه والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
   وبالطبع فإن الأمر سيتطلّب سنّ دستور جديد، وهو الإطار الأسمى التي تتفرّع منه وتنضوي تحت خيمته القوانين، بما فيها قانون الجنسية، وإن كان مثل هذا الدستور قد صدر في العام 2005، وإن كان ثمة ألغام ونواقص وثغرات وعيوب جوهرية يحتويها، إلّا أن بعض مواده يمكن الاستفادة منها فيما يتعلّق بالمواطنة وحقوق الإنسان التي وردت فيه وتفعيلها بالاتجاه الإيجابي، خصوصًا حين تتوفّر وحدة وطنية وإرادة سياسية.
   وإذا كان إلغاء القرار (666)، الذي اكتسب شهرة واسعة، أصبح أمرًا واقعًا، وأن العديد من الكرد الفيليين عادوا إلى العراق، وبعضهم استعاد جنسيته، إلّا أن أثار الماضي ما تزال قائمة وقاتمة وثقيلة، بما فيها العديد من القوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة، وتبعاتها العملية.
إن استعادة الحقوق والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمهجرين العراقيين تعسفًا، بما فيهم الكرد الفيليين، وكذلك جبر الضرر وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون، يُعتبر من صلب مبادئ العدالة الانتقالية التي يمكن تكييفها لتصلح في معالجة آثار عملية التهجير، والأمر يحتاج إلى إصلاح دستوري وقانوني بالاتجاه الذي يفتح الأبواب والنوافذ لرياح لكي تدخل مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والقواعد الحديثة للجنسية في العالم إلى مفاصل الدولة ودواوينها المختلفة.
   وكنت دعوت إلى تحريم التمييز على أساس عنصري أو سلالي أو ديني أو مذهبي أو لغوي أو أي نوع من أنواع التمييز ولأي سبب كان، وذلك في كامل عقدَيْ الثمانينيات والتسعينيات وإلى العام 2003، حيث وقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي وأدّى إلى انفجار الصراع الطائفي في ظلّ نظام المحاصصة القائم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، وهو ما دعاني لتطوير الفكرة إلى "مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة" في العام 2008، ونشرته بعد مناقشات عديدة في كتابي "جدل الهويّات في العراق: المواطنة والدولة" ، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010.
   ولكي تستكمل حقوق المهجرين عمومًا والكرد الفيلين خصوصًا، لا بدّ هنا من تأكيد أهمية احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية وتعزيز المواطنة الحيوية والمتكافئة القائمة على مبادئ الحريّة والمساواة والعدالة، لاسيّما العدالة الاجتماعية والشراكة في الوطن، والمشاركة في اتخاذ القرار، بما يضمن إشاعة جو من احترام الرأي والرأي الآخر والاعتراف بالتعددية والاقرار بالتنوّع والحق بالاختلاف.
   ودون أدنى شك فإن مثل هذا التقدير يحتاج إلى أجواء سلمية وطبيعية وتوافق وطني عام ورغبة حقيقية بالتخلّص من آثار الماضي، وذلك بنشر ثقافة التسامح واللّاعنف وتعميمها، خصوصًا إعلاء قيم السلام والعدل والتآخي القومي والديني والتعايش المجتمعي، وإظهار ما هو مشترك وإنساني جامع، خصوصًا باحترام الهويّات الفرعية في إطار الهويّة العامة الموحدّة، والجمع بين الخصوصية والعمومية، والأمر بقدر انطباقه على عموم الدولة العراقية، فإنه يشمل إقليم كردستان أيضًا.


19
مؤلف "فقه التسامح" حاور فضل الله والبغدادي ودافع عن المسيحيين العرب
عبد الحسين شعبان: تخلّف النخب السـياسية والفكرية يكبح التغيير والتجديد


هناك تراجع في حرية التعبير والفضائيات تحرم وتحلل
لا يمكن إحداث أي إصلاح من دون إصلاح الفكر الديني

كلام صورة
عبد الحسين شعبان: ينبغي للمثقف ألا يتنازل عن وظيفته الأساسية وهي النقد


حسان الزين

لا يفصل الباحث والحقوقي العراقي عبد الحسين شعبان بين العمل النظري والممارسة. فهو لا يكتفي بتأليف الكتب التي بات له منها أكثر من خمسين. لقد انشغل بإعادة النظر في تجربته السياسية الفكرية ونقد الإيديولوجيا، وبقراءة الإسلام والحوار مع شخصيّات معاصرة، وبالبحث في واقع المجتمعات العربية. وفي غمرة ذلك، كتب عن شخصيات عامة أثّرت في بلده العراق وثقافته وحياته السياسية. وكان شعبان المولود في مدينة النجف من طليعة مؤسسي الحركة الحقوقية العربية ومنظّريها. وكذلك هو من المبادرين إلى تقويم تجربتها ورصد إخفاقاتها وإنجازاتها، في واقع صعب يشهد تراجعاً للحريّات والحقوق عموماً.
معه هذا الحوار:

تتحدّث كثيراً عن التابوهات أو الخطوط الحمر، لننطلق منها لرسم المشهد العربي من ناحية البحث وحرّيته وحقوق الإنسان!

التابوهات أو الخطوط الحمراء كثيرة وتزداد كلّ يوم. فأنت لا تستطيع أن تنتقد الرموز السياسية أو الدينية، وإن كانت سبب البلاء. وأحياناً، لا تستطيع نقد بعض النصوص أو قراءاتها بصورة مغايرة تفسيراً وتأويلاً على زعم أنها "مقدّسة" لدى البعض، حتى وإن كانت ماضوية ومتخلفة. فتلك القراءة ستمسّ هذه المجموعة المتحكّمة أو تلك، حتى وإن كان النقد من باب التصويب والتجديد.
بالطبع، ثمة كوابح أمام أي تجديد أو تغيير، ويعود الأمر إلى تخلّف العديد من النخب السياسية والفكرية، الحاكمة وغير الحاكمة. إمّا بسبب عدم قدرتها على استنباط الأحكام لتقديم قراءة جديدة للواقع، أو خشيةً على مصالحها وامتيازاتها أو مراعاة للعامة وما استقرّ من فهم متخلّف لديها أو مجاملة على حساب التنمية والتقدّم.
هناك تراجع في حريّة التعبير، على رغم طوفان الفضائيات، التي تحرّم وتُحلّل، بل تحرّض على القتل أحياناً، وليس أدلّ على ذلك ما شهده العالم العربي من أعمال يندى لها الجبين، خصوصاً ما قامت به تنظيمات "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" (فتح الشام) وأخواتها.
لقد أصبح المثقف في مجتمعاتنا يتوجّس كثيراً حين يتناول موضوعات كان يقاربها بأريحية، لا سيما أن حياته أحياناً تكون مهدّدة باستعادة ما حصل للسيّد محمد باقر الصدر ومحمود محمد طه ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة ونجيب محفوظ وجار الله عمر وغيرهم.
النقاشات المفتوحة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي شهدتها بلداننا، أصبحت أقرب إلى التابوهات اليوم.

أنت من الباحثين الذين يقاربون الأديان بتسامح ومن دون أحكام مسبقة، هل لك أن تعرض لنا منطلقاتك؟
في شأن النص المقدّس، هناك مسافة زمنية بعيدة تفصله عن الواقع الحالي. وعليه لا يمكن قراءة النص الديني، بما فيه القرآني، قراءة ماضوية محدّدة بتأويل واحد لا يقبل أيّة تأويلات أخرى. وأعتقد أن في ذلك إساءة إلى الفكر وحريّة التفكير وتعاليم الدين السمحاء.
القرآن ليس للتلاوة والترتيل والحفظ فحسب، وإنما هو كتاب عظيم وجامع وقابل للتأويل والقراءة الواسعة والمفتوحة، وهو بالطبع ليس ملكاً لأحد، سواء كان عالم دين أم فقيهاً أم شيخاً أم مرجعاً أم مقرئ أم مرتّل...، ويستطيع كلّ إنسان قراءته وفهم معانيه وقيمه الإنسانية السامية.
أستطيع القول إنه لا يمكن إحداث أي إصلاح حقيقي وجذري وعميق في أي مجتمع من دون إصلاح الفكر الديني، وبحسب هوبز أن أي "إصلاح مفتاحه الفكر الديني".
هناك من يتطلّع إلى الحديث باسم الدين فيقول: هذا مخالف للدين، وذاك مخالف للشريعة. ولكن مصدر كل تلك الآراء سياسي ولا علاقة له بفهم النصوص الدينية ومقاصدها. وهكذا سترى وراء كثير من التابوهات سياسات مقصودة ومحدّدة بخدمة حكّام أو طبقات اجتماعية أو جماعات طائفية متنفّذة، أو حتى قوى سياسية تتستّر وراء جماعات مشبوهة، وقوى معروفة أو غير معروفة، محليّة أو دولية.

في مقابل هذا، لك مساهمات عديدة حوارية مع مفكرين دينيين ودافعت عن حقوق مجموعات دينية، كيف تعرض هذه التجربة؟
لقد كانت لي مع السيد محمد حسين فضل الله، وهو مفكر إسلامي جليل، مطارحات عدة، وأعددت بحثاً بعنوان "فضل الله وسلطة العقل"، وفي كتاب "الإسلام وحقوق الإنسان" (2001)، نقدت العديد من الآراء التي تزعم تعارض الإسلام مع قيم حقوق الإنسان، بل تفتعل مثل هذا التعارض لأمور جزئية لا تتعلّق بالصميم. وقدّمت في كتاب "الإسلام والإرهاب الدولي" (2002)، قراءة حقوقية مختلفة، وفهم آخر للإسلام بالضدّ من محاولات أبلسته دولياً أو مساعي توظيفه سياسياً لخدمة مجموعات متعصّبة.
وقد بلورت رؤية نقدية ارتجاعية ومستقبلية لفكرة التسامح، وذلك في كتابي "فقه التسامح في الفقه العربي- الإسلامي" (2005)، الذي قدّم له المطران جورج خضر. واستكملتها بدفاعي عن المسيحيين في محاولة إقصائهم وإلغاء وجودهم وهم أهل البلاد الأصليين قبل المسلمين، ودفعهم إلى الهجرة، خصوصاً باستهدافهم عبر عمليات عنف طاولت كنائسهم وأديرتهم وشخصياتهم ومناطق سكناهم، مشككةً بتاريخهم. وهو الأمر الذي حصل بشكل خاص في العراق وسوريا. وبالطبع، فإن تلك الحملة ضدّ المسيحيين مستمرّة في فلسطين المحتلة منذ العام 1948 من قبل الصهيونية العالمية. ويمكن الإشارة إلى أوضاع المسيحيين في لبنان ومصر وغيرها، وجئت على ذلك في كتاب "أغصان الكرمة - المسيحيون العرب (2015)".

على رغم هذا الرأي، أثار كتابك "دين العقل وفقه الواقع" نقاشاً واسعاً لدى الأوساط الثقافية والدينية، لماذا حصل ذلك؟
أولاً لأنه كتاب مفتوح خارج الدائرة الإيديولوجية النسقية، التي تدّعي الأفضلية واحتكار الحقيقة؛ وثانياً لأنه شمل حواراً مع فقيه هو السيد أحمد الحسني البغدادي، وهو حوار ندّي تكاملي، بمعنى أن هدفه ليس تسجيل نقاط أحدنا على الآخر، بل البحث عن الحقيقة بوجوهها المتعدّدة؛ وثالثاً لأن قراءة النصوص الدينية ليس لها مرجعية واحدة ثابتة عابرة للزمان والمكان، كما يذهب إلى ذلك التيار الديني السائد الذي يحاول أن يفرض تفسيراته وتأويلاته على النص الديني باعتباره حكراً عليه. وتضيق المسألة أكثر حين تكون القراءة مذهبية طائفية، وهي قراءة ترفض أي قراءة أخرى إن لم تؤثمها أو تجرّمها أو تكفّرها.
حاولت في هذا الكتاب أن أقدّم قراءة جديدة خارج تلك القوالب والكليشيهات الجاهزة، التي غالباً ما تختلط بالوهم، وأحياناً بميثيولوجيات وعادات وتقاليد لا علاقة لها بالدين، إذ يُستعاض عن جوهر الدين ببعض طرائق التديّن، وبالطبع هناك فارق كبير بين الدين، الذي هو منظومة قيم ومعتقدات ذات أبعاد إنسانية، وبين التديّن، الذي هو مجموعة ممارسات وشعائر لتطبيق تعاليم الدين. إن هدفي هو إيصال المعنى الكامن في الدين الذي يتجدّد بتجدّد الإنسان وقراءاته وفقاً لمفاهيمه وآليات عصره ودرجة تطوّره.
يقول الإمام علي في نهج البلاغة: "هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال". والرجال، سواء كانوا علماء دين أم فقهاء أم باحثين، يتغيّرون بتغيّر الزمان، وفقاً لقاعدة فقهية معتمدة لا يريد المغالون والمتعصبون أو الذين لم يستوعبوا السياق التاريخي الإقرار بها، وهي التي تقول "تتغيّر الأحكام بتغيّر الازمان". وذلك هو المعنى الحقيقي الكامن للنصوص الدينية، وهو ما ينطبق على النصوص غير الدينية أيضاً.

تحدّثت عن الفقهاء والدينيين، ماذا عن المثقفين غير الدينيين، أتراهم يغيّرون ويحسّنون أدواتهم لبناء فكري نقدي يخلّصهم من الاتكالية التي سادت في صفوفهم والتعويلة التي قادتهم إلى الانتظار والتقليد؟
أستطيع أن أميّز ثلاثة نماذج من المثقفين في علاقتهم بالنصوص القديمة والحديثة، الأول هو الذي يدور في فلك السلطة، بل يرابط فيها أحياناً، سواء أكان جزءاً منها أم ناطقاً باسمها أم مروّجاً لها بحرق البخور لها، أم مؤدلجاً لسياساتها أم مجمّلاً لأخطائها وخطاياها؛
الثاني ضدّ السلطة، إذ يرفض أي شكل من أشكال التعاطي معها، لدرجة الترفّع عنها، ويعتبر أي اقتراب منها هو تواطؤ لحدّ "الخيانة"، لا يجوز للمثقف ولا يليق به أن يُقدم عليه؛
والثالث ناقد للسلطة من دون أن يستبعد وسيلة إصلاحها، ويسعى لمدّ الجسور بينها وبينه، بحيث تكون الطريق سالكة بينهما. وبالمعنى الإيجابي يتحوّل المثقف إلى قوّة اقتراح وضغط لما فيه خير المجتمع. هكذا يكون ناقداً وراصداً ومشاركاً ومتمماً لعملية التنمية، تخطيطاً وتنفيذاً.
وبكلّ الأحوال، ينبغي للمثقف ألا يتنازل عن وظيفته الأساسية، وهي النقد. والمثقف العضوي بالمعنى الغرامشي لا بدّ أن يتفاعل مع قضايا عصره بتقديم رؤيته للواقع الذي تعيشه مجتمعاته واستشرافه لمستقبلها. ولا يمكنه والحالة هذه البقاء في إطار الأساليب والأدوات القديمة، وعليه تحيين أدواته النقدية بما ينسجم مع روح العصر، خصوصاً وأن العالم اليوم في الطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.
كذلك عليه أن يتفاعل مع الحراك الثقافي، بعيداً من الإيديولوجيات التي لا تعصم من الخطأ، بل أحياناً تمنع من إبصار الحقائق. وإذا كان ماركس قد استلهم روح عصره وصاغ أحكامه واستنتاجاته بما ينسجم معها، وهو في القرن التاسع عشر، فعلينا استنباط الأحكام والحلول من واقع عصر العولمة بوجهيها المتوحّش والإنساني، بما فيها عولمة العلم والثقافة وحقوق الإنسان.

هل تحرّرت من الإيديولوجيا، وإلى أي حد؟
إذا كانت الإيديولوجيا تعني علم الأفكار والمعتقدات، فإنه من الصعب القول إننا نتحرّر منها كليّاً، لأنها مجموعة رؤى تتكوّن وتتبلور من خلال الممارسة، وهكذا يفترض. للأسف، نحن عزلنا الممارسة عن النظرية، ولا نظرية صحيحة من دون ممارسة (براكسيس) صحيحة أيضاً. وتُختبر النظرية بالممارسة، مثلما يُختبر صدق الغاية بالوسيلة.
وكان غاندي يعتبر الشجرة هي الغاية، أما الوسيلة فهي البذرة، والوسيلة موجودة في الغاية، مثلما توجد البذرة بالشجرة.
إذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، أي بالوصول إليها، فيمكننا التحكّم بالوسائل، وهذا سيعني التحكّم بالغاية أيضاً من خلال الوسيلة، الغاية مجرّدة أما الوسيلة فهي ملموسة، الغاية تُعنى بالمستقبل، أما الوسيلة فتُعنى بالحاضر. فالغايات والأهداف غالباً ما تكون متشابهة، لكن الفوارق الجوهرية هي في الوسائل في كثير من الأحيان.
الوسيلة هي المقياس لتقييم الغايات والأهداف والأفكار والمبادئ والممارسات الدينية والسياسية والاجتماعية، وسيصبح التلازم عضوياً بين الغاية والوسيلة، وتلك مسألة جوهرية وليست عابرة أو ثانوية، أي أن الوسيلة تتوحد بالغاية، حيث لا انفصال بينهما، مثلما لا ينفصل الجلد عن الجسد.
وعلى الباحث أن يتحلّى بقدر من الموضوعية، إذا ما أراد أن يُصبح باحثاً، أما إذا كان يريد أن يكون "إيديولوجياً" أي داعيةً ومبشّراً، فإنه سيدّعي امتلاك الحقيقة ويفترض أفضليات أفكاره على الآخرين، ثم تنفصل الوسيلة عن الغاية عنده بالتطبيق، مبرّراً أن كلّ ما يتّبعه متّصل بغايات شريفة، إلّا أنه حينئذ سيكفّ عن أن يكون باحثاً بقدر ما هو داعية إيماني. وهناك فرق كبير بين الداعية والباحث، وعلى الأخير التخلي عن ربْقة الإيديولوجيا التي تسكن رأسه وتحتلّ كيانه، ويسعى عبر البحث والعلم الوصول إلى النتائج الموضوعية، حتى وإن اختلفت مع تصوراته المسبقة التي لا تقدّم له سوى وهماً زائفاً حسب ماركس نفسه.

وماذا عنك شخصياً؟
إنتقلت من المرحلة الإيمانية التبشيرية الدعووية في الشباب الأول، إلى المرحلة التساؤلية العقلية النقدية، بنقد الذات ونقد الآخر. ولا بدّ من القول إن "لا تجربة حقيقية من دون نقدها".
ليس من السهولة أن يتخلّص المرء من لوثة الايديولوجيا أو فايروس ادّعاء الأفضليات، وعليه بذل جهد كبير وعناء أكبر مع النفس، وبالتالي ممارسة رياضة نفسية للتصالح مع الذات.
ولأنني متصالح مع نفسي فإنني متصالح مع تاريخنا العربي والإسلامي. والإسلام مكوّن أساسي مادّي وروحي من مكوّنات مجتمعاتنا، متدينون أو غير متدينين. ولا ماركسي أو ثوري أو يساري حقيقي من يعادي الإسلام أو يعادي الدين، لأن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، ظاهرة وعلينا دراستها والتعمّق فيها والتعاطي معها من موقع البحث عن المشتركات الإنسانية، لا سيما قيم الحريّة والكرامة والعدالة والمساواة والشراكة والمشاركة والسلام والتسامح وغيرها.
والدين عموماً، والإسلام خصوصاً، يدخل في كلّ مفاصل حياتنا، من أسمائنا إلى أعيادنا ومآتمنا وكلّ ما يتعلّق بتاريخنا وثقافتنا ولغتنا ورموزنا. كيف يمكنني أن أفصل نفسي عن مكّة المكرّمة، التي يحجّ إليها ملايين البشر سنوياً أو أغفل عن القدس الشريف، أولى القبلتين؟ وهل يمكن أن لا يكون النبي محمد أو الفاروق عمر أو الإمام علي أو الحسين، إلّا جزءاً من ثقافتي؟ فمعنى ذلك إنكار لأصلي و"من أنكر أصله لا أصل له".
علينا كيساريين وحداثيين أن نفهم طبيعة مجتمعاتنا وتكويناتها المختلفة، وأن نتعاطى معها بأريحية لأننا لا يمكن أن نكون إلّا جزءاً منها، وعند ذلك يمكننا المساهمة في تطويرها وتنميتها وتغييرها.

لهذا تبدو اليوم خارج التصنيف وفق التصنيفات المعهودة، فأنت يساري وكتبت "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف"، وأنت متصالح مع الإسلام والعروبة، ولديك أفكار تتعلق بحقوق الإنسان وتعمل في هذا المجال الذي نادراً ما وطأه الماركسيون والإسلاميون؟
لا أنسب نفسي إلى شخص، وإن كنت كثير الاعجاب بماركس، وأعتبره، إضافة إلى القرآن والشعر بخاصة والأدب بعامة، أحد روافدي الأساسية. وشخصياً، أعتبر ماركس من أعظم مفكري التاريخ، لا سيما ما تركه من منهجه في تحليل طبيعة النظام الرأسمالي، وسبق لي أن قلت إن الماركسية هي "علم الرأسمالية بامتياز"، وقد وضع ماركس أحكامه وقوانينه انسجاماً مع مجتمعه والتطوّر العلمي فيه وقدّم لنا استنتاجين مهمّين، الأول يتعلّق بقراءة تطوّر المجتمع البشري، والثاني يتعلّق بفائض القيمة.
ربما لم يمهل العمر البيولوجي ماركس لدراسة كثير من القضايا، فنظريته المعرفية حول الدولة غير متكاملة، ودعوته لذبولها أقرب إلى طوباوية، فضلاً عن أنه لم يعط اهتماماً كبيراً لدراسة الجوانب النفسية للإنسان، وأحياناً كانت نظرته إسقاطيه مركزية غربية على الواقع. يُضاف إلى ذلك أن التراث الماركسي تعرّض للتشويه في إطار المدارس المختلفة اشتراكياً، فروسيا أرادت "ترويس" الماركسية والصين "صنينتها"، وفعل مثلهما الألبان والكوبيون والفيتناميون والكوريون. والأمر لا يتعلّق بتوطينها، بل محاولة تطويعها انطلاقاً من رؤية لا تخلو من إرادوية ذاتية.
هكذا ضاع ماركس الكبير بين "القبائل الماركسية" المتشظّية، في حين أن منهجه ما زال صالحاً، مع الأخذ بنظر الاعتبار التطوّر العالمي. أما استنتاجاته فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وكثير منها تخطّاها الزمن أو لم تثبت صحّتها على أرض الواقع. وكان الماركسيون العرب في معظم الوقت متلقّين واتّكاليين، وساد في وسطهم الكسل الفكري والانتظارية.
لم نتوقف كثيراً عند كتاب ماركس "المسألة اليهودية"، وبقدر ما تحدّث عن علاقة اليهود بالمال، فإنه تحدّث في هذا الكتاب المهم عن التعددية والتنوّع والديمقراطية وحقوق الإنسان. الأمر الذي يحتاج إلى إعادة قراءة الماركسية باعتبارها الحلقة الذهبية الأولى في التمركس وليس نهايتها أو تماميتها.
ولا يمكن لماركسي حقيقي أن يكون ماركسياً إلّا باحترام حقوق الإنسان، أما التطبيقات المشوّهة في الأنظمة الاشتراكية في القرن العشرين، فإنها فشلت، ولذلك انهارت بالكامل. وهكذا تبدّدت تجربة تاريخية كان يمكن تطويرها لمصلحة الإنسان.

الحركة الحقوقية العربية أخفقت في تحقيق أهدافها
هناك تراجع واضح في الحركة الحقوقية العربية، التي يُعد عبد الحسين شعبان من أبرز أسمائها وقد حاز في 2003 جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي. نسأله عن ذلك فيجيب:
وراء ذلك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، منها أن "المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً، وهو حديث التكوين، بل جنينياً في بعض البلدان. وهناك العديد من القوانين في البلدان العربية التي تحول دون حريّة تأسيس الجمعيّات والمنظمات المدنية، فضلاً عن بعض المساعي الاحتوائية من جانب بعض القوى المتنفّذة داخلياً وخارجياً، لكن ذلك ليس كامل الصورة.
وتعاني مؤسسات المجتمع المدني العربي من نواقص وثغرات وعيوب من داخلها، منها محاولات تسييسها أو تديينها أو مذهبتها بإخضاعها لجماعات سياسية أو دينية أو مذهبية أو طائفية، بحيث يكون واجهة لها، سواء كانت حكومة أم جهات غير حكومية، وتتم محاولات ترويضها أحياناً عبر القانون، إما باتهامها بالعمل لحساب قوى خارجية أو تهديد الأمن العام أو العلاقات مع جماعات إرهابية.
ويعود ضعف مؤسسات المجتمع المدني إلى ضعف الثقافة الحقوقية بشكل عام، وانخفاض مستوى الوعي وضعف المبادرات وتغليب الحقوق السياسية والمدنية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن غالبية منظمات المجتمع المدني هي منظمات احتجاج، في حين ينبغي أن تتحوّل إلى قوّة اقتراح وقوّة اشتراك، بدلاً من انخراطها كقوّة اعتراض. يضاف إلى ذلك ضعف بعض أهلية قياداتها وتعتّقها بمواقعها وكأنها مملوكة بالطابو لها، واستخدامها وظيفة مستمرّة وليس عملاً تطوّعياً، فضلاً عن اضطرارها إلى حصر أنشطتها بالتمويل الخارجي، وغالباً ما تكون لمؤسسات التمويل أجندات خاصة، لغياب التمويل الداخلي. وكذلك غياب استراتيجيات واضحة لها، وضعف الهياكل والتراكيب التنظيمية، والعلاقات غير الديمقراطية بين منتسبيها وهيئاتها.

لا بدّ لمنظمات المجتمع المدني أن تضع مسافة كافية بينها وبين العمل السياسي أو الانحياز الإيديولوجي أو الولاء الديني أو الطائفي أو المعارضة أو الحكومة.
أستطيع أن أقول بثقة وبعد تجربة لسنوات، ومن باب النقد الذاتي، أن منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني بشكل عام أخفقت في تحقيق الأهداف التي بدأتها في مطلع الثمانينيات، حيث كانت تتمتّع بالصدقية والموضوعية، في حين أن بعضها أصبح ممالئاً للسلطات، والآخر اتّجه نحو معارضتها، والثالث انكفأ لأنه لا يستطيع أن يؤيّد السلطة أو يعارضها، فضلاً عن النفوذ الخارجي في أوساطها.
وإذا كان علينا البحث عن مرجعية خاصة عربية وإسلامية، فهي ليست بمعزل عن المرجعية الكونية، التي ينبغي أن تتفاعل معها في إطار المشتركات الإنسانية، ومنذ أربعة عقود كنت أدعو إلى فك الاشتباك بين المرجعية الكونية وبين الخصوصية، التي لا تعني التحلّل من الالتزامات الدولية، بل التفاعل معها، ولا يمكن اليوم لإنسان أن يعيش في قرية معزولة، لأن العالم أصبح صغيراً ومتداخلاً ومتشابكاً ومتفاعلاً ومتراكباً، وهذه الحقيقة لا بدّ من الأخذ بها.
وحين أقول إن "حلف الفضول" هو أحد مرجعيات حقوق الإنسان الكونية، فإنما هو اعتزاز بتاريخنا وتراثنا، ناهيك عما قدمته الثقافة العربية - الإسلامية من قيم تصلح أن تكون مرجعية لحقوق الإنسان المعاصر، مثلما يعتزّ الصينيون بالكونفوشيوسية والتاوية، والهنود بتعاليم بوذا، والبريطانيون بالماغناكارتا، والفرنسيون بمبادئ الثورة الفرنسية، والأميركيون بدستورهم، والروس بمبادئ حق تقرير المصير والحقوق الجماعية، فلماذا لا يتفاخر العرب والمسلمون برافدهم الكوني لحقوق الإنسان؟
إن قراءتي هذه إنما هي إعادة تأصيل علاقة حضارتنا وثقافتنا بالحضارة العالمية والثقافة الكونية، فقد كان لنا قصب السبق في ذلك. وعلينا أن نتصالح مع تاريخنا. وبالعودة إلى "حلف الفضول"، فقد نشأ حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على أن "لا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غيرها من سائر الناس، إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته". وقد اتّخذ الإسلام موقفاً إيجابياً منه، وحين ألغى النبي محمد أحلاف الجاهلية استثنى منها "حلف الفضول"، ويوم سُئِلَ عنه، أجاب "شهدت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو أنني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت".


حوار أجراه الصحافي حسان الزين مع د. شعبان ونشر في جريدة نداء الوطن (اللبنانية) في 6 أيار / مايو 2023.

https://www.nidaalwatan.com/author/325-%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D9%86



20
بشتاشان "خلف الطواحين"
                   ... وثمة ذاكرة



 


شهادة وليست رواية


الشهادة وقدسية الحياة
(الحلقة الرابعة)

لا تُدرك الحقيقة إلّا عندما تُفنى
محي الدين بن عربي

   إذا كان الماضي أصبح ماضيًا والناس تعيش اليوم همومًا من نوع آخر، خصوصًا في ظلّ إغراءات المحتل الأمريكي للعراق منذ العام 2003 ومساعي إفساد الضمائر، "فمن يبالي بسبعين شيوعيًا قتلهم حليف في زمن منسي، على حدّ تعبير سهيل سامي نادر؟" لكن متى سيحين معرفة الحقيقة وأين قبور الشهداء أو رفاتهم أو معرفة الأسماء وصفاتهم وتدقيقها، فالكثير من الشهداء ظلّت أسماؤهم مجهولة أو مكنّاة "أبو فلان" بسبب ظروف العمل السرّي، وهل سيكون فتح الملفات فتحًا للجروح، أم أن هناك ضرورة لعدم التأجيل، وسيكون ذلك مقدمةً للمعالجة؟
لقد فات زمن طويل والضحايا وعوائلهم على ذمة التاريخ تنتظر كشف الحقيقة، ووضع الشواهد على القبور في معركة لا معنى لها وأوضاع غاية في الصعوبة وميزان قوى غير متكافئ، والأكثر من ذلك أن المعركة غير عادلة، بل لا مبرّر لها على الإطلاق مهما كانت المزاعم والذرائع، وهي استمرار لتلك النزاعات المسلّحة البدائية وغير العقلانية بين القوى التي تطلق على نفسها "الوطنية"، فالعنف ليس الوسيلة الفضلى لفض النزاعات وحسم الخلافات، وغالبًا ما يكون وسيلة بيد العاجز عن الإقناع، والهدف فرض نفوذه بقوّة السلاح والاستقواء به لإرغام خصمه على التراجع أو التنازل أو القبول بالأمر الواقع.
 وإذا كانت المطالب الوطنية تاريخيًا تتحدّد بالكرامة والحريّة والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية، والمشاركة والشراكة وهي أسس المواطنة وأركانها، وهي مطالب طموحة، فهل ستكون المطالبة بحق الإنسان بأن يكون له قبر، وأن يعرف ذويه والعدالة معهم لماذا وأين وكيف قُتل؟ وأين جثمانه أو رفاته؟ لكي يقوموا بواجب العزاء طبقًا للأديان والشعائر والتقاليد الاجتماعية، أم أن ذلك مطلبًا صعب المنال وضربًا من الترف الفكري بالنسبة للضحايا، ونوع من الاستحالة بالنسبة للمرتكب؟
 ذلك هو جانب آخر من مأساة بشتاشان، ومآسي العنف التي انتشرت ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 وضحايا العنف الطائفي والإثني 2006 و 2007 وما بعدها، وقبلها مآسي وارتكابات العهد الجمهوري الذي بدأ بالعنف المنفلت من عقاله وخارج نطاق القانون، ابتداءً بمجزرة قصر الرحاب ضدّ العائلة المالكة، ومرورًا بما حصل في الموصل وكركوك العام 1959، ثم ما حدث بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 من هستيريا عنفية، حيث ما زال العالم يجهل مكان قبر سلام عادل (أمين عام الحزب الشيوعي الذي استشهد تحت التعذيب)، وعدد من قيادات الحركة الشيوعية والوطنية، مثلما يجهل قبور ضحايا مجزرة قاعة الخلد العام 1979 ومجازر حزب البعث الداخلية، ناهيك عن ضحايا الحرب العراقية - الإيرانية، ومن ثم قبور ضحايا الإرهاب القاعدي والداعشي .
مثل هذه الشهادة تحاول التحرّر من ادّعاء الأفضليات أو احتكار الحقيقة أو الزعم بتمثيلها، لهذا سوف تتصرّف بحريّة باستخدام وسائل التحليل اعتمادًا على العقل وليس عبر بعض الشعارات الجاهزة أو العاطفية، خصوصًا بالسعي لتعظيم "الجوامع" وتقليص "الفوارق" والابتعاد عن كلّ ما من شأنه يستخف بقدسية الحياة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل. واستنادًا إلى هذا المنطق فإن الشهادة سوف لا تخلو من النقد لجميع الأطراف، وهو نقد ذاتي بالطبع، فلا شيء أهم من اكتشاف الحقيقة ومساءلة الآخر والنفس عمّا حصل.
يقولون أن الشيطان يكمن في التفاصيل، لكن الحدث دون تفاصيل سيكون تعميمًا ساذجًا، والتعميم هو "الصخرة التي يتّكأ عليها المتعبون"، لذلك فالقُبل والمجاملات والذكر الطيّب و"نسيان الماضي" و"قلب صفحة جديدة" لا تشفي غليل الضحايا وعوائلهم، التي لا بدّ لها من معرفة ما حصل ومن المسؤول وما هي أسبابه؟ وكيف وأين ولماذا؟ والهدف هو الاستفادة من الدروس والعبر التاريخية، والنظر إلى المستقبل في إطار علاقات نظيفة وسليمة وخالية من العنف، وذلك ﺑ "ترزين" الصراع و"توقير" الخلاف وليأخذ المتصارعون مداهم في المنافسة الشريفة للحصول على المواقع والترويج للأهداف التي يدعون إليها.

 



21
بشتاشان "خلف الطواحين"
                   ... وثمة ذاكرة





شهادة وليست رواية


شيء عن بشتاشان


(الحلقة الأولى)

بشتاشان أو كما تُكتب باللغة الكردية بشتئاشان، ومعناها باللغة العربية "خلف الطواحين"، قرية من قرى كردستان العراق، حبتها الطبيعة بكلّ ما هو جميل من مناظر خلّابة ونُهير ذو مياه عذبة يخترقها منسابًا من جبل قنديل متّجهًا نحو وادي شاروشين،  إضافة إلى عيون ماء "حلوة" عديدة. والقرية عبارة عن غابة كثيفة مكتظّة بالأشجار، ولاسيّما أشجار الجوز والفواكه المتنوّعة، خصوصًا العنب. وكانت تقوم حياة القرية والناس فيها على تربية المواشي والنحل وزراعة التبغ وبيع منتجاتها الزراعية إلى المدن والمناطق الأخرى.
تنقسم بشتاشان إلى قسمين: بشتاشان العليا وبشتاشان السفلى، وتتصل جغرافيًا بعدد من القرى المتقاربة من بعضها مثل أشقولكا وليوْجة وقرناقو ورزكة وكاسكان وسط سلسلة عالية من الجبال الشديدة الوعورة والدروب والمسالك المتعرّجة ذات الانحدار الحاد، كما أن الوصول إليها عسيرًا، خصوصًا  في فصل الشتاء لقسوة المناخ، حيث تصل درجة الحرارة إلى 20 درجة تحت الصفر، فتنقطع سُبل الحياة فيها وتعيش حالة عزلة شبه كاملة، الأمر الذي يتطلّب خزن المواد الغذائية لنحو ثلاثة أشهر أو ما يزيد عن ذلك، لاسيّما أشهر (كانون الأول / ديسمبر وكانون الثاني / يناير وشباط / فبراير).
 وتستمر الثلوج بالهطول على نحو كثيف حتى شهر (آذار / مارس)، كما يزداد سقوط المطر طيلة فصل الربيع الذي يمتاز بالبرودة أيضًا. أمّا في فصل الخريف فإن المطر حين يهطل يستمرّ لعدة أيام دون انقطاع، والمناخ يزداد برودة كلّما اقتربنا من فصل الشتاء، وخصوصًا في شهر تشرين الثاني / نوفمبر، في حين يكون المناخ معتدلًا والهواء عليلًا في الصيف. ويقيس الفلاحون قساوة فصل الشتاء بمراقبة ردود فعل الحيوانات وحركتها تحسّبًا للبرودة فيزداد انكماشها، وهذا يعني أن البرد سيكون قارصًا، وكذلك وخلايا النحل فيما إذا بدت مبكّرة في فصل الخريف.
تعتبر قرية بشتاشان مثل قرى جبل قنديل الأخرى معزولة، ولا تصل إليها سيارات، وسكاّنها ينتقلون إمّا مشيًا على الأقدام أو يركبون الحيوانات، ولاسيّما البغال. والبغل مهم في حركة الأنصار، لدرجة عُدّ من الرفاق "الجهاديين" حسبما كنّا نتندّر فيما بيننا، لكنه أحيانًا يحرن ويتمرّد وحتى ينتحر، وهكذا يخرق قواعد النظام الداخلي والطاعة الحزبية، لذلك لا بدّ من العناية به.
كان كلّ شيء في تلك القرية الجميلة الوديعة يسير هادئًا وبطيئًا، فقد ظلت مستلقية وراقدة منذ قديم الزمان على سفح جبل قنديل الذي يبلغ ارتفاعه 7800 قدم وتكسوه الثلوج طيلة أيام السنة تقريبًا باستثناء شهريْ تموز / يوليو وآب / أغسطس، لكن الأمور تغيّر وانقلبت  رأسًا على عقب، فقد تم تهجير سكّانها البالغ عددهم 70 عائلة إلى معسكر (جوارقورنة) القسري في العام 1975، وجرى تجريف منازلهم وأكواخهم ومزارعهم، التي ظلّت مهجورةً على الرغم من انتقال الأنصار الشيوعيين إليها في العام 1982، ثم بدأ بعض سكّانها بالعودة إليها في الثمانينيات والتسعينيات.
لم يكن أحد يتصوّر أن تلك المنطقة النائية المعزولة المنقطعة عن مراكز الحضارة والمدنية ستستقبل مئات من المثقّفين كتّابًا وصحافيين وشعراءً ومسرحيين وفنانين وأطباء ومهندسين ومعلّمين وحقوقيين وأساتذة جامعة وطلابًا وعمالًا وفلاحين وعددًا كبيرًا من السياسيين الذين أجبرتهم الظروف للعيش في تلك الأرض المنسية من العالم.
 أقام الوافدون حياةً جديدة في تلك القرية وبعثوا حركة دائبة فيها، حتى بدت تلك البقعة من الأرض وكأنها ورشة عمل دائمة لا تهدأ ولا تنام، حيث نُصبت فيها إذاعة ونُقلت إليها أجهزة طباعة وأنشئت فيها طبابة وانتظمت فيها ندوات وأماسي واحتفالات وافتُتحت فيها معارض فنية وعُرضت فيها مسرحيات، ناهيك عن تنظيم حراسات، مثلما كان يجول فيها مسلّحون بينهم الكثير من العرب الذين لم يسبق لهم حتى زيارة كردستان، فضلًا عن أنهم لا يتكلّمون لغتها ولا يعرفون تقاليدها وعاداتها الاجتماعية، وبسرعة كبيرة أصبح بعضهم يتحدّث باللغة الكردية (اللهجة السورانية أو البهدنانية) حسب منطقة وجوده، بل صار دليلًا في تلك الطرقات الوعرة والجبال العالية.
وكان الكرونجية (الباعة المتجولون)، سواء الذين يأتون من الداخل العراقي الكردستاني  أم عبر الحدود الإيرانية أحد مصادر المعلومات التي يستقي منها الأنصار ما يجري حولهم، وكان هؤلاء غالبًا ما ينقلون أخبارًا مبالغ فيها أو أن جزءًا منها يقع ضمن تقديرهم ووعيهم، وهذا في الكثير من الأحيان بعيدًا عن الدقّة إن لم يكن مفبركًا أو مغرضًا بحكم هواهم ومصالحهم، ناهيك عمّا يسمعونه من الأطراف المختلفة التي تريد منهم نقل رسائل محدّدة إلى الأنصار.
كان الكرونجية غالبًا ما يبدون إعجابهم واستغرابهم في الآن بقدرة الشيوعيين على تحمّل الصعاب ومشاق الحياة القاسية، إذْ لم يحدث أن عاش غرباء في تلك المنطقة، فما بالك حين يكون هؤلاء من مناطق العراق العربي. فليس من السهولة بمكان التأقلم مع الظروف الطبيعية القاسية وطريقة العيش البدائية، وانعدام الحد الأدنى من مستلزمات الحياة البسيطة. وكانوا يرددون من باب الانبهار أنه لا أحد يستطيع العيش في هذه المنطقة سوى الخنازير والشيوعيين.
 ومثل هذا الكلام سمعته في قرية قاسم رش في الوادي المنحدر من ناوزنك - نوكان، ومن صاحب دكان اسمه كاك أحمد ويُدعى أحمد كلاشنكوف أو أحمد طلقة، وكان يقول أنه نائب ضابط سابق في الجيش العراقي حين خاطبني قائلًا: أنتم الضباط، ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ لم أجبه، فأردف مضيفًا، أنا أعرفك، كنتَ نقيبًا في الجيش، فأجابه رفيقي سامي عبد الرزاق الجبوري (أبو طه) الكاك ليس ضابطًا، فوجّه خطابه إليه قائلًا: وأنت كذلك كنت نقيبًا؟ وأنا أعرف الضباط من هندامهم وقيافتهم. ويُذكر أن قرية قاسم رش كانت سوقًا مفتوحة، فيها يتم تبادل العملات وبيع الممنوعات، كما كانت مرتعًا لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية المختلفة.
   في أيار / مايو العام 1983 دخل اسم بشتاشان القاموس السياسي،  وأصبح معروفًا على نطاق واسع كرديًا وعربيًا وعالميًا بفعل ما نقلته وكالات الأنباء والصُحف عمّا حصل فيها، مثلما أصبح  لها رمزية خاصة وإن ارتبطت بمأساة إنسانية. وأستطيع القول أنها احتلّت مكانًا خاصًا في ذاكرة جيل من الحركة اليسارية والكردية في العراق، وذلك حين هاجمت قوات "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي يرأسه جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق لاحقًا، ونائبه ناوشيروان مصطفى أمين مقرّات الحزب الشيوعي العراقي في بشتاشان وارتكبت مجزرة راح ضحيتها نحو 70 شهيدًا شيوعيًا ، بعضهم لا تُعرف قبورهم حتى الآن، وبعض الناجين غادروا الحياة دون أن يسمعوا اعتذارًا أو اعترافًا أو تعويضًا لما حصل، وظلّت الحقيقة تحاصر من تورّط بالفعل الشنيع، فضلًا عن أسئلة التاريخ الحارقة.


 





 

 




22
بشتاشان "خلف الطواحين"
                   ... وثمة ذاكرة

 




شهادة وليست رواية


بشتاشان: وقفة تأمّل
(الحلقة الثانية)

"إن أكثر المعارك تجري بأوامر من رجال يفتقدون إلى الكثير من المعلومات،
لنصل في النهاية أن الجنود البسطاء هم الذين يُقتلون ويُقاتلون،
فيما الكبار يقرؤون الخرائط ويصدرون الأوامر"
تولستوي

   ظلّ الالتباس والغموض يلفّ قضيّة بشتاشان، خصوصًا في ظلّ الصمت أو عدم الإفصاح أحيانًا عمّا حدث، فضلًا عن التباين والاختلاف في المواقف. والأمر لا يتعلّق بالمرتكب أو الضحيّة، سواء برواية الحدث أو تفسير أسبابه ودوافعه ومسوّغاته، ناهيك عن نتائجه وما يترتّب عليه، بل انتقل ذلك أحيانًا إلى فريقي المرتكبين والضحايا، وامتدّ الأمر ليشمل طائفة من الشخصيات القريبة والبعيدة عن مسرح الحدث وشهوده وتداعياته القانونية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، خصوصًا حين ظلّت الصورة غائمة وضبابية، لغياب الأجوبة الشافية والمنطقية إزاء ما حدث.
وبالطبع فزوايا النظر تختلف من شخص إلى آخر ومن جهة إلى أخرى، لكن مجموع ما دوِّن وما رويَ وما شوهد وما سُمع وما توبع لاحقًا يُعطي تصوّرًا أوضح لما حدث في بشتاشان التي ظلّت تنتظر وستبقى حتى تنجلي الحقيقة، علمًا بأن جزءًا كبيرًا من الرأي العام لم يعرف بالواقعة إلّا في وقت متأخّر، وهو ما شكّل صدمة حقيقية له. ولكي لا يبقى ما حدث في كهف النسيان، كان لا بدّ من كشف الحقيقة، وتوثيق ما حصل وتحديد المسؤوليات، فلم تكن مجزرة بشتاشان قضاءً وقدرًا أو نجمت جرّاء زلزال أو إثر انفجار بركان أو حدوث كارثة طبيعية كي يختفي أي أثر للضحايا، بل إنه بفعل فاعل دبّر بليل وأحيك في الظلام.
 وعلى الرغم من مرور أربعة عقود من الزمن، إلّا أن ما عُرف عن بشتاشان لم يكن في الواقع سوى "إشارات غامضة" "وشذرات ونُتف" من أحاديث متناقضة ومسموعات مبهمة ومرويّات مبتورة أحيانًا، أو بضعة قصاصات ومقالات نقديّة أو تجريحية أو دفاعات في أحيان أخرى، الأمر الذي يتطلّب إعادة قراءة ما حصل بقلب حار وعقل بارد، ليطّلع الجميع على تفاصيل ما حدث وخلفياته بأنفسهم دون انحيازات مسبقة أو آراء جاهزة، ودون إغفال أو عبور أو نسيان لجزء من تاريخ الحركة الأنصارية من جهة، وتاريخ المعارضة العراقية في الثمانينيات من جهة أخرى، بما لها وما عليها. وهو ما جاء في حديث الصديق لؤي أبو التمن في الشام العام 1985، ومثل وجهة النظر هذه أو ما يشبهها وردت على لسان الصديق طارق الدليمي والصديق ابراهيم الحريري، بل كان أكثر من صديق يستوضح عن الحقيقة ويطالب بمعرفة التفاصيل الدقيقة، كما طلب مني البروفيسور طارق يوسف اسماعيل أكثر من مرّة أن يسمع القصّة كاملة، باعتباري أحد الناجين من المجزرة.
وإذا كان صحافيًا متميّزًا وباحثًا مدقّقًا مثل الصديق سهيل سامي نادر يقول أننا لا نملك سوى "معلومات قليلة أو غامضة" ويقصد بذلك عمّا حدث في بشتاشان، تعليقًا على ما نشره الرفيق قادر رشيد "أبو شوان" عن "مجزرة بشتاشان"، "بشتاشان - بين الآلام والصمت" في صحيفة الناس التي ترأس تحريرها الصحافي والمؤرّخ حميد عبد الله، فكيف والحال هذه مع شخصيات وجهات أخرى بعيدة؟ وكان قد كتب عمودين تقديمًا وخاتمة لما نشره بمناسبة مرور 32 عامًا على مجزرة بشتاشان أهداها إلى صديق صباه في المدرسة الشهيد نزار ناجي يوسف، وذيّل ذلك بقوله "كنت أُدرك بحزن أن ما تبقى لكاتب هو أن لا يشترك بمؤامرة الصمت، وأن يخلص لنفسه ويواصل الكلام حتى وهو يعرف أنه لا أحد يسمع".
   فكم هو مؤلم مثل هذا النص؟ وكم تضعك تلك التساؤلات أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية ووطنية لكي تقدّم ما لديك من معلومات بتجرّد وإخلاص أمام القرّاء، وفي ذلك خدمة للحقيقة واستجابة لنداء الضمير، فعسى أن نراجع تجاربنا للاستفادة من دروسها وعبرها، وإعادة قراءة التاريخ بحثًا عن الحقيقة التي ينبغي أن تكون لها الأولوية وليس لغيرها، مع الأخذ بنظر الاعتبار القيم الإنسانية، بما فيها قيم العدالة والإنصاف.
   أعرف أن الكثير من الضغوط الفعلية المباشرة وغير المباشرة، النفسية والمادية، حالت وتحول دون تقديم البعض شهادته، أو تقديمها بصورة "ملطّفة" أو منقوصة أو مقصودة بمعنى "موجّهة"، هدفها تبرئة هذا ووضع المسؤولية الكاملة على عاتق ذاك، كما أن البعض الآخر حاول أن يتجاوز الحدث وطبيعته وتفاصيله وما حصل ليختزله إلى "مجرد خلافات بين القوى الوطنية" و"صدامات راح ضحيّتها بضع عشرات من القتلى الشهداء"، وهناك من يحاول أن  يلبس ثوب الحكمة ليزعم أن المصلحة الوطنية تقتضي عدم الإتيان على ما حصل أو التوقف عنده، بل ينبغي نسيانه وحذفه من تاريخ الحركة الأنصارية. وفي أحسن الأحوال تذهب التبريرات للقول أن ذلك ليس أوانه، وأن الوقت لم يحن لبحثه وكشف المستور بشأنه. وهي التبريرات ذاتها التي كانت تُقدّم بصيغة إيجابية، لكنها ملغومة خلال فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث 1973 - 1979، لاسيّما بخصوص ضحايا انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 الدموي.
 وإذا كان البعض أدلى بشهادته للتاريخ انطلاقًا من شعوره بالمسؤولية، فإن البعض الآخر انعقد لسانه لدرجة تشعر إزاءه بالشفقة. وحين يضطّر إلى ذكر ما حصل يُبقى على دور فلان ويهمل دور آخر، حتى إن كان من الأبطال، مثلما هناك من يتطرّف فيضع المسؤولية على عاتق الضحايا بلحاظ تقصير الإدارات الحزبية في تأمين مستلزمات الحماية الكافية وأخْذ الاستعدادات الضرورية والاحتياطات المناسبة، فضلًا عن غياب خطّة طوارئ، والخطأ الكارثي في اختيار الموقع لعدم صلاحيته عسكريًا، ناهيك عن مجمل السياسة العامة والسياسة التحالفية بشكل خاص.
 




23
السودان
 من الانقلاب إلى الانقلاب

عبد الحسين شعبان

نشرت في جريدتي الخليج (الإماراتية) في 26 نيسان / أبريل، والزمان (العراقية) في 27 نيسان / أبريل 2023.
   يبدو أن السودان والكثير من بلدان العالم الثالث، لم تغادر حقبة الخمسينيات والستينيات. وتقبع في الذاكرة التاريخية طائفة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1956.
ولعلّ ما يحدث اليوم من مواجهات عسكرية بين "الأخوة الأعداء"، باستعارة عنوان رواية الكاتب اليوناني كازانتزاكيس، إنما هو استمرار لذلك المسلسل الدرامي الذي ما تزال نهايته مفتوحة، فقد احتدم النزاع المسلّح  بين قوات "الدعم السريع"، التي نشأت في العام 2013 وعرفت باسم "الجنجويد" والقوات المسلّحة النظامية بعد فشل الاتفاق على حلّ يُنهي الأزمة السياسية منذ التغيير الذي حصل بإطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، بل زادت تعقيدًا منذ الحركة الانقلابية العسكرية في 25 أكتوبر / تشرين الأول 2021، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.
   ومنذ إزاحة نظام البشير، انقسمت البلاد إلى فريقين، أحدها عسكري يتألف من جناحيين، هما القوات المسلحة التي يقف على رأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع  بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"؛ وثانيهما مدني، وهي وإن اختلف فيما بينه، إلّا أنه يكاد يجمع على مطلبه بقيام حكم مدني وإعادة الجيش إلى الثكنات.
   وبالعودة إلى سيناريو الانقلابات والانقلابات المضادّة، فيمكن القول أن أوّل انقلاب كان بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، وذلك على هامش الخلاف حول حركة التمرد في الجنوب، وقد أطيح به في ثورة  أكتوبر / تشرين الأول 1964.
   ونظّم ما أُطلق عليه "الضباط الأحرار" تيمّنًا بالتجربة الناصرية المصرية انقلابًا عسكريًا في 25 مايو / أيار 1969، وذلك بقيادة الجنرال محمد جعفر النميري، الذي سرعان ما اختلف أقطابه، فنظم هاشم العطا انقلابًا في يوليو / تموز 1971، لكن الحركة الانقلابية فشلت، وتمكّن النميري من استعادة السلطة، وقام بإعدام قادة الحركة، من بينهم قادة الحزب الشيوعي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجورج قرنق، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، وتدريجيًا اتّجه الحكم نحو التشدّد والغلوّ بزعم تطبيق "الشريعة الإسلامية"، ولم يكن ذلك سوى تكميم الأفواه وتقييد حريّة التعبير بشكل خاص، والحريّات بشكل عام.
   ونجحت الحركة الشعبية في الإطاحة بالنميري في 6  أبريل / نيسان 1985، وحدث انفراج نسبي في الوضع السياسي. فتشكّلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بعد إجراء انتخابات، حتى تمكن الفريق عمر حسن البشير من الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري  في 30  يونيو / تموز 1989، وذلك بتحالفه مع الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها حسن الترابي، لكن السودان لم يشهد الاستقرار المنشود والتطوّر السلمي المدني، خصوصًا بتعتّق الأزمات واستمرار الحرب الأهلية، لما يزيد عن ربع قرن.
   وكنت في زيارة لي للسودان في العام 2000 قد سألت الرئيس البشير في حديث متلفز وعلى الهواء مباشرة، بثّه التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة من لندن: هل لديكم مشروع بشأن حلّ مشكلة الجنوب بعد أن فشلت جميع الحكومات السابقة في التوصّل إلى تفاهم وحلّ مقبول؟ فأجاب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ينطق بها، ليس لديه اعتراض فيما إذا أراد الجنوبيون الانفصال. الجدير بالذكر أن الحركة الجنوبية هي الأخرى فشلت في تحقيق أهدافها عبر الحلّ العسكري. وقد جرى تضمين  موضوع استقلال الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام (كينيا)، ووضع موضع التطبيق باستفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة ( يناير / كانون الثاني 2011)، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن جسم السودان الأساسي وانضمّت إلى الأمم المتحدة.
   وعلى الرغم من الإطاحة بحكم البشير العسكري، إلّا أن الجيش عاد ليلعب الدور المحوري، خصوصًا بعد انقلاب البرهان المذكور وازدواجية السلطة مع حميدتي، وتبدد اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين حتى موعد الانتخابات، وهو الأمر الذي قاد لتنافس العسكريين فيما بينهم، إذْ لم يعد ممكنًا استمرار السلطة برأسين (رئيس مجلس السيادة ونائبه)، وهكذا انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع.
   أكّدت التجربة التاريخية أن كل انقلاب عسكري يولد انقلابًا جديدًا من بطنه، وهكذا يتمّ تفريخ الانقلابات، وتستمرّ دوّامة العنف. ففي جميع البلدان التي حكم فيها العسكر، عادت البلاد القهقري، و ذلك واحد من أسباب تعثّر التنمية المستدامة. ومقارنة بالبلدان التي سلكت طريق التطوّر السلمي المدني، فثمة هوّة عميقة بينها وبين البلدان التي عرفت الانقلابات العسكرية، فليس بالشعارات يمكن تحقيق التنمية والرفاه والعيش الكريم لعموم الناس.
   ما ينتظره السودانيون، وهو ما لمسته خلال زيارتين لي في العام 2022، وخلال لقاءات مع مثقفين وأدباء وأكاديميين ومحامين وحقوقيين وإعلاميين، هو توفير الحدّ الأدنى من التفاهم وتحقيق قدر من التوافق لإجراء انتخابات حرّة يستطيع الشعب فيها أن يختار ممثّليه ويطوي صفحة الانقلابات العسكرية المليئة بالدماء والدموع.

24
لهذه الأسباب أُعدم فهد

عبد الحسين شعبان

   لطالما كنت أفكّر وعلى مدى سنوات، لماذا أُعدم فهد "يوسف سلمان يوسف" أمين عام الحزب الشيوعي العراقي ورفاقه في العام 1949؟ فقد كان هناك قادة معتمدون لأحزاب شيوعية عربية ولدول المنطقة ولديهم علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفيتي، لكنهم لم يلاقوا المصير ذاته، حتى وإن تعرّضت الحركة الشيوعية العربية عمومًا وقاداتها إلى العسف والتنكيل.
   جاء إعدام فهد في لحظة تاريخية مفارقة، فقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتعاش الحريّات على الصعيد العالمي وانتشار الأفكار الديمقراطية عقب هزيمة النازية والفاشية، وقد انعكس مثل ذلك على العراق أيضًا، ولاسيّما بعد خطاب الوصي على العرش الأمير عبد الإله في 27 كانون الأول / ديسمبر 1945، الذي أُعلن فيه موافقته على تأسيس الأحزاب وورد ما نصّه "لا يصحّ بقاء البلاد خاليةً منها"، الأمر الذي التقطته وزارة توفيق السويدي التي تشكّلت بتاريخ 23 شباط / فبراير 1945 ووزير داخليّتها سعد صالح (جريو) الذي يعتمر القبعتين القانونية والأدبية، إضافة إلى وطنيته المعهودة، فأقدم على عدد من الخطوات الجريئة منها إجازة 5 أحزاب سياسية بينها حزبين ماركسيين وإجازة عصبة مكافحة الصهيونية وإطلاق حريّة الصحافة وتبيض السجون وإلغاء الأحكام العرفيّة، فكيف حصل مثل هذا الارتداد السريع وحُكِمَ على فهد بالإعدام؟
كانت مبادرة تأسيس العصبة إحدى مآثر الحزب الشيوعي وزعيمه "فهد"، إضافةً إلى دور اليهود الشيوعيين الذين وقفوا ضدّ الصهيونية وعارضوا منطلقاتها الفكرية وكشفوا زيف ادعائها تمثيل اليهود بغضّ النظر عن بلدهم الأصلي، وميّزوا بين الصهيونية كعقيدة عنصرية واليهودية كدين، وهو ما أوردته أوريت باشكين في كتابها Impossible Exodus: Iraqi Jews in Israel الصادر في العام 2017.
وقد استقطب الحزب آنذاك أعدادًا واسعة من اليهود المعادين للصهيونية، وبلغ عدد المنتسبين حسب تشلسي سيمون ماي 300 عضوًا بينهم شيوعيات يهوديات متميّزات وذلك في دراستها "النساء اليهوديات في الحزب الشيوعي العراقي".
وحسب سجلات التحقيقات الجنائية (أجهزة الأمن العراقية) واستجوابات العديد منهن فقد برزت شخصيات مثل: إلين يعقوب درويش ودوريس وأنيسة شاؤول ونجيّة قوجمان وسعيدة ساسون مشعل (سعاد خيري – زوجة زكي خيري) وعمومة مير مصري (عميدة مصري) ومارلين مائير عيزرا (زوجة بهاء الدين نوري) وكامن سعيدة سلمان وألبرتين منشّي وراشيل زلخا، وبلغ عدد الناشطات قبل الهجرة الجماعية (1951) نحو 600 ناشطة كما جاء في إنسيكلوبيديا النساء اليهوديات Encyclopedia of Jewish Women.

الصهيونية والاستعمار

   ربط فهد مكافحة الصهيونية بمكافحة الاستعمار، فهما وجهان لعملة واحدة، وفي كرّاس صدر له بعنوان "نحن نكافح من أجل من؟ وضدّ من نكافح؟" يقول فيه " إن مكافحة الصهيونية توجب مكافحة الاستعمار حتماً في فلسطين وكلّ البلاد العربية، ومن يزعم مناهضتها ولا يناهض الاستعمار يخدمها،أراد أم لم يرد... ".
وعالج في هذا الكرّاس المشكلة الفلسطينية بفصل الصهيونية عن اليهودية وربطها بالاستعمار بما فيه الاستعمار الأمريكي الصاعد. وقد ساهمت تلك التوجّهات والنشاط داخل صفوف اليهود العراقيين على كسر التردّد الذي كان ينتاب بعض أفراد المجموعة الثقافية اليهودية للمشاركة في العمل السياسي، ونشط هؤلاء بشكل ملحوظ بمناسبة الذكرى اﻟ 28 لصدور وعد بلفور، حيث أصدرت العصبة نداءً جاء فيه " أن الاستعمار يستطيع أن يتكرّم بفلسطين مئات المرّات، طالما أنها ليست بلاده وطالما أنه يجد في ذلك ربحاً له ومغنماً لأن غايته وعميلته الصهيونية هي تحويل نضال العرب الموجه ضدّ الاستعمار نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون حقاً على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوروبا".
وبادرت العصبة بتوجيه من فهد إلى التظاهر يوم 28 حزيران / يونيو 1946، وتعرّضت التظاهرة التي شارك فيها أعداد من اليهود العراقيين إلى القمع والقسوة الشديدين من جانب الأجهزة الأمنية، وسقط شاوول طوّيق أول شهيد شيوعي وكان يهوديًا دفاعًا عن فلسطين، وهو ما أورده المؤرّخ والباحث الفلسطيني حنا بطاطو.
وبعد حظر نشاط العصبة وإيقاف صحيفتها وإحالة المشاركين في التظاهرة المذكورة إلى القضاء، أصدرت محكمة الجزاء أحكامًا متفاوتة يوم 15 أيلول / سبتمبر 1946 على عدد من اليهود الشيوعيين بمن فيهم رئيس العصبة يوسف هارون زلخا بالسجن المؤبّد بالزعم أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية وليس ضدّها، وكان ذلك بداية حملة شعواء لطي صفحة الانفتاح المحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نشطت الحركة الصهيونية بشكل كبير، خصوصًا بعد صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947.


العدو المشترك

 نبّه فهد إلى العدو المشترك للعرب واليهود وأهمية التضامن إزاء المخاطر المشتركة وسلّط الضوء على نشاط الوكالة الصهيونية وبعض أركان الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا، لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين.
وعلى الرغم من وجود فهد في السجن، حيث اعتقل ليلة 18 كانون الثاني / يناير 1947، وصدر الحكم عليه بالإعدام في 24 حزيران / يونيو من العام ذاته، إلّا أنه كان يتابع تطوّر الموقف من القضيّة الفلسطينية على الصعيد العالمي، خصوصًا بعد تغيير الموقف السوفيتي السلبي وانعكاساته على الشارع العربي.
 وكان غروميكو المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة قد أعلن في تشرين الثاني / نوفمبر 1947 تأييد قرار التقسيم وأطلق عليه "القرار الأكثر قبولًا". وبرّر أن القرار ليس موجّهًا ضدّ العرب وأنه يتوافق مع المصالح الوطنية الأساسية لكلا الشعبين. وحين أُعلن عن تأسيس "إسرائيل"، بادرت موسكو للاعتراف بها مباشرة، واستقبلت أول وفد "إسرائيلي" برئاسة السفيرة غولدا مائير (مايرسون).
وقد غيّرت غالبية الأحزاب الشيوعية موقفها منتقلة من التنديد بقرار التقسيم إلى تأييده باعتباره "أحسن الحلول السيئة" وكان ذلك يمثّل نموذجًا لطريقة التفكير التعويلية من جهة ولعلاقة التبعية للمركز الأممي من جهة ثانية. ولم يهضم الحزب الشيوعي العراقي مثل هذا التبدّل في بداية الأمر، وظلّ متحفّظًا لحين، على الرغم من وصول وثيقة "أممية" من باريس بعنوان "أضواء على القضية الفلسطينية" (11 حزيران / يونيو 1948) تعكس وجهة نظر الحزب الشيوعي الفرنسي ومن خلاله وجهة نظر (المرجعية الأممية) المؤيدة لقرار التقسيم، وقد نقلها يوسف اسماعيل البستاني وتمّ الترويج لها، حتى وصلت إلى سجن الكوت، حيث كان الرفيق فهد يقبع فيه وعدد غير قليل من السجناء.
وكما جرت العادة في السجن، كان السجناء يجتمعون لتقرأ عليهم، نصوص البيانات والأخبار والتقارير الحزبية لتتم مناقشتها. وحين بدأ أـحد الرفاق بتكليف من منظمة السجن بتلاوة وثيقة باريس المذكورة وما أن وصل إلى "الانقلاب" في موقف الاتحاد السوفيتي، أمره الرفيق فهد بالتوقّف وعدم إكمال تلاوة ما تبقّى من الوثيقة، وذلك لسماعه فقرات لم تعجبه وتتعارض مع توجّه الحزب الشيوعي العراقي، خصوصًا بعد قيام "إسرائيل" في 15 أيار / مايو 1948. وقد أبدى فهد وهو في السجن تحفظات حول الموقف من قرار التقسيم، وقد انعكس ذلك في توجيه حزبي داخلي، وهو ما يمكن تلمّسه من الفقرة التالية، وأنقلها على الرغم من طولها كما وردت في كتاب حنّا بطاطو، الجزء الثاني، وجاء فيها "إن موقف الاتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم وفّر للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبريالية فرصة لا للتشهير بالاتحاد السوفيتي فقط، بل أيضاً بالحركة الشيوعية في البلدان العربية... ولذلك على الحزب الشيوعي تحديد موقفه من القضية الفلسطينية حسب الخطوط التي انتمى إليها والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
1-    إن الحركة الصهيونية حركة دينية رجعية ومزيفة بالنسبة للجماهير اليهودية.
2-    إن الهجرة اليهودية... لا تحلّ مشكلات اليهود المقتلعين من أوروبا، بل هي غزو منظّم تديره الوكالة اليهودية... واستمرارها بشكلها الحالي... يهدّد السكان الأصليين في حياتهم وحريّتهم.
3-    إن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع إمبريالي قديم... يستند إلى استحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب.
4-    شكل حكومة فلسطين لا يمكن أن يتحدّد إلّا من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلاً، وليس من قبل الأمم المتحدة أو أي منظمة أو دولة أو مجموعة دون أخرى.
5-    إن التقسيم سيؤدي إلى إخضاع الأكثرية العربية للأقلية الصهيونية في الدولة اليهودية المقترحة.
6-    إن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد الخصومات الوطنية والدينية وسيؤثر جديّاً على آمال السلام في الشرق الأوسط.
ولهذه الأسباب فإن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع خطة التقسيم.
لكن هذا الموقف تغيّر بعد ذلك، واستمرّت التبريرات الخاطئة والساذجة لتلميع الموقف السوفيتي، بل والاستماتة في إثبات "صحّته"، بما فيه الدفاع عن قيام "إسرائيل"، وظلّت ذيول هذه القضية مستمرّة لسنوات عديدة ولم يتمكّن الحزب من معالجة هذه القضيّة الحسّاسة والخطيرة والجوهريّة والمبدئية، إلّا على نحو جزئي بمراجعة أوّلية أجراها تقرير الكونفرنس الثاني (أيلول / سبتمبر 1956) الذي كتبه عامر عبد الله بإشراف سلام عادل وتوجيهه (استشهد العام 1963 على يد إنقلابيي 8 شباط / فبراير). وجاء فيه " إن بعض العناصر المشكوك بها نجحت في أن تدسّ في صفوف حزبنا وحركتنا مفاهيم خاطئة بالنسبة إلى الصهيونية... من بينها الأفكار التي وجدت صداها في بيان عنوانه "أضواء على القضية الفلسطينية".

السبب المباشر للإعدام

لعلّ موقف فهد من الصهيونية ومبادرته تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية ومن القضية الفلسطينية عمومًا، لاسيّما تحفّظه على قرار التقسيم كان وراء إعدامه، فبعد أن اضطرت حكومة صالح جبر إلى إبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد، إلّا أن ذلك لم يرض المخابرات البريطانية التي لجأت إلى التحريض ضدّه، فضلًا عن الدعاية الصهيونية، خصوصاً ضدّ العصبة ومن يقف وراءها، لاسيّما بعد إفشال توقيع معاهدة بورتسموث 1948 (جبر – بيفن)، بتأجيج الشارع في تظاهرات عارمة في وثبة كانون، حيث اعتبر فهد مسؤولًا عنها على الرغم من كونه سجينًا. وهكذا تحالفت ثلاث قوى لتنفّذ فعلتها النكراء تلك وهي الصهيونية العالمية والإمبريالية البريطانية والقوى المحافظة العراقية في الحكم وخارجه من الجماعات الرجعية والقومية المتعصّبة مستغلّةً الموقف من القضيّة الفلسطينية، لاسيّما بعد تأييد قرار التقسيم.
لذلك أصرّت حكومة نوري السعيد التي تشكّلت في 6 كانون ثاني / يناير 1949 على إعادة المحاكمة على نحو عاجل فصدر حكم الإعدام بحق فهد ورفاقه، وتم تنفيذه على جناح السرعة ليلتي 13 – 14 شباط / فبراير 1949، حيث أُعدم كلّ من فهد وزكي بسيم (حازم) وحسين الشبيبي (صارم) ويهودا صدّيق، وعُلّقت جثثهم في الساحات العامة. 
وحسب الصحافي البارز عبد الجبار وهبي (أعدم العام 1963) كان السفير البريطاني شخصياً يتابع محاكمة فهد، وشجّع إصدار حكم الإعدام ضدّه. ويروي كامل الجادرجي الزعيم الوطني الديمقراطي في مذكّراته أن أحد وزراء العدل في العهد الملكي وهو جمال بابان عمل على رشوة 3 من القضاة بتوزيع مبلغ 800 دينار عراقي عليهم من المخصصات الخاصة للتأثير عليهم بإصدار حكم الإعدام بحق فهد ورفاقه وهو ما يؤكّده صبيح ممتاز الذي كان وكيلًا لوزارة العدل وهو الذي قام بتوزيع المبلغ بحضور الوزير كما أخبر الجادرجي.
وبالطبع لم تكن هناك مبررات كافية لمثل هذا الحكم الغليظ، إلّا إذا كان موقف فهد من الصهيونية وتأسيس عصبة مكافحة الصهيونية وقيام دولة "إسرائيل"، ففي جميع البلدان العربية لم يعدم حتى ذلك الحين أي قيادي شيوعي، لاسيّما في قضية مدنية.
ولم تنته القصة بإعدام فهد، بل انتقل المجلس العرفي العسكري بكامل هيأته إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي أواخر العام 1949، فأجرى محاكمة ﻟ 44 سجينًا بتهمة ترويج الشيوعية، لأنهم قدّموا عريضة يحتجوّن فيها على إعادة محاكمة فهد وإعدامه.

الوكالة اليهودية

   وكانت الوكالات اليهودية قد نظّمت حملة مضادة لتوجّهات فهد وعصبة مكافحة الصهيونية جمعت بعض مئات من التواقيع المطالبة بالهجرة، لتأكيد روايتها بأن الصهيونية مسؤولة عن يهود العالم، وزاد الأمر سوءًا ما تعرّض له اليهود من أعمال عدوانية وعنفية والتي عُرفت ﺒ "الفرهود" راح ضحيّتها العشرات من القتلى والجرحى، وذلك لدفع الحكومة العراقية لإصدار قانون يسهل أمر تهجيرهم وهو ما حصل فعلًا في العام 1950.
   وهكذا تواطأت الحركة الصهيونية مع بعض أركان النظام الملكي والقوى المتعصّبة بشكل مباشر أو غير مباشر على تهجير اليهود من العراق، وحينما كانت تفشل في مخطّطها لعدم الاستجابة الكافية من جمهور اليهود، كانت تضع المتفجرات في محالهم التجارية وأماكن سكنهم ودور عبادتهم، فضلًا عن نشر الإشاعات لتخويفهم ودفعهم إلى الهجرة على نحو قُضيَ على أعرق وأقدم مجموعة ثقافية يهودية خارج فلسطين (نحو 125 ألف مواطن عراقي يهودي)، وألحق ضرراً بالنسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وتعدديته الدينية والعرقية والثقافية، وهو الأمر الذي يتكرّر اليوم بخصوص المسيحيين في العراق وعدد من البلدان العربية، بما فيها فلسطين المحتلّة، ناهيك عن الإزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم.

الهجرة القسريّة والدور المشبوه

   وسبق للصديق عباس شبلاق أن سلّط الضوء الكاشف على المزاعم الصهيونية بشأن هجرة اليهود "القسريّة" إلى "إسرائيل" في كتابه الموسوم "هجرة أو تهجير – ظروف وملابسات هجرة يهود العراق". وكشف الجاسوس الصهيوني رودني الذي سبق له أن خدم في الجيش البريطاني وهو معروف بقسوته ووحشيته فضيحة الأسلحة المدفونة في عدد من أماكن بغداد، فضلًا عن جمعه المعلومات عن شخصيات عراقية كبيرة لإقناعها بعقد الصلح مع حكومة "إسرائيل".
ومثل هذا الدور الذي قام به رودني ظلّ قائماً منذ ذلك الحين وازداد كثافة وسفوراً بعد احتلال العراق العام 2003، حيث يتم الاتصال بجهات وشخصيات عراقية لدعمها مقابل تبنّيها فكرة إقامة علاقات مع "إسرائيل" تمهيداً للاعتراف بها، وهو ما يقوم به العرّاب الفرنسي برنارد ليفي.
وأختتم بفقرة مما كتبه فهد باسم لفيف من الشباب اليهودي برسالة موجّهة إلى وزير الداخلية لطلب تأسيس العصبة وهي تعكس حقيقة توجّهه وتفسّر سبب إعدامه، وجاء فيها: "نحن نعتقد، إخلاصاً، بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية، ونحن إذ نتصدّى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد، إنما نعمل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت".



26
الشام تحتفي بالمفكر عبد الحسين شعبان


من عمّار علي

احتفت الأوساط الأدبية والثقافية والجامعية بالمفكر والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، وذلك بدعوة من "اتحاد الكتاب العرب".
   وقد استقبلت الدكتورة نجاح العطّار نائبة رئيس الجمهورية ووزيرة الثقافة الأسبق شعبان، كما التقى الدكتورة لبانة مشوّح وزيرة الثقافة السورية.
   وكانت قاعة اتحاد الكتاب العرب بدمشق – المزّة قد اكتظّت بعدد كبير من المثقفين والأدباء والشخصيات العامة للاستماع إلى الأكاديمي والمفكر الدكتور شعبان الذي تحدّث عن كتابه "دين العقل وفقه الواقع"، في ندوة خصّصت لتقريظ الكتاب، والذي هو مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي، حيث تناوله  كل من الأساتذة عمر زين الأمين العام لاتحاد المحامين العرب سابقًا والدكتور جورج جبور الرئيس الفخري للرابطة السورية للأمم المتحدة، والدكتور أحمد نزّال نائب الأمين العام لاتحاد الأدباء اللبنانيين، والدكتور بسام أبو عبد الله الدبلوماسي السابق والباحث بالقضايا الاستراتيجية.
   هذا وقد التقى شعبان برئيس جامعة دمشق الدكتور محمد أسامة الجبان وعدد من المسؤولين في الجامعة، وتم الاتفاق الأولي على برنامج لمحاضرات وندوات وحلقات نقاش.
   وكانت القيادات الفلسطينية قد رحّبت بوجود د. شعبان في الشام مشيدةً بمواقفه العروبية ومعتزّة بعلاقات الصداقة التاريخية التي تربطها معه، حيث التقى كل من الدكتور طلال ناجي الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة، وخالد عبد المجيد الأمين العام لجبهة النضال الشعبي، وأبو أحمد فؤاد نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما استقبل في مقر إقامته العديد من الشخصيات الإعلامية والثقافية السورية والعربية.
واختتم زيارته بحوار خاص وشامل أجرته معه أليسار معلّا للفضائية السورية، وغطّت وكالة أنباء سانا والصحف السورية بشكل عام تغطية كاملة لندوة اتحاد الكتاب العرب ونقلت ما جاء على لسان رئيس الاتحاد محمد الحوراني الذي قال: مرحباً بالأستاذ عبد الحسين شعبان الذي يتكلم عن الثقافة الجامعة وعن العروبة النقية التي تجمع أبناء الوطن على اختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم.

 


 
Figure 1 مع الدكتورة نجاح العطار - نائبة رئيس الجمهورية ووزيرة الثقافة الأسبق
 
     
Figure 2 مع الدكتورة لبانة مشوّح وزيرة الثقافة السورية



 
Figure 3 مع الوزير السابق الدكتور مهدي دخل الله - مسؤول مكتب الثقافة والإعلام والعلاقات الخارجية


       
Figure 4 مع رئيس جامعة دمشق الدكتور محمد أسامة الجبان

 
Figure 5 مع الدكتور طلال ناجي - الأمين العام للجبهة الشعبية / القيادة العامة

 
Figure 6 مع خالد عبد المجيد- الأمين العام لجبهة النضال الشعبي


27
وماذا عن الكبتاغون...؟

عبد الحسين شعبان


   عشية أعياد الميلاد المجيدة وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن ميزانية الدفاع عن السنة المالية 2023 التي قدّمها مجلس النواب الأمريكي "الكونغرس"، والتي تتضمّن قانون "مكافحة الكبتاغون" والذي يستهدف المناطق الموجودة تحت إدارة الدولة السورية.
   ووفقًا للقانون فإن واشنطن أعطت نفسها الحق لتكون "مسؤولة" عن تحديد الدول التي تتلقّى شحنات كبيرة من الكبتاغون، وتقيّم قدراتها على وقف عمليات التهريب، إلى جانب توفير المساعدة المادية والفنية والإستخبارية لها، بما فيها البرامج التدريبية، كما تضمّن القانون إمكانية استخدام الأجهزة الأمريكية المختصّة لتعقّب تجارة المخدرات ومصادرها.
وينصّ القانون على وضع استراتيجية مكتوبة خلال مدّة أقصاها 180 يومًا لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدّرات والإتجار بها وكشف الشبكات المرتبطة بها.
   وكانت السلطات الأردنية قد أعلنت عن ضبط 6 ملايين حبّة مخدّر من معبر الكرامة بعد مواجهات بالرصاص جرت على الحدود الشرقية الأردنية – السورية مع عصابات تهريب للمخدرات، وحسب ما نشرته، فإنه في العام 2022 بلغت كميّة الحبات التي تمّ ضبطها أكثر من 40 مليون حبّة في الاردن، وفي عموم المنطقة ما يزيد عن 250 مليون حبة. وقبل ذلك نشرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في شهر سبتمبر / أيلول 2022 تقريرًا قالت فيه أن "سوريا" باتت أكبر منتج لحبوب الكبتاغون في العالم، وأن المملكة العربية السعودية أول مستهلك له، وأن الأردن ولبنان ممرّات. والكبتاغون هو نوع خطر من الحبوب المخدّرة ومن الأصناف الاكثر شيوعًا وانتشارًا في منطقة الشرق الاوسط.
   ويعتبر القانون الجديد استمرارًا لقانون قيصر ( ديسمبر / كانون الأول 2019 ) واستكمالًا له، والذي دخل حيز التفيذ في 17 يونيو / حزيران 2020. وهو القانون الذي فرض عقوبات على الدول والمؤسسات والشركات والأفراد الذين يتعاملون مع سوريا، جدير بالذكر أن المحافظين الجدد هم الأكثر تشددًا إزاء سوريا، خصوصًا بعد إخفاق مشروعي الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد. وكانت إدارة الرئيس بوش قد بدأت بخطّة حصار وعزل واتهام لسوريا باعتبارها "دولة مارقة" استمرارًا لنهج الحكومات السابقة ( ديمقراطية أم جمهورية ) والتي تُوّجت بطائفة جديدة من العقوبات كان أقساها قانون قيصر الذي شُرّع في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب. ويُعتبر قانون الكبتاغون ظهيره وربيبه وأداته الضاربة.
القانون الجديد يُعطي حجّةً لواشنطن للقيام بعمليّات عسكرية ضدّ سوريا بزعم وجود مواقع لتصنيع وإنتاج وتخزين الكبتاغون، وهكذا يظهر الهدف ليس المخدرات أو محاربة الإرهاب، وإنما هو تقويض الدولة السورية عبر الحصار، وهي ذريعة طالما استخدمتها واشنطن ضدّ العراق بزعم علاقته بالإرهاب الدولي ووجود أسلحة دمار شامل فيه، بما فيها غاز الأنثراكس، وروّجت لها الدعاية الأمريكية تمهيدًا لاحتلاله العام 2003، واتّضح بعد ذلك وباعتراف مفتشي الأمم المتحدة وإدارة واشنطن ذاتها، أنها لم تكن صحيحة، بل ملفّقة.
   ووفقًا لسياقات القانون وتطبيقاته قياسًا بالحالة العراقية، سيكون من العسير على مرضى بعض الأمراض التي تحتاج إلى عقاقير تستخدم مواد مخدّرة مثل السرطان مثلًا تلقّي العلاج، كما قد يتعذّر على المستشفيات إجراء عمليات جراحية لنقص مواد التخدير، ومثلما كانت أقلام الرصاص ممنوعة في الحصار العراقي لاحتمال استخدامها في الصناعة العسكرية، فإن صعوبة الحصول على مواد أوليّة تدخل في الصناعة الدوائية والطبية، هي الأخرى ستكون ممنوعة، خصوصًا بتشديد إجراءات التفتيش والتدقيق ووضع العراقيل على كلّ ما يدخل ويخرج من سوريا، ناهيك عن النقص الكبير والفادح في الغذاء والدواء والطاقة، فضلًا عن سعر انخفاض الليرة، وغيرها من وسائل الحصار اللّاإنساني. 
   بقانون الكبتاغون تكون واشنطن قد دخلت المرحلة الخامسة من العقوبات على سوريا، الأولى في العام 1980 والثانية في العام 2004، وذلك تحت عنوان "قانون محاسبة سوريا"، والثالثة استمرّت في الأعوام 2006 و2008 و2011، وكلّها تضمّنت عقوبات متنوّعة، والرابعة قانون قيصر.
   وبغض النظر عن كون قانون الكبتاغون تشريعًا للقسوة وعملًا من أعمال الإبادة الجماعية وجريمة ضد الإنسانية يحاسب عليها القانون الدولي، فكيف ستنفّذ واشنطن تطبيق القانون؟ هل عبر عمليات عسكرية من الجو أم سيكون لها اشتباكات مباشرة مع الجيش العربي السوري؟ وسبق لها أن تجنّبت ذلك في أوقات سابقة. وما علاقة الجبهة السورية بالجبهة الأوكرانية المتورطة فيها طرفي النزاع الروسي – الأمريكي؟ وهل ستقوم "إسرائيل" بالمهمّة، خصوصًا بعد صعود حكومة هي الأشد تعصبًا وتطرفًا بقيادة نتنياهو. وكيف سينعكس ذلك على الداخل السوري؟
   إذا كانت سوريا قد اجتازت المراحل الأربعة العقوبات، وبقي أمامها المرحلة الخامسة الأكثر خطرًا، حيث الحرب الناعمة التي قد يطول أمدها، وهي الأشد خبثًا وإيذاءً، والمقصود بذلك العقوبات والحصار والعزل، وتلك ستترك تأثيراتها على المجتمع السوري، لما لها من أبعاد نفسية واجتماعية عميقة الغور كما حصل في الحالة العراقية، والتي قد تُتوّج بأعمال عدوانية عسكرية ضدّ شعب أعزل يتطلّع للعيش تحت الشمس أسوة ببلاد العالم ويحلم بالتحرّر والحريّة والسلام والعدالة والتنمية، وقد تكون كلمة تضامن وحق على صعيد العالم فاعلة ومؤثرة في كبح جماح توحّش غلاظ القلوب، لمنعهم من تنفيذ مخطّطاتهم الجهنمية في إذلال الشعوب وتمزيق نسيجها الاجتماعي والتحكّم بمصائرها والعمل على تقسيمها وفقًا لأهوائها ومصالحها، ولنا في بلداننا العربية تجارب مريرة على هذا الصعيد منذ اتفاقية سايكس – بيكو السريّة العام 1916.



28
دردشة مع
نوري عبد الرزاق

عبد الحسين شعبان

(الحلقة الأولى)
على سبيل الاستهلال
   ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.
   ظلّت الحالة متموّجة ترتفع حينًا وتنخفض حينًا آخر، إلّا أنها حاضرة. ومع الذهاب والإياب ثمة منثورات وحكايات تتسرّب من بين ثناياها، اكتمل بعضها ولم يكتمل بعضها الآخر، لكنّني وجدت فيها ما يمكن وضعه على الورق، لتصل إلى القارئ بشكل عام، وإلى قرّاء مهتمّين خصوصيين أيضًا، وذلك مبتغاها، فثمّة إيقاعات ذاتية وتقاسيم مشتركة، ناهيك عن لمسات خاصّة تأتي وتذهب ومعها ذكريات واستعدادات ووقائع وأحداث وتقييمات وشجون تُستحضر، بل تفرض نفسها أحيانًا.
هكذا كانت دردشتي مع نوري عبد الرزاق في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2022 في القاهرة، وأنا عائد من الخرطوم. توجّهت لزيارته بعد أن اضطرّ العودة إلى منزله لظرف صحّي طارئ ، وكنّا قد اتفقنا على اللقاء في أوتيل الماريوت، وأجّلنا الموعد إلى اليوم الذي يليه. وصلت على الموعد، ضغطت على جرس الباب عدّة مرّات واتصلت به على موبايله الشخصي ولكن دون جدوى، فقلقت، وبعد انتظار لعدّة دقائق فتح الباب بعد أن استفاق من نوم عميق. استعدت هذه اللقطة حين فتح لي باب منزله في الكرّادة  ببغداد قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان وهو ممتلئ شبابًا وحيويّة حينها وبين هذه اللحظة حين فعل الزمن فعله.      
استعدت لحظتين مفارقتين بين زمنين، الأولى  في كرّادة بغداد التي قفزت إلى في ذهني، والثانية  في حي الشيخ زايد بالقاهرة، وهكذا داهمتني صور من الماضي في بغداد وبراغ ولندن والقاهرة وفيينا وجنيف ودمشق وبيروت وعمان وديربن، وأخرى معلّقة على جدران غرفة الاستقبال تتحدّث عن تاريخ طويل في الحركة الشيوعية وفي محافلها الدولية، بينها صور مع الزعيم عبد الكريم قاسم ومع الجواهري ومع بوناماريوف، حين تسلّم وسام لينين لبلوغه الأربعين العام 1974 وغيرها من الصور.
الصور المتخيّلة في الذهن والواقعيّة على الحائط والمعروضة في إطارات بطريقة عفوية تحفّزك على فتح حوار مع نوري عبد الرزاق المثقّف الموسوعي الرؤيوي لتقليب "أمور الدنيا" كما يعبّر عنه، بما فيه همومنا وشجوننا الراهنة، دون أن ننسى تاريخنا العام والخاص ونجاحاتنا وإخفاقاتنا. وهو حوار لم ينقطع بينه وبيني طيلة السنوات المنصرمة، بما فيه من تجاذبات وتباينات ومشتركات ورؤى وإعادة قراءة ومراجعة ونقد.

المناضل في فضاء الضوء
 لم تتكوّن شخصية نوري عبد الرزاق في الأوكار السريّة أو في السجون والمعتقلات أو من ملاحقة رجال الأمن والشرطة على ما جرت العادة في الأحزاب المحظورة أو غير المرخّصة، وهو ما كنّا نطلق عليه لقب "مناضل"، بل نشأت في فضاء من الضوء والعلانية، وإن عمل في حزب سرّي لفترة من الزمن في بدايات انخراطه في العمل السياسي، إلّا أن العهد الملكي وبعد الحرب العالمية الثانية شهد نوعًا من الانفتاح النسبي وتشكيل أحزاب علنية منها "حزب التحرّر الوطني" واجهة الحزب الشيوعي، إضافة إلى "عصبة مكافحة الصهيونية"، التي أسسها يهود شيوعيون معادون للصهيونية وتمّت إجازتها من وزير الداخلية سعد صالح (جريو)، كما أجيز "حزب الشعب" برئاسة عزيز شريف، و"حزب الاتحاد الوطني" برئاسة عبد الفتاح ابراهيم، و"حزب الاستقلال" برئاسة الشيخ محمد مهدي كبّة، و"الحزب الوطني الديمقراطي" برئاسة كامل الجادرجي و"حزب الأحرار" برئاسة سعد صالح بعد استقالة الوزارة. وعلى الرغم من عدم إجازة حزب التحرر الوطني، إلّا أن النشاط كان شبه علنيًا في حينها.


الوعي الأول
في هذه الأجواء نشأ نوري وتبلور وعيه الأول وبدأت ملامح شخصيته تتكوّن، خصوصًا وأن ميله للقراءة وانفتاحه على الآخر جعل منه شخصية عامة. ومنذ حماسته الشبابية الأولى ومشاركته في التظاهرات وتعرّضه للاعتقال، إلّا أن توجّهه كان وسطيًا اعتداليًا منفتحًا على الآخر، على الرغم من أجواء التعصّب والتطرّف السائدة على المستوى السياسي، فربما كانت الحاجة إلى الحريّات والدعوة إلى التحرّر في ربقة الاستعمار البريطاني هي الهاجس الأول، خصوصًا في ظلّ أجواء عائلية تشجّع على ذلك.
وهو ما تعزّز خلال عمله في الخارج بعد ذهابه للدراسة في بريطانيا، حيث شارك في الحركة الطلابية امتدادًا لنشاطه في العراق، وأصبح أحد أبرز وجوهها في الخارج، وحين تمّ فصله بسبب موقفه من حلف بغداد العام 1955 اتّجه إلى القاهرة بعد محطة دمشق لفترة قصيرة، وهناك نسج العديد من الصداقات والعلاقات مع القوى المصرية اليسارية والقومية، وكان أحد شباب الحركة الوطنية، بل أنه كان أحد مرجعيات الحزب الشيوعي المقيمة في الخارج والوثيقة الصلة بالداخل من جهة ومع التيارات العربية وأحزابها المختلفة من جهة أخرى.
ومنذ العام 1956 كانت علاقته تتوطّد مع ياسر عرفات "أبو عمّار" وظلّت حتى أيام قبل رحيله، كما أقام علاقات وطيدة مع منظمة التضامن الأفرو آسيوي التي تأسست العام 1957 في القاهرة، وتولّى منصب السكرتير العام فيها بعد عقدين ونيّف من الزمن.
وفي مهرجان الشباب والطلاب العام 1957 الذي انعقد في موسكو كان أحد الوجوه الأساسية المنظمة لمشاركة الوفد العراقي برئاسة محمد صالح العبلي الذي استشهد لاحقًا في العام 1963 بعد انقلاب شباط / فبراير وكان حينها عضوًا في المكتب السياسي.
وفي القاهرة أصدر كتابًا عن "تيارات الحركة الوطنية في العراق"، ظل يعتبر مرجعًا حيويًا لتلك الفترة الزمنية وفيه تحليلات دقيقة لاتجاهاتها وتوجّهاتها يومئذٍ في العراق الملكي.

ثقة سلام عادل
أكسبته تلك السنوات ثقة سلام عادل الذي التقى به في العام 1954 في لندن، حيث كان قد تولّى القيادة (1955) بعد صراعات حادّة وانشقاقات وتكتّلات، فاستعاد الحزب حيويّته ونشاطه بعد أن تهيّأت ظروف وحدته وتسوية الخلافات بين مجموعاته وكتله المتصارعة، الأمر الذي وفّر فرصةً مهمةً لكي يلعب دوره على الصعيد الحركة الوطنية التي اتحدت في جبهة الاتحاد الوطني العام 1957 والتي ساهمت في التحضير لثورة 14 تموز / يوليو 1958.
خلال سنوات نوري في لندن تعزّزت علاقاته مع الحزب الشيوعي البريطاني وتعمّقت ثقافته وصقلت شخصيته الجامعة المنفتحة العلنية، وبعد الثورة وعودته إلى العراق كان أحد أبرز الكوادر الشبابية في الحزب، لذلك تمّ اختياره رئيسًا لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في مؤتمره الأول ونائبه الدكتور رحيم عجينة، وقابل الزعيم عبد الكريم قاسم أكثر من مرّة، كما ترأس وفودًا عديدة واستقبل شخصيات عالمية.
 وعرض عليه بليكان رئيس اتحاد الطلاب العالمي في العام 1960 أن يتولى منصب الأمين العام للاتحاد لمعرفته بكفاءاته وقدراته الفكرية والعملية. وكان نوري هو من ساهم في إقناع اتحاد الطلاب العالمي على عقد المؤتمر السادس في بغداد، ووافقت قيادة الحزب على إيكال تلك المهمة الكبيرة إليه والتي شغلها من العام 1960 إلى العام 1968، حيث تقرر بعدها عودته إلى بغداد التي وصلها العام 1969 وشرع حينها بالعمل في ميدان العلاقات، إضافةً إلى عمله في مجلّة الثقافة الجديدة، وبتكليف من قيادة الحزب تولّى إعادة تأسيس اتحاد الشبيبة، وخلال تلك الفترة التقيناه لؤي أبو التمن وكاتب السطور، وذلك بعد تخرّجنا من الجامعة (1968)، لكن الأمر كان يحتاج إلى تحضيرات طويلة فتمت إعادتنا إلى قيادة الطلبة، وشغل ماجد عبد الرضا موقع سكرتير عام الشبيبة الديمقراطي لاحقًا.

محطات
 توقّفت عند نوري في بعض المحطّات في مرّات سابقة، نشرت بعضها وما يزال بعضها الآخر ينتظر النشر، لكن ثمّة قضايا سارعت لفتح الحوار حولها أو لنقل الدردشة، مؤجلًا بعض ما توفّر لدي وما استقرّ في خزانتي إلى وقت آخر، وإن تداخل بعضها لدرجة التماهي بين الحاضر والماضي.
   الدردشة الحالية هي استمرار واستكمال لحوار سابق بعنوان "الذاكرة والزمن الجميل" نشرته بتاريخ 18 و 20 تموز / يوليو 2019  في جريدة الزمان (العراقية)، واستكملته بحوار لاحق تواصلًا مع الحوار الأول  وتبادل رأي واستئناس بوجهات نظر والموسوم "المثقف الرؤيوي نوري عبد الرزاق – الذاكرة التاريخية والفرادة الفكرية"، وقد نشر في جريدة الزمان (العراقية) على ثلاث حلقات بتاريخ 30 و31 كانون الأول/ ديسمبر 2019 و2 كانون الثاني / يناير 2020.
   وفي كلّ لقاء مع نوري عبد الرزاق نبدأ وكأننا في حوار مستمر دون مقدمات ودون بروتوكول السؤال والجواب، فأنا أسأل وهو يتحدّث، وأحيانًا هو يسأل ليوسّع دائرة الحوار، وهكذا نتبادل المواقع. وفي كلّ مرّة أجد عنده الجديد وغير التقليدي، وغالبًا ما نتّفق على العديد من المنطلقات والتقديرات. وكنت أنتهز هذه الفرصة للتفكير بصوت عالٍ لمناقشة جوانب من تجربته ومعلوماته وعلاقاته ومعارفه لما فيها أجزاء من تاريخنا فأدقّق فيها فكرة وأراجع تاريخًا وأتوثّق من مسألة وأفحص حدثًا.
والنقاش مع نوري عبد الرزاق يجعلك تعيش الحدث بدقائقه وتفصيلاته حتى لو لم تعشه، لأنه يأتي إليه من زواياه المختلفة الفكرية والاجتماعية والشخصية وعلاقاته بالمحيط الداخلي والخارجي والـتأثيرات عليه، وكيف نظر إليه في حينها وكيف ينظر الآن، وهو لا يبالي في تغيير وجهات نظره وآرائه لأن الحياة لم تزكّ بعضها أو لم تُثبت صحّتها، ويقوم بذلك بكل أريحية وخفّة دم وقفشات أحيانًا، الأمر الذي يضعك أمام صدقية ونقد ذاتي ومراجعة للنفس والغير بروح رياضية عالية دون حقد أو عنعنات أو ادعاءات فارغة، وأحيانًا ينخرط في سخرية لذيذة لبعض مواقفنا بما فيها مواقفه، ويتأمّل ويُعيد النظر ويضحك بهدوء أقرب إلى الابتسامة، ويضع يده على فمه وكأنه يريد أن يُخفي ما أصابه من عاديات الزمن، لاسيّما الأمراض التي هجمت عليه. وسبق أن قلت له وكتبت ذلك أكثر من مرّة "لا تجربة حقيقية دون نقد ذاتي"، فقيمة أي تجربة بنقدها وإعادة قراءتها باستشراف مستقبلي.
إن ذاكرة نوري عبد الرزاق الشفاهية وبعض ما هو مدوّن منها أحد المصادر الأساسية لتاريخ اليسار العراقي بشكل خاص، بل والعربي والعالمي. وكنت قد توقّفت معه عند سلام عادل الذي التقاه في لندن العام 1954 حين كان يدرس الهندسة، وحينها كان نوري عضوًا في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا، وأصبح مسؤولًا عنها بعد أنيس عجينة، حيث تمّ فصله بعد إبرام معاهدة حلف بغداد "حلف المعاهدة المركزية - السنتو  CENTO" الذي ضمّ العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا،، ومرورًا ﺑ بليكان الذي جئت على ذكره، وكيف التحق من موقعه كرئيس لاتحاد الطلاب العالمي مع  حركة الإصلاح التي بدأها الكسندر دوبتشيك الذي دعا إلى "اشتراكية ذات وجه إنساني"، وكانت محطة جيفارا الذي التقاه مرتين في كوبا أحد الانفرادات التي تميّز بها نوري عبد الرزاق، وكان أول من كتب عنه بعد عودته إلى العراق العام 1969 في جريدة الراصد، وقدّم قراءة إيجابية لدوره بغضّ النظر عن التوجّه السائد، ولاسيّما السوفييتي الذي قلّل من شأنه فيها وهو ما انعكس على الأحزاب الشيوعية، وكان عامر عبد الله قد كتب نقدًا للجيفارية في مجلّة الثقافة الجديدة، انطلاقًا من الرؤية النافذة في الحركة الشيوعية آنذاك واستنتاجاتها المقنّنة.



29

 القوموية والماركسيوية
أجدُ في مراجعة مواقف الحركة الشيوعية من القضية الفلسطينية مسألة حيوية، وهي تتفق مع ما كنت أتمناه، لاسيّما تخطئة موقف الاتحاد السوفيتي من قرار التقسيم الذي لم أكن مقتنعا به، وكان ذلك أحد همومي الفكرية آنذاك، وقد كبُر معي واتخذ بُعداً نفسياً، لاسيّما بعد عدوان 5 حزيران / يونيو العام 1967، ولهذا تناغمت وبحماسة مع المواقف الناقدة حتى من القوى الأخرى، وخصوصًا مع بعض أطروحات المقاومة الفلسطينية، وقد تبلورت مواقفي لاحقًا، وخصوصًا مع بعض المراجعات التي أجرتها بعض الأحزاب الشيوعية مثل مجموعة القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي اللبناني وموقف الحزب الشيوعي السوداني المتميّز.
ما كنت أريد أن أقوله وأنا أستغرق في نقض الرواية الصهيونية وتفنيد مسوّغاتها القانونية والفكرية، بأن مواقف الحركة الشيوعية بحاجة إلى إعادة نظر لتقويمها وتعميقها، ونبذ ما هو خاطئ وسلبي منها وتعزيز وتطوير ما هو إيجابي، في ضوء المنهج، وكنت أريد نقد مواقف القوى القومية أيضاً التي تعكّزت على مسألة فلسطين لتصادر الديمقراطية وتعطّل التنمية وتؤجل الاستحقاقات الاجتماعية الضرورية، ليس هذا حسب، بل أن الهم الرئيسي لبعضهم أحياناً كان هو القضاء على الشيوعية بدلاً من اعتبار الصهيونية والإمبريالية، الخطران الأساسيان،.
ولعل العودة  إلى  بعض كتابات تلك المرحلة، تراها تقارب مثل هذه الاطروحات الخاطئة، على الرغم من أنها كانت هي الأخرى محكومة بظروف الصراع اللاعقلاني الذي ساد بين التيارين الماركسي- الشيوعي من جهة والقومي- البعثي من جهة أخرى.

خطوط المقاومة ماركسياً!
كيف يمكن أن نعطي لمواقف الحركة الشيوعية من القضية الفلسطينية نكهة "ماركسية" متميزة. وهو ما كنت أتمناه من صميم قلبي، وقد حاولت التعبير عنه بتواضع شديد فيما كتبت وحاضرت وساعدت في تأهيل كوادر ثقافية فلسطينية على مدى سنوات طويلة، ناهيك عن  بلدان الشتات والمخيّمات وفي المنافي البعيدة أيضاً، إضافة إلى الجهود التي بذلتها على صعيد المنظمات الدولية والمؤتمرات الحقوقية العالمية، هذا على الصعيد الفكري.
 أما على الصعيد العملي فقد كانت علاقتي طيبة مع منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) وكنت متفرغاً لها كباحث ومستشار دون أن يلزمني ذلك بشيء، كما كانت علاقتي وطيدة مع الجبهة الشعبية وقياداتها ومجلة الهدف بشكل خاص وعميقة مع الجبهة الديمقراطية وكياناتها وراسخة مع فتح وإداراتها، ولديّ مراسلات مع أبو عمار " ياسر عرفات" ، وتواصل مستمر مع جورج حبش وقيادات فلسطينية عديدة، إضافة إلى علاقات مع جبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية (جماعة أبو العباس) ومع الجبهة الشعبية – القيادة العامة وفتح الانتفاضة وحماس والجهاد من خلال خالد مشعل  وموسى أبو مرزوق ورمضان شلّح وآخرين ، الّا أن مواقفي مستقلة وأضع مسافة بيني وبين جميع الأطراف.
ومنذ نحو أربعة عقود من الزمان وأنا أُعلن وأُجاهر بموقفي هذا الذي استُكمل بعد تململات وارهاصات واعتراضات سبقته بنحو عقد واحد على الأقل، والأكثر من ذلك بمعاناة فائقة حتى اكتملت الصورة بالدراسة والبحث والتمحيص، بل والاستقلالية في بلورة موقف منسجم مع وجداني من جهة ومع الوضعية النقدية الماركسية التي أعتقد أنها مناسبة لتقييم الموقف من جهة أخرى، وإذا كنتُ قد أشرت إلى خطل الموقف الستاليني السوفيتي وذيوله نظريًا وعمليًا، فثمة أسباب كنت قد جئت عليها، تقفُ في مقدمتها مصالح الدولة السوفيتية ووجود بعض الموظفين اليهود الكبار في إدارات وزارة الخارجية، وربما بعضهم كان متعاطفاً مع الصهيونية، وذلك قبل مذبحة الأطباء اليهود والتصفيات التي طالتهم، كما أنه لم يكن بمعزلٍ عن المزاج الشخصي لستالين والارتياحات الخاصة التي تكون قد أثرّت عليه.
ومن المفارقة أن هذه الآراء التي قلتها في محاضرة لي في مركز الدراسات الفلسطينية في دمشق أواسط الثمانينيات ونشرت في صحيفة الحقيقة في بيروت، كان قد قال بها أيضا مفكر سوفيتي معاد للصهيونية يدعى يفيسيف، حيث نشرت جريدة الثورة السورية مقابلة معه بعد بضعة أسابيع من محاضرتي تلك، لكنها لم تُكمل نشر القسم الثاني كما وعدت، ولعل ذلك كان يعود  إلى  ضغوط من السفارة السوفيتية في دمشق بعد نشر القسم الأول.
وظنّ البعض أن اتجاهي ذاك قد يكون متأثراً بالاتجاه السوفيتي الجديد، لاسيّما وقد شهد عهد أندروبوف تأسيس اللجنة الاجتماعية لمناهضة الصهيونية، وكنت قد عملت مع مجموعة متميّزة من المثقفين العرب وعلى هامش ندوة فكرية لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في دمشق، لتأسيس اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية، الصادر في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975، والتي ضمت نخبة رائدة بينهم ناجي علوش وإنعام رعد وعبد الرحمن النعيمي وسعدالله مزرعاني وصابر محي الدين وغازي حسين وعبد الهادي النشاش وعبد الفتاح ادريس وغطاس أبو عيطة وجورج جبّور وكاتب السطور وآخرين، حيث تم اختياري أميناً عاماً للجنة، ثم تحولت اللجنة إلى " اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية"، خصوصاً بعد تحذيراتنا من احتمال اعدام القرار 3379، وهو ما حصل بالفعل، بعد تغيّر ميزان القوى على المستوى الدولي ونكوص الكتلة الاشتراكية وإعادة علاقة “إسرائيل” بنحو ثلاثين دولة كانت قد قطعت علاقاتها معها، إضافة  إلى  إعادة علاقاتها بحميمية غريبة مع الدول الاشتراكية السابقة. وكنت قد عبّرت عن ذلك برسالة خاصّة إلى الرئيس أبو عمّار في نهاية العام 1988، وهو ما أتبعته ببحث منشور في مجلّة شؤون فلسطينية والموسوم " العام 1990 وإعدام القرار 3379" وذلك في العام 1990، وأرفقته برسالة أخرى إلى الرئيس أبو عمّار.
من المفارقة ان العالِم السوفيتي يفيسيف عُزل من منصبه في أكاديمية العلوم السوفيتية، ثم سُحبت شهادته بعد اتساع النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي لاتهامه بمعاداة السامية، حيث تم استغلال دعوات الشفافية وأجواء الانفتاح والنقد في عهد الغلاسنوست (العلانية) والبريسترويكا (إعادة البناء) لشن حملة ضد الشخصيات المعادية للصهيونية، وأخيراً وجد مقتولاً في إحدى ضواحي موسكو في ظروف غامضة عام 1990، وفي حينها كتبتُ نعياً له، وكنتُ قد أشرت اليه أيضاً في كلمتي بعد رحيل جورج حبش المنشورة في صحيفة السفير اللبنانية "الاستثناء في التفاصيل أيضاً"(2008).

مراجعات ضرورية
ظلّت العديد من الأوساط في الحركة الشيوعية تهرب إلى التاريخ خشية  من مناقشة الراهن والمستحق من المسائل التي تتعلّق بالقضية الفلسطينية، ولكن ليس إلى  تاريخنا، بل إلى تاريخ ماركس ولينين وحتى ستالين إلى سنوات الستينيات وبعضهم إلى تاريخ ماوتسي تونغ حسب الولاءات، وليس إلى  الماركسية (المنهج المادي الجدلي) كجزء من تاريخ الفكر الاشتراكي أو إلى جدليتها في فهم الموقف القومي، لتقتبس منه ما يشفي غليلها لكي ترد على الآخرين وتفحمهم كما تعتقد، مثلما كان التاريخ ملاذاً لأصحابنا الإسلاميين أو الإسلامويين، فتراهم يستعيدون الإسلام الأول الراشدي، لكي لا يناقشون الحاضر، في محاولة تمجيدية للماضي وهروب من الحاضر، ومثلما يفعل أخواننا القوميون الكلاسيكيون أو القومويون، حين يدللون على عظمة الامة بالعودة إلى التاريخ والفتوحات والانتصارات والإمبراطورية الإسلامية، أو بتقديس كل ما قام به جمال عبد الناصر الزعيم العربي الكبير، وأخذ ذلك كمسلّمات دون نقد أو حتى تفكير بخطأ أو مراجعة للتجربة بعقلية منفحتة. ولعلّ عبد الناصر الذي توفي في 28 أيلول / سبتمبر العام 1970 كان أكثر تقدماً من بعض الاتجاهات القومية الناصرية التقليدية، وهي التي جاءت بعده بعدّة عقود من الزمن لدرجة تعتقد وكأن الزمن توقف لديها!
وتصطدم أيضاً حين تلاحظ مواقف البعثيين في الخمسينيات والستينيات، فقد كانت أكثر تقدماً من مواقف الكثيرين منهم في التسعينيات أو حتى اليوم، الأمر الذي يحتاج  إلى  مراجعة ونقد للاتجاهات والتيارات "الماركسية" و"القومية" و"الإسلامية".
ولعل التشوش " الماركسي" إزاء المسألة القومية وسيادة الفكر الجاهز والموقف الاستباقي المستعار، والسعي للتقليل من شأنها هو الذي دفعني لمقاربتها، لا من خلال التاريخ حسب، بل من خلال الراهن والآتي والاستشراف المستقبلي، لاسيّما وأن هذا الحقل ظلّ وكأنه حكرٌ على بعض الكتابات " القومية" بما فيها المتعصبة، وابتعد عنه كتاب ماركسيون حداثيون ومجددون ولم يخوضوا فيه، نظراً لعقباته وموانعه حسبما يعتقدون.
وهكذا راجت السوق بكتابات قومية بعضها لم يكن سوى هجوماً ضد الماركسية، مثلما كانت مقاربة الماركسيين هجومية أيضاً للفكرة القومية، خصوصاً بعد العام 1958، وهي مقاربة متعارضة لا تخلو من مشاكسة لتبيان فضائل الأممية على القومية، خصوصًا الابتعاد عن توجّهات الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي في ظلّ قيادة سلام عادل العام 1956، وصدور وثيقة مهمة عنه بعنوان "مهماتنا في التحرر الوطني والقومي في ضوء المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي"، والذي كان قد كتبها عامر عبدالله في حينها كما أخبرني، بالتوافق مع سلام عادل وتوجيهاته، وكان ذلك يمثّل توجهًا جديدًا عروبيًا ومراجعة أوليّة لمواقفنا من القضية الفلسطينية، لكن هذا الموقف غاب أو غيّب في ظروف الصراع ما بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وقد نشرت هذه الوثيقة التاريخية في كتابي الموسوم "سلام عادل: الدال والمدلول وما يبقى وما يزول"، وذلك بعد مرور نحو 6 عقود على صدور هذه الوثيقة.

الوحدة العربية
لعل الموقف من القضية العربية، لاسيّما موضوع الوحدة أو الاتحاد ظلّ يمثل عنصر ضعف لدى الحركة الشيوعية بشكل عام وقد كانت مآخذ الحزب الشيوعي السوري على وحدة مصر وسوريا وتأسيس الجمهورية العربية المتحدّة ومقاطعته هي التي شكّلت سقف توجّهات الأحزاب الشيوعيّة العربية، دون النظر إلى الأبعاد الاستراتيجية والجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية لقيامها. وإن تميّز الحزب الشيوعي السوداني بدعوته الصريحة اليها، وفيما بعد ومنذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات حصلت تطورات مهمة لدى الشيوعين اللبنانيين في مسألة الوحدة العربية والقضية الفلسطينية عموماً، إلّا أن النظرة السائدة ظلّت قاصرة وتعكس قراءة مغلوطة للمنهج الماركسي وفهماً مسطحاً لاطروحاته ونصيّته في غير مكانها، خصوصاً وقد كان ماركس يتحدث عن القومية بمنظار أوروبي وليس بمنظار التحرر القومي.
أجد نفسي ألتقي في هذه القضية مع المفكر السوري الماركسي العروبي ياسين الحافظ رغم أنه جاء في الزمن الخطأ وبأدوات غير مكتملة، حين حاول دمج الوطني بالاجتماعي والقومي بالطبقي، في إطار حركة عربية ماركسية. ولعلّ القيادة المركزية للحزب الشيوعي كانت قد تبنّت مواقف مقاربة بعد انشطار الحزب عام 1967، لاسيّما بخصوص القضية الفلسطينية.
وكنت أظن أن الموقف من الوحدة العربية نظرياً وعملياً، لاسيّما من جانب بعض القياديين الشيوعيين اختلف عمّا كان عليه عن أطروحات الخمسينيات والستينيات، لكنني صُدمت بمواقف بعضهم ممن ظلّ مشدودًا إلى الماضي ويعتبر الوحدة أُقيمت قسريًا وبشروط وبخصوصيات مختلفة ويعتبرها: من أخطر المغامرات التي وقع فيها الرئيس جمال عبد الناصر وكرّرها أكثر من مرّة تتويجاً لأحلامه التي تضمنها كتابه "فلسفة الثورة"، ومثل تلك الأطروحات وغيرها وردت على لسان العديد من القيادات الشيوعيّة التي كتب بعضهم مذكراته.
وكانت بعض الأصوات الماركسية أو المتمركسة قد تساوقت مع التوجهات التي حاولت ازدراء العروبة وتحميلها آثام الحكام الدكتاتوريين، لاسيّما بعد احتلال العراق، الأمر الذي يطرح مجدداً الحاجة إلى  وقف نقدي ماركسي من القضية القومية والوحدة الكيانية، بعيداً عن الارتياحات أو الصداقات الشخصية أو المصالح الآنية من خلال اعادة قراءة تاريخنا "الماركسي" قراءة صحيحة، بالارتباط مع التجربة التاريخية وما أفرزه احتلال العراق من اصطفافات وما تركه انهيار الاتحاد السوفياتي من مراجعات.
كان على الماركسيين العرب تبنّي شعار الوحدة العربية ذات المضمون الاشتراكي والدعوة  إلى  تحقيقها بالأسلوب الديمقراطي، خصوصاً وأنها ستسهم في وحدة الطبقة العاملة العربية وكادحي البلدان العربية، الذين يمكن باتحادهم ودورهم بالنضال الوطني والقومي الإسهام على نحو أكبر بالنضال الاجتماعي والطبقي.
ولذلك كانوا هم الأجدر في استقطاب الجمهور لشعار الوحدة العربية، لا الوقوف ضدها تصريحاً أو تلميحاً أو التشكيك فيها أو وضع عقبات أو شروط عند استحقاق قيامها كما هي نقاط خالد بكداش الثلاثة عشر عشية وحدة مصر وسوريا ( قيام الجمهورية العربية المتحدة شباط / فبراير 1958)، أو رفع شعار بديل عنها وهو الاتحاد الفيدرالي في العراق 1958-1959، في حين ان مشاعر الجماهير التي ألهبها عبد الناصر ومعارك السويس البطولية كانت كلّها تهتف للوحدة. وكان عدم حضور جلسة انعقاد البرلمان السوري من جانب خالد بكداش، حيث تم التصويت على قرار الوحدة نقطة ضعف كبيرة ظلّت تلاحق الشيوعيين العرب، حتى وان دعوا  إلى  قيام وحدة على أساس ديمقراطي تخدم مصالح الجماهير الواسعة لكنهم عملياً لم يكونوا معها.
علينا أن نستعيد بعض الشعارات الصراعية التي تنابز بها القوميون والشيوعيون، وقد كان الأخيرون يهتفون بعد أحداث الموصل 8 آذار مارس 1959 وما أعقبها من حملة قمع ضد  التيار القومي: " شيلوا سفارتكم منريد وحدتكم"، إشارة  إلى  مشاركة مصر عبد الناصر في دعم حركة العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابية، وبالمقابل كانت الهتافات القومية والبعثية تصدح: "فلسطين عربية فلتسقط الشيوعية". وهكذا استبدل كلّ منهما العدو الإمبريالي والصهيوني بالحليف الوطني حتّى وقت قريب، وتحوّل الصراع الثانوي إلى صراع أساسي إقصائي وإلغائي، الأمر الذي أضعف الجميع وحوّل الأنظار عن القضيّة الأساسية (فلسطين).
 إن القراءة الماركسية السليمة ستؤكد أن المستفيد من الوحدة سيكون أصحاب المصلحة الحقيقية، لاسيّما من الطبقات والفئات الفقيرة، ناهيك عن الأمة العربية ككل، إذ أن وجود كيان عربي كبير يمكن أن يسهم بفاعلية على المستوى الدولي سياسياً واقتصادياً، ولذلك فمن الأجدر والأبعد نظراً أن يكون الماركسيون هم أول دعاة الوحدة العربية والمدافعين عنها.
وثمّة من كان يمتلك بُعد نظر من اليساريين العرب الاوائل، ففي العام 1934 انعقد في مدينة زحلة اللبنانية الجميلة مؤتمراً ليسارييّ المشرق العربي تحت شعار الوحدة العربية، وكان الشيوعي اللبناني العروبي سليم خياطة هو المبادر لجمع المثقفين اليساريين، بمن فيهم من كان أميل إلى التيار القومي وبينهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وقد حضر الاجتماع  فؤاد الشايب وكامل عياد ونيقولا شاوي ويوسف خطار الحلو ومصطفى العريس، وصدر عنه بيان يدعو إلى الوحدة العربية ويحدد شروطها وأهدافها، وقامت مجلة الطليعة بنشرها، وكان سليم خياطة يدرك باستشرافه المستقبلي كماركسي نقدي أين تتجه الطريق في المشرق، فأراد إطلاق حركة تقدميّة عربية تتفاعل مع احتياجات الأمة العربية وتنطلق منها، خصوصاً بوجه يساري وعروبي ومستقل عن محاولات الكومنترن وسياسته " المركزية" المتشددة.
وعلى الرغم من أن وجهة المؤتمر كانت تستقطب مثل هذا التوجه وتلتف حوله، الاّ ان الكومنترن لم يكن مرتاحاً له لأنه لم يتلقّ التعليمات منه، حيث بادر إلى اعتماد القائد الشيوعي السوري خالد بكداش من موسكو، ليقود اتجاهاً مضاداً لمؤتمر زحلة، ويعيد الماركسيين  إلى  حظيرة الكومنترن، وهو الأمر الذي انعكس على " التعاون" مع دول التحالف ضد النازية: بريطانيا وفرنسا، في حين اتجه التيار القومي للتعاون أو للإقتراب من دول المحور، لاسيّما ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وقد تعرّض سليم خياطة بعد ذلك إلى حملة ظالمة وشديدة كما هي العادة لأصحاب الرأي، وقد اتهم بالجنون بعد محاصرته طويلاً، ومن يقرأ كتاب خياطة "حميّات في الغرب" يتوصل إلى استنتاجات مثيرة في قدرة هذا الرجل على استنباط موقف ماركسي حيوي من خلال بصيرة ثاقبة وتحليل عميق لأزمة الغرب الرأسمالي، فضلاً عن نظرته العروبية الماركسية لمهمات التحرر والانعتاق القومي والوحدة الكيانية.
لعلّ تلك مجرّد ملاحظات أوّلية في مراجعة مواقف اليسار العربي إنطلاقًا من النقد والنقد الذاتي من المسألة القومية من خلال قراءة جديدة ورؤى نقدية دون أن تقلّل هذه الملاحظات من مساهمة التيّار اليساري والماركسي خصوصًا وحيويّته الفائقة في إثارة أسئلة كبيرة في مواجهة الواقع العربي، ناهيك عن تضحياته وكفاحه ضدّ الإمبريالية ومشاريعها ومخطّاتها.



 

30
الذكرى اﻟ 55 لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين



في المسألة القومية
 قراءة جديدة ورؤى نقدية






عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي

بيروت
2022

 

على سبيل التمهيد

انشغلتُ منذ وقت مبكّر بالمسألة القومية، فعلى الصعيد العربي كانت القضيّة الفلسطينية، وخصوصًا منذ العام 1967 الشغل الشاغل، وذلك ارتباطًا مع صعود حركة المقاومة والعلاقة المتميّزة التي ربطتني بها. أمّا على الصعيد العراقي، فقد كانت المسألة الكرديّة قد احتدمت، لاسيّما بعد العام 1961، ولقت انعكاساتها وصداها فكريًا وعمليًا على الساحة العراقية وقواها السياسية.
ولعبت المتغيّرات في العقود المنصرمة وتعقّد ظروف الصراع دورًا كبيرًا في زيادة الاهتمام بالمسألة القومية، وذلك من خلال محطّات عديدة، ترافقت مع قراءاتي واجتهاداتي وفهمي لهذه المسألة التي اتّخذت أبعادًا وجدانية وإنسانية ملموسة ومباشرة لديّ أكثر من غيرها.
 وتوقّفت عند رؤانا وتحليلاتنا السابقة فوجدت الكثير من النواقص تشوبها، وفيها العديد من الثغرات، وأن العديد من نقاط الضعف في مواقفنا التي تستوجب مراجعتها ونقدها بروح رياضية والاعتراف بأخطائنا بأريحيّة وإيجابية بهدف تجاوزها، مثلما تلمّست أكثر فأكثر نواقص الأطراف الأخرى إزاء هذه القضية ذات الأبعاد الحيويّة، سواء كانت العربية أم الكرديّة. ولذلك حاولت تقديم رؤية جديدة فكرية وسياسية استنادًا إلى تقريظ ونقد وانطلاقًا من واقع "الحركة الثورية" كما كنّا نطلق عليها بقياداتها المتنوّعة ومواقفها المختلفة للمسألة القومية وموقعها في الصراع الدائر كجزء من قضية التحرّر الوطني.
وهنا سأركّز على التيار الماركسي الرسمي السائد كما يطلق عليه والتطبيقات التي رافقت بعض قراءاته المبتسرة، خصوصًا وقد تكوّنت لديّ رؤية مغايرة ونظرة مفارقة في مسألتين أساسيتين؛ أولهما - الموقف من القضية الفلسطينية وتطوّراتها؛ وثانيهما - الموقف من الوحدة الكيانية، وذلك للنقص الحاصل في القراءة والفهم من جهة وللنزوع الإنساني من جهة أخرى.

الفلسطيني هو النموذج الأممي
إذا أردنا الحديث عن الاضطهاد على المستوى الكوني، فسوف لا نجد أكثر كونية وأممية من النموذج الفلسطيني، فقد اقتلع الفلسطيني من أرضه وصودر حقه الإنساني الأول في تقرير المصير جماعياً وفردياً، وذلك بإلغاء كيانيته في أكبر عملية سطو على التاريخ، بدأت منذ قرن وربع قرن من الزمان، خصوصاً عندما عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في مدينة بال السويسرية عام 1897، الذي تبنّى فكرة عرّاب الحركة الصهيونية المفكر المجري  ثيودور هيرتزل: تأسيس دولة لليهود (في فلسطين) وهو عنوان كتابه الذي أصدره قبل عام واحد من انعقاد المؤتمر " دولة اليهود" The Jewish State".
ولعل فصول الاضطهاد المزدوج والمركّب اكتملت حلقاتها تدريجياً بصدور وعد بلفور عام 1917 بعد اتفاقية سايكس - بيكو السريّة بين بريطانيا وفرنسا (1916) التي قسّمت البلاد العربية، خصوصاً بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بعد احتلالها في الحرب العالمية الاولى، وذلك في مؤتمر سان ريمو العام 1920 ومصادقة عصبة الأمم عليه العام 1922.
 وخلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات رُفع سقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين تمهيدًا لإصدار قرار التقسيم رقم 181 العام 1947، وفيما بعد قيام دولة “إسرائيل” في 15 أيار / مايو العام 1948 واندلاع الحرب العربية – "الإسرائيلية" الاولى، واستمرار العدوان "الإسرائيلي" ضد الأمة العربية، ابتداءً من العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 وعدوان العام 1967 ضد سوريا ومصر والاردن و(حرب اكتوبر) 1973 و(اجتياح لبنان) في العام 1982 وقبلها ضرب المفاعل النووي العراقي 1981 وفضيحة الفلاشا وهجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين (أواخر الثمانينيات) والحرب على لبنان بحجة الأسرى (حرب تموز / يوليو) 2006 ، إضافة  إلى  حصار غزّة  منذ العام 2007 والحروب المتكرّرة عليها.
كل هذه المأساة ستكون ماثلة أمامي، وأنا أتحدث عن الجانب الإنساني، الذي لا يمكنني ولا أستطيع أن أغضّ الطرف عنه لدى تناول أية قضية أو مسألة من المسائل العقدية في الصراع العربي- "الإسرائيلي". ومثل تلك النظرة ستكون حاضرة عند تحديد موقفي ورؤيتي من القضية الفلسطينية موضوعيًا أو ذاتيًا، مباشرة أو غير مباشرة، خصوصًا وقد كان قيام دولة "إسرائيل" عاملًا أساسيًا في تعطيل التنمية وعرقلة التجارب الجنينية الاولى للديمقراطية والاصلاح، لا سيّما بالتوجه نحو التسلّح والعسكرة وتبرير أحكام الطوارئ والأوضاع الاستثنائية ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، والتبرير كان جاهزًا باستمرار، هو "الخطر الخارجي" الذي يدّق على الأبواب. ولعلّ ذلك ساهم في تكريس سلطات الاستبداد بحجة "تحرير فلسطين" تحت شعار " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والذي كان عملياً يعني لا صوت يعلو فوق صوت الحكام وارادتهم ومصالحهم.



اليسار والمزاج الشعبي
كنت من موقعي كمثقّف يساري أتحسس القصور والنقص في فهم المسألة القومية العربية من جهة، وقلّة الانشغال وضعف الاهتمام بها أو تخصيص ما تستحقه من جهود من جهة أخرى، إضافة إلى التقليل من أهمية الوحدة الكيانية للعرب أو إيجاد شكل من أشكال اتحادها، وذلك ليس عبر شعارات أيديولوجية أو مزاودات سياسية كما فعل القوميون المتعصّبون، وإنما باعتبارها حاجة ماسّة وضرورة حضارية وتعبيراً عن وجود روابط مشتركة أساسها: اللغة والتاريخ والثقافة، ناهيك عن الأديان، فضلاً عن مصالح اقتصادية جيوسياسية، كلّ ذلك مع مزاج شعبي ووجداني جامع خارج دوائر الأيديولوجيا والسلطات الحاكمة.
لقد كانت مهمة الحركة الماركسية والشيوعية في العالم العربي صعبة مع استمرار الثغرات الكبيرة الفكرية، النظرية والسياسية، والعملية في الموقف من  المسألة القومية ، وذلك إضافة  إلى  الموقف من الدين، ومكمن هذه الصعوبة هو أننا خالفنا المزاج العام، الشعوري - الفطري في كلتي المسألتين، تحت عناوين أيديولوجية بتقديم الطبقي والاجتماعي، على الوطني والقومي، بل إننا إزدرينا بعض الأطروحات القومية، ناسبين إيّاها  إلى  البرجوازية، مطبّقين المسطرة الأوروبية على المسألة القومية، متناسين أننا ما زلنا نعيش مرحلة التحرر والانعتاق الوطني والقومي، وحتى الاستقلال السياسي الذي حصلت عليه الشعوب العربية تقهقر كثيراً، فما بالك بالاستقلال الاقتصادي والتنمية.
لقد تعاملت الأدبيات الماركسية العربية مع المسألة القومية باستخفاف كبير، وكنّا غالباً ما نتندّر على القومية و"القومجية" دون أن نميّز الفارق بين العروبة الحضارية، التي هي انتماء شعوري وفطري ووجداني، وبين القومية التي هي آيديولوجيا أو عقيدة، باعتبار أن نماذجها هم الحكام الدكتاتوريين، وكنّا نتغنى بالأممية وفضائلها، في حين أن نماذج حكامها لا يقلّون دكتاتورية واستبداداً عن نماذج حكامنا الدكتاتوريين، بل أن الأخيرين قاموا بتقليد النماذج الشمولية الأصلية، وساروا على خطاها في أحيان كثيرة، وانتقل " القمع" إليهم بالعدوى بحكم فيروس الآيديولوجيا الشمولية والسعي لامتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، مثلما انتقلت مسألة عبادة الفرد وتقديس الخطاب الآيديولوجي الاستعلائي  إلى  هذا الوسط أيضًا... الخ.


الماركسلوجيا والوعي النقدي
إذا كانت المسألة القومية والهويّة والمواطنة إحدى شواغلي منذ فترة ليست بالقصيرة، لاسيّما بالقضية الفلسطينية، فلأن الأمر يتعلق أيضاً بغياب أو بضعف الوعي النقدي لدى التيار الماركسي، بحيث يكون دليلاً يساعد في تعزيز نهج ووحدة الهموم العربية وكفاحها المصيري من أجل تحقيق كيانيتها، التي ما تزال تعاني من التشتيت والتشظي.
 وظلّ غائبًا موضوع تقديم رؤية تطورية للوعي التاريخي العربي، على أساس جدلي هدفه التنوير والتغيير، الأمر الذي لا يمكنه أن يحدث دون تحقق الشروط الموضوعية لبلورته، ناهيك عن الشروط الذاتية بتوفر الحامل الاجتماعي لذلك. ومثل هذه الأداة لن تتحقّق عبر محاولات حزبية ضيقة أو مبادرات فردية محدودة بالطبع، لأنه بحاجة إلى استكمال دورته التاريخية الموضوعية وليس عبر إرادوية ذاتية حسب.
والماركسلوجيا تعني "ماركسية" ضدّ "الماركسية"، بمعنى استخدام أداة التحليل الماركسي بالضدّ من جوهر الماركسية وروحها، وهو ما جرى تطبيقه بصدد القضيّة الفلسطينية، خصوصًا بتبرير موقف القيادة الستالينية بعد أن استدارت لتنتقل من ضفّة إلى أخرى، أي من اعتبار تقسيم فلسطين خطّة إمبريالية صهيونية إلى كونه أمر واقع واعتراف بحق تقرير المصير لليهود الذي جاء على حساب سكّان البلاد الأصليين.
ليست القضية الفلسطينية قضية ربح أو خسارة، أو نجاح أو فشل، وهي لا تخصّ الفلسطيني وحده، بقدر ما تخص البشر في كل مكان، ولذلك فالصراخ والشعارات الرنانة لن تعيد الحق السليب، وليس رد الفعل أو المعاملة بالمثل هي العلاج الناجع، لأننا سنخطأ مرتين، في المرّة الأولى سنبرّر الفعل الاجرامي بفعل مقابل، ولعل من عالج ذلك على نحو مبدع هو ادوارد سعيد في حواراته المثيرة مع ديفيد باسمليان، التي ترجمها توفيق الاسدي والموسومة بعنوان "القلم والسيف" حين تساءل مخاطباً نفسه: لو كنت في وضع يجعلني أحرز في يوم من الأيام تعويضاً سياسياً عن كل معاناة شعبي، لكنت، كما أعتقد حساساً جداً لإمكانية إيذاء شعب آخر.
ولعل هذا الموقف الإنساني العالي الشكيمة هو تعبير عن أكبر الأحاجي لمفكر مثل ادوارد سعيد، وهو لغز عميق كما يعترف، ويضيف أن قلّة نسبياً بعض الشيء من اليهود و"الإسرائيليين" يشعرون خلاف الاحراج والضيق، حين يقابلون فلسطينياً، بحس من الندم والتعاطف، من بشر عانوا ما عانوه هم أنفسهم.
أما الخطأ الثاني فهو أننا نخسر أوساطاً مناصرة لحقوقنا أو محايدة حين نتصرف في إطار ردود الافعال، بما يضع الجاني والضحية في كفة ميزان واحدة أحياناً. لا ينبغي تحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة سياسية للصراعات الداخلية أو لتأجيج الحقد، وكأننا نبحث في حلول بدائية دون التفكّر فيما تتركه من تأثيرات نفسية علينا وعلى الآخر بألوانه المختلفة.
لعل حوار ادوارد سعيد هو حوار الذات مع التاريخ في عمق المأساة والألم فقد كان يدرك أن أطنان الخطابات العربية لن تحل القضية الفلسطينية، بل ستبقيها دون حل، وقد يكون في تلك الخسارة ربحاً للسياسي العربي، لاسيّما في السلطة، إذ سيكون مبرراً وضماناً لوجوده ولانشغاله بحقوق مهدورة ومغتصبة دون البحث في استعادتها، لكن المهم هو أن يكون موجوداً ويستمر في رفع شعارات الدفاع عن " أصحاب الحق" و"المظلومين الفلسطينيين"، في حين أن المسألة الأساسية تظل غائبة وهي استعادة الحقوق.
  أقارب هذه المسألة من خلال رؤية المفكر جان جينيه، الذي هو كاتب خلافي، ومتمرد وفوضوي، لكنه عندما عايش تجربة " الأرض الفلسطينية" لاحظ على نحو عميق ما وراء السرد السياسي للقضية الفلسطينية، حيث شاهد بأم عينيه، وهو يقول كلمته ويتقنها جيداً بشأن مآل وصورة فلسطين، الواقعية، الحقيقية، وليس صورة الوعي السياسي المؤطر  آيديولوجياً في أحيان كثيرة.
أتساءل هل يمكن معاينة الأدلة والقرائن الجرمية- الجنائية على جثة مشوّهة وغير واضحة المعالم؟ فلا يكفي الموقف السياسي باعتباره دليلاً على فهمنا للقضية الفلسطينية، الذي بتقديري ينقصها الكثير من التدويل على الرغم من تدويلها، لاسيّما لرؤية مؤسسات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان الدولية، وهنا أريد التحدث عن تدويل ثقافة المقاومة ورفض السائد واليومي، بتعميم ثقافة الحق، ولعل مثل هذه الثقافة، تساهم في استمالة الرأي العام العالمي، الذي لا يمكن مخاطبته بروح التهديد والوعيد أو الانتقام أو المعاملة  بالمثل، وهي عناوين طالما تصدّرت الدعاية العربية بشكل عام والدعاية الفلسطينية بشكل خاص، رغم التحسّن الذي طرأ عليها في ربع القرن الماضي الاّ أنها ما تزال تعمل في إطار رد الفعل في الغالب. وكنت قد ردّدت "رذيلتان لا تنتجان فضيلة" و"ظلمان لا ينجبان عدلًا" و"جريمتان لا يعيدان حقًّا".
لا أريد أن أذهب إلى حدّ " التعريض" بجوانب من قصور الفهم الماركسي للقضية القومية، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو القصور الذاتي الذي انطوى عليه المفكرون العرب "الماركسيون" أو هكذا يطلقون على أنفسهم في عدم انشغالهم بهذا الجانب المهم من البنية للتكوينية للعقل العربي الوضعي، وذلك لأسباب تتعلق بالمفهوم الأوروبي المُبسط للمسألة القومية، لاسيّما الاستعانة بخطوطها المعرفية كما هي دون التفكير بالاجتهاد النقدي أو التجديد النوعي المطلوب، وكنت أرى أن عدم الاهتمام البحثي والمعرفي بالقضية الفلسطينية عرّضها للافقار بقدر تزايد الصراخ والدعاية والتنديد والاحتجاج كظاهرة صوتية كما يقال، ودون تحويلها إلى فعل ملموس.
ومن هنا فان اجتراح الماركسية كونها نظرية شمولية ضيّع علينا التفكير بالحاجة الدائمة  إلى إغناء تفصيلي وبحث اشكالي، ولعل من ضمن هذه الاشكالات هو دراسة قضايانا العربية بعناية أكبر، والنظر  إلى  المكوّن الجمعي للشعور الشعبي، إذا ما استعرنا مفهوم كارل غوستاف يونغ بهذا الصدد، وتقرّبنا  إلى  الطبائع الجمعية للمجتمعات العربية.
وقد ازداد شغفي شخصيًا بالانثربولوجيا في السنوات الأخيرة، وأعدّها مبحثاً أساسياً في فهم الإنسان ضمن طبيعته البشرية من جهة، وأوضاعه الموضوعية والتاريخية من جهة  أخرى، وصولاً  إلى  فهم متعدد للوضعية الإنسانية الفاعلة، ولا يمكن أن نتحدث عن مفهوم تكاملي لماركسية نقدية فاعلة، دون أن نعنى بالبنى التكوينية للمجتمعات العربية، وأن يصبح الفهم بحد ذاته تجربة، وهذا ما توقفت عنه طويلاً في كتابي عن "فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي" وفي بحوث عن "الإسلام" بشكل عام وقضايا التنوير والمسائل الخاصة بالمجتمع المدني، وغيرها من القضايا التي تأخذ من عادات الناس وطبائعهم ومكوّناتهم الموروثة والمكتسبة نطاقا للبحث الجدي.
كيف يمكن ان نختصر قوانين الماركسية في تشكيلاتها الاجتماعية وتعاقبها وتأصلها ثم تحوّلها، دون أن نفهم المكوّن الوضعي التاريخي لها، وبأي معنى يمكننا تجاهل الشروط البنيوية لتاريخ الأمم والشعوب وحركتها؟
كل هذا يشكّل فهماً جدلياً تأسيسياً لفكر اجتماعي ماركسي جديد أو فهماً جديداً لعلم ماركسي وضعي تكويني. وأعتقد شخصيًا أن ثمة تساوقًا مفهوميًا جديدًا لا بدّ أن يكون حاصلاً بين البنية الروحية لموروث الشعوب وبين آليات الفهم والتأويل الفلسفي لها، وعلينا ألّا نركن  إلى  القطيعة العقلية مع هكذا جانب أساسي من الموضوع الخاص بالهويّات والانتماء القومي، وألاّ فإننا سنتحدث عن مجتمعات لا نعرفها وفي إطار قوانين عامة - جامدة، لا روح فيها.

مفارقات الإسلاموي والقوموي
مثلما تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية، للقوى الاسلامية أو "الإسلاموية"، أدرنا الظهر للتراث العربي- والانتماء التاريخي، واعتبرناه من اختصاص أحزاب قومية في الغالب أو قوموية، وبعضها لم يكن بعيداً عن ترسانة الفكر الأوروبي، وقد استطاعت هذه الاحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل أنها سحبت الشارع أحياناً  إلى  صفها، وهي بعيدة كل البُعد على تحقيق مستلزمات العروبة، أو الإرتقاء بمتطلباتها، فما بالك إذا انفردت بادعاء الوعي التاريخي بأهميتها، كهوّية خاصة ومكوّن أساسي، لا يمكن اغفالها أو التنكّر لها.
 كنت أعجب كيف أن قومياً كردياً أو ماركسياً كردياً يعتزّ بكرديته، "كردايتي" ولا يقابله ماركسي عربي أو شيوعي عربي، الاعتزاز ذاته؟ والأمر يحصل بذات الدهشة لي عندما أقابل ماركسياً أو شيوعيًا روسياً أو تركياً أو إيرانياً أو فرنسيًا، يعتزّ بقوميته، في حين لم نكن نجد وسيلة الاّ وحاولنا فيها الانتقاص من الانتماء القومي، لاسيّما العروبي، ولذلك كررت في مناسبات كثيرة اعتزازي بعروبتي وكأن في ذلك جزء من التعويض عن الحرج عند الحديث عن العروبة لدى أصحابنا من الماركسيين " الأقحاح"، في حين أنني أحترم وأقدّر حقوق القوميات الأخرى، لاسيّما حقها في تقرير مصيرها وقيام كيانيتها المستقلة، في إطار تحوّل ديمقراطي حقيقي ومساواة تامة ومواطنة كاملة، وهذا الأمر هو الذي يؤاخذه عليّ البعض، فإما أن يعتبرني تخلّيت عن ماركسيتي الصارمة " النقية" لحساب الفكرة العروبية، أو أن البعض الآخر يعتبر إيماني بحق تقرير المصير، إنما هو جنوح باتجاه معاكس للعروبة وتأييد للانفصال وتقسيم العراق ودول المنطقة، خصوصاً المتعدّدة القوميات.
وإذا كان حسن الظن متوفراً، الاّ أن دهاليز السياسة وتقاطعاتها قد تذهب أبعد من ذلك، فتعتبر مثل هذا الموقف مجاملة أو ربما تواطؤاً سياسياً مع القيادات الكردية، وقد يذهب البعض أكثر من ذلك (حسب أصحاب نظرية المؤامرة)، بالاتجاه المعاكس في اعتبار الموقف الآخر ممالأة وتساوقاً مع الحركة القومية  النافذة أو "القومجية" في دعوتهم للعروبة" المرذولة" كما يعتقدون، وينّم كلا الموقفين من بعض "المتمركسين" أو غيرهم من القوميين من أصحاب النظرة التبسيطية السطحية عن رؤية أحادية، فإما أن يكون الأمر تعبيراً عن جنوح برجوازي أو برجوازي صغير أو تقلّب وقلق، وفي كل الأحوال  دليل عدم انحياز كامل أو ثبات راسخ والمقصود بذلك جمود وتقوقع، وتلك سمة الأفكار الشمولية النسقية التي لا تقبل أي قدر من الاجتهاد، لاسيّما إذا بحثنا في الاتجاهين، في حين أن المسألة مركبة ومتداخلة ومفتوحة، بل متغيّرة في إطار الموقف الثابت من الإنسان وحقوقه على المستوى الجماعي والفردي.
وفي إطار حسن الظن أيضاً يمكنني أن أتفهم الاصطفافات المسبقة والجوانب الانفعالية والعاطفية لدى البعض وعدم قدرتهم على قراءة واستيعاب الظاهرة المعقدة والمركّبة، فكيف يستقيم الأمر في كونك عروبيًا وتدافع عن العروبة من خلال فهمك الماركسي النقدي، وأنت في الوقت نفسه مدافع عن حقوق الكرد، لاسيّما المبدأ الحقوقي: حق تقرير المصير، بل وتعتبره الأساس في العلاقة مع الآخر.
وبتقديري لا يمكن تجزئة المواقف، أو تجزئة الحقوق، ومثلما علينا التمسك بحقوقنا، فعلينا الاعتراف بحقوق الآخرين، لاسيّما حقوق المجموعات الثقافية الدينية والإثنية التي تعيش بين ظهرانينا كالأكراد والتركمان والمسيحيين والأمازيغيين وسكان جنوب السودان وغيرهم، باعتبارها نماذج لاحتكاكات وتعارضات قومية ودينية ساهمت في تعطيل التنمية في الوطن العربي، وبخاصة عدم حلّها حلاً ديمقراطياً والاعتراف الكامل بحقوقها السياسية والثقافية واللغوية والسلالية. وكنت وما أزال أعتز بمواقفي الداعمة لحقوق المجموعات الثقافية القومية والدينية، انطلاقا من ايماني الكامل بحقوق الإنسان، حتى وان غلبت السياسة أحياناً، فإن البوصلة المرشدة والهادية تبقى هي كل ما يتعلق بالحقوق والحريات.
وإذا كان ماركس وانجلز قد ربطا القضايا القومية بإنجاز البروليتاريا لوظيفتها التاريخية، واعتبرا أن ذلك سيضع حداً للاضطهاد القومي، وشدّدا على أن إلغاء الاستغلال الطبقي سيؤدي  إلى  إلغاء الاستغلال القومي " أزيلوا استغلال الإنسان للإنسان تزيلوا استغلال أمة لأمة أخرى" ، وورد على لسان ماركس " إن شعباً يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حُراً" وهو الرأي الذي يعتبر سقفاً انسانياً للموقف من حقوق المجموعات الثقافية، الذي أُؤمن به لكن ماركس وانجلز لم يتمكنا من تطوير مفاهيمهما للمسألة القومية، خصوصاً للبلدان التابعة والمستعمرة بشكل عام، فضلًا عن نظرتها التي تقوم على المركزية الأوروبية، وهو الأمر الذي حاول لينين معالجته لاحقاً.

 القومي اللّاماركسي والماركسي اللّاعروبي

يحتار البعض في تصنيف هذه الخلطة الفكرية حتى وإن كانت منسجمة، فقد اعتادوا على الأحادية، فهو إما مع الاتجاه القومي اللّاماركسي بشأن الموقف من العروبة؟ أو مع الاتجاه الماركسي اللّاعروبي واللّاقومي في الموقف من القضية الكردية ومن مسألة حقوق المجموعات الثقافية بشكل عام؟ وتلك مفارقة النظرة المبسطة الاحادية، ولعل هذه المواقف المركّبة التي اعتزّ بها لا تقدّم النظرية والتصوّرات المسبقة على حساب الواقع الموضوعي، وهو ما اعتبره استشرافاً للماركسية النقدية الوضعية في قراءتها الجديدة للواقع، والتعامل معها كمنهج وليس مسلمات سرمدية.
ولعل التجربة المريرة في البلدان الاشتراكية بشأن حل المسألة القومية لم تكن سوى شعارات ونصوص دستورية وقانونية مفرّغة من محتواها، على الرغم من أن ما وصلنا من معلومات كان دعاية صارخة وضجيجاً لشعارات كبرى ذات رنين أيديولوجي عالي، لم يتم اعتمادها على أرض الواقع، وأصبحت القوميات الكبرى هي السائدة والمتحكّمة في مفاصل الحزب والدولة والقيادات العليا دون اعتبار للمبادئ الأممية.
لم يكن هناك ثمة وعي نقدي لليسار العربي وللماركسيين العرب بشأن الهوية العربية وطبيعة الصراع العربي - "الإسرائيلي"، فإضافة  إلى  الاتكالية والكسل الفكري وتنفيذ تعليمات المركز الأممي، فقد كان هناك قصور في فهم طبيعة العلاقة من خلال رؤية مركبة ومتداخلة للوعي التاريخي العربي، بجعله جدلياً هادفاً التنوير والتغيير بشروط موضوعية لبلورتها وليس عبر محاولات تفسيرية محدودة وقاصرة.
إن الوعي بحاجة إلى استكمال دورته التاريخية، بحيث يكون نتاجاً وضعياً لما هو مشتركٌ ومُعاشٌ ومُدركٌ، لا ما هو مُحتملٌ وكامنٌ أو غير متكوّن. لقد ظل القصور الماركسي واضحاً بالنسبة للمسألة القومية، لاسيّما ضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ناهيكم عن شكلانية "المشترك" العربي بشكل عام، إنْ كان له مشتركات، ولم يكن الأمر سوى تطقيس للقضية، وليس الانغماس فيها باعتبارها مسألة مركزية يتوقف عليها اندفاع الشعوب العربية نحو التنمية والديمقراطية والوحدة الكيانية، وهو ما كان ينبغي علينا كماركسيين أن نتبناه ونواصله ونحرّض الشارع عليه، في حين كان اهتمامنا بقضايا دولية كبيراً وقد أعطيناها حيّزاً شاسعاً من نشاطنا، وهي لم تكن تستحق مثل هذا القدر من الاستغراق، وتلك مفارقة حيث كان ينبغي انشغالنا الحقيقي بمسألة الوحدة الكيانية بين الأقطار العربية أو بالقضية الفلسطينية، التي هي مفتاح التحرر في المنطقة، كأساس لتحركنا وليس أمراً ثانوياُ أو تكميلياً.

 الشيوعية العربية الرسمية والموقف اللّاماركسي!
إذا عدنا  إلى  الرأي الماركسي باستثناء ارهاصات محدودة، فإنه بشكل عام اقتفى أثر الموقف الستاليني، الذي تبدّل بين عشية وضحاها بالموافقة على قرار التقسيم بعد أن كان يدعو  إلى  دولة ديمقراطية يتعايش فيها العرب واليهود، وهو الموقف الذي لا أفهم أي تبرير له ماركسياً، إنْ لم يكن هو ضد الماركسية، فكيف لمن يدّعي أنه طليعة البروليتاريا العالمية يوافق على تقطيع أوصال بلد وتسليم ما يزيد عن نصفه  إلى  مهاجرين جاءوا من أصقاع الدنيا وطرد سكان البلاد العرب الاصليين، إنْ لم يكن ذلك بصفقة قد تمت من وراء ظهورهم بعد اتفاقية يالطا عام 1945، وضمن تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شملت بلداناً ومناطق عديدة.
 ولعل الأمر لا يتعلق بالسياسة التي قد تصيب وتخطأ وبالإمكان تصحيح الخطأ، لكن المسألة تتعلق بالتنظير الأيديولوجي الخاطئ، واعتماده باعتباره تطبيقاً للماركسية في ظرف ملموس هذا من جهة، ومن جهة أخرى المصالح السياسية للدولة السوفيتية، وهو الأمر الذي استمر دون نقد ماركسي حيوي من جانب الأحزاب الماركسية الرسمية، بل وأحياناً الاستمرار في تبرير ذلك الموقف الأيديولوجي الخاطئ بتبريرات سياسية ساذجة وخاطئة أيضاً.
وبكل الأحوال فقد كان ذلك خطيئة تاريخية لا يمكن غفرانها، والغريب أن قيادات الأحزاب الشيوعية وافقت عليها وتبّنتها، بل وتحمّست لها (باستثناء الحزب الشيوعي السوداني)، كما ذهب  إلى  ذلك الحزب الشيوعي السوري- اللبناني والحزب الشيوعي المصري والشيوعيين الفلسطينيين والأردنيين، والحزب الشيوعي العراقي، لاسيّما مطارحات زكي خيري الصادمة للمزاج الشعبي، ناهيكم عن خطئها ماركسياً باعتبار " اليهود أمة" ولها " الحق في تقرير المصير" وبمقارنة أوضاع "إسرائيل" المغتصِبة للحقوق والارض باعتبارها " دولة ديمقراطية" قياساً  إلى  البلدان العربية الرجعية، ولأن فيها حزباً شيوعياً علنياً ونقابات مرخّص بها، وهو الموقف الخاطئ الذي كان سائداً في إطار الحركة الماركسية العالمية التي حاول خيري تمثيلها آنذاك رغم وجوده في السجن.
وقد نقل يوسف اسماعيل البستاني، الذي كان يدرس في باريس رأي الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي صدر بعنوان " أضواء على القضية الفلسطينية" حيث أثّر على توجهات الحزب الشيوعي العراقي، في حين كان قائده وأمينه العام فهد يقبعُ في السجن، إضافة  إلى  أركان المكتب السياسي وهما كل من حسين الشبيبي وزكي بسيم (اللذان أعدما مع فهد لاحقاً يوم 13 - 14 شباط / فبراير 1949).
وكانت لدى فهد ملاحظات عديدة على وثيقة "أضواء"، وقد أمر من كان يقرأها داخل السجن بالتوقّف عن ذلك معبّرًا عن عدم ارتياحه، خصوصًا استغلال مواقف الاتحاد السوفييتي لشن حملة ضدّ الحركة الشيوعية. وقد حاول استشارة خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري - اللبناني حول الموقف الصحيح، بعد التشوّش والالتباس الحاصل إثر تغيير موقف الاتحاد السوفييتي، وذلك بحدّ ذاته دليل على التململ وعدم القناعة الكافية في اتخاذ موقف أو عدم القدرة في بلورة رؤية تتعارض مع موقف الاتحاد السوفياتي والمركز الأممي، لاسيّما بعد خطاب غروميكو الصادم في الأمم المتحدة، الذي كان انقلاباً في موقف الحركة الشيوعية، حين أيّد قرار التقسيم وقيام دولتين: يهودية وعربية.
 ومن المفارقة حقاً أن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة في العالم  اعترفت "بإسرائيل" بعد قيامها في 15 أيار / مايو 1948، وبحسب فرق التوقيت فان هناك دقيقة أو أكثر كانت بين صدور قرار الاعتراف، الذي اعقبه صدور قرار "إسرائيل"، الأمر الذي يدّل إذا صحّت هذه الرواية على اتفاق مسبق، وهو الامر الذي سبب احباطاً لدى أوساط واسعة من الماركسيين، وربما حرم قسماً كبيراً منهم من مواصلة عمله مع التنظيمات الشيوعية، خصوصاً وأنه لم يجد مبرراً لذلك الموقف اللاّماركسي، لاسيّما وأن لينين نفسه ردَّ على من يقول بأن اليهود يشكلون أمّة ووقف ضد الشيوعيين اليهود الروس "البوند"  لتأسيس تنظيم خاص بهم، معتبراً ذلك تقسيماً للطبقة العاملة وكان ماركس يردد: لا تبحث عن سر اليهودي في الدين، بل ابحث عن سر الدين في اليهودي.
ولعلها كانت مفاجأة عندما استدارت الأحزاب الشيوعية المشرقية وأصدرت بياناً مشتركاً بالموافقة على قرار التقسيم بعد موافقة الاتحاد السوفيتي وهو نقيض لمواقفها السابقة، في حين كانت تعتبره مؤامرة استعمارية وتدعو إلى التضامن لاحباطه وإقامة الدولة الديمقراطية  الموحدة، التي يتعايش فيها العرب واليهود بمراعاة الأخيرين كأقلية متميزة.
ويروي منير شفيق في مذكراته "من جمر إلى جمر" أن فؤاد نصّار الذي كان عضوًا في المكتب السياسي لعصبة التحرّر الوطني (الحزب الشيوعي الأردني) ومسؤولًا عن جريدة الحزب، وكان حينها ينام في المطبعة، وقد كتب مقالةً يندّد فيها بقرار التقسيم للعدد الجديد من الجريدة، لكن عامل المطبعة الذي كان يصفّ الحروف قام بإيقاظه الساعة الرابعة صباحًا، قائلًا له يا رفيق أبو خالد: لقد وافق الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم، فقام كمن لسعته أفعى، وطلب منه التأكّد من محطّة إذاعة موسكو والمحطات الأخرى، وحين توثّق من ذلك سحب مقالته المندّدة بقرار التقسيم، وكتب مقالة مؤيّدة للقرار، وهكذا صدر العدد الجديد. ولعلّ تلك إحدى مفارقات علاقة الأحزاب الشيوعيّة بالمركز الأممي.
وللأسف الشديد لم يبادر الشيوعيون والماركسيون العرب إلى تصحيح ذلك الموقف الخاطئ، والأقرب إلى الخطيئة نظرياً وعملياً، بل كانوا يزوغون عنه كلّما جرى الحديث عن القضية الفلسطينية على الرغم من تضحياتهم الجسام، وتراهم بحماسة منقطعة النظير يرددون ويستذكرون "الانذار السوفيتي" عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر " انذار بولغانين" وتسليح بعض البدان العربية، والموقف من حرب الاستنزاف، وهي كلها مواقف مشرّفة للاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية العالمية، في حين أن النقاش كان يتعلّق بقرار التقسيم، بل أن بعضهم يبرّر بسذاجة وسماجة قائلاً: ألم تكن الموافقة على قرار التقسيم أفضل من عدم الحصول على شيء؟ ألا يتمنى العرب حالياً العودة  إلى  قرار التقسيم 181 لعام 1947؟ ألا يكفي مزاودةً وهي التي أوصلتنا  إلى  ما نحن عليه، حيث ضاعت نصف فلسطين بموجب القرار، وأصبحنا نوافق على 22% منها حسب اتفاقات أوسلو لعام 1993، التي لم تنفذها "إسرائيل" !؟
 وكأنهم يريدون القول أن مواقف الحركة الشيوعية كانت "ماركسية" وأنها لا تخطئ، مقدِّمين تبريرات تتعلّق بتفضيل مصالح الدولة السوفياتية على مصالح الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة، وغير القابلة للتصرّف، ولم توجد هناك سابقة قانونية بحيث تقوم الأمم المتحدة بإنشاء دولة على حساب سكان البلدان الأصليين، وتتعهد هذه الدولة باحترام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، لكنها تتنكّر لذلك بما فيها لقرار التقسيم نفسه وللقرار 194 الخاص بحق العودة لعام 1948 وللقرارات 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 وغيرها من القرارات دون أي إلزام أو إكراه أو عقوبات من مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وإذا كان هذا الموقف الخاطئ قد اتخذه الشيوعيون العرب، فالقوميون كذلك انساقوا وراء موقف خاطئ آخر، لأنهم لم يميّزوا بين الصهيونية كأيديولوجيا وبين اليهودية كدين. وإن تمسّكوا بالحق الفلسطيني شكليًا، لكنهم رفعوا شعارات أقل ما يقال عنها دونكيشوتية مثل " رمي اليهود في البحر"، لكنهم حين وصلوا  إلى  السلطة قاموا بقمع  شعوبهم وتكبيل حركتها، بل والتآمر أحياناً على القيادة الفلسطينية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، كما قننت حركتها واغتالت بعض قياداتها.
 وإذا كان الموقف الأول صحيحًا من الصهيونية كحركة رجعية والتفريق بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كعقيدة، لكن هذه المواقف ضاعت وتبددت عند تأييد الشيوعيين قيام دولة “إسرائيل”، باعتباره انسجاماً مع مبدأ حق تقرير المصير ومنه حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره وقيام دولته الخاصة، وأحياناً بررنا ذلك بالشرعية الدولية وبمواقف الاتحاد السوفيتي، التي تعتبرها الادارات الحزبية المحك " الحقيقي"  الذي تقيس به الخطأ والصواب، والأكثر من ذلك تفسيرنا هذا الخطأ النظري وفقاً للماركسية، الأمر الذي يتناقض مع جوهرها ومحتواها.
كان تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية في العراق العام 1946 ، من جانب شخصيات يهودية عراقية توجهاً صحيحاً ونقضًا للرواية "الإسرائيلية"، فضلًا عن انضمام شخصيات عراقية يسارية إليها، لكن هذا التوجّه تم تسويفه في المواقف اللاحقة التي تم اتخاذها والتي ألحقت ضرراً كبيراً بالحركة الشيوعية، علمًا بأن فهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الشيوعي ورفاقه دفعوا حياتهم ثمن موقفهم من الصهيونية يوم تواطأت بريطانيا والإمبريالية العالمية والصهيونية والقوى الرجعية والمتعصّبة وقامت بإعدامه بعد إعادة محاكمته وتنفيذ حكم الإعدام خلال شهر ونصف من صدوره.
كنت قد قلت في كتابي "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف": لو قدّر لي أن اعيش مرّة أخرى، لأعطيت العمر كلّه للقضية الفلسطينية النبيلة، باعتبارها المحور لقضية التحرر العربي على المستوى القومي وستكون التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاشتراكية في المنطقة ككل غير مضمونة أو ثابتة دون حل عادل ومشروع للقضية الفلسطينية. ومثل هذا الشعور صاحب جيلنا المتمرد القلق المتعطش إلى التغيير.

31
شيرزاد النجار
المكتفي بذاته



"الصديق إنسان هو أنت،
 إلّا أنه بالشخص هو غيرك"
أفلاطون

يصادف العام المقبل 2024، (60) عامًا على تعرّفي على البروفيسور شيرزاد أحمد أمين النجار في بغداد، حيث درسنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة بغداد) مع عدد من الأصدقاء المقرّبين بينهم طيب محمد طيب وناوشيروان مصطفى وفرهاد عوني وصلاح عبد الجبار المندلاوي وآخرين من الكرد.
ومنذ الأيام الأولى تلمّست مدى دفئ وحساسية وذكاء شيرزاد وطيبته وصدقه وإخلاصه، وكذلك حرصه على دوام الصداقة والعلاقة الوديّة التي استمرّت وتعزّزت أواصرها وتوثّقت عراها طيلة السنوات الأربعة التي قضيناها في الجامعة، وشهدت تلك الفترة الدقيقة عددًا غير قليل من الأحداث التي اختلف الفرقاء حولها، لكنّنا بغضّ النظر عن المنطلقات كنّا أقرب إلى فهم مشترك إن لم يكن موحّدًا.
ومن هذه الأحداث سقوط طائرة الرئيس عبد السلام محمد عارف في 14 نيسان / أبريل 1966، الذي يصادف الذكرى اﻟ 18 لتأسيس اتحاد الطلبة العام، حيث كنّا نحتفل بها. وكذلك  توقيع اتفاقية 29 حزيران / يونيو 1966 بين الحكومة العراقية بقيادة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزّاز ورئاسة عبد الرحمن محمد عارف والثورة الكردية ممثّلةً بقيادة الملّا مصطفى البارازاني. كما جرت في الفترة ذاتها الانتخابات الطلابية في ربيع العام 1967 والتي فاز بها الحزب الشيوعي وواجهته الطلابية "اتحاد الطلبة" بنسبة 76% من المقاعد الانتخابية و80% من الأصوات عبر رفعه شعارات مهنيّة جامعة وموحّدة.
وحدث في ذلك العام العدوان "الإسرائيلي" عل مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران / يونيو 1967، حيث اندلعت التظاهرات العارمة مندّدة ﺑ "إسرائيل" ومطالبة بالحريات وإطلاق سراح المعتقلين والتطوّع مع المقاومة في موجة شبابية حماسية متدفقة. وشهد ذلك العام أيضّا انشطار الحزب الشيوعي إلى جناحين في 17 أيلول / سبتمبر جناح القيادة المركزية وجناح اللجنة المركزية، كما شهد مصرع تشي جيفارا 9 تشرين الأول / أكتوبر 1967.
وفي نهاية العام 1967 ومطلع العام 1968 حدث الإضراب الطلابي الكبير الذي ترافق مع الدعوة لعقد جبهة طلابية كان يُفترض أن تكون نواتها الاتحاد الوطني لطلبة العراق/ الجناح الموالي لسوريا، والحركة الاشتراكية العربية / التي أسست لاحقًا "جبهة الطلبة التقدميين" و"اتحاد طلبة كردستان" و"اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية".
وقد عشنا تلك الأحداث بتفاصيلها اليومية وتداخلاتها، فضلًا عن امتداداتها العربية والدولية، وصولًا إلى انقلاب 17 تموز / يوليو العام 1968 ووصول حزب البعث إلى السلطة مرّة ثانية، وبعد 13 يوماً حصل انقلاب من داخل الانقلاب في 30 تموز / يوليو وأُزيح جناح عبد الرزّاق النايف وهيمن البعث كليًّا على السلطة. وقد تم تجنيدنا في "كتائب الشباب" لبضعة أسابيع في معسكر الرشيد، وكنّا قد تخرّجنا من الجامعة في السنة الدراسية 1967 - 1968.

الشاب الإربيلي
كان الشاب شيرزاد النجار القادم من إربيل مثالًا في التزامه المعايير الأخلاقية وفي احترام أساتذته والاستفادة القصوى من علمهم، إضافة إلى الاستفادة من وجوده في بغداد للاطلاع على الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، ومن كل ما له علاقة بتطوير قدراته ورفد معلوماته وتعميق خبراته؛ وكان شديد الهدوء في الكلية عزيز النفس، كريمًا، ينتقي أصدقاءه بدقة شديدة لدرجة الحذر أحيانًا، وهو ما استمرّ عليه حتى يومنا هذا، لأن الصداقة بالنسبة إليه قيمة عليا لا يمنحها إلّا لمن يستحقها.
كان شيرزاد من الطلبة المتفوقين الذين استثمروا وقتهم إيجابيًا، وعاد بعد تخرّجه إلى إربيل وعمل على تطوير إمكاناته فدرس اللغة الإنكليزية، إضافة إلى معرفته باللغة العربية كتابة ومحادثة، واللغتين التركية والفارسية، ثم تعمّق في دراسة اللغة الألمانية خلال وجوده في فيينا لنحو 14 عامًا، نال فيها شهادة الماجستير والدكتوراه من أرقى الجامعات النمساوية، في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية، وأصبح له باعًا طويلًا في علم السياسة والقانون الدستوري والقانون الدولي، وألّف في هذه الحقول كتبًا عديدة، لعلّ أهمها كتابه الذي صدر باللغة الكردية والذي يتم طبعه باللغة العربية حاليًا: "كيف نفكّر سياسيًا؟" وهو لعمري من أهم كتب السياسة في العراق وربما في المنطقة لجدّة أطروحاته من جهة ولربطه النظرية بالواقع والممارسة والتطبيق من جهة أخرى، ناهيك عن فلسفة التفكير واتخاذ القرار.
وفي الفترة ذاتها التي درس فيها في فيينا كنت قد أنهيت دراستي في براغ وعدت إلى العراق في العام 1977، وانقطعت بيننا السبل بسبب الأوضاع العامة، ولم تعد الأمور إلى مجاريها إلّا بعد العام 1991، حيث التقيته مجدّدًا في كردستان التي داومت على زيارتها، وقال أنه سمع بالتحاقي بالبشمركة - الأنصار في الثمانينيات، وكان اللقاء صميميًا كما هي العادة.
 وكان شيرزاد قد عمل مستشارًا لنائب رئيس الوزراء الأستاذ محمد محمود عبد الرحمن (سامي) الذي استشهد في العام 2004 إثر تفجير مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني من جانب تنظيم القاعدة الإرهابي. وخلال عمله أثبت جدارة عالية ليس في جانبه التدريسي وإشرافه على عشرات الأطروحات لطلبة الماجستير والدكتوراه وحسب، بل خلال تدقيقه لمعادلة الشهادات وخبرته في التعليم العالي وبأحوال الجامعات في الخارج، ولذلك تم اختياره مستشارًا لرئيس وزراء إقليم كردستان نجيرفان البارزاني، وفيما بعد مستشارًا لرئيس الإقليم عند تولّيه المنصب ذاته.
 وفي الأعوام الدراسية 1999 و 2000 و 2001 كنت قد التحقت بجامعة صلاح  الدين في إربيل لتدريس طلبة الدراسات العليا (كلية القانون) دعمًا لتجربة كردستان وإنجاحًا لتَنقية الأجواء الكردية بعد احتراب لا مبرّر له دام من العام 1994 إلى العام 1998، وكان د. شيرزاد ملازمًا لي خلال فترة وجودي، حيث كنت أحضر من لندن لبضعة أسابيع أعطى فيها محاضرات فصل دراسي كامل (سمستر) وأعود مرّة أخرى في الفصل الثاني لذات الهدف... وهو ما عاودته بعد ذلك أيضًا بعد تسوية أمر فصلي من جامعة بغداد العام  1980 وإعادتي إلى التعليم العالي، ثم أُحلت إلى التقاعد في العام 2010 لبلوغي السن القانوني وبطلب مني.

الإجماع "استثناءٌ"
لمست خلال وجودي في كردستان مدى الاحترام الفائق الذي يتمتّع به شيرزاد النجار، فكلّما ورد ذكره جاء ذلك لصيقًا بالنزاهة والاستقامة الشخصية والمهنية، تلك التي تتردّد على كلّ لسان وعلى كلّ من يعرفه، ولعلّ ذلك يُمثّل إجماعًا هو أقرب إلى الاستثناء في مجتمعات لا يمكن أن تجمع على شيء. فميزة شيرزاد الاساسية قول الحقيقة وعدم التساهل مع أي كان إزاء المعايير المهنية والأخلاقية وضوابط السلوك التدريسي بالنسبة للطلبة والأساتذة، علمًا بأنه عمل في أرفع المواقع فظلّ  كما كان دائمًا متواضعًا وأمينًا. ولا أستطيع اليوم وأنا أقلّب في ذاكرتي بعد نحو 6 عقود من الزمن إلّا أن أرى ذلك الشاب المتطلّع إلى المعرفة يحدوه الأمل وهو يزداد تواضعًا بقدر علو كعبه وارتفاع منزلته وسمو علمه. وإذا كنت أفتش في نقاط قوّة ذلك الشاب المهذّب الودود الهادئ المقتصد في الكلام والعميق في المعرفة والفهم والتقدير وبُعد النظر، الواثق دون ادعاء والمخلص دون تبجّح، والعالِم دون استعراض والمتصالح مع نفسه أولًا تمهيدًا لتصالحه مع الآخرين، فلا بدّ لي من الاعتراف بدور العائلة والتربية البيتية التي هي اللبنة الأولى التي ارتقى بها سلّم الحياة، وهو ما عرفته من خلال معرفتي بأفراد أسرته جميعًا.

الرؤيوي
د. شيرزاد شخصية فكرية رؤيوية، هو يرى ما لا يراه الآخرون أحيانًا، وحين يصلون إلى ما وصل إليه بعد عناء، يكون هو قد غادر موقعه إلى محطّة أخرى داعيًا أصدقاءه إلى الالتحاق به، متجاوزًا كل عنعنات "الأنا"، لأنه يعرف حق المعرفة قدر نفسه مثلما يعرف حق المعرفة ما يريد أن يعطيه للمجتمع بشكل عام والمجتمع الأكاديمي بشكل خاص.
أستطيع القول أن ابتسامته تسبقه دائمًا وهي مفتاح علاقته حتى مع من يخاصمونه بسبب مبدئيته وتمسّكه بالمعايير المهنية بصرامة ودقّة، وحتى هؤلاء فإنهم يضطرون إلى احترامه، لأن معاييره يطبقها على نفسه بشدّة أكبر، فلم يضعف أمام المال أو المغريات الأخرى، بل كان لديه حصانة منيعة وإرادة حديدية إزاء ذلك، كما لم يحاول التشاطر أو الخداع أو اللعب، بل كان واضحًا ومستقيمًا وصادقًا وقنوعًا لأنه مكتفٍ بذاته؛
إن رحلته هي رحلة شاقة لكنها رحلة العقل، فصديق كل امرئ عقله وصديق شيرزاد الأول هو عقله. وحسب محي الدين ابن عربي:
من أحبّ الحق وغار عليه
فهو مع حبّه لا مع الحق
العارف لا يغار على الحق
بل يعشّقه إلى عباده
ويحبّبه إليهم
   
   ذلك هو د. شيرزاد. إنه يصدح بالحق ويدعو إليه بوسائل ناعمة وأسلوب سلس وصدقية عالية.  ويذهب إلى الحقيقة بكل روحه حسب أفلاطون، وهو لا يخشى في الحق لومة لائم، وحين يضع تقديرًا أو تصورًا ولا يتطابق مع الواقع أو يكون الزمن قد تجاوزه لا يتوقف عند ذلك ليدافع عنه، بل يلجأ إلى السخرية وبصوته الهادئ الوديع، يقول لك: إنها أوهامنا.. كم كنا مغفلين أو استُغفِلنا "إي والله" أو اجتهدنا فأخطأنا، وتلك لعمري إحدى سجاياه الإيجابية التي لا يمكن إحصاءها.



قناعات وإقناع   
وخلال علاقتي الطويلة به والتي شهدت لقاءات ومؤتمرات وجامعات ومجلّات ودراسات وكتب ومدن ودول وأصدقاء كثر، لمست كم أن شخصيته مؤثرة لدى شخصيات عربية كبرى، ولعلّ رأسماله الأول في علاقاته هو حميميته وكرم أخلاقه وعلمه، فهو معروف بدفء علاقته وصدق توجهه وحرصه على التواصل وإدامة العلاقة.
وفي العام (2017) نظمت له ندوة في بيروت يتحدث فيها عن القضية الكردية، خصوصًا بعد تجربة الاستفتاء الكردي وضبابية الرؤية عربيًا، وكم كان مقنعًا ومؤثرًا، وما زاد من أهمية تلك الفعالية حضور شخصيات لبنانية وعربية بارزة دهشت بحجم المعلومات التي يمتلكها وعرضه النزيه لواقع العلاقة العربية - الكردية، وهو من المتابعين للحوار العربي - الكردي الذي كان أول تجربة له في لندن العام 1992 كما هو معروف، والتي كان لي شرف تنظيمها، ثم انعقدت دورة ثانية في القاهرة بلجنة تحضيرية كان على رأسها الصديق المحتفى به أيضًا عدنان المفتي والراحل عمر بوتاني. والجدير بالذكر أنه شغل منصب نائب رئيس جمعية الصداقة الكردية - العربية التي ترأسها صديقنا المشترك صلاح بدر الدين، وضمّت كوكبة من الشخصيات الوازنة.
   وإذا كان شيرزاد يتمتّع بموقع مهم باعتباره كرديًا أكاديميًا وعالمًا ومفكّرًا نزيهًا، فإن العديد من الشخصيات العربية تتسابق لسماع رأيه والإصغاء إلى وجهات نظره ليس على المستوى العراقي فحسب، بل على مستوى الشخصيات الفكرية والثقافية والإعلامية والسياسية الرسمية وغير الرسمية من مصر ولبنان والأردن وتونس والمغرب وسوريا وغيرها، وكم من مرّة حضر في محفل جامعة الدول العربية وتحدث عن قناعاته وفي الوقت نفسه بما هو مقنع.
 إنه بحق جسر تواصل كردي - عربي، حيث يحظى بمكانة خاصة لدى جهات عربية عديدة، فهو عضو في هيئات وروابط ومؤسسات أكاديمية وثقافية على امتداد الوطن العربي إضافة إلى علاقته مع مؤسسات أكاديمية دولية عديدة، بل لديه علاقات مع مثقفين من إيران وتركيا الذين شاركوا معنا في حوارات "مثقفي الأمم الأربعة: كرد، ترك، فرس، عرب". إنه شخصية أكاديمية كردية متميّزة تحظى بمكانة كبيرة ومحترمة من جانب جميع الأكاديميين.
وإذا كان "لا يُفتى ومالك في المدينة" كما يقال لأن "أهل مكّة أدرى بشعابها"، وهو ما عرفته عنه من الناس البسطاء ممن نلتقيهم، فمجرد السير معه في أحد شوارع إربيل وعموم كردستان أو مراجعة أي دائرة من دوائر الدولة في الإقليم، فإنك ستصادف العشرات، بل والمئات من الأشخاص الذين يقبلون عليه ويحيّونه ويشعرون بالعرفان والجميل لفضله، وهم في غالبيتهم طلابًا تخرجوا على يديه أو أبنائهم أو أحد أفراد عائلتهم، ليس هذا فحسب، بل لإنسانيته الفيّاضة بما فيها تبسّطه وحبه لعمل الخير ومساعدة المحتاجين، وهو أمر يمنحه سعادة غامرة، خصوصًا بحب الناس واحترامهم، وهي حلم لا يتحقّق لأي كان.
*****
   إن تكريم البروفسور شيرزاد النجار أستاذ الأساتذة هو اعتراف بواقع، وهو يستحق تكريمًا مع زملائه الذين أشرت إليهم على مستوى الإقليم ككل وأوسمة ليست للمجاملة، بل أوسمة للنزاهة والاستقامة والإخلاص والتفاني، وهكذا تكون الخدمة العامة. وكما يقول محمد عبد الجبار النفري: "إني أحدثك لترى فإن رأيت فلا حديث".
كلمة في تكريم البروفيسور شيرزاد النجار من جانب اللجنة العليا المُشرِفة على احتفالية اليوم العالمي لمكافحة الفساد في إقليم كردستان قدمها د. شعبان في 9 كانون الأول / ديسمبر 2022 - إربيل.
 



32
بيروت تحتفي بكتاب عبد الحسين شعبان

الشيخ حسين شحادة .. مقابسات الروح - المنبع والرؤية


| Azzaman وجدان شبارو

 

يوقع الباحث والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان كتابه "الشيخ حسين شحادة: مقابسات الروح - المنبع والرؤية" في قاعة توفيق طبارة الكائنة في منطقة الصنائع - بيروت يوم غد الأربعاء برعاية وزير الثقافة اللبناني، وسيتولّى نخبة من الشخصيات تقريظ الكتاب احتفاءً بصدوره وتكريمًا للشيخ حسين شحادة ولمؤلفه، وهم كما ورد في بطاقة الدعوة:

-وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى

-أحمد نزال (مدير دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع)

-الدكتور زياد الصاحب (عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى)

-عصام درويش (رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك)

-عامر زين الدين (مستشار مشيخة العقل لطائفة الموحدين الدروز)

-معن بشّور (الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي)

-نائلة طبارة (رئيسة مؤسسة أديان)

-البروفيسور إدريس هاني

-العلامة الشيخ حسين شحادة

-الدكتور عبد الحسين شعبان

يدير الاحتفال الشاعرة والإعلامية لوركا سبيتي

مقدمة الكتاب

فيما يلي ننشر قسمًا من مقدّمة الكتاب الموسوم "على سبيل الاستهلال: حرقة الروح ولمعة الحرف".

شهقة من شهقات العجب ونفثة من نفثات الانبهار وآهة من آهات الحزن، تلك التي وجد نفسه فيها الشيخ حسين شحادة وجهاً لوجه أمام مكتبات ودور علم وعلماء وكتب ومخطوطات وجدل في إطار تلك المدينة العجيبة، فكل ما فيها يدلّك على أنها أقرب إلى معهد مفتوح للثقافة والأدب والشعر بخاصة والفقه واللغة والبيان وعلم الكلام، فولع وتولّع بسحر الكلمة التي تملّكته مثل همسة إلهية مبشرة له بوعدٍ أقرب إلى وحي أن يصبح كاتباً، حيث بدأ خطواته الأولى.

في البدء كان الكلمة" كما جاء في إنجيل يوحنا الذي يعتبر وصفاً لعمل يسوع المسيح الخلاصي، والكلمة (لوغوس) كان عند الله وكان الكلمة الله، وهذا يعني أنه جاء ليرى كلمات المسيح بحق الله، وهي شهادة للحق (يوحنا 18 : 37) وكان هو الحق (يوحنا 6 :14) وجاء في القرآن الكريم "إقرأ باسم ربّك الذي خلق" (سورة العلق – الآية 1) فالكلمة هي الوسيط الذي استعان به الأنبياء والرُسُل والمصلحون لبث دعاواهم ونشر أفكارهم وتعميم رسالتهم، وبالكلمة شيّدت الحضارات وتلاقحت المعارف وتواصلت الأمم والشعوب، وهو ما أدركه الشيخ حسين منذ باكورة شبابه، فأصبحت الكلمة هاجسه الأول، حيث أخذت تختلج في جوانحه وتمور في أعماقه وتجيش به نفسه بحرقة للروح، حين يساوره نزوع إلى الحرّية والحق والعدل والجمال.

وبتأثير الكلمة وقع الشيخ حسين أسيراً في عشق اللغة وتولّه بحبّها، بكل دهشته الطفولية الأولى وحكمته الشيخية اللاحقة وصبره الأيوبي غير المحدود، صعوداً ونزولاً بالخطأ والصواب والنقد والنقد الذاتي والتجربة بكل تعثراتها ومنعرجاتها، حتى تصالح مع نفسه، وباللغة ذاتها ولفّ حياته بفرز حروفها واحداً واحداً ونقطة نقطة وفاصلة فاصلة، لكأنه يسمع صدى هسهستها، فيطرب لشدوها ويزداد تعلّقاً بها، حتى تبرعمت كلماته وأورقت حروفه وازدهر بستانه بأنواع من الثمار والورود، وأصبح له روّاداً ومعجبين ينتظرون كلماته، اختلفوا أم اتفقوا معه.

وكانت عدّته المعهودة في تلك الرحلة المثيرة، بذرة أولى أقرب إلى اللمعة وحفنة كتب متنوّعة وإصرار على القراءة والقراءة والقراءة، فمن تدركه حرفة الكتابة والأدب عليه بالقراءة المستمرة ليس للمتعة فحسب، بل للمعرفة، وتلك كانت خميرته الدائمة والمتجددة، وبالطبع فالكاتب يحيا بالقارئ ولا يتطوّر بدونه ودون النقد والنقد الذاتي، وعليه أن يحرص على إدامة هذه العلاقة والمراجعة بالصدق والصراحة واحترام عقله، وحين يحصل الخطأ فعلينا الإقرار والاعتراف به وحتى الاعتذار إذا تطلّب الأمر ذلك، والبشر خطّاؤون على حد تعبير فولتير وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.

والكاتب ضنين باسمه وهو ما يضعه دائماً الشيخ حسين في اعتباره، لذلك عليه أن يُحسن الاختيار والتدقيق ويحرص على أن يكون ضميره يقظاً وألّا يصاب بالذبول أو الخمول، ولعلّ ذلك ما يطمح إليه الكاتب المبدع والناجح، وإلّا يمكن أن يصبح كاتباً ولكنه فاشلاً، وتلك مسألة عويصة تحتاج إلى صفاء سريرة ومران وممارسة وطول نفس ومشقة وجهد ومثابرة لكي تؤتى الكتابة ثمارها.

والكاتب الجيد يتعلّم من أخطائه وتجاربه ومن الحياة وهي المدرسة الكبرى، وليس من الكتب وحدها، مثلما لا يتعلّم الإنسان السباحة إلّا إذا نزل إلى الشاطئ، ومثلما تحتاج رياضة اليوغا إلى الصبر والجلوس لمدة طويلة باسترخاء ومراقبة الشهيق والزفير، فالكتابة أيضاً تحتاج إلى وقت وتراكم وتعلّم لتأتي بعدها القدحات وتبدأ الشحنات وتنطلق الشرارات.

لقد أتقن الشيخ حسين كل فنون الكتابة ليس في الحقل الديني فحسب، وإنما في الحقل الفكري والفلسفي والاجتماعي والأدبي والثقافي، وذلك بعد معاشرة حميمة وطويلة مع الحرف وصداقة وطيدة وعميقة مع الكلمة وزمالة وألفة مع الجملة والمقالة والكتاب، وهكذا استَطيَب المغامرة وسار بها أحياناً حتى أقصاها مجرّباً كتابة نصوص وسرديات وخواطر وحكم وأفكار وقصائد.

لم يلتزم منهجاً واحداً محدداً، لأنه كان ينشد التفرّد والجديد، وكل جديد "خلق" و"إنشاء" و"تكوين"، وهكذا انصاعت له الحروف واستجابت له الكلمة مطواعة بين أصابعه، ليوظّفها بطريقة فائقة البراعة في التعبير عن القيم والمبادئ التي آمن بها، حتى أصبحت لديه قدرة هائلة على التحريض والتعبئة والإثارة، فلم يعد واحداً، بل صار "جمهوراً" له منهجه الخاص وأسلوبه المتميّز الموشّى بالتسامح والانفتاح والحوار والتواصل مع الآخر.

ولعلّ ما يعطيه خصوصية هو مخالطته ومجالسته لطبقات وفئات وأجناس وشعوب ولغات ونساء ورجال وأجيال مختلفة دون اكتراث بزيّه التقليدي حيث يحجم كثيرون، والناظر إليه وهو في مجالسه المتنوّعة أوّل ما يلفت نظره عمامته البيضاء الناصعة التي تجلس فوق رأسه، حيث يمتلئ وجهه المستدير بلحية طليقة ومنسقة أحياناً يكسوها بياض غالب وشاربان معتدلان وخصلة شعر متدليّة ونافرة من تحت العمامة.

شؤون وشجون

وهو على هذه الهيئة يبحث معك في الحداثة وما بعدها ويقلّب شؤون وشجون ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن خلدون، ليأخذك إلى شواغله في الهويّة، دون أن ينسى المرور على اليسار والماركسية وجيفارا والعروبة ونقد الجمود والتخلف الديني ونتاجهما التعصّب والطائفية وازدراء حقوق المرأة، ومع تلك الهموم لا تغيب عنه أهمية التفريق بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والدعوة إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في إطار التعددية والتنوّع والمشترك الإنساني.

لم يترك الشيخ حسين مناسبة إلّا وقام بها التجوال في رحاب الجواهري وطه حسين وعلي عبد الرازق والسيّاب وأدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم، ليستعيد الحوار حول قصيدة النثر، وفي الوقت نفسه وعلى القدر ذاته من الاهتمام يضع أمامك خريطة طريق لتجديد الحوزة الدينية وإصلاح مناهجها وربطها بمتغيّرات العصر والثورة الصناعية الرابعة ومخرجاتها، وهو من دعاة حوار الأزهر مع النجف وحوارهما مع الفاتيكان، وذلك في إطار مشروع نهضوي عربي - إسلامي كما يعبّر عنه، يبدأ بالحوار العربي- العربي والإسلامي - الإسلامي على جميع الصعد الرسمية والشعبية، لينطلق إلى حوارات أرحب وأوسع، مع عدم إهمال مسألة التحوّل الديمقراطي والدولة المدنية وحكم القانون والتنمية والعدالة، وكل ما له علاقة بالامتلاء الروحي والتحقق الوجداني والدلالة الإنسانية.وإذا كان أصل الكلام عند العرب البلاغة، لأن الكلام فعل وسلوك ونشاط وخلق، أما اللغة فهي قانون وناموس وقواعد ومعيار لهذا الكلام، وهذه تحتاج إلى آليات وتقنيات تجمع بين جمالية النصوص وفصاحتها وعمق مضامينها وقدرتها على التعبير، وهو ما امتلكه الشيخ حسين، بل وأتقنه بمهارة عالية، فخرجت كلماته منغمة بهارموني لموسيقى اللغة ذاتها، وهو ما أعطاه بصمة خاصة، لاسيّما حين يعرف لمن يتوجه ومن يخاطب وماذا يريد؟

II

لا تعرف أحياناً كيف تتكون كيمياء خاصة بينك وبين بعض الناس، فتنجذب إليهم وترتبط معهم بصداقة مديدة وعميقة، إمّا هوىً حين يتحكّم القلب والعاطفة وإمّا فكراً حين تتلاقى معه في دروب العقل، فكيف إذا كان من أكتب عنه، وقد شدّني إليه قلباً وعقلاً، حتى وإنْ كانت طرق حياتنا مختلفة ومتباينة ومتباعدة أحياناً في فلسفتها ومنطلقاتها، ولكن تبقى ثمّة مشتركات إنسانية جامعة تشكّل نواة جاذبة يتم التمحور حولها والتلاقي عندها لتتوسع وتكبر حتى لتجد نفسك أمام طرق عديدة مشتركة ومقاصد موحدة، ووسائل وأساليب يتم اختبار نجاعتها مع مرور الأيام، لأنها ستكون جزءًا لا يتجزأ من الغاية على حد تعبير المهاتما غاندي.

وإذا كانت الغاية شريفة وعادلة، فلا بدّ من وسيلة شريفة وعادلة للوصول إليها، لأنها مثل البذرة إلى الشجرة، وحين تكون الوسيلة ملموسة ومعروفة، فالغاية بعيدة وهي في رحم المستقبل وأقرب إلى الحلم أحياناً، الأمر الذي يقتضي دائماً التوثق والتأكّد من الوسيلة وتدقيقها، وهو ما يسمى بالبراكسيس وما يمكن الاتفاق عليه أو اللقاء عنده، لأن الوسيلة تمثّل قاسماً مشتركاً، حتى وإن كان لكل منّا منظوره للحياة والكون والتطور، لكن الجانب الإنساني والهموم التي نعيشها في إطار بيئة مشتركة ولغة مشتركة وتاريخ مشترك لأمة واحدة بثقافات متنوّعة وتراث حضاري غني ومتعدد المشارب هي المساهمة المشتركة، فما بالك حين يكون المصير مشتركاً، والأمر لا يتعلق بالجانب القطري (لبنان/العراق) لكل منّا أو حتى للجانب الديني- الثقافي، بل إن الأمر له علاقة بالجانب الشخصي أيضاً، هو من موقعه الإسلامي وأنا من موقعي العلماني، هو من رؤيته المثالية الدينية، وأنا من رؤيتي المادية الجدلية، لكن ذلك ليس بعيداً عن التنوّع والثراء الإنساني، الذي يمكن أن يغني التجربة بالحوار والتناظر والاحترام المتبادل.كان ماراثون الصراع الفكري بين المتديّنين والعلمانيين قد شغل الطرفين في خمسينيات القرن الماضي بشكل خاص، وهو ذاته الذي استمر من القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله، وكان في الغالب صراعاً تناحرياً وإلغائياً، من الطرفين، على أن مسألة الحوار وصولاً للتعاون، وإن كان محدوداً، وجدت طريقها في فترة متأخّرة، علماً بأنه لم تتم مراجعة شاملة من الفريقين، ولم يستطع كلّ منهما أن يحقق ما كان يطمح إليه، ولاسيّما الانفراد بالساحة والتحكّم بها، وما تزال ثمة فراغات كبيرة فكرية وعملية بحاجة إلى جهد مثابر وعمل طويل للوصول إلى قواعد اتفاقية أو تعاهدية لإرساء العلاقة في إطار دولة تحترم جميع تكويناتها الثقافية ومجاميعها الفكرية، فالحوار ليس حول "مملكة السماء" والآمال والأحلام بقدر ما يكون الهم في معاناة الإنسان وحقه عن سبل الخلاص من البؤس والظلم والاستغلال والاستعباد، وليبقى كل فريق يحتفظ بما عنده من أمنيات تبشيرية بالخلاص على طريقته دون إكراه أو إرغام من الطرف الآخر على الإيمان بها.

المتديّنون يقولون أن "مملكة الأرض" زائلة وهي مجرد "دار فناء"، في حين أن السماء "دار خلود" حيث السلام والعدل والسعادة الحقيقية، فيما يقول العلمانيون أنهم يسعون لسعادة البشر على الأرض التي ينبغي أن يسعد بها الإنسان بما هو عادل وخيّر، ولهذا فإن ترك أو تأجيل مسألة الاختلاف على ملكوت العالم الآخر الآتي، سيضع مشكلات الأرض أمام استحقاقاتها، أما "ملكوت المستقبل" فهو لا يزال برحم الغيب ولن يوصل الصراع حوله أياً من المتديّنين أو العلمانيين إلى أي نتيجة تذكر، من هنا لا بدّ من البحث عن إشكاليات ومشكلات عالم اليوم حيث النضال المشترك والمصالح المشتركة لعموم الناس، ولاسيّما الفقراء منهم.

لاهوت التحرير

وكنت قد بحثت هذه الجوانب مع الشيخ حسين شحادة في مقارباتي معه بشأن لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ودور الكنيسة في عدد من التحوّلات الديمقراطية التي جرت فيها دون تقزيم أو تضخيم أي قوة من القوى الدينية أو العلمانية، ثم لماذا لم يتبلور تيار ديني وتيار علماني واضحين في منطقتنا بما يساعد في الانتقال لما هو مشترك؟ فهل تتعارض الحياة الدنيوية الروحانية مع الحياة الدنيوية المادية؟ وإذا كان كلاهما يبحث عن الحق والعدل، فإنهما لا بدّ أن يجدا من طريق للتقارب، وقد كان رجل دين مسيحي بمستوى القس بيتو الذي حاور فيديل كاسترو من موقعه المتديّن بقوله: كنّا نخاف من الماركسية مثلما نخاف من الرياضيات، لأنه هناك شك فيما إذا تأثرنا بفيثاغورس، مثلما هناك خشية من تأثرنا بنظريات العلوم الاجتماعية التي لا يمكن اليوم فهم العالم المعاصر دون دراستها. وهو ما جئت عليه بالتفصيل في كتابي "كوبا: الحلم الغامض"، دار الفارابي، بيروت،2011.

III

وحين قدّم لي الشيخ حسين شحادة هديّة هي عبارة عن قرآن كريم وذلك في استضافة لي بدمشق عقب احتلال العراق العام 2003 في مركز المعلوماتية للخبراء بشأن رسم السياسات والتي كما قال لي تم تسجيلها واستفاد منها المسؤولون السوريون وجهات صنع القرار، أقول: سألني هل ما زلت تقرأ القرآن؟ وبعينيه الذكيتين اللمّاحتين، كان ثمة استفسار من نوع آخر، فقلت له يوم سأل الكاردينال سيلفا هرناندز الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عمّا إذا كان "الكتاب المقدس" الذي قدّمه هدية له قد أغاظه، فأجابه كاسترو "ولماذا؟ هذا كتاب عظيم، قرأته ودرسته في الصبا، وسأستعيد العديد من المسائل التي تثير اهتمامي".

وعلقت قائلاً: كنت قد قرأت القرآن الكريم مرّتين (قراءة أقرب إلى الدراسة)، الأولى العام 1978 وأعدت قراءته في المرّة الثانية في العام 1982 في كردستان (بشتاشان) وما زلت أعود لبعض التفاسير بين الحين والآخر في قراءة ثالثة متواصلة ومنتقات، علماً بأن والدي الحاج عزيز شعبان كان يفتتح نهاره بقراءة القرآن بصوته الرخيم وهي عادة بقي عليها حتى أواخر أيام حياته.

وبغض النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان بالتفسير الديني أو انغراس هذا الإيمان من عدمه، لكن ما يقدّسه الناس من قيم دينية ينبغي احترامه والتعامل معه بتقدير عالٍ، وينبغي فك الاشتباك بين الدين والتديّن الذي تريد بعض الأوساط حاكمة أو غير حاكمة أن توظّفه لصالحها وأن تجعله في خدمتها، فللمستغِلين دينهم، مثلما للمستغَلين دينهم أيضاً، وشتّان ما بين الدينين، والتديّن وبعض طقوس الدين بحاجة إلى نقد وتنوير، لاسيّما تلك التي لا علاقة لها بالدين ذاته، وإنما اختلطت بعادات وممارسات بعضها يعود لأمم وشعوب أخرى أحياناً.

وعلى العلمانيين والماركسيين والماديين الجدليين، بشكل خاص منهم إعادة قراءة وفهم وأداء لدور الدين، خصوصاً لبعض مواقفهم الخاطئة ونظراتهم المسبقة الشعاراتية غير المعمقة والتي ألحقت ضرراً بهم قبل غيرهم، وهو ما كنت قد تناولته في كتاباتي العديدة منها ثلاث كتب بشيء من التفصيل وهي: الأول- تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009  والثاني - كوبا الحلم الغامض، دار الفارابي، بيروت، 2011 والثالث - الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية، مركز حمورابي، بغداد -بيروت، 2014.

وكنت قد أشدت في أكثر من مناسبة بالمفكر الإيراني الإسلامي علي شريعتي، لاسيّما كتابه " العودة إلى الذات" الذي يقيّم فيه الفكر الماركسي إيجابياً ويعتبره شيئاً مهماً، لاسيّما لجهة الكفاح ضد الاستغلال والاستعمار والظلم، لكنه يعتبر مدخل الماركسيين خاطئاً في الموقف من الدين، فالمدخل ينبغي أن يكون العدالة وليس الله، وهو ما سبق لي أن انتقدته، ولاسيّما لجهة تصرفات بعض المتمركسين الطفولية غير الناضجة والاستفزازية للمسلمين ولكل المؤمنين. ومن أشهر كتب شريعتي " التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي"، وقد ولد في العام 1933 وتوفي في العام 1977 في ظروف غامضة بلندن، ودفن في مقام السيدة زينب في الشام.

وأعتقد أن العدالة هي المشترك الإنساني الذي يمكن أن يلتقي عنده المتدينون وغير المتدينين، خصوصاً حين تتّسم بالدعوة للحريّة التي هي القيمة العليا للبشر، وبالطبع فثمة ممارسات صبيانية ومراهقة سياسية وفكرية حُسبت على الماركسيين في الموقف من الدين، كما أن ثمة ممارسات قصيرة النظر ومشوّشة في الموقف من العلمانية التي راجت في الوسط الديني، بحيث تم ربطها بالإلحاد وهي لا علاقة لها به أو بمعاداة الدين وهي بعيدة عنه وهو ما ناقشته مع الشيخ حسين شحادة في حوارات متنوّعة عديدة، الأمر الذي يحتاج إلى حصافة وحصانة ومعرفة من الطرفين وقبل كل شيء شعور عال بالمسؤولية.

وسبق لي أن حاورت السيد محمد باقر الصدر في النجف، وهو أستاذ الشيخ حسين شحادة وكتبت عنه قبل ما يزيد عن ربع قرن مادّة بعنوان " حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة" (نشرت في صحيفة المنبر التي يصدرها السيد حسين الصدر في لندن- في النصف الثاني من التسعينيات) مفرّقاً بين السياسي والأيديولوجي في إطار مشتركات إنسانية، واعتقاداً منّي بأن الروحانية لا تتعلّق بالحياة فقط، وإنما تتعلّق بالبشر، وبالعلاقة بين المادة والروح، لأن الإيمان دون فعل عديم الجدوى، والدين ملاذ مثلما هو عقيدة وليس تعليمات أو فروض ، وهو جزء من الهويّة الثقافية لأمم وشعوب نحن ننتمي إليها، وهي ما نتفق به مع الشيخ حسين شحادة.

            وسؤال الدين كان وما يزال وسيظل لصيقاً بالإنسان منذ الخليقة، ولعلّنا من خلال تجاربنا نعرف كم من الذين لا علاقة لهم بالدين في سلوكهم وتعاملهم يتشبّثون ببعض المظاهر الدينية أو بالقشور الطائفية دون جوهر الدين الإنساني، وهؤلاء على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي "طائفيون بلا دين" لأن المتدين الحقيقي والمؤمن الصادق ليس طائفياً، والدين معاملة حسب الرسول محمد وهذا هو الأساس، لذلك ترى من ينتظر شهر رمضان ليصوم فيه ثم ليعاود باستمرار سلوكه السابق البعيد عن الدين، مثلما ينتظر البعض موسم الحج للذهاب إلى مكّة لأداء الفريضة ولغسل الذنوب كما يبرّر ولا يهمّ إنْ عاد إلى عاداته القديمة، وقد يمارسها وهو في "بيت الله الحرام"، كما يُقال، بما يخالف أبسط مقومات الإيمان.

            ما يزال البعض يراهن على الاختلاف العقائدي بين المتديّنين وغير المتديّنين أو العلمانيين، باعتباره خلافاً لا مجال للقاء فيه، وهو خلاف لا ينبغي إنكاره أو تجاوزه أو التقليل من شأنه على المستوى الفكري، كما فشلت جميع المحاولات للمصالحة بين الدين والاشتراكية في الخمسينيات والستينيات وبين الدين والديمقراطية والدين وحقوق الإنسان في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وما بعدها، فلكلٍّ حقله ونطاقه الفكري، لكن اللقاء السياسي وعلى أهداف سياسية أو اجتماعية أو حقوقية ممكن جداً وهو يحتاج إلى مهارة سياسية ومرونة عملية من الفريقين إذا كان يريدان حقاً مصالح الناس وحقوقهم.


33
.

34
على هامش زيارة المفكر الدكتور "عبد الحسين شعبان إلى أوسلو
د. علي موسى الموسوي
الأمين العام للمجلس الدولي للحوار الديني والإنساني (النرويج)


     طرح زمن العولمة سجالات عدة، كانت ثنائية التراث والحداثة أبرزها. خاصة أمام الأطاريح التي انبثقت عن العلاقة الملتبسة بين الإسلام والغرب والتي أنتجت مقولات عدة من مثل: صدام الحضارات ونهاية التاريخ وغيرها من الخطابات الإيديولوجية التي جعلت التجديد أو التحديث مطلبا حضاريا، خاصة بالنسبة للفكر العربي الإسلامي الذي واجه تحديات فكرية عدة؛ تجديد الفكر الديني أبرزها.
     من هنا وفي إطار انفتاحه على قضايا الأمة وإشكالاتها المرتبطة بزمن العولمة وما تلاها من أسئلة همت الحقل الديني والعقلانية الحديثة، تشرف المجلس الدولي للحوار الديني والإنساني باستضافة المفكر"عبد الحسين شعبان"، والذي أشرف رفقة الأمين العام للمجلس ، على تأطير الجلسة الحوارية" دين العقل وفقه الواقع"، وهو عنوان مؤلف المفكر الضيف الذي تناول من خلاله مأزق الدين والتدين في عصر تميز بالتنميط الديني المنتج للإرهاب.
والتطرف والصراعات الإيديولوجية المرتبطة ب"النيوليبيرالية" أو"الليبيرالية الجديدة".
     وقدم المفكر "عبد الحسين شعبان" آراءً ووجهات نظر تناولت معظم القضايا الخلافية ، بدءا من الانقسامات الماضوية وصولا إلى الأوضاع المأزومة حاليا. في مناظرة مع الفقيه الإسلامي السيد أحمد الحسني البغدادي عكست هموم الأمة هموم الأمة بعيدا عن الإنتصار للرأي والانحياز للذات. مع معالجة جريئة للصراع القائم بين دعاة التحديث والمدافعين عن نموذج تراثي عجز عن التجاوب مع معطيات العصر وقضياه الكبرى، من مثل: الديموقراطية، التنمية، الإصلاح، الثورة التكنولوجية. وهي القضايا التي اعتبرت محل خلاف بين الحداثيين والفقهاء الدينيين. خلاف شكل لسنين عدة مصدر حرب مفتوحة أمام المفكر الحداثي والفقيه الديني.
     وهذا ما جعل من مؤلف المفكر "عبد الحسين شعبان"، مقاربة حداثية عكست الوجه المنير للحداثي وللفقيه أيضا. لنستشف نحن أن اللقاء بين التراث والحداثة ممكن، متى كانت الغاية واحدة، وهي الإصلاح والالتحاق بالركب الحضاري، وتنزيل قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان عوض الارتكان إلى الطوباوية والانغلاق على الذات، مما ساهم في تكريس ثقافة التقليد وحالة الجمود
الفكري.

     ولأن رهان المجلس الدولي للحوار الديني والإنساني، ربط جسور المحبة والإخاء مع الأخر، عبر الحوار الداخلي أولا، فما كان لنا أن نتجاوز هذا الإشكال الذي يعتبر من معيقات تحقق نهضة نجاري بها هذا الانفجار المعرفي والتكنولوجي الذي يعتبر من
مقومات التحضر والتقدم. لهذا سعدنا باستضافة المفكر/البروفيسور "عبد الحسين شعبان" : أولا، احتفالا بإنتاجه الفكري المميز.
وثانيا، للاستفادة من تجربته الحداثية التي شاكست الفقيه والفقه ليس جرأة على الدين، بقدر ما هي جرأة فكرية تهدف التجديد من داخل التراث والفقه الدينين.
     وقد حظيت هذه الجلسة باهتمام وسائل الإعلام الدولية، باعتبارها خطوة بناءة لوقوفها عند مقاربة حداثية وموضوعية لموضوع من الصعب الحياد فيه. كما حضر الجلسة نخبة هامة من المفكرين ورجال الدين والديبلوماسيين وعددا من الجالية العربية وممثلي التنوع الديني والثقافي بالعاصمة أوسلو، إلى جانب مشاركة الدكتورة بشرى اقليش، رئيسة المنتدى المغربي لتحالف الحضارات وحوار الديانات ورئيسة المجلس الدولي للحوار الديني والإنساني فرع
المغرب. وقد أغنى الحضور الكريم والمتدخلين الجلسة بمداخلات وأسئلة تمحورت حول:
التراث والحداثة، وآليات قراءة النص الديني القرآني، قراءة حداثية تجعل منه نصا محاورا لاحتياجاتنا، إلى جانب آليات بناء وعي خلاق قادر على عقلنة الظواهر الدينية.
وقد أبدع ضيف المجلس الكريم استنادا إلى موسوعيته المعهودة وتحليله الفينومينولوجي، سواء على مستوى الطرح أو على مستوى التفاعل مع الأسئلة والإشكاليات المطروحة.
وقد واكب حضور البروفيسور عبد الحسين شعبان إلى أوسلو، أنشطة عدة قام بها رفقة الأمين العام للمجلس، شملت لقاءات وحوارات مع أبرز نشطاء الحوار وعبر منظمات عدة تنشط لأجل تنزيل قيم السلم والتعايش والعالم يراهن على المشترك الإنساني لأجل تجاوز
واقع الحروب والصراعات.
     ومن ضمن أبرز اللقاءات، كان لقاء السيد نائب رئيس بلدية أوسلو، الذي أكد بدوره نجاح المدينة والنرويج عموما في احتواء كل الاختلافات الدينية والثقافية، ما عزز قيم السلم والتعايش. الأمر ذاته أكده الفاعلون في المجال من مثل أعضاء مركز التنوع الديني والثقافي بمدينة Drammen وأيضا مدير مركز السلام السلام الدولي.
وإيمانا منه بأهمية المؤسسات الدينية في إنجاح مبادرات السلم والتعايش، حرص السيد الأمين العام للمجلس على إغناء هذه الجولات القيمة، بزيارات لأبرز المؤسسات الدينية بأوسلو:(مساجد،كنائس،دور عبادة...)،إيمانا منه بدورها وأهميتها في نشر الإعتدال
والمفاهيم الإنسانية النبيلة الكفيلة بسد فجوات الصراع.
وقد اختتمت هذه الجولات الإنسانية، بزيارة إلى متحف نوبل للسلام بأوسلو، الذي يضم قاعة خاصة بالشخصيات المؤثرة الحاصلة على جوائز نوبل للسلام.وهنا كانت وقفة إنسانية استشعر فيها الجميع أهمية شيوع ثقافة السلم والسلام ودورها في صون كرامة الإنسان
وقيمته.
     وتأتي دائما هذه الأنشطة في إطار فلسفة المجلس القائمة على المساهمة في تدبير الإختلافات عبر الانفتاح على كل ما يساعد على تنزيل القيم الإنسانية إلى الواقع باعتبارها مطلبا كونيا والعالم يعيش على إيقاع الحروب والتناحرات الإيديولوجية.

 
 
 
 
 

35

الرابطة  العربية للقانون الدولي تدعو المجتمع الدولي لتحمل مسؤوليته بشان العدوان على غزة

 

عبد الحسين شعبان

8 اغسطس / آب 2022
أدانت الرابطة العربية للقانون الدولي العدوان "الإسرائيلي" على غزة والذي أودى بحياة نحو 50 شهيدا وأكثر من 350 جريحا من المدنيين الأبرياء.
وناشد الأمين العام للرابطة المفكر والاكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان في اتصال بـ(المستقلة) المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته لوقف العدوان واستخدام جميع الوسائل المشروعة التي يتيحها القانون الدولي لمعاقبة "إسرائيل".
وقال شعبان وهو احد دعاة اللّاعنف في العالم العربي: أن هذا العدوان السافر هو انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة ولاسيّما للسلم والأمن الدوليين، وهو تأكيد جديد على أن إسرائيل هي بؤرة للحرب والعدوان منذ تأسيسها ولحدّ اليوم، حيث تقوم بمحاصرة غزة منذ العام 2007، كما أنها متهمة بارتكاب إبادة وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب ، خلال عدوانها المتكرر في نهاية العام 2008، وبداية العام 2009 والعام 2012 والعام 2014 وسلسلة أعمال عدوانية آخرها العدوان الحالي 2022.
وطالب شعبان باسم الرابطة العربية للقانون الدولي، وباسم آلاف الحقوقيين العرب، وحقوقيو البحر المتوسط، المجتمع الدولي بتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وعلى ارض وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة القابلة للحياة، وتعويضه عمّا لحقه من غبن وأضرار خلال الـ100 عام التي تسبّبت في مأساته منذ إقرار عصبة الأمم انتداب بريطانيا على فلسطين (1922) .
وفي سؤال لـ(المستقلة) عن توجه الرابطة للقيام بفعاليات لنصرة الشعب الفلسطيني، قال شعبان إننا نعمل مع العديد من المنظمات الحقوقية الدولية لإعلاء شأن التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وإدانة "إسرائيل" وعزلها في المحافل الحقوقية والأكاديمية وفي إطارات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان.
كما أشار الى أن الرابطة سبق لها وأن وجهت رسالة الى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش .
جدير بالذكر أن الرابطة العربية للقانون الدولي الإنساني تضم نخبة متميزة من رجال الفكر الحقوقيين ، وأسسّت قبل عامين ونيّف وتنوي عقد مؤتمرها نهاية العام الجاري.


36

فاطمة أحمد إبراهيم وشيوعية الوجدان

عبد الحسين شعبان


أتذكر أول لقاء لي مع فاطمة أحمد إبراهيم، حين وصلتْ إلى لندن لإجراء عملية بعد سنوات من الاحتجاز والاعتقال، وحجب الحقوق المدنية والسياسية، وكان شعوري أنني أعرفها منذ زمن طويل، فقد تابعت نشاطها بعد استشهاد زوجها الشفيع أحمد الشيخ، عبر عدد من الصديقات والأصدقاء بينهم فتحية زوجة محمد إبراهيم نقد، الذي أصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوداني بعد إعدام زعيمه عبد الخالق محجوب ورفاقه، إثر فشل انقلاب هاشم العطا، وكذلك من صديقي وجاري حيدر الأبجر والأصدقاء الحسن أبا سعيد وعبد الوهاب سنادة ومحمد الأمين وعبد السلام نور الدين وناهد (حمزة) وكمال عبد الكريم الميرغني وفتحي الفضل أمين عام اتحاد الطلاب العالمي وآخرين، وهؤلاء جميعهم كانوا زملائي خلال دراستي للدكتوراه في براغ.
وكنا قد نظمنا أنشطة تضامنية مع الحزب الشيوعي السوداني بعد لجوء الرئيس الأسبق محمد جعفر النميري إلى إعدام قادة حركة الانقلاب، بمن فيهم قادة الحزب، وشنه حملة شعواء ضد الشيوعية، بما فيها إعدام الشفيع أحمد الشيخ زوج فاطمة أحمد إبراهيم، وهو مناضل عمالي معروف وكان رئيساً للاتحاد العمالي في السودان ونائباً لرئيس اتحاد العمال العالمي (براغ)، وكان صديقنا المناضل العمالي قاسم أمين الذي نناديه “عمك قاسم” كثيراً ما يحدثنا عن الشفيع صديق عمره ورفيقه.
وكانت أول فعالية للجنة التضامن التي تأسست إثر المجازر ضد الشيوعيين السودانيين عقد اجتماع حاشد في براغ، كان لي شرف تمثيل العراقيين فيه، واجتماعين تضامنيين في مدينة برنو(مورافيا) وبراتسلافا (عاصمة سلوفاكيا)، شارك فيها كمال عبد الكريم الميرغني، وكاتب السطور في إلقاء محاضرتين حول أهمية التضامن ودوره في وقف القمع ضد الحركة الشيوعية.
لم يكن مسموحاً لفاطمة إبراهيم مغادرة البلاد، فقد وضعت قيد الإقامة الجبرية لمدة عامين ونصف العام، كما تعرضت للاعتقال أكثر من مرة، بل إنها كانت ضيفاً دائما على المعتقل. وقال عنها الرئيس الأسبق محمد جعفر النميري في حينه، تعبيراً عن نهج الحقد والانتقام بعد اعتقالها “لقد تم اعتقال هذه المرأة أم اللسان الطويل والتي هاجمتني وشتمتني”. ووعد بتقديمها إلى “محكمة طوارئ عسكرية ليقذفوا بها في السجن إلى مدى الحياة، إلى أن تموت”.

المحامي أبو جديري

حين وصل المحامي الطيب أبو جديري التقيته مرتين، الأولى مع مهدي الحافظ في اتحاد الطلاب العالمي، واستمعنا إلى روايته عن حركة هاشم العطا وتداعياتها، والثانية مع فتحية التي كانت تسأله باستمرار عن فاطمة، بعد ذلك الصيف الملتهب الذي شهد اعتقالات وإعدامات في السودان. فروى لنا محاولة استدراجها من جانب النميري وجلاوزته، لإضعاف موقفها بالتأثير في صمود زوجها، وكيف واجهت ذلك ببطولة نادرة، وكنت قد سألتها حين التقيتها بعد عقدين من الزمن، عن قصتها المثيرة مع النميري، وقد روت جزءا منها في ندوة عن التعذيب، كنا قد دعينا إليها في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي كنت أترأسها في لندن 1992. فخلال تعذيب الشفيع في معسكر الشجرة، تم إخطارها بالذهاب إلى المعسكر هي وولدها أحمد لتطلب من النميري إيقاف تعذيبه ومنع إعدامه، وكان الغرض واضحاً وهو التنكيل بها وبابنها أمام الشفيع حتى ينهار، لأن التعذيب لم يهده، بل واجهه بشجاعة منقطعة النظير. وكان جوابها “الشفيع لم يرتكب جرماً، ولم يعرف الخيانة طيلة حياته، وأخطِروا الديكتاتور السفاح نميري أنني لن أستجديه لو قطع الشفيع إرباً أمامي، ولو قطعني إرباً، سأبصق بوجهه قبل أن يبدأ بتقطيعي، وخيرٌ للشفيع أن يموت مقطوع الرأس من أن يعيش وهو منكس الرأس”.
وقالت في سردية لها بعد أن روت ما حصل “لقد كان قلبي يقطر دماً”، وواصلتْ حديثها: لقد جاءت عربة فيها جنود لاعتقالي، فأخذتُ أهتف ضد القتلة المجرمين، لأنها أدركت بسليقتها الثورية أنهم نفذوا فعلتهم النكراء وأعدموا الشفيع، فاقتادوها إلى مركز شرطة أم درمان، ثم اتخذ قرار بحبسها في منزلها (إقامة جبرية) مثلما حصل مع نساء الشهداء الآخرين.
وبالعودة إلى أبو جديري فقد عُثر، حين إلقاء القبض على عبد الخالق محجوب، على ورقة بأسماء الوزراء الذين اختارتهم حركة الانقلاب، وبقي وزير العدل شاغراً، فكتب عبد الخالق محجوب بخط يده: يُسأل أبو جديري. فكان ذلك كافياً للبحث عنه بهدف اعتقاله. فاختفى عن الأنظار حتى تمكن من الهرب إلى إحدى الدول الإفريقية، ومنها إلى براغ. وحين التقيت فاطمة إبراهيم بعد سنوات دخلت معها في التفاصيل، وكأننا في تواصل مستمر انقطع لسبب طارئ، وسألتها عن اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، الذي أصبحتْ رئيسة له بعد اجتماع مانشستر عام 1991. وقد أعجبت بتحليلاتها واستنتاجاتها واعتدالها، خصوصاً أن الحركة الشيوعية العالمية كانت في حالة انحسار وتراجع، بل تقهقر، وجئنا على أزمتنا الخاصة والعامة، وبيروقراطية المنظمات الدولية، التي أطلقنا عليها “ديمقراطية” وتبعيتها وازدواجية معاييرها أحياناً، وفساد بعض حواشيها، وعدم تقديرها لواقع بلداننا، وتلك مسألة شملت الطلبة والشبيبة والمرأة واتحاد الصحافيين العالمي ومجلس السلم العالمي وغيرها.

عائلة دينية

أخبرتني فاطمة أنها تنتسب إلى عائلة دينية، فجدها لوالدها كان قاضياً في عهد المهدي قبل الاستعمار، وجدها لأمها كان نائبا له، أما والدها فكان متعلماً، ونشأت في بيت يرعى العمل والعلم. وأخبرتني فاطمة أن جدها لأمها قام بخطوة جريئة، حين أدخل أمها وأخواتها في مدرسة البنين الوحيدة للبنات في السودان التي كان مديرها، ثم ألحقهن بمدرسة الإرسالية الإنكليزية الوسطى للبنات في مدينة الخرطوم، وهكذا أصبحت والدتها أول امرأة سودانية تتحدث الإنكليزية.
وكنت قد أعلمتها أنني أيضاً أنتسب إلى عائلة دينية كذلك، لها موقعها في حضرة الإمام علي في النجف، وأن الكثير من أبناء العوائل الدينية انخرطوا في التيار اليساري، وكان الكثير منهم يشاركون في المناسبات الدينية، خصوصاً في عاشوراء حيث تقام المواكب الحسينية، إضافة إلى ميلاد النبي ووفاته وغيرها من المناسبات، نظراً لرمزيتها، وذلك في فترة الأربعينيات والخمسينيات في نوع من المصالحة مع المزاج الشعبي، وأشارت من جانبها إلى أن الكثير من القيادات الشيوعية السودانية كانت تؤدي الفرائض الدينية، وهو ما عزز من تغلغل الحزب الشيوعي السوداني في الأوساط الشعبية الكادحة.

ارتباط روحي

وسألتها متى ارتبطت بالشفيع؟ فقالت في عام 1966 وأنجبت منه ولداً وحيداً “أحمد” وقد أُعدم زوجها بعد خمسة أعوام فقط. وقد أقسمَتْ ألا يدخل عليها رجل من بعده. وعن زوجها قالت إنه سجن في جميع العهود: في عهد الانتداب البريطاني، وفي زمن الجنرال عبود، ثم أعدم في ظل نظام جعفر النميري. وكانت فاطمة إبراهيم قد انضمت إلى الحزب الشيوعي السوداني عام 1954 وأصبحت بعد فترة عضواً في اللجنة المركزية، كما ترأست الاتحاد النسائي عام 1956-1957 وأصدرت مجلة باسم “صوت المرأة” التي رأست تحريرها.

أول برلمانية في الشرق الأوسط

تُعتبر فاطمة إبراهيم أول سيدة تُنتخب عضوا في البرلمان بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1964، حيث جرت الانتخابات في مايو/أيار 1965 وبفضل جهودها وجهود الحركة النسائية واليسارية نالت المرأة السودانية بعض الحقوق منها، الحق في الانتساب للقوات المسلحة وجهاز الشرطة وممارسة القضاء والأعمال التجارية، كما تم إلغاء ما يسمى “بيت الطاعة” الذي هو دليل انصياع وتسيد.
تمتاز فاطمة بحفظ الشعر، وهي مستعدة خلال جلسات صداقية لمطارحات شعرية لأنها تحفظ الكثير منه، وهو ما حصل في منزلنا في لندن. وبالمناسبة فهي شقيقة الشاعر المعروف صلاح أحمد، الذي ترك موقعه سفيرا في الجزائر ليعقد مؤتمراً صحافياً يندد فيه بسياسات النميري واضطهاده للشيوعيين، وانتقل على إثرها إلى باريس، وقد توفي في عام 1993. وكانت فاطمة شديدة الحزن على وفاته، مستقبلة عدداً من الزوار الذين وفدوا لمواساتها. وهي تكبره بعام واحد، حيث ولدت عام 1932 وتوفيت عام 2017.
كانت فاطمة قد تفرغت في التسعينيات للعمل النسائي والحقوقي، وكرست جل جهودها لهذا الميدان، وقد قررت العودة إلى الخرطوم في عام 2006 بُعيد الاتفاق الذي تم بين الحكومة السودانية برئاسة عمر حسن البشير، والتجمع الوطني السوداني المعارض، ولكن الأمور لم تكن سهلة فقد تصدع الاتفاق بعد فترة وجيزة من التوقيع عليه، وعادت الأوضاع إلى مواقعها القديمة، حيث استمر نهج الاستبداد السياسي والديني الذي شرعه النميري قبل الانقلاب عليه، وواصلته الحركة الانقلابية التي كان منظرها حسن الترابي وجنرالها عمر البشير.
كنت قد دعوتها أكثر من مرة لحضور فعاليات المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، وكان أحدها في عام 1992 وهو عن واقع التعذيب في العالم العربي، تحدث فيه خمس شخصيات، بينهم سيدتان الأولى فاطمة أحمد إبراهيم والثانية فاطمة الطالقاني “عراقية” التي أفصحت للمرة الأولى عن جزء مما تعرضت له من تعذيب، وكانت الطالقاني قد تعرضت للتعذيب في مطلع الثمانينيات في بغداد، وقصتها من أشد قصص التعذيب وأعقدها التي سمعتها في حياتي، وكم بودي لو تمكنتْ من تدوينها كاملة. وفي مكان آخر من هذه السرديات كنت قد تناولت كيف تأثرت فاطمة أحمد إبراهيم بوفاة الصديق الدكتور عبد الوهاب سنادة، حين ألقيت كلمتي وجئت على ذكر تلك الفترة الخاصة من النضال.
نالت فاطمة إبراهيم في عام 1993 جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومنحت دكتوراه فخرية من جامعة كاليفورنيا 1976، كما حازت جائزة مؤسسة ابن رشد (ألمانيا) وكان للصديق حامد فضل الله (السودان) ولي شرف ترشيحها لنيل الجائزة، بصفتنا أعضاء في لجنة التحكيم، وإن كانت قد حصلت عليها في دورة لاحقة.

كاتب عراقي

37
كان يأمل العودة إلى بغداد، لكن مسار الأحداث اتجه إلى المزيد من التضييق على الحركة الشيوعية واليسارية، بل إن السبل ضاقت حتى على العديد من قيادات وكوادر  الحزب الحاكم، الذي خسر ثلث قياداته والعديد من كوادره المعروفة، وذلك بعد أن استفرد صدام حسين بالسلطة، وإثر مجزرة "قاعة الخلد" في العام 1979 . وكان أحد مجسّاته هو الموقف من حركة خان النص العام 1977 التي تم قمعها بشدّة وزاد الأمر بتعميم الإرهاب، وأتذكّر بأنني استلمت منه أكثر من رسالة قبل مغادرتي إلى العراق ينتقد فيها موقفنا، وهو الموقف الخاطئ الذي تورّطنا به، وكان هناك في صفوفنا من هو متحمّس أكثر من الحكومة في قمع الحركة الدينية الاحتجاجية.
حين حصلت الحرب العراقية – الإيرانية، كان موقفه ضدّ اندلاع هذه الحرب ولم يعوّل على استمرارها للإطاحة بالنظام القائم كما وقف ضدّ أي محاولات لاختراق الأراضي العراقية. وأتذكّر رسالة وصلتني منه تعليقاً على كتابي "النزاع العراقي – الإيراني" (1981 ) مفادها: أن هذه الحرب لا مصلحة لنا فيها والمتحاربين من قيادات البلدين كلاهما ضدّنا ولكن الضحايا من الطرفين هم الذين يعنوننا. وحين انتقلت الحرب إلى الأراضي العراقية، كان بصراحة ضدّ المشروع الحربي والسياسي الإيراني، واعتبره يمثّل خطراً على المستقبل.
ومثلما كان ضدّ غزو الكويت العام 1990 فلم يكن موقفه مع غزو العراق من جانب الولايات المتحدة وقوات التحالف، وقد عبّر عن ذلك بأشكال مختلفة منها في الندوة التي تم تنظيمها لي في استوكهولم (أيلول/ سبتمبر 1990 ). وبقدر ما كان قريباً من التوجهات السياسية لحركة المنبر الشيوعي حينها، لكنه كان يعتبر أن العديد من قياداته لا تختلف عن القيادات التقليدية الأخرى، وإن كان بعضها متقدماً فكرياً واجتماعياً وثقافياً، لكنها بالمعنى السياسي من ذات القماشة ومن مصنع واحد، لذلك شكّك بنجاحها على الرغم من إعجابه بما كان يصدر عنها من مواقف حرّكت الساكن والمسكوت عنه وأثارت جدلاً واسعاً، كما كان حساساً إزاء الانتهاكات والتجاوزات . وكان يناقشني على العديد مما أكتبه من أعمدة كانت هي الأخرى ليست متفائلة بالمستقبل وتضع علامات استفهام كثيرة.
خلال زيارتي تلك للسويد دعاني وثلاثة أو أربعة أصدقاء كما أتذكر بينهم جورج فرانسيس ورياض البلداوي وصباح بوتاني إلى سفرة بالباخرة لثلاثة أيام من ستوكهولم إلى هلسنكي "فيلندا"، وخلال تلك السفرة الممتعة لم يترك قضية إلّا وناقشها معي بما فيها نقد بعض توجهاتنا ومواقفنا، وقد التقيت بتلك الرحلة صديق العائلة الحميم عبد الغني الخليلي الذي أصرّ عليّ أن يضيفني لثلاثة أيام في منزله، وقد استمعت إلى معاناته، حيث تم تهجيره وعائلته إلى إيران بحجّة التبعية الإيرانية ، وقد جئت على ذكر ذلك في كتابي الموسوم "من هو العراقي؟"، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 2002 ، حيث نشرت شهادته، كما شكا لي مرارته من بعض الأصدقاء بمن فيهم المقربين، وقد بكى أمامي أكثر من مرّة، فالخليلي عاطفي جداً وحساس جداً وصادق جداً، وأتذكر أنه جاء إلى براغ في النصف الأول من السبعينيات، لكنه ظلّ لثلاثة أيام يبكي ثم قطع سفرته وعاد إلى بغداد ولم تنجح مساعينا جعفر ياسين وأنا من ثنيه عن العودة ومحاولتنا تهيئة الظرف المناسب لإخراجه من الواقع الذي كان ضاغطاً عليه. والتقينا هو ولؤي وأنا أكثر من مرّة، وبصحبة آخرين أتذكّر منهم الروائي إبراهيم أحمد وصباح بوتاني الذي أبلغني أن أحد أركان السفارة العراقية الذي ترك العمل منذ نحو 4 سنوات يودّ اللقاء بي وهو صديق قديم وعرفت أنه الصديق عبد الأمير أبو طبيخ الذي التقيت به بالفعل بعد استشارة لؤي أبو التمّن، وكان شديد الحذر خشية من معرفة النظام مكان سكنه أو حركته، وبالمناسبة فأبو طبيخ أصبح سفيراً للعراق في تركيا بعد الإحتلال.
لؤي والفايسبوك
حين برع لؤي في الكتابة على الفايسبوك، كان يقول لي تصوّر بعد ساعة هناك من يردّ عليّ وكأن هناك من تخصّص بالترصّد، فقلت له لا تستجيب للردّ والردّ على الردّ لأنك ستكون الخاسر الأكبر، فسوف يغلبك عشرة أو خمسة عشر، حتى وإن كان رأيك سديداً، لكنّهم سيردّون عليك ﺑ 20 مرّة أخرى وهكذا حتى تتعب وتستسلم للأمر لأنه ليس ذا جدوى. قل ما تريد ودعهم يقولون ما يريدون دون أن تعطيهم الفرصة للاستمتاع بإيذائك وعامل المسألة بالإهمال وعدم الاكتراث. ولعلّ ذلك قبل أن تنشأ الجيوش الإلكترونية المدفوعة الأجر، وكان يقول لي أفعل ذلك، لكنني أريد أن أوضح أحياناً، فأستجيب ولكن بعدها أندم. ثم ردّد عليّ قولاً للإمام علي " ما جادلت عالماً إلّا وغلبته وما جادلت جاهلاً إلّا وغلبني".

احترام النفس
كلما يرد ذكر لؤي أبو التمّن على لسان من يعرفه حتى وإن كان لا يحبّه أو ضدّه، لكنه سيضطرّ لإبداء الإحترام له، لأنه شخص محترم، وفي تعزية للصديق محمد دبدب بوفاته قال أنه: إنسان محترم ونظيف وعقلاني، وهو ما كنت أسمعه عنه من عدد من البعثيين والقوميين، ناهيك عن الشيوعيين حتى وإن اختلفوا معه، وقد سمعت من كريم الملّا وآخرين الكثير من الإشادات به وكنت قد عاتبت كريم الملّا في براغ في أواسط السبعينيات كيف سمحوا لحسن المطيري وهم يعرفون أنه جلاداً أن يجلس معنا وكيف لم يتدخّلوا لإطلاق سراح لؤي أبو التمّن إذا كانوا يزعمون أنهم نقابة، حتى وإن اختلفنا سياسياً أو في المواقف، وكان جوابه أن المطير منسّب من القيادة ونحن حزبيون نلتزم بما تقرّره القيادة حتى وإن كان لنا رأي آخر، فإننا نحرص على عدم إظهاره، ونظنّ أن مدرستكم هي الأساس في ذلك، في محاولة الإشارة إلى كتاب لينين: ما العمل؟ وهو الذي يُعنى بالتنظيم وقد صدر في العام 1903. ويقصد بذلك الضبط الحزبي وخضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا والتنفيذ اللّاشرطي للتعليمات حتى وإن كان للرفيق رأي آخر.
 وهو الأمر الذي استعدته أكثر من مرّة بعد الاحتلال العام 2003 مع الصديق محمد دبدب، سواء في بغداد أو عمّان، وكان دبدب كلما جئنا على ذكر لؤي أبو التمّن أو حسين سلطان كان يشيد بهما وبمواقفهما ويأسف لما حصل من تصدّع في العلاقات، ولكن كما يقول المثل العربي الشهير: "سبق السيف العذل"  كما يقال، فالمحذور قد حصل، واستمرّت محنة العراق من الدكتاتورية إلى الاحتلال وتوابعه.

حزب أبو التمّن
بعد الاحتلال عاد لؤي إلى العراق والتقى العديد من الأصدقاء القدامى، وكانت موجة تأسيس للأحزاب الجديدة قد سادت بما فيها لأسماء أحزاب قديمة، وقد بادرت بعض الشخصيات إحياء ذلك على الرغم من اختلاف الظروف، فقد شكّل نصير الجادرجي حزباً باسم "الحزب الوطني الديمقراطي"، حيث كان والده كامل الجادرجي رئيساً للحزب منذ تأسيسه العام 1946 ، وشكّل مجيد الحاج حمود حزباً آخر بالاسم ذاته أسماه الحزب الوطني الديمقراطي،  وأضاف له الأول ، وشكّل السيد مقتدى الصدر تيّاراً استند فيه على إرث والده السيد محمد صادق الصدر، وأعلن عمّار الحكيم لاحقاً عن تيار باسم "الحكمة" بعد أن تولّى مسؤولية المجلس الأعلى خلفاً لوالده السيد عبد العزيز وعمّه السيد محمد باقر الحكيم ، كما أصبح دور محمد رضا السيستاني نجل المرجع الكبير السيد علي السيستاني كبيراً، بل أن له القول الفصل في العديد من القرارات الهامة التي تتعلّق بتشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة، وكذلك في بعض القرارات الأخرى.
ولم يخفِ الحزب الديمقراطي الكردستاني موقع العائلة البارزانية التي يقف على رأسها الزعيم الكبير مصطفى البارزاني في تأسيس وقيادة الحزب كجزء تاريخي من الحركة الوطنية الكردستانية، فاستمرّ مسعود رئيساً للحزب وأصبح رئيساً للإقليم ومن بعده نجيرفان البارزاني إبن أخيه إدريس كما أصبح مسرور نجل مسعود رئيساً للوزراء بعد أن كان رئيساً لجهاز المخابرات. ليس هذا فحسب، بل إن عائلة الطالباني التي كانت تنتقد الحزب الديمقراطي الكردستاني لعشائريّته اتجهت هي الأخرى إلى تكريس زعامة العائلة، فأصبح دور هيرو خانم بارزاً، إضافة إلى نجلي جلال الطالباني الرئيس السابق وكذلك بقية أفراد العائلة، خصوصاً وقد تعزّز دور العشيرة على مستوى الدولة وفي مواقفها في ظلّ نظام المحاصصة الطائفي – الإثني.
في هذه الأجواء هناك من جاء يفاتح لؤي أبو التمّن ليُنشئ حزباً باسم "حزب الوطني العراقي" الذي ترأسه جدّه محمد جعفر أبو التمّن العام 1922 بعد أن قاد جمعية حرس الإستقلال في العام 1919 وساهم في ثورة العشرين، وبعد فشلها هرب إلى إيران، ولكنه عاد إلى العراق بعد تأسيس الدولة العراقية وتولي الملك فيصل الأول العرش، كما تعاون جدّه مع ياسين الهاشمي وناجي السويدي في تأسيس حزب الإخاء الوطني العام 1930 .
كان كلّ من يأتيه يسمع منه ويحاول مناقشته ولم يستطع أحد إقناعه للإنخراط في العملية السياسية القائمة على المحاصصة، بل كان يردّد مع نفسه كما أخبرني عبر الهاتف مثلاً مشهوراً قائلاً "عرب وين طنبورة وين"، وخاطبني:  فهؤلاء يريدون بعد رحلة حافلة بالتجريب والشك والحداثة والنقد أن أعود القهقري لأقبل بكوني وريثاً لحزب جدّي الذي لم أره أصلاً، فقد توفّي وأنا في المهد. وتاريخه غير تاريخي و قناعاته غير قناعاتي، على الرغم من إعجابي بآرائه وبالدور الذي لعبه، لكن الظروف تغيّرت والامكانات اختلفت وطبيعة الصراع تعقّدت.
ولذلك رفض جميع الدعوات، تلك التي حاولت إقناعه بدخول العملية السياسية أو تشكيل حزب أو العودة للعمل السياسي أصلاً، فقد تخلّى عنه طواعية، حتى وإن بقي يتابع ويحلّل ويُبدي رأياً، لكنه خارج الرأي المسلكي السياسي الضيّق.
 عاد من رحلته إلى بغداد أكثر همّاً وشعوراً بالإحباط والقنوط، وظلّ على هذه الحال ولم يمتلك أي أوهام حول تقدم الوضع أو حدوث انعطافات في الحياة السياسية، خصوصاً تردّي الأوضاع في ظلّ دستور قائم على المكونات.
وأخبرني أن أكثر من دعوة وصلته للترشّح للانتخابات، لكنه رفض قائلاً كيف أقبل بالاحتلال الأمريكي وبدستور قائم على التوافق الطائفي – الإثني وبمعاهدة تفرض شروطاً على العراق بالهيمنة الأمريكية، وذلك منذ مناقشة موضوع الانسحاب الأمريكي من العراق. وقد وقف بشدّة ضدّ حملة التطهير الطائفي في العام 2006 إثر تفجير مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي، وكانت الطائفية في كلّ حياته آخر همٍّ له، فقد ظلّ حالماً بالحريّة والعدالة الأساس في مواطنة عادلة ومتكافئة.
ثلاث مواصفات
ثلاث سمات يمكن أن أختتم بها هذه السردية الاستعادية على الرغم من وهن الذاكرة أحياناً:
 أولها – وطنيّته الأصيلة، فعلى الرغم من كلّ ما حصل له لم ينس دروسه الأولى في العمل السياسي، وهو حب الوطن والتضحية في سبيله، وما الانتماء السياسي سوى السبيل إلى ذلك، واستناداً إلى ما تقدم لم تدفعه عذاباته وما تعرّض له في قصر النهاية إلى التعاون مع قوى لا تضمر الخير لوطنه مهما كانت ادعاءاتها، وظلّ يقظاً وحذراً إزاء تلك المحاولات، سواء أيام الحرب العراقية – الإيرانية أو خلال فترة الحصار الدولي الجائر، أو عشية وبعيد احتلال العراق.
وثانيها – عروبته الطافحة، فقد تطوّع بعد نكسة حزيران / يونيو 1967 مع المقاومة الفلسطينية، وظلّ داعماً لها على الرغم من ملاحظاته حول نقاط ضعفها وتخفيض سقف نضالها . وعلى الرغم من ميله لحلول واقعية حسب توازن القوى، لكنه لم يكن مع اتفاق أوسلو الذي يعتبره لا يمثل الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل هو تنازل بالمجان عن حتى معايير الحدّ الأدنى والذي هو قرار الأمم المتحدة لعام 1947 ، والذي تجاوزته "إسرائيل" بالكامل، خصوصاً بعدوان  العام 1967 ، ولاسيّما باحتلالها القدس. ولم يكن لؤي مع بعض الأعمال التفجيرية أو الانتحارية التي تستهدف المدنيين، وكنا قد تناقشنا أكثر من مرّة حول ضررها قياساً بما تحققه، ناهيك عن خسارة جزء من الرأي العام الدولي المشوّش أساساً والملتبس في مواقفه إزاء القضية الفلسطينية.
 وثالثها – مدنيّته وإنسانيته، فقد كان حضارياً يقرّ بحق الاختلاف ويأمل في قيام دولة تحترم حقوق الأفراد والجماعات. ينعم فيها الجميع بالحرية والعدل، وهما الأساس الذي كان يحلم به، يضاف إلى ذلك سلوكه الاجتماعي المتمدّن واحترامه للآخر، وخصوصاً للمرأة، وكان من أكثر الداعيين لحقوقها وتمكينها.
ويمكنني أن أقول أن لؤي كان معتدّاً برأيه ويحاول أن يعبّر عنه في كلّ الظروف والأحوال بشجاعة واجتهاد وقناعة . لم يكن ممالئاً أو مداهناً أو باطنياً، بل على العكس من ذلك كان صريحاً وواضحاً وجريئاً أخطأ أم أصاب، وفي العديد من المرات كان يراجع نفسه ويغيّر موقفه وكثيراً ما ضحكنا على بعض مواقفنا. وبقدر ما كان يحاول تشكيل رأي خاص به ومراجعته ونقده بين حين وآخر، فإنه في الوقت نفسه كان يحترم الآخر ويحاول أن يستمع إليه ويتفاعل معه. ودائماً ما كان يردّد لا يُفسد في الودّ قضية.
وقد تعزّزت تلك القيم الوطنية والعروبية والإنسانية لديه، سواء حين كان شيوعياً أو بعدما ترك العمل السياسي وانشغل بالعمل العام، وذلك ما يؤكد معدنه الأصيل ومروءته وشهامته التي تكاد تكون إجماعاً حتى لمن يختلف معه في التوجّه والموقف. 
 

38
لؤي أبو التمّن
وتراجيديا العزلة "الذهبية"

عبد الحسين شعبان


رسم توضيحي 1 : ابراهيم أحمد، وعبد الغني الخليلي، و شعبان، ولؤي أبو التمن، وصباح بوتاني
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على حلفتين الأولى يوم السبت 5 شباط / فبراير والثانية يوم الأحد 6 شباط / فبراير 2022 . 

   أخيراً ارتاح لؤي أبو التمّن في مرقده. رحل بهدوء تام. لم يقاوم ولم يتحدَّ ولم يعاند ولم يساجل ولم يجادل ولم يناقش كما اعتاد طيلة حياته، وهو الشخصية الاجتماعية المحبوبة والمهابة والقائد الطلابي الستّيني، فقد ارتضى التعايش مع ذلك الزائر الغريب طيلة سنوات، بل أنه استضافه إلى منزله ودخل معه في حوار صامت. كان أحدهما ينظر إلى الآخر بحذر شديد وحيرة في أحيان كثيرة. لم يحصل اشتباك بينهما، سوى تلميحاً أو إشارة، إلّا أن الكلمة السحرية الأثيرة الوحيدة التي كانت تطوف في المكان متى؟ ثم متى وأخيراً متى حتى جاء كانون الثاني / يناير 2022.
كان لؤي أبو التمّن (فرات) فرض على نفسه عزلة طويلة قبل اجتياح وباء كورونا، فاتجه إلى زاوية يتأمل فيها ما يجري وقرّر الابتعاد مُلملماً بعضه إلى بعضه من كثر ما شاهد من ترّهات وزيف وسمع الكثير من اللغو والاجترار، خصوصاً وقد أصبح ذلك "الغالب الشائع"، وهو الذي كان يبحث دائماً عن "النادر الضائع".
ترك أمره إلى ذلك الضيف الذي سيقرر تلك "المتى" ويقبض الروح ويعلن الخبر، لكنه وهو في هذه الحال ظلّ معلّقاً بأحلامه الكبيرة: الحريّة والعدالة، تلك الأحلام التي هي "الحقيقة الوحيدة" التي لا تنضب ولا تنتهي أو تتوقّف، حسب المخرج الإيطالي فريدريكو فيلليني، وكان صوته يأتيني بين الفينة والأخرى، فيزيد من أحزاني. وكنت أنقطع عنه أسابيعاً أو أشهراً كي لا أسمع نبرة التأسّي والضعف الانساني حتى وإنْ كان فائقاً، لكنني لا أستطيع إلّا أن أعاود الاتصال، وكأننا كنا نتحدث قبل يوم أو يومين، فأراه متابعاً ومنشغلاً وكأننا نتواصل في حوارنا الذي لم يتوقف.
خبر مثل صاعقة
   نزل عليّ خبر رحيل أبو التمّن نزول الصاعقة. وعلى الرغم من أنني كنتُ متابعاً لأوضاعه الصحية ولعزلته، فهو لم يغادر المنزل تقريباً منذ قرابة 4 سنوات إلّا أن وقع الخبر كان صادماً. وكنّا قد اتفقنا على اللقاء في ربيع العام 2020 ، لكن اجتياح وباء الكورونا حال دون ذلك، وهكذا تغيّرت البرامج وتعطّلت الحياة الطبيعية وتبدّل كل شيء تقريباً، واتفقنا أخيراً على الصيف القادم، لكن القدر الغاشم كان أسرع منّا، وها هو يغافلنا وكأنه يتلصص على أخبارنا وما اتفقنا عليه ليسبقنا إلى حيث قرب موعد "المتى"، ليخطف أعزّ الأصدقاء وكأنه يقف لنا بالمرصاد أو كما يقول الجواهري الكبير :
      جهمٌ يقيم على مدارجنا / وعلى صدى أنفاسنا حرسا

   نعم إنه "الذئب" الذي ظلّ يترصّدنا لسنوات غير قليلة، فقد أفلح أخيراً في اقتناص فريسته الثمينة، خصوصاً حين ترجّل الفارس ، بل أنه تقدّم من ذلك الزائر الغليظ الذي يأتي مواربة ليدعوه للتفاهم بكلّ كبرياء وليصافحه وليعلن أمامه أنه اتخذ قراره ولا رجعة فيه وليس هناك من داعٍ للمخاتلة أو المراوغة، فلم يعد يحتمل ما هو قائم لكثرة ما عرِف وخبِر من تجارب ومِحن، ناهيك عن اللّاجدوى من المواجهة.
   كلّما رحل صديق أشعر أن قطعة من قلبي تُقتطع وليس من ذاكرتي وحسب، فما بالك بصديق أثير مثل لؤي أبو التمّن. ولعلّ ذلك ما كتبته سريعاً للصديق جمال صفر الذي أخبرني بعد لحظات من وفاته عن وقوع الحدث الجلل، وأراد مشاطرتي الحزن والأسى، وكم تمنّينا لبعضنا البعض حياة خالية من المكاره والأحزان، لكن ذلك سنّة الحياة، وكما ورد في القرآن الكريم "فكل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام"  (سورة الرحمن – أية 26 )، ويبقى الموت الحقيقة المطلقة التي لا مردّ لها.
صداقة العمر
   في أواخر العام 1964 تعرّفت على لؤي أبو التمّن وكنّا ما زلنا في بدايات حياتنا الجامعية، وكان الصديق الراحل صادق الحسني البغدادي (أبو وسام) رابطة التعارف بيننا، وأخبرني حينها أن لديه آراءً وانتقادات هي أقرب إلى ما كنّا نناقشه بعد عودة الحسني البغدادي من إيران التي اضطرّ الهروب إليها بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، وقد اصطحبه إلى تلك الرحلة الأثيرة الشيخ وهاب شعبان المرشد في حضرة الإمام علي وذو التاريخ الشيوعي العريق، والذي أصبح لاحقاً أحد أصدقاء لؤي أبو التمّن أيضاً، مثلما ظلّ الصديق فلاح الصكر يسأل عنه منذ أن تعرّف عليه حين جاء معزّياً باغتيال الشهيد ستار خضير العام 1969 ، وذلك خلال اللقاء به في شارع الرشيد.
   ومنذ اللقاء الأول شعرت أنني أمام مشروع صديق باهر بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، وتعمّقت علاقتي به من خلال عدد من الأصدقاء الآخرين بينهم الصديق كاظم عوفي البديري الذي كان معه في كلية التجارة ورياض محمد وفيما بعد د. رياض البلداوي وآخرين ، وكانت النيّة في تلك الفترة تتجه لإعادة تأسيس اتحاد الطلبة العام بعد ما تعرّض له من هجوم شرس من جانب انقلابيّ 8 شباط / فبراير 1963  وجماعات الحرس القومي، خصوصاً وقد تم اعتقال العديد من منتسبيه واغتيل تحت التعذيب عدد من مسؤوليه بينهم محمد الوردي وفيصل الحجاج وصاحب المرزة وآخرين.
وكان قد نشط بهذا الملف مهدي الحافظ بعد عودته سرّاً إلى بغداد من براغ في مطلع العام 1965 ، حيث تهيأت الظروف لعقد اجتماع في أواخر العام 1965 ، خصوصاً بعد إعادة توزيع القوى إثر تغييرات حصلت داخل الحزب الشيوعي، باستبدال خط آب (1964 ) بسياسة جديدة أساسها اعتبار سلطة عارف استمراراً لسلطة البعث حتى وإنْ كانت أخف وطأة من خلال بعض الخطوات الإنفراجية، ولكن من حيث احتكارها للعمل السياسي والنقابي والمهني بما فيه الصحافة وحريّة التعبير ظلّت دون تغيير يُذكر، ناهيك عن استمرار تعقيدات القضية الكردية وعدم التوصّل إلى حلّ معقول بشأنها وتجدّد القتال بين حين وآخر، وتردّي الوضع الإقتصادي بسبب الإجراءات غير المدروسة التي اتخذتها الحكومة في 14 تموز/ يوليو 1964 تحت عنوان "القرارات الاشتراكية" وقادت إلى تأميم مشاريع ومرافق وطنية حيوية بما فيها القطاع المصرفي.
 يضاف إلى ذلك التجاذبات التي تردّدت بخصوص النفط والكبريت وامتيازاتهما الجديدة وما كان يثار من لغط  في المجالس الخاصة، وهو ما سبّب ردود فعل حتى وإن بدت أقرب إلى إرهاصات، لكنها اتخذت بُعداً أوسع فيما بعد، بحيث اضطرتّ قوى من داخل جبهة الحكم القومية (الاتحاد الاشتراكي العربي) للتململ والتمايز عن الاتجاه السائد فيها، وقاد لاحقاً إلى تفكّك الاتحاد الاشتراكي نفسه وخروج قوى من داخله أكثر راديكالية.
الانتخابات الطلابية
   قاد التحرّك السياسي والطلابي بما فيه من داخل قوى قريبة من السلطة إلى إعلان الرغبة في إجراء إنتخابات عامة، وكانت تلك النفحة الليبرالية التي أطلقها الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء انعكست في إجراء "بروفات" لعدد من القطاعات منها قطاع الطلبة، فأجريت الإنتخابات في ربيع العام 1967 ، وفاز فيها اتحاد الطلبة (السرّي المحظور) بنسبة 76 % من المقاعد الإنتخابية في جامعة بغداد على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها بعض مرشّحيه، فقد انسحب ممثلوه من كليتي الحقوق والتربية الرياضية (بغداد)، كما فاز الاتحاد ﺑ 100 % في جامعة البصرة و 60 % في جامعة الموصل، وقد عكست نسبة الأصوات الهوّة الساحقة بين فوز الاتحاد الطلابي المحسوب على الحزب الشيوعي وبين واقع القوى الأخرى، وهو ما جئت عليه في مداخلتي عن د. خير الدين حسيب الموسومة: "الرياضة النفسية والمثقف الكوني والكتلة التاريخية" المنشورة في مجلة المستقبل العربي، العدد 454 كانون الأول / ديسمبر 2016.
   وقد لفت هذا الفوز الساحق إلى أن ميزان القوى على الرغم من القرب من السلطة من جانب القوى القومية ليس لصالحها، وهو ما دفع بعض الاتجاهات المتشدّدة لإلغاء الانتخابات في اليوم التالي، بل إن بعض الصحف كتبت "أن القوى الشعوبية بدأت ترفع رأسها من جديد" في إشارة إلى فوز إتحاد الطلبة في الانتخابات. وهكذا تبخّرت فكرة الانتخابات العامة والانتقال إلى الحياة النيابية وإعداد دستور دائم، حتى حصل انقلاب 17 تموز/ يوليو 1968 .
   كان لؤي في صلب النشاط الطلابي خلال وبُعيد الانتخابات الطلابية، بما فيها اللقاء الاحتفالي الذي حصل في مطعم سولاف، وكان ذلك بمثابة لقاء عام حضره عشرات من الفائزين في الانتخابات بموعد مسبق.
انشطار الحزب الشيوعي
   تكثّفت لقاءاتي مع لؤي أبو التمّن (فرات) خلال فترة الانشطار التي حصلت في الحزب الشيوعي في 17 أيلول / سبتمبر 1967 ، حيث قاد الاتجاه المتياسر الجديد عزيز الحاج وبقي الاتجاه التقليدي بقيادة عزيز محمد ، ولا أُخفي القارئ سرّاً إذا قلت أن لؤي كان يترنّح بين الإتجاهين، وهو أمر شمل الكثير من الشيوعيين وأصدقائهم ومنهم كاتب السطور الذي ظلّ موزعاً بين الاثنين، وسبق لي أن أشرت إلى ذلك أكثر من مرّة.
لقد حملت الشعارات الراديكالية جاذبية كبيرة وسط الشباب والطلاب بشكل خاص، وجمهرة الحزبيين وأصدقائهم عموماً، لاسيّما وأنها جاءت بعد هزيمة 5 حزيران / يونيو 1967 ، حيث كان النقاش في صفوفنا قائماً: هل نرفع شعار "كلّ شيء إلى الجبهة" أم "كل شيء من أجل الجبهة" والشعار الأخير رفعته القيادة المركزية للحزب الشيوعي، مشدّدة على الإطاحة بحكم عبد الرحمن محمد عارف، شقيق عبد السلام محمد عارف زميل الزعيم عبد الكريم قاسم في قيادة ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 والمشارك في انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 بقيادة حزب البعث، والذي أصبح رئيساً للجمهورية، ومن ثم قاد انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 ، وقد توفّي بعد حادث غامض بسقوط طائرته بين مدينتي القرنة والبصرة في 13 نيسان/ أبريل 1966 .
   وأتذكّر تظاهرة القيادة المركزية بمناسبة الذكرى الأولى لنكسة 5 حزيران / يونيو 1967، التي اخترقت شارع الرشيد من الميدان وحتى منطقة "المربعة" قرب مقهى البرازيلية، حيث واجهتها قوى الأمن لتفريقها واعتقلت عدداً من المتظاهرين. ورويت ذلك بشكل مفصّل في مطالعتي عن طارق الدليمي الموسومة "الصديق اللّدود" - كلّما اختلفت معه ازددت محبّة له. والمنشورة في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين، العددان 6588 و 6589 بتاريخ 18 و 19 شباط / فبراير 2020 ، حيث كانت الشعارات اليسارية في ذروتها والحناجر تصدح "باسم القيادة يسقط الحكم العسكري" و "يا فاشي شيل إيدك كل الشعب ما يريدك"، في حين كانت شعارات اللجنة المركزية تؤكد على الجبهة الوطنية الموحّدة (جبهة وطنية لا استعمار ولا رجعية) وإطلاق سراح المعتقلين وحلّ المسألة الكردية وانتهاج سياسة نفطية تعبّر عن مصالح الناس وطموحاتهم.
   وعلى الرغم من تململنا وقلقنا وتردّدنا بالاختيار بين القيادة واللجنة، إلّا أننا في نهاية المطاف وبعد أسابيع من الأخذ والردّ والشدّ والجذب حسمنا أمرنا بسبب ما تبيّن من اختيار القيادة المركزية أساليب عنفية وصبيانية  في التعامل مع الرفاق بعد اعتقالها الرفيقين زكي خيري (لنحو 20 يوماً) و بهاء الدين نوري  (الذي تمكن من الهرب بعد أن جرحت إحدى يديه)، إضافة إلى مبالغات وضجيج إعلامي، بحيث ارتفعت الدعوات للانطلاق من الاهوار للزحف على المدن في خطة أقل ما يقال عنها أنها غير واقعية ولم تأخذ بنظر الاعتبار الظروف والأوضاع السائدة وتوازن القوى، دون أن يعني ذلك التقليل من البسالة والجرأة التي اتسمت بها المجموعات التي كلّفت بذلك.


قيادات اتحاد الطلبة
   انحاز التنظيم الطلابي بأغلبيته الساحقة إلى جانب حزب القيادة المركزية، ولم يبق في صف اللجنة المركزية أو قريب منها أكثر من 10 من الكوادر الطلابية، في حين كان هناك نحو 80 كادراً مع القيادة، إضافة إلى مئات من الأعضاء والأصدقاء، ولكن بالتدرّج بدأ نفوذنا يتعزّز، فتوافد علينا العديد من الرفاق والأصدقاء، بينهم من كان في القيادة المركزية واتحاد الطلبة الموازي، وهكذا بدأ جسم اتحاد الطلبة بالتحسّن والتعافي، علماً بأننا حاولنا لؤي وكاتب السطور الابقاء على الاتحاد موحّداً وقبول كون جماعة القيادة المركزية تمثّل "الأغلبية"، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، خصوصاً وبعض الرؤوس كانت حامية.
   عملنا لاحقاً وبعد أن أصبح الأمر الواقع "واقعاً" لؤي وأنا  في مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة الذي ضمّ حسن أسد الشمري ( السكرتير العام وكان محكوماً لعشر سنوات غيابياً، وهو من خانقين ودرس في نفس مرحلتنا في كلية التربية الرياضية، وقد انتخب قبل الانشقاق وبعد الانتخابات الطلابية مباشرة، علماً بأن الشمري هو الآخر ظلّ متململاً لبضعة أسابيع، فعمل مع الرفيق ابراهيم علاوي / مجموعة الكادر ، ولكنه عاد إلى الحزب في حين توجّه ابراهيم علاوي مع تنظيماته إلى القيادة المركزية).
 ومن القيادات الطلابية التي برزت بعد انشطار الحزب آنذاك سعد الطائي  وصلاح زنكنة ويوسف مجيد وحميد برتو  وسعدي السعيد وفايز عبد الرزاق الصكر وطه صفوك وكانت بساتينهم في الراشدية مأوى لنا ولاجتماعاتنا، خصوصاً الموسّعة،  وكان من النشطاء البارزين مهدي السعيد ورقيّة الخطيب (تزوجت من الكادر الحزبي عزيز حميد وبعد أشهر اعتُقل زوجها وقتل تحت التعذيب في قصر النهاية 1970 ) وشقيقها حمّاد الخطيب وبخشان زنكنة (أم بهار) وناظم الجواهري وزهير جعفر ويحيى علوان ومحمد الأسدي وعلي العاني ومحمود شكارة وكاظم عوفي ومحمد حسن السلامي وشاكر الدجيلي (الذي أصبح عضواً في اللجنة المركزية واختفى قسرياً العام 2004 ) وفلاح وصلاح الصكر (شقيقا الشهيد ستّار خضيّر الذي اغتيل في حزيران 1969 ) ومحمد الشبيبي ومالك حسن وجمال الشمّري ولفتة بنيّان وشيروان جميل بالطة (استشهد العام 1973 مع 12 كادراً شيوعياً واتهم عيسى سوار من الحزب الديمقراطي الكردستاني باغتيالهم بعد أن كانوا عائدين من الدراسة وعبروا الحدود السورية – العراقية من القامشلي ) وعلاء أبو العيس (الذي اعتقل مع سعدي السعيد في بساتين الراشدية) وعطية فاضل (فارسة) ونعمان شعبان ورابحة الناشئ ومن خارج بغداد تنظيمات البصرة وأبرزهم محمد فؤاد هادي (استشهد في بشتاشان 1983 ) ونزار جعفر وسميرة البياتي، ومن الفرات الأوسط كان المسؤول: محمد جواد فارس ( سامي - الحلة) وطالب عوّاد (كربلاء) و عدنان الأعسم (النجف) ومن كردستان نوروز شاويس (السليمانية) و منعم العطار (إربيل – دار المعلمين) وقد قُدّر لي الإشراف على إقامة  اتحاد الطلبة العام في كردستان أيار / 1970 ويعتبر امتداداً لاتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ، حيث حضره 37 مندوباً ، وقد انعقد ليومين بشكل سرّي في دارِ جديدة بمنطقة أزادي، وحضره مندوبين من جامعة الموصل وجامعة السليمانية وطلبة من إربيل وكركوك.
   وقد جرى انعطاف نحونا بعد انقلاب17 تموز / يوليو 1968 والحملة القمعية ضدّ القيادة المركزية، فكان من أبرز الكوادر التي التحقت بنا حميد الظاهر (لطفي) وفاضل العكام (خالد) الذي كان أنشط الطلبة  ولديه نحو 30 صديقاً، وقد اعتقل في قصر النهاية وبقي لنحو عام كامل (1970 – 1971 ) واعتقل مرّة أخرى في الثمينينيات ومكث في السجن نحو سنتين، ورواء الجصاني أصبح من قيادات الاتحاد لاحقاً، كما انضم إلينا مهنّد البرّاك (نوّار) (الكلية الطبية) في نهاية العام 1969  وعزيز حسون عذاب المثقف البارز (كلية الصيدلة) وأسعد تقي زيردهام (كلية الصيدلة) وآخرين لايتّسع المجال لذكرهم.
الوفد المفاوض
   كُلفنا لؤي وكاتب السطور من إدارة الحزب بقيادة الوفد المفاوض مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي ضمّ كريم الملّا ومحمد دبدب وحسن المطيري ورويت في مطالعتي عن كريم الملّا والموسومة "سردية الاختلاف ونبض الائتلاف" والمنشورة في جريدة الزمان (العراقية) في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 .
 اكتشفنا أمر المطير بصفته الوظيفية الأمنية باعتباره الساعد الأيمن لناظم كزار، وقد تم تقديمه لنا باسم الزميل "فيصل"، ثم عرفنا أسمه الحقيقي من الصديق طيب محمد طيب الذي كان يمثل مجموعة المكتب السياسي المنشطر عن الحزب الديمقراطي الكردستاني (وقد عمل لاحقاً في وزارة الخارجية ثم انتقل إلى المعارضة وعاد إلى وزارة الخارجية وأصبح سفيراً بعد الاحتلال) وفاضل رسول ملّا محمود (الذي اغتيل مع عبد الرحمن قاسملو في فيينا 1988 ، واتهمت الأجهزة الإيرانية باغتيالهما، علماً بأنه كان صديق الإيرانيين). وكان "حسن المطيري" يحمل رتبة ملازم أول، وهو من الجلادين  في قصر النهاية المعروف باسم سجن الموت والعذاب. وقد شارك المطير في تعذيب لؤي ، حيث كانت عيناه ويداه موثوقتان وهو مشدود إلى الحائط، ولكنه عرفه من نبرة صوته، فقد بقينا لنحو تسعة أشهر ونحن نخوض مفاوضات وحوارات وهو يجلس معنا ويرحّب بنا بحرارة حين نحضر.
   وأتذكّر مرّة وبعد أن عرفنا حقيقته وكنّا نشكّ أصلاً بوجوده لأنه طيلة الوقت لم يتحدّث ولم نكن نعرف سبباً لوجوده، كما لم يكن لنا أي معرفة به من قبل، مثل الملّا ودبدب وقبلهما حميد سعيد وحتى ناظم كزار الذي تولّى إدارة الاتحاد الوطني بعد 17 تموز / يوليو 1968 مباشرة، ورفضنا اللقاء به، في حين كان المطير غامضاً ومثيراً للشك.
وبعد بيان 11 آذار / مارس 1970 ، حلّ محلّ طيب محمد طيب وفاضل رسول ملّا محمود وصلاح الدين عقراوي، ممثلين عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، باسم اتحاد طلبة كردستان، حيث مثله فرهاد عوني الذي كان متعاطفاً معنا إلى حدود كبيرة بعد أن تعرّضنا إلى ضربة موجعة بعد بيان 11 آذار/مارس 1970 ، وعادل مراد الذي أصبح نائباً لكريم الملّا رئيس الاتحاد.
لم يتم التوصّل إلى اتفاق بيننا وبين الاتحاد الوطني لطلبة العراق على الرغم من أننا تجاوزنا نحو 80% من نقاط الاختلاف بشأن البرنامج، لكن شروط الاتحاد لم نكن قادرين على هضمها، أولها – اعتماد إسم الاتحاد الوطني وإلغاء اسم اتحاد الطلبة، وثانيها – استبدال التمثيل الخارجي، وكان لديهم موقفاً سلبياً من مهدي الحافظ، وبخصوص النقطة الأولى قدّمنا أكثر من مقترح، الأول – دمج الاسمين، حرصاً منا على التعاون والعمل الموحد المهني بحيث يكون الاسم "اتحاد الطلبة الوطني في العراق" أو اعتماد الاسم الرسمي الذي جاء بالقانون رقم 97 لعام 1969 ، حيث حدّد الاسم "الاتحاد العام لطلبة العراق"، لكنهم رفضوا المقترحين بشدّة وأصرّوا أن ننضوي تحت لواء الاتحاد الوطني وهو بالنسبة لي وللؤي كان أمراً غير مقبول على الإطلاق، علماً بأن إدارة الحزب لم تكن بذات الحساسية التي نتحدّث عنها نحن العاملان في الوسط ،إضافة إلى العديد من أعضاء سكريتارية اتحاد الطلبة.
واقترحنا أن نختار إسماً جديداً بحيث يكون تأسيس الاتحاد وفقاً للقانون وعلى أساس نقابي ومهني كنقابة موحّدة ويعتمد ذلك على إجراء انتخابات حرّة، سواءً بالاتفاق أو من خلال قوائم مختلفة أو بتحالفات خاصة، ويحتفظ كلّ منّا بتاريخه القديم، علماً بأن اتحاد الطلبة تأسس
كان الملّا ودبدب قد اقترحا استمرار الحوار حتى بعد الانتخابات ونحن لم نرغب بانقطاعه، بل أكثر من ذلك، عرض علينا تمثيلاً في المكتب التنفيذي باسم الطلبة الشيوعيين، لكننا رفضنا تلك الصيغة واعتبرناها تسيساً للعمل المهني والنقابي، وكنّا قد رفضنا عرضاً أكثر "سخاءً" كأن يكون السكرتير العام منا، والرئيس منهم ونائبه كردي ويكون لنا 8 أعضاء من مجموع 27 عضواً (المجلس المركزي) ولهم 12 وللأكراد 5 وللقوميين العرب 2 ، لكن الاتفاق لم يحصل بسبب الإشتراطات التي ذكرناها، إضافة إلى أن رأينا كان "نأخذ ما تأخذون"، أي أن تكون حصّتنا موازية لحصّة الاتحاد الوطني.
 ونزلنا إلى الانتخابات بتحالف مع الحركة الاشتراكية العربية التي ساعدناها في تأسيس "جبهة الطلبة التقدميين" كتنظيم طلّابي، ولم تحصل قائمتنا "المهنية" على أية مقاعد تذكر وحقق الاتحاد الوطني "فوزاً ساحقاً ماحقاً" بسبب تداخلات الأجهزة الأمنية، فحصل على نتائج هي أقرب إلى نتائج الانتخابات في الأنظمة الديكتاتورية  بحوالي 99% من المقاعد الانتخابية، بعد أن كان قد حصل في انتخابات العام 1967 على أقل من 2%، ولذلك شكّكنا بنتائج الانتخابات واعتبرناها مزوّرة، ونشرنا تقريراً موسّعاً وبالأسماء والأرقام للحوادث التي حصلت حينها وقام بإعداده لؤي أبو التمّن وكاتب السطور وبإشراف من الرفيق ماجد عبد الرضا.
    وقد تمت دعوتنا لؤي وأنا لحضور افتتاح المؤتمر ما بعد الانتخابات، فقاطعنا ذلك، وكان اتحاد الطلاب العالمي قد أرسل وفداً لتقصي الحقائق إلى بغداد والتقيناه حميد برتو وكاتب السطور، وزوّدناه بالمعلومات الضرورية التي سبق أن نشرناها على نطاق واسع والتي توضح وجهة نظرنا بشأن تزوير الانتخابات والأساليب التي استخدمت والانتهاكات التي حصلت والتجاوزات التي لمسها الطلبة أمام أعينهم.
وكان قد حضر كجمن من ألمانيا الديمقراطية وفتحي الفضل من السودان (حالياً عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني) وكلاهما من قيادات اتحاد الطلاب العالمي الذي كان سكرتيره العام مهدي الحافظ بعد نوري عبد الرزاق، وقد اصطحبناهما إلى أحد الاجتماعات التي نظّمناها لسكرتارية اتحاد الطلبة في بغداد الجديدة في أحد البيوت، وفي أحد المرّات إلى شارع أبو نواس وفي مرّة ثالثة لمشاهدة فيلم في سينما أطلس. ويمكن مراجعة تفاصيل تلك الفترة في الكتاب الذي حاورني فيه توفيق التميمي (المختفي قسرياً منذ مطلع العام 2020 ) والموسوم "المثقّف في وعيه الشقي"، دار بيسان، بيروت، 2013 .
وكان الحزب قد نظّم كونفرنساً حزبياً أشرف عليه ماجد عبد الرضا حضره حوالي 25 رفيقاً ووفقاً لذاكرتي فإنه انعقد في بغداد الجديدة أيضاً، كما عقد كونفرنساً طلابياً يوم 10 تشرين الأول / أكتوبر 1969 حضره 44 مندوباً في "جزيرة أم الخنازير". ناقشنا فيهما مسألة المشاركة في الانتخابات واختيار قيادة طلابية جديدة بعد سلسلة تغيرات مؤقتة منذ انعقاد المؤتمر الرابع في 28 كانون الأول / ديسمبر 1968 ، وقد جئت على ذلك في كرّاس أصدرته في بشتاشان عن مطبعة طريق الشعب العام 1983 والموسوم "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق".
عضويات شرف
   وعلى الرغم من التباعد الذي حصل فقد منح الاتحاد الوطني لطلبة العراق عضويات شرف إلى 20 شخصية بعثية أو محسوبة عليها و 4 كرد و4 شيوعيين من قيادات اتحاد الطلبة هم نوري عبد الرزّاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمّن وعبد الحسين شعبان، ونقل الخبر عبر التلفزيون وفي الإذاعة وتناولته الصحف أيضاً، وظنّ الكثيرون أنّنا حضرنا المؤتمر ولكن لم يحصل شيء من هذا القبيل، لكن الحوارات استمرت، قبل أن تنقطع إثر حملة اعتقالات ضدّنا واغتيال محمد الخضري وقمع مشاركتنا في مسيرة الاحتفال باتفاقية 11 آذار يوم 21 آذار/ مارس 1970 بمناسبة يوم عيد نوروز.
   كان آخر لقاء حضرنا فيه مع الاتحاد الوطني لؤي أبو التمّن وأنا هو يوم 20 آذار / مارس 1970 ، حيث كان من المقرّر الخروج بمسيرة شعبية يشارك فيها الكرد لأول مرّة وتشترك فيها نقابات واتحادات، إضافة إلى حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني. وعلمنا من إدارة الحزب أن الحزب استحصل على موافقة بالمشاركة، على الرغم من بداية حملة ضدّنا، حيث اعتقل من الطلبة فلاح الصكر ومحمد حسن السلامي و11 طالباً آخر، كانوا يكتبون شعارات تؤيّد اتفاق 11 آذار بين الحكومة والحركة الكردية على الجدران فجر الثاني عشر أو الثالث عشر من آذار/ مارس 1970 .
   وحين أبلغنا قيادة الاتحاد الوطني رغبتنا بالمشاركة في المسيرة في إطار الاتفاق العام، رفضوا ذلك، وأبلغني كريم الملّا ونحن في حديقة الاتحاد بأن المعلومات التي لديه بأنه سيتم التصدّي لنا وتفريقنا في حال محاولتنا المشاركة دون موافقة الدولة كما قال، وقال هذا رأي القيادة، وكانت قيادة الحزب الشيوعي تنتظر نتيجة اجتماعنا، وقد تم تحديد موعدين لنا بعد الاجتماع لمعرفة نتائجه، الأول في الساعة التاسعة مساءً والثاني في التاسعة و45 دقيقة في موقف باص في ساحة الميدان، وفوجئنا بالرفيق باقر ابراهيم (أبو خولة) بانتظارنا، لكي يستمع إلى رأينا وموقف الاتحاد الوطني، علماً بأننا أبدينا مرونة بشأن الشعارات وتأكيد تأييدنا لبيان 11 آذار/مارس، لكن القرار بعدم مشاركتنا كان واضحاً، وقد فوجئ الرفيق "أبو خولة" بردّ الاتحاد الوطني، وأبلغنا قرار الحزب بالحضور في اليوم التالي، وقد ذهب لؤي أبو التمّن مساء ذلك اليوم مع كاظم عوفي لإيقاظ أحد تجار الأقمشة في الكرّادة لشراء قطعة قماش بيضاء قام كاظم العوفي بكتابة الشعارات المطلوبة عليها حسب توجيهات الحزب وجاءا بها صباح اليوم التالي إلى دار الطلبة في باب المعظّم، حيث كان موعد الانطلاق من الميدان.
اغتيال محمد الخضري
   في صبيحة اليوم التالي أي 22 آذار / مارس 1970  نشرت الصحف خبر اختفاء محمد الخضري، حيث تم العثور على جثّته قرب مدينة بلد (80 كلم عن بغداد) وقد طرّزت ﺑ 22 إطلاقة وعليها آثار تعذيب. وكان ممثّلاً عن القائمة المهنية للمعلمين، وأتذكّر تعليق لؤي أبو التمّن ونحن في التظاهرة، حيث كان العديد من إدارات الحزب الشيوعي يتوافدون للحضور. بينهم عامر عبدالله وزكي خيري وحسين سلطان وباقر ابراهيم وآخرين، على اختفاء الخضري قوله: من سيكون القادم؟ وكان صاحب الحكيم سألني حينها هل صادف أن لمحت محمد الخضري (أبو عادل)، قلت له طرق سمعي أنه تم العثور على جثته في مدينة بلد ففوجئ بذلك، ودار همس بين الرفاق خلال التظاهرة الحاشدة، وقبل أن نتحرّك من ساحة الميدان كان الهجوم عليها شديداً لتفريقها بعد عزل إدارة الحزب عن قاعدته، وكاد لؤي أن يعتقل بعد أن حاول أن يتصدّى لأحد المهاجمين، لكن عدداً من المتظاهرين سحبوه إلى طرفهم وهكذا تم التفرّق وحاولنا التجمع قرب ساحة حافظ القاضي، لكن محاولة التفريق كانت أشد هذه المرّة، فانسحبنا ولم نعاود الكرّة.
 جدير بالذكر أن وفداً ضمّ لؤي أبو التمن ومحمد النهر وأحمد الحكيم (الذي اعتقل بعد أيام)  وكاتب السطور طاف على جريدة الثورة وجريدة الجمهورية وجريدة بغداد أوبزيرفر والإذاعة والتلفزيون وهو يحمل مذكّرة بتأييد بيان 11 آذار / مارس 1970 باسم "جماهير بغداد"، وانطلقت المجموعة من مجلة الثقافة الجديدة (الباب الشرقي – قرب سينما الخيّام) وهو ما رويته بالتفصيل مع مفارقاته  في أكثر من مناسبة أشير إلى ذلك في كتابي عن أبو كاطع الموسوم "على ضفاف السخرية الحزينة" ط 1 ، دار الكتاب العربي، لندن، 1998 ، وط 2 ، دار الفارابي، بيروت، 2017 .
وبالمناسبة فقد تعلّم محمد الخضري السياقة بسيارة والد لؤي أبو التمّن، وهي سيارة فارهة من نوع "شيفروليه"، وقد استعارها في أحد الأيام وتوقّفت عند منتصف الطريق وانتظر لؤي لنحو ساعتين إلى حين وصوله، وقد وضعنا احتمال اعتقاله وتلك قصة أخرى.
   قال لي لؤي بعد انتهاء المسيرة، حيث توجّهنا صوب الباب الشرقي وجلسنا في مقهى المعقّدين نحتسي الشاي المعطّر، وكان متأثراً لاغتيال الخضري الذي عرفه عن قرب ودرّبه لأسابيع على سياقة السيارة: يبدو أن الدور وصل إلينا، قلت له: أتعتقد ذلك؟ قال: لاحظ، اختاروا من اللجنة العمالية عبد الأمير سعيد، الذي تم اختطافه ، ومن الخط العسكري ، اغتيل ستار خضير ومن المعلمين تم اغتيال محمد الخضري وعلّق: جاء دورنا وأشار بإصبعه: كنت أراقب حسن المطيري حين تتحدّث، وخصوصاً حين سلّمت ورقة بأسماء المعتقلين من الطلبة إلى كريم الملّا، بل حاولت أن تتلوا أسماءهم، كم كانت عضلات وجهه تتحرّك وكم كان متشنجاً ومُستفَزاً وأنت تتحدّث عن التعذيب؟
لؤي في قصر النهاية
   وبالفعل فقد اعتقل لؤي بعد شهرين تقريباً من هذا التاريخ (13 أيار/ مايو 1970 ) وكان يفترض أن يترك الدائرة التي يعمل فيها بعد أن تم ترشيحه إلى زمالة دراسية وكذلك ترشيحي، لكن القدر غلب الحذر كما يقال، وبالمناسبة ففي مثل هذا اليوم بالذات وصل لؤي من السويد إلى الشام 1985 وقد احتجز في المطار، وكان قد جاء لحضور لقاء مع صالح دكلة "التجمع الديمقراطي" وعلّقت و بعد التدخل لإطلاق سراحه، بأن "الجماعة" لا يريدونك أن تنسى هذا التاريخ يوم 13 أيار / مايو.
   مكث لؤي في قصر النهاية شهراً كاملاً، وكنا قد أصدرنا عدداً خاصاً من "كفاح الطلبة" جريدة الاتحاد وكانت المطالبة بإجلاء مصيره والتحذير من الخطر على حياته في المانشيت العريض. وقد أبلغني لؤي أن ناظم كزار أطلعه على العدد وهو في قصر النهاية وطلب تعليقاً منه: هل أنت في خطر فعلاً؟ وهل حياتك مهدّدة؟ وعلى الرغم من الانهاك النفسي والجسدي والتعرّض للتعذيب أجابه لؤي: أنني معتقل وليس لي صلة بالعالم الخارجي ولا تعليق لدي.
   التقيت لؤي بعد خروجه من قصر النهاية  في بيت أهل رجاء الزنبوري (والدها أحمد الزنبوري)  قرب منزل والده الطبيب صادق أبو التمّن وقرب منزل عبد الرزاق شعبان والد رياض ومنزل صالح شعبان وجليلة كاظم شعبان، وكان قد حمل معه  بعض الحكايا والقصص التي لا تخلوا من الطرافة وإن كان بعضها مأساوياً. وأتذكّر أحد تعليقاته التي قال فيها لي: تصوّر كنت أشعر بالشفقة أحياناً على الجلّادين، فهذا سالم الشكرة لا أدري متى ينام؟ لأنه موجود طيلة الوقت في المعتقل مع المعتقلين، في الليل يعذّب وفي النهار يتجوّل بين السجناء، لدرجة أنني شعرت بالعطف عليه، وضحكنا بألم ومرارة. كان الوحيد الذي يعرف بيتي والذي أعرف بيته، وقد عرفته ببيتي الجديد بعد أن كنّا انتقلنا إليه خلال تلك الفترة الصعبة ، وكنت بكامل الاطمئنان بأنه مهما حصل فإن الأمر سيكون على ما يرام فللصداقة استحقاقاتها، على الرغم أنني تركت المنزل لبضعة أشهر حتى خروجي من العراق. وكنت حين وصلت براغ طلبت من مهدي الحافظ تفعيل زمالة لؤي وهو ما حصل، حيث تمّ قبوله للدراسة في بولونيا للعام 1971 – 1972 . وحين صدر قبوله للدراسة في بولونيا أرسلت له برقية أبلغه بذلك وقلت له: حبّذا لو تتوجّه إلينا دون انتظار تذكرة السفر، وبالفعل جاء لزيارة براغ وبقي فيها لأكثر من شهر إلى حين موعد الدراسة وبعدها توجّه إلى وارشو وبقي فيها ثم انتقل إلى ستوكهولم (السويد) في العام 1980.     
في بولونيا
   شكل لؤي أبو التمن في وارشو ثقلاً كبيراً وكان قطباً مؤثراً، على الرغم من قراره ترك العمل الحزبي وكان معظم رفاق بولونيا ممن يعرفهم سابقاً حين كان مسؤولاً عنهم في اتحاد الطلبة أو في الحزب، وحصل أن حدث نقاش بشأن الموقف من الهجوم الحكومي على الشعب الكردي العام 1974 واندلاع القتال مجدّداً، وكان الموقف الرسمي للحزب هو الوقوف إلى جانب الحكومة بما فيه حمل السلاح ضدّ "الجيب العميل"، هذا من الناحية السياسية.
 أما من الناحية المهنية فقد ساهمنا في شق جمعية الطلبة الأكراد في أوروبا لصالح الحكومة، بل واخترعنا شخصيات من أصول كردية لم نعرفها من قبل لندخلها إلى جمعية الطلبة الأكراد لزيادة عددنا، وذلك باندفاعات غير محدودة من رفاق بعضهم أكراد، وكان تبرير ذلك هو الحفاظ على ما يسمى بالجبهة الوطنية التي كان التعويل عليها هو المعيار الأساسي للتقييم.
 وحين انعقد مؤتمر جمعية الطلبة العراقيين في بولونيا، وقف لؤي ضدّ تلك القرارات التي لم تحظَ بتأييد القاعدة الحزبية والطلابية، وقاد حملة داخله ليؤكد فيها الانحياز إلى صالح الكرد في كفاحهم من أجل حقوقهم العادلة والمشروعة والتنديد بعمليات القصف العشوائي التي طالت قرى كردية آمنة دون أن ينسى انتقاده لبعض ارتباطات الحركة الكردية، لكن ذلك شيء وقضية الشعب الكردي شيء آخر. وقد صوّت المؤتمر لصالح موقف لؤي، في حين فشل الموقف الحزبي الرسمي من التأثير، وهو ما عدّه أحد المسؤولين الحزبيين عملاً تخريبياً مريباً. وكنت قد التقيته في وارشو العام 1973 خلال حضوري للإشراف وإلقاء محاضرة في مدينة ووج على الطلبة العراقيين والعرب الجدد، وقدّمني للحديث شاكر الدجيلي الذي وصل للدراسة العام 1973 . وكنا قد اتفقنا على اللقاء في دمشق صيف ذلك العام وبالفعل قضينا وقتاً طيّباً فيها التقينا فيه بالصديق علي كريم الذي كان رئيساً للإتحاد الوطني لطلبة العراق (المؤيد لسوريا) والصديق محمد رشاد الشيخ راضي( كان مرشحاً للقيادة القومية لحزب البعث) وحامد سلطان ، وتعرفت حينها على ضرغام الدبّاغ (الذي كان معروفاً باسم ياسين)، حيث كان مرشحاً للقيادة القومية لحزب البعث أيضاً.
مواقف متميّزة
لم أنس موقف لؤي وحساسيته إزاء اغتيال الشهيد سامي مهدي الهاشمي في أواخر أيلول / سبتمبر 1968 وهو من القيادة المركزية، وهي جريمة بكل ما تعني الكلمة من معنى، وقد اتهمت القيادة "اللجنة المركزية" بارتكابها، وتقول حيثيات القضية التي تحدثت عنها أكثر من مرّة أن الحزب كان قرّر توزيع بيانات باسم اتحاد الطلبة في عدد من الكليات ومنها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وحصل احتكاك مع جماعة القيادة المركزية وتم إطلاق النار فسقط سامي مهدي الهاشمي مضرّجاً بدمائه. كنا نلحّ على ضرورة كشف القاتل وإدانته وفصله من الحزب، وهو أقل إجراء يُتّخذ بحقّه، وخلال تلك الفترة شابَ نوع من التوتّر علاقة عدد من الرفاق مع الحزب، وكان لؤي من بينهم، وقد رويت الموقف كاملاً في مداخلتي الموسومة "شبح عامر عبد الله ومكر التاريخ" المنشورة في موقع الحوار المتمدّن بتاريخ 9 أيار / مايو 2014 .
 لم يكن لؤي أبو التمّن ضدّ الجبهة الوطنية، لكنه لم يكن يريد الانبطاح أمام تمدّد البعث لإملاء شروطه والتأثير على قراراتنا، حتى وإن سلّمنا كونه الحزب القائد للجبهة والسلطة والدولة، لكن الواقع شيء آخر، وكان ضدّ قرار "حلّ" المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة ورابطة المرأة) الذي صدر بزعم "تجميدها" في العام 1975 .
 وكان لؤي ضدّ اتفاقية 6 آذار / مارس 1975 التي اعتبرها تنازلاً من جانب الحكومة العراقية لصالح إيران الشاه، وخصوصاً بشأن شط العرب، وكانت لي معه حوارات ودردشات ورسائل. وحين اجتمعنا في بودابست العام 1975 باسم لجنة التنسيق التي تمثل اتحاد الطلبة في الخارج كان هناك تناغماً بيننا في التوجهات والمواقف.

39

السيد محمد حسن الأمين
عمامة وعلمانية

د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي من العراق



على سبيل التمهيد

     سبقته شهرته، سواء في العراق أو في لبنان أو في العالم العربي ، وحتى قبل أن أتعرّف عليه شخصياً، و كنت سمعت عنه وقرأت له وتعرفت على بعض مواقفه الراديكالية ورؤيته للصراع في لبنان وفي المنطقة، وخصوصاً مواقفه من القضية الفلسطينية والصراع ضدّ الصهيونية.
       تعلّق محمد حسن الأمين بالحياة بكل أطرافها وذهب بها إلى نهايتها القصوى بكل ما يستطيع أملاً بالوصول إلى "الحريّة الضرورة" التي كان يطمح في ارتقاء منصّتها، حتى فاضت روحه وهو لا يكلّ ولا يملّ من الدعوة إلى الحق و العدل. ومن تجربته ومن واقع لبنان وأمّة العرب كان يدرك أن لا سلام حقيقي دون عدل، ولا عدل حقيقي دون إحقاق الحق وردّ المظالم. وتلك المعادلة لازمت أطروحاته الفكرية ومواقفه العملية.


   
صوت وروح

  وبقدر ما كان السيد الأمين يمتلك وقاراً وهيبة، لاسيّما صورته بالعمامة السوداء فإنه كان يتمتّع بكاريزميّة خاصة، لاسيّما صوته المؤثّر وهدوءه اللافت ونبرته الواضحة، يضاف إلى ذلك روحه الضاجّة بصخب وتمرّد تفيض منها ضوضاء مضيئة تبشّر بالخير والجمال والسعادة، ولعلّ قول مارك توين ينطبق عليه إلى حدود كبيرة وهو القائل "لن تجد الهدوء أبداً لأن أعماقك هي مصدر الضوضاء".
      هكذا كان السيد محمد حسن الأمين محتفياً بالحياة بكلّ عنفوانها وحيويّتها عارفاً تكوينها غير مبالٍ بدروبها الوعرة مخترقاً منحنياتها ومنعرجاتها وصعودها ونزولها، وكلّ ذلك بدأت ملامحه تظهر في تكوينه الأول في المدرسة النجفية الحوزوية التي شهدت العديد من المبدعين ممّن سبقوه وممّن اختاروا طريق الحياة من مجايليه، ونستذكر بعضاً منهم: محسن الأمين وآل الأمين وحسين مروّة ومحمد شرارة وآل الزين ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين و حسين شحادة وهاني فحص ولفترة قصيرة السيد حسن نصر الله وآخرين.
    وكنت في العديد من المرّات أتجاذب أطراف الحديث مع السيد محمد بحر العلوم والسيد مصطفى جمال الدين والسيد أحمد الحسن البغدادي والشيخ عبد الزهراء عاتي وعبد الغني الخليلي وغيرهم عن أجواء الحوزة والرابطة الأدبية في النجف ومنتدى النشر والشخصيات اللبنانية التي لمعت في المدرسة الحوزوية النجفية للعلوم الدينية واكتسبت احتراماً كبيراً من أساتذتها ومن طلبتها ، وعن مجالس الشعر والأماسي الشتوية والصيفية عند نهر الفرات في الكوفة، والقفشات بين الدارسين وهم من بلدان مختلفة، وكنت، بحكم العائلة وسكنها، قريباً من هذه الأجواء حيث مدرسة الخليلي الشهيرة، بالقرب من منزلنا، أتابع الكثيرين منهم حتى بعد مغادرتي في مطلع الستينيات إلى بغداد.




في صيدا يتجدّد اللقاء

     قبل أكثر من ربع قرن، زرت السيد محمد حسن الأمين في منزله  بصيدا واحتفى بنا أيّما احتفاء، وكانت معي المحامية هدى الخطيب شلق، واستعاد بعض ذكرياته والأحداث التي مرّ بها العراق والنجف واستذكرنا بعض المحطات والتواريخ والمفارقات ، فنحن من عمر واحد وفي مرحلة واحدة، وبقيت أتابعه خلال الفترة المنصرمة، حتى قبل تلك الزيارة الأثيرة التي شكّلت رافعة جديدة في صداقتنا التي تعمّقت مع مرور الأيام بلقاءات وتبادل وجهات نظر وتزاور وكتب ومقالات ، وكان آخرها وقبل رحيله زيارتي له في بيروت بصحبة الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار، فضلاً عن لقاءات في مؤتمرات ومهرجانات في بيروت والرياض وغيرها، وأكثر من مرّة كان اللقاء في مهرجان الجنادرية (المملكة العربية السعودية) ، وكنت قد استمعت إلى شعره في أكثر من مناسبة ومحفل، فضلاً عن إهداءاته لي التي كنت حريصاً على قراءتها ووجدت في قصيده عمقاً فكرياً وصوراً حيويّةً ناطقةً ولغةً أنيقةً رشيقةً .
 
ميّزات أربعة

     أستطيع القول أن السيد الأمين محمد حسن امتاز بأربع ميّزات مهمة يندر أن تجتمع في شخصٍ واحد، وكل واحدة منها تشكّل رصيداً معرفيّاً مهماً، فما بالك حين تتداخل وتتفاعل في عقل شخص واحد؟
أولها – ثقافته الموسوعية، فهو لم يكتفِ بالدراسة الدينية الحوزوية، بل أجهد نفسه في الإطلاع على الثقافة المدنية بكلّ صنوفها وألوانها، وهكذا حاول الجمع بين الدراسة المنهجية التي توفرها الحوزة النجفية، في الفقه واللغة والأدب وعلوم الدين، خصوصاً وقد درس المقدمات ثم السطوح وبحث الخارج علي أيدي كبار علماء عصره، وفي الوقت ذاته، حاول قراءة الأدب الحديث والفلسفة والتاريخ وانشغل بالفكر ومستحدثاته والعلم ومكتشفاته، كل ذلك في هارموني متوازن ومتفاعل. وأستطيع القول أنه إضافة إلى تكوينه الديني وانشغالاته العملية بتطويره، فقد اهتمّ بالأدب بعامة والشعر بخاصة، وهكذا كان شاعراً رقيقاً ومثقفاً كبيراً، يزن كلماته ويعرف كيف يرسلها لتكون مؤثّرة.
وثانيها – انفتاحه وقبوله للآخر، فقد كان على الرغم من راديكاليته وثوريّته بالمصطلحات السبعينية، إلاّ أنه يحترم وجهات النظر الآخرى، ويقبل مقارعة الحجّة بالحجّة والرأي بالرأي والفكرة بالفكرة، ولم يكن متزمّتاً حتى وإن كان له آراء مغايرة، إلاّ أنه يقدّر آراء الآخرين، فلم يكن منحازاً بالحقّ أو بالباطل لطائفته أو دينه، بقدر ما كان منحازاً للإنسان أيّاً كانت قوميّته أو دينه أو طائفته ومذهبه، مقدّماً المُثل والقيم الإنسانية التي هي الأساس، والتي تمثّل المشترك الإنساني.
ثالثها - صوته المتميّز شكلاً ومضموناً، وقد حاول الحفاظ على استقلاليّته وإن كلّفته في العديد من الأحيان أثماناً باهظة، لكنه كان حريصاً على إبقاء صورته المستقلّة دون اختلاط مع السائد من الصور المؤثّرة أو المهيمنة أو المتنفّذة، فالمثقّف والباحث والمفكّر والعالم كلّما حاول أن يحافظ على استقلاليّته فإنه يكون قد سلك الطريق الصحيحة التي تقرّبه من مشروعه الخاص ، لاسيّما انضاج اجتهاداته وتعميق رؤيته لمجتمعه وللكون أيضاً. وهكذا يتولّد صوته الخاص، وحسب الروائي الأرجنتيني أستورياس مؤلّف رواية "السيد الرئيس" الكثير الإنطباق والشبه على أوضاعنا العربية، "فالإنسان إله بسبب من صوته "، بالمعنى الفزيولوجي والمعنى الحسّي، إضافة إلى المعنى الرمزي. ومن صوته يُعرف الإنسان ومن نبرته يُؤشر عليه، فما بالك إذا كان مبدعاً متميّزاً.
رابعها – عروبته الطافحة ووطنيته الفائضة، فقد كان بالإضافة إلى تمسّكه بوطنه اللبناني وبقصد العيش معاً أو العيش بشراكة وتكافؤ ومساواة، فقد كان عروبياً بامتياز، وكلّ ما في الوطن العربي يعنيه، وفي القلب من ذلك كانت فلسطين بوصلته، وكان منذ البداية مقاوماً من أجل فلسطين وضدّ العدوان "الإسرائيلي"، ناهيك عن هواه "العراقي" الذي ظلّ يحنّ إليه، خصوصاً بعد تعقّد الأوضاع وعدم قدرته على زيارة العراق في فترة النظام السابق، لكنه كان يتابع شؤونه مثل أي عراقي، وكم كان منشغلاً بالحصار الجائر المفروض عليه، مثلما انشغل بما حصل له بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 وتذرّر العراقيين وتمزّقهم إلى طوائفٍ ومللٍ ونحلٍ وأشياعٍ وأتباعٍ بعضها يمتدّ إلى صناعة خارجية.
      كم كان ذلك يحزنه، فتراه أحياناً أقرب إلى التشاؤم لكن دون يأس لأن روح المقاومة والتحدّي، بل والتمرّد كانت تعتمل في نفسه، ولأنه كما قال لي: أنه يعرف العراقيين بأنهم لا يستكينون ولا يستحقون مثل هذا المصير. وكم كان يسخر على طريقته حين يُراد تطبيق الوضع اللبناني الطائفي واقتسام المغانم على الوضع العراقي، سواءً دستورياً أو عملياً، لأنه كان يعرف خلل التجربة اللبنانية ومأساة لبنان التي أدخلته حرباً أهلية دامت 15 عاماً، لم تنته إلاّ باتفاق الطائف وبتداخلات دولية زادته قيوداً وانقساماً، فكيف يمكن اقتباس تجربة مثل تلك التجربة المريرة ؟

روافد أربعة

      في كلّ تلك المواصفات والسجايا، بل والمناقب التي كوّنت شخصيّته، فثمة روافد مؤثّرة ساهمت في بلورة وعيه وإعادة صياغته وتوجيهه بما يتساوق مع منبعه الأول:
الرافد الأول – عائلته، ذات المكانة المتميّزة التي نبغ فيها أعلام كبار، وكان إسم السيد محسن الأمين (العاملي) مؤلّف كتاب أعيان الشيعة، أحد أركانها الأساسيين ( والكتاب عبارة عن موسوعة ضمّت عدّة مجلدات، ترجم فيها لما يقارب 12000 شخصية منذ صدر الإسلام الأول إلى ما قبل عصره. وقد درس محسن الأمين في النجف لنحو عشر سنوات ونصف السنة، وغادرها العام 1901، كما عاش في دمشق في حي الأمين، وتوفي في بيروت  في 30 آذار / مارس 1952  ودفن في حي السيدة زينب بدمشق، علماً بأن ولادته كانت في العام 1865 )، وقد أكمله نجله السيد حسن الأمين، الذي عاش في العراق لعدّة سنوات منذ العام 1938 ولغاية العام 1940 ثم من العام 1945 إلى العام 1949  .
      وكان والد السيد حسن الأمين  قد أوفده للدراسة في النجف في العام 1927 ، لكنه لم يمكث سوى 3 أسابيع وغادرها مفضلاً الدراسة الأكاديمية على الدراسة الدينية، فدرس لاحقاً  في كلية الحقوق في دمشق وتخرّج منها، وقد عمل في العراق مدرساً للغة العربية في مدينة الحلّة ، وفي الفترة الثانية أستاذاً للأدب العربي في كلية الملكة عالية، وقد أخبرني أنه أول من نشر قصيدة للشاعرة نازك الملائكة دون علمها. وخلال فترة وجوده في العراق، كان على اتصال مع عدد من الأدباء والشعراء المحسوبين على الوسط اليساري والحداثة الثقافية. وكان لدي مراسلات معه حين كنت أجمع موادّاً  لكتابي عن سعد صالح (جريو) "الوسطية والفرصة الضائعة"، الذي نشرته فيما بعد ، علماً بأن حسن الأمين  نشر مقالاً موسعاً في جريدة الحياة (اللبنانية)  من وحي التواصل بيني وبينه في أواسط التسعينيات، جرت فيه الإشارة الموسعة إلى الدور الريادي الثقافي والسياسي لسعد صالح في الأربعينيات.
الرافد الثاني – دراسته في النجف، التي احتضنته يافعاً ثمّ شاباً وكانت منبعاً حقيقياً اغْترف منه الكثير وارْتشف من علومه أعذبها، وكانت خزينه الذي لاينضب، وقد عاش في النجف حسبما قال لي أجمل سنوات عمره حين جاءها وهو في الرابعة عشر من عمره ( العام 1960 وغادرها وهو في النصف الثاني من العشرينات من عمره في العام 1972 )، وكان قد تزوج وهو في النجف ووُلِد نجله الأكبر الإعلامي المعروف السيد علي في النجف أيضاً. وفي النجف كذلك أكمل دراسته الحوزوية – الأكاديمية فيما بعد في كلية الفقه العام 1972 .
الرافد الثالث– الثقافة المدنية الحديثة، فقد كان يميل إلى التجديد والحداثة وروح العصر، محاولاً تجاوز ماهو تقليدي وساكن وراكد من التراث بقراءات جديدة للأدب الحديث والمعاصر وفي انفتاح كامل، وهو ما أعطاه امتيازاًجديداً، فإضافة إلى إتقان اللغة والنحو والصرف واطلاعه على التراث، وخصوصاً تراث الإمام علي ونهج البلاغة والتفسيرات القرآنيّة ومدارس الفقه، فإنه سعى لمعاشقة ذلك بالإطلاع على الثقافة الحديثة، ولم يتوقف عند مدرسة واحدة، بل حاول الأخذ من جميع المدارس، فلم يتوقّف عند منصّة أو فكرة واحدة، بل عمل بكل ما يستطيع على ملاقحة دراسته الدينية بالعلوم الحديثة.
الرافد الرابع – بلده الأصلي لبنان، الذي عاد إليه بعد إنجاز دراسته وكتابة رسالته العملية، ولبنان كما نعرف بلد الإنفتاح والتنوّع والتعدّدية، وعلى الرغم من الأوضاع المأساوية التي عاشها في الحرب الأهلية 1975- 1989 ، فإن هذا البلد الصغير بحجمه وعدد سكانه وموارده، إلاّ أنه كبير جداً بما يحتويه من كفاءات وبما يملكه من فضاءات للحريّة والإبداع والفن، ناهيك عن كونه ملجأً للمثقّفين والمعارضين الفارّين من بلدانهم.
    وقد مثّل التعدّد الثقافي قاعدة للعيش معاً، حاول إتفاق الطائف لعام 1989 وما أعقبها من تشريعات لعام 1990 أن يرسيها على أسس جديدة، إلاّ أن التداخلات الخارجية العربية والإقليمية والأجنبية ساهمت في إيصال لبنان إلى ما وصل إليه دون نسيان الصراعات غير المبدئية للزعامات السياسية التقليدية وغير التقليدية، التي هي الأخرى مسؤولة على نحو كبير في الأزمة الحالية التي يعيشها لبنان، وهي أزمة غير مسبوقة.
     وفي لبنان دخل سلك القضاء، فزاد ميله أكثر نحو العدالة، حيث أصبح قاضياً لمدينة صور في العام 1977 ، وبعدها انتقل إلى محكمة صيدا الشرعية وبقي فيها إلى العام 1997 ، وكان مستشاراً في المحكمة العليا.
     كان مرانه الأول في عدد من المجلات النجفية مثل: مجلة النجف و مجلة الكلمة ومجلة عبقر، وقد سار على نهج والده على مهدي الأمين وهو ما أسماه حسن الأمين "خير خلف لخير سلف" ، وكتب إضافة إلى الشعر عدداً من المؤلفات ذات النزعة التجديدية التي لا ترى تعارضاً بين العلمانية والإسلام، ومن كتبه "نقد العلمنة والفكر الديني" و "بين القومية والإسلام" و "الإسلام والديمقراطية" و "الشهيد محمد باقر الصدر: سمو الذات وخلود العطاء"، كما كتب في النقد العربي وأوضاع المرأة وظروفها في لبنان.

شيء لا يشبه الوداع

      في ظل اجتياح وباء كورونا، كان السيّد الأمين يتعامل مع الواقع السياسي بكل تفاصيله بروح وثّابة، ولم يدّخر وسعاً في كل ما يستطيع كي يقول الحق، ولم يبالِ باستشراء الفايروس وهشاشة النظام الصحي التي انكشفت على نحو كبير، فضلاً عن التعامل مع حركة الإحتجاج التي كانت شاملة عامة، لأنها مسّت جميع الفئات والطبقات، خصوصاً التصرّف بأموال المودعين وانهيار سعر الليرة.
    أخيراً وبعد فترة صراع وكرٍّ وفرٍّ مع "الذئب الذي ظلّ يترصّده" و حاول محاصرته من كل جانب، تمكّن الفايروس الذي استفحل واستشرى على نحو واسع من الانقضاض عليه وبين مصدّق ومكذّب، وبين إغفاءة ويقظة قرّر هذه المرة وعلى غير عادته في المواجهة الرحيل بهدوء كامل، وكأنه قدّر الظرف الملتبس والحجر الصحي الذي يمرّ به العالم.
     هكذا قرّر السيد الأمين أن يغادرنا دون أن يحاول إحراجنا كي لا نأتي لنودّعه.  ومع ذلك حين شاع خبر الوفاة، زحف المئات من المشيّعين لتقديم واجب العزاء، على الرغم من محاولة العائلة عدم إبلاغ سوى بضعة أشخاص بوفاته وعدم إقامة مجلس فاتحة له بسبب الظروف، لكن أهل صيدا وأحبّته وأصدقاءه  أقاموا له مجلس عزاءٍ حضرته بنفسي شارك فيه النساء والرجال في أجواءٍ يتخلّلها شعورٌ بالفداحة والفقدان لغياب عالم جليل ورمز كبير، حيث وافته المنية في 10 نيسان / أبريل 2021 وتم دفنه في قريته شقرا في جبل عامل.
     رحل الأمين وكان:
 أميناً لِمُثلِه؛
أميناً لِقِيمِه؛
 أميناً لعروبته؛
 وأميناً لإنسانيّته. 
 
       


40
المنبر الحر / العروبة المؤنسنة
« في: 18:51 24/11/2021  »
العروبة المؤنسنة

د. عبد الحسين شعبان


     كان اختيار منتدى أصيلة وجامعة المعتمد بن عبّاد المفتوحة بالمغرب لموضوع "العروبة والبناء الإقليمي العربي: التجربة والآفاق" كعنوان لندوة ذات طابع راهني بأفق مستقبلي وقراءة إستشرافية ، فرصة مناسبة لتبادل الآراء واستمزاج وجهات النظر والاستئناس بأفكار حاولت ملامسة الجديد في فكرة العروبة، التي ظلّت تشغل الأفق السياسي والاستراتيجي لغالبية مشاريع النهضة والإصلاح في العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الأن، وقد اتخذت ثلاث اتجاهات أساسية:
الأول – "العروبة الثقافية"، وهي الفكرة التي حاولت محاكاة مشاريع النهضة الأوروبية التي كان توجّهها نحو "دولة مدنية"، وقد أخذت هذه الفكرة تتعمّق بالتجربة العملية وبعد طائفة من الإخفاقات والممارسات السلبية التي عملت باسم "العروبة" .
الثاني – "العروبة الآيديولوجية"، وهي الفكرة التي حاكت السياسة والتيارات القومية الأوروبية الإستعلائية الشوفينيّة بشيفرة قومويّة.
الثالث – "العروبة في طور التكوين المؤسساتي"، وهي فكرة قامت عليها جامعة الدول العربية (22 مارس / آذار1945 ) كمنظّمة إقليمية أرادها الآباء المؤسسون أن تكون نواة أو خطوة للوحدة العربية وعلى طريقها، وهي وإن أخفقت سياسياً في حل المشكلات والنزاعات والحروب العربية – العربية، والعربية – الأجنبية، إلاّ أنها تمكنت من لعب دور إيجابي في دعم البلدان العربية لنيل استقلالها والتحرر من الإستعمار وفي دعم تنميتها، إضافة إلى مساندة القضية الفلسطينية في المحافل الأممية ضدّ العدوان "الإسرائيلي" المتكرر.   
     و خلال القرن ونيّف الماضي تعرّضت العروبة إلى تحدّيات عديدة، من خارجها ومن داخلها إذا جاز التعبير.
أولها – إخفاق المشروع السياسي الوحدوي وتضبّب صورته الحلمية، والأكثر من ذلك فإن الدولة العربية (القُطرية) التي اعتُبرت من مخرجات التجزئة وسبباً في عدم تحقيق مشروع النهضة  تصدّعت هي الأخرى بسبب الحروب والنزاعات الأهلية، إلى درجة أصبح الحفاظ عليها مهمةً عروبية بامتياز.
وثانيها – التداخلات الإقليمية غير العربية وتأثيرها على القرار العربي، وذلك بسبب محاولات الهيمنة الإيرانية والتركية، فضلاً عن محاولات أثيوبيا المائية التي ألحقت ضرراً بالمصالح العربية، ناهيك عن تحالفاتها الإقليمية.
وثالثها – تراجع القضية الفلسطينية، التي مثلّت جامعاً للعروبة الثقافية والمؤسساتية .
ورابعها – إنفجار الهويّات الفرعية وانبعاث رياح الطائفية والإثنية المناوئة لفكرة العروبة، خصوصاً بعد تنكّر أو عدم اعتراف بها.
وخامسها – الممارسات الإستبدادية السلبية لأنظمة حكمت باسم العروبة.
     العروبة بصفتها هويّة منفتحة ليست ساكنة أو نهائية أو تمامية. لأنها متجدّدة ومتحوّلة ومتفاعلة ، حيث تتغير بعض عناصرها مثل العادات والتقاليد والفنون والآداب حذفاً أو إضافة، ومثلما هي كذلك، فلا بدّ أن تقّر باختلاف الهويّات وتعترف بحقوقها وتتعامل معها كأمر واقعي وليس مفتعلاً أو متخَيّلاً، كما هي النظرة الإستعلائية الشوفينيّة. وهكذا يصبح من واجب العروبة المؤنسنة احترام  حق كل شعب أو مجموعة بشرية تشعر بوجود خصائص تجمعها هويةً وانتماءً، بل و أن تعمل على مساعدتها في تعزيز وتطوير خصوصيتها بما يجعلها تتفاعل إنسانياً معها.
    وبهذا المعنى لا يمكن إختزال العروبة بالقومية أو العرق أو النسب ، وإذا ما فعلنا ذلك فأين سيكون مكان الأندلس والمعتمد بن عبّاد وابن طُفيل وابن باجة وابن حزم وعبّاس بن فرناس من فكرة العروبة ؟
     والعروبة هي لغة امرؤ القيس والمتنبّي وأبو القاسم الشّابي وطه حسين وجبران خليل جبران والجواهري، وكانت وما تزال فعل مواجهة، خصوصاً حين  تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من خلال مفكرين ورُوّاد مثل جورج أنطونيوس وشكيب أرسلان ورشيد رضا والبساتنة والريحاني واليازجي وصولاً إلى ساطع الحصري، ولعلّ ما هو مطلوب اليوم تعزيز العروبة وتجذيرها وتحصينها وأنسنتها بالحرية والإقرار بالتنوّع وقبول الآخر والاعتراف بالحق في الإختلاف.
     وكان مشروع النهضة الأول الذي ساهم فيه الأفغاني ومحمد عبدو والكواكبي والطهطاوي والتونسي والقائيني قد ارتكز على عاملين أساسيين وهما: الحريّة والتنمية وهذان يمثلان الأساس للمشروع النهضوي العربي الحديث بأركانه الستة وهي: التحرّر السياسي والتنمية الإقتصادية المستقلّة والوحدة العربية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية والتجدد الحضاري، وهو يمثّل العروبة المؤنسنة البعيدة عن التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب. وبذلك يمكن أن نضع الجاحظ وابن خلدون وابن المقفّع وابن سينا وابن رشد وأبو نوّاس وسيبويه ونفطوية وبشار بن برد وغيرهم في عداد من أسسوا للعروبة على أساس الثقافة واللغة، ويمكن إضافة الدين والجغرافيا كأُسس للهويّة لا علاقة لها بالإنتماء العرقي والقَبلي، بعيداً عن محاولات تفضيل العرب وتمييزهم بسبب ذلك، وبعيداً عن نقيضه، محاولات تبخيس دورهم وقدرهم. 
     وما تحتاجه العروبة اليوم هو إعادة هندستها لتكون أكثر انفتاحاً وتعدّديةً وقبولاً للآخر، أي الإقرار بالتنوّع في إطار الوحدة وهو ما يجنّبها التفتّت والتذرّر ويجعلها جامعةً ومتعددة في آن، ولعلّ ذلك يعطيها كهويّة مصادر قوّة روحيّة لم تُكتَشف تاريخياً حتى الآن، والعروبة حسب قسطنطين زريق "مشروع لم يُنجز بعد"، وإنجازه يحتاج إلى وعي جديد، وهو ما كان خلاصة البحث في منتدى أصيلة "الأصيلة" التاريخي في دورته الثانية والأربعين.


41
مناظرة السليمانية :
واستذكارات الحوار العربي - الكردي
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي من العراق


     كان أول حوار عربي – كردي خارج الأطر الرسمية  تقرّر قبل 30 عاماً، حين اجتمعت نخباً فكرية وثقافية وحقوقية و سياسية من العرب والكُرد بدعوة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، التي تسجّل لها هذه المبادرة، وذلك لمناقشة جوهر الموقف من حقوق الشعب الكردي و أهم الإشكاليات النظرية والعملية والقضايا الخلافية لبحثها ومناقشتها بروح الشعور بالمسؤولية والحرص وبكل صراحة وشفافية، حيث تم تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والاستئناس بأفكار متنوعة بشأن واقع العلاقات العربية - الكردية وآفاق المستقبل ، خصوصاً بعد المآسي والارتكابات التي تعرّض لها الشعب الكردي، لاسيّما إثر مشاهد الهجرة الجماعية الكردية المرعبة 1991 بعد حملة الأنفال السيئة الصيت ومن ثم قصف قضاء حلبجة في 16 – 17 آذار/ مارس1988  بالسلاح الكيماوي وغاز الخردل، الذي أودى بحياة بضعة آلاف، وذلك  قبيل وقف الحرب العراقية – الإيرانية (1980 - 1988) التي أُعلن عن انتهائها في 8 آب/ أغسطس 1988 ، بقبول إيران لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الصادر في العام 1987 .
لمعان الفكرة
    حين علمت أن وفد الجبهة الكردستانية وصل بغداد للتفاوض مع الحكومة العراقية، لمعت برأسي فكرة الحوار العربي - الكردي، وذلك بعيد انسحاب القوات العراقية ، إثرَ حرب التحالف ضد العراق 17/1/1991  من الكويت وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 الخاص  باحترام حقوق الإنسان، وذلك بعد فشل انتفاضة آذار / مارس 1991 ضدّ النظام الحاكم في العراق، فطرحتُ الفكرة في محاضرة لي في ديوان الكوفة كاليري في لندن وسط حشد كبير وذلك يوم 17 نيسان/ أبريل 1991، وكانت المحاضرة بعنوان " المهجّرون العراقيون والقانون الدولي"، وهي موثّقة بكتابي " عاصفة على بلاد الشمس"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994 . وهو ما نشرته جريدة الحياة (اللندنية)  في 28/4/1991 . ولكن الفكرة اختمرت في ذهني وقررت الإشتغال عليها بسبب تباين المواقف واختلاف وجهات النظر خلال وبُعيْد المفاوضات الحكومية - الكردية.
اعتبارات موضوعية وذاتية
        تعود قناعتي بفكرة الحوار العربي - الكردي إلى عدد من الإعتبارات أهمها:
      أولها - الموقف المادي الجدلي "الماركسي" من مبدأ حق تقري المصير والذي مثّل رؤية أممية - إنسانية كانت وما تزال صالحة عند الحديث عن حل مشكلة التنوّع الثقافي، لاسيّما المتعلّق بالهويّات القومية في المجتمعات والبلدان المتعدّدة الثقافات ، والذي تجسّد في جوانب عملية إتخذتها الحركة الشيوعية في العراق منذ العام 1935 حين رفعت شعاراً "على صخرة الإتحاد العربي - الكردي تتحطّم مغامرات الإستعمار والرجعية"، وذلك انطلاقاً من إيمانها بحق تقرير المصير للشعب الكردي، والذي انعكس على نحو ملموس في الكونفرنس الثاني للحزب العام 1956 الذي أكد على " الإستقلال الذاتي" لكردستان في إطار التحالف القوي بين "حركة الانبعاث القومي العربي والحركة القومية الكردية وتطلّع الشعب الكردي إلى التحرر والوحدة القومية"، فالاستعمار هو الذي فرّق كردستان وهو الذي شجّع سياسة الإضطهاد القومي في العراق، وهو الذي قسّم البلدان العربية كما ورد فيه.
     وثانيها - علاقاتي الكردية وصداقاتي الحميمة مع العديد من الكرد، خصوصاً فترة دراستي في جامعة بغداد، وسبق لي أن رويت الكثير عنها في مناسبات مختلفة يضاف إلى ذلك معرفتي بواقع الاضطهاد والإستلاب الذي عانى منه الشعب الكردي، وذاكرتي الأولى لإحدى المناسبات وأنا فتى حين اطّلعت على بيان من صفحة واحدة، وجهها الأول باللغة العربية ، ووجهها الثاني باللغة الكردية وهو ما أثار فضولي الشديد آنذاك (ربما كان بمناسبة كردية أو عيد نوروز)، فضلا عمّا أثار قدوم الزعيم الكردي الكبير الملّا مصطفى البارزاني من المنفى في العام 1958 من مشاعر تضامن ظلّت عالقة بذهني.
      وثالثها - انخراطي في أعمال جماهرية مبكّرة بشأن القضيّة الكردية منذ العام 1961 وأنا في بدايات عضويّتي في الحزب الشيوعي، ومنها مشاركتي في تظاهرة تدعو للسلم في كردستان في العام 1962 ، كذلك التوقيع على عريضة (مذكرة)  موجّهة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم  تطالبه بوقف الحرب ضدّ الحركة الكردية وتدعو إلى حل القضية الكردية بالإعتراف بحقوق الشعب الكردي، وذلك من خلال السلم والحوار. وقد ساهمتُ في جمع تواقيع العشرات من الأصدقاء حينها.
     ورابعها - بعض الملاحظات المبكّرة التي تولّدت لديّ بشأن بعض مواقفنا من القضية الكردية، ومواقف القوى الأخرى، بما فيها القوى القومية الكردية. وهنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر الموقف من رفع شعار "السلم في كردستان"، الذي نظرت إليه في فترة لاحقة باعتباره شعاراً عامّاً يصلح لمنظمة مجتمع مدني، أو جمعية إنسانية لا لحزب عريق ذو تاريخ عريق ومواقف عريقة بصدد القضية الكردية، إضافة إلى الموقف الخاطئ والضار من حمل السلاح ضد الحركة الكردية في فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث في العام 1974، وهذه ربما تحتاج إلى مناقشتها في سياقها التاريخي دون تبريرها أو إغفالها.
      وهناك جوانب أخرى كان لديّ تحفّظات بشأنها، وخصوصاً  اتفاقية  6 آذار/ مارس لعام 1975 المعروفة بإسم "إتفاقية الجزائر" وهي اتفاقية مُجحفة وغير متكافئة، وكنت قد توقّفت عندها في وقت مبكّر، أذكر بعضاً منها ما ورد في كتابي " النزاع العراقي - الإيراني"، بيروت، 1981، وما جاء في مقالة بحثية بعنوان: "القضية القومية الكردية والحزب الشيوعي العراقي"، مجلة الحرية، العدد 87 (1162) في 21/10/ ، 1984. ومقالة أخرى الموسومة "القضية الكردية والحرب العراقية - الإيرانية"، مجلة الحرية، العدد 96  (1171) في 23/12/1984،. وهو ما أصبح نهجاً  لي في  معالجة الوضع العراقي.
أين دور المثقفين؟
       ويعود الإهتمام بالقضية الكردية أيضاً إلى شعوري أن ثمّة دور للمثقّفين لا بدّ أن يلعبوه كما كانوا في خمسينيات القرن الماضي، بهدف بلورة رؤية خارج الأطر الرسمية، بحيث تساهم فيها النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية - الكردية اليسارية والقومية . وقد أخذت على عاتقي تحويل الفكرة إلى مبادرة، وهذه الأخيرة إلى فعل قابل للتنفيذ بتشكيل لجنة تحضيرية للملتقى الفكري الذي اتخذ من "الحوار العربي - الكردي" عنواناً له، وضمّت اللجنة التحضيرية للملتقى أعضاء من اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان وساهم معنا من الأصدقاء الكرد سامي شورش كعضو في اللجنة التحضيرية، وانعقد المؤتمر في المركز الثقافي الكردي الذي كان يرأسه محمد صدّيق خوشناو حينها.
     وقد اخترنا عدداً متكافئاً من الكرد والعرب (25 + 25) بحيث يكون المجموع 50 مثقّفاً وحضرت وسائل الإعلام المختلفة، وبعض الصحافيين مثل عبد الوهاب بدرخان وحازم صاغية وكاميران قرداغي، وكانت الشخصيات العربية والكردية  تمثّل الألوان المتنوّعة في الساحة الثقافية والسياسية والفكرية. 
      ووقع اختيارنا من العراق على خمسة شخصيات أساسيّة تمثّل كلّ منها تيّاراً فكرياً فعامرعبد الله رمزاً للشيوعيين والماركسيين وهاني الفكيكي عن البعثيين والقوميين والسيد محمد بحر العلوم عن الإسلاميين وعبد الكريم الأزري أقرب إلى التيّار الملكي المنفتح وحسن الجلبي من التيّار الليبرالي الأكاديمي القريب من التوجه الغربي، إضافة إلى حضور عراقي لعدد من الشخصيات المهتمّة، ومن العرب حضرت شخصيات من مصر و سوريا والسودان و لبنان  وفلسطين و المملكة العربية السعودية و البحرين و ليبيا.
     ولعلّ مثل هذا الحضور النوعي والجغرافي كان الأول من نوعه في إطار حوار مفتوح دون أجندات مسبقة أو إصطفافات مبيّتة، بل كان الغرض منه التعرّف على واقع المطالب الكردية وعلى لسان الكرد بشكل حر وفي إطار مواقف عربية بعضها يستمع لأول مرة إلى واقع التنوع القومي في العراق، ناهيك عن ما تعرّض له الكرد من مظالم. 
     وكان التمهيد لذلك الحوار محاضرة ألقيتها في مركز آل البيت الإسلامي في لندن ( بإدارة السيّد محمد بحر العلوم) والموسومة "القضية الكردية في الفكر السياسي العراقي " (31/5/1992)، ومحاضرة أخرى في المركز الثقافي الكردي، نشرتها في جريدة الحياة بعنوان:" الفيدرالية وحق تقرير المصير: جدل الحاضر والمستقبل"، (حلقتان في 2 و 3 آب/ أغسطس 1992 ).
القرار 688
       ترافق ذلك التوجّه بعد فشل مفاوضات بغداد و صدور القرار 688 في 5 نيسان/ أبريل 1991 من مجلس الأمن الدولي حيث عادت القضية الكردية إلى الأروقة الدولية، وخصوصاً في الأمم المتحدة، حيث أكد القرار المذكور على وقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقيّة مناطق العراق، بل اعتبر هذا القمع "تهديداً خطيراً" للسلم والأمن الدوليين، ودعا إلى احترام الحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين، وذلك في إطار الدعوات التي ارتفعت لاحترام حقوق الإنسان، لاسيّما بعد تحلل الكتلة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات، كما طلب تقديم تقرير دوري إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
     وبسبب مشاهد الهجرة الجماعية وما رافقها من دعوات إنسانية، وأخرى تتعلّق بتداعيات ما بعد غزو الكويت وتدمير العراق، قررت حكومات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منع الطيران العراقي من التحليق فوق خط العرض 36 باعتباره منطقة آمنة "الملاذ الآمن " Safe Haven ، وقد شملت المنطقة الكردية التي تأسست فيها إدارة ذاتية بعد إنسحاب الإدارة الحكومية في نهاية العام 1991 وإجراء إنتخابات لأول برلمان في كردستان (ربيع العام 1992) ، وتأليف أول حكومة لإقليم كردستان، الذي قرر برلمانه في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1992 اختيار الفيدرالية كشكل للعلاقة المستقبلية مع عرب العراق. وهو ما تقرّر في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة
        وإذا كان من يقرّر مصير العلاقة العربية - الكردية هي الجهات السياسية، خصوصاً القابضة على السلطة، فإن رأياً عاما يمثّل تيارات مختلفةً وبقوة ناعمة ومتنوّعة ، وخصوصاً بحضور نوعي للمثقفين، يمكن أن يؤثر في التوجه العام، وذلك بالتراكم والتطوّر التدرّجي، حتى وإن جاء بعد حين. ولم يكن بيان 11 آذار /مارس 1970 ، سوى ثمرة لتراكم كمّي طويل الأمد وصل إلى مثل هذا التغيير النوعي.
       إن فكرة الحوار تنمّ عن رغبة في إيجاد حلول ومعالجات، ووضع مخرجات للتطبيق يمكن أن تكون خلفية لأصحاب القرار، فالحوار العربي – الكردي، الذي كنّا وما زلنا ندعو له هو حوار معرفي وثقافي وفكري وحقوقي يبدأ من منطلقات المصير المشترك والحقوق المتكافئة وتوسيع الخيارات بما يستجيب لمصالح الشعبين العربي والكردي، ومن مقاصده أيضاً لفت الإنتباه إلى أهمية حلّ القضية الكردية كمسألة مركزية بالإرتباط مع مسألة الحكم في العراق على صعيد السلطة والمعارضة، وكان شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"  يمثّل جزءًا مهماً من الحركة الوطنية وعموم الحركة الكردية منذ الستينيات.
     والحوار يعبّر عن  درجة عالية من الوعي والمسؤولية والشجاعة في تناول المشكلات بصراحة ووضوح وأفق مستقبلي أيضاً، دون نسيان الحواجز الفعلية والوهمية التي تعترض هذه الطريق، بما فيها مواقف بعض القوى القومية العربية السلبية ولا أبالية الحركة الدينية الناشئة التي لم تتّخذ موقفاً فعلياً من الحقوق الكردية حتى العام 1992، بل ظلّ موقفها أقرب إلى جملٍ عمومية متفرّقة.
مناظرة بعد 30 عام
      على هذه الأسس والخلفية التأمت  مناظرة بعد 30 عاماً في مدينة الثقافة والجمال السليمانية ضمّت كاتب السطور والسياسي والمثقف  الكردي الفطن والجريء ملّا بختيار ( حكمت محمد كريم) القيادي في حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس جلال طالباني في العام 1975 ، لتناقش بجو حضاري وشفافية عالية المشكلات القديمة والجديدة، بما فيها ما احتواها الدستور النافذ لعام 2005 ، وكان هدفها الأساسي البحث عن المشتركات وتوسيع دور المثقفين في تعزيز العلاقات بحثاً عن السلم والمساواة والجمال.
     جدير بالذكر أن المناظرة التي خصصت لها جلسة مستقلة و لقيت اهتماماً بالغاً، حيث تم نقلها مباشرة عبر يوتيوب، كانت ضمن جدول أعمال  فعالية ثقافية عربية تم تنظيم جلستها الأولى في مدينة العمارة ( جنوب العراق) لتجمع عدد من المثقفين العرب تحت عنوان "مؤتمر القمّة الثقافي" الذي ينسّق أعماله الأديب محمد رشيد، فجاءت المناظرة  مترافقة مع انعقاد الجلسة الثانية في مدينة السليمانية.
     وكان الحوار خارج دائرة المدح أو القدح وبعيداً عن الولاء أو العداء أو التأييد أو التنديد أو التقديس أو التدنيس، بل تمّ طرح القضايا ذات الإهتمام المشترك بروح الصداقة المتبادلة وضمن أجواء حضارية ومستقبلية، بما فيها تباين وجهات النظر واختلاف زوايا الرؤية في الماضي والحاضر.
     فماذا يريد الكرد من العرب؟
     وماذا يريد العرب من الكرد؟
     وكيف السبيل لطي صفحة الماضي البغيض خصوصاً تعامل الحكومات المتعاقبة مع حقوق الشعب الكردي، تلك التي اقترنت بالتمييز والعسف والاضطهاد، ومنذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ، وكان أكثرها قسوة من جانب النظام البعثي السابق، على الرغم من أن الإعتراف بحقوق الشعب الكردي الأولية، كان قد تقرّر في بيان 11 آذار/ مارس 1970 وأُدرجت في الدستور العراقي الصادر في تموز/ يوليو 1970 ، وتلك مفارقة كبيرة أيضاً تستحق التوقف عندها، وقد سبق لي أن أضئت بعض جوانبها.


نصوص دستورية
      كان أول نص دستوري تقرّر فيه "شراكة العرب والكرد" في الوطن العراقي قد ورد في الدستور العراقي المؤقت الذي خطّه يراع الطيّب الذكر الفقيه القانوني حسين جميل في العام 1958 بُعَيد ثورة 14 تموز/ يوليو، وأهم من ذلك، بعد اتفاق 11 آذار/ مارس 1970 حيث ورد النص دستورياً " أن العراق يتألّف من قوميّتين رئيسيّتين هما العربية والكردية ...." وهو إعتراف صريح وواضح بالحقوق السياسية والإدارية والثقافية، وكل ذلك في إطار الإئتلاف والإختلاف، من خلال الإقرار بخصوصية الشعب الكردي في العراق، وهذه تقود منطقياً إلى الإعتراف بمقوماته بما فيها حقّه في تقرير المصير.
      وهذا لا يعني بالضرورة الانفصال كما يذهب البعض إلى ذلك، وهو إعتقادٌ خاطئ من أي جاء، فالعديد من القوميات والشعوب والمجموعات الثقافية والإثنية والدينية والسلالية واللغوية تعيش في دول متعددة الثقافات وفي إطار حقوق متساوية دستورياً، بغضّ النظر عن عددها وحجمها، لكن الإقرار بكيانيّتها وخصوصيّتها يمنحها مثل هذا الحق الذي يمكّنها التمتع فيه كحق قانوني واستخدامه بطريقة إيجابية، وتعود المسألة في أغلب الأحيان إلى درجة تطوّر المجتمع والثقافة السائدة ودور النخب الفكرية والثقافية والسياسية من الأمة" المضطهِدة" ومدى تضامنها مع الأمة "المضطهَدة"  حسب تعبير كارل ماركس " لا يمكن لشعب يضطّهِد شعباً آخر أن يكون حرّاً" ، أي لا بدّ من الاعتماد على شكل من أشكال الإستقلالية المتجسّدة بالحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية وصولاً إلى إقامة كيانيّة خاصة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً، وهو مثل الطلاق على حدّ تعبير لينين ( أبغض الحلال عند الله ).
     إن مثل هذه المواقف مرهونة بالظرف الموضوعي والذاتي للطرفين ومدى توافقهما على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وعلى درجة الإصطفاف في معسكر الأصدقاء أو معسكر الأعداء. أي على مدى تضامن الأمة الأكبر مع الأمة الأصغر  في نبذ الإستعلاء والهيمنة مقابل نبذ الأمة الأصغر للتعصّب والانغلاق، سواء حين يتقرر الإتحاد الإختياري الأخوي في ظل شراكة متكافئة، ومواطنة كاملة ومتساوية أو حين يتقرر الإنفصال، علماً بأنه ليس كل انفصال يقضي إلى تطور ورفاه وتنمية، إلّا إذا توفّرت ظروفه الموضوعية والذاتية، وتجربة جنوب السودان الذي انفصل باستفتاء حاز على 98% لصالحه وبإشراف من الأمم المتحدة لكن أوضاعه زادت سوءًا وحالته تدهوراً.
دروس التاريخ
     إن دراسة التاريخ ضرورية، فالتاريخ مراوغ وماكر حسب هيغل، ووفقاً  لماركس "ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم" بمعنى من المعاني أن الحياة هي التي تحدّد الوعي، وبالطبع  فلكل تاريخ فلسفته ، وفلسفة تاريخ القمع ضدّ الكرد، ليست سوى الانجراف بالضدّ من الصيرورة الإنسانية. وهو الأمر الذي يثير أسئلة مقلقة بشأن استخدامات القوة والعنف واللجوء إلى السلاح  لحل الخلافات، خصوصاً من جانب القوى المهيمنة، وإذا كانت قوّة الحق وقوة المقاومة متّسقة برفض من جانب الجهات التي تتعرّض للقمع، ففي وجهها الثاني تضامنٌ من جانب الأصدقاء في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، خصوصاً وأن الشعب الكردي تعرّض منذ تأسيس الدولة العراقية أي قبل 100 عام إلى إنتهاكات سافرة على حد تعبير ملّا بختيار.
      وكانت الكثير من القوى تتّخذ من حقوقه موقفاً سلبياً أو لا مبالياً حتى فترة قريبة. وقد حاولت جميع الحكومات التي تعاقبت على سدّة الحكم استخدام الوسائل العسكرية و العنفيّة في مواجهة مطالبه العادلة والمشروعة، لكنها لم تتمكّن من فلّ عزيمته، كما أنه لم يستطع نيل حقوقه وتحقيق آماله بوسائل المقاومة العنفية على أهميتها وعلى اضطراره إليها، الأمر الذي يقتضي التفكير مليّاً بالوسائل السلمية والمدنية أسلوباً مرجّحاً وغالباً لتحقيق طموحاته، وهو ما ينطبق اليوم على علاقة إربيل ببغداد وعلى حلّ القضية الكردية في كل من إيران وتركيا، إضافة إلى مستقبل الإدارة الذاتية الكردية في سوريا وعلاقتها مع الدولة السورية.
الحوار الثاني
      إذا كان أول حوار عربي – كردي من النوع الذي جرت الإشارة إليه انعقد في لندن في العام 1992 ، فإن الحوار الثاني التأم في القاهرة في العام 1998 بعد وقف الإقتتال الكردي - الكردي 1994 - 1998  بالتعاون مع لجنة التضامن المصرية برئاسة أحمد حمروش وشارك في التحضير له الصديق عدنان المفتي (ممثل عن أوك) وعمر بو تاني (ممثل عن حدك) ، وحضره نحو75  شخصية بينهم عدد كبير من الشخصيات الكردية وعدد قليل من عرب العراق من بينهم كاتب السطور الذي حضّر بحثاً رئيسياً وعدد من الشخصيات المصرية البارزة ، وكان مؤتمر القاهرة استكمالاً وتواصلاً للحوار الأول وشارك فيه جلال الطالباني، زعيم الإتحاد الوطني الكردستاني وعدد من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني وبمباركة من رئيسه مسعود البارزاني. 
     لكن هذا الحوار المتكافئ والموضوعي كان يمكن تطويره و مأسسته، وجرت محاولات على صعيد تشكيل جمعيات للصداقة العربية - الكردية، فضلاً عن دعوات لقيام معهد للدراسات العربية - الكردية، إلاّ أنه بعد إحتلال العراق العام 2003 اتخذ أشكالاً أخرى ، وذلك باستقطابات جديدة، فإما كان أقرب إلى مهرجانات تأييد ومبايعة وولاء دون حوار يطرح الإشكالات أو يقترح حلولاً ومعالجات أو يناقش وجهات النظر المختلفة، حيث ظلّت معظم المشكلات عائمة دون حلول، وانعكس ذلك في دستور العام 2005 ، الذي زاد من حدّة الإختلاف بسبب الألغام العديدة التي احتواها لدرجة أن الفرقاء الذين أقروا الصيغة الفيدرالية حين كانوا في المعارضة وفي مؤتمر صلاح الدين العام 1992  ظهروا كمتخاصمين، بل أقرب إلى "الإخوة الأعداء" باقتباس من عنوان رواية الشاعر والمفكّر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، وهو ما انعكس في صياغات غامضة وملتبسة ومشفّرة تكاد تنفجر عند أول منعطف أو اختلاف كما حصل عند استفتاء إقليم كردستان ، وأصبحت مع مرور الأيام عُقداً تضاف إلى العُقد المُزمنة والمشاكل المعتّقة.
الاستفتاء
      كان الإستفتاء الكردي في 25  أيلول/ سبتمبر العام 2017 مجسّاً جديداً للعلاقات العربية – الكردية، وكاد الأمر أن يؤدّي إلى صدام لا يحمد عقباه على الرغم من خطر داعش الإرهابي (تنظيم الدولة الإسلامية)  الذي كان ما يزال يحتل الموصل وأجزاء أخرى من محافظات صلاح الدين والأنبار وله جيوب في كركوك وديالى . وانقسمت النخب وسط تأجج للمشاعر واستدرار  للعواطف بين مؤيد بلا حدود للإستفتاء، حتى وإن لم يكن مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب الكردي، ولكن لمكاسب وامتيازات وطموحات ومساومات سياسية وخصومات معلنة أو مستترة وفقاً لميزان القوى، وبعضها الآخر رافض بالمطلق للفكرة أساساً منقلباً حتى على بعض مواقفه السابقة من تأييد حقوق الشعب الكردي، سواء لحسابات إقليمية أو لقصور في التفكير وضيق أفق ومحاولات للإستقواء.
      ولم يكن بعض هذه المواقف بعيداً عن دول الإقليم، وخصوصاً إيران وتركيا، وكلاهما وجّها رسائل واضحة وصريحة من جهة، ومن تحت الطاولة من جهة أخرى  ، بأن الإستفتاء لن يمرّ وسيعملان بكل ما يستطيعان على إفشاله، لإدراكهما ما سيكون له من تأثير على حقوق الشعب الكردي لديهما، فالبلدان يعانيان بأشكال مختلفة من إنسداد أفق إزاء حقوق الشعب الكردي في كل منهما ، فتركيا تلتهب فيها القضية الكردية منذ الثمانينيات وينشط فيها حزب العمّال الكردستاني PKK حيث ما يزال زعيمه عبد الله أوجلان رهن السجن منذ العام 1999 ، وهو صاحب فكرة "الأمة الديمقراطية "التي تكمن في إطارها تحقيق حقوق الشعب الكردي بالإعتراف به وبخصوصيته  وحقه في حكم نفسه بنفسه. أما إيران فما تزال تعتبر "القومية" بدعة وضلالة، وكل بدعة في النار، وبالتالي فأي مطالبة بالحقوق القومية تنظر إليها بصفتها استهدافاً للجمهورية الإسلامية.
      وإذا كان الإستفتاء قد حصل في إطار إقليم كردستان، وصوّت إلى صالحه الغالبية الساحقة من سكّانها، إلّا أن نتائجه ظلّت مقتصرة على الرغبة المعلنة، وهي خيار استراتيجي كردي مع معارضة قوى داخلية وإقليمية وتحفّظات دولية. وكان وزراء خارجية كل من إيران وتركيا وسوريا يلتقون منذ مطلع التسعينيات ولغاية وقوع العراق تحت الإحتلال  العام 2003 ، وفي كل اجتماع ، تتم الإشارة إلى حالة الفلتان الأمني والفوضى والمخاطر على الوحدة الوطنية العراقية، وليس ذلك سوى التعبير عن خشية من انتقال مثل تلك الحالة إليها، وخصوصاً ما يتعلق بقيام كيانية كردية.
اللحظة التاريخية
    إذا كنّا قد تحدثنا عن المؤيدين والمنددين لخيار الإستفتاء، فثمّة فريق ثالث وإن كان الأقل عدداً ولكنه الأكثر وجدانية وصميمية بتأييده حقوق الشعب الكردي كاملة وغير منقوصة، بما فيها حقّه في تقرير المصير، ولكن قرار مثل ذلك القرار المصيري لابدّ من دراسته بدقّة وإحكام، بما فيه قياس درجة تقبّل الوضع الإقليمي والدولي، إضافة إلى حشد قوى صديقة ومجتمعية في الداخل العراقي، كيما تتوفّر له عوامل النجاح والإستمرارية والديمومة، خصوصاً وأنه سيقود إلى إحداث تغيرات جيوبوليتكية في الحال أو في المستقبل، الأمر الذي يقتضي حساب اللحظة التاريخية  في الإختيار والتوقيت استراتيجياً وتكتيكياً، بما لها علاقة  بمستقبل الشعب الكردي وطموحاته المشروعة،إضافة إلى علاقته المستقبلية  بالشعب العربي وظروف توازن القوى في المنطقة كي لا يكون عرضة لإختراق القوى الإقليمية، خصوصاً ما يتردد عن تأييد مجاني يشكّل إستفزازاً لمشاعر عربية من جانب "إسرائيل" مستغلّة ومستفيدة من اضعاف أي كيانية عربية من خلال تأجيج نار الصراع والإحتراب وصولاً إلى تفتيتها أو تقسيمها.
      وحتى بعض القوى الدولية التي كان يُعتقد تأييدها لخطوة الإستفتاء، فإن موقفها كان سلبياً ومتحفظاً، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان بعض المسؤولين الكرد يعوّلون عليها، لأنها وضعت مصالحها الحيوية في العراق والمنطقة، قبل أي اعتبار آخر.
     وعلى الرغم من  استراتيجية واشنطن المعلنة والتي بلورها على نحو واضح برنارد لويس منذ نهاية السبعينيات، إلاّ أن إختيار اللحظة التاريخية مسألة ينبغي أن تُؤخذ بنظر الإعتبار بقراءة المستجدات والمصالح الدولية، إذْ لا تكون أحياناً متوافقة أو متطابقة مع متغيّرات محليّة ولكل ذلك سياقاته الجيوبوليتكية في الصراع والإتفاق وبما ينسجم مع المصالح الحيوية كما تسميها القوى المتنفّذة.
     لقد نظّر برنارد لويس  لفكرة تقسيم العالم العربي إلى دويلات إثنية ودينية وطائفية ومناطقية وغيرها، حتى أنه اقترح خريطة ضمّت 41 كياناً، وهكذا يصبح الجميع "أقليّة "، وتكون حينها "إسرائيل" الأقلية المتفوقة تكنولوجياً وعلمياً، لاسيّما بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص  والغرب عموماً، وكان إيغال ألّون في سياساته الإستيطانية الطويلة الأمد وصولاً إلى إجتياح لبنان ومحاصرة العاصمة "بيروت" 1982 قد تبنّى سياسة القضم التدرّجي للأراضي الفلسطينية وتفتيت العالم العربي، وهو مشروع قائم ومستمر بأشكال مختلفة، وكان آخرها وليس أخيرها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي روّج له جورج بوش الإبن عند احتلال العراق، ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة  بعد العدوان "الإسرائيلي" على جنوب لبنان في العام 2006  ومشروع جو بايدن الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات أقرب إلى "كانتونات" أو "دوقيات"  والذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي العام 2007 ، وهو وإنْ ما يزال في الأدراج إلّا أنه يُمكن تحريكه باللحظة المناسبة فيما إذا اختارت الولايات المتحدة ذلك، وقد دعا الرئيس دونالد ترامب إلى مشروع صفقة القرن ، والذي هو استمرار لإتفاقية  سايكس – بيكو ولكن بطبعة جديدة، وكان الفلسطينيون قد خسروا وطنهم في الصفقة الأولى، ولم يتمكّن الكرد من تلبية طموحهم في وطن موحّد كما جاء على لسان الملّا بختيار في مناظرة السليمانية.
      وحتى بعد إتفاقية سيفر لعام 1920، التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد  والتي تم تسويفها بمعاهدة لوزان العام 1923حين قرّر الحلفاء المساومة لحساب تركيا، كان الضحية الشعب الكردي وشعوب المنطقة جميعاً، خصوصاً بعد وعد بلفور العام 1917 القاضي بمنح اليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين، وتمهيداً لذلك كان الإنتداب البريطاني على فلسطين في العام 1922 ، بعد أن تقرر الأمر في مؤتمر سان ريمو العام 1920.
         وحين أستعرِضُ تاريخ المنطقة، فإنما أريد الإضاءة على إشكالية إتخاذ القرار بالتساوق بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، دون أن يعني ذلك تخفيض سقف مبدأ حق تقرير المصير.  وبالعودة إلى قرار الإستفتاء الذي أثار زوبعة من العداء والكراهية والإتهامات المنفلتة من عقالها، حيث عادت لغة التخوين والتشكيك، ووجد البعض ضالّته بإذكاء نار الصراع، فأحيا من جديد ما توفّر في القاموس القديم بما فيه استخدامات الأنظمة السابقة ومعارضاتها، ولعبت القوى الأكثر تطرفاً في الضرب على الأوتار الحساسة لدى الجانبين العربي والكردي. فماذا يتطلّب الأمر من المثقفين المؤمنين بقيم الحرية والتحرّر وحق تقرير المصير؟
الأمير الحسن وحوار عمان

 كمثقّفين يهمّنا إقامة علاقات سويّة ومتكافئة ومتساوية وسلميّة، خصوصاً بما يجمعنا من قيم مشتركة أساسها نبذ التمييز ورفض الظلم والإستبداد والإضطهاد والدفاع عن الحقوق والحريات وصولاً إلى سلام عادل يلبّي طموح الكرد في إطار المصالح الوطنية العليا والقيم الإنسانية، ولكي يتم توسيع دائرة الحوار ونزع فتيل النزاع بادر سمو الأمير الحسن بن طلال بقناعة بالدعوة الخيّرة لرأب الصدع وإعادة اللحمة، خصوصاً بين المثقّفين الكرد والعرب، فدعا في عمان إلى حوار عربي – كردي في 1 آذار/ مارس 2018 ، ساهم فيه مثقّفون كرد وعرب من الأقطار العربية المختلفة، وبينهم بالطبع من العراق أيضاً.
 وطرح لقاء عمان بلاتفورم للعمل عليه فيما يتعلّق بتعزيز الروابط الثقافية والفنية والأدبية وتشجيع الترجمة وتبادل الزيارات وإقامة فاعليات وأنشطة مشتركة على جميع المستويات الفنيّة والرياضية والإجتماعية، يكون سقفها الإحترام المتبادل ومراعاة الخصوصية والهويّات المتعدّدة بما يجمعها من مشتركات عامة. وصدر في كرّاس بعنوان " الحوار العربي - الكردي" - خلاصة أعمال ندوة عقدها منتدى الفكر العربي في 1 آذار/ مارس 2018.
وقد أُجريت جولة الحوار العربي - الكردي، الفكري والثقافي بشفافية عالية واعتمدت كأساس لإقامة جولة ثانية موسّعة للحوار وفقاً للبلاتفورم الذي وضعه منتدى الفكر العربي، ولولا اجتياح المنطقة والعالم أجمع جائحة كورونا (كوفيد-19) لكان من المقرّر التواصل لتحديد موعد للجولة الثانية.

حوار أعمدة الأمة الأربعة
واستناداً إلى نجاح فكرة الحوار العربي - الكردي، بادر سمو الأمير الحسن لتبنّي مقترح تنظيم جولة لحوار مثقّفي الأمم الأربعة: الكرد والفرس والترك والعرب في 23 تموز/ يوليو 2018 ، وكان أول لقاء لوضع هذا المقترح موضع التنفيذ قد حصل في تونس في إطار المعهد العربي للديمقراطية 2016  بمبادرة من كاتب السطور ، وشارك فيه شخصيات كردية وفارسية "إيرانية" وتركية وعربية، وتأسّس وفقاً له لاحقاً منتدى التكامل الإقليمي في بيروت 2019، إلاّ أن جائحة كورونا وظروف التباعد حالت دون تنشيط دوره، علماً بأنه عقد لقاءً تشاورياً في تونس أيضاً في مطلع العام 2020.
وبالعودة إلى مبادرة سمو الأمير الحسن فقد انعقد "مؤتمر أعمدة الأمّة الأربعة" بحضور شخصيّات من تركيا وإيران وكردستان (العراق) والبلاد العربية. وتجري الإستعدادات لعقد لقاء جديد يستكمل اللقاءين السابقين، العربي - الكردي و"أعمدة الأمة الأربعة"، وقد انعقد لقاء تشاوري للجنة مصغّرة ضمّت ممثلين عن مثقفين من الأمم المشار إليها .



السليمانية : التواصل والتكامل

 تواصلاً مع مؤتمرات الحوار العربي - الكردي منذ 30 عاماً، فإن المناظرة الفكرية التي انعقدت في السليمانية 3-5  أيلول/سبتمبر 2021، والتي تحدّث فيها ملّا بختيار وكاتب السطور، أعادت طرح الإشكالية  التي هي العنوان العام لجميع الحوارات: ماذا يريد الكرد من العرب وماذا يريد العرب من الكرد؟ وكيف السبيل لتعزيز دور المثقفين للتفاعل والتواصل في إطار المشترك الإنساني؟
ومن خلال المداخلات وعلى هامشها أيضاً تم التفكير في سبل جديدة لبحث و تطوير ما هو مشترك وصولاً إلى ما هو خلافي، أو العكس البدء مما هو خلافي لتنقية الأجواء وصولاً إلى ما هو مشترك، وذلك بالعمل على إزالة العقبات التي تعترض طريق المثقفين والثقافة التي هي  المظلّة التي يستظلّون تحت لوائها، كما يمكن تحديد الأولويات بدءًا بالمواطنة وفكرة الإتحاد الإختياري والعيش المشترك، من خلال مناقشة التجارب العملية، سواء ما هو قائم منها أو ما هو محتمل إبتداءً من الحكم الذاتي ومروراً بالفيدرالية وصولاً إلى الكونفيدرالية، مثلما يمكن مناقشة حق تقرير المصير في تجليّاته الحقوقية والسياسية، بجوانبها النظرية والعملية بما فيه تشكيل كيانية خاصة بالكرد فيما إذا رغبوا بالإستقلال وتكوين دولة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً.

"الضد" واﻠ "مع"
 الأمر لا يتعلّق بالرغبات (ضدّ أو مع)، بل بتوازن القوى والمصالح وإمكانية الإستمرار في كيانية كردية خاصة دون تداخلات أجنبية، وخصوصاً إقليمية، ناهيك عن ضغوط دولية، فما هو دور المثقّف الكردي النقدي التنويري التبصيري؟ وأين يكمن جوهر ثقافته؟ وكيف السبيل للتواصل مع شقيقه المثقّف العربي في العراق والعالم العربي، ناهيك عن المثقف الإيراني والمثقف التركي ؟ والأسئلة ذاتها هي التي تواجه المثقّف العربي في العراق، فما هو دوره؟ وكيف ينظر إلى مطالب شقيقه المثقّف الكردي؟ وماذا يريد منه؟
 ففي بعض المواقف ثمّة اختبار لصدقية وإنسانية وثقافة المثقّف، إذْ كيف يمكن تطويع وسيلته الإبداعية لخدمة القيم الإنسانية والجمالية؟ ثم ما السبيل لتواصله مع شقيقه المثقّف الكردي في كردستان العراق أو في بقية أجزاء كردستان؟ ويتطلّب الأمر النظر بحيوية وتكافؤ دون إستعلاء أو تسيّد أو ادعاء بالأكثرية العددية من جانب المثقّف العربي ودون تعصّب أو انغلاق من جانب المثقّف الكردي.

الراهن مستمر
مثل هذه الأسئلة الراهنة، كانت "راهنة" دائماً وعلى قدر كبير من الحساسية في وقت تمّت الدعوة لأول حوار عربي – كردي في العام 1991 خارج الأطر الرسمية حين التأم في العام 1992 ، ويتذكّر الأحياء من الذين حضروا المؤتمر الأول للحوار وهم كثر من العرب والكرد كيف سارت وجهة الحوار في بداياتها؟ وكيف انتهت إليه في خاتمتها وهو ما يعزز الثقة بالحوار وأهميته وأفقه المستقبلي؟
وهو ما يمكن الإجتماع عنده كمثقفين وأصدقاء معنيين بشؤون الثقافة وبالدور المنشود للمثقّف، خصوصاً حين يكونون على قناعة بأهميّة العلاقات العربية – الكردية ليس ببعدها السياسي فحسب، بل بأبعادها الجيوسياسية والثقافية والإجتماعية  والصداقية والإنسانية.
وبما أن المثقّف ناقدٌ فمن خلال النقد والنقد الذاتي والمراجعات الضرورية يمكن التوصّل إلى مشتركات لتجسير الفجوة بين المثقّفين أولاً، وإزالة بعض الحساسيات والعوائق خارج دوائر الإستتباع والهيمنة أو الإنعزالية والإنغلاق، وهو ما ينبغي البناء عليه في إطار علاقات  حميمية وصادقة، فلا الولاء أوالمديح أوتأييد السياسات بما لها وما عليها، ولا العداء أوالتجريح أو الشوفينية ، تستطيع بناء علاقات صادقة وصافية ومحترمة وواعدة في الآن، تلك التي تعني توسيع خيارات الناس في التنمية والتقدّم والإزدهار.
لقد كانت مناظرة السليمانية علامة مضيئة على طريق الحوار العربي – الكردي، خصوصاً وأنها من السليمانية وكردستان، لذلك فإنها ستكون خطوة إيجابية وموفّقة لتعضيد المبادرات العربية على هذا الصعيد، وبالتالي يمكن أن تكون نواة لحوار قادمٍ بين مثقّفي الأمم الأربعة الذي هو الآخر يحتاج إلى مأسسة وإدارة وتواصل في الحقول المختلفة.

حوار 50 عاماً أفضل من ساعة حرب
     أعتقد إن السبيل لبلوغ الأهداف المشتركة هو الحوار، وكما قيل حوار 50 عاماً أفضل من حرب ساعة، فالحرب ستترك ويلات ومآسي وآثار إجتماعية ونفسية وجروح يصعب إندمالها أحياناً وذاكرة قد تتّجه إلى الكراهية والحقد والإنتقام، فما بالك حين يكون ضحيّتها الشعب الأعزل والجهات التي دُفعت إليها دفعاً، حتى وإن كانت خارج دائرة الصراع. 
     والحوار يتطلّب جهداً أكبر يجمع مثقّفين من تيّارات فكرية واجتماعية مختلفة، ليكونوا قوة ضغط وقوة إقتراح وقوة شريكة ومكمّلة في وضع الحلول والمقترحات، من خلال رؤية حقوقية - إنسانية، انطلاقاً من المشتركات والمصالح والمنافع المتبادلة.
     أعتقد أننا كنخب عربية وكردية بحاجة إلى حوارات معمّقة وتفاهمات استراتيجية واتفاقات طويلة المدى وثقة متبادلة وصراحة كاملة وشفافية عالية ونقد متبادل ونقد ذاتي أيضاً، لندفع بجهد السياسيين لعلاقات منزّهة خالية من الأغراض والتكسّب والمصالح الأنانية الضيّقة، والتفاهمات التكتيكية الطارئة والظرفية والصفقات، والتي سرعان ما تتبخر وتظهر عيوبها، وذلك بعيداً عن أجواء الغرف المظلمة أو المهرجانات الصاخبة ذات الطابع الدعائي والتي غالباً ما تأخذ جانب المجاملة والإحتفالية.
    وكنت لأكثر من مرّة قد أشرت إلى ضرورة مراجعة وتدقيق ما يحتاجه الطرفان العربي والكردي وكلاهما مستهدفٌ من قوى خارجية وأخرى داخلية لا تريد لهذا الملف أن يصل إلى غاياته المنشودة ، وكان آخرها في المنتدى الأكاديمي الدولي بالتعاون بين جامعتي كويسنجق وبغداد 28 - 29 نيسان/ أبريل 2019 وفي بحثٍ عن "المثقف ومسألة التعايش المشترك" حاولت أن أضع أمام المعنيين عدداً من القضايا التي تحتاج منّا إلى وقفة جديّة لمراجعتها ومنها:
•   المحاولات الحثيثة لعزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك و
وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو إشكالي و خلافي، حيث يجري تضخيم "الفوارق" بدلاً من تعظيم "الجوامع". وفي هذا المجال هناك تفاصيل عديدة، تتعلّق باللغة والثقافة والترجمة والفنون والأداب والعلاقات بشكل عام.
•   تحميل العرب والعروبة وزر ما حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني. وبنظرة تعميمية تتحوّل ارتكابات النظام السابق وآثامه والأنظمة التي سبقته وكأنها ارتكابات من جانب العرب والعروبة، ومثل هذه النظرة تنطلق من رد الفعل بعيداً عن العقلانية النقدية الإيجابية، ناهيك عن الواقع.
أما من جانب العرب فيتم:
•   اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير ودعوتهم لإقامة كيانيّة خاصة مستقلة بهم (دولة) ، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال. ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكّام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب السياسية الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمّله المثقفون الكرد، ناهيك عن الشعب الكردي.
•   عدم اكتراث بعض عرب العراق وقسم كبير من القوى السياسية، فضلاً عن المثقّفين العرب من بلدان عربية أخرى بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة، وكأن الأمر لا يعنيهم، في حين أنهم يطالبون الكرد باتخاذ مواقف تضامنية مع العرب في كل مكان، وخصوصاً فلسطين، إلا أنهم يقفون موقفاً سلبياً إزاء حقوق الكرد.
•   عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بحساسية العلاقة مع "إسرائيل" المنتهِكة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير.
•   وعلى الطرفين العربي والكردي عدم تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى. والأمر يشمل النخب السياسية بالدرجة الأساسية، والنخب الفكرية والثقافية والحقوقية أيضاً وإن بدرجة أدنى.

وعلى الطرفين العربي والكردي تبديد المخاوف والشكوك إزاء بعضهما البعض، إذْ لا بدّ للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد وذلك من خلال تعزيز وتوطيد العلاقة والتفاهم والمشترك الإنساني، والاعتراف بحقوقهم وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير بكل ما يتضمنه هذا الحق وما يعنيه من مضامين، لا باعتبارها منّة أو هبة أو هديّة، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم وانسجاماً مع النفس في الإنتصار للمظلوم والشريك في الوطن، فضلاً عن مبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمواطنة المتكافئة التي هي الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الدولة ، مثلما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الشركاء. فالكرد أمة مثل بقية الأمم لها الحق في تقرير مصيرها وتحقيق الوحدة الكردية الكيانية، مثلما العرب أمة قسمها المستعمرون أيضاً ولها الحق في إقامة الوحدة العربية. وهو ما ينبغي أن يُؤطّر قانونيّاً وفي سياق دستوري مُتّسق.

كما لا بدّ  للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءًا من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي، علماً بأن  لا سعادة للعرب من دون الكرد، ولا سعادة للكرد من دون العرب في العراق، لأن مصيرهما مشترك وذلك قدر الجغرافيا، سواء أكان نقمة  أم نعمة.
ولعلّ جميع هذه القضايا ستظل مطروحة للنقاش، وقد جاء بعض هذه القضايا في مناظرة المفكّر الكردي ملّا بختيار مع كاتب السطور عبّر فيها الطرفان برحابة صدر وموضوعية وشفافية عالية.
 
عوضاً عن الخاتمة
وفي الختام أودّ أن أشير إلى ما سبق وأن قلته منذ عقود من الزمن، وهو أن "أغلبيات" كثيرة اجتمعت في شخصي المتواضع، وذلك بمحض الصدفة، وهي أغلبيات دينية وقومية وحسب البعض مذهبية، وأزعم أنها أغلبيات شعبية، وخصوصاً دفاعي عن الفقراء والكادحين وعموم المظلومين، ولكن عروبتي التي أعتزّ بها وانتمائي الصميمي للحضارة العربية - الإسلامية ودفاعي عن المسحوقين ستكون ناقصة ومبتورة ومشوّهة إن لم أعترف بحقوق الآخرين وفي مقدمتهم الشعب الكردي الشقيق، ولاسيّما حقّه في تقرير مصيره.
وكنت كتبت رسالة خاصة للزعيمين الكرديين مسعود البارزاني و جلال الطالباني عشية غزو العراق واحتلاله في العام 2003 محذّراً من المخاطر الجمّة، وأكرر اليوم ما جاء فيهما فحتى لو تخلّى هذا الطرف الكردي أو ذاك لأسباب سياسية أو تكتيكية عن حق تقرير المصير، فسوف أبقى مدافعاً عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وخياراته الحرة لإيماني المبدئي، الفكري والحقوقي بذلك، ولأن ذلك حق قانوني وإنساني أيضاً، سواء بالإتحاد الإختياري الأخوي أو إقامة دولة مستقلّة صديقة للعرب، وأقول ذلك دون لبس أو غموض وبثقة وشفافية كمثقف يؤمن بقيم التحرر والحرية والسلام والتسامح وحق تقرير المصير. 


   
 
 
   

42
الأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان:
السلطة ذكورية ولا كتابة حقيقية دون جرأة


 
أورنيلا سكر

كاتبة وإعلامية لبنانية، رئيس تحرير موقع أجيال القرن 21 للدراسات والأبحاث الاستشرافية،
ليسانس الإعلام والاتصال جامعة نوتردام، لويزا، لبنان

 
جريدة القدس العربي 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2021
 
حاورته: أورنيلا سكر

في أعمال الناقد والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان تتداخل الأصوات والصور في هارموني يتوحد ويتعدد في آن. فما العلاقة بين الكاتب وما يكتب؟ أي بين الكاتب ونصه، فهل النص هو وجه آخر من وجوه الكاتب؟ أم أن النص سيرة كتابية للكاتب، خصوصاً في سردياته؟ وكمحاولة للإجابة على هذه الأسئلة يدور الحوار..
□ ماذا تعني لك الكتابة؟
■ الكتابة ينبوع حياتي ولا أريد لهذا الينبوع أن يجف أو يردم، ودائماً أحاول أن أملأه بالقراءة والتأمل والمراجعة.
□كيف تؤلف بين الكتابة والمنفى؟
■ إنهما رديفان لا يفترقان، فالمنفى هو الوطن الشاسع وفيه الأفق بلا حدود، ومع هذا الأفق أتماهى بالكتابة والحرية اللتين هما تعبير عن إحساسي بالوجود، مع ملاحظة أن كل عمل أنجزه يشعرني بالمزيد من القلق والمسؤولية، والمراجعة التساؤلية العقلانية النقدية، بتخليص أدواتي من التبشيرية الإيمانية المطلقة.
□أثمة صدمات واجهتك؟
■ نعم وكل صدمة أو نهاية مهما كانت مأساوية، فهي مفتوحة عندي على الحلم، الذي ينبغي له أن لا يتوقف أو يتبخر، فالأحلام لديّ متوالدة.
□وهل تنشغل بالحقيقة أم بالحدث؟
■ يعنيني الحدث مثلما تعنيني الحقيقة. والأخيرة ليست مشاطرة أو مغالبة، وإنما هي شكل أعلى للمعاناة الإنسانية.
□ أين إذن أنت من التفاصيل؟
ـ بقدر ما تكون التفاصيل مهمة وينبغي عدم الاستهانة بها أو إهمالها، إلا أنها ينبغي أن لا تؤثر في رؤيتي للمشهد العام، وهذا الأخير ليس بوسعه تجاوز التفاصيل، ففيها يكمن الشيطان أحياناً.
*أضرورة من جرأة للكتابة؟
■ لا كتابة دون جرأة، ولا جرأة دون نقد، وأي كتابة دون خلخلة ما هو سائد ليست بكتابة.
□ كيف تصنف نفسك.. مفكراً، أكاديمياً، ناشطاً سياسياً، مناضلاً؟
■ لا أحكم على نفسي، والحكم للقراء أساساً، وكل هذه الصفات متعلقة بالكتابة، ولذلك كم كنا نتمنى وجود نقاد بمستوى المسؤولية حسب الجواهري الكبير، لكانوا أغنونا هذا العناء. ولعل ميزة الكاتب الجيد أن كتبه تثير نقاشاً وجدلاً، وذلك في إطار نظرة موضوعية ليس هدفها تجاوز المألوف بقصدية وإغراض وإثارةٍ، وإنما الهدف هو طرح أسئلةٍ لنقدِ ما هو سائد باتجاه التنوير والتغيير واستشراف المستقبل.
□ تميل إلى التنظير؟
■ نعم وبين السرد والتنظير ثلاثية لا انفصام بينهما وهي: الكاتب والنص والقارئ.
□ لكنك تكتب سرديات تبدو كمشاريع روائية، لا تخلو من حبكة درامية.. هل تنوي كتابة رواية؟
■ سردياتي فيها شحنات شعورية وصراعات بين الجسد والروح والعقل، وبالطبع فالقلب حاضر دائماً. وسردياتي روايات لم تكتمل، وتظل تشغلني باستمرار وأتلقى سيلاً من الرسائل والمناشدات أحياناً لاستكمالها، أو لإعطاء تفسير لبعضها. وأنا شخصياً أترك القارئ يقرأ السردية على طريقته، ووفقاً لتقديراته وتفسيراته وتأويلاته، فربما الكاتب آخر من يعلم بنتيجة ما يكتب أحياناً.
□ ولمن تتوجه بكتاباتك؟
■ أربعة أنواع من الكتابة أزاوج بينها وأتنقل من واحدة إلى أخرى، وأحياناً أجمعها: وهي الكتابة الأكاديمية والجامعية (الأبحاث والدراسات والمؤلفات النظرية) والمقالة البحثية التي تجمع الصحافة بالبحث العلمي (معلومات، أرقام ودقة في الاقتباس) والكتابة الثقافية، وهي خلاصات نقدية وقراءات لأعمال ونتاجات وتقييمات لشعراء وروائيين وأدباء ومفكرين وباحثين، والكتابة السردية التي هي تجارب حياتية جامعة ومراجعات نقدية.
□ إذن أنت لا تميل إلى التخصص؟
■ التخصص ضروري، لكن ينبغي عدم الانغلاق عليه، ولا بد للمتخصص في حقل ما أن يكون ملماً بحقول أخرى يلاقح فيها اختصاصاته الأولى، فما بالك حين تصبح أحياناً متداخلة ومتعاشقة، فالقانون يحيلك إلى السياسة وهذه تأخذك إلى الاقتصاد، والاجتماع يدفعك إلى التاريخ، وكل شيء يجذبك إلى الفلسفة، مثلما يحتاج الأمر إلى قراءة الإبداع والنتاج الثقافي. وكل ذلك يمثل رافداً من روافد المثقف، وكلما اتسعت ثقافته ازداد موسوعية، وصقلت لغته وتمكن من أدواته، وحسب النفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».
□ في كتابك الجديد «دين العقل وفقه الواقع» أجريت مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي بشأن الإيمان، فمن هو المؤمن ومن هو غير المؤمن؟
■ الإيمان بالعقل ودون العقل يتحول الإيمان إلى صنمية وتقليد أعمى. أما الإيمان دون الضمير فيقود إلى تسلطية واستبداد وعنف وإرهاب، وكلاهما يقومان على التعصب ووليده التطرف، فإيمان العارف هو ليس مثل إيمان غير العارف فـ»هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ» (سورة الزمر). وحسب ابن عربي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
□ هل قلقك بشأن الإيمان معرفي أم شخصي؟
■ ينبغي عدم الانشغال بالإيمان واللاإيمان بما يصرفنا عن المهمات التي تواجهنا وهي تحقيق العدل والمساواة بين البشر وتمكينهم من مواجهة تحديات الطبيعة واستغلال الإنسان للإنسان، لصالح رفاههم وسعادتهم، وهي تخص المؤمن وغير المؤمن، فالكون يقوم على قوانين تم خلقها، وعلينا البحث عن تلك القوانين والأمر يتعلق بالوعي والمشترك الإنساني اقتفاءً بأثر ديكارت. الدين منجزٌ بشريٌ كبير وهو محاولة لطمأنة الإنسان بتفسير القوانين الكونية في إطار حدود العقل البشري، وهذا الأخير في تطور دائم ومستمر. وقبل الدين كانت الأساطير. وإذا كان ثمة نقد لبعض سلوكيات من نطلق عليهم «رجال الدين» فإن هذا النقد ينبغي أن لا يوجه إلى القيم الدينية والمُثل الإنسانية، وهم مثلهم مثل زعماء الأيديولوجيات الشمولية، يتصرفون بأتباعهم بما يشوه الجوهر الإنساني، سواءً كان الأمر باسم الجهل أو باسم التقدم، فكلاهما يحجبان حق التفكير والتعبير ويصادران العقل.
□ لماذا تفكك اليسار العربي إلى درجة التلاشي أحياناً؟
■ ثمة أسباب داخلية وأخرى خارجية لأزمة اليسار العربي، بل اليسار العالمي، وهي أزمةٌ مركبة وعضوية، فكرية بالدرجة الأساسية، ناهيك من تطبيقات وممارساتٍ مشوهة وقاصرة وبعضها لا إنساني. لعل حواري مع نفسي وفي خلواتي مثلما هو حواري مع التاريخ ومراجعةٌ لمنولوج داخلي نقدي، ووقفة تأملية لفحص الأخطاء الكبرى والصغرى في إطار الأزمة التي مرت علينا وعشنا بعضاً منها، وكان قلقي يكبر إلى درجة أنني قلت في إحدى مطارحاتي، كثيراً ما أجد نفسي خارج المؤسسة أو أغني بإيقاع مختلف عنها، حتى لو كنت في داخلها، لكنني لا أريد أحياناً أن أحسب نفسي عليها، لشعوري أنها تُفقد الإنسان خصوصيته الفكرية، وتحدد حريته في النقد، حتى لكأن المرء يشعر بأنه داخل سور أو كيان مغلق على نحوٍ محكم ويسود فيه جوٌ من النفاق العالي والقدر الكبير من التزلف.
□ هل يمكن أن تفسر أكثر؟
■ القصور والكسل الفكري قاد إلى تعويلية للمركز الأممي، ناهيك من محاولة اقتباس أو تقليد أعمى لتجارب تخص مجتمعات أخرى، وهو ما قاد إلى انفصام عن الواقع. فمن في داخل السور يصف من هم في خارجه بأنهم أشرارٌ أو فاسدون أو مخطئون على أقل تقدير. وهذه النظرة تمثل التوجهات الشمولية الماركسية أو القومية أو الدينية، وهناك جوانب مهمة لم تعالجها الماركسية، التي أولت اهتماماً بالجانب الاقتصادي، لكنها لم تولِ الجانب النفسي الاهتمام الذي يستحقه، مثلما جرى استخفافٌ بالدين، علماً بأنه رسم حياة البشر منذ الخليقة، وهناك جوانب تم إغفالها وهي حقول إنسانية مثل الميثولوجيا والانثروبولوجيا والنقد الأدبي والجماليات، وهي إن جرت عودةٌ إليها لكنها غير كافية، تحتاج إلى تلاقح مع مدارس فكرية أخرى. اليسار العربي بحاجة إلى إعادة قراءة واقع مجتمعاته وتطلعاته وتاريخه وتراثه، وتمثلها كتواصلٍ حضاري وهويةٍ تقوم أساساً على الثقافة واللغة والتاريخ المشترك.
□ هل لأن اليسار غير ديمقراطي؟
ـ شيئان لا يوجد أكثر منهما غموضاً والتباساً في الفكر اليساري وهما (الديمقراطية) و(الدولة) والسبب فقرٌ معرفي ووجهةٌ خاطئة، فاليسار عموماً فكر بالثورة على الدولة التي هي منجزٌ بشري هائل. وكانت المركزية عند اليسار تسبق الديمقراطية حتى في التطبيق، طبقاً للتأويلات السوفييتية لكتاب لينين «ما العمل؟» حتى أصبح أقرب إلى ديانة وإن كانت غير سماوية. صحيح أنه جرى اهتمام في الخطاب اليساري في العقود الثلاثة الماضية، إلا أنه ظل محدوداً، لأن ما هو غالب منذ الخمسينيات في التثقيف الماركسي هو أن سمة عصرنا «الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية» وكان اليسار عموماً يرفض فكرة التعددية، خصوصاً التي تمثل الطبقة العاملة، التي لا بد أن يكون لها برنامج واحد وحزب واحد، وخائنٌ من يجرب اجتهاداتٍ أخرى.. وهذا ديدن الفكر الشمولي بجميع مدارسه.
□ في حوار سابق تحدثت عن حب ما بعد السبعين.. أين أنت منه الآن؟
■ لا توجد سعادة أكثر من الحب، والحب حياة وبوح وحوار وصداقة وحلم وأمل. وهو جزء من ثلاثية سبق لي أن تكلمت عنها، وتتمثل في المرأة والحب والجنس، وتلك تشكل ألغازاً لجوهر الصراعات والعقد النفسية معلنة أو مضمرة. وكنت قد تحدثت عن حب ماركس لجيني. ويبقى الحب والجنس والعشق والزواج مسائل شخصية في العلاقات الإنسانية. وينبغي أن تكون لها حرمة مثل حرمة المنازل والمراسلات والبريد والهاتف والإيميل، ويقتضي الأمر مراعاة حُرمة القلوب والمشاعر والعواطف الإنسانية، لما لها من خصوصية. هناك عشقٌ عابر وهناك مقيم وللعشق أحكامٌ وبقدر ما يكون العشق يقيناً فهو حيرة وهو هدىً، وحسب ابن عربي، الهدى بالحيرة والحيرة حركة والحركة حياة. والعاشق كمن يريد أن يمسك الضوء، ولذلك يظل حالماً كلما اقترب منه طلب المزيد.
□ قلت إنك عاشق.. ماذا يعني ذلك؟
■ إذا كانت السلطة حسب كيسنجر عنصر تهييج للشبق بمعنى أنها شبقية متجسدة في ذكورية تعويضية، فإنها استبدال للحب وابتعاد عن واقع العشق. شخصياً أرى في العشق ولهٌ وصبابةٌ وتدفق في الحب، وهو تعويض عن جميع الحرمانات ومكافأة على جميع العذابات، مثلما هو البديل عن السلطة والتسلط التي يسعى إليهما من لا يعرفون جوهر الحب، وكان غابريل غارسيا ماركيز يقول: السلطة هي التعويض عن الحب، وكم استعرت مثل هذا القول الواقعي بامتياز.
□ وما موقع المرأة في حياتك؟
■ المرأة نصفي الذي لا توجد حياة بغيرها. ولا يمكنني العيش دونها، ففيها تتأنسن روحي وتكتمل إنسانيتي وتتعقلن خطوتي.
□ وكيف تنظر إلى الجنس؟
■ الجنس روحانية ما بعدها روحانية، إنه تعبدٌ وخشوع وإيمان وطقوس زكية وهو عطر الروح.
□ هل تستطيع أن تتحدث عن أخطائك؟
■ بكل ارتياح وشفافية، فهناك نوعان من الخطأ: الخطأ الأول (الصميمي) وهو الذي يعبر عن اجتهادات أو مواقف أو تقديرات لم تتحقق، أو لم يثبت الواقع إمكانية تحققها، أو أنها كانت بعيدة عن الواقع. وأقول لك إن الإنسان يقع بمثل هذه الأخطاء كل يوم. والمثقف والكاتب بشكل خاص أكثر عرضة لذلك، حسب معطياته ومعلوماته التي يمكن أن تتغير بمعلومات ومعطيات جديدة، الأمر الذي يعني تجاوز المواقف أو التقديرات الأولى. وعليك أن لا تدافع عنها، بل أن تعترف بخطئك موضوعياً وذاتياً. وهذه الأخطاء حتى إن كانت صميمية، محسوبة على المثقف والكاتب أكثر من غيره، لأنها معروفة، في حين يخطأ الناس أكثر منها بعشرات المرات، لكن لا أحد يحاسبهم عليها، لأنها محدودة أو غير معروفة، في حين إن ما نكتبه معرض للنقد والمراجعة والتدقيق، ولذلك على الكاتب أن يكون أكثر دقة وحذراً لاعتبارات تتعلق بالصدقية أولاً ومراعاة لموقعه ثانياً، وخدمة للحقيقة ثالثاً. والنقد الذاتي على الكاتب واجب، وعليه أن يمارسه وأن يجري مراجعة لنفسه باستمرار وتلك فضيلة نطمح إلى الوصول إليها، كيما تصبح فريضة واجبة الإداء. الخطأ الثاني (المقصود) وهو تواطؤٌ ضد الحقيقة، أي سلوك طريق خاطئ، والإنسان يعرف ذلك، لكنه يتذاكى على نفسه، أو يبرر لها أو يجد الأعذار أو يتهم الآخرين، حتى دون اعتذار أو إقرار بالخطأ. فتأييد احتلال بلدك ليس خطأ صميمياً والسكوت عن دستور طائفي أو مهادنة الإمبريالية بقبول معاهدتها المذلة هو خطأ من النوع الثاني.
□ وفي الأخير .. هل ما زلت حالماً؟
■ هناك من وضع أحلامه في سلة واحدة فجاء من خطفها، وهناك من نسي حلمه فأضاع الطريق، وهناك من أصبحت أحلامه كوابيس مفزعة. حلمي يتجدد ويتراكب ويتخالق، ودون الحلم فالحياة تتحول إلى شيء كئيب ويابس وراكد، لذلك فإنني أعيش مع الحلم، حتى إن لم يتحقق. والمهم أن يبقى الإنسان حالماً وبالحلم والأمل يعيش على نحو أفضل. وهو ما يعطيك طاقةً إيجابية، أي بالتفاعل الإنجازي.

حاورته: أورنيلا سكر




43
   

"جنوبية" تستضيف عبد الحسين شعبان: خسارة حلفاء ايران في العراق لا تلغي الشراكة مع اميركا

بوكس1: التيار الصدري الذي فاز بالكتلة الاكبر بـ 73 مقعدا يمثل فقراء العشائر الشيعية العربية



بوكس2: المفاجأة الكبرى تتعلق بالهزيمة القاسية للحشد الشعبي الذي يضم القوى والميليشيات الولائية الحليفة لطهران



مقتطف:

حلّ الباحث والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان ضيفاً على مكاتب شؤون "جنوبية"، في لقاء حواري عرض خلاله لمقدمات ونتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، في حضور عدد من الاعلاميين والصحافيين المهتمين بالشأن العراقي.



خاص جنوبية



استهلت الجلسة الحوارية، بكلمة لرئيس تحرير "جنوبية" الصحافي علي الامين، توجه خلالها بالشكر الى الدكتور شعبان على تلبيته الدعوة، كونه قيمة علمية أكاديمية مضافة، ويعتبر من أبرز العالمين في بواطن الملف العراقي والمتابعين الحثيثين له، خصوصا وان العراق يشكل إرتباطا وثيقا بملفات المنطقة، ومنها لبنان على وجه الخصوص.

بداية، قدم د. شعبان عرضاً وافياً لمسار الاحداث في العراق، قال خلاله": انه بعد احتلال اميركا للعراق العام 2003، الكل فقد التوازن، لان السائد كان في عهد دكتاتورية صدام حسين، هو الجهل والقهر وهذا يؤدي إلى استلاب الإنسان وزاد الأمر سوءًا خلال فترة الحصار الدولي، وهو ما طحن عظام العراقيين ومحق كراماتهم . وأضاف: كان هناك أيضاً غياب الحريات لمدة 35 عاماً أيام حكم البعث، لذا فالحرية التي تذوقوا طعمها تحولت بسرعة خارقة إلى فوضى وحرية تشهير وضاعت حرية التعبير وسط ركامٍ من الكراهية والأحقاد والضغائن والإنتقام على نحو منفلت من عقاله، خصوصاً في ظلّ تراشق الشتائم والإتهامات عبرمنابرٍ وفضائيات طائفية وإثنية وبلا مسؤولية أو مساءلة وبتشكيك بكل شيء وهو ما انعكس على المنافسات الإنتخابية خلال 5 دورات آخرها انتخابات 10 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.   



الانتخابات والدستور



عن الانتخابات البرلمانية الخامسة بعد احتلال العراق عام 2003، والتي جرت يوم10 / 10 ، رأى شعبان أن البعض "كان يعوّل على الانتخابات ان تؤدي إلى التغيير، ولكن مع الأسف ليس كل انتخابات هي تعبير عن الديمقراطية، مع أنها الوسيلة الممكنة للتغيير، مع العلم أن القانون الانتخابي الذي قام على الانتخاب الفردي بدلاً من القوائم المغلقة أوالمفتوحة وعلى نظام الصوت الواحد غير المتحول بدلاً من سانت ليغو وفسح في المجال لمشاركة أعداد من المستقلين". وهكذا قُسّم العراق إلى 83 دائرة وسط أجواءٍ بعضها مرتاب والآخر متحفظ. وكانت المشاركة حسب مفوضية الإنتخابات تقارب من 41%، وربما كان ذلك استناداً إلى البطاقات الإنتخابية وليس لنسبة التصويت الحقيقية، في حين قلّل إياد علّاوي، الذي قال إنه لم يشارك في الأنتخابات لكن جماعته شاركت فرديّاً، من المشاركة إلى 12% وتقديرياً يمكنني القول أن نسبة المشاركة ربما زادت قليلاً عن 20%. وشاركت الكتل الكبيرة في الإنتخابات في حين قاطعتها مجموعات صغيرة مثل الحزب الشيوعي وقائمة الوطنية وقوى قليلة أخرى، حتى وإن كانت المقاطعة الشعبية كبيرة.
 

ولفت شعبان إلى "تناقض يشوب الدستور العراقي الذي أسس وفقاً لمبدأ المكونات الذي لا يعني سوى نظامٍ للمحاصصة حيث ورد مصطلح المكونات مرتان في المقدمة وفي المواد 9 و 12 و 49 و 125 و 142 ، وفي كل ما يتعلق بتوزيع المناصب، إضافة إلى تناقضه بالتوفيق بين الشريعة وحقوق الإنسان والديمقراطية  حيث نص على أن لا يتعارض تشريع أي قانون مع تلك الخلطة غير المتجانسة.

وأوضح انه "بموجب الدستور تستطيع ثلاث محافظات، تعطيل الدستور من اصل 18 محافظة، تتكون منها البلاد إدارياً، ومن الألغام أيضاً ان الدستور العراقي، ينص على انه إذا تعارض دستور الدولة مع دستور الإقليم، فالغلبة لدستور الإقليم في حين أن الأنظمة الفدرالية تعلو من شأن الدستور الإتحادي على دساتير الأقاليم ، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا الجيش والقوات المسلحة والسياسية الخارجية والدبلوماسية وقضايا العملة والموارد الطبيعية والخطط الإقتصادية الكبرى والمنافذ الحدودية  ، فهذه  جميعها تخضع للسلطة الإتحادية ، مع العلم ان النظام الفيدرالي لم ينفذ بعد في العراق ، فما زال المجلس الإتحادي الذي نص عليه الدستور غائباً وقانون النفط والغاز معوّماً والمنافذ الحدودية ملتبسة وغير خاضعة كلياً للسلطة الإتحادية، والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية غير موحدة وتتخللها اختراقات عديدة".



قراءة نتائج الانتخابات



     تطرق شعبان الى "نتائج الانتخابات الاخيرة التي أفرزت أكبر كتلة، هي كتلة السيد مقتدى الصدر وعددها 73 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغ عددها 329"، ويفترض أن تتولى تشكيل الحكومة بحسب تفسير المحكمة الإتحادية للنص  الدستوري ،و كشف عن بعض التغييرات التي تتعلق بهزيمة الحشد الشعبي، الذي يضم جميع القوى والميليشيات الولائية الحليفة لطهران مثل الفتح والعصائب و الكتائب و بدر، و سند. وتابع المحاضر قوله: "وتشير الأرقام المعلنة إلى حصول بدر على 14 مقعداً، بعد أن كانت تملك كتلته 47 مقعداً في الدورة السابقة ، كما من بين الخاسرين أيضا الفصيل الشيعي الرئيسي الثالث الذي يطلق على نفسه اسم "القوى الوطنية لائتلاف الدولة"، ويقود هذا التحالف عمار الحكيم ورئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، ولم يحصد هذا الفصيل سوى ستة مقاعد، حسب النتائج، فخسر الطرفان 56 مقعدا كانت بحوزتهما في البرلمان السابق"

وفي السياق عينه، أوضح شعبان ان «حراك تشرين» والمدنيين المستقلين، حصلوا على نحو 30 مقعداً وفاز المرشح المستقل من أصول يسارية  محمد عنوز، على أكثر من 15 ألف صوتا، في الدائرة الأولى بمحافظة النجف، ليصبح الأول متقدماً بذلك على جميع مرشحي محافظته"، مشيرا إلى أن "ائتلاف «دولة القانون»، اي حزب الدعوة وحلفائه بزعامة نوري المالكي، حصل على 37، وهو معروف بقربه من ايران وتعثّر علاقته مع أمريكا، وبالتالي حلّ ثالثا بعد كتلة "تقدّم" السنية، التي يرأسها رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، التي حصلت كتلته على 43 مقعدا".



تحالف الأحزاب السنية إنتخابياً

و في قراءته لواقع الاحزاب السنية، وجد شعبان انها "خاضت الانتخابات بثلاثة تحالفات رئيسية، هي تحالف "تقدم" بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وتحالف "العزم" بزعامة رئيس "المشروع العربي"، الذي يرأسه خميس الخنجر، وحل تحالف "تقدم" في المرتبة الثانية ب 43 مقعداً، وذلك بسبب حصوله على دعم عدد من القوى الاقليمية وخصوصاً تركيا والامارات، علماً بأن علاقته جيدة مع إيران مثلما يرتبط بعلاقة وثيقة مع واشنطن ، في حين حقق تحالف "العزم" 14 مقعداً وعلاقته جيدة مع إيران وهو مدعوم من قطر وتركيا.



وتناول شعبان أوضاع إقليم كردستان، فأشار إلى أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، تمكن بزعامة مسعود بارزاني، من الفوز بنحو 32 مقعداً، فيما خسرت حركة «التغيير» كل مقاعدها، وتمكّنت حركة «الجيل الجديد» الناشئة من الفوز بنحو 9 مقاعد، لذلك فانه بالنسبة لمنصب رئاسة الجمهورية المحسوب على الاكراد، ومن سوف يتولاه في المرحلة اللاحقة بعد الرئيس الحالي برهم صالح، ربما سيكون الملا بختيار، وهو شخصية مستقلة مقربة من مسعود البارزاني أو أن يرشح الحزب الديمقراطي رئيساً عنه بعد أن تولى الرئاسة ثلاث شخصيات من الأتحاد هم الطالباني و فؤاد معصوم و برهم صالح ".

وخلص شعبان الى ان "العراق اقليميا منذ 2003، يتوزع مناصفةً بين أميركا وإيران، وبالتالي يمكن لايران بان تلعب دورا اساسيا في تشكيل الحكومة بالشراكة مع واشنطن. وقد تتجه طهران إلى الضغط على الكتل الشيعية لتوحيدها بتسويات تكون فيها الكتلة الأكبر، وذلك لفرض توجهها على الأطراف الأخرى.



ايران و السيستاني

وحول دور إيران في العراق وجد شعبان ان "ايران رغم خسارة القوى الموالية لها لعدد من المقاعد الانتخابية إلا أنها ما تزال تملك أوراق غير قليلة، ومع أن علاقتها ليست وثيقة مع التيار الصدري إلاّ أنها ترتبط معه بأكثر من وشيجة، خصوصاً وهو يمثل التيار الشعبي الأكبر للشيعية السياسية، وهؤلاء ينحدرون من العوائل الأكثر فقراً والممتدة عشائرياً في وسط وجنوب العراق إبتداءً من مدينة الثورة " مدينة الصدر" وصولاً إلى البصرة .
  علماً بان ثلاثة عوامل تؤثر في الانتخابات بالعراق، هي المال السياسي وانتشار السلاح والشحن الطائفي والإثني والعاملان الإقليمي والدولي وأن تأثير الفتاوى الدينية محدودٌ جداً ، خصوصاً بعد فشل القوى الدينية الحاكمة جميعها ، وأعتقد أن المقاطعة للإنتخابات كانت  على أشدها في مناطق الوسط والجنوب على الرغم من صدور فتوى للسستاني بالمشاركة  .

الارستقراطية الدينية في العراق

و يتطرق شعبان الى الحالة الدينية الشيعية في العراق، فيقسمها إلى أرستقراطية دينية وشعبويةٍ إنتقائية وبينهما فقهاء (أيديولوجيون منظرون) ودعاة ومبشرون وهؤلاء قرّاء منابر حسينية وشعراء حسينيون وأصحاب مواكب حسينية ومنتسبوا الحوزات والمقامات الدينية الشيعية، وعموم الشيعة الذين يتوزّعون على الأحزاب الدينية وغير الدينية ( وهؤلاء قلّة قليلة) أما الأغلبية الساحقة فلا علاقة لهم بالسياسة. اما مرجعية السيد علي السيستاني فهي المرجعية الدينية الاولى لدى مقلّديه من الشيعة. والمرجعية الشيعية أممية ولا علاقة لها بالقومية، ويفترض فيها أن تتحلى بالزهدية والألمعية . ولم تتدخل المرجعية بالسياسة إلاّ باستثناءات محدودة ( خلال ثورة العشرين وحتى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 ) ، وقد دخلت مرجعية السيد محسن الحكيم حقل السياسة ضدّ المدّ الشيوعي في نهاية الخمسينيات بإصدارها الفتوى الشهيرة "الشيوعية كفر و إلحاد"، وحيت توفي عام 1970 لم يعد للمرجعية اي دور سياسي في العراق، مع استثناء السيد محمد باقر الصدر الذي اعدمه صدام حسين عام 1980، فهو كان شخصية مجتهدة جريئة ومفكر اسلامي كبير".

اما الباقون، برأي شعبان، مثل المرجع السيد الخوئي، الذي خلف السيد الحكيم وكان عالماً كبيراً ولديه مؤلفات عديدة فقد تجنّب الخوض بالسياسة إلاّ باستثناء ما كان يفرض عليه حكومياً والأمر حصل لمن بعده وأعني بذلك السيد السيستاني، فتلك كانت الغالبية الساحقة من المراجع الدينية الشيعية إذا استثنينا الخالصي والحكيم، حيث كانت الحوزة تقليدية صامتةً حتى العام 2003، وبعد الاحتلال الاميركي لجأ إليها بعض السياسيين العراقيين القادمين من الخارج، ومنهم قيادات حزب الدعوة، للتعويض عن نقصٍ في التعبئة الشعبية وللخشية من اتخاذ قرارٍ للمشاركة في العملية السياسية بمفرده وبذلك حصل على دعم معنوي واجه به المعترضون من داخله  واستغل ذلك بول برايمر الذي بادر هو الآخر بتوجيه رسائل ووسطاء إلى السستاني وتلقى منه 30 رسالة كما يقول في كتابه" عام ٌ قضيته في العراق" لكنه لم يخبرنا هل كانت الرسائل تحريرية أم شفوية وهل هي واقعية فعلية أم مبالغ فيها 



السيستاني..واللحظة التاريخية

 وأردف شعبان قائلاً ": كان السيستاني شديد الذكاء فظهر قائدا سياسيا محنكاً، لانه قرأ اللحظة التاريخية وعرف ما يريده الناس، فلعب دورا حكيما عندما دعا الى كتابة دستور بأيدي عراقية ، والى انتخابات نيابية، وكذلك نهى عن الاقتتال الداخلي الطائفي او القومي، ثم اقرّ بوجوب خروج الاميركيين من العراق ولكن بطريقة سلمية، وبذلك تكون ولاية الفقيه التي سعى اليها الامام الخميني في ايران، قُدّمت على طبق من فضة بواسطة الاحزاب الاسلامية العراقية ، وبموافقة المحتل الاميركي، الذي اراد ان يروّض تلك الاحزاب، فظهر بصورة الزعيم الذي لا يتقدّمه أحداً ولم يتمتع بهذه الصفة أيّ رجل دين في تاريخ العراق".

حوار.. ومداخلات

وبعد إضاءة شعبان على أبرز النقاط في الوضع العراقي، فتح باب الحوار والمداخلات، أثار الصحافي قاسم قصير قضية توجه العراق الاقليمي بعد الانتخابات، ان كان مع مشروع المقاومة ام مع المشروع الاميركي، فرأى شعبان، ان "عموم العراق مع القضية الفلسطينية، ولكن حتى الان لا يوجد حامل اجتماعي للمقاومة، كما لا يوجد حامل اجتماعي وسياسي للتيار المدني ذو التوجهات الوطنية ، كما لا يوجد قوى تمثل الولايات المتحدة ، انما توجد هواجس واصوات وقوى محدودة  ولكنها غير ثابتة ومتغيرة، أما القوى الموالية لإيران فهي أكثر وضوحاً وأكثر تعبيراً ونفوذاً .
و من جهته تطرق الصحافي حسن فحص عن غياب اليسار العراقي والحزب الشيوعي عن الانتخابات، اذ، رأى "ان الاحزاب الدينية الطائفية لم تترك مجالا لوجود أي فضاء يساري او علماني وحتى ليبرالي، خصوصا بعد ان تسلّحت تلك الاحزاب جيدا وتموّلت فاجتاحت الساحة السياسية العراقية، خصوصا بعد حرب داعش عام 2014."



سيناريوهات المستقبل العراقي

وهنا عرض شعبان لرؤيته لمستقبل العراق، فأشار إلى انه، في "ضوء الصراعات المستجدة بعد النتائج المثيرة في الانتخابات وخسارة القوى المسلّحة التابعة للحشد الشعبي الموالية لايران، هناك ثلاث سيناريوهات: السيناريو الاول المتشائم وهو ان تنهار العملية السياسية على نحو عاصف ويتفتت العراق مع حروب اهلية شيعية شيعية وسنية سنية وكردية كردية، إضافة إلى الصراعات التقليدية شيعية - سنية ، بغداد - أربيل ...إلخ وبين المناطق. اما السيناريو الثاني المتشائل وهو أن يبقى الوضع كما هو عليه يراوح دون أن يتقدم لنحو عقد من الزمن ، وفي الأخير إما أن ينهار أو يتقدّم. أما السيناريو الثالث المتفائل  وهو ان يتحسن الوضع ولكن يجب تغيير الدستور او تعديله وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية التي قامت عليها العملية السياسية، ويحتاج الأمر إلى توافق اقليمي دولي حول الاستقرار في العراق، وقبل كل ذلك توافق وطني وإرادة سياسية ورغبة وحاجة إلى التغيير.





وبدوره سأل الدكتور حارث سليمان عن الهوية الوطنية وحضورها في المشهد العراقي حاليا، فلفت شعبان الى ان "الهوية الوطنية على المستوى الشعبي العام حاضرة اكثر من اي وقت، ولكن لا يوجد حامل اجتماعي لها غير طائفي، فالاحزاب والشخصيات السياسية الحاكمة هي طائفية وإثنية ، ولا توجد قوى و احزاب مؤثرة عابرة للطوائف والإثنيات.

وبدوره أثار الامين الهواجس والمخاوف من عودة الصراع الطائفي الى العراق، فأكد شعبان، ان "عودة الفتنة السنية الشيعية ممكنة، بسبب وجود قوات تابعة للحشد الشعبي في عدد من المدن السنية في الانبار وصلاح الدين وديالى وكركوك ووجود نازحين ، مما يولد احتكاكات بشكل دائم، خصوصا مع النزاعات الدائمة بين الوقفين الشيعي والسني، والإدعاءات والإتهامات المتبادلة بينهما  مشددا على ان "تفادي هذه الفتنة، لا يكون سوى بالاحتكام الى حكم القانون وتفعيل إرادة الدولة وفرض هيبتها ونزع السلاح المنفلت ومنع الاستقواء لتغيير هذا الجامع أو ذاك المسجد لأغراض طائفية وسياسية تتعارض مع مبادئ العدالة والإنصاف ".
 





44
كورونا والسلام العالمي


عبد الحسين شعبان

     حين نتحدّث عن التنمية المستدامة، أي التنمية البشرية الشاملة بمعناها الإنساني، فإننا نقصد شمولها للجوانب السياسية والقانونية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتربوية والبيئية والنفسية والدينية، إذْ لا يمكن إحداث التغيير المنشود دون تحقيق السلام الذي يتطلّب توفير الأمن والأمان والطمأنينة والإستقرار، حيث يعتبر السلام أحد أهم أهداف التنمية التي لايمكن تحقيقها على نحو دائم ووطيد، دون إقامة السلام.
     وبسبب إندلاع الحروب والنزاعات المسلّحة وغياب السلام وما صاحب ذلك من قلق وتوتّر لسكّان المعمورة ، خصوصاً بعد إندلاع حربين عالميتين، فقد حفّز ذلك الأمر الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تولي هذه المسألة الحيوية الإهتمام المطلوب، وتأخذ على عاتقها التذكير بمخاطر تهديد السلم والأمن الدوليين، وأن تتبنّى إعلان يوم عالمي للسلام ، وذلك قبل أربعة عقود من الزمن، حيث اتخذت قراراً في العام 1981 للإحتفال بالسلام العالمي، والهدف من ذلك نشر ثقافة السلام وتعزيزها وتعميم قيمها بين البلدان والأمم والشعوب والجماعات والأفراد.
     وفي العام 1991 قررت الجمعية العامة إعتبار يوم 21 سبتمبر/ أيلول من كل عام يوماً للسلام العالمي تحتفل به؛ وذلك بالدعوة إلى إنهاء الحروب ووقف إطلاق النار بالمناطق التي تندلع فيها الحروب، ومناشدة البلدان والمنظمات الدولية والإقليمية الحكومية وغير الحكومية والشخصيات الفاعلة للعمل على تحقيق ذلك، لما له من إنعكاسات إيجابية على الجمهور، وهي دعوة تتضمّن التعاون والتضامن لتحقيق هذه المهمة النبيلة بمّا ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على صيانة السلم والأمن الدوليين، باعتباره مبدأ أساسياً من مبادئها، والعمل على حل الخلافات بالطرق السلمية وتحريم إستخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية.
     وكان شعار المجتمع الدولي هذا العام " التعافي بشكل أفضل من أجل عالم أكثر إنصافاً وتنمية مستدامة"، وذلك تزامناً مع حالة الخروج من الوباء الذي هدّد البشرية جرّاء مداهمة فايروس كورونا العالم أجمع 2020 – 2021 ، وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد دعا العالم أجمع إلى وقف إطلاق النار، ولاسيّما في البلدان التي تشهد حروباً أو نزاعات حربية.
      وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قراراً بالإجماع يدعو فيه جميع الدول الأعضاء البالغ عددهم 193 دولة إلى وقف إنساني مستدام للنزاعات الأهليّة، وإقترح وقفاً لإطلاق النار لتمكين الأشخاص المحاصرين في النزاع المسلّح من الحصول على اللقاحات اللازمة لمواجهة تحدّي كورونا ( كوفيد – 19 ) والحصول على العلاجات الضرورية للبقاء، وذلك بعد اجتياح الفايروس.
     ويمكن القول أن الإحتفال باليوم العالمي للسلام له أكثر من دلالة؛
      فهو إعلان صريح من جانب الدول والمنظمات والجهات والقوى ضدّ الحروب والنزاعات المسلحة؛
       وهو في الوقت نفسه يلتمس الطريق السلميّة لحل النزاعات وعدم اللجوء إلى العنف والسلاح وإستخدام القوّة في العلاقات الدولية أو التهديد بها، علماً بأن بعض النزاعات قديمة أو جديدة أو متجدّدة؛
      كما يعني الإحتفال التمسّك بالقيم والمعاني الإنسانية والتي يتضمّنها السلام العالمي، وكذلك التبشير بالمستقبل الذي تعمل من أجله البشرية، بحيث يتحقّق السلام وتنعم البشرية بالسعادة والرفاه وبالطبع بالتنمية والمساواة والعدالة، وذلك بتعزيز قيم الحرية واحترام حقوق الإنسان.
     ويعني الإحتفال باليوم العالمي للسلام نبذ العدوان والحروب والعنف، وذلك امتثالاً لميثاق الأمم المتحدة الذي يدعو للتسامح، وعلى الشعوب والأمم أن تأخذ بعضها البعض بالتسامح، بعدما شهدت ويلات لا حصر لها، فالسلام ضرورة إنسانية وحاجة ماسّة، بل لاغنى عنها تستوجب تعاون جميع البلدان كبيرها وصغيرها لحمايته.
      إن من مصلحة البلدان والشعوب الصغيرة والمستضعفة أن تتمسّك بالسلام وقيمه، ففيه وحده يمكن تحقيق آمالها وطموحاتها بما ينسجم مع القواعد الآمرة في القانون الدولي المعاصر، تلك التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة والإتفاقيات والمعاهدات الدولية الجماعية ذات الصفة الإشتراعية أو الإتفاقات الثنائية التي تقّر عدم الإعتداء وحماية السلم والأمن الدوليين، واحترام حق تقرير المصير للأمم والشعوب وإستقلالها وسيادتها على كامل أراضيها وثرواتها الطبيعية، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة والتهديد بها، فضلاً عن التعاون بينها لإنماء العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وفي مجمل قطاعات التنمية، ومنها ما واجهته البشرية من تهديد خطير إثر مداهمة فايروس كورونا " كوفيد 19 " ، ناهيك عن أوبئة وأمراض خطيرة أخرى ، دون أن ننسى وباء الإرهاب الدولي الذي هدّد البشرية جمعاء، خصوصاً في العقدين المنصرمين، وبعد تفجير برجيّ التجارة العالميّين في 11 سبتمبر/ أيلول 2001  واستمرار خطر تنظيم القاعدة الإرهابي وما أعقبه تنظيم داعش وأخواتها، بحيث تسلل الخوف والهلع إلى العديد من مناطق العالم.
     إن مرور 20 عاماً على اليوم العالمي للسلام فرصة مناسبة للمطالبة بالتوافق على ميثاق دولي ذا بُعد إنساني أو إتفاقية دولية للسلام،  وذلك لمجابهة التعصب ووليده التطرّف وإبنهما العنف والإرهاب، فلن تتحقّق التنمية المنشودة دون سلام وأمن، فهو الوعاء الحامل لها.

45
المنبر الحر / المناخ والنفط
« في: 17:40 25/10/2021  »
المناخ والنفط

عبد الحسين شعبان

هل ثمّة علاقة بين المناخ والنفط؟ سؤال طالما يتردّد على لسان مختصّين وغير مختصّين. وما يهمّنا هنا هو الجانب الصحي والإنساني، خصوصاً ونحن نتابع كلّ يوم تحذيرات شديدة ومقلقة بشأن مستقبل الكرة الأرضيّة في ظلّ  تبدّلات المناخ ومتغيّراته بما يجعل المرء أحياناً يشعر بالخوف، بل ويتملّكه الهلع بشأن مصير البشرية ومستقبلها، بسبب تخصيص الميزانيات الضخمة للتسلّح والعلوم الحربية وأنواع جديدة من السلاح، في حين لم يول الإهتمام الكافي بالصحة والتعليم والبيئة والبحث العلمي عموماً، في ظلّ امتداد التصحّر وتفشّي الأمراض والأوبئة وآخرها مداهمة العالم أجمع فايروس كورونا "كوفيد-19"، إضافة إلى الإحتباس الحراري والتغييرات التي يشهدها المناخ .
ويذكّرنا ذلك بالسنوات الأخيرة للحرب الباردة والصراع الآيديولوجي بين المعسكرين، حيث قررت واشنطن تخصيص تريليوني دولار لحرب النجوم في سباقٍ للتسلّح مع موسكو، وهي ميزانية لم يقدر الإتحاد السوفيتي السابق على مجاراتها فيها. وكان ذلك مؤشراً جديداً على فوز الغرب في سباقه مع  النظام الإشتراكي، يضاف إلى مؤشّرات أخرى تتعلّق بالنظام السياسي وشحّ الحريّات والاختناقات الإقتصادية التي عاشها.
وبدلاً من التوجّه للبحث العلمي والتعاون الدولي في مجالات العلم والبحث والتكنولوجيا والصحة والبيئة لرفاه الإنسان وسعادته، فإن المنافسات السياسية والمصالح الأنانية الضيّقة هي التي كانت تتغلّب باستمرار وهي الآن تأخذ منحىً جديداً يتعلّق بالصراع الأمريكي - الصيني بشكل خاص، والأمريكي الروسي أيضاً، حيث يجري فيه إهمال قضايا حسّاسة ومصيرية مثل تغييرات المناخ دون شعورٍ بالمسؤولية من جانب القوى المتنفّذة. وحين نستعيد ذلك فالأمر متزامنٌ مع حرائق مدمّرة في العديد من البلدان المتقدّمة والنامية، إضافة إلى أعاصير وفياضانات وتغيير في درجات حرارة الكوكب التي ترتفع من سنة إلى أخرى.
في ظلّ هذه الأوضاع صدر تقريران دوليان خطيران: الأول- من لجنة علماء الأمم المتحدة بشأن  تغيّرات المناخ. والثاني- تقرير وكالة الطاقة الدولية تمهيداً لمؤتمر غلاسكو الذي سينعقد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل 2021. ويؤكّد التقريران ضرورة البحث في مستقبل المناخ، وصولاً للعام 2050 تساوقاً مع قرارات مؤتمر باريس المناخي ولتأكيد إلتزامات الدول بالقرارات التي تمّ التوصّل إليها والتعهدات التي أخذتها على عاتقها.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الربط المباشر بين التغيّرات المناخية والإرتفاعات في درجات الحرارة، هي جرّاء عمل الإنسان، أي أن التقلّبات المناخية ناجمة عن استعمال مباشر ومكثّف للنفط والمصادر الهيدروكربونية. ولهذه الأسباب حذّر التقريران من انبعاثات غاز الميثان وثاني أوكسيد الكربون على التغيير المناخي، وهو ما يستمرّ سنوياً دون توقّف، بل أخذ بالإزدياد والإرتفاع خلال السنوات الأخيرة، بما يؤثّر سلباً على استيعاب الغابات لثاني أوكسيد الكربون وتقليص انبعاث الأوكسجين من الأشجار، وهو ما يفاقم الأزمة المناخيّة المتعاظمة. وكانت نصف الإنبعاثات التي زادت من حرارة الجو خلال عامي 2019 - 2020 ناجمة عن حرائق الغابات.
 وتعمل شركات الطاقة الكبرى على تقليص انبعاث ثاني أوكسيد الكربون وذلك عبر تدويره بتقنية خاصة، مما يعني سحبه من البترول المنتج ومن ثم تخزينه في آبار فارغة لاستخدامه في وقت لاحق، ويتمّ تطوير هذه التقنية في إنتاج النفط والغاز، ولكن دون انبعاث للكربون أو بانبعاثات ضئيلة جداً. وحتى الآن لم تتوفّر بدائل مقبولة وكافية لتغطية الإستهلاك الواسع والمتعاظم للنفط، علماً بأن نسبة الإنبعاثات من قطاع الطاقة تساوي حوالي 4/3 (ثلاثة أرباع) ما يتمّ انبعاثه من الكربون.
وكانت اتفاقية باريس قد حدّدت هدفاً رئيساً لها وهو التوصّل إلى صفر من الإنبعاثات الكربونية بحلول 2050، الأمر الذي يحتاج إلى إيجاد البدائل منذ الآن، وتأخذ بعض البلدان بتشريعات جديدة وأنظمة وقوانين للبدء بإحلال البدائل، مع الأخذ بنظر الإعتبار الإكتشافات العلميّة الجديدة.
ويبقى دور النفظ والغاز مهمّاً في مرحلة الطاقة المتجدّدة. فمن الناحية التجارية لا بدّ من أخذ الإستثمارات الهائلة في القطاع النفطي الدولي، خصوصاً في مجال الصناعة النفطية فيما إذا تمّ بنجاح تدوير الكربون، الأمر الذي يؤكّد علاقة المناخ بالنفط ، علماً بأن الحملة العالمية لتغيير المناخ هي ضدّ الإنبعاثات وليس ضد استخدامات النفط حيث يمكن أن يلعب النفط الخالي من الإنبعاثات دوراً في مرحلة الطاقة المتجدّدة، وقد يتنافس عبر السوق ومن خلال الأسعار مع الطاقة المستدامة، وبالطبع فإن الأمر له علاقة بالسوق، أي بالعرض والطلب وبالتطوّر العلمي أيضاً.
وتواجه دول العالم الثالث والبلدان الفقيرة عموماً موضوع المناخ بصعوبة كبيرة فيما يتعلّق بالإستثمارات لتحييد الإنبعاثات، لذلك يبقى خيار بدائل الطاقة المستدامة غير متاح لدولها، لأن الحلول المطروحة تلبّي إلى حدٍّ كبير مصالح الدول الصناعية الغنية والمتقدّمة، في حين أن الدول النامية والفقيرة ما تزال خارج دائرة الفعل في هذا الميدان لأسباب تتعلّق بعدم المساواة وغياب التكافؤ في العلاقات الدولية ، ناهيك عن الإستلاب والإستغلال الذي تتعرّض له ثرواتها من جانب القوى الكبرى.

46
الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل


عبد الحسين شعبان

كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة  قرّرت في 17 ديسمبر/ كانون الأول العام 1999 اعتبار يوم 12 أغسطس/ آب من كل عام يوماً للشباب العالمي تحتفل به، وذلك لتأكيد دوره في عملية التغيير والتنمية في المجالات كافّة: السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، بوصفه شريكاً لا غنى عنه لكل عملية تقدُّم لدرجة أنه لا يمكنها أن تقوم من دون مساهمته الفاعلة والواعية.
ويواجه الشباب اليوم مصاعب شتّى وتحدّيات جمّة، فضلاً عن عوائق وكوابح غير قليلة، وخصوصاً في ظلّ العولمة بوجهها المتوحّش، حيث تنخفض مستويات المعيشة ويزداد الفقر وتنتشر البطالة والأميّة وترتفع معدّلات الهجرة الشرعية وغير الشرعية، لا سيّما من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغني، كما تتفشّى الأمراض والأوبئة وآخرها فايروس كورونا "كوفيد - 19" ويرتفع مستوى الجريمة المنظّمة والإتجار بالبشر وتستشري تجارة المخدرات والأسلحة وتكثر على نحو مطّرد ومعدّلات العنف والإرهاب، وغير ذلك من الجوانب التي تؤثر سلباً على جيل الشباب وتحول دون استمتاعهم بشبابهم، بل وتحرمهم أحياناً من توسيع معارفهم وشحذ طاقاتهم بالإتجاه الإيجابي. فبالشباب تزدهر الأوطان وهم عماد الوطن والأمّة في الدفاع عنهما، خصوصاً في الأزمات والمحن.
وبما إن الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل، فلا بدّ من توفير مستلزمات الإفادة منهم في الحاضر والمستقبل وذلك بتمكينهم من امتلاك ناصية العلم أولاً والمعرفة والثقافة في فضاءات حرّة ورحبة لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم وتقديم مبادراتهم ومشاريعهم  وابتكاراتهم إلى المجتمع، وكذلك في إفساح المجال أمامهم والاستماع إلى آرائهم ووجهات نظرهم، كي تتفتّق مواهبهم وتثمر جهودهم للقيام بالدور المنوط بهم في عملية التنمية وفي تنقية وترميم الحياة السياسية والاجتماعية وتطويرها بما ينسجم مع تطلعاتهم لمستقبلٍ أكثر انفتاحاً وتنوّعاً، خصوصاً في البحث عن قواسم مشتركة مع بعضهم البعض بغضّ النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم ولغتهم ولونهم وأصلهم الإجتماعي، فالشباب أخوة وأحبّة يجمعهم طموح مشترك وحماسةٌ وإرادةٌ وحيويةٌ وعطاءٌ.
ولا يمكن للبلدان والأمم والشعوب أن تتقدّم دون المساهمة الحيوية الفاعلة لجيل الشباب الذي يتمتّع بقدرات بدنية وعقلية وروحيّة عالية قياساً بالأجيال التي تسبقهم أو تعقبهم، ولذلك فإن الرهان عليهم دائماً، لما يتمتعون به من قوة وطاقة ومبادرة وجرأة وإقدامٍ وسلامةٍ جسمية، فلا رياضة دون الشباب ولا فنون وآداب ورقص وموسيقى وشعر ومسرح وسينما دونهم، لأنهم يمثّلون عصب الحياة الحقيقي وينبوعها المتدفّق.


ولعلّ الشاعر الجواهري كان على حق حين خاطب الشباب قائلاً:
            نزق الشباب عبدتهُ /  وبرئتُ من حلم المشيبِ
يا من يقايضني ربيع / العمر ذا المرج العشيبِ
بالعبقرية كلّها / بخرافةِ الذهن الخصيبِ

إن الإحتفال بيوم الشباب العالمي هو رسالة إلى جميع الحكومات التي عليها أن تعي دورهم وأن تسهم في رفع كفاءاتهم فبالعلمِ والعلمِ والعلمِ والعيش الكريم يمكن الإرتقاء بهم، خصوصاً بتشجيع حرية التعبير ليتمكّنوا من تفجير طاقاتهم واستخدامها على أحسن وجه، فكلّما ضاقت تلك السُبل فأن طاقاتهم يمكن أن تتوجّه إلى مواقع أخرى خاطئة، وقد تُنذر بشرٍّ مستطير، خارج دوائر الإبداع والإنتاج والعمل، حيث يمكن استغلالهم من جانب القوى المتعصبّة لدفعهم نحو التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحكّم منهم فقد يتحوّل إلى سلوك ويقودهم إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً.
 وإذا كان الشباب هم من حاربوا القوى الإرهابية والعنفيّة، التي تغوّلت على المجتمع واستهانت بمرجعيّة الدولة، فإن هذه الأخيرة حين تمكّنت من عقول بعض الشباب باستغلال أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية والدينية والقومية والثقافية، خصوصاً  في ظلّ أوضاع التخلّف والجهل والفقر والتمييز، حاولت الضرب على الأوتار الحسّاسة التي تحرّكهم موظّفةً ذلك لأغراضها الأنانيّة ومشاريعها السياسيّة  الجهنميّة، وإلاّ كيف لشخص يوعد بالجنّة وبالحور العين، فيندفع لقتل عشرات أو مئات الناس في سوق أو ساحة عامة أو مدرسة أو كنيسة أو مسجد، إن لم يكن قد تمّ تخريب عقله وغسل دماغه والتلاعب بضميره.
وكان الهدف رقم 10 من مشروع التنمية المستدامة 2030 قد أكّد على تعزيز المساواة ودعم النمو في الدخل لفئة الأربعين في المئة من البلدان الأكثر فقراً والأقلّ نماءً لضمان الفرص المتكافئة وإنهاء التمييز والأمر يخصّ الشباب بالدرجة الأساسية والبلدان الفقيرة بشكلٍ خاص، الأمر الذي يحتاج من أصحاب القرار، إضافة إلى المنظمات الإنسانية والمؤسسات الدولية والمراجع الدينيّة والهيئات الثقافيّة، الأمر يحتاج إلى تنمية قدرات الشباب وشحذ طاقاتهم وتوفير الفرص المناسبة لهم للحصول على عمل مناسب وأجرٍ مناسب يتوافق مع قدراتهم إناثاً أو ذكوراً.
ولا بدّ من إشراك الشباب في صنع القرار بما يشعرهم  بالإنتماء الحقيقي لمجتمعهم ويعزّز من هويتهم المشتركة ويجسّر الفجوة بينهم وبين أصحاب القرار، دون أن ننسى الإهتمام بالأنشطة الترفيهية لهم باعتبارها ضرورية للنمو المنسجم نفسياً وجسدياً، خصوصاً والعالم في الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الإصطناعي واقتصاد المعرفة.


47


خبر صحافي
مؤسسة كونراد أديناور
برنامج القانون للجميع - خاص
المحرر الثقافي

الدكتور عبد الحسين شعبان الأكاديمي والمفكر ضيّفته مؤسسة كونراد إديناور في برنامج "القانون للجميع" ليتحدث عن الدستور اللبناني من زاوية مقاربات حقوق الإنسان وقدّمته البروفيسورة ماري غنطوس وتجدون رابط المحاضرة الخاص على اليوتيوب والفايسبوك، كما كان هناك بثّاً مباشراً على الإنترنت

48
خان الهنود

     يرجع بناء "خان الهنود" في النجف إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت مجموعة تنتمي إلى "طائفة البهرة" ببنائه لإستضافة القادمين لزيارة مرقد الإمام علي والتبرك به. والبهرة  طائفة إسماعيلية نسبةً إلى إسماعيل إبن الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه "المذهب الجعفري"، وتعود أصولها إلى أيام الدولة الفاطمية حيث يوجد لها بعض المزارات مثل ضريح "حاتم الحضارات" الداعية الفاطمي المدفون في منطقة حراز ( غربي صنعاء عاصمة اليمن) ومسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة. ويبلغ نفوس طائفة البهرة في العالم نحو مليون شخص.
     إنعقدت صداقتي مع صاحب الحكيم في موقف خان الهنود، الذي كان مركز الشرطة الرئيسي في النجف، وتلك إحدى المفارقات ، حيث كان قد سبقنا إلى ذلك المكان، وكان المسؤول الحزبي عن المعتقلين الذين بدأوا يتوافدون بالعشرات، بل بالمئات إلى خان الهنود ومنها يتم ترحيلهم، وبعد استدعائه للتحقيق في الحلّة نصّب مسؤولين إثنين، ففي حالة غياب أحدهما أو إستدعائه للتحقيق يتولّى الثاني ( الظل) محلّه، وفي حالة وجودهما يتم التوافق بينهما، ويقوم أحدهما بمسؤولية العلاقة بالإدارة، الأول جواد الرفيعي مدرّس اللغة العربية والثاني حسن الخرسان من سدنة الروضة الحيدرية، وكلاهما من عائلة دينية معروفة ومن حضرة الإمام علي.
     حين تكدسنا في بهو المعتقل، طلب هو إرسال الطلاب إلى الغرفة التي يعيش فيها وهي لا تسع لأكثر من 30 إلى 40 شخصاً، ولكن عددنا أصبح 88 معتقلاً وأحياناً يأخذ بالنقصان إلى 15 أو 20 وأحياناً يعود إلى سابق عهده. وعلى الرغم من وجود معتقلين عاديين معنا إلاّ أن الحكيم كان يحظى بإحترام  وهيبة كبيرين، سواءً من جانبهم أو من جانب الإدارة، وحاول أن يقوّي معنوياتنا وأن يرشدنا وأن ينبهنا، إذ كان غالبيتنا يُعتقل لأول مرة، فضلاً عن صِغَرِ سنّنا حيث كانت تتراوح أعمارنا بين سن 16 – 17 سنة ، باستثناء الصديق العزيز كاظم عوفي البديري الذي لعب دوراً في تلطيف الأجواء من الرسم إلى المطارحات الشعرية، إلى أن اختصّ بحلاقة شعر رؤوسنا التي طالت وامتلأت بالقمل، حتى أنه أصبح من أمهر الحلاقيين في العراق بعد خروجه من المعتقل، وإنتسابه إلى كليّة التجارة (لاحقاً)، حيث عمل مساءً في صالون توكالون في الكرادة.
      ومن بين الطلبة المعتقلين أذكر كوثر الواعظ وطارق شكر (الصراف )وجبار رضا عبد ننة ( العلي) وعلي الخرسان وكاظم شكر وفاضل جريو، إضافة إلى عبد الله الشمرتي  وحسن رجيب ورحيم كاطع الغزالي وآخرين. وقد اعتُقلنا في يومٍ واحد (10 شباط/ فبراير) باستثناء علي الخرسان الذي اعتُقل قبل 8 شباط/ فبراير لتوزيعه منشورات تدعو للسلم في كردستان في أحد المقاهي الشعبية بناءً على قرار الحزب، فتم اعتقاله، كما أن كاظم عوفي كان قد اعتقل قبلنا، وقد اعتقل معنا بعض أساتذتنا منهم داوود ملاّ سلمان وجواد الرفيعي، إضافة إلى العشرات من الوجوه النجفية التي يعرف بعضها البعض.
     وقد حرص الحكيم على تجنيبنا بعض المواقف التي غالباً ما تحصل في المعتقلات والسجون، حيث تتم بعض التحرشات والإعتداءات وذلك  بوضع ضوابط للنوم والإستيقاظ، خصوصاً وأن المعتقل كان يكتظ بالعديد من المعتقلين وبعضهم من العاديين.

على حافة الشهادة

     بعد شهر ونيّف إقتيد الحكيم إلى مركز تحقيق في الحلّة، بناءً على اعترافات، وتم تعذيبه في مقر الحرس القومي على يد عبد الوهّاب كريم الذي أصبح له شأنٌ كبير بعد إنقلاب 17 تموز / يوليو 1968 ولكنه قتل بحادث سيارة غامض، وكاد الحكيم ( أبو بشائر)  أن يلفظ أنفاسه من جرّاء التعذيب الوحشي، إلاّ أنّ استشهاد "شهيد خوجة نعمة " قبله، وهو من أهالي الحلّة المعروفين ، دفع الجناة إلى عدم الإستمرار في تعذيبه. وكي لا يتحملوا المسؤولية ، فقد أرسل مع مجموعة من الرفاق إلى مديرية الأمن العامة في بغداد ومنها إلى قصر النهاية ثم إلى مركز شرطة المأمون كما أشرت في مطالعة لي بعنوان " مقهى ورواد ومدينة" وهي سردية استذكارية عن النجف.
      وقد أورد الحكيم بعض تفاصيل تلك الرحلة المجهولة في كتاب مذكراته الموسوم " النجف –الوجه الآخر: محاولة استذكار" 2011، حيث إلتقاهم محسن الشيخ راضي رئيس الهيئة التحقيقية الخاصة والمسؤول عن قصر النهاية وهم معصوبوا العينين، فأمر بنقلهم إلى مركز شرطة المأمون وذهب لاحقاً لتفقد أحوالهم وهو ما يذكره الشيخ راضي أيضاً في كتابه" كنت بعثياً- ج1- من ذروة النضال إلى دنو القطيعة" 2021.وقد سبق للحكيم أن أكدّ ذلك، وأن الشيخ راضي طلب من آمر الحرس القومي في المأمون تحسين معاملتهم ؛ وهو ما سمعه من مهدي الشرقي أيضاً القيادي البعثي حين نقله إلى النجف.
     وقد اعتذر محسن الشيخ راضي بشجاعة للشعب العراقي فيما سبّبه له خلال تلك الفترة السوداء، وهو ما أكدّه لي خلال مقابلة خاصة سبق أن أشرت إليها أكثر من مرّة في كتاب " سلام عادل الدّال والمدلول" إذ قال بصراحة لا أعفي نفسي وكلّنا مرتكبون، وإن تفاوتت المسؤوليات وقد حاول إجراء مراجعة لتلك الفترة وللصراع السياسي الذي دار بشكل لا عقلاني ولا مبرّر ودفع الشعب العراقي بجميع قواه الوطنية ثمنه باهضاً.
     وبالمناسبة فقد حظي الحكيم حسب علمي باحترام البعثيين والقوميين في النجف وهو ما لمسته من محسن الشيخ راضي وعبد الحسين الرفيعي ومهدي الشرقي وأحمد الحبوبي ومحسن البهادلي  وعبد الاله النصراوي وجواد دوش، وخلال فترة ما سمّي بالمد الثوري أو "الإرهاب الأحمر" كان يميل إلى عدم التشدّد ويسعى لإيجاد حلول للخلافات وعدم اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف، وهو ما حصل في إنتخابات الطلاب الأولى، حيث تم الإتفاق مع الإدارة والقوى الأخرى على بعض المستلزمات لإنجاح العملية الإنتخابية.
      وخلال فترة وجوده في قيادة محلية النجف وحتى قبل أن يكون المسؤول الأول لا توجد حوادث كبرى قد حصلت باستثناء بعض الإستفزازات للآخرين منها محاولة تفتيش القيادي البعثي صدقي أبو طبيخ الذي كان قادماً من السفر ويحمل حقيبة،والتعرّض لمكتب المحامي القومي المعروف وعضو قيادة جبهة الإتحاد الوطني في النجف والمنسّق مع اللجنة العليا في بغداد أحمد الحبّوبي، وهو ما أثار سخط أوساطٌ غير قليلة ضد تصرفات  المقاومة الشعبية ، خصوصاً محاولة الشيوعيين إحتكار العمل السياسي والنقابي وإستفزاز بعض رجال الدين الذين حاولوا أن يؤلبوا الشارع ضد الحركة الشيوعية مستغلين بعض نقاط الضعف في إطار دعايةٍ هجوميةٍ وتحريض لبعض أجهزة الدولة  التي توّجت بالفتوى التي أصدرها لاحقاً  السيّد محسن الحكيم المرجع الأول، باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد( شباط / فبراير 1960) .
      ولعلّ تلك مفارقة كبرى أن يكون صاحب الحكيم وأعداد غير قليلة من آل الحكيم والعوائل الدينية المعروفة من الرجال والنساء أعضاء في الحزب الشيوعي ووجوهاً إجتماعية معروفة وأن تصدر فتوى من السيد محسن الحكيم بتحريم الشيوعية.

السحل

     ولا يسعني في هذه الفقرة إلا أن أذكر الحادثة التي كادت أن تمزّق النسيج الإجتماعي، خصوصاً إرتفاع موجة الكراهية والإنتقام والإنفلات بإندفاع بعض المتطرفين للإيقاع بأحد المحسوبين على التيار القومي العربي بزعم أنه متآمر وإسمه " مهدي محسن بحر" أو "مهدي الخبازة" كما كان يعرف، فحاولوا سحله، وحدث هرجٌ ومرج بين مؤيد ومعارض، وقد كان الحكيم حاضراً، فاندفع بشدّة ومعه محمد موسى وحسن عوينة للتهدئه وارتقى كتف أحد الرفاق ليخاطب الجمع بإسم اللجنة المحلية للحزب الشيوعي، وفعل حسن عوينة ذلك أكثر من مرّة وكذلك محمد موسى، لكن  الحقد كان يغلي في عروق الجموع المحتشدة. وهنا بادر العقلاء إلى إدخال "المغدور" في دكان حلاّق للحفاظ على حياته وخشية من انتقام المتعصّبين الغاضبين.
     أتذكّر تلك الحادثة كأنها حصلت يوم أمس، كما أتذكر كلمات الحكيم وعوينة ودعوة المحتشدين إلى التفرّق والإنصراف إلى بيوتهم وإنهاء الإجتماع الذي لا أتذكّر مناسبته، وهو من الإجتماعات التي كانت تُعقد تأييداً للثورة أو لبعض إجراءاتها، كما طالبوهم الإقلاع عن أي محاولة تستهدف الإخلال بالأمن أو تعكير صفو العلاقات بين النجفيين خارج القانون والنظام. وبالفعل تم إنقاذ  مهدي محسن بحر الذي كان هو الآخر متشدداً في إستفزاز المحتشدين بكلماتٍ نابية، وحسبما أتذكر أو سمعت ذلك فإن الحكيم اقتاده إلى منزله ليطمئن على وصوله سالماً.
     وفي حوار معه أكّد أنه لم يكن هناك حزم حزبي ضدّ مثل هذه التصرفات لكبح جماحها بما فيه الكفاية،  الأمر الذي شجّع على شيوع ظواهر التطرّف والإقصاء. ولعّل مثل هذا الإقرار والمراجعات حتى وإن تأتي متأخرة فإنها مفيدة للمستقبل وللأجيال الجديدة دون تبرئة القوى الأخرى ومسؤولياتها في إذكاء نار الصراع، فالتعصّب ووليده التطرّف لوثة فكرية إذا ما استفحلت فإنها تنتج عنفاً وإرهاباً. فحتى أعظم الأفكار والفلسفات وأكثرها نبلاً وإنسانية ، فإنها لا تعصم الإنسان من إرتكاب الأخطاء وحتى الجرائم أحياناً خصوصاً بإدّعاء إمتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر.
       وقد جرت مناقشات بين عدد من وجهاء النجف وبعضهم على ملاك الحركة الشيوعية مثل عزيز عجينة وأمين عجينة ومعين شعبان وعبد الحسين أبو شبع والسكافي وأحمد الشمرتي وعبد الرزاق سميسم وسلمان الحكيم وغيرهم وكذلك شملت المناقشات بعض الشخصيات الدينية من بينهم السيد محمد الحسني البغدادي والشيخ محمد شعبان والشيخ عباس شعبان وآخرين عن جدوى مثل تلك الأعمال ووجّهت إنتقادات بعضها شديداً وبعضها خفيفاً إلى تصرفات المقاومة الشعبية غير المنضبطة والإستفزازية ضد الناس ومصالحهم بسبب نقاط التفتيش التي كانت تقيمها بزعم البحث عن المتآمرين، وكانت في الواقع  تعني تعقّباً وملاحقةً لحركة القوى الأخرى ، ولاسيّما القوى القومية العربية ( البعثية والناصرية) والقوى الدينية الإسلامية، وهذه الأخيرة نشطت على نحو ملحوظ في التصدي للتيار الشيوعي بتأسيس" جماعة العلماء" و"حركة الشباب المسلم" وغيرها وكانت تلك بدايات لتأسيس حزب الدعوة الإسلامي، وقد سبق لي أن دخلت في حوار معمّق مع السيد محمد بحر العلوم بخصوص تلك المرحلة وتداعياتها، وكنت قد أبديت ملاحظات بشأنها منذ وقتٍ مبكّر وعدت ودونت بعض الآراء النقدية في سردية عن السيد محمد باقر الصدر المنشورة في صحيفة المنبر الذي كان يصدرها السيد حسين الصدر الموسومة  "حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة" (نشرت في صحيفة المنبر، العدد الثاني والخمسون، لندن ،أيار/ مايو 1999).
العامري – أبو كلل
    أثّرت تلك الحادثة وحادثة أخرى، قتل فيها عامر العامري ( من ألبوعامر) المحسوب على الحركة الشيوعية، أكرم هندي أبو كلل المحسوب على الحركة القومية، في نفسي على نحو شديد، ودفعتني تدريجيّاً إلى نبذ العنف، بل والإشمئزاز منه بتقوية ميولي اللاّعنفية، على الرغم من التنظيرات السائدة عن "العنف الثوري"  التي كنّا نردّد بعض عباراتها ونحفظ بعض جملها، فقد كنت أعتبرها ضمن وعيي البسيط آنذاك مجرد مقولات للكتب وللتثقيف وليس للتطبيق والممارسة، خصوصاً في مجتمعاتنا المترابطة والمتشابكة.
     لقد قاد مقتل أكرم هندي أبو كلل إلى أن يقوم شقيقه أحمد هندي أبو كلل المعروف بجرأته بقتل رئيس عشيرة ألبو عامر "مهدي العبد" وهو شيخ وقور وعضو في منظمة أنصار السلام والتي كان رئيسها الدكتور خليل جميل وسكيرتيرها العام صاحب الحكيم، ثم قام عدد من أفراد عشيرة ألبو عامر بقتل السيد حسن الرفيعي الكيليدار في حضرة الإمام علي، الذي اختبأ القاتل أحمد هندي أبو كلل في منزله ، حين أجهز على مهدي العبد بعد أن لاحقوا الضحية  في بغداد.
      وقد أوقعتني تلك الحوادث في حيرة شديدة أساسها كيف أساوي بين القاتل والمقتول وكلاهما من أصدقائي (عامر العامري وأكرم أبو كلل ) ؟ وكيف أشعر إزاء مقتل مهدي العبد الشخصية المعروفة وهو صديق عمّي ضياء من جانب، في حين أن أحمد أبو كلل ( قاتل العبد )  صديق عمي شوقي؟ ثم كيف لي أن أستوعب مقتل السيد حسن الرفيعي وهو جار الشيخ محمد شعبان والد حسن شعبان وبالقرب من منزلنا، خصوصاً وأن علاقة عائلية حميمة تربطنا مع آل الرفيعي؟ وهكذا ترى العلاقات متشابكة ومتداخلة ومترابطة وهو ما أشرت إليه في بحث نشرته بعنوان " العنف وفريضة الّلاعنف.. شذرات من تجربة شخصية " في مجلة آفاق عراقية، كما نشرت في صحيفة الزمان العراقية في 30 كانون أول/ديسمبر 2018 .

التواصل البغدادي
   
     بعد خروجه من السجن إلتقيت الحكيم حين وصلتني رسالة شفوية منه عبر كاظم عوفي، وكان قد حدد لي موعداً في شارع الرشيد قرب سوق الصفافير وهو يعرف أنني أتردد على "خان شعبان" في سوق المرادية بعد إنتهاء دوامي في الجامعة، وكنت حينها في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وطال حديثنا لاستعادات واستذكارات، ثم اصطحبته إلى منزلنا ليستدلّ عليه وأعطيته رقم هاتفي للإتصال وقد سألني عن النشاط الطلابي الجامعي، فقلت له ما يزال محدوداً، وكانت تأثيرات الضربة التي تعرّض لها الحزب والإتحاد قائمة، إضافة إلى ذلك تأثيرات خط آب.
     وقد استفسر مني عن التنظيمات الجديدة التي تشكّلت في النجف بعد الإنقلاب وقد أطلعته على المحاولات التي شاركت فيها، وهي تشكيل لجنة اجتمعت لمرتين في بيت عبدالله الشمرتي دون أن تكون له علاقة بذلك، سوى تهيئة مستلزمات الإجتماع، ومرّتين في الكوفة في بستان سهام الماضي، وأجرت إتصالات حينها مع مركز الفرات الأوسط بقيادة باقر ابراهيم، وضمّت عدنان الخزرجي ومحسن القهواتي وصادق مطر وجبّار (كفاح) سميسم وكاتب السطور، والتحق بها في آخر إجتماع بترتيب مني علي الخرسان، كما كان يتبعها لجنة في الكوفة ضمّت محمد الكويتي وعبد الأمير السبتي و سهام الماضي ، وكان للجنة النجف امتدادات واسعة، وهو ما ذكره في كتابه عن "النجف الوجه الآخر".
     وبالمناسبة فاللجنة المذكورة، بعد أن اعتقل بعض أركانها تشتتت وعادت وإلتقت مع المسؤول الجديد عبد الرزّاق السبيس، وضمّت عباس فيروز العامل في الخياطة وحسّون صاحب مقهى، وكان لها صلة فرديّة مع عبد الحسين الشيباني (عضوها) لكنها قررت الإبقاء عليه بارتباط خاص لعمله في دائرة الكهرباء. وتفككت أواصر اللجنة بعد خط آب، وكنت قد انتقلت كلياً إلى بغداد لإلتحاقي بالجامعة. وعرفت من المراسل عبد الأمير الغرّاوي أن منظمة النجف رفضت توزيع بيان آب.
     وقد سمعت عن خط حزيران/ آب1964  لأول مرّة من أحمد سنجر وكان يعمل مترجماً في السفارة البلغارية الذي زارني إلى الكلية وأطلعني على نسخة منه، واصطحب في المرة الثانية معه حسن شعبان بعد أن كان الأخير قد قام بزيارة إلى الكويت بغرض العمل ولم تكن موفّقة، وكان قد صدر الحكم ببراءته بعد إعتقاله لبضعة أشهر في الموقف العام (القلعة الخامسة) في قضية التحضير لمهرجان هلسنكي للشباب والطلاب (صيف 1962 ) ، وصادف أن أطلق سراحه قبيل إنقلاب شباط/ فبراير 1963، فإختفى في النجف طيلة فترة البعث. وقد سبق لي أن رويت قصّته في مطالعتي عن" حركة حسن السريع" الموسومة "من دفتر الذكريات – على هامش حركة حسن السريع" (نشرت في جريدة الناس على حلقتين في 15 و25 آب / أغسطس 2012 )
     وفي كل لقاء كنّا نستعيد بعض المحطات، وحين حدثت هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ونشطت القوى جميعها للتصدي لها في تظاهرات واحتجاجات، كان رأيي أن موقفنا خاطئ وذلك برفع شعار " إزالة آثار العدوان" وهو شعار لا يصلح لحزب عريق مثل حزبنا. وألمحت في أكثر من مناسبة إلى نقدٍ مباشر أو غير مباشر للموقف السوفييتي، وهو ما عدت وبلورته في موقف متكامل منذ أواسط الثمانينيات فيما كتبته عن الموقف السوفييتي من قرار التقسيم : بين الإيديولوجيا والسياسة، وسبق لي أن ألقيت أكثر من محاضرة في مركز الدراسات الفلسطينية في الشام وبيروت ونشرت جريدة الحقيقة التي تصدر في بيروت من جانب "رابطة الشغّيلة" التي يتزعّمها زاهر الخطيب نَص المحاضرة في الثمانينيات، ومثل هذا الرأي كنت أجادل فيه على شكل أسئلة وتساؤلات وإنتقادات واعتراضات حتى تبلور بشكل نهائي بتخطئة الموقف السوفييتي وما تبعه من موافقة الأحزاب الشيوعيّة على قرار التقسيم.
     وقد سبق لي أن عرضت العديد من مواقف أحزابنا في كتابي " تحطيم المرايا- في الماركسية والإختلاف" وكان آخر ما قرأته في كتاب منير شفيق " من جمر إلى جمر " حيث روى له الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني فؤاد نصّار (كان حينها في المكتب السياسي) حين كان في سجن الجفر أنه كتب مقالاً لجريدة الإتحاد التي يصدرها الحزب وهو رئيس تحريرها وصف فيه قرار التقسيم "بالإستعماري البريطاني"، وفي الساعة الرابعة صباحاً أيقظ عامل التصفيف الذي يصفّ الأحرف ويركّب المقالات في مطبعة الجريدة، حيث كان نصار ينام في المطبعة وخاطبه قائلاً : يا رفيق أبو خالد "قوم شوف" لقد وافق الرفيق غروميكو (مندوب الإتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة حينها) على قرار التقسيم"، فقام فؤاد نصار كمن لسعته أفعى وطلب منه إلتقاط إذاعة موسكو ففعل، وعبرها تأكد من صحة الخبر، فما كان منه إلا أن سحب المقال السابق المعارض لقرار التقسيم، وكتب مقالاً جديداً على الفور عنوانه" قرار التقسيم في مصلحة الشعبين الشقيقين اليهودي والفلسطيني".
     وقد تابعت تغيّر الموقف السوفييتي من وصف مشروع الهجرة اليهودية باعتباره مشروعاً رجعياً إستعمارياً مرفوضاً إلى إعتبار "إسرائيل" واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط حسب تصريحات مولوتوف وزير الخارجية السوفييتي (1954). وذلك بعد أن سمح الإتحاد السوفييتي بهجرة اليهود السوفييت في أواخر الثمانينيات، وهو ما انتقدته بشدّة على الرغم من تأييدي لتوجّهات البريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) بعد أن هيمنت البيروقراطية الحزبية وترهّلت كيانات الحزب والدولة واستشرى الفساد إلى حدود مريعة وتلكّأت التنمية بإنسداد الآفاق والإختناقات الإقتصادية، ناهيك عن شحّ الحريات التي وإن اعترف بها الحكيم إلاّ أنه كان يجادلني بالضدّ منها رافعاً من شأن الإيجابيات ومقلّلاً من شأن السلبيات.
     صحيح أن الموقف السوفييتي تغيّر بعد العدوان الإنكلو- فرنسي "الإسرائيلي" العام (1956) وكان إنذار بولغانين محطة حاسمة في هذا التحوّل، لكنه استمر دون أن يرقى إلى الموقف المبدئي حتى العام 1969 حيث إتخذ المؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية والعمالية قراراً مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، وحسب حواري مع عامر عبد الله المفكّر الشيوعي قال لي: إنه سعى في محاولات عديدة لإقناع السوفييت بضرورة وأهمية مثل هذا الموقف بالنسبة للعرب، وهو ما كان رأي نوري عبد الرزّاق حين عمل سكرتيراً عاماً لإتحاد الطلاب العالمي (1960-1967 ).

الطلاب وانشطار الحزب الشيوعي

     كانت الإنتخابات الطلابية قد جرت في ربيع العام 1967، وفاز فيها إتحاد الطلبة، وقد فصّلت في كرّاس صدر عن مطبعة طريق الشعب في بشتاشان والموسوم "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق"1983 ، تفاصيل تلك الإنتخابات وما تركته من أثر إيجابي على تنشيط الأوضاع الحزبية وارتفاع نسبة الجدل والحوار الداخلي ، والتي ترافقت مع ردّة الفعل الشعبية والتظاهرات العارمة ضد عدوان 5 حزيران/ يونيو. وللأسف الشديد فإن الصراعات الداخلية للحزب كانت حادّة، بل شديدة التقاطعات ، فانفجر الصراع الكامن والذي ظلّ يعتمر لسنوات، فانفصل فريق بإسم "القيادة المركزية" واحتفظ الفريق الثاني بإسم " اللجنة المركزية" وكنت " منزلة بين منزلتين "، فمن جهة أؤيد بعض توجّهات القيادة المركزية السياسية، ومن جهة أخرى أعارض توجهاتها التنظيمية ، خصوصاً إستخدامها للعنف ضدّ رفاق الأمس وضدّ قيادات شيوعية، حيث احتجز زكي خيري وقبله بهاء الدين نوري الذي تمكّن من الهرب، فضلاً عمّا اتبعته لاحقاً من أساليب كفاحية بإسم "العنف الثوري" بنقل تجارب أخرى تأثراً بالتيّار الجيفاري، وفي وضع أقرب إلى المغامرة والطفولة اليسارية.
     كان الحكيم قد كرّس كل وقته لمواجهة الإنشقاق وقد عقدنا جلسات مطولة محاولاً إقناعي، وكنت قد شعرت بمرارة شديدة حينها وحيرة كبيرة وتوزع فكري ونفسي وصداقي. كما حاول رضا عبد ننة الإتصال بي لإقناعي الإنضمام إلى القيادة وفضّلت لبعض الوقت "العزلة المجيدة" كما كنت أسمع عنها ممن سبق أن عاشها في السجون، أيام راية الشغيلة، وحتى بعد انشقاق العام 1967 مثل كاظم فرهود الذي احتفظ باستقلاليته، ولم تكن تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها بانفصال روحي عن التوجهات السائدة وأساليب العمل البيروقراطية.
     وبما أنني لم أكن قيادياً أو مسؤولاً، بل كنت مجرّد شيوعي حالم، بدأت تساؤلاته تكبر مع مرور الأيام، ليودّع الإيمانية التبشيرية الدعائية  وينتقل تدريجياً إلى التساؤلية  النقدية العقلية، لذلك ازداد قلقي وكبر،ولكن تطور الأحداث كان كفيلاً بتغيير بعض قناعاتي وبدأت العمل مجدداً في المجال المهني (طلبة وحقوقيين وجمعية العلوم السياسية) وفيما بعد في المجال الحزبي مع احتفاظي بملاحظاتي التي كانت تتضخّم.
     وأستطيع القول أن السجايا الأخلاقية لصاحب الحكيم قبل الإقناع السياسي أو المستوى الفكري كانت وراء بعض ليونتي تلك، وظلّ يتابع أوضاعي وساهم فترة في قيادة لجنة كنت عضواً فيها. وحين اشتدّت حملة الإعتقالات إنقطعت الإتصالات بيننا واتصل بعمّي شوقي وأبلغه بأن عليّ أن أكون شديد الحذر، حتى وإن كنت وجهاً معروفاً ومُنحت عضوية شرف من الإتحاد الوطني لطلبة العراق بعد مؤتمره الأول (نهاية العام 1969) مع نوري عبدالرزاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمّن تقديراً لدورنا في الحركة الطلابية.
      وحين أصبح في موسكو وأنا في براغ بعد عام من الفراق تقريباً طلب مني في رسالة معرفة لقائي مع الملّا مصطفى البارزاني حيث كنت على رأس وفد زاره في كلالة في أيار/ مايو 1970، وكتبت له عن ذلك، بالخطوط التي كانت معروفة ومنشورة في "جريدة كفاح الطلبة"و"جريدة طريق الشعب"(السرّية) وبعض القضايا الخاصة.

مواقف خاطفة
     بعد عودتي إلى بغداد كان أول لقاء لي هو مع الحكيم " أبو محمد" في مقر لجنة بغداد، وحين عرف أنني سألتحق بالخدمة العسكرية، طلب مني قطع جميع علاقاتي الحزبية وعدم التردد على الأماكن الخاصة، بل وإنهاء علاقتي تماماً وكنت قد قرّرت ذلك،ولم ألتفت للتوجيهات الحزبية، ولم ألتقيه مرّة أخرى سوى في دمشق 1980 حيث نظّم لقاءً لي مع الرفيق أبو خولة ( باقر ابراهيم) وطلب مني الأخير إستلام مسؤولية العلاقات مع القيادة القومية السورية ومع القوى السياسية الأخرى. وحضرت مع عبد الرزّاق الصافي بعض إجتماعات  الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (جوقد) ومنها الإجتماع الذي تم فيه تجميدنا.
      ولكن الحكيم بحكم الصداقة طلب مني الإنضمام إلى لجنة دمشق التي كان يديرها (لجنة داود) بالرغم من إثقالي بمهمة الإشراف على تنظيمات المثقفين، ثم لاحقاً الإشراف على تنظيمات الطلبة، وبعد ذلك الإشراف على العمل المهني والديموقراطي كما نطلق عليه الذي جمع (الطلبة والشبيبة والمرأة ورابطة الكتاب ولجنة المهجرين) وحاولت الإعتذار لكنه أصرّ علي، وكنت أحرر محاضرها وأكتب تقاريرها.
    وحين استضفنا الرفيق عزيز محمد في إجتماع موسّع وبحضور نخبة من الكوادر وحضور الحكيم كذلك في منزل الرفيق علي السامرائي، قدّمته بالعبارات التالية : هذا أمينكم العام فصارحوه، وكنت أعرف ثمة إعتراضات وآراء ووجهات نظر وتحفّظات على السياسة العامة والتنظيمية، فضلاً عن تململات وإرهاصات مغايرة لسياسة الحزب بشان الحرب العراقية – الإيرانية، ومنها ما كنت أتبناه وما كتبت عنه.
     علمت أن الحكيم لم يكن مع قرار عقد الجبهة الوطنية في العام 1973، خصوصاً التنازل لحزب البعث باعتباره يلعب دوراً متميّزاً في قيادة الجبهة والسلطة والمجتمع. و خلال الحرب العراقية – الإيرانية، أخذت بعض مواقفه تقترب من مواقفنا بإدانة الحرب ورفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني وإن كان بتحفّظ. كما لم يكن مع نتائج المؤتمر الرّابع الذي حُرم من حضوره حيث كان قد وصل إلى المنطقة التي انعقد فيها بعد أن تسلل إلى بغداد وبقي فيها لنحو عامين اختفى لفترة منها في النجف في منزل شقيقة السّيد سلمان، لكن ذلك كله لم يشفع له لأنه احتسب على ملاك باقر ابراهيم المغضوب عليه ومجموعة المعارضة الحزبية حتى وإن لم يكن منها، فأبعد تحت حجج أمنية حاولت النيل منه والإساءة إليه.
     وكنت حين إلتقيت به في طهران قد حاولت ثنيه من التسلل إلى بغداد وكتبت رسالتين عبر الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق) إحداها إلى المكتب السياسي والأخرى إلى الرفيق باقر ابراهيم ، لكن الرسالتين وقعتا بيد الأجهزة الأمنية الإيرانية بعد إلقاء القبض على المراسل كما علمت من أبو شروق لاحقاً. كما إلتقيت به في طهران في أحد المرات بصحبة الرفيق قاسم سلمان "أبو الجاسم" والرفيق جميل إلياس منصور "أبو نغم أو أبو جمال" وكانا متوجّهين معه إلى كردستان وقد سمع مني ما حصل في مجزرة بشتاشان التي نجوت منها (أيار/ مايو 1983). أما هو فقد توجّه إلى الداخل.
    وبعد انفضاض المؤتمر الرابع والنتائج التي خرج فيها تقرّر أن يعمل الحكيم في طهران في الظروف الأمنية القاسية، خصوصاً بعد الإعتقالات الواسعة التي طالت حزب تودة الشيوعي الإيراني، وقد اتخذ جميع الإجراءات كي لا يقع بقبضة الجهات الأمنية، كما حصل للرفيق حيدر الشيخ الذي بقي في السجن لمدة 5 سنوات. ثم جاء إلى دمشق حيث إستقبلته بعد مراسلات وإتصالات عديدة، وقد كنا حينها نصدر صحيفة المنبر التي كنت أشرف على تحريرها ، وقد هيّأت له مستلزمات المجيء عبر برقية من القيادة القومية، واستضفته ليومين في المنزل ( حسب الإتفاق)، ثم انتقل إلى بيت حسين سلطان لعدّة أيام، إلى أن تم توفير سكن له، وظل خلال تلك الفترة على الهامش وهو ما يذكره في مذكراته ، حيث لم توكل له أيّة مهمة.
      واعتبر متعاطفاً مع تيار المعارضة الحزبية علماً بأن ماجد عبد الرضا كان قد فاتحه في براغ وكذلك بهاء الدين نوري  وكل على انفراد، فاعتذر منهما كما أخبرني، وكنت أعرف رأيه وبعض ملاحظاته السلبية على نهج المعارضة الحزبية بما فيها مجموعة باقر ابراهيم، على الرغم من تأييده بعض وجهات نظرها ، فقد اقترب من بعض مواقفنا السياسية والفكرية ، فضلاً عن العلاقات الصداقية الحميمة مع بعضنا، ولكنه كان متردّداً بشأن التنظيم وهو الموقف ذاته الذي اتخذه من الرفيق أبو خولة. وبقدر ما كان يدين الإجراءات التعسفية ضد المعارضة الحزبية فإنه كان ينتقدها أحياناً، مستعيداً تجربته مع راية الشغّيلة، وقد عبّر عن ذلك على نحو واضح  خلال انتقالنا إلى براغ 1989 ( عامر عبد الله وباقر ابراهيم وعدنان عباس) وقبل ذلك كان معنا حسين سلطان قبل عودته إلى العراق، وماجد عبد الرضا الذي كان قد سبقنا ، وكان في زيارتنا المستمرة مهدي الحافظ الذي كان يأتي من فيينا ونوري عبد الرزاق من القاهرة، كما زارنا بهاء الدين نوري وفتح حوار معنا .
    كان هدف زيارة الحكيم إلى براغ هو مراجعة السفارة العراقية للحصول على جواز سفر بعد تعليمات حزبية بالتوجه إليها ، وكان ذلك قد تقرّر عقب إنتهاء الحرب العراقية- الإيرانية وترافق مع انهيار الأنظمة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات واستكمال المفاوضات لتحقيق وحدة اليمن التي كنا نستخدم جوازات سفرها (اليمن الجنوبية). ثم تقرر على نحو شبه جماعي التوجه إلى بلدان اللجوء عشيّة غزو الكويت وبعيد كارثة الحرب. وقد استضفته في براغ لمدة ستة أشهر قبل أن أتوجه إلى لندن.
     وحين حانت لحظة سفره إلى كوبنهاغن وكنت قد اتفقت مع أحد الأصدقاء البحرينيين لمرافقته وتأمين مستلزمات لجوئه ومساعدته ،إلاّ أنه ظل طيلة مساء وليل ذلك اليوم يصعد وينزل وكأنه لم ينم. ونظر إليّ نظرة استفهام وتساؤل وفهمت معناها على الفور : أيليق بي أن أكون لاجئاً؟ و طلب مني مباشرةً الإقلاع عن الفكرة إلّا إذا كنت معه، ولكنني كنت قد أمّنت سفري إلى لندن وكان من الصعوبة تأمين ذلك له في فترة وجيزة وعملت كل ما في وسعي لكي أمدّد له الإقامة لمدة ستة أشهر. وطلب مني مرافقته إلى دمشق حيث كان يخشى الإيقاع به وكنت قد ذهبت قبل ذلك إلى دمشق لمرافقته إلى براغ عبر لارنكا (قبرص) حيث استضافنا الصديق العزيز فراس فاضل عباس المهداوي لمدة يومين.
      ستبقى هذه السردية ناقصة لأنها لم تغطي سوى شذرات من سيرة مناضل لا يمكن أن نعطيه حقّه ونحيط بكل جوانب ما قدّمه ، فقد إجترح عذابات وحرمانات لا حدود لها وعاش خارج الأضواء زاهداً متواضعاً كتوماً محافظاً على سرية عمله حتى بالظروف الطبيعية، وقد كنت قد فرضت إسمه العلني حمايةً له  في الشام على الرغم من تمنّعه في البداية ، لكن ذلك شكَل، في ظروف الصراعات الحزبية والدسائس والمؤامرات والوشايات، ضمانةً له ضدّ تداخلاتٍ أمنية، لاسيّما وأن مواقفه كانت ضدّ الحصار والعدوان واحتلال العراق وهو ما وقع به آخرون.
     عاش صاحب الحكيم شيوعيا نقيّا ووطنياً أصيلاً وإنساناً شريفاً وهو في كلّ مراحل عمله امتاز بتعامله الإنساني وبروح المودة والتآزر والتضامن والرحمة بين الرفاق، ولذلك وقف ضدّ إجراءات القمع والتنحيات والمقاطعة الإجتماعية، وهي أساليب تنتمي إلى الحقبة الستالينية المظلمة.


49
صاحب الحكيم
 وسوسيولوجية الشيوعية في النجف


عبد الحسين شعبان
ما أخطأتك النائبات / إذا أصابت من تحب
                                                                                                         
الشريف الرضي



     لا تُذكر الشيوعية في النجف إلاّ وهي مقترنة بثلاثة أسماءٍ كبيرة، أولها–سلام عادل (حسين أحمد الرضي) الأمين العام للحزب الشيوعي، الذي استشهد تحت التعذيب في العام 1963 على يد إنقلابيي 8 شباط/ فبراير، وثانيها- حسين محمد الشبيبي (صارم)عضو المكتب السياسي، الذي أعدم في العام1949 مع يوسف سلمان (فهد)أمين عام الحزب الذي يعتبر أحد أبرز مؤسسيه والمساهم الأكبر في بنائه، ومحمد زكي بسيم   (حازم)عضو المكتب السياسي، وثالثها - صاحب جليل الحكيم (جهاد)، والثلاثة ينتسبون إلى عوائل دينية، فوالد سلام عادل درس في الحوزة الدينية، ووالد حسين الشبيبي الشيخ محمد الشبيبي كان قارئاً للمنبر الحسيني وكان منبره تحريضياً تعبوياً عامراً، أما الحكيم فوالده السيد جليل وشقيقه السيد سلمان وعدد غير قليل من آل الحكيم من سدنة الروضة الحيدرية للإمام علي أيضاً.
      وعلى هذا المنوال المتنوع بين الإنحدارات الدينية والتوجّهات المدنية كان المجتمع النجفي يمورُ بالجدل والنقاش و الإختلاف بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وكانت قد انبعثت الروح التجديدية في الحوزة الدينية منذ أن جاءها الإمام الطوسي ملتجئاً في العام 448 هجرية وتوفي فيها في العام 660 هجرية.
     وظلت النجف منذ نحو 1000 عام قبلة للعلوم الدينية ومرجعية مرشدةً للدارسين من شتّى الأقطار العربية والإسلامية، مثلما كان وجهها الآخر مشرقاً بالثقافة والأدب والشعر بخاصة. وعلى مرّ العهود كانت الكبرياء تسكنها، فهي مدينة عصيّة على الترويض، ولعلّها  تآخت مع التمرد، ولم تستكن في كل الظروف والأحوال، بالرغم من محاولات تطويعها في السابق والحاضر.
    وعلى الرغم من أجوائها المحافظة ، إلاّ أن هاجس الإصلاح والتجديد كانا على الدوام في رفقةٍ مع نخبها الفكرية والثقافية المتنوعة.فالنجف بتناقضاتها وجوار أضدادها وروح الجدل التي تحوم حولها تمثّل "الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق"،حسب السيد مصطفى جمال الدين كما ورد في كتابه " الديوان" 1995، فباحاتها وجوامعها ومساجدها ومدارسها تضجّ بالدارسين والمنشغلين بالعلوم الدينية واللغة والنحو والفقه والعبادة. حيث مرقد الإمام علي الذي يعتبر مزاراً لعموم المسلمين.وقد خرّجت النجف أعداداً كبيرة من " علماء " الدين من البلدان العربية والإسلامية وأوفدت إليها "علماء" دين يمثلون مراجع " كبار" في النجف.
     والنجف مدينة مفتوحة للوافدين والزائرين وهي تقع على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات المار بالكوفة وهي ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضرٍ وبدوٍ ومللٍ ونِحلٍ وفيها أكبر مقبرة في العالم تسمى "مقبرة وادي السلام" وهي رابع المدن الإسلامية بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف وهي دار هجرة الأنبياء ومواطئ الأولياء، فقد نزل فيها النبي ابراهيم الخليل ودفن فيها النبي هود والنبي صالح وفيها انتعشت مدرسة الكوفة التي أبقت باب الإجتهاد الفقهي واللغوي مفتوحاً.
      ولعل ذلك أوجد مناخاً متميزاً وأفقاً رحباً في النجف كرّسته بقبول تنوّع التيارات الفكرية والإجتماعية. فلا غرابة أن تكون النجف قد خرّجت شيوعيين كباراً أيضاً، عراقيين بالطبع وعلى المستوى العربي أيضاً من أمثال المفكر حسين مروّة الذي تمّ إغتياله في العام 1987 في بيروت والمناضل محمد شرارة والد الأكاديمية والروائية حياة شرارة والكاتبة بلقيس شرارة، وغيرهم.
     وبقدر ما تكون بيئة النجف عراقيةً وعربية أصيلة فإنها كانت مفتوحة لتلاقح الثقافات وتعاشق الأعراق وتآلف اللغات والألسن، دون أن يعني ذلك إخلالاً أو إنتقاصاً من عروبتها وقيمها الحضارية وأبعادها الإنسانية، حيث كانت اللغة العربية لغة الدراسة التي لا يمكن التقدم والتدرج في العلوم الدينية والدراسة الحوزوية دون الإلمام بها وإتقانها.

شريط سينمائي
     مرّ شريط سينمائي برأسي وهو أقرب إلى إسترجاعاتٍ و استعاداتٍ، وأنا في آخر زيارة لصديق العمر صاحب الحكيم ( مطلع أيلول /سبتمبر 2021 ) في منزل نجله باسم في بغداد، حيث قفزت إلى الذاكرة أسماء أخرى رنّانة من شيوعيّ النجف، وكان في المقدمة منهم حسين سلطان القيادي والوجه الإجتماعي المحبوب،وحسن عوينة ( الذي استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/ فبراير 1963)،وباقر ابراهيم الموسوي (أبو خولة) الذي قاد التنظيم الحزبي لنحو ربع قرن 1961-1984 قبل تنحيته،ومحمد موسى "حديد" ( الذي استشهد أيضاً تحت التعذيب في العام 1963 ) والدكتور خليل جميل الجواد، صديق العائلة وزميل الدكتورة نزيهة الدليمي والتي كانت قد اختفت بمنزله في النجف في الخمسينيات كما أخبرتني،ومحمد حسن مبارك المرشح للجنة المركزية، والذي عاش في عزلةٍ لأكثر من 10 سنوات توفي بعدها في ظروف غامضة وملتبسة بعد الإنتفاضة الشعبية في العام ،1991 ورضا عبد ننه ( أبو جبّار) الذي توثّقت علاقتي معه بعد إنتقاله إلى حزب القيادة المركزية إثر انشطار الحزب الشيوعي في العام 1967 ودخلت معه في نقاشات مطوّلة ، وآخرين ممن عرفتهم في مرحلة الفتوة الأولى، وتأثرت بالعديد منهم، خصوصاً لسجاياهم الأخلاقية وشجاعتهم، وأولهم صاحب الحكيم .

لقاء الوداع

    كان اللقاء الأخير وداعياً، هكذا شعرت وأنا الذي يكره الوداع، فقد كنت أغيب عن أصدقائي وأحبائي حين أشعر بدنوّ منيّتهم، لأنني أريد أن أُبقي في ذاكرتي صورتهم وهم في عزّ قوّتهم، إلاّ أن اللقاء الأخير كان مفروضاً عليّ وحاولت أن أتهرّب منه، وكان صاحب الحكيم قد عرف بزيارتي إلى بغداد وهاتفني مستنجداً، فكيف لي أن أزوغ عن هذا الواجب الإنساني والأخلاقي وأنا الذي عرفته منذ أن أدركتني لوثة السياسة بأحلامها الكثيرة وهمومها الكبيرة، بحلوها ومرّها كما يقال، فقد عشنا منعرجاتها وتقلّباتها وتشعّباتها وتذرّراتها وإحباطاتها، فأين كنّا وأين أصبحنا؟
    بعد زيارة لما يقارب الساعة ودّعته مع كلمات مجاملة غصّت في فمي باللقاء قريباً، وهممت بالمغادرة. حين وصلت باب المنزل عدت لألقي عليه نظرة الوداع. صعدت السيارة بجوار ولده باسم وكنت أشعر بحشرجةٍ داخليةٍ أخذتني إلى عالم آخر أقرب إلى الخيال أو التوهّم، حيث بدأت الذكريات تتقافز في رأسي وتمطرني بزخّاتٍ من الأسئلة. كيف لك أن تودّع صديقاً مثل صاحب الحكيم؟ وكيف طاوعك قلبك وراودتك نفسك لدرجة إنفجرت تلك العواطف الإنسانية بشيء أقرب إلى النحيب، "فما قيمة فضيلتي إن لم تجعل منّي إنساناً عاطفيّاً؟"على حدّ تعبير الفيلسوف نيتشة.
      لا أدري بمَ تمتمتُ وأنا أهّمّ مسرعاً نحو مدخل فندق بابل. لحظتها استعدت بيت شعرٍ للصديق السيّد حسين هادي الصدر، والذي بقيت أردّده يومياً طيلة الأسابيع الثلاثة المنصرمة حتى جاءني خبر وفاته الذي نزل عليّ كالصاعقة (25 أيلول/سبتمبر 2021) ، وهو الذي يقول فيه :
سيف المنايا مرهفُ الحدّ  /  يُردي ولا نقوى على الرّدِّ
وفي اللّاوعي كنت أقرأ الفاتحة على روحه صباحاً ومساءً،  مستعيداً الجواهري الكبير في قصيدته المهداة إلى صلاح خالص- أأخي أبا سعد:
فالمرء مرتطمٌ بحفرته / من قبل أن يهوى فيرتكسا
أو كما يقول في قصيدته المهداة إلى الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية السابقة وهي بعنوان أسيدتي نجاح :
يظلّ المرء مهما أخطأته / يدُ الأيام طوع يد المصيبُ
أو بيت الشعر المشهور من قصيدته الإستذكارية للشاعر الرصافي 1959:
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه / دمُ إخوتي وأحبتي وصحابي
هكذا هي الحكمة الأبدية "فالموت يدرك كلّ ذي رمقٍ" وهو ما ورد في القرآن الكريم حيث تقول سورة الرحمن – الآيتان 26 و 27 " كلّ من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام".


"أبو زمن" و الوعي الأوّل

     بُعيد ثورة 14 تمّوز / يوليو 1958 وفي بدايات تكّون وعيي الأول بحكم إنتماء العائلة اليساري، وفي غُمرة الإبتهاج بالتغيير إلتقيت بصاحب الحكيم، الذي كان يُكنّى بأبو زمن وذلك بعد الإعلان عن تأسيس لجنة تحضيرية لإتحاد الطلبة العراقي العام وكان هو على رأسها، حيث أُعيد إلى الدراسة بعد أن فُصل منها لخمسة أعوام ( طالباً في الصف الثالث المتوسط – المسائي). واختارت اللجنة مقرّا علنيا لها في إحدى المقاهي في شارع نادي الموظفين بين متوسطة الخورنق وإعدادية النجف. وبعد الإنتخابات التي كانت حامية الوطيس أصبح الحكيم رئيساً للإتحاد ومثّله في المؤتمر العام الأول ( بعد المؤتمر التأسيسي الذي انعقد في ساحة السباع في 14 نيسان / إبريل 1948). وتغير إسم الإتحاد إلى " إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية".
    كان الحكيم (أبو زمن) عضواً في الوقت نفسه في مكتب اللجنة المحلية للحزب الشيوعي التي يقودها محمد حسن مبارك ، وفي نهاية العام 1959 ومطلع العام 1960 أصبح سكرتيراً للجنة المحلية وعضواً في لجنة منطقة الفرات الأوسط .
    في فترة الخمسينيات كان يتردّد على بيتنا هو وبعض المسؤولين الحزبيين لإداء عدد من  المهمات الحزبية حيث كان  مشرفاً على اللجنة الطلابية التي ضمّت محمد موسى ( مسؤولاً) ورحيم الحبّوبي وشوقي شعبان وعبد الزهرة الحلو وكان معهم قبل ذلك عبد الرضا فيّاض الذي حكم عليه لمدّة عام وعام آخر تحت المراقبة إثر إنتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي الإنكلو- فرنسي الإسرائيلي.
     وعاش شيوعيو النجف بكل جوارحهم  حالة إنشقاق ( راية الشغّيلة)بكل تفاصيلها،حيث انشطر الحزب الشيوعي إلى جناحين( القاعدة و راية الشغيلة) وقد توالى على مسؤولية اللجنة المحلية التي تضمّ النجف وكربلاء حمزة سلمان الجبوري الذي استشهد عام 1963، وكان قد اعتُقل لإتهامه بأحداث الموصل إثر حركة العقيد عبد الوهّاب الشوّاف (آذار / مارس 1959)، وأُعدم بعد إنقلاب 8 شباط / فبراير. وقد استلم مسؤولية اللجنة المحلية بعده صالح الحيدري وهو من عائلة كردية معروفة وشقيق الشهيد جمال الحيدري الذي استشهد تحت التعذيب في تموز/ يوليو 1963، وكان حسين سلطان من الذين تولوا مسؤولية اللجنة المحلية لأكثر من مرة، وبعد تحقق وحدة الحزب لم يستطع سلطان إستيعاب التغيير المفاجئ، خصوصاً ما كان من خصومة وعداء واتهامات وتراشق بين الفريقين المتصارعين التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى مودة ورفقة وتضامن ومبدئيةٍ ، فاعتذر عن المسؤولية وسلّم قيادة اللجنة المحلية إلى صاحب الحكيم لفترة مؤقتة شهدت إزدهاراً ونمواً واتساعاً للحركة الشيوعية .

أبو بشائر وأسماء أخرى

     أخذنا نسمّي صاحب الحكيم "أبو بشائر" بعد ولادة إبنته البكر بشائر( المهندسة حالياً )، وبعد زواجه من الشيوعية فهيمة عمران الدجيلي العضوة في رابطة المرأة والتي اعتقلت في العام 1963، وكان إسم أبو بشائر يتغيّر باستمرار إلاّ للخاصّة والأصدقاء المقربين، فحين عمل في منطقة بغداد كان إسمه "أبو محمد" وفي سوريا أطلق على نفسه "أبو سعدون" وحين إلتقيته في طهران وأنا عائد من مجزرة بشتاشان أبلغني أن إسمه "أبوهادي"، وهكذا، وعلى الرغم من أنه عمل في قطاعات تنظيمية مختلفة فتارة مسؤولاً للمثقفين وأخرى مسؤولاً عن محليّة الكاظمية ومنظماتٍ أخرى،إلاّ أنه ظلّ يتابع أوضاع الطلبة وحركتهم وكانوا أحد مشاغله أيضاً ، و بقي على هذه الحال لسنوات غير قليلة، ولاسيّما بعد خروجه من السجن وانتقالنا إلى بغداد، وحاول الإتصال بعدد من الطلبة الذين يعرفهم في الجامعات،  وخصوصاً بعد الإنشقاق الذي حصل في الحزب العام 1967 ، فانتدبته إدارة الحزب للمشاركة في تعزيز التنظيمات الطلابية والإشراف على هذا القطاع المهم الذي كان في غالبيته الساحقة مع مجموعة القيادة المركزية بإدارة عزيز الحاج، وهكذا ساهم مع كوكبة لامعة لإعادة بناء إتحاد الطلبة والتنظيمات الحزبية.
     وحتى خلال فترة إدارته للتنظيم في دمشق، طلب منّي الإشراف على عقد كونفرنس طلاّبي لإختيار قيادة لجمعية الطلبة العراقيين في سوريا، وذلك بحكم تجربتي الطويلة في هذا الميدان. وقد اصطحبت معي الشاعر سعدي يوسف الذي خاطب الجمع الطلاّبي إنطلاقاً من تجاربه المهنية والفكرية، واختارت الجمعية قيس حسن الصرّاف رئيساً لها.

أوّل سجن
إثر إنتفاضة العام 1956، كان الحكيم قد اعتقل عدّة مرات في الخمسينيات، لكنه سُجن لأول مرّة لمدّة عام حيث اعتقل في بغداد، وبعد الحكم عليه نقل إلى سجن بعقوبة، والتقى لأول مرّة بالرفيق عزيز محمد في السجن والذي سيصبح أميناً عاماً في العام 1964 ويستمر في موقعه ل 29 عاماً، وحين أُطلق سراحه نُسّب للعمل لقيادة منظمة الشامية ومنها إلى الحلّة (لم يستمر فيها) وعاد لقيادة محليتها في العام 1962 ، حيث اعتقل فيها، وحكم عليه لمدّة سنتين تنقّل خلالها في سجون عديدة منها سجن بغداد المركزي وسجن الحلّة وسجن نقرة السلمان وسجن الرمادي حيث شكّل لجنة لقيادة السجن ضمّت يوسف حمدان وكمال شاكر وزهير الدجيلي.
     وبعد لقاءات مستمرة أغلبها عامة وبعضها خاصة إلتقيته آخر مرّة  قبل إنتقاله إلى قيادة محليّة الحلّة وذلك خلال زيارة سريعة لشقيقه سلمان الحكيم، وبعدها انقطعت أخباره بالنسبة لي بتردّي الأوضاع السياسية واتجاه الزعيم عبد الكريم قاسم للإنفراد بالحكم وإتّباعه أساليب دكتاتوريّة وقمعيّة، ثمّ إلتقينا في المعتقل بعد 8 شباط (فبراير) 1963  لتتوطّد علاقتنا وتبدأ صداقة حميمة بيننا لم يفرّقها سوى الموت.


عائلة الحكيم

     بودّي أن أتوقف هنا للحديث عن عائلة الحكيم، فشقيقه الأكبر السيّد سلمان من الشيوعيين الأوائل البارزين في النجف  وقد اعتقل عدّة مرّات ومثله الشيخ وهاب شعبان وهما من سدنة الروضة الحيدرية للإمام علي، وكلاهما نالا قسطاً وافراً من التعذيب والتنكيل. وكانت المرحلة الأولى للحركة الشيوعية النجفية قد بدأت إرهاصاتها في مطلع الأربعينيات، ويدون كتاب الصديق محمد الشبيبي عن والده الموسوم "الرائد علي محمد الشبيبي - ذكريات التنوير والمكابدة" محطات التأسيس الأولى.
     أما شقيقه الثاني، فهو السيّد ناجي فقد سجن بعد 8 شباط/ فبراير1963، وبعد إطلاق سراحه عمل في لجنة محلية الكرخ لغاية العام 1970 وقد اعتُقل في قصر النهاية. وأخته العلوية زهوري هي زوجة الرفيق حسن عوينة الذي استشهد في العام1963، وكان حينها عضواً في لجنة الإرتباط لتنظيمات الحزب مع الألوية (المحافظات) والمكاتب في إطار"لجنة التنظيم والرقابة المركزية "(لترم)،ووالدته العلوية زكيّة عملت كمراسلة لأكثر من مرّة بتكليف من الحزب الشيوعي. ففي كامل مرحلة الخمسينيات كانت تزور السجون العراقية للقاء المعتقلين من أبنائها، فما أن يخرج واحد حتى يدخل آخر وهكذا. وكانت والدته وشقيقتاه عضوات في رابطة المرأة العراقية بعد ثورة 1958.
      أما والده فعلى الرغم من كونه يعمل مرشداً  في حضرة الإمام علي، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليسار مثله مثل العديد من سدنة الروضة الحيدرية من آل الحكيم وآل الرفيعي وآل الخرسان وآل شعبان وغيرهم، إضافة إلى عوائل دينية معروفة مثل آل الشبيبي وآل سميسم وآل الجواهري وآل بحر العلوم وآل الدجيلي وآخرين، وحين اعتقلت زوجة الرفيق محمد حسن مبارك في الحلة قاد السيد جليل الحكيم وفداً لإطلاق سراحها، فإلتقى بالسيد محسن الرفيعي مدير الإستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع وطلب منه التدخل لدى الزعيم لإطلاق سراحها ونجح في مهمته وهو ما ترك أثراً طيباً لدى النجفيين. جدير بالذكر أن منزل السيد جليل الحكيم هو الذي  استضاف أول كونفرنس للحزب بعد الثورة في منطقة الفرات الأوسط حضره سلام عادل وهو ثاني لقاء بين صاحب الحكيم وسلام عادل كما أخبرني .
      وعلى ذكر سلمان الحكيم فقد كان صديقاً لوالدي عزيز شعبان، وقد رفض جميع المغريات خلال فترة الجبهة، وبشهامة منقطعة النظير وبمروءة عالية استضاف صاحب الحكيم لعدّة أشهُر حين تسلل الأخير إلى بغداد في العام 1983 لإعادة التنظيم وتلك قصّة درامية أخرى، لا يتّسع المجال لذكرها في هذا المقام.
      وكان السيّد سلمان الحكيم بعد العام 1958 عضواً في لجنة مختصّة بالوسط الديني مؤلفة من الشيخ باقر الفيخراني والسيد نوري الموسوي وهما خطيبان منبريّان والسيد أحمد الحكيم (نجل السيد سعيد الحكيم البصراوي ) والشاعر عبد الحسين أبو شبع الذي كان عضواً في الحزب قبل ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 وإسمه الحزبي "علي"، وتتبع هذه اللجنة أكثر من خلية وحلقات أصدقاء ومتفرقين يتوزعون على خدم الروضة الحيدرية والحوزة الدينية وقرّاء المنابر الحسينية وأصحاب المواكب، وكان  بعضهم من أنصار السلام . وكانت النجف تعرف تاريخهم أذكر منهم الشيخ حبيب سميسم ومحمد مصطفى الحكيم (الذي سبق له أن إلتقى بفهد) وحسن الحكيم ( الذي استشهد عام 1979 ) وثلاثتهم كانوا معتقلين معنا في خان الهنود والشيخ مجيد زيردهام والشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء والشيخ ابراهيم أبو شبع وعدد من مرشدي حضرة الإمام علي من العوائل التي جرى ذكرها وهي تابعة للجنة المثقّفين، وكان لولبها السيد سلمان الحكيم الذي يملك "فندق النجف" في دورة الصحن الشريف، وبالقرب منه محل والدي المستأجر من صالح معلّة بعد أن انتقل من (السوق الكبير) لفترة قصيرة، ثم عاد إليه في العام 1959.
     وكان بجوار الفندق أيضاً آل سنجر ومحلّهم المعروف لبيع ماكينات الخياطة، ومصطفى الأطرقجي الملقّب "أبو الزوالي – محل لبيع السجاد" ويقترب منه دكّان سهل الخيّاط ( المبالِغ في يساريته) وهو والد جواد الطالب الذي كان  معنا في الحزب الشيوعي وهو خال علي ناجي بر، وبين هذا الوسط كان السيّد خلف الحبوبي وتعليقاته على لقاء عفوي يجمع من يريد الإطلاع على جريدة " إتحاد الشعب" أو تصفّح بعض المجلّات السوفيتية مثل المدار وصحف مثل أنباء موسكو ومنشورات وكالة نوفوستي. وكان يشير بإصبعه إلى الخط الأحمر، لكن هذه اللقاءات التي استمرّت لأشهر سرعان ما انقطعت بعد تدهور العلاقات السياسية.


50
مئوية الدولة العراقية

عبد الحسين شعبان
6 تشرين الأول/ أكتوبر 2021



     خصّص ملتقى الرافدين للحوار مؤتمره السنوي لبحث إشكاليات الدولة العراقية ومشكلاتها بعد مرور 100 عام على تأسيسها في 23 أغسطس/آب 1921، بحضور رئيس الجمهورية   ورئيس البرلمان وشخصيات سياسية وازنة ونخبة من الأكاديميين والباحثين والمفكرين، وذلك تحت عنوان " العراق في مائة عام : مسارات مضطربة وأزمات متجددة".
     وكان المؤتمر فرصة للحوار وتبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والإستئناس بأفكار ذات مشارب مختلفة ومن شخصيات عراقية وعربية ودولية تمثل اتجاهات متنوّعة، فالحوار لم يعد ترفاً فكرياً أو نزوة عابرة، بقدر ما أصبح ضرورةً وامتيازاً  في آن، بعد أن وصلت العملية السياسية ،التي تأسست بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، إلى طريق مسدود، واستمرار ظاهرة انتشار السلاح خارج الدولة وتغوّل جهات ما دونها لتصبح ما فوقها في ظلّ نظامٍ يقوم على المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني.
وكان المؤتمر أيضاً فرصة لإعادة قراءة التاريخ، خصوصاً  فترة العهد الملكي وحصول العراق على الإستقلال حتى وإن كان شكلياً ودخوله عصبة الأمم، حيث تمَ تشييد  أساسات الدولة العراقية  بهياكلها المعروفة ودواوينها وقوانينها وتطبيقاتها وخططها الإقتصادية ومشاريعها العمرانية،  وحتى وإن كانت الحريات شحيحة إلا أنه  شهد نهوضاً ملحوظاً وتطلّعاً نحو الحداثة والتقدم.
وعلى الرغم مما حققته ثورة 14 يوليو/تموز1958 من منجزات سياسية واجتماعية واقتصادية وفي مقدّمتها الخروج من حلف بغداد وانتهاج سياسة تحررية وتحرير العملة العراقية من شرنقة الكتلة الإسترلينية وتشريع قانون تقدمي لصالح المرأة في العام 1959 ( قانون رقم 188 ) وآخر لتحرير الثروة النفطية في العام 1961 ( قانون رقم 80 )، إلاّ أن العراق عاش أوضاعاً إستثنائية وفترة إنتقالية و شهد حرباً ضد الشعب الكردي واندلاع أزمة المطالبة بضم الكويت مما سهّل الإطاحة بالجمهورية الأولى في العام 1963 ، وزاد من التضييق على الحريات العامة والخاصة وانتهاج سياسة دكتاتورية إستبدادية.
 وبعد إنقلاب 17 يوليو/تموز 1968 حُكمت البلاد بالحديد والنار لنحو 35 عاماً وشهدت خلالها حروباً عبثيّة داخلية وخارجية، أبرزها الحرب العراقية – الإيرانية ( 1980 – 1988) واحتلال الكويت عام 1990 وما أعقبها من ردود فعل دولية بالحصار الشامل وصولاً إلى الإحتلال العام 2003 .
وبعد الإطاحة بالنظام السابق زادت الإنقسامات الداخلية الطائفية والإثنية والتي جرى اعتمادها منذ مجلس  الحكم الإنتقالي الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، والتي انعكست على قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية والدستور الدائم النافذ لعام 2005 ، والذي قام على مبدأ المكوّنات، ابتداءً من الديباجة (مرتان) والمواد 9 و 12 و 49 و 125 و 142 وليس ذلك سوى إقرار بالمحاصصة القائمة على الزبائنية السياسية والمغانم والمكاسب بعيداً عن مستلزمات  المواطنة والكفاءة والإخلاص للوطن .         
وحسب ماركس، فإن الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره ، فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإن حصل ذلك ففي المرة الأولى كمأساة وفي المرّة الثانية كملهاة، علماً بأن التاريخ ماكر ومراوغ حسب هيغل، وبالطبع فلكل تاريخ فلسفة، وفلسفة التاريخ تقوم على معرفة الماضي لدراسة الحاضر واستشراف المستقبل، لأن التاريخ هو أبو العلوم، أما الفلسفة فهي أمّها. وكان كيسنجر قد أجاب أحد طلّابه الذي سأله كيف يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه،بأنه حمل معه  كتب التاريخ والفلسفة، فمعرفتهما كفيلة بوضع الخطط الصحيحة للحاضر والمستقبل، وهو ما حاولناه منهجاً عند بحثنا  للدولة العراقية .
 لقد عانت الدولة من ثلاث إشكاليات ما تزال تعيش معها لدرجة أنها أصبحت معتقة وهي المشكلة الكردية التي تفاقمت وأصبحت شبه مستعصية بفعل الإضطهاد المزمن ،  والمسألة الطائفية وهشاشة المواطنة بسبب قوانين مجحفة للجنسيّة وممارسات تمييزية. و كان الملك فيصل الأول وبعد أن حكم المملكة العراقية لنحو 12 عاماً كتب مذكّرته الشهيرة وهي خلاصة تجربته، شخّص فيها المشكلات الثلاث بقوله:" الجهل واختلاف العناصر والأديان والمذاهب والميول والبيئات". وباستعارة من الروائي أمين معلوف، فإن تلك الهوّيات الفرعية تصبح "قاتلة" إذا تحولّت من " تطلّع مشروع" إلى "أداة حرب"، وهو ما انفجر في العراق ما بعد الإحتلال الأمريكي، وقاد إلى تطهير طائفي.
     وحسب الملك فيصل الأول فإن البلاد العراقية ينقصها الوحدة الفكرية والمليّة والدينية، وتعاني من اختلافات شيعية وسنية وكردية "وأقليات غير مسلمة" كما أسماها، وهو ما أطلقت العنان له منظومة 9 إبريل/نيسان 2003 ليصبح معياراً في توزيع المسؤوليات والوظائف، الأمر الذي أضعف هيبة الدولة وعرّضها للتعويم.
    وإذا عدنا إلى مذكّرة الملك فيصل الأول 1932 فهي دعوته إلى الوطنية الصادقة ( وتجاوز) الكتلات البشرية المشبّعة بتقاليد وأباطيل دينية وتشكيل شعب سعى لتهذيبه وتدريبه وتعليمه وذلك أحد دروس التاريخ وفلسفته التي على العراقيين وضعها نصب أعينهم إذا أرادوا إعادة بناء الدولة على أسس موحّدة وسليمة معيارها حكم القانون والمواطنة واستقلال القضاء والإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الإختلاف.

     


51
د. شعبان يحاضر في عمّان‬


تحية طيبة
يلقي د. شعبان محاضرة في "مهرجان الأردن للإعلام العربي" الدورة الرابعة 3-5 تشرين الأول /أكتوبر 2021 بعنوان : دبلوماسية القوة الناعمة- القدس في المعركة الدبلوماسية والثقافية والإعلامية.
مع التقدير
مكتب د. شعبان
Dr Shaban Office

52
من دروس التجربة المغربية
               
 
 
عبد الحسين شعبان
ما الذي حصل بحيث تراجع حزب العدالة والتنمية المغربي الذي كان حصد 125 مقعداً في انتخابات 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، إلى 12 مقعداً في انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول 2021؟ ولماذا هذا العزوف الشعبي عنه؟ أثمّة علاقة بين فشل مشروع الإسلام السياسي في العالم العربي وبين انحسار نفوذه في المغرب؟ وهل يعني فشل المشروع الإسلامي انخفاض أو ضعف العقيدة الإسلامية التي ظلّت متجذّرة في النفوس على مدى قرون، خصوصاً وقد ارتفع رصيدها خلال العقود الأربعة المنصرمة، بفعل توظيفها سياسياً من جانب الإسلاميين؟
كان هذا الهبوط الانتخابي في شعبيّة حزب العدالة والتنمية بفعل عوامل خارجية وأخرى داخلية.
وبغض النظر عن بعض ممارسات حزب العدالة والتنمية الداخلية، فقد اعترف بالإخفاقات والتراجع بدل المكابرة والهروب من المسؤولية، وأقدم بقيادة الوزير الأول (رئيس الوزراء) سعد الدين العثماني، على تقديم استقالته تسليماً بنتائج صناديق الاقتراع واللعبة الديمقراطية وبالانتخابات ومعاييرها التي سبق أن ارتضاها، وهو ما لم يفعله التيار القومي العربي، باستثناء استقالة جمال عبدالناصر بعد نكسة 5 يونيو/ حزيران عام 1967، وكذلك التيار اليساري الماركسي الذي تعتقت قيادته في مواقعها وهو يخسر الشارع يوماً بعد يوم. وظلّ التياران القومي والماركسي مثقلان بالأخطاء والخطايا، ويصرّان، على الرغم من الإخفاق والتراجع وانحسار تأثيريهما، على أن سياستيهما كانت على صواب دائماً، وأن الحياة زَكّت مواقفهما وأثبتت صحة تقديراتهما. ولم يشذّ التيار الإسلامي عن ذلك التوّجه في مصر وتونس والعراق وسوريا وفلسطين والجزائر ولبنان والأردن، وغيرها من البلاد العربية، بالرغم من تباين درجة الفشل والعوامل الدولية والإقليمية الضاغطة، فضلاً عن الأخطاء والنواقص والعيوب التي عانى منها، والتي قادت إلى نتائج معاكسة لتطلّعاته.
ولنأخذ مثلاً التيار الإسلامي في العراق الذي حظي بدعم دولي وإقليمي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، لكنه لم يتمكن من إنجاز تجربة مقنعة حتى لمن يدّعي تمثيلهم طوائفياً، والأمر ينطبق على الفريقين المتصارعين باسم تمثيل هذه الطائفة أو تلك، بل كانت الاختلافات والتشظيات داخل كل فريق من الفرقاء المتعاونين-المتخاصمين قائمة، بل الأكثر عدائية وكراهية، خصوصاً التنافس على مراكز النفوذ، فضلاً عن الامتيازات والمكاسب الطائفية والحزبية والسياسية والاقتصادية والشخصية.
لقد أنتج ذلك الصراع غير المبدئي، انحداراً كبيراً في إدارة الدولة، بفعل تغوّل السلطة عليها واستقواء جماعات ما دون الدولة لتكون ما فوقها، بحكم امتلاكها للسلاح، وتفشّي ظواهر المحسوبية والمنسوبية والاستزلام والغنائمية السياسية والزبائنية المصلحية، التي تجسّدت في نظام المحاصصة والفساد المالي والإداري واستشراء التعصّب ووليده التطرّف وابنهما «الشرعي» العنف، وهذا الأخير إذا ما ضرب عشوائيّاً يتحوّل إلى إرهاب، بل إرهاب دولي إذا استهدف خلق حالة من الهلع والرعب والخوف لإضعاف ثقة الدولة بنفسها، وثقة المجتمع والمواطن بالدولة كحامية له وحريصة على ضبط النظام والأمن العام وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم.
قد تكون الإطاحة بتجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب تعني، فيما تعنيه، الإجهاز على معقل مهم وأساسي من معاقل الإسلام السياسي في العالم العربي، بعد فشل تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر، و«حزب النهضة» في تونس، وقبلهما فشل تجربة الإسلام السياسي في السودان، وانحسار دوره في ليبيا وموريتانيا والجزائر، إضافة إلى انقساماته في الأردن، فضلاً عن تعقيدات الوضع اللبناني والحصار الذي يتعرّض له والذي انعكس على تعويم سيادة البلد لعقود من الزمن، فضلاً عن الفراغ الحكومي لأكثر من عام منذ حادث الانفجار الأليم لمرفأ بيروت (4 أغسطس /آب 2020 )، والذي ترافق مع تعاظم الأزمات الخانقة من الكهرباء إلى المازوت والبنزين، وصولاً إلى انهيار العملة وتردّي الحالة المعيشية لدرجة أقرب إلى الارتطام بالقاع.
وقد أحدث الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تداعيات جديدة قد تُفضي إلى تغييرات جيوبوليتيكية درامية على المستوى الإقليمي، كما أربك التيار الإسلامي في العديد من الأقطار العربية، فضلاً عن إيران ودول آسيا الوسطى الإسلامية، ما دفع موسكو لإرسال عدة رسائل إلى «طالبان»، ودفع بكّين إلى التعامل بحذر مع هذا المتغيّر الجديد، فهل يعترف أصحاب مشروع الإسلام السياسي بالدرس المغربي، ويسلّموا بفشل سوء إدارتهم، وهل يتحلّوا بشجاعة العثماني وقيادته بالانسحاب من مواقعهم؟
إنه درس للجميع، وعبرة لمن اعتبر.
drhussainshaban21@gmail.com
 


53
المنبر الحر / تونس ومفترق الطرق
« في: 17:43 25/08/2021  »

تونس ومفترق الطرق
عبد الحسين شعبان



ربما من السابق لأوانه إصدار حكمٍ نهائي وموضوعي على ما حصل في تونس بعد إصدار الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021، قراراته بإقالة حكومة هشام المشيشي وحلّ البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، لكن ما هو ماثل للعيان أن ثمّة مرحلة جديدة قد بدأت ولا يمكن تقدير أبعادها أو التكهّن بنتائجها، الأمر الذي قد يثير إشكالات جديدة نظرية وعملية وقانونية وسياسية في المشهد التونسي بشكل خاص إزاء الموقف من الإسلام السياسي وإزاء الموقف من المشروع الإسلامي إقليمياً ودولياً، وهو ما قد يفتح باب المراجعة والنقد بشأن تقييم جديد لما سُميّ ب «الربيع العربي» وموضوع الانتقال الديمقراطي والتحوّلات التي أعقبته سياسياً ودستورياً.
وإذا كان انكسار حاجز الخوف بوصول اللحظة الثورية إلى ذروتها بعد انتفاضة سيدي بو زيد إثر حرق بو عزيزي نفسه وصولاً إلى العاصمة تونس، والتي توّجت بفرار الرئيس زين العابدين بن علي وانتهاء فترة حكمه التي دامت ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، فإن الشرعية الجديدة التي يُفترض تأسيسها محلّ الشرعية القديمة لم يتمّ استكمالها وواجهتها عقبات جديّة بعضها يتعلّق بمساعي الثورة المضادة لوضع العصي في عجلتها وبعضها الآخر يتعلّق بعدم قدرة وأهلية وكفاءة النخب التي تولّت مقاليد الأمور بعد التغيير على إدارة الحكم بطريقة شفّافة ومقبولة بحيث تحظى  رضا الناس، ناهيك عن هشاشة وضعف المشروعية القانونية والمقصود بذلك حكم القانون في ظلّ محاولات الهيمنة على السلطة والحصول على الامتيازات والمغانم وتفشّي الفساد المالي والإداري على نحو مريع وغياب الحدّ الأدنى من الاتفاق والتوافق على مستقبل التطوّر والوحدة الوطنية.
وبغضّ النظر عن الموقف الدستوري من قرارات الرئيس سعيّد إلاّ أنه لجأ إليها بعد فترة خلافات طويلة تعمّقت بمرور الأيام وقادت إلى أزمة حقيقية بين أركان السلطة التنفيذية (الرئيس) و(رئيس الوزراء) والأخير قريب من حزب النهضة الإخواني، ولم يكن الفشل الذي مُنيت به الحكومة وحده أو الرغبة في احكتار السلطة، بل إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع معدّلات البطالة والفقر والركود الاقتصادي، إضافة إلى ارتفاع منسوب الهجرة غير الشرعية كان وراء اندلاع الأزمة. وفوق كل ذلك جاء انتشار وباء «كوفيد- 19» ليزيد الطين بلّة بحيث أصبحت تونس من الدول العربية الأكثر انتشاراً للوباء، ما كشف فشل المنظومة الطبية والإجراءات القاصرة المتبعة لتطويق المرض، الأمر الذي كان وراء إقالة وزير الصحة تمهيداً لانفجار الأزمة.
ولم تكن المؤسسة القضائية خارج دائرة الصراع، فقد كان الحديث يتصاعد داخل البرلمان وخارجه، وهو ما أدّى إلى أن تطفو الأزمة على السطح على نحو شديد وحاد، دون نسيان دور الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية وعلاقتها بالقوى المتصارعة، إضافة إلى قلقٍ عربي بشأن الإسلام السياسي ممثلاً في حزب النهضة، وهو وإن امتلك قدرات تنظيمية إلاّ أنه لم يمتلك عقولاً وكفاءات وقيادات إدارية تستطيع أن تقود الدولة، على الرغم من حصوله على أغلبية برلمانية في جميع الدورات الانتخابية، ناهيك عن مشروعه السياسي.
وقد كان البرلمان الذي ترأسه راشد الغنوشي في الدورة الحالية، وعلى مدى أكثر من عام في صراع دائم داخله ومع مؤسسة الرئاسة أيضاً، الأمر الذي عطّل التنمية وجعل البلاد تدور في دوامة لا مخرج منها، يضاف إلى ذلك تشتّت القوى التي تطلق على نفسها «مدنية» وتوزّعها على محاور بعضها متنافر مع البعض الآخر، ناهيك عن غياب برنامج وطني جامع لها ولو بمعايير الحد الأدنى والذي يمثّل مرحلة الانتقال وصولاً إلى التحوّل الديمقراطي.
وقد انعكس ذلك على خلافات دستورية حول صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب بسبب عدم وضوح أو التباس الأمر دستورياً أو أن تفسيرات وتأويلات ظلّت مصدر خلاف بين الفرقاء، فبين من يريد أن يعطيه صلاحيات أعلى ومن يريد اختزالها في الجوانب البروتوكولية، كانت الأزمة الاقتصادية تستفحل وأوضاع الناس المعيشية تزداد تدهوراً، فلم تعد ثورة الياسمين التي بدت واعدة، بل نموذجاً، وإذا بها هي الأخرى عرضة للتجاذب والشدّ والحلّ من جانب قوى مختلفة كلٌ منها يريد أن يقود المركب بنفسه ولصالحه حتى وإن أدى إلى الإخفاق.
فهل سينجح سعيّد في تشكيل حكومة كفوءة وجديرة من تكنوقراط بحيث يحتوي الأزمة السياسية، كما يمهّد الطريق لاحتواء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتخفيف حدّة الاحتقان المجتمعي، خصوصاً من جانب جيل الشباب؟ وهل ستكون الحركة السياسية بجميع صنوفها وألوانها جديرة باستيعاب هذا الدرس التاريخي، خصوصاً بعدم توظيف الدين لمصالح سياسية ضيقة؟ وهل ستدرك القوى الإقليمية والدولية أهمية الاستقرار في الأوضاع التونسية، خصوصاً وأن جارتها ليبيا لا تزال منذ عقد من الزمن في احترابٍ ونزاع مسلّح حيث تمّ تعويم الدولة وقاد إلى تفشّي مظاهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب؟
إنها أسئلة برسم الحاضر فهل تعي النخب الفكرية والسياسية مخاطر الوقوف عند مفترق الطرق؟
drhussainshaban21@gmail.com

54
تركيا: مشروع الغاب.. للتحكم بمياه سوريا والعراق (4)

عبد الحسين شعبان
August 14, 2021
 
تدرك تركيا أن بإمكانها أن تضطلع بدور لا تستطيع “إسرائيل” القيام به، فهذه الأخيرة هي في نظر الشعوب العربية قاطبة عدو قائم وعدوان مستمر، على الرغم من محاولات التطبيع والضغوط الدولية؛ وفي المقابل، تتمتّع تركيا بمزايا عديدة وشعبها مسلم وموقعها استراتيجي وقواها البشرية كبيرة، وإمكاناتها الاقتصادية هائلة، فضلاً عن ذلك، فإن لديها علاقات تاريخية مع العرب وحكمت البلدان العربية وغيرها أكثر من 4 قرون ونيّف من الزمان.
وتمتلك تركيا ترسانة ضخمة من السلاح، فهي بلد مترامي الأطراف، حيث منحها العامل الجغرافي سيطرة على آسيا الصغرى والمضايق، التي تشكل معاً حلقة الوصل بين دول البلقان ومنطقة الشرق الأوسط، كما منحها أهمية استراتيجية تعود إلى حدودها الشمالية الشرقية مع الاتحاد السوفييتي (سابقاً)[1]، لذلك يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في الشرق الأوسط، لا تستطيع دولة غيرها أن تعوضه، وهذا الاعتقاد هو الذي حدّد بعض ملامح الاستراتيجية التركية في العقود الماضية، ولا سيّما بعد الحرب العراقية – الإيرانية.
إن مثل هذه السياسة وذلك الطموح في السابق والحاضر يفسر دور تركيا بالسلب أو الإيجاب، فهي تريد أن تلعب دوراً محورياً إقليمياً معادلاً أو حتى أكبر من دور إيران، وتسعى للحصول على نفوذ من خلال علاقتها بين العرب و”إسرائيل”، برغم ما تعرّضت له مؤخراً من إشكالات مع الأخيرة، كما تريد تأمين مصالحها القومية المتعاظمة والظهور بمظهر الدولة القائدة في المنطقة، خصوصاً بـ”إسلام معتدل”، وهو غير الإسلام الإيراني أو الإسلام الذي كان يدعو إليه أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة أو تنظيم داعش وأبو بكر البغدادي، وقد تم تقديم الإسلام التركي باعتباره الأكثر قبولاً وانسجاماً مع مصالح الغرب، ومثل هذا التقدير يكاد يكون عاماً لدى أوساط مختلفة ومتعارضة أحياناً وفيه قدر من الحقيقة، لكنه تعرّض للتصدّع بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 تموز (يوليو) العام 2016 وما أعقبها من إجراءات وملاحقات وصفت بأنها كانت عقوبات جماعية وتضمنت انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، حسب العديد من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، وخصوصاً بتعاظم دور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وطموحاته التوسعية، التي تم انتقادها أوروبيا.
إن قطع المياه المتكرر من جانب تركيا والتي يتضرر منها كل من سوريا والعراق يوضح أبعاد المخطط الذي لم يكن في الواقع سوى “پروفة” دولية لقياس درجة رد الفعل العربي، علماً بأن تركيا ظلّت ترفض بحث الموضوع بصورة جدية مع سوريا والعراق حتى العام 1988
ولعلّ سياسة تركيا المائية هي جزء من استراتيجيتها العامة التي تحاول أن تمدّ أذرعها، لا سيّما باستخدام نفوذها المائي، ويعتبر سد أتاتورك (الذي تم إنجازه) واحداً من 21 سدّاً تم انجازها في جنوب شرقي تركيا مع مطلع الألفية الثالثة، وبلغت كلفة المشروع 45 بليون دولار، وهو ما أدى إلى نقص هائل في مياه نهر الفرات يقدر بـ 14 بليون متر مكعب، علماً بأن النقص الحاصل من التبخّر يساوي 3 بليونات متر مكعب.
ومشكلة نهر الفرات قديمة نسبياً وتعود إلى بضعة عقود من الزمان عندما أزمعت تركيا على تنفيذ مشاريعها لري جنوب شرقي الأناضول، وقد ساهم الخلاف السوري – العراقي في عدم اتخاذ موقف موحد رادع لتركيا في حينها.[2]
تبلغ سعة سد أتاتورك 48 بليون متر مكعب في حين تبلغ سعة خزّان سدّ الفرات في سوريا 9.3 بليون متر مكعب؛ وتسعى تركيا لزيادة الطاقة الكهربائية إلى الضعف من خلال المشروع والقيام بدور سلّة الغذاء من الناحية الزراعية لتمويل الشرق الأوسط، وذلك من خلال مشروع الغاب Gap. وكان الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال قد قال في وقت مبكر “سيأتي يوم نبدّل فيه برميل مائنا ببرميل النفط”.[3]
باشرت تركيا منذ العام 1985 بتنفيذ مشروع الغاب Gap الضخم على نهري دجلة والفرات ويتألف من 13 قسماً، 6 منها على نهر دجلة و7 على نهر الفرات ويغطّي ست محافظات تركية، ومن الناحية الفعلية، فإن تركيا ومن خلال هذا المشروع العملاق يمكن أن تتحكم بالمياه وتستخدمها لفرض سياسات واقتصاديات على كل من سوريا والعراق، خصوصاً حين تصبح أيضاً “سلة غذاء” لتزويد الشرق الأوسط بما يحتاج من مزروعات وفواكه وذلك بالضد من معاهدة هلسنكي التي تنظّم حقوق الدول المتعلقة بالأنهار الدولية لعام 1973 ومؤتمر الأرجنتين حول الموارد المائية لعام 1977، تلك التي تنظّم طرق الاستفادة من الأنهار الدولية وفقاً لقواعد الحق والعدل والحاجة الضرورية، وبما لا يؤدي إلى إلحاق ضرر بالسكان والممتلكات والبيئة وغيرها من الاستخدامات غير المشروعة.
ومن مبرّرات تركيا أن حوضي الفرات ودجلة هما حوض واحد وتقترح جدولة الاحتياجات وإدخال نهر العاصي السوري في حسابات تقاسم المياه وغيرها من الذرائع التي تصرّ على كونها فنية ولا تحمل أي هدف سياسي ولا تضمر إلحاق الأذى بالجيران.
إن قطع المياه المتكرر من جانب تركيا والتي يتضرر منها كل من سوريا والعراق يوضح أبعاد المخطط الذي لم يكن في الواقع سوى “پروفة” دولية لقياس درجة رد الفعل العربي، علماً بأن تركيا ظلّت ترفض بحث الموضوع بصورة جدية مع سوريا والعراق حتى العام 1988، خصوصاً باستغلال ظروف الحرب العراقية – الإيرانية والخلافات السورية – العراقية، لكن امتناع البنك الدولي من تقديم المساعدة لتركيا لحين التوصل إلى اتفاق لاقتسام مياه النهر هو الذي جعلها توافق على وضعه على طاولة المفاوضات.

إقرأ على موقع 180  البرهان وحميدتي: مواجهة مؤجلة

ويبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات 31.8 بليون متر مكعب وملء الخزان والسدود الأخرى يحتاج إلى قطع متواصل ربما لبضعة أسابيع أو أشهر وهو أمر يعطي فكرة عن حجم الضرر الذي سيقع على كل من سوريا والعراق والمخاطر والآفاق التي تنتظرهما.
فالفرات يروي ثلثي الأراضي المروية في سوريا ويوفر سد الفرات 70 % في المئة من حاجتها من الكهرباء ويولد طاقة بحدود 800 ألف ميغاواط سيتم تعطيلها عملياً، إضافة إلى إلحاق ضرر كبير بمشروع يوسف باشا الذي يؤمن ري 200 ألف هكتار ويولد طاقة بحدود 400 ألف ميغاواط.
يبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات 31.8 بليون متر مكعب وملء الخزان والسدود الأخرى يحتاج إلى قطع متواصل ربما لبضعة أسابيع أو أشهر وهو أمر يعطي فكرة عن حجم الضرر الذي سيقع على كل من سوريا والعراق
أما العراق، فإنه الأكثر ضرراً، فالفرات يروي 1.3 مليون هكتار (13 مليون دونم) من الأراضي الزراعية الجيدة، وتشرب منه 7 محافظات هي: الأنبار وبابل وكربلاء والنجف والقادسية والمثنى وذي قار، إضافة إلى 30 قضاء و70 ناحية وأكثر من 4500 قرية، ويبلغ عدد السكان المستفيدين منه نحو 14 مليون إنسان، ومع أن سد حديثة (القادسية) ومشروع سد الورار ومشروع سد الهندية، تتغذّى من النهر وتختزن المياه للاستفادة منها عند الحاجة وفي حال نقص المياه، إلاّ أنها لا تستطيع أن تسدّ النقص الذي يتسبب به انقطاع المياه، فضلاً عن أن ذلك أدى إلى التأثير على بحيرة الحبّانية التي تتغذّى من الفرات لمرّات عديدة، فهو مرتبط بمشروع بحيرة “وان”، وقد وصف سليمان ديميرال رئيس الوزراء التركي الأسبق المشروع بأنه “الوطن الذهب للقرن المقبل”.
لقد استغلت تركيا الوضع المتدهور في العراق وسوريا، لا سيّما باحتلال داعش أجزاء منهما للمضي في مشاريعها المائية في حوضي دجلة والفرات، بل تمادت في تدخلاتها بالشأنين السوري والعراقي، بإرسال قواتها إلى داخل البلدين والبقاء فيهما، تارة بزعم التصدّي لداعش والإرهاب الدولي وأخرى لملاحقة المسلحين الأكراد من حزب PKK، وهي ما تزال ترفض الانسحاب من الأراضي العراقية حيث توجد لها قاعدة عسكرية بالقرب من أربيل، حتى بعد هزيمة داعش عسكرياً، ناهيك عن مسعى فرض منطقة عازلة على الحدود التركية – السورية، بدعم من واشنطن وبحجة مواجهة الإرهاب، ولا سيّما بعد إعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا.
في السابق كانت كلّما تتعقّد العلاقات العربية – التركية تلتجئ تركيا للتلويح بالسيف النووي الأطلسي وبدور الشريك مع الدول الغربية (امبريالية الفرع) وبمصالحها في العالم العربي، وقد تبينت هذه الصورة عند انقلاب كنعان إيڤرين في أيلول/سبتمبر 1980 الذي رفع الطموحات إلى مرحلة التنفيذ، لكي تساهم تركيا بنفوذ أكبر في المنطقة، وخصوصاً في العالم العربي، وذلك من خلال ضغوطها على كل من سوريا والعراق فضلاً عن استمرار علاقتها مع “إسرائيل”.
ومن أهم الاتفاقيات الجديدة الموقعة بين “إسرائيل” وتركيا بعد حكم حزب العدالة والتنمية مشروع نهر مناوجات الذي يصب في البحر المتوسط شرق إنطاليا، حيث تم الاتفاق على قيام تركيا ببيع “إسرائيل” 50 مليون كم3 لمدة 20 عاماً بواسطة النقل البحري، وقد تم ذلك في العام 2004 وحتى بعد حادث أسطول الحرية العام 2010 لم يعلن عن إيقاف العمل بهذا الاتفاق.
المصادر:
[1] – تمتد الحدود التركية الجنوبية مع سوريا إلى نحو 877 كلم  ومع العراق إلى 331 كلم كما ترتبط بحدود مع إيران، إضافة إلى ذلك فإن المنطقة الشمالية الغربية من البلاد تعد موطئ قدم تركيا الوحيد في أوروبا حيث ترتبط بحدود مع بلغاريا ومع اليونان 269 كلم، إضافة إلى أن عدد نفوسها يتجاوز 82 مليون نسمة، كما تمتلك خبرة كبيرة في ميدان “القمع الداخلي والخارجي”.  وقد تجلّى الدور التركي بعد موجة ما سمّي بـ “الربيع العربي”، سواءً في ليبيا (دخولها على خط الصراع الأهلي وإرسال مرتزقة لدعم فريق السراج رئيس الحكومة ضد خصومه) أم سوريا (حيث كانت طرفاً أساسياً في الصراع الداخلي)، إضافة إلى مصر( دعم حركة الأخوان جهاراً نهاراً) وبالطبع فإن دورها في العراق ما يزال تقليدياً (الزعم بالدفاع عن تركمان العراق، إضافة إلى تجاوزاتها على الحدود الدولية، بل وإقامة قواعد عسكرية بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK)، وكانت في السابق تلعب مثل هذا الدور المزدوج، أي تأمين مصالحها الخاصة، إضافة إلى كونها جزءًا من الناتو وامتداداً له وقد وصفت هذا الدور في الثمانينات بـ “الإمبريالية الفرعية” ، وبقدر خصوصيته فإن له وجهاً أطلسياً،وهو ما يتجلّى خلال أزمات المنطقة فقد تحاقب نصب دروع صاروخية على الأراضي التركية مع انشغال العالم العربي بتداعيات الربيع العربي.
قارن: شعبان ، عبد الحسين – أمريكا والإسلام ، دار صبرا، نيقوسيا – دمشق، 1987.
قارن كذلك: شعبان ، عبد الحسين- العرب والجوار والعالم، محاضرة في مؤسسة الفكر العربي، دبي، 5-7/ كانون الأول/ديسمبر/2011.
[2] – قارن: حيدري، نبيل (الدكتور) تركيا- دراسة في السياسة الخارجية منذ العام 1945، مصدر سابق، ص 103.
[3] -انظر: شعبان، عبد الحسين – عاصفة على بلاد الشمس، مصدر سابق.
(*) راجع الأجزاء الأول والثاني والثالث من دراسة الدكتور عبد الحسين شعبان.


55
رسائل روسية إلى طالبان


عبد الحسين شعبان

 

بعد أن سيطرت «طالبان» على مدينة قندهار ثاني أكبرالمدن الأفغانية ، توجّهت إلى كابول التي استولت عليها بسهولة كبيرة حيث غادرها الرئيس أشرف غني الذي انتخب لرئاسة البلاد مرّتين خلفاً لحامد كرزاي ، وقال أنّ مغادرته حقن للدماء. وكانت «طالبان»  خلال الأشهر الأربعة الماضية وتزامناً مع إعلان انسحاب القوات الأمريكية تزحف بسرعة كبيرة على مواقع الحكومة الأفغانية، وعشيّة دخولها إلى كابول كانت قد استولت على زرنج عاصمة ولاية نيمروز ومحافظة قندوز التي يربطها جسرٌ للصداقة بطاجيكستان المجاورة (على بعد 65 كلم).
وكان مجرّد تقدّم طالبان وتوغّلها في العمق الأفغاني حتى قبل الوصول إلى العاصمة كابول  يقلق روسيا لاعتبارات كثيرة، فالتدخّل السوفييتي في أفغانستان والذي استمر نحو عقد كامل (1979 - 1989) قاد إلى فشل ذريع واضطرّت موسكو في عهد جورباشوف، أن تنسحب مهزومة مثلما هو الاحتلال الأمريكي الذي استمر لعقدين من الزمن (2001 - 2021). يضاف إلى ذلك أن نجاح «طالبان» قد ينعكس على إنعاش التيارات الإسلامية المتعصبة والمتطرفة لدى جيران روسيا خصوصاً، وتربطها حدود مشتركة مع طاجيكستان المتاخمة لها وهي من الجمهوريات السوفييتية السابقة والتي لا تزال تربطها علاقة وطيدة مع موسكو.
لهذه الأسباب زار وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، طاجيكستان، وأعقب زيارته مناورات مشتركة على مقربة من الحدود الأفغانية، كما استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إمام علي رحمن رئيس طاجيكستان وقبله صدير جباروف رئيس قيرغيزستان الذي عبّر عن اهتمام قيرغيزستان بالتعاون مع روسيا لضمان الأمن الإقليمي، في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظومة كومنولث البلدان السوفييتية السابقة، ومنظمة شنجهاي للتعاون. وأبدت موسكو استعدادها لدعم قيرغيزستان لتجاوز العقبات الإنسانية للنزاع الحدودي بينها وبين طاجيكستان.
وشملت الاتصالات الروسية، أوزبكستان؛ حيث زار رئيس أركان قواتها المسلحة، شهرت هالمحدوف موسكو وأجرى مباحثات مع فاليري جيراسيموف، وجرى الحديث عن خطط مشتركة مع أوزبكستان وطاجيكستان بهدف الرد على تزايد حدة التوتر في المنطقة والتحذير من تردي الأوضاع الأمنية في أفغانستان لضمان أمن دول آسيا الوسطى.
وتأتي هذه التحركات عشية وبُعيد الإعلان عن انسحاب قوات «الناتو» والولايات المتحدة من أفغانستان وسيطرة «طالبان» على الأراضي الأفغانية. ومن المحتمل إجراء مناورات مشتركة في الخريف المقبل بمشاركة مجموعة شنجهاي التي تضم الصين إلى جانب روسيا وبلدان آسيا الوسطى؛ حيث يتعاظم القلق بشأن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة من تطور الأوضاع الأفغانية على دول حلفاء روسيا الآسيويين.
وأعلنت روسيا صراحة في صحافتها أن هدفها هو «حماية الحلفاء من التهديدات العسكرية من جهة الجنوب» (أفغانستان) وهزيمة التجمعات المسلحة غير الشرعية. وكانت «طالبان» قد تقدمت باتجاه حدود طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان خلال شهر يونيو/حزيران المنصرم؛ حيث اضطرّت القوات الرسمية الأفغانية إلى الفرار بحثاً عن الآمان فيما وراء حدود هذه الجمهوريات، واضطرّت هذه الجمهوريات إلى إغلاق حدودها مع أفغانستان.
وكانت روسيا قد أكدت أنها سترد على محاولة غزو أراضي طاجيكستان بالتعاون مع قواتها في قاعدتها العسكرية رقم 201 الموجودة في المنطقة منذ الحقبة السوفييتية والمستمرة إلى الآن. (تموز/يوليو المنصرم). وكان الرئيس الروسي خلال مقابلته لإمام علي رحمن (مايو/أيار المنصرم)، قد أكد مساعدة حكومات الجمهوريات الوسطى في حماية أمنها من التهديدات الخارجية والداخلية. والتعبير الأخير تحذير مما سمّي بالثورات الملونة التي استهدفت عدداً من البلدان ومنها قيرغيزستان التي عاشت إرهاصات ما سمي «ثورة السوسن» عام 2005، علماً بأن موسكو تملك قاعدتين عسكريتين في طاجيكستان وقيرغيزستان، ويمكن استخدامهما ضد أي عدوان محتمل من جانب «طالبان»، والأمر لا يتعلق بالحلفاء فقط؛ بل يشمل أمن ومصالح روسيا، وخشيتها من امتدادات المتطرفين.
وترسل روسيا إلى المناورات في طاجيكستان أربع قاذفات بعيدة المدى فوق الصوتية إلى حدود أفغانستان، وهدفها كما تقول التدريب على شن غارات على معسكرات خفية ومستودعات ذخيرة لمقاتلين مفترضين، ولعل مثل هذا الإعلان هو رسالة روسية صريحة وواضحة إلى «طالبان»، وذلك بإعلانها عن إسناد قاذفاتها لطائرات ميج روسية طراز -29 يقودها ضباط تابعون لسلاح الجو الأوزبكي.
الجدير بالذكر أنه تم تشكيل قوات الانتشار السريع الجماعية التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بتعداد 18 ألف جندي، وكل ذلك يجري في إطار قلق الكرملين إزاء التطورات الأخيرة في أفغانستان؛ حيث تراقب روسيا عن كثب كل ما يجري، كما تواصل اتصالاتها النشطة مع زعماء دول آسيا الوسطى، إضافة إلى بكين التي تشغلها هي الأخرى سيطرة «طالبان» على أفغانستان وتصاعد نفوذ القوى المتعصّبة والمتطرفة، فهي تخشى مثل روسيا امتداد ذلك إليها، خصوصاً أن ثمّة انتقادات توجّه إليها بخصوص تعاملها مع المسلمين الصينيين.
drhussainshaban21@gmail.com


56
لمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل شمران الياسري (أبوكاطع)
البارومتر الساخر والمحرّض

عبد الحسين شعبان
أديب وأكاديمي


حين تجتمع السخرية بالتحريض يكون المشهد أبو كاطعياً
* مفارقة
ظل ماركس ينتظر أن يكتب انجلز تدقيقاته وتعليقاته ونقده على مخطوطة كان قد بعثها إليه، ولكن دون جدوى، وكتب له أكثر من مرّة ولكنه لم يتلقّ ردّاً إلاّ بعد فترة طويلة، حيث استلم مخطوطة موازية لمخطوطته ومعها ورقة من ثلاثة أسطر جاء فيها: أعتذر فلم يكن لدي الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة، فكتبت هذه المخطوطة تعليقاً على مخطوطتك. انجلز.
 فقد كان إنجلز يعني أن التكثيف أصعب بكثير من كتابة نصٍ مطوّل، لأن عليه أن يلمّ إلماماً كبيراً بالموضوع، بل يتشرّب روحه، أي جوهره،  بمعنى لبّه.
 تذكرت ذلك حين هاتفني الصديق الشاعر فالح حسّون الدراجي طالباً نصّاً مني عن أبو كاطع الذي كنت قد نوّهت إلى مسألة الإحتفال بذكرى رحيله الأربعين منذ حين.  وهنا استجيب لطلب الدراجي ولكن بنصٍ طويل مستعيناً بفقرات مجتزأة من كتابي "أبو كاطع على ضفاف السخرية الحزينة" الصادر  في لندن العام 1997 والمُعاد طبعه في بيروت العام 2017 (مزيّداً ومنقّحاً، حيث تم الإحتفاء به في نادي العلوية على نحو مهيب وبما يليق بمكانة أبو كاطع).
وكم تخيّلته وأنا على المنصّة في نادي العلوية، وهو يتسلّل إلينا متنكّراً ليهمس بأذني أحم.. أحم.. نادي العلوية مو بس إلكم، أصبح لنا حصّة أحسبه حصّة السادة أغاتي مثل نذر عياده لولاده... تذكرت ذلك المشهد الدرامي وأنا أستعيد ذلك اليوم التاريخي يوم عاد إلينا سالماً فلم يخبرني عن موعد مجيئه ولكنه كان يعرف موعد دفاعي عن أطروحتي للدكتوراه، فذهب مباشرة من المطار إلى منزلي وترك حاجياته الشخصية ومنها توجّه إلى كليّة الحقوق بانتظار أن يكون أول المهنئين لي بعد خروجي من القاعة. ولا أنسى منظره وهو يتكأ على الحائط بابتسامة عريضة وبيده غليونه ثم يفتح يديه ليحتضنني ويقبّلني وكان أول من ناداني بالدكتور. وقد كتب عن ذلك وعن أطروحتي في صحيفة طريق الشعب في حينها.
أقرب إلى مدخل
يوم وصلتُ دمشق في تموز/ يوليو 1980 كنت أول شيء أفكّر فيه هو الإتصال بالعزيز شمران الياسري "أبو جبران" (نجله الأكبر) أو حسب التسمية الأدبية والفنية التي اشتهر بها "أبو كاطع"، خصوصاً في برنامجه الإذاعي "أحجيها بصراحة يا بو كاطع" أو حسب تدليعاتنا له فنناديه بـ "السيد" أحياناً، ولأنني تركت منزلي له قبل ثلاث سنوات ونيّف في  براغ، بكل ما فيه حين عدت إلى العراق، فقد حاولتُ الإتصال برقم هاتفي القديم الذي بقيت أحفظه وإلى الآن " 120 520 "، ولكن لم يردّ عليّ أحد، ثم في مرّة ثانية أجابتني السيدة كلودوفا صاحبة المنزل بأن السيد النوفينارج (السيد الصحفي) كما كانت تناديه قد ترك المنزل.
وبعدها قال لي الصديق فاضل الربيعي الذي كان قد وصل من عدن إلى الشام أن لديه عنوان أبو كاطع، ويمكننا إرسال برقية له بالبريد، وحين أعطاني العنوان وقارنته بعنواني القديم عرفت أنه انتقل إلى منزل آخر بعد عمله في مجلة فلسطين الثورة بدعوة من السفير الفلسطيني عاطف أبو بكر أحد أصدقائنا الأعزّاء. وكتب  فاضل البرقية بنفسه أن صديقنا العزيز "شعبان" وصل سالماً كما ترك له رقم تلفون مؤقت لأحد أصدقائي أعطيته له ليدونه في البرقية.
بعد ثلاثة أيام رنّ الهاتف، وإذا به يسأل عني وبعد أن أخذتُ السمّاعة، فقال لي: الكليط يتكلّم  والهودار معي ونحن بانتظارك، وكان يقصد بالهودار موسى أسد الكريم، ثم دخل بالتفاصيل .. التأجيل ما بي صالح.. اليوم أفضل من بكرة.. توجّه إلى طرفنا بأسرع وقت ممكن ومكانك موجود ومحفوظ في القلب والعين. ثم تبادلنا الكلام والسلام معه ومع موسى أسد الكريم "أبو عمران" واتفقنا على اللقاء، لكن الأمور سارت بما لا تشتهي سفننا.
وحالت ارتباطاتي الجديدة دون السفر سريعاً، خصوصاً في  إطار عملٍ يومي والتزامات وكتابات كنت قد أخذت على عاتقي إنجازها. ويوم صدر كتابي "النزاع العراقي - الإيراني" وهو أول كتاب يصدر عن الحرب العراقية - الإيرانية من منظور غير حكومي، الأمر الذي أثار إشكالات غير قليلة بالنسبة لي، وحين هاتفته وكان قد قرأ الكتاب، قال "الله يستر" وبعد حين قال وصلتني الطراطيش، خصوصاً ما صاحب ذلك من اعتقال العائلة وترويعها وتعريضها لتهديدات لا حدود لها استمرت لأكثر من 20 عاماً.
اللقاء الموعود
اتفقنا على اللقاء في نهاية آب/أغسطس 1981، أي نهاية الصيف تقريباً، حيث قرّرتُ السفر وبتشجيع منه، فإذا بنفسه يأتيني ولكنّه محمّل على ظهر طائرة وفي تابوت وملفوفٌ بالعلم الفلسطيني والعراقي. لقد كان خبر نعيه الذي وصلني عن طريق الرفيق ثابت حبيب العاني مؤلماً فقد شعرت بغصّة في حلقي وكم بقيت ألوم نفسي لأنني تأخرتُ بالسفر لملاقاته؟ وكم كان لديه ولديّ من الحكايات لكي نتبادلها لكنها ظلّت حبيسة في صدورنا، فلم يبح بها لأحد حسبما قال لي في آخر مكالمة، كما أنني لم أبح بها لأحد بعد رحيله؟ نُقل جثمانه إلى بيروت ووريّ الثرى في مقبرة الشهداء، وكانت آخر زيارة لقبره مع الشاعر والفنان الصديق عمران القيسي قبل عامين، أي قبل مداهمة فايروس كورونا "كوفيد- 19" لنا.
الذئب اللئيم
حتى في ظروف بيروت الحزينة وأوضاعها المأساوية أستجير بأبو كاطع نفسه، وكم ردّدت مع نفسي ما كان يرويه عن "حاتم السلطان" "موتك بطر يا حاتم السلطان" أما كان له أن يتأخّر قليلاً؟ أما كان له أن ينتظرني بعد فراق دام أكثر من أربع سنوات؟ أليس ذلك من حقوق الصداقة أم أن الذئب اللئيم الذي يتربّصه فيزوغ عنه تارةً ويراوغه تارةً أخرى ويستمهله مرات ومرات، استعجله هذه المرّة بطريقة غادرةٍ فتربّص له وهو على قارعة الطريقٍ بين براغ وبودابست ذاهباً لزيارة نجله الأكبر جبران، فاصطاده بشراسةٍ، لكن روحه المضيئة صعدت إلى السماء وهي مطمئنّة وراضية مرضية .


وعي وإدراك
لقد أتقن "أبوگاطع" حرفته وأدرك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب،مبتكراً طرقاً مباشرة وغير مباشرة للنقد والتّحريض والتّفكير، والهدف هو الوصول إلى القارئ، سواء بتفخيخ حكاياته وأقصوصاته وجُمله أو استدراجه لدائرة الإيهام،وفي كلّ الأحوال دفعه للتّساؤل والشك،لما تستثيره نصوصه، فتارةً يستفزّ المتلقّي من البداية وأخرى يرخي له المقدّمة ليوحي له بنهاية مستريحة، لكنّه سرعان ما يفاجئه قبل الخاتمة بالعودة لدائرة السؤال،تلك هي حبكته الدرامية المتميّزة.
   وكان "أبوگاطع" قد تمكّن من أدواته وامتلك فنّ مخاطبة قلوب وعقول الناس، بلغة بسيطة وعميقة في آن، أقرب إلى "السّهل الممتنع"، عبّر عنها بثقة عالية وبأسلوب بارع خصوصاً حين تتعاشق مفرداته العامية مع الفصيحة في تناسق باهر وتلقائي ، مزاوجاً بين الحزن والفكاهة على نحو متماسك وغير قابل للفصل.
المثقّف والأسئلة
      وعلى الرّغم من كونه مثقّفاً أعزل وفرداً "نفر" -على حد تعبيره- وبإمكانات محدودة وشحيحة، إلاّ أنّ أسئلته المشاغبة كانت تتميّز بإثارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسسات أحياناً، في ظلّ أساليب الدّعاية والحرب النفسية والقوّة الناعمة والصراع الأيديولوجي الذي كان سائداً على نحو حاد في زمانه.
   ودليلي على ذلك أنّه  اضطرّ لطباعة روايته "الرّباعية"على نفقته الخاصة، بعد أن امتنعت الجهات الرسمية من طبعها، بزعم عدم استيفائها الشروط الفنية، لكنه باع عشرات، وربما مئات النسخ، حتى قبل صدورها لدفع ثمنها إلى المطبعة، وقد حجز العديد من الأصدقاء نسخهم قبل أن تطبع، ولا أعتقد أنّ كاتباً استطاع أن يفعل ذلك قبله أو بعده. إنّها طريقة "أبوگاطعية" بامتياز، له براءة اختراعها.
   كان تأثير ما يكتب كبيراً على السلطة ومعارضتها، بل حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراع "مكتوم" بين قيادة "مسترخية" وقاعدة "مستعصية"، فقد كان أقرب إلى "بارومتر" يقيس فيه الناس درجة حرارة الجو السياسي. وقد نجح في توظيف علوم عديدة لاختيار الوسيلة الأنجع واختبارها، وذلك من خلال علم النفس وعلم الاجتماع وأساليب التغلغل الناعم والحكاية الشعبية ليصل إلى مراده، متحدّياً الجميع أحياناً، بمن فيهم نفسه، حتى وإن اقتضى الأمر المغامرة، باحثاً في كل ذلك عن المغايرة والتميّز والجديد والحقيقة البيضاء.
جمهور وقيم
   لهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً، ناهيك عن القيم الجمالية التي حاول إظهارها، كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع، خالقاً أبطالاً هدفهم إسعادنا، على الرغم مما كان يعانيه من ألم، وكما قال غائب طعمة فرمان عنه: إنّه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاق ثمارها وملوحة عرق الكدح فيها، يتغنّى بشفافية روح، بشجاعة قلب، وحكمة نظرية ومكتسبة بما يمثل الهيكل الإنساني لحياة ابن الريف.
   ويمضي فرمان للقول: لقد وظّف شمران نباهته ورهافة حسّه ولذاعة سخريّته ووضع كل ذلك في يد صديقه وأخيه الفلاح، ليلتمس مواطن الضعف والمأساوية في حياته، ويجعل من حياته البسيطة الساذجة في أحيان كثيرة قصصاً يمكن أن ترى وتجلب التعاطف، وتسجل تاريخاً لم يجرِ المؤرخون على تسجيله.
ضوء لا بدّ منه
لا زلت أعتقد أن أدب "أبوگاطع" لم يُدرس بعد ولم يُسلّط الضوء عليه بما فيه الكفاية، لا سيّما تفكيك "حسجته" (كيمياء لهجته المحكيّة) وقراءة ما وراء سطوره الملغّمة وتورياته حمّالة الأوجه، فضلاً عن سخريته المريرة واللاّذعة، ناهيك عن النكهة الشعبية النافذة التي امتاز بها، وطبعت جلّ أعماله الصحافية والروائية على مدى يزيد عن عقدين من الزمان.
والقراءة لا ينبغي أن تكون من باب التمجيد والمجاملة، بقدر ما تكون قراءة نقدية منهجية وموضوعية، بما له وما عليه، فضلاً عن إمكانية إفادة القارىء من الأجيال الحالية والقادمة، بالأجواء السياسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة في عهده والتحدّيات والكوابح التي اعترضت طريقه، ودوره المتميّز على الرغم من ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة، فلم يتمكن من إكماله دراسته، وهو ما يطرح أسئلة على الجيل الحالي والأجيال المستقبلية: ترى من أين جاءت موهبته؟ وكيف تمكّن من صقلها؟ ثم كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته؟ بحيث احتلّ هذه المكانة الاستثنائية ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقلاً من عالم الصحافة السريع والكثير الحركة إلى فضاء الرواية الذي يحتاج إلى التأمّل والدّقة.
   ثم ألا ينبغي دراسة نصوصه التعبوية والتحريضية في إطار فصل الصراع ووسائل الدعاية المؤثّرة التي كان يستخدمها، والنقد الذي امتشق سلاحه بمهارة ودقة كبيرين، خصوصاً حين يعطّر كل ذلك بمسحة من السخرية والدعابة وخفّة الظل؟
تشاليز ديكنز العراقي
   لقد عرف العراق لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر مع "أبوگاطع"، الذي برز فيه بنتاجه المتنوّع، سواء حديثه الإذاعي الموجّه إلى الفلاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المجالس والمضايف والديوانيّات، ليجعله مادة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته وخاصة رباعيته أو رواية "الحمزة الخلف".
   لا أدري إلى أيّ حدٍّ - ونحن نستعيد "أبوگاطع" - يمكن أن نستذكر الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز  صاحب رواية: "قصة مدينتين A Tale Of Two Cities"، فقد امتاز أسلوبه هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاّذعة وصوّر جانباً مهمّاً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.
   وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب "أبوگاطع"، فثمّة أحزان كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد "أبوگاطع" فيها بعض التخفيف عن قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحك أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا للنقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.
   وكما يقول المتنبي:
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ      وَلَكِـنّهُ ضَحِـكٌ كــالبُـكَاء
   وكان الشاعر نزار قباني في إحدى زياراته للعراق، قد قال:
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك      وبعض من الغــناء بكاء
   السخرية والحزن
لأنّه كان يدرك أن الحزن معتّق في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كل شيء، فحتى فرح العراقيين وغنائهم ومناسبتهم المختلفة، كلها مغلفة بالحزن الجميل، ولذلك كانت سخرية "أبوگاطع" تداف بالحزن اللذيذ. 
   إنّ سخرية مثل سخرية "أبوگاطع"، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يواجه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بنوع من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تعبّر عن موقف مقابل لكل تلك الإشكاليات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: "إني أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً".
   لقد كتب "أبوگاطع" تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم، لدرجة أنّ روائي المدينة غائب طعمة فرمان يقول عن شخصياته "لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني، كنت أمام ما نسمّيه موسوعة الريف، ولكنّ كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً".
كاميرا بانورامية
لقد حاول "أبوگاطع" الكشف عن حياة مطوية تقريباً، فقام بتصوير الواقع بكاميرا بانورامية، ملتقطاً صوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، لا سيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته، فقد كان يعرف تمام المعرفة البيئة التي يتحدّث عنها بجميع تفاصيلها وتعقيداتها وتناقضاتها، وهو لا يأتيها زائراً أو مشاهداً، بل راصداً لها وفاعلاً فيها، لذلك جاءت صوره حسيّة تلامس حياة الريف بكل إيجابياته وسلبياته.
وصدق الروائي الروسي مكسيم غوركي حين قال: "التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان"، فقد كان "أبوگاطع – أبو جبران" هو مؤرّخ الريف، حيث عكست رباعيته حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحب المحّرم والظلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدين وخداعهم. ولولا "أبوگاطع"، لضاع هذا الجزء المهم من تاريخ الدولة العراقية، وللدقة لضاعت إحدى الرؤى لها، والتي يمكن مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان للريف العراقي.
لقد عرّفتنا سخرية "أبوگاطع" مشاكل الفلاحين وبخاصة فلاحي الجنوب، وبالقدر نفسه عرفنا حجم الألم والمرارة من خلال المواجهة لواقعه، ومرّة أخرى وذلك عبر جوانب حيّة من حياة المجتمع وشخصياته حيث تمكّن "أبوگاطع" من ربط ذلك بهارموني دقيق التناسق، لاسيّما بمنظومة الريف، وفقاً لمعايير جمالية وصوراً واقعية، مكتوبة بحسّ درامي يعكس الواقع بكل ما عليه وما له.
   الشخص الثالث
حاول "أبوگاطع" استخدام ما اصطلح عليه الشخص الثالث أو "القصّخون" في المقاهي البغدادية أيام زمان أو ما يسمّى بالصوت الآخر أو "الفلتون" حسب  استخدام سميرة الزبيدي، وكان صوته الآخر هو الذي يعبّر عمّا يريد أحياناً، لكنه يجعل ذلك بمسؤوليته المحدّث، ومحدثه هو "خلف الدوّاح" مبدعه الباطني ومحاوره ومنولوجه وملهمه، إنه شخصية أوهم "أبوگاطع" قارئه بأنها وهمية وغير موجودة، لكنه في واقع الأمر كان شخصية واقعية، موجودة، دماً ولحماً كما يقال، إنه كَعود الفرحان الذي نشرنا صورته لأول مرّة في كتابنا "على ضفاف السخرية الحزينة"، ولعلّ بساطته كفلاح تصلح مدخلاً لتوظيفه من جانب "بوگاطع"، ناسباً إليها الحكمة والمعرفة والخزين الاجتماعي للحكايات والأمثال والأشعار والتجارب، فضلاً عن سرعة البديهة وطلاوة اللسان.
خلف الدوّاح "كعود "
   لقد رافق "أبوگاطع" في حياته الإبداعية شيئان لا يستطيع الاستغناء أو التفريط  بأحدهما: الأول - صحبته مع خلف الدواح وهي المرحلة الثانية، حيث كان اسم كعود قد شغل المرحلة الفنيّة الأولى، وكعود أو خلف الدوّاح هو رفيق الحرف وصديق الكلمة والثاني السخرية، فقد كان الضحك ملازماً له حتى وإن كان يتفجّر حزناً، لأن ذلك واحد من رهاناته ضد أعدائه التقليدين وضد خصومه البيروقراطيين، وعبر خلف الدوّاح والسخرية كان يجد التعبير المتميز عن القرية وحياة الريف العراقي دون اسقاطات أو رغبات في الكتابة عن قوم يحاول التعاطف معهم لأنهم يتعرّضون للظلم، وهي الصورة التي دائماً ما تتكرر عندما يكتب أحد المبدعين عن الريف، ولكن في حالة "أبوگاطع" إنه كتب من داخل الريف بكل تفاصيله وحيثياته بسلبياته وإيجابياته، بنقاط ضعفه ومصادر قوته، بقبحه وجماله، ولم يكتب عن الريف من خارجه، كما كان يكتب بعض أدباء المدينة، مثلما هي رؤية الأديب ذو نون أيوب " الأرض والسيد والماء" التي سبقت الرباعية بعقدين ونيّف من الزمان، ففي حين كان الأول أصيلاً في التعبير عن مشاعر الريف والفلاحين، كان الثاني دخيلاً لأنه من خارج البيئة الاجتماعية الحسّية المنظورة وذلك ما رصده الناقد مصطفى عبود.
السخرية والأقصوصة
   إنك والحالة هذه لا يمكن أن تفصل بين "أبوگاطع" وبين السخرية، ففن وأدب وعمود "أبوگاطع"  الصحافي الذي انتشر شفيفاً خفيفاً كان لصيقاً بالسخرية اللاذعة الحزينة التي لم يعرفها الأدب العراقي عموماً، لكنها مع "أبوگاطع" اكتسبت شكلاً جديداً أكثر عمقاً وشمولاً وخفّة دم كما يقال. وبقدر سخرية "أبوگاطع" ، كانت الرواية شكلاً جديداً للتعبير، مثلما ظلّت الأقصوصات والحكايات مادة طازجة يحتويها عموده الصحفي وبقدر المتعة والضحك، فإنها في الوقت نفسه، تعكس جدّية عالية ووقاراً هائلاً، حتى وإن كنّا نضحك من الأعماق.
المعكّل بالمرقص
   حدثني في إحدى الليالي الخريفية عام 1976 وكان قد فرض على نفسه إقامة جبرية بسبب إلتباسات الوضع السياسي والحزبي، قائلاً إنه ضمن المشهد السائد يشعر مثل "المعكَّل بالمرقص (أي من يلبس العقال والكوفية- اليشماغ) وهو يراقص فتاة، وأردف قائلاً نعم أنه معكَّل بمرقص السياسة. وكان يسمّي علاقات تلك الأيام " عرس واوية" أي " زواج ثعالب" نظراً لتردّي العلاقة بين الأطراف السياسية، لاسيّما الحكومة وحلفائها.
   كان "أبوگاطع" يثير الكثير من الأسئلة، وقد تبدو للسامع أو للقارئ، إنها أسئلة سهلة، لكنها من السهل الممتنع، فالأسئلة السهلة هي أكبر الأسئلة وأخطرها: مثل الحرية والإيمان والإلتزام والتضحية والعنف والسلام والوفاء والتعايش وغيرها، أما لغته فكانت سلسة وقوية يطرّز فصحاه الخصبة بالعامية الجميلة، وبشيء من المرونة، فيحاور الدولة على لسان خلف الدواح وينتقد الأوضاع السياسية ويناقش الحركات والأفكار ويتمنطق بمصطلحات آيديولوجية وبحبكة درامية، كلّ ذلك مغلّف بالسخرية، لينتقل من حديث المجالس والشفاهة، إلى الكتابة، ومن الريف إلى المدينة، ومن هموم الفلاح، إلى مشاغل المثقف.
   وإذا كان غائب طعمه فرمان، روائي المدينة، ولاسيّما بغداد بحواريها وأزقتها، بنسائها ورجالها، بجوامعها وكنائسها وحاناتها وملاهيها وتطلعاتها نحو الحداثة والحرية، فإن "أبوگاطع" كان بحق روائي الريف بفلاحيه وإقطاعيه، بعاداته وتقاليده، بأنهاره وجداوله، بحياته البائسة وتطلعه نحو التمدّن والعصرنة والعدالة.
الحرية والتنوير
   كان عمود "أبوگاطع" الصحافي خطاً من خطوط المواجهة السياسية الساخنة، بقدر ما هو شفيف خفيف وأنيس، يقرأه من كان من محبي "أبوگاطع" وأدبه، لكي يتمتعوا بحكاياته وإقصوصاته وطرائفه ومفارقاته، مثلما يقيسون به درجة حرارة الجو السياسي والحراك الاجتماعي، وكان خصومه في السلطة وخارجها يقرأونه أيضاً، ليعرفوا مواطن الخلل في السلطة ذاتها، ولديهم أيضاً، وكان العمود بمثابة البارومتر الزئبقي الدقيق، فكلّما ارتفعت لغة "أبوگاطع"  حرارة، سجّل البارومتر سخونة الوضع السياسي والعكس صحيح، وكان موقع عمود في الصفحة الأخيرة من جريدة "طريق الشعب"، حيث يتربع " بصراحة" وهكذا كان القراء يبدأون بقراءة الجريدة بالمقلوب، أي من الصفحة الأخيرة، وعندما نقل العمود إلى الصفحات الداخلية، كتب "أبوگاطع" "نزّلوك لو صعوّدك؟" أي لماذا تم نقل العمود، مع غمز ولمز!!؟.
   كان عمود "أبوگاطع" يعطي جرعات متواصلة من السخرية المشوبة بالحزن تلك التي يخشاها الحكّام والمستبدون والبيروقراطيون من كل صنف ولون وفي كل زمان ومكان، وكانت شخصيته المملحة " خلف الدوّاح" ما يوازي شخصية حنظلة في ريشة الفنان ناجي العلي، فالقلم والريشة والشخصيتان الأثيرتان مثّلتا ذلك السحر الآخاذ الذي يثير في النفس خيالات خصبة جديرة بكل من يتوق إلى الحرية والتنوير.
   عمود "أبوگاطع" الصحافي مثل كاريكاتير ناجي العلي، يمسّ الروح ويتألق مع العقل وينساب إلى الوعي عميقاً ولاذعاً، وعندما نقول خلف الدوّاح فأنت تقصد "أبوگاطع"، مثلما تعني ناجي العلي عندما نقول حنظلة، وفي كلا الحالين تعني: مقاومة الظلم والاستبداد والانحياز إلى الإنسان وحقوقه... ولا يمكن تصوّر حنظلة بدون فلسطين، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدوّاح دون الحديث عن الريف العراقي، والعراق ككل.
وجوه ومؤخّرات
   هي السخرية في الحالين إذاً: وجوه ومؤخرات، زهورٌ وتوابيت، طيورٌ وبنادق، مظلومون وظالمون، هي السخرية حين ينتصب أمامك الواقع العربي بكل تناقضاته وبؤسه وتشويهاته، مثلما تصوره ريشة ناجي العلي يعكسه قلم "بوگاطع": السخرية المشتركة والهوّية المشتركة والأمل المشترك للمثقفين والمظلومين والمنفيين، وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات.
   لم يعرف العراق أدباً وكتابة ساخرة الاّ على نحو محدود، فمنذ العشرينيات وحتى الخمسينيات كانت هناك محاولات جنينية بدأت على يد نوري ثابت صاحب جريدة "حبزبوز"، ثم بدأت مع عبد الجبار وهبي وعموده " كلمة اليوم" في العام 1959 في صحيفة اتحاد الشعب الشيوعية، وكان شاكر مصطفى سليم قد نشر مسلسلاً ساخراً في "صحيفة الحرية" القومية التوجّه العام 1960 بعنوان " يوميات قومي متآمر"، وتشكّل كتابات أبو سعيد " عبد الجبار وهبي" وشاكر مصطفى سليم، ثنائياً لمن يريد التعرّف على تلك الفترة المضطربة والحساسة من تاريخ العراق، خصوصاً امتزاج النقد الاجتماعي بالسخرية السياسية.
   ويمكن الإشارة إلى الكتابة الصحفية الفكاهية، فضلاً عن الرسوم الكاريكاتورية في الخمسينيات، كما عكستها كتابات خالد الدرة في مجلة " الوادي" وصادق الأزدي في مجلة "قرندل"، وذلك ارتباطاً بحياة المدينة، ولاسيّما بغداد في جانبها الاجتماعي والسياسي، كما كانت هناك كتابات عكست شيئاً من السخرية في فترة الستينيات مثلما كان يعبّر عنها جليل العطية في جريدة "النصر" وغيرها، لكن السخرية الحزينة استحوذت على "بوگاطع"، واختتم هذه المقالة بمشهد كوموتراجيدي، خصوصاً وأنه في رواية " قضية حمزة الخلف" بدا أقل تأثراً بالآيديولوجيا، مما هو في الرباعية، التي حملت إيمانية شديدة وتقريرية روتينية وتبشيرية منحازة، لكن هذا التمثّل خفّ في بنيته السردية في قضية حمزة الخلف.


شرّ البليّة ما يُضحك
   ففي خضم المأساة يجعلنا "أبوگاطع" نردّد " شرّ البلية ما يضحك"، خصوصاً عندما يقدّم صوراً، متناقضة كومتراجيدية، فعندها يهجم "الحرس القومي" على القرية، حيث يتم تطويق البيت الذي يختفي فيه مطشر اليساري المطلوب من الحكومة، وإذ به يفاجئنا حين يُخرجه عارياً، حيث كان عند عشيقته "زينة!!
   ففي تلك الليلة كان بزينة رغبة للتعرّف على مذاق أصناف أخرى من الحب، شفتاها تنتزعان منه الوعي. كل الأشياء صارت في ذهنه ضلالاً باهتة. نسي أباه ونسي نوبة الحراسة (المكلّف بها)، لم يعد حقيقياً في الوجود إلاّ زينة وملمس جسدها، وعرف البخور النفّاذ وطعم شفتيها...
   لكن "أبوگاطع" مع استغراقه في هذا المشهد الرومانسي وحبكته الدرامية يصوّر لنا الوجه الآخر للدراما القائمة، فإذا بمسؤول مفرزة الحرس القومي يهتف فجأة: تقدّم، فيرتج بيت داود، حيث كان مطشر عند عشيقته، ولكي يحكم حبكته ويصل المشهد إلى ذروته، يُحدث المصادفة، فأفراد الحرس القومي جاءوا يقصدون بيت "عودة الكبر" الذي يقال أنه من الشيوعيين، بينما هم يهاجمون بيت داوود صاحبهم والمخبر لديهم عن طريق الخطأ، وهكذا تنكشف حكاية مطشر وزينة عن دون سابق ترصّد وإصرار، لكن اندلاع الرصاص وتعالي صوته، أدّى إلى خروج مطشر عارياً، واستطاع الهرب ووصل إلى بيته فرآه والده عارياً، وهذه مفاجأة أخرى في خضم المأساة الساخرة أو السخرية الحزينة لدى "أبوگاطع" بصورتها الكومتراجيدية.
ومنذ أواخر الخمسينات، تمكّن ذلك الريفي المصحوب بالشكّ والمتعطش إلى العدالة والغارق في وهم الآيديولوجيا، أن يخوض في معترك الحياة بشجاعة: كدحاً وصحافة وثقافة وأدباً، حتي غدا اسماً يُشار له بالبنان.
      لم يكن "أبوگاطع" متفرجاً على ما يجري في الريف وحياة القرية، في اطار مشهد خارجي وتعاطف انساني، بل كان من الريف وكتب عنه، مقدماً البيئة الريفية بقدرٍ من التشويق والتوتر والانفعال، عاكساً حياة الفلاحين والريف العراقي، كمقطع من الدولة العراقية، التي أرّخ لها في رباعيته من العام 1923 وحتى العام 1963 وفي روايته "قضية حمزة الخلف" في مرحلة ما بعد انقلاب 8 شباط 1963.
الريف ومفهوم البطولة
   يمكنني القول إن فصلاً مهماً من تاريخ العراق السياسي، كان سيبقى غير مكتوبٍ، ولربّما مجهولاً بما في ذلك التراث الشعبي لولا موهبة "أبوگاطع" الذي امتلك أدوات تصويرية وقدرات تخيلية لالتقاط واقع الريف العراقي، برؤية شفافة، بحيث اختلط الواقع المعيش بالخيال المتصوّر في حبكة درامية، أكتمل بناؤها في حالات وظلّ غير مكتمل في حالات أخرى. وبهذا المعني يصح قول مكسيم غوركي "التاريخ لا يكتبه المؤرخون بل الفنانون، الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان".
   لقد تطور مفهوم البطولة في روايات وحكايات "أبوگاطع"، ففي قضية حمزة الخلف خفّ أو ضعف فيها تأثير الايديولوجيا قياساً بالرباعية، رغم انه ظلّ يلقي بظلاله الثقيلة عليها، لكنها لم تعدْ "كلية القدرة" أسطورية، خارقة، ينسب إليها كل الصفات الحميدة، بل تتمثّل في الشخصية الإنسانية البسيطة، التي تحمل عناصر القوة والضعف، الشجاعة والخوف، الاقتحام والتردّد، الخير والشر، المجد والأخطاء على حد تعبير الجواهري في قصيدته المهداة إلى الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وهي تذكّرنا بغريغوري بطل رواية شولوخوف "الدون الهادئ" المتذبذب، المقتحم، المتردّد، الضاج بالحركة والحب والفحولة، المتنقل بين القوزاق والجيش الأحمر والأبيض وبالعكس!
   إن كتّاباً ساخرين إلى جانب "أبوگاطع" الذي كان الأكثر شهرة وابداعاً بينهم، بحاجة إلى دراسات وأبحاث جادة للدخول إلى عالمهم الداخلي الروحي وتقويم ونقد نتاجاتهم وسخريتهم أمثال: عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) وعموده الشهير "كلمة اليوم" في صحيفة "اتحاد الشعب" بعد ثورة 14 تموز 1958، وشاكر مصطفى سليم، الذي كان يكتب في صحيفة "الحرية" مسلسلاً بعنوان "يوميات قومي متآمر" وقبلهما خالد الدرّة وكتاباته المتمّيزة في "مجلة الوادي" وصادق الأزدي في "مجلة قرندل". وفي مرحلة الثلاثينات اشتهر الكاتب الساخر نوري ثابت ومجلته "حبزبوز". واذا كانت السخرية فنّاً رفيعاً فهي تعبير عن موقف مسؤول من الحياة بكل ما تعنيه الكلمة. وكان كارل ماركس يردّد: إنني أقف مما هو مضحك موقفاً جاداً.
   "أبوگاطع" رغم شعبيته الاّ انه كان رجلاً "مرفوضاً"، باستعارة توصيف المفكر جورج لوكاش، للبطل الملحمي حسب بعض الولاءات والمقاسات الحزبية الضيقة... لأنه كلّما كان يلامس تجربة كان يلغمها بالأسئلة... الأسئلة هي ذاتها التي ظلّت قائمة ومتلاحقة في مملكة جورج أورويل "مزرعة الحيوان" و"رواية 1984" أو عند "أبوگاطع"  في "مملكة الضبع الأكبر".
نحن بحاجة إلى السخرية في مواجهة غلاظ القلوب...
 


57
في "مملكة" الجواهري
مقدّمة كتاب كاني ياسين آل جواد
بقلم عبد الحسين شعبان(*)

من الإهداء حتى آخر كلمة في الكتاب ينبض قلم الكاتب كاني ياسين آل جواد، بالجواهري، متولّهًا بمحبّته وعاشقًا عذريًّا لكل ما يتعلّق بمعشوقه، مقتفيًا أثره ومستمتعًا بحكاياه ونوادره، واقفًا إلى صفّه في معاركه بإعجاب وانبهار، وهكذا يحاول الدخول إلى مملكة الجواهري التي يتمنى أن يعيش فيها ولا يخرج منها مطلقًا، ويعتبر ذلك أُمنية من أُمنيات حياته التي كثيرًا ما راودته نفسه عنها حتى استحالت إلى واقع.
و"مملكة الجواهري" ليست سوى مملكة الشِّعر والمغامرة والتحدّي وتلك حياته المليئة بالاحتمالات التي يصعب تكهّنها ليس فقط على الصعيد الشِّعري والإبداع الأدبي بصفته عالَمًا شعريًّا، بل "عوالم شعريّة" وإنّما على المستوى الشخصي أيضًا، فالجواهري شخصيّة حسّاسة، وأستطيع القول إنّها بالغة الحساسيّة وله مِزاج خاص، ولذلك فالاقتراب منه يعني الاقتراب من عالَمٍ مأزوم، وكلُّ مُبدع كبير هو إنسان مأزوم بالطبع، فما بالك حين يكون بوزن الجواهري وبحجم مُنجزه الشِّعري وعُمق تراثه، وهو الحامل صولجان الشِّعر امتدادًا للمُتنبّي.
لقد حاول كاني آل جواد حين أعدّ سرديّته عن الجواهري أن يؤشّر إلى ذلك أو لبعضه، بعد أن اختزنت مكتبته بما قيل وكتُب ونُقل وسُمع عن الجواهري تحريرًا أو تفوّهًا، وهو ما حاول تجميعه وإعداده كمادّة توثيقيّة، وتلك ميزته الأولى. أمّا ميزته الثانية فهي أنّ الكاتب يقدّم نفسه قارئًا ومتذوّقًا ومُعجبًا، مع أنّه بذل جهدًا كبيرًا في إعداد كتابه الذي جمع فيه ما توفّر لديه ما كُتب عن الجواهري، فقد توقّف عند مذكّراته (جزءان) كما استند في عرضه إلى بعض النصوص ومُقتبسات لعدد "ممّن يُشار إليهم بالبَنان وممّن زاملوه وعايشوه وكانوا قريبين إليه" كما يقول، ويعدّدهم كالآتي: محمد حسين الأعرجي في كتابه "الجواهري دراسة ووثائق"، وعبد الحسين شعبان في كتابه "الجواهري: جدل الشعر والحياة"، وهادي العلوي: دراسات نقديّة أعدّها فريق من الكتّاب، وصباح المندلاوي في كتابه "الليالي والكتب" وخيال الجواهري في كتابها: "الجواهري - النهر الثالث".
ومن خلال هؤلاء ونصوصهم، يحاول التسلّل بشغفٍ إلى صومعة الجواهري كما يقول، ويتغلغل بمودّة في عالمه ولا يريد مفارقته، حيث ظلّ يجمع فصول كتابه وُيدوّن ويُتابع ويُشاهد ويقرأ كل ما يتوفّر بين يديه عنه، محاولًا التعريف بأشهر قصائده، وتلك ميزة الكتاب الثالثة، مقتفيًا أثر "الجواهري في العيون من أشعاره" الذي صدر في العام 1986 في دمشق عن دار طلاس لكاتب السطور وذائقته الشِّعريّة بالتعاون مع الشاعر الكبير ومقدّمته المؤثّرة، وهو ما أصبح يُنقل عنه ويُقتبس منه ويُعدّ مرجعًا للدارس والباحث والمهتم والمتذوّق لشعر الجواهري، خصوصًا وقد حظيَ برضا الشاعر نفسه وموافقته والاستئناس برأيه واستمزاجه.
وميزة الكتاب الرابعة استنادًا إلى ما تقدّم هي تأرخة معاركه الشعريّة والشخصيّة من خلال قصائده، حيث تشكّل عمارة الشاعر الشعريّة التي يرتفع بناؤها لأكثر من 20 ألف بيت "تدوينًا حقيقيًّا" يضاف إلى مذكّراته، فقد اختصم الجواهري وتصارع وانقلب وتواصل وتناقض وغضِب وأصفح وعبّر عن همومه وأحزانه وأفراحه، وكلُّ ذلك يمكن أن يشكّل مادّة حقيقيّة للدراسة النقديّة لتاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي وتطوّر مدارسه الفكريّة حاول أن يعكسه آل جواد مُعدّ الكتاب.
وفي هذا الخصوص كان يمكن للكاتب أن يتوقّف عند كتابين مُهمّين للمفكّر حسن العلوي وهما: "ديوان العصر" الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية في عام 1986، وكتاب "الجواهري - رؤية غير سياسية" الذي صدر في لبنان زحلة 1995، وكنت قد كتبت عن كتابه الأول "ديوان العصر" مشيرًا إلى أن بحق يعتبر واحدًا من أهم الدراسات النقديّة التفصيليّة التي صدرت عن الجواهري. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى دراسة جبرا ابراهيم جبرا وإبراهيم السامرّائي وداود سلوم وسليم طه التكريتي وعبد الكريم الدجيلي.
استند آل جواد بشكل خاص في كتابه على ثلاثة مصادر أساسيّة هي: "مذكّرات الجواهري" (جزءان) وهي مهمّة جدًّا، إضافة إلى كتاب كريمته د. خيال الجواهري "الجواهري - النهر الثالث" مثلما استعان بكتاب صباح المندلاوي - "الليالي والكتب"، وهو جولة في ذائقة الجواهري الأدبيّة التي نتعرّف من خلالها إلى نظرة الجواهري للكثير من زملائه المُبدعين العالميّين مثل بيكاسو وبابلو نيرودا وهمنغواي ولوركا وماركيز وغيرهم، وهو ما كنت قد أشرتُ إليه في كتابي "الجواهري - جدل الشِّعر والحياة" (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997)، إضافةً إلى ما جئتُ عليه من تفاصيل في كتابيَ الموسوم "كوبا - الحلم الغامض" الصادر عن دار الفارابي، بيروت 2011.
أمّا الأسماء الواردة في الاقتباسات التي أشار إليها فقد جاءت من خلال إعداد كتاب د. خيال الجواهري، وشملت باقةً من الأدباء والكتّاب العراقيّين والعرب، لعلّ أبرزهم طه حسين الذي قال عن الجواهري: إنّه البقيّة من التراث العربي الصحيح، وصلاح عبد الصبور الذي اعتبره السلسلة الذهبيّة الأخيرة من الشعر العمودي، إضافةً إلى أمين الأعور الذي أطلق عليه اسم "النهر الثالث" منذ العام 1963، ومحمود درويش وأدونيس ونزار قبّاني وعبد الرحمن منيف وآخرين.
كما شملت قائمة الأدباء العراقيّين: سعدي يوسف ومظفّر النواب وهادي العلوي وحميد المطبعي ومحمد حسين الأعرجي وجبرا ابراهيم جبرا وفوزي كريم ورشيد الخيّون ومالك المطلبي وغزاي الطائي وعناد غزوان وحميد هدّو وحنّون مجيد ومحمد بحر العلوم وعبد الرزاق الربيعي وأحمد النعمان، ومير بصري وإبراهيم السامرائي وعبد اللطيف أطيمش ونجاح العطّار وعبد الحسين شعبان وآخرين. وكان يمكن استذكار بعض مَن كتبَ عن الجواهري مثل عبد الغني الخليلي وزاهد محمد وجليل العطيّة ورواء الجصّاني وآخرين، إضافةً إلى أطروحات أكاديميّة في عدد من الجامعات.
وفي الواقع فإنّ الغالبية الساحقة التي كتبت عن الجواهري كانت بعد وفاته في 27 تموز/يوليو 1997 حيث تمّ دفنه في دمشق في مقبرة "الغرباء" بالقرب من مقام السيّدة زينب. وكان الجواهري قد وُلد في النجف العام 1900م، (وهناك روايات أخرى تقول إنّه وُلد في العام 1897 أو العام 1899 أو العام 1903)، وتحدّر من أُسرة عريقة في العِلم والأدب نُسبت إلى كتاب عنوانه "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" لمؤلّفه جدِّه الأقدم الشيخ محمد حسن أحد أكبر فقهاء عصره، ويُعتبر كتابه واحدًا من ثلاثة كتب مهمّة لا يمكن اجتياز مراحل الاجتهاد دون دراستها، ومن عنوان الكتاب أخذت العائلة إسمها.
لقد كانت ولادة الجواهري قبل ولادة الدولة العراقية بأكثر من عقدين من الزمان، حيث تأسّست المملكة العراقية في 23 آب/أغسطس 1921، فقد باشر بكتابة أُولى قصائده قبل كتابة دستورها "القانون الأساسي" الذي صدر في العام 1925 بعدّة سنوات، وهكذا وعلى مدى قارب ثمانية عقود من الزمان كانت "مملكة" الجواهري تزدان وتزدهر وتتّسع وتتألّق بروائع ضمّتها دواوين عديدة منذ صدور ديوانه الأوّل "ديوان بين الشعر والعاطفة" العام 1928، وديوانه الثاني "ديوان الجواهري" العام 1935. وقد أصدر في العام 1949 ديوانه الجديد، الجزء الأول، كما صدر الجزء الثاني في العام 1950، وصدر الجزء الثالث في العام 1953. وفي العام 1965 صدر له ديوان "بريد الغُربة" في براغ، وصدرت إضافة إلى طبعة بغداد، طبعتان جديدتان لدواوينه، الأُولى عن وزارة الثقافة السوريّة في العام 1979 والثانية عن دار العودة في العام 1982، وتُعتبر مجموعة "الجواهري في العيون من أشعاره" بمثابة مختارات من شعره وذائقة أدبيّة خاصّة لأهمّ القصائد والأبيات من القصائد مقسّمة إلى عشريّات: ابتداءًا من العشرينات وحتى أواسط الثمانينات، وصدرت في دمشق العام 1986.
ونال الجواهري عددًا من الأوسمة، منها: وسام "طوق الكفاية الفكرية" من جلالة الملك المغربي الحسن الثاني العام 1974، وجائزة "اللوتس" (جائزة كتّاب وأُدباء آسيا وأفريقيا) 1975، وجائزة سلطان العويس للإنجاز العلمي والثقافي ووسام الاستحقاق الأردني من جلالة الملك الحسين بن طلال العام 1974، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديرًا لتراثه ومواقفه، دمشق 1995.
وحسب ما يتتبّع كاني آل جواد حياة الجواهري من خلال قصائده، فقد كان الشاعر لا يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه وأن يعيش كلّ لحظة ولا  يرغب بتبديد ثانية واحدة، وهو بقدر ما يريد الدنيوي فإنّه يسعى إلى الأُخروي أيضًا، أي يريد الحاضر والمستقبل والحياة والخلود. وكنت قد استعرتُ تعبيرًا للروائي الروسي مكسيم غوركي بخصوص الجواهري الذي كان نصف عقله وربّما نصف إبداعه يعيش في المستقبل للقادم الجميل الذي يريده شفيفًا ومعافى وأزرقًا مثل لون البحر الذي يحبّه، فقد ساهم الشِّعر في رسم أو إعادة تصوير حياتنا بتفاصيلها وشخوصها وتاريخها ومعالمها لا بنكهتها الواقعيّة وحسب، ولكن بإطارها المتخيّل والواهم أحيانًا، مشتملًا على رائحة حبٍّ ومذاق تحدٍّ وجِوار أضداد وتناقض حاد، وتلك شكّلت سِمةً من سِمات القصيدة الجواهريّة.
وقد جمع الجواهري في شخصه حزمةً من الشعراء المبدعين تمتد لحقبٍ شعريّة تاريخيّة كاملة وربّما لقرون، لكأنّ جذوره ممتدة من الفترة الأمويّة - العبّاسية على حدِّ تعبير الشاعر سعدي يوسف، والتي شغلت القرن العشرين بكامله، في مغامرة ممتدّة بهرمونيّة جمعت التناقض المحبّب بتناسق باهر مع التحدّي الفائق، وحين يجتمع التناقض والتحدّي يُصبح المشهد جواهريًّا.
إنّه "سادن" الأضداد و"ملك" التحدّيات وفي ذلك سرّ استثنائيّته المُفعمة بإبداع استثنائي فريد ومتميّز وهو ما حاول كاني ياسين آل جواد أن يبرزه، وهو القائل:
   ولم أرَ في الضدائد من نقيضٍ
            إلى ضدٍّ نقيض من ضريبِ
وحين يستحضر الشاعر عملاق الشِّعر في داخله بأدواته المطواعة بين يديه وبلهجته الجميلة وأنفاسه المتغضّنة بالشِّعر وأصابعه الممدودة فيقول:
   أنا العراق، لساني قلبه
      ودمي فُراته وكياني منه أشطارُ
والتناقض والتحدّي يجتمعان باتّساق فريد بالصعود والنزول وبالجوانب المشرقة والمُعتمة وبنقاط
 القوّة والضّعف الإنسانيّة، كلّ ذلك يمتزج في كأس الجواهري الذي يقول:
   يا نديمي وصُبَّ لي قدَحًا
         ألمَسُ الحُزنَ فيه والفَرَحا
هكذا جمع الجواهري الحزن والفرح في كأسٍ واحدة، تلك التي يريدها من النديم وهو جدَل الحياة المُقترن بالموت، فالجواهري الذي عشِق الحياة وتعلّق بها وبكلّ جنونها لا يصمد أمام إغراء التحدّي.
يقول الجواهري:
   وأركبُ الهَول في ريعان مأمنةٍ
         حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يُغريني
وفي قصيدته المُهداة إلى جمال عبد الناصر (بعد وفاته) يجمع المجد والأخطاء، فيقول:
   أكبَرْتُ يومَكَ أن يكون رثاء
         الخالدون عهدتهم أحياء
   لا يعصمُ المجدَ الرِّجال وإنّما
         كان العظيم المَجدَ والأخطاءَ
   تُحصى عليه العاثرات وحسبُهُ
         ما كان من وثباتِهِ الإحصاءَ
ما يريد أن يقوله آل جواد في استعراضه الشيّق وتتبّعه لمسيرة حياة الجواهري، أنّ الجواهري شاعر تجاوز زمانه ومكانه، بل إنّه ضاق ذرعًا بالمكان والزمان حتى وإن كانت الآراء والتقييمات قد اختلفت حوله إلّا أنّها تلتقي حول نتاجه الإبداعي وتميّزه واستثنائيّته ورياديّته وعبقريّته، ولذلك أصبح يمثّل رمزيّة الشِّعر وطُهريّة القصيدة ونزاهة الكلمة، وكان الجميع حكّامًا ومحكومين يقتربون منه لأنه مثّلَ نبض العراق المتناقض الحاد الطيّب، فقد حمِلَ في روحه عناد طفلٍ بريءٍ ومشاكس في الآن، فقد سعى إلى تجاوز المألوف والعادي من الأشياء إلى ما هو خارق أو يقترب من المستحيل في التمرّد والسلوك والنّفي والترحال، والأهمّ في الإبداع الشِّعري، وظلَّ مُبحرًا  بسفينته ينتظر القصيدة مثل غيمةٍ فضّية تنقدح مثل شرارة البرق التي تخطف البصر كما قالت عنه الدكتورة نجاح العطّار، وحين تهبط عليه "اللحظة الشِّعرية" يُطرب لها ويُغنّيها فتخرج القصيدة طازجةً شهيّة مثلما يخرج رغيف الخُبز من التنّور فيفتح الشهيّة للجمهور ليدوّي مثل إعصارٍ عاصف.
بيروت - الجناح - 12/12/2020
(*) أديب وناقد ومؤلف لأكثر من 70 كتابًا  في قضايا الفكر والقانون والسياسة والمجتمع المدني والأديان والثقافة والأدب، بينها كتابه الموسوم "الجواهري في العيون من أشعاره" وذلك بالتعاون مع الجواهري الكبير، وكتابه "الجواهري - جدل الشِّعر والحياة"، وهما كتابان مرجعيّان لا غنى عنهما لدراسة الجواهري، إضافة إلى أنّه أكاديمي ونائب رئيس جامعة اللاعنف - بيروت.  (الناشر)
* نشرت في جريدة الزمان العراقية في 13 آب - أغسطس 2021

58
سعدي يوسف:
الدهشة الأولى والحداثة الشعرية الثانية

عبد الحسين شعبان*





"الشعر أداة ديناميكية ونواة فعّالة من شانها أن تتجاوز تمثيل الأشياء والأفعال، باعتبار ما ينبغي أن تكون عليه".
أرسطو
*****
بقيتُ مشدوداً طيلة أسابيع وأنا أتابع خبر مرض سعدي يوسف، فما أن كتبت إقبال محمد علي رفيقته المخلصة "سعدي يصارع المرض... هو الذي رأى كل شيء، فغنّي بذكره يا بلادي" حتى تيقنت أن الذئب الذي ظل يترّصده سنوات طويلة سيتمكن منه، فقد دخل أحد المستشفيات في لندن في 4 نيسان/إبريل 2021 متأثراً بمضاعفات سرطان الرئة الذي ظل متكتمّاً عليه لحين، وفضلّ أن يُكابده وحده بكبرياء وشموخ، كي لا يُقلق الأصدقاء ويشمّت الأعداء. ثم رحل في 13 حزيران/يونيو 2021 عن عمر ناهز الـ87 عاماّ، كان حافلاً بالشعر والكتابة والإبداع والتمرّد والمنفى.

سأرحلُ في قطارِ الفجرِ
شَعري يموجُ،
وريشُ قُـبَّـعَـتي رقيقُ
تناديني السماءُ لها بُروقٌ ويدفعُني السبيلُ بهِ عُـــروقُ
سأرحلُ...
إنّ مُقتـبَــلِـي الطريقُ
سلاماً أيها الولدُ الطليقُ!

لم يكن سعدي يوسف المولود في "أبو الخصيب"- محافظة البصرة في العام 1934 شاعراً فحسب، بل إنه حالة شعر، فلم يكن يكتب الشعر، بل كان يتنّفسه. والشعر بالنسبة له هو الحياة بسليقتها وتلقائيتها، على حد تعبير الشاعر الكبير محمود درويش، مثلما الحياة هي الشعر، خصوصاً حين يندغم ما هو خاص بما هو عام، ويتشابك الذات بالموضوع.
يعدّ سعدي من أبرز شعراء الحداثة الشعرية الثانية مع أدونيس ومحمود درويش، إذا اعتبرنا أن الحداثة الشعرية الأولى ممثّلة بنازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وقد واصل ولوج طريق الحداثة منتقلاً من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، مازجاً بين الغنائية بالسرديّة على نحو غير متكلّف في إطار بلاغة جديدة شكلاً ومضموناً، متخذاً أشكالاً جديدة وجوهراً جديداً، ربما غير مألوف في إطار معمار فنيّ دقيق.
وحسب ما يقول سعدي نفسه: الشعر ساحة مفتوحة وكل تجريب فيها ممكن مثلما كل الأشكال ممكنة ولا وجود لشكل فريد، بل إن الأشكال تتعدد في القصيدة وتلك ميزة غنى واكتناز. وهكذا ترى قصيدته مكتظّة بالصور إلى درجة أنه يتداخل هو ونصه أحياناً في لقاء حميم وحوار متصل مع الروح، حيث تمكّن من تقريب اليوميّ والمألوف والعادي والإنساني إلى قيم شعرية مثيرة وأليفة، وبقدر زهد اللغة وبساطتها، لكنها في الوقت عينه تحتاج إلى وعيّ لفهم طبيعة العلاقة بين اليوميّ والتاريخي والعابر والخالد والحاضر والمستقبل.
لعل قصيدة سعدي يوسف تلامس الحياتيّ، المعيش، المنظور، الملموس والحسيّ، الفيورباخيّ إذا جاز التعبير، وهي بقدر فردانيتها فإنها عامة أيضاً، حيث القيم الجمالية. ويحاول سعدي إشراك المتلّقي في قصيدته، بما هو آنيّ ومباشر ومحسوس، وهكذا ترى مفرداته تتعلق بحياتنا.
منذ أن قرأتُ مجموعته الشعرية "الأخضر بن يوسف" لم أُشفَ من قصيدة سعدي، فقد شعرت أنه يكتب باسمنا أو باسم كل واحد منّا أو حتى دون أن يسألنا فهو يمثّلنا ويعبّر عنّا، وهكذا انفتحت ذائقتي الشعرية على نحو جديد من الشعر.
بقيتُ مغرماً بها مندهشاً بنصّه الباذخ، لأنني شعرت أنني أمام  شاعر من نوع مختلف، وكلما كنتُ أقرأ قصيدة جديدة أشعر بقناعة جديدة، إنه يخاطبني أنا بالذات ويلامس فردانيتي حيث كان يتحدث بلغة مختلفة خارج الإيقاع المفخّم.

يبلّل ماؤه طعم الوسادة في ليالي النوء والحسرة
ويأتي مثل رائحة الطحالب أخضر الخطوات يمسح كفّي اليمنى
بغصن الرازقي أفق
أنا النهر
ألست تحبني
أو لمْ ترد أن تبلغ البصرة؟
بأجنحة الوسادة
أيها النهر
أفقتُ…أفقتُ
فوق وسادتي قطرة
لها طعم الطحالب إنها البصرة

وإذا كانت قصيدة السيّاب ملحميّة ذات إيقاع قويّ ومطرزة بالأسطورة واللغة المفخمة، فإن قصيدة سعدي يوسف مباشرة وآنيّة ومعيشة، بما فيها من رشاقة وأناقة وجمال، وبما فيها من ادهاش وعفوية وبقدر ما يكون نصّه مدهشاً، فإن الدهشة الأولى كانت شخصه، وهي تبقى ملازمة لك حتى بعد عقود من الصداقة، وغالباً ما كان سعدي يفاجئنا بنص جديد ولغة جديدة وسلوك جديد.
حين قرأت الأخضر بن يوسف حدست من يكون؟ إنه سعدي نفسه، الذي عاش في الجزائر، في بيت جزائري، مبتدعاً إسم الأخضر وهو إسم شائع في الجزائر، والخضرة كما قال لي هي دليل الحياة والجمال، وهو ما استوحاه من محيطه، أما ابن يوسف فليس سوى سعدي بذاته.
يقول عن تجربته الجزائرية أنها أعطته فسحة للتأمل، فبعد أن أعتقل وعذّب في العام 1963 إثر انقلاب شباط /فبراير ترك البلاد بعد إطلاق سراحه، وكانت وجهته الأولى بيروت ـ كما هو حال أغلب المنفيين العرب ـ الغزالة الخضراء التي تُسابق الزمن نحو الضوء، ومنها ارتحل إلى الجزائر1964، واستمر فيها لغاية1971. وفائدة المنفى الأخرى أنه بدأ اطلالة جديدة، حيث قرر امتلاك ناصية اللغة الفرنسية بعد الإنكليزية، إضافة إلى اللغة الأم "العربية". وقد تآلف سعدي في المنافي التي زادت على ثلثيّ عمره الإبداعي، بل أصبح المنفى جزءً عضويّا من حياته ولغته ومجالاً رحباً للتعرّف على الذات والآخر، أمماً وشعوباً وأصدقاء ولغات وعادات وثقافات.
وكنت قد سألته في مسامرة شاميّة وأخرى قبرصية عن مصادره الروحية وبمن تأثر في مشواره الأول، وقد كرر أكثر من مرة أن أستاذه الأول هو بدر شاكر السيّاب، وقال في أحد المرات لو عاش بدر لكان الشعر قد تغيّر. وأثنى عليه كيف حوّل قريته جيكور إلى عمارة مقدسة أقرب إلى كاتدرائية أو جامع مهيب، وأشار إلى أنه تعلّم من السيّاب: الوفاء للبيئة وبشكل خاص للطبيعة، بما فيها من بشر وشجر وحجر.
وفي حوار متلفز مع الإعلامي والكاتب محمد رضا نصر الله، قال: الأسئلة التي قدّمها بدر شاكر السيّاب ما تزال قائمة، وكنت قد استطلعت رأيه، أيقصد: الحرية والمساواة والجمال؟ أضاف والعدل. وقد حاول السيّاب الإجابة عنها بطريقته الخاصة، لكن هذه الأسئلة أخذت تتوالد، وللأسف فإن الرحيل المُبكر للسيّاب قطع المرحلة الأولى إلا أن  الأسئلة التي تركها لناـ وسيبقى بعضها لما بعدناـ حاولنا ونحاول الإجابة عليها بطريقتنا الخاصة أيضاً.
عن بيئة أبو الخصيب والبصرة عموماً، وهي ذاتها بيئة السيّاب، جيكور والبصرة، يقول سعدي أنها غابات النخيل وشمس القرى، وهو ما اكتنزه، حيث الجداول والنُهيرات والفضاء الشاسع والدهشة الأولى، ويضيف: لقد كانت الحياة الثقافية في البصرة بما فيها أطرافها أبو الخصيب وجيكور بيئة نشطة وحيوية وحسّاسة، وهي بيئة مفتوحة تتقبل الجديد مثلما تتقبل الاجتهاد والحداثة وحركة التيارات الاجتماعية الراديكالية.
وأظنها كانت بيئة ملائمة للتفاعل مع الآخر، وهي متواصلة مع بيئة البصرة تاريخياً التي شهدت حركات احتجاج واسعة في التاريخ الإسلامي، فهي ملتقى المواصلات الإقليمية والدولية، حيث طريقها سالك إلى الجزيرة العربية، ناهيك عن علاقتها بالبحر، فهي طريق الهند والصين وجنوب آسيا، إضافة إلى شرق أفريقيا والسواحل الجنوبية للجزيرة، مثلما هي السواحل الإيرانية القريبة.
وينحت سعدي مصطلح "تنافذ الثقافات" على هذه العلاقات المتشابكة، والمقصود بذلك تواصلها وتفاعلها وتداخلها.
تأثّر سعدي بعدد من الشعراء المصريين واللبنانيين في بداية مشواره الشعري الرومانسي، منهم علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي، وتأثر بإلياس أبو شبكة وصلاح الأسير، لكن القصيدة بدأت تكتمل على يديه، وتأخذ شكلها الهندسي الجديد، وخصوصاً الانشغال بالتفاصيل منذ مطلع الستينيات، حيث بدأ الكتابة بلغة مبتكرة، مستحضراً ما هو حسيّ، مستبطناً جوهراً جديداً، موّلداً صوراً جمالية جديدة، لاسيّما بوضع يده على الحياة المعيشة، بما تملك من قيم مجازية متراكبة ومتشابكة وذات دلالات رمزية ونصاعة شعرية.
النافذة والساقية والبستان والحانة والعائلة والنهر والمرأة والأشياء التي نعرفها ونصادفها يوميّاً، حوّلها سعدي يوسف إلى لحظة شعرية أثرّت في مخيالنا وأعادت رسم ذاكرتنا على نحو جماليّ غير مألوف من قبل. وبقدر ما كانت لغته هادئة فإنها متوّهجة سرعان ما تتوّغل إلى العقل، مستدعيّة التفكير، راسمة بريشة فنان أصيل لوحات بألوان مختلفة، مازجاً اللون باللون في هارموني تفرّد في صنعه، فقد تراه يتحدث عن يانيس ريتسوس وهو في معرض تناوله للسيّاب، وعن لوركا والمقصود إليوت.
إن شعر سعدي يحتاج أن يُقرأ أكثر من مرة، ففيه تأملات تحتاج إلى قراءة متأنيّة لاسيّما ما يحتويه من تنويع وغنى وبساطة وتفرّد. وقد حاول سعدي كسر مرآة الشعر خارج دوائر الانفعال وخارج التجديف، وكانت اللغة شيفرته الخاصة إلى ذلك ووسيلته، حيث عاش للشعر وحده مُخلصاً له على نحو شديد.
ولذلك ليس من العدل تناول سعدي باللوم بسبب مقارباته الفكرية وخيباته السياسية وخروجه عن جلده أحيانا، فلم ينجُ شاعر عربي قديم أو معاصر، وإن بدرجات متفاوتة من الشطحات بما فيها الخروج على المألوف، لكن الجوهر لديه ونعني به الموقف من الإحتلال ـ حتى وإن عبّر عنه بطريقة غير مقبولةـ كان سليماً، فما قاله الشاعر تبرؤاً من وطنه، وأثار ضجة حوله هو مقلوب الصورة ومعكوس المعنى، فهو يريد عراقاً غير ما هو قائم على التقاسم الطائفي والإثني والزبائنيّة السياسيّة والمغانم.
وقد أطلق على نفسه لقب "الشيوعيّ الأخير"، مثلما فعل أيام الحرب العراقية ـ الإيرانية، حيث وقّع بيانات مع شخصيات عراقية وعربية تدعو إلى رفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني، والدفاع عن الوطن على الرغم من موقفه المناوئ للديكتاتورية والاستبداد.

يا بلاداً بين نهرين
بلاداً بين سيفين
أعادت هذه الأرض التي كانت لنا بيتاً ولو يوماً، ممّراً للغزاة؟
فريسةً أخرى؟ أكان عليكِ أن تجدي لكِ الرجل المريض ولو بأفدح ما وهبتِ؟
عليك يا أرضي السلام
عليك، يا أرضُ، السلام...

وفي ديوان "صلاة الوثني" الذي صدر بعد الإحتلال، يستعيد سعدي يوسف ملحميته الشهيرة "إعلان سياحي إلى حاج عمران" 1983، حيث يقول:
يا ليل أين الصفا؟
أين إنطفأ المأمول؟
أرض السواد إنتهت للشوك والعاقول
كل الجيوش إقتضت منها وحال الحول
يا حسرتي للضمير المشترى المقتول!

ترك لنا سعدي يوسف عمارة شعرية قوامها 35 مجموعة شعرية، و10 أعمال شعرية مترجمة لكبار الشعراء العالميين، وترجمات لـ 14 رواية عالمية، وروايات وقصص وكتابات نقدية زدات على 8 كتب، إضافة إلى 6 مجموعات مترجمة بلغات أجنبية. كما هناك دراسات وإطروحات أكاديمية عن تجربته الشعرية.
دفن سعدي يوسف في مقبرة هاي غيت (لندن)، وقد تنّقل في المنافي العديدة: الكويت، الجزائر، دمشق، بيروت، عدن، نيقوسيا، بلغراد، باريس، عمان.. وإستقر في سنوات العمر الأخيرة في لندن.
* أكاديمي وأديب عراقي




59
السودان- على طريق المصالحة
عبد الحسين شعبان
-1-
   "لقد جمعت السيمفونية كل النغمات المتعارضة والمتكاملة والمتخالفة والمُتّحدة في آنٍ  معاً لتعطي قصيدة ملحمية تضاهي نشيد رولاند في نسخة سودانية، وبهذا أصبحت الحركة تياراً جارفاً لا يمكن صدّه" هذا ما كتبه البروفيسور محمد الحسن ولِدْ لبات ، في وصف حركة الاحتجاج السودانية التي أطاحت بالرئيس عمر حسن البشير الذي حكم السودان 30 عاماً (1989-2019)، حيث أنعشت أغنية "أنا سوداني" ليالي المعتصمين لتضيء حلكة الظلام وتنشر الضياء... لتشكّل توليفة تبعث روحاً جديدة تبشّر بعصر جديد، كما يقول.
   ولد لبات خبير دولي مختص بقضايا الوساطة وحلّ النزاعات في مناطق الحروب الأهلية والعدالة الانتقالية ، وعمل في العديد من الدول الأفريقية مكتسباً خبرة واسعة وتجربة غنية، ولا سيّما من خلال تولّيه عدّة مناصب منها : وزيراً للخارجية وسفيراً ورئيساً لجامعة نواكشوط ، وفوق كل ذلك فإنه يمتلك لغة عربية صافية ، إضافة إلى إتقانه اللغتين الفرنسية والإنكليزية ومعرفته بلغات محلية عديدة، ناهيك عن كونه قانوني ضليع وفقيه دستوري ذو أفق فسيح مثل صحراء موريتانيا بلاده الفسيحة.
-2-
   لقد وظّف الكاتب كل مؤهلاته تلك من أجل التوصل إلى مصالحة بين الفرقاء السودانيين، مدنيين وعسكريين، وحاول أن يعكس تجربته الباذخة تلك في كتاب مهم بعنوان "السودان - على طريق المصالحة"، والكتاب سردية جميلة أقرب إلى رواية بحبكة درامية  طعّمه بحكايات وقصص ومقابلات وحوادث وأسرار وتاريخ وخفايا وخبايا، دلّت على معرفة عميقة بالأوضاع السودانية دون أن يبتعد عن المعايير الأكاديمية والبحثية.
    وكان قد كُلّف من جانب الإتحاد الإفريقي وبدعم من إثيوبيا ، إثر اندلاع أزمة سياسية عميقة في السودان حول المستقبل بين القيادات المدنية التي فجّرت الشرارة الأولى للثورة والقيادات العسكرية التي ساهمت في حسم مسألة التغيير، وكادت الأزمة أن تؤدي إلى الصدام بين المجموعتين، حيث تشبّث العسكريون بمواقعهم في النظام الجديد، في حين أراد المدنيون عملية التغيير شعبية بامتياز لإنجاز التحوّل الديمقراطي.
   لم تكن عملية التغيير يسيرة أو حتى مضمونة النتائج، خصوصاً وقد عاش المجتمع السوداني فترات طويلة في ظل أنظمة استبداد وحكم عسكري، حيث حكم محمد جعفر النميري من العام 1969 حتى أطيح به في حركة شعبية العام 1985 وهي امتداد لثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت بحكم الجنرال عبود العام 1964 ، لكن انقلاباً عسكرياً جديداً استلم مقاليد الحكم في العام 1989 وتعتّق فيه، وخلال العقود الثلاثة من حكم الرئيس البشير فيها شهدت البلاد حركات تمرّد وأعمال عنف، ناهيك عن انشطارها وانفصال جنوب السودان العام 2011 باستفتاء شعبي بعد حروب دامت من العام 1956 دفعت البلاد أثمانها الباهظة بشرياً ومادياً ومعنوياً، كما تعرّض فيها الشعب السوداني لأعمال قمع شملت قطاعات واسعة من النساء والمثقفين والفنانين والمجموعات الثقافية "الأقليات" والشرائح الاجتماعية المهمّشة فضلاً عن محاولات "تديين" المجتمع ومصادرة الحريات وتقليص الحواشي الديمقراطية وهجرة أصحاب الكفاءات والأدمغة.
-3-
   يطلعنا الكاتب بأسلوب شائق وشفيف ولغة متوهجة بالشعرعلى فكرة الوساطة وسياقاتها وإنضاج ظروفها ومساراتها وتحدّيات المرحلة الانتقالية ويتناول بعض التساؤلات حول المستقبل، وهذه المفردات مثلّث العناوين الأساسية للكتاب، ومن خلاله نتعرّف على الدور الذي قام به في الوصول إلى النتائج المرجوة دون ادعاء أو غرور، بل بالوقائع والأسماء والمحصّلات، بما فيها من توترات ومحاولات عرقلة أو وضع عقبات من شأنها الحيلولة في منع التوصل إلى توافق يؤدي إلى المصالحة عبر الوساطة.
    والوساطة تعني حل الخلافات بطريقة سلمية وعبر أشخاص أو جهات تقوم بهذه المهمة يثق بهم المتصارعون، وهي فرع جديد يدرّس في الجامعات والمعاهد العليا، وقد اعتمدناه في جامعة اللاّعنف (بيروت) وهو يجمع بين القانون والسياسة والإدارة والثقافة والاجتماع  والدبلوماسية وفن التفاوض ، وذلك في إطار توفيقي وجامع بحثاً عن المشتركات، بحيث يصل الجميع إلى الاعتقاد أن الكل رابح، ومثل هذا الاختصاص يستخدم في حل الأزمات الدولية الكبرى مثلما يمكن تطبيقه على الأزمات والنزاعات الأهلية الداخلية ، بما فيها بين جماعات وأشخاص أحياناً.
   ومن النتائج المهمة في التجربة السودانية هو أن إفريقيا هي التي تولّت هذه المسؤولية وتمكنّت من النجاح فيها بالتعاون مع شركاء دوليين، ويعود ذلك لأسباب منها أنها تعرف مشاكل الإقليم وهي منحازة لمصلحته وتشعر بمسؤولية إزاه على خلاف بعض الوساطات البعيدة فكرياً واجتماعياً ونفسياً عن أجواء الصراع ومشاكل المجتمعات التي تريد التوفيق بين فرقائها المتصارعين، ناهيك عن أغراضها السياسية أحياناً .
-4-
   وبتقديري إن كتاب "السودان - على طريق المصالحة" يصلح أن يدرّس في الجامعات العربية وفي جامعات البلدان النامية عموماً ، خصوصاً تلك التي عانت من أزمات وحروب أهلية، بهدف تهيئة مستلزمات التحوّل الديمقراطي، وبالطبع ليس لاستنساخ التجربة أو اقتباسها، وإنما الإفادة منها كقواعد عامة ودروس بليغة، مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف كل مجتمع وشعب، وفي كل الأحوال وحسب معرفتي المتواضعة، يبقى الكتاب مرجعاً نظرياً وعملياً مهماً، علماً بأن المراجع الأكاديمية والعلمية قليلة على هذا الصعيد ، لا سيّما تلك التي تضمّنت تجارب عملية ميدانية قريبة من واقع مجتمعاتنا . ولعلّ تقويم رئيس جمهورية مالي الأسبق البروفسور عمر كوناري رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي الأسبق يعطي القارئ فكرة موضوعية عن مثل هذا الدور الوسيط الذي صاغه مؤلف الكتاب والمفاهيم التي قدّمها وتمكّن من خلالها إضافة إلى براعته الوصول إلى حلول جنّبت السودان الانزلاق إلى نزاع أهلي، لا سيّما بعد قناعة الفرقاء جميعهم.
   على الوسيط أن يصغي إلى جميع الفرقاء وأن يستمع إلى الكثير من الشهادات الشفوية والمكتوبة ويقرأ العديد من الوثائق ويطّلع على المعطيات من مصادرها الأصلية وهو ما فعله المؤلف حين حاور المجلس العسكري الانتقالي وكذلك إعلان قوى الحرية والتغيير، إضافة إلى تجمع المهنيين ومنظمات سياسية ومهنية واجتماعية عديدة،غطّت الطيف السوداني الاجتماعي والسياسي والثقافي وهو ما وفرّ له  زاداً سميناً حاول أن يقسّمه على أطباق متساوية وبتكافئ بعد أن طبخه على نار هادئة دون استعجال أو تسرّع، وحسبما يقول : على الوسيط أن ينثني دون أن ينكسر ، مثلما عليه التحلّي بالتواضع والصبر.
   لقد تعلّم ولد لبات كما يقول من نيلسون مانديلا الذي عمل معه ومع العديد من قادة إفريقيا ، فضائل التعالي على الضعف البشري المتمثّل بالأنانية والعجز عن التسامح وروح الانتقام وجدارة المصالحة خدمة للأمة، وحاول أن يوظفها من خلال وساطته السودانية، مبتعداً عن كل ما له علاقة بالغطرسة أو التكبّر أو ادعاء المعرفة أو الانحياز أو الانجرار إلى المغريات أو فقدان الثقة بالأطراف المتصارعة ، أو التسّرع للوصول إلى النتائج ، فالجهل صنو للغرور ، أما المعرفة قرينة التواضع وذلك يعني الاقتراب من الموضوعية والإبتعاد عن الذاتية والأحكام المسبقة.
   أدركُ أن الوساطة عملية شاقة ومعقدة وتحتاج إلى باع طويل لتحديد معالمها ومراحلها وإجراءاتها وصولاً إلى إعلان نتائجها بقناعة من جميع الفرقاء، كما تستوجب التعرّف العميق على الأطراف واحترامها وكسب ثقتها ، مثلما تقتضي "التحكم باللسان وفي الجَنان" أي الحركات والإشارات، أما المصالحة فهي ضرورة اقتناع الجميع بأنه لا أحد يستطيع بناء البلد لوحده، الأمر الذي يقتضي قبول الآخر واحترامه وضرورة وجوده، فضلاً عن التسامح والاعتراف بالخطأ وهو ما اعتمده ولد لبات بمهارةٍ وحكمةٍ وبعد نظر ، وبقدر ما يتم اعتماد قواعد علمية وأكاديمية ووسائل إقناعية، فإنه يحتاج إلى فهم اجتماعي وثقافي وديني لطبيعة المجتمع وتراكيبه المختلفة بطبقاته وفئاته الاجتماعية وأديانه وقومياته ولغاته وتاريخه بما فيه نقاط قوته وضعفه في الآن، أي وضع  خريطة مشاكله على بساط البحث القديمة منها والراهنة ، إضافة إلى تصور بعض تضاريسها المستقبلية، وهو ما فعله الكاتب بجدارة  في وساطته السودانية الملقّحة بتجارب كونية.
-5-
   ذكّرتني اللغة الموسوعية التي كتب بهذا السفر بالصديق باهي محمد الذي أسماه الروائي عبد الرحمن منيف "عروة الزمان"، الصحراوي الجميل التي تنقّل في العالم العربي حاملاً لواء العروبة والوحدة والتحرر : من موريتانيا إلى الجزائر ومنها إلى بغداد ودمشق، فالمغرب وكان مستقره باريس التي كان يجوبها مشياً على الأقدام ، متاعه بضعة كتب وحفنة قصائد وذاكرة ذهبية، ولكن قبل كل شيء محبة لا حدود لها للناس والأصدقاء والثقافة ، مثلما هي محبة الأصدقاء له، وحاول ولد لبات كسب ثقة الفرقاء ، بل ومحبتهم وإقرارهم بالدور الإيجابي النزيه الذي يقوم به .
   المصالحة هو ما نحتاجه في عالمنا العربي وهي تبدأ من رياضة روحية مع النفس لتنتقل إلى الآخر، جوهرها التسامح وقبول الآخر وحلّ الخلافات باللاّعنف، ولو قدّر لي أن أرشح كتاباً للقراءة قبل كل حركة تغيير أو احتجاج شعبي يستهدف التحوّل الديمقراطي، لرشّحت كتاب "السودان- الطريق إلى الوساطة" الذي هو بمثابة دليل عمل ومرشد بما قدّمه من إطارات لحلول بعضها كان مستعصياً أو أن التوصل إليها  كان صعباً ومعقداً ولم يمرُّ بسلاسةٍ، بل هو أقرب إلى الإستحالةِ كما تصوّره البعض، وإذا به من خلال التفاهمات والتوافقات والثقة يصبح ممكناً ، بل واقعاً .
نشرت في مجلة المستقبل العربي، العدد 510، السنة 44، آب/ أغسطس 2021

   المؤلف        :    محمد الحسن ولد لبات
   عنوان الكتاب :    السودان: على طريق المصالحة
   إصدار          :    المركز الثقافي للكتاب
                   بيروت ، الطبعة الأولى ، 2020
                  423 صفحة من القَطع الكبير.
   

60
العدالة الانتقالية الدولية

عبد الحسين شعبان
لم يتبلور مفهوم "العدالة الانتقاليّة الدوليّة" بعد، ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي المعاصر. ولم تفلح جهود ومبادرات الدول المتضررة في إقناع المجتمع الدولي لتبنيّ هذا المفهوم.  كما أن المجتمع المدنيّ في هذه الدول لم يبادر، بما فيه الكفاية، في إطار دبلوماسية شعبية موازية للدبلوماسية الرسمية لينشأ رأياً عاماً ضاغطاً يكون أقرب إلى محكمة ضمير.
وكانت ألمانيا قد اعترفت بماضيها الاستعماري في غزو ناميبيا، وفرنسا بمسؤولياتها عن الإبادة في رواندا 1994. كما أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون اعترف في 3 مارس/آذار2021 بوجود انتهاكات وتعذيب في الجزائر راح ضحيته المحامي علي بومنجل على يد الجيش الفرنسي وهو جزء من مطالبات جزائرية باعتذار فرنسي، كما اعترفت بلجيكا بجريمة اختطاف آلاف الأطفال مختلطيّ العرق خلال الحقبة الاستعمارية، وكذلك أقرت هولندا بمسؤولياتها عن تجارة الرقيق خلال الحقبة الاستعمارية. كل ذلك يجعل من التحرّك لتقنين فكرة العدالة الانتقالية الدولية ضرورة ملحة لتنقية العلاقات الدولية، وخصوصاً لحلّ المشاكل التاريخية العالقة.
تقوم فلسفة العدالة الانتقالية على خمسة مبادئ رئيسية:
أولها، كشف الحقيقة، فما الذي حصل وكيف ولماذا؟ إضافة إلى معرفة الظروف التي تمت بها تلك الارتكابات.
ثانيها: المساءلة للمرتكبين الذين أصدروا الأوامر أو قاموا بالتنفيذ.
 ثالثها، جبر الضرر المادي والمعنوي لإبقاء الذاكرة حيّة، خصوصاً بإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة مثل المدارس والمكتبات والنوادي والساحات والشوارع، وإقامة نصب تذكارية، كي لا تذهب تلك الذكريات الماسأوية إلى دائرة النسيان، بل تبقى في دائرة الضوء والذاكرة.
رابعها، تعويض الضحايا أو عوائلهم عما لحق بهم من أذى وألم وغبن وأضرار.
خامسها، إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية كي لا يتكرر ما حصل.
ويترّكز الهدف في جانبين، الأول: في عدم إفلات المرتكبين من العقاب لأن مثل تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، والثاني: تحقيق المصالحة بمعناها الشامل عبر إجراءات قانونية وقضائية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها، وبالطبع فليس هدف العدالة الانتقالية الانتقام، وإلاّ ستكون عدالة انتقامية، وإنما هو الوصول إلى تسويات مجتمعية لتحقيق التعايش السلمي وترميم الحياة السياسية وفقاً لمبادئ التسامح والسلام ونبذ استخدام العنف وسيلة لحل الخلافات واحترام حقوق الإنسان.
وإذا كانت تطبيقات العدالة الانتقالية بدأت بُعيد الحرب العالمية الثانية وتطورّت خلال نصف القرن الماضي حيث اغتنت بتجارب العديد من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وبعض البلدان العربية ولاسيما المغرب، فإن هذا المفهوم يكتسب بُعداً دوليّاً اليوم، بمعنى أنه لا يشمل الارتكابات التي حصلت داخل دولة ما، بل ارتكابات قامت بها دولة ضد شعب أو مجتمع في دولة أخرى.
المقصود بذلك معالجة آثار الانتهاكات والتجاوزات والجرائم لحقوق الإنسان على المستوى الدولي، والهدف هو ذاته الذي جسدته مبادئ العدالة الانتقالية على المستوى الوطني، ويتلّخص بالوصول إلى المصالحة الشاملة وتنقية الحياة بين الدول وترميم علاقاتها  وتحسينها بحلّ المشاكل الناجمة عن ارتكابات الماضي بسبب الهيمنة الاستعمارية أو الإحتلال أو الحروب أو النزاعات التي سببّت إلحاق الضرر بشعوب البلدان التي تعرّضت للانتهاك.
ويمكن الإشارة إلى مبادرة مغربيّة رائدة جديرة بالتقدير، فمنذ عقد ونيف من الزمن ينشط "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلام"، للوصول إلى صيغة تتبنّاها مؤسسات المجتمع المدني في الدولة المنتهَكَة حقوقها وفي الدول المنتهِكَة للحقوق، وذلك ضمن حراك حقوقي وقانوني دولي. تم التعبير عنه في "إعلان طنجة" كخلفيّة تأصيليّة لمدونة بإشراك الفرقاء من الطرفين على قاعدة المشترك الإنساني وحقوق الإنسان.
والمبادرة، التي حظيت اليوم بدعم جهات حقوقيّة مغربية هي "المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والمركز المغربي للديمقراطية والأمن" لا تبحث في الماضي، بل هي بحث في المستقبل بهدف إجلاء صورة الماضي الذي شهد تاريخاً مشتركاً لعلاقات غير متكافئة، سواء مع إسبانيا أو فرنسا، وذلك باقتراح وسائل وسُبل جديدة لحلّ الخلافات على أساس حقوقي وإنساني توّفره مبادئ العدالة الانتقالية الدولية. ويتطلّب ذلك الاعتراف بالأخطاء والممارسات السلبية والانتهاكات، والعمل على تحديد المسؤولية وجبر الضرر والتعويض وإصلاح النظام القانوني والعلاقات بين الفرقاء.
ولا يستهدف الأمر مساءلة الشعوب وتحميلها وزر السياسات الاستعمارية أو محاولات الهيمنة والاستعلاء والعنصرية وفرض الاستتباع والخضوع على الآخر، إنما يتطلّب نزع صاعق التفجير بتسوية إنسانية وقانونية عادلة بإنضاج الظروف المواتية لتقبّل حلول طويلة الأمد على أساس المصالحة وليس الانتقام أو الثأر.
ويحتاج ذلك إلى جهد ونشاط واسعين لقطاعات المجتمع المدني كافة والفاعليات الثقافية والأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية لخلق رأيّ عام دولي لبلورة مفهوم العدالة الانتقالية الدولية ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي.
ويمكن اقتراح مشروع اتفاقية دولية تتبنّاها الجمعية العامة للأمم المتحدة تبادر إليه الدول المتضررة كجزء من تحرّك دبلوماسي وقانوني، يسهم فيه المجتمع المدني، كمُكمّل للدبلوماسيّة الرسمية في إطار مرجعية استباقية ووقائية لترصين القيم الإنسانية والحوكمة الرشيدة على المستوى الكوني.








61
الشاعر حسن عبد الحميد
ومجموعته الشعرية "حين تنكَرّ الموج ... لضحكات القوارب"

مقدمة بقلم : عبد الحسين شعبان*



"نحتاج إلى الفن حتى لا تميتنا الحقيقة"
نيتشه

   يُعرف الشاعر من نبرته الأولى حين يغتسل بالضوء في خيال أصيل متسلّقاً الغيمة، ملتمساً قمراً وردياً بغواية عين مدربّة على النظر خارج حدود المألوف، حيث تُعزف عند جداول الرغبة الموسيقى بأصوات مرئية  ليشرئب النرجس والجمال في صهوة التشهّي والحضور.
   "حين تنكرّ الموج ... لضحكات القوارب" هو عنوان مجموعة شعرية لحسن عبد الحميد طلب مني أن أكتب مقدمة لها ؛ ومع أننّي أعرفه فناناً وإعلامياً وناقداً ومختصاً بعلم النفس وكاتب قصص للأطفال، إلاّ أنني فوجئت به شاعراً ، له صوته الخاص مثلما لقصيدته رائحتها المتميّزة بلغتها المتوهجة مثل موجات البحر وموسيقاه، فاللغة ليست مجرد أداة حسب مارتن هايدغر، بل إنها ما يضمن "الموجود" في إطار الوجود بما تمتلكه من دلالة وتحقّق.
   وكان آخر ما كتبه حسن عبد الحميد وأثار إنتباهي قصيدة إثر حادث انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) 2020 والموسومة "آه ... بيروت"، حين تفجرّت لحظتها في داخله مشاعر حادة ، بل ينابيع دفّاقة من الألم والحزن، ذلك الذي يدفن الغبطة والرجاء، ويكفّن الكرامة والفرح، هذا الذي تطاير حتى غاب مع الأشلاء والثياب.
   ولأنه إنسان حساس وشاعر تدهشه أي لفتة إنسانية فقد تأثر إلى حدود كبيرة يوم جاء إلى بيروت للدراسة في جامعة اللاّعنف، وكانت دهشته تكبر ساعةً بساعة، خصوصاً حين ارتبط بعلاقة حب معطّر مع بيروت غائصاً في تلابيبها باحثاً في حقل اللؤلؤ عن الجمال والسلام والأمل،في تلك المدينة التي ما أن تدخلها حتى تشعر بنثيثها اللذيذ وريحها الخفيفة المنعشة، التي عادة ما تسبق المطر وتفوح منها رائحة زكيّة تملأ الحارات والمقاهي والأمكنة والكتب .
   وبالرغم مما عانته المدينة من استلاب معتّق، لكنها ظلّت بحروفها المنيرة تتهجّى قصائد الحب وتلوذ بالعشق وهو ما يظهر على الوجوه وفي الشفاه والكؤوس وما بين السطور، باستثنائية عجيبة.
   بأبعاد روحية وأثر عقلي وانفعال حسّي كتب حسن عبد الحميد قصيدته البيروتية، تلك التي كان يريد فيها أن يؤاخي بين الجرح والحلم والبحر والبرق والبحر والغابة والبحر والجبل والبحر والتاريخ، في "أحلى مدن الله / حتى أضحى بَهاء الكون سكونْ" ، وبهذا الكبرياء والخشوع في آن ، أراد أن يعبّر عن هول الحقد " وما قدمت به نيران الشر/ وجلجلة  الطاغوت في إدانة للكراهية والقسوة وأدواتهما التي حرثت أرض الفجيعة والألم، لحجب الشمس والبحر "وصباحات أغاني ... فيروز " .
   ليس ذلك سوى تبشيع ساخر من القدر اللعين حسب شكسبير ومن سخرية التاريخ وفقاً لماركس "بيروت/وجع الروح.../حين تنوح.../بنايات البوح/وتخطّ على جدران العالم، لبنان.../أبقى/ لبنان أبقى/ لبنان أبقى/ لبنان حيٌ ... لا يموت".
    مثلما اهتزّت بيروت كانت القصيدة ترتعش بين أصابع حسن عبد الحميد، بل إن سبابته ارتفعت بوجه الريح تخاطب السفائن المهاجرة والمهجورة التي حاولت أن تفتح أشرعتها في بحر ملغوم أتعبه ضوضاء وهموم  وضباب موهوم.
   وعلى الرغم من كل ما حصل فقد ظلّت بيروت التي لا يمكن إلاّ أن تُدخلك في تفاصيلها وتُشاركك في أحلامها، حين تهطل فيها السماء ورداً وعطراً، لتسقي فيه حدائق الروح وبساتين الأمل ، حيث الدروب مفتوحة إلى الشمس وأمواج البحر والحساسين الجميلة وأشجار البلوط واللوز والكستناء.
   من لم يبكِ بيروت فلا قلب له ومن عاشها ولم يحبّها لا عقل له، تلك المدينة الأليفة التي تحتضن الغرباء والمثقفين والمتمردّين والصعاليك وترفع راية العز والإعتراض، التي لم تتعلّم إلاّ أن تقول "لا"، وكأن حسن عبد الحميد حين يبكي بيروت يريد أن يقتفي أثر الشاعر الإسباني الكبير لوركا الذي يقول "أنا الظل الهائل لدموعي" فبكى نفسه وبكى بيروت، البشر والشجر والحجر.
   ولعلّ أغلب قصائد مجموعة حسن عبد الحميد تسير على هذا النسق من الرهان محاولة تعميد شجرة الذاكرة بماء المعرفة المتراصفة مع الوعي لتتخذ من الحدث مُرتكزاً في ترسلّه لاختراق خلجات الشاعر في قاعها وكينونتها وأفقها .
   توزعت المجموعة إلى نصوص مكتوبة بين عامي 2016 ومنتصف 2020، وجاءت قصائدها  مسكونة بهواجس التشبّث بالحياة أمام جائحة كورونا "كوفيد - 19" حيث داهم الفايروس الغامض والمخيف البشر في كل مكان، وقد كتب معظمها في عنكاوا (إربيل) التي يقول عنها "إنها بلدة لها سطوة الحضور" وفيها نصوص مهداة إلى زها حديد ويتداخل فيها الشعر بالنثر برؤى صوفية أحياناً من بغداد إلى بيروت ومن بيروت إلى بغداد.
      ... لك ترجمان الشعر
         يتمايل مطراً
      ... حين تفصحين
                        عمّا خبأت لؤلؤات الشوق
                       من بيروت ... إلى بوابة الدنيا
                                         !!... بغداد
   
   إن مجموعة حسن عبد الحميد "حين تنكّر الموج... لضحكات القوارب"  وقصيدة  "آه ... بيروت"  هي رسالة وفاء وحب إلى بيروت المدينة العصيّة التي ستنهض مثل طائر الفينيق من بين الرماد وحسب بابلو نيرودا "قد يقتلون الأزهار كلّها لكنهم لم يمنعوا حلول الربيع"، إنها كتابة بالروح، بل بالدم والقلب والعقل.

   وقال لي بين النطق والصمت
          برزخٌ فيه
    قبر العقل
   وفيه قبور الأشياء
   حسبما يقول النِفري،ولعل حياتنا ستكون أكثر سقماً لولا الشعر، فهو النبع والرؤية والحلم.

 ـــــــــــــــــــــ
*مفكر وأديب وناقد، عضو إتحاد الكتاب العرب (دمشق) وعضو إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين (بغداد) - له نحو 70 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والمجتمع المدني والثقافة والأدب، حائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - 2003).(نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان - بيروت ) ورئيس مجلس أمناء المعهد العربي للديمقراطية (تونس)  -الناشر

*وقّع الشاعر مجموعته في احتفالية افتتاح صالون 15 الذي أسستهُ الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار في بيروت (2-8-2021)

62
عبد الحسين شعبان يكتب: الانتخابات العراقية والخريطة السياسية

28 تموز/ يوليو 2021
موقع الأمصار
أربك القرار الذي اتخذه السيد مقتدى الصدر المشهد السياسي والانتخابي وذلك بالإعلان عن عدم ترشيح تياره للانتخابات نظراً لما يتمتع به من نفوذ شعبي، خصوصاً في الوسط الشيعي فضلاً عن امتلاكه فصيلاً مسلحاً منضوياً في إطار الحشد الشعبي باسم “سرايا السلام”.
وقد جاء ذلك الإعلان بعد حريق مستشفى الحسين في الناصرية الذي أودى بحياة نحو 100 قتيل وجريح، وبعده تفجير مدينة الصدر، وقبلهما حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد، إضافة إلى ذلك مقتل الناشط المدني إيهاب الوزّاني، رئيس تنسيقية الاحتجاجات في مدينة كربلاء، في 8 مايو/أيار2021 الأمر الذي أثار موجة غضب شديدة في الشارع العراقي.
وكان الوزاني قد نجا في وقت سابق من محاولة اغتيال قُتل على إثرها زميله فاهم الطائي (ديسمبر/كانون الأول 2019). وقد نفّذ الهجوم مسلحون يستقلّون دراجات نارية وبأسلحة مزودة بكاتم للصوت. كما تعرّض صحافي مدني يدعى “أحمد حسن” في مدينة الديوانية بجنوب العراق إلى حادث اغتيال، بعد 24 ساعة من اغتيال الوزّاني، أصيب على إثره بجروح خطيرة.
وباستثناء تفجير مدينة الصدر التي أعلن “داعش” عن مسؤوليته، لم تدعِ أية جهة مسؤوليتها عن تلك الأعمال. كما لم تكشف التحقيقات الحكومية واللجان التي شكّلتها عن هوّية المرتكبين والجهات التي تقف خلفهم، ليتسنّى تقديمهم إلى العدالة، وهو الأمر الذي ظلّت حركة الاحتجاج التشرينيّة التي اندلعت في العام 2019 تطالب به، خصوصاً وقد سقط فيها أكثر من 600 شهيد ونحو 20 ألف جريح، من دون أن تظهر أي نتائج لمعرفة حقيقة ما حصل. وما زال الجناة طلقاء ومستمرون في ارتكاباتهم طالما يتم الإفلات من العقاب.
المزاج الشعبي
أثرّت هذه الحوادث على المزاج الانتخابي المتعكّر بالأساس، والمشحون بهواجس ومخاوف ومحاذير جراء انفلات السلاح وتغوّل الميليشيات على الدولة، حيث تشهد بغداد بين الفينة والأخرى استعراضاً للعضلات تقوم به المجاميع المسلحة لإبراز قوتها، كجزء من الحراك الانتخابي، وكرسائل إلى الآخرين لأخذ وجودها بالاعتبار كواقع ملموس؛ يُضاف إلى ذلك استمرار ظواهر هيمنة “المال السياسي” و”مراكز النفوذ” التي كوّنتها المجموعات الحاكمة داخل أجهزة الدولة ومع بعض القوى التقليدية الدينية والعشائرية، فضلاً عن النفوذ الإقليمي والدولي الداعم الاستقطابات السياسية.
وأعطى مثل هذا الأمر انطباعاً بأن نتائج الانتخابات سوف لا تكون أفضل من سابقاتها، أي أن التغيير الذي راهن ويراهن عليه البعض بمن فيهم محتجي تشرين، ما زال بعيد المنال، وهو رأي أخذ يتردد بصوتٍ عالٍ. فالبيئة السياسية والأمنيّة ما تزال غير آمنة لإجراء انتخابات حرّة نزيهة، وبإشراف دوليٍّ مُحْكمٍ. وقد عز مثل هذا الرأي انسحاب الصدر وإعلانه عدم ثقته بالحكومة المقبلة والحكومة الحالية.
ومن الطبيعي أن تحذو حذو الصدر قوى أخرى كان أولها الحزب الشيوعي الذي كان متحالفاً مع تيار الصدر في إطار كتلة “سائرون”، فأعلن عن مقاطعته الانتخابات لعدم توفر الظروف المناسبة لانتخابات حرة نزيهة، وفي الغالب سيقتفي إثر قرار الصدر قوى أخرى، خصوصاً إن لم يتراجع عن موقفه، علماً بأن الأوضاع العامة ازدادت سوءًا والحالة المعيشية والصحية والأمنية مستمرة بالتدهور.
يستند أصحاب وجهة النظر هذه إلى أن البيئة التشريعية القانونية والأداء البرلماني هما دون مستوى الحد الأدنى المطلوب، كما أن الإدارة الانتخابية غير مستقلة، والمقصود بذلك المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فلا الجهاز القضائي يملك قراره بالكامل، ولا حتى المرشّح متحرّراً من التأثيرات والناخب هو الآخر عرضة لمختلف الضغوطات، كما أن الرقابة لمنظمات المجتمع المدني والأطراف الدولية ليست على درجة من الفاعلية لإنجاز انتخابات نزيهة وحرة، على الرغم من تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن توفير رقابة دولية فعالة وذلك خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض”جولة الحوار العراقي – الأمريكي الرابعة، واشنطن في تموز/ يوليو 2021”.
فقد كانت التجارب الانتخابية جميعها مُرّةً وطالتها يد التزوير، إلى درجة عزوف المواطن عنها الانتخابات الأخيرة، حيث لم يشارك أكثر من 20٪ من الذين يحق لهم الانتخاب في التقديرات المتفائلة.

دعوات مبكرة للمقاطعة
لهذه الأسباب، برزت دعوات لمقاطعة الانتخابات، حتى قبل حصولها، بوصفها “غير شرعيّة”، بل وصل الأمر إلى وصم العملية السياسية برمّتها بأنها “غير شرعية”، خصوصاً باستمرار النفوذ الإيراني والأمريكي، وتأثيرهما المباشر على القوى والمجموعات السياسية، ناهيك عن استمرار ظاهرة السلاح المنتشر خارج نطاق القانون وعدم تلبية مطالب “حركة تشرين” بمساءلة المتسببين في هدر دماء المحتجّين.
وعلى الرغم من إعلان قوى وشخصيات عن مقاطعاتها للانتخابات فإن الاستعدادات قائمة على قدم وساق، وغالبية القوى السياسية، وخصوصاً منظومة 9 أبريل/نيسان المشاركة في العملية السياسية منذ العام 2003 ما تزال تعتبرها الوسيلة الوحيدة والمضمونة للمنافسة، وهي ما تعوّل عليه، كما أن بعض الشباب في الحراك التشريني لم يجدوا وسيلة سواها للتغيير، لذلك حاولوا تجميع أنفسهم لخوض الانتخابات لمنافسة القوى المهيمنة، لأن مقاطعتها ستعيد القوى القديمة التي صادرت المشهد السياسي واستحوذت على الامتيازات إلى مواقعها، وهي على معرفة ودراية وخبرة بعد تجارب انتخابية أربعة، فضلاً عن وجودها بدواونيّة الدولة وبيروقراطيتها وتمتلك المال والسلاح.


الكاظمي والترشيح
هل سيبقى الكاظمي في رئاسة الوزارة لو تم تأجيل الانتخابات إلى أجل معلوم أو مجهول؟ سؤال يراود الباحث والمحلل، خصوصاً بعد إعلان الصدر عن عدم المشاركة بالانتخابات. وحتى ولو جرت الانتخابات هل يمكن تشكيل حكومة في ظل معارضة لأكبر كتلة سياسية في العراق؟ علماً بأن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أعلن عدم ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية، وهو ما يُحسب له.
كما أن اختياره لموقعه جاء في ظرف سياسي ملتبس ومريب كمرشح تسوية لعدم تمكّن القوى المهيمنة على السلطة من التوصل إلى مرشح بديل بعد “إقالة” أو “استقالة” حكومة عادل عبد المهدي. وفي ظل تصاعد الصراع الأمريكي- الإيراني وانعكاساته عراقياً، وعلى الرغم من وعوده خلال العام المنصرم، بضبط السلاح المنفلت ومنع استهداف السفارات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية، والأمريكية خصوصاً في المنطقة الخضراء، ووضع حد للفساد ومحاسبة المفسدين وتهيئة بيئة مناسبة لإجراء انتخابات مبكّرة، إلا أنه لم يتمكّن من التقدم جدّياً على هذا الطريق، وظل يقدّم خطوة ويؤخّر أخرى. فما الذي سيحصل؟ وكيف ستتوزّع الخريطة السياسية الانتخابية، والتحالفات التي ستعقبها؟
وكان من المقرّر إجراء الانتخابات يوم 6 يونيو/حزيران، إلّا أن ثمة أسباب فنية (عدم تهيئة البنية التحتية للانتخابات) ومالية (تأخر إقرار الميزانية) وقانونية (عدم اكتمال تشكيل المحكمة الاتحادية) وسياسية تتعلق برغبة بعض القوى الفاعلة، أو عدم استعدادها الكافي، حال دون إجرائها، فتمّ تأجيلها إلى يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، علماً بأن هناك من يشكّك بإمكانية إجراء الانتخابات أصلاً في ظل الأوضاع المعقدة، وحسب الدستور، فإن الموعد الاعتيادي للانتخابات هو كل أربع سنوات، وسيصادف في الربع الأول من العام 2022، أي بعد أقل من 6 أشهر من الموعد الثاني الذي من المقرر إجراء الانتخابات فيه.
ومع إغلاق باب الترشيح، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أنها صادقت على 44 تحالفاً و267 حزباً، حيث بلغ عدد المرشحين 3523 مرشحاً، منهم 1002 مرشحاً عن التحالفات و1634 عن الأحزاب، أما عدد المرشحين المستقلين فهو 887، ومن ضمن المجموع الكلي للمرشحين روعيَت الكوتا النسائية بواقع 25 بالمائة، أي 963 امرأة، علماً بأن 25 مليون عراقي يحق لهم المشاركة في الانتخابات المقبلة في 83 دائرة انتخابية لاختيار 329 نائباً، وفقاً للقانون الجديد الذي يأخذ بمبدأ الفوز بأعلى الأصوات.
الدورة الخامسة
يُذكر أن الانتخابات الحالية هي الخامسة وتقرّرت على وقع الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسوء الإدارة وتدهور الخدمات، وتفشي الفساد، واستشراء البطالة، وتردي الواقع المعيشي والحياتي، خصوصاً في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والمذهبي. وكانت الانتخابات الأولى والثانية قد أُجريت في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق (2005 و2010). أما الانتخابات الثالثة، فقد نُظِّمت في العام 2014، وأعقبتها الانتخابات الرابعة في العام 2018.

صورة المشهد الانتخابي
كيف سيكون المشهد الانتخابي في انتخابات العام 2021؟ وهل ما تزال تدور في فلك “الترويكا” (الشيعية – السنّيّة – الكردية)، أم ثمة تغييرات ستجري عليها؟ ولكي نقرأ تضاريس الخريطة الانتخابية وطوبوغرافية التحالفات في ظل المنافسة الماراثونية، يمكن أن نقرأ جدول القوائم والكتل الانتخابية، كما يأتي. وقبل أن نحدد معالم القوى المتنافسة لا بد من القول أن غياب التيار الصدري ستكون له انعكاسات سلبية على توازن القوى. أما القوى الحالية فهي:
القوائم الشيعية، وتضم:
كتلة سائرون بقيادة السيد مقتدى الصدر، وهي الكتلة الأكبر في البرلمان الحالي، وكانت تطالب “بأحقيتها” في تولّي منصب رئاسة الوزراء، ويعتبر الصدر الرقم الأصعب في المعادلة الشيعية والرقم الصعب في المعادلة السياسية العراقية عموماً. وذلك قبل مقاطعته الانتخابات.
كتلة الفتح بقيادة هادي العامري وقيس الخزعلي، أي حركتي بدر وصادقون، وهي من الكتل القويّة المقرّبة من طهران، وتمتلك إمكانات مالية واقتصادية وعسكرية، وتعلن رفضها المباشر لبقاء القوات الأجنبية في العراق، استناداً إلى قرار البرلمان الذي اتخذه في مطلع العام 2020، وهي من القوى التي لها حضور كبير في الحشد الشعبي.
كتلة دولة القانون، بقيادة نوري المالكي، رئيس الوزراء لدورتين (2006 – 2014)، ومعه حزب الدعوة، إضافة إلى حزب الله العراقي، المقرّب من إيران أيضاً، والذي يعتبر قوة مسلحة ضاربة وجزء من الحشد الشعبي.
تيار الحكمة، برئاسة السيد عمّار الحكيم، المتحالف مع كتلة النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (أحد أجنحة حزب الدعوة الإسلامية)، وكتل صغيرة أخرى، وقد سجّل في رصيد العبادي تمكّنه من إلحاق الهزيمة بداعش في نهاية العام 2017، مع ملاحظة نقد الكرد لموقفه من استفتاء كردستان الذي دعا إليه مسعود البارازاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني وربما كان ذلك أحد أسباب عدم توليه دورة رئاسية جديدة.
المجلس الإسلامي الأعلى، بقيادة همام حمودي، بالتحالف مع منظمة العمل الإسلامي، وقد تراجع أداءه بعد تأسيس تيار الحكمة من جانب السيد عمار الحكيم وخروجه من المجلس الذي كان يترأسه.
وهكذا فإن المشهد الشيعي أصبح متشظّياً ومفتتاً، بعدما كان موّحداً، يحتل أكثر من نصف البرلمان ككتلة قوية، لا سيّما عند تأسيسه باسم “البيت الشيعي” (2005). وسيزداد ضعفاً إذا ما غاب تيار مقتدى الصدر.

 
القوائم السنّيّة
وتتوزّع على ثلاث تجمّعات أساسية:
الكتلة الأنبارية، بزعامة رئيس البرلماني الحالي محمد الحلبوسي، ويسعى لتمثيل السنّيّة السياسية أو جناحها الأكبر وذلك بدعم من الشيعية السياسية والإثنية الكردية السياسية.
كتلة صلاح الدين، وهي تضم بعض سنّة الأنبار بمن فيهم رئيس حزب الحلّ جمال الكربولي، المتفرّع من كتلة الحلبوسي، والملتفّة حول رجل الأعمال خميس الخنجر، الذي يقود تحالف عزم العراق، حيث انضم إليه كتلة سنّة ديالى بقيادة رئيس البرلمان الأسبق سليم الجبوري.
الكتلة الموصلية، ويقودها نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الأسبق أسامه النجيفي، بالتحالف مع رجل الأعمال جمال الضاري (المشروع الوطني للإنقاذ).
وهكذا، فإن المجموعة السنّيّة هي الأخرى متشظّية وغير موحّدة، بل أنها مختصمة.
القوائم الكردية
قائمتان رئيستان، تتوزعان تقليدياً وتاريخياً بين حزبين أساسيين، أولهما: الحزب الديمقراطي الكردستاني، وثانيهما: الاتحاد الوطني الكردستاني.
أما الكتل الانتخابية فهي:
تحالف كردستان بقيادة لاهور شيخ جنكي ويضم الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير “كوران” التي أسّسها القيادي الكردي ناوشيروان مصطفى والتي تعتبر قطباً جديداً سرعان ما حفر له أساساً في إطار التيار الكردستاني.
كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتضم مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي تدور في فلكه، وله نفوذ واسع، حيث يمثّل نجيرفان البارزاني رئاسة الإقليم ومسرور البارازاني رئاسة وزراء الإقليم.
الحركة الإسلامية الكردستانية، أعلنت مقاطعة الانتخابات لعدم وجود ضمانات كافية لانتخابات نزيهة.
الكتل خارج الترويكا
ائتلاف الوطنية بقيادة إياد علّاوي، رئيس الوزراء الأسبق، المتحالف مع صالح المطلك (جبهة الحوار)، وقد بدأ نفوذه ينحسر بعد أن حصل على 91 مقعداً في العام 2010، لكنه لم يتمكّن من تشكيل الوزارة التي حاز عليها غريمه نوري المالكي للمرّة الثانية، بقرار من المحكمة الاتحادية حول تفسير مفهوم الكتلة الأكبر في الدستور (قبل الانتخابات أم بعدها)، علماً بأن إيران كانت تعارض تولّيه هذا المنصب. ومن المحتمل بعد انسحاب الصدر قد يتردد في المشاركة بالانتخابات، علما أنه أعلن عدم ترّشحه شخصياً.
قوى مدنيّة أخرى
هناك مجاميع وقوى مدنية غير منتمية إلى الترويكا، ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي الذي كان متحالفاً مع السيد الصدر في إطار كتلة سائرون، وفاز في انتخابات 2018 بنائبين، لكنهما استقالا بعد حركة تشرين الاحتجاجية، وقد تحالف لخوض هذه الانتخابات مع كتل صغيرة أخرى. ولكنه انسحب بعد مقاطعة تيار الصدر. وهناك بعض الكتل التي تمثّل مجاميع إثنّية أو دينيّة، فضلاً عن مرشحين مستقلين فرادى أو متحالفين مع كتل أخرى، سواء في إقليم كردستان أو في عموم العراق، إضافة إلى كتل ومرشحين محليين في محافظاتهم أو مُدُنهم.
الانتخابات ودستور المكوّنات
إذا كان هناك شبه إجماع شعبي على ضرورة التغيير، سواء بالانتخابات أم بغيرها إلّا أنّ هناك طيفاً واسعاً من المجتمع العراقي، أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها، فضلاً عن انتشار السلاح خارج دائرة القانون والعدالة، ووجود الميليشيات والتنمّر على الدولة، العاجزة عن لجم أعمال الانفلات على الرغم من محاولاتها. وقد أعلنت بعض القوى مقاطعتها للانتخابات بعد تمادي القوى المسلحة في استهداف النشطاء وعدم قدرة الدولة على وضع حد لذلك، وهو ما سيؤثر على نتائج الإنتخابات.
وتعتقد هذه القوى أنّ مجرد المشاركة في الانتخابات في ظل النتائج المحسومة سلفاً، سيؤدّي إلى المزيد من الإخفاق ويمنح “الشرعيّة” للقائمين على الحكم في إطار منظومة 9 أبريل/نيسان2003، تلك التي استأثرت بالسلطة ما بعد الاحتلال، والتي مارست نوعاً من الحكم أدّى إلى تشويه الفكرة الديمقراطية، خصوصاً في ظلِّ دستور قام على مبدأ “المكوّنات” التي لا تعني سوى المحاصصة الطائفية الإثنية على حساب المواطنة المتساوية والمتكافئة. وقد وردت عبارة المكوّنات في ديباجة الدستور مرّتان، وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142.
ولعل مثل هذه الرؤية تعني تراجع عمليّة التغيير التي راهنت عليها بعض القوى عبر “خيار الانتخابات” المقبلة بالصورة التي ستجري فيها والآليات التي تعتمدها والتقنيّات التي سارت عليها سابقاً، والظروف غير المطمئنة التي تغرق فيها البلاد، وستعني المشاركة حسب بعض وجهات النظر الشبابية من قادة حركة الاحتجاج تبديداً للتضحيات الجسام، حيث سيصاب المواطن بخيبة أمل مريرة تزيد من معاناته، لأنّ البرلمانات التي أنتجتها الانتخابات السابقة توزّعت بين قوائم وحصص للكتل والجماعات السياسيّة ذاتها دون تغيير يُذكر.
وظلّت الائتلافات الثلاثة “راسخة” بين الشيعيّة السياسيّة التي لها موقع رئاسة الوزراء والسُنّية السياسية التي لها موقع رئاسة البرلمان والكردية السياسية التي لها موقع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً لفريق منها، أمّا الفريق الآخر فله وزارة الخارجية أو وزارة المالية، ناهيك عن التوزيعات الأخرى لبقيّة المواقع التي يُطلق عليها “السياديّة”.

لبننة العراق
إن استمرار صيغة الائتلافات الحاكمة بتدوير طاقمها في إطار زوايا مغلقة يعني تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة، وهو ما يجعلنا نستحضر التجربة اللبنانية لنحو 7 عقود من الزمان، حيث ظلّت تدور داخل الدائرة نفسها، والتي تكرّست بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف العام 1989. وهكذا يتم تكرار تدوير الزوايا على نحو تستطيع كل زواية منها أن تعطل الزوايا الأخرى لما يسمّى بـ”الثلث المعطّل”.
ويبدو أنّ التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي ويضعف من الاندفاع الذي يطالب بالتغيير ويعوّل على الانتخابات كإحدى وسائله، بسبب بقاء القديم على قِدمَه، واستمرار الطبقة الحاكمة بمواقعها، على الرغم من فشلها المزمن في تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق المواطن، في ظلّ استمرار الفساد المالي والإداري وانفلات السلاح واستشراء ظواهر العنف والإرهاب وضعف الدولة بتقديم مرجعيات ما دونها إلى ما فوقها باسم الطائفة أو الدِّين أو العشيرة أو الحزب أو المنطقة أو الجهة، ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وارتفاع معدلات البطالة وازدياد مستويات الفقر والجريمة.
الثورة في صندوق الاقتراع
إذا كان شعار “الثورة في صندوق الاقتراع” فإنّ الأمر يحتاج إلى توفّر مستلزمات ضروريّة سياسيّة وقانونيّة وأمنيّة وإجرائيّة، وفي حالة غيابها سيتم تدوير الزوايا الحادّة، الأمر الذي سيزيد الأزمة العراقيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حدّة، وربما يدفع بالمجتمع العراقي إلى المزيد من القنوط والتشاؤم، لا سيّما في ظل أزمة اقتصادية حادة، وتدهور الخدمات الصحية باستمرار جائحة كورونا، وتراجع مستوى التعليم وازدياد نسبة البطالة والفقر. وهذه العوامل جميعها تساعد على استفحال التعصّب ووليده التطرّف، وحين يتحوّل الأخير إلى سلوك يصبح عنفاً، أي الانتقال من التفكير إلى التنفيذ، وحين يضرب عشوائياً يصير إرهابا وإرهاباً دولياً، إذا كان عابراً للحدود.
لقد حكمت الشيعيّة السياسية لثلاث دورات ونيّف في العراق منذ العام 2005، وكذلك حكمت الإثنية الكُردية إقليم كردستان بالتقاسم بين الحزبين منذ العام 1992، فهل تغيّرت الصورة أم ازدادت تعقيداً؟ إنّ نقطة البدء تكمن في إصلاح النظام القانوني والدستوري بإلغاء كلّ ما من شأنه إعاقة تطبيق المعايير الديمقراطية وإزالة الألغام العمليّة التي تعترض ذلك، ولاسيّما العُرف المعتمد تحت عنوان “التوافق” الذي هو في حقيقته نظام للمحاصصة، ولا بدّ أن يعترف الجميع بوجود الأزمة وأن يُبدو الرغبة في حلّها بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد لتأصيل المواطنة وتعميق الفهم السليم لدور البرلمانيّ باعتباره مشرّعاً ورقيباً لما فيه خدمة المجتمع، وذلك برفع درجة الوعي الحقوقي المجتمعي بأهميّة وظيفة الانتخابات وما ترتّبه من نتائج على صعيد التغيير.


الانتخابات والانتقال الديمقراطي
ظلّت الانتخابات أكثر العناصر تحدّياً وحساسية، سواءً للنظم القائمة أو لعملية الانتقال الديمقراطي، ومن الناحية التحليلية فإن انعكاساتها على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ستكون مؤثرة، وذلك لسببين رئيسين، أولهما: له علاقة بحقوق الإنسان والحرّيات العامة، وخصوصاً الحقوق والحرّيات السياسية المعرّفة بالشرعة الدولية، وثانيهما: فله علاقة مباشرة بالإطار القانوني والإداري لتنظيم الانتخابات ومدى انسجامها أو مقاربتها للمعايير الدولية بما لها من قواعد وآليات وممارسات.
وقد أصبحت الانتخابات، ومنذ هبوب رياح الموجة الثانية العالمية للتغيير في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، في صلب توجهات ومطالب الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وبرامجها، واتخذت بُعداً أكثر ثقلاً ووزناً، لا سيّما بعد عدد من التحوّلات التي جرت على المستوى العالمي، سواء في البلدان الاشتراكية السابقة ذات الأنظمة الشمولية أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية ذات الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، إضافة إلى بعض دول آسيا وأفريقيا.
ومنذ التسعينيات تعاضدت ثلاث عوامل: الأول نجاح التغيير في أوروبا الشرقية؛
الثاني تململات وحركات احتجاج ونجاحات في بعض دول أمريكا اللاتينية؛
والثالث نجاح نيلسون مانديلا في انتخابات ديموقراطية وإنهاء نظام الفصل العنصري الذي دام نحو ثلاثة قرون من الزمان في العام 1994، وبداية مسلسل جديد في هذه البلدان من تجارب العدالة الانتقالية، الأمر الذي أظهر العالم العربي وكأنه خارج سياق التطوّر التاريخي، في حين أصبح التغيير ضرورة لا غنى عنها، وليس اختياراً فحسب، ومعه أصبح الحديث عن الانتخابات والنظم الانتخابية شغلاً شاغلاً لا سيّما لمرحلة الانتقال، خصوصاً بعد ثورة الياسمين في تونس وثورة النيل في مصر.
لقد وصلت ما أطلقنا عليه “الشرعية الثورية”، التي حكمت في بعض البلدان إلى طريق مسدود، فضلاً عن ذلك فإن بقاء الحال من المحال، إذ لم يكن بالإمكان معاكسة التطور التاريخي بالكامل إلى ما لا نهاية، الأمر الذي اقتضى ويقتضي الانتقال إلى الشرعية الدستورية وهذه تتطلب رضا الناس أي الشرعية السياسية، وحكم القانون أي “المشروعية القانونية”.
واستناداً إلى ذلك يمكن القول أنه لا توجد “انتخابات ديمقراطية” دون التمتّع بالحقوق السياسية وهذه الحقوق تعني: الحق في التعبير، الحق في التظاهر، الحق في التجمع، الحق في التنظيم وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والحق في المشاركة، وكذلك لا يمكن قيام انتخابات ديمقراطية في إطار قانون انتخابات غير ديمقراطي أو تعسفي، ولعلّ الكثير من النقد وجه إلى الدستور العراقي والنظام الانتخابي لعدم احترام المعايير والالتزامات الدولية بتنظيم الانتخابات دستورياً وقانونياً، كما هي منصوص عليها في المادة 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ظاهرة تتعلق بالوعي وعدم ثقة المواطن الفرد بالنظام السياسي ككل، لعزوف نسبة كبيرة ممن يحقّ لهم التصويت، لعدم ممارسة حقوقهم والإدلاء بأصواتهم، والأمر لا يخص العراق وحده، بل يشمل العديد من البلدان العربية والبلدان الفقيرة التي تجري فيها انتخابات بنسبة تصويت منخفضة جداً.
__________
الأصل في هذه المادة دراسة للباحث نشرت في "مجلة الديمقراطية" التي تصدر عن مؤسسة الأهرام "القاهرة" عدد تموز/يوليو 2021.

63

28 تموز/ يوليو 2021
أربك القرار الذي اتخذه السيد مقتدى الصدر المشهد السياسي والانتخابي وذلك بالإعلان عن عدم ترشيح تياره للانتخابات نظراً لما يتمتع به من نفوذ شعبي، خصوصاً في الوسط الشيعي فضلاً عن امتلاكه فصيلاً مسلحاً منضوياً في إطار الحشد الشعبي باسم “سرايا السلام”.
وقد جاء ذلك الإعلان بعد حريق مستشفى الحسين في الناصرية الذي أودى بحياة نحو 100 قتيل وجريح، وبعده تفجير مدينة الصدر، وقبلهما حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد، إضافة إلى ذلك مقتل الناشط المدني إيهاب الوزّاني، رئيس تنسيقية الاحتجاجات في مدينة كربلاء، في 8 مايو/أيار2021 الأمر الذي أثار موجة غضب شديدة في الشارع العراقي.
وكان الوزاني قد نجا في وقت سابق من محاولة اغتيال قُتل على إثرها زميله فاهم الطائي (ديسمبر/كانون الأول 2019). وقد نفّذ الهجوم مسلحون يستقلّون دراجات نارية وبأسلحة مزودة بكاتم للصوت. كما تعرّض صحافي مدني يدعى “أحمد حسن” في مدينة الديوانية بجنوب العراق إلى حادث اغتيال، بعد 24 ساعة من اغتيال الوزّاني، أصيب على إثره بجروح خطيرة.
وباستثناء تفجير مدينة الصدر التي أعلن “داعش” عن مسؤوليته، لم تدعِ أية جهة مسؤوليتها عن تلك الأعمال. كما لم تكشف التحقيقات الحكومية واللجان التي شكّلتها عن هوّية المرتكبين والجهات التي تقف خلفهم، ليتسنّى تقديمهم إلى العدالة، وهو الأمر الذي ظلّت حركة الاحتجاج التشرينيّة التي اندلعت في العام 2019 تطالب به، خصوصاً وقد سقط فيها أكثر من 600 شهيد ونحو 20 ألف جريح، من دون أن تظهر أي نتائج لمعرفة حقيقة ما حصل. وما زال الجناة طلقاء ومستمرون في ارتكاباتهم طالما يتم الإفلات من العقاب.
المزاج الشعبي
أثرّت هذه الحوادث على المزاج الانتخابي المتعكّر بالأساس، والمشحون بهواجس ومخاوف ومحاذير جراء انفلات السلاح وتغوّل الميليشيات على الدولة، حيث تشهد بغداد بين الفينة والأخرى استعراضاً للعضلات تقوم به المجاميع المسلحة لإبراز قوتها، كجزء من الحراك الانتخابي، وكرسائل إلى الآخرين لأخذ وجودها بالاعتبار كواقع ملموس؛ يُضاف إلى ذلك استمرار ظواهر هيمنة “المال السياسي” و”مراكز النفوذ” التي كوّنتها المجموعات الحاكمة داخل أجهزة الدولة ومع بعض القوى التقليدية الدينية والعشائرية، فضلاً عن النفوذ الإقليمي والدولي الداعم الاستقطابات السياسية.
وأعطى مثل هذا الأمر انطباعاً بأن نتائج الانتخابات سوف لا تكون أفضل من سابقاتها، أي أن التغيير الذي راهن ويراهن عليه البعض بمن فيهم محتجي تشرين، ما زال بعيد المنال، وهو رأي أخذ يتردد بصوتٍ عالٍ. فالبيئة السياسية والأمنيّة ما تزال غير آمنة لإجراء انتخابات حرّة نزيهة، وبإشراف دوليٍّ مُحْكمٍ. وقد عز مثل هذا الرأي انسحاب الصدر وإعلانه عدم ثقته بالحكومة المقبلة والحكومة الحالية.
ومن الطبيعي أن تحذو حذو الصدر قوى أخرى كان أولها الحزب الشيوعي الذي كان متحالفاً مع تيار الصدر في إطار كتلة “سائرون”، فأعلن عن مقاطعته الانتخابات لعدم توفر الظروف المناسبة لانتخابات حرة نزيهة، وفي الغالب سيقتفي إثر قرار الصدر قوى أخرى، خصوصاً إن لم يتراجع عن موقفه، علماً بأن الأوضاع العامة ازدادت سوءًا والحالة المعيشية والصحية والأمنية مستمرة بالتدهور.
يستند أصحاب وجهة النظر هذه إلى أن البيئة التشريعية القانونية والأداء البرلماني هما دون مستوى الحد الأدنى المطلوب، كما أن الإدارة الانتخابية غير مستقلة، والمقصود بذلك المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فلا الجهاز القضائي يملك قراره بالكامل، ولا حتى المرشّح متحرّراً من التأثيرات والناخب هو الآخر عرضة لمختلف الضغوطات، كما أن الرقابة لمنظمات المجتمع المدني والأطراف الدولية ليست على درجة من الفاعلية لإنجاز انتخابات نزيهة وحرة، على الرغم من تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن توفير رقابة دولية فعالة وذلك خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض”جولة الحوار العراقي – الأمريكي الرابعة، واشنطن في تموز/ يوليو 2021”.
فقد كانت التجارب الانتخابية جميعها مُرّةً وطالتها يد التزوير، إلى درجة عزوف المواطن عنها الانتخابات الأخيرة، حيث لم يشارك أكثر من 20٪ من الذين يحق لهم الانتخاب في التقديرات المتفائلة.

دعوات مبكرة للمقاطعة
لهذه الأسباب، برزت دعوات لمقاطعة الانتخابات، حتى قبل حصولها، بوصفها “غير شرعيّة”، بل وصل الأمر إلى وصم العملية السياسية برمّتها بأنها “غير شرعية”، خصوصاً باستمرار النفوذ الإيراني والأمريكي، وتأثيرهما المباشر على القوى والمجموعات السياسية، ناهيك عن استمرار ظاهرة السلاح المنتشر خارج نطاق القانون وعدم تلبية مطالب “حركة تشرين” بمساءلة المتسببين في هدر دماء المحتجّين.
وعلى الرغم من إعلان قوى وشخصيات عن مقاطعاتها للانتخابات فإن الاستعدادات قائمة على قدم وساق، وغالبية القوى السياسية، وخصوصاً منظومة 9 أبريل/نيسان المشاركة في العملية السياسية منذ العام 2003 ما تزال تعتبرها الوسيلة الوحيدة والمضمونة للمنافسة، وهي ما تعوّل عليه، كما أن بعض الشباب في الحراك التشريني لم يجدوا وسيلة سواها للتغيير، لذلك حاولوا تجميع أنفسهم لخوض الانتخابات لمنافسة القوى المهيمنة، لأن مقاطعتها ستعيد القوى القديمة التي صادرت المشهد السياسي واستحوذت على الامتيازات إلى مواقعها، وهي على معرفة ودراية وخبرة بعد تجارب انتخابية أربعة، فضلاً عن وجودها بدواونيّة الدولة وبيروقراطيتها وتمتلك المال والسلاح.


الكاظمي والترشيح
هل سيبقى الكاظمي في رئاسة الوزارة لو تم تأجيل الانتخابات إلى أجل معلوم أو مجهول؟ سؤال يراود الباحث والمحلل، خصوصاً بعد إعلان الصدر عن عدم المشاركة بالانتخابات. وحتى ولو جرت الانتخابات هل يمكن تشكيل حكومة في ظل معارضة لأكبر كتلة سياسية في العراق؟ علماً بأن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أعلن عدم ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية، وهو ما يُحسب له.
كما أن اختياره لموقعه جاء في ظرف سياسي ملتبس ومريب كمرشح تسوية لعدم تمكّن القوى المهيمنة على السلطة من التوصل إلى مرشح بديل بعد “إقالة” أو “استقالة” حكومة عادل عبد المهدي. وفي ظل تصاعد الصراع الأمريكي- الإيراني وانعكاساته عراقياً، وعلى الرغم من وعوده خلال العام المنصرم، بضبط السلاح المنفلت ومنع استهداف السفارات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية، والأمريكية خصوصاً في المنطقة الخضراء، ووضع حد للفساد ومحاسبة المفسدين وتهيئة بيئة مناسبة لإجراء انتخابات مبكّرة، إلا أنه لم يتمكّن من التقدم جدّياً على هذا الطريق، وظل يقدّم خطوة ويؤخّر أخرى. فما الذي سيحصل؟ وكيف ستتوزّع الخريطة السياسية الانتخابية، والتحالفات التي ستعقبها؟
وكان من المقرّر إجراء الانتخابات يوم 6 يونيو/حزيران، إلّا أن ثمة أسباب فنية (عدم تهيئة البنية التحتية للانتخابات) ومالية (تأخر إقرار الميزانية) وقانونية (عدم اكتمال تشكيل المحكمة الاتحادية) وسياسية تتعلق برغبة بعض القوى الفاعلة، أو عدم استعدادها الكافي، حال دون إجرائها، فتمّ تأجيلها إلى يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، علماً بأن هناك من يشكّك بإمكانية إجراء الانتخابات أصلاً في ظل الأوضاع المعقدة، وحسب الدستور، فإن الموعد الاعتيادي للانتخابات هو كل أربع سنوات، وسيصادف في الربع الأول من العام 2022، أي بعد أقل من 6 أشهر من الموعد الثاني الذي من المقرر إجراء الانتخابات فيه.
ومع إغلاق باب الترشيح، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أنها صادقت على 44 تحالفاً و267 حزباً، حيث بلغ عدد المرشحين 3523 مرشحاً، منهم 1002 مرشحاً عن التحالفات و1634 عن الأحزاب، أما عدد المرشحين المستقلين فهو 887، ومن ضمن المجموع الكلي للمرشحين روعيَت الكوتا النسائية بواقع 25 بالمائة، أي 963 امرأة، علماً بأن 25 مليون عراقي يحق لهم المشاركة في الانتخابات المقبلة في 83 دائرة انتخابية لاختيار 329 نائباً، وفقاً للقانون الجديد الذي يأخذ بمبدأ الفوز بأعلى الأصوات.
الدورة الخامسة
يُذكر أن الانتخابات الحالية هي الخامسة وتقرّرت على وقع الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسوء الإدارة وتدهور الخدمات، وتفشي الفساد، واستشراء البطالة، وتردي الواقع المعيشي والحياتي، خصوصاً في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والمذهبي. وكانت الانتخابات الأولى والثانية قد أُجريت في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق (2005 و2010). أما الانتخابات الثالثة، فقد نُظِّمت في العام 2014، وأعقبتها الانتخابات الرابعة في العام 2018.

صورة المشهد الانتخابي
كيف سيكون المشهد الانتخابي في انتخابات العام 2021؟ وهل ما تزال تدور في فلك “الترويكا” (الشيعية – السنّيّة – الكردية)، أم ثمة تغييرات ستجري عليها؟ ولكي نقرأ تضاريس الخريطة الانتخابية وطوبوغرافية التحالفات في ظل المنافسة الماراثونية، يمكن أن نقرأ جدول القوائم والكتل الانتخابية، كما يأتي. وقبل أن نحدد معالم القوى المتنافسة لا بد من القول أن غياب التيار الصدري ستكون له انعكاسات سلبية على توازن القوى. أما القوى الحالية فهي:
القوائم الشيعية، وتضم:
كتلة سائرون بقيادة السيد مقتدى الصدر، وهي الكتلة الأكبر في البرلمان الحالي، وكانت تطالب “بأحقيتها” في تولّي منصب رئاسة الوزراء، ويعتبر الصدر الرقم الأصعب في المعادلة الشيعية والرقم الصعب في المعادلة السياسية العراقية عموماً. وذلك قبل مقاطعته الانتخابات.
كتلة الفتح بقيادة هادي العامري وقيس الخزعلي، أي حركتي بدر وصادقون، وهي من الكتل القويّة المقرّبة من طهران، وتمتلك إمكانات مالية واقتصادية وعسكرية، وتعلن رفضها المباشر لبقاء القوات الأجنبية في العراق، استناداً إلى قرار البرلمان الذي اتخذه في مطلع العام 2020، وهي من القوى التي لها حضور كبير في الحشد الشعبي.
كتلة دولة القانون، بقيادة نوري المالكي، رئيس الوزراء لدورتين (2006 – 2014)، ومعه حزب الدعوة، إضافة إلى حزب الله العراقي، المقرّب من إيران أيضاً، والذي يعتبر قوة مسلحة ضاربة وجزء من الحشد الشعبي.
تيار الحكمة، برئاسة السيد عمّار الحكيم، المتحالف مع كتلة النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (أحد أجنحة حزب الدعوة الإسلامية)، وكتل صغيرة أخرى، وقد سجّل في رصيد العبادي تمكّنه من إلحاق الهزيمة بداعش في نهاية العام 2017، مع ملاحظة نقد الكرد لموقفه من استفتاء كردستان الذي دعا إليه مسعود البارازاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني وربما كان ذلك أحد أسباب عدم توليه دورة رئاسية جديدة.
المجلس الإسلامي الأعلى، بقيادة همام حمودي، بالتحالف مع منظمة العمل الإسلامي، وقد تراجع أداءه بعد تأسيس تيار الحكمة من جانب السيد عمار الحكيم وخروجه من المجلس الذي كان يترأسه.
وهكذا فإن المشهد الشيعي أصبح متشظّياً ومفتتاً، بعدما كان موّحداً، يحتل أكثر من نصف البرلمان ككتلة قوية، لا سيّما عند تأسيسه باسم “البيت الشيعي” (2005). وسيزداد ضعفاً إذا ما غاب تيار مقتدى الصدر.

 
القوائم السنّيّة
وتتوزّع على ثلاث تجمّعات أساسية:
الكتلة الأنبارية، بزعامة رئيس البرلماني الحالي محمد الحلبوسي، ويسعى لتمثيل السنّيّة السياسية أو جناحها الأكبر وذلك بدعم من الشيعية السياسية والإثنية الكردية السياسية.
كتلة صلاح الدين، وهي تضم بعض سنّة الأنبار بمن فيهم رئيس حزب الحلّ جمال الكربولي، المتفرّع من كتلة الحلبوسي، والملتفّة حول رجل الأعمال خميس الخنجر، الذي يقود تحالف عزم العراق، حيث انضم إليه كتلة سنّة ديالى بقيادة رئيس البرلمان الأسبق سليم الجبوري.
الكتلة الموصلية، ويقودها نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الأسبق أسامه النجيفي، بالتحالف مع رجل الأعمال جمال الضاري (المشروع الوطني للإنقاذ).
وهكذا، فإن المجموعة السنّيّة هي الأخرى متشظّية وغير موحّدة، بل أنها مختصمة.
القوائم الكردية
قائمتان رئيستان، تتوزعان تقليدياً وتاريخياً بين حزبين أساسيين، أولهما: الحزب الديمقراطي الكردستاني، وثانيهما: الاتحاد الوطني الكردستاني.
أما الكتل الانتخابية فهي:
تحالف كردستان بقيادة لاهور شيخ جنكي ويضم الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير “كوران” التي أسّسها القيادي الكردي ناوشيروان مصطفى والتي تعتبر قطباً جديداً سرعان ما حفر له أساساً في إطار التيار الكردستاني.
كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتضم مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي تدور في فلكه، وله نفوذ واسع، حيث يمثّل نجيرفان البارزاني رئاسة الإقليم ومسرور البارازاني رئاسة وزراء الإقليم.
الحركة الإسلامية الكردستانية، أعلنت مقاطعة الانتخابات لعدم وجود ضمانات كافية لانتخابات نزيهة.
الكتل خارج الترويكا
ائتلاف الوطنية بقيادة إياد علّاوي، رئيس الوزراء الأسبق، المتحالف مع صالح المطلك (جبهة الحوار)، وقد بدأ نفوذه ينحسر بعد أن حصل على 91 مقعداً في العام 2010، لكنه لم يتمكّن من تشكيل الوزارة التي حاز عليها غريمه نوري المالكي للمرّة الثانية، بقرار من المحكمة الاتحادية حول تفسير مفهوم الكتلة الأكبر في الدستور (قبل الانتخابات أم بعدها)، علماً بأن إيران كانت تعارض تولّيه هذا المنصب. ومن المحتمل بعد انسحاب الصدر قد يتردد في المشاركة بالانتخابات، علما أنه أعلن عدم ترّشحه شخصياً.
قوى مدنيّة أخرى
هناك مجاميع وقوى مدنية غير منتمية إلى الترويكا، ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي الذي كان متحالفاً مع السيد الصدر في إطار كتلة سائرون، وفاز في انتخابات 2018 بنائبين، لكنهما استقالا بعد حركة تشرين الاحتجاجية، وقد تحالف لخوض هذه الانتخابات مع كتل صغيرة أخرى. ولكنه انسحب بعد مقاطعة تيار الصدر. وهناك بعض الكتل التي تمثّل مجاميع إثنّية أو دينيّة، فضلاً عن مرشحين مستقلين فرادى أو متحالفين مع كتل أخرى، سواء في إقليم كردستان أو في عموم العراق، إضافة إلى كتل ومرشحين محليين في محافظاتهم أو مُدُنهم.
الانتخابات ودستور المكوّنات
إذا كان هناك شبه إجماع شعبي على ضرورة التغيير، سواء بالانتخابات أم بغيرها إلّا أنّ هناك طيفاً واسعاً من المجتمع العراقي، أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها، فضلاً عن انتشار السلاح خارج دائرة القانون والعدالة، ووجود الميليشيات والتنمّر على الدولة، العاجزة عن لجم أعمال الانفلات على الرغم من محاولاتها. وقد أعلنت بعض القوى مقاطعتها للانتخابات بعد تمادي القوى المسلحة في استهداف النشطاء وعدم قدرة الدولة على وضع حد لذلك، وهو ما سيؤثر على نتائج الإنتخابات.
وتعتقد هذه القوى أنّ مجرد المشاركة في الانتخابات في ظل النتائج المحسومة سلفاً، سيؤدّي إلى المزيد من الإخفاق ويمنح “الشرعيّة” للقائمين على الحكم في إطار منظومة 9 أبريل/نيسان2003، تلك التي استأثرت بالسلطة ما بعد الاحتلال، والتي مارست نوعاً من الحكم أدّى إلى تشويه الفكرة الديمقراطية، خصوصاً في ظلِّ دستور قام على مبدأ “المكوّنات” التي لا تعني سوى المحاصصة الطائفية الإثنية على حساب المواطنة المتساوية والمتكافئة. وقد وردت عبارة المكوّنات في ديباجة الدستور مرّتان، وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142.
ولعل مثل هذه الرؤية تعني تراجع عمليّة التغيير التي راهنت عليها بعض القوى عبر “خيار الانتخابات” المقبلة بالصورة التي ستجري فيها والآليات التي تعتمدها والتقنيّات التي سارت عليها سابقاً، والظروف غير المطمئنة التي تغرق فيها البلاد، وستعني المشاركة حسب بعض وجهات النظر الشبابية من قادة حركة الاحتجاج تبديداً للتضحيات الجسام، حيث سيصاب المواطن بخيبة أمل مريرة تزيد من معاناته، لأنّ البرلمانات التي أنتجتها الانتخابات السابقة توزّعت بين قوائم وحصص للكتل والجماعات السياسيّة ذاتها دون تغيير يُذكر.
وظلّت الائتلافات الثلاثة “راسخة” بين الشيعيّة السياسيّة التي لها موقع رئاسة الوزراء والسُنّية السياسية التي لها موقع رئاسة البرلمان والكردية السياسية التي لها موقع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً لفريق منها، أمّا الفريق الآخر فله وزارة الخارجية أو وزارة المالية، ناهيك عن التوزيعات الأخرى لبقيّة المواقع التي يُطلق عليها “السياديّة”.

لبننة العراق
إن استمرار صيغة الائتلافات الحاكمة بتدوير طاقمها في إطار زوايا مغلقة يعني تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة، وهو ما يجعلنا نستحضر التجربة اللبنانية لنحو 7 عقود من الزمان، حيث ظلّت تدور داخل الدائرة نفسها، والتي تكرّست بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف العام 1989. وهكذا يتم تكرار تدوير الزوايا على نحو تستطيع كل زواية منها أن تعطل الزوايا الأخرى لما يسمّى بـ”الثلث المعطّل”.
ويبدو أنّ التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي ويضعف من الاندفاع الذي يطالب بالتغيير ويعوّل على الانتخابات كإحدى وسائله، بسبب بقاء القديم على قِدمَه، واستمرار الطبقة الحاكمة بمواقعها، على الرغم من فشلها المزمن في تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق المواطن، في ظلّ استمرار الفساد المالي والإداري وانفلات السلاح واستشراء ظواهر العنف والإرهاب وضعف الدولة بتقديم مرجعيات ما دونها إلى ما فوقها باسم الطائفة أو الدِّين أو العشيرة أو الحزب أو المنطقة أو الجهة، ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وارتفاع معدلات البطالة وازدياد مستويات الفقر والجريمة.
الثورة في صندوق الاقتراع
إذا كان شعار “الثورة في صندوق الاقتراع” فإنّ الأمر يحتاج إلى توفّر مستلزمات ضروريّة سياسيّة وقانونيّة وأمنيّة وإجرائيّة، وفي حالة غيابها سيتم تدوير الزوايا الحادّة، الأمر الذي سيزيد الأزمة العراقيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حدّة، وربما يدفع بالمجتمع العراقي إلى المزيد من القنوط والتشاؤم، لا سيّما في ظل أزمة اقتصادية حادة، وتدهور الخدمات الصحية باستمرار جائحة كورونا، وتراجع مستوى التعليم وازدياد نسبة البطالة والفقر. وهذه العوامل جميعها تساعد على استفحال التعصّب ووليده التطرّف، وحين يتحوّل الأخير إلى سلوك يصبح عنفاً، أي الانتقال من التفكير إلى التنفيذ، وحين يضرب عشوائياً يصير إرهابا وإرهاباً دولياً، إذا كان عابراً للحدود.
لقد حكمت الشيعيّة السياسية لثلاث دورات ونيّف في العراق منذ العام 2005، وكذلك حكمت الإثنية الكُردية إقليم كردستان بالتقاسم بين الحزبين منذ العام 1992، فهل تغيّرت الصورة أم ازدادت تعقيداً؟ إنّ نقطة البدء تكمن في إصلاح النظام القانوني والدستوري بإلغاء كلّ ما من شأنه إعاقة تطبيق المعايير الديمقراطية وإزالة الألغام العمليّة التي تعترض ذلك، ولاسيّما العُرف المعتمد تحت عنوان “التوافق” الذي هو في حقيقته نظام للمحاصصة، ولا بدّ أن يعترف الجميع بوجود الأزمة وأن يُبدو الرغبة في حلّها بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد لتأصيل المواطنة وتعميق الفهم السليم لدور البرلمانيّ باعتباره مشرّعاً ورقيباً لما فيه خدمة المجتمع، وذلك برفع درجة الوعي الحقوقي المجتمعي بأهميّة وظيفة الانتخابات وما ترتّبه من نتائج على صعيد التغيير.


الانتخابات والانتقال الديمقراطي
ظلّت الانتخابات أكثر العناصر تحدّياً وحساسية، سواءً للنظم القائمة أو لعملية الانتقال الديمقراطي، ومن الناحية التحليلية فإن انعكاساتها على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ستكون مؤثرة، وذلك لسببين رئيسين، أولهما: له علاقة بحقوق الإنسان والحرّيات العامة، وخصوصاً الحقوق والحرّيات السياسية المعرّفة بالشرعة الدولية، وثانيهما: فله علاقة مباشرة بالإطار القانوني والإداري لتنظيم الانتخابات ومدى انسجامها أو مقاربتها للمعايير الدولية بما لها من قواعد وآليات وممارسات.
وقد أصبحت الانتخابات، ومنذ هبوب رياح الموجة الثانية العالمية للتغيير في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، في صلب توجهات ومطالب الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وبرامجها، واتخذت بُعداً أكثر ثقلاً ووزناً، لا سيّما بعد عدد من التحوّلات التي جرت على المستوى العالمي، سواء في البلدان الاشتراكية السابقة ذات الأنظمة الشمولية أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية ذات الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، إضافة إلى بعض دول آسيا وأفريقيا.
ومنذ التسعينيات تعاضدت ثلاث عوامل: الأول نجاح التغيير في أوروبا الشرقية؛
الثاني تململات وحركات احتجاج ونجاحات في بعض دول أمريكا اللاتينية؛
والثالث نجاح نيلسون مانديلا في انتخابات ديموقراطية وإنهاء نظام الفصل العنصري الذي دام نحو ثلاثة قرون من الزمان في العام 1994، وبداية مسلسل جديد في هذه البلدان من تجارب العدالة الانتقالية، الأمر الذي أظهر العالم العربي وكأنه خارج سياق التطوّر التاريخي، في حين أصبح التغيير ضرورة لا غنى عنها، وليس اختياراً فحسب، ومعه أصبح الحديث عن الانتخابات والنظم الانتخابية شغلاً شاغلاً لا سيّما لمرحلة الانتقال، خصوصاً بعد ثورة الياسمين في تونس وثورة النيل في مصر.
لقد وصلت ما أطلقنا عليه “الشرعية الثورية”، التي حكمت في بعض البلدان إلى طريق مسدود، فضلاً عن ذلك فإن بقاء الحال من المحال، إذ لم يكن بالإمكان معاكسة التطور التاريخي بالكامل إلى ما لا نهاية، الأمر الذي اقتضى ويقتضي الانتقال إلى الشرعية الدستورية وهذه تتطلب رضا الناس أي الشرعية السياسية، وحكم القانون أي “المشروعية القانونية”.
واستناداً إلى ذلك يمكن القول أنه لا توجد “انتخابات ديمقراطية” دون التمتّع بالحقوق السياسية وهذه الحقوق تعني: الحق في التعبير، الحق في التظاهر، الحق في التجمع، الحق في التنظيم وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والحق في المشاركة، وكذلك لا يمكن قيام انتخابات ديمقراطية في إطار قانون انتخابات غير ديمقراطي أو تعسفي، ولعلّ الكثير من النقد وجه إلى الدستور العراقي والنظام الانتخابي لعدم احترام المعايير والالتزامات الدولية بتنظيم الانتخابات دستورياً وقانونياً، كما هي منصوص عليها في المادة 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ظاهرة تتعلق بالوعي وعدم ثقة المواطن الفرد بالنظام السياسي ككل، لعزوف نسبة كبيرة ممن يحقّ لهم التصويت، لعدم ممارسة حقوقهم والإدلاء بأصواتهم، والأمر لا يخص العراق وحده، بل يشمل العديد من البلدان العربية والبلدان الفقيرة التي تجري فيها انتخابات بنسبة تصويت منخفضة جداً.
__________
الأصل في هذه المادة دراسة للباحث نشرت في "مجلة الديمقراطية" التي تصدر عن مؤسسة الأهرام "القاهرة" عدد تموز/يوليو 2021.

64
سليم الحص: الضمير والكلمة


"يبقى المسؤول قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه"
سليم الحص

مرّتان قدر لي أن أشارك بهما الاحتفاء بدولة الرئيس سليم الحص، الأولى- حين طلب مني تجمع اللجان والروابط الشعبيّة إلقاء كلمة بمناسبة تكريمه، وذلك في أيار/مايو2012. ومع أنني لم أحضر الاحتفالية إلا أنّني أرسلت كلمة بالمناسبة أرفق نصّها في خاتمة هذه المقالة*.
والثانية، حين قدّر لي أن أشارك في اختيار"المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة" لسليم الحص باعتباره "شخصية حكم القانون والإدارة الرشيدة"، في إطار لجنة ضمّت كلاًّ من د. وسيم حرب، د.عصام سليمان، د. عصام نعمان، د. ساسين عساف، وكاتب هذه السطور، وذلك في العام 2018، وأتشرّف بكوني عضواً في مجلس أمناء المركز.
وقد وضعت هذه اللجنة تقريراً خطياً يستعرض مبادىء ومؤشرات حكم القانون التي تم اعتمادها لقياس أداء الرئيس الحص، ورصد مدى احترامه والتزامه بهذه المبادىء سواء بمواقفه أو قراراته أثناء توليّه المناصب العامة والحكوميّة. وقد بيّن هذا التقرير مدى عمق التزام الرئيس الحص قولاً وفعلاً بمبادئ "حكم القانون".
وكنت قد تابعت باهتمام بالغ مسيرة سليم الحص وهي حافلة بالعديد من المنجزات، خصوصاً حين أصبح رئيساً للوزراء للفترة من 1976 ولغاية العام 2000 حيث رافق كلاّ من رؤساء الجمهورية: إلياس سركيس وأمين الجميّل وإميل لحود، كما شغل وزارات، هي: الصناعة والنفط والإعلام والاقتصاد والتجارة والتربية الوطنية والفنون الجميلة والعمل والخارجية والمغتربين، إضافة إلى انتخابه نائباً عن بيروت لدورتين: في العام 1992 والعام 1996.
وضمن هذا السجل الحافل يُعتبر الحص ابن الدولة وخبيراً معتقّاً بجميع مفاصلها، إضافة إلى عمله في إطار المجتمع المدني بعد تركه العمل في الدولة، حيث شغل عدة مواقع منها رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد التي تأسست في العام 2005 بمبادرة من نخبة من الشخصيات الفكرية والثقافية ودعوة كريمة من د. خيرالدين حسيب ومركز دراسات الوحدة العربية، وكان أمينها العام وما يزال د. عامر خيّاط، ويشرّفني أنني عضو في مجلس أمنائها.
إذا أردنا أن نرسم شكل لبنان العابر للطائفية والمذهبية، فيمكن أن نتخيّل شخصية سليم الحص بما تحمل من نقاء وصفاء سريرة وطيبة، وتلك تمثّل ملامح لبنان الذي نحبّه ونتمنّاه. وتعبّر تلك الصورة عن "ضمير لبنان" الحيّ والنابض بالوطنية والعروبة، ومثل تلك الصفات كانت غالبة على مجمل سلوكه خلال توليّه العديد من المناصب الرفيعة.
وقد عمل الحص على إعلاء شأن الدولة خلال ترؤسه لخمس حكومات لبنانية ضمن ما هو متاح من إمكانات وظروف وتحديات وضغوط، وهو القائل "لدينا الكثير من الحريّة والقليل من الديمقراطية"، لأنه يدرك أن الديمقراطية كأسلوب وإدارة حكم تتطلب قوانين وأنظمة ومؤسسات ديمقراطية وفصلاً للسلطات وقضاء مستقل ورقابة وشفافية، وهذه لن تتحقق إلا بقيام دولة أساسها الحق والمواطنة، ودولة من هذا القبيل تقوم على الحرية التي لا غنى عنها كأساس للمواطنة المتكافئة والحيوية، ومساواة ضرورية في جميع المجالات، لأن المواطنة لا تستقيم دون مساواة، وهذه تتطلّب عدم التمييز القانوني والواقعي أيّ المجتمعي المعلن والمُضمر، وتحتاج إلى عدالة ولاسيّما اجتماعية، وإلاّ ستكون ناقصة ومبتورة ومشوّهة، ولكي تكتمل صورة المواطنة، فلا بد من شراكة ومشاركة في اتخاذ القرار، وخصوصاً فيما هو مصيري من الشؤون العامة، وفي توليّ الوظائف العليا دون تمييز، أي شراكة في الوطن الواحد، وبهذه المنظومة يمكن الحديث عن مواطنة وعن توّجه ديمقراطي باحترام حقوق الإنسان، وكان الحص يدرك أن ذلك يتطلّب ثقافة وممارسة في آن، وربما يحتاج إلى تطور طويل الأمد.

فلسطين في القلب

في اليوم التالي لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي العام 2000 توّجه الحص  وكان رئيساً للوزراء، مع أعضاء مجلس الوزراء لعقد جلسة في مدرسة بنت جبيل المُحررة، وكانت تلك خطوة شجاعة وجريئة، وفيها رمزية كبيرة، ناهيك عن تحدٍ وفعل مواجهة ثقافية، علماً بأنه كان في أشد لحظات الحرج حين اجتاحت إسرائيل الجنوب في "عملية الجليل" المعروفة في عام 1978وهو كان في سدة المسؤولية، وهو المعروف عنه وعلى طول تاريخه تأييده للمقاومة ورفضه للمشاريع الاستسلامية، تلك التي تريد "تحييد" لبنان تارة بحجة تجنيبه الصراع في المنطقة، أو كي لا يكون "ساحة مفتوحة" له، أو بزعم عدم "تكافؤ القوى"، وغير ذلك من الكلام الحق الذي يُراد به باطل.
كان رأي الحص أن أس المشاكل في المنطقة هو الاستعمار الاستيطاني حيث تتوّسع "إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى القدس التي تعتبر قطب الرحى بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، ولذلك عارض اتفاقيات أوسلو العام 1993 من منطق أنها لم تستجب للمطالب الفلسطينية والعربية في حدها الأدنى، خصوصاً قيام دولة وطنية فلسطينية على حدود الرابع من حزيران /يونيو1967 وعاصمتها القدس الشرقية وتأمين حق العودة في إطار حق تقرير المصير.

الطائفيّة

تُعتبر الطائفيّة أحد ألد أعداء الحص، وعلى الرغم من أن النظام الطائفي مكرّس عُرفاً وبصورة أخرى قانوناً ضمن اتفاق الطائف 1989- وهو الاسم الذي تُعرف به "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني"، التي وُضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سعودية في 30 أيلول/سبتمبر1989 في مدينة الطائف وتم إقرارها بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر1989 مُنهيّاً الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً- إلا أن الحص لم يُسجّل في تاريخه أيّ موقف يحمل في ثناياه بُعداً طائفياً، في جميع مراحل حياته، سواءً حين تولّيه المسؤولية أو حين يكون خارجها، ولعل ذلك ما جعله شخصية جامعة وموّحدة بين مختلف الفرقاء السياسيين.

مذكرات الحص

النزاهة لا تستقيم أحياناً مع الاستقطابات الطائفية والمذهبية، فما بالك إذا كان النظام طائفياً، فثمة محاولات جرت لإزاحة الحص عن المشهد السياسي باسم الطائفة أحياناً. وفي مذكراته الموسومةSalim El Hoss: For Truth And History -2000: Experiences in Governance 1998 "للحقيقة والتاريخ- تجارب الحكم ما بين 1998 و2000"، يتناول المحاولات التي تعرّض لها لاغتياله سياسياً بقوله "لقد حاولوا اغتيالي لإزالتي من ذاكرة البلد، ولكن خدمتي لوطني هي أغلى ما أملك وأترك لأحفادي. ولستُ نادماً على شيء، ولم أعمل لنفسي، ويداي لم تتسخا وضميري مرتاح".
أما الجهات التي حاولت إزاحته فهي جماعات لبنانية مختلفة، بعضها جرّاء مواقفه العروبية الرافضة للحلول الاستسلامية حيث كان موقفه داعما للمقاومة دائماً. والبعض الآخر المتورط بالفساد، ناهيك عن منافسات حول التمثيل السياسي لبيروت دون أن ننسى دور الأجهزة الأمنية السورية التي كانت متحكمة بالقرار اللبناني كما هو معروف.
وعلى الرغم من توافقه مع الرئيس إميل لحود إلا أن مذكرات الرئيس الحص تبيّن اختلافهما حول العديد من الأمور. وبسبب استقلاليته وتقديمه المصلحة اللبنانية على ما سواها تعرّض مرة أخرى لعملية اغتيال راح ضحيتها مرافقون له، كما تعرّض إلى تهديدات مباشرة وغير مباشرة من جهات مقرّبة من الأجهزة الأمنيّة السورّية.
وأخبرني الصديق الدكتور وسيم حرب أنه وفريقاً معه التقطوا الإشارة التي صدرت عن الرئيس الحص، وهي أقرب إلى شيفرة لا طائفية فقرروا العمل معه وإلى جانبه بحماسة واندفاعة كبيرتين، إلا أن الظروف لم تكن لتسمح بتطوير حالة عابرة للطائفية وتقاسم الوظائف، وهو ما أكدّه الدكتور عصام نعمان الذي عمل وزيراً في حكومة الحص وهو أحد المقربين الأساسيين منه. وكان الحص على رغبته في إنجاز عملية التغيير بالتدرج، إلا أنه كان يدرك المخاطر الجمّة التي تحيط به وبفريقه. ولذلك كان شديد الحرص والمسؤولية على فريقه الذي كان يحاول تنبيههم خشية حصول المحذور.
وعلى الرغم من تقدير الحص لمواقف سوريا، إلا أنه يشير إلى اختلافاته معها، وهو ما يذكره في الفصل الخاص الموسوم "بين سوريا وبيني"، ولعل ذلك كان مصدر احترام من جانب الرئيس حافظ الأسد الذي كان يقدّر نزاهة الحص ووطنيته وعروبته.
وعن آخر معركة انتخابية خاضها حتى وإن لم يكن مضطرا كما يقول، لكنه أراد طرح برنامج لمعالجة المشكلات الداخلية فضلاً عن مواجهة الهجمات الإسرائيلية التي سبقت الانسحاب في العام 2000.

زيارات ومشاركات

أذكر أنني زرته ثلاث مرات في منزله المتواضع ببيروت: مرة مع مجموعة شخصيات عربية كانت تشارك في مؤتمر ببيروت، وثانية برفقة الدكتور خيرالدين حسيب، وثالثة مع وفد من المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة برفقة الدكتور وسيم حرب.
كما شاركتُ معه في عدد من المؤتمرات داخل لبنان وخارجه، منها مؤتمر في الشارقة (الإمارات)، وأخرى في الدوحة (قطر)، وكنتُ في كل مرة أعجب بكلامه وإتزانه وحكمته وعمق تجربته فضلاً عن تواضعه وهدوئه. وكنت أنظر إليه من زاويتين: الأولى: كونه أستاذا للاقتصاد في الجامعة الأميركية ببيروت وظّف علمه لخدمة بلده. والثانية: كسياسيّ مستقل تمتّع بكفاءات إدارية نادرة ملّحها بظرافة شخصية استخدمها كوسيلة لتلطيف الأجواء في المواقف الصعبة. وهو ما يرويه الدكتور عصام نعمان عن خفّة دمه وسرعة بديهته.

الزهد "رئيساً"

اليوم، يعيش الرئيس الحص في منزله المتواضع في حيّ عائشة بكّار ببيروت، بعيداً عن الاستعراضات التي يقوم بها بعض السياسيين في لبنان، لجهة الحمايات والحراسات وقطع للطرقات. وعلى الرغم من ظروفه الصحية الصعبة ظل يستقبل أصدقاءه بين الفينة والأخرى، وقلبه على بيروت الجريحة التي أراد لها البعض تبديل ثوبها.
لم يعمد الحص إلى تأسيس حزب تابع له، ليستفد منه بعد خروجه من السلطة، ولم يفعل ذلك وهو في قمة السلطة أيضاً، فبقيّ زاهداً ومترفعاً وراقيّاً في تعامله، كما ظل حريصاً مثلما هو معروف على كونه ابن الدولة الحقيقي وخادمها الفعليّ، دون التفكير بأي امتياز خارج حكم القانون، فقد آثر أن يخدم لبنان بعيداً عن الحزبوية والتحزّب، ويكاد يكون من رجالات الدولة القلائل الذين عملوا حقيقة وواقعاً لإصلاح ما يمكن إصلاحه في بلد نظامه قائم على التجاذبات الخارجية الإقليمية والدولية.

* سليم أحمد الحص (20 كانون الأول /ديسمبر 1929)، وتزوج من ليلى فرعون (توفيت عام 1990) ولهما ابنة وحيدة: وداد.

من مؤلفاته:
The Development of Lebanon's Financial Market (بيروت، 1974)
نافذة على المستقبل (بيروت، 1981)
لبنان على المفترق(بيروت، 1983)
نقاط على الحروف (بيروت، 1987)
حرب الضحايا على الضحايا (بيروت، 1988)
على طريق الجمهورية الجديدة (بيروت، 1991)
عهد القرار والهوى (بيروت، 1991)
زمن الأمل والخيبة (بيروت، 1992)
ذكريات وعِبَر(بيروت، 1994)
للحقيقة والتاريخ (بيروت، 2000)
محطات وطنية وقومية (بيروت، 2002)
نحن والطائفية (بيروت، 2003)
عصارة العمر (بيروت، 2004)
صوتٌ بِلا صدى(بيروت، 2004)
تعالوا إلى كلمة سواء (بيروت، 2005)
سلاح الموقف (بيروت، 2006)
في زمن الشدائد لبنانياً وعربياً (بيروت، 2007)
ما قل ودلّ (بيروت، 2008)
***
* كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
السيدات والسادة تجمّع اللجان والروابط الشعبية – مكتب المؤسسات الاجتماعية
أيها الحفل الكريم،
تحية حارة ومن خلالكم أحيّ الشخصية الوطنية العروبية الكبيرة الدكتور سليم الحص وأتمنى لاحتفالكم المهيب النجاح والتوفيق، وللدكتور الحص الصحة والسعادة، ولأمتنا العربية العزّ والسؤدد.
إن مبادرتكم بتكريم الدكتور الحص تستحق التقدير، ففي تكريمه تكريماً لمعاني الوطنية الحقة والعروبة الصادقة والإنسانية المخلصة، فقد أفنى الرجل حياته مكافحاً ومنافحاً عن حقوق العرب، ليس في لبنان فحسب، بل في جميع البلدان العربية، وخصوصاً دفاعه الذي لا يلين عن حقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، تلك الحقوق الثابتة وغير القابلة للتصرّف أو التنازل تحت أي مبرر كان.
ولهذا فإن مبادرتكم هي مبادرة كريمة للمُثل والقيم التي ناضل من أجلها طويلاً الدكتور الحص، وإذْ أحييكم على هذا الاختيار، فإنما أعتبر هذه المبادرة تمثلنا جميعاً، وهي باسم كل من آمن بطريق الأمة العربية ومشروعها النهضوي الحضاري في الحرية والكرامة والاستقلال والتحرر وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري. ولعل هذه هي الأهداف العامة للربيع العربي، حيث عانت بلداننا وأمتنا طويلاً من الهيمنة الأجنبية ومشاريعها الإمبريالية – الصهيونية، ومن الاستبداد والديكتاتوريات والقمع المعتّق، وآن الآوان لتعزيز مساهمتها ودورها، في اللحاق بركب العالم المتمدّن، وفي ظل القيم المشتركة للإنسانية!
لعلها خسارة لي في عدم حضور هذه الفرصة التاريخية والاستماع إلى كلمات وشهادات لمفكرين وقادة رأي وسياسيين مرموقين بحق الدكتور الحص، وعذري أنني كنت مرتبطاً في وقت سابق بمواعيد خارج لبنان، لهذا أقدّم اعتذاري، ولكم منّي خالص المودّة والاحترام وللدكتور الحص الصحة والسعادة.
ومعاً مع الدكتور الحص على طريق الحق والعدل والقيم الوطنية والإنسانية، تلك التي عمل وضحّى من أجلها، فكراً وكتابة وممارسة وخلقاً رفيعاً، سواءً كان في مسؤولياته الرسمية، أو في مهماته الشعبية، وتسنّى لي مثل الكثيرين من الذين يحضرون احتفالكم، التعرّف عليه منذ سنوات، فوجدت فيه التواضع الجمّ والإخلاص المنقطع النظير والنزاهة والاستقامة اللتان لا حدود لهما وعفّة اللسان والنبل، فضلاً عن مخزونه المعرفي الوفير ومساهماته الاقتصادية والحقوقية الرصينة، التي أغنى بها المكتبة العربية، وصدق من أطلق على الرئيس سليم الحص "ضمير لبنان".
تحية لدولة الرئيس الحص وتحية لاحتفالكم، وشكراً لمنحي فرصة مخاطبتكم،
أصافحكم بحرارة
د. عبد الحسين شعبان
أيار/2012




65
الإعدام معنًى ومبنًى

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   
   أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والتفسيرات الدينية والعقائدية، لكنه لاعتبارات إنسانية وقانونية وأكاديمية لا بدّ من فتح حوار هادئ وعقلاني حول الموضوع ، إذْ لا ينبغي إهماله أو السكوت عنه، طالما يمثّل وجهة نظر موجودة ولها مبرّراتها .
   وإذا كان القاتل يستحق العقاب وهو أمرٌ مفروغ منه، فهل القبول بالقتل هو " العقوبة العادلة"؟ والقتل بغض النظر عن الأسباب يتناقض مع مبدأ " حق الحياة" المحور الأساسي في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما وهبه الله للبشر، فكيف يمكن سلبه، فهل قتل القاتل يحقّق العدالة؟ وهل جريمة " القتل اللّاقانوني" يقابلها "القتل القانوني"، وهل يوصل ذلك إلى العدالة؟
   وحسب وليد صليبي المفكّر اللّاعنفي ومؤسس جامعة اللّاعنف "جريمتان لا تولّدان عدالة" وعلى غرار ذلك سبق أن كتبتُ "رذيلتان لا تنجبان فضيلة" و"حربان لا تنتجان سلاماً" و"عنف مقابل عنف، لا يحقّق أمناً". وعلينا البحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية والعنصرية للجرائم، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة بما فيها من اشتباكات عشائرية وقبلية.   إن إنزال عقوبة الإعدام لن تعيد الحياة للمقتول، إذْ لا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.
   وإذا كان حكم الإعدام ليس من السهولة النطق به بشكل عام، وخطيراً إلى درجة كبيرة، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فكيف يمكن تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه، خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً عرضةً للأخطاء التي يذهب ضحيتها الأبرياء. وعلى الرغم من قلّة عدد المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام في عالمنا العربي والإسلامي، إلّا أن ثمّة توجّهات أخذت تتسع تأثراً بالحركة الحقوقية العالمية، المطالبة باستبدال عقوبة الإعدام، حفاظاً على الحق بالحياة والتمييز بين العدالة والانتقام.
   الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم وهو وضع حد لحياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويُعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free  بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على "رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي".
   وإذا كان سجل البلدان العربية والإسلامية حافلاً بإصدار عقوبة الإعدام وتنفيذها، فإن الصراع ما يزال قائماً ومحتدماً  بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار ديني محافظ في الغالب وتيار حقوقي ومدني، وإن كان داخله من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها التحررية أو الاشتراكية طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.
   الإعدام عنف. حتى وإن كان وسيلة للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ. فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام. فهل الموت يمكن أن يكون قصاصاً للموت؟ أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.
   إن إلغاء عقوبة الإعدام يحتاج إلى وقتٍ طويل. لكن اتخاذ قرار بوقف تنفيذها، هو ما أقدمت عليه عدد من البلدان العربية، مثل المغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان وغيرها، وتبقى الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، انطلاقاً من القيم الإنسانية. فالضمير بهذا المعنى هو "القانون الأسمى" حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون يقظاً، وهو ما يمكن أن يولد قناعة فردية ومجتمعية، علماً بأن الإيمان بالدين يساوي عمل الخير بأبعاده الأخلاقية، لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو للانتقام.
   وكما جاء في كلام كونفوشيوس "نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر" .


66


 



عبد الحسين شعبان:
التصدّع بالهوّية العراقية الموّحدة ما زال سارياً

گولان میدیا July 11, 2021 مقابلات خاصة
 
*الهوّية الموّحدة لا تلغي الهوّيات الفرعيّة
* مستقبل الدولة العراقية مرهون بالمواطنة والتكافؤ
* جريمتان لا تنتجان عدالة وعنفان لا ينجبان سلاماً
مقتطف: في إطلالة جديدة للباحث والمفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان عبر (كولان) يطرح كعادته من خلالها العديد من الأفكار الجديدة التي تشغل المواطن العراقي، إضافة إلى النخب الفكرية والثقافية والحقوقية، وهي أفكار تتسّم بروح الشعور بالمسؤولية والجرأة والنقد. وتسلط الضوء على العديد من المشكلات الحقوقية والسياسية فيما يتعلق بالدستور وألغامه وتفسيراته وتأويلاته والانتخابات المقبلة ومآلاتها وسيناريوهاتها المحتملة، كما يتناول موضوع الفيدرالية وآفاقها، ويدعو إلى تعزيزها وترسيخها بمزيد من الفهم المشترك والحوار والثقافة الفيدرالية، وإرادة سياسية موحدة.
إنه حوار يفتح آفاقاً جديدة من خلال إجابات غير تقليدية راهنة ومستقبلية، مُجدّداً موقفه التاريخي من دعم الشعب الكردي وإيمانه بالإخوّة العربية -الكردية، وبالمشترك الإنساني.
وقد إلتقته مجلة (كولان)على هامش زيارته لإربيل وخلال محاضرته في "معهد البحوث والتنمية" التي كانت بعنوان "جيوبوليتك الشرق الأوسط واللحظة العراقية الراهنة".
أجرى الحوار: فرهاد محمد (إربيل( رئيس التحرير
* نشرتَ في الآونة الأخيرة كتابا بعنوان "الهوية والمواطنة- البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة"، وقد أثار اهتماما كبيراً، وطبع مرتين خلال فترة قصيرة، كيف يمكن أن تسلّط الضوء على الأزمتين الرئيستين اللتين يعاني منهما العراق، ونقصد أزمة الهوّية العراقيّة وأزمة المواطنة؟ وهل من الممكن أن نجد حلاً لهاتين الأزمتين في المستقبل المنظور أم أنهما مستمرتان لحين وصول العراق إلى حالة من الفوضى العارمة التي يغرق فيها؟
 -تصدّعت الهوّية الجامعة بفعل عوامل عديدة تراكمت مع مرور الزمن، خصوصاً أنها شهدت نمطاً من العسف والاستبداد وعدم الاعتراف بالهوّيات الفرعيّة، ناهيك عن محاولات التسيّد وفرض الاستتباع، الأمر الذي ولّد ردود فعل شديدة للتفلت من الهيمنة والتهميش من جهة، ومحاولة الانبعاث والتمسك بالخصوصية إلى درجة الانعزال أحياناً من جهة ثانية. وفي كلتا الحالتين- والمقصود الهيمنة أو ضيق الأفق والإغلاق- كانا قد أضعفا الشعور بالانتماء المشترك إلى هوّية موّحدة ومواطنة فاعلة ومتكافئة.
والهوّية تقوم بالأساس على الثقافة واللغة والتاريخ المشترك وأحيانا الجغرافيا، أيّ العيش في مكان جامع، فإذا كان ذلك ما يجمع عرب العراق، فإنه هو ذاته ما يجمع كرد العراق أيضاً، الأمر الذي يقتضي المساواة في إطار العيش معاً وفي ظل مواطنة موّحدة، مع احترام الخصوصيات الإثنية واللغوية والسلالية والدينية وغيرها وكل ما يتعلق بخصائص المجموعات الثقافية وهوّياتها وتراثها وعاداتها وتقاليدها وآدابها وفنونها، ناهيك عن حقوقها المشروعة والعادلة.
إن التصدّع الذي أصاب الهوّية الموّحدة في ظل نظام الاستبداد والتمييز ألحق أضراراً خاصة بالهوّيات الفرعيّة، لا سيّما محاولات تهميشها أو الانتقاص منها بزعم أنها "أقليات" وقد إنعكس ذلك كرد فعل سلبي وغير عقلاني على العملية السياسيّة التي قامت بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، والتي تمثّلت بتأسيس مجلس الحكم الإنتقالي الذي تكوّن من 25 عضواً، جرى تقسيمهم وفقاً لنظام محصصاتي طائفي إثنيّ حيث، مُنح فيه الأغلبية للشيعة (13 عضواً)، والمقصود الشيعية السياسية، و(5) للسنيّة السياسية، و(5) للكرد، و(1) للتركمان، و()1 للكلدوآشوريين. وجرى الأمر على هذا المنوال في إطار نظام أقيم على والزبائنية السياسية والمغانم الطائفية والإثنية.
وإنتهج الدستور الدائم الذي تم الإستفتاء عليه في إطار جدول أمريكي(15 تشرين الأول/أكتوبر 2005) ذات المنهج، وأجريت أول انتخابات على أساسه في (15 كانون الأول /ديسمبر) من العام نفسه، وكان الرئيس جورج دبليو بوش قد حدّد فترة انجازه إلى (15 آب /أغسطس من العام 2005) قبل هذا التاريخ، أقول إقتفى هذا الدستور ذات التوجه التقسيميّ باعتماده على مبدأ المكوّنات الذي جاء كصيغة تقسيميّة طبعت الدستور وحيثياته، إذ ورد مصطلح المكوّنات في المقدمة (مرتان) والمواد 9 و12 و49 و125 و142. وليس ذلك سوى إعلان صريح وواضح عن صيغة محاصصة طائفية- إثنية بإطار قانونيّ، بحيث أصبح التشبث بالمكاسب الطائفية والإثنية والحزبية أمراً مقبولاً وعرفاً سائداً ومكرّساً بدستور، وذلك على حساب الهوّية العراقيّة الموّحدة. ناهيك عن الهويات الفرعيّة التي أخذت هي الأخرى تضيق على نفسها بسبب منافسات وإنقسامات حزبوية غير مشروعة في الكثير من الأحيان، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على عناصر المواطنة المتصدّعة أصلاً.
فالمواطنة تقوم على مبادىء الحريّة، ولا مواطنة حقيقيّة وفاعلة وحيوية دون حرّيات، والحرّيات ليست فوضى، بل احترام حقوق الآخر على قدَم المساواة وعدم التجاوز عليها بزعم الأغلبية أو الأفضليّة أو ادعاء امتلاك الحقيقة أو غير ذلك. كما تقوم المواطنة على مبدأ المساواة وستكون ناقصة وغير كاملة دون مساواة تامة وشاملة وقانونيّة وفي المجالات المختلفة. ولا مواطنة سليمة وفاعلة دون مساواة. كما أن التمييز وعدم المساواة يشوّه المواطنة ويعرّضها للتصدّع. والمواطنة تستوجب العدالة، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، وستكون المواطنة ناقصة ومبتورة بغياب العدالة، علما أن المواطنة لا تستوي مع الفقر. وتفترض المواطنة عاملاً مهمّاً وأساسيّاً وهو الشراكة والمشاركة، والمقصود بالشراكة الوطن الواحد وعلى قدم المساواة والعدل والحرية، أما المشاركة فهي تعني الحق في توليّ الوظائف العليا دون تمييز بسبب اللون أو القوميّة أو اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو الاتجاه السياسيّ أو الخيار الفكري.
الخطوة الأولى لاستعادة الهوّية العراقيّة الموحدة والجامعة والمتسامحة والعادلة والمستقرة، تبدأ بإقرار صيغة قانونيّة لـ"المواطنة المتساوية" والمتكافئة، وذلك بإجراء تعديل شامل للدستور، واستبعاد صيغة التقاسم الطائفي - الإثنيّ التي اختبأت وراء مصطلح المكوّنات، والتي لا تعني سوى المُحاصصة التي كانت أحد أسباب فشل العملية السياسية. ولعل اقرار مبادىء المواطنة في دولة تعتمد قواعد الحق وحكم القانون دون أيّ تمييز ولأي سبب كان، سيكون أحد عوامل استعادة الهويّة العراقيّة الموّحدة في مجتمع متعدد الثقافات.
أرى من الصعوبة بمكان حاليّاً الوصول إلى صيغة مماثلة، كالتي نتحدّث عنها، في المدى المنظور، لعدم توّفر إرادة سياسية موّحدة، ولأن هناك قوى ومجموعات طائفية وإثنية مستفيدة من الصيغة الحاليّة، وعكسها ستخسر الكثير من مصادر نفوذها وقوّتها، ولذلك ستحاول التمّسك بصيغة المحاصصة وعرقلة أيّ جهد لإستعادة الدولة لأحد مصادر قوّتها الأساسيّة حتى لو ادعت أنها ضد نظام التقاسم الطائفي والإثني، إلا أنها تعمل ليل نهار على الإبقاء عليه. وأود هنا أن أشير إلى أن بعض مواد الدستور جامدة ويصعب تغييرها دون توافق سياسيّ مُسبق. وهذا كما أشرت صعب إن لم يكن مستحيلاً دون تغييرات جذرية وجوهرية تشمل إعادة النظر بمجمل النظام السياسيّ.
*في البداية إذا نحن نتحدّث عن "رجل دولة" في العراق يكون قادراً على اتخاذ القرار... هل توجد برأيك صفة "رجل دولة" ضمن إطار السياسيين العراقيين داخل العملية السياسية؟ وهل يفتقد العراق كبلد لمثل هذه المواهب مثل الدول الأخرى، وهو بلد الحضارات؟
ـ كمراقب ومتابع للوضع السياسيّ في العراق، يصعب عليّ أن أتحدث عن "رجل دولة" أو "نساء دولة" في إطار ما نعرفه من مبادئ علم الإدارة الحديث، خصوصاً لمن يتولى المسؤوليّة لاسيّما السياسية في العراق. والذين إستلموا مقاليد الأمور بعد الإحتلال وبمساعدته لم يعملوا بمجملهم سابقاً في الدولة، ولم يتعرّفوا على دواوينها ونُظمها وطرائق عملها، ولم يتعلّموا خلال ذلك فترة وجودهم في السلطة، بل انغمسوا في الصراعات، ناهيك عن المنافسات والمناكفات والحصول على الإمتيازات والمغانم، ولم تكشف لنا تجربة الـ18عاماً عن شخصيات وازنة يمكن الإشارة إليها في هذا المجال، والأمر يعود بحسب وجهة نظريّ إلى عدد من الأسباب:
أولها، إن التشكيلة التي وصلت إلى سدة الحكم كانت بفعل عامل خارجيّ، والمقصود بذلك الإحتلال، لاعتبارات خاصة به وباستراتيجيته، ولم تعتمد على الخبرة والتجربة والكفاءة، بل على الولاء وربما على التبعية في الكثير من الأحيان.
وثانيها، أن المجموعة التي حكمت العراق خلال الفترة الماضية، لم يكن لها رؤية واضحة عن كيفية بناء الدولة، وعكست المناقشات التي أوردها استطلاع "منتدى بحر العلوم" و"معهد العلمين" بشأن "أزمة العراق سيادياً"  بعد مرور هذه الفترة الطويلة، عن فقر الخلفيّة الفكريّة والتعويليّة على الخارج، ولاسيّما بعد سنوات من توليّ 5 رؤساء وزراء، و5 رؤساء برلمان. ويمكننا القول إن الأطروحات التي قدّمها القادة السياسيون الذين أداروا البلد عكست منهجاً قاصراً وفهماً محدوداً لمسألة السيادة داخلياً وخارجياً. وبكل المعايير لم يترّشح مفهوم البناء والتنمية المستدامة خلال فترة توليهم المسؤولية، بل غرقت البلاد بالفساد الماليّ والإداريّ والغنائميّة والامتيازات على حساب تدهور الوضع المعاشي والصحيّ (خصوصاً في ظل جائحة كورونا) والتعليمي والخدمي، فعلى الرغم من نحو بليون دولار (ألف مليار دولار أمريكي) كانت واردات العراق من النفط إلا أنها تبددت وهُدرت دون أن يعود مردودها على المواطن، بل إن نسبة الفقر حسب إحصاءات الأمم المتحدة قاربت من ربع سكان البلاد وظل العراق يعاني من شح الماء الصافي في الكثير من المناطق، إضافة إلى النقص الفادح بالكهرباء.
وثالثها، إن الإجراءات التي أقدمت عليها سلطة الإحتلال، ولاسيّما في حلّ الجيش وقانون الاجتثاث، خلقت فوضى عارمة، حيث أخذت مجاميع ما دون الدولة تصبح ما فوقها بفعل ذلك، مثل المرجعيات الدينية والعشائرية والجهوّية والحزبيّة وغيرها، والأمر صار عرفاً يكاد يكون سائداً، فلا تتشكل حكومة دون قول فصل لبعض الشخصيات الدينية المؤثرة في النجف، مثلما لها القول المسموع في بقاء الحكومة أو زوالها حتى وإن قامت بانتهاكات خطيرة وجسيمة، في حين أن الدولة الحديثة والمعاصرة والتجارب الديمقراطية، حتى في جنينيتها تفترض إعلاء شأن الدولة لكونها فوق جميع المرجعيات والتي من واجبها احترامها ورعايتها ودعمها، وذلك طبقاً للقانون واعتماداً على حكمه في ظل قضاء يتمتع بالكلمة العليا في الفصل بالمنازعات التي تنشأ.
وحتى لو كان بلدنا في بداية الطريق وعانى سنوات طويلة من الاستبداد والديكتاتورية، إلا أن المؤشرات المنظورة لا تشي بأن ثمة خطوات على هذا الطريق، وحتى لو أُعلنت بعض التوجهات الصحيحة، إلا أن الاعتبارات السياسيّة والحسابات الضيقة تحول دون ذلك، وسرعان ما تصاب بالتلكوء، إن لم يكن المراوحة والعجز.
لبناء مختبر ومطبخ وعقل الدولة من رجال ونساء، سواءً في المواقع الأولى أو ما تحتها من مستشارين ومدراء وأصحاب قرار وخبرة وكفاءة يفترض تعزيز قيم الدولة، من خلال وجود مؤسسات، تعتمد الكفاءة خارج الدوائر الضيقة كالمحسوبية والمنسوبية والأتباع والمُوالين أولاً. ثانياً، الاحتكام إلى القانون الذي يُعد المرجع الأساس والخلفيّة التي لا غنى عنها لتسيير أمور الدولة، عبر موظفين أكفّاء يملكون قدرة استنباط الأحكام وتكييفها ضمن المشهد العام بما يحقق العدل والإنصاف مع الحرص على حقوق الجميع دون تمييز.
ثالثاً، استقرار الأوضاع، فكيف لصاحب القرار أن يتخذ قراراته وهو تحت تهديد السلاح أحياناً، إذ أن انتشار السلاح خارج القانون ووجود مجموعات مسلحة يُعيق إتخاذ القرارات الصحيحة، الأمر الذي يفرض إخضاع حق امتلاك السلاح واستخدامه للدولة ومؤسساتها النظاميّة حصراً، وإلا فإنّه لا يستطيع أن يقوم بمهماته على أكمل وجه.
رابعاً، لا يمكن اتخاذ القرارات بحرّية ودون ضغوط في ظل نظام المحاصصة الطائفية- والإثنية لأن الأساس في صيغة من هذا القبيل هي دون الدولة، وتعني فيما تعنيه تقديم الولاء على حساب الكفاءة، وهذا الأخير سيجلب الموالين أيضاً، وسيقف عائقاً أمام نشوء كفاءات ورجال دولة أو نساء دولة طالما يقدّم الولاء على الكفاءة. أي أنه يستبعد الموظفة أو الموظف الكفء والمخلص للدولة والوطن، مقدماً عليهما الانتماء الطائفي أو والإثني أو العشائري أو الحزبي أو الجهوي أو غير ذلك من الانتماءات الضيقة.
أختم الجواب على سؤالك المهم بالقول يمكن لبلدنا وهو غنيّ بالكفاءات وصاحب حضارات عريقة نشأت على أرضه، أن يُحقق تنمية مستدامة عبر اعتماد حكم القانون في ظل مؤسسات ومواطنة سليمة ومواصفات للموظف العموميّ ولاسيّما للخبراء والمستشارين أساسها الوطنية الكفاءة، بعيداً عن الدوائر الضيقة التي تحمل فيروسات التعصب، وهذا الأخير إذا ما استفحل يصير تطرّفاً، والتطرّف إذا تحول إلى سلوك ينتهي إلى العنف، والعنف إذا ضرب عشوائيّاً يصبح إرهاباً، وإذا ما تخطى الحدود واستهدف خلق رعب وفزع وهلع وإضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والفرد بالدولة يصبح إرهاباً دوليّاً.
*حاليّاً يتحدّث بعض المراقبين والسياسيين عن حالة الدولة واللاّدولة، والأمر له علاقة بإشكالية الهوّية العراقية كدولة، ماذا تقول من جانبك كمثقف ومفكر بذلك؟ وكيف تنظر إلى هذه الحالة في العراق؟ وما هو مستقبل العمليّة السياسيّة؟
- ما تزال الدولة تترنح منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 ولم تستقر أو تتخذ اتجاها نحو الاستقرار، لأسباب خارجيّة وأخرى داخليّة، فالسيادة ظلت معوّمة ومجروحة منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في العام 1990 وصدور قرارات دوليّة تفرض عقوبات بحق العراق، ولم يتم استعادة السيادة كاملة حتى بعد زوال الأسباب.
السيادة تعنيّ بسط الدولة سلطانها على جميع أراضيها ومواطنيها، أيّ أن تكون سلطتها على كامل ترابها الوطنيّ، فالأرض أحد عناصر السيادة، والحكومة هي العنصر الثاني، أيّ وجود سلطة تتمتع بقدرتها على فرض قوانينها وأنظمتها على مواطنيها، أما الشعب فهو العنصر الثالث، وهذا يعني وجود حكومة مؤهّلة وقادرة على فرض قوانينها وسلطتها على جميع مواطنيها. والحكومة إذا حظيت بثقة الناس وقدّمت منجزاً، فإنها ستتمتع بالشرعية السياسية، وإذا طّبقت حكم القانون فإنها ستحظى بالمشروعية القانونية.
ومثل هذا الأمر يغيب عن بلدنا لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فقد عاش العراق ظروف احتلال عسكري حتى نهاية العام2011، وإن بقيت تأثيراته تعاقدياً أو تعاهدياً بإتفاقية الإطار الإستراتيجي. وعاد الأمر إلى طاولة النقاش والجدل المحتدمين إثر استقدام قوات أمريكية وأخرى تابعة للتحالف الدولي بعيد احتلال "داعش" للموصل في العام 2014 وتمدده إلى نحو ثلث الأراضي العراقية، وبعد طرده في نهاية العام 2017 بدأت بعض القوى تتحدث تلميحاً أو تصريحاً بضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق.
وقد اتخذ البرلمان العراقي قراراً بذلك في مطلع العام 2020 إثر مقتل قاسم سليماني قائد قوات القدس وأبو مهدي المهندس قائد الحشد الشعبي، على الرغم من استمرار الاختلاف في الموقف إزاء ذلك عراقيّاً، فممثلي التحالف الكردستاني لم يحضروا جلسة التصويت، وكذلك من يسمون أنفسهم ممثلين عن السنّة.
ليس هذا فحسب، بل إن النفوذ الإيراني تغلغل في العراق بشكل كبير، وأصبح منذ العام 2003 مؤثراً في القرار العراقي، ولا سيّما بعد العام 2005، وذلك حين استعرت الفتنة الطائفيّة، بعد تفجير مرقديّ الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء العام 2006، حيث أخذت تتشكل مجموعات مسلّحة مدعومة من إيران إلى درجة أصبحت قوة توازي قوة الدولة وتتغوّل عليها أحيانا.
وعلى الرغم من انضوائها بعد تأسيس الحشد الشعبي تحت قيادة القوات المسلّحة إثر احتلال الموصل، إلا أن ثمة استعراض للقوة وممارسة لها خارج نطاق الدولة والقانون، تقوم بها القوى المسلحة والميليشيات بما فيها قصف السفارات ومواقع القوات الأمريكية والدوليّة العسكرية، وهو ما أثار ويثير لغطاً كبيراً حول مستقبل الدولة العراقية، في ظل انتشار السلاح ووجود التشكيلات المسلحة، والتي يطلق عليها البعض "الميليشيات الولائيّة".
*لنأخذ فرضية تطبيق الدستور العراقي، الذي لم يُطبّق حتى الآن ولا تلوح في المستقبل القريب إمكانية تطبيقه، فهل نحن أمام حالة تشاؤم بأن الدولة تتجه لتتحول إلى جمهورية إسلامية على غرار إيران مثلاً؟ وماذا عن النسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي؟
- هناك فرق بين التشاؤم واليأس، وإذا كان كل ما حولنا مدعاة للتشاؤم، إلاّ أن الأمر لا يدعو لليأس، طالما تستمر إرادة التغيير والمقاومة، ولكن هذه تحتاج إلى حشد قوى وجهود وتعبئة وتنظيم طاقات، مثلما تحتاج إلى إرادة سياسية ووعيّ مجتمعيّ مناقض ومناهض لوحدانيّة الخيار الضيق باسم الدين أو الطائفة أو القومية أو غير ذلك..
بتقديري المتواضع، إن الدستور هو أس المشاكل، فما بالك حين لا يُطبق، سنكون حينها أمام فوضى واتفاقات هشّة وتوافقات ظرفيّة سرعان ما يتم الانقلاب عليها، خصوصاً بفعل التدخلات الخارجية وولاءات بعض القوى أو تأثرّها أو تعويلها على العامل الخارجي في التغيير.
العراق ليس إيران، وتاريخ الحركة الوطنية في العراق يختلف عنه في إيران، والنسيج العراقي المجتمعي مختلف أيضاً، ودور القوى الدينية كذلك، ناهيك عن العامل الطائفي. فعلى الرغم من أن الشيعية السياسية حكمت العراق نحو 16 عاماً، أيّ منذ العام 2005 ولحد الآن وشاركت بدور متميز منذ الاحتلال عام 2003، إلا أنها ازدادت عزلة حتى عن الوسط الذي تدعيّ تمثيله، وإلا بماذا تفسر انتفاضة تشرين/إكتوبر2019، والتي ما تزال مستمرة وإلى اليوم؟ وإن خفت بريقها، لكن مطالبها ما تزال قائمة، ويمكن أن تتجدد، وهي في الغالب في المناطق الشيعية بالأساس، في الناصرية والنجف وكربلاء والحلة والديوانية والسماوة والعمارة والكوت والبصرة، ناهيك عن بغداد، وهي تعبّر بما عكسته من مطالب عن حقوق العراقيين بمختلف انتماءاتهم، وهي لا تختلف عن مطالب الكرد ومطالب المناطق الغربيّة في الرمادي وصلاح الدين إضافة إلى ديالى وكركوك وغيرها.
العراقيون بشكل عام وخارج الطبقة السياسية المستفيدة، وإن اختلفت مشاربهم، يدعون إلى محاربة الفساد الماليّ والإداري وكشف المفسدين ومساءلتهم وتقديم قتلة المتظاهرين إلى القضاء، كما يطالبون بانتخابات حرّة نزيهة وقانون انتخابي أكثر ايجابية من القانون الحاليّ، وكذلك يدعون إلى حصر السلاح بيد الدولة والضرب بقوة على يد المسلحين خارج القانون، ولعل إعادة النظر أو تعديل أو حتى إلغاء الدستور هو جزء من تفكير النخبة الفكرية والثقافيّة والحقوقية، لاسيّما بعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود، خصوصاً بعدم تطبيقه، والاختلاف بشأن تفسيراته وتأويلاته المتناقضة، ناهيك عن عدم إمكانية لوضعه موضع التطبيق. وهو على مساوئه وألغامه، إلا أنه احتوى مبادىء إيجابية وسليمة فيما يتعلق بالحريات والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن هناك مواد أخرى شكلّت ألغاماً وكابحا عطّلت وتعطل من تطبيق هذه المواد.
* العلاقات بين إقليم كردستان والحكومة الفيدراليّة في بغداد يجب أن تنظم في إطار الدستور العراقي، لكن بغداد تمنع إرسال حصة الإقليم وتضع عقبات في الميزانية، ما هو برأيك مستقبل العلاقات بين بغداد وإربيل، لاسيّما في ظل عدم التفاهم بين الحكومة والإقليم؟
- المشكلة تكمن في الدستور، فقد تقرر أن تكون الدولة العراقية فيدرالية (اتحادية) وهو أمر جيد، وينسجم مع واقع ومطامح الشعب الكردي، لكنه أمر جديد بحاجة إلى تربية وتعليم وتفاهم وثقة ونصوص واضحة من خلال مؤسسات، إضافة إلى حكم القانون، فحتى الآن لا توجد أقاليم، باستثناء إقليم كردستان، ولم يتأسس المجلس الاتحادي، كما نصّ عليه الدستور، وصيغت بعض الفقرات بشكل يسمح بتفسيرات وتأويلات متناقضة ومتعارضة، مثل المادة 111 و112 بخصوص النفط والمصادر الطبيعيّة، وهناك جدل حول المادة 140 بشأن كركوك والمناطق المتنازع عليها كما وردت في الدستور، إضافة إلى المادة  142، وكذلك يمتد الخلاف  بل والنزاع إلى صلاحيات حكومة الإقليم في ظل الدولة الاتحادية، ومنها حالة تعارض دستور الإقليم مع الدستور الاتحادي، وكل هذه الأمور بحاجة إلى تفكّر ودراسة ومعرفة وثقة وتفاهم يأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشتركة في ظل دولة اتحادية منسجمة مع نفسها أولاً،  فضلاً عن قناعات المجموعات الثقافيّة وثقتها بطبيعتها لا أن تكون دولة تحكمها الصراعات والنزاعات والإستقطابات التي تُضعفها.
لقد انتقلت الدولة العراقية من دولة مركزية بسيطة حين تأسست في العام 1921 إلى دولة لامركزية اتحادية (فيدرالية) بعد العام2003، وتكرّست في دستور العام 2005، بعد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2004). لكن هذه الصيغة لم يتم تفعيلها وظلت عرضة للنقد وعدم الرضا من الطرفين، بل ولعموم القوى والتيارات المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة، وإلا كيف يمكن تصوّر حجب حصة الإقليم من الرواتب والواردات التي يفترض أنها لا تكون محط مساومة، لأنها تتعرّض لقوت الناس ومصادر عيشهم، أما الخلافات فيمكن أن تُحلّ برأس بارد وقلب حار كما يُقال. وبخصوص تصدير النفط والحصص المُتفق عليها والشفافية في ذلك فينبغي وضعها في إطار حلول بعيدة المدى تأخذ مصالح الدولة بنظر الاعتبار ومستقبل المواطن العراقيّ ولا بد هنا من تشريع قانون للنفط وهو الذي بقيّ قيد المناقشة وفي الأدراج منذ عقد ونصف من الزمن، والأمر يتعلق أيضاً بمستقبل المواطن في الإقليم، وتأمين الاستقرار في البلاد بشكل عام.
الصيغة الفيدرالية الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، ويمكن القول أنها أقرب إلى الإخفاق بسبب عدم وجود فهم مشترك لها، ناهيك عن النقص في الثقافة الفيدرالية، بل وعدم الإيمان بها أو التعامل معها باعتبارها صيغة مؤقتة، وهناك من ينتظر إعادة القديم إلى قِدمه، أي العودة إلى الدولة المركزية. في حين هناك من يتطلع إلى الانفكاك عن الدولة المركزية وصرامتها وعسفها.
ما كنت أؤمن به، وما أزال، يقوم على ركنين أساسيين:
أولهما: الأخوّة العربية-الكردية، وكنت قد دعوت إلى أول حوار عربي_كردي، وذلك قبل نحو 3 عقود من الزمان، وفي إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أترأسها في لندن، وتبقى هذه الصيغة قابلة للتفعيل والإضافة والتطوير باستمرار إرتباطا بالحقوق الإنسانية والعلاقة بين الشعبين الصديقين، ولاسيّما بين النخب ويمكن استحضار حوار مثقفي الأمم الأربعة (الترك والفرس والكرد والعرب)، وكان هذا المشروع الذي بدأ في تونس بمبادرة كنت قد دعوت إليها منذ عقد نيف من الزمان قد لقيت صدى كبيراً وأهمية أكبر باحتضانها من جانب سمو الأمير الحسن بن طلال، الذي نظم لقاء مهماً في عمان في 22/7/ 2018 تحت عنوان "أعمدة الأمة الأربعة".
وثانيهما: حق تقرير المصير للشعب الكردي انطلاقا من إيماني القانوني والقول بالفكرة الكونية لحق تقرير المصير بما فيه الإتحاد الاختياري الأخوي أو تكوين كيانية مستقلة (دولة) تكون ظهيراً وداعماً لدول المنطقة في اطار النضال المشترك والأهداف المشتركة وعلاقات الصداقة والتضامن، خصوصاً بين العرب والكرد ضد الأعداء المشتركين.
وإذا ما أريد لصيغة الفيدرالية أن تستمر وتتعزز وتترسخ لا بد من إعادة النظر بجوانبها المختلفة عبر تفاهم بين القوى السياسية وحوار مجتمعيّ بعيد المدى يأخذ المصالح المشتركة بعين الاعتبار، وإلا ستكون هذه الفيدراليّة، كما وصفها الصديق المفكر البروفسور شيرزاد النجار وهماً، وهو محق بذلك، خصوصاً إذا ما أخذنا صيغ الفيدراليات واختصاصاتها على المستوى الكوني، وهي موجودة ومطبّقة في نحو 30 بلداً.
لا بد من إجراء مراجعة وتدقيق ووضع صيغ جديدة معقولة ويمكن تطبيقها بروح الثقة المتبادلة وغير خاضعة للمناوشات اليوميّة والمزايدات السياسية الانتخابية وغير الانتخابية أو الارتياح الشخصية، بل وضع صيغ قانونية وتفاهم شامل ومصالح تجمع إربيل ببغداد في ظل دولة موحدة ومستقرة بموزايكها المتعايش وهوياتها الفرعيّة والجامعة.
إذا استمر الوضع كما هو حالياً، فإن الأزمة ستفرّخ أزمات أخرى، وهذه ستكون مُستحكَمة، بل ستتحول إلى بؤرة من بؤر الصراع المستدامة، لاسّيما حين تلتف حولها مصالح مكتسبة أو محاولات لإلغاء ما هو متحقق في ظل استمرار عدم الثقة بين السلطة في بغداد التي يفكر بعض أركانها بطريقة مركزية شديدة الصرامة أحياناً، وبين بعض القوى في الإقليم التي تفكر بطريقة بعيدة عن تصوّر بغداد، لدرجة الانفكاك حين يصبح التفاهم مستحيلاً، الأمر الذي يخلق هوّة تتسع مع مرور الأيام ويصعب ردمها، وتوقع ومآلاتها.
*هناك هدوء بين المكونات الرئيسية (الكرد والسنة والشيعة) حاليّاً، لكن الخلافات داخل البيت الشيعي قائمة لاسيّما بين التيار الولائي وبين التيار الشيعي غير الولائي والأبعد عن إيران؟ ما هو رأيك أن مرجعية النجف تساند الأخير؟ وهل يمكن أن تتحول الخلافات إلى حرب أهليّة بين التيارين؟
- تعرف تحفظيّ على مصطلح المكونات، وسبق وأن ذكرت ذلك في معرض تحفظي على الدستور، وكنت قد كتبتُ كتابين بينت ملاحظاتي حول الدستور وألغامه ومشكلاته الراهنة والمستقبليّة، وذلك لإيماني أن الدستور هو القانون الأساس الذي يُحدد طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة وسلطاتها وحقوق مواطنيها وحرياتهم. وقد احتوى الدستور ألغاماً خطيرة كانت وراء العديد من الأزمات العاصفة التي شهدتها، وباستمراره فإن الهوة ستتسع وتزداد عوامل عدم الوحدة والاستقرار في جوفها، خصوصاً في ظل التدافع على المصالح والامتيازات والانقسامات الطائفية والإثنيّة، دون أن ننسى العاملين الإقليمي والدولي الذين يستمر تأثيرهما على نحو شديد وبصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والأمر لا يشمل الشيعية السياسية وحدها، وإنما يمتد إلى ما إصطلح عليه خطأً مقصوداً "المكونات"، وإذا كان ما سُميّ بـ"البيت الشيعي" قد تأسس عشية إنتخابات العام 2005 فإنه ظل ًبيتاً بلا سقف ولا جدران، وهكذا كان التفكك والتآكل قد أصابه بسبب الصراعات والمنافسات الحادة بين الجماعات المكوّنة له، خصوصاً على الزعامة ومراكز النفوذ والامتيازات، وليس عبثاً أن يتهم الجميع الجميع بالفساد وسوء الإدارة، ويحمّل كل فريق الآخر المسؤولية عما آلت إليه الأمور، والأمر يشمل الفرق الأخرى المشاركة في الساحة السياسيّة. وإذا كان السيد السيستاني، وهو أحد المراجع المتنفّذين في النجف قد دعم ما سُميّ بالتحالف الشيعي، فإنه نأى بنفسه بعد ذلك بسبب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها هذا التحالف، الأمر الذي أفقده الكثير من عناصر صدقتيه، خصوصاً حين كان في المعارضة، وأدت ممارسته في الكثير من الأحيان إلى انتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان، بل زادت حتى على ممارسات النظام السابق في العديد من المجالات، لاسيّما الفساد المالي والإداري والسياسي، ناهيك عن الشحن الطائفي ومحاولات التسيّد وإملاء الإرادة.
وإذا كانت ثمة أجنحة في الحشد الشعبي، بعضها سُميّ بالولائي المقرّب من إيران والحليف الأشد معها، فإن هناك "حشود" أخرى بعضها قريب من مرجعية السيستاني، وبما أن خطر "داعش" قد اضمحل، خصوصاً بعد تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرته، فإن الملّح في الأمر يتطلّب تعزيز وتقوية القوات المسلحة العراقية: الجيش، وقوات الشرطة، والمخابرات والأجهزة الأمنية والإستخبارية وشرطة المرور والنجدة ومكافحة الجريمة، ناهيك عن جهاز مكافحة الإرهاب، وهو ما يعوّل عليه كقوة نظامية هدفها حماية الوطن وأمنه وسيادته.
وأظن أن أية صيغة موازية سوف تخلق نوعاً من التعارض والتصادم، - حتى وإن ألحقت بالجيش نفسه، لاسيّما إذا اختلفت مرجعياتها. وأعتقد أن مرجعيّات النجف ليست بحاجة إلى جناح عسكري يحميها لأنها بحماية الدولة وإحترامها وتقديرها، وذلك واجب على الدولة وقواتها الأمنيّة.
وسواء كان وجود الجناح القريب من السيستاني أو الفريق القريب من إيران أو غيرهما ضرورة لدعم القوات المسلحة ضد خطر "داعش"، فإن تلك الضرورة التي أملتها الحاجة لتأسيس الحشد الشعبي قد استنفذت أغراضها، ويمكن لأفراده الانتقال إلى المؤسسات المدنيّة والخدميّة، لاسيّما لمن يصلح منهم، لكي لا يخلق أيّ تعارض أو مراكز قوة يتم استغلالها لإضعاف الدولة تارة باسم الولائيين وأخرى بالضد منهم، وستبقى الخلافات قائمة بحكم المنافسة.
وعلى الدولة أن لا تتهاون في ذلك وأن تبسط سلطانها على جميع أراضيها ومواطنيها وتحقق سيادتها الداخلية والخارجية وتحميّ حدودها من أي تدخل أو تهديد، فتلك إحدى وظائفها الأساسية، وإلا لماذا هي إذن دولة إن لم تستطع ذلك، وخصوصاً حماية أرواح وممتلكات المواطنين؟
*قاد عدم الاستقرار السياسيّ والأمنيّ إلى اغتيال مرشحين وناشطين مدنيين وصحافيين، وهذا ما أثار غضب الشارع العراقي، وقد رفعت تظاهرات الأسابيع المنصرمة شعار "من قتلني"، وهو مطلب شعبي، وهناك أطرافاً سياسية دعت إلى مقاطعة الانتخابات المقبلة، فهل ستؤدي هذه الأوضاع إلى تأجيل الانتخابات؟
 ـ أعتبر غضب الشارع مشروعاً، فإن لم تستطع الحكومة وقف القمع والاغتيالات ومحاسبة المسؤولين، فماذا تنتظر من الشارع غير الاحتجاج، وحمداً لله فإن الأمور لم تتطور إلى عنف وعنف مضاد، وقد تحلىّ المتظاهرون بوعيّ عالٍ وإرادة قوية ولم ينجرّوا إلى العنف الذي حاولت قوى معلومة ومجهولة جرّهم إليه. وقد تمتع المتظاهرون برباطة جأش وصبر وثقة بالنفس وقاوموا الرصاص بصدور عارية، فعنفان لا يولّدان سلاماً وجريمتان لا تنجبان عدالة، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة.
الانتخابات تحتاج إلى أجواء طبيعيّة وسلميّة وآمنة وإلى ضمانات للمرشح والناخب وإلى وضع حد للتزوير والتلاعب. وقد كانت إنتخابات العام 2018 أقرب إلى المهزلة، ولم يشارك فيها أكثر من 20% في أحسن الأحوال بحسب تقديرات كثيرة معتمدة.
وحتى لو جرت الانتخابات، فالقانون الانتخابي الجديد تم تفصيله لمصلحة المجموعات الكبيرة التي توزعت على المناطق، وستحاول ابتلاع الكتل والشخصيات المستقلة، علماً بأن الكثير منها لا يعوّل على الانتخابات، بل إنها مُحبَطة ومتشائمة من النتائج التي تقول عنها أنها معلبّة ومعروفة سلفاً، حتى سيتم تدوير الزوايا واستبدال أشخاص من الاتجاه والتوّجه نفسه، فهل سيؤدي ذلك إلى التغيير المنشود الذي دفع المتظاهرون أكثر من 700 شهيد ونحو 20 ألف جريح بسببه، أم أن "شرعيّة" القوى الحاكمة سيتم تكريسها في ظل نظام محاصصاتي يقوم على الزبائنية والمغانم تحت عنوان "ديمقراطية التوافق"؟.
هذه الأخيرة إذا كانت صالحة فإنها لفترة انتقالية ولدورة أو دورتين انتخابيتين، وليس إلى ما لا نهاية بحيث بات عرفاً رئاسة الجمهورية للكرد، والبرلمان للسنيّة السياسية، ورئاسة الوزراء للشيعية السياسية، والوزارات السيادية كالخارجية والمالية والداخلية والدفاع والعدل موّزعة على ما يُطلق عليه "المكونات" فمن لم يلحقه التوزيع الثلاثيّ للرئاسات يضع عينه على الوزارات السيادية شرطاً للتوافق، خصوصاً من القوى المتنفذّة.
وهناك ثلاث احتمالات قد تظهر في المشهد السياسي خلال الأشهر القادمة وفقاً للدراسات المستقبلية للعلوم السياسية:
أولها: تحسن الوضع وانتخابات في ظل رقابة دولية ومنافسة شديدة تفتح ثغرة في مجلس النواب لصالح قوى لم تجرّب حظها في الميدان، وإن كان الأمر محدوداً، لكن قد يشكّل خرقاً وإن كان بسيطاً في الميدان.
وثانيها: بقاء الوضع على ما هو عليه، وهذا يعني تراجعه بعد مراوحة، وقد يستغرق الأمر دورة أخرى جديدة بعد دورة تشرين القادم، إن تم إجراء الانتخابات فيها أو حتى إن تأجلت لغاية العام 2022 بحيث تُجرى في موعدها الاعتيادي.
وثالثها: تدهور الوضع بحيث يصعب معه إجراء الانتخابات حتى بموعدها، وقد يكون للصراع الأمريكي- الإيراني دوره في ذلك، خصوصاً إذا احتدم، علماً بأن هناك قوى عراقية مقربة من إيران ستحاول استهداف المصالح الأمريكية، ومثل هذا الأمر يعقّد المشهد السياسي. (وقد تؤدي الخلافات الداخلية إلى نزاعات واحترابات وصراعات شيعيّة-شيعيّة، وسنيّة-سنيّة، وكرديّة-كرديّة). مما أمر سيُنذر بمخاطر جمّة على العراق ودول الإقليم بحكم الترابط والمشتركات. وينبغي على العقلاء أو من تبقّى منهم أن يفكر لا بمصلحة الطائفة أو الإثنية أو الجهوية أو العشائرية أو المجموعة الحزبية التي ينتمي إليها لأن التفتت التشظيّ أو الانقسام سيشمل الجميع بلا استثناء ولا أحد يستطيع أن يعفيّ نفسه من المسؤولية أو يتجنّب العواصف.
 https://gulanmedia.com/ar/story/264117/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D9%86:-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%AF%D9%91%D8%B9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%91%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%91%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D8%A7-%D8%B2%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%8B
*نشر هذا النص باللغة الكردية على حلقتين في مجلة كولان بتاريخ 5 و11 تموز/يوليو 2021. وقد أجرى الحوار رئيس التحرير فرهاد محمد.
 


67
لبنان: الارتطام الكبير
عبد الحسين شعبان
منذ أواسط العام 2019 يتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي اللبناني على نحو مريع، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فستكون النتيجة الحتميّة لمثل هذا الانحدار هي الارتطام بالقاع، حيث كان سعر صرف الدولار الواحد رسميّاً يساوي 1500 ليرة لبنانية، ووصل اليوم إلى 18 ألف ليرة. ومن يدري فقد يستمر الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، فتصبح العملة اللبنانية بلا قيمة في ظل أزمة اقتصادية خانقة أوصلت ما يزيد على 50% من اللبنانيين إلى حافّة الفقر، وكل ذلك يجري دون أن يرّف جفن للمسؤولين والمتحكّمين في مصير البلد. فهل سيسقط هذا البلد الجميل- الذي تغنّى به الشعراء والفنانون والأدباء والكتاب والعشاق والحالمون والمجانين- في الهاوية أم ثمة من سيبحث عن حبل نجاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
الأزمة تكبر والشق يتّسع، فالكهرباء تطلّ على الناس كهلال العيد، والمازوت والبنزين والمحروقات حديث الجميع، حيث الطوابير أمام محطات الوقود لأكثر من كيلومترين، وأحياناً يتم الانتظار على أمل الحصول على بضعة ليترات، لكن دون جدوى، والمخالفات والحوادث المرورية في ذروتها، حيث يستمر عدم تشغيل الإشارات الضوئية بحجة الاقتصاد في الكهرباء، والأوساخ تملأ الشوارع، ودوائر البلدية تكاد تكون عاجزة، لأن أجر العاملين انخفض إلى درجة غير معقولة، بحيث أصبح من يتسلّم راتباً شهرياً بحدود 800 ألف ليرة، لا يساوي أكثر من 50 دولاراً لشهر كامل، وإذا ما عرفنا الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية وجميع السلع والبضائع، فهذا يعني أن سُبل العيش أصبحت ضيقة، بل تكاد تكون مستحيلة، وطريق الحصول على لقمة عيش شريفة عسير وغير سالك.
وإذا ما رُفع الدعم الحكومي عن بعض السلع والبضائع، فإن الأسعار ستحلّق بطريقة "سوبرمانية"، وهي الآن بعيدة عن الواقع المَعِيشْ، وخصوصاً في مجاليّ الأدوية والأغذية بتآكل رواتب الموظفين جرّاء التضخّم في الأسعار، وباستمرار الفرق بين السعر الخاص للصرف(3900) للدولار والسعر الحقيقي غير الثابت والمتصاعد.
ويقول خبراء مطلّعون إن المصارف هي المستفيد الأول من هذا الفارق، إضافة إلى كبار التجار، فالمعاملات مع مصرف لبنان المركزي تتم على السعر الرسميّ بما فيها رساميلها وشراؤها للدولار وتسديد القروض المتوّجبة عليها والتلاعب بحسابات المودعين بالدولار. وإذا ما تم إقرار البطاقة التمويلية التي يُتوّقع أن يُقرها مجلس النواب فإن الأسعار سترتفع على نحو غير مسبوق، الأمر الذي سيؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بالناس وحقوقهم ومستقبلهم.
وإذا كان هناك من يعتقد أن العلاج هو بتثبيت سعر الصرف الذي يمكن أن يخفف من غلواء الأزمة، فالأمر أعمق وأعقد من ذلك، لأنه يتعلّق بالإصلاح الشامل، السياسي والاقتصادي والقانوني والتربوي وبنظام الحكم والانتخابات، وكل ما يتعلّق بالرسوم والضرائب، حيث لا توجد خطة حكوميّة، ناهيك عن عدم وجود حكومة أصلاً تستطيع اتخاذ قرارات جريئة بكسب ثقة المجتمع الدولي واسترداد مكانة لبنان المالية والمصرفية.
إن استمرار الحال على ما هو عليه يعني التوّغل في المجهول، لاسيّما في غياب إرادة سياسيّة موّحدة، وهذه للأسف الشديد ما تزال مُعطلة وغائبة وتتجاذبها أهواء ومصالح شتى: إقليميّة ودوليّة، طائفيّة وحزبيّة، في ظل استشراء الفساد المالي والإداري ونظام المحاصصة والتستّر على الأتباع والمريدين، طالما أن النظام يقوم على "الزبائنية" السياسيّة المرتكزة على المغانم والامتيازات.
ومع استمرار خطر جائحة "كورونا" وترديّ الحالة المعيشية وغياب خطة للإصلاح، تلوح في الأفق مخاطر تفكك وتفتت وسيناريوهات أقلها مُخيفاً بشأن مستقبل لبنان، خصوصاً بتعويم سلطة الدولة وازدياد حدة التوتر المجتمعي وارتفاع منسوب الجريمة المُنظمة وعمليات التهريب والاتجار بالبشر ومظاهر التعصّب والتطرّف وحالات العنف والإرهاب المنظّم وغير المنظم، حيث هوجم العديد من المصارف وخرّبت واجهاتها كما حصل مؤخراً مع البنك اللبناني- السويسري، مما أُضطر المصارف لإغلاق أبوابها احتجاجاً على ذلك.
وتستمر التظاهرات والاحتجاجات وقطع الطرقات وإحراق الدواليب إلى درجة أن بيروت تبدو خارجة لتوّها من الحرب، وما يزال مشهد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس الفائت 2020، يقضّ مضاجع الجميع وهو شاهد على ما وصل إليه سوء الإدارة والفساد وغياب الشفافية والانغلاق السياسي حدّ الاستعصاء.
الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهما وجهان لعملة واحدة، وإن لم تتم معالجة أسبابه وجذوره، فإن الارتطام الكبير سيحصل -لا سمح الله-، وعندها سوف لا يكون أحدٌ بمأمن من الكارثة، ومثل هذه النتيجة عرفها اللبنانيون بعد حرب طاحنة استمرت 15 عاماً، انتهت باتفاق الطائف العام 1989. فهل سيقرأ السياسيون والمتنّفذون الدرس الجديد أم سيتركون الحبل على الغارب؟، و"لاتَ ساعة مندم".
ولا بد من القول إن هذه الرؤية مهما بدت متشائمة إلا أنها ليست يائسة، وبقدر تقديمها صورة واقعية دون تجنٍ أو مبالغة، فهي في الوقت نفسه تقطر ألماً على هذا البلد العربي الفريد الذي يتمتع بحيوية ونشاط وإبداع لا حدود له، ومثلما كان واحة حرّية لا بد أن يستمر ليصبح مشروع ازدهار، وهي مسؤولية جسيمة.






68
عبد الحسين شعبان:
 شغفي بالمرأة ينبع من رائحتها وابتسامتها وغنجها
حاوره: أحمد عبد المجيد (الزمان)
مضى على آخر لقاء مباشر لي مع الدكتور عبد الحسين شعبان، أكثر من 18 شهراً. رأيته في بيروت التي كانت تشع بأنوارها وتغرق بلون البحر، الذي تحتضن أمواجه كثيراً من الذكريات وتخفي أسرار ما كان يدور في حجرات فندق (سان جورج)، وحديثاً في شرفات فندق "فور سيزونز"، وفي أحدى جولاتي مع الدكتور شعبان أطربني صوت فيروز المنبعث من مذياع سيارته، فتذكرت إن المفكرين وكبار الباحثين بشر أيضا، تأخذهم العواطف الى تخوم الشباب وأيام (الشقاوة)، ولم يكونوا بالجدية التي هم عليها اليوم، وبالانشغالات التي تصرفهم عن العناية – أحيانا –  بألوان اللوحة الماضوية التي هرب بريقها، فتحول إلى حلم باهت لا ملامح له ولا اثر.
* ما يجمع أساتذتي في الإعدادية طيبة القلب وحب التلاميذ
* شغفي بالمرأة ينبع من رائحتها وابتسامتها وغنجها
* استمع إلى فيروز ووردة وأم كلثوم واستمتع بالموسيقى الكلاسيكية
* إحتفظت بعلاقة ودية بالبياتي يوم تعرفت إليه في القاهرة مطلع 1969
* أنا تعددي بإستثناء فلسطين والفقراء
* الأسفار ثلاثة والأخيرة سفر  التيه والحيرة
* حب الناس سعادتي والعمل وأسداء الخير مصدرها الأساسي
* هاجسي لا يتجسد بشخص بل بظاهرة الغدر
* السيرة الذاتية شديدة القسوة لكنها ليست هتكاً للاسرار.

وقلت، في نفسي، أن هذا الرجل، وأنا صامت جالس إلى جواره في المقعد الأمامي في السيارة، يعيش على أطياف من الذكريات، لكن لا احد نبش فيها ولا حاول إخراجها من القمقم يقول الأديب اللبناني جبران خليل جبران (أحترس من ذكرياتك، فالوجع يزورك مرة واحدة ولكنك لا تتوقف عن زيارته). وغالبا ما يعمد الذين يجرون حوارات صحفية معه، يستنطقونه بقصد استدراج فكره ورؤاه السياسية والفلسفية، متناسين أن قلبه مازال ينبض، وهو مفعم بالألم وسهر الليالي والحرمان، وان ملائكة الحب تحوم حوله، ولاسيما في خلوته أو تحت تأثير كأس من النبيذ احتساه في ركن من أركان شارع الجميزة البيروتي، الضاج بالحركة والعنفوان والمزدحم بالسكارى والصبايا. وعملياً فان شعبان دأب على اختيار زاوية عند مطعم شعبي اسمه (مشاوي مار مخايل) يضع مناضده على قارعة الطريق، ويحرص شعبان على دعوة المقربين منه إلى هذا المكان، لنفض متاعب القدوم من بغداد أو الشام إلى المدينة التي اتخذها محطته الأخيرة بعد أن جاب مدناً وعاشر عواصم.

* * *

بعض الأشخاص تتمنى لو انك لم تصادفهم في حياتك، وبعضهم تتعرف عليه وتمضي معه رهطاً من حياتك، ويمض وتمضي دون أن يترك في مشاعرك أثرا أو في روحك بصمة. أما أفضلهم على الإطلاق فهم الذين تهبط صداقتهم عليك من السماء، فترتبط بعلاقة وطيدة بهم فيتركوا في روحك عطراً وفي نفسك شذى الوفاء والقصص الحميمة. وعبد الحسين شعبان من هذا الطراز. وذات مرة قلت له، وأنا على تواصل شبه يومي معه عبر الهاتف، (دكتور.. أعاتب نفسي أحيانا بالسؤال، لماذا لم أتعرف إليك قبل عقود من الزمان؟) . ويضحك معبراً عن سمات شخص نادر الوفاء يمزج المرح بصدق الكلام.

ويوم كنا نتجه إلى (الجميزة)، الشارع الذي يروق له وسط بيروت، راودني فضولي الصحفي فرفعت عن علاقتنا بعض (الكلفة) واقترحت عليه إجراء حوار غير تقليدي، ليس كعشرات وربما مئات الحوارات التي أجريت معه واتسمت بجدية مفرطة تنظر فيها الأسئلة إلى الحياة وكأنها فواجع بشرية وعنف مفرط وثأر تاريخي حسب، أو كأنها تقتصر على رؤى ماورائية، لا حيوية فيها ولا صفاء إنساني أو كما يظنون أنها حكاية تراجيدية تكشف وجودنا البشري الضعيف. رأيت أن يكون حواري مع عبد الحسين شعبان، الإنسان والمفكر، صائد المفردات والمصطلحات والعابر من الكفاح بأنواعه، إلى المرح واللاشقاء بأنماطه والسخرية من الأقدار، حلوها ومرها . وهكذا ولد جزء من هذا الحوار، بينما كان شعبان يمارس رياضة المشي، قرب انتصاف الليل، على رصيف كورنيش بيروت، تاركاً لساعة الكترونية يرتديها، قياس خطوات المسافة التي يقطعها ذهاباً واياباً كل يوم، أما الجزء الآخر فقد ولد في حضن الحجر الصحي من الجائحة، بعد أشهر من بقاء الأسئلة في الأدراج، وسفر شعبان إلى لندن، لتلقي الجرعة الثانية من اللقاح ضد كورونا:

* ما الذي تركته من عقلك الباطن في النجف؟

–الروح تسكن هناك، حتى وإن سكنت النجف في قلبي. وعلى غرار الموسيقار البولوني شوبان "العقل في باريس والقلب في وارشو"، أقول القلب في النجف والعقل مهاجرٌ. وإذا كانت باريس قد منحت شوبان الشهرة حيث تربّع على عرش البيانو والإبداع الموسيقي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، بعد باخ وموزارت وبيتهوفن، فإن وارشو منحته تلك الروح المتوهّجة، حتى توزّعت بين عشقه وموسيقاه.

* ما شكل الصف الدراسي الذي جلست فيه للمرّة الأولى؟

– مدهش بخشوع وناطق بالبهاء ومفعمٌ بأريج الأمل… إنه اللبُّنة الأولى التي قادتني لعالم المعرفة الشاسع والبلانهايات.

* ما هو أول كتاب قرأته؟

– اعترافات أرسين لوبين "اللصّ الظريف"، ولاحقاً عرفت أن المؤلف هو الكاتب الفرنسي موريس لوبلان.

* ما هي أول قصيدة حفظتها؟

– ربما للشاعر معروف الرصافي التي يقول فيها:

أنا بالحكومةِ والسياسة أعرف/ أَأُلام في تفنيدها وأعنّف

عَلَمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ/ كل عن المعنى الصحيح محرّفُ

* ما هو أول وجه رأيته وما زال عالقاً في عقلك ووجدانك؟

– وجه الوالدة المنير نجاة حمود شعبان ووجه الوالد المشرق عزيز جابر شعبان، وحين أستعيد المشهد، فكأنهما انفلقا عن تكوينٍ واحد، وأصبحا جسمين ولكن بروح واحدة.

* صف لي معلماً تأثّرت به؟

– سأصف لك ثلاثةً لأنهم يكمّلون بعضهم البعض:

الأول – عبد الرزاق الساعدي، وهو أوّل مَن علّمني فك رموز الحرف (الصف الأول الابتدائي).

والثاني – رؤوف الشيخ راضي، الذي حبّبني باللغة العربية وبدرس الإملاء (الصف الثالث الابتدائي) وكلاهما في مدرسة السلام.

والثالث – الشيخ يحي الجواهري وهو أحد المتمكنين من اللغة العربية وفقهها، وقد درست على يديه في الإعدادية: النحو والصرف والإعراب وكتابة الشعر(الصف الرابع الثانوي).

وكان الأول سمحاً جداً، والثاني حازماً جداً، والثالث عصبياً جداً، وما يجمعهم طيبة القلب وحبّ تلاميذهم وتفانيهم من أجل تعليمهم.

* أي الطيور أحببتها في صباك ولماذا؟

– الحمام والبلابل والعصافير وما زلت أحبّها لأنها أليفة وتغريداتها جميلة.

* ما الذي يُذكّرك بامرأةٍ شغفت بها؟

–  رائحتها وابتسامتها وغنجُها.

* هل تستمع إلى أغنيات الريف، ومَن هو مطربك الريفي الأول؟

– أحياناً… أحب الاستماع إلى مطرب الريف الأول داخل حسن، ثم إلى المطرب الشعبي للأغنية الحديثة الياس خضر.

* ما أنواع الموسيقى التي تستمع إليها؟

– الموسيقى الكلاسيكية وبشكل خاص سيمفونيات بيتهوفن وموزارت وباخ وتشايكوفسكي ودفورجاك… وبالأخص أحب الاستماع دائماً إلى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، والسيمفونية الخامسة لتشايكوفسكي، والسيمفونية الرابعة  لدفورجاك.

* وأي المطربين تستمع إليهم عادةً؟

–  فيروز بالدرجة الأولى، وأحب الاستماع إلى عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وأم كلثوم ووردة الجزائرية.

* لماذا تميل إلى الشاعر الجواهري من دون سواه؟

–  أميلُ إلى الأدب بشكلٍ عام والشعرُ بشكلٍ خاص، وميلي إلى الجواهري الكبير لأنه أحد أبرز أركان الشعر الكلاسيكي في القرن العشرين، بل آخر عمالقته. وهذا الميل محكوم بالذائقة الشعرية من جهة، وبالعلاقة والصداقة التي ربطتني مع أبي فرات لنحو ثلاث عقود من الزمان من جهة أخرى. وقد سبق لي أن قلتُ وقبل التعرف المباشر على الجواهري أنه عاش في بيتنا (لأن كلُّ ما يخصّه وما كان ينشرُه من قصائد ودواوين وما يكتب عنه موجود في بيتنا، ويتداوله الأعمام والأخوال) كما كان معنا في مدرستنا "الخُورنَق" حيث كانت قصيدته التي حيّا فيها ثورة 14 تموز/يوليو 1958 مفتتح فصلنا الدراسي الأول، وهو موجود في مدينتنا النجف (واقعاً وليس مَجازاً) حيث نشأ فيها.

وللأسرة الجواهرية مكانة علمية منذ جدّه الأقدم محمد حسن صاحب كتاب "جواهر الكلام في شرائع الإسلام"، الذي اكتسبت منه الأسرة اسمها.

والأكثر من ذلك أننا عشنا في مدينتين حبيبتين لسنوات عديدة هما براغ في السبعينات، ودمشق في الثمانينات، وكنا على تواصلٍ مستمر، مثلما إلتقينا في لندن في التسعينات.

وقد أصدرتُ عنه كتاباً بعنوان: الجواهري في العيون من أشعاره" في العام 1986(بالتعاون معه)، كما أصدرتُ عنه كتاباً في العام 1997 الموسوم "الجواهري – جدل الشعر والحياة" (طُبع ثلاث طبعات).

* وماذا عن علاقتك بشعراء آخرين؟

–  احتفظت بعلاقة ودّية مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي تعرّفت عليه في القاهرة في مطلع العام 1969 وبلند الحيدري حيث عملنا معاً في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان عضواً في المجلس الاستشاري، وكذلك بعلاقة وثيقة مع الشاعر مظفر النوّاب والشاعر كاظم السماوي والشاعر رشدي العامل والشاعر والروائي فاضل العزاوي، كما ارتبطت بصداقة مديدة مع الشاعر سعدي يوسف، وهو "شاعر التفاصيل الصغيرة"، وقد غيّرت قصيدته منذ مجموعته الشعرية "الأخضر بن يوسف ومشاغله" 1972 ذائقتنا الشعرية، وآمل أن يتسع الوقت للكتابة عنه وهو المبدع الذي لا تُدرك بوصلته، وهو في نظري أحد أبرز شعراء الشعر الحديث بعد بدر شاكر السيّاب وجيل الروّاد، ويشكّل مع محمود درويش وأدونيس أهم ثلاثة شعراء عرفتهم اللغة العربية، منذ ستينات القرن الماضي، علماً بأنه غزير الإنتاج، شعراً وترجمة ونقداً، إضافة إلى رواية واحدة بعنوان "مثلث الدائرة"، وعشرات الدراسات ومئات المقالات.

كما كانت علاقتي وثيقة بعدد من الشعراء الشعبيين مثل شاكر السماوي وعزيز السماوي وكاظم إسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف.

وأود هنا أن أنوّه إلى العلاقة المتميّزة مع عشرات من الأصدقاء من جيلنا والجيل الذي أعقبنا وهم شعراء مرموقين، وبشكل عام اطلعت على الشعر العراقي بمدارسه المختلفة.

* كيف شربت كأسك الخمري الأول؟

– مثل الريح الخفيفة المعطرة والمنعشة، وما زال طعم الكأس الأول لذيذَ المذاق وأشتاق إليه.

* هل تحنّ إلى صديق قديم أَثير إلى قلبك؟ من هو؟

– السيد صاحب جليل الحكيم، صديق العمر والشيوعي الأول والأنقى، متمنيّاً له الصحة وطول العمر.

* عدّد لي ثلاث صفات تتمنّى في كل إنسان؟

– الشجاعة والأمانة والوفاء، وهي منظومة متكاملة وأي اقتطاعٍ لجزءٍ منها يخلُّ بالآخر.

* أيام السجن، ماذا كان يشغل بالك فقط؟

–  لم أسجن. بل اعتقلت عدّة مرات، وما يشغلني كان وما يزال هو المستقبل.

* أيّهما أقرب إلى قلبك… ابنتيك أم زوجتك؟

–  الإبنتان قطعة من قلبي وروحي، والزوجة من خارجه، ويمكن أن تدخل وتخرج، وهكذا هي الحياة. وتبقى مكانة الأبناء متميّزة.

* ماذا يمثّل الشقيق بالنسبة إليك، وهل وجدته فعلاً فيه؟

– التكامل والوفاء… نعم هو ما وجدته فيه.

* أي البلدان أحبّ إلى نفسك؟

– أنا تعدديّ، كما تعلم، باستثناء فلسطين والفقراء، فأنا أحاديّ كما قال صديق عني. فبعد العراق (النجف وبغداد، الروح ومسالك الطير) الأقرب إليّ هي سوريا، وفي دمشق المدينة الناعمة كحرير الصين كان تكويني الثاني، وقد كتبت عنها نصّاً أدبياًّ بعنوان "الشام هي التي علّمتني حب الصباح"، وأنا أردّد دائماً أنني "سورا قي".

أما بلاد التشيك، ففي براغ تتقاطع طرق الحب وتلتقي جداوله، وكتبت نصاً أدبياً عنها بعنوان "براغ وثمة عشق"، ويبقى لبنان مانحاً الحواس عطراً وجمالاً، حيث الخزامى واللافندر، وفي بيروت يتجدّد العشق، هكذا هي أرخبيلاته وشواطئه، وقد كتبت نصاً أدبياً عن بيروت حين تم تكريمي من قبل الحركة الثقافية في انطلياس.

* ألهذا السبب أنتَ في بيروت؟ ولماذا غادرت لندن؟

–  بيروت أقرب إلى المزاج، وأكثر دفئاً وألفة وحميمية، وهي ملتقى المثقفين والمنفيين والصعاليك والعشاق. أما لندن فرغم ايجابياتها، خصوصاً الحرية والأمان، فإنها أبعد وأبرد، إضافة إلى ارتباطي بعقود عمل جامعيّة في بيروت منذ سنوات طويلة.

* أنت كثير الترحال والأسفار.. أيهما تفضل ركوب البحر أم البرّ أم الجو؟
–  حسب ابن عربي فالأسفار ثلاثة:  "سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه"، وهذا الأخير سفر التيه والحيرة، وهو لا معنى له، وسفري شخصياً هو سفر الروح التي ظلّت معلّقة هناك، وهكذا تراني هائماً وغير مستقرّ، مرتحلاً مع كتبي وأسبابي ولواعجي.
وفي السفر فوائد كثيرة، فإضافة إلى المغامرة والاكتشاف، ففيه الاطلاع على ثقافات الشعوب وحضاراتها. وهو يمنحك مرونة في التعامل مع الآخر، وقدرة أكبر على التسامح والتواصل والصداقة وكل ما هو مشترَك إنساني. وفي السفر اكتشاف للذات أيضاً وحسب الشافعي فيه تفريج همٍّ، وقد يكون طلب علمٍ.

* ما أحسن رواية قرأتها؟
–  دونكيشوت لسرفانتس، وهي مصنّفة من أعظم الروايات العالمية.
* ومن هو أعظم روائي؟
–  أستطيع القول دوستويوفسكي وتولستوي وماركيز. وهؤلاء من أفضلهم.

* وأفضل روائي عربي؟

–  نجيب محفوظ بالطبع، كما يعجبني عبد الرحمن منيف.

* وماذا عن أفضل روائي عراقي؟

–  أحب قراءة غائب طعمة فرمان ويشدّني فؤاد التكرلي وأستمتع بقراءة شمران الياسري "أبو كاطع"، وأقصوصاته وحكاياته.

* أي همٍّ يغمرك بالألم والأسى والحزن؟ وكيف تستطيع الهرب من انشغالاته؟

– أكبر الأحزان هو الظلم على المستويات كافة، وأشعر براحة نفسية حين أنتصر لمظلوم أو أساعد ضحية، وكم كنت منسجماً مع نفسي حين تمكّنت من مساعدة لاجئين فارين من العراق أو من عدد من البلدان العربية.

* مرأة… صحيفة… أم صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي؟

– تعدديتي متواصلة مع الكتاب والمرأة والنبيذ ورياضة المشيّ والصديق، وهي متداخلة ومتفاعلة ومتراكبة، يكمّل بعضها بعضاً.

* ماذا تقول في الصداقة والصديق؟

– حسب أرسطو: الصديق إنسان هو أنت… إلاّ أنه بالشخص غيرك. والصداقة أفضل العلاقات الإنسانية. وأساسها كرم العهد والتضحية.

* هل أنت سعيد وما أبرز سمات السعادة في رأيك؟

– نعم سعيد جداً، وحبّ الناس وحب العمل وحب الخير هي مصدر سعادتي الأساسية.

* أي أغنية تطاردك أينما حللت؟

-أغنية الياس خضر والتي هي من ألحان طالب القرة غولي والكلمات قصيدة لمظفر النوّاب:

روحي ولا تگـلها شبيج ..وآنت الماي

مگطوعة مثل خيط السمج روحي

حلاوة ليل محروگة حرك روحي

وعتبها هواي ما يخلص عتب روحي

ولا مريت ولا نشديت ولا حنيت

گالولي عليك هواي

ياثلج اللي ما وجّيت

وأحياناً أغنية سعدون جابر وألحان كوكب حمزة، والكلمات للشاعر زهير الدجيلي:

عيني ياعيني ياهوى الناس

قداح وشموس وعصافير

ياليل ومعاشر نواطير

مرات ياخذنه الهوى اثنين

مرات تحضنه البساتين

ومرات تنسانه الدواوين

ومرات نسأل عالوفه وين

لكن هوانه .. هوى الناس

* والأغاني الأجنبية؟

– أغنية فرانك سيناترا Stranger in the night.

وأحياناً أغنية كارل غوت المغنّي التشيكي O MAMI وهو المعروف بصاحب
"الصوت الذهبي".

* وأنت تقود سيارتك هل ندمت على عدم الوقوف إزاء مشهد صادفك؟

– نعم، حين يعتدي رجل على امرأة تسير معه وسط الشارع أو يعنّف أحدهم متسوّلة سورية اقتربت منه، وهي التي قذفتها ظروف الحرب والحصار إلى الهجرة.

* هل ثمة شبح يطاردك أحياناً؟ صف لي شكله أم هواجسك منه؟

– لا يتجسّد بشخص، بل بظاهرة هي الغدر، وهي وسيلة الجبناء، ومنعدمي الضمير.

* كم مرّة وقعت بالحب؟

– لا يوجد تصنيف للحب وليس ثمة أرقام أو أعداد بالنسبة لي. الحب واحد، فقط تتقاسمه عدّة نساء، ولكل امرأة زمانها ومكانها، وحتى وإن تداخلت الأزمنة والأمكنة أحياناً، فيبقى الحب واحداً، وهو الذي ينتصر.

* وماذا عن الحب الأوّل؟

– لا يوجد حب أول وحب أخير، فكل حب هو أول بالنسبة إليّ، والحب واحد تتقاطع فيه الطرق وتتقارب المصائر وتتشابك العواطف وتختلط الأحاسيس.

* ما علاقة القلب والعقل بالحب؟

– العشق بالقلب وهو بالعين أيضاً، وحسب بشار بن برد بالأذن أحيانا، والقلب والحاستان أول العاشقين، أما العقل فهو يؤنسن العشق ويؤطره، فليست كل عين ترى، على حد تعبير ابن عربي، ويمكن القول وليست كل أذن تسمع.

وهكذا فالعشق ندى الروح وعطر القلب.

* كيف يأتيك الحب؟

– مثل شلال ضوئي وسرعان ما يكون له سلطان على القلب وفيه تتطهّر الروح، ويدخل العقل في حوار مع القلب، واتحادهما على موقف موحد، يبعث في المرء نوعاً من الطمأنينة والرضا، وحين أكون في مثل هذه الحالة تراني أنام بعمق، وأتنفس بعمق، وأعمل بعمق.

* هل هناك دين متسامح وآخر غير متسامح.

– الأديان أكثر رحمة وتسامحاً من البشر، والإنسان هو من يحاول أن يوظّفها باتجاه الشر والتعصب والتطرف والعنف والإرهاب.

* هل تؤمن بالله؟

– علاقتي بالسماء قوية، وتأتيني إشارات غامضة باستمرار وأشعر معها بالطمأنينة والسلام، وكل ذلك خارج دائرة الطقوس والشعائر والغيبيات، وإنما هي علاقة روحية وجدانية عقلية.

* متى تكتب سيرتك الذاتية؟

– السيرة الذاتية شديدة القسوة على كاتبها وكذلك على القارىء وهي ليست هتكاً للأسرار أو انتقاصاً من الآخر أو فضحاً لخفايا النفس أو تلميعاً للصورة، إنها خلاصة تجربة قيمية وصميمية، وقد تكون فرصة للمراجعة خارج دائرة الإساءة للأموات أو إيذاء للأحياء. إنها فرصة تأمل وهدوء ونقد موضوعي.

* ماذا تتمنى؟

– أن يسود السلام واللاّعنف، وأن تنعم بلادنا العربية، بل والعالم أجمع، بالحرية والتنمية وأن نستطيع التعايش فيما بيننا على أساس المشترك الإنساني، وأن نسـهم كما كان أسلافنا في ركب الحضارة الكونية.

 
حاوره: أحمد عبد المجيد

69
صداقة (الزمان) من لندن إلى بغداد
                                                                           
عبد الحسين شعبان
لعلّي كنت من أوائل المتابعين لصدور صحيفة الزمان في لندن، حيث تأسست في العام 1997 وصدر عددها الأول في 10 نيسان/إبريل، واليوم يصل إصدارها إلى العدد رقم 7000 وهي في عزّ عطائها وارتقائها وتجدُّدها. ومثل هذه المناسبة تدعو للتأمل والتدبّر والنقد، أولاً  - لتقييم ما تحقّق من منجز حقيقي، وهو منجز منظور وقائم وكبير، وثانياً -  للأفق الذي تفتحه لإعادة القراءة بهدف استشراف المستقبل.
ولا بدّ أن نأخذ سمات الصحيفة وطابعها منذ أعدادها الأولى، لجهة مهنيتها واستقلاليتها وعلاقتها بقضايا التقدم والحداثة، حيث ساهم وضوح رؤية مؤسسها ورئيس تحريرها الصديق سعد البزاز، في توجّهها وتعميق مسيرتها، حتى تصلّب عودها وأصبحت مدرسة حديثة بمنهجيتها والتزامها بقيم الحرية.
وسبق لي أن ذكرت أنني سألت الأستاذ البزاز حين أخبرني برغبته في إصدار صحيفة متميّزة في لندن التي كان قراؤها يتوزّعون على ثلاث صحف كبرى لكل منها لونها الخاص، واتجاهها المتميّز، حيث كانت جريدة "الشرق الأوسط" أول صحيفة عربية في لندن، والحياة ذات النكهة اللبنانية ، والقدس العربي المهتمة بالشأن الفلسطيني والبعيدة عن الاتجاهات الرسمية، والعرب المحدودة الانتشار آنذاك.
قال البزاز أنه يريدها صحيفة عراقية بنكهة عربية مفتوحة للأقلام الشابة وغير التقليدية أو المحترفة، ولا أخفي سراً أنني كنت قد شكّكت بإمكانية نجاح صحيفة بهذه المواصفات في أجواء لندن الثقافية والإعلامية التي تضج بالمعارضات والاتجاهات المتضاربة، فكيف برجل خرج لتوّه من عباءة الإعلام الرسمي يريد إقامة "مملكته المستقلة". ولعل جزءا من شكوكي كانت تنصرف إلى القرّاء أيضاً بحكم الاصطفافات الحادّة. ولكن سعد البزاز تجاوز تلك العقبات وواجه التحديات مغامراً على طريقته، طارقاً أبواباً لم يطرقها قبله أحد، فحقق نجاحاً منقطع النظير. بل إن بعض مَن هاجمه في البداية، عاد ليطلب ودّه. وقد تعامل البزاز بأريحية وجنتلمانية، وبكل انفتاح وتسامح من دون أية حساسيات أو مواقف مُسبقة، وتلك كانت رسالة الصحيفة الأولى التي هي إعادة بناء الجسور وترميم العلاقة بين العراقيين وبينهم وبين أشقائهم العرب، وقد احتل مكانه بجدارة كما احتلت الصحيفة موقعها بجدارة أيضاً.
انطلقت "الزمان" من مفهوم الاهتمام بالشأن العراقي في إطار الشأن العربي، أي جعل الاهتمامات العراقية جزءا من الاهتمامات العربية، وعدم الانكفاء على القضايا العراقية. فالعروبة الحضارية هي هوّية لغوية وثقافية جامعة ومفتوحة، حتى وإن تباينت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين البلدان العربية، لكن هناك ما يقرّبها للتكامل والتواصل والمصائر المشتركة، خصوصاً وأن اللغة واحدة، والتعبير عنها في الأدب والشعر والقصة واحد، لأن اللسان واحد، حتى وإن كان لكل مفردته وأسلوبه وذوقه، مثلما لكل فرد خصوصيته في هذا الإطار.
وعلى الرغم من أن القضايا العراقية كانت تقع في قمة أولويات صحيفة الزمان وشواغلها، لكن البزاز أدرك ببعد نظر ورؤية متقدمة، إضافة إلى علاقته المتميّزة، أن ثمة صورة أكبر، على العراقيين رؤيتها، وهي عالم عربي واسع وعالم إسلامي كبير وعالم إنساني شاسع. وإن ما تحقّق خلال ما يقارب ربع القرن الماضي، يعود في جزء منه إلى هذه الرؤية الإستشرافية، خصوصاً في ظل العولمة وتأثيراتها وامتداداتها، وقد عمل باكراً على التفكير بعراق محتمل، وعالم عربي متغير، وعالم متواصل وسريع لا ينتظر.
ولم تكتفِ الزمان بالانشغال بالخبر اليومي والطازج، بل خططت لما هو أبعد واستراتيجي، وكان لها قصب السبق فيه لعلاقة البزاز السابقة بأصحاب القرار ومعرفته  بآليات عمل الدولة، فضلاً عن صلته بالمثقفين والأدباء التي اكتسبها بمهارة خلال عمله المهني، لذلك فكّر بالاهتمام بقضايا أبعد من الخبر الصحفي، من نشر ثقافة الحوار والسلام والتعايش، إضافة إلى الأدب والفن وتشجيع المبادرات على هذا الصعيد، وصولاً إلى قضايا التنمية واقتصاد المعرفة والعلوم والتكنولوجيا.
فالصحافي حسب ألبير كامو هو مؤرخ اللحظة، والصحافة هي "صاحبة الجلالة" كما يقال أو السلطة الرابعة، والأمر في ظل الثورة العلمية - التقنية، وثورة المعلومات والاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتال" يصبح أكبر بكثير، لأن  الإعلام يؤثر في الرأي العام، بل أصبح قادراً على صنعه، فما بالك حين نكون على أعتاب الثورة الصناعية بطورها الرابع.
وإذا كانت الهوّية العربية بارزة في الصحيفة فإنها لم تنس الهوّيات الفرعية، وتوقّفت عند أبواب الشراكة والمشاركة، من خلال الدعوة إلى المواطنة المتساوية والمتكافئة، في إطار التكامل وليس التنافر، والتنوّع في الوحدة، والحق في الاختلاف، بفتح باب للتنوير والحداثة من خلال الإقرار بالتعددية والتنوع وحرية التعبير.
ولعل أهم ما ميّز الصحيفة أنها كانت خارج دوائر الأيديولوجيا وهي مفتوحة للجميع، طالما تمسّك هؤلاء بشروط الكتابة والحوار والاحترام، وقد اهتمت بالبنية الأخلاقية للقيم الصحفية، وبقدر كونها إطاراً موحداً إلاّ أنها تمتاز بتعدّد الأصوات داخلها، حتى وإن ميّزت نفسها، وأظن أن ذلك كان أحد عوامل نجاحها، خصوصاً بالابتعاد عن المحاور والنمذجة  والتنميط وتصنيف الآخر على نحو مُسبق لاعتبارات عرقية أو دينية أو طائفية أو سياسية أو غير ذلك، في منهجية تربوية انفتاحية.
كما ساهمت في إثارة قضايا مهمّة وملفات شائكة حتى وإن كان له موقف إلاّ أنها كانت منفتحة على المواقف الأخرى فاسحة في المجال لحوار على صفحاتها تتلاقح فيه الأفكار. ومن تلك الموضوعات: القضية الكردية وقضية الحصار الدولي وقضية الطائفية وموضوع الاحتلال والدستور والاتفاقية العراقية - الأمريكية، والانتخابات وقضايا العنف والإرهاب وتنظيمات القاعدة و"داعش"، إلى التراث الثقافي والآثار العراقية والصروح التاريخية، إضافة إلى اهتمامها بالشباب والمرأة وبالمدينة العربية وعمرانها ومدنيتها. وأعتقد أن كتّاباً بدأوا أولى كتاباتهم في صحيفة الزمان وأصبحوا لاحقاً كتّاباً معروفين.
ويعود ذلك النجاح إلى رؤية مؤسس "الزمان" وصاحبها والفريق العامل معه في لندن، سواء الصديق الكاتب والروائي فاتح عبد السلام صاحب القلم الرشيق والكلمة المؤثرة، أو الراحل نضال الليثي وآخرين، وفي بغداد الدكتور أحمد عبد المجيد الصحافي اللامع والكفاءة المهنية العالية.
وإذا كنت قد كتبت في "الزمان" منذ تأسيسها وإلى الآن، وبكثافة أكبر خلال السنوات العشر ونيّف المنصرمة، فإنني إذ أحيي ذكرى صدورها متمنياً لها استمرار تألقها وازدهارها، فثمة ملاحظات لا بدّ من التوقّف عندها. وأقصد بذلك ومن دون مجاملةٍ، بذل جهد أكبر كيما تظهر الصحيفة بمهنية عالية ولغة سليمة، فقد لاحظت تسرّب بعض المواد  التي لا ترتقي إلى المستوى الذي وصلته الصحيفة، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من التدقيق. أقول ذلك كصديق حريص على استمرار صحيفة "الزمان" التي جمعت أقلاماً مبدعة ومثّلت نموذجاً صحافياً راقياً.




70
بايدن - بوتين وألغام الحرب الباردة*
عبد الحسين شعبان
   كان الخبر الأبرز في القمة الروسية - الأمريكية التي التأمت في فيلا "لا غرانج" التاريخية في جنيف هو: لا حرب باردة جديدة بين البلدين، وهو ما صرّح به بايدن، مشيراً "أنّ مثل هذه الحرب لا تصّب في مصلحة أحد"، وهذا يعني أنّ آفاقاً جديدة بدأت تأخذ طريقها إلى تحسين العلاقات بين الدولتين العظميين، والتي شهدت "حرباً باردة" متصاعدة و"صراعاً أيديولوجياً" حاداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانفضاض التحالف المعادي للفاشية والنازية، إلى نهاية الثمانينيات، حيث تهاوت الأنظمة الاشتراكية بلداً بعد آخر، وانهار الاتحاد السوفيتي السابق في نهاية العام 1991 منشطراً إلى 15 دولة، بعضها أصبحت حليفة للغرب وعضواً في حلف الناتو و عدواً شديداً لروسيا. وكان الجانبان قد اتفقا مسبقاً على عدم توقيع أيّة وثائق في ختامها. واكتفيا بمؤتمرين صحفيين منفردين.
    وصرّح بايدن خلال مؤتمره الصحفي أنّ علاقات موسكو مع واشنطن يجب أن تكون مستقرة وقابلة للتنبؤ. وعلى البلدين إيجاد مجالات للتعاون وفقاً لقواعد أساسية يلتزم بها البلدان. وكانت العلاقات الروسية - الأمريكية قد شهدت توتراً شديداً إثر شنّ بايدن حملة شعواء قبل أسابيع من لقاء قمّة جنيف ضد روسيا، متهماً رئيسها بالفاشل، وقبلها اتهمه بالقاتل، الأمر الذي أدّى إلى عودة السفير الروسي أناتولي أنطونوف لدى واشنطن إلى موسكو للتشاور في مارس/آذار 2021 في حين غادر السفير الأمريكي جون ساليفان موسكو بعده بشهر واحد، لكن بايدن خلال المباحثات أكدّ لـ بوتين أنّ أجندة الولايات المتحدة ليست معادية لروسيا، لكن أيّ رئيس أمريكي لن يكون قادراً على الحفاظ على ثقة الناخبين الأمريكيين إن لم يبذل جهوداً للدفاع عن الديمقراطية، وفي جواب لأحد الصحافيين قال: المسألة تتعلق بالمصالح.
    واتفق الرئيسان على تطبيع العلاقات وإعادة السفيرين إلى كلِّ من واشنطن وموسكو، والبحث في الخطوات اللاحقة في مجال الرقابة على الأسلحة بهدف خفض مخاطر نزاع غير متعمّد، وهذا ما سيتم بحثه في إطار حوار ثنائي، تمهيداً لاتفاق شامل واستراتيجي حول الرقابة على الأسلحة. وقد شملت المباحثات أهمية التمديد الأخير لمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية - الاستراتيجية (ستارت 3).
    وناقش الرئيسان موضوع الأمن السيبراني والاتهامات الأمريكية القديمة - الجديدة  فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية، التي تقول واشنطن أنّ هناك من يقف وراءها من داخل روسيا. وأعلن بايدن أنّه سلّم نظيره الروسي 16 قطاعاً حيوياً (الطاقة وإمدادات المياه وغيرها...) التي لا يمكن المساس بها وأنّ الولايات المتحدة لن تتسامح مع محاولات الاعتداء على سيادة الديمقراطية الأمريكية، وستردّ على أيّة  محاولة للمساس بمصالحها أو مصالح حلفائها، وهي تمتلك القدرات الضرورية لذلك، ولمّح إلى حقول النفط الروسية وماذا سيكون ردّ فعل بوتين لو هوجمت سيبرانياً؟
    وتطرقت المحادثات إلى الملف الأوكراني الذي أكدّ بايدن دعم بلاده لسيادة أوكرانيا، في حين أكد بوتين التزامه باتفاقيات مينسك للتسوية الأوكرانية، كما أبدى بايدن قلقاً بشأن الوضع في بيلاروسيا.
    أمّا بالنسبة للشرق الأوسط، فقد اتفق الرئيسان على فتح ممرات إنسانية في سوريا لنقل المساعدات الغذائية، وعدم تمكين إيران من الحصول على الأسلحة النووية، وبحثا تطورات الوضع في أفغانستان لمنع انتعاش الإرهاب بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والاتفاق مع حركة طالبان (فبراير/شباط 2020) وعرض بوتين المساعدة على بايدن في هذا المجال.
    أمّا بشأن حقوق الإنسان فقد جرى التطرق إلى مصير الروس المعتقلين في السجون الأمريكية، إضافة إلى استثمار منطقة القطب الشمالي ومنع عسكرتها وكذلك احترام حقوق الإنسان في روسيا ومسألة المعارض الروسي أليكسي نافالني، حيث لفت بايدن الانتباه إلى أن عواقب وخيمة ستحدث إذا توفي في السجن، وكان نافالني قد أدين بتهمة اختلاس أموال قبل سنوات عديدة وخفّض الحكم مع وقف التنفيذ، وأيضاً دعا بايدن إلى إطلاق سراح المستثمر الأمريكي مايكل كالفي المحكوم بالسجن في روسيا، وربط ذلك بمصير استثمارات أمريكية واسعة في روسيا.
    وكان الرئيس الأمريكي قد حقق بعض أهدافه قبل لقاء قمة جنيف بانعقاد قمّة الدول السبع الكبرى، حيث وضع المواجهة الصينية في مقدمة أولويات التحالف الغربي، خصوصاً بعد ترميم العلاقات الأمريكية - الأوروبية التي تزعزعت خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب. ووضع زعماء الدول السبعة مشروع "بناء عالم أفضل" في مواجهة سياسة الصين، لاسيما بمساعدة الدول الفقيرة، وهي خطة قد لا ترتقي إلى خطة "الحزام والطريق" التي قطعت الصين شوطاً غير قليل في تنفيذها.
    وعلى الرغم من أن بايدن وهو يواجه بوتين كان يضع نصب عينه التحالف الصيني - الروسي، فإنه في الوقت نفسه يعرف أنّ الصين أكبر مُصدّر لأوروبا وثاني مستورد منها، فهل سيكون الاتحاد الأوروبي على استعداد للانضمام إلى واشنطن في المواجهة الاقتصادية المحتملة أو حرب باردة جديدة مع الصين بدلاً من روسيا؟




71
التنمية وفايروس التمييز
ع. الحسين شعبان
ما تزال مجتمعاتنا تعاني من آفات خطيرة مثل التخلّف والجهل والأمّيّة والفقر والمرض. وهذه تحتاج لمواجهتها إلى المعرفة والعلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية، ولا سيّما قيم الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والمشاركة والشراكة، إذْ لا يمكن بناء المجتمعات وإنجاز مشاريع التنمية بزعم أفضليات هذا الدين أو ذاك، أو أحقّية هذه الطائفة أو تلك، فلن يتحقّق التقدّم المطلوب بالإقصاء أو التهميش الأيديولوجي، سواءً باسم الدين أو القومية أو مصالح الكادحين، خصوصاً بإدعاء امتلاك الحقيقة، بل والحق في احتكارها،  ولعل كلّ جهة أو جماعةٍ أو طائفةٍ تصوّر نفسها، وكأنها الفرقة الناجية "المبشّرة بالجنّة" حسب تعبير المؤمنين، أو الطليعة المقدامة حسب الأيديولوجيا السياسية اليسارية.
لقد صرفت مجتمعاتنا سنوات طويلة، ولا سيّما بعد إحرازها على الاستقلالات في معارك داخلية محتدِمة، تارةً باسم حقوق "الأغلبية" السائدة، وأخرى باسم "الأقلية" المهضومة، وثالثة بدعوى "الأيديولوجيا"، ورابعة تحت عنوان اختيار "طريق التنمية". واحتربت القوى والتيارات السياسية فيما بينها، مرّة بين "الملكيين" و"الجمهوريين"، وأخرى بين القوميين والشيوعيين وثالثة بين الدينيين والعلمانيين. كما شهد العالم العربي صراعاً دينياً وطائفياً، مرّة لإقصاء المسيحيين أو تهميشهم، وشمل الأمر بقية المجموعات الثقافية التي تسمّى مجازاً بـ "الأقليّات"، ومرّة ثانية بين "الشيعة" و"السنّة"، ومرّة ثالثة بين مجموعات إثنية أو لغوية أو سلالية، وجميعها تتعلق بهدر الحقوق وعدم تحقيق المواطنة المتساوية من دون تمييز أو استعلاء.
وفي المجتمعات المتعددة الثقافات، دينياً وقومياً وإثنياً، ولغوياً، ومنها بلداننا العربية وبعض البلدان الإسلامية، أكّدت التجربة أنه لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة والنهوض بهذه المجتمعات والبلدان من واقع التخلّف إلى واقع التقدم، إلا بالتعاون بين مختلف التكوينات. فالأوطان تُبنى بالسلام والاستقرار والتعايش. وكان دستور اليونسكو قد أكّد: "لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام"، والأمر يحتاج إلى حوار وتفاهم لحل المشكلات الوطنية والاجتماعية، وتوافق وطني في ظل سيادة القانون.
ولعلّ بلداً صغيراً نسبياً ومتخلّفاً مثل ماليزيا تمكّن وخلال ثلاثة عقود من الزمان، التحوّل إلى دولة صناعية قادرة على المنافسة في السوق العالمية، بفعل قيم التسامح والسلام والعيش المشترك بين المجموعات الثقافية المختلفة المسلمة والبوذية والمسيحية والهندوسية وأتباع ديانات قديمة أخرى.
لم يكن وصول بلد مثل ماليزيا إلى النجاح المطلوب عبر فتاوى تكفّر هذه المجموعة الدينية على حساب تلك أو تعلّي هذه الطائفة على حساب طائفة أخرى، بل كان بالتوجه - وعلى نحو صارم - لوضع مسافة واحدة من الجميع، ولم يكن ذلك من دون عناء أو أخطاء أو حتى شبهات فساد، لكن المشروعية القانونية كانت هي الضامن للنجاح وللشرعية السياسية.
كما لم تكن لدولة كبرى مثل الصين أن تحقّق القفزة النوعية الهائلة في التقدّم بالكتاب الأحمر لـ ماوتسي تونغ ووصاياه، بل كان الانصراف إلى العلم والتكنولوجيا وتعديل شروط الإنتاج وعلاقاته بالقوى المنتجة، هو الذي ساهم في تحقيق التراكم المطلوب، فضلاً عن نظام إدارة سليم، وإرادة سياسية فاعلة.
وهكذا فإن التساوق مع منجزات العلم والتكنولوجيا وتوظيفها بشكل صحيح وعلمي هو الذي حقق المنجز التنموي.
لقد أكّدت التجارب التنموية أن إحراز التقدّم يتطلب علماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، وليس تكديس أعداد من خريجي المدارس الدينية هم أقرب إلى العاطلين عن العمل منهم إلى منتجين، كما ليست حاجة المجتمع إلى كوادر تتخرّج من المدارس الحزبية لا عمل لها سوى الأوامرية البيروقراطية، وهؤلاء وأولئك دائماً ما يميلون إلى التعصّب ووليدِه التطرّف. والأخير يصبح عنفاً إذا صار سلوكاً وانتقل من التفكير إلى التنفيذ. فما بالك حين تتبنّاه الدولة، سواء باسم "الثورة الثقافية" أو الإيمانية المُؤدلجة، باسم "التكفير والهجرة" أو "ولاية الفقيه" أو "العودة إلى السلف الصالح" حسب داعش وأخواتها، فإن تأثيراته السلبية تكون كبيرة على المجتمع، لا سيّما إذا تم ضخّه عبر التربية والتعليم والإعلام والثقافة السائدة، ناهيك عن القوانين الناظمة للاجتماع السياسي.
يقول مهاتير محمد عن تجربة ماليزيا: "لقد قررنا أن نعبر المستقبل بمباركة كل المكوّنات العرقية والدينية والثقافية من دون الالتفات إلى عذابات ومعارك الماضي، فنحن أبناء اليوم... ومن حقّنا أن نتمتّع بخيرات هذا الوطن".
أما الصينيون فبعد وفاة الزعيم ماوتسي تونغ 1976، وانتهاء "الثورة الثقافية"، ذات البعد الأيديولوجي الدموي، فإنهم توجّهوا إلى بناء القدرات بإرادة قوية وطموح كبير، وخلال أربعة عقود من الزمان نافست الصين الولايات المتحدة القوة الأكبر والأكثر تقدماً في العالم.
وفي الحالتين الماليزية والصينية، لم يكن الاعتبار سوى للعلم والتكنولوجيا وهما ما نحتاج إليه في بلداننا العربية والبلدان الإسلامية، خارج دوائر التزمت والتشدّد والغلو الديني والطائفي، الذي ضرب فايروسه بلادنا بالصميم أكثر من فايروس كورونا، وأحدث تمزّقاً وتفتّتاً في بنية مجتمعاتنا، ونحن لما نكن قد شفينا بعد، من فايروس الأيديولوجيا الذي هيمن علينا وتوغّل فينا لسنوات طويلة.



72
"التسامح واللاعنف".. ندوة حوارية في شبكة الإعلام

بغداد- واع- ملاذ الأمين
عقد مركز  الشبكة للدراسات والبحوث الستراتيجية ندوة حوارية بعنوان "التسامح واللاعنف" ، حاضر فيها الباحث والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان بحضور مجموعة من الاكاديميين والكتاب وممثلين عن دواويين الأوقاف الدينية وعدد من المحللين والناشطين في مجال حقوق الإنسان.
وقال عضو مجلس الأمناء الدكتور علاء الحطاب الذي أدار الندوة لوكالة الأنباء العراقية (واع): إن " شبكة الإعلام العراقي ومن خلال مركز الدراسات والبحوث يستضيف الأكاديميين مع النخب المتخصصة لفتح حوارات جادة مهمة تسهم في تطور المجتمع بعد طرحها للرأي العام من خلال مؤسساتها "، موضحاً، أن "المجتمع العراقي بحاجة جادة لفهم معنى التسامح واللاعنف وقبول الآخر ، لأجل البناء والإعمار وضمان التقدم للاجيال".
من جانبه أشاد الدكتور عبد الحسين شعبان "بتوجه شبكة الإعلام العراقي نحو بحث قضايا التسامح وقبول الآخر وطرحها للنقاش ليس في دوائر النخبة فقط وانما في طبقات المجتمع الأخرى لتكون منهجاً وتربيةً وأساساً للتقدم والبناء والحضارة".
وأضاف ،أن " العنف في المجتمعات يقوم استناداً إلى التعصب الذي ينتج عنه التطرف،وهذا الأخير عندما يتحول الى سلوك يكون عنفاً ،عندما يستهدف الضحية ، ويكون إرهاباً عندما يضرب عشوائياً ويسقط ضحايا آخرون من المواطنين السلميين ،وبذلك تسجل هذه الجرائم ضمن الجرائم ضد الانسانية "، موضحاً ،أن "ثقافة التسامح بإمكانها أحداث تغيير كبير في التعايش السلمي وقبول الآخر من خلال فتح الحوارات والجدال والنقاش تحت شعار إن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة".
وتابع شعبان ،أن "التسامح خيار ستراتيجي لانقاذ المجتمع من الارهاب والعنف والتعصب، ولابد من احترام وقبول الآخر وحرية الفكر والضمير "، مبيناً أن "المجتمع العربي برزت فيه القاعدة وداعش وجبهة فتح الشام الذين يزعمون انهم يمتلكون الحقيقة وهم يلغون الآخر ويزدرونه لذلك فان المجتمع عليه أن يبحث عن سبل جديدة لنشر افكار التسامح وقبول الآخر في حواراته مع هذه المجاميع وامثالها ".
وأشار الى أن "التفكير بامكانية ترميم الحياة الداخلية  يتطلب اشاعة ثقافة السلام والحب وقبول الآخر والسعي لإقرار قوانين العدالة التي لاتميّز بين مواطن وآخر على أساس عرقي أو طائفي أو على أساس الجنس مع نبذ الأعراف والقاليد البالية المتناقضة مع التسامح وتهميش الآخر والبدء بتربية النشء الجديد على مبادئ حب الآخر بتعاون الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ".
على الصعيد نفسه اوضح مدير مركز الدراسات والبحوث حليم سلمان ،أن " توجه المركز نحو اجراء حوارات مع الباحثين والاكاديميين المتخصصين في مجالات توعية المجتمع يستهدف جذب الراي العام نحو التعاون لحل المشاكل التي تهدده وتؤخر عمليات البناء والإعمار"، لافتاً إلى أن "المركز لا يبتعد عن دوره كمؤسسة اعلامية متخصصة لنشر البحوث الإعلامية ووسائل تطورها ،وانما يسعى من خلال هذه النشاطات الى تثقيف المجتمع وتنبيهه للمخاطر التي تحيط به".


73
المنبر الحر / العروبة والقومية
« في: 22:30 02/06/2021  »
العروبة والقومية
عبد الحسين شعبان
هل العروبة "هوّية" أم حركة قومية؟ هو سؤال غالباً ما يُحدث التباساً لدى المتلقّي، بل وفي بعض الأحيان لدى المعنيين، الذين لا يفرّقون بين العروبة والقومية. وإذا كانت اللغة والثقافة والتاريخ والعيش المشترك، الأساس في الهوّية، فإن القومية فعل سياسي له برنامج ذو شحنة أيديولوجية، ويزداد الأمر تكريساً حين تنشئ نظاماً سياسياً. وقد تكوّنت الحركة القومية العربية في نهاية القرن التاسع كرَدّ فعلٍ دفاعي عن الهوّية، ضد سياسات التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية، وفيما بعد وقفت ضد سياسات الاستعمار الغربي.
وبالعودة للتاريخ فإن العروبة ولغتها سبقت الإسلام، حسب المؤرخ عبد العزيز الدوري، وحين جاء الإسلام ترسّخت العروبة لأن لغة القرآن كانت عربية، ويذهب محمد عابد الجابري للقول بثنائية العروبة والإسلام، والعربي هو من يصبح عروبياً بنزوعه إلى الوحدة الثقافية، وبالعودة إلى التاريخ فالعرب العاربة أو العرب المستعربة يجمعهم اللسان. أما العروبة فهي امتداد حضاري تاريخي، ورابطة تتصل بالثقافة المشتركة من تبادل المعرفة والأدب والفن والعلم والتراث، وهي رابطة موضوعية لا يمكن إنكارها وليس لها بعداً أيديولوجياُ، أو أنها برسم السياسة.
ووجهة النظر هذه دعوة لاستنهاض العروبة الثقافية مقابل "العروبة العرقية"، أي المتعصّبة على الطريقة البسماركية، لعدم واقعيتها وتخلّفها، وأخذت تحلّ محلّها فكرة العروبة الجامعة والمنفتحة والمتجدّدة والإنسانية والحضارية، وتتقلّص الأفكار القومية المضادّة لها، حيث اكتسبت فكرة العروبة بُعداً واقعياً بعيداً عن الطوباويات المثالية. وبحسب الياس مرقص فالأمة لغة قومية (أساس الهوّية العربية)، وتاريخها هو تناضد طبقات.
ووفقاً لهذا المنظور، فالعروبة رابطة وجدانية وشعورية وإنسانية جامعة وهي ليست ثابتة بمعنى سُكونية، بل متطوّرة وحركيّة، وهي ليست كاملة أو نهائية، بل هي متفاعلة مع محيطها في الإضافة والحذف والتطوير والتغيير، كونها حيوية ومعاصرة وراهنة ولا يمكنها أن تعزل نفسها عمّا يجري حولها وفي العالم أجمع.
وبهذا المعنى فالعروبة ليست سرمدية وتماميّة ومقفلة، مثل بركة راكدة، بل هي على العكس من ذلك أرخبيل مفتوح تتفاعل مع غيرها وتؤثر فيه وتتأثر به ارتباطاً بالتطورات الكونية، والأمر ينطبق على جميع الهوّيات. وهكذا فإن أمر اختلافها ليس مفتعلاً، وإنّما واقعي، يرتبط بالحداثة والمواطنة والحقوق الإنسانية،  التي هي نتاج تطور منذ أمرؤ القيس، مروراً بالمتنبي وابن خلدون وصولاً إلى جبران خليل جبران وطه حسين ومحمد مهدي الجواهري.
وفي الأندلس كان المعتمد بن عباد وابن طفيل وابن باجة وابن حزم وعباس بن فرناس رمزاً للعروبة في صعودها وانفتاحها على ما حولها، مثلما كانت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تأكيداً على خصوصيتها ووجودها الثقافي عبر جورج أنطونيوس وشكيب إرسلان ورشيد رضا وآل البستاني وأمين الريحاني وصولاً إلى ساطع الحُصَري، استمراراً للومضات الأولى لحركة الإصلاح وإرهاصات النهضة التي ابتدأت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والشيخ محمد حسين النائيني، حيث ظل سؤال النهضة مطروحاً بركنَيه الأساسيين: الحرية والتنمية، والمطلوب هو إعادة اكتشاف عناصر القوة في العروبة وتجديدها وأنسنتها وتحصينها بالتنوّع وقبول الآخر والإقرار بالتعددية والحق في الاختلاف، وهو ما أخفقت الحركة القومية العربية من بلوغه في مرحلتها الأولى ما بعد الاستقلالات العربية.
ومنذ عصر النهضة حتى يومنا هذا، سادت تيارات فكرية وسياسية عديدة قومية وإسلامية ويسارية، صعوداً وهبوطاً، لكنها لم تستطع إنجاز مشروع يتمتع بأركان هوّية منفتحة ومتماسكة في الآن، ولعلّ ما يحسب لـ مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسه الراحل خير الدين حسيب لما له من عقلية رؤيويّة مستقبلية هو جمعه كوكبة لامعة من المثقفين والباحثين والمتخصصين العرب، لبلورة الخطوط العريضة لــ مشروع نهضوي عربي مستقبلي جديد، أساسه التحرّر السياسي في مواجهة الاستعمار، والتنمية المستقلة في مواجهة التبعية والتخلّف، والوحدة العربية في مواجهة التفتت، والديموقراطية في مواجهة الاستبداد، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والتجدّد الحضاري في مواجهة التغريب وتوظيف التراث إيجابياً.
ومن القضايا الحساسة التي تواجه العروبة موقفها من القوميات الأخرى والتنوع الثقافي في مجتمعاتنا، فخطاب التعصّب الذي حمل شفرة أيديولوجية قاد إلى التطرّف، وحين أصبح الأخير فعلاً وسلوكاً تحوّل إلى عنف، وحين ضرب عشوائياً صار إرهاباً، ومقابل التعصّب والاضطهاد، كان رد الفعل ضيق الأفق والانعزالية القومية. الأمر الذي يحتم الاعتراف بالآخر والإقرار بالشراكة بدلاً من الإقصاء والتهميش، وإعادة النظر بالموقف من المجموعات العرقية والدينية واللغوية على أساس المواطنة وليس العرق، وإلا سيكون الجاحظ وابن المقفع وابن سينا والفارابي وابن رشد وأبو نؤاس وقبل ذلك سيبويه ونفطويه وبشّار بن بُرد وصولاً إلى قامات معاصرة، خارج دائرة العروبة. فليس النسب والعصبية القبلية هي التي تقوم عليها العروبة وإنما اللغة والثقافة والتاريخ والعيش المشترك.
العروبة الحضارية هوّية ثقافية لغوية منفتحة على التنوّع والتفاعل والتجدّد ولذلك فهي مشروع لم ينجز بعد، حسب قسطنطين زريق، وانتاجه يحتاج إلى وعي جديد وحامل اجتماعي جديد يمثل روح الأمة.

74
في الحاجة إلى التسامح» للباحث عبد الحسين شعبان

د. رنا أبو ظهر*

الدكتور عبد الحسين شعبان مفكر وباحث عراقي، له أكثر من سبعين كتاب ومؤلَف في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والصراع العربي - الإسرائيلي، والإسلام، والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. له مساهمات عديدة في إطار التجديد والحداثة والثقافة والنقد.
هو نائب رئيس جامعة اللاعنف، انشغل في قضايا المجتمع المدنيّ والأديان، والدساتير والقوانين الدوليّة، بما فيها النزاعات والحروب ومسائل التسامح واللاّعنف، حتى أصبح رائداً من رواد نشر ثقافة الحوار والتسامح.
وها نحن اليوم أمام أجدد اصداراته «في الحاجة إلى التسامح... ثقافة القطيعة وثقافة التواصل».
كتاب يبدأ بسؤال «لماذا تحتاج منطقتنا الى التسامح أكثر من غيرها؟ لنجد الإجابة على هذا السؤال من خلال طرحه للأمور بطريقة سلسة ومنطقية استعرض فيها كيف تطوّرت فكرة التسامح وتعززت مكانتها لدى نخب فكرية وسياسية وثقافية ودينية الى أن أصبحت حالة ملحّة بسبب سيادة الكراهية والانتقام والنزاعات ومحاولة إلغاء الآخر وخاصة بعد أن انتشر الارهاب في العديد من دول منطقنا العربية والذي حاول أن يدمّر الفكر الحضاري والإنساني والتراثي وليحل التعصب والتطرف كلغة سائدة بدل الحوار والتسامح.
يؤكد الكاتب على أن الثقافة الجديدة التي نحن بحاجة إليها تقوم على مفاهيم مختلفة فالقوة لا تعني استخدام العنف بل تعني التمسّك بالحق وتأكيد قيم المواطنة والمساواة.
ولقد تناول بأسلوبه الرائع تطوّر التسامح وتطوّر القوانين والأنظمة الدولية وخاصة في مجال اللاعنف والحوار والتسامح والسلام، حتى أصبح هذا الكتاب أشبه بدستور أممي لنشر رسالة التسامح في العالم وبين الأمم.
فها هو مجدداً الأكاديميي والمفكر العربي الكبير د. شعبان، يتحفنا بمزيد من انتاجاته الفكرية والحضارية. كان دوماً له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتغيير والتسامح والديمقراطية والمواطنة وتعكس مؤلفاته وكتبه ومساهماته المتنوعة إنشغالات خاصة بقضايا الحداثة والديمقراطية والإصلاح والمجتمع المدني، واهتمامات فكرية لتطوير الفهم المتجدد لقضايا حقوق الإنسان ونشر ثقافته وخصوصاً من خلال وسائل الإعلام. ولد في مدينة النجف الأشرف (العراق) لأسرة عربية كبيرة، عريقة ومتأصلة.
لأفكاره وطروحاته دور كبير فى تغيّر نمط التفكير فى فترة مهمة من حياة الأمه العربية.
إنه الباحث في القضايا الاستراتيجية العربية والدولية ومختص في القانون الدولي وخبير في ميدان حقوق الإنسان واستشاري في عدد من المنظمات والمجالس الثقافية والإعلامية.

بالنسبة له تأكيد قيم التسامح لا تعني غضّ الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، يعتبر ان نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن إغراء الاقصاء أو اللاتسامح، إلّا إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
تناول في كتابه حالة التسامح ونشر ثقافة التسامح التي تتطلب رفض التطرف والتشدد، وتوسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، والحق في التعبير.
التسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي، فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وحسب إعلان مبادئ التسامح التي صدرت عن اليونسكو «إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد...»، وهكذا فالتسامح يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ التعصب.
منذ إعلان اليونسكو قبل عقد ونصف من الزمان تقريباً فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا السبب.
رغم اننا على الصعيد الفكري أو العملي ما تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الإنساني التي تكرّست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج الى مراجعات ونقد ذاتي، لا سيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها إيجابياً، على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي، لا سيما بعد إقراره قانونياً.
توقّف الكاتب عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.فقيم التسامح لا تستقيم بدون قيم المساواة والعدالة وعدم التمييز والحق في المشاركة وقبول الآخر.
كان قد سبق للدكتور شعبان أن عالج مواضيع مهمة في كتبه وكان قد صدر له العديد من الكتب حول التسامح لعل أهمها كتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي» حيث عالج الإفتراء على الإسلام بأنّه دين ينفي التسامح ويعزِّز بعض ما يسمَّى إرهاباً، حيث فضح المؤلِّف هذا الخطأ القائم على الجهل والتعصب والتحيز، محتكِماً إلى القرآن والسنَّة وسِيَر الخلفاء وحوادث التاريخ والفكر الإسلامي، بالاستناد إلى الجوهر الديني والدفاع بالحجَّة والشواهد.
بقي أن نقول، ان التسامح ليس ايديولوجيا مثل الايديولوجيات الأخرى بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا أن نتعاطى معه على هذا الأساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، بل بالحق في العيش بسلام ودون خوف، دون تعصب أو انغلاق أو اقصاء أو إلغاء الآخر.
أخيراً لا يسعني إلا أن أقول إن هذا الكتاب يعتبر مرجعية لكل مواطن عربي.

 * المستشارة الدولية والمنسقة العامة للمجلس الدولي للحوار الديني والإنساني/ مقره النرويج.


75
المنبر الحر / عن الإرهاب كظاهرة
« في: 19:02 29/05/2021  »
عن الإرهاب  كظاهرة
                           
عبد الحسين شعبان
أثارت أحداث حي الجرّاح في القدس وما أعقبها من اندلاع صراع مسلح أودى بحياة ما يزيد عن 280 شهيداً فلسطينيًا ونحو 1500 جريحاً الجدل القانوني والسياسي حول ما المقصود بالإرهاب الدولي، علماً بأن هذا الموضوع شغل العديد من المحافل والمؤتمرات الدولية وعلى مدى عقود من الزمان، والسبب ليس في صعوبة التوصّل إلى إيجاد تعريف من جانب الخبراء القانونيين والسياسيين والدبلوماسيين، بل يعود إلى اختلاف مصالح الدول والجهات والقوى وتعارض إيديولوجياتها.
   وفي الكثير من الأحيان يختلط مفهوم "الإرهاب الدولي" بمفاهيم أخرى لاعتبارات سياسية وتبعاً للجهة المستفيدة منها، فالقوى المتنفّذة في العلاقات الدولية تحاول تكييف بعض قواعد القانون الدولي لصالحها، إلى درجة أنها تعتبر بعض حركات التحرّر الوطني التي تناضل من أجل حق شعوبها في تقرير المصير ونيل الاستقلال "قوى إرهابية"، متنكّرةً لمضمون المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بالدفاع عن النفس.
   رصد الباحث أليكس شميد في كتابه "الإرهاب السياسي" وجود ما يزيد عن 100 تعريفاً "معتمداً" لمصطلح الإرهاب، وحسب المفكر الأميركي "نعوم تشومسكي" فالإرهاب يعني محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما عن طريق الاغتيال أو الخطف أو أعمال العنف بهدف تحقيق أغراض سياسية، سواء كان الإرهاب فرديّاً أم تمارسه مجموعات أم دولة، وهو الإرهاب الأكثر خطورة.
   ولأن تعريف الإرهاب مهمّاً لجهة التأطير القانوني، فإن الدول الكبرى والنافذة لا تريد الوصول إلى تعريف جامع مانع كما يُقال، لأن ذلك يحول دون استخداماتها لأشكال مختلفة من العنف قد ترتقي إلى الإرهاب، ولهذا السبب فهي تسعى إلى إبقاء التعريف عائماً وغير محدد، مع العلم أنّ مضمونه وجوهره ينطبق على توصيفه.
   وقد عبّر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن رفضه التلميحات التي تريد ربط الإسلام بالإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية الإجرامية، وهو أمر يحتاج إلى فهم عقلانيّ للموقف من العنف في جميع الأديان والأمم والبلدان واستخداماته السياسية... فليس دمغ الآخر بالشيطانية سبباً كافياً للكشف عن جذور الإرهاب وفي عزل الإرهابيين أو ردعهم أو إبطال عملهم.
   وعلى الرغم من غياب تعريف للإرهاب، وتمييزه عن أعمال العنف "المشروعة" المنسجمة مع قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فإن قواعد القانون الإنساني الدولي تحظر معظم الأفعال المرتكبة في النزاعات المسلحة المتّسمة بسمة الإرهاب. ولا بدّ من التمييز بين المدنيين والمحاربين، مثلما ينبغي حماية الأعيان المدنية وتفريقها عن الأهداف العسكرية، وكذلك حظر الهجمات المتعمّدة أو المباشرة أو العشوائية، إضافة إلى استخدام "الدروع البشرية" وأخذ الرهائن، حيث تنصّ المادة 33 من اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 على حظر العقوبات الجماعية وجميع تدابير التهديد أو الإرهاب، وتحظر المادة 4 من البروتوكول الإضافي الأعمال العدوانية، وذلك بهدف حماية الأفراد والسكان المدنيين من العقوبات الجماعية، كما يحظر بروتوكولا جنيف الأول والثاني لعام 1977: أعمال العنف أو التهديد الرامية أساساً إلى بثّ الذعر بين السكان المدنيين، مثل القتل والقنص وشنّ الهجمات وغيرها.
   ومع أنّ هناك نقصاً في القواعد القانونية فيما يتعلّق بأوقات السلم إلّا أنّ هذه الأعمال تخضع للقوانين الوطنية مثلما تخضع لقواعد القانون الدولي، وخصوصاً للشرعة الدولية لحقوق الإنسان بغضّ النظر عن دوافع مرتكبيها، وبإمكان الدول اتخاذ تدابير عديدة لمنع أو قمع الأعمال الإرهابية عن طريق الجهد الإستخباري وتعاون الشرطة والقضاء وتسليم المجرمين والعقوبات الجنائية والتدقيقات المالية وتجميد الأصول والضغوط الدبلوماسية والاقتصادية فيما يتعلّق بالدول المتّهمة بمعاونة الإرهابيين المشتبه بهم.
   ومثلما أثار مصطلح الإرهاب الدولي جدلاً واسعاً، فإنّ الحرب العالمية عليه زادت من حدّة الاختلاف بشأنه، والمقصود بذلك وصف عدد من التدابير والإجراءات الهادفة إلى مواجهة العمليات الإرهابية ومنعها. والاستشكال يقوم على التفريق بين المصطلح البلاغي والإعلامي والمعنى القانوني والدلالي بشأن النزاع العالمي المسلّح، خصوصاً وأنّ الإرهاب ظاهرة ولا يمكن شنّ حرب ضدّ ظاهرة، وهي حرب ضدّ طرف غير محددّ الهُويّة في نزاع مسلّح، ولذلك فالحرب العالمية على الإرهاب تثير تشوّشاً والتباساً وقد يمكن توظيفها سياسياً، والأدقّ بتقديري، الحديث عن مكافحة الإرهاب بأشكاله المتعددة وأسبابه المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والإثنية وغيرها، بما فيها الإحتلال والإلحاق والضم.
   وإذا كانت أدبيّات الأمم المتحدة بشأن الإرهاب لم تعالج النقص في التعريف، الذي بقيَ ضبابيّاَ، فإن مهمة مكافحة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين أصبحت أكثر تعقيداً بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وخصوصاً بعد النشاط المحموم الذي قامت به تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما، التي زادت المسألة التباساً، ففي حين تركّز بعض القوى السائدة على الإرهاب الفردي وأعمال الانتهاك التي تقوم بها مجاميع إرهابية، فإنها تغض النظر عن إرهاب حكومات أو دول، مثلما حصل في الحرب على غزّة التي دامت أحد عشر يوماً.





76
حازم نهار
شكرًا دكتور عبد الحسين، أريد أن أذهب إلى الحضور لتلقي أسئلتهم ومداخلاتهم:
 
عصام دمشقي
مساء الخير دكتور عبد الحسين، وتحياتي للجميع، أنا سعيد بالاستماع إليك مرة ثانية، لم أقابلك منذ 14 سنة، في أربيل وقتها. في الحقيقة إن تعريفك للثورة لطيف وأغراني، من حيث إنها عملية مثل الحب، لا يأتي مرة واحدة، بل يأتي تدريجًا، لكن يمكن الحديث أيضًا عن شيء اسمه النظرة الأولى، والنظرة الأولى في وضعنا قد تكون إسقاط النظام القائم؛ فإسقاط السلطة القائمة هو البداية، وإن كان هذا لا يعني حلّ المشكلات كلها، إذ ستظهر لدينا مشكلات كثيرة، مثل الأمية، والمرأة، والدين والطائفية، وغيرها من المشكلات، لكن من دون هذا الإسقاط ستتوقف الصيرورة. هذا الإسقاط أين يقف اليوم؟ في الحقيقة إنه واقف عند طرف إما هو عسكري أو خارجي، ففي مصر كان الطرف عسكريًا، ولو ظل مرسي والإخوان المسلمون في الحكم كان يمكن لصيرورة الثورة أن تستمر، وفي ليبيا الصيرورة لا تزال مستمرة، أما في العراق فما يوقفه حاليًا هو طرف خارجي إيراني أكثر من الأميركي، فالأميركي هو طرف خارجي فحسب، أما الإيراني فيمكن النظر إليه بصفته متفاعلًا مع البنية الداخلية العميقة للشعب العراقي، الدينية والطائفية، وهنا تكمن صعوبته.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما تطرقت إليه حضرتك بخصوص الدول الشرقية، وما تختلف به عنا. صحيح أنه توجد فروقات في البنى الثقافية والتعليمية والحضارية، لكن الفارق الأساس كان دور الاتحاد السوفياتي، ففي هنغاريا سنة 1956 فشلت الثورة، وفي 1968 فشلت في التشيك، لذلك ما أدى إلى نجاح الثورات في أوروبا الشرقية هو تراجع الاتحاد السوفياتي وانهياره.
حتى المهاتما غاندي، على الرغم من سلميته المعروفة، لم يكن له أن ينجح سلميًا أبدًا، لو لم يكن هناك طرف آخر يتمتع، كما يقول هو نفسه، بدرجة من الضمير والحرية، فمثلًا غاندي اعتقله البريطانيون وأخرجوه، فهل هذا هو حال النظام السوري وغيره من الأنظمة العربية؟ إذًا القصة تتعلق أيضًا بالطرف الآخر، وبالظرف الخارجي.
 
حبيب إبراهيم
مساء الخير جميعًا، شكرًا لميسلون، وشكرًا للدكتور عبد الحسين شعبان. سؤالي يخصّ الواقع السوري. بعد عشر سنوات، هل تعود الكارثة في سورية إلى أسباب مجتمعية تتعلق ببنية المجتمع السوري المنقسم قوميًا وطائفيًا ومذهبيًا، أم تعود إلى العقلية الأمنية العسكرية للنظام الاستبدادي، أم إلى الإثنين معًا؟ لدي هنا سؤال افتراضي: بعد كل ما حدث، فيما لو نجحت الثورة في إسقاط النظام، هل ستكون تطبيقًا لمقولة “الثورة حفر في العمق”؟ بمعنى هل كان بإمكاننا القول إن الثورة انتصرت بسقوط النظام، خاصةً بعد ما شاهدناه من خطابات كراهية مقرفة جدًا في أوساط النظام وأوساط المعارضة؟ وأيضًا بالنسبة إلى مصطلح الربيع العربي، هل هو مصطلح يعكس حقيقة ما حصل؟ وشكرًا لكم.
 
محمود الحمزة
مساء الخير، وشكرًا لميسلون على هذه الندوة الطيبة، شكرًا للدكتور عبد الحسين شعبان المفكر المرموق الذي نعتز به جميعًا، وعلى مقارباته الاستراتيجية والفكرية العميقة لوضع الربيع العربي والثورات.
لدي ما أقوله، وهو في منزلة التفكير بصوت مرتفع، وينتهي بسؤال: لقد تحدثت دكتور عن التقاء العامل الذاتي بالموضوعي، أو الظروف الموضوعية والظروف الذاتية، فهل يعني هذا، مثلًا، أن الثورة في سورية كانت غير ناضجة؟ طبعًا الأسباب الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية موجودة، لكن ما أفكر فيه الآن، هل كانت الأداة، أي النخب، ليس النخب الثقافية فحسب التي تحدث عنها الدكتور حازم، بل أيضًا النخب السياسية، قاصرة؟ وهل كان المثقفون قاصرين عن فهم طبيعة الوضع في سورية، ولم يستطيعوا أن يقدِّموا حلولًا أو أفكارًا لإنجاح الثورة مثلًا؟ أم أن هناك عوامل أخرى أودّ أن أسمعها منك، خصوصًا إذا قارنا وضعنا بثورة أكتوبر وقول لينين إن الثورة يجب أن تقوم اليوم، ليس غدًا. فهل هناك شروط قوية جدًا، في ضوء هذه العبارة المكثفة، تخصّ العامل الذاتي الذي هو أداة الثورة، كانت غير متوافرة في عدد من بلدان الربيع العربي، خاصةً سورية. فهل كان مثلًا لعدم وجود حزب يقود الثورة، أو قيادة، كما جرى في الثورات الأخرى، دورٌ ما؟
في الحقيقة، نحن السوريين نقف اليوم محتارين أمام مشكلة كبيرة؛ بعد كل هذه التضحيات العظيمة من الشعب السوري، وبعد كل هذه الوحشية من النظام وحلفائه، وبعد كل هذا التخاذل الدولي أمام الكارثة التي عاشها ويعيشها السوريون، هل ما تزال النخب الثقافية غير قادرة على التقدم خطوة إلى الأمام للخروج من هذه الأزمة، وتقديم رؤية ناجحة، ليست نظرية فحسب، فعندما نتحدث في الفلسفة والفكر، تبقى الأمور أسهل قليلًا، لكن عندما ننتقل إلى الواقع العملي نجد أن هناك صعوبات قد نكون كلنا مقصرين وعاجزين عن فهمها، ولذلك اصطدمنا بعقبات لم نستطع تجاوزها؟
 
هنادي زحلوط
سلامات دكتور عبد الحسين، ودكتور حازم، كان لدي سؤال حول طبيعة الثورة، هل الثورة هي فعل سلمي خالص، وفي حال أُجبِر بعض المنضمِّين إلى الثورة على حمل السلاح، لأي سبب من الأسباب، لحماية أهلهم مثلًا، أو حماية أنفسهم، هل هذا يبطل ويسقط الصفة الثورية عنهم، وعن الثورة نفسها؟
 

عبد الحسين شعبان
شكرًا جزيلًا، أنا أشعر أن هذه الإضاءات والإضافات هي تعميق لهذا الحوار المفتوح، الذي نفكر فيه بصوت عال، وبقلب حار، ورأس بارد، كما يُقال، ومن هذه الزاوية أبدأ من عند الأستاذ محمود حمزة: علاقة العامل الذاتي بالعامل الموضوعي؛ أحيانًا يتراءى لنا أن العامل الذاتي ناضجٌ، وأن العامل الموضوعي ربما أكثر نضجًا. بعد التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية عام 1989، خاصةً مع انهيار جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، بدأت تكرّ مسبحة الأنظمة الاشتراكية السابقة، الواحد بعد الآخر، وكان الاعتقاد أنه بدأت مرحلة جديدة للنظام العالمي، الجديد، وستؤدي هذه المرحلة إلى انهيار جميع الأنظمة الشمولية، لكن مثل هذا الاعتقاد كان وهمًا. فعلى الرغم من توافر العامل الموضوعي، ومن توافر الرغبة في عملية التغيير لدينا، إلا أن رياح التغيير انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، لعدم توفر عوامل مساعدة أخرى؛ فإضافة إلى العامل الذاتي الغائب، كان العامل الموضوعي الخارجي ناقصًا، حيث إن الغرب لم يكن مستعدًا لإجراء تغيير في منطقتنا، في حين أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإجرامية الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة، بدأ الغرب يفكر في إجراء بعض التغييرات، فبدأ يدعو إلى إعادة النظر في الأنظمة التعليمية، والمناهج الدراسية، وبدأ يدعو إلى تنقيح بعض وجهات النظر، في هذه القضية أو تلك، وبدأ حديث عن التغيير، حتى أنه درب أعدادًا من أوساط المجتمع المدني، بزعم أنه يريد إنجاز عملية تغيير، لكن العامل الذاتي لم يكن متوافرًا، فقد حطمت أنظمتنا، إلى حدود غير قليلة، العامل الذاتي، وصفّت العديد من الأحزاب والقوى، أو أصبحت في المنافي، ولذلك لم يكن هناك حاضن اجتماعي لعملية التغيير على الرغم من توافر العامل الموضوعي بدرجة ما.
أظن أن هذه مسألة مهمة، حتى عندما نتحدث عن موضوع الانتفاضة الذي وردت الإشارة إليه، دعوة لينين إلى الانتفاضة، وتحديد موعد لهذه الانتفاضة، تحت عنوان أن هذه الانتفاضة لا تتقدم ساعة ولا تتأخر ساعة، وعلينا اختيار اللحظة الثورية لتحقيق عملية الهجوم، ومن ثمّ تحقيق مطالب الانتفاضة.
أتذكر أنني في عام 1989 كنت ألقي محاضرة في براغ ، فدعاني السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح إلى إلقاء محاضرة عن الانتفاضة، انتفاضة عام 1987-1988 التي كانت مستمرة خلال إلقائي للمحاضرة، وقد تحدثت في حينها عن فن الانتفاضة، وهل هي علم أم فن، وكيفية التوفيق بينها، كعلم وكفن، في الآن ذاته، وكيف يمكن جمع العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية، وهل يمكن أن تنطبق الانتفاضة على بلد محتل مثل فلسطين؟ وهل يمكن أن نطلق انتفاضة الحجارة على الانتفاضة الفلسطينية؟ فظهرت من داخل القاعة مثل آهة، أو آهات؛ أي انتفاضة؟ فقط في العلم الماركسي يجري الحديث عن انتفاضة. في الحقيقة، يجري الحديث عن الانتفاضات وفق المواصفات اللينينية، وكأن المواصفات اللينينية تصلح لكل العصور وكل الأوقات، في حين أن علينا استنباط الأحكام وفقًا للمعطيات الفكرية والتاريخية، آخذين في الحسبان ظروف بلداننا ومنطقتنا وخصوصيتنا. هذه مسألة أعتقد أن التوقف عندها مهم جدًا، وسأتوقف عند قضية التغيير الذي حصل في أوروبا الشرقية.
صحيح أن الحب من أول نظرة، أحيانًا، يولِّد نوعًا من الإعجاب، لكن الحب الحقيقي يكون عبر المعايشة والمساكنة والتواصل والمعرفة والتواصل، وهو يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى تراكم، إذ يبقى الحب من أول لحظة خادعًا أحيانًا، فهو إعجاب رومانسي عذري بعيد عن واقع عملية الحب الحقيقية، التي هي تفاعل، وتواصل، وتراكم، وتعاشق، واندغام، بمعنى التغلغل في الآخر، وبمعنى معرفة كينونة الآخر، وصيرورة هذه العلاقة الإنسانية. هكذا هي الثورة كما أوصّفها.
في أوروبا الشرقية، لنتوقف عند التجربة، عندما حدثت عملية التراكم في بولونيا، والتي استمرت عشر سنوات، منذ احتجاجات نقابة تضامن عام 1980، حتى حصل التغيير عام 1989، وبهذا المعنى حصل التغيير سلميًا، وحصل بتحول شمل جزءًا من الطبقة السياسية التي كانت مشاركة ومتشددة ضد عملية التغيير، لكنها اضطرت إلى الاستجابة لعملية التغيير عندما حدث اختلال في توازن القوى، وكنت أتمنى أن يحدث مثل هذا الاختلال والتوازن في عددٍ من البلدان، بحيث تكون عملية التغيير بمشاركة من داخل الدولة نفسها، وضمن عملية تراكم، وتواصل، وبقناعات، خصوصًا عندما يختل توازن القوى.
حدثت أيضًا عملية تغيير في هنغاريا، انحاز فيها جزء من السلطة لجانب المعارضة، فاتفقوا على تحضير دستور جديد، وإجراء انتخابات، وفي الانتخابات فازت القوى الصاعدة التغييرية، وفاز أيضًا جزء من القوى القديمة، ولذلك أطلقت على عملية التغيير في هنغاريا وفي بولونيا “فقه التواصل”، أي أن الدولة واصلت نفسها بإجراء عملية تغيير عبر حلقة مركزية انتقلت فيها السلطة من هذا الطرف إلى الطرف الآخر، وانتقلت سلميًا.
في تشيكوسلوفاكيا، كان التغيير في البداية أقرب إلى فقه القطيعة، لكن في اللحظة الأخيرة انحاز جزء من السلطة لجانب المعارضة، فحصلت عملية التغيير، ولذلك لم تشهد هذه البلدان انتقامات، ولم تشهد كراهية، ولم تشهد عمليات ثأر أو كيدية أو محاكمات كبيرة كما حصل في بلدان أخرى.
حصلت عملية التغيير بطريقة سلسة، وسلمية، وللعوامل التي ذكرتها سابقًا؛ القضاء على الأمية، دور الدين ضعيف، دور المرأة، التقدم الاجتماعي، البيئة الحاضنة كانت مهيئة داخليًا وخارجيًا.
في حين إنه في ألمانيا الديمقراطية، أصرت ألمانيا الاتحادية على أن عملية التغيير لن تتم إلا وفقًا لقوانين ألمانيا الاتحادية، وألغت 41 عامًا من عمر ألمانيا الديمقراطية، ومن قوانينها التي كانت تحكم بها، وحوكم بعض الذين اتُّهموا وفقًا لقوانين ألمانيا الاتحادية، في حين أنهم كانوا يعيشون في ألمانيا الديمقراطية، لكن على الرغم من ذلك عولجت المسألة من زاوية العدالة الانتقالية، وعندما نتحدث عن العدالة الانتقالية، نتحدث عن خمس قضايا:
المساءلة، فلا بدّ أن تكون هناك مساءلة للجميع، ولكل من ارتكب الجرائم. ولا بدّ أن نأخذ في الحسبان المراتب، وأن يكون هناك بعد المساءلة كشف الحقيقة، ماذا حصل، لماذا حصل، وكيف حصل، ومتى حصل، ووفقًا لأي اعتبارات حصل، ثم لا بدّ من جبر الضرر، وإبقاء الذاكرة حية، وتسمية مدارس ومدن وشوارع ومكتبات وشوارع وساحات عامة بأسماء الذين قدموا حياتهم ثمنًا لعملية التغيير، والذين أسَّسوا لعملية التنمية، وغير ذلك.
ثم هناك التعويض المادي والمعنوي للضحايا، أو أسر الضحايا، ثم تأتي عملية إعادة ترميم الأنظمة القانونية، والدستورية، والأمنية، والقضائية، كي لا يتكرر ما حصل، على أن نأخذ الجميع بالتسامح، دون الإفلات من العقاب، لكن أيضًا دون انتقام، بحيث لا تتحول العدالة إلى عدالة انتقامية، بدلًا من أن تكون عدالة انتقالية.
في الواقع، لا بدّ من معالجة خطاب الكراهية، وقد تحدث صديقي الدكتور حازم عن انبعاث مستجدات لم نكن نعرفها في مجتمعاتنا العربية. أنا عشت في سورية، وأعتز بانتمائي السوري، وأقول دائمًا أنني سوراقي، ولا أستطيع التفكير في العراق بعيدًا عن تفكيري بسورية، ولا العكس، لذلك أشعر أن هذا البلد هو بلد واحد متواصل، متداخل، متشابك بعضه ببعض، ولذلك لم نكن نشعر بمثل هذه النزعات الكريهة التي بدت، فهل يعقل أن مسلمًا يقتل مسيحيًا؟ لم يحصل هذا في تاريخ سورية، ولم يحصل حتى في العراق، أن يقتل عربي كرديًا، أو أن يقتل كردي عربيًا، لكونه عربيًا أو كرديًا، لكن كان هناك صراع بين الحكومات والحركات الكردية التي تناضل من أجل مطالبها، كما كانت هناك مطالب كردية في سورية في حاجة إلى أن تؤخذ في الحسبان، قانونيًا ودستوريًا، ولذلك فإن هذه النزعات انفجرت مجتمعيًا، ومن هذه الباب قلت إن الثورة تظهر أنبل ما فينا، وفي الوقت نفسه تظهر أقبح ما فينا. في قاع المجتمع، وفي الدرك الأسفل من المجتمع. عندما تظهر مثل هذه النزعات اللاوطنية ينبغي أن تكون الوطنية دائمًا هي السقف الذي يؤخذ في الحسبان، حتى بالنسبة إلى الذي يريد أن يتحدث في المعايير الأوسع والأبعد، سواءً في جانبها الاجتماعي، أو جانبها الديني، أي لا بدّ أن يكون المرء وطنيًا في الأساس، ثم ينطلق نحو مشروعه الفكري.
أعتقد أن مواجهة خطاب الكراهية بخطاب جديد هو خطاب التسامح هو أمر ضروري، ففي الحقيقة كلنا خطاؤون. يقول فولتير: نعم نحن بشر خطاؤون، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضًا بالتسامح، وعلينا أن نقرب المسافات فيما بيننا، وعلينا أن نقدم نقدًا ذاتيًا، أين أخطأنا، وكيف أخطأنا، ولماذا أخطأنا. كيف يمكننا أن نتفق على (بلاتفورم جديد)؟ سموها جنيف 1 أو جنيف 10، المهم أن بحدث تحول سياسي بطيء، هادئ، بعيد المدى، لكن في الاتجاه الصحيح الذي يلبي مطامح الشعب السوري بالدرجة الأساسية.
استخدام السلاح، يؤسِّس لشيء آخر، وحتى امتلاك السلاح، تحت أي عنوان. فامتلاك السلاح يوازي استخدام السلاح، وإذا كنت تمتلك قنبلة نووية، فهذا يوازي استخدامك للقنبلة النووية حتى لو لم تستخدمها، لذلك فإن إسرائيل جن جنونها عندما أراد العراق أن يبني مفاعلًا نوويًا للأغراض السلمية، في حين هي نفسها تمتلك قنابل نووية منذ عام 1955 في ديمونة، إذ أُنشِئ فيها مفاعل نووي بمساعدة فرنسا، ولديها ما لا يقل عن مئة رأس نووي في الوقت الحاضر، لكنها تصاب بالهيستريا فيما لو أراد بلد من البلدان، خاصة البلدان العربية، أن يقيم مفاعلًا نوويًا للأغراض السلمية، وليس الحربية.
أقول كلما طرقت الثورة طريق السلم، كلما حمت نفسها بضمانات داخلية، مجتمعية، وبضمانات إقليمية ودولية، وهذه التجارب الآن، تجارب أوروبا الشرقية، وتجارب العديد من دول أميركا اللاتينية أيضًا، أخذت منحىً جديدًا.
من منا لا يتذكر كيف عمل بينوشيت في تشيلي، عام 1973 حدث الانقلاب الشهير ضد السيلفادور ألاندي.. قُتِل السيلفادور ألاندي.. دخل عشرات الآلاف السجون.. امتلأت المنافي بالتشيليين.. قُتِل 3000 إنسان تحت التعذيب، ووصل الطرفان إلى طريق مسدود بعد 15 عامًا، لا بينوشيت الديكتاتور الشرير استطاع القضاء على حركة التغيير، ولا حركة التغيير بالكفاح المسلح استطاعت إسقاط بينوشيت أو إطاحته، فاتفق الطرفان، المعارضة والسلطة، الديكتاتور وخصومه، على إجراء انتخابات، وعلى سنّ دستور جديد، ليس ديمقراطيًا إنما فيه نفحة ديمقراطية، وهذا الدستور يحمي الجلاد من المساءلة مدة عشر سنوات، ويحمي كل الذين ارتكبوا الجريمة والتعذيب الذي لا يسقط بالتقادم مدة عشر سنوات، وعندما حصل هذا الاتفاق حصلت الانتخابات وفازت المعارضة تدريجيًا، ولذلك فإن شعار أميركا اللاتينية الآن، التي حصلت في سبع بلدان منها انتخابات ديمقراطية، هو: الثورة في صندوق الاقتراع، فصندوق الاقتراع الآن يوازي سلاحًا من الأسلحة، وهو يحتاج إلى مستلزمات، ويحتاج إلى ضمانات، ويحتاج إلى توفير بيئة آمنة.
 
حازم نهار
لدينا ثلاثة أسماء أخيرة تريد طرح أسئلة أو تقديم مداخلات.
 
عمر حداد
مساء الخير، وشكرًا جزيلًا للدكتور عبد الحسين شعبان، ولمؤسسة ميسلون، وللأستاذ حازم نهار، لدي سؤال قد يكون خارج الإطار المحدّد، لكنه ليس بعيدًا بالمعنى العام:
قد تؤثر التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم الحديث إلى حدٍ كبيرٍ في إنتاج هويات جديدة، وإحداث تغيرات في شكل الدولة، بحكم التغير المناخي، وتغير شكل الشركات، وشكل وسائل الإنتاج، وظهور شركات عابرة للدولة. السؤال هنا: إلى أي مدى تبقى أسئلة الربيع العربي، أو أهداف الربيع العربي، التي تنتمي إلى العصر الحداثي، أسئلة راهنة، في وقت يتجه فيه العالم نحو أسئلة ما بعد الحداثة، وهل يمكن ردم هذه الهوة أو الفجوة، بين ما يطرحه العالم من أسئلة أخلاقية وفلسفية وفكرية جديدة، وبين ما نتعثر في تحقيقه من أسئلتنا التي تنتمي إلى عصر قد يكون مضى، خصوصًا في إطار قول الدكتور، وهو محق طبعًا، إنه قد يكون أمامنا كمجتمعات عربية عدة عقود لإعادة الأمور إلى المسار الصحيح، وإنجاز تحولات باتجاه تحقيق أهداف هذا الربيع العربي؟
 
فايز القنطار
تحياتي، شكرًا للدكتور عبد الحسين شعبان على هذا التحليل القيم جدًا والعميق جدًا، أودّ أن أتدخّل في نقطتين: النقطة الأولى حول العنف، أنا أوافق، وكنت ضد استخدام العنف منذ البداية في الثورة السورية، وبقيت في الميدان حتى عام 2013، لكن هل تعرف يا دكتور أن النظام السوري لا يشبه إلا ذاته، فما يصح خارج سورية، لا يمكن تطبيقه في سورية على الإطلاق، فمن يصدِّق في هذا العالم أن هناك نظامًا سياسيًّا يعتقل أبناء بلده ويعذبهم بالجملة حتى الموت، يعتقل شباب الجامعات، والشباب المسالمين، وشباب الكفاءات العلمية، الذين لم يرتبكوا جرمًا سوى أنهم طالبوا بالتغيير الديمقراطي. هل تعرف عدد الضحايا الذين ماتوا في سجون الأسد تحت التعذيب من قبل موظفين يتقاضون رواتبهم من دم الشعب السوري وتحت شعار وعلم الجمهورية السورية؟ هذا وضع غير مسبوق في التاريخ المعاصر؛ أن يتصرف نظام على هذا النحو، هذا فضلًا عن استخدام السلاح الكيماوي وأسلحة الدمار الشامل ضد البنى المدنية.
لقد فرِض العنف فرضًا على الشعب السوري، وحُشِر السوريون في زاوية ضيقة، فكنا نقول النظام يريد أن يجرنا إلى العنف ولا نريد أن نذهب إلى حيث يريد، لكن ذلك بات مستحيلًا في مرحلة من المراحل.
النقطة الثانية، عندما قارنت أوضاع التحولات التي حدثت في أوروبا الشرقية، مع ما يحدث في المنطقة العربية، أنا أوافقك على الكثير مما تفضلت به، لكن هناك ظرف تاريخي مختلف، فوضع المجتمع الدولي منذ ثلاثين سنة كان مختلفًا عن الواقع الحالي، والثورات العربية أتت في زمن صعب تمرّ فيه البشرية في مأزق كبير إن صح التعبير، وهذا كله أثر في عدم تمكن ثورات الربيع العربي من تحقيق إنجازات. القضية الأساسية أيضًا، أنك ركزت على العامل الداخلي، والعامل الذاتي، وهذا بالتأكيد أوافق عليه، وله دور كبير، لكن حجم الدول الخارجية التي تدخلت، خاصةً في سورية، كان غير مسبوق، فوجدنا في بداية الصراع المسلح أن النظام أوشك على السقوط بعد سنة ونصف، على الرغم من آلته العسكرية التي تُعدّ ثاني أقوى جيش في منطقة المشرق، وهذا استوجب دخول أكثر من 16-17 فصيلًا إيرانيًا لمساندة النظام السوري، وهذه أيضًا تعرضت في عام 2015 للهزيمة ما استدعى تدخل قوى كبرى. وأمام حجم هذا التدخل غير المسبوق لا يوجد إمكانية لتحقيق انتصارات في هذه الظروف، على الرغم من أن الشعب السوري قد دفع ثمنًا باهظًا.
 عبد الحسين شعبان
شكرًا جزيلًا، أنا أقصد في حديثي عن العنف واستخدام العنف، حتى وإن جرى بطريقة أو أخرى، دفاعًا عن النفس، أو أي شيء من هذا القبيل، أنّ وضع العنف كأسلوب، أو استخدام العنف كأسلوب، قد أدى إلى فتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي؛ حصل جرى التدخل التركي، ثم التدخل الأميركي، وبالطبع قبل ذلك التدخل الروسي والإيراني، تحت عنوان العنف والعنف المضاد، من هذا الطرف أو من ذاك الطرف، وهو ما جرَّ البلد إلى احتراب له أول وليس له آخر. لاحظوا أن هذا العنف أدى إلى تهجير أكثر من 10 مليون سوري، فأكثر من 6 مليون سوري مسجلون اليوم على قائمة المنظمات الدولية كلاجئين، وقد يوازي هذا العدد أو أقل منه بقليل عدد النازحين داخل سورية، وربما أكثر، وهذا كان أحد أسبابه استخدام العنف والعنف المضاد.
دعني أقول أيضًا إنني عندما أعرض تجربة لبلد من البلدان، فهذا ليس بهدف اقتباسها، أو تقليدها، أو استنساخها، إنما الاطلاع عليها للاستفادة منها، ولمعرفة صيرورة الصراع في هذا البلد أو ذاك، لمعرفة ما يمكن الأخذ به، أما ما لا ينطبق على حالتنا فيمكن إهماله أو تركه.
أما من حيث كون التغيير عملية تتعلق بالحداثة أو ما بعد الحداثة، خصوصًا في ظل التحول العالمي باتجاه العولمة، فيمكن القول فعلًا إننا الآن في ظل أوضاع جديدة في العالم، وعلى أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، بل إن العالم قد دخلها بالفعل، ودخل مرحلة الذكاء الاصطناعي، وهي مرحلة مختلفة عن كل الـ 50 سنة الماضية، أي أن السنوات الخمس أو الستّ الأخيرة تعادل كل الـ 50 سنة الماضية بكل ما فيها من تطور مهم. ّ
ونعود هنا إلى صديقنا إلياس مرقص، عندما ربط الثورة بعملية التقدم، فهذا من الممكن أن يكون سلاحًا ذا حدين الآن: سلاح لمصلحتنا أو لمصلحة التغيير، وقد يكون سلاحًا ضد عملية التغيير، فكيف تكون عملية التغيير إذا كان الفكر الذي تستند إليه، والخطاب الذي تروِّج له خطابًا ماضويًا لا يتعلق بالحاضر، وليس له علاقة باستشراف المستقبل.
انتقد كثيرون أدونيس عندما قال كيف أستطيع أن أدعم حركة احتجاج، أو ثورة، أو انتفاضة، تخرج من المساجد، لكن أدونيس قصد بذلك أن الخطاب الذي انطلقنا منه، كان جزء كبير منه خطابًا ماضويًا، وهذا الخطاب الماضوي له أساس، انبعث مجددًا في ظل خلخلة النظام الاجتماعي والسياسي في منطقتنا، وفي بلداننا. حصل هذا الأمر في ليبيا، وحصل في اليمن، وحصل في مصر، ولذلك ليس عبثًا أن يفوز الإخوان المسلمون في انتخابات ديمقراطية، وأن يصلوا إلى السلطة، أما القوى الحداثية والقوى التقدمية والمدنية، فهي لم تستطع أن تفرض وجودها، بحكم القمع المعتق طويل الأمد من جهة، وبحكم أن بعضها تخلّى عن دوره، وأخذ ينظّر بعيدًا عن الناس من جهة أخرى، في حين أن القوى الدينية كانت تعيش وسط المجتمع، ومتغلغلة في عمق النسيج الاجتماعي، وملبِّية للحاجات اليومية للناس أحيانًا، وإن كانت بسيطة، وهذا كله ساعدها في الوصول إلى السلطة.


77
حوار مع عبد الحسين شعبان
حوار مع عبد الحسين شعبان؛ إعادة قراءة فكرية للربيع العربي بعد عشر سنوات على اندلاعه



إدارة الحوار: حازم نهار
في بداية الجلسة الحوارية، رحّب الدكتور حازم نهار بالدكتور عبد الحسين شعبان، وعرّف به، وألقى الضوء على مسيرته الحافلة بالعطاء، وذكر عددًا من إنجازاته الثمينة في مجالات عديدة ومتنوعة، الفكرية والسياسية والحقوقية والمدنية:
عبد الحسين شعبان 
شكرًا دكتور حازم على هذه المقدمة التي أستحقها ولا أستحقها، والتي جاءت على جوانب مهمة من تجربتي الفكرية والثقافية، وأودّ أن أقول إننا إذ نتحدث عن تجاربنا أحيانًا، نتوقف قليلًا عند بعض جوانب النقد، والنقد الذاتي أيضًا على هذا الصعيد، ومن هذا المنطلق سأتناول موضوع الربيع العربي، في قراءة جديدة للمستجدات والمتغيرات التي رافقت تجربة الربيع العربي بعد عشر سنوات، وهي تأملات فكرية كنت قد قلت بعضها في السابق، وأعيد تأكيد هذا البعض مجدّدًا، كما أنني أتوقف عند بعض جوانب النظر والإعادة والتصحيح والتغيير في اتجاه قراءة جديدة تنطلق من أحوال الحاضر بعد مرور عشر سنوات.
دعني أقول لك دكتور حازم، وللذين يحضرون معنا هذه الجلسة التأملية الفكرية الحوارية، إنني يمكن أن أقارب المسألة من أربع أو خمس زوايا.
لو قاربنا هذه المسألة من زاوية المؤرخ، فيمكن الحديث بربط هذه الحادثة إلى جانب تلك، وهذا الموقف إلى جانب ذاك، لاستخلاص بعض الاستنتاجات المتعلقة بالربيع العربي، ولكن التاريخ كما تعلمنا من شيخنا الكبير هيغل، مراوغ وماكر، وخادع أحيانًا، فليس كل ما يكتب وكل ما يقال يمكن أن يوصل إلى النتائج المرجوة، لكننا إذا أردنا أن نتناول المسألة من الزاوية الإعلامية، أي أن نؤرخ للحظة بحسب ألبير كامو، فاللحظة لا تعكس حقيقة ما جرى، وما يجري، وحقيقة الرؤية المستقبلية لعملية التغيير والإنجاز المنشودة.
أما إذا أردنا أن نتناول البحث من زاوية السوسيولوجيا، وفقًا لابن خلدون، أو أوغست كونت، أو ماكس فيبر، أو علي الوردي، أو غيرهم، فإن السوسيولوجي لا يتنبأ بالأحداث، وإنما يحلل ما هو قائم بعد مرور مدة زمنية معينة ليتوصل إلى قراءة استنتاجية للمستقبل.
ربما يمكن التوقف عند الرؤية الحقوقية لموضوع التغيير، والحراك الشعبي، أو الانتفاضة، أو الثورة، فمن زاوية الحقوقيين، يمكن رؤية ما له علاقة بشرعية نظام الحكم أو عدم شرعيته، ومن زاوية المشروعية أو عدم المشروعية. فعندما أقول من زاوية الشرعية، فأنا أقصد قضيتين مركزيتين أساسيتين: الأولى هي رضى الناس، إذ لا شرعية حقيقية من دون رضى الناس، أما الشرعية الثانية فهي ما يمكن أن يُقدَّم من منجز حقيقي على صعيد الواقع العملي، وهذا يتعلق بشرعية أي نظام، وأي سلطة، وأي حركة، وأي تيار فكري أو سياسي، أما المشروعية فلها علاقة بحكم القانون، ومدى الاقتراب أو الابتعاد من حكم القانون. أحيانًا تسير الشرعية بعيدًا قليلًا عن المشروعية، فإذا اتحدت الشرعية مع المشروعية سنتوصل إلى استنتاجات مهمة جدًا: رضى الناس من جهة، والمُنجَز، وحكم القانون، وهذا ما تطمح إليه حركات التغيير التي كانت شعاراتها شعارات مبسطة لكنها في عميقة جدًا، شعارات تتحدث عن الحرية، عن المساواة، عن العدالة، وهذه لعمري قضايا محورية طرحتها حركة النهضة الأولى، أو حركة الإصلاح الأولى، في القرن التاسع عشر، وهي لا تزال قائمة إلى الآن.
سؤالان مركزيان يرتبطان ببعضهما بعضًا، ولا يمكن فصلهما: سؤال الحرية، وسؤال التنمية، والتنمية تتضمن مواطنة سليمة، والتي تقوم بدورها على أربعة أركان أساسية، فهي تقوم على الحرية، وتقوم على العدالة، وتقوم على المساواة، وتقوم على الشراكة والمشاركة، والتنمية تختلف عن النمو الاقتصادي، حيث يمكن لبلد معين أن ينمو اقتصاديًا، وقد حصل أن بلداننا حققت نموًا اقتصاديًا في العديد من المجالات، خصوصًا العراق، سورية، مصر، الجزائر، واليمن، لكنها لم تستطع أن تحقق التنمية المنشودة، بمعناها الحديث، أي التنمية الشاملة، بمعناها السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والقانوني، وإصلاح الفكر الديني، أو المجال الديني، ومن ثمّ إصلاح الخطاب الديني، وإصلاح منظومة التعليم والتربية، فضلًا عن منظومة الإعلام، ومنظومة المجتمع المدني، ومنظومة القضاء، وكل ما يتعلق بعملية التغيير، وهذا ما حصل أيضًا في البلاد الاشتراكية السابقة، التي حققت نموًا اقتصاديًا، لكنها لم تتمكن من تحقيق تنمية شاملة ذات أبعاد إنسانية، وهو ما تطلق عليه أدبيات الأمم المتحدة تسمية “التنمية المستدامة”، بما يعني فتح خيارات جديدة للناس، وفتح هذه الخيارات تتوقف عليه عملية التقدم الاجتماعي والاقتصادي في جميع الميادين التي جرى الحديث عنها.
بهذا المعنى دعني أقول لك، إن عملية التغيير، والثورة، هي عملية مركبة، وعملية متداخلة، عميقة، فالثورة مثل الحب، لا يمكن أن يأتي مرةً واحدة، إنه يأتي تدريجًا، ويأتي بالتراكم، ويأتي بالممارسة، ولهذا يبقى الحب عصيًا على الفهم، تمامًا مثل الثورة؛ هي لا تأتي دفعةً واحدة، ولا تأتي مجهزةً أو كاملة أو نهائية، هي عملية تراكمية، وهي “بروسيس” طويل الأمد، وهي على حدّ تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ: الثورة ليست نقرًا في السطح، وإنما حفرٌ في العمق، والحفر في العمق يختلف عن النقر في السطح. نطلق هذا التعبير الأخير على عملية تغيير جزئية، أو على انقلاب، أو على تحول ليس تحولًا جذريًا عميقًا بعيد المدى يترك تأثيرًا، أما الحفر في العمق فهو يحتاج إلى زمن، ويحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى تراكم، ولهذا واجهت حركة التغيير طائفة من المنعرجات والمنحدرات والعقبات والعوائق، وتعرضت خلال مسيرتها إلى انكسارات، ولم تستطع ككل ثورة السير بصورة مستقيمة، وإنما كانت هناك دروب وعرة، ومفاجآت عديدة، ولا سيّما عندما دخل العنف والسلاح إليها، وأحيانًا بالضد من إرادتها، فأُجبِرَت عليها، أو اضطرت إليها، أو تناغم بعض أفرادها مع هذا التوجه، الذي لم يكن من كينونتها الأولى.
هنا علينا أن نفكر بالدرس التاريخي، والدرس التاريخي يتطلب التوقف عند ما حصل، أين نجحنا؟ وأين أخفقنا؟ وما أسباب الإخفاق؟ وما أسباب الفشل؟ ومن ثم ما السبيل لإنجاز عملية التغيير من دون الخسارات التي حصلت طوال هذه السنوات العشر؟ أكانت في البلدان التي حصل فيها التغيير، أو تلك التي أُنجِزَت فيها المرحلة الأولى من عملية التغيير، بانتهاء الأنظمة واستبدالها بأنظمة جديدة، أو في البلدان التي لم تنجح فيها عملية التغيير، بل سارت في دروب إلى درجة التيه أحيانًا، وفي طريق استخدام العنف والسلاح، والاحترابات الداخلية، والتدخلات الخارجية، والاستثمارات الأجنبية السلبية، التي آذت شعوب هذه البلدان، وأقصد بالتحديد، سورية، وليبيا، واليمن، وغيرها.
هنا أيضًا، لا بدّ من التوقف عند موضوع “بنية النظام العربية”، ولا سيّما الصراعات الداخلية التي عاشها ويعيشها النظام العربي الرسمي من جهة، وانعكاساته المجتمعية، ففي الغالب تأتي المُعارَضات على قدر ما تسمح به الأنظمة، وبهذا المعنى تكون أحيانًا صور بعض المعارضات وجهًا آخر لبعض الأنظمة، ولا سيّما تلك التي تراهن على اعتبارات أخرى غير الهوية الوطنية الجامعة التي لا بدّ من التمسك بها، لأنها تمثل وتجسد رؤية وطنية حقيقية لعملية التغيير، وهذه لعمري مسألة مهمة.
عندما يتّحد العامل الذاتي مع العامل الموضوعي، أي عندما تتوافر الحاضنة الاجتماعية الذاتية، وتلتقي مع الظرف الموضوعي، داخليًا وخارجيًا، ويحصل التراكم، ربما تحصل عملية التغيير بسلاسة أكبر في معظم الأحيان.
بماذا اختلفت حركة التغيير في مجتمعاتنا عن مجتمعات أوروبا الشرقية، أي البلدان الاشتراكية السابقة، وحتى عن بعض دول أميركا اللاتينية؟ في الحقيقة، تلاقت في تلك المجتمعات الحاضنة الاجتماعية للتغيير، الفئات التقدمية، مع الكنيسة، التي لعبت دورًا تحريريًا، سمي لاهوت التحرير، من أجل إنجاز عملية التغيير، والتخلص من أنظمة، والإتيان بأنظمة، أكثر انفتاحًا، بدساتير حديثة، أوصلت هذه البلاد إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وقطعت الطريق إلى حدود معينة على العامل الخارجي، الذي عاث في بلداننا فسادًا لا حدود له.
في أوروبا، يمكنني القول إنه يوجد أربع أو خمس مسائل أساسية امتازت بها علينا: المسألة الأولى، لا توجد أمية في أوروبا الشرقية، فكل أوروبا الشرقية كانت قد قضت على الأمية منذ حين، بسبب النظام الاجتماعي والسياسي السابق، وهذه مسألة تُسجل لمصلحة عملية التغيير، في حين أن الأمية ما تزال ضاربة الأطناب في مجتمعاتنا، بل إنها ازدادت في السنوات الأخيرة، ويكفي أن أقول إن أكثر من 70 مليون أمي يعيشون بين ظهرانينا في العالم العربي، أي إنهم يساوون أكثر من 20 في المئة تقريبًا من مجتمعاتنا العربية، هذا ما يتعلق بالأمية الأبجدية، أما الأمية التكنولوجية، فحدث دون حرج.
أما المسألة الثانية، فهي أن دور الدين كان ضعيفًا في أوروبا الشرقية، فيما لا يزال دور الدين في مجتمعاتنا قويًا، بل إنه انقسامي في الكثير من الأحيان، بسبب الصراعات الطائفية، والمذهبية، المتخلفة. وكانت المسألة الثالثة أن للمرأة حقوقًا في أوروبا الشرقية ليست متوافرة في بلداننا، لا على الصعيد القانوني، ولا على الصعيد الاجتماعي، ولا على صعيد العمل، والمساواة في الأجور، والرواتب، وغير ذلك من القضايا.
أما المسألة الرابعة فهي أن التقدم الاجتماعي، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، كان قياسًا ببلداننا متقدمًا إلى حدود كبيرة، بل إن هنالك استعدادًا لقبول الجديد، ولقبول عملية التغيير مجتمعيًا، ولذلك كانت الهبة شاسعة، واسعة، عميقة، في تلك البلدان.
أضيف إلى ذلك المسألة الخامسة التي تتمثل بأن دول الجوار الأوروبي كانت تمتاز ببنية ديمقراطية قابلة لعملية التغيير، في حين أن البنية التي تعيشها مجتمعاتنا ودول الجوار التي حولنا ليست مهيئة لقبول عملية التغيير، لأنها هي أيضًا تحتاج إلى عملية إعادة نظر، وتغيير، وعملية مراجعة نقدية جادة.
لهذه الأسباب أقول إن التغيير كان هناك سلسًا، وكان سلميًا، وكان بعيدًا عن عوامل التعصب والتطرف التي شهدناها بعد مدة قصيرة من عملية التغيير التي شهدتها مجتمعاتنا، خصوصًا مع صعود التيار الديني الطائفي الذي تربع على سدة الحكم في بعض البلدان، وشكل كابحًا كبيرًا لعملية التغيير.
لكن، على الرغم مما حصل، فإن الانتفاضات حتى لو تلكأت، أو تعثرت، أو تراجعت، أو ارتكست، أو نكصت، هي مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر، وهي ريح منعشة، ستأتي أكلها آجلًا أم عاجلًا، والأمر يحتاج إلى زمن، وإلى تراكم، وإلى قراءة جديدة، وإلى نقد جديد، فلم تمر الثورة الفرنسية بطريقة سلسة، فقد قُتل، خلال السنوات السبع الأولى، أكثر من أربعة ملايين إنسان، لكن النتائج جاءت بعد مئة عام، أو أكثر من مئة عام، خصوصًا في ما يتعلق بهيكلية الأنظمة باتجاه الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتلك هي قيم إنسانية ما زال العالم يتحدث عنها إلى يومنا هذا.
لقد عانت مجتمعاتنا العربية، وعانى فكرنا العربي، من الركود، والاتكالية، والتعويلية؛ إذ كانت مجتمعاتنا غير منتجة فكريًا، وفقدت الكثير من عناصر الحيوية، وأدت، أو قادت، إلى نكوص في الإبداع والابتكار، بل إننا عشنا في الماضي، محاولين اجترار الماضي بكل تقليدية، واستكانة. الأمر يحتاج إلى قراءة جديدة، بعقل منفتح، ومرونة حركية ضرورية، خصوصًا بالتوقف عند موضوع العنف الذي صاحب بعض الحركات، باعتباره مستلزمًا من مستلزمات التغيير، وماذا لو لجأت القوى الحاكمة إليه، فما السبيل لتلافي الانخراط فيه؟
أكتفي بهذا القدر، وأترك للدكتور حازم الحديث، وللأخوة الذين يحضرون معنا في هذه المنصة، وشكرًا.
 
حازم نهار
شكرًا دكتور عبد الحسين على هذا العرض، وفي الحقيقة إن ما تفضلت به يحرض على النقاش على المستوى الفكري في نقاط عديدة جدًا.
فمثلًا فكرة أن الثورة هي حفر في العمق، وهي كذلك فعلًا، فكل الثورات التي حصلت على امتداد المنطقة العربية، أعتقد أنها حفرت في العمق، لكن نتائج الحفر في العمق، أنتجت إلى السطح مسألتين مهمتين، أعتقد أنهما كانتا حاسمتين في مسار الربيع العربي: هذا الحفر في العمق أظهر لنا الدولة العميقة في كل بلد عربي، وعندما ظهرت الدولة العميقة إلى السطح، التي من الممكن أن تكون أحيانًا العسكر، وأحيانًا أخرى منظمات ومؤسسات بيروقراطية، ومدنية، وإلى غير ذلك، أعتقد أنها استدعت وأظهرت إلى جانبها المجتمع العميق، ما يعني أننا ظهرنا خلال السنوات العشر الماضية وكأننا لا نعرف بلداننا ولا نعرف شعوبنا. ظهرت كل العيوب العميقة ضمن المجتمع.
هذه الثورات التي حفرت في العمق، وأظهرت إلى السطح، الدولة العميقة، والمجتمع العميق، كيف يمكن لها، مقارنةً بأوروبا الشرقية، أن تنتج دولًا طبيعية وشعوبًا طبيعية؟
عبد الحسين شعبان
شكرًا جزيلًا، أعتقد أن هذا جوهر الفكرة الرئيسة التي وددت التوقف عندها في هذه المراجعة، خصوصًا ما أنتجه حركات التغيير، أو الانتفاضات، من قضايا جوهرية، تحتاج إلى إعادة نظر، في الكثير من الأحيان، حول بعض المسلَّمات.
إلى وقت قريب، كنا نقول، ونردِّد، بتنغيم أحيانًا، أن لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية، ولا نظرية ثورية من دون طليعة ثورية. لاحظ أن حركة التغيير تجاوزت مثل هذا المفهوم الكلاسيكي الذي تحدث به لينين قبل نحو ثمانين أو تسعين أو مئة عام. لقد ضمر دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين العقائديين في حركة التغيير الأخيرة، ولم يعد أحد ينتظر أن يستلم التعليمات من الوكر الحزبي، أو من مقر هذا الحزب أو ذاك، أو حتى من صاحب هذه العمامة أو تلك، وإنما كانت حركة الشارع حركة عميقة في اتجاه التغيير، وهي نقيض للدولة العميقة، ونقيض للمجتمع العميق، الذي ظهرت عيوبه لاحقًا.
أي ثورة في الكون، وكل الثورات في العالم، أخرجت أنبل ما في الإنسان من كينونة، وأظهرتها إلى السطح، التضحية، التفاني، الشجاعة، البسالة، نكران الذات، الاستشهاد…إلخ. وأظهرت كذلك أحقر ما في البشر، من وسائل، ومن خسة ودناءة.
كل الثورات في العالم هكذا، لذلك حدث نوع من الاستقطاب والاصطفاف، وهذا الاصطفاف دفع بالثوريين الحقيقيين، وبدعاة التغيير الحقيقيين، أحيانًا، إلى الخلف، وتصدر المتطرفون الصراع، فأصبح صراعًا بين دولة عميقة، مع جزء من المجتمع العميق، في نقض الدولة العميقة، وكأن هذا العمق انقسم إلى قسمين، واحترب فيما بينه، وبقي الذين يريدون التغيير الحقيقي، والذي يسعون سلميًا إلى تطوير المجتمع، وإلى إيصاله إلى جادة الصواب، وإلى منصة التغيير الحقيقية، خارج الملعب، لا يريد أحد أن يلعب معهم، بسبب اعتدالهم، وبسبب رغبتهم الحقيقية في التغيير، وهذه مسألة يجب التوقف عندها.
لم تعد الرومانسية القديمة كافية لأن تدفع الناس للمشاركة، إنما بشعارات بسيطة، عبر الانترنت، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان الناس يجتمعون في المحتشدات، وكأن الأمر يذكرنا بعصر ماركس، وعصر المداخن حيث هبت جماهير العمال والناس مجتمعين لتحطيم الآلة التي سحبت منهم أعمالهم، والتي أدت إلى دفعهم إلى جادة البطالة.
لم يكن هناك قائد ملهم في كل الثورات، ولم يكن هناك زعيم لا يصله النقد، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما كان هناك نوع من التشاركية، ونمط جديد من الممارسة الاجتماعية، بالشعارات المبسطة، خصوصًا أن الثورة، لم تتخذ بعدًا تآمريًا كما تجري عادةً الانقلابات العسكرية، والأعمال العصبوية، التي تقوم بها حركات، في جنح الظلام. بل كانت حركة احتجاج، علنية، سلمية، واضحة، محددة، في التوقيت، وفي المكان، وفي الزمان، وهذا لعمري أمر جديد نحن في حاجة إلى التوقف عنده.
لم تكن الثورة ذكورية، فقد ساهمت المرأة بصورة كبيرة جدًا في موضوع التغيير، استنادًا إلى مبادئ المواطنة، والمواطنة طُرِحَت هنا بصورتها المبسطة، بعيدًا عن “الصفصفات”، وبعيدًا عن التعويذات، التي سمعناها على مدى عقود من الزمان، والتي تعارضت فيها الوطنية مع التغيير الاجتماعي أحيانًا، ما أنتج أنظمة استبداد شمولية. تعارض التغيير الاجتماعي مع الوطنية ماذا سينتج أيضًا؟ سينتج تعويلية على الآخر، وهذا أمر تخطته هذه الحركة.
تطرح هذه الحركة أيضًا إشكالية قديمة في الفكر اليساري الكوني، ففي العام 1905 دار حديث، بل تبادل نقد، بين بليخانوف ولينين، فقال بليخانوف، وهو أبو الماركسية والمنظر الأكبر فيها، للينين إن استخدام العنف كان مثل لعب الأطفال، مستنكرًا ذلك، فأجابه لينين، العقل الثوري الداعي إلى التغيير العنفي، إن استخدام العنف لم يكن بما فيه الكفاية، بمعنى أنه كان علينا أن نستخدم العنف على نحو أشد وأعمق وأكثر. هذا الأمر لا يزال يناقش لدينا أيضًا، هل نستطيع أن ننجز عملية التغيير سلميًا؟ خصوصًا في ظل اختلال توازن القوى. وماذا لو تمسكنا بعملية التغيير السلمي إلى النهاية؟ هل سنصل إلى ما وصلنا إليه؟ أم ثمة تغييرات وضغوط ربما ستحصل؟ لا أتحدث أنا من جانب التفاؤل المفرط، ولا أريد أن أناقش المسألة من جانب التشاؤم المحبط، وإنما أقول إن اللحظة الثورية تنبغي قراءتها على نحو دقيق، وإلا يمكن أن تؤدي إلى إجهاض مشروع التغيير، ومن ثمّ تعطيل عملية الثورة، وربما وضع عقبات جديدة أمامها لعقد أو عقدين أو حتى ثلاثة عقود من الزمان.
ربما ماوتسي تونغ يجيب عن هذه المسألة من زاويته العنفية أيضًا، إذ يقول إن الثورة ليست مأدبة، أو كتابة مقالات، أو رسم صورة، أو تطريز ثوب، بل هي عمل عنيف تلجأ إليه الطبقات.
لو أخذنا هذا الكلام على محمل الجد، وأبعدنا العنف، لأن المرحلة اختلفت، يمكن أن نصل إلى ما قال به ماوتسي تونغ؛ إنه ما إن تنضج الظروف الموضوعية متّحدة مع الظروف الذاتية، فإنه في لحظة التلاقي هذه ستكون الشرارة قد امتدت لتحرق السهل كله، أي إنها ستصل إلى النهاية.
بالسلاح، في تقديري، ستكون الدولة العميقة أقوى، وبالعنف، ستكون الدولة العميقة أجدر، وبالتبرير ستكون الدولة العميقة أقدر. والدولة العميقة لا يهمها حين يتم استخدام وسائل تتذرع بها، أو تتعكز عليها، لتبرير غاياتها، بزعم أن هذه الحركة مرتبطة بالخارج، وأنها ممولة أجنبيًا، وأن التدخل الخارجي يريد تهديد وحدة البلاد، وسيادتها، ويريد الانتقاص من الهوية، بتدمير الهوية، وتقزيم سياسة هذه الدولة، وبالتالي جعلها عرضةً للتفتت، وعرضةً للتقسيم، والتشطير، خصوصًا باستخدام وسائل غير قليلة.
 
حازم نهار
في الحقيقة، ما تفضلت به، هو ما حصل خلال المرحلة الماضية في سورية، أي صعدت الدولة العميقة، وصعد المجتمع العميق، وخرج المجتمع المدني، والمجتمع السياسي، خارج المعادلة السياسية في سورية.
في سياق إعادة قراءة تجربة السنوات العشر الماضية، على الرغم من أنه لم يمض بعد وقت طويل، كي نقدم قراءات، أو سرديات، أقرب إلى الموضوعية، هناك مشكلة نعانيها دائمًا في قراءة التاريخ، وأعتقد أن المستبدين يعرفونها، ويستندون إليها.
فمثلًا، يُعدّ بسمارك، بالنسبة إلى الألمان، وفي سياق التاريخ الألماني، الشخص الذي وحّد ألمانيا، وهو الذي بناها، لكنه في زمنه لم يترك وسيلة من وسائل الشر إلا واستخدمها. ما أريد الإشارة إليه هنا هو اختلاف النظرة إلى بسمارك في زمنه عن النظرة إليه في سياق التاريخ الألماني.
والسؤال هنا، إذا أردنا أن نعيد قراءة تاريخ الربيع العربي خلال السنوات العشر الماضية من منظور رؤية إلياس مرقص إلى مفهوم الثورة، عندما ربط بين الثورة والتقدم، بمعنى أن أي ثورة إذا لم تنتج التقدم لا يبقى اسمها ثورة، فهل يمكن استخدام هذا الميزان في إعادة قراءة التاريخ، تاريخ الثورات، من جانبنا نحن الذين ما زلنا ممتلئين عقلًا وقلبًا ووجدانًا بالربيع العربي؟
 
عبد الحسين شعبان
أشكرك جدًا على هذه الإشارة، خصوصًا أنها ذكرتنا بالصديق إلياس مرقص، وأحيي أيضًا مؤسسة ميسلون على استحضارها في ملف خاص، في العدد الأول من مجلتها (رواق ميسلون)، الصديق إلياس مرقص بعد ثلاثين عام على وفاته، وأقول دائمًا إن أعمال إلياس مرقص في حاجة إلى إعادة طباعة، وتنقيح، وإعادة قراءة، وحبذا لو عُقدت حولها أكثر من ندوة، في جوانبها الفلسفية، أو الفكرية، أو الثقافية، فضلًا عن رؤيتها الاستراتيجية، فقد كان إلياس مرقص رؤيويًا، وكان نصف عقله ربما يعيش في المستقبل، وقلت، وأقول مرة أخرى، إنه سبقنا بأكثر من عقدين من السنوات، في استنتاجاته، وفي تحليلاته، وفي رؤيته، وفي نقده. ومن هذه الزاوية يمكن أيضًا أن ننقد المعارضة، خصوصًا أن بعض أطرافها انجرت إلى العنف، أو وافقت عليه، أو عدَّته من مسؤولية الطرف الآخر، سواءً في اليمن، أو ليبيا، أو سورية، أو غيرها.
بقدر ما تكون عملية التغيير معقدة ومركبة، ويكون لها خصوم أشداء وأقوياء، فعليها أن تربط دائمًا الوسيلة بالغاية، فلا غاية شريفة وعادلة من دون وسائل شريفة وعادلة، أي لا يمكن أن توصلك وسيلة خسيسة وإجرامية إلى هدف سامٍ ونبيل. يقول المهاتما غاندي، إن الغاية إلى الوسيلة هي مثل البذرة إلى الشجرة، لأنهما مترابطتان، البذرة والشجرة، فالبذرة من الشجرة، والشجرة من البذرة، وهكذا فهما متلاحمتان، لا يمكن فصلهما، كما الوسيلة والغاية.
لاحظ أن المهاتما غاندي كان قائدًا للمقاومة المدنية السلمية، ومثَّل رمزية كبيرة بتبنيه قضية اللاعنف، واستطاع أن ينتصر باللاعنف على أكبر إمبراطورية في العالم آنذاك، المملكة المتحدة (بريطانيا)، وحصل على الاستقلال في عام 1947، عبر نضال مرير، وجَسور، وشجاع، بلا حدود، واستطاع أن يحرِّض ملايين البشر ليقفوا معه في قضية اللاعنف، وقد حاولت بريطانيا أن تجره إلى العنف في أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا في ذلك، وهو الأمر الذي حرض حتى الرأي العام البريطاني، والعالمي، لتحقيق النصر في مواجهة الآلة الحربية البريطانية.
ليس هذا فحسب، بل دعني أستذكر معك أيضًا شخصية ريادية، في قضية اللاعنف أيضًا، وهو من الهند الكبرى، اسمه عبد الغفار خان، وعبد الغفار خان هو غاندي المسلم، أسَّس جيشًا لاعنفيًا قوامه مئة ألف، وكان أنصاره يتسابقون ليقدموا صدورهم للرشاشات البريطانية التي كانت تحصد منهم بالعشرات، في مقاومتهم السلمية اللاعنفية، وقد دفع ثلث عمره الذي قارب التسعين عامًا، في السجون، سواءً السجون البريطانية قبل الاستقلال، أو السجون الباكستانية لاحقًا، بعد انفصال الهند عن الباكستان، لكن شعبه وهو من قبيلة (البيشتونغ) استقبله استقبال الأبطال في باكستان، ومنحته الهند جائزة الدولة، أول مرة تُمنح لشخص غير هندي، فهو باكستاني الأصل بحسب الجنسية، ومن أصول أفغانية، وسارت مسيرة كبرى، لدفنه في أفغانستان بعد وفاته في عام 1988.
هذه التجربة، في تقديري، تجربة مهمة، وتجربة نقدية أيضًا للمسار، إذ لا يجوز أن نعلق كل شيء على الآخر، بل يجب أيضًا أن نبحث عن نواقصنا، وعن ثغراتنا، وعن مثالبنا، وعن عيوبنا، وعن استسهال علاقتنا مع الدول الأجنبية، وعن ضعف الوطنية أحيانًا، وبهذا المعنى نحن نحتاج أيضًا إلى ترميم الخطاب الفكري والثقافي لحركة التغيير، لأنه خطاب لم يعد يصلح في ظل الاصطفافات والاستقطابات الجديدة، وأدى، على أقل تقدير، إلى استمرار الصراع لسنوات غير قليلة، الأمر الذي أنجب فوضى، وأنجب انهيارًا في المنظومة السياسية الإنسانية والأخلاقية، ومزق النسيج الاجتماعي، وظهرت النعرات العصبية، الطائفية، والمذهبية، والإثنية، والهويات الفرعية التي يفترض أن تحترم وتقدر في إطار الهوية الجامعة، المانعة، باحترام حقوقها السياسية، والإدارية، والثقافية، كجزء من المكون الاجتماعي في العديد من بلدان المنطقة.
في تقديري، إن الاشتغال على الإنسان يحتاج إلى وقت، ولذلك ربما ستتأخر عملية التغيير التي كنا نحسبها قاب قوسين أو أدنى، لعقد آخر، وربما لعقدين من الزمن، وعلينا أن نتوقف خلال هذه المدة لنحدِّد ماذا نريد، وكيف يمكن أن يستمر (بروسيس) التغيير من دون توقف، لكن بوسائل وأساليب جديدة.
وفي رأيي، لا بدّ من إعادة السؤال مجدّدًا: قبول التنوع، والتعددية، في هذا المجتمع، بمعنى حرية الاختيار، وتوسيع خيارات الناس، هذا سؤال مهم وهو سؤال القرن التاسع عشر أيضًا، سؤال محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والطنطاوي، والكواكبي، وخير الدين التونسي، وغيرهم، الذين دعوا إلى دولة مقيدة بدستور، فيها قانون، وفيها نظام. بعد قرن ونصف من الزمان، لا بدّ من توسيع عملية التغيير، وهذا يصب في عملية التنمية، وهذا هو التغيير الناعم طويل الأمد؛ إذا لم نكن نحن، جيلنا، أو حتى الجيل الذي يلينا، قادرًا على إنجاز عملية التغيير، فعلى أقل تقدير ينبغي لنا أن نرسم خطًا طويلًا للتغيير الذي يمكن أن ينجز بعد عقد أو عقدين من الزمان.
لا بدّ من توفير بعض المستلزمات، أولها التعليم، فلا بدّ من القضاء على الأمية، والقضاء على الأمية هو المسمار الأول في يافوخ التخلف، في العالم العربي، وتغيير التعليم يحتاج إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية، وإعادة النظر في أنظمة التعليم، وفي طرائق التدريس، وفي علاقة الطالب بالأستاذ، وفي حرية التعبير، هذا كله جزء من إنجاز عملية تغيير التعليم، وهذا كله يحتاج إلى عملية تغيير طويل المدى، بطيئة ربما، لكنها بالتراكم ستؤدي إلى تغيرات نوعية أكيدة، ولا سيّما  إذا ارتبط هذا بتوفير أوضاع صحية أقرب إلى عملية التقدم، أي توفير مستلزمات الصحة للناس، والحفاظ على صحة الناس.
لا ينبغي العمل فحسب على الشعارات الكبرى، فنحن نبدأ من إسقاط النظام أحيانًا، وننسى عملية تبليط شارع، أو بناء مستوصف، أو تحسين بناية مدرسة، وتوفير الخدمات البلدية، والخدمات البيئية، وتحسين أنظمة الإدارة، أو غير ذلك من المسائل المطلبية التي لو راكمتها مدة زمنية طويلة، ربما ستعيد لعملية التغيير قدرتها وفاعليتها، ، وهذه المسائل قد يصطف معك فيها جزء من أجهزة الدولة فيما تذهب إليه، ويخفف من المركزية والصرامة الشديدة، وأحيانًا تستطيع أن تفكِّك ما تريد، لكن خلال مدة زمنية طويلة، ولا سيّما  إذا ارتبط الأمر بحكم القانون، وبإصلاح منظومة القضاء، وبتحسين نظام المعلوماتية، واقتصاد المعرفة، وهذا كله قد يحتاج إلى أوضاع طبيعية، لا إلى أوضاع استثنائية، أو أوضاع حرب أهلية، أو غير ذلك.
في خلاصة الأمر أقول، تبقى التنمية، والاشتغال على الإنسان، مسألة ضرورية، قد لا يكون الحسم متوافرًا، وقد يكون الحسم أحيانًا خطرًا، ولا سيّما أنه قد يؤدي إلى الانشطارات، وإلى الافتراقات، وإلى التمزقات، وإلى تحطيم الوحدة الوطنية، وتمزيق النسيج الوطني، ولذلك لا بدّ لكل حريص في السلطة والمعارضة، من التفكير في البدائل السياسية الممكنة، التي يمكن التوقف عندها.
ربما يكون خطابًا من هذا النوع خطابًا عموميًا وغير شعبوي. نعم إنه خطاب نابذ للعنف، ونابذ للطائفية، والتعصب الإثني، وهو خطاب يأخذ في الحسبان جميع الحقوق، خصوصًا في بلدان متعددة القوميات، ومتعددة الثقافات، إذ لا بدّ من الانتباه إليها في رؤية مستقبلية دستورية قانونية تؤسِّس لدولة يطلق عليها البعض دولة مدنية، ويمكن أن يسميها البعض الآخر دولة قانونية أو دولة حديثة عصرية، يمكن أن تنتج شيئًا جديدًا، مختلفًا عما هو قائم.
 
حازم نهار
شكرًا دكتور، في الحقيقة كنت أريد أن أنتقل إلى أسئلة الحضور، لكن في سياق حديثك، أغراني سؤال عن مسألة الخطاب الثقافي، فأنا أرى مثلًا أنه في ظل الهزائم والانكسارات، هناك دور مهم، وأساسي، ومركزي، للمثقفين، وهناك أهمية كبيرة لإطلاق ثورة ثقافية. أذكر مثلًا أن محمد حسنين هيكل تحدث عن الوضع في مصر بعد هزيمة الـ 67، إذ أشار إلى أن صحيفة الأهرام تحولت إلى منتدى ثقافي، وإلى جبهة ثقافية، يشارك فيها المثقفون المصريون والعرب من كل التيارات، وكانت الأسئلة والجدالات بينهم تدور دائمًا حول الهزيمة، كيف حصلت، ولماذا حصلت، وكيف يمكن تجاوزها، وما أدوار الفئات الاجتماعية المختلفة، وما أدوار المثقفين، والسياسيين، وغير ذلك.
اليوم، ما زال مسار الربيع العربي قائمًا، لكن بعد مرور عشر سنوات على انطلاقه، أنا أشعر أنه لا توجد، على المستوى الثقافي في كل بلد عربي، وعلى المستوى العربي بشكل عام، إعادة قراءة ثقافية، ولا توجد جبهة ثقافية، البعض يسميها الحصن الأخير، وأنا في رأيي هي الحصن الأول والأخير. أنا أتحدث عن الثقافة، والجبهة الثقافية، وأعتقد، كما يقول ياسين الحافظ، لا خوف على مجتمع توافر على إنتلجنتسيا واعية ومنظمة.
أصبحنا نحسد هزيمة الـ 67 بسبب ما أنتجته من مثقفين كثيرين أعادوا قراءة التاريخ والثقافة والخطاب بصورة نقدية، مثل صادق جلال العظم، وسعد الله ونوس، وياسين الحافظ، وغيرهم، ما أدى إلى حدوث تطورات فكرية هائلة ردًا على الهزيمة، فهل يمكن اليوم القيام بإعادة بناء الحقل الثقافي، أو الفضاء الثقافي؟
 
عبد الحسين شعبان
أعتقد أن القضية الأولى في هذا الشأن، أنه لا بدّ من فتح حوار، الحوار ضروري جدًا، حوار بلا شروط، حوار مفتوح، بلا تخوين، بلا اتهامات، حوار أساسه ولحمته الأساسية هو سؤال ما العمل، وكيف يمكن إنجاز عملية تغيير، بأقل قدر ممكن من الخسائر، وأعتقد أن هنالك صراعًا داخل النخب نفسها، أي أن النخب الثقافية والفكرية منقسمة: قسم منها كان يخشى من انحلال الدولة، ومن الفوضى، ومن انكشاف مدى علاقتها واستفادتها من الأوضاع القائمة، وقسم آخر لم يكن يعنيه شيء، وكان يريد إنجاز التغيير بأي ثمن. لا هذا ولا ذاك أظنه يمثل جوهر المثقف الحقيقي بالمفهوم الغرامشي، المثقف العضوي؛ فالمثقف العضوي وفقًا لغرامشي هو الذي ينطلق من تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة، وبهذا المعنى كان يمكن للنخب أن تتبنى موضوع الحوار، خصوصًا أن بعضها، كما قلت، كان قد وقف في البدايات خارج دائرة الانحياز لرأي الناس، ولِما يطالب به الناس، بزعم إما أنه غير سياسي، أو خارج دائرة السياسي، أو أنه تكنوقراط، أو ربما خشيةً على الوطن من الانحلال والتمزق، لكن بعضهم الآخر غالى أيضًا في توجهاته ولم يكن يهمه أي شيء، واندفع أحيانًا للتعاون مع جهات أضرّت بعملية التغيير، وهذا الأمر في حاجة إلى إعادة نقاش، وإلى إعادة رؤية.
عانى المثقف، تاريخيًا، من أربع سلطات أساسية كابحة، دُجِّن المثقف، واضطر بعضهم إلى إحراق البخور للسلطان، مثلما اندفع بعضهم الآخر للتعاون مع الخارج من دون ضوابط ومعايير. عانى المثقف من سلطات استبداد طويلة الأمد أحيانًا، وعانى من سلطة الدين، من السلطة الثيوقراطية الدينية الكابحة، وعانى من سلطة المجتمع في الكثير من الأحيان، تحت عناوين العشائرية والقبلية والمناطقية وغير ذلك، وعانى أيضًا مما سمي بسلطة التقاليد، وهذه التقاليد ثقيلة في كثيرٍ من الأحيان، لذلك فإن إعادة النظر في الخطاب الثقافي ضرورة، وكل إعادة نظر في الخطاب الثقافي لا بدّ أن ترتكز على إعادة نظر في الخطاب الديني، ولا يمكن إعادة النظر في الخطاب الديني أو الخطاب الثقافي إلا بإعادة النظر في الفكر الثقافي، وفي الفكر الديني، وإعادة النظر في الثقافة السياسية، وفي السياسة الثقافية. هناك تلازم بين المسائل؛ لا بدّ الآن من معرفة كل قضية كيف تؤثر على المثقف. أنا مثلًا رسام، كيف أثرت حركة التغيير فيّ؟ أين اللوحة؟ أين المسرحية؟ أين الفيلم السينمائي؟ أين الموسيقى؟ أين الكتاب النقدي؟ أين البحث الاجتماعي السوسيولوجي؟ أين المجتمع المدني أيضًا؟ هناك حالة من النكوص، والنكوص تعمّق مع العنف، فما أن اندلع العنف، حتى ارتكست وسائل التغيير السلمية لمصلحة قضية العنف، والعنف دفع بحركة المجتمع المدني، وبقوى التغيير الحقيقية إلى الخلف، خصوصًا تراجع الحواضن الاجتماعية لعملية التغيير، لذلك فوجئنا وأنت أشرت بذكاء كامل إلى أنه ليس المطلوب الحديث عن الدولة العميقة فحسب، بل الحديث أيضًا عن المجتمع العميق، فهل هذا المجتمع هو فعلًا الذي عشناه ونعرفه ونزعم أننا كنا نناضل من أجل تغييره؟ أم أنه مجتمع آخر؟ ظهرت المظاهر الأنانية، والسرقات، والاستحواذ على المال الخاص والعام، والتدمير، وعدم الشعور بالمسؤولية، والنعرات الطائفية والمذهبية، والنعرات الدينية العنصرية. لقد حدث نوع من الخلط، والاشتباك المجتمعي، الذي يحتاج إلى فرز، وإلى عملية بناء، قد تستغرق عقودًا من الزمان.
وأنا لاحظت وألاحظ ما حصل للمجتمع العراقي بسبب الحروب التي عاشها، حيث عاش المجتمع العراقي ثماني سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، ثم كانت عملية احتلال الكويت، المغامرة اللامسؤولة، والتي لم يكن لها أي مبرر، والتي أعقبتها حرب قوات التحالف ضد العراق عام 1991، ثم عاش الشعب العراقي حصارًا دوليًا جائرًا مدة 12 عامًا، ومنذ عام 2003 إلى الآن عاش احتلالًا مزدوجًا ومركبًا، وبتدخلات خارجية عميقة، من جهة قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية وقوات التحالف الدولي، ومن جهة وجود إيراني وذراع إيراني مؤثر في العراق بحيث أصبحت الدولة العراقية والحكومة العراقية والمؤسسات العراقية منشطرة بين هذين الاتجاهين، وضاعت الهوية الوطنية العراقية، وضاعت الوحدة الوطنية العراقية، في ظل هذه التجاذبات الخارجية الخطرة، إلى درجة أن عملية التنمية ظلت معطلة طوال هذه السنوات. العراق وصل عام 1978 إلى أن يفاخر بأنه وضع حدًا للأمية، وكاد يقضي عليها وفقًا لليونسكو، وتقدم في ميدان التعليم، وفي ميدان الصناعة والزراعة والبعثات وغير ذلك، لكن الانحدار بدأ منذ الحرب العراقية الإيرانية، وإلى اليوم نحن لم نخرج من هذه الدوامة.
يمكن بناء سورية غدًا، وبناء اليمن، وبناء ليبيا، ولكن كيف يمكن بناء الإنسان؟ بناء الإنسان هو الأساس، ولا يمكن أن يحدث أي تحول من دون الإنسان، لذلك أقول مرةً أخرى، إن الأمر يحتاج إلى تراكم، ربما طويل، وبنفس طويل، وبرؤية بعيدة المدى، وبالتراكم يمكن أن يُعاد بناء الإنسان، وأن تعاد التنمية المستدامة.
 

78
المنبر الحر / الحزبية والحزبوية
« في: 21:05 19/05/2021  »
الحزبية والحزبوية
عبد الحسين شعبان
توقف "جون بول سارتر" عند ظاهرة  "افتراق السياسة عن الفكر"، حين عبّر عن ذلك بما معناه، هل يجب أن أقول الحقيقة، فأخون البروليتاريا أم يجب أن أخون الحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟
وكانت جامعة أكسفورد قد نظّمت ندوةً في العام 2003 في إطار "مشروع دراسات الديمقراطية" حول "الديمقراطية في الأحزاب الثورية"، وفيها قدّمتُ بحثاً بعنوان "حين تزدري السياسةُ الفكرَ"، خلاصاته كيف يتم تبرير التجاوز على المبادىء والأفكار بزعم الضرورات السياسية والحزبوية، وإذا كان هناك من حاجة ماسّة ومستمرة لتكييف الفكر كي ينسجم مع الواقع، وهو ما نُطلق عليه البراكسيس، فإن ذلك لا يعني تعارضهما أو تعاكسهما، بل توافقهما وتقاربهما.
لقد فقدت الأغلبية الساحقة من الأحزاب السياسية في عالمنا العربي ألقها الذي كانت تتمتّع به في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتدريجيًا أخذ لونها يبهت وصوتها يتحشرج ووهجها يخفت، وهو ما أظهرَته بشكل صارخ حركة الاحتجاج الواسعة التي أُطلق عليها "الربيع العربي" قبل عقد من الزمان، والأمر يعود لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية.
الأولى تتعلّق بانتهاء الصراع الأيديولوجي بشكله القديم وتبدل ظروف الحرب الباردة، التي توجّت بهدم جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989.
الثانية تتعلق بفقدان الحماس الشعبي وعزوف الشباب عن الانخراط في صفوفها، إلى درجة أصبح بعضها منتدًى للمسنين والمتقاعدين الذين يعيشون في الماضي، وتحوّلها إلى أحزاب محافظة وتقليدية.
لعب العاملان الموضوعي والذاتي دورهما في الحال التي وصلت إليها الأحزاب القديمة، القومية والشيوعية، إضافة إلى الأحزاب الدينية، بل أن بعض الانتقادات التي كان يوجهها بعضها إلى الآخر وقع هو فيها، من المحسوبية والمنسوبية والفساد والتسلّط، فهي لا تتورّع من التزوير أو تسكت عنه أو تمالئ أحياناً إذا كان يأتي إليها بمنفعة أو لبعض المحسوبين عليها. فالعلماني أصبح طائفياً والطائفي أخذ يتحدّث بالدولة المدنية والقومي  والأممي لم يجدا ضيراً من قبول التعامل مع قوى خارجية، بل إن العديد منهم انكفأ ليصبح محليّاً، بل متذرّراً في هوّيته الفرعية، فهذا يتحدث عن المظلومية التاريخية، وآخر يتناول حقوق "المكوّن" وثالث يضع انتمائه الإثني فوق الانتماء الوطني، كما دخلت إليها العشائرية والوراثية.
لم تستطع هذه الأحزاب لأسباب القمع المعتق الذي كانت تتعرّض له وعمليات الإلغاء والاستئصال والتهميش وشحّ الحريات بالدرجة الأساسية أن تتنفّس هواءً ديمقراطيّاً، لا سيّما استمرار نهج الاستبداد لعقود من الزمان، ولأسباب فكرية وعملية، لم تتمكّن من تقديم بديل مقبول، بل استخدمت الأساليب نفسها في الكثير من الأحيان، في معادلة ملتبسة، ظلّت تطرح أسئلة عديدة: هل المعارضات وجه آخر للسلطات؟ فإذا كانت رحيمة وسَمِحة، فستراها عقلانية وسلمية، والعكس صحيح. وتلك واحدة من مفارقات السياسة.
ولأن الأحزاب عانت من اختلال العلاقة بين الأعلى والأدنى، والأغلبية والأقلية، وغاب عنها حرية التعبير بزعم المركزية ووحدة القرار، فقد احتجب النقد والنقد الذاتي، وعانت من مركزية بيروقراطية صارمة واتكاليّة وتعويليّة فكرية مهيمنة، الواضح في أحزاب السلطة والمعارضة، حيث تكرّرت الانقسامات والانشقاقات وحركات الاحتجاج  لقمع الرأي الآخر.
والأكثر من ذلك، فإن الحزبوية تقدّمت على الهُويّة الوطنية في الكثير من الأحيان، بزعمها أن الحزب متقدّم على الوطن، وفي الكثير من الأحيان، تمّت التضحية بالعديد من أعضاء الحزب ذاته ومن أخلص الوطنيين بسبب النهج الأُحادي الإطلاقي بتبرير ادعائها امتلاك الحقيقة والأفضليات، علماً بأن أية أيديولوجية مهما كانت إنسانية فإنها لا تمنع من ارتكاب جرائم أو انتهاكات بحجة مصلحة الحزب المتقدمة على مصلحة الوطن والأمة، وفي تاريخنا العربي مثلما في التاريخ العالمي هناك أمثلة على مجازر ارتُكبت بحق قيادات وكوادر، بل وشعوب اقتيدت إلى النحر بحروب ومغامرات، لتحقيق مصلحة الحاكم أو الزعيم أو المسؤول، إما لعنعنات أو لجهل أو لسوء تقدير.
وغالباً ما دخلت حزبويات في صراع تناحري كان الوطن فيها هو الضحية، خصوصاً في ظل شحّ حرية التعبير ونظام الطاعة والهيمنة والأبوية الذي يستمد قاعدته من أيديولوجيات شمولية ظلت تحكم الأحزاب من داخلها، وحكمت المجتمع من خارجه، وأدّت إلى كوارث هائلة.
لقد تربّت النخب الحزبوية في أجواء السرية والحرمان والفاقة وحين اقتربت من السلطة، أية سلطة،  فرّغت الكثير من عقدها للتعويض عن ذلك، مستخدمة أساليب من أشدها قسوة وفظاظة إلى أكثرها مكراً وخبثاً، الأمر الذي يحتاج إلى إجراء مراجعةٍ نقدية للسياسة الحزبية والحزبوية السياسية، والهدف أنسنة الحياة السياسية.
ومن العبث أن نحاول مدّ الوقائع لتكون مطابقة لسرير بروكرست، حسب الميثولوجيا اليونانية، حيث يسعى الحزبوي لجرّ صاحبه حتى يهلك إذا كان السرير طويلاً، أما إذا كان صاحبه أطول فيعمل على اقتطاع أرجله لتأتي تصوّراته ونزعاته الإرادوية متطابقة مع الواقع. وفي كلا الحالين فالخسارة فادحة، ولا بدّ من الإقرار بذلك والتعامل مع الواقع كما هو، لتجنيب البلاد صراعات لا طائل منها، وخصوصاً التنكر للحقيقة. وتلك إحدى المعضلات التي تواجه المثقف الحزبي والسياسة الحزبوية.

79
المنبر الحر / دكتاتورية السوق
« في: 23:26 12/05/2021  »
دكتاتورية السوق
عبد الحسين شعبان
شهدت نهاية الثمانينات من القرن الماضي تحوّلاً كبيراً في العلاقات الدولية، توّج بانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، الذي كان إيذاناً بانتهاء عهد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وولادة ما سُمّي بـ "النظام العالمي الجديد"، بقيادة الولايات المتحدة، وقد تجاوز هذا التغيير الجوانب السياسية والثقافية ليمتدّ إلى الحقل الاقتصادي والاجتماعي في إطار ما أُطلق عليه "نظام العولمة".
والعولمة في أبسط تعريفاتها تعني: تيسير انتقال المعلومات والسلع والأموال والأفكار والعادات الاجتماعية والثقافية من الدول الصناعية المتقدّمة إلى أنحاء العالم، الأمر الذي يترتّب عليه انفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية وتقليص نفوذ الدولة الوطنية، لا سيّما في ظل الثورة العلمية - التقنية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتيل"، والتي حقّقت تقدّماً هائلاً وغير مسبوق في مفهومَي الزمان والمكان، بحكم تحوّل العالم إلى "قرية صغيرة" متفاعلة على نحو متشابك، خصوصاً في الطور الرابع من الثورة الصناعية.
وأصبحت النيوليبرالية المرجعية الفكرية للعولمة، التي تقوم على عناصر عديدة أساسها اعتبار السوق الكيان المهيمن للرؤية الاقتصادية على نحو شبه مقدس وحرية تكاد تكون شبه مطلقة، وذلك بتحرير أسعار السلع والخدمات وخصخصة المجالات الحكومية ومشاريع القطاع العام، وإعادة النظر في دور الدولة لجهة إلغاء بعض واجباتها السابقة في رعاية المواطنين وتخلّيها عن دورها الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وإلغاء وظيفتها في ضبط السوق، بتوسيع مجالها في حريّة انتقال السلع والخدمات والأفراد بلا مجهود من الداخل والخارج، أي بإغفال البُعد الاجتماعي لمفهوم العدالة واعتماد البقاء للأقوى اقتصادياً، وهكذا يصبح السوق في خطاب العولمة السياسي والثقافي هو الأساس.
والأمر لا يتوقف عند الجوانب الاقتصادية والسلع المادية، ولكن يمتد إلى الأبعاد الثقافية العميقة في التشكيل النفسي والقِيَمي للإنسان والمجتمع. وهكذا فالعولمة لا تستهدف الهيمنة الاقتصادية فقط، بل إنها تسعى لوضع اليد على الأنساق الثقافية المختلفة، وصبغها بلون مجتمع السوق، بحيث يتحدّد كل شيء في المجتمع بسعر السوق، حتى القيم الإنسانية والعلاقات بين البشر، لا سيّما تحت تأثير الإعلام الضخم والمفخِّم، ووسائل التواصل الاجتماعي. وكان فرانسيس فوكوياما المنظّر الأمريكي من أصل ياباني قد بشّر بذلك بكتابه: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، معتبراً نمو الليبرالية الغربية الشكل النهائي لنظام الحكم.
واستندت ثقافة العولمة على أربع محاور أساسية وهي: نمط الاستهلاك وثقافته،  ونموذجها الأول: في الطعام المكدونالد، وذلك عبر دعاية غير مسبوقة. والثاني: ثقافة دافوس، القائمة على نخب من رجال أعمال وطامحين لبلوغ القِمّة، والثالث: ثقافة العقل أو النادي الثقافي، وأساسه شبكات أكاديمية ومؤسسات غير حكومية أو ما يسمّى بـ "المجتمع المدني"، المتأثر بالأفكار التي تروّج إليها المؤسسات الغربية وأيديولوجياتها غير البريئة، والرابع: الحركات السياسية المتأثّرة بالغرب والانفتاح، والداعية إلى مفاهيم عابرة لـ الوطنية والسيادة والاستقلال وحق تقرير المصير ومفاهيم العدالة الاجتماعية.
واعتمدت  الليبرالية على أدوات استخدمتها بشكل مؤثّر وفاعل مثل: الشركات المتعدّدة الجنسيات أو ما فوق القومية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية، كـ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات الدول الكبرى وأدواتها مثل اتفاقية التبادل التجاري الحرّ والمناطق الحرّة وبرامج إعادة الهيكلة، إلى درجة أن الليبرالية الجديدة فرضت نفسها كفكرة مسيطرة وقوة مهيمنة متجاوزة الهوّة بين الشمال والجنوب، وبين الدول الغنية والفقيرة، وأصبح انتقال اللاجئين من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني أحد مظاهر التغيير من دون أن تتهاون في مساعيها لاستتباع الدول والشعوب تحت مزاعم مناهضة الإرهاب الذي هو نتاج للتعصب ووليده التطرّف والعنف، وتحت شعار محاربته، تعمل على تأمين مصالحها، ولا سيّما بالهيمنة على الموارد الطبيعية وتأمين سيطرتها الاستراتيجية وحماية حلفائها.
وتناست الليبرالية شعاراتها التي بشّرت بها في الثلاثينات بالانتقال من دولة الحماية ودولة الرعاية إلى "دولة الرفاه" وفق النموذج الكينيزي، لأنها أصبحت تهدد المستقبل. ولعلها كانت مجرد "تراجع تاكتيكي" أيام الحرب الباردة، ورضوخاً لبعض مطالب الحركة الشعبية والعمالية في البلدان الرأسمالية.
هكذا سيكون غالبية سكان العالم خارج إطار المنافسة، لأن العولمة بطبيعتها تنحاز إلى الأغنياء على حساب باقي فئات المجتمع، فيزداد تركيز الثروة في أيدي الأقلية وتتسع الهوّة بين البشر، تحت عنوان البقاء للأصلح استناداً إلى نظرية داروين وتهميش الأقل قدرة، أي نزع البعد الأخلاقي عن عملية التنمية بحيث تصبح قوى السوق مساوية لقوى الطبيعة، وعلى الجميع الإذعان لها والتكيّف مع قوانينها، فلا مكان للتخلّف والفقر في هذه الغابة اللّاإنسانية، وذلك ما ينعكس اليوم على الصراع الأميركي - الصيني.
وإذا كان هناك وجه آخر للعولمة يقوم على عولمة الثقافة والحقوق والتكنولوجيا، لكن قوى السوق وديكتاتوريته ستشكّل رادعاً لعدم التراكم والتأثير على مسارها، بحكم جبروتها الاقتصادي ووسائل الإعلام الضخمة، التي تملكها، إضافة إلى ترسانة السلاح في إطار تقسيم ظالم وأنماط استهلاكية سريعة وموحّدة. فحتى الأحلام والأماني والأذواق والسلوك وأشكال الحياة ستكون منمذجة.



80
كوبا أمام مفترق طرق
عبد الحسين شعبان
طوى المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الكوبي (أبريل/نيسان 2021) صفحة طويلة من تاريخ كوبا "الثوري" امتدّت لأكثر من ستة عقود من الزمان حكم فيها فيديل كاسترو الزعيم التاريخي من العام 1959 ولغاية العام 2008، وأعقبه شقيقه راؤول كاسترو الذي تولّى منصب الأمين العام للحزب من العام 2011 إلى العام 2021، وقرّر الخلود إلى الراحة والتقاعد السياسي مفسحاً في المجال للجيل الجديد لتولّي المناصب العليا، لا سيّما بعد تعديل الدستور (ديسمبر/ كانون الأول 2018) الذي اعترف بالملكية الخاصة وإدارة مشاريع اقتصادية صغيرة للمواطنين وسمح للاستثمار الأجنبي.
اختار المؤتمر ميجيل دياز كانيل أميناً عاماً للحزب (60 عاماً) وكان قد شغل منصب رئيس الوزراء الذي استحدث في العام 2018. وهكذا يتم الانتقال بصورة سلمية وسلسة من "جيل الثورة" إلى "جيل الدولة"، فهل ستشهد البلاد تطوّرات جذرية أم أن التغيير سيكون عابراً؟
ولكي يُطمئن كانيل "الحرس القديم" غرّد عشية انعقاد المؤتمر قائلاً: "إنه مؤتمر الاستمرارية" مؤكّداً على أن الخطوط التوجيهية لن تتغيّر. وتعتبر كوبا إحدى البلدان الخمسة الشيوعية المتبقية في العالم (الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، ولاووس)، وقد عانت من حصار أمريكي ومحاولات اختراق وإطاحة بسبب خيارها الاشتراكي، كما كانت أحد أسباب التوتر خلال فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ونجم عنها ما عُرف أزمة الصواريخ (أكتوبر/تشرين الأول 1962)، وظلّت هافانا مصدر قلق لواشنطن في عموم أمريكا اللاتينية.
ومع أن صحيفة "غرانما" الناطقة باسم الحزب، عنونت افتتاحيتها "مؤتمر كوبا ينعقد" مع صورة لفيديل كاسترو حاملاً بندقية، إلّا أن المؤتمر ناقش قضايا عقديّة كثيرة باحثاً عن "حلول انتقالية"، خصوصاً وأنها تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة ومزمنة، تفاقمت خلال تفشي وباء كورونا، إلى درجة أصبحت الشوارع خالية من السيّاح الذين كانوا يتوافدون إليها، وازداد نقص المواد الغذائية شحّة، والطوابير أمام المتاجر طويلة والأسعار مرتفعة ولم ينفع معها زيادة الرواتب، وبدأ نوع من التذمّر شهد احتجاجات لفنانين ومجموعات من المجتمع المدني استغلّتها المعارضة مستفيدة من العقوبات المتفاقمة التي تعاني منها.
وخلال العقد ونيّف الماضي حاولت كوبا أن تتوجّه بحذر وتدرّج باتجاه الانفتاح على الأنترنت والهاتف النقّال والاستثمار الخارجي محاولة الالتفاف على نظام العقوبات الأمريكي، المطعون به من جانب الأمم المتحدة، ومستفيدة من سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتخفيف من الضغوط التي تتعرّض لها، إلاّ أن مجيء الرئيس دونالد ترامب عطّل من مهمة تطبيع العلاقات بل مارس أقسى درجات الضغط عليها، ولا سيّما في العام 2019، حيث باشر بحجب أعداد السفن المتوجّهة إليها لغرض السياحة، وقام بـإغلاق وكالة "ويسترن يونيون" للتبادل المصرفي وتحويل العملات، حيث كان الكوبيون الذين يعملون بالخارج يقومون بإرسال المبالغ إلى أقاربهم.
حين صدر كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، 2011) جئت فيه على خمسة حروب عاشتها كوبا وانتصرت فيها، وبقي أمامها "حربان"، أولهما الحرية وثانيهما التكنولوجيا. وما لم تنتصر بهذين الحربين فإن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً. فالعالم متجه إلى الإقرار بالتعددية والتنوّع وتوسيع دائرة الحريات ولا سيّما حريّة التعبير، فلم تعد سياسة "الحزب الواحد" مقبولة أو منطقية، مثلما لا بدّ لها من ولوج عالم التكنولوجيا، إذْ ليس من المعقول بقاء الوضع على ما هو عليه. والتكنولوجيا تحتاج إلى رأسمال وهذا الأخير يحتاج إلى بنية تحتية وهياكل ارتكازية وإمكانات وتسهيلات، خصوصاً وأن سياسات الحصار الظالم جعلتها جميعها متهالكة ومتآكلة.
بعد انتهاء الحرب الأهلية في روسيا 1923 ألقى لينين محاضرة قال فيها: إننا انتصرنا ولكن مَن يبني روسيا؟ أليس الرأسمال؟ وهذا لن يأتي إلا بشروطه وليس بشروطنا ولذلك ابتدع مشروع "رأسمالية الدولة".
ما ينتظر "جزيرة الحرية" ليس تغييراً فوقياً أو استبدالاً شكلياً، فهذا الشعب الذي اجترح عذابات لا حدود لها يحتاج إلى تغييرات جذرية، وإن كانت تدرجية في إطار التوجّه الاشتراكي، فــ كوبا جزء من العالم المتحرك وأرخبيلاته المفتوحة على بعضها، لا سيّما في ظل الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، فقد غاب القادة الكارزميون مثل كاسترو وقبله جيفارا واليوم تقاعد راؤول الذي عاش بجلباب أخيه. ويبقى أمام كارنيل السير بالدولة الاشتراكية بالتدرج ولكن بالضبط، نحو العلم والتكنولوجيا في أجواء أكثر حرية وانفتاحاً، في مراكمة ما هو متحقق في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والرياضية، في إطار مشروع "تجديد الثورة" وفقاً لمبادىء المشروعية الدستورية وحكم القانون وشرعية المنجز السياسي والثقافي، والتخلص من البيروقراطية الحزبية، كيما تكون كوبا أكثر قدرة في مواجهة التحديات "القديمة - الجديدة"، وأكثر ثقة بالمستقبل، خصوصاً بالعلم والتكنولوجيا. وكان بليخانوف الذي يسميه لينين "أبو الماركسية"، هو الذي قال أن حامل التغيير هو الأنتلجنسيا والتكنولوجيا، وذلك قبل قرن ونيّف من الزمان، وأعتقد أن هذا الرأي هو الأكثر انطباقاً على واقع كوبا الراهن.




81

شعبان في خصوصياته .. بعيداً عن الإنشغالات الفكرية قريباً من واقع الحال – أحمد عبد المجيد
مايو 1, 2021

  روحي في بيروت وان سكنت النجف في قلبي
شعبان في خصوصياته .. بعيداً عن الإنشغالات الفكرية قريباً من واقع الحال – أحمد عبد المجيد
الحب يأتيني كشلال ضوء ويكون له سلطان على القلب
مضى على آخر لقاء مباشر لي مع الدكتور عبد الحسين شعبان ، اكثر من 18 شهراً . رأيته في بيروت التي كانت تشع بأنوارها وتغرق بلون البحر ، الذي تحتضن امواجه كثيراً من الذكريات وتخفي اسرار ما كان يدور في حجرات فندق (سان جورج) ، وحديثاً في شرفات فندق فور سيزونز ، وفي احدى جولاتي مع الدكتور شعبان اطربني صوت فيروز المنبعث من مذياع سيارته ، فتذكرت ان المفكرين وكبار الباحثين بشر ايضاً ، تأخذهم العواطف الى تخوم الشباب وايام (الشقاوة) ، ولم يكونوا بالجدية التي هم عليها اليوم ، وبالانشغالات التي تصرفهم عن العناية –  احياناً –  بألوان اللوحة الماضوية التي هرب بريقها ، فتحول الى حلم باهت لا ملامح له ولا اثر .
* ما يجمع اساتذتي في الإعدادية طيبة القلب وحب التلاميذ
* شغفي بالمرأة ينبع من رائحتها وابتسامتها وغنجها
* استمع الى فيروز ووردة وام كلثوم وأستمتع بالموسيقى الكلاسيكية
* إحتفظت بعلاقة ودية بالبياتي يوم تعرفت اليه في القاهرة مطلع 1969
* انا تعددي بإستثناء فلسطين والفقراء
* الأسفار ثلاثة والأخيرة سفر  التيه والحيرة
* حب الناس سعادتي والعمل وأسداء الخير مصدرها الأساسي
* هاجسي لا يتجسد بشخص بل بظاهرة الغدر
* السيرة الذاتية شديدة القسوة لكنها ليست هتكاً للاسرار.
وقلت ، في نفسي ، ان هذا الرجل ، وانا صامت جالس الى جواره في المقعد الامامي في السيارة ، يعيش على اطياف من الذكريات ، لكن لا احد نبش فيها ولا حاول اخراجها من القمقم يقول الاديب اللبناني جبران خليل جبران (أحترس من ذكرياتك، فالوجع يزورك مرة واحدة ولكنك لا تتوقف عن زيارته). وغالبا ما يعمد الذين يجرون حوارات صحفية معه ، يستنطقونه بقصد استدراج فكره ورؤاه السياسية والفلسفية ، متناسين ان قلبه مازال ينبض ، وهو مفعم بالالم وسهر الليالي والحرمان ، وان ملائكة الحب تحوم حوله ، ولاسيما في خلوته او تحت تأثير كأس من النبيذ احتساه في ركن من اركان شارع الجميزة البيروتي ، الضاج بالحركة والعنفوان والمزدحم بالسكارى والصبايا . وعملياً فان شعبان دأب على اختيار زاوية عند مطعم شعبي اسمه (مشاويش مار مخايل) يضع مناضده على قارعة الطريق ، ويحرص شعبان على دعوة المقربين منه الى هذا المكان ، لنفض متاعب القدوم من بغداد او الشام الى المدينة التي اتخذها محطته الاخيرة بعد ان جاب مدناً وعاشر عواصم .
* * * *
بعض الاشخاص تتمنى لو انك لم تصادفهم في حياتك ، وبعضهم تتعرف عليه وتمضي معه رهطاً من حياتك ، ويمض وتمضي دون ان يترك في مشاعرك اثراً او في روحك بصمة . اما افضلهم على الاطلاق فهم الذين تهبط صداقتهم عليك من السماء ، فترتبط بعلاقة وطيدة بهم فيتركوا في روحك عطراً وفي نفسك شذى الوفاء والقصص الحميمة . وعبد الحسين شعبان من هذا الطراز . وذات مرة قلت له ، وانا على تواصل شبه يومي معه عبر الهاتف ، (دكتور .. اعاتب نفسي احياناً بالسؤال ، لماذا لم اتعرف اليك قبل عقود من الزمان ؟) . ويضحك معبراً عن سمات شخص نادر الوفاء يمزج المرح بصدق الكلام .
ويوم كنا نتجه الى (الجميزة) ، الشارع الذي يروق له وسط بيروت ، راودني فضولي الصحفي فرفعت عن علاقتنا بعض (الكلفة) واقترحت عليه اجراء حوار غير تقليدي ، ليس كعشرات وربما مئات الحوارات التي اجريت معه واتسمت بجدية مفرطة تنظر فيها الاسئلة الى الحياة وكأنها فواجع بشرية وعنف مفرط وثأر تاريخي حسب ، او كأنها تقتصر على رؤى ما ورائية ، لا حيوية فيها ولا صفاء انساني أو كما يظنون انها حكاية تراجيدية تكشف وجودنا البشري الضعيف . رأيت ان يكون حواري مع عبد الحسين شعبان ، الانسان والمفكر، صائد المفردات والمصطلحات والعابر من الكفاح بانواعه ، الى المرح واللا شقاء بانماطه والسخرية من الاقدار ، حلوها ومرها . وهكذا ولد جزء من هذا الحوار ، بينما كان شعبان يمارس رياضة المشي ، قرب انتصاف الليل ، على رصيف كورنيش بيروت ، تاركاً لساعة الكترونية يرتديها ، قياس خطوات المسافة التي يقطعها ذهاباً واياباً كل يوم ، اما الجزء الاخر فقد ولد في حضن الحجر الصحي من الجائحة ، بعد اشهر من بقاء الاسئلة في الادراج ، وسفر شعبان الى لندن ، لتلقي الجرعة الثانية من اللقاح ضد كورونا :
* ما الذي تركته من عقلك الباطن في النجف؟
–  الروح تسكن هناك، حتى وإن سكنت النجف في قلبي. وعلى غرار الموسيقار البولوني شوبان “العقل في باريس والقلب في وارشو”، أقول القلب في النجف والعقل مهاجرٌ. وإذا كانت باريس قد منحت شوبان الشهرة حيث تربّع على عرش البيانو والإبداع الموسيقي الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، بعد باخ وموزارت وبيتهوفن، فإن وارشو منحته تلك الروح المتوهّجة، حتى توزّعت بين عشقه وموسيقاه.
* ما شكل الصف الدراسي الذي جلست فيه للمرّة الأولى؟
– مدهش بخشوع وناطق بالبهاء ومفعمٌ بأريج الأمل… إنه اللبُّنة الأولى التي قادتني لعالم المعرفة الشاسع والبلا نهايات.
* ما هو أول كتاب قرأته؟
– اعترافات أرسين لوبين “اللصّ الظريف”، ولاحقاً عرفت أن المؤلف هو الكاتب الفرنسي موريس لوبلان.
* ما هي أول قصيدة حفظتها؟
– ربما للشاعر معروف الرصافي التي يقول فيها:
أنا بالحكومةِ والسياسة أعرف/ أَأُلام في تفنيدها وأعنّف
عَلَمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ/ كل عن المعنى الصحيح محرّفُ
* ما هو أول وجه رأيته وما زال عالقاً في عقلك ووجدانك؟
– وجه الوالدة المنير نجاة حمود شعبان ووجه الوالد المشرق عزيز جابر شعبان، وحين أستعيد المشهد، فكأنهما انفلقا عن تكوينٍ واحد، وأصبحا جسمين ولكن بروح واحدة.
* صف لي معلماً تأثّرت به؟
– سأصف لك ثلاثةً لأنهم يكمّلون بعضهم البعض:
الأول – عبد الرزاق الساعدي، وهو أوّل مَن علّمني فك رموز الحرف (الصف الأول الابتدائي).
والثاني – رؤوف الشيخ راضي، الذي حبّبني باللغة العربية وبدرس الإملاء (الصف الثالث الابتدائي) وكلاهما في مدرسة السلام.
والثالث – الشيخ يحي الجواهري وهو أحد المتمكنين من اللغة العربية وفقهها، وقد درست على يديه في الاعدادية: النحو والصرف والاعراب وكتابة الشعر (الصف الرابع الثانوي).
وكان الأول سمحاً جداً، والثاني حازماً جداً، والثالث عصبياً جداً، وما يجمعهم طيبة القلب وحبّ تلاميذهم وتفانيهم من أجل تعليمهم.
* أي الطيور أحببتها في صباك ولماذا؟
– الحمام والبلابل والعصافير وما زلت أحبّها لأنها أليفة وتغريداتها جميلة.
* ما الذي يُذكّرك بامرأةٍ شغفت بها؟
–  رائحتها وابتسامتها وغنجُها.
* هل تستمع إلى أغنيات الريف، ومَن هو مطربك الريفي الأول؟
– أحياناً… أحب الاستماع إلى مطرب الريف الأول داخل حسن، ثم إلى المطرب الشعبي للأغنية الحديثة الياس خضر.
* ما أنواع الموسيقى التي تستمع إليها؟
– الموسيقى الكلاسيكية وبشكل خاص سمفونيات بيتهوفن وموزارت وباخ وتشايكوفسكي ودفورجاك… وبالأخص أحب الاستماع دائماً إلى السمفونية التاسعة لبيتهوفن، والسمفونية الخامسة لتشايكوفسكي، والسمفونية الرابعة  لدفورجاك.
* وأي المطربين تستمع إليهم عادةً؟
–  فيروز بالدرجة الأولى، وأحب الاستماع إلى عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وأم كلثوم ووردة الجزائرية.
* لماذا تميل إلى الشاعر الجواهري من دون سواه؟
–  أميلُ إلى الأدب بشكلٍ عام والشعرُ بشكلٍ خاص، وميلي إلى الجواهري الكبير لأنه أحد أبرز أركان الشعر الكلاسيكي في القرن العشرين، بل آخر عمالقته. وهذا الميل محكوم بالذائقة الشعرية من جهة، وبالعلاقة والصداقة التي ربطتني مع أبو فرات لنحو ثلاث عقود من الزمان من جهة أخرى. وقد سبق لي أن قلتُ وقبل التعرف المباشر على الجواهري أنه عاش في بيتنا (لأن كلُّ ما يخصّه وما كان ينشرُه من قصائد ودواوين وما يكتب عنه موجود في بيتنا، ويتداوله الأعمام والأخوال) كما كان معنا في مدرستنا الخُورنَق حيث كانت قصيدته التي حيّا فيها ثورة 14 تموز/يوليو 1958 مفتتح فصلنا الدراسي الأول، وهو موجود في مدينتنا النجف (واقعاً وليس مَجازاً) حيث نشأ فيها.
وللأسرة الجواهرية مكانة علمية منذ جدّه الأقدم محمد حسن صاحب كتاب “جواهر الكلام في شرائع الإسلام”، الذي اكتسبت منه الأسرة إسمها.
والأكثر من ذلك أننا عشنا في مدينتين حبيبتين لسنوات عديدة هما براغ في السبعينات، ودمشق في الثمانينات، وكنا على تواصلٍ مستمر، مثلما التقينا في لندن في التسعينات.
وقد أصدرتُ عنه كتاباً بعنوان: الجواهري في العيون من أشعاره” في العام 1986) بالتعاون معه)، كما أصدرتُ عنه كتاباً في العام 1997 الموسوم “الجواهري – جدل الشعر والحياة” (طُبع ثلاث طبعات).
* وماذا عن علاقتك بشعراء آخرين؟
–  احتفظت بعلاقة ودّية مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي تعرّفت عليه في القاهرة في مطلع العام 1969 وبلند الحيدري حيث عملنا معاً في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان عضواً في المجلس الاستشاري، وكذلك بعلاقة وثيقة مع الشاعر مظفر النواب والشاعر كاظم السماوي والشاعر رشدي العامل والشاعر والروائي فاضل العزاوي، كما ارتبطت بصداقة مديدة مع الشاعر سعدي يوسف، وهو “شاعر التفاصيل الصغيرة”، وقد غيّرت قصيدته منذ مجموعته الشعرية “الأخضر بن يوسف ومشاغله” 1972 ذائقتنا الشعرية، وآمل أن يتسع الوقت للكتابة عنه وهو المبدع الذي لا تُدرك بوصلته، وهو في نظري أحد أبرز شعراء الشعر الحديث بعد بدر شاكر السيّاب  وجيل الروّاد، ويشكّل مع محمود درويش وأدونيس أهم ثلاث شعراء عرفتهم اللغة العربية، منذ ستينات القرن الماضي، علماً بأنه غزيز الانتاج، شعراً وترجمة ونقداً، إضافة إلى رواية واحدة بعنوان “مثلث الدائرة”، وعشرات الدراسات ومئات المقالات.
كما كانت علاقتي وثيقة بعدد من الشعراء الشعبيين مثل شاكر السماوي وعزيز السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف.
وأود هنا أن أنوّه إلى العلاقة المتميّزة مع عشرات من الأصدقاء من جيلنا والجيل الذي أعقبنا  وهم شعراء مرموقون، وبشكل عام اطلعت على الشعر العراقي بمدارسه المختلفة.
* كيف شربت كأسك الخمري الأول؟
–  مثل الريح الخفيفة المعطرة والمنعشة، وما زال طعم الكأس الأول لذيذَ المذاق وأشتاق إليه.
* هل تحنّ إلى صديق قديم أَثير إلى قلبك؟ من هو؟
– السيد صاحب جليل الحكيم صديق العمر والشيوعي الأول والأنقى متمنياً له الصحة وطول العمر.
* عدّد لي ثلاث صفات تتمنّى في كل إنسان؟
–  الشجاعة والأمانة والوفاء، وهي منظومة متكاملة وأي اقتطاعٍ لجزءٍ منها يخلُّ بالآخر.
* أيام السجن، ماذا كان يشغل بالك فقط؟
–  لم أسجن. بل اعتقلت عدّة مرات، وما يشغلني كان وما يزال هو المستقبل.
* أيّهما أقرب إلى قلبك… ابنتيك أم زوجتك؟
–  الإبنتان قطعة من قلبي وروحي، والزوجة من خارجه، ويمكن أن تدخل وتخرج، وهكذا هي الحياة. وتبقى مكانة الأبناء متميّزة.
* ماذا يمثّل الشقيق بالنسبة إليك، وهل وجدته فعلاً فيه؟
– التكامل والوفاء… نعم هو ما وجدته فيه.
* أي البلدان أحبّ إلى نفسك؟
– أنا تعددي كما تعلم باستثناء فلسطين والفقراء فأنا أحادي كما قال صديق عني. فبعد العراق (النجف وبغداد، الروح ومسالك الطير) الأقرب لي هي سوريا، وفي دمشق المدينة الناعمة كحرير الصين كان تكويني الثاني، وقد كتبت عنها نصاً أدبياً بعنوان “الشام هي التي علّمتني حب الصباح”، وأنا أردّد دائماً أنني “سوراقي”.
أما بلاد التشيك، ففي براغ تتقاطع طرق الحب وتلتقي جداوله، وكتبت نصاً أدبياً عنها بعنوان “براغ وثمة عشق”، ويبقى لبنان مانحاً الحواس عطراً وجمالاً، حيث الخزامى واللافندر، وفي بيروت يتجدّد العشق، هكذا هي أرخبيلاته وشواطؤه، وقد كتبت نصاً أدبياً عن بيروت حين تم تكريمي من الحركة الثقافية في أنطلياس.
* ألهذا السبب أنت في بيروت؟ ولماذا غادرت لندن؟
–  بيروت أقرب إلى المزاج، وأكثر دفئاً وألفة وحميمية، وهي ملتقى المثقفين والمنفيين والصعاليك والعشاق، أما لندن فرغم أيجابياتها خصوصاً الحرية والأمان، فإنها أبعد وأبرد، إضافة إلى ارتباطي بعقود عمل جامعية في بيروت منذ سنوات طويلة.
* أنت كثير الترحال والأسفار.., أيهما تفضل ركوب البحر أم البرّ أم الجو؟
–  حسب ابن عربي فالأسفار ثلاثة:  “سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه”، وهذا الأخير سفر التيه والحيرة، وهو لا معنى له، وسفري شخصياً هو سفر الروح التي ظلّت معلّقة هناك، وهكذا تراني هائماً وغير مستقرّ، مرتحلاً مع كتبي وأسبابي ولواعجي.
وفي السفر فوائد كثيرة، فإضافة إلى المغامرة والاكتشاف ففيه الاطلاع على ثقافات الشعوب وحضاراتها. وهو تمنحك مرونة في التعامل مع الآخر، وقدرة أكبر على التسامح والتواصل والصداقة وكل ما هو مشترَك إنساني. وفي السفر اكتشاف للذات أيضاً وحسب الإمام الشافعي ففيها تفريج همٍّ، وقد يكون طلب علمٍ.
* ما أحسن رواية قرأتها؟
–  دونكيشوت لسرفانتس، وهي مصنفة من أعظم الروايات العالمية.
* ومن هو أعظم روائي؟
–  أستطيع القول دوستويوفسكي وتولستوي وماركيز. وهؤلاء من أفضلهم.
* وأفضل روائي عربي؟
–  نجيب محفوظ بالطبع، كما يعجبني عبد الرحمن منيف.
* وماذا عن أفضل روائي عراقي؟
–  أحب قراءة غائب طعمه فرمان ويشدّني فؤاد التكرلي وأستمتع بقراءة شمران الياسري “أبو كاطع”، وأقصوصاته وحكاياته.
* أي همٍّ يغمرك بالألم والأسى والحزن؟ وكيف تستطيع الهرب من انشغالاته؟
– أكبر الأحزان هو الظلم على المستويات كافة، وأشعر براحة نفسية حين أنتصر لمظلوم أو أساعد ضحية، وكم كنت منسجماً مع نفسي حين تمكّنت من مساعدة لاجئين فارين من العراق أو من عدد من البلدان العربية.
* مرأة… صحيفة… أم صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي؟
– تعدديتي متواصلة مع الكتاب والمرأة والنبيذ ورياضة المشي والصديق وهي متداخلة ومتفاعلة ومتراكبة، يكمّل بعضها بعضاً.
* ماذا تقول في الصداقة والصديق؟
– حسب أرسطو: الصديق إنسان هو أنت… إلاّ أنه بالشخص غيرك. والصداقة أفضل العلاقات الإنسانية. وأساسها كرم العهد والتضحية.
* هل أنت سعيد وما أبرز سمات السعادة في رأيك؟
– نعم سعيد جداً، وحبّ الناس وحب العمل وحب الخير هي مصدر سعادتي الأساسية.
* أي أغنية تطاردك أينما حللت؟
-أغنية الياس خضر والتي هي من ألحان طالب القرة غولي والكلمات قصيدة لمظفر النواب:
روحي ولا تگـلها شبيج ..وانت الماي
مگطوعة مثل خيط السمج روحي
حلاوة ليل محروگة حرك روحي
وعتبها هواي ما يخلص عتب روحي
ولا مريت ولا نشديت ولا حنيت
گالولي عليك هواي
ياثلج اللي ما وجيت
وأحياناً أغنية سعدون جابر وألحان كوكب حمزة، والكلمات للشاعر زهير الدجيلي:
عيني ياعيني ياهوى الناس
قداح وشموس وعصافير
ياليل ومعاشر نواطير
مرات ياخذنه الهوى اثنين
مرات تحضنه البساتين
ومرات تنسانه الدواوين
ومرات نسأل عالوفه وين
لكن هوانه .. هوى الناس
* والأغاني الأجنبية؟
– أغنية فرانك سيناترا Stranger in the night.
وأحياناً أغنية كارل غوت المغنّي التشيكي O MAMI وهو المعروف بصاحب “الصوت الذهبي”.
* وأنت تقود سيارتك هل ندمت على عدم الوقوف إزاء مشهد صادفك؟
– نعم، حين يعتدي رجل على امرأة تسير معه وسط الشارع أو يعنّف أحدهم متسوّلة سورية اقتربت منه، وهي التي قذفتها ظروف الحرب والحصار إلى الهجرة.
* هل ثمة شبح يطاردك أحياناً؟ صف لي شكله أم هواجسك منه؟
– لا يتجسّد بشخص، بل بظاهرة هي الغدر، وهي وسيلة الجبناء، ومنعدمي الضمير.
* كم مرّة وقعت بالحب؟
– لا يوجد تصنيف للحب وليس ثمة أرقام أو أعداد بالنسبة لي. الحب واحد، فقط تتقاسمه عدّة نساء، ولكل امرأة زمانها ومكانها، وحتى وإن تداخلت الأزمنة والأمكنة أحياناً، فيبقى الحب واحداً، وهو الذي ينتصر.
* وماذا عن الحب الأوّل؟
– لا يوجد حب أول وحب أخير، فكل حب هو أول بالنسبة إليّ، والحب واحد تتقاطع فيه الطرق وتتقارب المصائر وتتشابك العواطف وتختلط الأحاسيس.
* ما علاقة القلب والعقل بالحب؟
– العشق بالقلب وهو بالعين أيضاً، وحسب بشار بن برد بالأذن أحيانا، والقلب والحاستان أول العاشقين، أما العقل فهو يؤنسن العشق ويؤطره، فليست كل عين ترى، على حد تعبير ابن عربي، ويمكن القول وليست كل أذن تسمع.
وهكذا فالعشق ندى الروح وعطر القلب.
* كيف يأتيك الحب؟
– مثل شلال ضوئي وسرعان ما يكون له سلطان على القلب وفيه تتطهّر الروح، ويدخل العقل في حوار مع القلب، واتحادهما على موقف موحد، يبعث في المرء نوعاً من الطمأنينة والرضا، وحين أكون في مثل هذه الحالة تراني أنام بعمق، وأتنفس بعمق، وأعمل بعمق.
* هل هناك دين متسامح وآخر غير متسامح.
– الأديان أكثر رحمة وتسامحاً من البشر، والإنسان هو من يحاول أن يوظّفها باتجاه الشر والتعصب والتطرف والعنف والارهاب.
* هل تؤمن بالله؟
– علاقتي بالسماء قوية، وتأتيني إشارات غامضة باستمرار وأشعر معها بالطمأنينة والسلام، وكل ذلك خارج دائرة الطقوس والشعائر والغيبيات، وإنما هي علاقة روحية وجدانية عقلية.
* متى تكتب سيرتك الذاتية؟
– السيرة الذاتية شديدة القسوة على كاتبها وكذلك على القارىء وهي ليست هتكاً للأسرار أو انتقاصاً من الآخر أو فضحاً لخفايا النفس أو تلميعاً للصورة، إنها خلاصة تجربة قيمية وصميمية، وقد تكون فرصة للمراجعة خارج دائرة الإساءة للأموات أو إيذاء للأحياء. إنها فرصة تأمل وهدوء ونقد موضوعي.
* ماذا تتمنى؟
– أن يسود السلام واللاّعنف، وأن تنعم بلادنا العربية، بل والعالم أجمع، بالحرية والتنمية وأن نستطيع التعايش فيما بيننا على أساس المشترك الإنساني، وأن نسـهم كما كان أسلافنا في ركب الحضارة الكونية.




82
زيد الحلّي: شعبان على مائدة عبد المجيد
زيد الحلي
 شعبان، هو الدكتور عبد الحسين شعبان، الكاتب والمفكر المعروف، وعبد المجيد، هو د. احمد عبد المجيد الصحفي والاكاديمي، والمائدة هي اللقاء المهم الذي جمعهما على صفحات جريدة "الزمان" الدولية اليوم (الاحد 2/ 5 / 2021)..
ليس جديدا، القول ان فن الحوار الصحفي، هو من الفنون الصحفية الصعبة، والذين امتلكوا ناصيته، قلة قليلة من مبدعي الصحافة والاعلام، واعني هنا، الحوار الذي اكتمل بناؤه من جميع النواحي الاعلامية، فهو شيء من كل شيء، بمعنى انه يمثل روحية المقال الصحفي، وقوة التحليل، وفكرة العمود، وعمق الاستطلاع، وبلاغة الاسلوب، واستقصائية المعلومة، وامتلاك حدس الاستنطاق .. هو يشمل كل الفنون الصحفية .. ومن هذه المدرسة، تسجل ذاكرتي اسماء الأساتذة محمد حسنين هيكل في كتاباته الصحفية الخاصة بلقاءاته في صحيفة " الاهرام " وكتبه، وسليم الزبال في مجلة " العربي " الكويتية، ومفيد فوزي في التلفزيون، وغيرهم .
لقد وجدتُ في الموضوع الذي قرأته بشغف على صفحات جريدة" الزمان" اشراقة ضوء في مفهومية الرؤية الصحفية ، تمثلت بأركان إعلامية ، تمنيت ان تسود صحافتنا، بعيدة عن الطريقة، المتمثلة بوضع السؤال وانتظار الجواب عليه كما يتم حاليا، فكتابة اللقاء الصحفي عملية مركبة، إن لم نحسن ادارتها، فإنها تكون مجرد اسقاط فرض، او سدا لمكان في صفحات الجريدة .
لقد سبق ان نوهت في كلمة سابقة، الى اسلوبية د. احمد عبد المجيد في كتابة اللقاءات المهمة التي اجراها ويجريها، وهي اسلوبية تتجه إلى غربلة الحقائق الملتقطة، ضمن تحليل منطقي يتلمس خطوطها بأمانة وثقة، وربط المقدمات بالنتائج بخيط دقيق لا يكاد يستبين، مؤلفا ما بين أطراف الكلمات المبعثرة، متدرجا من التفصيل إلى التركيز ومن التركيب إلى التحليل.. وهذا برأيي المتواضع هي الصيغة المثلى لهيكلية اللقاء الصحفي ..
شخصيا، ارتبط بوشيجة عالية المتانة مع الدكتور، المفكر د. عبد الحسين شعبان ، ومن النادر ان لا نتكلم اسبوعيا مرة او اكثر عبر الهاتف، وحواراتنا الشخصية، هي عمق الاعماق في فهم الرؤى، ومكنونات الظروف، لكن والحق يقال، ان د. احمد عبد المجيد، سبر اغوار د. شعبان، وقدم لي، انا القريب من الاثنين، طبقا لذيذا من المعلومة، من خلال حوار صحافي حقيقي، كان استنطاقاً صامتاً، وتوضيحاً لغوامض وكشف مجاهل، وتصوير ما خفي بإطار الحقيقة .
فرحتً بالحوار جدا .. فهنيئا لكما د. شعبان ود. احمد، والتهنئة الاهم للقراء الذين شاركوا مائدتهما .
 
زيد الحلّي


83
تحلّى الحوار الي أجراه الزميل د. أحمد عبدالمجيد مع د. شعبان والمنشور في جريدة الزمان عدد يوم " الاحد " 2 مايس /2021 بنكهة وخزات إنسانيّة أنستْ " عبدالحسين " محنة أن تتلبس الإنسان المعرفة  والفكر صِرفاً  و قد تحيله – في كثير من  أحايين -  حجراَ...
" لو أن الفتى حجرُ "
                      طرفة بن العبد
شعبان في كنف الزمان
حسن عبدالحميد
مَاهيتَ في طلعِ نَ خيل عُمركَ ...طفلاً حاسر الوعي  تذاهل يهيمُبحثا ًعن " عبدالحسين" عسى تُعيد له سلالة الروح ...  سخي لك  البوح المترامي في أصقاع النسيان  ... كُنتَ كما طيف قديس شاء  يزف الشارة لكل من يلقاه...
سِرتَ مع الذكريات مسرى الريح ...نسيماً كانت أم هدير غضب...حتى كنتَّ تنقط عسلاً في أجساد نساء تلك الريح ... إريتنا بعض مَلامحهِن... في حواركَ" الثوريّ " هذا مع أحمد عبدالمجيد...في كنف الزمان- الجريدة ،وانت تتهامس لمساً لذكاء عاطفي – رومانسي الهوى ، و الهول
حوت ما لم تحويه إجاباتك   من قبل جُلّ حوارتك...
تقدّمك الإنسان فيه بخطوات قلب ناصح...كما لو كان حبيس انشغالاتك.. وزلازل افكارك... ونجوى رؤاك...و سخاء همومك على مدى ما عشتْ
تسامرت مع نفسكَ وكنت في الوجدان تمرح...بل وتغني كما ليلٍأفاق على كأس فارغة...لم تشفع ملأها موسيقى شوبان
هكذا... وبمنزلة ودِ سحيق  ، وجدتُ فيك الإنسان يتسلّى طفولةً ...وإنتشاء رخيماً ،  و تشاء مع الكثير من خرق جدار الوصايا...و " تحطيم المرآيا " ربما وصولا للعقوق الذي زاحم المنطق..حتى خَرّالأخير صريع أمالآك... ما برِحت  تتحققّ ... وإن صحت كسلى...والغير منها لم يزل ينوء بهاخارج  أفلاك  الرؤيا...
هكذا يتحكّم  فيك الوضوح ،  فيما الخفايا و الهدايا تستعر حين ينبش أرضها محاور لَحوح يَصرّ  على فضح ما كنت يريد ُ أنت ان تقوله ...بعد أن أشقاكَ  كتمانه... نِير ضغط الظروف و ما يُحيك و تنسج  ... على  منوال هديّ ما سارت عليه  أيام الحياة..
تمتعثُ بأثر تأثير الصدفة... متى تجدُ  نفسها في قيافة سؤال ملحاح كأستحقاق دين قديم طال زمن سداده..
هكذا نلمس شغاف العقول المجاهدة ، تعدل على معاندة واقع ألمها الممض...تستجير محلّقة باجنحة من غبش طفولة...وكُحل أحلام حب ٍّ ما أن يفيق حتى يتوسده طفح  حُلم أخر...
أتممني حوارك بزهاء أحمد... جرعة من  نزعة و فزعة ما كنت أحيا أن أراك تقيّاً ، راهباً بمحراب هذا البهاء وأنت تستذكرُأ ما ختزنت ذاكرتك ...تستجلب  منها  لتحيي  بعض رفات ذكرياتك ...و لو على أقل من مهل جريان نهر الأيام والأماني وخسارة العمر رخيّا حين تحياه وحيداً... مكدوداً ،،، مكتظاً بحشود محبيك...النبلاء منهم ، والفقراء  من أقرانك  ،أؤلئك ممن إستجاروكَ ذات شوق ...أوحاجة ... أوشقاء...
الهمتني مسارات إستذكاركما ...جنونات قصائد  ... عن إمكانيّة أمل الطمأنينة بان تجد من يقتنع بها...عن النساء اللوتي  تختصرهن بجلل امراة واحدة ، حتى كانت دنيا منفيّةً  من بخل سراب..
حوار سخيّ التلويح بمناديل لا تتُقدّم فيها ثنايا الوداع ولا تأّخّر... عن  مُرّآة أي معنىً   لدواعي غياب ، أو ملمح  تغييب  ، لمن شاغلوكَ وسامروكّ
لقد أخذتنا لنراك في النجف تلميذاً ...دام عنود موهبته... و أوفىلمن درّسوه وأسقوه لذوعة ولذة  طعهم حرفها الأول ... فصار قاموساً يطوف مُدناً و أقانيم و زهو فراديس بأجيج نيران رغبات تعدّدتْ بها الذات حتى تماهت  نحو ذواتٍ لغيرها...من تلك التيأبتكرت عالم " شعبان " الذي نسكنه...ونحرص أن نكون فيه سلاماً ...كما يريد هو ...  و معه نحن – إيضاً- نريد ، بل نطمح ...
ح.ع.الحميد
اربيل- عنكاوا
2مايس/ 2021


84
المحامي والشاعر جليل شعبان الحميري القحطاني
في ذمّة الخلود

تنعي أسرة آل شعبان الحميرية القحطانية فقيدها المحامي والشاعر جليل شعبان الذي وافته المنيّة يوم الخميس 29/4/2021، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، فقد ولد في النجف العام 1937 ودرس فيها وأكمل دراسته الثانوية في الاعدادية المركزية ببغداد، وتخرج من كلية الحقوق العام 1958، وعمل في التجارة وفي المحاماة، ثم تولّى إدارة الدائرة القانونية والعلاقات العامة في مصرف سومر الأهلي. له مجموعة شعرية واحدة مطبوعة بعنوان "بين الأرز والنخيل"، والعديد من القصائد الأخوانية وفي المناسبات المختلفة.
والده المرحوم حمود شعبان: أحد التجار المعروفين وعضو غرفة التجارة منذ العام 1950،

شقيقاه: المرحوم الأستاذ ناصر، والمرحوم الأستاذ رؤوف شعبان (النائب الأول لرئيس غرفة تجارة بغداد لمدة 12 عاماً).

أولاده: الدكتور أصيل (طبيب أسنان).
والأستاذ أسعد شعبان (مصرفي).
والفقيد عمّ كل من التاجر سمير والأستاذ منير والأستاذ أميرشعبان.
والدكتور عقيل والمهندس علي والأستاذ عدي شعبان.
وإبن عم المرحوم الدكتور ناهض شعبان.
وهو خال
الدكتور عبد الحسين شعبان

والأستاذ حيدر عزيز شعبان

والمهندس علي والتاجر عبدالله شعبان

والمهندس سلام والأستاذ حسن والأستاذ حافظ والتاجر غالب شعبان.

وإبن عمّة المحامي حسن والمؤرخ حسين محمد شعبان.
وقد نعاه الاتحاد العام للأدباء والكتاب، ونعته رابطة المجالس البغدادية بقولها: "فقدت المجالس البغدادية أحد أركان ثقافتها، وبالخصوص مجالس الشعر  باف والربيعي وعبد الرزاق محي الدين والخاقاني والغبّان وآمال كاشف الغطاء"، وأعلنت الحداد على روحه لمدة ثلاث أيام. ونعاه كذلك مجلس الغبّان معزّيا الساحة الثقافية بفقدان علم من أعلام الثقافة والأدب.
وعزّى بوفاته بيت شمران الياسري  الثقافي (أبو گاطع)، وجاء في رسالة التعزية "يتقدم بيت شمران الياسري الثقافي وأعضائه بأحر التعازي إلى آل شعبان، برحيل الشاعر والمحامي الأستاذ جليل شعبان (أبا أصيل) الذي منحنا من قلبه وروحه ووجدانه الكثير".
ونظراً لظروف العراق الحالية، لا سيّما استمرار مداهمة جائحة الكورونا، فقد قررت الأسرة عدم إقامة مجلس الفاتحة، واكتفت بتوزيع نفقاتها على الفقراء والمحتاجين، وهي تتلقّى رسائل التعزية على العناوين الآتية:


بغداد - الأستاذ أسعد شعبان
                                   009647901342237

الأستاذ سمير شعبان
                                    009647700715356

هولندا - الدكتور أصيل شعبان
                                       0031645772380

بيروت - إيميل الدكتور عبد الحسين شعبان
drhussainshaban21@gmail.com


لروحه السلام ولكم حياة خالية من المكاره والأحزان


85
روسيا والسيناريو الجورجي في أوكرانيا
عبد الحسين شعبان
   هل يُعتبر الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية استعراضاً للقوة أمام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أم محاولة لتكرار السيناريو الجورجي؟ سؤال ما زالت الدبلوماسية الدولية تبحث عن جواب له لدى الولايات المتحدة والإتّحاد الأوروبي، وهو يأتي في ظلّ استمرار نظام العقوبات ضدّ روسيا بسبب سياساتها في دول الجوار، ولا سيّما بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا، ناهيك عن التعامل مع المعارض الروسي أليكسي نافالني، أو على الصعيد الدولي في ما يتعلّق بـ الجبهة السورية تحديداً، وفي جبهة ليبيا أيضاً، وزاد الطين بلّة تجميع قوات عسكرية في مدينة فورونيغ على الحدود الأوكرانية، الأمر الذي أثار قلقاً كبيراً لدى الأوكرانيين وتساؤلات أمريكية وأوروبية مريبة عن الأهداف التي تسعى إليها موسكو من هذا التحشيد غير المسبوق.
   و ذكرت جين ساكي المتحدّثة بإسم البيت الأبيض أنّ عدد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا هو أكبر من أي وقت مضى، بما فيها في العام 2014، في إشارة إلى ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم إليها، وهي غالبية سكانّها من الروس في استفتاء نظمّته بعد السيطرة عليها، بدعوى تاريخية أنّ خروشوف (الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي حينها)، هو من قام بإهدائها إلى أوكرانيا لتعزيز الوحدة الروسية - الأوكرانية، علماً بأن شبه جزيرة القرم منطقة استراتيجية بين البحر الأسود وبحر آزوف، وتنافست عليها في أواسط القرن التاسع عشر دولاً مثل بريطانيا وفرنسا للحدّ من طموحات روسيا في بلاد البلقان، واندلعت فيها حرب القرم، مثلما دارت فيها معارك طاحنة في الحرب العالمية الثانية ، ولا سيّما في مدينة سواستابول، ضدّ الغزاة الألمان، وكان الشاعر الجواهري قد نظم قصيدة يُمجّد بسالتها في العام 1943.
   ومع أجواء التوتّر هذه، أعلنت تركيا أنّ واشنطن أرسلت سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود عبر البوسفور، وهذا يعني أنّ الأمور تُنذر بما هو أشدّ وأسوأ، لا سيّما وأنّ كييف تتّهم المجموعات الموالية لـ موسكو بخرق وقف إطلاق النار واتفاق السلام بينها وبين هذه المجموعات، والتي تمّ التوقيع عليها في العام 2015.
   وكان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قد دعا حلف الناتو إلى وضع خطّة لإنضمام أوكرانيا إليه، وهو ما تعارضه موسكو بشدّة وتعتبره عملاً عدائياً موّجهاً ضدّها، وقام عقب ذلك بيومين (8 نيسان/أبريل الجاري)، بزيارة شرق البلاد لتفقّد قوات الجيش على الجبهة  وقالت موسكو على لسان المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أنّ الوضع مضطرب وغير مسبوق في إقليم دونباس، وإنّها ستتّخذ خطوات لحماية المدنيّين في حالة نشوب أي قتال شرقي أوكرانيا. وإذا ما اندلعت المواجهة، فهذا يعني إنفجار الأزمة بين موسكو من جهة وواشنطن وحلف الناتو من جهة أخرى، وسيكون الأمر امتحاناً جديداً لمستقبل علاقة روسيا بالغرب.
   إنّ التحركات الروسية الأخيرة هي رسالة شديدة اللهجة إلى كييف، والتاريخ قد يُعيد نفسه، ففي العام 2008 في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، كان السيناريو ذاته كما تقول روسيا بأنّها اكتشفت استعدادات جورجية لإجتياح أوسيتيا الجنوبية، حيث تتمركز قوات حفظ السلام الروسية، والتبرير ذاته أنّ الرئيس الجورجي حينها ميخائيل ساكاشفيلي لقي وعوداً من واشنطن بدعمه، وهو الأمر ذاته الذي يتكرّر اليوم بشأن دعم الناتو وواشنطن لأوكرانيا، وحيث تحتفظ القوات الروسية بحشد على الحدود في إطار مناورات عسكرية، فإنّها يُمكن استخدامها بصورة عاجلة في حالة حدوث أي اختلال في المستوى الميداني، في سيناريو مشابه للسيناريو الروسي في جورجيا.
   فهل تستمرّ كرة الثلج بالتدحرج مرّة أخرى في أوكرانيا مثلما تدحرجت في جورجيا؟ وما يلفت النظر أنّ العقيد بريتاني ستيورات كان على رأس وفد أمريكي في زيارة لإقليم دونباس، وكان يرتدي بدلة عليها شارة تتضمّن صورة جمجمة وعبارة "أوكرانيا أو الموت"، وهي لأحد ألوية الجيش الأوكراني، الأمر الذي يحمل رسائل عديدة إلى موسكو، فهل ستكون أوكرانيا بؤرة توتّر لحرب كونيّة بين واشنطن وموسكو؟
   إنّ اقتراب كييف من الناتو، كان أحد الأسباب المباشرة لوضع روسيا يدها على شبه جزيرة القرم في العام 2014 ، والتي تعتبرها جزءًا من مجالها الحيوي على الرغم من كونها "دولة مستقلّة" منذ العام 1919، لكنّ موسكو بعد تأسيس الإتحاد السوفياتي في العام 1922، اعتبرت الدول التي انضمّت إليها "محدودة السيادة"، وهي اليوم تعارض إقامة علاقات مع خصومها كي لا تكون خنجراً في خاصرتها.
   فهل ستزيد بروكسل عقوباتها على موسكو أكثر من العام 2014، والتي لم تنفع معها إعادة القديم إلى قدمه في أوكرانيا؟ وقبل ذلك في العام 2008 في السيناريو الجورجي؟ وحتى لو أكّد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن على دعم الولايات المتحدّة الثّابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها؟ ولكن ماذا ستفعل على الأرض عملياً وكيف سيتمّ ترجمة ذلك في ظلّ الترسانة النووية الروسية؟ هل بإرسال مساعدات وأسلحة لدفع أوكرانيا إلى الحرب؟ أم ستكون النتيجة تكرار السيناريو الجورجي في أوكرانيا؟



86
                           14/4/2021
   
   معالي الأستاذ أحمد أبو الغيط الموقّر،
   الأمين العام لجامعة الدول العربية


تحية واحتراماً،

   نتوّجه إليكم بأخلص التمنيات بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، وننتهز هذه الفرصة لنبعث إليكم برسالة "الرابطة العربية للقانون الدولي" الموّجهة إلى الأمين للأمم المتحدة، وذلك بهدف الإطّلاع عليها وضمّ الجهود العربية إلى بعضها البعض لبلورة رؤية مشتركة لتحرك دبلوماسي دولي، ولا سيّما في الأمم المتحدّة للدفاع عن القضايا العربية العادلة والمشروعة وفي القلب منها القضية الفلسطينية، التي رافقت التنظيم الدولي منذ نشأته قبل أكثر من 100 عام، وما تزال لحدّ الآن كمشكلة دولية قائمة.
   وإذ نخاطب معاليكم، فإنّنا نقدّر مكانة جامعة الدول العربية ودورها كمنظمة إقليمية دولية عريقة، تمتلك علاقات واسعة وخبرة غنية، ولها ممثليات في العديد من الدول الكبرى من أجل ضمّ الجهود إلى بعضها والتعاون مع منظمات مهنية لها وزن وثقل دولي، بهدف تحقيق ما ورد في رسالة الرابطة العربية للقانون الدولي وذلك بمناسبة مرور 100 عام على انعقاد مؤتمر سان ريمو، وهو المؤتمر الذي منح بريطانيا "حق" الإنتداب على فلسطين، ووافقت على هذا القرار عصبة الأمم، ونجم عنه مشكلة دولية تفاقمت مع مرور الأيام، ولا سيّما بالتغيير الديموغرافي القسري الذي مارسته سلطة الإحتلال منذ العام 1948 وإلى اليوم.
   ونستعيد بهذه المناسبة، مرور 20 عاماً على انعقاد مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001، وما حقّقه الجهد العربي المشترك من نجاح في إدانة الممارسات الإسرائيلية، وتتذكرون دعم نحو 3000 منظمة حقوقية ومدنية دولية الذي حظيَ بها ذلك القرار، وقد كان لنا شرف المشاركة في المؤتمر والتنسيق والتعاون مع منظمات وهيئات دولية عديدة، إضافة إلى جامعة الدول العربية وبعض الحكومات للوصول إلى ما تحقّق.
   نأمل بجهودكم وبالدور الذي تقوم به جامعة الدول العربية في الميدان الدبلوماسي الدولي، أن يأخذ مضمون رسالة الرابطة العربية للقانون الدولي طريقه إلى التنفيذ، خصوصاً بحشد الأشقّاء ومساندة الأصدقاء لدعم الحقوق العربية العادلة والمشروعة، وفي المقدمة منها حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة الدولة المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف.
   ننتهز هذه الفرصة لنعبّر لمعاليكم، عن خالص تمنياتنا لكم بالصحة ولشعوبنا العربية وجامعتها الموقّرة العز والسؤدد، ونأمل أن نتسلّم ردّكم الإيجابي.
   تقبلوا فائق الإحترام،

   الدكتور جورج جبور                  الدكتور عبد الحسين شعبان

مرفقات:

-  رسالة الرابطة العربية للقانون الدولي إلى الأمين العام للأمم المتحدة.


نسخة منه إلى:

1- إتحاد المحامين العرب
2- إتحاد الحقوقيين العرب
3- إتحاد الصحفيين العرب
4- إتحاد الكتاب العرب
5- المنظمة العربية لحقوق الإنسان
6- منظمة التضامن الأفروآسيوي

***




المؤسّسون:
1 -    د. جورج جبور         (رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة وخبير مستقل في مجلس                   حقوق الانسان) - سوريا.
2 -   أ. تهاني محمد الجبالي      (مستشارة ونائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا) - مصر.
3 -   أ. عمر محمد زين      (أمين عام اتحاد المحامين العرب سابقاً) - لبنان.
4 -   أ. علي الضمور         (قاضي وأمين عام اتحاد  الحقوقيّين العرب) - الأردن.
5 -   د. خالد شوكات         (وزير سابق ورئيس المعهد العربي للديمقراطية) - تونس.
6 -   أ. ضياء السعدي      (نقيب المحامين العراقيّين) - العراق.
7 -   د. حسن جوني         (أكاديمي وخبير دولي) - لبنان.
8 -   د. إياد البرغوثي         (رئيس الشبكة العربية للتسامح) - فلسطين.
9 -    د. محمد المالكي      (رئيس مركز دراسات الدستورية والسياسية) - المغرب.
10 -   د. محمد المخلافي      (وزير الشؤون القانونية سابقاً، محامٍ وأستاذ جامعي) - اليمن.
11 -   د. أحلام بيضون      (أستاذة جامعية) - لبنان.
12 -   د. شيرزاد النجار      مستشار ورئيس جامعة سابقاً - العراق/إربيل.
13 -   أ. نور الإمام         (محامية وخبيرة مستقلة) - الأردن.
14 -   الشيخ ودّ الحمدي      (نقيب المحامين الموريتانيّين) - مورتانيا.
15 -   د. رائق الشعلان         (أكاديمي - جامعة دمشق) - سوريا/الجولان المحتل.
16 -    د. نزار عبد القادر صالح   (المدير التنفيذي لمعهد جنيف لحقوق الإنسان) - السودان.
17 -    د. عبد الحسين شعبان      (أكاديمي، مدير عام المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني) -                   العراق.

87
رسالة من الرابطة العربية للقانون الدولي
إلى الأمين العام للأمم المتحدة


   سيادة الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش المحترم،

   تحية واحتراماً نبعثها إليكم بإسم "الرابطة العربية للقانون الدولي"، وبعد:

   لا يصحّ أن يمرّ هذا اليوم التاسع عشر من نيسان /أبريل دون مخاطبتكم، ففي مثل هذا اليوم قبل مائة عام بدأ انعقاد مؤتمر سان ريمو (ايطاليا)، في الفترة من 19 إلى 25 نيسان /أبريل 1921، وحضره الحلفاء الرئيسيون في الحرب العالمية الأولى، وإتّخذ هذا المؤتمر قراراً، وافقت عليه عصبة الأمم، نجم عنه مشكلة دولية تفاقمت مع مرور الأيام وما تزال إلى اليوم، ونعني بذلك المشكلة الفلسطينية .

   لقد منح مؤتمر سان ريمو بريطانيا "حق" الانتداب على فلسطين دون استشارة أهلها، وقامت هذه بإشراف من عصبة الأمم،ولاحقاً بإشراف من منظمة الأمم المتحدة العام 1948، بعملية تغيير ديموغرافي في فلسطين نتج عنها تهجير شعبٍ من وطنه، وحرمانه من حقّه في تقرير مصيره.

   لعلّ المشكلة الفلسطينية ما تزال قائمة وراهنة ببعدها الإنساني والأخلاقي، الذي يستفزّ الضمير العالمي، وقد تُوّجت مؤخراً بفضيحة أخلاقية كبرى قمتم بإدانتها ألا وهي إقدام الولايات المتحدة بالموافقة على إعلان ضمّ الجولان السورية إلى دولة الإحتلال الإسرائيلي، وقبلها شروعها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلّة خلافاً لقرارات الأمم المتحدّة، وقواعد القانون الدولي.

   وإذا كان في السابق مثل تلك الأمور يُجيزها القانون الدولي التقليدي، فإنّ الأمر قد تغيّر ولم يعد القانون الدولي المعاصر كما تعلمون يسمح بضمّ الأراضي قسراً أو كنتيجة للحرب، بل إنّه أصبح أكثر شمولاً من الناحية الإنسانية، ولذلك فما قامت به سلطة الإنتداب يُعتبر من منظور الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي جريمة ضد الإنسانية، ولاسيّما أساليب التغيير الديموغرافي القسري التي قامت بها، وما تزال تلك السياسة مستمّرة وتقوم بها سلطة الإحتلال.

   يا سيادة الأمين العام، إنّ رسالتنا هذه التي نوّجهها إليكم بإسم الرابطة العربية للقانون الدولي، هي دعوة لكم كي تعملوا الفكر وتجروا الإستشارات المناسبة لتحقيق ما هو واجب إنساني وينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة. وبهذه المناسبة ندعوكم إلى إفساح المجال لعقد ندوة دولية في مبنى الأمم المتحدة في جنيف، وهو المبنى الذي بارك عملية التغيير الديموغرافي القسري في فلسطين، ونأمل أن تنتظم أعمال هذه الفعالية الحقوقية في تموز/يوليو 2022، وهو مناسبة الذكرى الأليمة لمرور مائة عام على تصديق عصبة الأمم على صكّ الانتداب في فلسطين.

   أمّا عنوان الندوة المقترح فهو الآتي:"الانتداب على فلسطين: هل هو جريمة ضد الإنسانية؟". وبالطبع يتيح الطابع الاستفهامي للعنوان المجال لمن لا يرى في ما جرى جريمة يتيح له المجال للتعبير عن رأيه.

   سيكون من دواعي الغبطة أن نتسلّم ردّكم الذي نأمل أن يكون إيجابياً، علماً بأنّ العديد من المنظمات المدنية والشخصيات القانونية والحقوقية تدعم وتؤيد مثل هذا التوّجه، سواءً على الصعيد العربي أم على الصعيد الدولي.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

                        الرابطة العربية للقانون الدولي
                        السبت 10 - نيسان/أبريل - 2021



88
الياس مرقص: مُثقّفٌ قرأ الماركسية بطريقة غير طقوسية
عبد الحسين شعبان

"قرأ الياس مرقص الماركسية لا بطريقتها الطقوسية أو المدرسية أو المسلكية أو الذرائعية، بل باعتبارها منهجًا حيًّا وقابلًا للنقد؛ لقد قرأها بعقل منهجي-نقدي للوضعية السائدة، ولعلّه كان أكثر "ماركسية" من الماركسيين الرسميين الذين حملوا صولجان الماركسية ولبسوا قبعاتها، لكنهم ظلوا خارج صومعتها وبعيدين عن روحها وجوهرها وملكوتها"

ع.ش
عن كتاب "تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"

I

   حين أعلمني د.حازم نهار أن مجلة "رواق ميسلون" التي ستصدر حديثًا ستخصص العدد الأول منها للذكرى الثلاثين لرحيل المفكر الياس مرقص (26 كانون الثاني / يناير / 1991) ودعاني للانضمام إلى هيئتها الاستشارية التي تضم شخصيات عربية مرموقة، استجبت باعتزاز وتقدير لسببين:
الأول-لأن صديقنا الياس مرقص لم يأخذ حقه من القراءة والنقد، على الرغم من منجزه الفكري والثقافي وما رفد به المكتبة العربية من مؤلفات ودراسات وأبحاث وترجمات جلّها تضمنت اجتهادات وآراء نافذة.
   ولعلّها مناسبة لاستعادة مفكر بحجم الياس مرقص والتعريف به كجزء من العمل على إعادة طبع مؤلفاته وكتبه، سواءً المجموعة الكاملة أم مختارات منها، إذْ نحن اليوم أحوج ما نكون إليها، خصوصًا وأنه سبق مرحلته بربع قرن من الزمان أو ما يزيد، في حين حظي مفكرون أقل شأنًا منه باهتمام أكبر بحكم انتمائهم إلى جهات حزبية وسياسية، حكومية أم غير حكومية، تبنّتهم وقدّمتهم إلى القرّاء بحياتهم أو بعد مماتهم.
والثاني-إنها فرصة شخصية مناسبة للتّوقف ولو سريعًا عند الدور التنويري للياس مرقص، وكنت قد جئت على ذكره في مناسبات عديدة مشيدًا بدوره الذي سبقنا في المراجعة والنقد للماركسية، محاولًا قراءتها على نحو أشد ارتباطًا بالواقع، كما ربطتني علاقة صداقة طيبة بالياس مرقص خلال الثمانينات وتبادلنا وجهات النظر والآراء إزاء مشاكل الحركة الشيوعية والأزمة في حركة التحرّر الوطني العربية، كما جمعتنا مؤتمرات ولقاءات وأنشطة وفاعليات عديدة، وسأحاول في هذه الإطلالة السريعة، وهي أقرب إلى الخواطر والاستذكار، أن ألقي ضوءًا على بعض أفكار وآراء الياس مرقص أحد أبرز روّاد الماركسية بطبعتها "الحرّة" غير الحزبوية، تلك التي حاول تقديمها للقرّاء العرب مع إخضاع ممارستها للنقد والتصويب والاجتهاد.
II
"المثقف الأول" وخالد بكداش
   أسبغ الزعيم الشيوعي الكبير خالد بكداش وصف "المثقف الأول" على الياس مرقص لثقافته الموسوعية وعمقه الفلسفي وتبحّره بدراسة الماركسية من مصادرها الأصلية وقدرته على استنباط الأحكام انطلاقًا من الواقع وليس إسقاطًا عليه، فضلًا عن تمكّنه من إدارة الحوار والنقاش والسجال والجدل وصولًا إلى الحقيقة، بمعنى طرح الأسئلة الشائكة بدلًا من القبول بالأجوبة الجاهزة، وعلى حدّ تعبير الشاعر الكبير سعدي يوسف "النهايات مفتوحة دائمًا والبدايات مغلقة" فقد كان يمتلك باعًا طويلًا وصبرًا غير محدود، وهو ما تعكسه كتبه ومؤلفاته وترجماته وتدقيقاته. وكان بكداش ثاقب البصيرة في اكتشاف الشاب الوسيم والأنيق القادم من بروكسيل مستشرفًا أفقه الفكري ودأبه ومطاولته على القراءة والكتابة والنقد.
   لكن خالد بكداش الذي يُعرف بعميد الشيوعيين العرب، ولاسيّما لدى الدوائر الأممية منذ الثلاثينات غيّر رأيه لمجرد الاختلاف وبروز نزعات استقلالية ورؤية اجتهادية لدى مرقص، فعاد وخلع عنه هذا الوصف، ليتم اتهامه بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية، ولعلّ مثل هذا الاتهام له علاقة بنمط التفكير الستاليني الذي كان سائدًا ولهيمنة الأفكار الشمولية وادّعاء إحتكار الحقيقة والزعم بالأفضلية على الآخر، فالحزب على حق دائمًا أخطأ أم أصاب، فما قيمة الفرد (العضو الحزبي) واجتهاداته طالما تتعارض مع ما تريده قيادة الحزب (العارفة بكل شيء).
   وهذه هي الحالة السائدة في جميع التنظيمات الشمولية "الكلّانية" التي اقتفت أثر التنظيمات الشيوعية، سواء كانت قوميّة أم إسلامية، حيث يتم معالجة الاجتهادات والاختلافات والخلافات داخل المنظومة الرسمية للحركة الشيوعية بطريقة التهميش والإقصاء مع سيل من الشكوك والاتهامات التي تصل إلى التحريم والتجريم، وبمثلها اتُّهم أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي بسبب وجهات نظره وتوجهاته التّجديدية، والتي مثّلت فريقًا من كادر الصّف الثاني الذي ارتقى سلّم القيادة بعد المؤتمر الثاني للحزب (تموز/يوليو 1968) بتوجهات مختلفة عن القيادة التاريخية ممثلة بالرفيق خالد بكداش.
   والمسألة لا تتعلّق بمحاولة النيل من خالد بكداش الذي يتمتّع بمكانة مرموقة في تاريخ الحركة الشيوعية العربية والعالمية، لكن ذلك جزء من الحديث عن نواقصها وثغراتها وعيوبها، ناهيك عن نمط التفكير السائد والعقلية المهيمنة، فضلًا عن ممارسات وانتهاكات لا يجمعها جامع مع الأفكار المُعلنة.
   وثمّة أسباب فكرية وعملية أخرى لمثل هذا السلوك، يعود بعضها إلى ظروف الصراع الإيديولوجي في عهد الحرب الباردة بشكل خاص والمنافسة بين المعسكرين، فكل منهما يخفي عيوبه عن الآخر ويظهر مزاياه، ويستخدم الصالح والطالح والحق والباطل أحيانًا، طالما يقرّبه من هدفه حتى وإن لجأ إلى وسائل غير مشروعة وطرق ميكافيلية أحيانًا، بزعم أن هدفه نبيلٌ وإنسانيٌ على عكس عدوّه وخصمه، الأمر الذي يعطي لنفسه الحق باستخدام جميع الوسائل للوصول إلى الهدف النبيل، خصوصًا وأن العدو يستخدمها قلا بأس من الردّ عليه بالمثل.
   ويخطأ كثيرون بفصل الوسيلة عن الغاية، فمهما كانت الأفكار سامية وإنسانية ونبيلة إلّا أنها ليست معصومة ضد الارتكابات والانتهاكات للحقوق والكرامات الإنسانية، بل إنها ذاتها يمكن أن تصبح أداة حتّى للجريمة بزعم أن الحقائق المطلقة لصالحها مثلما تُقرّر الحتمية المستقبلية للتاريخ، فما قيمة الخطأ أو حتى الانتهاك لحقوق الفرد في ظل هذه التبريرات التي كان الياس مرقص شديد الحساسية إزاءها؟
   هكذا تصبح قرارات الزعيم أو القائد أو الأمين العام "القانون"  الذي يجب أن يخضع له الجميع، فما بالك حين يكون مكتبه السياسي خلفه من المطيعين في الغالب وهو الآخر تصبح قراراته ملزمة تُطبق بطريقة عمياء أحيانًا، علمًا بأن الأنظمة الداخلية للأحزاب الشيوعية وجميع الكيانات الشمولية مُستمدة من كتاب لينين : ما العمل؟ الصادر في العام 1902، والتي تُلزم العضو الحزبي بالخضوع والتنفيذ اللّاشرطي لقرارات الهيئات العليا والأقلية للأكثرية تحت عنوان المركزية الديمقراطية، التي تتحوّل بالواقع العملي إلى مركزية صارمة وشديدة البأس، تحت مبررات العمل السرّي أو مؤامرات العدو أو محاولات الاختراق الخارجية، ولعلّ ذلك ما واجه الياس مرقص وهو في بدايات حياته السياسية؛ وهو يسمع الحديث عن الرواسب الطبقية للبرجوازية الصغيرة، فضلًا عن تأثيرات الدعاية الامبريالية، لينتهي الأمر إلى اتهامه بالعمل لصالحها بعد طرده من الحزب في العام 1957.
   ربّما بسبب الأجواء "الإيمانية" التبشيرية السائدة وقلّة الوعي وشحّ فرص التعبير، يحجم الكثير من الشيوعيين عن رفع لواء النقد أو راية الاختلاف، حتى وإن توصّل بعضهم للحقائق ذاتها، لأنهم يخشون من العقوبات والاتهامات، فضلًا عن الأساليب التي تتّبع للتشهير والتشويه والعزل، وذلك لمنع تكوين نواتات صلبة فكريًا وسياسيًا تكون سابقة خطيرة للمواجهة والمجاهرة بالرأي، وغالبًا ما تنتهي تلك إلى الانشطارات والانقسامات، وهكذا يستمر جيل من الماركسيين بعد جيل يدفع الثمن باهظًا حيث يسود التّعصب والتّزمت والغلو والتهميش والإلغاء وتغييب النقد الصّادق والمراجعة المخلصة.
   من هؤلاء القلّة الذين لم يبالوا في التحدي والمواجهة كان الياس مرقص الذي امتشق سلاح النقد وسيلة مشروعة لتحقيق الأهداف السامية وفقًا لمنهجه الجدلي القائم على البراكسيس وليس المنهج التجريدي، في حين ضاع ماركسيون مجتهدون وناقدون حقيقيون في منظومة البروقراطية الحزبية ولفّهم النسيان بعد الصمت، سواءً بقوا داخلها أم اعتبروا خارجها، وتحملوا صنوفًا من الأذى والهوان بسبب آرائهم واجتهاداتهم. والأمر لا يقتصر على الشيوعيين العرب، بل أن الأنظمة التي حكمت باسم الشيوعية ارتكبت مجازر وأعمال إبادة حقيقية لا تقتصر على الإدارات الحزبية أو الملاكات والكوادر المتقدمة أو النخب الثقافية والفكرية فحسب، بل شملت جميع من يُشك بولائه، ومن الأمثلة على ذلك محاكمات ستالين الشهيرة في الثلاثينات، حيث أطاح برؤوس كبيرة اتُهمت بالعمل لصالح الأجهزة المعادية وفي مقدمتهم بوخارين الذي كان يسميه لينين "محبوب الحزب" فقد أعدم هو وابنه بالتهم الملفقة نفسها، والحال ذاته حصل في البلدان الاشتراكية السابقة، ناهيك عن الثورة الثقافية في الصين 1965-1976 والتي جسّدت ازدراء الفكر والثقافة لصالح السياسة الأنانية الضيقة الأفق.
   لم يكن الياس مرقص حزبيًا مسلكيًا وتقليديًا يتلقى الأوامر والتعليمات الحزبية وينفذها بحذافيرها ويستلم المطبوعات ويوزعها ويسدد الاشتراكات الشهرية ويجمع التبرعات فحسب، بل كان صاحب رأي ومجتهد وله وجهات نظر بما يحصل. وكانت ومضاته الفكرية ولمعاته الاجتهادية قد أخذت تتغلغل إلى المنظمة الحزبية في اللاذقية، حيث كان قد تلقى دروسه الأولى في الشيوعية خلال دراسته في بروكسيل يوم كان طالبًا يدرس علم الاجتماع والتربية، وخلال دراسته ارتبط بعلاقة مع طلبة سوريين شيوعيين يدرسون في بلجيكا، وحين عاد إلى سوريا في العام 1952 وعمل مدرسًا للفلسفة في مدينة اللاذقية (مسقط رأسه) انضم رسميًا إلى الحزب الشيوعي السوري-اللبناني في العام 1955.
   خلال وجوده القصير برز كمثقف متميز وقد تمكن من إحداث جدل ونقاش للتجديد والتغيير في المنظمة الحزبية في اللاذقية، الأمر الذي اعتبرته اللجنة المركزية بقيادة خالد بكداش خروجًا على التقاليد الحزبية وقواعد التنظيم اللينيني وأوامر القيادة "الستالينية"، ولعلّ ظاهرة مثل تلك تعتبر من الكبائر التي قد تؤدي إلى إحداث تصدّع في خط التفكير السائد، لذلك اتُّخذت الإجراءات السريعة والعاجلة ضدّه احترازًا بما يمكن أن يحصل من تفشي واستشراء هذه الظاهرة، فقررت القيادة حل اللجنة المنطقية وتأسيس قيادة جديدة لها تابعة للتوجيهات البيروقراطية والمركزية الصارمة كما أخبرني الياس مرقص بطريقته الفكاهية وابتسامته المحبّبة، وحين سألته والنتيجة ماذا حصل؟ أجاب كان لابدّ من طرد هذا "المشبوه" المتسلّل إلى صفوف الحزب والذي يريد تخريبه، لاسيّما محاولته إضعاف الثقة بالقيادة التاريخية، وهذا ما حصل في العام 1957، وما زاد الطين بلّة كما يقول أن ثمة ملاحظات كانت قد تبلورت لديّ بخصوص المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي 1956، وكنت قد عبّرت عنها على شكل أسئلة انتقاديه، تمّ اعتبارها نوعًا من التشكيك بمكانة بلد لينين وحزبه البلشفي الذي كان خالد بكداش يردّد أن مقياس شيوعية الشيوعي تتحدّد بمدى إخلاصه للإتحاد السوفييتي وحزبه الشيوعي.
   
   III
فرج الله الحلو وقصور النظر الحزبوي
   استعدت ما حصل قبله لفرج الله الحلو (سالم) القائد الشيوعي اللبناني الذي تحفّظ على قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة، فاتُخذت عقوبات بحقه وتم تنحيته من جميع مسؤولياته لاحقًا، لاسيّما حين تفاقمت الأمور (حزيران / يونيو / 1951)، وكانت هذه العقوبة تحصيل حاصل لمواقف انتقاديه أخرى في قيادة الحزب الشيوعي السوري-اللبناني، فقد جرى التآمر عليه بإرساله إلى باريس ولندن في مهمة خاصة وتمّ تعيين نيقولا شاوي بدلًا عنه وتحت إشراف خالد بكداش، وهو ما يندم عليه شاوي لاحقًا كما يذكر كريم مروّة.
    جدير بالذكر أن فرج الله الحلو اضطر لاحقًا إلى الإذعان وأجبر على تقديم نقد ذاتي، هو أقرب إلى "الجلد الذاتي" بإدانة نفسه وسلوكه البرجوازي الصغير وغرقه في حمأة الانتهازية وتحدّث بمرارة ووخز الضمير عن وقوعه تحت تأثير الميول الكوسموبوليتية الرجعية الغريبة عن عقلية الطبقة العاملة وموقفه المخزي من الاتحاد السوفييتي من قرار التقسيم كما قال بالنص الذي نشره يوسف الفيصل في كتابه "مواقف وذكريات"، وهو نص أقرب إلى رسالة "النقد الذاتي" التي كتبها زكي خيري القيادي الشيوعي افتراءً على نفسه وتقريعًا لها بعد معاقبته في العام 1962 بتهمة التكتل ضد قيادة السلام عادل ، وهو ما كانت تقتضيه التقاليد الحزبية الثقيلة والّاإنسانية.
   لم يكن موقف فرج وحده ضد التقسيم الذي تحمّل بسببه أعباءً كثيرة، بل إن سكرتير الحزب الشيوعي السوري رشاد عيسى الذي يأتي بمرتبة ثانية بعد خالد بكداش في دمشق ظلّ رافضًا لقرار التقسيم وقد وجّه رسالة يعتذر فيها عن تحمّل المسؤولية الحزبية بعد إعلان معارضته لقرار التقسيم، الأمر الذي تمت محاسبته عليه حيث إتُّخذ قرارًا بفصله لمدة عام لحين أن يقدّم نقدًا ذاتيًا، وحين امتنع عن ذلك، جرى فصله والتشهير به، وقد نشرت صحيفة الحزب " نضال الشعب" قرار الفصل؛ وقد ظل رشاد عيسى على مسافة بينه وبين الحزب لحين وفاته، لكن المؤتمر السادس للحزب صحّح موقفه منه (شباط / فبراير / 1987) واتخذ قرارًا بـإلغاء الفصل، وهو القرار الذي إتُّخذ بحق الياس مرقص أيضًا أي بعد عقود من الزمان، وقد أطلّ كريم مروّة في كتاب بعنوان "الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث" على قضية رشاد عيسى التي تناولها يوسف فيصل بالتفصيل.
IV
المثقّف الراقي والإعتداد بالنفس
   قبل فصله كان الشاب المتحدّر من أسرة لاذقانية عريقة يطرح أسئلة عويصة في وسط مقتنع بطريقة أقرب إلى الإيمانية، وهي أسئلة بحمولة نقدية، لم تلق إجابات شافية في نفسه فقد  كان قد درس كانط ونظريته المعرفية وأعماله الأساسية مثل نقد العقل الخالص "المجرد" ونقد العقل العملي، فضلًا عن كتاباته في التنوير والأخلاق والدين، كما قرأ ديكارت صاحب نظرية الشك المعرفي الذي يعتبر عرّاب الفلسفة العقلانية الحديثة وهو القائل: "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، الأمر الذي كانت الأسئلة تتوالد عنده، وبقدر ما كانت الإجابات شحيحة أو غير مقنعة كان يزداد حيرةً، فما بالك حين يتم التشهير به بعد ذلك، وهو المكلّف بالإشراف على منظمات حزبية في جولات تثقيفية طاف فيها على مدن وأحياء عديدة ملاحظًا انخفاض مستوى الوعي وتدني الإلمام بأبسط مبادئ "الماركسية" والافتقار إلى المعلومات الأساسية، فضلًا عن تغليب الأوامرية البيروقراطية على الجدل والمنطق والعقل، بحجة الضبط الحديدي والتنظيم الفولاذي.
   لم يقبل الياس مرقص وهو صاحب الرأي المستقل أن يُستغفل عقله وأن يطيع ما لا يرتضيه من سياسات تلقينية وتعليمات فوقية بعضها بدائية، فما بالك حين يتعلّق الأمر بالفكر والممارسة، وكان بدافع من حسن النية قد اقترح توسيع دائرة الديمقراطية الحزبية على حساب المركزية الشديدة التي كانت تطبع الحياة الحزبية لدرجة أشبه بالتنظيمات العسكرية، كما اقترح وضع نظام داخلي جديد، ملفتًا النظر إلى موضوع عبادة الفرد ، لاسيّما ما تركت القيادة الستالينية من أساليب بوليسية وامتداداتها على الحركة الشيوعية برمتها، كما انتقد الماركسية السوفييتية أو "المسيفتة" على حد تعبيره ، وظلّ يدعو إلى تعريب الماركسية، أي جعلها تبحث في واقع العالم العربي وليس بطريقة مجردة أو اقتباسية لأوضاع لا تشبه أوضاعنا، وكان يدعو إلى عدم تجاهل الشروط الموضوعية لتاريخ الأمم والشعوب.
    وفي حديث مطول مع الياس مرقص ونحن على الطائرة عائدين من طرابلس (ليبيا) إلى الشام قلت له "هل يمكن البحث عن تأسيس فكر اجتماعي عربي ماركسي جديد؟ وهنا تناول موضوع البنية الروحية لموروث الشعوب وبيّن أهمية آليات الفهم والتأويل الفلسفي لها بحيث لا نركن إلى القطيعة العقلية مع موضوع الهُويّات والانتماءات القومية وإلا فإننا سنتحدث عن مجتمعات لا نعرفها، قلت له وكيف السبيل للتوليف بين الهويّات العامة الجامعة والهويّات الفرعية؟ فأردف قائلًا في إطار قوانين عامّة نحتاج إلى الاعتراف بالحقوق التي تترتب وفقًا لاحترام الخصوصيات والتّنوع والتعدّدية، ولا ينبغي أن نأخذ النصوص على علّاتها، بل نُخضع كلّ شيء للنقد، لأن النصوص لابدّ لها أن تتكلم وإلّا ستكون جامدة أي بلا روح، وبالتطبيق والممارسة ستكون لها دلالة ومعنى، لاسيّما إذا كانت متساوقة مع المنهج الجدلي، وبالطّبع فلكل تجربة ظروفها وخصوصيتها.
   وهنا أدون رأيي الـذي تبلور خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية، والـذي مفاده أننا تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية للقوى والأحزاب الإسلامية أو "الإسلاموية" وأدرنا ظهورنا للتراث العربي-الإسلامي، كما أهملنا موضوع الانتماء التاريخي لشعوبنا واعتبرناه من اختصاص قوى وأحزاب قومية في الغالب أو "قوموية" وبعضها لم يكن بعيدًا عن ترسانة الفكر الأوروبي، وقد استطاعت هذه الأحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل إنها سحبت الشارع أحيانًا إلى صفها، وهي بعيدة كل البعد عن تحقيق مستلزمات العروبة بتعبيراتها الحضارية والثقافية والارتقاء بمتطلباتها كرابطة طبيعية لأبناء الأمّة وليست ايديولوجيا أو نظام، فما بالك حين انفردت بادعاء الوعي التاريخي بأهميتها كهويّة خاصة ومكوّن أساسي هي من يعبّر عنه ويزعم تمثيله.
   كتبت ذلك منطلقًا من ذات الأرضيّة التي وقف عليها الياس مرقص بما مفاده أنني كنت أعجَب أن شيوعيًا كرديًا يعتزّ بكرديته "كراديتي" ولا يقابله شيوعي عربي الاعتزاز ذاته بعروبته، والأمر كان يحصل لي بذات الدهشة حين أقابل شيوعيًا روسيًا أو تركيًا أو إيرانيًا أو فرنسيًا يعتزّ كل منهم بقوميته في حين لم نكن نجد وسيلة إلّا وحاولنا الانتقاص من الانتماء القومي لاسيّما العربي متبرعين له للآخرين، ولذلك كررت في مناسبات عديدة اعتزازي بعروبتي وكأن الأمر جزء من التعويض عن الحرج الذي يسبّبه أصحابنا الشيوعيين "الأقحاح" حين نتكلّم عن العروبة، دون أن يعني ذلك عدم احترام حقوق القوميات الأخرى، لاسيّما حقها في تقرير مصيرها، وتلك كانت الأرضية التي وقف عليها الياس مرقص.
V
اللقاء مع الياس مرقص
   كانت تلك الموضوعات الأولى التي ابتدأت حواري مع الياس مرقص في العام 1981 حين استكمل تعارفنا، وكانت شهرته قد سبقته وقد قرأت له قبل ذلك وتوقفت بإعجاب عن الكثير من الأطروحات التي بلورها، وكان ذلك اللقاء مدعاة لقراءة العديد من كتبه وحواراته فيما بعد، وخصوصًا الحوار الممتع والشيّق والعميق الذي أجراه الصديق جاد كريم الجباعي مع الياس مرقص، وهو حوار استراتيجي بعيد النظر قدّم فيه أطروحاته الفلسفية على نحو ما أفاضت به تجربته، واطلعت كذلك على حوار غير منشور أجراه طلال نعمة مع مرقص صدر بكتاب وللأسف لم يتسنى لي مراجعته مؤخرًا.
   في أواسط الثمانينات سألني عن أوضاعنا، خصوصًا بعد الاختلاف في المواقف بشأن الحرب العراقية-الإيرانية وقضايا سياسية وتنظيميّة أخرى فضلًا عن بعض القضايا الفكرية، فأجبته "الحال من بعض"، فخاطبني قائلًا: كنت أتصور أن الحال لديكم أفضل، فإذا بكم مثلنا، وهكذا "كلّنا في الهمّ عُرب"، يبدو أن أمراضنا مزمنة وعدواها تنتقل من بلد إلى آخر ولو أنكم في المنافي، وذكرني كيف تعرّض بعد فصله إلى الضرب، مرّة في اللاذقية وأخرى في الشام، وحين عرف ما حصل من تجاوزات وانتهاكات قال: الستالينية متأصلة فينا يا رجل، فهل يعقل إن يتم اتهامي بالعمل لصالح  المخابرات المركزية الأمريكية وفي الوقت نفسه لصالح المخابرات المصرية، لأنني كنت معجبًا بقيادة جمال عبد الناصر وخصوصًا أطروحته الوحدوية بعد تأميمه قناة السويس؟
الياس مرقص: الحاجة إلى قراءة جديدة
   بعد قراءة جديدة لآراء الياس مرقص أستطيع أن أقسمها إلى مرحلتين:
الأولى – من أوساط الخمسينات، حيث بدأ بالتأليف والترجمة وتمتد هذه الفترة إلى أوساط السبعينات، ومن أهم مؤلفاته "الستالينية والمسألة القومية" (مع آخرين) و"نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري" و"نقد الفكر المقاوم".
الثانية – من أوائل السبعينات وحتى وفاته مطلع العام 1991 حين انكبّ على ترجمات كتب فلسفية قاربت 30 كتابًا شملت :هيغل وماركس وفيورباخ ولينين وجورج لوكاش ومكسيم رودنسون وماوتسي تونغ وروجيه غارودي، وقد أنشأ "دار الحقيقة" للنشر، وأصدر في العام 1981 "مجلة الواقع" في بيروت، وقد دعاني للكتابة فيها، وحين أنجزت بحثًا كانت المجلة قد انقطعت عن الصدور بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982، كما ساهم في تأسيس "مجلة الوحدة" مع نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، في العام وقد دعاني وناجي علّوش للكتابة فيها، 1984 وقد ساهمت فيها بعدّة أبحاث ودراسات، وكانت تصدر من الرباط (المغرب) من "المجلس القومي للثقافة العربية"، كما شاركت في ندوات نظمتها أو تعاونت في تنظيمها مع جهات أخرى وذلك في دمشق وأثينا وطرابلس وبيروت.

VI
البراكسيس و"جرد الواقع"
   انشغل الياس مرقص بدراسته الواقع التي يسميها الصديق د.عبد الله التركماني "جرد الواقع"، ولم يهتم بالنظرية فحسب، بل بالتطبيق "البراكسيس" وأي نظرية تبقى "مجردة" دون فحصها بالواقع، وهو معيار صحتها من عدمه وقرب الهدف من الواقع أو بعده عنه، خصوصًا علاقة الغاية بالوسيلة، فلا غايات شريفة دون وسائل شريفة، ولا غايات عادلة دون وسائل عادلة، وإذا كانت الغاية مجردة وبعيدة المدى فإن الوسيلة آنية وملموسة، وأحيانًا تتشابه الغايات، لكن تختلف الوسائل، وهو الأمر الذي يميّز غاية عن أخرى أي بقدر اتساق الوسيلة بالغاية، فذلك سيكون دليل صدقية أخلاقية ومعيارية مبدئية، فالعلاقة بين الغاية والوسيلة ينبغي أن تكون مثل العلاقة بين البذرة والشجرة حسب المهاتما غاندي أي أنها علاقة عضوية وموضوعية وجدلية فلا انفصال بينهما.
   وتوصل مرقص إلى إدراك ذلك ليس عبر النظرية فحسب، بل من ملاحظة الواقع وفي التطبيق العملي (البراكسيس)، فقد درس التاريخ والفلسفة، وكما يُقال أن التاريخ أبو العلوم أمّا الفلسفة فهي أمهم، وبالطبع فلكل علم فلسفة مثلما له تاريخ، كما درس الاقتصاد والاجتماع والمنطق وعلم النفس واللاهوت والفن، ودون أن يهمل الرياضيات، وهو ما جعله مثقفًا موسوعيًا بامتياز دون ادعاء أو حب الظهور.
   لم يهتم الياس مرقص بالمجتمع ويهمل الفرد، وهذا خطل الكثير من النظريات الاشتراكية الماركسية وغير الماركسية، في حين أن الدعوات الليبرالية بالغت بدور الفرد وأهملت المجتمع وهذا خطأ آخر وإنما انشغل بالمجتمع والفرد في آن، والمجتمع مكوّن من أفراد، بينهم مشتركات عامة مثلما بينهم مختلفات خاصة، ولذلك خصّص حيّزًا من دراساته لبحث موضوع "الحق في الاختلاف" باعتباره حقيقة موضوعية، وهو ما عرضه جاد الكريم الجباعي بتطبيقه على الهويّة الجامعة وذلك بالقول " المجتمع الذّي تتحقّق فيه الهويّة القوميّة هو مجتمع التعدّد والاختلاف والتناقض أو التعارض الذّي يصنع التاريخ الداخلي للأمّة" ولذلك فاختلاف الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والشعوب والأقاليم هو السمة المميّزة للمجتمع، لأن المجتمع الذي يلغي حرية الفرد يلغي حريته ذاته.
   ويحتاج الأمر حسب مرقص إلى المزيد من الاعتراف والحرية على المستويين الخاص والعام، وقد ميّز بين الفلسفة والأيديولوجيا، فالأولى عنده هي نظرية المعرفة وهذه الأخيرة بالضدّ من الأيديولوجيا، وهي الأخرى ليست حاملة للحق مثلما نقيضها ليست حاملة للباطل (الاشتراكية وعكسها الرأسمالية) وحسب تعبيره "ليس الأيديولوجيا هي التي تنقصنا، بل المعرفة والثقافة والاخلاق والمنطق."
VII
رُكنا المشروع النهضوي لـ الياس مرقص
   يقوم المشروع النهضوي العربي للياس مرقص على ركنين أساسيين هما:
أولهما- الوحدة العربية وهي حسب وجهة نظره ضرورة تاريخية لا غنى عنها للتقدم العربي، ولكنها لوحدها ليست كافية، ولا بدّ من مضمون اجتماعي واقتصادي وسياسي خاص لها، أي أن تكون الوحدة العربية التّي كرّس لها جزءً مهمًا من مشروعه: اجتماعية الأهداف وديمقراطية الوسائل، وثانيهما- العدالة الاجتماعية وتوفير مستلزمات عيش كريم للمواطن للقضاء على الاستغلال وتحقيق الوفرة المادية والرفاه الاجتماعي.
   ولكن ما السبيل للوصول إلى تحقيق ذلك؟ يقول الياس مرقص: إن الأمر يتعلّق ببناء الوعي العربي، وهذا البناء لا بدّ أن يستند إلى ثلاث رافعات هي: الاولى- الإنسانية والثانية- العقلانية والثالثة- الديمقراطية.
   ثم يتساءل من ينجز عملية الوحدة؟ هل الحزب أم الطبقة أم الفئة المعنية؟ يقول مرقص: الوحدة تنجز عبر حركة الأمة وليس حركة طبقات أو فئات أو أحزاب، ويحتاج الأمر إلى مواجهة التخلّف والتجزئة ودون ذلك لا يمكن إحداث التراكم المطلوب، بما فيه مواجهة الإمبريالية والاحتلال الصهيوني.
   إن الوحدة حسب مرقص "عملية مركّبة" لا تُتَّخذْ بقرار لإلغاء الظروف والاختلافات، سواء بالتوحيد "القسري" العسكري أم بعدم الاعتراف بالتمايزات، وإنما تؤسس الوحدة على الاختلاف والتعدّد، وهو اختلاف بين المجتمعات العربية واختلاف بين الأفراد في كل مجتمع.
   لقد انطلق الياس مرقص بمشروعه النهضوي من الفكري وصولًا إلى السياسي، وحسب تعبيره إن بلادنا لن تنهض إلّا إذا تغلّب فيها الفكري"العقلاني" على السياسي أو السياسوي، والسياسة وإن كانت تعني فعل الخير، فإنّها في نهاية المطاف لا بدّ لها أن تنطلق من العقل والعقلانية، ولذلك يصبح الفلسفي شقيق السياسي، والاجتماعي شقيق المنطقي.
   كابد الياس مرقص من هيمنة السياسة على الثقافة، خصوصًا في الفترة الجدانوفية التي رفعت لواء ما سمي بـ"الواقعية الاشتراكية""، وكان ضد حرق المراحل وفي هذا الأمر كان أقرب إلى بليخانوف الذي انتقد "اشتراكية الدولة" وهي الوجه الآخر لرأسمالية الدولة "السياسة الاقتصادية الجديدة NEP" ، واعتبر مرقص أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن سببه البريسترويكا وإنما السياسات المتّبعة ونقص الحرّيات.
VIII
على هامش الحوار القومي-الماركسي
   في جلسة مطوّلة امتدت إلى الثالثة صباحًا في منزلي بدمشق (المزّة) حدثني عن علاقته بالمفكر ياسين الحافظ التي بدأت في العام 1953، وذلك استكمالًا للحوار الذي دار بيننا في طرابلس، وقد سألته عن هذا التلاقح بين العروبة والماركسية فأشار إلى ما كان يردده الحافظ عن الثورة من "إنها حفرٌ في العمق في حين أن الانقلاب نقر في السطح" وذلك بالعودة إلى موضوع حرق المراحل وأحيانًا استخدام أساليب قسرية ولاإنسانية لتبرير عملية التحول الثوري المنشود بزعم أن العنف أحيانًا ضرورة لا غنى عنها، وهو الأمر الذي دفع روزا لوكسمبورغ لانتقاد لينين وتروتسكي بقولها: الثورة ليست حمّام دم ولكن شيء آخر مختلف وإن دكتاتورية حفنة من السياسيين ستؤدي إلى الهمجية في الحياة العامة وإلى الإرهاب وإعدام المعارضين".
   كان ذلك الحديث على هامش الحوار القومي-الماركسي الذي التأم في طرابلس الغرب (ليبيا) في أواسط الثمانيات والذي شارك فيه نخبة متميزة من السياسيين والمثقفين من التيارين بينهم على ما أتذكر:جورج حاوي وجورج بطل (لبنان) ود. عمر علي (رئيس الدائرة الأيديولوجية في اليمن ورئيس الجامعة) أديب ديمتري(مصر) عبدلله العياشي(المغرب)، عربي عواد (فلسطين)، الياس مرقص(سوريا) وعبد الحسين شعبان(العراق).
   ومن القوميين والنّاصريين بتوجهاتهم المختلفة شارك كل من: محمد فايق، كامل الزهيري (مصر)، عبد الرحمان النعيمي (الجبهة الشعبية في البحرين)، تيسير قبعة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، إنعام رعد(الحزب السوري القومي الاجتماعي) ونجاح واكيم (لبنان)، ناجي علوش(فلسطين) وطلال ناجي (الجبهة الشعبية-القيادة العامة) وسمير غوشة وخالد عبد المجيد(فلسطين- جبهة النضال الشعبي)، عوني صادق (فلسطين)، السفير الفلسطيني في طرابلس(فتح) وممثل عن الجبهة الديمقراطية، وأحمد سالم(اليمن).
   كما حدثني عن لقاءات خاصة مع علي صالح السعدي بصحبة ياسين الحافظ في الستينات من القرن الماضي وكيف تم تأسيس "حزب العمّال الثوري العربي" من قبل مجموعة من البعثيين العراقيين ومن تأثّر بهم ممن تمّ طردهم عشية انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر1963 في العراق ومنهم محسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وحميد خلخال وحمدي عبد المجيد الذي تحدّث عن بعض مزاياه.
   وكنت قد اصطحبته إلى منزلي بعد أن عرفت أنه سيبقى في الشام إلى اليوم الثاني لعدم وجود سيارة(حافلة) إلى اللاذقية، فقلت له ستبقى في بيتك، وهكذا توجهنا من المطار إلى المنزل، وبعد أن استرحنا قليلًا عرضت عليه الذهاب إلى مطعم أبو صيّاح العجلوني بالربوة وهو مكان تاريخي كان يلتقي فيه القوميون العرب في الخمسينات كما هو معروف، وكنت أتردد عليه أحيانًا، وفعلًا ذهبنا إلى المطعم وأكلنا وشربنا وتحاورنا، وعدنا إلى المنزل لنستكمل الحوار، وقد استيقظ صباحًا ليتوجه إلى كراج السيارات، وبعد ربع ساعة اتصل بي مهدي الحافظ وكان قد وصل الشام يوم وصولنا إليها، فسألني أين كنت فقد حاولت الاتصال بك عدّة مرات يوم أمس فأخبرته بأنني عدت من طرابلس  ومعي الياس مرقص فقال لي كنت أود التعرف عليه، فقلت له لقد غادر إلى اللاذقية قبل قليل، وإذا كنت ستخبرني في المرة القادمة عند مجيئك فيمكننا الذهاب إلى اللاذقية واللقاء به وسنأكل السمك اللّذيذ في مطعم سبيرو الشهير على البحر.
رحيل حزين يختلط بالحزن على بغداد
   وصلني خبر وفاة الصديق مرقص حين كانت الطائرات الأمريكية تقصف بغداد، حيث كانت الحرب قد اندلعت في 17 كانون الثاني/ يناير 1991 لإخراج القوات العراقية من الكويت التي احتلتها قوات النظام السابق في( 2 آب/اغسطس، العام 1990)، وأدّت إلى تدمير العراق وفرض حصار دولي جائر عليه.
   كل شيء كان غائمًا ومضببًا وحزينًا، إلّا أن موت صديق ومفكر بمنزلة الياس مرقص كان له حزن خاص، فهذا الرجل الذي غادرنا سريعًا، وهو لم يتجاوز الستين إلّا بسنتين، وكان في ذروة إنتاجه وعطائه وقمّة تألّقه الفكري والإبداعي، اتّسم بصفات الكبار من العلماء فكان متواضعًا وبسيطًا ومتسامحًا ومحبًا للخير،امتاز بالانفتاح على جميع التيارات متجاوزًا الحساسيات والبلوكات القائمة، بل حاول أن يفتح قناطر بينها من خلال مقارباته وحواراته.
   رحل الياس مرقص وهو نظيف الفكر ونظيف القلب ونظيف اليد ونظيف اللسان ونظيف الهندام، رحل المثقف النظيف وهو نموذج للمثقف العضوي الذي تحدث عنه المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي. ولعلّ الوفاء لذكراه هو إعادة طبع أعماله وجعلها بيد القارئ العربي وقد يكون لقراءتها الراهنة نكهةٌ جديدة، خصوصًا أنه سبقنا في آرائه واجتهاداته، وتلك فضيلته الأولى وهو الذي استحق لقب "المثقف الأول".
***



89

سيادة الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش المحترم،

تحية واحتراماً نرسلها إليكم بإسم "الرابطة العربية للقانون الدولي"، وبعد:

لا يصحّ أن يمرّ هذا اليوم التاسع عشر من نيسان 2021 دون مخاطبتكم، ففي مثل هذا اليوم قبل مائة عام بدأ انعقاد مؤتمر إتّخذ قراراً أنتج بموافقة عصبة الأمم عليه، مشكلة تتفاقم منذئذ، وما تزال هي مشكلة فلسطين .

لقد منح المؤتمر بريطانيا "حق" الانتداب على فلسطين دون استشارة أهلها، وقامت بريطانيا بإشراف من عصبة الأمم، ثم بإشراف من منظمة الأمم المتحدة عام 1948، بعملية تغيير ديموغرافي في فلسطين نتج عنها تهجير شعبٍ من وطنه.

قد يقال: هذا أمر تاريخي يعالجه المؤرخون، ولكنّه أمر إنساني لأن المشكلة ما تزال راهنة وقد تُوّجت مؤخراً بفضيحة أخلاقية كبرى قمتم بإدانتها ألا وهي خطوة أقدام الدولة الأولى في تمويل المنظمة التي تتوّلون إدارتها بالموافقة على إعلان ضمّ قسم من أرض سورية إلى أرض كيان قائم بالاحتلال هو "إسرائيل".

قد يقال: كان القانون الدولي يجيز تصرفات كالتي قام بها الإنتداب في فلسطين، إلا أنّ القانون الدولي تقدم وأصبح أكثر شمولاً من الناحية الإنسانية، وإنّما قامت به السلطة الإنتدابية هو بمعيار شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي يُعتبر جريمة ضد الإنسانية، ولاسيما أن أساليب التغيير الديموغرافي القسري التي نفّذتها السلطة الإنتدابية، ما تزال مستمّرة تقوم بها السلطة القائمة حالياً في فلسطين.

وكما تعلمون يا سيادة الأمين العام كان القانون الدولي لا ينكر شرعية الإسترقاق، لكنّ من المرفوض حتماً أن يتساهل اليوم أي أحد مع مثل هذا السلوك، ولا يصح أن يمضي هذا اليوم دون مخاطبتكم يا سيادة الأمين العام.

إنّ هذه الرسالة التي نوّجهها إليكم بإسم الرابطة العربية للقانون الدولي، هي دعوة لكم لكي تعملوا الفكر وتجروا الإستشارات المناسبة لكي يتم ما هو واجب إنساني ألا وهو إفساح المجال لعقد ندوة دولية في مبنى الأمم المتحدة في جنيف، وهو المبنى الذي بارك عملية التغيير الديموغرافي القسري في فلسطين، ونأمل أن تنتظم أعمال هذه الفعالية الحقوقية بتاريخ تموز/يوليو 2022 وهو ذكرى مرور مائة عام على تصديق عصبة الأمم صكّ الانتداب على فلسطين.

أما عنوان الندوة المقترح فهو التالي:"الانتداب على فلسطين: هل هو جريمة ضد الإنسانية؟". وبالطبع يتيح الطابع الاستفهامي للعنوان المجال لمن لا يرى في ما جرى جريمة يتيح له المجال للتعبير عن رأيه.

سيكون من دواعي الغبطة أن نتسلّم ردّكم الذي نأمل أن يكون إيجابياً، علماً بأنّ العديد من المنظمات المدنية والشخصيات القانونية والحقوقية تدعم وتؤيد مثل هذا التوّجه، سواءً على الصعيد العربي أو على الصعيد الدولي.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

                        الرابطة العربية للقانون الدولي
                        السبت 10 - نيسان/أبريل - 2021



90
بابا الفاتيكان في العراق: أي رسائل؟
عبد الحسين شعبان

" فلتصمت الأسلحة وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة" هكذا بدأ قداسة البابا فرنسيس كلامه أمام رئيس جمهورية العراق د. برهم صالح. ودامت زيارته ثلاثة أيام (8-5 آذار/ مارس/ 2021) وكانت قد ابتدأت من بغداد إلى أور مسقط رأس النبي ابراهيم الخليل (أبو الأنبياء) ومنها الى النجف (مرقد الامام علي) للقاء السيد علي السيستاني وبعدها إلى الموصل التي شهدت دماراً وخراباً ووحشيةً لا تُصدّق على حدّ تعبيره اثر احتلال داعش في 10 حزيران (يونيو) العام 2014 والذي استمرّ لثلاثة اعوام ونصف، واختتم زيارته بصلاة مفتوحة في بارك سامي عبد الرحمن في إربيل.
تعتبر زيارة البابا إلى العراق تاريخية بامتياز لاعتبارات كثيرة:
- أوّلها:  أنها أول رحلة للبابا خارج الفاتيكان بعد تفشي وباء كورونا " كوفيد 19" في مطلع العام 2020، ولذلك فإن قراره بإختيار العراق جاء بعد دراسة وتمحيص لاعتبارات عراقية وإقليمية ودولية، مثلما هو لاعتبارات دينية لتأكيد علاقة الفاتيكان بالنجف.
- ثانيها: أنّها الزيارة الأولى للحبر الأعظم إلى العراق، فقد أخفق قبله اثنان من رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في زيارة العراق، حيث ألغى البابا بنيدكتوس السادس عشر زيارته إلى أور لأسباب أمنية، في حين لم يرحّب النظام السابق بزيارة البابا يوحنّا بولس الثاني، وقد توقّع كثيرون أن يتمّ إلغاء الزيارة لأنها تأتي في ظرفٍ عصيب صحي ونفسي وسياسي واجتماعي وأمني في العراق، إضافةً إلى مداهمة الوباء، فضلاً عن استمرار الاحتجاجات الشعبية، كما وأنّ القصف من جانب المجموعات المسلّحة خارج القانون ما يزال هو الآخر  مستمراً على  السفارة الأميركية والمنطقة الخضراء، الأمر الذي قد يحدث ما لا يُحمد عقباه، يُضاف إلى ذلك أنّ تفجيرات حصلت في قلب بغداد (ساحة الطيران) عشيّة زيارته (يناير / كانون الثاني 2021) وكانت أوساط عراقية محدودة جداً قد وضعت علامات استفهام على الزيارة ذاتها معتبرة أنّ لها طابعاً دينياً وإعلامياً ظاهرياً وكانت باطنيّاً ذو أبعاد سياسية واقتصادية.
- ثالثها: ان اختيار البابا زيارة العراق وتوجيه رسائل عديدة منه يعني فيما يعنيه أنّ العراق يشغل مكاناً مهماً في الاستراتيجيات الكونية السياسية والروحية، وهي التي دفعت قداسته إلى الإصرار على زيارته في حين أنّ هناك دولاً مهمة لم يقم البابا في زيارتها مثل روسيا والصين.
- رابعها: إنّ الزيارة بحدّ ذاتها تعني رسالة تضامن مع العراق ككل، خصوصا بعد معاناته لسنواتٍ طويلة من حروب ومغامرات وحصار واحتلال وارهاب.
- خامسها: إنّها حملت رسالة تعاطف وتساند ودعم للمسيحيين في محنتهم المستمرّة، وهؤلاء شعروا بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الظلام والفوضى والتهجير، وأنّ الفاتيكان يقف بكل ثقله معهم وبقوّة، كما حملت ذات الرسالة إلى الايزيديين الذين عانوا أشدّ المعاناة والتي ما تزال مستمرّة، وهي رسالة للأخوّة الانسانية وللتضامن الإنساني.
- سادسها: إنّ الزيارة هي ضدّ التعصب ووليده التطرف، وهذا الأخير إذا ما انتقل من التفكير إلى التنفيذ وصار سلوكاً سيؤدي إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً، وحين يستهدف خلق حالةٍ من الذعر والهلع لإضعاف ثقة الدولة بنفسها وإضعاف ثقة المواطن والمجتمع بالدولة يصير ارهاباً دولياً.
- سابعها: أنّها رسالة ضد الطائفية والتمذهب والدعوة للمساواة والتسامح والسلام، فالعراق كبلد يمتاز بالتنوّع الديني والقومي والسلالي واللغوي، مثلما يمتاز بالتعددية والهويات الفرعية، والتي كانت متعايشة ومنسجمة في التطور التاريخي وعلى مدى قرون من الزمان، الأمر الذي يحتاج إلى تعزيز المواطنة المتساوية والمتكافئة دون تمييز أو تهميش أو استعلاء.
- ثامنها: الرمزية الكبيرة التي تحملها الزيارة، حيث أراد البابا تأكيد أنّ وعد البابا يوحنا بولس الثاني لا يزال حاضراً وأنّه شخصيّاً يريد الايفاء به، ولا سيّما بتأكيد أنّ مسقط رأس النبي ابراهيم هو العراق وأنّه عراقي، وليس عبثاً أن يقول البابا مخاطباً العراقيين "جئتكم حاجّاً" في حين يحجّ إلى الفاتيكان ملايين المسيحيين الكاثوليكيين، ويُمثّل قداسته أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسيحي.
لقد أخطأ النظام السابق حين اعتذر عن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني العام 2000، وكان جواب البابا أن رقّى بطرك الكلدان الكاثوليك إلى رتبة الكاردينالية بحيث أصبح لمسيحيّ العراق حقّ الإنتخاب والترشيح لمنصب البابوية عبر الكاردينال ساكو، علماً بأنّ البابا بولس الثاني في حينها استهجن إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن الحرب على العراق باعتبارها "حرباً صليبية"  واعتبرها حرباً غير مبررة أخلاقياً ودينياً، وهو الأمر الذي أدّى إلى فتور العلاقة بين واشنطن والفاتيكان.
- تاسعها: اللقاء التاريخي بين النجف والفاتيكان، حيث التقى البابا بالسيد علي السستاني أحد أبرز المراجع الشيعة، في تأكيد غير منظور أنّ مرجعية الشيعة هي في النجف تحديداً وليست في قم أو في مكان آخر، والزيارة استمرار ومواصلة للقاء التاريخي بين أهمّ مرجعين روحيين في العالم، يوم اجتمع في أبو ظبي البابا فرنسيس بالدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وكنت آمل أن يزور البابا مرقد الإمام علي  لما له من اعتبارية رمزية وروحانية إنسانية للمسلمين بشكل خاص والمؤمنين بشكل عام، خصوصاً وهو الذي جسّد بُعداً انسانيّاً في رسالته يوم خاطب عامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي بقوله: لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
- عاشرها: إنّ الزيارة وما تمخضّت عنه صبّت في مشروع التلاقي المسيحي - الاسلامي والعيش المشترك معاً في المجتمعات المتعددة الثقافات وعلى المستوى العالمي، فالإنسان أخ الإنسان وقد خلقهم الله جميعاً وفقاً للأديان الإبراهيمية والتوحيدية، ولذلك عليهم أن يأخذوا بعضهم بعضاً بالتسامح وعلى أساس المساواة والكرامة والأخوّة الانسانية، وهو ما جسّدته وثيقة أبو ظبي في 4 شباط (فبراير) 2019 والتي تبنّتها الأمم المتحدة في 22 كانون الأول (ديسمبر) 2020 حيث اعتبر يوم 4 شباط (فبراير) من كل عام يوماً عالمياً للأخوّة الانسانية، بتأكيد حريّة المعتقد والحق في الاعتقاد واحترام هوية كل ديانة لأن الجميع تحت سقف الأخوّة وذلك بتجسيد قيم السلام والتسامح، وهو ما تمنّاه البابا للعراقيين إثر زيارته التاريخية.
إذاً، فلتصمت الأسلحة حسب الحبر الأعظم، ولتكن رسالة الدين وفقهه لخدمة البشر عبر الاخوّة والتفاهم والعيش المشترك بغضّ النظر عن الدين والمذهب واللغة والقومية واللون والجنس، والأصل الإجتماعي وهو ما يُمثّل جوهر الفكرة الكونية للحقوق الانسانية.
لقد احتفى العراقيون بمختلف مشاربهم وإتجاهاتهم وأديانهم وقومياتهم وأفكارهم بالبابا واعتبروا الزيارة مناسبة للفرح والغبطة ولإظهار مشاعر المحبة، وليس الدين سوى الحب، وذلك تعويضاً عن الموت والدمار والتفجيرات والدماء والسبي والخطف، وقبل ذلك الحروب والحصار والاحتلال، هكذا استُقبِلَ البابا بالرقصات والملابس الشعبية والاندفاع لملاقاة الضيف الكبير الذي تشرّفت أرض العراق بحضوره.
وقد استعدت بهذه المناسبة احتفاء النجف بالمفكر المسيحي الأمريكي من أصل لبناني "أمين الريحاني" واستقباله الحار قبل 100 عام تقريباً (1922) من طرف المرجع الديني الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والمراجع الآخرين من أمثال: الشيخ عبد الكريم الجزائري والشبيبيان الشيخ محمد رضا والشيخ جواد، وكان الجواهري الكبير قد أنشد حينها:
      أرض العراق سعت لها لبنان       فتعانق الإنجيلُ والقرآن
وليس عبثاً أن يكتب البابا وبعد مغادرته العراق (8 آذار / مارس/ 2021) : "العراق سيبقى في قلبي أطلب منكم جميعاً أيها الاخوة والأخوات الأعزاء، أن تعملوا معاً متحدّين من أجل مستقبل سلام وازدهار لا يهمل أحداً ولا يميّز أحداً" فعلى الرغم من جلبة الدمار والدماء فقد كان مشهد أشجار النخيل التعويض الرمزي للشموخ الذي رآه البابا وعبّر عن ذلك بأنه يمثّل رمزية الوطن في النمو وفي إتيان الأثمار، وهكذا أيضاً هو الأمر بالنسبة للأخوّة، لكي لا تُحدث ضوضاء لكنها تُثمر وتجعلنا ننمو، كما قال. وقد ترددّت الأجواء بعطر كلماته:
•   الأخوة أقوى من القتل
•   الرجاء أقوى من الموت
•   السلام أقوى من الحرب
•   المحبّة هي قوّتنا
إنّها قيم جديدة للأخوّة واللّاعنف: فالردّ على الحرب ليس حرباً أخرى، والردّ على السلاح ليست أسلحة أخرى، الجواب هو الأخوّة، وبالتالي المحبّة. لعلّ ذلك بمثابة برنامج عمل لكل من يتوق إلى تحقيق قيم السلام والتسامح والعدل، وينبغي أن يتحوّل إلى خطط ملموسة يتمّ الاعتماد عليها بالتربية والتعليم وإعادة النظر بالقوانين والأنظمة السائدة وإصلاح المجال الديني عبر مواطنة حقيقية وبعيداً عن أي إقصاء أو انتقاص للحقوق الإنسانية.


91
ثقافة المواطنة وفكرة الدولة
عبد الحسين شعبان
لم تترسّخ، فكرة المواطنة في الدولة العربية الحديثة بعد، سواءً على الصعيدين النظري أم العملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة)، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسّسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي.   
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كمنجز بشري كبير الأهمية، خصوصاً لجهة حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة بمعناها الحديث ارتبطت بتطوّر الدولة، ولا سيّما خلال القرون الثلاثة الماضية، والأمر يتعلّق بالأبعاد الفكرية والحقوقية والقانونية ووظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الراهنة.
ومنذ القرن الثامن عشر اعتمدت فكرة المواطنة بالدرجة الأساس على بناء الدولة، بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد وقيمة الحرّية، بما فيها حرّية السوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوّراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطوّر مفهوم الديمقراطية الناشئ وقبول مبدأ الاقتراع العام.
    أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى حقوقه المدنية والسياسية التي جرى التوسّع فيها تدريجياً. وقد وجدت هذه الحقوق تأطيراً وتقنيناً دولياً بعد التطوّر الذي حصل على الصعيد العالمي بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، وقد حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر، لا سيّما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية، وهو ما شهدته المجتمعات الغربية التي تبلورت فيها الفكرة بعد صراع طويل وتراكم كبير.
1- معاصرة وحقوق
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمّةٍ في طريق تأمين الحقوق والحريّات المدنية والسياسية، وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحرّيات بالعدالة، وهو الأمر الذي نطلق عليه عنوان "المواطنة العضوية"، أي المواطنة التي تقوم على:
أولاً: قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً: قاعدة الحرّية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها، فهي المدخل والبوابة الضرورية لجميع الحقوق، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملّك والتنقل وعدم التعرّض إلى التعذيب... إلخ .
وثالثا- قاعدة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى العدالة ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن يتحقّق من خلال التنمية، وهو ما نقصده "التنمية المستدامة": السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية إلخ، المستندة إلى قاعدة الحرّيات والحقوق المدنية والسياسية، تلك التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات، لا سيّما التعليمية وتأمين حقوق المرأة و"المجاميع الثقافية" وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
رابعاً- قاعدة المشاركة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي، إذ لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة والحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأي اعتبار كان.
وعلى أساس هذه الحقوق يمكن أن تتعايش هويّات مصغرة (فرعية) مع الهويّة العامة في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق "الأغلبية" من جهة، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى، على أساس التكامل والتكافؤ والتكافل والمساواة، أي التنوع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب. لقد ظلّ الاتجاه السائد في الثقافة المهيّمنة يميل إلى عدم احترام الخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوق "الأقليات"، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو غير ذلك .
وإذا كانت الحرّية قاعدة أساسية للجيل الأوّل لحقوق الإنسان، لا سيّما فكرة المساواة في الكرامة والحقوق، وبخاصة الحق في الحياة وعدم التعرّض للتعذيب وحق اللّجوء وحق التمتّع بجنسية ما وعدم نزعها تعسفاً، وحق الملكية، إضافة إلى الحقوق والحريات الأساسية، فإن الجيل الثاني لحقوق الإنسان، ارتبط بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص لحقوق الإنسان الصادر عام 1966 والتي تشمل حقوق العمل والضمان الاجتماعي والتعليم وحقوق المرأة والطفل والمشاركة في الحياة الثقافية والاستفادة من منجزاتها وغيرها.
أما الجيل الثالث لحقوق الإنسان فهو يستند إلى الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من الثورة العلمية – التقنية. ويمكن اعتبار الجيل الرابع ممثلاً بالحق في الديمقراطية، خصوصاً بإجراء الانتخابات والحق في التنوّع والتعدّدية واحترام الهويّات الخاصة، لا سيّما بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكيك دولها وبخاصة الاتحاد السوفيتي.
وكان مؤتمر باريس المنعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، قد وضع أساساً جديداً لشكل العلاقات الدولية ورسّخ هذا الاتجاه مؤتمر برلين (حزيران – يونيو) 1991 بعد حرب الخليج الثانية، بتأكيد: التعدّدية والتداولية وتشكيل مركز دائم لمراقبة الانتخابات وحرّية السوق، رغم أن القوى المتنفّذة حاولت توظيف هذا التوجه العالمي الإيجابي لمصالحها الأنانية الضيقة .
ولعلّ انكسار رياح التغيير التي هبّت على أوروبا في أواخر الثمانينات عند شواطئ البحر المتوسط، كان بسبب سعي القوى الدولية المتسيّدة في توجيه الأحداث طبقاً لمآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية دون مراعاة لحقوق شعوب ودول المنطقة، الأمر الذي عطّل عملية التغيير، تلك التي جرت محاولات لفرضها من الخارج، ولكن على نحو مشوّه خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول ( سبتمبر ) 2001 الإرهابية التي نجم عنها احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003.
ومثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين المواطنة والدولة، وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة المواطنة ببعدها الكوني وأساسها الحقوقي الإنساني قد اقتربت من المشترك الإنساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والإثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لا سيّما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الإنسانية .
المواطنة تقوم وتستند إلى قاعدة المواطن – الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حرّيته، الأساس في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتعّزيز مبادئ المساواة والحرّية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوّع والتعدّدية من جهة أخرى، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الإنساني في الحقوق والواجبات، وليس بالانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزّز من خلال الدولة، فإنها تغتني وتتعمّق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوّة رصد من جهة للانتهاكات المتعلّقة بالحريّة والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، الأمر الذي يجعله شريكاً فعّالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لا سيّما إذا تحولّت الدولة من حامية إلى راعية ، مرتقية السلم المجتمعي والأمن الإنساني، خصوصاً بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار، والمواطن كإنسان في ظلّ الحق والعدل.
ومثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب "دولتية" أو ما يشابهها في الحضارات القديمة لدول المنطقة، وخصوصاً حضارة وادي الرافدين، وحضارة وادي النيل، وصولاً إلى العهد الراشدي الأوّل وما بعده، أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسّعت وتطوّرت في ظلّ الدولة العباسية، وفيما بعد في إطار الدولة العثمانية في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثّرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لا سيّما بفكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية – الإسلامية، فإن هذا المفهوم وتساوقاً مع التطوّر الفقهي على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، على الرغم من النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً بالتطوّر الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط القرن العشرين، خصوصاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهدين الدوليين، الأول: الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني: الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران في العام 1966 والداخلان حيّز التنفيذ العام 1976، إضافة إلى العديد من الوثائق الدولية، التي أكّدت: أنّ لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول.
ويستخدم مصطلح المواطنة في القانون الدولي، الذي يوازيه مصطلح الجنسية بالتبادل فيما بينهما، حين يتم الحديث عن منح الأشخاص الحق في حماية دولةٍ ما إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنية، تلك التي تشكل ركناً أساسياً في هويّة الفرد – الإنسان، ويمكن تعريف المواطنة الحيوية أو العضوية بأنها " الحصول على الحقوق والتمتع بها بصورةٍ عادلة".
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي أكّدتها المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصّت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، إلاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة، بغض النظر عن أن حالات انعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية  .
ولعلّ المثل الأكثر سفوراً في العالم العربي، هو تهجير الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقّهم في وطنهم، وبالتالي جعلهم عرضةً لحالات انعدام الجنسية. ولا شكّ أن انتشار حالات اللاجئين وسوء أوضاعهم هي التي دفعت الأمم المتحدة إلى إنشاء مكتب للمفوضية السامية للاجئين كإحدى وكالات الأمم المتحدة المسؤولة عنهم وللحد من ظاهرة انعدام الجنسية.
وقد عرف الوطن العربي حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة، تلك التي تشمل أفراداً أو مجموعات بشرية، وذلك بهضم حقوقها أو استلاب إرادتها أو حرمانها من الحصول على "الحق في الجنسية"، كما حصل للمهجرين العراقيين، لا سيّما عشيّة وخلال الحرب العراقية – الإيرانية وقسم كبير منهم من الأكراد الفيليين، إذْ انتزعت منهم جنسيتهم وصودرت أملاكهم في العراق بحجة التبعية الإيرانية، ولم يُعترف بهم في إيران أيضاً، فعاشوا دون جنسية ودون وطن ومواطنة، وهناك حالات أخرى في سوريا، تلك التي يطلق عليها اسم "المكتومين" وغالبيتهم الساحقة من الأكراد السوريين الذين لم يحصلوا على الجنسية، وبالتالي على حقوق المواطنة، وأما حالات "البدون" فهي معروفة في الكويت وبعض دول الخليج التي حرمت عشرات الآلاف من حقوق المواطنة.
إن الكثير من حالات وإشكالات الحرمان من الجنسية في العالم العربي، شملت رجالاً أو نساءً، ولا سيّما الأبناء بسبب الزواج من أجانب، أو من فلسطينيين أو أشخاص بلا جنسية أو في حالات الطلاق، الأمر الذي جعل الأبناء بلا جنسية، إذْ أن الغالبية الساحقة من قوانين البلدان العربية لا تسمح بالحصول على الجنسية عن طريق الأم، الأمر الذي خلق مشاكل لا تتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية حسب، بل بالحق في التعليم والتطبيب والعمل والإقامة، وغير ذلك.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة عن الأفراد والجماعات الذين يمكنها إثبات وجود علاقة حقيقية وفعّالة بينهم وبين بلدهم، سواءً عن طريق رابطة الدم "البنوّة" للآباء، على الرغم من أن العديد من البلدان العربية ما زالت تحجب هذا الحق عن الانتساب إلى جنسية الأم، في حين أن القانون الدولي لحقوق الإنسان يعطي مثل هذا الحق، إضافة إلى إمكان الحصول عليه عن طريق ما يسمّى بـ"الأرض"، أي "الولادة" في الإقليم، أو حتى الحصول على جنسيته ومواطنته لاحقاً أو اكتساب الجنسية، نظراً للإقامة الطّويلة والمستمرّة والتقدّم بطلب إلى السلطات المسؤولة عن ذلك .
وإذا كان انشغال النخب العربية بفكرة "الأمّة الإسلامية" أو "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر وربما في بدايات القرن العشرين، فإن الانبعاث القومي العربي بدأ يتعزّز لاحقاً، حيث بدأت النخبة الثقافية والتنويرية الإسلامية والعلمانية، الاهتمام بالفكرة الحديثة عن الدولة التي تعتبر المواطنة أحد مظاهرها الأساسية، فالشعب والحكومة والأرض والسيادة أركان الدولة وعناصر وجودها، التي تستقيم وتتعزّز في ظلّ احترام الحقوق والحريّات وتكريس مبدأ المساواة الكاملة والمواطنة التامّة في إطار سيادة القانون.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة و"الأقليّة"، وهذه النّظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فـ"الأقلية" قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو "مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الأمور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لا سيّما: الحقوق والمساواة والحرّية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من مفهوم المواطنة، خصوصاً في ظل ضغوط اجتماعية لتشكيلات ما قبل الدولة، وهي في الغالب مسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة حتى في إطار ما يسمّى بـ"الأغلبية" على بعض النخب "الأقلويّة" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو "تسلّطية"، لا سيّما بغياب مبادئ المساواة وتهميش "المجاميع الثقافية" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والاستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة.
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضدّ من تطوّر فكرة المساواة والحرّية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامّة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعدّدية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة .


2-  المواطنة والدولة : التاريخ القانوني
يعود جذر كلمة المواطنة إلى الوطن، وهذا الأخير يكاد يكون ملتبساً أو متماهياً مع مفهوم الدولة، فالدولة هي الإطار التنفيذي والمؤسساتي للوطن، وبالطبع فهي تختلف عن نظام الحكم أو الحكومة بمعنى السلطة.
الوطن هو "المتّحد" الجغرافي الذي تعيش فيه مجموعات بشرية، قومية ودينية وسلالية ولغوية متنوعة ومختلفة. أي هناك (شعباً) يسكن في أرض (الإقليم) ولديه سلطة أي (حكومة) ويتمتع بالسيادة، أي بحقه في حكم نفسه بنفسه. وهذا المفهوم أقرب إلى فكرة الدولة العصرية.
والوطن بهذا المعنى ليس علاقة عابرة أو ظرفية أو مؤقتة، وإنما هو مجموعة العلاقات الإنسانية والعاطفية والثقافية والمادية المحدّدة في إطار هويّة معيّنة عمودياً وأفقياً، فكل إنسان لا بدّ أن يولد في وطن أو أن يكون موجوداً فيه أو منتمياً إليه، ولكن الإنسان لا يولد مواطناً، بل يكتسب هذه الصفة داخل مجتمعه وفي إطار حدود ما نطلق عليه الدولة بالمفهوم الحديث من خلال مشاركته واعتماداً على مبادئ الحرّية والمساواة والعدالة.
والمواطنة في نهاية المطاف هي مجموع القيم الإنسانية والمعايير الحقوقية والقانونية المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، التي تمكّن الفرد من الانخراط في مجتمع والتفاعل معه إيجاباً والمشاركة في إدارة شؤونه، وهو ما نطلق عليه مصطلح المواطنة العضوية .
أما مفهوم الجنسية الذي يرتبط بالمواطنة بوصفها رابطة قانونية وسياسية وأداة للتمييز بين الوطني والأجنبي، فلم يظهر إلاّ في وقت متأخر ويرجعه البعض إلى بداية القرن التاسع عشر ، وقد تعاظم الاهتمام بذلك بتوفير الحماية الفعالة للأفراد.
وإذا كانت الرابطة بين الفرد والجماعة سابقاً تقوم على اعتبارات دينية أو تاريخية "انحدار من أصول معينة" أو الإقامة في رقعة جغرافية بصورة استقرار دائم، فإن العلاقة اتخذت شكلاً آخر في الدولة الحديثة، لا سيّما في إطار فكرة المواطنة.
ففي العهود القديمة كانت الأسرة هي التي تمثل الخلية أو الوحدة التي يجتمع في نطاقها الأفراد، وعن طريق تجمع الأسر تنشأ العشيرة أو القبيلة التي تجمع الأصول العائلية والديانة والاستقرار.
أما مفهوم الأجنبي سابقاً فهو يختلف عن مفهوم الأجنبي حالياً، ففي تلك العهود كان مفهوم الأجنبي هو كل من لا يرتبط مع أفراد القبيلة أو العشيرة بالعوامل المذكورة، مما كان يمكن اعتباره عدواً يستحق القتل أو خصماً يستوجب إبعاده، وظلّت العوامل والأسس العرقية سائدة حتى بعد اجتماع العشائر أو القبائل في مدينة واحدة يحكمها شخص أو مجموعة أشخاص كما هو شأن أثينا وسبارطة، وإذا ما أردنا العودة إلى أبعد من ذلك، فيمكن البحث في الحضارات القديمة، سواء في بلاد الرافدين أو في بلاد النيل أو الحضارة الصينية القديمة والحضارة الهندية القديمة، أو غيرها.
في كتاب "القوانين" يخضع أفلاطون القانون لصالح المجتمع أكثر مما يخضعه للأخلاق السامية المجرّدة. أما أرسطو ففي كتابه "السياسة"، فإنه يؤكد على ضرورة أن تكون القوانين رشيدة وتلائم "مجتمع الدولة" .
كان المواطنون في بعض المدن اليونانية يتمتعون بحقوق المساواة أمام القانون Isnomia واحترام متعادل للجميع Isotimia وحقوق متساوية في التغيير Isogoria، وتلكم هي الحقوق الأساسية التي أصبحت معروفة في عالمنا المعاصر .
لكن ذلك لم يمنع التمييز بين السادة (النبلاء) وهم المواطنون والعبيد وفئة ثالثة هي المحاربون أو الجند. وقد اعتقد اليونانيون بتفوقهم على سائر الشعوب لذلك كانت الحروب والفتوحات هي أساس العلاقة مع الغير، الآخر، الأجنبي.
أما الرواقيون وهم الذين اهتموا بالكون والأخوة العالمية فقد حاولوا أن يربطوا هذه "الحقوق" بعقل الكائن البشري، في محاولة لتحجيم التمييز.
وفي العهد الروماني فقد كان التمييز بين ثلاثة طوائف:
1- المواطنون، وهم الرومان من سكان عاصمة الإمبراطورية.
2- الرومان خارج مدينة روما، ويطلق عليهم اللاتينيون، وإن كان لهم حق التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، إلاّ أن الأمر يتوقف على تجنيسهم.
3- البرابرة أو طائفة الأجانب، وهم سكان المناطق المحتلة الذين يخضعون للإمبراطورية الرومانية، فهؤلاء يتبعون لقانون خاص بهم يسمى قانون الشعوب Jus Gentium وهو يعتبر استمراراً لفكرة القانون الطبيعي اليونانية التي اقتبسها شيشرون من الفلسفة الرواقية، بالتأكيد على مبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه  وفي الواقع فلم يكن رعايا الشعوب يتمتعون بأية حماية قانونية.
وفي القرون الوسطى وبعد تفتّت المجتمع اليوناني – الروماني، لعبت الكنيسة بإمكانياتها وتنظيمها دوراً كبيراً في تنظيم المجتمع، حيث قال القديس أوغسطين الذي عاش في القرن الخامس، وأنتج أعمالاً متميزة أن "العدالة الحقة" لا توجد في دولة ملحدة، مميزاً بين Concordia و Justicia أي بين "العدالة والحق".
وخلال فترة هيمنة الإقطاع ازداد ارتباط الفرد بالأرض بحيث أصبح الشخص تابعاً للإقطاعية التي يحكمها أمير أو سيد إقطاعي يملك الأرض ومن عليها. ففي هذه الحالة اختفى التمييز الذي كان سائداً بين المواطن أو الوطني والأجنبي، حيث كانت سلطة الإقطاعي تنسحب على سكان المقاطعة بكاملها، وكان حكم كل أجنبي أن يغادرها خلال فترة محددة بموجب أمر من الإقطاعي، لكن الأمر اتخذ منحىً آخر بصعود الأنظمة الملكية التي ألغت النظام الإقطاعي، وأصبح الأشخاص يرتبطون بالملك الذي يعتبر حاميهم والمدافع عنهم، في حين كانوا يدفعون له الضرائب ويؤدون الفروض العامة، مرتبطين بشخصه على نحو دائم وأبدي لا انفصام فيه. وقد اتسم عصر النهضة وبخاصة القرنين السادس عشر والسابع عشر باتساع ساحة الفكر السياسي والقانوني لمفكرين كبار مثل جان بودان في فرنسا وهوغو غروشيوس في هولندا وهوبز ولوك في انكلترا وغيرهم.
فقد اهتم بودان بفكرة السيادة في حين أعار غروشيوس اهتمامه للقانون الدولي ولفكرة الدولة والقانون، مؤكداً أن القانون الوضعي يخضع للقانون الطبيعي، وذهب هوبز إلى تأكيده على تلازم الحرّية والضرورة وينبغي على الحاكم أن يسدّ احتياجات الرعية.
أما جان جاك روسو الذي هيأت أفكاره للثورة الفرنسية وبخاصة كتابه "العقد الاجتماعي" ومونتسكيو وكتابه "روح القوانين"، فقد اتخذ اتجاهاً آخر، فحسب روسو في نظرية العقد الاجتماعي، أن للأفراد حقوق قبل أن يكونوا في مجتمع منظم، وأن بعض هذه الحقوق غير قابلة للتصرف وعلى الدولة مراعاتها ليس بسبب شروط العقد حسب، بل بسبب طبيعة الإنسان، في حين دعا مونتيسكيو إلى فصل السلطات باعتباره حجر الزاوية في تحقيق الحرية مشدداً موضوع الرقابة على السلطات، بينما أكّد روسو على مفهوم سيادة الشعب، وإذا كان الناس يولدون غير متساوين، فإنه بموجب العقد الاجتماعي يصبحون متساوين. وقد ذهب الفيلسوف الألماني كانط إلى تأكيد مفهوم الحرية الأخلاقية للإنسان ودور العقل مشيراً إلى إلزام الفرد ببعض التقييدات على حريته تأميناً لحرية الغير .
3 –     الإسلام: جنينية الدولة والمواطنة
إذا كانت هذه المقدّمات ضرورية للتفريق بين حقوق المواطن وحقوق الأجنبي في موضوع الجنسية والمواطنة، فلا بدّ من وقفة سريعة عند تطوّر مفهوم المواطنة في الإسلام، خصوصاً في إطار الدولة العربية – الإسلامية، فالدولة في عهد النبي محمد  بلورت وبخاصة عبر القرآن الكريم قواعد جنينية سياسية ودينية وقضائية لتنظيم المجتمع، كما ساهمت السنّة النبوية أي أحاديث الرسول  في الإجابة على الكثير من الأسئلة التي كان يطرحها المجتمع الإسلامي.
وتطوّر الأمر في عهد الخلافة الراشدية وبخاصة في عهد الخليفة أبو بكر التي دامت نحو سنتين. وترسخت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سواءً ما يتعلق بقضية العطاء في الغنائم أم بامتيازات المواطنة وبخاصة المحاربين، حيث اعتمد الخليفة الأول مبدأ المساواة دون اعتبار للقدم والدخول في الإسلام أو القرابة من النبي  أو البلاء في الحرب من أجل الإسلام، الأمر الذي خلق إحساساً اسمياً بالمساواة، شجع العديد من غير العرب على الالتحاق بالجيش الإسلامي  .
أما أمور القضاء فقد جرى تقاسمها بين الخليفة عمر بن الخطاب  وقضاة متخصصون عيّنهم لهذا الغرض، كما استحدث منصب مسؤول بيت المال، وسنّ عمر عدّة قرارات، منها مراتبية للإعطيات، كما أوجد ديواناً خاصاً بالجند، مشدّداً على مبدأ القِدَم في الإسلام، والبلاء في خدمته، والانتماء العربي كمعيار للمواطنة أو لمفهوم الجنسية المعاصر.
واتّخذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان  التصنيف الذي اتبعه عمر بن الخطاب  دليلاً للانتماء والمواطنة، بل زاد في تضييقه خصوصاً بشأن تفضيل دور قريش التي نالت حصة الأسد في إعادة التعيينات السياسية والعسكرية، وهو النهج الذي حاول الإمام علي  التوقّف عنده، إلاّ أن اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين معاوية، أثّر في عناصر الاستقطاب والولاء، وقد شعر بعض الموالين بالغبن الشديد، بالرغم مما قدّموه للإسلام، فقد جرى "التمييز" بحقهم، في حين دعا الإسلام ويدعو إلى المساواة وفقاً لقول الرسول "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" و"الناس سواسية كأسنان المشط". وهؤلاء رغم "إسلامهم وإسهامهم في دفع الديات والمشاركة في القتال وفي الأمور العامة، فقد أُغلقت دونهم في القرن الأول للإسلام على الأقل الوظائف التي تعني الولاية لا غير، كالإمارة والقيادة والقضاء، وأن تولي بعضهم القضاء فقد ندر من تولى مناصب إدارية وعسكرية هامة" .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً يسعى لبسط نفوذه على العالم أجمع، إلاّ أنه رغم نزعته الإنسانية فقد كان ينظر إلى العالم في علاقاته الدولية انه منقسم إلى قسمين:الأول دار الإسلام والثاني دار الحرب، فالدار الأولى تعني الأقاليم التي يبسط المسلمون عليها ولايتهم، وتضم إلى جانب المسلمين أشخاصاً من غير المسلمين، وهم الذميون والمستأمنون. الذميون هم أهل الكتاب، فضلوا الاحتفاظ بديانتهم الأصلية مقابل دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتعون بالحماية والعيش بأمان، ولكن بشروط في كنف الدولة الإسلامية.
أما المستأمنون، فهم القادمون من دار الحرب إلى دار الإسلام أي إنهم "أجانب" دخلوا إلى دار الإسلام بإذن من الدولة الإسلامية سواءً كان لغرض التجارة أم غيرها  . أي أن هناك فرقاً بين الذمي والمستأمن، فالذمي من رعايا الدولة الإسلامية، احتفظ بدينه مقابل الجزية والأمان، أما المستأمن فهو الذي جاء من دار الحرب لظرف خاص أو طارئ أو مؤقت، والمستأمنون ليسوا مواطنين أو من رعايا الدولة الإسلامية.
ودار الحرب هي التي لا تمتد إليها الولاية الإسلامية، ولا تُطبق فيها الشريعة الإسلامية، بل إن لها نظامها الخاص، وقد انعقدت بين دار الإسلام ودار الحرب معاهدات سلام أو هدنات وأطلق عليها (متعاهدة) أو أنها تكون في حالة حرب مع الدولة الإسلامية.
وإذا كانت هذه المقاربة لمفهوم وتطوّر الجنسية كوجهة نظر معاصرة لفكرة المواطنة أو الرعوية أو غيرها، فإن المفهوم الحديث للجنسية في العالم العربي، لم يظهر إلاّ في سنوات متأخرة بفعل الاحتكاك مع أوروبا وبقصد التمييز بين مواطني الدولة الإسلامية وغيرهم من الأجانب.
وإذا كان مصطلح "المواطنة" و" المواطن" citizen (أي الفرد المشارك في الشؤون المدنية والسياسية بحرية) غريباً تماماً في الإسلام على حد تعبير برنارد لويس فلم تعرفه اللغات العربية والفارسية والتركية، حيث يرجع ذلك إلى غياب فكرة المشاركة للمواطنة، وفكرة المشارك للمواطن، لكنّ هناك من يعتبر وجود المسلم رديفاً لكلمة المواطن الحديث، وهو المصطلح الإسلامي الذي يعني انتماء الفرد في بدايات المجتمع الإسلامي والتمتّع بعضوية كاملة وفورية في المجتمع السياسي بالمعنى الإيجابي للمواطنة النشطة على كونه مسلماً  .
وكان الإسلام الأول وبخاصة في عهد النبي يولي اهتماماً كبيراً لرأي المسلمين، الذين كانوا يعبّرون في لقاءاتهم اليومية لخمس مرات (أوقات الصلاة) في مقر الحكومة أو البرلمان في الجامع (بمشاركة نسوية ملحوظة) عن تبادل الرأي والاستماع إلى رأي المسلمين والردّ على تساؤلاتهم، حيث كان بمقدور أي فرد إثارة أية قضية يرغب فيها، لكن توسّع وانتشار الدولة الإسلامية وامتداد سلطانها إلى أقاليم بعيدة وبخاصة العراق ومصر، اضطرّ هؤلاء إلى تصريف أمورهم بأيديهم بعيداً عن الرأي اليومي والحوار المستمر بين مركز الدولة وقيادتها العليا وبين المواطن، وتدريجياً بدأت البيروقراطية والمؤامرات السياسية تبعد المواطن (المسلم) عن المشاركة في تصريف أمور الدولة .
وظلت فكرة التمييز بين حقوق "المسلم" و"الغريب" أو "المقيم" من غير المسلمين مستمرة حتى العصر الحديث، حيث تداخلت ايجابيا لصالح الأخير بفعل ضغوط غربية للحصول على ما يسمى بنظام الامتيازات Capitulation من الدولة العثمانية للأجانب وبخاصة للمسيحيين، حيث كان الغرب يعلن الرغبة في توفير حماية خاصة لهم ورعاية مصالحهم الدينية والسياسية، وهو ما أعطى انطباعاً أحياناً بأن غير المسلمين الذين حظوا بدعم الغرب تجاوزوا خط الدفاع عن مبدأ المواطنة الكاملة أو المتساوية مع غير المسلمين، إلى الحصول على امتيازات تحت حماية القوى الأجنبية، علماً بأن حلف الفضول، الذي نعتبره مع الدكتور جورج جبور أول رابطة لحقوق الإنسان (590 – 595 ميلادية) أكّد على التزامات لفضلاء مكة المجتمعين في دار عبدالله بن جدعان، فحواها: أن لا يدعوا مظلوماً من أهل مكة (أي مواطن) أو من دخلها من سائر الناس (أجنبي) إلا ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق إليه، وقد تأسّس الحلف إثر ظلامة لحقت بتاجر يمني في مكّة، فاجتمع الفضلاء لنصرته.
ويعتبر حلف الفضول الحلف الوحيد الذي أبقاه الرسول  بعد قيام الدولة الإسلامية من بين أحلاف الجاهلية، وقد جاء على لسان النبي يقول: شهدت مع أعمامي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، لو أنني دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت .
ربّما يعود جزء من ذلك إلى أن بعض المواقف الإسلامية لم تكن "توافق" أو تؤيّد فكرة إقرار مبدأ المواطنة الكاملة صراحة لغير المسلمين، وهو الموقف الذي انعكس لدى البعض من موضوع القوميات والأقليات الدينية والإثنية واللغوية والمذهبية أحياناً، ولعلّ موقف بعض القوى التقليدية المتشددة كان الأقرب إلى هذه المواقف، ونعني بها الموقف الملتبس والذي لا يقر مبدأ المساواة التامة والاعتراف بحقوق الغير في المواطنة الكاملة ضمن القواعد المعترف بها في القانون الدولي ولوائح ومواثيق حقوق الإنسان .
يمكن القول إن تطوراً بطيئاً حدث باتجاه إقرار حق المواطنة الكاملة لدى بعض المفكرين الإسلاميين، على الرغم من أن المسألة لا ترتقي إلى الحق الدولي المنصوص عليه في لوائح حقوق الإنسان، وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من المفكرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي وطارق البشري وسليم العوّا وأحمد كمال أبو المجد وراشد الغنوشي ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله  وغيرهم.
ورغم محاولات التجديد فإن الاتجاه الإسلامي السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة التي يقصرها على الانتساب الديني والإقامة، فالمسلمون غير المقيمين في الدولة الإسلامية وغير المسلمين المقيمين فيها لا يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، وربما يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، لكنهم لا يصبحون مواطنين بالكامل ولا يحق لهم تسلم مناصب رئيسية في الدولة مثل رئاسة الدولة ورئاسة القضاء ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش وغيرها .
أما التجربة الإسلامية، فيمكن التوقف عند الثورة الإسلامية الإيرانية التي أحدثت في العام 1979 انعطافاً جديداً  استلام الإسلام السياسي للسلطة، حيث أنشأت مؤسسات متساوقة مع الموجة "الديمقراطية": برلمان وانتخابات رئاسة ومنذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية خرجت من مرحلة الثورة، لتدخل مرحلة الدولة، ولم يكن ذلك بمعزل عن صراع سياسي وفكري حاد داخل أوساط التيار الديني، وقوفاً ضد التيار الإصلاحي الذي قاده السيد محمد خاتمي، في ظل تصاعد موجة شديدة للتيار المحافظ الذي يحاول إحباط خطط التغيير والإصلاح... إلخ، لكن شرط الدستور الذي نصّ على التحدّر الفارسي واجه انتقاداً شديداً لاستثنائه المسلمين غير الفرس في الترشّح لرئاسة الجمهورية، ناهيكم عن الشروط الخاصة بولاية الفقيه أو مجلس صياغة الدستور أو تشخيص مصلحة النظام، وهو ما ينتقص من مبدأ المواطنة والمساواة.
أما التجربة الثانية فهي التجربة السودانية التي جاءت إلى الحكم عام 1989 وقد سارت نحو تقليص التعددية السياسية والفكرية والدينية واللغوية عملياً، لكن الدستور أقرّ في العام 1998 حاول الانفتاح باتجاه إقرار مبدأ المواطنة، بغض النظر عن الدين، لكنه ظل محافظاً من حيث الجوهر على الخصائص العامة لتوجهات الحكم الإسلامي، وهو على غرار دستور إيران يحتوي على بعض الشروط الإسلامية التي تقر بصيغة للمساواة النظرية دون أن ترتقي إليها فعلياً أو تقاربها .
   ولعلّ تطوراً خطيراً  حصل في مصر بعد ثورة 25 يناير العام 2011 والإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك، حيث نجح "الأخوان المسلمون" في الانتخابات وحاولوا "أخونة" الدولة و"أسلمة" الدستور، الأمر الذي أثار ردود فعل شديدة ضد هذا التوجه، فقد سعوا إلى قيام دولة دينية محكومة بالشريعة وإن كان بالتقسيط، ولأنهم كانوا أغلبية في لجنة صياغة الدستور، فقد حاولوا فرض توجههم ، وبالفعل  فقد تم الاستفتاء على الدستور العام 2012  في ظلّ هيمنة شديدة على المشهد السياسي التي كرّست نهج الإقصاء والانعزال الذي اتسم بالغرور وعدم الواقعية.
   وهو ما دفع الشعب المصري لتصحيح مسار الثورة في 30 حزيران (يونيو) والتي توجت بعملية التغيير التي قادها الجيش في 3 تموز (يوليو) 2013. وهكذا تم إلغاء دستور الأخوان بعد استفتاء جديد على دستور آخر أعدّته لجنة دستورية متنوّعة ضمّت 50 عضواً، حيث تم عرضه على الاستفتاء في العام 2014 فحاز على الأغلبية الساحقة (98% من المصوتين الذين بلغت نسبتهم 38%)  .
   أما في تونس ، فعلى الرغم من أن حزب النهضة كان قد فاز بالانتخابات إلا أنه كان يخشى أن يتكرر معه المشهد الأخواني المصري، ولهذا السبب حاور وداور وناور لإبعاد شبح تنحيته ، علماً بأن الدستور التونسي الذي تم إقراره في 26 كانون الثاني (يناير) 2014 يعتبر متقدماً على جميع الدساتير العربية ، خصوصاً بإقراره صيغة الدولة المدنية، وكان ثمرة من ثمرات دينامية المجتمع المدني التونسي التي ضمّت بشكل أساسي اتحاد الشغل ونقابة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
   وفي العراق  فقد تحوّلت الدولة العراقية بعد العام 2003 من دولة بسيطة إلى دولة مركّبة ومن دولة مركزية إلى دولة اتحادية " فيدرالية"، وذلك وفقاً لـ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية والدستور الدائم فيما بعد، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005 . وعلى الرغم من أنه اشتمل على إيجابيات تتعلق بالحقوق والحريات ومبادئ المواطنة واستقلالية القضاء وتداولية السلطة وإقرار التعددية، لكن الألغام التي احتواها والقنابل الموقوتة التي في داخله يمكن أن تنفجر في أية لحظة، خصوصاً في ظلّ فشل العملية السياسية التي تأسست منذ الاحتلال إلى لحظة كتابة هذه الدراسة .
   فحتى الآن ثمة عقبات جدّية داخلية وخارجية وقفت في طريق تحقيق المواطنة المتكافئة من أبرزها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي كرّسها الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر في مجلس الحكم الانتقالي، والتي تم تثبيتها في الدستور الدائم تحت عنوان "المكوّنات" وهي التي وردت في الديباجة (مرتان) والمواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى وجها آخر للصيغة الأولى.
   وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية منها اليمن وليبيا وسوريا وآخرها في العراق ولبنان أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والسلم، إلى وضع  الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
   وفي الختام فإن أي مواطن معني بثلاث قضايا: علاقته بالدولة كيف تؤطر، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيراً مسؤوليته كعضو فاعل في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، باعتبار أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيه. وتتكوّن هويّة المواطنين من السمات المشتركة والجامعة خارج دائرة الأيديولوجيات والأديان والطوائف، وهي هويّة غير استناسبية وغير دوغمائية أو أيديولوجية، بل عفوية تلقائية صميمية ، من خلال المشتركات والقيم التي يجتمع المواطنون عليها، وبالطبع فاللغة ركن أساس من أركانها والذاكرة المشتركة والتاريخ المشترك والدين والعادات والتقاليد والآداب والفنون التي نشأوا عليها.
   أما صفة المواطنة فهي تلتصق بالمدنية وهو ما جاء في لسان العرب، فالوطن هو المشترك ومكان الإقامة ، سواء ولد فيه الإنسان أم لم يولد، والمواطنة أساسها المعايشة والمشاركة في هذا الوطن، أي المشاركة في العيش معاً، والتي يترتب عليها مسؤوليات اجتماعية وثقافية تتجاوز مسألة الأرض، لأنها تشمل العلاقات ونمط العيش والتفكير والحقوق، ناهيك عن شكل من أشكال الارتباط في إدارة الشؤون العامة ، وتحتاج هذه إلى برامج عمل ثقافية وتربوية وتعليمية لتحديد مكوّناتها وأسسها مثل: العلاقة بالمكان، العلاقة بالأشخاص الذين يسكنون هذا المكان ، العلاقة بمن يحكم هذا المكان ويدير الشؤون العامة أي علاقة المواطن بالدولة وذلك جزء من ثقافة المواطنة التي ينبغي أن تنمّا من خلال تنمية فكرة الدولة وتعزيز مشروعيتها بسيادة القانون وشرعيتها من خلال رضا الناس ومنجزها التنموي .







92
ظلّت طنجة الحلم الذي يُداعب عيونه
الجواهري وحكاية "طوق الكفاية الفكرية"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي

في تموز (يوليو) 2019 لبّيتُ دعوة كريمة من "مؤسسة المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغيّة بطنجة" المعروف بـ"مهرجان ثويزا" للمشاركة في مجموعة محاضرات عن "كارل ماركس... اليوم" مع نخبة من مفكّرين ومثقّفين مغاربة وعرب، بينهم عبدالإله بلقزيز وفوّاز طرابلسي ونور الدين العوفي. وما أثار انتباهي في تلك المدينة التي أطلق عليها الشاعر الكبير الجواهري "مدينة الغنج والدلال" والتي أزورها على نحو مستمر منذ ربع قرن من الزمان هو الاحتفاء الكبير بماركس وتفاعل الجمهور المتطلّع إلى رؤية استشرافية نقدية جديدة له ولأعماله أيضًا وللتجربة السالفة بما لها وما عليها من محاولة تلمّس طريق جديدة وأساليب جديدة.
عودة ماركس
وكنتُ قد بدأت محاضرتي الموسومة "عودة ماركس" بالحديث عن الشاعر محمد مهدي الجواهري، وقصيدته عن طنجة التي "ينطلق الليل من جفنيها وينفرج الصبح عن نهديها" وقد وعدت القارئ العودة إلى حكاية الجواهري مع المغرب المثيرة والملتبسة خلال زيارته اليتيمة  تلك العام 1974، والتي حرّكت بعض الأوساط لتوجيه انتقادات شديدة للجواهري، تارة لاتّهامه بأنّه مدّاح الملوك وأخرى ليساريّته، مثلما استهدف بعضها دقّ إسفين بينه وبين السلطة في بغداد التي دعته للعودة من غربته التي دامت 7 سنوات عجاف على حدِّ تعبيره، وكرّمته ومنَحته راتبًا شهريًّا يرقى إلى راتب وزير في تلك الأيام، ولأنّ ذلك أغاض بعض الأوساط داخل السلطة وخارجها، فانبرى قسمٌ من الأدباء والمثقّفين العرب، بتحريض وتأليب مباشر أو غير مباشر لشنّ حملة عليه، وهو ما سنأتي للحديث عنه.
أمّا قصيدته عن طنجة فيقول فيها:
للهِ دَرّكِ "طَنْجُ" مِن وطنٍ      وقفَ الدلالُ عليهِ والغنجُ
الليل عن جفنيك منطلق       والصبح عن نهديك منفرجُ
تتخالف الألوان في شفق      ويلمّـها غـسق فـتـنـمزجُ
قلتُ مقتفياً أثر الجواهري في تلك الأصبوحية التمّوزيّة أنّ طنجة التي تحتفي اليوم بعودة ماركس، وإن تخالفت الألوان في شفقها، لكنها تعود وتلتئم في غسقها بامتزاج عجيب، وهكذا هي الرؤى حول ماركس، الذي يبقى الحلقة الذهبية الأولى في "التمركس" وبين "الماركسية" من بعده، أي "المادية الجدلية" وصنوها "الماديّة التاريخيّة"، خصوصًا بالبراكسيس والتجربة العمليّة وما أفرزته، بما ينسجم ويتناسق مع تطورات عصرنا وعلومه، علماً بأنّ العالم يدخل اليوم الطور الخامس من الثورة الصناعيّة في ظلّ العولمة، بتكنولوجيا الإعلام والمعلومات وثورة الاتصالات والمواصلات والقفزة الرقميّة "الديجيتيل" والتحوّل في "منظومة القيم في العصر الرّقمي"، وهو عنوان آخر لقراءة ماركس... اليوم.
محمد شكري
لا يمكن ذكر طنجة دون استحضار الروائي المغربي محمد شكري "الشحرور الأبيض" وغوايته، وخصوصًا روايته الذائعة الصيت "الخبز الحافي" التي اشتهرت مثل حياته المثيرة، فضلًا عن "مطعم اللونغوستينو" الذي كان مستقرًّا له، خصوصًا في آخر أيّامه لقربه من شقّته والذي أصبح لاحقًا "مطعم الخبز الحافي" وهو أقرب إلى متحف يضم آثار محمد شكري ويؤرّخ لحياته لما فيه من وثائق ورسائل وصداقات وقصاصات، وفي كل زيارة لي إلى طنجة لا بدّ أن أحتسي كأساً من النبيذ فيه؛ وبالمناسبة فقد كان المهرجان المتوسطي قد أعدّ حلقة أكاديميّة لنقد أعمال محمد شكري، وقد تسنّى لي حضورها كاملة والاستماع إلى المناقشات الراقية التي تخلّلتها.
لم يكن الجواهري وحده المعجب بطنجة والراغب للإقامة فيها، فقد سبقه فرانسيس بيكون الفيلسوف ورجل الدولة الإنكليزي (1561 - 1626) وتينيسي ويليامس الكاتب المسرحي الأمريكي (1911 – 1983) وترومان كابوتيه الروائي الأمريكي (1924 - 1984) وصموئيل بيكيت الكاتب الأيرلندي (1906 - 1989) وجان جنيه الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي (1910 - 1986) ورولان بارت الفيلسوف الفرنسي (1915 - 1980) وويليام بوروز الكاتب الأمريكي (1914 - 1997) وباول بولز المؤلف والمترجم الأمريكي (1910 - 1999).
عروسة المغرب
في طنجة يتعاشق البحران حيث يلتقي البحر المتوسط مع المحيط الأطلسي(باب العبور إلى القارتين) وبالقرب من مالاباطا (رأس المنارة) و"مغارة هرقل"، وفوق التلال المتعرّجة، يواجهك فضاء لا حدود له فحتّى الشمس، ولا سيّما وقت الغروب، تتحول إلى كرة برتقالية متوهجة مائلة إلى الاحمرار، أمّا الغيوم فلونها فضّي مطعّم باللازورد، ويبقى سوق طنجة الداخلي مقصد السيّاح حيث رائحة السمك تفوح من جانبيه، مثلما يكتظّ الباعة بشتّى الأنواع من البضائع والسلع والعطور والبهارات والأقمشة والمصنوعات الشعبية والثياب الجميلة.
مقهيان
مقهيان لا يمكن زيارة طنجة دون الجلوس فيهما، وقد يطول هذا الجلوس ويتكرّر، أحدهما وسط المدينة "كافّيه دي باريس" قبالة القنصليّة الفرنسية، وفيه واجهة خارجيّة مطلّة على الساحة وعلى شارعين متّصلين بها، مثلما لها أماكن جلوس داخليّة، وقد علمت أنّها  مسجّلة في قائمة اليونسكو ضمن الأماكن التراثية المطلوب الحفاظ عليها، وقد كان الجواهري الكبير معجباً بها وقارنها حينها بمقهى سلوفانسكي دوم التاريخي أو مقهى أوبزني دوم في براغ، على الرغم من أنها ذات نكهة أخرى.
وهناك مقهى "الحافة" الذي يطالع مضيق جبل طارق والذي كتب محمد شكري روايته "الخبز الحافي" فيه، وكان العديد من الأدباء قد زاروا هذا المقهى التاريخي الشهير ومن هؤلاء ألبرتو مورافيا ولوركا وجاك كروال وجان جنيه وشون كونري وبول بولز والطاهر بن جلون وأدونيس وسعدي يوسف وبلند الحيدري ومحمود درويش ومارسيل خليفة وآخرون، كما ارتاده الجواهري متطلّعًا إلى أُفق لا حدود له باتجاه الأندلس التاريخيّة وشاعرها ابن زيدون الأندلسي، حيث كان يرى من هناك إسبانيا بأضوائها التي لا تبعد أكثر من 20 كلم.
استذكار
استعدّت مع الشاعرة والمستشارة الثقافية المغربية وفاء العمراني زيارة الجواهري إلى المغرب، وما تركته من أجواء إيجابية،  وسألتني عن بعض الملابسات التي سمعتها، وبالضبط ماذا حصل وكيف ولماذا؟ وذلك في جلسة بحضور الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار، التي هي الأخرى مغرمة مثلي بالمغرب عموماً وبطنجة وأصيلة خصوصاً، حيث يختلط الأدب بالفكر والبحر والجمال بالحرية والفن، وكان جوابي لهما أن تلك الزيارة والحفاوة الكريمة من المملكة المغربية أثارت ردود فعل معاكسة لدى بعض الأوساط العراقية والعربية، التي حاولت النيل من الجواهري همساً أو جهارا،ً وبالنميمة تارةً وأخرى بالتأليب حسداً، مثلما تركت ندوبًا غير قليلة على الجواهري ومزاجه، وظل مهجوسًا بردّة الفعل التي تسبّبت بها تلك الحملة، لا سيّما محاولات الإساءة الرخيصة والاستهداف المقصود.

أصل الزيارة - أصل الحكاية
الحكاية كما رويتها في كتابي "الجواهري جدل الشعر والحياة" وأحتفظ بتفاصيل أخرى أنّ موسى أسد الكريم "أبو عمران" أخبر الجواهري، بأن الدكتور بهاء الدين الوردي، وهو من عائلة الورد الكاظمية المعروفة، يريد التعرّف عليه واللقاء به، ولأن هناك كثرة كاثرة كانت تكدّر على الجواهري خلوته وتقطع عليه تأملاته وتداهمه أحياناً في المقهى ودون موعد وحتى دون أن يعرف مَن هم، فقد اعتذر، وحين كرّر موسى أسد المحاولة، غضب الجواهري جدًّا وأقفل السمّاعة بوجه الكريم، قائلًا له: لست فِرجة ليأتي الناس ويلقون النظر عليَّ، وكنت حينها في منزل الكريم القريب من منزل الجواهري في منطقة بتشيني – براغ (6)، لكنّ ذلك لم يثني الكريم من محاولة الاتصال بالجواهري مرّة أخرى، وحاول أن يشرح له علاقة الضيف بعالم الاجتماع عليّ الوردي، الأمر الذي استشاط الجواهري غضبًا أكثر وانفعالًا أشّد، علمًا بأنّني حذّرته من ردّة فعل الجواهري وانفعالاته، لكنّه حاول للمرّة الثالثة انطلاقًا من معرفته بالجواهري و"ميانته" معه، وثقته بنفسه وقدرته على إقناعه، وبالفعل نجح بذلك، فقد طلب من الجواهري الاستماع إليه إلى النهاية قائلًا له: إنّ بهاء الدين الوردي أديب أيضاً وقد عاش في فرنسا ودرس فيها وتخرّج منها وهو يحمل الجنسيّة المغربية ومقيمٌ في المغرب منذ تخرّجه في العام 1955 ومتزوج من فرنسية، إضافة إلى كونه طبيباً للعائلة المالكة واختصاصه بالأمراض النسائيّة، وهو في زيارة إلى براغ ويدعوك لزيارته في المغرب.
مطعم كوزموز
وبعد تردّد وانتظار حزم الجواهري أمره فبادر هذه المرّة هو إلى دعوة الضّيف وزوجته ومعهما أبا عمران إلى مطعم "كوزموز" القريب من منزله على العشاء، وقد استلطف الجواهري تلك الجلسة الحميمة وكرّر الوردي دعوته المفتوحة للجواهري لزيارة المغرب. وبعد عدّة أسابيع سأل الجواهري أبا عمران عن الدعوة، وبادر الأخير للاتصال بالسفير العراقي نعمة النعمة الذي أصبح وكيلاً لوزير الخارجية بعد ذلك سائلًا إيّاه بطريقته المملّحة: "هل تذهب الطائرة العراقية من براغ إلى كازابلانكا؟"، وهنا فهِمَ السفير اللمّاح، القصد وأوضح له أبا عمران أنّ الجواهري يروم زيارة المغرب، فقال له بالحرف الواحد: إذا قرّر الجواهري زيارة المغرب، فالطائرة العراقية ستصل بالطّبع إلى هناك بكل ممنونية وبعد أيّام أرسل تذكرة بدرجة رجال الأعمال للجواهري من براغ إلى الدار البيضاء ومنها العودة إلى براغ، وبالطبع ليس على الطائرة العراقية.
حين تحدّد موعد السفر أعطى الجواهري خبرًا للوردي عبر موسى أسد الكريم بموعد وصوله، والأخير بحكم علاقاته الوثيقة وصداقاته المتنوّعة ومكانته في المغرب تواصل مع الصحافة، لدرجة أنّ الجواهري فوجئ باستقبال مهيب وغير متوقع في المطار، واعتبرته وزارة الدولة للشؤون الثقافية والدينية ضيفًا عليها، في حين كان هو يرغب بزيارة شخصية. وتلك أصل الحكاية، وقد قوبل الجواهري بحفاوة بالغة واهتمام غير عادي، بما في ذلك من جانب البلاط، وقد أقام له الأديب الحاج امحمد أبا حنيني حفل عشاء بمنزله في 17 حزيران (يونيو) 1974 المصادف 27 جمادى الأولى 1394هـ، دعا إليه نخبة متميّزة من رجال الفكر والثقافة والأدب احتفاءً بالشاعر، كما حضر بعض الوزراء وعدد من سفراء الدول العربية.
طوق الكفاية الفكرية
وباسم جلالة الملك الحسن الثاني وشّح الوزير أبا حنيني الجواهري بوسام "طوق الكفاية الفكرية" وألقى كلمة عبّر فيها عن الأثر البالغ الذي خلّفته زيارة الجواهري للمغرب، وبادله الجواهري بكلمة جوابية عبّر فيها عن شكره لجلالة الملك على هذه الالتفاتة الكريمة، وألقى قصيدة بهذه المناسبة، كما تلقى تهاني الحاضرين، وكان قد شرع حينها بنظم قصيدة جديدة.
وجاء في كلمة "أبا حنيني":
 حضرة الشاعر الأعزّ الأكرم، شاعر المجد وشاعر اللّفظ وربّ المعاني الدقاق محمد مهدي الجواهري؛ كلّفني صاحب الجلالة الحسن الثاني أطال الله عمره وأبقى الخافقين ذكره أن أُنيط بعنقك"طَوق الكفاية الفكرية" تقديرًا منه لآثارك وكفايتك، وهو العاهل الأديب العالم بأسرار الإبداع أيّة ما كانت مرابعه ومغانيه وأزياؤه ومبارحه... فما أعظم سعادتي بهذا التكليف وهذا التشريف؟
ويواصل أبا حنيني كلمته بالقول: ... لأنّك أغنيت لغة آبائك وعشيرتك وأعليت مكانها بين اللغات ورفعت مقامها إلى ذروة الاعتزاز وقمّة الابتهاء وأنت تجلو وترسم المشاعر وتبث الحقائق والخواطر وتنشر الأفكار والألحان وتنظم اللئالي والجواهر، كما يعبّر عن لقاء المغرب بالعراق مخاطبًا الجواهري بالقول "في شخصك الباسط جناحيه على بلاد العروبة من أقصاها إلى أقصاها، وفي أشخاص محبّيك وأخوتك من هذا الوطن الذي ظلَّ عبر القرون وسيظلّ بعون الله على مدى العصور معقلًا حصينًا من معاقل العروبة ومركزًا مرموقًا من مراكز إشعاع الفكر والثقافة".
واختتم كلمته البليغة بقوله: "سيطول ذكرك بيننا أيّها الأخ الأعزّ الأكرم وسيمتدّ بامتداد الأجيال والأزمان وما أجدر هذه البلاد التي أصفت لك المودّة وأخلصت لك الإعجاب أن تذكرها فيما تذكر من أقطار ويحدوك الحنين إلى العودة والمآب...".
وردّ الجواهري بكلمة مؤثّرة وبليغة جاء فيها:
 "سيّدي ممثل جلالة الملك المعظّم.. يا معالي الأستاذ الجليل الوزير الأديب العالم أبا حنيني، إنّ لساني لقاصر عاجز عن التعبير عمّا تجيش نفسي به من أحاسيس ومشاعر وعواطف يزدحم بعضها البعض ويطفئ الواحد منها على الآخر، وأنّ مثل هذا الموقف الكريم النبيل الذي تقفونه منّي ممثّلين به تكرّم صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني العظيم عليَّ فيما يشرّفني به من هذا الوسام الرفيع "وسام الكفاءة الفكرية" وسام من ملكٍ جليل، هو بحدِّ ذاته شرَفٌ عميم، فكيف به وهو يحمل معه شرفًا ما أعظمه وما أجلّه، شرف أنّ حامله المتشرّف به ذو كفاءة فكرية، وأنّ الذي يشهد عليها هو أعلى مقام في هذا الوطن المغربي العظيم الزاخر بكل الكفاءات الخيّرة النيّرة وفي كل مجالات الفكر...".
وبعد أن أعرب عن قبوله تسلّم هذا الوسام الرفيع، شكرَ صاحب الدعوة أبا حنيني على الحفاوة وقال: إنّ هذه المناسبة الكريمة والتي حسبتها كرَمًا وحسبي تكريمًا أن تكون على يدكم وفي هذه الدار العامرة مع التماسة برفع ما لمستموه بأنفسكم من انفعالات معبّرة بما لا يعبّر عنه اللسان ولا القلم إلى مقام صاحب الجلالة.
ثمَّ أنشد الجواهري:
يا سيّدي... صاحب التاج الذي اعتمرت
            به الخلائق من فهر ومن مضرِ
ويـا وديـعـة اقـبـال مـحـمّـدة
                             بـهـا تنزل " آيا" مُحكم السّور
ويا حفـيـظ حـضـارات مـورقة
                            ما زلت تطلع منها أطيب الثمرِ
تبقى... وتبقى مدى الآمـاد نافـحـة
                            بما نفحت بها من ذكرك العطرِ
قلّدتني من نجوم الفـكـر أروعـهـا
                           فليجزينّك عـنه أروع الفـكـرِ
وما عسى أن يقول الشـعـر في ملـك
                           غنى به شعراء البدو والحضـر
*****
يـا أيـّهـا الحـسـن الثاني... يئلنها
                           ولاة عهدكَ من أخلاقك الغـرَرِ
عهدتني قبل أن ألـقـاك مبـتـكـرًا
                           أما لديك فإنّي غير مبـتـَكـَرِ
لم ألِف صورة حسن اسـتـجـاش بها
                           إلّا وعندك منها أحسن الصـور
ما عاقني غير لطف مـنك قـيّـدنـي
                           إني لفَرطِ ابتهاج منه لـم أطـرِ
سلـمتَ ذُخـر تـراث أنت رونـقـه
                           يا خير مـدّخرٍ... عن خير مدّخرِ
هنا.. هنا.. يا رسول الشِّعر في خـضل
                           من الجنائن مدح ملهم... نـضـِرِ
في ظل ملك يعيد الشِّـعر مـزدهـرًا
                            وظل شعب لهديٍ منه مـزدهـرِ                   
"أرح ركابك من أين.. ومن عـثـر
                            كفاك جيلان محمولًا على خطـر"ِ

وقد اقتبس البيت الأخير من قصيدته الرّائيّة الشهيرة التي ألقاها في الاحتفال الذي أقيم له في كازينو "صدر القناة" في 3 كانون الثاني (يناير) 1969 بعد عودته من منفاه وكان قد حظي باهتمام رسمي وشعبي منقطع النظير.
 ويبدو أن قصيدته "المغربية" أثارت حفيظة، بل غيض بعض المتربّصين ضدّه وكان الجواهري حينها قد قرّر الإقامة لبضعة أشهر في المغرب على الرغم من الحملة التي حرّكتها أيادٍ خفيّة لكنها كانت معروفة، فقد كتب غالي شكري مقالة مدوّية بعنوان "سقوط آخر العمالقة"، وكتب آخرون بأسماءٍ مستعارة مثل "حمدان القرمطي"، وإن ندم بعضهم كما عرفت، وكانت الأجواء السياسية السائدة مشجّعة على تلك الحملة، خصوصًا وقد أزعجها اهتمام الحكومة المغربية من أعلى مقاماتها إلى شتى الهيئات الثقافية والاجتماعية والشعبية بالجواهري، الذي لم ينظم قصيدة بهذا المستوى بأركان الحكومة العراقية، الأمر الذي كانت هناك مقارنات مستترة تجري داخل الوسط الرسمي السياسي والثقافي، ناهيك عن العداء الخفي والمعلن بين بغداد والرباط بحكم توجّهات البلدين في تلك الفترة، وقد وصلت أصداءه إلى الجواهري وهو في المغرب فنظّم قصيدة ألقاها في 20 أيلول (سبتمبر) 1974 بعنوان "تحية: ونفثة غاضبة" في مسرح محمد الخامس بالرباط، وكأنّه يستبق الردّ فيها على المستغلّين والنهازيّين كما كان يسمّيهم:
سماحًا إن شكا قلمي كلالا       وإن لم يُحسنِ الشعرُ المقالا
وإن راحت تُعاصيني القوافـي      بحيثُ الفضلُ يُرْتَجَلُ ارتجالا
أتبغونَ الفُتوةَ عند هِمّ         على السبعينَ يتّكلُ اتكالا
فما شمسُ الظهيرة وهي تَغلي      كمثل الشّمس قاربت الزّوالا
وقلتُ لحاقدينَ عليّ غيظًا      لأني لا أُحبّ الاحتيالا
هَبُوا كلّ القوافِلِ فـي حِماكُمْ      فلا تَهْزَوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعُوا الخصامَ يجوزُ حدًّا      بحيثُ يعودُ رُخْصًا وابتِذالا
وما أنا طالبٌ مالًا لأني      هنالِكَ تاركٌ مالًا وآلا
ولا جاهًا، فعندي منه إرثٌ              تليدٌ لا كجاهِهِمُ انتِحالا
وبعد عودته إلى براغ وصادف أن جمعَتنا ضهيرة في سلوفافسكي دوم بحضور موسى أسد الكريم، وكان الجواهري شديد الغضب وحاد الانفعال، وبعد إلقاء التحية عليه والجلوس أخرج من جيبه رسالة شديدة اللهجة ضمنها تعريضًا بهؤلاء "المنافقين" كما أسماهم وبمن أوعز لهم عملية التجديف والتحريف كما أطلق عليها؛ وحين سألناه ما الذي حصل بالضبط؟ أجاب إنه قابل المعروف والإحسان والتكريم بالشكر والامتنان، وهذه إذا صدرت عن لسان شاعر تأخذ شكل قصيدة وإن خرجت من أفواهكما أو أقلامكما تأتي على شكل رسالة شكر وعرفان بالجميل، وسألنا أليس كذلك؟ وكان جوابنا نعم بالتأكيد. وبعد عدّة سنوات أعدتُ السؤال عليه بخصوص قصيدته عن محمد بن الرئيس البكر، فأوضح موقفه بالكامل بقوله: كما تعرف أنّ (الجماعة) كرّموني في حينها وعوملت بشكل خاص "استثنائي"، وقد كتبت بدافع "الوحدة الوطنيّة" والتئام الشّمل، بل إنّ ظروف المرحلة والواقع السياسي كانت تفرض بعض التوجّهات. وسبق أن أجابني على سؤالٍ سابق بذات القصد بقوله: لم أكن حينها خارج مزاجي وطموحي إلاّ مرة واحدة وهي التي قال عنها في حوارٍ نشرته قبل نحو ربع قرن: لم أغتصب ضميري سوى مرة واحدة والمقصود بذلك قصيدة التتويج التي كتبها يوم اعتلاء الملك فيصل الثاني عرش العراق العام 1953 والتي يقول في مطلعها:
ته يا ربيع بزهرك العطر الندي
                    وبصنوك الثاني ربيع المولد
ولكنَّه كتب بعدها قصيدة رائعة بعنوان "كفارة وندم" العام 1953 وقد نشرت في جريدة الرأي العام في 20 حزيران (يونيو) 1954 التي يقدِّم فيها نقداً ذاتياً جريئًا حيث يقول في مطلعها:
سيبقى-ويفنى نيزكٌ وشِهاب-
                 عروقٌ أبياتُ الدماءِ غِضابُ
إلى أن يقول في كشف حساب وتعنيف للنفس ومحاسبة لها في قصيدة "غاشية الخنوع" التي نظمها في العام 1956 في حفل تأبين شهيد الجيش السوري عدنان المالكي ومطلعها:

خلفتُ غاشية الخنوع ورائي 
                  وأتيت أقبس جمرة الشهداءِ
إلى أن يقول في النقد الذاتي:

حاسبت نفسي والأناة تردُّها
                  في معرض التصريح للإيماء
بيني لعنت فلست منك وقد مشى
                   فيك الخمول ولست من خلطائي
ماذا يميزك والسكوت قسيمة
                   عن خانع ومهادن ومُرائي
أبأضعف الإيمان يخدع نفسَهُ 
                 من سنَّ حُبَ الموت للضعفاء؟     

ما أنت إذ لا تصدعين فواحشا
                إلا كراضيةٍ عن الفحشاء   

وعاد ليحدثني بموضوع الشاب محمد نجل الرئيس البكر فقال الجواهري: لقد قُتل بحادث سيّارة مؤسف وقد ربطتني به علاقة خاصة ولم أقل كلمة يُشمّ منها رائحة التملّق، وقد كتبت رثائيّة له عام 1978، فما العيب في ذلك؟ وأنتم كنتم في جبهتكم الغالية فرحون. وكان الجواهري على حقّ تماماً، ولكن للأسف لم يدافع أحد من موقع اليسار حينها عن الجواهري يوم شُنت الحملة عليه وفضّلت أوساطنا السياسية والثقافية الصمت وكأنها غير معنية بالأمر. جدير بالذكر أنّ مطلع القصيدة المذكورة (الخاصة بمحمد البكر) كان مؤثّرًا وهو الذي يقول فيه:
تعجـّلَ بـِشرَ طلعتـِكَ الاُفولُ       وغالَ شبابـَك الموعود غولُ
أمّا بشأن مقالته للردِّ على المتخرصين ومن يقف وراءهم كما أسماهم، فقد حاول موسى أسد الكريم ثنيه من نشرها ونجح بالفعل، إلّا أجواء غضبة الجواهري ظلّت مسيطرة عليه حتى بعد انقضاء فترة من الزمن، وظل يستعيدها بشكل مباشر أحياناً وبأشكال غير مباشرة في الغالب، وعبرّ عنها في مذكراته الموسومة "ذكرياتي" (جزءان، دار الرافدين، دمشق، 1988).
جدير بالذكر أنه في العام 1975 نشر قصيدته الرائيّة والموسومة "آليت" والتي يعود فيها إلى الحملة التي استهدفته، حيث يقول:
آليتُ أُبرِدُ حَـرّ جمري       وأديلُ من أمر بخمرِ
آليتُ أمتحنُ الرّجولةَ       يوم مَلْحَمةٍ وعُسر
ومُساومين على الحروف   كأنها تنزيلُ ذِكر
مَدّوا لعُريانِ الضميــرِ      يدًا بزعمِهِمُ تُعرّي
مـــاذا تُعرّي إنّـهـا      شِيَةُ الحُجول على الأغر
ومخنّثٍ لـم يُحتَسَـبْ      في ثيّبٍ خُطبتْ وبِكر
أقعى.. وقاءَ ضميرَه      ملآن من رِجسٍ وعُهرِ
كذُنابِ "عقربةٍ" لهـا سُمّ       على العَذَبات يجري
غالٍ كأرخصِ ما تكونُ      أجورُ غيرِ ذواتِ طُهر
لم يُعلِ قدريَ مدحُه      وبذمّهِ لم يُدنِ قدري
ثم يقول:
ومبارزينَ سلاحهم
                  أن لست ندَّ ذوات ظفرِ
أمنوا بعصمة صافح
                عن كاشفي السوءات نكرِ
مثل "الفواحش" يحتميـ
                  ــــن بفحشهن، بأي سترِ
مستعبدين توارثوا
                حقب التملك، والتسرّي
ومُسخرين فهم لدي
              ــــك وهم عليك! لقاء أجر

   وفي غمرة تلك الأجواء نظم الجواهري قصيدته الاقتحامية الأخرى: "أزح عن صدرك الزبدا"، التي نشرتها مجلة الرابطة الأدبية في النجف (تشرين الثاني/نوفمبر 1975)، انتقد العصر المليء بالزّيف والخداع وتحدّث عن سموّ النفس والكبرياء والشعر، وهو يعتبرها من أعزّ قصائده
   أزح عن صدرك الزبدا      ودعه يبث ما وَجدا ...
   ولا تكبت فمن حقب      ذممتَ الصبر والجلدا
ويصل في القصيدة إلى ذروة الكبرياء والشموخ:
   أأنت تخاف من أحدٍ      أأنت مصانعٌ أحدا
   أتخشى الناس، أشجعهم      يخافك مغضبًا حردا
   ولا يعلوك خيرهم         ولست بخيرهم أبدا
   ولكن كاشف نفسًا      تقيم بنفسها الأودا ...
   تركت وراءك الدنيا      وزخرفها وما وعدا
   ورحت وأنت ذو سعة      تجيع الآهل والولدا…
   وأعتقد أن قصيدته الموسومة "رسالة إلى محمد علي كلاي" نظمت في تلك الأجواء الانفعالية في براغ العام 1976 وكان أبا عمران يردّدها بصوته الرخيم ويطلب شمران الياسري "أبو كاطع" إعادتها أو إعادة بعض أبياتها، حتى أن "الدكتور" عمران نجل موسى أسد الكريم وكان حينها فتىً وهو لا يُتقن العربية، لكنه ظل يردّد بعض مفردات قصيدة محمد علي كلاي لكثرة تكرارها من قبلنا مثل "زندٌ بزند" و"فداءُ زندك" وهو يعتقد أن المقصود هو صديقنا عصام الحافظ الزند، وكثيراً ما كنّا نتبادل بعض كلمات هذه القصيدة من باب السخرية الحزينة، ففي مقدّمتها يقول الشاعر "تلاكم وخصمه فهزمه وأدماه ... فحاز على إعجاب العالم وملايينه" والتي جاء فيها:
يا مُطْعِمَ الدنيا وَقَدْ هُزِلَتْ
                    لحمًا بشـحمٍ منـه مقطوبِ
شِسْعٌ لنعلِكَ كلّ مَوْهِبةٍ
                وفداءُ "زندِك" كلّ موهوبِ
وصدى لُهاثِكَ كلّ مُبتَكَرٍ
                من كلّ مسموعٍ ومكتوب
   ***
يا سـالـبًا بجِمـاع راحتِـهِ
                  أغنى الغنى، وأعزّ مسلوبِ
ما الشعرُ؟.. ما الآدابُ؟.. ما بِدَعٌ
                   للفكر؟.. ما وَمَضاتُ أُسلوب؟
شِسْعٌ لنعلِكَ كلّ قـافيـة
               دوّتْ بتشـريـق وتـغـريـب
       * * *                      
يا سيّدَ " اللّكَماتِ" شـامخـةً
                       تهـزا بمنسـوبٍ ومحسـوب
        ***           
يا سيّدَ "اللّكَماتِ" يَسْحَرُها
                    ذهبًا، بِذِهْنٍ منهُ مَشبوبِ
نحنُ الرعيةُ.. عِشْتَ من مَلِكٍ
                  بِمفـاخِـرِ "العَضَلاتِ" معصوب
زَنْدٌ بزندٍ.. والورى تَبَعٌ
                  لكما، وَ عُـرْقُوبٌ بعُرقوب
مَرّغْهُ.. مَزّقْ ثوبَ سَحْنَتِهِ
                    رَقّعْهُ من دَمِهِ بِشُؤبوبِ
لَدّغْـــه بـالنّـغَـزاتِ لاذعـةً
                    ما لـم يُـلدّغْ سُـمّ يعسوبِ
سَلِمَتْ يداك.. أأنت صُغْتَهما
                      أمْ صوغُ ربّ عنك محجوبِ
        * * *
شسْعٌ لنعلِكَ كلّ موْهبةٍ
                   وَفِداءُ زندِكَ كلّ موهوبِ

وفي حوار لي معه في الثمانينات (منشور جزء منه في كتابي عن الجواهري - جدل الشعر والحياة) يقول الجواهري: لقد كشفت عن نفسي وبنفسي بسبعة مجلّدات دون تضخيم للذات، بل كنت كما أنا، أحب وأتحدى وأردّ الجميل وأذكر المعروف، حتى وإن اختلفت أو اختصمت أو أخطأت أو تطرّفت، وأشدّد مرّة أخرى لو كان هناك الناقد النظيف والأديب النزيه والكفوء بالمعيار الأخلاقي الذي تحدّثت عنه، لكان قد أعفاني من كتابة المذكّرات وكل شيء فيها موجودة في المجلّدات السّبعة.
وخاطبني الجواهري:
أريدك أن تتذكر شيئاً مشابهاً لما قلته عن المتنبي العظيم، فقد انتقد نفسه وكشفها وعنَّفها في موارد الغضب. ربمّا يكون ذلك غير معروف كثيراً أو لا يتردد على أفواه الناس، حيث ابتلى المتنبي بكافور مثلما ابتلينا أنا وأنت وغيرنا بمن ابتُلي بهم بما يضطرنا الواقع أو مجتمعاتنا بأن نبتلى بهذا الموقف أو بهذا الشخص أو بهذه المرحلة "وأن نقول فيه ما لا يستحق وأن نندم على ذلك وأن نكفّر عنه" فالمتنبي العظيم له غضبات نادرة، فحين ترك سيف الدولة وقصد كافور وكيف كان ذاك وكيف كان هذا، ثم كيف ندم على ذلك بالقول:

وغادرتُ خير الناس طراً بشرِّهم
فعاقبني المخصيُ بالغدر جزيةً
      وأصدقهم طرّاً بأكذبهم طرا
لأن رحيلي كان عن حلبٍ غدرا

ويمضي الجواهري بالقول: أستطيع في هذا الميدان أن أعدِّد لك الكثير من الشواهد والنقدات والغضبات وأنا فخور بها أيَّما فخر لأنني واجهت الأمور بشجاعة، عندما كتبت قصيدة "كفارة وندم" في عام 1953، وكلّ ما كتبته وما قلته كان ناجمًا عن قناعةٍ، سواء كنتُ مصيباً أم مخطئاً باستثناء تلك الحادثة،(يقصد قصيدة التتويج) وأكرّر أنها كانت مجرد قناعات رغم ما لحق بي من تشويهات أو تأويلات لهذه القطعة أو تلك القصيدة أو لهذا البيت أو ذاك، فهناك الكثير من الأشياء لا تزال قائمة عندي فيما يعدّه الآخرون مدخلاً للانتقاد والتعريض والشك، لكنني حتى هذه الساعة مازلت مؤمناً بها.
قلت للجواهري في الحوار المنشور يا أبا فرات: النقد الذاتي قوة وشجاعة، ولا يهم بعد ذلك أن يكون في الجبل الشامخ ثمة مغارات أو كهوف أو انحناءات أو انكسارات، لكنه يبقى مع ذلك جبلاً شامخاً واضحاً للعيان، يراه المرء من بعيد بعلوِّه وكبريائه.
 وبالطبع فالمريدون والمحبّون لا يريدون أن يروا الأخطاء والنواقص، حتى وإن كانت بسيطة وطبيعية، ويحاولون تنزيه من يحبّون ويميلون له، أمّا الناقمون والكارهون فلا يرون بمن يكرهونه ويحقدون عليه سوى تلك الثغرات والمثالب ، حتى وإن كان صاحبها عبقرياً وأخطاءه صميمية تتعلق بقناعة أو اجتهاد، فالبشر خطاؤون حسب فولتير وعليهم أن يأخذوا بعضهم البعض بالتسامح، لأن التعصب والتطرف يبعدان المرء عن العقلانية والموضوعية ، وتلك المسألة تتعلّق بالسلوك الإنساني والانحياز العاطفي بالحب أو بالكراهية، وحين ينتقل هذا السلوك إلى دائرة السياسة أو الثقافة أو الإبداع سيكون أكثر حدّة من المجالات الأخرى، والظاهرة الجواهرية بما امتلكت من عبقرية ليست بعيدة عن تلك التجاذبات.
وأستطيع القول أنه لا يوجد مثل هذا الاندغام بين شاعر عظيم وحالة شعرية متجسّدة في إنسان من لحم ودم، وأكثر من عبّر عنها هو الجواهري نفسه في قصيدته عن الزعيم المصري الكبير جمال عبد الناصر الذي جمع المجد والأخطاء بقوله:


أكبرتُ يومكَ أن يكون رثـاء    
                          الخالدونَ عهدتهم أحيــاء
   لا يعصمُ المجدَ الرجال وإنمـا    
                          كان العظيمُ المجد والأخطاء
   تُحصى عليه العاثرات وحسبهُ
                      ما كان من وثباته الاحصاء

لعل الجواهري يعبّر عن نفسه في هذه القصيدة، التي كان يتمناها لو قيلت بحقه، إذا لم يكن هو قائلها بحق عبد الناصر، وكنت قد سألته لو لم تقل هذه القصيدة بحق جمال عبد الناصر بحق من ستقولها، قال كنت أريد أن يقولها أحد بحقي فقد جمعت المتناقضات. وبتقديري أن كلّ تلك المتناقضات هي التي صنعت إسم الجواهري بما فيه من ألق وعنفوان وهو الإسم الذي صار يعرف به فيما بعد كأحد أعظم المبدعين العالميين في القرن العشرين.
   لقد ظلت طنجة مثل الحلم الذي يداعب عيون الجواهري ويأتيه بين الفينة والأخرى وكم كان يُمنّي النفس بالعودة إليها، وحين وصلته دعوة للمشاركة في احتفالية مئوية الشاعر الأندلسي ابن زيدون هتف قلبه إنها طنجة مرة أخرى على الرغم من هواجسه المعروفة والتي تمت الإشارة إليها وبين التردد بالموافقة أو الاعتذار من المشاركة جاءه خبر تأجيل الاحتفال فحمد الله على ذلك، لكن طنجة ظلت عالقة بذهنه حتى أيامه الأخيرة، وكما يقول الشاعر سعدي يوسف:
 لست أنا من يوقظ طنجة
 من قال الحلم ينام؟

                 




93
خير الدين حسيب: الرجل الذي رحل إلى المستقبل

عبد الحسين شعبان

   "كان نصف عقله يعيش في المستقبل" هذا ما قاله الروائي الروسي مكسيم غوركي عن زعيم ثورة أكتوبر الاشتراكية فلاديمير إليتش لينين، وهو ينطبق إلى حدود غير قليلة على مفكرنا خير الدين حسيب، فعلى الرغم من إنجازه مشاريع باذخة فكرية وثقافية وأكاديمية، ليس من السهولة بمكان أن يسجّل أحدها في رصيد شخص واحد فما بالك حين تجتمع فيه، إلّا أنّ ذلك كان نصف ما يفكّر به حسيب، بل ويخطّط له حتى أيامه الأخيرة، فقد كانت أحلامه تكبر مع مرور الأيام وتتّسع ، وحسب بن عربي "كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة" وكلّما كان منجزه الفعلي يتحقق ويتعمّق، كان ينفتح على مشاريع عمل جديدة وخطط مستقبلية بعيدة المدى، جامعاً على نحو دقيق بين الفكر والممارسة (البراكسيس)، في سقف بلا حدود ينطلق من "المشروع النهضوي العربي"، بعناوينه الستة الأساسية، والذي رعاه حتى صار عوده صلباً، وظلّ على مدى عقدين من الزمان يُسقيه من ماء روحه، في نقاش مفتوح تطويراً وتعديلاً وتحسيناً وإضافةً وحذفاً وتصويباً، بالتعاون مع نخبة لامعة من المفكرين والمثقفين العرب وكوكبة متميّزة من المعنيين بالدراسات الإستراتيجية المستقبلية، وهي ميزة لمفكرنا لا يضاهيه فيها أحد.
واحد لكنّه مجموع
   اجتمعت في شخص خير الدين حسيب الثقافة الاقتصادية الراقية من خلال دراساته واختصاصاته، ولا سيّما في "المالية العامة" منذ أن تخرّج من جامعة كامبريدج، وثقافة سياسية حالمة أساسها "العروبة الثقافية" التي تقوم على الإيمان بنهضة الأمّة العربية ووحدتها وفي القلب من ذلك تحرير فلسطين، خصوصاً وقد تعزّزت تلك الروافد في لحظة توّهج وازدهار لحركة التحرر الوطني في الخمسينات، فضلاً عن تأثره بالرئيس جمال عبد الناصر الذي جمعته معه صداقة حميمة في الستينات من القرن الماضي، ويُضاف إلى هذا الهارموني  صرامةً أكاديمية وبُعد نظر ورؤية للمستقبل، فضلاً عن شخصية كارزمية إدارية وعملية من الطراز الأول، وذلك في إطار توجّه اكتملت جوانبه بالتدرّج والتطوّر والنقد والنقد الذاتي والمراجعة.
    ومن ذلك حاول قراءة الواقع بما هو ممكن وغير ممكن، وفي بعض الأحيان طلب حسيب المستحيل ليقبل بالممكن وفقاً للمثل الفرنسي الذي غالباً ما يردّده المفكّر الماركسي السلوفيني سلافوي جيجك، فكان يسير دائماً عكس اتجاه الريح، وقد كرّس لقضية الوحدة العربية جلّ حياته ووصفها بالقضية الأكثر نُبلاً من قضايا الوجود العربي، وهو ما جعله مهندس فكرة الوحدة العربية بعد رحيل عبد الناصر، وقد بدأ بتحويلها من أماني وأحلام إلى مشاريع عمل مستقبلية، منطلقاً من فشل التجارب الوحدوية وهو ما أفضى به في حوارات خاصة مع كاتب السطور، وليس عبثاً أن يُطلق على المجلة التي أسسها لتكون بإسم مركز دراسات الوحدة العربية الذي أسسّه في العام 1975 اسم "المستقبل العربي" وهي من أكثر المجلات العربية المعمّرة، وقد احتفي بها مؤخراً بصدور العدد 500 منها (أي 500 شهراً)
العروبة والعدالة
   جناحان حلّق بهما حسيب خلال مسيرته المتميّزة، أولهما العروبة، وهذه نمت كرابطة من شعور وجداني بالانتماء، فضلاً عن رابطة حضارية وحقوقية، وثانيهما العدالة الإجتماعية، التي تبنّاها خلال زيارته إلى منطقة الأهوار في جنوب العراق تحضيراً لإعداد أطروحته للدكتوراه في بحث ميداني حيث اكتشف البؤس الذي يعيشه أبناء هذه المناطق والتي لا يمكن أن تلتحق بركب الحضارة والتقدّم ومواكبة مناطق البلاد الحضرية دون تحقيق العدالة، ولذلك كانت العدالة ركناً مركزياُ من أركان مشروعه النهضوي.
   وستكون المواطنة مثلومة وغير كاملة دون تحقيق العدالة الاجتماعية، وأدرك حسيب لاحقاً أنّ العروبة والعدالة لا يمكن تحقيقهما دون انجاز التحرّر السياسي والاستقلال الاقتصادي، لا سيّما بتحقيق التنمية المستدامة وبتوظيف التراث بما فيه من ايجابيات من أجل الانبعاث الحضاري كي يكون في خدمة المستقبل، وبالطبع فلن يتمّ ذلك إلّا في إطار رضا الناس وعبر قناعاتهم وإرادتهم الحرّة وخياراتهم، بعيداً عن إسقاط الرغبات على الواقع، وهكذا أصبحت الديمقراطية السياسية صنواً لا غنى عنها للديمقراطية الإجتماعية بعد أن كانت مؤجلة في إطار المشروع القومي العربي الهادف والطموح لإنجاز الوحدة العربية، مثلما كانت الديمقراطية خارج دائرة الحضور في المشروع اليساري والماركسي، حيث أكّدت التجربة العملية أنّه لا يمكن تحقيق الاشتراكية دون الديمقراطية.
   ومن هذا المنطلق وبعد مرارات وخيبات ووحدات ناقصة ومبتورة ومشوّهة فكّر حسيب أنّ الطريق القويم لتحقيق الوحدة العربية لا بدّ أن يمرّ عبر العلم والعمل الأكاديمي بتحضير دراسات وأبحاث وقراءة للتجارب الوحدوية الكونية، والتدقيق في أسباب الفشل والتراجع والنكوص، فاتّجه لتأسيس مركز متخصص يُعنى بالأساس بدراسات الوحدة العربية ومستقبلها، وأدار هذا المركز بعد أن انفكّ من عمله مع الإسكوا، وقبل ذلك التدريس في جامعة بغداد، ليتفرّغ للمركز الذي حظيَ بمكانة وهيبة كبيرتين عبر اسم الدكتور حسيب والرعيل الأول الذي عمل معه.
   وعقد عشرات الندوات والمؤتمرات للغرض ذاته، ونظم العديد من ورش العمل والحلقات النقاشية والجلسات الحوارية لرفد مشروعه التنويري على المستوى العربي وفي دراسة ذلك على مستوى كل بلد عربي، ناهيك عن المشتركات الإنسانية الجامعة والمصائر المشتركة، فضلاً عن الاختلافات الواردة والمحتملة.
إصرار
   لم تتوقّف المجلة أو تُغلق أبواب المركز على الرغم من الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً (1989-1975)، وحتى خلال "الاجتياح الإسرائيلي" للبنان ومحاولة احتلال العاصمة بيروت، العام 1982، استمرّ المركز في عمله والمجلة في الصدور في مطلع كل شهر بالرغم من الظروف التي مرّت بها البلاد، ولم يكن ذلك سوى جزء من صلابة حسيب وجلده وصبره، وتعتبر المجلة الأعمق مستوى والأكثر رصانة بين المجلات الفكرية والأكاديمية العربية، بما فيها تلك التي تصدر بدعم من حكومات.

المشروع النهضوي العربي
   ثمّة منجزات كبرى لا يستطيع أحد إلّا الاعتراف بها وبالدور المتميّز الذي لعبه حسيب، فإضافةً إلى إنشاء المركز الذي وضع خططه وبرامجه، بل هو من كان المبادر إلى فكرته، فإنّ إنجاز المشروع النهضوي العربي الذي جمع الأهداف الأساسية للأمة العربية ووضعها في وثيقة متكاملة ومتداخلة سداها ولحمتها الوحدة العربية. وأعتقد أنّ هذا الانجاز يعبّر كما أراده عن لقاء التيارات الثلاث الأساسية: القومية العربية ، واليسارية والماركسية، والإسلامية.
   وقد أسّس المؤتمر القومي العربي ليكون الحامل لهذا المشروع الكبير الذي يحتاج إلى تعاون وطني شامل على مستوى كل بلد عربي وعلى المستوى القومي العربي، وأراد لهذا المشروع أن يكون مرجعية فكرية تضمّ الشخصيات المتميزة، وهو ما كان في بداياته، كي لا ينشغل بالهموم اليومية وبعض الصراعات الجانبية التي تحدّ من طموحه.
   لقد كان تفكير حسيب أن يكون المؤتمر القومي العربي نواة لما أطلق عليه "الكتلة التاريخية" وهي الفكرة التي سبق أن دعا إليها المفكر الماركسي انطونيو غرامشي، وقد سبق لي أن ناقشت فكرته على صفحات " مجلة المستقبل العربي - خير الدين حسيب: الرياضة النفسية والمثقف الكوني والكتلة التاريخية - العدد 454 كانون الأول / ديسمبر 2016 " مفرّقاً بين تحالف سياسي يجمع التيارات الثلاث وبين فكرة الكتلة التاريخية التي قصدها غرامشي، وإن كان هذا التحالف هشّاً وغير مكتمل، وهو تحالف بحاجة إلى المزيد من الحوار والنقاش والتكافؤ، فضلاً عن بحث الإشكاليّات الحقيقية بشفافيّة ومصارحة، وذلك ليكون بمثابة تحالف استراتيجيّ، بعيد المدى. وقد بيّنت التجربة أنّ مجرد الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة يدفع هذا الفريق أو ذاك لاتخاذ مواقف لا تتّفق مع جوهر فكرة التحالف، وأوضح دليل على ذلك، محاولة الإخوان المسلمين الانفراد بالسلطة في مصر واضعين برنامج التحالف أو حيثيّات المؤتمر القومي - الإسلامي على الرف.
   وإذا كان المؤتمر القومي العربي الذي أسّسه خير الدين حسيب إنجازاً كبيراً، فالأمر بحاجة إلى تعميق مرجعيته الفكرية وتوجّهه المستقبلي البعيد المدى، وتثمير المشروع النهضوي العربي بدراسات وأبحاث للمستجدّات والمتغيّرات، والأمر يشمل أيضاً المؤتمر القومي الإسلامي، وكنت أحبّذ لو أُطلق عليه اسم " المؤتمر العربي - الإسلامي" لتأكيد علاقة العروبة بالإسلام، وهو جوهر فكرته الأساسية.
الديمقراطية
   يمكنني القول أنّ حسيب من أوائل المفكرين العرب الذين طرحوا مسألة الديمقراطية، بل أنّه نظّم ندوة كبيرة في قبرص العام 1983 بعنوان " أزمة الديمقراطية في الوطن العربي" ولم تكن الديمقراطية حينها مطروحة مثلما هي اليوم، وبالتالي فإنّ فكره المستقبلي كان يتطّلع أبعد مما يرى الكثيرون، وقد قدّم يومها الطيب الذكر حسين جميل بحثاً عن "حقوق الانسان في الوطن العربي" ولم تكن تلك مسألة مطروحة أيضاً مثلما هي عليها اليوم، وعلى هامش المؤتمر تأسست "المنظمة العربية لحقوق الانسان" العام 1983 ولم يكن أيّ بلد عربي يسمح بالترخيص لها للعمل الشرعي والقانوني، وإن ظلّت في القاهرة إلى العام 2000 موجودة فعلياّ de facto لحين الاعتراف بها قانونيّاً de jure والتوقيع معها على بروتوكول تعاون من جانب وزارة الخارجية المصرية.
   وأسسّ أيضاً "المنظمة العربية للترجمة" و "المنظمة العربية لمكافحة الفساد" و "مخيّم الشباب العربي"، ولم يبخل في دعم منظمات عربية عديدة تُمثّل العمل العربي الوحدوي المشترك عبر المؤسسة الثقافية والصندوق العربي، وهذه كلّها من بنات أفكار خير الدين حسيب. كما دعم تأسيس منظمات عديدة مثل "الجمعية العربية للعلوم السياسية" و "الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية" و "الجمعية العربية لعلم الاجتماع". وبالطبع فإنّ هذه المؤسسات جميعها وجميع مؤسسات العمل العربي تحتاج إلى تعميق وتعزيز الديمقراطية داخلها أيضا، والأمر بحاجة إلى التربية على الديمقراطية، وتأكيد قبول التنوّع والتعدديّة والحق في الاختلاف.
على اللائحة الصهونية السوداء
    لجميع الأسباب المذكورة، كثيراً ما تكرّر اسم حسيب في تقارير دولية واستخبارية إمبريالية وصهيونية، بصفته الأب الروحي للقومية العربية والمحرك الأساسي للفعاليات والأنشطة المناهضة لهما، إضافة إلى ربط بلدان المشرق العربي ببلدان المغرب العربي، ومن أقصى المغرب في موريتانيا إلى أقصى بلدان الخليج كان العالم العربي شغله الشاغل، وحاول أن يكون سلاحه الكتاب والكلمة معرّفاً العالم بواقعنا العربي، وعالمنا العربي بمكانته العالمية، خصوصاً حين تتوّحد بلدانه، ويذكر الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد أنّ حسيب كان يتردّد على عدن لتقديم النصح والمشورة لجمهورية اليمن الديمقراطية، وهي التي كانت محطّ رعايته كرجل قومي عربي واقتصادي كبير، مثلما حضر قبله إلى عدن الخبير الاقتصادي محمد سلمان حسن الذي ساهم في وضع قوانين التأميم في عدن بما فيها لمصفاة عدن. وكان حسيب وحسن من الخبراء العراقيين الذين ساعدوا اليمن في المجال الاقتصادي.
   لا أنسى كيف استقبلني الموريتانيون بالترحاب لمعرفتهم علاقتي بخير الدين حسيب الذي بنى لهم صرحاً ثقافيّاً وكان يزوّدهم لسنوات طويلة بمطبوعات المركز مجاناً. مثلما كان يرفد الجامعات العراقية بإصدارات المركز ومجلته مجاناً، خلال فترة الحصار الدولي الجائر على العراق 1991-2003، وقد نظّم أكثر من مؤتمر ضدّ الحصار، وكان أحدها في لندن 1998 قدّمتُ فيه بحثاً بعنوان "الحصار الدولي وتشريع القسوة" وكان من تحظير الصديق ضياء الفلكي.
 النفط
   لم يسلم حسيب من العداء من جانب الجهات الصهيونية والإمبريالية وذلك بسبب مواقفه النفطية ولا سيّما من مشروع اتفاقية ايراب مع فرنسا العام 1967، وقد لعب دوراً مهماً في تأسيس "شركة النفط الوطنية" العام 1964 وأصبح في السنوات الأخيرة أكثر قناعةً بأن النفط هو محور الصراع الإستراتيجي السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني في المنطقة بما فيه "الصراع العربي - الصهيوني" والموقف من القضية الفلسطينية، وتأكد له أنّ اقتراب أي دولة أو نظام حكم منه يعني الدخول في معركة مكشوفة أو مستترة مع الإمبريالية وشركاتها الاحتكارية العملاقة، والتي هي "دولة داخل دولة" كما يُقال.
   وقد ردّد على مسامعي أكثر من مرة، إنّ ما حصل للزعيم عبد الكريم قاسم ونظامه الوطني هو بسبب القانون رقم 80 العام 1961 الذي استعاد 99.5% من الأراضي العراقية من أيدي الشركات الاحتكارية، مثلما كان أحد أسباب احتلال العراق والقضاء على نظامه هو النفط أيضاً، فلم يغفر له الإمبرياليون خطوته الراديكالية الوطنية بتأميم النفط العام 1972، ووجدوها فرصة ثمينة إثر الخطأ الإستراتيجي بمغامرة اجتياح الكويت العام 1990.
الطائفية
   هناك من ينسب تهمة الطائفية للدكتور حسيب، بل يحاول إلصاقها به، لا سيّما لربط ذلك ببعض توجهات الرئيس عبد السلام محمد عارف، ولكنني أقولها للتاريخ أنني لم ألمس لا من قريب ولا من بعيد أي توّجه طائفي لديه على الإطلاق لا في السابق ولا في الحاضر، بل إنّه كان مترفّعاً عن مثل هذه الأمور، ويعتبر الاقتراب منها مساسٌ بثوابت الأمّة، وهو ذاته يعتبر الرئيس عبد السلام محمد عارف في بعض تصرفاته ميّالاً للطائفية، وهو ما سبق أن ذكره وما دونته عنه في حواراتي المطوّلة معه، المنقطعة والمتصلة، منذ سنوات.
   ودليلي على ذلك، موقفه من إيران التي لا يعتبرها عدوّاً ثابتا،ً بل يريدها صديقاً محتملاً وذلك من خلال البحث عن المشتركات أوّلاً في إطار احترام السيادة وعدم التدّخل بالشؤون الداخلية، ولا سيّما حين يكون العراق قويّاً وضمن مشروع عربي موّحد، والأمر ذاته في العلاقة العربية - التركية، وقد عمل لفتح حوارات عربية - ايرانية وعربية - تركية منذ وقت مبكّر، ولعلّ إحدى البوصلات في توّجهه هذا، هو القضية الفلسطينية والموقف من العدو الصهيوني.
   كانت علاقة حسيب وطيدة ومتطورة مع حزب الله اللبناني، وبالذات مع السيد حسن نصرالله الذي يكّن له احتراماً شديداً في إطار مشروع دعمه للمقاومة مع وجود التمايز بشأن بعض القضايا اللبنانية والعربية. وقد أقام علاقات صداقة مع رجال دين شيعة مثل آية الله السيد أحمد الحسني البغدادي وآية الله الشيخ جواد الخالصي لموقفهما من الاحتلال الأمريكي للعراق وأعرف أنّه طبع كتباً أو دعم طبعها خاصةً بإصدارات تتعلق بـ "الفكر الشيعي"، وذلك تشجيعاً للحوار والتنوّع. أمّا الموظفون لديه فإنهم من ألوان دينية ومذهبية مختلفة وأشكّ أنّه يعرف هويّاتهم الضيّقة، لأنّه باختصار لم يكن معنيّاً بذلك، وقد كان أحد أركان مكتبه وإدارته لنحو ربع قرن عبد الاله النصراوي، الشخصية العروبية المعروفة.
الاحتلال
   اندفع حسيب في مشروع مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 وتصرّف بطريقة أقرب إلى المعارضة أحياناً، ولم يكن التمييز سهلاً بين مواقفه وبين مواقف المركز، وأُدركُ أنه انطلق في ذلك دون أي طموح سياسي كما حاول البعض الغمز إلى ذلك من قناته، بل وحتى دون أن يفكّر في أن يكون له أيّ موقع سياسيّ في جميع الظروف وكان قد تخلّى عن ذلك منذ اعتقاله في العام 1968، مسخّراً جميع إمكاناته للبحث العلمي ولدراسات الوحدة العربية المستقبلية، لكنّ مواقفه كانت وجدانيّة ضميريّة، إذ لم يستطع هضم  أن تقع "بلاد الرافدين" مجدّداً تحت الاحتلال الأمريكي بعد أن تخلّص العراق من الاحتلال والنفوذ البريطاني في العام 1958.
   حاول حسيب أن يجمع معارضات مختلفة من التيار الصدري إلى هيئة علماء المسلمين، ناهيك عن وسط بعثي وقومي وبقايا تنظيمات قديمة وبعض الشخصيّات السياسيّة أو التي كان لها موقعاً إدارياً في الدولة، وعقد أكثر من مؤتمر لذلك، وكان قد دعاني إلى جميعها، لكنني اعتذرت عن حضور أي منها لأسباب بيّنتها له في جلسة مصارحة بحضور الصديق صلاح عمر العلي وكان رأينا أنّ المعارضات الخارجية تكون عرضةً للتداخلات الأجنبية وهي ظاهرة عامّة، وقلت له أنا أعرف المعارضة العراقية السابقة وكنت أول من نبّه لمخاطر التعويل على المشروع الخارجي وانسحبتُ منها في وقت مبكّر (1993)، فهل تريدني بعد هذه الأعوام الطويلة العودة إلى ذات المربّع؟ باختصار وتواضع أقول، إنّ المعارضات القائمة تتطلّع هي الأخرى إلى "العامل الدولي" كما تطلّعت سابقاتها إلى تداخلات خارجية لكي تضع الأمور لصالحها، وكل ذلك كان على حساب الوطن والمواطن.
   لقد كان رأيي أنّ خير الدين حسيب بنى صرحاً ثقافيّاً وفكريّاً وأكاديمياً شامخاً وهو مركز دراسات الوحدة العربية ونحن جميعاً نفخر بمنجزه خصوصاً بإصداراته التي قاربت نحو 1000 كتاب في مختلف قضايا الفكر والثقافة والأدب والعلم والمعرفة المختلفة، أفلا يكفي هذا لخدمة العراق؟ أمّا إذا اقتضى الأمر بحث الموضوع العراقي فيمكن تنظيم ندوة من مختصين ومن تيارات مختلفة لبحث القضايا التي يواجهها العراق وتقديم plattform  يمكن أن تتبنّاه أيّة جهة مناهضة للإحتلال من داخل العراق، بدلاً من معارضات تأكلها الصراعات وتتراشقها الاتهامات المتبادلة وتمتدّ يد الجهات الخارجية للعب فيها والعبث في مصائرها.
الدستور و الدستورانية
   كان حسيب مهموماً بوضع مشروع دراسات لمستقبل العراق، وقد كلّفني لإعداد دستور عراقي في مؤتمر كبير نظمّه المركز وشارك فيه عشرات من الشخصيات العربية والعراقية الأكاديمية والثقافيّة والسياسيّة، وشرعتُ في لجنة ألّفها تضمّ كل من: يحيى الجمل وخير الدين حسيب ووميض عمر نظمي وخليل الكبيسي وعصام نعمان، وقد نوقشت المسوّدة في عدّة جلسات حتى تمّت الصياغة النهائية التي شاركني فيها نعمان، وقد استشكلتُ في موضوع المسألة الكردية ومبدأ حق تقرير المصير والفيدرالية، وقد كان رأيه إنّ مثل هذا الحق يقرّه للكرد في سائر الأقطار التي يوجدون فيها، وخصوصاً في تركيا وإيران وليس في العراق وحده، كي لا يكون العراق عُرضةً للتداخلات الإقليمية، وكان يعتقد أنّ مشروع الحكم الذاتي الموسّع بصيغة لامركزية هو المناسب في الوقت الحاضر، وبعد جدل طويل وتباين في وجهات النظر بقينا عند حدود تلك الصيغة.
   كما كلّفني بكتابة قانون انتخابات وقانون أحزاب ضمن مشروع دراسات العراق المستقبلية الذي كان يعتقد أنّه يمكن أن يكون بديلاً لما بعد الاحتلال، وقد نوقش المشروعان في إطار لجنتين منفصلتين وتمّ إقرارهما، ونُشر المشروع الكامل بما فيه الدستور المقترح في كتاب صدر عن المركز ضمّ الموقف من الاحتلال وتبعاته القانونية وقضايا الجيش والنفط والإعلام والقضية الكردية وغيرها.

دستور اتحادي
   على الرغم من التراجع العربي وذبول صيغة الدعوة السياسية للوحدة العربية، إلّا أنّها ظلّت قائمةً، بل شديدة الحضور في عقل خير الدين حسيب، حيث كان يأمل أن يأتي ظرف يمكن تحقيقها باتفاق دولتين عربيتين أو أكثر، ضمن حلمه الدائم حاضراً ومستقبلاً، وقد كلّفني بكتابة مشروع الدستور الإتحادي العربي بمشاركة من محمد المجذوب ومعن بشور وعصام نعمان ويحيى الجمل ورغيد الصلح وخير الدين حسيب، وكان يتابعني وكأن الوحدة العربية  تدّق على الأبواب، وأنّ ما ينقصها هو هذا الدستور.
   واستمرّ الأخذ والردّ في المشروع والنقاش حوله لمدة قاربت نحو ثلاث سنوات حتى تمّ إقراره بصيغته النهائية التي أعددتها والتي تمّت الموافقة عليها، وأذكر ذلك لأنّه لم يكن حسيب يكّل أو يملّ من سؤال عن كل شاردة وواردة قانونية أو سياسية أو إداريّة أو اقتصاديّة، بل أحياناً لا يكتفي بذلك خلال الاجتماعات، فيتّصل بي في المنزل وفي أوقات مختلفة ليتأكد من صياغة الفقرة أو الجملة التي اتفقنا على تدقيقها، وتلك عادته التي ظلّ يحرص عليها بدأب ومسؤولية وجلد ذاتي لا حدود له. كان يتابعني حين أقصّر في إجراء تعديل أو الدعوة إلى اجتماع أو إعداد محضر لإنجاز المشروع.
   وكان يأمل بتوجيه الدعوة إلى أكثر من 120 شخصية عربية لمناقشته، وقد أعددتُ لائحة كاملة بالأسماء من مختلف البلدان العربية من أساتذة وفقهاء القانون الدستوري وشخصيات فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية ولها ممارسة عملية، وأتذكر أنّه كان حريصا على حضور بعض الشخصيات الكردية أيضا، فضلا عن مشاركة مختلف التيارات السياسية، ولكنّ المشروع تأجل بسبب استقالته من مواقعه الإدارية في المركز في العام 2017.
قواعد روبرت للديمقراطية
   أذكر هنا حادثة طريفة لها دلالة مهمة للعقلية الإدارية التي يتمتّع بها حسيب، فقد طلبني في إحدى المرات على عجل، واتفقنا أن أكون عنده في ظهر اليوم التالي بعد أن قال لي أنّ الموضوع لا يحتمل التأجيل، وفاجئني حين جاءت السكرتيرة ووضعتِ حزمة أوراق كبيرة وضخمة أمامي (قاربت 450 صفحة) وخاطبني هذه الأوراق أريدها كتاباً قائلاً: أنّه مترجمٌ وحين بحثتُ عمّن يمكن أن يضعه بصيغة عربيّة مقبولة للقارئ العربي اهتديتُ إليك لخبرتك في هذا الميدان، وأرجوك أن توافق على التكليف، فقلت له أنّني لست مترجماً وعمل من هذا النوع قد يكون أصعب من الترجمة.
   وبعد أخذ وردّ، أقنعني على أن أعدّ الصياغة العربية فيما يتعلّق بقواعد روبرت للديمقراطية الموضوعة في كتاب بكل اللغات الحيّة الّا اللغة العربية التي هي أحوج ما تكون إليها، والكتاب لا غنى عنه لأي برلمان أو حزب أو جمعية أو نقابة أو شركة أو مؤتمر أو اجتماع، علماً بأنّ هذه القواعد تطوّرت عبر أكثر من 200 عام حتى استقرّت على صيغتها التي هي الأخرى مفتوحة وقابلة للإضافة بالتراكم وتواتر الاستعمال.
   بعد نحو ستة أشهر أنجزتُ العمل الذي استفدت منه و استمتعتُ به وقد أخذ مني نحت المصطلحات وتبيئتها أو توطينها كما يُقال نحو ثلاثة أشهر، لكي لا يكون أي تعارض بينها فيما إذا وردت ما يدلّ عليها في مكان آخر. بعد أقلّ من شهرين أرسل لي أبا طارق كتاب شكر على جهدي مع خمس نسخ هديّة من المركز ورجاءً حاراً بكتابة تقريظ للكتاب الذي أعددته لنشره في مجلة المستقبل العربي، وبالفعل حصل ذلك ونُشر في أول عدد صدر للمجلة، ومثل تلك المجهودات "والمونات" لا يقدر عليها شخص سوى خير الدين حسيب، أمّا عنوان الكتاب فقد كان "قواعد النظام الديمقراطية" مع عنوان فرعي "قواعد روبرت التنظيمية للإجتماعات" وهو من ترجمة دكتور عبدالله بن حمد الحميدان، ومن تأليف هنري إم. روبيرت الثالث و وليام ج. ايفانز ، ودانييل إيتش.هونمان، وتوماس ج. بالش، وقد صدر في العام 2005.
الرحيل إلى المستقبل
   أخيراً وفي يوم 12 آذار (مارس) 2021 رحل خير الدين حسيب وحيداً ومكسوراً عن عمر ناهز 92 عاماً، بسبب الأوضاع العامة والخاصة، خصوصاً في ظلّ اجتياح وباء كورونا " كوفيد - 19" العالم أجمع، واضطرار الجميع إلى التباعد الإجتماعي، فـ "الولادة والموت تجربتان في الوحدة" كما يقول الشاعر المكسيكي أكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 1990، فنحن نولد مستوحدين ونموت مستوحدين. وقد بقيَ خلال السنوات الأخيرة جليس الدار موّزعاً بين كتبه وشذرات من مذكراته وذكريات عطرة كنت أحاول تقليبها معه، وسأتوقف لاحقاً عند ذلك حين يُسعفني الوقت، علماً بأنني كنت قد وجّهتُ له باقة أسئلة عن محطات مهمة في حياته ومشروعه الفكري وبعض القرارات الحاسمة التي كان له اليد الطولى فيها العام 1964 وإدارته للمؤسسة الاقتصادية وعمله محافظاً للبنك المركزي وقرار تأميم المنشآت الإقتصادية أو ما سمّيَ بـ القرارات الإشتراكية، وعلاقته بمصر والتنظيم الطليعي وصلته بـ أمين هويدي (السفير المصري في العراق) وموقفه من الشيوعيين وغيرها من القضايا، وإن لم يستطع الإجابة عليها تحريرياً، فقد أخذتها على لسانه شفاهاً ودوّنتها وقرأتها عليه.
   على الرغم من الصورة الخارجية المعروفة عن خير الدين حسيب والتي تتّسم بالحزم والإرادة الحديدية والقرارات الإدارية الصارمة والاجتهادات الشخصية الحادّة التي لا تخلو من بعض الإرتياحات، إلّا أنّه كان يحمل قلب طفل صغير عاطفيّ لدرجة كبيرة وبسيط، بل في غاية البساطة، لكنّ طريقة حياته وأسلوب عيشه جعلت من العمل والعمل والعمل نظرية حياة بالنسبة له، أخضع من أجلها كل شيء لدرجة اعتبر المركز أحد أبنائه وكانت كريمته الصغرى زينب تقول له أنّ لديك 4 أبناء وليس ثلاثة، بل أن المركز كان من أكبر أبنائه وفي الصدارة دائماً وهو على لسانه في كل المناسبات، لدرجة التوّله والعشق والتماهي بينهما.
   لقد تسنّى لي خلال السنوات الأخيرة أن أزوره أسبوعياً، بل لأكثر من مرة في الأسبوع أحياناً وربما في بعضها لأكثر من مرة في اليوم لأطرد عنه الوحشة ولأخفّف عنه آلام الزمن وعذابات الشيخوخة وجحود البعض وغدره، وفي كل مرّة كنتُ أُفاجئ بأنّه لم ينقطع لحظة عن التفكير بالمستقبل، وكأنّه سيعيش عمراً لا ينتهي.
   ومثلما ابتدأت مقالتي هذه بالحديث عن علاقة حسيب بالمستقبل فقد كانت آخر رسالة كتبها لي تتعلّق بإصدار كتاب جديد وكأنّه ما زال في عزّ شبابه يفكّر بالمستقبل، وأنشر هنا نص رسالته بتاريخ 13/1/2021 (مرفقاً) (بشأن مأسسة العمل الفكري القومي العربي).
 


   وقبل رحيله بنحو عشرة أيام اتصل بي فجراً (حوالي الساعة الرابعة إلّا ربعاً) ليسألني متى أعود من لندن، حيث ذهبت لأخذ اللقاح (Vaccine) فأبلغته بعد ثلاثة أيام، وما أن حطّت الطائرة حتى استلمتُ مكالمة منه طالباً تحديد موعد اللقاء، وأبلغته بعد انتهاء الحجر الذي سيستمر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع اتصلتُ به فكان متعباً ونائماً وعاودت الإتصال لأكثر من مرّة خلال اليومين اللاحقين دون جدوى إلى أن اتصلت بي زوجته السيدة شيرين لتبلغني الخبر الحزين.
   عاش حسيب بشجاعة وشموخ وإباء، ولم يتنازل حتى لجلادّيه حين اعتقل في قصر النهاية، بل أنّه في وقت لاحق وحين وصل إلى بيروت في العام 1974 مارس رياضة نفسية ليتخلّص مما أسماه بالكراهية والحقد والإنتقام، واضعاً قضية الوطن والأمّة العربية والعروبة الثقافية في المقدمة متجاوزاً محنته الشخصية، وحين رحل كان براحة بال واطمئنان وثقة بأنّ مستقبل الأمة العربية رغم النكبات والهزائم العربية سيكون بخير وأن المشروع النهضوي العربي الذي عمل عليه سيفتح الطريق إلى المستقبل ولربّما كان يراه كشلال ضوئي، وهكذا عاش خير الدين حسيب ومات وهو يفكّر بالمستقبل، بل كان يعيش فيه ويقيناً أنّه رحل إليه.نُشرت في جريدة الزمان العراقية (بغداد - لندن) يوم السبت 20-3-2021.
 


94
بيني وبين نفسي
حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعية العراقية
مقدمّة كتاب محمد السعدي: بقلم عبد الحسين شعبان(*)

- I -
حين طلب منّي الرفيق محمد السعدي "أبو بيدر" كتابة مقدّمة لكتابه الجديد "بيني وبين نفسي - حكايات من الأرشيف الشخصي للحركة الشيوعيّة العراقية"؛ عدت إلى قراءة كتابه السابق "سجين الشعبة الخامسة"، لارتباط الكتابين بتجربة شخصيّة لمناضل في صفوف الحركة الشيوعية، سواء في حركة الأنصار أم في ظروف العمل السرّي، في فترة من أخطر المراحل السياسيّة في تاريخ العراق؛ ولعلّ تجربته الغنيّة هي جزء من تجارب شخصية لمناضلين شيوعيين في مستويات مختلفة، ومن مواقع عمل عديدة، تبقى بحاجة إلى دراسة ومراجعة وتمحيص وتدقيق ونقد لأخذ العِبرة منها بما لها وما عليها.
ويروي محمد السعدي كيف وقع في فخّ الاستخبارات العسكرية في العام 1987 بخديعة أو تواطؤ أو قُصر نظرٍ على أقلّ تقدير، لا فرْقَ في ذلك فقد كان لُقمة سائغة بيدِ الخصم، ليجد نفسه "نزيلًا" في الشعبة الخامسة لمدة 87 يومًا تعرّض فيها لأنواعٍ شتّى من التعذيب، وضغوط جسدية ونفسية اضطر فيها الاعتراف بمهمّته والكشف عنها، حيث اقتيد إلى "محكمة الثورة" مع 7 أو 8 أشخاص من حزب الدعوة، ومن حُسن الصُدف كما يقول أن تأجّل البتّ في قضاياهم، فأعيدوا من حيث أتوا لتتمّ مساومته بإطلاق سراحه مقابل التعهد بالعمل لصالح الاستخبارات العسكرية، وهي طريقة اتّبعت في الكثير من الأحيان مع من يلقى القبض عليهم، خصوصًا ممّن كانوا يتوجّهون إلى داخل العراق لإعادة بناء التنظيم، وفي الكثير من الأحيان كان هؤلاء تحت عين الأجهزة الأمنية بأنواعها واختصاصاتها التي غالبًا ما كانت تخترق خطوطًا حزبيّة وتتغلغل فيها وتسهّل مهمّاتها لتكون في حدود السيطرة باللحظة المعنيّة، وقد استدرجت إدارات حزبية متقدمة وهيّأت لها أماكن إقامة و"بيوت حزبية" راصدة جميع تحرّكاتها واتصالاتها متعقّبة أثرها، في أكبر عمليّة اختراق في مطلع التسعينات.
كتابَا الرفيق أبو بيدر جعلاني أتوقّف عندهما، في مراجعة محطات مهمّة من تجربته الشخصية، خصوصًا وأنّهما يكمّلان بعضهما البعض ويتداخلان أحيانًا في بعض التفاصيل، بل أنّ تكرار المشاهد يجعلك تتصوّر أنّك تقرأ في كتاب واحد، وإن جاء كتابه الذي أتحدّث عنه ليستعيد فيه طفولته ونشأته وحياته في قرية "الهويدر"، حيث بساتين البرتقال والأشجار الباسقة، والمقاهي الشعبية والأصدقاء وحركة الناس، لينتقل إلى بدايات وعيه السياسي واندفاعاته وحماساته وتطلّعاته ومدارسه في إطار تأمّلات سوسيولوجيّة ولفتات ذكيّة ومواقف لا تخلو من أخطاء ومراجعات ونقد، ومن ثمّ تناول بدايات نشاطاته الطلّابية والنواتات الحزبية والمواجهات المباشرة وغير المباشرة في إطار الاصطفافات السياسية في القرية مع البعثيّين ومنظّماتهم أيام الجبهة الوطنية التي انفرط عقدها في أواخر العام 1978 والثلث الأول من العام 1979.
ولعلّ المرحلة الثانية من نشاطاته وحركّيته جاءت حين انتقل إلى بغداد للالتحاق بالجامعة في العام 1980 والتي تداخلت مع الحرب العراقية - الإيرانية، حيث انتظم في نواةٍ شيوعية أطلق عليها "منظمة الصدى" ليلتحق بقوات الأنصار في العام 1983، وهنا يستعيد أسماء الشهداء ويُعدّد المواقع والقرى الكردية وخطوط التواصل وحياة الأنصار والصعوبات التي يمرّون بها والبطولات التي يجترحونها والتضحيات التي يقدّمونها، ثمّ يخبرنا عن تكليفه بالتسلّل إلى بغداد في مهمّات خاصّة يستغرب هو الآن تنفيذها بكل رحابة صدرٍ وكأنّه يتوجّه إلى نزهة، في حين أن الموت كان ينتظره عند أيّ منعطف أو محطة ولأيّ خطأ يقوم بارتكابه أو سهو يقع فيه، ويذكر الحِرمانات التي عاشها دون أن ينسى تلك الرومانسية الحزينة التي لم تتركه، ودون أن يهمل الأخطاء والعيوب والإخفاقات والبيروقراطية وإسقاط الرغبات على الواقع.
ويتوقف السعدي بذهول أحيانًا عند بعض المحطات المهمّة في تجربته الفتيّة، حين التقى بعض قادة الحزب الذين كان يسمع عنهم، ومنهم أمين عام الحزب الأسبق بهاء الدين نوري (من العام 1949 وحتى العام 1953) الذي تمّ عزله ومقاطعته اجتماعيًّا والتشهير به، وكيف كان "يخاطر" بالذهاب إليه والإلتقاء به، ويستعرض بشكل متفرّق حيثيّات ما حصل في بشتاشان حين شنّ الاتحاد الوطني الكردستاني "أوك" هجومًا غادرًا ضدّ أنصار الحزب الشيوعي راحَ ضحيّته عشرات الرفاق ويتناول الحساسيات التي حصلت جرّاء مواقف البعض الضعيفة.
أمّا بخصوص المؤتمر الرابع للحزب فيتناول تعقيداته وملابساته وما أثاره من انقسامات، خصوصًا في التحضير له حين ألقى عزيز محمد (الأمين العام للحزب حينها) كلمة قال فيها "اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر"، واتّضح أنّها خطّة للتضحية والتفريط بقيادات تاريخية وكوادر متقدّمة ومجرّبة بسبب وُجهات نظرها الفكرية والسياسية، لا سيّما بصدد الموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، كما يسلّط الضوء على الاختراقات العديدة لأجهزة المخابرات والأمن العراقية التي تمّ اكتشاف بعضها والتحقيق مع عدد من المتّهمين بعد إخضاعهم للتعذيب، حيث اعترفوا بتعاونهم مع الأجهزة العراقية، وصدر قرار بإعدامهم دون أن يذكر مصدر هذا القرار ومَن قام بتنفيذه لكنّه يلمّح له، علمًا بأن ثمّة أسماء تردّدت على هذا الصعيد من خلال روايات عديدة لم يتمّ الإفصاح عنها أو كشفها على الرغم من مرور ثلاثة عقود ونيّف من الزمان.
وبعد إطلاق سراحه بالمساومة المذكورة وجدها فرصة مناسبة للهرب في اليوم التالي والوصول إلى مدينة كفري في كركوك حيث حلّ ضيفًا على عطاالله الطالباني مدير بلديّتها الذي كانت تربطه به علاقة سابقة عبر نجله آشتي رفيقه الذي كان يلتقيه في المعهد البريطاني في بغداد، وهناك التقى مكرّم الطالباني (القيادي الشيوعي السابق) وقصّ عليه ما حصل له، فشجّعه على ذلك ونصحه بالابتعاد عن كل ما له علاقة بتلك الأجواء، وهكذا إلتحق بالجبل مرّة أخرى ليروي ما جرى له لقيادة الحزب وللرفيق طه صفوك (أبو ناصر) الذي اعتُبر من العشرة "المبشّرين بالجنّة" الذين اختارهم عزيز محمد ليصبحوا أعضاء في اللجنة المركزية دون أن يعلن عنهم بحجّة العمل السرّي، لكن الدنيا ضاقت بالسعدي بعد أشهر وأخذ يفكّر بترك موقعه والتوجه إلى الخارج فعسى أن يجد في حياته الجديدة ما يعوّضه عمّا تعرّض له وما خسره وما عاناه خلال اعتقاله، إلّا أنّه فوجئ بعدم تقديم أيّ مساعدة له، فاتّخذ قراره بعبور الحدود إلى إيران معتمدًا على نفسه وعلى بعض الأنصار من أصدقائه ومن بيشمركة الأحزاب الكردية، ومن هناك رتّب أموره ووصل إلى سوريا واستقرّ فيها لبضعة أشهر وحصل على جواز سفر يمنيّ بواسطة عامر عبدالله ومنها توجّه إلى براغ ومن الأخيرة إلى السويد طالبًا اللجوء السياسي ليستقرّ في مدينة مالمو منذ العام 1989 وحتى الآن، وهي رحلة شاقة ومضنية قطعها مئات الرفاق الذين وجدوا أنفسهم في المنافي البعيدة بعد تبدّد أحلامهم وتشتّت شملهم.

- I I -
 أربع ملاحظات أساسية أتوقف عندها خارج الآراء السياسية أو الحزبية التي وردت في الكتابين، سواء بالاتفّاق أو بالاختلاف أو بالتناول والتقويم.
أوّلها - الكتابان عرّفاني بالرفيق محمد السعدي أكثر ممّا أعرفه، وكنت أوّل مرّة قد تعرّفت عليه بواسطة الرفيق عامر عبدالله الذي استقبله في الشام ليستمع إلى تجربته المؤلمة، فضلًا عن كون الشهيد الجنرال خزعل السعدي خاله، إضافةً إلى معرفة لاحقة بواسطة الرفيق طه صفوك "أبو ناصر"، واكتشفت أنّ لديه رغبة في التعلّم وحبّ المعرفة، والمعرفة حسب كارل ماركس تعني "الذهاب للقاء بالواقع". وقد حاول السعدي في الكتابين أن يعرض تجربته بأسلوب قصصي لا يخلو من حبكة دراميّة واستخدم الحكاية بطريقة موحية، وقد جاء الكتابان بصيغة مجموعة حكايات أو قصص أو حتّى أقصوصات منفصلة ومتّصلة أحيانًا في إطار هارموني متآلف ومتخالف أيضًا، وهو أسلوب استخدمه للتخفيف من عبء الكتابة بمعناها الحرفي والمهني دون أيّ ادّعاءات أو تضخيم للذات.
وثانيهما - امتاز محمد السعدي بجرأة وشجاعة نادرتَين بكتابه الأول والثاني، حين اعترف بالكثير من أخطائه ومثالبه وعيوبه، ومنها تعاونه مع أجهزة الاستخبارات العسكرية حين تمّ اعتقاله وذلك إنقاذًا لنفسه بعد أن لم يتمكن من الصمود في التعذيب إلى النهاية، حيث قرّر قبول عرض الاستخبارات بعد أن رفضه في السابق بإصرار، ولكنّه في الوقت نفسه قرّر تضليلها ثمّ الهروب في أوّل فرصة سُنحت له إلى الجبل مرّة ثانية وإخبار الحزب بجميع التفاصيل التي جرت له، خصوصًا وأنه يمتلك خزينًا هائلًا من المعلومات عن بعض من أُلقي القبض عليهم وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية، ويعتقد أنّ قسمًا منهم أخفى المعلومات عن الحزب وهو ما يزال يعمل في مواقع متقدّمة دون أن يبلّغ عن ذلك، علمًا بأنّ من يُلقى القبض عليه وتتم مساومته ويوافق على ذلك يُطلق سراحه بسرعة ليعود إلى وضعه الطبيعي وكأنّ شيئًا لم يكن، حيث يكون نقطة استقطاب لكشف المزيد من الذين يكلّفون بمهمات داخل العراق فيكون تحت علم وبصر الأجهزة الأمنية.
وكما يقول أبا بيدر فإن الغالبية الساحقة من الذين توجّهوا إلى الداخل وقعوا في شرك الأجهزة الأمنية، قسم منهم استشهد والقسم الآخر أُطلق سراحه باتفاقات معها، وعلى هذا الصعيد يذكر العديد من الأسماء وبعض مهمّاتها واستدراجاتها، وتحفظُ ذاكرته أسماء عشرات الشهيدات والشهداء الذين ذهبوا ضحيّة الغدر والخيانة وضعف اليقظة، ويتناول أخطاء بعض إداريّي الحزب وصراعاتهم ومنافساتهم غير المبدئية التي سهّلت على هؤلاء الذين عملوا لمصلحة الأجهزة الأمنية التحرّك بحرّية، بل إن البعض كان يُبدي إعجابًا بشجاعتهم، ولولا بعض المصادفات لكان هؤلاء قد استمرّوا وألحقوا أضرارًا لا يعلم بها إلّا الله مُستدرجين عشرات آخرين من الرفاق.
وثالثها - أنّه ينتقد تجربته، لا سيّما مشاركته في التحقيق "الحراسة" ضدّ آخرين أو قبوله بفكرة تعذيب آخرين لانتزاع اعترافات منهم، سواءً كانوا يعملون لمصلحة الأجهزة الأمنية أم رفاق اتّهموا بالتكتل أو الاحتجاج ضدّ ممارسات بيروقراطية وسياسات خاطئة، كما حصل للضحيّة المغدور مشتاق جابر عبدالله "من مدينة الثورة" واسمه الحركيّ "منتصر" الذي استشهد تحت التعذيب على أيدي رفاقه، وستّار غانم "سامي حركات" الذي استشهد خلال تسلّله إلى الداخل على يد المخابرات العراقية، وأحمد الناصري "أمين" الذي هو أحد الشهود الأحياء على ما حصل له ولرفاقه من سوء معاملة وتعذيب، وسبق له أن روى قصته ومفارقات تعذيبه على أيدي البعثيّين وعلى أيدي رفاقه الشيوعيّين. ويذكر محمد السعدي عددًا من الأسماء التي شاركت بالتعذيب أو التحقيق وفي اتخاذ القرارات صراحةً أو تلميحًا، وكان الرفيق قاسم سلمان "أبو الجاسم" قد عرض أدوات التعذيب والوسائل التي استُخدمت لانتزاع اعترافات من الرفاق المعارضين أمام الرفيق عزيز محمد (الأمين العام الأسبق) في اجتماع أمام جمع من الرفاق الأنصار، وهو ما تمّ تداوله في حينها ونشرته بعض المطبوعات الحزبية.
ورابعها - إنّه يشخّص عددًا من المسؤولين عن النواقص والعيوب والثغرات بما فيها الأمنية إمّا لعدم خبرتهم أو قلّة معرفتهم أو حتى جهلهم، ناهيك عن أنّ بعضهم يريد تحقيق مكاسب أو منجزات ليُدرج ذلك في سجلّه الشخصي. ويعرض السعدي حكايات وقصصًا عن الاختراقات وبدائيّة التعامل معها، حيث يتناول سذاجة بعض المسؤولين وانفصالهم عن الواقع، ناهيك عن "المغامرة" بالرفاق تحت عنوان إعادة التنظيم، وحسب بعض التقديرات، فإنّ بضع عشرات من هؤلاء غيّبوا في السجون ولم يُعرف مصيرهم حتى الآن، بمن فيهم رفيقات بطلات، دون أن تكون النتائج مُجزية، وكان يمكن ادّخارهم لليوم المناسب. وهكذا لم تكن حسابات الحقل منسجمة أو حتى متوازية مع حسابات البيدر، ولكن الغريب هو الإصرار بعد كل هذه الخسائر على إرسال الرفاق إلى الداخل كما يقول.

- I I I -
في الكتابين دعوة للنقد الذاتي لكشف الحقيقة ومصارحة الرفاق والاعتذار لمن تمّت الإساءة إليهم أو لعوائلهم في حالة استشهادهم، والكفّ عن مثل هذه الأساليب التي لا تخدم إلّا أعداء الحزب والشيوعيّة، وقد عبّر السعدي عن انتقاده الشديد لمن أنكر أو سكت معتبرًا ذلك تواطؤًا لا بدّ من كشفه وقد بدأ بانتقاد نفسه على ذلك، ويأمل أن يتحلّى آخرون بالشجاعة ليقولوا الحقيقة وهو ما استوضحتُهُ منه، وحسب شكسبير "فالحقيقة تُخجل حتى الشيطان"، وقد وجدت في اعترافه بأخطائه وندمه على القيام بذلك فضيلةً، وكما يقال "فالاعتراف بالخطأ فضيلة" وهو أوّل الطريق للمصارحة والمكاشفة بممارسة رياضة روحية مع النفس للتطهّر وعدم تكرار ما حصل.
ومهما كانت المبادئ سامية إلّا أنها تتعرّض للتشويه حينما تتحوّل إلى أيديولوجيا "صمّاء" وهي ما تستخدمه إدارات الأحزاب لتبرير انتهاكاتها، سواء كانت في السلطة أم خارجها، ولفرض هيمنتها، فحتى الأحلام الوردية واليوتوبيا ليست معصومة من ارتكاب الآثام والجرائم، ولعلّها ذاتها تصبح أداةً للجريمة طالما تضع الفكرة بمقام أسمى من الإنسان، وهذا الأخير حسب كارل ماركس "أعظم رأسمال"؛ ووفقًا للفيلسوف الإغريقي بروتوغراس "الإنسان مقياس كل شيء". ولعلّ التبرير بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات يُعطي المسوّغ لبعض المتأدلجين باستخدام جميع الوسائل للوصول إلى غاياتهم عن طريق العنف أو الخداع والكذب والتدليس، إضافة إلى استغلال "إيمانيّة" و"براءة" البعض الذين يعتبرون ما يرِدهم "حقائق مطلقة" حتى دون أن تستفزّهم طوابير الضحايا، فالأمر ليس مهمًّا بقدر المستقبل المنشود.
وباختلاف الفعل عن الفكرة السامية أو القصد الأصلي تتّسع دائرة الافتراق بين الغاية والوسيلة، فلا غايات شريفة وعادلة دون وسائل شريفة وعادلة، فالوسيلة من شرف الغاية، علمًا بأنّ الوسيلة ملموسة وعملية في حين أنّ الغاية بعيدة ونظريّة وحسب المهاتما غاندي رائد المقاومة المدنية اللّاعنفية "الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة" أي أنّهما مرتبطان عضويًا ولا يمكن فصلهما. 
بتقديري إنّ الممارسة هي مصدر كل حقيقة ومعيارها وفقًا لماركس، لأن النظرية لا تنفصل عن الفعل وهي حسب وصفه "توصل المجتمع إلى الوعي بذات المجتمع"، والممارسة تمثّل "حياة الفكرة" مثلما الأخيرة "دليل الممارسة" ومفتاحًا لكل الأقفال.

- IV -
إذا كان الرفيق أبي بيدر قد عانى أشد المعاناة وتركت تجربته تلك ندوبًا نفسيّة وجسديّة على حياته اللاحقة، إلّا أنها فتحت عينه على آفاق جديدة، وهو ما يتّضح من بعض استنتاجاته، سواء التي توصّل إليها أم تلك التي تترشّح من بين السطور، ومنها ما جدوى مثل تلك المغامرات؟، حيث تبقى تعتصر قلبه على فقدانه مقاعد الدراسة في كلية الآداب "قسم اللغة الروسية"، ويتذكّر عدد من أساتذته بمن فيهم حياة شرارة التي ودّعها حين قرّر الصعود إلى الجبل فعلّقت "إنت همْ راح تهرب مثل جماعتك؟" وهي الأخرى كانت عانت من مرارة علاقتها الشيوعية مع البيروقراطية الحزبية عند دراستها في موسكو، وضياء نافع وجليل كمال الدين ومحمد يونس الساعدي.
 لكنّ التعويض الأهم لكل تلك العذابات والمظالم بما فيها من ذوي القُربى "رفاق الدرب" جاءه من الحبيبة والزوجة التي مسحت دموعه ونوّرت حياته وأزهرت مستقبله، وكانت بمثابة البلسم الذي داوى جروحه، حيث ظلّ لسنوات، بل لحدّ اليوم يستيقظ مرعوبًا وفزِعًا حين يشاهد كوابيسًا مخيفة في أحلامه، ليجد زوجته (جنان) إلى جانبه، فتهدّئ من روعه وتناوله قدح ماء ليلتقط أنفاسه ويستعيد توازنه، خصوصًا بلمسة دافئة وكلمة حلوة.
- V -
تجربة محمد السعدي تُقرأ دون إسقاطات مُسبقة بالـ"مع" أو "ضد"، وحتى خارج نطاق السياسة لأنّها تجربة إنسانية وهي تصلح أن تكون فيلمًا دراميًّا بغضّ النظر عن سوداويّتها، فثمّة كوّة ضوء ويقظةٍ لأملٍ جديد وروح جديدة. إنها تجربة حيّة لنصيرٍ وشيوعيّ رواها بصدقيّة كما أعتقد، وسيكون مفيدًا لمن عايشه في تلك الفترة أن يدلي بدلوه بما تناوله من حكايات وسرديات، إن كان إضافة أو حذفًا أو تصحيحًا أو تدقيقًا أو حتى تخطئةً، لأنّني أعتقد أنّها تجربة تستحق القراءة والنقد هي ومثيلاتها، فقد حاول عرضها بطريقة لا تخلو من عفويّة وخارج دائرة القيود والتستّر.
لم يُهمل السعدي نقاط ضعفه ولم ينشغل بتلميع شخصه، ولم يدّعِ بطولة، بل عرضَ بعض مغامراته تلك بتلقائيّة لا تخلو من براءة وطفوليّة لاعتقاده أنه كان يقوم بعملٍ مهمّ يؤدّيه بإخلاص كواجبٍ محبّب، ولو استعدنا الزمن فإنّ ما فعله في تلك الأيام باعتباره عملًا اعتياديًّا سيتوقّف عنده كثيرًا، بل سيتردّد أكثر وربّما سوف لا يُقدم عليه لأنّه قد لا يجده ضروريًّا، بل إنّه انجراف غير محسوب النتائج، وتلك واحدة من دروس الحياة.
بتقديري، ليس المهم الحركة، بل لا بدّ معرفة ما الهدف من الحركة؟ وماذا يمكن أن تنتج؟ وكيف يمكن تحقيق الهدف؟ وهل الأساليب المُستخدمة تنسجم مع الواقع والتطوّر؟ فقد كانت الخسائر تكبر دون نتائج ملموسة تُذكر، وأستعيد هنا قولًا أثيرًا كان عزيز شريف (أبو عصام) غالبًا ما يردّده بعقلانيّته المعروفة: "نحن الشيوعيّين مثل واحد راكب درّاجة لا يريد أن يتوقف خوفًا من الوقوع ويبقى يتحرك بكل الاتجاهات، ولكن دون هدىً خشية من التوقّف"، أقول ذلك لأن على القائد السياسي أن يراجع نفسه باستمرار وخطط عمله وأساليبه وتكتيكاته كل يوم، بما لها وما عليها، خصوصًا وأن متغيّرات عديدة وسريعة تحصل وظروفًا وأوضاعًا كثيرة تتبدّل، وعليه التفكير والتحرك بطرق واقعيّة ورسم سياساته في ضوء المتغيّرات.
"أيّها السائر ليس ثمّة طريق... السّير يصنع الطريق... كلّ شيء يمضي... كلّ شيء يبقى" حسب الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو الذي توفّي في فرنسا هاربًا من حصار قوات فرانكو إلى مدريد بعد نشوب الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولذلك على قيادات الأحزاب أن تبتدع طُرقها الخاصة بما في ذلك اختلاف مرحلة عن أخرى، فما كان يصلح لزمن الرفيق فهد ربّما لم يعد يصلح في زمن الرفيق سلام عادل، وما هو صالح في العهد الملكي ليس صالحًا في العهد الجمهوري على سبيل المثال، كما أنّ ما هو صالح للعهد الجمهوري الأول لم يعد مناسبًا لعهديّ البعث، سواء بالستراتيجيّة أم بالتكتيكات، وما يصلح في مواجهة أنظمة وطنية بما فيها فرديّة أم ديكتاتورية، ليس هو ما يصلح لمواجهة الاحتلال، فتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.
في كتاب محمد السعدي ثمّة دهشة مستمرّة لكلّ ما حصل، وهي دهشة كبيرة ما تزال تتوالد أحيانًا، فقد كان يقيس حياته بما يحصل في قرية "الهويدر" وإلى حدٍّ ما في محافظة ديالى "بعقوبة" وحتى بغداد التي تردّد عليها طالبًا أو متسلّلًا ليعيد بناء التنظيم الجديد لم يعرفها كثيرًا، لكنّ قنديل الطفولة الذي بداخله يريد أن يبقى مضيئًا، وإذا به "لا يضيئ زنزانة خالية، بل يضيء كتابًا" حسب باشلار، فتلك الباقة من الحكايات والمرويّات أراد لها أن ترى النور، في منولوج داخلي بينه وبين نفسه ولمن يرغب في قراءتها؛ أو أنه كان يقيس حياته بملعقة القهوة وفقًا للشاعر ت.س.إليوت، وإذا بالحياة أكثر إدهاشًا وأشدّ تعقيدًا من كلِّ ذلك في مواجهة الجمال للقُبح والخير للشرّ والعدالة للظُلم والحقّ للباطل والعمران للخراب، لكن الخطأ والخطيئة ومحاولات إذلال الإنسان وجدت طريقها إلى تلك الدروب الوعرة والألغام الكثيرة والمرايا المحطّمة والمصائر المُحزنة، وهو ما يكشف عنه في أرشيفه الشخصي.

(*) أكاديمي ومفكّر من الجيل الثاني المجدّدين العراقيّين والعرب، ويُعدّ من روّاد حركة المجتمع المدني العربية، وحائز جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة 2003) بدفاعه عن الحقوق والحريّات، ولا سيّما في المجالين العربي والدولي. له أكثر من 70 كتابًا ومؤلّفًا بدءًا من حقل اختصاصه الأساسي في القانونين الدولي والدستوري إلى حقول الفكر والسياسة والثقافة والأدب والأديان، كما له مساهمات وانشغالات خاصة بقضايا التجديد والتنوير والحداثة والفكر الاشتراكي والأديان والتسامح واللّاعنف. ومنذ مطلع الستّينات عمل في صفوف الحزب الشيوعي لكنّه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية ولم يلتزم أُطرها التنظيمية التي تمرّد عليها. ويُعدّ من المثقّفين الماركسيّين الإشكاليّين الذين سلكوا طريق التجريب متخلّيًا عن اليقينيّات الإيمانية مختارًا طريق العقل والأسئلة والنقد، لا سيّما محاولاته إعادة قراءة الماركسية وتجاربها العملية.  )الناشر)


95
المجتمع المدني ... استلحاق أم استحقاق؟
   
عبد الحسين شعبان
   حين صدر كتابي «المجتمع المدني- الوجه الآخر للسياسة» أهديته إلى ثلاث شخصيات عراقية متميّزة هي: عالم الاجتماع علي الوردي مجدّد المدرسة الخلدونية، لشجاعته الفكرية وأبحاثه الريادية في سبر أغوار المجتمع العراقي والشخصية العراقية، وعبد الفتاح إبراهيم أحد أبرز مؤسسي تيار جماعة الأهالي اليساري لدوره في الدفاع عن قيم المجتمع المدني، وأديب الجادر نقيب المهندسين العراقيين الأقدم وأحد أبرز مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الإنسان ورئيسها لاحقاً لدوره القيادي المتميّز والنزيه في حركة المجتمع المدني العربي. والكتاب بقدر ما يدرس المجتمع المدني وسماته ومقوّماته فإنه يسلط الضوء على بعض ألغامه واختراقاته، ولذلك حمل عنواناً فرعياً موسوماً بـ "نوافذ وألغام"
    أخذت فكرة المجتمع المدني العربي بالتداول في ثمانينات القرن الماضي على نحو محدود، وانتشرت واتسعت وتطوّرت، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، بصيغتها القديمة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وعلى نحو سريع تأسست عشرات الآلاف من المنظمات على امتداد الوطن العربي مثلما حصل في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي طرح أسئلة حول موقع المجتمع المدني وفلسفته ودوره ومصادر قوته وعناصر ضعفه، علماً أن المصطلح ذاته لا يزال يثير التباساً وإبهاماً يتوزّع بين التوقير والتحقير وبين التقديس والتدنيس، وفي أحسن الأحوال ينظر إليه البعض بصفته أقرب إلى الكماليات والترف الفكري منه إلى الحاجة الماسّة في ظل حروب ونزاعات وعنف وإرهاب وتداخلات خارجية إقليمية ودولية، فضلاً عن أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية وبيئية طاغية.
    يمكن القول إن فكرة المجتمع المدني حظيت بمكانة خاصة في الدولة الحديثة، والأمر يتعلق بمستويين، أولهما- نشأتها وتطورها، لاسيّما موضوع الحرية الفردية وشرعية نظام الحكم ودرجة تمثيله للناس وآلية اختيار المحكومين للحكام (أي تداولية السلطة). وثانيهما تطور فكرة الحداثة ذاتها كمشروع متطلع للمستقبل، علماً أن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني علاقة معقدة ومركّبة ومتداخلة في الكثير من الأحيان.. فهل هي علاقة استلحاق أم علاقة استحقاق؟ وهل هي علاقة عدائية أم تصالحية؟ وبالتالي هل هي علاقة تصارعية أم تكاملية؟ أي هل هي علاقة استتباعية أم تشاركية؟ وهو ما يتحدّد بطبيعة نظام الحكم ومدى قوة المجتمع المدني ليكون تكميلياً وليس تبعياً.
    وحسب هيغل فإن العقد الاجتماعي ينشئ مجتمعاً مدنياً يتمايز عن الدولة قوامه الأفراد الأحرار، في حين يرفض ماركس الفكرة التي تقول إنه يمثل الحقل الثالث بين الدولة والفرد، انطلاقاً من الحلم الإنساني الذي يتجلى بإزالة الفوارق بين المجتمع والفرد والدولة، وهو ما يجسّد فكرة التحرر الإنساني. أما دو توكفيل فيعتبر مهمة المجتمع المدني المكوّن من جمعيات ومنظمات طوعية هي حماية الدولة من الانزلاق في التجاوز على حقوق الأفراد، وقد سعى غرامشي لإعطاء مفهوم المجتمع المدني نكهة أخرى جديدة ذات أبعاد معيارية، باعتباره الفضاء للتنافس الإيديولوجي من أجل الهيمنة بميله إلى التوسط بين الدولة والفرد.
    وهكذا فليس هناك مطابقة بين المجتمع المدني والدولة، وإنما هو أقرب إلى حالة مفاصلة، في إطار جدلية تمثل سيرورة حيوية يمكن ملاحظتها في التطورات التي حصلت في العديد من البلدان في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة.
    لقد كانت لحظة تحرّر المجتمع في أوروبا والغرب عموماً من أسْر الكنيسة ومن تبعات نظرية الحق الإلهي في الحكم، الخطوة الأولى على طريق قيام مجتمع مدني على أساس فكرة التعاقد بين الدولة والمجتمع وفقاً للإرادة الحرّة، وذلك بالسعي إلى تأصيل نظرية الإرادة الاجتماعية القائمة على التعاقد، حيث يتنازل فيه الأفراد عن حرّياتهم الكاملة لصالح الدولة، وهو ما دعا مونتسكيو لتصوّر حالة من التوازن بين الدولة والمنظمات الاجتماعية والسياسية، وهذا التوازن يجعل حكم القانون ممكناً، أي أن المجتمع المدني يتمايز عن السلطة ويكون خارجها في إطار حكم القانون، فهل مثل هذا الدور واقع في ظروف المجتمع المدني العربي؟
    إن المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً وهو في طور التكوّن وفي بعض البلدان لا يزال جنينياً وأقرب إلى الإرهاص، ولا يزال في بداية طريقه يسعى للحصول على الاعتراف والترخيص القانوني، حيث تتبلور مطالبته بالإصلاح والمشاركة في عملية التنمية. وأعتقد أن ذلك جزء من مسار كوني لا يمكن لأي بلد عربي أن يعزل نفسه عنه، فالعالم العربي لا يعيش في جزر معزولة، وإنما يتفاعل مع محيطه.
    ولكي يسلك المجتمع المدني الطريق الصحيح فإنه ينبغي عليه الفصل بينه وبين العمل السياسي واتباع نهج سلمي مدني وعلني نابذ للعنف وخاضع للقوانين والأنظمة المرعية، كما لا بدّ من وضع مسافة بينه وبين السلطات الحاكمة من جهة وبينه وبين المعارضات من جهة أخرى، وللحفاظ على استقلاليته يحتاج إلى حصانة وطنية لعدم اختراقه، لاسيّما بتحديد أولوياته من العلاقة بجهات التمويل الدولية، كي يصبح استحقاقاً وليس استلحاقاً.
drhussainshaban21@gmail.com   

96
منذر الشاوي: ذاكرة جيل أكاديمي
حين تتلاقح الفلسفة بالقانون

غادرنا البروفيسور منذر إبراهيم الشاوي في 24 شباط (فبراير) 2021 عن عمر ناهز الثانية والتسعين، حيث وُلِدَ في العام 1928 في محلة الأعظمية ببغداد، وعاش فتوته في منطقة الصالحية بالكرخ، وقد نعته أوساطاً أكاديمية ومهنية عديدة بينها نقابة المحامين العراقيين.
ويُعدّ الشاوي من أهم فقهاء القانون الدستوري في العراق، إضافة إلى سليمان فيضي وخليل اسماعيل وعبد الحميد القشطيني واسماعيل المرزة ومحمد علي آل ياسين وعبدالله اسماعيل البستاني، كما يعتبر من أبرز فقهاء القانون الدستوري العرب من أمثال مصطفى كامل وثروت بدوي وعبد الحميد بدوي ويحيى الجمل وطعيمة الجرف ومحمود حلمي وعثمان خليل وسعد عصفور ومحمد المجذوب ومنير العجلاني ومصطفى البارودي وكمال غالي، وقد رفد المكتبة العربية بالعديد من الكتب والمؤلفات والدراسات الرصينة، إضافة إلى منجزاته العملية، حيث يعود له الفضل في مبادرة تأسيس المعهد القضائي في العام 1976 والذي صدر قانونه بالقرار رقم 33 والذي يهدف إلى إعداد مؤهلين لتولّي الوظائف القضائية ورفع المستوى القانوني للعاملين في دوائر الدولة الرسمية وغير الرسمية.
وبحكم موقعه ودوره الفعلي كان الأبرز في بلورة فكرة إصلاح النظام القانوني في العراق الذي صدر بقانون رقم 35 لسنة 1977 والذي أقرّ التزام الوزارات وأجهزة الدولة وهيئاتها ومؤسساتها لتحقيق ذلك بالتنسيق والتعاون مع وزارة العدل، كما ساهم في كتابة الدستور العراقي المؤقت لعام 1970 في لجنة مؤلفة من عدد قليل من الأعضاء وكذلك قانون الحكم الذاتي لعام 1974 ومشروع الدستور العراقي الدائم لعام 1990 الذي لم يرَ النور، حيث تم نشره قبل ثلاث أيام من غزو الكويت(2 آب/ أغسطس/ 1990) وطواه النسيان بعد ذلك،
وقد سبق لي أن ناقشتُ تلك المشاريع من موقع النقد باستفاضة في كتابَيَّ الأول - "المحاكمة: المشهد المحذوف من دراما الخايج" 1992 والثاني - "عاصفة على بلاد الشمس" الصادر في العام 1994، وعدتُ أيضاً لمناقشتها بصورة موّسعة في كتابي الموسوم ،"الدستور والدولة من الاحتلال إلى الاحتلال"  في العام 2005 وذلك في نقدي للمشاريع الدستورية التي طُرحت بعد الاحتلال من "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" عام 2004 إلى "الدستور الدائم" الذي أستفتيَ عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005 وأجريت الانتخابات على أساسه في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.
 وبغضّ النظر عن الاختلاف في التوجه والرؤية وزاوية النظر والخلفيات الفكرية إزاء تلك النصوص الدستورية والقانونية وفلسفتها ومقاصدها والأهداف التي تقف خلفها والجهات التي تخدمها، فقد كان الشاوي جزءًا من مرحلة شديدة الحساسية والتعقيد والواحدية والاطلاقية وكان هامش حرية التعبير محدوداً إن لم معدوماً،  وعلينا أن لا ننسى ذلك عند التوقف عنده أو عندها، وحاول أن يفلسف رؤية السلطة القانونية ضمن سياقات السلطة النافذة وتوجهاتها المعلنة وإيديولوجيتها السائدة في مراحلها المختلفة، حيث عمل وزيراً للعدل من العام 1974 ولغاية العام 1988، وعاد إلى وزارة العدل بعد إعفاء "شبيب المالكي" من العام 2000 إلى العام 2003 كما شغل منصب وزير التعليم العالي من العام 1988 ولغاية العام 1991.
وخلال تلك الفترات عمل مستشاراً لرئاسة الجمهورية من العام 1994 ولغاية العام 2000 وقبلها مستشاراً في مكتب السيد النائب صدام حسين لوضع الخطط والبرامج لتطوير مناهج الدراسات العليا.
وفي جميع المواقع التي شغلها وعمل فيها كان يتمتع بصدقية واستقامة وحرص ومسؤولية وحاول أن يحتفظ لنفسه بهامش من الاجتهاد في حدود الممكن والمسموح به، وكان يُدرك الأرضية التي يقف عليها ويقيس المسافة بدقّة بينه وبين قمة الهرم من خلال ذكائه الحاد وحكمته وبُعد نظره وصبره.
استحقّ منذر الشاوي أن يكون عضواً في المجمع العلمي العراقي لمنجزاته الأكاديمية وذلك منذ العام 1979، وأستطيع القول أنه كان صاحب فلسفة وعلم غزيرين، لا سيّما في القانون وحاول أن يضّخ فلسفته القانونية من خلال "قانون إصلاح النظام القانوني" الذي عبّر عن فلسفة السلطة في مرحلة تأسيسية من مراحلها المهمة، التي استهدفت إعادة طبع الحياة السياسية بما تناسب مع توجهاتها التي صبغت حركة التحرر الوطني في مرحلة من مراحل تطورها تأثّراً بالتجربة الاشتراكية العالمية ومحاولة تقليدها أو استنساخها ضمن ظروف العالم الثالث والأوضاع الخاصة في بعض بلدانه.
كان الشاوي مقبلاً على الحياة و"عيّشاً" كما يقول اللبنانيون، وقد كان لا يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه لأخذ قسطاً من لذائذها وفوائدها، وكان متذوقاً للأدب والفن والموسيقى والجمال، قارئاً منفتحاً وناقداً عارفاً لحيثياتها وله عينٌ بصرية خاصة بالرسم والنحت، وهو من القلائل الذين عرفتهم من الأساتذة الذين يوّلون الجانب الثقافي اهتماماً خاصاً، ولولا استغراقه بالعمل المهني والوظيفي الذي أخذ جُلّ وقته، لكان منذر الشاوي فقيه قانوني أقرب إلى قلم الأديب وحبر الناقد، وقد حاول أن يُطعم كتاباته القانونية بذلك، خصوصاً وقد كان تأثيرات الوجودية في مرحلتها الاولى الستينية قوية عليه، وحاول أن يجد روافداً بين فلسفة القانون والثقافة والفن، وهو ما عكسه في سنواته الأخيرة، خصوصا وأنّ روحه الحرة وانفتاحه وتألق شخصيته كانت في هذا الاتجاه.
العلاقة بين الطالب والأستاذ
أُعجبتُ والعديد من زملائي بشخصية منذر الشاوي الكارزمية وفكره التنويري ودعوته إلى الحداثة وارتباط ذلك بفلسفة التغيير، بل أنه كان يمثّل لجيلنا نمطاً جديداً من الأساتذة، الأنيق، الوسيم، المستقلّ، غير التقليدي، المنفتح، المشجّع على الحوار، القريب من الحس والشعور بالتجديد، وكانت حصته الدراسية منتدىً للحوار والاثارة ومنها مواضيع يشتبك فيها القانون بالسياسة، وهذه بالفلسفة التي كان يميل إليها، فضلاً عن الأدب والفن والسينما والمسرح، ولم ننسى حياة الناس ومعاناتهم أيضا في أجواء كانت متوفرة إلى حدود معينة في جامعة بغداد في أواسط الستينات. وغالباً ما كنا نلتقي بساحة الكلية بعد انتهاء محاضرته أو كلّما كانت الشمس ساطعة والجو معتدلاً وذلك في أكثر الأيام، وكان دائما ما يتحلّق حوله العديد من الطالبات الجميلات. وبالمناسبة فتلك الفترة حرص فيها الأساتذة على لقاء الطلبة مثلما كان يفعل ابراهيم كبة ومحمد عزيز وخير الدين حسيب وطارق الهاشمي وآخرين.
درسنا على يديه القانون الدستوري (نظرية الدستور) ثم القانون الدستوري (نظرية الدولة)، وأعتقد أنه أدخل فرعاً جديداً أو حاول ذلك بعنوان "نظرية الدولة والقانون" ويعتقد وهو على حق إنّ الفلسفة أمّ العلوم، ولذلك لكل قانون فلسفة، وبالطبع فلكل قانون تاريخ أيضاً وهو ما كنّا نناقش فيه أيضاً من خلفياتنا بشأن المادية التاريخية، وهكذا فالفلسفة والتاريخ ركنان أساسيان لأي علم ولأي موضوع، واذا كان الشاوي أحد الأساتذة الذي أثّروا في توجهي الأكاديمي، فقد كان للدكتور حسن الجلبي الذي درّسنا القانون الدولي، وكان من أكثر الأساتذة تشدّداً، هو الآخر لعب دوراً في اختياراتي القانونية لاحقاً، وهو ما حاولتُ أن أشتغل عليه في دراساتي العليا التي انتقلت من العلوم السياسية والاقتصادية إلى العلوم القانونية الدستورية والدولية.
 وحين عُدتُ إلى العراق بعد حصولي على الدكتوراه في العام 1977 نصحني الدكتور صفاء الحافظ الذي كان عضواً في ديوان التدوين القانوني بزيارة منذر الشاوي في وزارة العدل، لاطلاعه على اختصاصاتي، خصوصاً وكان يعرف علاقتي الخاصة به، وقد اتصلتُ بالوزارة فإذا بمدير مكتبه أحد زملائي وصديق عزيز لي وهو إدهام خميس الضاري،  وهو قريب الشيخ حارث الضاري، وكنت كلما ألتقي الشيخ حارث الضاري يرد ذكر إدهام. وفي اليوم التالي، كنتُ في مكتبه وكم كان يُصغي إليَّ باعتزاز وغبطة، إلى أنني درست "نظرية الدولة والقانون" في "معهد الدولة والقانون" التابع لأكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، وهي أرقى مؤسسة علمية، وكنت حينها الطالب العربي الوحيد الذي تخرّج من المعهد علماً بأنني درستُ في الوقت نفسه "فلسفة القانون" واخترت القانون الدولي كاختصاص، وكاختصاص دقيق "المعاهدات الدولية المتكافئة وغير المتكافئة"، ولا أنسى أنّه أثنى على توجهات بلدان أوروبا الشرقية ومناهجها القانونية ودراساتها الأكاديمية التي اعتمدت فلسفات كلّانية بشأن وحدة القانون باعتباره تعبيراً عن مصالح الطبقات القابضة على السلطة، وهو ما حاول العراق اقتفاءه في تجربته السياسية والقانونية، وللأسف فإنّ التجربتين الأصل والفرع لم تكونا ناجحتين.
وسألني ماذا أنا فاعلٌ بخصوص العمل؟ فقلت له لديّ تعيين مشروط من جامعة بغداد كلية القانون يبدأ بعد إنهاء الخدمة الإلزامية، فقال: لنا حديث آخر بعدها، وأرجو أن تتّصل بي بعد الإنتهاء من إدائها واذا حصل أي تأجيل أو انتداب يمكن أن تعلمني بذلك فشكرته على اهتمامه.
الانتخابات الطلابية
تعمّقت صلتي بمنذر الشاوي عشية الانتخابات الطلابية (ربيع عام 1967) وسألني ماذا أنتم فاعلون؟ قلت له نمدّ أيدينا للتعاون مع الجميع فعسى أن نتمكن من عقد "جهة طلابية" وكان ذلك شعارنا، لكن الأمر لم يتحقق لإشكاليات وعُقدٍ سابقة، فضلا عن محاولة تضخيم الحجوم، وفضّل كل فريق أن ينزل الانتخابات بمفرده، وعلى الرغم من تخوّفنا من احتمالات الصدام إلّا أنّ الأمر تمّ بسلاسةٍ واعتياديةٍ نسبياً باستثناء ما حصل في كليتي الحقوق والتربية الرياضية التي انسحبنا منها بسبب أعمال شقاوة وتهديدات، وفعلنا ذلك احتجاجاً.
ومع ذلك كانت النتائج أن أحرزنا 80% من الأصوات و76 من المقاعد الانتخابية، وهذا ما كان مفاجئاً حتى لنا، بل مفارقة حقيقية، فقد كانت التقديرات التي توّصلنا إليها قبل الانتخابات بأننا يمكن أن نحصل على 20-25 %، وإذا بنا نعبر أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، ويعود السبب في ذلك إلى أننا نزلنا بقائمة موّحدة وشعارات مهنية واخترنا أفضل الوجوه الاجتماعية وقد انضمّ إلى قائمتنا مجموعة يسارية يُطلق عليها اسم "المنظمة العمالية" وأصولها من حزب البعث وقد انشقّت عنه في مطلع الستينات وأسسّت كتلةً بإسم "الكادحين العرب" التي كان يقودها قيس السامرائي الذي كان قد درس معنا بعد عودته من انكلترا ليستكمل دراسته في جامعة بغداد، وقد فاز عدد من الذين تمّ ترشيحهم معنا وتحت اسم قائمتنا. أمّا السبب الثاني فإن الآخرين كانوا متفرقين ومنقسمين، وأننا كنا نمثل الطرف الأكثر تماسكاً وتنظيماً وتطلّعاً نحو الحداثة وتوجهاً للتغيير في الشبيبة الطلابية المتطلّعة دائما إليه.
واحترنا في الأمر لا سيّما بعد إلغاء نتائج الانتخابات في اليوم التالي، وكان المبرر أن "القوى الشعوبية" بدأت ترفع رأسها كما كتبت صحيفة عراقية كانت تبرر فعل الحكومة في الغاء نتائج الانتخابات، التي كنا نأمل أن تكون "بروفة" لإنتخابات عامة، كما وعد حينها رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وكان خير الدين حسيب وهو الآخر أستاذ في كليتنا حينها، قد طلبني ليستفسر كيف حصل ذلك؟ وبصوتٍ عالٍ سألني: هل هو جمهوركم أم تنظيم قويّ لكم؟ وقلت له وهو ما كتبته قبل سنوات في مراجعةٍ للتجربة "مجلة المستقبل العربي" 2013: أنّ مسؤوليتنا ستصبح أكبر وأننا حتى لو حصلنا على 99% فإننا لن نستطيع أن نقود الإتحاد أو البلاد دون تعاون وطني عام وتلك هي قناعتي التي كانت تتعزّز مع مرور الأيام، فالتعددية والتنوّع من طبيعة المجتمع العراقي التي لا بدّ من أخذها في عين الاعتبار.
كان الشاوي حريصاً على التعاون الوطني ونصحنا بتكرار مبادرة اللقاء مع الآخرين، وهو الأمر الذي عدنا إليه بقوة برفع شعاراتٍ جبهوية بعد عدوان حزيران (يونيو) 1967، وخصوصاً كان شعارنا "كل شيء إلى الجبهة"، بل رددّ بعضنا "كل شيء من أجل الجبهة" وهو حوار بمنولوج داخلي لدينا انفجر لاحقاً بانقسام الحزب الشيوعي  إلى كتلتين متنازعتين  "القيادة المركزية" و"اللجنة المركزية"، وكم كان متعاطفاً مع الطلبة في الإضراب العام أواخر العام 1967 وأوائل العام 1968 ، خصوصاً بعد سقوط جرحى في كلية التربية إثر مداهمةٍ بوليسية.
وازدادت لقاءاتنا مع الشاوي وكنا على وشك التخرّج، وأتذكّر أنّه دعانا مرّة في "مطعم عمّو الياس" على الغذاء، وذلك تحضيراً لفكرة تأسيس "الجمعية العراقية للعلوم السياسية" على الرغم من أنّه وضع نفسه خارجها، وكانت الاتصالات الأولى مع القيادي البعثي محمد محجوب وتمّ الأمر في الأسابيع الأخيرة لتخرجنا. وعند قيام انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 كانت الجمعية قيد الانشاء، وأتذكر أنها اختارت جمعية الحقوقيين كمقرّ لها أيضاً.
لقاء مع ليلى خالد
من الأماسي التي نظمتها الجمعية حتى قبل انتخاباتها التي جرت في العام 1969 ، هو استضافة ليلى خالد واسمها الحركي"شادية أبو غزالة"، والتي ستُعرف باختطاف الطائرة الأميركية TWA في 29 آب (أغسطس) 1969، وبلغت شهرة واسعة بعد محاولة اختطاف طائرة العال الإسرائيلية المتوجهة من أمستردام إلى نيويورك (6 ايلول / سبتمبر/ 1970) وقد قُتل زميلها النيكاراغوي باتريك أورغويللو على متن الطائرة وتمّ احتجازها في لندن حين هبطت الطائرة اضطراراً، وقد انعقدت صداقة بيني وبينها إضافة إلى صداقتي مع زوجها المناضل والكاتب فايز الرشيد.
وحينها تعرّفت يومها على رفيقها عدنان جاسم البيّاتي المعروف باسم "باسم العراقي" والمسؤول عن مطار الثورة واختطاف الطائرات في عمّان والذي رصدت له الأجهزة الأمنية الأردنية عشرة الآف دينار لمن يُلقي القبض عليه حيّاً أو ميتاً. وعدنان أو "باسم العراقي" كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، وضابطاً سابقاً برتبة ملازم أول في الجيش العراقي وحُكم عليه لمدة ثلاث سنوات بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 وبقي في سجن نقرة السلمان. وحين أُطلق سراحه غادر العراق بعد فترة وإلتحق بحركة المقاومة الفلسطينية واشتغل مع الجهة الشعبية لتحرير فلسطين وتنظيم العمليات الخارجية بقيادة وديع حداد. وكنت قد التقيته في العام 1975 في براغ، وقد سألته إلى متى سوف تبقى على هذه الحال من التّرحال؟ فقال لي: أنها مهمّة واحدة وسأستريح.
 وبعد عدة أسابيع اعتقلت الأجهزة المصرية عدنان البيّاتي الذي كان قادماً من ايران بجواز سفر سعودي وتمّ كشف المهمة وهي اغتيال شاه ايران (محمد رضا بهلوي) خلال زيارته إلى برلين، وقد أنكر أنّه عراقي، فقامت السلطات المصرية بتسليمه إلى المملكة العربية السعودية التي حكمت عليه لثلاث سنوات قضاها في سجن انفرادي وقد قابلت والدته الرئيس المصري محمد أنور السادات مرتين ووعدها خيراً، وبعد انتهاء محكوميته أُطلق سراحه العام 1978 بتدخل من الحكومة العراقية. وعاد إلى العراق، ثمّ غادر إلى بيروت، ومنها إلى عدن ثم عاد إلى العراق وتوفي هناك.
كانت إدارة الشاوي للندوة التي عقدتها الجمعية العراقية للعلوم السياسية متميّزة كالعادة، وطرح أسئلة شارك فيها عدد من الأساتذة والمعنيين وإن لم يكن العدد يزيد عن 15 مشاركاً، فقد كانت ندوة نخبوية بامتياز عن مركز المقاومة في القانون الدولي، والحق في الدفاع عن النفس وفقاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، إضافة إلى التفريق بين المقاومة والإرهاب، والإرهاب الأسود والإرهاب الأبيض والأحمر، ولم يكن إرهابا أخضراً حينها، وغيرها من مواضيع حركة التحرر الوطني وأساليب الكفاح، ولا سيّما الكفاح المسلّح . وكانت تلك إحدى  مميزات الشاوي غير القابلة للحصر، فهو يفاجئك بآراء ووجهات نظر متقدمة، ويثير أسئلة أقرب إلى الشك والشغب الفكري أحياناً، والهدف هو تفعيل التفكير وتنشيط الحوار وتعميق الجدل بعيداً عن النصيّة أو الإيمانية أو ادعاء امتلاك الحقيقة، وتلك كانت إحدى مواصفاته في الستينات، سواء خلال إلقائه محاضرات أو أثناء الحوار معه.
الصحافة
أتذكر أنه في أحد الدروس سألنا ما هي أهم جريدة في العراق، قال أولّهم اليقظة و آخر البلاد وثالث الزمان ورابع المنار وخامس العرب وسادس الثورة العربية وسابع الجمهورية، وقلت أنا اتحاد الشعب التي لم تعمّر طويلاً كجريدة علنية، وسألني هل هي جريدة سرية الآن؟  قلت له ما يوازيها، ثمّ سألني خارج الصف ماذا تعني؟ فقلت له: اسمها الحالي "طريق الشعب" فقال على الرغم من أنني لم أكن في العراق يوم صدرت (اتحاد الشعب) الّا أنّ الأعداد القليلة والتي لا تتجاوز أصابع اليد التي اطلعتُ عليها، وأنا في فرنسا، كانت تشير إلى مهنيتها ورصانتها وتنوّع موادها وغنى الثقافة فيها بغضّ النظر عن الاختلاف مع توجهاتها، فقد كانت أكثر مدنية وحداثةً وتنويراً. وهو الرأي الذي فاجئنا حينها، في تعليقه داخل الصف وذلك في لحظة وضوح وصراحة. وبعد الانتهاء من المحاضرة، بادرتُ للهمس في أذنه إذا كنت راغباً في ايصال طريق الشعب فيمكنني أن أوفر لك ذلك، وأتذكر أنني زوّدته لأكثر من مرة بها وكلما توفرت الظروف، وما كنت أفعله مع آخرين.
جمعية العلوم السياسية
ما عزّز علاقتي بمنذر الشاوي هو الحوار معه لإقناعه بترؤوس الجمعية العراقية للعلوم السياسية، وكنت أذهب إلى بيته مساءً مع مسؤول الحركة الاشتراكية العربية "صباح عدّاي" واشترط موافقة البعثيين، وقلنا له بالطبع فذلك أمر لا غنى عنه، ونحن نطمح بائتلاف وطني واسع يشارك فيه الأكراد أيضا، وبالطبع كان زهير يحيى من المتحمسين لرئاسته للجمعية، وهو أحد القيادات البعثية المتنوّرة والمثقفة، وكنت قد جئتُ على ذكر مزاياه أكثر من مرة، وارتبطت به بعلاقة صداقة منذ العام 1966 بعد عودته من لندن ومواصلة الدراسة معنا، وكان عضواً في فرع بغداد، وأصبح في المؤتمر القطري الثامن عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث (مرشحاً احتياطيّا)، وهو من الشخصيات التي تستحق الثقة والوفاء، وقد توفي في ظروف غامضة في السبعينات والتقينا الشاوي وأبلغناه دعم البعثيين وحماستهم لرئاسته وهم والحقيقة تُقال، كانوا الأكثر نفوذاً في الجمعية، فاشترط أن يكون الأمين العام (صادق الأسود) وهو أقرب إلى اليسار، فوافق الجميع.
والتقينا عدّة لقاءات حيث مثّل الحركة الاشتراكية سمير العاني وصباح عدّاي وكنت ألتقي هاني إدريس أيضاً للغرض نفسه، امّا حزب البعث فبعد لقاءات عديدة مع زهير يحيى الذي كان مسؤولاً عن تنظيمات وزارة الخارجية وأصبح مسؤولاً عن مدينة الثورة ثمّ نُقل الى الموصل كمسؤول أول فيها أوكل الأمر إلى حامد الجبوري، الذي التقينا به لقاءً واحداً في وزارة الشباب، ثمّ تفرّغ للمهمة الصديق مجبل السامرائي سفيرنا في أوسلو قبل تقاعده (أعيد بعد الاحتلال للعمل الديبلوماسي). ومثّل الأكراد طيّب محمد طيّب وصلاح عقراوي وكانا من مجموعة المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني (ابراهيم أحمد - جلال الطالباني)، والأمر قبل بيان 11 آذار (مارس) 1970، أما الحزب الشيوعي فقد مثّله (كاتب السطور) واتفقنا على أن يكون منذر الشاوي الرئيس وصادق الأسود أميناً عاماً وأحد البعثيين (مجبل السامرائي) وأحد الشيوعيين (كاتب السطور) نواباً للرئيس أو حتى بصفة أعضاء إذا اتفقنا على (الرئيس والأمين العام وأمين الصندوق) ويأتي كل طرف منّا بعضو مستقل (ويكون العدد 9) واتفقنا على ذلك، واستبشر البعثييون بالتحالف الأول الذي حصل على الصعيد المهني.
 وقبل الإعلان عن موعد الانتخابات قانونياً، هاتفني الشاوي وطلب حضوري إلى منزله (القريب من منزلي في العطيفية) وكذلك بالقرب من منزل صباح عدّاي وحين قلتُ له هل أبلغ صباح عدّاي؟ قال لي تعال لوحدك في الثامنة وأبلغه بالحضور في التاسعة مساءً. وذهبت إليه وكان يرتدي سترة النوم (الروب) فوق القميص والبنطلون، وجلستُ أمامه وكان يُحدّق عاليا، فقال لي: أنني أعتذر عن الترشيح وفوجئتُ بالخبر، بل وقع عليّ كما هي الصاعقة ، فقد بذلنا محاولات دامت لأكثر من ثلاثة أشهر لترتيب القائمة، وهكذا انسحب الأسود أيضاً وكان التشكيل لاحقاً ضعيفاً، فرشحنا من جانبنا نعمان شعبان واحتياطي أحد الشخصيات على ملاكنا لعدم موافقتهم على ترشيح السيّدة رجاء الزنبوري، وكان الأخير قلقاً وغير مستقرّ، وقد أبلغت الرفيق ماجد عبد الرضا حينها بشأنه، فقلت له أنّه الآن معنا وصديق لنا ويدفع تبرعات مستمرة منذ ثلاث سنوات، لكنه إذا تمّ الضغط علينا قليلاً فسينسحب، وإذا ازداد سينتقل إلى الطرف الآخر، وهو ما حصل بالفعل فقد تسلّق المواقع سريعاً.
ويضحك معي جليل الشيخ راضي، حين قال لي مرة: لقد أمضيت في حزب البعث ما يزيد عن ربع قرن، ولست سوى عضوا، فكيف أصبح "صاحبكم" عضو شعبةً وتلك واحدة من مفارقات الوضع السياسي وربما يوجد مثلها الكثير ما بعد الإحتلال فقسم من الذين عملوا في تنظيمات حزب البعث أو الصف الوطني أصبحوا كوادر متقدمة لدى الأحزاب القائمة وانتقلوا من ضفّة إلى أخرى، بل أنّ بعضهم أصبح الأكثر تطرفاً، ورشّح صباح عدّاي عن القوميين وصلاح عقراوي عن الأكراد وأصبح الرئيس طه الحديثي (ماجيستير علوم سياسية) واختزلت المناصب الأخرى إلى صفة عضو فقط.
   قال لي منذر الشاوي في الخلوة بيني وبينه: نحن نريدها جمعية حقوقية فكرية ثقافية ونريد اصدار مجلة حرّة ونريد اثارة مواضيع للنقاش والجدل، والجو العام لا يسمح بذلك، لذلك قررتُ الابتعاد وهذا الأمر بيني وبينك، وما سأقوله لصباح والآخرين أنني متفرغ للكتابة ولدي مشاريع أخرى.
كان ذلك قبل أن يستدعى ليشارك في صياغة الدستور العراقي المؤقت  (تموز/ يوليو/ 1970) ومن ثمّ توكل إليه المهمات الرسمية التي قام بها بجدارة بغضّ النظر عن الرأي فيها، وأظنّه اقتنع في تلك الظروف أن السبيل لكي يكون دوره أكبر وأكثر تأثيراً هو بالانتماء إلى حزب البعث، سواء كان الأمر طوعاً أو اضطراراً وقد تمّ الأمر على مراحل و بالتدرّج، فالظروف العامة كانت تميل بهذا الاتجاه، وعمل في المكتب المهني وكان مسؤوله لفترة شبيب المالكي، علماً بأن المؤسسات والمنظمات المهنية كلها تابعة للمكتب المهني، بما فيها الجمعية العراقية للعلوم السياسية، وكان آخر مسؤول للمكتب المهني عبد الغني عبد الغفور، وبالعودة إلى الجمعية العراقية للعلوم السياسية التي نشط فيها لفترة  وميض عمر نظمي، كما ساهم في تأسيس "الجمعية العربية للعلوم السياسية" في قبرص، وأصبح أميناً عاماً لها، وقد ترأس منذر المطلك عضو المكتب المهني الجمعية العراقية للعلوم السياسية، وكان أن التقيته في مؤتمر ديربن بجنوب أفريقيا 2001 رئيساً للوفد العراقي الذي ضمّ الصديق رياض عبد العزيز النجم والصديق نعمان شاكر نقيب المحامين الذي تعرفتُ عليه لأول مرة وثائره العاملة في الطاقة الذرية التي تعرفتُ عليها ولم ألتقِ بها لاحقاً.
ويومها فاجئني منذر المطلك ملاطفاً ما الذي أتى بك إلى هنا؟ قلت له أنا الذي أسأل ما الذي أتى بك أنتَ إلى هنا؟ فقال صرنا مثلكم " مجتمع مدني" ثمّ سألته بعد ذلك ماذا تقصد؟ فقال: أنني رئيسٌ للجمعية العراقية للعلوم السياسية، وكانت الجمعية قد انضمّت إلى جمعية الحقوقيين العراقيين بعض اعتقال بعض أعضائها بمن فيهم من الهيئة الإدارية وابتعاد الأفراد المحسوبين على المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بعد بيان 11 آذار (مارس) 1970، لكنها حسبما يبدو عاودت النشاط كمنظمة مهنية مستقلة، فرويتُ له كيف تأسست الجمعية وما هي التحضيرات الأولى واللقاءات التمهيدية ومن ثمّ الحوارات للوصول إلى صيغة مشتركة وتلك حكاية أخرى لا بدّ من التوقف عندها في وقتٍ لاحقٍ، ويهمني أن أنوّه هنا إلى ما سمعته من المطلك والنجم من معاناة إنسانية وشخصية وعامة كانا يعيشانها وتلك تحتاج إلى سردية خاصة كنت قد وضعتها ضمن مشروعي النقدي.

في عمّان
بعد أن تعرّض منذر الشاوي إلى احتجاز في بغداد العام 2005 قال أنّ أحد طلابه من المتطرفين في النظام السابق كان وراءها، وذلك حين تمّ ترشيحه ضمن مجموعة ما يسمّى بالمكوّن السّني حيث أضيف  15 عضواً إلى لجنة صياغة الدستور الذي وضع مسوّداته نوح فيلدمان  وقام بتنقيح بعض أجزائه بيتر غالبرايت، ولاطفته هنا أين سيكون موقع منذر الشاوي؟ قال: تلك غلطةٌ لم أقدّر أبعادها، وبعدها اضطرّ إلى الهجرة إلى عمّان التي عاش فيها منذ العام 2005 ولغاية وفاته، ولعل خطوة قبوله الانضمام إلى تلك اللجنة كانت خطوة خارج السياق وهي تتعارض مع ما عمله طيلة ما يزيد عن ثلاثين عاماً في أعلى المواقع الحكومية والادارية، وفي عمّان عاش حياة بسيطة أقرب إلى التقشف في شقة متواضعة كنت قد زرته فيها أكثر من مرة، بعد أن زارني عدّة مرات في الفندق وأهداني كتبه الجديدة وكنتُ مسروراً مثلما هو باستعادة العلاقة، وكان صاحب دار ورد محمد الشرقاوي هو الذي يقوم بطبع كتبه، مثلما طبع لي أكثر من كتاب وأدوّن هنا اهداء أحدها لي بخطّه الجميل وحروفه الأنيقة "إلى المفكر العربي الأخ الدكتور عبد الحسين شعبان مع فائق الود والاعتزاز منذر الشاوي الأول من حزيران 2008"، وحين تدهورت صحته ولا سيّما بعد وفاة زوجته "أمّ النعمان" كنت أزوره في المنزل بصحبة أحد الأصدقاء وفي أحد المرات بصحبة الدكتور حسن البزاز كما أتذكّر.
في آخر لقاء لي معه في عمّان ومنذ نحو سنتين تقريباً من وفاته، في تموز (يوليو) 2019 كان متعباً وبدا نحيفاً بذاكرة مشوشة، زرناه مجموعة من طلبته اجتمع بعضها عن طريق الصدفة في لقاء فكري وضمّت المجموعة البروفيسور عامر حسن فياض (مدير مكتبه قبل سفره للعمل في ليبيا) والبروفيسور شيزارد النجار والدكتور نجدت عقراوي والدكتورة خانزاد أحمد، وكانت الرغبة الجماعية الاتصال باستاذهم القديم وقد اتصلتُ به وأبلغته بذلك وسألته إذا كان وضعه الصحي يسمح بالزيارة، فرحّب باللقاء وطلب مني الأسماء فذكرتها له.
وبما أنه كان يعيش وحيداً فقد طلب حضور أحد طلبته القدامى وزميله في الوزارة لاحقاً الذي كان يتردد عليه وهو سمير الشيخلي وزير الداخلية الأسبق، الذي كان باستقبالنا وتمتدّ علاقتي بالشيخلي إلى أواسط الستينات، وكان آخر لقاء بيننا في نهاية العام 1969 أو مطلع العام 1970، وكان اللقاء مع الدكتور منذر الشاوي ممتعاً وشيّقاً كالعادة، وحين تقدّمت منه إحدى زميلاتنا لالتقاط صورة تذكارية، قلت لها اقتربي منه، بل والتصقي به فإنه يحبّ الحلوات، فضحك الشاوي من القلب لهذه الأجواء المملّحة الذي ذكّرته بالماضي الجميل، وحلّت تلك الضحكة في ذاكرتنا كلّ ما التقينا نتذكّرها بمودة وشعور الامتنان لاستاذنا.
هشام الشاوي: سجل حافل
ربطتني علاقة شخصية بشقيقه هشام الشاوي خرّيج جامعة أكسفورد، وكان حين يتحدث بالانكليزية لا يمكنك تمييزه عن الانكليز، وهو ما فاجئ به الصحفيون الأجانب في المؤتمر الصحافي الذي عُقدَ في لندن اثر انتقاله للمعارضة في ربيع العام 1993 ، وبعد أن عمل سفيراً في كندا وقد وصل في الفترة ذاتها حامد الجبوري، وبالمناسبة فقد درّسنا هشام الشاوي "الدبلوماسية" في السنة الرابعة من الدراسة العام 1967، وكانت علاقتي قد توطدت في لندن خلال الأشهر القليلة التي مكث فيها قبل اضطراره المغادرة إلى المملكة العربية السعودية، وفيما بعد في الرياض.
كان هشام الشاوي يختلف عن منذر فقد كان قومي الهوى لدرجة المحافظة أحياناً، وقد أسسّ مع المحامي يوسف الخرسان "الرابطة القومية" وعمل معهما لفترة الشاعر عدنان الراوي، الذي سبق أن أُسقطت عنه الجنسية العراقية في العهد الملكي، لكنها ظلّت منظمة على الهامش، وقد استوزر كوزير للتعليم العالي ووزيراً للشؤون الخارجية في السبعينات، وأدخل كقومي إلى الجهة الوطنية مع دكتور نزارالطبقجلي الذي هو الآخر أقرب إلى التيار القومي والذين عملوا تحت هذه المظلة.
ويمتاز هشام الشاوي بمسألتين لا يضاهيه فيهما أحد: الاولى: لغته العربية الصافية، وكان متمكنّا منها وبارعاً في استخدامها، حيث كان يرفض الحديث بالعامية لأي أمر وفي أية قضية، وكان الرفيق عامر عبدالله الذي زامله في الوزارة شديد الإعجاب به وفي الوقت نفسه يحاول مناقشته بشأن اللغة ودورها ووظيفتها كما أخبرني وقد التقاه في لندن أيضا. والثانية: معرفته بتاريخ العشائر فهو من العبيدات ويستطيع بسرعة خاطفة أن يُظهر لك شجرة العائلة وأين يمكن أن تلتقي مع العبيدات؟ وحين سألني عن أصل شعبان، فأجبته أنّه الجد السادس القاضي عبدالله الشعبان رئيس الخدمة في حضرة الإمام علي، والأصل حميري قحطانيٌّ من جبل النبي شُعيب في اليمن، فأكمل لي المشهد وذلك خلال دعوته لي في الرياض بفندق الإنتركونتننتال وفي كل زيارة لي للرياض لم أكن أتردد من اللقاء بأبو الحكم لما في حديثه من علم وفائدة ومتعة. وآخر لقاء لي معه في عمّان في مطعم بالصدفة ثم عرفت أنه توفي بعد بضعة أشهر 2013، وهو أصغر من منذر بسنتين.

منذر الشاوي في سطور
تخرّج الشاوي من كلية الحقوق في بغداد، العام 1951 ونال دبلوم العلوم القانونية في العام 1954 والدكتوراه في العام 1956، وحصل على درجة شرف في دكتوراه الدولة من جامعة تولوز حيث كان الفائز الأول في الاطروحات العام 1961 ، ودرّس في جامعة بغداد ونال درجة الاستاذية في العام 1973 وكان استاذاً في المعهد القضائي 1977- 1988 وقال لي القاضي رزكار أمين الذي كان أول قاضٍ لمحاكمة صدام حسين واستقال احتجاجاً على تدخلات خارجية كما أفاد، أن أكثر أستاذ استفاد منه هو منذر الشاوي، وفرح كثيراً حين عرف علاقتي الطيبة به، كما درّس في جامعة النهرين (صدام سابقاً) من العام 1992 ولغاية العام 2002.
ومن أهم مؤلفاته:
      - نظرية الدستور (1964)
      - نظرية الدولة (1966)
      - القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية في العراق
      - فلسفة القانون (1994)
      - المدخل لدراسة القانون الوضعي 1996
      - الدولة الديمقراطية في القضية السياسية والقانونية
      - تأملات في الثقافة والقانون
      - فلسفة الدولة 2013
      - تأملات في فلسفة حكم البشر
      - القانون والحياة 2008
                  ***
رحل الشاوي وحيداً ومكسوراً في عمّان وفي ظروف جائحة كورونا التي جعلت من التباعد الاجتماعي قانوناً ينطبق على المجتمع، وهكذا وريَ التراب في عمّان في ظرف استثنائي، ويحتاج منا نحن طلبته وزملاؤه وأصدقاؤه والمعنيين بقضايا الحقوق والقانون والفلسفة والثقافة الاهتمام بتراثه وجمعه، فعسى أن نفيه حقّه وهي دعوة لإقامة احتفالية له عند مرور عام على وفاته.
      



97
المنبر الحر / ستارت - 3
« في: 23:29 04/02/2021  »
ستارت - 3
عبد الحسين شعبان
   كان برنارد باروخ مستشار الرئيس الأمريكي هاري ترومان  أول من استخدم مصطلح "الحرب الباردة" في 16 إبريل (نيسان) عام 1947 ، التي تعني المجابهة العالمية الجيوسياسية والإقتصادية والآيدولوجية بما فيها الحرب النفسية ووسائل القوة الناعمة الإعلامية والثقافية والرياضية ضد الإتحاد السوفيتي السابق ، وبعده جاء خطاب ونستون تشرشل  الذي ألقاه في مدينة فولتن بولاية ميسوري الأمريكية ، ومع أنه لم يكن حينها رئيساً لوزراء بريطانيا ، لكن فكرته سرت مثل النار بالهشيم حين طرح تشكيل حلف عسكري للدول الإنكلوساكسونية بهدف "مكافحة الشيوعية" وكان ذلك ترسيخاً لفكرة الحرب الباردة ، حيثُ تأسس حلف الناتو في العام 1949 وبالمقابل أُنشأ حلف وارشو في العام 1955 من جانب الإتحاد السوفيتي وحلفائه .
   وقد دامت الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية نهاية الثمانينات ، وشهدت سباقاً محموماً للتسلح على الرغم من محاولات الطرفين البحث عن فرصٍ لتخفيض ترسانة الأسلحة عبر معاهدات واتفاقيات دولية جماعية أو ثنائية دون أن تخلو من عقباتٍ وكوابح تعكّر صفو علاقات "التعايش السلمي" وتزيد من سباق المنافسة التسليحية والتي كان آخرها ما عُرف بـ "مشروع حرب النجوم"الذي خصصت له واشنطن ترليوني دولار ، وكان ذلك أحد أسباب فشل الإتحاد السوفيتي وتفكّكه في تلك المنافسة غير المتكافئة التي جرّته إليها الولايات المتحدة، خصوصاً في عهد الرئيس ريغان، إضافة إلى أسباب إقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها .
   خلال شهر فبراير (شباط) الجاري 2021 سينتهي مفعول إتفاقية ستارت - 3  التي تمّ التوقيع عليها في 18 إبريل (نيسان) 2010  بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف ،وقد توصّلت واشنطن إلى "إتفاق مبدئي" مع روسيا على تمديدها لخفض ترسانة الأسلحة النووية ، علماً بأنها كانت قد طلبت من الصين الإنضمام إلى المفاوضات التي يشهد برنامجها النووي نموّاً مطرّداً، لكنه لا يقارن من حيث الحجم  بالترسانتين الأمريكية والروسية ، حيث تمتلكان نحو 93 % من القنابل النووية في العالم ، ويدرك الطرفان إن من شأن عدم تمديد المعاهدة رفع جميع القيود المتبقية على نشر رؤوس حربية نووية ، وكذلك الصواريخ والقاذفات القادرة على حملها، مما سيؤدي إلى تأجيج سباق التسلح، ويزيد من حدّة التوتر ويعيد الأجواء إلى مناخ الحرب الباردة .
   ولعلّ فوز جو بايدن الذي كان نائباً للرئيس أوباما حين تم التوقيع على ستارت - 3 إلاّ أنه يعتبر روسيا العدو الرئيس والأول للولايات المتحدة ، أما الصين فيعتبرها منافساً وليس عدواً ، الأمر الذي قد يجعل العلاقات الروسية - الأمريكية تعيش أوقاتاً صعبة، على الرغم من توفّر الفرصة لتمديد إتفاقية نيوستارت - 3 ، وكان قد عبّر عن نيّته في تمديد المعاهدة خلال حملته الإنتخابية .
   تعتبر ستارت - 3 ، واحدة من 9 إتفاقيات نووية وقّعتها موسكو مع واشنطن خلال العقود الماضية ويعود تاريخها إلى ستينات القرن الماضي، ومن أهمها معاهدة منع التجارب النووية وهي معاهدة متعددة الأطراف تمّ التوقيع عليها العام 1963 وما تزال سارية المفعول ، إضافة إلى معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية لعام 1963 وهي معاهدة متعدّدة الأطراف تم تمديدها في العام 1995 وهي مفتوحةٌ وغير محدّدة بزمن .
   ومن المعاهدات الثنائية بين البلدين معاهدة سالت - 1  و ABM و سالت - 2 ، الأولى تم التوقيع عليها في العام 1972 لغرض تجميد عدد قاذفات الصواريخ البالستية العابرة للقارات بين البلدين (لمدة 5 سنوات) في حين أن الثانية منعت إنشاء درع مضاد للصواريخ ، أما الثالثة (سالت - 2) فقد تم التوقيع عليها العام 1979 بشأن الأسلحة النووية ، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ، إضافة إلى معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي تمّ التوقيع عليها في العام 1987 بين دونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف ، وهي المعاهدة التي انسحب منها دونالد ترامب في فبراير (شباط) 2019 ، ومن المعاهدات المهمة ستارت - 1 (1991) و ستارت - 2 (1993) التي لم تدخل حيّز التنفيذ ، وتكمن أهمية ستارت - 3 بتحديد عدد الرؤوس النووية بـ 1550 رأساً ، وهي خاصة بالأسلحة الهجومية ، وقد أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إستعداد بلاده لتمديد المعاهدة ، كما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أهمية تمديد ستارت - 3 ، وذلك خدمة للسلم والأمن الدوليين .
   وسيؤدي تمديد المعاهدة إلى تفعيل نظام الرقابة النووية وتخفيف حدّة التوتر في أوروبا وآسيا ومنطقة المحيط الهادي وإقامة نظام مؤتمن في مجال التكنولوجيات، بما يطمئن واشنطن من إلتزام  موسكو بأحكام المعاهدة ، ويطمئن موسكو من حسّاسيتها بنصب صواريخ نووية في بولونيا وأوكرانيا وتشيكيا وعلى حدود روسيا .



98
شعبان: نجدّد الدعوة لإنهاء الحرب في اليمن

   وكالات - خاص / العواصم العربية (المحرر الثقافي)

   قال الدكتور عبد الحسين شعبان في تصريح له أن مجموعة السلام العربي جدّدت دعوتها لإنهاء الحرب في اليمن مبديةً استعدادها لوضع كامل إمكانياتها وطاقاتها وخبراتها من أجل ذلك ، لتهيئة مستلزمات حوار جاد ومسؤول يمكن أن يكون تحت رعاية جامعة الدول العربية وصولاً إلى تحقيق مصالحة شاملة تضع اليمن على طريق السلام الدائم والوطيد، كجزءٍ عزيزٍ من أمّته العربية .
   وأشار شعبان إلى أن التوصل إلى صيغة تسوية سلمية مهمةٌ وطنيةٌ يمنيةٌ وعربيةٌ وإنسانيةٌ بإمتياز، وذلك مقدمةً لا غنى عنها لتحريم استخدام السلاح في حل الخلافات وإعتماد وسائل الحل السياسي وصولاً إلى تحقيق مصالحة وطنية تعالج آثار الحرب المدمّرة وترمّم علاقات أبناء الوطن الواحد وتحقق مبادئ المساواة والعدل في ظلّ مواطنةٍ متكافئةٍ ونظامٍ يكفل للجميع حقوقهم الكاملة وبما ترتضيه إرادة اليمنيين الحرّة والموحدّة شمالاً وجنوباً.
   جدير بالذكر أنه في مارس (آذار) المقبل 2021 ستكون الحرب في اليمن قد أنهت عامها السادس ، دون أن تلوح في الأفق إمكانية جادة وحقيقية لإنهائها تلبية لمطامح الشعب اليمني المتطلّع إلى السلام والأمن والحرية والتنمية . وكان وفداً من مجموعة السلام العربي قد قابل الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط في القاهرة مطلع الشهر الجاري بشأن الجهود التي تبذلها المجموعة لتحقيق السلام والأمن في سوريا وليبيا واليمن.
   وقد أصدرت مجموعة السلام العربي بهذه المناسبة نداءً وقّعه 36 شخصية عربية بينهم الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد (اليمن) ودولة رئيس الوزراء الأردني الأسبق عبد السلام المجالي ودولة د. عدنان بدران (الأردن) والسيد عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح (فلسطين) والوزير السابق عدنان السيد حسين (لبنان) والوزيرة السابقة مكفولة بنت أكاط (موريتانيا) ومعالي فلح النقيب وزير الداخلية (العراق) والأستاذ صالح قوجيل عضو المجلس الوطني (الجزائر) والدكتور محمد الرميحي (الكويت) والدكتور باقر النجار (البحرين) والدكتورة هبة جمال الدين عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية (مصر) والسيدة مريم الصادق- المهدي - نائب رئيس حزب الأمة (السودان) والسيد سيف المسكري أمين عام مساعد للشؤون السياسية لمجلس التعاون الخليجي (عُمان) والسيد محمد عبد السلام العبّاني رئيس المؤتمر الوطني (ليبيا) والدكتور حلمي الحديدي - رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية (مصر) ومعالي وزير الثقافة الأسبق سمير الحباشنة (الأردن)- المنسق العام للمجموعة.


99
أزمة العراق سيادياً
مشروع معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
توطئة
   حسناً فعل معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار، حين حاولا استشراف " أزمة العراق سيادياً" وذلك من خلال مناقشة رؤية خمسة رؤساء سابقين لمجلس الوزراء تعاقبوا على دست المسؤولية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، العام 2003، وهم كل من : د. إياد علاوي ود. ابراهيم الاشيقر (الجعفري) وأ. نوري المالكي ود. حيدر العبادي  وأ. عادل عبد المهدي.
   وكان سدى هذه المبادرة ولحمتها هو موضوع السيادة ، سواء بإجاباتهم أو بمشاركة رؤساء مجلس النواب السابقين أيضاً، إضافة إلى  شخصيات أكاديمية وثقافية وسياسية، والهدف من ذلك تقديم رؤية نقدية تحليلية  للإجابات المذكورة، على أن تلتئم ندوة لجميع المشاركين للتوصل إلى استنتاجات وتوصيات ليصار إلى تعميمها على أصحاب القرار، ثم لنشرها كاملة باللغتين العربية والانكليزية.
   المبادرة
   تكتسب هذه المبادرة أهمية بالغة  للأسباب التالية:
أولاً- إنها تعيد طرح القضايا ذات الطبيعة الإشكالية النظرية والعملية في ما يتعلّق بالسيادة ارتباطاً بالنظام السياسي وآفاق العملية السياسية التي تأسست على قاعدته ، خصوصاً بعد حركة الاحتجاج الشعبية التي بدأت في 1 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، والتي ما تزال مستمرة.
وثانياً- إنها تنشغل بموضوع السيادة ومدى تحققها عملياً بعد أكثر من 17 عاماً من الاحتلال، وهو أمر مهم ومطلوب، خصوصاً بعد تصويت مجلس النواب على إخراج القوات الأجنبية كافة، إثر مقتل قاسم سليماني رئيس فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس أحد أبرز مسؤولي الحشد الشعبي  يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 على يد القوات الأمريكية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار المواقف المتعارضة من وجود القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بشكل خاص، والقوات الأجنبية بشكل عام، بما فيها توغل القوات العسكرية التركية المستمر والمتكرر، إضافة إلى قواعدها العسكرية التي أقامتها في العراق، ناهيك عن التغلغل والنفوذ الإيرانيين.
وثالثاً- إنها تضع هدفاً لهذه المراجعات يتلخص في إمكانية التوصّل إلى مشتركات واستنتاجات وتوصيات، لاستعادة السيادة العراقية التي ظلّت منقوصة ومجروحة ومعوّمة  منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في 2 آب (أغسطس)  1990، وحرب قوات التحالف الدولي في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 لتحرير الكويت، وما أعقبها من فرض حصار دولي شامل على العراق، حيث زاد عدد القرارات التي صدرت بحقه  أكثر من 75 قراراً دولياً (نحو 60 قراراً منها  قبل الاحتلال والبقية بعده) ويعدّ بعضها خرقاً سافراً للسيادة وبعضها الآخر تقييداً لها أو انتقاصاً منها أو تعويماً لممارستها.
ورابعاً- إنها تشتبك باتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تم توقيعها في الوقت نفسه مع الاتفاقية العراقية - الأمريكية لعام 2008 والتي انتهى مفعولها في 31/12/2011، حيث اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب من العراق لأسباب عديدة، منها ما تكبدّته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية ، ناهيك عن ضغط الرأي العام  الأمريكي والعالمي ، إضافة إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة .
   السيادة والقرارات الدولية
   إذا كان موضوع السيادة وممارستها قد ورد مشوشاً في الإجابات المختلفة، سواءً عدم المجيء على ذكره أو الإتيان عليه بصفته موضوعاً "نظرياً"، وأحياناً اختلط مع مواضيع أخرى أو أنه ارتبط بمفهوم " المكوّنات" وبعض تفسيرات الدستور المختلفة، دون التوقف عند الجوانب العملية التطبيقية (البراكسيس)، فإن مثل تلك الالتباسات القانونية الفقهية والسياسية وردت هي الأخرى في القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، بدءًا من القرار 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، والذي أعلن انتهاء العمليات الحربية وتعامل مع الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال، والقرار 1500 الذي صدر في 14 آب (أغسطس) 2003 الذي اعتبر مجلس الحكم الانتقالي "خطوة مهمة في تشكيل حكومة عراقية معترف بها دولياً وتتولّى ممارسة السيادة "، أو القرارات الأخرى بما فيها القرار الذي سبقه ونعني به القرار 1490 الصادر في 3 تموز (يوليو) 2003، أو القرارات التي تلته ، ولاسيّما القرار  1511 الصادر في 16 تشرين الأول (اكتوبر) أو القرار 1518 الصادر في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 وجميعها صدرت ضمن الفصل السابع.
   كما صدر القرار 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 ضمن الفصل السابع أيضاً (بعد إلغاء مجلس الحكم الانتقالي ) ودعا إلى حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لها كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران (يونيو) 2004، لكن القوات المحتلة استمرت في العراق بامتيازاتها وحصاناتها الكاملة بجيوشها والمتعاقدين معها، علماً بأن القرارات السابقة  تعاملت مع القوات المحتلة نظرياً على أقل تقدير، بوصفها المسؤولة عن إدارة العراق وضمن  الفصل السابع الخاص بالعقوبات (من المادة 39 إلى 42 من ميثاق الأمم المتحدة)، إلّا أن صدور القرار 1546 أعاد وضع الفصل السابع قيداً جديداً في عنق العراق المقيّد أساساً بنحو 60 قراراً كانت قد صدرت قبل الاحتلال كلّها كانت ضمن الفصل السابع، باستثناء القرار 688 الذي صدر في 5 نيسان (أبريل) 1991 وهو القرار اليتيم والتائه والمنسي من سلسلة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، وهو القرار الخاص بوقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق وكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين.
   إذا كان العراق قد استمر في الرضوخ مكرهاً لتنفيذ الالتزامات الدولية، فإن المحتل تحرر من التزاماته بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها وأصبح حرّاً طليقاً من القيود، بزعم مطاردة الإرهاب الدولي الذي فتحت الحدود أمامه، حيث تم تمديد مهمة القوات الأجنبية بالقرارات 1637 في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005  و1723 في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 والقرار 1790 الصادر في 18/12/2007 الذي مدّد بقاء القوات الأجنبية إلى 31 كانون الأول (ديسمبر) 2008.
   وقد تغيّرت الوضعية القانونية للقوات الأمريكية التي ضغطت لتوقيع اتفاقية العام 2008 لتكريس شرعية وجودها، فبعد أن كانت "قوات محتلة" تحولت إلى فريق في قوة متعددة الجنسيات بقيادتها متعاقدة مع الحكومة العراقية ، أي أن "الاحتلال العسكري" تحوّل إلى "احتلال تعاقدي" أو تعاهدي ، وامتلكت القوات الأمريكية حرّية استخدام الأراضي والأجواء والممرات المائية لمواجهة أي خطر يتهدّد السلم والأمن الدوليين، أو يعرض الحكومة العراقية أو دستورها ونظامها الديمقراطي للتهديد ، فضلاً عن مواجهة الإرهاب الدولي.
   وهكذا أنشأت عدداً من القواعد العسكرية وتصرّفت بحرّية بما فيها القيام بارتكابات شنيعة لحقوق الإنسان، سواء في السجون أو من خلال المواجهات المباشرة تحت زعم ملاحقة الإرهابيين دون الحاجة إلى اتباع الإجراءات التي يتطلبها وجود قوات عسكرية في أراضي دولة أجنبية متعاقدة معها، الأمر الذي يتنافى مع قانون المعاهدات والاتفاقيات الدولية ، ولاسيّما اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 التي تفترض أن يكون الاتفاق بين طرفين متكافئين وعلى أساس الإرادة الحرة دون أن يشوبه أحد عيوب الرضا، وليس كما هو واقع الحال بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه.
   وبالطبع فقد تجاوزت الولايات المتحدة على قواعد القانون الدولي بما فيها المتعلّقة باتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لبروتوكولي جنيف لعام 1977 المتعلقة بالحرب وآثارها؛ الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية ، مستندة بذلك إلى قواعد القانون الدولي التقليدي الذي أصبح من تراث الماضي والذي يقوم على مفهوم "الحرب الوقائية" أو " الحرب الاستباقية" ، علماً بأن القرار 1373 الذي صدر في 28 أيلول (سبتمبر) 2001 عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة إثر تفجير برجي التجارة العالميين، قد أعاده إلى الواجهة، بأن أعطى الحق في شن الحرب فيما إذا شعرت الدولة أن ثمة تهديداً إرهابياً وشيك الوقوع أو محتمل.
   واستندت واشنطن إلى ذلك حين احتلت أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، بزعم العلاقة بالإرهاب الدولي، إضافة إلى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ، بما فيها غاز الانثركس، الذي اتضح زيف تلك الدعاوى، وهو ما كشف عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش  بعد أن مشّطت القوات الأمريكية العراق طولاً وعرضاً.
السيادة الداخلية
   وإذا كان ذلك يشمل مفهوم السيادة الخارجية للدولة العراقية،  فإن من يمتلك السيادة الداخلية في العراق أخضع لتوزيع طائفي وإثني منذ مجلس الحكم الانتقالي وكرّس للأسف قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 آذار (مارس) من قبل 2004 والذي ثُبّت في الدستور الدائم المستفتى عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) العام 2005، والذي تحدث عن ما يسمى بالمكوّنات ، وذلك في المقدمة (مرتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى نظام سياسي يقوم على مبدأ المحاصصة والتقاسم الوظيفي.
   وأعتقد أن ذلك بدأ يتحسّس منه العديد من القوى والشخصيات، بل إن بعضهم يعلن براءته منه ويحاول البحث عن الممكنات لتغييره أو لوضع حد له ، لأنه في الواقع أوقع البلاد في ورطة حقيقية أنتجت نظاماً مشوّها يقوم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، لاسيّما في ظلّ ضعف مرجعية الدولة وعدم تطبيق حكم القانون وولّدت هذه المحاصصة:  الفساد المالي والإداري واستشراء العنف والإرهاب، لاسيّما بشيوع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف التي لعبت سنوات الاستبداد والدكتاتورية في ظل النظام السابق ، إضافة إلى الحروب والحصار دوراً كبيراً في تغذيتها، خصوصاً بانتشار السلاح والاستقواء به عبر ميليشيات وقوى مسلحة باستخدام أجهزة الدولة أحياناً أو قوى منفلتة من خارجها.
   وبالطبع كلّما كانت الدولة صاحبة سيادة كاملة كلّما تمكنت من اختيار نظامها السياسي والاجتماعي بحرية كاملة بما فيها السيطرة على الموارد الاقتصادية، والعكس صحيح أيضاً كلما كانت الدولة مثلومة السيادة أو منتقصة أو مبتورة، كلّما اضطرّت للرضوخ للقوى المتنفّذة فيها، سواء على المستوى الخارجي الإقليمي أم الدولي أم على المستوى الداخلي، دون أن يعني ذلك الانعزال عن المحيط الدولي والعلاقات الدولية، التي ستترك تأثيراتها سلباً وإيجاباً على سيادة الدولة واستقلالها.
ما السبيل لاستعادة واستكمال السيادة ؟
   لاستعادة السيادة كاملة على المستوى الخارجي يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بعلاقتنا الدولية، فعلى الرغم من وجود قوات أمريكية ودولية بطلب من الحكومة العراقية إثر هيمنة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014، فإنه بانتهاء هذه المهمة ينبغي انتهاء وجود هذه القوات، خصوصاً وأن البرلمان اتخذ قراراً بذلك بتاريخ 5/1/2020 ، ولا بدّ من تحديد سقف زمني لتنفيذه وإلّا بقي الأمر مفتوحاً، علماً بأن القوات الأمريكية مارست منذ العام 2003 وحتى الآن أعمالاً تتنافى والسيادة العراقية، بما فيها القيام ببعض الأعمال العسكرية بالضد من إرادة الدولة العراقية التي لم تحسب لها أي حساب، كما حصل في تحليق طائرات فوق مطار بغداد وتعقب عناصر تعتبرها إرهابية، منهم من له مسؤوليات في أجهزة الدولة العراقية .
   وللأسف فإن الموقف من وجود القوات الأمريكية ليس موحداً، فالتحالف الكردستاني لم يحضر في التصويت على جلاء القوات الأجنبية، وكذلك التحالفات والقوى السنيّة بأسمائها المختلفة، بل على العكس من ذلك، فإنها تعتقد أن وجود القوات الأمريكية ضرورة لمواجهة داعش من جهة وتدريب القوات العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن وجودها سيكون عامل تقليص للنفوذ الإيراني في العراق، وغيابها سيعزز من دور ما يسمى بالقوى الشيعية والنفوذ الإيراني المتعاظم ، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلن لكن ذلك واقع الحال، في حين أن القوى القريبة من إيران والتي يسمى بعضها بالولائية  تصرّ على خروج هذه القوات، بل ويقوم بعضها بقصف مواقع للقوات الأمريكية بما فيها السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، خارج إطار القوانين والأعراف الدبلوماسية والتزامات الحكومة العراقية التي يدخلها في حالة حرج وتناقض.
   ومن مظاهر انخرام السيادة العراقية هو زيارات مسؤولين أمريكان بمن فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقاعدة العسكرية الأمريكية في عين الأسد شمال بغداد في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2018 دون إشعار الحكومة العراقية ، ناهيك عن طلب إذنها، وكما زار وزير الخارجية مارك بومبيو القاعدة يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والأمر مستمر ومتكرر منذ العام 2003 ولحد الآن.
   ولاستكمال السيادة العراقية على جميع الأراضي العراقية فيتطلب الأمر أيضاً الطلب من تركيا مغادرة الأراضي العراقية وتفكيك قواعدها، وليس حجة وجود قواعد حزب العمال الكردستاني PKK  سوى ذريعة لا يمكن قبولها لأنها تتعارض مع مبادئ السيادة ، ولابدّ من إعادة النظر بجميع الاتفاقيات التي تسمح للقوات التركية بالتسلل داخل الأراضي العراقية منذ العام 1984. كما إن استكمال السيادة يتطلب إعادة بحث الاتفاقيات المائية مع تركيا بما يضمن تأمين حقوق العراق وحصته وفقاً لقواعد القانون الدولي فيما يتعلق بالأنهار الدولية، ومثل هذا الأمر ينطبق على إيران، وبسبب استفراد الدولتين واستغلالهما ضعف العراق وتعويم سيادته قامتا بعدد من الإجراءات التي من شأنها حرمان العراق من موارده المائية بما يلحق ضرراً بالغاً بالسيادة والمصالح الوطنية العراقية.
   أما بشأن التغلغل الإيراني الناعم  والنفوذ السياسي الهادئ ، فلا بدّ من اعتماد استراتيجيات جديدة وفقاً للمصالح العراقية أولاً لكي لا يكون العراق ساحة للصراع الأمريكي - العراقي، وثانياً لكي لا يكون جزءًا من المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، وثالثاً  يستطيع أن يقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار غير العربي من جهة ومع الدول الأجنبية الأخرى، فضلاً عن إعادة بناء العلاقات العربية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وبروح السلم والأمن والإخاء وعدم الاعتداء وحل المشاكل العالقة بالطرق السلمية والدبلوماسية وفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
   أما بخصوص السيادة الداخلية ، فيتطلب إعادة النظر بالنظام السياسي ككل والخطوة الأولى تبدأ من الدستور، إما بإلغائه وسنّ دستور جديد أو بتعديله جذرياً، علماً بأن ما ورد فيه من حقوق وحريات واعتماد مبادئ المواطنة هي أمور جيدة ومتقدّمة ، لكنها تقدّم بيد لتقيّد في اليد الأخرى، فضلاً عن العديد من القوانين التي شرّعها البرلمان، والجانب الإجرائي في ذلك اعتماد الآليات الواردة فيه، خصوصاً بإجراء مراجعة شاملة كان لا بدّ من القيام بها خلال أربعة أشهر بعد انتخابات العام 2005 .
   والأمر يتعلق أيضاً بعلاقة السلطة الاتحادية بالإقليم من حيث الصلاحيات، بما فيها المواد الخاصة بالنفط وتنازع القوانين على أساس قواعد النظام الفيدرالي المعمول به دولياً في أكثر من 40 بلد، وقد تحتاج هذه الأمور إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع من قوى ومنظمات وشخصيات أكاديمية وثقافية وحقوقية ومن مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية، والهدف هو تحقيق السيادة الكاملة وبناء نظام سياسي على أساس المواطنة العابرة للطوائف والإثنيات والحاضنة للتنوّع والقائمة على أساس التكافؤ والمساواة والشراكة والمشاركة والعدل الاجتماعي، وهنا لا بدّ من تحديد الأولويات والتدرج فيهان خصوصاً في ظل إرادة وطنية شاملة .
ــــــــــــــــــــــــ   
* نشرت هذه المساهمة في كتاب من إعداد وتقديم د. إبراهيم محمد بحر العلوم الموسوم "أزمة العراق سيادياً" ، دار العلمين للنشر والعارف للمطبوعات ، إصدار ملتقى بحر العلوم للحوار ، العراق ، الكوفة - النجف الأشرف، 2021 .
   والبحث  جزء من مشروع يناقش 5 رؤساء وزارات هم : إياد علاّوي وابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومنظورهم للسيادة ، كما يناقش منظور 5 رؤساء برلمان هم : حاجم الحسني و محمود المشهداني و إيّاد السامرّائي و  أسامة النجيفي و  سليم الجبوري ، وشارك في الحوار شخصيات أكاديمية وفكرية وثقافية وسياسية في  5 محاورٍ شملت النظام السياسي والوعي بأهمية العوامل الإقليمية والدولية وإدارتها  والمصالح الوطنية والتّوازن الإقليمي الدولي وكيف تعاطت حكومات ما بعد العام 2003 مع مبادئ السيادة.

100
فريضة التسامح وفرضيّاته
عبد الحسين شعبان

حين يرتقي التسامح ليصبح فريضة من الفرائض فهذا يعني أنّه راهني وحاجة ماسّة ولا غنى عنها، بل ضرورة ملحّة بقدر ما هو خيار لتيسير حياة الفرد والمجتمع والدولة، وعكسه سيكون اللّاتسامح بمعنى التعصّب ووليده التطرّف والعنف والإرهاب، ناهيك عن العنصريّة والشوفينيّة والاستعلاء والهيمنة وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، والزّعم بالحق في احتكارها.
وإذا كان البشر خطّائين على حدِّ تعبير فولتير، فعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح، فلا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وليس هناك أفضليّة لبشر على آخر بسبب صفاته البيولوجيّة أو عرقه أو دينه أو جنسه أو لغته أو لونه أو أصله الاجتماعي، والبشر مختلفون باختلاف أشكالهم وصفاتهم وقوميّاتهم وأديانهم ولغاتهم وأجناسهم وانتماءاتهم وأصولهم الاجتماعية وأهوائهم وأمزجتهم وأذواقهم، لذلك يقتضي أن ينظر كلّ منهم إلى الآخر بالاحترام والقبول والتقدير والانفتاح والتواصل وحرّية الفكر والضمير والمعتقد، وهو ما جاء في الإعلان العالمي للتسامح الصادر عن منظّمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في العام 1995 والذي تقرّر فيه اعتبار يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للتسامح.
ولأنّ مجتمعاتنا تعاني نزعات الإقصاء والإلغاء والتهميش، فنحن أشدّ ما نكون إلى التسامح كخيار استراتيجي لقطع الطريق على القوى المتعصّبة والمتطرّفة والعنفيّة والإرهابية التي لا تؤمن بالحوار والتواصل بين الثقافات وأتباع الأديان والمذاهب وصولاً إلى المشترك الإنساني، ليس هذا فحسب، بل إنّ ما نشهده من إساءات لديننا الحنيف ومجتمعاتنا العربية الإسلاميّة، يدفعنا للبحث عن السبل الكفيلة لنشر ثقافة التسامح وتعميمها، والأمر لا يتعلّق بمجتمعاتنا فحسب، بل بامتداداتها للجاليات العربيّة والمسلمة في أوروبا والغرب، ولعلّ ما حصل من عمليات إجراميّة مؤخّراً في باريس ونيس وفيينا خير دليل على ذلك، بما فيها ردود الفعل السلبيّة التي تتّهم العرب والمسلمين بالجملة بالإرهاب، لأنّ دينهم يحضّ على ذلك كما ذهبت إلى ذلك الموجة الشعبويّة العنصريّة الجديدة، التي عبّر عنها خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون إثر مقتل المدرّس الفرنسي بالطريقة الفجائعيّة المعروفة.
المقصود من اعتبار التسامح فريضة، لأنّه يعني الوئام في سياق الاختلاف واتّخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحقّ الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته الأساسية المعترف فيها عالميًّا، ولذلك لا ينبغي التذرّع والاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بالقيم الأساسية لحقوق الإنسان، كما لا ينبغي بحجّة مواجهة اللّاتسامح تقليص الحقوق المدنيّة والسياسيّة أو التجاوز على عقائد الآخرين أو دمغ مجموعات ثقافيّة بالإرهاب أو تقييد الحقوق والحرّيات بما فيها الإعلامية.
اعتقادان خاطئان سادا ضدّ فريضة التسامح، الأوّل - الذي يقوم على الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) باعتبار تعاليمه تحمل فيروسات العنف والإرهاب، وقد صار مثل هذا الاعتقاد جزء من المتخيّل الجمعي في الغرب، والثاني - الويستفوبيا (الرهاب من الغرب) باعتباره شراً مطلقاً ويتم ازدراؤه من جانب الإسلامويين والمتعصبّين لدينا، ومثل هذين الرأيين يقومان على أيديولوجيا مسبقة تلك التي تشيطن الآخر بنظرة إسقاطيّة أساسها الكراهية والاستعلاء.
وإذا كان عالم التسامح مرتبطاً أيضاً بالحداثة والمدنيّة والعقلانية فكيف السبيل للولوج إليه؟، وفي هذا الصدد نقول هناك 10 فرضيّات أساسية إذا ما أخذت بها المجتمعات والبلدان واعتمدت كقواعد قانونيّة يمكن تهيئة بيئة صالحة لبذر التسامح وإروائه ليصبح شجرة باسقة وهي الإقرار بـ: أولاً - نسبيّة المعرفة، وبالتالي تجربة الخطأ والصواب، وكان أوّل من دعا إلى ذلك سقراط وطوّر الفكرة بعده فولتير؛ وثانياً - لا عصمة من الخطأ، فحتّى العلماء يخطأون، وليس لبشر عصمة طالما هو يعمل فهُ يخطىْ؛ وثالثاً -عدم امتلاك الحقيقة، والكل يحاول مقاربتها من خلال النقاش والجدل، ورابعاً - التعدّدية والتنوّع للأديان والقوميّات والبلدان والمجتمعات والأفراد؛ وخامساً حق الاختلاف باعتباره حقيقة فائقة وسيكون البحث عن التطابق مجرّد وهْم مثلما سيكون كل إجماع مصطنعاً بإلغاء الفروق. وسادساً، الموقف الإيجابي من الآخر، وهو دليل حضاري لقبول فكرة التسامح؛ وسابعاً عدم التمييز الذي ينبغي أن يكون على قاعدة المساواة والعدل في التشريع والقضاء والإدارة أي "حكم القانون" الذي عبّر عنه مونتسكيو بقوله: (القانون مثل الموت لا يستثني أحداً)، أي يسري على الجميع حكّاماً ومحكومين؛ وثامناً -  المساواة صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، وقد جاء في القرآن الكريم أن البشر متساوون في الكرامة الإنسانيّة وورد في سورة الإسراء "تكريم بني آدم"؛ وتاسعاً نشر التسامح من خلال التربية والتعليم للمراحل المختلفة كفلسفة وثقافة، إضافة إلى دور الإعلام والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
وأخيراً، وعاشراً - ضرورة إصلاح المجال الديني، ومن خلال إصلاح الفكر الديني يمكن إصلاح الخطاب الديني، وعلى غرار هوبز: كلُّ إصلاح مفتاحه الفكر الديني، وإذا ما سادت هذه الفرضيّات وأصبحت واقعاً يمكن الحديث عن فريضة التسامح من خلال فلسفته وثقافته ووجوده في الحياة اليومية والاجتماعية على صعيد كل من المجتمع والفرد وعلى الصعيد الدولي أيضاً، كقيمة أخلاقيّة مثلما هو قيمة اجتماعيّة وقانونيّة.



101
المنبر الحر / شطحات ماركس
« في: 19:01 16/01/2021  »
شطحات ماركس
عبد الحسين شعبان

في استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC في مطلع الألفيّة الثالثة كان ماركس واحداً من بين أهم 100 شخصية مؤثّرة في العالم، ولا أخال أحداً من جيلنا الستّينيّ إلّا وترك ماركس شيئاً عنده، لكن ذلك لا يعني أنّه دون أخطاء أو شطحات، وباستثناء المنهج الذي اعتمده والقوانين التي اكتشفها بشأن الصراع الطبقي وفائض القيمة، فإنّ الكثير من تعاليمه لا ينبغي التعامل معها كنصوص مقدّسة لدرجة اعتبارها أقرب إلى الأسفار التوراتية أو الآيات الإنجيلية أو القرآنية، ويذهب البعض أكثر من ذلك إلى تنزيهه من الأخطاء، بل يضعه خارج دائرة النقد، سابغاً عليه نوعاً من المعصوميّة؛ في حين إنّ تعاليم ماركس واجتهاداته هي مجرّد آراء بعضها تجاوزها الزمن أو أن الحياة لم تزكّها، لكن ذلك لا ينفي عبقريّته ومواهبه وموسوعيّته كفيلسوف ومفكّر وعالم اجتماع واقتصادي وسياسي يسيل من قلمه حبر الأديب وتتدفّق لغته بالشعر.
في العام 1984 كتبتُ في مجلّة "الهدف" خاطرة تأمّلية بعنوان "بروموثيوس هذا الزمان" جئت فيها على منجز ماركس الفكري والثقافي، وذلك بمناسبة وفاته (14 مارس/آذار1883). وإذا كان أعداؤه وخصومه يعتبرونه تهديداً لهم ولمصالحهم لدرجة أنّ شبحه لم يعد يجوب "أوروبا العجوز" فحسب، بل شطر العالم إلى نصفين في القرن العشرين، فإنّ أنصاره ومريديه تعاملوا مع تعاليمه وتفسيراته  كمعتقدات "منزّلة"، مردّدين بعض مقولاته بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية والتلقينيّة المدرسية التي لا علاقة لها بجوهر منهجه، ناهيك عن روح العصر.
ثلاث قضايا يمكن التوقّف عندها في هذه المساحة بشأن بعض شطحات ماركس؛
أولاها - موقفه الخاطئ بخصوص الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر (1830)، ورسالته "التمدينيّة"، ولعلّ الفضل في إطلاعنا على موقفه هذا يعود إلى الصديق جورج طرابيشي الذي ترجم كتاباً عن الفرنسية بعنوان "الماركسية والجزائر" كشف فيه عن قصور وُجهة نظر ماركس، علماً بأن الطبعة الروسية كانت قد حذفت فقرات منه لأنها صادمة ومُحرجة، خصوصاً رؤية ماركس المغلوطة وتقديره المخطوء للإستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفه شكلاً من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة" بوصفها: بدوًا، قطّاع طُرق، لصوصًا، وكانت نظرته تلك تقوم على وجهة نظر اقتصادية بحتة، بعيداً عن الجوانب الحضارية والثقافية والإنسانية، بتفسير مبتسر مفاده أنّ الثورة الصناعية أدّت إلى تضخّم رأس المال واحتاجت إلى الموارد والأسواق والأيادي العاملة، فكانت الهجرات. ومثل هذا الرأي يهمل الطابع الإجرامي لتلك المحاولات الاستعمارية الاستيطانيّة وسعيها لقهر شعوب هذه البلدان ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها وإلغاء هُويّاتها، ومع أنّه لم ينسَ التعاطف مع الضحايا، لكنّ ذلك جاء من زاوية أخلاقية.
بتقديري إن فترة بقاء ماركس في الجزائر للاستشفاء من 20 فبراير/شباط إلى 2 مايو/أيار 1882 لم تكن كافية لمعرفة معمقّة للمجتمع الجزائري، وانطلق في حكمه من "المركزية الأوروبية" التي هيمنت على تفكيره والرأسمالية الصاعدة فيها، حيث قام ماركس بتحليل قوانينها بدقّة كبيرة مشخّصاً عيوبها ومثالبها ونظامها الاستغلالي على نحو عميق وعظيم.
ثانيتها - موقفه المتناقض من تقرير المصير، فعلى الرغم من أنّه هو الذي صاغ فكرة "أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا" ودعا إلى استقلال بولونيا في حركة قادها الإقطاعيون ضدّ روسيا لأن ذلك سيكون خطوة مهمّة تسمح بإنضاج التناقضات، وهي استنتاج دقيق لكنه وقف ضدّ حقّ تقرير المصير للشعبين التشيكي، والسلوفاكي، اللذين كانا يطالبان بالاستقلال من الامبراطوية النمساوية - المجريّة، والسبب حسب وجهة نظره أنّهما "شعبان رجعيّان" وضعيفان وصغيران ويمكن أن يقعا تحت هيمنة الروس وسيكون نجاحهما في الظّفر بذلك تقوية لدور روسيا بتشجيع من فرنسا، وسيتم توظيفهما ضدّ ألمانيا المتطوّرة صناعيًّا، وهي نظرة خاطئة قامت على فرضيات اقتصادية بعيدة عن الجانب الإنساني التحرّري.
وثالثتها - كان موقفه المُلتبس والخاطئ من ايرلندا، لا سيّما في المرحلة الأولى، ففي رسالة منه إلى إنجلز بتاريخ 23 أيار (مايو) 1856، يقول "لقد تحوّل الإيرلنديون بواسطة القمع المنهجي إلى أُمّة ساقطة"، وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1869، ويبني استنتاجاته انطلاقاً من منظور تقدّميّة الطبقة العاملة الإنكليزية تجاه إيرلندا المتخلّفة والمحتلة، التي يعزو إليها سبب سقوط الجمهورية في زمن كرومويل، ويدعو إلى أن تقطع الطبقة العاملة الإنكليزية علاقتها مع ايرلندا بعيداً عن كلّ جملة أُمميّة وإنسانية بشأن العدالة، وحسب رأيه إن لم تنتصر الطبقة العاملة وتتحرّر في إنكلترا فلن يتمّ تغيير الأوضاع في ايرلندا، أيّ أن التحولات الاشتراكية في المركز ستؤدي إلى تحسّن الأمور في البلد الطرفي والمتأخر، لأن رافع التقدم هو لندن، وليس دبلن، لكنه يعود في العام 1870 ليتحدّث عن اضطهاد مركّب رأسمالي متزامن مع اضطهاد قومي ضدّ ايرلندا.
وباستثناء المنهج فجزء كبير من تعاليم ماركس وشطحاته بالطبع يمكن الاحتفاظ به في المكتبات أو المتاحف، حتى وإن بقيت الأحلام واليوتوبيّات ورديّة، فتلك مأثرة أيضاً.



102
الكابيتول وصورة أمريكا
عبد الحسين شعبان
   سدّد مشهد اقتحام أنصار الرئيس دونالد ترامب مقر الكونغرس ومبنى الكابيتول ضربةً قاسيةً وموجعةً لصورة أمريكا التي ظلّ العالم ينظر إليها باعتبارها "منارةً للديمقراطية" بغض النظر عن الاختلاف بشأن سياساتها الخارجية وحروبها إزاء الشعوب.
   وبقدر ما أثار الأمر صدمةً كبيرةً للأمريكيين على المستويين الرسمي والشعبي فإنه أوقع الجميع في حالة من الذهول والحيرة، لاسيّما على المستوى الدولي، سواء لحلفاء واشنطن ومريديها مثلما لخصومها وأعدائها، لأن مثل ذلك السلوك الذي انتهجه ترامب للتشبث بالسلطة والتشكيك بنتائج الانتخابات ومن ثم دعوة أنصاره للتظاهر بهدف الضغط على الكونغرس لعدم التصديق على فوز غريمه جو بايدن بمنصب الرئاسة، لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة وربما في تاريخ الديمقراطية الغربية.    وقد شبّه هايكو ماس وزير الخارجية الألماني ماحصل بحريق الرايخشتاغ (البرلمان الألماني في برلين 27 شباط/فبراير 1933 ) خلال الحقبة النازية، كما وصفت صحيفة لاريببليكا الإيطالية ما حدث يوم 6 كانون الثاني/يناير الجاري بـــ"الزحف على روما" بقيادة بنيتو موسوليني (نهاية تشرين الأول/أكتوبر 1922 ) ليس هذا فحسب، بل وردت ردّات فعل غاضبة على ما حصل في الكابيتول على لسان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا ستورجن ورئيس الجمهورية الفرنسي ايمانويل ماكرون والكثير من زعماء العالم، كما تندر الكثير من السياسيين والإعلاميين بوصف ما حصل مشبهين إياه بما يجري في العديد من بلدان العالم الثالث تلك التي غالبًا ما يُهرع الدبلوماسيون الأمريكان للتنديد بها ومطالبة الحكومات باحترام نتائج الانتخابات والمعايير الديمقراطية المعروفة.
نظرتان مختلفتان إزاء ما حصل من هجوم على مبنى الكونغرس الأمريكي؛
النظرة الأولى- عاينت الأحداث من باب الشماتة والمناكفة بسبب تأثرها السلبي من سياسات الرئيس ترامب وضغوطه وتهديداته غير المألوفة.
 والنظرة الثانية- قلّلت من أهمية ما حصل باعتباره أمرًا عابرًا وأن واشنطن ستستعيد عافيتها بــ"الديمقراطية".
   النظرة الأولى اعتبرت ما حصل أزمةٌ للنظام الرأسمالي العالمي، ولاسيما الأمريكي وهي أزمة دورية ومستمرة وما حصل إحدى حلقاتها المهمة وهي دليل تدهورٍ وانحدارٍ ونكوصٍ، في حين أن النظرة الثانية اعتبرت قوّة النظام الأمريكي ورسوخ ديمقراطيته كفيلة بتجاوز ما حدث بلحاظ رد فعل الرأي العام الأمريكي القوي والحازم ضد التجاوزات والانتهاكات التي اعتبرت تحديًا للديمقراطية بما فيها من بعض أنصاره وقياديين في حزبه.
   وبغض النظر عن وجود مؤسسات تستند إلى قوانين وقضاء مستقل ورقابة ورأي عام مؤثر وإعلام حرّ ومجتمع مدني نشيط، إلّا أن دور الفرد يبقى مهمًا ومؤثرًا في إطار منظومة النظام السياسي والقانوني الأمريكي الذي يمنحه الدستور صلاحيات كبيرة، فخلال فترة رئاسة ترامب وسياسته الشعبوية وقصر نظره وعدم تفهمه لقواعد السياسة الدولية، أقدم ودون وعي بمخاطر ذلك، على نشاط محموم لتدمير القانون الدولي وتجاوز قرارات الشرعية الدولية بما فيها بشأن القدس الشريف والخروج عن الأعراف الدبلوماسية الدولية والعلاقات التجارية وتقاليدها وزعزعة الثّقة بوسائل التعامل التجاري وابتزاز الشعوب، وتجيير ذلك لصالح السياسة الأمريكية الأنانية الضيقة ولفئة متنفذة من الطاقم المحيط به، وكان ذلك يعني تدمير صورة أمريكا.
   كما ساهمت سياسة ترامب في خلخلة السلم المجتمعي في الولايات المتحدة مكرسًا نهجًا عنصريًا استعلائيًا وهو الذي تمّ وضع حدٍّ له منذ العام 1964 في إطار المطالبات بالحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ الذي اغتيل في العام 1968، وإن بقيت شوائب وذيول عنصرية كثيرة من الناحية العملية إلّا أن الرئيس ترامب حاول تغذيتها، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الأعمال العنفية وارتفاع موجة العداء للأجانب، فضلًا عن بناء جدار مع المكسيك وتقليص الهجرة ومنع مواطني 7 بلدان من دخول الولايات المتحدة.
ولعبت شخصية ترامب النرجسية وتعطشه للسلطة وغروره وتعامله بالسياسة من موقع التجارة إلى إحداث صدع كبير في جدار الديمقراطية الأميركية العريقة انعكس سلبًا على الفكرة الديمقراطية لدى أوساط كثيرة ودفع جهات عديدة إلى المطالبة باتخاذ إجراءات قانونية لعزله حتى قبل انتهاء المدة القانونية المتبقية من حكمه( 20 كانون الثاني/يناير 2021 ) وهي سابقة لم تحصل في تاريخ الولايات المتحدة، خصوصًا اتهامه بعدم أهليته العقلية، وهو الذي حكم الولايات المتحدة أربع سنوات، وكان لاعبًا أساسيًا على المستوى العالمي، متخذًا قرارات خطيرة ومصيرية غيّرت من صورة الولايات المتحدة، والأكثر من ذلك هناك من طالب بتقديمه إلى القضاء بتهمة تحريض الرأي العام لاقتحام الكونغرس وقبل ذلك الضغط على سكرتير إدارة ولاية فرجينيا وتهديده وترغيبه، بل والتوسل إليه لتغيير نتائج الانتخابات لصالحه، وهو ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست.
   لم يقف الديمقراطيون ضد ترامب فحسب، بل إن جمهوريين ومن أخلص أتباعه وقفوا ضده بما فيهم وزيرة التربية بيتسي ديفوس ووزيرة النقل يلين تشاو اللتان أعلنتا عن استقالتهما وعدد آخر من موظفي البيت الأبيض، إضافة إلى نائبه مايك بنس الذي كان له الضلع الأكبر في توجه الكونغرس لاقرار نتائج فوز بايدن.

103
الانتخابات العراقية وتدوير الزوايا
عبد الحسين شعبان
أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوم 6 يونيو (حزيران) 2021 موعداً لإجراء الانتخابات التي كانت إحدى المطالب التي رفعتها ساحات الاحتجاج منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول العام 2019، وكانت بعض الكتل والكيانات السياسية قد أعلنت عن استعدادها لخوض الانتخابات طارحة "أحقّيتها" في تولّي منصب رئاسة الوزراء، ولا سيّما كتلة سائرون بقيادة مقتدى الصدر باعتبارها تمثّل "الكتلة الأكبر" في البرلمان الحالي، إلّا أنّ هناك أوساطاً شعبيّة بدأت تشكّك في إمكانية إحداث تغيير بواسطة الانتخابات لوحدها دون إجراء إصلاحات جذريّة في بُنية النظام السياسي والقانوني، فهل ستؤدي الانتخابات إلى تحقيق الأهداف المنشودة لحركة الاحتجاج الواسعة التي قدّمت أكثر من 600 شهيد ونحو 20 ألف جريح ومعوّق؟ أم أنها ستعمّق الأزمة بتدوير الزوايا؟
وإذا كان هناك شبه إجماع شعبي على ضرورة التغيير، سواء بالانتخابات أم بغيرها إلّا أنّ هناك طيفاً واسعاً من المجتمع أخذ يتلمّس عدم جدوى التعويل على الانتخابات لوحدها في ظلِّ قانون انتخابي لا يلبّي طموحها، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى المزيد من الإخفاق ويمنح "الشرعيّة" للقائمين على الحكم في إطار منظومة 9 نيسان (إبريل)، تلك التي استأثرت بالسلطة ما بعد الاحتلال، والتي مارست نوعاً من الحكم أدّى إلى تشويه الفكرة الديمقراطية، خصوصاً في ظلِّ دستور قام على مبدأ "المكوّنات" التي لا تعني سوى المحاصصة الطائفية الإثنية على حساب المواطنة المتساوية والمتكافئة.
وهذا يعني هزيمة عمليّة التغيير عبر "خيار الانتخابات" القادمة بالصورة التي جرت فيها والآليات التي اعتمدتها والتقنيّات التي سارت عليها سابقاً وتبديداً للتضحيات الجسام التي اجترحتها حركة الاحتجاج، حيث سيصاب المواطن بخيبة أمل مريرة تزيد من معاناته، لأنّ البرلمانات التي أنتجتها الانتخابات السابقة توزّعت بين قوائم وحصص للكتل والجماعات السياسيّة ذاتها دون تغيير يُذكر. وظلّت الائتلافات الثلاثة "راسخة" بين الشيعيّة السياسيّة التي لها موقع رئاسة الوزراء والسُنّية السياسية التي لها موقع رئاسة البرلمان والكردية السياسية التي لها موقع رئاسة الجمهورية، وخصوصاً لفريق منها، أمّا الفريق الآخر فله وزارة الخارجية أو وزارة المالية، ناهيك عن التوزيعات الأخرى لبقيّة المواقع التي يُطلق عليها السياديّة.
إنّ ذلك يعني تراجع إنتاج طبقة سياسية جديدة خارج نطاق البلوكات القائمة، واستمرار صيغة الائتلافات الحاكمة بتدوير طاقمها في إطار زوايا مغلقة، وقد ظلّت التجربة اللبنانية لنحو 7 عقود من الزمان تدور داخل الدائرة نفسها، والتي تكرّست بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف العام 1989، حيث تكرّر تدوير الزوايا على نحو تستطيع كل زواية منها أن تعطل الزوايا الأخرى لما يسمّى بـ"الثلث المعطّل".
 ويبدو أنّ التجربة العراقية اقتفت أثر التجربة اللبنانية، الأمر الذي سيزيد من الإحباط الشعبي ويضعف من الاندفاع الذي يطالب بالتغيير ويعوّل على الانتخابات كإحدى وسائله بسبب بقاء القديم على قِدمَه، واستمرار الطبقة الحاكمة بمواقعها على الرغم من فشلها المزمن في تحقيق الحدّ الأدنى من حقوق المواطن في ظلّ استمرار الفساد المالي والإداري وانفلات السلاح واستشراء ظواهر العنف والإرهاب والتغوّل على الدولة، بتقديم مرجعيات ما دونها إلى ما فوقها باسم الطائفة أو الدِّين أو العشيرة أو الحزب أو المنطقة أو الجهة، ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وارتفاع معدلات البطالة وازدياد مستويات الفقر والجريمة، لذلك انحسرت جاذبيّة الانتخابات، حتى أن انتخابات العام 2018 لم يشارك فيها سوى 20% من مجموع الناخبين، فلم يعُد الصندوق الانتخابي أملاً في التغيير، لأنّ ما يخرج عنه بالتزوير أو حسب الاصطفافات التي يوفرها القانون الانتخابي كان يعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها.
وإذا كان شعار "الثورة في صندوق الاقتراع" وهو عنوان كتاب لي عرضت فيه تجارب دولية منذ التسعينات في أمريكا اللاتينيّة والبلدان الاشتراكية السابقة، إضافةً إلى نجاح نيلسون مانديلا بالفوز في انتخابات ديمقراطية أدّت إلى وضع حدّ لنظام الفصل العنصري الذي دام ما يقارب ثلاثة قرون من الزمان، فإنّ الأمر يحتاج إلى توفّر مستلزمات ضروريّة سياسيّة وقانونيّة وأمنيّة وإجرائيّة، وفي حالة غيابها سيتم تدوير الزوايا الحادّة، الأمر الذي سيزيد الأزمة العراقيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حدّة؟
لقد حكمت الشيعيّة السياسية لثلاث دورات ونيّف في العراق منذ العام 2005، وكذلك حكمت الإثنية الكُردية إقليم كردستان بالتقاسم بين الحزبين منذ العام 1992، فهل تغيّرت الصورة أم ازدادت تعقيداً؟ إنّ نقطة البدء تكمن في إصلاح النظام القانوني والدستوري بإلغاء كلّ ما من شأنه إعاقة تطبيق المعايير الديمقراطية وإزالة الألغام العمليّة التي تعترض ذلك، ولا سيّما العُرف المعتمد تحت عنوان "التوافق" الذي هو في حقيقته نظام للمحاصصة، ولا بدّ أن يعترف الجميع بوجود الأزمة وأن يُبدوا الرغبة في حلّها بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد لتأصيل المواطنة وتعميق الفهم السليم لدور البرلمانيّ باعتباره مشرّعاً ورقيباً لما فيه خدمة المجتمع، وذلك برفع درجة الوعي الحقوقي المجتمعي بأهميّة وظيفة الانتخابات وما ترتّبه من نتائج على صعيد التغيير.



104
شعبان: السلام العربي فرض عين وليس فرض كفاية فحسب

خاص - وكالات (المحرر الثقافي)
أكّد الدكتور عبد الحسين شعبان العضو المؤسس لمجموعة السلام العربي ونائب رئيس جامعة اللّاعنف أنّ مجموعة السلام العربي ترحّب بجميع المبادرات العربية لتحقيق المصالحة والسلام بين الأشقاء العرب، وإن أيّ خطوة حتى ولو كانت بسيطة على هذا الطريق فإنّها بالتراكم ستؤدي إلى تنقية الأجواء باتجاه إعادة اللُحمة إلى الجسد العربي الذي يعاني من الانقسام.
وكانت المجموعة قد بادرت منذ ما يزيد عن عامين للاتصال بجميع الأطراف العربية ذات العلاقة، سواء في اليمن أو ليبيا أو سوريا أو فلسطين أو مجلس التعاون الخليجي، ودعتها إلى تسويات سلمية لقطع الطريق على القوى المتربّصة وذلك باعتماد الحوار وسيلة لتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق باتجاه الهدف المشترك دعماً للحل العادل للقضيّة الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وعلى أرضه وطنه وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
جدير بالذكر أن مجموعة السلام العربي أصدرت نداءًا رحّبت فيه بانفتاح القاهرة على طرفَي المعادلة الليبية في طرابلس وبنغازي وما صدر من إشارات عربية إيجابية بشأن الملف السوري وصولاً للحل السلمي للأزمة في إطار وحدة الدولة السورية، وثمنّت المجموعة المبادرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لعقد اجتماع لمجلس التعاون الخليجي وتسوية الخلافات داخله، وأعربت عن أملها في أن تكون هذه المبادرة مقدّمة لعقد قمّة عربية استثنائية وتاريخيّة تكون المصالحات والوئام العربي الشامل أساساً لها، كما دعت مجموعة السلام العربي إلى تفعيل دور جامعة الدول العربية؛ وحذّرت من اندلاع نزاع مسلّح في المنطقة، حيث ستكون أقطارنا العربية في عين العاصفة وإنّ أيّ عمل عسكري سوف يزيد الأمور تعقيداً والحروب اشتعالاً.
هذا وقد وقّع البيان 35 شخصيّة سياسية وثقافية من مجمل الأقطار العربية، وقد صدر بمناسبة العام الجديد 2021 معرباً عن الأمل في أن يزيل العام الجديد غمّة الوباء وأن يكون عام سلام وتوافق عربي.

نصّ البيان والموقّعون:
في العام الجديد آمال وبشائرَ/ وئامٍ عربي مُنتظر العواصم العربية تتقدم مجموعة السلام العربي إلى الدول العربية بخالص التهاني بحلول العام الجديد حيث يحذوها الأمل المقرون بالدعاء إلى الله أن يعم السلام والأمن والوئام أقطارنا العربية العزيزة.. أنه سميعٌ مجيب. إن مجموعة السلام العربي وهي تراقب التطورات التي تمر بها منطقتنا، لَتَخشى من أي عمل عسكري في الخليج العربي لأن ذلك سيعود بالدمار والخسران على أقطارنا العربية في الخليج، كونها في عين العاصفة بل وأن هكذا عمل عسكري سوف يزيد الأمور تعقيداً، ما يُصعب أمكانية التعامل بإيجابية مع قضايانا المعلقة وحروبنا المشتعلة في اليمن وسوريا وليبيا.
إن مجموعة السلام العربي، وفي الوقت الذي تُثمن به مبادرة خادم الحرمين الشريفين "الملك سلمان بن عبد العزيز "لاجتماعِ مجلس التعاون الخليجي بكامل أعضائه إلى جانب مصر، لَتأمل النجاح لهذا اللقاء وتسوية الخلافات داخل مجلس التعاون ومصر، وإعادة اللُحمة إلى الجسد العربي الذي يعاني الانقسام والتشظّي والضعف، وأن تكون هذه المبادرة ونجاحها مقدمةٌ إلى عقد قمةٍ عربية غير روتينية استثنائية وتاريخية، تكون قمة المصالحات والوئام العربي الشامل. حيث تُدعى إليها أطراف المعادلات المُتعارضة في فلسطين وفي اليمن وسوريا وليبيا، تحت يافطة إرادة وقف الحرب والانقسامات في هذه الأقطار، والاتفاق على أُطر جامعة تقوم على تثبيت مبدأ وحدة هذه الأقطار ومؤسساتها وإشاعة السلام والأمن. وأن تقوم القمة المقترحة بوضع خطة شطرها الأوّل إجتثاث الإرهاب الذي يُخيّم على سَمائِنا العربية وشطرُها الثاني يقوم على وقف تدخل القوى الإقليمية والدولية خدمةً لأجنداتها في شؤوننا العربية، وشطرها الثالث والأهم أن يقف العرب جميعاً وراء مبادرتِهم في قمّة بيروت، وأساسُها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتُها القُدس والانسحاب الإسرائيلي وإزالة الاستيطان. وإننا نأمل من الدول العربية أن تُبادر إلى مثل هذا العمل خصوصاً وأن بشائر المُصالحات تتمثّل بقمةِ الخليج ومصر التي هي على الأبواب، وكذلك إنفتاح القاهرة على طرفي المعادلة الليبية في طرابلس وبنغازي وما صدر من إشارات عربية إيجابية نحو الملف السوري والحكومة السورية في دمشق. وبغضّ النظر عن اختلاف المواقف والاجتهادات بشأن الحل العادل للقضية الفلسطينية فإن ذلك لا يعني تخلّي العرب عن موقفهم الثابت من القضية الفلسطينية والداعم لكفاح الشعب العربي الفلسطيني لنيل حقوقه الوطنية المشروعة.
إنّ مجموعة السلام العربي، وأُمتنا العربية تودعُ عاماً كان مليئاً بالأحداث المأساوية، لتدعو الله سبحانه، أن يُزيل غمة الوباء وأن يكون هذا العام عام سلامٍ ولقاءٍ وتوادٍ عربي.. إنه سميع مجيب. والله ومصلحة العرب من وراء القصد.


الأعضاء الموقّعون:

1. السيّد علي ناصر محمد – رئيس جمهورية اليمن الأسبق.
2. الدكتور عبد السلام المجالي، رئيس جمعية الشؤون الدولية، رئيس وزراء أسبق- الأردن
3. الدكتور عدنان بدران – رئيس وزراء أسبق - الأردن.
4. السيّد عباس زكي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح – فلسطين.
5. المهندس فلح حسن النقيب، وزير الداخلية الأسبق – العراق.
6. الدكتور رفيق عبد السلام، وزير خارجية تونس الأسبق ورئيس الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية - تونس.
7. السيّد نبيل بنعبد الله، وزير سابق- المغرب.
8. الدكتور عدنان السيّد حسين، رئيس الجامعة اللبنانية سابقاً - وزير سابق – لبنان.
9. المهندس مروان الفاعوري، الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية - الأردن.
10. الدكتور أكرم عبد اللطيف، عضو المجلس الوطني – فلسطين.
11. الشيخ قصي اللويس، رئيس مجلس القبائل السورية – سوريا.
12. الدكتور عبد الحسين شعبان، كاتب ومفكر – العراق.
13. الدكتورة مكفولة بنت آكاط، أستاذة جامعية ووزيرة سابقة – موريتانيا.
14. الدكتور حلمي الحديدي، رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية - مصر.
15. السيّد محمد عبد السلام العباني، رئيس المؤتمر الوطني الجامع الليبي.
16. الدكتور عاطف مغاوري، نائب رئيس حزب التجمع المصري، عضو مجلس النواب، كاتب ومفكر – مصر.
17. السيّد محمد شفيق صرصار، رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات سابقاً - تونس.
18. الدكتور محي الدين المصري، مفكر وكاتب، مندوب الاردن الدائم/مساعد مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سابقاً – الأردن.
19. السيّد سيف المسكري، أمين عام مساعد للشؤون السياسية – الأمانة العامة لمجلس التعاون - عُمان.
20. الأستاذ صالح قوجيل، عضو المجلس الوطني – الجزائر.
21. الدكتور محمد طلابي، كاتب ومفكر – المغرب.
22. السيّد حسين فضلي، سفير سابق – اليمن.
23. السيّد محمد عمر بحاح، سفير سابق - اليمن.
24. السيّد علي محسن حميد، سفير سابق - اليمن.
25. الدكتور محمد الرميحي، مفكر وأستاذ جامعي - الكويت.
26. الدكتورة أوغاريت يونان، أكاديمية وباحثة – لبنان.
27. السيّدة  رندة سنيورة - أكاديمية وباحثة – القدس – فلسطين.
28. الدكتور باقر النجار - كاتب – عضو مجلس الشورى البحريني سابقاً – البحرين.
29. الدكتورة موضي الحمود – وزيرة التربية والتعليم سابقا - استاذة اكاديمية-الكويت.
30. الدكتور حنا عيسى - الامين العام للهيئة الاسلاميه المسيحيه لنصرة القدس – فلسطين.
31. الدكتورة هبه جمال الدين – عضو المجلس المصري للشؤون الخارجيه - مصر.
32. الدكتور عبد الحميد الأنصاري – عميد كلية الشريعة والقانون، كاتب ومفكر - قطر.
33. الدكتورة فريدة العلاقي – سفيرة ليبيا سابقاً في الأتحاد الأوربي – ليبيا.
34. الدكتور أحمد عتيقة – الرئيس التنفيذي – المؤسسة العربية للأستثمارات البترولية ( أبيكورب) – ليبيا.
35. السيّدة  مريم الصادق المهدي – عضو مجلس النواب سابقاً – السودان.
36. المهندس سمير حباشنة - رئيس الجمعية الأردنية للعوم والثقافة، وزير الداخلية الأسبق - الأردن/ المنسق العام للمجموعة.


105
عبد الحسين شعبان: حوار عن اللجوء واللاجئين
*اللجوء حقّ إنساني ينبغي احترامه
*حقوق الإنسان لها أهميّة خاصة في حياة المهاجرين
*على دول الشمال احترام تعهّداتها في ميدان حماية اللاجئين
*ينبغي على الدول الشرق متوسطية - الأوروبية الإيفاء بالتزاماتها وإعادة النظر بقوانينها

أجرى موقع "أجيال القرن 21" مقابلة خاصة مع الكاتب العراقي المتخصّص في القانون الدولي، الخبير في حقوق الإنسان، والذي له ما يزيد عن 50 كتاباً في السياسة والفكر، منها: "الهُويّة والمواطنة"، "جدل الهُويات في العراق"، "النزاع العراقي الإيراني".
وفي هذا الحوار الشيّق والمثير، تحدّث شعبان عن واقع اللاجئين في المجتمعات الغربية، وآثار الهجرة غير الشرعيّة، والجوانب القانونية المتّبعة من قبَل الدول المستقبِلَة، فضلاً عن قواعد القانون الدولي واتفاقيات حقوق اللاجئين، كما تناول الإشكاليات التي يطرحها واقع المهاجرين واللاجئين، تلك التي تتعلّق بمفاوضات تُجريها بعض البلدان حول عودتهم الى بلادهم.
*****
□ حاورته: أورنيلّا سكّر لموقع "أجيال قرن 21"
س 1: لماذا يثار موضوع الهجرة غير الشرعية اليوم بالتحديد، ولماذا هناك تباين في المواقف الأوروبية؟
ج 1: ظلّ موضوع الهجرة غير الشرعية موضوعاً ساخناً على المستوى الأوروبي بشكل خاص والغربي خلال السنوات العشر المنصرمة بشكل عام، حتى وإن كان الأمر مطروحاً على بساط البحث قبل ذلك، لكنّه ازداد خلال العقد الماضي، ارتباطاً مع موجة ما سمّي بالربيع العربي، حيث شهدت الشواطئ العربية والإفريقية والحدود الإقليمية والدولية هجرة غير مسبوقة، وترافق ذلك مع صعود تيّار يميني عنصري شعبوي في العديد من البلدان الغربية، وخصوصاً في البلدان الاشتراكية السابقة التي تشكّل ممرًّا للهجرة غير الشرعية، مثل المجر وسلوفينا وسلوفاكيا والتشيك وغيرها، إضافة إلى صعود موجة كُره الأجانب في النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا وإلى حدّ ما في بريطانيا، فضلاً عن بعض البلدان الاسكندنافية، في حين كانت ألمانيا أكثر انفتاحاً وقبولاً للهجرة، وقد شهدنا ذلك خلال الهجرة السورية الجماعية قبل بضع سنوات، دون أن ننسى الدور التركي الذي قام بفتح الحدود البرّية والبحريّة باتجاه اليونان ودول أوروبا.
ولعلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي شهدها العالم في العام 2008 وما بعدها لا تزال آثارها مستمرة، هي التي كانت أيضاً وراء توجّه بعض البلدان الغربية لوقف الهجرة أو تخفيضها إلى أقل حدٍّ ممكن، بما فيها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي قرّر بناء سياج يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، ناهيك عن تقليص معدّلات الهجرة القانونية، ثمّ قراره العنصري بمنع مواطني عدد من البلدان من دخول الولايات المتحدة، وهو قرار ينمُّ عن صعود موجة عنصريّة تتّسم بروح الكراهية.

س 2: أين الإخفاق في قضية الهجرة غير الشرعية؟
ج 2: لا يمكن وقف الهجرة غير الشرعية كلّياً، ولكن يمكن تنظيمها وتقنينها، خصوصاً وأنّ اللاجئين لأسباب سياسية تمنحهم قواعد القانون الدولي المعاصر حقوقاً لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها. وهو ما تؤكده قواعد القانون الإنساني الدولي والشُّرعة الدولية لحقوق الإنسان والعديد من المعاهدات والاتفاقات الدوليّة التي وقّعت عليها البلدان الأوروبيّة، ولا سيّما اتفاقية حقوق اللاجئين الدولية العام 1951 وملحقها العام 1967، إضافةً إلى عدد من الاتفاقيات الأوروبية.
إنّ عدم التنسيق والتعاون واختلاف التوجّهات بين البلدان الأوروبية وصعود التيّار الشعبوي اليميني العنصري وعدم احترام قواعد القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، هو الذي كان سبباً في إخفاقها من استيعاب الهجرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، ومن دول العالم الثالث إلى الدول الصناعية المتقدّمة، ناهيك عن مسؤوليات الدول الغنية إزاء الدول الفقيرة، سواء بسبب سياسات الاستعمار القديمة أم السياسات الإمبريالية الجديدة ونهب ثروات الشعوب، بحيث ساهمت في نشر بذور التعصّب في تُربة صالحة لولادة ابنُهُ التطرّف، وهذا الأخير إذا ما انتقل من التفكير إلى التنفيذ يصبح عنفاً، وإذا ضرب عشوائيًّا يصير إرهاباً وإرهاباً دوليًّا إذا كان عابراً للحدود، وهدفه خلق الرعب والفزع وعدم الثقة بالدولة من جانب المجتمع والفرد، إضافة إلى عدم ثقة الدولة بنفسها، في حين أنّ العنف يستهدف الضحيّة بذاتها ولذاتها. ولعلّ الفقر والأُميّة والتخلّف وأسباب اقتصادية واجتماعية وعنصرية وإثنية وفكرية وثقافية ودينيّة وطائفيّة ولُغويّة وسُلاليّة وغيرها هي التي كانت وراء اختلال التوازن وغياب العدالة، سواء على المستوى المحلّي أم على مستوى العلاقات الدولية.

س 3: أين الإخفاق في السياسات الأوروبية تجاه التعاطي مع الهجرة غير الشرعية وما هي البروتوكولات التي يعملون على إصلاحها اليوم كسياسات إصلاحية في أوروبا للتعاطي مع ملف الهجرة والمهاجرين في أوروبا؟
ج 3: أنقل لك رأياً لوزير العدل والشرطة السويسري ويمكن تطبيقه عمليًّا على الوضع الإنساني السوري واللاجئين والمهاجرين بشكل عام. يقول وزير العدل والشرطة السويسري الأسبق آرنولد كولر مخاطبًا لاجئي كوسوفو الألبان: لو كنّا مكانكم لكنّا فررنا نحن أيضًا. ولعلّ عبارة مسؤولة وواقعية كتلك تفسّر التدفّق المفاجئ لملايين اللاجئين السوريين الذين اضطرّوا إلى اللجوء بسبب النزاع المسلّح وأعمال العنف والإرهاب التي اندلعت في العام 2011 والتي استمرت بفعل عوامل دوليّة وإقليميّة وداخليّة بالطبع.
لم يكن أمام السوري المدني في منطقة النزاع المسلّح سوى الهرب من التدمير والأعمال الوحشيّة والقصف، الأمر الذي طرح مشكلة اللاجئين السوريين على بساط البحث أمام المجتمع الدولي تلمّسًا في الحماية التي توفّرها الاتفاقيّات الدولية، ولعلّ الصراع المحتدم كان هو السبب وراء الهجرة القسريّة لملايين السكّان، إضافةً إلى ملايين النازحين داخل سوريا، لاسيّما في مناطق النزاع، وخصوصًا الشيوخ والنساء والأطفال، وقد تمكّن قسم منهم طلب الحماية في دول الجوار والقسم الآخر اختار المنافي البعيدة لدول الشمال الأوروبي، وهو ما أحدث إشكالات حدوديّة وسياسيّة، بين تركيا واليونان وعدد من دول أوروبا بما فيها المجر والنمسا وسلوفاكيا وتشيكيا وألمانيا وغيرها، إضافة إلى بعض الدول الاسكندنافيّة، حيث استخدم ملف اللاجئين السوريّين ورقة للصراع الإقليمي والدولي، فضلًا عن الصراعات الداخليّة لوجود تيّارات عنصريّة شعبويّة يمينيّة متطرّفة في العديد من بلدان أوروبا.
وأختتم ذلك بالقول: إنَّ وضعًا معقّدًا مثل هذا الذي يعيشه اللاجئون السوريّون يجعل ثمّة مسؤوليّات مضاعفة على عاتق المجتمع الدولي، وخصوصًا على الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لحماية السلم والأمن الدوليّين وإطفاء بؤر التوتر وحلّ النزاعات بالطُرق السلميّة، وحماية اللاجئين، طبقًا للشرعة الدوليّة لحقوق الإنسان ولاتفاقيّات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، والمقصود بذلك بروتوكولَي جنيف: الأوّل - الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة؛ والثاني - الخاصة بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، مع التأكيد على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق اللاجئين لعام 1951 وملحقها العام 1967.
س 4: لو دققنا مليًّا في موضوع الهجرة غير الشرعية اليوم ودخلنا في النشأة والأسباب والعوامل، برأيك اليوم في القرن الحادي والعشرين ما هي دوافع وأسباب المهاجرين إلى الهجرة غير الشرعية لماذا وصفت بالهجرة غير الشرعية أولاً، ولماذا يهاجرون؟ هل لأسباب متعلقة في الاقتصاد؟ لأسباب اقتصادية، لأسباب ثقافية رفاهية أم لتحصيل مكاسب وشروط حياة للذات؟
ج 4: في كتابه "تأملات المنفيين" يعرّف الصحافي البريطاني جون سمبسون المنفي بالقول "هو الشخص الذي لا ينسجم مع مجتمعه" ثم يعدد ستّ مجموعات من المنفيين لأسباب سياسية أو دينية أو قومية أو قانونية "ملاحقة المحاكم المدنية"، أو نفسية أو اقتصادية أو غير ذلك. ولعل كتاب سمبسون يذكّرنا برسالة الجاحظ "الحنين إلى الأوطان" (الجدّ الأقدم للمسلمين)، خصوصاً بتدفق المجموعات والكتل البشرية الهائلة اليوم والهروب الجماعي بسبب الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية المسلحة والخوف من الإضطهاد الإثني والديني والمذهبي، بأبعاده الإنسانية: السياسية والاجتماعية  والاقتصادية والثقافية.
وكان فرانسيس فوكوياما قد حذّر من تعاظم مشكلة المهاجرين واللاجئين في عالم ما بعد "نهاية التاريخ" الذي ابتدعه في آواخر الثمانينات معلناً ظفر الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي على المستوى العالمي، معتبراً مشكلة تدفق اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغنيّ إحدى التحديّات التي تواجه العالم المعاصر.
واستكمل هذه الرؤية صموئيل هنتنغتون الذي اعتبر أن العدو المحتمل والتحدي الأساسي لعالم ما بعد انهيار الأنظمة الشيوعية هو "الإسلام" الذي يشكل خطراً لسيادة الليبرالية على المستوى الكوني، وفقاً لنظريّته "صدام الحضارات وصراع الثقافات" مع تعاظم مشكلة اللاجئين والمهاجرين، لا سيّما موضوع الهُويّة والاندماج وتفرّعاتهما بمعنى الخصوصية الثقافية والقومية والدينية مقابل الشمولية العالمية التي تمثّل الليبرالية الجديدة على المستوى الكوني.
إن هذه المسألة تثير إشكاليات حقيقية ومعاناة فعلية، ثقافية واجتماعية ونفسية بالنسبة للمنفي أو اللاجئ أو بالنسبة لمجتمعه الجديد، وخصوصاً للشباب، وإذا دخل الدين عنصراً في الموضوع فإن هناك الكثير من عوامل عدم الاندماج الموضوعية والذاتية قد تدخل على الخط ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للمرأة في ظل العقلية الشرقية والأبوية الدينيّة التقليدية التي تظل تفعل فعلها في حياة المهاجرين والمنفيين لوقت طويل، وربّما تتجدد بأشكال وأساليب تزيد من التمسك بها على نحو يبدو كثير الغرابة والتعقيد.

س5: ماذا تقول الاستطلاعات اليوم الأخيرة حول دراسات الهجرة والمهاجرين؟
ج 5: إن دراسة قضايا الهجرة والمهاجرين تظهر على نحو واضح وجليّ وربما صارخ، مسألة الهُويّة والخصوصية وإشكاليّاتهما في المجتمع الجديد، وخصوصاً بالنسبة للجيل الثاني، وقبل ذلك تبدأ المشكلة مع شبكات ووسائل الانتقال المشروعة وغير المشروعة، حيث يتعرّض المهاجرون واللاجئون إلى طائفة من الابتزاز وإلى عقبات وعراقيل قد تكون خطرة وقد تؤدي بالبعض إلى فقدان جزء من العائلة، ثم يبدأ اللاجئ بمواجهة المشكلة الأكبر مع البلدان المضيفة (المستقبِلة)، خصوصاً التكيّف مع الحياة الجديدة بما فيها من قوانين وعادات وتقاليد وأنظمة وضوابط بعضها غريب عليه لدرجة كبيرة، وقد يواجه تحدّيات لم تخطر على باله على نحو محموم فيه الكثير من المفارقات.
لعلّي هنا أتذكّر رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني "رجال في الشمس" في الحديث "عن رحلة النفي أو الهجرة أو اللجوء". كيف قُدّر لهؤلاء الرجال الذين بقوا في الصهريج ينتظرون موتهم ببطء ويأس ودون حتى حراك، فبدلاً من فتح باب الفرج، انفتح لهم باب القبر بكل صمته وظلامه. وبإيحاء كنفاني الذي كان منولوجه الداخلي عالي النبرة، يخاطب هؤلاء الرجال لماذا لا تصرخوا؟ لماذا لا تدقوا كي يسمعكم مَن بالخارج؟
كان خوفهم الأساسي يتركز على اكتشافهم من جانب سلطات الحدود العراقية - الكويتية وهم يجتازون مفرق سفوان، هو الذي دعاهم إلى الصمت والإذعان وإلى الموت انتحاراً إذا جاز التعبير. إن صمتهم وعدم حراكهم سببه الخوف من ضياع فرصتهم في الهجرة، فبعد النفي الأوّل من الوطن كان البحث عن منفى جديد مؤقت ولو للعمل ولم يخطر ببالهم أنهم يرحلون هذه المرّة إلى المجهول، إلى العالم الآخر.
إن مأساة الفلسطيني التي صوّرها غسان كنفاني ببراعة تتكرر يومياً وبصورة دراماتيكية مرعبة أحياناً، ويكاد لا يمر أسبوع أو شهر إلا ونسمع موتاً جماعياً، غرقاً أو اختناقاً أو ضياعاً، فالكوارث الطبيعية وحراس الحدود والشواطئ يقفون بالمرصاد، والمشهد يستمر: قوارب وبواخر وحافلات وقطارات .. مهرّبون وسماسرة، ضحايا ومنفيون، سجون واحتجاز... وقصص لا تنتهي عن بلدان الرعب والحروب والجوع وهدر الكرامة.

س6: اليوم، الانتهاكات حول حقوق الإنسان كيف يُنظر إلى ملف الهجرة غير الشرعية من وجهة نظر حقوق الإنسان وأين الإخفاق في القانون الدولي وحقوق الإنسان؟
ج 6: لقد تطوّر فقه القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي بشأن اللاجئين والمهاجرين بما فيها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومع ذلك فما تزال الكثير من الأسئلة والإشكاليات ذات البُعد الإنساني والقانوني قائمة، سواء ما يتعلّق ببلدان الجنوب المُصدّرة للجوء والهجرة أم لبلدان الشمال المُستقبِلَة للاجئين والمهاجرين. وتحاول بعض دول الشمال الغنيّ التملّص من التزاماتها بشأن اللاجئين والمهاجرين بما فيها مساعدة بلدان الجنوب على تحقيق تنمية من شأنها أن تحدّ من ظاهرة الهجرة وتستوعب أبناء الجنوب للعمل والتخلّص من البطالة والقضاء على الأُميّة والتخلّف.
وإذا كان ميثاق برشلونة الذي تمّ التوقيع عليه عام 1995 بين دول الشمال وبين بلدان الشرق الأورومتوسّطية لإقرار حرّية نقل البضائع، إلّا أنّه يستثني نقل البشر، فإنّه يقود فعليًّا إلى ممارسة سياسةٍ انتقائية في الاختيار وازدواجية في المعايير، خصوصاً بتقسيم اللاجئين إلى أوروبي وغير أوروبي "جنسيات أخرى"، وعلى هذا الأساس تكون الفوارق والتمايزات، وأحياناً بين مسيحيين وغيرهم في حين تبرز مشكلة اندماج العرب والمسلمين في المجتمعات الأوروبية الجديدة ممّا يؤدي إلى شعورهم بالعُزلة وقد يقودهم إلى التعصّب ووليده التطرّف والعنف في مواجهة ظواهر العنصرية وكُره الأجانب وضعف التعليم وخيبة الأمل.
لقد كانت اتفاقية أمستردام العام 1997 والتي دخلت حيّز التنفيذ العام 2004 لتحقيق فكرة أوروبا دون قيود ودون حدود، بحيث يسهل انتقال اللاجئين، حيث يتم فحص طلب اللجوء وفقاً لذلك إضافةً إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ومع ذلك ليس هناك من وصفة سحرية نهائية بشأن الحاجات المتنامية للاجئين.
اللجوء حقّ إنساني يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ولا يمكن إعادة طالب اللجوء إلى بلده طالما استشعر باحتمال تعرّضه لاضطهاد سياسي أو ديني أو قومي أو غير ذلك واضطر إلى الهرب، إذْ أن إعادته بالقوّة قد يؤدي إلى تعرّضه للتعذيب أو الأذى أو حتى خسارة حياته، وفي ذلك مسؤولية على الدول المُستقبِلة.
إن حقوق الإنسان لها أهمية خاصة في حياة المهاجرين لأنه بسببها اضطروا إلى الهجرة كما أنها تؤثر على حياتهم في المهجر أيضاً، بل إنهم شديدو الحساسية إزاء خرقها أو التجاوز عليها، ولهذا فإن احترام دول الشمال لتعهداتها في ميدان حماية اللاجئين والمهاجرين والمنفيّين مسألة في غاية الأهمية وهو ما ينبغي لدول الشرق الأوروبية المتوسطية وبخاصة دول الشمال وضعه موضع الاعتبار.
وعلى دول الجنوب التي لا بدّ من احترام حقوق الإنسان وإعادة النظر بقوانينها وأنظمتها وممارستها التي تنتهك هذه الحقوق، التعامل مع المجموعات البشرية الكبيرة من طالبي اللجوء من مواطنيها الأصليين، ليس باعتبارهم أعداء وإن اختلفت بهم السُبل السياسية أو المناهج الفكرية أو المنحدرات القومية أو الدينية أو غيرها، ولا بد هنا من مدّ الجسور وأخذ مصلحة البلدان الأصلية وعلاقتها مع الدول المضيفة بنظر الاعتبار وتفعيلاً للثقافة الجديدة برفدها بثقافة الأصل وتشجيع الحوار الثقافي والمعرفي وفقاً لأسس حضارية تقوم على أساس تعدّدية الهُويّة واحترام الخصوصيات والبحث عن المشترك الإنساني، الأساس في أي ثقافة وحضارة. ولا بدّ أيضاً لدول الجنوب من التوقيع على اتفاقية جنيف لعام 1951 وملحقها في العام 1967 بشأن حماية اللاجئين.

س 7: هل تعتقد أن قضية الوجود "الإسرائيلي" اليوم في المنطقة أو إشكالية "إسرائيل" هي شبيهة إلى حدّ ما بقضية المهاجرين والهجرة غير الشرعية في أوروبا باعتبار أن اليهود والشتات كانت معضلة أوروبية؟ هل هي هذه قضية غربية أم قضيّة عربية بالدرجة الأولى، فكيف تعلّق على هذا الموضوع من حيث التوصيف ومن حيث الإشكالية؟
ج 7: لا علاقة لموضوع الهجرة والمهاجرين واللاجئين بموضوع إنشاء دولة "إسرائيل" إلّا إذا أخذنا ما قامت "إسرائيل" بتهجير الفلسطينيين وترحيلهم ونفيِهِم عبر سياستها المعروفة بـ"الترانسفير" لتجلب محلّهم اليهود من أصقاع الدنيا، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي لإصدار قرار رقم 194 بشأن الحق في العودة في العام 1949، والذي ما تزال "إسرائيل" تتنكّر له وتضع العراقيل أمامه، بل إنها تستمر في قضم الأراضي والاستيطان فيها ضد ما يسمّى بـ"الشرعية الدولية" وخلافاً لقواعد القانون الدولي.
إن مأساة اليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية لم يكن العرب مسؤولون عنها وإنّ ما تعرّضوا له على يدِ النازيّين لا يمكن حلّه على حساب العرب والفلسطينيين، ولذلك لا تجوز المقارنة أو التشبيه، فحتّى قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947 هو قرارٌ لا ينسجم مع القانون الدولي ويُلحق ضرراً بليغاً وتاريخيًّا بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، الذي تجاوزت فيه الأمم المتحدة عليها بمنح نصف أراضي فلسطين أو ما يزيد عليها إلى "إسرائيل" التي تعهدّت باحترام حقوق الإنسان كشرطٍ لقبولها في الأمم المتحدة، لكنها تجاوزت على ذلك منذ اللحظة الأولى، وهي ما تزال مستمرة منذ تأسيسها في 15 أيار/مايو 1948 كبؤرة للعدوان والحرب والعنصريّة.



106
كتاب وحكاية: مذكّرات صهيوني
يوميّات إيغون ريدليخ في معسكر تيريزين

حين استضافني "اتّحاد الأدباء والكتّاب" في العراق (بغداد 20/12/2017) للحديث عن تجربتي الفكريّة والثقافيّة، فضّلتُ الكلام عن الكُتب ومن خلالها سردتُ شيئًا عن رحلتي مع الحرف والكلمة، وكان ممّا جئت عليه هو الكتاب الذي نحن بصددِه وأعني به "مذكّرات صهيوني"، وهو عنوان وضعتهُ لمقالات بقلم ييرجي بوهاتكا، الكاتب والصحافي (كما ورد في تعريفه) والموسومة "عندما كشف النقاب في يوميَّاته" أو "عندما تحدّث في يوميّاته" والتي عرضَ فيها برؤيةٍ نقديّة مذكّرات أو الأصحّ "يوميَّات" إيغون ريدليخ عضو قيادة المنظمّة الصهيونية ماكابي هاكير في معسكر تيريزين.
جدير بالذِّكر أنَّ التقريظ لمذكّرات ريدليخ كان قد نُشر في مجلّة تريبونا(1) Tribuna "المنبر" وعلى أربع حلقات، وقد لفتت انتباهي إليها إحدى المُستشرقات لمعرفتها باهتماماتي بالقضيّة الفلسطينيّة، فبادرتُ بترجمتها وإعدادها للنّشر، وكان ذلك عشيّة عودتي إلى العراق بانتهاء دراستي وقد أرجئت النّشر في حينها لالتحاقي بالخِدمة العسكريّة الإلزاميّة، ولكن يدُ الزمن كانت قد عبثت بها بعد مصادرة مكتبتي و3 مخطوطات من جانب الأجهزة الأمنيّة  كنت قد جهّزتها للطبع في حينها، وذلك عند كبْس منزلي بعد مغادرتي بغداد إلى المنفى مرّة أخرى.
في دمشق خطرت ببالي فكرة إعادة ترجمة النص المذكور لإعداده للنشر، خصوصًا لِما له من دلالة فكريّة وعمليّة في ظرف يستوجب فيه معرفة بعض الحقائق التي ظلّت خافية إلى حدٍّ ما، فما بالك حين يتمّ الكشف عنها هذه المرَّة وعلى لسان أحد قادة المنظّمات الصهيونية. وكنت قد اتّصلت بالصديق موسى أسد الكريم "أبا عمران" لمساعدته في تأمين النصّ المذكور فقام مشكورًا بإرسال الأعداد الأربعة من مجلّة تريبونا، على الرغم من مضيِّ سنواتٍ على صدورها(2).
أعدتُ قراءة التقريظ المكتوب من جانب ييرجي بوهاتكا على نصِّ إيغون ريدليخ فوجدتهُ أكثر إثارة ممّا قرأته في المرَّة الأولى، ولذلك توقّفت بتأمُّل عنده لأكتب تقديمًا له، أشبه بخريطة طريق: كيف يُقرأ النص؟ وما هي الاستعارة الدلاليّة منه؟ وكيف يمكن توظيفه نضاليًّا كجزء من الكفاح ضدّ الصهيونيّة على الجبهة الفكريّة والحقوقيّة والقانونيّة، لا سيّما على المستوى الدبلوماسي والدولي وبشكل خاص على صعيد المجتمع المدني العربي؟
منذ مطلع الثمانينات كنتُ أكتب مادّة أسبوعيّة لمجلّة "الهدف" الفلسطينيّة التي أسّسها غسّان كنفاني وأعقبه فيها بسّام أبو شريف ومن بعده صابر محي الدين، وقد بَدأَت علاقتي الحميمة مع مجلة "الهدف" منذ لقائي الأّول واليتيم مع غسّان كنفاني في العام 1970 في بيروت، علمًا بأنَّني كنت على علاقة وطيدة بالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وبالمقاومة الفلسطينيّة منذ العام 1967 في بغداد، وتعزّزت واستمرّت بالعديد من قيادتها ورموزها ومناضليها إلى يومنا هذا، ولذلك قرّرت نشر المادَّة في مجلّة "الهدف"، وحين علِمَ بها الصَّديق هاني حبيب مدير التحرير حينها خصّص لها مكانًا متميّزًا في المجلَّة، وسعى للاعتناء بإخراجِها لتظهَر بما تستحقّه، كما قام بنشر خبر عنها قبل نشرها، إدراكًا منه لأهميّتها للنضال الفلسطيني.(3)
ما إن اكتمل نشر المادّة الموسومة "مذكّرات صهيوني" على خمس حلقات (خصّصتُ الحلقة التعريفيّة الأولى للمُقدِّمة) حتى هاتفني الأخ والصديق تيسير قُبّعة(4) عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية ومسؤول العلاقات قائلًا "الحكيم بدّو يشوفك" فما رأيك أن نلتقي عنده على الغداء؟ واتّفقنا على موعد والتقينا في مكتب العلاقات مع الدكتور جورج حبش، الذي استمع بصورة مفصّلة لشروحات قدّمتها عن اليوميّات "المذكّرات" ومعسكر تيريزين الذي كنت قد زرتهُ وكذلك معسكر أوشفيتز الذي سبق لي أن زرته أيضًا كما سيأتي ذكره، وعن موقف البلدان الاشتراكية السابقة من الصهيونية والنشاط الصهيوني، وكان حينها قد تأسّست اللجنة الاجتماعية السوفييتيّة لمناهضة الصهيونيَّة" بمبادرة من يوري أندروبوف الذي تولّى الأمانة العامّة للحزب الشيوعي السوفييتي، لكنّه لم يستمرّ طويلًا فقد وافتهُ المنيّة سريعًا، كما تطرّقنا إلى موضوع تأسيس "اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379" على هامش ندوة نظّمها "الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين"، بمبادرة من الدكتور جورج جبّور وكاتب السطور، وأصبح جبّور رئيسًا لها وكاتب السطور أمينًا عامًّا(5).
واستفسر الحكيم عن إمكانيّة الحصول على نصِّ المذكّرات "اليوميّات" الأصليّة كاملةً وبلُغَتِها الأصلية، خصوصًا وقد استوقفه وجود إيغون ريدليخ في معسكرَي تيريزين وأوشفيتز (أشهر المعسكرات النازيّة) والذي تعاون مع جهاز الغاستابو لنحو أربعة أعوام، ومع ذلك فقد تمَّ إعدامه هو وزوجته وابنه في العام 1944 دون أن تشفّع له الخدمات الكبرى التي قدَّمها للنازيّة بما فيها تعاونه ضدّ أبناء جِلدته بالتواطؤ على إرسالهم إلى المجهول مقابل إرسال بضع عشرات أو مئات من اليهود القياديِّين والمتموِّلين إلى فلسطين، علمًا بأنَّه لم يُخفِ شعوره بالخجل والعار الذي يترشّح من نصوص اليوميّات المكتوبة بعناية فائقة على الرغم من أجواء الرعب واليأس وتبدُّد الآمال الخادعة.
وقد توقّف الدكتور جورج حبش عند المعلومات المثيرة والصادمة التي وردت في "اليوميّات" والتي كتبها إيغون ريدليخ خلال مسؤوليّاته الإدارية العديدة في معسكر تريزين، لا سيّما تلك التي تتعلّق بالصّفقة اللّاأخلاقية بين النازيّة والصهيونيّة، والتي تضمّنت التضحية بعشرات الآلاف من اليهود مقابل وعودٍ زائفة. وقد تمّ العثور على تلك المذكّرات في سقفٍ لأحدِ البيوت الحجرية في شارع غودوالدوف في مدينة تيريزين العام 1967 على يدِ عمّال بناء، وقد كانت الدَّهشة كبيرة جدًّا، فمع  أن "المذكرات" كُتبت بطريقة حذرة خوفًا من وقوعها بِيَد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من المعلومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بالإيحاء أو التلميح أو قراءة ما بين السطور بتأويلٍ للنصّ أو تفسيره، وحتى لو جاء المضمون يتعلّق بالإدارة أو التنسيق مع المحتل، لكنه يكشف التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية، فيما يتعلق بمأساة اليهود الذين كانوا يغيّبون بالآلاف ويُرسلون إلى حتفهم بمساومات يشعر ريدليخ بالذات بخجله منها.
وبقدر ما تبيِّنُ اليوميّات دوره فهي تعبّر عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك من وسائل ميكافيليَّة يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علمًا بأن الغاية هي من شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إن لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتما غاندي فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البِذرة إلى الشجرة، فهما مترابطان عضويًّا ولا يمكن فصمهما.(6)
كنت أتوقّع أنَّ الحصول على نصّ اليوميّات عمليّة سهلة ويسيرة، ولذلك أجبتُ الدكتور حبش بترجيح إمكانية تأمينها، ولكنّني فوجئتُ بصعوبة ذلك بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه توفير نسخة من نصّ المذكّرات باللغة التي كُتبت فيها، علمًا بأنَّ مُحدّثي من براغ أبلغني بعد أسبوعٍ من تكليفه الصداقي أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط كبير ومسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في "تشيكوسلوفاكيا" وكان قد أُقيل من منصبه العام 1968 ثم سُمح له الكتابة بإسمٍ حركيّ لم يتمّ الكشف عنه. والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحّات بعد وفاته بعامين، وحاول الحصول على نسخة من المذكّرات حتى وإنْ دفع ثمنها، وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنّها بعد أن وعدتهُ عادت واعتذرت من الاستجابة لطلبه، ثمَّ امتنعت عن الحديث في الموضوع، بل إنها تهرّبت من مقابلته وأوعزت إلى عاملة الاستقبال في المصحِّ الطلب منه عدم الاتصال بها رغم المحاولات العديدة التي بذلها(7).
وخلال زيارتي إلى براغ في العام 1985 بعد انقطاعٍ دامَ نحوَ ثماني سنوات استفسرتُ من الصديق حسين العامل الكاتب والمُترجم العراقي المُخضرم فيما إذا كان لديه معلومات عن ييرجي بوهاتكا، خصوصًا وأن لديه علاقات متميّزة مع الإدارات التشيكية حيث عاش في براغ منذ أواسط الخمسينات، وبعد تدقيق أبلغني أنَّ ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتابًا عن "النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية"، واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في حينها، وقام بتصحيح المسوّدات، واطّلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعًا في المطبعة، لكن الكتاب اختفى قبل يومين (من صدوره)، إلّا أنّه لم يتعرّف على اسمه الحقيقي الذي ظلَّ لُغزًا مجهولًا، ونقلتُ تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهول مثلي وربّما أكثر منّي، لا سيّما أن ذلك جرى في ظلِّ النظام الاشتراكي السابق.
وأعود إلى أصل الحكاية فحسب موسى أسد الكريم يكون ييرجي بوهاتكا قد توفّي بين العام 1982 و1983، وإن زوجته كانت ما زالت على قيد الحياة، حيث تعيش في مصحّة خارج براغ، وأغلب الظنّ على ما أتذكّر في كارلو فيفاري، وقد واصلتُ خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية، السؤال عن ييرجي بوهاتكا، لكنّني لم أعثر حتى الآن على ما يُستدلّ عليه على الرّغم من التنقيبات العديدة عنه. وحسبما يبدو فقد ظلَّ يحمل اسمه المستعار بدلًا من اسمه الحقيقي، وإن كانت بعض المقالات قد كُتبت، فهي بهذا الاسم وليس باسم آخر، ولم أعثر على من التقاه أو تحدَّث إليه أو عرَفَ شيئًا عنه، وقد سألت الرفيق نعيم الأشهب والرفيق مازن الحسيني القياديَّان في الحزب الشيوعي الفلسطيني والعاملان في تشيكوسلوفاكيا منذ عشرات السّنين، وكذلك سألت موفّق فتّوحي رئيس الجالية العراقية، والرفيق نزار طرابلسي القيادي في الحزب الشيوعي السوري والتشيكي حاليًّا، إضافةً إلى نوري عبد الرازق الذي قضى ردحًا من الزمن في تشيكوسلوفاكيا، وكُلُّهم لم يعرفوا شيئًا عنه بمن من كان على علاقات خاصة مع التشيك.
ولكي تُستكمل الحكاية، فحتّى المذكّرات ذاتها وبعد هذه السنوات الطويلة بقيت سرًّا مجهولاً يصعب الحصول على معرفة دقائقه بالرغم من أنّ الكتاب طُبِعَ أكثر من طبعة وبأكثر من لُغة لكنّه اختفى على نحوٍ شبه تام من المكتبات بما فيها القديمة والتي كانت تُعلن عن وجود عدد من النُّسخ لديها ولكن عند الطلب لشرائها تعتذر هذه المكتبات لعدم توفّرها، وقد حاول الصديق عصام الحافظ الزّند، البحث عن يوميَّات إيغون ريدليخ حتّى عثر عليها مؤخرًا بعد جُهدٍ جهيد، فوصلتهُ نُسخةً من طبعةٍ تعود إلى العام 1992، وقد استعنت بها عند مراجعتي للنصّ الذي سبق لي وأن ترجمته وأعددتهُ للطّبع في العام 1985، وكان أن طلبها من أكثر من مكتبة أمريكية، إلّا أنَّ النسخة الوحيدة التي نحن بصددها كانت متوفّرة في مكتبة أمازون، ويُعتقد أنها ليست كاملة، حيث تمّ حذف أجزاء منها أيام النظام الشيوعي، ولكنّني حين قارنت ما توفّر لديّ من ترجمة لما كتبته ييرجي بوهاتكا وجدتها أقرب إلى النصِّ الأخير الذي نشر بالإنكليزية، وهناك نسخة عِبريّة أيضًا، ويقع الكتاب في 175 صفحة، إضافة إلى عدد من الصُّور وخريطة لمعسكر تيريزين(8)، كما هناك نُسخة تشيكيّة طُبعت في العام 1995 وهي الأخرى مفقودة، الأمر الذي يرجّحُ لديَّ أنَّ المدعو ييرجي بوهاتكا كان قد قرأ مخطوطة المذكّرات (اليوميّات) قبل نشرها بصيغتها المعروفة، بحكم موقعه حسبما يبدو في إدارة المخابرات التشيكية المسؤولة عن مكافحة النشاط الصهيوني، وذلك هو التفسير الذي توصّلت إليه.
لم يكتفِ الحافظ وكذلك زوجته ماريّا الحافظ(9) في البحث عِبر الإنترنت أو من خلال مكتبات عامّة وخاصّة عن يوميّات إيغون ريدليخ والتفتيش عن تقريظ ييرجي بوهاتكا، بل بادر الحافظ بدأبٍ ومسؤوليّةٍ صداقيّةٍ إلى الاتّصال بمتحف تيريزين للسؤال من مديره عن كتاب ريدليخ الذي سبق وأن صدرَ باللغة التشيكيّة عسى أن يجده فيه، بعد أن يئسَ من الحصول عليه، إلّا أنه فُوجئ بأنَّ المدير ذاته لم يسمع أو يعرفَ شيئًا عنه، وبعد اتصالات عديدة وجَدَ نسخة وحيدة في مكتبة "جامعة تشارلس" لكنّها تمنع استعارتها خارجها، الأمر الذي يعني أنَّ الكتاب نادرٌ من جهة وأنَّ ثمَّة وراء الأكمَّة ما وراءها، بخصوص هذه اليوميّات، إضافةً إلى لُغزِ مَنْ قام بتقريظها لدرجة أنَّ اسمه بقيَ مستعارًا على الرغم من مرور أكثر من نصف قرنٍ من الزمان.
وكنت بعد نشر المقالات الخمسة في مجلة "الهدف" أن اتّصل بي الصديق خالد عبد المجيد الأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وطلب منّي جمعها لنشرها في كتاب خدمةً للقارئ وللحفظ أيضًا، وذلك عِبر دار تمّ تأسيسها من قبل جبهة النضال الشعبي، واستأذنته لأسأل مجلّة الهدف التي هي مَنْ بادرَ بنشر المادَّة لأوَّل مرَّة دفعًا لأيِّ إحراج ومن باب اللياقة الدبلوماسية. وبالفعل رحَّب رئيس تحريرها الصديق صابر محي الدين، فصدر الكتاب بطبعة أولى عن "دار الصمود العربي" في دمشق ونيقوسيا العام 1986، وقد نفَذَ خلال أسابيع، وصدرت طبعته الثانية خلال فترة قصيرة، وكان قد صمَّم غلافه الفنّان العراقي المُبدع الصديق مكِّي حسين.

المصادر والهوامش

(1)  انظر مجلة Tribuna الأعداد 1 و2 و3 و4، كانون الثاني (يناير) 1974 (باللغة التشيكية).
(2)  موسى أسد الكريم من مواليد البصرة، وكان قد تخرّج من دار المعلّمين العالية (فرع الكيمياء)، عمل في الحزب الشيوعي العراقي، واضطرّ للهرب إلى إيران في أواخر الأربعينات من القرن العشرين بعد أن كان قد اشتغل مدرّسًا لبعض الوقت، وفي إيران تعرّض للاعتقال والسّجن عدّة مرّات، وعاد إلى بغداد بعد ثورة تمّوز (يوليو) العام 1958. عمل لفترة قصيرة في إذاعة بغداد، ثمَّ عيِّن مُلحقًا صحافيًّا في بيروت وبعدها مُلحقًا ثقافيًّا في براغ، وقبيل انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 تمَّ فصله، ولكنّه استقرَّ في براغ حتّى وفاته في نهاية العام 1985، وقد رثاه الجواهري الكبير بإلقاء كلمة مؤثّرة على قبره واصفًا إيّاه بامتلاك مفاتيح الحرف العربيّ، فقد كان يُتقن العربيّة ويتمتّع بذاكرة خصبة وحافظة للشِّعر قراءةً وتذوّقًا، وبالأخص شعر الجواهري، كما كان يجيد الفارسيّة والانكليزيّة والتشيكيّة. وفي السبعينات من القرن الماضي عمِلَ في الإذاعة التشيكيّة - القسم العربي وكان قد عرف براغ ودروبها وخفاياها وخباياها وأسرارها ومفاتنها، لاتّساع خبرته وعمق تجربته، ومن أصدقائه عبد الفتاح ابراهيم وفيصل السامر ونعمة النعمة ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وعزيز الحاج وعبد اللطيف الشوّاف وشمران الياسري "أبو كاطع"، وعبد الستّار الدوري، وعشرات من خيرة المثقّفين والسياسيّين العراقيّين.
(3) استشهد غسان كنفاني في بيروت في 8 تموز (يوليو) العام 1972، وكنت قد التقيته في صيف العام 1970 عن طريق الحزب الشيوعي اللبناني بواسطة خليل الدبس وخليل نعّوس والأخير اغتيل في 20 شباط/فبراير العام (1986)، وقد اغتيل بعده بأربعة أيام المفكّر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة (رئيس تحرير جريدة النداء). وكنتُ قد تعرّفت  على شعراء المقاومة من كتاباته، وخصوصاً محمود درويش وسميح القاسم، إضافة إلى روايته الشهيرة "رجال في الشمس". وبادر في ذلك اللقاء اليتيم إلى إهدائي روايته "أم سعد"  وهو من الكتب التي أعتزُّ بها، وبقي معي في براغ، وحين عودتي حملتَهُ في حقيبتي اليدويّة، ولم أضعه في حقائبي مع حاجيّاتي وكتُبي التي شحنتها إلى بغداد.
واستمرت علاقتي بمجلة الهدف بعد استشهاد كنفاني حيث تولّى رئاسة التحرير بسّام أبو شريف، الذي كنت قد تعرفّت عليه في المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي (مطلع العام 1971)، ثم التقيته كثيراً، وإذا بطردٍ ملغوم يُرسل إليه لينفجر بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزءًا من سمعه، وبقيت بعض شظاياه "تطرّز" صدره، ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده عليها بصفته نائباً لرئيس اتحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادث التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني. 
انظر: عبد الحسين شعبان - في الأنا والآخر يكتمل النقد المزدوج، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكرى تأسيسها الـ52، مجلة الهدف، العدد 9 (1483)، كانون الأول/ديسمبر 2019. قارن كذلك صحيفة "الزمان" العراقية، بغداد - لندن، العددان 6555 - 6556، 11 - 12 كانون الثاني (يناير) 2020. انظر كذلك: عبد الحسين شعبان - تيسير قُبّعة: غيمةٌ فضّيةٌ في فضاء الذاكرة، صحيفة "الزمان" العراقية، حلقتان بتاريخ 29/6/ - و2/7/2016.
(4) انظر: عبد الحسين شعبان- تيسير قُبّعة: غيمةٌ فضّيةٌ في فضاء الذاكرة، المصدر السابق.
(5) تأسّست اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 العام 1986 وضمَّت شخصيّات مهمّة: إنعام رعد (لبنان) وناجي علّوش (فلسطين) وعبد الرحمن النعيمي (البحرين) ود. غازي حسين (فلسطين) وعبد الفتاح ادريس (فلسطين) وعبد الهادي النشّاش (فلسطين) وغطاس أبو عيطة (فلسطين) وصابر محي الدين (فلسطين) وسعدالله مزرعاني (لبنان) وجورج جبور (سوريا)، وعبد الحسين شعبان (العراق). وقد أصبح اسمها "اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية"، وقد اختير رئيساً لها إنعام رعد خلَفاً لرئيسها السابق جورج جبّور، كما اختُير أميناً للسر الدكتور غازي حسين بدلاً من أمينها العام السابق كاتب السطور بعد سفره من دمشق.
(6) أُطلق اسم غودوالدوف على عدد من الشوارع والساحات بما فيها مدينة حملت الإسم ذاته تيمّناً  بالقيادي الشيوعي التشيكي كليمنت غودوالدوف (1896 - 1953)  Klement Gottwald وقد تم تغيير اسم مدينة زلين Zlin إلى مدينة غودوالدوف من العام 1949 الى العام 1990، وكان قد أصبح رئيساً لتشيكوسلوفاكيا من 14 حزيران (يونيو) 1948 لغاية 14 آذار (مارس) 1953، وتوفّي إثر نوبة قلبيّة. وقد استعادت المدينة اسمها  التاريخ السابق.  جدير بالذكر أن صناعة الأحذية  نشأت فيها وحملت اسم شركة باتا - Bata Shoes في نهاية القرن التاسع عشر، وهي من شركات الأحذية العالمية التي أصبح لها شُهرة كبيرة وما تزال لحد الآن.
(7) للأسف لم أتوصل إلى الإسم الحقيقي لييرجي بوهاتكا، فبعد أسابيع من المراسلات والاتصالات أُصيب موسى أسد الكريم بمرض عُضال ولم يمهله هذا المرض الخبيث طويلًا، وكنت قد استفسرت من عدد من الأصدقاء عن اسمه، لكنّني لم أحصل على جواب شافٍ أو معلومة دقيقة.
(8)  The Terezin Diary of Gonda Redlich - Editor: Saul S. Friedman, Translator: Laurence Kutler, Foreword by: Nora Levin, The University Press Of Kentucky, 1992.
(9) كان الرئيس ياسر عرفات حين يأتي لزيارة جمهورية تشيكوسلوفاكيا يطلب ماريّا الحافظ للترجمة إلى العربيّة، فقد كانت رئيسة القسم العربي في الإذاعة التشيكيّة كما قامت بترجمة عدد من الأعمال الأدبية لـ غسان كنفاني ومحمود درويش وعدد من الأدباء الفلسطينيين والعرب.





107

مقدّمة كتاب د. محمد الزين محمد


السودان - الطريق إلى الدولة المدنية


أ.م.د عبد الحسين شعبان*






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   أكاديمي ومفكر عراقي - دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية(معهد الدولة والقانون) - أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية - نائب رئيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي، بيروت، له ما يزيد على 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والثقافة والمجتمع المدني وحائز على وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - 2003).
   حين طلب منّي الدكتور محمد الزين محمد الأكاديمي والناشط الحقوقي السوداني كتابة مقدمة لمخطوطة كتابه " السودان - الطريق إلى الدولة المدنية" مع عنوان فرعي "جنوب السودان من الحرب إلى الانفصال" استعدتُ في ذاكرتي اللقاء الذي تم تنظيمه لعدد من المثقفين العرب مع الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير ، والذي تناول جوانب مهمة من موضوع الدولة المدنية وعلاقة الدين بالدولة والدين بالسياسة وتعتّق الحرب في جنوب السودان حتى غدت بؤرة مستديمة للصراع وغيرها من القضايا الملحّة حينها.
   وقد التأم ذلك اللقاء مع الرئيس البشير قبل عقدين من الزمان عشية الانتخابات النيابية التي قاطعتها المعارضة العام 2000، والتي فازت بها قوائم السلطة بما يسمّى بـ "الإجماع السكوتي"  أي الفوز بـ"التزكية" بمعنى عدم وجود منافسة أو انتخابات حقيقية، وهي حسبما أعرف غالباً ما تكون حامية الوطيس في السودان في ظل استقطابات وتقاطعات واختلافات سياسية وبرنامجية.
   عشية الألفية الثالثة كانت السودان تعيش مخاضاً جديداً يتعلّق بالجدل الدائر حول فكرة الدولة المدنية، خصوصاً بعد أن شهدت تجربة الحكم انسداداً في الآفاق وضيقاً في الهوامش، إثر قوانين سبتمبر (أيلول) 1983 المتعصبّة والمتطرّفة التي اعتمدت تطبيق "الشريعة الإسلامية" وفقاً للمفهوم المتخلّف، ولاسيّما نظام العقوبات والردة وإقامة الحد والموقف من المرأة وحقوقها وغير ذلك، لدرجة أن مفكراً ومجتهداً إسلامياً مثل محمد محمود طه تم إعدامه في 18 يناير العام 1985 بسبب تلك القوانين، وبعد نحو عشر سنوات من الانقلاب العسكري الذي قاده البشير في 30 يونيو العام 1989 بتعاون وتنظير من الشيخ حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية، كانت السودان تواجه ذات الإشكاليات التي واجهها النميري، بل زاد عليها تدهور الوضع الاقتصادي وشحّ الحريات وهجرة العقول والأدمغة وأصحاب الكفاءات العلمية.
   وكانت حركة الإنقاذ الوطني قد أعلنت عن هوّيتها بالتصريح أنها لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة، فالموضوع غير قابل للنقاش، وكان لإعلان الشريعة الإسلامية الأثر الأكبر في إنشاء "التجمع الوطني الديمقراطي" (المعارض)، لاسيّما باستمرار الحرب في جنوب السودان ؛ ولم يكن مثل ذلك الجدل والنقاش بعيداً عن أربع عوامل أساسية.
 الأول - تطورات الوضع في جنوب السودان بعد وصول الحلول المطروحة جميعها إلى طريق مسدود، خصوصاً باستمرار القتال وتجدده وخروج مناطق كاملة عن سيطرة الحكومة دون التوصل إلى حلول سلمية على أساس المواطنة السليمة والمتساوية. ومثلما فشلت جميع الحكومات المتعاقبة على دست الحكم منذ استقلال السودان العام 1956 في التوصل إلى حلول سلمية لمشكلة الجنوب لم تنجح الحركة الجنوبية هي الأخرى في تحقيق مطالبها بالوسائل العسكرية، وخسر السودان عموماً الكثير من موارده، فضلاً عن تعطل التنمية، بسبب عدم احترام الهويّة الخصوصية لسكان الجنوب واللجوء إلى الحلول العنفية والمسلّحة، التي زادت المشكلة تعقيداً.
 والثاني - استقطاب النظام الجديد خلال السنوات المذكورة عدداً من الفاعليات والأنشطة الموسومة بالإرهاب، لاسيّما من جانب المجتمع الدولي والقوى المتنفذة فيه، وخلال تلك الفترة استقبلت الخرطوم كل من أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، والذي جاء دوره لاحقاً في أفغانستان بعد مناورتها العام 1996  ، وكارلوس أحد أبرز الشخصيات العالمية التي لوحقت لأكثر من ربع قرن حتى ألقت السلطات القبض عليه في الخرطوم العام 1994 وتم تسليمه إلى فرنسا  في مساومة رخيصة لتبرئة ذمتها من العلاقات بالإرهاب الدولي.
الثالث- شحّ الحريات وارتفاع موجة القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة لدرجة فقد النظام جميع حلفائه بمن فيهم الترابي، وفشلت جميع المحاولات التي اقترحتها للحوار مع المعارضة، خصوصاً وأن الشعور العام لدى قوى المعارضة كان يميل أن ما يسمى بالحوار والرغبة في المشاركة، ليس سوى تسويف وكسب للوقت ولعب من موقع السلطة لتفتيت مواقف معارضتها.
الرابع- الحصار المفروض على السودان ونظام العقوبات الذي بدأ يؤثر على تطورها، علماً بأنه تم فرضه ابتداء من العام 1988، بأوامر تنفيذية من الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) وبتشريعات من الكونغرس، وذلك بهدف الضغط على السودان المتهم برعاية الإرهاب، خصوصاً باستضافة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وكارلوس المتهم بالعديد من قضايا الإرهاب الدولي، واتخذ الرئيس بيل كلينتون عقوبات مالية وتجارية في العام 1997 ومنع تصدير التكنولوجيا، كما قام بتجميد الأصول المالية، بل أكثر من ذلك قام بقصف مصنع الأدوية في الخرطوم (العاصمة) في 20 أغسطس 1998، لكن السودان تراجعت عن توجّهها هذا، فأبرمت اتفاقية تعاون لمحاربة الإرهاب بعد هجمات سبتمبر، إلّا أن العقوبات استمرت ضد أشخاص ومسؤولين اتهموا بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
   وقد جدّد العقوبات الرئيس أوباما وإنْ أقدم على تخفيضها، لكن المطالبة بتقديم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية زاد المشهد تعقيداً، حيث أصدرت أمرين بين عامي 2009 و2010 بشأن موضوع دار فور (2003) وكرّرت ذلك بعد اعتقاله والمطالبة بتسليمه إليها إثر انطلاق ثورة ديسمبر 2018
   يومها أخذت ترتفع مطالبات بالفيدرالية والانفصال وحق تقرير المصير، وتكوين كيانية خاصة، وهو الأمر الذي حصل لاحقاً في العام 2011 بإعلان الاستفتاء بواسطة الأمم المتحدة وتأسيس دولة جنوب السودان .
   وكنتُ قد سألت الرئيس البشير في الحوار المتلفز: ما السبيل الذي تفكّر الحكومة المركزية بانتهاجه بعد فشل الخيار العسكري؟ فأجاب: إذا لم يوافق الجنوبيون على الفيدرالية والعيش المشترك، فليس أمامنا سوى الانفصال. وأعدت عليه السؤال بأسلوب آخر قائلاً: هل لديكم خطة حول حق تقرير المصير ؟ أو هل هناك مشروع جنوبي مطروح لدراسته بهذا الشأن؟ فأجابني حينها: " نحن مستعدون لكل الخيارات"، وكنت أظن إن ما قاله كان من باب الذهاب إلى أبعد نقطة لاستباق أي أسئلة أخرى حول هذا الموضوع وذلك بفارق زمني زاد على عشر سنوات، لكنه حسبما يبدو كان جاداً فيما ذهب إليه، ولكن المهم أن يبقى هو في السلطة حتى لو تم اقتطاع نصف البلاد.
   من جهة أخرى كانت قضية بيوت الأشباح واعتقال المعارضين في أماكن سرّية وتعريضهم للتعذيب، كلها أمور مطروحة للحوار مع الرئيس البشير في ذلك المساء السوداني الذي ظلّت فيه عيون السودانيين ترنو إلى شاشات التلفاز في ذلك الحوار الساخن.
   وكان فاروق أبو عيسى أمين عام اتحاد المحامين العرب وزميلنا في المنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) وكذلك الصديقة فاطمة أحمد ابراهيم عضوة البرلمان سابقاً والقيادية الشيوعية (أرملة الشفيع أحمد الشيخ الذي أعدم في العام 1971) قد أخبراني، إن السودان يومها لم تنم بعد بث المقابلة، من محطة التلفزيون السوداني الرسمي (الخرطوم) وبالتزامن مع تلفزيون المستقلة (لندن)، ومدّدت المقابلة من ساعتين إلى ثلاث ساعات، وكان الحوار حامياً والنقاش صريحاً والسجال حيوياً بشأن القضايا المطروحة للنقاش، والتي جاء الصديق د. محمد الزين محمد على ذكرها في كتابه المهم.
    وحسناً فعل الزين محمد باختيار موضوع الطريق إلى الدولة المدنية في السودان، أولا- باعتبارها قضية إشكالية يواجهها السودان اليوم، ولاسيّما بعد انتصار ثورته،وثانيا- لأنها مسألة غير ناجزة، أي أن أمامها في الطريق عقبات وكوابح تقليدية دينية وعسكرية وآيديولوجية عديدة، بعضها من تراث الحرب الباردة وبعضها الآخر صراع على مواقع النفوذ، فضلاً عن الامتدادات الإقليمية والدولية. وثالثا- لأن الحوار والنقاش والجدل يمكنه أن يرسم خريطة طريق بكل تضاريسها ومنعرجاتها، بل ودروبها الوعرة أيضاً، والهدف هو استكشاف معالم ذلك الطريق والسعي لاختبار الأنسب فيه، ورابعاً- جلب الانتباه إلى أهمية مشروع خلاص وطني اتفاقي ضمن عقد اجتماسياسي يمثّل التوجه الجديد لدولة تحترم جميع تنويعاتها الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية خارج دائرة التمييز أو الاستعلاء أو محاولات فرض الهيمنة لأي سبب كان وخامسا- التركيز على المواطنة المتساوية والمتكافئة الضامن الأساس للتقدم والتنمية.
   فما هي الدولة المدنية، خصوصاً حين ربطها الباحث بموضوع جنوب السودان؟ وعلى أي الأسس تقوم المواطنة باعتبارها حجر الزاوية فيها ارتباطاً مع عناصرها الأربعة الأساسية وهي: الحرية والمساواة والعدالة، لاسيّما الاجتماعية والشراكة والمشاركة في الوطن الواحد؟ وهي العناصر التي كانت غائبة في السودان، وشكّلت طموحاً سعت إليه القوى المؤمنة بالدولة المدنية والتي تبلورت رؤيتها بالتدرج والتراكم وبعد فشل التجارب الأخرى ووصولها إلى طريق مسدود، الأمر الذي دفع السودان ثمنه باهظاً من التفتت والتمزّق وهدر الموارد وتعطيل التنمية ثم ما هو الدور المنوط بالنخب الفكرية والثقافية في الوصول إلى موضوع الدولة المدنية وفق فهم مشترك؟ وفي كل الأحوال لا بدّ من التوقف بالذي نعنيه بالدولة المدنية، وكيف السبيل إلى تحقيقها؟ وأي التحديات التي تواجهها على المستويين النظري والعملي والداخلي والخارجي؟
*****
   حسب متابعاتي يمكنني القول إن مصطلح الدولة المدنية طرح في السودان كشعار ودعوة لأول مرة خلال الثمانينات حين تبنته بعض القوى السياسية، لاسيّما في المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية بعد إقالة حكومة الصادق المهدي الثانية، وذلك في النقاش حول طبيعة الدستور، فهل هو دستور إسلامي أم علماني؟ وعليه يتأسس السؤال: على نحن بصدد دولة دينية أم دولة مدنية؟ وكان ذلك في العام 1988؛ وقبل هذا التاريخ لم يكن شعار الدولة المدنية قد تضمنته بشكل واضح وصريح برامج القوى والأحزاب السياسية، علماً بأن الجدل احتدم عشية فرض قوانين سبتمبر لعام 1983 التي اعتمدت تطبيق "الشريعة الإسلامية" حين نصّب الرئيس محمد جعفر النميري نفسه إماماً، وكان قد وصل إلى السلطة في مايو 1969، متحالفاً مع اليسار، لكنه اتجه إلى التشدد الديني بالتدرّج غالقاً الباب أمام أي خيارات أخرى سوى فرض الشريعة بالقوة وخارج سياق قناعات الناس، حتى أطيح به بالانتفاضة الشعبية في أبريل العام 1985.
   الجدال حول مصطلح الديني والعلماني دفع محمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني السابق وخلال فترة قضاها ما بين الاختفاء والسجن، للتفكير بالخروج من هذا المأزق لاختيار مصطلح " الدولة المدنية "، وكان قد بدأها في الفترة بين عامي 1990-1991 واستكملها في العام 1994 وما بعدها، وجاء ذلك مترافقاً مع خصوصية الوضع السوداني من جهة، ومن جهة أخرى متساوقاً مع انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 وانحلال الكتلة الاشتراكية واختفاء الاتحاد السوفييتي في نهاية العام 1991  .
   ولعلّ ذلك كان أحد الأصوات السودانية التي ارتفعت مطالبة بالدولة المدنية التي زاد رصيدها في العالم بشكل عام وأخذت طريقها إلى الأدب السياسي ودراسات العلوم السياسية في العديد من البلدان العربية، خصوصاً بانتهاء عهد الحرب الباردة وبداية شكل جديد للعلاقات الدولية، وبروز دور المجتمع المدني والهوّيات الفرعية على الصعيد العالمي، وعلى الرغم من أن رياح التغيير التي شهدتها أوروبا الشرقية قد انكسرت حدتها عند شواطئ البحر المتوسط في موجتها الأولى (أواخر الثمانينات) لكن الموجة الثانية المستمرة كانت وتيرتها أقوى ودورها أكثر اتساعاً وعمقاً، وذلك لامتدادها، وهي التي عُرفت بموجة الربيع العربي التي دشنتها ثورة الياسمين في تونس وثورة النيل في مصر.
الدولة المدنية: مشكلة أم حل؟
الدولة مفهوم حديث نشأ ما قبل الثورة الصناعية وتطوّر بعد قيام الثورة الفرنسية العام 1789، ولاسيّما ما يتعلّق بموضوع الحقوق والحريات؛ وهي منجز بشري بامتياز ومؤسسة دنيوية من صنع الإنسان هدفها رعاية المصلحة العامة بحفظ أرواح وممتلكات الناس وضبط النظام والأمن العام.
وبهذا المعنى فهي تقوم على اتفاق الناس وإراداتهم، وبالتالي فهي خيارهم، الذي هو في الوقت نفسه تعبير عن حاجتهم لإطار جامع يحميهم ويرعى مصالحهم ويحفظ حقوقهم، لاسيّما في حماية السلم والأمن المجتمعيين، حيث لا يمكن تطور البشر من دونهما.
ويعتبر مفهوم " الدولة المدنية" أكثر حداثة في علم السياسة، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث كثر استخدامه في العقود الأربعة الماضية، وإن ازداد النقاش والجدل حوله خلال موجة ما سمّي بـ"الربيع العربي" كما أشرنا، وأريد به توسيع دائرة الحرّيات وإعلاء شأن المواطنة والمساواة والمشاركة والعدالة، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، ولذلك أصبحت شعارات الحرية والعدالة رديفة لشعارات الكرامة الإنسانية.
تحدّث أرسطو ومن بعده ابن سينا وابن خلدون وميكافيلي وصولاً إلى توماس هوبز وباروخ سبينوزا وجون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو وهيغل وماركس، عن كون الإنسان مدني بطبعه، الأمر الذي سيعني إن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقته مع غيره ومع المجتمع، هي قواعد مدنية، وهذه ليست سوى منظومة من القوانين التي يخضع لها أفراد المجتمع، وتتطلّب وجود قضاء يفصل في المنازعات ويرسي مبادئ العدل، وتطبّق أحكامه سلطة تنفيذية يكون من مهماتها فرض القانون على من يقوم بانتهاكه أو مخالفته أو الامتناع عن تنفيذه. وهكذا تكون الدولة ضرورة لا غنى عنها للاجتماع الإنساني.
وإذا افترضنا وجود "عقد اجتماعي" تتوافق عليه إرادات الحاكمين والمحكومين، فإن الدولة ستكون بهذا المعنى: اتحاد أفراد يعيشون في مجتمع ويخضعون لطائفة من القوانين والأنظمة التي يتم تشريعها، وهذه تحتاج إلى سلطة لفرضها، مع وجود سلطة قضائية للفصل في المنازعات، وهذا بالضبط ما نعنيه بفصل السلطات، التي ينبغي أن تكون مستقلة عن بعضها ومتكاملة في الآن ذاته.
والدولة بشكل عام كمنجز تاريخي ينبغي أن تتوفر ثلاث أركان لها هي: الإقليم والشعب والسيادة (حكومة تبسط سلطانها على الجميع) وهناك من يضيف ركناً رابعاً ألا وهو الاعتراف الدولي، وتختلف الدولة عن السلطة، فالأخيرة مؤقتة، أما الدولة فهي ثابتة، وقد نشأت الدول وفقاً لنظريات مختلفة.
الدولة إذاً نشأت وفقاً للحاجة والضرورة وعلى أساس اتفاق وتوافق وتمت بإرادة بشرية، وولايتها بهذا المعنى مدنية وهي مسألة عقلية وليست دينية، وإنها من لوازم السياسة وليست من لوازم المعتقدات، ويُفترض بها حفظ حقوق الجماعة والأمة وتحقيق وحدتها واستقرارها، وهي لا تتم بناء على تكليف ديني أو وفقاً لنص إلهي، وبالتالي فإن ولاية الدولة تكون على ولاية الاجتماع البشري داخل مجتمع معين.
 ويكون من وظيفة الدولة وحدها حق احتكار السلاح لبسط سلطة القانون والإشراف على المجال العام الذي يدخل تحت ولايتها، حماية الحقوق والحريات وكل ما يؤثر في العلاقات العامة ويمتد صيانة إلى السلم والأمن المجتمعي، إضافة إلى تنظيم ومراقبة الحياة الاجتماعية والسياسية وإخضاع جميع المؤسسات للنظام القانوني ومنع التلاعب بكل ما من شأنه المساس بوحدة الوطن والأمة وتحت أي مسمّى أكان دينياً أم عشائرياً ام فئوياً أم جهوياً أو غير ذلك.
وإذا كان الغرب قد سبقنا إلى تحديد فكرة الدولة في إطار التطوّر القانوني والدستوري الذي يمتد إلى نحو أربعة قرون من الزمان، فإن الحضارة العربية - الإسلامية ساهمت هي الأخرى برافدها فيما يتعلق بالارهاصات الأولى لفكرة الدولة، ابتداء من "صحيفة المدينة" إلى فكرة "الشورى" و"الاستخلاف" و"البيعة" و"أهل الحلّ والعقد"، وذلك بهدف توسيع دائرة المشاركة، بما يستجيب لروح العصر ويتساوق مع التطور القانوني والدستوري على المستوى العالمي .
وبما أن الدولة المدنية هي منتج إنساني، فهي لا تخص مجتمعاً دون سواه، وإنها تتويج لما وصل إليه الفكر القانوني الإنساني، وهي مسألة تعني جميع الشعوب والبلدان، ولهذا نرى الجدل الثائر حولها بما يتلاءم مع خصوصيتها الثقافية وتاريخها وتراثها، ولعلّ مجتمعاتنا ودولنا معنية بها على نحو شديد، خصوصاً للّحاق بالركب العالمي والتطوّر الحضاري، وذلك انطلاقاً من قاعدة فقهية معروفة في الإسلام تقوم على " تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان" فما كان صالحاً لزمان ربما لم يعد نافعاً لزمان آخر، وحسب ما يقول الإمام علي " لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
واليوم حين ينطلق الجدل وينفتح النقاش لدرجة التعارض حول فكرة الدولة، ولاسيّما بين المتشدّدين من الفريقين، فلأنها ليست ترفاً فكرياً بقدر ما هي حاجة ومشروع للتغيير الديمقراطي المطلوب ولتوسيع دائرة المشاركة والحرّيات، فالاتجاه الشديد المحافظة يعتبر فكرة الدولة المدنية بدعة وخروجاً على الدين، بل واستهدافاً للإسلام وليس ذلك سوى إخفاء للفكرة العلمانية المريبة. أما الاتجاه المعاكس والمتطرّف لمثل هذا التوجه، فهو يريد فك الارتباط بالدين والتاريخ والتراث، بزعم إن التطوّر لا يمكن أن يحدث في مجتمعاتنا دون القطيعة الأبستمولوجية (المعرفية) بين الحاضر والماضي.
 ولعلّ كلي المفهومان لا يعبّران عن حاجة مجتمعاتنا، فلا إنكار التطور الدستوري والقانوني يصل بنا إلى التضامن المجتمعي، ولا إنكار دور تراثنا وحضارتنا في رفد الحضارة الإنسانية يصل بنا إلى شاطئ الأمان ويحقق السعادة والعدالة المنتظرة لمجتمعاتنا، لأن دولنا ومجتمعاتنا لا تعيش في جزر معزولة، وبقدر ما يمكننا الاستفادة من التطوّر العالمي على هذا الصعيد، فإنه يمكن ضمّه إلى تراثنا الإيجابي بما يراعي خصوصيتنا الثقافية والدينية.
يمكن أن تنشأ دولة مدنية عصرية وحديثة، بخلفيات تراعي مرجعيتها الدينية، فليس في ذلك ما يتعارض مع الحداثة والعقلانية والديمقراطية، خصوصاً إذا التزمت بالحقوق والحرّيات وقامت على أساس حكم القانون ومبادئ المواطنة والمساواة والمشاركة والشراكة واستندت إلى قواعد العدالة، ولاسيّما الاجتماعية. وإذا كان للدين حقله، فإن من واجب الدولة حماية الحق في الدين والضمير وحق ممارسة الشعائر والطقوس بحرّية تامة ودون أي تمييز.
وبالمناسبة ليس هناك شكلاً واحداً للدولة المدنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن فرنسا وألمانيا هما دولتان مدنيتان وكذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهي دول تقوم على حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء واحترام الحقوق والحرّيات ومبادئ المواطنة وعدم خلط السياسة بالدين، لكنها تختلف من حيث نظامها السياسي، فمنها ما هو جمهوري وما هو ملكي، وآخر نظام برلماني أو نظام رئاسي، وهكذا توجد دول مدنية بخلفيات إسلامية مثلما هي تركيا وماليزيا ودولاً أخرى بخلفيات مسيحية.
   وبتقديري إن الدولة المدنية يمكنها استيعاب التراث العربي - الإسلامي الحضاري وإسهامات المبدعين المسلمين على مرّ التاريخ، سواء ما يتعلق بالحكم وفلسفته أو ما يتعلق بالاجتماع الإنساني والأدب والفن والعمران والجمال، وهذا الموقف يتجاوز التيار الإنكاري الرافض للفكرة، كما يتجاوز التيار التغريبي الذي يعتقد بالقطيعة مع التراث.
   ويواجه هذا الرأي المتطرّف رأي آخر مغرق في رجعيته وانغلاقه يستخدم الإسلام وتعاليمه السمحاء ضد الإسلام وهو ما ندعوه "الإسلاملوجيا"، كما هي التنظيمات الإرهابية التكفيرية مثل القاعدة وداعش وأخواتها، وعلى النقيض منه هناك التوجه الاستشراقي الذي يعتبر الإسلام دين يحض على العنف والإرهاب في نظرة استعلائية نطلق عليها "الإسلامفوبيا" أي "الرهاب من الإسلام"  .
   ولعلّ هذه المواقف تحتاج إلى نقاش وحوار انطلاقاً من معايير الدولة المدنية، بهدف تأصيلها وتعضيدها أي تبيئتها وجعلها تتنفس هواءً عربياً وسودانياً وأفريقياً وحسب تطور كل بلد وحاجاته، وهو استمرار للنقاش الذي ساد لعقود من الزمان حول الأصالة والمعاصرة والتراث والحداثة والتقليد والتجديد، وكأنه استمرار لمدرسة الكوفة والبصرة حول النقل والعقل والسلفية والإصلاح في عهد النهضة، تفاعلاً مع محمد عبدة والأفغاني والكواكبي والطهطاوي والتونسي.
   إن المفهوم الحضاري يختلف عن الدعوات الإنكارية والتغريبية في آن، مثلما يختلف عن المحاولات التوفيقية الانتقائية، لأنه ينظر إلى الإسلام باعتباره يمثل حضارة كاملة ولا يمكن تجاهل تأثيره السابق والحالي والمستقبلي في الحضارة الإنسانية والفكر البشري، بما فيه قضية الدولة المدنية بإرهاصاتها الأولى ذات الطابع الجنيني، ولذلك فلا خشية من التفاعل مع الحضارات الأخرى، بدلاً من إنكارها أو الذوبان فيها، وعليه فلا غضاضة من اعتماد المعايير التي تمثل المشتركات الإنسانية للفكر الدستوري القانوني الدولي، مع مراعاة الخصوصيات وعدم القفز فوقها  .
   وأيا كانت الآراء والدعوات بالإنكار أو بالتغريب أو غيرها، فإنها جميعها بعيدة عن مفهوم الدولة المدنية، التي تقوم على العقلانية واستيعاب التراث وإسهامات المبدعين المسلمين لتجاوز الإنكارية والإقصائية والاغترابية في آن، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النقاش بشأن بعض قواعد الحكم في الإسلام،وصولاً إلى الديمقراطية وقواعدها العامة، مع مراعاة الخصوصيات واحترام الهوّيات.
   واليوم حين يثور الحوار لدرجة الاشتباك حول مصطلح الدولة المدنية، فإنه قد يكون مخرجاً معقولاً للصراع بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، إذ كان هو الآخر مصدر صراع حاد واستئصالي بين المتشدّدين من الفريقين، فإن فكرة الدولة المدنية يمكن أن يكون مصدر توافق ونقطة لقاء للتيارات الوسطية: الدينية والعلمانية التي يمكن أن تلتقي عنده، باعتباره يمثل لقاء إرادات على قواعد يمكن أن تلبي طموحات جزء غير قليل من طموحات الأطراف المختلفة، خصوصاً حين يتم ربطه بحكم القانون، ولعلّ هذا ما يحتاج إليه السودان وعدد من البلدان العربية في المشرق والمغرب، خصوصاً حين يتم التوافق على " عقد اجتماعي" جديد يلبي طموحات جميع القوى في إطار المشترك الإنساني والموحّد الجامع وليس الواحد، بدلاً من التشبث بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة وتعظيم الفوارق بدلاً من تقليصها.
   وبالعودة إلى الدولة الدينية، فبغض النظر عن مسمّياتها، فإن تدخل الدين بالسياسة يفقده حقله الوعظي الأخلاقي القدسي، لأن للدولة قوانينها التي تحكم بها وهي قوانين وضعية حتى وإن أخذت بنظر الاعتبار قواعد الشريعة الإسلامية الأكثر إجماعا واتفاقاً واستجابت لروح العصر، وسواء كانت دولة الخلافة (أمير المؤمنين) أو دولة الولي الفقيه (المرشد الأعلى ) أو الحق الإلهي أو دولة التصور الداعشي (أمير الجماعة) فإنها في نهاية المطاف تعني فرض نمط فوقي سيؤدي إلى الاستبداد بزعم "القدسية" على الآخر، التي غالباً ما يستغلّها الحكام سواء حكموا باسم الدين أو بدعم من رجال الدين.
   أما الدولة "العلمانيّة" فإنها ارتبطت في أذهان الكثير من الناس بمعاداة الدين وممارسة سياسة لا دينية أفضت إلى تقليص الحق في الحرية الدينية وحق العبادة وممارسة الشعائر الدينية، وهو ما ذهبت إليه الأنظمة الشيوعية السابقة التي كرّست دساتيرها عقيدة رسمية للدولة في الوقوف بوجه العقائد الدينية، الأمر الذي جعل العلمانية مفهوماً مستنكراً، بل ومريباً في عالمنا العربي والإسلامي، حتى وإن كانت العلمانية تعني شيئاً آخر.
   ولذلك وفي إطار التطور التدرّجي أخذت أوساط واسعة تتقبّل فكرة الدولة المدنية، بل إن بعض الجماعات الدينية بسبب فشل مشروعها والنظام الذي أقامته أخذت تعلن قبولها فكرة الدولة المدنية، سواءً عن قناعة أم ركوباً لموجة قوية بشّرت بها حركة التغيير في العالم العربي، أو أن مثل هذه القناعة تختلف باختلاف المواقع، فحين تكون في المعارضة يصبح الحديث عن الحريات والخصوصية واحترام التعددية أمراً مقبولاً، وحين تكون في السلطة أو بالقرب منها تتغير بوصلة الحديث، فيصبح إجماع الأمة وهويتها ومبادئ الشريعة ركناً أساسياً من أركان مشروعها.
   إن شروط العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد هي مدنية وليست عقائدية، وهي تقوم بالدرجة الأساسية على حفظ أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام وإدارة الحياة المشتركة للناس وفقاً لقانون يتم تطبيقه على الجميع على نحو متساوي مثلما هي الحقوق والحريات. وعلى هذا الأساس تحترم الدولة الفضاء الخاص للفرد وحريّاته وتصدر القوانين التي تنظم الفضاء العام، وسيكون من وظيفة الدولة المدنية، حماية عقائد الأفراد والإشراف على التعليم بما فيه الديني وحماية الحق في العبادة، ومثل ذلك هو أحد مداخل الإقرار بالتعدّدية والتنوّع الذي تديره الدولة المدنية باعتباره إحدى وظائفها.
   وبالعودة لأصل المصطلح في علم السياسة، فتوصيفه وليس تسميته يعني في الغالب إيجاد تخارج وتقابل بين حقلي السياسة والدين، وبقدر تمايزهما وفصلهما عن بعضهما، فإن الوصل بينهما ليس بعيداً، وبالتوصيف فإن عدم التمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو العرق أو العنصر أو اللغة أو الأصل الاجتماعي، هو إحدى أساسات الدولة المدنية التي يكون الحكم فيها للقانون، بمعنى خضوع الحاكم والمحكوم للمساءلة والمحاسبة، أي وحدانية السلطة السياسية، حيث يطبق القانون على جميع الأشخاص، وحسب مونتسكيو "القانون مثل الموت لا يفرق بين الناس" بمعنى لا يستثني أحداً، وتلك من خصائص حكم القانون في الدولة المدنية.
   ونرى اليوم إن غالبية الأحزاب والجماعات الإسلامية تعلن عن قبولها بفكرة الدولة المدنية، بل إن الكثير منها لا يفتأ من تكرار أن لا دولة دينية في الإسلام، بل إن بعضها يذهب أبعد من ذلك بالقول إن "صحيفة المدنية" التي نطلق عليها "دستور المدينة" والذي اعترف بالآخر وحقوقه، مهّد لإقامة دولة مدنية لاسيّما بعد وفاة الرسول. ومن جهة أخرى إن العديد من الأحزاب والجماعات اليسارية والعروبية، التقدمية والمحافظة تقرّ بالدولة المدنية منتقدة تجربة سيطرة الجيش على الحكم، ومع ذلك، فإن هناك إشكالات ومشكلات عديدة برزت، سواء في فترة مقاربتها للحكم أو عند إعداد الدساتير العربية في بلدان ما بعد الربيع العربي، وهو ما يواجه السودان اليوم على نحو شديد.
   وبغض النظر عن التعبير الديني والعلماني للدولة، فإن المسألة الأساسية هي: التوافق على إقامة دولة مدنية تحترم الأديان بالطبع ويتم فيها فصل السلطات وتداول السلطة سلمياً وبصورة ديمقراطية والقبول بالتعايش والتنوّع والتعدّدية واحترام حقوق وحريات الأفراد والمجموعات الثقافية حتى لا يتغوّل أحد على الآخر بسبب معتقده، سواء كان في السلطة أو خارجها، وتلك مسألة محورية تواجه مجتمعاتنا التي لم تصل بعد إلى صيغة عقد اجتماعي جديد لحكم القانون ووجود مؤسسات حامية وضامنة للتطوّر في إطار احترام حقوق الإنسان.
إن جوهر النقاش اليوم حول فكرة الدولة المدنية يدور بسبب المأزق التاريخي الذي وصلت إليه الدولة العربية التي تحتاج إلى إعادة قيام الدولة خارج نطاق الآيديولوجيا، سواء كانت دينية أو علمانية، بل مواكبة التطور الحديث دستورياً وقانونياً، بما يضعها على مسافة واحدة من الجميع.
*****
   المهم في الدولة المدنية أن تكون ديمقراطية، فقد كان النظام الذي أقامه الجنرال عبود علمانياً أو قريباً من ذلك، لكنه دكتاتورياً، ونظام النميري قبل تحوله إلى دولة دينية كان يسارياً، لكنه دكتاتورياً، وهكذا فالأساس في الدولة المدنية والمهم في قربها من الناس هو شكل نظام الحكم الذي ستختاره هل سيلبي طموحات الناس في المواطنة المتساوية والمتكافئة؟ وهل يؤمن حكم القانون في ظلّ الإقرار بالتعددية والقبول بالتنوّع ؟ الأمر الذي يتطلّب فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحق المحكومين في اختيار الحكام وعزلهم بانتخابات دورية يختار فيها الشعب ممثليه.
   وقد تبنى التجمع الوطني الديمقراطي   في اجتماعه بلندن 26 يناير - 3 فبراير 1992 في المادة 10 من الدستور الانتقالي (المقترح) ما يأتي، تعامل الدولة معتنقي الأديان السماوية وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دون تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في هذا الدستور كمواطنين ولا يحق فرض أي قيود على المواطنين أو مجموعات منهم على أساس العقيدة أو الدين..."
   أما ميثاق نيروبي الذي صدر 17 ابريل (نيسان) العام 1993 فقد اعتبر " المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان جزءًا لا يتجزأ من القوانين السودانية ويبطل أي قانون يصدر مخالفاً لها ويعتبر غير دستوري. كما نص على عدم جواز تأسيس أي حزب على أساس ديني وتعترف الدولة بتعدد الأديان وكريم المعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للأديان وتمنع الإكراه أو أي فعل أو إجراء يحرص على إثارة المعتقدات الدينية والكراهية العنصرية في أي مكان أو منبر أو موقع في السودان.
   وكان مؤتمر أسمرة يونيو (حزيران) 1995 قد أكد على هذه المبادئ للأخوة والتعايش السلمي والعدل، فضلاً عن المواثيق والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان ويعتبر باطلاً وغير دستوري أي قانون أو إقرار مخالفاً لها.
   وأود هنا أن أثبت وجهة نظر الحزب الشيوعي السوداني الذي أكّد في مايو (أيار) 1999 وجهة نظره في ورقة بعنوان: قضايا استراتيجية عالجت قضية علاقة الدين بالسياسة وذلك بإقرارها: السودان متعدد الديانات والمعتقدات، حيث توجد أغلبية مسلمة وكذلك مسيحيون ومعتقدات أفريقية، من هنا شرط التسامح والاحترام في المعتقد الديني كمقدمة للمساواة في المواطنة، حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية والأقلية  مع التأكيد أن الدين يشكّل مكوّناً من مكوّنات فكر ووجدان شعب السودان.
*****
   إن كتاب د. محمد الزين محمد هو جهد أكاديمي كُتب بقلب حار ورأس بارد، لمعالجة قضية الدولة المدنية ومتفرعاتها التي ما تزال مطروحة للنقاش في السودان بشكل حاد، ولاسيّما قبيل وبُعيد التجربة الانتقالية وما ستؤول إليه البلاد، وهو يقدم حلولاً ومقترحات عملية انطلاقاً من فهمه لمفهوم الدولة المدنية وكان الزين محمد كان قد وصل من منفاه في النرويج ليشارك في الانتفاضة السودانية الظافرة التي أطاحت بالرئيس البشير والذي كانت المحكمة الجنائية الدولية تطالب بتسليمه لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تقترب من جرائم الإبادة الجماعية، في دارفور وغيرها، وخلال مشاركته كانت قد تبلورت لديه فكرة الكتاب بصيغته المطروحة، والتي كانت قد اختمرت خلال نحو عقدين من الزمان.
   وقد قسم الكتاب إلى توطئة وستة فصول، تناول فيها تاريخ الدولة السودانية بشكل عام ومشكلة الجنوب بشكل خاص، وخصص الفصل السادس للحكومة الانتقالية الحالية ما بعد الانتفاضة السودانية 2019-2020، وهو محاولة لاستبصار رؤية للأزمة العميقة التي عاشتها الدولة السودانية، خصوصاً بالحرب في الجنوب التي استمرت لنصف قرن تقريباً.
   ويقول الزين محمد أن فكرة الكتاب نشأت لديه منذ العام 1996 بعد نيله الماجستير في العلوم السياسية (جامعة الخرطوم) وكانت أطروحته عن مشكلة جنوب السودان وأسباب النزاع ومساعي السلام. ولعل أهم استنتاجاته أن مشكلة الجنوب لا يمكن حلّها دون حلّ مشكلة السودان ككل عبر دولة مدنية، وعكس ذلك فالأزمة ستتفاقم كما استنتج، وهو ما حصل فعلاً وأدى إلى انفصال الجنوب واستمرار النزاعات المسلحة في دارفور وجنوب كروفان والنيل الأزرق وشرق السودان (المقدمة ص 9).
   وبعد استعراض تجربة الدولة السودانية بصل الكتاب في خاتمة محطاته إلى الحكومة الانتقالية الرابعة برئاسة د. عبدالله حمدوك، ليستعرض تجربة الدولة المدنية (2019- 2020) علماً بأن الحكومة كما يقول تحت التجربة ولم يرغب في إصدار حكم قاس عليها وما يزال هناك عامين لتقييم الفترة الانتقالية، ولكنه يعود ليقول بأن الاخفاقات خلال العام الذي انقضى كانت أكثر بسبب الصراعات السياسية والمحاصصات الحزبية وعدم كفاءة بعض الوزراء والفشل في التوصل إلى حلول ناجعة للمشاكل الاقتصادية، إضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية، ناهيك عن تداخل السياسي بالعسكري بالأمني (ص 378).
   إن هدف ثورة ديسمبر الاستراتيجي كما يقول هو بناء الدولة المدنية وهو الحل التوافقي لعملية الانتقال الديمقراطي ويدعو إلى التزام المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية بوظائفها التقليدية المعروفة وفقاً للدستور والقانون وإبعادها عن أي نشاط حزبي أو سياسي، ولكنه يضع مشكلات الدولة المدنية في ثلاث محاور.
   أولها - الدولة المدنية كفضاء للتعايش السلمي بين مكوّنات الشعب المتعود ثقافياً وعقائدياً وعرضياً وقبلياً.
   وثانيها- مشكلة الدستور وصياغته وعلاقة ذلك بالدولة المدنية والتجاذب بين العلماني والديني.
   وثالثها- الدولة المدنية والجيش، إذ يبدي ارتياباً أو خشية من احتمال الانقلابات العسكرية التي ينبغي وضع حد لها وذلك انطلاقا من التجربة السودانية ذاتها.
   ولعلّ أساس الدولة المدنية الذي يركز عليه هو المساواة وعدم التمييز على أساس العرق أو اللغة أو الجنس أو اللون، لأنها دولة حكم القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات، ويدعو لإجماع وطني في صياغة الدستور بإنجاز عملية السلام العادل والشامل وإطفاء بؤر النزاع ومحور آثار الحرب وتحقيق التنمية، وذلك عن طريق الحكم اللّامركزي (الفيدرالي)، مع أن هناك فرقاً بين اللّامركزية والفيدرالية، ويعتبر الحكم الاتحادي والحكم المحلي من مقومات بناء الدولة المدنية على أساس المواطنة، وذلك بالتربية على الدولة المدنية في جميع مراحل التعليم في المؤسسات المدنية والعسكرية ويدعو إلى إقامة المجلس التشريعي الانتقالي بالتوافق السياسي  .
    ويقترح مشروع ميثاق وطني سوداني يطلق عليه مبادئ ما فوق دستورية لقيادة التوافق السياسي والمجتمعي وجميع مكونات الثورة وهو يدعو لحوار جاد ومسؤول له. وتكمن أهميته أنه نشره في 5 مايو (أيار) 2019 وهو أشبه بدستور مؤقت أو مبادئ دستورية عامة تضع إطاراً لدستور الدولة المدنية، وهي مساهمة جادة على هذا الصعيد.
   وكما يقترح مشروعاً للعدالة الانتقالية (مفوضية) (ص 386) وهذه تتطلب كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر والتعويض وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، لكي لا يتكرر ما حصل، والهدف هو تحقيق المصالحة المجتمعية، كما يدعو لمؤتمر وطني دستوري، وذلك بهدف تحديد وجهة الدولة المدنية التي يعتبرها دولة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وذلك أساس شرعية الحكم وإدانة الناجح، أي منجزة في نهاية المطاف.
   الكتاب بقدر ما يقدم من معلومات ومعرفة، فهو يقدّم في الوقت نفسه اجتهادات ووجهات نظر مدعومة بمعطيات أكاديمية، وأعتقد أنه سيرفد المكتبة السودانية والعربية بالجديد حول فكرة الدولة المدنية وأنواعها وسبل الوصول إليها، لذلك فهو يستحق التقدير، لاسيّما ما سيثيره من نقاش يضاف إلى النقاش الموجود عملياً في الساحات والجامعات والنقابات والاتحادات والمجتمع المدني، وفي أروقة السلطة المدنية والعسكرية، وداخل كل تيار سياسي وفكري أيضاً.
    ولعلّ طريق الحوار ونبذ العنف ومنع استخدام السلاح واعتماد الحلول السلمية وسيلة لفضّ النزاعات وحل الخلافات هو الذي ينبغي الركون إليه للمفاضلة بين برامج الأحزاب والقوى السياسية، هو ما يمكن أن يضع السودان على طريق السلام الحقيقي والتطور والتنمية المستدامة، خصوصاً بالتوافق على دستور مدني يحظى بتأييد الجميع ويحتكمون إليه، وهو ما ذهب إليه د. محمد الزين محمد.





108
في معنى أن تكون "ماركسياً"
2/2

هل توقفت "الماركسية" عن التطوّر بعد ماركس؟

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
"الماركسية" ما بعد ماركس
لقد فارق ماركس الحياة في 14 آذار (مارس) عام 1883، لكنّ "الماركسية"، من بعده، شغلت العالم طيلة القرن العشرين، وظلّت حيّة بمنهجها لأنّ لديها القدرة على تجديد نفسها؛ ولم يعتقد أحد من أكثر غلاة العداء للماركسية، أو حتى يفكر، مجرد التفكير، أو يخطر بباله، أنّ الحديث عن نهايتها أو موتها أو ذبولها سيكون حديث عقلاء قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو ما دفع ببعض أعدائها وخصومها، في نوبات هستيريا وفرح غامر إلى درجة الجنون أحياناً، إلى إعلان نهايتها وشرب الأنخاب لتأكيد وفاة "الماركسية"، بل للتأكّد من وفاة ماركس نفسه، التي مضى عليها قرنٌ ونيّف من الزمان، حيث ظلّ شبحه مهيمناً، لا على أوروبا وحدها بل على العالم أجمع. هكذا يؤرّخ بعضهم لوفاة ماركس، بل و"الماركسية"، لا سيّما بعد الإطاحة بالنموذج الاشتراكي البيروقراطي التعسّفي الذي استمر نحو 70 عاماً.
جدير بالذكر أنّ (بيان الحزب الشيوعي) المعروف باسم (المانيفستو) هو أول برنامج مشترك للحركة العمالية الأوروبية، وقد صدر كبرنامج لما سمّي (عصبة الشيوعيين) في شباط (فبراير) 1848 في لندن، ونُشر باللغة الألمانية في جريدةDeuthe Londoner Zeitung، لسان حال المهاجرين الألمان، وأعيد طبعه لاحقاً في العام ذاته على شكل كرّاس، بعد تنقيحه، حيث كتب ماركس وإنجلز مقدمته التي كانت أساساً لجميع الطبعات اللاحقة. 5
وحتى ماركس نفسه كان قد كتب، في إحدى الطبعات الصادرة في 24 حزيران (يونيو) 1872، إقراراً بتاريخية (البيان الشيوعي)، وأنه يحتاج إلى تحسينات ومراجعات، وأنّ نقاطاً فيه أصبحت قديمة بسبب التطوّر الهائل والمستمر خلال نحو ربع قرن، إلاّ أنه أضاف أنّ بعضاً من ملاحظاته لا يزال صحيحاً من حيث أسسه، وإن كان قد أصبح قديماً من حيث تفاصيله، ذلك لأنّ الوضع السياسي قد تغيّر كلّياً. وقد أكّد ماركس أنّ (البيان) قد أصبح وثيقة تاريخية لا نملك حق تغييرها6.
لعلّ كلام ماركس بصدد بيان الحزب الشيوعي (المانيفستو) قد مضى عليه نحو قرن ونصف من الزمان، لكنّ بعض أصحابنا لا يزالون يتمسّكون بحرفية ذلك النص الذي انتقده ماركس في حياته، ويعتبرونه كتاباً مقدساً ونصّاً غير قابل للنقد ويمثل الحقيقة المطلقة، في حين تراهم يهملون منهج ماركس ويتعاطون مع آراء وتعليمات تقادمت مع مرور الزمان أو أنها كانت صالحة في وقتها ولم تعد تصلح لزمننا الراهن.
والأمر ينطبق على بقية أعمال ماركس، فحتى كتابه الريادي (رأس المال) لم يستطع ماركس أن ينجز منه في حياته سوى الجزء الأول، (إنتاج رأس المال)، في حين أنّ الأجزاء الثلاثة صدرت بعد وفاته بسنوات وهي (انتشار رأس المال). وقد تمكّن رفيق عمره الوفي إنجلز، عبر اعتماد مجموعة المخطوطات التي تركها ماركس، من إتمام بعض الفصول لإعادة تأليف الجزء الثاني من الكتاب الذي صدر عام 1885، أي بعد سنتين على وفاة ماركس. ثم صدر الجزء الثالث في العام 1894.
أما تاريخ النظريات التي درست قانون فائض القيمة فلم ينشر إلاّ بين سنة 1905 و1910 بفضل جهود كاوتسكي، وللأسف فإنّ معظم الذين يتحدثون عن كتاب (رأس المال) يقصدون الجزء الأول الذي تناول فيه ماركس (فائض القيمة) على نحو مجرّد، في حين أنه انتقل في الأجزاء الأخرى، لا سيّما في الجزء الأخير منه، من المجرّد إلى المحسوس، خصوصاً وأنّ ماركس، بعد دراسة الرأسمالية، توصّل إلى أنّ أزمتها العامة هي أزمة بنيوية لا فكاك منها.
ذيول " الماركسية"
لقد غيّر الكثير من الماركسيين اتجاههم نحو الليبراليّة الجديدة بحجّة عدم صلاح أو صواب "الماركسية"، حتى وإن تشبّث بعضهم بذيولها أو بعناوينها لكنه، في واقع الأمر، سار باتّجاه أعدائها أو خصومها أو عمل "مقاولاً ثانوياً" لترويج مشاريعها من الباطن أو من خلال واجهات مستهلكة، أما بعضهم الآخر، وإن كان "أقلّية"، فقد تمسّك بكلّ حرف قاله ماركس، وردّده مثل ببغاء، وكأنه تعاليم مقدّسة تصلح لكلّ العصور وكلّ الشعوب والأمم، دون أن ينظر إلى العالم المتغيّر، لا سيّما أنّ التغيير هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي لا تدانيها حقيقة أخرى.
"الماركسية" وصندوق الاقتراع
وخلال عقدين ونيّف من الزمن غدا أي حديث عن "الماركسية" كأنه من تراث الماضي أو بحثٌ في التاريخ أو خلاصات لنخب مترفة وجامعات نائية وبعيدة ومثقفين حالمين أو مناقشة في غير محلّها، لكنّ التاريخ مراوغ، على حدّ تعبير هيغل، ولعلّ مكره ومفاجآته كانت كثيرة وكبيرة، فخلال عقد واحد من الزمن عادت "الماركسية" من خلال صندوق الاقتراع، لا سيّما في العديد من دول أمريكا اللاتينية، ولم يأتِ ماركس هذه المرّة بسترته المتّسخة، كما كان يصوَّر في العالم الثالث، ووراءه الرعاع والمشاغبين والبروليتاريا التي تريد تحطيم المعامل على رؤوس أصحابها، بل جاء ومعه جوقة البروفيسوريّة والفنانين والشعراء وأصحاب الرأي وشغّيلة الفكر واليد.
انتقلت الثورة في أمريكا اللاتينية، وتحت شعارات متأثرة بالماركسيّة، من الكفاح المسلّح إلى لاهوت التحرير، ثم إلى الثورة من خلال صندوق الاقتراع، وكانت مفاجأة أن يعود ثوار الساندنيتسا في نيكاراغوا إلى السلطة بعد أن خسروها، وإذا بهم يستعيدونها عبر الانتخابات، وحصل الأمر نفسه في فنزويلا وبوليفيا والباراغواي والأكوادور.
ومع أنّ هذا قد حصل فعلياً، لكنّ موكب تشييع "الماركسية" ظلّ مستمرّاً، فقد واصل بعضهم، متمسكاً بذلك ومؤكداً وفاتها، بإرسالها إلى مثواها الأخير، بل وإهالة التراب عليها، سواء بـ(نهاية التاريخ) مثلما قال فرانسيس فوكوياما أو بـ(صدام الحضارات) مثلما بحث صموئيل هنتنغتون في أحد تحدياته الثقافوية باعتبار أنّ الدين هو الذي يمثل الحضارات والثقافات، بنظرة استعلائية أوروبية جديدة7.
إذا كانت بعض العلامات الجديدة على حضور "الماركسية" على الصعيد العملي قد حصلت، فإنها على الصعيد النظري سارت ببطء، لكنّ مراجعات وقراءات جديدة للماركسية وتطبيقاتها قد بدأت، وإن كانت لم تخلي مكانها، لكنّ محاولات التجديد والقراءة النقدية والمراجعة الفكرية والمساءلة الداخلية قد بدأت بروح مختلفة وبوعي أكبر، خصوصاً بعد سقوط التابوات والمحرّمات والكثير من عناصر الإرهاب الفكري التي رافقت التجارب الاشتراكية السابقة، سواء التي وصلت إلى السلطة أم تلك التي لم تصل.
 "الماركسية" المعلّبة
ظهرت خلال العقدين ونيّف الماضيين، دراسات ماركسية غنيّة ومراجعات مهمة، خصوصاً في بعض البلدان الإنغلوساكسونية، لكنّ نصيب العالم الثالث منها كان شحيحاً، بل يكاد لا يُذكر لضعف المعرفة والاعتياد على التلقي، ناهيكم عن المشكلات الكبيرة التي عاشها منذ انهيار النموذج الكوني للاشتراكية. ولعلّ ذلك ما حاولت معالجته في كتابيّ "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف" و"الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية" بالإشارة إلى ما أطلقه يساريو جامعة بيرمنغهام البريطانية إلى تنظيرات السلوفيني سلافوي جيجيك الذي أعاد ربط المادية الجدلية بتطويرات وتعميقات جاك لاكان لعلم النفس الفرويدي، ناهيكم عن نظريات الأمريكي فردريك جيمسون اللاحقة في دور الثقافة في "الرأسمالية المتأطرة" وأهمية القوى في فكر البشر وسلوكهم".8  وهو ما حاول فوّاز طرابلسي أن يشير إليه في مقدمته لكتاب فواد خليل.
ولا بدّ من تسليط الضوء على أطروحات عدد من المجددين الماركسيين، سواء اتّفقنا أم اختلفنا معها، لكنّ لا بدّ من تقدير الجهود النظرية التجديدية التي شهدتها "الماركسية" طيلة القرن العشرين، حتى في ظل وجود النظام الاشتراكي ومحاولاته تقنين قضايا الفكر وتجميد الحوار ومنع أي نقد لـ"الماركسية"، بل وتقديمها بطريقة أقرب إلى "التعليب"، أو ما بعده، ارتباطاً به أو تعاكساً مع حركته، لكن استناداً إلى منهج التحليل الذي جاء به ماركس مع محاولات تعشيقه مع نظريات أخرى.
لقد أصبح حضور "الماركسية" الجديد واقعاً بعد أزمة الرأسمالية العالمية الطاحنة، والتي دلّلت على صحّة الأطروحة التي تقول بدورية الأزمة في الرأسمالية، لأنها جزء لا يتجزأ من كينونتها، على الرغم من قدرتها، حتى الآن، على معالجة آثارها وتجاوز عقباتها. نقول إنّ هذا الحضور يتجلّى في استمرار تأكيد اكتشاف قوانين التطور التاريخي، لا سيّما قوانين الرأسمالية الأساسية التي اكتشفها ماركس، ونضيف، وخصوصاً مدى فاعلية هذه القوانين في عصر الإمبرياليّة وفي زمن العولمة، فضلاً عن طابعها الحداثي الاجتماعي وطبيعتها التغييريّة ونظرتها المساواتيّة إلى البشر.
لكنّ " الماركسيّة" التي يشكّل ماركس حلقتها الأولى والأساسية ليست محصورة به، فماركس قد عاش عصره ودرس علومه واستنتج ما يصلح له، وعلى الماركسيّين أن يدرسوا علوم عصرهم ويستنتجوا ما يصلح لهم. ويبقى ماركس جزءًا لا يتجزأ من نظام معرفي يسعى إلى التغيير على أساس كوني، بعيداً عن النزعة المركزية الأوروبية التي وقع فيها ماركس نفسه أحياناً.
ولهذا لا بدّ من تكييف "الماركسيّة" لحلّ إشكاليات البلدان النامية، بما فيها العالم العربي، في إطار المنهج وعبر قراءة للواقع الاجتماعي-الاقتصادي، خصوصاً بتأكيد دور العامل الديني والهوّية الثقافية التي تكتسب أهمية وخصوصية بالغة، لا سيّما في العالم الثالث ومنه البلدان العربية والإسلامية بشكل خاص، وهو ما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار؛ ولعلّ ذلك لا يحدث بإسقاطات إستشراقية أو بصورة إرادوية، وإنّما من خلال فهم وتحليل واقع بلداننا ومجتمعاتنا التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني والتربوي والقانوني والنفسي.

نقد "ماركسية" ماركس
تحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على جوانب أساسية من الوضعية النقدية في "الماركسية" من خلال المنهج الديالكتيكي، وسوف تمضي في هذا الاتجاه دون أيّ حرج في نقد ماركسية ماركس نفسه فيما يتعلق بطوباوية أطروحته بخصوص الدولة ومستقبلها، لا سيّما اختزالها إلى أداةٍ للقمع دون النظر إلى جوانبها الخدمية والتعليمية والصحية والثقافية وغيرها، ولا شكّ أنّ مسألة الدولة لم تكتمل دراستها على يد ماركس الذي قدّم قراءات ناقصة واستنتاجات كانت بحاجة إلى تدقيقات وإعادة قراءات.
وإذا كانت مسألة الدولة جوهرية ومحورية لدى ماركس ومجمل أطروحاته الفكرية والفلسفية، فإنّ القضاء على الرأسمالية سيعني وضع حدّ لها، لا سيّما بانتصار الطبقة العاملة، لأنّ الدولة البرجوازية هي، حسب مفهومه، نتاج تطور الرأسمالية النهائي، وهو ما كان قد اشتغل عليه منذ (نقد فلسفة الدولة لدى هيغل) و(نقد فلسفة الحق) عند هيغل أيضاً أو في كتابه المشترك مع إنجلز (الآيديولوجيا الألمانية)، وبالطبع كان ماركس قد كرّس جهده الإبداعي ضد الرأسمالية ونظامها، وكان يعني أنّ الطبقة العاملة، التي هي نقيض البرجوازية، إذا ما انتصرت، فإنّ ذلك سيقود بالضرورة إلى تدمير آلة الدولة البرجوازية.9
وإذا كانت الدولة البرجوازية هي خصم ماركس الأول، فإنّ البروليتاريا مرشّحة لمواجهة هذا الخصم القوي الذي وجد منذ "الأزل"، على حدّ تعبيره، فمن يضمن أن يزول أو يُزال بالأحرى في يوم من الأيام؟ وكأنّ ماركس في كتاباته الأخيرة يردّ على نفسه أو يعدّل أطروحته بشأن ذبول الدولة وزوالها، رابطاً ذلك بقدرة البروليتاريا على إصلاح المجتمع جذرياً بعد نجاح الثورة، أي أن يتم ذلك قبل الإجهاز على الخصم أو ما تبقى منه، وذلك بعد تحرير المجتمع كله من كلّ ذهول أو افتتان مرضي أمام السلطة، حتى لا نتحدث عن الخنوع المبتذل.
كان ماركس يرفض وضع أيّ احتمال لدوام انقسام المجتمع إلى الأبد إلى حكّام ومنظِّمين من جهة وإلى شغيلة ومحكومين من جهة ثانية، واستناداً إلى ذلك، كما ورد في كتابه (الثامن عشر من برومير) أو في (الحرب الأهلية في فرنسا)، تحدّث ماركس عن زوال الدولة بالتدريج قائلاً: "العلم وحده يستطيع أن يحلّ هذه المسألة، ولن يحلّها، بل لن يقدم على حلّها دفعة واحدة..." ولذلك، كما ورد في (نقد برنامج غوتا)، لا ينبغي الحديث عن الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا، المطابقة للتحول الثوري أو الانتقال السياسي، وعن الدولة المستقبلية في المجتمع الشيوعي. 10
   ماركس والدولة
أي إنّ ما طرحه ماركس هو تكسير آلة الدولة وإعادة سبكها مع طبعها بطابع بروليتاري ثم بطابع شيوعي، مع شخصنتها بعد أن كانت محايدة. لكنّ أطروحات ماركس عن الدولة ظلّت غير مكتملة في حين غاص بفكرة المجتمع حتى العمق، لذا لا يمكن القول إنه قد أنتج نظرية مفصلة أو متكاملة عن الدولة، وربما يكون ذلك جزءًا من عمله المؤجل الذي لم يسعفه عمره البيولوجي لاستكماله أو التبحّر فيه.
 وإذا كنّا قد أشرنا إلى نقده الفلسفي للدولة في نقد هيغل وفلسفته، فإنّ نقده اللاحق قد انطلق من قطيعته مع هيغل ومن بداية تقديم تصوّراته الماديّة عن التاريخ، وهو ما تناوله في كتاب (الآيديولوجيا الألمانية).
وإذا كان قد فعل ذلك في مرحلة ماركس الشاب فإنّ ماركس الناضج أو الكهل كان أكثر تركيزاً على المجتمع منه إلى السياسة، مثلما انتقل من الفلسفة إلى الاقتصاد. ولعلّ هذا ما ترك انطباعاً بأنّ "الماركسية"، بل ماركس بالذات هو من يقدّم العامل الاقتصادي على بقية العوامل.11
إنّ عدم اكتمال نظرية ماركس حول الدولة جعلت فهمه قاصراً بشأن نمط الإنتاج الآسيوي الذي قاده إلى تأييد المركزية الإدارية "التحريرية" لشعوب غير قادرة على صناعة تاريخها، وهو استنتاج خاطئ يتعلق بالدور التمديني للاستعمار، على الرغم من عودته لاحقاً لإدانة ذلك بعد أن توصّل إلى استنتاج مفاده أنّ توسّع الرأسمالية المتفاوت في أوروبا وسائر بلدان العالم قد أسّس لشكل جديد من الاستغلال هو الاستغلال الكولونيالي12.
أما بخصوص قضايا الدين ووظيفته وحاجة البشر إليه، فقد اعتبر ماركس أنّ الدين سيزول بزوال الظلم والاستغلال بين البشر، وهو ما يراه الباحث نظرة تبسيطية لا تجيب عن لغز الحياة الأكثر تعقيداً، ولعلّ ماركس، في كلّ ما قدّمه حول هذا الموضوع، لم يكن أكثر من تخمين في حين أننا بحاجة إلى برهان. لكنّ ملاحظات ماركس الانتقادية تلك لا تقلل أو تنتقص من المنهج الماركسي الذي لا يزال صميمياً وصالحاً لقراءة وتفسير الظواهر الاجتماعية وتحليل تاريخ التطور الاجتماعي، فضلاً عن أهم اكتشافاته لقوانين الجدل وتاريخ التطور البشري وقانون فائض القيمة.
إن النقد الفلسفي للدين، لدى ماركس أو "الماركسيين" من بعده، يستند إلى اعتبار حركته التاريخية جزءًا من الحركة الاجتماعية ذات الأبعاد الفلسفية التي تتعلق بالكون والوجود والمستقبل، فضلاً عن الحاضر، ولا بدّ هنا من الجمع بين فلسفة ماركس ونظريّته السوسيولوجيّة، بما تمتلك من رأس مال معرفي يقوم على فكرة المساواة والحرّية، الأمر الذي يضعها في صلب إشكاليّات الراهن والمستقبل سواء بالنسبة للدِّين أو لغيره من الظواهر الاجتماعية. وكان ماركس نفسه و"الماركسية" في عهده موضوعاً للنقد، لا سيّما من قبل دوهرينغ، كما أن "الماركسية" المعاصرة قد تمّ نقدها من قبل علماء اجتماع مثل دوركهايم وماكس فيبر ومدرسة فرانكفورت13.
وإذا كانت مساهمات إنجلز ثريّة وأساسية في تأسيس "الماركسية" منذ (البيان الشيوعي) وفيما بعد متابعة إصدار (رأس المال) بعد وفاة ماركس، فإنّ هناك مساهمات قيّمة لمفكرين ماركسيين تعاملوا مع "الماركسية" في ظروفها، بدءًا بجورج لوكاش مروراً بسارتر وروجيه غارودي وحتى ألتوسير، ومن ثم الإطلال على المدرسة " الماركسية" الحديثة، لا سيّما بعد انهيار الاشتراكية، الممثلة بمحاولات سلافوي جيجيك وفردريك جيمسون.



المصادر والهوامش
5- بدأ ماركس وإنجلز بكتابة "البيان الشيوعي" بتكليف من عصبة الشيوعيين بعد مؤتمر لندن المنعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1847، ووجد البيان طريقه للنشر قبل أسابيع قليلة من قيام ثورة شباط (فبراير) الفرنسية عام 1848.
6- انظر: دونكر، هرمان: البيان الشيوعي، ترجمة عصام أمين (النص الكامل مع دراسة وتحليل)، دار الفارابي، 2008، ص ص9-13.
7- انظر: Huntington- Samuel- Aclash Of Civilization, Foreign Affaires, Summer 1993
Huntington, Samuel- The Clash Of Civilization And Remarking of world order, London, Simon and Schuster,1997
انظر: فوكوياما، فرانسيس- نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مصدر سابق.
8- انظر: طرابلسي، فوّاز، لدى فؤاد خليل - (المقدمة)، مصدر سابق، ص10.
9 - انظر: ماركس، كارل، وإنجلز، فردريك: الآيدولوجيا الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب، دار دمشق، بلا تاريخ.
10- انظر: نقد برنامج غوتة. وقد كتبه كارل ماركس أواخر شهر نيسان/ أوائل شهر أيار سنة 1875، ونشر لأول مرة في مجلة Die Neue Zeit ، المجلد 1، العدد 18، سنة 1890-1891.
11- قارن: لينين، فلاديمير: الدولة في الماركسية، ترجمة فخري لبيب، القاهرة، 1984.
12- ومن شطحات ماركس قوله: "لقد تحوّل الإيرلنديون، بواسطة القمع المنهجي، إلى أمة ساقطة" – من رسالة إنجلز إلى ماركس في 23 أيار (مايو) 1856 وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول (اكتوبر) 1869، وهو ما يذكّر بموقف ماركس من الشعب التشيكي الذي وصفه بأنه رجعي بالمطلق.
13- انظر: طاهر، علاء - مدرسة فرانكفورت: من هوركهايمر إلى هابرماس، بيروت، منشورات الانماء العربي، 1987.


109
كل عام وأنتم بخير

أنتهز مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة
لنتوجّه إليكم بأعطر التحيّات وأصدق التمنيات
بالصحة والسعادة والتقدم في حياتكم الخاصة والعامة
راجياً أن يكون العام الجديد قد حلَّ علينا بالسلام والطمأنينة والمحبة
في ظل الصحّة والصحّة والصحّة
أصافحكم مع التقدير

ع. الحسين شعبان
 

wish you a
 Merry Christmas
 and
Happy New Year
Dr. Shaban




110
أوسلو وبيروت
الإحتفاء بقيم التسامح والسلام

شهد فندق "الساحة" بيروت حفلاً تكريميًّا لنخبة لامعة وكوكبة متميّزة من قادة الرأي والفقهاء والأدباء والمفكّرين اللبنانيين والعرب، أقامه المركز الدولي للثقافة والإعلام بالنرويج لعدد من الشخصيات الدينية والثقافية والفكرية التي ساهمت في نشر وتعزيز ثقافة التسامح والسلام والحوار الإنساني بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، وتسلّم المحتفى بهم أوسمة ورسائل تقدير لأدوارهم المتميّزة.
ونظّم الاحتفال في بيروت رئيس مركز حوار الحضارات "الأويسكو" البروفيسور مخلص الجدّة، بالتعاون مع الأستاذ علي الموسوي رئيس المركز العراقي الدولي (في أوسلو)، والمحتفى بهم:
1 - فضيلة الشيخ أمين الكردي - أمين عام دار الفتوى - (لبنان).
2 - سماحة الشيخ محمد عسيران - المفتي الجعفري - (صيدا).
3 - المطران جورج صليبا - راعي مطرانية السريان - (بيروت).
4 - الشاعر محمد علي شمس الدين - (لبنان).
5 - سماحة الشيخ حسين شحادة - أمين عام منتدى المعارج - (لبنان).
6 - الشاعرة نوال الحوار - (سوريا).
7 - الشاعر ميشيل جحا - (لبنان).
8 - الدكتور جورج كعبي - (لبنان)
9 - المفكر عبد الحسين شعبان - (العراق).
وتخلّل حفل التكريم كلمات وإشادات بأدوار المحتفى بهم واستذكار لأهم نتاجاتهم الإبداعية ونشاطاتهم العملية وحضورهم الثقافي والمهني.
 
 

111
المنبر الحر / عن فلسفة التسامح
« في: 19:46 17/12/2020  »
عن فلسفة التسامح
عبد الحسين شعبان

جمع منتدى الفكر العربي يومَي التسامح والفلسفة في مناسبة واحدة لتقاربهما، ودعاني لإلقاء محاضرة عن "فلسفة التسامح" بمناسبة صدور كتابي الجديد "في الحاجة إلى التسامح"، وكان اليوم العالمي للتسامح قد تقرّر في العام 1995 حين اتّخذت منظمة اليونسكو قراراً للاحتفال بيوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، كما كانت قد قرّرت اعتبار يوم (الخميس الثالث) من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للفلسفة، وقد احتفلتْ لأوّل مرّة بهذا اليوم في العام 2002 وتقرّر اعتماده في العام 2005 اعترافاً بالقيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري، لأنّها مجال يشجّع على التفكير والنقد والاستقلاليّة وبواسطتها يمكن فَهم العالم على نحو أفضل، لا سيّما لتعزيز قيم التسامح والسلام واللّاعنف والعدالة والمساواة والحرّية والمشترك الإنساني.
وإذا كانت الفلسفة تحتلّ هذه المكانة على الصعيد العالمي إلّا أنّها ليست كذلك على الصعيد العربي والإسلامي منذ هزيمة العقلانيّة، وهكذا استُهدف فلاسفة كبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد لاتهّامهم بالهرطقة واللّاتديّن لدرجة أنّ الغزالي نعَتَهم بأقسى النعوت في كتابه الموسوم "تهافت الفلاسفة"، وقد ردّ عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت"، علماً بأنّ ابن رشد اضطرَّ إلى الهجرة ومات وحيداً ومكسوراً، وفي آخر أيّامه أحرق بعض كتبه لشعوره باللّاجدوى، وحين سأله أقرب المقرّبين إليه لماذا يفعل ذلك؟ أجابه: لا تحزن يا بُني للأفكار أجنحة، أي إنها ستطير، وبالفعل طار بعض أفكاره إلى أوروبا وتمّت ترجمتها لتصلنا بعد 900 عام، وهكذا تعرَّفنا على فيلسوفنا عبر أوروبا، كما ظلّت كتب ابن سينا في الطب تُدرّس في الجامعات الأوروبية لقرون من الزمان.
إنّ احتفال اليونسكو باليوم العالمي للفلسفة باعتبارها "حب الحكمة" له أكثر من دلالة، ففيه تجديد للالتزام العالمي بدعم الفلسفة وتشجيع الأبحاث والدراسات الفلسفيّة وتوعية الرأي العام بأهميّة ذلك في عصر العولمة والوقوف على تعليمها على المستوى العالمي وتأكيد أهمّية تعميمها، وإذا كان لكل علم فلسفة، فإنّ لكلّ فلسفة وعلم تاريخ أيضاً، لذلك يُقال الفلسفة أُمّ العلوم والتاريخ أبوها.
وتكمن أهميّة الفلسفة نظريًّا بالتأمّل والتفكير وعمليًّا بالوسائل والمعالجات، لا سيّما في فترات الأزمات الكبرى، كما هي جائحة كورونا اليوم (كوفيد-19)، والدهشة أصل الفلسفة كما يُقال، وأوّل الفلسفة سؤال، ولعلّ أسئلة اليوم تتعلّق بالحقائق والفرضيّات والاستنتاجات الجديدة، وهي أحوج ما نكون إليه، وهذا ما يدعونا للقول بضرورة ردّ الاعتبار للعقلانيّة بصيغتها الحديثة، فحتى الدِّين ينبغي أن يكون "دين العقل" وكل ما يتعارض مع العقل ليس من الدِّين، أمّا الفقه فهو "فقه الواقع" انسجاماً مع روح العصر، ولن يحدث ذلك من دون الفلسفة الحديثة والعلوم الحديثة، لأنّ التفكير الفلسفي يمدّ الإنسان بما يحتاج لمناهضة العنصرية والشوفينيّة والتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والحروب وتدمير البيئة وغير ذلك.
ولعلّ التسامح أحد نتائج الوصول إلى بيئة سليمة وتربة صالحة بقبول الآخر والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وفي أوضاعنا الحالية هو مثل "الريح الخفيفة المنعشة التي تسبق المطر"، خصوصاً في ظلّ سيادة الواحديّة والاطلاقيّة وادّعاء الأفضليّة وامتلاك الحقيقة. وإذا كانت فكرة التسامح راهنيّة وضروريّة، فلأنّ حياتنا السياسية والاجتماعية بحاجة إلى نوع من الترميم والإصلاح ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل على الصعيد العالمي، في ظل هيمنة تيّارات عنصريّة قوميّة أو دينيّة أو شموليّة متعصّبة ومتطرّفة ولا تتورّع من استخدام العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها وللإستقواء على الآخر لحل خلافاتها.
وحسب إعلان اليونسكو المؤلَّف من ديباجة و6 مواد، فالتسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا لأشكال التعبير وللصفات الإنسانيّة لدينا... ويعني الوئام في سياق الاختلاف.
والتسامح عندي ليس واجباً أخلاقيًّا فحسب، بل هو واجب سياسي واجتماعي وقانوني في الآن يمكن من خلاله معرفة درجة تطوّر المجتمع، وهو الفضيلة التي تيسّر قيم السلام وتُسهم في إحلال ثقافته محل ثقافة العنف والحرب، وهو يعني أيضاً اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته، وذلك عكس "المفهوم النيتشوي" الذي يفترض وجود طرف قويّ وآخر ضعيف، وطرف يسامح والآخر يطلب العفو، وقد بلور فولتير بعد لوك في العام 1763 في "رسالة التسامح" دعوة أخلاقية قائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم.
ولقراءة واقع التسامح في العالم المعاصر هناك خمس اتجاهات أساسية:
الأول - إنكاري لرفضه فكرة التسامح بزعم امتلاك الحقيقة والأفضليّة؛ والثاني - انعزالي بزعم الرياديّة، حيث يعتقد أن ثقافته هي التي تمتلك التميّز والحق والعدل؛ والثالث - تغريبي على الرغم من تأييده الفكرة، لكنّه يدعو إلى قطع الصلة بالتراث؛ والرابع - توافقي يقبل بعض أفكار التسامح بانتقائيّة لانشداده إلى الماضي؛ والخامس - حضاري يعتبر التسامح قيمة إنسانية عُليا.
وهنا لا بدّ من التفريق بين فلسفة التسامح والنظرة الابتذاليّة التي تريد باسمه تبرير العدوان أو الاحتلال، لا سيّما "الإسرائيلي" لفلسطين أو التهاون إزاء انتهاك الحقوق والحريّات.



112
بهاء الدين نوري... و"ألم" تشيخوف
عبد الحسين شعبان
غادرنا قبل أيام الرفيق بهاء الدين نوري عن عمر ناهزَ الثالثة والتسعين عامًا، قضاها في معمعان النضال؛ وحسنًا فعل المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي حين نعاه ببيان أصدره بالمناسبة، وكم كان مناسبًا الاعتذار له في حياته وتكريمه بما يستحقّه وما قدّمه من أعمال وتضحيات خلال أكثر من سبعة عقود من الزمان تحت اسم "الشيوعيّة"، علمًا بأنّ إدارة الحزب الحالية غير مسؤولة بصورة مباشرة عمّا لحقه من أذى وإساءات واتّهامات تتحمّلها إدارات سابقة لقُصر نظر وضعف ثقة وعدم قبول للرأي الآخر، دون أن يعني ذلك أنّ بهاء الدين نوري لا يتحمّل قسطه من المثالب والعيوب والسياسات الخاطئة والممارسات السلبيّة في حياة الحزب، سواء في فترة إدارته أو في فترات لاحقة.
وقد سبق لي أن نوّهت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، وكان آخرها في المادّة الموسومة "مع بهاء الدين نوري في صومعته" (المنشورة على ثلاث حلقات في صحيفة "الزمان" العراقية بتاريخ 1 و2 و3 حزيران/يونيو2020)، إضافة إلى حوار مباشر بيني وبينه امتدّ لسنوات وكان آخر لقاء بيننا خلال زيارتي لمدينة السليمانيّة للمشاركة في المهرجان الذي أقيم احتفاءً بـ مظفّر النوّاب (شباط/فبراير/2020)، وحسبما أعتقد أنّه آخر حوار له قبل رحيله.
وإذ أستعيد مع القرّاء بشكل عام وجمهرة المعنيين بشكل خاص بعض صفاته ومواقفه، فالغرض إضاءة جوانب مهمّة من حياته وتاريخ مهمّ للحركة الشيوعيّة واليساريّة والوطنيّة العراقيّة، بما فيها ما يتمتّع به من مواصفات "القائد" من كاريزميّة وجُرأة وصلابة واجتهاد وقدرة على اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته بالخطأ أو الصواب، وهو ما جعله "مسؤولاً" للحزب وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين، فالفارق كبير بين من يحمل مؤهّلات قياديّة وبين مَن يكون في موقع المسؤوليّة ضمن نطاق مسلكي أو إداري أو روتيني.
من أهم مزايا بهاء الدين نوري:
أولًا - شجاعته غير المحدودة، فالشجاعة ليست بتحدّي العدوّ أو مواجهة الخصم فحسب، بل في عدم قبول الخنوع أو الاستكانة لمشيئة الإدارات الحزبية تحت ما يسمّى بالطاعة العمياء، وبالطبع فهناك فرق بين القناعة الواعية والناقدة والمسؤولة، وبين الطاعة الراضخة والمستسلمة والمتلقّية. وبغضّ النظر عن صحّة موقفه أو خطأه، فقد رفض كتابة رسالة "النقد الذاتي"، بل "الجلد الذاتي" حين عوقب في العام 1962، وظلّ مصرًّا على موقفه هذا لقناعته من جهة واعتزازًا بكرامته من جهة ثانية، خصوصًا وإن تلك الرسائل المذكورة، لا سيّما رسالة الراحل زكي خيري لا يمكن للمرء إلّا أن يشعر إزاءها بالحزن والفداحة لكثرة تقريعه لنفسه لدرجة "الافتراء" عليها، وهو ما كانت تفرضه التقاليد الحزبيّة البيروقراطيّة الأوامرية السائدة؛ وبتقديري أنّ المسألة ستكون خارج النطاق الفكري أو السياسي أو التنظيمي بقدر تعلّقها بالكرامة الإنسانية، فكيف إذا كانت "اغتصاباً" للقناعة خارج إرادة الحرّية؟
وثانيًا – استقلاليّته في رأيه، فقد كان باستمرار صاحب رأي، أخطأ أم أصاب، وكان يعبّر عن رأيه ويدافع عنه، حيث كان ضدّ عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدّمية مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1973، وظلَّ على موقفه هذا، في حين كان آخرون لا يستعذبهم حديث إلّا عن "الجبهة" (إظهار محاسنها وكبت كل صوت معترض عليها أو على أدائها) بمن فيهم بعض من تحوّل من الضدّ إلى المبالغة في التأييد، ثم الانقلاب عليها لاحقًا.
كما كان مقتنعًا بعدم الدخول في صراع مع الاتحاد الوطني الكردستاني، خلال فترة ساد فيها التوتّر والذي توّج في الهجوم الغادر الذي شنّه (أوك) ضدّ أنصار الحزب الشيوعي وراح ضحيّته أكثر من 60 رفيقًا، ولذلك وقّع مع ملّا بختيار القيادي "الأوَكي"، الذي تمّ تجميده مؤخراً بسبب نشره لمذكّراته التي تحدّث فيها عن جريمة قتل الأسرى الشيوعيين، اتفاقية ديوانه على الرغم من جريمة بشتآشان في حين كان الرأي السائد في إدارة الحزب عكس ذلك، وظلّ متمسكًا بموقفه بعدم توسيع رقعة الصراع، ولا سيّما فيما يسمّى بشتآشان الثانية التي سقط فيها بضعة عشرات آخرين من الرفاق وفي ظروف ملتبسة للتداخل الخارجي الإيراني.
وكان رأي بهاء الدين نوري بعد تدهور العلاقات الجبهويّة مع حزب البعث وشنّ الأخير حملات اعتقال دموية ضد الحزب الشيوعي وأصدقائه، الانسحاب والمواجهة ووضع خطة مع آراخاجادور وصالح دكلة لتشكيل تنظيم موازٍ للحزب باسم "حزب العمل" وبمنهج يساري على حدّ تعبيره، وبالطبع كانت مثل تلك الخطوة بمعرفة سكرتير الحزب عزيز محمد وتأييده المستتر لها، وهي مسألة أثارت التباسات بسبب غموضها وعدم وضوح توجّهها.
ولم يستسلم بهاء الدين نوري حين تمّ طرده من دون محاسبة وجاهيّة والتشهير به خارج ما يسمّى بالنظام الداخلي (الموضوع باستمرار على الرفّ)، بل حاول أن يطرح وثائق كان قد أعدّها للمناقشة وهي لتقويم السياسة خلال سنوات ما بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 ولغاية الثمانينات، وطالت لاحقًا المؤتمر الرابع للحزب (1985)، كما أصدر صحيفة باسم "القاعدة" وظلّ يحاول طرْقَ الحديد الحار خلال تلك الفترة الحرجة من حياته ومن حياة الحزب، وبإمكانات شحيحة ومحدودة جدًّا.
وثالثاً - اجتهاداته ومبادراته، فقد كان مجتهداً ومبادراً، ففي فترة إدارته حاول أن يتمايز، بل يميّز نفسه وإدارة الحزب عن برنامج الكونغرس الأول والمؤتمر الأول بقيادة الرفيق فهد في برنامجه المعروف باسم "ميثاق باسم"، خصوصاً بطرحه لأوّل مرّة في العراق شعار الجمهورية، فضلاً عن مبادراته العديدة. فعلى يده أُعيد إحياء تنظيم "اتحاد الطلبة"، وتأسّس تنظيم "الشبيبة الديمقراطية" وتنظيم "رابطة المرأة العراقية" و"حركة السلم" التي اكتسبت مديات بعيدة وواسعة لاحقاً، خصوصاً بُعيد انتفاضة العام 1952.
وكان بهاء الدين نوري من الشيوعيّين القلائل الذين عبّروا عن عدم تأييدهم لسياسة غورباتشوف والحزب الشيوعي السوفييتي المعلنة في مؤتمر الحزب السابع والعشرين العام 1986 بشأن البريسترويكا، واعتبرها منذ وقت مبكّر تقود إلى الانحلال، وذلك في كرّاس أصدره في حينها، وضمن هذا التوجّه كان رأي الرفيق خالد بكداش" الأمين العام للحزب الشيوعي السوري.
وبالمناسبة، إذا كانت قيادة فهد تعتبر بمثابة قيادة تأسيسيّة"، فإنّ قيادة بهاء الدين نوري تعتبر "استكماليّة" للتأسيس، خصوصاً بعد فترة هجوم شنّته شرطة التحقيقات الجنائية وبهجت العطيّة ضدّ الحركة الشيوعيّة، مثلما تعتبر قيادة سلام عادل "تطويريّة وانفتاحيّة وتسامحيّة" بعد فترة تشدّد وتزمّت وتخلّف سادت الأوساط الشيوعيّة، وكان للكونفرنس الثاني المنعقد في أيلول (سبتمبر) 1956 والتقرير الصادر عنه والموسوم "خطّتنا السياسية في سبيل التحرّر الوطني والقومي..." دوره الكبير في إرساء هذا التوجّه بالمؤهلات القيادة الفريدة التي امتلكتها قيادة سلام عادل وبمساهمة متميّزة من عامر عبدالله وجمال الحيدري.
ورابعاً – إرادته الصلبة التي لا تلين، ولعلّه من نمط الأشخاص الذين لا يعرفون معنى المستحيل أو الاستسلام، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد العملي والتنظيمي، وهكذا بدأ حياته الحزبية، فهذا الريفي المحدود الثقافة وابن البيئة الدينيّة المحافظة، جاء إلى بغداد وحمل مسؤولية إعادة بناء الحزب بعد إعدام الرفيق فهد ومحمد زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي ويهودا صديق وساسون دلال، واعتقال عدد من إدارات الحزب ومراكزه القيادية التي تشكّلت حينها، ليأخذ على عاتقه تلك المهمة الصعبة والقاسية، متحدّيًا شرطة التحقيقات الجنائية ومن ورائها المخابرات البريطانية وفي ظرف انتكاسة الحركة الشيوعية ونكوصها بعد موقفها من القضية الفلسطينية وتأييدها لقرار التقسيم.
وإذا كان بهاء الدين نوري وقع بأخطاء وارتكب حماقات تنظيمية عديدة قادت إلى انشطار الحزب، إلى "القاعدة" و"راية الشغّيلة" وكتل أخرى، فقد كان قلّة تجربته وشحّ خبرته من جهة، والتقاليد الشيوعية البيروقراطية السائدة آنذاك، يضاف إليها ضيق أفق ونقص معرفة، فضلًا عن ظروف العمل السرّي القاسية، هي وراء تلك الأخطاء الصميميّة والاجتهادات المغلوطة والتطبيقات البيروقراطية.
وفي أواسط الستّينات لعب بهاء الدين نوري دوراً مهمًّا وبارزاً في حياة الحزب، فقد عاد إلى بغداد سرًّا بعد انقضاء فترة عقوبته وإعادته إلى طاقم إدارة الحزب في العام 1964، وساهم مساهمة كبيرة في إعادة بناء التنظيم، ومِثل هذا الدور مشهود له أيضاً في نهاية العام 1971 ومطلع العام 1972 بقيادة باقر ابراهيم ورفقة آخرين، بعد أن تعرّض الحزب إلى حملة بوليسيّة شنّتها السلطة في العام 1970 إثر بيان 11 آذار (مارس) بين الحركة الكردية والحكومة العراقية.
وبعد فصله لم يترك الساحة ولم ينزوِ كما فعل بعض المخلوعين، بل عمل على إقامة صلات وعلاقات مع العديد من الكتل والمجموعات الشيوعية، حتى وإن اختلف معها بالرأي مثلما أجرى لقاءات مع العديد من القوى السياسية المعارضة. وبعد عمليّات الأنفال وإثر قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي ( 17 آذار/مارس 1988)، ولشعوره بثقل المهمّة واختلاف الظروف وتبدّل الأوضاع حاول التوجّه إلى المنفى والحصول على اللجوء في السويد، ومن هناك سعى لـ"تأسيس تنظيم ديمقراطي"، لمواصلة كفاحه في ظلّ المتغيّرات التي حصلت في العالم، وخصوصًا بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي.
وفي التسعينات نشر مذكّراته (طبعة أولى محلية في كردستان) عبّر فيها عن رؤيته إزاء تطوّرات الحركة الشيوعيّة ومواقفه منها بما فيها نقده لنفسه لتأييده خط آب اليميني 1964، كما انتقد إدارة عزيز محمد ومواقفها من الجبهة الوطنية والمؤتمر الرابع، وتعرّض لعمليّة طرده، وقبلها محاولة "اعتقاله" في كردستان أو "حجزه"، وقد سبق لي أن تناولت بعض القضايا الشخصية والإساءات الفرديّة التي وردت في المذكّرات والتي ذكرتها له، ولعلّها جزء من أمراض الحركة الشيوعية وجميع التنظيمات الآيديولوجيّة، حين يتم شخصنة الاختلاف وابتذال النقد وتشويه السُمعة، وتبقى آراؤه الفكريّة والسياسيّة جميعها تندرج في باب الاجتهاد والأخطاء الإنسانية، فالبشر خطّاؤون على حدّ تعبير فولتير، لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
وإذا كانت الأهداف نبيلة، فينبغي أن تكون الوسائل كذلك، لأنّ الوسيلة جزء من شرف الغاية، وهل يمكن لوسائل خسيسة أو قبيحة خدمة هدف شريف أو غاية جميلة، وحسب المهاتما غاندي: "الوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة"، لترابطهما العضوي.
الأخطاء بحدود الاجتهاد تبقى مقبولة ولا عمل دون أخطاء، لكن هناك شطحات خارج الاجتهاد، لا سيّما حين تدخل في تعارض صميم مع ما يؤمن به المناضل،  وكم استغربت حين قرأت تصريحاً لبهاء الدين نوري عشيّة الغزو الأمريكي للعراق، بدعوة الولايات المتحدة إلى تسليح 5000 آلاف عراقي معارض سيكون بإمكانهم الزحف إلى بغداد لإسقاط النظام الديكتاتوري.
وأظن أنّ تلك اللقطة الفاقعة لا تندرج في جدول الاجتهادات السياسية، وبكل الأحوال لا ينبغي أن تكون مثل تلك الشطحة المعيار الذي نقيس به نضال بهاء الدين نوري ومواقفه، فبعض من تغادرهم الأضواء تضيع بوصلتهم أحياناً، في هذا الموقف أو ذاك.
لقد ترك بهاء الدين نوري بصمةً مشرّفة في النضال الشيوعي والوطني وكان قامةً شامخة في الرجولة الشيوعيّة والاعتداد بالنفس والكرامة الإنسانية والجُرأة والشجاعة وتحمّل المشاق، ناهيك عن أنّه عاش ومات فقيرًا ، بقدر ما حاول أن يغنّي حياة الناس ويسعدهم بوطن حرّ، أخطأَ أم أصاب.
وإذا كنت أنسى، فلا أنسى (أبو سلام) يوم زرته في منزله بالسليمانية في العام 2008، ووجدته ممدّداً وبحالة يُرثى لها وهو يكتب لهذا وذاك طالباً "استحقاقه" في العلاج، وتلك مسألة إنسانيّة، وهو ما كتبته عن آرا خاجادور الذي ظلّ يعاني، بل ينزف في منفاه في براغ، وأكتب ذلك خارج دائرة السياسة والصواب والخطأ في المواقف، فالمسألة تتعلّق بالسلوك الإنساني السويّ لرفاق درب باعدت بينهم السُبل "ومضى كلٌّ إلى غايته ... لا تقلْ شئنا فإنَّ الحظّ شاء" حسب الشاعر ابراهيم ناجي في قصيدة الأطلال بصوت أم كلثوم وألحان رياض السنباطي.
لا أدري كيف قفزتْ إلى ذاكرتي قصّة "الألم" للروائي الروسي المبدع أنطون تشيخوف، فقد ظلَّ بطلها غريغوري يعذّب زوجته ويسومها صنوف الألم والإساءة والتقريع، وحين داهمها المرض أسرع بنقلها إلى الطبيب على زلّاجة في جوّ شتائي عاصف ولمسافة نحو 20 ميلاً، وفي الطريق حاول أن يطيّب خاطرها وظلَّ يُغمغمُ طوال الوقت مع نفسه مخاطباً ماتريونا: لا تبكي يا عزيزتي وقليل من الصبر... وسيكون كل شيء على ما يُرام...
ولم يتوقف من الحديث المتواصل لإظهار مشاعر الندم الحاد، في حين كانت زوجته في القسم الخلفيّ من العربة، وكرّر عليها الأسئلة من دون أن يحصل على جواب، فاستدار نحوها وتحسّسها فوجدها باردة وسقطت كقطعة خشب؛ حينها ندّت منه صرخةً: يا للمصيبة أنّها ميّتة...
هكذا مات بهاء الدين نوري في ضبابِ وعتمة، وقد ظلّ بعضهم مثل غريغوري يودّ أن يقول له شيئاً آخر كما قال لزوجته وهي تحتضر: سامحيني فأنا حزين وحزين جدًّا؛ ولكن لا جدوى من أشياء تؤجّل أو تأتي متأخّرة، فقُبلة اعتذار في جبين راحل لا تكفي، والمواساة بعد فوات الأوان لا قيمة لها.
لذكراه السلام...
ولإسمه البهاء الذي يستحقه...
فالإنسان هو مقياس كلّ شيء على حدّ تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.

 
 





113
نداء للرابطة العربية للقانون الدولي
بمناسبة الذكرى الثانية والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 كانون الأول/ديسمبر/1948)، وبعد اتصالات ومداولات عديدة بين كوكبة من الأكاديميّين والحقوقيّين والمعنيّين بقضايا القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، تمّ الاتفاق بينهم على تأسيس رابطة باسم "الرابطة العربية للقانون الدولي" لتأخذ على عاتقها الدفاع عن القضايا العربية العادلة والمشروعة في المحافل الدولية، وذلك بالتعاون والتنسيق مع نقابات وهيئات المحامين واتّحادات وجمعيّات الحقوقيّين ومؤسسات ومنظّمات المجتمع المدني ذات العلاقة، وعلى الصعيدين الحكومي وغير الحكومي، بما يساعد أصحاب القرار في بلداننا ويفيد الجهات الدولية المساندة لقضايانا وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.
و"الرابطة" وهي تبدأ باكورة عملها بإطلاق نداء التأسيس، فإنّها تأمل أن تقتنع الأمم المتحدة بفائدة وأهميّة تقديم اعتذارها إلى الشعب العربي الفلسطيني، الذي سلبهُ صكّ انتداب أقرّه مجلس عصبة الأمم 1922 بناءً على قرار مؤتمر سان ريمو العام 1920، حقّه  الطبيعي في تقرير مصيره، علماً بأنّ ما ترتّب عليه يضعه في بطلان قانوني واضح، ولم يستطع أن يصبح أمراً تاريخيًّا رغم تقادم الزمن، فالمقاومة من أجل استرداد الحقوق مستمرّة لرفض الواقع المفروض، كذلك يبقى جبر الضرر المادي والمعنوي مطلباً تقرّه قواعد القانون الدولي المعاصر، بما يترتّب عليه من آثار قانونية وسياسية.
إنّ هذا النداء هو بمثابة إعلان أوّلي عن قيام "الرابطة العربية للقانون الدولي"، التي ستعقد اجتماعها التأسيسي وتناقش آلية عملها ونظامها الأساسي والداخلي وتنتخب هيئاتها وتقرّ خطّة عملها القادمة حين تسمح الظروف الموضوعية والذاتية بذلك، كما أن الرابطة ستكون متفاعلة بإيجابيّة وبانفتاح على شتى الفاعليات والأنشطة الحقوقيّة والثقافيّة ذات العلاقة، بما يعزّز الدبلوماسية العربيّة الشعبيّة والرسميّة ويُعلي من شأن المشاركة الإنسانية على جميع الصُعد.
المؤسّسون:
1 -    د. جورج جبور         (رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة وخبير مستقل في مجلس حقوق الانسان) سوريا.
2 -   أ. تهاني محمد الجبالي         (مستشارة ونائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا) - مصر.
3 -   أ. عمر محمد زين         (أمين عام اتحاد المحامين العرب سابقاً) - لبنان.
4 -   أ. علي الضمور         (قاضي وأمين عام اتحاد المحامين العرب) - الأردن.
5 -   د. خالد شوكات         (وزير سابق ورئيس المعهد العربي للديمقراطية) - تونس.
6 -   أ. ضياء السعدي         (نقيب المحامين العراقيّين) - العراق.
7 -   د. حسن جوني         (أكاديمي وخبير دولي) - لبنان.
8 -   د. إياد البرغوثي         (رئيس الشبكة العربية للتسامح) - فلسطين.
9 -    د. محمد المالكي         (رئيس مركز دراسات الدستورية والسياسية) - المغرب.
10 -   د. محمد المخلافي         (وزير الشؤون القانونية سابقاً، محامٍ وأستاذ جامعي) - اليمن.
11 -   د. أحلام بيضون         (أستاذة جامعية) - لبنان.
12 -   د. شيرزاد النجار         مستشار ورئيس جامعة سابقاً - العراق/إربيل.
13 -   أ. نور الإمام         (محامية وخبيرة مستقلة) - الأردن.
14 -   الشيخ ودّ الحمدي         (نقيب المحامين الموريتانيّين) - مورتانيا.
15 -   د. رائق الشعلان         (أكاديمي - جامعة دمشق) - سوريا/الجولان المحتل.
16 -    د. نزار عبد القادر صالح      (المدير التنفيذي لمعهد جنيف لحقوق الإنسان) - السودان.
17 -    د. عبد الحسين شعبان         (أكاديمي، مدير عام المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني) - العراق.



114
في معنى أن تكون "ماركسياً"
1/2

ماركس الحلقة الذهبية الأولى في التمركس


عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي



قد تبدو العودة إلى منهج ماركس وإلى "الماركسية" نوعاً من التعالي عن الانشغال بتعقيدات الواقع ومشكلاته وهمومه، خصوصاً في ظل العولمة وما تمثّله من هيمنة وشمولية على مجريات الحياة كافة؛ فالرأسمالية الإمبريالية لا تكتفي اليوم بنهب المستعمرات، مثلما كان الاستعمار القديم "الكولونيالي"، بل تلجأ إلى تفكيك البُنى والهياكل الاقتصادية والسياسية والثقافية القائمة وإعادة تركيبها بما ينسجم مع مقتضيات تراكم رأس المال في المراكز الإمبريالية الرأسمالية الكبرى، إلى درجة أنّ عملية التفكيك والإلحاق تكون تبعية وبنيوية بالضرورة، حيث تتمركز شروط إنتاج المراكز الرأسمالية.
لكنّ تلك "العودة" إلى ماركس، وبالتالي إلى "الماركسية"، تختلف حسب منطلقات وأهداف كل جهة، فهناك من يعود إليهما بوصف الأول "نبيّاً" و"الماركسية" "تعليمات سرمدية غير قابلة للخطأ" متماسكة مثل كتلة صخرية لا يمكن فصل بعضها عن بعض إلّا بتكسيرها، ويتعامل مع نتاجهما كنصوص أقرب إلى التقديس، سواء للاقتباس أم الاستنساخ أم التقليد أم محاكاةً لزمان مضى، وأحياناً للمحاججة على ظروف الحاضر، لا سيّما إذا تم تعليق كلّ شيء على "الماركسية" التي تُستعمل كشمّاعة أو استخدام اسم ماركس واجهةً لجماعات حزبية، في حين أنّ هناك من يعود إلى ماركس و"الماركسية" لا بصفتهما أيقونات أو وصايا مقدسة، بل بوصف "الماركسية" وضعية نقدية ومنهجاً ديالكتيكياً يفترض التطوّر والتغيير تبعاً للتطوّر في واقع العلوم والتكنولوجيا والمجتمعات وحاجات الناس ودرجة تقدّم الأمم والشعوب وقوانينها ومتطلباتها الحياتية والاجتماعية والكيانية1.
منهج لا تعليمات
بهذا المعنى سيكون استخدام ماركس و"الماركسية" نوعاً من قراءة منهجية جدلية، لا كتعليمات أو وصايا لم يعد قسمها الأكبر صالحاً للاستعمال في زمن مختلف عن زمن ماركس، حيث لم يكن ماركس سوى الحلقة الذهبية الأولى في التمركس الضروري لقراءة التاريخ ولوضع الأحكام والقوانين واستخلاص الدروس، خصوصاً بربط فلسفته بعملية التغيير والنضال من أجل مجتمع خالٍ من الاستغلال والظلم، عبر مملكة الحرية المتجاوزة لمملكة الضرورة التي تحدّث عنها.
بهذا المعنى أيضاً سيكون الحديث عن "الماركسية" باعتبارها حضوراً وليس غياباً أو مغادرة أو عودة أو انبعاثاً، حتى وإن تمّ إهمال الكثير من أحكام ماركس وتعليماته، بل ونقدها ماركسياً، لا سيّما باستخدام منهج ماركس ذاته، الذي لا يزال حيوياً وصالحاً.
تحنيط "الماركسية"
هذه القراءة ضرورية بعد أن تمّ تحنيط "الماركسية" إلى درجةٍ أفقدتها روحها وسلبت لبّها وجمّدتها على نحوٍ ضاعت فيه حيويتها، ومن جهة أخرى أصبح التنصّل منها ومغادرتها والتخلّي عن جوهرها، بعد خنق روحها وكتم أنفاسها، جزءًا من مزاعم التكيّف مع متطلبات العصر وسماته، ومن جهة ثالثة تتجلى دوافع الانتقال إلى الضفّة الأخرى دون حدود، أو حتى دون أي شعور بالتخلّي والفداحة أحياناً، في محاولات براغماتية وفي ظلّ بيئة ذرائعيّة مشجّعة، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية السابقة، ويتمّ ذلك أحياناً بمواصلة ارتداء قميص "الماركسية" أو حمل شارتها والتغني بنشيدها، مع استدارة كاملة في المنهج والأدوات، ناهيكم عن السياسات العملية، الأمر الذي يمكن تسميته أيَّ شيء إلاّ كونه "ماركسية".
المتجمّدون والمتفلّتون
لهذا سيكون استخدام منهج ماركس وجدليته ضرورة لكشف خطل المتجمّدين، الواقفين عند علوم القرن التاسع عشر واستنتاجات ماركس وتعاليمه التي كانت صالحة لزمانه، ومن جهة أخرى لتبيان هزال دعاوى المتفلّتين بالتخلي عن "الماركسية" ومنهجها، بحجّة سقوط النموذج السوفييتي البيروقراطي الأوامري التعسّفي، وتكييفها لما تريده القوى المتسيّدة في العالم، بزعم أنّ الصراع الأساسي اليوم هو مع الأصولية الدينية وخطرها، لا سيّما في منطقتنا، وإن كان صراعاً لا يمكن نكرانه أو تجاهله، لكنّ هذا شيء وتخفيض سقف النضال ضد الإمبريالية شيء آخر، علماً أنّ بين الماركسيين والعلمانيين بشكل عام وبين الإسلاميين والجماعات الدينية هناك مشتركات غير قليلة تتعلق بالتصدي للأخطار الخارجية وإنجاز مهام التحرّر الوطني والقومي والسير في طريق التنمية المستدامة والتخلّص من هيمنة الاحتكارات الرأسمالية.
المتحوّلون والتائبون
كما سيكون استخدام المنهج الديالكتيكي لإظهار حقيقة المتحوّلين والتائبين وفضح دعاويهم، حتى وإنْ لبسوا الكثير من البراقع، بتبرير انتصار الليبرالية المزعوم والهيمنة على العالم والرغبة في التساوق مع الوجه المتسيّد للعولمة بكلّ ما يعكسه من كآبة وسوء طالع والمزيد من الظلم والحرمان والاستغلال، بمبررات أنّ هذا التطوّر لا يمكن ردّه.
وحتى لو بدا التمسّك بماركس والماركسية، في إطار الوضعية النقدية، الأساس المنهجي الذي يمكن الاستناد إليه، فإنّ هناك من سيقول: إنه نوع من "البَطَر" الفكري والثقافي أو شكلٌ من أشكال "المثاقفة"، حتى وإنْ كانت القراءة النقدية إبداعية وتوليدية وليست استنساخاً أو تقليداً جامداً أو مبتذلاً.
مهما يكن الأمر؛ فالمنهج الماركسي، حسب قناعتي، ما زال يحتفظ بحيويته، بعد أن ظنّ بعضهم أن مكان "الماركسية" أصبح "متحف التاريخ" أو خزانات الكتب وأدراج المكتبات، فمن هذا الذي سيأخذه مثل ذلك الحنين لكي "يعود" إلى ماركس و"الماركسية" بعد أن تخلّى عنه وعنها "أصحابهما" وغلاّتهما، وفي بلدانها الأصلية حيث حكمت عقوداً من السنين، كما يقولون؟
ويعتبر بعضهم الآخر "العودة" إلى ماركس و"الماركسية" أو التشبّث بهما، بعد أن شهد العالم العزوف عنهما، مغامرة ما بعدها مغامرة، حيث ازدحم الحاضر بفكر النهايات، ولهذا فإنّ نهاية "الماركسية" ستكون النتيجة المنطقية لأصحاب هذا الاتجاه، ولربّما يستغربون متسائلين: وما الذي يدفع ببعض الماركسيين إلى التحدّث عن ماركسيتهم دون حرج أو محاولات إخفاء أو تبرير، بما فيه حين يمارسون النقد الذاتي لتاريخهم الشخصي وتاريخ الحركة "الماركسية" والشيوعية، بل وتاريخ الفكر الماركسي، ومن موقع الاعتزاز والتقدير، في حين أنّ هناك من يشعر بالاستنكاف ويحاول التنصّل أو التبرير أو الإمعان في المزيد من التوبة في المبالغة والانتقال إلى المعسكر الآخر بحجج نظرية أو بدونها، بالإعلان أو الصمت والمراوغة في التبرير.
البحث عن الحقيقة
بعيداً عن الانحياز العاطفي أو الفهم الجامد للانتماء الفكري، فإنّ رغبة أكيدة وصادقة هي ما يقف خلف هؤلاء المتشبّثين في البحث عن الحقيقة، من خلال إعادة قراءة "ماركسيتهم" وتمركسهم في ضوء وقائع الثورة العلمية-التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية "الديجيتل" وما أنجزته البشرية من علوم وتقدّم وعمران وجمال وحداثة من جهة، خصوصاً ونحن في صميم الطور الخامس من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، ومن جهة أخرى دراسة التجارب التي حكمت باسم "الماركسية" وأسباب انتكاسها وفشلها، الجامدة منها أو المنفلتة أو المتحوّلة، لكي يستخدموا المنهج أداةً لتحليل وتفسير الظواهر المجتمعية من أجل تغيير المجتمع وليس التشبث بالصيغ والقوالب التي عفا عليها الزمن.
لعلّ هناك من يستغرب حين ينظر إلى من يقوم بمهمة التفتيش في بطون الكتب، لا سيّما الكلاسيكية، ويقرأ الجديد ويقلّب الحال، مراجعةً ونقداً واستشرافاً، وفي ظنّهم أنه يفعل ذلك عبثاً، إذ يسعى لتقديم قراءات "جديدة" لأفكار مضى عليها أكثر من قرن ونصف من الزمان، أو أنها محاولة لنفخ الروح فيها، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وإذا كان مثل هذا الاختيار مغامرة، فلعّلها مغامرة فكرية مثيرة ونبيلة، هدفها جليل وصادق، بعد أن انفضّ عنها المتجمّدون وتخلّى عنها المتفلّتون وسخر منها المتحوّلون ونال منها التائبون، ولكن: ألسنا نغامر حين نبحث عن الحقيقة؟!
لعلّ هناك من سيقول: إذا كانت "الماركسيّة" "موضة" ستّينيات القرن الماضي، فهل سيتشبّث ماركسيو اليوم بموضة قديمة، كمن يذهب إلى الحج والناس عائدون؟ ثم ماذا يعني أن تكون ماركسياً اليوم؟ أمن باب المناكفة التي تقترب من إغواء عقيم ومجازفة محفوفة بالمخاطر والسير عكس التيار الذي قد يؤدي إلى المزيد من العزلة؟ فالعالم كله يتّجه نحو العولمة، والرأسمالية الإمبرياليّة تتخطّى الحدود والأوطان وتفكّك البنى والتراكيب وتعيد إلحاقها وتبعيتها، لا سيّما لشعوب وأمم وبلدان الدول النامية، على الرغم من أزماتها المتكررة، خصوصاً أزمة عام 2008-2009 المستمرة، إلاّ أنّ الرأسمالية الإمبريالية لا تزال تستطيع تجديد نفسها ومعالجة آثار أزماتها.
كلّ هذه الأسئلة والإشكاليات تواجه الباحث، بل تدفعه إلى المزيد من تسليط الضوء على معنى أن يكون المرء ماركسياً هذا اليوم، أي أن يبقى مخلصاً للمنهج الجدلي وروحه الحيّة، التي كان ماركس "بتمركسه" الحلقة الذهبية الأولى والأساسية فيه، دون أن يعني التمسك بما قال به من آراء أو استنتاجات أو تعليمات، حتى وإن كان بعضها صالحاً لزمانه لكنه لم يعد يصلح لزماننا.

الماركسية العاميّة
خلال العقود الماضية جوبهت بشدة أي محاولة جادة للنقد، سواء على الصعيد الفكري أم المراجعة النظرية أم في دراسة التجارب العملية، لأنّ بعضهم ظلّ مسجوناً في أوهامه أو أوهام غيره حسب جيل دولوز، إذ من الصعوبة أحياناً أن تواجه مجموعة من الناس لتقول لهم إنّ تصوّراتهم، بل وقناعاتهم، عن العالم والكون والمستقبل كانت خاطئة أو حتى غير سلميّة، فما بالك إذا كان بعضها قد بُني على الوهم؟ وأصبح الوهم يلد وهماً آخر، وهكذا، خصوصاً ما يمكن أن ندعوه سيادة "الماركسية العامّية" التي رُسمت ملامحها بألوان زاهية وطُعِّمت بأحلام وردية عن مجتمع مثالي أقرب إلى السراب، في حين شهدت التجارب العملية للأنظمة الاشتراكية الشمولية الاستبدادية ممارسات وانتهاكات سافرة لا يربطها أي رابط بـ"الماركسية" العلمية ذات النزعة الإنسانية الواقعية، وهو الأمر الذي يقف وراء انتكاستها وتراجعها وانهيارها.
تزييف الوعي
لعلّ هذه المواجهة ضرورية، ومطلوبة أيضاً، لكي لا تستمر عملية تزييف الوعي أو تغييبه أو مغادرته، بحيث يسهم في تسلّل الخدر والذبول إلى أوساط الحالمين في غدٍ عادل وسعيد وممكن؛ بما يتجاوز واقعهم الراهن، وكذلك لكي لا تستمر تغذية الأوهام خارج نطاق ماركس و"ماركسيته" ومنهجه الجدلي من جهة، وذلك بالحاجة إلى استلهام وتطوير "الماركسية" بما يتناسب وحجم التطور في إطار من العقلانية والجدل والتفكير والتأويل الحرّ ورفض الابتزاز واحتكار الحقيقة والنطق باسمها من جهة أخرى.
بهذا المعنى يكون الحديث عن العودة الجديدة لتأكيد عدم المغادرة أوّلاً، ثم الحضور ثانياً، لكن بعيداً عن القوالب والصيغ الجاهزة التي تخطّاها الزمن، وذلك من خلال إعمال الجدل والنقد اللذين يمثّلان جوهر "الماركسية"، واستخدام شروطها لإزالة ما علق بها من ترّهات وما أصابها من تحجّر وانكماش وقوقعة، أو محاولات التنصّل والتنكّر والتخلّي عن روحها وحيويتها بحجّة مواكبة التطوّر وتغيّر الظروف بانتصار الليبرالية.
كما أنّ البحث، في إطار الوضعية النقدية، في "الماركسية" من خلال المنهج الجدلي يشكّل إحراجاً لأولئك المتجمّدين ولهؤلاء المتفلّتين أو المتحوّلين أو التائبين، خصوصاً من أنصار الجناح الحزبي التقليدي. وإذا كان النقاش والجدل قد بدأ بخصوص مفهوم ما بعد الحداثة، فالسؤال هو: أين مكان "الماركسية" وماركس منهما، وفي أيّ إطار يمكن الحديث عن "حضارات" ما بعد الحداثة، خصوصاً بعد أن أخذت المركزية الأوروبية تقرّ بالتنوّع الثقافي للشعوب واحترام الثقافات المحلية التي تنكّرت لها في مرحلة الحداثة الأولى، لا سيّما إزاء العالم غير الأوروبي؟2

فكر النهايات
وإذا كان الحديث عن ماركس و"الماركسية" قد تراجع خلال العقدين ونيّف الماضيين، خصوصاً بعد انهيار النموذج الاشتراكي البيروقراطي السوفييتي وسيادة الشعور بالانتصار النيوليبرالي، حيث بدأ التبشير بفكر النهايات، مثل "نهاية التاريخ" و"نهاية الفلسفة" و"نهاية الماركسية" و"نهاية الآيديولوجيا" و"نهاية اليوتوبيا"، وأصبح ذلك بمثابة التقليعة الجديدة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة؛ لكنّ الأمر لا يخلو من التباس، ففكر النهايات والحتميات التاريخية أريد لهما إعلان فوز النيوليبرالية ونماذجها حتى وإن استعانت بهيغل أو ماركس في إطار مقاربات جديدة، وإنْ بالمقلوب، فالهدف هو التدليل على فوز نموذج للتطور العالمي على آخر بحيث يغدو هذا الأخير هو الوحيد السائد3.
ومثلما حاولت أوروبا تعميم نموذجها الكوني الرأسمالي، والتخلّص من البنى التقليدية المعيقة لتوسّع الرأسمالية في بلدانها، والبحث عن أسواق جديدة وموحّدة في كلّ بلد من هذه البلدان، عبر إنتاج موحّد لدولة قومية حديثة ذات هيكلية مؤسسية تستمد شرعيتها من الدساتير والقوانين الوضعية التي تعامل الإنسان كمعطى حقوقي وسوسيولوجي فردي وتتجاوز روابطه التقليدية؛ فإنها حاولت أيضاً تشكيل العالم وفق مقاسات رسمتها العولمة التي ظلّت هي محورها وروحها التي تغطّي العالم كله4.
لقد سارت أوروبا في طريق الحداثة التي تعني "العقلانية" و"العلمانية" و"المدنية" و"الديمقراطية"، أي رفض الغيبية والظلامية والشعوذة والتسلّط، واعتماد العقل أساساً لنظام معرفي يعتمد على الإنسان وحريته وخياراته، وليس لأيّ اعتبار خارجٍ عنه، وبعبارة أخرى، الاعتماد على الفرد والفردانية ومجتمع المصالح، فالدولة المدنية هي التي تضع مسافة بين الأديان والقوميات والمكوّنات الأخرى، على الرغم من أنّ هذه الدولة المركزية الأوروبية حاولت، في علاقتها بالبلدان النامية، تعميم هذا النموذج على المستوى العالمي، ليسود ويهيمن على العالم، ليس من خلال قوّة المثل والإقناع ومن خلال علاقات متكافئة ومتساوية، بل عن طريق إلحاقه بأوروبا "الرأسمالية العقلانية" ذات النزعة الحداثية، وتلك إحدى المفارقات الكبرى.

المصادر والهوامش
1- قارن: عبد الحسين شعبان - تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف، الدار العربية للعلوم العربية، بيروت، 2009. وكذلك: الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، بغداد، بيروت 2013.
2- ظلَّ مفهوم الحداثة فضفاضاً بما حمله من اتّساع وشمولية، لا سيّما في الفنون البصرية والموسيقى والأدب والدراما وصولاً إلى الشعر والرواية التي طبعت أعمال العديد من المبدعين أمثال وولف وجويس وإليوت وبروست وريكله وغيرهم. أمّا مفهوم ما بعد الحداثة فقد اتّسم بالضبابية وعدم التحديد، لا سيّما بعد انتهاء عهد السرديّات لجميع المذاهب والفلسفات الكبرى ذات النزعات الشمولية، حيث اتّجه العالم إلى الإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، على الرغم من الاتجاه نحو التفكيك واللاتحديد. ويعتبر المفكر آلان تورين أنّ فكر ما بعد الحداثة يشكّل قطيعة مع أفكار الحداثة، حيث المجتمعات الصناعية المتضخّمة التي لا تكفّ عن التسارع والاستهلاك الثقافي، وإذا كانت الحداثة قد استدعت سلطات مطلقة فإنّ هذه السلطات قد تفكّكت في عهد ما بعد الحداثة، بحيث شكلّت قطيعة أخرى مع النزعة التاريخية عن طريق إحلال التعدّدية الثقافية محلّ الوحدة.
انظر: شعبان، عبد الحسين - الحداثة وما بعدها، مجلة الحداثة، العدد الأول، القاهرة، حزيران (يونيو)، 2010.
قارن: عطيّة، أحمد عبد الحليم – (تحرير) ليتوار والوضع ما بعد الحداثي، (مؤلف جماعي)، سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2011.
ويعتبر جان فرانسوا ليتوار، الأستاذ الأكاديمي في جامعة باريس الثامنة، أحد أكبر رّواد حركة ما بعد الحداثة، وقد ولد في فرساي عام 1924، وعمل بين عامي 1950-1952 في الجزائر التي شكّلت، كما قال، ضميره السياسي، حيث لاحظ آثار الاستعمار والفقر والتمييز عن قرب، وبعد عودته درس الفلسفة وتخرج من جامعة السوربون عام 1971، وكان عمره 47 عاماً، وتعاطف مع حركة الطلبة والعمال التي قادت احتجاجات واسعة في العام 1968.
ويرى ليتوار أنّ حركة ما بعد الحداثة، من الناحية المعرفية، تمثّل خطاباً واقعياً ضدّ الشمولية والكلّانيّة العمومية التي ظلّت تسيطر على الفكر الغربي منذ ما قبل ماكس فيبر. وتمثّل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على نقد، بل ورفض، الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة، بما فيها مسلّماتها، وتعتبر أنّ الزمن قد تجاوزها.
انظر: ليتوار والوضع ما بعد الحداثي - تحرير د. أحمد عبد الحليم عطيه، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2011، ص11 (مقالة أحمد أبو زيد).
3- انظر: فوكوياما، فرانسيس - "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، ترجمة د. فؤاد شاهين ود.جميل قاسم ورضا الشابي، إشراف ومراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1998.
4 - قارن: خليل، فؤاد - "الماركسية" في البحث النقدي، دار الفارابي، بيروت، 2010، ص ص160-164.


115
"جرائم" المعلوماتية والمادة - 19
عبد الحسين شعبان
عاد "قانون جرائم المعلوماتية الإليكترونية" إلى دائرة الضوء والجدل، بعد أن تمّت قراءته الأولى في البرلمان العراقي (23 نوفمبر/تشرين الثاني/ 2020) ، وكان قد نوقش في العام 2007 بصيغته الأوّلية، ثم ظهر مجدّداً العام 2011، لكنه سرعان ما اختفى، وعاد إلى الظهور في العام 2018، بعد أن أصرّت  بعض الكتل السياسية على تكرار محاولاتها لإمراره بالرغم من إيقاف التصويت عليه لدورتين برلمانيّتين.
ويعدُّ مشروع القانون تراجعاً عمّا ورد في الدستور ولروح المادة 38 الخاصة بحرّية التعبير، حيث يمكن إستغلاله لتكميم الأفواه وحجب حق التعبير بمبررات عديدة، وهي حجج طالما تعكّزت عليها الأنظمة الإستبدادية في السابق أيضاً، الأمر الذي أثار ردود فعل حادة لطيفٍ واسع من ناشطين وقوى وجماعات مؤثّرة في الرأي العام العراقي، بما فيها نقابة المحامين ونقابة الصحفيين واتحاد الحقوقيين العراقيين واتحاد الأدباء والكتّاب والنقابات المهنية، ودعاهم للتنديد بالقانون، الذي تضمن أحكاماً غامضة وعقوبات غليظة.
جديرٌ بالذكر أن العديد من مواد القانون تجرّم دون معايير محدّدة لما يمكن أن يكون شكل الجريمة، حيث تصل العقوبة إلى السجن المؤبد، قصد "المساس بإستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها أو مصالحها الإقتصادية أو السياسية أو العسكرية أو الأمنية" (المادة 3)، وتضيف "أو الإشتراك أو التفاوض أو الترويج أو التعاقد أو التعامل مع جهة معادية بأي شكل من الأشكال لزعزعة الأمن والنظام العام أو تعريض البلاد للخطر".
ونصّت المادة (6) على عقوبةٍ مماثلةٍ قصد "إثارة النعرات المذهبية أو الطائفية أو تكدير الأمن والنظام والإساءة الى سمعة البلاد"، كما نصّت المادة (8) على ما يلي "يعاقب بالسجن مدة لا تقلّ عن 7 سنوات ولا تزيد عن 10 سنوات وبغرامة لا تقل عن 5 ملايين دينار ولا تزيد عن 10 ملايين دينار عراقي، كلّ من دخل عمداً موقعاً أو نظاماً أو أجهزة حاسوب أو ما في حكمها بقصد الحصول على معلومات تمسّ الأمن القومي أو الاقتصاد الوطني"، أي إنّ العقوبة هي مجرّد محاولة للحصول على معلومات، في حين أنّ الحصول على المعلومات هو أمرٌ يقرّه القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يتيح تداولها وإذاعتها بجميع الوسائل دون حدود جغرافيّة، ثمّ من يحدّد المساس بالأمن القومي أو الاقتصاد الوطني؟ وغير ذلك من العبارات التي تتيح تفسيرها وتأويلها حسب ما تريده السلطات.
يخالف القانون منطوق المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1948 والذي يمثّل الأساس في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى هديه سار العهد  الدولي الخاص  بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966، والذي وقّع عليه العراق في العام 1971، ودخل حيّز التنفيذ في العام 1976، حيث نصّت المادة 19 أيضاً، على ما يلي: لكل شخص حق التمتّع بحرّية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرّيته في اعتناق الآراء دون أيّ تدخل (مضايقة) واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة ودونما تقييد للحدود الجغرافية.
وفي العام 1987 تشكّلت منظمة دولية في بريطانيا تعنى بحرية التعبير استلهمت اسمها من المادة - 19 (Article 19) وقد خصصت المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كان لي شرف رئاستها ملتقاها الفكري الثاني (1993) وبالتعاون مع منظمة المادة 19 لموضوع "حرية التعبير وحق المشاركة السياسية" وصدرت وقائع الملتقى في كرّاسٍ العام (1996) وشارك فيه نخبةٌ متميزة من المثقفين والحقوقيين والعرب.
 وبالطبع فإنّ حرّية التعبير ليست مطلقة في أيّ بلد من بلدان العالم، وعادة ما يخضع هذا الحق لبعض القيود الموضوعية والذاتية أو الظرفية والمؤقتة، وهناك فرق بين حرية التعبير وحالات التشهير والقدح والذم والتحريض على العنف والإرهاب والترويج للإتجار بالبشر والمخدرات والسلاح ونشر ثقافة الكراهية والعنصرية والاستعلاء وازدراء الآخر في دينه أو قوميّته أو لونه أو جنسه أو معتقده أو أصله الاجتماعي أو لأي سبب كان.
ولعلّ ما يصاحب حرّية التعبير هي أنواع من الحقوق والحريات مثل الحق في الضمير والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية وحرّية الصحافة والتظاهر والاجتماع السلمي وغيرها، وحرية التعبير هي حق أساسي من حقوق الإنسان بعد الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف، وهذا الحق يعني التعبير بجميع الوسائل المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمرئية والتواصل الإجتماعي، مع ما يستتبعها من واجبات ومسؤوليات ينبغي مراعاتها كإحترام حقوق الآخرين وسمعتهم وخصوصيتهم وعدم المساس بها أو التعرّض إليها، فضلاً عن قواعد الصحّة العامّة والسِّلم المجتمعي والأهلي، إضافة إلى الأمن الوطني بما يعتبر من أسرار الدولة المنصوص عليها.
لقد فشلت الكتل والمجموعات السياسية التي أدارت البلاد وفق نظام المحاصصة الطائفي - الإثني منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، وتحاول اليوم من خلال هذا القانون حجب حق التعبير في نقدها والمطالبة بإزاحتها، خصوصاً لكشف الفساد والمفسدين والمساءلة للمسبِّبين.


116
قمة الرياض 20 G  والأمن الإنساني
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   يندرج موضوع الأمن الإنساني في جدول أعمال قمة مجموعة العشرين G20 Riyadh 2020 Summit  التي ستلتئم في الرياض في 21-22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، حيث يشغل حيزاً واسعاً من الهدف العام الذي تتمحور حوله قمة العشرين والذي يتحدد بـ "اغتنام فرصة القرن الحادي والعشرين للجميع"، ويتفرع عن هذا الهدف ثلاث محاور أساسية كلّها تدور في فلك الأمن الإنساني.
   المحور الأول - تمكين الإنسان، والمقصود بذلك تهيئة الظروف للجميع من العيش والعمل وتحقيق الازدهار.
   المحور الثاني- الحفاظ على كوكب الأرض، وذلك خدمة للإنسان من خلال تعزيز الجهود المشتركة لحماية الموارد العالمية.
   المحور الثالث-  آفاق التعاون، وذلك من أجل الإنسان وسعادته ومستقبله، من خلال تبني استراتيجيات مشتركة طويلة الأمد للاستفادة من منافع الابتكار والتقدّم التكنولوجي.
   ظرف استثنائي
   تكتسب قمة الرياض أهمية خاصة، لأنها الأولى التي تنعقد في المملكة العربية السعودية التي تسلّمت رئاستها في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2019، وصرّح حينها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قائلاً : إن المملكة ستلتزم بمواصلة العمل الذي انطلق من مدينة أوساكا (اليابانية) لتعزيز التوافق الدولي والتعاون مع شركاء المجموعة للتصدي لتحديات المستقبل، وبالطبع لما فيه خير الإنسان وأمنه، حيث تستضيف المملكة في اجتماع القمة الخامسة عشر قرابة 100 اجتماع ومؤتمر على مستوى وزراء ومسؤولين رسميين وممثلين عن مجموعات التواصل وهي مجموعة الأعمال B-20 ومجموعة الشباب  Y-20 ومجموعة العمال L- 20 ومجموعة الفكر T-20 ومجموعة المجتمع المدني C-20 ومجموعة المرأة  W- 20 ومجموعة العلوم S-20 ومجموعة المجتمع الحضري U-20 ، حيث تتوج هذه الاجتماعات بلقاء القادة، إضافة إلى رؤساء دول عربية وأجنبية ومنظمات إقليمية ودولية.
   جدير بالذكر أن المملكة التي تترأس قمة العشرين كانت قد شاركت بها لأول مرة العام 2008 في قمة واشنطن، في الوقت الذي كان العالم يعاني من أزمة اقتصادية ومالية حادة نتج عنها انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، في حين أنها تمتلك ثروة سيادية ضخمة ولديها ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم، ولعلّ سبب اختيارها يعود إلى مكانتها الاقتصادية المتميزة وأهميتها كقوة فعالة ونشطة في سوق الطاقة العالمي، إضافة إلى مكانتها الإقليمية ورمزيتها الدينية.
   وتتوافق الرؤية السعودية الجديدة 2030 مع توجهات مجموعة العشرين، بما فيها تحقيق الاستقرار الشامل والتنمية المستدامة وتمكين المرأة وتعزيز الرأسمال البشري وزيادة تدفق التجارة والاستثمار لضمان الأمن الإنساني، ولذلك فقد اكتسبت ثقة المجموعة من جهة، ومن جهة أخرى ثقة العديد من دول العالم.
   ويصادف انعقاد هذه الدورة الجديدة من القمة ظروفاً استثنائية بالغة في مقدمتها وباء كورونا (كوفيد -19) الذي اجتاح العالم منذ بداية العام 2020، الأمر الذي اقتضى من قادة المجموعة في ختام القمة الافتراضية الاستثنائية، ضخ أكثر من 5 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي، باعتباره جزءًا من السياسات المالية  والتدابير الاقتصادية ، حيث يصبح العمل والتضامن والتعاون الدولي ضرورة لا غنى عنها لمعالجة آثار تداعيات الوباء، خصوصاً وأن الإنسانية جمعاء مهدّدة، الأمر الذي يقتضي استخدام جميع الأدوات  السياسية المتاحة للحد من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية واستعادة النمو العالمي والحفاظ على استقرار السوق وتعزيز المرونة؛ وهو ما أكّد عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز  مشيراً إلى أن تأثير الجائحة ربّما يتوسع ليشمل الاقتصاديات والأسواق المالية والتجارة وسلاسل الإمدادات  العالمية، بما يعرقل عجلة التنمية والنمو ويؤثر سلباً على المكاسب التي تحققت في السابق، وبالتالي يؤثر على الأمن الإنساني.

   أزمة إنسانية ومعالجات إنسانية
   تتطلب الأزمة الإنسانية الاستثنائية معالجة إنسانية استثنائية هي الأخرى، والأمر يحتاج إلى استجابة عالمية وتضامن دولي فعال وتعاون وعمل مشترك لمواجهتها، وهذا الأمر الذي حددت الرياض ملامحه مع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات المتخصصة لاتخاذ الإجراءات المناسبة لاحتواء انتشار الفايروس كما أشار  خادم الحرمين الشريفين، لاسيّما في ظل تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، الأمر الذي يحتاج إلى حزم تحفيزية وتدابير احترازية وسياسات قطاعية وإجراءات عملية لحماية الوظائف وإمدادات طبية، لمدّ يد العون للدول النامية لتعزيز قدراتها وتحسين جاهزية البنية التحتية لديها، من أجل حماية أرواح الناس واستعادة الثقة بحياتهم ومستقبلهم، خصوصاً بالتعافي النشط للاقتصاد وامتصاص تبعات الاضطرابات التي حصلت خلال الفترة المنصرمة، وهو ما احتواه مشروع البيان الختامي، حيث تركزت العديد من اجتماعات القادة على التنسيق للتصدي لوباء كورونا، على الرغم من إجراءات الحجر الصحي غير المسبوقة التي فرضت على مليارات من البشر أو ما يزيد على ذلك، حيث بلغت نسبة الإصابات أكثر من 31 مليون إنسان وزادت الوفيات على مليون إنسان  .
   ويعتبر العام 2020 أسوأ فترة ركود عرفها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، لذلك احتوى جدول عمل قادة قمة العشرين على طائفة من القرارات التكاملية والتي لم تقتصر بالطبع على دول العشرين ، بل شارك فيها عدد من المنظمات الدولية، الأمر الذي يدلّ على خطورة الأوضاع، ولعلّ ذلك أهم التحديات التي تواجه القمة، هو التصدي لتداعيات وباء كورونا وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على جميع المستويات والتي مسّت بشكل مباشر الأمن الشخصي والجماعي للبشر ككل دولاً ومجتمعات وأفراداً، وهو ما يستوجب مناقشته باستفاضة ومسؤولية للتوصل إلى حلول واتخاذ مبادرات وتنسيق جهود دول المجموعة على الرغم من الانقسامات داخلها لضمان الإمداد الطبي والغذائي للجميع، بما فيها البحث العلمي لاكتشاف الدواء واللقاح المناسب.
ما هو الأمن الإنساني؟
   إذا كان ما يواجه قمة العشرين، بل والعالم أجمع، هو موضوع الأمن الإنساني، الخاص بتمكين الإنسان، لاسيّما في ظروف الجائحة، فما هو الأمن الإنساني؟ وكيف السبيل لتحقيقه على المستوى الفردي والجماعي وعلى مستوى الدول والبلدان، مثلما هو على المستوى الدولي؟
   إن المقصود بالأمن الإنساني هو أمن الإنسان الشخصي المتجسد في حقوقه وحرياته وعيشه  بسلام ودون خوف، ولن يتحقق ذلك دون تحقيق طائفة أساسية من القضايا التي تتعلق بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والتعليمي والديني والصحي والغذائي والمائي  والبيئي والنفسي، وكل ما يوفّر للإنسان حياة كريمة، تلك التي أقرّتها اللوائح والشرائع الدولية، لأن الإنسان هو محور وغاية كل نشاط وفاعلية مجتمعية. وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس  "الإنسان مقياس كل شيء".
   الأمن بمعناه الأول حسبما جاء في القرآن الكريم" الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"  (سورة قريش، الآية 4) حاجة لا غنى عنها للنفس البشرية وغيابه يترك تأثيرات سلبية ومرضية فيزيولوجية ونفسية على الإنسان، وخصوصاً حين تدوم فترة انعدامه ، ولذلك يعتبر الأمن الإنساني المعيار للرفاه والتقدم. وبالتالي لا يمكن قياس أمن الدولة أو أمن المجتمع، إلاّ بدرجة قياس أمن الفرد من زواياه المختلفة، ولا يمكن اختزال ذلك بجانب واحد، فالأمن بشكل عام يتجسّد بالجانب الإنساني المتعدد الوجوه والجوانب، لأنه مسألة مترابطة ومتداخلة ومتفاعلة شخصياً ومجتمعياً، مدنياً وحكومياً، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وصحياً وتربوياً وغذائياً وسكنياً وبيئياً وكل ما له علاقة بالحياة الحرة الكريمة.
   ولذلك يعتبر الأمن الإنساني المعيار للرفاه والتقدم الاجتماعي ودرجة تطور المجتمع، والأمن حتى بمعناه التقليدي حسب عالم النفس الكبير سيغموند فرويد يتقدّم أحياناً على الكرامة، إذْ لا يمكن تأمين شروط الكرامة الإنسانية من دون تحقيق الأمن بجوانبه المختلفة، ولهذا يمكن القول، إن لا كرامة من دون أمن، ولا أمن حقيقي بهدر الكرامة الإنسانية وخرق الحقوق، وهي معادلة صعبة أحياناً، ويتوقّف على درجة التوازن فيها تأمين مستلزمات حكم القانون وتحقيق التنمية بمعناها الإنساني الشامل ؛ ولذلك وضعت قمة الرياض هدف تمكين الإنسان وتوفير مستلزمات حياته وسعادته في أولوية جدول عملها.
   الأمم المتحدة والأمن الإنساني
   إن أول من استخدم مفهوم "الأمن الإنساني" في أدبيات الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي في عام 1994 هو محبوب الحق وزير المالية الباكستاني الأسبق وبدعم من الاقتصادي الهندي المعروف "أمارتيا صن" (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998)، ومنذ ذلك التاريخ كثر استخدامه وتعزّز مضمونه، لا سيّما الاعتراف بأولوية أمن الأفراد، فالفرد إنما هو عضو في جماعة، أي أن الفرد تنازل عن بعض حقوقه لصالح الدولة التي يكون من واجبها تحقيق أمنه الاقتصادي والغذائي والصحي والسكني والبيئي والشخصي والمجتمعي، إضافة إلى الأمن السياسي والفكري وغير ذلك .
   ولا يقتصر مفهوم الأمن الإنساني على الأمن الوطني الخاص بكل دولة أو كيان سياسي، بل يمتدّ ليصل إلى المجتمع الدولي،  وهو لا يعرف الحدود الجغرافية، فإذا اختلف في موضع من العالم فقد يختل في غيره، لأن دائرة العنف والإرهاب يمكن أن تأخذ بالاتساع، وذلك بفعل العولمة التي أصبحت تشمل كل شيء، ودليلنا على ذلك امتدادات أعمال الإرهاب التي قامت بها تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما خلال العقدين الماضيين، مما سبب تهديداً خطيراً ومباشراً للسلم والأمن الدوليين،الذي تعتبر حمايتهما مقصداً أساسياً من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة التي أعلن عن تأسيسها في 24 أكتوبر/تشرين الأول  عام 1945.
   وكم كان فادحاً إهمال الأمن الإنساني في أنظمة جاءت بقصد تحقيق العدالة الاجتماعية، لكنها غرقت في الأمن بمعناه التقليدي، مخلّفة معاناة مؤسفة، خصوصاً عندما أهملت أمن الإنسان وانشغلت بأمن النظام . وعلى الجانب الآخر فقد انشغلت بعض البلدان بأمنها الخارجي على حساب أمنها الإنساني، ولو خصّصت الميزانيات الضخمة له على المستوى العالمي لحققت نتائج فائقة للبشرية، وهو ما دعا قمة كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية في مارس/آذار 1995 للتأكيد أن البشر هم غاية وهدف أي نظام، وأي تغيير .
   ولتأمين الأمن الإنساني فالحاجة تتعاظم إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للبشر بصفتهم بشراً من دون تمييز أو إقصاء أو تهميش، وعلى أساس المساواة بينهم، وقد انكشفت في العديد من البلدان  هشاشة مفهوم الأمن التقليدي، فانهارت بعض الأنظمة بسرعة خارقة، في حين ظلّت أنظمة أخرى متماسكة وقوية بالمواطنة وبتحقيق الأمن الإنساني وتلبية الحاجات الأساسية للناس في خياراتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
   إن إعادة قراءة علاقة الفرد بالدولة من خلال حكم القانون باعتباره المرجعية التي يخضع لها الجميع وحسب مونتسكيو " فالقانون مثل الموت لا يستثني أحداً"، وهو الفيصل في ضبط سلوكهما وفقاً للقواعد الناظمة التي تطبّق على الجميع، يرتّب مسؤولية حفظ أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام على الدولة، بحيث يصبح الأمن الإنساني جوهر الأمن الوطني، كما أنه جوهر الأمن الإقليمي على صعيد التعاون بين بلدان المنطقة، وهذه تتطلب تأمين الحماية من جميع المخاطر الداخلية والخارجية، إضافة إلى تلبية الاحتياجات المتعدّدة واحترام الحقوق والحرّيات، ويتطلب ذلك تحقيق التنمية البشرية المستدامة التي تعني توسيع خيارات الناس فيما يتعلق بطريقة عيشهم وحرّيتهم وفي مقدرتهم على العيش بسلام ومن دون خوف بما يؤمن لهم فرصاً اجتماعية متكافئة ،  وبهذا المعنى فالأمن الإنساني لا يتعلّق بأمن البلد فحسب، بل يرتبط بصورة عضوية بأمن الناس.
   خلاصة القول إن مفهوم الأمن الإنساني يمثل بُعداً يتجاوز المكان واللغة والقومية والشعب والدولة والمنطقة الجغرافية والهوّية والثقافة والنظام القانوني، ليمتد إلى جميع مناحي حياة البشر، وهناك علاقة وثيقة إذاً بين الأمن الإنساني وحكم القانون، وبينه  والمواطنة السليمة والمتكافئة وبينه وبين الحكم الرشيد أو "الحوكمة"، من خلال المشاركة والشفافية، وبينه وبين الثقافة، خصوصاً بالدعوة إلى التسامح ونبذ العنف وقبول الآخر، وبينه وبين العدالة، ولا سيّما الاجتماعية والمساواة وحقوق المرأة، وبين الحقوق الفردية والجماعية وبين الحقوق الوطنية والحقوق الدولية ، وهذا يمثل جوهر قمة الرياض.
   الأمن الإنساني مفهوم عالمي بقدر ما هو مفهوم محلي أو داخلي أو وطني أو قومي أو إقليمي، وإذا كان هذا يختص بحدود الدولة أو الكيان المقصود به الإقليم، فإن الثاني يقصد منه أمن الإنسان في كل بلد وفي كل مكان، ولعل هذه الإضاءة للمفهوم القصد منها هو إبراز الهدف الأساسي الذي انعقدت قمة الرياض من أجله والذي تم التعبير عنه على نحو واضح من خلال اغتنام الفرصة للجميع.



117





في فلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام

عبد الحسين شعبان*
باحث ومفكر عربي




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* – أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

   "إنني أترك بعد موتي أمّاً وزوجة وطفلة... واحدة منهن بغير ابن، والثانية       
بلا زوج، والثالثة دون أب... ثلاث يتيمات، ثلاث أرامل باسم القانون،
إني أرضى أن أعاقب عقاباً عادلاً، لكن هؤلاء البريئات ماذا جنين؟..."
فيكتور هوغو
من مرافعته في مناهضة عقوبة الإعدام
   توطئة
   أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والاعتبارات الدينية والعقائدية، كما أعرف أن دعاة المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام قليلون في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ولكن هذه القلّة كبيرة جداً في قيمها، لاسيّما تمييزها بين العدالة والانتقام، فهل القبول بالقتل يكون "عقوبة عادلة"؟ الأمر الذي يتناقض مع مبدأ " حق الحياة" المحور الأساسي لمنظومة حقوق الإنسان الكونية،  وهل قتل القاتل يحقق العدالة؟ وهل "جريمة" القتل القانوني  مقابل جريمة القتل اللّا قانوني  يوصل إلى العدالة، وحسب وليد وصليبي المفكر اللّاعنفي ومؤسس جامعة اللّاعنف "جريمتان لا تصنعان عدالة"، وعلى غرار ذلك سبق لي أن قلت "رذيلتان لا تنجبان فضيلة"، و"حربان لا تولدان سلاماً" و" عنفان لا يحققان أمناً" و"انتهاكان لا يوفّران كرامة"، وعلينا البحث عن أسباب الجرائم والمسؤولين عن وقوعها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وقانونياً، ومن خلال الثقافة السائدة بأبعادها الفكرية والدينية والطائفية، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة.
   إن إنزال عقوبة الإعدام لن يعيد الحياة للمقتول ولا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية ، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.
   وإذا كان حكم الإعدام خطيراً وليس من السهولة النطق به بشكل عام، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فمن سيتمكّن من تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه، خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً معرّض للخطأ؟ وهكذا يمكن للأبرياء أن يكونوا ضحية هذه الأخطاء.
   ولهذا السبب فإن قرار إنهاء حياة إنسان سيكون قراراً بمنتهى الخطورة، حتى وإن تذرّع البعض به لأسباب دينية أو عقائدية، الأمر الذي يحتاج إلى حوار مجتمعي قانوني وحقوقي وثقافي وفكري وتربوي، حول مدى الفائدة من استمرار حكم الإعدام، وجدوى اللجوء إليه.
   وإذا كان "الله" قد منح حق الحياة، فكيف لإنسان أن يسلبها؟ وحسب بعض المعطيات فإن إلغاء العقوبة أدى إلى تخفيف الجرائم، مثلما حصل في فرنسا وكندا وإيطاليا، فما الفرق بين أن تقتل باسم القانون وباسم المجتمع أو بين أن يقتل القاتل تحت تأثير عوامل مختلفة، ولعلّ هذا واحد من أسباب انحيازنا لإلغاء عقوبة الإعدام باعتبارها مطلباً حقوقياً واجتماعياً ببعد إنساني .
   في تعريف الإعدام
   "الإعدام" كتعريف قانوني هو إنهاء حياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولكن ألا يتضمن مثل هذا الحكم القضائي جانباً من الانتقام وليس العدالة؟ في حين يفترض فيه أن يكون حكماً للعدل وليس للثأر. وسوف تكون عملية القتل لا منعاً للجريمة ولا ردعاً بقدر ما ستؤدي إلى القتل. وقد كانت الأنظمة القضائية في العهود السابقة والعصور القديمة تبالغ في أحكام الإعدام إلّا أنها بدأت تخفّف منها حتى لجأت الدول مؤخّرا إلى إلغائها لافتقادها للجانب الإنساني. ولا يختلف الأمر لدولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية  ودولة عالمثالثية مثل الباكستان، فكلاهما يطبّقان عقوبة الإعدام (الأولى في 35 ولاية) والثانية وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
   وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام ، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free  بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على "رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي".
   الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم ، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، ومن الدول العربية التي تندرج ضمن القائمة الأخيرة هو لبنان، حيث اعتمد نظام الموراتوريوم (الأمر بتأجيل الوفاء- تأجيل أو  تعليق أي نشاط أو  قانون)، حيث أوقف عملياً تنفيذ العقوبة ، على الرغم من بقائها في 20 مادة من قانون العقوبات و19 مادة من قانون العقوبات العسكري و9 مواد من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما ذهب إلى ذلك نقيب المحامين السابق جورج جريج في الندوة التي نظمتها " الهيئة الوطنية للحقوق المدنية" في " بيت المحامي" (بيروت) من أجل دعم إلغاء عقوبة الإعدام في لبنان، في 27 يناير (كانون الثاني) 2014.
   وكان قد ورد في تقرير دولي أن نحو 174 دولة لم تقدم على عقوبة الإعدام في العام 2012، لكن ما هو مثير للقلق أن دولاً كبرى مثل الصين والولايات المتحدة والهند وإندونيسيا ما زالت تطبق عقوبة الإعدام، كما أن العديد من البلدان العربية ما تزال تنفذ عقوبة الإعدام على نحو واسع.
   فهل الموت: أي الإعدام الذي يساوي القتل سيكون عاملاً رادعاً للجريمة بالقصاص من الجاني وردعاً للغير؟ وهل هو العلاج الفعّال أم ثمة علاجات أكثر نجاعة وإنسانية؟ وكان وليد صليبي قد قدّم منذ 24/1/2004 مشروع قانون إلى مجلس النواب لإلغاء عقوبة الإعدام، استند فيه إلى "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان" و"الدستور اللبناني"، إضافة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2857 لعام 1977 ورد فيه الهدف من هذا القرار هو " إلغاء عقوبة الإعدام إلغاء كاملاً في جميع البلدان...".
   وبالطبع فإن مقاصد هذا الهدف هي منع الجريمة والحيلولة دون استمرارها وليس إلغاء المجرم ، وأسباب الجريمة تتمثّل في الفقر والجهل والأمية، فضلاً عن جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية والحرمان والغبن وغيرها مثل: الحروب والنزاعات وأيديولوجيات الكراهية، وخصوصاً الطائفية والدينية والعنصرية.
   وبهذا المعنى لا تقع على الفرد المرتكب وحده مسؤولية الجريمة،لأن فيها جوانب مجتمعية بحكم الثقافة والتربية السائدتين ، الأمر الذي يعتبر عاملاً مخففاً  لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار في تقرير الحكم بحق المرتكب وهو موجود في كل الجرائم، وقد يذهب ذلك إلى تحديد مسؤولية المجتمع في تعويض أهالي الضحايا وإعادة تأهيل المرتكب وبالتالي وضع الخطط اللازمة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية التي تؤدي إلى تفقيس بيض الجرائم بحكم انتشار فايروسات الفقر والأمية والجهل ، ناهيك عن الأسباب الأخرى كالحروب والنزاعات والإرهاب.
   ومما ورد في اقتراح صليبي " أنه لا يجوز أن نشرّع الثأر في القانون، بل نعمل على إزالته من النفوس ومن تقاليد المجتمع" أي أن الدولة لا تثأر، بل تعمل على الحدّ من الثأر، الأمر الذي اقتضى استبدال العقوبة إلى عقوبة أدنى مثل حكم المؤبد.
   سجلٌ عربي مثير   
   لكي نرى خطورة حكم الإعدام فعلينا متابعة سجل البلدان العربية، ففي عام 2016 أصدرت المحاكم في البلدان العربية 700 حكم إعدام. وتعتبر جيبوتي الدولة الوحيدة التي ألغت عقوبة الإعدام منذ العام 1995، ولم تنفّذ هذه الدولة منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1977، ولا مرّة واحدة عقوبة الإعدام ، وهو ما ذكره رئيس جيبوتي  اسماعيل عمر جيلي في حواره مع كاتب السطور العام 2004،  في حين أن هناك دولاً جمّدت التنفيذ وبعضها عاد إليه.
   وذهبت دول المغرب العربي باستثناء ليبيا ( المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ) إلى التجميد الفعلي لعقوبة الإعدام، على الرغم من استمرار صدور أحكام بالإعدام، وكان لنشاطات المجتمع المدني وهيئات ومنظمات حقوق الإنسان الدور الكبير في ذلك.
   وعلى الرغم من وجود أحكام قضائية في المحاكم المغربية فإن وزير العدل السابق محمد أوجار كان قد تعهّد بتقليص عدد الجنايات التي تصل عقوبتها إلى الإعدام من 31 جريمة إلى 11 في إطار المسطرة الجنائية المنشودة. وأوقفت المغرب العقوبة منذ العام (1993).
    أما تونس فقد سبقت المغرب  بعامين (1991)، وفي الجزائر كان آخر تنفيذ حكم الإعدام هو العام (1993) (إعدام أربعة من الجبهة الإسلامية للانقاذ لاتهامهم بتفجير مطار العاصمة الجزائر في العام 1992) وكان آخر تنفيذ لحكم الإعدام في موريتانيا هو العام (1987)، لكنه لم يلغ من القوانين النافذة.
   وتعتبر ليبيا من الدول المغاربية والعربية الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام ، سواء في عهد الزعيم الليبي معمر القذافي، أو بعد انفلات العنف والنزاع الأهلي منذ العام 2011 ولحد الآن.
   وكانت الأردن قد جمّدت عقوبة الإعدام لنحو عقد من الزمان 2006-2014 لكنها أعادت العقوبة في أواخر ديسمبر /كانون الأول 2014 بحق مدانين في جرائم قتل (عددهم 11)، وفي فبراير (شباط) 2015 نفذت حكم الإعدام بحق ساجدة الريشاوي  وزياد الكربولي  وهما من تنظيم القاعدة  (المتهمان بتفجير فنادق في عمان )، وذلك بعد إعدام داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة. وفي العام 2016 نفذ الأردن 16 حكماً بالإعدام حسب منظمة العفو الدولية. جدير بالذكر أن الملك حسين بن طلال الذي حكم الأردن من العام 1952 ولغاية 1999 لم ينفذ حكم إعدام واحد، وكانت البحرين قد جمّدت عقوبة الإعدام  لنحو عقد كامل، لكنها عادت لتنفيذها العام 2006 .
   ويعتبر العراق  من أكثر البلدان العربية تنفيذاً لحكم الإعدام، ففي العام 1941 تم تنفيذ حكم الإعدام بالعقداء الأربعة الذين قاموا بانقلاب عسكري، وفي العام 1949 تم تنفيذ حكم الإعدام بخمسة من كبار الشيوعيين بينهم " فهد - يوسف سلمان يوسف" الأمين العام للحزب ، وبعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 بدأ مسلسل الإعدام بحق أعمدة العهد الملكي، ثم حلفاء الأمس من القوميين والبعثيين، وتضخّم ملف الإعدام بعد انقلاب 8 فبراير (شباط) 1963 واستمرّ دون توقّف إلّا في فترة محدودة، ولكن أكثر الفترات اتساعاً وعسفاً كانت بعد انقلاب 17-30 يوليو(تموز) 1968، حيث حكمت "محكمة الثورة" وحدها نحو 1700 حكماً بالإعدام نفّذ الكثير منها، ناهيك عن الأحكام خارج القضاء، وقد تم إلغاء المحكمة في مطلع التسعينات.
   وفي فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ومع انتشار العنف والإرهاب في العراق، عادت ماكنة الإعدام إلى العمل بوتيرة سريعة، سواءً  بمحاكمة أركان النظام السابق، أم بعد الفوضى والانفلات الأمني وتصدّر الميليشيات، وزاد الأمر في فترة احتلال داعش للموصل وما بعدها (10 يونيو/حزيران 2014 إلى نهاية 2017)  وهكذا ازداد صدور وتنفيذ أحكام الإعدام، فضلاً عن أن بعض  أحكام الإعدام تم تنفيذها خارج القضاء في ظروف المواجهات والاحتقان الطائفي.
   أما في سوريا فقد كان لظروف الحرب الأهلية التي تستمر منذ العام 2011 دوراً  في توسيع عقوبات الإعدام، سواء باسم القانون أو خارج القضاء، وهناك تقارير عديدة توثق بعض الحالات حسب منظمة العفو الدولية، ناهيك عمّا قامت به الجماعات الإرهابية مثل داعش و"جبهة النصرة" ( جبهة تحرير الشام) وغيرها.
   وشهدت مصر منذ الإطاحة بحكم الأخوان والرئيس محمد مرسي في العام 2013  أكبر نسبة قرارات بتنفيذ حكم الإعدام قياساً بالفترات التي سبقتها. وتعتبر المملكة العربية السعودية  في مقدمة بلدان المنطقة في تنفيذ أحكام الإعدام ، ويتم تنفيذ عقوبة الإعدام كذلك  في دول الخليج الأخرى وإن بدرجة محدودة، إضافة إلى اليمن، وخصوصاً بعد الحرب الأهلية منذ العام 2015.
   وكانت أنظمة مثل السودان  وباكستان وإيران لا تتورع من إنزال القصاص  بخصومها أو أعدائها، باسم الشريعة  الإسلامية وتحت عناوين مختلفة، حيث استمرت عقوبة الإعدام، وفي بعض الأحيان لا تراعى في تطبيق هذه العقوبة القاسية إزاء الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً وتتم معاملتهم كبالغين، وفي ذلك مخالفة لقواعد القانون الدولي الاتفاقي (التعاهدي) والعرفي، بل إن ذلك من القواعد الآمرة Jus Cogens  في أوقات السلم والحرب على حد سواء، وهو ما تحظره اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 ، إضافة إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1976 والدول الأطراف فيه تزيد عن 160 دولة.
   أما "إسرائيل" فقد قنّنت  عقوبة الإعدام بموجب تشريعات صادرة في العام 1954 باستثناء الجرائم الخطيرة التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية، وكان آخر إعدام رسمي هو لأدولف إيخمان في العام 1962، الذي كان مسؤولاً في جهاز الـ SS المتهم بارتكاب مجازر ضد اليهود فيما سمّي بـ"المحرقة" ، وقد تم اختطافه من الأرجنتين  في 11 مايو (أيار) العام 1960من جانب "جهاز الموساد الإسرائيلي" في عملية استخبارية طويلة استمرت لنحو 15 عاماً، حتى تم اكتشافه بعد هربه من ألمانيا في نهاية الحرب. وأثارت عملية الاختطاف جدلاً قانونياً وسياسياً لمخالفتها لقواعد القانون الدولي ، إذ لا بدّ للوصول إلى العدالة سلوك طريق شرعي وقانوني وعادل أيضاً، فثمة علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية.
   وقد صادق البرلمان "الإسرائيلي" (الكنيسيت ) في مطلع العام 2018 على مشروع قانون يجيز تنفيذ عقوبة الإعدام بحق ما سمّي بـ" الإرهابيين" وصوت عليه 52 نائباً، مقابل 49 عارضوه من أصل 120 نائباً. وكان حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعمه وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان اليميني المتطرّف هو من تقدّم بمشروع القانون، وأحيل إلى لجنة حكومية لدراسته قبل أن يعاد للتصويت عليه بعد 3 قراءات ليصبح جزءًا من " القوانين الأساسية".
   جدير بالذكر إن "إسرائيل" هي بلا دستور حتى الآن، لأن ذلك يتطلّب منها إقرار مبادئ المساواة وهي غائبة، لاسيّما وهي تمارس التمييز عن تخطيط وإصرار بحق عرب فلسطين، كما يفترض بها تحديد الحدود، وهي ما تزال تتوسع على حساب البلدان العربية في إطار مشروعها الاستيطاني الإجلائي الإحلالي "من النيل إلى الفرات" ، وقد حظي مشروع قانون تنفيذ عقوبة الإعدام بدعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
   وبغض النظر عن النصوص القانونية فإن "إسرائيل" تمارس أشكالاً مختلفة ومتنوّعة من الاغتيال والقتل العمد إزاء السكان الفلسطينيين الأبرياء العزل بسبب انتقامي وثأري، انطلاقاً من آيديولوجية وممارسة عنصرية، وأحياناً تقوم بذلك بزعم " الحرب الوقائية" أو "الاستباقية"، سواء ضد شخصيات تعتبرها "خطرة"، أم بهدف إحداث الرعب في الوسط الفلسطيني والعربي، إذ غالباً ما يمتد إجرامها إلى دول عربية أخرى في لبنان وسوريا والعراق والأردن وتونس ، إضافة إلى فلسطين ، بل وإن ساحة حركتها الإرهابية هو العالم كلّه.
   اختلاف ومحاولة للفهم
   لا زال الصراع قائماً بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار محافظ يتشبث باسم الدين وتيار حقوقي في الغالب، وإن كان داخل التيار المدني من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً ، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها التحررية أو الاشتراكية طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.
   وما تزال العقبات السياسية الثقافية والاجتماعية والدينية تحول دون إلغاء عقوبة الإعدام، الأمر الذي يحتاج إلى جهد مدني لنشر ثقافة اللّاعنف والذي بالنتيجة يؤدي إلى مناهضة الإعدام ، ولا بدّ من البدء من المدارس والجامعات وبالتعاون مع قطاعات المجتمع المدني والإعلام لتوسيع خيارات الناس وتلبية حاجاتهم، خصوصاً بالسير في طريق التنمية المستدامة بجميع جوانبها. والأمر يحتاج إلى مراجعة دقيقة للأنظمة والقوانين النافذة لوضعها بانسجام مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها البلدان العربية أو تشريع قوانين جديدة تتلاءم مع التطور الدولي في هذا المجال، خصوصاً وإن دساتير بعضها أعطى للمعاهدات والاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الدولي السمة العلوية.
   وعلينا في الختام الاعتراف أن ثمة التباس غالباً ما يحصل فيثير تعارضاً شديداً وسوء فهم واتهام أحياناً حول المراد  من مغزى وفلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ، وكأنه دفاع عن القاتل،  لكن مثل هذا الفهم سطحي ، فالذين يرتكبون جرماً ينبغي إنزال العقاب بهم لأنهم يستحقونه، وهذا أمر مفروغ منه، لكن لا بدّ من أن يكون هذا العقاب إنسانياً، ولا ينبغي للدولة أن تشارك في عملية القتل، بقدر ما تبحث في الأسباب والوسائل التي دفعت بالمجرم لارتكاب جريمته، أي لا ينبغي معالجة الجريمة بجريمة أخرى، والقتل حتى وإن كان قانونياً لا يلغي الجريمة، بل يلغي القاتل فقط، والمطلوب إلغاء الجريمة.
   الإعدام عنف، وهو وسيلة عنفية للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ، فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.
   ولعل مثل هذه المسألة جديرة بأن تجعلنا نعيد التفكير بإنسانيتنا ولأجلها، إذْ لا يمكن للموت أن يكون قصاصاً للموت: أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة ، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية ، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.
   قد تطول مسألة اتخاذ قرار بإلغاء عقوبة الإعدام، لكن الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، انطلاقاً من القيم الإنسانية، والضمير بهذا المعنى هو "القانون الأسمى" حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون الضمير يقظاً، وهذا يمكن أن يولد قناعة فردية وأخرى مجتمعية ، حتى لعوائل الضحايا الذين يمكن أن ينخرطوا ضد عقوبة الإعدام، علماً بأن الإيمان بالدين ينبغي أن يكون أخلاقياً ولعمل الخير لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو لمباركة القتل .
   وأختم بنصوص من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948:
المادة 3- " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه"
المادة 5- "  لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة."
   وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ورد ذكره في معظم الدساتير العربية، فينبغي والحالة هذه أن يكون ملزماً لها. وكان البروتوكول الاختياري الثاني الذي صدر في العام 1989 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1991، قد نصّ على إلغاء عقوبة الإعدام، علماً بأن هذا البروتوكول هو ملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966 والداخل حيّز التنفيذ في العام 1976، ذلك لأن عقوبة الإعدام لا تعيد الضحية.
    أما عن جوهر الدين فحسب الإسلام هو العفو والتسامح وما  "الدين سوى الحب" وفقاً للإمام جعفر الصادق، وفي المسيحية: المحبة وعدم القتل. وكما يقول ابن عربي:      " أدين بدين الحب أنّى توجهت / ركائبه فالحب ديني وإيماني".
   ولذلك، فإن مبدأ "العين بالعين" يجعل البشرية بأسرها "عمياء" حسب غاندي ، وكما جاء في كلام كونفوشيوس " نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر" .
*****     
نشرت في مجلة تسامح التي يصدرها مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان ، العدد 68، فبراير (شباط) 2020. والأصل فيها محاضرة ألقيت في الناضور (المغرب) بدعوة من مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم ، بتاريخ 11-16/11/2019.


118
بيروت والذاكرة الملعونة
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي


  المكان زمان سائل والزمان مكان متجمد
ابن عربي
-I-
حين سمعتُ خبر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفيروز الكبيرة قبل لقائه المسؤولين، استعدت ما كتبه قبل عقد ونيّف من الزمان عن  "شارل مالك الكبير ولبنان الصغير"، ففي زمن الفواجع الكبرى يلجأ الإنسان عادة إلى الرموز الفكرية والثقافية  الجامعة للتخفيف من هول الصدمة وحجم المأساة، وهو ما حاول الرئيس الفرنسي استخدامه بذكاء شديد خلال زيارته الثانية بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020.
وبغض النظر عن طبيعة الزيارة السياسية وأهدافها، لكن ذهاب حفيد غورو إلى زيارة فيروز بتوجهه من المطار إلى منزلها مباشرة له أكثر من دلالة ، ففيروز تمثل بهالتها وكبريائها  وشموخها وإبداعها وصوتها كل لبنان بتنوّعه وتعدديته وموزائيكه وألوانه وفسيفسائه، وهو ما نقصد به من تعظيم للجوامع واحترام للفوارق .
لقد عرف ماكرون كيف يحرّك مشاعر اللبنانيين، بل العرب أجمع الذين ظلّت عيونهم تتطلّع نحو بيروت الثقافة والصحافة والأدب والكتب والحرية والجمال ومقاهي المثقفين والمنفيين والمتمردين وجامعاتها وكنائسها وجوامعها، حيث التعايش والاجتماع الإنساني الحاضن للمواطنة والاختلاف، فضلاً عن جوار الأضداد أحياناً بين الديني والعلماني والمسلم والمسيحي بطوائفهم المختلفة في هارموني عجيب.
مرّتان خلال العقود الأربعة الماضية شعرت أن يداً غادرة تحاول العبث بذاكرتي البيروتية، تلك التي تكوّنت منذ ستينيات القرن الماضي.
الأولى- يوم وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 4 حزيران (يونيو) العام 1982، حين توغلت الدبابات الإسرائيلية لتحتل العاصمة بيروت ، ويومها كانت المدينة غارقة في حرب أهلية استمرت لنحو 15 عاماً (1975-1989). شعرت وقتها أن جزءًا مني كان قد تحطّم بالحرب وانتزع جزءٌ آخر بالعدوان.
والثانية- يوم وقع انفجار مرفأ بيروت، الذي هزّ المدينة بالصميم  فتخلخل ما تبقى منها، فبيروت موشحة بالحزن والهموم وترزح تحت أزمات لا حصر لها: الكهرباء والماء والبنزين والمازوت والنفايات والمصارف وأموال المودعين وانهيار سعر الليرة اللبنانية ووصول نحو 55% من المجتمع اللبناني إلى دون خط الفقر، وزاد الطين بلّة اجتياح وباء كورونا (كوفيد 19) ونقص الاستعدادات والتجهيزات والإمدادات الطبية.
حين تفكر ببيروت فمن الصعب عليك أن تفرّق بين البشر والشجر والحجر ، لأنها مشغولة بطريقة عجيبة فهي مدينة متداخلة ومتفاعلة ومتراكبة وخيوطها مترابطة ونسيجها يصعب فك أسراره، مثل جغرافيتها وتضاريسها وهويّاتها وظلالها وجنونها، إنها اليوم في لحظة مفارقة فإمّا اللون والرائحة والإيقاع والصوت وفيروز وإما الانكفاء والعزلة والقنوط والتآكل.
لكن الركود والخمول والخنوع ليسوا من صفات بيروت التي نعرفها والتي ما إن تكبو حتى تنهض تحت الرماد مثل طائر الفينيق  لتحيل الحزن إلى فرح والكدر إلى بهجة والكآبة إلى أمل والظلمة إلى نور، فهي أم الشرائع التي علّمت البشرية أبجديات الحرف وفيها روح التاريخ وحدائق اللغة وعنفوان التمرد.
حين كرّمتني الحركة الثقافية في انطلياس في العام 2017، وكعادتها الطلب من المكرّم منذ أربعة عقود أن يتحدث في حفل التكريم، وهو برعاية رئاسية، عن مشروعه الفكري أو منجزه الثقافي أو دوره الأكاديمي أو الاجتماعي أو مساهماته في الحياة السياسية والوظيفية أو عن كتبه ومؤلفاته ونشاطه، لكنني طلبت من الجهة المنظمة والأستاذين أنطوان سيف وعصام خليفة أن أتحدث عن ذاكرتي وأرخبيلات العشق البيروتية ، وهي جزء من ذاكرة جيل الستينات لمدينة الدلال والغنج والورد وشذا الربيع والياسمين والنور.
إذا كان لكل امرأة رائحتها ولكل بحر لونه ولكل قصيدة نكهتها ولكل مدينة عطرها فبيروت اختلطت فيها الرائحة واللون والنكهة والعطر في هارموني بحيث يمكنك أن تتنفسها وكم راودتني عن نفسي لأفضي بسرّها وسحرها، وأنا أسمع صوتها وأشم رائحة بحرها، الذي اغتسلت بمائه حوريات البحر.
- II -
   لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرتي الطّفليةِ المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زواياها بيروت بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير.
   هكذا بدأتْ ترتسمُ ملامحُ بيروت الجمال والمدى والتنوّع الثقافي والاجتماعي وكأنّني في فسيفسائيّة تختلطُ وصورة "النجف السعيد" أو ما يكنّى بـ "خدُّ العذراء"، حيث يستلقي الشّعرُ متنفِّساً المدينةَ المحافظةَ التي تآخت مع التمّرد، حتّى تفّجر "الفكرُ المنفتحُ في المجتمع المنغلق" على حدّ تعبير السيد مصطفى جمال الدّين.
   كنّا نجدُ في بيروت الستينات كلَّ شيء: المقاهي والكُتُب والملابس والصديقات الجميلات وأغاني الحب والسينمات والمسارح والموسيقى... وكلّ ما له علاقة بالتمدّن والتعايش، حيث شارع الحمرا وساحة الشهداء "البرج" وساحة رياض الصلح وبناية العازارية والروشة وسوق الطويلة وسوق سُرسق وفندق اليلدزلار وفندق نابليون ومقاهي الدولشفيتا والويمبي والمودكا والهورس شو والإكسبرس وستراند والألدورادو والروضة ودبيبو ومسرح قصر البيكاديللي والتياترو الكبير وتياتر بيروت والمسرح الوطني "مسرح شوشو" وسينما روكسي ومتروبول والأمبير و الريفولي والراديو سيتي والأوديون وغيرها...
- III -
   وإذا كان الإبحارُ في ما نصبو إليه ومضةً بارقةً سرعان ما تنتهي وقد يبقى شيءٌ من كلّها في ذهنِك أو لا يبقى، حيث تكونُ اليقظةُ قد بدّدت طيفها الخاطف بعد أن تلاشى، لكنّك في حضرة بيروت تصحو مبتدئاً مع مخيّلةٍ جديدة ممتدّة وأنتَ في انخطافٍ موجودٌ، لكأنَّ أنوثة "المدينةِ الإلهة"عادت حلماً يستمرُّ، لطالما عاشَ معي وتغلغلَ في كياني وتنامى مع توجّدي، فقد سكنتني يقظةُ بيروتُ الهاربةُ إلى ليلي حتى قبلَ أن أسكنها، رغم أنّ صدمة الحرب الأهلية (1975-1989) كانت عميقة التأثيرِ وموجعة في نفسي لكنّني بقيتُ على تواصل و بيروت المتّشحة بغيابات كأنّي أشاجيها وأنا: "أرحل عن شوارعها/ وأقولُ مع محمود درويش: ناري لا تموت/ شكراً لبيروت الضّباب/ شكراً لبيروت الخراب/بيروت خيمتنا الأخيرة...". وقد امتدّت روحي عبوراً إليها حتّى تدفّقت أسوار الدم جاهزةً بيننا حينما قتلوا "امرأة كانت تدعى الحرّية"عشيةَ الحرب الأهلية.
   وأستطيع القول إنّني عشتُ المدينة بكلِّ جوارحي لستةِ عقودٍ من الزمان، أي مذ عرفتُها في مطلعِ الستينات من القرن الماضي، وكنتُ أتردّدُ إليها باستمرار بما فيها فترة دراستي في أوروبا في مطلع السبعينات وحتى خلال الحرب الأهلية.
   كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ واللاّمألوفِ من الكتب و الصحفِ إلى المغايرِ واللّا تقليدي من الأفلام، فأجدُ متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة اللبنانية، وكان شغفي الصّيفي في ستينات القرن الماضي وأنا أزورُ لبنان أن أجلس في مقهى "الشامات" في بحمدون لأبدأ قراءة الصحفِ اللبنانيةِ الرائدة مثل: "النهار" و"النداء" و"الحياة" و"المحرّر" وغيرها، إضافة إلى عددٍ من المجلاتِ ومن بينها تلك المثيرة للجدل والاستفهام مثل مجلة "حوار" ومجلة "شعر" وغيرها.
    وكلّما كنتُ أستعيدُ أجواءَ النقاش والسجال والحوار بخصوص النوافذ الثقافية والأدبية والفكرية والتوجهاتِ اليمينية واليسارية، والماركسية والناصرية، والغربية والشرقية يحضرُني ذاك الحوارُ الذي أثيرَ في أواسط العام 1954 من القرن الماضي حول "مؤتمر بحمدون" الذي دعت إليه "جمعيةُ أصدقاء الشرق الأوسط" (الأمريكية) وكانت الدعوة قد وصلت الشيخ "محمّد حسين كاشف الغطاء" في العراق "النجف" من قبل  كارلند إيفانز هوبنكز "نائب رئيس الجمعية" والهدف منه - كما تحدِّد بطاقة الدعوة - دراسة القيم الروحية للديانتين الإسلامية والمسيحية وتحديد موقفهما من الأفكار المادّية الإلحادية، ولكن " كاشف الغطاء" كان قد اعتذر عن حضور المؤتمر، بل شكّك بنواياه حيثُ أرسلَ جواباً مطوَّلاً بعنوان "المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون"، وكان اليسار العراقي هو من قام بترويج ذلك الخطاب الذي طُبعَ على شكل كرّاس لفضحِ أهداف المؤتمر الذي قيل إنَّ جهاتٍ مخابراتية أمريكية تقف وراءه.

- IV -
   وفي بيروت تعرّفتُ على الروائي غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وذلك ما قامت بتأمينه لي قيادةُ الحزب الشيوعي اللبناني، وكنتُ قد قرأتُ له بعضَ كتبهِ ودراساتٍ له في الستينات، أتذكرُ منها: تعريفُه بشعراء المقاومة، وخصوصاً محمود درويش، وسميح القاسم، وعن الأدب الصهيوني، إضافةً إلى روايتهِ الشّهيرة "رجالٌ في الشمس"، وبادرَ بإهدائي روايتَه "أم سعد"، وهي من الكُتبِ التي أعتزُّ بها، وبقيَ معي في براغ، وحين عودتي حملتهُ في حقيبتي اليدوية، ولم أضَعْه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتُها إلى بغداد، وقد تمّت مصادرتُها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنتُ قد أعددْتُها للطبع، من قبل الأجهزة الأمنية العراقية.
استقبلني غسّان كنفاني بابتسامةٍ عريضةٍ في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكّر، وطلبَ من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّنُ بعضَ ما أقوله. لا أتذكّرُ إنْ كان قد نشر شيئاً بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنّه - على ما أذكر جيداً - كان يتمنّى أن تنصبَّ جهودُ الوطنيّين واليساريين لمواجهةِ العدوان الصهيوني والمخطّطات الإمبريالية.
ذكّرني الصّديق صلاح صلاح، حيث تستمرُّ صداقتُنا منذُ عقودٍ من الزمان، أنّه سمع لأوّل مرّة عنّي من غسّان كنفاني، وحتى قبلَ أن نلتقي، إضافة إلى قياداتٍ فلسطينية لاحقاً، حيث جاء اللّقاءُ الأوّل بيننا بعد ذلك بسنوات، لكننا كنّا نعرفُ بعضَنا قبل هذا التاريخ، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.
كمْ حزنتُ لفقدان ذاك المبدعِ اللاّمع وهو في ريعان شبابه وأوجِ عطائه، حيث كان قد استكمل أدواتِه الفنية ونضجت تجرِبتُه، حتّى ترصّد له جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وقامت يدُ الغدر بتفجير سيارته في منطقة الحازمية في 8 تموز (يوليو) العام 1972. رحل ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر، وكانت تلك واحدةً من الصّدماتِ التي صُعقتُ بها، وما عاظَمَ ألمي هو محاولة اغتيال العقلِ الفلسطيني والمثقفِ الفلسطيني والإبداعِ الفلسطيني. والفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل "مبدعين كبار" مثل غسّان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وناجي العلي، وغيرهم.


- V -
لم أكن في ذلك الحين قد اطّلعت على فكر شارل مالك ودوره الرّيادي، خصوصاً في وضع "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" عام 1948 بالتّعاون مع البروفيسور الفرنسي "رينيه كاسان" وتشينغ الصيني الكونفوشيوسي  والسيدة "إليانور روزفلت"، ولكنّني حين قرأت مقدّمته "العبقرية" في وقت لاحق تأكدت أنّ فلسفته كانت وراء الصياغة المُحْكمة لتلك "المصكوكة" الدولية، وبعدها كتبتُ عنه مقالةً بعنوان "شارل مالك الكبير ولبنان الصّغير" وحين حضرتُ الاحتفال الخمسيني لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1998) وتجوّلت في قصر"شايو" في ساحة تروكاديرو (باريس)، شعرت أنّ روحَه تخيّمُ على أروقةِ المكانِ النابضِ بتفاصيله. وكنتُ قد خصّصتُ خلال العقود الثلاثة الأخيرة أكثرَ من مبحث لي وأكثر من محاضرة وإضاءة عنه.
وكما يقول جبران:
"لبنان يا أسمى المعالي لم يزلْ / لأُولي القرائحِ مصدرَ الإيحاءِ"
وطن الكفاءات الّذي أنجب كباراً في الفكر والعلم والأدب والفنّ، من صاحب "النبي" وعواصفِ روحهِ الملتحفّةِ بالتمرّدِ والنهوض، إلى رحلات أمين الريحاني المتدفّقة في حبْرهِ الحي،  و"سبعون" ميخائيل نعيمة "الفيلسوف البليغ إلى أدب "مي زيادة" ورسائلها الشغوف، و"معضلة اللّغة" التي وضعت "الفيلسوف كمال يوسف الحاج" أمام معضلة القومية، وميشال شيحا المفكّر اللّبناني المتقدّم على عصره، وموسوعية البستاني وبلاغة اليازجي ومورد البعلبكي الأكبر... وكيف ننسى "حسن كامل الصبّاح" الذي حلم بحياكة ليلنا من خيوط الشمس ومايكل دبغي الذي نسج جروحات قلوبنا؟.. أمّا "سيّدة الجلالة" فكانت أنثى لبنان الغنوج حيث رياديّة غسان تويني وكامل مروة وسليم الّلوزي وميشال أبو جودة وطلال سلمان والقائمة مفتوحة ....
ألا تكفي هذه الكوكبةُ التي أسّستْ مع الفكر الفلسفي التنويري المعاصر من موسى وهبة وناصيف نصار وغيرهم، وأسراباً محلّقة من الشعراء المُحدثين أمثال إلياس أبو شبكة والأخطل الصغير وخليل مطران وسعيد عقل وإلياس خوري وأنسي الحاج وجوزيف حرب وطلال حيدر وغيرهم، وعديد من الفقهاء القانونيين وعلماء اجتماع واقتصاد؟
إنّها بيروت تخاطرني وأتماهاها بصوت فيروز الملائكي وتلاحين فكر الأخوين الرحباني الانسيابي الإصلاحي و"ثورة الفلاحين" وأغاريد "نصري شمس الدّين" لأن لبنان "راجع يتعمّر" كما خلّده زكي ناصيف، وتُسائل حنيني مواويل وديع الصافي:
"لبنان يا قطعة سما / اسمك على شفافي صلا"
- VI -
حين انتهت الحرب الأهلية وأُبرمَ اتّفاق الطائف تكرّرت زياراتي لبيروت وعندما قرّرتُ أن أترك لندن لم أفكّرْ أن أستقرَّ في أي مدينة عربية غير بيروت، مع أن علاقتي بدمشق فيها الكثير من الحميمية مثلما هي علاقتي الودّية مع القاهرة. وبغداد التي تسكنني لا زالت بعين العاصفة... إذاً هي بيروت ذاتُ الأوتار الخاصة، وحيثما يشعر المرء بالحريّة فذلك وطنه. وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفان "الوطن هو حيث يكون المرء بخير" وبيروت دائماً تجعلني بخير. إنها مكتوبةٌ بالماء، وياسمينُ كلِّ حبٍّ، هي التي أنجبت "عشتار" الآلهة التي تعمّدت بأحشاء الموج، أمُّ الشرائع هي، وتوأم الزمن ما كتبه ننّوس اليوناني في القرن الخامس الميلادي.
قالت كلمتها بيروتُ، فكان الله فعل كمال... سمائيةُ البحار هاتيك معاصرةُ الأبد، امرأةٌ "كانت تدعى الحرّية"، حتّى "دفعت الجزية عن كلّ الكلمات"، يا ستّ الدّنيا يا بيروت/ يا حيث كتبنا الشِّعر...
   بيروت التي جُبلت بالمحن والمعاناة احتضنت اللاجئين والنازحين والطامحين وعشّاق الجمال، هاتِه أشكلَةُ مدينة بفعل أبجدية الخلود تُحاكي ما بعد الوجود وتُحيي الزّمان، تُعمِّد الآلهةَ بتراتيل الحرّية
   بيروت "إنّ الدّنيا بعدك ليست تكفينا...".
   الآن عرفنا... أنّ جذورك ضاربة فينا...".
    قال فيها الشاعر أحمد شوقي:
"لبنان والخلـد اختــــراع الله لـم / يـزدن بـأحـسن مــنهمــا ملكـوتـُه
هو ذروة في الحسن غيرُ مرومة / وذرى البراعة والحجى بيروتُه"
   "لن أنسى هذا الدفءَ مثل هذه الدقائق تتداخل في وجودنا كاللّحظات الأخيرة بانتظار أول موعد غرامي" حيث أنفاس الشاعر "موريس باريس" الشجية تحيكُ وشيَ الثقافة الفوّاح. وتقاسيم روح "الجواهري" تردّد:
لبنان يا خمري وطيبي / هلاّ لَممْتِ حُطامَ كوبي
هــلاّ عطفتِ لي الصبا / نشـوانَ يرفلُ بالذّنـوبِ

   إنها  بيروت تلك الذاكرة الملعونة التي تستحقّ كل السّمو والإجلال والخشوع.



119
حفريات تاريخية من النجف
الإمام الحسني البغدادي ...  سسيولوجيا الدين والتدين

                                   
    تأليف: د. عبدالحسين شعبان
                                 
عرض: أ. د. عبد علي كاظم المعموري()

 
   يقدّم كتاب المفكر عبد الحسين شعبان مائدة ثقافية دسمة للقارئ فيما يتعلق بسسيولوجيا الدين والتديّن، من خلال الإمام الحسني البغدادي الشخصية الإسلامية المثيرة للجدل والإشكالية بامتياز، وقد صدر عن مركز إحياء تراث الإمام البغدادي في النجف عام 2018، وهو كتاب من القطع المتوسط، بعدد صفحات بلغ (333) صفحة. 
   والأصل في الكتاب كما يقول الباحث، دراسة أو مقالة، لكنه ظلّ يتوغل عميقاً في شخصية الحسني البغدادي، ويديم البحث بلا هوادة عن أية معلومة عنه وعن تراثه، وفي أحيان كثيرة نراه يتوقف عند الكتابة للتأكد من (كلمة) واحدة، قيلت من قبله أو قيلت فيه.
   إنه بحث في السرديات التاريخية، للشخصية وللأحداث والمواقف، وما يرافقها وما يترتّب عليها، وهو بحث يماثل عمل الآثاريين في التحقيب والتنقيب في مكنونات وتحف وآثار السابقين، لاسيّما في الغوص في أعماق المجتمع النجفي الديني والمدني في آن، لكي يفي الموضوع حقه، لابد له من إيراد الشواهد والموروثات المدونة منها وغير المدوّنة. وهو ما يجعل العمل متجاوزاً للصيغة التي أريد لها أن تكون، تبعاً لثراء ما وفره المؤلف حول هذه الشخصية موضع البحث والمثيرة للجدل.
   ولعل ما دفع المفكر شعبان لتناول هذه الشخصية، بجانب العلاقة الأسرية التي تربط أسرة الإمام الحسني البغدادي وأسرة آل شعبان، لكون هذه الأخيرة من العوائل التي أشرفت على خدمة الروضة العلوية المقدسة بالنجف قبل أكثر من خمسة قرون من الزمن، إلّا أن هناك هدفاً يرافق اهتماماته هذه، هو سعيه الحثيث في المساهمة في كتابة تاريخ العراق السياسي، فالكتب والسير والمراحل التاريخية، تميط اللثام عن هذا الاهتمام، ولم يكن يحكمه في هذا مدى توافق هذه الشخصية مع توجهاته الفكرية أو السياسية، بقدر ما يريد أن يقدم اختيارات منتقاة بعناية، يسلط من خلالها ضوءًا كاشفاً مع الحرص على أن تتم قراءة التاريخ (الماضي) قراءة صحيحة لا خاطئة، كما يقول عبد الرحمن منيف، وهذا المنهج كان لازمة للباحث والبحث من مقدمته وحتى خاتمته وأقسامه السبعة.
    فاختيار شخصية الحسني البغدادي لا تقتصر على ما فيها من الخصائص والطبائع، والأدوار والمواقف، وبخاصة عندما تكون هذه الشخصية موصوفة بأنها إشكالية، فإن الاختيار يتعلق بفك بعضاً منها، فما بالك عندما يحسبها شعبان (ظاهرة) فمن المؤكد أن جوانبها سياسية ودينية وثقافية،لهذا سوغ لنفسه الغوص في قراءتها من منظور سسيولوجيا الدين والتديّن وما بينهما، وشعبان لم يكن في كل ما كتبه من سير وسرديات، ساعياً إلى الترجيح أو لوي المواقف واستجلابها لصالح رؤية أو موقف أيديولوجي، بل جلّ ما يسعى إليه هو فكّ الالتباس والاختلاط، وفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.
   ولما كان الباحث ابن البيئة النجفية عائلياً ومدينياً، عارفاً بأزقتها وحاراتها، شخصياتها وعوائلها، سراديبها وبرانياتها، وعلى معرفة بتوجهات نخبها الدينية والفكرية والثقافية، بإزاء مختلف المواضع والمواقف، ومن منظوره أن لكل موقف أو توجه مقصده ومبناه، حتى في الدين والتديّن، وعلى وفق هذا لا يمكن لباحث من خارج هذا التوصيف،أن يحصل على دقائق الأمور وأصغرها فيما يخص تفكيك تلافيف الظاهرة الدينية، فالنجف ليست ككل المدن، ولا يمكن وصفها بمدينة دينية فحسب، بل هي مدينة ثقافية شديدة التنوع، ومدارسها الفكرية يستبطنها (جدل كبير)، بين التقليدية والحداثوية، وبين اليسار واليمين، كما أنها مدينة مالية واقتصادية، تدخلها الأموال وتخرج كما يدخل الوافدون إليها من شتى الأمصار، وفي كل هذا كانت هناك مدخلات ومخرجات، لهذا فهي عبارة عن متدفقات وتيارات لا تهدأ، في سكونها الظاهر، وتفاعلها المستتر، وهو ما يذكره شعبان بدقة وملاحظة لا متناهية. 
   ولربما ما دفع شعبان إلى كتابة هذه السردية عن الإمام الحسني البغدادي، هو بيان المختلف عنده والمتفرد فيه، والتي وسمت دوره ومواقفه، لكونها جوانب محفزة للمهتم بتفاصيل الوقائع والتاريخ، فالحسني البغدادي لم يكن ليناً أو مترجياً لمصلحة أو مغنمه، لهذا نجده راديكالياً في الكثير من مواقفه، وحاداً وخارجاً عن سياق الخطاب المعتاد في مؤسسته، فمواقفه من شاه إيران أبان انتفاضة خرداد، جعلته موضع تقدير من الإمام الخميني، وظلّت العلاقة دافئة بينهما ظلت حتى وفاته دليلاً على تميّزه مثلما هي مواقفه الناقدة للعديد من زعامات الحكم في العراق، منذ رفضه للاحتلال البريطاني ومشاركته في مقاومته مع السيد محمد سعيد الحبوبي، قبل (ثورة العشرين) إضافة إلى دوره المشهود لاحقاً بفضح أساليبه الخبيثة تجاه العراقيين، وإيمانه المطلق بالمقاومة الفلسطينية، وتشجيعه العمل الفدائي ضد الصهاينة، ، وطبيعة الصراعات ما بين التيارات الرئيسة في العمل السياسي في العراق والمنطقة،  وجميع هذه المواقف اتسمت بالوضوح من دون لبس أو تأويل. لهذا عدت مثابات لمواقف عروبية وقومية ومبدئية، وهو ما يتناوله شعبان بعمق، لاسيّما باستعادة قراءة التاريخ بروح حرّة منفتحة.
   ومن وجهة نظري إن كتاب مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن ، يتمحور حول مفاصل رئيسة هي:
أولاً: الدين والتدين
   وهنا أراد الكاتب أن يقدّم إضاءة على رمزية دينية، كجزء من مقاربة تتعلق بسسيولوجيا الدين والتدين، وأكثر وضوحاً بيان العلاقة بين المعتقدات وتجلياتها الفعلية على الأرض، فبينما الأديان تظل محل قدسية لا خلاف عليها، فالتدين ظاهرة اجتماعية متحركة ومتغيرة، وتتأثر بمحيطها سلباً أو إيجاباً، وتنعكس طبيعياً على واقع المجتمع وأحواله، وتمارس تأثيرها في أنماط وطبيعة الصراع بين القوى المحركة للمجتمع في مرحلة تاريخية مشخصة وموصوفة. لهذا بدا هناك افتراق بين الدين والتدين، وخصوصاً لمن يذهب إلى الادعاء بامتلاك الحقيقية وفهم النص الديني كما يجب، ويضفي التفسير القاصر والفهم المسطح للنص الديني قدسية على الحاكم، بغية إلزام الناس وتغييب عقولهم بعدم الخروج عليه، حتى وأن كان ظالماً وغير عادل. في حين تتسم تعاليم الدين بالعدل والمساواة وحق الاختلاف. 
ثانياً: الفتاوى في التكفير والإلحاد
    ويشكّل التجريم والتكفير الجزء الأكثر جاذبية في هذه السردية، ولعل شعبان أراد أن الأمر كله ينصب فيه، لكونه يأتي على وفق معطى ديني، سواء لمذهب أم لجماعات دينية أو سياسية كما جرى لليسار بشكل عام والماركسي بخاصة،عندما أصدر المرجع الديني (الأعلى) السيد محسن الحكيم، فتوى تكفير وتحريم للشيوعية في شباط 1960- والمفارقة أن الفتوى حين صدرت  من النجف، كان السيد (صاحب الحكيم) هو مسؤول محلية النجف للحزب الشيوعي أي نفس عائلة الحكيم، وينتسب لهذا التنظيم العشرات من الأسر الدينية الكبيرة والمعروفة في النجف من مثل آل الحكيم، آل الرفيعي، آل الخرسان، آل الجواهري، والشبيبي وآل شعبان (أسرة المؤلف) وغيرهم .
   وقد جرى استثمار ذلك في إطار الصراع الداخلي بين القوى السياسية المحلية لصالح التلوينات الطاغية بالقومية واليمنية (فقد وظفها حزب البعث لتسلّم السلطة في العام 1963)، وفي ميدان الصراع العالمي بين الإمبريالية والاشتراكية، فقد جرى تلقّفها من قبل القوى الدولية الكبرى آنذاك وبخاصة الولايات المتحدة القوة الصاعدة الكبرى، لتحشد إعلامياً وثقافياً وفكرياً لمواجهة الانتشار الشيوعي (الماركسي) في المنطقة، وتعقد مؤتمرات وأبرزها مؤتمر بحمدون والذي ردّ عليه الإمام محمد حسين كاشف الغطاء بكرّاس (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) والذي قام اليسار العراقي بإعادة طبعه وتوزيعه لما فيه من ردود على القوى الإمبريالية وحلفائها الرجعيين. ومن الجدير بالذكر أن كاشف الغطاء، كان قد دعي إلى المؤتمر الذي انعقد لمحاربة الأفكار المادية الهدامة، لكنه اعتذر عن حضور المؤتمر وكتب جواباً عليه الكراس المشار إليه.
   وبالرغم من الضغوط التي مورست على السيد الحسني البغدادي،لإصدار فتوى متزامنة مع فتوى السيد الحكيم، لكنه رفض ذلك بعناد وإصرار، ويروي (البغدادي الحفيد) أن ثلاثة من علماء الشيعة، زاروا البغدادي الكبير لإقناعه بإصدار فتوى ضد الشيوعية، وهم الشيخ مرتضى آل ياسين والسيد إسماعيل الصدر والسيد محمد جمال الهاشمي، ومع قناعته التامة بالحادية الأفكار الشيوعية، ومحاولة الهاشمي استمالته بأن فتواه ستكون مقدّمة على فتوى الحكيم، إلّا أنه ظل متمسكاً بموقفه في رفض الإفتاء، وشاركه بموقفه هذا كل من:آية الله حسين الحمامي وآية الله عبد الكريم الزنجاني وآية الله الشيخ محمد فاضل القائيني، وتحملوا بسبب ذلك الكثير من الاتهامات والإساءات، فقد ترتب على هذا الرفض اتهام القائيني بالشيوعية، وتم تسفيره إلى إيران، والتهمة نفسها روّجت ضد الحمامي، أما الزنجاني فقد أتهم بأنه عميل بريطاني، فيما كانت تهمة كاشف الغطاء بأنه سلطوي، هذه أجواء فاح منها شدة الصراع الحاصل في الأوساط الدينية في النجف آنذاك.
   ويسوق الكاتب (شعبان) جملة مسوغات لذهاب (الحسني البغدادي)، لمجاراة التوجه العام، ربما تحت الضغط، أو بدافع الحيطة والحذر أو ما يسمى (التقيّة)، أو أنه موقف قد استدرج إليه، فقد قدم شيئاً موافقاً لتكفير الشيوعية، يقرأه بعضهم "فتوى"، وبعضهم يعد مجرد رأي في سياق الآراء. وهذا جزء من إشكالية المواقف عند الإمام الحسني البغدادي. بالرغم من أن " فتواه" إن اعتبرت فتوى أو رأيه إن اعتبر رأياً جاء باهتاً وفي غير وقته، لذلك لم يثر أي ردود أفعال بشأنه في حينها، مقارنة بما أحدثته فتوى السيد الحكيم. فالسياق العام لتوجهات (البغدادي)، لا تؤشر وجود شواهد تدفعه لتبني خطاب أو فتوى تحريمية، ولربما جاء موقفه من اليسار والشيوعية في إطار نتاجه الفكري وليس الافتائي، أو تجنّب الانتقاد، وهذا الظن أراد المؤلف إشاعته في الكتاب من خلال سياق تناوله لمواقف الإمام (البغدادي).
ثالثاً: الخفايا والصراع
   ما يمكن قوله أن (البغدادي)، لم يكن راغباً في الانخراط بالعمل السياسي، وكان يفضل العمل الدعوي والوعظي والتدريسي في الحوزة، وظلت توجهاته تتعارض وتفترق قليلاً أو كثيراً عن توجهات الكثير من العلماء في النجف. وهذا نابع من رؤيته في أحقية الفرد في الاختلاف فكرياً أو دينياً أو مذهبياً. وهو ما أعطى للإمام (البغدادي) مساحة كبيرة من القبول والالتقاء، بل وتعضيد مواقفه ومناصرتها .
   ولعل عدم رغبة الإمام (الحسني البغدادي) في الدخول في الشأن السياسي، تعود في جزء منها إلى طبيعته الراديكالية ومواقفه الصلبة وعدم المساومة أو عدم تبني اللين بإزاء بعضها، ناهيك عن حدة الخطاب الذي يعتمده، والذي عادة ما يكون بسيطاً ومباشراً وواضحاً، فهو لا يجيد استخدام العبارات المنمّقة وكلمات المجاملة، مثلما يعتمدها غيره، وإن اتخذ موقفاً لا حياد فيه إزاء الاحتلال البريطاني والعهد الملكي وقضية فلسطين والعدوان الثلاثي على مصر وما يجري للمسلمين من ظلم أينما كانوا ومهما كانت طبيعة النظام، لأنه يعتقد أنه يتبع نهج الإسلام المحمدي الأصيل، الذي لا يرضى بالخنوع والذل والعبودية واستغلال الإنسان للإنسان.
   وحتى علاقته بنظم الحكم التي تعاقبت ورجالات السلطة، فإنها ظلت على وتيرة واحدة، وكانوا هؤلاء يخشون من آرائه المباشرة والقوية، يحاولون التودّد إليه، وجميعهم حاولوا تقديم أموال له أو تخصيص راتب شهري، نظراً لما يعرف وينقل لهم عن حياة الزهد والتقشف التي يعيشها، بدءاً من الزعيم عبد الكريم قاسم عبر (حميد الحصونة) قائد الفرقة الأولى، ومروراً بـ عبد السلام عارف الذي كان يريد تخصيص راتب شهري له، عبر مبعوثه (نجم الدين النعيمي) وصولاً إلى أحمد حسن البكر، حين زاره (عبد المجيد الرافعي) عضو القيادة القومية لحزب البعث في عام 1969، الذي أراد أن يطرح على القيادة آنذاك دعم (الحسني البغدادي) مادياً نظراً لأوضاع سكنه ومكتبه، إلّا أن شبيب المالكي الذي كان محافظاً لكربلاء في حينه، أعلمه بأن الإمام (البغدادي) لا يستلم هدايا ولا يقبل أموال، وعلى المنوال نفسه كان خير الله طلفاح قد طلب من الرئيس أحمد حسن البكر، تقديم مساعدة مادية للحسني، أسوة بنظرائه الذين يحصلون على أموال من جهات أخرى، فكان رد الرئيس عليه بأنه رفض أكثر من عرض مني ومن الدولة.
    وفي خواتيم هذا الكتاب المهم والغني لابدّ من المرور على قصة الخلاف بين الحسني البغدادي والحكيم، فالرجلين وما بينهما من خلاف واختلاف مبعثه (من وجهة نظر المؤلف)، لكونهما يمثلان منهجين متعارضين ومزاجين مختلفين، فقد كان البغدادي حاداً في صراحته وواضحاً في رأيه، في حين كان الحكيم أميل إلى الحذر والتحوّط وتقليب الأمور لدرجة التردّد أحياناً، ويورد الكاتب (نقلاً عن البغدادي الحفيد)، بأن علاقتهما كانت طبيعية حتى وفاة النائيني (مطلع القرن العشرين)، إلا أن الخلاف دبّ بينهما، على خلفية طلب الحكيم انتزاع المرجعية من الحوزة الفارسية في النجف، بوصفها ظلمت الحوزة العربية، لكن الحسني البغدادي الكبير ومعه أبو الحسن الاصفهاني ومحمد حسين كاشف الغطاء كانوا يعتقدون أن طلب الحكيم هذا يستبطن طلب المرجعية لنفسه.
    ومن الجدير بالذكر أن كاشف الغطاء الكبير كان أستاذ الحكيم والنائيني والسيد أبو الحسن، وقد وجد لمعة اجتهاد عند النائيني وأبو الحسن ولم يجدها عند الحكيم، وعلى وفق هذا سوّغ اعتراضه على ما طلبه الحكيم، وهذا الأمر أثار حساسية شديدة وعداوة مستمرة بين الحكيم وكاشف الغطاء، لم تنتهي حتى بوفاة الأخير، مثلما ظلّت العداوة بين الحكيم والحسني البغدادي قائمة طيلة نحو خمسة عقود من الزمان.
   ومن الجدير بالذكر فأن خصائص المرجعية فضلاً عن مركزية توافر الأعلمية في شخص المرجع، فأنها تمتد إلى الزهد والتسامح والتواضع ورحابة الصدر والأقدمية في العلم وسعة المدارك والمعارف وتراكم الخبرة والقدرة على قول الحق ومدّ يد الوحدة والتعاون، فهو يعد مرجعاً ليس لطائفة بل لعموم المسلمين.
   وما يمكن قوله في خاتمة هذا العرض، أنني لم أستطع أن أعرض كل ما في الكتاب الذي تضمن سبعة أقسام وما يشبه التمهيد وخاتمة تمثل خلاصات مهمة وجريئة وقد سلّط الباحث الضوء على " دين العقل وعقل الدين" في القسم الأول، وفي القسم الثاني تناول الظاهرة الدينية بين الموضوعي والذاتي، وخصص القسم الثالث لـ " ما بين الديني والسياسي"، وتوقّف في القسم الرابع عند جدليات الحوزة الدينية، أما القسم الخامس فقد كرّسه لـ " تحريم الشيوعية"، وكان القسم السادس قد تناول فيه بعض إصدارات الحسني البغدادي، وبحث في القسم السابع والأخير فكرة الجهاد وآراء فقهاء الشيعة ومسألة الجهاد الكفائي التي قال بها السيد السيستاني في مواجهة داعش بعد احتلالها للموصل عام 2014، وسلّط ضوءًا على كتاب وجوب النهضة للحسني البغدادي الذي نقل فقرات ضافية منه كمقتطفات.
   لقد  استطعت أن أغترف من هذا الكتاب الغزير بأفكاره وفي شواهده ومحطاته، وحتى ألغازه وأحباره وخباياه، فالكثير من روح الجمل موجودة في المتن، ولكنها غير مكتوبة، ومن يقرأ الكتاب لابدّ له  من إعادة قراءته، بل وسيجبر على البدء برحلة سباحة في بحر لا ضفاف له.






120
عبدالحسين شعبان
الجماعات الإرهابية وجه آخر لتيار عنصري كاره للمسلمين

 

 

المفكّر العراقي شعبان إن تدني مستوى الثقافة أدّى إلى تأثير متعاظم للتنظيمات المتطرفة
*إسرائيل وتركيا وإيران تقود ثلاثة مشروعات تهدد المنطقة.
*العالم العربي تُلهيه الصراعات الثانوية عن مجابهة المخاطر الإقليمية الكبيرة.
*التنظيمات الإرهابية استغلت نزعات العنف في التراث الإسلامي
*تصريحات ماكرون تنم عن عقلية استعلائية
الأربعاء 11/نوفمبر/2020
أجرى الحوار: حنان عقيل - القاهرة


   أيامٌ قليلة تفصلنا عن اليوم العالمي للتسامح الذي يحل في ١٦ نوفمبر من كل عام، بينما يموج العالم بصراعات شتّى، قوامها غياب التسامح، وفقدان القدرة على التحاور والتعايش بين الثقافات، وشيوع حالة من الاستعلائيّة في تعامل كل ثقافة مع تلك المغايرة لها، لتتعاظم الخلافات المُتكوّنة عبر التاريخ عقدًا بعد الآخر، مُشكِّلة أزمات لا تنتهي، قوامها التعصب الذي   قاد إلى ذيوع «الإرهاب» بمختلف أشكاله وتهديده لكل العالم.
التحديات التي يحيا العالم العربي في كنفها في ظل غياب ثقافة التسامح وشيوع العنف كانت محور حديث «الدستور» مع المفكر العراقي عبدالحسين شعبان، الذي   أولى اهتمامًا كبيرًا عبر مسيرته الفكريّة بقضايا العنف والإرهاب، إذ تعكس مؤلفاته انشغالات خاصة بالفكر القانوني والنزاعات، فضلًا عمّا قدمه من مساهمات فكرية وثقافية متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة، وقد كان «التسامح» بما يرتبط به من قضايا أحد أبرز اهتماماته، لا سيّما مع عمله كنائب رئيس في جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان في بيروت. 

صدر للمفكر العراقي العديد من المؤلفات في السياسة الدولية، منها «بانوراما حرب الخليج»، و«النزاع العراقي - الإيراني»، و«المجتمع المدني: الوجه الآخر للسياسة»، و«الشعب يريد- تأملات فكرية في الربيع العربي»، وفي الصراع العربي  الإسرائيلي  صدرت له عدة مؤلفات، منها «الانتفاضة الفلسطينية وحقوق الإنسان»، و«القضايا الجديدة في الصراع العربي الإسرائيلي»، كما كتب في القضايا الفكرية عددًا من المؤلفات، منها «أمريكا والإسلام»، و«الإسلام وحقوق الإنسان»، و«الإسلام والإرهاب الدولي»، و«جدل الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات». انطلاقًا من كتابه الأحدث «في الحاجة إلى التسامح» ومرورًا بالعديد من التحديات الفكريّة التي يواجهها العالم العربي في الوقت الراهن.. جاء هذا الحوار الذي   تطرّق فيه المُفكر العراقي إلى جُملة من الأمراض الفكرية التي تنبغي مجابهتها، سعيًّا إلى تواصل بنّاء بين الثقافات يمكن من خلاله نبذ التعصب وسيادة فِكر التسامح.

■ استحوذ موضوع التسامح بما یرتبط به من قضایا على اهتمامك؛ ففي وقت سابق أصدرت كتابًا بعنوان «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي»، ومؤخّرًا صدر لك كتاب «في الحاجة إلى التسامح: ثقافة القطیعة وثقافة التواصل».. إلى أي مدى تعتبر غیاب التسامح سببًا في إغراق العالم في مشكلات لا تنتهي من عنفٍ وتطرّفٍ وتعصب؟ وما معوّقات سیادة فكر التسامح برأیك؟

- أعتقد أنَّ غياب التسامح هو أحد الأسباب الأساسيّة التي أدّت إلى شيوع ظواهر التعصّب والتطرّف، فمع الأسف ما زال العالم يعاني من نقص فادح في ثقافة التسامح، على الرغم من أنه يحتفل كل عام في ١٦ نوفمبر باليوم العالمي للتسامح، الذي  أُقرَّ في العام ١٩٩٦ من قِبَل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي السنوات الأخيرة ارتفعت موجات العنف والإرهاب وعدم التسامح والعنصريّة، وكان بعضها من نتائج أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، بالإضافة إلى صعود تيّار شعبوي عنصري كاره للأجانب، وللعرب والمسلمين بشكل خاص، ليس هذا فحسب، بل إنَّ الجماعات الإرهابية، خصوصًا تنظيم القاعدة وفيما بعد داعش وأخواته، كانت الوجه الآخر لذلك، وقد انتعشت في ظلِّ ارتفاع منسوب التعصّب في العالم العربي، الذي   من نتائجه الصراع السنّي- الشيعي، إضافة إلى توتّرات دينيّة وإثنيّة.

   ثمّة عقبات برأيي تحول دون سيادة التسامح، أوّلها: أنّ الدولة كمفهوم وممارسة ما زالت هشّة وضعيفة في العالم العربي، وتعاني في الكثير من الأحيان من نكوص بوجود مرجعيّات تحتها تريد أن تصبح ما فوقها أو موازية لها، مثل المرجعيّات الدينيّة أو الطائفيّة أو العشائريّة أو غيرها، فضلًا عن استمرار التأثيرات السلبيّة للحِقب الاستعماريّة، فلم تنشأ إرادة سياسيّة جماعيّة على مستوى الكيانيّة القائمة للاعتراف بقِيَم ومبادئ التسامح.

   وثانيها: أنّ الثقافة العامة الفردية لا تزال متدنّية، بل غائبة، ففي بريطانيا مثلًا، حسب اليونسكو، فإن معدّل قراءة الفرد تزيد على ٤٥ كتابًا في العام، في حين أنَّ معدّل قراءة كل ٨٠ إنسانًا في العالم العربي هو كتاب واحد، وهكذا فالثقافة غائبة في الكثير من الأحيان عن المجتمعات العربية على المستوى العام والفردي، الأمر الذي   يعني أن مجموعات التعصّب والتطرّف يمكنها التأثير على أوساط غير قليلة بسبب هذا النقص الفادح في الثقافة، محرّكة كل ما هو غرائزي ضد الآخر.

■ انتقدت في كتابك حول «التسامح في الفكر الإسلامي» توظیف الإسلام خدمة لمصالح سیاسیة مثلما نجد لدى تیار الإسلام السیاسي.. إلى أي مدى یمكن القول إن السنوات الأخیرة قد كشفت بوضوح عن أسالیب ذلك التیار المخادع؟ وهل ثمة وجود محتمل له على خارطة المستقبل؟

- هناك ثلاثة تيّارات أساسية في الوطن العربي كان لها الدَّور الأكبر في تصدُّر المشهد السِّياسي خلال العقود السَّبعة الماضية على أقل تقدير، أولها: التيار اليساري والماركسي، وهو تيّار واسع وكبير ولديه نفوذ فكري وثقافي حتى بعد انحسار دوره بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط جدار برلين، وثانيها: التيّار القومي العربي، الذي   حكم في العديد من البلدان العربيّة، وحقَّق نجاحات لا بأس بها في المرحلة الأولى من التحرّر الوطني والمرحلة الثانية من التحوّل الاجتماعي، لكنه تراجع كثيرًا وحمل معه أخطاء الأنظمة التي حكمت هذه البلدان.
أما التيار الثالث فهو الإسلامي، وهو تيّار عريض وواسع، وقد ظلَّ معارضًا وكان ميله الأوّل إلى العنف منذ تأسيس حركة الإخوان في مصر عام ١٩٢٨، لكنّ في الثمانينيات تبدّلت بعض توجّهاته المعلنة، وإن ظلّ يضمر في داخله مسألة العنف، وما إن سنحت الفُرصة له للوصول إلى السُلطة بعد ثورة يناير العام ٢٠١١ حتى سعى لـ«أخونة» الدولة، و«أسلمة» الدستور، وعمل على توسيع نفوذه داخل الجيش وقوى الأمن، وحاول إقصاء كلّ مَن يعارضه، إلّا أنّه لم يستمر طويلًا، فسرعان ما اندلعت حركة احتجاج ثوريّة كبرى ضدّه شملت الملايين من البشر للإطاحة به، وكان لتحرّك الجيش المصري الدور الأكبر في طي هذه الصفحة في ٣ يوليو ٢٠١٣.
وعلينا أن نأخذ هذه الظواهر مع بعضها، فالأفكار الشموليّة الدينيّة أو اليساريّة أو القوميّة وبغضّ النظر عن مسمّياتها، فإنها لا تقبل ولا تعترف بمبادئ التسامح أو بحقوق الغير، وذلك بزعم امتلاكها الحقيقة وادّعائها الأفضليّات، في حين أنَّ الليبرالية الجديدة ونسختها العربيّة المشوّهة، لم يتورّع بعض فُرسانها من الدعوة لاحتلال بلدانهم بزعم إقامة أنظمة ديمقراطية لمواجهة الاستبداد، لأنها عاجزة وحدها عن إنجاز هذه المهمّة، زاعمة أنّ «العامل الدولي» أصبح حاسمًا في التطور الديمقراطي.
شخصيًّا لست مع إقصاء أي تيّار أو أي مجموعة، وعلى الرغم من أنّني لا أؤيّد تيار الإسلام السياسي، لكنني سأقف مدافعًا عنه وعن حقّه في الحكم إذا وصل إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع وبظروف سلميّة واعتيادية؛ ولكن لا بدّ من ضوابط تحدّد أُسسًا موضوعيّة وذاتيّة لممارسة العمل السياسي.
أول تلك الضوابط: نبذ استخدام العنف وتحريمه، وثانيها: منع تأسيس الأحزاب والجمعيات على أساس ديني أو طائفي أو عنصري، وثالثها: عدم اللجوء إلى استخدام السلاح عند حلّ الخلافات أو العمل العسكري أو المسلّح، ورابعها: الامتناع عن اللجوء إلى العمل السرّي واحترام القوانين والأنظمة النافذة، وخامسها: تقديم الولاء الوطني على أي ولاء آخر، الأمر الذي   يقتضي قطع الامتدادات والارتباطات الخارجيّة ذات الصبغة التنظيميّة أو الولائيّة.
■في ظل ذلك الاستغلال للدین من قِبل القوى الظلامیة أو الطامعة في تحقیق مكاسب سیاسیة برزت الحاجة إلى تجدید الخطاب الدیني لمواجهة جملة الأفكار المغلوطة.. من برأیك يمكنه أن یضطلع بتلك المهمّة؟ ولِم تغیب قوى التنویر عن تلك المهمّة؟

- قبل تجديد الخطاب الدِّيني نحن نحتاج إلى إصلاح الفكر الديني والمجال الدّيني والحقل الدّيني، بما فيه من مؤسّسات ومعاهد ومدارس ودُور عبادة، إذْ لا يمكن تجديد الخطاب دون تجديد الفكر، كما أن أي إصلاح، حسب توماس هوبز، سيكون مفتاحه إصلاح الفكر الدّيني.

   بتقديري أنّ المثقّفين والمفكّرين، أي منتجي الأفكار، هم من ينبغي أن يضطلعوا بمهمّة النقد ومعهم الفاعلون السياسيّون والمدنيّون وكلّ من يدعو إلى التسامح، ولا أحد يعفي نفسه من هذه المسئولية، ونحن جميعًا بحاجة إلى قراءة جديدة، بل إعادة قراءة لتاريخنا وبجوانب مهمّة من الفكر العربي الإسلامي للوصول إلى مرافئ الحقيقة دون تضخيم للذات أو انتقاص منها ودون تنديد أو تبديد، ولكن بروح النقد والنقد الذاتي، فتاريخنا فيه ما هو مشرق ومشرّف ونبيل، وفيه ما هو سلبي وخاطئ وعاطل.

■ لِمَ أخفق المثقّفون العرب في تقدیم خطاب مُقنع وبدیل لتلك الخطابات المختبئة خلف ستار الدین برأیك؟
-  ينبغي أن يكون للمثقف رأى بما ينسجم مع العقل، وهو أساس المحاججة، فلا دِين دون عقل ولا فقه حقيقيًا دون الواقع، وكل تعارض مع العقل سيكون تعارضًا مع الواقع، ولا ينبغي أن يكون الصراع بين الإسلاميّين والعلمانيّين على المستقبل أو على قيم السماء، فهذه أمور في علم الغيب، وينبغي أن يكون النّقاش والجدل والاتفاق على الحاضر وعلى الوسائل الملموسة، فلا غاية شريفة دون وسيلة شريفة.
ما يمكن الاتفاق عليه بين الإسلاميّين والعلمانيّين هو حقوق الناس في العمل والصحّة والتعليم والحرّيات، وكلّ ما يتعلّق بمطالب الناس الحيوية الآنيّة المباشرة من خدمات ومصالح، أمّا الأفكار والرؤى الفلسفية المادّية والمثالية فهي تبقى مختلفة، ولكل حقّه في التفكير والدعوة لأفكاره بالوسائل السلميّة، وتلك من طبيعة الأشياء.

■ ما رأیك بالأطروحات التي تشیر إلى أن الثقافة العربیة والإسلامیة تحمل بذور العنف بداخلها، ومن ثمَّ فعلى عاتقها تقع مسئولیة انتشار التنظیمات الإرهابية؟

-  في كل ثقافة هناك جذور للعنف، ولو فتّشت في جذور الثقافة المسيحيّة الأوروبية والغربية، ستجدين العنف مستشريًا إلى حدود كبيرة فكرًا وممارسة، سواء ضد الإسلام منذ الحروب الصليبية «حروب الفرنجة» ذات الأهداف الاستعماريّة لفرض النفوذ والهيمنة واستعباد الشعوب، إضافة إلى حروب الطوائف بين الكاثوليك والبروتستانت، وحرب الثلاثين عامًا، وهي سلسلة من الحروب والصراعات دينيّة وطائفيّة بالدرجة الأولى.

   نعم توجد نزعات عنيفة في الثّقافة العربيّة، الإسلامية، وهي غير قليلة، وتفسيرات وقراءات وتأويلات ماضويّة استغلّتها التنظيمات الإرهابية، فقد كان تشكيل تنظيم القاعدة الذي   انطلق منه «الأفغان العرب» وصولًا إلى انبثاق تنظيم داعش، التعبير المتطوّر للفكر الإرهابي المستند إلى التعاليم الدينية، الذي   يقوم على فكرة أساسية ملخّصها استبدال «حكم الدولة» بـ«حكم الله»، ولعلّ الفارق بين القاعدة وداعش أن الأخير بنى استراتيجياته على احتلال الأراضي والاحتفاظ بها وإقامة كيان فيها مثّل نواة دولة «الخلافة»، ولهذا قام بتمزيق الحدود «الاستعمارية»، التي تشكّلت وفقًا لاتفاقية سايكس بيكو في أعقاب انحلال الدولة العثمانية.
وقد استغل التيار «الإسلامي» أو الإسلاموي صراعه مع السلطات الحاكمة، تحت منابر مختلفة ومتنوعة، بعضها علني والآخر شبه علني أو حتى سرّي، ابتداءً من المساجد والجوامع ومرورًا بالجمعيات الخيرية والاجتماعية والمناسبات الدينية إلى استخدام نصوص الدساتير والقوانين النافذة، مستفيدًا من مهادنة السلطات ومداهنتها له، بحجّة عدم استفزازه وتجنّب التعرّض له، بل ومجاملته حدّ التزلّف أحيانًا ليرضى عنها.

■ في هذا الصدد، ذكرت في كتابك «فقه التسامح في الفكر الإسلامي» أن البلدان الغربیة أسهمت في دعم التیارات الأصولیة المتعصبة وتأجیج الإسلاموفوبیا لتحقیق مصالحها.. كیف یمكن الفكاك من تغول الإرهاب في ظل ذلك الوضع؟ وكیف یمكن تحقیق قیم التعایش والتعددیة الثقافیة في ظل لعبة المصالح تلك؟
- الإرهاب ظاهرة عابرة للحدود ولا يمكن تحديدها بجغرافيا أو دين أو قوميّة أو أمّة أو جماعة بشريّة، إنها ظاهرة عالميّة، لقد كانت الدعاية الغربية في السابق تروّج إلى أن موسكو مصدره، وهذا هو الإرهاب الأحمر الذي مقرّه بيروت وذراعه الضاربة المقاومة الفلسطينية، في محاولة لإحداث نوع من الالتباس والإبهام والغموض بين الإرهاب والمقاومة، علمًا بأنّ القانون الدولي يقرّ بالحق في مقاومة الاحتلال لتحرير الأراضي والحق في تقرير المصير ونيل الاستقلال.
وبعد انهيار الشيوعيّة روّجت الدعاية الغربية للإرهاب الأخضر، وهو الإرهاب الإسلامي معتبرة أنّ الإسلام دين يحضّ على العنف والإرهاب، وراح فرانسيس فوكوياما وبعده صموئيل هنتجتون يدعوان لنظريّتَي نهاية التاريخ وصِدام الحضارات لدخول العصر الجديد الليبرالي بعد انهيار الشيوعيّة، معتبرين أن الصراع بين الحضارة الغربية المسيحية اليهودية الليبرالية وبين الحضارات الأخرى، ولا سيّما الحضارة العربية الإسلامية والكونفوشيوسية والبوذية وغيرها، ثمّ جاء الإرهاب الأسود الداعشي وتحت عنوان يُراد منه إذلال شعوب والتصرّف بمصائرها، حيث جرت وتجرى محاولات الابتزاز وفرض الهيمنة، ولا تزال «الإسلاموفيا» «الرّهاب من الإسلام» والعداء له قائمة في الغرب، يقابلها «الويستفوبيا» أي «الرّهاب من الغرب» لدينا واعتبار كلّ ما فيه شرٌّ مطلق ينبغي تدميره وهي الأطروحة الداعشية.
إن محاربة الإرهاب على المستوى الداخلي تتطلّب أولًا وقبل كل شيء المصالحة بين الدولة والمواطن، بحيث لا تعتبر الدولة كل نقد عداء لها، ولا ينبغي أن تندمج السلطة بالدولة وتتغوّل عليها، وعلى المواطن ألا يعتبر الدولة عدوًا، بل إنها بخدمته ورعايته بعد توفير حمايته، وبالتالي فإنَّ عليها واجبات، مثلما له حقوق عليه، وهذه معادلة مهمّة لتطويق الإرهاب واقعيًا بالمواطنة المتكافئة والسليمة ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة واحترام الحقوق الجماعية والفردية، وحين يحصل ذلك فإنّ القوى الإمبريالية والإقليمية بأطماعهما المختلفة لا يمكنها اختراق سيادة البلاد وحُرمة أراضيها لا سيّما بتحقيق العيش المشترك أو العيش معًا باحترام التعدّدية والتنوّع والهويّات الفرعية بأبعادها الثقافية المختلفة الدينيّة والإثنيّة واللّغويّة والسلاليّة وغيرها.
   أمّا على المستوى الدولي فيحتاج الأمر إلى إصلاح نظام العلاقات الدوليّة، بحيث يكون أكثر عدالة، وهذا يتطلّب جهدًا جماعيًا لإحلال قيم التسامح والسلام التي جاء بها ميثاق الأمم المتحدة، لا سيما احترام مبادئ السيادة وحق تقرير المصير وعدم التدخل بالشئون الداخلية، والمساواة بين الدول كبيرها وصغيرها، وعدم استخدام القوّة أو التهديد بها لحلّ الخلافات واللجوء إلى الحلول السلمية، وغير ذلك.

■ في كتابك «الهويّة والمواطنة» قلت إن «الدیمقراطیات الغربیة أمام مفترق الطرق، إما احترام الخصوصیات والهويَّات الفرعیة، وإما العمل على الصَّهر والدَّمْج».. من هذا المنطلق، كیف تقرأ تصریحات الرئیس الفرنسي بخصوص التصدي للانعزالیة الإسلامیة، هل تعتبر مواقفه الأخیرة دالّة على عدم احترام الهويّة الإسلامیة؟
- تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بعد حوادث العنف الإرهابية التي حصلت في فرنسا ناجمة عن عقليّة استعلائيّة. أولًا، لاتهاماتها الإسلام والمسلمين بالجملة، فضلًا عن الثقافة العربية، الإسلامية، وثانيًا: لدمغها العمل الإرهابي بوصفه إرهابًا إسلاميًا، ومثل هذا الأمر يقع فيه كثيرون، فالإرهاب بغضّ النظر عن مسمّياته هو إرهاب أي عمل عنفي يؤدّي إلى خلق رعب في مجموعة من السكان لأغراض دينية أو قوميّة أو أيديولوجية أو غير ذلك، سواء كان في فرنسا أو في العراق أو في الصومال أو لبنان أو تل أبيب، من يقوم بذلك هم إرهابيّون بغض النظر عن دينهم ولون بشرتهم وأصلهم وقوميّتهم، والأمر يحتاج إلى فك اشتباك فكري ونظري وعملي في الوقت نفسه.
■قلت إن العالم العربي لدیه كل ما يؤهله لیكون قوة إقلیمیة كبرى في مواجهة المشاریع الصهيونية والتركیة والإیرانیة.. لِمَ أخفق العالم العربي طوال عقود في تحقیق ذلك؟ وهل تتوقع أن یتحقق ذلك في ضوء إرث أزمات القرن العشرین الثقیل والمعطیات الراهنة؟

- إنّ سبب إخفاق العالم العربي في مواجهة المشاريع الصهيونيّة والتركية والإيرانية، وإن كانت هناك فوارق بينها، يعود إلى غياب الحد الأدنى من التضامن العربي، فالعالم العربي يعيش حالة من التشتّت والتباعد، الأمر الذي   سهل للقوى الطامعة والمتربّصة استغلال ضعفه، وفي مقدّمتها «إسرائيل» العدوّ الأساسي للأمّة العربية ولمشروع التقدّم والتنمية في المنطقة.
هناك ثلاثة مشاريع في المنطقة أخطرها المشروع الإسرائيلي التوسّعي الإجلائي الإحلالي، وثانيها: المشروع التركي الأيديولوجي القومي ذو الخلفية الإمبراطورية العثمانية، وثالثها: المشروع الإيراني الأيديولوجي القومي ذو الخلفيّة الإمبراطوريّة الصفويّة، والمشاريع الثلاثة وإن اختلفت أهدافها، إلّا أنها ليست بعيدة عن التستّر بالدِّين.
إسرائيل تدعو لدولة يهوديّة نقيّة وتريد طرد الفلسطينيين، وتركيا تريد التمدّد لإحياء الإمبراطورية القديمة، والمثال على ذلك دورها في مصر وفي شرق المتوسط، اليونان وقبرص وفي ليبيا، وإيران تريد عواصم عربية خط دفاع لها، ولهذا تسعى إلى مناطق نفوذ، أما العالم العربي برغم مؤهلاته، فإنه متباعد تطحنه الصراعات الثانوية على حساب الصراع الأساسي مع العدو الصهيوني ونزاعاته مع المشاريع الإقليمية، بما فيها محاولة إثيوبيا بناء سدّ النهضة لحرمان مصر والسودان من حقوقهما المائية.
لا أعتقد أن الأوضاع ستستمر إلى ما لا نهاية على ما هي عليه، ولا بدّ من نهوض جديد للقوى الحيّة في جميع البلدان العربية في إطار المصالح العليا المشتركة، فالعالم العربي يمثّل موقفًا استراتيجيًا مهمًا، وهو إضافة إلى كونه مهد الحضارات والرُّسل والأنبياء، فإنّ فيه موارد طبيعيّة وأنهارًا وثروات لا حدود لها، ويمكن استثمارها لما يزيد عن عدد سكّانه الذين يقاربون اليوم نحو على ٤٥٠ مليون إنسان، حيث التاريخ المشترك واللغة المشتركة والأديان المشتركة والمزاج المشترك والمصير المشترك، إضافة إلى التراث القومي واللّغوي والثقافي والعقول والطاقات البشرية والبشر المُبدعين الذين كان لهم شأن عظيم على مرّ التاريخ.

■منذ بدایة التسعینیات طرح فوكویاما نظريّته حول نهاية التاریخ، وتحدث عن تحدیات ثلاثة تواجه العالم: اللجوء، النفط، الإرهاب.. إلى أي مدى یمكن القول إن الإشكالیات الثلاث هي التي تتمحور حولها الصراعات حالیًا في العالم؟ وما السبیل للفكاك منها؟
- ما قاله فوكوياما صحيح جدًا، وإنْ كان كلامه حقًا يُراد به باطل: فالنفط محور الصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة وفي الحرب العالمية الأولى قيل مَن يضع يده على النفط يستولي على العالم، ولا يزال هذا القول إلى حدّ ما صحيحًا، ولعلّ الماء اليوم مثل النفط، وقد قال السياسي التركي توركت أوزال في وقت مبكر «سيأتي يوم نبدّل فيه برميل مائنا ببرميل النفط». أمّا الإرهاب فهو مشكلة عالمية بسبب غياب العدالة في نظام العلاقات الدوليّة، حيث هناك الجنوب الفقير والشّمال الغني، وإذا لم يتحمل الشمال الغنّي مسؤولياته إزاء الجنوب، فإن القنبلة الديموغرافية والانتقال من الجنوب إلى الشمال سينفجران بما لا تحمد عقباه، الأمر يحتاج إلى تعاون دولي لمساعدة البلدان الفقيرة، وبقدر ما يتمّ ذلك فإنها ستتمكن من الحدِّ من ظاهرة اللجوء التي أخذت تتهدّد أوروبا والعالم، حيث تعتبر المنطقة العربية الأكثر مصدّرًا للجوء، إضافة إلى النازحين بسبب النزاعات والحروب، وعلينا ملاحظة ما يجري في سوريا وليبيا واليمن، ناهيك عن العراق ولبنان، وقبل ذلك السودان لنرى ماذا يعني استنزاف هذه البلدان وما سيتركه على المستقبل.
 
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير                     
د. محمد الباز                        
رئيس التحرير التنفيذي                        
محمد العسيري                     



121
حول انتفاضتي لبنان والعراق
                           
عبد الحسين شعبان

لم تكن الرومانسية القديمة كافية لإشعال حماسة الشباب، بما فيها الوعود، والآمال الكبيرة، والشعارات البرّاقة بعيدة المنال؛ لقد حلت محلها الواقعيّة السياسيّة بلا شعارات كبرى، ولا وعود معسولة أقرب إلى السراب، حيث انتظمت الملايين بشعارات مبسطة: الحرية، العدالة، تعديل الدستور، القضاء على الفساد، واحترام حقوق الإنسان.
هكذا سدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن، باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته وهو يبرر خطاب الحاكم بالقمع السياسي، أو بالقمع الفكري، ويحرق البُخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المُعارض الذي كان بعيداً، أو غائباً، أو مخادعاً، فقد كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة، وإنْ التحقوا بعد حين وسط جوّ من الدهشة، والارتباك، والحيرة.
لقد تجاوزت المعركة الحقيقية التي أرادها الناس المعارك الوهمية الصغرى حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، خصوصاً حين تقدّم جيل الشباب بكل فئاته جاعلاً من انتفاضته، ولأوّل مرة في الوطن العربي، ثورة شعبية سُداها ولُحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبراغماتيته، فقد كان ثوريّاً بامتياز، ولكن ضمن مفاهيم جديدة، فلم تعُد مقولة إن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوفر لها قيادة مُلهمة، أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم حزب قائد «طليعة»، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها إنجاز التغيير من دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً «العامل الدولي» الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر دام ثلاثة عشر عاماً، إلى الاحتلال البغيض، وإنْ كان ثمّة جزعٍ ويأسٍ من التغيير الداخلي في ظلّ هيمنة إقليمية ودولية أحياناً، لذلك ترى بعض الأصوات حتى إن كانت خافتة، أو هامسة، تدعو لإعادة الانتداب مجدّداً، وهو ما نمّ عن هواجس هنا، وهناك، في لبنان، والعراق.
وأثبت جيل الشباب أنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو، لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة فدخل في سُبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية والطائفية دجنت الشعوب بعوامل الجوع، والخوف، فضمنت خضوعها اللامحدود بمكان، أو زمان. وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه، وقهره في أولى خطواته نحو الوجود، والكرامة.
لم يكن للانتفاضتين رمز قائد، أو زعيم مخلّد، أو مُلهم مخلّص يصبح لاحقاً «معبوداً»، ومقدّساً، وفوق حدود النقد، ولم يكن لهما أيضاً نصوص مقدّسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة، ورمزية، وواقعية، في آن واحد، ومثلما كانتا ضد الصنميّة، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات، واليقينيات، والقدسيات، والسلفيات المشوّهة، والوعود الزائفة، وعابرتين للطوائف، والطبقات الاجتماعية، والمجموعات القبلية، والعشائرية، واضحتين في مطالبهما، وحاسمتين برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتين إخلاصهما، ونزاهتهما، والتزامهما بمطالب شعبيهما.

 لقد وضعت الانتفاضات التي انتصرت، سواء في العالم العربي، أو في أوروبا الشرقيّة، أو في أمريكا اللاتينيّة، بإسقاطها الدكتاتوريات، سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكيّة: أين دورها، وما هو موقعها من الخريطة السياسية الجديدة؟
حقّاً لقد أفرزت الانتفاضات العربية، رغم منعرجاتها ووعورة طريقها، نمطاً جديداً من التفكير والممارسة، متقدّماً، وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي، حيث بدأ الشباب بكل حيويّته، وطاقاته، ومبادراته، وأصبح على الجميع اليوم الاستماع إليه، والوقوف خلفه ليصل إلى طريق المشروعية القانونية، أي حكم القانون، والشرعية السياسية، أي رضا الناس، وتحقيق المنجز التنموي الذي يلبّي طموحاتهم، وليتمكّن من حماية عملية التغيير قبل أن يتم الالتفاف عليها، أو سرقة منجزاتها، أو اللعب بمستقبلها. كما أثبتت حركة الاحتجاج الجديدة ضمور دور الدُعاة الحزبيّين الأيديولوجيّين، العقائديّين، الذين بشّروا الناس بالجنّة، أو بعالم يحقّق الوحدة العربية، أو تحرير فلسطين، (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعيّة الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في مملكة الأرض، بل على قيم السماء.
drhussainshaban21@gmail.com




122
سلطة الحق .. سلطة الضوء

عبد الحسين شعبان


"من أحبّ الحق وغار عليه، فهو مع حبّه لا مع الحق العارف
 لا يغيــر على الحــق، بل يعشقـــه إلى عباده ويحبّبه إليهــم"
ابن عربي

ثلاث قضايا أساسية ينبغي أن تتوفّر في المنشغلين بقضايا حقوق الإنسان، سواءً على المستوى الفكري والثقافي والأكاديمي، أم على المستوى العملي والتطبيقي والنشاط الفردي والجماعي، وهي أركان أساسية لا يمكن إغفال أي منها:
أولها-  الإيمان بالقضية، لا بصفتها وظيفة أو مصدر رزق حتى وإن كانت حقلاً للعمل والنشاط.، وإنما باعتبارها قضية إنسانية بالدرجة الأساسية، سداها ولحمتها الإنسان وهو مضمون وهدف كل نشاط إنساني، فلا فلسفة ولا آيديولوجيا ولا سياسة ولا دين يسمو على الإنسان، الذي ينبغي أن تكون الخطط والبرامج لسعادته ورفاهه.
وثانيها- الأمل، وهو أمر ضروري ، بل لا غنى عنه، لاسيّما باستلهام المستقبل، بقراءة الماضي بصورة صحيحة والاستفادة من دروسه وعبره  والتوقّف عن تجاربه الإيجابية والسلبية خدمة لحاضر الإنسان ومستقبله، والمسألة لا تتعلّق بالنظر إلى  الراهن فحسب، بل الانطلاق منه  لتلمّس الطريق المستقبلية، إذْ دون أمل وشيء من اليوتوبيا لا يمكن إحداث التطوّر والتغيير المنشودين، وكما يُقال ففي كل فلسفة هناك شيء من اليوتوبيا.
ولا يتحقق الأمل دفعة واحدة، بل يأتي تدرجياً وتراكمياً وقد يستغرق وقتاً طويلاً، فيأتي على دفعات وأحياناً على شكل قفزات بالتراكم الكمّي، لكي يحدث التغيير النوعي، وهذا يعني حدوث تغييرات اجتمااقتصادية سياسية تساعد على إنجاز التغيير  الذي قد لا ينجز بسهولة ، بل عبر صراع مرير يصاحبه في الكثير من الأحيان ضحايا وخسائر بشرية ومادية ، لاسيّما بين أصحاب حق وهم الأغلبية الساحقة وبين مستلبين وهم أقلية متسلطة، ففي حين تسعى المجموعة الأولى للحصول على حقوقها وتأكيدها قانونياً واجتماعياً أي واقعياً، تحاول المجموعة الثانية إدامة استغلالها وتعطيل سير عجلة الحق إلى الأمام.
وثالثها- العدل، فهدف منظومة الحقوق الدولية ، وما يطلق عليه " الشرعة الدولية" وتطبيقاتها الوطنية هو تحقيق العدالة  وإحقاق الحق، وليس الانتقام أو الثأر، ولن يتحقق ذلك إلّا عبر سيادة القانون وأجهزة الدولة بالطبع، فوظيفة أي دولة تتلخص في حماية أرواح وممتلكات الناس عبر فرض القانون على الجميع دون استثناء ، وكما يقول مونتسكيو " القانون مثل الموت لا يستثني أحداً" ويتطلّب ذلك ضبك النظام والأمن العام دون تمييز.
إن ذلك من مواصفات الدولة القانونية التي تحمي حقوق الإنسان الفردية والجماعية، المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وتأخذ بنظر الاعتبار تطور المجتمع وحاجاته بالتشريع والرقابة والرصد للانتهاكات لمعالجتها ومشاركة هيئات ومنظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني في بلورة رؤيتها توافقاً وتساوقاً ونقداً لرؤية الدولة في رسم وتنفيذ خطط التنمية المستدامة لجميع حقولها.
والأمر يتعلق لا بالمساواة أمام القانون فحسب، بل بوجود  قضاء عادل ونزيه ومؤسسات ضامنة وشفافية ورقابة وشراكة ومشاركة، وهو ما يضع الأمل موضع التطبيق مصحوباً بإيمان بأن التطور سمة تكاد تكون مطلقة ولا يمكن التنكر لها حتى لو تم تعطيلها أو تأخيرها أو عرقلة مسارها أو حرفه.
ويمكنني أن أشبّه منظومة حقوق الإنسان السبيكة الذهبية، فلا يمكن إهمال أو اقتطاع أو إلغاء جزء منها بزعم عدم فائدته أو عدم الحاجة إليه، بل ينبغي أخذها ككل مع تأكيد بعض أولوياتها، لاسيّما الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف، فذلك هو المدخل الحقيقي لجميع الحقوق الأساسية  وتفرعاتها، وللدفاع عن ذلك الحق فالحاجة ستكون ماسّة إلى " حق التعبير" بجميع الوسائل، فحتى حق الحياة سيكون ناقصاً ومبتوراً ومشوّهاً دون حرّيات ، لاسيّما حرّية التعبير التي تضمن "حق الاختلاف" وبالتالي "الحق في التنوّع" و"التعددية"، ولا بدّ من تأكيد "الحق في التنظيم المهني والنقابي والسياسي"، وهذا يعني احترام "حق الاعتقاد" دون إكراه، ويتطلب ذلك إقرار "الحق في الشراكة" و"المشاركة" على أساس المساواة وعدم التمييز.
وستكون هذه الحقوق الأساسية المدنية والسياسية ضرورية للدفاع عن "حق العمل" و"حق التعليم" و"الحق في الصحة" و"الحق في الراحة" و"الحق في الثقافة" وغيرها من الحقوق التي تطوّرت بتطور أجيال حقوق الإنسان ليصبح حق التنمية و"الحق في السلام" و"الحق في بيئة نظيفة" و"الحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية - التقنية" و"الحق في الخصوصية" كهويّة وتنميتها وتطويرها، من الحقوق الجماعية والفردية التي تقرّها المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وهي تطوير للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي تتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في العام 1948 والعهدين الدوليين الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 ودخل العهدان حيّز التنفيذ في العام 1976،  وهما الأول- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثاني - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ولعلّ منظومة الحقوق تطورت اليوم على نحو كبير ، لاسيّما في ظلّ الثورة العلمية - التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتيل" وزادها اليوم على نحو هائل ما يسمى بالطور الرابع للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي.
وعلى غرار الفيلسوف الصيني لاوتسه مؤسس الفلسفة التاوية (أواخر القرن الرابع قبل الميلاد) يمكن القول أن الطريق يشتمل على احترام كل الأشياء الصغيرة والدقيقة، ولذلك ينبغي أن يُدرك الطابع الشمولي لحقوق الإنسان المتطورة والمتداخلة والمتفاعلة بحيث لا يمكن الافتئات عليها أو تجزئتها أو الانتقاء منها أو حذف بعضها أو إهمالها تحت أي حجة ، بل لا بدّ من أخذها ككل متكامل ، وعدم الانتقاص منها.
ولا بدّ من إدراك أن الدفاع عن حقوق الإنسان ليست معركة بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية، بل هي مسار متوازن ومتراكب ومتشابك، فيه الكثير من الشدّ مثلما فيه بعض الاسترخاء، ويعتمد ذلك على توازن القوى من جهة،  وعلى تطور كفاح المُستلبين للدفاع عن حقوقهم من جهة أخرى، وعلى التعاون بين الحكومة من جهة ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى،  خصوصاً في المجتمعات المتطورة وبدون إقناع الحكومات بتبنّي مطالب المجتمع المدني والسماح له بحرية العمل والنشاط الشرعي القانوني في البلدان التي لم ترخّص له ووضع ذلك في إطار التشريع والتطبيق والمساءلة والمراقبة، لا يمكن إحراز تقدم فعلي في مسار احترام حقوق الإنسان.
 وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تعي دورها بحيث تتحوّل إلى "قوة اقتراح" و"شراكة" وليس "قوة احتجاج" و"رصد" أو " معارضة" فحسب، وهكذا يمكن أن تساهم بعملية التنمية  وفي اتخاذ القرار من جهة وفي تنفيذه من جهة أخرى وفي كشف الثغرات والنواقص والانتهاكات من جهة ثالثة، وذلك هو دورها الحقيقي والفعّال.
وعلى المنظمات والهيئات المدافعة عن الحقوق الإنسانية أن تضع مسافة واضحة بينها وبين الحكومات من جهة، وبينها وبين المعارضات السياسية من جهة أخرى، فهي ليست جزءًا من المعارضات، مثلما هي ليست ضد الحكومات، إنها مع الضحايا وتدافع عن حقوقهم، وليس بالضرورة مع أفكارهم، ولذلك ينبغي عليها عدم الانخراط في الصراع الآيديولوجي الدائر في المجتمع، لأن ذلك ليس من صلب مهماتها وعملها، بل إنه يخرجها عن أهدافها الحقيقية في الدفاع عن كل إنسان بغض النظر عن أفكاره ومعتقداته ودينه وقوميته وجنسه ولونه وانحداره الاجتماعي.
 وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تعمل ضمن القوانين والأنظمة المرعية والنافذة وبصورة سلمية وألّا تلتجئ إلى العنف أو العمل السري، لأن ذلك يفقدها شرعيتها ومشروعيتها القانونية، مثلما ينبغي أن تتمتع بالشفافية والعلانية. ومن جهة أخرى فإنها لا تسعى للوصول إلى السلطة وليس ذلك من أهدافها، لأنها ستفقد هوّيتها، وينبغي أن يصبّ عملها الأساسي على تأمين التزامات الحكومات بالحقوق والاستجابة لتلبية متطلبات الحقوق الجديدة والمتطوّرة والرصد والمراقبة للانتهاكات والتجاوزات عليها والضغط لتطبيق مبادئ حكم القانون واستقلال القضاء واحترام أجهزة الرقابة المختلفة ، لتأمين ذلك.
ولكي تستطيع القيام بهذه المهمات ، فلا بدّ لها أن تتمتع باستقلالية مالية وإدارية، وخارج دائرة الاصطفافات السياسية والفكرية والدينية والطائفية والجهوية، وأن تكون منظمات مفتوحة للجميع وغير مقتصرة على دين أو إثنية أو طائفة أو غير ذلك، مثلما تحتاج إلى إقرار العلاقات بين هيئاتها بصورة ديمقراطية وعبر التداول والتناوب، وإلّا ستكون مثل بعض الحكومات التي تنتقدها بتمسك إدارييها بمواقعهم لسنوات طويلة، وهذه إذْ تتشبث بذلك ستفقد صدقيتها، وللأسف هناك العديد من التجارب العربية السلبية على هذا الصعيد بحيث عانت بعض المنظمات من أمراض الحكومات ذاتها وهو ما أضعف الثقة بها.
إن مناضل حقوق الإنسان هو مثل "محارب الضوء" في رواية  باولو كويلو " أوراق محارب الضوء"، الذي يجلس في مكان هادئ داخل خيمته ويسلّم ذاته للنور المقدس... وكأنه يصبح شرارة من روحه إلى العالم، بما يعني إدراك مسؤولياته إزاء حماية البشر من الاستلاب واحترام حقوقهم عبر الإيمان والأمل والعدل، ومحارب الضوء بحاجة إلى الكثير من المحبة للإنسان ومُثله وقيمه النبيلة، وهي قيم مشتركة لبني البشر، وهو ما نطلق عليه الشمولية في المشترك الإنساني التي لا تنكر الحق في الخصوصية، وهذه الأخيرة لا تتنكّر للقيم العالمية، بقدر ما هي تتفاعل معها وتضيف إليها وتعمّق توجهاتها.
ومن هذه الزاوية كان انتقاد أممنا وشعوبنا في المنطقة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأنه لم يأتِ على ذكر " حق تقرير المصير"  حين أبرم في العام 1948 باعتباره حقاً جماعياً أساسياً لا يمكن الحديث عن الحقوق الأخرى، سواء الفردية أو الجماعية، دون تأمينه، وحسناً اقتنع المجتمع الدولي بتقنين هذا الحق الوارد في ميثاق الأمم المتحدة الصادر في العام 1945 كحق أساسي ومستقل من حقوق الإنسان في المادة الأولى من العهدين الدوليين العام 1966، وهو ما ذهب إلى تقنينه أيضاً في العام 1970 بعنوان " قواعد القانون الدولي المتعلقة بعلاقات الصداقة والتعاون بين الدول في إطار ميثاق الأمم المتحدة" والتي تم إقرارها بالإجماع في الدورة الـ 25 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن عمل حقوق الإنسان يحتاج إلى الصبر والتراكم، فلا ينبغي التحرّك قبل الأوان لأن ذلك قد يجهض الفكرة إنْ لم يكن المجتمع مستقبِلاً لها ومتعاطياً معها، مثلما لا ينبغي السماح للفرصة بالإفلات لأن ذلك يعني تبديد الأمل، وهنا  لا بدّ من اختيار اللحظة التاريخية بحيث يكون التغيير انعكاساً لتطوّر المجتمع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي من جهة، ومن جهة أخرى تطويراً للواقع والأخذ بزمامه باتجاه تحقيق التغيير المنشود  وتسريعه.
إن في ذلك شجاعة هي شجاعة الإيمان والأمل في تحققه وصولاً إلى طريق العدل الذي لا حدود له لأنه متواصل ويتطوّر مع الأيام آخذاً بنظر الاعتبار عملية التغيير المستمرة بديناميتها المتواصلة ، فطالما هناك نساء مستلبات وأطفال بلا مدارس وبشر يموتون من الجوع أو يعيشون دون خط الفقر وأشخاص مضطهدون أو يتعرّضون للعنصرية والاستغلال وأصحاب احتياجات خاصة ومسنون وحيدون دون رعاية صحية أو اجتماعية، وإنسان بلا عمل أو تقاعد أو ضمان اجتماعي، يكون هناك ضرورة لمن يتصدّى لذلك، وهؤلاء هم البشر الشجعان الذين  يعملون لنيل هؤلاء حقوقهم العادلة والمشروعة.
إن الحقوق الإنسانية بشموليتها تجمع البشر بغض النظر عن اختلافاتهم، لأنها تمثل القيم العالمية المشتركة وهذه القيم  تطوّرت على مرّ التاريخ وهي نتاج أديان وفلسفات وأفكار، ولذلك لا يصحّ وضع حواجز بين البشر بعناوين دينية إسلامية أو غير إسلامية، مسيحية أو يهودية، إيمانية أو غير إيمانية ، لأنها تهم البشر، فالحرية والسلام والتسامح والمساواة وعدم التعرّض للتعذيب والحق في محاكمة عادلة وحق الإنسان في أن يكون له جنسية وعدم انتزاعها منه وشخصية معنوية، إضافة إلى احترام آدميته وجميع حقوقه التي تمت الإشارة إليها هي حقوق للبشر بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم أو جنسهم أو لغتهم أو لونهم أو أصلهم الاجتماعي.
 وأختتم بما وصفه جين تسو قبل 2500 سنة في كتابه "فن الحرب"  لقواعد الاشتباك الحربي القتالية، لأكيّفها لقواعد الدفاع عن الحقوق، لاسيّما لتحديد أهداف الاشتباك وأسبابه لتكون مؤمناً بما أنت فيه وعليك اختيار من هم أقرب إلى الصدقية في إيمانهم وآمالهم لكي تحرز النصر في كفاحك، مثلما عليك اختيار التوقيت المناسب لطرح المطالبات وتحديد الأولويات في مجالها المناسب، وكلّ ذلك يحتاج إلى استراتيجيات واضحة وواقعية لكي تعبّر عن الواقع وتكون مرآة تعكسه وتمثل تطوره.
فالأهداف النبيلة تحتاج إلى وسائل نبيلة،  وذلك بالضد من الرؤية الميكافيلية التي تقول "بأن الغاية تبرر الوسيلة"، بل اعتماداً على رؤية المهاتما غاندي بأن الوسيلة جزء من الغاية، مثل البذرة من الشجرة، وإذا كانت الوسيلة ملموسة ومعروفة ، فإن الغاية غير  منظورة وبعيدة المدى، لذلك لا بدّ من اختيار الوسيلة الشريفة للغاية  الشريفة. ولا غاية شريفة دون وسيلة شريفة، لأنهما مترابطان عضوياً، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة، مثلما ظلمان لا ينتجان عدلاً، وعنفان لا يولدان سلاماً، وعدوانان لا يحققان حقاً، وتعصّبان لا يوفّران تسامحاً.
ويبقى الأساس والمنطلق والوسيلة والهدف هو الإنسان، لأنه حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس (في القرن الخامس قبل الميلاد) ورائد الفلسفة السفسطائية  "الإنسان مقياس كل شيء" لأن الخير والشر والصواب والخطأ، كلّها ينبغي أن تحدد بحسب حاجات الكائن البشري. وهكذا فإن سلطة الحق ستكون هي سلطة الضوء، ولا ضوء أكثر من احترام الإنسان وحقوقه في الحرّية والمساواة والعدالة والشراكة، وتلك سمات عامة وحاجات لا غنى عنها لبني البشر ، بها ومن خلالها تستكمل الحقوق الإنسانية.
ولهذه الأسباب فالذرائع التي تساق بوضع تعارضات بين الشرعة الكونية لبني البشر وبين مزاعم تتعلق بالخصوصية، إنما هدفها هو رفض بعض الحقوق التي سعى البشر لتحقيقها  والتي تعتبر إنجازاً عالمياً، ساهمت الحضارات المختلفة في رفده بأحسن ما لديها، وهو يتباهى به الأمم والشعوب، فالصينيون يقولون إن لهم رافدهم الأساسي في شرعة حقوق الإنسان وكذلك الهنود واليونانيون والرومان، ويقول الأمريكان أن دستورهم هو التجسيد الحي في العصر الحديث لحقوق الإنسان ويقول الفرنسيون أن الثورة الفرنسية وأفكار فولتير ومونتسكيو وروسو كانت وراء الفكرة الحديثة لحقوق الإنسان 1789، أما الروس فيعتبرون أن ثورة أكتوبر الروسية العام 1917 كانت رائداً مهماً لحق تقرير المصير وللحقوق الجماعية، ولاسيّما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وعلينا أبناء المنطقة كعرب ومسلمين أن نعتز برافدنا لحقوق الإنسان من خلال دستور دولة المدينة للنبي وما جاء في القرآن من قيم إنسانية ، لا تهم المسلمين وحدهم، بل البشر ككل وهو ما ندعوه المشترك الإنساني.




123
عُسر «الديمقراطية» عربياً
عبد الحسين شعبان
«العربي يُعجب بماضيه، وأسلافه، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله». هذا ما كتبه جمال الدين الأفغاني، قبل قرن ونيف من الزمان، فماذا يمكن أن نقول الآن، والعديد من البلدان العربية تواجه تحديات مختلفة تعيق انتقالها إلى فضاء المشروعية القانونية والدستورية ومناخ الشرعية السياسية المقترنة برضا الناس والمنجز التنموي الذي يلبي حاجاتهم الأساسية المادية، والروحية.

 وخلال العقد الماضي شهدت العديد من البلدان العربية أحداثاً كبرى وضعت نُظمها السياسية في موقف حرِج للغاية، فترنح بعضها بين التشبث بالبقاء، وبين الانتقال والتغيير، خصوصاً أنه لم يكن هناك حامل اجتماعي جاهز، ولا وجود لبرنامج سياسي متفق عليه للتطبيق لمرحلة الانتقال، وكل ما حصل هو إنهاء شكل من الاستبداد، لكن ثمة أنواع جديدة منه بدأت تتصادم مع تطلعات الناس للتغيير الجذري، فالثورة ليست شعارات وأحلاماً وردية وتمنيات، وإنما هي «حَفر في العُمق، وليس نقراً في السطح»، على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ.

 ومع بدايات ما يسمى ب«الربيع العربي» تدفقت بعض المصطلحات إلى ساحة العمل السياسي مثل «التحول الديمقراطي»، و«مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية»، و«التغيير الديمقراطي» لدرجة فاض بها المشهد حد الطوفان، وعلى الرغم من أنها لا تزال متداولة وسارية، إلا أن بريقها بدأ يخفت بالتدرج، فصخرة الواقع كانت صلدة جداً، فليس مجرد الإطاحة بالأنظمة الفردية، أو التسلطية، أو الاستبدادية، سيفتح الباب أوتوماتيكياً أمام التطور الديمقراطي، فثمة عقبات وعراقيل جمة حالت، وتحول دون إنجاز، أو استكمال عملية التغيير المنشودة؛ منها أن القوى المخلوعة لا تزال قوية ومؤثرة لدرجة يمكنها إعاقة عملية التغيير؛ كما أن المحيط الذي يتم التحرك فيه لم يكن مؤهلًا لاستيعاب عملية التغيير، داخلياً، أو خارجياً، إقليمياً ودولياً، بسبب استقطابات دينية وصراعات طائفية، ومذهبية، وإثنية، فضلاً عن علاقات عشائرية، وعادات وتقاليد ثقيلة وبالية تحول دون ذلك، وبعد ذلك فالانتقال الديمقراطي يحتاج إلى بيئة ديمقراطية، وتُربة خصبة لبذر بذورها، ووعي ديمقراطي، وثقافة أولية ديمقراطية، وهذا يحتاج إلى إعادة النظر بأنظمة التعليم والمناهج الدراسية، للقضاء على الأمية والتخلف، وهو غير المناخ والبيئة التي شهدت تحولاً سريعاً نحو الديمقراطية كما حصل في أوروبا الشرقية.

 وهكذا ظلت صورة الديمقراطية ضبابية، لا سيما حين يتم اختزالها بإجراء الانتخابات، أو بعض هوامش حرية التعبير، أو غيرها، حتى أن القوى الراغبة في التغيير واجهت خلافات حادة عند أول منعطف يصادفها، يتعلق بعضها بالدستور، وصياغاته، ولا سيما علاقة الدِين بالدولة، حيث لعبت حركات الإسلام السياسي دوراً مؤثراً في فرض رؤيتها المحافظة بخصوص عدد من القضايا، منها قضايا الحريات، وحقوق المرأة، والموقف من التنوع والتعددية الثقافية الدينية، والإثنية، وغيرها.

 ولأن حركة الاحتجاج مفاجئة وعفوية، ولم تتوفر لها مستلزمات التغيير، فقد تصدر المشهد على نحو سريع تيار الإسلام السياسي الوحيد الذي كان الأكثر تنظيماً وحضوراً، وتمكن بشعارات عامة، وعاطفية، وشعبوية، التأثير في صناديق الاقتراع، والإمساك بالسلطة، كما حدث في تونس، ومصر، وقبل ذلك في العراق بعد الاحتلال، وفاز في انتخابات المغرب، وحاز على مواقع في الكويت، إضافة إلى الأردن، كما حاول أن يلعب دوراً مؤثراً في سوريا، وليبيا، واليمن، إثر اندلاع حركات الاحتجاج والانقسامات الداخلية.

 يقول محمد عبده «حين ذهبت إلى الغرب وجدتُ إسلاماً ولم أرَ مسلمين، ولما عدت إلى الشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً». كتب ذلك في عام 1881، وقبله عاش في باريس رفاعة الطهطاوي أربع سنوات، من عام 1826 - 1830 وكان شيخاً أزهرياً، فأدهشه ما رآه من تطور في فرنسا عزاه إلى نظامها السياسي، والقانوني المنفتح على الحريات، وموقع المرأة، إضافة إلى نظام التعليم والتثقف بالعلوم، فدعا إلى إصلاح المعاهد الدينية على طريقة هوبز الذي كان قال: «أي إصلاح مفتاحه بإصلاح الفكر الديني»، وحذا حذوهما أحمد أمين، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وخير الدين التونسي، وعبد القادر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد حسين النائيني.

 الديمقراطية نتاج تطور تاريخي طويل الأمد، فما زالت بلادنا العربية تعاني صدمة الاستعمار، وتأثيراتها مستمرة في الوعي، والثقافة، وما نحتاج إليه هو تهيئة البيئة المناسبة والبُنية التحتية من دستور، وقوانين، وقضاء، وتعليم، وفاعلين سياسيين ومجتمع مدني في إطار مواطنة متكافئة تقوم على قاعدة الحرية، وأساسها المساواة، والعدالة، والشراكة، ومثل هذا يحتاج إلى تراكم تدرجي طويل الأمد، وليس مجرد تغيير نظام بنظام، لأن طريق الديمقراطية لا يأتي دفعة واحدة، بل هو شائك، وتدرّجي، وعسير.

drhussainshaban21@gmail.com

عبدالحسين شعبان
عن الكاتب
عبدالحسين شعبان
عبدالحسين شعبان
أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ


 
   



124

   
اللّاعنف.. المستحيل والممكن

 
عبد الحسين شعبان
في لقاء حواري مع «مؤسسة أديان»، بالتعاون مع الشراكة الدنماركية وتحت عنوان «الخطاب القيمي الإسلامي: من هوّية الجماعة إلى خير المجتمع»، كان السؤال الأبرز الذي شغل المشاركين واستحوذ على مجريات النقاش، هو: هل العنف ظاهرة إسلامية وعربية، أم أنه عنف كوني عابر للحدود، والبلدان، والأديان، واللغات، والقوميات؟ وهو جزء من ظاهرة لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والفكرية، والدينية، والتربوية، والنفسية.
 العنف وليد التعصّب الذي ينجب التطرّف، والتطرف إذا ما تحوّل إلى سلوك ودخل مرحلة التنفيذ يصير عنفاً، والعنف إذا ضرب عشوائياً يتحول إلى إرهاب، ولعلّ بعض من يمارس العنف للانتصار على الآخر، أو لتحطيم معنوياته، أو لإجباره على الخضوع، إنما يمارسه ضد نفسه أيضاً حين يسعى لتدمير الآخر فيكون قد لوّث ما تبقى من إنسانيته أيضاً.
 وإذا كان التاريخ يخبرنا أن القاعدة فيه هي للعنف، والاستثناء هي للّاعنف، لذلك فإن ثقافة اللّاعنف لا تزال محدودة، بل مشكوك فيها أحياناً، باعتبارها خياراً غير مقبول، أو غير واقعي، أو مهادنة، أو مساومة مريبة، وفي أحسن الأحوال خياراً متعالياً على الواقع، حيث يسود العنف، ويطغى على العقول والسلوك.
 والسؤال المحوري المطروح: هل تجدي مواجهة العنف بالعنف، والحقد بالحقد، والكراهية بالكراهية؟ وإلى أي حدود ستتوقّف مثل هذه المواجهة المفتوحة، بالفعل ورد الفعل ؟ وهكذا ستستمر اللعبة إلى ما لا نهاية وحسب جوتاما بوذا: إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى سينتهي الحقد؟ واللّاعنف هو مقاومة بوسائل ناعمة، ويمكنني القول: رذيلتان لا تنجبان فضيلة، وحربان لا تولدان سلاماً، وجريمتان لا تصنعان عدالة، مع معرفتي إن الدعوة للّاعنف تحمل استثناءات تقرّها القوانين الوضعية والسماوية، والمقصود بها «الدفاع عن النفس»، وهو عمل مشروع بكل المعايير.
 لقد أدلج ميكافيلي قبل خمسة قرون من الزمان «فلسفة العنف»، معتبراً «الغاية تبرّر الوسيلة»، وكان العنف لدى بعض التوجهات الأيديولوجية الشمولية نظرية عمل، ومنهج حياة. وإذا كنّا لا نستطيع التحكم في الغايات، لكننا يمكن أن نتحكّم في الوسائل، فالوسيلة هي مرآة الغاية التي تعكس صورتها الحقيقية، وجوهرها، ومحتواها، لأن الأخيرة مجردة، في حين أن الوسيلة ملموسة، والغاية تخص المستقبل، أما الوسيلة فتعني الحاضر، ويمكنني القول إن الوسيلة تمثل شرف الغاية.
 وعلى العموم، فالغايات متشابهة أحياناً، لكن طريق الوصول إليها والوسائل التي نعتمدها مختلفة، وأن مقياس اختبار شرف الغاية يتم عبر شرف الوسيلة، وهذه الأخيرة هي التي تعبّر عن الغايات، والأفكار، والمبادئ، الأمر الذي ينبغي أن يكون هناك تلازم عضوي بين الوسائل والغايات، أي أن الوسيلة تتوحّد بالغاية، ولا يوجد انفصال بينهما.
 إن الانتصار الحقيقي ليس بممارسة العنف للإطاحة بالخصم، أو العدو، بل في تحقيق الغايات النبيلة والشريفة بوسائل نبيلة وشريفة، أيضاً، وهكذا يصبح بديل العنف هو اللّاعنف، لأن العنف هادم وإقصائي، أما اللّاعنف فهو بناء ومقاومة بوسائل سلمية، وحسب مارتن لوثر كينج: «اللّاعنف هو قوة المحبة»، ووفقاً لغاندي فهو «القدرة على المقاومة وقوة الحق والتسامح»، ويرى نيلسون مانديلا أن «اللّاعنف يعتمد على الحرية، والعدالة، والمصالحة»، وكان تولستوي، وهو من روّاد اللّاعنف، يعتبره مساواة، وتسامحاً.
وكثيراً ما قيل أن فكرة اللّاعنف هي منتج غربي، ومستورد، غير أنها ليست حكراً على أحد، بل هي منتج حضاري وعصري ومنجز إنساني يحتاجه البشر بغض النظر عن انتماءاتهم، وروّادها هم من المضطهدين بشكل عام، الذين يسعون لكسر جدران العزلة والانطلاق إلى فضاء التنوّع ومساحة الالتقاء، حيث تتلاقح أفكارهم في الدفاع عن الحق بقيم إنسانية مثل السلام، والتسامح. والعنف بقدر ما هو قضية فردية فهو قضية جماعية أيضاً، ودولية في الوقت نفسه.
 وتزداد حاجة مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى عقد اجتماعي جديد يتعهد فيه الجميع بعدم اللجوء إلى العنف، خصوصاً وقد استفحلت هذه الظاهرة في العقود الأربعة الماضية لأسباب دينية، أو طائفية، أو إثنية، داخليا، أو خارجياً، وذلك بمحاولة الاستقواء على الآخر وفرض الاستتباع، كما تعاني بلداننا تفاقم ثقافة الكراهية وعدم الاعتراف بالآخر أو حقه في التعبير وحروباَ أهلية وصراعات دينية، وطائفية، فضلاً عن تخلّف، وفقر، وأمية، من دون أن ننسى دور العامل الخارجي والتدخلات الإقليمية، والدولية، وما زالت النخب الفكرية والسياسية تعيش على تراث الحرب الباردة القائم على الإقصاء، والإلغاء، والتهميش، لذلك نحن الأشد حاجة إلى اللّاعنف.
drhussainshaban21@gmail.com
•   عبدالحسين شعبان
عن الكاتب
 
عبدالحسين شعبان
أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.




125
منتدى الثلاثاء الثقافي :
التنوّع والتواصل والفضاء المعرفي
عبد الحسين شعبان

بكل تواضع يقدّم لك المؤسسون والمشرفون تجربتهم في تأسيس " منتدى الثلاثاء الثقافي"، على الرغم من أنها تجربة رائدة ومتميّزة ؛ والواقع أنها تجربة تأسيسية تأصيلية لفضاء متنوّع بأفق مفتوح يتّسع لحوارات خصبة ومعرفية تشارك فيه كوكبة لامعة  من المثقفين والكتّاب والأدباء والباحثين والعاملين في الشأن العام، جرى تأطيرها في ندوات واستضافات ولقاءات ومحاضرات ومعارض وكتب وآداب وفنون شملت مئات الفعاليات والشخصيات النافذة وفي الحقول الثقافية المختلفة.
لعلّ إحدى ميزات هذا المنتدى هو أنه تراكمي، أي أنه راكم الخبرة والتطوّر التدرّجي، حتى غدا مؤسسة معمّرة ومثلها يكون نادراً في الأوضاع العربية التي نعرفها، إذْ غالباً ما تبدأ مؤسسات كبرى ، ولكنها بالتدرج تنتهي إلى حلقة ضيقة يضعف تأثيرها، لكن المنتدى الذي بدأ مشواره الأول بسيطاً أصبح مؤسسة حقيقية كبيرة في محيطها وفي تأثيرها. وميزته الثانية أنه تمرّس في الاختيار حتى لكأنه يحاول ملامسة الحياة الثقافية بمختلف أجنحتها، فلم يقتصر على حقل دون آخر لقناعته بتكامل وتداخل وتفاعل الحقول المختلفة  في إطار منهجية شاملة تستوعب العام لتتفرّع منه إلى الخاص ، أو تبدأ من الخاص لتتوسع فتنتقل منه إلى العام .
أما رسالة المنتدى فهي الإيمان بقيم السلام والتسامح وإعلاء قيمة الإنسان وكرامته وحريته ونبذ التعصّب ووليده التطرّف استناداً إلى قيم المواطنة، واعتماداً على مبادئ الحوار والتفاهم والشراكة الأساس في تحقيقها.
هكذا مرّ عشرون عاماً على قيام حلقة متواضعة لتصبح منظومة متنوعة تغطي  المملكة العربية السعودية وتمتد  لتصل أجنحة العالم العربي بمشرقه ومغربه، وكنت قد تابعت عملية التأسيس والتطوّر والندوات والحوارات بشكل مباشر أو عبر البريد الاليكتروني من خلال الصديق الأديب والمثقف الاستاذ جعفر الشايب الذي كنت على معرفة به ولقاءات مستمرة معه ومشاركات كتابية ومؤتمرات حقوقية وثقافية وفكرية على مدى زاد عن ربع قرن.
لعل تلك التجربة الوليدة التي ابتدأت في "ديوانية" أو "براني" كما نقول باللهجة العراقية الجنوبية أصبحت معلماً من معالم الحياة الثقافية في منطقة القطيف، وهي تجربة غنية وعميقة ومتميزة بانفتاحها وتعدديتها وتنوعها وانشغالها بمختلف جوانب الحياة الثقافية: اجتماعياً وفكرياً وفنياً وأدبياً وتاريخياً، خصوصاً سعيها للتواصل والتفاعل بين النخب الثقافية من داخل المملكة العربية السعودية ومن خارجها من الأصدقاء والصديقات والأخوات والأخوة العرب.
وقد سبق أن وجهت لي أكثر من دعوة مشاركة ، لكن ظروف العمل والتوقيتات لم تكن موائمة، حتى حصلت الاستضافة الفعلية، خلال وجودي في الظهران لحضور مؤتمر مؤسسة الفكر العربي " نحو فكر عربي جديد" بتاريخ  2-5 ديسمبر/ كانون الأوّل عام 2019، وكانت تلك فرصة مهمة للاطلاع ميدانياً على منتدى الثلاثاء الثقافي، الذي كان يستعد للاحتفال بذكرى تأسيسه العشرين، ويعدّ برنامجاً خاصاً لذلك.
إن الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي شهدته المملكة في السنوات الأخيرة انعكس على حياة المنتدى ذاته، فلم يكن الحضور ذكورياً، وإنما كان الحضور والمشاركة والنقاش نسوياً أيضاً، وهو أمر يقدّر للمنتدى وللأجواء الجديدة التي خلقتها التغييرات على حياة المجتمع السعودي.
وإذا كان أحد أهداف المنتدى يتجسد في تجسير العلاقات بين النخب الثقافية كما أشرت، فإن تجسير العلاقة مع الأشقاء العرب وبين الرجال والنساء على قدم المساواة، أمر مهم لكسر طوق العزلة والانطلاق إلى فضاء أكثر رحابة وتقدماً، وذلك من خلال مبادرات وفاعليات ولقاءات حول مختلف جوانب الحياة الثقافية، فالمنتدى حسبما عرفت وشاهدت ومن خلال الحضور المنوّع، يضمّ أجيالاً مختلفة من مدنيين ومتديّنين، ورجالاً ونساء واختصاصات متنوّعة؛ ويشمل نطاق عمله ندوات أسبوعية ومحاضرات رئيسية ومعارض فنية وأفلام قصيرة وتكريم لشخصيات وتوقيع كتاب وتعريف بمبادرات.
إن تنمية روح التسامح وقبول التنوّع والإقرار بالتعددية والحق في الاختلاف والعيش معاً والاشتراك في تحديد توجهات الثقافة والحياة العامة، إضافة إلى سعيه لتجديد الفكر الديني وإعادة إصلاح الخطاب المؤمن بالتسامح الديني وحقوق الإنسان هو برنامجه الآني والمستقبلي، وأعتقد أن الهدف الأعم والأوسع الذي يسعى إليه المنتدى هو خلق وعي ثقافي وحقوقي تنويري في جميع الميادين، من خلال إعلاء قيمة العقل باعتباره هبّة ربانية منحها الله للإنسان.


126

الريـــادة والأفـــــق
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

بصدور العدد 500 تكون مجلة المستقبل العربي قد تجاوزت أربعة عقود من الزمان بالكمال والتمام من مسيرتها الفكرية الواعدة.  وتعدّ المجلة اليوم من أطول المجلات العربية عمرًا ، وخصوصاً تمسّكها برسالتها الأولى القائمة على الإيمان بالوحدة العربية التي مثّلت جوهر المشروع النهضوي العربي، واكتسبت مع مرور الأيام معرفة وحكمة، وتلك دلالة الإنجاز والتحقق والامتلاء بما في رصيدها من ذخيرة ومخزون وتجربة.
ومنذ اليوم الأول طرحت المجلة أهم الإشكاليات والتحدّيات التي يواجهها الوطن العربي وعلاقته بمحيطه من جهة وبالعالم من جهة أخرى، مراكمة جهداً معرفياً على هذا الصعيد، خصوصاً في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفلسفية والقانونية والدينية والتربوية والبيئية والصحية والأمنية والعسكرية ، وبالطبع فإن جميع هذه الحقول والميادين ليست بمعزل عن العلاقة بالعلم والتكنولوجيا وعالم الحداثة وصولاً إلى الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي والعالم الافتراضي، من دون إهمال تطور تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والثورة الاتصالية والمواصلاتية والطفرة الرقمية "الديجيتل"،  وكل المنجز العلمي والفني والعمراني والجمالي على المستوى الكوني، وبفروعه المختلفة.
ورسالة المستقبل العربي التي استندت إلى الوحدة العربية وأسست لمشروع دراسات مستقبلية في خصوصها في الميادين المذكورة كافة، قامت على العقل، إذ لا تنوير حقيقي من دون العقل، والعقل قيمة عليا، وكل ذلك مثّا إطاراً للحوار بشأن أركان المشروع النهضوي العربي الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية منذ ما يزيد على عقدين من الزمان في طبعته الأولى، وعاد وجدّده وأجرى مراجعات عليه في صيغته الجديدة التي لا تزال تعتبر مظلّة لمجلة المستقبل العربي.
وهكذا فالتحرر السياسي والاقتصادي والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتجدّد الحضاري كلّها تستند إلى العقل والعقلانية ، كجزء من مشروع الحداثة المشفوع بالحرية. وبعد، فإن غياب العقل بزعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات سيؤدي إلى سيادة الجهل، وهذا الأخير أس البلاء، الذي يقوم عليه الاستبداد الذي ينتج التعصّب والتطرّف ووليدهما العنف والإرهاب، وهو المشروع الذي تصدّت له مجلة المستقبل العربي . وأستطيع القول إن كل انتماء إلى العقل يعني انتماء إلى دائرة الاعتدال، وكل اعتدال هو مواجهة مع ثقافة الكراهية والانتقام والتمييز واللّامساواة.
لقد ربطت مجلة المستقبل العربي حركيتها بدوائر ثلاث: أولها- العروبة التي مثّلت هويتها الجامعة، وثانيها- التفتيش عن الجوامع التي تعظّم من شأن التعاون العربي، وثالثها- الإنسانية ، ولا يمكن للمرء أن يكون عربياً حقيقياً إن لم يكن إنسانياً يؤمن بالأخوة الإنسانية، و"الإنسان مقياس كل شيء" على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس. والعروبة الحضارية في معناها ووجودها إنسانية خارج دوائر الأديان والطوائف والعصبيات الأخرى.
وكانت رسالة المستقبل العربي ضد الاستعلاء والتعصب الديني ووليده التعصب الطائفي؛ وهي دعوة التزمت بها في اختيارها وانتقائها للمقالات كجزء من توجهاتها العامة، وهي دعوة رافقتها دعوة أخرى مماثلة ومتممة ومكمّلة وأساسية في الوقت نفسه، ضد الطائفية والتمذهب بتقديم خطاب نقيض له يعلي من شأن " العروبة الثقافية" التي تسمو على الانقسامات الطائفية والدينية ، وهي رابطة وجدانية وانتماء شعوري وفطري جامع إلى أمة مجزأة تسعى لتحرّرها ووحدتها.
لم تتوقف المستقبل العربي عن الصدور الشهري ولو مرّة واحدة ، على الرغم من المصاعب والتحديات الأمنية اللبنانية، سواء خلال الحرب الأهلية 1975 -1989 أو خلال العدوان الإسرائيلي 1982 واجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، أو خلال العدوان الإسرائيلي تموز (يوليو) 2006 أو خلال التوترات والتجاذبات الداخلية، واستمرت في الصدور حتى خلال الجائحة كوفيد -19 " كورونا" التي اجتاحت العالم خلال العام الجاري 2020.
يمكنني القول إنه لا توجد مكتبة عربية مرموقة تخلو من مجلة المستقبل العربي، سواء أكانت مكتبة عامة أو جامعية أو حتى شخصية. كما احتوت هذه المكتبات على كتب مركز دراسات الوحدة العربية الذي يصدر المجلة والتي تجاوزت على 1000 عنوان في المجالات المختلفة، وذلك مواكبة للتطوّر الكوني من جهة، ولبحث أبرز القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمعات العربية من جهة أخرى.
وكان إعدادها المشروع النهضوي العربي مساهمة كبيرة في بلورة الأهداف العامة التي يناضل من أجلها الساعون للتغيير في وطننا العربي. فقد احتوى على ستة أهداف جمعت فيها التحرر الوطني السياسي والاقتصادي وربطتهما بالتنمية، وهذه الأخيرة ربطت بالعدالة الاجتماعية في التطلع إلى الديمقراطية مع ربط الحداثة بالتراث في إطار التجدد الحضاري وذلك ارتباطاً بمسألة الوحدة العربية .
وأعتقد أن ذلك يشكل جوهر عملية التغيير بجانبها السياسي ضد الهيمنة الخارجية من جهة ومن جهة ثانية توسيع القاعدة الشعبية للديمقراطية بالتحرر الاقتصادي والتنمية المستدامة بجميع حقولها سعياً للعدالة الاجتماعية، وذلك بجعل الحداثة عنصر تجديد للتراث باستلهام قيمه الإيجابية الأصلية وللتفاعل مع التطور العالمي والتفاعل بين الحضارات في المسعى الإنساني لما فيه خير البشر وسعادتهم وتقدمهم.
ويمكنني القول إن أهم القضايا التي تواجه العرب على المستوى السياسي تتعلق بثلاثة أطر:
الإطار الأول- الوطني، حيث يصبح حماية الدولة الوطنية ومنع تشظيها أو تفتتها أو تقسيمها هدفاً أساسياً، يمكن للمجلة الإعلاء من شأنه ورفع درجة أهميته بتحفيز النقاش حوله. والمسألة لا تتعلق بالمناشدات أو التمنيات ، بل بالدعوة إلى توسيع دائرة المشاركة والحوار من خلال تأكيد المواطنة الفاعلة والحيوية ، وهذه تستند إلى الحريات والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية، والمشاركة والشراكة في الوطن الواحد، وهي جزء من المشروع النهضوي الحضاري العربي.
وهذا لا بدّ من تفعيله على صعيد كل بلد عربي وداخل التيارات السياسية فيه القومية العربية بفروعها المختلفة، واليسارية والماركسية، والدينية والإسلامية بوجه خاص، إذ لا يكفي الإعلان عن موافقتها له وتبنّيه نظرياً، بل قياس درجة اقترابها أو ابتعادها منه عملياً، وخصوصاً في علاقاتها واحترامها الرأي والرأي الآخر والتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف، بما فيها داخل أطرها القائمة.
الإطار الثاني- العربي، الذي يتطلب جهداً مضاعفاً ومكثفاً لإعادة الاعتبار إلى المشروع الوحدوي العربي، فبعد أن كان مشروعاً جاذباً ومؤثراً، أصبح مشروعاً منفّراً ومباعداً أحياناً، والأمر لا يتعلق بالأماني ، بل بقراءة الواقع، سواء كان على نحو عام أو مناطقي، فالوحدة التي كانت أملاً للجمهور في الخمسينات وهتفت لها الحناجر عشية إقامتها بين سوريا ومصر العام 1958، لم تعد كذلك حيث انطفأ ذلك الألق الذي كان يحمله اسمها وانخفضت درجة الجاذبية لها أيضاً، وذلك بسبب فشل التجارب الوحدوية ، ابتداء من تجربة الجمهورية العربية المتحدة وتجربة الوحدة الثلاثية (ميثاق نيسان /ابريل 1963 المصري - العراقي - السوري) وإعلان وحدة ليبيا وسوريا ومصر العام 1971 وميثاق الوحدة السورية - العراقية 1978-1979، وغيرها... وانتهت كلّها إلى صراعات ونزاعات وعداوات ما أنزل الله بها من سلطان، فضلاً عن شحّ الحريات والطابع الفوقي الذي اتسمت به هذه التجارب، ناهيك بموقفها من الديمقراطية والتعدّدية والتنوّع.
ولكي تعاد ثقة الجمهور بفكرة الوحدة ويتم الضغط على الأنظمة للتقارب والتفاهم والتعاون والتنسيق فيما بينها ابتداء من أبسط القضايا حتى أرقاها، يمكن البدء بمشروع دراسي حول وحدة بلدين عربيين أو أكثر، وهو ما أنجزه المركز لإعداد دستور عربي فيدرالي كان لي الشرف في إعداده بصيغته النهائية بعد حوارات دامت ما يزيد على ثلاثة أعوام.
المهم رد الاعتبار إلى فكرة الوحدة العربية وأي شكل من أشكال الاتحاد العربي على الصعد الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية أو الثقافية أو الأمنية أو غيرها، وإذا كانت ثمة نجاحات على هذا الصعيد، فهي محدودة جداً مثل مجلس التعاون الخليجي، الذي تأسس في 25 أيار/مايو العام 1981، وبدأ مسيرة إيجابية ، لكنها تلكأت وتعثرت وواجهتها عقبات داخلية وخارجية منعتها من إحراز التقدم المنشود الذي كان واعداً في مرحلته الأولى، ولنلاحظ الصراع القائم بين قطر وبين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، واختلاف المواقف، إزاء اليمن وليبيا والعلاقة مع تركيا والموقف بخصوص سوريا وغير ذلك.
كما أن الاتحاد المغاربي الذي تأسس 17 شباط (فبراير) عام 1989، ظلّ هامشاً والعلاقات بين بعض أقطاره مقطوعة منذ عقود من الزمان (الجزائر- المغرب) بسبب مسألة البوليساريو وغير ذلك من المشاكل التي لم تنقله إلى موقع الفعل والإنجاز. ومع ذلك فإن بقاء مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي قائمين وتطويرهما مسألة مهمة ، ويمكن البناء عليها والاستفادة من التجربة ودروسها وخبرتها للمستقبل أيضاً.
وحتى العلاقة المصرية- السودانية التاريخية تصدعت بسبب مشكلة جزر حلايب ، أما العلاقات العراقية - الكويتية فقد أصيبت بنكسة ما زالت آثارها إلى الآن قائمة، بسبب غزو القوات العراقية في ظل النظام السابق للكويت العام 1990، وما ترك ذلك من آثار نفسية كبيرة، فضلاً عن ما أصاب  العراقيين بسببه من أذى، باستمرار الحصار الدولي الجائر عليه  لمدة 12 عاماً، ومن ثم احتلال العراق واستباحة كيان الدولة العراقية وتعويم سيادتها، ناهيك بما سبّبه من تصدّع في التضامن العربي.
يمكن مجلة المستقبل العربي ومركز دراسات الوحدة العربية الذي وضع هدفاً سامياً من أهدافه هو دراسات الوحدة العربية، أن يخصص مشروعات بحثية لمدة 5 سنوات قادمة لإحياء وتجديد ونقد الفكرة والممارسة في إطار منفتح وجديد.
الإطار الثالث- العالمي؛  كانت المجلة والمركز قد وضعت التجارب العالمية الوحدوية ضمن مشروع دراستها للوحدة العربية، للاطلاع عليها وللإفادة منها، إضافة إلى مواقف القوى الكبرى من مشاريع الوحدة العربية، والأمر يشمل القوى الإقليمية أيضاً، أعتقد أن المجلة بحاجة إلى إعادة تلخيص لهذه التجارب بفتح حوار حول إشكاليات التجارب العالمية والتحديات التي تواجهها كما هو الاتحاد الأوروبي مثلاً، ودور الأزمة الاقتصادية العالمية على الانكفاءات القطرية، وما مدى تأثير ذلك في دولنا ومجتمعاتنا.
ونحتاج أيضاً إلى التسلّح برؤى جديدة حول مواقف القوى الإقليمية التي أصبحت لاعباً فرعياً جديداً ومؤثراً للاعب الدولي الأكبر ؛ ولنأخذ تركيا وطموحاتها العثمانية وإيران ومشروعها الأيديولوجي مثلاً، وذلك في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي من جهة وفي إطار المشاريع الدولية الجديدة، ولاسيّما مشروع صفقة القرن والحديث عن سايكس بيكو جديدة أو  معاهدة لوزان جديدة (علماً بأنه سيمضي 100 عام على معاهدة لوزان 1923 التي كان لها دور كبير في وضع خرائط المنطقة بعد تأسيس الجمهورية التركية وانحلال الدولة العثمانية).
هذه هي المستويات الأساسية التي يمكن أن تؤطر مشروع المجلة الذي هو جزء من المشروع النهضوي العربي في مختلف مجالاته. أما في خصوص القضايا التي تفرض نفسها عربياً على المستوى الاقتصادي ، فهو التنمية المستدامة أي "توسيع خيارات الناس" في المجالات المتعددة، فلا تنمية حقيقية دون مشاريع إصلاح سياسي أساسه حكم القانون والمواطنة واحترام التنوّع الثقافي  والإقرار بحقوق المجاميع الثقافية، والاعتراف بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل.
الإشكاليات التي واجهت العرب نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يُعاد طرحها مجدداً: ولنتذكر كتاب شكيب إرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وقد حاول محمد عبده والأفغاني والكواكبي والطهطاوي والتونسي والنائيني التأكيد على أهمية  التوجه لبناء دولة قائمة على حكم القانون وجعل الناس متساوين أمامه والوقوف بوجه الاستبداد بوصفه سبب البلاء.
وحين أحرزت عدة بلدان عربية استقلالها السياسي لم تتمكن من إنجاز استقلالها الاقتصادي ، وحين حاولت تأميم ثرواتها (قناة السويس) مصر 1956 ، والعراق (تأميم النفط العام 1972) تعرضت إلى عدوان ومحاولات لتدمير مساراتها بأشكال متعددة.
السؤال الآن أي نظام اجتماعي تحتاج إليه البلاد العربية أو كل بلد وفقاً لتطوره؟ وما هو دور القطاع العام في التجارب التي سعت لوضعه بخدمة الطبقات الفقيرة، ولاسيّما بعد محاولات تفكيكه وذلك بزعم الخصخصة والاقتصاد الحر وفشل التجارب الاشتراكية وخسارة بعض مشاريعه، وما السبيل إلى الجمع بين اقتصاد السوق والإبقاء على دور الدولة في البلدان النامية ومنها البلدان العربية، لأن دور الدولة مهم، بل وحاسم أحياناً فيما يتعلق بالتعليم والصحة والبلدية والبيئة، فضلاً عن دورها المحوري في عملية تنمية القدرات وتوزيع المشروعات وتوفير فرص عمل والقضاء على البطالة ، إضافة إلى الضمان الاجتماعي والتقاعد والشيخوخة وغير ذلك.
قد يكون مناسباً على الصعيد العربي الحديث عنه مجدداً وبرؤية جديدة عن "السوق العربية المشتركة" ومشاريع المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، ولكن ضمن ظروف الحاضر ولقضايا محددة بالتعاون مع جهات دولية (مثلا جهات أكاديمية غربية عملت لسنوات لمقاطعة إسرائيل بسبب مواقفها من حقوق الإنسان والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني)، العمل على تجديد وتطوير الاتفاقيات الاقتصادية العربية وفتح الأسواق والحدود وتسهيل التبادل التجاري وانتقال العمالة والسماح بالإقامة وغيرها.
وتحتاج المجلة إلى التوقف عند قضايا النفط والتصنيع في العالم العربي ، ولعل ثمة ترابط بين المجالات الفكرية والثقافية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية والإعلامية والبيئية، لأنها متشابكة ومتداخلة مع السياسة، ولا بدّ من إعلاء مكانة الدولة وجعلها المرجعية الحقيقية للفصل في النزاعات بين الأفراد وفيما بينهم وبين المجتمع، ولعل وظيفة أي دولة حماية أرواح وممتلكات الناس وحفظ النظام والأمن العام.
أعتقد أن ثمة حقولاً تحتاج إلى تفعيل أكبر في أعداد المستقبل العربي خلال السنوات الخمس القادمة وهي تتعلق بحقوق العمال وقوانين العمل العربية ومدى انسجامها مع القوانين الدولية وموضوع الضمان الاجتماعي والشيخوخة والتقاعد ، إضافة إلى معالجة ظواهر الأمية الأبجدية والأمية المعرفية والتكنولوجية ، والدعوة إلى التعليم الإلزامي وإلى توسيع دوائره في الريف والبادية وخصوصاً بالنسبة إلى الإناث.
   ومن المهم فتح باب النقاش والحوار مجدداً حول "المجاميع الثقافية" وحقوقها ومساواتها في إطار المواطنة وفي التعبير عن طموحاتها المشروعة وبالطبع فأنا لا أستخدم هنا "مصطلح الأقليات" لأنه ينتقص على نحو متعسّف من مبادئ المواطنة بافتراض وجود هوّيات "كبرى"  وأخرى "صغرى" و"أغلبيات" و"أقليات" و"هويّات عليا" و"هويّات دنيا" و" هويّات قوية" و"هويّات ضعيفة" وغير ذلك، وقد تحفّظت على إعلان "حقوق  الأقليات" الصادر عن الأمم المتحدة  العام 1992 وعلى "إعلان الشعوب الأصلية" الصادر العام 2007 ، لاحتوائهما على مصطلح "الأقليات" الذي يستبطن عدم المساواة والهيمنة من جهة، والاستتباع والخضوع من الجهة الأخرى.
 ويمكن مناقشة ذلك بالنسبة إلى الحقوق القومية أو الحقوق الدينية أو اللغوية أو السلالية، وعلاقة الهويّات الفرعية بالهوية العامة الجامعة ، مع احترام الخصوصيات وعدم التحلل من الالتزامات الدولية، وكيف السبيل إلى علاقة سويّة أساسها الاعتراف المتبادل؟
ونحتاج إلى إعادة تفكير وتفسير وتقرير في كل ما يُراد بهذا الشأن من العرب ومن الآخرين ومن المسلمين ومن غيرهم، خصوصاً في ظل حكم القانون وعدم التمييز وخارج دوائر المحاصصة ونظام الغنائم والامتيازات والتمذهب.
أعتقد أن الاهتمام بموضوع اللاجئين والمهاجرين العرب ينبغي أن توليه المجلة اهتماماً كبيراً خلال السنوات المقبلة.
كما لا بدّ من إعادة مركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ليس بالشعارات ، بل بفتح حوار معرفي وثقافي حول الصراع العربي- الإسرائيلي بأوجهه المتعددة، وقد يكون مناسباً التعاون في هذا المجال مع مجلة الدراسات الفلسطينية. والبحث في سبل تعزيز المقاومة الشعبية ، وخصوصاً في الداخل حيث يعيش أكثر من  6 ملايين إنسان، مع الاهتمام بشؤون فلسطينيي الشتات البالغ عددهم أكثر من 9 ملايين إنسان.
والموضوع الآخر الذي ينبغي أن يولى اهتماماً كبيراً هو ظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب والإرهاب الدولي، وهي قضايا مرتبطة بالأمية والتخلف والشعور بالإقصاء والتهميش والفوارق الطبقية والاجتماعية.
كل هذه القضايا كان لمجلة المستقبل العربي دور ريادي فيها، ولكنها اليوم تحتاج إلى المزيد من إعادة قراءة ونقد لما تحقق وما لم يتحقق وأسباب ذلك؛ وقد ساهمت المجلة بلا أدنى شك في رفع مستوى الوعي العربي بقضايا الأمة وتحدياتها، وكان للرواد الأوائل الذين خدموا هذا التوجه دور في ذلك. وإذا كان سؤالكم عن مساهمتي الشخصية فيمكن متابعة أعداد المجلة خلال العقدين ونيّف الماضيين ليتبين ما ساهمت به وهو ما يحتاج حقيقة إلى تطوير، بالكتابة والجهد أيضاً .





127


عبد الحسين شعبان لموقع مونيتور :
حين يغيب المشروع العربي تتصدر المنطقة
ثلاث مشاريع هي: الصهيوني والإيراني والتركي
س1 - بالنظر إلى اللقاءات والقمم المتكرّرة بين قيادات ومسئولي الأردن ومصر والعراق.. هل يمكن أن نقول إن تحالفا صاعداً بين الأردن ومصر والعراق في الشرق الأوسط؟

ج1- من السابق لأوانه القول أن ثمة تحالف جديد ينشأ حالياً أو حتى في طريقه إلى التأسيس بين مصر والأردن والعراق، والأمر لا يتعدّى لقاءات بين مسؤولين من البلدان الثلاثة، حتى وإن كانت على مستوى القمة كما جرى في عمّان ؛ ولعلّ الشيء الجديد في هذه الاجتماعات هو إعلان رغبة في التعاون مصحوبة بحسن نوايا، وقد يحتاج الأمر إلى خطط وبرامج واتفاقيات، فضلاً عن الجوانب العملانية والفنية مع فحص دقيق لإمكانات التطبيق ووضع ما هو رغبة على أرض الواقع.
   وأستطيع القول إن أي تقارب هو أمر إيجابي، ولكنه سيبقى دون مستوى الطموح في تحالف استراتيجي بعيد المدى، وهذا الأخير يحتاج إلى بناء جسور الثقة ووضع أسس وقواعد مشتركة تتفق عليها البلدان الثلاث، إضافة إلى تراكم قد يأخذ وقتاً غير قصير، إذا أريد له الرسوخ والاستمرارية، وبالطبع فإن فائدته ستنعكس على شعوب البلدان الثلاث، خصوصاً وعلى العمل العربي المشترك عموماً، ولعلّ ما يحتاجه العرب هو تفعيل اتفاقيات العمل العربي المشترك وجعلها أكثر راهنية استجابة للتطورات الحاصلة في المنطقة والعالم.

س2 - هل نشهد نسخة جديدة من مجلس التعاون الذي تم تشكيله عام 1989 بين مصر والعراق والأردن واليمن بمبادرة من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين؟ إلى أي مدى يمكن أن ينجح هذا الحلف بالنظر إلى التكامل الاقتصادي بين البلدان الثلاث، سواء تصدير النفط من العراق عبر الأردن أم الكهرباء من مصر إلى البلدين الإثنين أو مشاركة شركات إعمار مصرية في العراق؟

ج2- إن ظروف تأسيس "مجلس التعاون العربي" العام 1989 تختلف عن الظروف الحالية، فقد أقيم عقب انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) وفي ظل شعور عربي عام بأن إيران لم تستطع تحقيق مشروعها الحربي والسياسي، وأن ثمة توازن جديد بينها وبين العرب أقيم في المنطقة، كما أن مجلس التعاون العربي، أنشئ والانتفاضة الفلسطينية الأولى في ذروتها، وكانت قد بدأت في أواخر العام 1987، وأن النظام الرسمي العربي لم يتصدّع، بل ويتشظى مثلما حصل إثر غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، وما أعقبه من حرب قوات التحالف ضد العراق في 17 يناير (كانون الثاني) 1991 ومن ثم فرض حصار دولي جائر عليه استمر لغاية احتلاله في العام 2003.
   دون تشاؤم محبط أو تفاؤل مفرط، فإن النسخة الجديدة من التعاون الثلاثي تأتي والعالم العربي يعاني من انقسامات حادة دينية وطائفية ومذهبية وإثنية، فضلاً عن نزاعات مسلحة وحروب أهلية وصراعات إقليمية ودولية على أرضه، كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا، وما يزال العراق يئن بسبب ما قام به تنظيم داعش الإرهابي بعد احتلاله للموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية، ناهيك عن تخبّط سياساته بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 ولحد الآن، ولبنان هو الآخر ينزف دون توقف وأزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنفجر على نحو ليس له مثيل.
    قد تبدو رغبة أو أمنية خيّرة حين يتم في هذه الأجواء الحديث عن إعمار وتكامل اقتصادي وتبادل تجاري وإقامة حلف، لأن ذلك يحتاج إلى مقدمات وأسس وبيئة صالحة وأوضاع سلمية ومدنية لتحقيق التنمية المنشودة؛ إذ لا تنمية حقيقية في ظل انتشار السلاح خارج نطاق الدولة وفي ظل تصاعد دور الميليشيات، ناهيك عن تفشي الفساد المالي والإداري واستمرار نظام المحاصصة الطائفي- الإثني الذي يقوم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، وهذا في العراق، أما الأردن ومصر فهما يعانيان من أزمة اقتصادية حادة بزيادة منسوب الفقر وارتفاع حجم البطالة، فضلاً عما تركته جائحة كورونا على البلدان الثلاث من تأثيرات سلبية على جميع الصعد.

س 3- الدول الثلاث تتحدث عن رؤية مشتركة واحدة في مواجهة الأطماع التركية والإيرانية.. ما تقييمك لهذه الرؤية وفق التصريحات الرسمية؟ وهل الحلف قادر على مواجهة ذلك؟

ج3-  لكي تتحول الرغبات والأماني والتطلعات إلى واقع، فإنها لا بدّ من أن تتحول إلى خطط ومشاريع واقعية، في ظل حد أدنى من التوافق العربي، وللأسف أقول أن هناك ثلاث مشاريع نشطة  في المنطقة في حين يغيب المشروع العربي وإن بحدّه الأدنى .
   المشروع الأول - الصهيوني التوسعي الاستيطاني الإجلائي.    
   المشروع الثاني - الإيراني الآيديولوجي " الفارسي".
   المشروع الثالث- التركي الآيديولوجي  " العثماني".
   والمشروعان الأخيران حتى وإن تغلّفا ببرقع مذهبي أو ديني، فإنهما مشروعان قوميان للهيمنة وفرض الاستتباع، أما المشروع الصهيوني ، فإنه يريد التمدد على حساب العرب، ومنذ العام 1982 كشف إيغال آلون عن أهداف " إسرائيل" بعد عدوان الخامس من يونيو (حزيران) العام 1967 بدعوته إلى تقسيم العالم العربي والتوسع على حسابه بقوله: واجبنا استيطان "إسرائيل" الكبرى، ولعل مصادقة الكنيست على مشروع "الدولة اليهودية" النقية سيؤدي إلى حرمان أكثر من 20% من عرب فلسطين الذي يعيشون في حدود الـ 48 من أبسط حقوقهم، ناهيك عن التوسع بضم القدس والجولان خلافاً لقرارات الأمم المتحدة، ومحاولتها لضم غور الأردن وشمال البحر الميت، كجزء من صفقة القرن.
   مقابل ذلك هناك فراغ حقيقي لمشروع عربي يواجه المشاريع الثلاثة، علماً بأنه لدى العالم العربي كل ما يؤهله ليكون قوة إقليمية كبرى مؤثرة في التوازنات الدولية، من إمكانات بشرية وطاقة حيوية وموارد طبيعية وأنهار ومساحة جغرافية، ناهيك عن أهداف مشتركة قامت على أساس تاريخ ولغة وأديان وأمزجة مشتركة، يمكن توظيفها في بلورة مشروع موحد أساسه التنمية والنهضة والحداثة.


س4 -  البعض تساءل عن الصمت الخليجي عن التحالف الجديد.. هل يعبر عن عدم رضا خليجي (في مقدمتهم الإمارات والسعودية) عن الحلف الصاعد؟ وهل يعبّر أيضا عن عدم رضا للدول الثلاث عن الطموح القيادي الذي تظهره الدول الخليجية في المنطقة؟

ج4- لا أعتقد ذلك، وعلى افتراض جرى تحالف بين البلدان الثلاث، فلا أتصوّر أنه سيتحول إلى محور يقابل مجلس التعاون الخليجي مثلاً، فلمصر علاقات وثيقة مع دول الخليج، ولاسيّما مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك للأردن علاقات جيدة مع دول الخليج عموماً ومع الرياض وأبو ظبي، والعراق يحاول تحسين علاقاته مع دول الخليج ويدعوها لتفهّم وضعه الخاص، فهو ساحة صراع إيراني- أمريكي،
   أعتقد شخصياً أن أي تحالف عربي محدود أو واسع سيسعى لتعزيز علاقته مع مجلس التعاون الخليجي ، وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية لدورها المحوري على المستوى الإقليمي، فضلاً عن دورها في مجموعة الدولة العشرين G-20، وهي تضم الدول الكبرى وذات الإمكانات الاقتصادية الضخمة في العالم،  حيث ستعقد هذه المجموعة اجتماعها لأول مرة في العالم العربي، الشهر القادم (نوفمبر) في المملكة العربية السعودية.
   لقد أثبتت سياسة المحاور فشلها واستنزافها للدول المنخرطة فيها، وما يحتاجه العالم العربي هو ردم الهوّة وتعزيز اللحمة وتقوية الجوامع وتقليص الفوارق بينها من خلال جسور يتم مدّها بين اتحاد المغرب العربي مع مجلس التعاون الخليجي، يضاف إليها أي تحالف عربي جديد سيقام أو حتى نواة لتحالف أو تعاون أو تنسيق أو تحت أي مسمّى ينشأ مع دول عربية تريد التقارب فيما بينها، وستكون فائدة ذلك على الجميع.
   وأقول بهذا الصدد استناداً إلى التجربة التاريخية وقراءة في المشهد السياسي المستقبلي: إن أي تحالف عربي ينبغي أن تكون نواته الأساسية: مصر والسعودية والعراق وسوريا في ظل أوضاع طبيعية، وذلك على مستوى المشرق الذي سيجد فرصة للتواصل مع المغرب العربي كاتحاد أو دول منفردة، وهذا ما سيعطي للعالم العربي ثقله الحقيقي ومكانته الجيوسياسية وموقعه الحيوي كقوة اقتصادية وبشرية مؤثرة.

نص الحوار الذي أجراه الصحافي المصري محمد مجدي لموقع مونيتور الأمريكي، بخصوص التعاون المصري، الأردني ، العراقي ، على هامش اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث في القاهرة مؤخراً.

128
المنبر الحر / غاندي وروح الحقيقة
« في: 17:39 14/10/2020  »
غاندي وروح الحقيقة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   " الرجل الذي يطمح إلى معرفة روح الحقيقة لا يستطيع أن يعتزل الحياة..." هذا ما قاله غاندي، وروح الحقيقة التي كان يطمح إليها هي " تغيير رأي الشعب البريطاني من خلال اللّاعنف لأجعلهم يرون الخطأ الذي ارتكبوه تجاه الهند" كما يقول في رسالة وجهها إلى نائب الملك البريطاني اللورد إيروين، وذلك بعد مسيرة الساتياغراها التي تعني المقاومة السلمية لنيل الحقوق بلا مهادنة أو مساومة، كما يعتقد البعض خطأ، فقد بدأ مسيرة الملح  مع مجموعة صغيرة من أتباعه يوم أطلق ذلك النداء السحري للعصيان المدني الذي سرعان ما عمّ الهند من أقصاها إلى أقصاها في العام 1930، فتوجهت الجموع مشياً على الأقدام مسافة 390 كم، وقد جعلته تلك الحادثة شخصية عالمية حيث اختارته مجلة التايم Time 1930 شخصية العام .
   وكان غاندي قد خاطب البريطانيين " أخرجوا من الهند" وذلك في العام 1942 ودعاهم فيها إلى الانسحاب الفوري من البلاد، لكن السلطات البريطانية اعتقلته لمدة 19 شهراً، ثم أطلقت سراحه بعد وفاة زوجته العام 1944، إلا أنها اضطرت إلى الرضوخ لمطالب حركة غاندي اللّاعنفية التي كانت وراء استقلال الهند.
   وكانت نقطة التحوّل في حياة غاندي ، هي اعتراض رجل أبيض على وجوده في مقصورة الدرجة الأولى من القطار المتوجه من ديربان إلى بريتوريا على الرغم من حمله تذكرة سفر، وعندما رفض غاندي النزول من القطار والانتقال إلى قطار آخر، سُحب بالقوة وألقي من القطار في محطة أخرى، وكانت تلك اللحظة قد أيقظت في نفسه فكرة العصيان المدني، ورفعت من عزيمته لمحاربة ما أسماه " مرض التحيّز اللوني المستعصي" علماً بأنه عاش وعمل محامياً في جنوب أفريقيا نحو 20 عاماً، حيث وصلها في العام 1893.
    ومنذ تلك الليلة قطع عهداً على نفسه بأن "يبذل قصارى جهده لاستئصال هذا المرض واحتمال الصعاب في سبيل ذلك"، وهكذا نمت تلك القوة العملاقة الناعمة في داخله لتصبح قوة مادية يصعب اقتلاعها بفعل إيمان ملايين الهنود بها، ومن ثم لتغدو فلسفة للمقاومة السلمية المدنية اللّاعنفية على الصعيد الكوني، تلك التي تربط الوسيلة الشريفة والعادلة بالغاية الشريفة والعادلة، حيث لا انفصال بينهما ، لأن شرف الغاية هو من شرف الوسيلة، والعكس صحيح أيضاً، فهما مثل البذرة إلى الشجرة، وهناك علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة وغير ملموسة، فالوسيلة راهنة وملموسة، لأنها الأكثر تعبيراً عن الغاية.
   لقد استمدّ غاندي أفكاره من الجانتية، التي هي ديانة هندية قديمة، والجانتي هو "القاهر" لا بمعنى المنتصر على الملّذات حسب المعلم بوذا، بل عدم إيذاء أي كائن حي، والتأكيد على نسبية الحق لعدم وجود حق مطلق، وعدم أخذ حق الغير وعدم الكذب وممارسة العفة بإلغاء جميع اللذائذ الخارجية، من مأكل وملبس ونزوات.
   وإذا كان غاندي قد نشأ عابداً للإله الهندوسي فيشنو، وأصبح مع مرور الأيام شعلة أمل للمضطهدين والمهمشين في جميع أنحاء العالم، لذلك لم يعد غريباً أن يرشح لجائزة نوبل 5 مرات وأن تطلق بريطانيا طابعاً رمزياً تكريمياً له بمناسبة مرور 21 عاماً على وفاته، وأن تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 61 قراراً برقم 271 وفي 15 يونيو (حزيران) 2007، يقضي إحياء ذكرى عيد ميلاده في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1869 من كل عام، باعتبارها يوماً عالمياً للّاعنف، و"مناسبة لنشر رسالة اللّاعنف عن طريق التعليم وتوعية الجمهور"، وأكّد القرار على الأهمية العالمية لمبدأ اللّاعنف والرغبة في تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللّاعنف.
   إن كلمة "اللّا" لها أكثر من دلالة، فإذا كان المذموم مرفوضاً، أي العنف، فما بالك إذا وضعت أمامه "لا"، حيث يكون النفي مركّباً ومضاعفاً والمذموم أكثر ذمّاً، واللّاعنف سلاح ماض في متناول المظلومين ويستطيع أن يواجه جميع الأسلحة التدميرية ، وذلك إبداع إنساني ضد القاعدة السائدة على مرّ التاريخ، حيث كان العنف عنوانها، خصوصاً بنبذ العنف بجميع أشكاله وصوره، سواء كان مادياً أم معنوياً، قولاً أم فعلاً، واللجوء إلى الحلول السلمية لفض النزاعات والخلافات، وذلك طموح البشرية في تجسيد وحدة الإرادة والعمل لصالح السلام والتسامح و"الأخوة الإنسانية" التي تؤمن بها الأديان والفلسفات المختلفة.
   إن ما تواجهه البشرية اليوم من كوارث صحية مثل كوفيد -19 " الكورونا" وحالات الطوارئ المناخية وانتشار الحروب والنزاعات المسلحة والفقر والجهل والأمية والتخلف، كلّها تتطلّب إشاعة ثقافة السلام والعدل ومنع استغلال الشعوب وإذلالها ونهب ثرواتها والبحث عن المشترك الإنساني، وذلك من خلال مواجهة خطاب الكراهية والتعصّب ووليده التطرف ونتاجها العنف والإرهاب، تجنباً لأي عنف جسدي أو معنوي، اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو جندري أو ضد المجموعات الثقافية أو الشعوب الضعيفة، لأن العنف سيضاعف من المشكلات ويفاقم من تعقيداتها، وسيكون  أكثر كارثياً على الأطفال والنساء والشيوخ.



129
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة الثانية عشر

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي
وثائق
   استكمالاً لهذه الإطلالة التقويمية الموسومة "عزيز محمد- شيوعية بلا جناح: الاستعبار والاستبصار" ننشر وثيقة محورية وجهها عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق إلى عزيز محمد بعد حوارات مطولة معه ، وفيما يلي نص الوثيقة:
وتعكس هذه الوثيقة الحياة الداخلية للحزب التي شهدت توترات ونزاعات واستهدافات وتسلّطاً واستقواءً ، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى كتابين الأول للرفيق رحيم عجينة " الاختيار المتجدد" الصادر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت، 1998، والثاني للرفيق آرا خاجادور " نبض السنين " الصادر عن دار الفارابي ، بيروت، 2016، ولم يكن كلاهما من المساهمين في المعارضة الداخلية، بل أن خاجادور كان أحد المخططين للمؤتمر الرابع والمتحمسين لنتائجه وذلك قبل اختلافه وتنحيته في العام 1989، لأنهما يعرضان وقائع صادمة عن الاستهانة بالعلاقات الرفاقية والاستخفاف بمصائر الرفاق وعن محاولات الاستتباع والهيمنة التي لم يحرّك الرفيق عزيز محمد ساكناً في مواجهتها، ناهيك عن قضايا أخرى. كما يمكن الاطلاع على المذكرة التي وجهها عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق إلى الرفيق عزيز باسم مجموعة من الرفاق لكي تكتمل الصورة.
مذكرة عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق إلى عزيز محمد

إلى الرفيق عزيز محمد المحترم
تحية رفاقية حارة،
استكمالاً للحديث الذي أجريناه في براغ مؤخراً، ولغرض مساعدتك على عرضه على الرفاق في ل.م. وبعد استعادة مضامينه الرئيسية واستعراض وتدقيق الأوضاع في حزبنا، وجدنا من الضروري أن نضع أمامك سجل تصوراتنا لهذه الأوضاع ومسبباتها وظروفها، والصعوبات التي يواجهها الحزب حالياً، وما نقترحه من حلول لتجاوزها، واستعادة وحدة الحزب على أسس مبدئية، ونهج سياسي صحيح.
لقد تعرّض حزبنا في السنوات الأخيرة- كما تعلمون- وفي الفترة الراهنة خاصة، إلى انتكاسات وخسائر جسيمة، وإلى تصدع في وحدة الحزب، وصراعات وأجواء لا مبدئية، بأوضاع مؤسفة تعود (في رأينا) وفي مجمل أسبابها ومسبباتها إلى:
أولًا- ابتعاد الحزب عن ساحة عمله الرئيسي داخل الوطن ولاسيما في المنطقة القريبة من العراق، وإقصائه من ميدان التفاعل والعمل بين الجماهير الشعبية، إلى جانب ظروف النضال الشاقة التي اقترنت بحملات متواصلة ومشتدة من القمع والتنكيل والملاحقة ضد الشيوعيين بأنصارهم وحلفائهم والمواطنين الأكراد بوجه خاص.
ثانياً- اعتماد بعض التوجهات والمواقف السياسية والتكتيكات الخاطئة، التي ألحقت بالحزب ضرراً بليغاً، كانت موضع خلاف داخل هيئاته وبين أعضائه في مراحل مختلفة، وخاصة ما يتعلق منها: بالموقف من الحرب مع إيران، في ظروف الاجتياح العسكري والتهديد المعلن بـ غزو العراق، وباختيار الكفاح المسلح أسلوباً رئيسياً في النضال والمجابهة مع الجيش العراقي، وبسلوك نهج في التحالفات والعلاقات أفضى إلى إضعاف استقلالية الحزب بالانتقاص من إرادته الحرة.
ثالثاً- تفشّي وتفاقم بعض الظواهر الغريبة في حياة الحزب الداخلية، فضلاً عن العديد من الاختلالات في المقاييس والقيم التي تتناقض مع المبادئ اللينينية، والقيم الاجتماعية، وتقاليد التضامن الرفاقي بين الشيوعيين.
رابعاً- اتخاذ إجراءات تنظيمية جائرة ضد العديد من العناصر القيادية الكفوءة وذلك في سياق نهج متسرّع وأساليب بيروقراطية، تفتقر إلى الشرعية وتتعارض مع المبادئ الديمقراطية، مما أدى إلى التفريط بطاقات وخبرات كان الحزب وما يزال بأمس الحاجة إليها.
لقد آلت هذه المواقف والإجراءات – كما تعرفون- إلى تصدع في كيان الحزب، وإلى إضعاف دوره في حركة شعبنا، والتأثير على مكانته الوطنية وسمعته في الأوساط العربية والدولية، كما أضعفت بالتالي من قدراته السياسية، الفكرية والتنظيمية.
وقد ساهمت هذه الأوضاع بمجملها، في إشاعة التوتر وردود الفعل، الذي أسفر بدوره في تبلور وبروز حلقات ومحاور، ومواقف واجتهادات بين مجاميع الشيوعيين الذين تعرضوا للتنكيل. وفي ظل هذه الظروف والأجواء، بادر العديد من هؤلاء الشيوعيين إلى المجاهرة بآرائهم وانتقاداتهم للخط السياسي الخاطئ الذي كرّسه (المؤتمر الرابع) والإجراءات التنظيمية المجحفة التي اتخذها ، وذلك من خلال بعض البيانات والنشرات أو الرسائل إلى الأحزاب الشقيقة، ولكننا نقول بصراحة، لا بمنطق المتظلم والتبرير، بل من منطلق الصدق والقناعة، وبالاستناد إلى الكثير من الوقائع التي تعرفونها، بأن الأجواء التي سبقت (المؤتمر الرابع) أو تلك التي عاصرته أو أعقبته كانت مشحونة بالمناورات والأساليب التحريضية وانعدام الشعور بالمسؤولية؛ وفي اعتقادنا أنه كان بالإمكان معالجة كل هذه الأوضاع لو خلصت النوايا وأقصيت الضغائن، ونزعات الهيمنة، وتصفية الحسابات.
ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل للأسف.
فبدلاً من اعتماد المنهج اللينيني في التحليل والاحتكام إلى الواقع ورسم البرامج والأهداف، وبدلاً من المبادرة إلى تحديد وتسبيب بعض المواقف السياسية والأساليب التكتيكية الخاطئة، من خلال المشاورة والإصغاء إلى الآراء المخلصة والحريصة على سلامة الحزب وصواب نهجه، تواصل الإصرار على ذات النهج الخاطئ باللجوء إلى المكابرة والتبرير والإنعزالية المقرونة بالجمود وضيق الأفق ويضعف الحصانة إزاء الضغوط الخارجية.
وبدلاً من تحكيم مبادئ الديمقراطية، والعدالة إعادة النظر بالتدابير المجحفة، التي تعرض لها العديد من الرفاق المخلصين، وبدلاً من المبادرة لمعالجة وتدارك ظاهرات التفتت في كيان الحزب، وتصفية الظواهر الغريبة في حياته الداخلية بروح الحرص على وحدته وتلاحم صفوفه، جرى التمادي في ما يناقض ذلك كله، وخاصة في ما يتعلق بتصعيد حملة القمع والإقصاء والطرد، ومواصلة التأليب والتشهير، والإتهام بـ" التخريب" وبالكلل ووهن العزائم... وما إلى ذلك من طعون مهينة، ما أدى إلى تسميم أجواء العلاقات الرفاقية، وانعدام روح التضامن بين الشيوعيين والتحريض على النظام، الأمر الذي ساهم في تعميم ظاهرات التفكك والانشقاق في صفوف الحزب وبالطبع، لا يمكن للحزب في وضع كهذا أن يتعامل بصواب ومقدرة مع الأوضاع العسيرة والمعقدة إبان الحرب، وخاصة إثر اقتحام إيران الأراضي العراقية، كما لا يستطيع، بداهة، أن يتعامل بجرأة وكفاءة، وبرصانة ومبدئية مع الأوضاع والظروف المستجدة في بلادنا في فترة ما بعد الحرب إذا لم يكن موحداً في النهج والموقف والكيان التنظيمي.
وفي اعتقادنا، فإن الوضع الراهن لحزبنا وحركتنا الوطنية، ومتطلبات الوضع الحالي في بلادنا، تستدعي بإلحاح، عمل كل شيء من أجل استعادة وترسيخ وحدة الحزب، وتلك مهمة خطيرة وملحة ندعو للنهوض بها، بصفوف موحدة .
إن تحقيق وحدة الحزب وتلاحم صفوف الشيوعيين، والعمل الموحد لاستعادة دوره الفاعل في الحياة السياسية للبلاد، هو مهمة جليلة ومشرفة، سيتحمل المتهاونون أو المفرطون بها مسؤولية كبرى أمام الشعب والوطن، ونحن نقترح، من أجل المباشرة بأداء المهمة التاريخية: تكوين هيئة عمل مؤقتة من الرفاق المؤهلين فكرياً وسياسياً بصرف النظر عن عددهم، على أن تبدأ عملها فوراً، ونقترح، مبدئياً، أن تناط بهذا الفريق مهمتين ملحتين:
الأولى: وضع وثيقة سياسية مركزة تتضمن الأهداف والمهمات الآنية والملحة التي تواجهها بلادنا حالياً، وتنسجم مع أهداف وتطلعات شعبنا في الظرف الراهن، وخاصة ما يتعلق بإنجاز التسوية السلمية الدائمة والعادلة مع إيران، واقتراح الحلول المناسبة لمعالجة عواقب ومخلفات الحرب، وحل القضية الكردية والمسائل المتعلقة بالحريات الديمقراطية، والبناء الاقتصادي والاجتماعي، وتقويم النهج السياسي للبلاد.
الثانية: تدارس إمكانية التعامل مع الأوضاع المستجدة في بلادنا في فترة ما بعد الحرب وذلك من موقع واحد، وموقف واحد وبضمنه الاتفاق على الأساليب والوسائل التي تضمن استعادة الحزب إلى ميدان عمله الرئيسي بين الجماهير.
ولكي يتم تحركنا نحو الهدف بالواقعية والمبدئية، وبالجدية والجدوى، نرى ضرورة المباشرة بما يلي:
أولا- اعتماد مبدأ النقد والنقد الذاتي الصادق والجريء لمعالجة كل الأخطاء السياسية والاختلافات التنظيمية ، مع الاحتكام إلى إرادة كل الشيوعيين بوضع كل كالوثائق والحقائق تحت تصرفهم إذا اقتضى الأمر.
ثانيا- وقف إصدار الصحف والبيانات والنشرات واستعادة مركزية الإعلام الحزبي وفق المنهج الذي يتم الاتفاق عليه وإناطته بعناصر كفؤة تتسم بسعة المعرفة والخبرة، والسجايا الأخلاقية الرفيعة، وعدم السماح باستخدام الإعلام الحزبي أداة في التنديد والتأليب والتحريض على الانقسام وتسميم أجواء العلاقات الحزبية.
ثالثاً- إجراء معالجة أولية لسياسة الحزب في السنوات السابقة، بهدف تعديل وتصويب مواقفه، مع المباشرة بتنقية أجوائه الداخلية وترسيخ مبادئ الشرعية والديمقراطية وروح التضامن الرفاقي في صفوفه.
رابعاً- إعادة النظر بقرارات الفصل والطرد والإقصاء، واستعادة جميع الشيوعيين المخلصين إلى أحضان حزبهم، مع عرض ما قد يتم من قرارات بهذا الشأن على المؤتمر القادم للحزب للمصادقة عليها، أو تعديلها أو رفضها .
خامساً- تدارس إمكانية عقد للكونفرس الرابع للحزب في أقرب فرصة ممكنة، لمناقشة وإقرار ما سبق من توجهات وإجراءات، وتخويله حق انتخاب اللجنة المركزية والإعداد لـمؤتمر جديد.
هذا، وبالنظر إلى أن حزبنا يعيش أوضاعاً غير طبيعية - كما تعرفون ويعرف جميع الشيوعيين- فإننا نعتقد أن تحقيق كل ما سبق يتطلب البدء بتوفير أجواء صحية للعمل، من خلال تطهير ومعاناة أجواء الحزب الداخلية- وذلك من خلال :
•   تطبيع العلاقات بين جميع الرفاق وإحلال روح التعاون والحوار، محل المشاحنة والجفوة والمقاطعة الاجتماعية وما إليها من مبتكرات ذميمة.
•   وقف الطعون المتبادلة، والتشهير المغرض، والصراعات اللّامبدئية، وتصفية كل أساليب الرصد والوشاية، وإشاعة جو الثقة المتبادلة بين الشيوعيين.
•   معالجة الظاهرات المتفاقمة للنزعات القومية، واستعادة الالتزام بمبادئ التآخي القومي والروح الأممية لتعزيز التضامن والمساواة بين العرب والأكراد وأبناء الأقليات القومية، ونبذ مظاهر الاستعلاء القومي والتمييز الديني والمذهبي.
•   ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية في التعامل والعمل، وتصفية مظاهر التملق والمسايرة والتخضع والتكيف، والولاءات الشخصية والدينية والطائفية، ونزعات الارتزاق والوصولية.
•   إقصاء مظاهر الاستعلاء والتسلط والغطرسة والضغائن وميول الانتقام وتصفية الحسابات من حياة الحزب، ونبذ أي شكل من أشكال المناورات والمحاور والتواطؤ لدى رسم السياسات أو اختيار القيادات أو توزيع المسؤوليات.
•   اعتماد معايير الكفاءة والمعرفة والثقافة والتجربة السياسية والتكوين النظري- الى جانب السجايا الثورية والسمات الأخلاقية والإنسانية والتوازن النفسي والعلاقة الحميمة – أساساً في اصطفاء وتقديم الكوادر والقيادات.
•   التقديم المتواصل للعناصر الكفؤة والواعدة من الشباب والنساء إلى المواقع والمسؤوليات الحزبية، وإنهاء ميول التشبث بالمواقع القيادية، بتحديد فترة إشغال هذه المواقع بما لا يتجاوز دورتين انتخابيتين للمؤتمر الوطني.
•   وضع نظام لرعاية وتكريم قدماء المناضلين، والاستفادة من خبرتهم، وإشراكهم في حياة الحزب، مع وضع حد لمحاولات عزلهم ولأساليب التطاول عليهم أو الانتقاص من قدراتهم وتضحياتهم، أو محاولة إذلالهم.
•   رد الاعتبار إلى مبادئ الشرعية والديمقراطية والعدالة وخاصة ما يتعلق بالمحاسبات الوجاهية والأصولية، ووقف أساليب المحاسبات والعقوبات الغيابية.
•   إطلاق حرية النقد والمجاهرة بالرأي والموقف، واستنطاق الساكتين واللّامبالين، ومطالبة من يلجأ إلى قمع النقد، وتصفية مظاهر التوجس والخوف، وأساليب الإغواء والوعيد، مع توفير الضمانات الديمقراطية لحياة حزبية صحيحة، يسودها الانضباط الواعي، والالتزام المبدئي والأخلاقي.
•   تحرير إرادة الشيوعيين بإعتاقهم من صعوبات الغربة، وإخراجهم من دائرة الإذلال والمحاصرة، وإنهاض هممهم وإطلاق طاقاتهم، وتحكيم مبدأ المساواة والإنصاف والرعاية في التعامل معهم.
وذلك من أجل توحيد قوى الحزب كلها وفقاً للمبادئ اللينينية في التنظيم والقيم الأخلاقية في التعامل ومن أجل تحقيق وحدة الحزب واستعادة دوره النضالي الفاعل بين جماهير الشعب، باعتماد نهج سياسي صائب، وأساليب نضالية صحيحة، تتناسب مع تطورات الوضع ومستجدات العصر، من أجل: إقرار خطة عمل صائبة، وشعارات واقعية تتناسب مع استعداد الجماهير، وتنسجم مع أماني الشعب، وتخدم مصالح الوطن.
هذا، ونرجو عرض هذه الرسالة على الرفاق أعضاء اللجنة المركزية في أول اجتماع يعقدونه، آملين مناقشتها بجدية وحرص، بغية الوصول إلى نتائج إيجابية تخدم مصلحة حزبنا وشعبنا.
مع أطيب التحيات وفائق التقدير
نوري عبدالرزاق- عامر عبدالله – براغ في 8 آذار 1989


130
المنبر الحر / عن الفلسفة والدين
« في: 20:41 07/10/2020  »
عن الفلسفة والدين
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   يوم صدر كتاب شكيب إرسلان " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" أجاب فيه على سؤالين الأول: عن أسباب الضعف والانحطاط التي يعانيها المسلمون؛ والثاني: عن أسباب ارتقاء الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين ارتقاء هائلاً. وعند التفصيل أشار إلى "العلم الناقص" الذي هو أشد خطراً من "الجهل البسيط"، لأن الابتلاء بجاهل خير من الابتلاء بشبه عالم، فالإيمان صار سطحياً والإسلام مجرد قول دون فعل، والقرآن ترنيماً وترتيلاً وليس العمل بالأوامر واجتناب النواهي، مشيراً إلى خذلان المسلمين لبعضهم البعض وفساد الأخلاق، فليس المسلم من وجهة نظره هو من يؤدي الصلاة والصيام ويسبّح بحمدالله.
   لقد أعاد إرسلان نقاشاً كان قد بدأه سبينوزا عن علاقة اللاهوت بالسياسة، في محاولة تفكيك فتاوى اللّاهوتيين، من خلال علاقة الدين بالفلسفة، وعلاقة العقل بالدين، فحسب اللاهوتيين ينبغي أن تطيع الفلسفة علم اللاهوت، بل أن تكون تابعة له لأنه أشرف العلوم وأرقاها.
   وأشار سبينوزا إلى أن حرّية الفلسفة والتفلسف ليست ضد الدولة وأمنها مثلما ليست ضد الورع والتقى، وهدفها تفسير النص الديني (الكتاب المقدس) معترفاً بدور الدين وقيمه الأخلاقية السامية، ولكنه ينفي عنه الغيبيات والطقوس والخرافات والمعجزات؛ فالأديان بعيداً عن العصبيات ينبغي أن تعلّم الحكمة والموعظة والقيم الإنسانية، وليس غير العقل من يقوم بذلك، وهكذا فالفلسفة ليست ضد الدين ، لكنها ضد التعصّب الديني والتمترس الطائفي.
   ومنذ أكثر من ثمانية قرون كان هناك من انتقد الفلسفة والتفلسف، وقد كفّر الغزالي التفسير العقلاني للدين الذي اجتهد فيه ابن سينا والفارابي، وذلك حين كتب كتابه الموسوم "تهافت الفلسفة" الذي ردّ عليه ابن رشد بكتاب عنوان " تهافت التهافت"، لكن ابن رشد الذي شدّد على أن القرآن والدين يدعوان إلى إعمال العقل بالمعنى البرهاني قُمع وأحرقت كتبه وجرت محاولات للانتقام منه وطمس صوته وتشويه سمعته،علماً بأنه أعلى من شأن  الحرّية والروح، وهما أساس الدين والإيمان، لاسيّما الجوهر الصافي العرفاني النقي والإنساني.
   إن جوهر تفسير ابن رشد يستند إلى أن الدين لا يمكن فهمه إلّا على ضوء الفلسفة، وهما رفيقان حميمان لا انفصال بينهما، ذلك هو الدين الروحاني العقلاني القيمي المستنير الحر، فالفلسفة حق والدين حق، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه.
   لقد عاد ابن رشد إلينا من النافذة الأوروبية في القرن العشرين، وكان مثل هذا الغياب يفسّر لنا لماذا انحدر المسلمون في دهاليز الظلم في حين أخذ غيرهم بعلومهم ليتقدم، لاسيّما بإحكام العقل والعلم؟ وقد تنبّه إلى ذلك دعاة الإصلاح الديني من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي والتونسي وغيرهم الذين تأملوا في السؤال الكبير: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
   ومع أن دعاة الاصلاح والنهضة طرحوا السؤال إعجاباً بتقدّم أوروبا في ذلك الوقت، لكن ثقل الماضي ومخزونه السلبي ما يزال يحكمنا ويتحكّم فينا، فلم نتخلص بعد من صدمة الاستعمار التي حكمتنا لسنوات، وأعدنا ميراث الماضي في دول مركزية شديدة الصرامة، فلم نستطع أن نواكب التطور والحداثة، خصوصاً بتعظيمنا نسق العلوم الدينية على حساب نسق العلوم العقلية، فالأولى تعتبر العقل نسبي في حين أن النص مطلق، ولهذا ينبغي إخضاع الثاني للأول، بل ينبغي أن يكون تابعاً له.   ويعتقد أصحاب المدرسة اللاهوتية في الفقه أن العقل محدود بحدود " الشرع" ومهمته تطبيق النصوص الدينية ، الأمر الذي يجعل العقل محدود القيمة لأنه لا يستطيع المغامرة بحثاً عن المعرفة خارج المنظور الديني.
   إن مثل هذه النظرة الاستباقية لدور العقل تجعله محصوراً في إدراك ما يقوله الشرع وفي تفسير النصوص الدينية والسير لتطبيقها، وهو ما أدى ويؤدي إلى التخلف المعرفي أولاً والعقلي ثانيا والعلمي ثالثاً، وتلك معضلاتنا الأساسية، التي جعلتنا " نتحصّن" بالتخلف ونمتنع عن أي محاولة لنقد الماضي باتجاه التحديث والعصرنة التي أخذنا قشورها وتركنا لبّها، حيث حافظنا على بنية الوعي التقليدية، وحتى لو اعتمدنا التكنولوجيا الحديثة وأسسها العلمية ، لكننا بقينا نغرق في الآيديولوجيا، إذْ أننا لم ننتج المعرفة ولا تقدّم دون معرفة ، وما زلنا نرى أن العلم النافع هو نسق علوم الشريعة مستصغرين من نسق العلوم العقلية، دليلنا على ذلك ما نخصّصه من واردات من الناتج المحلي الإجمالي لشؤون البحث العلمي.
   ونستطيع القول أنه لا يمكن إحراز نهضة حقيقية دون الإقرار بالحق في الفلسفة والتفلسف، وبالتالي الحق في الاختلاف والاجتهاد والحرّية خارج دوائر الإجماع المصطنع، لأن ما يحرك التاريخ هو الصراع والحوار والجدل والاختلاف والتبادل والتفاعل، وإلّا فإن مجتمعاً ساكناً سيكون مجتمعاً ميتاً، والأساس هو حركيته وديناميته وتنوعه وتعدديته واختلافه، وتلك قيم إنسانية باعتمادها يمكن أن نواجه التحدّيات الخارجية والداخلية، في محاولات فرض الهيمنة والاستتباع الأجنبي من جهة والطغيان والاستبداد الداخلي من جهة أخرى، وذلك باستخدام العقل الذي هو أساس فلسفة الدين.





131
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة العاشرة


"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي
    يخطر ببالي بين الفينة والأخرى سؤال محوري يتعلّق بالرفيق عزيز محمد مفاده: إذا كان تقييمه إيجابياً للرفيق أبو خولة " باقر ابراهيم الموسوي" لدرجة أنه لا يتصوّر الحزب دونه، ويشيد بحسين سلطان، ويثني على كفاءة عامر عبدالله ودوره الفكري، ويقدّر منجز نوري عبد الرزاق على المستويين العربي والدولي، ولم يقطع الصلة مع مهدي الحافظ، على الرغم من التباعد والجفوة التي حصلت؛ وقد حاولت ترتيب لقاءين لهما 1981 بعد شبه قطيعة كما أشرت في مطالعتي الموسومة " مهدي الحافظ: يا له من زمن؟ والمنشورة في صحيفة الزمان على أربع حلقات بتاريخ 8 و9 و10 13 /10/2018 "؟ فكيف يستطيع أن يقدم على إجراءات فصل تعسفية بحق هؤلاء الرفاق ورفاق آخرين وعشرات من الكوادر المتقدّمة والاختصاصية، جرت تحت إدارته، سواء بقرار مباشر منه أم بموافقته وعدم اعتراضه على القرارات التي اندفعت إليها المجموعة المتشدّدة والمتطرّفة، على الرغم من أنه يحاول إبقاء باب العلاقة الشخصية مفتوحاً وحبل الود قائماً.
   والسؤال المتفرّع عن السؤال الأول: أهي مبدأية عزيز محمد كما يذهب البعض أم ازدواجية حزبية أم أن سياقات الحال، ولاسيّما الشخصية تقتضي ذلك، خارج دائرتي المبدأية والازدواجية؟ وكم تداخلت تلك الأمور في ظروف العمل السري وتحت مبرراته ليتم التغطية على مآسي وآلام وحتى كوارث، سواء على المستوى الشخصي أم الجماعي، بقرارات خاطئة أو قاصرة أو حتى جاهلة، بل لا إنسانية؟
   وكم تساءلت أين اللغز المحيّر في سلوك عزيز محمد ؟ هل هو الذي يتحدث بتلك الإيجابية عن الرفاق الذين يتم التنكيل بهم، نفسه الذي يتخذ الإجراءات العقابية بحقهم، أم ثمة قوى أخرى خفيّة هي التي خططت لهذا النهج الإقصائي التفريطي، لأغراضها الخاصة وحساباتها الأنانية؟ وأعود إلى سياسة الغرام والانتقام ، فقد غدت نهجاً بفعل عنصر التكرار وتواتر الاستخدام وواقع الحال والتراكم، حتى أن الدائرة دارت على كثيرين فينتقل المقموع إلى قامع وهكذا أي بالرضوخ أو الإقصاء، تحت عنوان " المركزية الديمقراطية" التي قدمت صوراً مشوّهة ولا إنسانية في الكثير من الأحيان.
   ولم أجد تعابير بليغة ومؤثّرة مثل تلك التي وضعها عامر عبدالله في كتابه "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي"، دار رمضان، لندن، 1997 بشأن الحياة الحزبية التي قادت أحياناً إلى سحق الآدمية ، لاسيّما عند الخلاف بالرأي واستخدام سيف العقوبات الحزبية، سواء تأثيرها المعنوي على المعاقب أو رغبة القيادات في إجباره على الرضوخ والاعتراف على نفسه.
   يقول عامر عبدالله " ليس هناك أسلحة فتاكة أو قوة غاشمة ، سواء كانت سيفاً أم مقصلة أو رصاصة قادرة على تهشيم البنية الأخلاقية والإنسانية للإنسان أو إضعاف مرؤته وصدقه وشجاعته أو تشويه خصاله وسجاياه، أو تحطيم عزيمته، ما يوازي فعل وأحكام وأجواء الحزب أو نزعات ونزوات بعض قادة الحزب، وهذا ما وقع وتكرر في معظم الأحزاب في العالم .
   وفي الوقت الذي كان البعض يبدي آيات التبجيل لهؤلاء الرفاق المخلوعين ويحاول التقرّب منهم و"التمسكن" أمامهم ، فإنه كان سوطاً شديداً عليهم بعد افتراق المسار السياسي، وتحوّلت الفضائل إلى رذائل والإيجابيات إلى سلبيات لمجرد اختلافات في الرأي؛ وباستعادة ظروف تلك الفترة يمكن القول أنه لم يكن لعدد من المخلوعين صوت معلن، سوى الحديث همساً أو عبر رسائل إلى السوفييت أو بعض الأحزاب الشقيقة، وذلك عشية المؤتمر الرابع وبُعيده، وهي أدنى درجات الاعتراض وهدفها كان التنبيه من محاولات الاستيلاء على الحزب والتلاعب بمقدراته وتعريض هويّته الوطنية للتشويه، ناهيك عن التصرّف بأمواله وممتلكاته، باستغلال ظروف المنافي الصعبة، فضلاً عن مستقبله وأفق عمله، وهو ما جاءت عليه مذكرة عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق، باسم فريق من إدارة الحزب وكوارده تم توجيهها إلى الرفيق عزيز محمد.
   ومع التحضير للمؤتمر الرابع للحزب (1985) تصاعدت نبرة العداوة والبغضاء لدرجة لا حدود لها في إطار ماكينة إعلامية تشويهية على نحو صريح ومعلن، وسرّبت إلى الصحافة الكويتية في حينها، فضلاً عن التعميمات الداخلية بالمقاطعة الاجتماعية الذميمة، علماً بأن المذكرة المشار إليها كانت محاولة متأخرة أو لنقل أخيرة، لتسوية مقبولة من الفرقاء، فجاءت عبارة عن مناشدة للرفيق عزيز محمد لإيجاد حل لأزمة الحزب ولمّ شمله، ولكنها حظيت بردود فعل مختلفة بين الإيجاب والسلب، فكريم أحمد الذي التقاه د. محمد جواد فارس وكاتب السطور، باسم المجموعة  المعترضة كان إيجابياً جداً، لكن مجموعة أخرى وجدتها فرصة لقطع آخر ما تبقى من إمكانية رأب الصدع ، فاجتمع خمسة ليطردوا خمسة كما عبّر باقر ابراهيم، إضافة إلى الإقالة الصامتة للبعض ودون إعلان.
   ويسرد باقر ابراهيم في مذكراته ، دار الطليعة، بيروت، 2002،  كيفية زرع الألغام لتفجير الوضع في قيادة الحزب الذي تحقق لاحقاً بخطوات متسارعة فيقول:" وقد أدركت بأن المشكلة لم تكن مشكلة فرد غريب مغامر يطمح للاستحواذ على زمام الأمور في الحزب، بل أن الحالة في قيادة الحزب كانت مريضة وتتدهور بسرعة".
   أما عامر عبدالله فيحدد ثلاث مراحل لاختطاف الحزب بعد الحملة الوحشية التي شنها عليه النظام الدكتاتوري، وهي الأولى - عندما أخذ التحكّم به تحت عنوان " الكفاح المسلّح" لاسيّما بابتزاز الرفاق، خصوصاً عبر المزاودات اليسارية ورفع الشعارات الطنانة؛
   والثانية- هي عجز السكرتير عن القيام بمهماته وتفكك القيادة لوجود أكثر من مركز لها ومن أخطاء عزيز محمد كما يقول عامر عبدالله أنه منح صلاحيات تكاد تكون مطلقة لشخص أخذ يتحكم بأمور الحزب وماليته وعلاقاته، وذلك تحت مبرر السرّية وتمشية الأمور الإدارية؛
    أما المرحلة الثالثة فهي دقيقة وحساسة جداً وتتعلق بوطنية الحزب، لاسيّما الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية، الذي فيه الكثير من الممالئة لإيران، خصوصاً بعد احتلالها الفاو، حيث كان هناك نوع من الارتباك بين فريقي دمشق وكردستان، على الرغم أن كليهما بحاجة إلى نقد.
   وكان الرفيق عزيز محمد يحاول أن يلطّف الأجواء بلغته الدبلوماسية الناعمة لدرجة أن باقر ابراهيم بعد كل لقاء مع عزيز محمد يعود متفائلاً، وفي إحدى المرّات رأيته مستبشراً وقال لي أن الأمور يمكن أن تتحسّن والأمر يحتاج إلى صبر ووقت، لكن الأمور على العكس ازدادت توتراً وارتفعت وتيرة التعصّب والتطرّف لدى الطرف الآخر، وقد كانت لقاءات عزيز محمد مثل "إبرة مورفين" التي هي أقرب إلى التخدير أو حبّات مسكّنة لفترة مؤقتة ، ولكنها ليست  علاجاً أو مقترحاً لعلاج أو حتى التفكير به، ويغيب ليلتقي هذا الرفيق أو ذاك بعد عدّة أشهر أو أسابيع ليسمعه كلاماً طيّباً.
   وبالمناسبة فإن الغالبية الساحقة من الطاقم الإداري للحزب، كانوا دمثي الأخلاق ولسانهم دافئاً ويتعاملون على الأغلب باعتبارات رفاقية على الرغم من أخطائهم وسلبياتهم ، فإضافة إلى عزيز محمد ، لم أسمع يوماً من باقر ابراهيم أي إساءة شخصية لرفيق، وكذلك من كريم أحمد أو عبد الرزاق الصافي أو عامر عبدالله أو مهدي عبد الكريم أو حسين سلطان أو آرا خاجادور أو عمر علي الشيخ أو الدكتورة نزيهة الدليمي أو بشرى برتو أو يوسف سطيفان (أبو عامل) أو ماجد عبد الرضا أو ثابت حبيب العاني أو عبد الوهاب طاهر أو محمد حسن مبارك أو عدنان عباس أو رحيم عجينة أو غيرهم ، ناهيك عن عشرات من الكوادر القيادية التي تعرّفت عليها خلال عملي أو ربطتني بها صداقات أعتزّ بها.
   تألّمت جداً  لدرجة الحزن حين أخذ كريم أحمد يتنقل بين الفصائل ويلتقي بمجموعات من الرفاق، ليقدّم نقداً ذاتياً علنياً يقترب من الإذلال ، بسبب ما وقع فيه من تقدير موقف خاطئ إثر أسره في بشتاشان بعد هجوم قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الغادر  لمقرّات الحزب الشيوعي في 1 أيار (مايو) 1983، وكنت قد قلت في حينها تلك طريقة مذلّة ولا تليق برفيق مثله، حتى وإن أخطأ في الحساب، حيث كان أسيراً ولا يحق له التفاوض إن لم يكن حراً  ومكلّفاً بذلك وأي اتفاق سيكون مشوباً بعيوب الرضا، بين الآسر والمأسور، ولعلّ تلك العقوبات واحدة من أمراض الحركة الشيوعية والعقلية الستالينية التي ظلّت مهيمنة، ومن يقرأ رسالة زكي خيري (1962) بخصوص النقد الذاتي يشعر بغصّة في ضميره، سواء كتبها بإرادته أم أنه كتبها برغبة من إدارة الحزب، فكلاهما هدر سافر لحقه في التعبير، ناهيك عن امتهان لكرامته الإنسانية، وكنت قد كتبت ذلك في كتابي " تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف"، الدار العربية للعلوم ، بيروت، 2014.
    وعلمت من كريم أحمد لاحقاً في لقائه به مع ملّا علي، إنه لم يكن مقتنعاً بالإجراء الذي أقدم عليه، ولكنه نفّذ قرار المكتب السياسي بهدف امتصاص نقمة الرفاق على ما حصل في بشتاشان وتنفيذاً لنظام الطاعة الحزبية الذي يقترب من "العبودية" أحياناً، وهو ما يذكرني بما تعرّض له الرفيق بوخارين  الذي حوكم بتهمة عمالته وجاسوسيته، وهو كما كان يسمّيه لينين " محبوب الحزب" وقد اعترف تحت التعذيب بذلك، لأنه هُدّد بإعدام ابنه الذي اعتقل هو الآخر وحاول بوخارين مساومة الجلاد بإعدامه والحكم ببراءة ابنه، وللمزيد من تقديم الولاء والطاعة ظل يهتف بحياة ستالين حتى لحظة إعدامه، لكنه أعدم كما أعدم ابنه أيضاً، وبعد عقود من الزمان أعيد الاعتبار له ، وفنّدت مثل تلك الافتراءات المزعومة التي روّجت لها الدعايات الحزبوية المضلّلة عشية المحاكمات الشهيرة في العام 1936 وما بعدها.
    وبغض النظر عن هذا الموقف فكريم أحمد أحد أبرز القادة التاريخيين وهو  إنسان طيب القلب ومخلص وصادق السريرة ، يكفي أنه ساهم في تقديم سلام عادل إلى دست القيادة مكتشفاً مواهبه وإمكاناته ، وهو الذي تنازل بعد ذلك إلى حميد عثمان في قيادة الحزب لأنه كان مسؤولاً قبله، ولعمري إن مثل هذا السلوك الطهري هو تعبير عن نكران الذات ونزاهة أخلاقية وصدقية كبيرة بغض النظر عن صواب أو خطأ التقدير  في الوقت الذي يتصارع الآخرون على المواقع. أقول ذلك وأنا أشعر بعطف خاص على كريم أحمد وكلّ من تعرّض للتنكيل لحساسية خاصة إزاء الكبرياء الشخصي والكرامة الشيوعية ، وإذا امتهنت كرامة الشيوعي في حزبه فماذا سنُبقي للعدو؟ وهل ثمة خدمة أكثر من ذلك له؟
   كنت قد قلت لباقر ابراهيم وعامر عبدالله إلى متى يمكن الرهان على الرفيق أبو سعود، فالأمر يكاد يكون قد خرج من بين يديه والتعويل عليه ليس سوى مضيعة للوقت، فإما اتخاذ موقف أو السكوت ولكل منهما تبعاته، وكنت في ذلك أحاول وضع  ثلاث سيناريوهات لسلوك عزيز محمد :
   الأول- أن يكون الرجل غير قادر على المواجهة، فهو يتحدّث أمام باقر ابراهيم وعامر عبدالله والمجموعة المحتجّة بلغة، ومع الصقور بلغة أخرى، وذلك يعود ربما لشخصيته ووضعه الاجتماعي.
   الثاني- أن يكون مقتنعاً بهذا المآل ويتم ذلك في إطار تقسيم العمل حيث يتولى هو الكلام المعسول بلسانه المعطّر، ويكون من حصة الآخرين الزجر والردع والقسوة، بل إن بعضهم اعتبر ذلك دليلاً للثورية.
   والثالث- أن يكون مغلوباً على أمره وهو احتمال وارد بسبب اختلال موازين القوى، فلم يعد كلامه مسموعاً، خصوصاً وأنه تعرّض لضغوط وابتزازات شخصية، فاضطر إلى المجاراة، وقد جرت محاولة إقصائه حسبما يذكر آرا خاجادور ولأسباب غير سياسية، لكنه كما يقول هو من أحبطها، علماً بأنه كان ركناً من أركان التحضير لمكيدة المؤتمر الرابع، وأصبح بعده عضواً في المكتب السياسي، ولكنه ندم على ذلك وعاد ودخل في صراع محموم مع الكتلة التي تشكّلت منها إدارة الحزب وتعرّض هو الآخر إلى اتهامات رخيصة أيضاً، علماً بأن خاجادور كان هو الآخر يراهن على عزيز محمد كتكتيك ضد الكتلة المتشدّدة التي وقفت خلفه، وقد برّر ذلك لاحقاً إن بدعم عزيز محمد وتقويته يمكن دحر الكتلة التي معه، لكن ذلك لم يكن سوى وهماً وهو أحد الواقعين فيه ، ومن يقرأ كتاب د. رحيم عجينة " الاختيار المتجدد"، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 1998، الذي أصبح بعد المؤتمر الرابع عضواً في المكتب السياسي وكان مندفعاً جداً بالخط السياسي السائد، يلمس المرارة والألم والشعور بالخيبة والخذلان لوصول العلاقات الرفاقية إلى هذا المستوى المتدنّي.
   يقول عجينة : وتحوّلت بعض اجتماعات المكتب السياسي إلى كابوس وندوة للشتائم والزعيق والابتزاز والتهجم على بعض  أعضاء المكتب السياسي وعلى الهيأة ذاتها، الأمر الذي يعالجه السكرتير (عزيز محمد) بتعليق الاجتماع وإنهائه لكي يتجنب الرد والرد المقابل، وقد أدت هذه المعطيات إلى توقف كريم أحمد عن حضور اجتماعات م.س، واندفع بعض أعضاء الهيئة للإعلان عن رغبتهم بالتخلي عن مواقعهم وإناطة المسؤولية بآخرين..."
وكنت قد كتبت في كتابي " عامر عبدالله ومرارة الأمل" نقداً ذاتياً عن الفعل ورد الفعل إزاء الكتل المتصارعة، وذلك بوضع مسافة من جميع الفرقاء ومن خلال مراجعة نقدية للماضي بكل ما له وما عليه: ولا بدّ هنا من تسجيل نقد ذاتي آخر يخصّ المعارضة الحزبية، التي شملت "الغث والسمين" وبعضها لا يختلف من حيث الصفات السلبية ونقاط الضعف والخواء عن الجهات التي تنتقدها في إدارة الحزب، وبقدر ما حاولت " إدارة الحزب" تشويه صورة المعارضة الحزبية، فإن هذه الأخيرة استخدمت في الكثير من الأحيان الأساليب ذاتها التي لجأت إليها إدارة الحزب، سواءً من جانب مجموعة المنبر، لا سيّما بعض ما نشرته (وإن كان محطّ خلاف بين أعضائها) أو مجموعة عامر عبد الله  – باقر ابراهيم والذين يدورون في فلكها، أو ما كتبه بهاء الدين نوري، بما فيها مذكراته الشخصية، التي خرج فيها في العديد من الحالات عن النقد السياسي وروح الرفقة والنضال المشترك، ليتناول بعض الجوانب الشخصية، إضافة إلى كتابات حكمت كوتاني ومذكرات شوكت خزندار التي احتوت على اتهامات وشكوك خطيرة ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على الصعيد الأخلاقي والشخصي، وهي أمور لا يمكن الفصل فيها أو إثباتها، ناهيكم ما تثيره من حساسيات تُبعد الصراع السياسي عن محتواه الأساسي وكما يقول المثل: " ليس كلُ ما يُعرف يُقال".
ولا شكّ في أن الأجهزة المعادية بجميع أشكالها كانت تستخدم الإتهامات والإساءات من جانب إدارة الحزب ضد خصومها الحزبيين، أو من جانب المعارضة الحزبية، ضد إدارة الحزب، وسيلة لنشر المزيد من الفوضى والتفكّك والتباعد الشخصي والسلوكي، وكانت غالباً ما تدسّ وتزيد وتبالغ في نقل المعلومات من هذا الطرف إلى ذاك، بغية إبقاء النار حامية واللهيب مشتعلاً، والنتيجة هي خسارة للجميع، لا سيّما بالخروج على معايير الصراع السياسي والحزبي الأخلاقية والمبدئية، الذي يستوجب أن يكون الصراع  فيها رزيناً والخلاف موقّراً ولغة الخطاب ومفرداته محترمة وأمينة، وللأسف فإن هذه الصراعات في الأحزاب الشمولية الحاكمة أو السرّية غالباً ما تلتهم أفضل الصفات الإيجابية لدى المناضلين، بل وتستهلكهم، وتسهم في تكوين البطانات والولاءات وتبعد الحزب أو الحركة السياسية عن أهدافها.
يتبع

   


132
   
حكاية منصور الكيخيا  والاختفاء القسري
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


" من أحبّ الحق وغار عليه فهو مع حبّه لا مع الحق؛ العارف
لا يغير على الحق، بل يعشقّه إلى عباده ويحببه إليهم"
محي الدين العربي
تمهيد حيثيات الواقعة
   على مدى عقدين من الزمان تقريباً كانت مسألة اختفاء منصور الكيخيا المثقف والحقوقي والدبلوماسي الليبي السابق من القاهرة (1993) حيث كان نزيلاً في  فندق السفير بالدقي، حدثاً هاماً انشغلت فيه العديد من المنظمات الدولية، إضافة إلى جهات ودول مختلفة. وكان الكيخيا قد اختفى بعد أربعة أيام من مشاركته مؤتمراً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وانتخب عضواً في مجلس أمنائها وقد شارك كاتب السطور في المؤتمر على رأس وفد من المنظمة في لندن.
   لم تفلح جميع الجهود لإجلاء مصيرالكيخيا ومعرفة تفاصيل اختفائه القسري، قبل نجاح ثورة 17 فبراير (شباط) 2011 التي اندلعت شرارتها الأولى من بنغازي، فلاح خيط أمل، لاسيّما بعد تصريحات واعترافات عبدالله السنوسي مدير المخابرات الأسبق بشأن خفايا اختطافه من القاهرة ونقله إلى طرابلس؛
   وتقول الرواية أنه تم تخديره في منزل ابراهيم البشاري ممثل ليبيا لدى جامعة الدول العربية، الذي توفي لاحقاً في ظروف غامضة، ونُقِل إلى طرابلس بسيارة دبلوماسية ، وبقي محبوساً في فيلا لنحو 4 سنوات ، حتى توفي في العام 1997 حيث كان يعاني من أمراض السكري وضغط الدم، وجاوز عمره الستين عاماً وفي ظروف اعتقال قاسية خضع فيها لتحقيقات مستمرة.
   البحث عن موسى الصدر
   كان وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور قد وصل إلى طرابلس يبحث عن أي أثر أو نقطة توصله إلى معرفة مصير السيد موسى الصدر الذي اختفى قسرياً في طرابلس العام 1978، وحاول أن يستدل على جثة تم دفنها بُعيد انطلاق الثورة ، قيل أن صاحبها مجهول، وهناك من قال أن ثمة جثة اكتشفت في ثلاجة تم دفنها في مكان قريب مع جثتين أخريتين، وحين أجري الفحص المختبري للحمض النووي ، فلم يثبت أن الجثة تعود إلى السيد الصدر، وبعد أن عرف محمود الكيخيا (شقيق منصور الكيخيا) وابنه رشيد بالأمر بادرا إلى إجراء الفحوصات اللازمة التي أرسلت إلى معهد سراييفو للحمض النووي DNA فتأكد أن الجثة تعود إلى منصور الكيخيا.
   تكريم الكيخيا
   قرّرت القيادة الليبية الجديدة إقامة احتفال تكريمي مهيب لمنصور الكيخيا الذي اعتبر شهيداً؛ ونظم هذا الاحتفال في قاعة المؤتمرات بالعاصمة طرابلس، تحدّث فيه كل من رئيس الدولة حينها (رئيس المؤتمر الوطني الليبي) محمد المقريف  ورئيس الوزراء علي زيدان ونائب رئيس المؤتمر جمعة عتيقة وممثل الأمم المتحدة طارق المتري ومحمد فايق وزير الإعلام المصري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وعبد الحسين شعبان  مؤسس اللجنة العليا للدفاع عن منصور الكيخيا، التي ترأسها الشاعر بلند الحيدري وكان في عضويتها محمد المقريف (رئيس الدولة الليبية للمرحلة الانتقالية لاحقاً) والأديب خلدون الشمعة (سوريا) والباحثة د. غادة الكرمي (فلسطين) والشيوعية البارزة فاطمة أحمد ابراهيم (السودان) والفنانة الطليعية ناهدة الرماح (العراق).
   وحضر الاجتماع التأسيسي علي زيدان (رئيس الوزراء لاحقاً)  ورجل الأعمال البارز تميم عثمان (الذي تبرع بنفقات فيلم بعنوان " اسمي بشر" من إخراج محمد مخلوف ) والصحافي اللبناني مصطفى كركوتي والمحامي الفلسطيني  أمجد السلفيتي والكاتب السعودي غالب العلوي والناشطة العراقية سناء الجبوري والصحافي والكاتب البحريني منصور الجمري والناشطة المصرية بهجت الراهب وآخرين. واستحضرت شهادات رئيس الوزراء اليمني محسن العيني والدبلوماسي العراقي صلاح عمر العلي وزير الإعلام والثقافة الأسبق وممثل العراق سابقاً في الأمم المتحدة، وهما زميلا الكيخيا في الأمم المتحدة.
   وكان نخبة من المحامين والحقوقيين والناشطين بينهم كاتب السطور قد أقاموا دعوة قضائية على السلطات المصرية حينها، بهدف إجلاء مصير الكيخيا والكشف عن ملابسات اختفائه وطلبوا استدعاء بعض من التقاهم الكيخيا للتحقيق معهم. وكانت السيدة بهاء العمري زوجة الكيخيا قد عبّرت عن هواجسها عند مقابلتها الزعيم القذافي من وجوده معبّرة عن مسؤولية الدولة في الكشف عنه وكان جوابه أنه سوف لا يألو جهداً إلّا وسيبذله لإجلاء مصيره وهو ما نقلته شخصياً لكاتب السطور عند عودتها من طرابلس، في حين كان هو محتجزاً في قبو لفيلا قريبة من مكان إقامة الرئيس القذافي وهو ما ذكرته في كتابي الموسوم " الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجاً" وينشطر الكتابين إلى قسمين أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة الإنكليزية.
   ومن غرائب الدنيا أن القذافي كان قد استقدم إحدى العّرافات لقراءة طالعه، وذلك عشية وفاة الكيخيا، فكشفت له إن دفن أحد الشخصيات المهمة سيصيبه بسوء ، ولذلك لم يتم دفن الكيخيا وإنما استبقي بثلاجة لمدة 14 عاماً من العام 1997 ولغاية العام 2011.
سلطة الضوء
   حين دعيتُ إلى المشاركة في احتفال تكريمي للكيخيا بعد اكتشاف الحقيقة، ألقيت كلمة بتاريخ 2 كانون الأول (ديسمبر ) 2012  نشرتها الصحافة الليبية والأجنبية جاء فيها:
" ها نحن نلتقي اليوم في احتفال تكريمي مهيب في حضرة منصور الكيخيا وفي طرابلس، لنعلن أنه رحل شهيداً بعد التأكد من وجوده الفعلي بفضل نجاح ثورة 17 فبراير (شباط) 2011 وبعد العثور على جثته وإجراء الفحص المختبري للحمض النووي.
لعلّ سؤالاً ملحّاً ظلّ يراود أذهان الكثيرين كل سنوات اختفائه القسري التسعة عشر ألا وهو: لماذا تستبدل الدولة مهمّاتها بمهمّات قاطع طريق، فتخطف تحت جنح الظلام مواطناً أعزلاً أو مثقفاً مسالماً، في حين أنها مدجّجة بالسلاح والمال والمخبرين والسجون . وعلى الرغم من معرفتها أن الشبهات تحوم حولها، بل تلاحقها الاّ أنها كانت تراهن على الصمت وضعف الذاكرة والنسيان. ولعلّ أخشى ما كانت تخشاه هو حكمة الضوء التي تكشف المستور، وتظهر الحقيقة ساطعة، وتفضح أصحاب "الصناديق السوداء" وغلاظ القلوب ومعهم الزّيف المعتّق والخداع المزمن والسّريّة المقيتة.
إن هدف هذا الإستذكار هو كشف الحقيقة وإدانة المرتكبين ومساءلتهم وتعويض الضحايا وعوائلهم معنوياً وماديّاً ومجتمعيّاً وإنسانيّاً، وجبر الضرر، ووضع حد لهذه الجرائم كي لا تتكرّر، وذلك بإصلاح الأنظمة القانونيّة والقضائيّة والأمنيّة.
إن الغاية من هذه الإستعادة الإنسانيّة لا تستهدف الإنتقام أو الثّأر أو الكيديّة أو التحريض بقدر بحثها عن العدالة الغائبة أو المفقودة، وبلا أدنى شك الحوار حول أفضل السبل للعدالة المنتظرة والموعودة .
كان المشروع الفكري التنويري لمنصور الكيخيا يقوم على العقلانية والديمقراطية والمدنية كثلاثية لا انفصال بينها لإنجاز التغيير المنشود ولتفكيك بُنية الإستبداد، خصوصاً باعتماد وسائل سلمية وحضارية، وبممارسة مختلف الضغوط المشروعة لفتح ثغرة في جدار التسّلط والإستئثار والفردية .
وأعتقد أن القذافي كان يدرك جدية وفاعلية مثل هذا التوجّه اللّاعنفي الإنساني والحقوقي، ولاسيّما التعبير عن الرأي، وكان يخاف من اتساع دائرة الضوء لأنه حريص على إخفاء الحقيقة، أو تشويهها مثلما هو حريص على الصمت والنسيان.
ولهذه الأسباب أيضاً إستهدف شخصياً ورمزياً منصور الكيخيا، لأنه شعر بخطورة دور المثقفين والحقوقيين الليبيين، مثلما استهدف المثقفين والحقوقيين العرب، خصوصاً وأن منصور الكيخيا عضو مؤسّس وفاعل في المنظمه العربيه لحقوق الانسان، وممثل اتحاد الحقوقيين العرب في الأمم المتحدة في جنيف (ونيويورك)، وله دور مهم في اتحاد المحامين العرب.
كان منصور الكيخيا المثقف والحقوقي أكثر من يعرف قسوة النظام السابق، ولكن لم يعدم وسيلةً إلاّ واستخدمها لثنيه عن توجهه بما فيها الحوار معه، مع علمه المسبق بوعورة الطريق والعقبات التي تعترضه، خصوصاً وأن النظام يرفض أيّ مساحة للإعتراض أو أية حواشي للإختلاف أو أيّه مسافة للتمايز، حيث كان شعاره الذي لا يتهاون فيه ( من تحزّب خان)، ولكن منصور الكيخيا كرجل حوار وسلام وكمثقف لا عنفي وصاحب مشروع تنويري للتغيير الديمقراطي، لا بدّ أن يواصل جهوده السلمية المدنية الحضارية باتجاه التحوّل والتغيير، منطلقاً من ثقته بنفسه وبمشروعه ودوره الريادي .
رحل منصور الكيخيا منتصراً على جلاّده الذي ظلّ يخاف من إسمه وهو يتردّد في المحافل والأروقة الدولية كرمز لحقوق  الإنسان ولجميع المختفين قسرياً في ليبيا والعالم أجمع. وإذا كان اسم الكيخيا يرتفع اليوم عالياً في سماء ليبيا مثل نجمة فضية مشعّة وهادية، فإن اسم خاطفيه الذين حاولوا إخفاء كل أثر له لا يُذكر إلاً وهم مجلّلون بالعار والشنار والإشمئزاز والإزدراء، وتلكم هي حكمة الضوء وشهادة التاريخ.
لعلّ فضل منصور الكيخيا استمرّ حتى بعد رحيله، فقد منحنا اليوم هذا الشرف لنجتمع في رحابه ونودعه إلى  مثواه الأخير بكل الحب والإعتزاز والعرفان بالجميل، ولنمجّد مجدداً حكمة الضوء وسلطة الحقيقة المنوّرة.
لا نقول وداعاً لمنصور الكيخيا، بل نقول له اشتياقاً
يوم الشهيد تحيةٌ وسلامُ                                     
بكَ والنضالُ تؤرّخ الأعوامُ   
مرّة أخرى منصور الكيخيا اشتياقاً ..
منصور الكيخيا ... سلاماً!
طرابلس(ليبيا) 2/12/2012

   طائرة خاصة لنقل الجثمان
   وبعد انتهاء الاحتفال خصصت القيادة الليبية طائرة خاصة لنقل جثمان الكيخيا إلى مثواه الأخير في مدينته بنغازي، وكان في الطائرة أرملته بهاء العمري وابنه رشيد وابنته جيهان وشقيقه محمود وكاتب السطور وعدد من أفراد العائلة والمسؤول الأمني الصديق صالح جعودة الذي سبق أن استضاف كاتب السطور في واشنطن لإلقاء محاضرة عن الكيخيا مع نخبة متميزة من الأكاديميين وعرض حينها فيلم "أسمي بشر" وهو ما تكرّر في برلين ولندن وغيرها .
   وقد سجيّ الجثمان في منزله وفي غرفته إلى اليوم الثاني، لحين تشييعه ودفنه في مقبرة العائلة، وأقيم احتفال كبير وضخم له في بنغازي ألقيت فيه كلمة لرئيس الوزراء علي زيدان ومحمود شمام الذي أصبح وزيراً للإعلام ومحمود الكيخيا شقيقه وكاتب السطور، وذلك في ساحة التحرير التي انطلقت منها شرارة ثورة 17 فبراير (شباط). وللتوثيق نورد نص الكلمة التي ألقاها الكاتب في حفل تأبين منصور الكيخيا  في بنغازي 3 كانون الأول (ديسمبر) 2012:
الحلم الفضي يعود إلى  بنغازي
أمس فقط عاد منصور الكيخيا إلى  مدينته بنغازي. رجع كعادته حالماً ببيته وغرفة نومه. عاد منصور الكيخيا مكلّلاً بالورد ومحمولاً على الأكتاف بعد غياب قسري طويل. عاد مصحوباً بدعوات وهتافات صادقة وبريئة بالمجد والخلود، حيث تصرّف الناس بكل عفوية ومحبة إزاء هذا الرجل الشجاع والأمير الحالم الذي عرفوه في كل الأوقات جريئاً ومخلصاً ورصيناً وموضع ثقة باستمرار.
ازدحم الشارع البنغازي محيّياً حضوره البهي ، وكم كان الناس يتمنّون أن يكون بينهم وفي مقدمتهم يوم اندلعت الثورة في هذه المدينة التاريخية المهمّشة، وهو الذي ظلّ يمنّي النفس بحكمة الضوء وانتصار الحلم على الكراهية وليالي الزمهرير السوداء؟ هكذا جاءت الشرارة وبعدها اندلع اللهيب، فهوى نظام الاستبداد والتسلّط والاستئثار والفردية.
وحده الحلم الجميل كان وراء هذه القدرة العجيبة التي امتلكها منصور الكيخيا، والشبيبة التي تطلّعت للضوء وعلى هدية كانت قادرة على مقارعة الطغاة. كان منصور الكيخيا حاملاً  لمشروع تنويري حضاري أساسه العقلانية والديمقراطية والمدنية ويعتمد الحوار والوسائل اللاعنفية سبيلاً للتغيير، لاسيّما بنشر الثقافة الحقوقية السلمية التي تشجّع على احترام الرأي والرأي الآخر والتنوّع والتعددية.
كان منصور الكيخيا سياسياً من طراز فريد، فقد اختزن خبرة ودراية ومعرفة وعلماً، مثلما عرف العمل المهني والحقوقي العربي والدولي، بخلفيته القانونية والدبلوماسية والإدارية. وكان مثقفاً عضوياً متميّزاً، عاش هموم شعبه وأمته، وتطلعاتهما وآمالهما، خصوصاً وقد جمع في شخصه على نحو منسجم ووثيق، بل في هارموني لا انفصال فيه، بين السياسية والثقافة، وبين الوطنية والإنسانية وبين المبدئية والمرونة وبين الصلابة والنعومة وبين الستراتيجية والتاكتيك، كل ذلك في إطار أخلاقي يسري في عروق حركته وتوجهاته بجميع مفاصلها، سواءً في عمله السياسي أو الدبلوماسي أو الحقوقي أو المهني أو الصداقي.
أدرك منصور الكيخيا أن مشروعه الحضاري يحتاج إلى  تراكم وتطوّر طويل الأمد، لأن أهدافه هي تفكيك بُنية الاستبداد التي عصفت بالدولة والمجتمع، ولم يكن لديه أدنى شك أو أي وهم من ثقل الواقع الذي كان يهيمن على الحياة ويضفي قتامة وعتمة، أقرب إلى  انسداد الآفاق، وبما يدعو لليأس أحياناً. وعلى الرغم من أجواء التشاؤم العامة، فقد كان الحلم حبله السري إلى  المستقبل، بل أن جزءًا من عقله وتفكيره كانا يعيشان في المستقبل، ولأجل ذلك الحلم عاش وواصل  نضاله دون كلل أو ملل. وكان  الإنسان حلمه واستثماره الحقيقي متمثلاً بقول الفيلسوف الإغريقي  بروتوغوراس "  الإنسان مقياس كل شيء" ولأجله ينبغي تسخير كل شيء، لاسيّما لرفاهه وسعادته وبالطبع لحريته وإنسانيته.
ومثل حلمه بنظام جديد وحرّيات ومؤسسات منتخبة، فإن إعلاء شأن  الإنسان ورفع قدره كان هاجسه الأول، إيماناً منه بسمو حق الحياة وقيم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، الأساس في المواطنة الفاعلة التي كان يعتبرها حجر الزاوية للتقدّم والعدالة الاجتماعية.
لعلّ الحلم الأخير لمنصور الكيخيا قبل أن يرقد الرقاد الأبدي هو اجتماعنا هذا، الذي أراد أن يشاركنا فيه فقد دعانا بكل كرمه المعهود  إلى  مدينته وبيته وغرفة نومه ليقول لنا:
الآن هو الآن
أمس قد كان
ليس هناك من شك !
وتلكم لعمري حكمة الضوء والحلم الفضّي

بنغازي 3/12/2012

وقفة تأمل
   ولعلّ مناسبة هذه الاستعادة هو يوم 30 آب (أغسطس) حيث تتأمل الإنسانية في مصير المختفين قسرياً، وخصوصاً الذين لم يجل مصيرهم ، كيف غيّبوا أو اختفوا قسرياً؟ ومن قام بذلك؟ وهل ثمة تعويض لأسر الضحايا؟ أو جبر الضرر المادي والمعنوي لإبقاء المسألة في دائرة الضوء بدلاً من رهان الخاطفين على دائرة النسيان. وما هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومات؟ وما هي الاتفاقيات والقرارات الدولية بشأن ذلك،
   كل ذلك اعتماداً على قرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47/133 بتاريخ 18 ديسمبر (كانون الأول) 1992 الذي حدّد طائفة من القواعد الواجبة التطبيق على جميع الدول وتشمل : الاختفاء القسري والقبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغما عنهم أو حرمانهم من حريتهم عبر وسائل مختلفة، بما فيها ما تقوم به الأجهزة الأمنية، التي ترفض الكشف عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم مما يجردهم من حماية القانون.
   مازن لطيف وتوفيق التميمي
   وحديثي هذا العام عن منصور الكيخيا وأنا أتناول مسألة الاختفاء القسري منذ 40 عاماً دون توقف، وذلك بالدعوة للكشف مازن لطيف الناشر والصحافي ، وتوفيق التميمي  الصحافي والكاتب، اللذان اختفيا قسرياً منذ بضعة أشهر وبُعيد انطلاق حركة الاحتجاج الجماهيرية الواسعة في تشرين الأول (اكتوبر) 2019.
    ولعلّ أول مرة تناولت فيها موضوع الاختفاء القسري كان عقب اختفاء د. صفاء الحافظ عضو مجلس السلم العالمي ود. صباح الدرّة  سكرتير اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي في العام 1980، وهو ما تكرّر التذكير به كل عام تقريباً للمنظمات الدولية برسائل موجهة لهما أو اتصال مباشر معها مثل الأمنستي انترناشونال (العفو الدولية) (لندن) أو الهيومن رايتس واتش (منظمة مراقبة حقوق الإنسان) (واشنطن) أو المنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) أو الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (باريس).
   وقد شهد العراق اختفاء شخصيات بارزة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية مثل عايدة ياسين رئيسة رابطة المرأة والمفكر الإسلامي محمد باقر الصدر وشقيقته الأديبة بنت الهدى، وقد كشف عن وفاتهما لاحقاً دون إعلان رسمي ، ودار توفيق رئيس تحرير صحيفة التآخي الكردي وأسعد الشبيبي في الثمانينات، واختفى المفكر والكاتب عزيز السيد الجاسم  في أوائل التسعينات، إضافة إلى اختفاء أعداد كبيرة دون إجلاء مصيرهم واختفاء د. أحمد الموسوي رئيس الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في بغداد 2005 ، وهو الأمر الذي تكرر واستمر ما بعد الاحتلال أيضاً، ليشمل عمليات اختفاء قسري لمجموعات تتعلق لأسباب دينية أو عنصرية أو طائفية، وخصوصاً بالنسبة للمسيحيين والإيزيديين ، ولاسيّما بعد هيمنة داعش على الموصل العام 2014 وما بعدها، إضافة إلى اختفاء نحو 700 مواطن من منطقة الصقلاوية والرزازة، بعضهم اختطف من نقاط التفتيش ولم يجل مصيرهم لحد الآن.
   المهدي بن بركة
   وكنتُ قد تناولت في حقيقة الاختفاء القسري لأكثر من مرّة، اختفاء المعارض المغربي البارز المهدي بن بركة من مقهى ليب في شارع الشانزليزيه (باريس) حين اقتاده شرطيان ولم يظهر له أي أثر بعد ذلك، واعتبر رمزاً للمختفين قسرياً منذ العام  1965، إضافة إلى اختفاء السيد موسى الصدر في العام 1978 في طرابلس ومصطفى الديراني في مطلع التسعينات الذي اختطفته السلطات الإسرائيلية (لبنان) واختفاء القيادي البعثي السابق شبلي العيسمي في عاليه (لبنان) العام 2011.
   الهدف الأول من الاستذكار هو إجلاء الحقيقة التي لن تغيب إلى ما لا نهاية ، وحكاية اختفاء منصور الكيخيا خير دليل على ذلك، الأمر الذي يحتاج توثيق وتدقيق وأمانة وضمير،
    والهدف الثاني هو مساءلة المرتكبين والمتواطئين معهم ليس بهدف الانتقام والثأر، بل الغرض من ذلك تحقيق العدالة، لاسيّما في الأوضاع الانتقالية،
    أما الهدف الثالث فهو جبر الضرر المادي والمعنوي وإبقاء الذاكرة حيّة وإطلاق أسماء الضحايا على مؤسسات أكاديمية وثقافية واجتماعية وساحات عامة ومدارس ومكتبات وغير ذلك.
   ويتحدّد الهدف الرابع بالتعويض للضحايا وعوائلهم مادياً ومعنوياً وتأهيلهم لكي يتعافوا تماماً،   (من بقي منهم على قيد الحياة).
    في حين يكون الهدف الخامس متصلاً بإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية لكي لا تتكرر مثل هذه الأعمال وكي لا يفلت الجناة من العقاب .
   وليتذكّر الجميع حكاية منصور الكيخيا ويتأملوا .



133
40 عاماً على الحرب العراقية - الإيرانية
مصارعة على الطريقة الرومانية

عبد الحسين شعبان
باحث مفكر عربي
 
I
   مشهد وقائعي: في الحيثيات

   في 22 أيلول (سبتمبر) 1980 أعلن العراق رسمياً الحرب على إيران بعد مناوشات حدودية وتحرّشات واستفزازات وإعلانات عن تصدير الثورة الإيرانية التي انتصرت في 11 شباط (فبراير) 1979. وجاء ذلك الإعلان بعد تمزيق الرئيس العراقي صدام حسين اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 من على شاشة التلفزيون، وذلك يوم 17 أيلول (سبتمبر)، أي قبل خمسة أيام من إعلان حالة الحرب. والمقصود باتفاقية 6 آذار (مارس) هي اتفاقية الجزائر التي وقعها صدام حسين نفسه بصفته نائباً للرئيس أحمد حسن البكر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بوساطة جزائرية.
   ولقيت الاتفاقية المذكورة نقداً شديداً باعتبارها اتفاقية غير متكافئة ومجحفة وألحقت ضرراً بالمصالح العراقية في الماء واليابسة، وخصوصاً الاعتراف بخط الثالويك في شط العرب الذي هو نهر وطني عراقي، لكن المطالبة باستعادة الحقوق العراقية شيء وشن الحرب شيء آخر.
وكانت الحرب التي استمرت 2906  يوماً (ألفان وتسعمائة وستة أيام) حدثاً من أخطر الأحداث والمنعطفات المأسوية الخطيرة التي مرّت بالمنطقة في تاريخها المعاصر، خصوصاً في حياة الشعبين العراقي والإيراني؛ وهي كارثة شاملة من نمط الكوارث التي سيخصص لها التاريخ على مدى قرون مكاناً مهماً وحيّزاً كبيراً، لاسيّما ما أعقبها من سلسلة كوارث بدءًا بمغامرة غزو الكويت ومروراً بالحصار الدولي وانتهاءً بوقوع العراق تحت الاحتلال العام 2003.
لقد بلغت الحرب العراقية – الإيرانية حدًّا من الشراسة والعنف قلّ نظيره وزادت مدّتها على الحرب العالمية الثانية. وشهدت تصعيداً خطيراً شمل المدنيين، سواءً بحرب الناقلات أم حرب المدن أم استخدام السلاح المحرّم دولياً، وهو الأمر الذي ابتدأه النظام العراقي وواصلته  إيران برد فعل أكبر.
ووسعت إيران من عملياته الحربية داخل الأراضي العراقية، بعد تحرير العراق لمدينة الفاو، وصعّدت من لغة التهديد الحربي ولوّحت بإغلاق مضيق هرمز، وكان  هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان الإيراني حينها قد قال: أن المعركة الحاسمة ستتم خلال ثلاثة أشهر، بعد أن انتهى عام الحسم الإيراني، فقامت طهران بتصعيد قصفها للمناطق الحدودية وقصف بغداد بصواريخ أرض – أرض؛ وباحتلال المزيد من الأراضي العراقية في هجوم كربلاء (أواخر العام 1986)، والتوجه لاحتلال جزيرة أم الرصاص في شط العرب باستهداف البصرة، وكذلك لاحتلال جزيرة الأسماك في هجوم نصر- 4 (26 حزيران /يونيو/1987)، كما احتلّت نحو 20 كيلومتراً من كردستان.
وبالمقابل فإن العراق بعد " تحرير الفاو" واستعادتها من الإيرانيين وسّع هو الآخر من قصف المناطق الكردية التي حاولت القوات الإيرانية التسلّل منها، ولاسيّما قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي ليلة 16-17 آذار (مارس) 1988، واستمرّ بحرب الناقلات وهدّد بمواصلتها ما لم تستجب إيران لنداءات السلام، وأقدم على ضرب الفرقاطة الأمريكية ستارك وسفينة تركية.
ورفضت إيران جميع المناشدات لقبول وقف إطلاق النار والموافقة على قرار مجلس الأمن 598 الصادر في تموز (يوليو) 1987، ولكنها اضطرّت إلى  الرضوخ بعد عام واحد، إلى  أن أعلن الإمام الخميني موافقة إيران على قرار مجلس الأمن 598 وتجرّع كأس السمّ على حد تعبيره، وهكذا توقفت الحرب في 8/8/1988.
وإذا كانت الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل عنفية على حدّ تعبير العالم الاستراتيجي  النمساوي كلاوزفيتز، فإن الحرب العراقية- الإيرانية هي تطبيق عملي لهذا القول النظري المأثور، لاسيّما ما عكسته سياسة البلدين، ولهذا صحّ عليهما أيضاً ما قاله السياسي البريطاني المعروف غلادستون من أن الحكومة قادرة على المبادرة في الحرب، لأنها خلال الأزمات الوطنية تتمتّع بتأييد الشعب لمدة ثمانية عشر شهراً على الأقل، فإن هذا الأمر تم تجاوزه من الطرفين، وفقد شرعيته، خصوصاً في محاولة التوغل في أراضي الغير، في حين كان الحسم العسكري غير ممكن.
فالقوات العراقية التي احتلّت أراضي إيرانية اضطرّت إلى  التقهقر والتراجع، لأن إيران كانت تدافع عن أراضيها في حين أن القوات العراقية تحارب فوق أراضي أجنبية وبدوافع ملتبسة وغير قانونية، وهو المصير ذاته الذي تعرّضت له القوات الإيرانية الغازية، التي لم تتمكّن من تنفيذ مشروعها الحربي والسياسي. ولعلّها أدركت ذلك منذ معارك شرقي البصرة في تموز (يوليو) 1982 التي راح ضحيتها 30 ألف جندي إيراني، لهذا غيّرت إيران تكتيكاتها، فبدلاً من الموجات البشرية وقذف الألوف في أتون الحرب، أخذت تفكّر بسياسة القضم التدريجي.
إذا اعتبرنا قيام الدولة الصهيونية العام 1948 والكارثة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني، حدث من أخطر الأحداث التي مرّت بالمنطقة، فإن اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية واستمرارها لنحو 8 سنوات،هي الفصل الأكثر عنفاً وقسوة من الفصول المأسوية التي عرفها تاريخ المنطقة.
لا يستطيع أحد أن يجادل اليوم أن شن الحرب كان صحيحاً أو خدم شعوب المنطقة، كما أن استمرارها هو الآخر لم يكن صحيحاً بغض النظر عن المبررات والدعاوى للفريقين، فقد  حلّت كارثة حقيقية بالشعبين وأزهقت الحرب مئات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات الآلاف من الأسرى، ولكن البعض قد يبرر اليوم تلك المواقف بالقول أنه لم يكن العنصر الحاسم في استمرار أو وقف الحرب أو في فرض الحصار واستمراره من إلغائه، لأن الأمر كان بيد القوى الدولية المتنفّذة، التي لم ترغب بوقف الحرب، بل أرادت استنزاف طاقات البلدين وإنهاكهما لكي يتم إشغالهما عن مشكلات التنمية الإنسانية المستدامة بكل حقولها، فضلاً عن إبعادهما عن دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي جوهر مشكلة الشرق الأوسط.
كما أن سياسة فرض الحصار والعقوبات على العراق كانت تستهدف الاحتواء فالإطاحة، وتلك القناعة كانت سائدة في عهد الرئيس كلينتون وأصبحت تدريجياً تعني الاحتواء المزدوج (العراق- إيران)، لكن صدور قانون تحرير العراق من الكونغرس الأمريكي 1998 وصعود مجموعة الصقور، لاسيّما في عهد الرئيس بوش الإبن، بمن فيهم بول ووليفتز وديك تشيني وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد وآخرين، فضلاً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية في العام 2001، كانت وراء الإسراع بعملية غزو العراق واحتلاله.
ولكن القوى الدولية كانت تحتاج إلى  أصوات عراقية مؤيدة لخططها وهو ما حصل من جانب بعض القوى المعارضة "الرسمية". وإذا كان صحيحاً أنها لم تكن القوى الحاسمة أو المقررة أو المؤثرة  في القرار الدولي، لكن الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني كان يقتضي عدم تأييد استمرار الحرب أو تأييد فرض الحصار أو تأييد احتلال العراق، وحتى لو استفادت موضوعياً من البيئة المعادية لنظام الحكم في العراق، لكن ذلك شيء مختلف عن الإنخراط في المشروع الخارجي، الذي أوقع العراق في ورطة حقيقية ما يزال يدفع ثمنها باهظاً منذ أكثر من 17 عاماً.
وقد اختفت الكثير من الأصوات التي كانت تنادي باستمرار الحرب العراقية - الإيرانية بعد وقفها، لكن البعض نقل رحيله من القوى الإقليمية بما فيها إيران إلى  القوى الدولية، لاسيّما بعد مغامرة الحكم في العراق بغزو الكويت في العام 1990، وخصوصاً بدعوته لتشديد الحصار الدولي على العراق وإطاحة نظامه، وقد تغيّرت بعض المعادلات السياسية، الأمر الذي دفع بعض القوى الدينية التي كانت ترفض التعاون مع القوى الأخرى، لاسيّما قوى اليسار، إلى  القبول بها والجلوس معاً في "لجنة العمل المشترك" 1990 ومن ثم في "مؤتمر بيروت" في العام 1991 والمؤتمر الوطني العراقي في العام 1992.
وأستعيد هنا حواراً مع الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً  (بعيد انطلاقة حركة الاحتجاج التشرينية العام 2019) وكان قد سألني : كتبت كثيراً من الكتب والدراسات والأبحاث، فهل لديك مشروع توثيقي للحرب العراقية – الإيرانية، تقدّمه للأجيال التي لم تتلوّث بسخام ودماء هذه الحرب والمآسي التي عاشها شعبي البلدين؟وباستعادة التاريخ، فثمة دروس عسى أن نستفيد منها؛    فعندما اندلعت الحرب كنت قد وصلت لتوّي إلى  دمشق – بيروت، وكان بعضنا يعتقد أن الحرب ستنتهي بعد أسبوع واحد أو ربما ثلاثة أسابيع أو حتى شهر. وكنت قريباً ممن يقول: أنتم لا تعرفون الإيرانيين، فهم حتى لو انسحب صدام حسين من إيران، فهم لن يتركوه لأنهم " لزكَة جونسون"، إذا تناقشوا حول مسألة فقهية أو لغوية، فقد تدوم ستة أشهر وقد يضطرّون بعدها للعراك، وقد يعودون إليها بعد أعوام، فما بالكم وأن صدام حسين هو الذي بادر بالهجوم عليهم، ولا تنسوا أنهم ما زالوا في ربيع الثورة وفي حالة وطنية من التلاحم. ولعلّ الثورة أية ثورة تخلق مثل هذه الحالة وهو ما شاهدناه في العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية، وأعترف أنه لم يستطع أحد منا التكهن بأن تلك الحرب ستطول ثمانية أعوام بالكمال والتمام.
وخلال تلك الأعوام المريرة كتبت دراسات  وأبحاث عديدة بُعيد الحرب مباشرة ونشرتها في بعض الصحف والمجلات العربية، ثم أصدرت كرّاساً بعنوان " النزاع العراقي- الإيراني- ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي" وصدر في بيروت أوائل العام 1981، وقامت المخابرات العراقية بجمعه من المكتبات على الرغم من دفاعه عن حقوق العراق التاريخية في المياه واليابسة ورفضه المشروع والبديل الإيراني، ولكنه من جهة أخرى أدان الحرب التي شنّها صدام حسين واعتبرها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية، الأمر الذي يستحق عليه المساءلة؛ وألقيت محاضرات عديدة عن الحرب وآفاقها، لاسيّما بعد أن انتقلت إلى الأراضي العراقية، والمخاطر والتحدّيات المحتملة خارجياً وداخلياً.
وكتبت عدداً من الدراسات، بما فيها إنجاز ملفّات خاصة عن الجانب القانوني في النزاع، وشط العرب كنهر وطني عراقي واستخدام القوة في العلاقات الدولية وحرب المدن وحرب الناقلات، وعن أوضاع الأسرى العراقيين والإيرانيين في ضوء الشريعة والقانون الدولي، وعن سيناريوهات الحرب، والنفط والحرب، والقضية الكردية والحرب، والصراع العربي- الإسرائيلي والحرب، وبانوراما الحرب، والحرب والحسم العسكري وغيرها...الخ وآمل أن أتفرّغ لجمع تلك المواد وتأطيرها وتعزيزها لتصدر كموسوعة خاصة بالحرب العراقية – الإيرانية، بعضها كُتب خلالها وبعضها بعد مرور سنوات عليها، لاسيّما تقييماتها، أو أن يتفرّغ أحد الباحثين  للقيام بهذه المهمة، خصوصاً لتوثيق مواقف القوى والشخصيات العراقية.
وسعيت بكل ما أستطيع في المحافل الدولية والعربية للترويج لفكرة إن هذه الحرب عبثية، وأن الجهود ينبغي أن تنصرف لوقفها دون تحقيق مكاسب منها، وإنها مدانة عندما بدأها الحكم في العراق في 22 أيلول (سبتمبر) العام 1980 وعندما أصرّت إيران على مواصلتها منذ انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية، بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) العام 1982، وهي حرب تدميرية لطاقات الشعبين، وأن الحل المناسب هو الجلوس إلى  طاولة مفاوضات طبقاً لقواعد القانون الدولي، دون نسيان حقوق العراق التاريخية والتي تم التنازل عنها في اتفاقيات سابقة، لاسيما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975، لكن الأمر يحتاج إلى  وسائل سلمية لتسوية الخلافات.
وكان رأيي وما يزال أنه كلّما كان العراق ضعيفاً، كلّما تمدّدت إيران داخله، والعكس صحيح. ولعل ما يحتاجه الشعبان العراقي والإيراني هو علاقات متوازنة ومتكافئة وإلى صداقة وحسن جوار ومشترك إنساني على أساس حق تقرير المصير واحترام الخصوصية والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
II

مشهد قانوني - سياسي: الصديق الإيراني المحتمل
ظلّ البعض ينظر إلى إيران باعتبارها عدوّاً تاريخياً دائماً ومستمراً وأنه لن يتغيّر، في حين هناك من يعتبرها عمقاً استراتيجياً له لاعتبارات مذهبية أو آيديولوجية، فكيف السبيل لإحداث تغيير في العلاقات العراقية - الإيرانية؟ وهل يتم ذلك بالحرب وبالوسائل العسكرية، أم بالعمل والتعاون على أساس المصالح؟ ولعلّ الكثير من المشتركات التاريخية والدينية تجمع إيران بالعراق، والأهم من ذلك هو المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي تحتاج إلى  توفير بيئة سلمية ومدنية لكي تزدهر وتتعمّق، خارج دائرة العداء، وذلك بتغيير موقعها إلى صديق محتمل على أساس التكافؤ والمساواة.
وبقدر ما نستحضر التاريخ للفهم والدلالة والعبرة، فإننا لا نعيده ولا نعيش فيه أو نغرق في فصوله، لأننا سنكون أسرى للتاريخ  أكثر من التفكّر بالحاضر ورؤية استشرافية للمستقبل، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون عراق قوي بمواطنته ودعم شعبه وتوفير مستلزمات حضوره في الإقليم.
وبخصوص الموقف من الحرب فقد اختلفت معظم قوى المعارضة العراقية الرسمية في رؤيتها، فبعضها لاسيّما القوى الدينية الشيعية كانت تدعو إلى  "استمرار الحرب حتى النصر" وهو ما ينسجم مع المشروع الإيراني. أما القوى الكردية فقد كانت أقرب إلى  الرؤية الإيرانية آنذاك،  في حين أن بعض المجموعات المحسوبة على سوريا كانت تدعو إلى  "عدم توسيع رقعة الحرب". أما الحزب الشيوعي وبعد جهد جهيد وصراع داخلي حاد وانشقاقات ، فقد قدّم شعار وقف الحرب والإطاحة بالدكتاتورية، بعد أن كان الشعار بالمقلوب.
كان يخيّل لي أن الحرب العراقية- الإيرانية بفعل استمرارها ووحشيتها واحتمالات إتّساع دائرتها كأنها مصارعة على الطريقة الرومانية القديمة، التي لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الطرفين المتصارعين وإعياء وإنهاك الطرف الآخر حد الموت أحياناً، وهو ما كتبته في جريدة الحقيقة اللبنانية قبل انتهاء الحرب بعام واحد (تموز/يوليو/1987 وقبيل صدور قرار مجلس الأمن 598).
   وفي وقت سابق كنت قد أجبت على سؤال آخر بخصوص كتابي الموسوم " النزاع العراقي- الإيراني" وملابساته ، لاسيّما موقف السلطات الحاكمة من صدوره فأشرت إلى أنه:
   صدر في بيروت في النصف الأول من العام 1981 وكتب مقدمة له الرفيق باقر ابراهيم (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في حينها) والذي  أشار فيه إلى : أن الكثير من الباحثين بحثوا في موضوع الخلاف الحدودي بين العراق وإيران، وما جرّه ذلك من نزاعات طيلة قرون عديدة، ويتناول الموضوع الذي يضعه الرفيق عبد الحسين شعبان بين أيدي القرّاء، هذا النزاع، في ضوء قواعد القانون الدولي، وذلك جانب وجدته هاماً وضرورياً لكل المناضلين التقدميين وكل مواطن أن يلمّ به... ويعرّي الدكتور شعبان في بحثه بصورة ملموسة وحيوية حيل النظام القانونية التي يلتجئ إليها باستخدام التضليل والخداع... وينطلق في تحليله للنزاع من منطلقات المنهج " الماركسي"- اللينيني في البحث، وهو إلى  جانب التزامه بتلك المنطلقات يجتهد في بحثه ويستنتج الحلول بطريقة حيوية" .
   استند الكتاب إلى  عدد من المرتكزات الأساسية هي:
 المرتكز الأول يقوم على أن النزاع العراقي- الإيراني هو نزاع سياسي، ولكن جانباً قانونياً مهماً فيه، الأمر الذي اقتضى متابعته تاريخياً بشكل مكثف، بعيداً عن الاعتبارات العنصرية أو المذهبية، التي أريد الترويج لها عشية وبُعيد إعلان الحرب من جانب العراق في 22 أيلول (سبتمبر) 1980.
المرتكز الثاني استند إلى  معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 في بحث الاتفاقيات العراقية- الإيرانية، ولاسيّما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 المذلّة والمجحفة، والتي وقّعها صدام حسين مع شاه إيران في الجزائر وبوساطة الرئيس هواري بومدين وكان لوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة دوراً مهماً فيها، وقد سبق للكاتب أن ناقش هذه الاتفاقية في حينها في إطار رسالة كتبها إلى  المكتب السياسي، مورداً جوانب الضعف فيها، لا سيّما هدر حقوق العراق في الماء واليابسة، وخصوصاً فيما يتعلق بشط العرب وخط الثالويك، الذي هو أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر عند انخفاض منسوب المياه، وهو أمرٌ خطير وفق علماء الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) والطوبوغرافيا (علم التضاريس)، إذ سيعني ذلك انتقال النهر كلّياً إلى  إيران بعد نحو 100 عام، حيث سيتراكم الطمى والغرين وعوامل التعرية في الضفة العراقية، ناهيكم عن كون النهر أصلاً "نهر وطني عراقي"، وليس نهراً دولياً، لكي يتم اعتبار الثالويك (الذي هو خط وهمي) الخط الفاصل للحدود.
ومن الطريف الإشارة إلى أنني حضرت احتفالاً دولياً في الجزائر في العام 2010 بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور الإعلان العالمي لتصفية الكولونيالية (الاستعمار) الذي صدر عن الأمم المتحدة في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960، وقدّمت بحثاً في المؤتمر الاحتفالي، بعنوان " ديناميكية حق تقرير المصير والقانون الدولي"، وذلك في القاعة نفسها التي جمعت صدام حسين بشاه إيران محمد رضا بهلوي، في مؤتمر قمة الدول المصدّرة للنفط، وصوّرت حينها عدسات التلفزيون والكاميرات عناق "الأخوة الأعداء" في رواية الأخوة كارامازوف للروائي الروسي دوستويفسكي في قاعة "قصر الأمم"، حيث تم التوصّل إلى  توقيع اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 بين العراق وإيران والتي أدّت إلى  إنهاء الحركة الكردية المسلّحة مقابل تنازلات قدّمها العراق إلى  إيران، لا سيّما في شط العرب بقبول خط الثالويك وتنازله عن أراضي عراقية في منطقة نوكان وناوزنك في كردستان العراق.
لكنّ تلك الاتفاقية بذاتها أصبحت عقدة جديدة من العقد التاريخية التي أضيفت إلى  النزاع العراقي- الإيراني، وهي ما تزال محطّ أخذ ورد ونقاش وجدل، وحروب ونزاعات، نحو أربعة عقود من الزمان، ولعلّ فصلها الأكثر مأسوية كان هو الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، التي تعتبر من تداعياتها عملية غزو الكويت العام 1990 وصعود موجة الإرهاب، وفيما بعد احتلال العراق 2003.
أما المرتكز الثالث، فإنه على الرغم من أن الحرب وقعت دون مراعاة حتى بنود هذه الاتفاقية المجحفة، أو قواعد القانون الدولي، إلاّ أنني لم أنسَ حقوق العراق حتى وإن كان الجيش العراقي قد اجتاح الأراضي الإيرانية، فإدانة الحرب شيء والإشارة إلى  الحل السلمي واللجوء إلى  المفاوضات لاستعادة حقوق العراق، شيء آخر، كاشفاً ومناقشاً الدعاوى الإيرانية التي تردّدت حينها، فيما يتعلق برفض وقف الحرب واشتراط التفاوض إلاّ بإزاحة النظام العراقي، أو إقامة نظام إسلامي، وهو ما صرّح به سفير إيران في موسكو السيد موكري، ومطالبة إيران بتعويضات عن خسائر الحرب، قالت حينها أنها تبلغ 150 مليار دولار، واستفتاء أكراد العراق بالانضمام إلى إيران أو استقلالهم عن العراق، وكذلك وضع مدينة البصرة تحت " السيادة الإيرانية" بصورة مؤقتة، واعتبرتُ تلك المزاعم والدعاوى استفزازية وغير قانونية وغير شرعيّة.
وفي المرتكز الرابع دعوت إلى  تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي، لا سيّما للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والترحيل والاغتيال والجرائم ضد الجنس البشري وغيرها، إضافة إلى جرائم الحرب، وذلك طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، (بروتوكولا جنيف الأول والثاني الصادران عن المؤتمر الدبلوماسي الدولي 1974-1977) واستناداً إلى  ذلك أفترض أن البدء بشن الحرب وارتكاب عدد من الانتهاكات السافرة والصارخة، سواءً ضد الإنسانية أم جرائم الإبادة أم ضد الجنس البشري أم جرائم الحرب، يستحق الإحالة إلى القضاء في ضوء القانون الدولي طبقاً لما يزيد عن 15 وثيقة دولية وبموجب تهم أربعة أساسية.
وكانت تلك أول دعوة مسبّبة لإحالة صدام حسين إلى القضاء، ولكن من موقع قانوني وحقوقي، وتردّد حينها كثيرون من التعاطي معها، أما لاعتبارها "غير واقعية" أو "غير ممكنة"، أو هي أقرب إلى  يوتوبيا أو حلم راود ذهن الباحث، ناهيكم عن أن منطقها القانوني كان من الصعب استيعابه، خصوصاً وأنه تجاوز بعض الأطروحات السياسية والشعارات العامة السائدة، لكن الباحث وضع حلم نورمبرغ عراقية أمامه وظلّ يدعو إليه.
وأكد الباحث في المرتكز الخامس على وقف القتال فوراً وسحب القوات العراقية من الأراضي التي احتلتها ووضع حدّ للكارثة بالجلوس إلى  طاولة مفاوضات لإيجاد حل للمشاكل القائمة، وحدّد خريطة طريق وطنية تقوم على:
1-   إلغاء معاهدة 6 آذار (مارس) لعام 1975 باتفاق رضائي بين الطرفين.
2-    أو تعديل بعض نصوص المعاهدة المذكورة بما يحقق مصالح الشعبين الجارين.
3-   أو إيقاف العمل بالمعاهدة المذكورة واستبدالها بمعاهدة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار مبادئ القانون الدولي، بحيث لا تؤدي إلى  أي إجحاف، وذلك باتباع الطريق الدبلوماسي على أساس اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات.
 وإذا لم تتم الاستجابة إلى  تلك الخيارات، فيمكن اللجوء إلى  المساعي الحميدة لطرف ثالث، سواءً كان ذلك دولة أم منظمة دولية، لخدمة الغرض الأول، واقترح الباحث دوراً للأمم المتحدة ودول عدم الانحياز للقيام بهذه المهمة، لا سيّما بعد أن تنسحب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، أما الطريق الثالث فقد اقترح الباحث اللجوء إلى  التحكيم والقضاء الدولي وهو ما نصّت عليه اتفاقية 6 آذار (مارس) ذاتها، كما نصّت على المساعي الحميدة.
وكان يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بهذا الخصوص، بما يدّعم وجهات النظر المتعارضة أو يفسّر بنود اتفاقية 6 آذار (مارس) لعام 1975، وبكل الأحوال استبعاد خيار الحرب والحل العسكري، مؤكداً أن  المساعي ينبغي أن تنصب الآن وبعد اندلاع الحرب واستمرارها إلى  وقف القتال فوراً والبحث عن حلول سلمية تفاوضية وقانونية في الآن ذاته.
أما المرتكز السادس- فهو استحقاق وطني عراقي يتعلق بحق تقرير المصير ورفض الدعاوى التي تريد تغيير النظام لمصلحتها واعتبار تلك المهمة خاصة بالحركة الوطنية وقواها، وهي مهمة حصرية بها وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الحرب. ويمكن مراجعة نصوص الكتاب، لاسيّما الاستنتاجات الأساسية التي وردت في فقرة تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي وما بعدها، بما فيها الخاتمة (النزاع العراقي- الإيراني، منشورات الطريق الجديد،  بيروت، 1981، ص 66 وما بعدها، كذلك ص 72 وما بعدها).
وحين تغيّرت مواقع القوات المتحاربة بالطبع فإن مواقف الباحث هي الأخرى تغيّرت، ولاسيّما بتغيّر طبيعة الحرب، وخصوصاً عندما انسحبت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية بعد هزيمة المحمّرة (خرمشهر) 1982، لكن الحرب استمرّت، بل وانتقلت إلى  الأراضي العراقية، وخصوصاً في العام 1983 من خلال موجات بشرية للاجتياح وقضم للأراضي واحتلال مواقع ستراتيجية عراقية، حيث انتقل المشروع الحربي والسياسي الإيراني من مرحلة التلويح ليدخل مرحلة التطبيق.
فبعد أن كانت الحرب عدوانية من جانب النظام العراقي، تغيّرت إلى  عدوانية من جانب إيران، التي كانت ترفض وقفها بعد أن بدأها النظام العراقي بحسابات  خاطئة، ولعدم إدراكه أن إيران خرجت لتوّها من ثورة وهي تعيش حالة ثورية حيوية، الأمر الذي دفعها للوحدة الوطنية بوجه خطر خارجي، في حين أن نظام بغداد دخل الحرب معزولاً وبلا حلفاء داخليين، وعلى نفس القدر تطلّب الاستمرار في إدانة الحرب باعتبارها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية ، والدعوة إلى  وقفها فوراً والجلوس إلى  طاولة مفاوضات لإيجاد حل سلمي ينسجم مع مصالح الشعبين الجارين.
بعد صدور الكتاب في بيروت تم توزيعه على المكتبات، وأرسل عدداً من النسخ إلى  اليمن (منظمة الحزب الشيوعي) وعدداً آخر إلى  سوريا (منظمة الحزب أيضاً) وبعد نحو شهر احتاج الباحث إلى  نسخ أخرى، فذهب إلى  بيروت وطلبها من جهة النشر التي كان يمثّلها فخري كريم، فأخبره أنه لم يتبقَّ منها سوى بضعة كتب، ولكنها موجودة في المكتبات، وحاول الحصول على نسخ من عدد من المكتبات التي تم التوزيع عليها، وإذا به يتفاجأ بأن الكتاب أصبح نافذاً.
في البداية اعتقدتُ أن هذا الموضوع الحسّاس قد تم تناوله لأول مرّة من جهة مثقف وأكاديمي يساري ولذلك كان الطلب عليه كبيراً، ولكنني اكتشفت أن ذلك اعتقاداً خاطئاً ، خصوصاً حين عرفت أن الأجهزة العراقية وبواسطة السفارة العراقية في بيروت قامت بشراء جميع النسخ، وما بقي لديّ من نسخ إنما جمعت بعضها من أصدقاء كنتُ قد أهديتها لهم في وقت سابق، وخطر ببالي عنوان صحفي جميل: المخابرات العراقية تشتري كتاب عبد الحسين شعبان.
III
مشهد شخصي في خضم المشهد العام: الوالدة " نجاة حمود شعبان"
لكي استكمل حكاية كتابي " النزاع العراقي - الإيراني" الذي جلب أذى كبيراً لعائلتي ، ولا أرغب هنا في الحديث عن تفاصيل تتعلق بالدور الذي قمت به، لكي لا تفسر وكأنها ادعاءات، إذْ كثيراً ما نقرأ عن بطولات وتحدّيات كبرى، لا يدّعيها الباحث، ولا يريد بأي شكل من الأشكال تناولها، خصوصاً وأن بعضهم، ولا سيّما بعد الاحتلال العام 2003، سطّر ملاحم لا حدود لها، وإذا كان ثمة ما يُذكر فرصيده لا يعود لي شخصياً، بل للعائلة، وخصوصاً لوالدتي نجاة شعبان ووالدي عزيز شعبان، وأعتزّ بأنني ابناً لهذه العائلة المتحابّة، المتسامحة، الصبورة، المعطاءة ، المضحيّة.
وجزء من هذا الحديث هو وفاء لرحيل والدتي ولروحها الطاهرة وعذاباتها التي لا حدود لها طيلة أكثر من 20 عاماً مثل الكثير من الأمّهات العراقيات المنكوبات، وهو وفاء لروح والدي الراحل وعينه على باب الدار وأذنه على الإذاعة ووجهه إلى  التلفزيون على أن يسمع خبراً عن " الغائب" غير " المرخّص" بذكر اسمه إلاّ إيماءً،  جئت على ذكر ذلك في حواراتي مع التميمي المنشورة في كتاب " المثقف في وعيه الشقي- حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان " إعداد توفيق التميمي، دار بيسان، بيروت، 2014.
لقد صدر الكتاب في العام 1981 وباسمي الصريح، ولو راجعت الأسماء التي كانت تكتب في تلك الفترة ستجد أنها قليلة، بل وقليلة جداً، خصوصاً وأن الأسماء المستعارة مثل أبو فلان وأبو فلتان كانت ظاهرة شائعة وقد تكون لها مبرراتها، لا سيّما ما تثيره من احتمالات ملاحقات حكومية. وقد سبق نشري للكتاب أن كتبت مقالتين عن الحرب العراقية- الإيرانية في صحيفة تشرين السورية (شهر تشرين الثاني/نوفمبر/1980) أي بعد شهرين من وقوع الحرب، بالتوجّه ذاته، وأثارت حينها ردود فعل  متنوّعة، لاسيّما معالجتها المسألة من زاوية وطنية وحقوقية.
بعد بضعة أسابيع  وربما أشهر وكنت قد عدت من بيروت إلى  الشام التي كانت مسؤوليتي فيها، وإذا بي أجد ورقة تحت الباب تقول إن الرفاق في بيروت اتصلوا وطلبوا عودتك إلى  بيروت فوراً، لأن والدتك وصلت إلى  هناك، وقد توجست خيفة، وشعرتُ أن أمراً جللاً قد حدث وكنت أعرف مثل هذه الأساليب التي اتبعت مع بعض المعارضين على نحو محدود. وذهبت إلى  مقر اللجنة المركزية (قرب السفارة السوفيتيية) وهو البيت الذي استأجرته باسمي للحزب، وأبلغت الرفاق في المكتب بالأمر، خصوصاً وأن الوقت أصبح متأخراً نسبياً. وفي اليوم الثاني تحرّكت بوقت مبكّر بسيارة من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى  بيروت، ووصلتها قبل الظهر، وبعد أن توجهت إلى  مكتب  الحزب في بيروت علمت أن الوالدة في مكان قريب من "جمهورية الفاكهاني" التي كانت ملاذنا، وذهب معي للقاء الرفيقين فخري كريم وعبد الرزاق الصافي، وعندما قابلتها بكت بكاءً مرًّا وقد تحفّظت عن الكلام وعندما تحدثت كانت متردّدة، إلى  أن طلبت منها ذلك، وقد قدمت روايتها التي عدت ودونتها ودققت بعضها بعد 20 عاماً.
قالت بالنص: لقد اعتقلونا جميعاً بعد أن سكنوا في البيت معنا لمدة خمسة أيام، وكانوا يأكلون ويشربون معنا وبجيوبهم مفاتيح الغرف، لاسيّما غرفتك في الطابق العلوي، وصادروا جميع حاجياتك الشخصية، ولاسيّما المكتبة والشهادات والرسائل والأوراق وكل ما يعود لك بالكامل، وبعدها جاءت السيارات وحملتنا إلى  المخابرات، (لا تدري أين؟ ولكنها تقول إلى  الأمن) وكان والدك مريضاً ومتعباً، حتى أنهم حملوه مع فراشه، وقد استدعاني شخص لم أكن أعرف من هو، لكنهم قالوا أنه المسؤول، وذلك بعد مقابلات مع آخرين، الذين أخبروني أن قضيتكم يحلّها " المدير الكبير"، وهناك جرى الحوار بين والدتي الحاجة نجاة شعبان وبين المسؤول الكبير.
قالت لم أكن أعرف من هو إلاّ بعد مضي سنوات، وقد شاهدته على التلفزيون خلال محاكمته فصرخت: إنه هذا ولم يكن سوى  برزان التكريتي.
تقول الوالدة:
قال لي: تقبلين " إبنج" (ابنك) مع العجم (الفرس المجوس)؟
قلت له إننا عرب أقحاح، وهل سمعت أن أحداً في حضرة الإمام علي (رض) من العجم؟ ولدينا فرامين سلطانية كُتبت منذ نحو 500 سنة" ونحن  سدنة الروضة الحيدرية -"السرّخدمة"، أي رؤساء الخدم، ونحن نتشرّف بذلك.
قال: نعم نحن نعرف أنكم عرب، ولو كنتم عجم لرميناكم خارج الحدود وتخلّصنا منكم،
قلت له: لا أفهم ذلك كيف يكون إبني عجمياً وهو عربي أصيل من نسل قحطان ومن "حِمْيَر" ولدينا شجرة تثبت ذلك. قال: أتقرئين؟
قلت له : نعم، فأخرج كتاباً "وردي اللون" عليه اسمك وأطلعني عليه، قائلاً: هذا ما كتبه ابنك وهو يؤيد العجم ضد بلاده. فخفت وسكتت!
ثم واصلت حديثها معنا:
قال لي: أتعلمين أن هذا الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ حوالي شهر؟
فسألناها ماذا قالت له؟
فقالت: سكتُ ولم أنبزّ ببنت شفة.
قال: عليك الذهاب إلى  بيروت، نحن لا نريد شيئاً منه. نحن نعطيه الأمان إذا أراد أن يعود إلى  وظيفته في الجامعة فأهلاً وسهلاً، وإذا رغب في منصب سياسي فنحن نعده بذلك، وإذا لم يرغب في العودة فعليه أن يختار إحدى سفاراتنا لنعيّنه فيها، وإذا لم يفعل ذلك، ليعلم أن مصيركم جميعاً " الإعدام".
قالت: قلت له، نحن لا ذنب لنا، إن ولدي كبير ولا يسمع إلينا أو يأخذ بنصائحنا، وأنا إمرأة كبيرة ولا أستطيع السفر والمجازفة في هذه الأوضاع بالذات، ولديّ أحفاد أنا مسؤولة عنهم، فنظر إليّ بشرز وقال عليك التنفيذ و"إلاّ" وكرّرها ثلاث مرّات و"إلاّ"، قلت له نحن نتبرأ منه، وأنتم حكومة فإذا أخطأ فيمكن معاقبته.
قال: إذا لم يفعل ما طلبناه منه، فيمكن أن يكتب لنا ورقة يقول فيها أنه يتعهّد بعدم النشاط والكتابة ضد الحكومة، و"الاّ " فإن مصيركم كما قلتُ لكِ.. ثم قال إن مصيركم بيده وهو من يستطيع إنقاذكم والحكومة رحيمة معكم.
قالت: بكيّتُ وتوسّلتُ، وحينها انفجرتْ بالبكاء بصوت عالٍ، لكنه دعا أحد الذين دخلوا علينا، كما تقول: وقال له اعمل لها جواز سفر إنْ لم يكن لديها جواز سفر، وأجلب صوراً لها، وسألني هل لديك جواز سفر؟ قلت له نعم فقال أين هو؟ قلت له في البيت.
أعادوني إلى مكاني حيث يتكدّس الأطفال وصراخهم وكذلك والدك " الحاج عزيز شعبان" وأختك سميرة وزوجها فاضل الريّس وزوجة حيدر شقيقك. بعد ساعتين أو ثلاثة أخذوني إلى  البيت وأحضرت لهم جواز سفري وبعد يومين سافرت ووصلت إلى  بيروت. وقد زودّوني بعناوين لا أعرف لمن تعود وإن قرأت الأسماء، وقد وصلت إلى  بيروت وبعد توجهي من المطار بالتاكسي إلى  العنوان أوقفنا حاجز وبعد تفتيش أوراقي وجواز سفري، قالوا لي تفضلي انزلي، ونزلت وأخذوني إلى  مكان فيه رشاشات ومسدسات ومسلحين، وقد سألوني عدّة أسئلة من أعطاك العناوين ولمن تريدين الوصول، كنت خائفة هل أخبرهم أم لا؟ لا أدري ولكنني قلت لهم جئت إلى  بيروت للعلاج وأعطوني هذه الأسماء في بغداد لمساعدتي للوصول إلى  الطبيب.
وبعد نحو خمس ساعات جاءت سيارة وأبلغوني بالصعود إلى  الأعلى حيث كنت تحت الأرض، وذهبت مع سائق ووصلت إلى  مكان آخر فيه مسلحين أيضاً، ولكنني خفتُ أكثر وبكيت بصمت. سألني الحرّاس والذين استقبلوني فيما بعد لمن تريدين قلت لهم الأسماء التي لديّ، واتضح أنها أسماء تيسير قبعة وبسّام أبو شريف (من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)(هذا ما عرفناه بعد اطلاعنا على الأوراق التي لديها).
وحسبما يبدو فقد كانت هناك أشبه بعملية تبادل مع الكتائب، فتم تسليم الوالدة إلى  الجبهة الشعبية، ويبدو أن الجبهة الشعبية سلّمت مخطوفاً إلى  الكتائب. وكانت المخابرات العراقية بعد مصادرة حاجياتي الشخصية، بما فيها صوري، قد وجدوا فيها ما يوصلهم لي في بيروت فأعطوها عناوين قبعة وأبو شريف وآخرين لا أتذكرهم حالياً، وكذلك عنوان مكتب بيروت وتلفون الذي كان مسؤولاً فيه فخري كريم.
استمعنا إلى  هذه القصة وكانت الوالدة تتوقف بين الحين والآخرلتقول" إنهم ينوون قتلك، عليك عدم العودة حتى لو أعدمنا". اتفقنا على تنظيم موعد لزيارة طبيب لها، وأخذت معها بعض الأدوية ولا أتذكر إن كان الطبيب حسّان عاكف حمودي أو غيره ، (في مستشفى فلسطيني يعود إلى  فتح) وقد عملنا لها حجزاً وهمياً في فندق وفاتورة حساب وهمية (مدفوعة لثلاثة أيام) وقد مكثت معها اليومين التاليين في بيت خاص مع آخرين، ثم اصطحبها أحد الرفاق إلى  المطار (لا أتذكّره) لتوديعها، ولم أظهر معها في أي مكان باستثناء زيارة لمكان قريب في العمارة ذاتها أو شقة قريبة لا أتذكّر، بدعوة من عصام الخفاجي.
اتفقنا معها على ما يلي: أن تبلغ الأجهزة أنني غير موجود في بيروت، بل أنها سمعت أنني في إسبانيا، أعيش هناك، وأنها ظلّت خلال الأيام الثلاثة في الفندق، وأنها راجعت طبيباً لمساعدتها وأعطاها أدوية وضعتها في حقيبتها اليدوية، وأنها مستعدّة وكذلك الوالد إن طلبوا منه التبرؤ مني علناً في التلفزيون أو في الجريدة ، وحتى لو قتلتني الحكومة فهي سوف لا تحزن عليّ إذا كان الأمر ضد الوطن.
وتستدرك الوالدة الحاجة نجاة شعبان لاحقاً: أن الذي قابلني بعد عودتي هو نفسه الذي التقاني عند سفري والمقصود هنا " برزان التكريتي" وعندما وصلت إلى  الجملة الأخيرة، (أي حتى لو قتلتني الحكومة ...) قال: إي نحن نقتل وراح تشوفين، ولكنه غيّر الكلام وقال: هل صحيح أننا نقتل، فقلت له أنتم حكومة ولكم الحق في معاقبة المخالفين أو الناس ضد القانون، فضحك وقال نحن نعطيكم فرصة أخرى، لكنكم تذكّروا: أنتم تحت مراقبتنا وأي شيء يصلكم من هذا "الابن الضال" أوصلوه لنا في الحال، وإذا أرسل أحداً يتصل بكم أبلغونا فوراً، وأعطانا أرقام تلفونات، وقلت له حاضرون وكل ما تريده الحكومة ننفّذه، وكنت أرتجف خوفاً.
كنّا قد اتفقنا معها أنها بعد وصولها بعشرة أيام ولغرض الاطمئنان أن تكتب لنا رسالة وترسلها بالبريد دون اسم المرسل وهي موجّهة إلى  "ياسين سعيد" وتحت رقم صندوق بريد، وفيها تبلغنا أن الوالد بدأت صحته تتحسن، وفي حالة زيادة الضغط عليهم تكتب أن صحته بدأت تسوء، وانتظرنا عدة أسابيع ولم تصل أية رسالة، وعندما سألت الوالدة بعد 20 عاماً عن الحادث، بعد مدّة الفراق الذي استمرّ بيننا، قالت لي " ولله إنتو بطرانين" – إنتو تدرون شكو؟ أي أنكم بطرانين ولا تعرفون ماذا يجري في العراق؟
خلال السنوات الثلاث الأولى أو بعدها تعرّضت العائلة إلى  ضغوط كثيرة واستدعاءات عديدة، وكان مسؤولو المخابرات والأمن وأمن المنطقة والمنظمة الحزبية في زيارات متّصلة للعائلة، لدرجة أن صلاتها انقطعت بالعالم الخارجي تقريباً، باستثناء زيارات الدكتور ناهض شعبان للاطمئنان على أحوالها، وكانت حجّته معه باعتباره طبيباً، وكان والدي شبه مقعد في المنزل بعد أن ترك العمل وأجبر نفسه على " تقاعد مبكر"، فباع محلّه في سوق التجار (خان النبكه) في بغداد وعاش على بعض أملاكه وأملاك والدتي وما وفّره من مدّخرات، وكانت زيارات الأخوال متباعدة، وكذلك العم الوحيد المتبقي، وهي زيارات شبه خاطفة، وبرضى الطرفين، المُستقبِلْ والمُستَقبَل، والكل كانوا في حالة رعب شديد، ويتفهّمون وضع العائلة الخاص.
في مطلع العام 1985 (ربما في أواخر شباط/فبراير) جاءت عناصر من المخابرات وطلبت من والدتي السفر إلى  تركيا للاتصال بي من هناك ودعوتي لزيارتها في اسطنبول، لكن والدتي رفضت ولكنهم أرغموها على الرضوخ، فأخذوا جواز سفرها وثمن التذكرة منها، وجاءوا إلى  المنزل بعد يومين ومعهم التذكرة وتأشيرة الدخول والجواز، وتذكّرت والدتي ما أخبرتها به في بيروت بأنهم ربما يكونون معها في الطائرة، وعليها لو حاولوا مجدداً عدم المجيء والتملّص من الأمر بكل الوسائل، وهنا تشجعت وصرخت وقامت بالخروج إلى  الشارع، فأوقفها رجال المخابرات ومنعوها، وهي تصرخ بأعلى صوتها، واتصلوا بأحد المسؤولين من تلفون المنزل وأبلغوها بتأجيل السفر، وفي مساء اليوم التالي أصيب والدي بجلطة دماغية، لم تمهله طويلاً، وأظن أنه توفي في مطلع آذار (مارس) 1985.
باختصار هذه هي قصة الكتاب التي دفعت العائلة بسببه ثمناً باهظاً ، وانتهز هذه الفرصة للقول أنني فخور بهذه العائلة: الوالد والوالدة اللذان تحمّلا بسببي آلاماً لا حدود لها، وأجدها مناسبة للاعتذار لهما، لأمر لم يكن لي يدُ فيه، كما لم يكن لي حيلة به، وهكذا هي السياسة في بلداننا وفي مجتمعاتنا العربية، وبالأخص في العراق الذي وصلت فيه العقوبة إلى  الدرجة الرابعة، ناهيكم عن القتل على الهوّية، واستبدّ به العنف والإرهاب إلى  درجة مروّعة.
كنّا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام، لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى  كوابيس لعوائلنا التي لا ذنب لها، ربما سوى لأنها عوائلنا.



134
المنبر الحر / في معنى اللّاعنف
« في: 21:34 21/09/2020  »
في معنى اللّاعنف
عبد الحسين شعبان
إذ أخذ رصيد ثقافة اللّاعنف بالارتفاع على المستوى العالمي، فإنها ظلّت غائبة عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا باستثناءات محدودة
«إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى ينتهي الحقد؟»، هذا ما قاله جوتاما بوذا مؤسس الديانة، أو الفلسفة البوذية التي تقوم على التجرّد، والزهد، والتخلّص من الشهوات والألم. ولعلّ مثل هذا المدخل يعكس بعضاً من جوانب حقيقة فلسفة اللّاعنف التي تبنّاها المهاتما غاندي لاحقاً، والمقصود بذلك المقاومة بوسائل مدنية، بمعنى عدم استخدام العنف كوسيلة للتصدي للعنف، ونيل الحقوق.
وقد دفع غاندي حياته ثمناً لذلك على الرغم من الانتصار الذي حقّقه على بريطانيا أعظم إمبراطورية في العالم وأقواها حينها، حيث تقدّم منه أحد الهندوس المتطرفين ليطلق النار عليه ويرديه قتيلاً، وهو في ذروة مسعاه للحيلولة دون انفصال الهند من خلال التفاهم والتعاون والرغبة في العيش المشترك، والاعتراف المتبادل، ما دفع الأمم المتحدة لاعتماد يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، من كل عام، وهو يوم عيد ميلاد غاندي باعتباره يوماً للتسامح.
وإذ أخذ رصيد ثقافة اللّاعنف بالارتفاع على المستوى العالمي، خصوصاً بصعود حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج، والمصالحة والحقوق المتساوية بقيادة نيلسون مانديلا، فإنها ظلّت غائبة عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إلا باستثناءات محدودة، وبتقديري فإن الأمر يعود في جزء كبير منه إلى قراءات خاطئة، ومبتسرة للنصوص الدينية، بما فيها للقرآن الكريم، إضافة إلى تفسيرات وتأويلات ماضوية لا تنسجم مع روح الإسلام وجوهر رسالته الإنسانية، فضلاً عن سمة العصر والتطور التاريخي، وهي ما تُعرف بأسباب النزول، كما أن بعض النصوص بما فيها المتعلقة بالسنّة النبوية قيلت لزمانها ولأحداث وأوضاع استوجبتها، وانتهت بانتهائها، وما بقي من النصوص المقدسة وأحاديث الرسول الكريم هو القيم والمثل الإنسانية الخالدة، التي استهدفت تغيير حياة الناس من أجل سعادتهم ورفاههم فكيف نقرأ ثقافة العنف واللّاعنف في مجتمعاتنا؟
خمسة اتجاهات يمكن بواسطتها اقتفاء أثر الفكرة اللّاعنفية:
الاتجاه الأول - الرافض والإنكاري، الذي يعتبر فكرة اللّاعنف صناعة غربية خالصة، وهي بدعة لتحقيق مآرب سياسية وهدفها تثبيط عزائم العرب والمسلمين من استعادة حقوقهم المغتصبة.
ومثل هذا التفسير لا علاقة له بفلسفة اللّاعنف التي تتمسك بالحق والمقاومة المدنية لتحقيقه، وأعتقد أن العرب والمسلمين معنيون مثل غيرهم بثقافة اللّاعنف، ولاسيّما العيش بسلام واختيار طريق تطورهم الحر الاقتصادي والاجتماعي.
الاتجاه الثاني- الريادي والانعزالي، يرفض فكرة اللّاعنف لأنها غير موجودة في الشريعة حسب تقديره، لأن اعتماد فلسفة اللّاعنف سيقود إلى التحلّل وانعدام الغيرة على الإسلام، وأن في الشريعة إجابة على كل شيء، وهي صالحة لكل زمان ومكان، ففيها الريادة والأفضلية والتميّز على جميع القوانين الوضعية. وهكذا يحاول أصحاب هذا الاتجاه إرجاع كل شيء إلى الماضي من دون الأخذ في الاعتبار التطوّر الكوني استناداً إلى قاعدة «تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان».
الاتجاه الثالث- الانتقائي والتوفيقي، ويحاول أصحابه التوليف بين مفاهيم متعارضة أحياناً، لاسيّما بإهمال نقاط حساسة وساخنة، ومع رغبته الإصلاحية في انتقاء بعض الأفكار اللّاعنفية أو وضعها «منزلة بين المنزلتين».
الاتجاه الرابع- الاغترابي وينطلق من نقد الاتجاهات الإنكارية الرافضة والريادية الانعزالية والتوفيقية الانتقائية، ولكن بالمقلوب حين يعتبر التراث كلّه خارج سياق الحداثة ومناقضاً لها، وأن أي تفكير خارج نطاق الحداثة هو محاولة عقيمة ويائسة؛ وعلى العرب والمسلمين إن أرادوا السير في طريق التطوّر الإقرار كلياً بالمفاهيم الحداثوية من دون زيادة، أو نقصان.
الاتجاه الخامس- الواقعي والحضاري، الذي يزاوج بين الحداثة والتراث والمعاصرة والخصوصية والشمولية، مع الأخذ في الاعتبار التطور التاريخي الكوني والانفتاح والتفاعل معه للارتقاء بفكرة اللّاعنف لتصبح فلسفة عمل ومنهج حياة، والبحث في تراثنا عن تجارب لاعنفية ينبغي تعميمها وإعادة قراءتها برؤية جديدة.
إن التلاقي الحضاري والتفاعل الإنساني والتطور التاريخي للأمم والشعوب والجماعات لا يحصر الفكر في أمة، أو شعب، أو قارة، أو تيار فكري، مثلما هي فلسفة اللّاعنف، بل هي حصيلة مزاوجة وتطور طويل الأمد يمدّ جذوره عميقاً في التراث الإنساني ويجد صورته في الحداثة وفي خلفياته لفلسفة الأديان والأيديولوجيات والأفكار المختلفة.
drhussainshaban21@gmail.com



135
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة التاسعة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي
   "آني أريد أموت يمّ أهلي"... هذا ما ظلّ الرفيق حسين سلطان يردّده على مدى أشهر قبل أن يتّخذ قراره بالعودة إلى بغداد العام 1989. لم أنسَ هذه الجملة التي بقيت ترّن في أذني لسنوات طويلة، وكلما تذكرت " أبو علي" تقفز تلك العبارة إلى ذهني، ولعلّه كان يستعيدها حين تداهمه نوبة ربو مفاجئة ، حادة ولئيمة، بحيث تتقطّع أنفاسه، فيخرج البخّاخ  من جيبه على عجل ليرش جرعتين في فمه أو ثلاث أحياناً، ليتحرك الدم في وجهه، فيستعيد مرحه ويضحك من كل قلبه وكأنه طفل بريء، ليخاطب من حوله " مثل خنجر الصُلبي يتحلحل وما يطيح"، أي أنه ما زال يعيش على الرغم من تدهور وضعه الصحي.
   في إحدى المرات خاطبني وكان بحالة حزن شديد وبتشاؤم كبير على غير عادته، قائلاً: هذا جزائي وليس ثوابي، فبعد 51 عاماً من عضويتي المستمرة بالحزب الشيوعي العراقي أُترك هكذا لأواجه مصيري وكأنني جئت مستطرقاً، وضرب مثلاً  شعبياً قائلاً" مثل الجمل يحمل الذهب ويأكل العاقول"، وكرّر كلامه: إنني  لا أبحث عن ثواب ، لكن أن يتم تركي  تائهاً في هذه الغربة اللعينة  وبلا معين، فذلك أمر لا أرتضيه حتى للأعداء، فكيف بي وأنا قدّمت كل حياتي وعائلتي دون منّة أو ادعاء، مثلي مثل العديد من الرفاق، وإذا بي أعامل بهذه الطريقة المهينة واللّاأخلاقية، وأنا في وضع صحي بائس ولا أعرف كم تبقّى لي من الأشهر أو الأيام لكي أغادركم إلى " الرفيق الأعلى" لذلك "أريد أن أموت يمّ أهلي" .
   وأضاف حسين سلطان: " لولا د. محمد جواد فارس في دمشق ومراجعاتي المستمرة له وتأمين الدواء والعناية من جانبه وكذلك د. سمير السعدون في براغ ، لكنت انتهيت في هذا المنفى في غرفة رطبة وأوضاع لا أحسد عليها ، فحتى زوّاري حين كنت في الشام يتحرجون من زيارتي لأسباب تعرفها". أشحت عنه نظري كي لا يرى مدى تأثري، وانشغلت بطلب الحساب من النادل في إحدى المقاهي التي جلسنا فيها لنشرب الشاي ، لكنني بقيت أسمع صوته ونشيج صدره ونفسه الصاعد والنازل ولون وجهه الممتقع، فهذا الرجل الأبي، الجسور، الشجاع، كنّا نستمد منه العزم والمضاء، فكيف وهو على هذه الحال.
   كرّر ذلك أمام أكثر من رفيق وتساءل بمرارة: هل حقاً نحن الشيوعيون جُبِلنا من طينة أخرى كما كنّا نردّد ؟ إذاً من أين جاءت القسوة والكراهية لتطغى علينا؟ وكيف يقبل الرفيق عزيز محمد، وهو رفيق عمر، مثل تلك الممارسات أم أن كبيرهم علّمهم السحر؟ وهل يعقل أن السبب هو أن لدينا وجهات نظر مخالفة لما هو سائد فتتم معاقبتنا والانتقام منّا في أوضاع الغربة والعوز والفاقة والشيخوخة والمرض والبعد عن بيئتنا ومحيطنا وعوائلنا؟
   جدير بالذكر أن حسين سلطان حوسب في بلغاريا وتم إخراجه منها بطلب موجّه إلى الحزب الشيوعي البلغاري، واستدعي إلى دمشق دون مهمة محددة سوى " الموت انتظاراً" كما كان يقول. وكانت انتقاداته قد أخذت تزداد قبيل وبُعيد المؤتمر الرابع، ولاسيّما في الموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، إذ كان ضد أي ممالئة لإيران، وقد سبق له أن شخّص ظاهرة " التكريد" التي كتب فيها عدة رسائل إلى إدارة الحزب، منذ العام 1970 وارتباطاً مع المؤتمر الثاني، وجاءت إحدى رسائله بعنوان "تكريد الحزب الشيوعي العراقي عمل ضار مبعثه نظرة قومية وحيدة الطرف"  وكان قصده كما يقول "وضع الحقيقة أمامهم عارية لا لبس فيها ولا غموض" وهو ما ذكره الرفيق باقر ابراهيم في مذكراته الموسومة " مذكرات باقر ابراهيم"، دار الطليعة، بيروت، 1996، وكذلك ما عرضه نجله خالد حسين سلطان بعنوان "أوراق من حياة شيوعي: حسين سلطان صبّي،" 1920-1992، دار كنعان، (الناشر مؤسسة عيبال – نيقوسيا /قبرص) دمشق، 2007،  ولا ينبغي أن يُفهم موقف حسين سلطان وكأنه موقف من الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، بقدر كونه موقفاً من رفاق ضيّقي الأفق داخل الحزب الشيوعي كما قال لي حين سألته عن تفسير موقفه.
   كنتُ قد التقيته في صوفيا قبل لقائي به في الشام، حيث كان يعيش في المدرسة الحزبية، حين كنت ضيفاً على وزارة الإعلام البلغارية، واستمعت حينها إلى وجهات نظره وملاحظاته القديمة والجديدة، بشأن قضايا التحالف وتفويت الفرص والحرب العراقية - الإيرانية والعلاقات الرفاقية. وفي لقاء جمعنا مع عامر عبدالله في الشام عرض حسين سلطان وجهات نظره وبسطها بطريقته المقنعة باقتراح بعض البدائل كأمر انتقالي لمواجهة الإذلال والاستفراد.
   وبادر أبو عبدالله الذي كانت قد نضجت لديه الفكرة  حينها للاتصال بالسلطات اليمنية التي وفرت جوازات سفر خاصة لعدد من الرفاق بينهم حسين سلطان وعدنان عباس(الذي غادر كردستان عبر إيران وصولاً إلى أفغانستان ومنها إلى موسكو) وزكي خيري، إضافة إلى راتب شهري لكل منهم (جرى قطعه لاحقاً بضغط من الطرف الآخر، كما قال اليمنيون لعامر عبدالله)، وكان أن حصل قبل ذلك على دعم من إحدى المنظمات الفلسطينية كما ذكر باقر ابراهيم، وقرّر الجميع التوجه إلى براغ والتحرك من هناك، خصوصاً بالتحرّر من مخاوف الإيقاع بهم في الشام.
   وكانت الجوازات الدبلوماسية والخاصة (جوازات خدمة) تمنح حق الإقامة لمدة 6 أشهر لكل حامل لها، ويمكن تجديدها بالخروج والدخول مرّة ثانية؛ وكان باقر ابراهيم قد وصل إلى براغ في الوقت نفسه الذي وصل فيه حسين سلطان وعامر عبدالله . أما آرا خاجادور فقد كان يعيش في براغ أيضاً بعد تجربة الأنصار، حيث بدأت علاقته تتدهور مع إدارة الحزب، وفي براغ أيضاً كان يعيش ماجد عبد الرضا من مطلع العام 1988؛ وجرت لقاءات متعددة بما فيها فتح قناة مع السلطة عشية وبُعيد مبادرة مكرم الطالباني ، ولقائه بعزيز محمد وجلال الطالباني، إضافة إلى لقائه مع نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله ، لكن تلك المحاولات لم تتمخض عن شيء، بل عمّقت الخلافات بين الفرق المختلفة وزادتها، تباعداً مع إدارة الحزب التي تشددت في موقفها ففصلت حسين سلطان وباقر ابراهيم ونوري عبد الرزاق وعدنان عباس وناصر عبود، وفشلت محاولات رأب الصدع والتوجه الموحّد لمواجهة الأزمة واتخاذ موقف موحد إزاء التطورات التي حصلت في البلاد بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية.
   وفي براغ وجدت حسين سلطان لأول مرة متشائماً ومحبطاً، خصوصاً بتردي العلاقات الرفاقية ، وهو الوجه الاجتماعي المحبوب، وكنت أتساءل مع نفسي ماذا لو تعرّض عزيز محمد إلى نفس ما تعرّض له حسين سلطان ، فكيف سيتصرّف؟ علماً بأن حسين سلطان ظلّ متماسكاً ويتعامل بثقة ورباطة جأش.
   قال لي حسين سلطان: لقد عارض عزيز محمد الخط السياسي لإدارة بهاء الدين نوري ومعه نخبة حزبية في السجن وخارجه وفي مقدمتها الشهيد جمال الحيدري، واعتبرنا الخط السياسي السائد متياسراً ومتطرفاً بلغة تلك الأيام، وعبّرنا عن اجتهادنا لاحقاً بتشكيل مجموعة أطلقنا عليها مجموعة " راية الشغيلة"، حيث عمل معها حسين سلطان المسؤول حينها عن اللجنة المحلية في النجف ، وظلّ على وجهات نظره حتى بعد الاتفاق مع قيادة سلام عادل، وإنْ اندمج فيها .
    وكان الحزب قد انقسم حينها، خصوصاً بعد إجراءات الطرد،التي اتخذت بحق عدد من الرفاق منهم جمال الحيدري وعبد السلام الناصري وعبد الرزاق الصافي، إضافة إلى "عزيز محمد - مخلص "، فكيف يسمح  الرفيق أبو سعود لنفسه أن يرتكب نفس ما اتهم به خصومه؟  قال ذلك حسين سلطان بألم: كيف له أن يُقدم على طردنا ونحن حتى الآن أعلنا عن رأينا في السياسة وبعض قضايا  التنظيم والعلاقات الرفاقية؟.
   كان حسين سلطان يردّد لقد جئت إلى الحزب في العام 1938 وحصلت على العضوية في مطلع الأربعينات، ولم أقرأ لا كتاب رأس المال ولا مؤلفات لينين ، فقد تم إقناعي ببساطة عبر الأخلاق، وهذا ما كسبنا الناس به وفي الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، وإذا تراجعنا عن ذلك، فماذا سيبقى لنا، خصوصاً حين نتجاوز على حقوق بعضنا البعض ونتعامل بقسوة وكراهية ونحمل الضغائن والأحقاد في قلوبنا؟ وكما ذكرت في مطالعتي الموسومة " مقهى ورواد ومدينة - ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ"(الحوار المتمدن ، 27/1/2012)، فإنه كان يستعيد بعض المواقف بمرارة وألم، وإن ظلّ فخوراً بانتمائه، لكن الزمن والمرض أخذا منه الكثير.
   في أحد الأيام دعانا حسين سلطان إلى الغداء في منزله الذي يسكن فيه مع عدنان عباس (أبو تانيا) في براغ التي وصلتها، وقال لديّ أمر مهم أريد أن آخذ رأيكم فيه: وأتذكر أن من الحاضرين كان : أحمد كريم وماجد عبد الرضا وعامر عبدالله وعباس عبيدش وعصام الحافظ الزند وكاتب السطور ولست متأكداً من حضور خالد السلام ، إضافة إلى عدنان عباس وصاحب الدعوة أبو علي.
   وبدأ الحديث عن رغبته في العودة إلى العراق وقال بالحرف الواحد: إنه يئس من الانتظار وأن وضعه الصحي يتدهور وهو يريد أن يموت في العراق على حد تعبيره، ويطلب رأينا قبل أن يتخذ قراره الخاص، علماً بأنه كان قد توصل إلى قناعة هي أن وجوده أصبح بلا جدوى، وأردف القول: إذا تم الضغط عليّ فإنني سأبلغ الجهات المعنية أنني لا أرغب بالعمل السياسي  دون عودة جماعتي، ووفقاً لصيغة جديدة وقانونية للتعاون الوطني واتخاذ إجراءات إيجابية تساعد على ذلك، سواءً عودة الجبهة الوطنية أو أي شكل مماثل لها، وإلاّ فإنه سيتحمل المسؤولية، وإنْ استطاع أن يفتح كوّة صغيرة، فالأمر سيكون إيجابياً، وإلاّ فإنه سيكون ملازماً بيته وبعيداً عن أي نشاط سياسي وسيتحمل نتائج موقفه.
   وكان الحاضرون جميعهم تقريباً قد أبدوا تأييدهم بدرجات متفاوتة لعودته، وأبلغنا أبو علي أن باقر ابراهيم يؤيد عودته وأنه متفق معه وأنه استمزج الرأي عبر أحمد كريم مع مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق، فأيّدا ذلك.
   وكنت قد أبديت رأيي المتحفظ بخصوص عودة الرفيق أبو علي بالطريقة إيّاها، وقلت أن الظروف لا تسمح بعودة آمنة لكي يستطيع الحزب أن يلعب دوره اللاحق،  وقلقي أن تستثمر السلطات العودة الفردية، لكي تمارس ضغوطاً أكبر على الرفاق بدلاً من الاعتراف بهم ككيان أو مجموعة سياسية مختلفة معها، علماً بأنني أعتبر العودة الفردية غير مشجعة  لتحقيق انفراج سياسي فعلي، غير أن السلطة زادت في حملاتها القمعية، بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية حسبما تقول المعلومات.
   وأضفت إلى ذلك وعدنان عباس وعصام الحافظ الزند يتذكران : لا بدّ من شيء واضح، وإعلان صريح من جانب الحكومة  بالرغبة في الانفتاح ومشاركة الآخرين، ناهيكم عن اتخاذ خطوات ملموسة بإطلاق سراح المعتقلين وفتح حوار جدي لتسوية المسألة الكردية  وإعادة المهجرين وتعويضهم والشروع للانتقال للحياة الدستورية، والأهم العمل الجدي  لإعادة بناء ما خرّبته الحرب في إطار عملية تنمية شاملة، وهذا كان برنامجنا الذي طرحناه في آب (أغسطس)1988 وقد ضمّناه في البيان الذي كتبناه باسم المنبر بُعيد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية 8/8/1988 وورد لاحقاً في البلاتفورم الذي صدر بعد الاجتماع الموسع.
   قال حسين سلطان: ليس لديّ أي وهم من أن السلطة ستستقبلني بالأحضان، وإذا ما تعرضت لأي ضغط، فضربة واحدة (سطرة كما عبرّ عنها) تكفي لأن ألفظ أنفاسي، وإذا كان الضغط ودياً، فسأقول أنا مستعد للعمل شرط أن يأتي رفاقي، وهؤلاء لا بدّ من توفير مستلزمات عودتهم بإحداث انفراج سياسي وإيقاف التعقبات القانونية ضدهم، وعدى ذلك فأنا معتزل في بيتي. وعلينا أن ندرك الظروف القاسية، ولاسيّما الصحية للرفيق أبو علي، الذي اتخذ مثل هذا القرار.
   شعرت بحزن شديد وأنا أفارقه، فحسين سلطان بالنسبة لي مثل والدي، عرفته وأنا طفل ثم فتى، وأتذكّر أن أم علي رزقت بمولود في أواسط الخمسينات (أحد بناتها أو أولادها- ربما خالد أو بشرى)، وكان بيته في منطقة شبه ريفية في الطارات (على طرف الشواطئ في النجف) وطبخت والدتي ما يُعرف بالعصيدة (الحلاوة) وحملتها إلى " منزل" أبو علي مع رفاق عمي شوقي شعبان والشهيد محمد موسى ورحيم الحبوبي وعبد الزهرة الحلو وعبد الرضا فياض، وأتذكر أنهم لم يرغبوا في الإفصاح عن الشخص الذي نزوره، فبعضهم قال أنه الحجي والآخر الشيخ وثالث خاطبه أبو علي، وأتذكر أنهم تنادوا لجمع ما لديهم لتقديم هدية فاستعانوا بوالد الفتى وأحد الأقارب وخال رحيم الحبوبي، وهكذا تجمّع مبلغ من المال دسّه محمد موسى كهدية تحت وسادة الطفل (مقهى ورواد ومدينة).
   ما يزال ذلك اللقاء عالقاً بذهني وصورة أبو علي بالعقال والكوفية التي عرفته فيها لأول مرّة في انتخابات العام 1954 داعماً لترشيح الشيخ الجليل محمد الشبيبي (والد الشهيد حسين الشبيبي) وهو يتحرك في المحافل ليخرج من بيت قريب من بيتنا إلى حيث الاجتماعات وعلى الرغم من أنه كان مسؤولاً لراية الشغيلة ، لكنه أقنع الطرف الآخر بأن المرشّحين الشبيبي ود. خليل جميل هما مرشحان مدعومان من جانب الحركة الشيوعية، إضافة إلى مرشحي الجبهة الوطنية الآخرين (محمد رضا السيد سلمان)، وأتذكّر أن مرافق الشبيبي حينها كان  الشيخ وهاب شعبان الخادم في حضرة الإمام علي وكان الدكتور محمد رضا الطريحي طبيب الأسنان المعروف يصطحبه بسيارته إلى الكوفة ليلتقي بالناس ويحييهم ويعرض برنامجه الانتخابي، ولعل تلك الصورة الطفلية ظلّت عالقة بذهني، بما فيها من رومانسية وتحدٍّ.
   أحببت في حسين سلطان  مرحه وسخريته ونكاته وحكاياته الشعبية وقدرته على الاقتناع، وكنت أتعجب كيف يقنع الآخرين وأستطيع القول أن ثلاث قضايا اجتمعت في شخصه وهي الحقيقة والحق والصدقية مثلما أقدّر فيه شجاعته اللّامحدودة وكرمه لدرجة السخاء وإخلاصه الصادق، وهي لو غابت عن أي مناضل، فلا قيمة لما يعرفه من الكتب أو عدد السنوات التي قضاها في السجن أو المواقع التي وصل إليها. ومثل هذه الأمور سمعتها من الآخرين بحق حسين سلطان ويعترف بها الخصوم قبل الأصدقاء والرفاق "والفضل ما شهدت به الأعداء".
   قال لي الصديق محمد دبدب عضو لجنة بغداد للجبهة الوطنية، كان الممثلان عن الحزب الشيوعي في لجنة بغداد هما د.صباح الدرة (الذي اختفى قسرياً منذ شباط /فبراير/1980 ولم يُعرف له أثر حتى الآن ولم يجل مصيره) وحسين سلطان ، وغالباً ما كنّا نختلف ، لكن ما إن يتدخل حسين سلطان حتى نقتنع بوجهة نظره لأنه يحاول أن يطرح ما قاله رفيقه الدرة بلغة أخرى وبأسلوب شعبي مع أمثلة كثيرة: يلطم لطم شمهودة أو يثرد ويّه الكبار وياكل ويّه الصغار ، ثم يحيل المسألة بعد تفكيكها إلى مفردات عمومية نتفق عليها، حتى وإن كان اختلافنا حاداً ويقول دبدب أن حكمت العزاوي نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية السابق، قال له يا أخي هذا الرجل يقنعنا حتى وإن لم نقتنع ، لأنه إنسان صادق وواضح
   وحسب هابرماز الصدق حقيقة والحقيقة حق ، وكان هابرماز قد تحدّث عن الفعل التواصلي للمعرفة النظرية، وهو السعي بالتوصل إلى التفاهم والاحتكام ضمنياً إلى معايير متفق عليها، وليس أصدق من معيار الصدق والحقيقة وهما يجسدان الحق.
   وقال لي الصديق منذر المطلك (مدير مكتب الرئيس البكر وسفير لاحقاً) في لقاء بعمان وأمام آخرين : لديكم درر ومناضلين كنّا نتمنى أن يكون لدينا مثلهم أمثال حسين سلطان وثابت حبيب العاني، وهؤلاء أبطال حقيقيون وعليكم أن تنصبوا لهم التماثيل لا أن تعرضوهم لما تعرّضوا إليه، وروى لي قصة اعتقال ثابت حبيب العاني وعتبه على الرفيق عزيز محمد الذي ظلّت علاقته به مستمرة، وكان آخر اتصال بينهما كما أخبرني هو زيارته له في إربيل مع أحد القيادات الكردية (قبل وفاة الرفيق أبو سعود بنحو ثلاث سنوات) وكان أن استغل هذه الزيارة ليستعيد معه قصة ثابت حبيب العاني وصموده وما تعرض إليه من ظلم وتنكيل.
   والحكاية باختصار تقول أن المطلك هو الذي أوصل أبو حسان إلى الكرادة قرب حسينية عبد الرسول علي وكان منزل شقيقه " الحجي" قريباً من ذلك، ولكن سيارات ناظم كزار كانت تقتفي أثرهم، وحين نزل أبو حسان من السيارة وغادر المطلك، توجّه إليه  مجموعة من رجال الأمن وكمموا فمه ونقلوه إلى إحدى السيارات، وحين علم المطلك من كاظم فرهود بذلك، ذهب إلى الرئيس أحمد حسن البكر الذي كان مديراً لمكتبه وهو زوج ابنته أيضاً، وقال له بالحرف الواحد: أقتلُ نفسي إن لم يتم إطلاق سراحه، لأن ذلك سيعتبر توطؤاً من جانبي، وقد سبق لي أن رويت هذه القصة وتفريعاتها في كتابي الموسوم "عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل " دار ميزوبوتيميا، بغداد ، 2014 ، ومناسبات أخرى.
    وقال لي المطلك : خاطبت أبو سعود في آخر مرّة زرته فيها بأربيل بصحبة أحد القيادات الكردية: كنت أعرف الكثير من بيوتكم، خلال تلك الفترة وكانت علاقتي وطيدة مع آرا وحسين سلطان وصادق جعفر الفلاحي وكاظم فرهود وصالح دكلة ونوري عبد الرزاق وآخرين، وكانت تصلني ملاحظات أبو خولة "باقر ابراهيم" عن الانتهاكات والتجاوزات خلال فترة الجبهة الوطنية عن طريق مهدي الحافظ، وبدوري أقوم بتسليمها للبكر. ولذلك كنت أنتظر إنصافاً منكم .
    كما روى لي كيف اعتقل حسين سلطان ومهدي عبدالكريم وعبد الأمير سعيد وعبد الوهاب طاهر وعبد الأمير عباس (أبو شلال) وسلام نجل حسين سلطان، وذلك في أواخر العام 1968 وآخرين بعد خروجهم من اجتماع في مدينة الثورة ، وقام هو بإطلاق سراحهم عبر الرئيس البكر. وهي قصة سمعتها مع ملابساتها من الرفيق بهاء الدين نوري ومن حسين سلطان أيضاً.
   كما روى لي كيف اعتقله ناظم كزار، حيث اتصل به ليبلغه أن إحدى الشخصيات الكردية التي توسط لها الشيوعيون واسمه نجيب بابان وهو محام وعضو هيئة تحرير التآخي، قد تقرر إخلاء سبيله؛ وكان منذر المطلك قد طلب منه ذلك بناء على تدخل من جانب البكر: وقال كزار للمطلك عبر الهاتف :  عليك المجيء لاستلامه، وبعد أن ذهب المطلك إلى مديرية الأمن العامة لاستلامه اعتقله ناظم كزار بالمؤامرة المعروفة يوم 30 حزيران (يونيو) 1973، في حين كان هو يستعد للتوجه إلى المطار لاستقبال عمّه البكر كما يقول، وكان الرئيس البكر حينها قادماً من صوفيا، ولولا تأخر الطائرة وارتباك مجموعة التنفيذ، لكان كزار قد تمكن من تنفيذ خطته القاضية بقتل البكر وصدام حسين الذي كان سيأتي لاستقباله وعدد من القيادات الحزبية. وفي أكثر من مرة كان المطلك يردد حين لقائه بعزيز محمد وعدد من الشيوعيين: كدت أن أعدم بسببكم وبسبب أصدقائكم .
   وأعاد على مسمعي لأكثر من مرّة أنه حاول ومن باب الصداقة مع حسين سلطان أن يقدّم له مساعدة بسيطة حوالي 10000 كرون (200 دولار) عندما كان في براغ وحلف بأغلظ الأيمان وبالصداقة على أن يأخذها كدين في ذمته، وبعد نقاش وإلحاح ،ولكي لا يزعل المطلك، تناول أبو علي المبلغ وأخذ منه 100 كرون (دولاران) للتمالح كما قال وأعاد المبلغ إلى مكانه، وهكذا اقتنع المطلك؛ وقد روى هذه الحادثة للرفيق عزيز محمد الذي أشاد بأبو علي ونزاهته وإخلاصه وثقته بنفسه.
   سألني أبو سعود في إحدى المرات كيف هو حال صديقك "أبا محمد" وأين حلّ به الدهر؟ والمقصود هو صاحب الحكيم ، قلت له ما زال في الشام، وانتهزتها فرصة فقلت له لا يمكن أن ندوّن سجل الشيوعية في كردستان ونشاطها وحركيتها دون أن نتناول مسيرة جمال الحيدري، بل وآل الحيدري: صالح وممتاز وجمشيد وسيرة بهاء الدين نوري وعزيز محمد، وإذا ذكرت حركة الأنصار فلا يمكن إلّا أن تتناول سيرة "ملازم خضر" الفريق نعمان سهيل التميمي، أما عن مفكري الحزب فلا تستطيع إلّا أن تذكر عامر عبدالله، ويرتبط اسم الحركة النسوية بالدكتورة نزيهة الدليمي والشباب والطلاب باسم نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وآخرين.
   أما في النجف، والفرات الأوسط عموماً، فلا بدّ أن تأتي على سيرة صاحب الحكيم وحسين سلطان، فقد أسسا ومعهما عدنان عباس وآخرون تنظيمات حزبية في المدينة والريف  وترك هؤلاء أثراً طيباً لا يمكن أن يُنسى. قلت ذلك من باب النقد المملّح لما تعرّضوا له من تنكيل ومحاولات إساءة وتشويه من جانب ثلة من إدارة الحزب اندفعت في التحضير للمؤتمر الرابع وما بعده.
   وذكرتُ معلومة سمعها الرفيق عزيز محمد لأول مرّة وهي أن الرفيق جمال الحيدري كان قد زار النجف في أواسط الخمسينات، ولأن النجفيين يعتزون بالإمام علي، ويعتبرون مرقده امتيازاً لهم، فإنهم يرغبون أن يُطلعوا من يزور النجف على المرقد لما له من رمزية، وقد نُظمت زيارة خاصة (سرّية) للحيدري بعد أن ارتدى "الكشيدة" للتنكر (الطربوش الملفوف من وسطه الأسفل بالقماشة الخضراء وهي غالباً ما يعتمره السادة في حضرة الإمام علي وبيت  الحكيم منهم) حيث دخل الحضرة الحيدرية وطاف فيها وكان بحماية خاصة وعن بُعد، وهو ما ذكره الرفيق صاحب الحكيم لكاتب السطور الذي أشرف على العملية بمساعدة شقيقه السيد سلمان الحكيم  خادم الروضة الحيدرية ، وبالطبع  فقد كانت الزيارة  برغبة وطلب من الحيدري الذي ظلّ شغوفاً بها، وغالباً ما تحدث مغامرات ومفارقات في ظروف العمل السري، ولكنها من النوع المحبب.
   وإذا كان ثمة من يأخذ على حسين سلطان قناعته بالجبهة الوطنية ودفاعه عن التحالف، فهذه مثّلت الرأي السائد في إدارة الحزب حتى لمن لم يصوّت عليها في البداية، كما هو زكي خيري مثلاً، لكنها حين أصبحت واقعاً عاد واندفع في الدفاع عنها، وكان سيف العقوبات مسلطاً على من يعارضها في الداخل والخارج، وكان المسؤولون  يحرصون  على تدوين فقرة ختامية " لا توجد آراء مخالفة"، وهناك قصصاً عديدة ومثيرة رواها العديد من الرفاق من باب النقد والنقد الذاتي للأساليب البيروقراطية التي استخدمت إزاء " حرية التعبير".
   لم يكن أبو علي وحده من ندّد بحركة خان النص واعتبرها جزءًا من التحرك الرجعي حينذاك، فتلك قناعاته ولم يتخلّ عنها أو يدعي عكسها حين تغيّرت الظروف، وهو ما يؤكد بعده عن التأثيرات الطائفية المترسّبة، بل هناك من بالغ بالدعوة ليس لإعدام عدد من المشاركين فيها، فما قيمة 8 أو حتى 80 شخصاً إزاء المحافظة على المنجزات التقدمية وحماية الجبهة والتحالف من التآمر الرجعي المشبوه، كما كانت التبريرات والمزايدات التي كان هناك من يتبارى بها بمبالغة ورطانة مستفزّة ، وشدّدت جريدة الحزب المركزية "طريق الشعب" حينها دعوتها للمزيد من الحزم الثوري ضد القوى الرجعية المتآمرة، والغريب في ذلك أنه بعد انقضاء التحالف أخذ البعض يتملّق للقوى الدينية  بعد الاحتلال، التي قيل أنها وراء حركة خان النص الرجعية المشبوهة كما كان يقول قبل ذلك.
   والأمر ينطبق على حملنا السلاح ضد الحركة الكردية في العام 1974 وتنديدنا بقيادتها ذات التوجه العشائري وارتباطاتها  المشبوهة كما كانت الماكينة الحزبية تردّد تقرباً من قيادة حزب البعث، ثم حين دارت الدوائر أخذنا نمجدها ونمجد قياداتها على نحو مطلوب وغير مطلوب، متناسين ما  حصل في مذبحة بشتاشان العام 1983 وقبلها ما حصل بإعدام 12 رفيقاً كانوا عائدين من الدراسة في الخارج، ولم يخفِ حسين سلطان وجهات نظره بخصوص ما حصل، وكان صريحاً وواضحاً وواثقاً من نفسه حين يقول: لقد أضعنا الفرصة تلو الفرصة بانتظار فرصة قد لا تأتي: بانتظار غودو.
   كان حسين سلطان  واقعياً في السياسة دون تنظير وهو صاحب رأي ببساطة شديدة ،  وما كان في قلبه يظهر على لسانه، فما يقتنع به يقوله بإخلاص دون أي ميل للتزلف أو المحاباة أو الممالئة . لم ينتظر أين يكون مركز الثقل ليؤيده، وهو الأمر الذي سار عليه الغلاة والمتلونين حسب تعبير عامر عبدالله ، الذين كانوا الأكثر تطرفاً في تأييد الجبهة الوطنية والدفاع عن البعث ثم انتقلوا إلى الضفة الأخرى، ولم يتورعوا في التشهير وإلصاق التهم بخصومهم بطريقة رخيصة أحياناً، من خلال الإساءة والأكاذيب.
    لقد عاد حسين سلطان كما عاد آخرون؛ لم يزعم أنه ذهب للمواجهة، قال ببساطة: أريد أموت يمّ أهلي، وهو ما أجبت به الرفيق أبو سعود، الذي كان يطري عليه، وإن كان قد استمع إلى مطالعتي، لكن الأمر قد قضي، وكان قد مضى على رحيل حسين سلطان نحو 15 عاماً، وآخر ما سمعته من كلام في ذلك اللقاء مع عزيز محمد  وكرّره أكثر من مرّة :لقد خسرناه.
   نعم لقد خسرنا حسين سلطان ، وأكتب ذلك للاستعبار والاستبصار، وليس لاستعادة التاريخ، بل للإفادة من دروسه، فذكّر إن نفعت الذكرى، (سورة الأعلى ، الآية 9).
يتبع

136
مع الدكتور جورج جبور: حين يكون المفكّر رجل دولة

عبد الحسين شعبان


I
   تمهيد
   فاجأني الدكتور جورج جبور المستشار السابق للرئيس حافظ الأسد والمفكر وصاحب المبادرات والمشاريع الحقوقية المتنوّعة، حين أهداني كتابه الأخير " مذكرات إلى رئيس مجلس الوزراء السوري 1990-1998" مذيّلاً بالإهداء التالي " الصديق العزيز القديم المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان حفظه الله: يكتسب هذا الكتاب أهمية إضافية، لأنه يدعم ترشيحك  لجائزة نوبل للسلام"، وكما قال أن واحداً من أصقاع الدنيا البعيدة طلب تأييده للحصول على جائزة نوبل، ولكن شتّان بين من يطلب الولاية وبين من يرشحه آخرون وهو معرض عنها، كما يقول.
   وكان الوزير د. عصام نعمان وسماحة الشيخ حسين شحادة ود جورج جبور وبحماسة من الكاتب والباحث  سركيس أبو زيد قد أعلنوا عن ترشيحي لجائزة نوبل للسلام على هامش ندوة ناقشت كتابي " الإمام الحسني البغدادي - مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن" التأمت في بيروت (منتدى تحولات - مركز الألف)، وذلك تقديراً لجهودي في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات ونشر ثقافة التسامح والسلم واللّاعنف وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي وعلى الصعيد العالمي، وظلّ سركيس أبو زيد يلاحقني بضرورة تشكيل لجنة لاستكمال المستلزمات الضرورية وتأمين الشروط الفنية للتقدّم لنيل الجائزة، وكان آخرها اللقاء في إهدن،  حيث طلب خريطة طريق للتحرّك بمعزل عني وعن تحفّظي على الفكرة ذاتها والجائزة ككل، لأسباب موضوعية وذاتية.
   ولعلّ هذا الاستطراد لإهداء جبور له علاقة بالفقرة التي دوّنها كإهداء للكتاب الذي أقوم بتقريظه، وقد سبق أن قدمت مطالعة استذكارية عنه عند تكريمه في بيروت لبلوغه الثمانين بكلمة عنونتها : جورج  جبور : دخل القصر الجمهوري بكتاب وخرج منه بكتاب، وهي قصة لها دلالاتها، خصوصاً وأن شخصاً مثله يمتلك مؤهلات عديدة ولغات عديدة  ومنتج أفكار وصاحب مبادرات ومشاريع كثيرة وكتب متنوّعة حاول أن يضخّها من خلال الدولة وهو ما يستحق الوقوف عنده والبحث فيه  كوسيلة لخدمة وطنه وأمته، وحسناً فعل بنشره هذا الكتاب الذي احتوى مذكرات رسمية بينه وبين رئيس الوزراء وعدد من الجهات الدولية والإقليمية، تلك التي تعكس حرصه من جهة وتنظيمه من جهة ثانية ودقته من جهة ثالثة ورغبته في إطلاع القارئ على مسارات الدولة من أعلى مستوياتها من جهة رابعة.
   ارتبطت مع جورج جبور بصداقة خاصة أساسها الكتب، وزمالة متميزة مظلتها الفكر، ورفقة حميمة أفقها مشاريع ومبادرات، وصحبة متواصلة عنوانها الكلمة، ولعلّ تلك أجمل الصداقات وأوثقها وأعزّ الزمالات وأرقاها، وأفضل الرفقات وأعمقها، خصوصاً بالتكامل والتفاعل وليس بالمنافسة والتفاضل، لاسيّما إذا اتّسمت بمودّة واحترام وعلاقة عائلية مديدة، وكم ظلّت والدتي نجاة شعبان تتذكّر حين عاشت بالشام لبضعة أشهر قبل أن استقدمها  إلى لندن، عدد المرّات التي اتصل بها ليسأل عن أحوالها وأحوال من معها (أختي سميرة وزوجها وأولادها) والمرّات التي زارهم فيها وصندوق التفاح الذي حمله إليهم في حي المزّة - الشيخ سعد حيث بقي المنزل بعهدتي لأكثر من 17 عاماً حتى بعد مغادرتي دمشق لسنوات عديدة.
   قال لي جبور مرّة في أواخر الثمانينات ليس بالضرورة أن ننجح أنا وأنت، فأنا حاولت أن أبث فكري من خلال الدولة ومؤسساتها وأنت حاولت أن تضخ فكرك من خارجها وفي نقدها، وإنْ كانت الدولة صماء أحياناً، وكان جوابي إن كل شيء يحصل بالتراكم حتى وإن كان ببطء شديد وغير منظور غالباً، لكن التأثير والتغيير يحتاج إلى تنوير دائم وتواصل وتدرّج وزمن وهو ما أصبحت أميل إليه أكثر من السابق .
II
   صورة المفكر
   جورج جبور ليس مفكراً متعالياً يجلس في برج عاجي حتى وإن كان في أعلى المواقع، بل هو مفكر حركي ربط الفكرة بالممارسة (البراكسيس) والغاية بالوسيلة فلا غاية شريفة دون وسيلة شريفة ولا غاية نبيلة وعادلة بوسائل خسيسة وظالمة ، لأن الوسيلة جزء من الغاية، وإذا كانت الوسائل ملموسة ومنظورة ، فالغايات بعيدة ومتخيّلة أحياناً، لذلك اقتضى مثل هذا التلازم بين الغاية والوسيلة ، وحسب المهاتما غاندي ، فالوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة لا يمكن الفصل بينهما، لأنهما يرتبطان بوثاق عضوي يصعب فكّه أو تقطيعه.
   وجورج جبور مفكر رؤيوي واستشرافي  وهو ما لمسته خلال علاقتنا التي تمتد إلى نحو أربعة عقود من الزمان، خصوصاً خلال عملنا في إطار منظمة حقوقية لثلاث سنوات  ومن حضورنا ومشاركتنا في ندوات ومؤتمرات وورش عمل في الشام وبيروت والقاهرة وعمان والخليج  وفينا وطهران وديربن (جنوب أفريقيا)  وغيرها، وكذلك ما تابعته لكل ما كتبه خلال هذه الفترة، ناهيك عن مطارحاتنا المستمرة المباشرة والكتابية  ، وهو ما عبّرت عنه في أكثر من مناسبة ونص مثلما ساهم هو الآخر في الكتابة عني بمناسبة تكريمي في القاهرة ونيلي جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي ( العام 2003) حين وصفني " بالصادق الأمين" وفي تكريمي بتونس قال جورج جبور : شعبان: اسم مشرّف في سوريا (2016).
   وسأترك موضوع المبادرة المشتركة بُعيد الأزمة السورية ووجهها الآخر ما تبنّاه مركز دراسات الوحدة العربية إلى مناسبة أخرى، حيث يطول الحديث فيها.


III
   القرار 3379
   كنّا المبادرين إلى تأسيس " اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379"  وقد اختير " رئيساً" لها وتم اختياري "أميناً عاماً" للجنة، والحديث عن القرار هو حديث ذو شجون ، وهو القرار الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية وكان قد صدر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975  عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وكان نصراً عربياً كبيراً بلا أدنى شك على المستوى الدبلوماسي والقانوني والحقوقي والدولي، فضلاً عن المستوى السياسي والإعلامي ، لكن العرب الذين حصلوا عليه بلا جهد كبير ظلّوا يقدّمون خطوة ويؤخرون أخرى حتى حصل المحذور.
   لقد عدّ المراقبون والدبلوماسيون والمحللون السياسيون الكبار على المستوى العالمي  القرار ضربة موجعة للصهيونية العقيدة السياسية لإسرائيل والتي تشكّك بشرعية وجودها القانوني والأخلاقي ، وحين استفاقت الحركة الصهيونية من هول تلك الصدمة التي ترافقت مع طائفة من القرارات لصالح الشعب العربي الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره ودعماً لممثله الوحيد والشرعي  منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت .ف) ، حرّكت ماكنتها الإعلامية والسياسية والمالية والفنية والدبلوماسية لتنظيم حملة مضادة لإلغاء القرار والتشكيك بمحتواه.
    وشملت الحملة الصهيونية كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة  وقتها، خصوصاً حين ترشيحه لرئاسة النمسا في العام 1986،وعلى الرغم من شراسة الحملة ضدّه بزعم ماضيه النازي (لخدمته العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية)، لكنه فاز في الانتخابات ليمكث في كرسي الرئاسة لغاية العام 1992؛ وكان قد وقّع على إلغاء قرار الأمم المتحدة 3379  نحو 800 شخصية سياسية بينهم رؤساء دول سابقين ووزراء وشخصيات عامة  وثقافية وفنية وإعلامية  ومالية وكان هذا في العام 1986.
   وفي العام ذاته دعانا اتحاد الصحافيين والكتاب الفلسطينيين الذي منحني عضوية شرف لعملي المتواصل لدعم القضية الفلسطينية إلى ندوة حول "الوجود العسكري الإمبريالي في الشرق الأوسط" انعقدت في مقر اتحاد الكتاب العرب (بالمزّة)، وقدّم كل من موقعه اقتراحاً بتشكيل هيأة للدفاع عن القرار، وكنت قد نشرت نص القرار في كتابي "الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي" ، دار الجليل، دمشق، 1984، وبعد بضعة أيام التقينا جورج جبور وكاتب السطور لنضع اللمسات الأولى على انبثاق هذه اللجنة التي ضمّت شخصيات مرموقة دعوناها للاجتماع بينها: انعام رعد (لبنان) وناجي علوش (فلسطين) وسعيد سيف (عبد الرحمن النعيمي) (البحرين) وسعدالله مزرعاني (لبنان) وعبد الفتاح ادريس وغطاس أبو عيطه وعبد الهادي النشاش وصابر محي الدين وغازي حسين (فلسطين)،  إضافة إلى جورج جبور (الرئيس - سوريا) وعبد الحسين شعبان (الأمين العام- العراق)   وأجرت اللجنة اتصالات مصرية وأردنية ومغاربية وخليجية لتوسيع شبكتها مع مراعاة القوانين والأنظمة النافذة في كل بلد.
   وفي حينها التقينا عدداً من القيادات الفلسطينية والعربية والسورية واستقبلنا نائب أمين سر القطر لحزب البعث عبدالله الأحمر، كما كان لي شرف مخاطبة الرئيس السوري حافظ الأسد، والطلب منه الإيعاز إلى الوفد السوري لتبنّي مشروع قرار يصدر عن المؤتمر الإسلامي المنعقد في الكويت (1987) والقاضي بإدانة الصهيونية واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري وقد صدر فعلاً عن المؤتمر وبالنص المقترح من طرفنا، وذلك توافقاً مع القرار 3379 واعتراضاً على الحملة الصهيونية لإعدامه، وهو ما جرى بالفعل في 16 كانون الثاني (يناير) 1991، وذلك بعد تغييرات حصلت في ميزان القوى الدولي وانحلال الكتلة الاشتراكية وتصدّع الحد الأدنى من التضامن العربي بسبب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990.
   وقد استمرت اللجنة في عملها وتغيّر اسمها إلى " اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" برئاسة إنعام رعد ، لكن الأوضاع العربية والدولية أضعفت  من نشاطاتها، الأمر الذي جرت محاولات عديدة لإعادة الحياة إليها بصيغتها القديمة أو بصيغ جديدة كان من دعاتها إضافة إلى جورج جبور وكاتب السطور، أحمد بهاء الدين شعبان  وحلمي شعراوي من مصر وعدد من الشخصيات في الأردن ولبنان والخليج والمغرب العربي، وهو ما تزداد الحاجة إليه اليوم أكثر من السابق بسبب المشاريع الامبريالية المشبوهة، ابتداءً من صفقة القرن وتمهيداتها سايكس - بيكو جديدة ومروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإهداء الإدارة الأمريكية الجولان السوري إلى «إسرائيل» بزعم الأمر الواقع ، إضافة إلى محاولة «إسرائيل» إعادة احتلال الضفة الغربية ووضع اليد على غور الأردن وشمال البحر الميت، ناهيك عن حصار غزة المستمر منذ العام 2007 والعدوان المتكرر عليها.
   جدير بالذكر أن المؤتمر القومي العربي اتخذ قراراً في حزيران (يونيو) 2018 (الدورة 29) يدعو فيه لإحياء قرار الأمم المتحدة 3379 اعتماداً على أن قانون الهويّة اليهودية لـ "إسرائيل" الذي اتخذه الكنيست بما يكسب محاولة الإحياء أهمية جديدة للوقوف ضد نظام الأبرتايد.
VI
   فاروق الشرع وبثينة شعبان
   لقد اعتبرنا جورج جبور وكاتب السطور أن قضية القرار 3379  تشكل ركناً مهماً من أركان مكافحة الصهيونية ، باعتبارها عقيدة رجعية وعنصرية بالمطلق، والأمر لا علاقة له بالموقف من اليهود واليهودية ، علماً بأننا كنّا نشدّد أن الصراع مع الصهيونية لا علاقة له بالدين والأديان، وإنما هو صراع ضد آيديولوجية الاستيطان واغتصاب الأراضي وتشريد الشعب الفلسطيني وإجلائه من دياره، والصهيونية فكرة سياسية بالأساس حتى وإن حاولت الاستناد إلى خلفية لاهوتية ، لكن الصراع معها ينبغي أن يكون على أساس سياسي وقانوني وحقوقي أولاً وقبل كل شيء.
   ولم يوفّر جورج جبور مناسبة إلّا وجاء بها على هذا القرار وحتى حين قرّض كتابيْ فاروق الشرع (نائب رئيس الجمهورية العربية السورية الأسبق ووزير الخارجية الأسبق  وكتاب الدكتورة بثينة شعبان (المترجم عن الإنكليزية ) الوزيرة السابقة والمستشارة الحالية للرئيس بشار الأسد) وهما كتابان مهمان اقتنص الفرصة ليتحدّث عن القرار 3379 (المستقبل العربي ، العدد 439، سبتمبر ،2015) مشيراً إلى أنه ورد ذكره مرتين في كتاب الشرع، وخصوصاً حين تبدّل موقف الاتحاد السوفييتي من تأييد قرار الأمم المتحدة إلى تأييد إلغائه (ص 150) حيث تبين كما يذكر الشرع أن الضغوط الأمريكية "الإسرائيلية" لا تقف عند حدود المهاجرين السوفييت، بل تتجاوزها إلى حدود الضغط لإلغاء القرار 3379.
   أما كتاب بثينة شعبان فيرد ذكر القرار  بالنص والعنوان مرّة واحدة (خلال زيارة الرئيس حافظ الأسد في 13 آذار/مارس1991)  ولقائه مع بيكر وتلميح الأخير إلى إجراءات بناء الثقة بإشارته إلى "إلغاء" القرار 3379، لكن ذلك لم يحرز أي تقدم (ص 46)، ولكن ما ورد ما يشير إلى القرار دون ذكر اسمه أكثر من مرّة في كتاب شعبان ، باعتباره قرار الأمم المتحدة الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
V
   
   يسيل من قلمه عطر العروبة
   قد يستغرب القارئ حين يقرأ في كتاب جبور مذكرات موجهة منه إلى رئيس الوزراء ومن رئيس الوزراء إليه مخاطبات رسمية مختلفة وهي تمثّل جزءًا من عمله لوظيفي والإداري، بعد نقله من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء، ولكن ما إن يتوغّل في قراءة النصوص سيكتشف أن المذكرات ذات قيمة ليست لصاحبها فحسب كجزء من تاريخه الشخصي، بل لأنها تخص الحياة العامة والمواقف الرسمية للدولة منها، وهي مكتوبة بقلم مثقف يسيل من حبره عطر العروبة ورؤية مفكر مدني وسلمي ومجتهد وحقوقي مؤمن بقيم التسامح والحوار والتواصل الحضاري، دون إهمال الجوانب القانونية والأكاديمية بنظر الاعتبار ، إضافة إلى التزامه الوطني في متابعة القضايا صغيرها وكبيرها لوضعها أمام أصحاب القرار،
   أولاً  بهدف تجسير الفجوة بينهم وبين المفكرين والباحثين؛
   وثانياً رفع مسؤولية المثقف والباحث والمفكر ، لاسيّما حين يحتل موقعاً إدارياً في الدولة ليعبّر عن رجحان نظره ويقدّم المقترحات ويبسط أفكاره ليختار منها صاحب القرار أو على الأقل ليستأنس بها، سواء أخذ بها أم لم يأخذ،  ومن هو أجدر من جورج جبور بذلك،
   وثالثاً ما تعكسه المذكرات من صدقية وتوثيق وحرارة قلب وبرودة عقل أيضاً، وبهذا المعنى فهي مذكرات تاريخية ، ينبغي أن تُقرأ بسياقها التاريخي وأن تؤخذ منها العبرة والدلالة والفائدة.
   ورابعا حرص المثقف على أن يتمتع بقدر من الاستقلالية حين يعكس وجهات نظره لصاحب القرار، وقد يرضى عليه أو يغضب، لكنه بكل الأحوال يريد أن يمارس دوره ويتمتع بحقه وعليه أن يختار ما هو مناسب من لغة المخاطبة ليس باستخدام لغة التفوق والأستاذية، مثلما ليس باستخدام لغة الخنوع والتملّق، بل باحترام الحدود والنظر إلى الموقع والتراتب بمسؤولية.
   المذكرات توثيق دقيق ليس لما قام به جورج جبور فحسب، بل للدولة السورية بأعلى مستوياتها وأرفع مراتبها الإدارية، ناهيك عن المخاطبات مع جهات ومنظمات وهيئات دولية، كلّها يعرضها جبور أمام صاحب القرار ويقدّم معها رؤيته، وهي تصلح أن تدرّس في المعاهد الإدارية والسياسية لعلاقة الموظف بمرؤوسيه ، لاسيّما الاحتفاظ بقدر من الاستقلالية والاجتهاد من جهة، وبقدر من المسؤولية والانضباط من جهة أخرى.
   وحين نقرأ النصوص التي مضى على بعضها ثلاث عقود من الزمان نلاحظ كم كان جبور مكافحاً ومنافحاً يحاول أن يجد فرصة لخدمة بلده والأمة العربية من خلال عمله الوظيفي والإداري الذي يطعمه دائماً بفكره التنويري الحداثي المتطوّر.
   موضوع أساسي آخر شغل جبور في مذكراته الإدارية وهو موضوع فكري بالأساس حين ربط قضية فلسطين بحقوق الإنسان، ولاسيّما حين يسلط الضوء على جهوده وجهود نخبة متميّزة ومشتركة بموضوع القرار 3379.
   ماري روبنسون وديربن
   وأتذكر يوم حضرنا إلى مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001، كان جبور قد حضر ضمن الوفد العربي السوري الرسمي برئاسة فاروق الشرع، وكنت قد حضرت ضمن وفد عربي للمجتمع المدني حيث كنت عضواً في اللجنة التحضيرية له، وشاركت في مؤتمر عمان الأول الذي اقترحت فيه "وضع عنصرية الصهيونية" ضمن جدول الأعمال والقرار 3379، وهو ما دعانا لإقناع طهران بقبول اجتماع تحضره المنظمات غير الحكومية لكي لا تُدعى إليه «إسرائيل» ، وإلّا فإن المؤتمر سينعقد في النيبال وحينها ستكون «إسرائيل» حاضرة، وكان سبب تحفظ طهران خشيتها من استغلال بعض المعارضين ، فضلاً عن ظهور النساء بما يخالف القوانين والأنظمة المتبعة بما فيها الحجاب .
   وكان لي شرف إلقاء كلمة المنطقة العربية  باسم 13 منظمة عربية، بينها اتحاد المحامين العرب ومنظمة التضامن الأفرو آسيوي، أشرت فيها إلى قضيتين عنصريتين تشغلان عالمنا العربي: عنصرية الصهيونية وقرار الأمم المتحدة 3379 الذي أُلغي، والحصار الدولي الجائر المفروض على العراق (حسبما يسمح الوقت/ 5 دقائق وكان قد تحدث في الجلسة ذاتها مندوب كل من الصين واليابان والهند وجنوب شرقي آسيا، إضافة إلى كلمتنا) ونجحنا في أن يصدر مؤتمر طهران قراراً لـ إدانة للصهيونية باعتبارها "شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري".
   جدير بالذكر أن الأمم المتحدة رفضت في البداية عقد اجتماع عربي واقترحت أن يحضر عرب آسيا في الاجتماعات الآسيوية وعرب أفريقيا في الاجتماعات الأفريقية ، لكننا نجحنا وبضغوط عديدة بإقناع السيّدة ماري روبنسون  رئيسة إيرلندا السابقة ومفوضية حقوق الإنسان حينها على تخصيص اجتماع عربي بتمويل محدود لكي تطرح عنصرية الصهيونية.
   مع أوجار
   ونسقنا جورج جبور ومحمد أوجار وزير حقوق الإنسان المغربي والعدل لاحقاً عن الجانب الرسمي وأنا ومجموعة المنظمات غير الحكومية عن المجتمع المدني، حيث كنّا قد صغنا قراراً يتضمن إدانة «إسرائيل» ودمغ ممارساتها بالعنصرية والتمييز العنصري، وأيدته ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية وبدعم خاص من جنوب أفريقيا دولة ومجتمعاً مدنياً، الأمر الذي كان هزيمة حقيقية للصهيونية، ولقي ذلك ترحيب عمر موسى  الأمين العام لجامعة الدول العربية، إضافة إلى الوفود العربية الرسمية، وسط صدمة وسخط الولايات المتحدة و«إسرائيل» وبعض المتواطئين معها بمن فيهم إحدى موظفات الأمم المتحدة الكبار، التي اكتشفنا وجود شقيقتها مع الوفد الإسرائيلي، وهو موضوع سأتناوله في وقت لاحق. وكنت قد كتبت مقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 272، تشرين الأول /اكتوبر/2001 الموسومة " مؤتمر ديربن - نصف انتصار أو نصف هزيمة؟" وألقيت حينها محاضرات حول الموضوع في دمشق وصنعاء والمنامة والقاهرة، واستقبلني جورج حبش حينها ونايف حواتمة، وقدّما شكرهما من خلالي إلى المجتمع المدني العربي لما تحقق في ديربن.
   مبادرات لا تنضب
   أستطيع القول بثقة ودون مجاملة لصديقي جورج جبور:
   لم أجد شخصاً في موقع المسؤولية مثل جورج جبور انشغل بالقضايا العامة ليس كإداري فحسب، بل لشعوره بواجبه الفكري ومن موقعه خاطب رؤساء دول ووزراء وسفراء ومنظمات دولية وهيئات دينية فيما يتعلق بالقضايا العربية منها: مخاطبته للبابا الذي لم يأتِ الجولان في خطابه مقترحاً جهداً دبلوماسياً سورياً مع قداسته بهذا الشأن (5/2/1990)واقترح  جبور أن تمنح جامعة دمشق شهادة الدكتوراه الفخرية لكل من:
   1- عبد السلام الباكستاني (الحائز على جائزة نوبل)
   2- نيلسون مانديلا بطل شعب جنوب أفريقيا والعالم في مناهضة الفصل العنصري.
   3- موشاكوجي الياباني (رئيس جامعة الأمم المتحدة والرئيس السابق لجمعية علماء السياسة) (24/2/1990)
   ونبّه لخطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين ولا قانونية قانون العودة "الإسرائيلي" 27/3/1990، وطلب الحصول على أسماء الدول التي ستغيّر تصويتها إزاء القرار 3379 من الموافقة إلى المعارضة 1/4/1990، وهو ما كنت قد كتبت فيه رسالة إلى الأخ أبو عمار (ياسر عرفات) (عبر السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح - أبو هشام)  وتلقيت رداً منه، وكنت قد نشرت مقالة في مجلة شؤون فلسطينية التي تصدر في قبرص بعنوان: العام 1990 ومصير القرار 3379.
   وكان جورج جبور قد أرسل رسالة باسمه يوم 14/4/1990 يهنئ فيها الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية على إبلاغ سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي 11/4/1990 عدم جواز إلغاء القرار طالما أن الأسباب التي دعت إلى صدوره ما تزال باقية، علماً بأن نحو 20 برلماناً أوروبياً اتخذ قراراً بإلغاء القرار 3379، وكان برلمان باناما قد أعلن أن القرار 3379 يناقض ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مذكرة بتاريخ 18/3/1991).
   الكونت برنادوت
   ومن اقتراحاته اعتبار يوم 17 أيلول (سبتمبر) يوماً عالمياً لإدانة الإرهاب الدولي ، وهو اليوم الذي اغتيل فيه الكونت فولك برنادوت الوسيط الدولي بشأن فلسطين وهو شخصية سويدية تم اغتيالها في 17/9/1948.
   وكان قد قدّم مقترحاً جدّده لاحقاً وطوّره من وضع مقرر خاص بالاستعمار الاستيطاني إلى مؤسسة متخصصة للدراسة المقارنة للاستعمار الاستيطاني (25/2/1992)، وكان قد اقترح إنشاء هيئة معنية بحقوق الإنسان في سوريا عشية مؤتمر فيينا الدولي لحقوق الإنسان (حزيران/يونيو/1993) ، علماً بأن الدولة السورية رشحته في العام 1987 لشغل منصب مدير حقوق الإنسان في اليونسكو. وينبه لاحتمال إقامة الفاتيكان علاقات مع إسرائيل (27/11/1993).
   حلف الفضول
   ومن المواضيع التي انشغل بها د. جبور وشاطرته جزء من هذا الانشغال " حلف الفضول"  وكتبت عنه في جريدة الحياة اللندنية ، كما خصصت له مبحثاً خاصاً في كتابي " الإسلام وحقوق الإنسان" العام 2001 و"فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة العام 2005" وأشدت بمبادرة جبور ورياديته ويذكر جبور  في مذكرة 17/7/1996 أنه قابل العديد من المعنيين بقضايا حقوق الإنسان لإقناعهم بالاحتفال بذكرى حلف الفضول لمرور 1400 عام عليه، وقد أرسل رسالة ووصله جوابها إلى د. عدنان بدران (مدير عام اليونسكو بالوكالة). وقد استعاد جبور بعض ذكرياته واتصالاته  المبكّرة مع سيرجيو ديميلو منذ العام 2002 ومراسلاته بشأن حلف الفضول ، وكان ديميلو قد عيّن ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة في العراق بعد الاحتلال، ولكنه قتل في تفجير إرهابي في 19 آب /أغسطس/2003.
   وقدم جبور كما تشير المذكرات اقتراحين بمناسبة زيارة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية   إلى المنطقة ، الأول- استذكار مؤتمر بال (مرور 100 عام عليه) والثاني الإعداد لندوة دولية حول الإرهاب الدولي لمناسبة مرور 50 عاماً على اغتيال برنادوت) وتاريخ المذكرة 9/8/1997.
   وفي الصفحات من 237 ولغاية 256 يكتب نصاً عن الذكريات والمذكرات وهي خلاصة عمله في مجلس الوزراء لنحو عشرة أعوام، فيتحدث عن فكرة كتابه بالإنجليزية الذي تناول فيه فكرة الاستعمار الاستيطاني لما كان يجري في روسيا الجنوبية ونظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا، وربما كان هذا الكتاب هو الذي أوصله إلى القصر الجمهوري، وصدر الكتاب عن مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت وجامعة الخرطوم (1970)، ويقول أن الرئيس حافظ الأسد طلب تلخيصاً لكتابه هذا، وقد كان قد تقرر إصداره من "مؤسسة دراسات الاستعمار الإستيطاني المقارن في العالم" وكرّر المقترح في أواسط العام 2019 إلى الرئيس د. بشار الأسد.
    ومثل متابعته لموضوع الاستعمار الاستيطاني كانت حماسته للقرار 3379 وللجمعية العربية للعلوم السياسية التي كان رئيساً للجنتها التحضيرية في الثمانينات ولحلف الفضول والاعتذار عن وعد بلفور من جانب بريطانيا ولتأسيس مؤسسة لدراسات الوحدة العربية، وذلك قبل قيام مركز دراسات الوحدة العربية.
دراسات الوحدة العربية
   وكان قد صدر قرار برقم 38 من الرئيس حافظ الأسد بهذا الخصوص في 12/4/1973 ويضع هذا القرار على صفحة الغلاف الأخيرة والقاضي بمهمة دراسة إمكانية إنشاء " مركز بحوث ودراسات عربية لتوضيح وتعميق فكرة الوحدة العربية" وربطه بوزارة التعليم العالم أو جامعة دمشق وقد ورد  في القرار اسم جورج جبور منفرداً في حين ضمت اللجنة رئيس مكتب الدراسات والثقافة والإعداد في القيادة القومية ووزير التعليم العالم ووزير التربية. وحين أسس د. خير الدين حسيب " مركز دراسات الوحدة العربية" مع نخبة متميّزة من المنشغلين بالقضايا العربية العامة، كان جورج جبور أول من دعم الفكرة وتعاون مع المركز ورفع مذكرات إيجابية عنه إلى الجهات المسؤولة.
مع الرئيس حافظ الأسد
    وقبل أن أختتم هذه المطالعة أود أن ألفت الانتباه إلى مسألة مهمة وهي ما تضمنه خطاب الرئيس حافظ الأسد في مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في الجزائر (أيلول /سبتمبر/ 1973) من إشارة إلى رسالة ثيودور هيرتزل  الأب الروحي للحركة الصهيونية إلى سيسيل رودس  أعتى الاستعماريين الذين عانت منه أفريقيا، والتي يقول فيها أنه يود أن يقوم في فلسطين ما قام به رودس بالذات في أفريقيا، وكانت تلك الاستعارة كما يقول جبور قد أشعرته بالوحدة الفكرية مع الرئيس، حيث أتاحت له عملية إعداد الخطاب ليس التعرّف بشكل أفضل على الرئيس من خلال جلستين مسائيتين ليومين متتاليين دامتا 12 ساعة ، وإنما المناقشة المطولة معه حول إسرائيل باعتبارها روديسيا الآسيوية. وقد أثارت هذه الإشارة ضجة في المؤتمر لاسيّما من جانب قادة أفريقيا باتجاه تغيير النظر إلى دور " إسرائيل" . (ص 246)
   وخلاصة ما يدوّنه جبور طموح يستند إلى  عودة سوريا لمكانتها وتجاوز المرحلة الصعبة وذلك بالدفاع عن فلسطين وعن الوحدة العربية، فالعرب أبناء اللغة الواحدة يمكن أن يكونوا معاً بما يضمن لهم مصالحهم المشتركة (ص 255).



137
ستة أنساق لثقافة اللّاعنف
عبد الحسين شعبان
يعتبر المتعصبون والمتطرفون من دعاة الإيديولوجيات والأديان والطوائف، أن الحق معهم دائماً،وحيثما يميلون يميل معهم، لأن لديهم أفضليات على الآخر بزعم امتلاك الحقيقة، ومثل تلك الأطروحات تقود إلى تسميم العيش المشترك لأنها تحمل في ثناياها الإلغاء، والإقصاء، والتهميش، وغالباً ما تقود إلى ممارسة العنف ضد الآخر، سواء على المستويين الفردي، أو الجماعي.
فهل هناك ديانة سيئة وأخرى حسنة، وديانة حق وأخرى باطل؟ والأمر ينطبق على الطوائف والأيديولوجيات، فكيف السبيل إلى قبول الآخر على قدم المساواة في العيش المشترك، وما هي الأنساق الكفيلة لحل تلك الإشكاليات؟
أولها- النسق القانوني- أي حكم القانون، فالكل ينبغي أن يكون متساوياً أمام القانون من دون تمييز بسبب الدين، أو العنصر، أو اللغة، أو الجنس، أو اللون، أو الأصل الاجتماعي، أو لأي سبب كان، وهو ما توفّره منظومة حقوق الإنسان الكونية. والقانون، حسب مونتسكيو، ينبغي أن يكون مثل الموت ينطبق على الجميع من دون استثناء، وهو في نهاية المطاف الضامن للعيش المشترك، والمرجع الذي يمكن الاحتكام إليه لتنظيم علاقة الفرد والمجتمع بالدولة.
وثانيها - النسق السياسي، الذي يتعلّق بطبيعة النظام، فهل هو نظام ديمقراطي، أم استبدادي، أم دكتاتوري، أم أوليغارشي، أم ثيوقراطي؟ بغض النظر عما إذا كان النظام ملكياً، أو جمهورياً، برلمانياً أو رئاسياً، ولكن لا بدّ من توفر قدر معقول من مبادئ الحرية والمساواة، وأن تقوم الدولة بواجبها الأساسي، وهو حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام العام.
وثالثها - النسق الاجتماعي، فكل نظام سياسي يستند إلى خلفية اجتماعية، فإلى أي مدى يمكن تحقيق تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات العمومية، ولا سيّما الصحية، والتعليمية، والبلدية، بقدر معقول من العدالة، وإذا ما حصلت ثمة اختلالات في هذا الميدان، فإنك سترى العنف ينفلت ويتوالد، ويتراكب، ويسبب ردود أفعال تجرّ إلى عنف مضاد، وهكذا.
ورابعها- النسق الثقافي، فالبيئة التي ينشأ فيها العنف لا شك هي بيئة ثقافية، فالبيئات التي تقر بحق الاختلاف، وتعترف بالتعددية، وتحترم التنوّع، فإن العيش المشترك فيها يعتبر مصدر إغناء، وإثراء، وواقعية، وتلاقح، وتطور، وعلى العكس فإن المجتمعات الآحادية، أو التي تريد أن تتصرف فيها القوى المهيمنة على هذا الأساس فإن العنف يتعاظم فيها، لاسيّما في ظل الثقافة الشمولية وخطابات الهويّة القصوى، أو التي يسميها أمين معلوف «الهويّات القاتلة»، وأية هويّة ينبغي أن تتسم بالعقلانية والنسبية والإنسانية، فكل شيء في الحياة وفقاً لعالم الفيزياء نسبي، والهويّة الجامعة بقدر استيعابها الهويّات الفرعية وتنميتها، تتجنب الانزلاق في الإقصاء، والتهميش، اللذين يدفعان إلى العنف.
وخامسها- النسق التربوي، إن سلوك العنف هو سلوك مكتسب خلال التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم، حيث تساهم النظم التعليمية والتربوية في بناء عقول تنتج سلوكاً عنيفاً، حيث تتم صناعة الشخص العنيف، وهو ليس صفة طبيعية حتى وإن كان لدى كل إنسان شحنة عنفية، فالغالب الإنساني هو اللّاعنف والعيش المشترك، لأن الإنسان كائن اجتماعي، أو حيوان اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش خارج المجتمع.
وسادسها - النسق الإعلامي، حيث يلعب الإعلام دوراً مهماً، سواء في نشر ثقافة الكراهية والعنف والإرهاب وبث قيم التعصب والتطرّف، أو على العكس من ذلك حين يقوم بنشر قيم السلام والتسامح والعيش معاً.
وهناك النسق الديني، حيث تلعب المؤسسة الدينية دوراً في قضية العنف واللّاعنف، وإذا ما هيمن عليها المتعصّبون ساد الخطاب العنفي، والعكس صحيح أيضاً، حين يكون للمتسامحين دور كبير في توجهها يمكن للدين أن يلعب الدور الإيجابي في التنشئة على ثقافة العيش المشترك، فالتدين الحقيقي هو أقرب إلى ثقافة السلام والتسامح، والاقتراب من الله، في حين أن التدين الشكلي المظهري هو محاولة لفرض التدين على الآخرين، واعتبار المختلفين كفاراً، أو مارقين.
إن الإكراه يتنافى مع الإيمان، وبالتالي مع الدين ومع الحرية، فلا دين حقيقي من دون حرية، وبهذا المعنى فالعنف يحدث قطيعة، أو تغييراً في مسار الحياة وتشوهات نفسية، لاسيّما ما يثيره من حقد، وكراهية، وانتقام. وهنا لا بدّ من تغيير في منظومة الأفكار، فالفروسية والشجاعة والحرب العادلة لها معان مختلفة من منظور اللّاعنف، لاسيّما بما تخلقه من ضحايا بشرية بحق الأبرياء.
drshaban21@hotmail.com


138
المنبر الحر / عن الإرهاب وضحاياه
« في: 22:27 02/09/2020  »
عن الإرهاب وضحاياه

عبد الحسين شعبان
«ما زال الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره يمثّل تحدّياً عالمياً، فهو يلحق أذى باقياً بالأفراد والأسر والمجتمعات المحلية، ويخلّف ندوباً عميقة قد تفتر مع مرور الوقت، لكنها لا تختفي أبداً». هذا ما قاله أنطونيو جوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم المصادف في 21 أغسطس /آب والذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 72/165 العام 2017، حيث يتم كل عام استذكار الضحايا الذين يحرمون من مقومات الحياة الطبيعية والإنسانية، من أمن واستقرار وطمأنينة، وذلك بسبب ما تعرّضوا له من أعمال إرهابية، الأمر الذي يستدعي الوقوف معهم للتخفيف من معاناتهم وتلبية احتياجاتهم وإسماع أصواتهم إلى العالم أجمع.
يمكن القول إن كل عنف إرهاب، وهذا الأخير ناجم عن التطرّف لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية أو عنصرية أو فكرية أو لأسباب أخرى، والتطرف هو ابن التعصّب، فكلّ متطرّف بالضرورة هو متعصّب، وإذا ما صار التعصّب سلوكاً فإنه يصبح تطرّفاً، والتطرّف إذا ما انتقل إلى الفعل بهدف إلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه أصبح عنفاً، وهذا الأخير يستهدف الضحية بذاتها ولذاتها، في حين إذا ضرب العنف عشوائياً ينتقل إلى دائرة الإرهاب، خصوصاً إذا كان عابراً للحدود، فسيصبح إرهاباً دولياً.
وإذا كانت القوانين الجنائية (الوطنية) تعاقب على أعمال العنف التي تستهدف الضحية المعلومة بالنسبة لمن يمارس العنف، فإن القوانين الدولية معنية بمحاسبة الأفراد أو الجهات أو المنظمات التي تقوم بممارسة الإرهاب، بما فيها الحكومات، لأن الأفعال التي تنجم عن الإرهاب الدولي تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحروب، بما فيها جرائم العدوان التي تهدّد السلم والأمن الدوليين.
ومنذ العام 1963 والأمم المتحدة تتخذ العديد من القرارات والتوصيات الخاصة بالإرهاب والإرهاب الدولي، وقد صدر نحو 13 قراراً وإعلاناً لما قبل 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001، وبعد جريمة تفجير برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة بعمل إرهابي راح ضحيته نحو 3000 إنسان، أصدرت الأمم المتحدة 3 قرارات دولية مهمة، لعل أخطرها القرار 1373 الصادر في 28 سبتمبر (أيلول) العام 2001، لأن ما تضمنه يعتبر عودة إلى قواعد القانون الدولي التقليدي، خصوصاً إلى مفهوم «الحرب الاستباقية» أو «الوقائية» لمنع أي عمل إرهابي، بسبب احتمال وشيك الوقوع ضد دولة ما أو منشأة ما، وهو الأمر الذي أثار التباسات وزاد من موضوع تعريف الإرهاب تعقيداً، لاسيّما تحديد ماهيته وأشكاله وخلفياته الاجتماعية.
كما صدرت 4 قرارات دولية بعد احتلال تنظيم داعش الموصل وتمدّده في نحو ثلث الأراضي العراقية (2014) إضافة إلى اعتبار الرقة السورية عاصمة لدولة الخلافة. وإذا كانت هذه القرارات تصب في إطار «الاستراتيجية الدولية لمكافحة الإرهاب»، إلّا أنها من جهة أخرى تثير أسئلة ما زالت لم تحسم حول مفهوم الإرهاب وتعريفه وأشكاله واستخداماته، كما أنها تغض النظر عما يجري للفلسطينيين وعن عمليات الاستيطان في الضفة الغربية.
ولذلك فإن الاحتفال بذكرى ضحايا الإرهاب أمرٌ في غاية الأهمية، إذْ إنهم غالباً ما يشعرون بالإهمال لمجرد تلاشي التأثير المباشر للهجمات الإرهابية، الأمر يستوجب من المجتمع الدولي والدول المتقدّمة والغنية بشكل خاص تخصيص الموارد والقدرات اللازمة لمساعدة الضحايا لكي يتعافوا بشكل كامل من آثار العمليات الإرهابية، ولكي يتم إعادة تأهيلهم ودمجهم بالمجتمع (بالطبع من بقي منهم على قيد الحياة وكذلك أسرهم).
وإذا كانت الأمم المتحدة قد قامت ببعض المبادرات، فأصدرت قراراً برقم 68/276 في 13 يونيو (حزيران) 2014 أي بعد احتلال «داعش» للموصل واستكملته بعد تحريرها نهاية العام 2017 بإصدار قرار برقم 72/284 بتاريخ 26/6/2018، بتدقيق واستعراض إستراتيجيتها، فإن من واجب كل دولة، إضافة إلى المجتمع الدولي أن يضع برنامجاً خاصاً طويل الأمد لمساعدة الضحايا، مثلما يقتضي توفير سبل الوقاية والحماية والتأهيل بالنسبة للضحايا، وقبل كل شيء توفير مستلزمات عيش كريم، خصوصاً لبلدان الجنوب، وذلك بإصلاح نظام العلاقات الدولية ليكون أقرب إلى العدالة.
drhussainshaban21@gmail.com



139
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة الثامنة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي

خمسة يطردون خمسة
تساءلت مع نفسي مجدداً كيف وافق عزيز محمد سكرتير الحزب حين اجتمع خمسة رفاق (1989) ليطردوا خمسة رفاق على حد تعبير باقر ابراهيم أحد المطرودين ومعه حسين سلطان ونوري عبد الرزاق وعدنان عباس وناصر عبود، والإشارة إلى اجتماع عزيز محمد وفخري كريم وحميد مجيد موسى وعبد الرزاق الصافي وكريم أحمد وقبلهم وبعدهم تمت التضحية ببهاء الدين نوري وزكي خيري وآرا خاجادور وعامر عبدالله وماجد عبد الرضا ومهدي الحافظ ونزيهة الدليمي وعبد الوهاب طاهر ومكرّم الطالباني وعشرات آخرين.
أعرف أن بعض الذين راهنوا على المؤتمر الرابع للحصول على المواقع، شعروا بالخذلان بعد حين وعادوا واتخذوا مواقف هي أقرب إلى المواقف التي اتخذتها الجماعة المعارضة من الحرب العراقية - الإيرانية والحصار الدولي والاحتلال ، وعبّروا بذات الأساليب التي تم التعبير عنها في أواسط الثمانينات حسناً فلنردد مع الروائي أميل معلوف: "المستقبل لا يعيش بين جدران الماضي".
سأل الرفيق عزيز محمد " ما هي المنبر وماذا تريد؟" ، أجاب نوري عبد الرزاق بهدوئه المعروف وفي ذروة الخلاف بين اتجاهين داخل الحزب الشيوعي: إنها باختصار حركة احتجاج ومعارضة حزبية علنية، وقد أعلنت عن نفسها ولديها جريدة هي الأكثر قراءة لديكم.
   كان هذا الحديث قد حصل على هامش لقاء منفصل بين مكرم الطالباني المرسل كما قيل من جانب الحكومة العراقية للقاء الكتلتين الشيوعيتين (الحزب الذي مثله عزيز محمد وآرا خاجادور والجماعات المعترضة التي مثلها نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله)، أما اللقاء الآخر فقد انتظم بترتيب من آرا خاجادور الذي أداره (قبل تنحيته) وبحضور عزيز محمد ونوري عبد الرزاق وعامر عبدالله بهدف تلطيف الأجواء وإزالة التوتر، وتبادل الطرفان الحديث عن الأزمة الحزبية وأسبابها وسبل معالجتها والخروج من المأزق، وتم الاتفاق على وقف النشر من الطرفين والاتهامات المتبادلة وفتح حوار مسؤول .
   وفي حوار مع نوري عبد الرزاق (المنشور في جريدة الزمان (العراقية) بغداد/لندن على ثلاث حلقات بتاريخ 30 و31/12/2019 و2/1/2020) قال نوري : نحن باختصار لدينا آراء مختلفة عن القيادة الرسمية وتتعلّق بقضايا مفصلية منها الحرب العراقية - الإيرانية والموقف من التحالفات ونهج التفريط وأساليب الكفاح. وقد دعونا إلى اجتماع موسع وكنا مستعدين للحضور ولعرض آرائنا ومواقفنا وبعدها نحتكم إلى قاعدة الحزب (ويمكن مراجعة آراء المنبر في حوار موسع مع الناطق الرسمي لحركة المنبر الشيوعي، الذي نشرته مجلة الغد "الماركسية" (اللندنية) العدد 21 ، تشرين الأول /اكتوبر/ 1987، التي كانت تصدرها القيادة المركزية ، تحت عنوان " هموم ومشاغل الحركة الشيوعية"، وجاء في تعريفها " المنبر" تطرح نفسها على أنها " فصيل شيوعي معارض وجزء من الحزب الشيوعي ولديها وجهات نظر مخالفة للقيادة الرسمية للحزب ...) .
أما اللقاء الأساسي مع مكرّم الطالباني فقد أمّنه الرفيق آرا خاجادور بترتيب مع الرفاق التشيك، وبالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية والسفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح (أبو هشام) وبدعم من منذر المطلك السفير العراقي في براغ، وحضره إضافة إلى عزيز محمد ، جلال الطالباني، مع تخويل خاص من مسعود البارزاني الذي قال: ما تتفقون عليه سأوافق عليه؛ وحصل اللقاء في فندق الحزب الجديد، وهو فندق يعود للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الذي يستضيف فيه بعض الشخصيات الحزبية وبعض رؤساء الدول أحياناً.
وكنت قد خوّلتُ من المنبر مع الرفيق الدكتور محمد جواد فارس للقاء قيادة الحزب لنقل تصورنا الأساسي بعد لقاء نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله مع الرفيق عزيز محمد ، فتوجهت إلى دمشق للقاء الرفيق كريم أحمد ، الذي استقبلنا في منزله بمساكن برزة ورحّب بنا وأبدى تفهماً وتأييداً لمبادرتنا، خصوصاً وأنها استكمال للقاء الرفيق نوري مع الرفيق عزيز، ووعدنا بأن جواب قيادة الحزب على توجهنا الإيجابي سيكون خلال فترة لا تتجاوز الشهر الواحد ، لكن الجواب ضاع في دهاليز البيروقراطية ، بل كان الجواب من نوع آخر حيث فُصل نوري عبد الرزاق، بعد أن وجّهت له رسالة إتهامية مخجلة من المكتب السياسي، مع الرفاق الآخرين.
أما آرا خاجادور فظلّ ينتظر بياناً يصدر عن الحزب يرحّب به  بالاجتماع الذي جرى بين الرفيق عزيز محمد والدكتور مكرّم الطالباني وإبداء استعداد الحزب لتوجه جديد، لكن هذا البيان الذي حمله الرفيق عبد الرزاق الصافي إلى دمشق لم يصدر وهو ما أطلق عليه خاجادور "البيان المحبوس" وعلّق أحد الرفاق بسخرية على البيان المحبوس ، بأنه البيان المدفون أو الذي لم يرَ النور أصلاً..
وحين أستعيد أسماء الرفاق المفصولين أو المبعدين، سواء من إدارات الحزب أو من كوادره القيادية والوسطية أشعر بكثير من الحزن أن يتم التفريط بطاقات حيوية لأسباب تتعلّق بحرّية التعبير والاختلاف بشأن استراتيجيات الحزب وسياساته، فضلاً عن بعض الممارسات البيروقراطية ،لأن كل واحد من هؤلاء الرفاق يساوي حزباً سياسياً على طريقة الأحزاب الجاهزة الصنع، ولا يعني ذلك بمن فيهم المتحدث ليس له أخطاء سياسية أو شخصية أو نواقص أو ثغرات أو عيوب، لكن ذلك شيء ونهج التفريط والإقصاء والإلغاء شيء آخر، وهو نهج سار عليه صدام حسين في حفلة الدم المعروفة باسم " مجزرة قاعة الخلد" العام 1979 حين أعدم 22 بعثياً بينهم 5 من أعضاء القيادة القطرية وحكم بأحكام غليظة على 33 كادراً قيادياً، مات بعضهم داخل السجن؛ أما المتبقون فقد كان عددهم 17 شخصاً حينما أطلق سراحهم العام 1983، وقد روى لي غسان مرهون وفارس حسين عن  صنوف التعذيب التي تعرّضوا لها بحجة المؤامرة المزعومة. وقد شبّه عامر عبدالله مكيدة المؤتمر الرابع بمجزرة قاعة الخلد.
وفي الوقت الذي كان يتم التفريط بالنخبة الشيوعية كان يجري البحث في الدفاتر العتيقة عن أسماء أكل الدهر عليها وشرب أو بعضهم شيوعيين سابقين ممن تركوا العمل السياسي بسبب مواقفهم الضعيفة وتخلّيهم عن قناعاتهم وانزواء بعضهم لعقود من الزمان.
كان على الرفيق أبو سعود أن يكون حازماً، وأنا شخصياً أعرف أنه ليس مع الاستئصال أو التنحيات والإساءات، فهو يمتلك لساناً دافئاً، لا يذكر أحد إلاّ بإيجابياته وإن أبدى ملاحظة سلبية فستكون مغمّسة بروح المسؤولية والحرص والمودّة، ولكن للأسف لم يلعب مثل هذا الدور، فربما وقع تحت ضغوط كثيرة في الخارج، كما تعرّض لإبتزازات غير قليلة، لم يكن قادراً على مجابهتها لدرجة أنه وقع "أسيراً " لأوضاع وملابسات أفقدته موقعه الأول، وفي العام 1987 وما بعده كان هناك من يريد تنحيته لأسباب غير سياسية، وكما قال لي آرا خاجادور وأكّده أكثر من مرّة أمام آخرين أنه أحبط المحاولة لسببين ، الأول- كي لا يسجل في تاريخ الحزب أن أمينه العام نحيّ لأسباب غير سياسية، والثاني- أن هناك من كان يسيل لعابه للحصول على منصب الأمين العام ، ولذلك أصرّ على إبقائه مع النقد الذي وجّه إليه؛ وهكذا كانت الأجواء مهيأة لتنحيته، وحين أبقي عليه حتى العام 1993 كان بقاءً شكلياً على الرغم من أن بريق هذا الموقع أصبح خافتاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، لذلك أصبحت المنافسة باهتة وكان هناك عزوفاً عن العمل ، وهكذا انطوت 29 عاماً من إدارة عزيز محمد للحزب.
لقد شعرت في لقاءاتي الأخيرة مع عزيز محمد وكلّها قبل الاحتلال باستثناء لقاء واحد أو اثنين بعده ، أنه استنفذ مخزونه ولم يعد لديه ما يستطيع أن يقدّمه، وكذلك العديد من إداريي الحزب، فلم يعد بإمكانه أو بإمكانهم المواصلة إلّا مكابرة في ظل ظروف جديدة وتطوّرات جديدة وعلوم جديدة وتنكولوجيا جديدة ووسائل اتصال غير مسبوقة، ولذلك كان على الطاقم الإداري الانسحاب، وتلك فضيلة، لأن السياسي سيكون على قدر من الضحالة حين يستمر ولا يهمّه إن كان الناس ضحايا أو حتى إن انتهوا إلى كارثة، في سبيل فكرة ما سواءً كانت جيّدة أو رديئة، وتلك واقعية السياسة، فالسياسي الذي يفتقر إلى الإحساس بالواقع تكون إنسانيته قد أصيبت بالشلل وضميره تعرّض للخدر. ولا شيء يضرّ بالسياسي إلّا حين يكون ممثّلاً، فسيبدو مثل الزهور الاصطناعية التي سرعان ما يكسوها التراب وأخيراً يكون مصيرها مثل الزهور الذابلة في المزبلة، وتلك حال البعض.
مذكرات عزيز محمد
ومع كل ذلك يمكنني القول أن عزيز محمد يتمتّع بكاريزما كبيرة، وهو محترم من جانب الشخصيات العربية والكردية ومن جانب جميع القوى والشخصيات السياسية، وهو شخصية مقنعة ومسالمة وهو بارع في التكتيكات والمناورات، لاسيّما التي تخصّ موقعه وكنت آمل أن يلعب هذا الدور بعد خروجه من "إدارة الحزب"، لكنه حسبما يبدو، فضّل الابتعاد، على الرغم من بعض المساهمات المحدودة حين حاول رأب الصدع داخل الحركة الكردية بين العام 1994- 1998.
وقد حضرنا في القاهرة للمشاركة في مؤتمر الحوار العربي- الكردي العام 1998. وهناك جمعته مع الرفيق بهاء الدين نوري بعد قطيعة دامت لسنوات حيث كان الأخير مدعواً من أوك في حين كان الرفيق أبو سعود مدعواً من حدك، وردّدتُ عليهما بيت شعر من قصيدة لـ قيس بن الملوّح :
    وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما ...يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
كان يصعب عليّ أن أرى الأمين العام الأسبق بهاء الدين نوري الذي طرد عزيز محمد من الحزب، وكذلك أن أرى الأمين العام عزيز محمد لاحقاً يطرد الأمين العام الأسبق، فذلك شيء لا يحتمل وخارج الدائرة الإنسانية، وأن يأتي كل منهما محميًّا بطرف قومي كردي. ولعلّ ذلك أول لقاء يحصل بينهما بعد حملة التشهير ببهاء الدين نوري العام 1984 ومنعه من حضور المؤتمر الرابع، وإذ أنظر الآن إلى المسألة ليس من جانبها السياسي، بل من جانبها الأخلاقي والشخصي، فأشعر بحزن شديد، لاسيّما لافتراق السياسة عن الأخلاق. وقد دعوتهما على فنجان قهوة وكل أملي ترطيب الأجواء وتلطيف العلاقة بين أمينين عامين سابقين صنع الحداد بينهما ما صنع.
وكنت آمل أن يكون موقف الرفيق عزيز محمد  مختلفاً ما بعد الاحتلال وأن يكون كلامه مع بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق صارماً بمطالبته بالانسحاب السريع ودون شروط، لكن الأمر لم يحصل، فربما كانت الضغوط تزداد عليه والأعباء تكبر وتقدّم السن له استحقاقاته، والأمر يشمل أعداداً في إدارات الحزب السابقة، وسواء أكان الأمر قناعة نحترمها أو لاعتبارات أخرى، فليس في ذلك سوى رثاء لأوضاع عشناها، وللأسف فقد كان انطباع بريمر عن هذا اللقاء كما دوّنه سلبياً وهو ما ورد في كتابه "عام قضيته في العراق "، فكما يقول أن حصيلة تجربة عزيز محمد عن فشل الاشتراكية أن بريجينيف كان يستلم رسائل لا يقرأها ويجيب عليها دون اطلاع منه، وهكذا اختزل تجربة الاتحاد السوفييتي لنحو 70 عاماً، وهي أقرب إلى كوموتراجيديا.
   وكنتُ قد أشرت إلى ذلك جواباً على سؤال توفيق التميمي، وقلت أتمنى: لأبي "فينك- عزيز محمد" شخصياً  الصحة وراحة البال والمزاج الطيب مع معارضتي لموقفه ، كما أنني عبّرت له عن رأيي في منزله خلال زيارتي له بعد العام 2003 وقد تقبل وجهة النظر بكل رحابة صدر، ولم ألتقه سوى مرة واحدة بعد ذلك. وقد شاءت الأقدار أن يرحل عن دنيانا  في 31/5/2017 ولم يستجب لمناشدات العشرات من الرفاق لكتابة مذكراته.
   وأقتبس نصّ الفقرة الخاصة بالمذكرات التي دونتها في فترة سابقة وهي كالآتي: "وسألت عزيز محمد الأمين العام السابق في إربيل عام 2000 لماذا يا رفيق لا تشرع بتدوين مذكراتك أو تسجيلها بشريط كاسيت أو فيديو ، لتقوم بتحريرها وقد يساعدك آخرون؟ " أجابني  بتواضعه المعهود ودهائه السياسي : "لست زعيماً لكي أكتب مذكراتي، فلا أنا كامل الجادرجي ولا ملاّ مصطفى البارزاني ولا محمد مهدي كبّة ولا الجواهري، لكي يهتم الناس بهذه المذكرات، ثم أنني لست مثلكم من أصحاب القلم ممن يحترفون الكتابة ويعتنون بالحرف ويسهرون على المباني والمعاني" .
   ومثل هذا الجواب ليس سوى هروبًا من المكاشفة الضرورية، خصوصاً وقد رحل الرجل ومعه الكثير من الأسرار والخفايا والمعلومات والقصص والحكايات، بل هو مستودع كبير لجزء مهم من تاريخ الحزب في مطبخه الأساسي، لاسيّما العلاقات مع المركز الأممي وأجهزته، والـ KGB على وجه الخصوص، والعلاقات الخاصة بحزب البعث وشخصياته الأساسية مثل الرئيس البكر ونائبه صدام والعلاقة مع الحركة الكردية وامتداداتها وارتباطاتها المتعدّدة والاختراقات التي تعرّض لها الحزب ومعالجاتها، وغير ذلك من سرديات السجن والانشقاقات المتلاحقة ودوره فيها، وما يسمّى بجهاز أمن الحزب مما يستوجب التدوين، بل يكون لمثل تلك الشهادة مسؤولية متميزة، وعدم كتابتها يعني الهروب منها وسلبية أخرى.
   وكنت قد كتبت منتقداً الرفيق شوكت خزندار على كتابه " الحزب الشيوعي العراقي- رؤية من الداخل" وذلك في مقالة بعنوان " الحديقة السوداء في محطّات شوكت خزندار الشيوعية " نشرت في مجلة المستقبل العربي- بيروت ، العدد 337 ، تاريخ آذار (مارس)، 2007. وقبل ذلك اعتذرت عن كتابة مقدمة له كان قد طلب مني كتابتها، خصوصاً لما جاء فيه من اتهامات وإساءات  وشكوك وتصوّرات وكلام ألقي على عواهنه كما أعتقد، مع قليل من الوقائع الحقيقية.
   وبتقديري إن إحجام الرفيق عزيز عن كتابة المذكرات تمثّل جزءًا من شخصيته حيث لا يريد أن يواجه أحداً أو يكتب عن نواقص أحد وظل يتجنب إثارة أي حساسية مع أي كان، وهو جزء من شخصيته التوافقية بمعناها السلبي، وقد ذكر لي الرفيق آشتي الذي سجل له بعض ذكرياته أنه تعرّض لأحد الرفاق بشيء من النقد القاسي، ولكنه بعد نحو ساعة اتصل به وقال له بالحرف الواحد " أبوس عيونك إحذف ما سجلته عن الرفيق المذكور" وهو ما نقله لي توفيق التميمي أيضاً عن رفيق آخر خلال حواره معه وكرّر ذلك مع الصحافي حمدي العطار الذي طلب منه إلغاء المقابلة إذا لم يحذف ما ورد فيها من انتقاد قد يسيء إلى أحد الرفاق.
إذا كانت أخطاء الحزب و"إدارته"، وهي ليست بعيدة عن أخطائنا ككل يمكن النقاش حولها أو إدراجها في باب الاجتهادات التي كان بعضها خاطئاً ولم تزكّه الحياة، وهو ما ذكرته بحق نفسي قبل الآخرين حين قلت في وقت سابق وبروح رياضية: أنني ضقت ذرعاً بالعمل الحزبي الروتيني والمسلكي منذ أواسط السبعينات وبالبيروقراطية السائدة لدرجة  أنني اعتبرت الهواء خارج الصندوق أكثر نقاء مما في داخله، خصوصاً ما رافق التجربة من تشوّهات وروتينية وتخلّف؛
وإذا كان قول الرأي في ظل انغلاق المنافذ، خصوصاً إزاء قضايا استراتيجية كالحرب العراقية - الإيرانية والنزعة التفريطية المغامرة أمر لا بدّ منه وهو ما اتبعناه في كتلة المنبر أواسط الثمانينات، فإن الاستمرار فيه كان يعني مكابرة لا مبرّر لها ، خصوصاً وأن المبادرة قد استنفذت أغراضها وهو ما دعانا لتوجيه رسالة باسم المنبر في 27/12/1990 باتفاق بين نوري عبد الرزاق وبيني وذلك بعد مهاتفة مع د. مهدي الحافظ الذي كان في صلب هذا التوجه، وذلك لإيقاف النشاط دفعاً لأية التباسات مع رغبة أحد الرفاق وإصراره على العودة إلى العراق وتحمّله مسؤولية ذلك.
 وكنت قد دعوت لتجمّع يساري واسع وعريض يكون الحزب من بين قواه الأساسية، لأن الكثير من الأمراض كانت تعشعش في الرؤوس والقلوب، ولا بدّ من فنح صفحة جديدة وتوجّه جديد لترميم العلاقات الرفاقية، خصوصاً وقد أدت التطورات العديدة التي حصلت في العراق والمنطقة منذ الحرب العراقية - الإيرانية وغزو الكويت إلى اختلاف مسارات الشيوعيين حول قضايا استراتيجية وطنية وهو اختلاف معلن بين فريقين واجتهادين وموقفين وربما أكثر من ذلك ، ناهيك عن مسعى لإعادة قراءة الماركسية في ضوء الواقع بعيداً عن الكليشهات والمقولات الجاهزة وانسجاماً مع روح العصر والمتغيّرات الحاصلة في الكتلة الاشتراكية.
والمسألة تتعلق بالرأي ووجهات النظر والاجتهاد ، وبغض النظر عن التباعد والافتراق والاختلاف  في المواقف، ولذلك ينبغي الابتعاد عن التشهير والتشكيك والتخوين، والمسألة عندي ليست أكثر من تقديم قراءات واجتهادات قد تصيب وقد تخطأ وهي مواقف معلنة ومنشورة وموثقة بكتب ودراسات وأبحاث.
لعلّ من أمراض الحركة الشيوعية المُعدية والمعتّقة والتي وقع فيها الجميع هو كيل الاتهامات وبث الكراهية إزاء الاختلاف، خصوصاً لمن هو غير قادر على الحوار والنقاش والمطاولة، فينزلق إلى مهاوي الاتهام والاتهام المتبادل، وكنت قد كتبت " لا بد من توقير الصراع وترزين الخلاف"، وفي كل الأحوال، فاللجوء إلى مثل تلك الأساليب تفقد المرء الحجة والمنطق والمعقولية ، فضلاً عن أنها وسائل غدر وعجز وجبن وليس دليل شجاعة أو حجة أو رأي.
لأن " الشجاعة من فضائل القلب" وهي كرم أخلاقي وسمو إنساني وهي عكس الجبن والخنوع وشحّ الأخلاق، لأنها تتعلق بالخير ، والسياسة بهذا المعنى فعل خير وسعي للخير العام حسب عبد الرحمن بن خلدون، وعكسها خداع وخسّة وهذه " كلّها شرٌ" ولا علاقة لها بالسياسة ، والشرير ليس شجاعاً في حين أن  الشجاع خيّر، وقلوب الشيوعيين ينبغي أن تنبض بالمحبة والصدق والإنسانية ، فما قيمة الأفكار والمبادئ  إذا كانت الوسائل خسيسة ودنيئة ووشايات رخيصة وتأليب ومحاولات تشويه سمعة؟ ورذيلتان لا تنجبان فضيلة وكنت دائماً أردد قول الشاعر أبو العلاء المعري :
      وَإِذا تَساوت في القَبيحِ فِعالُنا *** فَمَنِ التَّقيُّ وَأَيُّنا الزِّنديقُ؟
ولذلك لم أرغب في تكرار التجربة، خصوصاً وأن لدى كل منّا أخطاءه فلم أكن مستعداً لإضافة أخطاء أخرى ربما بعضها صميمياً إلى أخطائي، والأمر ينطبق على المشاركة في المعارضة في الخارج، التي انحدرت للتعويل على العنصر الخارجي بزعم الدور الموضوعي للعامل الدولي، ناهيك عن الموقف من الحصار الدولي الجائر والعزلة عن الشارع، وهو ما دونته في مذكرتي إلى إدارة المؤتمر الوطني العراقي وفيما بعد بإعلان استقالتي المدوّية 1993 ، إذْ كيف يمكن أن تكون معارضاً للدكتاتورية وتقبل بفرض الحصار على العراق وتجويع الشعب العراقي.
وقد كرّست جهدي الحقوقي التنويري بهذا الاتجاه من خلال كتب أصدرتها في العام 1994 الأول بعنوان: عاصفة على بلاد الشمس والثاني بعنوان: بانوراما حرب الخليج : وثيقة وخبر، سلّطت فيهما الضوء على جريمة الحصار الدولي ومخالفتها لقواعد القانون الدولي، وأدرت مؤتمرات وندوات بهذا الاتجاه، وذلك خيارُ يشهد له العدو قبل الصديق، وحسب الشاعر العباسي الموصلي السري الوفاء:
وشمائلٌ شهد العدوّ بفضلها  **** والفضلُ ما شهدت به الأعداء
يتبع


140
وللأسف فإن تضخّم السلطة وصلاحيات الحكام في بعض المجتمعات يضعها ويضعهم فوق الدولة، خصوصاً إذا استمرت أو استمروا لسنوات طويلة وبغياب التداولية والتعددية في الحكم، مما يجعل السلطة التنفيذية تتغوّل على بقية السلطات وتعتبرها ملحقاً لها، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني التي تتعرض إلى القضم وربما للابتلاع أو التشويه.
إن وجود دستور يضع قواعد وأسس صحيحة لتنظيم العلاقة بين الفرد والسلطة وبين السلطات في الدولة ويحدد إطار الحريات ووسائل الرقابة والمساءلة وسيادة القانون والمساواة، مسألة في غاية الأهمية، خصوصاً عندما تقترن بقضاء مستقل يستطيع أن يؤدي دوره الإيجابي في تحقيق العدالة، ومنع التجاوز والتسلّط، وبذلك تكون تلك الدولة أقرب إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
من هذا المنطلق تأتي معركة الدستور في العالم العربي، خصوصاً بعد تغوّل السلطة التنفيذية على بقية السلطات وتغييب دور الفرد وحرياته واعتماد التمييز في علاقة الدولة ببعض المجاميع والإثنيات والتكوينات، القومية أو الدينية أو السياسية أو الفكرية أو المذهبية بما فيها دور المرأة وعلاقة الدين بالدولة وغيرها.
يقول الفقيه الدستور المصري يحيى الجمل: الدستور بصفة عامة هو القانون الأساسي في أية دولة يعبّر عن إرادتها وينظم علاقة السلطات ببعضها وعلاقتها بالمواطنين الذين ينظم حقوقهم وواجباتهم. جدير بالذكر أن مصطلح الدستور مأخوذ من الكلمة اللاتينية Constitution التي تعني "تأسيس"  وبهذا المعنى استخدمها فلاسفة الإغريق والرومان وكانوا يقصدون بالدستور: تنظيم البناء السياسي للمجتمع السائد، ثم تطوّر هذا حتى أخذ معناه الاصطلاحي  .
ويحدد الدستور عادة طبيعة نظام الحكم: ملكي، جمهوري، رئاسي، برلماني، ...الخ وهو المرجع الأساسي لتحديد دستورية القوانين. وفي البلدان المتطورة نجد محاكم دستورية مستقلة عن سلطات الدولة، مهمتها حماية الدستور والافتاء أو البت بشرعية القوانين التي يسنّها البرلمان (السلطة التشريعية) ودستورية ممارسة الحكومة (السلطة التنفيذية) والمحاكم (السلطة القضائية)، ولهذا تحرص الدولة كثيراً لوضع ضوابط أو قيود معينة لمنع إجراء تغييرات جذرية على الدستور منها إجراء استفتاء شعبي أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك.
ولعلّ جدلاً قد ثار على نحو عاصف بُعيد الثورة التونسية وما يزال مستمراً ولم ينقطع، وخصوصاً عند مناقشات مسودّات الدستور، فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة وحقوق المرأة، وهل نحن إزاء دولة دينية وما هو الموقف من الحقوق والحريات الشخصية، وعلى الرغم من تطمينيات حزب النهضة وقائده راشد الغنوشي، الاّ أن المخاوف لا تزال مستمرة وينعكس ذلك ببعض التصرفات من جانب أوساط دينية متطرّفة سواءً كانت باسم السلفيين أو غيرهم   كما ثارت عاصفة صاخبة وانقسم الشارع المصري على نحو لم يعرف له مثيل منذ ثورة 25 يتاير 2011 ولحد الآن بسبب الاعلانات الدستورية ، ففي 13 فبراير(شباط) 2011 صدر أول إعلان دستوري ما بعد حكم الرئيس حسني مبارك الذي حكم البلاد بدستور العام 1971 ومن العام 1981 ولغاية العام 2011، امتداداً لحكم الرئيس محمد أنور السادات، الذي حكم مصر بعد وفاة عبد الناصر ومن العام 1970 لغاية مقتله العام 1981.
أما الإعلان الدستوري الثاني فهو إعلان 30 مارس (آذار) العام 2011 والذي منح المجلس العسكري صلاحيات تشريعية لغاية إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وقد انتهت هذه الفترة بإصدار الاعلان الدستوري في 11 أغسطس(آب) 2012، وذلك بعد نقل سلطات المجلس العسكري إلى رئاسة الجمهورية بعد انتخاب الرئيس الدكتور محمد مرسي في 30 يونيو (حزيران) 2012.
أما الاعلان الدستوري الجديد 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 فهو الاعلان الدستوري الرابع منذ ثورة 25 يناير ولغاية الآن. وقد أعطى هذا الإعلان لرئيس الجمهورية سلطات واسعة، وهي قريبة من تلك السلطات التي تضمنتها الدساتير والاعلانات الدستورية السابقة جميعها، سواءً دستور العام 1923 أو الاعلانات الدستورية ما بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 بما فيها دستور الوحدة بين مصر وسوريا في العام 1958 وقيام الجمهورية العربية المتحدة أو دستور العام 1954 الذي  لم ير النور، وكان قد وضعه الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، والذي تم العثور عليه في القمامة وكتب صلاح عيسى كتاباً في العام 2001 بعنوان " دستور في صندوق القمامة"، ولا في دستور العام 1971.
وإذا كان الدستور يعتبر أبو القوانين وهو القاعدة العلوية الأسمى على بقية القوانين والقواعد القانونية، فذلك لأنه ينظم عمل سلطات الدولة واختصاصاتها وقواعد الحكم فيها والضمانات الأساسية لحقوق الأفراد .
ولعلّ مبعث ارتفاع رصيد الدستور كان قد ترافق مع صعود الدولة الحديثة وانتشار الأفكار الليبرالية، ويمكن اعتبار أواخر القرن الثامن عشر تاريخاً مقارباً لفكرة الدستور، لاسيما بعد الثورتين الأمريكية 1776 والفرنسية 1789، وقيامهما على المبادئ الجمهورية، تلك التي تتطلب وجود دستور ينظم علاقة السلطات بين بعضها البعض وينظم علاقة الدولة بالأفراد وحقوقهم، أي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تعد الدولة خاضعة لمزاج الأباطرة، بل تحوّلت إلى مؤسسة مستقرّة، خاضعة لتنظيم واضح ومعروف ومستندة إلى تشريعات مقنّنة وفي مقدمتها الدستور .
وإذا كان الدستور هو نتاج الدولة الليبرالية، لاسيّما بعد مجموعة من التغييرات والتطوّرات الديمقراطية، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهل هناك جدلية متلازمة بين الديمقراطية والدستور أم ثمة مبالغة، بل مجانبة للحقيقة في الكثير من الأحيان، فالعديد من الدول الدكتاتورية كانت تمتلك دساتيراً، مثلما هي دولة هتلر النازية ودولة موسوليني الفاشية والدولة الاستبدادية الشمولية الاشتراكية والكثير من دول التحرر الوطني وأنظمة العالم الثالث السلطوية المتعسفة.
لعلّ الصراع حاداً وعنيفاً أحياناً حول النصوص الدستورية، لاسيّما في هذه الأيام وهو ما عكسته معركة المعارضة مع السلطة المصرية في الميادين والشوارع والمؤسسات القانونية والمدنية والدوائر الحزبية والنقابية، خصوصاً بعد إصدار الرئيس محمد مرسي الاعلان الدستوري في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 ومن ثم الاستفتاء عليه، مع أن الدساتير لم تستطع الحيلولة دون انتهاك حقوق الأفراد والجماعات وفرض أنظمة حكم قمعية، كما أن الكثير من البلدان العربية التي عرفت دساتيراً بعضها متطور قياساً بزمانه وتجارب ديمقراطية جنينية محدودة مثل مصر قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 والعراق قبل ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 وسوريا قبل الوحدة السورية – المصرية العام 1958، عاشت في حالات طوارئ وقوانين استثنائية وأحكام عرفية وشحّ للحريات العامة والخاصة، في ظل أنماط من الدول تتغوّل فيها على حياة المواطنين.
ومع أن الدساتير لم تستطع حماية حقوق المواطنين في هذه البلدان، بل ساهم بعضها في إقرار مبدأ التوريث بتعديلات دستورية، كما حصل في سوريا وكاد أن يحصل في مصر واليمن وليبيا والعراق وغيرها، لكن ارتفاع رصيد الوعي القانوني والحقوقي وتعاظم دور الرأي العام الداخلي والدولي، وصعود قاعدة حقوق الانسان باعتبارها فكرة علوية سامية وقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي Jus Cogens واجبة الأداء في الحال والمستقبل، هو ما يعطي اليوم لمعركة الدستور أهمية كبرى.
الديمقراطية هي ثمرة تطور دولي اقترن بعدد من القيم الأساسية التي كوّنت قواعد سياسية واجتماعية وأخلاقية، وتقوم الديمقراطية على الحرية والمساواة والعدل والمشاركة، وبالطبع جاء تطور الفكرة الديمقراطية رداً على نظرية الحق الإلهي باعتماد السيادة للشعب التي يمنحها للحاكم وفقاً لعقد اجتماعي.
ويرى هوبز أن حالة الإنسان الطبيعية كانت دائماً حياة حرب وصراع وتسيطر عليها اللذة والألم وقد اتفق الأفراد فيما بينهم على العيش تحت أمرة سلطة واحدة صوناً لمصالحهم التي يتنازلون عنها لتقوم هذه السلطة للتوفيق بينها. وعليه فإن جميع الأفراد ما عدا شخص واحد يتفقون على التنازل عن حقوقهم لسلطة آمرة في الجماعة وهي سلطة الملك المطلقة من دون أي قيد، باستثناء التصرف في حياة الرعايا.
أما جون لوك فهو يرى أن الأفراد كانوا عند الفطرة أحراراً متساويين وفقاً للقانون الطبيعي، فقرروا حفاظاً على حرياتهم وحقوقهم ولتنظيم حياتهم خضوعهم لحاكم عادل وذلك عن طريق العقد الاجتماعي. فالملك في هذه الحالة طرفاً في العقد، بحيث إذا أخلّ بشروطه ولم يحافظ على حقوق المتعاقدين انفسخ العقد، أي أن السلطة وديعة يؤتمن عليها ويمكن استعادتها منه من جانب الأفراد ليفوضوها لحاكم جديد يقوم بممارستها نيابة عنهم. وبهذا المعنى فإن الشعب هو صاحب السيادة حيث يمكن عزل الحاكم، ولذلك يعتبر لوك داعية للملكية المقيّدة وغير المطلقة.
وذهب جان جاك روسو إلى مبدأ السيادة الشعبية في إطار عقد اجتماعي، وإن تنازل الأفراد عن حقوقهم لا يخسرهم شيء، فما يخسرونه كأفراد يستردونه كأعضاء في المجتمع والشعب هو مصدر السيادة ومالكها، وهذه لا تقبل التنازل  .
كيف يكتب الدستور؟
لعلّ التطورات والتغييرات التي حصلت في العالم العربي تستعيد كيفية كتابة الدستور أو ما يسمى أحياناً صناعة الدستور أو صياغة الدستور،   علماً بأن عملاً من هذا العيار الثقيل يتطلّب توافقاً وطنياً بين المجموعات الثقافية الوطنية والدينية والإثنية، وبين الفئات الاجتماعية المختلفة وأن يحظى بدعم شعبي، وهو ما درجت عليه الدولة العصرية، ويتطلّب الأمر مشاركة قانونية واسعة، ولا سيّما في الصياغة، بما يتطلبه العمل من جودة فنية وتقنيّة، علماً بأنه لا توجد صيغة مانعة جامعة، تشكّل مسطرة يمكن القياس بها أو عليها، لكن هناك بعض المبادئ والقواعد المهمة للاستفادة منها، فضلاً عن دراسة التجارب المختلفة وما آلت إليه على هذا الصعيد، سواء في كل بلد أو من بلدان أخرى، آخذين بنظر الاعتبار الطبيعة السياسية والاجتماعية والثقافية، والأطراف المشاركة والطابع المؤسسي والحقوقي، خصوصاً لجهة القرب من المبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
ويتطلّب الأمر أيضاً إضافة إلى دور القانونيين والحقوقيين، مشاركة علماء اجتماع واقتصاديين ولغويين، فضلاً عن ممثلين عن القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات غير الحكومية.
ومنذ العام 1989 ازدهرت عمليات بناء الدساتير وهناك نماذج مهمة، ففي أمريكا الجنوبية بدأت البرازيل ببناء دستور جديد العام 1988 تبعتها كولومبيا العام 1991 والأرجنتين العام 1994 وبيرو العام 1993. وكانت تشيلي قد بدأت بكتابة دستورها العام 1989 وأعقبته بتعديلات مهمة في التسعينيات. ثم الأكوادور العام 2008 وبوليفيا العام 2009.
وشهدت أفريقيا بناء دساتير جديدة في 23 دولة من مجموع 52 خصوصاً بعد صراعات داخلية في التسعينيات ترافق ذلك مع دساتير جديدة لدول أوروبا الشرقية في بولونيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ثم (التشيك والسلوفاك كجمهوريتين مستقلتين منذ العام 1993) ويوغسلافيا بأجزائها  الستة لاحقاً واندمجت ألمانيا الديمقراطية بجمهورية ألمانيا الإتحادية بعد انهيار جدار برلين العام 1989 والاتحاد السوفيتي السابق الذي تشظى إلى 15 دولة وكياناً وبلغاريا وألبانيا وغيرها التي شهدت دساتير جديدة.
أما في آسيا فقد عملت على بناء دساتير جديدة منذ أواخر التسعينيات (أندونيسيا في 1999-2002) والباكستان العام 2010 والنيبال منذ العام 2006 وأفغانستان العام 2004 ومنغوليا العام 1992 وتايلند في الأعوام 1991 و 1997 و2006-2007 ومنمار 2008 وفيجي 1997.
ولا شكّ إن مرحلة الإزدهار الدستوري انعكست على دول عربية غير قليلة، فبعد احتلال العراق في 9 نيسان (ابريل) العام 2003 والإطاحة بالنظام السابق، بدأت مرحلة الدستور حيث تم سنّ " قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية" في 8 آذار (مارس) العام 2004 الذي حدد الفترة الانتقالية من 30 حزيران (يونيو) 2004 حتى تشكيل حكومة عراقية منتخبة بموجب دستور دائم، وذلك في موعد أقصاه 31 كانون الأول (ديسمبر) 2005. ثم بدأت مرحلة الدستور الدائم في العام 2005 حيث حدد يوم 15 آب (أغسطس) موعداً أقصى للانتهاء من كتابة الدستور، وبعدها تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) من نفس العام وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.
وعلى الرغم من الملاحظات الكثيرة والألغام العديدة التي تضمنها الدستور العراقي، وهي أقرب إلى القنابل غير الموقوتة التي قد تنفجر في أية لحظة، لكنه من الناحية النظرية على أقل تقدير، ولا سيّما في باب الحقوق والحريات، كان متقدّماً على الدساتير العراقية التي سبقته، حتى وإن كان بعضها معطلاً  ، الأمر الذي يتطلب تفعيله من جهة، ومن جهة أخرى إزالة الألغام التي تكتنفه، إن لم يقتضِ الأمر استبداله بالكامل.
وبعد التغييرات التي حصلت في تونس ومصر وليبيا واليمن وما ينتظر أن يحدث في سوريا، فإن النقاش يجري حول السبل المناسبة لصياغة دستور جديد بعد عدد من الاعلانات الدستورية المؤقتة، وهذه مصدر تجاذب كبير، بين القوى والتيارات المختلفة.
وإذا كانت الدساتير في الماضي تقوم على العرف حتى القرن الثامن عشر  فإن الدساتير الأوروبية منذ الثورة الفرنسية بدأت تميل إلى تقييد سلطة الحكام بما يتلاءم مع الدساتير المكتوبة وليست العرفية، وهكذا نشأت حركة التدوين الدستوري، واعتبر الدستور علوياً ومكتوباً وإلى حد ما أقرب إلى الجمود أي أنه لا يمكن تعديله الاّ بعد إجراءات محددة لضمان عدم تلاعب الحكام به.
كان يمكن كتابة الدستور سابقاً من قبل فرد تعود له السلطة السياسية مثلما هي الأنظمة الملكية الوراثية، أو من لجنة مؤلفة من عدد من الأفراد، وهو ما اتبعته الثورات والانقلابات العسكرية، وغالباً كانت دساتير هذه المراحل مؤقتة وفي أوضاع استثنائية وهي طرق لا ديمقراطية في إقامة الدستور . أما في الوقت الحاضر فإن إسباغ الشرعية يتطلّب استفتاء الشعب، علماً بأن إقامة الدستور يمكن أن يكون من قبل مجلس منتخب من الشعب (الجمعية التأسيسية)، ولكن ينبغي أن يأخذ بنظر الاعتبار التوافق الوطني ، وتلك الطريقة التي تسمى بالطريقة الديمقراطية لإبرام الدستور، لا سيّما من جانب مجلس منتخب، وهي الوسيلة التي استخدمتها معظم دول العالم بما فيها دول الربيع العربي إثر التغييرات التي حصلت فيها .
يمكن الإقرار أن الدستور هو عملية متنوّعة ومتعدّدة الجوانب، سياسياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولعلّ هدفاً مركزياً يريد الجميع الوصول إليه وهو يتعلق باستحداث هيكليات جديدة أوتطوير الهيكليات الموجودة أصلاً لتطوير وإضافة قيّمة طويلة الأمد للحكم والنظام السياسي، عن طريق تعزيز التوافق وتقليص إمكانية انفراد فرد أو مجموعة صغيرة بالمجموع مع حماية التنوّع الثقافي الديني والحقوقي للأطراف جميعاً من خلال عقد اجتماعي جديد ثم بعد التغييرات السياسية، وذلك بما يحقق استدامة نتائج عملية بناء الدستور .
وقد ساهمت الأمم المتحدة في تحقيق التوصّل إلى تفاهمات لبناء الدستور في العديد من البلدان، من خلال التفاوض المباشر وتقريب وجهات نظر الفرقاء وتقديم صياغات مقبولة لجميع الأطراف، خصوصاً في المسائل العقدية والأسئلة الشائكة والمثيرة للخلاف.
أما محتويات الدستور وطبيعته فهي تتعلّق بكل بلد وإن كان ثمة مشتركات بينها، سواءً كان البلد دولة بسيطة غير مركبة أم اتحادياً فيدرالياً، لكن لا بد من تحديد اسم الدولة وحدودها وعلمها والجنسية وشروطها والمواطنة وحقوقها وواجباتها والحقوق والحريات بشكل عام وأجهزة الدولة وسلطاتها القضائية والتشريعية والتنفيذية (الحكومة) والعلاقة بين الدولة والدين وبين المدني والعسكري، الأمر الذي يتعلق بالمأسسة، إضافة إلى كيفية حماية الدستور وموقعه وعلاقته بالقانون الدولي.
أما مقوّمات الدستور الديمقراطي فيمكن تلمّسها من مقارباته لعدد من المبادئ المهمة منها: التداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات وتأكيد الحقوق والحريات، بما ينسجم مع المعايير الدولية، وتأكيد استقلالية السلطة القضائية واعتبار الشعب مصدر السلطات، وسمو القواعد الدستورية على بقية القواعد القانونية، أي تأكيد علويّة الدستور ومبادئ المساواة وعدم التمييز، وليس ذلك فحسب، بل هناك من يضع حرّية التعبير عن الرأي والوصول للمعلومات وضمان دور وسائل الاعلام المستقلة ووضع الجيش تحت قيادات مدنية ومنح مؤسسات المجتمع المدني دوراً في الرقابة والرصد وتأكيد دور الرأي العام، إضافة إلى إقرار التعدّدية وحق الاعتقاد وحق التنظيم السياسي والنقابي والحق في المشاركة.
ومثلما يفترض الواقع أن تنشأ الدساتير بأساليب ديمقراطية أو غير ديمقراطية، فالأمر يتعلّق أيضاً بنهاياتها، سواءً بطريقة اعتيادية عبر إلغائها، لا سيّما بتبدّل  الظروف والأحوال، الأمر الذي يتطلّب وقف العمل بها أم ببعض أحكامها بالتوافق ودون اللجوء إلى حسم المسألة بالعنف، ووضع دستور جديد يتلاءم مع المتغيّرات. وفي الأنظمة الديمقراطية يتم ذلك بواسطة جمعية تأسيسية تنتخب لهذا الغرض أو عن طريق استفتاء دستوري.
أما في الأنظمة غير الديمقراطية، فإن وضع دستور جديد يتم عن طريق الحاكم بواسطة المنحة أو بواسطة عقد بين الحاكم والمحكوم. وهناك اسلوب غير عادي لتغيير الدستور، وذلك بإسقاطه بأسلوب "ثوري" ووقف العمل به وإلغائه، أي دون اللجوء إلى الطريق القانوني العادي، وإنما استخدام أساليب غير عادية لإلغائه عند وقوع الثورة أو الانقلاب العسكري  .

جديد الدستور المصري وقديمه: مقاربة عراقية!
ظلّت الأنظار تتطلّع إلى مصر بعد موجة التغيير التي شهدتها العديد من البلدان العربية، ابتداءً من تونس، وذلك لما تمثّله من ثقل وتأثير كبيرين على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، ناهيكم عن دورها الحضاري والثقافي الإبداعي، لا سيّما وهي تمتلك طاقات بشرية وقدرات علمية كبيرة، فضلاً عن موقعها الجيوبوليتيكي ومساحتها وعدد سكانها.
ولهذا كان ولا يزال العالم العربي وغيره مشدوداً إلى مصر ومستقبلها، خصوصاً في ظلّ الصراع القائم بين الإسلاميين (الأخوان المسلمون والسلفيون وغيرهم) الذين فازوا بالأغلبية في البرلمان، وبين العلمانيين (اليساريون " العربيون والماركسيون" والديمقراطيون والليبراليون وغيرهم) حيث كان للطرفين أحلاماً سياسية "مؤتلفة"، بالتخلص من النظام السابق، وأخرى مختلفة في مشروعين فكريين متعارضين.
بعد نجاح ثورة 25 يناير، كان الفريق الأول "الإسلامي" يسعى لقيام دولة دينية محكومة بالشريعة، على الرغم من التطمينات التي حاول تقديمها للآخرين، مبرّراً ما تعرّض له من تحريم وتجريم لعقود من السنين تارة، وتارة أخرى لكونه أغلبية في مجلس الشعب، في حين كان الفريق الثاني "العلماني" أو "دعاة الدولة المدنية"، يأمل في ترسيخ كيانية الدولة وتعزيز طابعها المدني  من خلال حكم القانون والمساواة والتعددية وإقرار مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، وهو ما افتقده في ظل النظام الشمولي، لاسيّما في عهد الرئيس محمد حسني مبارك الذي دام 30 عاماً، كما افتقد إليه أيضاً الإسلاميون.
كلا التيارين اصطدما بصخرة الواقع، الأمر الذي أبقى صرح الدولة المنشودة "منزلة بين المنزلتين" وبحالة مصر فهي دولة عميقة بامتياز، فلا هي "دولة مدنية" كما أراد العلمانيون، ولا هي "دولة دينية" ، كما أرادها الأخوان والسلفيون، ولهذا يحتدم الجدل على نحو شديد في المرحلة الانتقالية، خصوصاً وقد حقّق الفريقان ومن موقعين متعارضين خطوات تنسجم مع اتجاه كل منهما، وفشلاً أو تراجعاً في خطوات أخرى في الوقت نفسه.
وإذا كان وجود جمعية تأسيسية اختارها مجلس الشعب المنتخب، مؤلفة من 100 عضو لصياغة الدستور أمراً حميداً، لكن إصرار الإسلاميين على التمتع بأغلبية أعضائها أضعف من جديتها ومن قدرتها على إحداث نوع من التوافق، بل صعّد من لهجة الشك والارتياب، وزاد الأمر إلتباساً وإشكالاً، اعتماد دستور العام 1971 كخلفية للدستور الجديد، وهو الأمر الذي تجاوزه الدستور العراقي على الرغم من أن أعداده كان في ظلّ الاحتلال، فضلاً عن الألغام الكثيرة التي احتواها، لكنه أطاح بدستور العام 1970 المؤقت الذي حكم العراق لغاية العام 2003، مثلما فعل المجلس التأسيسي التونسي، الذي نحّى دستور العام 1959 جانباً.
وهكذا دبّ الخلاف بين الاتجاهين، ففي حين رأت القوى غير الإسلامية في الجمعية التأسيسية، أن الأغلبية النيابية في مجلس الشعب مؤقتة، وينبغي اختيار جمعية تأسيسية متوازنة تمثل التيارات المصرية المتنوّعة، بغضّ النظر عن حجمها وعددها في البرلمان أو خارجه، أصرّت الجماعة الإسلامية على " أغلبيتها" فيها.
وعندما شعرت الجماعة شبه العلمانية، أن الدستور الذي يريده الأخوان والسلفيون سيمرّ على الرغم من البحث المضني لبضعة شهور، قرّرت الانسحاب لترك الإسلاميين يواجهون الموقف لوحدهم، وذلك بإعلان التنصّل عن دستور لا ترتضيه، حتى وإن ساهمت في إعداد مواده الأساسية.
ولعلّ الجماعة شبه العلمانية أو غير الدينية ظنّت أن الإسلاميين قد لا يكملوا المشوار، وإن واصلوا ذلك، فهم وحدهم من سيتحمّل مسؤولية دستور لم يحظ " بالشرعية الشعبية" أو "التوافقية" الديمقراطية القائمة على التعدّدية والتنوّع، لكن الإسلاميين صمموا على استكمال المهمّة بانجاز الدستور لوحدهم ومن معهم، وعرضوه على الاستفتاء في أواخر العام 2012.
صحيح أن نسبة التصويت (الإقبال) لم تصل إلى الثلث من عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت، وإن نسبة ما حصلوا عليه هو 63.8 من عدد المصوتين، لكن الدستور أصبح نافذاً بعد الاستفتاء.
لقد وقعت الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور عند تشكيلها في خطأ أول عندما وافقت على قبول دستور العام 1971 قاعدة للنقاش والانطلاق، بما فيه تكييف بعض مواده، وهو دستور كما هو معروف تمت صياغته مثل غيره من الدساتير المصرية هيئات غير منتخبة، ونشأ في ظروف ملتبسة، فمثلاً تم وضع دستور العام 1923 في ظل الاحتلال البريطاني لمصر.
أما الإعلان الدستوري ما بعد ثورة يوليو (تموز) العام 1952، فقد صدر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1952، وتلاه إعلان دستوري ثاني صدر في 10 شباط (فبراير) 1953 واستمرّ لغاية العام 1956، حيث صدر إعلان دستوري جديد في 16 كانون الثاني (يناير) 1956، استمرّ حتى إعلان الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة، حيث أعلن دستور الوحدة في آذار (مارس) 1958، ولعلّ هذه الإعلانات بما فيها دستور الوحدة نشأت في رحم الاستبداد وسياسة احتكار العمل السياسي، وصاغها فريق معيّن فوقياً وغير منتخب.
وكان خطأها الثاني هو الموافقة على الإعلان الدستوري الصادر في آذار (مارس) 2011 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك حين تمّ تحديد فترة زمنية (أمدها ستة أشهر) لصياغة الدستور، وهو أمرٌ في غاية الصعوبة في ظل التحدّيات التي تواجه مصر وتجاذباتها السياسية، وكان على الرئيس محمد مرسي إلغاءه، خصوصاً وأن المهلة تلك، تشبه المهلة التي حدّدها الرئيس بوش الابن لصياغة الدستور العراقي الدائم، والتي تركت تأثيراتها السلبية على صياغة الدستور ومبادئ التوافق، بل على مجمل العملية السياسية.
في العراق تم تحديد فترة مقاربة لإعداد الدستور الذي كان يفترض أن يكتمل في 15 آب (أغسطس)، على أن يتم الاستفتاء عليه (بعد شهرين) في 15 تشرين الأول (اكتوبر) وتجري الانتخابات النيابية على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) العام 2005،  لكن ذلك، لم يكن اختياراً، بل اضطراراً بفعل الجدول الذي وضعه الرئيس الأمريكي، وليس  قراراً عراقياً، الأمر الذي خلق تعقيدات لا حدود لها في العراق، وهو الأمر الذي حصل في مصر أيضاً، في حين اتجهت تونس اتجاهاً آخر.
وعندما توتّر الموقف في مصر وشعر المرشّحون لصياغة الدستور من غير الإسلاميين، أن غلبة ستحدث في نهاية المطاف خارج نطاق التوافق، لجأوا إلى الانسحاب من الجمعية التأسيسية لكي لا يبصموا على "شرعية" اعترضوا عليها، خصوصاً إذا بقيت الجمعية التأسيسية تمثّل لوناً واحداً، الأمر الذي سيضعف من شرعية المرحلة التوافقية، أو ما يطلق عليه " الديمقراطية التوافقية" .
وبغضّ النظر عن جميع النواقص والعيوب التي احتواها دستور مصر، فإنه ذهب إلى تحديد مدة انتخاب الرئيس بفترتين فقط، وهو النقاش الذي استغرقه نحو عقد من الزمان بخصوص المادة 76 من دستور العام 1971، كما تم منح صلاحيات للبرلمان، وعلى الرئيس التعاون الوثيق مع البرلمان أثناء تشكيل الحكومة، وعلى هذه الأخيرة تقديم برنامجها إلى البرلمان للموافقة عليه، وللبرلمان سلطة إقالة الحكومة بما فيها رئيس الوزراء بمجرد موافقة أغلبية بسيطة من أعضائه ، وكان ذلك بفعل الضغوط التي مارسها الأعضاء غير الإسلاميين قبل انسحابهم، وإن كان طموحهم أكبر بكثير من ذلك!
ووفّر الدستور آليات للأقلية البرلمانية، بما فيها حق الأعضاء الفردي تقديم طلب إحاطة بالمعلومات أو طلب أي بيان من الحكومة أو حتى استجواب رئيس الوزراء بشأن القضايا الطارئة، مثلما وضع قيوداً على سلطات الرئيس بإعلان حالة الطوارئ  وهي أمور لم يتضمنّها دستور العام 1971.
ومع ذلك فقد ظلّت صلاحيات الرئيس واسعة، منها الحق في تعيين عُشر أعضاء مجلس الشورى وتعيين رؤساء المؤسسات المستقلة   مثلما هناك اختلالات بشأن تعيين القضاة أو إقالتهم وتحديد مرتباتهم، وهي أمور تتعلق باستقلالية السلطة القضائية واستقلالية القضاة أنفسهم، كما وردت إشارة غير واضحة في ثلاث مواضع للمجلس القضائي الأعلى المشرف على أعمال القطاع القضائي، لكن تعريفه ظلّ عائماً.
كما استمرت مسألة الدين وعلاقته بالدستور والدولة موضوع نقاش وقلق، لا سيّما بخصوص وجهة الدولة ناهيكم عن استخداماته السياسية وتأويلاتها وتفسيراتها، وهو الأمر الذي زاد فيه دستور العام 2012 ثقلاً على دستور العام 1971 الذي نصّ على اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع".
وإذا كانت الدولة المصرية الحديثة منذ ولادتها في العشرينيات لم تكن دولة دينية، فإنها لم تكن دولة مدنية تماماً، وضمّت في السابق والحاضر، ومن خلال قديم وجديد الدساتير المصرية، هذه الصفة، ذات الطبيعة الهجينة أو المختلطة والأقرب إلى التوافقية، إن صحّ التعبير، وقد حدث نوع من التعشيق بين بعض الدساتير المصرية والعربية وأصولها الغربية، لاسيّما الفرنسية والبلجيكية، بمبادئ الشريعة الإسلامية، أو حتى ببعض أحكامها، وكان ذلك جزءًا من سعي فكري منهجي اختطّه الفقيه الكبير عبد الرزاق السنهوري، الذي كانت بصمته واضحة مباشرة أو غير مباشرة على العديد من الدساتير العربية في المشرق .
كما بقيت قضايا الزواج والطلاق وكل ما له علاقة بقانون الأحوال الشخصية على المستوى العربي خاضعة بصورة محددة للتعاليم الإسلامية، وأحياناً لبعض التفسيرات والتأويلات، شذّ عنها الدستور التونسي أواخر الخمسينيات والدستور اليمني الجنوبي في السبعينيات وقانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لعام 1959، في حين كانت غالبية الدساتير العربية بشكل عام تتم في إطار البيئة الإسلامية أو لقراءات خاصة فيها، مع مراعاة التطور التدريجي في هذا الميدان.
ومع أن موقع رجال الدين في مصر ظلّ بعيداً عن مناصب رسمية مباشرة، مثل المرشد الأعلى أو ولي الفقيه أو غير ذلك، الأمر الذي عزز من التوجّه الإسلامي على حساب القرب من الهوّية المدنية للدولة، وهو ما يجعلنا نقول أن مصر "بين منزلتين"، فلا هي دولة دينية ولا هي دولة مدنية بالكامل، وكان طموح ثوار 25 يناير أن يحظى الطابع المدني بمكانة أكبر بعد التغيير، ولهذا فإن مجرد فوز الأخوان المسلمين والسلفيين، تولّد شعور عام لدى الطرفين أن الدولة يمكن أن "تتأخون" ببطئ وهو ما يفكر به البعض سواءً من الأخوان أو خصومهم في الوقت نفسه، وإن كان هناك من يريد الإسراع بحسم الأمور، من خلال الهيمنة والإقصاء من جانب التيار الإسلامي والأصولي، في حين ذهب التيار المعارض لمنع حدوث ذلك مبكراً برفض قبول الدستور والانسحاب من الجمعية التأسيسية لصياغته.
يستدلّ على ذلك ما جرى الحديث عنه بخصوص التفسير والتأويل لنص المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية والتي تقول إن " مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع"، ومثل هذا النص اقتبس من دستور العام 1971، وقد كان الإبقاء عليها مساومة قبلها الطرفان، بهدف تهدئة الأمور، لكن الإسلاميين وضعوا إضافة على النسخة الأخيرة  من الدستور بعد انسحاب الأعضاء من غير التيار الإسلامي، لتحديد مبادئ الشريعة والمسؤول عن تفسير اللفظ، وذلك باعتبار قواعد الفقه والمصادر الموثوق بها والمقبولة في المذهب السني من ضمن جملة أمور أخرى. (وهذه كلّها موضع خلاف شديد)، ولعل مثل هذه النصوص يمكن أن تطبق على قضايا العقوبات وإقامة الحدود وغيرها.
وذهب الدستور لوجوب طلب رأي الأزهر، وحتى وإنْ لم يكن رأيه ملزماً، لكن الكثير من القضاة سيتحرّجون من مخالفة رأيه، وهو ما ذهب إليه قانون المحكمة الاتحادية المعروض للمناقشة في العراق، وبطبيعة الحال فإن إخضاع المحكمة الاتحادية باختصاصاتها المذكورة، لحكم الفقهاء سيعني وضع الدولة العراقية بكيانياتها وسلطاتها الثلاث تحت تصرّفهم ومن ورائهم الحركة الدينية.
وعلى الرغم من اضطرار التوجّه السائد في العراق لتخفيض سقف مطالبه باقتراح أربعة فقهاء بدلاً من ستة، حيث كان توزيعهم على النحو الآتي(4 شيعة تختارهم مرجعية النجف و2 سنّة يختارهم الوقف السنّي). لكنه تم الاحتفاظ بدورهم السامي " العِلوي"، حيث سيكون قرارهم نافذاً بأغلبية 3 فقهاء لإبطال وتعطيل قرار المحكمة الاتحادية.
وإذا افترضنا حسن النية، وأن الأمر ليس مُبيّتاً من لدن الأطراف السياسية الدينية، فلماذا الإصرار على وجود الفقهاء، في محكمة قضائية عليا؟ علماً بأن غالبية المنازعات التي تعرض على المحكمة الاتحادية العليا، تخصّ القانون العام ومبادئ القانون الدستوري، وهي غير معنيّة بالقانون المدني أو قانون الأحوال الشخصية، لكي تتذرع هذه القوى التمسّك بمقاعد الفقهاء الإسلاميين.
وفي العديد من البلدان هناك ما يطلق عليه القضاة الجالسون والقضاة الواقفون، الأولون هم من لهم الولاية الحصرية في إصدار الأحكام، أي أنهم مجازون وحصلوا على شهادات أكاديمية ولديهم تأهيل (خريجو معاهد قضائية أو تمرسوا في هذا المجال) ومارسوا القضاء وعُرفوا بحيادهم ونزاهتهم وغير ذلك، في حين أن مهمة القضاة الواقفين هي تعضيد وتعزيز الحكم القضائي بتقديم المشورة، ولا يحقّ لهؤلاء الاعتراض على الأحكام أو اتخاذ قرار بالفيتو أو ما شابه ذلك، لأن الولاية هي للقضاة الجالسين وليس لغيرهم.
إن المشكلة الأولى والأساسية في دستور مصر أو العراق هي التناقض، ففي حين  تضمنت بعض المبادئ الديمقراطية الخاصة بالمساواة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان،إلاّ أن كوابحاً تعترضها وتحول دون تفعيلها، وأعتقد أن جوهر المشكلة يكمن في إقامة نوع من  "التوازن غير المتوازن"، وسبق لنا أن أطلقنا على الدستور العراقي خلال مناقشتنا لحيثياته "الدستور غير الممكن دستورياً"، فمن جهة اعتبر الشريعة مصدراً أساسياً للتشريع وعدم سنّ أي قانون يخالف أحكامها(المادة الثانية). ولكن من جهة أخرى وفي المادة نفسها، أكدّ على عدم جواز سنّ قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وكذلك عدم جواز تعارض أي قانون مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور ( وهو تناقض صارخ، لاسيّما لو حصل الخلاف بينهما في التأويل أو التفسير)  .
وإذا كانت ثمة خشية لدى البعض على الإسلام حيث راح يتشبث بموقع متميّز للفقهاء يمنحهم بموجبه حق الفيتو أو الاستشارة الأقرب إلى الإلزام، فمثل هذه الخشية غير واردة، بل وغير واقعية، فالدولة شبه المدنية في مصر أو العراق، وبغضّ النظر عمّن حكمها طيلة نحو قرن من الزمان، لم تشرّع أي قانون يتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي يبدو أن التعكّز عليه، بمثابة شماعة بوجه أي قرار أو قانون لا يتوافق مع بعض المصالح الحزبية أو الدينية أو الطائفية الخاصة.
من حق المحكمة أن تستشير خبراء بصفة دائمة أو مؤقتة أو في حالات معينة، وعندها سيكون رأي الخبير ليس كرأي القاضي، وهذا الأخير هو صاحب القرار، وهكذا فإن رأي الخبير (في الفقه الإسلامي أو في القانون) سيكون غير ملزم .
إن استقلال القضاء وفصل السلطات وتداولية السلطة سلمياً هو المدماك الأساس الذي لا غنى عنه للدولة العصرية، ولا يمكن تحت أي حجة أو ذريعة إعطاء رجال دين سلطات فوق سلطات القضاء أو تعطيل سير عمله واختصاصه، لتكييفه مع رأي هذا الفقيه أو ذاك، مهما أوتي من علم ومقدرة ودراية وخبرة، سواء كانت باسم " تشخيص مصلحة النظام"  أو "ولاية الفقيه" أو "مجلس قيادة الثورة" أو " الرئيس" صاحب الصلاحيات شبه المطلقة كما كان سابقاً أو غيرها، فالأمر ليس سوى التغوّل على دور  القضاء واستقلاله، فالقضاء هو أحد أهم أعمدة الدولة القانونية وحصنها الأمين، وستكون محاولة مثل تلك التي تريد إعطاء حق الفيتو للفقهاء مجاراة لفرض توجه سياسي أو مذهبي على مفاصل الدولة الأساسية، أقرب إلى اغتصابها من أي شيء آخر.
واقتبس دستور مصر الجديد الكثير من النصوص من دستور العام 1971 مثل "الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية" دون الحديث عن مساواة، وقد تركزت الخلافات حول حقوق المرأة وحرية التعبير وبعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع أنه أعطى الحق بانتخابات للمجالس المحلية، لكن سلب هذا الحق باليد الأخرى حين أعطى الصلاحيات للحكومة المركزية " لمنع الأضرار بالصالح العام" ولم يتطرق الدستور إلى كيفية اختيار المحافظين أو تحديد سلطاتهم، تاركاً ذلك لوضع قوانين لاحقة. كما أبقى الدستور المصري شيئاً من عسكرة الدولة على المدنيين، فذهب إلى إعطاء الحق لمحاكم عسكرية لمحاكمة مدنيين لجرائم تضر بالقوات المسلحة، لحين وضع تشريع يعرّف ذلك .
الدستور المصري النافذ ليس هو ما يحلم به الإسلاميون، لقيام دولتهم الإسلامية بسبب أن ميزان القوى وإن مال لصالحهم، لكنهم لم يستطيعوا القضاء على مقاومة المعارضة التي ظلّت ممانعة ومتماسكة، كما أنه بالطبع ليس الدستور الذي حلم به الديمقراطيون والليبراليون واليساريون، خصوصاً وهو يحتوي على إختلالات كثيرة، وثغرات عميقة، والمطلوب البحث عن صيغة توافقية لدستور يعبّر عن الجميع وأن لا يمثلهم بالكامل!.
وتلك مهمة مضنية، لكنها ستكون صمام أمان لنزع صاعق التفجير!
إن استعادة الدستور و"الدستورانية" و" الدسترة" في الفقه العربي الحديث، إنما تستهدف الاشتراك في الحوار والنقاش الدائر حول المشكلات الجديّة التي تواجه صياغة دساتير جديدة على أساس المبادئ العصرية وتطور الدولة القانونية، والتخلص من تركة الاستبداد ومثل هذه الاستعادة ضرورية للحاضر والمستقبل.


Summary
Exploring Constitution, Constitutionalism and Constitutionality

By Dr.A Hussain Shaban


This research explores the topic of constitution through Modern Arab Thought and through the constitutional developments that the Arab world has witnessed since the beginning of the twentieth century and till this present day. The Arab Spring especially made an impact on the development of Arab constitution through democratic and political changes, which erupted after the outbreak of the Arab Spring. Furthermore, Eastern- European countries have also witnessed changes to their constitutions since the late 1980s, as well as various countries in Latin America, Asia and Africa.

The general principles of constitution have beentaken into account when examining the democratic transformation of the Arab world. This research also considers and recognizes the specific distinction of each country and its’ economic, social, cultural, religious and historical conditions. The United Nations with its accumulative experiencehas also contributed to development of world constitutions, which in turn could aid future countries where constitutional transformation did not occur.

 Moreover, this researchdiscusses some of the most important problems faced by the Arab world regarding its constitutional and democratic transformation. Especially through: the relationship of religion to the state; sources of legislation; the concept of Islamic law; various interpretations; the contrast of differing views; the concept of citizenship; the position on women's rights; cultural diversity; pluralism; the idea of a "civil state"; and the conflict between religious and secular trends.

This research also sheds light on some of the advocates of constitutional reform, such as: Abd al-Rahman al-Kawakibi, Rafa`ah al-Tahtawi, Medhat Pasha, andKhair al-Din al-Tunisi, Jamal al-Din al-Afghani and Muhammad Abdo Ali Abd al-Raziq. The readings of these advocates have led to questions which prompt the core basics of a constitution, such as: “What is a constitution?” and “How were constitutions written?” Additionally, this research willreview a number of new constitutions and compare them with some old constitutions, such as the Egyptian constitution and the Tunisian constitution. Extensive references to the Iraqi constitution and a number of other constitutions will also be examined.


Finally, this researchhas been conducted within the framework of the basic democratic and constitutional principles. These include some of the most important  principles, which are: the peaceful transfer of power; separation of powers; assertion of fundamental rights and freedoms - in line with international standards; the independence of the judiciary and the consideration of the people as the source of powers; the supremacy of a constitution and its supremacy over other laws; and the separation of democratic and non-democratic constitutions.


141
 

في الدستـــور والدستـــورانية و"الدسترة"

أ.م.د عبد الحسين شعبان*


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   أكاديمي ومفكر عراقي- دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية(معهد الدولة والقانون)- أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية- نائب رئيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي، بيروت، له ما يزيد على 60 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والثقافة والمجتمع المدني وحائز على وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - 2003).

مقدمة
أعاد ما سُمّي بـ: "الربيع العربي" والتطورات والتغييرات السياسية التي شملت العديد من البلدان العربية، موضوع الدستور و"الدستورانية" و"الدسترة" في الفكر العربي الحديث، إلى طاولة البحث على نحو مسؤول وجدي، لاسيّما وأنه يأتي بعد التطورات التي شهدها العالم في هذا الميدان، وخصوصاً منذ انتهاء نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة في أواخر الثمانينيات وتحوّل الصراع الآيديولوجي العالمي، إلى أشكال جديدة في ظل العولمة.
وقد شهدت دول أوروبا الشرقية بعد الإطاحة بالأنظمة الشمولية، إضافة إلى العديد من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وأفريقيا تحولات ديمقراطية وتغييرات دستورية، بما فيها صياغة دساتير جديدة وفقاً لمبادئ دستورية عامة تمثّل مشتركاً إنسانياً مع مراعاة خصوصية كل بلد وظروفه وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتاريخية، وقد ساهمت الأمم المتحدة وخبرات دولية متنوّعة في الوصول إلى توافقات جديدة في العديد من بلدان العالم، مكدّسة خبرة مهمة على هذا الصعيد.
وكان العالم العربي بعد التغييرات السياسية والإطاحة ببعض الأنظمة قياساً للبلدان التي حصلت فيها ثورات وانتفاضات، الأكثر احتداماً في ظلّ استقطابات واصطفافات حادة، لاسيّما بين التيارات السياسية والاجتماعية والدينية، وخصوصاً في موضوع علاقة الدين بالدولة، حتى أن البلدان التي أنجزت المرحلة الأولى من التغيير بالإطاحة بالأنظمة، انقسمت بين قوى تدعو على نحو مستتر أو معلن لدولة إسلامية، وأخرى تريد صياغة دساتير تتفادى التنصيص على الدين باعتباره المصدر الرئيس أو مصدر أساس للتشريع، أو حتى أحد مصادر التشريع، كي لا يتم توظيفه لغايات سياسية أو حزبية أو مصلحية ضيقة.
وهناك إثارات من نوع آخر تتعلق بنظرة كل فريق إلى مفهوم الشريعة، فهناك من يذهب إلى ضرورة النص على أحكام الشريعة، في حين هناك من يميل إلى وضع نص أكثر مرونة يتمثّل في " مبادئ الشريعة"، وهناك فريق ثالث لا يرى أية ضرورة لمثل هذه الإشارات، لأنها ستكون مصدر اختلاف في التفسير والتأويل وعنصر احتدام قد يدفع المسألة باتجاهات طائفية أو مذهبية أو إسلاموية ضيقة، ولهذا فهو يؤكد على مبادئ المواطنة ويدعو إلى استبعاد مثل تلك النصوص المثيرة للخلاف وربما للصراع؟
ويطرح أصحاب مثل هذا التوجه فكرة " الدولة المدنية" كقاعدة يمكن الاتفاق عليها بين التيارين الديني واللّاديني أو بين التيار الإسلامي بشكل عام والتيار العلماني، ويبرّر دعاة "الدولة المدنية" ذلك بقولهم: إن الدولة المدنية تقف على مسافة متساوية من جميع الفرقاء، وهي ليست ضد الدين، بل إنها على العكس من ذلك تسعى لحماية الأديان وحرية العبادة وممارسة الطقوس والشعائر.
وفي ظل هذه اللوحة المشوّشة وتنازع القوى على مواقع السلطة وما تريده كل مجموعة من تثبيت النصوص التي تمنحها دعماً في مواقفها السياسية، وتشكّل خلفية مرجعية لها كيف السبيل لإنجاز التوافق بين قوى التغيير؟ وكل طرف يريد أن يدفع بالاتجاه الذي يخدم توجهاته ومصالحه بحيث يضمن الحصول على مكاسب آنية ومستقبلية، فالعلمانيون أو شبه العلمانيين ونعني بذلك اللوحة الواسعة من اليساريين والديمقراطيين والليبراليين يريدون توجيه مسار صياغة الدستور باتجاه تقليص نفوذ الإسلاميين، أما الإسلاميون والسلفيون، وبغض النظر عن مذاهبهم فيريدون وضع الشريعة كمسطرة قياس لتحجيم دور القوى غير الإسلامية أو شبه العلمانية، واستخدام ذلك عند الضرورة كسيف مسلّط على الآخرين.
الصراع الراهن على ماذا؟
لعلّ أهم نقاط التباين والصراع إنما تقوم على قضايا ثلاث محورية: الأولى تتعلق بإمكانية الاستنباط والاجتهاد في قضايا لم يتمّ البت فيها في كتب الفقه الإسلامي سابقاً، وهل من حق البرلمان (السلطة التشريعية) البتّ فيها؟ أما الثانية فتتعلق بموضوع الاجتهاد، فهل يقتضي التمسك بالنص (النقل) أو بما يسمى مقاصد الشريعة، أي المبادئ والقيم الإسلامية العامة أو يمكن تجاوز ذلك وفقاً لمقتضيات العقل والتطور؟. وفي القضية الثالثة كان التحدّي يتعلّق بالنص التشريعي، فهل يفترض فيه الدخول في فقه العبادات والأخلاقيات أم الاكتفاء بالمجال العام وترك المجال الخاص؟
الإسلاميون يريدون النقاش في مثل هذه القضايا في ملعبهم ووفقاً لأجندتهم، ويتردّد غير الإسلاميين مما نطلق عليهم شبه العلمانيين أحياناً من الخوض في مثل هذه الأمور ذات الطبيعة الحساسة، خوفاً من اتهامهم بالخروج على تعاليم الدين أو التجاوز على الشريعة، أو حتى تكفيرهم، وهو ما يحصل في الكثير من الأحيان في ظل غوغائية دينية لا تقبل النقاش والحوار الاّ في إطار السقف الذي تحدده هي، وتعتبر كل خروج عليه إنما هو خروج على الدين، ولذلك من الخطأ أحياناً مناقشة العلمانيين للاسلاميين في ملعبهم، ولا بدّ من الحوار والسجال في ملعب الدولة وطبيعتها ووظائفها وحقل الحريات والحقوق ومبادئ المواطنة وحقوق الانسان، التي تشكّل مشتركاً كونياً للدولة العصرية، ولا يمكن رفضه، لأن ذلك سيعني رفض المعايير الدولية التي أخذت بلداننا على عاتقها التساوق معها، مع احتفاظها بخصوصيتها.
ولعلّ هذه الأمور تتعلّق بقضايا ذات جوانب مجتمعية وحقوقية وقسم منها بمبادئٍ المساواة والحرية والعدالة والمشاركة والموقف من التنوّع الثقافي لما يسمى "بالأقليات" وقضايا المرأة، خصوصاً تعدّد الزوجات وإقامة الحد والتعامل مع السرقة ونهب المال العام والخاص، وهل تحريم السرقة هو الأساس أم عقوبة السارق، إضافة إلى مسائل العبادات كالصلاة والصوم والاغتسال والحيض؟
وسواءً تم النصّ باعتبار الشريعة أم مبادئ الإسلام أم أحكامه مصدر من مصادر التشريع والقانون أو أحد مصادره أو لم يتم، فإن الأمر يعتبر تحصيل  حاصل لأن المشرّع مهما كان اجتهاده، فسوف يأخذ بنظر الاعتبار ثقافة المجتمع ودور الدين الإسلامي في حياته، ولهذا سيسعى لمراعاة ذلك وهو ما يحصل بوجود نص أو بعدم وجوده، لكن من يريد وضع نصوص لضمان تسيّده وتهديده للآخرين، إنما يريد استخدام الدين فزّاعة ضدّهم، ووضع مسطرة لقياس مدى تطابق هذا التشريع أو ذاك مع بعض المبادئ أو الأحكام أو الاجتهادات (حتى وإنْ انتهى زمنها).
وبهذا المعنى سيخضع الدين لاستغلال سياسي بحجة الدفاع عنه، علما بأنه لو جرى النص على الشريعة أو لم يجرِ، فذلك ليس ضماناً لوحدة الشعب وتطلعاته في الحرية والتقدم، وهناك دساتير بالكامل تدعو لتأكيد ذلك، بل تبالغ فيها أحياناً، لكن الواقع لا يؤيد ما تذهب إليه من إقامة العدل وإشاعة الحريات وإطلاق الطاقات، والعكس صحيح أيضاً، فعدد من الدساتير كانت مرنة إزاء مثل هذه التنصيصات، لكن نهجها العام راعى المبادئ الإسلامية في حياة مجتمعاتها  .
الدسترة والتحوّل الديمقراطي
الاختلافات في الفترات الانتقالية، خصوصاً التي يمرّ بها العالم العربي والتي قد تطول وتمتد لبضع سنوات أساسها سياسي حتى وإن استخدمت الدين أو اعترضت على النص عليه، وذلك بهدف الوثوب إلى السلطة والاستحواذ على موقع متيّمز فيها، سواءً عبر صناديق الاقتراع أو بواسطة حشود شعبية تذكّر بعصر المداخن أو غير ذلك من الوسائل، والأمر لا علاقة له بالحاضر فحسب، بل بالمستقبل والقوى السياسية المتصارعة تريد ضمان مستقبلها وموقعها من السلطة السياسية الطامحة بها .
صحيح أن موضوع الدستور و"الدستورانية" و"الدسترة" لم يُلغَ أو يُشطب من جدول العمل الموضوع في برامج الكثير من القوى والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، لكن التعاطي معه أصبح  اليوم مختلفاً عن السابق ومن موقع مختلف وهدف مختلف وفي ظرف مختلف أيضاً.
في الماضي انحصر الاهتمام بالدستور والدستورية لدى نخب فكرية وحقوقية وقانونية وسياسية عربية محدودة، لكن الموضوع أصبح اليوم مطروحاً على نحو شعبي، لدى أوساط واسعة، خصوصاً وقد حاولت بعض التيارات الدينية والسياسية زجّ الشارع وتحفيزه لينزل إلى حلبة الصراع، لاسيّما بعد أن جرى ردّ الاعتبار إلى السياسة التي ظلّت حكراً على مجموعات وفئات محددة، لدرجة أن غالبية الناس كانت تنأى بنفسها عن السياسة ومآلاتها، بل أنها في الواقع كانت غائبة وحقوقها مصادرة، وإذا بها اليوم تواجه هذا الخضم الهائل سعياً في استعادة موقعها أو في إيجاد مواقع جديدة لها بعد حرمان طويل.
ولعلّ دخول الإسلام السياسي المعترك وبعض ردود الفعل ضده جعلت الصراع أكثر احتداماً، مثلما جعلت من النصوص الدستورية المقترحة، مصدر صراع في الشارع، وما حصل في الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 خير دليل على ذلك.
وباستثناءات قليلة جداً، كان الدستور و"الدستورانية" و"الدسترة" موضوع نقاش وإن كان محدوداً، نحيل بذلك إلى بعض الأمثلة، كما حصل في مصر خلال العقد الماضي، خصوصاً نقاشات  المادة 76 من الدستور المصري (تستبدل كلمة "الانتخاب" بكلمة "الاستفتاء" أينما وردت في الدستور فيما يتعلق باختيار رئيس الجمهورية.) والاستقطاب الذي حصل بين القوى المعارضة بخصوصها، والمثال المهم على هذا الصعيد هو الدستور العراقي بعد الاحتلال العام 2003، ابتداءً من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي صدر في 8 آذار (مارس) العام 2004، ووصولاً إلى الدستور الدائم  الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) العام 2005 وأجريت الانتخابات العامة على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته وثلاث انتخابات لاحقاً في الأعوام 2010 و2014 و2018 ولا يزال محلّ نزاع ساخن ومعه قانون الانتخابات أيضاً، وما بعده في موضوع الفيدرالية والمادة 140 بشأن كركوك وما سمّي بالمناطق المتنازع عليها.
وكذلك النقاشات حول الدستور التونسي (العام 2014) وحول حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل وهو ما تبنّاه رئيس الجمهورية القائد الباجي السبسي 26 يوليو/تموز/2017، ونقاشات محدودة جداً حول الدستور في اليمن وليبيا، ولا يزال النقاش محتدماً بصدد الدستور السوري، سواء مع الأمم المتحدة أم مع القوى السياسية من الموالاة والمعارضة. وفي وقت سابق في المغرب في أواسط التسعينيات وما بعد الربيع العربي أيضاً، حيث تم إقرار تشريعات دستورية في تموز (يوليو) 2011، فإن الأمر يكاد يكون منسياً قبل موجة الربيع العربي!
عدا ذلك كانت الحال أقرب إلى السكون والغياب، وإذا بالأمر ينقلب رأساً على عقب ولاسيّما في العام 2011 في العديد من البلدان، فيشمل تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن وسوريا، الأمر الذي أصبح استدعاء التاريخ أمرٌ ضروري، لا فيما يتعلق بالماضي، بقدر ما يمكن مقاربة الحاضر باستشراف المستقبل، في قضايا عقدية لا تزال تفعل فعلها حتى أيامنا هذه، بل قد تكون ازدادت عمقاً.
ولعلّ هذا الاستدعاء لا يهدف التكرار والتقليد، بقدر النقد والقراءة الارتجاعية لتشخيص ما هو مفيد وما هو ضار، ولإنتاج معرفة جديدة من خلال التراكم، مع الاستفادة الثقافية الدستورية والحقوقية العامة والوعي القانوني والديمقراطي بشكل خاص من النواقص والثغرات والعيوب القديمة في النظام الدستوري، وبرؤية ومنهج جديدين ينسجمان مع قرن ونيّف من التطور الدستوري ليس على صعيد المنطقة فحسب، بل على صعيد الثقافة الدستورية والحقوقية العامة والوعي القانوني والديمقراطي بشكل خاص.
ويمكن الوقوف هنا على ثلاث مراحل أساسية للتطوّر الدستوري في العالم العربي، على الرغم من أن ما يهمّنا بحثه هو المرحلة الراهنة التي تمثل رؤية مستقبلية لا يزال النقاش حولها حاداً والجدل واسعاً، حيث سنخصص فقرة فيها مقاربة لمناقشة الدستور المصري ومقارنة بعض جوانبه بالدستور العراقي، مع أننا سنمرّ سريعاً على التطور الدستوري الذي شهده العالم العربي في مرحلتيه الأولى والثانية ومع وجود جوانب مشتركة للتطورات الدستورية، وخصوصاً زوايا نظر فقهية، الاّ أن لكل خصوصيته وتطوره الخاص، طبقاً لظروفه وتاريخه وأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية.


المرحلة الأولى
وهي التي شهدت ارهاصات لفكر التنوير والإصلاح والتحديث ما قبل الاستقلال ومنذ أوائل القرن العشرين، ويمكن الوقوف عند ارهاصات ومحاولات روّاد حركة التنوير حيث سنتناول أربعة منهم وهم: عبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومدحت باشا وخير الدين التونسي، ولعلّنا في هذه المرحلة الجديدة التي اتّسمت بتغييرات كبيرة في العالم العربي، بحاجة إلى دراسة آراء وأفكار عدد من فقهاء التنوير والإصلاح، لما له من علاقة مباشرة بالجدل المحتدم اليوم، دون نسيان فقهاء آخرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ حسين النائيني ورشيد رضا وعلي عبد الرازق وآخرين.
أولاً- عبد الرحمن الكواكبي وكتابه الجدير بالدراسة " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".  وعلى الرغم من مرور ما يزيد على قرن على صدوره الاّ أنه امتلك رؤية استشرافية ثاقبة في تحليل ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم العربي وتحليل مكوّناته وآثاره على نحو عميق وشامل، خصوصاً وقد تناول "قانونية" الاستبداد مقلوبة على نحو يعكس واقعنا الذي امتد ليشهد الثورات العربية.
عرّف الكواكبي الاستبداد وحدّد أسبابه وأعراضه وشخص الداء والدواء، لاسيّما بطرح أسئلة سسيولوجية حول خوف المستبد من جهة وجبن الرعية من جهة أخرى، وعلاقة ذلك بالدين والعلم والمال والأخلاق والتربية والعمران. وبعد أن يتناول أعوان المستبد يبدأ في تحديد سبل الخلاص من الاستبداد وبماذا ينبغي استبداله؟ 
يعتبر كتاب "طبائع الاستبداد" نصّاً فقهياً وفكرياً عميقاً في القانون الدستوري والنظم السياسية، ولعلّ الاستبداد هو السبب الرئيس التاريخي في انحطاط العرب والمسلمين، بل هو الأصل حيث يقول الكواكبي: لوكان الاستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب أو ينتسب لقال: أنا الشرّ وأبي الظلم، وأمي الإساءة وأخي القدر وأختي المسْكَنة وعمّي الضُرّ وخالي الدُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة ، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب...أما ديني وشرفي، فالمال المال، المال"   وأصل الداء حسب الكواكبي " هو الاستبداد السياسي" والاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً وحكماً التي تتصرف بشؤون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب ولا عقاب محققين".
وبخصوص مراتب الاستبداد فقد شدّد الكواكبي على: حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية ويصف المستبد بأنه " يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته" .
ويربط الكواكبي الاستبداد السياسي بالاستعباد الديني ويعتبر الأول متولّد من الثاني ويعتبر المستبد السياسي من يبحث عن غطاء ديني " قدسي"، لاسيّما العلاقة مع الله، مثلما يعتبر الاستبداد نقيض العلم وهما لا يجتمعان، وأن المستبد يخاف من العلم الذي هو سلطان أقوى من كل سلطان ويفرّق بين المجد الذي لا يسعى إليه كل الانسان وعلى نحو سوي وبين التمجّد الذي يسعى إليه الحاكم لتمجيد سلطته وطغيانه ويعتبر دولة الاستبداد " دولة بُلهٍ وأوغادٍ" ويتنبّه الكواكبي لسقوط الاستبداد ويرى أن مقاومته باللين (اللّاعنف) والتدرّج وليس بالشدّة (العنف) وعلى الأمة تهيئة مرحلة ما بعد الاستبداد.
ويرجع الكواكبي أسباب التأخر إلى الفساد في السياسة والدين والأخلاق، ففي الأولى فقدان الحرية وربط الحرية بالاستبداد وهذا الأخير أصل كل فساد ودعا إلى إقامة أنظمة دستورية برلمانية في المجتمعات الإسلامية على قاعدة الانتخاب الحر والفصل بين السلطات.

ثانياً- رفاعة الطهطاوي
وبخصوص رفاعة الطهطاوي فيعتبر محمد عمارة أن رفاعة الطهطاوي هو أجمل عالِم في تاريخ الشرق، وهو أعلم أهل مصر وقتها والجالس على رأس مثقفيها   وقد عكف عمارة لسنوات على دراسة ترجماته ومؤلفاته وإنجازاته، فهو عنده أب المصريين حسب الشاعر أحمد شوقي، وهو ابن الصعيد والمتحصّن بحبها والمتصدّر لنهضتها.
يقول محمد عمارة " اليونان أخذوا عن المصريين القدماء، والعرب أخذوا عن اليونان والفرس والهنود، وأوروبا بكل أجناسها وأقوامها أخذت عن العرب، إذن من المفيد، بل من الضروري أن ندخل نحن الميدان من جديد، بعد أن تخدّرنا بالخرافة قروناً ولا بدّ أن نأخذ عن أوروبا ونصل هذا الزاد الحضاري بالمشرق من صفحات حضاراتنا القديمة .
حسب الطهطاوي إن طلب العلم فريضة وفقاً للإسلام، وعمل لتصل الثقافة والحداثة إلى مصر، لتعمر مطابعها بفضل ما كتبه وترجمه هو وتلاميذه وتتقدم جيوشها بفضل عمل بها ونقلها للعلوم العسكرية .
وقد نشر كتابه "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" الذي وصف فيه الثورة الفرنسية والتمرد على الطغاة وذلك بعد موت إبراهيم بن محمد علي وتولّي الخديوي عباس الأمر، حيث عرض الدستور الفرنسي، وتعتبر تلك واحدة من مساهمات التطور الدستوري الحديث الذي سعى الطهطاوي لنشره، فنعاه وانتقم من آثاره.
وقد تبنّى مشروعاً لإحياء الفكر العربي الإسلامي على نفقة الخديوي سعيد خلفاً لعباس وطبع عدّة كتب مهمة (نحو ألفي كتب).
يعتبر الطهطاوي ثائراً في ميدان القانون والاجتماع، إضافة إلى العلم والتعليم، لاسيّما دعوته لتعليم المرأة في مصر والشرق أجمع، وهو المجدّد في الفكر التطبيقي. وقد تأثّر بكتاب "روح الشرائع" لمونتسكيو و"العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو. وقد ترجم الطهطاوي الدساتير الفرنسية والعثمانية، وحاول ضبط ذلك بالمصطلحات المستخدمة، ولا سيّما فيما يتعلّق بالفقه الإسلامي  .
ثالثا- مدحت باشا
يعتبر مدحت باشا بحق " أبو الدستور العثماني" كما أسماه محمد كامل الخطيب "وخالع السلاطين" وذلك في كتاب صدر عن وزارة الثقافة السورية وحمل الإسمين، وقد بدأ الكاتب قدري قلعجي كتابه بما يأتي: إن حب الإصلاح قد اختلط بدمه فكان كالمرض المزمن لا يبرأ منه" وهي عبارة منسوبة إلى مدحت باشا.
وكان بسمارك قد قال عن مدحت باشا " لا شكّ في أن مدحت باشا هو من عظماء هذا العصر، وعندي أن مسائل الشرق باتت في هذه المرّة على أبواب الحل، لأن مدحت باشا هو الشخص الوحيد الذي يعرف ماذا يُراد من هذه المسائل ويعمل دون أن ينحرف أقل انحراف عن جادة القصد الحقيقي منها"  .
وقال عنه أحمد أمين: كان مدحت باشا من هؤلاء الذين في خلقهم حمية، وفي طبائعهم تحدّ للشر وثبات على الجهاد وجلد على تحمّل الألم، ووصفه جرجي زيدان بأنه شديد الرغبة في الإصلاح ويكره الاستبداد ولا يبالي بما لا يلاقيه في سبيل مقاومته.
لعلّ مدحت باشا كان قد اعتبر أساس ضعف الدولة، ومن ثم فسادها، إنما يكمنان في الفساد وما ينجم عنه من آفات، ولذلك دعا إلى حكم الدستور والمساواة بين المواطنين ومكافحة الفساد وإقامة الديمقراطية، ولم يتوان من الدعوة إلى خلع السلطان عبد العزيز الذي قال عنه أنه يكره حكم الشورى مثلما يكره الموت.
دعا مدحت باشا إلى الحرية والعدل وإلى دولة عصرية كما رآها متجسدة في أوروبا القرن التاسع عشر، وقد حاول تنظيم مجلس شورى على غرار المجلس الاستشاري الفرنسي وهو مؤلف من قسم إداري وحقوقي وجزائي وإن ذلك ارتسم في فكرة عندما ما كان والياً على بلغاريا كما يقول  .
وفي 12 من كانون الأول (ديسمبر) 1876 أعلن النظام الدستوري الجديد وهو أحد أيام الاستانة المشهورة، حيث تم إقرار مبدأ سيادة الأمة وحقها في حكم نفسها بواسطة ممثليها الذي يتم انتخابهم (محدداً صلاحيات مجلس المبعوثان) وهو يحد من الحكم المطلق الفردي .
لكن السلطان عبد الحميد انتقم منه وقتل في ابريل (نيسان) 1883، بل وحفر قبره في الطائف وقطع رأسه عن جسده، لكن الطاغية الذي حكم ما يزيد عن ثلاثة عقود أُرغم في العام 1908 على إعادة الدستور حيث بدأت القوميات المضطهدة التي عانت من نير الاستبداد العثماني المطالبة بالتحرر، وانتهى الأمر بسقوط الامبراطورية التركية في الحرب العالمية الأولى وانحلالها وقيام تركيا الحديثة في العام 1923.
رابعاً- خير الدين التونسي
هو صاحب كتاب " أقوام المسالك في معرفة الممالك" الذي صدر في العام 1868، وقد تضمن رؤية إصلاحية للتطور السياسي والقانوني لتونس والمغرب العربي  .
درس في فرنسا لمدّة أربع سنوات 1853-1857 واشتغل في الوظائف الحكومية، فقد برع فيها وأصبح الوزير الأكبر (رئيس الوزراء) العام 1873 واختلف مع الباي فاعتزل العمل العام 1877، ثم سافر إلى اسطنبول وأسندت إليه رئاسة لجنة مراجعة الوضع المالي للدولة العثمانية وعيّنه السلطان عبد الحميد بمنصب "الصدر الأعظم" . كان عضواً في مجلس الأعيان، وكان أن دعا إلى إقامة حكم الشوروى على أساس العدل والمساواة ورفع مظاهر الظلم والتعسّف. من أهم مرتكزات فكره الإصلاحي دعوته إلى التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية والأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا للنهوض بالمجتمع.
المرحلة الثانية:
وهي التي أعقبت تحقيق الاستقلال في العديد من البلدان العربية، ومنذ أواسط الخمسينيات ولاسيّما بعد ثورة 23 يوليو (تموز)1952 التي فتحت باب الانقلابات العسكرية في المنطقة، وإنْ كانت بعض الانقلابات السياسية العسكرية في العراق وسوريا قد سبقتها، لكنها كانت نقطة تحوّل في حركة التحرر بمضمونها الوطني والاجتماعي وبتوجهها الدستوري، والذي ترافق مع قيام " إسرائيل" وتعزيز المؤسسة العسكرية العربية لمواجهة تحدياتها وتعطيل أو تأجيل مشاريع الإصلاح والديمقراطية والتنمية، والتي قابلها صعود نهج الاستبداد والاستئثار والدساتير المؤقتة والقوانين الاستثنائية والأحكام العرفية، وفي الكثير من الحالات تبرير استبدال الشرعية الدستورية بما أطلق عليه الشرعية الثورية.
وإذا أردنا دراسة هذه المرحلة التي امتدّت لستة عقود ونيّف من الزمان، فلا بدّ من إدراجها ضمن ظروف الصراع الآيديولوجي العالمي وتفاقم الحرب الباردة بين والشرق والغرب، خصوصاً وأن أنظمة ما أطلقنا عليه " التحرّر الوطني" التي رفعت شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، اتجهت إلى تقليد الانظمة الاشتراكية الشمولية، مقوّضة الحريات المدنية والسياسية والحقوق الديمقراطية والفردية بزعم الانصراف إلى قضايا التعليم والصحة وتوفير فرص عمل وغيرها من مفردات العدالة الاجتماعية إضافة إلى الزعم بمواجهة العدو الصهيوني، التي تم وضعها في تعارض مع الديمقراطية السياسية والحقوق والحريات العامة والخاصة، وهو الأمر الذي سلكته ما سمّي بالدول الثورية جميعها مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن والسودان وغيرها ولكنها جميعها وصلت الى طريق مسدود.
   وكانت موجة التغيير قد بدأت بالغالبية من هذه  البلدان التي عاشت على شعارات القومية والثورية طيلة الفترة الماضية، حتى وإن تبدّل شكل الحكم، واحتفاظ كل بلد بخصوصيته، لكن ثمة مشتركات جمعت بينها.
   المرحلة الثالثة
   وهي فترة ما بعد الربيع العربي والصراع الدائر اجتماعياً وفكرياً وسياسياً وثقافياً حول قضايا ذات طابع راهن ومستقبلي تتعلق بالنظر إلى الدستور ومفهومه وعلاقته بالدولة وأية دولة نقصدها، لاسيّما في ظل الجدل حول علاقة الدين بالدولة فضلاً عن فكرة الديمقراطية والفرق بين المشروعية والشرعية، وبين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، وعلاقة ذلك بحقوق الإنسان وحكم القانون واستقلال القضاء، وتداولية السلطة سلمياً ومبدأ المشاركة والمساواة والحريات العامة والخاصة.
ولعلّ بحث هذه المفردات ورؤى ومواقف الأطراف السياسية والدينية منها يختلف بين بلد عربي وآخر، وإن كان هناك مشتركات، لكن الأمر يتطلب أولاً وقبل كل شيء عرض تصوّر ماذا نعني بالدستور وعلى ماذا الاختلاف؟ ثم كيف يكتب الدستور في إطلالة على ما هو حاصل فعلياً.
ما هو الدستور؟
يعتبر مصطلح الدستور جديداً في اللغة العربية، وكذلك بالنسبة لفرع القانون الدستوري أيضاً، في معاهد وكليات الحقوق والقانون والسياسة. وقبل ذلك كان الاستخدام الأكثر تداولاً هو القانون الأساسي مثلما كان اسم دستور العام 1923 المصري ودستور العام 1925 العراقي وهكذا، كما كان استخدم اسم القانون النظامي أو نظام السلطات العامة، وبالطبع ما إن استخدم مصطلح الدستور حتى تبعه استخدام مصطلح الدستورية والقانون الدستوري .
وكلمة " دستور" معرّبة من أصل كلمة فارسية هي بضم الدال (دُستور) وهي مركّبة من "دست" و "ور"، الأول تعني " يد" والثانية " صاحب"، وهكذا يستند المعنى إلى قاعدة يتم الرجوع إليها كدفتر لأسماء الجند وقوانين الدولة.
   يقول العالم اللغوي العراقي الكبير مصطفى جواد في " المعجم المستدرك" إن الدستور (بضم الدال) ... تعني " الوزير الكبير"، الذي يُرجع إليه في الأصول وأصله "الدفتر" الذي يجمع قوانين الملك وضوابطه، وهو ما يدفع الدكتور منذر الشاوي وتأسيساً على تفسير " الألفاظ الدخيلة" لطوبيا العنيسي للقول أن الدستور يعني : مجموعة القواعد أو السنن أو القوانين التي تتعلق بتنظيم ممارسة السلطة في الدولة"
أما مصطلح القانون الدستوري فهو الآخر حديث في العالم العربي، على الرغم من استخداماته القديمة في الغرب، حيث تقرر تدريس مادة القانون الدستوري في العام 1834 في كلية الحقوق بباريس، وتعزّز بقيام امبراطورية لويس بونابرت العام 1852 واستقر في الجمهورية الثالثة العام 1875 
ولذلك فهناك علاقة عضوية بين الدستور الذي يعتبر " أبو القوانين" والمقياس الذي تقاس به دستورية  القوانين، باعتباره يمثل القاعدة العليا في الدولة، أي إن لقواعده طبيعة علوية وسمّواً على بقية القوانين، وبين الدولة، فالدستور هو الذي يحدّد طبيعة الدولة ونظامها السياسي وعلاقة الحكام بالمحكومين والفرد والمجتمع بالسلطة.
وفي الغالب الأعم تكون قواعد الدستور مكتوبة، وهذه القواعد تعلو على الحكام والأفراد معاً، لأنها ذات طبيعة علوية على القوانين والحكام أيضاً. ولا يمكن الحديث عن الدستور دون وجود دولة تنظم وترعى شؤون الفرد والمجتمع وسلطاته واختصاصاته التنفيذية والتشريعية والقضائية، تلك التي ينظمها الدستور.


142
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة السابعة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي


عزيز محمد والصقور
لم يكن الأمين العام عزيز محمد يرغب في وصول الأمور إلى  ما وصلت إليه، وتلك قناعتي منذ تلك الفترة وتعزّزت لاحقاً، ولكنه كان مسؤولاً عن كل ما حصل، لاسيّما عندما ترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها لبعض المغامرين الذين لم يتورّعوا باستخدام مختلف الأساليب لتحقيق غاياتهم، ولا أظنّ أن عزيز محمد كان يشجّع على "المقاطعة الاجتماعية الذميمة" التي تولاّها البعض وبرّرها في حينها لكل مختلف في الرأي، بل كان هو من يبادر أحياناً باللّقاء أو يرسل تحية أو سلاماً بما يطمئن إن تعذّر عليه ذلك.
وقد ظلّ عزيز محمد حتى أيامه الأخيرة يتواصل مع بعض الرفاق الذين جرى تنحيتهم ويشيد بأدوارهم ومنهم باقر ابراهيم وقد قال أمامي وأظنّه قال أمام آخرين وهو ما أكّده الرفيق آشتي لي شخصياً : أنه لا يمكن أن يتصور الحزب بدون باقر ابراهيم، في حين أن بضعة رفاق بسبب أجواء الضغينة والكراهية وتجريم الاختلاف كانوا قد جمعوا تواقيع لمذكرة قدّموها للسلطات السويدية، تقول إن "الرفيق أبو خولة" يعمل لصالح المخابرات العراقية، وهي ليست سوى وشاية رخيصة.
 وعلى مدى 6 ساعات كانت السلطات الأمنية السويدية التي وصلها مثل هذا البلاغ الكاذب واللّاأخلاقي تحقق مع باقر ابراهيم لتكتشف زيف مثل تلك الادعاءات ولتتّخذ موقفاً إيجابياً من الرفيق الذي عبّر عن وجهات نظره بشجاعة إزاء مجمل التطورات الحاصلة في الحزب، لاسيّما إزاء الحصار الجائر وإزاء المشاريع الحربية والمخططات المشبوهة بحق العراق والمنطقة، فضلاً عن موقفه من الدكتاتورية، دون أن يعني ذلك إعفاء الرفيق من مسؤولياته وأخطائه عندما كان في المكتب السياسي، فضلاً عن عدم اتخاذه أي مبادرة لتصحيح الأوضاع أو للاحتجاج العلني إلّا بعد طرده في العام 1989.
ولعلّ مثل تلك الوشايات المبتذلة يُعاد تدويرها بين الحين والآخر، وهي عملية هروب من مواجهة الواقع. وبكل الأحوال فإن مثل هذا الأمر ليس سوى تعبير عن الانحطاط الأخلاقي، فما قيمة السياسة حين تنفصل عن الأخلاق؟ وما قيمة نبل الغايات وشرفها، حين تكون الوسائل منحطّة وخسيسة ؟ فهناك دائماً علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، فلا غاية شريفة وعادلة يمكن الوصول إليها بوسائل غير شريفة أو غير عادلة، فالوسيلة جزء من الغاية مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، وإذا كانت الوسيلة منظورة وملموسة، فالغاية بعيدة المدى، ولا يمكن إدراكها إلّا بوسائل إنسانية أولاً وقبل كل شيء.
وحين أذكر تلك الحادثة فإنني أقدم نقداً للسياسة السائدة التي تقوم على "شيطنة" الآخر و"أبلسة" الاختلاف، مثلما أقدّم نقداً للثقافة المهيمنة التي تعتبر الآخر "عدواً" حتى وإنْ كان من رفاق الأمس، بل إن بعض هؤلاء الذين يغالون في القدح، كانوا أنفسهم يغالون في المدح، وينسبون إلى هذا الرفيق أو ذاك، ما ليس لديه من صفات إيجابية أو سلبية، وأتذكّر أن عامر عبدالله قال لي: إن هؤلاء الذين يغالون في انتقادي ويبالغون في الإساءة لي ، كانوا أيام الجبهة وعندما كنت في المسؤولية يصطفون بالدور لطلب مقابلتي أو لتقديم الولاء لي.
لقد كان من نتائج تلك السياسة المغامرة التي اتبعت في الثمانينات تفتيت قوى الحزب، حيث ساد التذمّر في المراتب المختلفة، ولولا غزو الكويت ومغامرة صدام حسين العام 1990 وقبلها قصف مناطق الأنصار بغاز الخردل والسلاح الكيمياوي، لكانت الأمور قد ازدادت قسوة وصعوبة وتفتّتاً، خصوصاً وقد ترافق ذلك مع انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفيتي، وحتى مع بعض الكلمات الطيبة والنوايا الحسنة التي كان يطلقها عزيز محمد، فإن ذلك لا يعفيه من المسؤولية، ولا يمكن تبرير قوله أنه يتحمّل المسؤولية، وهنا أقول: إذا لم يتحملها الأمين العام فمن يتحمّلها؟ وبالطبع من بعده "الإدارات المسؤولة" التي ظلّت ترتكب الأخطاء تلو الأخرى .
وكنت أتساءل مع نفسي: كيف سيتصرّف عزيز محمد بعد انحلال الجبهة الوطنية وهزيمة سياسة التحالف؟ هل سيتحلى بالجرأة ويقدم استقالته وربما معه الطاقم القيادي الأول أم أنه ومعه الفريق القيادي سيمارسون الهروب إلى الأمام؟ لقد جرّبوا وفشلوا وكان عليهم التنحي، وذلك أضعف الإيمان، وكان الاستمرار يعني مكابرة وتشبثاً بالمواقع رغم المآسي والويلات والأخطاء.
وعلى الرغم من أن ثقافة الاستقالة تكاد تكون غائبة في الأحزاب الشيوعية بشكل خاص والشمولية عموماً، كما لم ترتفع أصوات لمطالبته بالتنحي ومساءلته والطاقم القيادي عن فشل السياسات السابقة والتفريط بالكادر وبجمهرة الأعضاء والأصدقاء في لحظة انسحاب مرتبكة ، فإنه آثر استمرار الوضع كما هو عليه، بل زادت سطوة الإدارات الحزبية على ما تبقى من رفاق في الخارج، مثلما توزّعت الامتيازات عليها وأصبحت أداة بيدها لتطويع الرفاق من جهة وإقصاء المخالفين من جهة ثانية، وذهب بعضهم " كبش فداء" كما يُقال لحساسيات حزبية ومنافسات غير مشروعة وضغائن وأحقاد قديمة، ولم يتصرّف عزيز محمد من موقعه كأمين عام بأنه معني بسلامة الحياة الداخلية وتنقية الأجواء وإشاعة روح المحبة والألفة والتآزر بين الرفاق حتى بعد "مذبحة بشتاشان" ، خصوصاً في أوضاع الغربة القاسية وشدّ أزر الحزب، بل كان أقرب إلى المتفرّج والمشاهد منه إلى صاحب القرار والمسؤول، وتلك من المؤاخذات الكبيرة عليه.
كان على عزيز محمد أن يقدّم مبادرة إيجابية لجمع شمل الحزب وألاّ يستجيب للصقور والمفرّطين والعدوانيين، وأن يجمع شتات وشمل الحزب المنفي، المعذّب، المُستلب، لا أن يقبل طرد عشرات من أصدقائه وزملائه من القياديين والكوادر، وإنْ لم ينجح كان عليه أن يستقيل ويعلن ذلك ليبرئ نفسه، وعلى أقل تقدير كان يمكن أن يحدث الافتراق ودّياً وليس بالطرق الإكراهية والقمعية التي تم استخدامها وبأساليب لا أخلاقية، خصوصاً فيما يتعلّق بحياة الرفاق وأمنهم وعوائلهم.
لم أصدق نفسي حين سمعت ما قاله عزيز محمد عشية المؤتمر الرابع من أننا نجتمع "ليلغي نصفنا النصف الآخر"، وهكذا تم إقصاء نصف أعضاء اللجنة المركزية وعدد من الكوادر والملاكات الحزبية. وهنا تذكرتُ قوله عشية التوقيع على ميثاق الجبهة الوطنية العام 1973 في ذلك المساء التموزي من أن طموحنا نحن الشيوعيين لا تحدّه حدود والذي تبلور في شعارات مفخّمة تحت عنوان : يداً بيد لبناء الاشتراكية، وكان شعار المؤتمر الثالث 1976 "من أجل توطيد وتعميق المسيرة الثورية وتوجه العراق نحو الاشتراكية".
وحسب بهاء الدين نوري الأمين العام الأسبق للحزب والذي كان معارضاً لتوقيع الجبهة فإن رسالة قيادة حزب البعث تليت في المؤتمر وسط حماس أعضاء المكتب السياسي وبعض أعضاء اللجنة المركزية، وصفق لها طويلاً في وقت كانت الأجهزة القمعية منهمكة منذ أيام في نصب أجهزة التنصّت حول مبنى المقرّ (حيث المؤتمر) لتسجيل ما يجري من إلقاء الكلمات والمناقشات؛ أما بخصوص الخط السياسي الذي يتلخّص في إقامة تحالف استراتيجي مصيري مع البعث الحاكم للسير في طريق التطور اللارأسمالي صوب الاشتراكية فقد رسم واتّبع منذ العام 1972 - 1973 ... مخالفة لمقررات المؤتمر الثاني للحزب 1970، ويضيف بهاء الدين نوري إن النخبة البيروقراطية كانت تضع نفسها دوماً فوق المؤتمر وفوق اللجنة المركزية وكانت تريد من الاجتماعات والمؤتمرات إقراراً لما ترغب هي فيه، وكانت تحضّر لهذه المؤتمرات بشكل يضمن لها نيل ما أرادت (مذكرات بهاء الدين نوري، دار الحكمة، لندن ، 2001، ص 453 -454).
لا أظن أن أحداً يعوّض مكانة حسين سلطان ودوره التاريخي أو مكانة زكي خيري وحضوره أو ثقل عامر عبدالله الفكري ودوره المتميّز أو موقع نوري عبد الرزاق على الصعيدين العربي والعالمي أو الدكتورة نزيهة الدليمي على صعيد الحركة النسوية العالمية أو موقع باقر ابراهيم على صعيد التنظيم والإدارة، وهناك أكثر من 80 كادراً حزبياً أقصيوا أو أبعدوا عشية وبُعيد المؤتمر الرابع للحزب 1985.
وتم التعامل مع الوسط الثقافي بقسوة كذلك، حتى أن 75 مثقفاً احتجوا على السياسة الثقافية في مذكرة نشرتها الصحف الفلسطينية في حينها وكذلك صحيفة المنبر الشيوعي بتاريخ حزيران (يونيو) 1987 وكان 50 مثقفاً وطنياً عراقياً في جمهورية اليمن الديمقراطية قد وجهوا مذكرة شجبوا فيها حادث الاعتداء الذي تعرّض له الفنان والمخرج المسرحي اسماعيل خليل ، وأشارت المذكرة إلى حوادث اعتداء مماثلة كان قد تعرّض لها المسرحي فاروق صبري والصحفي فاضل الربيعي (دمشق) والشاعر والصحفي نبيل ياسين (بودابست) ، وأرسلت نسخة من المذكرة إلى دائرة العلاقات الخارجية في ل.م.  (الحزب الاشتراكي اليمني) ودائرة العلاقات الآيديولوجية ووزارة الثقافة والإعلام ووزارة التربية والتعليم وسفارات البلدان الاشتراكية واتحاد الفنانين والصحفيين وغيرها.
وقد اعتذر أحد إداريي الحزب لبعض من جرت الإساءة إليهم أو بما مارسه ضد البعض، سواء بما كتبه ونشره عن الأساليب غير الرفاقية التي تم استخدامها ووصلت إلى  التهديد والاتهام والمحاربة بالأرزاق والدراسة والإقامة وغيرها، لكن بعضهم الآخر رغم الفشل يستمر في المكابرة، ويكيل الاتهامات إلى من رفعوا صوت الاحتجاج .
يتبع

143
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة السادسة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي

قرار عقد الجبهة الوطنية
كان قرار عقد الجبهة أممياً أكثر منه عراقياً، وكانت نصائح القادة السوفييت تُضخ لنا من خلال الجهاز الحزبي، وكلّها مشجعة ومحبّذة على عقد التحالف على الرغم من الهجوم ضد الحزب واعتقال المئات من أعضائه العام 1970. وإذا كان عقد الجبهة الوطنية تحصيل حاصل، لاسيّما بعد إضعاف الحزب، فإن التعاطي مع حزب البعث بعدها كان موضع نقد الشيوعيين وجمهورهم دون أن يسمع أحد اعتراضاتهم، فقد كان بعض "القياديين" قد وضعوا كلّ بيضهم في سلّة "الحليف" وأخذوا يتغنّون به، ويقمعون أي رأي يخالف ذلك، لدرجة أن محاضر الاجتماعات الحزبية كان فيها فقرة " لا يوجد رأي مخالف"، وقد أصبحت تلك من صلب الإنجازات الحزبية، التي يتباهى بها البعض.
وبعد الانقلاب على الجبهة من جانب حزب البعث وإعدام 30 عسكرياً بحجة أن لديهم تنظيماً شيوعياً في الجيش، انسحب الحزب بشكل غير منظم، وترك مئات، بل آلاف الشيوعيين بلا غطاء إذا جاز لي التعبير، ولعلّ عبارة "دبّر حالك" كانت أقرب إلى  السيف الذي اقترب من رقبة الكثير من الشيوعيين، يوم سادت مسألة التعهد بموجب المادة 200 السيئة الصيت.
إذا كان الحزب قد قرّر الانسحاب، فكان لا بدّ من خطّة طويلة الأمد وتكتيكات وتراجعات لكي يتم حماية ظهر الحزب المنكشف والذي سلّم كل أوراقه أو غالبيتها الساحقة إلى  السلطة، لاسيّما عندما تعهّد بعدم العمل في القوات المسلحة وحلّ تنظيماته الجماهيرية في الطلبة والمرأة والشبيبة، وقَبِلَ بدور ثانوي وتابع لحزب البعث مراهناً على السلطة مُسقطاً أي خيارات أخرى، بل أن "القيادة" كانت ترفض حتى مناقشة الأمر أو الاستماع إلى  أية وجهة نظر خارج ذلك، الأمر الذي جعلها تهرب إلى  الأمام.
وأعتقد أن عزيز محمد بصفته الأمين العام للحزب و"إدارته" هي الأخرى كانت مسؤولة عمّا حدث دون تقليل من مسؤولية حزب البعث وأجهزته الأمنية التي هي المسؤولة الأساسية عن الانتهاكات والارتكابات ودفع البلاد إلى عجلة الانفراد والتسلط والدكتاتورية السوداء والمغامرات الرعناء لاحقاً، لكن واجب "إدارة الحزب" وأمينها العام كان يقتضي البحث بمسؤولية عن حدوث مثل تلك الاحتمالات وبالتالي توقّع مثل تلك النتائج.
وإذا كانت غالبية "إدارة الحزب" قد غادرت العراق من مطار بغداد، فإن العشرات، بل المئات من الكوادر راحوا ضحية الملاحقة وطحنت عظام البعض منهم دون رحمة، وحتى لم يجدوا قبوراً لهم بينهم د.صفاء الحافظ ود.صباح الدرّة وعايدة ياسين التي كانت في الخارج ورجعت بقرار لإعادة " بناء التنظيم" وألقي القبض عليها وغُيبت مع آخرين.
كيف تصرّفت "القيادة" في الخارج؟
وفي الخارج تصرّفت "القيادة" على نحو عشوائي وردود فعل ومزقتها الصراعات، ولاسيّما محاولة الاستحواذ على المناصب والامتيازات، فانخرطت سريعاً في جبهة وطنية جديدة، حتى قبل أن تجف "دماء" الجبهة السابقة، تلك التي أبرمت في سوريا باسم، "جوقد" (1980) التي رضي بها الحزب لكنها لم ترضَ به (رضينا بالبين والبين ما رضه بينا)، فتم تجميد الحزب فيها، وذلك بسبب انضمام الحزب إلى  جبهة جديدة هي جود التي تم تشكيلها في كردستان بعد أسبوعين من الجبهة الأولى، ثم انضم الحزب إلى  جبهة التسعة عشر حزباً في طرابلس (1983) التي أعلنت على عجل بدعوة من الزعيم معمّر القذافي ووقع الحزب على بيان مع جهة مجهولة لم تعلن عن نفسها ولم يرغب الحزب في الإفصاح عنها، ولكن دور هذه الجهة جاء بعد غزو الكويت العام 1990 وبواسطتها تم اختراق جهاز دولي عريق للحزب فيما يتعلق بحادثة ثابت حبيب العاني، أحد أشجع الشيوعيين العراقيين وأنبلهم وأكثرهم إخلاصاً، وقد كتب مهدي الحافظ حينها مقالة في "صحيفة المنبر" يجلي فيها صورة ما حدث، ويحمّل الجهات المتنفذة في إدارة الحزب مسؤولية الحفاظ على حياته، التي كانت مهدّدة.
وأصبح الحديث عن الجبهة الوطنية بقدر ما هو مأساة، فقد كان ملهاة أيضاً، ونوع من الكوميديا السوداء أو السخرية الحزينة، وكأنها هي الهدف وليست الوسيلة. وأتذكّر أن أبو كَاطع (الروائي والإعلامي شمران الياسري) كان يطلق عليها إسم "الجبحة" أي "الكبوة" أو "الانكفاءة"، وباستثناء جبهة الاتحاد الوطني العام 1957، فلم تكن الجبهات التي دخلها الحزب واستمات أحياناً من أجل عقدها بما فيها الجبهة الكردستانية العام 1988، سوى تحميله المزيد من الأعباء، واضطرّ في غالب الأحيان إلى خسارة استقلاليته أو فقدانه جوانب منها ، خصوصاً تحالفاته ما بعد الاحتلال.
ومثلما كان بإمكان الحزب عدم إبرام جبهة العام 1973 والبقاء في موقع الناقد والمعارض للحكم، حتى وإن كان بأساليب غير عنفية ومن موقع الحرص والمسؤولية، فقد كان بإمكانه أيضاً وبحرية أكثر عدم الانخراط في جبهات ورقية أو هوائية أو طارئة ومؤقتة، كما اندفع الحزب في تحالفات سريعة كان ضحيتها مجزرة بشتاشان التي ارتكبتها قوات الاتحاد الوطني الكردستاني "أوك" ضد الحزب الشيوعي وراح ضحيتها أكثر من 60 شيوعياً في العام 1983 وكان سبب اندفاع "أوك" إلى  ذلك هو مقايضة التحالف مع المعارضة بالتحالف مع بغداد حينها،  حيث استمرت المفاوضات حتى أواسط العام 1984، ولكنها لم تثمر عن نتيجة بسبب تعنّت الحكم، فعاد وفد الاتحاد الوطني الكردستاني، وتدريجياً انتقل للتحالف مع طهران بدلاً من بغداد.
ومع أنني من الذين يميلون إلى التسامح، لاسيّما إذا كان فيه مصلحة الوطن ومصلحة إعادة العلاقات الودية بين الأحزاب والقوى السياسية وذلك كأفق سياسي، لكن الضحايا لم يتم تعويضهم، ولعلّ من حقهم أو ذويهم المطالبة بتعويض مادي ومعنوي، كما أن من حقهم ملاحقة المرتكبين قانوناً، والأمر يحتاج إلى جبر الضرر، بما فيه اعتذار رسمي من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني يقدّم للحزب الشيوعي العراقي ولعوائل الشهداء، فضلاً عن إحياء ذكراهم، وهكذا دائماً يتم نسيان الارتكابات حين وقوعها أو بعدها بقليل، وفي الوقت نفسه يجري استذكارها بعد حين، عندما يصبح الأمر بعيداً، أو حينما تسوء العلاقة مع الطرف المرتكب مجددًا.
خضوع وتطرّف
لقد تمّ السكوت عن جرائم 8 شباط (فبراير) 1963 خلال سنوات الجبهة (1973-1979) لكننا اندفعنا بعد ذلك نستذكر كل شيء وبتفاصيله لاحقاً بمناسبة وغير مناسبة أحياناً، وسكتنا ولا زلنا نتوخّى الصمت أو ننشد النسيان عن جرائم اغتيال 12 شيوعياً من جانب عيسى سوار(حدك) أو جرائم قتل 60 شيوعياً من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) في بشتاشان الأولى، وسمعنا من يتغنى بأسماء بعض من كان مسؤولاً عنها، طالما هم في موقع المسؤولية، وسترى كيف تكال التهم بعد تبدّل الحال؟
إن دعوتي هنا لا تستهدف إثارة الكراهية أو الثأر أو الانتقام، بقدر ما هي نقد الماضي وأساليبه ونقد السياسة، ودعوة جادّة إلى عقد اجتماعي سياسي جديد بين القوى السياسية لا يجيز استخدام السلاح ويمنع اللجوء إلى العنف لحلّ الخلافات، تلك التي ينبغي أن تعتمد على الطرق السلمية ووفقاً للقوانين والأنظمة المرعية، فضلاً عن الاعتبارات الأخلاقية.
النسيان ليس حلاًّ، والمقصود بالتسامح أن تبقى تلكم الإرتكابات في دائرة الضوء، بهدف عدم تكرارها، ولعلّ ذلك عبارة عن "مصل مضاد" لكي لا تنتقل عدواها ويعاد تدويرها ، بل لا بدّ من تهيئة المستلزمات لوضع حد لها، بما فيها إصلاح النظام القانوني وتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً وجبر الضرر وغير ذلك.
لقد اندفعت "إدارة الحزب" وجرّاء نهج التراجع السابق، ولاسيّما غير المنظم بالاتجاه المعاكس، فرفعت أشدّ الشعارات تطرّفاً، مضحّية بالعشرات، بل والمئات من كوادر وطاقات وكفاءات في معارك لم تكن مبرّرة في معظمها، خصوصاً وقد دارت بين الأنصار أنفسهم من القوى المختلفة.
ثقافة الشروال والجمداني
لعلّ هوى "الجملة الثورية" استولى على عقول البعض فتصرّفوا على نحو غير مسؤول بتجنيد الحزب كلّه في محاولة لعسكرته وسادت ثقافة الشروال والجمداني والجبل محلّ الثقافة الشيوعية الحداثية المدنية الراقية، وهكذا اضطرّ المئات إلى  الالتحاق بقوات الأنصار دون قناعة لدى الكثيرين منهم، ولكن خوفاً من سوط العقوبات والاتهامات بالجبن وحفاظاً على عضويتهم أحياناً، حيث كان التهديد الأساسي يبدأ منها، لتبدأ معاناة لا حدود لها في موضوع العمل أو السكن أو الإقامة أو الدراسة أو العلاج أو التزكية السياسية، وهكذا، وهناك أمثلة لا حصر لها.
أقول ذلك لأنني أعرف العشرات، بل المئات من الحالات التي كان يمكن الاستفادة منها في ظروف مناسبة كشخصيات وكفاءات لتكون ذخيرة للحزب في المجالات المختلفة، الأمر الذي شجّع على روح التملّق والخضوع والسكوت عن الحق، مقابل التهميش والإقصاء وصولاً للفصل، خصوصاً للعديد من أصحاب الرأي.
 وكان النقاش قد احتدم بشأن موقف الحزب من الحرب العراقية- الإيرانية، وهو الموقف الذي لقي نقداً شديداً من كوادر قيادية كثيرة، فضلاً عن قاعدة الحزب، وكذلك حول أساليب الكفاح وحول التحالفات، ولاسيّما ضياع هويّة الحزب ولونه الخاص، حيث سيطرت بعض الاعتبارات القومية الكردية الضيقة على إدارات الحزب وملاكاته، أشير إلى هذه الظاهرة التي تكرّست بفعل وجود الجسم الأساسي للحزب في كردستان وتشتّت مراكزه القيادية، علماً بأن الجميع يعرف موقفي الثابت من مبدأ حق تقرير المصير وحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة، والأمر له علاقة أيضاً بالعلاقات الداخلية بين الشيوعيين التي ساءت إلى  أبعد الحدود، فضلاً عن اعتزازي برفاقي الأنصار وبطولاتهم وتضحياتهم التي سبق لي أن كتبت عنها ، لكنني أقارب المسألة من زاويتها السياسية، بمعيار الخسائر الفادحة التي منينا بها، ليس لأعداد الشهداء فحسب، بل حالة الفوضى التي عمّت الحزب والأساليب البيروقراطية والإكراهية التي استخدمت في معالجة مثل هذه القضايا.
يتبع

144
حين يراد إخضاع الفلسفة للسياسة
الليبرالية و"الليبرالية الجديدة": إعادة قراءة


عبد الحسين شعبان

   استدار الكثير من الماركسيين والقوميين والإسلاميين نحو الليبرالية، بل تسابقوا في الهرولة باتجاهاتها، باعتبارها خشبة خلاص أو طوق نجاة بعد انهيار التجربة الاشتراكية الكونية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية والعديد مما أطلقنا عليه بلدان " التحرر الوطني"، بل إن الكثير منهم اندفع في "طلاق بائن" بينه وبين الماضي، سواء كان الأمر على نحو معلن لدرجة المبالغة والمغالاة أم على نحو مستتر وغير معلن بالتساوق مع مشاريع خارجية بزعم أهمية ودور " العامل الدولي" في قضية "التغيير والتحوّل الديمقراطي"، ولعلّ أوساطاً عديدة حين تتساوق مع الليبرالية الجديدة  ومشاريعها السياسية تبرّر ذلك بمفاهيم قديمة حول الليبرالية الكلاسيكية، في حين ثمة اختلافات وفروق شديدة بينهما.
I
   إذا كانت الدعوة إلى الحريات وإعلاء قيمة الإنسان التي مثلتها الليبرالية الكلاسيكية قد استهوت نخبة وطنية في بلداننا، فإن أطروحات الليبرالية الجديدة، وشعاراتها بدت متعارضة مع شعوب وتطلعات بلدان المنطقة الهادفة إلى التحرر من ربقة الاستبداد الخارجي ومن صدمة الاستعمار التي ما تزال تأثيراتها مستمرة، فضلاً عن الرغبة في تحقيق التنمية البشرية المستدامة بجميع الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والقانونية ، وبما يؤمن لها السير في طريق التقدم والرفاه؛
   وعلى الرغم من أن الليبرالية الجديدة لم تخفِ وجهها المتوحش منذ البداية، إلّا أنها كانت أكثر سفوراً وهمجية بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك والتي من نتائجها احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، وكان من تعبيرات الليبرالية الجديدة إزاء منطقتنا طائفة من المشاريع الاستعمارية مثل "الشرق الأوسط الكبير" و"الشرق الأوسط الجديد"، فضلاً عن دعم "إسرائيل" في استراتيجيتها التوسعية الاستيطانية الإجلائية، بما فيها اعتبار القدس عاصمة "أبدية" لها، وإهدائها الجولان السورية تحت عنوان "الأمر الواقع"، بل وتأييدها في محاولة ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، في إطار ما يسمى بصفقة القرن؛
   ومع ذلك فهناك من الشيوعيين والقوميين القدامى الذين ملأوا الأرض صراخاً ضد  "الامبريالية العالمية" و"الرأسمالية الاستغلالية" البشعة، إلّا أنهم اليوم يحوّلون رحيلهم نحوها باعتبارها "منقذاً" لا يمكن التخلّص من هيمنة "الإسلاميين"، على الحكم دون دعمها. أما الإسلاميون فقد تناسوا الحديث عن "الشيطان الأكبر"، وأصبحت واشنطن حليفاً وصديقاً استراتيجياً طالما أوصلتهم إلى منصّات الحكم ولذلك، استحقت الشكر على  "تضحية" جنودها الذين اختلطت دماؤهم بدماء العراقيين (خلال غزوها) وهو ما ورد على لسان أرفع مسؤول عراقي حينها (نوري المالكي) خلال زيارته إلى مقبرة إرلينغتون في واشنطن (مدفن جنود الاحتلال الأمريكي في العراق ووضعه إكليلاً من الزهور على أرواحهم (14 كانون الأول/ديسمبر/2011 عشية الانسحاب من العراق، وهو ما دعا الرئيس أوباما للقول أننا ننسحب ونحن مرفوعو الرأس) وهو أمر يحتوي على دلالات قانونية قد تلزم الحكومة العراقية في المستقبل بدفع تعويضات عن مقتل أو إعاقة هؤلاء الجنود.
   وكان عدد من النواب الأمريكان قد أطلقوا حملة طالبوا فيها دفع تعويضات لعوائل الجنود الأمريكان، في حين صدرت أصوات وطنية عراقية مطالبة بتعويض واشنطن لبغداد بسبب الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالعراق جرّاء الاحتلال بما يخالف قواعد القانون الدولي وما يسمّى بالشرعية الدولية، ناهيك عن المزاعم التي روّجت لها واشنطن بصدد أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالإرهاب الدولي وثبت عدم صحتها، حتى أن الرئيس جورج دبليو بوش الذي شن الحرب على العراق وبحماسة من رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، اضطرّ إلى الاعتراف بذلك وهو ما فعله توني بلير لاحقاً.
  فما الفرق بين الليبرالية والليبرالية الجديدة فلسفياً وأخلاقياً واقتصادياً وسياسة وثقافة؟
II
ارتفعت الموجة الليبرالية الجديدة بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وتحلّل النظام الاشتراكي العالمي وحدوث تغييرات في نظام العلاقات الدولية، بتسيّد وهيمنة  الولايات المتحدة كلاعب أساس في العلاقات الدولية ، واحتدم النقاش والجدل حول سؤال مركزي ارتبط مع الهبّة المطالبة بالحريات في منطقتنا، والتي سعت الولايات المتحدة إلى تخصيص مبالغ وإقامة مؤسسات لدعمها والتربية عليها، وذلك تحت عنوان  الليبرالية والتحوّل الديمقراطي، هل هناك علاقة بين الليبرالية الكلاسيكية وبين الليبرالية الجديدة أم ثمة تعاكس وتعارض بينهما؟
لقد نشأت الليبرالية في أوروبا وفي عصر التنوير وصولاً للثورة الصناعية (1750-1850) في صراع مع النظام الإقطاعي ومع هيمنة الكنيسة، وتمكّنت بعد انتصار البرجوازية ونجاح ثوراتها من إقامة الدولة - الأمة State- Nation  استناداً إلى قاعدة الحريات الفردية على المستوى الفلسفي، باعتبارها جزءًا من القانون الطبيعي والحرّيات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي، وفقاً للقاعدة الشهيرة التي روّجت لها " الثورة الفرنسية" 1789 " دعه يعمل ... دعه يمر" ، أي حرّية العمل والإنتاج والسوق، والحرّيات السياسية المدنية على المستوى السياسي مثل: حرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق تشكيل الجمعيات والمشاركة في الحياة العامة والحق في تولي الوظائف العليا دون تمييز .
وقد نجحت الليبرالية في إقامة نظام برلماني يستند إلى المبادئ الديمقراطية وتشجيع الإبداع العلمي والثقافي والفني والأدبي، في مواجهة سطوة الفكر الخرافي والشعوذات التي امتازت بها القرون الوسطى، والتأكيد على العقلانية والعلم وأولية حرية الفرد  .
باختصار بالليبرالية من حيث الجوهر تعتبر الحرّية والفردانية الباعث والهدف من حياة الإنسان لتحقيق سعادته ورفاهه في حاضره ومستقبله وفي تفجير طاقاته ومواهبه، وتلك نقطة جوهرية في جميع المدارس الليبرالية، فضلاً عن ذلك فهي تقوم على منظومة أخلاقية أساسها الانحياز للفرد وحرّيته بجميع أركانها في مواجهة الدولة  .
 ومن أبرز المفكرين الليبرالين جون ستيوارت ميل  الذي يعتقد لكي ينمو رصيد الحرية عند الأفراد فلا بد أن تتوقّف الدولة عند حدود معينة لا تتجاوزها، لأن ذلك سيؤدي إلى الاستبداد ويقول ميل إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد.
أما جون لوك   فيعتبر من أوائل الفلاسفة الليبراليين حيث دعا إلى "العقد الاجتماعي" بالضد من نظرية " الحق الإلهي" التي تدعو إليها الكنيسة ،  وتحدّث عن حقوق الفرد الطبيعية في الحياة والحرّية والتملك، وقد ألهمت أفكاره ثورة الحركة الجارتية في إنجلترا 1688 والثورة الأمريكية 1776، وقد سبقه إلى ذلك هوبز  وبيكون    حيث تعمّق الأخير بالمذهب الحسّي واعتبر زعيمه وهو أحد روّاد الليبرالية الأوائل.
أما آدم سميث   فيعتبر المنظّر الأساسي للمذهب الاقتصادي الفردي بدعوته إلى عدم تقييد المال وإشاعة الحرّية المطلقة في مواجهة الدولة ، ويعدّ بحق "أبو الليبرالية " الذي ساهم في بلورة أفكارها التي تقضي بإزالة العوائق وإطلاق حرّية المنافسة من كل قيد وإبعاد الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي وحفظ مسؤوليتها في حماية الأمن الداخلي والخارجي؛ وحين يسعى الفرد لتحقيق طموحه الشخصي ومصلحته فإنه يحقق بصورة ضمنية مصلحة المجتمع وهو ما أسماه آدم سميث اليد الخفية Invisible Hand  .
لقد تواكب صعود الرأسمالية مع ظهور الحداثة وتطوّرا معاً فالعلاقات الإنتاجية كانت تعني مبدئين رئيسين هما : 1- الحق في الملكية الخاصة باعتباره حقاً "مقدساً" ، 2- حرية الوصول إلى السوق ، لكن هذه الحداثة تظلّ ملتبسة بشأن العلاقة بين السلطة والثروة فهي في الواقع تقوم على الفصل في مجالين ، كما يقول المفكر اليساري سمير أمين : الأول- الحياة الاجتماعية وهو مجال إدارة الاقتصاد المتعلق بتراكم رأس المال والثاني- مجال إدارة سلطة الدولة بالممارسة الديمقراطية عن طريق المؤسسات وحقوق المواطن والتعددية الحزبية وهذا الفصل يفرّغ الإمكانية التحريرية التي تدعيها الحداثة   .
III
الليبرالية الجديدة لا يمكنها اليوم كونياً تجاهل المطالب الشعبية مثل الحد من البطالة وتأمين مستلزمات الصحة والتعليم وقضايا التقاعد والضمان الاجتماعي، كل تلك التي تتطلّب تدخل الدولة أحياناً، وهو ما واجهته الولايات المتحدة بشكل خاص والبلدان الرأسمالية الغربية بشكل عام  في الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت العالم في أواخر العام 2008 وبداية العام 2009 وما زالت تأثيراتها مستمرة، تلك التي فرضت شكلاً من أشكال "تدخل الدولة" إزاء انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة بالضد من الليبرالية الكلاسيكية الأولى التي كانت تريد المزيد من الحرّيات بوجه تغوّل الدولة، في حين تصبح بعض هذه القضايا ملحّة وراهنة، بل لا غنى عنها ، على الرغم من أن الجدل قائم بشأنها فحين أصدر الرئيس أوباما قانون التأمين الصحي Obama Care جاء الرئيس دونالد ترامب ليقوم بإلغائه، والأمر له علاقة بتخصيصات التعليم والضمان الاجتماعي وغيرها.
ويزداد تدخّل الدولة بقضايا العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، وقد برز الأمر على نحو أشد في الصراع الأمريكي - الصيني الذي زاده حدّة تفشي وباء كورونا (كوفيد -19) في مطلع العام الجاري، والذي انعكس تأثيره الكبير على الحياة الاقتصادية والإنتاجية وقطاعات العمل المختلفة، والذي قاد إلى تعميق أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي  بتوجهاته الشعبوية ذات النزعة العنصرية الاستقلالية المعادية للأجانب بشكل عام وللعرب والمسلمين بشكل خاص.
لم يكن بناء النظام الليبرالي قد تم دفعة واحدة، بل احتاج الأمر إلى عدّة عقود أو حقب زمنية كاملة ، ورغم التقدّم الذي أحرزته الفكرة الليبرالية إلّا أن مع مطلع القرن العشرين واجهت مأزقاً جديداً باشتداد ساعد الحركات الثورية والشيوعية بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية البلشفية عام 1917، حيث انشطر النظام الدولي إلى قسمين بما ترك تأثيراته على مستقبله ، خصوصاً الإستقطابات الحادة ، الأيديولوجية والسياسية.
ثمة وجه آخر للصورة فبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وهزيمة الفاشية والنازية اللتان نشأتا في رحم النظام الليبرالي وشكلتا قطيعة معه، تأسست أنظمة عديدة للتحرر الوطني في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وخصوصاً في ستينيات القرن الماضي، لم تكن على توافق مع الفكرة الليبرالية.

IV
يمكن القول إن الرأسمالية دخلت مرحلة جديدة في الخمسينات والستينات كان أهم ملامحها "الحد من الليبرالية المطلقة" وتحديد الدور الذي تلعبه الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي استناداً إلى نظرية الاقتصادي الشهير كينز   حول النقود ، الذي تنبأ باستحالة تجنّب الرأسمالية كنظام من الوقوع في الأزمات الاقتصادية على غرار أزمة الكساد 1929-1933 ، إلّا إذا لعبت الدولة دور الموازن الموضوعي بين قوى الطلب والعرض ، وهو ما عرف "بدولة الرفاه" ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينات، حين اندلعت أزمة جديدة .
لكن النظام الرأسمالي ومن خلال آليات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمكن من مواجهة أزماته من خلال محورين :
 الأول - داخلي بإتباع سياسة ليبرالية جديدة تراهن على إضعاف دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتسعى إلى تغيير أشكال علاقاتها بالقطاع الخاص بما يعني التراجع عن النظرية الكينزية ،
الثاني - يسعى إلى ضخ الأموال الفائضة على البلدان النامية بضمانات كافية بالتخفيف من حدة التضخم الركودي وإعادة احتواء البلدان النامية والسيطرة على أوضاعها الاقتصادية . وهكذا وبعد انتهاء الحرب الباردة جرت عودة إلى "الليبرالية" بمنهج ورؤية جديدين ووجه مختلف تم التعبير عنه بسياسة المحافظين اليمينيين في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الغربية تلك التي عرفت  بالشعبوية  .
وبعد مرور أكثر من قرنين من الزمان ترافق الحديث عن الليبرالية الجديدة بصعود رونالد ريغن في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا في عقد الثمانينات بتعميق الفوارق الطبقية وازدياد نسبة الفقر؛ وعشية انهيار الكتلة الاشتراكية طرح فرانسيس فوكوياما نظريته التي بلورها لاحقاً بعنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير"   الذي ركّز على ظفر الليبرالية " الجديدة" على جميع الصعد باعتبارها النظام الأوحد القادر على دخول عالم ما بعد التاريخ ، وعلى من يريد أن يدخل التاريخ فعليه التخلي عن أيديولوجيته وعقيدته ويفككها ليتسنى له اعتناق الليبرالية التي تقوم على التعددية وحرية السوق واحترام حقوق الإنسان ، وقد اعتبر فوكوياما إن ما حصل من عمل إجرامي يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 جاء ليؤكد ما ذهب إليه سابقاً من أن الليبرالية هي الخيار الإنساني الوحيد والشكل البشري الأخير من أشكال إدارة المجتمع مؤكداً إننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو مرحلة من مراحل التاريخ ، بل "نهاية للتاريخ"   ويعتبر ذلك حتمية تاريخية .
أما صموئيل هنتنغتون فقد  ركّز على " صراع الحضارات" واعتبره أمراً محتوماً باستهداف الإسلام بقيمه وتراثه كونه العدو الجاهز الذي يقف بوجه انتصار الليبرالية على المستويين السياسي والاقتصادي ، ليس هذا فحسب بل اعتبر البوذية والكونفوشيوسية في مواجهة أيضاً مع الحضارة المسيحية الغربية، لأن الفروقات من وجهة نظره ليست حقيقية، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والدين ، مشيراً أن تاريخ الإسلام خلال 14 قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها خصوصاً المسيحية   .

V
لقد عرفنا أشكالاً من الإرهاصات الأولية الليبرالية الكلاسيكية في العديد من بلداننا العربية مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان ، وخصوصاً في الثلاثينات من القرن الماضي وحتى نهاية الخمسينات ، وقد اقترنت تلك الأشكال بالدعوة لإعلاء قيم  الحرية والحقوق السياسية والمدنية وبالتطور المستقل، لكن الموجة الجديدة من الليبرالية في التسعينات والتي اقترنت بسيادة نمط واحد متسيّد على العلاقات الدولية اختلفت عن دعوات الرواد في عالمنا العربي فقد كان هؤلاء مخلصون للقيم الليبرالية الحقيقية في حين أن دعاة الليبرالية الجديدة لا علاقة لهم بالقيم الليبرالية، بل إن ليبراليتهم لا تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الوطنية العليا فكيف تكون ليبرالياً حقيقياً وتوافق على احتلال بلدك أو على ربطه بمعاهدات واتفاقيات مذلة ومجحفة وغير متكافئة، فقد كان الليبراليون الكلاسيكيون العرب دعاة تحرر ورفض للاستتباع وحسبنا هنا في العراق أن نستذكر مواقف كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد وغيرهم، لكن جزع أو يأس أو عدم قدرة على التغيير اضطرت دعاة الليبرالية الجديدة الاستعانة بقوى خارجية على أوطانهم تحت تبريرات سياسية في جوهرها خارج دائرة الأطروحات الفلسفية والأخلاقية لليبرالية الكلاسيكية.
وإذا كان حال بلداننا يحتاج إلى تغيير جذري يأخذ بنظر الاعتبار القيم الليبرالية الكلاسيكية تلك التي تعلي من شأن الفرد والحرّية السياسية والمدنية واحترام حقوق الإنسان، إضافة إلى الحرّية الاقتصادية دون أن ننسى دور الدولة كضامن في العالم الثالث لتسريع التطور والتغيير ، وتلك واحدة من خصائص التغيير الذي تنشده شعوب هذه المنطقة ، وهو ما ذهب إليه قرار للأمم المتحدة لعام 2000   الذي نصّ على أن قضية الديمقراطية على المستوى العالمي هي ذات طبيعة استراتيجية وتستند إلى ثلاثة أسس :
الأول - لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية ؛
والثاني - التنوّع والطبيعة الغنية للشعوب وتجاربها؛
والثالث - المشترك الإنساني في التجربة البشرية بمعنى أنها نتاج تفاعل التجربة الإنسانية بحضاراتها المختلفة والمتنوّعة.
وأكّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمية 2015 أن "الديمقراطية قيمة عالمية تستند إلى إرادة الشعوب المعبّر عنها بحرية في تحديد نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإلى مشاركتها الكاملة في جميع نواحي حياتها" .
وكان زعماء العالم قد أعلنوا في إعلان الألفية الثالثة بألّا يدّخروا وسعاً لتعزيز الديمقراطية وتوطيد سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وهو ما أكّدته في العام 2015 بتحويل عالمنا للتنمية المستدامة (جدول أعمال 2030).
وأستطيع القول أن الجيل الليبرالي العربي الأول يتمثل بـ: أمين الريحاني وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى ويعقوب صروف وقاسم أمين وعبد الفتاح ابراهيم وكامل الجاردجي وحسين جميل ومحمد حديد وهاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وفرح انطوان وشبلي شميل ، ويمكن اعتبار محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفعت الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وآخرين جزء من التيار الليبرالي العام وهؤلاء  لا يربطون رابط مع تيار النيوليبرالية، خصوصاً وأن هؤلاء جميعاً أو غالبيتهم الساحقة كانوا دعاة تحرر من ربقة الاستعمار والاستبداد ودعاة حرية  .
إن إخضاع الفلسفة للسياسة وهو منهج  الليبراليين الجدد  أفقد الفلسفة الليبرالية أي بعد فلسفي لدرجة لم يعد مفهوم الليبرالية الذي يدعون له على علاقة بالليبرالية الكلاسيكية ، والأمر سيّان سواء الليبرالية الجديدة الأمريكية والغربية اليمينية ، الشعبوية العنصرية، أم دعاة الليبرالية الجديدة في مجتمعاتنا حتى وإن تغلّفت بمهمة الوقوف ضد الاستبداد، فمثل هذه المهمة النبيلة لا ينبغي أن تتساوق مع الاستتباع وقبول الطغيان الخارجي بزعم التخلص من الاستبداد الداخلي، فأية ليبرالية رثة تلك التي تقبل بذلك؟  وللأسف لا يميّز البعض بين القواعد الديمقراطية والبعد الفلسفي لليبرالية  من جهة وبين الليبرالية الجديدة ذات الوجه العنصري الاستعلائي، والتي اتخذت منحى شعبوياً في الغرب لا علاقة له بالاتجاه الليبرالي الكلاسيكي،  ويزداد الأمر غرابة حين يتخذ الاصطفاف الطائفي والمذهبي والإثني  في بلداننا من العباءة الليبرالية وسيلة لمشروعه السياسي، الذي لا علاقة له بالمنظومة الفلسفية الليبرالية.
ولعلّ النقد الأساسي  الذي يواجهه الليبراليون الجدد، ولاسيّما في بلداننا  هو عدم الربط بين الحرّية وضرورة التحرر ، وبين الممارسة الديمقراطية والتنمية للارتقاء بحاجات المجتمع وخصوصاً من الفقراء والمعدمين  ، فضلاً عن ذلك إن استمرار الولاءات العشائرية والقبلية والطائفية والدينية، أي ما قبل الدولة وما دونها، تقف حائلاً أمام الفكرة الليبرالية بمعناها الكلاسيكي، بسبب غياب ثقافة مدنية وحقوقية تستند إلى المواطنة ، وهو الأمر الذي يصطدم مع الحداثة، لاسيّما بسيطرة الثقافة التقليدية والنزعة المركزية المتأصلة في الواقع العربي والدور الخارجي المتحكّم باقتصاديات بلداننا والذي أدى إلى إضعاف مبادئ السيادة لصالح العولمة .



145
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان
الحلقة الرابعة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي


      عزيز محمد - الأممي والقومي
   إذا كان توجّه الحزب "أممياً" في موقفه من القضية القومية وتمسّكه بحل مبدأي للمشكلة الكردية يقوم على "حق تقرير المصير" وعلى تلاحم الحركة القومية الكردية بالحركة القومية العربية، لأنهما يعبّران عن حركتي تحرّر وطني ، تريد الانعتاق وتحقيق أهدافهما الوطنية والاجتماعية (كونفرنس العام 1956)، لكن جزءًا من هذه المعادلة بدأ يختفي تدريجياً، وخلال حملات القمع الدموي التي مارسها النظام السابق برزت نزعات لمعاداة العروبة وازدراء العرب، وهم أغلبية سكان البلاد الأصليين وأغلبية أعضاء الحزب، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الهوّية الوطنية للحزب، وهو ما ظهر بشكل صارخ إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وخلال فترة الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق 1991-2003، خصوصاً حين كان الجسم الأساسي للحزب في كردستان.
   وكان الموقف من الاحتلال والتعاطي معه تحصيل حاصل للأزمة التي أخلّت بهوّية الحزب، وقد ترافق ذلك مع تفاقم ظاهرة التمييز القومي وهي ظاهرة خطيرة اتّخذت طابعاً حاداً بما يتناقض مع مبادئ الأممية والتآخي القومي، وهو ما عكسه واقع الهيئات الحزبية من المكتب السياسي واللجنة المركزية ومروراً بالمنظمات الحزبية.
   والأكثر من ذلك كانت العروبة تُنسب إلى صدام حسين والحكومات الدكتاتورية وهي منحة أو هديّة لا يستحقّها، وليس من حق أحد أن يهبها إليه وكأن الاعتراف بحقوق الشعب الكردي بما فيها حقه في تقرير المصير الذي هو ليس منّة أو هبة أو هديّة من أحد، ينبغي أن يقترن بالتنديد بالعروبة، لأنها ملك لصدام حسين وللحكام المعادين لحقوق الكرد.
   قلت في العام 1992 في ندوة "للحوار العربي - الكردي"(لندن) التي نظمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كان لي الشرف برئاستها، وكرّرت ذلك على مدى عقود من الزمان وترك هذا القول صداه، لاسيما حين تأثّر به واقتبسه آخرون، إن "أغلبيات" كثيرة اجتمعت مصادفة في شخصه، فهو مسلمٌ حسب هوّيته الحضارية الثقافية العامة، والمسلمون أغلبية الشعب العراقي، وهو عربي والعرب يشكّلون أكثر سكان العراق، وإذا أراد بعضهم أن يصنّف الناس على الانتماء المذهبي، فإنّ عائلته يمكن أن تكون ضمن أغلبية المسلمين في العراق وفقاً لهذه المسطرة، ويزعم أنه يدافع عن مظلومي العراق وكادحيه وفقرائه، ودفاعه لاحقاً عن تطلعات الناس جميعهم في حياة أكثر عدلاً وحرّية ومساواة وشراكة ومشاركة، وهم غالبية سكان العراق، بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ولغتهم وجنسهم وأصلهم الاجتماعي، لكن انحداره الإسلامي الحضاري وعروبته الإنسانية وجذر عائلته الديني ودفاعه عن حقوق المسحوقين والمظلومين، كلّها تتعرّض للظلم والتشويه إنْ لم يؤيد حقوق القوميات الأخرى، ولاسيما الكرد، وهو مؤمن إيماناً لا يتزحزح بحقهم في تقرير مصيرهم واختيار شكل علاقتهم مع شقيقهم الشعب العربي بما فيه تكوين كيانية خاصة بهم، سواء دولة أو أي شكل آخر يلبّي حقوقهم ، وذلك لأنه عربي ويتغنّى بعروبته ويرى فيها رابطاً حضارياً وثقافياً أصيلاً، وليس هناك تعارضاً بينها وبين حقوق القوميات الأخرى.
   وباعتقادي لا يمكن للمرء أن يكون أممياً حقيقياً إذا ازدرى قوميته أو تنكّر لاستحقاقاتها، بزعم وجود قوى حملت اسمها زوراً وبهتاناً، كما لا يمكن للمرء أن يكون أممياً صادقاً إذا تهاون إزاء ميوله القومية لتطغى على الجانب الإنساني لديه. وهكذا سيكون الأمر أكثر حساسية لمسؤول شيوعي أول، وهو الأمر الذي تحسّس منه شيوعيون كثيرون على مستويات مختلفة، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. ولعلّ أول من لفت الانتباه إلى ذلك هو الرفيق  حسين سلطان منذ مطلع السبعينات.
   ومع تقديري لخصوصية الوضع الكردي والحق في تأسيس حزب شيوعي كردي، لكنني كنت وما أزال أرى أن حزباً شيوعياً عراقياً موحداً يضم مختلف القوميات في دولة قائمة ، هو تأكيد على وحدة الطبقة العاملة والكادحين والمثقفين، وتكامل أممي في دولة متعددة القوميات والثقافات؛ أما إذا استقلت كردستان وأسست دولة سواء باتحادها من أجزاء كردستان الأخرى في (إيران وتركيا وسوريا) أم لخصوصية هذا الجزء العراقي، فإن النواة موجودة لقيام حزب شيوعي كردي مستقل وهذا حق لا نقاش فيه وندعمه بقوة.
   وعليه لا يصبح المرء شيوعياً بقرار، حتى وإن احتفل بعيد العمال أو حفظ نشيد الأممية عن ظهر قلب وزين صدره بالمنجل والجاكوج، لأن الشيوعية مثلُ وقيمٌ إنسانية وفكر ومدنية وجمال وعمران ومحبة للخير تسعى لإلغاء الاستغلال وإقامة مجتمع الوفرة والرفاه والعدل والمساواة، وليست ضغائن أو أحقاداً أو كراهية أو خداعاً وغشاً وأكاذيب، مثلما هي مساواة وشراكة ومشاركة وليس تمييزاً أو استعلاءً أو اضطهاداً، سواء من جانب القومية الكبرى أم ضيق أفق وانغلاق من جانب القومية الصغرى، ولعل ماركس هو الذي قال " إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا"، وبقدر ما ينطبق القول على الجماعة البشرية، فإنه ينطبق على الفرد أيضاً، وكان الرفيق فهد هو الذي عبّر عن الترابط بين الوطني والاجتماعي، حين قال:"لقد كنت وطنياً وعندماً أصبحت شيوعياً صرت أكثر حباً لوطني".
    عزيز محمد الحزبوي والشخصي
   كان عزيز محمد مسالماً ولا أظن أنه دخل معركة، بل كانت المعارك تُفرض عليه، وكان يسعى دائماً لعدم المواجهة، حتى وإن كانت السلبية ترتقي لتصبح شراكة، وقد يترك لمن حوله مثل هذا الهامش، وقد شخّص العديد من الشيوعيين مثل هذا الدور إبان انشقاق الحزب العام 1967، وكان هذا واضحاً أيضاً خلال التحضير للمؤتمر الرابع وما بعده، وحتى وإنْ بدا مغلوباً على أمره، لكنه كان يحاول مدّ الجسور مع الآخرين دون أن يعني قدرته على تحقيق مصالحة أو معالجة للأوضاع الشاذة التي شهدها الحزب، لأنه كان يعرف توازن القوى قد أصبح في غير صالحه، واستسلم لقواعد اللعبة أخيراً، مع إدراكه إن معظم  مظاهر الصلابة التي يبديها البعض كانت تخبئ خلفها نقاط ضعف شديدة، حتى وإن احتمت بدرع سميك.
   وقد يكون رهانه على أن العديد من الرفاق الذين  لحقهم التنكيل دون وجه حق ، ظلّوا ينظرون إلى الحزب كمرآة يرون فيها صورهم، وحتى لو كانوا أجدر من الذين وقف معهم، فإنهم أو بعضهم على الأقل اعتبر تاريخه مثل تلك اللمسة التي تهدئ الروح وتدفئ النفس، في حين كان عليهم ،أي على الجميع، أن يروا النواقص والعيوب والأمراض التي أخذت تتسلّل إلى جسد الحزب.
   وكان على عزيز محمد أن يكون أكثر حساسية من غيره إزاء المخالفين في الرأي، فهو وجمال الحيدري وعبد السلام الناصري وعبد الرزاق الصافي وكوادر أخرى اعترضت على قرارات بهاء الدين نوري العام 1952 واعتبرتها متطرّفة، خصوصاً بنقده لفهد ورفعه لشعارات " يسارية" طفولية لم يكن العراق متهيئاً لها، وقد اتّخذت قيادة بهاء الدين نوري التي عُرفت فيما بعد بـ " القاعدة" قرارات بفصله ورفاقه واتهمتهم بأنهم خدم البلاط وأطلقت على صحيفتهم "راية البلاط" ونشرت أسماءهم الصريحة، وكان عليه أن يتقبّل الرأي الآخر ويسمح بالنقد وحق التعبير طالما كان الأمر يتعلق بسياسة الحزب وتوجهاته، لا أن يسمح لإدارة تفريطية ترفع شعارات " يسارية" "مغامرة" وتدخل معارك لم يكن لها مبرر على الإطلاق، تلك التي راح ضحيتها المئات من الشيوعيين، بأن تتصرّف بحجة الانضباط الحزبي للتنكيل بجمهرة واسعة من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه.
   ولعلّ ذلك النهج هو من أمراض الحركة الشيوعية المزمنة، بل والمستعصية، التي ظلّت مهيمنة على ممارسات أصحاب القرار، والأمر يخص جميع التشكيلات التنظيمية ذات التوجه الآيديولوجي الشمولي، سواء كانت قومية أم دينية.
    وكان ينبغي على عزيز محمد أن يفتح صدره للحوار وأن يستجيب لمناشدات صادقة لرأب الصدع بحيث يستطيع الحزب مواجهة أزماته بتوجّه جديد وموحّد، وخصوصاً لإعادة النظر بسياسته بعد محاولات القوات الإيرانية اختراق الأراضي العراقية العام 1982، وكان عليه أن يدعو الجميع بمن فيهم المحتجّين للتفكير الجاد والمسؤول بمصير الحزب ومستقبله لا أن يراه يتآكل ويذبل دون أن يحرّك ساكناً، لدرجة كان البعض يعتبره الغطاء الضروري لاستكمال منهجه التصفوي ، مثلما كان على المحتجين والرافضين أن يتحلّوا بالمزيد من الحكمة وطول النفس والصبر، والجميع في نهاية المطاف بشر ولهم إيجابياتهم وسلبياتهم، فحتى لمن يعشق فيجب  عليه أن لا ينسى سلبيات المعشوق. وعلى ذكر العشق فلعزيز محمد رأي فيه أقرب إلى الصوفية حيث يقول: العشق بالعقل لا طعم له ولا لذّة.
   أستطيع القول أن ثمة فوارق كبيرة بين عزيز محمد السياسي أو الأصح الحزبوي وبين عزيز محمد الشخصي، فهو كشخص لا يضمر حقداً لأحد وشديد التواضع، لكنه كحزبوي كان سلبياً ويتبع مراكز القوى، وخصوصاً بعد الهجرة الواسعة في العام 1979، وكان عليه  دفع الظلم الواقع على رفاقه وأصدقائه ، لأن ذلك بحدّ ذاته غاية بغض النظر عن الأخطاء والسلبيات التي وقع فيها حتى المظلومون.
   وكان الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً منذ ستة أشهر قد سألني عن عزيز محمد ومواصفات القيادة الشيوعية بقوله : ضمن منهجيتك الموضوعية كنت تفرّق بين الأشخاص والمواقف... بين الآيديولوجيات وتطبيقها، فمثلاً تعتزّ بالمزايا الشخصية والإنسانية لعزيز محمد أمين عام الحزب السابق وتعترف بكارزميته  القيادية، كذلك في الوقت نفسه لا تتوان من نقد سياساته وتؤشر إلى إخفاقاته التي قادت إلى  نتائج سلبية على الحزب وجماهيره، وربما للحركة الوطنية العراقية. هل لك أن تبيّن أبرز ملاحظاتك على قيادة الحزب خلال العقود الأربعة الماضية، لاسيّما بعد العام 1963، وخصوصاً في فترة التحالف مع حزب البعث فيما يسمى بالجبهة الوطنية؟
   وكان جوابي كالآتي وهو مدوّن في الكتاب الحواري الذي أصدره التميمي في حواراته المطولة معي ضمن كتاب " عبد الحسين شعبان - المثقف في وعيه الشقي" ، دار بيسان، بيروت، 2014:
   يمكنني القول أن عزيز محمد شخصية ودّية وسلمية ومحبّبة، لكنها غير حاسمة ومتردّدة وغير مواجهة، ولذلك يتم التأثير عليها، وإذا ما عَمِلَ معه شخصيات إيجابية ومسالمة وجامعة فسيكون سبّاقاً إلى  ذلك، لكنه إذا عمل معه شخصيات سلبية أو عدوانية أو مفرّطة، فسيضطّر عزيز محمد إلى  مجاراتها والانصياع لها، وتلك مشكلة عاشها من عرف عزيز محمد عن قرب أو من راقب سلوكه الحزبي، ولذلك فأنت لا تستطيع أن تخاصمه، وإذا خاصمته فإنه لا يتحوّل إلى  عدو، وهو مستعد للمصالحة في أية لحظة، ولكن ذلك يعتمد على من يعمل معه، ولهذا ترى الجميع حريصين على صداقته وتلك واحدة من المفارقات.
يتبع

146
 



لبنان.. هل يمكن بقاء القديم؟


عبد الحسين شعبان
أعاد الانفجار المروّع الذي حصل في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الجاري، أزمة الدولة اللبنانية إلى الواجهة، وإن كانت هذه الأزمة قديمة، ومعتّقة منذ التأسيس قبل نحو 100 عام، إلا أنها تفاقمت على نحو متسارع خلال العقود المنصرمة، خصوصاً بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، إلّا أنها ترافقت هذه المرّة مع ثلاثة أحداث كبرى مهمة:
أولها- استمرار وباء «كورونا» منذ فبراير/ شباط الماضي، وارتفاع نسبة الإصابات في الأسبوعين الأخيرين ما قبل الانفجار.
وثانيها- استمرار معاناة اللبنانيين بتهديد وجود الدولة اللبنانية، والمسألة تتعلّق بالعقد الاجتماعي، وشرعية نظام الحكم، سواء بدستور عام 1943، أو بميثاق الطائف عام 1989 الذي جاء بعد حرب أهلية دامت نحو 15 عاماً.
وقد عاظمت كارثة مرفأ بيروت من معاناة اللبنانيين، إضافة إلى أزمات النفايات، والمازوت، والبنزين، والكهرباء، وتلوث المياه، وعجز المصارف، وانهيار سعر الليرة اللبنانية، لدرجة أصبح نصف اللبنانيين في خط الفقر، ودونه، وقد اضطرت محال تجارية وخدمية وسياحية إلى الإغلاق، كما تم الاستغناء عن خدمات 400 ألف عامل، فضلاً عن أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى.
وثالثها - استمرار انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولعلّ أهم مطالبها تنحية الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود بسبب فشلها، وفسادها، والتوجه صوب عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية، ويؤسس لدولة المواطنة، وهذا يتطلب تعديل الدستور، وسن قانون انتخابي جديد على أساس النسبية.
وإذا كانت مثل هذه المطالب صعبة، وبعيدة المنال، بل تكاد تكون مستحيلة، خصوصاً إعادة الاعتبار للدولة، وهيبتها التي ينبغي أن تعلو على الجميع، فإنه بعد التطورات الأخيرة واستقالة الحكومة أصبحت مطروحة على بساط البحث، وإنْ لم تتحقق هذه المطالب كلها دفعة واحدة، لكنها أصبحت في برامج أوساط وقوى سياسية، وطيف واسع من اللبنانيين، وقد يمهّد ذلك لتغييرات تدرّجية، وعلى مراحل، إذْ لم يعد يحتمل استمرار الوضع على ما هو عليه.
ولا يمكن للبنان الخروج من عنق الزجاجة ووصوله إلى المعافاة الحقيقية، لاسيّما كسب ثقة المجتمع الدولي من دون إجراء إصلاحات جذرية، وجوهرية، ومحاربة الفساد، والمفسدين، واستعادة الأموال المنهوبة، والمساءلة على التقصير وسوء الإدارة، والعبث بحياة وممتلكات الناس وحقوقهم، وهو ما لمّح إليه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبيروت ومن المفترض عودته أوائل سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقبل أن يكون التغيير مطلباً للقوى الخارجية فإنه حاجة لبنانية ماسة، وهو بيد اللبنانيين أولاً، لاسيما إذا بادروا إلى عقد اجتماعي جديد، فإن الدول الشقيقة، والصديقة، والمجتمع الدولي، يمكنها حينذاك أن تقدّم لهم الدعم المطلوب. وبالطبع، ثمة عقبات وضغوط كبيرة على هذا الصعيد، منها التهديدات «الإسرائيلية» المستمرة، وتحديات القوى الإقليمية، والدولية، التي تريد أن يكون لها حصة مؤثرة في التوافقات السياسية، سواء إبقاء القديم على قدمه، أو إجراء تغيير يصب في مصلحتها.
وبتقديري، فإن لبنان بالمواطنة والتنمية المستدامة وعلى أساس الهويّة الجامعة، مع الإقرار بالتنوّع واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، يمكنه تجاوز محنته الراهنة، وسينهض كطائر الفينيق من الرماد، مزدهراً، معافى في محيطه العربي ودوره الثقافي والحضاري كجسر للقاء الثقافات، وامتداداتها، واعداً بسلام حقيقي وعادل، لما يملكه شعبه من نشاط وإبداع، وحيوية، وطاقة، ومبادرة.
إن المدخل الأول لحل الأزمة اللبنانية، وإنهاء الانقسامات المجتمعية هو التمسّك بالمواطنة العابرة للطائفية لتحقيق التنمية المستدامة بجميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية، وغيرها، وضمان عيش المواطن وحقوقه الإنسانية، في ظل دولة تعلو مرجعيتها جميع المرجعيات الدينية، أو الإثنية، أو المناطقية، أو السياسية، أو الحزبية، أو العشائرية، أو غيرها.
والطريق نحو هذه الدولة لا بدّ أن يمرّ بمصالحة تاريخية بين الدولة، والمواطن، بحيث يشعر الأخير بأن الدولة هي دولته، وراعية لمصالحه، والحكومات تأتي وتذهب لخدمته، وليس لسرقته، ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد لتحسين الأوضاع الصحية، والمعيشية، والخدمية، وتوفير فرص عمل وضمانات اجتماعية وتقاعدية، وضمان للشيخوخة، بما يعزّز من وعي المواطن وثقته بالدولة من جهة، ويُشعِر المسؤول الحكومي بأنه جاء لخدمة الناس، وليس لتنفيذ مصالحه الخاصة، أو المذهبية، أو الفئوية، على حساب مصالح الشعب.
drhussainshaban21@gmail.com



147
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان

الحلقة الثالثة

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي
   عزيز محمد "مرشح تسوية"
   لا يمكن اختزال مسيرة عزيز محمد ببضع كلمات تمجيد أو تنديد، تقديس أو تدنيس، فللرجل بصمة واضحة على مسار الحركة الشيوعية العراقية لنحو ثلاثة عقود من الزمان بصفته أميناً عاماً وعاش منعطفاتها الحادة وانشقاقاتها وتعرّجاتها وصعودها وونزولها وتقدّمها وتراجعها لسبعة عقود من الزمان، وعلينا بقدر دراسة شخصيته، دراسة الظاهرة الحزبية بتعدّدها وأزماتها ودورها في محصّلة العمل، لنرسم في نهاية المطاف الصورة الكلّية الإجمالية بكل منعطفاتها واندفاعاتها وتردّدها ومحطّاتها الإيجابية والسلبية، فلا يمكن قراءة التاريخ بشكل آحادي، بل أخذه كوحدة كاملة على حد تعبير بليخانوف والمهم الاستفادة من دروسه وعبره، علماً بأنه لم يسعَ إلى القيادة أو الأمانة العامة التي كادت أن تُفرض عليه في ظلّ أوضاع غير طبيعية في الحزب بعد استشهاد نحو 25 قائداً من قادته إثر انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
   وقد حسمت التوازنات الحزبية الموقع لصالحه لأنه ليس طرفاً في الصراعات الحزبية التي اندلعت في القيادة ضد سلام عادل، فضلاً عن ذلك، قد يكون هو الأقدم حزبياً وفي موقع المسؤولية وعلى رأس التنظيمات في كردستان في ذلك الوقت، علماً بأن عبد السلام الناصري كان المرشح الأقوى، لكن ثمة رأي عام في  بعض مفاصل إدارة الحزب أخذ يتشكّل ضده بعد فترة توليّه المسؤولية مؤقتاً عقب انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 في الخارج ، ولم يكن رأي السوفييت لصالحه، ثم إن الفريق المؤهل كلّه كان معاقباً مثل عامر عبدالله وزكي خيري وبهاء الدين نوري، وأعيدت هذه الشخصيات إلى القيادة في ذلك الاجتماع وليس من المعقول أن ترشّح نفسها أو يرشّحها أحد ليتمّ انتخابها.
   ويعلّق عزيز محمد على اختياره أميناً عاماً للحزب بقوله " أنا نفسي لا أعرف لماذا جعلوني سكرتيراً للحزب الشيوعي العراقي" ويضيف: لقد أصبحت عضواً في اللجنة المركزية 1958 (وفي المكتب السياسي 1959) بدون مؤتمر (الحلقة الثانية من جريدة رووداو 11/11/2019).
   يضاف إلى ذلك الصفات الشخصية الإيجابية لعزيز محمد، فهو عالي التهذيب وشديد التواضع ودمث الأخلاق وظلّ على هذه الحال ودوداً ودافئاً حتى آخر أيام حياته، فلم يذكر أحداً بسوء، وكان دائماً يجدُ المبررات والأعذار لمن تناوله بالتجريح، ويمكنني القول دون تردّد على الرغم من نقاط الضعف العديدة في سيرته وما رافق قيادته من أخطاء وانتهاكات وما يتحمّله شخصياً من وصول الحزب إلى ما وصل إليه، لاسيّما في حياته الداخلية والعلاقات بين أعضائه، أن فمه كان معطّراً، حتى أنه كان ينتقي كلماته بدقة شديدة ويملّحها بما هو طيب وإيجابي، وتلك ميزة كان الأقدر عليها.
   وقد روى لي عامر عبدالله، كيف أن عزيز محمد حاول الاعتذار عن ترشيحه أميناً عاماً، وقال مُخلصاً أنه ليس أفضل الرفاق ولا أكفأهم وهو ليس بقادر على تحمّل هذه المسؤولية التي ستلقى على عاتقه، ويمضي لاستكمال ذلك بقوله: حاولت وآخرين إقناعه ليكون أميناً عاماً لمدة عام على الأقل " كمرشح تسوية" لكنه بعد أن ذاق طعم منصب السكرتير العام وما أحيط به من هيبة وهالة، وخصوصاً في مؤتمرات الأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفييتي، تمسّك به والكلام لعامر عبدالله، فقد استمرأ الموقع، وحاول اللعب على التناقضات ولم يكن يحاول جدّياً الدخول في معتركات الحزب، لاسيّما في الانعطافات الحادة.
   وكنت قد سألتُ عزيز محمد بعد سنوات من تخلّيه عن منصب السكرتير، على الرغم من معرفتي بالخلافات العامة والخاصة والملابسات العديدة التي رافقت رغبات العديد من الإداريين للوصول إلى المواقع العليا في صراع محموم ، هل صحيح ما جاء على لسان الرفيق زكي خيري في مذكراته " صدى السنين " وما تردد على لسان أحد إداريي الحزب أنكم كنتم تبحثون عن سكرتير للحزب من أصول عربية، فقال لي وكنّا في دعوة خاصة في منزل علي عبدالله في شتاء العام 2000 في مصيف صلاح الدين : ألم تقولوا أن عملية "تكريد" للحزب قد جرت، وآن الأوان للبحث عن إعادة الحزب إلى بيئته الأساسية التي نشأ فيها ؟
   فقلت له هذا شيء وسؤالي شيء آخر، فكان جوابه دبلوماسياً ناعماً، فقال لي: كنّا نسأل قياديين وكوادر ورفاق قدامى رأيهم في فلان أو فلان ومواصفات كل منهم ، بحيث لا يكون هناك انقطاعاً، بل تواصلاً وكي لا تحدث حتى مفاجآت، واختار المؤتمر الخامس كما تعلم من كنّا نستعد لتهيئة بعضهم، ولعلّ أكثر من رفيق توهّم أننا بسؤالنا عن المواصفات بأننا نعرض منصب السكرتير العام عليه، وهنا ابتسم على طريقته الإيحائية ، ثم أردف بالقول: ربّما اعتقد أكثر من رفيق أن موقع السكرتير العام سيكون شاغراً وكلٌ وجد في نفسه الأفضلية.

   أزمة مركّبة
   وعلى هذا الأساس لا يمكن اختزال أزمة الحزب الشيوعي بعزيز محمد، وستكون تلك القراءة سطحية ومجتزأة واستهدافية، ومع كل ما تحمله شخصيته من استثناءات، إلّا أنه لا يمكن عزلها عن طبيعة المرحلة السياسية ومعادلتها الأممية والإقليمية والعراقية، ولهذا لا يمكن الاكتفاء بمظاهر الأزمة، بل محاولة تقديم تفسيرات واجتهادات حولها. ولا بدّ من معرفة أبعاد الأزمة، فقد كانت:
   أولاً- أزمة فكرية بالدرجة الأساسية وهي أزمة  قراءة للماركسية وتجليّاتها التي هي مرشد ودليل عمل ومنهج ، فقد تحوّلت مع مرور الأيام إلى مجرد "تعاويذ" و"أدعية" بعيدة عن الحياة والواقع وما يرسمه من متغيرات، وتم التشبث بالصيغ والكليشيهات الجاهزة وامتاز الإعلام الحزبي بالصخب والانعزالية وتحوّل بعضه إلى أدوات لتأجيج الصراع الداخلي وتوتير الأجواء والتحريض بصورة لا مبدئية، وأشارت وثيقة تقييم كانت قد صدرت عشية تأسيس حركة المنبر والموسومة " نحو حل شامل لأزمة الحزب وصيانة وحدته وتعزيزها على أساس الشرعية وسيادة الروح المبدئية في حياته الداخلية" إلى المظاهر السلبية التي مهّدت لانعقاد "المؤتمر الرابع" وكان قد سبقها أحداث بشتاشان الدامية العام 1983، خصوصاً الثغرات العميقة والأخطاء الفادحة (كتب هذه الوثيقة الرفيق مهدي الحافظ واطلع عليها الرفيق نوري عبد الرزاق وأبدى موافقته، كما اطلع عليها حوالي 20 رفيقاً ).
   وكانت الوثيقة المذكورة قد ركّزت على التشوّش والتذبذب في الموقف إزاء الحرب العراقية- الإيرانية، لاسيّما بعد احتلال أراضي عراقية من طرف إيران وإعلان توجهها السياسي وعدم إخفاء أطماعها التوسعية، خصوصاً وأن بعض الأصوات المرحّبة بدخول القوات الإيرانية قد ارتفعت بزعم التخلّص من الطغمة الحاكمة، ليس هذا فحسب، بل إن إطلاق الشعارات دون تدقيق وتمحيص كان سائداً، فمن شعار الكفاح المسلح والزحف على المدن، إلى الانتفاضة المسلحة ثم الثورة الشعبية الظافرة.
   كل ذلك دون دراسة معمّقة وقراءة للواقع، ناهيك عن زجّ الطليعة والكادر المتقدّم في عمليات عسكرية غير ناضجة وبلغ النزف في قوى الحزب حدّاً كبيراً نجم عنه مئات الشهداء، بما يغذي الميل اليساري، والأمر شمل ميدان التحالفات الوطنية التي دفعنا أثماناً باهظة إزاء تقلباتنا فيها .
   إن كل ممارسة لا تقرأ الواقع في ضوء النظرية، مثلما حين لا تقرأ النظرية الواقع ولا تنطلق منه، سيتحوّل فيها الفكر إلى شكل من أشكال القداسة، بل أقرب إلى التديّن في إطار طقوسية إيمانية وهو داء تقع فيه الأحزاب العلمانية مثل الدينية، والسلطات والمعارضات، ومثلما انفصلت أنظمة عن الواقع وأسقطت رغباتها عليه وحاولت وضع المجتمعات في قوالب حتى وإن أبيد بشر وتعطّلت تنمية وساءت أحوال الناس المعاشية لتأكيد فكرة حسنة أو سيئة، فإن معارضات سلكت ذات الطريق تحت عناوين "ثورية" حتى وإن تم التفريط ببشر لحساب فكرة في الرأس واقعية أم متخيّلة، والفارق بين هذه وتلك  ليس في المضمون والتوجّه، بل في الدرجة، أي بمدى التبعية والاستعباد والخضوع للفكرة المهيمنة خارج التفكير الحر. وكان لينين غالباً ما يستشهد بقول الشاعر الألماني غوته "وتبقى النظرية رمادية بالية وأما شجرة الحياة فيافعة خضراء".
   وسبق لي ومنذ وقت مبكر أن تناولت أزمة الماركسية  في دراسات وأبحاث ومقالات وأشير هنا إلى الحوار الموسّع  الذي أجراه معي  الصحافي البحريني هاني الريّس  لجريدة أنوال المغربية ونشرته على حلقتين وهو بعنوان: أزمة الماركسية : هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء؟ (الرباط 14 و21 آب/ أغسطس /1990).
   إنها أزمة قيادة بالطبع، لأن القيادة والأصحّ "إدارة الحزب" اعتادت على نمط التفكير المتلقي وشحّ المبادرات والخشية من الاجتهاد، دون أن يعني ذلك عدم وجود استثناءات، لكنها كانت محدودة، وقد طغى عليها  نمط من الاستكانة والإيمانية الوثوقية بما يأتيها من المركز الأممي، بما فيها القضايا التي تخصّ مصائر شعوبنا وأممنا، وهناك أمثلة كثيرة وصارخة.
   ثانياً- أزمة التعويلية ولا ينفرد بها الحزب الشيوعي العراقي أو الأحزاب الشيوعية العربية، بل هي أزمة عامة شملت الأحزاب القومية العربية والكردية والأحزاب الإسلامية، لاسيّما بوجود مصالح وامتيازات توفّرت لمراكز القوى داخل الأحزاب، الأمر الذي يدل عليه الكثير من الشواهد والقرائن والوثائق التي تدعمه، فإذا كانت عيون الشيوعيين تتّجه صوب موسكو، فالقوميون العرب كانت مرجعيتهم عبد الناصر والقاهرة أو نظامي البعث السوري (دمشق) أو العراقي (بغداد)، ودخلت عوامل مؤثرة على الحركة القومية الكردية التي اعتقدت أن حلّ قضيتها في الخارج، وأحياناً كانت الأنظار تصوّب إلى واشنطن  وإلى بعض العواصم الإقليمية .
   أما الإسلاميون ، وخصوصاً الأحزاب الإسلامية الشيعية، فقد كانت مرجعيتها إيران بعد الثورة الإسلامية العام 1979 في حين كانت مرجعية "الأخوان المسلمين" مصرية- عالمية، ولعل موقع أنقرة اليوم هو من يحجّ إليه الأخوان؛ وكل هذه القوى تتجاوز فكرة المواطنة، فبالنسبة للشيوعيين كانت تتقدّم مصالح "الأممية البروليتارية"ولم يعترف القوميون بالحدود وظلّ خطابهم يتجاوز الأطر الوطنية، والكرد تارة يقدمون أولياتهم كقومية وينسون أنهم يحملون جنسيات دولهم في محيط إقليمي متناقض، وضاعوا بين أطروحات كثيرة، والإسلاميون كانوا يفكرون " بالجامعة الإسلامية" التي تتجاوز الأوطان.
   ثالثاً- أزمة سياسية وتاريخية مركّبة ومعقدة، وهي أزمة فهم ومعنى ودلالة، وتتعلّق هذه الأزمة بضعف تقدير الموقف، بسبب ضعف التأهيل أو ضعف المبادرة أو غياب الأداء السليم، خصوصاً عدم دراسة الواقع ومعرفة تفاصيله وتعقيداته، وبالتالي رسم سياسات منسجمة معه ولتغييره وستقود مثل هذه الأزمة، إمّا إلى تضخيم الذات أو التقليل من شأنها بالتياسر المفرط أو بالتيامن المحبط إذا استخدمنا تعابير الستينات، وسيتراوح مثل هذا التذبذب في التقييم إلى التذبذب في السياسات، لاسيّما حين يصيب مثل هذا الداء "الإدارة" ويؤثر على الجمهور الذي ستضعف الثقة بنفسه وبالإدارة الحزبية وسياساتها، فما بالك إذا كانت هذه الأخيرة ضعيفة الثقة بالنفس وتعتمد على المعادلات الخارجية .
   وقد أدت سياسات التخبّط الفكري والتذبذب السياسي إلى دخول الحزب في تحالفات واتفاقات سياسية قلّلت من شأنه، فضلاً عن تأثيراتها السلبية عليه وعلى استقلاليته مثل: جبهة العام 1973 وجبهة جوقد وجبهة جود (1980) وجبهة الـ19 في طرابلس (1983) والجبهة الكردستانية في العام 1988 والمؤتمر الوطني العراقي 1992 ،والتحالفات مع الحزبين الكرديين المتصارعين، حتى أن وزيراً كان للحزب في السليمانية وآخر في إربيل، والانضمام إلى مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال العام 2003، وأخيراً وليس آخراً التحالف مع "مقتدى الصدر" تحت عنوان كتلة " سائرون" مروراً بمحاولات للتحالف مع "إياد علاوي" و"نوري المالكي" ومساعي لتجميع خليط تحت عنوان " التيار الديمقراطي" أو " المدني" كواجهة لم يعد زمانها قائماً، وللأسف فما زال البعض يعيش في الماضي وأساليب عمله وطرائقه.
   وإذا كان التحالف فريضة، فلا بدّ أن يرتبط باستراتيجية طويلة الأمد من جهة وتكتيكية ظرفية مؤقتة لمواقف أو قضايا أو تحالفات انتخابية أو غيرها، لكن تلك الفريضة تتطلّب تحديد المستلزمات وعدم التخلّي عن نقد الآخر والذات وعدم القبول بالتبعية حتى وإنْ كان توازن القوى مختلاًّ، والمهم هو الحفاظ على الاستقلالية وحق الدعوة للأفكار البعيدة.
   وبهذا الخصوص أسمح لنفسي بالقول : إن الحزب الشيوعي في تاريخه كان مخلصاً لقضايا التحالفات ومؤمناً بها ويسعى للحفاظ عليها، لكن أداءه في جميعها لم يكن سليماً باستثناء جبهة الاتحاد الوطني قبل العام 1958، ناهيك عن أنه لم يمتلك البراعة أو الجرأة أحياناً في تشخيص الأخطاء ومواجهة الآخر في حينها.
   رابعاً- أزمة الهويّة، التي تتمثّل باختلال التركيب القومي والاجتماعي بين ما هو أممي وما هو قومي، في بلد غالبيته الساحقة من العرب، وإذا كانت القومية  العربية تؤلف ما يزيد عن 80 %، فسنرى  أن الصفة العروبية في الحزب وتوجهاته العروبية قد ضعفت إلى حدود كبيرة بغياب قيادة سلام عادل.
   وقد يكون ثمة أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، خصوصاً باندلاع الصراع القومي والبعثي- الشيوعي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وحصول استقطاب حاد وتناحري توّج بانقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963، وفي سبب آخر هو ظهور بعض التوجّهات القومية الكردية لدى بعض المسؤولين الحزبيين، ولاسيّما في كردستان، وهو ما كان سلام عادل قد واجهه مبكّراً، حيث كانت قد راجت دعوات لحلّ فرع الحزب في كردستان والانضمام إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، وهي تنم عن ضيق أفق قومي انعزالي.
   ولهذا الغرض كتب سلام عادل كرّاساً يردّ فيه على تلك الأفكار التصفوية الذيلية وهو بعنوان" ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية " العام 1957، وهو ما ينسجم مع توجّهات الكونفرنس الثاني (أيلول/سبتمبر /1956)، وقد عمل الكاتب على نشر وثائق الكونفرنس والكراس  في كتابه الموسوم " سلام عادل- الدال والمدلول، دار ميزوبوتيميا، بغداد، 2019"، وذلك في محاولة منه لتبيان جذور هذه المسألة التي تفاقمت في وقت لاحق.

يتبع

148
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار
عبد الحسين شعبان
الحلقة الثانية

عزيز محمد في الميزان
ولد عزيز محمد في العام 1924 في كردستان لعائلة فلّاحية معدمة ويقول في إحدى مقابلاته النادرة: إن والدتي ووالدي كانا يحسبان عمري بحساب الحصاد؛ وكان والده محمد عبدالله يعمل أجيراً في قرية بيركوت التي هي مسقط رأسه، أما والدته سوسن قد نزحت من قرية (وان وباش قلعة) في تركيا خلال الحرب العالمية الأولى وتزوّجت في إربيل، ولكن زواجها لم يدم طويلاً، ولذلك كان عزيز محمد يردّد إنه " ابن أمه" اعتزازاً بها وبتربيتها على الرغم من ظروفها الصعبة والقاهرة التي أجبرتها على العمل في المنازل، وقد تعلّم القرآن كما يقول في مسجد أبو بكر الصدّيق ثم دخل المدرسة الابتدائية وتخرّج منها وعمل مستخدمًا في دائرة التموين لفترة قصيرة.
في بداية مشواره السياسي انتمى إلى حزب هيوا (الأمل) العام 1941 الذي كان أعضاؤه يردّدون القسم على القرآن وجبل كردستان والخنجر ورأس الرئيس، (مقابلة مع سيروان رحيم نشرت بعد وفاته في جريدة رووداو - باللغة الكردية على خمس حلقات، ترجمة خاصة ، بتاريخ  14-11 لغاية  2/12/2019، وأضيفت  إليها حلقة سادسة  مع زوجته  الرفيقة "كافيه" التي ذكرت فيها أنه أمها تركمانية متعصبة وأولادها آراس وشيرين وفينك لم يتعرفوا على والدهم إلا بعد العام 1973 (بسبب ظروف العمل السري ما بعد انقلاب العام 1963) وقد تعرفت على عزيز محمد عن طريق الحزب كما تقول.
التحق عزيز محمد بصفوف حزب شورش (الثورة)، وفي أواخر العام 1945 ومطلع العام 1946 انتمى إلى الحزب الشيوعي بعد أن انتشرت الأفكار اليسارية بفعل انتصارات الجيش الأحمر السوفييتي وتولّى مسؤولية لجنة إربيل للحزب لاحقاً، وسرعان ما استدعي إلى بغداد لمهمة خاصة بعد اعتقال قادة الحزب "فهد وحازم وصارم" العام 1947 ليسكن في بيت المطبعة مع والدته، خصوصاً وهو غير معروف، وهو أسلوب غالباً ما يتبع في البيوت الحزبية، لغرض التمويه بإسكان عائلة في البيت الحزبي، وكانت تلك أولى مراحل احترافه الحزبي، حيث كان ما يزال شاباً يافعاً، ولم يمكث طويلاً  في بغداد التي جاءها من كردستان حتى ألقي القبض عليه في 12/10/1948 كما يقول في إحدى مقابلاته القليلة، ورمي خلف قضبان السجن، بصدور الحكم عليه 15 عاماً قضى منها 10 سنوات متنقّلاً في السجون المعروفة مثل الكوت وبعقوبة وبغداد و"نقرة السلمان" الصحراوي الشهير، علمًا بأن والدته اعتقلت معه ومكثت في المعتقل نحو أربعة أشهر.
وكان قد تأثر بعز الدين فيضي كما يقول، وهو أحد التربويين في مدينة إربيل ومن عائلة دينية عريقة (أسرة الملا جرجيس الإربيلي). ويقول أن أول شيوعي في كردستان كان صالح الحيدري (شقيق جمال الحيدري الذي استشهد في العام 1963 وممتاز وجمشيد) وكان أنور دلوز من أوائل الذين مهّدوا للتنظيم الشيوعي. أما كيف اهتدى إلى الشيوعية، فقد كان عن طريق جمال الحيدري وملّا شريف ابن ملا عثمان ره نكه راشان.
وفي السجن كان عليه أن يستقبل خبر إعدام "فهد" أمين عام الحزب، الذي أحدث ضجّة في أجواء الحركة الشيوعية ذات المنهجية التقديسية للزعماء والأمناء العامين، وخصوصاً حين يكون شخصاً بمواصفات فهد وهيبته وسطوته على الحزب، فضلاً عن استشهاده البطولي.
   وعاش عزيز محمد تجربة انشقاق"راية الشغيلة" كأحد أبرز مسؤوليها أو إدارييها  مع جمال الحيدري في العام 1953 واشتهرت رسالته المعروفة "م" وهو اسمه الحزبي (مخلص) التي اعترض فيها على البرنامج الذي أصدره بهاء الدين نوري، والذي عدّه متطرّفاً، وقامت قيادة بهاء الدين نوري (باسم) بطرده وعدد من الكوادر معه وشهّرت بهم علناً وبالأسماء الصريحة التي كشفتها.
   وكنتُ قد سألت نفسي: كيف اختار عزيز محمد طريق "العقلانية الحزبية" في السياسة وهو في السجن وقام بنقد التطرّف ومحاولات حرق المراحل التي اختارها الطرف الآخر، وبعدها هل اختار الانشطار أم أنه لجأ إليه اضطراراً على صعيد التنظيم على الرغم من كونه سجيناً؟ وغالباً ما يتّجه السجناء بحكم الضغوط التي يتعرّضون لها إلى التشدّد والتطرّف، فمن أين أتته تلك النزعة، لاسيّما وإن الحركة الشيوعية العراقية، شهدت في تاريخها تطرّفات أو استعدادات لها، لدرجة الانفلاتات أحياناً؟ وخلال سجنه كان متماسكاً ومرحاً وحاول أن يقرأ ويتعلّم ويواظب على الدراسة السجنية، وظلّ على هذا المنوال كما قال لي مستمرّاً في قراءة الأدب، وخصوصاً الرواية في حوار خاص معه في مطلع التسعينات، فضلاً عن تقوية لغته العربية.
   وعاش عزيز محمد مرحلة ستالين وما بعده وشخصيته الأسطورية التي كان الشيوعيون يحلفون بها، وكان بعضهم يردّد "بالمبدأ والعقيدة والرفيق ستالين أبو البروليتاريا العالمية"، وعاش مرحلة نقده في العام 1956 على يد خروشوف،والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، و"إنْ كانت هذه قد وصلت إلينا بطريقة مشوّشة وربما مريبة" كما يقول، الأمر الذي حزّ في نفوس كثيرين، بل إن بعضهم اعتبرها في بداية الأمر "دعاية امبريالية سوداء" ومحاولة لتشويه نُبل ستالين وطهريته وبطولته، خصوصاً بالمعلومات التي كانت تضخّها أجهزة الدعاية في الدول الاشتراكية،والصورة المثالية التي تعطيها عن المجتمعات الاشتراكية، وكنّا نصدق ذلك بحكم الصراع الأيديولوجي وظروف الحرب الباردة ، ناهيك عن حجم المعلومات الخاطئة والمغلوطة، بل وحتى الكاذبة عن نمط الحياة ومستوى التقدم المُحرز وحجم الحرّيات وقناعة الناس وغير ذلك من أساليب التضليل الديماغوجي التي تُظهر كل ما يخالفها بالسوء والاتهام والمشبوهية، وهو ما ينبغي أن نقوله في نقد أنفسنا وتوجهاتنا . وحسب نيتشه فإن القناعات الراسخة أكثر خطورة على الحقيقة من الأكاذيب.
   وعاش عزيز محمد مرحلة ما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وما رافقها من نجاحات وانتصارات وأفراح، وكذلك من أحزان ومآسي وآلام، خصوصاً بتمزّق النسيج الوطني وانقسام الشارع العراقي إلى معسكرين:
   الأول- القومي - البعثي، المدعوم من جمال عبد الناصر، والمؤيّد بشكل مباشر أو غير مباشر من بعض القوى المخلوعة والمحافظة، إضافة إلى بعض القوى الدينية الناشئة التي وجدت في هذا المعسكر وسيلة مناسبة لمواجهة " الخطر الشيوعي"، لاسيّما وأن معاقلها أضحت مهدّدة، سواء بإخراج العراق من حلف بغداد  ونظام الكتلة الاسترلينية وتأسيس منظمة الأوبك المصدرة للنفط وإصدار قانون رقم 188 للأحوال الشخصية العام 1959 الذي وضع لبنة أولية لمساواة المرأة بالرجل، وقانون رقم 80 لعام 1961 لاسترداد 99.5% من الأراضي العراقية من قبضة الاحتكارات النفطية .
   وهذه المنجزات، إضافة إلى الاعتراف بشراكة العرب والأكراد في الوطن العراقي في الدستور المؤقت بعد الثورة مباشرة (27 تموز/يوليو والذي صاغه الفقيه القانوني حسين جميل ) وإصدار قانون الإصلاح الزراعي في 30 أيلول /سبتمبر/1958 رغم عيوبه وثغراته، كلّها جعلت الصراع حاداً وتناحرياً وإقصائياً، ولهذا حصل الاصطفاف والتمترس، لدرجة الاحتراب.
   وقد كانت هناك مبرّرات إضافية للإطاحة بنظام الزعيم عبد الكريم قاسم، خصوصاً بعد المطالبة بضمّ الكويت وشنّ الحرب على الحركة الكردية لاحقاً العام 1961 والانفراد بالحكم وعدم انتهاء فترة الانتقال، وهذه العوامل جميعها قادت إلى الإطاحة بالحكم الوطني في العراق في 8 شباط (فبراير) 1963، وشكّل ذلك التاريخ  تراجعاً ظلّ يتواصل بأشكال مختلفة، على الرغم من بعض المنجزات التي تحقّقت في السبعينات وهي عميقة وواسعة لكنها هي الأخرى لم تستمر، وشهدت البلاد موجة لم تعرفها من قبل من الاستبداد والعسف، ناهيك عن المغامرات والحروب.
   أما المعسكر الثاني، فقد ضمّ الشيوعيين والحركة الكردية،  وإنْ كانوا يحظون بدعم قائد الثورة عبد الكريم قاسم، لكن الخط البياني للتراجع كان واضحاً بعد ما سمّي بفترة "المدّ الثوري" آذار/مارس- تموز/يوليو 1959، وظلّ الديمقراطيون والوطنيون المؤطّرون وغير المؤطّرين يتذبذبون بين المعكسرين ، وإن كان ميلهم الأغلب إلى معسكر الحركة الشيوعية ، لكن الأخطاء التي وقعت بها هذه الأخيرة جعلتهم يتردّدون في الاعتراف بدورها الريادي على الرغم من سيطرتها شبه الكاملة في العام الأول من عمر الثورة على الشارع العراقي، وكان لمحاولة احتكار العمل السياسي وإقصاء الآخرين من الخصوم بمن فيهم حلفاء الأمس في "جبهة الاتحاد الوطني"، فضلاً عن ارتكابات شديدة سجّلت في رصيدهم السلبي، ولاسيّما في الموصل (آذار/مارس) وفي كركوك (تموز/يوليو) العام 1959، سبباً في هذا التباعد، خصوصاً مع الحزب الوطني الديمقراطي وشخصيات أخرى .
   وإذا كانت حركة الشوّاف في 8 آذار (مارس) 1959 قد أحدثت شرخاً كبيراً في صفوف الحركة الوطنية وقادت إلى انفراط جبهة الاتحاد الوطني، بعد تصدّعها، فإن ما رافقها وما أعقبها انعكس على المشهد السياسي برمته وعلى السلطة والمعارضة في آن؛ وبغض النظر عن المجابهات المسلحة والمواجهات المباشرة وما سقط فيها من ضحايا، فإن واقعة "الدملماجة" التي حصلت بعد انتهاء المعارك وإعدام 17 شخصاً خارج القضاء من جانب محكمة صورية أثار الكثير من ردود الفعل الداخلية والخارجية، سواء تلك التي جاءت مباشرة أم التي حصلت بعد حين، فضلاً عن أن المطالبة بإعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سرّي، ومن ثم الاستقواء على القوى الأخرى والعمل على إقصائها أو تهميشها وهذا ما ترك تأثيراته السلبية على الحزب الشيوعي قبل غيره.
   وزاد الطين بلّة ما جرى في كركوك في 14-15 تموز (يوليو) من العام ذاته (1959) من مجزرة ضد التركمان راح ضحيتها أكثر من 31 إنسان ونحو 130 جريح،  وأحرق 70 محل تجاري  وقصفت دار سينما ، كل ذلك ساهم في صبّ الزيت على النار، بل أشعل الوضع السياسي برمته، لدرجة أن الزعيم عبد الكريم قاسم المناصر للشيوعيين، حتى ذلك الوقت، أُوغر صدره عليهم وتم تأليبه بسبب الإرتكابات التي حصلت والتي دمغها في خطابه الشهير بكنيسة مار يوسف 1959 ونعتها بالفوضوية، وبالطبع لم يكن ذلك بعيداً عن دور الدعاية الخارجية والدوائر الاستعمارية والرجعية التي ناهضت ثورة 14 تموز(يوليو).
أعود إلى الرفيق عزيز محمد الذي وصف الحادثة بما يلي: " تعرّض الموكب (المقصود مسيرة 14 تموز) لإطلاق رصاص، ولم تُعرف الجهة التي أطلقت منها ودبّت الفوضى، بل الهستيريا، حتى الآن فقدت السيطرة على الوضع وحدثت انتهاكات وأعمال تصفية ضد التركمان. ولم يكن لنا فيها كمنظمة أي دور، وبالعكس بذلنا ما نستطيع من جهود لحقن الدماء ولم نوفق".
أي كلام عام هذا؟ إذا كان مسؤول الفرع والمشرف على منظمة كركوك لا يعرف من أين أتى إطلاق النار؟  علماً بأن العديد من القيادات الشيوعية كانت تتولى مناصب عليا في المحافظة ، أذكر على سبيل المثال لا الحصر أن  داود الجنابي (العميد الركن) كان قائد الفرقة الثانية للوحدات العسكرية وذلك بعد نقل ناظم الطبقجلي، ومعروف البرزنجي وهو كادر في الحزب الشيوعي كان سكرتيراً للجنة أنصار السلام وفي الوقت نفسه هو رئيس البلدية، والشهيد نافع يونس سكرتيراً لمنظمة الحزب وعوني يوسف رئيساً للمحكمة (من البارتي) إلى غير ذلك من قيادة الحزب للمنظمات الديمقراطية بمشاركة كردية (البارتي).
وكان مكرّم الطالباني العضو القيادي في الحزب الشيوعي حتى العام 1984 قد اشتكى من تصرّفات بعض الشيوعيين في المدينة الذين كانوا يعتبرونها مقاطعة شيوعية وتكهّن بحدوث انفجار للوضع بين الكرد والتركمان وحذّر من تدهور الأوضاع ومن الصدام الذي ستكون عواقبه وخيمة ولا تحمد عقباه بتقرير رفعه إلى قيادة الحزب الشيوعي، طالباً فيه معالجة الوضع، ولاسيّما تصرّفات بعض الرفاق التي تسيء إلى سمعة الحزب ومبادئه الإنسانية، (ويسمّيهم بالإسم) معتبراً تدخلاتهم لم تبقِ أي قيمة لرئيس الوحدة الإدارية (والمقصود – المتصرف/ المحافظ) وهو ما ورد في مخطوطة مذكرات مكرّم الطالباني والموسومة "الحياة لا تجري دوماً حفيفة ناعمة".
   ولا يمكن الاقتناع بما ورد على لسان الرفيق عزيز محمد، بأن ثمة هرج ومرج قد حصل وجرى إطلاق نار وفي اليوم الثاني حرقت محال تجارية ودكاكين (تعود إلى التركمان) وقُتِل من قُتل وجُرِحَ من جُرح دون تحديد الجهة المسؤولة عن ذلك باستثناء عبارات حول الجهات الخارجية وشركات النفط والقوى المعادية للثورة.
   ظلّت تدور شبهات التواطؤ والمسؤولية بحق الشيوعيين، ولاسيّما الكرد منهم  وبشكل أكبر بحق القوميين الكرد (البارتي)، وهو ما كنتُ قد توقّفتُ عنده أكثر من مرّة، وقد حاولت تقديم قراءة ارتجاعية لتلك الأحداث المأساوية في عدد من المعالجات انطلاقاً من النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء وكشف الملابسات ضمن اجتهادات توصلت إليها عبر حوارات وقراءات وتدقيقات ومقارنات، إضافة إلى شهادات، لاسيّما من طرف الضحايا وعوائلهم. ويمكن الرجوع إليها في كتابي عن سلام عادل " الدال والمدلول وما يمكث وما يزول" وفي مطارحات أخرى .
   وقيّمت لاحقاً قيادة الحزب في العام 1959 ما حدث ، وأقتبس هنا النص الآتي: وفي خضم الصراع وذروته استثمرت عناصر مندسّة بعض الاندفاعات وساقتها في اتجاهات تدميرية أحياناً وإن: "لجوء بعض الجماهير المتأخرة سياسياً إلى أساليب السحل وتعذيب الموقوفين ونهب الممتلكات والتجاوزات على حقوق وحرّيات بعض المواطنين الأبرياء هو أسلوب لا يجمعه جامع مع الكفاح الثوري" وإذا كان ذلك صحيحاً ، وهو صحيح كما أعتقد، فأين دور الحزب الذي كان يهيمن على الشارع تماماً، ومعه المنظمات الديمقراطية والعديد من قادة الجيش في كركوك؟ ولو راجعنا جريدة اتحاد الشعب خلال ما حدث سنرى خطابها مختلفاً عن هذا التقييم. ولعل الجو العدائي السائد في المدينة ونهج احتكار العمل والاحتكاك الكردي- التركماني هو الذي دفع بعض الشيوعيين الكرد  إلى الانخراط بذلك حتى بدون تعليمات من قيادة الحزب، دون أن نهمل دور الجهات المعادية الخارجية والداخلية التي ساهمت في توتير الأوضاع.
   كان جديراً بالحزب الاعتذار عمّا حصل للضحايا وعوائلهم وهو ما يزال مطلباً لدى التركمان تجدّدت الدعوة إليه في العام 2009 في ذكرى 14 تموز (يوليو) . كما كان جديرًا به أيضًا أن يكشف عن المرتكبين وإذا كانوا من بين صفوفه أن يسلّمهم إلى السلطات لتقديمهم إلى القضاء لارتكاباتهم وأن لا يخفي ذلك ، والأجدى به أيضاً أن يقدّم نقداً ذاتياً صريحاً وجريئاً، إذا كان قد تورّط، بناء على معلومات مغلوطة أو تقديرات خاطئة. وما ينطبق على أحداث كركوك يمكن أن ينطبق على أحداث الموصل، لاسيّما في الموقف من الضحايا الأبرياء والقتل خارج القضاء وأجد في مثل هذا الموقف شجاعة ثورية وطهرية نضالية.
   وأكتفي بهذا القدر ويمكن الرجوع إلى آرائي بخصوص ما حصل في الموصل وكركوك بتوسّع في كتاباتي العديدة منذ أكثر من ربع قرن ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتابي : عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل ، وكتابي: المثقف في وعيه الشقي، وكتابي: المثقف وفقه الأزمة ، إضافة إلى كتاب: سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول.
   وعزيز محمد كان قد تطوّع في تقديم اقتراح لحلّ التنظيم العسكري في اجتماع اللجنة المركزية، وإنهاء الوجود المنظّم للحزب الشيوعي في الجيش، ولا أدري على ماذا استند في ذلك ووفق أي حسابات؟ وكيف مرّت أو هُضمت مثل تلك المقترحات في حين كان الحزب في أوج قوته؟ وكان وجود رفاق له في الجيش عامل ردع ضد قوى كانت تتربّص به وبالتجربة الوليدة، وأثبتت التجربة أن حالة الخدر وكذلك عدم اليقظة وإهمال الخط العسكري، ساهم في إمرار المخططات التآمرية.
   وعاش عزيز محمد تجربة ما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 وخط آب 1964 و"سمة العصر" التي كان يتم التنظير لها في إطار طريق التطوّر اللّارأسمالي والتي قال عنها بطريقته الناعمة المُملّحة "أنها لم تصل إلى كردستان" في معرض تعليق يحتوي السخرية والدهشة وعدم الرغبة في إبداء الرأي بشأن التوجّه الجديد للحركة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، والدعوات المعلنة والمبطنة لحلّ الأحزاب الشيوعية، وخصوصاً العربية  وتضخيم دور ما أطلق عليه "الديمقراطيون الثوريون"، وهو تعبير ملطف لـ "البرجوازية  الصغيرة" بسبب صراعات معتقة قديمة وجديدة،  ومراهنة السوفييت على تطوّر بعض أنظمة العالم الثالث ومنها نظام عبد الناصر في مصر ونظام هواري بومدين في الجزائر والنظام السوري في دمشق، لاسيّما بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966، إضافة إلى بعض بلدان آسيا وأفريقيا.
يتبع


149
بحث
حين يراد إخضاع الفلسفة للسياسة
الليبرالية و"الليبرالية الجديدة": إعادة قراءة


عبد الحسين شعبان

   استدار الكثير من الماركسيين والقوميين والإسلاميين نحو الليبرالية، بل تسابقوا في الهرولة باتجاهاتها، باعتبارها خشبة خلاص أو طوق نجاة بعد انهيار التجربة الاشتراكية الكونية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية والعديد مما أطلقنا عليه بلدان " التحرر الوطني"، بل إن الكثير منهم اندفع في "طلاق بائن" بينه وبين الماضي، سواء كان الأمر على نحو معلن لدرجة المبالغة والمغالاة أم على نحو مستتر وغير معلن بالتساوق مع مشاريع خارجية بزعم أهمية ودور " العامل الدولي" في قضية "التغيير والتحوّل الديمقراطي"، ولعلّ أوساطاً عديدة حين تتساوق مع الليبرالية الجديدة  ومشاريعها السياسية تبرّر ذلك بمفاهيم قديمة حول الليبرالية الكلاسيكية، في حين ثمة اختلافات وفروق شديدة بينهما.
I
   إذا الدعوة إلى الحريات وإعلاء قيمة الإنسان التي مثلتها الليبرالية الكلاسيكية قد استهوت نخبة وطنية في بلداننا، فإن أطروحات الليبرالية الجديدة، وشعاراتها بدت متعارضة مع شعوب وتطلعات بلدان المنطقة الهادفة إلى التحرر من ربقة الاستبداد الخارجي ومن صدمة الاستعمار التي ما تزال تأثيراتها مستمرة، فضلاً عن الرغبة في تحقيق التنمية البشرية المستدامة بجميع الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والقانونية ، وبما يؤمن لها السير في طريق التقدم والرفاه؛
   وعلى الرغم من أن الليبرالية الجديدة لم تخفِ وجهها المتوحش منذ البداية، إلّا أنها كانت أكثر سفوراً وهمجية بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك والتي من نتائجها احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، وكان من تعبيرات الليبرالية الجديدة إزاء منطقتنا طائفة من المشاريع الاستعمارية مثل "الشرق الأوسط الكبير" و"الشرق الأوسط الجديد"، فضلاً عن دعم "إسرائيل" في استراتيجيتها التوسعية الاستيطانية الإجلائية، بما فيها اعتبار القدس عاصمة "أبدية" لها، وإهدائها الجولان السورية تحت عنوان "الأمر الواقع"، بل وتأييدها في محاولة ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، في إطار ما يسمى بصفقة القرن؛
   ومع ذلك فهناك من الشيوعيين والقوميين القدامى الذين ملأوا الأرض صراخاً ضد  "الامبريالية العالمية" و"الرأسمالية الاستغلالية" البشعة، إلّا أنهم اليوم يحوّلون رحيلهم نحوها باعتبارها "منقذاً" لا يمكن التخلّص من هيمنة "الإسلاميين"، على الحكم دون دعمها. أما الإسلاميون فقد تناسوا الحديث عن "الشيطان الأكبر"، وأصبحت واشنطن حليفاً وصديقاً استراتيجياً طالما أوصلتهم إلى منصّات الحكم ولذلك، استحقت الشكر على  "تضحية" جنودها الذين اختلطت دماؤهم بدماء العراقيين (خلال غزوها) وهو ما ورد على لسان أرفع مسؤول عراقي حينها خلال زيارته إلى مقبرة إرلينغتون في واشنطن (مدفن جنود الاحتلال الأمريكي في العراق ووضعه اكيلاً من الزهور على أرواحهم (14 كانون الأول/ديسمبر/2011 عشية الانسحاب من العراق، وهو ما دعا الرئيس أوباما للقول أننا ننسحب ونحن مرفوعو الرأس) وهو أمر يحتوي على دلالات قانونية قد تلزم الحكومة العراقية في المستقبل بدفع تعويضات عن مقتل أو إعاقة هؤلاء الجنود.
   وكان عدد من النواب الأمريكان قد أطلقوا حملة طالبوا فيها دفع تعويضات لعوائل الجنود الأمريكان، في حين صدرت أصوات وطنية عراقية مطالبة بتعويض واشنطن لبغداد بسبب الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالعراق جرّاء الاحتلال بما يخالف قواعد القانون الدولي وما يسمّى بالشرعية الدولية، ناهيك عن المزاعم التي روّجت لها واشنطن بصدد أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالإرهاب الدولي وثبت عدم صحتها، حتى أن الرئيس جورج دبليو بوش الذي شن الحرب على العراق وبحماسة من رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، اضطرّ إلى الاعتراف بذلك وهو ما فعله توني بلير لاحقاً.
  فما الفرق بين الليبرالية والليبرالية الجديدة فلسفياً وأخلاقياً واقتصادياً وسياسة وثقافة؟
II
ارتفعت الموجة الليبرالية الجديدة بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وتحلّل النظام الاشتراكي العالمي وحدوث تغييرات في نظام العلاقات الدولية، بتسيّد وهيمنة  الولايات المتحدة كلاعب أساس في العلاقات الدولية ، واحتدم النقاش والجدل حول سؤال مركزي ارتبط مع الهبّة المطالبة بالحريات في منطقتنا، والتي سعت الولايات المتحدة إلى تخصيص مبالغ وإقامة مؤسسات لدعمها والتربية عليها، وذلك تحت عنوان  الليبرالية والتحوّل الديمقراطي، هل هناك علاقة بين الليبرالية الكلاسيكية وبين الليبرالية الجديدة أم ثمة تعاكس وتعارض بينهما؟
لقد نشأت الليبرالية في أوروبا وفي عصر التنوير وصولاً للثورة الصناعية (1750-1850) في صراع مع النظام الإقطاعي ومع هيمنة الكنيسة، وتمكّنت بعد انتصار البرجوازية ونجاح ثوراتها من إقامة الدولة - الأمة State- Nation  استناداً إلى قاعدة الحريات الفردية على المستوى الفلسفي، باعتبارها جزءًا من القانون الطبيعي والحرّيات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي، وفقاً للقاعدة الشهيرة التي روّجت لها " الثورة الفرنسية" 1789 " دعه يعمل ... دعه يمر" ، أي حرّية العمل والإنتاج والسوق، والحرّيات السياسية المدنية على المستوى السياسي مثل: حرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق تشكيل الجمعيات والمشاركة في الحياة العامة والحق في تولي الوظائف العليا دون تمييز .
وقد نجحت الليبرالية في إقامة نظام برلماني يستند إلى المبادئ الديمقراطية وتشجيع الإبداع العلمي والثقافي والفني والأدبي، في مواجهة سطوة الفكر الخرافي والشعوذات التي امتازت بها القرون الوسطى، والتأكيد على العقلانية والعلم وأولية حرية الفرد  .
باختصار بالليبرالية من حيث الجوهر تعتبر الحرّية والفردانية الباعث والهدف من حياة الإنسان لتحقيق سعادته ورفاهه في حاضره ومستقبله وفي تفجير طاقاته ومواهبه، وتلك نقطة جوهرية في جميع المدارس الليبرالية، فضلاً عن ذلك فهي تقوم على منظومة أخلاقية أساسها الانحياز للفرد وحرّيته بجميع أركانها في مواجهة الدولة  .
 ومن أبرز المفكرين الليبرالين جون ستيوارت ميل  الذي يعتقد لكي ينمو رصيد الحرية عند الأفراد فلا بد أن تتوقّف الدولة عند حدود معينة لا تتجاوزها، لأن ذلك سيؤدي إلى الاستبداد ويقول ميل إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد.
أما جون لوك   فيعتبر من أوائل الفلاسفة الليبراليين حيث دعا إلى "العقد الاجتماعي" بالضد من نظرية " الحق الإلهي" التي تدعو إليها الكنيسة ،  وتحدّث عن حقوق الفرد الطبيعية في الحياة والحرّية والتملك، وقد ألهمت أفكاره ثورة الحركة الجارتية في إنجلترا 1688 والثورة الأمريكية 1776، وقد سبقه إلى ذلك هوبز  وبيكون    حيث تعمّق الأخير بالمذهب الحسّي واعتبر زعيمه وهو أحد روّاد الليبرالية الأوائل.
أما آدم سميث   فيعتبر المنظّر الأساسي للمذهب الاقتصادي الفردي بدعوته إلى عدم تقييد المال وإشاعة الحرّية المطلقة في مواجهة الدولة ، ويعدّ بحق "أبو الليبرالية " الذي ساهم في بلورة أفكارها التي تقضي بإزالة العوائق وإطلاق حرّية المنافسة من كل قيد وإبعاد الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي وحفظ مسؤوليتها في حماية الأمن الداخلي والخارجي؛ وحين يسعى الفرد لتحقيق طموحه الشخصي ومصلحته فإنه يحقق بصورة ضمنية مصلحة المجتمع وهو ما أسماه آدم سميث اليد الخفية Invisible Hand  .
لقد تواكب صعود الرأسمالية مع ظهور الحداثة وتطوّرا معاً فالعلاقات الإنتاجية كانت تعني مبدئين رئيسين هما : 1- الحق في الملكية الخاصة باعتباره حقاً "مقدساً" ، 2- حرية الوصول إلى السوق ، لكن هذه الحداثة تظلّ ملتبسة بشأن العلاقة بين السلطة والثروة فهي في الواقع تقوم على الفصل في مجالين ، كما يقول المفكر اليساري سمير أمين : الأول- الحياة الاجتماعية وهو مجال إدارة الاقتصاد المتعلق بتراكم رأس المال والثاني- مجال إدارة سلطة الدولة بالممارسة الديمقراطية عن طريق المؤسسات وحقوق المواطن والتعددية الحزبية وهذا الفصل يفرّغ الإمكانية التحريرية التي تدعيها الحداثة   .
III
الليبرالية الجديدة لا يمكنها اليوم كونياً تجاهل المطالب الشعبية مثل الحد من البطالة وتأمين مستلزمات الصحة والتعليم وقضايا التقاعد والضمان الاجتماعي، كل تلك التي تتطلّب تدخل الدولة أحياناً، وهو ما واجهته الولايات المتحدة بشكل خاص والبلدان الرأسمالية الغربية بشكل عام  في الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت العالم في أواخر العام 2008 وبداية العام 2009 وما زالت تأثيراتها مستمرة، تلك التي فرضت شكلاً من أشكال "تدخل الدولة" إزاء انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة بالضد من الليبرالية الكلاسيكية الأولى التي كانت تريد المزيد من الحرّيات بوجه تغوّل الدولة، في حين تصبح بعض هذه القضايا ملحّة وراهنة، بل لا غنى عنها ، على الرغم من أن الجدل قائم بشأنها فحين أصدر الرئيس أوباما قانون التأمين الصحي Obama Care جاء الرئيس دونالد ترامب ليقوم بإلغائه، والأمر له علاقة بتخصيصات التعليم والضمان الاجتماعي وغيرها.
ويزداد تدخّل الدولة بقضايا العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، وقد برز الأمر على نحو أشد في الصراع الأمريكي - الصيني الذي زاده حدّة تفشي وباء كورونا (كوفيد -19) في مطلع العام الجاري، والذي انعكس تأثيره الكبير على الحياة الاقتصادية والإنتاجية وقطاعات العمل المختلفة، والذي قاد إلى تعميق أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي  بتوجهاته الشعبوية ذات النزعة العنصرية الاستقلالية المعادية للأجانب بشكل عام وللعرب والمسلمين بشكل خاص.
لم يكن بناء النظام الليبرالي قد تم دفعة واحدة، بل احتاج الأمر إلى عدّة عقود أو حقب زمنية كاملة ، ورغم التقدّم الذي أحرزته الفكرة الليبرالية إلّا أن مع مطلع القرن العشرين واجهت مأزقاً جديداً باشتداد ساعد الحركات الثورية والشيوعية بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية البلشفية عام 1917، حيث انشطر النظام الدولي إلى قسمين بما ترك تأثيراته على مستقبله ، خصوصاً الإستقطابات الحادة ، الأيديولوجية والسياسية.
ثمة وجه آخر للصورة فبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وهزيمة الفاشية والنازية اللتان نشأتا في رحم النظام الليبرالي وشكلتا قطيعة معه، تأسست أنظمة عديدة للتحرر الوطني في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وخصوصاً في ستينيات القرن الماضي، لم تكن على توافق مع الفكرة الليبرالية.

IV
يمكن القول إن الرأسمالية دخلت مرحلة جديدة في الخمسينات والستينات كان أهم ملامحها "الحد من الليبرالية المطلقة" وتحديد الدور الذي تلعبه الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي استناداً إلى نظرية الاقتصادي الشهير كينز   حول النقود ، الذي تنبأ باستحالة تجنّب الرأسمالية كنظام من الوقوع في الأزمات الاقتصادية على غرار أزمة الكساد 1929-1933 ، إلّا إذا لعبت الدولة دور الموازن الموضوعي بين قوى الطلب والعرض ، وهو ما عرف "بدولة الرفاه" ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينات، حين اندلعت أزمة جديدة .
لكن النظام الرأسمالي ومن خلال آليات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمكن من مواجهة أزماته من خلال محورين :
 الأول - داخلي بإتباع سياسة ليبرالية جديدة تراهن على إضعاف دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتسعى إلى تغيير أشكال علاقاتها بالقطاع الخاص بما يعني التراجع عن النظرية الكينزية ،
الثاني - يسعى إلى ضخ الأموال الفائضة على البلدان النامية بضمانات كافية بالتخفيف من حدة التضخم الركودي وإعادة احتواء البلدان النامية والسيطرة على أوضاعها الاقتصادية . وهكذا وبعد انتهاء الحرب الباردة جرت عودة إلى "الليبرالية" بمنهج ورؤية جديدين ووجه مختلف تم التعبير عنه بسياسة المحافظين اليمينيين في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الغربية تلك التي عرفت  بالشعبوية  .
وبعد مرور أكثر من قرنين من الزمان ترافق الحديث عن الليبرالية الجديدة بصعود رونالد ريغن في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا في عقد الثمانينات بتعميق الفوارق الطبقية وازدياد نسبة الفقر؛ وعشية انهيار الكتلة الاشتراكية طرح فرانسيس فوكوياما نظريته التي بلورها لاحقاً بعنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير"   الذي ركّز على ظفر الليبرالية " الجديدة" على جميع الصعد باعتبارها النظام الأوحد القادر على دخول عالم ما بعد التاريخ ، وعلى من يريد أن يدخل التاريخ فعليه التخلي عن أيديولوجيته وعقيدته ويفككها ليتسنى له اعتناق الليبرالية التي تقوم على التعددية وحرية السوق واحترام حقوق الإنسان ، وقد اعتبر فوكوياما إن ما حصل من عمل إجرامي يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 جاء ليؤكد ما ذهب إليه سابقاً من أن الليبرالية هي الخيار الإنساني الوحيد والشكل البشري الأخير من أشكال إدارة المجتمع مؤكداً إننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو مرحلة من مراحل التاريخ ، بل "نهاية للتاريخ"   ويعتبر ذلك حتمية تاريخية .
أما صموئيل هنتنغتون فقد  ركّز على " صراع الحضارات" واعتبره أمراً محتوماً باستهداف الإسلام بقيمه وتراثه كونه العدو الجاهز الذي يقف بوجه انتصار الليبرالية على المستويين السياسي والاقتصادي ، ليس هذا فحسب بل اعتبر البوذية والكونفوشيوسية في مواجهة أيضاً مع الحضارة المسيحية الغربية، لأن الفروقات من وجهة نظره ليست حقيقية، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والدين ، مشيراً أن تاريخ الإسلام خلال 14 قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها خصوصاً المسيحية   .

V
لقد عرفنا أشكالاً من الإرهاصات الأولية الليبرالية الكلاسيكية في العديد من بلداننا العربية مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان ، وخصوصاً في الثلاثينات من القرن الماضي وحتى نهاية الخمسينات ، وقد اقترنت تلك الأشكال بالدعوة لإعلاء قيم  الحرية والحقوق السياسية والمدنية وبالتطور المستقل، لكن الموجة الجديدة من الليبرالية في التسعينات والتي اقترنت بسيادة نمط واحد متسيّد على العلاقات الدولية اختلفت عن دعوات الرواد في عالمنا العربي فقد كان هؤلاء مخلصون للقيم الليبرالية الحقيقية في حين أن دعاة الليبرالية الجديدة لا علاقة لهم بالقيم الليبرالية، بل إن ليبراليتهم لا تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الوطنية العليا فكيف تكون ليبرالياً حقيقياً وتوافق على احتلال بلدك أو على ربطه بمعاهدات واتفاقيات مذلة ومجحفة وغير متكافئة، فقد كان الليبراليون الكلاسيكيون العرب دعاة تحرر ورفض للاستتباع وحسبنا هنا في العراق أن نستذكر مواقف كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد وغيرهم، لكن جزع أو يأس أو عدم قدرة على التغيير اضطرت دعاة الليبرالية الجديدة الاستعانة بقوى خارجية على أوطانهم تحت تبريرات سياسية في جوهرها خارج دائرة الأطروحات الفلسفية والأخلاقية لليبرالية الكلاسيكية.
وإذا كان حال بلداننا يحتاج إلى تغيير جذري يأخذ بنظر الاعتبار القيم الليبرالية الكلاسيكية تلك التي تعلي من شأن الفرد والحرّية السياسية والمدنية واحترام حقوق الإنسان، إضافة إلى الحرّية الاقتصادية دون أن ننسى دور الدولة كضامن في العالم الثالث لتسريع التطور والتغيير ، وتلك واحدة من خصائص التغيير الذي تنشده شعوب هذه المنطقة ، وهو ما ذهب إليه قرار للأمم المتحدة لعام 2000   الذي نصّ على أن قضية الديمقراطية على المستوى العالمي هي ذات طبيعة استراتيجية وتستند إلى ثلاثة أسس :
الأول - لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية ؛
والثاني - التنوّع والطبيعة الغنية للشعوب وتجاربها؛
والثالث - المشترك الإنساني في التجربة البشرية بمعنى أنها نتاج تفاعل التجربة الإنسانية بحضاراتها المختلفة والمتنوّعة.
وأكّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمية 2015 أن "الديمقراطية قيمة عالمية تستند إلى إرادة الشعوب المعبّر عنها بحرية في تحديد نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإلى مشاركتها الكاملة في جميع نواحي حياتها" .
وكان زعماء العالم قد أعلنوا في إعلان الألفية الثالثة بألّا يدّخروا وسعاً لتعزيز الديمقراطية وتوطيد سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وهو ما أكّدته في العام 2015 بتحويل عالمنا للتنمية المستدامة (جدول أعمال 2030).
وأستطيع القول أن الجيل الليبرالي العربي الأول يتمثل بـ: أمين الريحاني وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى ويعقوب صروف وقاسم أمين وعبد الفتاح ابراهيم وكامل الجاردجي وحسين جميل ومحمد حديد وهاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وفرح انطوان وشبلي شميل ، ويمكن اعتبار محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفعت الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وآخرين جزء من التيار الليبرالي العام وهؤلاء  لا يربطون رابط مع تيار النيوليبرالية، خصوصاً وأن هؤلاء جميعاً أو غالبيتهم الساحقة كانوا دعاة تحرر من ربقة الاستعمار والاستبداد ودعاة حرية  .
إن إخضاع الفلسفة للسياسة وهو منهج  الليبراليين الجدد  أفقد الفلسفة الليبرالية أي بعد فلسفي لدرجة لم يعد مفهوم الليبرالية الذي يدعون له على علاقة بالليبرالية الكلاسيكية ، والأمر سيّان سواء الليبرالية الجديدة الأمريكية والغربية اليمينية ، الشعبوية العنصرية، أم دعاة الليبرالية الجديدة في مجتمعاتنا حتى وإن تغلّفت بمهمة الوقوف ضد الاستبداد، فمثل هذه المهمة النبيلة لا ينبغي أن تتساوق مع الاستتباع وقبول الطغيان الخارجي بزعم التخلص من الاستبداد الداخلي، فأية ليبرالية رثة تلك التي تقبل بذلك؟  وللأسف لا يميّز البعض بين القواعد الديمقراطية والبعد الفلسفي لليبرالية  من جهة وبين الليبرالية الجديدة ذات الوجه العنصري الاستعلائي، والتي اتخذت منحى شعبوياً في الغرب لا علاقة له بالاتجاه الليبرالي الكلاسيكي،  ويزداد الأمر غرابة حين يتخذ الاصطفاف الطائفي والمذهبي والإثني  في بلداننا من العباءة الليبرالية وسيلة لمشروعه السياسي، الذي لا علاقة له بالمنظومة الفلسفية الليبرالية.
ولعلّ النقد الأساسي  الذي يواجهه الليبراليون الجدد، ولاسيّما في بلداننا  هو عدم الربط بين الحرّية وضرورة التحرر ، وبين الممارسة الديمقراطية والتنمية للارتقاء بحاجات المجتمع وخصوصاً من الفقراء والمعدمين  ، فضلاً عن ذلك إن استمرار الولاءات العشائرية والقبلية والطائفية والدينية، أي ما قبل الدولة وما دونها، تقف حائلاً أمام الفكرة الليبرالية بمعناها الكلاسيكي، بسبب غياب ثقافة مدنية وحقوقية تستند إلى المواطنة ، وهو الأمر الذي يصطدم مع الحداثة، لاسيّما بسيطرة الثقافة التقليدية والنزعة المركزية المتأصلة في الواقع العربي والدور الخارجي المتحكّم باقتصاديات بلداننا والذي أدى إلى إضعاف مبادئ السيادة لصالح العولمة .


150
عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عبد الحسين شعبان

I

"ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به"
الإمام علي
تمهيد
في روايته " الضحك والنسيان" يتناول الروائي التشيكي ميلان كونديرا بسردية ممتعة وشائقة: الحلم والتأمل في إطار هارموني تجتمع فيه الأكاذيب أحياناً إلى جانب الحقيقة، بل تتماهى في بعض الأحيان، ولا أريد هنا أن أستعجل القراءة بالمديح وإبراز المحاسن، مثلما لا أرغب أن أسجّل سبقاً في النقد السلبي وإظهار المساوئ، فكلا الحالين يؤديان إلى إصدار أحكام قد تكون خاطئة، فضلاً عن كونها إغراضية، مثلما تثير الحساسية الشديدة، سواءً بالإيجاب أو بالسلب، لكنني أحاول أن أقارب الحقيقة كي لا تضيع أو تشوّه أو تحرّف وهدفي هو عدم إهمال التاريخ أو عزله عن الواقع الحاضر، وهذا سيؤدي إلى  عدم الاستفادة من دروسه وعبره، لاسيّما في لحظة نحن أحوج ما نكون فيها إلى "التدوين".
وأدركُ أن إشكاليات التوظيف في الحالين ستكون موجودة، ولهذا سأحاول قدر الإمكان البحث في المعاني والدلالات: فبعد أكثر من 70 عاماً على نضال عزيز محمد، لم يتعرّف عليه كثيرون ولنقل بما فيه الكفاية،بمن فيهم من في الحزب الذي أدار دفته لنحو 3 عقود، أو ولاسيّما في ظروف العمل السرّي، ولم يقرأوا ما يقوله عن نفسه قراءة موضوعية منصفة على نحو نقدي خلال مسيرته الحافلة، مثلما لم تظهر دراسات بحثية عنه بمستوى الموقع الذي شغله.
ولا أزعم أنني عرفت عزيز محمد حق المعرفة أو حتى أعرفه بصورة جيّدة، فقد عرفته كغيري من الشيوعيين، مع اختلاف أنني متابع وباحث أحاول أن أجعل المعرفة الشخصية تصبّ في إطار مشروعي الكتابي والفكري، وكنتُ قد سألته قبل عقدين ونيّف من الزمان لماذا لا تكتب مذكّراتك يا رفيق؟ وكان في كل مرّة يعتذر بعذر ظلّ يتمسّك به وهو ما سأورده في فقرة أخرى.
وحتى الآن فإن ما كُتب عنه لا يعطيه حقه، فالتقييم الإيجابي كان يقترب إلى كلمات المدح والتمجيد، أما التقييم السلبي، فإنه يتّجه أحياناً إلى كلمات القدح والذم، وكلاهما يجانب الموضوعية، خصوصاً وبعضها يتيه في الصراعات، فلم يتمّ الكشف عن جوهر شخصيته ما يفكّر به الرجل خارج الإطار العام للحزب، وكيف يتعامل كإنسان؟ وماذا يحب؟ وماذا يكره؟ وكيف قضى طفولته، وكيف تكوّنت شخصيته؟ وما هي المؤثرات الاجتماعية والنفسية عليه؟ وما هي روافده الروحية؟ وبمن تأثّر؟ وكيف ينظر إلى الماضي؟ وكيف يقيّم نفسه ومسيرته؟  وأين يقف من الأخطاء؟ وكيف يقيّم أخطاءه؟ وما الفرق بين الأخطاء والخطايا؟ وحسب أفلاطون " يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكل روحك".
ولم نطّلع على الجوانب الإنسانية والشخصية والحياتية لعزيز محمد لدرجة أن بعض الغموض والإبهام، بل وحتى الالتباس ظلّ يغلّف شخصية الرجل الشديد التواضع، وقد يكون الأمر ناجماً عن عدم رغبته في الحديث عن نفسه أو البوح بما هو خاص أو خشيته من التصريح لاعتبارات اجتماعية، حيث كان غالباً ما يميل إلى التلميح والعموميات،  أو حتى دون شعور بأهمية تقديم تجربته للآخرين، وقد يشعر أن في ذلك شيء من اللّاجدوى أو اللّافائدة، لست أدري؟ ولكن لماذا أحجم عن كتابة تجربته وتدوين مذكراته أو بعض محطّاتها الأساسية، وهناك من تطوّع له بإعدادها بالشكل المناسب؟ تلك أسئلة بحاجة إلى المزيد من البحث والتأمل.
ولهذا يبقى ما كُتب عنه أحادياً أو حزبويًا وبعضه إثبات حضور وإظهار وجود أو صحيفة أعمال كما يسمّيها الرفيق بهاء الدين نوري، كما إنه جاء عاماً فكأنه لم يقل شيئاً وكان شديد الحذر، حتى وإن حاول البعض " تقويله" في ظرف نفسي وصحي ليس مناسباً، بما يلغي مهمة النقد، خصوصاً حين يتم تضخيم الإيجابيات وكيل المدائح وتدوين ما هو صحيح، أو على العكس إبراز السلبيات والنواقص وإظهار ما هو خطأ.ووفقاً لابن عربي "الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدّد السالكين"  والحقيقة نادراً ما تكون خالصة وليست بسيطة قطعاً كما يقول أوسكار وايلد.
المعرفة الشيوعية
أعتقد أننا بحاجة لأن نؤسس معرفة جديدة من خلال تناول سيرة ومواقف أحد أكثر أمناء الحزب تعتّقاً في موقعه ومعمّراً في حياته (1924- 2017)، ولا تكتمل تلك المعرفة دون النقد ولا قيمة لتجربة دون نقدها، فالنقد هو الشرط الأساسي لتأسيس المعرفة ونموها وتطوّرها، سواء بقراءة التاريخ أو بدراسة الحاضر، بما فيها أزمة العمل العام واستشراف المستقبل.
ولعلّ أزمة العمل السياسي والحزبي هي ظاهرة دولية اليوم، وتبرز بشكل أكبر في ظروف البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، والعراق بشكل خاص، ولاسيّما بعد الاحتلال، ولذلك يقتضي منّا وضعها على طاولة البحث استناداً إلى مناهج النقد المعرفي والتحليل السياسي- الاجتماعي والنفسي، والمقصود بذلك نقد اليقينيات والقدسيات والفرضيات والمنطلقات، فقد فتكت المسلّمات بالحركة الشيوعية بشكل خاص والحركات القومية والإسلامية بشكل عام حين هيمنت النزعة الدوغماتية إلى أقصى الحدود، وكان من نتائجها على المستوى العملي الانتهازية والصراع على المواقع بصورة مشروعة ولا مشروعة، إضافة إلى الشعبوية على المستوى السياسي، ناهيك عمّا صاحبها من عنف وقمع حتى داخل الأحزاب السرّية، وقاد ذلك في ظل المركزية البيروقراطية إلى الانشقاقات والإنشطارات والانقسامات، وما أسفر عنها من تراشق واتهام وارتكابات واختراقات، استفاد منها أعداء تلك الحركات، لاسيّما في ظلّ ضعف الجانب الفكري والثقافي لإدارة الحزب وانشغالها في أغلب الأحيان بتسيير دفة الحزب في أعمال مسلكية وروتينية.
نقد السياسة
لقد ركّزنا جلّ عملنا لنقد السلطة، خصوصاً حين تمارس الحكم نخبة متحكّمة ومستبدّة، وأشحنا النظر عن نقد سياسات الأحزاب والقوى السياسية المعارضة أو الموالية أحياناً، فلا فرق في ذلك، وهدف النقد هو الرغبة في إرادة التصحيح والتصويب وتعديل المسار والمراجعة للبناء على ما هو إيجابي والتخلّص مما هو سلبي، ناهيك عن  التناغم مع فقه الواقع الأساس في التقييم.
لقد ظلّ التوجّه السائد في الحياة الحزبية بنزعاته المختلفة أقرب إلى تمسّك إدماني أعمى، باعتبار ما هو قائم من سياسات وتعليمات "واجتهادات" يمثّل مستودع الحقيقة والمرجع المتعالي الذي يتم فيه تعديل الميزان، وفي إطار منطوقه وفي سياق حججه تنجلي الحقيقة، ومثل هذا الافتراض كان يمثّل جوهر  التوجّهات ذات النزعة الدينية - الإلهية، لكنه لم يبقَ حكراً عليها، بل امتدّ إلى السياسة وإلى الإدارات الحزبية في السلطة وخارجها، وهكذا أُضيف الفكر والثقافة والسياسة إلى الدين، في النظرية والممارسة العملية، الأمر الذي قاد بالتدرّج إلى انحطاط السياسة وتخلّفها، لاسيّما بالانفصال عن الواقع، وهذا الأخير بطبيعته متغير وليس هناك من يقين أو ثبات فيه.
وهل تكفي بضعة نصوص تصدر عن هذا "القائد" أو تلك "الإدارة الحزبية" أو ذلك "المسؤول" لتصبح مصدر الحقيقة ومرجعية العمل السياسي أم أن الواقع الذي يتحرّك فيه الحزب خارج دائرة العقائدية هو الذي ينبغي أن نبني أحكامنا عليه وفي ضوئه؟ فحتى الفكر هو انعكاس للواقع، وليس العكس، لكن تخلّف الوعي ومحاولة بعض الإدارات الحزبية أن تضخ مثل تلك المفاهيم ذات الطبيعة القدسية بنصوصها أو تعاليمها هي التي دفعت بالجموع الحزبية للانصياع لها، تحت عناوين "وحدة الإرادة والعمل".

يتبع

151
ثلاثة عقود على غزو الكويت .. كارثة مدمّرة
عبد الحسين شعبان

 
الصحوة من المفاجأة
ثلاثة عقود على غزو الكويت .. كارثة مدمّرة – عبد الحسين شعبان
قبل ثلاثين عاماً، وبالتحديد في 2 آب (أغسطس) 1990 استفاق العالم على مفاجأة كاد ألّا يصدقها لولا ما نقلته الأقمار الصناعية من صور عن اجتياح الدبابات العراقية الحدود الكويتية،  وإذا كانت العلاقات  العراقية- الكويتية قد تدهورت في الأسابيع الأخيرة قبل الغزو، ولكن لم يكن بإمكان أحد التكهّن بما سيقرره الرئيس العراقي صدام حسين من قيامه بمغامرة سيدفع العراق والكويت والمنطقة أثمانها الباهظة والتي ما تزال بعض فصولها مستمرة إلى اليوم، علماً بأن أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح  كان قد زار بغداد قبل ثلاثة أشهر من الغزو ومنحه الرئيس العراقي خلال زيارته تلك وسام الرافدين من الدرجة الأولى، وهو أعلى وسام عراقي (أيار /مايو/1990 ) وقيل فيه ما لم يقله مالك في الخمرة كما يقال؛ وذلك تأكيداً على امتنان النظام العراقي وعرفانه بالجميل لوقوف الكويت إلى جانبه في الحرب مع إيران التي دامت ثماني سنوات بالكمال والتمام (1980-.(1988
اسباب حقيقية
            وثمة أسئلة تبرز على هذا الصعيد: لماذا حصل الغزو؟ وما هي الأسباب الحقيقة التي تقف خلفه؟ وهل كان بالإمكان تسوية الخلاف العراقي – الكويتي سلمياً؟ ابتداءً أقول أن فكرة الغزو والمغامرة الحربية والاستقواء على الآخر كانت في رأس الرئيس صدام حسين وحده، وهو لم يشارك فيها حتى وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه، وباستثناء ثلاثة من الدائرة المحيطة لم يكن أحد في العراق يتصور حصول مثل هذه المغامرة بعد مأساة الحرب العراقية- الإيرانية، والأشخاص الثلاثة هم أركان العائلة: قصي الابن الثاني للرئيس وحسين كامل صهر الرئيس وعلي حسن المجيد ابن عمه، الذي أصبح عملياً حاكماً للكويت خلال غزوها وهو المعروف باسم علي الكيمياوي، نسبة إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة كما أشيع حينها.
            وإذا كانت المفاوضات قد فشلت بين الشيخ سعد ولي عهد الكويت ونائب الرئيس العراقي عزت الدوري، وقيل فيها ما قيل، وتوّلد عنها ردود فعل غاضبة، فذلك مجرد سيناريو لمسرحية سمجة، وحسب تقديري فإن الضائقة الاقتصادية كانت السبب الأول للغزو، خصوصاً وقد بدّد العراق فوائضه المالية التي كانت تقدّر بـ 37 مليار دولار قبل الحرب، إضافة إلى ديون جديدة زادت على 60 مليار دولار حسب بعض التقديرات عند انتهاء الحرب، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط؛
            كما أن تضخّم الجيش العراقي الذي بلغ نحو مليون جندي، عاظم من حجم المشكلة الاقتصادية، ولم يكن بوسع سوق العمل احتواء الجنود الذين سيتم تسريحهم، كما ليس بإمكان إيجاد فرص عمل جديدة لهم، خصوصاً بعد توقّف المساعدات الخليجية (المملكة العربية السعودية والكويت)، وهذا هو السبب الأساسي الثاني، أما السبب الثالث فيعود إلى شخصية الرئيس العراقي صدام حسين التي تتميز بالغرور والعنهجية والاستعلائية التي كان يتصرف بها إزاء الخليجيين ، وطموحه في أن يصبح زعيماً على المنطقة ، ولتحقيق ما عجزت عنه بعض الشخصيات العراقية التي كانت تمتلك ذات الطموح، لكنها لم تتمتّع بنفس القدرة من المغامرة وعدم الشعور بالمسؤولية، وفي مقدمتها الملك غازي والزعيم عبد الكريم قاسم.
            إن ضيق أفق الرئيس العراقي وقصر نظره وعدم معرفته بقواعد العلاقات الدولية وما سمّي بالنظام الدولي الجديد، خصوصاً بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وبداية تفكك الكتلة الاشتراكية ودولها والاتحاد السوفييتي، فضلاً عن استدراجه عبر لقائه بالسفيرة الأمريكية  ابريل غلاسبي  قبل الغزو والقائم بالأعمال جو ويلسون بعده، هو ما دفعه للاعتقاد بأن واشنطن قد لا تتدخل عسكرياً إذا ما وقع غزو الكويت، بعد أن أوحى لهما بأن بغداد  هي الأجدر بتطمين مصالح واشنــــــطن في المنطقة .
             وكان قد صدر مؤخراً كتاب مهم للمفكر والدبلوماسي الكويتي عبدالله بشارة وهو كاتب ومحاضر ومحلل سياسي رفيع المستوى، وقد عمل مندوباً دائماً لدولة الكويت في الأمم المتحدة منذ العام 1971 ومثّل الكويت في مجلس الأمن الدولي 1978-1979 وكان رئيساً للمجلس في شباط (فبراير) 1979 وبشارة هو أول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي 1981 واستمر في موقعه 12 عاماً.
تجربة متميزة
            ولذلك تأتي تجربته متميّزة وجديرة بالقراءة، لاسيّما وأنها من قلب الحدث ، وقد تناول في كتابه الموسوم ” الغزو في الزمن العابس- الكويت قبل الغزو وبعده” (منشورات ذات السلاسل ، الكويت، (2019   تاريخ العلاقات العراقية – الكويتية ، ومقدمات الغزو وما بعده ، وقد أهداني مشكوراً نسخة من الكتاب مرفقة بعبارات صداقية. يقول بشارة في مقدمة الكتاب أن صدام حسين أراد أن : يدخل أبواب التاريخ كزعيم حقق أحلامه في ضم الكويت باعتبارها المحافظة التاسعة عشرة، حيث تكشف وثائق الغزو هوسه بالتاريخ من جهة، إضافة إلى شهيته في التوسع، ناهيك عن ضياع المنطق وغياب النصيحة . ويعدّ هذا الكتاب، إضافة إلى كتابه السابق” حروب الكويت الدبلوماسية” مادة تاريخية  لا تخص مسألة الغزو وما رافقها، بل دراسة في طبيعة العلاقات العراقية – الكويتية  وبحث مستفيض في الادعاءات  والاستهدافات التي تخص دولة الكويت منذ تأسيسها في العام 1961 وإلى اليوم.
            تضمن الكتاب ثمانية فصول، تناول في الفصول الثلاث الأولى تاريخ العلاقات، بما فيها الشهية إلى مشاريع التوسّع والضم منذ قيام المملكة العراقية، ولاسيّما في فترة الثلاثينات وفيما بعد في العهد الجمهوري خلال حكم عبد الكريم قاسم ومطالبته بالكويت وتشمل فترة استلام حزب البعث السلطة في العام 1968حتى غزو الكويت.
            ويسلط في الفصلين الرابع والخامس الضوء على الغزو والجهد الكويتي والعربي لإعادة الشرعية ثم يتناول مسار التحرير التاريخي وصولاً إلى خيمة صفوان ويبحث في موضوع الأسرى الكويتيين والمفقودين؛ أما في الفصلين السادس والسابع فإنه يبحث في تداعيات الحرب ولجنة نزع السلاح وصولاً للاحتلال الأمريكي العام 2003 ويركز فيه على سايكولوجية صدام حسين ومحاكمته والتحقيق الأمريكي معه، ليختتم في فصل ثامن عن حياة الكويت بعد التحرير وآفاق المستقبل بالارتباط مع مجلس التعاون الخليجي.
            ويثني مؤلف الكتاب على تسامح القيادة الكويتية في معالجتها للأزمة مع العراق وتعاملها بشجاعة وحكمة دون حقد أو كراهية، ولاسيّما دعوتها إلى علاقات خالية من الاشتياق إلى مفردات الماضي، وإن كان “ماضٍ لم يمض” على حد تعبير الكاتب د. حامد الحمود العجلان، الذي عاش فترة الغزو بكل تفاصيلها المأسوية دون أن تترك في نفسه كراهية أو ثأراً أو انتقاماً من العراقيين، لأنهم هم الآخرون كانوا ضحايا ، ويدعو عبدالله  بشارة إلى تحويل الأولوية إلى تعاون شامل في اعتراف عراقي أبدي في قبول الواقع الذي أفرزته عملية الغزو في خريطة العلاقات بين البلدين بكل جوانبها.
كارثة مدمرة
            ومثلما كان الغزو مأساة حقيقية على الكويتيين، فقد كان كارثة مدمّرة على العراقيين أيضاً، الذين كانوا بين نارين، فلم يكن الغزو باسمهم مثلما لم تكن الحرب باسمهم أيضاً، وإن تمكّنت نخبة وطنية  خارج البلاد من التعبير عن ذلك، بدعوتها إلى سحب القوات العراقية ونزع فتيل الحرب وتفويت الفرصة على القوى المتربصة بالعرب إقليمياً ودولياً، وهنا أستذكر بعض الشخصيات العراقية التي أصدرت نداءً عاجلاً إلى الرأي العام  تحت عنوان ” لتتوقف الحرب فوراً ، ولتنتصر إرادة السلام والخير ” وقد وقّع عليه كل من صلاح عمر العلي ونوري عبد الرزاق ود. تحسين معلّه ود. إياد علاوي واسماعيل القادري وبلند الحيدري ومحمد الظاهر وعدنان المفتي ود. مهدي الحافظ وعادل مراد ود. محمود عثمان وهاني الفكيكي ود. مصطفى جمال الدين وآخرون، وكان لكاتب السطور شرف كتابة البيان، الذي أعقبه بإصدار كتاب بعنوان: المحاكمة – المشهد المحذوف من دراما الخليج ، دار زيد، لندن،  1992? وفيه دعوة لمحاكمة من تسبب في الغزو وتداعياته، ولاسيّما الحصار الجائر على العراق.
            لكن المحذور قد حصل وما يزال العراق منذ 30 عاماً ينزف دماً.
{ باحث ومفكر عربي


152
المنبر الحر / لبنان.. الوجه الآخر
« في: 20:51 12/08/2020  »
لبنان.. الوجه الآخر

عبد الحسين شعبان
الانفجار المرعب الذي دمر مرفأ بيروت 4 أغسطس/ آب الجاري، والذي راح ضحيته أكثر من 150 قتيلاً، وأكثر من 5 آلاف جريح، ولا يزال العشرات والمئات تحت الأنقاض، أو في عداد المفقودين، كان كارثة حقيقية، تضاف إلى معاناة اللبنانيين منذ سنوات التي شملت جميع مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها، ابتداء من أزمة النفايات، ومروراً بأزمة الدولار، وانهيار سعر الليرة اللبنانية، والتي توّجت بأزمة المصارف، وأزمة البنزين والمازوت، إضافة إلى أزمة الكهرباء المعتّقة التي تبدو بلا أفق منذ ثلاثة عقود ونيف من الزمان، وأزمة الماء الصالح للشرب، مروراً بجائحة «كورونا»، وصولاً إلى الانفجار الرهيب الذي ألحق خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات العامة، والخاصة، والتي تقدّر بنحو 15 مليار دولار في بلد يعاني شحّ الموارد، وبطالة، وفرص عمل قليلة، خصوصاً إغلاق محال تجارية وخدمية وسياحية، والاستغناء عن خدمات أكثر من 400 ألف عامل، يضاف إليهم أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى بعد الانفجار.
أقول بغض النظر عن كل هذه المشاهد المأساوية، وفساد الطبقة السياسية، وصراعاتها المبدئية وغير المبدئية، واستقواء بعضها على الآخر بالسلاح، أو بالخارج، مع تهديدات واختراقات العدو «الإسرائيلي» المتكرّرة، والمستمرة، فإن هناك وجهاً آخر للبنان عرفناه خلال هذه المحنة، ومن ملامحه أنه يحظى باهتمام عالمي قلّ نظيره من فرقاء مختلفين على كل شيء، إلّا على أن يكون لهم نفوذ في لبنان ومصالح متضاربة، أو متوافقة أحياناً مع الفرقاء الدوليين، والإقليميين، وبالطبع مع القوى اللبنانية المتصارعة والمؤتلفة - المختلفة في إطار حكم يقوم على الطائفية السياسية والزبائنية للحصول على المغانم والمكاسب والمواقع، تلك التي قام عليها دستور لبنان، وتكرست بفعل الأمر الواقع على نحو أشد في اتفاق الطائف عام 1990 بعد حرب أهلية دامت أكثر من 15 عاماً.
المظهر الإيجابي في لبنان - الوجه الآخر، هو التضامن المجتمعي الذي شهده خلال الكارثة الأخيرة والذي تم التعبير عنه بوسائل مختلفة، سواء من المجتمع المدني، أو المجتمع الأهلي، أو المؤسسات الثقافية والإعلامية والأكاديمية والدينية، وهو ما خفف إلى حد ما من آثار المأساة التي وصفت بأنها أقرب إلى هيروشيما لضخامة الانفجار، واتساع أضراره المادية والبشرية، وشموله لأحياء بيروتية كاملة دمّرت بشكل تام، أو شبه تام، أو تعطلت إمكانية الحياة فيها والتي قد تحتاج إلى وقت طويل لمعالجتها.
وأظهر اللبنانيون مثل هذا التعاضد والتساند ونكران الذات على نحو رائع، والتكافل الاجتماعي خارج الطائفية السياسية السائدة، فنزلوا نساءً ورجالاً، شباباً وشيوخاً، إلى الشوارع والساحات العامة كل حسب قدرته، ليجلوا آثار المأساة الكارثية، وليساعدوا الجهات والهيئات المختصة الطبية والإنقاذية والفرق الخاصة بإطفاء الحرائق وانتشال الضحايا وإسعاف من هم على قيد الحياة، حتى أن المستشفيات امتلأت بأعداد كبيرة من الجرحى، وبعضهم في حال خطرة، في حين أنها بالأساس كانت تعاني نقصاً في الخدمات الصحية، وهو ما تم التعبير عنه خلال أزمة «كورونا» منذ فبراير/ شباط الماضي، والتي لا تزال مستمرة إلى الآن.
وأثبتت الأحداث حيوية وطاقة وتضامن اللبنانيين لدرجة أعجبت العالم، الذي هو الآخر سارع للتضامن معهم في هذه الكارثة الإنسانية، بإرسال فرق طبية وخدمية ومساعدات، إضافة إلى طواقم فنية لإجلاء آثار الكارثة والتي قد تحتاج إلى فترة غير قصيرة لإعادة الإعمار، والأمر يحتاج إلى دعم ومساعدة دولية، سواء من الهيئات والمنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو من دول يرتبط لبنان معها بعلاقات تاريخية، فضلاً عن المجتمع الدولي والأمم المتحدة التي لا بدّ أن تضطلع بمسؤولياتها إزاء لبنان بمساعدته في اجتياز هذه المحنة، ولا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوحدة الوطنية، والشروع في إصلاحات حقيقية، ومحاربة الفساد، وإعلاء مرجعية الدولة ووحدة قرارها، بما يصب في مصلحة جميع اللبنانيين، ويعزز علاقتهم مع أشقائهم العرب ومع مختلف دول العالم على أساس سيادتهم وتعزيز صمودهم للدفاع عن حقهم العادل والمشروع في اختيار نظامهم الاجتماعي، وفي دعم النضال الفلسطيني.
ولعل جميع تلك الأحداث، أو المطالب كانت شعارات عامة لانتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 التي لا تزال مستمرة، وعلى أساسها تشكلت الحكومة الحالية (المستقيلة)، وإذا لم تتمكن من تحقيق ذلك، فإن رحيلها يصبح تحصيل حاصل، وهو ما بدأ الحديث عنه بصوت عال بعد الانفجارات الأخيرة.
drhussainshaban21@gmail.com


153
" الحزب الشيوعي العراقي في صعوده ونزوله"
الإخلاص للمعرفة والهوى الصعب

بقلم: عبد الحسين شعبان*

"وتبقى النظرية رمادية بالية وأما شجرة الحياة فيافعة خضراء"
الشاعر الألماني غوته
I
وفرة المصادر التي اطّلع عليها البروفسور طارق يوسف اسماعيل والتفاصيل التي  اقتفى أثرها والمعلومات التي اختزنها والمقابلات المباشرة التي أجراها مع عدد من القياديين والدقة والأمانة التي تحلّى بها،  كوّنت لديه صورة تكاد تكون شبه متكاملة عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بكل تضاريسها ومنعرجاتها وتموّجاتها وألوانها المشرقة والغائمة بما فيها بعض نقاطها المعتمة.
وعلى غرار حنّا بطاطو أدرك طارق اسماعيل  مثله مثل العديد من الباحثين الأكاديميين الجادين، أنه لا يمكن الحديث عن الحزب الشيوعي دون الحديث عن الدولة العراقية والعكس صحيح تماماً، فقد ترافق تاريخ اليسار عموماً والحركة الشيوعية خصوصاً، مع تاريخ الدولة التي تأسست في العام 1921 بتنصيب الأمير فيصل الأول بن الحسين شريف مكة ملكاً عليها في 23 آب (أغسطس) وسنّت دستورها الدائم (الأول) في 21 آذار (مارس) العام 1925، وانضمت إلى عصبة الأمم العام 1932، وكانت عضواً مؤسساً وفاعلاً في جامعة الدول العربية عند تأسيسها في 22 آذار (مارس) العام 1945، وعضواً مؤسساً في هيأة الأمم المتحدة التي تأسست في سان فرانسيسكو في 24 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1945.
الميزة الأولى لكتاب طارق اسماعيل " الحزب الشيوعي العراقي في صعوده ونزوله" هي الكثافة والعمق الذي تجلى بالإدهاش والمفاجأة في الآن، فحين يأتي طارق اسماعيل على تفصيل أو رأي أو يقتبس قولاً يبدو لك متكاملاً ويحاول أن يقنعك وكأنه صاحبه وليس اقتباساً، ثم يأتي على رأي آخر أو جزئية أخرى أو اقتباس ثان وإن كان عكس الأول ، لكنه يمضي به إلى النهاية ليستكمله ويحاول إقناع القارئ بمبرّراته، وهكذا يحاول مع النظائر المختلفة، لدرجة يضعك حائراً وعليك أن تستخدم عقلك ومخزونك الفكري والثقافي، لكي تميّز بين هذا وذاك، وتلك ميزته الأكاديمية الثانية.
فهو لا ينقل رأياً أو وجهة نظر أو قولاً دون أن يمحّصه ويتابعه ويبحث في أسانيده، وحين ينقل رأياً معاكساً ويأتي على وجهة نظر مخالفة أو يقتبس قولاً آخر يفعل الشيء ذاته بعدالة كاملة ودون انحياز مسبق، ولا يعني هذا أنه لا يمتلك وجهة نظر خاصة أو رأياً متبلوراً، لكنه لا يقدّمه للقارئ لكي لا يؤثر على وجهة نظره ويستحوذ على تفكيره، إنما يقلّب الآراء أمامه ويخضعها لمختبره ويجري عليها تحليلات لتخرج في نهاية المطاف طازجة تعبّر عن حقيقة ما حدث وقادرة على الإقناع، وتلك وظيفة البحث العلمي  وهي ميزته الثالثة.
ومثل تلك الطريقة وهذا الأسلوب يجنّباه الجمود والجفاف الذي تمتاز به بعض الأبحاث الأكاديمية ، بل إنه بتعريضه الآراء جميعها للنقد والرأي والرأي الآخر، يمنح القارئ فرصة الاختيار مثلما يجعل من سرديته تتمتّع بجاذبية جديدة فوق ما فيها من قيمة علمية، فتراه أحياناً يسعى لإشراك القارئ لينظر إلى ما هو هامشي أو عابر أحياناً من منظور جوهري وثابت، لأن الكتابة عن الحزب الشيوعي وتاريخه أقرب إلى المغامرة وهناك العديد من الباحثين تجنّب الاقتراب منها، في حين سلك طارق اسماعيل دروبها الوعرة بشجاعة وتجرّد، واقتحم ميدانها وهو مسلّح بمعرفة وعلم وضمير يقظ، لاسيّما بعد أن تكدّس لديه كمٌ هائل من المعلومات والكتب والدراسات عن تاريخ الحركة الشيوعية وقياداتها في العالم العربي، كما امتاز بصداقاته لعدد منها ولقاءاته المتكرّرة لاستكمال مهمته، فضلاً عن معرفته بالخريطة السياسية والفكرية العراقية والعربية بمدارسها المختلفة ، ليس هذا فحسب، بل إن بقاءه في المحافل الأكاديمية في الغرب أعطاه فسحة أكثر حرية وانفتاحاً، خصوصاً وهو غير محازب أو منحاز وتلك ميزته الرابعة.
ويعرف طارق اسماعيل أن مغامرته تهدف إلى البحث عن الحقيقة، فتقدّم إليها مؤمناً بما يكتب وبما توصّل إليه من استنتاجات يحاول وضعها مخلصاً أمام القارئ، ولاسيّما المعني بشكل خاص، وهو إذْ يفعل ذلك فإنه يضع عصارة تجربته الحياتية والأكاديمية ورحلته الطويلة مع البحث العلمي الذي زاد على نصف قرن في خدمة القارئ وفي عهدة التاريخ ،أميناً عليها جاعلاً الحرف والحق والمعرفة فسيفساء متداخلة في مشغله لا يمكن أن ينفكّ أحدها عن الآخر، لأنها مترابطة عضوياً ومتفاعلة جدلياً.
أقول إن الكتابة عن الحزب الشيوعي مغامرة  لأنها قد لا ترضي أحداً، فلمجرد ذكر حسناته وإيجابياته وهي كثيرة سيضعه "الكارهون" و"القادحون" وأصحاب المواقف العدائية، في خانة "المؤيدين" للحزب وسياساته، بل سيضيفون على ذلك أنه "مروّج" للأفكار الشيوعية، وما "انتقاداته" سوى  الغطاء لإمرار ما يريد، وهكذا يمكن أن يصنفونه، خصوصاً وأن علاقته مع الزعيم عبد الكريم قاسم، إضافة إلى أن بعض كتاباته ودوره الإعلامي بعد 14 تموز (يوليو) 1958، تعطي مثل هذا الانطباع، علماً بأنه استمر في مركزه المهني هذا قريباً من موقع القرار لغاية سفره إلى الولايات المتحدة للدراسة العليا العام 1960 بعد أن كان قد تخرّج من جامعة بغداد (كلية الآداب) العام 1958، ولكنه ظلّ مستقلاً ومحافظاً على استقلاليته ومهنيته.
أما "المغالون" في المدح و"المتعصبون" في الولاء، فسيعتبرون أي نقد لممارسة أو انتهاك أو تجاوز، إنما يصبّ في طاحونة الأعداء، وفي أحسن الأحوال يصنفون تلك الكتابة بالتأثر بالدعاية السوداء، وفي كل الأحوال فهي تلقي الزيت على النار التي يحاول أولئك الذين ينسبون المساوئ للحزب إبقاء جذوتها متقدة في مسعى لتشويه سمعته وتضخيم أخطائه، فما بالك إذا كان بعض انتقاداته أقرب إلى الجماعات المنشقة عنه، وخصوصاً بعد العام 1967 التي حاول أن ينقل وجهة نظرها من أدبياتها، فإن الأمر سيزيد الصورة تشوّشاً والتباساً، ويلقي ظلالاً من الشك على محتوى الكتاب ومضمونه، بل مشروع الكتابة ككل وأهدافها وأغراضها وتوقيتها وبماذا تفيد وفي هذا الظرف بالذات؟ وكأن هناك زمناً مبرمجاً للنقد ينبغي تشغيله حسب هوى أصحابه وتوقيتاتهم.
   وأيّا كان بعض التقييمات "المعلّبة" أو "الجاهزة" التي تواجه الأكاديمي والناقد، فتلك ضريبة لا بدّ أن يدفعها وهو برضا كامل، لأن وظيفته تختلف عن وظيفة المبشّر أو الداعية، اليقينية - الإيمانية، أما لغة الأكاديمي والباحث فتكون نقدية- تساؤلية، وفي حين تكون الأولى مغلقة، فإن الثانية مفتوحة، وهكذا هي لغة الكاتب والكتاب المصبوب بمنهجية علمية مائزة، دون أن يعني ذلك عدم إخضاعه هو الآخر للنقد والتدقيق والملاحظة، ولعلّ قيمة أي عمل جاد وأي فعل مؤثر هو بنقده.
   فتح طارق اسماعيل باباً مهماً لمعرفة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي وسلّط ضوءًا جديداً عليه ومن منظور جديد لصعوده ونزوله ، خارج دائرة التبشير والتبرير، بل عمل جهده من خلال التفسير والتنوير بما له وهو كثير ولا يمكن إخفاؤه وما عليه وهو ليس بقليل ولا يمكن إهماله، الأمر الذي يعني وهذا ما أتوقعه من نجاح الكتاب والكاتب، خصوصاً حين تناله طائفة من النقد والمراجعة والتصويب، لأنه يستحق ذلك، وأظن أن ذلك سيفتح النقاش الذي لم ينقطع أساساً حول تاريخ الحركة الشيوعية وهو نقاش مطلوب بصوت عال دون تقديس أو تدنيس.
    وحتى كتاب حنّا بطاطو " العراق - الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق" الذي صدرت عنه طبعة جديدة عن دار بابل (بغداد) في ثلاثة أجزاء العام 2018 ترجمة سعد الحسيني (وهي ترجمة ثانية بعد ترجمة عفيف الرزاز التي صدرت في العام 1996 عن مؤسسة الأبحاث العربية وللأسف فكلاهما لم تسلما من الأخطاء) والذي امتاز بعلمية جديرة، حيث بحث في صلب الاجتماع السياسي العراقي، فهناك من يقتبس منه بحسب هواه ويعتبر اقتباسات الآخر الخصم أو العدو افتئاتاً وهكذا.
   وقد اختلف منهج طارق اسماعيل عن منهج حنا بطاطو حيث توقّف أكثر وعلى نحو مباشر عند الأدبيات والتجارب الشخصية وأخضعها لتحليل تاريخي وسياسي واجتماعي في إطار تشابكاتها الدولية، ليكون أساساً لمنهجه النقدي والذي يقول عنه  "بعيداً عن أية مفاهيم مسبقة قد تكوّنت لديّ"، لأنه حسب اعتقاده إن بطاطو قبل 30 عاماً حين ألّف كتابه كان من غير الممكن الوصول إلى المعلومات الشخصية، ناهيك عن الوثيقة، وهو إذ يقدر جهده الضخم، لكنه اتّبع منهجاً آخر بما عرفه عن الشيوعيين وصراعاتهم على نحو مباشر أيضاً، وكان ذلك ضمن مشروعه الخماسي عن الحركة الشيوعية التي يختتمها بمؤلفه عن الحزب الشيوعي السوداني (2013) وقبلها كان قد نشر سفراً مهماً عن الحركة الشيوعية المصرية (1990) والحركة الشيوعية السورية - اللبنانية (1998) والحركة الشيوعية في العالم العربي (2005) والحزب الشيوعي العراقي (7200).
   وثمة ميزة خامسة لكتاب طارق اسماعيل هي أنه بحث موضوع الحزب من الداخل العراقي، بل كان قريباً من الحزب نفسه وقيادته في فترة شبه علنية أو علنية بعد العام 1958، وهو ما حاول أن يأتي عليه في مذكراته الشائقة والمفيدة والتي تلقي ضوءًا على تاريخ العراق المعاصر والموسومة " من زوايا الذاكرة - على هامش ثورة 14 تموز عام 1958 " والتي أعتبرها استكمالاً وتتويجاً لكتابه موضوع البحث والخاص بتاريخ الحزب الشيوعي، ومثل هذا التداخل طبع جيل الخمسينات والستينات بشكل عام في صعود الفكر اليساري والماركسي تحديداً، علماً بأن الهزائم العديدة والانكسارات المعنوية المختلفة التي مُني بها الجيل الستيني أثارت أسئلة جديدة ودفعت الشباب المتطلّع للتجديد والتغيير للتمرّد على بعض الأطر والأنماط السائدة في الرأسمالية (حركة الاحتجاج الفرنسية 1968) والاشتراكية (ربيع براغ والدعوة إلى اشتراكية ذات وجه إنساني) والرغبة في التحلّل من الالتزامات الثقيلة على صعيد الحياة والوجود.
   وترافق ذلك كلّه مع حركة تجديد في الفن والأدب والسينما والمسرح والشعر والموسيقى واللغة والسلوك والأخلاق وغيرها، وهذه إضافة إلى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والتضامن الدولي مع فيتنام وضد الحرب الأمريكية عليه وصدمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 كلّها انعكست على وضع اليسار عموماً واليسار العربي بشكل خاص.

II
ويرصد طارق اسماعيل العديد من ملفات الحزب وتاريخه العويص، ويتوغّل في مراحله الشائكة والمعقّدة ويتناول المراحل القاسية والشاقة في حياته ودور مناضليه الأوائل وميزاته الوافرة، وخصوصاً في استقطاب المثقفين العراقيين، الذين مرّوا في الأربعينات والخمسينات من بواباته أو نوافذه أو بالقرب منها، متأثرين به ومتفاعلين معه، إضافة إلى الدور الذي اضلع به في التحضير لثورة 14 تموز (يوليو) 1958 موضوعياً أو حتى ذاتياً.
ولا ينسى اسماعيل أن يتوقّف عند انشطارات الحزب وأخطائه واندفاعاته ويبحث في ثغرات بعض سياساته وصولاً إلى الردّة الشباطية في العام 1963 والتي أطاحت بغالبية قياداته بضربة خاطفة وبشعارات صاخبة امتحنها الناس خلال الأشهر التسعة فسقطت مضرجة بالدماء والدموع وعشرات الآلاف من الضحايا وسجون مكتظّة ومحاكمات صورية ، وذلك في غفلة من الزمن وبطريقة أقرب إلى المباغتة والحيلة، لاسيّما بضعف اليقظة وعدم تبلور مشروع استراتيجي ناضج .
ويعتني الكتاب بالحياة الداخلية للحزب ويرصد على نحو دقيق مظاهر التراجع والشيخوخة والعزلة التي عاشها ويتابع ذلك بشكل خاص في أجواء المنافي وما صاحبها من انتهاكات وتجاوزات مسّت القيم التي كانت الأبرز في تاريخه، ناهيك عن تقهقر سياساته وتذبذباتها، من الجهة الوطنية مع حزب البعث العام 1973 إلى المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003.
ويعتبر ذلك امتداداً وتدرجاً إلى ما وصل إليه الحزب، حين أدار ظهر المجن وقلب صفحة الماضي المأساوية على نحو مثير ودون مقابل كما يُقال، ورضخ لشروط حزب البعث "الحليف" وقام بتمجيد دوره والترويج لسياساته على المستوى العربي والعالمي، وهو ما تكرّس في المؤتمر الثالث للحزب العام 1976، في حين كانت المؤشرات واضحة ولا تحتاج إلى عناء كبير لفهم أسباب الارتداد الموجودة في جوف النظام، بل وتعيش في أحشائه، إذْ سرعان ما أدّت بالحزب الحاكم وبعد تصفية الحركة الكردية إلى فضّ التحالف بمجمله وليس قص أجنحته بحلّ المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب مثل اتحاد الطلبة ورابطة المرأة ومنظمة الشبيبة الديمقراطية وغيرها، بل استبعاد كل لون أو طيف من خارج " الحزب القائد" ومن يدور في فلكه ، بما فيها المنظمات التي ارتضى فيها الحزب الشيوعي العمل فيها تحت هيمنة حزب البعث وتوجيهاته، مثل مجلس السلم ونقابة الصحفيين واتحاد الأدباء وغيرها من المنظمات التي كان للحزب الشيوعي نفوذ كبير فيها.
وكانت صيغة الجبهة الوطنية قد اشترطت قيادة البعث للجبهة والسلطة باعتباره يلعب دوراً متميزاً، وهو الذي قاد "ثورة" 17-30 تموز (يوليو) 1968 "التقدمية"، مثلما اشترط حلّ تنظيمات الحزب بالجيش واعتُبِر لاحقاً من يُكتشف بالعمل في القوات المسلحة أو القوات الأمنية بجميع صنوفها، يكون مصيره الإعدام، بل إن من لم يبلّغ عن انتماءات سابقة له يندرج ضمن مواد عقابية غليظة شرّعت لهذا الغرض دون اعتراض يُذكر، وهو أقرب إلى إصدار حكم مسبق بحق أعضاء في القاعدة  أو أصدقاء الحزب غامرت بقبوله قيادة الحزب، وقد أقدمت الحكومة العراقية على تفعليه بإحالة العديد من المتهمين من أصدقاء الحزب إلى "محكمة الثورة" التي أصدرت حكمها بإعدام نحو 30 عسكرياً بتهمة انتماءاتهم  الشيوعية وتم تنفيذ الحكم بهم في ربيع العام 1978.
ويتناول اسماعيل كيف مرّت عاصفة التصفيات للحركة السياسية العراقية في ظل وجود الجبهة الوطنية، سواء ضد رفاق الأمس " القيادة المركزية" أو ضد القوى القومية العربية وبعضها من حلفاء الحزب، ولاحقاً ضد الحركة الكردية، لدرجة أن الحزب حمل السلاح مع البعث لملاحقة "الجيب العميل"، وهو ما كان يروّج له الإعلام الرسمي، حيث ازداد التوتر بين البعث والحركة الكردية ، ودفع الشيوعيون الثمن أيضاً  حين أقدم عيسى سوار، وليس بمعزل عن توجيهات قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) آنذاك، باختطاف 12 شيوعياً كانوا قادمين من الخارج وقتلهم، وهو الأمر الذي تكرّر في الصراعات الكردية- الكردية، والتي ما كان للحزب الشيوعي الانخراط فيها، إلّا أن أوضاعه الداخلية وانحيازات بعض قياداته الكردية لهذه المجموعة أو تلك حمّلته المزيد من الكوارث، وكان من أبرزها مجزرة بشتاشان ضد الأنصار الشيوعيين التي راح ضحيتها عشرات منهم في أيار (مايو) العام 1983، على يد الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) .
ويتناول اسماعيل مرحلة ما بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 والموقف المتخبّط للحزب الشيوعي منها وممالئة لإيران ويسلّط الضوء على وثائق وتفاصيل مهمة، فيما يتعلّق بالموقف من الحرب وتطوراتها وفيما بعد في الموقف من الحصار الدولي عقب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وما بعدها ولغاية العام 2003.
وقد تكون تلك المرحلة جزءًا من التصدّع الأيديولوجي والتيه السياسي التي مرّ بها الحزب والذي تحوّل إلى نوع التخبّط والغبش الفكري بعد الاحتلال الأمريكي ، خصوصاً مشاركته بمجلس الحكم الانتقالي، والتي مثّلت ضياعاً حقيقياً وتبدلاً في استراتيجيات الحزب "المناضل الأكثر جذرية" ضد الإمبريالية وضد أحلافها العسكرية العدوانية ومعاهداتها الاسترقاقية المذلّة، وإذا به يقبل بدستور طائفي - إثني ويروّج له ويعتبر اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية " أحسن الحلول السيئة" في تعبيرات ملطّفة ومخففة عن عمق ما أصاب العراق من دمار وخراب هدّم أركاناً أساسية من الدولة العراقية، خصوصاً بحلّ الجيش والقوى الأمنية وتعريض البلاد للفوضى والإرهاب، وهو ما يدعو إلى السخرية السوداء أو المرّة، تلك التي وصفها الشاعر أكتافيو باث بأنها " تنحدر بالآلهة من عليائها السماوي إلى الأرض وتنتقل بالنص المقدس إلى خارج المعبد"، وهو بتقديري المشهد الأكثر درامية في الوضع العراقي برمته، والذي كان على الحزب الشيوعي وتاريخه عدم  الانخراط فيه.
III
حين صدر كتاب طارق اسماعيل The raise and fall of the communist party of Iraq" في العام 2007 عن مطبعة كامبريدج في نيويورك لم أطّلع عليه إلّا  في العام 2010 حيث أهداني نسخة منه، ولم أستطع قراءته في حينها لأنه يحتاج إلى تفرّغ لبضعة أسابيع لم يكن لديّ الوقت لأخصّصها له، لأنني كنت أقضي ما تبقى لي من خدمة جامعية في جامعة صلاح الدين (كلية القانون والسياسة- إربيل)، لكنني قرأت عنه ملخصاً باللغة الإنكليزية، واكتفيت حينها بقراءة بعض الفقرات من الكتاب تلك التي كنت أودّ الاطلاع على رأيه فيها، وبعد حين عثرت على تقريظ له باللغة العربية قدّمه الصديق حسقيل قوجمان ونشره في موقع الحوار المتمدن، ويعيد طارق اسماعيل نشره كملحق لهذا الكتاب.
وقد أراد "قوجمان" من الكاتب تدوين ما حدث دون أن ينظر إلى رأي الكاتب بما حدث، وهو أمر لا يمكن للكاتب ألّا  يكون له رأي بعد أن ينشر بأمانة ما حدث ، ثم يعطي تقييمه فهو ليس مُدوِّن للوقائع فحسب، بل يحاول تحليلها من منظور سسيولوجي وثقافي بإخضاعها لسياقها التاريخي مشخصاً إيجابياتها وسلبياتها، علماً بأن الموضوعية لا تعني الابتعاد عن تقديم رؤية وتحليل، لأنه حتى اختيار ما حدث سيكون انتقائياً، حيث سيدخل رأي الكاتب في هذا الاختيار ويمكن ذكر حوادث مهمة ببضعة أسطر، وتضخيم حوادث عابرة بنشر عشرات الصفحات عنها، بما يتعلّق بمزاج الكاتب ومنهجه والغرض من النشر ، وبعض هذا الميل والهوى قاد "مؤرخاً" في تاريخ الحزب لتناول ذلك حسب ارتياحاته ووجهات نظره ومواقفه فعظّم بعضها وهمّش بعضها الآخر.
IV
يمكن القول إنه لا يمكن لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي أن يدونه شخص واحد ولا حتى مجموعة أو مجاميع من الباحثين، لأنه سيكون تاريخاً مفتوحاً وتتعدّد وتتنوّع القراءات وزوايا النظر إليها، إضافة إلى اختلاف المرجعيات والمناهج ودرجة الوعي والثقافة والمعرفة بين هذا وذاك.
 وبهذا المعنى ليس للتاريخ قول فصل لا يقبل الجدل أو التفسير أو التأويل، لأن ذلك ضد منهج النقد التاريخي الجدلي وضد منطق الحياة، وتلك المهمة  ستكون فوق قدرات أي إنسان، ناهيك عن أنها فوق مهمة البحث العلمي التي لا تقبل إلّا بالتعدّد والتنوّع والتمايز والتميّز والاختلاف، ومع ذلك يمكنني القول إن كتاب طارق اسماعيل هو الكتاب الأكثر شمولية وعمقاً من غيره والأبعد عن الهوى والانحياز ، خصوصاً بما امتاز به من منهج أكاديمي ومصادر غنية ومعرفة معمّقة بطبيعة المجتمع العراقي، ولعل مقاومة الانحياز والرأي المسبق مهمة في غاية الصعوبة، لكن اسماعيل حاول خوض غمارها وأعتقد أنه نجح في تسجيله للكثير من الأهداف وإن ظلّت بعض المحاولات تحتاج إلى استكمال.
وكاتب التاريخ ليس بالضرورة أن يكون عضواً في الحزب أو قيادياً فيه، يمكن لذلك العضو أو القيادي أن يدون شهادته وهي وجهة نظر شخصية لإعادة القراءة التاريخية لما حصل وما كان مشاركاً فيه أو شاهداً عليه أو سمع عنه أو تابعه، فتلك مسألة تختلف عن كتابة التاريخ.
كاتب التاريخ يقرأ ويحلل ويدرس ويقارن ويطلع ويسأل ويحاور بعض من كان على قيد الحياة ممن لعبوا أدواراً، أو من كتبوا في هذا المجال، وقد حاول ذلك طارق على نحو كبير ودون كلل أو ملل على مدى ربع قرن من الزمان.
يوم صدر الكتاب كانت رغبتي شديدة في أن يجد من يقوم بترجمته إلى العربية، وأبديت له ملاحظات خاصة بفترة الحرب العراقية- الإيرانية، والتي من تداعياتها قيام حركة المنبر الشيوعية، ووعد بكتابة فقرة خاصة عنها، وفعل ذلك، وقد نشر بحثاً مطوّلاً باللغة الإنكليزية عن حركة المنبر ومواقفها وتوجهاتها الفكرية والسياسية وأسباب خلافاتها مع قيادة الحزب الشيوعي، واستعان بعدد من الوثائق، ثم قام بكتابة نص عربي نشره في مجلة المستقبل العربي في عددها رقم 439 (أيلول/سبتمبر) 2015 بعنوان "جماعة المنبر والحركة الشيوعية العراقية: قراءة تاريخية – راهنة لبعض أجنحة الحركة الشيوعية"، وقرّر حسب مقدمته ضمّ هذا البحث إلى الكتاب كملحق أساسي من ملاحقه.
وهنا بودي أن أسجل للصديق حسقيل قوجمان ملاحظته التي سبقني إليها وهي أنه كان يمكن تخصيص فقرة عن "حزب التحرّر الوطني" و"عصبة مكافحة الصهيونية" اللذان أنشئا العام  1946 لأنهما يمثّلان جزءًا من تاريخ الحركة الشيوعية، خصوصاً ملابسات عدم إجازة الحزب ونشاطات العصبة المهمة في مكافحة الصهيونية وفضح أساليبها، وقد جئت على بعض تلك الإشكالات في كتابي الموسوم " سعد صالح - الضوء والظل: الوسطية والفرصة الضائعة" الصادر في بيروت عن الدار العربية للعلوم - 2009 وفي طبعة ثانية عن دار الشؤون الثقافية، بغداد ، 2012 .
وإذا كانت كتابات زكي وسعاد خيري تمثل رؤيتهما الخاصة لتاريخ الحزب وخصوصاً "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (1984)  وكتابات عزيز سباهي المكلف من قيادة الحزب في العام 1999  تمثل هي الأخرى جزءًا من تاريخ الحزب والموسومة " عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي "، فإنها وإن كانت قريبة من التوجهات الرسمية للحزب، لكنها تمثل رؤية خاصة تمثل أصحابها وتبقى القراءة مفتوحة ومتعددة من روافد مختلفة لتحمل تفسيرات وتأويلات واستنتاجات مختلفة أيضاً، بما فيها رؤية القيادة المركزية لتاريخ الحزب ورؤية حركة المنبر الشيوعية له، إضافة إلى كتل وتجمعات أخرى .
وإذا كانت هذه الرؤية من ذات الإطار، فهناك رؤى أخرى بعضها حاول تقديم قراءة لتاريخ الحزب من منظورها السلبي ومن داخل الأجهزة الأمنية الأيديولوجية للأنظمة الحاكمة في صراعها مع تاريخ الحركة الشيوعية، منها مديرية التحقيقات الجنائية (موسوعة سرية خاصة بالحزب الشيوعي العراقي) العام 1950، و"أضواء على تاريخ الحركة الشيوعية في العراق"  (5 أجزاء) لمؤلفه المجهول سمير عبد الكريم الصادر عن دار "المرصاد" الوهمية، قبرص، 1979.
V
في الختام أقول لقد قرأ طارق اسماعيل مذكرات الشيوعيين وسردياتهم التاريخية واختلافاتهم وخصوماتهم، لكن تقييمه جاء لبرنامجهم الذي يمتازون به عن غيرهم بدفاعهم عن الغالبية العظمى من الشعب، بما يملكوه من طاقة والتزام وبما حاولوا وضعه من حلول ومعالجات، الأمر الذي أثّر على جميع التشكيلات التي أعقبتهم، وهو ما دعاه ليقول عنهم أنهم كانوا طليعة النضال، لكن الوقائع التي لديه والاستنتاجات التي توصل إليها دعته للقول أنهم أصبحوا في مؤخرة الانتهازية والمقصود بذلك بعد تقهقرهم، فبعد أن كان لهم الدور الأبرز في وثبة كانون العام 1948 والدور المحوري في انتفاضة تشرين الثاني العام 1952 والدور الأكثر تميّزاً في انتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي والدور الفعّال في التحضير لثورة تموز (يوليو) العام 1958،  إلا أن أخطاء السياسة وتذبذباتها وخصوصاً إثر الضربة الموجعة التي تعرّضوا لها في العام 1963 جعلتهم يتراجعون على نحو ملفت في مسلسل للتدهور انتهى بتقسيم الحزب قومياً إلى حزبين عراقي وكردستاني، في حين يتغنى برفعه راية الأممية عالياً.
ويُرجع اسماعيل تراجع دور الحزب الشيوعي إلى " اعتماده الكبير على الاتحاد السوفييتي  وفقدانه المماثل لهويّته كحزب عراقي " وحسبما يقول " أصبح تأثير كلاً من المصالح السوفييتية الأيديولوجية والسياسية على حد سواء، واضحاً في سياسة الحزب وممارساته" ويعتقد أن هذه المواقف تعاظمت بعد مجزرة العام 1963، وفي نهاية المطاف أدت إلى ظهور، جناحين أيديولوجيين متنافسين في العام 1967، وينقل رأياً لعزيز الحاج أمين عام حزب القيادة الذي تخلّى عن معتقداته وأطروحاته بُعيد اعتقاله، مفاده أن فشل تجربة القيادة المركزية بسبب أخطائها من جهة وتوحّد خصومها الذين نجحوا في القضاء عليها من جهة ثانية.
ومن استنتاجاته فشل الحزب في تطوير ثقافة سياسية مستقلة على المستويين الفكري والتنظيمي وخضوعه للأجهزة الخارجية السوفييتية وتمركز السلطة بيد السكرتير العام والمكتب السياسي واعتماد السياسة من القمة إلى القاع تلك التي أنتجت إحباطات وانشقاقات.
ويتابع طارق الانقسامات فيعتبر القسم المتبقي من الحزب "خاضعاً للقسم الكردي" في جزء من " المظاهر العرقية والطائفية والقبلية" وكأنها انعكاسات للمجتمع العراقي.
إن كتاب طارق اسماعيل جهد أكاديمي متميّز وإضافة نوعية جديدة إلى المكتبة الماركسية العربية وإلى الدراسات التاريخية السسيولوجية الثقافية للفكر السياسي العراقي ولتاريخ الدولة العراقية، وأجد في قراءته جدوى مهمة لكل باحث وطالب معرفة لتاريخ الحركة الشيوعية .


بيروت في 7/8/2019







نشرت في حصيفة الزمان العراقية على حلقتين في 29 و30/7/2020.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي ومفكر عربي من العراق.


154
مايكل لينك و«إسرائيل»
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


"إن عقوبات "إسرائيل" الجماعية بحق الفلسطينيين غير قانونية وإهانة للعدالة ولسيادة القانون (الدولي) وتنطوي على انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان" هذا ما قاله البروفيسور مايكل لينك المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ؛ جاء ذلك في تقريره السنوي الذي قدّمه في 16 يوليو(تموز) 2020 بخصوص سياسة " العقاب الجماعي" التي تتبعها "إسرائيل" بحق الشعب العربي الفلسطيني.
   وكان لينك  الخبير القانوني الكندي قد اختير في ربيع العام 2016 ليكون المقرر الدولي السابع لمراقبة حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ إنشاء هذه الهيئة العام 1993، بعد 3 أشهر على استقالة سلفه الإندونيسي أستاذ القانون مكارم ويبيسوتو بسبب عرقلة "إسرائيل" لمهمته ومنعه من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة؛  وصعّدت "إسرائيل" الهجوم  على لينك  بعد تعيينه مستثيرة اللوبي الصهيوني داخل كندا وأوروبا بهدف الضغط على أعضاء مجلس حقوق الإنسان الدولي، لإعادة النظر في اختياره، وقالت أنه صاحب نضال طويل ضد "إسرائيل"، وهو مؤيد لجماعات الضغط العربية، وذلك في محاولة للتشكيك بنزاهته وصدقية توجّهه الإنساني.
   جدير بالذكر أن لينك اختتم تقريره السنوي بطائفة من التوصيات القانونية والحقوقية منها دعوة " إسرائيل" باعتبارها قوة الاحتلال الفعلية إلى إنهاء جميع تدابير العقوبات الجماعية بما فيها الحصار على غزة منذ 13 عاماً ورفع جميع القيود المفروضة على حرية التنقّل في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتوقّف عند هدم المنازل كإجراء عقابي ووقف جميع ممارسات سحب "الإقامة الدائمة في القدس" وقطع الإعانات وإغلاق البلدات كإجراءات عقابية ووضع حدّ للتأخر في تسليم جثامين الفلسطينيين تمهيداً لدفنها، كما حصل مؤخراً في تسليم جثمان أحمد عريقات الذي استشهد برصاص حرس الحدود (قرب أبو ديس) يوم 23 يونيو (حزيران)  2020.
   وتتبع "إسرائيل" منذ احتلالها نهجاً يستند إلى سياسة ذات وجهين  متداخلين : الأول - الاستعمار الاستيطاني، والثاني- نظام الفصل العنصري "الأبرتايد"، وكلاهما  يهدفان فرض عقوبات جماعية، وكان تقرير مايكل لينك قد قدّم تحليلاً قانونياً موسعاً أكّد فيه على عدم شرعية الممارسات التي تنتهجها "إسرائيل" بحق الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في محاولة شرعنة اللّا قانوني، من خلال المحاكم "الإسرائيلية" والقضاء "الإسرائيلي" الذي ذهب في العديد من المرات إلى إضفاء "شرعية" على إجراءات السلطات "الإسرائيلية" في هدم المنازل واحتجاز الجثامين وغيرها من أساليب العقوبات الجماعية.
   العقوبات الجماعية أياً كانت مبرراتها  تعتبر محظورة بموجب القانون الدولي ويحرّم استخدامها تحت أية ذريعة، ولا توجد استثناءات مسموح بها ، حسبما تذهب إلى ذلك اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 وقواعد القانون الدولي العام المعاصر بشكل عام والقانون الإنساني الدولي بشكل خاص، سواء وقت السلم أم في وقت الحرب، لأنها تمثّل انتهاكاً صارخاً لنظام العدالة ولحقوق الإنسان، ناهيك عن كونها اعتداء سافر على إنسانية الإنسان وكرامته ولنظام الأخلاق العامة.
   وحثّ مايكل لينك في توصياته لمجلس حقوق الإنسان اتخاذ إجراءات سريعة وعاجلة لوضع حد للجرائم "الإسرائيلية" ، وإنهاء كامل وسريع لاحتلالها للأراضي الفلسطينية (المقصود بعد العام 1967)، وناشد المجتمع الدولي "بضرورة اتخاذ التدابير بما فيها التدابير المضادة للعقوبات" ، تماشياً مع التزامات ومسؤوليات المجتمع الدولي القانونية.
   وإذا كانت الأمم المتحدة كثيراً ما أدانت "إسرائيل" وأصدرت قرارات واجبة الأداء والتنفيذ، وخصوصاً من جانب مجلس الأمن الدولي  بما فيها القرارين 242 و 338 وهما على التوالي في العام 1967 والعام 1973، بشأن الانسحاب "الإسرائيلي" من الأراضي المحتلة، باعتبار أن أي عملية ضم أو إلحاق للأراضي أو استيلاء بالقوة أو الحصول على مكاسب سياسية جراء الاحتلال تتعارض مع القانون الدولي المعاصر، فإن الواجب الدولي والإنساني يتطلب اليوم  اتخاذ إجراءات أكثر حزماً تتجاوز عبارات التنديد الكلامي والإدانة اللفظية،  لما هو عملي وضاغط على "إسرائيل" بما فيها فرض " عقوبات"، لثنيها عن الاستمرار في مشروعها التدميري بحق الشعب العربي الفلسطيني والامتثال إلى  قواعد القانون الدولي وما يسمى بـ الشرعة الدولية، خصوصاً حين يتم تأمين مستلزمات الاعتراف بحق تقرير مصيره وعودته إلى دياره، وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
   وإذا كانت "إسرائيل" قد تمادت في سياسة العقاب الجماعي، فإن قواعد العدالة الدولية تقتضي عدم إفلات الجناة والمرتكبين من المساءلة ، خصوصاً أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وهو ما تؤكده المحكمة الجنائية الدولية ونظام روما الذي تأسس في العام 1998والذي دخل حيّز التنفيذ العام 2002، حتى وإن كانت "إسرائيل" قد انسحبت منه، لكن الأمر يتعلق بمخالفة قواعد عامة ذات صفة إلزامية آمرة ، وهو أمر لا يمكن لأي كان التملّص منه وتحت أية حجة أو مسوّغ، ولذلك فإن يد العدالة سوف تلاحق "إسرائيل" التي لن تجد لها مفرًّا من العقاب وهو ما حاول لينك أن يلفت النظر إليه في تقريره.




155
«إسرائيل» بين «الضم والضم»
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
    اضطرّ رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو إلى تجميد قرار ضم المستوطنات وغور الأردن وشمال البحر الميت إلى "إسرائيل" (1/7/2020)، والتجميد أو التأجيل لا يعني  تراجعاً، فالتوجه ظلّ كما هو ، ولكن ثمة أسباب تحول دون تحقيقه في الوقت الحاضر، وفي مقدمتها الخلافات الشديدة بين الحكومة والجيش وأجهزة المخابرات الثلاث (الشين بيت- المخابرات الداخلية) و(الموساد- المخابرات الخارجية) و(أمان - استخبارات الجيش)، حيث ترى هذه الجهات المخالفة لقرار نتنياهو أن قرار الضم قائم فعلياً بتوسيع الاستيطان  وقضم الأراضي، وهو لا يحتاج إلى إعلان قانوني، يثير ردود فعل ضده  فلسطينياً وعربياً، ولاسيّما أردنياً (حكومة وشعباً)، وعالمياً، من جانب الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ودول إسلامية عديدة، وتململات أمريكية جديدة بالرغم من تأييد الرئيس دونالد ترامب لقرار الضم.
   إن القرار "الإسرائيلي" بتجميد أو تأجيل الضم لا يعني وقف الاستيطان، فمصادرة الأراضي الفلسطينية وتجريفها وتمزيقها قائم على قدم وساق، بقرارات عسكرية وإجراءات إدارية تقوم "السلطات"  بتنفيذها دون ضجيج بما فيها هدم المنازل وتدمير إمكانية الاستقرار وجعل البيئة طاردة للبقاء، ولعل إصرار نتنياهو على عملية الضمّ فلأنه يريد اختتام حياته السياسية بعمل تاريخي كما يعتقد، دون أن ننسى غرضه الخاص وهو التهرّب من دخوله السجن بسبب تهم فساد كبرى.
ومن هنا كان الاختلاف شاسعاً وعميقاً بين فريق نتنياهو وبين الفريق المعارض، خصوصاً وأن هناك خشية حقيقية من الإقدام على مثل هذه الخطوة، التي أثارت جدلاً واسعاً وتداخلات إعلامية وسياسية مختلفة داخل المجتمع "الإسرائيلي" ، ليس فيما يتعلق بالتوقيت وحجم الأراضي أو الطريقة التي ستتم فيها، بل حول الهدف والوسيلة والتحديات التي ستواجهه، لاسيّما إذا كان الضم "قانونياً"، علماً بأن ليس كل ما هو قانوني "شرعي"؛ لأن فرض القوانين "الإسرائيلية" على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتعارض مع قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، ناهيك عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وبشكل خاص ميثاق الأمم المتحدة الذي لا يقرّ بمبدأ الضم والإلحاق والحصول على مكاسب سياسية جراء الاحتلال، وهو ما يتعارض مع قراري مجلس الأمن الدولي  242 لعام 1967 و338 لعام 1973، مثلما يتعارض مع القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة لعام 1947 وللقرار 194 الخاص بحق العودة لعام 1949.
ويعتقد الفريق المعارض لنتنياهو أن قرار الضم سيعود بالضرر الكبير على "إسرائيل"، ولهذا دعا  إلى التأمل والتفكير والحذر قبل الشروع بتنفيذه، وهو يفضل الضم الواقعي على الضم القانوني، فالأول يعني إقدام "إسرائيل" على قضم الأراضي بالتدرّج وبالتراكم ودون إعلان قانوني في الوقت الحاضر ، لكي يصبح الأمر الواقع واقعاً بعد حين، وذلك بتحقيق الأهداف وتلبية الطموحات "الإسرائيلية" على نحو هادئ ودون استفزاز المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه فإن هذا الإجراء يساهم في تقليل حجم الأعباء والمسؤوليات؛ وقد سارت "إسرائيل" على هذا النهج منذ احتلالها العام 1967، حيث ضمت تحت عنوان الأمر الواقع مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس والضفة الغربية دون إعلان في البداية .
وخلال سنوات راكمت قضمها للأراضي وأقدمت على بناء المستوطنات ، وحين جاءت المفاوضات الفلسطينية - "الإسرائيلية" (مدريد- أوسلو 1991-1993) كانت قضية المستوطنات وتبادل الأراضي والحدود، مادة أساسية في المفاوضات، الأمر الذي جعل "مبدأ الضم" يخضع من وجهة النظر "الإسرائيلية" للاتفاق ويتم على طريق الحوار لا عبر القوة والإكراه، ولهذا يعتقد فريق من "الإسرائيليين" اليوم أن هذا الأسلوب هو الأنجع والأسلم والأقل كلفة والأكثر أمناً.
أما الثاني وهو الضم القانوني  فهو إعلان مباشر من جانب " إسرائيل" على إخضاع أراضي فلسطينية لسيادتها ، الذي سيلقى رفضاً فلسطينياً وعربياً وممانعة واعتراضاً دولياً وبالتالي سيثير مواجهات وانتفاضات، كما حصل في انتفاضة الحجارة العام 1987 وانتفاضة العام 2000، بعد انقضاء الفترة الأولى من اتفاقية أوسلو  دون حل للقضية الفلسطينية .
وسيكون من تبعات الضم القانوني إنهاء التنسيق الأمني مع السلطة الوطنية الفلسطينية ، والقضاء على أي إمكانية لتسوية مقبولة في المستقبل، خصوصاً بطي خيار  "حل الدولتين" ، وهو ما يمكن أن يخلق وضعاً جديداً "لإسرائيل" بمساحتها الجديدة وحدودها الواسعة ومستوطناتها المبعثرة وجدارها الأمني المتعرج، إضافة إلى الكلفة المادية والجهود الأمنية والاحتكاكات والاشتباكات المحتملة مع الفلسطينيين، بما سيعيد الصراع إلى المربع الأول، أي المواجهة العسكرية وخيار المقاومة المسلحة، ناهيك عن تداعياته على الحدود الشرقية،  برد الفعل الأردني الحازم ، والذي قد يضع اتفاقية وادي عربة أمام تحدّيات جديدة.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تراجع المساعدات الدولية وتفشي وباء كورونا، فإن هذا سيخلق مجتمعاً فلسطينياً غارقاً في الفقر والعوز والمرض، لاسيّما في ظلّ حصار غزة الذي يستمر منذ 13 عاماً، وستكون تلك  الأوضاع بمثابة قنابل غير موقوتة ومفخخات  جاهزة للإنفجار في أي وقت في الداخل "الإسرائيلي".



156
"عدالة" فوق العدالة ! ! !
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
"فرضنا عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، وسوف تُتخذ الإجراءات المناسبة في حال إقدامها على إصدار قرارات بشأن الجنود الأمريكيين... ونرفض قرارات المحكمة التي تتعلّق بإسرائيل ، ولن نقبل أن يمس أحد أفرادنا وحلفاءنا..." هذا ما قاله مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي عقده نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ، ضمّه إلى وزير العدل ويليام بار ووزير الدفاع مارك أسبر ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين.
وإذا ما عرفنا أن هذا الكلام يقال بمناسبة صدور أمر تنفيذي  من الرئيس دونالد ترامب تحت عنوان "حماية الأمن القومي الأمريكي" ، سندرك أهمية ، بل خطورة ، مثل هذا الكلام الذي يأتي عقب اتخاذ المدعي العام  في المحكمة الجنائية الدولية قراراً في شهر مارس (آذار ) المنصرم، قضى بالمضي بتحقيقات بخصوص الجرائم التي ارتكبها الجنود الأمريكان في أفغانستان ، حيث خدم  فيها نحو 800 ألف جندي منذ غزوها العام 2001 ولغاية العام الجاري 2020 ، وكانت واشنطن قد قررت الانسحاب من أفغانستان بعد توقيع اتفاقية مع تنظيم طالبان في فبراير (شباط) الماضي 2020.
أما روبرت أوبراين فقد أضاف على كلام بومبيو بأن واشنطن ستفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة وعائلاتهم في حال اتخاذها إجراءات ضد جنود الجيش الأمريكي وأفراده، وزاد على ذلك وليام بار اتهام المحكمة بالفساد مؤكداً أن النظام القضائي الأمريكي هو أفضل من أي نظام، وقال إن القرار يهدف إلى الدفاع عن "السيادة الأمريكية" وأن المحكمة تستهدف "العدالة الأمريكية".
وقارب مارك أسبر المسألة من زاوية أخرى حين قال: لن نسمح بمحاكمة مواطنين أمريكيين بقضايا " غير شرعية"، وأن رجال ونساء الجيش الأمريكي لن يمثلوا بأي حال من الأحوال أمام المحكمة الجنائية الدولية، وإننا نعمل على دعم القانون وحقوق الإنسان.
وتطرح هذه المعطيات ثلاث قضايا قانونية دولية أمام الباحث:
أولها-  لمن العلوية للقانون الوطني أم للقانون الدولي؟ وهي إشكالية قديمة- جديدة، وإذا كان هناك في واشنطن من يقول سمو القوانين الأمريكية على جميع القوانين، لأنها الأفضل والأرقى، فلماذا تطالب الولايات المتحدة دول العالم وشعوبها بالخضوع للقانون الدولي؟  ولعلها لا تتحرّج عن مثل هذا التناقض الصارخ الذي لا يقبله المنطق القانوني ولا ترتضيه الدول مهما كانت صغيرة أم كبيرة.
 وثانيها- فكرة السيادة، التي لم تعد "مطلقة" ، بل إن واشنطن هي من أوائل الدول التي بشّرت بهدم مبدأ السيادة التقليدي واعتبار قاعدة حقوق الإنسان ذات سمة أرقى من بقية قواعد القانون الدولي المعاصر، وكانت تصرّ خلال صراعها الآيديولوجي مع المعسكر الاشتراكي على ذلك، ونجحت في تثبيت هذه القاعدة العلوية كقاعدة مستقلة في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي العام 1975 الذي حضرته مع كندا، إضافة إلى 33 دولة أوروبية ، فكيف لها أن تقول بتقدّم السيادة على حقوق الإنسان؟
وثالثها- موضوع العدالة الدولية وعلاقتها بالعدالة الأمريكية ،  فكيف تهمل واشنطن ما تراكم من قواعد قانونية دولية ذات صفة إنسانية فيما يسمى بالقانون الإنساني الدولي، وخصوصاً اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وتضع نظامها القضائي فوق النظام القضائي الدولي، بل تهدّد  الأخير بالعقوبات ، ضاربة عرض الحائط التراكم الدولي التاريخي على هذا الصعيد.
والسؤال اليوم إذا كانت واشنطن ترفض إخضاع جنودها للمحكمة الجنائية الدولية التي تأسست في روما العام 1998 وسبق لها أن انضمت إليها ومعها "إسرائيل"، ولكنها حين دخلت حيّز التنفيذ العام 2002 انسحبت منها ومعها حليفتها ، فكيف تسمح لنفسها اليوم أن تلاحق قادة دول ومنظمات وحركات تحرّر شعبية وفقاً لقوانينها في حين أنها ترفض مثول أفرادها للقضاء الدولي عن جرائم ارتكبوها بحق شعوب ودول مستقلة بموجب مواثيق واتفاقيات دولية، من جانب محكمة تتلقّى ملفات يحيلها إليها مجلس الأمن الدولي في الكثير من الأحيان؟
ومن المفارقة أن واشنطن حين تتحلّل من القوانين الدولية وتزدري القضاء الدولي، تسمح لنفسها بفرض قوانينها الخاصة على الآخرين، كما هو "قانون قيصر" الذي دخل حيّز التنفيذ ضد سوريا بفرض حصار مشدّد عليها وعقوبات على من يتعامل معها، باعتبارها صاحبة " حق" يميل معها حيثما تميل ، مثلما قامت بقصف مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية في العام 1945 عشية انتهاء العمليات الحربية، واستخدمت " سياسة الأرض المحروقة" في حربها ضد فيتنام ومارست حصاراً ضد كوبا لمدة 6 عقود من الزمان، واحتلت أفغانستان بزعم القضاء على الإرهاب الدولي، وكانت قد فرضت حصاراً شاملاً ضد العراق لأكثر من 12 عاماً استهدفت منه تجويع وإذلال شعب كامل ، ثم قامت باحتلاله وتدمير الدولة العراقية بجعلها عرضة للعنف والإرهاب وفرضت عليها نظاماً طائفياً إثنياً؛
فعن أي عدالة نتحدث وكيف يمكن مساءلة المرتكبين عن جرائم دولية حسب القانون الدولي؟!



157
المنبر الحر / كلام في التعذيب
« في: 21:41 09/07/2020  »
كلام في التعذيب
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   " التعذيب محاولة خبيثة لكسر إرادة الإنسان" ذلك ما نطق به انطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة لمناسبة اليوم العالمي لمناهضة التعذيب، حيث يتجدد الرفض الدولي، ولاسيّما من جانب الهيئات والمنظمات الحقوقية والإنسانية والدينية لرفض جميع أنواع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللّا إنسانية أو المهينة للكرامة . وكانت الاتفاقية الدولية لمنع التعذيب قد أبرمت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ39 (46) في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1984، ودخلت حيّز التنفيذ في 26 يونيو/حزيران/1987.
   جدير بالذكر أن التعذيب يعتبر "جريمة ضد الإنسانية" بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وكذلك وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو محظور تماماً في جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية في فترات السلم والحرب أيضاً، ولا يمكن تبريره تحت أي عنوان، كما أنه "جريمة لا تسقط بالتقادم" ، ولذلك يقتضي الالتزام بحظره، سواء كانت الدولة قد انضمت إلى الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب أو لم تنضم، لأنه يعتبر قاعدة آمرة ملزمة من قواعد القانون الدولي لا يمكن مخالفتها؛
   وعلى الرغم من تحريم ظاهرة التعذيب إلّا أنها ما تزال متفشية في العديد من البلدان، لاسيّما في  البلدان النامية ومنها البلدان العربية والإسلامية، لكن الغرب ليس بريئاً منها كذلك ، والأمر لا يتعلّق بتورّطه بممارسته  للتعذيب أيام الحقبة الاستعمارية أو في حروبه الخارجية  واحتلاله لبلدان أجنبية، بل باستخدامه في سجونه أيضاً، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول/2001 الإرهابية، التي اتخذ منها ذريعة للتجاوز على الحقوق والحريّات، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، ولم يقتصر الأمر على بعض التشريعات والقوانين والإجراءات التي تتعارض مع المواثيق واللوائح الدولية لحقوق الإنسان، بل قام بفضائح صارخة كما حدث في سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرّية الطائرة والسجون العائمة .
   وإذا كان التعذيب انتهاكاً للكرامة الإنسانية، فإنه بقدر ما يستهدف اقتلاع "إنسانية الإنسان" وإجبار الضحية على الرضوخ، فإنه بالقدر نفسه ينزع أية صفة إنسانية عن الجلاد والمرتكب ذاته، لأن الحق في الأمان وعدم التعرّض للتعذيب هو حق أساسي ينبغي حمايته في جميع الظروف والأحوال، حيث وجدت تلك الثقافة الحقوقية طريقها إلى الفقه الدولي حديثاً وتجلّت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 واتفاقيات جنيف، وبشكل خاص  بالاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وجميعها تشكّل منظومة من صلب قواعد القانون الإنساني الدولي، الذي يعتبر التعذيب "جريمة حرب" كذلك، الأمر الذي يتطلّب اتخاذ إجراءات وقائية للحد منه من جهة، وإجراءات حمائية لمنعه وشفائية لمعالجة آثاره من جهة أخرى، حيث يطغى على ضحايا التعذيب شعور بالإحباط والإنكسار ، مما  يجعل أمر التعافي من آثاره يتطلّب برامج متخصصة للمعالجة وصولاً للشفاء التام.
   ولا تقتصر ممارسة التعذيب على الحكومات وحدها ضد معارضيها، بل إن المنظمات الإرهابية هي الأخرى لا تقصّر في ممارسة التعذيب حين تتاح لها الفرصة إزاء خصومها، وليس بعيداً عن ذلك أن بعض "منظمات المعارضة" وبحجة "الثورية" تمارس التعذيب أحياناً هي الأخرى، تحت عناوين محاربة الاختراقات في صفوفها، حيث يتم تبادل المواقع بين الضحية والجلاد، الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النصوص القانونية لمنع ممارسة التعذيب بجميع صوره وأشكاله، وعدم  السماح لمرتكبي التعذيب وتحت أي مبرر لـ"الإفلات من العقاب"، وهو أمر يحتاج إلى فتح حوارات متنوعة بين الفاعليات والأنشطة السياسية والمدنية والدينية والحقوقية بشأن مناهضة التعذيب واستنكار واستهجان هذه الممارسة  اللّا إنسانية وتجريمها، خصوصاً بنشر وتعميم الثقافة الحقوقية والعقوبات القانونية التي تترتب على من يمارسه.
   استعدت وأنا أكتب هذه المادة الندوة التي التأمت في لندن في العام 1992 ونظمتها "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" تحدّث فيها عدد من ضحايا التعذيب في فلسطين وليبيا والعراق والسودان والبحرين من النساء والرجال واستعرضوا أعمالاً شنيعة مورست بحقهم دون اعتبار لضمير أو وجدان، واستحضرت ذلك مؤخراً وأنا أقرأ ما كتبه محمد السعدي أحد الشيوعيين الأنصار عن تعرّضه لأنواع متعدّدة من محق الكرامة الإنسانية والإذلال المعنوي والامتهان الجسدي.
    ولم تكن محاولة خروجه من دائرة الإنكسار والانسحاق هيّنة، بل جاءت بعد معاناة قاسية وألم ووجع شديدين ظلّا يلازمانه مثل ظلّه، وكان لزوجته الدور الأكبر في التخفيف من معاناته، إضافة إلى تدوين  تلك التجربة المريرة في كتابه الموسوم "سجين/ نزيل الشعبة الخامسة"، حيث اعترف بشجاعة عن انهياره وتنازله واضطراره لتقديم معلومات، لكنه بذكاء تمكّن من خداع الجلادين بإيهامهم الاستعداد للعمل معهم والاتفاق على لعب دور مزدوج، وحين عاد إلى الجبل أخبر رفاقه بكل ما حصل،  وهو ما حاول التوقف عنده  بتفاصيل رواية مذهلة ومرعبة ومخيفة عن  دهاليز الشعبة الخامسة ، ومع ذلك فما تزال الكوابيس تقضّ مضجعه، فكأن ما حصل أشبه بعالم اللامعقول، فتعذيب الإنسان شرٌ لا يوصف على تعبير هنري ميللر.



158
يضاف إلى ذلك التعويلية والاتكالية التي اعتادت عليها الغالبية الساحقة من الإدارات الحزبية ، التي عاشت حالة ترهل وتقليد  ومحاكاة للسائد، حفاظاً على مواقعها  الحزبية، لاسيّما والمنافسات المشروعة وغير المشروعة بين القيادات كانت سائدة ومحمومة، حيث كان البعض يبالغ بولائه وتبعيته "للخارج الأممي" للاستقواء على الداخل الحزبي" بتوصيات من الأول هي الأقرب إلى التعليمات وتحديداً بالتعويل  على موسكو أو الصين بالنسبة لبعض الجماعات المحسوبة عليه وتوجهاتها.
   ولم يقتصر هذا الأمر على الحركة الشيوعية بل أن إدارات الحركة القومية العربية هي الأخرى لم تكن بعيدة عنه بجناحيها الأساسيين:  الأول - الحركة الناصرية التي بلغت أوجها في مطلع الستينات، لكنها بدأت بالانكماش والجمود والتشتت بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر العام 1970، بل إن بعضها لم يرتق إلى المرحلة المتقدمة الأخيرة من حياة عبد الناصر وتوجهاته التي ينبغي أن تؤخذ في سياقها التاريخي، ولم يعد الاكتفاء اليوم بشعارات عمومية لمواجهة مشكلات مستحدثة وعميقة. والثاني - حركة البعث التي تحوّلت في العراق من شعارات تحرير فلسطين والوحدة العربية والحرية إلى تمجيد وتقديس وتأليه "القائد الضرورة" التي أطلق عليه ميشيل عفلق وهو مؤسس الحزب "هبة السماء إلى الأمة وهبة  البعث إلى الشعب "  ومثل هذا الوصف لم يأتِ حين اتخذ قراراً جريئاً بتأميم النفط العام 1972، وفي ظلّ حماسة رومانسية مثلاً، وإنما جاء بعد إعدام نخبة من قيادات حزب البعث في العام 1979 دون محاكمة أصولية، وفي مقدمتهم عبد الخالق السامرائي، وحرب ضروس مع إيران دامت 8 سنوات دفع العراق ثمنها باهظاً1980-1988 ووحدانية إطلاقية في الحكم لم يعرف العراق لها مثيلاً.
   وقد سألت القيادي البعثي السابق الصديق صلاح عمر العلي عن تفسيره لذلك، فروى لي خلفيات ذلك بقوله: زرت ميشيل عفلق في باريس العام 1989، برفقة طلال شرارة وهو أحد القيادات البعثية  اللبنانية سابقاً أيضاً، والتمسته  البقاء في باريس وعدم زيارة بغداد وإعطاء تصريحات يستغلها الحاكم  ويجيّرها لصالح مغامراته وارتكاباته، الأمر سيعطي انطباعاً بعدم رضائك عن سياسات الرئيس صدام حسين ، ويضيف العلي: لقد وعدني ميشيل عفلق بذلك ، لكنه بعد شهرين عاد إلى بغداد وأدلى بذلك التصريح (عن سابق إصرار) ويكاد يكون تصريحه الأخير الذي ختم به حياته السياسية، كاشفاً ضعفه المستمر.
   أسوق هذه الأمثلة بهدف المراجعة الشاملة والنقد الذاتي للأفكار والممارسات الشمولية التي سادت لدى جميع القوى والقيادات، بعناوين معظمها مستمدة من كتاب لينين: ما العمل؟ أو ما سمّي بالمركزية الديمقراطية، ونظام الطاعة الفولاذي وخضوع الأقلية للأكثرية والهيئات الدنيا للهيئات العليا تحت عناوين وحدة الإرادة والعمل، وعدم التبشير بالآراء خارج نطاق التنظيم، ناهيك عن عقوبات غليظة، وهو الأمر الذي ساد لدى جميع الأحزاب الشيوعية التي كانت الطبعة الستالينية مهيمنة عليها.
   وفي الأحزاب القومية والبعثية ، كان شعار "نفذ ثم ناقش" الأساس الذي اعتمدت عليها، وهو مستوحى من ذات المنهج الشمولي الشيوعي وقد اتبعته الأحزاب الإسلامية أيضاً، بما فيها "حركة الأخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية الشيعية"، للتبريرات نفسها، ولاسيّما في ظروف العمل السرّي والخشية من اختراقات العدو، ولكن هذه العناوين ذاتها تحمل في طياتها توجّهات تسلطية وتسمح للقيادات باتخاذ قرارات نابعة من اجتهاداتها التي  قد تكون مدمّرة، فما بالك حين تكون تلك القيادات لا تتمتّع بالحد الأدنى من التفكير السليم والثقافة العامة والمعرفة بمجتمعاتها، ناهيك عن نزاهة أخلاقية وشعور عال بالمسؤولية، وهكذا تم التفريط بالكثير من الكفاءات المخلصة والمواهب الواعدة بادعاء فهم خاص للآيديولوجيا وتطبيقاتها التي شهدت جرائم كبرى وأعمال إبادة لا حدود لها.

بين بكين وموسكو وهافانا
   لم تثرني الشعارات الصينية ، خصوصاً تلك التي ارتفعت موجتها في حمّى الثورة الثقافية والتي لوحق فيها المثقفون وأحرقت كتبهم واقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال وجرى تشويه سمعتهم، بل كنت أقرب إلى فكرة التطور والتراكم ، خصوصاً السرعة الهائلة التي استطاع فيها الاتحاد السوفييتي إعادة بناء ما خربته الحرب والآمال التي عوّلت عليه بشأن التقدم العلمي والتكنولوجي، ووجدت في كلمة نيكيتا خروشوف (1960) من أن الاتحاد السوفييتي سيدخل مرحلة الشيوعية العام 1980 شيئاً كبيراً وعظيماً في السباق التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، وهو ما كنت أميل إليه وشكل ركناً مهماً من تفكيري في تلك المرحلة، التي لا تخلو من رومانسية شبابية.
    وكنّا نردّد حينها أن السمة الأساسية لعصرنا هي " الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية"، لاسيّما بالتحالف مع "حركات التحرر الوطني" التي تقترب من معسكر الاشتراكية، وهو الذي سيتم عبره وبنضال الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية هزيمة الامبريالية باعتبارها حسب كتاب لينين "أعلى مراحل الرأسمالية" وذلك بالتعايش السلمي والصراع الفكري والمباراة الاقتصادية والمكاسب التي يمكن أن تتحقق للشعوب.
   كما لم أستسغ حينها الشعارات التي اجتاحت الوسط الشيوعي واليساري خلال الموجة الجيفارية مع أنني من أشد المعجبين بجيفارا كأحد أبرز ثوريي القرن العشرين ، وقد دونت ذلك في كتاب " كوبا- الحلم الغامض"، الصادر عن دار الفارابي، بيروت، 2011، بعد زيارتي لكوبا، مقدّماً قراءة جديدة بعيدة عن التمجيد لتجربة تستحق الدراسة ولشعب عانى الحصار ومحاولات الإذلال، لأكثر من نصف قرن من الزمان، ويبقى أمامه اليوم اجتياز معركتي الحرّيات والتعدّدية من جهة، والحصول على التكنولوجيا، التي بدونهما لا يمكن لكوبا الاستمرار إلى ما لا نهاية في أوضاعها الحالية.
   وإنْ كنتُ قد عقدت صداقات حميمية مع العديد من الذين تأثّروا بالتوجه الجيفاري الثوري من العراقيين والعرب والفلسطينيين بشكل خاص في بغداد وعدد من البلدان العربية، وكنت أدخل بنقاشات طويلة مع العديد منهم، وقد ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة، لكنه من الجهة الأخرى، كانت الآمال التي عقدتها على هذا التوجه الآخر تتبدّد ويطير بعضها، فقد كانت تراجعات الاشتراكية أمام الرأسمالية واضحة وصريحة حيث عانت الأولى من البيروقراطية والترهّل وشحّ الحرّيات وانتهاكات حقوق الإنسان ووصلت التنمية إلى طريق مسدود، خصوصاً وأن الكثير من الأرقام والمعطيات لم تكن صحيحة، بل مشوّهة وغير دقيقة وهو ما كانت تقدّمه أجهزة الدعاية الاشتراكية ووكالاتها الإعلامية وتقوم بنشره وكالة نوفوستي  وأنباء موسكو وغيرها.
    وبنوع من المبالغة وسوء التقدير كنّا نتبنّى تلك المعلومات باعتبارها حقائق غير قابلة للشك، والهدف من ترويجها هو إثبات أفضلية وتفوق النظام الاشتراكي على النظام الرأسمالي، وكان البعض يغالي في نقد وتفنيد واتهام أي وجهات نظر أو معلومات مغايرة تحاول النيل من صحة أو دقة المعطيات المقدّمة من الدول الإشتراكية، ولاسيّما تلك التي تأخذ طريقها إلى الإعلام الغربي. وقد فوجئ جمهور الشيوعيين في بلادنا والعالم بأن التقرير الذي ألقاه خروتشوف بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي العام 1956، وهو المؤتمر الذي أدان الحقبة الستالينية وكشف بعض الارتكابات والجرائم التي قام بها الزعيم الذي كنّا نعتبره " أبو البروليتاريا" العالمية و"محرر الشعوب" والقائد الفذ، العبقري، وبطل الحرب العالمية الثانية.
   وكم كانت الصدمة كبيرة حين اكتشفنا أن التقرير كان صحيحاً، بل هو أقل من الواقع بكثير؟ ولم يكن التقرير نسيجاً حيكَ من خيوط خارجية صنعت في المصانع الغربية، بل هو حقيقة ما كان يجري في الستار الحديدي ومعسكرات الاعتقال تلك التي تحدّث عنها لاحقاً المنشق سولجنستين  في رواية " أرخبيل كولاغ" حيث قضى فيها نحو 8 سنوات . يضاف إلى كل ذلك نهج الواحدية والإطلاقية وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والرأي الآخر وحجب الأصوات المعارضة ومصادرة حق النقد وملاحقة المنتقدين واتهامهم، وقد دفع المثقفون قسطاً وافراً من ذلك.
   ولعلّ ذلك وغيره وبمرور الأيام ما أخذ يطرح أسئلة داخلنا وتململات مباشرة أو غير مباشرة يجري التعبير عنها بأشكال مختلفة، لكن انشغالاتنا الداخلية طغت عليها وإن كانت قد استمرت معنا وارتفعت وتيرتها مع بعض حركات الاحتجاج التي بدأت في البلدان الاشتراكية، وأتذكر ميثاق العام 1977- Charter 77 الذي أصدرته مجموعة المثقفين التشيكوسلوفاك منتقدة الأوضاع السائدة  وشحّ الحريات، وقد كان ذلك شرارة أولى لحركة الاحتجاج الواسعة التي وصلت ذروتها بانهيار جدار برلين العام 1989، وتفكّك وتحلّل الكتلة الاشتراكية التي بدت هشّة وخاوية من الداخل، في حين كانت للناظر من الخارج تبدو قلاعاً محصنة على حد تعبير جون بول سارتر الذي سبقنا بنحو ثلاث عقود في رؤية هذه الحقيقة.

غورباتشوف : البريسترويكا في الوقت الضائع
   لا شكّ أن سباق التسلح وتخصيص الولايات المتحدة تريلوني دولار له خلال ما سمّي بـ  حرب النجوم في مطلع الثمانينات ، ساهم في الانهيار السوفييتي وعدم القدرة في مجاراتها، وقاد هذا إلى التراجع غير المنظم ولم تفلح محاولات غورباتشوف بشأن البريسترويكا والغلاسنوست لإعادة البناء والعلانية ، فقد جاءت متأخّرة وغير متدرّجة ودون تهيئة واستعداد، ولم تكن مدروسة، بل كانت فوقية، في ظل غياب قناعات  للتغيير وفقاً لتراكم طويل الأمد ومستلزمات  مادية ومعنوية، وخصوصاً لشبكة الكوادر الحكومية والإدارية والحزبية والجماهيرية ووضع معالجات اقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية وتربوية ونفسية لتحقيق ذلك، علماً بأن الخراب كان قد انتشر والانسداد الاقتصادي والتنموي أصبح حقيقة ظاهرة والترهل الحزبي والحكومي والفساد المالي والإداري صار جزءًا من الروتين اليومي، فضلاً عن شح الحرّيات وقلّة الأجور وعدم تلبية حاجات الناس المتعاظمة تماشياً مع التطور الكوني، بحيث أصبح الإصلاح عسيراً، لاسيّما بوسائل قديمة.
   يضاف إلى ذلك الاختراقات الكبيرة التي جرت من جانب القوى المعادية للإمبريالية في "حرب ناعمة" مدّت جسوراً عبرتها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح على حد توصيفات المجتمع الصناعي - الحربي، الذي استخلص ذلك من "مجمّع العقول" أو "تروست الأدمغة" الذي عمل بمعيّة الرئيس كيندي والذي عبّر عنها الرئيس جونسون بحرب الجسور لتهيئة التغيير المنشود دون بزّات قتال واشتباكات عسكرية، بل بواسطة وسائل الحرب النفسية والآيديولوجية والدعائية، حتى سقطت التفاحة الناضجة بالأحضان.

طريق الحرير والحزام وفلسطين
   كثير منّا بسبب حالات القنوط واليأس والتشاؤم من إصلاح الأوضاع،  وخصوصاً في ربع القرن الماضي عوّل على الصين التي ستربح المعركة وتتفوّق في مشروع التنمية المستدامة 2030 اقتصادياً على واشنطن وستبني طريق الحرير  الجديد " الحرير والحزام" الذي سيغيّر وجه العالم، وذلك في إطار تعويضية نفسية لفقدان القدرة على التأثير المتوازن بفعل اختلال المعادلة الدولية ومعاناتنا من صدمة الاستعمار وصدمات النكبة 1948 والهزيمة 1967 وضياع فلسطين  والانحياز الكامل من جانب الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة لـ"إسرائيل".
   وقليل منّا من أخذ ينظر إلى الصين من منظور مختلف، فهي في نهاية المطاف ليست الصين التي في رومانسيتنا اليسارية الطفولية السابقة أو التي ظلّت تدور في مخيّلتنا الحالمة بالتغيير ونظامها ليس هو الذي كنّا نعوّل عليه في مطلع الخمسينات ، خصوصاً بدعم القضية الفلسطينية وقضايا الحقوق العربية، وهو حتى وإنْ تفوّق على الولايات المتحدة فما الذي سيفيدنا وإنْ كانت الفائدة غير مباشرة بإضعاف أعدائنا، لكنه من الجهة الأخرى  سيضعنا حين يعزز علاقاته مع عدونا  الأساسي "إسرائيل"، وهذا سيكون على حسابنا أراد أو لم يرد ذلك .
   لم تتم مراجعة الكثير منّا للتجربة الصينية، فكيف يمكن غضّ النظر عن ارتكابات وإن أصبحت شائعة، واعتبارها مجرد مبالغات كثيرة ، بل هي جزء من الدعاية السوداء للامبريالية، وهي ليست بعيدة عن الصراع الأيديولوجي، حيث يبقى "الإنسان مقياس كل شيء" على حد تعبير  الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس  والحرّية هي القيمة العليا ومن يقرأ رواية "بجعات بريّة- دراما الصين في حياة نساء ثلاث - 1909-1978 " لمؤلفته يونغ تشانغ، يدرك حقيقة المعاناة الإنسانية والواقع المرير الذي عانى منه الصينيون الذي تعرضوا لمحق إنساني حقيقي.
   وإذا كان ذلك ماضياً ، فبكين تنافس اليوم واشنطن وتتربّع على قمة الاقتصاد العالمي كثاني دولة  في العالم وفي سباق محموم معها إلى العام 2030، ولكن علينا أولاً وقبل كل شيء البحث عن موقعنا في هذا التقدم وكيف يمكن توظيفه في الكفاح الوطني العربي من أجل استعادة حقوقنا، ولاسيّما ارتباطاً مع بؤرة التوتر ومشروع الحرب المستمرة في المنطقة وأقصد بذلك "إسرائيل"؟
   ما يلفت انتباهي اليوم هو التحوّل الكبير الذي طرأ على السياسة الصينية ، وخصوصاً في موضوع العلاقة مع "إسرائيل"، فقد كانت الصين تعتبر "إسرائيل" قوة احتلال وسلطة اغتصاب وقاعدة متقدّمة للإمبريالية، كما تصفها، إلّا أن التغييرات التي حصلت على النطاق العالمي واختلال موازين القوى الدولية والتحوّلات الداخلية في الصين، ناهيك عن النكوص العربي وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي، شجّع الصين وغيرها على المضي في هذا الاتجاه، علماً بأن للعلاقات العربية- الصينية تاريخ طويل ، ولا أتحدث عن الماضي السحيق وطريق الحرير ووصول العرب والمسلمين إلى الصين، بل العلاقات المعاصرة.
   يكفي أن نلقي نظرة سريعة على ذلك منذ نجاح الثورة الصينية في العام 1949، التي لقيت حماسة عربية شعبية ، لاسيّما بعد لقاء الرئيس الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الرئيس الصيني شوان لاي في مؤتمر باندونغ الأفرو آسيوي، والذي كان نواة لتأسيس حركة عدم الانحياز العام 1961 ومجموعة الـ 77 لاحقاً ، وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية المصرية- الصينية الرسمية في 30 مايو (أيار) 1956، أما العلاقات الدبلوماسية  السورية - الصينية فقد بدأت في 1 أغسطس (آب) 1956 وتطوّرت بوتيرة عالية . وكانت  العلاقات العراقية - الصينية قد بدأت باعتراف الصين يوم 16/7/1958 بالنظام الجمهوري في العراق وبعدها بيوم واحد اعترف العراق بجمهورية الصين الشعبية ، علماً بأن الصين من بين الدول الأولى التي دعمت الثورة الجزائرية واعترفت بالحكومة المؤقتة بعد إعلانها في سبتمبر 1958 حيث أقيمت لاحقاً العلاقات الدبلوماسية الجزائرية - الصينية، كما وقفت إلى جانب الثورة في الجنوب اليمني، حيث أقيمت العلاقات الدبلوماسية اليمنية - الصينية في 24 سبتمبر (أيلول) 1956 مع الشطر الشمالي (جمهورية اليمن العربية) وبعد تحرير الجنوب تأسست العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجمهورية الصين الشعبية في يوم 1 يناير(كانون الثاني) 1968 .
   وقبل ذلك كانت الصين قد ساندت مصر ضد العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي "الإسرائيلي"، واتّخذت مواقف مؤيدة للحقوق العربية في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز العام 1955 واعترفت في العام 1965 بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب العربي الفلسطيني وافتتحت مكتباً لها، ووقفت إلى جانب العرب ضد العدوان الإسرائيلي العام 1967.

وماذا عن "إسرائيل"؟
   فما الذي يدفع الصين لتوثيق علاقاتها مع "إسرائيل"؟ والتي ستكون على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، حيث ستتمادى "إسرائيل" في تعنتها وعدم استجابتها إلى حل سلمي وعادل أساسه حق تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية وعاصمتها القدس الشريف. ولعلّ هذا السؤال المحوري بحاجة إلى تفصيل وتفكيك.
   وحسبما يبدو إن الصين تريد عن طريق علاقتها مع " إسرائيل" اختراق منطقة النفوذ الأمريكي من خلال أسواق تعويضية ، خصوصاً حين استخدمت واشنطن العقوبات ضدها بفرض رسوم جمركية ثقيلة على البضائع والمنتجات الصينية للحيلولة دون انتشارها في السوق الأمريكية . وعن طريقها تريد بيع الروبوت " الإنسان الآلي"، إضافة إلى بعض تكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية وتوظيفها في قضايا التجسّس.
   وبالعودة إلى تاريخ العلاقات "الإسرائيلية"- الصينية  فإن "إسرائيل" بادرت  إلى الاعتراف بالصين  في يناير(كانون الثاني)  1950 ، لكن الصين اكتفت بإرسال رسالة شكر باردة حتى وإن اعترفت بها ، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تنشأ إلّا في التسعينات، وهو الأمر الذي سارت عليه العلاقات الإسرائيلية- الهندية أيضاً، حيث حصل الاعتراف في الخمسينات، لكن العلاقات لم تقم إلّا في التسعينات أيضاً ويمكن القول أن العلاقات الصينية- "الإسرائيلية" مرّت بعدّة مراحل وهي:
المرحلة الأولى - الخمسينات والستينات والتي شهدت إحجاماً من جانب الصين على التعاطي مع "إسرائيل" الذي وصل ذروة تشدّده ضدها في الستينات.
المرحلة الثانية - السبعينات فقد بدأت بمدّ الجسور لتهيئة الأجواء لإقامة العلاقات الدبلوماسية لاحقاً وبدأت بعد قبول الصين عضواً في الأمم المتحدة التي استعادت موقعها في مجلس الأمن الدولي كعضو دائم العضوية.
المرحلة الثالثة - التسعينات ، وهي مرحلة التطبيع الكامل وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية في يناير (كانون الثاني) 1992 كما سنأتي على ذكره. وبقدر ما كانت تتعزّز علاقة الصين بـ"إسرائيل" فإن الموقف من القضية الفلسطينية كان يأخذ بالفتور، بعد أن مدّت الصين الثورة الفلسطينية والعديد من قوى التحرر العربية بالسلاح والمساندة، وأتذكّر تصريح رئيس الوزراء الصيني والشخصية المؤثرة حينها بعد ماوتسي تونغ، شوان لاي على هامش مؤتمر حركة عدم الانحياز في الجزائر العام 1964 مخاطباً الفلسطينيين والعرب بالطبع: "فجرّوها ولو بعود كبريت، فقضيتكم عادلة" وهو ما كنّا نتغنّى به، لكن هذا الموقف تغيّر ارتباطاً بتغيّر الأوضاع.
   جدير بالذكر أن الاستثمارات الصينية الكبرى في " إسرائيل" تعود إلى العام 2015، علماً بأنه في العام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين  بزيارة لـ "إسرائيل" ورداً عليها كلّفت "إسرائيل" إيهود أولمرت  وزير التجارة والصناعة "الإسرائيلي" الأسبق (قبل أن يصبح رئيساً للوزراء) بزيارة الصين  في العام 2004 على رأس وفد ضخم لم يسبق لـها أن أوفدت مثله إلى أي دولة في العالم، وضم الوفد أكثر من 200 شخصية قيادية للقطاعات كافة وبضمنه رجال أعمال معروفين ، وحين أصبح أولمرت رئيساً للوزراء عاد وزار الصين في العام 2007.
   وأود التنويه هنا إلى أن بنيامين نتنياهو كان قد زار الصين في العام 1998 أي قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، وقد كانت زيارته المهمة إلى بكين في العام 2013 بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ  الذي دعا في المدة ذاتها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أيار/مايو/2013) وطرح عليهما مشروعاً للتسوية السياسية وإعادة المفاوضات تألف من أربعة مقترحات، أولها - إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس، ثانيها - احترام حق "إسرائيل" في الوجود وضمان الاحترام الكامل لأمنها واعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لتحقيق السلام بين الطرفين ، وثالثها- اتباع مبدأ الأرض مقابل السلام وفقاً لمقررات الأمم المتحدة ورابعها- حث المجتمع الدولي على تقديم ضمانات ضرورية لدفع عملية السلام، وأبرمت خلال تلك الزيارة العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية - الصينية ، وكان ذلك بعد أن رفع العرب الحرج عن مثل هذه العلاقات مع تل أبيب وبدأ الأمر تدريجياً منذ اتفاقيات  كامب ديفيد 1978-1979 واتفاق أوسلو العام 1993.
   وقد بدأ التقارب "الإسرائيلي" - الصيني العملي في العام 1971 حين صوتت "إسرائيل" لصالح قبول الصين في الأمم المتحدة، وفي عقد الثمانينات شهدت العلاقات خطوات تمهيدية لإقامة التمثيل الدبلوماسي، لاسيّما بعد لقاء شمعون بيريز مع نظيره الصيني تشيان تشي تشن (أيلول/سبتمبر/ 1988) في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت التسعينات هي مرحلة الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي على "إسرائيل" التي حصلت على اعتراف أكبر دولة في العالم من حيث عدد النفوس بعد أن بدأت علاقاتها تعود بالتدرّج مع الدول الاشتراكية السابقة (منذ منتصف الثمانينات) واستعادت " إسرائيل" علاقاتها مع عدد كبير من الدول الأفريقية التي تم قطعها إثر عدوان العام 1967 وحرب العام 1973 (حوالي 30 دولة)، وحصل ذلك في ظل التراجع العربي وبعد اجتماعات مدريد تمهيداً لاتفاق أوسلو 1993.
   وهكذا بدأت تتعمّق العلاقات الصينية - "الإسرائيلية"  في مجالات علمية وتكنولوجية واقتصادية وعسكرية وأمنية وتجارية، حيث تبرعت الصين ببرنامجيات حديثة وتقنيات الكومبيوتر إلى " إسرائيل" وتطمح إلى الاستفادة من تطوير وتجهيز الطائرات المسيّرة التي تستخدم في الرصد والمتابعة والمراقبة والتصوير.
   ولا يعني هذا أن الصين تهمل العلاقة مع العرب، حيث كانت الزيارة الأولى للملك السعودي عبدالله في  العام 2006 وقعت خلالها خمس اتفاقيات حول الطاقة وتعتبر فتحاً كبيراً في العلاقات الصينية - السعودية  التي احتفت بها كثيراً علماً بأن العلاقات الصينية - السعودية أقيمت في العام 1990، وبدأت زيارات عربية عديدة مصرية وعراقية ، لكنها لم تستكمل أو لم تكن بمستوى العلاقات مع تل أبيب، ولقيت معارضة أمريكية، وهو ما بحاجة إلى منظور استراتيجي متوازن للعلاقات العربية مع الدول الكبرى وأساساً تعاون وتنسيق عربي لما فيه فائدة الجميع، لاسيّما إذا اتسم برؤية موحدة على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
آيديولوجيا التجارة
   علينا أن ندرك أن مرحلة  الآيديولوجيا في الصين قد انتهت ، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً، بل مستأثراً بحق العمل السياسي والنقابي والمهني ، وقد عقد مؤتمره الأخير في آب /أغسطس 2019، إلا أن العقل الصيني التجاري بالتلاقح مع التراث الفلسفي والثقافي غلب على الفكر الشيوعي، خصوصاً بإحياء تراث لاوتسه وكونفوشيوس وغيرهما، لاسيّما العودة الحميمة إلى الثقافة والتاريخ الصيني القديم، باعتباره ذخيرة فكرية وإنسانية محفّزة لأوضاع الحاضر، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) معه  خلال الثورة الثقافية، وعاد الاعتزاز بالتراث والتاريخ الصيني كونه إثراءً للحاضر واستشرافاً للمستقبل، بعد أن تم تطليق مرحلة التزمت الآيديولوجي وأمراض اليسارية الطفولية، واستبدالها بمرحلة الانفتاح الاقتصادي والانتشار التجاري، والحديث بلغة المصالح وليس بلغة العقائد.
   وإذا كان جيلنا  برومانسيته العالية ما زال يتذكّر الشعارات الصينية "الثورية" والتي تأثر بها العديد من تجارب الكفاح المسلح والحركات التحررية العربية والعالمثالثية، إلّا  أن علينا الإقرار بأن تلك المرحلة قد طويت تماماً ولم وتبقَ إلّا في كتب التاريخ وذاكرتنا المتعبة، فلم تعد القيادات الصينية ترتدي طواقم الملابس الخشنة والموحّدة والصالحة لكل المناسبات باعتبارها دليل "ثورية" مفرطة وطفولية يسارية ومساواة شكلية ، فإنها اليوم في ظلّ ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدّد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدم على كل شيء، أخذت تضاهي الغرب وأنظمته الرأسمالية بآخر صيحات الموضة العالمية وبحبوحة العيش والبذخ المفرط .
   وإذا كان الماضي قد أصبح خلفنا بما فيه من مراهقة سياسية، فعلينا أن ندرك اليوم أن العالم لا يُدار بالعقائد والعواطف والتمنيّات، بل وفقاً للمصالح والمنافع والمنافسة ، وهو ما ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا، فالسياسة كانت وما تزال وستبقى " صراع واتفاق مصالح" في أبسط تعريفاتها، أي علينا الاستفادة من دروس الماضي، فلم يعد ثمة مكان لذلك ، حيث  تغيّر العالم كثيراً وتشابكت علاقاته وتداخلت مصالحه وانشطرت محاوره وتشكّلت كتل جديدة، فالماضي مضى ولا يمكن استعادته.    وعلينا كعرب أن نعي ذلك وندرك الواقع ونتفهم مستجداته وتبعاته وبالتالي التعامل منه.
   علينا أيضاً أن نشخّص نقاط ضعفنا ونعالج أسباب تشتت مواقفنا وغياب الحد الأدنى من التضامن بيننا، ناهيك عن التعاون والتنسيق، وليس بإمكاننا اليوم استخدام سلاح النفط مثلما فعلنا بُعيد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 والذي كان تأثيره فعّالاً، وما تزال أصداؤه حتى الآن، وقد أحدثت تلك الصدمة، إضافة إلى انهيار سوق الأوراق المالية 1973-1974 أزمة كبيرة على المستوى الكوني، لاسيّما حالة الكساد والانكماش الاقتصادي التي أصابت العالم. وإذا أدركنا أن العالم تغيّر فعلينا أن نتغيّر أيضاً، وذلك باعترافنا أولاً وقبل كل شيء أننا نعيش في أزمة مستفحلة وأن بعض الأوراق التي كان بإمكاننا استخدامها في السابق لم يعد ممكناً استخدامها حالياً، وعلينا بعد ذلك تشخيص أسبابها وسبل الخروج منها، وتلك طريق لا يتسع لوهم جديد، بل ينطلق من الواقع.


159
"يساريتنا الطفولية"من بغداد إلى بكين
الآيديولوجيا والواقع !؟
« الحكمة معرفة الناس »
« الفضيلة  حب الناس »
كونفوشيوس


عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   في غمرة الصراع القومي- الشيوعي في العراق بعد ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958 وما أعقبها، سادت النزعات الإقصائية والإلغائية وهيمن الخطاب العاطفي والشحن العدائي والرغبة في التسيّد وفرض الاستتباع على الآخر، في حين غاب خطاب العقل والعقلانية والاعتراف بالتنوّع والتعددية. وهكذا تصدّعت الوحدة الوطنية المجتمعية بفعل الخلافات السياسية، بعد أن كانت متينة وقوية في مواجهة النظام الملكي، وانقسم المجتمع بين موالاة ومعارضة، الأولى تمجّد الحاكم الجديد وتتغنّى بالزعيم الأوحد والثانية تندّد به، بل وتعتبره أكثر سوءًا من العهد الذي سبقه.
   وبسرعة خارقة وبغفلة من الزمن تحوّل حلفاء الأمس إلى خصوم وأعداء متناحرين في  الأزقة والحارات والساحات والمدارس والكليات  والدوائر الحكومية والثكنات العسكرية، وأحياناً في العائلة الواحدة والبيت الواحد، وكان كل طرف يتشبّث بمواقفه ويزداد تمترساً بمواقعه ويدّعي أفضلياته، بل وامتلاكه للحقيقة لاغياً كل إيجابية أو دور للآخر، محاولاً عزله واستعداء الشارع عليه .
   ففي حين كان القوميون يردّدون شعارات مدوّية مثل: "فلسطين عربية، فلتسقط الشيوعية"  بعد أن كان الشعار فلتسقط الصهيونية و"وحدة وحدة فورية... لا شرقية ولا غربية..."،وترتفع الشعارات  المندّدة بالشعوبية، كان الشيوعيون، ولاسيّما في المهرجانات الكبيرة التي أقاموها يرفعون شعار: اتحاد فيدرالي... صداقة سوفييتية... ومع الصين الشعبية،  و"عاش السلام العالمي هو وحماماته... يسقط الاستعمار هو وعصاباته" وأتذكّر إحدى اللافتات التي ظلّت عالقة بذهني طيلة أكثر من ستة عقود من الزمن، وهي التي كُتب عليها " تايوان جزء لا يتجزأ من البرّ الصيني "، وكنت أشعر بالحيرة فما علاقتنا بمثل تلك الشعارات الغريبة، خصوصاً لمن كان بعمري وفي بدايات وعيه الأول؟
   وأستطيع القول اليوم بقراءة ارتجاعية للماضي، أن تلك الشعارات والتناحرات  كانت تعبّر عن قلّة وعي القيادات والنخب السياسية، التي بدت ناضجة حين قررت التعاون في إطار "جبهة الاتحاد الوطني" التي هيّأت للثورة ولكنها حسبما يبدو فوجئت بنتائجها، لاسيّما في اندفاع حشود شعبية للمشاركة في عالم السياسة، بل وفي طرح الشعارات أحياناً وبلورة التوجهات، ساحبة القيادات خلفها، بدلاً من أن تسير هذه الأخيرة أمامها.
   وإذا كانت الحركة الوطنية بأطرافها المختلفة  تُحسن المعارضة، لكنها لم تُحسن إدارة التنوّع والصراع في الوضع الجديد، خصوصاً بالزخم الشعبي الذي انفتح على الأحزاب والحياة العامة، فوقعت كل الأطراف صرعى قصر نظرها وذاتيتها، وكان ذلك على حساب تطوّر البلاد نحو التنمية والاستقرار والحياة المدنية الدستورية، ولعلّ مثل تلك الاندفاعات والشطحات والانزلاقات كانت تتعاظم لدى جميع القوى، الأمر الذي يعكس ضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى الاغتراب عن الواقع الحقيقي والابتعاد عن الهموم اليومية للناس، خصوصاً وأن الصراع القائم في إحدى تجلّياته كان انعكاساً للصراع الأيديولوجي الدولي والإقليمي، لاسيّما الواقع تحت تأثيرات موسكو من جهة والقاهرة من جهة أخرى، فضلاً عن التداخلات المباشرة وغير المباشرة للقوى الامبريالية التي حاولت تسخين الصراع بصبّ الزيت على النار بأساليب الدعاية السوداء وعمليات التضليل والقوة الناعمة والوسائل الثقافية والحرب النفسية.
   واللافت للمراقب والباحث أن ليس ثمّة ما يتصدّر تلك الشعارات والاحترابات، ولاسيّما الشرارات الأولى التي فجّرت الصراع من مشكلات عراقية مباشرة تتعلّق بأهداف الثورة ومبادئ جبهة الاتحاد الوطني التي تشكّلت في العام 1957 واختيار طريق التنمية والانتقال بالبلاد إلى إجراء انتخابات في ظل دستور دائم بتحديد فترة الانتقال، وكان دور العسكر في الهيمنة على مقاليد الأمور يتعزّز باحتراب الأحزاب الوطنية، التي فقدت بوصلتها، وإنْ ظلّ البعض متمسّكاً، لكن مثل ذلك كان على نحو محدود وضاع في زحمة الصخب السياسي والديماغوجيا الدعائية ومحاولات تأثيم الآخر وتحريمه وتجريمه وإدعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات، ناهيك عن مسعى احتكار العمل السياسي والنقابي والسيطرة على الشارع بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
في بكين: استذكارات ومراجعات نقدية
   لا أدري كيف خطرت ببالي تلك الاستذكارات  والاستعادات المصحوبة بمراجعات أولية نقدية وأنا في الصين ضمن وفد عربي رفيع المستوى لشخصيات فكرية وثقافية وممارسين سياسيين سابقين  في إطار دعوة من معهد العلاقات الدولية  التابع  لوزارة الخارجية للمشاركة في الحوار العربي - الصيني ،علماً بأن المعهد  يقع على عاتقه تقديم  أفكار ورؤى وتصوّرات بخصوص السياسة الخارجية الصينية  لأعلى مراتب الدولة والحزب الشيوعي الصيني، وضمّ الوفد شخصيات من اليمن (رئيس الوزراء الأسبق  عبد الكريم الإيرياني) ومن الأردن (الوزيران السابقان سمير الحباشنة وجواد العناني ) ومن المغرب (السفير علي أومليل) ومن مصر  سفيرها السابق في الصين (محمد نعمان جلال) ومن الكويت أول رئيس لمجلس التعاون الخليجي (عبدالله بشارة) ومن الإمارات  العربية المتحدة  رئيس المعهد الدبلوماسي (السفير يوسف الحسن) ومن فلسطين المفكر والباحث الأكاديمي (محمد عبد العزيز ربيع) ومن العراق (كاتب السطور).
   ومع أنني قدّمت بحثاً بشأن " الفلسفة التاوية- الصينية وصنوها الفلسفة الصوفية العربية - الإسلامية"، أثار اهتماماً صينياً كبيراً وتم  نشره باللغة الصينية، كما تم نشره في أكثر من مجال في العالم العربي والعراق، إلّا أن معظم جوانب الحوار ركّزت على ما هو راهني وسياسي أكثر مما هو فلسفي وتاريخي، ولم يأخذ الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتاريخي والعلمي والتكنولوجي الأهمية التي يستحقها، حيث انصبّت معظم المناقشات من جانب الوفد العربي مع الجانب الصيني على طبيعة العلاقات التي بدأت بعض خيوطها تنسجُ مع نجاح الثورة الصينية في العام 1949 وهي الثورة التي عرفت بـ"مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة"، فضلاً عن تأثّر اليسار العربي أو بعض أجنحته بأطروحاتها، ولاسيّما تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات وهي الفكرة التي نظّر لها ماوتسي تونغ، والتي وجد فيها بعض الشيوعيين واليساريين أقرب إلى مجتمعاتنا من التقسيم الطبقي الكلاسيكي: برجوازية وبروليتاريا أي عمال ومالكين أو مستغلين وأجراء.
   لقد حاول الشيوعيون بشكل خاص واليساريون بشكل عام في تلك الفترة على أقل تقدير "أسطرة" أو "عبقرة" الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ونظرنا إليه بخيلاء وفخر، فهو فيلسوف وشاعر وقائد وثوري ورائد ومفكر ومعلّم ومُلهم، تتحرّك الملايين لمجرد أن يرفع يده في ظل نظام طاعة عمياء كنّا معجبين به أيّما إعجاب، وتلك واحدة من مساوئ  الأفكار الشمولية والأنظمة التي تتأسس عليها والتي اقترنت باسم " الاشتراكية المطبقة"  والتي كانت قد غرقت فيها التيارات القومية والإسلامية لاحقاً، ولعلّ  كل فكر منغلق سيقود إلى الدكتاتورية شئنا أم أبينا، وتعكس جميع التجارب الكونية بطبعتها الماركسية أو القومية أو الإسلامية تلك الحقيقة بوضوح شديد.
   وعلى الرغم من قراءتي النقدية لتلك المرحلة وما تركته من عذابات كبيرة على الشعب الصيني ، لكنني وقفت أمام ضريح ماوتسي تونغ  في المكان المهيب الذي يقبع به في ساحة تيان أنميمن أو " ميدان السماء"  الذي يقع في وسط بكين والذي تبلغ مساحته 440 الف متر مربع، وقد شهد بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) العام 1989 تظاهرات واحتجاجات مطالبة بالإصلاح والديمقراطية سقط فيها بضعة آلاف من الضحايا، أقول نعم وقفت بكل دهشة وذهول أمام حشود الذين كانوا يتوافدون لزيارة ضريحه بغض النظر عن ما ارتبط باسمه من انتهاكات ومجازر وتدمير الآثار والمواقع الثقافية والدينية ، خصوصاً في فترة الثورة الثقافية (1965-1976) .
   وقد اشتهرت الآيديولوجية الاشتراكية بطبعتها الصينية التي حاولت تطبيقها في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات العسكرية التي اتبعها ما بات يُعرف بالماوية أو "تصيين الماركسية"، مثلما عُرفت الطبعة  السوفيتيية بـ "لنينة الماركسية"، نسبة إلى لينين، والتي أطلق عليها " اللينينية" وعمّم السوفييت لاحقاً هذا المصطلح لتصبح المادية الجدلية "بالماركسية اللينينية" حيث أضيف اسم لينين إلى اسم ماركس الذي مثل الحلقة الذهبية الأولى للمادية الجدلية، والطبعتان تم استنساخهما كبراديغم "نموذج" من جانب أحزاب وقوى شيوعية ومن بعض تجارب حركة التحرر الوطني.
   وكانت معظم  وجهات النظر العربية في الحوار العربي- الصيني تحاول الضغط على الجانب الصيني، الذي ضمّ خبراء على درجة عالية من الخبرة والمعرفة ليس في شؤون العلاقات الدولية فحسب، بل في ظروف كل بلد عربي وظروف المنطقة بشكل عام، وبالصراع العربي- الإسرائيلي بشكل خاص وقسم غير قليل منهم تخرّج من جامعات عربية واكتشفت أن مدير وكالة شينخوا السابق كان قد تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة العربية (جامعة بغداد)، وحدّثني كيف أنه كان يستذوق "العرق العراقي" (المسيّح والعصرية) ومازات الباقلاء واللبلبي والجاجيك، وكانت غالبية المشاركين من الجانب الصيني يعرفون اللغة العربية.
هل الصين دولة عظمى؟
   وأفاض أعضاء الوفد العربي في إطروحات حول جدوى وفاعلية التعاون العربي- الصيني ومزاياه وفوائده، وذهب بعضنا أكثر من ذلك إلى القول أن على الصين أن تملأ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي، بل عليها دعم الشعب العربي الفلسطيني باعتبار قضيته تمثّل قضية العرب المركزية، وأن المستقبل هو للعلاقة مع العرب وغير ذلك من الأطروحات، حول الجدوى الاقتصادية والفوائد التجارية ، إضافة إلى التذكير بالعلاقات التاريخية.
   وكان رأي الصينيين وكأنهم يتحدثون بلسان واحد هو: أننا "دولة نامية" ولسنا "دولة عظمى"، وأن لدينا مشاكلنا، فهناك أكثر من 150 مليون إنسان دون خط الفقر، ثم إننا لا نريد أن نلعب دوراً آيديولوجياً، فنحن غير قادرين عليه، بل لا نفضله ولا نرغب فيه، ولا نريد السير في سباق التسلّح المدمّر، ونريد التجارة مع الجميع، وبالقدر الذي نؤيد حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية، فإننا مع حلّ الدولتين ومع قرارات الأمم المتحدة، ونتعامل مع الطرفين، وإنْ كان لنا علاقة متميزة وخصوصية مع  م. ت.ف. والسلطة الوطنية الفلسطينية، لكننا نحرص على العلاقة مع "إسرائيل" أيضاً، وباعتقادهم أن هذه العلاقة قد تساعد على التوصل إلى حلّ سلمي مُرضي للطرفين.
   ولم يكن الجواب مقنعاً لغالبية الشخصيات العربية حتى أن بعضهم تناوب على الكلام أكثر من مرّة لشرح وجهات النظر العربية، ولكن الصينيين كانوا يردّونه مرّة أخرى بذات المنهجية، مؤكدين أن من الخطأ مقارنتهم بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي أو حتى بالاتحاد السوفييتي السابق، وإذا كانوا قد حققوا آنذاك قفزة اقتصادية بُعيد رحيل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ وانتهاء الثورة الثقافية  فإنهم لا يرغبون تبديدها على سباق التسلح والصراع الآيديولوجي، وهم ما زالوا لم يدخلوا " نادي الكبار" ، بل ويضعون أنفسهم في "منتدى دول عدم الانحياز". وقد يكون الأمر تواضعاً من جهة ومن جهة أخرى تخلصاً من التزامات الدول الكبرى إزاء الغير.
قراءات وانطباعات
   كنت قد قرأت في أواخر سنوات الخمسينات والستينات بعض ما كتبه ماوتسي تونغ وليوشاوشي بشأن حرب التحرير والثورة الصينية وبعض الإطروحات التي تتعلّق بالحزب، (وهي عبارة عن كراريس وكُتيبات نشرت في العام 1959 وما بعده)  وما زاد اهتمامي بالصين في فترة لاحقة هو صداقتي لثلاث شخصيات ذات مكانة ثقافية وفنية وإن كان في فترات متفاوتة، فقد سمعت منها آراءً ووجهات نظر وملاحظات أثارت فضولي أكثر بكثير مما كنتُ أعرفه ، أولها - الشاعر كاظم السماوي ، وثانيها- الباحث والمفكر التراثي هادي العلوي،لاسيّما كتابيه " المستطرف الصيني" وقبله "كتاب التاو"  وثالثها- الفنان رافع الناصري الذي درس الغرافيك في الأكاديمية المركزية في بكين وأقام معارضة في هونغ كونغ في العام 1963 وأصدر كتاباً بعنوان " رحلتي إلى الصين " وقد أهداني إياه قبل وفاته العام 2013 ، وجميعهم عاشوا في الصين وتعمّقوا في تجربتها الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية، وعاصر هؤلاء فترات مختلفة من حياة الصين في ظل حكم ماو تسي تونغ.
   وكنت قد أدرت حوارات مع القيادي الشيوعي عامر عبدالله  عن زيارته الصين ولقائه مع ماوتسي تونغ العام 1975 وتأثّره بالتجربة الصينية المعاصرة وبفلسفتها القديمة، وسألته عمّا قيل عن أننا بين عامي 1958 و 1960 لم نحسم موقفنا من الخلاف الصيني - السوفييتي، وكنت قد قرأت كتاباً للدكتور فيصل السامر (وزير الإرشاد الأسبق في العراق) والموسوم "الأصول التاريخية للحضارة العربية- الإسلامية في الشرق الأقصى" مثلما اطلعت في وقت لاحق على بعض ما كتبه الشيخ العلامة جلال الدين الحنفي والشيخ محمد حسن الصوري (صاحب جريدة الحضارة) عن الصين، وكان قد درّسا اللغة العربية في بكين في ستينات القرن الماضي،
كما تابعت ما كتبه عبد المعين الملوّح  الذي قام بترجمة كتاب "تاريخ الشعر الصيني المعاصر" وفؤاد محمد شبل وكتابه " حكمة الصين"، وهو دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور ولعلّ الكتابات الأولى ، التي اطلعت عليها رغم ما فيها من عنصر الإبهار إلّا أنها لا تسرّ كثيراً لشاب مثلي يتطلّع  إلى الحداثة وتتكوّن لديه إرهاصات تساؤلية أكثر فأكثر خلال احتدام الخلاف الصيني- السوفييتي .
   ظلّ السماوي والعلوي يقيّمان  إيجابياً ما حققه ماوتسي تونغ ويعتبران فترته "ذهبية" لما حصل بعده في إطار نظرة كلاسيكية للماركسية ذاتها، لاسيّما ما يتعلّق بالرؤية الخاصة بالتطبيقات المبالغة في التشدّد والقسوة لعملية التغيير، التي اتبعتها ، مثلما ينظران بعدم ارتياح لسياسات الانفتاح الجديدة، وأحياناً يضعان علامات استفهام حولها.
البراديغم الماوي والستاليني
   لعلّ مثل تلك الممارسات التي سادت في الصين والبراديغم Paradigm  (النموذج الفكري) الذي اعتمده أثار تساؤلات كبيرة وعميقة عن مدى علاقته بالمادية الجدلية وطورها الذهبي الأول والمقصود أفكار ماركس ورفيقه إنجلز، وهل هناك " ماركسية" أخرى ، إذا كانت المادية الجدلية قد ظلّت في المتحف وكان أتباع كل ماركسية يتندّرون على الماركسية الأخرى، فهذه الماركسية الصينية مثل البضاعة الصينية أيام زمان، أي المقلّدة أو غير الأصلية ، حتى أصبح الحديث  عنها أقرب إلى " ماركسية من صنع الصين" Made in China.
   ومقابل ذلك هناك وجه آخر لممارسات مماثلة كانت تمثّل النموذج الأول على المستوى العالمي، وهي تلك التي جرت في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى من "تجارب الأصل" التي انتقلت عدواها إلى " تجارب الفرع" في البلدان النامية والعديد من تجارب العالم الثالث وحركات التحرر الوطني بما فيها التجارب العربية، حيث ساد النموذج الشمولي " التوتاليتاري" الستاليني ، دون النظر في عيوبه التي شوّهت المجتمعات والشعوب وأحدثت تصدّعات نفسية في شخصية الفرد لدرجة مريعة.
   وإذا طالت التندرات التجربة الصينية في ظل الخلاف الصيني - السوفييتي ، فثمة تندّرات صينية للبراديغم السوفييتي، حيث كانت تسخر من " اشتراكية الكولاج" وهي أكلة شعبية مجرية مشهورة جاءت في خطاب نيكيتا خروشوف الزعيم السوفييتي الذي خاطب المجريين: أنتم بفضل الاشتراكية تأكلون الكولاج، وذلك بعد مجازر قمع حركة الاحتجاج المجرية الهنغارية ، بالدبابات السوفييتية العام 1956.
   والبراديغم كمصطلح استخدم لأول مرة من المفكر الأمريكي توماس هان (1922-1996) المختص بالتاريخ وفلسفة العلوم، وهو يعني مجموعة قوانين وتقنيات وأدوات مرتبطة بنظرية معينة ومسترشدة بها، بهدف تطبيقها بجميع الوسائل على الواقع الاجتماعي، وهو ما حاولت النماذج الاشتراكية اعتماده وتطبيقه لإحداث التغيير المنشود دون مراعاة للوسائل المستخدمة.
   هوسٌ ثوري وعمى ألوان
   كان الهوس الثوري في أواسط الستينات على أشدّه في العراق والعالم العربي بعد هزائم ومرارات وتصدعات فكرية وسياسية، لاسيّما بعد صدمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وكقاعدة عامة، وإن كان هناك استثناءات، ففي كل انكسار أو تراجع أو عزلة وابتعاد واحتجاز تتصاعد الموجة المتطرّفة ويزداد التعصّب ووليده التطرّف، وهكذا بدأنا نعيد قراءة كتابات ماوتسي تونغ، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الدموي والخسائر والانكسارات التي مُنينا بها،  وكان المركز الثقافي الصيني في بغداد يقوم بتوزيع الكراريس والأدبيات الملوّنة والمطبوعة بأناقة تثير الإعجاب، إضافة إلى " الكتاب الأحمر".
   لم أتأثّر إلّا قليلاً بتلك الأطروحات، لأن ميلي بشكل عام كان يحمل بذرة لا عنفية ، ولذلك فإن شعارات مثل " الإمبريالية نمر من ورق" و" كل شيء ينبت من فوهة البندقية" لم تكن مقنعة لي، وأنا أقرأ وأتابع ما كان يجري في العالم، حتى وإن كانت بوادر هزيمة الولايات المتحدة في فييتنام وانتصار حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنغ، ونجاحات بعض حركات التحرر الوطني  وإحراز العديد من شعوب آسيا وأفريقيا استقلالها، لكن بالمقابل هناك موجة من الارتدادات شهدتها الكتلة الاشتراكية أخذت تتكشّف على الرغم من أجواء التكتم والستار الحديدي المفروض عليها لقطعها عن العالم الخارجي وإن كنّا لا نراها أحياناً أو نعتبرها مجرد دعاية سوداء ومغرضة من جانب القوى الإمبريالية، فقد كانت الإصابات بعمى الألوان بالغة وشديدة.
   ولعلّ أهم الأحداث:  انتفاضة برلين (1953) - المانيا الديمقراطية، حيث أضرب عمّال البناء احتجاجاً على زيادة ساعات العمل  فتحوّلت انتفاضتهم  إلى احتجاج سياسي ضد الستالينية وصنيعتها حكومتهم، بسبب الأوضاع المعاشية التي عبّروا عنها بأنها لا تطاق وقد انضم إليهم طلاب وشباب ومزارعون وقد تواصلت حركة الاحتجاج في عموم "ألمانيا الديمقراطية" على نحو متفاوت، الأمر الذي جوبه بالقمع وبتقديم عدد من المشاركين إلى محاكمات دريسدن الشهيرة، ولعلّها كانت أولى حركات الاحتجاج الواسعة ضد الهيمنة السوفييتية، وقد اضطر السوفييت بعد ذلك وبسبب عمليات الهروب الجماعي من "نعيم" الاشتراكية إلى "جحيم" الرأسمالية إلى بناء جدار برلين 1961 والذي تم هدمه 1989، وكان إيذاناً بانهيار الكتلة الاشتراكية.
   كما كانت احتجاجات بوزنان العمالية - بولونيا (1956)، هي الأخرى تحدياً جديداً لنظام يزعم أنه يدافع عن مصالح العمال، حيث تظاهر العمال مطالبين بظروف عمل أفضل وتم قمعهم بشكل وحشي بالدبابات، وكان عدد القتلى بالعشرات، وهو ما استمعت إليه في العام 2014 بشكل مفصّل خلال دعوتي لإلقاء محاضرة في جامعة بوزنان .
   أما انتفاضة المجر - هنغاريا فقد قادت إلى تدخل عسكري سوفييتي صارخ  (1956) وقد دامت من 23 تشرين الأول (أكتوبر ) ولغاية 4 تشرين الثاني (نوفمبر) احتجاجاً على  سوء الأوضاع الاقتصادية، فتم قمعها بوحشية، وسقط عشرات الآلاف من المحتجّين  خلال المواجهات الدامية وفي الإعدامات التي طالت لاحقاً عدداً منهم  بمن فيهم بعض قادة الحزب الهنغاري (الشيوعي) وفي مقدمتهم الأمين العام أمري ناج الذي لجأ إلى السفارة اليوغسلافية ، لكنه سلّم نفسه لاحقاً وأعدم بعد سنتين بتهمة " الخيانة  العظمى".
نجدة أممية ولكن بالمقلوب
   وجاء ربيع براغ باجتياح دبابات حلف وارشو البلاد (1968) للقضاء على حركة وليدة مطالبة بالإصلاح وبإضفاء وجه إنساني على الاشتراكية وإعطائها بُعداً ديمقراطياً، وهو ما كان يدعو له الكسندر دوبتشيك الأمين العام للحزب الشيوعي والذي أقصي من منصبه وعُزل من الحياة العامة عقوبة له ، لكنه عاد في العام 1989 ليصبح لاحقاً رئيساً للبرلمان بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي، حيث أصبح فاتسلاف هافل رئيساً للبلاد.
   وكنت قد توقفت عند ربيع براغ في أكثر من مناسبة ، حين قدّر لي زيارة تشيكوسلوفاكيا العام 1969 في الذهاب والإياب إلى بولونيا (كراكوف) لحضور اجتماع تحضيري لمناسبة ميلاد لينين، وقد شاهدت آثار ذلك وتلمّست مشاعر الناس في البلدين، وهو أدهشني كثيراً وأثار تساؤلات وحيرة في نفسي.
   وأتذكّر أن الصديق لؤي أبو التمن كان قد أخبرني بعد زيارته لسفارة تشيكوسلوفاكيا إلى بغداد على رأس وفد لتهنئة المسؤولين على " النجدة الأممية" والمقصود بذلك "التدخل السوفييتي"(21 آب/أغسطس/1968) لقمع ربيع براغ، إلّا أنه فوجئ بردّ عنيف من الدبلوماسيين التشيكوسلوفاكيين في بغداد، بأن هذا ليس سوى "احتلال" أو "تدخل" بالضد من إرادة الشعب التشيكوسلوفاكي، وبقينا لفترة نعلّق على ذلك ونتبادل أطراف الحديث بيننا مشكّكين في بعض الروايات الرسمية التي تصلنا من جانب الدعاية الاشتراكية وصداها دعايتنا وبعض مصادر معلوماتنا، وبقينا نثير الأسئلة التي يسميها البعض الشغب المستمر والاعتراض الدائم.
   وكم أحرجنا حين أعلن الرئيس أحمد حسن البكر تأييده لخطوة "التدخل الأممي" وذلك بقوله " المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية" وهو تبرير استساغه من يريد الرد على بعض تململاتنا ، ناهيك عن الاحتجاجات التي ارتفعت لمثقفين كبار من فرنسا وإيطاليا وغيرها للتنديد بالتدخل السوفييتي لقمع ربيع براغ.
   أما نشاط حركة تضامن (اتحاد نقابة العمال البولونية) لاحقاً في بولونيا في الثمانينات بقيادة ليخ فاليستيا فقد كانت الأطول عمراً والأكثر تأثيراً، حيث شهدت بولونيا اضرابات متكرّرة إلى أن تم تغيير النظام في العام 1989، وذلك عن طريق لا عنفي، ابتدأ في مدينة غدانسك ولم تنفع معها الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة، حتى تم فرض إجراء انتخابات (شبه حرّة) وتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة تضامن وهكذا انتصر " فقه التواصل" على نزعات الانتقام والثأر، وهو ما حصل في هنغاريا أيضاً، في حين اتجهت ألمانيا الديمقراطية إلى " فقه القطيعة" باتحادها لاحقاً بألمانيا الاتحادية.
الأوروشيوعية
   كان موقف الحركة الشيوعية في أوروبا الغربية إبان ربيع براغ قد اختلف عن موقفها من انتفاضة المجر، ففي الأخيرة لم تستنكر ما حصل من اجتياح سوفييتي، أما في العام 1968 فقد استثيرت على نحو شديد، وأعلن الكثير من قياداتها وملاكاتها رفضهم الشديد للتدخل السوفييتي وإدانتهم له، وقد كان ذلك بوادر انشقاق جديد في الحركة الشيوعية العالمية تحت عنوان فكرة الأوروشيوعية التي بدأت تلقى صدىً أكبر في أوساط الأحزاب الشيوعية الثلاث الإيطالي والفرنسي والإسباني تمايزاً لنفسها عن الموقف السوفييتي وما يسمّى بالمركز الأممي أو التبعية الأممية، بل إن انقسامات وانسحابات قد حصلت داخل هذه الأحزاب بسبب " التدخل السوفييتي" لسحق حركة الاحتجاج في تشيكوسلوفاكيا.
   وللأسف لم يتم التوقف عن الأوروشيوعية ودراستها ونقدها من جانبنا، بل اتخذنا الموقف ذاته الذي اتخذ الحزب الشيوعي السوفييتي فشككنا بها واتهمناها بأبشع التهم وهي الطريقة السائدة في التعاطي مع الخلافات الفكرية في الأحزاب الشمولية، وبالقراءة الاستعادية لفكرة الأوروشيوعية فإنها تقوم على ركنين أساسيين:
   الركن الأول - الالتزام بالديمقراطية البرلمانية وسيلة للوصول إلى السلطة وطريقاً سالكاً للنشاط والمشاركة السياسية، ولهذا لا بدّ من احترام هذه المؤسسة والحرص على تطويرها لتأتي بنتائج أفضل وتعبر عن مصالح الفئات الفقيرة والكادحة.
   والركن الثاني- الاهتمام بالمصالح الأوروبية، وما يقرّب بينها ويساعد في تلبية طموحات شعوبها في السياسة الداخلية والخارجية وفي ما يتبعونه من برامج وستراتيجيات وممارسات، أي التخلي عن الانشغال بالمصالح السوفيتيية وهكذا وضع القادة الشيوعيون الثلاثة جورج مارشيه وبرينغوير (إيطاليا)  وسانتياغو كاريّو (إسبانيا) فكرة الأوروشيوعية أواخر السبعينات، لكن انهيار الكتلة الاشتراكية وانحلالها فيما بعد، ساهم في تخفيض رصيد هذه الفكرة من جهة وانصراف جمهور الناخبين عن المرشحين الشيوعيين في هذه البلدان من جهة أخرى.
   إذا كانت الارهاصات الأولية قد أثارت تساؤلات لديّ بخصوص حقيقة أو عدم حقيقة ما يحصل، وفيما إذا كانت تلك الأحداث من صنع الخارج أم أنها شأن داخلي دون نسيان تأثيرات الصراع الآيديولوجي، إلا أن بعد معرفتي ودراستي وزياراتي لجميع البلدان الاشتراكية، كنت أتلمّس الأخطاء والارتكابات وحتى الجرائم بحق العمال والشغيلة قبل غيرهم دون إهمال بعض المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حققتها هذه الأنظمة، لاسيّما في ميادين التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، وإن اختلفت زاوية النظر لدّي لاحقاً، بشأن الحرّية القيمة الأساسية العليا للإنسان، ولا تختلف التجربة الصينية عن التجارب الاشتراكية الأخرى في هذا الميدان: حزب حاكم وآيديولوجيا واحدة وجهاز مخابرات متحكّم وأعلام موحد وغياب أي مظهر من مظاهر النقد أو حرّية التعبير.
تململات ونقد
   ومع تلك التململات الجنينية الأولى، بدأت الانتقال بالتدرّج وليس دون معاناة وألم من الإيمانية التبشيرية الدعائية إلى التساؤلية العقلية المنطقية، ومن هذه الأخيرة إلى النقدية الحقوقية الإنسانية، في إطار جدل مع النفس ومع الآخر، مع نقد ذاتي ومحاولة للفهم أولاً ثم للإقناع والتغيير ثانياً ، وهكذا استمرّ المونولوج الداخلي بنبرة أعلى  لينتقل تدرجياً من الجوّانية إلى البرانية ومن الأنا إلى الآخر، ومن الآخر إلى النحن، في منهج قرائي جديد للمادية الجدلية ومحورها الماركسية العقلانية غير الشعاراتية وربط ذلك بالواقع العربي والعراقي ومشكلاته وهمومه ومعاناته وتطلعاته، أي الانطلاق من الواقع وليس من النظرية، وتكييفها في ضوء البراكسيس وليس محاولة تكييف الواقع للافتراضات النظرية غير المختَبِرة أو المُمتحِنَة، لأنها ظلّت مجرد وعود وردية تجريدية لغايات نبيلة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام وأحياناً الأوهام قُدّم بعضها بصيغة مفصولة عن الواقع وغريبة عنه، بل ومسقطة عليه؛
   حاول البعض الآخر ضمن قراءاته المبتسرة والدعووية  وفهمه المبسّط  والمحدود تقديم الماركسية بنكهة قروية أو ريفية أو بدوية خارج منطلقاتها الأساسية، ناهيك عن التطبيقات المشوّهة التي عرفتها الأنظمة الاشتراكية التي أفسدت محتواها المدني والإنساني والجمالي المتحضر والراقي.
   ولعلّ هناك دائماً علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، فلا غاية شريفة وعادلة يمكن الوصول إليها بوسائل غير شريفة أو غير عادلة، فالوسيلة جزء من الغاية مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، وإذا كانت الوسيلة منظورة وملموسة، فالغاية بعيدة المدى، ولا يمكن إدراكها إلّا بوسائل إنسانية أولاً وقبل كل شيء.
   وإذا كانت محاولة يوسف سلمان يوسف (فهد) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي الذي أعدم العام 1949 مهمة، لجهة قراءة الواقع وتقديم بعض الاجتهادات  الأولية انطلاقاً منه على الرغم من هيمنة العقلية الستالينية الإيمانية، إلّا أنه لم تجرِ محاولات لاحقة  ومعمّقة أكثر شمولية وانفتاحاً لتراكم عليها، بل على العكس ساد نوع من الركود والكسل اللذان أصبحا مهيمنين بشكل عام على القيادات الحزبية باستثناءات محدودة، وكانت غالبية الأنشطة  تدور في فلك المسلكية الحزبية والعمل الروتيني والإداري اليومي، أما التنظيرات فيتم ضخّها  عبر المركز الأممي وإلحاقاته للأحزاب الشقيقة في مرحلة الكومنترن أو بعده، سواء فيما يتعلّق بفكرة التعايش السلمي والتطوّر اللّارأسمالي  ودور "الديمقراطيين الثوريين" والتحالفات الطبقية والسياسية والموقف من القضايا القومية، ولاسيّما القضية الفلسطينية، في قراءة بعيدة في الكثير من الأحيان عن الواقع، وعن نبض الناس وانشغالاتهم.
   

160
 

حوار مع الدكتور عبد الحسين شعبان لموقع أجيال قرن 21

أجرت الحوار: أورنيلا سكر

س1 - د. حسين شعبان بداية أهلا بك بموقع أجيال قرن ال٢١ ، فأنت مفكر عربي غزير الإنتاج ومجتهد جاد ومجدد وناقد للأوضاع السائدة مثلما أنت باحث متعدد الاهتمامات من الفلسفة إلى علم الاجتماع إلى السياسة والقانون والاقتصاد والتاريخ والثقافة والأدب والأديان . هل بالإمكان التحدث عن أطروحاتكم بخصوص الهوية بعد صدور كتابكم الهوية والمواطنة (مركز دراسات الوحدة العربية)، وأين موقع العراق بعد "الربيع العربي" والتظاهرات  الأخيرة؟
ج1-  انشغلت بموضوع "الهويّة والمواطنة" منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، ارتباطاً بالتغييرات الكبيرة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية بانتهاء عهد " الحرب الباردة" بشكلها السابق والصراع الأيديولوجي بين النظامين المتصارعين "الرأسمالي والاشتراكي"، لاسيّما بانفجار موضوع الهويّات على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي غيّر الكثير من المسلّمات والفرضيات، فاستوجب إعادة النظر بعدد من القناعات والاستنتاجات، سواءً على الصعيد الفردي أم على الصعيد المجتمعي، للصلة الوثيقة بين العام والخاص، والوطني والفردي والشامل والفرعي .
   ولم تكن ظاهرة "انبعاث" الهويّات لدرجة التذرّر أحياناً، ناجمة عن إرادة مسبقة أو رغبة في التفلت من الكيانات السابقة فحسب، بل انعكاساً لواقع جديد وتعبيراً عن تمظهرات مستحدثة موضوعياً وذاتياً، بتداخلات خارجية واستقطابات داخلية، خصوصاً وقد رافقها أعمال عنف ونزاع وحرب بعد جدل وصراع، استعرت آواره بفعل صعود عوامل التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك سيقود إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً منفلتاً من عقاله باستهداف المجتمع والدولة معاً، وهدفه إضعاف ثقة الفرد بالدولة وإحداث نوع من الرعب والفزع  في المجتمع بما فيه إضعاف ثقته بالدولة، ناهيك عن أنه يصبح إرهاباً دولياً عابراً للقارات والحدود والبلدان.
   وقد حاولت معالجة موضوع "الهويّة والمواطنة" من زوايا مختلفة، سواء هويّة الجماعة أم الفرد الثقافية آخذاً بنظر الاعتبار التحوّلات والتغييرات التي شهدتها هويّة الجماعة أو الفرد كجزء من صيرورة تاريخية دينامية متعدّدة ومتنوّعة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف بما يتناسب مع درجة التطور في كل مجتمع وكل مجموعة بشرية وكل فرد، بلحاظ القواعد القانونية العامة في الدولة العصرية، تلك التي تتيح الإمكانات لمواطنة سليمة ومتكافئة.
   وفي إطار الهويّة، وفي لبّها تتفاعل عوامل عديدة قومية ودينية ولغوية وسلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وغيرها، مرّة بمعناها التشاركي وأخرى بمعناها التنازعي، وتارة بمعناها العام الجامع والمشترك وثانية بمعناها الفرعي الخاص والمتميز، والأخيرة غالباً ما تكون دفاعية ضد التسيّد أو الهيمنة أو رفض الاستتباع وقد تندفع مرغمة على الانعزال، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي، مثلما تأخذ تلك التجاذبات مكانها في البحث عن تكافؤ الفرص لمواطنة متساوية ومتكافئة .
   وهناك تداخل وتفاعل لدرجة الاندغام أحياناً بين هويّات متعدّدة لدى كل فرد ولدى كل مجموعة بشرية، وهذا ما يميّزها عن غيرها، لاسيّما لشعورها بالانتماء، مثلما تميّز الفرد عن غيره، والأمر يعود إلى القناعة الخاصة من جهة والشعور الذي يجمع من ينتمون إلى هذه المجموعة، أو لدى الفرد الواحد من جهة أخرى، بحيث يقر أن هذه السمات هي التي تعبّر عن هويّته الغالبة أو أن هذه المجموعة تشعر أن هذه المواصفات هي التي تمثل شعورها الخاص بالتميّز أو التمايز عن غيرها من المجموعات الإنسانية.
   وكان صدور الطبعة الأولى من كتابي " الهويّة والمواطنة - البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة "  يناير /كانون الثاني 2017، وقبلها  كتابي المعنون "جدل الهويّات في العراق- الدولة والمواطنة" في العام 2010، وقبله كتابي الموسوم " من هو العراقي؟- إشكالية الجنسية واللاّجنسية في القانونين العراقي والدولي، في العام 2002، فرصة جديدة لتوسيع دوائر الحوار والجدل والنقاش الذي احتدم على المستوى العالمي، ناهيك عن انعكاساته عربياً.

س2- لقد أمضيت أكثر من نصف قرن في الكفاح من أجل إلغاء الطائفية في العراق وتكريس المواطنة . سؤالي ما هي مشكلة المجتمع العراقي ؟ لماذا هذه الدوامة والتعثر في الخروج من الصراعات الداخلية والطائفية في العراق ؟ وما حجم تأثير الجهات الخارجية في استبعاد تحقيق أي حل في العراق؟
ج2- لبناء مواطنة حيوية على أساس هويّة موحدة، فالأمر يحتاج إلى مناعة وطنية باستذكار ما هو سلبي في علاقات المجموعات الثقافية ليكون عبرة، والبناء على ما هو إيجابي ليكون أفقاً، لكي لا يندفع من يشعر بالغبن والتهميش والإقصاء إلى الرفض والتمرد والرغبة في الانقسام، وهذا الأمر يتطلب منجزاً مشتركاً ومعرفة متبادلة بخصوصيات كل فريق ومراعاتها، لما فيه من حساسيات، ناهيك عن المجال العام المشترك الداعم للوحدة والتضامن ومجابهة التحديات الخارجية، كما يحتاج إلى شجاعة وتصميم وإرادة سياسية والتزام قيمي وحضاري يقوم على المشتركات الإنسانية والتشاركية المسؤولة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
   وأساس كل ذلك هو العيش المشترك والضمانات الحقوقية والالتزامات القانونية، أي عدم التمييز ونبذ أي شكل للاستعلاء بزعم "الأكثرية والأقلية"  أو " الأكبر والأصغر" أو "القوي والضعيف" أو " الأعلى والأدنى" وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه لمعالجته وفقاً لقواعد دستورية للدولة العصرية، بتأكيد التخلي عن أي شكل من أشكال الإرغام والإكراه والعنف ضد الآخر والإقرار بالتعددية والحوار والتوافق على حل المشكلات بالسلم والتفاهم وعدم اللجوء إلى السلاح، وذلك وفق عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والحقوق .
   وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية وآخرها في العراق ولبنان (تشرين الأول / أكتوبر 2019 والتي لا تزال مستمرة) أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة ، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والسلم، إلى وضع  الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
   ونحتاج إلى الإصغاء لبعضنا البعض وإتقان فن الحوار والمصارحة وإدارة التنوّع الثقافي باحترام الخصوصيات، بما يعزز المسؤولية الجماعية، وينمّي الفردانية والتميّز دون نسيان المشتركات الإنسانية والمسؤوليات التي تترتّب على الفرد وحقوقه إزاء الجماعة والمجتمع ، وتلك تحتاج إلى بناء من التنشئة الأولى، لاسيّما إذا توفرت مؤسسات لرعاية مثل هذا الحوار، وهو حوار بين أتباع الثقافات المختلفة، سواء: قوميات ، أديان ، لغات، وحوار في الحياة العامة، مثلما يحتاج إلى رياضة نفسية لتقبّل الآخر وأفكاره وحقه في الاختلاف. والحوار يمكن أن يتخذ بعداً ثقافياً وآخر حقوقياً وقانونياً وثالثاً سياسياً واجتماعياً ويحتاج إلى إدارة فاعلة وناجحة لإدارته.
وسبق للباحث أن طرح هذا الموضوع على نحو موسّع في كتاب صدر له بعنوان "جدل الهوّيات في العراق – المواطنة والدولة" اقترح فيه مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، تلك التي ينبغي أن تقوم على أساس الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة، وهي أركان أساسية للمواطنة المتكافئة والفاعلة دون أي تمييز أو استقواء، وهو الأمر الذي كان مطروحاً في الماضي، ولكنه يصبح أكثر إلحاحاً وأشد خطورة في الوقت الحاضر، خصوصاً ما يعانيه المجتمع العراقي من إنقسامات طائفية ومذهبية وإثنية، تركت بصماتها على مجمل العملية السياسية، ولعلّ أحداث محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وامتدت إلى مدينة الأعظمية ومدينة الشعب في بغداد ومناطق أخرى، ليست بعيدة عن الاستقطابات والتحديات الجديدة – القديمة!
وقد شهدت الساحة العراقية تطهيرات مذهبية وإثنية خلال عامي 2006 – 2007 وما بعدهما على نحو أقل، لكن ذيولها وتأثيراتها ظلّت تطلّ برأسها بشكل أو بآخر وبين فينة وأخرى، خصوصاً عند بعض الاحتكاكات السياسية، تلك التي ترفع درجة الشعور بالتمييز والحرمان وعدم المساواة والتهميش، وهو الأمر الذي انعكس مؤخراً في صيغة التظاهرات الكبرى ذات الطبيعة الاحتجاجية والمطلبية، وهو ما يطرح مجدداً هوّية الدولة العراقية "الموحدة"، ذات التنوّع الثقافي والهوّيات الفرعية لجهة التوازن، وعدم تغوّل أية هوّية على أخرى بما فيها الهويّة الجامعة أو "الكبرى" على الهوّيات الفرعية، مثلما يفترض احترام الهوّيات الفرعية للتطلعات العامة للهوّية الجامعة الموحدة، بما فيها لمكوّناتها الأساسية.
وإذا كان المجتمع العراقي واحداً، لكنه يزخر بهوّيات متعددة، وهناك فرق كبير بين الوحدة والواحدية، فهو يشترك بهوّية عامة ويمتاز بهوّيات فرعية، والهويّة العامة غير مفروضة وإنما تتشكل كهوّية طوعية واتحاد اختياري، وهي بالتالي ليست هوّية إكراهية مفروضة أو استعلائية أو ردّ فعل لها.
ولعل الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوية، خصوصاً الشعور بالانتماء، لا سيّما وأن الهويّة تقوم على التوالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة، الثابتة والمتغيّرة على نحو عميق، عبر التطور التدريجي التراكمي لفترات زمنية طويلة، وذلك من خلال العلاقة مع الآخر إنسانياً وعبر العادات والتقاليد التي تعكس سلوك الناس وحياتهم، وبالتالي فالأمر مثل الكائن الحي يخضع لقوانين التطور الحياتية ذاتها، وبقدر انطباق الأمر على المستوى الفردي، فإنه ينطبق على المستوى الجماعي أيضاً.
هل ينفرد المجتمع العراقي بوجود هوّية موحّدة وهوّيات فرعية، وكيف السبيل لعلاقة تكاملية بين الهوّيات المتنوعة؟ وكان الماضي بقدر ما يزخر بالعلاقات الإيجابية الودية، فإنه يحمل ذكريات مؤلمة في الوقت نفسه، وهو الشعور الذي ظل ملازماً لبعض القوى السياسية الدينية ومعارضتها أحياناً، لا سيّما في ظل المحاصصة الطائفية – الإثنية. ولكن هل أصبح التعايش مستحيلاً؟ وما هو دور السياسة في استعادة التوازن والتواؤم والانسجام وحلّ الإشكالات القائمة بروح الوحدة والتسامح والمصير المشترك؟ وما هي تجارب الغير على هذا الصعيد؟
   في المجتمعات المتقدمة تقلّص الصراع إلى حدود غير قليلة، لا سيّما الصراع المسلح، ولكن الجدل يستمر ويتواصل ويتصاعد أحياناً حتى وإن قررت الأطراف المتنازعة الافتراق، لكنها تختار الطريق السلمي المدني في الغالب، بعد أن جرّبت طريق العنف بكل ما فيه من مآسي ووعورة وآثار سلبية.
إن لغة الحوار والوسائل السلمية هي الأساس لحل مشكلات البلدان المتقدّمة مع بعضها البعض، في حين أن العنف هو الشكل السائد في بلداننا لحل قضايا الهويّة والمواطنة، أي أن البلدان المتقدمة يغيب فيها البعد الاستئصالي والإقصائي، في حين أن الجانب العنفي والعسكري يستمر في مجتمعاتنا، لإلغاء الآخر أو ترويضه.
ومع ذلك فإن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فحتى بعض البلدان المتقدّمة ظلّت تعاني من جدل الهوّيات الذي يصل إلى حد الصراع حتى مع توفّر المواطنة، الأمر الذي ينبغي إعادة النظر بالمسألة إنسانياً، وهناك تجارب مريرة لذلك: يوغسلافيا التي انشطرت إلى ستة كيانات جديدة، والاتحاد السوفييتي الذي انقسم إلى 15 كياناً واستمرار مشاكل إيرلندا (بريطانيا) والكيبك (كندا) والكورسيك (فرنسا) والباسك (إسبانيا) ومشكلة جنوب إيطاليا، إضافة مشكلة بلجيكا التي من المحتمل أن تنشطر إلى كيانين على الرغم من النظام الديمقراطي العريق والاتحاد الفيدرالي، حيث ضمان حقوق المواطنة، لكن ذلك حسب قناعة مكوّناتها قد لا يلبي الامتلاء الكامل لتحقق طموحات الهوّيات الفرعية، ولا يرضي تطلّعات خصوصية ترى ضرورة التعبير عنها على نحو مستقل، لا سيّما بعد أن يصبح التعايش مستحيلاً.
ثمة أوهام أربعة عاشت معنا ما قبل التغييرات التي حصلت في أوروبا الشرقية وربما بعضها لا يزال مستمراً:
فالوهم الأول الذي يقول أن الدول الصناعية والديمقراطية والتي اعتمدت المواطنة قد حلّت مسألة الهويّة، لكن الواقع يثبت يوماً بعد آخر أن مثل هذا الحل لا يزال ناقصاً ومبتوراً، بدليل التحدّيات التي تواجهها ما يزيد عن 20 حالة لتمسكها بهوّيتها القومية اللغوية أو التاريخية أو غير ذلك، ناهيكم عن التعبير عن حاجات وطموحات إنسانية.
   أما الوهم الثاني فهو الذي يقول أن تحقيق الديمقراطية والمواطنة يدفع بصراع الهوّيات إلى الخلف مقابل المصالح والحقوق، ولكن الواقع يزخر بالمزيد من التمسك بالهوّيات الفرعية، التي يبدو أنها ترتفع فوق الاعتبارات الأخرى أحياناً.
وكان الوهم الثالث ينطلق من رؤية افتراضية هو أن البلدان الاشتراكية قد حلّت مسألة الهوّيات، حتى اعتقدنا أن ألمانيا الديمقراطية أصبحت أمة منفصلة عن الأمة الألمانية (الغربية) وذلك بعد ما تبنّاه دستورها في العام 1977 بحكم نظامها الاجتماعي المختلف، وإذا بالبنيان ينهار سريعاً بانهيار جدار برلين في 9تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1989 ويلتقي الألماني بالألماني دون آيديولوجية، ولكن الجامع المشترك هو اللغة والدين أساسا الهويّة.
والوهم الرابع أن صراع الهوّيات وجدلها، إنما هو حكر أو دمغة خاصة بالعالم الثالث الذي يعاني من أزمة تعايش، لكن تجربة الهند التي اتخذت من الديمقراطية والفيدرالية طريقاً لتحقيق المواطنة أوجدت شكلاً جديداً لتعايش الأديان والقوميات واللغات والسلالات، لازال قائماً وبصورة سلمية يستمر ويتعزّز على الرغم من تحدّياته، وهناك تجربة ماليزيا وتجارب أخرى.
   وخلاصة الأمر فإن الهويّة تتعلق بوعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني، وهذا ما ينطبق على الجماعة في إطار مجتمع متعدّد ومتنوّع ومختلف، لكنه متعايش ومتواصل ومتكامل، بل مجتمع موحد وإنْ ليس واحداً.
س3 - هل نحن إذاً في تشكيلات ما قبل الدولة ؟ وما السبيل للخروج من ذلك ؟

ج 3- ما السبيل للخروج من الشرنقة التي لفّت المشهد السياسي العراقي طيلة السنوات الماضية، لا سيّما وقد أنذرت بانهيار العملية السياسية بعد تعطّل تشكيل الحكومة لأكثر من ثمانية أشهر وبعد استقالتها رشّح أكثر من اسم لكنه تم رفضه وما تزال مهمة الحكومة الحالية عسيرة وتتجاذبها قوى وأطراف مختلفة، إضافة إلى وباء الفساد  المالي والإداري والميلشياوي وكوفيد 19 والكارثة الصحية، فعلى الرغم من إطفاء بعض النيران، فإن الكثير منها ما يزال تحت الرماد، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع التقاسم الوظيفي أو ما سميَّ بـ "الشراكة" كتعبير ملطّف عن المحاصصة، لا سيّما إذا اتّسمت ببعد طائفي، فصيغة بول بريمر ما زالت قائمة حتى الآن، ولعلها قد تصبح عرفاً مستمراً إذا ما دلّ عليه تواتر الاستعمال وعنصر التكرار وموافقة الأطراف المعنيّة، ولعل التجربة اللبنانية خير دليل على ذلك. ولم تخرج المعادلة في العراق حتى الآن عن رئيس وزراء شيعي له الصلاحيات الكبرى، ورئيس جمهورية كردي، ومع أن منصبه بروتوكولياً، لكن التشبث به يصبح مسألة نفسية، أما رئيس البرلمان فإنه من حصّة ما يُسمى بالسنّة الذين يقبلون به على مضض.
إذاً ما يزال المشهد السياسي يعاني من الاصطفاف والاستقطاب الطائفي والمذهبي، على الرغم من انخفاض منسوب الطائفية مجتمعياً، لكن تأثيراتها الخطيرة ما تزال قائمة، خصوصاً كلما لاح توزيع المناصب والاستحقاقات الوزارية والوظائف الحكومية العليا، وعلى الرغم من إصرار الجميع على أن قوائمهم تتجاوز الانقسام الطائفي، وأن الطائفية لم تعد جاذبة مثلما كانت بُعيد الاحتلال، بل أن بعضهم يؤكد أنها من نتاجه، نافياً عن الدولة والمجتمع تأثّرهما بالطائفية أو امتثالهما إلى حكمها، لكن معالجة من هذا النوع سواءً أكانت تأييداً أم تنديداً، في الماضي والحاضر، تُجانب الحقيقة في الكثير من الأحيان، لا سيّما بإعادة قراءة التاريخ قراءة متبصّرة، دون انحياز أو تسطيح للأمور، فالإشكالية والمشكلة لم تظهر فجأة ودون مقدمات أو سابق إنذارات أو حتى دون احترابات قديمة.
وإذا اقتصر حديثنا على التاريخ المعاصر للدولة العراقية الحديثة التي تأسست في 23 آب (أغسطس) 1921، فالمشكلة تتعلق بما ورثته من انقسامات من الدولة العثمانية، حيث كان العراق مسرحاً لحروب ونزاعات مسلحة، بين الإمبراطورية الفارسية، أيام الصفويين، وبين دولة الخلافة العثمانية، الأمر الذي انعكس على الساحة العراقية احتراباً واقتتالاً واستقطاباً، وخصوصاً على الفرق والمذاهب بمساعدة الطرف الفارسي الصفوي حيناً، وبدعم من الطرف العثماني – التركي حيناً آخر. وكان كل منهما عندما تستقيم له الأمور ينكّل بالآخر ويمارس العنف ضده ويتجاوز على مقدساته وطقوسه.
وعندما فشل المحتلون البريطانيون في حكم العراق مباشرة، وأعلن مجلس عصبة الأمم الانتداب على العراق سعوا إلى زرع بذرة الطائفية قانونياً، في مواجهة الوحدة الوطنية العراقية، بعد اندلاع ثورة العشرين في حزيران (يونيو) 1920، حيث شهد العراق التحاماً وطنياً ودينياً وعشائرياً متجاوزاً المشروع الطائفي، بالإجماع على حق العراق في الاستقلال وفي حكم نفسه بنفسه وتقرير مصيره، وإجلاء القوات البريطانية عن أراضيه، مما دفع البريطانيين إلى التفكير باستخدام سلاح "فرق تسد" فلجأوا إلى سنّ قانون طائفي للجنسية هو القانون رقم 42 لعام 1924، وكان ذلك قبل صدور دستور العراق "القانون الأساسي" الذي صدر في العام 1925.
وقد ميّز هذا القانون بين العراقيين في اكتساب الجنسية، واعتمدت شهادة الجنسية درجتين لمنح الجنسية وهي (أ) لمن كان من رعايا الدولة العثمانية فيصبح عراقياً بالتأسيس، حتى وإن لم يكن عربياً، أي سواء أكان تركياً أو ألبانياً أو كرجياً أو غيره، و(ب) إذا كان من تبعية أخرى مثل "الإيرانية" فهو يكتسب الجنسية العراقية حتى وإن كان عربياً أصيلاً، فهو لا يُعتبر عراقياً، بل يكتسب الجنسية العراقية من الفئة (ب) على الرغم من كونه مولوداً في العراق، وكذلك أبوه وجده أحياناً،حتى لو كان قبل ولادة الدولة العراقية.
لقد جاءت نتائج هذا التمييز لاحقاً ببعض الممارسات في العهد الملكي، لا سيّما إزاء بعض الوظائف العامة والعليا وإن كان على نحو محدود وغير ملحوظ، لكن تأثيراته السلبية جاءت لاحقاً بصدور القانون رقم 43 لسنة 1963، الذي استند إلى القانون الأول ووضع شروطاً مشددة للحصول على الجنسية، وترافق ذلك مع حملات تهجير أولى في العام 1963، وعمليات تهجير أكبر في العامين 1965 – 1966، ثم حملة واسعة شملت نحو سبعين ألف بين العامين 1969 – 1971، وتواصلت الحملة الكبيرة في العام 1975 لتشمل أعداداً كبيرة من الأكراد الفيلية بعد وصول اتفاقية 11 آذار (مارس) للحكم الذاتي العام 1970؛ بين الحكومة العراقية والحركة الكردية إلى طريق مسدود، ولكن حملة التطهير الجماعي ونزع الجنسية كانت في ذروتها العام 1980، أو عشية الحرب العرقية – الإيرانية، حيث صدر القرار رقم 666 بتاريخ 7 أيار (مايو) 1980 عن مجلس قيادة الثورة القاضي بإسقاط الجنسية عن الذين يعتبرون من "أصول إيرانية" أو بسبب عدم موالاتهم للحزب والثورة وقد تمّ إلغاء هذا القرار في العام 2003.
    تركت تلك الإجراءات التعسفية، بما فيها نزع ملكية المهجرّين، ردود فعل طائفية تمّ توظيفها من جانب إيران سواءً في الحرب أم في السلم، كما تمّ استثمارها سياسياً من جانب الأحزاب والقوى الشيعية، وانعكست تلك الإجراءات على الحساسيات الطائفية مجتمعياً، إضافة إلى مرافق الدولة، الأمر الذي جرى استغلاله على أحسن وجه ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بتشجيع من بول بريمر، مثلما يذكر في كتابه "عام قضيته في العراق" وكانت معاهد ومراكز أبحاث ودراسات غربية تعمل على تكريس مفهوم الانقسام الطائفي في العراق منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان.
إن الواقع الجديد الذي نشأ في العقود الثلاثة الماضية، لا سيّما بعد الاحتلال جعل العراق في مواجهة أشكال مختلفة من الطائفية السياسية، تارة باسم البحث عن الهوية، وأخرى بحجة رفع المظلومية والحيّف، وثالثة باسم الأغلبية، ورابعة بقراءة "خاصة" للتاريخ، وخامسة بالسعي لإحياء الماضي، وهكذا دخل أمراء الطوائف في صراع محموم، لم ينفع معه وجود دستور يقرّ مبادئ المواطنة واحترام الحقوق والحريات، وإن احتوى على ألغام لا مجال لذكرها في هذا المقال يمكن أن تنفجر في أية لحظة.
وإذا كانت الهويّات الفرعية تغتني وتتطور بالتفاعل والتواصل الإنساني مع الهويات الأخرى، سواءً الهوية الوطنية العامة أو الهويّات الفرعية الأخرى، فإن الأساس في التعايش والمشترك الإنساني هو المواطنة والتي تتطلب مواطنين أحرار، بحيث تكون مواطنتهم عابرة للطوائف والإثنيات والأديان والعشائر والجهويات، وفي إطار وحدة كيانية متعددة وموحدة في الآن، وهو الأمر الذي ظلّ غائباَ.
لا نتصوّر وجود حل سحري سريع للمشكلة الطائفية، سواءً بإسقاط الرغبات، أو التبشير بالتمنيات، فالأمر يحتاج إلى عناء وبناء دستوري وقانوني ومجتمعي، ولاسيّما رفع درجة الوعي والثقافة الحقوقية، فضلاً عن علاقات متساوية ومتكافئة، تؤسس لمواطنة حرة.
ولعّل الخطوة الأولى والأساسية تبدأ بإصدار قانون (سنّ تشريع) لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، لا سيّما بتأكيد اعتبار الطائفية خطر على المجتمع والدولة في آن. وهي جريمة كبرى تستحق أقسى العقوبات إذا ما اقترنت بالعنف واستخدام القوة! وسيكون وجود مثل هذا القانون مدخلاً لمنع استخدام المنابر الحكومية وغير الحكومية، السياسية والدينية والإعلامية والبرلمانية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والرياضية لإثارة نعرات الكراهية والاستعلاء بتضخيم الذات، أو باستصغار شأن الآخرين والتمييز ضدهم أو تهميشهم أو إقصائهم.
إن وجود قانون يحرّم الطائفية ويعزز المواطنة سيكون ضداً نوعياً لا غنى عنه لمواجهة نزعات التمذهب والتمييز والتسيّد وإدعاء الأفضليات والتشبث بتقسيمات ما قبل الدولة.


161
بولتون في الغرفة ذاتها
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

أعادتني الضجة التي أثارها الإعلان عن موعد صدور كتاب  "الغرفة التي شهدت الأحداث The room where it happened " لجون بولتون المستشار  السابق للأمن القومي الأمريكي إلى الفيلم الملحمي الفرنسي - الجزائري " Z" الذي تصدّر شاشات السينما في العام 1969 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم لمؤلفها فاسيليس فاسيليكوس ، والذي يتحدث فيها شهود رئيسيون عن أوضاع حكومية وظروف غامضة ومريبة، مثلما أعربت بعض الأوساط الأمريكية والدولية عن استغرابها ودهشتها إزاء تسريب أسرار ومعلومات وخفايا تتعلق بإدارة الرئيس دونالد ترامب .
جدير بالذكر، أن جون بولتون هو أحد طباخي " السياسة الأمريكية" ، ومقرب من الرئيس ترامب، ولذلك فإن نشر الأسرار والمعلومات على الملأ أزعجته وأثارت غضبه فأطلق طائفة من الاتهامات والعبارات النابية بحقه، بل إنه طلب منع نشره بزعم مساسه بالأمن القومي وإفشاء الأسرار، لكن القضاء الأمريكي رفض هذا الطلب .
لعلّها ليست المرّة الأولى أن يعمد أحد كبار الموظفين السابقين في البيت الأبيض على نشر مذكراته عن الفترة التي قضاها بالقرب من الرئيس ومن صناعة القرار، ولكن ذلك عادة ما يحدث بعد انقضاء ولاية الرئيس وبدء رئاسة جديدة، غير أن ما حدث هو أن بولتون حاول نشر "الغسيل الوسخ"  كما يقال والرئيس ترامب ذاته ما يزال متربعاً على دست الحكم في البيت الأبيض، وتلك سابقة خطيرة، لاسيّما بنشر أسرار ما تزال طي الكتمان أو تسريب معلومات يفترض أن تبقى في الأدراج أو فضح قضايا لم يتم حسم الموقف بشأنها ، والأمر لا يتعلق ببعض الأمور الشخصية، بل إنها تصب في صميم مهمات الرئيس ومسؤولياته وخططه وبرامجه وعلاقاته وصفقاته واتفاقاته، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب وخطورته.
وبولتون مثل غيره من مستشاري الأمن القومي جاء من "مجمّع العقول" أو "تروست" الأدمغة مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت  وستيفن هادلي وكونداليزا رايس، وهؤلاء عادة من المتفوقين الذين تأخذهم الإدارة الأمريكية للاستفادة من إمكاناتهم ، وقد عيّن سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة في العام 2005 بعد أن برز كأحد صقور الحزب الجمهوري ومن المحافظين الجدد New Conservative  ، وترأس في الفترة من 2013 - 2018 معهد جيستون وهو معهد معادي للإسلام، وقد التحق بإدارة الرئيس ترامب كمستشار للأمن القومي خلفاً لـ هربرت ماكماستر وكان إعلان ترشيحه لهذا المنصب يعني أن إدارة ترامب تتجه إلى التشدد في سياستها الخارجية لما هو معروف من التوجهات المتصلبة لبولتون وقناعته باللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية كحل لفرض هيمنة واشنطن.
لقد وقف بولتون إلى جانب ترامب حين شنّ الديمقراطيون ضدّه حملة شعواء لعزله، ولكن الأخير كافأه بالعزل بعد ذلك، كجزء من مزاجه المتقلب، وقد يكون الإسراع في إصدار مذكراته رغبة في قطع الطريق على الرئيس ترامب من الحصول على ولاية ثانية ، لاسيّما بنشر ما لديه من معلومات وأسرار لا تصب في صالحه، بل تنتقص من إدارته غير المنظمة والتي يتحكم فيها صهره كوشنير وابنته إيفانكا.
وأبرز بولتون الجانب العصابي في شخصية ترامب ونرجسيته وانتهاكاته لمعيار الوطنية الأمريكية، ليس فيما يتعلق بالعلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وما أشيع عن دعمه في الانتخابات، بل تدخله لدى الصين لفتح تحقيق مع ابن جون بايدن منافسه الديمقراطي في الانتخابات القادمة، إضافة إلى تخبطاته على المستوى الدولي، فهو غير معني بالقيم الديمقراطية الليبرالية أو الجوانب الإنسانية والحقوقية والقانونية الدولية، وإلّا كيف تنسحب واشنطن من اتفاقية المناخ ومن منظمة الصحة العالمية ، ويصرّ ترامب على رفع ميزانية حلف الناتو إلى 2%، إضافة إلى وقف مساعداته لوكالة غوث اللاجئين وإعلانه عن الرغبة في التخلي عن عضوية لجنة حقوق الإنسان الدولية ، ويتعامل مع العالم العربي والقضية الفلسطينية من موقع تجاري، بل ويخضع كل شيء للتجارة والقوة الاقتصادية.
وبالعكس من ذلك ، يرى بولتون أن القوة العسكرية هي الأساس الذي ينبغي التعامل به مع عدد من القضايا والملفات مثل الملف النووي الإيراني والملف النووي الكوري الشمالي، مثلما كان مع تدمير المفاعل النووي السوري الذي قصفته إسرائيل العام 2007 ويتهم كوريا ببيع أسلحة نووية لسوريا وبتمويل من إيران. وقد وقف ضد مجموعة خان الباكستانية التي تعاونت مع إيران وكوريا الشمالية في مجال الأسلحة النووية، وخصوصاً تخصيب اليورانيوم  التي  سرقها خان من أوروبا ، حسب ادعاء بولتون.
عرف جون بولتون كل ما كان يجري في غرفة الرئيس، لذلك أراد أن يفتح أبوابها ونوافذها ويظهر خباياها وخفاياها للجميع بحيث يبان الرئيس عارياً ومجرداً من كل ما يستره،لذلك سارع لقطع الطريق على ولايته الثانية بالتوقيع على عقد  نشر كتاب الغرفة التي شهدت الأحداث مقابل مبلغ مليوني دولار، ولعلّ ذلك جزء من القوة الناعمة التي استخدمها بولتون بوجه ترامب الذي يقود حروباً ناعمة ضد العديد من الدول والشعوب.



162
الأوليغارشية وروح " الديمقراطية "

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
زعزع صعود التيارات والأحزاب الشعبوية في الغرب "الديمقراطية" فكرة وممارسة ، وخصوصاً من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ناهيك عن ارتقائها دست الحكم في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والنمسا وتعزّز نفوذها ومواقعها في فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وشمال أوروبا في الدول الاسكندنافية.
وتبدو الحقيقة أكثر تعقيداً حيث تتآكل الديمقراطيات الغربية بسبب أوضاعها الداخلية وصعود موجات من التعصّب والتطرّف والعنف ضد الأجانب بشكل عام وضد المهاجرين واللاجئين المسلمين والعرب بشكل خاص، وتدريجياً وعلى مدى العقود الأربعة ونيّف الماضية، ولاسيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد ، اتّخذ أبعاداً مختلفة ، اعتبر الإسلام عدواً لا بدّ من استئصال شأفته تحت عنوان " القضاء على الإرهاب "، خصوصاً وقد صوِّر الصراع بأنه "صراع تاريخي" تناحري بين الحضارات المختلفة حسب صموئيل هنتنغتون، وكان فرانسيس فوكوياما قد أطلق عليه " نهاية التاريخ".
لقد تهدّدت " الديمقراطية" بانتقال السلطة إلى مؤسسات هيمنت عليها الطبقات العليا والشركات واللوبيات المتنفّذة ووسائل الإعلام وبعض الهيئات الأكاديمية والجامعية ومراكز الأبحاث الاستراتيجية التي تعمل في خدمة الجهات والمجموعات المتنفذة، أو ما يسمّى بـ"مجمّع العقول" أو "تروست الأدمغة" والذي عمل فيه وتخرّج منه كبار المسؤولين الأمريكان مثل هنري كيسنجر وزبيغينيو بريجنسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وغيرهم.
إن الديمقراطيات الغربية تمرّ اليوم بتغييرات جذرية أقرب إلى الانقلاب على بعض أسس الديمقراطية، خصوصاً الاستثمار في "عولمة اليد العاملة" والاعتماد على عمال من الصين وبعض دول شرق آسيا مقابل أجور أقل بما لا يقاس بالأجور التي يتقاضاها العاملون في الغرب، الأمر الذي انعكس سلباً على أوضاع الطبقة العاملة ، إضافة إلى أوضاع الطبقة الوسطى، حيث بات سوق العمل لهاتين الطبقتين يواجه صعوبات متزايدة للحصول على فرص وظيفية تمكّنهم من تحقيق مستوى معيشي أفضل.
وقد فوجئت "الديمقراطيات الغربية" مؤخراً باندلاع انتفاضة عارمة ضد "العنصرية والتمييز العنصري" إثر حادث اغتيال جورج فلويد  الذي أشعلت استغاثته " لا استطيع أن أتنفس" الضمير الإنساني حين كان جزمة الشرطي فوق رقبته؛   وامتدت الاحتجاجات من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وفرنسا واسبانيا والمانيا وبلجيكا وهولندا والعديد من الدول الأوروبية، حيث حطّم المحتجون تماثيل في الساحات العامة ولطخوا رموزاً اتهمت بالعنصرية وبيع الرقيق وجرائم ضد الإنسانية.
ولعلّ تراكم هذه التغييرات خلق مجتمعات جديدة ومختلفة ، خصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة ، وتراجع دور النقابات العمالية والمؤسسات الدينية ، رغم الترويج لعدم جدارة ما سمّي بالصراع الطبقي، بصعود الأوليغارشية أو " الأقليّة الحاكمة" في ظل إثارة مخاوف وفوبيا " البيض" إزاء الهجرة والمهاجرين واللاجئين والملوّنين، مع  إثارة فوبيا الإسلام المعروفة باسم " الإسلامفوبيا" (الرهاب من الإسلام ).
ويواجه بعض دعاة "النيوليبرالية" كل من يعارض أسلوبهم في إدارة الشأن العام ويعتبرونه مختلاًّ نفسياً أو عقلياً، ولا يتورع هؤلاء من إعلان نيتهم لحجز معارضيهم في المستشفيات قسرياً، بما في ذلك معارضو دونالد ترامب والمصوتون بعدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وباقي أنصار الحركة الشعبوية، وهو ما انكشف على نحو مريع خلال مداهمة وباء كورونا مؤخراً حيث بانت هشاشة النظام الصحي والضمان الاجتماعي للعديد من البلدان التي تصنف بأنها غنية ومتقدمة.
وبالطبع فإن النخب الأوليغارشية في دوائر المال والسياسة والإعلام تحاول التحكّم في أذهان الناس وعقولهم وثقافتهم بما فيها خطابها إزاء البلدان النامية، بالترويج لفكرة إن الحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر ، في محاولة لإشعار الناس بالخجل تجاه تراثهم وهويّتهم ، ليكونوا مستعدين للتخلّي عنها أمام أساليب الدعاية الديماغوجية وسطوة الإعلام والصراع الآيديولوجي، ولاسيّما بهيمنتها على المؤسسات الثقافية الكبرى ومحاولة ضخّ أفكارها وأساليبها لفرض قواعد جديدة مفادها إن كل من يتصدّى للأوليغارشية، يعدّ إنساناً رجعياً ومثيراً للخجل، بل ويحمّلون هؤلاء ما يعانيه العالم من خيبات ومرارات وآلام، الأمر الذي يستوجب إنهاء المعارضة وتحقيق الإنسجام لضمان العدالة.
وتحاول النخب الأوليغارشية شن حرب ضد خصومها وضد الطبقتين العمالية والوسطى، بزعم أفكارها ورؤاها المخالفة لمصالح الحكم الأوليغارشي في إطار حرب ثقافية شاملة. وتحت هذا العنوان تتم عملية تشويه مواقف الطبقة الوسطى والبيض المنتمين إليها، باعتبارهم "معادون لحركة الحقوق المدنية والفكر التقدمي".
وقد كانت هذه الأطروحات جزءًا من حوار مستمر في الغرب، وهو عبّر عنه كتاب صدر في الغرب مؤخراً بعنوان "The New Class War" "حرب طبقية جديدة" لمؤلفه مايكل لاند، مع عنوان فرعي " إنقاذ الديمقراطية من النخبة الإدارية"، وهو أمر يحتاج إلى "تفكّر وقراءة" ليس على الصعيد الغربي فحسب، بل على صعيد العالم الثالث بشكل خاص، لاسيّما وإن الطبقة الوسطى تكاد تكون غائبة في ظل صعود شعبوية دينية وطائفية وقومية ، ذات توجهات شمولية وعنفية وبعضها إرهابية.



163
سوريا: الحصار والحرب الناعمة
تشريع للقسوة وتقنين للوحشية


عبد الحسين شعبان

باحث مفكر عربي
مقدمة
   بدخول "قانون قيصر" الأمريكي حيّز التنفيذ في 17 حزيران (يونيو) الجاري تكون سوريا قد واجهت موجة جديدة من موجات الحرب الناعمة، ولعلّ هذه الحرب ستأخذ أبعاداً أكثر خطورة وإيلاماً ضد الشعب السوري الذي ذاق الأمرّين ما يزيد على تسع سنوات، فما بالك إذا ما استمرت الحرب الناعمة والحصار الاقتصادي لفترة طويلة ، علماً بأن هذه العقوبات شاملة والتهديدات المصاحبة لها جادّة، وهو ما  سيتسبب بأضرار لا حصر لها ليس على صعيد الحاضر المنظور، بل على صعيد المستقبل أيضاً؛
   والأمر لا يقتصر على سوريا وحدها، بل سيشمل جارها وشقيقها " لبنان" الذي سيكون عرضة لأضرار قد لا تقل عن الأضرار التي ستلحق بها، علماً بأن المنفذ البري الوحيد للبنان إلى العالم هو سوريا، لذلك فإن هذه العقوبات ستشمل لبنان بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما سينعكس سلباً وبصورة مروعة عليه، غير أنه يعيش مأزقاً حقيقياً وضائقة اقتصادية شديدة ، لاسيّما بانهيار سعر الليرة وأزمة المصارف وارتفاع أسعار السلع ، ناهيك عن أوضاع صحية خطيرة في ظل انتشار وباء كورونا، إضافة إلى تجاذبات إقليمية ودولية مؤثرة وضاغطة بما فيها تهديدات "إسرائيل" المستمرة ، ولذلك فإن تطبيق هذه العقوبات سيؤدي إلى تهديد عموم دول المنطقة ويزيد من استمرار أزمة النازحين واللاجئين وتصدّع النسيج الاجتماعي وارتفاع موجات التعصّب ووليده التطرّف والعنف، والنشاطات الإرهابية الدولية، لتنظيم داعش وأخواته. فما هي الحرب الناعمة؟ وماذا يعني استمرارها ؟وكيف السبيل لمواجهتها؟ وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه، من خلال تجربتي العراق وسوريا وتكرار سيناريو بغداد في دمشق.
في مفهوم الحرب الناعمة
إذا كانت الحروب امتداداً للسياسة لكن بوسائل أخرى، حسب المفكر العسكري الاستراتيجي "البروسي" كارل فون كلاوزفيتز (1780- 1831)، فإن الهدف من الحرب مثلما هو من السياسة يقوم على جعل العدو ينفذ إرادة عدوّه. ويعدّ كتاب كلاوزفيتز "عن الحرب"  من أشهر أعماله وقد تم نشره بعد وفاته وأمضى بالاشتغال عليه 12 عاماً، وقد جاء على ذكره انجلز ولينين وهتلر وأيزنهاور، باعتباره كتاباً لا غنى عنه لفنون الحرب وعلاقتها بالسياسة، وكانت فصولاً منه تدرّس في المدارس العسكرية وكجزء من العلوم الحربية والسياسية.
لقد سار  كلاوزفيتز على خطى المفكر والفيلسوف الستراتيجي الصيني صن تزو  (المولود في 551 قبل الميلاد والمتوفي 496 قبل الميلاد) صاحب الدراسات العسكرية والتي نُشر قسم منها في كتاب "فن الحرب" والذي يعتبر هو الآخر مرجعاً أساسياً في هذا المجال، وتزو هو القائل : إن تحقيق مئة نصر في مئة معركة مهارة، ولكن قمة المهارة حين تتمكن أن تُخضع عدوّك دون قتال.
ولعلّ الحروب غير العسكرية قد تكون أكثر خطراً وأشدّ إيلاماً وأكثر مكراً، لاسيّما إذا استمرّت لفترة طويلة، وهو ما نطلق عليه " الحرب الناعمة"  Soft War، بما فيها " الحصار الاقتصادي" و" نظام العقوبات" المفروضة على الشعوب والبلدان بسبب تعارض سياساتها مع مصالح القوى المتنفّذة في المجتمع الدولي.
وتصيب الحروب غير العسكرية أي التي تلجأ إلى الوسائل الناعمة النسيج الاجتماعي وتؤدي إلى تمزيق وتفكيك الروابط والعلاقات بين الفرد والدولة، بهدف إضعاف الوحدة الوطنية والعمل على تفتيتها على نحو تدرّجي ومنهجي، لاسيّما إذا رافقها حرباً آيديولوجية وإعلامية ودعاية سوداء مؤثرة، مستغلّة النواقص والثغرات والأخطاء في النظام السياسي لإحداث شرخ داخله وإثارة النعرات العنصرية والدينية والطائفية، وهو ما حصل في سوريا منذ 15 آذار (مارس) العام 2011، حيث تم ضخ أموال لجهات وأجهزة إقليمية ودولية، بهدف تحويل الحركة الاحتجاجية المطلبية إلى العنف، لاسيّما بتزويدها بالسلاح، وما صُرف حتى الآن على استمرار الحرب كان كافياً خصّص للاستثمار والتنمية وعلى نحو سليم، لأمكن تحويل سوريا إلى جنّة حقيقية، بل تحويل المنطقة بكاملها إذا ما أضفنا إليها مئات المليارات من الدولارات التي تبدّدت في الحرب على العراق، سواء خلال فترة الحصار المفروضة عليه لما يزيد عن 12 عاماً أو بعد احتلاله العام 2003.
"القوة الخشنة" و"القوة الناعمة"
إذا كانت شروط الحرب معروفة War conditions، لاسيّما المرتبطة بالعمليات العسكرية، وهو ما يطلق عليه استخدام " القوة الصلبة" أو "القوة الخشنة" Hard Power وأحياناً تسمى " الدبلوماسية الصلبة" Hard Diplomacy ، فإن هناك حروباً أو استخدامات  للقوة الناعمة Soft Power أو غير الحربية والتي لا تستخدم فيها الوسائل العسكرية وهو ما نطلق عليه "الدبلوماسية الناعمة" وأحياناً تسمى بـ" نظرية الأمن الناعم"Theory of Soft Security" ، ويندرج تحت لوائها كل عناصر الحرب، غير تلك التي لها علاقة بالجانب العسكري مثل: الدبلوماسية والسياسة والثقافة والاقتصاد والتجارة والإعلام والفنون والحرب النفسية والبيئة والصحة والتربية والدين والاجتماع، إضافة إلى التكنولوجيا والعلوم، بما فيها الاكتشافات الجديدة، ويدخل اليوم تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات والذكاء الاصطناعي وكل ما له علاقة بالثورة الصناعية في طورها الرابع، والهدف هو التأثير على العدو أو الخصم وشلّ إرادته وإرغامه على الخضوع والتسليم، سواء بتنازلات تدرجية في الغالب أو بالانهيارات المدوية.
قد تكون " الحرب" أو بعض أشكال " القوة الخشنة" هي الطريق الأقصر لتحقيق الأهداف والوصول إلى تطبيق الخطة المرسومة ، لكنها قد تكون الوسيلة الأخطر والأكثر تكلفة مالياً وبشرياً، ناهيك عن جوانبها المعنوية الأخرى، خصوصاً وان تأثيراتها قد تبقى على الطرفين لعقود من الزمان، لاسيّما حين تفتح جروحاً ليس من السهل اندمالها وتترك آلاماً وعذابات يصعب نسيانها حيث تأخذ بُعداً تاريخياً يتسم بالكراهية والحقد وتشكّل بؤرة معادية يتم استحضارها كلّما حصلت مشكلة جديدة.
ويتم اللجوء أحياناً إلى استخدام القوة الناعمة كخيار أساسي وطويل مع جرعات محدودة وجزئية من القوة الخشنة للتأثير على المعنويات والتشكيك بالقدرات الذاتية من خلال إضعاف الثقة بالنفس فضلاً عن السعي لتعميم نمط الحياة باعتباره النموذج الأقوم والأرفع والأمثل.
وقد جرّبت واشنطن الحرب الناعمة بما فيها سياسة فرض العقوبات والحصار الاقتصادي على شعوب ودول عديدة، ولاسيّما في فترة الحرب الباردة Cold War ضد الدول الاشتراكية السابقة ودول حركات التحرر الوطني  (1947-1989) ومنذ الستينات، أي على مدى نحو 6 عقود استخدمت الولايات المتحدة كل ما تستطيع من وسائل الحرب الناعمة والحصار الاقتصادي ضد كوبا على الرغم من معارضة المجتمع الدولي والأمم المتحدة وتنديدهما بالإجراءات الأمريكية لعدم شرعيتها من جهة ولا إنسانيتها من جهة أخرى، ناهيك عن تعارضها مع قواعد القانون الدولي المعاصر المعترف بها وقواعد القانون الإنساني الدولي وقيم العدالة الدولية.
ومثلما لجأت إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على العراق إثر مغامرة غزو الكويت العام 1990، فإن الولايات المتحدة في الوقت نفسه لجأت إلى القوة الخشنة، فشنت حرباً شاملة ضده في 17 يناير (كانون الثاني) 1991، ثم ضاعفت إجراءات الحصار الدولي الشامل، واستمرت حتى احتلاله في العام 2003، وكانت القرارات الدولية التي صدرت بحق العراق قد زادت على 75 قراراً، بما فيها تلك التي حاولت " قوننة" الاحتلال و"شرعتنه".

سوراقيا و اصطياد السمكة الخبيثة
وما يزال تأثير قرارات الحصار الدولي الجائر تفعل فعلها في المجتمع العراقي على الرغم من مرور أكثر من 17 عاماً على فرضية التخلّص من أسرها والانفكاك من قيدها. وهي الوسائل ذاتها التي تم استخدامها بحق ليبيا والسودان في تسعينات القرن الماضي، وكانت النتائج هي ذاتها العذابات التي تحمّلتها شعوب هذه البلدان، وهو الأمر المستمر، ولاسيّما في سوريا حيث أخذ هذا البلد العزيز ينزف على نحو رهيب، لاسيّما بفعل التداخلات الدولية والإقليمية، ناهيك عن ما قامت وتقوم به الآلة الحربية "الإسرائيلية"، من عدوان مستمر، مستغلةً الأوضاع الداخلية والاحترابات الأهلية وانفلات الجماعات الإرهابية.
لقد اختبرت واشنطن نتائج الحرب الناعمة، وخصوصاً بعد تفكيك الكتلة الاشتراكية وانقسام العديد من بلدانها وتناحرها (الاتحاد السوفييتي السابق انشطر إلى 15 دولة ويوغسلافيا تفكّكت إلى 6 كيانات وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين هما: التشيك والسلوفاك). وأدركت  الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية أن بواسطة الحرب الناعمة يمكن تحقيق أهدافها لأنها سلاح فعّال واشدّ تأثيراً، خصوصاً بالاحترابات الأهلية، ناهيك عن انعكاساتها على صعيد المجتمعات التي فرضت عليها حصارات من الناحية الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية والسايكولوجية، لاسيّما على أفراده وبنيته ووحدته المستقبلية ، وقادت مثل تلك الأوضاع إلى ظواهر خطيرة مثل ارتفاع منسوب العنف وزيادة حجم الإرهاب وتصاعد الجريمة المنظمة وغير ذلك.
لقد سعت واشنطن إلى تلغيم "المجتمعات العدوّة" أو " الدول المارقة" على حد تعبيرها لكي تُسقط في نهاية المطاف التفاحة الناضجة في الأحضان  أو جعلها  تتعفّن في الشجرة إذا استعصي قطفها  في الوقت المناسب، علماً بأن المجمّع الصناعي- الحربي بما يمتلكه من خزين وأسلحة جديدة يريد تجريبها يلجأ أحياناً إلى الحرب العسكرية أو القوة المسلحة والخشنة أو يشجع عليها ليستمر في ابتزاز الشعوب في بيع المزيد من السلاح إلى الأطراف المتحاربة.
لكن واشنطن تدرك في الوقت نفسه مخاطر شنّ الحرب من تجربتها في العراق وافغانستان وقبل ذلك في الفيتنام، لكنها تلجأ إليها أحياناً لإبراز مظاهر القوة. وإذا كانت الحرب على العراق لم تدم أكثر من 3 أسابيع (من 20 مارس/آذار ولغاية 19 أبريل/نيسان/ 2003)، إلّا أنه  على الرغم من قصرها ومحدوديتها باستثناء بعض المعارك في الفاو والنجف والناصرية ومعركة المطار في بغداد، فإن القوات الغازية تعرّضت لخسائر كبيرة، ليس بفعل فترة الحرب فحسب، بل لأن هدف ترويض العراقيين وحكمهم كان أكثر إيذاء للمحتلين، ولذلك اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب (نهاية العام 2011) بفعل مقاومة شعبية متعددية الجوانب (عنفية ولا عنفية) ومسلحة ومدنية، وكان من نتائجها 4800 قتيل أمريكي مسجّلين رسمياً كعسكريين ونحو 26 ألف جريح ومعوّق ومريض نفسياً، إضافة إلى آلاف من القتلى من أفراد الشركات الأمنية، ناهيك عن هدر نحو تريليوني دولار أمريكي، وقبل كل شيء هزيمة سياسية وأخلاقية منكرة على الصعيد العالمي، وهي الأقرب إلى إعلان انتهاء العصر الأمريكي المنفرد بالقرار الدولي، وكان ذلك درس جديد بعد درس الفيتنام الذي لم تتعلّم منه واشنطن.
لقد حوّل الحصار الدولي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، بلداً مزدهراً ومرفّها مثل العراق إلى "معسكر لاجئين"، حيث أرغم على الانصياع لقرارات دولية مجحفة ومذلّة، أخذت تدريجياً تطحن عظام العراقيين وتسحق آدميتهم وتلغي إنسانيتهم، وهو الأمر الذي اشتغلت عليه واشنطن والقوى المشاركة معها  في الحرب على سوريا لدعم المجموعات المسلّحة فيها لاستمرار سعير الحرب العسكرية من جهة، وفي الوقت نفسه استمرار " الحرب الناعمة" و"الحصار الاقتصادي" والعقوبات المختلفة والمتنوّعة، مستغلة النواقص والسلبيات والأخطاء الداخلية.
وهكذا وبالتدرّج واندلاع العمليات العسكرية واستشراء الإرهاب وتشكيل وتفريخ العديد من المنظمات والجماعات الإرهابية بأسماء مختلفة من "القاعدة" إلى  "جبهة النصرة" (جبهة تحرير الشام) و"داعش" وقوات مسلحة و"جيش حر" وغيرها، والهدف هو تحويل هذا البلد الآمن والواعد والرقم الذي لا غنى عنه في المعادلة الإقليمية والصراع العربي -"الإسرائيلي"، إلى تجمعات للنازحين الذين فرّوا من مناطق النزاع داخل البلد وتجمّعات أخرى للاجئين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد بحثاً عن أماكن آمنة.
النازحون بشكل عام واللاجئون بشكل خاص يصبحون في الظروف الاستثنائية مرتعاً للتلاعب والتوظيف، وشاهدنا من على شاشات التلفاز كيف تقاذفتهم الحدود والمركبات والزوارق والمطارات، وكيف ساهمت دولة مثل تركيا في ابتزاز أوروبا والاتحاد الأوروبي والعالم أجمع بشأن فتح الحدود للاجئين السوريين لمغادرة أراضيها، بعد أن كانت تضغط بهم على الدولة السورية. وكان عدد اللاجئين السوريين في سنوات ما بعد العام 2011 هو الأكثر على المستوى العالمي ويقدر العدد بما يزيد على 4 ملايين لاجئ مسجّل لدى الأمم المتحدة "المفوضية العليا لللاجئين"، علماً بأن البلد يعيش تحت ظروف استثنائية على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والبيئية، وبالطبع السياسية والأمنية.
حين أستعيد المأساة العراقية ، فلأنني أعيش حالياً بكل جوانجي المأساة السورية، لأنني أعرف حقاً مدى تأثير الحصار الدولي على مستقبل سوريا والسوريين، ليس بقوة الحدس أو التصوّر، وإنما عبر أرقام لمنظمات دولية سبق لها أن تحدثت عن اعتلال وهزال الحياة الاجتماعية والتربوية والصحية والنفسية والمعاشية عموماً، وذلك بالترافق مع انخفاض سعر الليرة والموت البطيء والاحتضار التدريجي الذي أصبح مشهداً مالوفاً للفئات الأكثر فقراً. وباستعارة من كتاب  جيف سيمونز "جلد العراق" أو "التنكيل" بالعراق فإن الإجراءات التي تزعم فرض عقوبات على الحاكم، إنما هي محض هراء، ناهيك عن أنها خروج على قواعد القانون الدولي المعاصر ومبادئ العدالة الدولية، وبالضد من اللوائح الدولية لحقوق الإنسان.
ونتذكّر حين نتناول المأساة السورية ما ذكره شوارتزكوف بُعيد وقف العمليات الحربية بعد " تحرير الكويت" (2 آذار/مارس/1991): بأن الشعب كلّه ليس بريئاً، وذلك بعد ستة أسابيع (42 يوماً) من القصف الجوي بما فيها 100 ساعة من "الحرب البرية"، وهو ما ردّدته مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة في برنامج تلفزيوني "ستون دقيقة" لمحاورتها ليسلي ستال التي تساءلت عن الثمن الذي يستحقه موت نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار ونظام العقوبات، بما يزيد عن الذين ماتوا في هيروشيما (نحو 170 ألف إنسان) بقولها: إننا نعتقد إن الثمن يستحق ذلك (12 أيار/مايو/1996)،وهو الأمر الذي يجري بحذافيره ويزيد عليها القضم التدريجي الطويل الأمد في سوريا، والحجة هي ذاتها "اصطياد السمكة الخبيثة"، وهكذا يتم إسقاط طائرة ركّاب مدنية بحجة وجود خاطف فيها، ليذهب الأبرياء إلى الجحيم ضحايا تلك الخطط الجهنمية اللّاإنسانية.
وإذا كان الكونغرس الأمريكي قد صادق في العام 1998 على ما سمّي "قانون تحرير العراق" السيء الصيت، فإن مصادقته اليوم على " قانون قيصر"  الذي وقّعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي دخل حيّز التنفيذ (حزيران/يونيو/2020) يعني أن الحرب الناعمة بكل أشكالها أصبحت سالكة في كل الدروب الموصلة إلى سوريا، ولاسيّما الحصار الاقتصادي ومحاولة تجويع السوريين وإذلالهم، يضاف إلى ذلك تهيئة المزيد من المستلزمات للحرب الخشنة، حتى وإن اختلفت ظروف سوريا عن العراق، وقد تكون محدودة أو بتفاهمات دولية وإقليمية، وبالطبع سيكون دور "إسرائيل" مائزاً فيها، ليس لإطاحة النظام فحسب، كما يتم الإعلان عن ذلك، بل قد يؤدي الأمر إلى نشر "الفوضى الخلّاقة" أو تفتيت البلد على أمل تشطيره وتقسيمه أو حتى لاقتطاع أجزاء منه سوريا وتشكيل أكثر من كيان بتقطيع أوصال الدولة السورية بسكين قصاب هذه المرّة وليس بقلم من كتبوا الاتفاقية السرّية المعروفة باسم سايكس بيكو العام 1916، والتي جزأت الوطن العربي ورسمت بالحبر المغشوش الحدود المصطنعة.
وإذا كان الحديث عن هدر حقوق الإنسان وشحّ الحرّيات، هو كلام حق، فإنه يُراد به باطل، فقد كان يمكن التعاطي على نحو مختلف مع الحراك الشعبي المطلبي الذي تقرّ الدولة السورية بشرعية مطالبه والتي استجابت بعد حين للعديد منها على صعيد التعديلات الدستورية والقانونية أو على صعيد المواطنة والجنسية وغيرها، أقول ذلك وفي الوقت نفسه أعرف ان الحصار الاقتصادي هو ذاته هدر سافر لحقوق الإنسان ويضاعف من معاناة السكان المدنيين ويزيد من مأساتهم، وليس هناك بلداً في ظروف الحرب والأوضاع الاستثنائية إلّا وتقدّمت فيه قضايا الدفاع عن الوطن وحماية البلاد من الغزو والتدخل الخارجي وتوفير استمرار الحياة العامة على نحو يمثّل الحد الأدنى، ولهذا فإن مثل هذه الحجّة من جانب القوى المتنفذة تسقط لأنها ستؤدي إلى التضييق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبقية الحقوق ، خصوصاً وأن هناك أولويات تفرضها الحرب ينبغي وضعها في المقدمة دون إهمال الحقوق الأخرى التي لا بدّ من الحفاظ عليها في السلم والحرب، لأنها حقوق أساسية.
لعلّ الهدف من الحصار ونظام العقوبات على سوريا هو إرغامها  على التخلي عن  توجهاتها السياسية الممانعة وتغيير سياساتها الخارجية  بقبول تسوية سياسية مشروطة مع "إسرائيل"، ولا يستبعد أن تدخل واشنطن  الحرب من الشباك كما يُقال وليس مواجهة مباشرة، خصوصاً وقد تسللت للسيطرة على المناطق الغنيّة بالنفط، ولذلك فإن تأييدها فرض منطقة آمنة أو ملاذ آمن على الحدود مع تركيا safe Heaven ، القصد منه هو التحكّم بإنتاج وتصدير واستثمار وبيع النفط واستمرار توريد الأسلحة وتشكيل جيوب حدودية ، تحت عناوين مختلفة، وهناك فرق بين حقوق الشعب الكردي ومطالبه العادلة في سوريا وبين بعض النزعات الانقسامية التي تريد تحويل سوريا إلى مختبر جديد للتقاسم الوظيفي الإثني والديني والطائفي بعد التجربة العراقية، وهو ما كان قد دعا له برنارد لويس (1916-2018) منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات.
ذخيرة آيديولوجية وخلفية صهيونية
لقد شكّلت أطروحات برنارد لويس ذخيرة آيديولوجية للسياسات الأمريكية في الثمانينات والتسعينات وما بعدها، على الرغم من ارتباط مفهوم "صدام الحضارات" بالمفكر المحافظ صموئيل هنتنغتون وقبله نظرية "نهاية التاريخ" بالمفكر فرانسيس فوكوياما، إلّا أن لويس هو الأكثر تعبيراً عن فكرة "صراع الحضارات" لاسيّما بتأكيده أن جذور الغضب الإسلامي إنما هي " ردّ فعل للتراث اليهودي والمسيحي والحاضر العلماني والتمدد العالمي للأفكار" .
وكان برنارد لويس قد عمل مستشاراً للرئيسين الأب والإبن بوش،وكان الأكثر تطرفاً منهما في معاداة العرب والمسلمين بزعم تصادم دينهم مع الحداثة.
وفي مقابلة له في 20/5/2005 أي بعد احتلال العراق واحتلاله قال: العرب والمسلمون قوم فاسدون ومفسدون وفوضويون لا يمكن تحضّرهم... والحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية.. ومن الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية... ولا بدّ من تخليص شعوبهم مع المعتقدات الإسلامية الفاسدة واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها. واعتبر لويس "إسرائيل" الخط الأمامي للحضارة الغربية أمام الحقد الإسلامي الزاحف نحو الغرب الأوروبي والأمريكي.
كيسنجر وبريجنسكي
وقد اعتمدت واشنطن مشروع لويس طبقاً لمستشارالأمن القومي بريجنسكي  كسياسة مستقبلية، وكان قد صرّح في العام 1980 خلال استعار آوار الحرب العراقية – الإيرانية، إن المعضلة لواشنطن من الآن كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية ... تستطيع فيها أمريكا تصحيح حدود "سايكس- بيكو" والكلام هنا لبريجنسكي.
وكان مشروع لويس يستهدف تفكيك الدول العربية والإسلامية مثل: العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وافغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الأفريقي  وتفتيت كل منهما إلى مجموعة من الدويلات والكانتونات والدوقيات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وأرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة والمرشحة للتفتت بالترافق مع توجهات بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي، وتنظيرات هنري كيسنجر المستشار ووزير الخارجية الأمريكي القائل: علينا إقامة إمارة وراء كل بئر نفطي في المنطقة.
الكونغرس الأمريكي ومشاريع التقسيم
جدير بالذكر أن الكونغرس الأمريكي وافق بالإجماع في جلسة سرّية على مشروع برنارد لويس في العام 1983 واعتمد في ملفات السياسة الخارجية الاستراتيجية لواشنطن إزاء دول المنطقة.
وبخصوص سوريا فإذا نظرنا إلى الخريطة سنراها تتميّز بما يلي:
أولاً- تقسيمها إلى أقاليم متمايزة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً إلى ستة دويلات: دولة علوية " شيعية" على امتداد الساحل ودولة سنّية في منطقة حلب، ودولة سنّية حول دمشق ودولة درزية في الجولان  ترتبط بدروز لبنان ودولة كردية في القامشلي وعفرين، ودولة في دير الزور امتداداً لجزء من محافظة الأنبار في العراق تكون حاجزا بين الدولتين
ثانياً- تقسيم لبنان إلى 8 كانتونات عرقية ودينية ومذهبية هي:(دولة سنية في الشمال – طرابلس)و (دولة مارونية-عاصمتها جونية) و(دولة سهل البقاع- عاصمتها بعلبك وهي شيعية) و(بيروت-عاصمة الدولة أو مدينة مدوّلة) وكانتون فلسطيني حول صيدا وحتى نهر الليطاني وكانتون كتائبي في الجنوب (يضم المسيحيين ، إضافة إلى الشيعة) ودولة درزية (إلحاق أراضي سورية وفلسطينية بها) وكانتون مسيحي تحت النفوذ "الإسرائيلي".
وكان ديك تشيني  نائب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (2001-2009) ووزير الدفاع في رئاسة جورج بوش الأب، والمشرف على عملية " عاصفة الصحراء" 1991 ضد العراق من أشد المعجبين ببرنارد لويس الذي قال عنه " إن صانعي السياسة والدبلوماسيين وأقرانه من الأكاديميين والإعلام الجديد يسعون يومياً إلى حكمته في هذا القرن الجديد".
ولعلّ هذا المشروع القديم الجديد ما زال مطروحاً، خصوصاً وأن مشروع تقسيم العراق ثلاثياً: دولة شيعية  في جنوب بغداد إلى البصرة،  ودولة سنّية تضم محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وأطراف من ديالى وكركوك، ودولة كردية في كردستان شمال العراق تضم المحافظات الكردية ووضع نقاط حدود بينها وإصدار هويّات أقرب إلى جوازات سفر في المستقبل أما بغداد فيمكن أن تبقى لفترة عاصمة للدولة الموحدة شكلياُ وهذا هو جوهر مشروع جو بايدن والذي صادق عليه الكونغرس العام 2007، أي قبل أن يصبح نائباً للرئيس أوباما.
نقد الاستشراقية
ولا بدّ هنا من استذكار النقد الشديد الذي وجهه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد لبرنارد لويس، لاسيّما لدراساته الاستشراقية، أولاً في كتابه " الاستشراق" الصادر العام 1978 والثاني كتابه " تغطية الإسلام" الصادر في العام 1981 والذي انتقد فيه نظرة العالم الغربي للإسلام، ولعلّنا بتسليط الضوء على أطروحات برنارد لويس إزاء سوريا هو التنبيه إلى المخاطر الحقيقية للمشاريع الاستعمارية الجديدة ولـ صفقة القرن بعد مرور  100 عام على اتفاقية سايكس – بيكو، تلك التي ترافقت مع الحرب النفسية والقوة الناعمة والحصار الاقتصادي والتضليل الايديولوجي والدعاية السوداء والأهم من ذلك إضعاف الثقة بالنفس وبالقدرات والسعي لخلخلة المجتمع من داخله وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية والدينية وغيرها.
ومع استخدامات القوة الخشنة بأشكالها المختلفة وممارسات القوة الناعمة بأدوارها المتنوعة ، مرّت مياه كثيرة تحت الجسور ففي ظلّ هذه الأوضاع نقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس بالضد من قرارات الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والقرار 181 لعام 1947 بخصوص تقسيم فلسطين إلى دولتين وبشان الوضع الخاص لمدينة القدس المدوّلة، كما اعترفت واشنطن بكون الجولان السورية المحتلة، جزء من "إسرائيل" بحكم الأمر الواقع، والأكثر من ذلك برّرت زعم " إسرائيل" محاولتها لوضع اليد على غور الأردن وشمال البحر الميت، كما تعهد رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو.
إذا كان تأثير القوة الناعمة في الماضي محدوداً، فقد أصبحت فاعلة ومؤثرة على نحو كبير في عالم اليوم في ظلّ ثورة الاتصالات والمعلومات وما يسمّى  بـ Info midia  وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتبل" والطور الرابع للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، بل إن الحروب الخشنة أحياناً تبدأ وتنتهي بـ "القوة الناعمة"، اي باستخدام وسائل غير عنفية أو غير عسكرية لتحقيق الهدف، وخصوصاً التأثير على سلوك العدو أو الخصم ليتم تقويضه من الداخل، وهذا يعني حسم المعركة بخصائص قد تفوق أحياناً استخدام القوة الصلبة. وقد كان للقوة الناعمة دوراً بارزاًفي فترة الحرب الباردة (1947-1989) بين الشرق والغرب، وخصوصاً في ظلّ "توازن الرعب" بين المعسكرين ، لاسيّما بوجود " السلاح النووي".
القوّة الناعمة والاستراتيجيات العالمية
منذ انتهاء عهد الحرب الباردة والعالم تتنازعه استراتيجيتين أساسيتين، حتى وإنْ بدتا متناقضتين، إلاّ أنّهما في الوقت نفسه متداخلتين أحياناً:
الاستراتيجية الأولى استندت إلى مبدأ القوة الناعمة Soft Power التي تقوم على الدبلوماسية والحوار في إطار "نظام عالمي جديد" له شروطه التي روّج لها جورج بوش الأب، وكان الإعلان عن سيادة الهيمنة الرأسمالية العالمية والنظام الليبرالي المدخل لذلك، عبر تنظيرات "نهاية التاريخ" التي قادها فرانسيس فوكوياما، الأمريكي من أصل ياباني، ومع أن هذه الاستراتيجية كانت سائدة خلال الحرب الباردة، وما عُرف منذ الخمسينات بـ توازن الرعب "النووي"، إلاّ أنّ تجلّياتها كانت قد ظهرت في عقدي السبعينات والثمانينات بخصوص العلاقة مع الدول الاشتراكية السابقة، فيما عُرف بسياسة الوفاق الدولي، والتي قادت بصورة تدريجية إلى انهيار الكتلة الاشتراكية بضعضعة كيانها من الداخل، إلاّ أنّ حرب التحالف ضدّ العراق العام 1991 بعد غزوة الكويت في العام 1990، كانت إيذاناً بمرحلة جديدة لاستخدامات القوّة الخشنة، بعد انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على نظام العلاقات الدولية والأمم المتحدة.
أما الاستراتيجية الثانية فقد ظلّت منشغلة بالصراع العسكري (القوّة الخشنة) hard Power  تلك التي ينبغي استغلال الوقت لتحقيقها ولضمان هيمنة واشنطن على العالم ليصبح القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز. ولعل أطروحة "الخطر الإسلامي" كانت جاهزة بعد انتهاء " الخطر الشيوعي"، وهكذا ضجّت وسائل الإعلام بالإسلامفوبيا، وصدام الحضارات التي نظّر لها صموئيل هنتنغتون.
القوة الناعمة مقابل القوة الناعمة!!
لم يكن اليمين الغربي وحده هو منظّر القوة الناعمة، بل أن مفكراً يسارياً كبيراً مثل نعوم تشومسكي كان قد دعا إلى مواجهة المشاكل الكبرى مثل الإرهاب والفقر والتخلّف والعولمة والتنمية من خلال علاقات دولية أكثر تكافؤاً، وإنْ كان من زاوية مختلفة، حيث دعا إلى أن تتفرّغ الأمم المتحدة لحلّ النزاعات الدولية، وهذا يتطلّب من وجهة نظره انضمام (جديد) لواشنطن لنظام محكمة روما (المحكمة الجنائية الدولية) التي أعلن عن تأسيها في العام 1998 ودخل ميثاقها حيّز التنفيذ في العام 2002، (لكي تكون مساءلة أمام القضاء الدولي حتى تنتهك الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي). وكانت الولايات المتحدة قد انضمت إليها عشية إغلاق باب الانضمام إلى الهيئة التأسيسية (أواخر العام 2000)، لكنها انسحبت منها بعد أن أصبحت نافذة بانضمام 60 دولة (2002)، ومثلها حذت "إسرائيل".
   لم يكتفِ تشومسكي بذلك، بل اقترح حلولاً دبلوماسية واقتصادية واجتماعية للمشكلات الدولية، لا سيّما بعد الاعتراف بمبدأ حق تقرير المصير الوارد في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 55) وبحق الدول في الدفاع عن النفس فرادى أو جماعات (طبقاً للمادة 51)، خصوصاً من أجل التحرر الوطني والانعتاق ونيل الاستقلال، كما اقترح بضعة خطوات لإعادة هيكلة الأمم المتحدة وتعديل ميثاقها، بما فيه إلغاء حق الفيتو للدول الأعضاء الدائمة العضوية (الخمسة الكبار).
حسب وجهة نظر تشومسكي، ليس الغرب وحده هو من يستطيع استخدام وسائل القوّة الناعمة، بل إنّ الشعوب والأمم والدول الصغيرة، هي الأخرى بإمكانها "التكتل" و"التجمّع" لتحقيق انعطافة في إطار منظومة العلاقات الدولية، والتأثير على الدول والقوى الغربية التي تريد اختراق الدول الضعيفة لتحقيق مصالحها الأنانية الضيقة، كما يدعو إلى عمل جماعي لإصلاح الأمم المتحدة وإعلاء هيكلتها وتركيبها وميثاقها، بما يضمن مصالح الشعوب.
قوّة النموذج ونموذج القوّة
ومثلما عرض تشومسكي رؤيته حول القوة الناعمة، فإن جوزيف ناي من جامعة هارفارد قدّم مفهومه بخصوص القوة الناعمة في العلاقات الدولية، وذلك حين تحدّث عن "قوة النموذج" الذي ينتصر فيه على نموذج القوة ليؤكّد أن العدوان الأمريكي على العراق لم يكن مبرّراً مشيراً إلى أنه كان يمكن كسب المعركة بالقوّة النّاعمة ودون تكلفة تُذكر، محذّراً من الإفراط في التوسّع العسكري، لا سيّما بعد احتلال أفغانستان، معتبراً الحرب ليست قدراً محتوماً، لا في السابق ولا في الحاضر، وبحث ذلك مطوّلاً في كتابه "تناقضات القوة الأمريكية" الذي عاد ونشره بعد تعديلات إضافات بعنوان "القوّة النّاعمة".

والقوة الناعمة من وجهة نظر جوزيف ناي تعني: القدرة على الجذب والضم كوسيلة للإقناع دون استخدام القوة أو أي وسيلة من وسائل الإكراه، وقد استخدم المصطلح للتأثير على الرأي العام الاجتماعي من خلال قنوات متعددة ومنظمات دولية، وهكذا تكون أفضل أنواع الدعاية ليس دعاية، حيث تكون المصداقية أندر الموارد في عصر المعلومات، وهو ما بدأ الاهتمام به دولياً، حيث قال أمين عام الحزب الشيوعي الصيني السابق هو جينتاو: إن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة.
وكان وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس قد قال حينها:  إن تعزيز القوة الناعمة الأمريكية يحتاج إلى " زيادة الاتفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية والاتصالات الاستراتيجية وتقديم المساعدات الأجنبية وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في توظيف القوة الناعمة في صراعاتها الدولية، تليها ألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدانيمارك وكندا. أما مصادر القوة الناعمة الأساسية فهي: 1- الثقافة في جذب الآخرين
2- القيم السياسية التي تدعو إليها
3- السياسة الخارجية وإبراز الجانب الشرعي والأخلاقي فيها، أما وسائل الأصول إلى تحقيق الأهداف  فهي:
   1. الإكراه بالتهديد
   2. التحفيز بالدوافع
   3. جذبهم واستجذابهم
والقوة الناعمة هي أكثر من مجرد تأثير وتعتمد على القوة الصلبة للتهديدات والمدفوعات وهي أكثر من مجرد إقناع، بل القدرة على التحريك بالحجة والقدرة على الجاذبية لجلب الرضا
الحروب الخشنة تفرض معادلاتها، لكنها قد تسبّب ردود فعل وانعكاسات تأتي تأثيراتها لاحقاً، فمثلاً أدّت الحرب العالمية الأولى إلى انهيار 4 إمبراطوريات: الأولى ألمانيا، والثانية النمسا - هنغاريا، والثالثة روسيا، والرابعة الإمبراطورية العثمانية، (الرجل المريض الذي كان مصاباً بالشلل وأخذ يتغلّغل في جميع مفاصله حتى انتهى بالقضاء عليه)، وكان لبريطانيا وفرنسا الدور الحاسم في اصطفافات عالمية جديدة وفي تقاسم مناطق نفوذ، مع ظهور دور واعد للولايات المتحدة وخروجها من عزلتها.
وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية، سقوط ألمانيا مجدداً وانهيار الإمبراطورية اليابانية وإيطاليا، وصعود توازن جديد، أساسه الحلف المعادي للفاشية، وخصوصاً: بين واشنطن وموسكو، والأخيرة شقّت نظام العلاقات الدولية بعد الثورة الاكتوبرية العام 1917، والتي كانت الحرب العالمية الأولى واحدة من عوامل نجاحها.
هذه المقاربة التاريخية للحروب، ولا سيّما الخشنة، تبيّن أن الصراع لاحقاً وبفعل امتلاك السلاح النووي، اتّجه نحو الحرب الناعمة، حتى وإن كانت تعبيرات الحرب الخشنة باقية ومؤثرة، تارة بزعم كونها "حرباً وقائية"، وأخرى الزعم بأن "الحرب أمر حتمي" لا يمكن تلافيه أو "لأهداف الردع" من "خطر محتمل" أو "وشيك الوقوع" أو "الخشية من صعود قوة دولية" قد تحدث فجوة في نظام العلاقات الدولية.
الحرب ليست حتمية، كما أنها لا تحدث بمحض الصدفة، إنها عن سابق تخطيط وتنظيم، حتى وإن حرّكتها أو دفعتها عوامل ظرفية أو محدودة، لكنها تحمل في داخلها عوامل أساسية تتعلق بالمصالح ومحاولات فرض الهيمنة والنفوذ وإملاء الإرادة.
قد تبدو الحرب فرصة لتحقيق الأهداف بالوسائل العسكرية، أي أنها دبلوماسية بالعنف أو على حد تعبير المفكر النمساوي كلاوزفيتز: الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل عنفية، للوصول إلى الأهداف، لكن مثل هذه الوسائل تصبح أقل تأثيراً في العلاقات الدولية، في ظل موازين القوى الجديد ووجود السلاح النووي، حتى وإن كانت الحرب أكثر إغراء لبعض الزعماء، لأنها تحقق الأهداف بصورة سريعة وحاسمة، أكثر من الحرب الناعمة الطويلة الأمد، ولكن العالم يدرك مدى خطورة مثل هذا الاختيار المدمّر للآخر، مثلما سيكون مدمّراً للذات.
لنتصوّر أن المنافسة المحمومة اليوم بين واشنطن وبكين ستؤدي إلى حرب عسكرية، خصوصاً بعد جائحة كورونا  فايروس والاتهامات المتبادلة .

كيف يتم مواجهة الحرب الناعمة؟
إنه سؤال في غاية الأهميّة، لا بدّ من استخدام العلم أولاً ورفع درجة الوعي، ثانياً لتحصين الشعوب ، وثالثاً لا بدّ من تحقيق منجز حقيقي على الأرض، بإقامة نظم تعتمد قيم العدالة والمساواة ومبادىء المواطنة، وإشاعة الحريات، وتشخيص نقاط قوة وضعف العدو أو الخصم أو الآخر واحترام حقوق الإنسان، مع مراعاة المصالح العليا للبلاد، خارج التصنيفات الضيّقة والمصالح الأنانية، كما ينبغي الإعلاء من شأن المشتركات وتفعيل دور النخب، فبدلاً من استخدامها لتسهيل مهمة الحرب الناعمة، واستغفالها لتكون جسراً للاختراق، يمكن إذا ما أحسن التعامل معها في أجواء من الحريّة، ولا سيّما حريّة التّعبير أن تكون هي رأس الحربة للوقوف ضدّ أساليب القوّة النّاعمة التي يوظّفها الخصم والعدوّ، ولا عملية تغيير أو مقاومة أو مواجهة للتحديات دون دور النخب الفكرية والثقافية والسياسية.
ولكي يكون الإعلام بمستوى المواجهة، لا بدّ من مهنية وصدقية ونزاهة وكشف للحقائق، بما فيها بعض النواقص والثغرات والمثالب، وكذلك يقع مثل هذا الدور على المجتمع المدني، الذي ينبغي أن يتحوّل من "قوة احتجاج إلى قوة اقتراح"، بهدف إسقاط حجج العدوّ والوقوف ضد انزلاق البلدان إلى الطائفية والتمذهب والصراعات الدينية وغيرها، والعمل على بناء دولة الحق والمؤسسات والرقابة والمساءلة، وتيسير الإدارة لصالح الناس وحقوقهم ورفاههم.
لا ننسى هنا دور العامل التربوي والتعليمي في التنشئة والتأثير ومواجهة عوامل الانقسام والفتنة، والسعي لترصين وتمتين الشخصية والتفكير الحر والمستقل واحترام الرأي والرأي الآخر والتعدّدية القومية والدّينية، وبالطبع يلعب الفن والأدب والثقافة بشكل عام دوراً كبيراً في مواجهة الحرب الناعمة، مثلما تلعب اللغة التي ينبغي صيانتها وتطويرها في مواجهة أساليب الحرب الناعمة بمحاولة طمس اللغة أو اللغات المحلية لحساب تعميم لغات أخرى، في محاولة للتأثير على الهويّة الوطنية، التي تشكّل اللغة والدين أو الأديان في المجتمعات المتعدّدة الثقافات أحد أركانها الأساسية.
إذا كنّا قد سلّطنا الضوء على الماضي وتوقفنا عند الحاضر، فذلك بهدف استخلاص الدروس والعِبَرْ الضروريّة، فالتاريخ حسب عبد الرحمن ابن خلدون "ديوان العِبَر" وحسب هيغل فهو "مراوغ"، وبقدر ما نستطيع فهمه، فإنه سيساعدنا على معرفة الحاضر بكل عناصر ضعفه وخوره، إضافة إلى عناصر قوته ومنعته، تلك التي لو أحسن استخدامها واستثمارها، فإن استشراف المستقبل سيكون ممكناً ولو بخطوطه العريضة، من خلال تعزيز عناصر القوة الداخلية من جهة، وتشخيص عناصر الضعف وردم الثغرات التي يمكن للعدوّ أن يتسلل منها بالحرب الناعمة أو النفسية من جهة أخرى.
الخاتمة
إن استمرار الحرب الناعمة ضد سوريا بما فيها الحصار الاقتصادي ضد شعب أعزل يثير الكثير من التساؤلات الأخلاقية أولاً حول "الفضيلة الغربية" و"قيم العالم الحر" و" العالم الجديد"، لاسيّما إزاء أرقام الضحايا المذهلة في هذه "الحرب الصامتة" الأشد إيلاماً وبشاعة، تلك التي يجري فيها مثل هذا الذبول المريع للضمير الإنساني ، حيث يتم التعامل مع معاناة البشر بدم بارد أو ترحيل للذنوب على الآخر، فللآخر ذنوبه، لكن الحكم بهلاك شعب انتظاراً ودون حدود أو آجال يعدّ جريمة كبرى لا يمكن السكوت عنها، والسكوت يعني تواطؤاً، علماً بأن بعض الأصوات الأوروبية والأمريكية بدأت تحتج على التأثيرات الخطيرة للعقوبات وتجويع شعب بكامله، ولنتذكر ما قاله جيمس بيكر بحق العراق دون أن يرفّ له جفن، سنعيده إلى "العصر ما قبل الصناعي"  وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فقد أعيد العراق إلى نحو 50 عاماً إلى الوراء، وهو ما يُراد لسوريا وشعبها، فإعادة الإعمار أو إعادة ما خربته الحرب بأنواعها يحتاج إلى أكثر من جيل حسب تقديرات خبراء اقتصاديين وإلى نحو تريليون دولار أمريكي.
إن تلك الجرائم ترتب مسؤولية دولية جنائية وفقاً للمادة 54 من بروتوكول جنيف الأول لعام 1977 حول حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، خصوصاً تجويع السكان المدنيين وترحيلهم ومحاولات تدمير وإتلاف ضرورات بقائهم وحياتهم فضلاً عن تراثهم وذاكرتهم وآثارهم وصروحهم العمرانية التي تشهد لحضاراتهم وتاريخهم. إن تجويع المدنيين بوصفه طريقة في الحرب عمل غير مشروع ولا يمكن تبريره قانونياً، ناهيك عن كونه لا إنسانياً ولا أخلاقياً أو دينياً.
وخارج نطاق السياسة والانحيازات، فالموقف من الحصار ضد أي شعب وأياً كانت المبررات، لا يمكن تبرئته ، فليس هناك حجة يقبلها العقل البشري السوي تعطي للآخر "حق" قتل شعب أو مجموعة من السكان جوعاً، بل إن ذلك جريمة خطيرة، لأنه يمثل نوعاً من أنواع الإبادة الجماعية الشاملة، بما فيها علاقة الإنسان بحق الحياة والعيش بسلام وهو حق مقدس ويتقدّم على جميع الحقوق.
إن استمرار العقوبات والحصار ضد الشعب السوري يعني استمرار تشريع القسوة وتقنين الوحشية، في عالم يزعم فيها المرتكبون والجناة أنهم يريدون مجتمعاً أكثر عدلاً وتسامحاً وإنسانية، ولعلّ مقترح تشريع اتفاقية دولية لمنع معاقبة الشعوب وحصارها اقتصادياً، يصبح اليوم أكثر إلحاحاً وعلى جميع المعنيين بالدفاع عن الحقوق والحريات أن يوحدّوا جهودهم للضغط على الأمم المتحدة لتحقيق ذلك. وكنت قد دعوت إلى ذلك في مؤتمر نظمناه في لندن منذ نحو ربع قرن والموسوم "الحصار الدولي والواقع العرب" في إطار فعاليات "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" في ملتقاها السابع، ولعل مطلباً من هذا القبيل يدخل في صميم مطالب البلدان النامية وشعوب وأمم وبلدان الجنوب الفقير وعالمنا العربي والإسلامي الأكثر تضرّراً من الجميع من استمرار هذا الوضع.
وحسب الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريخيت "  أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار أن يصبح جريمة لأنه يعني الصمت عن جرائم أخرى" .



164
المنبر الحر / الطفولة الضائعة
« في: 19:20 17/06/2020  »
الطفولة الضائعة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


   لمجرد أن تسمع أن أكثر من ربع مليار طفل (250 مليون) يعيشون في حالة خطر وخوف وقلق ووضع نفسي وصحي وغذائي وبيئي في أسوء أحواله، تشعر أن جزءًا من إنسانيتك يجري استلابها، لاسيّما في منطقة الحروب والنزاعات الأهلية والصدامات المسلحة وحيث ينعدم حكم القانون والعدل.
   ولعلّ  الرقم المخيف، هو في حالة تزايد في ظل تفشي فايروس كورونا واستمرار الجائحة في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن فقدان ملايين البشر لأعمالهم ومصادر رزقهم ونفاذ مدّخراتهم، وخصوصاً من الفئات الفقيرة الأكثر تضرّراً   في ظلّ الأوضاع الاستثنائية وغير الطبيعية، تلك التي ترافقت معها تصاعد واحتدام ظواهر العنصرية  والتمييز والتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.
   إن مرحلة الطفولة هي الأخطر في حياة البشر، لأنها تحدد حياة الإنسان ومستقبله، فما بالك حين تعلم أن الملايين من الأطفال اليوم يعيشون في أوضاع البؤس والشقاء والأحلام المرعبة، ويعتبر عالمنا العربي أحد المناطق االأسوأ حالاً والأكثر أذى في العالم ، حيث يتعرض أطفال فلسطين وسوريا واليمن وليبيا والصومال والعراق وغيرها من البلدان العربية مثل البالغين للعسف  وعدم الأمن والأمان بسبب الحروب والنزاعاتمن جهة ونشاط المنظمات الإرهابية من جهة أخرى، ودائماً ما يكون الأطفال وقوداً لها، وهم أكثر ضحاياها قتلاً وإعاقة وتشوّهاً وحرقاً ويُتماً وانفصالاً عن أسرهم واضطرابات نفسية وعقلية وصدمات في التفكير والسلوك والعواطف، ناهيك عن تحويلهم إلى سلعة أحياناً للبيع والشراء والإتجار والمخدرات والإرهاب.
   وبقدر ما تكون صورة الطفولة  معتمة وقاسية، فإنها تشمل عوائل الأطفال، وخصوصاً من هم دون خط الفقر والذي يتجاوز عددهم على المليار و200 مليون إنسان، يعيشون في ظل التخلّف والجهل وتفشي الأمراض والأوبئة ، ولاسيّما في البلدان النامية  إضافة إلى شحّ فرص العمل والتعليم وانتشار الأمية واستفحال ظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب.
   وإذا كان الأمر يتعلق بالضمائر والجانب الإنساني،فإن العالم يستذكر كل عام في شهر يونيو (حزيران) مناسبة أليمة تتعلق بضحايا الحروب من الأطفال الأبرياء، وذلك بقرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 19 أغسطس (آب) العام 1982 ، إثر العدوان "الإسرائيلي" على لبنان في العام  1982 واجتياح العاصمة بيروت، وكان من  الأسباب الموجبة لهذا القرار هو " العدد الكبير من الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الأبرياء ضحايا أعمال العدوان التي ترتكبها إسرائيل"،  والهدف منه هو درء المعاناة التي يتعرّض لها الأطفال وسوء المعاملة البدنية والنفسية والعقلية في جميع أنحاء العالم، فالأطفال هم أكثر الفئات في المجتمع ضعفاً مما يجعلهم الأكثر تضرراً من عواقب الحروب.
   من الظواهر الخطيرة التي لا بدّ من إلفات النظر لها هو محاولة تجنيد الأطفال واستخدامهم في الحروب وأعمال القتل والإرهاب والعنف الجنسي والاختطاف التي يتعرضون لها، إضافة إلى الهجمات على المدارس والمستشفيات والحرمان من المساعدات الإنسانية، لاسيّما في مناطق الصراع، وتلك أمور تتعلق بإنسانية الإنسان الذي سعى منذ القدم لوضع قواعد قانونية عرفية أو تعاقدية (تعاهدية ومكتوبة) للحدّ من الآلام الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة، ولكن تطور وسائل القتال واتساع تأثيرات الأسلحة المتطورة قلّص إلى حدود كبيرة من إمكانية استبعاد الأطفال من دائرة الخطر والرعب والآثار الأخرى المعنوية والمادية والتي تسببها الحروب.
   والمطلوب تفعيل قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 (البروتوكولان الخاصان بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، وحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية ) وذلك بعدم ترك الجناة يفلتون من العقاب ومساءلتهم وتقديمهم للعدالة، علماً بأن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ويحتاج الأمر إلى التوقيع على ميثاق روما  لعام 1998 " المحكمة الجنائية الدولية" واعتماده كأداة لتطوير قواعد القانون الدولي الجنائي، وهو الذي دخل حيّز النفاذ العام 2002، ودعوة جميع البلدان للانضمام إليه، إذْ لا تزال العديد من الدول الكبرى لم تنظم إليه أو لم تصادق على انضمامها مثل الولايات المتحدة التي انظمت إليه ثم أعلنت عن انسحابها، وروسيا والصين، إضافة إلى " إسرائيل" والعديد من البلدان العربية، وقد اعتمدت الأمم المتحدة في العام 2000 بروتوكولاً اختيارياً لمنع تجنيد الأطفال برفع سقف الطفولة من سن 15 إلى 18، وذلك بإلزام لدول الأطراف بعدم قبول التطوع في قواتها المسلحة دون سن الثامنة عشرة ، وأي تجنيد للأطفال يعتبر من جرائم الحرب.
   ولعلّها مناسبة للتوجّه إلى كل من تهمه قضايا حقوق الإنسان دولاً وحكومات ومنظمات إنسانية ومؤسسات دولية وأفراداً ، تلك التي تعمل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 أن تضع في حسابها مخططاً دولياً لضمان مستقبل أفضل للطفولة والأطفال، سواء بإنهاء جميع أشكال العنف ضدهم وإنهاء أي إساءة لهم وإهمالهم وتطبيق اتفاقية حماية حقوق الطفل الدولية لعام 1989 بحيث تتوفّر بيئة سليمة ومعافاة لتوفير أسباب نجاح التنمية التي يقع الأطفال في صميمها وجوهرها.



165
المنبر الحر / وجوه العنصرية
« في: 20:04 10/06/2020  »
وجوه العنصرية
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
هل اكتوت أمريكا بنار العنصرية من جديد؟ سؤال أخذ يرتفع بصوت عال بعد مقتل جورج فلويد الذي أثار حركة احتجاج واسعة في عدد من المدن الأمريكية وأعمال عنف وتخريب وردود فعل حكومية قاسية،  وهو أمرٌ تكرّر في السنوات الأخيرة التي شهدت حوادث عنصرية وأعمال قتل قصدية وتجاوزات وانتهاكات بحق أصحاب البشرة السمراء، ترابطاً مع سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات التوجه الشعبوي. وتعيد هذه الحوادث والممارسات موضوع العنصرية مجتمعياً إلى الواجهة بعد أن تم تجاوزها قانونياً، بفعل نجاح "حركة الحقوق المدنية" بقيادة مارتن لوثر كنغ، بإلغاء القوانين العنصرية، حيث ما تزال ذيولها في الواقع قائمة وقويّة بفعل التفاوت الاجتماعي ومجمّعات الفقر وغيرها من مستويات التمييز.
ولعلّ ملف العنصرية بوجوهها المختلفة ما يزال حاضراً على المستوى العالمي ولهذه الأسباب كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة  قد قررت تحديد يوم عالمي لمناهضة العنصرية، وذلك تخليداً لذكرى 69 إنساناً قتلوا لمشاركتهم بتظاهرة سلمية ضد قوانين المرور التمييزية في جنوب أفريقيا.
وتنشأ العنصرية بسبب التعصّب، وهذا الأخير ينجم عن إدعاء الأفضليات وامتلاك الحقائق ومحاولة احتكارها، وكل عنصري هو متعصّب بالضرورة، ولكن ليس كل متعصّب هو عنصري، إلّا إذا انتقلت الفكرة من الرأي أو الاعتقاد  إلى الممارسة والتطبيق، فعندها يتطابق الأمر، لأن المتعصّب لفكرة أو آيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو لغة أو جنس أو لون أو أصل اجتماعي، يمكن أن يتحوّل إلى عنصري بالسلوك والممارسة، لاسيّما إذا اتسمت بالفعل الاستعلائي على الآخر أو محاولة التسيّد عليه، بقدر تضخيم ذاته واستصغار الآخر أو إنكار حقه في المساواة وعدم التمييز.
والعنصري لا يقرّ بالتعددية ولا  يعترف بالتنوّع، وإذا ما اضطرّ إليهما، فإنه سيضع نفسه أو قومه أو دينه أو طائفته، وباختصار " خاصته" فوق الآخرين، وهكذا ستكون الجماعة التي ينتمي إليها ويتشارك معها المشاعر ذاتها بما يعبّر عنه الشعور بالهويّة الخاصة متفوقة على غيرها، فهو إما يعتبر نفسه صاحب حق تاريخي أو ديني أو قومي، أو يزعم " التفوق" العرقي أو السلالي أو اللغوي أو الجنسي أو البيولوجي ، أو يدّعي كونه من "الأغلبية" التي تفترض أن تخضع لها "الأقلية" وتتبعها، أو أن له مكانة اجتماعية واقتصادية أرفع من الآخر بسبب  الثروة والمال والأصل الاجتماعي أو غير ذلك .
ويقود التعصّب إلى التطرّف، وكلّ متطرّف لا بدّ أن يكون متعصّباً، وحين ينتقل إلى الفعل يصبح عنفاً ، وهذا الأخير حين يصير سلوكاً فإن جناحيه هما التعصّب والتطرّف. وإذا ما ضرب العنف عشوائياً سيتحوّل إلى إرهاب، بهدف إحداث رعب في المجتمع وإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة وبالنظام العام، وحيث يكون عابراً للحدود يصبح "إرهاباً دولياً".
ولعلّ الذكرى الأخيرة للتضامن مع ضحايا التمييز العنصري تكريماً للإنسان وحقوقه، جاءت متزامنة مع انقضاء نصف العقد الدولي المخصّص للتضامن مع المتحدّرين من أصل أفريقي، وبعض هؤلاء ممن يطلق عليهم سكان الشعوب الأصلية، حيث كانت الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً في العام 2007 أكّدت على حقوقهم الأساسية . وكانت قد قرّرت  العقد الدولي في العام 2015، حيث يستمر هذا العقد حتى نهاية العام 2024، تأكيداً لقيم الاعتراف والإقرار بالمعاناة الفائقة التي تعرّض لها المضطهدون من جهة ولقيم العدالة والتنمية من جهة أخرى.
وكانت الأمم المتحدة قد خصصت قبل ذلك عقداً كاملاً للقضاء على العنصرية وجميع أشكال التمييز العنصري، بما فيه التمييز ضد الأجانب، وحينها طالبت العديد من المنظمات الأفريقية والدولية تعويض الشعوب الأفريقية عمّا لحق بها من غبن وأضرار بسبب "استعمارها" الطويل من جانب الغرب، حيث تبدأ الخطوة الأولى بتقديم الاعتذار الرسمي. وقد عقدت مؤتمرين دوليين ضد العنصرية في العام 1978 و1983، وبعد القضاء على نظام الابرتايد في جنوب أفريقيا إلتأم مؤتمر ديربن التاريخي تتويجاً للعقد الدولي ضد العنصرية والتمييز العنصري. وتمكّنت مؤسسات المجتمع المدني العربية وبالتعاون مع نحو ثلاثة آلاف منظمة حقوقية دولية من إدانة الممارسات " الإسرائيلية" ضد الشعب العربي الفلسطيني واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود الدولية وازدياد رصيد فكرة حقوق الإنسان، فإن موجة عنصرية جديدة مصحوبة بالعداء للأجانب واللاجئين والمهاجرين ترتفع في الغرب والولايات المتحدة، سواء ضد العرب والمسلمين أو ضد المتحدرين من أصول أفريقية، في إطار نزعة كراهية وفوبيا من الآخر. وإذا كان هذا وجه من وجوه العنصرية يخصّ الغير، فإن مجتمعاتنا هي الأخرى تعاني من بعض مظاهر العنصرية والاستعلاء، سواء إزاء الهويّات الفرعية، لاعتبارات قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية أو جنسية أو بسبب الأصل الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب تنقيتها وتخليصها منها، لتستطيع أن تواجه محاولات الانتقاص من هويّاتها وخصوصياتها من جانب القوى العنصرية الكبرى.
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) الاربعاء 10/6/2020

166
جدير بالذكر إن مكتباً للعمل الديمقراطي (معد) كان قد تشكّل للإشراف على تنظيمات الطلبة والشبيبة والمرأة ، وتولت مسؤولية المرأة  الرفيقة (بخشان زنكنة- أم بهار) وهي رفيقتي منذ أواخر الستينات حيث عملنا في لجنة واحدة، وكنت أنا مشرفاً على الشباب والطلبة، وحين التحق الرفيق محمد فؤاد قادماً من موسكو وهو من البصرة، وكنت قد سمعت عنه من لؤي أبو التمن وتعرّفت عليه في موسكو، حيث أوكلنا له موضوع اتحاد الطلبة، وقد استشهد في بشتاشان أيضاً.
   ولكي يتم التواصل بين خبرة الكادر القديم والكادر الجديد ،فقد أعددتُ كراساً عن تاريخ الحركة الطلابية تم طبعه في مطبعة طريق الشعب في بشتاشان بعنوان " لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق" بمناسبة مرور 35 عاماً على مؤتمر السباع ، وكنت قد باشرت بكتابة حلقتين إلى لجنة التنسيق التي تصدر مجلة  في براغ بطلب من الرفيق رواء الجصاني تحت عنوان " أوراق غير مقروءة "، وبعد نقاش طويل بيني وبين المسؤول عن مكتب العمل  الديمقراطي عبد الرزاق الصافي، وأخذ ورد وجدل واختلاف بخصوص الآراء الواردة فيه، لاسيّما نقد فترة التجميد  للمنظمات، تم الاتفاق على صيغة وسط تمثل الحد الأدنى ، حيث قام بتخفيف صيغة المراجعة الانتقادية مع الإبقاء على جوهرها، وإلّا ما كان للكرّاس أن يصدر .
   وكان رأي الصافي وجيهاً (أقصد نظامياً) على الرغم من معارضتي له، وحسب وجهة نظره ما زال الحزب لم يصدر تقييماً بخصوص تلك الفترة، فكيف لك أن تتخذ موقفاً مخالفاً وناقداً، بل مخطئاً ما هو سائد من سياسات مقرّرة، ولكن مبرري في ذلك أن الرأي مهني، وحسب معلوماتي فإن الأغلبية الساحقة من الكادر لم تكن موافقة على قرار حلّ المنظمات تحت عنوان "تجميدها" وهو أمر لم يحترم ، بل ضُرب به عرض الحائط ، ولي حديث آخر في هذا الموضوع.
   وقد صدر الكرّاس عشية الهجوم على بشتاشان وحمداً لله، أنني احتفظت بنسختين سلّمت واحدة منها إلى الرفاق في براغ، واعتمدتْ في العديد من الكتابات التي صدرت بعدها، كما صودرت وثائق عديدة منها الكراس الذي تم طبعه " ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية "  من قبل المكتب  الآيديولوجي الذي كنت عضواً فيه بمسؤولية كريم أحمد، وهو الكراس الذي كان قد نشر بتوجيه وإشراف من قيادة سلام عادل العام 1957، وكان الثمن باهظاً في رحلتنا الشاقة والتي زادت على 32 ساعة سيراً على الأقدام في جبال موحشة ووعرة مكسوة بالثلوج، لنعبر جبل قنديل الشهير الذي يزيد ارتفاعه عن 7800 قدم، وهو أكثر الجبال ارتفاعاً في المنطقة ومات البعض في الطريق بتجمّد أطرافه وعدم قدرته على مواصلة المسير، كما نصب أوك بعض الكمائن على الطريق ولولا قيادة الرفيق "صارم" من السماوة وهو عضو في منظمة الإعلام المركزي لكان نحو 100 رفيق وقعوا بين الربايا الحكومية أو أسرى لدى أوك، خصوصاً حين ظهرت بعض علامات التخاذل لدى البعض، وبحزمه وشجاعته ،التي سبق أن قلت أنني أنحي لها ، قاد الركب إلى الطريق الصحيح.
   جدير بالذكر أن جماعات الـ PKK  لا تزال تعيش في بعض كهوف جبل قنديل ، وكان الفلاحون يردّدون لا أحد يستطيع البقاء في هذه المنطقة (المقصود نوكان وناوزنك وبشتاشان) سوى الشيوعيين والخنازير لصعوبة الحياة وانعدام أبسط وسائل العيش. وحسبما يبدون فإن حزب العمال الكردستاني وجماعة أوجلان تجاوزوا بجلدهم الآخريم.
   في العام 1984 دعاني بهاء الدين وبعد حوارات طويلة دامت عدة أيام إلى العمل المشترك أو التعاون بعد أن تم فصله، وكنت قد بيّنت اختلافاتنا معه، نظرياً وعملياً، ولكنني مثلما ذكرت كنت حريصاً على المواصلة والاستماع إلى رأيه، لاسيّما حين أصدر بعض المطبوعات منها : جريدة القاعدة وكراريس أخرى، وقد حاول الشيء ذاته مع المجموعات التي تشكلت خارج إطار التنظيم الرسمي بسبب الإجراءات الزجرية والعقوبات التي اتخذت بحقها. وأوّد أن أنوّه أن بهاء الدين نوري كان من الأوائل الذين كتبوا ضد البريسترويكا معتبراً إياها تراجعاً وانهزامية ومؤامرة مشبوهة، وهو الرأي الذي كان يقاربه بوضوح الرفيق خالد بكداش أيضاً الذي اعتبرها حركة ارتدادية ليست بعيدة عن التأثيرات الصهيونية. وتعليقي على هذا الموضوع إذا كانت الحركة الصهيونية قد انتعشت في الاتحاد السوفييتي السابق، فلأن الفساد والترهل والبيروقراطية وشحّ الحريات التي حاول غورباتشوف معالجتها كانت  وراء ذلك، لكنه وقع ضحيتها هو أيضاً، لأنه لم يهيئ المستلزمات التدرجية للانتقال بالحكم والحزب من طور إلى طور، لذلك كانت التغييرات عاصفة ودراماتيكية وانقلابية.
   جدير بالذكر أن بهاء الدين نوري ينمازعلى أقرانه من إداريي الحزب ، بأنه يمتلك كفاءة كبيرة على مستوى التنظير والتنظيم (المقصود في الأداء الحزبي)، في الكتابة والعمل، وفي البرامج والخطط، وهو لا يخشى من الوقوع في الأخطاء، لأنه يجتهد ولا يعمل بصورة آلية أو ميكانيكية، بل بحيوية فائقة، وكأنه يرى أن الهدف يصبح منه قاب قوسين أو أدنى، حتى ولو كان سراباً، فهو شخص لا يعرف المستحيل وإن إرادته وإصراره لا حدود لهما، وهو جريء مواجهة وليس مواربة، وكان لديه رأي واضح في كل الأوقات، سواء  في الصواب أم في الخطأ، ويدافع عن رأيه حتى النهاية ويتمسك به بثقة عالية.
   ويرى بهاء الدين نوري نفسه صاحب حق، سواء داخل الحزب أو مع القوى الأخرى، ولذلك دخل بمشاكل مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، ولم يكن حبل الود بينه وبين الزعيم البارزاني مصطفى قائماً، وهو ما حاول جلال الطالباني الضرب على وتره، وكان رأيه في بشتاشان بأن لا ندخل بأي احتراب مع "أوك" ولذلك حاول التطبيع معه في قاطع السليمانية الذي كان بأمرته مع ملّا علي، وهو الأمر الذي استبعده من المواجهة والصدام،  وصادف أن التقت رغبته هذه المخالفة لرأي إدارة الحزب مع رغبة ملّا بختيار المسؤول عن قيادة أوك لقاطع السليمانية أيضاً، وهو الآخر لم يكن متوافقاً مع رأي قيادته في مهاجمة مقرات أنصار الحزب الشيوعي في قاطع السليمانية، حيث توصّل الطرفان لاحقاً إلى توقيع اتفاقية ديوانه  في 26 أيار /مايو 1983. وكان رئيس الوفد المفاوض من جانب الحزب الشيوعي (قاطع السليمانية) ملّا علي في حين ترأس وفد أوك ملّا بختيار.
   اتفاق الديوانة
   وتنصّ اتفاقية الديوانة على الطلب من قيادة أوك إطلاق سراح أنصار الحزب الشيوعي المعتقلين (الأسرى) لدى أوك والإقرار بحق ممارسة النشاط الحزبي بحرية وتشكيل لجنة لمحاسبة كل من يتحرك ضد الطرف الآخر، وهذه كانت مطالب الشيوعيين في قاطع السليمانية وقد وافق عليها أوك بالكامل وطلب إضافة بندين هما: الأول- عدم السماح لأنصار حدك بالمجيء إلى منطقة قرداغ برفقة أنصار (حشع) وإلّا سيتم الاشتباك مع الاثنين والثاني - القيام بفاعليات مشتركة لضرب العدو (المقصود السلطة الحاكمة)، وقد وافق عليها وفد حشع بقيادة ملّا علي.
   ويقول ملّا علي في "مذكراته" أن الأمر راق لنا فاتفقنا مع أوك، لكن بهاء الدين نوري الذي كان المسؤول الأول في القاطع والذي كلّف ملّا علي بقيادة الوفد المفاوض اعترض على استعجاله بالتوقيع وعدم عودته إلى مرجعه لكي يتم تدقيق ومراجعة النصوص المتفق عليها، وحين سألته: هل كنت معترضاً على الاتفاقية؟ أجاب أن البندين الأخيرين لم يحضيا برضاه، وما كان لملّا علي أن يوافق عليهما، لولا قلّة خبرته بالعمل التفاوضي وهو ما كتبه في موقع الحوار المتمدن بعنوان " أنا وملّا علي في مذكراته" (ملّا علي هو الاسم الحركي لـ عبدالله ملّا فرج) وقد استغربت من موقفه الذي يقول أن الاتفاقية ذيلية وبائسة أملاها أوك على ملّا علي "الذي وضع الكرة في ملعب القيادة الغارقة حتى أذنيها في الأخطاء والمحتارة فيما يتأتى عليها عمله "  لاسيّما بعد هزيمة بشتاشان.
   وموقف الاستغراب هو نقده للاتفاقية التي أدين عليها وأدت إلى فضله حيث اعتبر متواطئاً مع أوك بتوقيعه اتفاقية ديوانه، ورفضه نقل قواته إلى منطقة القتال في بشتاشان، وهو أمر غير ممكن، بل ومستحيل ، لأن المعارك لم تدم سوى يوم ونيّف وحسمت لصالح أوك، علماً بأنه انتقال القوات كان يحتاج إلى تهيئة لا تقل عن عشرة أيام أو اسبوع على الأقل حسب بعض المصادر التي تعرف العمل الأنصاري. وأود هنا أن أنوّه إلى أنني مدين بهذه التدقيقات إلى الصديق النصير أحمد الناصري (أمين) الذي لفت انتباهي إليها، وكنت قد أغفلت التطرق إليها.
   وكان أوك قد تفرّغ لمواجهتنا ومواجهة حدك (البارتي) وحسك (الحزب الاشتراكي الكردستاني) ، بعد أن أمّن جانب قاطع السليمانية دون أن ننسى اندفاعات بعض رفاقنا ، التي ساهمت في توتير الأجواء التي يتحمّلها أوك وقيادته بالدرجة الأساسية ، وخصوصاً في قتل الأسرى الذين وقعوا بين يديه، وهو ما عاتبت  عليه ناوشيروان مصطفى بعد مضي عدّة سنوات، مفنّداً الحجج والمزاعم التي كان يتعكّز عليها أوك، لأن قتل الأسرى جريمة خارج قوانين الصراع، مثلما هو قضية أخلاقية،  ناهيك عن كونها مسألة قانونية لا تسقط بالتقادم، ولي وقفة مطوّلة في شهادتي عن بشتاشان.
   وكان أوك يبرّر هجوم بشتاشان بأن قوات جود (حشع وحسك وحدك) هاجمته يوم 28 نيسان (إبريل) في مقره بقرية باليسان وهو أمر خاطئ من جانبنا، لكن هجومه الواسع والشامل لم يكن مجرد رد فعل لاختراق محدود في باليسان، بقدر ما كان محضّراً له، سواء حصل أو لم يحصل الهجوم المحدود على باليسان، فمثل هجوم بشتاشان كان يحتاج إلى استعدادات كبيرة ووقت طويل، ولعلّ ما تكشف من أهداف كانت هي الأخرى تدلّ على أنه لم يكن مجرد حساسيات وردود أفعال، يتضح من ذلك مهمة القضاء على أنصار الحزب الشيوعي وإخراجهم من المنطقة ، وإلّا فقد كان يمكن تطويق حادث باليسان بالعودة إلى اتفاق شباط (فبراير) 1983 بين أوك وحشع الذي كان وفده يتكوّن من كريم أحمد وعبد الرزاق الصافي .
   وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار التقاليد العشائرية والقروية السائدة في المنطقة وقضايا الثأر والانتقام ومحاولات التسيّد والهيمنة، فقد كان يمكن الرد موضعياً في نفس الموقع أو لموقع آخر وليس شن هجوم هدفه تصفية مواقع الأنصار الشيوعيين، وهو ما كشفته  التسريبات بشأن وصول مبعوث حكومي إلى أوك للقاء جلال الطالباني في منطقة ناوزنك وبداية حوار مع السلطة وقيل أن الذي مهّد له هو اجتماع حصل بين عمر دبابة وبرزان التكريتي كما تردد حينها، وحصول أوك على دعم مادي ومعنوي منه، وهذا ما يفسّر إصراره على هذا الهجوم الكاسح الذي قاده ناوشيروان مصطفى وتم حشد نحو 2000 نصير له وهم يعادلون نصف أنصار أوك.
بشتاشان  ذاكرة المستقبل
   لم تُكشف تفاصيل مجزرة بشتاشان كرواية كاملة وشاملة ومعتمدة حتى الآن، وإن وردت كشهادات شخصية مدوّنة أو شفوية، إلّا أنها أثارت أسئلة جديدة بحاجة إلى استذكار ومراجعة ونقد، خصوصاً وأن الكثير من الوثائق والمستمسكات قد ضاعت أو وقعت بأيدي من لا يريد لها النشر والتداول، فضلاً عن مرور فترة زمنية طويلة وظروف عويصة ومعقّدة مرّت بالعراق وتغييرات كبيرة حصلت في مواقع القوى، ناهيكم عن اصطفافات ومصالح جديدة ترتّبت على اتخاذ المواقف. وبعد ذلك فإنها مثل أي حدث تاريخي سينظر إليه باعتباره ماضٍ، بغض النظر عن انتظار عوائل الشهداء وتعلّقهم بأي خبر أو معلومة  عن أحبتهم الذين سقطوا شهداء، فضلاً عن ظروف استشهادهم.
   لقد وقعت مجزرة بشتاشان في منطقة نائية ومعزولة وتداخلت أحداثها مع يوميات الحرب العراقية- الإيرانية التي كانت الكارثة الكبرى التي حلّت بالبلاد ودامت ثمان سنوات بالكمال والتمام 1980-1988، يضاف إلى ذلك تعقّد الأوضاع السياسية ومشكلات المعارضة وصراعاتها المختلفة، دون نسيان تهاون القيادة الرسمية للحزب الشيوعي والصمت المطبق الذي عقد ألسنة بعض أفرادها بفعل تداخل المصالح بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، ومن جهة أخرى عدم تحلّي قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني بالجرأة للاعتراف بخطئها والاعتذار لعوائل الضحايا، وهو ما يمكن أن يكون مواساة لهم ويخفف من أحزانهم، فضلاً من أن يفتح صفحة جديدة لإشاعة ثقافة التسامح ونبذ الثأر والانتقام، علماً بأن بعض الذين كانوا آنذاك من المتشدّدين ضد الاتحاد الوطني الكردستاني أخذوا يدورون في فلكه في ظروف إعادة توزيع القوى في كردستان بين الحزبين المتنافسين (حدك وأوك).
   لعلّ الكثير من عوائل الشهداء ورفاقهم واصدقائهم ما زالوا يستفسرون عمّا حصل بالضبط وكيف ولماذا وعن أدق التفاصيل التي تتعلق بأعزّتهم الذين فقدوهم في صراع عبثي، بل إن هناك جيلاً كاملاً لم يتعرّف على حقيقة ما جرى، وكنت دائماً ما أواجه بأسئلة ساخنة واستفسارات مثيرة وغالباً ما أنزع إلى توجيه الأنظار صوب التسامح وعدم نكأ الجراح والبحث عن المشتركات لتعظيمها وعن المختلفات لتقليصها في إطار ما هو وطني وعام وإن تباعدت الرؤى أحياناً، والهدف طي صفحة العنف والعنف المضاد الذي ابتليت به الحركة الوطنية العراقية والجماعة السياسية في العراق والذي طبع تاريخها الملتبس والمثير، والأمر يحتاج إلى مراجعات جادة ومسؤولة وشجاعة، واعتذارات عن الارتكابات والانتهاكات التي لجأت إليها بزعم امتلاكها للحقيقة أو ادعائها الأفضليات على الآخر، فالآيديولوجيا لا تحمي الإنسان من الوقوع في الخطأ وارتكاب الجريمة أحياناً، خصوصاً حين يشعر من تلبسته (العقيدة) أن الحقيقة معه وحيثما يميل فإنها ستميل معه، ولكن صخرة الواقع دائماً ثقيلة مهما كانت الادعاءات، الأمر الذي يحتاج إلى تسامح وارتقاء إلى ما هو  إنساني ، بقدر ما يحتاج إلى كشف الحقيقة والمساءلة ومن ثم جبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح العلاقات السياسية والأخلاقية والاجتماعية بين القوى والتيارات السياسية وجعل الصراع بينها سلمياً ومدنياً ومتحضّراً، في إطار إصلاح منظومة القيم من جهة والنظام القانوني والقضائي  والأمني وجميع أجهزة إنفاذ القانون ومنظومة القوانين والأنظمة من جهة أخرى، في ما نطلق عليه "العدالة الانتقالية".
   ومع أن حق عوائل الضحايا من إقامة دعاوى ضد المرتكبين بصفتهم الفردية أو بصفاتهم ومراكزهم السياسية يكفله القانون، لأن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، ولكن المهم طي هذه الصفحة سياسياً، ويبقى القضاء وحده هو الذي ينظر فيها ولكل حالة على انفراد، خصوصاً إذا ما تم تسوية الأمر سياسياً. والمسألة لا تتعلق ببشتاشان وحدها، بل جميع الارتكابات السياسية خارج القضاء التي حصلت بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 ولحد الآن، وذلك ضمن قواعد العدالة وبهدف تنقية الأجواء السياسية.

بين بغداد وطهران
   وبالفعل فقد توجّه بعد ذلك الهجوم ببضعة أسابيع وفد من أوك إلى بغداد للتمهيد لمفاوضات طويلة وعسيرة دامت نحو عام واستمرت حتى النصف الثاني من العام 1984. وقد قاد الوفد الكردي مام جلال وتناوب عليها من الطرف الحكومي: عزت الدوري وطارق عزيز وعلي حسن المجيد الملقب بـ "علي الكيماوي" وتم التوصل إلى اتفاق يكون فيه جلال الطالباني نائباً لرئيس الجمهورية (صدام حسين) وتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي، لكن صدام حسين استدرك الأمر في اللحظات الأخيرة، وتم تسويف المفاوضات على الرغم من تصريحات الطالباني بأنه يعتبر صدام حسين "حكماً وليس خصماً"، لكن ذلك لم يمنع من استمرار الحكومة في غيّها بالتنكّر لحقوق الشعب الكردي التي يرتبط تلبيتها بحل مشكلة الحكم في العراق ككل.
   وعاد أوك إلى مواقعه قبل بشتاشان وإلى خندق المعارضة التي حاول التطبيع معها ومع حشع بشكل خاص وإلى التحالف مع إيران، وعلى صعيد آخر فإن بعض الأخطاء والاندفاعات كانت قد تراكمت بين حشع وأوك، وكان أوك مثلما هو حدك يفسّر أي تقارب للحزب الشيوعي مع هذا الطرف ، بأنه سيكون على حسابه، خصوصاً وهناك شطحات عديدة وانزلاقات كثيرة من جانب إداريين من حشع وهي تعطي الانطباع بأننا نصطف إلى جانب حدك في صراعه مع أوك، وهو أمر خاطئ بكل المعايير، وكان علينا أن نلعب دور حمامة السلام وألّا ننحاز إلى أي طرف في صراع تتداخل فيه عوامل تاريخية مع اختلافات سياسية وتقاطعات عشائرية ومصالح ذاتية ومنافست حول الزعامة وغير ذلك، وهي في كل الأحوال ليست لصالحنا، لكن بعض أخطائنا وانزلاقات بعض إداريينا ليست مبرراً لأوك لشن هجومه الشامل ضدنا، والأمر ليس رد فعل لحادث معين في باليسان أو غيرها وهو ما ناقشت به بهاء الدين نوري.
   لقد قام أوك بشن هجوم ضدنا ومع خيوط الفجر الأولى من يوم 1 أيار (مايو) 1983 واستمر ليومين واحتل أشقولكا وكاسكان ثم دولتي ورزكه ووصل إلى موقع  الإعلام المركزي وعبر بعدها إلى المكتب العسكري (معم) وكان قد استدار إلى بولي ، فاضطررنا الانسحاب إلى طريق المستشفى حيث اجتمعنا مع الرفيق يوسف سليمان بوكه "أبو عامل" (المسؤول العسكري عن حركة الأنصار) ، ومن هناك تقرّر الانسحاب لعبور جبل قنديل الرهيب، وراح ضحية ذلك الهجوم نحو 60 رفيقة ورفيق كما أشرت، وبعدها سقط أكثر من 20 رفيقة ورفيق في بشتاشان الثانية وتلك مسألة أخرى.
مع المنبر وقضايا أخرى
   حين أصدرنا "صحيفة المنبر" واتخذنا الخط المعروف بخصوص رفض المشروع السياسي والحربي الإيراني بالدعوة إلى وقف الحرب والاحتكام إلى قواعد القانون الدولي ، وأعلينا من شأن "الدفاع عن الوطن" والدعوة للبديل الديمقراطي، لم يكن بهاء الدين نوري مع هذا التوجّه وحاول معي شخصياً، قائلاً فقط لو تركت عامر عبدالله ومهدي الحافظ ونوري عبدالرزاق ، فأنت لست من قماشتهم، فقلت له بغض النظر عن أي اعتبار فلن أتخلى عن أصدقائي، وكان هناك من حاول إغرائي أو التلويح لي بأعلى المواقع بالوعد والوعيد، بالتخلي عن صداقاتي، وكان جوابي  لو صادف يوماً وأن يكون موقعك مثل موقعهم وأقصد في الحزب وليس في غيره، سأكون معك وأول من يقول له صباح الخير ولن أتخلى عن ذلك، حتى وإن اتخذ الصراع منحى أخر.
   وكنت أشعر بالأسى إزاء شخصية كنّا نعتبرها "أسطورية"، وكان البعض يهتف باسمها في الخمسينات، وإذا به يعاني أشد المعاناة في الشام، ولم أتردّد من أن ألبّي بعض طلباته  التي أتمكن منها، سواء في إقامة علاقات ولقاءات مع قوى عربية وفلسطينية وسورية أم في أمور أخرى بسيطة، وكان هدفه أن يشرح لها أوضاعنا الخاصة، وكان معه في الشام " أحمد الناصري" الذي تعرّض هو الآخر للتنكيل .
   وهناك جوانب أخرى في شخصية أبو سلام وحين أستعيدها اليوم ، وخصوصاً حين كنّا في كردستان، فهي طريفة ودالة في الآن، ففي حين كان يدعو لمن ينازله في لعبة الشطرنج  يستجيب له كثيرون لكنه حين كان يخسر، فإنه يزعل أحياناً، وحين كنّا نذهب إلى داوداو وهي قرية صغيرة جداً فيها بعض الأكواخ وتبعد عن الجبل الذي نحن فيه حوالي نصف ساعة مشياً على الأقدام صعوداً، وذلك لأكل العنب والخبز الذي يقدمه لنا الأهالي، كان الشباب يتسابقون معه، فهو يحاول أن يكون الأول دائماً، بل أنه لا يكترث بالعمر، وإنما يشتغل حسب الإرادة ووفقاً لمنطقها، حتى لو شعر بالتعب، فليس ذلك مهماً عنده.
   وفي براغ التقينا في أواخر الثمانينات، حيث انتقلنا حينها عامر عبدالله وحسين سلطان وعدنان عباس وكان ماجد عبد الرضا يعيش فيها ووصلها باقر ابراهيم والتحقت بهم في إطار التحضير للقاءات موسعة وكان مكرم الطالباني قد جاء إلى براغ للقاء مع عزيز محمد وجلال الطالباني، كما التقاه عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق ، وكانا قد سلّما عزيز محمد مذكرة باسم المجموعتين، لكن الجواب كان فصل 5 من إدارات حزبية سابقة، هم: باقر ابراهيم ونوري عبد الرزاق وحسين سلطان وعدنان عباس وناصر عبود، وكتب باقر ابراهيم اجتمع 5 فطردوا 5 والمجتمعون هم: عزيز محمد، كريم أحمد ، فخري كريم، حميد مجيد موسى، عبد الرزاق الصافي، ثم نحيّ آرا خاجادور بعد انفضاض "حلف المؤتمر الرابع" الذي كان أحد أركانه ووصل إلى المكتب السياسي بسببه، وتشتّت بعض أركانه "فالأخوة الأعداء" مع الاعتذار لكازانتزاكي تفرّق شملهم، حتى أن بعضهم أصبح قعيد حسرات .
   وفي براغ بدأنا حواراً، ولاسيّما بين ماجد عبد الرضا وبيني من جهة ، وبين بهاء الدين نوري، وكنت قد طرحت مشروعاً نشرته لاحقاً للتوثيق في كتاب " المثقف في وعيه الشقي" هو دعوة لـ"اتحاد اليسار العراقي"، ويبقى مفتوحاً حتى للقيادة الرسمية التي تمثل الحزب الشيوعي، بل إنها الثقل الأكبر في اليسار، وهي صيغة مرنة لمنابر، لكن مهدي الحافظ لم يؤيدها، ولا يعتبر الحوار مع بهاء الدين نوري مُجدياً، وكذلك  عامر عبدالله الذي كان يشجعنا وفيما بعد آرا خاجادور على الاستمرار في إصدار المنبر دون الوصول إلى شكل من أشكال الاتفاق أو التعاون، وتلمّستُ أن الوحيد الذي كان جاداً في المجابهة المباشرة هو بهاء الدين نوري، بل أنه أحرق جميع المراكب، فلم يعد أمامه سواى المواجهة، بعد فصله وشعوره بالغبن، وهو ما عبّر عنه بمرارة حين قال: إنه الوحيد الذي تعرّض للتنكيل ثلاث مرّات: الأولى -على يد حميد عثمان حين جرّده من مناصبه وهو في السجن والثانية- على يد قيادة سلام عادل حين نحي وجمّد لاتهامه بالتكتّل والثالثة- على يد عزيز محمد الذي فصله دون سماع رأيه أو مثوله أمام هيئة حزبية، وحتى لم يتم تبليغه، بل قرأ ذلك في نشرة داخلية.
   ولعلّ دورات التنكيل في الحزب استمرّت مثل دولاب حيث شملت الجميع، فقد ساهم بهاء الدين نوري نفسه فيها، حتى طرد عزيز محمد وجمال الحيدري وعبد الرزاق الصافي وغيرهم من قيادات "راية الشغيلة" من الحزب، وسلام عادل نفسه عوقب من مالك سيف مرّة ومن حميد عثمان مرّة أخرى، وزكي خيري الذي عوقب أكثر من مرّة لم يجد بأساً حين يتولى "القيادة" من معاقبة مخالفيه في الرأي أو تهميشهم وهكذا،  ولعلّ ذلك يحتاج إلى مراجعة ونقد ذاتي من الجميع دون استثناء.
    وبتقديري إن غياب الشفافية وسيادة النزعة البيروقراطية وعدم الإقرار بالرأي الآخر وقبول التنوّع في وجهات النظر، هي السبب الأساسي في تلك الأجواء غير الصحية والبيئة غير المناسبة ، وأستطيع القول أن ذلك ناجم عن التزمّت والجمود والمنافسة غير المشروعة التي تصل إلى الكراهية وحبك المؤامرات والدسائس  ونسيان العدو الأساسي.
تطلّعات ديمقراطية ولكن!
   وفي مطلع التسعينات استلمت عدّة رسائل من بهاء الدين نوري ودعوة للقاء، وتحقق الأمر في لندن، حيث طلب مني التعاون في تشكيل تنظيم ديمقراطي عراقي، فقلت له يا أبا سلام، وهل يمكن ذلك، فأنت قبل أكثر من أربعة عقود من الزمن كنت أميناً عاماً للحزب والناس تعرفك بهذه الصفة، فكيف لك أن تغيّر ذلك، وإذا كان لا بدّ من التساوق مع التطور، فلنبق ندعو إلى الديمقراطية، ولكن من موقعنا اليساري بدلاً من أن نلفق تنظيمات باسم تيار ديمقراطي أو مدني لنقف نحن ذاتنا خلفها، فتلك المرحلة انتهت وطويت ولا يمكن العودة إليها، حتى بالنسبة لما كنّا نطلق عليه تنظيماتنا الديمقراطية .
   وعدنا مرّة أخرى لحوار آخر حول " حقوق الإنسان"  و"القضية الكردية" خلال لقائنا في القاهرة في إطار ملتقى " الحوار العربي- الكردي"  الذي تم تنظيمه في إطار لجنة التضامن المصرية بقيادة أحمد حمروش والذي حضّر له في القاهرة عدنان المفتي وعمر بوتاني، وقد حضره مام جلال الطالباني وجميع القيادات الكردية الأساسية، باستثناء كاك مسعود البارزاني،  التي سبق لها أن شاركت في أول حوار عربي- كردي كان قد انعقد في لندن العام 1992 في إطار " المنظمة العربية لحقوق الإنسان" التي كان لي شرف رئاستها. وكان لقاء القاهرة مهماً لجهة توسيع الدائرة عربياً، وقد التأم في العام 1998، وقد حضره عزيز محمد أيضاً، إضافة إلى بهاء الدين نوري  وكان قد أصبح حينها  حميد مجيد موسى (1993) أميناً عاماً للحزب الشيوعي.
   وثمّة مداخلات أخرى جمعتني مع بهاء الدين نوري سأتركها لأوقات أخرى، علماً بأنني حريص على التواصل مع رفاقنا من كبار السن، فقد كنت قبل عام في زيارة لباقر ابراهيم في هلسنبورغ عند تكريمي في السويد، وزرت كريم أحمد مرتين خلال العام الماضي (الأولى - عند وجودي في كويسنجق لإلقاء محاضرة في جامعتها والثانية- بعد وفاة ابنته النصيرة بيان زوجة الصديق عدنان كريم) كما كنت في إربيل في زيارة للرفيقة بخشان زنكنة واللقاء بالرفيق عمر علي الشيخ، وذلك لوفاة والدتها. وكنت على تواصل مع الرفيق عزيز محمد، وهو ما سأكرس له مطالعة خاصة.
   وأشعر من القلب أن هؤلاء الرفاق وبغض النظر عن كل الأخطاء والثغرات ، وأتحدث عن نفسي قبل الآخرين، أفنوا حياتهم في خدمة قضية نبيلة وهم محكومون بظروفهم، وعلينا مراعاتها وإنصافهم وتكريمهم وذلك أقلّ ما يقال بحقهم.
   

الأصل في هذه المادة أربع حلقات نشرت في صحيفة الزمان العراقية ، 2 و 3 و4 و6/حزيران/يونيو/2020
 
 

 
مع عزيز محمد وبهاء الدين نوري
 
مع جليل عطية وأحمد حمروش وبهاء الدين نوري
 
مع كريم أحمد وعزيز محمد وأبو سيروان وعامر عبدالله وأسعد خضر ورفاق من البيشمركة
 
مع باقر ابراهيم وأم خولة وأبو محمد ومهدي عبد الكريم
 
في بشتاشان
 
مع ملا علي وكريم أحمد
 
مع عمر علي الشيخ
 
مع عمر علي الشيخ وبخشان زنكنة(أم بهار)

167
مع الرفيق بهاء الدين نوري
في صومعته
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   تمهيد
   "باسم" أو " منير أحمد" أو "مجيد" أو "أبو سلام" هو ما كنت أفكّر فيه من أسماء أعرفها عن الرفيق بهاء الدين نوري الذي كنت أتوجه لزيارته في " عزلته" المجيدة" أو في صومعته، في مدينة السليمانية، فحين علم بوجودي لحضور احتفالية الشاعر مظفر النواب، عاد من قرداغ التي كان يزورها وحدّد موعداً لي لزيارته.
   وعلى مدى ساعتين مرّت كأنها بضعة دقائق قلّبت معه الكثير من الأمور، فذاكرته ما تزال خصبة وعقله حيوياً وذهنه مفتوحاً، ولم ينسَ  ما حصل له رغم شيخوخته، فقد تجاوز الثالثة والتسعين عاماً، لكنه ما يزال ينبض بحبّ الحياة والرغبة في الجدل، فقد بدأ بالنقد وانتهى به مع باقة عتب مملّحة، لاسيّما لما حصل له وما عاناه من إهمال في الثلاثين عاماً ونيّف المنصرمة، خصوصاً منذ فصله من الحزب العام 1984 دون محاسبة كما يقول ودون استماع إلى رأيه، وهي طريقة كانت وما تزال  سائدة في الأحزاب الشمولية بألوانها المختلفة، لأن الاختلاف والرأي يصبحان جريمة لا تغتفر.
   ولكي أغيّر هذا الجو الكئيب الذي خيّم على لقائنا وقد مضى عدة سنوات على آخر زيارة له في صومعته بمدينة السليمانية، وقبل ذلك ببضع سنوات حين كان مريضاً وقمت بزيارته أيضاً يوم كنتُ مديراً عاماً لقناة الفضائية البغدادية وقد رافقني د. حميد عبدالله، الذي أجرى معه مقابلة بثّتها القناة في حينها،  كما أجرى مقابلة مع ناوشيروان مصطفى نائب الأمين العام السابق للاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) وأحد أبرز المسؤولين عن الهجوم الذي شنّه "أوك" ضد أنصار الحزب الشيوعي وراح ضحيته نحو 60 رفيقة ورفيق ، وبالمناسبة فأنا أرتبط بناوشيروان مصطفى بصداقة منذ الستينات، حيث درسنا في جامعة بغداد، وكنّا نلتقي بصورة مستمرّة، والحديث عنه سأتركه إلى فرصة أخرى، آمل أن تأتي، قلت لكي أغيّر الجو الخانق الذي وجدنا أنفسنا به، فأخرجتُ كتاباً من حقيبتي اليدوية حملته معي وفيه صورة نادرة لبهاء الدين نوري كنّا قد التقطناها في كردستان، وضمّت كل من رئيس الوزراء الأسبق وقائد القوة الجوية عارف عبد الرزاق والمقدم رجاء غيدان والقيادي البعثي السابق وسفير العراق في كوبا وبراغ عبد الستار الدوري وكاتب السطور، وقد فوجئ بها وطلب الكتاب مني وقلت له جلبته معي هدية لك وهو عبارة عن حوارات أجراها معي الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً منذ شهرين ونيّف وهو بعنوان " المثقف في وعيه الشقي".
   وأتذكّر حين عرّفت عارف عبد الرزاق "أبو رافع "  على بهاء الدين نوري هتف بصوت عال:هل أنت القائد الشيوعي الذي نسمع به ولم نره ، فضحك حينها بهاء الدين نوري وقال بكل تواضع أنا موجود بين الناس وحيثما يكونون تجدني هناك، واستعدنا تلك الليلة وما صاحبها من حوارات، ساهمتُ في تنشيطها، وكان الثلاثة يسترقون النظر إليه، وكأنه جاء من العالم الآخر أو من كوكب سري.
   اختفاء وسجن وجبل
   لم يعش بهاء الدين نوري حياة طبيعية، فإما في أوضاع سرّية أو سجيناً أو في الجبل، وإذا كان قد عاش في بغداد بعد مجيئه من السليمانية (حزيران/يونيو/1949) لغاية (آذار /مارس/1953) فإنه اعتقل في محلة السفينة بالأعظمية، مع زوجته الأولى مادلين التي ولدت ابنه سلام في السجن، وعاش الطفل مع أمه لحين ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 التي أطلقت سراحه وسراحها، وقد اعتقل معه صادق جعفر الفلاحي، أحد أركان الحركة النقابية والشيوعية العراقية.
   وبعد الثورة وانتهاء العام الأول وما سمي بالمدّ الشيوعي (آذار/مارس - تموز/يوليو 1959) تدهورت الأمور مع  الزعيم عبد الكريم قاسم وعاد بهاء الدين نوري للعمل شبه السري، ثم انتقل للسرّية الكاملة، وقد اختلف مع قيادة سلام عادل وأرسل للدراسة الحزبية في موسكو وبقي في الخارج نحو أربع سنوات، عاد بعدها سرّاً إلى العراق ، محمّلاً بخط آب الذي انتفضت ضده القاعدة الحزبية وأطيح به في اجتماع الـ 25  العام 1965واضطرّ بعض أعضاء القيادة للاستقالة لكن بهاء رفض ذلك. وفي بغداد تزوج مرّة أخرى ، لكن زوجته الثانية القيادية البارزة في رابطة المرأة عايدة ياسين استشهدت تحت التعذيب العام 1980 وله منها ولد واحد (علي).
   من قرية التكية إلى أمين عام الحزب الشيوعي
   كنت في الطريق مستغرقاً كيف لذلك الشاب نصف المتعلّم (آنذاك) القروي النشأة ومن عائلة متديّنة، حيث كان والده شيخاً في أحد الجوامع، أن يقود حزباً بعد قيادة الرفيق فهد، خصوصاً وأن خمسة مراكز حزبية تشكّلت سريعاً وانهار بعضها ووقع بعضها الآخر في قبضة السلطات الأمنية والتحقيقات الجنائية، بقيادة بهجت العطية.
   قبل أكثر من 70 عاماً كان ذلك الشاب اليافع الغضّ العود يبدأ مشواره في تعلّم فنون القيادة ويتقن أساليبها، فتارة يخطأ وأخرى يصيب، لكنه بلا أدنى شك قاد شتاتاً ليحوّله إلى حزب واعد بعد أن كاد يتلاشى وليضعه مرّة أخرى وخلال أقل من 4 سنوات في صدارة الأحداث وفي مقدمة الحركة الوطنية، والأمر لا يتعلق بالجوانب السياسية والبرنامجية النظرية فحسب، بل بجوانب تخص العمل المهني والجماهيري أيضاً، حيث تحوّلت المنظمات التي أسسها إلى مدارس لتخريج العديد من المناضلين، فقد أسس "رابطة المرأة العراقية" وهي أول تنظيم نسوي في العراق والتي قادتها الدكتورة نزيهة الدليمي، و"اتحاد الشبيبة الديمقراطية" الذي شارك في مهرجان الشباب والطلاب المنعقد في بوخارست العام 1953، وخلال قيادته أعيد تأسيس "اتحاد الطلبة العراقي العام" خريف العام 1951، كما عمل على تنشيط العمل النقابي العمالي وتأسيس مكتب عام للنقابات. وخلال فترة قيادته استعاد الحزب الثقة بنفسه، مثلما استعاد الشارع الثقة بالحزب بعد محاولات التشكيك بدوره باستغلال القضية الفلسطينية واندلاع الحرب العربية - الإسرائيلية.
   وبغضّ النظر عن الأخطاء والممارسات السلبية، لاسيّما أجواء التشدّد الستاليني وإلقاء التهم وإطلاق النعوت بحق الرأي الآخر والاختلاف لدرجة التخوين والتجريم وهو ما حصل بخصوص " راية الشغيلة" وعمليات التشهير بقياداتها بالأسماء باعتبارها "راية البلاط" ، وتلك من أمراض الحركة الشيوعية بشكل خاص والتنظيمات والأنظمة الشمولية بشكل عام، لكن بهاء الدين نوري تمتّع بمؤهلات قيادية تكاد تكون نادرة في زمانه، من خفة الحركة والقدرة على التخفي والإفلات من أيدي العدو وأجهزته، إلى بناء تنظيم رصين على الرغم من أخطائه وممارساته السلبية.
   الإدارة والقيادة
   وكنت في كتابي " عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل " قد جئت على ذكر حقيقة قد ينكرها البعض، سواء على بهاء الدين نوري أم غيره، مفادها أن " إدارارت" حزبية عديدة مرّت على الحزب الشيوعي، وهو من أكثر الأحزاب التي تمتلك مسؤولين حزبيين متمرّسين ومنظمين بارعين، لكن عدد القادة الفعليين لا يكاد يُذكر ، فأغلبهم انشغل بالعمل المسلكي اليومي وانتظار التعليمات واستلام التوجيهات، باستثناءات محدودة، أما مواصفات الزعامة فهي نادرة ، وقد وهِبَ فهد تلك الملكات الفائقة، كما توفّرت في بهاء الدين نوري من بعده مؤهلات القيادة بغض النظر عن اختلاف دور كل منهما وتأثيراته، والأمر ليس حباً أو كرهاً، وإنما إقرار بواقع خارج نطاق الارتياحات الشخصية، بل بوضع الاعتبارات الموضوعية في المنزلة الأولى.
    والقيادة غير الزعامة فالأخيرة لها شروطها، مثلما هناك شروط للأولى، أما شروط القيادة فلعلّ أولها - القدرة على اتخاذ القرار وتحمّل مسؤولياته وتبعاته سلباً أو إيجاباً وثانيها - الجرأة والحزم فلا قيادة حقيقية دون شجاعة وحسم واختيار اللحظة المناسبة وثالثها- الاجتهاد والمبادرة ورابعها- المعرفة بالأوضاع والاستفادة من الكفاءات المحيطة وتلك مسألة نسبية خاضعة لزمنها ولدرجة الوعي والثقافة السائدة، وخامسها- الصلابة المبدأية والمرونة العملية ، أي القدرة على المناورة والتراجع وحتى المساومة البراغماتية في الوقت المناسب.
   ومثل تلك المواصفات امتلكتها قيادة سلام عادل بجدارة باهرة وهو ما أهلّها لتلعب دوراً مؤثّراً في التحضير لثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وقد اختلّ هذا الموقع بسبب التردّد وعدم الحزم والانتظارية التي سادت في صفوفها، خصوصاً ما صاحب ذلك من تصدّعات داخلية  وضعف لوحدة الإرادة والعمل وغياب استراتيجية واضحة في الموقف من حكومة عبد الكريم قاسم والمشكلات التي واجهتها.
   وإذا كان لي وأنا أتحدث عن مواصفات القيادة ، فلا بدّ من الإشارة إلى الكفاءة القيادية المبكرة للرفيق عامر عبدالله الذي لم يكن قائداً حزبياً فحسب، بل كان شخصية سياسية بارزة تتمتّع بثقافة راقية ومرونة عالية وذكاء حاد وقدرة على التقاط الجوهري من الأشياء والتواصل مع الآخر، ولا يعني أن تلك القيادات تخلو من النواقص والثغرات والتقديرات الخاطئة أو حتى بعض الممارسات السلبية.
    لم ألتقِ مع بهاء الدين نوري سوى مرّة واحدة في بغداد، ومرّة أخرى بشكل عابر في المدرسة الحزبية أواخر السبعينات حين زرتها، ولم يحدث أن جرى أي حديث ذا خصوصية بيننا، ولكن صورته كانت ترتسم في ذهني حتى قبل أن أراه. وفي خريف العام 1980 التقيت به في الشام وتبادلنا الحديث واستمعت إليه وسألته عن بعض المحطات الغامضة، فقد تسنى لي أن أقرأ أطروحاته في العام 1964 (بعد حين) في "مجلة الوقت" "قضايا السلم والاشتراكية" بشأن طريق التطور اللارأسمالي وخط آب (أغسطس) ومسألة الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي كما أشيع حينها، وقد جاء على نقدها لاحقاً في مذكراته الصادرة في العام 1992 والتي أهداني إيّاها بطبعتها الأولى ، وبطبعتها الثانية عن دار الحكمة في لندن، وقرأتها ودوّنت عليها ملاحظاتي ليس فيما يتعلق بالسياسة والمنهج فذلك له حديث آخر، بل نقدي لتناوله بعض الجوانب الشخصية التي ما كان لها أن تؤثر لو تم حذفها، ثم أن ذكرها لن تكسب المذكرات أية قيمة إضافية، وهو ما تقبّله وإنْ لم يكن بسهولة، ولكن بعد نقاش طويل.


   القسوة والصمت
   لقد تعاملت إدارة الحزب المسؤول عنها عزيز محمد مع بهاء الدين نوري بقسوة شديدة  ولم تصحح الإدارات اللاحقة هذا الموقف، لا بحقه ولا بحق غيره من إداريي الحزب السابقين وشبكة واسعة من الكادر القيادي والمتوسط وجمهرة كبيرة من الأعضاء في ظل صراع محموم بعضه حول المراكز القيادية والامتيازات حتى لو تم تغليف بعضه الآخر  باعتباره صراعاً بين اليسار واليمين، فبهاء الدين نوري يعتبر إدارة عزيز محمد يمينية ذيلية، في حين يعتبرها فريق آخر من المفصولين " متياسرة"، وألحقت ضرراً بهويّة الحزب الوطنية، سواء في الموقف من الحرب أم من التبعية للحركة الكردية، أما فريق إدارة الحزب الرسمي، فقد اعتبر الجميع مخرّبين ويخدمون النظام بشكل مباشر أو غير مباشر، رافعاً راية قص " الحواشي الرخوة" والذين تعبت أكتافهم ومقرراً مقاطعتهم اجتماعياً بقرارات وردت في نشرات داخلية وتوجيهات مباشرة. ولأن الحوار والعقلانية وتوقير الصراع وترزين الخلاف كان غائباً، فالاتهامات طالت الجميع،وتداخل الحق فيها مع الباطل.
   لم يكن بهاء الدين نوري إدارياً، بل كان قائداً حقيقياً بكل معنى الكلمة أخطأ أم أصاب، وكان شجاعاً بامتياز وعنيداً تحلّى بمواصفات فيها الكثير من الكبرياء والاعتداد بالنفس، وإذا كان البعض يتذلل ليتسلّق المواقع أو " يتمسكن حتى يتمكّن" أو يسير مع السائرين ويبلع لسانه ويخدّر ضميره أو يغطّي نقاط ضعفه، فقد كان بهاء الدين غير ذلك، فهو صاحب رأي ويعتقد أنه جدير بالقيادة، بل لا يجد من هو أجدر منه من طاقم إداريي الحزب، ولذلك لم يتوان من طلب استحقاقاته، بالرأي والمواجهة والمشاكسة والتمرد، وحسب علمي هو الوحيد الذي لم يعتذر أو يتنازل أو يقدّم نقداً ذاتياً طلبته منه قيادة سلام عادل، ورفض ذلك بإصرار، وقال لي ونحن نتحاور لأكثر من أسبوع تقريباً على قمة جبل في موقع ناوزنك " نوكان"، حيث نتمشى يومياً فوق سطح البناء الذي كنّا نعيش فيه والخيم التي ننصبها، وذلك عشية وبُعيد وخلال اجتماع اللجنة المركزية (1982): لقد رفضتُ أن أقدّم مثل ذلك النقد المشين والخالي من الكرامة.
   وكان قد لفت انتباه الرفيق عزيز محمد " أبو سعود" لقاءاتي لأكثر من مرّة مع بهاء الدين نوري، وبشكل مهذّب سألني وأنا أتسامر معه في خيمته عن أي شيء منهمكين في النقاش أنت والرفيق أبو سلام، فقلت له نقلّب صفحات من تاريخنا، إضافة إلى حوار حول الحرب العراقية- الإيرانية وآفاقها وتأثيراتها المستقبلية.
   وكان الرفيق زكي خيري قد كتب نقداً مذّلاً ومهيناً بحق نفسه كان أقرب إلى "الجلد الذاتي" والإدانة لشخصه ، ولعلّ ذلك الأبشع في تاريخ النقد الحزبي كما أشرت في كتابي "تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف" وفعل الرفيق محمد حسين أبو العيس ذلك بحيث كتب نقداً لا يقلّ إساءة للنفس حسب مقتضيات التربية الحزبية الستالينية، وعلى الرغم من تنحيته من "قيادة الحزب"، فقد عذّب بوحشية في قصر النهاية واستشهد العام 1963، وقدّم عامر عبدالله نقداً ذاتياً مخفّفاً لنفسه حسبما ذكر حسين سلطان لكاتب السطور، لكن المكتب السياسي للحزب طلب منه نقداً معمّقاً لكشف نواقصه وتجريح ذاته كما فعل زكي خيري وهو ما أكّده بهاء الدين نوري، وما تذكره ثمينة ناجي يوسف (أرملة سلام عادل) في كتابها (سلام عادل - سيرة مناضل، جزءان) ووفقاً لهذه الرواية امتثل عامر للقرار حسبما يبدو بتدبيجه رسالة أخرى وأرسلت إلى بغداد، وقد تم إتلاف هذه الرسالة  (المقصود الثانية) من قبل نرجس الصفّار زوجة الشهيد جمال الحيدري يوم 8 شباط (فبراير) 1963 خوفاً من وقوعها بيد الحرس القومي مع وثائق أخرى.
   لكن عامر عبدالله ينفي ذلك ويقول أنه سأل السوفييت، فتركوا الأمر له، حيث كان متردّداً، وفي تلك الفترة حدث انقلاب 8 شباط (فبراير) فضاعت المساءلات وطويت المحاسبات وأعيد الثلاث الذين بقوا على قيد الحياة عامر عبدالله وزكي خيري وبهاء الدين نوري إلى إدارة مركب الحزب، وتصدّروا المشهد وخط آب، ولم يتحدّث أحد عن كتلة الأربعة أو "عصابة الأربعة"، فكأنها كانت حلماً سرعان ما تبخّر بعد اليقظة، وقد عالجتُ أطرافاً من هذه القضية في كتابي " سلام عادل - الدال والمدلول وما يبقى وما يزول"، لاسيّما ببعدها الإنساني في إطار الثقافة الحزبية السائدة.
   يقول بهاء الدين نوري لكاتب السطور لقد شعر بالإهانة جرّاء مطالبته تقديم نقد ذاتي، بزعم "وجود تيار متذبذب واستسلامي ويتّصف بضيق الأفق القومي وإنه تصفوي ومعارض ومتكتّل وانتهازي" وكل ذلك ورد في وثائق الحزب ومحاضر اجتماعات المكتب السياسي واللجنة المركزية (أيلول /سبتمبر/1962)، فضلاً عن أن بعض الانتقادات إزاء النفس هي أقرب إلى " افتراءات" كما أسميتها وهو ما كان سائداً في الدول الاشتراكية السابقة.
   هموم ثمانينية
   كان مطلع الثمانينات أول حوار بيني وبين بهاء الدين نوري ، ولاسيّما أسئلته حول العلاقات مع الأطراف العراقية حيث كنت مع عبد الرزاق الصافي في لجّة المعمعة ، ولاسيّما بعد تشكيل الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية " جوقد" في دمشق والجبهة الوطنية الديمقراطية "جود" بعد أسبوعين في كردستان، وشمل الحوار تلميحات حول سياسة الحزب الشيوعي أيام الجبهة الوطنية وانتقادات صريحة لمواقف بعض القيادات التي لا يرتاح لها ولاسيّما عامر عبدالله، وبشيء من الذكاء كان يمرّر اسم عزيز محمد وأحياناً باقر ابراهيم ويعتبرهم مسؤولين أساسيين عن فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث العربي - الاشتراكي العام 1973-1979، وقد أصبح يعبّر عن ذلك بوضوح أكثر، لاسيّما بعد اجتماع اللجنة المركزية (موسكو) 1981 ويدعو إلى ضرورة نقل إدارة الحزب والكوادر الأساسية إلى ساحة الكفاح المسلح في كردستان.
   وفي نوكان- ناوزنك كانت الحوارات أكثر انفتاحاً بيننا حيث زال بعض الحذر منها وسألته عن موضوع "حزب العمل" الذي شكّله مع آرا خاجادور وصالح دكَله، وكان رأيي سلبياً إزاء تلك التقليعات التي أصبحت من تراث الماضي، وقلت له أستغرب لماذا اللجوء إلى مثل تلك اليافطات، فإذا كان لديكم وجهة نظر فلا حاجة لواجهات وهمية، فذلك يزيد من تشوّش القاعدة، وأنتم تعملون بزعم رفض القاعدة وشبكة الكوادر للسياسة القائمة، لكنكم لا تشركونها معكم، وإذا كان الأمر يستوجب إعلان تشكيل سياسي معين باتفاق أو عدم اتفاق مع إدارة الحزب، فينبغي أن يكون واضحاً.
    لا أدري ماذا قيل عن "حزب الشعب" الذي أسسه عزيز شريف باتفاق مع فهد وإلى أي مدى كان الأمر صحيحاً، لكن  شريف استقلّ بموقفه، بل إن موقفه لاحقاً من القضية الفلسطينية كان أكثر انسجاماً مع نبض الشارع، إضافة إلى أنه أكثر مبدأية وانسجاماً مع الماركسية، من موقف الحزب الرسمي بعد اعتقال فهد، خصوصاً من موقف زكي خيري  القصير النظر والمثير للإحباط ، حتى وإن كتب دراسته من داخل السجن رداً على عزيز شريف، لكن توجهه لم يكن مبدئياً ولم يكن منصفاً أو عادلاً حين يساوي بين الضحية والجلاد، بزعم أن قيام دولة " إسرائيل" ووجود حزب شيوعي علني فيها ونقابات وانتخابات، سيكون أكثر تقدمية من البلدان العربية وحكوماتها الرجعية، متناسياً الطابع العنصري الشوفيني الاستعلائي الإجلائي  للحركة الصهيونية المتساوقة مع الإمبريالية. كان ذلك ما كنت أفكر فيه وأنا أسأل بهاء الدين نوري عن " حزب العمل".
   أعرف بعض تحفّظات بهاء الدين نوري على مثل هذه الأطروحات ولكن موقفي هذا كنت أعبّر عنه بوضوح، ومن يعرفني عن قرب أو خلال عملي يدرك ما كنت أشعر به ، ولاسيّما بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967 وما أصاب وجداننا الوطني والعربي من جروح لم تندمل حتى اليوم، وشكّلت إحدى صدمات حياتي وظلّت تلازمني مثل ظلّي.
   وأتذكّر موقفه من الحرب العراقية - الإيرانية، فقد كان ضد أي حديث عن حوار مع نظام البعث، وحينها كان الرفيق عبد الرزاق الصافي قد وصل إلى كردستان، وترشّح أنه هناك طلباً عبر السوفييت بإعادة فتح حوار  بعد معركة المحمّرة (خرمشهر) 1982، لكن مثل هذا الأمر تمّ التكتم عليه، وكان باقر ابراهيم (أبو خولة)الموجود في الموقع نفسه، قد سرّب لي رأس خيط بأن الصافي لن يعود إلى دمشق، وسيبقى في الشروال والجمداني، فالرؤوس حامية هنا وتريد للجميع أن يلتحقوا بها، وحين سألته هل هناك طلب خاص بفتح حوار من جانب السوفييت أو مكرّم الطالباني وما هو رأيك ؟ لكنه لم يجبني ، ثم عاد ووجه السؤال إلي فقال: على افتراض وجود مثل هذا الطلب فماذا تعتقد ينبغي أن يكون ردّنا؟ ولكنني فهمت الأمر وهو ما طرحه عليّ بهاء الدين نوري وما عرفته من عبد الوهاب طاهر، وكان رأيي بغض النظر عن طلب النظام رسمياً أو عبر جهة وسيطة كالسوفييت مثلاً، إلّا أنني أعتقد أن علينا إعادة النظر بسياستنا، فطبيعة الحرب تبدّلت، وما كان التعويل عليه من أن النظام آيل إلى السقوط (رأي بهاء الدين نوري وكريم أحمد)، لم يعد ما يدعمه حتى وإن حصلت هزيمته وهذا أولاَ.
   وثانيا- إن موقع المتحاربين وأحداث الحرب تغيّرت، فلم تعد هجومية عدوانية من جانب نظام صدام حسين ودفاعية من جانب إيران بعد انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية إثر هزيمة المحمرة " خرمشهر"، بل أصبحت "عدوانية وهجومية" من جانب إيران، ودفاعية وطنية من جانب العراق، وعلينا أن نعيد النظر بشعاراتنا، وكنت من البداية أدعو لوقف الحرب وإقامة نظام ديمقراطي ينهي الدكتاتورية  والاستلاب والعسف، في حين كان الشعار العام والذي استمر لبضع سنوات " إسقاط الدكتاتورية وإنهاء الحرب"، وسبق لي أن أوضحت في كتابي " النزاع العراقي - الإيراني" الصادر في مطلع العام 1981 ومع وجود الجيش العراقي فوق الأراضي الإيرانية، أن لإيران أطماعاً تاريخية في العراق، وأن شط العرب نهر وطني عراقي، وأن اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 مذلّة ومجحفة وغير متكافئة، وكان هذا رأيي عند إبرامها وكتبت دراسة خاصة من 13 صفحة وجهتها إلى إدارة الحزب حينها، استناداً إلى اختصاصاتي القانونية ، ولاسيّما في الاتفاقيات والنزاعات الدولية.
   ولذلك لم يكن اللجوء إلى الحرب هو الخيار الصحيح لاستعادة حقوق العراق، فقد كانت هناك وسائل عديدة يمكن اللجوء إليها ، بما فيها الطرق الدبلوماسية والتحكيم وحتى اللجوء إلى القضاء الدولي ومحكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري، لاسيّما وهناك تجاوزات وأوضاع جديدة حصلت بعد الثورة الإيرانية، فتبدل الظروف والأوضاع (جذرياً) يستوجب إعادة النظر بالاتفاقية وتبعاتها وفقاً لقواعد القانون الدولي المعاصر.
   وكان ذلك موضوع نقاش طويل بيننا، وأقدّر في بهاء الدين نوري آراءه وتواصله وإصراره على إقناع الطرف الآخر ومحاولته في إكمال النقاش، ولم أجد محاوراً بين مستويين مختلفين يتمتع بمثل ما كان بهاء الدين نوري معي على أقل تقدير، ولذلك احتفظنا بعلاقة ودية حميمة طيلة العقود الأربعة ونيّف الماضية.
   بعد فصله من الحزب لم يستكن أو يستسلم أو ينزوي، فقد ارتفع عنده رصيد التحدي والمواجهة، وهما سمتان شخصيتان له، فجاء إلى الشام التي كنت قد عدت إليها بعد رحلة علاج طويلة ودخلنا في حوار مباشر حول مشكلات الحزب وتوجهاته وتحالفاته وآثار بشتاشان وموقفه، واستمع إلى رأيي بالتفصيل حول ما حدث لأنني كنت في الموقع المباشر ومسؤولاً عن منظمة الإعلام المركزي، فبالإضافة إلى الخسائر التي لحقت بنا في الأرواح كما ذكرت، فقد كانت خسائرنا المادية والمعنوية الأخرى كبيرة جداً، فقد تم تفجير الإذاعة (وتلك حكاية أخرى لا مجال لذكرها في هذه السردية)، إلى ضياع كتب ومخطوطات وممتلكات وغير ذلك.
   بشتاشان : ما الذي حصل؟
   لم تكن بشتاشان حدثاً مأساوياً ، بل كانت خطأ ستراتيجياً أيضاً، بدخولنا معارك لا مبرّر لها، وهو ما أشرت إليه في حواري مع توفيق التميمي في كتاب " المثقف في وعيه الشقي"، الأمر يتعلق بتوجهاتنا وتحالفاتنا وعلاقاتنا مع الوسط وترهل مقراتنا، ولاسيّما بالعديد من المرضى وكبار السن وغير المسلحين ، ناهيك عن الخطأ العسكري في اختيار بشتاشان التي لا يوجد خط انسحاب لها سوى جبل قنديل الشديد الوعورة.
   وخارج نطاق السياسة فقد حطمت بشتاشان مشاريع فكرية وثقافية على بساطتها، لكنها كانت تشيع مناخاً فكرياً وثقافياً للجدل والحوار وتنوّع الآراء، منها "البانوراما السياسية" التي ابتدأناها  قبل 3 أشهر وحاضرت فيها عن " الصراع الآيديولوجي العالمي وانعكاساته على المنطقة" كما حاضر فيها عمر علي الشيخ عن "وثبة كانون 1948 ودروسها التاريخية" وكان ضمن البرنامج محاضرة بعنوان "وسائل محاربة الاندساس والتخريب داخل الأحزاب الثورية " التي كان يعدّ لها باقر ابراهيم ومحاضرة أخرى تحت اسم " الصحافة" أي دور ينتظرها؟  التي كان يعدّها عبد الرزاق الصافي وشارك عدد من أعضاء فصيل الإعلام في الحوارات بينهم (المسؤول) مهدي عبد الكريم (مدير الإذاعة) وزهير الجزائري وفالح عبد الجبار وعبد الكاظم عيسى وأبو جواد وأبو علي وأبو محمد الفلاحي وصباح المندلاوي وشاخوان وآخرين.
   كما حطّمت بشتاشان محاولات الإعلان عن إعادة تأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي، حيث كان من المقرّر عقد اجتماع موسع "كونفرنس" كنّا نعدّ له، بنشاط ملحوظ من لجنة تحضيرية مؤلفة من صباح المندلاوي وعلي رفيق وآخرين، وكان يفترض أن يكون يوم 30 نيسان /1أيار 1983 هو موعد انعقاد الكونفرنس ، لكنه بسبب تدهور الأوضاع الأمنية كتبنا إلى الفصائل والقواطع والتنظيمات الحزبية بإلغاء الاجتماع (الكونفرنس)، الذي باشرنا به لنحو ثلاثة أشهر ووجهنا رسائل خاصة عبر الإذاعة " تم تأجيل إقامة المعرض وسنبلغكم بالموعد القادم"، خشية من أن لا يصل خبر التأجيل.
   جدير بالذكر إن مكتباً للعمل الديمقراطي (معد) كان قد تشكّل للإشراف على تنظيمات الطلبة والشبيبة والمرأة ، وتولت مسؤولية المرأة  الرفيقة (بخشان زنكنة- أم بهار) وهي رفيقتي منذ أواخر الستينات حيث عملنا في لجنة واحدة، وكنت أنا مشرفاً على الشباب والطلبة، وحين التحق الرفيق محمد فؤاد قادماً من موسكو وهو من البصرة، وكنت قد سمعت عنه من لؤي أبو التمن وتعرّفت عليه في موسكو، حيث أوكلنا له موضوع اتحاد الطلبة، وقد استشهد في بشتاشان أيضاً.
   ولكي يتم التواصل بين خبرة الكادر القديم والكادر الجديد ،فقد أعددتُ كراساً عن تاريخ الحركة الطلابية تم طبعه في مطبعة طريق الشعب في بشتاشان بعنوان " لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق" بمناسبة مرور 35 عاماً على مؤتمر السباع ، وكنت قد باشرت بكتابة حلقتين إلى لجنة التنسيق التي تصدر مجلة  في براغ بطلب من الرفيق رواء الجصاني تحت عنوان " أوراق غير مقروءة "، وبعد نقاش طويل بيني وبين المسؤول عن مكتب العمل  الديمقراطي عبد الرزاق الصافي، وأخذ ورد وجدل واختلاف بخصوص الآراء الواردة فيه، لاسيّما نقد فترة التجميد  للمنظمات، تم الاتفاق على صيغة وسط تمثل الحد الأدنى ، حيث قام بتخفيف صيغة المراجعة الانتقادية مع الإبقاء على جوهرها، وإلّا ما كان للكرّاس أن يصدر .
   وكان رأي الصافي وجيهاً (أقصد نظامياً) على الرغم من معارضتي له، وحسب وجهة نظره ما زال الحزب لم يصدر تقييماً بخصوص تلك الفترة، فكيف لك أن تتخذ موقفاً مخالفاً وناقداً، بل مخطئاً ما هو سائد من سياسات مقرّرة، ولكن مبرري في ذلك أن الرأي مهني، وحسب معلوماتي فإن الأغلبية الساحقة من الكادر لم تكن موافقة على قرار حلّ المنظمات تحت عنوان "تجميدها" وهو أمر لم يحترم ، بل ضُرب به عرض الحائط ، ولي حديث آخر في هذا الموضوع.
   وقد صدر الكرّاس عشية الهجوم على بشتاشان وحمداً لله، أنني احتفظت بنسختين سلّمت واحدة منها إلى الرفاق في براغ، واعتمدتْ في العديد من الكتابات التي صدرت بعدها، كما صودرت وثائق عديدة منها الكراس الذي تم طبعه " ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية "  من قبل المكتب  الآيديولوجي الذي كنت عضواً فيه بمسؤولية كريم أحمد، وهو الكراس الذي كان قد نشر بتوجيه وإشراف من قيادة سلام عادل العام 1957، وكان الثمن باهظاً في رحلتنا الشاقة والتي زادت على 32 ساعة سيراً على الأقدام في جبال موحشة ووعرة مكسوة بالثلوج، لنعبر جبل قنديل الشهير الذي يزيد ارتفاعه عن 7800 قدم، وهو أكثر الجبال ارتفاعاً في المنطقة ومات البعض في الطريق بتجمّد أطرافه وعدم قدرته على مواصلة المسير، كما نصب أوك بعض الكمائن على الطريق ولولا قيادة الرفيق "صارم" من السماوة وهو عضو في منظمة الإعلام المركزي لكان نحو 100 رفيق وقعوا بين الربايا الحكومية أو أسرى لدى أوك، خصوصاً حين ظهرت بعض علامات التخاذل لدى البعض، وبحزمه وشجاعته ،التي سبق أن قلت أنني أنحي لها ، قاد الركب إلى الطريق الصحيح.
   

168
 

بكين - تل أبيب - واشنطن ... ما الجديد؟
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   في ظرف ملتبس وملبّد بالغيوم بين بكين وواشنطن، عُثر على السفير الصيني في تل أبيب دو وي ميتاً في منزله بمدينة هيرتسليا الساحلية (شمالي تل أبيب)، وعلى الرغم من إعلان السلطات "الإسرائيلية" أن سبب وفاة السفير الصيني (58) عاماً ناجم عن سكتة قلبية تعرّض لها وهو في سريره، إذ لا توجد أي علامات عنف على جثته، إلّا أن الغموض والشك ظلاّ يلفّان القضية، خصوصاً ما ارتبط بها من ذيول وتداعيات سبقت الوفاة بنحو يومين، فقد كان دو وي قد نشر مقالة في صحيفة جيروزاليم بوست ردّ فيها على تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي وصف الاستثمار الصيني في " إسرائيل" بأنه خطر وأن بكين تحاول شراء " إسرائيل"، وجدّد اتهامه لبكين بشأن إخفاء معلومات عن انتشار فايروس كورونا، وذلك خلال زيارته الأخيرة إلى " إسرائيل" مايو / أيار/2020. وجاء في مقالة دو وي : إن الاتهامات الأمريكية لبكين بالتستر على المعلومات عن فايروس كورونا المستجد باطلة بالمطلق، ثم كيف يمكن القول أن الصين تريد شراء " إسرائيل"؟
   وكان دو وي  الحاصل على درجة الماجستير في القانون قد التحق بالدبلوماسية الصينية في وزارة الخارجية منذ العام 1989 وتسلّم أقساماً عديدة لعلاقات بلاده  مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية السابقة ، وقد شغل منصب سفير الصين في أوكرانيا منذ العام 2016 حتى تعيينه سفيراً لبلاده في " إسرائيل" وذلك  في أوج اجتياح جائحة كورونا (يناير/كانون الثاني /2020).
   وجاء هذا الأخذ والرد بين بومبيو ودو وي  في ظل علاقات متردّية بين بكين وواشنطن التي  شهدت خلال العامين الماضيين منافسة محمومة  وصفها البعض بأنها حرب محتمة للسيطرة على المستقبل في جميع الصعد الاقتصادية والتجارية والصناعية والتكنولوجية، ناهيك عن ضرائب فرضتها واشنطن على البضائع الصينية، ردّت عليها بكين بالمثل، وما زاد الطين بلّة، كما يُقال، الاتهامات المتبادلة بشأن جائحة كورونا رافقها أقوال متناقضة لمنظمة الصحة العالمية، WHO وليس ذلك بعيداً عن نظريات المؤامرة الرائجة عن حروب بيولوجية جرثومية وتسرّبات مقصودة أو غير مقصودة، فضلاً عن مطالبة واشنطن بكين دفع تعويضات وهكذا.
    وخارج دائرة الصراع الخفي والمعلن واستخدام أنواع القوة الناعمة والحرب النفسية وأشكال الدعاية السوداء، فإن مردودها لم يقتصر على البلدين، بل امتدّ إلى جميع البلدان في العالم شأنها شأن أية قضية اليوم في ظل العولمة والثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي.
*****
   وفي هذا الخضم فثمة ما يلفت النظر لما يجري بهدوء  بين بكين وتل أبيب سواء من فوق الطاولة أو من تحتها ، خصوصاً في ظلّ أجواء الريبة والحذر المخيّمة على علاقات بكين - واشنطن، حيث تعززت حظوظ بكين في تل أبيب، وهو ما أثار قلق واشنطن، بل وغضبها، وهي الحليف الاستراتيجي لـ "إسرائيل"، ولهذا السبب جاء تصريح بومبيو من تل أبيب والرد الصيني منها أيضا.
   فما هو موقفنا كعرب وكدعاة تحرر وتقدم من الحميمية  الصينية - الإسرائيلية المتصاعدة ؟ وكيف ينبغي أن تكون مقاربتنا وتعاطينا مع هذا الموضوع؟ وما هي انعكاساته السلبية المباشرة وغير المباشرة على النضال الفلسطيني والعربي  والصراع الدائر في المنطقة بين الصهيونية والمشروع الاستعماري الاستيطاني الإجلائي العنصري من جهة وبين جبهة القوى التحررية والتقدمية من جهة أخرى ؟ جدير بالذكر أن "إسرائيل" تمادت في نهجها الاستيطاني التوسعي مستفيدة من توسع علاقاتها الدولية على حساب حقوق ومطالب الشعب العربي الفلسطيني العادلة والمشروعة وفي مقدمتها حقه في  تقرير المصير والعودة وإقامة الدولة وعاصمتها " القدس الشريف".
   ومع صعود " التنين الأصفر" توسمنا كعرب خيراً به ، خصوصاً بعد اختلال موازين القوى الدولية على أمل انحيازه لقضايانا بعد أن سادت أجواء القنوط والتشاؤم،  عقب غياب الاتحاد السوفييتي وانحلال الكتلة الاشتراكية والنكوص الرسمي العربي، لتشكل معادلاً قوياً أمام دعم واشنطن لـ"إسرائيل"، وربما كان البعض يعوّل على بكين أن تلعب دوراً قريباً من دور الاتحاد السوفيتي السابق إن لم يكن أفضل منه، وذلك لكسر شوكة الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة ثانية أنها دولة غير مستعمِرَة ، فما بالك لو حظيت بالفوز في خطة التنمية المستدامة 2030 وأصبحت الدولة الأولى في العالم ، خصوصاً وكانت قد أعلنت بثقة عن مشروع بناء طريق الحرير الجديد " طريق الحرير والحزام" الذي سيغيّر وجه العالم.  وكان العديد منا يحلم أن يسمح له العمر بأن يستقل القطار المتوجه من بكين إلى لندن وبالعكس في رحلة تاريخية عظيمة.
    وقد لمست مثل هذه الأطروحات خلال زيارتنا في إطار مؤتمر للحوار العربي - الصيني إلتأم في العام 2010 ساهمت فيه نخبة من المفكرين والمثقفين والمسؤولين السياسيين السابقين العرب والصينيين في بكين بدعوة من المعهد الصيني للدراسات الدولية ، الذي يسهم في رسم السياسات الخارجية للصين وله خبرة واطلاع كبير على أوضاع المنطقة وظروف الصراع في الشرق الأوسط . وكان جواب المستشرقين والخبراء الصينيين رداً على مناشداتنا واستفساراتنا يكاد يكون موحدا إن لم يكن واحداً: الصين ليست " دولة عظمى"، بل هي "دولة نامية"، وما يزال لدينا أكثر من 150 مليون إنسان دون خط الفقر.
   وانعكست خشية واشنطن وقلقها من تطور العلاقات "الإسرائيلية" - الصينية على الداخل "الإسرائيلي"، حيث عبّر عدد من الخبراء "الإسرائيليين " عن مخاوفه ومحاذيره هو الآخر، على الرغم من المكاسب التي يمكن أن تجنيها تل أبيب من العلاقة مع بكين ، إذْ ينبغي الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن وعدم خسارتها بأي شكل من الأشكال ، ولذلك ينبغي إطلاعها على تفاصيل الصفقات والتنسيق  بين تل أبيب وبكين، علماً بأن الإدارة الأمريكية عبّرت عن غضبها الشديد من تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية والتعاون الأمني والعسكري بين الصين و"إسرائيل"، مثلما أعربت عن انزعاجها من ارتفاع عدد الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، خصوصاً وقد تم مؤخراً شحن كمامات ومعدّات طبية خاصة بفايروس كورونا من جانب الصين إلى الكيان الصهيوني.
*****
   جدير بالذكر أن الاستثمارات الصينية في " إسرائيل" تعود إلى العام 2015، علماً بأنه في العام 2000 قام الرئيس الصيني شي جين بينغ  بزيارة لـ "إسرائيل" ثم قام إيهود أولمرت رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق بزيارة إلى بكين في العام 2007، وأبرمت العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، وكان ذلك بعد أن رفع العرب الحرج عن مثل هذه العلاقات مع تل أبيب وبدأ الأمر تدريجياً منذ اتفاقيات  كامب ديفيد 1978-1979 واتفاق أوسلو العام 1993، علماً بأن "إسرائيل" اعترفت بالصين في العام 1950، لكن الصين ظلّت تنظر إليها كدولة حليفة للإمبريالية، وعلى العكس من ذلك ساندت مصر ضد العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي "الإسرائيلي"، واتخذت مواقف مؤيدة للحقوق العربية في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز العام 1955 واعترفت في العام 1965 بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب العربي الفلسطيني وافتتحت مكتباً لها، ووقفت إلى جانب العرب ضد العدوان الإسرائيلي العام 1967.
    لكن التقارب "الإسرائيلي" - الصيني العملي بدأ في العام 1971 حين صوتت "إسرائيل" لصالح قبول الصين في الأمم المتحدة، وفي عقد الثمانينات شهدت العلاقات خطوات تمهيدية لإقامة التمثيل الدبلوماسي، لاسيّما بعد لقاء شمعون بيريز مع نظيره الصيني تشيان تشي تشن (أيلول/سبتمبر/ 1988) في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت التسعينات مرحلة للتطبيع الكامل فأقيمت العلاقات الدبلوماسية في شهر كانون الثاني (يناير) 1992 وبذلك حصلت "إسرائيل" على اعتراف أكبر دولة في العالم من حيث عدد النفوس بعد أن بدأت علاقاتها تعود بالتدرّج مع الدول الاشتراكية السابقة (منذ منتصف الثمانينات) واستعادت " إسرائيل" علاقاتها مع عدد كبير من الدول الأفريقية التي تم قطعها إثر عدوان العام 1967 وحرب العام 1973، وحصل ذلك في ظل التراجع العربي ومن ثم تمزّق الحدّ الأدنى من التضامن العربي، خصوصاً بعد غزو القوات العراقية للكويت (2 أغسطس/أب/1990).
   وهكذا بدأت تتعمّق العلاقات الصينية - "الإسرائيلية"  في مجالات علمية وتكنولوجية واقتصادية وعسكرية وأمنية وتجارية، حيث تبرعت الصين ببرنامجيات حديثة وتقنيات الكومبيوتر إلى " إسرائيل" وتطمح إلى الاستفادة من تطوير وتجهيز الطائرات المسيّرة التي تستخدم في الرصد والمتابعة والمراقبة والتصوير. ولا يعني هذا أن الصين تهمل العلاقة مع العرب، حيث كانت زيارة الملك عبدالله في أيلول(سبتمبر)  العام 2013 فتحاً كبيراً في هذه العلاقات، وبدأت زيارات عربية عديدة مصرية وعراقية ، لكنها لم تستكمل أو لم تكن بمستوى العلاقات مع تل أبيب، ولقيت معارضة أمريكية، وهو ما بحاجة إلى منظور استراتيجي متوازن للعلاقات العربية مع الدول الكبرى.
   جدير بالذكر أن العلاقات العربية - الصينية بدأت أولى خطواتها الفعلية بعد نجاح الثورة الصينية في العام 1949، لاسيّما بلقاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الرئيس الصيني شوان لاي في مؤتمر باندونغ، وقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية الرسمية في 30 مايو (أيار) 1956، أما العلاقات الدبلوماسية  السورية - الصينية فقد بدأت في 1 أغسطس (آب) 1956 وتطورت بوتيرة عالية . وكانت  العلاقات العراقية - الصينية قد بدأت باعتراف الصين يوم 16/7/1958 بالنظام الجمهوري في العراق وبعدها بيوم واحد اعترف العراق بجمهورية الصين الشعبية ، وكانت الصين من بين الدول الأولى التي دعمت الثورة الجزائرية واعترفت بالحكومة المؤقتة بعد إعلانها في سبتمبر 1958 حيث أقيمت لاحقاً العلاقات الدبلوماسية الجزائرية - الصينية، كما وقفت الصين إلى جانب الثورة في الجنوب اليمني، علماً بأن العلاقات الدبلوماسية اليمنية - الصينية أقيمت في 24 سبتمبر (أيلول) 1956 مع الشطر الشمالي (جمهورية اليمن العربية) وبعد تحرر الجنوب تأسست العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجمهورية الصين الشعبية في يوم 1 يناير(كانون الثاني) 1968 .
   وحسبما يبدو إن الصين تريد عن طريق علاقتها مع " إسرائيل" اختراق منطقة النفوذ الأمريكي من خلال أسواق تعويضية ، خصوصاً حين استخدمت واشنطن العقوبات ضدها بفرض رسوم جمركية ثقيلة على البضائع والمنتجات الصينية للحيلولة دون انتشارها في السوق الأمريكية . وعن طريقها تريد بيع الروبوت " الإنسان الآلي"، إضافة إلى بعض تكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية وتوظيفها في قضايا التجسس.
*****
   علينا أن ندرك أن مرحلة  الآيديولوجيا في الصين قد انتهت ، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً، بل مستأثراً بحق العمل السياسي والنقابي والمهني ، وقد عقد مؤتمره الأخير في آب /أغسطس 2019، إلا أن العقل الصيني التجاري بالتلاقح مع التراث الفلسفي والثقافي غلب على الفكر الشيوعي، خصوصاً بإحياء تراث لاوتسه وكونفوشيوس وغيرهما، لاسيّما العودة الحميمة إلى الثقافة والتاريخ الصيني القديم، باعتباره ذخيرة فكرية وإنسانية محفّزة لأوضاع الحاضر، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) معه  خلال الثورة الثقافية، وعاد الاعتزاز بالتراث والتاريخ الصيني كونه إثراءً للحاضر واستشرافاً للمستقبل، بعد أن تم تطليق مرحلة التزمت الآيديولوجي وأمراض اليسارية الطفولية، واستبدالها بمرحلة الانفتاح الاقتصادي والانتشار التجاري، والحديث بلغة المصالح وليس بلغة العقائد.
   وإذا كان جيلنا  برومانسيته العالية ما زال يتذكّر الشعارات الصينية "الثورية"   التي كانت تطلقها بكين مثل " كل شيء ينبت من فوهة البندقية" و" الامبرالية نمر من ورق"  والتي تأثر فيها العديد من تجارب الكفاح المسلح والحركات التحررية العربية والعالمثالثية، إلّا  أن علينا الإقرار بأن تلك المرحلة قد طويت تماماً لم وتبقَ إلّا في كتب التاريخ وذاكرتنا المتعبة ، فلم تعد القيادات الصينية ترتدي طواقم الملابس الخشنة والموحّدة والصالحة لكل المناسبات باعتبارها دليل "ثورية" مفرطة وطفولية يسارية ومساواة شكلية ، فإنها اليوم في ظلّ ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدم على كل شيء، أخذت تضاهي الغرب وأنظمته الرأسمالية بآخر صيحات الموضة العالمية وبحبوحة العيش والبذخ المفرط .
   وإذا كان الماضي قد أصبح خلفنا بما فيه من مراهقة سياسية، فعلينا أن ندرك اليوم أن العالم لا يُدار بالعقائد والعواطف والتمنيّات، بل وفقاً للمصالح والمنافع والمنافسة ، وهو ما ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا، فالسياسة كانت وما تزال وستبقى " صراع واتفاق مصالح" في أبسط تعريفاتها، أي علينا الاستفادة من دروس الماضي، فلم يعد ثمة مكان لذلك ، حيث  تغيّر العالم كثيراً وتشابكت علاقاته وتداخلت مصالحه وانشطرت محاوره وتشكّلت كتل جديدة، فالماضي مضى ولا يمكن استعادته.
   وعلينا كعرب أن نعي ذلك ونتفهم الواقع ومستجداته وتبعاته، فلم تعد الصين تعتبر "إسرائيل" " قوة احتلال" و"سلطة اغتصاب" وقاعدة متقدمةً للامبريالية كما كانت تصفها، وإن كانت ما تزال تعتبرها تحتل أراضي عربية ، إلّا أنها  سعت لبناء استراتيجيات معها مستفيدة من ضعف حالنا وتشتت مواقفنا وغياب الحد الأدنى من التضامن بيننا، ومثل ذلك لم يكن ليحصل لو كنّا موحدّي الكلمة والموقف والآداء، توافقاً وتعاوناً وتنسيقاً، فقد كان استخدام سلاح النفط بُعيد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 فعّالاً ومؤثراً، وما تزال أصداؤه حتى الآن، حيث أعلن الحظر النفطي لدفع الدول الغربية على إجبار "إسرائيل" على الانسحاب  من الأراضي العربية التي احتلتها العام 1967، وقد أحدثت تلك الصدمة، إضافة إلى انهيار سوق الأوراق المالية 1973-1974 أزمة كبيرة على المستوى الكوني، لاسيّما حالة الكساد والانكماش الاقتصادي التي أصابت العالم.
   لقد كان استخدام سلاح النفط حينها أقرب إلى تطبيق الولايات المتحدة لـ مبدأ مونرو Monroe Doctrine  الذي اتبعته واشنطن منذ العام 1823 ضد التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي باعتباره استعماراً أوروبياً في الأمريكيتين وعملاً عدائياً يتطلّب رداً أمريكياً، فما أحوج العرب لـ مونرو عربي وإن كان بالحد الأدنى ضمن توازن القوى في العلاقات الدولية الراهنة وفي إطار دبلوماسية حيوية تتمتع بقدر من الصلابة المبدأية، مثلما تمتاز بمرونة عملانية، لاسيّما باحترام المصالح ووضعها في منظومة الاستراتيجيات العامة لكل دولة وعلى المستوى العربي، مثلما يمكن توسيعه بالتعاون مع الدول الإسلامية. فمتى يتحقق ذلك؟ وماذا علينا  أن نفعل لتحقيقه؟ وتلك أسئلة للحاضر والمستقبل، ينبغي أن تبقى نصب العين دائماً.




169
يوم الأسرة و«قناع 19»


عبد الحسين شعبان

تحتفل البشرية في شهر مايو (أيار) من كل عام باليوم العالمي للأسرة، الذي قرّرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1993 ، ويتلخّص الهدف من هذا الاحتفال في رفع الوعي بأهمية الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى للمجتمع الإنساني، ناهيك عن أن التنمية المستدامة لا تستقيم  دون مشاركتها بما يحقق الرفاه والسلام والأمن والتقدم، فهي " الملاذ الآمن" و"المأوى الدافئ" والمتكأ الذي يمكن الاستناد إليه، بما تمثّله من اطمئنان ومودة ورحمة وتآلف وتآزر.
ولعلّ من المصادفات السيئة هذا العام أن تمرّ هذه الذكرى والغالبية الساحقة من العوائل محجورة ومنطوية على نفسها في حالة قلق ورعب، بسبب اجتياح وباء كورونا  العالم، حيث راح ضحيته حتى كتابة هذه السطور أكثر من 300 ألف إنسان ، وإصابة ما يزيد عن 3 ملايين، وما زالت الأجواء المكفهرة والكئيبة مخيّمة، ناهيك عمّا ستتركه من انكماش على الاقتصاد العالمي، والقيود التي ستفرضها على حركة الأشخاص والأنشطة الاقتصادية في الدول الكبرى، فضلاً عن التراجع الخطير في قطاع السياحة العالمي، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات وتدابير عاجلة وجريئة وتعاون دولي ضروري وفعّال، ليس لاحتواء الجائحة وإنقاذ أرواح الملايين من البشر، بل لحماية الفئات الأكثر فقراً والأكثر حاجة من الأسر من تأثيرات الدمار الاقتصادي وانعكاساته اللاحقة، من تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب.
وإذا كانت السنوات السابقة مناسبة لمراجعة نقدية لما تحقق وما لم يتحقق في إطار منظومة التشريعات الدولية لحقوق الإنسان ، وخصوصاً حقوق المرأة والطفل وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها، فإن هذا اليوم يمرّ ثقيلاً وحزيناً هذا العام، لاسيّما بمراجعة الملفات الأساسية التي تخصّ دور الأسرة في المجتمع وقضايا الصحة والمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة، إضافة إلى التنمية والتكامل والتضامن والتكافل الاجتماعي بين الأجيال، والتوازن في العمل والإدارة والقيادة والأجور، وفي مواجهة سياسات الفقر والإقصاء الاجتماعي والتهميش والهجرة واللجوء، بما يضع مسؤوليات وتحدّيات جديدة أمام المجتمع الدولي، حكومات وهيئات مدنية وقوى سياسية ومراكز أبحاث علمية ومؤسسات دينية، وفي كل دولة أيضاً لتوفير الفرص والإمكانات، بما يعزّز مواجهة الأمراض كالجهل والأمية والأوبئة التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة ، وآخرها وباء كورونا.
والاحتفال بيوم الأسرة، ولاسيّما في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، يأتي هذا العام والعديد من بلداننا العربية تستمر في معاناتها الشديدة، حيث تعيش ملايين الأسر العربية أوضاعاً في غاية السوء في ظلّ استمرار النزاعات والحروب الأهلية وأعمال العنف والإرهاب والتداخلات الخارجية من جهة، كما هي سوريا واليمن وليبيا ، فضلاً عن استشراء النعرات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية بسبب نهج التعصّب ووليده التطرّف، كما هي في العراق ولبنان وذلك بسبب نظام المحاصصة  ، كما تستمر معاناة الفلسطينيين بسبب استمرار الاحتلال  "الإسرائيلي" وهدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني الجماعية والفردية.
وعموماً تعاني المرأة في منطقتنا بشكل خاص والأسرة بشكل عام من العنف بأشكاله المختلفة، بما فيه العنف الأسري، الذي ارتفعت وتيرته خلال فترة الحجر الصحي، الأمر الذي يتطلّب تغليظ العقوبات التي تعالجها القوانين النافذة أو سن قوانين جديدة لحماية المرأة من العنف الأسري ومن جميع أشكال العنف والتمييز، تلك التي اعتمدها المجتمع الدولي باتفاقية العام 1979.
ولعلّ هذه مناسبة للتذكير بأن القوانين بقدر ما هي انعكاس للواقع، فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تلعب دوراً تغييرياً مثلما هو دور رادع في الآن ذاته، لاسيّما إذا صاحبها حملة إعلامية وتثقيفية لرفع درجة الوعي الحقوقي والقانوني، لتعميق التوجهات الإيجابية التي تعلي من شأن المرأة  ومكانة الأسرة، بإشاعة قيم المحبة والسلام والتسامح واحترام الآخر وقبول التنوّع والتعددية وحق الاختلاف والتعبير والحق في الخصوصية والشراكة في الآن، حيث تتميّز  مجتمعاتنا وثقافتنا بحق إنساني متفوّق لا يوجد في اللوائح الدولية وهو " البر بالوالدين" .
 وإذا كانت حقوق الأسرة قد ورد ذكرها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فإن الواقع الراهن يعكس الهوة السحيقة بين ما تقرّر وبين التنفيذ، فإن هناك حقوقاً أساسية مثل الحق في الصحة والحق في العمل والحق في التعليم والحق في السكن والحق في الضمان الاجتماعي، ما تزال غائبة أو ناقصة ومبتورة في العديد من البلدان، حيث تعيش ملايين الأسر دون توفير الحدّ الأدنى من هذه الحقوق، التي  لا يمكن تنشئة الجيل الجديد تنشئة سليمة وعقلانية وحرّة بغيابها، وهو ما يضاعف مسؤوليات الحكومات والمجتمعات في تأمينها، ناهيك عن مسؤوليات الدول الأكثر غنًى إزاء البلدان الفقيرة.
وإذا جاء الاحتفال بيوم الأسرة هذا العام حزيناً بسبب اجتياح وباء كورونا فإن ارتفاع ضحايا العنف الأسري الجسدي والمعنوي جعله أكثر حزناً، وهو ما دفع ناشطات في فرنسا لإطلاق حملة قناع 19 تأكيداً للترابط بين كورونا والعنف الأسري.
drhussainshaban21@gmail.com




170
هيروشيما : الذاكرة والاستعبار
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   يوم زرتُ مدينة هيروشيما هتفت من أعماقي: يا الله إنها " مدينة الألم والجمال"، ففي يوم واحد ذهب ضحية تلك الشراسة الساديّة نحو 70 ألف إنسان ومثلهم فيما بعد، على الرغم من وصول الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى نهاياتها، لكن الرئيس الأمريكي هاري ترومان قرر إلقاء قنبلة ذرية  على هيروشيما ومن بعدها على ناكازاكي اليابانيتين، لتجريب ذلك السلاح الفتّاك واكتشاف تأثيراته التدميرية.
   شعرتُ حينها بمرارة لا حدود لها وأنا أتنقّل مذهولاً في متحف المدينة وأشاهد صوراً وأفلاماً وثائقية وأستمع إلى أصوات الرعب في تلك الفاجعة المجنونة، والتي ما تزال آثارها السلبية قائمة حتى اليوم، ولكن بقدر ما تُعتصر القلوب لمشاهدة وسماع قصص العذاب الفظيع، فإن النفوس تتفتّح حين تبعد قليلاً عن تلك الأجواء الكئيبة والمكفهرّة، لتطالعك أشجار الكرز المورقة، بأزاهيرها المضيئة في الربيع الذي صادف زيارتنا للمدينة، لترى مشاهد آخّاذة حين يتفيأ اليابانيون تحت ظلال تلك الأشجار ويتنشقون رائحتها الزكية، لتزيدهم تأمّلاً وهدوءًا نفسياً فوق ما هم عليه، وهكذا ترى الوجه الآخر لتلك المدينة الفضية الضاحكة العذبة والمتغنّجة، جامعة كل مفاتن الجمال: النور والنظارة والبحيرات والخلجان .
   استعدتُ ذلك بمناسبة مرور75 عاماً على انتهاء الحرب، حيث شهد العالم أهوالاً لا حدود لها راح ضحيتها أكثر من 60 مليون إنسان، وتدمير الممتلكات والمرافق الحيوية والخسائر المادية الهائلة، تلك التي ليس من السهل نسيانها، إذْ لا بدّ أن تبقى في دائرة الضوء، للاستفادة من دروسها وعِبرِها، وهو ما حدا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، الإعلان عن أن يومي 8 و9 مايو (أيار) هو يوم للاستعبار، وذلك بالقرار رقم 5922 الذي اتخذته في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، محاولة استخلاص الايجابي من هذا الحدث التاريخي الذي هيّأ لتأسيس الأمم المتحدة، والتي وضعت هدف " حماية السلم والأمن الدوليين" في صدارة أهدافها، مؤكدة في ديباجة ميثاقها إلى : إنقاذ الأجيال المقبلة من الويلات والحروب، مهيبة بالدول الأعضاء أن تأخذ بعضها البعض بالتسامح وأن تبذل الجهود لتسوية نزاعاتها وحلّ خلافاتها بالوسائل السلمية.
   وحين نتوقّف اليوم دولاً وشعوباً ومنظمات للسلم والتضامن وحقوق الإنسان وحتى الأفراد، للاحتفال بهذه الذكرى الأليمة ، فالأمر يتطلّب إعمال التفكير بصورة جماعية بمآلات البشرية ونتائج الحروب لصيانة السلام العالمي وتعزيز التعاون الدولي وتنمية روح المصالحة على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، فضلاً عن تعميق القيم الإنسانية المشتركة والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، لاسيّما الاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف.
   ليس القصد من الاحتفال بذكرى الحرب استعادة المشاهد الحربية أو النجاحات التي حققها هذا الجيش أو ذاك أو تمجيد هذا النظام أو ذاك، بل لتعلّم الدرس جيداً، " فحوار سنة أفضل من حرب ساعة"، علماً بأن حروب ونزاعات ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت بالمئات وقد جرت بالوكالة وتركت  هي الأخرى آثاراً مؤلمة، لاسيّما في فترة الحرب الباردة (1947-1989) والصراع الآيديولوجي والحرب  الإعلامية والدعائية والنفسية  بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، والتي استخدمت فيها جميع وسائل القوة الناعمة الأكثر إيلاماً وخبثاً من الحروب الفعلية، وهو ما استمر بعد انهيار الكتلة الاشتراكية مثل الحصارات الدولية واستخدام العقوبات الاقتصادية وخنق بعض المجتمعات من داخلها ، لكي تسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، والعقوبات سلاح سبق للولايات المتحدة أن استخدمته ضد البلدان الاشتراكية والعديد من البلدان العربية والعالمثالثية .
   لعلّ في الاستذكار فرصة للتأمّل أيضاً، في الأضرار الفادحة التي حلّت بالبشرية والكوارث اللاحقة التي أعقبتها والتي دفع أكثر من جيل ثمنها باهظاً، فانتشار فايروس كورونا اليوم لا بدّ أن يدفع العالم إلى إعادة حساباته، حيث أصبح الجميع دولاً وشعوباً، أغنياء وفقراء، مؤمنون وغير مؤمنين مستهدفاً، فقد تزهق الروح بأية لحظة، الأمر وضع البشرية كلّها في حالة حزن وذهول وعدم طمأنينة وتحدٍّ، وهو ما يحتاج إلى تعاون دولي على جميع الصُعد ، فبدلاً من الانشغال بتطوير وتصنيع الأسلحة وتخصيص الميزانيات الهائلة لها، ينبغي توجيهها للصحة والتعليم والبحث العلمي وعلوم الفضاء، فضلاً عن الاستفادة المتكافئة للبشر جميعاً من نتائج الثورة الصناعية بطورها الرابع والذكاء الاصطناعي، والعمل على إطفاء الحروب وردم بؤر النزاع، والعمل على تنمية العلاقات بروح الإخاء والتعاون والسلام والتسامح لتوفير الاستقرار والأمن وضمان المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
   إن ما يجمع البشر هو الكثير الذي علينا تعظيمه ، أما ما يفرّقهم فهو القليل الذي ينبغي تقليصه، لاسيّما لمواجهة العدو المشترك للإنسانية جمعاء وهو الأمراض والأوبئة، والفقر والجهل، هذا الثلاثي المرعب، لكي تنعم البشرية بالعدل والسلام والاستقرار وصولاً إلى إزالة أسباب اندلاع الحروب والنزاعات ووضع حدٍّ للاستغلال واحترام الحقوق والحرّيات، والتوجّه صوب التنمية، وتلكم إحدى أمنيات البشرية على مرّ التاريخ.


171
التطبيع والقدس - مداخلتان بجوهر واحد
عبد الحسين شعبان
بوابة الهدف خاص - 20/5/2020
•   شارك  الدكتور عبد الحسين شعبان  المفكر العراقي ونائب رئيس جامعة اللّاعنف خلال الأيام الماضية بملتقيين افتراضيين لمناسبة الذكرى المؤلمة للنكبة ومرور 72 عاماً على تأسيس دولة الكيان الصهيوني ، وألقى في الملتقيين مداخلتين الأولى بعنوان: التطبيع وذيوله والثانية بعنوان : القدس الشريف..المدينة المفتوحة ، وفيما يلي ننشر نص المداخلتين :
المداخلة الأولى : في التطبيع وذيوله

   في اللغة نقول"تفعيل"وعلى غراره تأتي كلمة "تطبيع "وهذا الأخير لا يأتي دفعة واحدة أو عبر خطوة سريعة أو عابرة ؛بل هو مسار طويل وصولًا لغاية أو هدف يتوخى تغيير الواقع بالتراكم التدرجي البطيء، لكسر الحاجز النفسي مع العدو، ويتم ذلك بأشكال مختلفة: ثقافية واقتصادية وتجارية وعلمية وسياحية ودينية وأمنية، وسياسية ودبلوماسية وهذه الأخيرة تتم حين تستوفي الشروط الأخرى مقاصدها .
   قد يبدأ التطبيع مع العدو الصهيوني بخطوة واحدة لكنها قد تصل إلى الألف ميل ،مع الاعتذار لـ ماوتسي تونغ على استخدامنا هذا، والهدف هو جعل غير الممكن " ممكناً والمرفوض " مقبولاً" أو حتى " مرغوبًا " و " مجزياً" ؛ وبالتالي جعل الوجود الصهيوني في فلسطين أمراً طبيعياً، وهو ما يستوجب قطع دابره قبل أن يستفحل وتصعب مواجهته ، بحكم تواتر الاستعمال والتكرار والاعتياد ، من خلال تغلغل ناعم وهادئ وحتى غير معلن ، بل و ضبابي في بعض الأحيان يتغلف بأشكال غامضة ومبهمة وبريئة، لكنه سيحدث تشوشًا مؤثرًا في النفوس والعقول والمصالح .
   وهذا سيعني شئنا أم أبينا قبول الرواية الإسرائيلية عن فلسطين المحتلة والتي فشلت في تقديمها للعالم منذ وعد بلفور العام 1917 ؛ الذي وضعه مؤتمر سان ريمو العام 1920 موضع التنفيذ عبر عصبة الأمم وفِي إطار اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 التي قسمت البلاد العربية؛ ووضعت تحت الانتداب البريطاني العام 1922، وشجعت بريطانيا الحركة الصهيونية على تنفيذ مخططها بـ استعمار الأرض واحتلال السوق واحتكار العمل وتشجيع الهجرة اليهودية ترافقاً مع وعد بلفور 1917 فضلاً عن تسهيل مهمة الحصول على الأسلحة وتكديسها، والهدف من ذلك التسليم باحتلال فلسطين والتخلي عن الحقوق التأريخية الثابتة وغير القابلة للتصرف، ولاسّيما حق تقرير المصير .
   وبتقديري أن محاولات التطبيع الجديدة تتطلب جهدًا جماعياً متنوعًا عربيًا وإسلاميًا رسمياً وشعبياً للحيلولة دونه قبل فوات الآوان، وقبل أن تستكمل خطواتها وشبكاتها بالتغلغل لدرجة يصعب وقفها حينذاك،ويقتضي هذا التحرك بالضرورة مواصلة الجهود الفكرية والحقوقية على جميع الصعد لفضح الطابع العنصري للصهيونية باعتبارها " شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري " حسب قرار الأمم المتحدة لعام 1975 والذي ألغي في غفلة من الزمن حين وصلت الاختلافات العربية أوجها في مطلع التسعينات.

المداخلة الثانية: القدس الشريف ... المدينة المفتوحة*

تتجاوز القدس إشكاليات الصراع العربي الصهيوني ، بل والشرق الأوسط، لتغدو مشكلة دولية كبرى، لا يمكن حل قضية الشرق الأوسط وأساسها الصراع العربي – الإسرائيلي دون حل عادل وسليم لمشكلتها.
وبهذا المعنى فالقدس إحدى إشكاليات العالم المعاصر والنزاع الدولي المستديم، إذ تشكل القضية الأكثر عاطفة والأرسخ رمزية والأعمق تجذراً في الوجدان الديني والقومي والإنساني. إنها بقول آخر مشكلة فريدة، لمدينة فريدة ، وتاريخ فريد. فقد ارتبطت بديانات مقدسة ثلاث. وكانت عبر تاريخها مسرحاً لحروب واحتلالات وحصار لأكثر من 38 قرناً من الزمان، حيث عانت 20 مرة من الحصار وتم التناوب على حكمها 25 مرة وتم تدميرها 17 مرة.
تشكل القدس جزءًا من الموروث الروحي للبشرية، ولها مكانة فريدة ومتميزة روحياً للديانات السماوية الثلاث، ولذلك فإن محاولة  "تهويد"المدينة وفرض نمط واحد من الديانة عليها أو شكل من الإدارة بالإكراه ومصادرة حقوق السكان، إنما هي محاولة لإلغاء طابعها المتميز وإقصاء التعايش بين أديانها وتكويناتها المختلفة وإحلال الاحتكار بدلاً من التسامح الذي اتسم به تاريخها القديم والحديث.
ولهذا فإن محاولة الكيان الصهيوني الاستيلاء عليها وضمّها قسراً، بل واعتبارها "عاصمة أبدية موحدة" إنما هو استهتار بحقوق الشعب العربي الفلسطيني التاريخية واستخفاف بالقانون الدولي الذي يحرّم الاحتلال والضم والإلحاق بالقوة، فضلاً عن الاستيطان، ويعتبر ذلك في عداد الجرائم الدولية الخطيرة ضد الإنسانية.
ولعلّ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تأييده لتلك الخطوة ونقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة ، إنما هو تجاوز سافر وصارخ لقراري مجلس الأمن الدولي الأول  رقم 476 الصادر في 30 حزيران (يونيو) 1980 والثاني رقم 478 الصادر في 20 آب (أغسطس) من العام نفسه، وبقية القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تشجب محاولة "إسرائيل" تغيير معالم مدينة القدس وتركيبها الجغرافي بوصفها "قوة احتلال" لا يجوز لها ذلك مطلقاً، وثانياً بطلان "القانون  الأساسي" بشأن ضم القدس الذي اتخذه الكنيسيت لما له من تداعيات على السلم والأمن من جهة، ومن جهة  ثانية لمخالفته الصريحة لقواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف الصادرة في العام 1949، ولاسيّما الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين ، ويقرر مجلس الأمن اعتبار الاجراءات الإسرائيلية باطلة أصلاً ويجب إلغاؤها. وهو ما ينبغي التمسك به والعمل بموجبه على جميع الصعد، ولاسيّما في المحافل الدولية.








172
عبد الحسين شعبان
نائب رئيس جامعة اللّاعنف
والمفكر العراقي


•   لا ينبغي نسيان برنارد لويس وهنري كيسنجر وإيغال ألون وعوديد نيون ومشاريع التقسيم.
•   مع قيام " إسرائيل" بدأ مشروع الحداثة الجنينية في العالم العربي بالتدهور والتراجع والانتكاس.
•   من باب المندب إلى بنغازي ومروراً بالخليج وبغداد ودمشق وبيروت الهدف واحد والعدو واحد والمواجهة واحدة .
•   المواطنة الحاضنة للتنوّع والإقرار بالتعددية وحق الاختلاف كفيلة بتحقيق ما تصبو إليه مجتمعاتنا من حرية ومساواة وعدالة وشراكة.

القاهرة – الدوحة
محمد حربي

حذّر الدكتور عبد الحسين شعبان ، المفكر العراقي ونائب رئيس جامعة اللّاعنف من المخاطر التي تهدد الدول العربية بسبب عوامل التغلغل الخارجي ومحاولات زرع الفتن والانقسامات خاصة في ظل مخططات التقسيم وما بلوره عوديد ينون مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون  في "وثيقة كيفونيم" مطلع العقد التاسع من القرن الماضي .
وقال شعبان لمناسبة الذكرى الـ 72 لتأسيس دولة "إسرائيل" 15 مايو (أيار) 1948، إن مشاريع التقسيم أصبحت متوالية وعلى وجه التحديد بعد العام 1982 وكانت وثيقة كيفونيم بعنوان "استراتيجية إسر ائيل في الثمانينات" التي نظرت إلى العالم العربي باعتباره "برج من ورق" واضعة نصب عينها الحيلولة دون حدوث أي تقارب بين الدول العربية وبعضها البعض، ولا حتى وحدة وطنية داخل البد الواحد، مع تسريع الخطوات في المشروع الصهيوني الاستيطاني الاحتلالي التوسعي الذي تقرر في مؤتمر بال (بازل – سويسرا)1897 لتأسيس الدولة اليهودية وفقا لعرّاب الحركة  الصهيونية وكتابه " دولة اليهود" تيودور هيرتزل، وكانت الخطوة الأولى على هذا الصعيد اتفاقية سايكس – بيكو لتقسيم البلاد العربية 1916 وأعقبها وعد بلفور العام 1917.
وقد نشرت صحيفة الوطن القطرية  بعددها الصادر في يوم الخميس 14 مايو (ايار) 2020 المصادف 21 رمضان 1441 ، فقرات من الحوار الموسّع والشامل الذي أجراه مع د.شعبان الصحافي المصري محمد حربي، وفيما يلي نص الحوار مع مقدمته والأسئلة والأجوبة.
*****

-   جريدة الوطن القطرية(القاهرة)
أوجّه إلى سيادتكم باقة أسئلة متداخلة ومتّصلة وأرجو الإجابة عليما بما تملكون من خبرة ومعرفة، فضلاً عن رؤية استشرافية للمستقبل، كما أرجو أن تسلطوا الضوء على المخاطر التي تهدد الأمة العربية ومستقبلها.
*****
 إلى أي مدى هناك علاقة بين مخططات تفتيت الدول العربية ؟  ما يجري في اليمن وليبيا وقبل ذلك في العراق وما يُراد له لسوريا، هل هي من بين أحلام " إسرائيل" الكبرى وفقاً لما جاء في وثيقة عوديد نيون؟ وهل في ذلك امتداد لـ " نظرية الفوضى الخلاقة" لكونداليزا رايس ؟ أين موقع "إسرائيل" من هذه المعادلة وتداخلاتها وذيولها؟

د. شعبان

   يمكنني القول أن الحداثة الجنينية انتكست  وتعثّرت في ثلاث دول لها منزلة كبيرة في العالم العربي، لا ينهض إلّا بنهوضها، وهي مصر وسوريا والعراق تلك التي شهدتها في مرحلة ما قبل الثورات والانقلابات العسكرية، حيث تعثرت مشاريع التنمية والإصلاح والدمقرطة ، وذلك لأسباب داخلية وأخرى خارجية، فالأولى سببها شحّ الحريات واحتكار العمل السياسي والنقابي وسياسات التسلّط وعدم الاعتراف بالتنوّع والإقرار بالتعدّدية وحق الاختلاف، ناهيك عن صعود العسكرتاريا والهجرة من الريف إلى المدينة والترييف الذي حصل لمدن وحواضر عريقة، الأمر الذي أدى إلى تغييرات سسيولوجية وسيكولوجية عميقة في مجتمعاتنا ، والثانية محاولات القوى الخارجية الاستعمارية فرض الاستتباع عليها والتحكم بمصائرها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وزاد الأمر بعد قيام " إسرائيل" وشنها عدوانات متكررة على الأمة العربية.
   وقد أدّت تلك السياسات إلى نكوص في مبادئ المواطنة الحاضنة للتنوّع وقادت إلى عوامل الاحتراب والنزاع الداخلي، وقد لعبت القوى الخارجية على هذا الوتر الحساس، باستغلال عوامل الضعف الداخلية، وكانت مشاريع التقسيم مروراً بالتفتيت والتجزئة تتجدّد مع تجدّد عوامل الافتراق والصراع الداخلية والعربية - العربية، لاسيّما وثمة خطوط حمراء تم وضعها لمنع أي تقارب بين سوريا والعراق، وبين مصر والسودان وبين الجزائر والمغرب وغيرها.
   برنارد لويس والتقسيم المنتظر
   ولعلّ من أبرز هذه المشاريع هو مشروع المؤرخ بر نارد لويس (1916-2018) الذي رسم خريطة العالم العربي مقسمة إلى 41 كياناً وسمي " مشروع تقسيم الشرق الأوسط" الذي بدا العمل عليه في العام 1979، كما ذهب هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق ومستشار الأمن القومي إلى القول في العام 1975 " علينا أن نقيم دويلة وراء كل بئر نفطي في العالم العربي"، لأنه يرى في التقسيم ومشاريع الدولة الأقوى بين دول تمثّل "أقليات" في الشرق الأوسط لتصبح " الدولة المدلّلة والمهيمنة" الأكثر تقدماً علمياً وتكنولوجياً وتمدناً في محيطها " المعادي" الذي سيضطر ليعترف لها بالتسيّد.
   وكشف إيغال آلون في العام 1982 عن الأهداف الاستعمارية الاستيطانية للعدوان "الإسرائيلي" في 5 يونيو (حزيران) 1967 الهادفة إلى تقسيم العالم العربي والتوسع على حسابه حين قال: واجبنا استيطان " اسرائيل" الكبرى... وأن من يشك في هذا يضع علامة استفهام حول " العقيدة الصهيونية" وقد بلور المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لاحقاً هذه الآراء باستراتيجيتهم حول الشرق الأوسط وعلى أساسها نفّذوا غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق العام 2003، حيث دمّروا الدولة العراقية وفتحوا الباب على مصراعيه لاندلاع الصراع الطائفي  وانفلات العنف واستشراء الإرهاب الذي لم يتوقف عند حدود العراق.
   وهكذا امتد الصراع إلى سوريا واليمن واستمر وجوده المعتّق في لبنان، بل تعدى ذلك إلى بعض دول الخليج ودول الإقليم مثل إيران وتركيا والباكستان وأفغانستان وفي شذرات منه إلى الهند، مثلما وصلت  بعض شظاياه إلى المغرب العربي، ولاسيّما حين وضعت ليبيا في المختبر الإمبريالي لمركّبات التقسيم، الأمر الذي أصبح تهديداً واضحاً وخطيراً للأمن العربي ولاستقرار مجمل دول الإقليم.
   خطة عوديد ينون: وثيقة كيفونيم
   أعود إلى الخطة التفصيلية لعوديد ينون Odid Yinon التي قدّمها إلى مؤتمر " قسم المعلومات/ الإعلام للمنظمة الصهيونية العالمية" والتي أطلق عليها "وثيقة كيفونيم"  وقد قام بترجمتها إلى اللغة العربية يهودي غير صهيوني، حيث تم تسريبها خلال العدوان "الإسرائيلي" على لبنان واحتلال العاصمة بيروت (حزيران/يونيو/1982). ويعود اسمها إلى اسم المجلة التي نشرتها وهي " مجلة كيفونيم" وتعني " اتجاهات " في عددها الصادر في فبراير/شباط/1982 تحت عنوان "استراتيجية إسرائيل للثمانينات"، والمجلة هي لسان حال المنظمة الصهيونية العالمية في القدس.
   لقد تجدّد الاهتمام بمخططات التقسيم بعد احتلال العراق وكانت معاهد الدراسات والأبحاث الغربية قد اشتغلت عليه عقوداً من الزمن، وللأسف فإن النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة أحياناً لم تدرك مخاطر النهج السياسي والاجتماعي الذي سارت عليه ولاسيّما بتشجيع عوامل الفرقة الداخلية، إضافة إلى سياسات التسلط وضعف المواطنة والشعور بالانتماء لهوية موحدة وهدر الحقوق والحريات، مما شجّع عوامل الاحتراب الديني والطائفي والإثني، خصوصاً في ظلّ غياب مبادئ المواطنة المتكافئة، وعدم المساواة واستمرار التمييز وضعف مبادئ الشراكة والمشاركة، وهي العناصر الأساسية للمواطنة الحيوية.
   والأمر يمتد إلى فلسطين أيضاً، فمنذ العام 2007 وغزّة محاصرة على نحو شامل ويستمر تغذية عوامل الاحتراب بين  حماس وفتح  ويشمل ذلك جميع مؤسسات السلطات الوطنية الفلسطينية وم.ت .ف، ومثل هذا الأمر كان في صلب وثيقة " كيفونيم " التي قررت أن الأردن " المملكة الأردنية الهاشمية " هي فلسطين الشرقية، وعلى الفلسطينيين أن يقيموا دولتهم فيها ولتحقيق ذلك لا بدّ من ترحيلهم إليها مع إعادة توزيع السكان المقصود بذلك المستوطنين (المستعمرين) في فلسطين المحتلة ليكونوا بأمن من المخاطر، وكان قانون الجنسية : الإسرائيلية" و" الدولة اليهودية النقية" التجسيد العملي لهذه الأفكار والتي تبلورت في العام 2018، وهي باختصار ليست سوى ترانسفير فلسطيني جديد،  لإخلاء فلسطين من بقايا أهلها الأصليين الذين يزيد عددهم حالياً عن 20% من السكان ليحلّ محلّهم مستوطنون يأتون من أصقاع الدنيا ليطردوا أصحابها الحقيقيين والتاريخيين ويحرموا من "حق العودة" وليمنعوا من رؤية " القدس" إلى الأبد، طالما قررت الكنيست وبدعم من واشنطن أنها " عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل".
   برج من ورق
   ويتلخص مشروع عوديد ينون في أن العالم العربي هو " برج من ورق" أقامته بريطانيا وفرنسا، وأسست كيانات على أساسه، وهي قضية مركزية اشتغلت عليها الحركة الصهيونية، لمنع قيام أي تقارب عربي- عربي وأي وحدة وطنية داخلية على مستوى كل بلد عربي، فضلاً عن التقدم بخطوات في مشروعهم الاستيطاني الاحتلالي التوسعي الذي تقرر في مؤتمر بال- بازل _سويسرا) 1897 لتأسيس الدولة اليهودية وفقاً لعرّاب الحركة الصهيونية وكتابه "دولة اليهود" ثيودور هيرتزل 1896، وكانت الخطوة الأولى على هذا الصعيد اتفاقية سايكس- بيكو لتقسيم البلاد العربية 1916 وبعدها الحصول وعد بلفور العام 1917 "بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين" ومن ثم قرارات مؤتمر سان ريمو 1920 بوضع العديد من البلدان العربية تحت الانتداب، حيث تم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني 1922، وهكذا أدخلت عصبة الأمم في صلب المشروع الصهيوني ومن بعدها الأمم المتحدة بإصدارها القرار رقم 181 لعام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين ، بمساندة الدول الكبرى واعترافها بالكيان الصهيوني عند قيامه في 15 مايو/أيار /1948.
   اليمن -  البئر العميقة
    وبخصوص اليمن فقد أحبط مشروع الوحدة الحاكمة بين الشطرين والذي ظلّ هدفاً للقوى الوطنية اليمنية في الشمال والجنوب حيث تحرر الأخير من ربقة الاستعمار البريطاني بانتصار ثورة ردفان العام 1967 بقيادة "الجبهة القومية" وهي تنظيم تمتد أصوله إلى حركة القوميين العرب، التي تحوّلت إلى تحالف واسع ضم ثلاث قوى أساسية هي: القوميون العرب،التشكيلات البعثية والتشكيلات الشيوعية واليسارية تحت اسم  " الحزب الاشتراكي اليمني" وقد تحققت الوحدة في العام 1990، ولكنها حسبما يبدو لم تكن على أسس متينة وديمقراطية، وكانت تجربتها في السنوات الأربع التي تلتها هشة وضعيفة، وبدلاً من زيادة لحمة التقارب وإزالة العقبات التي منعت ذلك، فإن عوامل الاختلاف والاحتقان كانت مثل النار تحت الرماد، وسرعان ما ارتفعت وتيرة الصراع وزادت حدته، لاسيّما في ظلّ سياسات التمييز التي اتبعها الحكم تدريجياً وأدى ذلك إلى تركيز السلطات وتعتّق موقع الرئاسة دون منازع أو تداولية أو تناوبية، ناهيك عن سوء الأوضاع وغياب الحد الأدنى من العدالة والحقوق.
   وقاد ذلك إلى حراك شعبي اضطر فيه الرئيس علي عبدالله صالح وبضغط سعودي إلى التنازل عن الحكم ، لكن ذلك لم يطفئ نار الصراع الذي زاد استفحالاً فسرعان ما اندلع القتال بتشجيع عوامل إقليمية جديدة دخلت على الخط مثل دعم إيران للقوى التي سيطرت على السلطة " أنصار الله - الحوثيون" مقابل دعم دول الخليج للقوى الأخرى المخلوعة التي سميّ "بالشرعية"، واشتعلت عوامل الاحترب داخلياً وليس بمعزل عن التداخلات الدولية والإقليمية سواء قبيل "عاصفة الحزم" أو بُعيدها، والحرب ما تزال مستمرة منذ نحو 5 سنوات (منذ العام 2015) واليمن بئر عميقة لا يمكن إدراك ومعرفة كنهها وعمقها ومفاجآتها . واليوم توزعت إلى مناطق نفوذ، وزاد الأمر من المشكلة الجنوبية التي تداخلت فيها عوامل الصراع الإقليمي حتى بين الحلفاء، ناهيك عن مطالبها الخاصة والمشروعة.
   وبغض النظر عن ادعاءات كل فريق، فلا بدّ من الركون إلى حلّ سلمي وبالمفاوضات، فحوار سنة أفضل من ساعة حرب، وبالحوار والتفاهم ووضع المصالح الوطنية العليا يمكن التوصل إلى حلول بمساعدة الأمم المتحدة وقراراتها وبدعم من المجتمع الدولي ، لأن بقاء الكارثة مستمرة يعني تدمير هذا البلد العربي العريق بتراثه وحضاراته وامتداداته العربية، خصوصاً وأن تفشي وباء كورونا وتدهور الأوضاع الصحية والمعاشية بسبب الحصار ينذر بكارثة إنسانية حقيقية وهي كارثة مهددة بالانفجار والتمدد خارج الحدود.
   ليبيا والتقسيم الفعلي
    وأعود إلى ليبيا، فقد حكمتها قيادة فردية خارج دائرة التصنيف العلمي أحياناً حسب مواصفات الباحث في العلوم القانونية والسياسية، لمدة زادت على 41 عاماً، وحاول نظام القذافي قطع خط التطور التدرجي الذي كانت عليه ليبيا قبل الفاتح من سبتمبر/أيلول/1969 واختفت مظاهر الدولة بالتدرج أو بقت هيكلياتها قائمة ، لكنها فارغة وخاوية، وحلّت محلها الأوامرية التسلطية والارتياحات الشخصية والانقلابات المزاجية وغياب المؤسسات بحجة "الشرعية الثورية" حيث تم ازدراء «الشرعية الدستورية» لتأسيس مشروعية جديدة وفقاً لسياقات الكتاب الأخضر.
   وساهم الحراك الشعبي الذي انطلق من بنغازي في إحداث تصدّع في المؤسسة الحاكمة وأدى ذلك إلى الإطاحة بها، وذلك عبر تدخلات وقصف من جانب دول حلف الأطلسي، لتدخل ليبيا مرحلة الفوضى والتصدّع والانحلال، حيث برزت النزعات التقسيمية وأعيد مشاريع قيل أن الزمن عفا عليها ومنها أعني المشروع الثلاثي الانشطاري أو التفتيتي الذي كان أساساً مشروعاً فيدرالياً في العهد الملكي مع اختلاف أغراض ذلك العهد عن العهد ما بعد الإطاحة بالقذافي.
   واليوم وبعد معاناة استمرت نحو 9 سنوات ترى البلاد في حالة حرب بتداخل إقليمي تركي وعربي متنوّع الأغراض، وكل اتخذ موقعه ومبرراته في دعم هذا الفريق أو ذاك وفي تمويله وتسليحه والدفاع عنه، وليس بعيداً عن ذلك المشاريع القديمة الإيطالية والأمريكية والفرنسية المتداخلة مع العوامل الإقليمية، وحتى اليوم فليبيا تعاني من التشظي وتعطيل التنمية  وغياب الاستقرار وتبديد المال العام ونهب النفط وتسخير كل شيء من جانب كل طرف للقضاء على الطرف الآخر.
   وإذا كانت ثمة عوامل خارجية مساعدة على استزراع الخلافات وتغذية الخصومات وإثارة النعرات وتشجيع الاستقطابات ، فإن خدر النخبة السياسية والفكرية والثقافية وعدم شعورها بالمسؤولية الوطنية إزاء المخاطر التي قادتها مصالحها ونزاعاتها إلى استمرار هذا النزيف والذي لو بقي لحين، فإنه سيصبح واقعاً وهكذا تسهم هي من حيث تريد أو لا تريد وبوعي أو عدم وعي ولكن بخمول للضمير في تشطير ليبيا بالخرائط القائمة على الدم والتي ستحسم بعضها ساحات القتال.
   سوريا: التفاحة الأثيرة
   وتبقى سوريا جرحاً فاغراً، وبغض النظر عن التقاطعات السياسية والمواقف المسبقة، فإنني أتحدث عن العودة إلى " منطقة الضمير" وهي منطقة واضحة في الحق وطاهرة في الهدف، خصوصاً حين يختلط الحق بالباطل والأخضر باليابس والأبيض بالأسود والسياسة بالقانون والمصالح بالقيم، وكي لا نضيع في التفاصيل الصغيرة والتناحر والتكاسب، لا بدّ من التذكير إلى أن هذا البلد المتمدن والمتحضر والذي رفد الحضارة البشرية منذ آلاف السنين ، يعاني من حصار دولي جائر وهو جزء من حرب إبادة ناعمة وطويلة الأمد، مع أن الحرب الخشنة التمزيقية والمتداخلة إقليمية ودولياً ما تزال مستمرة وكان الكونغرس الأمريكي قد اقترح قانوناً في العام 2016 وعُرف باسم " قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" ونصّ على فرض عقوبات اقتصادية ومالية وعلمية وتكنولوجية على سوريا. وصوّت عليه 86 من مجلس الشيوخ الأمريكي مقابل 8 رفضوا، علماً بأنه يسيطر عليه الجمهوريون، وقد وقع الرئيس  دونالد ترامب على القانون الذي يبدو أنه سيدخل حيّز التنفيذ في يونيو/حزيران/ القادم 2020 وإذا ما طبقت هذه العقوبات بالكامل ستكون أقرب إلى الحرب الإبادية التي شهدها العراق منذ العام 1991 ولغاية العام 2003 حيث جرى تمزيق نسيجه الاجتماعي ووحدته الكيانية وإضعاف قدرته على المواجهة ، فسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان.
   وإذا كانت واشنطن قد استثنت روسياً سابقاً من عقوباتها، وركّزت على إيران، فإن هذا القانون سيضع المؤسسات الروسية عرضة للعقوبات ابتداء من الجيش الروسي إلى صناعة الأسلحة وصناعة الطاقة.
   وعلى من يريد لسوريا الخير بغض النظر عن توجهاته وخلفياته السياسية ورأيه بالنظام أو معارضيه، لا بدّ أن يضع التجربة العراقية نصب عينيه ، تلك التي حوّلت العراق إلى معسكر لاجئين، فضلاً عن لاجئين في أصقاع الدنيا بعد حروب ودمار وحصار ثم احتلال.
   ولا بدّ من العودة إلى طاولة الحوار والبحث عن سبل وقف نزيف ومعاناة الشعب السوري الذي تحمل ما لا يُحتمل، سواء عبر جنيف أو سوتشي  لتهيئة سبل انتقال سلمي لعملية سياسية تدرجية تأخذ بنظر الاعتبار الهوية السورية العامة الوطنية والموحدة والشاملة، مع احترام الخصوصيات القومية والدينية ومراعاة ذلك دستورياً والإقرار بحقوقها السياسية والإدارية وبما يتناسب مع شرعة حقوق الإنسان الدولية، ومثل هذا الأمر يمكن أن تكون على قاعدته بناء أسس ثقة جديدة ووطيدة وبضمانات دولية ووفقاً للقرارات الدولية التي توافق عليها الأطراف المختلفة.
   إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا وانهيار سعر الليرة أمام الدولار يكمن في جزء كبير منها في تأثيرات الحصار الأمريكي والغربي والإقليمي الجائر، فضلاً عن مخلفات العنف والإرهاب الذي كان نتاج عملية تعصب ووليده التطرّف والذي ساهم في تمزيق النسيج السوري وإثارة النزعات الدينية والطائفية والمذهبية، تلك التي خطط لها برنارد لويس وعوديد في مشروعيهما لتقسيم سوريا إلى 6 دويلات: كيانية سنية في دمشق وكيانية سنية أخرى في حلب، وكيانية في الساحل والجبل علوية وكيانية كردية في القامشلي وعفرين، إضافة إلى كيانية درزية تتصل بالكيانية الدرزية اللبنانية، إضافة إلى كيانية حاجزة بين سوريا والعراق: تضم دير الزور وأجزاء من محافظة الأنبار ليكتمل مشروع تعويم الدولة وتحويلها إلى كيانات متناحرة وضعيفة، ولاسيّما بغياب جيشها "الجائزة الكبرى" التي ظلّت إسرائيل تحلم بها.
   وإذا كانت الأيادي الخارجية قوية ومؤثرة في ما يحصل في عالمنا العربي، فإن العوامل الداخلية وضيق الصدر وقصر النفس وضبابية الرؤية وتقديم المصالح الذاتية الأنانية على مصلحة الوطن والأمة، هي عوامل لا يقل تأثيرها عن العوامل الخارجية، إن لم يزد، علماً بأن التغلغل الخارجي ومحاولة زرع الفتن وتشجيع عوامل الانقسام ما كان له أن يحدث لولا النفوس الضعيفة والمصالح الضيقة وضعف المواطنة والانكفاء على تغليب الهويّات الفرعية على حساب الهويّة الجامعة التي عليها احترام جميع الهويّات وتلبية حقوقها على أساس المساواة  ومبادئ الشراكة والمشاركة.


173
سولجنيتسين وهلسنكي والأيديولوجيا
عبد الحسين شعبان
مفهوم «حقوق الإنسان» أصبح له رنين عالٍ، ومسألة حساسة تحاول كل دولة أو جماعة أن تُظهر مدى الالتزام بها.

ترافق نفي المنشق السوفييتي ألكسندر سولجنيتسين الكاتب والروائي والمسرحي والمؤرخ عام 1974، مع انعقاد مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي عام 1975، خصوصاً باحتدام الجدل حول مفهوم حقوق الإنسان في إطار الصراع المتفاقم بين الشرق الاشتراكي، والغرب الرأسمالي.
وقد استخدم الغرب كل ما لديه من طاقات وإمكانات مادية ومعنوية، في صراعه مع الشرق لإظهار جانبه المظلم، لاسيما ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وهو كلام حق يُراد به باطل، في ظل حملة دعائية كبرى استخدمت فيها الحرب النفسية والقوة الناعمة، وأساليب التضليل والخداع.
وكان لرواية أرخبيل جولاج دور كبير في تلك الحملة التي كشفت على نحو مثير ومؤلم ما كان يجري في معسكرات الاعتقال والأعمال القسرية للسجناء، وكان سولجنيتسين نفسه قد قضى فيها 8 سنوات، وقد أطلق سراحه إثر خطاب ألقاه الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف في 1956 ندد فيه بالمجازر التي ارتُكبت في الحقبة الستالينية، علماً بأن سولجنيتسين مُنِح جائزة نوبل للآداب عام 1970.
ويعتبر مؤتمر هلسنكي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، محطة مهمة للصراع الأيديولوجي، الذي اكتسب سحراً خاصاً في ما سُمي سياسة الوفاق و«نظرية بناء الجسور» التي عبر عنها الرئيس جونسون بقوله: «إنها جسور ستعبرها بشكل دائم كميات كبيرة من البضائع والأفكار والزائرين والسياح»، فقد أدرك الغرب نقاط ضعف الاتحاد السوفييتي على الرغم من جبروته وقدراته الحربية، بسبب شح الحريات ونظامه الشمولي، وقد سبق لجون بول سارتر أن قال عن الدول الاشتراكية: «إنها قلاع متينة هكذا تبدو من الخارج، لكنها هشة وخاوية من الداخل».
وإذا كان الاختلاف بين الشرق والغرب حول مفهوم حقوق الإنسان ناجماً عن خلفية فلسفية، فإن الغرب نجح في ما وفره من حزمة حقوق مدنية وسياسية في أوطانه، لشن هجوم ضد المنظومة الاشتراكية التي انشغلت بالحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكنه عزل الكتلة الاشتراكية عن العالم في إطار ما سمي ب«الستار الحديدي»، وهو ما حاول الغرب توظيفه عبر المنشق سولجنيتسين الذي أسهم في تلك الحملة من داخل روسيا ومن خارجها فيما بعد، في ظرف بدأت فيه رقعة الحقوق والحريات تتسع، والمطالبة بها تكبر وتتعاظم، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي الجديد الذي امتد من عام 1947 لغاية 1989.
جدير بالذكر أن مفهوم «حقوق الإنسان» أصبح ذا رنين عالٍ، ومسألة حساسة تحاول كل دولة أو جماعة أن تظهر مدى الالتزام بها، والأمر لا يقتصر على الشرق؛ بل إن الغرب ذاته يعاني انتهاكات صارخة وسافرة للحقوق والحريات، ويمارس أنواعاً مختلفة من وسائل التدخل في حق أمم وشعوب أخرى؛ بل ويحيك المؤامرات ضدها.
وبالعودة إلى مفهوم الحقوق فيمكن القول إنها بدأت تتطور منذ قرنين ونيف من الزمن، وقد لعبت الثورة الفرنسية 1789 دوراً كبيراً في تعزيزه، لاسيما «بإعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي يعتبر وثيقة أساسية لتأكيد الحقوق الفردية والجماعية، وذلك تأثراً بالفكر التنويري ونظريات الحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي التي جاء بها جون لوك، وجان جاك روسو، وفولتير، ومونتسكيو، وقد نصت المادة 4 من الإعلان أن «كل الناس أحرار، والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً، وبناء عليه، لا حد لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني، ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه».
ولكن مفهوم حقوق الإنسان لم يبلغ أوجه إلا بعد نحو قرنين من الزمن، حيث تجلى في إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
وإذا كان الغرب قد أثار ضجة كبرى بسبب طرد المنشق سولجنيتسين عام 1974، بعد انتقاله للعيش في سويسرا، ثم للولايات المتحدة، فإنه نُسي تماماً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وعاش في عزلة كبيرة واضطر للعودة إلى موسكو عام 1994، وعلى الرغم من أن الرئيس فلاديمير بوتين منحه جائزة الدولة للغة، فإنه تم إهماله في روسيا أيضاً، حتى إن وفاته عام 2008 لم تُثر أي اهتمام يذكر، لا في الغرب ولا في بلاده، فالصراع لم يعد أيديولوجياً بين موسكو وواشنطن، بقدر ما هو صراع مصالح ونفوذ في إطار منظومة الاستغلال العالمي.
drhussainshaban21@gmail.com



174
الدهشة الأولى والرعشة الأخيرة
إلى وجدان نعمان ماهر الكنعاني
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
يمضي الإنسان حياته كلّها في البحث عن الآخر، لأنه لا يكون ولا يتبيّن إلّا من خلاله والعالم الذي يحيط به، ولعلّ ذلك إحساساً فطرياً، ولكنه بفعل الحاجة والاعتياد يتحوّل إلى وعي ذاتي، لأن الوحدة لوعة وقصاص.
تذكّرت ذلك في ظل مشاعر متناقضة، فأنا أقضي فترة حجر صحي لا يعلم إلّا الله إلى متى ستطول، وصادف فيها يوم عيد ميلادي، وهو يوم إطلالة الربيع من كل عام حيث يبدأ به. إنه يوم 21 آذار (مارس)، ورغم أنني تلقيت عدداً من الاتصالات والرسائل من الأهل والصديقات والأصدقاء، ومعها باقات ورود عبر الانترنيت، أي على الكومبيوتر، فإنني كنت أشعر بحزن مضاعف، فقبل أيام جاءني خبر رحيل الصديقة وجدان المهندسة المعمارية المبدعة والمثقفة بامتياز والفنانة بجدارة، وكنت قد اعتدت أن أتلقى منها كل عام بطاقة تهنئة خاصة ولها طعم خاص.وقبل عامين (2018) قضت عدة أسابيع في بيروت واحتفلنا بعيد الربيع كما تسمّيه، وهو "عيد نوروز" كما يطلق عليه الكرد والفرس، وفي العهد الملكي كنّا نسمّيه "عيد الشجرة".
*****
" الولادة والموت تجربتان في الوحدة" كما يقول الشاعر المكسيكي أكتوفيو باث الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 1990، فنحن نولد مستوحدين ونموت مستوحدين... ولا شيء يفوق الولادة ... خطورة .. سوى الوقوع الآخر في غياهب المجهول، أي الموت..."
تمضي الحياة بين الولادة والموت فحتى طريق الزهور والعطر قد يوصل إلى الوحشة، فهل الموت يعني العودة إلى هناك.. إلى حياة ما قبل الولادة أم تراه حياة ثانية بعد الحياة الأولى؟ وهل في الحياة الثانية يتوقف التناقض ويُكفّ السكون مثلما تكف الحركة ويتوقّف الليل والنهار والزوال وكيف يتم تبادل الموت والولادة؟ وهل الموت ولادة جديدة ؟ أم أنه نوع من الامتناع عن الكينونة والوجود؟ وهل ذلك إحساس بالزمن وبثقل الأيام أم تفكّر وعودة إلى العقل؟ فتلك حتى الآن من الحتميات والمطلقات التي لا سبيل لردّها.
الولادة والموت يمشيان إلى جوارنا، ويتلاصقان مع بيوتنا وجيراننا، يفاجئانا بأصدقائنا وأحبتنا في الدهشة الأولى والرعشة الأولى، هكذا نصلي للقادمين مثلما نصلّي للغائبين ونقرأ مع محمود درويش " سورة العابد" فلا نستطيع أن نشف من الذاكرة التي تظلّ محفورة كوشم اليد... كنت دائماً أريد أن أصرخ قف أيها  الزمن ما أجملك؟ لكن الزمن يمضي دون اكتراث، مخاتلاً وماكراً.
لا يستفيق الإنسان مما يشغله إلّا تحت هول " الصدمة المباشرة"، حين يختطف القدر عزيزة أو عزيز أو ترحل غالية أو غالي، فترانا نهرع لارتداء ثوب "الحكمة" و"رداء" الواقع، لنتخلى عن "المكابرة" و"الحماقة" ولكن سرعان ما ننسى مفارقات الحياة والموت، فنسخر منهما.
مع وجدان وحين اشتدّ عليها المرض كنت أردّد عن بُعدٍ مع نفسي ما كان يقوله المتنبي، لكي لا يزيد ألمها، على الرغم من عشقها للحياة.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً
            وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
فالكائن الحي غير قابل على تغيير نواميس الحياة، "وكل نفس ذائقة الموت ... وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور" كما ورد في القرآن الكريم (سورة آل عمران – الاية 185) وفناء الإنسان أو زواله " ضرورة لكل الكائنات الحيّة"، وتلك حكمة الزمن الخرساء.
حين تمتلئ قلوبنا بالحب يندغم الخلق أو ينصهر الكون ليكون أكثر كمالاً أو اكتمالاً في العلاقة مع الاخر وهذا الآخر في الغالب انجذاب دائم بين المرأة بالنسبة للرجل أو الرجل بالنسبة للمرأة : نقيضها ومكمّلها والمختلف بشكل عام ، أي المتباين أو المتمايز ديناً أو عرقاً أو لوناً أو جنساً أو انحداراً أو أصلاً.
ولعلّ ذلك لا يمكن تشيئته أو تهميشه،فهو سمة إنسانية وقاعدة لا غنى عنها وإن كان ثمة استثناءات، فالحب انتقاء واختيار حر لقدرنا واكتشاف مباغت للجزء الأكثر سرّية في كينونتنا، وحسب اندريه بريتون الشاعر والرسام والروائي والطبيب النفسي والفيلسوف الفرنسي في كتابه " الحب المجنون". ثمة عاملين يعيقان ذلك  وهما: النهي الاجتماعي والتعاليم الدينية .وأندريه بريتون هو صاحب المدرسة السوريالية "ما وراء الواقع" و" البيان السوريالي" حيث دعا إلى "إطلاق حرية التعبير" و"إطلاق مكنونات اللّاوعي" وكان قد تأثر بالفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ ولاسيّما بكتابه " جوهر المسيحية"، أي (نقدها) مثل ماركس وإنجلز وفاغنر ونيتشه، وقد اختلف بريتون مع الكاتب السوفييتي إيليا اهرنبرغ في "المؤتمر العالمي للمثقفين من أجل السلام" وهو المؤتمر الذي انبثقت عنه لجنة مقرها باريس وقد سبق لي أن نوّهت في أكثر من مناسبة أن الجواهري حضر هذا المؤتمر حينها، وذلك قبل تأسيس مجلس السلم العالمي 1950.
وجواباً على بريتون نتساءل هل: الحب مخالفة للسائد وللأعراف والتقاليد والقوانين والدين، في حين كلّها تدعو إلى الحب والسلام والتسامح، لكن الواقع شيء آخر، حين يُنظر إلى الحب باعتباره انقلاباً على المألوف وقطيعة مع الاستكانة ومدعاة للمعصية وخروجاً على الطراز القائم. وهو الأمر الذي يلقى معارضة واختلافاً، لاسيّما في المجتمعات الأكثر تخلّفاً تحت حجج عديدة ومزاعم شتى.
دعونا نتأمل معنى الحب وجوهره، فهو اكتفاء ذاتي وهو رديف للحق والشعر والجمال والعدل والتسامح والسلام وتطهّر روحي وعطاء عاطفي لا محدود، إنه فعل مقاومة للسائد والروتيني والنمطي، وهو لا يشرّع بقانون ولا يلغى، وإنّما يعبّر عن جدلية الوحدة والتواصل والتفاعل وإعادة التكوين، فالآخر هو أنت ، وإن كان غيرك جسمانياً حسب ابن عربي ووفقاً لجبران خليل جبران: من تحب ليس نصفك الآخر هو أنت كلّك في مكان آخر في نفس الوقت. وبقدر ما تكون الجدلية قطيعة مع السائد ، فهي تواصل وخلق جديد له، بالقصيدة والسيرة والسردية والميثولوجيا والتضحية وقبل كل شيء بالحب.
الحب ضوء يقذفه الخالق في جوفك فيأتي ليبدد الظلمة ويشيع البهجة، إنه يتغلغل فيك وتسمع صوته بكل عذوبة ورقة وألم أحياناً، وهكذا تشعر بالخشوع وكأنك تصلّي، ولعلك تصلّي فعلاً، فالصلاة حاضرة يومياً بالحب، وبدونه تكون مجرد حركات طقسية غير ذا قيمة.
ولا يمكن للمحبّ أن يمتلك في لحظة معينة الكفاية الذاتية، لكن المحبوب يبقى باعثه وضرورته ورعشة الذكرى لديه. إنه انعكاس ضوء وبزوغ فجر ودعاء مؤمن . وهو ضد النفاق والسأم. وهو قلق وتوتّر وتطلّع نحو المطلق، ولا يكتمل الإنسان ليصبح إنساناً بدونه وتجدّده وقانونه الأساسي عدم الارتواء، فكلما ازددت منه يصرخ هل من مزيد؟ مثل الثقافة والمعرفة، إنه ممارسة بالعين والفم والأنف واللسان والأذن واليدين وقبل ذلك بالإحساس؛ وهو دائماً إلى صف الشجاعة والجنون، فما قيمة الحياة دون شيء منهما؟ وما قيمة الحياة دون الحب بالطبع؟
نعيش وراء الزمن بلا أعمار وقد لا نعي عمرنا الحقيقي إلّا في أوقات استثنائية، ولم أشعر أنني أصبحت كهلاً وشيخاً إلّا حين فارقت والدتي نجاة شعبان الحياة العام 2007، وكنت قد افترقت عنها لأكثر من 20 عاماً قهرياً، ويوم تمكّنت من "استعادتها" فرّت من بين يدّي أو من بين أصابعي، اختفت، طارت، ذابت، حين رأيتها مثل شعاع مرّ بسرعة خاطفة مثل الضوء كأنه شهاب، ويوم أنزلت إلى قبرها تصوّرتها حمامة أليفة ترقد جوار الجواهري ومصطفى جمال الدين في مقبرة الغرباء بالسيدة زينب في دمشق.
ردّدت يومها مع غوته
"على جميع القمم
إنه الصمت
على قمم جميع الأشجار
بالكاد تشعر
بنسمة،
العصافير الصغيرة صمتت في الغابة
صبراً، فلن ترتاح أنت أيضاً
لن ترتاح"
واستعدت مع نفسي قصيدة الجواهري المهداة إلى صلاح خالص 1984 والتي نشرتها في كتاب " الجواهري في العيون من أشعاره" العام 1986، دمشق، (دار طلاس) والذي قدّم له الجواهري حيث يقول فيها:
 فالمــوت يــدرك كــل ذي رمـــــق
                                          كالنـــوم  يــدرك كـــل مـن نعســــا
جهـــمٌ  يقيــم علــى  مدراجنـــــا
                                         و علــى صــدى أنفاســــنا حرســـــا
 تعيــا ازاهيـــر الربـــى  إذا  نطقـــت
                                       بعبيـــر بســــمتـها  إذا  عبســــــا   
نعم إنه الذئب الذي ترصّدني، وأحياناً لا يفترسك هذا الذئب أنت ولكنه يصيبك بالصميم مستبداً بلا رحمة أو مروءة، غشوماً قاسياً متوحشاً يتبعنا كظلنا ويستمر لغزه المحيّر غير قابل للحل منذ الأزل " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" (سورة الرحمن، الاية 27) .
يقول الشريف الرضي:
ما أخطأتك النائبات / إذا أصابت من تحبّ.
الحب شيء يخفق في الصدر تعيشه بكل شيء وقد يدفعك أحياناً للقيام بأشياء تبدو غير عقلانية، لأن قلب الإنسان هو ما تحكّم بسلوكه وليس العقل وحده، وبين القلب والعقل ثمة توافق وتعارض في بعض الأحيان.
وقد وجدت في رواية خريف البطريك شبهاً بكتاب ماركس " الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت" الذي كتبه في العام 1852 بعد ثورات العام 1848 وهو أشبه بقصيدة نثرية طويلة وكنت قد تخيّلت أن رواية خريف البطريك هي وجه آخر لرواية "السيد الرئيس" للروائي الغواتيمالي ميشيل (ميغيل) أستورياس التي كتبها العام 1946 وكأنها كتبت خصيصاً للعالم العربي.
ولعلّ غلاظ القلوب عقولهم في مكان آخر، فحسب ماركيز في "خريف البطريك": السلطة تعويض عن الحب، لكن الحب على العكس من ذلك، إنه تعويض عن جميع الحرمانات والعذابات، لأن الحب والتسلّط لا يتعايشان، والسلطة والحب يبدوان كنقيضين لا ينسجمان. وإذا كان ماركيز قد اشتهر في عالمنا العربي بروايته " مئة عام من العزلة" التي قال عنها الشاعر التشيلي بابلو نيرودا أنها أفضل ما كُتب بالاسبانية بعد رواية دون كيشوت لـ "سيرفانتس"، لكن رواية خريف البطريك كُتبت بموسيقى عالية وبلغة شعرية جذابة ومدهشة وأجدها من أهم أعمال ماركيز حتى إنه كان يفضلها على جميع أعماله الأخرى وإن كانت أعمال الكاتب وكتاباته  مثل أبنائه، وقد حصل ماركيز على جائزة نوبل العام 1982 على روايته " مئة عام من العزلة".
هناك فرق بين الحب والعلاقة والحب والعاطفة، فالحب شعلة تشتعل في روح الإنسان وتتوقّد بفعل يد سماوية وهو فضيلة عليا، يملؤها الشعور بالتسامي لدرجة تصبح معها تلك العاطفة ، قيمة بحد ذاتها، أنها تتويج للقيم الإنسانية العليا.
ونستحضر هنا كيف كتبت العاشقة "بيتينا" إلى غوته  55 رسالة ورد فيها 50 مرّة كلمة "روح" و119 مرّة كلمة "قلب"، ومثل الصوفيين : الوله والعشق يجسّدان مرحلة الكينونة الأولى، إذ لا يمكن تعليم درس العشق برسائل الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، لأنه ليست للعشق أبجدية وكل سعي إلى بيان العشق وإيضاحه وتفسيره لا طائل من ورائه حسب جلال الدين الرومي.
ومن يمتلك سلطة الجمال فإن روحه نظيفة وفمه معطراً وقلبه نقياً وعينه مفتوحة على الحق ولا بد أن يكون غيابه حارقاً ، وأقول في الختام  وجدان اشتياقاً فقد أعطيتِ معنىً أكثر سمواً للصداقة والقيم والنبل الإنساني والطهارة.




175

قفْ على براها وجب أرباضها
         وسلْ المصطاف والمرتبعا
أعلى الحسن ازدهاء وقعتْ
         أم عليها الحسن زهواً وقعا

وسل الخلاق هل في وسعه
          فوق ما أبدعه أن يبدعا

مرّت الأسراب تترى ..مقطع
         من نشيد الصيف يتلو المقطعا

يا لصيفٍ ممتعٍ لو لم يكنْ
         غيره كان الفصول الأربعا
ممطرٌ آنا.. وريان الضحى
         مزهرٌ آنا.. وذاوٍ سرِعا

   وفي مقهى سلوفانسكي دوم علقت فاتنة من اللواتي يعشقهن الجواهري بالشاعر مظفر النواب.. وهنا انتبه الجواهري للحكاية فسأل النواب.. بأي لغة تتكلّم معها؟ فأجاب النواب: بفرشاة الرسم، وبالمناسبة فالنواب رسّام وله إذن موسيقية مثلما تحمل مفردته نغماً، وبعد يومين اقتحم الجواهري خلوة النواب مداعباً إياه بمملّحة شهيرة كانت بعنوان "فاتنةً ورسّام" مهداة إلى "محمد المصباح" الذي عُرف في الحال " مظفر النواب"
وقال " محمد المصباح " يوماً
         لفاتنة من الغيد الحسان
من " الجيك" لست أدري
         بهن المحصّنات من الزواني
هلّمي أرسمنك غداً.. فقالت
         غداة غد وفي المقهى الفلاني
فقال بمرسمي حيث استتمت
         من الرسم المعاني والمباني
فقالت لا ومن أعطاك ذهناً
         وعلّمك التفنّن في البيان
أداة الرسم تحملها سلاحاً...
         بين فخذيك مشحون السنان
ولكن كل ما تبغيه منّي
         خفوت الضوء في ضنك المكان

   وفي دمشق التقى الجواهري النواب لأكثر من مرّة، لكن لقاءً مميّزاً كان بينهما قد حصل في طرابلس (ليبيا) بعد سنوات طويلة (1988) من لقاء براغ المميّز، وظلّت العلاقة حميمة وتمتاز بالمودّة والإعجاب وفي كتابي " الجواهري جدل الشعر والحياة"،  كنت قد سألت الجواهري عن إبداع عدد من الشعراء العراقيين والعرب بمن فيهم مظفر النوّاب، فقال مقيّماً إبداع النواب بما يفيد أنه يعتبر من أبرز الشعراء الشعبيين المجدّدين، ناهيك عن إعجابه بنضاليته وشجاعته، فضلاً عن روحه الإنسانية ونبل أخلاقه، وظلّت العلاقة الحميمة قائمة على الرغم من شحّ اللقاءات لاختلاف حياة المبدعين وطريقة تعبير كل منهما عن ذلك في حياتهما الخاصة.   
*****
   وإذا كانت لهجة التعبير  الشعرية لدى مظفر النواب جنوبية، إلّا أنه شاعر بغدادي المولد والجذور والبيئة والثقافة وهو لم يسكن جنوب العراق ولم يتعرّف على لهجة أهله إلّا في أواسط الخمسينات ، حين ذهب إلى زيارة الأهوار في سفرة دامت لأسبوع واحد، وبمرافقة صلاح خالص وابراهيم كبّة ويوسف العاني فأسرته المنطقة وأهلها وأغانيها وطبيعتها ولهجتها، فقد كانت زيارته الأولى إلى العمارة عن طريق الكحلاء حيث عشائر "ألبو محمد" و"الشموس"، سبباً في تعلّقه باللهجة الجنوبية كما أشار في أكثر من مناسبة وزاد أنه وقع في عشقها، وفي حديث له مع كاظم غيلان (دوّنه في كتابه عن مظفر النواب - الظاهرة الاستثنائية ، دار مكتبة عدنان ، بغداد، 2015) عن كيفية تمكّنه من اللهجة يقول:
   "إنها مثل امرأة منحتني هي نفسها ومكنتني منها... المرأة لا تستطيع أن تعشقك دون أن تمكّنك منها.. العامية سلسة مطواعة لا تستعصي على النحت والاشتقاق منها.. الصورة عنها أجمل وأكثر وضوحاً..."
   ويقول مظفر النواب أنهم اكتشفوا غناء غير الذي  يغنّى بالإذاعة على حد تعبير حسين الهنداوي ، فلأول مرّة يسمع ويطرب للمحمداوي الذي كان يجيده جويسم، حتى أنه ظل في سهراته الخاصة يؤديه بطريقة مؤثرة .
   ومن أغاني الهور شعر بالغنى الروحي لعالم جديد لم يألفه من قبل، بأبعاده  وأحزانه وأشجانه ومعاناته وأفراحه، وهكذا ميّز "عامية المدينة " عن " عامية الأهوار" التي انحاز إليها لما تمتلكه من صور ورهافة وفضاء وألوان. حيث يقول " الهور ليس مجرد مكان، إنما هو زمن وروح أيضاً، وهكذا أخذ الصوت يتفجّر في داخله من منولوج جوّاني إلى وسيلة تعبير برّانية، وكأنه الموازي الخارجي للقصب والبردي والطيور والماء والمجاذيف والفضاء الواسع والغناء الحميم. وكانت رحلته الثانية في العام 1958 حيث نظّم اتحاد الأدباء عدة زيارات إلى الأهوار وقام هو بتغطية صحفية عنها بما تحمل من جمال سومري وقرمطي .
   لقد وقع النواب في عشق اللهجة العامية الجنوبية من أول نظرة كما يقال، فبعد أسبوع من المعايشة قرّر الاقتران بها ، خصوصاً وكان قد تعلّق بها، فالأهوار هذا الفضاء المائي الشاسع يعطيه مثل هذه الصور المائية المتحرّكة المزدانة بالطيور بأنواعها والأسماك والحيوانات المتعددة والمدى اللّامحدود، وقد وجد في ذلك ضالته وخميرة أولية لإبداعه، لاسيّما والبيئة تمثّل رؤية تشكيلية متكاملة بذائقتها الجمالية ومفردات لغتها كما يقول محمد مبارك، وبذلك أحدث انعطافة موازية لما في الشعر الشعبي لما أحدثه رواد الحداثة الشعرية في الشعر الفصيح (محمد مبارك- الوعي الشعري، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2003) وما زاد في عشق مظفر اللكنة الجنوبية ولهجتها الجذابة  هو اللقاء بعدد من المغنين مثل "غرير" و"جوسيم" و"سيد فالح" حيث اكتشف الثراء في الأصوات والأجواء والعوالم الجميلة. والهور بالنسبة لمظفر النواب " جسد  ولغة من ماء" بكل ما فيها من أسرار وخبايا وجمال، إنها روح وثقافة مبللّة بالماء، ولعلّ الماء يعني الحياة و"جعلنا من الماء كل شيء حي"  كما  في القرآن (سورة الأنبياء ، الآية 30)
*****
   وإذا كان مظفر النواب قد أحدث مثل هذا التأثير والامتداد على صعيد العالم العربي من أقصاه حتى أقصاه ومن المحيط إلى الخليج كما يقال، لاسيّما بعد اغترابه منذ العام 1969، إلّا أنه لم يلق مثل هذا من جانب اليسار العراقي الرسمي وهو الذي يمثل بيئته الأولى ومنطلقه الأول، بل كان التعامل معه سلبياً ، سواء بالإهمال من جهة  أو بمحاولة الانتقاص منه من جهة ثانية، على الصعيدين الشخصي والإبداعي، فتارة بزعم نضوب وسيلته الإبداعية بعد أن تحوّل إلى الفصحى، وتارة أخرى لمؤاخذات سياسية ، لاسيّما في أواسط السبعينات  وقد يكون جزء منها "إرضاءً" لحزب البعث "الحليف"، خصوصاً وأنه انحاز إلى القيادة المركزية في الصراع الداخلي، ولم تكتب أي دراسة أو بحث أو نقد جاد لإبداعه طيلة سنوات السبعينات والثمانينات، في حين كان الاهتمام  العربي به يزداد ويتّسع من جانب حركة المقاومة الفلسطينية أو من جانب المثقفين العرب بشكل عام، حيث أصبح مظفر النواب ظاهرة وتظاهرة شعرية أينما حلّ وحيثما رحل يحتشد لسماعه  الآلاف من الشابات والشبان المتعطش للتغيير، وكانت الأمسيات التي تسجل على كاسيتات بمثابة منشور سري مبشر بالعشق والثورة والجمال يتناقله المعجبون به وبشعره.
   لقد وضع  مظفر النواب مسافة بينه وبين العمل الحزبي والسياسي الروتيني اليومي، لكنه لم يتوانَ من النقد الفكري والثقافي للمواقف والتوجهات ضمن اجتهادات وقناعات ظلّ متمسكاً بها، وعبّر عنها في العديد من القصائد، وإذا كانت مرحلة المنفى الأولى أقرب إلى المباشرة كما عكست " وتريات ليلية" فإن المرحلة الثانية امتازت بالرمزية وغير المباشرة واتسمت بمسحة صوفية وظهرت تلك واضحة في مجموعته " المساورة أمام الباب الثاني".
   ولعلّ المواقف السلبية من جانب اليسار العراقي الرسمي، إزاء مظفر النواب، ألحقت ضرراً باليسار نفسه، ودلّت على قصر نظر العديد من الإدارات الحزبية، لاسيّما بتعاطيها مع شؤون الثقافة والمثقفين وهي مواقف ظلّت مستمرة في ما يتعلّق بالسياسة الثقافية والمثقفين والمبدعين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المواقف من كل من الروائي ذو النون أيوب والشاعر بدر شاكر السياب والكاتب والأكاديمي صلاح خالص وعشرات الأسماء الكبيرة، من ضمنهم مؤخراً الشاعر سعدي يوسف، بل إن قسماً غير قليل منهم تعرّضوا للتنكيل وجرت محاولات لحجب نصوصهم عن النشر، ناهيك عن المحاربة بالأرزاق والأمثلة عديدة لا يتّسع المجال لذكرها.
وباستعارة مجازيّة من تجارب كونية يسارية أم يمينية يمكننا القول أن أسماء الحكّام الظالمين والمتسلطين من السياسيين وغيرهم لا تجد مكانها الإيجابي من التاريخ، في حين أن أسماء المبدعين تبقى تتلألأ على امتداده، مثل بيتهوفن وكانط وفولتير ومونتسكيو وروسو وشكسبير وغوته وموزارت وباخ وتولستوي وتشيخوف ورامبو وسواهم، في الوقت الذي لا أحد يتذكّر من كان رئيس وزراء أو ملكاً أو وزير خارجية هذا البلد أو ذاك وهم من مجايلي هؤلاء المبدعين.
ومَنْ أنفع وأهم وأكثر تعبيراً عن تطلعات الناس وهمومهم شارلي شابلن وتشايكوفسكي وكافكا وفيليني وفرانك سيناترا وسارتر والبير كامو وكولن ولسون وأراغون وغرامشي وأدونيس ومحمود درويش وأنستاس الكرملي وفيروز وسعدالله ونوس وأم كلثوم وعلي عيد الرازق ومحمد عبده أم وزراء داخلية أم دفاع أم مسؤولين أمنيين، عاصروا أولئك المبدعين؟ ومن أقرب إلى الشيوعية روزا لكسمبورغ وبريخيت وبيكاسو وجوليا كوري أم ستالين ودرجنسكي وبيريه وجدانوف وسواهم؟
ويمكننا القول أيهما أهم علي الوردي والجواهري وعبد الجبار عبدالله ومحمد مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وغائب طعمه فرمان وبدر شاكر السياب ويوسف العاني وناهدة الرماح وزينب (فخرية عبد الكريم) ولميعة عباس عمارة وأبو كَاطع (شمران الياسري) ومظفر النواب وكاظم السماوي وسعدي يوسف أم عقل بيروقراطي متسلط وفكر متحجر يؤثّم ويحرّم ويجرّم في إطار منظومته التعسفية ولا أرغب في التسميات ، ففي المعنى تكمن الدلالة.
   وإذا كان خروج بعض المثقفين من الأحزاب الشمولية يضيق أمامهم فرص النشر والانتشار، إلّا أن خروج بعضهم الآخر من أمثال مظفر النواب فيه خسارة للأحزاب ذاتها، لا يمكن تعويضها بآلاف المنتسبين، وذلك درس لا غنى عنه للمشتغلين في عالم السياسة بلحاظ علاقته بعالم الثقافة والإبداع، ناهيك عن "وصايا" الرفيق فهد التي طالما يتم ترديدها بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية ، خصوصاً حين تتحوّل إلى مجرّد نصوص صمّاء وعظية وذات سمة نمطية أقرب إلى المحفوظات، لاسيّما بإهمالها عند التطبيق، بل العمل بالضد منها وأنقلها هنا للاستذكار والفائدة " أيها الرفيق كن تقدمياً... في نظرتك نحو العلم والفن والأدب والثقافة، ودافع عنها باعتبارها ملك شعبنا.. وملك الإنسانية التقدمية.. واحترام العلماء والفنانين والأدباء دون الالتفات إلى قومياتهم وأجناسهم...".
    وباستثناء ما نشره كاظم غيلان من دراسة أولية في "مجلة الثقافة" التي كان يرأسها صلاح خالص والموسومة "مع قصائد مظفر النواب خارج ديوان  الريل وحمد" ، آب (أغسطس) 1975 يكاد يكون مظفر النواب قد اختفى من الصحافة الشيوعية الرسمية، واستمرّ الأمر حتى حين انتقلت هذه الصحافة إلى المعارضة في أواخر السبعينات وإن ظلّ جمهور اليسار العراقي بشكل عام متشبثاً بمظفر النواب، ويتابع أخباره ونشاطاته ويتناقل قصائده ويدونها ويوزّعها فيما بينه، بل ويتبادل قصصاً أقرب إلى المتخيّل عنها مثل المشاركة في الثورة الإرتيرية  مروراً بالثورة الظفارية إلى الكفاح المسلح في فلسطين، ولعلّ ذلك نابع من التسريبات عن زياراته لحركات التحرر الوطني حينها وفي مواقعها المتقدمة، ولكن حين أصبح مظفر النواب منارة شامخة في الوسط الثقافي العربي، بدأت المؤسسة الحزبية الرسمية هي التي تتقّرب منه وتجامله حد "التملّق" في مسعى لتعزيز مكانتها.
   وكنت قد سمعت الكثير من الحكايا من مظفر النواب شخصياً، كما أعرف تفاصيل عن مواقف البعض للنيل منه، وحين أتعرّض إلى هذا الموضوع، فليس الهدف منه نكأ الجراح، بل لأخذ الدروس والعبر ،"فذكّر إن نفعت الذكرى" ( القرآن، سورة الأعلى 87 ، الآية 9).
    وأتذكّر أن شريط كاسيت وصلني كان فيه النواب يهجو الوضع السياسي في العراق في أواسط السبعينات بما فيه مواقفنا، ولم أعثر على تلك القصيدة التي وردت فيه طيلة الفترة الماضية حتى وجدتها لدى حسين الهنداوي في مقالته "فتى العراق مظفر النواب" والقصيدة بعنوان " سالوفة أبو سرهيد"  وهي ستة سوالف كما يقول وقد نشرت حينها في " جبل شاخ رش" في كردستان أوائل نيسان (ابريل) 1974 كما يذكر:
   أسولفلك
   أسولفلك
   وسوالف ليل
   وحصيني نفط
   وأحزاب إجاهه الموت
   طرك الله وكراسي بالوزارة
   ولبست النفنوف
   خل يكعد فهد ويشوف
   يغاتي بغيبتك كام الشكنك والبتل والزبل والخريط
   وانته تكلي لو خيط الفجر بيّن
   إلزموا الخيط ولتعوفوه
   لكن كلّي وين الخيط ؟
   وين الخيط؟
   وقد اطّلعت على دراسة ثانية للصديق حسين الهنداوي الذي كان على ملاك القيادة المركزية (الجناح الشيوعي الآخر) نشرها في "مجلة أصوات" في باريس التي كان يرأس تحريرها. وأود أن أشير إلى أن من الكتب المهمة الأولى التي أرّخت لمظفر النواب هو ما نشره باقر ياسين في دمشق العام 1988 وقد تحاورت معه بشأنه مطولاً عدّة مرات والموسوم "مظفر النواب حياته وشعره"، كما جرت محاولات لجمع قصائده ونشرها وأحياناً دون موافقة منه ، حيث كانت تُجمع من بعض الكاسيتات لأماسي كان النواب يعقدها في دمشق أو السلميّة أو طرابلس أو بيروت أو أوروبا أو أمريكا وكندا، لكنها كما قال لأكثر من مرة لا تعبّر عنه ولا تمثله، علماً بأن ما صدر عنه هو ديوان "الريل وحمد"  العام 1969 الذي صمم غلافه الفنان ضياء العزاوي  و"وتريات ليلية" طبع في الجزائر في أواخر السبعينات والطبعة الثالثة العام 1983، و"حجّام" و" المساورة أمام الباب الثاني "...
   وقد بذلتُ مع دار الكنوز الأدبية  التي كان صاحبها عبد الرحمن النعيمي (سعيد سيف) ورفاقه محاولة جادة لطبع "الأعمال الكاملة"، وذلك بالاتفاق مع مظفر النواب، وتعهدت الدار بإخراجها بأحسن حلّة وتدقيقها والحصول على موافقته الخطية قبل طبعها، لكن ذلك لم يتحقق لأسباب موضوعية وذاتية، ومنها عودة أصحابها إلى البحرين بعد الانفراج الذي حصل فيها العام 2000، وعدم استكمال جميع أعماله الموزعة في كاستيات عديدة.
   وكان عبد الرحمن النعيمي أميناً عاماً للجبهة الشعبية في البحرين وسبق له أن التقى مظفر في عدن وظفار في السبعينات، ومعه رفيقه عبد النبي العكري (حسين موسى) وظلّت علاقة الجبهة، وفيما بعد جمعية العمل الوطني "وعد" التي انبثقت عنها، بمظفر متينة ووثيقة وقد منحه "منتدى عبد الرحمن النعيمي الفكري"  في العام 2016 وساماً ودرعاً خاصاً ، علماً بان المنتدى تأسس بعد رحيل النعيمي، وبسبب ظروف مظفر الصحية تسلمته نيابة عنه، وكنت قد تعرّفت على النعيمي في عدن أيضاً خلال وجودي لإلقاء محاضرة عن " ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي " في العام 1974، وقد دوّنت في سردية موسّعة علاقتي التاريخية به في كتاب أصدرته عنه بعد رحيله والموسوم " عبد الرحمن النعيمي – الرائي والمرئي وما بينهما، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2016".
   تجدر الإشارة إلى أن دراستين مهمتين كانتا قد صدرتا عن الشاعر الأولى في العام 1996 والموسومة "مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية" لـ عبد القادر الحسني وهاني الخير، والثانية لـ حسين سرمك حسن التي هي بعنوان" الثورة النوابية" العام 2010 وقد أشرت إليها في مقالتي عن مظفر النواب المنشورة في صحيفة الاقتصادية (السعودية) بتاريخ 13/5/2011 بعنوان "بعد سنوات من التمرد.. مظفر النواب يعود إلى بغداد".
   وقبل أن أختتم هذا المقطع أود أن أشير إلى أن مظفر النواب من مواليد 1934، وهناك من يقول 1932 استناداً إلى الطبيبة التشيكية فلاستا كالالوفا التي عاشت في العراق منذ أوسط العشرينات وغادرته في العام 1932، وأستند في هذا التاريخ إلى الرواية التي أصدرتها ايلونا بورسكا عنها وهي بعنوان " طبيبة في بيت البرزنجي" وقام بترجمتها حسين العامل في أواخر التسعينات ونشرتها دار المدى في دمشق العام 2000،  وحسب ما يذكر مظفر النواب أنها هي التي ولّدته وهذا يعني أنه ولد في مطلع العام 1932، وقد دققت ذلك بتنبيه من الصديق عصام الحافظ الزند.
   وإذا كانت حياة مظفر النواب التي تقارب التسعة عقود من الزمان مليئة بالحيوية والمغامرة والترحال والشموخ والأحلام والمعاكسة للتيار السائد، فإنه اليوم يعاني منذ عقد من الزمان تقريباً من مرض الباركنسون وحيداً في خلوة أقرب إلى خلوة رابعة العدوية ولقائها بمعشوقها الخالق وهي عودة إلى رحم الأشياء ، وكما يقول : عودة إلى الهور والعصفور وأعواد القصب ..
أسمع خلوة العصفور/ جنه ريش ونقطة نور 
   ولم تنفع قطع غربته بزيارة عابرة إلى الوطن في العام 2011 بدعوة من جلال الطالباني رئيس الجمهورية حينها، إلّا أنه فضّل البقاء معتّقاً في منفاه، وكان مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي قد بذل عدّة محاولات للتواصل معه وأجرى عدّة اتصالات معي ، وكذلك السفارة العراقية في بيروت، لكنه ظلّ معتكفاً في صومعته لائذاً بعزلته المجيدة، خصوصاً بعد التدهور الشديد في صحته، وهذا ما دفعني لعدم اللقاء به لكي أحتفظ بصورته المتألقة في ذهني لاعتبارات نفسية وعاطفية، وهو ما اتبعته أيضاً مع الجواهري وأديب الجادر ومحمود البياتي وكوثر الواعظ وصالح دكّله ومحمد بحر العلوم ومحمد حسين فضل الله وغيرهم من أصدقاء وشخصيات عامة، علماً بأنني كنت دائم السؤال من محيطهم عن أوضاعهم الصحية ومتابعاً لأخبارهم.
*****
   أشعر أحياناً وربما معي كثيرون أننا حين نستمع إلى مظفر النواب فإن الكلمات لا تخرج من فمه، بل يتحدث بفؤاده، وهكذا يطغى عنده حب اللغة لدرجة العشق والتولّه، وهو الذي يجمع بين جوانحه عفوية طفل ودهشته وتلقائيته وصدقه ومشاكسته وتمرده، مثلما يجمع تجربة شيخ مجرب وحكيم خبِر الحياة ودروبها الوعرة، ونتعجب كيف استطاع أن يوائم بين النقيضين، بساطة الطفل وحكمة الحكيم.
   وكان مظفر النواب حريصاً على جودة ما ينتج حتى لتبدو متوافقة مع قيم الجمال والخير والحرية، وتلك باقة أحلامه، وهو لا يكتفي بالعابر أو العيش في اللحظة الراهنة، بل إن عقله يعيش في المستقبل، باستعارة من الروائي الروسي مكسيم غوركي حين وصف  أحد ثوريّ عصره بقوله: أن نصف عقله يعيش في المستقبل، وبقدر ما كان مظفر باستمرار مع الناس، لكنه كان يميّز نفسه عنهم، إنه يشبه المجموع، لكنه ليس على شاكلة أي واحد منهم.
   ولعلّ ما يكتبه هو أقرب إلى صيحة انبهار، لأنه يرى ما لا يراه الإنسان العادي، وكثيراً ما يتوقف وتسترعي انتباهه وتشغل تفكيره قضايا يمرّ عليها البشر العاديون دون أن تلفت انتباههم ، فعينه وذاكرته البصرية كانت شديدة الملاحظة، حيث صوّر الهور بكل ما فيه واستمع إلى أنغامه من لهجة أهله ، فمظفر  راصد وقارئ ومصوّر وموسيقي يحسّ بالأشياء ويشمّها ويسمع نبضها، ويقوم بتفكيك الظواهر وإعادة تركيبها لاستجلاء قدراتها وإظهار دلالاتها، بالمألوف واللاّمألوف، وهو لا يستسهل كتابة قصيدته لساعة أو ساعتين ، وأحياناً تطول بيده حياكتها لأشهر أو حتى لسنوات، فلم ينجز قصيدته للريل وحمد دون عملية هضم وتمثّل للحالة الجديدة التي دخلها منذ زيارته الأولى للأهوار، حتى نضجت عنده القصيدة على نار هادئة دامت أكثر من سنتين، أي منذ العام 1956 إلى العام 1958، فخرجت من التنّور طازجة شهية، وهذا هو الفرق بين الشاعر الجيد والشاعر الرديء، وكذلك الكاتب الجيد والكاتب الرديء لأن البحث عن الجودة ينبغي أن يبقي الكاتب والشاعر والمبدع بشكل عام ضنيناً بنفسه واسمه وقلمه وريشته وصوته وأداته، لذلك يبقى على قلق  كما يقول المتنبي :
فما حاولت في أرض مقاماً      ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي       أوجهها جنوباً أو شمالاً

   ولذلك بقي مظفر النواب كثير التردّد في النشر لأنه يعيد ويصقل ويحسّن ويضيف ويحذف ساعياً للرقي والجودة، وكل شاعر جيد أو مبدع جيد بشكل عام هو قارئ جيد، يجيد الإصغاء بكل حواسه، ناهيك عن ضرورة أن يكون خياله خصباً، فلا شاعر أو مبدع بدون خيال أو حتى يوتوبيا، ففي كل فلسفة هناك شيئاً في اليوتوبيا، والمبدع لا يصبح مبدعاً إلّا بالقارئ، حيث ينمو ويتطور ويتجدّد معه، ولذلك تراه غير قابل على نفسه ولا قناعة له بما ينتج لأنه يريد الأفضل والأحسن والأبهى، خصوصاً إذا ما قرأ نصوصه بعين الناقد، لاسيّما إذا اختلى بنفسه.
   ومظفر النواب لم يتوقف ولم ينضب حبر قلمه طيلة ما يزيد عن ستة عقود من الزمان، لأن قلمه سيصاب بالصدأ لو استكان لما أنجز، فالكسل والرضا عن النفس هو عدو الشاعر بشكل خاص والكاتب بشكل عام.
   ثمة خيط رفيع بين العبقرية والجنون، ولعلّ هذا ينطبق على الشعر والموسيقى والفنون بشكل عام أكثر من غيرها، لذلك يقال أحياناً جنون الشاعر أو عبقريته، شيطانه أو رحمانه ، بمعنى الإلهام والإيحاء الذي يأتيه من مصادر غامضة، وكنت قد سألت الجواهري عن "اللحظة الإبداعية" وكيف ينزل عليه أو يفاجئه الإلهام؟ فقال: شيئاً ما يوشوشني ويهمس في أذني فأستجيب إليه، ولاسيّما حينما يستحثه على الخطى ويحفّزه ويستفزه ليأتي بطلعته البهية وصوته الجميل ورشاقة حركته.
   هناك قوة خفية وشحنة جاذبة مع شيء من الشجن والتوجّع والتحدّي في لغة مظفر النواب فهي لغة مركبة كيمياوياً، فقد تنفجر في المواجهة وقد تتحوّل إلى سمفونية بهارموني في المحسوسات والصوفيات، حيث يختفي الصخب والضوضاء الذي تحدثه قصيدة التحدي والمباشرة، فلكل حرف صوت وإذا اجتمعت الحروف تشكلت كلمات وجمل ومعان ودلالات، فما بالك حين تكتسب مسحة موسيقية، وهكذا هو شعر مظفر، إنه يضع حواسك كلّها في حالة تأهب، لاسيّما الأذن والعين، فشعر مظفر مغنّى ومطرّب ومسموع على طريقة القدامى.
    وقد سألته مرّة من تفضّل أن يغني شعرك، فذكر المطربين الياس خضر وسعدون جابر، وسألته عن آخرين، فلم يحبّذ ذلك، وكان أحد المطربين قد استمات في الحصول على موافقة لنص يغنيه، فلم يستجب له مظفر النواب، مع أنه يحمل صوتاً جميلاً، وقال لي: إن طبقات صوته لا تتناسب مع قصائدي، وهناك علاقة بين دلالات الحروف والنقطة والفارزة والوقوف والانطلاق والسكون والصعود، وكلها تشعر بها مع روح مظفر حين يتلو قصيدته، فجذوة الشعر في قصائده مبثوثة في خلاياه، وكل ما يلزمها شرارة صغيرة ليشتعل السهل كله على حد تعبير ماوتسي تونغ، وتلك بصمة مظفر وتميّزه.
   وإذا كنّا نقول لا يمكن تعريف الشعر ، فهو عصي على أي وصف، لأنه لغة متفردة داخل اللغة المألوفة على حد تعبير الكاتبة سلام خياط في كتابها القيّم والمتميّز "إقرأ" -صناعة الكتابة وأسرار اللغة ، دار رياض الريس، بيروت- لندن، 1999، وهو الوصف ذاته الذي تقتبسه من إسحاق الموصلي بشأن النغم إذ أنه  من الأشياء التي تحيط بها المعرفة ولا يدركها الوصف.
   لقد رسم مظفر النواب الحزن لوحات وألواناً لدرجة فاض به الكيل وهو يعشّق  الحزن بالحزن ويعتّق الدنان بخمرته السلسة، ويعجن الحروف ويدوف الكلمات منقّعة  بقطراتها الصافية النقية وورودها المتفتحة الزكية.

چنّه خدّك مر على الزعرور
وشال الفي وحطة بوسط حجري
والحواجب چنهه مطرت گبل ساعة
ورسمت النوم عله صدري
والصبح كلش
والبساتين عرگانه مسچ ودموع
احچي بكل حرير الله التعرفه وياك
وتگلي خشن
خشن حزن الليل
صيحة ريل راجع من وليف بعيد كلش
مثل الفراگين كلش
حزن ينطخ بحزن
(قصيدة ذيب حزن الليل)
*****

   تحية للنواب الذي أهدانا الحب والجمال والإبداع والتجديد والتمرّد.
   وتحية ثانية لأنه جمعنا وظل يتلألأ في ضمائرنا   
   وتحية لمركز كلاويز لمبادرته الريادية الثقافية - الإنسانية
   
وستبقى حيرة الشاعر المبدع وجودية مستمرة
الهدى بالحيرة
والحيرة حركة
والحركة حياة
حسب ابن عربي





*الأصل في هذه المادة الكلمة المفتاحية التي ألقاها الدكتور عبد الحسين شعبان في احتفالية "مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا"، في مدينة السليمانية ( فندق الميلينيوم) في 22/2/2020.وقد نشرت في جريدة الزمان (العراقية- بغداد/لندن) على حلقتين الأولى يوم الخميس 23/4/2020 والثانية يوم الأحد 26/4/2020.

176
مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا*
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب

   أن تحتفل مدينة السليمانية الكردية وكردستان العراق عموماً بالشاعر العربي الكبير مظفر النواب، فهذا حدث مهم، بل بالغ الأهمية، وهو يدلّل على عمق الترابط الوثيق  بين العرب والكرد، وخصوصاً بين المثقفين، وهو تأكيد جديد على أن العلاقة العربية- الكردية، ببعدها الثقافي والإنساني تحكمها أهداف مشتركة وتستند إلى قيم مشتركة وجامعة أيضاً، وهي قيم الحرّية والجمال والمساواة والشراكة والعدل والسلام والتسامح .
   ولعلّه منذ وقت مبكر عبّر اليسار العراقي وعلى نحو أثير ومتميّز منذ أواسط الثلاثينات عن صميمية تلك العلاقة حين رفع شعار " على صخرة الأخوة العربية - الكردية تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية"، وأظنّه الشعار الأكثر مضاءً وواقعية حتى الآن في العيش المشترك والاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية في إطار الهويّة العامة .
   وتتأتّى أهمية حدث الاحتفاء بمظفر النواب من محاولة إنعاش الذاكرة المشتركة لنا جميعاً كمثقفين عرباً وكرداً ومن سائر المجموعات الثقافية المتعدّدة المشارب والألوان المختلفة والمؤتلفة في آن، لاسيّما بالسعي لتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق، خصوصاً وإن محاولات عديدة أريد لها فصم عرى العلاقة الوثيقة لأسباب موضوعية أو ذاتية، خارجية أو داخلية، لكن تلك العلاقة التي تعمّدت بروح المحبة والتآخي ظلّت متّقدة ولم تخبُ أو تنطفئ بالرغم من عاديات الزمن.
   وحسناً فعل "مركز كلاويژ" حين اختار عنواناً للمناسبة له أكثر من رمزية ألا وهو " مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا". إنه باختصار يريد القول إن النواب يحتلّ جزءًا حيويّاً من وجداننا وذاكرتنا الثقافية المشتركة ، لما يمثّله من رحلة إبداعية ونضالية وإنسانية، ناهيك عن صدقية جمالية شفيفة ورائعة.
   ما أحوجنا اليوم، ولاسيّما في الوسط الثقافي لتجسيد ذلك عملياً، فشاعر كبير بقامة مظفر النواب مثّل بروحيته الإيجابية وانفتاحه ورؤيته الإنسانية، هذا التفاعل والتواصل والترابط العضوي في العلاقة بين المثقفين العرب والكرد، مثلما مثّل شاعر كردستان الكبير شيركو بيكه س ذلك بإعلائه روح التآخي والتواصل الثقافي الكردي - العربي، وعبّر كلاهما عن نبض الروح  الإبداعية وجمالها الإنساني الباهر، فالأدب بعامة والشعر بخاصة يمكنه أن يجسّد تلك الحقيقة بسطوع وصميمية وبراءة وعمق وامتداد .
*****
   أحياناً حين تلتقي مبدعاً كبيراً كنتَ قد تعرّفت عليه من خلال نصّه أو منجزه الثقافي، فتقول مع نفسك: يا ليتني لم ألتقِ به، كي تبقى صورة منجزه مشرقة أنيقة جميلة، فثمة تناقض كبير، بل وصارخ أحياناً بين السلوك اليومي والاجتماعي وبين التحضّر والتخلّف وبين المعرفة والثقافة، وخلافاً لذلك حين تلتقي مبدعاً آخر وتكون قد قرأت له أو اطّلعت على منجزه الإبداعي، تتمنّى ألّا تفارقه، بل تزداد محبة له، لأن ثمة انسجام بين ما يقول وما يفعل، فالصورة الفائقة المبهرة لشخصه التي بناها من خلال ما كتبه أو صرّح عنه أو قام به ومن خلال أفعاله ومواقفه ظلّت منسجمة ومتّسقة   على نحو مشرق ورائع بين القول والعمل، فليس ثمّة هوّة بين الإثنين.
   ومبدعنا المحتفى به " مظفر النواب"، من الصنف الثاني، الذي ما إن تتعرّف عليه حتى تنجذب إليه، وقد أتاحت لي الفرصة لفترة خمسة عقود ونيّف من الزمان أن أقترب من مظفر النواب، فأزداد تعلّقاً وإعجاباً به ومودّة ومحبة له، فهو من طينة من تحلو لك رفقته، حيث تأنس بصحبته وتكتشف يوماً بعد آخر الكثير من الخصال والسجايا الإنسانية الفريدة والأخلاقية النبيلة التي تمثّل قيماً عليا يسعى البشر لتجسيدها أو تمثّلها.
   ولم أعرف مبدعاً كبيراً كان يُحكِمُ الصلة على نحو فائق بين الأقوال والأفعال وبين الإبداع والسلوك والأخلاق والسياسة والثورة والجمال والصلابة المبدأية والمرونة العملية والكبرياء والتواضع وحب الحياة والزهد بها مثل مظفر النواب،  ولعلّ ذلك ميزان ذهبي من العدل ظلّ مرافقاً له طيلة مسيرته الإبداعية والنضالية وعلى المستويين الشخصي والعام حيث كان رقيب نفسه باستمرار، وظلّ كلّ متاعه من هذه الدنيا الفانية، حزمة قصائد ورسوم وكأس نبيذ وذاكرة خصبة وضمير يقظ لم يخدر أبداً، وكان برفقة ذلك أيضاً محبّة الناس واحترامهم له لشعورهم  بنقاء سريرته وطهريّته وترفّعه عن الصغائر، وهو ما صنع مجده ورفعته وعلو كعبه، فأضحى أقرب إلى "القديس" بتعابير المؤمنين و"المعبود" بتعبير العاشقين.
   وخلال مسيرته حافظ النواب على صوته الخاص وإيقاعه المتميّز ونبرته الشائقة، وسط ضوضاء هائلة، وحسب الروائي الغواتيمالي أستورياس الحائز على جائزة نوبل في الآداب العام 1967 "الإنسان إله بسبب من صوته"، فالصوت يذهب إلى الإذن مباشرة، ومنها إلى الدماغ، ومن هذا الأخير إلى القلب، فيعطي الإحساس، وهكذا هي الموسيقى تذهب إلى القلب والروح، وذلك هو صوت مظفر النواب الشديد الإحساس والتأثير الحسّي، لاسيّما وهو يسعى للمحسوس من الأشياء، حيث  تمتزج أوتار صوته بالروح، فيخرج مليئاً ونافذاً، والحسيّة هي ما مثّله الفيلسوف الانثربولوجي الألماني لودفيغ فيورباخ.
   وإذا كان مظفر النواب قد انشغل بالحريّة باعتبارها القيمة العليا في الحياة، فثمّة عشق صوفي يتماهى مع حيرته وقلقه الإنساني، "فالمكان زمان سائل والزمان مكان متجمد" حسب ابن عربي، وهكذا كانت غربته في المكان والزمان تنتقل معه وتعيش فيه وتسافر إليه:
 
"هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق
نقطة في العشق تكفي
فلا تكثر عليك الحبر والأوراق"
( من قصيدة قل لأهل الحي)
   أية شيفرة سرّية خاصة تلك التي تحتويها لغة مظفر النواب ومفرداته الإبداعية الباذخة:

" لا تسل عنّي لماذا جنّتي في النار
جنّتي في النار
فالهوى أسرار
والذي بغضي على جمر الغضا أسرار
يا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّه
كيف النار تطفي النار؟
يا غريب الدار
إنها أقدار
كل ما في الكون مقدار وأيام له
إلّا الهوى
ما يومه يوم...ولا مقداره مقدار
(من قصيدة المساورة أمام الباب الثاني )









   في سهله الممتنع ثمّة صور غير مألوفة في الشعر الشعبي العراقي من قبل، ولنلاحظ هذه الصورة :
" آنه يعجبني أدوّر عالكَمر بالغيم ..
 ما أحبّ الكَمر كلّش كَمر
(من قصيدة الشناشيل)
*****
   حين نشر النواب قصيدة " الريل وحمد" في العام 1959 وكانت بمبادرة من علي الشوك وتلقفها بالتقييم والترحيب والإعجاب عدد من مجايليه منهم : سعدي يوسف وبلند الحيدري والفريد سمعان ورشدي العامل وعبد الرزاق عبد الواحد، برز على الفور بصفته شاعراً جديداً يملك كل شروط الحداثة ومواصفات التجديد، وجاءت الإشارة بقدر غموضها ورمزيتها، واضحة جليّة، فقد كان أمام النقاد نوع من الأدب الجديد المكتوب بالعامية العراقية أو باللهجة الشعبية الجنوبية الحميمة، فهو لا يشبه حسين قسّام والحاج زاير والملّا عبود الكرخي، على الرغم من إعجابه بهم ، وخصوصاً الحاج زاير، ولم يسع لتقليدهم، بل عمل للخروج على التقليد مثلما سبقه إلى ذلك نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي في قصيدة الفصحى الجديدة التي تمرّدت على القوالب.
   وحجزت قصائد " يا ريحان" و"حسن الشموس" و " حجّام البريس" و"زرازير البراري" و" ابن ديرتنه  حمد" و " حِنْ وآنه حَنْ" و"روحي" و" البنفسج" مكاناً خاصاً لمظفر النواب في صدارة الشعر الشعبي العراقي، إضافة إلى قصائد أخرى، وفي منفاه ارتقى مظفر إلى المكانة التي يستحقها في سلّم قصيدة الفصحى الحديثة التجديدية، بحكم الفضاء الذي تمتّع به والبيئة التي عاش فيها وقد انحسرت في نتاجه الإبداعي القصيدة الشعبية بشكل عام إلّا باستثناءات محدودة، وهكذا توزّعت قصائده حيث احتلّت المرحلة العراقية 1959-1969 القصائد العامية، ومن أهم انجازاتها مجموعتين هما " الريل وحمد" و"حجّام" ، أما المرحلة العربية أي من العام 1969 وعلى مدى نحو 50 عاماً فقد عرفت قصائد الفصحى وضمتها مجموعات أساسية هي " وتريات ليلية" و"أربع قصائد" و"المساورة أمام الباب الثاني"، إضافة إلى عشرات القصائد غير المنشورة والمسجلة على أشرطة كاسيت.
   وامتازت قصيدة النواب باللغة الآسرة والمفردة الحيّة، بل إن بعضها استخدم لأول مرّة، لاسيّما برمزيتها وبُعدها عن المباشرة، حيث كان يفيض عليها من روحه، فتصبح كائناً حياً تشبه عطاءه وتمرّده وصدقه ، ففي قصيدة "الريل وحمد" يقول :
"أرد أشري جنجل
وألبس الليل خزامة
وأرسم بدمع الضحج
نجمة
وهوه
وشامه
ويا حلوة بين النجم
طبّاكَة لحزامه
وهودر هواهم
ولك
حدر السنابل كَطه
كضبة دفو، يا نهد
لملمك ... برد الصبح
ويرجفنّك فراكين الهوه ... يا سرح
يا ريل....
لا.. لا تفزّزهن
تهيّج الجرح
خلهن يهودرن..
حدر الحراير كَطه"
*****
   لقد اكتشف النواب المدى الذي تحمله المفردة العامية فدفع به إلى القصوى ووظفه برياديّة بحيث أصبح مفتاحه كما يقول إلى "الفضاء  الإبداعي الأوسع"، بما تملكه تلك المفردة من رمزية وطاقة حسيّة ولنلاحظ الاستخدام غير المألوف مثل:
افيش.. شمني ..
بشهيك الروح،
شكَة طلع
فُوج بحنين الصدر ،
طوفان دك ورصع
ليش آنه وانته بعطش؟
موش احنه نبعه ونبع
(من قصيدة فوك التبرزل)
وكلمة "أفيّش" تدلّ على رائحة الشّم ذات البعد الحسّي وكأنها رائحة محسوسة، أي أنها مبهرة وذات تأثير على المتلقي.
أطرن هورها امصكك
واصيحهن عليك اجروح
يجحلن چالمطبجات الزرگ
صلهن يشوغ الروح
واجيك اشراع ...ماهو اشراع
عريانه سفينة نوح
اصيح اشّاه ... مابياش
يبني جحلت يبني
ويجيني امن الرضاع الحيل
موش امك واندهلك...
أشيلن حملك امگابل أنگلنه
وأشيلك شيل
أكابر... وانه اطر الهور
وأعدل ظهري للشمات
چني امگابل ويه الريل
أصدن لليصد ليه ابشماته
وفوگ اشيلن بيرغ الدفنه
عمد للسيل
كلها اولا شماتة عدو...
يتشمشم خبر موتك وراي ابليل
يازين الذي ابطرواك
دلتنه الچبيره اتگوم للخطار...
(من قصيدة حسن الشموس)

   وهكذا يستخدم مظفر النواب مفردة حسّية مثل كلمة "اشّاه" التي هي دليل على البرد ويمكن أن تُقال في لحظة تأثر أو مفاجأة. كما يستخدم عبارة "أحّاه" - التي هي دليل على الألم أو تعبير عن الحزن أحياناً، حتى أن النسوة اللواتي يلطمن على فقدان أحبتهن يردّدن أحّاه.. أحّاه بما فيها في المناسبات الحسينية، وبالتعبير العامي فكلمة "أحّاه" هي أقرب إلى كلمة "آخ"،  وهي تقال حين يعتصر الإنسان الألم للفراق أو للصدمة أو لما يحصل له من ضغط يتعرض فيه للأذى والألم فيصرخ "آخ".
" أحاه، شوسع جرحك ما يسدّه الثار يصويحب
 وحكَ الدم ودمك حار
من بعدك ، مناجل غيظ ايحصدن نار
شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي
صويحب من يموت المنجل يداعي
(من قصيدة مضايف هيل )
   ويهمّني أن أشير إلى أن قصيدة مضايف هيل "جرح صويحب" كان قد لحّنها الفنان سامي كمال وحين قام بتأديتها (التمهيدية) في سهرة خاصة في منزل شقيقتي سلمى شعبان في العام 1984 في دمشق، أعجب الجواهري بكلماتها وآدائها الفني وردّد "يا صويحب..." مع آهات خرجت منه في حين كان يداعب حبّات مسبحته، واحدة واحدة، واثنتان اثنتان، ويشرد قليلاً، وكأنه يستذكر قصيدته " أخي جعفر"، وهو ما دعا طارق الدليمي الذي كان يجلس بجانبه إلى استعادة القصيدة المذكورة وكأنه يريد أن يرسم أحداثها إلى صديقنا داوود التلحمي رئيس تحرير مجلة الحرية الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية)،  والتي يقول في مطلعها:
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ      بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً      وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع   أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين      أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة      أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي      مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم

إلى أن يقول
 أخي " جعفراً " يا رُواء الربيع      إلى عَفِنٍ باردٍ يُسلَم
ويا زَهرةً من رياض الخُلود      تَغوَّلها عاصفٌ مُرزِم

   وكان الجواهري قد نظم هذه القصيدة في العام 1948 التي تعتبر بحق ملحمة شعرية بنحو مئة بيت، إثر استشهاد شقيقه جعفر في المظاهرات الاحتجاجية الشعبية التي سمّيت فيما بعد "وثبة كانون" ضد " معاهدة بورتسموث" (جبر- بيفن)، وألقاها في محيط جامع الحيدر خانة ببغداد بمناسبة مرور سبعة أيام على استشهاد شقيقه.
   أما "إش" فهي تعني طلب الصمت أو الرغبة في السكون والهدوء، وأحياناً تصدر بلغة الأمر أي "صه"، ولنلاحظ استخدامه الأولي:
إش، لا توعّي المزنة
وتسودن حنيني بعذرك
أنه كربت بور الفلا
وطشيت صبري وصبرك
وسكيت ، وضميت الشمس لليل
عود انتظرك
تاليها ريحان وملح
جا هذا كَدري وكَدرك؟
(من قصيدة أيام المزبّن )

*****
   الغربة والحزن  مترابطان في شعر النواب على نحو عضوي، حيث يُعتبر النواب الشاعر الأكثر اغتراباً، فقد مضى على منفاه 51 عاماً، وأقصد بذلك المنفى البيولوجي، وقبل ذلك اغترابه الروحي وليس المكاني " Alianation"  وربما كان الأطول لأنه  يمثل جلّ عمره الإبداعي، أي منذ أن وعى على الحياة وانخرط في التعبير عن جمالياتها وإنسانيتها، وقد عاش مظفر في المنفى حسيّاً وتآلف معه وأصبح واحداً من أهل بيته وصار صديقاً ورفيقاً له ينتقل معه ويلازمه مثل ظلّه في البلدان والمدن والمرافئ والمطارات والقطارات والحدود والجوازات، وترك المنفى بصمته عليه، تلك  التي زادته حزناً فـالمنفى كالحب "يسافر في كل قطار أركبه في كل العربات... أمامي".
تعبتُ ومن دوخة رأسي في الدنيا .. أبكي
لا تكسرني الريحُ
فماذا يكسرني بعد الريح ِ.. وأبكي
القصّة ُ بلّلها الليلُ ،
وليسَ هناكَ مَنْ يحكيها ،
فلنذهب فالريحُ ستحكي
المأخورُ يضيءُ وجوه الزانين
فلا تخجل يا حزني أنْ تصبحَ زاني
يا قلبي
يا بنَ الشكّ
أرحني من أحزاني
تعبتُ ولمْ أصلِ المنفى
المنفى يمشي في قلبي ،
في خطواتي .. في أيّامي ،
يسافرُ في كلّ قطار ٍ أركبهُ ،
في كلّ العرباتٍ أراهُ
حتّى في نومي
يمشي كالطرقاتِ أمامي

وكما يقول عن الحزن :
مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوّا المطر
شدّة ياسمين
مو حزن لكن حزين
مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين
مو حزن لكن حزين
مثل بلبل كَعد متأخر
لكَه البستان كلها بلاي تين
مو حزن لكن حزين
لكن أحبك من كنت يا أسمر جنين

   سألت الجواهري يوماً وهو الذي لم يكفّ  يتحدّث عن المنفى والسبع العجاف (سنوات غربته الأولى 1961-1968) وماذا كان في المنفى يا أبا فرات: أهو زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟ وبعد أن سحب نفساً عميقاً وطويلاً من سيجارته أجابني : الإثنان معاً.. إي والله، أي والله. وصدقَ بذلك، فمن عاش المنفى واغترب يعرف ما الذي يقصده الجواهري وماذا قصد مظفر النواب؟
   قدّر لي أن ألتقي مظفر النواب مرّة واحدة بعد خروجه إلى العلن بُعيد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، وخصوصاً بعد تسوية قضية هروبه من سجن الحلّة وإسقاط الأحكام التي صدرت بحقه بعد اعتقاله في إيران وتسليمه إلى الحكومة العراقية، حيث حوكم وصدر حكم بإعدامه ، ثم خُفِّض الحكم إلى المؤبّد، وكانت التنظيمات الشيوعية قد نظّمت عملية هروب جماعية من سجن الحلّة في خريف العام 1967، حيث تم حفر نفق طويل بحدود 20 متراً بملاعق الطعام وأدوات بسيطة للغاية، كما روى لي ذلك حسين سلطان في السبعينات، وقد كنت باستمرار أطالبه بتدوين ذلك وتوثيقه، وبالفعل أنجز جزءًا منه وقام خالد حسين سلطان بنشره لاحقاً.
   وكان من بين الهاربين مظفر النواب، علماً بأنه تم اعتقال قسماً منهم ونجح الآخرون في الإفلات بعد أن قضوا بضعة أيام في الريف. وقد رويت كيف نظّمنا سفرة طلابية (حيث كنت في الصف المنتهي في الكلية) لإنقاذ سعدون الهاشمي ورفيقه من سدّة الهندية إلى بغداد، كما جاء في مقالة لي عن سنان الشبيبي والموسومة:  سنان محمد رضا الشبيبي والبنك المركزي- قضية رأي عام المنشورة في  صحيفة الخليج (الإماراتية)  بتاريخ 31/10/2012، جدير بالذكر الإشارة إلى أن سعدون الهاشمي هو شقيق سامي الهاشمي الذي استشهد غدراً في أيلول (سبتمبر)1968 في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
   وكنتُ قبل أن ألتقي مظفر أحفظ الكثير من قصائده، ولاسيّما تلك المهرّبة من سجن نقرة السلمان وسجن الحلة فيما بعد، واستمعت إلى الكثير من التفاصيل عنه من عدد غير قليل من الأصدقاء منهم مهدي عدنان الشديدي والمحامي هاشم صاحب والمحامي محمد أمين الأسدي وابراهيم الحريري وصاحب الحكيم وآخرين.
   وكان اللقاء الثاني الذي وثّق الصداقة في براغ العام 1970، ثم تواصلت اللقاءات بعدها في دمشق  حيث تعمّقت علاقتي به  وكنت ألتقيه على نحو مستمر تقريباً، سواء في منزل طارق الدليمي أو في منزلي أو في مقهى الهافانا الذي كنّا نرتاده أحياناً، أو في حانة " قصر البلّور" في "باب توما" لعدّة مرات رفقة طارق الدليمي وآخرين. وحين غادرت دمشق لم تكتمل زيارتي لها إلّا حين ألتقي مظفر النواب، وكان غالباً ما يأتيني بصحبة الشاعر رياض النعماني أو حامد العاني قبل لجوئه إلى هولندا أو شفيق الياسري (هاشم) أو باقر ياسين الذي استضافنا عدة مرات في مزرعته خارج دمشق.
   والتقينا أكثر من مرّة مع بعض الأدباء والمثقفين السوريين، منهم صادق جلال العظم وممدوح عدوان وزوجته إلهام وحميد مرعي وأبيّة حمزة ومنى الأتاسي وعمر أميرلاي وهيثم حقي ومحمد ملص وزوجته انتصار ملص. وأتذكّر إن في إحدى اللقاءات وكان بدعوة من الصديقة رُلى فيصل ركبي دار الحوار والجدل حول علاقة  الشعر بالفلسفة والمسرح والرسم بخاصة والفن التشكيلي بعامة والسينما والتلفزيون والإعلام بشكل عام، باستعراض تجارب المتنبي والمعرّي والجواهري وبعض الأعمال المعاصرة ، إضافة إلى الرواد في الحركة التجديدية الحديثة مثل بدر ونازك والحيدري والبياتي وسعيد عقل وأدونيس ومحمد الماغوط ، ودور مجلة الآداب ف ي الخمسينات والستينات. وكان مسك الختام حين أسمعنا مظفر الشعر مغنّى، وهكذا امتزجت علاقة الصوت والعين والأذن والروح والقلب والعقل، وللأسف لم نتمكن من تسجيل تلك السهرة الثقافية الفكرية بامتياز، وهو ما سبق أن حصل مرّة مع الجواهري حين حاولنا تسجيل كاسيت له ، لكن آلة التسجيل لم تكن على ما يرام.
 كما التقيت به أكثر من مرة في الثمانينات في طرابلس . وقد أخبرني الصديق عاطف أبو بكر كيف حاول أن يطفئ النيران بينه وبين " أبو نضال" (صبري البنّا)، وقد عقد بينهما أكثر من اجتماع في طرابلس أواخر الثمانينات، وبذل جهداً كبيراً لفضّ الاشتباك، وكان حريصاً ألّا يتعرّض عاطف أبو بكر ومن معه للأذى أو للانتقام.
   وفي التسعينات حين انتقلت إلى لندن، لم يكن مظفر النواب يزورها إلّا ويشرّفني بزيارة خاصة وكانت أول زيارة له بدعوة من النادي العربي ورئيسه ضياء الفلكي الذي نظّم له أمسية عامة لم تشهد لها لندن مثيلاً، وقد طلب مني في حينها اللقاء بـ صلاح عمر العلي وحصل اللقاء على نحو حميم، وعاد بعد عدّة سنوات ونظّم له أمسية ثانية، وأتذكر أن مشعان الجبوري قدم من اسطنبول أو مدينة تركية أخرى لحضور الأمسية، ولم تكن ثمة تذاكر وقد اتصل بي، فأمنّت له تذكرة خاصة، وحين استعيد تلك التفاصيل فلأنني أريد إظهار الاهتمام العام بمظفر النواب ومحبة الناس له، خارج دائرة الاصطفافات والاستقطابات التقليدية.
    وكنت أعتبر كل زيارة له فرصة مناسبة ومهمة للتواصل الشخصي من جهة ومن جهة أخرى لتنظيم أمسية محدودة له مع نخبة عربية كنت أدعوها إلى منزلي، وفي لندن كان رفيق دربه الفنان سعدي الحديثي، وغالباً ما كانت ترافقه المهندسة المعمارية ميسون الدملوجي،  والموسيقي أحمد المختار. وحين أصدرت كتابي عن الروائي والصحافي شمران الياسري "أبو كاطع" الموسوم" على ضفاف السخرية الحزينة"، لندن، 1998 (دار الكتاب العربي) أهديته إلى مظفر النواب وجاء فيه " إلى مظفر النواب ... وضاعت زهرة الصبّار".
وأود أن أشير إلى أن مظفر النواب استمرّ بحمل جواز سفر ليبي لغاية العام 2007، وكان حين يرغب بزيارة بيروت يطلب منّي توجيه دعوة خاصة له كما تقتضي القوانين اللبنانية للحصول على فيزا، عبر تقديم سند الملكية والإقامة وتعهّد باستضافته وتحمل كل ما يتعلق بالتبعات القانونية، وذلك بعد انتقالي إلى بيروت، وكانت  آخر زيارة خاصة له بالترتيب المشار إليه ، قبل حصوله على جواز سفر، بوجود والدتي نجاة حمود شعبان التي سرّت بلقائه وشجعتها على قراءة ما كانت تردّده من أقوال وتعتبرها شعراً.
   أتذكّر لقاءنا في أواخر العام 1970 وكنتُ قد وصلتُ لتوّي إلى براغ للدراسة العليا، وحينها كنت لا أزال في كورس اللغة، وصادف أنني كنت أتهيأ  للسفر إلى القاهرة لحضور مؤتمر دولي بمناسبة ميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (بعد وفاته)، ضمتنا جلسة في مطعم " أوفليكو" المكان الذي زاره نابليون واحتسى فيه "البيرة السوداء" (أوائل القرن التاسع عشر ) والطريف أن الساعة التي تزيّن واجهة المطعم قد أوقفت عقاربها وظلّت هكذا لتحمل توقيت احتلال نابليون للعاصمة التشيكية. وهناك صدح صوت النواب وشاركه فيه جعفر ياسين، وكان يقرأ النواب البيت الأول أو المقطع الأول ليجيبه ياسين بصوته الشجي بالمقطع الثاني.
    وفي براغ التقى المبدعان الكبيران الجواهري والنواب خلال تلك الزيارة الأثيرة. وفي مقهى سلوفانسكي دوم الشهير الذي كان مقرّاً للجواهري يرتاده كل يوم تقريباً، واللقاء غير التعارف، فقد كان التعارف قد حصل من قبل، حين كان الجواهري رئيساً لاتحاد الأدباء في العام 1959، وكان مظفر النواب عضواً فيه منذ التأسيس، ويتردّد على نادي اتحاد الأدباء لحضور بعض الأماسي والمناسبات، لكن اللقاء بمعناه الصميمي والخاص وعلى انفراد وحرّية ومحبة كان في براغ حسبما أعرف.
   حين أبدى مظفر النواب إعجابه ببراغ ،التي زارها لأول مرّة، وبجمالها ونسائها وأجوائها، كان الجواهري مفتوناً بها ومتولهاً بحبها، فتلك المدينة التي كلّما ازددتَ معرفةً بها وبخباياها وزواياها وخفاياها ازددتَ عشقاً لها وتعلقاً بها، وكان الجواهري قد  نظم لها في العام 1973 قصيدته الشهيرة الموسومة " آهات" التي يقول فيها:

177
المنبر الحر / ثقافة وحداثة
« في: 20:10 23/04/2020  »
ثقافة وحداثة
عبد الحسين شعبان

الثقافة فضاء رحب للتعاطي مع الحقول الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والصحية والنفسية والبيئية وغيرها.
ليس تعالياً على الواقع حين يُقال إن مفهوم الوطن يتأسس على الثقافة، فهي الوعاء الذي يستوعب الهوية ويجسدها على نحو حي وواعٍ بتعبيرها عن الشعور بالانتماء، فحين يولد الإنسان فإن أجواء ثقافية فطرية يتربى فيها، وهذه عصارة تطور تاريخي ولغات وأديان وتقاليد وسلوك وفنون وميثولوجيات، وبالطبع فتلك ليست معطى ساكناً أو سرمدياً؛ بل هي مفتوحة وخاضعة للتغيير، حتى لو بقيت الأصول قائمة، فإن العديد من عناصرها ستتطور وتكون عرضة هي الأخرى لتغييرات جديدة، حذفاً أو إضافة، لاسيما علاقاتها مع الثقافات الأخرى تأصيلاً أو استعارة، تأثراً وتأثيراً، حتى وإن لم تأت دفعة واحدة، لكن عملية تراكم وتطور تدرجي طويل الأمد ستطالها، خصوصاً بالتأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى كل بلد أو على المستوى العالمي.
في عام 1992 قال الروائي الإسباني انطونيو جالا وفي حفل عشاء في مدريد على شرف مائدة وزيرة الثقافة السورية حينها نجاح العطار، هناك سيدة وخادمتان، أما السيدة فهي «الثقافة» في حين أن الخادمتين هما السياسة والاقتصاد، لكن الخادمتين استطاعتا أن تسرقا مكان «السيدة» وتجلسا محلها، ومهمتنا كمثقفين هي: إعادة السيدة إلى مكانها الطبيعي والخادمتين إلى عملهما الاعتيادي.
هناك من يغالي في هذه النظرة بجعل الثقافة نقيضاً للسياسة والاقتصاد أو عدواً لهما، في حين هناك من يرى أنها بالتوازي معهما يمكن أن تسهم في إعلاء شأن الاقتصاد وتعزيز العلاقات التجارية بين الأمم والشعوب، كما لعبت مثل هذا الدور منذ الحضارات الأولى لوادي الرافدين ووادي النيل والحضارتين الصينية والهندية وما بعدها، وإذا كان الحديث اليوم عن طريق الحرير الجديد «الحزام والطريق» فإنه تأكيد لدور العلاقات الثقافية في تعزيز العلاقات التجارية والسياسية السلمية، والتي بدونها لا يمكن أن تنتعش الثقافة أو التجارة أو السياسة.
وإذا كانت ثمة حساسيات ومنافسات في الكثير من الأحيان بين السلطتين السياسية والعسكرية والسلطة الثقافية، فلأن هذه الأخيرة لها قوة معنوية نافذة، لأنها
تمثل قوة المعرفة، أو «سلطة المعرفة» على حد تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، وإذا ما حظيت هذه السلطة باعتراف المجتمع بما فيها السلطتان السياسية والعسكرية اللتان بحاجة إليها؛ بل لا يمكنهما الاستغناء عنها، مثلما هي سلطة المال والاقتصاد، لأن هذه السلطات ستبدو عارية ودون غطاء مقنع وإنساني، وحين يتحقق مثل هذا التوافق يمكن للثقافة أن تنجز مهمتها الإبداعية مثلما للسلطات الأخرى أن تؤدي وظيفتها على أحسن وجه وبالتكامل.
ولهذه الأسباب سعى الطغاة والمتسلطون للهيمنة على الثقافة وتوظيفها لصالح سياساتهم الأنانية الضيقة، سواء باستخدام المثقفين في تزيين إجراءاتهم وتجميل سلوكهم أو «أدلجة» نهجهم، ناهيك عن حرق البخور لهم وإضفاء
نوع من «القدسية» فوق البشرية عليهم، وكان إدوارد سعيد قد أثار جدلاً كبيراً لم ينقطع بالأساس حول معنى ودور المثقف ووظيفته الإبداعية وذلك في كتابه «صور المثقف».
الثقافة بهذا المعنى مثل الحب؛ بل مثل فعل الحياة لا يمكن تجزئتها أو اقتطاع قسم منها، وهي بكل حقولها علوم وتكنولوجيا وعمران ورواية وقصة وشعر ومقالة ونقد ورسم ونحت ومسرح وسينما وموسيقى وغناء وكل أنواع الكتابة والإبداع، هي فضاء رحب للتعاطي مع الحقول الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والصحية والنفسية والبيئية وغيرها.
لقد شكلت الستينات من القرن الماضي وعياً ثقافياً جديداً وعبّرت عن روح جديدة ولغة جديدة، في المضمون أولاً، ثم في الشكل، مثلما اقترنت التسعينات بحداثة جديدة وغير مشهودة من قبل، خصوصاً بالتخلص من الكثير من الأوهام الإيديولوجية وما ارتبط بها من أنظمة ومؤسسات ويقينيات، في إطار حساسية إنسانية جديدة ورؤية إبداعية مغايرة، بالارتباط مع نتائج الثورة العلمية- التقنية والثورة الصناعية في طورها الرابع، والذكاء الاصطناعي والطفرة الرقمية «الديجيتل» وتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والإعلام.
إذا كان التجديد سمة بشرية للعصور المختلفة، فإن الحداثة هي السمة الأكثر حضوراً لعصرنا الذي شهد لحظات انعطاف «ثورية» تاريخية هائلة وفائقة السرعة على صعيد العلم والتكنولوجيا بتوفر الشروط الداخلية والخارجية، والعوامل الموضوعية والذاتية، في إطار سلسلة من التراكمات والتحولات التي قادت إلى تغييرات نوعية، لأن الحداثة عملية كونية تاريخية مرتبطة بنضوج شروط وعيها وليست بشكلها فحسب، وبالتالي فهي ليست فضيلة أو رذيلة بقدر ما هي استكمال لفهم جديد للعالم وفاء للعصر المتميز الذي نعيش فيه.
يمكن القول إن الثقافة تعني خير الناس، وهي صيرورة حياتنا بكل معنى الكلمة لأنها تمثل عاداتنا وتقاليدنا وأفكارنا وتراثنا وآدابنا وأمزجتنا وسلوكنا وطريقة مأكلنا ومشربنا وملبسنا وعمارتنا وأساطيرنا وتفسير لكل ما نحن عليه.
drhussainshaban21@gmail.com


178
«كورونا» وقلم أينشتاين
عبد الحسين شعبان
استعدت حكاية «قلم أينشتاين» في ظلّ التداعيات الخطرة التي سببّها وباء كورونا «كوفيد 19»؛ وذلك لسببين: الأول، الاستنفار العلمي لاكتشاف لقاح أو دواء للوباء؛ والثاني، ما تردّد لدى أوساط متدينة في مجتمعاتنا من أعمال جهل وخرافات للاستهانة بالوباء، تحت عناوين دينية، لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.
يشهد العالم أزمة من أخطر الأزمات الكونية التي عرفتها البشرية، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شملت جميع مناحي الحياة لدرجة استحالة إيقافها عند حدود أو مطارات أو موانئ أو حواجز برّية أو نهرية أو بحرّية، وكذلك تعذّر إيقافها بجهد خاص لدولة مهما كبُرت أو امتلكت من وسائل، الأمر الذي يتطلب عملاً جماعياً دولياً وتعاوناً علمياً وتكنولوجياً وتفاهماً سياسياً واقتصادياً، وقبل كلّ شيء إرادة حقيقية لوضع حد للجائحة تمهيداً لإيجاد حلول ومعالجات للقضاء عليها.
ويعتبر «كوفيد -19» أشدّ خطراً وأسرع انتشاراً من جميع الأمراض والأوبئة التي سبقته مثل مرض نقص المناعة «الإيدز» وإنفلونزا «الطيور» و«الخنازير» وقبل ذلك «جنون البقر» وغيرها من الأمراض التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة، في حين هيمن كورونا على كل شيء في حياتنا وتحوّل إلى هاجس مقلق للجنس البشري بسبب انتقاله المرعب متخطياً سرعة الضوء والصوت بالتعبيرات المجازية وغير المجازية، فمن الصين وطريق الحرير القديم إلى إيران ومنها إلى إيطاليا مروراً بالمنطقة العربية ووصولاً إلى أوروبا إحدى أهم محطاته، ومنها انطلق إلى القارة الأمريكية وأستراليا ونيوزيلندا.
ولعل هنري كيسنجر على حق حين يقول: إن كورونا سيغيّر النظام العالمي، والأمر لا يتعلق بالأضرار الصحية، وهي ليست قليلة ولا يستهان بها، لكن الأضرار التي تتعلق بالاقتصاد ستستمر لأجيال. ومعنى ذلك أن الجميع أصبح في دائرة الاستهداف على نحو عشوائي ومدمّر، وقد يؤدي ذلك إلى ضعضعة أركان بعض الدول العظمى بما فيها الولايات المتحدة، بسبب تداعياته الاقتصادية والمالية والتجارية والصناعية والزراعية والبيئية والقانونية والتربوية والتعليمية والثقافية والدينية وغيرها.
فلم تعد الحدود حاجزاً، فالوباء لا يفرق بين نظام وآخر وبين غني وفقير ومؤمن وغير مؤمن وأسود وأبيض، فبطشه وقسوته تطال الجميع، الأمر الذي يتطلّب تعاوناً دولياً لإطلاق مشاريع تتجاوز الإيديولوجيات والأديان والقوميات، وتأخذ مصالح البشر، شعوباً وأفراداً بنظر الاعتبار، لأن ليس بإمكان دولة مهما عظمت أن تتقي شرور الوباء بحكم كون العالم «قرية صغيرة» متواصلة ومتّصلة لدرجة التشابك.
وهكذا يصبح التعاون الدولي في المجالات كافة «فرض عين وليس فرض كفاية»؛ بل ضرورة من ضرورات مرحلة ما بعد كورونا، بتجاوز جميع أنواع الانغلاق والتعصّب والتطرّف والكراهية للآخر، لأن تعزيز القدرة العالمية على المواجهة تعني رفع درجة القدرة على الوقاية أولاً، ثم المعالجة، وأخيراً الرعاية والحماية اللّاحقة.
ويتطلّب ذلك تطوير مناهج البحث العلمي للأغراض السلمية والتخلّي عن الميزانيات الضخمة المخصصة للتصنيع العسكري والأغراض الحربية، وتوجيهها للصحة والتنمية والتعليم والبيئة وعلوم الفضاء وكل ما له علاقة بتحسين حياة الناس ورفاههم وضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، على صعيد كل بلد وعلى صعيد نظام العلاقات الدولية، بما فيه نظام إدارة المجتمع الدولي وتطوير الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
وكشفت الأزمة هشاشة العديد من الأنظمة السياسية التي لم تُولِ اهتماماً كافياً بالإنسان وحقوقه بما فيها «الحق في الصحة» الذي هو حق أساس بغض النظر عن الفوارق الطبقية والتفاوت الاجتماعي، مثلما أظهرت أهمية وضرورة «التدخل الإيجابي» للدولة ومساهماتها في تأمين الرعاية الصحية والضمان الصحي للجميع، حتى إن أنظمة تعاني شحّ الحريات كانت أكثر جاهزية وانضباطاً وقدرة على مواجهة الأزمة، بل إن بعضها أرسل دعماً لدول أكثر تقدماً، وتلك إحدى المفارقات التي أكدت أهمية التعاون الدولي لحماية الإنسان لأنه «مقياس كل شيء» على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوجوراس.
وبالعودة إلى قلم أينشتاين، فقد أهداه إلى أحد تلامذته النابغين وأصبح هذا رئيساً لجامعة بغداد (1958-1963) وظلّ يحتفظ بالقلم الثمين الذي خصّصه للتوقيع على شهادات الخريجين، لكنه فقده يوم اعتقل وأهين إثر انقلاب دموي (8 فبراير/‏شباط 1963)، واضطرّ بعدها إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة ليتوفى فيها العام 1969، إنه عبدالجبار عبد الله عالم الفيزياء النووية.
ما أحوجنا إلى قلم أينشتاين، بمعنى إلى العلم وإعلاء شأن العلماء لتحقيق مستلزمات النهضة في مواجهة المرض والجهل والتخلف، ففي ذلك يكمن سرّ الجواب على سؤال شكيب أرسلان (مفكر لبناني) «لما تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟».
drshaban21@hotmail.com


179
من دفتر الاختفاء القسري
عبد الحسين شعبان
قلّة من الذين اختفوا قسرياً عُرف مصيرهم، فقد ظلّ المرتكبون حريصين على إخفاء كل أثر لهم.
إن خبر اختفاء الناشر والإعلامي مازن لطيف، صاحب دار ميزوبوتيميا، والإعلامي والكاتب توفيق التميمي في بغداد، يعيد إلى الأذهان ملف الاختفاء القسري الذي ظل يتضخم باستمرار، حيث يعاني 88 بلداً منه، وامتد خلال العقود الأربعة الماضية إلى معظم القارات والبلدان، منها العراق ولبنان وسوريا وليبيا والجزائر والمغرب وإيران وتشيلي والأرجنتين والعديد من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وإفريقيا، ولم تسلم منه بلدان متقدمة مثل فرنسا، ولعل جيلي يتذكر حادث الاختفاء القسري للمهدي بن بركة من مقهى ليب في باريس.
وأستطيع القول: إن قلّة من الذين اختفوا قسرياً عُرف مصيرهم، فقد ظلّ المرتكبون حريصين على إخفاء كل أثر لهم، وباستعادة أسماء لامعة اختفت قسرياً منذ سنوات طويلة نذكر المهدي بن بركة 1965، موسى الصدر 1978، صفاء الحافظ وصباح الدرة وعايدة ياسين 1980، عزيز السيد جاسم 1991، عز الدين بحر العلوم وعدد من عائلته وعائلة آل الحكيم 1991، شبلي العيسمي 2011، والاستثناء في ذلك هو معرفة مصير منصور الكيخيا الذي اختفى منذ عام 1993 في القاهرة، حين كنّا في اجتماع للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومنها نُقل إلى طرابلس بصورة سرّية حسبما انكشفت القصة لاحقاً، ومكث في معتقل سرّي لغاية عام 1997 وتوفي بعدها.
الكيخيا لم يُدفن حينها، وإنما استبقي في ثلاجة (برّاد) لغاية عام 2011، وكُشفت ملابسات اختفائه بعد أن أدلى عبدالله السنوسي مدير المخابرات السابق باعترافاته. وقامت الدولة - الثورة بتكريمه في حفل مهيب (ديسمبر / كانون الأول عام 2012)، ووجه حينها رئيس الوزراء علي زيدان ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف دعوة إلى كاتب السطور لحضور الاحتفال الرسمي الذي أقيم تكريماً له، وسبق لي أن أصدرت كتاباً عنه (1998)، بعنوان «الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً».
وفي كل عام بين ديسمبر / كانون الأول وشباط / فبراير، وما بعده أستعيد ظاهرة الاختفاء القسري وملابسات العديد من الحالات التي اشتغلت عليها، من زاوية حقوقية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية وقانونية، فالمرتكبون في السابق والحاضر يراهنون على النسيان وذبول الذاكرة، ولا سيما بمرور الزمن، فتضعف المطالبة بتبيين مصير المختفين قسرياً، وتتلاشى القضية تدريجياً، بل ويصبح الأمر مجرد ذكرى، ولهذا فهم يعمدون على التعتيم، ويثيرون غباراً من الشك لإبعاد الموضوع عن دائرة الضوء وإبقائه في دائرة الظلّ، ولعلهم يأملون أن تتآكل القضية مع مرور الأيام، وذلك في إطار دورة الزمن وازدحام الأحداث.
وكنتُ أتساءل مع نفسي عند كل حالة اختفاء قسري، لماذا تمارس سلطة رسمية أو جهات تابعة لها أو بمعرفتها مهمات أبعد ما تكون عن وظائف الدولة، وكأنها أقرب إلى مهمات «عصابة»، فتخفي أثر مواطنة أو مواطن أعزل، وتضيّع سبل الاهتداء إليه، أو الاستدلال على مكانه، ومن ثم معرفة مصيره، وبإمكانها إلقاء القبض عليه، وتقديمه إلى القضاء إذا كان «متهماً» بارتكاب «جريمة» ما، أو اقترف مخالفة ما، عوضاً عن إخفائه قسرياً في جنح الظلام، علماً بأنه لا يملك إلا الامتثال للإجراءات القانونية.
ويسأل الرأي العام: لماذا تستبدل الدولة بوظيفتها، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس وضمان أمنهم وممتلكاتهم وتطبيق النظام العام، وظيفة جماعة خارجة على القانون، في حين أن مسؤولياتها تأمين التطبيق السليم للقانون على الجميع؟ وهل تستطيع الدولة أن تتذرع بعدم معرفتها؟ وهل بإمكان المسؤولين فيها إعفاء أنفسهم من المساءلة؟ وأين هي التحقيقات اللازمة؟ فتلك أسئلة برسم الدولة والقانون والقضاء.
إن ارتكاب جريمة «الاختفاء القسري» تعني انتهاك قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في أكثر من محور، سواء لحقوقه الفردية أو لحقوقه الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ويمكننا مقاربة ذلك من خلال:
1- حق الحياة والحرية والأمان الشخصي.
2- الحق في ظروف احتجاز إنسانية، أي عدم التعرّض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطّة من الكرامة.
3- الحق في الاعتراف بالإنسان شخصية قانونية، فالاختفاء القسري يحجب عن الإنسان الحق في إعلان شخصيته، لأنه مجهول المصير والمكان.
4- الحق في محاكمة عادلة.
5- الحق في حياة أسرية طبيعية.
وكانت الأمم المتحدة قد أولت قضية الاختفاء القسري اهتماماً متزايداً، ففي عام 1979 أصدرت قراراً بعنوان «الأشخاص المختفون» وفي عام 1980 أنشئ الفريق العامل المعني بمتابعة حالات الاختفاء القسري، وفي عام 1992 أصدرت إعلاناً أطلقت عليه «إعلان بشأن حماية الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي»، معتبرة ذلك جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير الضحايا، وهي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون عفو خاص. واعتمدت اتفاقية دولية في عام 2006 نصت على منع الجريمة والتحقيق في معاقبتها تماشياً مع قرارها رقم 39 الصادر في عام 1994، والذي عبّرت فيه عن قلق المجتمع الدولي إزاء استمرار هذه الظاهرة.




180
بيان لجنة السلام العربي حول دعوة امين عام الجامعه العربيه لوقف الحرب في سوريا واليمن وليبيا


23 مارس 2020/العواصم العربيه

اطلعت اللجنة على بيان معالي الأمين العام أ. أحمد أبو الغيط في الذكرى الماسية لتأسيس الجامعة وهي إذ تشيد بما احتواه وخاصة دعوته للوقف الشامل للحروب العربية الثلاث في اليمن وسوريا وليبيا التي تنعدم فيها أي مصلحة عربية قُطرية أو قومية ، كما يتضح من فجائع هذه الحروب العبثية وما ألحقته من تدمير وتجويع وتشريد وتفكيك للدولة الوطنية في الدول الثلاث ،وتدمير ما أنجز فيها على مدى عدة عقود، وشُرّع لأول مرة بأن تصبح قوى معادية لمصالح الأمة العربية وقضيتها المركزية "فلسطين "، طرفاً مباشراً في هذه الحروب واستحواذها على قراري الحرب والسلم .
وبهذا الصدد تعبر اللجنة عن تثمينها لبيان الأمين العام الذي عبّر عما يجيش في ضمير كل عربي ،سواء في تشديده على أهمية الأمن القومي العربي الذي لايتجزأ ،والذي لن تقوم له قائمة إلا في ظل علاقات عربية صحية ،ومناخات سلمية ونبذ اللجوء إلى استخدام القوة بين الأشقاء لحل الخلافات البينية العربية والاستعانة بالأجنبي .
إن اللجنة تؤيد مطالبة الأمين العام بإسكات المدافع التي توجهُ إلى صدور وبيوت ومزارع ومصانع ومدارس ومساجد وكنائس وجامعات أشقاء ،وليس نحو الأعداء المتربصين بنا .
لقد أُهدرت موارد ثمينة كان الأجدر بها أن تُوجه إلى التنمية والقضاءِ على الأمية والفقر والتخلف الذي يعشعشِ في كل الدول العربية وعلى رأسها تلك المنخرطة في صراعات لاطائل منها. إن القوى الخارجية عندما تساعد هذا الطرف العربي أو ذاك في حربه ضد جاره وشقيقه ،فهي تخدم مصالحها في المقام الأول وتوظف سلاحنا وعقولنا ومواردنا لخدمة أهدافها الخبيثة والشريرة.لقد عانى اليمنيون والسوريون والليبيون طوال سنوات الصراع التي يبدو أن نهايتها ليست قريبة . وفي هذا الجو المسموم لن تقوم للأمن العربي قائمة ،وستزداد جامعة الدول العربية ضعفا والعمل العربي المشترك تشرذما.
ولكي يُفَعِّل الأمين العام مبادرته يحدو باللجنة الأمل أن تقوم الجامعة بما يلي:

1- أن تضع الأمانة العامة على جدول أعمال القمة العربية القادمة في الجزائر بنداً لإنهاء هذه الحروب، وكذلك دعوة الحكومه السورية الى إشغال مقعدها في الجامعة العربية وبكافة مؤسساتها.وأن ينبثق عن القمه لجنة رئاسية بالاضافة الى الامين العام ،للعمل على وقف الحرب في الاقطار الثلاث ،والزام الأطراف المتنازعه الجلوس على مائدة الحوار والتوافق.

2- أن تدعو الجامعة وقبل انعقاد القمه العربية القادمة إلى حوارات في مقر الجامعة تضم ممثلي كل الدول الثلاث الرسميين وغير الرسميين وبحضور شخصيات عربية فكرية وسياسية وازنة غير منحازة، ليناقشوا بحرية وشفافية ومن منطلق المصلحتين الوطنية والعربية، مشكلاتهم وخلافاتهم وسبل إيجاد حلولٍ لها بعيدا عن أي مؤثرات خارجية. بحيث تكون خلاصة تلك الحورات دليلاً يعين القمهة على تحديد الاتجاهات التي ستقود الى تحقيق المصالحات الشاملة في الاقطار الثلاثة .وبذلك تستعيد الجامعة دورها وثقة الجماهير العربية بها ،وتؤسس اللبنة الأولى للأمن القومي العربي .

والله ومصلحة الامه العربيه من وراء القصد

الموقعون :
1) الإمام الصادق المهدي- رئيس المنتدى العالمي للوسطية، رئيس وزراء السودان السابق- السودان.
2) الدكتور عبد السلام المجالي - رئيس جمعية الشؤون الدولية، رئيس وزراء الأردن السابق- الأردن.
3) المهندس سمير حباشنة- رئيس الجمعية الأردنية للعوم والثقافة، وزير الداخلية الأسبق- الأردن/منسق المجموعة .
4) السيد عباس زكي- عضو اللجنة المركزية لحركة فتح – فلسطين.
5) المهندس فلح حسن النقيب – وزير الداخلية السبق – العراق .
6) السيد رفيق عبد السلام بوشلاكة وزير خارجية تونس الأسبق ورئيس الدراسات الأستراتيجية و الدبلوماسية.
7) السيد نبيل ابن عبد الله / وزير سابق / المغرب .
8) الدكتور عدنان السيد حسين- رئيس الجامعة اللبنانية سابقاً - وزير سابق – لبنان.
9) المهندس مروان الفاعوري- الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية- الأردن.
10) الدكتور أكرم عبد اللطيف - عضو المجلس الوطني – فلسطين .
11) الشيخ قصي اللويس – رئيس مجلس القبائل السورية .
12) الدكتور عبد الحسين شعبان - كاتب ومفكر – العراق
13) د.عاطف مغاوري / كاتب ومفكر – مصر .
14) د.محي الدين المصري..مفكر وكاتب مندوب الاردن الدائم/مساعد مدير عام المنظمه العربيه للتربيه والثقافه والعلوم سابقاً.
15) السيد محمد عبد السلام العباني – رئيس المؤتمر الوطني الجامع الليبي .
16) السيد سيف المسكري- مندوب عُمان في مجلس التعاون الخليجي بالرياض سابقاً- عُمان.
17) الأستاذ صالح قوجيل / عضو المجلس الوطني – الجزائر
18) الدكتور محمد طلابي- كاتب ومفكر – المغرب. الدكتور حلمي الحديدي رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية.
(19 السيد حسين فضلي - اليمن - سفير سابق .
(20 السيد محمد عمر بحاح - اليمن -سفير سابق.
(21 السيد علي محسن حميد - اليمن- سفير سابق .
(22 السيد محمد شفيق صرصار - رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات سابقا- تونس



181
 

هل «الوطنية» من إرث الحرب الباردة؟

عبد الحسين شعبان
في حركة الاحتجاج العربية بطورها الثاني في الجزائر والعراق ولبنان والسودان برز صراع خفي ومعلن بين مجموعتين كلاهما يتشبّث بالوطنية، وهو امتداد لصراع قديم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بالولاء الإقليمي أو الدولي، فالوطنية ستكون ناقصة ومبتورة، بل مشوّهة إذا كانت بلا حرّيات ولا حقوق، وكذلك إذا كانت تتحرّك تلبية لمصالح إقليمية أو دولية أو توظف بعيداً عن المصالح العليا للبلاد.
لقد كان صراع «الوطنية» عنواناً حاداً أيام الحرب الباردة، حين كانت الحكومات والمعارضات تتأرجح أحياناً بين معسكرين متناحرين يحاول أحدهما إلغاء الآخر، فاليساري لا يجد ضيراً في ولائه الأممي، والناصري والبعثي يجدان في ولائهما «القومي» الأساس في هوّيتهما العربيّة، في حين يتشكل ولاء الإسلامي بالانتماء إلى «الأمة الإسلامية»؛ وهكذا تكون الأممية والقومية والإسلامية عابرة للحدود الوطنية وأحياناً بتعارض مع المعيار الوطني.
إن صراع الماضي يستجد حاضراً بأشكال مختلفة، فأصحاب الولاء الإقليمي يتهمون أصحاب الولاء «الدولي»، ويغمزون التحرك للمطالبة بالحقوق والحريات باعتباره استجابة لإشارة أجنبية، والعكس الصحيح أيضاً، حين يصبح الولاء الدولي «مبرّراً» والولاء الإقليمي اتهاماً، ولعلّ مثل هذه النظرة الإسقاطية هي امتداد لإرث الحرب الباردة، فما قيمة الوطنية دون حقوق وحريّات؟ وما قيمة الحقوق والحريات حين يكون الوطن مرتهناً للأجنبي؟
وتتوزع الاتهامات بين من يحاول التقليل من قيمة الحقوق والحريات بزعم التهديد الخارجي، ولا يعني ذلك سوى الاستكانة والرضوخ والقبول بحكم الاستبداد، كما إن الاستهانة بضغط الخارج ومحاولات إملاء الإرادة والاستسلام، إنما تعرّض البلاد والحرّيات والحقوق ذاتها إلى مخاطر تتعلّق بالوجود، فهناك ترابط وثيق ومحكم بين الحقوق والحريات الذي بهما يمكن مجابهة التحدّي الخارجي وحماية الاستقلال وتحقيق التنمية المستدامة، إذْ إنّ شحّ الحقوق والحريّات يؤدي إلى إضعاف إمكانية المقاومة والتصدي للخطر الخارجي أياً كان مصدره إقليمياً أم دولياً، وتلك معادلة أثبتت التجارب التاريخية أهمية الحفاظ على توازنها ودقتها، وأي اختلال في موازينها يؤدي إلى اختلال في معيار الوطنية ذاتها.
وعلى الرغم من مضي أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب إلّا أن الكثير من بقاياهما ما يزال يهيمن على المشهد السياسي الراهن وإن اتخذ أبعاداً جديدة، في حين أن الدرس الأول في الوطنية يعلّم أن لا إفراط ولا تفريط، ولا بدّ من مراعاة المصالح العليا في إطار التطور الكوني، وشرط ذلك الحقوق والحرّيات، فالعالم العربي ليس جزيرة معزولة، وإنما هو أرخبيل مفتوح على كل الاتجاهات، ولابدّ أن يتفاعل مع العالم والإقليم في إطار من التوازن وحماية المصالح وتبادل المنافع.
استعدتُ ذلك في براغ حين إلقائي محاضرة بدعوة من النادي الثقافي العراقي ارتباطاً بالتطورات التي يشهدها العالم العربي، فقد ظل الاعتقاد السائد أن مجتمعاتنا أصيبت بالشيخوخة والسبات العميق، وأن الروح الوطنية فيها خبت أو انطفأت، وأن الأنظمة الشمولية التي تحكّمت بمصائرها تمكّنت من تدجينها، وإذا بها تفاجئ الجميع، حين خرج المارد من القمقم، بشعارات بسيطة لكنها عميقة: «نريد وطناً» وحرّية وكرامة وعدالة، وتلك كانت شعارات الموجة الثانية للتغيير على المستوى العالمي التي شهدتها أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.
وكانت الموجة الأولى قد بدأت بالتحوّل الديمقراطي في أوروبا الغربية، حيث شهدت السبعينات الانعطاف نحو الديمقراطية في اليونان بعد الإطاحة بحكم الجنرالات وفي البرتغال بإسقاط دكتاتورية سالازار وفي إسبانيا بعد وفاة فرانكو.
ولم يكن لحركة التغيير العربية في طورها الأول الذي بدأ في تونس ومصر وامتدّ إلى عدد من البلدان العربية (2011)، رمز قيادي أو زعيم مخلد أو قائد ملهم وفوق حدود النقد، مثلما لم يكن لها نصوص مقدسة، ولم تقم على يقينيات أو سلفيات أو وعود، فقد كانت عابرة للإيديولوجيات والاصطفافات القومية والدينية والطائفية، وتجاوزت الأحزاب الكلاسيكية ولغتها الخشبية، من خلال فعل ثوري وطني جديد ونمط مختلف من التفكير والممارسة، لاسيّما بتعمّق الوعي الثقافي والإصرار على سلمية حركتها، وهكذا بدأت تنمو في جوف المجتمع اتجاهات جديدة ترفض الوصاية والأبوية والانصياع الإيديولوجي والتاريخي بعناوينه المختلفة، فقد كان يكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب في السهل كلّه حسب ماوتسي تونج.
ودون تفاؤل مفرط أو تشاؤم محبط، بتضخيم الذاتي على الموضوعي أو بالعكس، فإن ثمة أوضاعاً استثنائية تحتاج إلى معالجات استثنائية، وتلك تتطلّب قراءة ونقداً للواقع، لاسيّما بعد فشل المشاريع الكبرى الاشتراكية والقومية والإسلامية، وذلك من خلال توجّه وطني ذي هويّة جامعة.
drhussainshaban21@gmail.com



182
السرّ الأكثر علانية
العراق يتجه إلى المجهول
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
بعد فشله (للمرّة الثالثة) في إقناع البرلمان بتمرير حكومته، انسحب رئيس الوزراء المكلّف محمد توفيق علاوي بانتهاء المدّة الدستورية، محمّلاً جهات سياسية، لم يفصح عنها، المسؤولية في عرقلة مهمته، متهمها بأنها غارقة في الفساد والمتاجرة بالطائفية والعرقية وأنها  كانت تتفاوض للحصول على "مصالح ضيقة" على حساب قضية الوطن ومصلحته، رافضاً " الاستمرار بالمنصب على حساب معاناة الشعب". ولعلّ ذلك كان خيبة أمل بالنسبة لعلاوي الذي اصطدم بجدار حديدي أساسه نظام المحاصصة الطائفي - الإثني الذي جاء به والذي لم يستطع تجاوزه على خطى سلفه عادل عبد المهدي الذي اضطر للاستقالة.
وبينما كان أعضاء البرلمان مجتمعين للتصويت على حكومة علاوي، كانت أصوات المتظاهرين تعلو في ساحة التحرير تندّد بالسلطة وأحزابها وترفض حكومة المكلف علاوي، وتطالب بمحاسبة المسؤولين عن قتل المئات منهم وجرح الآلاف، ووضع حد لنظام الفساد والتقاسم الوظيفي وإجراء انتخابات مبكرة واعتماد المعايير التي حدّدتها لاختيار رئيس وأعضاء مجلس الوزراء من المستقلّين وغير المحسوبين على أحزاب السلطة المشاركين في الحكم منذ العام 2003، فضلاً عن تمتعهم بالنزاهة والكفاءة والوطنية .
وهكذا يستمرّ المشهد السياسي العراقي في تعقيداته وإشكالياته التي أصبحت معتّقة ومزمنة، تلك التي زادتها انقسامات الكتل الشيعية وصراعاتها الداخلية وتجاذباتها في الموقف من حكومة محمد توفيق علاوي، التي اتسمت باتساع حجم التباعد والتنافر فيما بينها، وخصوصاً بين كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي وكتلة "سائرون" برئاسة مقتدى الصدر، وذلك لرفض المالكي ترشيح علاوي في حين كان الصدر وبدعم من هادي العامري رئيس "كتلة الفتح" من يقف خلف ترشيحه ، وهو الأمر الذي سبقه أيضاً التوافق بينهما على ترشيح عادل عبد المهدي، ويعود اليوم إلى الواجهة مطالبة كتلة سائرون بحقها في ترشيح رئيس الوزراء باعتبارها الكتلة الأكبر، استناداً إلى تفسير المحكمة الاتحادية ، بعد فشل مرشحها المشترك علاوي بالاتفاق مع كتلة الفتح برئاسة العامري.
ولعل مثل هذا الصراع الشيعي - الشيعي المعلن والمستتر،  يؤكد على تفتت ما سمّي بالبيت الشيعي الذي احتكر سلطة الحكم لستة عشر عاماً، وذلك سينعكس مجدّداً على المرشح الجديد، حيث ستقف الكتل الشيعية واحدة بمواجهة الأخرى عند اختيار المرشح الجديد، لاسيّما الخلاف بين كتلتي سائرون ودولة القانون، مما قد يؤدي إلى إفشال أي مرشح جديد وبذلك يمكن لتجربة علاوي أن تتكرّر بحيث يتم تعطيل الإتيان برئيس وزراء جديد  ليدخل العراق في دوامة الفراغ الدستوري، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء المستقيل عبد المهدي في رسالته المؤرخة في 19 فبراير (شباط) الماضي والموجهة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وعاد وكرره بعد فشل مهمة علاوي بإعلان "غيابه طوعياً" كرئيس لمجلس الوزراء، علماً بأن وزارته قد تحوّلت إلى وزارة تصريف أعمال منذ قبول استقالته من جانب البرلمان في 1 ديسمبر (كانون الأول) 2019.
لقد تجمّعت قوى عديدة من خارج البرلمان ومن داخله للإطاحة بعلاوي ، فإضافة  إلى كتلة دولة القانون، هناك "التحالف الكردستاني" وبخاصة رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، و"تحالف القوى العراقية" برئاسة محمد الحلبوسي و"القائمة العراقية" برئاسة إياد علاوي، إضافة إلى معارضة شديدة من جانب حركة الاحتجاج. وهكذا وبانسحاب رئيس الوزراء المكلّف بات من الضروري البحث عن رئيس وزراء جديد، طبقاً للسياقات الدستورية، على الرغم من استمرار الأزمة الطاحنة التي تلفّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها منذ اندلاع حركة الاحتجاج التي لم يسبق لها مثيل تلك التي اندلعت في الفاتح من أكتوبر (تشرين الأول) العام 2019، وتوسّعت وتجددت في 25 من الشهر ذاته وهي ما تزال مستمرة حتى الآن على الرغم من انتشار الفايروس القاتل كورونا إلّا أن المتظاهرين رددوا بتحدٍّ :" كورونا لا يخيفنا والسياسيون هم الفايروس الحقيقي"، علماً بأن الجدل والصراع أخذا بعداً دستورياً أيضاً بشأن الجهة الرسمية التي يمكن أن تحلّ محلّ رئيس الوزراء.
إن استقالة عادل عبد المهدي وانسحاب محمد علاوي أعاد الكرة مرّة أخرى إلى ملعب رئيس الجمهورية والكتل الشيعية لاختيار مرشح جديد لرئاسة الوزارة يتم تكليفه من جانب رئيس الجمهورية، وهو الأمر الذي سيعيد التجاذبات والاحتكاكات مجدداً  بينها من جهة وبين الكتل الأخرى فيما إذا كانت الشخصية المرشحة مقبولة أو غير مقبولة من طرفها، فضلاً عن موقف حركة الاحتجاج الشعبية ورؤيتها من جهة أخرى، خصوصاً وأنها وضعت معايير لم يتم اعتمادها من جانب الكتل التي رشحت علاوي، الأمر الذي أدى إلى رفضه شعبياً، بغض النظر عن صراعات القوى السياسية التي حجبت الثقة عنه في البرلمان، وكل يغني على ليلاه، بمعنى مصالحه الخاصة ويقدّم بذلك مبرراته وأسبابه.
وحسب المادة 81 من الدستور يمكن لرئيس الجمهورية أن يتولى مهمات رئيس الوزراء إذا شغر المنصب لأي سبب كان، لكن ثمة من له تفسير آخر لمثل هذا النص، لاسيّما بوجود نائبين لرئيس الوزراء يمكنهما القيام بمهماته وممارسة صلاحياته، الأمر الذي يستبعد تحقّق شروط المادة المذكورة، لكن مثل هذا الرأي يفنّده قبول مجلس النواب (البرلمان) استقالة وزارة عادل عبد المهدي  في 1 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، وتكليف رئيس الجمهورية لمحمد توفيق علّاوي بتشكيل وزارة جديدة، وحتى لو استدرك رئيس الوزراء عن استقالته، فإن مجلس النواب كان قد وافق عليها وأصبح قراره نافذاً.
وفي ظلّ الانقسامات الحادة والتشظي الواسع والاستقطابات الجديدة، فإن مهمة تكليف رئيس وزراء جديد وحصول الأخير على ثقة البرلمان من جهة، وثقة حركة الاحتجاج من جهة ثانية، تبدو صعبة جداً وإن لم تكن مستحيلة، حتى وإن كان الهدف هو تشكيل حكومة انتقالية تضع في صلب برنامجها خيار إجراء انتخابات مبكرة على أن يكون حدّها الأقصى نهاية السنة الحالية (2020)، غير أن مشكلات جدّية وعقبات عديدة تواجه هذه المهمة، منها قانون الانتخابات الذي لم يكتمل بعد لكي يصادق عليه رئيس الجمهورية، وستطرح من هذه المهلة مدّة الـ 15 يوماً التي حدّدها الدستور لتكليف رئيس الجمهورية لرئيس وزراء جديد، وهذا الأخير سيأخذ فترة 30 يوماً ليتقدّم بوزارته إلى البرلمان لنيل الثقة، وكلّ هذه الأمور ستحتسب على موعد إجراء الانتخابات والتي قد تؤدي إلى تأخيرها، علماً بأن حركة الاحتجاج تعلن بكل صراحة ووضوح أنها مستمرة لاستعادة الوطن والكرامة والعدالة.
ويحاول رئيس الجمهورية عقد اجتماعات مع رؤساء الكتل، ولاسيما مع القيادات الشيعية، حيث التقى مع رئيس "تيار الحكمة" عمار الحكيم ورئيس "كتلة ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي ورئيس "تحالف الفتح" هادي العامري ورئيس "ائتلاف النصر" حيدر العبادي ، وقد تردّد بعض أسماء مرشحة هي :
1- مصطفى الكاظمي - مدير المخابرات الحالي
2- محمد شياع السوداني - وزير الشؤون الاجتماعية السابق
3- علي الشكري- وزير التخطيط السابق
4- حيدر العبادي - رئيس الوزراء الأسبق،
وهناك أسماء أخرى مثل عدنان الزرفي محافظ النجف السابق ونعيم السهيل مستشار الرئاسة سابقاً وأسعد العيداني محافظ البصرة السابق، كما تردّد إمكانية إعادة تكليف عادل عبد المهدي مجدداً لرئاسة الوزراء. وكان تحالف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر قد وضعت شروطاً أساسية لدعم أي مرشح لرئاسة الوزراء خلفاً لرئيس الوزراء المكلّف محمد علاوي، وأولها موافقة المرجعية الدينية، تلك التي كانت كلمتها نافذة في السابق والحاضر ، سواء في اختيار علاوي أم عبد الهادي أم العبادي أم المالكي، وهو ما يحملها البعض مسؤولية هذا الخيار ، على الرغم من أنها تحاول كما تقول عدم زج نفسها بشكل مباشر في مثل هذا الاختيار الصعب، دون إغفال الدور الإيراني المتغلغل والنفوذ الأميركي الذي يحسب له حساب أيضاً.
والجدير بالذكر أن المادة 76 تعطي الحق لرئيس الجمهورية في ترشيح من يراه مناسباً بعد فشل المكلّف الذي رشحته الكتل السياسية، علماً بأن التوافق بين المجموعات الشيعية أصبح صعباً جداً ، خصوصاً بعد انقسامها بين مؤيد ومعارض لمحمد توفيق علاوي، الذي تمت الإطاحة به بالتعاون بين كتل شيعية وكتل من خارج دائرة ما يسمى بالبيت الشيعي من الكتل الكردية والسنية حسب المصطلحات السائدة.
ويبدو أن "كتائب حزب الله" الموالية لإيران هي من يؤيد ترشيح عادل عبد المهدي، لاسيّما بعد مهاجمة ناطق باسمها " أبو علي العسكري" مصطفى الكاظمي رئيس جهاز المخابرات، الذي يتردد اسمه باعتباره بديلاً لعلاوي، وقد سبق لها أن دعت إلى إجلاء القوات الأمريكية من العراق وقامت بأنشطة عسكرية ضد السفارة الأمريكية في بغداد، علماً بأن البرلمان العراقي صوّت لصالح سحب جميع القوات الأجنبية من العراق في ظلّ معارضة وغياب كردي وسنّي .وتعتبر "الكتائب" ترشيح الكاظمي لشغل منصب رئيس الوزراء بمثابة "إعلان حرب على الشعب العراقي الذي سيحرق ما تبقى من أمن العراق" وقد ردّ بيان صادر من رئاسة المخابرات على اتهامات كتائب حزب الله العراقي معتبراً إياها باطلة وهدفها إيذاء العراق.
وإذا كانت القوى الكردية لا تمانع من ترشيح عادل عبد المهدي مجدداً، كما جاء ذلك على لسان قباد الطالباني  نائب رئيس وزراء إقليم كردستان، فإن الكتلة السنّية " تحالف القوى العراقية" (برئاسة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي) لا تريد استنساخ تجربة ثانية له أو لمحمد علاوي، وتفضل شخصية مقبولة للمضي معها، كما جاء على لسان محمد الكربولي.
وكان عادل عبد المهدي الذي أعلن عن غيابه الطوعي قد قال في رسالته التي سبقت الإشارة إليها أنه " لن يلبي أي دعوة لإجراء لقاءات أو مباحثات اجتماعية رسمية محلية أو أجنبية، داعياً إلى حل البرلمان قبل 60 يوماً من تاريخ إجراء الانتخابات المبكرة " إلا أنه أوضح قائلاً  إن ذلك " لا يعني عدم احتمال اللجوء لاحقاً إلى إعلان خلو المنصب وفق المادة 81 من الدستور، إذا لم تصل القوى السياسية والسلطات التشريعية والتنفيذية إلى سياقات تخرج البلاد من أزمتها الراهنة وفق المادة 76 من الدستور".وسواءً تم الاتفاق بين الكتل المتصارعة على مرشح أو لم يتم الاتفاق عليه فإن مهمته حتى وإن كانت انتقالية ومؤقتة لكنها ستكون مضنية ، خصوصاً بالضغوط التي سيتعرض لها من جانب القوى المتنافرة والتي قد تفشل مهمته مرة أخرى ، حتى وإن تم اختياره كمرشح تسوية .
وفي حين تتصارع الكتل والقوى الطائفية والإثنية على المواقع والمناصب بشراهة وأنانية وعدم شعور بالمسؤولية  في السر والعلن غير آبهة بمطالب القوى الشعبية واحتجاجاتها وغير مكترثة بالدماء التي سالت فإن البلاد تنحدر يوماً بعد آخر إلى المجهول، لاسيّما باستمرار أزمة الحكم المستفحلة منذ 17 عاماً.




183
مقدمة الطبعة الثانية
 لكتاب الهوية والمواطنة

الحاجة إلى الإصغاء واحترام الخصوصيات


عبد الحسين شعبان

انشغلت بموضوع “الهويّة والمواطنة” منذ أكثر من ثلاث عقود من الزمان ، ارتباطاً بالتغييرات الكبيرة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية بانتهاء عهد ” الحرب الباردة” بشكلها السابق والصراع الأيديولوجي بين النظامين المتصارعين “الرأسمالي والاشتراكي”، لاسيّما بانفجار موضوع الهويّات على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي غيّر الكثير من المسلّمات والفرضيات، فاستوجب إعادة النظر بعدد من القناعات والاستنتاجات، سواءً على الصعيد الفردي أم على الصعيد المجتمعي، للصلة الوثيقة بين العام والخاص، والوطني والفردي والشامل والفرعي.
ولم تكن ظاهرة “انبعاث” الهويّات لدرجة التذرر أحياناً، ناجمة عن إرادة مسبقة أو رغبة في التفلت من الكيانات السابقة فحسب، بل انعكاساً لواقع جديد وتعبيراً عن تمظهرات مستحدثة موضوعياً وذاتياً، بتداخلات خارجية واستقطابات داخلية، خصوصاً وقد رافقها أعمال عنف ونزاع وحرب بعد جدل وصراع، استعرت آواره بفعل صعود عوامل التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك سيقود إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً منفلتاً من عقاله باستهداف المجتمع والدولة معاً، وهدفه إضعاف ثقة الفرد بالدولة وإحداث نوع من الرعب والفزع  في المجتمع بما فيه إضعاف ثقته بالدولة، ناهيك عن أنه يصبح إرهاباً دولياً عابراً للقارات والحدود والبلدان.
وقد حاولت معالجة موضوع “الهويّة والمواطنة” من زوايا مختلفة، سواء هويّة الجماعة الثقافية أم هويّة الفرد الثقافية آخذاً بنظر الاعتبار التحوّلات والتغييرات التي شهدتها هويّة الجماعة أو الفرد كجزء من صيرورة تاريخية دينامية متعدّدة ومتنوّعة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف بما يتناسب مع درجة التطور في كل مجتمع وكل مجموعة بشرية وكل فرد، بلحاظ القواعد القانونية العامة في الدولة العصرية، تلك التي تتيح الإمكانات لمواطنة سليمة ومتكافئة.
وفي إطار الهويّة، وفي لبّها تتفاعل عوامل عديدة قومية ودينية ولغوية وسلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وغيرها، مرّة بمعناها التشاركي وأخرى بمعناها التنازعي، وتارة بمعناها العام الجامع والمشترك وثانية بمعناها الفرعي الخاص والمتميز، والأخيرة غالباً ما تكون دفاعية ضد التسيّد أو الهيمنة أو رفض الاستتباع وقد تندفع مرغمة على الانعزال، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي، مثلما تأخذ تلك التجاذبات مكانها في البحث عن تكافؤ الفرص لمواطنة متساوية ومتكافئة .
هويات متعددة
وهناك تداخل وتفاعل لدرجة الاندغام أحياناً بين هويّات متعدّدة لدى كل فرد ولدى كل مجموعة بشرية، وتلك هي ما يميّزها عن غيرها، لاسيّما لشعورها بالانتماء، مثلما تميّز الفرد عن غيره، والأمر يعود إلى القناعة الخاصة من جهة والشعور الذي يجمع من ينتمون إلى هذه المجموعة، أو لدى الفرد الواحد من جهة أخرى، بحيث يقر أن هذه السمات هي التي تعبّر عن هويّته الغالبة أو أن هذه المجموعة تشعر أن هذه المواصفات هي التي تمثل شعورها الخاص بالتميّز أو التمايز عن غيرها من المجموعات الإنسانية.وكان صدور الطبعة الأولى من كتابي ” الهويّة والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة ”  يناير /كانون الثاني 2017 وقبلها  كتابي المعنون “جدل الهويّات في العراق- الدولة والمواطنة” في العام 2010 وقبله كتابي الموسوم ” من هو العراقي؟- إشكالية الجنسية واللاّجنسية في القانونين العراقي والدولي، في العام 2002 فرصة جديدة لتوسيع دوائر الحوار والجدل والنقاش الذي احتدم على المستوى العالمي، ناهيك عن انعكاساته عربياً.ومثل تلك الفرصة كانت مناسبة لإجراء مقارنات ومناظرات مع تجارب شتى أوروبية وأمريكية لاتينية وآسيوية وأفريقية، لاستخلاص المشتركات من جهة ولتأشير المختلفات من جهة أخرى، لاسيّما فيما يتعلق بهويتنا، خصوصاً حين ينصرف التفكير  إلى أسئلة قديمة – جديدة، وربما راهنة ومستقبلية من قبيل :  كيف يمكن أن نحصّن هويتنا الوطنية ونوازن بين ما هو فردي وعام وفرعي وشامل بحيث نبني ثقافة وطنية قائمة على المشتركات الإنسانية أساسها جدلية الوحدة والتنوّع في آن، والمرتكزة على كونية القيم وخصوصية الأداء والممارسة ؟ وأخيراً كيف السبيل للتواؤم مع قيم الحداثة دون القطيعة مع التراث؟وإذا كان ذلك يتعلق بالهويّة فما هي الأولويات التي تطرح نفسها بخصوص المواطنة  التي تتمايز وتختلف عن الوطنية أو الجنسية؟ والمواطنة مسألة سلوكية تعني كل فرد من أفراد المجتمع وهي تتألف من اتحاد مواطنين، وكل مواطن له حقوق وعليه واجبات، وهذا الفهم يختلف عن “الرعايا” أو “التابعين” ، أي أن الأخيرين ملحقين في حين أن الأول يعتبر مصدر السلطة إذا ما جمعنا المواطنين إلى بعضهم وهو ما يتم التعبير عنه بالصياغات الدستورية ” الشعب مصدر السلطات”.والمواطن أي مواطن معني بثلاث قضايا: علاقته بالدولة كيف تؤطر، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيراً مسؤوليته كعضو فاعل في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، باعتبار أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيه. وتتكوّن هويّة المواطنين من السمات المشتركة والجامعة خارج دائرة الأيديولوجيات والأديان والطوائف، وهي هويّة غير إستنتاجية وغير دوغماتية أو أيديولوجية، بل عفوية تلقائية صميمية ، من خلال المشتركات والقيم التي يجتمع المواطنون عليها، وبالطبع فاللغة ركن أساس من أركانها والذاكرة المشتركة والتاريخ المشترك والدين والعادات والتقاليد والآداب والفنون التي نشأوا عليها.
وتلتصق صفة المدنية بالمواطنة وهو ما جاء في لسان العرب فالوطن هو المشترك ومكان الإقامة ، سواء ولد فيه الإنسان أم لم يولد، والمواطنة أساسها المعايشة والمشاركة في هذا الوطن، أي المشاركة في العيش معاً، والتي يترتب عليها مسؤوليات اجتماعية وثقافية تتجاوز مسألة الأرض، لأنها تشمل العلاقات ونمط العيش والتفكير والحقوق، ناهيك عن شكل من أشكال الارتباط في إدارة الشؤون العامة ، وتحتاج هذه إلى برامج عمل ثقافية وتربوية وتعليمية لتحديد مكوّناتها وأسسها مثل: العلاقة بالمكان، العلاقة بالأشخاص الذين يسكنون هذا المكان ، العلاقة بمن يحكم هذا المكان ويدير الشؤون العامة فيه.وتختلف تلك المواصفات من بلد لآخر، ففي البلدان المتعددّة الثقافات تتداخل الهويّات العامة الجامعة والمشتركة ، مع الهويّات الخاصة والفرعية، وتحتاج بقدر الإقرار بالهويّة الجامعة، إلى اعتراف باستقلالية الهويّات الفرعية ، وفقاً لقاعدة حقوقية تربط بين ثقافة المجال العام المشترك والمتكوّن من مجموع الثقافات، ليس بمعنى حاصل جمع هذه الثقافات وإنما بمشتركاتها الإنسانية وبين ثقافة المجال الخاص مع الأخذ بعين الاعتبار التطوّر التاريخي والتأثيرات المتبادلة بين الثقافات، دون نسيان بعض جوانب التأثير في الثقافة السائدة وانعكاساتها لاعتبارات أخرى، فضلاً عن القيم المشتركة.
جدل الهويات
ولكي يكون الأمر في إطار جدل الهويّات وليس صراعها، أي تقليص الفوارق وتعظيم الجوامع، فلا بدّ من إيجاد نوع من التطامن القائم على المصالح المشتركة المشروعة في بوتقة جامعة، وهي ما يطلق عليه الصديق المفكر انطوان مسرّة ” المواطنة البراغماتية” وذلك تجنباً لصراع الأيديولوجيات في كتابه ” الثقافة المواطنية في المجتمع التعددي”   ونزاع الهويّات وتناحر المصالح، ويضرب مثلاً للبنان الذي يقول إن ” الحاجة تنقل صلابة النسيج الاجتماعي الحي إلى المجال العام”.
وإذا كانت الذاكرة الجماعية المشتركة  خزين لتفاعل الهوّية فهي حكماً تحتاج إلى  مناهج تربوية وتعليمية مشتركة تأخذ بنظر الاعتبار المشتركات مجنّبة التاريخ من الاسقاطات الأيديولوجية عليه، تلك التي تحول دون إكسابه الطابع العلمي والموضوعية المطلوبة.
والمواطنة التي تقوم على مرتكزات أساسية قوامها: الحرية والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية والشراكة والمشاركة في الوطن،  لا يمكن أن تعتمد على التلقين أو تمرّ من قنوات أيديولوجية أو تخضع لتقسيمات دينية أو طائفية، بل تحتاج إلى ممارسة حقوقية وحوار مستمر قطاعي ومجتمعي وقواعد قانونية تحمي المواطن الفرد مثلما تحمي حقوق المجموعات الثقافية وهوّياتها الفرعية ذات الخصوصية التي ينبغي احترامها.وإذا كانت الهويّة الوطنية قد لعبت دوراً جامعاً في فترة ما بعد الاستعمار، فقد كان هذا الدور عفوياً للشعور بالاستلاب من جهة، والرغبة والإرادة في الانعتاق من جهة أخرى، ولذلك أدارت المجاميع الثقافية حواراً فيما بينها على نحو تلقائي صميمي أساسه الدفاع عن الوجود بما فيه إذكاء وتعزيز الانتماء الوطني والشراكة بين أبناء الوطن الواحد، فضلاً عن الشعور بالاندماج والتفكير المشترك بالجامع والموحّد دون نسيان التمايزات والخصوصيات، وحسبنا هنا أن نستذكر المواجهة المتّسمة بالوحدة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني في العراق  وضد الاحتلال الفرنسي في سوريا ولبنان.
ولعل أكبر التحديات التي تواجه الهوّية اليوم هو تحويلها إلى واقع حال، لاسيّما في ظل الانقسامات الطائفية والإثنية، التي دفعت بالهويّات الفرعية دينية أم إثنية أم لغوية أم سلالية إلى محاولة التفلّت بسبب ما لحقها من تسلط وتهميش في فترة ما بعد الاستقلال، دون التغافل عن العوامل الخارجية التي حاولت العزف على هذا الوتر، بهدف إضعاف الهوّية الوطنية في كل بلد عربي وعلى المستوى القومي.
وبالطبع فإن الممارسة الخاطئة والضارة والنظرة الأيديولوجية المتعالية والمسبقة لفكرة المواطنة هي التي عقّدت المشهد السياسي ووضعت عقبات أمام بناء ثقافة وطنية جامعة وهويّة صلبة ومتماسكة وشاملة تقوم على احترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، والأمر لا يتعلق ببلداننا وهوّيتنا وثقافتنا ذات البعد العربي الإسلامي وإنما يتصل بالعالم أجمع، خصوصاً في أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشمولية، لدرجة إن بعضها خاض حروباً دموية وتشظى إلى عدد من الكيانات والدول أو الدويلات تحت عنوان ” انبعاث الهويّات”، الذي امتد إلى بلدان آسيا وأفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، ليس هذا فحسب بل إنه شمل أوروبا الغربية أيضاً . الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر ببعض التقديرات التي اقتربت من الأوهام التي رافقتنا طيلة عقود من الزمان بشأن إمكانية حلّ جدل أو صراع الهوّيات بطرق آيديولوجية اعتقدنا أنها الطرق الناجعة، وإذا بالتجربة التاريخية تظهر العكس بارتفاع حدّة الصراع والجدل لدرجة أنه أصبح دموياً في بعض بلدان ” أوروبا الشرقية” وإن ظلّ في بلدان “أوروبا الغربية” سلمياً وقانونياً ودستورياً، لكنه قد  يذهب أبعد من ذلك  وهناك أمثلة كثيرة منها  اسكتلندا وكاتالونيا والباسك والكيبك وبلجيكا وغيرها.وحتى المفاهيم الحديثة التي جرى الاعتقاد أنها العلاج الشافي لمسألة انبعاث هوّية عصرية جديدة، أساسها الديمقراطية، فإن هذه القيم لوحدها غير جديرة ببناء هويّة موحّدة، وإنما تحتاج إلى استنهاض القيم التاريخية والثقافية المشتركة والذاكرة الجماعية العابرة للآيديولوجيات والطوائف والقوميات والإثنيات واللغات، سواء على المستوى الجمعي أو على المستوى الفردي، فللفرد مثلما للمجموعة أكثر من هوّية، كأن يكون عربياً أم كردياً، مسلماً أم مسيحياً، عراقياً أم سورياً، لكنه جزء من هوّية أوسع عربية أو حتى إسلامية مثلاً.
وهكذا تكون الهويّة مركّبة فردية أم جماعية وإن ارتبطت بوطن، فلأنها تحمل جنسيته كجزء من دولة ترتبط بالمواطنة كعلاقة مزدوجة مع محيطها دون استصغار أي من العناصر الأخرى، لكنه لبناء المشتركات تحتاج إلى الإقرار بوجودها ومراعاة تطورها التاريخي، وبالتالي وضعها في سياق يخدم المشترك الإنساني أولاً، ومرة أخرى نقول إن الهويّة جماعية أم فردية تخضع لهذه الاعتبارات، أي أنها مجمعنة أم مفردنة هي غير سرمدية أو نهائية أو كاملة، بل هي مفتوحة وتتطور مع تطور الزمن وغير نهائية، لأنها قابلة للإضافة والحذف.
وتلعب التربية دوراً مهماً في تعزيز الجانب التشاركي أو التنازعي في الهويّة والشعور بالانتماء  لمواطنة موحدة ، والأمر يشمل حتى البلدان المتقدمة فمثلاً في  سويسرا تقرّ الدولة أربع لغات رسمية هي: الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية ، حيث تعترف بـ الحق في التعلّم في المدارس بأي من هذه اللغات وبهذا المعنى لم تعد مشكلة نزاعية قانوناً وواقعاً. أما بلجيكا وإن كانت دولة ديمقراطية وفيدرالية أيضاً مثل سويسرا، لكن السلم المجتمعي لم يتحقق إلّا في العام 1957 بعد إقرار الحق في تعلّم أي من اللغتين السائدتين، والمقصود بذلك لغة الوالونيين والفلامنيين حيث أقرّت الدولة ميثاقاً مدرسياً للتربية، ومع ذلك فإن العوامل النزاعية ثقافيا ولغوياً ومصلحياً ما تزال تفعل فعلها الذي قد يصل إلى الانفصال، ولذلك لا يكفي القول بأن الحل في الديمقراطية وحدها، لأن العيش المشترك والشعور بالسمات العامة المشتركة هو الأساس الذي لا غنى عنه لتشكيل الهوّية من جهة ولبناء مواطنة متكافئة وقائمة على أسس دستورية، وهو ما يحتاج إلى إرادة سياسية توافقية وتنشئة تربوية على المواطنة المتساوية، ناهيك عن شرعية الإنجاز أيضاً من خلال التنمية وحسن الأداء والتعامل والمهم التطامن بين الهويّات.ولبناء مواطنة حيوية على أساس هويّة موحدة، فالأمر يحتاج إلى مناعة وطنية باستذكار ما هو سلبي في علاقات المجموعات الثقافية ليكون عبرة، والبناء على ما هو إيجابي ليكون أفقاً، لكي لا يندفع من يشعر بالغبن والتهميش والإقصاء إلى الرفض والتمرد والرغبة في الانقسام، وهذا الأمر يتطلب منجزاً مشتركاً ومعرفة متبادلة بخصوصيات كل فريق ومراعاتها، لما فيها من حساسيات، ناهيك عن المجال العام المشترك الداعم للوحدة والتضامن ومجابهة التحديات الخارجية، كما يحتاج إلى شجاعة وتصميم وإرادة سياسية والتزام قيمي وحضاري يقوم على المشتركات الإنسانية والتشاركية المسؤولة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.وأساس كل ذلك هو العيش المشترك والضمانات الحقوقية والالتزامات القانونية، أي عدم التمييز ونبذ أي شكل للاستعلاء بزعم “الأكثرية والأقلية”  أو ” الأكبر والأصغر” أو “القوي والضعيف” أو ” الأعلى والأدنى” وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه لمعالجته وفقاً لقواعد دستورية للدولة العصرية، بتأكيد التخلي عن أي شكل من أشكال الإرغام والإكراه والعنف ضد الآخر والإقرار بالتعددية والحوار والتوافق على حل المشكلات بالسلم والتفاهم وعدم اللجوء إلى السلاح، وذلك وفق عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والحقوق .
حركة الاحتجاج
وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية وآخرها في العراق ولبنان أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة ، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والســـلم، إلى وضع  الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
ونحتاج إلى الإصغاء لبعضنا البعض وإتقان فن الحوار والمصارحة وإدارة التنوّع الثقافي باحترام الخصوصيات، بما يعزز المسؤولية الجماعية، وينمّي الفردانية والتميّز دون نسيان المشتركات الإنسانية والمسؤوليات التي تترتّب على الفرد وحقوقه إزاء الجماعة والمجتمع ، وتلك تحتاج إلى بناء من التنشئة الأولى، لاسيّما إذا توفرت مؤسسات لرعاية مثل هذا الحوار، وهو حوار بين أتباع الثقافات المختلفة، سواء: قوميات ، أديان ، لغات، وحوار في الحياة العامة، مثلما يحتاج إلى رياضة نفسية لتقبّل الآخر وأفكاره وحقه في الاختلاف. والحوار يمكن أن يتخذ بعداً ثقافياً وآخر حقوقياً وقانونياً وثالثاً سياسياً واجتماعياً ويحتاج إلى إدارة فاعلة وناجحة لإدارته.
نأمل أن تكون هذه الطبعة الثانية مناسبة جديدة أكثر اتساعاً لحوار مفتوح متعدد الجوانب فكرياً وثقافياً وسياسياً وبروح الشعور بالمسؤولية على المستوى الفردي والجماعي حول إشكاليات الهوّية والمواطنة من أجل فهم أكثر عمقاً وشمولاً وصميمية بالرغم من أوضاعنا العربية المعقّدة والمتشابكة والتحديات التي تواجه مجتمعاتنا خارجياً وداخلياً للانطلاق نحو أفق جديد في إطار مشروعنا النهضوي العربي.
{ بيروت ، 26 كانون الأول (يناير) 2019
مقدمة الطبعة الثـــانية لكتاب الهوية والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020.




184
د. شعبان: في العراق، لا بدّ من اعتماد آليات توحيد
ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون


** الملك فيصل الأول دعا إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق
أخبارنا ــ وصف الأستاذ الدكتور أسعد عبد الرحمن، المفكر والباحث العراقي الأستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان بــ "الصديق الأثير" المنتمي إلى الجيل الثاني من المجدّدين العراقيين الذي تعكس كتبه وأبحاثه ومقالاته المتنوعة انشغالات خاصة جدا في قضايا الحداثة والديمقراطية والإصلاح والمجتمع المدني مع اهتمامات فكرية لافتة لتطوير الفهم المتجدد خاصة لقضايا حقوق الانسان ونشر ثقافة هذا الفكر، كما وصفه بالخبير الذي لا يمكن تجاهله في ساحة الفكر العربية، إذ توزعت تجربته على حقول المعرفة والفكر والرصد والتأريخ والتعقيب على المألات العربية عموما والعراقية خصوصا.
   وأضاف د. أسعد: أنه رغم انتماء د. شعبان إلى عالم التقدمية واليسار، إلا اننا اخترنا ان يكون حديثه هذا المرة عن الطائفة الشيعية -ليس من منطلق طائفي طبعا وقطعا لانه/ لأننا أصلا لا يؤمن/ نؤمن بالطائفية-؛ إنما بحكم خبرته العميقة باهلنا من هذه الطائفة وتحديدا في العراق الشقيق ودورهم المجتمعي والسياسي، لذا أحببنا أن يكون لدينا المعلومات الموثوقة في مثل هذا الشان الخطير، في الوقت الذي يريد منا اعدائنا ان ننقسم ما بين شيعي وسني وهذا ليس في الحسبان والوارد الا عند الدهماء.
   جاء ذلك خلال تقديم د. أسعد الدافئ للمحاضر، بحكم معرفته الطويلة بمسيرة حياته وتزاملهما سويا في سنوات النضال في بيروت، مع بدء المحاضرة التي نظمتها "مؤسسة فلسطين الدولية" و"المدارس العصرية" مساء الاثنين، وقارب فيها د. عبد الحسين شعبان "الشيعة والشيعة السياسية من ناحية سوسيوثقافية"، وسط حضور نوعي وتفاعل واسع مع مثقفين.
   وقال د. شعبان ينسب بعض مؤرخي الشيعة تأسيس مذهبهم الى الرسول محمد (ص) باعتباره البذرة الأولى في الإسلام، ولعلهم في ذلك لا يختلفون عن المذاهب الأخرى التي هي كذلك تنسب نفسها الى النبي محمد (ص) مثل المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي أو غيره من المذاهب الإسلامية. وعليه، فإن الشيعة هم فرقة إسلامية نشأت على مراحل، وإن الإمامية أو الإثنا عشرية وهو ما يطلق عليهم أحياناً، ظهرت في فترة متأخرة.

   كما أوضح أن الشيعة كمفهوم عام جماعة إلتفّت حول الإمام علي بن أبي طالب، وتحولت لاحقاً من فريق يدعو الى ” أحقيته” في الخلافة، الى تنظيم سرّي، وخصوصاً خلال فترة الحكم الأموي يسعى الى قلب نظام الحكم والثورة عليه، واتخذ العمل السياسي الشيعي خلال فترة الحكم الأموي أشكالاً مختلفة من الحزب السري "تنظيم محمد ابن الحنفية” الى الثورة المسلحة ” حركة التوابين” بقيادة سليمان بن الصرد الخزاعي والمختار ابن ابي عبدالله الثقفي وزيد بن علي بن الحسين إلى "المعارضة الصامتة” التي تمثل قطاعات واسعة.
   وقد استندت الدعوة الشيعية التي تقول أنها تنتمي لآل البيت الى فكرة جوهرية ثار الحسين من أجلها ودفع حياته ثمناً لها، وهي رفض الظلم وإقامة العدل. وأشار شعبان أن الحركة الشيعية أثارت منذ تأسيسها الأول اشكالات كثيرة بخصوص موقفها من السلطة، وفيما بعد بسبب ما تعرّضت له من ملاحقة واضطهادات، واضطرت إلى العمل السري في فترتي الحكم الأموي أو في الحكم العباسي، مما دفع البعض للاعتقاد أنها "حركة باطنية "، وأن الشيعة لا يمكنهم الظهور على السطح، خصوصاً وأن "مبدأ التقية"، كما يقال، يحكمهم. والتقية حسب التفسير الشيعي هي تجنّب الأذى في حالة التعرّض إلى ضغوط شديدة لا يحتملها الانسان وتقديم تنازلات ممكنة أو اخفاء إظهار الرأي بحبّ الإمام علي وآل البيت أو الانتماء اليهم، وهو ما كان يحصل في الزمن الغابر عندما كانوا يجبرون على شتم آل البيت والإمام علي تحديداً، فهناك من أجاز من أوساطهم أن يفعلوا ذلك تجنّباً للأذى ودفعاً للمكاره.
   واوضح د. شعبان أنه عندما تأسست الدولة العراقية المعاصرة في 23 آب (اغسطس) 1921 بعد الاحتلال البريطاني للعراق 1914 -1918، سعت بريطانيا لحكم العراق مباشرة، ثم عبر الانتداب، واضطرت الى قيام ” حكم أهلي” وتأسيس الدولة العراقية خصوصاً بعد اندلاع ثورة العشرين 1920، وورثت الدولة الاحتقان الطائفي والنزاعات المذهبية من فترة الحكم العثماني، خصوصاً وقد تكرّس بسياسة بريطانيا المعروفة ” فرّق تسد” وبعد عزوف رجال الدين الشيعة من المشاركة في ادارة الدولة واستمرار موقفهم الرافض للتشكيلات التي اقامها البريطانيون.
   وكان العراق وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو 1916 من حصة بريطانيا، وحتى قبل هذه الاتفاقية كانت هناك محاولات لتقاسم المناطق وإخضاع العراق إلى الإمبراطورية البريطانية.
   وحول جامعة النجف أو ما يطلق عليه الحوزة العلمية أضاف شعبان أنها تعتبر أقدم جامعة في العالم مضى على وجودها أكثر من ألف عام، وأسست قبل جامعة بولونيا في ايطاليا وحتى قبل جامعة الأزهر بنحو مائة عام تقريبا، لافتا بذات السياق إلى الجدل والحوار المستمر في هذه الجامعة التي تتمتع بدينامكية خاصة، وإلى مفارقة اتجاه الكثيرين من الذين درسوا في جامعة النجف، علوم الدين، إلى اتجاهات معاكسة فيما بعد مثل: العلامة الكبير حسين مروة حيث درس في النجف من عام 1924 إلى عام 1938، وكان والده قد أرسله من لبنان إلى النجف وعمره لم يكن يتجاوز 14 عاما. درس مرّوة 14 عاماً في مدينة النجف ثم كتب عام 1938 مقالا بعنوان ” أنا وعمامتي” في مجلة الهاتف التي يصدرها القاص جعفر الخليلي، قال فيه لقد رميت العمامة، وبدأ يتحدث كيف تعرف على ماركس في النجف أي من خلال بحث وجده واقتنع بالرأي الآخر.
   وأوضح د. شعبان أن العراق المتنوع قومياً يضم أيضا تنوّعاً دينياً. فإضافة الى المسلمين، بطائفتيهم الرئيسيتين الشيعة والسنّة، هناك "أقليات" دينية متعايشة، خصوصاً المسيحيين بطوائفهم، وصابئة، ويزيديين، وأرمن وغيرهم. والجميع يؤلفون نسيج الوحدة الوطنية العراقية بفسيفسائها وتمايز ألوانها، واضاف: لقد عانت الدولة العراقية منذ تأسيسها من أزمة حادة، استفحلت مع مرور الأيام بوجود "حكم أقلي" وابتعاد القاعدة الاجتماعية الواسعة عن المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وبالتالي تقليص دائرة الحكم، حتى إن دستور العام 1925 "القانون الأساسي" الذي بدا متقدماً حين صدوره، أهمل بالتدرج وتقلّصت هوامش الحريّات، وخصوصاً حرية التعبير، وازداد النفوذ الأجنبي.
   ومنذ ثورة 14 تموز (يوليو) ولغاية الاحتلال العام 2003، حُكم العراق من قبل أنظمة شمولية ارتفعت فيها وتيرة العنف مع مرور الأيام، خصوصاً في ظل ادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة، موضحا أنه إذا كان التنوّع من خلال التعايش والوحدة الوطنية دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس – مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920). فلم يكن ذلك من وجهة نظرهم ومصالحهم، سوى نوعاً من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة العريضة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار، ومنوها إلى محاولة الملك فيصل الأول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود من الزمان وبعد خبرة في الحكم دامت نحو 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهج لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924، الذي قسّم العراقيين إلى فئة أ و فئة ب فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وإنسابهم إلى الفئة (ب)، في حين أن الفئة ( أ ) نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس).
   واوضح د. شعبان أن الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده، نغروبونتي توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت "مكوّنات"، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها.
   ولفت د. شعبان أن من مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم. فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر عادة ما تطمح إلى دور أكبر، كما لفت إلى استناد نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، إلى 3 ركائز أساسية:
الركيزة الأولى – هي التحالف مع إيران والترحيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أو في "الدفاع عن المذهب"، حتى التدخل العسكري في سوريا، هو بالدرجة الأساس دفاع عن المقامات المقدسة، وخصوصاً في السيدة زينب.
   أما الركيزة الثانية – فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحؤول دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي، ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، وخصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق العام 2003، (وقد صوّت البرلمان العراقي على قانون جديد تحت عنوان "قانون حظر حزب البعث" في 3 آب /أغسطس/ 2016).
   وأما الركيزة الثالثة فهي الوقوف ضد الخطر الوهابي، الذي يجري أحياناً تهويله لدرجة كبيرة. وهذه الركائز الاستراتيجية الثلاث تعمل عليها قوى الشيعية السياسية وإيران بصورة متداخلة ومتكاملة، وهي ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى، له ركن سياسي وآخر مذهبي، يتعلق بالمصالح والصراعات الإقليمية، إضافة إلى ركن اقتصادي وتجاري ومالي، كما لفت إلى تخويف السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة أبناء المناطق الغربية والسنّة العرب عموماً من:
1 –"الخطر الشيعي"، وخصوصاً محاولات انفراد الشيعية السياسية بالحكم وتهميشها الطائفة السنية، بحجة الأغلبية .
2 – التدخل الإيراني وما تطلق عليه "التمدّد الصفوي" بهدف التعبئة ضد الخصوم السياسيين والنفوذ الإيراني بوجه عام، سواء كان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والى ارتكازها في مشروعها السياسي على:
أ – اعتبار دول الخليج وتركيا حليفاً للسنيّة السياسية، مقابل تحالف إيران مع الشيعية السياسية، وذلك بهدف إحداث توازن نوعي في ميزان القوى الداخلي.
ب – عادت بعض المجموعات من السنية السياسية بمن فيها قوى ورؤساء عشائر وشخصيات إلى التعويل أكثر من قبل على واشنطن والتقرّب منها مباشرة أو عبر دول الخليج وتركيا، بهدف كسبها للوقوف ضد النفوذ الإيراني من جهة ومن جهة ثانية ضد حلفاء إيران من الشيعية السياسية الحاكمة.
وتساءل د. شعبان في ختام المحاضرة بعد أن وضعت الأزمة العراقية الأخيرة، الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق للتفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما: سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما: سيناريو التوحيد، وخصوصاً إذا ما توافرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟
   مؤكدا أنه سيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
هذا، وشهدت الأمسية –التي ناهزت الساعة ونصف – حضوراً لافتا ومشاركة واسعة من الجمهور.

 الأربعاء 4/3/2020

185
المنبر الحر / العنف الراديكالي
« في: 23:09 04/03/2020  »
 


العنف الراديكالي
عبد الحسين شعبان
لم تعرف البشرية، عنفاً كالذي شهده العالم منذ القرن العشرين ولغاية الآن، فقد زاد عدد ضحاياه في الحرب العالمية الأولى على 20 مليون إنسان وتعدى عددهم ال 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، وكانت جريمة قصف هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية، إحدى أبرز جرائم العصر، وهو ما يدعو إلى القول إن العنف أصبح أشد بأساً وأوسع انتشاراً وأكثر إيلاماً، ويمكن أن نطلق عليه «العنف الراديكالي».
وبررت أنظمة كثيرة محافظة أم تقدمية، رأسمالية أم اشتراكية مثل هذا العنف، لاعتبارات أيديولوجية أو قومية أو دينية، وحاولت «شرعنته»، وإضفاء عدالة على ممارسته، وإلا كيف يمكن تفسير اللجوء إلى التطهير العرقي أو الديني وتعريض أتباع أعراق وأديان إلى عمليات إبادة جماعية واستخدام أسلحة محرمة دولياً، بما فيها الأسلحة الكيمياوية والإقدام على عمليات قتل جماعي ضد أي اشتباه بالمعارضة أو لفرض نمط تفكير بالعنف على السكان بالضد من الطبيعة البشرية، أو قتل قبائل لقبائل أخرى لدرجة الإبادة بزعم تفوقها.
كل ذلك لم يكن عنفاً اعتيادياً؛ بل تجاوز حدود المألوف؛ إذ لم يكن ردة فعل إزاء سلوك معين أو موقف محدد؛ بل ارتقى ليكون خطة منهجية مبرمجة لإزالة مجموعة من الوجود أو إلغاء دورها وتصفية تأثيراتها في إطار تحضير مسبق، ومثل هذا العنف ينطوي على نزعات أيديولوجية وعرقية ودينية وطائفية وسياسية واجتماعية استعلائية تزعم امتلاك الحقيقة وتدعي أفضلية التفوق؛ بحيث تسعى الجهة التي تلجأ إليه إلى إكسابه «المشروعية»، كجزء مبرر لنظامها أو توجهها، سواء أكانت في السلطة أم خارجها، مثل تنظيمي «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما الإرهابية.
ولعل المسوغ الأيديولوجي بسبب العرق أو السلالة أو الدين أو المذهب أو اللغة أو اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي هو الذي يقف وراء تصنيف الناس إلى فئات مختلفة، فمنهم من هو أعلى جدير بالحياة والتسيد، وآخرون من هم أدنى وقد لا يستحقون العيش، ولذلك فإن الحرب على الآخرين ذات «وجاهة» و«مقبولية»، مثلما تذهب إلى ذلك الأيديولوجيات العنصرية التي تفترض الأفضلية البيولوجية والتفوق العرقي أو الديني أو غيره، بتهيئة إعلامية ديماغوجية ومنهجية استعلائية ضد الآخر.
ومثل هذا العنف الراديكالي لا يقتصر على الصراعات الداخلية فحسب؛ بل إن «أبلسة» أمم وشعوب ودول وأديان وجدت طريقها إلى بعض التيارات الشعبوية في الغرب؛ حيث ترتفع وتيرة الكراهية للأجانب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، وقد استخدمت الولايات المتحدة ذلك في حربها على أفغانستان عام 2001، وكذلك في احتلالها العراق عام 2003، باعتبارهما دولتين مارقتين، وأن دينهما يحض على العنف والإرهاب.
وهكذا يتم استخدام العنف بتوظيف «القانون الدولي» أو «القوانين الداخلية» لإضفاء الشرعية على الاستهداف الجماعي لمجاميع ثقافية بشرية.
وعلى الرغم من وجود أسباب عدة لممارسة العنف بعضها اجتماعي وآخر نفسي أو عنصري أو ديني، لكن تلك الأسباب وحدها غير كافية لتفسير هذه الظاهرة، فثمة منظومة أيديولوجية تربط بين الغاية والوسيلة، فالوسيلة جزء من الغاية ولا يمكن فصلها عنها، أما حسب المهاتما غاندي، فالوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، الأمر الذي يستوجب البحث عن جوهر ظاهرة العنف ودوافعها، لاسيما بتفكيك مضمونها وشبكة علاقاتها للتصدي لها وصولاً إلى مطمح اللاعنف، سواء على المستوى الإنساني الخاص، أو على المستوى الدولي العام، وبما يحكم علاقات الأفراد وسلوكهم وعلاقات الدول وقوانينها.
وفي الظروف غير الاعتيادية وانهيار سلطة القانون، فثمة حقل جديد لاحتواء ظواهر العنف ومنع الانتقام والثأر وتحقيق قدر من العدالة وهو ما يُطلق عليه «العدالة الانتقالية» التي هدفها الوصول إلى الحقيقة والمساءلة، دون كيد أو حقد، وذلك بجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وتعويضهم مادياً ومعنوياً وإصلاح النظام القانوني، والهدف هو الوصول إلى المصالحة المجتمعية والتطهر من حالة العنف والعودة إلى السوية الإنسانية.
وإذا كان العنف قديماً قِدَم البشرية وهو القاعدة وليس الاستثناء، إلا أنه اكتسب بُعداً أكثر وحشية وهدماً وهلاكاً في عهد الحداثة وتطور وسائله، خصوصاً بعد أن تجاوز العنف الراديكالي «إنسانية الإنسان» لدرجة التوحش، علماً بأن الاضطرار إلى الدفاع عن النفس ورد العنف لا يندرج ضمن قاعدة ممارسة العنف؛ بل هو الاستثناء أيضاً، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، في دفع ظلم أو لدفاع عن مظلوم أو في مقاومة احتلال أو صد عدوان، وذلك في مواجهة العنف الهادف للتسيد والتفوق وإذلال الآخر والقائم على الاستعلاء والكراهية دون أي اكتراث للجانب الإنساني والحقوقي والقانوني.
وينطلق المرتكبون في ممارستهم للعنف من نزعات أيديولوجية مركزية شديدة الصرامة أو ما فوقها، أوجدتهم وصيرتهم على نحو لا إنساني وغير مكترث بممارسة العنف، لا باعتباره عملاً مشيناً أو غير مشروع أو لا إنساني؛ بل بصفته عملاً عادلاً ينبع من شرعية معتقدهم.
drhussainshaban21@gmail.com



186
التربية على الدولة المدنية
عبد الحسين شعبان
لم يكن المسرحي والكاتب الألماني برتولت بريخت واهماً أو حتى حالماً حين قال: «أيها الجائع تناول كتاباً، فالكتاب سلاح»، وهل يشبع الكتاب البطون الخاوية؟ لكن بريخت برؤية استراتيجية للمستقبل يُدرك الترابط الوثيق بين الثقافة والتنمية والمواطنة؛ بل إنه يجعل من هذه الثلاثية محوراً مركزياً وعقلانياً للتقدم، فلا تقدم حقيقياً دون التعليم، وفي التعليم تكمن فلسفة الدولة التربوية للنهوض بالمجتمع، وحسب أفلاطون وأرسطو وابن خلدون، فالإنسان مدني بطبعه، وبالتالي ما يحكم علاقاته وسلوكه وتربيته هو مدني أيضاً.
وبدعوة من مؤسسة هانز سايدل الألمانية والمعهد العربي للديمقراطية، التأم مؤخراً في تونس، مؤتمر فكري شارك فيه خبراء ومفكرون وتربويون عرب وأجانب لمناقشة تجارب تاريخية في البلدان العربية والأوروبية، في ما يتعلق بمدنية الدولة، ارتباطاً باليوم العالمي للتعليم (24 يناير/‏كانون الثاني) الذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة، احتفاء بدوره في صنع السلام والتعايش والتنمية، إضافة إلى كونه حقاً من حقوق الإنسان وصالحاً عاماً ومسؤولية عامة.
وتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 منه، الدعوة إلى التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي. وكانت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، قد نصت على ضرورة توفير التعليم العام للجميع، كما ذهب إعلان مبادئ التسامح الصادر عن المؤتمر العام لليونيسكو 1995 إلى تأكيد مناهضة التمييز في مجال التربية (الديباجة)، وأكّد في المادة 4 على أن «التعليم هو أنجع الوسائل لمنع اللاتسامح، وهو ضرورة ملحة، ويحتاج الأمر إلى أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح (التربية عليه) من خلال سياسات وبرامج، وهدفه مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلى الخوف من الآخرين واستبعادهم، وتربية النشء على تنمية قدراتهم»؛ أي نبذ التعصب والتطرف.
وتقتضي التربية على الثقافة المدنية، محاربة التعصب ووليده التطرف، وإذا ما انتقل هذا الأخير إلى التنفيذ وأصبح سلوكاً سيتحول إلى عنف، وحين يضرب هذا العنف عشوائياً يصير إرهاباً، ولعل غياب التعليم وتفشي الأمية يجعل البيئة مهيأة لتفقيس بيض العنف والإرهاب، وستكون الأرقام صادمة إذا ما عرفنا أن 258 مليون طفل وشاب لا يزالون اليوم غير ملتحقين بالمدارس، وهناك 617 مليون طفل ومراهق يعانون الأمية «الأبجدية»، فما بالك بالأمية المعرفية والتكنولوجية، ومن ضمنهم ما يزيد على 70 مليون أمي عربي «أبجدي»، وهؤلاء الأكثر عرضة للتأثيرات الماضوية، تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم التقاليد، ناهيك عن كوابح عديدة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية ودينية، ومذهبية وإثنية وعنصرية وغير ذلك.
وبالعودة إلى حكمة بريخيت، فقد أثبتت التجربة أن التعليم والتربية السليمة هما طريق التنمية للخلاص من الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية، وتطويق عوامل وأسباب التمييز والتعصب والحروب والنزاعات والعنف والهجرة، وأساساً للعيش المشترك والاعتراف بالآخر وبحقوقه وبالسلام وقيمه.
وتزداد الحاجة إلى التربية والتعليم على جميع المستويات خصوصاً في البلدان النامية ومنها بلداننا العربية لأهمية تأمين الحق وتعميم المعرفة وجعل الثقافة في متناول الجميع، ومثلما هي حق إنساني فهي حق قانوني، وقد ورد ذلك في العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثاني الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ الصادرين عام 1966 واللذين دخلا حيز التنفيذ عام 1976، علماً بأن 82% من دساتير العالم تحفظ الحق في التعليم، وأن 55% منها تمكّن المواطن من اللجوء إلى القضاء في حالة انتهاك هذا الحق.
وقد جرت في السنوات الثلاثين الأخيرة عمليات خصخصة للتعليم لقيت معارضة من جانب أوساط غير قليلة من الطبقات الكادحة ومحدودي الدخل، خصوصاً أنها جعلت العديد من أبنائها خارج العملية التعليمية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وأجور الدراسة.
وعلى الرغم من أن بعض البلدان العربية حققت بعض النجاحات، فإنها تحتاج إلى مزيد من التخصيصات المالية، ناهيك عن الارتقاء بالعملية التربوية لتنسجم مع روح العصر، بحيث يكون التعليم شاملاً ومدنياً ووفق منهج موحد وعصري.
ولكي تكون العملية التربوية مدنية لا بد من الوعي بأهميتها وإقرار ذلك قانوناً للوصول إلى أهدافها، واتخاذ طائفة من التدابير والإجراءات لضمان تأمين الحق للجميع (للإناث ولسكان الريف والبادية وللفئات الضعيفة ولذوي الاحتياجات الخاصة)، فالتربية هي المدماك الأساسي لكل تقدم وتنمية ومواطنة، وتلك من أسس الدولة المدنية، خصوصاً في ظل بيئة مناسبة لتأكيد قيم السلام والتسامح والمساواة، وإقرار التعددية والتنوع والاعتراف بالآخر.
drshaban21@hotmail.com


187
طارق الدليمي: "الصديق اللّدود"
كلّمــا اختلفـت معه ازددت محبّة لــه
عبد الحسين شعبان
كاتب وأديب عربي

I
" الصديق اللدود" ، عبارة كنت أذيّل بها رسائلي له حين تتباعد بنا السبل والمدن والقارات، وعندما كنت أزوره في منطقة الجسر الأبيض " بداية حي العفيف" في طريق المهاجرين بدمشق، ولا أجده أترك له ورقة أكتب عليها " صديقك اللّدود" ، وهي الإشارة التي كانت بيننا، أو كلمة السرّ التي تجمعنا، في حين كان هو يردّد "صديق الخلاف" وهو ما كتبه إلى لجنة حفل التكريم الذي أقيم لي بمناسبة منحي  "وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي" (القاهرة ، 20 آذار/مارس 2003).
يقول طارق الدليمي" ... وفقط من هذا المنظور الملموس، بدأت رحلة علاقتنا الإنسانية التي أخذت صفة (أصدقاء الخلاف).ومرّت هذه الأواصر بأجواء مفعمة بالتباين ومكتظّة بأنواع السجالات التي لا ترحم بالمعنى السياسي المجرّد، والذي يحتفظ علناً بقدراته على الإغناء والعطاء". ويضيف: "... وكان شعبان لديه الطاقة الخاصة على المبادرة ضمن عقله الأكاديمي الجديد المنصهر في بوتقة الحياة الثريّة والمندغم مع المنظومة الفكرية التي رعاها مبكّراً وبشجاعة تثير الإعجاب. (من كتاب عبد الحسين شعبان - صورة قلمية : الحق والحرف والإنسان، إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2004).
لم أجد أمتع وأجمل من الحوار مع طارق الدليمي، وبقيت أفتقد إلى ذلك حين تحرمنا الظروف من التواصل المباشر، على الرغم من التواصل الوجداني وعبر الانفعال الإنساني لكل ما نكتب أو نقرأ، فالجلسة معه لها نكهة خاصة وطقوس أكثر خصوصية وفضاء شديد الرحابة، فكل شيء لدى الدليمي ينبض بالحيوية والسؤال، خصوصاً حين تكون معه  بضيافة  على كأس عرق أو قدح نبيذ، حيث كان يتفنّن أبا زياد في صنع المازات اللذيذة شرقيها وغربيّها، وعنده تعرّفت على الأرضي شوكي " الأنغنار" أو "الخرشوف"، و"الزيتون المكلّس" الذي لم أعرفه من قبل.
كانت شقته الصغيرة الجميلة مفتوحة لاستقبال الأحبّة في كل الفصول:  في الشتاء  والخريف حيث تجد الدفء يملأ المكان، وفي الصيف والربيع وبدايات الخريف أيضاً كان  سطح شقته العامر هو المكان المناسب لأماسي الدليمي بنسماتها العذبة ، حيث يلتقي أدباء ومفكرون ومثقفون وسياسيون من شتى الألوان والأجناس: رجالاً ونساءً، عراقيون وسوريون وعرب، خليجيون ومن شمال أفريقيا في "منتدى ثقافي فكري جامع ومنبر مفتوح ومتنوّع تتعدّد فيه الرؤى والاختيارات"، وبقدر ما كانت همومه عراقية متميّزة كانت أجندته العربية مزدحمة باستمرار ، حتى أن السطح يمتلئ أحياناً بمتناظرين ، مختلفين ومتّفقين، والمهم أن يكون الحوار جاداً ومسؤولاً، حتى وإن اتّسم بالحدّة العراقية المألوفة.
II
شلّة طارق الدليمي التي كانت مستمرّة ومكانها محفوظاً، حتى وإن غابت لأسابيع أو أشهر تتكوّن من : مظفر النواب وقيس السامرائي وهادي العلوي وكاظم السماوي وجمعة الحلفي  وسعدي يوسف وعدنان المفتي ومحمد عبد الطائي وعبد الحسين شعبان وآخرين.
ويتردّد عليها كثيرون منهم: جواد الأسدي ومنذر حلمي وماجد عبد الرضا وعبد اللّطيف الراوي وفوزي الراوي وعلي كريم  وعادل مراد ومحمود عثمان ومحمود شمسه وهاشم شفيق ومحمد الحبوبي ومخلص خليل وشاكر السماوي وعزيز السماوي ورياض النعماني وعوني القلمجي وعامر بدر حسون ووائل الهلالي (حكمت) وشفيق الياسري (هاشم) وناهدة الرماح وزينب ولطيف صالح وشوقية وحميد البصري ووليد جمعة وجليل حيدر وعبد الكريم كاصد وأحمد المهنا وعبد المنعم الأعسم وسامي كمال وكمال السيد وكوكب حمزة وعلي عبد العال وأبو أيوب وساهرة القرغولي وقيس الزبيدي وفاضل الربيعي ورشاد الشيخ راضي وصاحب الحكيم ومحمد جواد فارس ورحيمة السلطاني وعبد الرزاق العاني وعلي الصرّاف ونبيل حيدري، وقسم كبير من هؤلاء أعضاء في " رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين" التي تأسست بعد هجرة اليساريين والشيوعيين أواخر العام 1979 وغيرهم، ومن كان قادماً من كردستان أو ذاهباً إليها يجد في شقّة طارق الدليمي الصغيرة الدافئة الأنيسة الأليفة ملاذاً في إحدى الأماسي.
وكان طارق الدليمي يستمع إلى القادمين ويحاورهم لمعرفة المزيد عن الأوضاع والساحات، لتبدأ جلسة حوار مفتوحة في موضوعات شتّى ونستمع أحياناً إلى قراءات شعرية أو عرض لمشهد مسرحي أو  اقتراح لمشروع ثقافي، أو رؤية سياسية جديدة  أو فكرة عن تحالف أو اتحاد أو انشقاق أو تكتّل... كل ذلك كان يجري بحميمية وإخلاص، حتى وإن كان الطريق الذي يتم اختياره والتوقيت والزمان خاطئاً، لكن منزل طارق الدليمي يجعل الكثيرين يبوحون بما يحتفظون به من أسرار، أو هكذا يتصوّرون حين يحاولون إخفاءها،وبعد  حوارات ونقاشات بعضها أقرب إلى الاستنطاقات يبدأون بالحديث والبوح حتى وإن ترددّوا في بداية الأمر ، بفعل الأجواء الثقافية والفكرية الجادة والحميمية، فالأسرار للتنظيم فقط، لاسيّما ما هو ضروري، أما في الفكر والسياسة فكل شيء ينبغي أن يكون علانية وواضحاً ومفهوماً، بل وينبغي أن يكون منطقياً ومقنعاً وليس ثمة أسرار في ذلك .
كان بعض متشدّدي الأحزاب المعارِضة الموجودة في دمشق يعتبرون تلك الجلسات خطراً عليهم ويحذّرون "أتباعهم" من الاقتراب منها، خصوصاً إذا ما تعرّضت لبيروقراطيتهم وكشفت بعض المخبوء أو المستور الذي لم يُسلّط عليه الضوء الكافي، ولاسيّما إذا كان جوهرياً وخارج دائرة الاصطفافات المُسبقة، ووصلت أخبار هذا المنتدى الثقافي - الفكري إلى أوساط غير قليلة، حتى ممن تم تحذيره  فيزداد فضوله، فيغامر ويخادع  ليجد فرصة لدعوته أو يلصق نفسه بأحد المدعويين في خميس أحد الأسابيع،  فعلى الأقل يحظى بسهرة أو أمسية واحدة ليكتشف ذلك السر الدفين في محبّة أصدقاء كثر لطارق الدليمي، حتى وإن اختلفوا أو تخاصموا معه، لكن الرغبة في التواصل تبقى قائمة لديهم وتلمّست ذلك مع العديد منهم.
وعلى المستوى الشخصي لم يحصل أن حدث بيننا خصام طيلة نحو ستة عقود من الزمان عرفته فيها، حتى حين كانت تتأزم المواقف سياسياً وتتباعد التوجّهات، فأتجنب زيارته لأسبوعين أو أكثر، لكنه كان يتصل ويتواصل  لنتناسى ما يحصل أحياناً من حدّة الخلاف، وفي أكثر الأحيان كنت أنا المبادر فيفتح طارق الدليمي صدره وقلبه وعقله وضميره وبيته ليستقبلني بالأحضان.
III
حين تعرّفنا على بعضنا كان الاختلاف هو الجامع، وتلك فرادة في الصداقة بحد ذاتها، وكان اللقاء على منصّة الجدل ساخناً والسجال شديداً، حيث كان طارق الدليمي قد بدأ حياته في حزب البعث أواخر الخمسينات، وهو من الشخصيات العروبية الشديدة الاعتزاز بآرومته، إضافة إلى ثقافته الموسوعية وعقله الناقد، وأستطيع القول إنه مثقف رؤيوي بامتياز وصاحب مواقف متميّزة حتى وإن كانت خاطئة، وكان شجاعاً وغير هيّاب، جريئاً لا يخشى في الحق لومة لائم.
وبقدر ما كان مؤمناً بالأمة العربية ورسالتها الحضارية وبالهويّة الثقافية للقومية العربية في كل تحولاته وتقلّباته الفكرية، فقد كان في الوقت نفسه شديد الإيمان بالبعد الاجتماعي لقضية التغيير، لاسيّما وإن قضية الحرّية والعدالة جوهرا النهضة هما مسألتان كونيتان وأمميّتان، ولذلك ظلّ مع كوكبة لامعة من البعثيين يبحثون عن طريق آخر، ربما طريق ثالث، فالتغيير بالنسبة لهم وعلى حد تعبير المفكر ياسين الحافظ: "حفرٌ في العمق وليس نقراً في السطح"، لكن ذلك لم يشفِ غليله، فقد كان قلقه المعرفي وثقافته المتنوّعة وقراءاته الفلسفية مائزة ورائزة على أقرانه، بما فيها لغته الإنكليزية التي كان يقرأ بها، وكان يعتقد إن الجانب الاجتماعي لا بدّ أن يُضاف ويُستكمل ويتعمّق إلى الفكر العروبي.
وهكذا تململت تلك الثلّة المتميّزة من الشباب البعثي، فاختارت الطريق الوسط بين الحركة الشيوعية والحركة القومية بتأسيس "حركة الكادحين العرب" ومن أبرز رموزها عبد الاله البياتي وحبيب الدوري ومحمد الزيدي وطارق الدليمي ومحمد حسين رؤوف ووثاب السعدي ودرع ظاهر السعد ومزهر المرسومي وصادق الكبيسي وسعيد جواد الرهيمي وقيس السامرائي وهناء الشيباني (التي استشهدت بعد التحاقها في المقاومة الفلسطينية / أواخر العام 1969)، ثم اتخذ هؤلاء خطوة أخرى بالاتجاه نحو اليسار فأطلقوا على حركتهم اسم "المنظمة العمالية" التي دخلت انتخابات الطلبة ضمن قائمة اتحاد الطلبة في ربيع العام 1967 وفاز بعضهم ضمن تشكيلات الاتحاد، وقد انضموا إلى "حزب القيادة المركزية" بعد انشقاقه عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) 1967، خصوصاً وإن الاتجاه "اليساري" الذي اختطته القيادة المركزية، إضافة إلى التوجّه الجيفاري الذي عبّرت عنه باختيارها الكفاح المسلح، داعب مخيلتهم حتى قبل تأسيسها، الأمر الذي وجدوا مكانهم الطبيعي فيها مع بعض الاختلافات بشأن العروبة وجوهرها التقدمي، والتمييز بينها وبين الاتجاهات القومية المتعصّبة .
وكان طارق الدليمي قد سبقهم إلى ذلك، حين كان بصلة خاصة داخل التنظيم الحزبي منذ العام 1964، ومع حسين جواد الكمر تحديداً ، على الرغم من اعتراضاته على خط آب (أغسطس) العام 1964، الذي عُرف بالخط اليميني- الذيلي- التصفوي، كما اصطلح عليه ورفضته غالبية القواعد الحزبية، ويوم حدث الانشقاق كان طارق الدليمي في المواقع الأولى الذي دعمته، وكان قد أحيط علماً بتوجّهات لجنة منطقة بغداد التي كان على صلة بها وبالعديد من أعضائها، وقد عمل مع القيادة المركزية بخط خاص، وكانت له آراؤه الخاصة، ويومها كان طارق الدليمي طالباً في الصف الخامس في الكلية الطبية، وقبل أن ينتقل إلى الصف السادس، تم اعتقاله وبعد خروجه من المعتقل التحق بحركة الكفاح المسلح، ثم بدأت رحلته في الغربة التي منعته من إكمال السنة المتبقية له، سواء في دمشق أم عدن أم القاهرة، وشخصياً كنت وما أزال أعتبره أمهر طبيب، على الرغم من أنه لم يحصل على الشهادة النهائية، وكنتُ أثق بتشخيصاته وألتزم بنصائحه الطبية. وعلى الرغم من مضي أكثر من 5 عقود على تركه مقعد الدراسة ، لكنه ما يزال يقرأ وبنهم الكثير من المصادر والمجلات الطبية ، مثلما يقرأ القضايا الفكرية والأعمال الأدبية بطريقة منهجية تثير الإعجاب.
IV
حين كان طارق الدليمي بعثياً كنت شيوعياً، ويوم التحق بالقيادة المركزية، كنت على ملاك اللجنة المركزية، وكانت السجالات مستمرة  بيننا بصورة  مباشرة وغير مباشرة، إضافة إلى كوكبة من الوجوه والشخصيات الطلابية والثقافية والمنشغلة بقضايا الأدب  في مقاهي بغداد وحاناتها وكلّياتها وأروقتها الجامعية، ونتنقل أحيانا وفي اليوم الواحد لعدّة مقاهٍ: من البلدية إلى عارف آغا، ثم إلى البرلمان والشابندر والبرازيلية والمربعة ، وفي المساء نمرّ على مقهى ليالي السمر ومقهى المعقّدين، ثم نفترق لنتوزّع على الحانات التي نختارها: آسيا، بلقيس، كاردينيا، الجندي المجهول، الشاطئ الجميل، رومانس،  فندق سميراميس، وأحياناً سرجون وحسب شلّة الأصدقاء، وكان ذلك يحدث مرّة على الأقل كل عشرة أيام أو أسبوعين، ولكن النقاش يستمر هو ذاته ،وأتذكّر في إحدى المرّات والقصة بطلها سلام مسافر، احتدم النقاش حول أحقية القيادة المركزية أم اللجنة المركزية وأيهما أفضل عزيز الحاج أم عزيز محمد؟
ولا أدري كيف انتبه سلام مسافر إلى أن المتحاورين حملوا اسم عزيز، وهم كل من:  عزيز حسون عذاب وعزيز السماوي وعزيز خيّون وعزيز السيد جاسم، فما كان منه إلّا أن يقول: قفوا عن أي عزيز تتحدّثون : فكل عزيز (كذا)، وضحكنا جميعاً وكأن قالباً من الثلج وزّع على المتحاورين أو المتلقّين في يوم قائظ وشديد الحرارة، وهي النكتة التي بقينا نردّدها ونقولها تورية أحياناً " كل عزيز - كذا" واستعدتها مؤخراً مع سلام مسافر خلال زيارتي لموسكو، وكانت دعابة مثل تلك كافية لتحسم النقاش ودّياً، بدلاً من الاختصام .
V
في الذكرى الأولى لعدوان 5 حزيران (يونيو) 1967 قرّرت الأحزاب والقوى السياسية والنقابات الخروج بتظاهرات بالمناسبة ، ولم يتم الاتفاق بيننا وبين القيادة المركزية، فذهبت أنا إلى تظاهرة اللجنة المركزية بالاتفاق مع البعث اليساري (الجناح السوري) وذهب طارق الدليمي إلى تظاهرة القيادة المركزية ، وقد انطلقت بعد تظاهرتنا بساعة أو أكثر، وسارت متساوقة مع تظاهرة للحركة الاشتراكية العربية واتحاد نقابات العمال (هاشم علي محسن)، وحين انتهت تظاهرتنا  في الباب الشرقي (ساحة التحرير) وكانت قد انطلقت من ساحة الأمين بدأت تظاهرة القيادة المركزية من ساحة الميدان، وعدت لأشاهد تظاهرة القيادة المركزية وشعاراتها  لكي أرى حجم المتظاهرين وهتافاتهم التي كانت تردّد: "باسم القيادة ننادي يسقط الحكم العسكري"  و"يا فاشي شيل إيدك كل الشعب ميرديك".
وكنت قد ركبت الباص المتوجّه من الباب الشرقي عبر شارع الرشيد لأصل بالقرب من الشورجة، حيث كانت التظاهرة قد تجاوزت سوق الصفافير، وحين نزلت من الباص  وجدت طارق الدليمي يسير بالقرب من نرجس الصفار في التظاهرة وسلّمت عليهما وكان معي ثلاثة أصدقاء قدموا من النجف والتقيت بهم بالصدفة في الباص، وجاءوا في زيارة خاصة  إلى بغداد، وحين عرفوا وجهتي انضموا إليّ، خصوصاً وكان اثنان منهما يعتبران على ملاك الحركة الشيوعية وهما السيد علي الخرسان والسيد باسم كمونة، وهما ينتسبان إلى عائلتين دينيتين  مثل عائلتي، والعوائل الثلاثة لها حق الخدمة في حضرة الإمام علي منذ قرون بفرامين سلطانية من الدولة العثمانية.
وحين دوهمت تظاهرة القيادة المركزية وتفرّقنا ذات اليمين وذات الشمال، ولحظتها كنتُ أسير برفقة طارق الدليمي، لكننا قطعنا حديثنا إثر ظهور بوادر هجوم على التظاهرة، فقفز الدليمي إلى جهة اليمين وقفزت أنا نحو الشمال، وحسبما ما يبدو كان مرصوداً وربّما هناك من شاهده يودع مسدسه عند نرجس الصفار، فتجمّع حوله نحو خمسة رجال أمن وحاولوا سحبه إلى السيارة المتوقفة قرب مقهى البرازيلية، لكنه حاول مقاومتهم رافضاً ذلك، فانهالوا عليه ضرباً وأدموه، حتى سقط أرضاً فحملوه بقوة وهو يرفس مقاوماً الصعود  إلى السيارة.
 وقد أطلقتُ العنان لساقيّ كي تسابق الريح بالاتجاه الآخر، بعد أن خاطبني الصديق عبدالرزاق سلمان (السعدي) بقوله: اركض لكي لا يلقى القبض علينا، وبدوري نبّهت الخرسان وكمونة، بذات العبارة التي كلّمني بها السعدي، ودخلنا في الأزقة المتفرّعة حتى وصلت إلى شارع الجمهورية، وانتقلت إلى الرصيف الآخر، وبقيت أراقب خروج الصديقين الخرسان وكمونة، ولكنهما لم يخرجا وقلت مع نفسي لعلّهما استمرّا في نقاشهما أو تعبا من الركض ففضّلا المسير ببطء ، وسيتصلان بي في مساء اليوم ذاته أو في اليوم التالي، لكنهما لم يتّصلا وقلت مع نفسي ربما لم يسمح لهما الوقت للاتصال فعادا إلى النجف .
 وحين زرت النجف  بعد أكثر من شهرين لانجاز معاملة نقل النفوس التي ظلّت معلّقة، علمت من الصديق الثالث (محسن الشرع) أنهم دوهموا من شخص يحمل رشاشة وضعها في صدورهم، وكان اثنان آخران يحملان مسدساً حيث تم تفتيشهم، وقد أخلي سبيله بعد أن أعطاهم هويته وكان حينها معلّماً، أما هما فقد اقتيدا إلى جهة مجهولة، وفي المساء جيء بهما إلى فندق قصر النيل حيث كانا قد استأجراً غرفتين وتم تفتيش حقائبهما، ثم نقلا إلى سجن الفضيلية، وهناك إلتقيا بطارق الدليمي وتعرّفا عليه وعرفا منه أنه صديقي وعرّفاه بنفسيهما باعتبارهما من أصدقائي، ومن المفارقة أنهما حين اعتقلا احتسب أحدهما على ملاك القيادة المركزية والآخر على ملاك اللجنة المركزية، حتى أنهما افترقا في المعتقل، وتلك واحدة من أجواء الصراعات غير العقلانية التي عشناها.
وحين عرفت بمعلومة اعتقالهما وبأن النجف عرفت القصة التي شاعت فيها وكيف التقيتهما في الباص واصطحبتهما معي إلى التظّاهرة، قرّرت العودة أدراجي وتركت المعاملة التي ظلّت معلّقة حتى عودتي من الدراسة في نهاية العام 1977 والتي لم تنجز إلّا في مطلع العام 1978، حيث كان والدي قد أضاع أولوياتها، ولم يطلق سراح طارق الدليمي بعد 17 تموز (يوليو) 1968 مباشرة حتى حين تم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء ، وقد تأخّر بضعة أسابيع قياساً لأقرانه، وحين صدر الأمر بإطلاق سراحه وجاء شقيقه خالد لكفالته، وتم ترتيب الإجراءات القانونية، نقل إلى مديرية الأمن العام ، وبعد أن تكفّله شقيقه، أسرعا الخطى لمغادرة المبنى وفي الممر العريض فوجئا بأحد مسؤولي الأمن ينادي من خلفهما بصوت عال: طارق.. طارق ، وحاول أن يتجاهله بحجة أنه لم يسمع صوته، لكن هذا الأخير صرخ  بأعلى صوته : أبو زياد.. أبو زياد ، فاضطرّ الدليمي التوقّف ملتفتاً إلى الخلف، حتى فاجأه ضابط الأمن بالقول: لدينا 6 طوابق تحت الأرض أتعلم ذلك؟ فلا  تعد إلينا وإلّا سيكون مصيرك أسوداً، وردّد على مسامعه: أقولها لك محذّراً أتفهم ذلك "ستة طوابق" وهو ما كنّا نتندّر به وغالباً ما كان يغمز طارق بعينيه وبإشارة من يده " ستة طوابق" .
حاول طارق الدليمي العودة إلى الكلية، وكنتُ قد تخرجت حينها، لكن أسر "الجملة الثورية" من جهة والخشية من الاعتقال مجدّداً من جهة أخرى، لاسيّما وأنه كان معروفاً وناشطاً ، هما وراء تغيير مسار حياته، علماً بأن القيادة المركزية استمرت في رفع شعار إسقاط السلطة مندّدة بالانقلاب المشبوه، وهو ما دفعه للتفتيش على مكان آمن لممارسة عمله فاختار منطقة الأهوار، وحاول التوجه إلى الريف تحضيراً لبدء عملية كفاح مسلح من تلك البؤر الثورية، وبقي هناك لبضعة أسابيع حتى وصلته التعليمات بضرورة السفر إلى الخارج، فتوجّه إلى دمشق، التي ظلّت قاعدته الأساسية مهما تغيّرت الاختيارات من القاهرة إلى عدن ثم إلى صوفيا، لكن الشام هي التي حظيت بعشق طارق الدليمي فاختارها إقامة "عشاً" له ، مثلما اختار "قدس" اسماً لابنته.
وأتذكّر أن الدكتورة سعاد شعبان التي كانت زميلة له  وإن التحقت بالكلية الطبية في بغداد بعده، سألتني عنه حين التقيتها وزوجها الدكتور محمد موسى خلال زيارتي إلى بريطانيا في أواسط السبعينات، حيث كانت تدرس في ليدز، وكذلك الدكتور ناهض شعبان الذي استفسر عنه وكان يعرفه أيضاً ويتابع نشاطه وإن سبقه في التخرّج.
في العام 1973 زرت دمشق للقاء العائلة (الوالد والوالدة وأختي سميرة وأخي حيدر)، وكنت حينها قد بدأت دراسة الدكتوراه في براغ،  والتقيت به وكان قد تغيّر وقد أخذت منه الغربة الكثير ، فبدا أكبر سناً وأكثر معاناة وأشدّ مزاجاً، وبدأ الشيب يتسلّل إلى مفرقيه، وفي دمشق نسج علاقات واسعة مع ابراهيم علاوي ومظفر النواب والحركة الكردية والبعث السوري والحركة الاشتراكية في إطار ما سمّي بالتجمّع الوطني العراقي الذي تأسس لاحقاً، لكنه ظلّ ناقداً ومبادراً وغير متلقٍ، لأن عقله مؤسس على النقد : نقد الفكر ونقد السياسات ونقد السائد واليومي من الظواهر والممارسات. كما توسّعت علاقاته مع المقاومة الفلسطينية ، وخصوصاً "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" بحكم صلاته مع قيس السامرائي صديقه الحميم والذي ظلّ على علاقة وطيدة به واستمرّت حتى الآن.
VI
وبعد هجرة الكثير من اليساريين العراقيين في أواخر العام 1978 وبداية العام 1979 أسّس طارق الدليمي مع مجموعة من الشيوعيين السابقين تنظيماً باسم " حركة الطليعة الديمقراطية"، وأصدروا جريدة شهرية كانت مقروءة في حينها واحتوت على أخبار مهمة، وكان من بين الذين تعاونوا معه سليم مطر وأبو علي درعا وإياد السعيدي، وآخرين التقاهم في دمشق منهم وهاب شعبان الذي نطلق عليه " الشيخ" وصادق الحسني البغدادي الذي كنّا نسميه " الحجّة" والإثنان كانا شيوعيين سابقين وظلّا متعاطفين مع الحركة الشيوعية وناقدين لسياساتها، وعرفت منهما أنهما كانا يزوّدان جريدة "الطليعة " التي يصدرها بأخبار ومعلومات عن الأوضاع في العراق ، وزارا دمشق أكثر من مرّة، حيث التقيت بهما حين وصلت دمشق في العام 1980، قادماً من بغداد، كما كان الرافد الفلسطيني مصدراً آخر لبعض الأخبار الطازجة، وسافر أكثر من سفرة إلى ليبيا  في زيراة "معلنة" وغير معلنة في إطار العلاقات مع المعارضة العراقية، لكنه بعد حين لم يواصل العمل في هذا الإطار الذي بدى عبئاً عليه فقرّر تركه.
وحين بدأت الحرب العراقية - الإيرانية تفاوتت المواقف بيننا أيضاً باختلاف مراحل الحرب ومواقع القوات العسكرية وأهدافها، وإذا كانت الحرب عدوانية وهجومية من النظام العراقي 1980-1982، فإنها بعد معركة المحمّرة " خرمشهر " وانسحاب الجيش العراقي إلى الأراضي العراقية ، واختراق القوات الإيرانية للأراضي العراقية والتبشير بالمشروع الحربي والسياسي الإيراني الذي يقوم على تصدير الثورة، أصبحت عدوانية توسعية من جانب إيران ووطنية دفاعية من جانب العراق (1982-1988) حتى تم وقفها بعد عام على صدور قرار مجلس الأمن 598 في العام 1987، علماً بأنها في جميع المراحل لم تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، حيث تم تدمير طاقات البلدين الجارين وتحطيم قدراتهما الدفاعية وهدر أموالهما ، فضلاً عن خسارة نحو مليون إنسان في حرب عبثية لم يكن لها مبرّر على الإطلاق، وكان يمكن حلّ الخلافات بصورة سلمية وبالمفاوضات وطبقاً للقانون الدولي  وليس عبر الحرب والنزاع المسلح.
وإذا كانت اتفاقية 6 آذار (مارس)1975 المعروفة باسم " اتفاقية الجزائر" مجحفة ومذلّة بشأن العراق، وهي التي وقعها صدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها مع شاه إيران محمد رضا بهلوي لكن الحرب ليست الوسيلة المناسبة لاستعادة الحقوق التي تنازل عنها ذات النظام في شط العرب بموجب ما سمّي بخط الثالويك، وهو خط وهمي يقع في أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر، ناهيك عن التنازل عن أراضي عراقية في اليابسة.
وفي الوقت الذي كنّا ندين غزو القوات العراقية لإيران، إلّا أن تورّط صدام حسين  في مثل تلك الحرب قاد إلى الاعتقاد أن بالإمكان الإطاحة به ، الأمر الذي كانت تراهن عليه قوى كثيرة، بل أن بعضها اعتبره " آيلاً إلى السقوط" وما على المشروع البديل إلّا أن يحضّر نفسه في محاولة لتضخيم الذات واستصغار شأن الخصم، وحاول طارق الدليمي في المرحلة الأخيرة من الحرب التنسيق  مع اللواء حسن النقيب ومصطفى جمال الدين وشخصيات أخرى، لم تكن بعيدة عن التوجّه السوري، حيث تمت دعوتنا ماجد عبد الرضا وكاتب السطور للتوقيع على بيان مشترك، لكننا لم نتّفق على الصيغة والتوجّه وبعض الأسماء، وهو الأمر الذي اختلفنا حوله بشأن غزو القوات العراقية للكويت، وربما كانت مواقفنا متطابقة إلى حدود كبيرة خلال فترة الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق.

VII
وحين انتقلت إلى لندن زارني طارق الدليمي وحلّ ضيفاً عليّ بعد أن وجّهت له دعوة خاصة، وناقشنا مواقف المعارضة العراقية، وكان موقفه متحفظاً على عدد من الشخصيات التي بدأت تظهر على السطح وبعضها في إطار " لجنة العمل المشترك" في لندن، بل إنه وضع علامات استفهام على بعضها تلك التي انخرطت بالمعارضة بعد غزو الكويت أو عشية ذلك، بما فيها بيان الشخصيات العراقية الـ28 الذي صدر العام 1989 ووقّعه من طرف الحزب الشيوعي عزيز محمد ورحيم عجينة وعبدالرزاق الصافي، وشخصيات أخرى مثل هاني الفكيكي وأحمد الجلبي ومحمد بحر العلوم وليث كبّة وجلال الطالباني وعدنان المفتي ومحمود عثمان ورشاد الشيخ راضي وآخرين.
وأتذكّر أن طارق الدليمي حاصرني بالأسئلة وأمطرني بالتساؤلات حول البيان الذي صدر لنا في العام 1981 مع "جهة عراقية" لم ترغب بالإعلان عن نفسها، وكنت حينها مسؤولاً عن علاقات الحزب العامة خلال وجودي في دمشق، لكنني حلفت له بأغلظ الأيمان بأنني لم أكن حينها أعرف تلك الجهة، وبالمناسبة فقد امتنعت  من إيصال البيان إلى القوى السياسية العراقية والعربية والأجنبية، ولأنني لم أحصل على إجابة كافية عن "الجهة المجهولة" التي لا تريد أن تفصح عن نفسها وعن هويّتها، ففي ذلك إحراج لم أرتضه لنفسي، فضلاً عن ذلك عدم تقدير لمسؤوليتي، وعدم احترام للحزب الذي كنت أمثّله.
 وحاول الدليمي أن يقلّب الأمور معي كثيراً، لكنه تأكّد من عدم معرفتي للجهة الموقّعة على البيان، وأنني لا أخفي اسمها، علماً بأن حدسنا الأوّلي كان ثمة مجموعة من داخل النظام كانت تحاول مدّ الجسور مع الحزب، ولهذا السبب لم ترغب أن تعلن عن نفسها وتلك واحدة من الإحراجات غير القليلة التي فتحت علينا التباسات وتقوّلات كنّا في غنى عنها ، الأمر الذي زاد في موقفنا ارتباكاً، خصوصاً بعد تجميد عضوية الحزب في "جوقد" (الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية) التي مثلنا الحزب فيها  عبد الرزاق الصافي وكاتب السطور وحضرنا اجتماعين بعد انعقادها كانت عاصفة، حيث تم تجميدنا وتلك قصة أخرى. واتّضح لي بعد حين أن تلك الجهة التي حاولت لبس "طاقية الإخفاء" تعمل مع أجهزة دولية جاء دورها بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990.
وقد سألني بخصوص تشكيل " الجبهة الوطنية الديمقراطية" (جود) التي تأسست في كردستان بعد أسبوعين من تشكيل جوقد، بسبب استبعاد الحزب الديمقراطي الكردستاني من جوقد لموقف ضاغط من الاتحاد الوطني الكردستاني وجلال الطالباني تحديداً، علماً بأن الجبهتين لا تختلفان عن بعضهما كثيراً، باستثناء الحساسيات السياسية والارتياحات الشخصية وبعض المواقف المسبقة، وكان رأينا الذي أبلغناه في لقائنا مع عبدالله الأحمر (الأمين العام المساعد لحزب البعث) ، زكي خيري وعبد الحسين شعبان، قد اشتمل على ثلاث مقترحات يكون الأخذ بأي منها تسوية للخلاف ونزعاً للفتيل ودرءًا للأزمة التي عصفت بالمعارضة في حينها: الأول- توحيد الجبهتين وإنهاء المشكلة، الثاني- ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) إلى جوقد وحلّ جود لأن الحزبين الأساسيين المتبقين هما الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الكردستاني أعضاء في جوقد أساساً وكانت وجهات نظرهما منذ البداية ضم " البارتي" وإضافة حزب الباسوك إلى جوقد لتكوين أوسع إطار للمعارضة ، والثالث – تشكيل لجنة تنسيق بين الجبهتين ، والهدف هو إنهاء الخلاف المحتدم في صفوف المعارضة، وتطبيع العلاقات بين أطرافها ، خصوصاً الخصومة التاريخية بين " حدك" و"أوك".
وكان رأي طارق الدليمي ما دام هناك " صقور" في الفريقين فلن يتحقق ذلك، وهو ما حصل فعلاً حيث انفجر الخلاف وتحوّل إلى صراع حاد وجرت مناقلات من جانب بعض الأطراف وساد جو من الكراهية والبغضاء والإساءات ، لم يكن له مبرّر على الإطلاق.
VIII
لم يكن مفاجئاً لطارق الدليمي حين اتخذت قراراً مع ثلّة من الرفاق بالعمل على تأسيس منبر شيوعي من داخل الحزب لفتح حوار ونقاش حول سياسة الحزب بشكل عام والحرب العراقية- الإيرانية بشكل خاص، وذلك بالتعاون مع عدد من الرفاق والأصدقاء وبعض الوجوه الثقافية التي كانت تدعم توجهنا، ووقّع عدد كبير منها ( 75 مثقفاً بينهم طارق الدليمي) على مذكرة احتجاجية بشأن السياسة الثقافية، وفي مقدمة الشخصيات التي شاركت في تأسيس حركة المنبر: نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وخالد السلام وماجد عبد الرضا وآخرين. وكانت ثمة اختلافات بعضها نظري يتعلق بالماركسية وطريقة التعاطي معها بهدف تجديدها انطلاقا من الواقع وبما ينسجم مع ظروف العراق وأوضاع العالم العربي ، وبعضها عملي يتعلق بشكل خاص بالموقف من الحرب العراقية- الإيرانية حيث اعتبرنا موقف " إدارة الحزب" ممالئاً للحركة الكردية ولإيران. وكذلك في الموقف من التحالفات التي رأينا فيها خفّة وتسرعاً، إضافة إلى اعتراضاتنا على عملية " عسكرة الحزب" و"الحرب بالطليعة" تحت عنوان "الكفاح المسلح"، ناهيك عن تحفظاتنا إزاء عمل الداخل والخسائر التي منينا بها، والاندساسات التي أصبحت شائعة، فضلاً عن الصراعات الداخلية والتغوّل على الرفاق بأساليب "غير رفاقية" وهو ما كان طارق الدليمي لديه معلومات واسعة عنه. وحين أصدرنا صحيفة "المنبر" وكنت مشرفاً على تحريرها وطبعها كان الدليمي متعاطفاً معنا على الرغم من بعض تحفظاته إزاء بعض مواقفنا، لكنه كان يقدّر إعلاننا عن توجهاتنا .
وكان طارق الدليمي يعرف الكثير من آرائي ووجهات نظري بخصوص العديد من القضايا الفكرية والسياسية، وكان موقفي من الحرب العراقية- الإيرانية أخذ يزداد تباعداً عن القيادة الرسمية على الرغم من أنني ممثلها في الشام، وكان ذلك واضحاً منذ إصدار كتابي "النزاع العراقي- الإيراني : ملاحظات وآراء  في ضوء القانون الدولي" والذي كتب مقدمته الرفيق باقر ابراهيم (1981) الذي تعرّف عليه الدليمي في وقت لاحق (أواخر الثمانينات).
وكم كان منفعلاً حين عرف بقصة  ثابت حبيب العاني " أبو حسان" الذي كان ينزّهه عن مثل تلك الاتهامات الرخيصة ويردّها إلى الأجواء غير الصحية والتسلطيّة التي كانت تبحث عن كبش فداء لسياسة التحالف السابقة والخاطئة، وكان يقول ذلك أمام زائريه  من الشيوعيين وأحياناً يستأذن منّي كي لا أنزعج  أو يتعامل معي من باب " الميانة"، لأنني لم أكن أحبّذ أو أرتضي مثل تلك المداخلات أو التراشقات، لكنه بلا شك كان ينطلق من حرص واجتهاد، مثلما كانت لديه معلومات مثيرة ونادرة ودقيقة في الكثير من الأحيان، وكانت مواقفه حادة ، خصوصاً فيما يتعلّق بكرامته الشخصية و"شرفه الثوري"، ففي إحدى المرات، وفي أوائل التسعينات وأمام عدد من الموجودين في مقهى فندق الشام استشاط غضباً من "أحدهم" فقال له لقد نقلتم رحيلكم من الـ KGB إلى CIA والآن تحاولون النيل من مواقفي، وقد حدث ذلك بعد تصريحات بشأن تبرير العلاقة مع القوى الخارجية تحت عنوان "العامل الدولي". وكم أبدى ارتياحه حين نشرنا في "المنبر" مقالة كتبها  مهدي الحافظ دفاعاً عن "أبو حسّان"  وكشفنا فيها تلك التهم الكيدية التي استخدمت في الصراع الحزبي الداخلي، وكنتُ قد رويت ذلك في مكان آخر لأكثر من مرّة.
وحين علم أنني قبلت حضور مؤتمر فيينا 1992 للمعارضة العراقية دخلنا في نقاش طويل، بشأن توجهات المعارضة والاختراقات التي تتعرّض لها، وكان رأيه صائباً وقد لمست ذلك بنفسي، فمناهضة الدكتاتورية لا تفترض الارتماء في أحضان الضفة الأخرى، فذلك دليل عجز وقصور نظر، وقد كان هادي العلوي الذي زرناه يردّد " لعلّ صوتاً واحداً شجاعاً أغلبية"، وهو ما ذكره مرّة أخرى خلال زيارتي الثانية له مع الصديق رياض النعماني.
وحينها كنّا قد توقفنا عن إصدار المنبر واعتبرنا تحركنا استنفذ أغراضه وكان العلوي قد سألني: هل يعني هذا العودة إلى " الجماعة" أو باتفاق معهم؟  وهل ثمة ترتيب ما؟ فقلت له : لقد استنفذ الصراع أغراضه وثمة ظرف جديد علينا التحرّك لتجميع القوى بمختلف اتجاهاتها، فبلادنا أمام خطر داهم ، وبالنسبة لي فإنني كنت منذ زمن أفكّر في اتخاذ موقف مستقل خارج إطار الكليشيهات والقيود التي ليس لي القدرة على تحمّلها، فقد ضقت ذرعاً بسياسات لم أنسجم معها وبممارسات كنت أرفضها، ولهذا سأبقى خارج إطار أي تنظيم وخارج أي إطار، وقد وجهنا رفاقنا لاختيار كل منهم الموقف الذي يريده، بما فيه العودة إلى الحزب، فالطريق مفتوح أمامهم وعليهم أن يختاروا  ما يريدونه ويرتضونه، وذلك في رسالة كتبتها لهم بالاتفاق مع نوري عبد الرزاق في 27 كانون الأول (ديسمبر) 1990 وبعد الاتصال بمهدي الحافظ، وكان آخر عدد للمنبر قد صدر في وقتها ( قبل شهرين من ذلك، واحتوى نتائج الاجتماع الموسع لحركة المنبر الذي عقدناه بعد غزو الكويت).
وللعلم لم يكن العلوي ميّالاً لموقفنا وتوجهاتنا وكان أقرب إلى إدارة الحزب، بل اجتهد في نقدنا، لكنه كان يحترم أشخاصنا وخياراتنا، منذ إعلان تحركنا في البيان الذي أصدرناه حول الحرب العراقية- الإيرانية في العام 1986 ووقعه ستة رفاق هم: نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وأحمد كريم وخالد السلام وماجد عبد الرضا وعبد الحسين شعبان، وقبله التقييم الذي أصدرناه في العام 1984 "من وحي اليوبيل الذهبي للحزب الشيوعي - حديث صريح في الهموم والآمال لمجموعة من قادة  وكوادر الحزب" وظلّت العلاقة مع العلوي قائمة بزيارات متكررة من جانبنا ماجد عبد الرضا ومحمد جواد فارس وكاتب السطور .
ومن القضايا التي أذكرها لأول مرّة أن عمود "نقطة ضوء" في صحيفة المنبر كان في الغالب حوارات بيني وبين طارق الدليمي ، أذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض العناوين منها: الثورة الاجتماعية والجغرافية السياسية (العدد 4) و" التحالفات وضياع الرؤيا" (العدد5) و"الرهانات الخاسرة والموقف المسؤول" (العدد 6) و"المشروع والصراع" (العدد 9).

IX
   من الشخصيات التي أحبتها والدتي نجاة شعبان هو طارق الدليمي وذلك خلال الأشهر التي أقامت فيها مع أختي سميرة وعائلتها في دمشق انتظاراً لكي أُكمل أمر إقامتها معي في لندن بعد أن تركت العراق بليل بهيم، حيث تعرضت للاعتقال والاستجواب عدة مرّات، وعلى مدى عقدين من الزمان، وكان طارق الدليمي يزورها باستمرار ويهتم بها ، وكانت بكل اتصال معي تشيد به ومن تعليقاتها الطريفة: إنه صاحب معشر حلو وابن خير ويعرف كل شيء عنّا وكأنه عاش معنا طوال حياته، وبالطبع كانت علاقته بالعائلة قوية جداً بأختي سلمى وأخي حيدر وكل ما يتعلق بالأقارب والأصدقاء القريبين، فإنه يعتبرهم عائلته أيضاً، مثلما هي علاقتي بوالدته وخصوصاً خلال زيارتها إلى دمشق وشقيقه خالد.
لم أر الجواهري الكبير يوماً بمزاج وردي مثلما رأيته عند جلوس طارق الدليمي إلى جانبه، فثمة شيء من الكيمياء حصلت بين الرجلين، خصوصاً والجلسة كانت في منزل شقيقتي سلمى، حيث دعوت الجواهري وعائلته وبحضور شقيقته نبيهة (أم كاظم ولواء وصفاء ورواء الجصاني) وصادق الجواهري وعائلته وجمال الجواهري ، إضافة إلى الفنان سامي كمال والشاعر الشعبي جمعة الحلفي وزوجته (أم زينا)، إضافة إلى المثقف الفلسطيني اليساري داوود التلحمي رئيس تحرير مجلة الحرية وطارق الدليمي .
وحين دارت " الأكؤس من صغرى ومن كبرى "، كان الجواهري يضحك من القلب ما أن يهمس طارق الدليمي في إذنه، وكلّما كان الفنان سامي كمال يتحفنا بألحانه ويشنّف أسماعنا بطربه، كانت الابتسامة تكبر على فم الجواهري، وبين وصلة وأخرى كان جمعة الحلفي يسمعنا "المحمّداوي" في حين كانت أم زينا تبهجنا بصوتها العذب والأغاني الشعبية، وشيء ما بالفارسية التي كانت تعرفها. وظلّ الجواهري يسأل عن الدليمي باستمرار، علماً بأن الأخير كان من محبّي الجواهري في الشعر والمتابعين له، وإنه يحتفظ بجميع دواوينه في مكتبته العامرة.
وبالعودة إلى العنوان، أختتم هذه السردية  بما كتبه طارق الدليمي إلى لجنة التكريم في الحفل الذي أقيم لي في العام 2003 في القاهرة عن صديق الخلاف المعتّق  "... ولكن الذي لم يكن مفاجئاً هو أننا سرعان ما نلتقي في فواصل أخرى، أكثر حميمية وأعمق إنسانياً وأهم حياتياً ، وبذلك يصحّ القول أن شعبان الذي يجمع بين برودة العقل وحساباته المنطقية المزعجة، كان يحمل بين جنبيه قلباً دافئاً ينبض بهموم الناس (وأهل) القضية كيفما كانت أو ستكون. ومن هذه الشرفة كانت عزيمته لا تلين وإصراره على الحوار للوصول إلى النتائج الحاسمة ..."
ويضيف الدليمي :"  فالسياسي لدى شعبان لم يكُن يتناقض مع القانوني وأكاد أصرّ أن هذه الحالة الجدلية الخاصة كانت تستفزه شخصياً قبل أن تثير حفيظة الآخرين ولم نتحمّل نحن أصدقاؤه هفواته الصغيرة، وذلك ليس بسبب المحبّة الاجتماعية والاحترام الشخصي، ولكن أيضا لمعرفتنا الجادة إن الطاقة الذاتية للمراجعة والمحاكمة الداخلية لا بدّ أن تصاحبها احتواءات إنسانية ذات هدف إنساني... لا يمكن قطعاً الحديث بالتفاصيل عن المحطّات العديدة التي كنّا سوية فيها ونحن ننتظر قاطرات متغيّرة ومغايرة ". 
لعلّ خاتمته متناظرة مع خاتمتي في حديثي عن صديقي اللدود المثقف الرؤيوي الذي كان يتحسّس بروحه وقلبه وعقله في آن، فقد كنّا لا نتوقف عند الأشياء الصغيرة والاختلافات العابرة والملاحظات الظرفية، لأننا كنّا مدفوعين بثراء التفاصيل وعمق الصداقة وأفق المعرفة المفتوح، وهناك قول أثير " فالصديق إنسان هو أنت إلّا أنه بالشخص غيرك"
كان طارق الدليمي أنيساً ، ظريفاً، خفيف الظلّ، لمّاحاً، صاحب قلم جميل وجملة رشيقة وفكر أنيق، ويحمل من المواصفات الشخصية خصالاً تكاد تكون نادرة، لاسيّما إذا اجتمعت بشخص واحد ، فهو شجاع بلا حدود ولكن دون ادعاء، وكريم على نحو تلقائي دون تكلّف، وصاحب رأي في كل الأوقات أخطأ أم أصاب، وكان طيب القلب وإنساني النزعة ومحبٌ للخير ومتفان ومخلص للصديق رغم حدة مزاجه أحياناً، كما كان صاحب مروءة "وعلى شرف قدر الناس تكون المروءة" حسب الإمام علي ، فهو لا يقبل بظلم أحد أو إهانته أو استضعافه وقد يكون مستعداً للدخول في معركة دفاعاً عن شخص لا يعرفه، لمجرد أنه يشعر بأن إجحافاً ما أصابه أو غبناً ما لحقه أو تعرّض لإساءة.
طارق الدليمي وهو على مشارف الثمانين، كل متاعه من هذه الدنيا ، بضعة كتب وحفنة أصدقاء وضمير حي ومروءة لا تنقطع.



188
 


«الصفقة» من منظور الداخل «الإسرائيلي»

 
عبد الحسين شعبان
تحوّلت دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المرشّحين «الإسرائيليين» المتنافسين لتولي رئاسة الوزارة بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، لإطلاعهما على خطته المقترحة للسلام «الإسرائيلي»- الفلسطيني، والتي عُرفت ب «صفقة القرن»، إلى جدال وسجال وصراع سياسي داخل «إسرائيل» أيضاً، وإنْ كان مثل ذلك التجاذب يختلف عمّا هو عليه عربياً وإسلامياً، لكنه لم يمنع من الاختلاف حول توظيفها داخلياً، حيث اعتبر ما يُعرف باليسار «الإسرائيلي» الدعوة بمثابة «مؤامرة» مزدوجة من جانب ترامب ونتنياهو لإنقاذ بعضهما من «المحاكمة» المنتظرة لكليهما، لافتاً النظر إلى الخفايا المريبة لتلك العملية، وهي عكس نظرة اليمين «الإسرائيلي» الذي يرى في الدعوة «فرصة تاريخية ينبغي استغلالها وعدم تفويتها».
وجاءت خطة ترامب لتصب في سلسلة خطواته لاستكمال صفقة القرن الحادي والعشرين بعد أن كانت صفقة القرن العشرين قد بدأت ب«اتفاقية سايكس - بيكو» عام 1916 ووليدها «وعد بلفور» عام 1917، لكن الصفقة الجديدة كان من المفترض إعلانها كاملة قبل نحو عام، وتأجّلت بسبب الأزمة السياسية «الإسرائيلية» والجولات الانتخابية التي لم تثمر إعادة تكليف نتنياهو لتشكيل الحكومة، علماً بأن الرئيس الأمريكي قدّم مفرداتها على شكل جرعات:
الأولى - اعترافه بالقدس عاصمة أبدية ل «إسرائيل» وقيامه بنقل السفارة الأمريكية إليها.
والثانية - إهداؤه الجولان السوري المحتل إلى «إسرائيل» بحجة الاعتراف ب «سياسة الأمر الواقع».
والثالثة - إعلانه أحقية «إسرائيل» و«أمنها» في ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
أما الرابعة فقد كانت التتويج العملي للجرعات الثلاث والخاصة بإعلان «يهودية الدولة» وفرضية «السلام» الاستسلامية.
ولعلّ جميع هذه الخطوات مخالفة بشكل صريح وسافر لقرارات ما يسمّى ب «الشرعية الدولية» وميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي المعاصر.
ويأتي التوقيت الحالي لإعلان المرحلة الأخيرة من صفقة القرن خدمة لنتنياهو، الذي يحاول المناورة، حيث سيحمل الصفقة إلى المجتمع «الإسرائيلي» ليقول له «إننا على أعتاب مرحلة جديدة»، الأمر الذي يستوجب طيّ صفحة المحاكمة، وإعادة انتخابه ليستمر في رئاسة الحكومة التي تمنحه «حصانة» من المحاكمة.
لقد بدّدت الصفقة آخر ما تبقى من إمكانية إعلان دولة فلسطينية وفقاً لما يطلق عليه ب «الشرعية الدولية»، سواء للقرار 181 لعام 1947 أو قرارات مجلس الأمن الدولي 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 وقرارات الجمعية العامة الخاصة بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، ومع ذلك وبسبب الرفض العربي والإسلامي وتعاطف جزء لا يستهان به من المجتمع الدولي، فإن «إسرائيل» تحاول كسب الوقت من خلال سيناريوهات عديدة:
أولها- أنها حالياً لا تقوى على اتخاذ أي إجراء عملي قبل موعد الانتخابات الجديدة (آذار/‏مارس/‏2020)، لكنها ستحاول إضعاف الموقف العربي والفلسطيني الرافضين للصفقة ومفرداتها، والظهور دولياً بمظهر الحرص على مناقشة «خطة واشنطن» مع السلطة الفلسطينية تحديداً بشأن الخطوات التي يمكن اتخاذها بعد الانتخابات، حتى وإنْ اتّسم الموقف الفلسطيني بالرفض القاطع، لكن ترامب لوّح بأن ورثة الرئيس الفلسطيني محمود عباس يمكن أن يتقبلوا هذه الخطة، وتلك رسالة مهمة لا بدّ من التوقّف عندها.
وثانيها - محاولتها اتخاذ خطوات تمهيدية مع إبقاء باب المفاوضات مفتوحاً بالدعوة لاقتناص الفرصة لاتباع استراتيجية شاملة من منظورها للحل، بعيداً عن مطلب «حلّ الدولتين»، وهو الموقف الذي تبنّته واشنطن نظرياً.
وثالثها- ضمّها بخطة آحادية للأراضي المقترحة في «الصفقة» لتكون «أمراً واقعاً» بعد رفض الفلسطينيين، واعتبار تلك فرصة جديدة لفرض شروطها وإعلاء سقف مطالبها.
وتصبّ هذه السيناريوهات في تقسيم المتبقّي من الأراضي الفلسطينية وسيطرة «إسرائيل» تماماً على المداخل والمخارج للكيان الفلسطيني «الموعود»، بحيث تحبس الشعب الفلسطيني في سجن صغير وتخضعه لحصار شامل للرضوخ، وتمنع أي محاولة لقيام دولة فلسطينية حتى وإن كانت منزوعة السلاح في حدود ال 11% من أراضي فلسطين التاريخية، وذلك من خلال زحف هادئ لضمّ معلن وفعلي قبل الضم الشامل، وستضغط على الأردن لضعضعة العلاقة الأخوية الأردنية - الفلسطينية والتلويح بالوطن البديل مستفيدة من عامل الوقت باعتبار تلك الإجراءات (معركة بين حربين ) حسب صحيفة «هآرتس».
drhussainshaban21@gmail.com

نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) الأربعاء 12/2/2020


189

"قفص الدجاج "و " القوة الناعمة"! !
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   شهد العالم العربي مؤخراً حركة احتجاج واسعة سلمية ومدنية من حيث التوجه والأهداف والممارسة، وعبثاً حاولت جهات مختلفة جرّها إلى العنف، وظلّت متمسّكة بسلميتها التي هي أساس شرعيتها، وهكذا تمكنت من الإطاحة بالرئيس السوداني عمر حسن البشير  واضطرّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الإقلاع عن الترشح لدورة خامسة كما استجاب لها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بتقديم استقالته، وأُجبرت حكومة عادل عبد المهدي على تقديم استقالتها.
   وفي كل التجارب التاريخية فإن حركات التغيير تفجّر معها جميع التناقضات الإيجابية والسلبية، سواء أحدثت التغيير المنشود أم لم تحدثه ، الأمر الذي يثير صراعات جديدة في المستقبل، علماً بأن التغييرات لا تتحقّق دفعة واحدة ولا تأتي ناجزة أو كاملة أو نهائية، بل متدرجة وتراكمية، وستواجهها عند كل منعطف تدافعاً ومطاولة بين من يريد إبقاء القديم على قدمه، وبين قوى التغيير ذاتها التي سينفجر الصراع داخلها أيضاً، بحكم تعارض المصالح ومحاولة كل فريق الاستحواذ على أكبر قدر من النفوذ والامتيازات للهيمنة.
   ومن دون تفاؤل مُفرط أو تشاؤم مُحبط، لابدّ من الإشارة إلى أن حركات التغيير ليست هندسة منجزة أو رسماً بيانياً جاهزاً أو خريطة طريق ذات خطوط مستقيمة، كما أنها ليست وصفة سحرية لأمراضنا الاجتماعية دون  منغصات أو أخطاء أو حتى خطايا، إنها مثل كل عمل بشري معرّضة للنقد والمراجعة والتقصير، لاسيّما إذا لجأت إلى العنف أو مارسته كرد فعل على ما تمارسه السلطات بحقها.
   ويمكن القول إن حركة التغيير هي جزء من قانون التطور التاريخي ، الذي لن يحدث دون تراكمات، وهي حتى وإن بدت مفاجئة، إلّا أنّ ثمة أسباباً موضوعية وذاتية ضرورية لاندلاعها، وباستعادة مفهوم الانتفاضة في " الأدب الماركسي"، فهي ظاهرة خصوصية في كل مجتمع مع ما يمكن أن تفعله القوانين العامة، إذْ لا توجد صيغة جاهزة يمكن اقتباسها أو تقليدها أو نسخها، لأنها تختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف درجة تطوره التاريخي بطبقاته وأديانه وقومياته ولغاته وهوّياته الثقافية المتعددة.
 وإنْ كانت ثمة سمات عامة ومشتركة بينها، تلك التي تجلت في حركة الاحتجاج الأخيرة من أن غالبية "قياداتها" والمشاركين فيها هم من الشباب المتأثّر بالعولمة حيث لعب الإعلام والحداثة دورهما في تفجير طاقاته، ولاسيّما مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنّ أبرز شعاراتها انصبّ على الكرامة وتحسين الأوضاع المعيشية ومحاربة الفساد، وإن عمقها الحقيقي هو الطبقة الوسطى.
   لقد حار البعض في تفسير انطلاق حركة الاحتجاج وبهذا الحجم والاتساع والامتداد، فلم تسعفه الدعاوى الآيديولوجية من عدم وجود حامل اجتماعي أو قيادة معلومة للحركة محاولاً قياسها بمسطرة قديمة، لم تعد تصلح لعصر العولمة، واستسهل البعض الآخر اتهامها بالخضوع لتعليمات قوى مريبة وتدخلات خارجية، وهي موجودة بالفعل، بل وحاضرة عند كل متغيّر، تستطيع أن تحشر نفسها فيه سريعاً، لكن هؤلاء ينسون أو يتناسون الشعور بالتمييز وغياب المواطنة المتساوية وازدراء الكرامة الإنسانية التي ظلّت السلطات تمارسه لسنوات بحق المحكومين.
   وثمة خصائص مشتركة في حركة الاحتجاج الجديدة، وهي علنيتها وعمومية شعاراتها وتشبّثها بهويّتها الوطنية واستخدامها لشبكة التواصل الاجتماعي، فلم يكن لها "عرّاب واحد " أو " أب قائد" أو "زعيم ملهم"، ولا حتى وجود"حزب ثوري" يقودها، وليس هناك "نظرية ثورية" كمرشد للعمل كما يقال عادة بالنسبة للثورات، فقد رفضت الشابات والشبان "قفص الدجاج" الذي وُضعوا فيه لسنوات تحت تأثير تخديرات الآيديولوجيا الغيبية وغير الغيبية وادعاء امتلاك الحقيقة والزعم بالأفضلية وتقديم ذريعة الأمن على الكرامة، وكل هذه العوامل قادت إلى نضوج "اللحظة الثورية" بارتفاع نبض الوعي الوطني واليقظة الإنسانية والتشبث بفكرة المواطنة، مع ميزة مذهلة هي قدرة الشابات والشبان على التمسك بسلمية الحركة ولا عنفيتها بصورة واقعية فائقة، بحيث أصبحت حركة احتجاجهم "قوة ناعمة" جبارة وعقلانية حتى وإنْ كانت تذكّر بعصر المداخن إبان الثورة الصناعية.
   لعل قول غرامشي "القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد" ، هو ما ينطبق على  تجارب التغيير جميعها تلك التي عانت وتعاني من طول الانتظار وعسر الولادة وأحياناً عدم اكتمال المولود  بسبب ثقل الماضي وامتداداته وتأثيرات القوى المخلوعة أو التي يُراد خلعها، لكن التغيير إذا ما بدأ فلا يمكن وقف قطاره حتى وإن انحرف أو تعثّر أو تأخر أو تلكأ بفعل القوى المضادة، وهو ما توضحه التجربة التاريخية بحكم وجود بيئة مشجعة له داخلياً وخارجياً، فضلاً عن مشاركة وازنة من المرأة ودور متميّز لمؤسسات المجتمع المدني والتساوق مع روح العصر، وحتى لو كان الطريق وعراً ومنعرجاته كثيرة، فإن بقاء الأوضاع على ما هي عليه أصبح مستحيلاً مثلما هي العودة إلى الماضي،  والأمر له علاقة بإحياء الهوية الثقافية والمعرفية لدى المحتجين الذين شعارهم بشكل عام " نريد وطناً".



190
     
س 7- ماذا عن اللحظة الثورية؟ وكيف يتم اختيارها ؟ 
ج 7- لعلّ الأمر يتطلّب قراءة الوضع السياسي على نحو صحيح دون مبالغات بسبب التفاؤل المُفرط أو التشاؤم المُحبط، لا بتضخيم الذاتي على حساب الموضوعي، سواءً بالرهان على المغامرات وصولاً  إلى الانتحار أحياناً، ولا بتقزيمه بحيث يقود  إلى العجز والقنوط، وتضييع الفرص بانتظار أخرى، وكثيراً ما ضاعت انتفاضات بسبب حرق المراحل أو عدم إقتناص اللحظة الثورية على نحو صحيح.
ومن أصعب الأمور هو إتخاذ القرار ببدء الانتفاضة لأن ذلك يتطلّب حساب توازن القوى واختيار التوقيت المناسب والتدرّج في رفع الشعارات، وكل ما يتطلب الشروع بتهيئة مستلزمات انطلاقتها وبالتالي الحفاظ على جذوتها حتى تحقيق أهدافها والوصول  إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً ما حددته من أهداف، ولعل ذلك ما يمكن أن نطلق عليه " التنبؤ الثوري"، وهو يحتاج  إلى معرفة بالظروف والمحيط  والقوى المتصارعة ومعسكر الحلفاء وقيادة لإدارة خطط العمل والتاكتيكات، ومن ثم كيفية التدرّج في طرح المطالب بعد تحديد الأهداف، والتقدّم بجسّ نبض العدو أو الخصم، وزج الجمهور لإقتحام معسكره وصولاً  إلى تحقيق الهدف بالإصلاح أو التغيير حسب أهداف الانتفاضة ذاتها.
وهذا الأمر يعتمد على مدى تصدّع معسكر الخصم أو العدو، وانهيار بعض أركانه، أو انتقال بعضها  إلى المعسكر الآخر أو تحييد بعض قطاعاته أو تمردّها أو حتى تركها مواقع العمل مع النظام. وإذا كان قرار البدء بالانتفاضة قد يؤدي  إلى مغامرة أو انتحار، لاسيّما إنْ لم يكن مدروساً، فإن أخطر ما يحصل للانتفاضة بعد انطلاقتها هو التردد وعدم الحسم، ولا يعني ذلك سوى موتها وتعريض مصيرها للدمار. ذلك ما أقصده من الانتفاضة بمعناها الكلاسيكي، خصوصاً حين تكون منظمة ويقف خلفها أو يقودها حزب ثوري، لكن الانتفاضات العفوية الراهنة والتي هي دون قيادة محددة عليها أن تدرك الشروط والقوانين الموضوعية لحركية الانتفاضة وأن تطبقها على ظروفها الخاصة خشية تبددها وإجهاضها، خصوصاً إذا استمرت لفترة طويلة دون أن تحقق أهدافها أو أن تتقدم على هذا الطريق، إذا أن أي مراوحة سيعني تقهقرها التدريجي .
ويحدد لينين لنجاح الانتفاضة الاعتماد على الطبقة الطليعية أولاً، وعلى الإنعطاف الحاسم في تاريخ الثورة الصاعدة ثانياً، وعلى تصدع معسكر الأعداء ثالثاً، حيث يبلغ نشاط الصفوف المتقدمة من الشعب ذروته، وفي الوقت نفسه تبلغ التردّدات في صفوف الأعداء وفي صفوف الأصدقاء الضعفاء، الحائرين، غير الحازمين، أشدّها، وهو بذلك يحاول تمييزها عن الفكرة البلانكية التي تقوم على مؤامرة أو مجموعة في حزب، وهو ما كتبه عن فن الانتفاضة، وفي رسالة لينين  إلى اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفي) التي كان قد كتبها في ليلة 13/14 أيلول (سبتمبر) 1917 ونشرت لأول مرة في العام 1921 في مجلة بروليتاريسكايا ريفولوتسيا (الثورة البروليتارية) العدد 2، 1921. 
أما ماوتسي تونغ فيقول: إن الثورة ليست مأدبة ولا كتابة مقالات ولا رسم صورة ولا تطريز ثوب، فلا يمكن أن تكون بمثل تلك اللباقة والوداعة والرّقة، أو ذلك الهدوء والأدب والتسامح وضبط النفس. إن الثورة انتفاضة وعمل عنيف تلجأ إليه إحدى الطبقات للاطاحة بطبقات أخرى.                                                                                                                 
ويذهب أميليو لوسو للحديث عن الإنتفاضة باعتبارها فناً كالحرب وباقي الفنون تخضع لبعض القواعد التي يؤدي إهمالها  إلى هلاك الحزب الذي يرتكب خطأ عدم التقيّد بها. ويضيف في شرحه أنها معادلات متشابهة (الانتفاضة والحرب) وحيث يتوقف القانون، فإن الغلبة للصراع السياسي.
   والانتفاضة المنظّمة أو العفوية بعد تطوّرها ليست قراراً إرادوياً، أو خريطة جغرافية أو ديموغرافية كما يتصوّر البعض بحيث يتم تحديد أبعادها ومسافاتها وتضاريسها سلفاً، ووضع محطّات لاستمرارها وتحديد مسارها، بقدر ما تعكس الواقع وما يزخر به التغيير من مستجدات وتطوّرات وتفاصيل واحتمالات، يمكن التكيّف معها لوضع الخطط والبرامج المناسبة للمواجهة، وتجاوز المعوّقات التي تعترض طريقها، والتناقضات التي تستوجب إيجاد حلول مناسبة لها، للاستمرار بالانتفاضة وصولاً للتغيير المنشود. وفي ذلك مقاربة لمفهوم الانتفاضة بمعناها الكلاسيكي، خصوصاً وجود قيادات معلومة لها ومخطِطة لإندلاعها.
لعلّ بعضنا استعاد صورة الانتفاضة كما تم تحديدها في الأدب الماركسي، خصوصاً الصورة النمطية السائدة و"النموذجية" التي كانت دائمة الالتصاق بثورة اكتوبر الاشتراكية العام 1917 وقيادة لينين، وهي الصورة ذاتها التي استعدناها في انتفاضة أواخر العام 1987 وأوائل العام 1988 الفلسطينية، التي عُرفت باسم انتفاضة الحجارة، لدرجة أن بعضنا استعمل تلك التعاليم باعتبارها "مدوّنة" قانونية أقرب  إلى مسطرة يقيس بها بالأفتار، مدى انطباقها أو عدم انطباقها على الانتفاضة الأكتوبرية الشهيرة، وذلك ضمن وصفة نظرية أقرب  إلى الوصفات العلاجية.
ولعلّي أشرت في حينها  إلى أن بمجرد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية هرع بعض الماركسيين العرب للتأكيد على الأخذ بالتعاليم اللينينية... محاولين اقتباس بعض العبارات والجمل بخصوص الانتفاضة المسلّحة وشروطها، وإذا كانت دراسة التعاليم اللينينة والعبقرية  الفذّة للينين ضرورية ومهمة، ولكن ينبغي أخذ الظروف المختلفة كلياً بنظر الاعتبار، والاستفادة من التعاليم العامة لا للاستنساخ والتقليد ، لاسيّما وأن الانتفاضات الحالية سلمية ومدنية واقرب إلى العفوية، وتلك بعض حقائقها الجديدة.
وكنتُ قد واجهت ذلك عند إلقائي محاضرة  في دمشق في العام 1988 ومحاضرة في براغ بدعوة من السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح، خلال زيارتي مطلع العام 1989، حول "مفهوم الانتفاضة"، وكانت المحاضرتان بعنوان "انتفاضة الحجارة بين السياسي والآيديولوجي".
وقبل ذلك عند حديثنا عن الثورات التاريخية الكبرى، عدنا  إلى الثورة الفرنسية البرجوازية، وإلى انتفاضة باريس العمّالية العام 1871 (الكومونة الحمراء الشهيرة) وتوقفنا كثيراً عند ثورة اكتوبر، ووصلنا  إلى الثورة الإيرانية الدينية الإسلامية، العام 1979، تلك الثورات التي تركت تأثيراتها على النطاق العالمي واستمرت تفعل فعلها في العقول والنفوس. 
ومثل هذا الأمر يجري استعادته أو القياس عليه اليوم بخصوص الانتفاضات التي اندلعت في العديد من البلدان العربية في ظروف مختلفة وتطورات هائلة، لاسيّما في عصر العولمة ، وأهم ما فيها أنها سلمية ولا عنفيّة، فضلاً عن شموليتها.

س 8- وماذا عن الخصوصية التونسية؟

ج 8- لقد تسنّى لي زيارة مكان "الحدث والحادث" الذي أشعل حركة الاحتجاج الشعبي في الوطن العربي، تلك التي بدأت بإضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، صباح يوم الجمعة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، فقد عزّت عليه نفسه إثر صفعة تلقّاها من الشرطية فادية حمدي، وسط حشد شعبي في مدينة سيدي بو زيد، لاعتراضه على منعها ومصادرتها  مصدر الرزق الوحيد له ولتسعة أفواه من أسرته.
   كان ردّ البوعزيزي على كرامته المجروحة إنهاء حياته احتجاجاً، لاسيّما وأن فرص حصوله على عيش كريم باءت بالفشل بسبب استشراء سوء الإدارة وفساد السلطة في جسد الدولة وجميع مرافقها، ناهيك عن شحّ الحريات المزمن. أحضر الشاب المتعلّم وبائع الخضار عدّته وتقدّم خطوات من مبنى المحافظة الذي لم يبعد سوى بضعة أمتار عن مكان وقوف عربات باعة الخضار، وبعد أن عبر الشارع ليكون أمام باب المبنى مباشرة، صبّ الزيت على نفسه وأشعل عود الثقاب، فتوهّج جسده، ولم يدر بخلده لحظتها، أن روحه الصاعدة إلى السماء، ستكون قرباناً للثورة، التي ستبدأ من تونس وتنتقل منها  إلى العالم العربي بأسره.
كان الأمر خاطفاً ومُتقناً، ففارق الحياة وسط حيرة ودهشة المجتمع البوزيدي بشكل خاص والمجتمع التونسي بشكل عام، بما فيهم ردود فعل السلطة التونسية ومؤسسة الرئاسة التي تعاملت بإرتباك واضح مع الحدث، لاسيما بعد أن انتشر الخبر مثل النار في الهشيم وشاع بسرعة خاطفة مثل البرق وتناقلته وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفاز، وخصوصاً بعد أن بدأت الوسائل المحلية بنشره وإذاعته، مما دفع وسائل الاتصالات الحديثة بما فيها التويتر والفيسبوك واليوتيوب والانترنت من تفعيل الأمر والمساهمة في توسيع رقعة انتشاره. وحسب ماوتسي تونغ " تكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب ويشعل السهل كلّه" فهل هذا هو الحدث الذي كان وراء اندلاع حركة الاحتجاج التونسية ؟
كل شيء قبل انتحار البوعزيزي بدا هادئاً، بل واعتيادياً، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد كما يُقال، فما أن حرّكتها ريح شديدة، حتى اشتعلت، ملتهمة كل ما حولها من أوهام القوة وجبروت الاستبداد والرفاه الزائف. ومن يرقب مسيرة تونس في السنوات العشرين ونيّف الأخيرة، ولاسيّما منذ استلام زين العابدين بن علي الرئاسة سيلحظ النقيضين: هدوء ظاهري ومستوى معيشي لا بأس به وسلطة أقرب إلى الحداثة وحقوق للمرأة مكفولة دستورياً في أحسن مستوى قانوني في الوطن العربي، وهي إنجازات تُحسب بشكل أساسي للرئيس الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس منذ الاستقلال حتى أواخر الثمانينيات رسمياً، ولكن من جهة أخرى كان البوليس السرّي بالمرصاد لكل من يتفوّه بكلمة ضد الرئيس وحاشيته أو يعارض النظام، كما كان القمع وشحّ الحريات والفساد المالي والإداري مستشرياً لدرجة مريعة، ناهيك عن تمركز السلطة والمؤسسات السياسية والأمنية جميعها بيد رئيس الدولة، الذي أصبح تدريجياً حاكماً متسلّطاً لا يتورّع عن القيام بأي شيء بما فيه ما يتعارض مع القيم الإنسانية   المنصوص عليها في الشرائع والمواثيق الدولية، فضلاً عن مخالفته لدستور البلاد ذاته.
   ولعل تلك السمات تكرّست تدريجياً في بنية الدولة التونسية، التي لم تعرف منذ الاستقلال التداول السلمي للسلطة أو إجراء انتخابات حرّة ونزيهة أو الاحتكام  إلى قواعد الديمقراطية المعروفة، مثل سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والمساءلة والشفافية، ناهيكم عن الحريات ولاسيما حرية التعبير والحق في التنظيم والحق في المشاركة.
   إن خصوصية الوضع التونسي تتطلب منّا الاعتراف بأن النهج التفرّدي للرئيس الحبيب بو رقيبة ونظامه من بعده، وضع تونس على طريق الدولة الحديثة، باتبّاع سياسة اجتماعية متوازنة وإحداث نوع من النمو الاقتصادي وتحديد ملكية الأراضي الزراعية للحد من نفوذ الإقطاع، كما ساهم في دعم القطاع العام، ولاسيما في الحقول الثقيلة مثل: الفوسفات والبتروكيمياويات، وساند الصناعة الوطنية، ولعل ذلك يعود  إلى كره بورقيبة لدولة " الأغنياء" حيث لا توجد في تونس تقاليد التفاوت الطبقي والاجتماعي الحاد مثل الهند ومصر والمغرب، حيث يولد الفقير فقيراً وينشأ فقيراً. وعلى خلاف سلفه قام الرئيس بن علي بتسمين فئات جديدة من محدثي النعمة الذين تحكّموا بالاقتصاد التونسي، وخصوصاً من أقارب زوجته ليلى، في قطاعات الاتصالات والسياحة والمقاولات، ناهيك عن العقود والصفقات الاستثمارية مع الخارج.
وإذا كان الفساد المالي والإداري وسوء استخدام السلطة سبباً في الثورة، فإن من المفيد ذكر مفارقة تتعلق بمستوى المعيشة الذي يعدّ لا بأس به في تونس قياساً بدول أخرى، ولعلّ هذا المستوى كان وراء اندلاع الثورة أيضاً، فعلى عكس الاعتقاد السائد بأن الجوع وحده هو سبب الثورة، فإن الثورة في تونس، لم تكن ثورة جياع، حيث يوجد  نحو مليون وثلاثة أرباع المليون يستخدمون الانترنيت في بلد تعداد سكانه عشرة ملايين، ونحو 70  إلى 80 ألف تونسي يتخرجون من الجامعات سنوياً ، ولعل هذا الاستثمار البشري في قطاع التعليم والصحة والبيئة والزراعة والسياحة والرياضة، كان الأوفر حظاً .
   وبخصوص الوضع المعاشي في تونس الذي جرت الإشارة إليه، فقد لاحظت وأنا في طريقي من العاصمة  إلى سفاقس (تبعد نحو 300 كيلومتر) وصولاً  إلى سيدي بوزيد، (التي تبعد عن سفاقس ما يزيد عن 100 كيلومتر) غابات شاسعة من أشجار الزيتون كنت أمرّ عليها، وبدت لي مثل "بحر بلا ضفاف"، وهذا ما يتعلق بالزراعة والأراضي الزراعية، أما المناطق الحضرية بما فيها الأحياء الشعبية فلا يمكن مقارنتها ببلدان غنية مثل ليبيا والجزائر والعراق مثلاً، التي تزيد وارداتها عشرات المرات على واردات تونس، لكن مستوى معيشة سكانها كان أخفض بكثير منها، فما بالك بدول فقيرة. وإذا كانت المقارنة مع البلدان النفطية أو دول اليُسر، لصالح تونس فبالتأكيد ستكون المقارنة مع بلدان العُسر بجانبها أيضاً، الأمر الذي بحاجة  إلى التفكير في مآل الثورة والفئات التي قادتها والشباب الذين كانوا المحرّك الأساسي لها.
ويبدو أن ثورة تونس التي كانت بطاقتها الحمراء جاهزة لا تشبه غيرها من الثورات، فهي ثورة تنمية إذا جاز التعبير، وليس هناك مظاهر جوع أو فقر مدقع، ولم تشر التقارير الدولية  إلى ذلك، فضلاً عن وجود متعلمين وخريجي جامعات، وإنْ كانوا يعانون من البطالة وشحّ فرص العمل في السنوات الأخيرة، الاّ أن في ذلك سبباً مختلفاً للتغيير، ولم يعد النظام الذي حقق نوعاً من النمو الاقتصادي ووفّر وفرض خدمات صحية وتعليمية وهياكل ارتكازية وبنية تحتية، على مقاس ما هو مطلوب، وقديماً قيل "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، فالكرامة والحرية أساسان للتطور الإنساني، وقيمة عليا لبني البشر، لا يمكن دونهما السير في دروب التنمية وتأمين احترام حقوق الانسان.
كانت صورة تونس تبدو للناظر من بعيد: دولة مستقرّة وشعباً "مستكيناً" و"راضياً"، وإذا كان ثمة هوامش سياسية ومدنية وبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبعض مظاهر الاحتجاج والاعتراض المحدودة، لكن النار تحت الرماد كما يقال، حتى أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك سليل أمّة لها الفضل في إصدار أول إعلان لحقوق الإنسان في العالم لم يتورّع من وصف تونس على قدر من مجافاة الحقيقة لنظام بوليسي بقوله: بأنها تؤمّن الحقوق الإنسانية الأساسية، المتعلقة بالغذاء والسكن والعمل، وذلك في ردّه على حقوقيين تونسيين.
وفعل الرئيس الفرنسي ساركوزي مثل الرئيس شيراك حين ظلّ متردداً في الموقف من انتفاضة الياسمين بسبب المصالح، حيث كان صوته باهتاً في مطالبة بن علي وقف المجازر وإنْ حاول الاستدارة سريعاً بعد الانتفاضة الليبية، التي ردّ عليها نظام القذافي بمطالبته لاسترداد المبالغ التي غطّت حملته الانتخابية العام 2007، كما بقيت واشنطن حائرة بين دعم نظام حسني مبارك المستقر وبين تأييد حركة الانتفاضة "الغامضة" و"المقلقة" لها بسبب من خشيتها، من الموقف من "إسرائيل" و"اتفاقيات كامب ديفيد"، وتضاربت تصريحات العديد ممن يطلقون على أنفسهم قادة العالم الحر بشأن التغييرات، مثلما فقد الكثير من القوى توازنه لانهيار أنظمة دكتاتورية دموية، بحجة الخوف من "التدخل الخارجي"، وهي وإنْ كانت خشية في مكانها باستعادة تجربة العراق ومأساته، لكن ذلك لا يعني السكوت عن عمليات القتل والإبادة، وتبرير الدفاع عن أنظمة متسلطة.
لقد كان شاغل الغرب مسألتين أساسيتين هما:
الأولى-  هواجس سنوات ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي شجعت على التغيير، ولم يعد بالامكان التراجع عنه أو اتخاذ موقف سلبي إزاءه، خصوصاً وقد بدأت بيئة دولية تتشكل داعمة للتغيير.
والثاني-  مصالحه الاستراتيجية والحيوية في المنطقة التي يريد الحفاظ عليها وعدم الذهاب  إلى "المجهول"  بما فيها حماية " إسرائيل" الأمر الذي دفعه  إلى التردّد في البداية، سواءً بدعواته  إلى ضبط النفس أو عدم الاستخدام المفرط للقوة، لكنه عاد ورحّب بالتغيير ولمّح  إلى الالتزام بدعمه، بل وحاول مدّ الجسور معه بأشكال مختلفة معلنة ومستترة بغض النظر عن من سيتولى الأمر، لأنهم يراهنون على الحصان الرابح، سواءً حكم الأخوان أم غيرهم من الليبراليين، علماً بأن موقف الاتحاد الاوروبي ومؤسساته كان أكثر وضوحاً، خصوصاً مواقف البرلمان الأوروبي.
إن أية ثورة لا تشبه غيرها، ولا يشبه أي شعب آخر، وإنْ كان هناك مشتركات بين الشعوب والمجتمعات، إلاّ أن لكل خصوصيته، التي لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند الحديث عن التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولعل هذه المسألة تكاد تكون مطروحة وعلى نحو شديد في موجة الاحتجاجات الثانية، في العراق أم لبنان أم غيرها،  فإذا كان ثمة تأثيرات وتفاعلات وانعكاسات بين التجارب المختلفة، الناجح والفاشل، إلاّ أن لكل تجربة نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والإثنية وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، ناهيك عن تراكم العديد من المشكلات المختلفة.
ويمكن القول إن الجامع للحراكات الشعبية وأسبابها يتلخّص في اختلال وسوء علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث تمّ تغييب أية فسحة للمحكومين لاختيار الحاكم واستبداله على نحو دوري حر ونزيه، الأمر الذي سبب ترهّل وهرم الأنظمة والتي فقدت حيويتها وفاعليتها السياسية والاجتماعية وتآكلت شرعيتها، مما راكم الشعور بالاستلاب والغبن وفقدان الحقوق، بل والتجاوز على أبسطها.
إن أي عملية تقليد أو استنساخ لنموذج ما دون الأخذ بالاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للأصل والفرع، كما لو تمّ زرع بذرة في بيئة غير ملائمة فسيؤدي ذلك لعدم نموها بشكل صحيح، وحتى لو نمت فسيكون لأجل قصير ومن بعد ذلك تذوي وتموت. ولعل ذلك ينذر بمستقبل محفوف بالمخاطر، مما يؤدي لضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر.
   حاولت الثورات الاشتراكية السير على هدي الثورة الروسية الأكتوبرية، وقامت بتقليد التجربة، لكنها بعد حين وصلت  إلى طريق مسدود، لأنها استنسخت التجربة الأصل بكل التحدّيات والمشكلات التي تواجهها مما انعكس سلباً على التجارب الفرعية الأخرى، كما حاولت بلدان ما أطلق عليها محور "التحرر الوطني" إعادة استنساخ أو تقليد التجارب الاشتراكية، لكنها سرعان ما انهارت عندما انهار النموذج الأصل، الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار، وقد حاولت بعض البلدان العربية تقليد نموذج الثورة المصرية الناصرية وتجربتها السياسية، لكنها في واقع الحال كانت عبارة عن تشويه لتجربة لها خصوصيتها ولها مشكلاتها وتحدياتها، وإذا كانت لم تفقس بيضة التجارب الأولى، فما بالك بالتجارب اللاحقة "الصغيرة" أو الأقل جاذبية وتأثيراً.
   إن قراءة التجارب العالمية والعربية واستلهام دروسها وعِبَرها بانفتاح وشفافية  أمر ضروري لتحصين التجارب الخاصة بعيداً عن الانغلاق والتقوقع من جهة، وفي الوقت نفسه دون تقليد أعمى أو استنساخ مشوّه، والأمر يتطلّب عقد جديد في كل مجتمع بين القوى والفاعليات المؤثرة، لتنظيم العلاقة أيضاً بين الحاكم بالمحكوم، ومن جهة أخرى يقتضي وضع قواعد قيمية قد يكون بعضها ما فوق دستوري، وقد يندرج بعضها الآخر ضمن بنود الدستور الذي يؤكد على احترام هذه القيم والقواعد دون لبس أو غموض، وهي قواعد لا يمكن استبدالها أو اللعب بها، باسم الأغلبية أو المظلومية أو قرارات البرلمان أو غير ذلك، لأن أي إخلال بها سيمسّ النظام الديمقراطي ومحتواه ويؤثر على سير عمله ومستقبله، ولهذا تضع بعض الدساتير مواد جامدة لا يمكن تغييرها أو استبدالها بسهولة إلاّ ضمن ضوابط معقدة وفترات زمنية قد تطول وتوافقات  تكاد تقترب من الإجماع أحياناً، لكي لا تلجأ إحدى القوى  إلى العبث بالدستور أو استخدامه لتحقيق أغراضها الآيديولوجية أو توجهها الفكري أو الديني أو الطائفي أو الفئوي، أو التغوّل على الآخرين.
وبقدر احترام الخصوصيات والتمسك بها، فالأمر يحتاج  إلى الاطّلاع على التجارب ودراستها، بل علينا دراسة تجاربنا السابقة ذاتها الفاشل منها والناجح، وأعتقد أن الجيل الحالي من الشباب عليه معرفة تجارب التاريخ، لاستكمال تصوراته حول العقد الاجتماعي الجديد في كل مجتمع، ناهيك عن طبيعة التغيير والتحوّل الديمقراطي المنشود.



س 9 - أين موقع فلسطين من المتغيرات التي تحدثت عنها ارتباطاً بما يسمى " صفقة القرن"؟
ج- 9 مقاربتان يمكن الولوج منهما لمناقشة القضية الفلسطينية "جوهر الصراع العربي الإسرائيلي "، الأولى تتعلق بالمعنى والدلالة والثانية تتعلق بالعلّة والمعلول، فقد واجه العالم العربي  ثلاث صدمات أساسية خلال القرن الماضي وانعكست هذه على الوعي العربي الجمعي، إضافة إلى الوعي الفردي على كل إنسان من جهة أخرى.
   أولها - صدمة الاستعمار من التي امتدّت منذ بدايات القرن العشرين وحتى الخمسينات، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر وما زالت تأثيراتها قائمة بأشكال مختلفة. وقد بدأت إثر انحلال الدولة العثمانية وتقسيم البلاد العربية باتفاقيات سايكس بيكو العام 1916 وبداية مسلسل التجزئة ارتباطاً بوعد بلفور العام 1917 ومروراً بوضع البلدان العربية تحت الانتداب البريطاني والفرنسي وصولاً إلى صفقة القرن  .
    وثانيها- صدمة هزيمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967 التي ما يزال العالم العربي يعاني من تأثيراتها في ما يتعلّق بمواجهة المشروع الصهيوني، وقبل ذلك صدور قرار التقسيم رقم 181 من الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تم بموجبه إقامة "إسرائيل" العام 1948، والتي شكّلت بؤرة مستديمة للعدوان والحرب المستمرة، كان من نتائجها  مقايضة التنمية بالعسكرة والإصلاح والتطور الديمقراطي التدرّجي بالأنظمة الشمولية وبهيمنة ضباط الجيش على مقاليد السلطة وقطع خط التطور التدرجي الذي بدأ في عدد من البلاد العربية، لاسيّما في مصر والعراق وسوريا وغيرها.
وثالثها- صدمة محاولة التغيير، التي تأخّر وصولها مقارنة بعملية التحوّل الديمقراطي التي شهدتها بعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية والتي توّجت بهدم جدار برلين في العام 1989 وانهيار الأنظمة الشمولية، علماً بأنها ترافقت مع شعور أخذ يتولّد باحتمال استشراء الفوضى وتهديد الدولة الوطنية ونكوص القضية الفلسطينية، وهو ما شهده عدد من البلدان العربية، خصوصاً سوريا وليبيا واليمن ولبنان،  وأن اعتقاداً أولياً ساد بأن موجة ما سمّي بالربيع العربي لم تضع في حسابها مركزية القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني ، إذْ لم يتم معارضة اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد ، فهل مثل هذا الاعتقاد صحيح ؟
نجيب على ذلك بأن ثمة صحة في نصف الاستنتاج الأول، فإن النصف الثاني يجيب ويكمّل الاستنتاج الأول، فقد واجهت حركات الاحتجاج مسائل ملحة كيانياً تتعلق بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد واحترام حقوق الإنسان، ولعله لا يمكن الحديث عن مجابهة مع العدو، دون توفر الحد الأدنى من الحريات التي غابت عن عالمنا العربي بفضل أنظمة الاستبداد والدكتاتورية، فالحرية هي المدخل لأي مجابهة وأي تغيير، وحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر الحد الأدنى من حرية التعبير، ناهيك عن حق الاعتقاد وحق التنظيم وحق المشاركة وهي أركان أساسية وهياكل ارتكازية للحريات والحقوق الأخرى.
إن رد الفعل الصهيوني إزاء التغييرات الحاصلة في البلدان العربية يفضح مدى تخوّف "إسرائيل" من موضوع الاستراتيجية العربية إزاء الاتفاقيات المبرمة معها أو إزاء أفق الصراع، وإذا كان هذا الموقف من تونس البعيدة عن دائرة الصراع، وهذا البلد الصغير بسكانه وإمكاناته، لاسيما العسكرية، فما بالك عندما حصل التغيير في مصر؟.
وقد فتحت عملية التغيير أفقاً جديداً في بداياتها تجلى في إعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، بالاتفاق بين حماس وفتح، وإن كان اتفاقاً قلقاً والذي رفضته إسرائيل رفضاً قاطعاً، بل أن الولايات المتحدة اشترطت لإعادة عملية بناء السلام،التخلي عن الاتفاق من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية مع حماس.
كما كانت التحركات الشعبية العربية، أردنياً ولبنانياً وسورياً بمناسبة يوم النكبة وذكرى النكسة، ومحاولة الاقتراب من الحدود "الإسرائيلية" لإلفات نظر العالم حول حق العودة، ردّاً على ارتكابات "إسرائيل" واستمرار احتلالها للأراضي العربية، إلاّ مثالاً على تجاوز المطالب الشعبية، للاتفاقات الرسمية بين البلدان العربية و"إسرائيل" ورفض للتطبيع معها على جميع المستويات.
لقد استنفرت الحراكات الشعبية حالة الجمود التي وصلت إليها أوضاع الصراع العربي الاسرائيلي، خصوصاً بعد أن أصبحت جميع الطرق غير سالكة ولم تجد نفعاً اتفاقيات أوسلو لاحقاً أو واي ريفر أو أي  خريطة طريق، فقد وصلت جميعها  إلى طريق مسدود.
ويمكنني القول أن أي تغيير ديمقراطي أو تحوّل نحو الديمقراطية، سيؤدي بالضرورة  لصالح قضية الشعب الفلسطيني وسيصبّ فيها وليس العكس، وهذا بحد ذاته يتطلب إعادة النظر في الاستراتيجيات الجيوبوليتيكية لعموم دول المنطقة، الأمر الذي سيعني إعادة صعود القضية المركزية  إلى الواجهة، في تحدي صفقة القرن الأمريكية الصهيونية وجميع المتواطئين معها.



191
مجلة الهدف (الفلسطينية) في حوار شامل مع الدكتور عبد الحسين شعبان‬


س1 - كيف تنظر إلى أزمة الفكر العربي انطلاقاً من الواقع المأزوم واستعصاءاته، إلا إذا استثنينا الحراكات الشعبية ذات الأبعاد الإيجابية؟

ج1- يعاني الفكر العربي من الركود والإتكالية والتعويلية، وهو فكر غير منتج لأنه فقد الكثير من عناصره الحيوية، لاسيّما في ظلّ شحّ الحريات وقلّة المبادرة ونضوب الإبداع والابتكار والهوّة الشاسعة التي تفصل بين مجتمعاتنا والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم، خصوصاً في ظلّ ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية الديجيتل ، والذكاء الاصطناعي الذي تشهده الثورة الصناعية الرابعة.
للأسف ما زلنا نجتر الماضي  بتقليد واستكانة دون أي اعتبار لمواكبة روح العصر وما يحدث فيه من متغيرات سريعة وخارقة، وفي السنوات الخمسين الأخيرة أحرز العالم تقدماً يفوق كل ما أنجبته البشرية في تاريخها من تقدم. وإذا كان هذا من باب النقد الذاتي، فإن ما نحتاج إليه هو قراءة الواقع في ضوء الصورة التي تبدو معتمة، ولا بدّ من الانفتاح على العالم دون القطيعة مع التراث، بقدر ما يمكن استلهام ما هو مفيد منه في استشراف الحداثة وما بعدها، إذ أننا لا نعيش في جزيرة معزولة، بل إننا جزء من عالم متداخل ومتراكب ومتشابك، وإن كانت لنا خصوصيتنا إلّا أننا جزء في عالم متصل ومتواصل ومتفاعل.
وإذا كانت الحراكات الشعبية تبدو مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر، وهي أمر منعش ومحفّز للآمال والأحلام، خصوصاً الزخم الشبابي الواعد، لكن ثمة أزمات عديدة يعاني منها الواقع العربي وتكاد تعصف بكيانيته الوجودية وعلينا تشخيصها ليمكن بالتالي التصدي لها ، بالاعتراف بوجود أزمة عميقة  ولا بدّ من تحديد معالمها وعناصرها ليمكن بالتالي وضع الحلول والمعالجات لها.    

أولها- غياب الهويّة الجامعة والمشتركة، تلك التي كانت تؤلف ركناً أساسياً من أركان المشاريع السياسية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، وقد انعكس هذا الغياب على الافتقاد للحد الأدنى من التعاون والتنسيق بين البلدان العربية، إذا لم نقل إن هناك خصومات ونزاعات أصبحت معتّقة ومزمنة بينها، ومن مخرجات هذا الوضع انحسار المشاريع ذات الأبعاد الوحدوية والنظرة الشاملة للصراع في المنطقة، خصوصاً باعتبار القضية الفلسطينية جوهر هذا الصراع ذات البعد التحرري والاجتماعي في آن.
وثانيها- الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية التي اجتاحت العديد من البلدان العربية وقادت إلى احترابات سياسية ومجتمعية وصراعات ونزاعات بينها، الأمر الذي أدى إلى ضعف الوحدة الوطنية وهشاشة الهويّة الجامعة على الصعيد الوطني، لاسيّما بصعود هويّات فرعية على حساب المشترك الإنساني والهويّة الوطنية .
وثالثها - تلكؤ خطط التنمية وتعثّرها لدرجة التعطيل أحياناً، والعودة بها القهقري، خذ أمثلة عديدة: مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن، وهي دول كانت قد خطت خطوات أولى باتجاه التنمية، وحققت نمواً اقتصادياً واجتماعياً في مجالات مختلفة، لكن أوضاعها الداخلية الهشّة وشح الحريات، ومن ثم الضغوط الخارجية جعلتها تتراجع عن العديد من طموحاتها التي عاشتها في  سنوات الستينات وكانت واعدة.
ورابعها- الحروب التي عاشتها منطقتنا، ابتداء من الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها مبرّر على الإطلاق والتي لم تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، ثم غزو الكويت في العام 1990 وما رافقه من حرب لتحريرها وتدمير العراق في الآن العام 1991، وظلّ العراق ينزف لنحو 12 عاماً تحت وطأة حصار دولي جائر، وأعقب ذلك احتلال غاشم في العام 2003 ما تزال تأثيراته قائمة إلى اليوم ، لاسيّما بصيغة المحاصصة الطائفية - الإثنية ونظام الزبائنية السياسية الذي قام على تقاسم المغانم.
ولا ننسى هنا العدوان "الإسرائيلي" المتكرّر على الأمة العربية، ففي العام 1982 اجتاحت "إسرائيل" لبنان وصولاً للعاصمة بيروت، وفي العام 2006 شنت هجوماً واسعاً عليه تحت مسمّى "الثواب العادل"، وأعقبت ذلك بثلاثة حروب على قطاع غزة المحاصر منذ العام 2007 هي: عملية "الرصاص المنصهر"، "أواخر العام 2008،  و"عملية عمود السحاب" العام 2012 و"عملية الجرف الصامد" العام 2014، وما تزال تعمل على توسيع مستوطناتها كما تسعى لضم جزء من غور الأردن، مدعومة من واشنطن التي " اعترفت" بالقدس الشريف عاصمة لها ونقلت سفارتها إليها، مثلما "أهدتها" الجولان السوري المحتل إقراراً بـ "الأمر الواقع"، أي " الاحتلال الواقعي" في مخالفة غير مسبوقة لما يُعرف بالقانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها.
وخامسها -  النزاعات الأهلية وتمزّق نسيج الوحدات الوطنية، تلك التي تُغذّى خارجياً من جانب القوى الامبريالية والصهيونية، الأمر الذي يقود إلى التفتيت والتشظي وقد يصل إلى التقسيم، وسبق لـ كيسنجر أن قال في أواسط السبعينات: علينا إقامة " إمارة" وراء كل بئر نفط، أي تحويل العالم العربي إلى " أقليات" وتعويم الجوامع بين العرب، والمقصود بذلك  ترذيل "العروبة" و"تنغيل" أي علاقة جامعة للعرب بما فيها لغة الضاد، وهو ما يمكن  "إسرائيل" كي ما تكون "الأقلية" الأكثر تقدماً من ناحية العلوم والتكنولوجيا ، لاسيّما بدعم واشنطن بشكل خاص والغرب بشكل عام.

س2- ماذا عن الموجة الثانية للحراك الشعبي وأين مواقع الأحزاب السياسية، فكيف تنظر إلى ذلك؟

ج 2- ثمة إرهاصات أولية على صعيد الواقع العربي والدولي علينا قراءتها بعقل منفتح ومرونة حركية ضرورية لمواصلة الكفاح لتحقيق ذات الأهداف، ولكن بوسائل جديدة تستجيب للتطوّر الكوني، فقد أظهرت الحراكات الشعبية بعض الحقائق الجديدة التي لا بدّ من دراستها والتعرف على ملامحها الأساسية منها: ضمور دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين، العقائديين، الذين بشّروا الناس بالجنة، أو بعالم يحقق الوحدة العربية أو تحرير فلسطين (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في "مملكة الأرض"، بل على قيم السماء.
هكذا ظلّت الأمور تجريدية أحياناً، فالصراع على القيم والمثل والأهداف البعيدة، تلك التي ينبغي أن تتحوّل إلى خطط وبرامج، وهذه الأخيرة  إلى أعمال وأفعال وحتى لو كانت الأهداف خيّرة ونبيلة، فينبغي اختيار الوسائل العادلة والمشروعة للوصول إليها، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة حسب تعبير رائد المقاومة المدنية المهاتما غاندي، إذ لا غايات شريفة دون وسائل شريفة، لأن الوسيلة ملموسة ومعلومة وراهنية، في حين أن الغايات متخيلة أحياناً وبعيدة وغير منظورة. وهذا ما ينبغي فهمه والتعامل على أساسه، ولعلّه أكبر الأسئلة التي تواجه عملية التغيير، علماً بأن كلام الأمس غير كلام اليوم.
 علينا الاعتراف على نحو شجاع أن الرومانسية القديمة لم تعد كافية لإشعال حماسة الشابات والشبان، بما فيها الوعود والآمال الكبيرة والشعارات البرّاقة، البعيدة المنال؛ لقد حلّت محلّها الواقعية السياسية، بلا شعارات كبرى ولا وعود أقرب إلى السراب. لقد انتظمت الملايين بشعارات مبسّطة: الحرية ، الكرامة ، محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية. فسدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته، وهو يبرّر خطاب الحاكم بالقمع السياسي أو بالقمع الفكري وبحرق البخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المعارض الذي كان بعيداً أو غائباً أو مخادعاً، أو الأغلبية الصامتة المغلوب على أمرها، كلهم كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة،  وإنْ التحقوا بعد حين وسط جو من الدهشة والارتباك والريبة أحياناً..
لقد حوّلت المتغيّرات الجديدة عدداً من المعارك الوهمية الصغرى، حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، باعتمادها أفضليات جديدة، هي أفضليات الجماهير المبادرة وجيل الشباب المتقدّم على بعض النخب التي استنفذت أغراضها ولأول مرة في الوطن العربي، تظهر على السطح ومن القاع حراكات شعبية سلمية ومدينة سداها ولحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبرغماتيته ناقضاً مفاهيم ومسلّمات سادت، كمقولة أن الثورة لا يمكن لها أن تتحقّق ما لم تتوفّر لها قيادة مُلهمة أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم "حزب قائد" أو "طليعة"، أو أن التغيير لن يتحقق في ظل أنظمة استبدادية ودكتاتورية عاتية دون تدخل الجيش، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها انجاز التغيير دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً " العامل الدولي" الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر إلى الاحتلال البغيض.
وأثبت جيل الشباب أنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة، فدخل في سبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية دجّنت الشعوب بعوامل الجوع والخوف فضمنت خضوعها اللّامحدود بمكان أو زمان، وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات، مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه وقهره في أولى خطواته نحو الوجود والكرامة.
لم يكن للانتفاضتين التونسية والمصرية رمز قائد أو زعيم مخلّد أو ملهم مخلّص، يصبح لاحقاً "معبوداً" ومقدساً، وفوق حدود النقد. ولم يكن للانتفاضتين أيضاً نصوصاً مقدسة أو مقولات سرمدية؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة ورمزية وواقعية في آن واحد. ومثلما كانتا ضد الصنمية، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات واليقينيات والقدسيات والسلفيات المشوّهة والوعود الزائفة، وعابرتان للطوائف والطبقات الاجتماعية والمجموعات القبلية والعشائرية، واضحتان في مطالبهما، وحاسمتان برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتان إخلاصهما ونزاهتهما والتزامهما بمطالب شعبيهما.
لقد وضعت حركة الاحتجاج الشعبية في موجتها الأولى، ولاسيّما في تونس ومصر، وفي موجتها الثانية: الجزائر والسودان والعراق ولبنان سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكية: أين دورها وما هو موقعها من  الخريطة السياسية الجديدة؟!  تلك التي ظلّت تلوك خطابها ولغتها الخشبية عقوداً من الزمان، سواءً أكانت شيوعية أم قومية أم إسلامية، حتى دون مراجعة أو نقد على الرغم من كل المتغيّرات؟ هكذا قدّمت الجماهير الغاضبة الفعل الثوري الواقعي الحسّي، على حساب الأيديولوجيات والوعود والخطابات الاجتماعية والثقافية، التي سمعتها كثيراً.
حقاً لقد أفرزت حركة الاحتجاج نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدّماً وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي. لقد بدأ الشباب بكل حيويته وطاقاته ومبادراته، وعلى الجميع اليوم الاستماع إليه والوقوف خلفه، قبل أن يتم الالتفاف عليه أو سرقة منجزاته أو اللعب بمستقبله.
إن انفجار الغضب العفوي الجماهيري كان في أحد وجوهه مقاومة للتوجه النيوليبرالي، المتمثّل في أصحاب السلطة وأصحاب الثروة المدعوم من قوى دولية متنفّذة،لاسيّما بانتقال الخوف من الناس إلى الأنظمة وهو عامل جديد . لقد مضى على احتجاجات الجزائر السلمية نحو 60 أسبوعاً ونحو أربعة أشهر على الاحتجاجات العراقية ومثلها انفجر الشارع في لبنان، أما في السودان ، فقد حسم الجيش الأمر بتسوية بين المدنيين والعسكريين ، ولعلّ واحداً من المظاهر الجديدة هو التوجه السلمي - اللّاعنفي المدني لحركة الاحتجاج، تلك التي تذكر بالانتفاضة الفلسطينية أواخر العام 1987 والتي عُرفت باسم "انتفاضة الحجارة" والتي حققت انعطافاً عالمياً لصالح القضية الفلسطينية لولا المتغيرات العربية والدولية واندفاع القيادة الفلسطينية الرسمية نحو اتفاقيات أوسلو 1993.

س 3-  وماذا عن الجيل الجديد وهل هناك كما تقول عقل جديد؟

لقد برز جيل جديد من الشباب أخذ على عاتقه مسؤولية قيادة الحراكات الشعبية الميدانية بعيداً عن التنظير، مبتدعاً أساليب كفاحية جديدة، وغير مألوفة، سبّبت الذهول والحيرة والتردّد للنخب الفكرية والسياسية القائمة في السلطة والمعارضة، لاسيّما في الأيام الأولى. وقد انطلق الجيل الثوري الجديد من فضاء مجتمعي، بعيداً عن الآيديولوجيا وتفريعاتها الشمولية والدينية، مثلما كانت سمته وطنية عامة دون فئوية أو تعصب أو تطرف أو غلو ، دون أن يعني أن ثمة محاولات اختراق خارجية، لاسيّما من جانب القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة التي تحاول الاستفادة من أي متغيّر في الخريطة السياسية وتوظيفه لصالحها، سواء باستدراج بعض المجاميع تحت عناوين برّاقة مثل "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية"  و"حرية التعبير" وغيرها.
ولكن يمكنني القول أن الحدث التونسي والحدث المصري كانا صناعة محلية بكل امتياز، وأن تأثيراتهما بلا أدنى شك كانت عربية وإقليمية وقد تكون كونية أيضاً، وهو ما يمكن قراءته لاحقاً، فالكثير من الثورات المحلية، كان لها إشعاع كوني بغض النظر عن تقييماتنا، خذ مثلاً: الثورة الفرنسية العام 1789 والثورة البلشفية العام 1917 والثورة الإيرانية العام 1979 وانتفاضات أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وغيرها، أي أن دلالاتها يمكن أن تتجاوز حدودها إلى بلدان وشعوب أخرى (خصوصاً أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إضافة  إلى العالم العربي) ، وقد انتشرت عدواها لتصل  إلى العالم كلّه وهو ما ينطبق على الحدثين التونسي والمصري.

س4- أين إذاً مفهوم الوطنية؟

لعلّ مفهوم "الوطنية" لدى جيل الشباب يختلف عمّا يفهمه ويريده الحكام باعتباره "شرط خنوع" مثلما يختلف مفهوم "الخارج" الذي يريد توظيف حركة الاحتجاج الشعبي لصالحه ولخدمة مشاريعه الاستعمارية الدولية أو لنفوذه الإقليمي ، وثمة مفارقات على هذا الصعيد، فالحكام الذين شاخوا وهم في السلطة، حاولوا تصوير الاحتجاج بأنه "صناعة خارجية" ولخدمة الأهداف المشبوهة المعادية للأمة، في حين إن الجيل الجديد  كان يربط الوطنية بالحقوق، ويرى فيهما تلازماً لا انفصام فيه، إنما (الوطنية والحقوق) عنده يقومان على مساءلة رجل السلطة والحاكم باعتبارهم خادم الشعب وليس العكس.
لقد تبنّى الجيل الجديد النقيض، فلم يعد يهمّه التشدّق والسفسطات الأيديولوجية والتعويذات الدينية، وذلك بسبب سياسات الاستبداد الطويلة الأمد، واحتكارات العوائل الحاكمة لجميع مرافق السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة والإعلام في الدولة، لذلك وجد نفسه في القيم المغايرة، التي تقوم على الحرية والمساواة والشراكة والعدل، أي الحق في المواطنة المتكافئة.
وإذا كانت الحرب الباردة السابقة قد انتهت بانهيار الكتلة الاشتراكية، وتحوّل الصراع الأيديولوجي  إلى شكل جديد، متخذاً من "الإسلام" عدوًّا ينبغي القضاء عليه، حسبما برّرت القوى الغربية المتنفّذة، وخصوصاً الولايات المتحدة، سواءً اتّخذ ذلك شكل مكافحة "الإرهاب الدولي" أو لم يتخذ، فإن ما يسمّى بـ"المجتمع الدولي" على كل عيوبه ومساوئه يضطر أحياناً للانحياز إلى القيم الإنسانية "المعلنة" شكلياً أو فعلياً بحكم وجود مؤسسات ومساءلات داخلية في البلدان المتطورة، على الرغم من محاولات الهيمنة والتوظيف في ظل العولمة، بوجهيها المتناقضين المتوحش والإيجابي، الأول: الخاص بعولمة الإرهاب والقمع واستلاب حقوق الشعوب، والثاني: عولمة الثقافة وعولمة حقوق الإنسان، وعولمة ثقافة المساواة من خلال تكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات وكل ما يتعلق بالثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، حتى وإن تم وضع عراقيل أمام شعوب البلدان النامية لتحجيم الاستفادة منها والإبقاء عليها مورداً أساسياً للمواد الخام وسوقاً للبضائع والسلع المصنوعة في إطار الاستغلال والنهب الإمبريالي.


س 5- أثمة معالم أخرى لحركة التغيير التي تؤشر لها ؟

ج 5- نعم وهي معالم متميزة ومهمة منها أنها لم تكن ذكورية، أي لم تقتصر على الذكور فحسب، بل ساهمت فيها النساء إلى حدود كبيرة، وكان لهنّ دور بارز في القيادة والإدارة والحضور والمشاركة، ولعل ذلك يمثل رسالة جديدة حداثية لبدء عهد جديد انتقلت فيه النساء من الصفوف الخلفية المساندة للحركات الشعبية إلى واجهات الحدث، ليتصدّرن المنابر والقيادات، سافرات أو محجبات، مسيحيات أو قبطيات، لا فرق بينهن؛ فقد وحدّهن حب الوطن، وكنّ جميعهن يردّدن الشعارات ذاتها المطالبة بالتغيير والكرامة الإنسانية والعدالة ومحاربة الفساد في وطن يتسع للجميع.
ومن المعالم الجديدة علانية وشفافية حركة الاحتجاج في التخطيط والتنظيم والإعلام والتنفيذ وكل شيء كان يمرّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهكذا كشفت حركات الاحتجاج الأخيرة اختفاء صورة الثوري القديمة، فلم يعد يأتي بسترته المتّسخة وقميصه الرث، متنكّراً بأزياء أخرى شعبية أو فلاحية، أو واضعاً لفائف الرأس دليلاً على الثورية أو التديّن أو العمل السري. جاء الثوري الجديد بكل أناقته، ومعه جوقة البروفسورات وأساتذة الجامعات والإعلاميين والمحامين والأدباء والفنانين والكتّاب والقضاة والشغيلة بكل فروعها، أي شغيلة اليد والفكر. لم يفكر قبل مجيئه بتلقّي التعليمات من الأوكار السرّية، أو من خريجي السجون، أو المقيمين في الجوامع والمساجد والكنائس أو من مقار الأحزاب التقليدية وبياناتها الروتينية النمطية، فهؤلاء كلهم هم من اتّبعوه هذه المرّة، لأنه كان يعرف قضيته أكثر من غيره، ولديه القدرة للتضحية من أجلها، دون "وصاية" أو "أبوية" أو ادّعاء احتكار المعرفة والحقيقة.
 لقد أثبتت قوة الشباب أنها العامل الأساسي في رسم  الخريطة المستقبلية للعالم العربي والشرق الأوسط، سواء حققت حركات الاحتجاج أهدافها أو أخفقت وانتكست وتراجعت، فثمة منعرجات وإلتواءات وتضاريس وعرة تقف بوجه حركة التغيير وتعوقها من تحقيق أهدافها، لأن القوى التقليدية  ما تزال مؤثرة وتمسك بالعديد من المفاصل المهمة في الدولة العميقة والمال والأجهزة الأمنية والعلاقة مع القوى الخارجية، لكن العالم العربي ما قبل الاحتجاج شيء وما بعده أصبح شيئاً آخر.
وإذا كانت الكتب الدينية أو القومية أو الكتاب الأحمر أو مقولات  لينين وجمال عبد الناصر وكاسترو وجيفارا محفّزاً للثوار سابقاً، فإن عود الجيل الجديد قد اشتدّ في غرف الانترنيت وعلى صفحات الفيسبوك ومقاهي المهمّشين وعلى الأرصفة، وأثبت جدارة لا حدود لها، على عكس الانطباع السائد الذي كان يتّهمه بالميوعة واللّامبالاة وقلّة الشعور بالمسؤولية؛ فهو أبدى استعداداً للموت أكثر بكثير مما أبدته أجيال سابقة. علينا أن نقرأ الجديد ونتعلم منه دون أن ننسى أهدافنا الأساسية، وعلى حدّ تعبير فيكتور هوغو  " إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغيّر منذ أربعين عاماً، فهذا يعني ان حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث. انه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها ".
يقول نيتشه على المرء أن يغيّر أفكاره مثلما تنزع الحية جلدها، وعلينا حسب انجلز اعادة النظر بستراتيجيتنا عند كل اكتشاف لسلاح حربي. أما التشبث بالمواقف أو ادعاء امتلاك الحقيقة، فهذا رأي من لا يريد التفاعل مع الحياة وهو دليل عجز وتقهقر!

س6- أين موقع حركات الاحتجاج الحالية من  فن الانتفاضة ؟

ج 6- مثل الحياة والحب قد تبدو حركة الاحتجاج عصيّة على الفهم لأول وهلة، فهي لا تأتي دفعة واحدة، كما أنها لا تحضر كاملة ونهائية، ولكن مظاهرها تتضّح وتتكشّف مع مرور الأيام وبالتدريج، ولعلّ الزمن كفيل بكشف أسرارها وتسليط الضوء على خفاياها وخباياها، لاسيّما في مراحلها المختلفة، بما فيها من عوامل قوة ونقاط ضعف، بالتقدّم والتراجع، بالنجاح والإخفاق، خصوصاً بتحديد مصيرها، وبالاقتراب من تحقيق أهدافها.
وبغض النظر عن التسميات والتوصيفات، فبعضهم يطلق عليها: ثورة والآخر انتفاضة والثالث حركة احتجاج والرابع تمرّد والخامس هبّة ، ولكن ذلك كلّه وخارج الخلفيات السياسية، هو فعل رفض وإن اتخذ أبعاداً مختلفة فالانتفاضة من نفض، أي أزال شيئاً ما، غباراً كان قد علق بالثوب مثلاً، ويشير معناها إلى حركة وتغيير، أي خلق جديد يولد من القديم. ويقال نفض المكان أو نفض الطريق أي نظّفه من اللصوص، كما يفيد مصطلح " الإنتفاضة" في معنى الخصوبة، فمثلاً نقول نفض الكرم، أي تفتّحت عناقيده، ويقال نفضت المرأة، أي كثر أولادها، وتستخدم الكلمة بالقول: نفض عنه الكسل أو الهمّ، أي أزاله، وانتفض تأتي أحياناً، إنتصب أو وقف، أي تحرك الكامن ليبدّد الساكن، أو أن الكامن أصبح ظاهراً، لدرجة وصل ما انقطع ولم يقطع ما وصل.
ولعلّ مبعث النقاش حول المصطلح ودلالاته تعود إلى نقاشات عتيقة حول معنى الثورة والفارق بينها وبين الانقلاب العسكري، وهو الجدل الذي أثير منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فقد قصدنا بالثورة التغيير الجذري، وبالانقلاب العسكري التغيير الفوقي، وهو خلاف يتعلق بتوصيف الحالة من جانب المؤيدين أو المعارضين. وكان المفكر ياسين الحافظ قد طرح في كتابه "بعض قضايا الثورة العربية" معياراً للثورة يتلخّص في أن يكون الشعب ناقماً على الحكم وأن يكون الحكم عاجزاً عن الاستمرار، والثورة هي التحرك الجذري في جوف المجتمع، وهي الحرث العميق في أسس الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ونقل المجتمع من مرحلة  إلى أخرى ودفن طبقة منه تجاوزها التطور وتخطّاها التاريخ، وذلك استناداً  إلى كتاب لينين "الدولة والثورة"، أما الانقلاب العسكري فهو التحرك الخادع على سطح المجتمع، والنبش الخفيف على قشرة الحياة الاقتصادية والسياسية، مع بقاء أسس المجتمع القديم .
وبتقديري إن اختلاف المصطلح اليوم وإن كان له دلالات، لكنني أنظر إليه من خلال مسار عام ويعتمد ذلك على السير خطوة خطوة وعلى نحو حثيث نحو هدف التغيير، فالاحتجاج والانتفاضة والثورة ، تستهدف إجراء تغيير حقيقي فيما يتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم، ولاسيّما في الانتقال  إلى الدولة القانونية وتداولية السلطة سلمياً وإشاعة الحريات وتحقيق الكرامة الإنسانية ومكافحة الفساد. وكل ثورة أو انتفاضة بدأت بتحرك شعبي واحتجاج جماهيري، ثم تطورت مطالبها، لاسيّما بعد امتناع السلطات الحاكمة عن تلبيتها أو لجأت الأخيرة  إلى حلول غير سياسية، سواءً أمنية أو عسكرية أو حتى اقتصادية، الأمر الذي عمّق من مطالب المحكومين ورفع سقفها وقاد فعلياً إلى الافتراق، خصوصاً بعد أن عجزت السلطات الحاكمة الإسراع في إنجاز إصلاحات ضرورية.
   الانتفاضة أو حركة التغيير، سواءً كانت منظّمة أم عفوية، سياسة بامتياز وهي تكثيف لكل ما سبقها من سياسات واحتجاجات ونضالات،  إلى أن وصلت ذروتها من خلال تراكم كمّي طويل الأمد وتصاعد بالفعل الثوري، حتى وإن خبا أو اختفى عن الأنظار، لكن قانون الطبيعة كما هو قانون التاريخ كانا يفعلان فعلهما، حيث تؤدي التراكمات الكميّة  إلى تغييرات نوعية في لحظة معينة وعندها يحدث الانفجار.
    وإذا كانت الانتفاضة المنظّمة أي المخطط لها أو العفوية بعد اندلاعها، تتطلب كفالة الإعداد السليم وبرنامجاً طويل الأمد مع برامج فرعية أولية ومؤقتة، وتاكتيكات مناسبة وغير تقليدية، فلا بدّ أيضاً من توفّر ظروف موضوعية وذاتية للانطلاق أو بيئة حاضنة بعد الانطلاق، ومن ثم الإمساك بخيطها الصاعد حتى تحقيق أهدافها، سواءً تحقيق مطالب محدّدة أم إصلاح النظام السياسي أم استبداله أم تغييره بنقيضه.
   وحول سلمية وعنفية الانتفاضة، فقد دار حوار بين لينين وبليخانوف، لاسيّما إزاء الإنتفاضة الروسية العام 1905 والتي فشلت، ففي حين اعتبر بليخانوف أن حمل السلاح كان بمثابة خطأ أطفال، لذلك كان ينبغي التخلّي عنه، ردّ عليه لينين مرجّحاً الانتفاضة المسلحة، بأن الخطأ لم يكن في استخدام السلاح وإنما في عدم استخدامه ببراعة كافية، ولا بدّ إذاً من تحسين استخدامه وليس العكس، وفي وقت لاحق دافع لينين عن الخيار المسلح، باعتبار الانتفاضة فنّاً، وانتقد خصوم الفكرة وتشويهات بعض الاشتراكيين باتهام الماركسية بالبلانكية (تيار ثوري مغامر في الماركسية قاده المفكر الفرنسي أوغست بلانكي)، مثلما فعل برنشتين زعيم الانتهازية كما يسميه، معتبراً أن توافر شروط الانتفاضة ورفض اعتبارها فناً (أي خوضها حتى النهاية) بمثابة خيانة للماركسية، بمثابة خيانة للثورة.             
     




192
الهند وإدارة التنوع الثقافي
عبد الحسين شعبان
اعتبرت أوساط هندية عديدة إصدار البرلمان قانوناً جديداً للمواطنة في 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، تجاوزاً صارخاً لتنوع الهند وتراثها الحضاري المعقد وأسس الديمقراطية الهندية المكفولة بالدستور الصادر عام 1950، والتي تصلب عودها على مدى زاد على سبعة عقود من الزمان منذ أن نالت استقلالها عام 1947. وبموجب القانون الجديد يُسمح للحكومة بمنح الجنسية الهندية لمجاميع ثقافية مهاجرة من ثلاثة بلدان هي باكستان وبنجلادش وأفغانستان، وتم حصر ذلك بالهندوس والسيخ والبوذيين والجينز والفرس والمسيحيين، واستثناء المسلمين منه.
وركز القانون على الأفراد الذين تعرضوا للاضطهاد الديني أو الخوف من تعرضهم له في بلدانهم الأصلية، وقرر تخفيض مدة الحصول على الجنسية من 11 سنة إقامة إلى 5 سنوات، وكان ذلك تنفيذاً لوعد حزب «بهارتيا جاناتا» الحاكم في بيانه الانتخابي عام 2014 بتوفير «ملاذ آمن» للهندوس المضطهدين في دول الجوار.
وإذا كنا حتى وقت قريب نعتبر الهند من البلدان النامية التي استطاعت إدارة التنوع الثقافي على نحو «ناجح»، من خلال دستور يُقر مبادئ المساواة والمواطنة المتكافئة، فضلاً عن ممارسة سليمة جرى تطبيقها بما يوفر فرصاً مناسبة لمختلف المجموعات الثقافية العرقية والدينية والطائفية واللغوية والسلالية وغيرها، فإن مثل هذا الاعتقاد يواجه اليوم تحدياً كبيراً وقد يتعرض للتصدع إذا ما جرى الإصرار على إمرار القانون، خصوصاً أنه يولد شعوراً لدى المسلمين بشكل عام، فضلاً عن آراء حقوقية ومدنية بشأن تمييزية القانون الجديد في ظل احتدام «هوياتي» مجتمعي أصاب مبدأ المواطنة في الصميم، وهي المسألة التي ظلت الهند تتمسك بها على الرغم من كل الظروف التي واجهتها والتجاذبات الطائفية والدينية والإثنية التي تعرضت لها، ناهيك عن أعمال العنف والإرهاب التي صاحبتها.
وكنت قد عبرت في وقت سابق عن إعجابي بما أوردته سفيرة الهند في المغرب خيا باتاشاريا، بشأن فكرة التعايش الهندية، وذلك خلال ندوة شاركت فيها حين قالت: «إن لسان حال المواطن في بلدي يقول: أنا هندي، لا أذهب إلى المسجد أو الجامع أو الكنيسة أو المعبد، وإذا أردت أن تراني، فستجدني في جميع هذه الأماكن»، بمعنى أنني مواطن بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو اللغة أو العرق، وهو ما سارت عليه الهند في إدارة التنوع والتعايش الذي وضع لبناته الأولى المهاتما غاندي؛ بل دفع حياته ثمناً لقناعاته، حيث تم اغتياله على يد متطرف هندوسي في 30 يناير/كانون الثاني 1948.
ما حصل في الهند مؤخراً من أعمال عنف منفلت من عقاله ويمكن أن يتوسع، أثار ردود فعل عديدة وقلقاً واسعاً متنامياً، فاندلعت تظاهرات احتجاجية تندّد به قابلتها السلطات الحاكمة بالقمع فسقط عشرات القتلى والجرحى فيها، وهو ما دفع 1000 عالم وباحث هندي إلى توقيع عريضة احتجاج ضد القانون؛ لأنه يضفي الشرعية على التمييز الديني حسبما ورد فيها.
جدير بالذكر أن المسلمين يؤلفون نحو 20% من سكان الهند، بمعنى أنهم يشكلون ما يزيد على 230 مليون نسمة، وهم جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، الأمر الذي يثير قلقاً مشروعاً حول امتداد أعمال العنف والعنف المضاد، وهو ما يمكن أن يترك تأثيره في العلاقات الاجتماعية في الهند ومع جيرانها، وخصوصاً باكستان التي تتنازع وإياها على مصير كشمير منذ سبعة عقود من الزمن، والتي شهدت احتداماً كبيراً في الأشهر الأخيرة، وسيزداد الأمر تعقيداً في علاقتها مع البلدان العربية والمسلمة التي تمتلك علاقات وثيقة وقوية اقتصادية وتجارية واجتماعية وثقافية مع العديد منها.
ولم تنفع تأكيدات رئيس الحكومة مودي من أن القانون لا يستهدف المسلمين، لكن الإفساح في المجال لهجرة قد تصل بالملايين من غير المسلمين سيؤدي إلى تغيير التركيبة السكانية والواقع الديموغرافي، وهو ما يعتبره المسلمون تهديداً حقيقياً؛ بل استهدافاً مباشراً لهم، وما يؤكد ذلك مضي الحكومة في مشروعها الذي تعتبره «يتماشى مع روح القيم الإنسانية في الهند، وأنه لن يؤثر في المجتمع الإسلامي في الهند».
drhussainshaban21@gmail.com


193
«إسرائيل» وقفص الاتهام
عبد الحسين شعبان
أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها تنوي فتح تحقيق شامل يخص جرائم الحرب «الإسرائيلية» في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جاء ذلك في بيان أصدره مكتب فاتو بنسودا مدعي عام المحكمة، الذي أثار ردود فعل «إسرائيلية» رسمية وغير رسمية غاضبة لدرجة الهستيريا؛ وذلك لأسباب عدة؛ منها:
الأول: إن هذا الإعلان يعني أن الفحص التمهيدي لجرائم الحرب قد يقود إلى مثل هذا الإقرار، الأمر الذي يتطلّب الانتقال إلى التحقيق بخصوص الجرائم المرتكبة.
الثاني: إن اتخاذ الادعاء العام مثل هذا القرار؛ يعني وجود أساس قوي تولّد لديه؛ من خلال معطيات بأن جرائم حرب فعلية قد ارتكبت؛ وهو ما يدعم الدعاوى الفلسطينية والعربية بشأن الجرائم المستمرة التي أصبحت حقيقة، وليست اتهاماً فحسب.
الثالث: فقدان «إسرائيل» أدوات المواجهة القضائية عدا لجوئها إلى أساليب ابتزاز سياسي؛ عبر حليفها الأمريكي، الذي سبق له أن أعلن أنه لن يسمح بإدانة «إسرائيل» أو حتى وضعها في موضع الاتهام، سواء عبر «المحكمة الجنائية الدولية» في لاهاي أم غيرها من المؤسسات الدولية.
وقد لجأت «إسرائيل» إلى إثارة زوبعة من التشكيك بأن المحكمة مُسيّسة، واعتبرت صدور بيان المدعي العام «يوماً أسود للحقيقة والعدالة»، وقد شارك على رأس الحملة بنيامين نتنياهو الذي كال الاتهامات للمحكمة وقضاتها، وطلب أحد أعضاء المجلس الوزاري المصغّر الوزير بتسلئيل سموتريتيش إمهال السلطة الفلسطينية 48 ساعة؛ لسحب دعواها فوراً وإلّا فعلى «إسرائيل» أن تهدم كل يوم قرية فلسطينية مقابل ذلك حتى ترضخ.
جدير بالذكر أن واشنطن و«تل أبيب» انضمّتا إلى المحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الذي تأسس عام 1998) قبل إغلاق باب الانضمام عام 2000 بسويعات، وانسحبتا منها بعد دخولها حيّز التنفيذ عام 2002. وكانت واشنطن قد باشرت ضغوطها؛ حيث سحبت تأشيرة دخول المدعية العامة بنسودا إلى الولايات المتحدة.
واستمرت التحقيقات الأولية نحو 5 سنوات على إقامة الدعوى، ولا شك أن الوصول إلى قرار يقضي بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها «إسرائيل» جاء بعد جهود دبلوماسية مضنية، يعود جزء منها إلى الدبلوماسية الفلسطينية المدعومة عربياً، والآخر لجهود مؤسسات حقوق الإنسان التي عملت بمهنية ومسؤولية ومعرفة بدعم عربي ودولي.
وبالطبع فجلب «إسرائيل» إلى قفص الاتهام ليس من السهولة بمكان؛ بل ثمة عقبات سياسية وقانونية وعملية تقف بوجهه؛ حيث تنشط الدبلوماسية «الإسرائيلية» المضادة بوسائلها الخشنة والناعمة، وبدعم كامل من واشنطن، في محاولة لإثارة موضوع الولاية الجغرافية؛ حيث يتم التشكيك بمقومات دولة فلسطين، وبالتالي هل من حقها تقديم مثل هذا الملف إلى المحكمة بالنظر إلى أنها «أراضي دولة تحت الاحتلال»؟ وهو ما دعا المدعية العامة لإحالة الملف إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة من باب الاستدراك القانوني؛ لكي لا تُثار بوجهها إشكاليات قضائية.
ولكن مثل وجهة النظر هذه كان يفترض أن تكون محسومة لمجرد قبول الدعوى من دولة فلسطين، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2012 الذي اعترف بالمركز القانوني لدولة فلسطين، حتى وإن كانت دولة غير عضو في الأمم المتحدة؛ لكنها تمتلك مقوّمات الدولة؛ وهي منضمّة إلى عشرات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة.
ويشترط أن يكون رد الدائرة التمهيدية خلال أربعة أشهر (120 يوماً)، ويمكن تمديده إلى شهرين (60 يوماً)، ويكون المجموع 6 أشهر (180 يوماً)؛ لكن ماذا لو كان ردّ الدائرة التمهيدية سلبياً؟ ففي ذلك الوقت يفترض أن تطعن دولة فلسطين بالقرار؛ حيث لا توجد أي محدّدات زمنية أو سقف محدّد لاتخاذ القرار بالطعن، وقد يستمر الأمر لشهور أو حتى لأعوام وسيكون ذلك تسويفاً للحق العادل والمشروع وللاتهام المدعوم بالوثائق والحقائق لارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب.
وفي حال الرد الإيجابي يفترض بالمدعي العام المباشرة فوراً بالتحقيق؛ بهدف مساءلة المرتكبين، وتحقيق العدالة وتعويض الضحايا وإنصافهم، ولا بدّ من إبقاء هذا الملف مفتوحاً؛ إذْ لا يمكن مقايضة العدالة بأي حلول أخرى؛ لكي لا يفلت الجناة من العقاب.
ولا شكّ أن وتيرة المطالبة بالتحقيق في جرائم الحرب «الإسرائيلية» قد ارتفعت في السنوات العشر ونيّف الأخيرة على الصعيد الدولي؛ ارتباطاً مع نهج «إسرائيل» العنصري وعدوانها المتكرر، وهو ما عكسه تقرير القاضي الجنوب إفريقي من أصل يهودي غولدستون، والصحفي السويدي بوستروم، حتى أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر صرّح خلال زيارته لقطاع غزة بعد العدوان عليها عام 2009 وبعد حصارها الدامي منذ عام 2007، إن الفلسطينيين في القطاع يعاملون «معاملة الحيوانات»، في إشارة إلى الوضع اللّاإنساني الذي يعيشه السكان الأبرياء العزل خلافاً لاتفاقات جنيف لعام 1949 وملحقيها، وفي ذلك إدانة مباشرة ل«إسرائيل».
drhussainshaban21@gmail.com



194
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكرى تأسيسها الـ52
في الأنا والآخر يكتمل النقد المزدوج
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

" النقد أفضل أداة تنموية وتطويرية اكتشفها الإنسان"
عمانوئيل كانط


شعبان مع الدكتور جورج حبش

I
   تركت صدمة هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 تأثيراً عميقاً على الجيل الستيني العربي بشكل خاص، والأمة العربية بشكل عام، وجاءت هذه الصدمة استكمالاً لصدمة إقامة الكيان الصهيوني في 15 أيار (مايو) 1948 إثر قرار التقسيم رقم 181 الذي صدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)  1947  عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، مبدّدة الكثير من الآمال وكاسرة العديد من الأحلام التي انتظرها العرب لتحرير فلسطين، فإذا بها تلحق بهم هزيمة أخرى  أشدّ إيلاماً من سابقاتها.
   وهكذا ثار الجدل والنقاش مجدداً حول وجود " إسرائيل" ودورها العدواني المحوري في كبح جماح تطوّر الدول والشعوب العربية، ناهيك عن مشروعها التوسعي الاستيطاني الإجلائي، وامتدّ الحوار والسجال إلى السبل الناجعة لمواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري، خصوصاً وأن منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) التي تأسست في 28 أيار (مايو) 1964 لم تكن بصيغتها القائمة آنذاك، الإطار المناسب لمواجهة التحدّيات الكبرى، وبتعبير حركة القوميين العرب في حينها " أنها ليست البديل الثوري" المنشود.
   كما أن انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح"- العاصفة في الأول من كانون الثاني (يناير) 1965، لم تستطع تغطية كامل الساحة الفلسطينية بجميع تياراتها الفكرية  وألوانها السياسية وتوجهاتها الاجتماعية، مع ما كان يتبلور من تيار يساري فلسطيني جديد خارج إطار الحركة الشيوعية الفلسطينية التي كان بعضها منضوياً تحت لواء الحزب الشيوعي "الإسرائيلي" "راكاح"، وبعضها الآخر كان يعمل ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي الأردني، مثلما كان لغزّة تنظيم شيوعي خاص كجزء من الحركة الشيوعية المصرية.
II

   اليسار الفلسطيني الجديد لغة ومضموناً وتوجّهاً  وممارسة بدأ ينضج في إطار "حركة القوميين العرب" ووليدها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وخصوصاً في الساحتين اللبنانية والسورية، إضافة إلى فلسطينيي الشتات، علماً بأن الحركة تأسست على مراحل منذ العام 1948، حتى استقرّ الأمر على تسميتها في العام 1956، وكانت نواة التأسيس في الجامعة الأمريكية ، وضمّت كل من د. جورج حبش ود. وديع حداد (فلسطين) وهاني الهندي (سوريا) ود. أحمد الخطيب (الكويت) وحامد الجبوري (العراق) وغيرهم، ثم أصبح من قادتها: باسل الكبيسي (العراق) ومحسن ابراهيم (لبنان) وعبد الفتاح اسماعيل (اليمن) وآخرين.
   وتطوّرت  الحركة بتطوّر شعاراتها، فبعد أن كانت تصدر مجلة باسم " الثأر" وتتبنّى شعارات: وحدة ، تحرّر، ثأر، أخذت الشعارات الاشتراكية ترتفع في صفوفها، وكان لصدور صحيفة "الرأي" ، ثم مجلة " الحرية" دوراً كبيراً في الحوار الفكري الدائر داخل صفوفها وفي المجتمعات العربية، وخصوصاً مع التيارات الماركسية أو القريبة منها، وازداد رصيد الفكرة وزناً بعد حزمة القرارات الاشتراكية التي أصدرتها قيادة الرئيس جمال  عبد الناصر " الجمهورية العربية المتحدة" في العام 1961.
   وبعد شهر من هزيمة العام 1967 ناقشت الحركة في تموز/يوليو " مقدّمات ونتائج الهزيمة" وأصدرت تقريراً بعنوان " الثورة العربية أمام معركة المصير" ، لكن التطوّر الجذري حصل في صفوفها بعد مؤتمر شباط (فبراير) العام 1969 الذي تبنّى خط انصهار تنظيم الحركة على الساحة الفلسطينية ضمن إطار "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي تشكّلت في 11 كانون الأول (ديسمبر) العام  1967، وكان ذلك بداية استقلالية الساحات النضالية لخصوصية ظروفها وأوضاعها، مثلما هي خصوصية " القضية الفلسطينية".
 
شعبان مع نايف حواتمة
   وأستطيع القول أن "مجلة الحرية" التي ابتاعت حركة القوميين العرب امتيازها العام 1959 وأصبحت بعد العام 1967 ناطقة باسم الجبهة الشعبية، لعبت دوراً كبيراً في بلورة وعي عربي جديد ورؤية فلسطينية يسارية جديدة، حاولت المزج بين التيار العروبي والتيار الاشتراكي، وإنْ أصبح توجّهها أقرب إلى التيار الماركسي أو تيار اليسار الجديد بعد العام 1969، لاسيّما بعد الانشطار الذي حصل في صفوف الجبهة الشعبية، حيث كانت أقرب إلى "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" برئاسة نايف حواتمة، وأكثر التحاماً فيما بعد مع "منظمة العمل الشيوعي" برئاسة محسن ابراهيم.
أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فقد أصدرت مجلة يسارية مرموقة هي الأخرى باسم " الهدف" وترأس تحريرها الروائي الفلسطيني المبدع غسان كنفاني الذي استشهد في بيروت في 8 تموز (يوليو ) العام 1972 ، وكنت قد التقيت به في صيف العام 1970 عن طريق الحزب الشيوعي اللبناني وتعرفت على شعراء المقاومة من كتاباته: محمود درويش وسميح القاسم ، إضافة إلى روايته الشهيرة " رجال في الشمس". وبادر في ذلك اللقاء اليتيم إلى إهدائي روايته " أم سعد"  وهو من الكتب التي أعتزّ بها، وبقي معي في براغ، وحين عودتي حملته في حقيبتي اليدوية، ولم أضعه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتها إلى بغداد، وقد تمّت مصادرتها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنت قد أعددتها للطبع من قبل الأجهزة الأمنية العراقية.

شعبان مع تيسير قبعة
وكان سبب لقائي بكنفاني هو شرح طبيعة تعقيدات الوضع السياسي في العراق والهجوم الذي تعرّض له اليسار والقوميون والناصريون ، إضافة إلى السؤال عن تيسير قبّعة الذي كنّا قد نظّمنا حملة لإطلاق سراحه في أواخر العام 1967 وبداية العام 1968. استقبلني غسّان كنفاني بابتسامة عريضة في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكر، وطلب من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّن بعض ما أقوله. لا أتذكّر إنْ كان قد نشر شيئاً بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنه على ما أذكر جيداً، كان يتمنّى أن تنصبّ جهود الوطنيين واليساريين لمواجهة العدوان الصهيوني والمخططات الامبريالية. وقد ذكّرني الأخ صلاح صلاح، الذي تمتد صداقتنا لعقود من الزمان، أنه سمع أول مرة عنّي من غسّان كنفاني، وقبل أن يلتقيني، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.
كم كانت خسارة الجبهة الشعبية كبيرة لفقدان غسان كنفاني وهو في ربيع عمره وفي أوج عطائه، فلم يتجاوز السادسة والثلاثين (36 عاماً)، خصوصاً وقد استكمل أدواته الفنية، ونضجت تجربته، وكانت تلك واحدة من الصدمات التي صُعقت بها، وما يزيد ألمي هو محاولة اغتيال العقل الفلسطيني والمثقف الفلسطيني والإبداع الفلسطيني، فالفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل مبدعين كبار مثل غسّان كنفاني، ومحمود درويش وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وإميل توما وغيرهم.
واستمرت علاقتي بمجلة الهدف بعد استشهاد كنفاني حيث تولّى رئاسة التحرير بسّام أبو شريف، الذي كنت قد تعرفّت عليه في المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي (مطلع العام 1971)، ثم التقيته كثيراً، وإذا بطرد ملغوم يُرسل إليه لينفجر بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزءًا من سمعه، وبقيت بعض شظاياه "تطرّز" صدره، ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده عليها بصفته نائباً لرئيس اتحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادث التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني. وقد أعقب بسام أبو شريف في رئاسة تحرير مجلة الهدف صابر محي الدين الذي توفي باكراً وكان عضواً في المكتب السياسي.
   وكنت قد تعرّفت على قيادات مرموقة من الجبهة الشعبية مثل: تيسير قبعة  وشريف الحسيني وصادق الشافعي وعبد الرحيم الملوح وصلاح صلاح وليلى خالد وأبو أحمد فؤاد وأسعد عبد الرحمن ولاحقاً أبو علي مصطفى وفيما بعد جورج حبش وآخرين ويمكن مراجعة ما كتبته عن علاقاتي مع الجبهة الشعبية وقياداتها من خلال مقالتي عن جورج حبش الموسومة "جورج حبش: الاستثناء في التفاصيل أيضاً" والمنشورة في صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 1 شباط (فبراير) 2008، ومقالتي عن تيسير قبعة تحت عنوان : "تيسير قـبّعة -غيمة فضيّة في فضاء الذاكرة " المنشورة في صحيفة الزمان (العراقية) على حلقتين بتاريخ 29/6/ و2/7/2016.
 
شعبان مع تيسير قبعة
III
   لا أذيع سرّاً إذا قلت أن اليسار الجديد، الفلسطيني والعربي، بحيويته وجرأته وخروجه عن نمط تفكير اليسار التقليدي، ترافق مع صعود التيار الجيفاري الذي اعتبر الكفاح المسلح ركناً أساسياً من أركان التوجه الاستراتيجي رابطاً ذلك التكتيك برفع شعارات "حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد"، وكانت الساحة السياسية اللبنانية الفضاء الأكثر حرّية للسجال الفكري والحوار الثقافي حول أهداف حركة المقاومة الفلسطينية والحلول المطروحة، لاسيّما بعد هزيمة 5 حزيران (يونيو)، التي كان من نتائجها إجراء  الحزب الشيوعي اللبناني مراجعة متقدّمة حينها لتاريخه وهويته بما فيها موقفه من القضية الفلسطينية (1968- المؤتمر الثاني وما بعده )، وربما كانت مثل هذه المحاولة تقترب من رؤية الحزب الشيوعي السوداني الذي تميّز في موقفه من القضية الفلسطينية عن مواقف الحركة الشيوعية العربية، وهو ما وجد صداه في مطبوعات الحزب بما فيها "مجلة الطريق" اللبنانية حيث بادر محمد دكروب إلى فتح ملف الأدب الستيني ، ولاسيّما أدب المقاومة الفلسطيني، كما انجذبت إليه "مجلة الطليعة" المصرية التي كان يرأس تحريرها "لطفي الخولي". وكان نتاج هذا التوجه إقدام الأحزاب الشيوعية العربية: اللبناني والعراقي والسوري والأردني العام 1970 على تأسيس "منظمة الأنصار" .
 
شعبان مع أحمد جبريل وطلال ناجي
   كانت الهزيمة أقرب إلى زلزال كبير هزّ كيان الأمة العربية كلّها، وشخصياً كنت واحداً ممن أصابني هذا الزلزال بالصميم وأثّر في إنضاج وعيي، وخصوصاً بعد انطلاق حركة المقاومة الفلسطينية التي أقمنا علاقات وطيدة معها، بل إننا أحياناً كنّا نشعر وإيّاها رافدين لمسار واحد.   وأعترف أن اللغة التي استعملتها المقاومة شدّتني كثيراً، وكذلك أسلوب النقد الذي مارسته ضد اليسار الماركسي التقليدي، أي "يسارنا"، كان جديداً وجاذباً، وأثار لدينا تساؤلات عديدة ودخلنا في حوارات متنوّعة سبق وأن تحدّثت عنها في مناسبات مختلفة، ولاسيّما في كتابي "تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف ، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009"،  سواءً اتفقنا مع بعضه أو اختلفنا مع بعضه الآخر، مثلما كان لدينا انتقادات لليسار الجديد ذاته، بما فيها انسياقاته وراء شعارات وممارسات امتازت بالجملة الثورية، التي حاول الإقلاع عنها لاحقاً.
   وفي حين كانت المقاومة تمثّل  العديد من تطلّعاتنا في نقد السائد من السياسات الماركسية التقليدية، لاسيّما تلك التي تنظر بقدسية إلى "المركز الأممي" وتحاول الدفاع حتى عن أخطائه، أو تبريرها بطريقة فجّة أحياناً، إلّا أنها أخذت تتراجع عن تلك التوجهات منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، وخصوصاً حين بدأت علاقات قياداتها تتوثّق مع موسكو، ناهيك عن محاولة استرضائها بتقديم بعض الامتيازات لها مثل قيادات الأحزاب الشيوعية، في الوقت الذي أخذ بعضنا ينتقل  رويداً رويداً من مرحلة  اليقين إلى التململ ثم فيما بعد  إلى مرحلة الأسئلة والشك والنقد  وصولاً إلى المراجعة الشاملة والمطالبة بتعديل المسار، تلك التي اكتملت مع زيادة وعينا ونضج أدواتنا في التعبير واتّساع رؤيتنا النقدية.
   لقد أخضع الزلزال الحزيراني كل شيء للنقد: الأنظمة التي أسميناها "تقدمية" وحرصنا على دعمها مع نقد ملطّف أحياناً (مصر وسوريا)، إذْ سرعان ما ارتفعت وتيرة النقد لها وللأخطاء العديدة التي وقعت فيها، وكذلك لـ المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، حيث بدأ نقدنا لها يرتفع بشكل أسئلة تفسح في المجال لأسئلة جديدة وغير معهودة، انطلاقاً من نقد سياسات أحزابنا الشيوعية العربية التي طفت المشاكل على سطحها.
IV
   بدأت علاقتي بالجبهة الشعبية في بغداد حين افتتحت مكتباً لها ، وكان المسؤول عنها  الرفيق أبو وائل ، كما كانت صلتي مستمرة بالرفيقين إيهاب وغسان وكان يوسف سرّية الواسطة الأولى للعلاقة، حيث كان اللقاء الأول  في مكتبه الهندسي في ساحة الخلّاني. وأتذكّر أن الدعوة وجهت إلينا لزيارة عمان ودمشق ، لكن تأجيل الموعد كان بسبب اندلاع بعض الاشتباكات في عمان ، ثم تقرّر سفرنا في تموز (يوليو) العام 1970، وحين حضرنا إلى مكتب الشعبية لغرض تسهيل مهمة سفرنا غير المعلنة وبهوّيات المقاومة، كان هناك من اعتقل قبل يوم واحد على الحدود، فأقلعنا عن الفكرة.
   وكان موقف الجبهة الشعبية متضامناً معنا في احتجاجنا على نتائج الانتخابات الطلابية في العراق (العام 1969) وقد عبّر عنه عضو قيادة الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي حضر إلى بغداد ضمن وفد برئاسة فتح .
   وخلال وجودي في الشام  في الثمانينات وعلى مدى نحو أربع سنوات كتبت مقالات ودراسات عديدة  أسبوعياً لمجلة الهدف، مثلما ألقيت محاضرات  في دمشق وبيروت حول القضية الفلسطينية بدعوة من الجبهة والمنظمات الفلسطينية الأخرى، لاسيّما وأنني عملت على تأسيس "اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 " الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، وكنت أمينها العام.
   وحتى حين غادرت دمشق إلى أوروبا في أواخر الثمانينات فقد بقيت على علاقة صداقية وودية مع الجبهة الشعبية ومجلة الهدف والدكتور جورج حبش الذي كنت أنسق معه بعض المواقف منها:
   1-  دعوة المفكر السوفييتي المعادي للصهيونية يفيسيف  وتكريمه ، لكن العدو كان أسرع منّا فقد وجد مقتولاً بالقرب من ضواحي موسكو العام 1990، بعد أن تعرّض لحملة تنكيل وإساءة من جانب أوساط صهيونية أخذ نفوذها يتسع .
   2- نسّقت معه في الدور الذي يمكن القيام به في مؤتمر ديربن العام 2001، وهو المؤتمر الذي دمغ الممارسات الإسرائيلية بالعنصرية، وصوت لصالح هذا القرار نحو 3000 منظمة حقوقية دولية.
   3- تابعت بتكليف منه إمكانية الحصول على المخطوطة التي قمت بترجمتها ونشرها في مجلة الهدف على خمس حلقات في العام 1985 والتي أصدرتها لاحقاً بكراس بعنوان: "مذكرات صهيوني" دار الصمود العربي ، بيروت ، 1986 والتي تكشف علاقة الصهيونية بالنازية عبر إيغون ردليخ أحد قياديي المنظمة الصهيونية مكابي هاكير المعتقل في معسكر أوستفيم النازي (بولونيا) منذ العام 1940 والذي تم إعدامه في العام 1944 رغم تعاونه الوثيق مع النازية، وقد كانت مجلة تريبونا (المنبر) قد نشرت أربع مقالات عن تلك المذكرات الموسومة " عندما تحدث في يومياته " بقلم ييرجي بوهاتكا الذي اتضح أنه اسم مستعار.
   حين أكتب اليوم عن الذكرى  الـ 52 لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بطلب من مجلة الهدف "العزيزة" أستعيد مع نفسي عطر تلك الأيام  وشذاها ، خصوصاً وأن روحي ما تزال ترفل ووجداني ما زال ينبض بكل ما هو خيّر ونبيل وإنساني في حركة المقاومة الفلسطينية رغم كل المآسي والشوائب التي اعترتها وفي ذلك جزء من تاريخي الشخصي الذي أشعر باعتزاز شديد لانتمائي لتلك القيم الأصيلة والمثل الصادقة .
   ولأن الزمن رديء على حد تعبير القائد ياسر عرفات "أبو عمار" فإن الوفاء الشخصي والنضالي هو الذي يدعوني لإعلان استمرار وقوفي في ذات الخندق الفكري لثقافة المقاومة ، مستذكراً باعتزاز أيضاً دعمها للحركة الشيوعية العراقية في محنتها أواخر السبعينات وكامل الثمانينات حين تعرّضت للملاحقة والتنكيل.



195
قانون قيصر " الأمريكي"
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   أخيراً وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على "قانون قيصر" القاضي بإنزال عقوبات شديدة بسوريا ، وقالت وزارة الخارجية الأمريكية: إن القانون يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم   2254 الصادر في 18 ديسمبر(كانون الأول) 2015  الهادف إلى تحقيق عملية الانتقال السياسي وإنهاء النزاع في سوريا، وقد أُدرج هذا القانون كجزء من  "قانون الدفاع الوطني للسنة المالية 2020".
   وجاء في مشروع القانون "أن الجهود الدولية لم تكن كافية لحماية المدنيين"،  لكنه فصّل في معاقبة الدول والشركات التي تتعامل مع الحكومة السورية، بمعنى استهدافه لحلفاء سوريا أيضاً مثل روسيا وإيران وحزب الله ، خصوصاً في قطاع الطيران والنقل والاتصالات والطاقة والصناعة والتجارة والبنك المركزي وغيرها. وهذا يعني  "ثني المستثمرين الأجانب من التعامل مع الحكومة السورية" وعدم مكافأة نظامها، بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان، فضلاً عن الزعم بـ "حماية المدنيين". وبالطبع فهذا يؤدي إلى  وضع عقبات جديدة لمنع دمشق من إعادة إعمار ما خلّفته الحرب التي دامت ثماني سنوات وما تزال مستمرة  وهي حرب شاركت فيها جهات دولية وإقليمية متعدّدة ولأغراض مختلفة ومتعارضة .
    ولا بدّ من ملاحظة أن  صدور القانون يأتي عقب تمكّن سوريا من طرد داعش والقوى الإرهابية التي احتلت نحو ثلث أراضي البلاد وإلحاق هزيمة بها مثلما حصل في العراق الذي تم تطهير أراضيه من الوجود العسكري لداعش، فضلاً عن أن الفصول الأخيرة من المعارك الدامية الدائرة في الشمال السوري في طريقها إلى الحسم، حتى وإن كانت الصورة معقّدة ، خصوصاً وأن خطة ما سمّي بـ "الملاذ الآمن" أثارت خلافات واسعة، بين الولايات المتحدة التي وضعت يدها على منابع النفط السورية بالضد من قواعد القانون الدولي، وبين تركيا الطامعة التاريخية بالمنطقة بحجة مكافحة الإرهاب وتعقّب حزب العمال الكردستاني PKK، لاسيّما بعد حدوث تصدعات في العديد من الجبهات، ناهيك عن إعادة الاصطفافات لبعض القوى الكردية التي اقتربت من الحكومة السورية، في ظل الهجوم التركي الذي زاد من تعقيد المشهد دولياً وإقليمياً، بالانسحاب الأمريكي وبالتداخل الروسي.
   إن مشروع "قانون قيصر" هو نسخة سورية للطبعة العراقية التي سمّيت "قانون تحرير العراق" العام 1998 ، والذي استند فيه إلى "منطقة الملاذ الآمن"، بالقرار الذي اتخذته واشنطن ولندن وباريس العام 1991، بالترافق مع تشديد الحصار على العراق والذي امتد 12 عاماً تمهيداً لإطاحة نظامه واحتلال البلاد بالكامل وتركها لفوضى عارمة ما تزال تأثيراتها قائمة ومستمرة حتى الآن، بفرض نظام للمحاصصة الطائفية - الإثنية الذي يقوم على الزبائنية السياسية وتقاسم المغانم، حيث استعر التعصّب ووليده التطرّف واندلع العنف على نحو لا مثيل له ، وهذا الأخير حين أخذ يضرب عشوائياً تحوّل إلى إرهاب منفلت من عقاله، وقد لعب تنظيم القاعدة ومن بعده داعش مثلما تلعب جبهة النصرة " هيئة تحرير الشام" وأخواتها دوراً محورياً في إذكاء نار النزاع الداخلي المدعوم خارجياً من القوى التي لا تريد الخير والود للشعبين العراقي والسوري، مهما كانت مسمّياتها وصفاتها وادعاءاتها.
   وإذا كان عنوان " حماية المدنيين" كلاماً حقيقياً فإن ما يقف خلفه باطل، والتجربة خير دليل على ذلك، والمدنيون هم كل السكان، لاسيّما الذين كانوا ضحية النزاع المسلح طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها، فقد كانت التنمية والخدمات الصحية والتعليمية والبيئية والبلدية وكل ما يتعلق بحياة الناس هي الضحية ، فضلاً عن نصف مليون قتيل وما يزيد عليهم من جرحى ومعوّقين، إضافة إلى نحو 10 ملايين بين نازح ولاجئ، وهؤلاء هم بامتياز ضحايا اندلاع الحرب واشتداد وطأة النزاع والتدخل الخارجي.
   فهذا القانون يبحث في إجراءات لا علاقة لها بحماية المدنيين لاعتبارات إنسانية، بل يتناول إجراءات أخرى كما جرى ذكرها ، ناهيك عن مسائل تتعلق بحجب الملكية والفوائد المترتبة عليها ومنع دخول سوريين أو حلفائهم إلى الولايات المتحدة، وإنزال عقوبات جزائية على أي شخص أو منظمة غير حكومية.
   جدير بالذكر أن اسم " قيصر" هو اسم مستعار وقد يكون وهمياً قيل أنه مصور سوري وثّق جرائم عديدة في سورية عبر صور هرّبها إلى فرنسا حين كان يعمل في الشرطة العسكرية، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة وأدلى بشهادة أمام الكونغرس العام 2014 وعرض بعض هذه الصور في متحف الهولوكست في واشنطن، ومثل هذه الادعاءات والشهادات تم استخدامها كذريعة لشن الحرب على العراق فقد وظّفتها واشنطن وحلفائها  بحجة  وجود أسلحة دمار شامل فيه وعلاقته بالإرهاب الدولي، وكان ذلك عبارة عن  اختراع نسجته مخيلة "صقور الحرب" وهو الأمر الذي انكشف بطريقة أقرب إلى الفضيحة الدولية بعد احتلال العراق باعتراف الرئيس جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ناهيك عن خديعة إقامة نظام ديمقراطي.

196
المنبر الحر / جريمة ساحة الوثبة
« في: 19:04 03/01/2020  »
 

جريمة ساحة الوثبة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

لم تنزلق حركة الاحتجاج السلمية الشعبية التي انطلقت في الفاتح من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى العنف كرد فعل ثأري أو انتقامي أو كيدي لما قامت به السلطات الحاكمة والجماعات المسلحة ضدها، فقد بدأت سلمية وحافظت على سلميتها، وذلك أحد مصادر شرعيتها وقوتها الأساسية، ناهيك عن كفالة الدستور لها كحق من حقوقها التي تضمنه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وسيكون التذرّع بفساد الطبقة الحاكمة ولجوئها إلى القمع والعنف المنفلت من عقاله، باللجوء إلى العنف المضاد غير مبرر لها وتحت أي عنوان أو حجة ، لأن الحركة تدرك أن مثل تلك التصرفات السلبية ستخرجها عن سلميتها التي حافظت عليها، إذْ لا يمكن فصل الوسيلة عن الغاية، ومهما كانت الغاية شريفة وعادلة ، فلا بدّ للوسيلة أن تكون كذلك، ولا غاية مشروعة بوسيلة غير مشروعة، وحسب رائد المقاومة السلمية – اللّاعنفية المهاتما غاندي، فإن الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، وهما يرتبطان عضوياً لدرجة لا يمكن فصلهما.
وإذا كنّا نعرف الوسيلة وهي راهنة ومحدّدة ومعلومة ، فإن الغاية بعيدة وغير ملموسة، بل متخيّلة أحياناً، الأمر الذي ينبغي أن تكون الوسيلة جزءًا لا يتجزأ من الغاية ذاتها، وكل تعارض بينهما يعني الخروج على مشروعية الغاية ، وبالنسبة للوضع العراقي سيكون اللجوء إلى العنف خروجاً على أهداف الحركة الاحتجاجية السلمية، باتباع وسائل غير مشروعة، فما بالك إذا كانت جريمة أو انتهاكاً سافراً لحق الحياة والقتل خارج القضاء، إضافة إلى أعمال تخريب وحرق .
ما حصل في ساحة الوثبة ببغداد بإلقاء القبض على أحد الذين، قيل أنه أطلق الرصاص على المتظاهرين،  وقتله والتمثيل بجثته في مشهد لا إنساني يثير التقزّز والاشمئزاز، ومهما كانت المبررات والدوافع فإنها جريمة مدانة ومستنكرة وهي سابقة خطيرة لا ينبغي التقليل من شأنها، وهو ما أدركه المحتجون الذين ازدادوا يقظة إزاء أي محاولة لجرّهم إلى العنف بإعلانهم سلمية الحركة بالمطلق وتمسكهم بشعاراتها .
ولعلّ اللجوء إلى العنف سيلحق ضرراً بالغاً بحركة الاحتجاج ويفقدها أحد أهم أسلحتها المشروعة؛ وأعني بذلك الوسائل المدنية السلمية التي استخدمتها بنجاح في بلورة مطالبها العادلة، سواء بجانبها المطلبي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فيما يتعلّق بفرص العمل والخدمات وتحسين ظروف العيش، أو في جانبها السياسي المتعلق بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية بعد أن وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود وبعد فشل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد لنحو 16 عاماً والتي قامت على أساس نظام المحاصصة الطائفي- الإثني المستند إلى "الزبائنية السياسية" وتوزيع المغانم والامتيازات، تلك التي تكرّست منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 والذي وضع نواته  بول بريمر  في صيغة مجلس الحكم الانتقالي، وامتدّ إلى الدستور الذي أعدّ مسوداته نوح فيلدمان وبمساعدة لاحقة من بيتر غالبرايت وهو دستور يقوم على المكوّنات، التي لا تعني سوى نظام المحاصصة الطائفية- الإثنية.
لا يمكن بأي حال تبرير جريمة ساحة الوثبة بزعم أن السلطة الحاكمة ارتكبت جرائم لا حدود لها، بقتل أكثر من 500 مواطناً وجرح أكثرمن20 ألف عراقي، ناهيك عن استمرار استشراء الفساد المالي والإداري والتغوّل على الدولة عبر مرجعيات ما دونها وما قبلها، لكنها أصبحت ما فوقها، إضافة إلى تفشي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.
وحين يتم تناول ظاهرة العنف والقتل خارج القضاء، فلا يمكن تبريرها من أي أتت والجريمة تبقى جريمة ، ولعلّ استدراج الحركة الاحتجاجية إلى دائرة العنف سيكون المقتل الأول لها، وسيعطي المبرّر لأعداء التغيير للانقضاض عليها، بل والقيام بالمزيد من أعمال القتل وسفك الدماء والانتهاك بهدف تسويد صفحة الحركة الاحتجاجية وتشويه سمعتها وإلصاق التهم بها.
أدركُ حقيقة أن الحركة الاحتجاجية في جوهرها وفي عمق مطالبها سلمية ومشروعة، الأمر الذي سيكون إدانة هذه الجريمة ونبذ اللجوء إلى العنف إبرازاً لوعي الحركة بمسؤولياتها الوطنية من جهة ، حتى وإن كانت محدودة جداً وفردية جداً، إذْ لا ينبغي لبعض حالات الجزع والقنوط  أن تدفع الحركة باتجاه لا يخدم توجهها السلمي- اللّاعنفي، كوسيلة لإحداث التغيير المنشود في موازين القوى ، حتى وإن كانت مناورات الطبقة السياسية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها تريد تدوير الزوايا والالتفاف على عملية التغيير الحقيقي التي يطالب بها المحتجون.
إن إدانة اللجوء إلى العنف هدفه الأول إعادة التثقيف بأهمية المقاومة المدنية السلمية اللّاعنفية، التي هي الطريق الصائب للدفاع عن الحقوق والمطالب، فضلاً عن أن استمرارها سيجبر الطبقة الحاكمة التفكير  إن آجلاً أو عاجلاً أكثر من مرّة من استخدامه ضده المحتجين الذين  سيحظون بتعاطف ودعم دولي، وسيزيد من تعميق وعي المجتمع بأهمية الاحتجاج السلمي وهو جزء من الشعور بالمسؤولية إزاء مستقبل العراق.



197
 


الكرد واللغة العربية

 
عبد الحسين شعبان
على الرغم من المشهد المأساوي الحزين الذي يعيشه العراق منذ الفاتح من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، حيث جابهت السلطات الحكومية حركة الاحتجاج السلمية الشعبية بالحديد والنار، فثمة جوانب مبشّرة، خصوصاً في ما يتعلق باستعادة الوعي الوطني ويقظة الهويّة الوطنية العراقية العابرة للطوائف والإثنيات، ولا سيما ارتفاع نبرة العيش المشترك والمصير الموحد. والأمر لا يقتصر على ساحات الاحتجاج التي شملت، إضافة إلى بغداد، تسع محافظات عراقية هي: الحلّة والديوانية وكربلاء والنجف والسماوة والكوت والناصرية والعمارة والبصرة، فقد امتد الأمر ليشمل تضامن عدد من المثقفين الكرد مع أشقائهم المثقفين العرب، إضافة إلى تضامن سكان المناطق الغربية مع وسط وجنوب العراق.
وإذا كان ثمة تساؤل مشروع أساسه: كيف السبيل لاستعادة العلاقات الإيجابية العربية - الكردية في العراق؟ فلعلّ الشعار الذي أطلقه اليسار العراقي في ثلاثينات القرن الماضي «على صخرة الاتحاد العربي - الكردي تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية»، هو الأحوج والأكثر إلحاحاً هذه الأيام، ولا سيّما في الفضاء الثقافي الذي تشكل اللغة جوهره وروحه، بعد شروخ حصلت في تلك العلاقات بسبب الأنظمة الديكتاتورية والقمعية وممارساتها الشوفينية والعنصرية، فضلاً عن محاولات الاختراق والتداخلات الخارجية الإقليمية والدولية، تلك التي لا تضمر للعراق وأهله عرباً وكرداً ومن سائر القوميات أي ود وخير.
وقد جاء احتفال جامعة السليمانية باليوم العالمي للغة العربية في ال 18 ديسمبر / كانون الأول، والذي تقرر بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3190 في عام 1973 (الدورة الثامنة والعشرون)، والذي بموجبه تم الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة، ليؤكد أهمية تعزيز العلاقات الثقافية والإنسانية بين العرب والكرد. علماً بأن منظمة اليونسكو «منظمة الثقافة والعلم والتربية» التابعة للأمم المتحدة تحتفل منذ عام 2012 بيوم اللغة العربية بعد صدور قرارها رقم 190 أكتوبر / تشرين الأول 2013.
وعلى الرغم من المحاولات المُغرِضة لإبعاد الكرد عن اللغة العربية وآدابها وتدريسها، بغض النظر عن مبرّراتها، فإنها ألحقت ضرراً بليغاً بالثقافة الكردية ومنعت الكرد من التواصل مع أشقائهم العرب، ولا سيما الجيل الجديد، فضلاً عمّا ستتركه من عزلة عليهم في علاقتهم مع عرب العراق من جهة، ومع امتدادهم العربي من المحيط إلى الخليج من جهة أخرى، وهو ما أدركته، مؤخراً، العديد من الأوساط الثقافية والأكاديمية والسياسية، ولعلّ مبادرة منتدى الفكر العربي ومؤسسه الأمير الحسن بن طلال تصبّ في هذا التوجه، خصوصاً في إيجاد آلية مستمرة للحوار العربي - الكردي.
إن اللغة العربية لغة عالمية يتحدث بها أكثر من 430 مليون نسمة وهؤلاء يتوزعون على أقطار الوطن العربي، ويمتد تأثيرها إلى بلدان مجاورة وبعيدة، لأنها لغة القرآن، وهي لغة حيّة وقابلة للتجديد، بما فيها من مترادفات وطباق وجناس ومجاز وسجع وتشبيه وفنون وبلاغة وفصاحة وغيرها، وهي من اللغات الأربع الأكثر استخداماً للإنترنت، والأكثر انتشاراً ونمواً، وفوق ذلك، فالعربية لها أهمية خاصة لدى المسلمين، لأن الصلاة لا تتم إلا بها، وهي في الوقت نفسه لغة شعائرية في عدد من الكنائس المسيحية في العديد من البلدان العربية.
وإذا كانت الصين تحتفل بيوم اللغة الصينية تخليداً لذكرى مؤسس أبجديتها سانج جيه، وروسيا اعتمدت يوم ميلاد شاعرها ألكساندر بوشكين يوماً للغة الروسية تكريماً له، أما بريطانيا، فإنها تعتبر عيد ميلاد وليم شكسبير يوماً للغة الإنجليزية، وكثيراً ما يردّد التشيك أن «جدهم» الروحي اللغوي كومنيسكي، فهل يحق لنا نحن العرب أن نحتفل بيوم ميلاد الشاعر المتنبي، ليكون يوماً للغة العربية حسب المفكر السوري جورج جبور؟
إن احتفال جامعة السليمانية بيوم اللغة العربية يشكل أهمية خاصة للشعب الكردي في عدّة محاور، منها أن الكثير ممن كتبوا في اللغة العربية كانوا من الكرد، بمن فيهم الشعراء أحمد شوقي، وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، فلم تمنعهم أصولهم الكردية من الكتابة الإبداعية باللغة العربية، كما أسهم علماء الكرد في كتابة التاريخ، وإثرائه باللغتين العربية والكردية، وهناك علماء كرد يشكّلون تراثاً ضخماً باللغة العربية مثلما ساهموا في بناء الحضارة العربية، ولذلك فإن العودة إلى تعلّم اللغة العربية وإعادة تدريسها لغة أساسية ثانية، إضافة إلى الكردية، فيه منفعة ومصلحة الكرد قبل العرب، لأنها لغة عالمية، وهو ما تم وضعه في عدد من البرامج الأكاديمية الجامعية، مؤخراً، وهو الأمر الذي يساعد في تعزيز التعاون والتبادل الثقافي من جهة والعيش المشترك من جهة أخرى.
جدير بالذكر أن الاحتفال جرى في قاعة البروفيسور عز الدين مصطفى رسول إحدى أهم الشخصيات الكردية التي كتبت باللغة العربية، وكان تحت شعار «الكرد يحتفلون باللغة العربية صوناً للتعايش».
drhussainshaban21@gmail.com


198
الضاد تتآكل في صيغتها البليغة ومستواها الحضاري

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي



أدباء ومثقفون بحثوا واقع اللغة العربية في يومها
العالمي..وطرحوا العديد من التوصيات في ندوة اليوم


صحيفة اليوم

عقدت جريدة اليوم (السعودية) ندوة لمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، شارك فيها عدد من المفكرين والباحثين والمختصين وقد وجهت لهم عدة أسئلة وفي ما يلي أجوبة الدكتور عبد الحسين شعبان في مشاركته في تلك الندوة.

س 1- ما أبرز التحديات التي تواجه اللغة العربية وتقف حاجزاً بينها وبين الجيل الجديد؟
ج1 – دعني في البداية أبيّن أهمية الاحتفال بيوم اللغة العربية 18 ديسمبر (كانون الأول) من كل عام ، وقد تقرّر الاحتفال بهذا اليوم  بعد إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3190 في العام 1973(الدورة الثامنة والعشرون) والذي بموجبه اعترف باللغة العربية كلغة رسمية من لغات العمل في الأمم المتحدة. وقد مهّد لهذا القرار التاريخي كل من المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة الثقافة والعلم والتربية التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو)، وفي اكتوبر (تشرين الأول)2012 احتفلت اليونسكو للمرّة الأولى بهذا اليوم واعتمد كيوم عالمي في 23 اكتوبر (تشرين الأول) 2013.
وتعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية وهي إحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، ويتحدث فيها نحو 430 مليون نسمة وهؤلاء يتوزعون على ما يسمى بـ " الوطن العربي"، إضافة إلى بلدان مجاورة ، وهي لغة القرآن التي يتم الصلاة بها، كما أنها لغة حيّة وقابلة للإضافة والتجديد بما فيها من مترادفات وتضادات وطباق وجناس ومجاز وسجع وتشبيه، إضافة إلى فنون البلاغة والفصاحة وغيرها، علماً بأنها من اللغات الأربع الأكثر استخداماً في الانترنيت والأكثر انتشاراً ونمواً.
التحدي الأول الذي تواجهه اللغة العربية هو الاعتراف الدولي بمكانتها والتداول بها وقدرتها على التساوق مع التطورات الدولية، أما التحدي الثاني فهو  استعداد أبنائها والناطقين بها، ولاسيّما الجهات المعنية من أصحاب القرار لاعتبارها جزءًا أساسياً من هويّة العرب، الأمر الذي يتطلب اعتمادها في المخاطبات والفاعليات الرسمية الدولية، أي كلغة عمل بما يحتاج إلى توفير ترجمات وإعداد لوائح وفهارس ومدوّنات.
وبعد كل ذلك فاللغة العربية مثل اللغات الحية خاضعة للسيرورة التاريخية وتتطور بتطور الزمن، لاسيّما في إثرائها وتخصيبها واستعيابها للحمولات الثقافية الإنسانية، وكذلك في التخلص من الشوائب والنتؤات التي لحقت بها. وهذا يحتاج إلى ترصين الوعي بأهميتها وقدرتها الإبداعية ، من جانب الناطقين بها وعدم النظر اليها بالمقارنة مع اللغات الأخرى بصورة أدنى.

س 2- ما الجدوى أو المنفعة الحقيقية للاحتفال باليوم العالمي باللغة العربية؟
ج2- الجدوى تكمن في الدلالة المعرفية والعلمية من جهة وفي المكانة التي تحتلها اللغة العربية من جهة أخرى، ولعلّها مناسبة لتأكيد أهمية اعتماد اللغة وتطويرها وجعلها أكثر مرونة وحيوية للتواصل بين أبنائها والناطقين بها من جهة، ومن جهة أخرى عنصر تفاعل وتفاهم وتعاون مع الآخر، وهي أداة سلمية ومدنية للعلاقة الإنسانية.

س3 – ما مدى تأثر اللغة العربية بتداخل اللهجات الشعبية مثل: المصرية والعراقية والمغربية والخليجية والسورية؟
ج3 - يبرز بين الحين والآخر اتجاه يدعو إلى تكييف اللغة العربية لتصبح أكثر استعمالاً وقرباً بين النطق والكتابة، وذلك من خلال اللهجات التي تستخدم حسب المناطق، وأعتقد أن هذا التوجه خطراً وقد واجه معارضة شديدة، فهو يضعف الشعور بالانتماء لأمة واحدة، فضلاً عن ذلك فإنه سيضعف المشتركات التي تقوم عليها اللغة باعتبارها عنصر تقارب وتواصل بين أولاد العمومة والهويّة الموحّدة ، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وقد لعب المسيحيون دوراً كبيراً في الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر دورهم في سوريا ولبنان والعراق ومصر وغيرها.


س4 – كيف تقيمون واقع اللغة العربية في الواقع العربي؟
ج4- الواقع ليس بمستوى الطموح، وثمة نواقص وثغرات وعيوب ومثالب لا بدّ من التخلّص منها، فثمة من ينظر باحتقار إلى لغته العربية ويعتقد إن الحديث باللّغات  الأخرى، لاسيّما الإنكليزية أو الفرنسية ، هو دليل تمدّن ورقي ، في حين أن جمالية اللغة العربية واتساع معانيها وعمق دلالاتها تؤكد غناها وقدرتها على التعبير، ناهيك عن اتساق مضامينها مع وسائلها.
وكلّما كان الواقع العربي يمتاز بالقوة والمنعة والقدرة على تحقيق التقارب بين دوله وشعوبه والسير في دروب التنمية المستدامة بجميع حقولها، كلّما استطاع أن يؤكد دور اللغة العربية.
ونلاحظ اليوم بالرغم من التصدّع والتشظي، إلا أن الاهتمام باللغة العربية يزداد عالمياً، وهناك توجه ، بل واندفاع عالمي لتعلّم اللغة العربية، نظراً لأهمية العالم العربي الاستراتيجية والجيو سياسية والاقتصادية ناهيك عن دور العرب الثقافي والتاريخي وفي بناء  الحضارة البشرية.

س5 – ما أسباب ضعف اللغة العربية من ناحية الشباب؟
ج 5- هناك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لا تشجع الشباب العربي على الاهتمام باللغة العربية، منها ضعف الواقع العربي كما أشرنا، ومنها تقليد بعض الجامعات والمدارس العليا، الجامعات والمدارس الغربية من خلال المناهج التعليمية ولغة التدريس، الأمر الذي يؤدي إلى عزوف الشباب عنها، وكذلك عدم اهتمام المدارس الحكومية باللغة وطرق تدريسها وتأهيل المعلمين والمدرسين للقيام بهذه المهمة من جهة أخرى بطريقة محبّبة للطلبة، لا تؤدي إلى نفورهم.
وبالطبع فإن الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والثورة العلمية- التكنولوجية والطفرة الرقمية " الديجيتل" والذكاء الاصطناعي، وغيرها تحتاج إلى أن يتكيّف العرب معها ويستخدمونها بطريقة تساعد على تعزيز اللغة العربية ومكانتها.

س 6- هل تعاني اللغة العربية من أزمة؟
ج 6- الأزمة خاصة وعامة ، وخصوصيتها ناجمة عن عدم الاهتمام العربي بها وتفضيل اللغات الأخرى عليها، وعامة بمعنى أنها تحتاج إلى أدوات لرفع شأنها وإعلاء مكانتها ، لاسيّما وهي جزء حيوي وأساسي من الهوّية، والمعالجة تحتاج إلى الاعتراف بالأزمة والعمل على تجسير الفجوة وردم الهوّة بحيث تكون اللغة العربية في المكانة الأولى التي تستحقها، خصوصاً لأبنائها  والناطقين بها وتتوفر لها الوسائل والأساليب التي تعزز من هذا الدور. وهذا يحتاج إلى توافق بين الإرادة السياسية من جهة وبين المناهج التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني، لكي تقوم بهذه المهمة.

س 7- هناك معايير اجتماعية متداولة أن الحديث باللغات الأجنبية دلالة على التحضير.. كيف تعلقون على ذلك؟
ج 7- تعلّم اللغات الأجنبية دليل تمدّن وتواصل وتفاعل مع العالم، وهو وسيلة سلمية للتفاهم والتعاون بين الأمم والشعوب والبلدان، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب لغتنا الأصلية، وهي لغة جميلة ومعبّرة، ولعلّ إهمال اللغة العربية والاهتمام بلغات أخرى سيؤدي إلى الاغتراب والتعالي على المجتمع، فكيف يمكن المشاركة في عملية التنمية والبناء، إذا كان ابن البلد مغترباً حتى وإن كان في وطنه.

س8- ما التوصيات أو المقترحات أو المبادرات التي يمكن توجيهها للجهات ذات العلاقة من أجل التمسك والارتقاء باللغة العربية؟
ج8- من التوصيات والمقترحات الأساسية هي ضرورة الاعتناء بجودة الصياغة اللغوية ودقة التعبير والابتعاد عن التنميط والزخرفة اللفظية، وينبغي أن تكون اللغة المستخدمة مطواعة تستجيب لمتطلبات العصر ومستجداته، بعيداً عن الجمود والتحجر، بحيث يتم التعبير عن النبض الحقيقي للحياة وترجمة سلوك ومواقف الحراك الاجتماعي ، لاسيّما بتقبّل الجديد من المفردات والاشتقاقات، فاللغة فكر في الوقت نفسه ولعلّ تطوير هذا الفكر ضرورة لا غنى عنها.
وكان مؤتمر فكر 17 قد انعقد في الظهران مؤخراً وعبّر في أحد محاوره عن أهمية اللغة ودورها في  تهيئة المستلزمات لتجديد الفكر العربي الطموح للتواصل مع العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي.
ويمكن للغة أن تكون أداة اقتصادية ، بل أحد الأسس لتطوير العلاقات الاقتصادية ، وسبق لها أن ساهمت بمثل هذا الدور عن طريق القبائل العربية وكانت رافعة مهمة لنشر اللغة العربية وتعلّم اللغات الأخرى، بل إنها كانت في صلب العمليات التجارية، لاسيّما في طريق الحرير وما بعده.
مثلما يمكن أن تكون أداة في التبادل الثقافي والأدبي والفني وكل ما يتعلق بالعمل الإبداعي كما هي في السابق.
ويمكنها اليوم ، وهذا ضرورة وليس ترفاً، أن تصبح لغة الحوسبة وعالم الكومبيوتر ، بتدفق المعلوماتية بغزارتها المعرفية وتنوّعها، فالعالم بين أيدينا ويمكن أن نحوّله إلى عالم رحب ويتّسع للجميع بتبادل وتفاعل من خلال لغتنا العربية مع اللغات الأخرى.
لذلك لا بدّ من مواجهة محاولات تحقير العرب من خلال الاستنكاف من لغتهم، ومثل هذه التحديات الاستعلائية العنصرية التي تريد فرض الهيمنة تدرك إدراكاً عميقاً الترابط الوثيق والمحكم بين اللغة والهوية وبين اللغة والدين، وهي تعلم علم اليقين كيف أن اللغة العربية ساهمت في رفد العالم بالعلوم من هندسة ورياضيات وفيزياء وطب، فضلاً عن أنها كانت لغة الفلسفة والعقل والفكر والحضارة ، وهذا ما ينبغي أن ندركه كعرب ونتصدى له بحيث تتضافر جهود العلماء والمفكرين والباحثين العرب والحريصين على اللغة العربية للحفاظ على روحها وتطويرها وتحسينها بحيث تصبح أرقى وأجمل سواء في مستوى التخاطب العادي أو على المستوى العام، علماً بأنها لغة مفتوحة وقابلة للإضافة وغير مغلقة أو جامدة، بل هي تتفاعل وتتلاقح مع لغات أخرى، ولا بدّ من اعتماد اللغة الفصحى كأساس مشترك بين العرب.
ولكي ينهض العرب فلا بدّ من عدد من الإجراءات السياسية والميدانية والتربوية والإعلامية من خلال كوادر متخصصة وسياسة تعليمية عصرية، وتنقية اللغة العربية من الشوائب العامية ووضع تحديدات للألفاظ الأجنبية وتوظيف ما هو علمي منها بطريقة منهجية بحيث يتم استيعابها، إضافة إلى تفعيل مجاميع اللغات العربية والعمل على تقاربها والتنسيق والتعاون فيما بينها، بعيداً عن دائرة الصراعات السياسية القطرية في كل بلد.
في الختام يمكن القول أن اللغة العربية هي أهم رابط وأقواه تاريخياً يشدّ العرب ويجمعهم إلى بعضهم وهي السجل الذي يختزن تاريخهم وذاكرة الأجيال ويحتفظ بأسسه الثقافية التي تشكل محور الهوّية .




199
 

الأديان وحقوق الإنسان
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   تنظر الغالبية الساحقة من الناشطين في ميدان حقوق الإنسان إلى الأديان باعتبارها نقيضاً لحقوق الإنسان، وهو الموقف ذاته الذي تتخذه الأوساط الدينية بشكل عام إزاء منظومة حقوق الإنسان، باعتبارها خارج دائرة الإيمان. ويرتفع الجدل حول "أحقية" كل فريق منهما وادعاءاته، في حين تُهمل المشتركات الإنسانية الجامعة لبني البشر، تلك التي تشكل عموداً محورياً للأديان أساسه الإنسان، الأمر الذي يقتضي البحث عن الجوامع المقرّبة وليس الفوارق المُباعدة.
   في الدين حقوق للإنسان ، مثلما في حقوق الإنسان قيمٌ دينية ، وفي الكثير من الأحيان تستمد الحركة الحقوقية الإنسانية قوتها من المنابع الدينية المتأصلة فيها، وهو الأمر الذي ينبغي للعاملين في ميدان حقوق الإنسان إدراكه، لأنه يكسبهم قوة مهمة وأساسية ، بل وحليفاً جديداً إلى جانب الشرعة الدولية، مثلما يُكسب الأديان ذاتها بُعداً أكثر إنسانية وتقدّماً ومدنية.
   علينا أن نتذكر أن العديد من المعارك الكونية المتعلّقة بالحرّية والكرامة قادتها شخصيات من منابع دينية مثل المهاتما غاندي في الهند رائد المقاومة المدنية - اللّاعنفية والذي اغتيل في 30 يناير (كانون الثاني) 1948، وعبد الغفار خان  الذي شارك في المقاومة السلمية عبر سلاح " الصبر والاستقامة"  وأوسكار روميرو من السلفادور أحد أبرز روّاد لاهوت التحرير الذي اغتيل في العام 1980، ومارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة،  القس الذي قاد حركة الحقوق المدنية من أجل المساواة، والذي اغتيل في 4 أبريل (نيسان) 1968. وكان العديد من قادة حركة التحرّر الوطني ضد الاستعمار من رجال الدين المسلمين والمسيحيين وغيرهم من المؤمنين، ناشطين من أجل التحرّر والاستقلال والعدالة، وغالباً ما يقومون بذلك لإيمانهم الديني الذي يمنحهم قوة أخلاقية وروحية وشرعية شعبية.
   لم أجد غضاضة في التلاقي بين حقوق الأديان وحقوق الإنسان، بل أعتبر ذلك أمراً طبيعياً وواجباً على  الطرفين تنميته بما يعزّز الكرامة الإنسانية المتأصلة في البشر، فالأديان عموماً تدعو إلى المحبة بين البشر واحترام حقوقهم بغض النظر عن اختلافاتهم، بما يعني توفير المستلزمات الضرورية لحماية منظومة الحقوق الإنسانية التي تسلّم بها الأديان، فأين تكمن الإشكالية إذاً؟
   الإشكالية في استخدام الدين أحياناً لقمع الأصوات الشجاعة المطالبة بالتغيير، بل يتم تبرير القمع وانتهاك الحقوق ممالأة للحكام، وفي أحيان أخرى لخدمة مصالح خارجية، بما يلحق الضرر بحقوق الأديان والإنسان، سواء في الترويج للتعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، مثلما يخطأ بعض نشطاء حقوق الإنسان  حين يعتبرون مثل هذا السلوك يمثّل الدين أو يعبّر عنه، فيكون رد فعلهم معاداة الدين في حين ينبغي عليهم مواصلة الكفاح ضد التعصّب والخرافة والتفسيرات الماضوية للدين بما فيها إضفاء صفة القداسة على ما يطلق عليه "رجال الدين".
   وهكذا يبالغ بعض دعاة حقوق الإنسان في مجتمعاتنا العربية والمسلمة بالعلمانية ويضعونها نقيضاً للدين، وبالمقابل يستخدمها بعض المتدينين بصفتها رديفة للإلحاد، ويستند الفريق الأول إلى أن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" لم يتضمن أي إشارة إلى الله، وينسون إن ذلك وضِعَ لتقبّل الناس هذا الإعلان على اختلاف دياناتهم بمن فيهم الذين بدون دين سماوي أو أرضي. ومثل هذا الأمر يقود إلى إبعاد أوساط واسعة مؤمنة بالله عن حقوق الإنسان والمشتركات الكثيرة التي تجمع المتدينين بالعلمانيين ، لاسيّما كونهم بشرٌ مثلهم ولهم نفس الحقوق والواجبات والتطلّعات، حتى وإن كانت هناك بعض الجوانب الاختلافية العقائدية.
   ويخطأ بعض الناشطين في حركات حقوق الإنسان حين يبعدون المتديّنين عن التواصل مع هذا الحقل المهم، مثلما يخطأ بعض المتدينين حين يعتبرون هذا الحقل خاص بالعلمانيين، ولذلك لا بدّ من تجسير العلاقة، بما يعزز الثقافة الحقوقية في الأوساط الدينية والمدنية ، لكي لا تتسع الفجوة بين المجموعتين، فالدين هو وجهة نظر كونية تتضمن القيم المتأصلة في الإنسان بما فيها حياة الإنسان ونظام الكون وتطلعات المستقبل، إذْ أنّ خسارة حقوق الإنسان للأديان ستكون كبيرة جداً لما فيها من قوة روحية ومعنوية مؤثرة تستحوذ على عقول مليارات البشر، مثلما تكون حقوق الإنسان ضرورة لا غنى عنها لحماية المتدينين من الانتهاكات أيضاً لأسباب دينية أو مذهبية أو طائفية ، وذلك عبر الدعوة لنظام يحترم حقوق الجميع ويؤكد على مبادئ المساواة والحق في تأدية الطقوس والشعائر الدينية بحرية.
   وعلينا إدراك أن القوة الدينية التي لا ترتبط بالتزامات حقوق الإنسان تتحوّل إلى قوة شيطانية عمياء خطرة ومدمّرة مثلما هو "داعش" والجماعات الإرهابية، بغض النظر عن مسمياتها وشعاراتها،   فالبشر خلقوا من خالق واحد وهم سواسية عند الله، ويتمتعون بحقوق مشتركة ومتماثلة وهو ما تؤكده الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ولعلّ ذلك ما كان مثار حوار معمّق بدعوة من " منتدى التنمية والثقافة والحوار" و" حوار الأديان الدانيماركي- العربي" في أيانابا (قبرص) بحضور وازن لشخصيات فكرية وثقافية وحقوقية.
drhussainshaban21@gmail.com


200
علاقة الفكر بالمجتمع
عبد الحسين شعبان
شكّل مؤتمر «فكر 17» الذي انعقد في الظهران مؤخراً تظاهرة حقيقية لمراجعة تيارات الفكر العربي والمفاهيم السائدة، وذلك في ضوء التحوّلات العميقة التي يشهدها عالمنا وازدياد حجم المعرفة العلمية المختلفة ونتائج ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام، الأمر الذي يطرح على المثقفين العرب أسئلة ملحّة راهنة ومستقبلية تتعلق بموقع الإنسان العربي من هذه التحوّلات وأي فكر عربي جديد يحتاج، خصوصاً أن الفكر هو انعكاس للواقع الاجتماعي والاقتصادي ودرجة تطور المجتمع.
وكان ثمة محاور اقترحتها مؤسسة الفكر العربي للنقاش والحوار تتعلق بالسياسات التربوية ودور العلوم الاجتماعية والإنسانية والثورة الصناعية الرابعة والمفهوم الجديد للتنمية والاقتصاد الرقمي، ومفاهيم الدولة والمواطنة والمشاركة وثقافة التسامح ودور الثقافة والمثقفين في بلورة رؤى وتصورات جديدة يمكن أن تشكل ملامح أولية لفكر عربي جديد، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه مؤسسات المجتمع الأهلي في تجديد الفكر العربي.
وإذا كان ثمة مجتمع أهلي فإنه يختلط بغيره من المفاهيم، فهو غير المجتمع المدني، الذي نطلق عليه أحياناً اسم «القطاع الثالث» (أي بين القطاعين العام والخاص)، أو القطاع غير الهادف إلى الربح، أو المعفى من الضرائب أو «القطاع المستقل» أو المنظمات التطوّعية، ويقصد به أحياناً المؤسسات الخيرية وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً، هو وجود مؤسسات غير حكومية مستقلة عن أجهزة الدولة، وإنْ كانت مختلفة ومتنوّعة في أهدافها ووسائلها.
وفي المجتمع الأهلي تنشأ العلاقات بصورة تقليدية ومتوارثة في الكثير من الأحيان عبر العائلة أو العشيرة أو الدين أو الطائفة أو القومية أو المنطقة الجغرافية أو غير ذلك. أما في المجتمع المدني فهي غير متوارثة، أي أن الانتساب إليها حرٌّ ووفقاً لخيارات الإنسان، وتخضع لمبدأ الانتخاب والتداول. وبهذا المعنى تختلف مؤسسات المجتمع المدني عن هيئات المجتمع الأهلي، ففي حين أن الأولى مفتوحة وحداثية، فإن الثانية محصورة بالعشيرة أو الطائفة أو المنطقة، أو غيرها ولا تقبل الانتساب إليها من خارج الدائرة الضيقة. وبهذا المعنى فإن مؤسسات المجتمع المدني تمتاز بالتنوّع والاختلاف والتعدّدية داخلها، أما الثانية فهي هيئات فئوية خاصة أي مقتصرة على مجموعة محدّدة بحكم رابطتها الخاصة ولا تسمح بالانضمام إليها إلّا لمن هم من نفس الصنف.
وهكذا تختلف هيئات المجتمع المدني عن هيئات المجتمع الأهلي من حيث الأهداف والوسائل:
أولها- أنها لا تستهدف الوصول إلى السلطة ولا تنخرط في الصراع الإيديولوجي والسياسي الدائر في المجتمع وأنها تضع مسافة واحدة بينها وبين السلطات من جهة وبينها وبين المعارضات من جهة أخرى، وهدفها دعم خطط ومشاريع التنمية والسعي للمشاركة في اتخاذ القرار وفي تنفيذه ومراقبة حسن الأداء للجهات الحكومية.
وثانيها- اقتراح مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة وتقديمها إلى الجهات التشريعية والحكومات، ومناقشة ما يصدر عنها، سواء في إعدادها أو بعد صدورها.
وثالثها- الإسهام في بناء مواطنة سليمة ومتكافئة ودون تمييز لأي سبب كان من خلال نشر وتعميم قيم التسامح والسلام واللّاعنف والمساواة والعدالة والمشاركة والتعايش وقبول الآخر.
ورابعها- العمل على بناء قدرات الأفراد وتأهيلهم وتنمية مهاراتهم وتدريبهم ليساهموا مع مجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والاجتماعية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية وتنمية روح الحوار والتفكير الحر والحق في التعبير.
وخامسها- تشجيع الجهود التطوّعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزّز التضامن والتكافل والتعاون والتساند بين جميع الفاعليات.
باختصار فإن المفروض في هيئات المجتمع المدني أن تصبح «قوة اقتراح» وشريكاً ومكمّلاً للدولة، وهذا يحتاج إلى توفر شروط وأسس قانونية واقتصادية - اجتماعية وثقافية واستقلالية مالية لكي تقوم بدورها، وذلك في إطار تلازم بين الدولة والمجتمع والمواطن والسوق، ولا يمكن تصوّر دولة دون مجتمع، كما لا يمكن تصوّر مجتمع دون دولة، أي قوانين وأنظمة ومؤسسات لحفظ النظام والأمن العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، ويفترض أن تسعى الدولة لتوفير مستلزمات العيش الكريم لمواطنيها وتهيئة الفرص المتكافئة أمامهم للتطوّر والمنافسة الحرة.
لقد أصبح وجود هيئات مجتمع مدني اليوم عاملاً أساسياً من عوامل نجاح التنمية المستدامة، في المجالات المختلفة، إذْ لا يمكن للدولة القيام بمهماتها دون مساعدة ومساندة ودعم منها. وهكذا فإن وجود هيئات للمجتمع المدني العربي، وهو أمر قائم، وتوسيع دورها الفعلي يفتحان الباب لشراكة جديدة في الحياة العامة لتفعيل وتجديد الفكر العربي ومنظوراته إزاء قضية التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة، إذْ لا يمكن إحداث تغيير فكري حقيقي دون مساهمة جادة من جانب المجتمع المدني، وذلك جزء من مسار كوني لا يمكن لأي مجتمع أن يعفي نفسه منه، وهنا يكمن التوازن والتكامل بين الدولة والمجتمع، فوجود هيئات للمجتمع المدني نشيطة وفاعلة وشريكة، يعني وجود دولة قوية ومواطنة حيوية ومتكافئة وفكر منفتح يتقبل الاختلاف.
drhussainshaban21@gmail.com



201
الكوموتراجيديا العراقية
بين
 فقه الواقع وفقه الضرورة

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

I
لم يهدأ غضب الشارع العراقي المُطالِب بالإصلاح والتغيير، والذي اندلع على نحو لم يسبق له مثيل في الفاتح من اكتوبر (تشرين الأول) 2019، على الرغم من الإجراءات التي أقدم عليها البرلمان العراقي في جلستين عدّتا الأطول في تاريخه (19 نوفمبر/تشرين الثاني/2019) ولعلّهما الأسرع في مناقشة وحسم القضايا المعروضة للنقاش وأساسها اتخاذ قرارات وتشريع قوانين حاولت توجيه رسالة إلى حركة الاحتجاج العارمة التي شهدتها الساحة العراقية.
   وبدلاً من امتصاص النقمة، فإن تلك والإجراءات التي بدأت بتجريد امتيازات كبار المسؤولين بمن فيهم الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب) ، جاءت لتصبّ الزيت على النار وترفع من درجة حرارة المشهد السياسي وسخونة حركة الاحتجاج، لأنها لم تستجب للمطالب الأساسية، التي ارتفع سقفها مع تطور حركة الاحتجاج، فالمتظاهرون الذين احتشدوا في ساحة التحرير في بغداد وحواليها في الشوارع والساحات والفروع المؤدية إليها وملأوا الميادين في 9 محافظات هي: الحلة وكربلاء والنجف والسماوة والديوانية والفرات الأوسط والكوت والعمارة والناصرية والبصرة، تطوّرت مطالبهم بالتدرّج والتراكم، خصوصاً حين تم مواجهتها بالعنف واستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع  والخطف والاعتقال.
 وإذا كانت المطالب الأولية تركّز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية مثل : الحصول على فرص عمل ومحاربة الفساد والمُفسدين وتحسين الخدمات ، فإنها اتخذت بُعداً سياسياً جذرياً مثل استقالة الوزارة وحلّ  البرلمان وتعديل الدستور أو سنّ دستور جديد وإجراء انتخابات مبكرة وتشريع قانون انتخابي جديد واستبدال مفوضية الانتخابات بأخرى "مستقلة"، فضلاً عن وضع حدّ للتلاعب بالهيئات المستقلة " غير المستقلة"، ، ومثل تلك المطالب هي حصيلة تجربة مُرّة مع الطبقة السياسية عمرها نحو 16عاماً، وهي تعكس  انعدام الثقة بنظام المحاصصة الطائفي- الإثني القائم على الزبائنية السياسية وتقاسم المغانم والتواطؤ بين أطراف العملية السياسية.
   وقد أضيف إلى هذه المطالب المتراكمة والذي تعتّق بعضها منذ احتلال العراق العام 2003 مطالب جديدة ألا وهي محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم القتل بحق أكثر من 300 شهيد وما يزيد على 16 ألف جريح، وهو الأمر الذي حصل بوضح النهار وبدم بارد، وكان وزير الدفاع نجاح الشمري قد اتّهم طرفاً ثالثاً القيام بذلك، وهو ما سبق أن أسمته الحكومة العراقية بـ " المندسين"، وكان لبغداد "العاصمة" الحصة الأكبر من القتلى والجرحى والمصابين ، إضافة إلى أعمال الخطف بمن فيهم لمحامين وأطباء، فضلاً عن  اعتقالات طالت نحو 2000 شخص، ما زال بعضهم لم يطلق سراحه .
   ومما يبعث على الكوموتراجيديا أن قانون الامتيازات الذي تم إلغاؤه كان قد شرّع في العام 2005، وظلّت المطالبات بإلغائه تتصاعد، لكن السلطة الحاكمة والطبقة السياسية المستفيدة لم تعطها الآذان الصاغية، وبقي معمولاً به طيلة 14 عاماً إلى أن اندلعت حركة الاحتجاج فاضطرّت لإلغائه وسط سخرية عراقية لاذعة، لاسيّما بالعزلة المريرة التي تعيشها الطبقة السياسية، حيث تعمّقت الهوّة بينها وبين الناس على نحو شاسع وشديد بعد تدفّق شلالات الدم.
II
   لم تكن حركة الاحتجاج التشرينية مفاجأة أو دون مقدمات، بل كانت امتداداً لأزمة الحكم المستفحلة منذ العام 2003، والمتمثّلة بنظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي حسبما سمّي بـ " المكوّنات" التي وردت في الدستور، والذي يوجد بموازاته مرجعيات ما قبل الدولة وما دونها لتنافسه أو تعلو عليه أحياناً، ناهيك عن الفساد المالي والإداري والسياسي الذي أصبح يزكّم الأنوف، واستشراء ظواهر  العنف والإرهاب الذي فقّس بيضه فأنجب تنظيم القاعدة وربيبه تنظيم داعش، وبسبب حلّ الجيش والقوات الأمنية بمختلف صنوفها وتشكيل جيش وقوات أمن وشرطة وفقاً لنظام المحاصصة، ثم دمج  عدد من الميليشيات فيه، فضلاً عن عدم كفاءة وقلّة خبرة وضعف الشعور بالمسؤولية في العديد من مفاصله، تمكّن تنظيم داعش من احتلال الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 والسيطرة لاحقاً على محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظة كركوك وديالى وصولاً إلى مشارف بغداد ، وقد احتاج طرده من المناطق التي احتلّها ثلاث سنوات ونصف السنة، ليتمكّن العراق بمساعدة قوات التحالف الدولي وإيران من هزيمة التنظيم عسكرياً في أواخر العام 2017، وإنْ كان حضوره الفكري والسياسي ما يزال مستمراً.
   وإذا كانت القوى المشاركة بالعملية السياسية قد أُخذت على حين غرّة بحركة الاحتجاج، فإنها بعد مرور 50 يوماً على اندلاعها استجمعت قواها لتعلن وثيقة مكوّنة من 40 فقرة عُرفت باسم " وثيقة الجادرية" حين اجتمعت 12 كتلة وحزباً سياسياً حاكماً ومشاركاً فعّالاً في العملية السياسية، وأمهلت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي 45 يوماً لتنفيذ ما وعد به من إصلاحات (إلى نهاية العام 2019)، وقد تم الاجتماع في منزل السيد عمار الحكيم (تيّار الحكمة)، وعلى الرغم من أنه جاء لدعم عبد المهدي، إلّا أنه حاول أن يغازل حركة الاحتجاج حين حذّر من أن القوى المجتمعة  قد تلجأ إلى سحب الثقة من رئيس الوزراء في حال لم تكن هناك جدّية في تنفيذ الإصلاحات، بما فيها إجراء تعديل وزاري شامل أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة، في حين يطالب المتظاهرون بتشكيل حكومة جديدة.
   وكان جواب حركة الاحتجاج على الفور ومنذ اللحظة الأولى لصدور وثيقة الجادرية هو الرفض، مما اضطرّ ثلاث كتل حزبية مشاركة فيها إلى التراجع عنها وهي ائتلاف النصر برئاسة حيدر العبادي (رئيس الوزراء السابق) الذي اشترط حين وضع توقيعه على الوثيقة بإقالة حكومة عادل عبد المهدي وائتلاف الوطنية برئاسة إياد علاوي رئيس الوزراء الأسبق، والانقاذ والتنمية برئاسة أسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق.
أما بخصوص موقف الكرد وإقليم كردستان فقد نظروا بارتياب وسلبية إلى بعض مطالب الحراك الشعبي، لاسيّما تعديل الدستور ،خصوصاً وأنهم يجدون في رئيس الوزراء الحالي أكثر مرونة إزاء مطالبهم من سلفيه حيدر العبادي، الذي وقف ضد استفتاء الإقليم (25 سبتمبر 2017) ونوري المالكي الذي ساءت علاقته بالكرد منذ العام 2010، أي بعد تولّيه رئاسة الوزراء لولاية ثانية.
   وعلى الرغم من مرور أسابيع على حركة الاحتجاج إلّا أن الطبقة السياسية الحاكمة وأحزابها لم تدرك حقيقة ما يجري على الأرض، وكأنها تعيش على كوكب آخر، وقد يكون رهانها أن باستطاعتها ومع مرور الوقت وزحف فصل الشتاء حيث البرد القارص في الساحات، تجويف الحركة وتسويف مطالبها بالوعود حتى إجهاضها، علماً بأن حركة الاحتجاج التشرينية تختلف عمّا سبقها ، وهي أقرب إلى استفتاء شعبي بفشل العملية السياسية، التي لا بدّ من استبدالها وتغييرها لأنها وصلت إلى طريق مسدود ولذلك فإن أي تفكير بإصلاحات فوقية أو تجميلية، ستكون غير مجدية، لأن الشارع يعتبرها مجرد ترقيعات لا تمسّ جوهر النظام السياسي ما بعد الاحتلال، بل إنها ستدخل العراق في أزمة جديدة، بدلاً من إخراجه من أزمته، ذلك أن الأزمة الراهنة هي أزمة استثنائية بكل معنى الكلمة، ومثل هذا الوضع الاستثنائي يتطلّب حلولاً استثنائية.
وعلى الرغم من اعتراف رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والكيانات والأحزاب المشاركة في العملية السياسية بعمق الأزمة، لكن الحلول التي يتم وضعها لا ترتقي إلى "فقه الضرورة"، بل ما تزال تتشبث بفقه الواقع حفاظاً على مواقعها وإلّا كانت قد استجابت للمطالبات الشعبية باستقالة الحكومة، وقد حاول رئيس الوزراء أن يرمي الكرة في ملعب القوى الأساسية التي جاءت به إلى السلطة حين أبدى استعداده لتقديم استقالته، لكنه اشترط إيجاد بديل عنه لكي لا تقع البلاد في حالة فراغ دستوري وهو يعرف أن هذه القوى ليس من السهولة بمكان أن تتّفق على رئيس وزراء جديد.
 وتعالج المادة 64 من الدستور مسأللة الفراغ الدستوري بما يأتي "  أولاً:- يُحلّ مجلس النواب، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناءً على طلبٍ من ثلث أعضائه، أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حلّ المجلس في أثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء. ثانياً:- يدعو رئيس الجمهورية، عند حل مجلس النواب، إلى انتخاباتٍ عامة في البلاد خلال مدةٍ أقصاها ستون يوماً من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مُستقيلاً، ويواصل تصريف الأمور اليومية."
وتلك هي مطالب المحتجين إذا أريد نزع فتيل الأزمة التي قد تتطور باتجاهات أخرى، وذلك استجابة لـ "فقه الضرورة "الذي ينبغي الاحتكام إليه.
     وإذا كانت حركة الاحتجاج عامة وشاملة في 10 محافظات غالبية سكانها من العرب الشيعة، فإن خشية حكومة الإقليم من التغيير، ولاسيّما في الدستور ، هو الذي  منع الشارع الكردي من التواصل مع الشارع العربي، وإنْ كان متعاطفاً معه، علماً بأن هموم المواطن الكردي لا تختلف عن هموم المواطن العربي في العراق، باستثناء طموحه بكيانيّة خاصة متميّزة  عن حكومة بغداد، رغم الحاجة إليها مالياً وتجارياً واقتصادياً وعمقاً استراتيجياً في إطار الدولة العراقية.
كما إن العرب السنّة  في محافظة الموصل شمال العراق ومحافظتي صلاح الدين والأنبار، إضافة إلى جزء مهم من محافظة ديالى وكركوك، هم أيضاً متعاطفون مع المواطن العربي في وسط وجنوب العراق، بل إن مطالب الحراك الشعبي تمثل جزءًا مهماً من مطالبه مثل إلغاء التمييز الطائفي ورفض الهيمنة الإقليمية لإيران، لكن ظروفه الخاصة تحول دون مشاركته بفاعلية كبيرة في الحراك الشعبي، لأسباب تتعلّق بما تعرّض له منذ الاحتلال العام 2003 ولحد الآن، ولاسيّما في مواجهة احتجاجاته  أواخر العام 2012 وبداية العام 2013 وخلال هيمنة داعش وما بعدها، وكذلك وجود نحو مليوني نازح خارج مناطق سكناهم وبلداتهم ومدنهم وفي ظروف قاسية ، وهو ما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار .

III
   ستسجل الذاكرة العراقية المستقبلية إن حركة الاحتجاج التشرينية هي واحدة من المحطات المهمة في تاريخ العراق، تُضاف إلى ما سبقتها من محطات، سواءً حققت أهدافها أم لم تحققها، بتراجعها أو انتكاسها أو إجهاضها لأسباب موضوعية أو ذاتية، داخلية أو خارجية، لاسيّما في ظل عدم تبلور قيادة واضحة ومعلومة، فضلاً عن رموز لها، ناهيك عن عدم وجود برنامج سياسي واقعي ممكن التطبيق ومتفق عليه، وأحياناً تختلط الرغبات بالإمكانات والإرادات، لكنها بلا أدنى شك ستترك بصمة متميّزة ولا يمكن محوها من الذاكرة العراقية، لما مثلته من جرأة غير معهودة وحيوية نادرة وتصاعد وتلقائية بحيث زعزعت منظومة الحكم وخلخلت أركانه وأربكت القوى الإقليمية والدولية، ولاسيّما بتجاوزها الانقسامات الطائفية والمذهبية وبفعل التضامن والتطامن الداخلي الذي عاشته منذ اندلاعها.
   وسيكون عراق ما قبل تشرين الأول( أكتوبر) هو غير ما بعده، ومرّة ثانية أقول دون أوهام أو إسقاط الرغبات على الواقع، بأن ما حصل سيترك أثره القريب أو البعيد على مستقبل العراق بكل تضاريسه ومنعرجاته، بمعنى سيكون محطّة توقف ومراجعة وتغيير لمسارات واتجاهات، لأنه لم يعد ممكناً الاستمرار بما هو قائم، حتى وإن لم تحقق الحركة أهدافها.
   إن الأحداث الكبرى حتى وإنْ أخفقت أو انكسرت، لكنها ستؤثر على ما بعدها، ومثل هذا حصل في تاريخ العراق المعاصر، فقد غيّرت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وجه العراق ونظام حكمه من ملكي إلى جمهوري، وكانت نتاج تراكم كمّي لعدد الوثبات والانتفاضات التي سبقتها، وأصبح عراق ما بعدها يختلف كلياً عن عراق ما قبلها، حتى وإن حصل نكوص عن مسار الثورة وارتداد عن أهدافها.
    ويمكن القول إن عراق ما قبل 11 آذار (مارس) 1970 هو غير عراق ما قبله بالنسبة للقضية الكردية والاعتراف بحقوق الشعب الكردي، ولاسيّما بالحكم الذاتي وإقرار ذلك دستورياً، ولم يعد ممكناً حتى حين حدث التراجع عن مضمونه وجوهره العودة إلى الماضي، لأن حقوق الشعب الكردي أصبحت أمراً واقعاً وملموساً ، وهو ما تجسّد لاحقاً في إقرار " النظام الفيدرالي".
   وعراق ما بعد الاحتلال وقيام عملية سياسية هو غيره عن عراق ما قبله في ظل نظام شمولي واحدي إطلاقي، وأصبح بحكم الأمر الواقع تعددياً متنوّعاً بموجب الدستور رغم احتوى الأخير على العديد من المثالب والثغرات والعيوب والألغام الكثيرة، ولم يعد النظام مركزياً، بل أصبح لا مركزياً، وتحوّلت الدولة من دولة بسيطة إلى دولة مركبة.
   وبتقديري إن عراق ما بعد حركة الاحتجاج التشرينية سيكون مختلفاً عما قبلها، لاسيّما وإن العملية السياسية أثبتت فشلها الذريع على جميع الصُعد،  وقد جاءت الحركة تتويجاً لاحتجاجات العام 2011 في بغداد والعديد من المدن العراقية ونهاية العام 2012 وبداية العام 2013 في المناطق الغربية واحتجاجات العام 2015 وما بعدها، فضلاً عن خلفية وطنية لاحتجاجات من نوع آخر تجسّدت في مقاومة الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، وإجباره على الانسحاب في نهاية العام 2011.
IV
   لقد امتازت الحركة الاحتجاجية بالسلمية والوطنية العابرة للطائفية وعبّرت عن الهويّة العراقية الجامعة، وبدأت في أكثر المناطق شعوراً بالخذلان والخيبة، حيث حاولت الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة فرض سطوتها باستغلال الدين والشحن الطائفي، وأكدت فقدان الثقة بالعملية السياسية ككل، وضعضعت آخر ما تبقى من " شرعية الحكم والحاكم"، لاسيّما بعد أن اضطر الأخير إلى اللجوء إلى القمع العلني والمكشوف.
ربما يحتاج الأمر إلى وقت وتراكم وآداء حسن وقيادات جديدة تنبثق من داخل حركة الاحتجاج ورؤية تشارك فيها النقابات والاتحادات وهيئات المجتمع المدني ، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون عسيراً ، لاسيّما بانسداد الآفاق.
   ولكي يكون البديل مقبولاً، لا بدّ أن يحظى برضا الناس من جهة، ويستجيب لتوازن القوى من جهة ثانية، سواء تمكنت الحركة من فرض مطالبها بقوة الشارع، أم تأجل الأمر إلى حين، ولكن التفكير بعقلانية وتدرّج في تحقيق المطالب مسألة في غاية الأهمية ، وقد تحتاج المسألة على تعقيداتها وصعوباتها إلى عقد مؤتمر وطني جامع تشارك فيه جميع القوى دون عزل أو إلغاء أو تهميش لمعالجة الوضع بصورة عاجلة ، ولاسيّما بتشخيص مشكلات الحكم المزمنة والمعتقة وتحديد سقوف زمنية لذلك، تبدأ مما هو ممكن وواقعي وراهن، ثم في إطار خطط متوسطة وطويلة المدى، فالأوضاع الاستثنائية التي يعاني منها العراق تتطلب حلولاً ومعالجات استثنائية جريئة للخروج من الأزمة، استجابة لفقه الضرورة .
   وحتى الآن فإن حركة الاحتجاج استخدمت جميع وسائل القوة الناعمة السلمية واللّاعنفية، وتمكنت ببراعة من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وجرّت معها أوساطاً شعبية واسعة، إذ لا يوجد قطاع مهم من القطاعات الحقوقية أو الأكاديمية أو التربوية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية أو الطبية أو الخدمية وحتى بعض القطاعات الدينية إلّا وشاركت فيها.
 ولعلّ ذلك واحد من أسباب قوة حركة الاحتجاج ومنعتها وإلهامها، فقد وصلت أوضاع البلاد إلى حدود لا يمكن تحمّلها. وإذا ما كانت هناك محاولات اندساس أو تسلل أو تغلغل، أو اختراق داخلي أو خارجي فإن هدفها هو حرفها عن مسارها وشقّها وتشتيتها، سواء كان من السلطة أم بعض أطرافها أم من جهات أجنبية حيث نشطت بعض السفارات، لكل مثل ذلك لن يؤثر على المشهد العام، إذ لا توجد حركة بمثل هذا الإتساع لا يحدث فيها اختراق هنا أو هناك، لكن توجهها العام ظل محافظاً على رباطة جأشه، والهدف هو جرّها إلى دائرة العنف، لاسيّما حين تستخدم قوى مجهولة السلاح ضدها، وما تزال الحكومة تتذرع بعدم معرفتها وتحديد هوّيتها، وفي حين يسقط الضحايا يلوذ المرتكبون بالفرار، وتلك إحدى أوجه السخرية السوداء.
   وفي الأوضاع الاستثنائية والمراحل الانتقالية يكون "للضرورة أحكامها" ، لاسيّما في الانتقال من طور إلى طور، حيث تكون الحاجة ماسّة لإطفاء النيران ومنع الفوضى والحفاظ على الدولة اولاً وقبل كل شيء، وهذا يتطلب الاستجابة إلى المطالب الشعبية لوقف حمام الدم ونزع الفتيل.
   وأكّدت حركة الاحتجاج أن الأحزاب الإسلامية التي قادت العملية السياسية وبمشاركة قوى أخرى ، كانت فاشلة ولم يكن لديها برنامج محدّد، ناهيك عن الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية إزاء الوطن والمواطن والمواطنة، وهو أمر يعكس مدى السخط في المناطق التي زعمت أنها تمثّلها أو تنطق باسمها، واتّضح ذلك قبل حركة الاحتجاج بعملية مقاطعة الانتخابات أو ضعف المشاركة فيها، تلك التي لم تبلغ في أحسن الأحوال أكثر من  20% من عموم السكان، ناهيك عن فضائح التزوير التي يتهم فيها هذا الفريق ذاك وبالعكس، بحيث إذا استجمعت جميع الاتهامات من كل الفرقاء ستتوصل إلى قناعة بأن الانتخابات يشوبها عنصر التزوير وأن الشكوك التي لدى المواطن العادي، إنما أساسها نابع مما راقبه ولاحظه من "تدوير الزوايا" وتغيير بعض الوجوه في إطار كتل ومجموعات تسلّطت عليه وقصّرت في خدمته كجزء من مسؤولياتها المكلّفة بها دستورياً ، ولذلك يطالب بإصلاح النظام الانتخابي و تعديل الدستور " القانون الأعلى" كي لا يعيد  ذات الكتل والقوى والوجوه التي تحكّمت به.
V
   ويبقى هناك سؤال يلحّ على الباحث، ويتألف من شقين الأول-هل ستستمر  حركة الاحتجاج بذات الزخم والمدى والإصرار على المضي في الطريق السلمي وعدم سماحها  اللعب بمسارها ؟ والثاني- هل ستضطر الحركة إلى اللجوء إلى العنف كرد للعنف السطلوي؟ ودون تكهنات مسبقة ولكن برؤية استشرافية متواضعة ودراسات مقارنة من العديد من التجارب والوقائع التاريخية فيمكن القول: أنه لا يمكن للنظام والحكومة الحالية الاستمرار إلى ما لا نهاية في إراقة الدماء وفي الاستخفاف بحياة المواطنين، وذلك سيكون تفريطاً بلا حدود بالمصالح الوطنية العليا، لاسيّما إذا ما استمرّت حركة الاحتجاج ، بذات الفاعلية والتحدّي وإذا تشبّث النظام بمواقعه، فهذا سيعني المزيد من حمام الدم والمزيد من الضحايا، ناهيك عن تعطل التنمية ومصالح الناس، وحينها سيكون من واجب المجتمع الدولي والأمم المتحدة تحديداً ومجلس الأمن الدولي بشكل أكثر خصوصية "التدخل الإنساني" لوضع حد لذلك، ومن رسم خريطة طريق جديدة لمرحلة انتقالية، يمكن تحديد ملامحها عبر مؤتمر وطني عراقي.
   ولكي يكون التغيير استحقاقاً ناجزاً فلا بدّ من توفر واتساق العاملين الموضوعي والذاتي ليتم التحقّق، ونحن هنا نحتاج إلى ملموسية في الشعارات التي يمكن بلورتها لكي لا تبقى عمومية أو حتى عائمة، فضلاً عن إمكانية تطبيقها. وقد يتطلب الأمر أيضاً انبثاق جهة أو هيئة أو مجموعة تمثل الحراك من داخل الميدان، لكي يكون هناك من يعبّر عنها لاختيار اللحظة الثورية، بطرح بعض المطالب الممكنة التحقيق والواقعية، حتى لا تضيع الهبّة الشعبية ويتبدد الحراك وتتشتّت الجهود.
   وحين نقول إن من الصعوبة بمكان استمرار العملية السياسية على ما هي عليها، فإن ذلك ينطلق من معايير تتعلّق بالشرعيّة، فأساس أي شرعيّة هو رضا الناس وهذه أصبحت مفقودة، ثم هناك شرعية الإنجاز وهذه غائبة تماماً، أما شرعية صندوق الاقتراع فهي أمرٌ مشكوك فيه بسبب المقاطعة والتزوير، فضلاً عن انخفاض مستوى المعيشة والفشل في إنجاز متطلبات الحد الأدنى للحياة الكريمة، ناهيك عن فقدان الأمن والأمان ، وتبديد أموال البلد لحسابات خاصة.
   يُضاف إلى ذلك استخدام العنف وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى،وهو أمر يسقط الشرعية عن الحاكم، خصوصاً وإن التظاهرات كانت سلمية ومدنية، وإن صاحبها بعض ردود فعل، لكن مهمة الدولة هي حماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام وفقاً لحق التظاهر السلمي القانوني والمشروع وحق التعبير عن الرأي.
   ومن واجبات أي دولة ووظائفها هي حماية سيادة البلد التي ما تزال مجروحة، فالعراق يقع بين قطبين أساسيين متصارعين أحدهما إقليمي وهو إيران ولها نفوذ واسع، في حين أن القطب الثاني  ممثل بالولايات المتحدة،والنفوذ الدولي بشكل عام، حيث توجد عدّة قواعد عسكرية أمريكية في العراق ويدخلها ويخرج منها المسؤولون الأمريكان دون أي اعتبار للسيادة العراقية، مثلما كانت زيارة مفاجئة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي، ولنائب الرئيس الحالي مايك بنس الذي زار "قاعدة عين الأسد" في محافظة الأنبار غرب العراق (23 تشرين الثاني/نوفمبر/2019) واتصل تلفونياً بعادل عبد المهدي، في حين أعلن رئيس الجمهورية برهم صالح أنه لم يكن على علم بالزيارة، وقد أكمل بنس مهمته بزيارة رئيس إقليم كردستان في إربيل نجيرفان البارزاني مثلما التقى برئيس وزارة الإقليم مسرور البارزاني.
وتتوزع ولاءات أو علاقات القوى السياسية بين هذين القطبين المتناحرين حتى وإن تضمنت مصالحهما بعض التوافقات في السابق والحاضر، وإن كانت امتدادات القطب الإقليمي أكثر عمقاً وأطول ذراعاً بسبب الحدود المباشرة من جهة ولوجود جماعات ذات أبعاد آيديولوجية ومذهبية تعمل معه، وهذه ما تزال قوية ومؤثرة وقد حكمت البلاد منذ العام 2003 ولحد الآن، وبشكل خاص بعد العام 2005، الأمر الذي عوّم السيادة الوطنية وأضعف من الوحدة الوطنية،لاسيّما باستقواء هذه بالحليف الإقليمي تارة وبالمرجعية الدينية للسيد علي السيستاني تارة أخرى، وإن نأت الأخيرة عنها بعد انتخابات العام 2010.
   أما القطب الأمريكي وإن كان مؤثراً، لكنه بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في نهاية العام 2011 انحسر، والسبب هو فشل السياسة الأمريكية وإخفاق الجماعات المحسوبة عليها، بل هناك معارضة لاتفاقية الإطار الاستراتيجي التي ما تزال نافذة، على الرغم من أنه لم يتم الاستفتاء عليها كما نصت هي بالذات، وهو أمر لا يجعلها تتمتع بالشرعية.
والنفوذ الإقليمي يتجاوز إيران أحياناً حيث هناك  نفوذاً تركياً أيضاً وتوجد عدّة قواعد تركية في الأراضي العراقية، وترفض تركيا مغادرتها بحجة مكافحة الجماعات الإرهابية والمقصود بذلك حزب العمال الكردستاني PKK  ، إضافة إلى امتدادات خليجية بحكم علاقات مع قوى داخلية، لكن تأثيرها ما يزال محدوداً.
   وقد تكون هناك امتدادات غير مباشرة "إسرائيلية" ، لكنها غير منظورة، وما قامت به داعش من إعلان "الدولة الإسلامية" هو الوجه الآخر المتناظر مع ما أعلنته "إسرائيل" من إعلان "الدولة اليهودية النقية" ، خصوصاً من حيث التوقيت والتوجه. وبالطبع فإن إضعاف أي بلد من البلدان التي تعتبر " إسرائيل" كياناً غاضباً لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، سيكون في مصلحتها تفتيته وإضعاف وحدته الوطنية، سواء بشكل مباشر أو بالواسطة.
VI
وأختم إلى القول حسب الدراسات المستقبلية ، فهناك ثلاث سيناريوهات محتملة إزاء الأزمة الراهنة وهي تتراوح بين فقه الواقع وفقه الضرورة:
الأول- بقاء  الوضع  على ما هو عليه حتى لو سال المزيد من الدم، حيث يمكن احتواء أو إجهاض حركة الاحتجاج، أي "إبقاء القديم على قدمه" وهو احتمال وارد مع بعض الإصلاحات الشكلية.
الثاني- تدهور الوضع باتجاه أكثر شمولية بحكم الثقافة السائدة، بل حتى التراجع عما هو قائم ، بزعم تقوية مركز السلطة ومنع انفلات الوضع واتهام الحركة الاحتجاجية بالتخابر مع قوى خارجية أمريكية و"إسرائيلية" وبعض الدول العربية الخليجية
الثالث-  تغيير الوضع جزئياً أو كلياً وهذا يعتمد على توازن القوى وعلى استمرار حركة الاحتجاج في عنفوانها، إضافة إلى التضامن العربي والدولي الذي يمكن أن تحظى به، وذلك من خلال خطوات عديدة منها تشكيل حكومة جديدة تستجيب لبعض مطالب الحركة الاحتجاجية وتعديل أو إلغاء الدستور في إطار سقف زمني محدّد وإنْ كانت هناك صعوبات عديدة تواجه ذلك، لاسيّما "الثلث المعطّل" وفقاً لنظام المكوّنات الذي تضمنه الدستور في المقدمة (مرتان)و5 مواد أخرى في المواد 9 و12 و49 و125 و142 حيث يمكن لثلاث محافظات أن تبطل أي استفتاء جديد على الدستور،(علماً بأن دستور جامد)، وهو حسب التسريبات التي سبق وأن أثرناها في وقت سابق في كتابنا " العراق- الدولة والدستور: من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة ، 2005 " ، بشأن المسوّدات المتعددة التي تم التصويت عليها يمكن بالاستفتاء إسقاط موافقة 15 محافظة.
علماً بأن المواد 140 ولغاية 144 أضيفت إلى الدستور بعد الاستفتاء عليه ولم نطّلع عليها الّا بعد طبعه واعتماده والتعامل به من جانب مجلس النواب لاحقاً.
   ومن الاصلاحات الملحّة والمطلوبة تعديل أو سن قانون جديد للانتخابات، علماً بأن هذه المسألة مطروحة على مجلس النواب الحالي وكذلك تغيير الهيئة المستقلة المشرفة على الانتخابات، إضافة إلى حزمة من القوانين المطروحة عليه والتي تضمنها دعوة الاصلاح بما فيها إحالة مسؤولين إلى القضاء متهمين بالفساد.
   إن البدء بعملية التغيير تحتاج إلى مسار طويل وربما أيضاً معقد، ولكن قطاره إذا ما بدأ بالسير حتى وإن كان بطيئاً فإن سكته صحيحة ومختلفة عن السكّة السابقة، وهو بداية لاصلاحات أخرى ضرورية وأساسية تتعلق بتحسين الوضع المعيشي والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل وحل مشكلات الكهرباء والماء الصافي وبناء وحدات سكنية ملائمة، ناهيك عن وضع أسس لاستعادة هيبة الدولة ومرجعيتها التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات بما يعزز المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة ويضع ضوابط صارمة لوقف التمييز والشحن الطائفي، وقد تحتاج هذه السلّة من الاصلاحات لعامين أو ثلاثة أعوام على الأقل، لتهتدي إلى طريق التنمية المستدامة بكل جوانبها.

ملاحظة: للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة الدراسات التالية:
1- حركة الاحتجاج التشرينية وإعادة قراءة المشهد العراقي- المنظور والمستور وما بينهما (مجلة الشروق (الإماراتية) العدد رقم (1436-1448) تاريخ 14-20/10/2019).
2- العراق : أزمة تلو أزمة - ستة عشر عاماً من تركة بريمر.. ( مجلة الشروق (الإماراتية) العدد 1439-1451 تاريخ 4-10 /11/2019).
3- الحراك يعيد رسم الخريطة السياسية  -الأوضاع الاستثنائية في العراق تتطلب حلولاً استثنائية  (مجلة الشروق (الإماراتية ) العدد 1440-1452 تاريخ 11-17 /11/2019)





202
لبنان.. الوجه الآخر!
عبد الحسين شعبان
من يراقب الوضع السياسي في لبنان، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي قبل اندلاع حركة الاحتجاج السلمية الشعبية العابرة للطوائف في ال 17 من أكتوبر / تشرين الأول الماضي يصاب بالإحباط والقنوط لدرجة اليأس أحياناً، ولكن الواقع على الرغم من ارتفاع حدّة الصراع واشتداد حرارة السجال واندلاع الحرائق وتراكم النفايات وتلوّث البيئة وأزمات الخبز والبنزين والدولار وشحّ الكهرباء والماء، لا يعكس كامل الصورة، فثمة إيجابيات ربما غير موجودة في مجتمعات أخرى، خصوصاً فسحة العيش المشترك واحترام العقائد وحرّية الأديان والحق في ممارسة الطقوس والشعائر، وذلك تحت عناوين التنوّع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وعلى الرغم من كل شيء فالمجتمع اللبناني يزخر بالفاعليات الفنية والأدبية والثقافية على امتداد أيام السنة.
ولهذه الأسباب ليس عبثاً أن تصدر الأمم المتحدة قراراً من الجمعية العامة في ال 16 من سبتمبر / أيلول الماضي 2019 بإنشاء «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» في لبنان، وكان الرئيس ميشال عون قد طرح مبادرته تلك منذ عام 2017، وظل يبشّر بها ويدعو إليها خلال السنتين المنصرمتين، سواء في لقاءاته مع رؤساء دول أم في إطار فاعليات دولية وعربية ومناسبات لبنانية.
وقد أبصرت الفكرة النور فعلاً حين حازت تأييد 165 دولة ولم يتحفّظ عليها سوى واشنطن، ولم يعارضها إلا "تل أبيب"، الأولى بزعم «الأعباء المالية» التي يمكن أن تتكلفها الأمم المتحدة وقضايا إدارية أخرى، أما الثانية، فبادعاء أن لبنان لا يحترم قيم السلام والتسامح والتعايش، لكن المجتمع الدولي قرر أن يكون لبنان «مركزاً دائماً للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والأعراق».
وحين قرأت خبر تأسيس الأكاديمية في الصحافة قفز إلى ذهني أكاديميات عريقة سبقتها مثل «أكاديمية لاهاي للقانون الدولي»، و«أكاديمية السلام في كوستاريكا»، و«أكاديمية السلام الدولية في نيويورك»، و«الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد»، و«أكاديمية حقوق الإنسان» وهي أكاديميات تركت بصمات واضحة في الحقول التي عملت فيها، وينتظر أن تلعب «أكاديمية الإنسان» دوراً مهماً في المنطقة، وعلى الصعيد العالمي، فلبنان كان سبّاقاً في عدد من المجالات المتميّزة منها: تأسيس جامعة للّاعنف وحقوق الإنسان في عام 2009، وهو البلد العربي الوحيد الذي يحتفل باليوم العالمي للّاعنف، وهو يوم عيد ميلاد المهاتما غاندي في الثاني من أكتوبر / تشرين الأول باعتباره عيداً وطنياً، وهو البلد العربي الأول الذي قرر تعميم مادة اللّاعنف على جميع المراحل الدراسية، وقام بنصب تمثال اللّاعنف الدولي «المسدس المعقوف» في «منطقة الزيتونة باي» في بيروت.
وكما ورد في دستور اليونسكو «إن الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»، وهكذا فالأكاديمية هي نتاج تراكم حضاري وثقافي وانفتاح معرفي وعلمي لاستيعاب المجموعات الثقافية، وقد انعقد على أرضه مؤخراً «اللقاء المشرقي» الذي جسّد التوجّه للتلاقي والحوار والتفاهم والتعاون والعمل المشترك.
وإذا كان لبنان وطناً ورسالة، حسب البابا يوحنا بولس الثاني، فإن الرسالة تتضمّن بُعداً ثقافياً وحضارياً للحوار والتواصل والتفاعل الديني والإثني واللغوي، وأساسه المشترك الإنساني الذي يلتقي تحت سقفه البشر بغض النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم وجنسهم ولغتهم وأصلهم الاجتماعي لتعزيز رسالة التسامح والسلام والعيش المشترك.
وهذا سيعني نبذ التعصّب وربيبه التطرّف ووليدهما العنف الذي إذا ما ضرب عشوائياً فسيصبح إرهاباً. وتلك هي البؤرة الحقيقية للعنصرية والاستعلاء وثقافة الكراهية، ولا سيّما عدم الاعتراف بالتنوّع والتعددية ورفض الآخر.
ولعل تلك الأسباب كانت وراء سعي لبنان ليكون فضاءً للتلاقي والحوار، فهو يدرك الحاجة إلى التربية على قيم السلام والعيش معاً، باحترام حرّية المعتقد والرأي والتعبير وحق الاختلاف، وعلى الرغم من السلبيات والثغرات والعيوب ومحاولات الاستقواء بالخارج أحياناً أو إملاء الإرادة لهذه القوة السياسية أو تلك، فإن هناك عوامل إيجابية موضوعياً وذاتياً، يمكن فحصها لمعرفة حيثيات المجتمع اللبناني، فهو مجتمع منفتح وتعدّدي ومتنوّع تعيش فيه أديان وطوائف مختلفة ويختزن هذا البلد حضارات وثقافات متنوّعة عاشت على أرضه.
وينتظر أن تتحوّل فكرة الأكاديمية إلى واقع، بموافقة 10 دول «مؤسِّسة»، وستشكل هذه الدول مجلس أمناء مع لبنان الذي سيضع هيكلية الأكاديمية، وحتى الآن أبدت 4 دول موافقتها لتكون من الدول المؤسسة، عربية وآسيوية وأوروبية. وستتخذ الأكاديمية طابعاً تعليمياً جامعياً دولياً، وستكون فرصة انفتاح حقيقي بين أتباع الحضارات والديانات والثقافات المختلفة والتعرّف إلى الآخر، وينتظر أن توقع الدول عليها وأن تدخل حيّز التنفيذ قبل حفل الاحتفال بالذكرى ال 75 لتأسيس الأمم المتحدة (أيلول / سبتمبر 2020) وسيكون الانضمام إليها مفتوحاً، فالعالم أحوج ما يكون إلى نبذ خطاب الكراهية والحقد والثأر والانتقام ومحاولات فرض الاستتباع والهيمنة مثلما هو بحاجة إلى تأكيد احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في التنمية وتقرير المصير.
وتأتي أهمية انطلاق المبادرة من لبنان، لأنه خبر الحروب والنزاعات، فمشاعر المحبة والتلاقي التي جسدتها المرأة لدرء الانزلاق إلى حافة العنف في عين الرمانة - الشياح عند خطوط التماس التي اندلعت منها الحرب الأهلية تمثل لبنان في وجهه الآخر.
drhussainshaban21@gmail.com




203
موريتانيا وتحديات التداول السلمي للسلطة
عبد الحسين شعبان
كان يوم الأول من أغسطس /‏ آب الماضي مميزاً في موريتانيا، فللمرة الأولى منذ استقلالها في ال 28 من نوفمبر /‏ تشرين الثاني 1960 يتم فيها تداول السلطة سلمياً، وفي أجواء احتفالية تسلّم الرئيس محمد وِلْد الشيخ الغزواني مقاليد الأمور من سلفه الرئيس المنتخب محمد ولِدْ عبد العزيز. وعلى الرغم من التنافس الحاد الذي شهدته الانتخابات، فإن الهدوء الذي أعقبها كان الإشارة الأولى إلى أجواء القبول بالنتائج للممارسة الديمقراطية، وهو إحدى الظواهر الإيجابية الجديدة في الحياة السياسية الموريتانية، حيث كانت المراحل السابقة تتسم بردود أفعال حادة، وتتجه إلى الانقلابات العسكرية، خصوصاً حين يتم التضييق على المعارضة.
جاء وِلْد الغزواني من خلفية عسكرية، وتدرّج في العمل الوظيفي وصولاً إلى المواقع العليا، وهو وإنْ أسهم في وضع حدّ للحكم المترهّل للرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، إلا أن المهمات التي تولاها كانت تنفيذية، سواء في فترة حكم العقيد ولِدْ محمد فال مدير الأمن الوطني لنحو عقدين من الزمان، والذي تولى السلطة لنحو عام واحد، أو في فترة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، ولاحقاً في فترة حكم صديقه الحميم محمد ولد عبد العزيز التي دامت عشر سنوات، والذي درس معه في كلية مكناس العسكرية بالمغرب.
كان الخطاب الأول الذي ألقاه الرئيس الغزواني تطمينياً وموحداً وجامعاً لجهة تركيزه على ثلاثة أبعاد لعملية التحوّل الديمقراطي في إطار برنامج وطني عام وشامل، وهي: المواطنة والتنمية والإدارة الرشيدة، وذلك ضمن تأكيده على تعزيز الوحدة الوطنية والتعايش السلمي المجتمعي لجميع التكوينات.
فما إن انتهت الانتخابات حتى كانت البيئة السياسية أكثر انسجاماً، ولغة الحوار أوفر حظاً، واتّضح ذلك من الترحيب بالرئيس الجديد، الذي يحمل في إرثه جوانب إيجابية قويّة:
أولها: تربيته الدينية ومكانة عائلته التي تتبع الطريقة الصوفية ذات الأبعاد الزهدية التواضعية والتي يمتد إشعاعها الروحي إلى قرون عديدة من الزمان، وهو ما أكسبه ثقافة وحكمة، فضلاً عن حبّ قيم العمل والتواصل مع الآخر، وهو ما ساعده على التفاعل مع المعارضة التي انفتحت عليه هي الأخرى، وكأن في هذا التفاعل يُراد إلى تأسيس عقد اجتماعي في المرحلة الانتقالية الجديدة تمنحه تفويضاً يعمل على ضوئه، مثلما حصل على تأييد ودعم المجتمع الدولي لتنفيذ برنامجه الحكومي وإحداث التنمية المنشودة والمواطنة الحيوية والإدارة الرشيدة، خصوصاً بتوسيع دائرة الحريات وفضاء الحوار.
ثانيها: تكوينه العسكري وقيادته للجيش في فترة عصيبة وسعيه لعصرنته وتحديثه وتسليحه، إضافة إلى نجاحه في مواجهة للإرهاب والتصدي للجماعات الإرهابية، وطردها خارج البلاد، على الرغم من الحدود الشاسعة التي تمتلكها موريتانيا.
وقد تمتع وِلْد الغزواني بطول نفس ومرونة عالية في التعاطي مع القوى والحركات السياسية والانفتاح على الآخر ولقاءاته مع قيادات المعارضة، وخصوصاً إعلانه «أن زمن المواجهات قد ولّى»، وأن «بابه سيبقى مفتوحاً للتشاور».
لكن ثمة تحديات عديدة تواجهها موريتانيا والرئيس وِلْد الغزواني، ولعلّ أهمها يتلخّص بالفساد المالي والإداري الذي استشرى في البلاد على نحو شديد، وهو الأمر الذي يحتاج إلى جهود كبيرة وحثيثة لمكافحته ومحاسبة الفاسدين، ولا سيما الرؤوس الكبيرة والقوى المتنفذة، وذلك يتطلب إرساء المؤسسات من خلال تعزيز دور الدولة والإدارة، وإعلاء شأن «حكم القانون»، وجعله المرجعية الأساسية التي تعلو على جميع المرجعيات، حيث ينبغي أن يخضع له الحاكم والمحكوم، فالقانون وفقاً لمونتسكيو هو «مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً».
أما التحدي الآخر، فيتعلق بتعزيز الحرّيات واحترام حقوق الإنسان، وذلك من خلال تطوير منظومة القضاء وأجهزة إنفاذ القانون وإصلاح الأجهزة الأمنية.
وعلى الجبهة الاقتصادية والاجتماعية، لا بد من إيجاد فرص عمل للعاطلين والحد من ظاهرة البطالة، وتشجيع القطاع الخاص، وإعادة النظر في أنظمة التعليم والتربية وتحسين الخدمات الصحية والشروع بإقامة مشاريع أساسية، وهذا يحتاج إلى بنية تحتية متطورة تستطيع مواكبة المتغيّرات الدولية، خصوصاً إمكانية استثمار حقول الغاز، حيث يمكن أن تكون موريتانيا أغنى الدول الإفريقية، بل من أغنى الدول العربية، إذ يوجد فيها الذهب واليورانيوم ومعادن أخرى.
وبعد كل ذلك فهناك مثل يقول: إن موريتانيا يمكن أن تُدار بالحكمة، وليس بالثروة وحدها، والحكمة ثروة كبرى لا تضاهى.
drhussainshaban21@gmail.com



204
المنتدى الأكاديمي الدولي (التأسيسي) للحوار العربي - الكردي
بالتعاون بين جامعتي كويسنجق وبغداد
الندوة السنوية
إربيل- 28-29 /4/2019


" المثقف ومسألة التعايش المشترك"
(الحوار العربي - الكردي عراقياً)



الحوار العربي - الكردي : وقفة مراجعة
ماذا يريد الكرد من العرب؟ وماذا يريد العرب من الكرد؟

د.عبد الحسين شعبان*

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي ومفكر عربي من العراق، له عدد من الكتب في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والأدب والثقافة والنقد. أستاذ القانون الدولي وحالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في جامعة أونور(بيروت) .حائز على وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

   حين تندرج مسألة الحوار العربي- الكردي في برنامج عمل جامعتي بغداد وكويسنجق، فهذا يعني وجود ضرورة وحاجة لبحث هذا الموضوع في إطار أكاديمي ، خصوصاً حين يتصدّره عنوان آخر يتسم بفكرة أكثر عمومية هي" المثقف ومسألة التعايش".
   وكان سمو الأمير الحسن بن طلال مؤسس " منتدى الفكر العربي" وراعيه أطلق دعوة لحوار عربي - كردي ضم مثقفين وأكاديميين وناشطين من المجتمع المدني من العرب والكرد في حلقة نقاشية في عمان العام الماضي (1 آذار /مارس/2018)، وأعقبها بمبادرة لحوار أعمدة الأمة الأربعة، وقصد بذلك العرب والكرد والفرس والترك، تلك التي التأمت في عمان  22/7/2018 .
   وعلى هامش ذلك كان هناك مبادرات عديدة منها في تونس حيث انعقدت دورة لحوار مثقفي الأمم الأربعة 23 – 25 كانون الأول (ديسمبر) 2016 ( بدعوة من المعهد العربي للديمقراطية ) وفي بيروت لتأسيس منتدى التكامل الإقليمي بعد لقاءات ومشاورات .
   وكان هدف جميع تلك المبادرات والأنشطة  تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء لتكوين تصوّر عام بما يساعد التقارب والتفاهم والتعاون وصولاً إلى " تعظيم الجوامع" وتعزيزها و"تقليص الفوارق" واحترامها، وخصوصاً لتجسير الفجوة بين أصحاب القرار والسياسيين والمعنيين بالشأن العام بمختلف مواقعهم من جهة، والمثقفين والأكاديميين والمفكرين من جهة أخرى.
   إن الحاجة للتغيير والتنمية الحقيقة الشاملة  تكمن في الحوار الجاد والمسؤول وتذليل المصاعب والعقبات التي تعترض طريقه ، فالحوار ليس اختياراً فحسب بل هو ضرورة لا غنى عنها للتفاهم وصولاً إلى التعاون لما فيه مصلحة جميع الأطراف، خصوصاً حين يتم حلّ الإشكالات والمشكلات بروح إيجابية وسلمية، لأن بقاءها واستمرارها سيؤدي إلى التباعد والاحتراب، بما يمكن أن يؤثر سلباً أو إيجاباً على دول الإقليم وعلى العلاقة التاريخية التي تربط شعوبه.
   لم نجتمع هنا كفريقين يعرض كل منهما رأيه، لكي يتشبث به في إطار منافسة أو مناكفة، وإنما نجتمع كمثقفين تجمعنا هموم مشتركة، وهذا ما افترضه ، دون أن يعني ذلك عدم وجود اختلاف بيننا حول التاريخ والحاضر وحول المستقبل، وهذا أمر طبيعي لا بدّ من الإقرار به، لأننا من مناشئ مختلفة ونحمل أفكاراً متنوّعة ولدينا تقديرات متباينة  للمشاكل والحلول المطروحة أيضاً، وهو ما ينبغي الإقرار به واحترامه، مع تأكيد المشتركات الإنسانية الجامعة، وهي الأساس في العلاقات العربية - الكردية ، وينبغي أن تكون كذلك في علاقات دول الإقليم مع بعضها.
   إن شعوب المنطقة جميعها تتطلّع إلى تحقيق مصيرها في تنمية مستدامة قوامها التحرّر والحرّية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، ولن يتحقق ذلك دون علاقات سليمة أساسها الأخوة وحسن الجوار والمنافع المتبادلة والمصالح المشتركة، وقد كان شعار اليسار العراقي منذ الثلاثينات " على صخرة الأخوة العربية- الكردية تتحطم مؤامرات الاستعمار والرجعية".
   وإذا كانت الأمة العربية قد عانت من التقسيم الذي استهدف تفتيتها وتوزيعها على دول، بل وضع حواجز أمام اتحادها ووحدتها، فإن الأمة الكردية، هي الأخرى تعرّضت للتجزئة، حيث يتوزع الكرد على أربعة بلدان هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا. وكلا الأمّتين  العربية والكردية ، تعرضتا إلى مؤامرة سرّية نفذتها الدول الإمبريالية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تم توقيع اتفاقية سايكس - بيكو من وراء ظهر الأمتّين، العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وكانت في البداية قد انضمت إليها روسيا، لكنها أعلنت خروجها منها، معلنة رفضها الاتفاقيات السرّية بعد الثورة البلشفية العام 1917. وكانت تلك الاتفاقية التفافاً على الوعود التي أطلقها الحلفاء حين اندلعت ثورة الشريف حسين العام 1916، بمنح العرب الاستقلال وتأسيس دولة عربية موحّدة ، مثلما كانت اتفاقية لوزان العام 1923 قد سوّفت اتفاقية سيفر العام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد.
   وإذا كان حق تقرير المصير كمبدأ قانوني وسياسي معترفاً به من جانب ميثاق الأمم المتحدة وتقرّه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يبقى هدفاً للأمتين العريقتين ، ويعتمد تطبيقه في كل بلد على علاقة الأطراف والقوى السياسية ودرجة التفاهم والتعاون فيما بينها وصولاً لتحقيق الأهداف المشتركة، بل والمصائر المشتركة، مع الأخذ بنظر الاعتبار  التحدّيات والمخاطر التي تواجه المنطقة من جانب أعدائها والمتربصين بها وفي مقدمتهم "إسرائيل"، التي تستغل الخلافات والمواقف المتعارضة أحياناً بين العرب والكرد لتزيد من تأجيج الصراع وبث روح الكراهية والاحتراب، خصوصاً في ظروف ضعف الثقة والتقاطعات الحاصلة في المواقف، وهو ما ينبغي أن يوضع  في أية استراتيجية خاصة للوصول إلى الأهداف المشتركة.
   وأستطيع القول أن اللجوء إلى العنف والوسائل العسكرية والحربية والمسلحة لإيجاد حلول للمشكلة الكردية فشلت جميعها، سواء من جانب الحكومات التي حاولت هضم حقوق الكرد العادلة والمشروعة والقضاء على الحركة الكردية، أم من جانب الحركة الكردية التي هي الأخرى لجأت إلى السلاح والعنف، حتى وإن كان الأمر اضطراراً، وهو ما تحاول بعض الأطراف الإقليمية والدولية دفعها إليه بزعم أنه الطريق الأقصر لنيل حقوقها، لكن العنف والوسائل العسكرية لم توصل جميع الأطراف لنيل غاياتها بقدر ما ساهمت في تعقيد المواقف، خصوصاً وأن تداخلات القوى الخارجية كانت لها بالمرصاد، وقد وجد أعداء الأمتين العربية والكردية فرصاً مناسبة لإضعافها  واستغلال الصراع بما يحرفه عن وجهته الأساسية.
   ولهذا السبب ولأسباب أخرى موضوعية، ولاسيّما ما يربط العرب والكرد من ديانة وتاريخ وجغرافيا  وتواصل حضاري واجتماعي وثقافي وأسري، ناهيك عن المصالح المشتركة والجامعة بينهما منذ مئات السنين، والتي لم تشهد حروباً أو تطاحنات حادة منذ الفتح الإسلامي وحتى قيام الدولة العراقية الحديثة العام 1921، لا بدّ من اعتماد الحوار وسيلة أساسية لحلول دائمة وراسخة وعادلة على أساس " حق تقرير المصير" والبحث عن صيغ مناسبة لتطبيقه على صعيد قانوني ودستوري وانسجاماً مع التطور الدولي.
   جدير بالذكر أن مثل هذه الدعوة التي كانت الريادة فيها للحركة الشيوعية منذ العام 1935 وفي الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العام 1956 تبلورت فكرة " الاستقلال الذاتي" في إطار بحث مشروع عن الهويّة والوحدة القومية وصولاً إلى " الحكم الذاتي" في مطلع الستينات، بحيث أصبح شعار " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" شعاراً واسعاً، فالفيدرالية في مطلع التسعينات، حيث بدأت تقتنع بها أطرافاً عديدة من الحركة السياسية العراقية، ومنذ العام 1992 تبنّت المعارضة في الخارج فكرة الفيدرالية تطويراً لفكرة "الحكم الذاتي" وهو ما تم إقراره في الدستور الدائم العام 2005 (بعد الاحتلال).
   وكان أول دستور عراقي يعترف بشراكة العرب والأكراد هو دستور العام 1958. أما دستور العام 1970 فقد كان أكثر تطوّراً منه حين اعترف بوجود قوميتين رئيسيتين في العراق، وذلك بعد بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 وعلى أساسه صيغ قانون الحكم الذاتي العام  1974، ولكن للأسف فقد اندلع القتال واستمر لنحو عام ولم يتوقف حتى توقيع اتفاقية الجزائر في 6 آذار (مارس) العام 1975 بين نائب الرئيس العراقي صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي، حيث استمر بعدها مسلسل القمع والاضطهاد وارتفعت وتيرته خلال الحرب العراقية - الإيرانية العام 1980- 1988، كما شهدت حملات تهجير واسعة شملت عشرات الألوف من الكرد الفيلية ومما يسمى "بالتبعية الإيرانية".
   وكان قصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيمياوي وغاز الخردل 16-17 /آذار /مارس 1988 ، حيث أصيب نحو 5 آلاف مواطن كردي فقد الكثير منهم حياته في الحال، قد استدعى من الحركة الحقوقية الدولية الإدانة رغم ضبابية الموقف، الأمر الذي انعقد على إثره مؤتمر باريس العام 1989 الذي طالب بوضع حدٍّ لاستخدام الأسلحة الكيمياوية المحرّمة دولياً، ثم أصبح "نزع أسلحة العراق" للدمار الشامل مادة مكررة في القرارات الدولية لمجلس الأمن ونظام العقوبات الذي اتُبع  منذ غزو الكويت في 2 آب/أغسطس العام 1992 ولغاية احتلال العراق العام 2003 .
   ولعلّ من تداعيات مغامرة غزو الكويت  صدور قرار مجلس  الدولي رقم 688 في 5 /نيسان/ أبريل 1991، الذي أكّد احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرّض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق،  وذلك بالترافق مع مشاهد الهجرة الجماعية للكرد  إلى الحدود باتجاه تركيا وإيران بعد هزيمة القوات العراقية وانسحابها من الكويت، حيث توجّهت بعض هذه القوات، ولاسيّما بعد اجتماع خيمة صفوان  لقمع الهبّة الشعبية التي اندلعت في كردستان والتي أشعل شرارتها الأولى  محافظات الجنوب والفرات الأوسط.
   ويشكّل هذا التاريخ عودة القضية الكردية ثانية إلى الأروقة الدولية منذ الالتفاف على معاهدة سيفر الصادرة في العام 1920، والتي اعترفت بجزء من حقوق الشعب الكردي، بإبرام معاهدة لوزان العام 1923، وهكذا بدأ مسلسل جديد للقضية الكردية ولعلاقة العرب بالأكراد.
   وأتذكّر أننا نظّمنا حواراً بذات الصفة التي نجتمع فيها اليوم " الحوار العربي- الكردي" في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن العام 1992 وبكل تواضع كان "العبد الفقير" يتولى رئاستها وهو من دعا إلى ذلك، وعلى ما أعتقد كان ذلك أول حوار عربي - كردي قد حصل على صعيد النخب الفكرية والثقافية حين اجتمع 50 مثقفاً عربياً وكردياً  ليناقشوا بعض إشكاليات العلاقة بعقل منفتح وأجواء حرّة: المواطنة ، الحكم الذاتي، الفيدرالية ، الكونفدرالية، حق تقرير المصير، مستقبل قيام دولة أو أكثر، ما هي الالتزامات المتبادلة والحلول المطروحة والعقبات والكوابح؟
   وكان من المفترض عقد دورة ثانية، لكن اندلاع القتال الكردي - الكردي الذي استمر نحو 4 سنوات (1994-1998) حال دون ذلك، وما إن توقف القتال حتى استضافت القاهرة مثل هذا الحوار العام 1998، حضره شخصيات مصرية مرموقة مثل أحمد حمروش ومحمد فايق وسعد الدين ابراهيم وحلمي شعراوي ومحمد السيد سعيد، وكذلك شخصيات كردية وازنة مثل جلال الطالباني وفؤاد معصوم وسامي عبد الرحمن وهوشيار زيباري ومحسن دزئي ومحمود عثمان  ولطيف رشيد وعدنان المفتي وعادل مراد وعمر بوتاني وعزيز محمد وبهاء الدين نوري وعبد الخالق زنكنة ويوسف حنا القس  لكن الحضور العربي العراقي كان ضعيفاً، وهو أقرب إلى الحضور البروتوكولي ، ولم يشارك كرد سوريا وإيران وتركيا، كما لم تكن هناك مشاركة عربية أخرى، وهي الملاحظة التي أعيدها الآن أيضاً.
   وكان من المفترض انعقاد دورة ثالثة موسّعة  للحوار العربي - الكردي في العام 2001 بحضور نحو 150 شخصية عربية وكردية تمثل فاعليات وأنشطة فكرية وثقافية وحقوقية وسياسية متنوّعة، لكنّ بعض الخلافات والملابسات حالت دون ذلك، ثم جرت محاولات لاحقة لعقد بعض اللقاءات ذات الطابع السياسي في كل من السليمانية وإربيل ومن بينها انعقاد مؤتمر في النجف العام 2013 ، لكنها جميعها لم ترتقي إلى مأسسة الحوار ووضع مرجعيات له .
   وقد نشأت لاحقاً جمعيات للصداقة العربية - الكردية ونظمت لقاءات وفعاليات عامة، ولكن إشكالية العلاقة والتباساتها ظلّت قائمة وتحتاج إلى ديناميكية وحيوية يمكن للمثقفين أن يسهموا فيها لاجتراح حلول ومعالجات أساسها بناء جسور الثقة والتفاهم.
   أعتقد أننا بحاجة إلى حوار معرفي وثقافي وفكري على جميع المستويات بحيث يمكن أن يبلور رؤية جديدة تنطلق من الصراحة والكاشفة والنقد والنقد الذاتي، خصوصاً بقبول الآخر والاعتراف بحقوقه بما فيها الحق في الاختلاف. ويحتاج مثل هذا الحوار إلى توسيع ليضم فاعلين سياسيين من العرب والكرد وشخصيات وازنة من المثقفين العرب، كما يمكن أن يأخذ صيغة مؤسسية وفقاً لآلية يعتمدها وينفّذها في إطار برنامج للتعاون مع مؤسسات أخرى شقيقة وصديقة، يمكن الاستفادة منها من جانب جميع الأطراف، للقناعة بأهمية المشتركات الإنسانية، لاسيّما بعد أن أصاب التصدّع بعض جوانب العلاقات العربية- الكردية، بعد الاستفتاء الكردي في 25 أيلول /سبتمبر الماضي 2017، وللرغبة في إدامة التواصل والتفاعل والتفاهم والتعاون لتجاوز بعض العقبات والعثرات التي واجهت التجربة الفتية، والتي تحتاج إلى تنازلات متقابلة وحلول وطنية مدعومة عربية، وحوار دائم ومستمر لنزع الفتيل والبحث عن سبل للحلول السلمية بما يعزز وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبما يلبي في الوقت نفسه حقوق الكرد وطموحهم المشروع في تقرير المصير، بما يتناسب مع المصالح المشتركة والظروف الملموسة والأوضاع السائدة في دول الإقليم.
   إن الهدف هو فتح قناة مستديمة للتواصل بحيث يكون مثل هذا الحوار مجساً من مجسّات العلاقة يمكن توسيعه وتطويره  للتعرف الفعلي والمباشر: ماذا يريد العرب من الكرد ؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ الأمر الذي قد يذهب لوضع تفاصيل تتعلق بالثقافة والأدب والفن والتراث والتاريخ واللغة بما يقوي لحمة العلاقة ويعزز التفاعل، ويسهم في إيجاد الحلول السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للمشكلات القائمة، بل إيجاد فرص جديدة لبحث مستجدّات في هذه العلاقة التي لا يمكن إلّا أن تكون متكافئة وعلى أساس الاحترام المتبادل للخصوصيات في إطار الهوّية  العامة الجامعة لعراق موحد وذو سيادة ويتّجه صوب التنمية.
   ولعلّ من واجب الدولة ، أي دولة تريد سلوك سبيل التطوّر الديمقراطي الحر والحقيقي، أن ترعى الهوّيات الفرعية وتمنحها القدر الكافي من التعبير عن نفسها بما تمثّله من طاقة وحيوية وحق مشروع وعادل في التعبير عن نفسها بالشكل الذي تريده وينسجم مع المصالح المشتركة .
   إن العلاقة العربية - الكردية التاريخية لكي تنمو وتتطور لا بدّ لها من تجاوز بعض الإشكالات القائمة ولكي تستمر العلاقة وتأخذ مساراً صحيحاً ينبغي أن تقوم على أساس التكامل والتفاعل والتواصل  والترابط، وليس الترابح والهيمنة والانفكاك والتفلّت، لأن ذلك سيلحق ضرراً بالعرب والكرد، خصوصاً وأن المشتركات الجامعة تمثل المحتوى الأساسي لمضمون العلاقة ومستقبلها . ولا بدّ من إدراك حقيقة إن أي احتراب بينهما ينعكس على الوضع الإقليمي كما دلّت التجربة التاريخية، ولاسيّما إن المستفيد هو أعداء الأمتّين  الصديقتين .
   وإذا كان الحوار "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يُقال بين الجهات والجماعات السياسية المشاركة في الحكم وخارجه وبين الحكومة الاتحادية بشكل خاص وبين حكومة إقليم كردستان، فإنه اليوم وبعد تجارب عديدة يصبح أكثر راهنية ويمكن للمجتمع المدني أن يكون شريكاً فاعلاً فيه ومكمّلاً في اتخاذ القرار.
   وقد يحتاج الأمر إلى وجود مؤسسة بحثية رصينة ودراسات اختصاصية معمّقة أو  تأسيس معهد عربي - كردي متخصص ويمكن توسيعه إلى معهد للدراسات الشرقية، لاسيّما للشعوب المجاورة بحيث يدرس علاقاتها مع بعضها ، حاجة ملحة هدفها تنشيط حركة التواصل والنشر والترجمة والاطلاع على آداب وفنون وثقافات كل طرف بما لدى الطرف الآخر، إضافة إلى التحدّيات والمخاوف التي تواجه الهوّية المشتركة لهم والهويّة الخاصة لكل منهم على انفراد
   وبخصوص العرب والكرد فإن وقفة مراجعة ضرورية لتنقية الأجواء وهو ما يحتاجه الطرفان، خصوصاً في ظلّ محاولات تستهدف كليهما وقد سبق لي أن طرحت ذلك من خلال :
•   محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي، وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي.
•   اعتبار العرب والعروبة مسؤولين عمّا حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني، وتحميل العرب والعروبة ارتكابات النظام السابق وآثامه.
•   اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير وإقامة كيانية خاصة مستقلة، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال. ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكّام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمّله المثقفون الكرد.
•   تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى.
•   عدم اكتراث بعض عرب العراق بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة.
•   عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بحساسية العلاقة مع "إسرائيل" المنتهِكة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيّما حقه في تقرير المصير.
ولكي تتعزّز الثقة بين الطرفين فلا بدّ للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد وذلك من خلال تعزيز وتوطيد العلاقة والتفاهم والمشترك الإنساني، والاعتراف بحقوقهم لا باعتبارها منّة أو هبة أو هديّة، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم، فضلاً عن مبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمواطنة المتكافئة التي هي الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الدولة ، مثلما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الشركاء.
كما لا بدّ  للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءًا من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي، علماً بأن  لا سعادة للعرب من دون الكرد، ولا سعادة للكرد من دون العرب في العراق، لأن مصيرهما مشترك وذلك قدر الجغرافيا، سواء أكان نقمة  أم نعمة.




205
عن أي رؤية حقوقية نهضوية نتحدث؟
عبد الحسين شعبان
في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب انطلق حوار فكري جاد ومسؤول لبلورة رؤية حقوقية عربية نهضوية جديدة لمواجهة ما سمّي ب «صفقة القرن» وحماية «الأمن القومي العربي».
والحديث عن رؤية جديدة هو موضوع قلق أكثر منه طمأنينة، وهو سؤال شك وليس سؤال يقين، وفي الوقت نفسه تعبير عن رغبة وليس عن إرادة بالضرورة، وبهذا المعنى تبقى المسألة تدور في إطار أزمة وتحدٍّ أكثر مما هي تعبير عن ثقة وأمان، وإلّا فما معنى رؤية جديدة؟ وما علاقتها بالهوية والمواطنة؟
وهنا يمكن استعراض مقاربتين متداخلتين:
الأولى: تتعلّق بمعنى الرؤية ودلالتها، والثانية: بمدى التحقق والإنجاز، أهي مبدّدة وضائعة ولا بدّ من استعادتها، أم هي موجودة وغائرة ولا بد من الكشف عنها بإرادة لاستكمالها؟ ودائماً ما نقول هناك علاقة عضوية بين العلّة والمعلول، مثلما هي بين السبب والنتيجة، ويتعلق الأمر بالخصوصية بقدر ارتباطه بالكونية، فهل هناك مفهوم دقيق لتلك الرؤية النهضوية العربية الحقوقية والإنسانية في آن؟ وما النظرة المتسقة بالوعي الحقوقي في إطار التحرك الجامع. والموضوع محمول بدلالاته المختلفة من حيث علاقته بالكينونة الثقافية الحقوقية والحداثية ودوائرها المختلفة.
وقد واجه الحقوقيون العرب، كشريحة حيوية من المجتمعات العربية، صدمات داخلية وخارجية عديدة أهمها: صدمة الاستعمار، وكانت تلك فترة الإرهاص والتأسيس، من سايكس - بيكو إلى وعد بلفور إلى محطة الانتدابات، ولا تزال تأثيراتها قائمة إلى اليوم. وصدمة قرار التقسيم عام (1947)، وصولاً إلى قيام دولة «إسرائيل» (1948)، ثم صدمة هزيمة 5 يونيو /‏ حزيران 1967، وهذه جميعها بقدر ما هي صدمات خارجية كان لها أسباب داخلية عميقة.
أما صدمات الداخل، فهي تتعلّق بتشكيلات ما بعد الاستقلالات، وقيام الدول الوطنية، والأمر له علاقة بشحّ الحريات والتسلط، فضلاً عن قيام نمط جديد من الحكومات، ولا سيما بعد قيام الانقلابات العسكرية، ومع ذلك ظلّت الشعوب موحّدة والموقف الحقوقي موحداً إلى حد ما.
وفي الكثير من الأحيان اتجهت الحركة الحقوقية العربية إلى تغليب السياسة على المهنية، ونشأت صراعات بين أطرافها امتداداً للصراعات السياسية والحزبية، بما فيها ضعف الدفاع عن فكرة المواطنة الموحدة والجامعة وقصور فكرة التضامن، تارة بحجة الصراع العربي - «الإسرائيلي» وأخرى لأن العدو يدق على الأبواب
وقدّر لي أن أستجمع بعض ما تبقى من شجاعتي لأقول لرئيس عربي: إن المواجهة الواقعية هي بالمواطنة، فالمواطنة هي القوة الحقيقية، فما بالك حين تكون مقترنة بالمعرفة، وحسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون «المعرفة قوة»، وهي «سلطة» في الآن ذاته.
والمعيار الحقيقي هو حكم القانون، وحسب مونتسكيو «القانون مثل الموت ينبغي أن ينطبق على الجميع»، أي لا استثناء فيه، ولا فرق بين الحاكم والمحكوم بالخضوع له.
وشهدت الحركة الحقوقية صراعات داخلية وأحياناً على مستوى نظرة هذا الفريق السياسي أو ذاك في هذه الدولة العربية أو تلك، كما شهدت صراعات عربية - عربية انعكاساً للأوضاع العربية، وهذه أضعفت من مهنيتها.
وبتقديري أن الخلل يعود إلى النقص في الثقافة الحقوقية والوعي القانوني، وإلى عدم الإقرار بالتنوع والتعددية وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، فضلاً عن شح الحريات، ولا سيما حرية التعبير. وفي فترة لاحقة غلّبت بعض المنظمات الحقوقية المهني على السياسي، وإن كان السياسي أكثر تأثيراً.
آن الأوان لرد الاعتبار والتوازن والتفاعل بين ما هو مهني وما هو سياسي، وبين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، مثلما بين ما هو ظرفي وما هو بعيد المدى، وبين ما هو وطني وسياسي كجزء من المشاركة في العمل العام، وأي اختلال في أي جانب منه سيقود إلى اختلال المعادلة، ويضعف بالتالي من دور الحركة الحقوقية ذات البعد الإنساني، سواء بوظيفة التضامن من جهة، وهي وظيفة أساسية، أو الدفاع عن مصالح الأمة العربية من خلال مشروعها النهضوي التجديدي لمواجهة التحديات الخارجية.
والخطوة الأولى بتعزيز المواطنة الفاعلة من خلال الربط بينها وبين النضال لتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والتوجه صوب التنمية المستدامة في إطار منهج يقوم على رضا الناس وخياراتهم الديمقراطية، وبالحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وذلك بالتقارب والتنسيق والتعاون وصولاً للاتحاد بين البلدان العربية ككتلة تجمعها مصالح مشتركة، بما يعزز الانبعاث الحضاري لتاريخ عريق يربط بين الحداثة والقدامة، ومثل هذا التوجه كان مطروحاً للنقاش في عمان لبلورة الرؤية الحقوقية العربية النهضوية لمواجهة صفقة القرن، وفي إطار تجديد هيكليات «اتحاد الحقوقيين العرب».
drshaban21@hotmail.com


206
الحراك يعيد رسم الخريطة السياسية 
الأوضاع الاستثنائية في العراق تتطلب حلولاً استثنائية

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   بارتفاع عدد الضحايا في العراق الذي زاد على اثني عشر ألف إنسان بين قتيل وجريح تبدو الخريطة السياسية أكثر وعورة وتضاريسها أشدّ قسوة، لاسيّما بانعدام الثقة بالحكومة، فلم تعد تكفي الوعود بالإصلاحات أو بمحاربة الفساد، بل أصبح الطريق إلى تهدئة الأوضاع يتطلّب الاستجابة إلى مطالب، بل حقوق، المتظاهرين وحركة الاحتجاج الواسعة، التي لم يشهد العراق مثيلاً لها، وهي أقرب إلى استفتاء على "عدم شرعية" استمرار العملية السياسية التي بدأت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، والتي قامت على أساس نظام المحاصصة الطائفي- الإثني المستند إلى الزبائنية السياسية وتقاسم المغانم .
   ولم يعد ممكناً ردم الهوّة بين الحكومة والشارع العراقي، إلّا بإجراء تغييرات جوهرية، تلك التي يعبّر عنها المتظاهرون بـ استقالة الحكومة وتعديل الدستور وإلغاء قانون الانتخابات وحلّ الهيئات المستقلة " غير المستقلة"، وهي أمور ممكنة وآنية، ويمكن أن تمهّد لتغييرات أوسع وأشمل، وإن كان هناك عقبات وكوابح أمامها على صعيد القوى السياسية الداخلية، أو على صعيد النفوذ الإقليمي والدولي المؤثر في العراق على نحو كبير.
   أما فيما يتعلق بتحسين مستوى المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل ومحاسبة الفاسدين وإلغاء الطائفية السياسية ووضع حدّ لنظام المحاصصة، فتلك أمور تحتاج إلى وقت وتراكم وتدرّج،  وتلك مسألة واقعية في علم السياسة التي هي في المحصلة فن الممكنات وتوازن القوى واتساق بين ما هو موضوعي بما هو ذاتي.
   وقد انقسمت القوى والكتل السياسية حول مسألة  التغيير إلى مجموعات، فجاءت مواقفها متضاربة ، بل شديدة الاختلاف، وبدأت المعركة كأنها "كسر عظم" كما يُقال .
   المجموعة الأولى- تتمثل بالشارع العراقي، وهذه تتألف من فئة الشباب وفيهم متعلمين وخريجين، لكنهم عاطلون على العمل على الرغم من المعارف والمهارات التي اكتسبوها ، ناهيك عن اطلاعهم على ما يجري في العالم عبر الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي ، فالعالم أصبح أصغر من "قرية صغيرة" بفعل الثورة العلمية - التقنية الرابعة وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات، ولاسيّما في ظلّ الطفرة الرقمية " الديجيتل" وهذه كلّها من نتاج العولمة. فلم يعد الشباب من الجيل الجديد والذي تتراوح أعماره بين 18-25 عاماً يقبل بما هو سائد لأنه أكثر ميلاً وتطلعاً للالتحام بالعالم في فضاء من الحرية والتواصل الإنساني.
   المجموعة الثانية- القوى المؤيدة للتغيير، وهذه الأخيرة كان الحراك الشعبي مفاجئاً لها، بل إنه اضطرّها بعد المواقف السلبية والتشكيكية عشية بدئه إلى المشاركة فيه لاحقاً، ومن هؤلاء كتلة سائرون التي تضم تيار الصدر برئاسة السيد مقتدى والحزب الشيوعي العراقي. وحسناً فعلت هذه المجموعة بالالتحام بحركة الاحتجاج، علماً بأن مطالب المتظاهرين تمثل بعض مطالبهم بالذات، لذلك كان انحيازهم إيجابياً، لاسيّما وأن غالبية المشاركين في الحراك هم من الفقراء والمعدمين .
   المجموعة الثالثة- الحركة الكردية وإقليم كردستان، وهؤلاء بشكل عام لم ينحازوا للحراك، بل وقفوا منه موقفاً سلبياً، خشية أن يؤثر على المكاسب التي حصلوا عليها، تلك التي حاول عادل عبد المهدي طمأنتهم بشأنها، بعد تشدد سلفيه نوري المالكي وحيدر العبادي، خصوصاً عشية استفتاء إقليم كردستان بشأن الاستقلال (سبتمبر/أيلول/2017) وما ترتب عليه من إجراءات زادت من مشاكل الإقليم مع السلطة الاتحادية.
   المجموعة الرابعة- الرافضة للتغيير، وخصوصاً تلك التي تعتبر المطالبة بالتغيير "مؤامرة خارجية" مشبوهة مدعومة من الولايات المتحدة و"إسرائيل" وبعض الدول العربية، كما ذهب إلى ذلك قيس الخزعلي رئيس "عصائب أهل الحق"، علماً بأنه وفصائل مسلحة من الحشد الشعبي مثل كتائب حزب الله وسرايا النجباء وسرايا الخرساني وكتائب التيار الرسالي وسرايا الجهاد والبناء أعلنت مواقفها الرافضة للحراك الشعبي، وهذه جميعها مقرّبة من إيران ، وكانت هذه الأخيرة قد اتخذت موقفاً سلبياً من الحركة الاحتجاجية التي اتهمتها هي الأخرى بأنها من تأثير واشنطن وتل أبيب.
   المجموعة الخامسة- قوى دينية من " الشيعية السياسية" ساهمت في العملية السياسية منذ البداية وتتحمل قسطاً كبيراً وأساسياً من المسؤولية،  بل إنها من القوى التي استفادت منها على الصعيدين الحزبي والشخصي، وبسبب المنافسة السياسية ووصول الأوضاع إلى طريق مسدود، اندفعت لمعارضة حكومة عادل عبد المهدي، التي تعتقد أنها أحق منه بها، ولذلك وقفت إلى جانب إقالة الوزارة ، لكنها ظلّت تقدّم خطوة وتؤخر أخرى ، مثل حزب الدعوة مجموعة المالكي أو " كتلة النصر" جماعة العبادي وتيار الحكمة ( السيد عمار الحكيم)، الذي أبدى تحفظاً منذ البداية حول تركيبة الحكومة، وقرّر بلورة موقف يميّز بين الموالاة والمعارضة، وفضل هو بالذات أن يعتبر نفسه في المعارضة على أن يحتسب من تيار الموالاة.
    المجموعة السادسة- الأحزاب والكتل "السياسية السنّية"، وهذه وإن كانت غير منخرطة في الحراك الشعبي، لكنها لا تستطيع أن تقف ضده، إذْ أن غالبية المطالب هي مطالبها، مثل إلغاء الهيمنة الطائفية ووضع حد للنفوذ الإيراني، وهي ذاتها مطالب القائمة الوطنية " العراقية" برئاسة علاوي الذي طلب في بدء الحراك إطلاق صلاحيات عادل عبد المهدي، لكنه مع تطور الأحداث، اقترب موقفه من مطالب الحراك الشعبي.
   لقد دفع الحراك الشعبي أوساطا واسعة  بعضها في الخارج، للتحرك ، فأصدر العديد من التجمعات والشخصيات نداءات وبيانات ومقالات، لتحريض المتظاهرين، مع أن هؤلاء لا يحتاجون إلى تحريض، لأنهم في قلب الحدث وفي عمق المأساة، فتخطّى فيها جميع الأحزاب والحركات والقوى السياسية على أنواعها ، طائفية أو غير طائفية، مشاركة بالعملية السياسية أم خارجها، في الداخل والخارج، فالجمهور المحرّض بما فيه الكفاية والمسحوق حتى العظم والمهان والمذل والمستغفل يعرف ما يريد، وقد شعر بعمق الهوّة بينه وبينها ، فهتف ضدها، بل أحرق بعض مقارها.
   إن ما يحتاجه الجمهور هو بلورة خطوات عملية لتحقيق أهدافه الآنية، وهنا يمكن للنقابات والجمعيات والاتحادات المهنية أن تلعب مثل هذا الدور، وعندئذ يمكن  مواصلة الضغط على الحكومة لإجبارها على التنازل، بل فرض برنامج واقعي وتدرّجي وممكن التحقيق عليها، يلزم ما بعدها.
   إن الخريطة السياسية العراقية بما فيها من نتؤات ومنعرجات وصعود ونزول مرشحة لتغييرات واصطفافات  وانتقالات يفرضها تطوّر المشهد السياسي، فعلى الرغم من استمرار حركة الاحتجاج الواسعة في بغداد ومحافظات وسط جنوب العراق، ما تزال الحكومة العراقية هي الأخرى مستمرة في تشبثها بمواقفها، وكأن هذا الأمر لا يعنيها، وإنْ كان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اعترف بتشخيص حركة الاحتجاج  للأخطاء المتراكمة منذ العام 2003 ولحد الآن، لكنه رفض تقديم استقالة الحكومة ما لم يتم تحضير بديل، لأن ذلك قد يؤدي إلى فراغ على حد تعبيره، وربما يأخذ العراق إلى المجهول.
   ومع أنه أقرّ بأحقية التظاهرات السلمية، لكنه انتقد التظاهرات من قناة أن " البعض يتخذها درعاً بشرياً للتخريب" منبهاً إلى " أن القوات العراقية إلى الآن في وضع دفاعي وليس هجومياً، وهي لا تستخدم الرصاص"، وقد اعتبر المتظاهرون ذلك بمثابة تهديد مبطّن باستخدام المزيد من القوة. وما تزال لغة الحكومة باردة، بل إنها غير مكترثة بالبشر الذين سقطوا ضحايا العنف، وإلّا لماذا هذا الإصرار على الاستمرار؟ ، وأية قيمة لدستور أو آيديولوجيا أو مبادئ أو حتى أديان أو طوائف إزاء الدماء التي سالت والتي لا يقابلها أي شيء على الإطلاق؟، "فالإنسان هو مقياس كل شيء"، على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس .
   صحيح أن الفراغ الدستوري غير يسبب نوعاً من الفوضى لكن الدستور يعالج  مسألة الفراغ في المادة 64 ، لذلك إن التشبث بالدستور ليس سوى ذريعة غير مبررة ، علماً بأن  الدستور تم وضعه على الرف في العديد من المرات، ناهيك عن كونه أس المشاكل، وقد احتوى على الكثير من الألغام، وهو امتداد للدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية الذي صاغه نوح فيلدمان اليهودي الأمريكي المتعاطف مع الصهيونية و"إسرائيل" (2004)، وقبل ذلك هو ما جاء به بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق الذي وضع أسس النظام الطائفي - الإثني في صيغة مجلس الحكم الانتقالي (2003)، وهو الأمر الذي صيغ بعنوان "المكوّنات" في الدستور الدائم (2005) التي وردت عدة مرّات في الدستور.
   وتتحمل القوى التي حكمت العراق بعد الإطاحة بالدكتاتورية مسؤولية ما وصلت إليه البلاد،  ممثلة بالتيار الإسلامي، وخصوصاً حزب الدعوة، حيث توالى على دست الحكم أربع دورات (الأخيرة لم تكتمل) منذ العام 2005 ففي الأولى والثانية حكم نوري المالكي وفي الثالثة حيدر العبادي وكلاهما من حزب الدعوة ، أما في الدورة الرابعة فقد تم اختيار عادل عبد المهدي، الذي كان مع المجلس الإسلامي الأعلى، وظلّ قريباً من التيارات الإسلامية، حيث تم اختياره باتفاق بين كتلتي سائرون برئاسة مقتدى الصدر والفتح برئاسة هادي العامري وقيل بترشيح أو تأييد ومباركة من السيد علي السيستاني الشخصية الشيعية المتنفذة في النجف، وكذلك بتوافق إيراني- أمريكي.
   لا أحد يستطيع أن يتكهّن كيف ستنتهي حركة الاحتجاج، لكن المؤكد أن عراق ما قبل الفاتح من اكتوبر (تشرين الأول) 2019 ، هو ليس ما بعده ، فثمة تغييرات ستحصل في الخريطة السياسية ، بل ستزداد التصدعات في تضاريسها بعد انتهاء حركة الاحتجاج، سواء حققت كامل مطالبها أو جزءً منها، لكن خط التغيير سيأتي، سواء بقيت الحكومة الحالية أم لم تبقَ، فالمؤكد أن العالم كلّه ظلّ يتطلّع إلى حركة الاحتجاج السلمية، وكانت الأمم المتحدة قد أدانت عبر " المفوضية العليا لحقوق الإنسان" "قطع الانترنيت والكهرباء واستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغازات المسيلة للدموع من قبل قوات الأمن تجاه المتظاهرين"  داعية هذه  القوات إلى "حماية المتظاهرين".
   إن أحد مؤشرات شرعية الحكم هو رضا الناس وقبولهم ، وكان العديد من دول الاتحاد الأوروبي، والتحالف الغربي  الذي تشكل لمواجهة داعش (2014) بما فيه الولايات المتحدة حليفة العراق رسمياً في إطار " معاهدة التحالف الاستراتيجي" قد شجبت استخدام القوة وقتل وخطف المحتجين، ودعت إلى التفاعل بين القادة السياسيين والمواطنين العراقيين المطالبين بالإصلاح، ففي ذلك وحده يمكن تفعيل المطالب لشعبية ووضعها موضع التطبيق، وهو ما ينبغي أن تدركه الحكومة العراقية، لا أن تستمر في تشبثها بجوانب "شكلانية" ، فمثل هذه الأوضاع الاستثنائية تتطلب حلولاً استثنائية.



207
طارق  يوسف اسماعيل
يفيض بالتاريخ وينتشي بالوطنية

مقدمة بقلم : عبد الحسين شعبان*

I
   استعدت وأنا أقرأ السردية الممتعة التي كتبها الدكتور طارق يوسف اسماعيل والموسومة "من زوايا الذاكرة ؛على هامش ثورة 14 تموز عام 1958"، كتابه الأثير عن "الحزب الشيوعي العراقي" The Rise and Fall of the  Communist Party of Iraq: Evolution and Transformation  الذي صدر عن جامعة كامبريدج ، العام 2008، بل كتاباته عن الحركة الشيوعية العربية، فهو من الأكاديميين الذين لهم باع طويل في البحث العلمي والذي خصّص مساحة كبيرة منه لليسار العربي بشكل عام.
   ومن أبرز مؤلفاته على هذا الصعيد كتابه عن الحركة الشيوعية المصرية The Communist Movement in Egypt, 1920-1988,    الذي صدر عن جامعة سيراكيوز للإعلام ، العام 1990، والحزب الشيوعي السوداني The Sudanese Communist Party: Ideology and Party Politics  الصادر  في لندن عن Routledge العام 2012 ، والحركة الشيوعية في العالم العربي The Communist Movement in the Arab World  الصادر عن  Routledge العام 2004، والحركة الشيوعية في سوريا ولبنان The Communist Movement in Syria and Lebanon الصادر عن جامعة فلوريدا العام 1998، وغيرها من الكتب التي لها علاقة بالسياسة والحكم في الشرق الأوسط المعاصر، بما فيها كتابه عن "الاستمرارية والتغيير في الشرق الأوسط المعاصر"، الصادر العام 2012 Government and Politics of the Contemporary Middle East: Continuity and Change وآخر إنتاجه العلمي Iraq in the twenty- first century: Regime Change and the Making of a Failed State , Routledge,2015  والذي عالج فيه آثار الاحتلال الأمريكي للعراق وتحويله إلى دولة فاشلة.
   وصديقنا الأكاديمي والمفكّر طارق يوسف اسماعيل وإنْ كتب عن اليسار ، وحتى لو تعاطف معه، فلم يكن يوماً من الأيام قد عمل في صفوفه أو جزء منه، لكنه كتب بعقل المؤرخ ولغة الباحث السسيولوجي والخبير والمختص  بعلوم السياسة والعلاقات الدولية، وهكذا بحث في شؤون وشجون اليسار العراقي والعربي من منظور منفتح ودون إسقاطات أو رغبات إرادوية، ولعلّ كتابه " من زوايا الذاكرة - على هامش ثورة 14 تموز 1958"  الذي سيكون بيد القارئ العراقي والعربي، وإن كان تعبيراً عن تجربة شخصية وحياتية، وخلجات روح وطنية توّاقة إلى الحقيقة، فإنه في الوقت نفسه جزء من التاريخ السسيولوجي لمجتمعاتنا وصراعات قواه السياسية وتياراته الفكرية والدينية وتنوّع قومياته وإثنياته ولغاته، وذلك لأن تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية بشكل خاص هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الدولة العراقية، التي لا يمكن الحديث عنها وعن المجتمع العراقي دون المجيء على ذكرهما.
    وبهذا المعنى فإن أي بحث عن اليسار سيقود بالضرورة إلى أروقة الدولة ومؤسساتها وقوانينها وطبيعة نظامها السياسي وممارساتها، تلك التي سيكون مواقفه منها في الصميم  من تكويناتها،  مثلما سيكون موقف الدولة من اليسار بمؤشراته السلبية أو الإيجابية جزء من معايير الحكم عليها، خصوصاً وإن اليسار بشقه الماركسي وعلى مدى تاريخ الدولة العراقية، لم يعرف العمل العلني الشرعي والقانوني إلّا باستثناءات  محدودة جداً، وتعرّض لتصفيات وتشويهات كثيرة ومتنوّعة دون نسيان أخطائه وعيوبه بالطبع.
   إن الصورة التي ترسمها زوايا ذاكرة اسماعيل الخصبة والطريّة تظهر على نحو جلي وواضح، دور اليسار العراقي في صعوده ونزوله وتمدّده وانحساره ونجاحاته وإخفاقاته على مدى تاريخه، ويجب أن لا ننسى أن مدرسة اليسار العراقي كانت قد خرّجت أو أثّرت في طواقم من المثقفين العضويين بتعبير المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي، ممن كان لهم دور كبير في أربعينات وخمسينات القرن الماضي وجلّهم من أصدقاء طارق اسماعيل الذين ترد أسماؤهم في متن الكتاب، لاسيّما مساهمتهم  في الحركة الشعبية والمنظمات المهنية المدنية والسلمية وأنشطتها المختلفة، تلك التي انضوت تحت لواء  جبهة الاتحاد الوطني التي انعقدت في 7 آذار (مارس) العام 1957 ، والتي كان سكرتيرها وكاتب بيانها التأسيسي ابراهيم كبّه الذي ارتبط مع اسماعيل بصداقة خاصة، سواء حين كان وزيراً، أو بعد ذلك في إطار عمل جامعي وأكاديمي يوم عمل طارق اسماعيل استاذاً زائراً في جامعة بغداد،  وكان تأسيس جبهة الاتحاد الوطني قد مهّد لمجموعة الضباط الأحرار للقيام بالثورة في 14 تموز (يوليو) 1958 بعد أن تأكدت من تأييد القوى الوطنية المتحالفة في دعمها وبالتنسيق معها.
II
   تضيء زوايا ذاكرة طارق اسماعيل، الثورة العراقية منذ اللحظة الأولى لذلك الصباح التموزي المتميّز، حين اصطحبه صديقه الملازم عبد الكريم جاسم إلى دار الإذاعة ليتعرّف على العقيد عبد السلام محمد عارف، وليبدأ رحلة متميّزة وأثيرة من العمل الوظيفي بالقرب من الزعيم عبد الكريم قاسم بعد أن كان قد تخرّج من دار المعلمين العالية عشية الثورة واستلم شهادته من الملك فيصل الثاني، الذي كان أول الضحايا صبيحة الثورة، وتلك إحدى مفارقات التاريخ.
   وشهدت الثورة أحداثاً جساماً منذ لحظاتها الأولى، لاسيّما بتصفية العائلة المالكة وما رافق ذلك من أعمال عنف طالت بعض رموز العهد الملكي، مثلما حصل للأمير عبد الإله الذي تم سحله، ثم علّقت جثته في منطقة الكرخ قرب جسر الشهداء، وبعدها تم تقطيع أوصاله في مشهد سادي شديد الوحشية ولا مثيل له، وجثة نوري السعيد  التي حصل لها ما حصل للأمير عبد الإله، وذلك بعد يومين من انتصار الثورة (16 تموز/يوليو/1958).
   وتركت تلك الأحداث تأثيراتها السلبية على مسار الثورة وتطوّرها والصراعات داخلها، كما أتتها رياح التأثير من خارجها إقليمياً وعربياً ودولياً. وللأسف فإن الثورة دشّنت  باكورة أعمالها بالدم، وهو المشهد الذي غطّى على الكثير من منجزاتها وشوّش عليها، ووضعها في حالة دفاع عن النفس، وضاع العديد من المكتسبات في ظلّ ضبابية المشهد وغياب الوحدة الوطنية وتفكك جبهة الاتحاد الوطني .
   وبغض النظر عن دموية المشهد واندلاع الصراع الداخلي المحموم  فإن الثورة  حققت عدداً من المكاسب التاريخية منها الانسحاب من حلف بغداد الاستعماري والمعاهدات غير المتكافئة مع بريطانيا والولايات المتحدة وتحرير العملة العراقية من نظام الكتلة الاسترلينية وإطلاق الحريات في الأشهر الأولى من عمرها، وإصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 88 العام 1959، الذي كان خطوة متقدمة لمساواة المرأة بالرجل، وغيرها من الإجراءات التقدمية المهمة، وفيما بعد خطت الثورة خطوات وطنية كبرى مثل تحرير الثروة النفطية من الاحتكارات بإصدار قانون رقم 80 لعام 1961.
   ولعلّ تلك الخطوات هي التي دفعت القوى الإمبريالية للإطاحة بنظام قاسم والعمل على تقويض الوحدة الوطنية، خصوصاً بالصراع بين الشيوعيين والقوميين،  وكان أحد أوجهه ما حصل في الموصل وكركوك من ارتكابات، وينقل لنا مؤلف الكتاب بعض المشاهد الحيّة من داخل منصة الحكم كما يقال، منها حركة العقيد عبد الوهاب الشوّاف وملابساتها، بما فيها ضيق صدر الزعيم عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، وخصوصاً بعد مسيرة الأول من أيار (مايو) 1959 " المليونية" التي رفع بها الحزب شعار "المشاركة بالحكم" بالضغط على قاسم من الشارع، وكانت تلك إحدى مؤشرات تدهور العلاقة بين الطرفين، وانتهاء ما سمّي بفترة "المدّ الثوري" التي استمرّت من آذار (مارس) ولغاية تموز(يوليو)1959.
   ولم ينسَ طارق وهو يتناول بعض منجزات الثورة أن يستعيد تلك الثنائية التي تكاد تكون متلازمة سلباً أو إيجاباً بين اليسار الماركسي واليسار القومي، فكل حديث عن اليسار  يتفرّع حتى دون رغبة في ذلك إلى شق ماركسي وآخر قومي، وإن اتسمت علاقتهما بحساسية خاصة شابها في معظم الأحيان منافسة مشروعة وغير مشروعة، أخذت بُعداً إقصائياً وإلغائياً وتهميشياً، ولاسيّما بعد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، وقد حاول أن يتوقف عند العديد من محطاتها المعلومة وغير المعلومة، وأن يستذكر أحداثها بما لها وما عليها، بحلوها ومرّها، محاولاً أن ينظر إليها بعد تلكم السنون بشيء من الموضوعية والإنصاف والتجرّد.
   وكانت تلك الثنائية العجيبة بين اليساريين تسير في طريق شاق ومرهق ووعر، انتقل من التحالف إلى الاقتتال، ثم إلى التحالف والاحتراب مرّة أخرى، ومن الصداقة والتضامن والعمل المشترك إلى التشكيك والاتهام والتخوين، ومن التقارب في الأهداف إلى التباعد في الوسائل، ومن المُشتركات إلى المُختلفات، وهو الأمر الذي كانت خسارته فادحة على الإثنين وعلى الدولة والمجتمع في العراق الذي دفع ثمنه باهظاً.
III
   وللأسف فإن العزل السياسي اتخذ أشكالاً مختلفة في العراق، ففي العهد  الملكي كانت القوانين ذات العقوبات الغليظة قد خصّت الشيوعيين بالتأثيم ومنه إلى التحريم والتجريم، لاسيّما  بعد قيام حلف بغداد العام 1955، ولكن في العهد الجمهوري الأول وحين هيمن الحزب الشيوعي على الشارع، ولاسيّما  بعد حركة الشواف (آذار/مارس/1959) اتخذ من الإرهاب الفكري وسيلة ضد خصومه القوميين والبعثيين  (حلفاء الأمس) الذين رموا كل بيضهم في سلّة جمال عبد الناصر الذي صعّد من عدائه لنظام عبد الكريم قاسم، مثلما حاولت القوى الإمبريالية وحلفائها العمل بكل ما تسنى لها لإعادة حصان تموز (يوليو) الجامح إلى "الحظيرة ".
   وحين وصل حزب البعث العربي الإشتراكي إلى السلطة بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط (فبراير) 1963، انتقم من الحزب الشيوعي ، بل أصدر بياناً برقم 13 من مجلس قيادة الثورة (المجلس الوطني) شرّع فيه إبادتهم، وشهدت مقرات الحرس القومي ودوائر الأمن ومراكز الاعتقال حملات غير مألوفة من حيث الحجم وأساليب التعذيب والتفلّت من القوانين، ناهيك عن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وتراجع عن منجزات الثورة.
   أما في العهد الجمهوري الثالث (العارفي) فقد احتكر التنظيم الوحيد "الاتحاد الاشتراكي العربي" حق العمل الحزبي القانوني والشرعي، وتم تحريم العمل السياسي للشيوعيين والبعثيين والحركة الكردية .
   وبعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 (الجمهورية الرابعة) ومجيء حزب البعث مجدداً إلى السلطة، شهدت البلاد انفراجاً نسبياً والتأمت بعض التحالفات المؤقتة والقلقة، حسبما بيّنت التجربة بين حزب البعث والحركة الكردية (1970) وبينه وبين الحزب الشيوعي (1973)، لكنها سرعان ما تهاوت، وكان العمل شبه العلني مجرد اتفاقات فوقية لم ينظمه قانوناً للأحزاب.
   وظل حزب البعث يتحكم بمقاليد الأمور ويقبض على جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لصيغة "مجلس قيادة الثورة" المقرّة دستورياً، وكانت القوى التي تحالفت معه قد ارتضت به قائداً للدولة والمجتمع والسلطة السياسية ولصيغة تحالفاتها، فاستدار بالبلاد سريعاً نحو احتكار العمل السياسي والنقابي والمهني وتحريمه على الجميع،  واتخذ قرارات  بالقضاء على خصومه، حيث أصدر قراراً من مجلس قيادة الثورة  بتحريم حزب الدعوة (العميل) كما ورد في النص في 31 آذار/مارس 1980، مثلما اتخذ قراراً (داخلياً) بتحديد العام 1980 موعداً للقضاء على الحزب الشيوعي ، وامتدت إجراءاته  التعسفية تلك إلى داخل حزب البعث نفسه فأطاحت ببعض قياداته في مجزرة قاعة الخلد الشهيرة العام 1979.
   وللأسف فإن حكومات ما بعد الاحتلال استمرت، في منهج تحريم العمل السياسي على الخصوم ، حيث اعتمد قرار الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر بتحريم حزب البعث بالقرار رقم 1  في 16 أيار (مايو) 2003 القاضي باجتثاث البعث، والذي استمر لحين صدور قانون المساءلة والعدالة وهو قانون أقره البرلمان العراقي في 12 كانون الثاني (يناير) 2008 بديلا لقانون اجتثاث البعث، ويتضمن إجراءات أقل صرامة تجاه أعضاء المراتب الدنيا من الحزب.
   ولم تستفد القوى السياسية جميعها من الدرس التاريخي والتجربة  المريرة التي عاشتها. وكلما جاء عهد حتى انتقم من سابقه، وهكذا استمرّت دورة العزل السياسي وتلك التركة الثقيلة في  العهود المتعاقبة والمستمرة حتى تاريخنا هذا .
   ولعلّ هذه الفقرة الاستدلالية لها علاقة بمذكرات طارق يوسف اسماعيل، فما أن يأتي بحادثة تخص أحد الفريقين اليساريين إلّا ويكون الفريق الثاني حاضراً فيها اتفاقاً وإن كان قليلاً واختلافاً في الغالب، ولاسيّما عقب ثورة 14 تموز/يوليو 1958 التي يعتبر المؤلف أحد شهودها والحاضرين فيها، بل ويمكن اعتبار ما يرويه من مؤرخيها .
   وعلى الرغم من صغر سنّه وبداية تجربته الإدارية، لاسيّما بالقرب من الموقع الأول في الدولة، إلّا أنه لعب دوراً مهماً فيها حتى وإن كان موقع تنفيذي، لكنه كان قريباً من صاحب القرار ومؤثراً فيه، مع أنه لا يدعي ولا يزعم ذلك تواضعاً، لكن بعض تلميحات أو إشارات يأتي عليها بسرعة ، إلّا أن  دلالاتها كبيرة  بالنسبة لكاتب السطور وأظنّها ستكون للقارئ والمتابع حين نستعيد عفوية تلك الأيام وبساطتها وحميمية أطرافها،  مؤسسات وقوى وأفراداً، وهو ما سيكتشفه قارئ هذه المذكرات الشائقة.
IV
   كنتُ  أتابع ما يكتب طارق اسماعيل قبل أن ألتقيه، وكان قد درس في النجف في متوسطة الخورنق، أما الثانوية فقد أنهاها في الحلة، مثلما عاش مع عائلته في أبي صخير الذي كان عمي د. عبد الأمير شعبان طبيباً فيها، وكنا نقضي بعض أوقات العطل وأيام الأعياد عنده، علماً بان والد طارق عمل في سلك الشرطة وتولّى مناصب عديدة معظمها في الفرات الأوسط في الكوفة وسدّة الهندية والسماوة والرميثة، إضافة إلى أبي صخير.
   وكان والده قد تخرّج من مدرسة الصنائع، وكما يقول عنه طارق كان قريباً من الحركة الوطنية، حيث كان يتعاطف مع حزب الإخاء الوطني وجماعة الأهالي لاحقاً، ثم اقترب من " الحزب الوطني الديمقراطي" وإنْ احتسب على الشيوعيين بعد الثورة، لكنه لم يمارس العمل السياسي ولم ينخرط مع أي مجموعة سياسية، ومع ذلك أحيل على التقاعد بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، وكان طارق متأثراً بجدّه اسماعيل الضابط في الجيش العثماني مثلما تأثر بوالدته الكردية التي يتحدث عنها بإعجاب كبير، وبقدر اعتزازه بنسبه الحسيني الذي تعود أصوله إلى اليمن، فهو " مشبّك العروق" حسب تعبير الجواهري الكبير عن نفسه لتداخله مع سلالات وأقوام عديدة، ومن هنا ينبع شعوره الإنساني، باحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، الدينية والإثنية واللغوية.
   ومثلما كنت أتابع طارق، فهو الآخر كان يتابع ما أكتب، ووجد كل منّا "شراكة" مع الآخر كما عبّر عن ذلك في مقدمة هذا الكتاب، لاسيّما في بعض الاستنتاجات والآراء، خصوصاً وأن الخلفية الأكاديمية والوطنية العراقية هي التي تجمعنا، وخلال لقاءاتي العديدة مع طارق في لندن والقاهرة وأنقرة وبيروت وغيرها، وفي مؤتمرات متعدّدة لجامعات ومنتديات فكرية مختلفة، إضافة إلى الرابطة الدولية للدراسات العراقية التي عمل على تأسيسها، كنت في كل لقاء أسمع منه بعض ما اختزن في زوايا ذاكرته من علاقة مع قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي عمل بصحبته ، إضافة إلى علاقاته مع العديد من قياداتها والزعامات السياسية والفكرية والثقافية، دون أن ننسى أنه عمل في العديد من الصحف وفي الإذاعة وفي الإعلام ، وما كان مشوّقاً حقاً، هو بعض الصور التي حفّزته أسئلتي على استحضارها، في لقاء الجامعة الأمريكية في القاهرة في العام 2015.
   وكنت في كلّ مرّة أحثّه وأطالبه، بل ألحّ عليه بتدوين مذكراته، وهو ما حصل بعد تردّد وعناء، وحين أكمل كتابتها وأرسلها إليّ لكتابة مقدمة لها، وبعد الانتهاء من قراءتي لها وجدتها غنيّة وشائقة، بل أكثر عمقاً وثراءً مما كنت أتوقّعه، فضلاً عن موضوعيتها، ولعلّ طول المران وكثر المراس على العمل الأكاديمي جعلته أكثر عدالة واعتدالاً، خصوصاً وهو ينطلق من وطنية صافية وروح إنسانية نقية، وتلك إحدى صفاته الشخصية والعامة، ناهيك عن تسامحه ومرحه، وطارق اسماعيل ليس من النوع الذي يحبّ الظهور والمباهاة ، بل هو شديد الحرص على تقديم أهم وأكبر الأشياء بطريقة مبسّطة، فالأشياء البسيطة هي الأكثر تميّزاً وطبيعية  .
   وبعد أن التهمت عيوني حروفه الفضّية شعرت بكل بساطة بأنني أمام إنسان كبير بسجاياه الشخصية ودماثة أخلاقه وغزارة علمه، فالإنسان حين يكون كبيراً يزداد تواضعاً، وذلك هو علو الشأن الحقيقي وارتفاع الكعب دون شعور بالتبجّح وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، فقد  قرأت نبرة طارق اسماعيل القوية لكنها دون صخب أو ضجيج، الواثقة دون تكبّر، فهو لم يرفع صوته أو ينسب أمراً إليه، بل حاول أن ينقل ما رآه وشاهده وسمعه وعاشه، حين كان قريباً من موقع الثورة الأول، وكأني به أستذكر جلال الدين الرومي الذي يقول " اخفض صوتك ، فالزهر ينبته المطر ، لا الرعد".
   لقد حاول طارق أن يستذكر بعض ما حدث ومن موقع الرائي والمشاهد والشاهد وأحياناً من موقع المشارك، واكتفى في أحيان أخرى بلغة المؤرخ وتدقيق الباحث ومسؤولية الساعي للوصول إلى الحقيقة، خارج دائرة الآيديولوجيا والانحيازات الجاهزة والأحكام المسبقة، ويقول في مقدمته التي وزعها على ثلاثة أقسام :
   الأول- تمهيدي يستعرض فيه كيف راودته فكرة كتابة ما يسمّيه بـ "الإرهاصات"؛    والثاني- يتناول فيه بألم أوضاع العراق بعد الاحتلال ويطلق عليه "العزيز الذي مات"، وهو الأمر الذي خبا بعد أن كان الحلم حاضراً في الإتيان بنظام يضع حدّاً للدكتاتورية والاستبداد، ويعيد للعراق وجهه المشرق كأحد شعوب الأرض المتميزة التي علّمت البشرية أولى حروف الأبجدية وعلوم القانون والفلك والطب وغيرها من دُرر الحضارة الإنسانية، وإذا به ينجرف نحو الطائفية البغيضة ونظام يقوم على الزبائنية والمغانم في إطار محاصصة مذهبية - إثنية وفي ظل احترابات خارج دائرة المواطنة ومرجعيات فوق مرجعية الدولة.
   والثالث - استعاد فيه الحديث عن أوراق ضائعة وعنونه: "أيامي في بغداد"، وحاول فيه أن يجيب لماذا هذه الخواطر؟ ويسميها "خواطر" بعد أن أسماها "إرهاصات"، حيث يقول " وكنت قد تجنّبت الولوج في عالم السياسة خوفاً من أن اختصاصي الدقيق سيدفعني إلى تحليل سلوك البشر ومحاولة فهم مكنونات صانعي القرار، فضلاً عن فهم التراث والثقافة التي تتحرك فيها تلك الكائنات، فوجدتني أشعر بالحيرة وأنا أحاول أن أكون منصفاً وعلمياً" وهي حيرة الباحث الموضوعي، ولعلّه حسب ابن عربي :
الهدى بالحيرة
والحيرة حركة
والحركة حياة
   لم توهن غربة طارق اسماعيل، التي زادت على نصف قرن ، من روحه الوطنية الوثّابة وتعلقه بكل ما له صلة بالعراق،  وكان أحياناً وعند منتصف الليل يتصل بي ليسأل عن خبر سمعه، أو ليتأكد عن حدث  ما،  أو ليدقق معلومة، أو ليسأل عن كتاب أو بحث أو ليلفت نظري إلى قضية ما أو مسألة مهمة، وسرعان ما يدرك "أنني كائن صباحي" وليس "كائناً مسائياً" أو " ليلياً"، فيستدرك ليغلق السماعة سريعاً، وليكتب لي ما يريد، فأجيبه قدر معرفتي ومستطاعي في اليوم التالي، وهكذا كانت الصلة والعلاقة خلال ربع القرن الماضي.
   وإذا كانت المذكرات قد احتوت على زفرات من الإنفعالات  والهموم التي ترك لقلمه أن يضعها على الورق، فهي ليست سوى آلام وعذابات لرجل ظلّ قلبه على وطنه في أحلك الظروف ولم يتوانَ رغم كل شيء من تقديم ما يستطيع له، وهو في الغربة، بغض النظر عن مواقفه وآرائه، وكم كان مفيداً لو استفادت الحكومات المتعاقبة من الكفاءات العراقية، خارج دائرة التصنيف المسبق الصنع الذي كان "الجميع" ضحاياه، وتنقّل بين نعيمه وجحيمه، وآن الأوان لإدراك هذه الحقيقة، وكل تجربة بنقدها، لأنه دون النقد لا تقويم حقيقي ولا معالجة للعيوب والمثالب والأخطاء، فما بالك إذا كان بعضها خطايا وآثام .
V
   حين نشر طارق كتابه عن الحزب الشيوعي العراقي أبديت له بعض الملاحظات الانتقادية  وتقبّلها برحابة وسعة صدر، خصوصاً ما يتعلّق ببعض خلافات الحركة الشيوعية من داخلها، لاسيّما سنوات السبعينات والثمانينات والموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، وحركة المنبر الاحتجاجية، واستعاد بعضها بشغف بعد إصدار كتابي " عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل" - 2013  وقام بعدها بإجراء مقابلات معي ودوّن ذلك في مقالة مهمة له باللغة الانكليزية ، اقتبستها لأعيد نشرها في كتاب يصدر لي عن بعض قضايا الخلاف في الحركة الشيوعية.
   وطارق اسماعيل وإن لم ينتم يوماً إلى الحركة الشيوعية، لكنه يكّن لليسار احتراماً خاصاً، لأنه يراه يمثل القوى الأكثر مدنية وتحضراً وثقافة وحبّاً للحياة والجمال والعمران ومناهضة الاستغلال والدعوة للمساواة والعدالة الاجتماعية، خصوصاً وإن القسم الأكبر من صداقاته القديمة كانت مع مفكرين وأكاديميين ومثقفين يساريين وتزخر المذكرات بأسماء عديدة مثل بلند الحيدري  وبدر شاكر السياب ويوسف العاني وخالد الجادر وابراهيم جلال  وفؤاد التكرلي وسليم الفخري وابراهيم كبه وحسين مردان، لكن ذلك الموقف الشديد الاحترام لليسار العراقي، لم ينسه بعض أخطائه، بل حاول أن يذكّر بها، ولعلّ الخطأ الأكبر عنده هو موقف الحزب الشيوعي من الاحتلال الأمريكي والتعاون مع مجلس الحكم الانتقالي، وحسب رأيه إن ذلك أضعف الحزب الشيوعي، فما الذي سيتبقى من الماركسية؟
   ويكتب باعتزاز عن تاريخ الحزب الشيوعي الذي يقول عنه إنه شق طريقه في  النشاط الطليعي خلال القرن العشرين كلّه، ودعا إلى دولة عصرية مستقلة واتخذ مواقف سياسية رصينة وطرح قضايا اجتماعية واقتصادية جذرية وقدّم حلولاً ومعالجات مهمة، وقاد تحركات شعبية كبرى وعبّأ الجماهير للدفاع عن حقوقها ، لكن موقفه من دعوة بول بريمر الانضمام إلى مجلس الحكم الانتقالي عصفت بتلك التجربة والدور الطليعي الذي قام به.
   وبالعودة إلى تقييمه الإيجابي للفكر اليساري الماركسي ولعمل الحركة الشيوعية فإن كتابه يعدّ مرجعاً للحركة الشيوعية، بل لا غنى عنه، وقد استعرض فيه تاريخ الحركة منذ التأسيس وحتى السنوات الأخيرة، ما قبل الاحتلال وما بعده. وقد استكمل ذلك بمقطع مهم عن حركة المنبر ، نشره في مجلة المستقبل العربي ، العدد 439، أيلول  ( سبتمبر)، 2015 تحت عنوان "حركة المنبر الشيوعية: بين التبشير والتنوير!"
وكنت  قد عرّفت بهذه المقالة بالقول" أعتقد أن ما كتبه د. طارق اسماعيل سيسدّ فراغاً في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية المدوّن وغير المدوّن ولحقبة مهمة من تاريخ العراق، وتأتي هذه الدراسة، بعد نحو ثلاثة عقود من الزمان على انطلاقة المنبر، وبعد نحو ربع قرن على توقف عملها، لتكشف بالوثائق تفاصيل حركة المنبر وتسلّط الضوء على منطلقاتها ومطبوعاتها، كجزء من تاريخ الحزب الشيوعي، وذلك خدمة للحقيقة والتاريخ."
   وقبل أن أنهي هذه الفقرة وأنا أعرّف بالكتاب والمذكرات وبالمؤلف أنقل ما ذكره ثلاثة من الخبراء بشأن كتاب طارق اسماعيل عن الحزب الشيوعي :
   تقريض كلين رانكوالا - كلية ترنتي - كامبرج
   دوّن طارق اسماعيل تأريخ قيّم للفكر السياسي التقدمي العلماني للسنوات المئة الماضية، من خلال التحليل المنسجم والدقيق والمحايد، كيف أن حزباً جماهيرياً بمثله العليا وبالتصاقه بآمال وتطلعات الجماهير ، قد تفسّخ تحت ثقل الاضطهاد والظلم والسياسة الدولية وحماقات قادته.
   واطلعنا اسماعيل على التركة الفكرية الهامة والحيّة في ضمير الشعب العراقي ، تعي جيداً بأن السياسة هي ليست ببساطة الخيار بين طغيان صدام حسن والاحتلال الأمريكي.

   تقريض جارلس تريب- جامعة لندن
   إنه عمل يعج بالحراك والتفاصيل عن صعود وسقوط الحزب الشيوعي العراقي. لقد لامس البروفسور اسماعيل النضالات  والصراعات الفكرية التي واجهت العراقيين الذين أصرّوا على تغيير الظروف الاجتماعية المتردية لمواطنيهم وعلى تخليص بلدهم من السيطرة الخارجية ، لتأسيس حكم ديمقراطي اشتراكي.
   أظهر هذا العمل إلى العلن المعارك الأيديولوجية والفكرية للحزب الشيوعي العراقي، من خلال سلسلة من المقابلات مع عدد من الذين عايشوا النضال ومن مذكرات آخرين فضلاً عن أدبيات ووثائق الحزب ومصادر صحفية .
   أظهر هذا البحث ، المأزق الذي وصل إليه الحزب الشيوعي العراقي، بحيث لم يكن بإمكانه أن يتساوق لا مع قوة دولة عدوانية ولا مع الكفاءة التعبوية لمناصريه مما أجبره على المساومة التي هدّدت كيانه ووجوده.

تقريض أريك ديفز- جامعة روتجرس
   إنه أول دراسة باللغة الإنكليزية عن الحزب الشيوعي العراقي، الذي هو واحد من أكثر الأحزاب السياسية قوة وشهرة في العالم العربي . باعتماد مصادر عديدة ومقابلات مكثفة لعراقيين ذوو خبرة عميقة في معرفة الحزب، فإن البروفسور اسماعيل أظهر لنا كيف أن الحزب قد جذب أعضاء كان اهتمامهم بالماركسية أقلّ من تأكيدهم على العدالة الاجتماعية وعلى معاداة الطائفية.
   لقد أظهرت هذه الدراسة أن موقف الحزب الشيوعي العراقي من المناطقية والطائفية، جعلت منه الحزب الجماهيري الوطني الحقيقي الوحيد بين الأحزاب الجماهيرية الأخرى. كما أنه بيّنت أن الحزب الشيوعي العراقي قد استمر في نهجه بالتعاون فيما بين كل العراقيين من مختلف الانتماءات الإثنية في نظام ما بعد البعث.
   وأود هنا أن أعرّج على ما دوّنه القيادي الشيوعي العراقي السابق حسقيل قوجمان بشأن انطباعاته عن كتاب طارق اسماعيل، الذي يعتبره أفضل كتاب يعبّر عن تاريخ الحزب الشيوعي تعبيراً صادقاً، ويشدّد على كونه أروع ما كُتب ويدعو لترجمته للغة العربية (موقع الحوار المتمدن، 24 أيلول/سبتمبر/2009)، وكنت قد ذهبت بذات الاتجاه حين اعتبرت كتاب طارق اسماعيل من أهم الكتب عن تاريخ الحركة الشيوعية .
   ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن تاريخ الحزب ليس من السهولة كتابته أو اختزاله أو حصره بمرجعية واحدة ووحيدة فهو متنوّع ومتشعّب وعويص، علماً بأن المؤتمر الثاني للحزب (العام 1970) قرر تكليف لجنة لهذا الغرض، لكن هذه المهمة لم يتم انجازها وهو ما يذهب إليه عبد الرزاق الصافي، على الرغم من تكليف رسمي لـ عزيز السباهي لاحقاً وتوفير المستلزمات الضرورية لقيامه بهذه المهمة، لكن ما أنجزه حتى وإن كان يمثّل الجناح الرسمي، لكنه كان يمثّل  في الوقت نفسه وجهة نظر خاصة، وسرعان ما وردت عليه ردود فعل وملاحظات  حادّة وشهد شدّاً وجذباً، حتى أن أحد إدارييّ الحزب السابقين كتب كتاباً تضمن قراءة نقدية لكتاب السباهي، وعنوان الكتاب الأول "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" وصدر عن مجلة الثقافة الجديدة، العام 2002، أما الكتاب الثاني فقد حمل عنوان " قراءة في كتاب عزيز السباهي" وصدر في العام 2007 وهو من تأليف جاسم الحلوائي.
   وبتقديري إن ثلاث جهات حاولت كتابة تاريخ الحزب ولكل أغراضه:
   أولها - حزبية من داخل الحزب أو كانت قد عملت في صفوفه ومن هذه الكتابات كتابي سعاد خيري وزكي خيري وهما " فهد والنهج الماركسي - اللينيني في قضايا الثورة ، بغداد 1972". أما الكتاب الثاني فهو " دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، دمشق، 1984"، وكتابات ابراهيم علّاوي (نجم محمود) ، وخصوصاً كتابيه " الصراع في الحزب الشيوعي العراقي وقضايا الخلاف في الحركة الشيوعية" و" الخلاف السوفيتي - الصيني وأثره على الحزب الشيوعي العراقي"، وهناك كتابات أخرى لبعض إداري الحزب السابقين ويمكن الإشارة هنا إلى كتاب نصف قرن من النضال الوطني والطبقي الصادر عن منشورات الحزب الشيوعي ، القيادة المركزية ، العام 1984.
   وثانيها- مؤلفات أكاديمية من خارج الحزب، بما فيها بعض أطاريح الماجستير والدكتوراه وأهمها كتاب حنّا بطاطو عن العراق  وهو يتألف من 3 أجزاء، وقام بترجمته عفيف الرزّاز، خصوصاً الجزء الثاني الموسوم " الحزب الشيوعي" ط2 ، 1996 والجزء الثالث المعنون " الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار"، ط2 ، 1999،  وصدر عن مؤسسة الأبحاث العربية، وقد خصص جزءًا مهما منها لتاريخ الحركة الشيوعية وأجزاء اتصالات بعدد من إداري الحزب السابقين، كما اطلع على وثائق الأمن العام والتحقيقات الجنائية السابقة.
   وثالثها- ما كتبه بعض المعادين للحزب الشيوعي والشيوعية أو المرتدين عليه، وأهم الكتب في هذا الميدان كتاب سمير عبد الكريم، وهو اسم وهمي وصدر لدار نشر وهمية، ويبدو أن أجهزة المخابرات العراقية هي من قامت بترويجه مع مجموعة كراريس أخرى في أواخر السبعينات والثمانينات وما بعدها. وكتاب مالك سيف " للتاريخ لسان" الذي صدر في العام 1983، وورد في مقدمته أنه ذكريات وقضايا بالحزب الشيوعي منذ تأسيسه حتى تاريخ صدوره .
   ويأتي كتاب طارق يوسف اسماعيل ليسدّ نقصاً كبيراً في المكتبة العراقية بشكل عام واليسارية بشكل خاص لما احتوى عليه من معلومات وتدقيقات وما قام به من جهد بإجراء مقابلات حيّة، فضلاً عن موضوعيته، حيث استند إلى المواقف المختلفة من مصادرها الأصلية وعلى لسان أصحابها، لذلك يستحق مثل هذا الاهتمام الكبير، علماً بأن طبعته الجديدة ستتضمن إضافات ومعالجات ووثائق لبعض قضايا الخلاف لم يتم التطرّق إليها في الطبعة الأولى كما وردت الإشارة إليه، وهو ما يعدّه للطبعة العربية حالياً.
VI
   كان طارق اسماعيل تلميذاً نجيباً لعلي الوردي وعلي جواد الطاهر، اللذان كانا من أوائل الذين أثرّوا في مشواره الأكاديمي الطويل والعويص والمتشابك، وحاول بما اكتسبه من معارف وعلوم لاحقة أن يتبع منهجاً وضعياً تاريخياً في تناول الأحداث الاجتماعية، بما يعطيها دلالات أكثر حيوية، بل يجعلها أكثر اقتراباً  من نبض الحياة ذاتها، ومثل هذا المنهج استخدمه في علوم السياسة والعلاقات الدولية، التي درّس فيها في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، في الولايات المتحدة وكندا والجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة وجامعة بغداد كأستاذ زائر.
   ووفاء منه لذكرى علي الوردي فقد بادر في إطار الجمعية الدولية لدراسات الشرق الأوسط والرابطة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة وبالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت AUB إلى تنظيم مؤتمر للاحتفال بمنجز الوردي بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده حضره عشرات من الباحثين والأكاديميين (25-26 فبراير/شباط 2014).
   ولعلّ مذكّراته التي حاولتُ تأطير الحديث عن بعض زواياها فكرياً والانطلاق منها لمناقشة بعض أوضاع العراق، تحمل الكثير من القصص والحكايات والأحداث، ولذلك سأكتفي بهذا القدر وأترك للقارئ فرصة الاستمتاع بها، بل والاندهاش بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني، وسيكتشف عالماً غنياً ومثيراً في آن، وسيكون الأمر أكثر دهشة وانبهاراً للجيل الجديد الذي لم يعش تلك الفترة الخصبة من تاريخ العراق بما فيها صراعاتها بكل ما لها وما عليها . ولعلّه حتى أخطاء ونواقص تلك الأيام على حجمها وضخامتها، إلّا أنها كانت صميمية تعبّر عن اجتهادات ومواقف لقوى وتيارات أخطأت في اختيار الطريق الصحيحة.
   "فعراق اليوم ليس هو عراق الأمس الذي عشته" كما يقول طارق، وهو على حق، وأهله اليوم ليسوا أولئك الذين عرفتهم وعشت بينهم، كما يذكر في خاتمة مذكراته، ويقول "أجزم بأن ما كان يُدعى "عراقاً" لم يعد موجوداً، فقد حاول الغزو الأمريكي ومن جاء معه " اختطاف الوطن" وتعريضه للقضم والتفتيت واغتيلت صورة العراق موطن الثقافة وأساس الجذور الأولى للبشرية، خصوصاً حين عمّ الحقد وتفشت الكراهية وسادت الطائفية وانتشر الكثير من مظاهر التعصّب والتطرّف والعنف مصحوبة بالكذب والدجل ..."
    بذلك يختتم طارق مذكراته  التي أرادها لأحفاده بهذه اللغة المؤلمة، حيث يرى "تجار السياسة " وهم يتصدّرون المشهد العام، علماً بأن  للتجارة أخلاقها ومقاييسها وقوانينها وأصولها ووسائلها المعروفة ، لكن ذلك لم يكن يأساً منه، بل تعبيراً عن واقع مأساوي " لأن من أفجع ما تبصره العيون / وجوه أولادي حين يعلمون" كما  ورد من نفثة حزن من الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته  "الزائر الأخير".
   كتب طارق بقلب حار فاستحضر التاريخ ليعطينا العبرة والدلالة، ففاض فيه، ولأن التحقّق والامتلاء مصدره ذاتي وعفوي، فقد طفح بالوطنية ، وتلك في كل الأحوال "إرهاصات" و"خواطر" أكاديمي وعالم اجتماع وتاريخ وسياسة وأخلاق، هي كل رأسماله، إضافة إلى صداقاته في رحلته الشائكة فـ" ليس من رحلة أشقّ من العودة إلى العقل" حسب الشاعر والكاتب المسرحي الألماني برتولت بريخت .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مفكر وباحث عربي من العراق، له عدد من الكتب في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والأدب والثقافة والنقد. أستاذ القانون الدولي وحالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في جامعة أونور(بيروت) .حائز على وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.
(الناشر)


208
اللحظة العراقية - اللبنانية
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
ما يحصل في العراق ولبنان، هو سابقة جديدة حيث تعجّ الساحات بالمتظاهرين السلميين العزّل إلّا من "سلاح"  العَلَمْ الوطني والتواصل الاجتماعي والضمير الإنساني، ولم يكن بينهم وجهاً معروفاً إلّا استثناءً أو مجاملة أو لالتقاط صورة "تذكارية"، وهكذا انزوى  وتوارى عن الأنظار، بل غاب واختفى كلياً، القسم الأكبر والأعظم من السياسيين، إمّا خجلاً لما صنعوه لهذا الجيل أو خوفاً وخشية من ردود الفعل.
كيف يمكن أن يجتمع هؤلاء الذين لم يجتمعوا سابقاً إلّا ما ندر ؟ وما الذي وحّد  هؤلاء البشر المتراصين في الساحات المكتّظة؟ فهل تحرّكت الملايين بفعل إشارة خارجية وبالريموت كونترول كما يذهب البعض أم طفح بها الكيل ففاضت مشاعرها حرصاً على الوطن والكرامة والحقوق؟
وعلى الرغم من محاولات الاندساس أو الاختراق أو الاستغلال والتوظيف، وهو أمر لا تخلو منه أية حركة احتجاجية واسعة، فما بالك بالملايين، إلّا أن الوطن كان المظلّة التي تفيأ في ظلّها هؤلاء الشابات والشبان، باستعادة الوطنية العراقية واللبنانية، تلك التي تتّسم بالعفوية والبساطة والبعيدة عن الأيديولوجيا، لتكون قاسماً مشتركاً أعظم  لهذه الجموع التي واصلت الليل بالنهار دون كلل أو ملل.
وثمّة سبب آخر هو شعور الشابات والشبان بالاغتراب وتبدّد الوطن،  ومثل هذا الشعور ناجم عن جشع الطبقة السياسية الحاكمة وهي طبقة غريبة عنهم، بعد أن أخذت أحاسيسها تتبلّد بالتدرّج وضميرها يصاب بالخمول، حتى إزاء الدماء الساخنة التي سالت، لدرجة أنها انفصلت كلياً عن آمال وطموحات المحرومين والجياع والعاطلين، وزاد عليها في العراق ما تركه الاحتلال من نظام محاصصة طائفي وإثني، ناهيك عن النفوذ الإقليمي المؤثر بصورة مباشرة. أما في لبنان فكان على الدوام يخضع لحسابات القوى الإقليمية والدولية التي ترسم له خريطة طريقه، بالدم تارة وبالقسمة الضيزى في أحيان كثيرة، ولا زال يدفع الثمن من دمه ولحمه وهجرة شبابه وشاباته.
وكشفت الأزمة الراهنة (اكتوبر/تشرين الأول 2019) أن الطبقة السياسية المتنفّذة بغض النظر عن خلافاتها، اتّحدت فيما بينها وتضامنت مع بعضها البعض  للحفاظ على ما هو قائم وتأمين مصالحها برغم تعارض أهدافها، بما فيه إفلات الجناة من العقاب ومن المساءلة عن الفساد المالي والإداري والصفقات والسمسرات، دون أي إحساس بالمصالح الوطنية العليا، أو حتى كلمة اعتذار عمّا حصل.
لم يشهد البلدان مجاعة في تاريخهما المعاصر، لكن الجوع هذه المّرة عضّ الجميع، وخصوصاً فئة الشباب الأكثر حيوية والأشدّ تطلّعاً للمستقبل، فوجدوا فيه ذلاً سعوا لوقفه وهم يعرفون كيف امتلأت مصارف بلدان عديدة من ودائع سياسيي بلدانهم، حيث تتقاسم الوظائف العليا فيه بيوتاً بعينها، سواء باسم الدين أو الطائفة أو بغيرها، فأصبحت تتحكّم بمصائر هذين البلدين وتهيمن عليهما، في حين تظلّ الغالبية الساحقة من الشابات والشبان تعاني من البطالة وشظف العيش وفقدان الأمل.
إن الذين خرجوا للاحتجاج هم خارج نطاق الآيديولوجيا وخارج نطاق السياسة وخارج نطاق الأحزاب، لذلك صبّوا جام غضبهم على السياسيين " كلّن يعني كلّن باللبنانية" و"كلهم حرامية بالعراقية"، حتى وإن كان في الأمر شيء من التعميم والإجحاف، لكن للجيل الجديد لغة أخرى ورؤية مختلفة، لأنه جيل ولد من رحم اليأس والفقر والحروب والطائفية والنزاعات الأهلية، جيل لم تعد تهمّه الشعارات البرّاقة، إنه يريد وطناً يؤمّن له حقوقه الإنسانية وكرامته الوطنية والشخصية، لاسيّما بتوفير حدٍّ أدنى من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، فذلك طموحه.
سئم الجيل الجديد الاصطفافات الطائفية والانقسامات المذهبية والإثنية والتوجّهات الدينية والأيديولوجية، ووجد هويته الحقيقية في الوطنية والمواطنة والمشترك الإنساني، على الرغم من أن السياسيين أرادوا "حبسه" في أطر ضيّقة، فلم يكن هذا الجيل مسيحياً أو مسلماً ولا شيعياً أو سنياً أو غير ذلك من التسميات، فمن أقصى مدن الشمال اللبنانية (طرابلس) وإلى أقصى مدن الجنوب (صور) كان هناك صوت واحد على لسان الجميع " كلّنا للوطن " ومن (بغداد) إلى (البصرة) ومحافظات الوسط والجنوب، وبالتعاطف من سكان المناطق الغربية والشمالية، فضلاً عن أن نحو 3 ملايين نازح ما زالوا خارج سكناهم، الذين لم يشفوا بعد من داعش وما ارتكبه بحقهم، كان الصوت واحداً "موطني ..موطني"، وحتى المواطن الكردي في إقليم كردستان فإن همومه لا تختلف عن هموم المواطن العربي في العراق، باستثناء طموحه في كيانية خاصة به.
أدرك هذا الجيل أن دستوراً يقوم على المحاصصة الدينية والطائفية ويعتمد على الزبائنية السياسية وتقاسم الغنائم ليس بإمكانه أن يحقق له الحياة الحرّة الكريمة، فلم يبق أمامه سوى الانتفاض لتغيير قواعد اللعبة ، لذلك جاءت مطالباته عابرة للطوائف والفئويات، وداعية لنبذ وتحريم الطائفية بوضع قواعد جديدة لدولة جديدة أساسها إحترام المواطن وتلبية احتياجاته الأساسية دون تمييز.
فهل سيُصغى إلى لحظة الحقيقة اللبنانية- العراقية ؟

drhussainshaban21@gmail.com


209
والمجموعة الرابعة- "الأنظمة التسلطية أو الاستبدادية" وعددها 52 دولة ونسبتها إلى  مجموع بلدان العالم 31.1%، وجاء ترتيب البلدان العربية بين المجموعتين الثالثة والرابعة.
إن تصنيف تونس ضمن المجموعة الثانية، إلى صف بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وهي بلدان ديمقراطية عريقة يعني أنها تسير بالاتجاه الصحيح في طريق التحوّل الديمقراطي الذي يحتاج إلى المزيد من حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات وحماية الحقوق والحريات العامة والخاصة وتأمين مستلزمات عيش كريم وضمان اجتماعي وسلم مجتمعي وتوافق بين القوى والتيارات السياسية الأساسية على قواعد اللعبة الديمقراطية وتجنيب البلاد أي منزلقات من شأنها أن تؤدي إلى تصدعها ، وقد أدركت الحركة السياسية برمتها بما فيها القوى الإسلامية وأقصد بذلك حزب النهضة وزعيمه الشيخ راشد الغنوشي أن ليس بإمكان قوة لوحدها أن تتحكم بمصائر البلاد أو أن تحصد نتائج الثورة ، الأمر الذي يستوجب التفاهم والتعاون والتنسيق بينها بالاستفادة من تجربة "الأخوان المسلمون" في مصر، وقد أبدت الفاعليات والأنشطة السياسية، ولاسيّما المجتمع المدني نضجاً كبيراً ووعياً متقدماً حين تشبثت بالحوار ونزعت فتيل الأزمة التي اندلعت حينها وكادت أن تؤدي بالتجربة إلى المجهول، ولهذا استحق المجتمع المدني جائزة نوبل العام 2015  وهي تمنح لأول مرة لجهات مدنية وليس لأشخاص وقد كانت المنظمات الأربعة التي ساهمت في تهيئة مناخ الحوار هي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس .
إن استعادة الوعي العربي في ظل العوامل المؤثرة الداخلية والخارجية في المشهد العربي الراهن تحتاج إلى التوقف عند الإصلاح  الذي لم يعد مجرد فكرة تثير اختلافات حول المعنى المضمون أو حول الآليات والوسائل حسب ، بل أصبح قبل ذلك كلّه حاجة ماسّة وضرورة ملّحة داخلية قبل أن تكون خارجية ، لذلك اقتضى الأمر التسريع به وتوفير المستلزمات لنجاحه، خصوصاً وأن أوضاعنا العربية في الكثير من البلدان وصلت إلى حالة من انسداد الأفق ، ولهذا أخذ بعضهم يفكّر "بعمليات قيصرية " قد لا تكون نتائجها مضمونة أو محمودة العواقب.
وعشية ما سمّي بالربيع العربي شاعت بعض المصطلحات من قبيل " الإصلاح القسري والإصلاح الطوعي " أو "الإصلاح بالقوة والإصلاح باللين "، و"الإصلاح المذموم والإصلاح المحمود"  و"الإصلاح المنضبط والإصلاح المنفلت" لدرجة أن الإصلاح أصبح هاجساً ضاغطاً على السلطات والمعارضات، والأمر استمر حتى في البلدان التي شهدت تغييرات في قمة السلطة، فبدلاً من التنافر والاحتراب والصدام بين (السلطة و المعارضة والفعاليات الاجتماعية والمدنية)، أصبح من العقلانية والموضوعية والحكمة، حشد الطاقات لإحداث نوع من التراكم والتطوّر التدرّجي الطويل الأمد لتحقيق الإصلاح والتحوّل الديمقراطي ، بدلاً من الصراع ووصول الفرقاء إلى طريق اللّاعودة المفضي  إلى المزيد من التوترات والاحتقانات الداخلية .
      يمكن القول واستنتاجاً مما حصل في أفغانستان والعراق وتعرضهما للاحتلال، إنْ لم يأتِ التغيير تدرّجياً " تراكمياً " وضمن مسار وإنفتاح، فإنه قد يأتي عاصفاً ومدّوياً ويترك انعكاساته السلبية الخطيرة على أوضاع الحاضر وكذلك على أوضاع المستقبل، ناهيكم عن كونه يعطّل ويُبعد الاصلاح الحقيقي المنشود.
      ولا بدّ هنا من الإشارة  إلى أننا عندما نتحدث عن الإصلاح الديمقراطي ، فلا نقصد بذلك الحكومات وحدها، لأنها مهما حاولت وسعت، على الرغم من أنها المسؤولة الأساسية، إلاّ أنها لا يمكن أن تتصدىّ لهذه المهمة الطويلة والمعقدة بمفردها فقط. الحكومات بحاجة  إلى شراكات حقيقية من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية والمهنية، للاضطلاع بدورها في عملية الإصلاح الديمقراطي، وهي مسؤولة أيضاً عن نجاح أو إخفاق عملية الإصلاح وإنْ كانت بدرجات أدنى .
ولأن الإصلاح شاملاً، فإنه تعبير في اللحظة التاريخية عن مسار كوني وسياق عالمي وتاريخي، لا يمكن عزل هذا البلد أو تلك الدولة عنه ، أنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، وخصوصاً في ظل العولمة وثورة الإتصالات  والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام وتحوّل العالم  إلى " قرية كونية " والتفاعل والتداخل والتشابك بين أجزائه المختلفة، فلم يعد بإمكان بلد ما أن يعيش في عزلة أو خلف "ستار حديدي" أو يمنع مواطنيه من التأثر بما يجري في العالم، فالتلفزيون والكومبيوتر والانترنت وتكنولوجيا المعلومات، أصبحت وسائل تدخل البيوت دون أي استئذان أو ترخيص  وتؤثر في العقول والاتجاهات والأنظمة والمجتمعات على نحو عاصف . 
ولهذا السبب أيضاً لا يمكن اليوم التعكًز على بعض القضايا الوطنية وبحجة السيادة أو عدم التدخل بالشؤون الداخلية، للتضحية بقضية الإصلاح أو مقايضة الديمقراطية والتنمية، لأن ذلك سيؤدي  إلى تدابير وتسويغ وجود واستمرار النُظم المستبدّة والمعادية للديمقراطية والإصلاح، مثلما لا ينبغي بحجة الإصلاح إرتهان الإرادة الوطنية وإخضاع المصالح الوطنية والقومية للقوى الخارجية وللمشاريع الأجنبية، أي قبول منطق الإستتباع والهيمنة والتعويل عليه لإنجاز مشروع الإصلاح الديمقراطي.
      إن المعادلة الصحيحة، التي على الحكام العرب أن يدركوا مخاطرها وأن يتعلّموا دروسها جيداً، مثلما على القوى المعارضة أن تعي انعكاساتها الخطيرة على قضية الإصلاح، لكي لا تتورّط  بالغرق فيها  و"ساعة لا ينفع الندم"، أقول إن المعادلة التي ينبغي على السلطات الحاكمة والمعارضات السياسية وقوى المجتمع المدني أن تعمل بها هي: أن الشروع بالإصلاح واعتماد التحوّل الديمقراطي والتوّجه نحو التنمية يضعف فرص التدخل الخارجي، ويحول دون إعطاء مبرّرات للقوى الأجنبية لمدّ نفوذها وتغلغلها، والعكس صحيح أيضاً.
فكلّما تنكّرت القوى الحاكمة لاستحقاق الإصلاح والديمقراطية أو سعت المعارضات السياسية للاحتماء بالخارج والتعويل عليه بحجة العجز أو الجزع من مواصلة النضال لتحقيق الإصلاح الديمقراطي وانسداد فرص تطوير الأوضاع السياسية من الداخل ، كلّما كان التداخل الجراحي الخارجي خطيراً، وتذهب بل تتبدّد معه خطط الإصلاح والآمال ، خصوصاً ما يجلب التدخّل الخارجي من سوءات وإشكالات، سواءً كان حصارات دولية أم ضغوط تقترب من الحرب أم شن حروب واحتلالات.
ولعل النموذجين الأفغاني والعراقي يشيران على نحو شديد  إلى حقيقة صارخة هي الأخرى، تكمن في أن رفض الإصلاح والديمقراطية داخلياً، قاد  إلى احتلالات وفرض إرادات خارجية، وإنْ كان ذلك تحت حجج وذرائع متناقضة، ولكن وفي كلي الحالين كانت الديمقراطية والإصلاح والتقدم الاجتماعي والتنمية ومصائر الشعوب ومستقبلها هي الضحية.
صحيح أن للقوى الخارجية مصالحها وخططها ، لكن "بعضهم" كان يعطيها مبررات ومسوّغات إضافية للتدخل وإملاء الإرادة.
إن الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي، يتطلب الإقرار بالمساواة بين المواطنين وبمبادئ المواطنة الكاملة، الأساسان في الدولة العصرية ، وهذان الأمران يتطلبان إقرار واعتماد التعدّدية الفكرية والتنوع السياسي والقومي والديني في مجتمعاتنا، وضمان الحرّيات للأفراد والجماعات وبخاصة حرية التعبير وحرية التنظيم السياسي والنقابي والمهني وحرية الاعتقاد وتوسيع دائرة المشاركة السياسية باعتبارها حقاً أساسياً ، يضمن حق توّلي المناصب العليا والوظائف العامة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة أو الإتجاه السياسي أو الانحدار الاجتماعي أو الجنس أو المعتقد أو لأي سبب آخر ، وبهذا المعنى فإن الإصلاح الديمقراطي يقتضي تأمين حقوق النساء ومساواتهن مع الرجال طبقاً للمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان   والشرعة الدولية وكذلك الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة .
     ولا يمكن هنا التذرّع بالخصوصية للتملّص من الاستحقاقات الدولية والآليات العالمية للإصلاح مثلما لا ينبغي التجاوز على الخصوصيات وعدم احترامها بحجة " العولمة"  والكونية ، وإنما يمكن الاستفادة منها في رفد التيار العالمي من خلال خصوصياتنا ، وليس التحلل من إلتزاماتنا بالمعايير الدولية .
وتتطلب حيثيات الإصلاح نبذ العنف من الحياة السياسية والركون  إلى الوسائل السلمية واعتماد لغة وفقه الحوار والتعايش والاعتراف بالآخر، كما يتطلب الإصلاح الديمقراطي إجراء انتخابات دورية لاختيار الشعب لممثليه .
      أربع مخاوف أساسية تسلّلت إلى الواجهة  في النظر إلى مسألة الإصلاح
الأولى -  القلق من حضور القوى الدينية والسلفية
الثانية-  الخوف من الفوضى
الثالثة-  محاولات الاستغلال الخارجي
الرابعة- الخشية من انتعاش الجماعات الإرهابية وانفلات الإرهاب.
وهذه المخاوف الثلاث برزت خلال ما أطلق عليه " الربيع العربي" حيث  ارتفع قلق وهاجس بعض الجهات والجماعات من حضور القوى الدينية أو الجماعات السلفية، إما  لاعتبارات  آيديولوجية  أو  دينية بصبغة طائفية أو لأسباب سياسية أو اجتماعية.
لكن هذا القلق لم يكن الهاجس الوحيد لدى هذه القوى التي بقيت متخوّفة أو متردّدة أو حتى مرتابة من التغيير لهذا السبب،  بل كان الخوف من الفوضى موازياً للخوف من القوى الإسلامية، لاسيّما بعد تجربة "الفوضى الخلاقة" التي ضربت أفغانستان ومن ثم العراق ، بعد احتلالهما العام 2001 و2003، على التوالي.
 يضاف  إلى ذلك، الخوف الكبير والقلق العميق من محاولات الاستغلال الخارجي،  لحركة التغيير، سواءً من خلال توجيهها أم التأثير عليها، بل إن أصحاب نظرية المؤامرة كانوا يقدّمون هذا الهاجس على الهواجس الأخرى التي تعتبر مكمّلة أساساً، لهذا البرزخ الذي يمكن أن يكبر، مستندين  إلى الكثير من الأمثلة والأدلّة، ولعل أكثرها إثارة بالنسبة للعالم العربي ما حصل في العراق نتيجة الاحتلال، واليوم فإن الحالة الليبية مثال صارخ على الاستهداف الخارجي، خصوصاً وان التدخل العسكري لحلف الناتو زاد المشهد  الليبي تعقيداً وعنفاً .
وتبرّر بعض الحكومات القوى السياسية خشيتها من عملية التغيير ووقوفها ضد ما سمّي " الربيع العربي" بزعم أن مثل هذا التغيير غير المنضبط سيقود إلى تسلل القوى الإرهابية، ويضرب مثلاً بتنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة " جبهة أحرار الشام" وأخواتهم حيث أعقبت محاولات التغيير نشاطاً غير مسبوق للقوى الإرهابية في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها.
التغيير أصبح حقيقة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، على الرغم مما أصابه من نكوص وعُسر وانحراف، ناهيك عن محاولة توظيفه لأهداف أنانية ضيقة، على مستوى الداخل والخارج، لكن التغيير في الوقت نفسه مسار طويل ومعقد وفيه الكثير من التعرجات والانحناءات لأنه واقع لا يمكن إغفاله حتى ولو بعد حين وسيتم عبر التراكم والتواصل وتلك سنّة من سنن التطور.

أما حقائق التغيير فهي
الحقيقة الأولى - هو أن التغيير قد بدأ ولا يمكن وقف قطاره حتى وأن تعثّر أو تأخّر، فلم يعد ممكناً العودة  إلى الوراء، مهما كانت المبررات، فالإصلاح والدمقرطة والحريات ومكافحة الفساد وتلبية الحقوق الإنسانية، أصبحت استحقاقاً ليس بوسع أي مجتمع التنصل عنه.
   الحقيقة الثانية - توفّر البيئة المناسبة داخلياً وخارجياً، موضوعياً وذاتياً، فالتغيير هو فعل داخلي بامتياز وإن كانت البيئة الدولية مشجّعة، وسواءً كانت بصدقية أو بتوظيف سياسي، لكن السياسة حسب ابن خلدون هي صناعة الخير العام.. وهي أمانة وتفويض ولا مجرى لها الاّ بين تضاريس المحاسبة والتوضيح، فليس لأحد الحق في امتلاك أركانها، باسم استخلاف إلهي أو ما شابه، وإلاّ فستبقى دواوين التاريخ مفتوحة على أخبار قوى التسلط والتحكّم المناقضة لشرائع النقل والعقل، وهو ما تستهدفه التغييرات التي تطمح إليها الشعوب وحركتها الاحتجاجية.
الحقيقة الثالثة إمكانية التغيير بالسلم وباللّاعنف، وحتى إن لم تستجب بعض الحكومات للإرادات الشعبية، فإن الشباب سيعيد الكرّة بعد الأخرى حتى يحصل التغيير، سواءً حصل من جانبها مرغمة أو مضطرة أو بتخطيّها وانزياحها.
لقد أدركت بعض النخب الحيّة أن طريق العنف لن يقود  إلى تحقيق الأهداف المرجوّة، وسعت على الرغم من عوامل الكبح والمعوّقات  إلى المبادرة الجسورة، بالدعوة  إلى نشر ثقافة اللاعنف، والإستعاضة عن "القوة الخشنة" في حل الخلاف بـ "القوة الناعمة" استناداً  إلى المقاومة اللاعنفية، التي تعني المقاومة السلمية المدنية، سبيلاً لا غنى عنه للوصول  إلى طريق التنمية المنشود.
الحقيقة الرابعة- إنكسار حاجز الخوف الذي هو سمة للمحكومين، وسيفاً مسلطاً على رقابهم، لاسيّما في ظل الأنظمة الاستبدادية، فإن مجرد كسر الحلقة الأولى منه يمكن كسر الحلقات الأخرى تباعاً وعلى جناح السرعة، بل إنه يمكن أن ينتقل  إلى الحكام أنفسهم.
الحقيقة الخامسة- قيادة الشباب لحركة التغيير، وإذا كان الشباب في السابق هو الذي يفجّر الانتفاضات وهو وقودها على الدوام، فالأمر قد تغيّر في موجة التغيير الحالية، فقد أصبح هو من يخطط ويقود وينفّذ، بطريقة حضارية ومدنية راقية، متقدماً على الكيانات  القائمة بما فيها المعارضات التقليدية وغير التقليدية.
الحقيقة السادسة - تتعلق بالاقتراب من الوحدة الوطنية، التي طالما تخوّفت وأخافت الأنظمة السياسية القائمة من تبديدها وتعرّض البلاد  إلى التمزّق والتشتت والتشظي وإذا كان التمسك بالهويات الفرعية مفهوماً بسبب محاولات إحتوائها أو تغييبها في ظل أنظمة شمولية وتسلطية ومركزية صارمة، الاّ أن بروزها لم يكن عامل انقسام بقدر تعبير عن واقع حال في إطار الوحدة الوطنية والهوية الجامعة ولم يبرز من خلال جميع التحركات الشعبية شعارات تقسيمية، بقدر ما أظهرت التمسك بالوحدة الوطنية، فقد تجاوزت حركة التغيير الانقسامات المجتمعية والاختلافات والآيديولوجيات الدينية والطائفية، وأنجزت ما لم تنجزه الحكومات والمعارضات بسرعة مذهلة نجحت في تحقيق أهدافها أم لم تنجح.
الحقيقة السابعة- مشاركة المرأة على نحو لم يسبق له مثيل، ومثل هذه المشاركة أعطت بعداً اجتماعياً جديداً لعملية التغيير، ولعل مطالبة المرأة بحقوقها سيكون من صلب التوجّهات الجديدة للبلدان التي شهدت انتفاضات شعبية، وهذا دون شك سيحفّز القوى التقليدية باسم الدين أو الموروث والعادات والتقاليد التي تحاول منعها من التقدم وتضع العصي في عجلة مساواتها الكاملة ومشاركتها المتساوية.
الحقيقة الثامنة- خلقت الانتفاضات تغييراً في مزاج الجماهير، لاسيما شعور الناس بالثقة والطمأنينة، على الرغم من ارتفاع موجة المجابهة العنفية والمسلحة في بعض البلدان، ولعل هذا المزاج الجديد يمكنه أن يؤثر على نفسيتها إيجابياً، ناهيكم عن قدرتها في التمتع بحريتها وفي التعبير عن مطامحها المكبوتة لعقود من السنين.
الحقيقة التاسعة – كشفت قدرات المجتمع المدني على الرغم من محدوديتها، إلّا أنها ساهمت في إحداث نوع من التراكم في بعض البلدان، حيث لعب المشاركون فيها دوراً غير قليل في الانتفاضات الشعبية، ولا يمنع ذلك أن يكون الحراك عفوياً، لكن الكثيرين من منتسبي المجتمع المدني ساهموا فيه.
الحقيقة العاشرة – الميل  إلى التحديث على الرغم من الكوابح التي وقفت أمام مجتمعاتنا لدخول عالم الحداثة، ولكن هناك بعض الترابط بين الحداثة والمدنية والعقلانية والعلمانية، وتلك مواصفات الدولة العصرية التي كان الشباب يسعون للوصول إليها متغالبة للعقبات التقليدية، العشائرية والطائفية والدينية.

   6- يبدو أن العرب قياساً إلى غيرهم من جيرانهم الطبيعيين كالأتراك والإيرانيين، يفتقدون  إلى مشروع حضاري جامع، يتطلعون من خلاله للمستقبل، فلماذا برأيكم عجز الأمة العربية عن الإجابة عن سؤال التقدم ؟

   هناك أسباب داخلية وأخرى خارجية منعت الأمة العربية من مواكبة النهوض العالمي أسوة بأمم المنطقة الأخرى، ولاسيّما الأمة التركية والأمة الفارسية، وإن كانتا هما الأخريتان تواجهان مشاكل غير قليلة، لكن نخبهما تمتاز عن نخبنا باللقاء عند قاعدة عريضة أساسها المشروع الوطني أو القومي (الدولة - الأمة)، في حين أن المشروع النهضوي العربي ما يزال غائباً ، ويعود الأمر بالدرجة الأولى إلى عامل التجزئة، الذي عانت منه الأمة العربية التي حكمها العثمانيون ما يزيد عن أربعة قرون من الزمان، ثم وقعت غالبية بلدانها تحت السيطرة الاستعمارية  البريطانية والفرنسية .
   وبدلاً من تحرّر العرب وحصولهم على استقلالهم وحقهم في تقرير مصيرهم بما فيه إقامة كيانيتهم الموحدة التي يمكن أن ترتقي إلى دولة كبرى في المنطقة، فقد نكث الحلفاء بوعودهم ، بل قاموا في السر بإبرام اتفاقية سايكس - بيكو العام (1916) بين بريطانيا وفرنسا، والتي قطّعت أوصال البلاد العربية واستهدفت المشروع الوحدوي العربي في بداياته الجنينية الأولى لبناء دولة عربية موحّدة، خصوصاً بربط ذلك بوعد بلفور الذي صدر في  2 نوفمبر 1917 عن  آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك تصريحاً ودعا فيه إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
   وهذه الأسباب كانت وراء كسر الحلم العربي في إحدى حلقاته المركزية في القرن الماضي، ويُراد من صفقة القرن الجديدة، الاستمرار في المخطط الاستعماري الجديد، لتصفية القضية الفلسطينية والإمعان في المزيد من إضعاف الدول الوطنية وتفتيتها.
   وكان لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدور الأساسي في تنفيذ هذا المخطط خطوة خطوة، حيث ابتدأت بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة "إسرائيل" ثم شرعت بتقديم "الجولان السورية" هبة إلى "إسرائيل" دون أي اعتبار لقواعد القانون الدولي، التي لا تعطي المحتل الحق في منح أو إلحاق الأراضي والحصول على مكاسب سياسية.
   وتسعى واشنطن وتل أبيب لضم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى إسرائيل وهكذا يتم بالتدرج إمحاء أثر فلسطين، بما تمثّله من ثقل حضاري وتاريخي ورمزية دينية عربية: مسيحية وإسلامية ويهودية.
   وإذا كان القرن الماضي قد شهد زرع كيان غريب في قلبه ليشكّل حاجزاً بين قسمه الآسيوي وقسمه الأفريقي وبين مشرقه ومغربه، للحفاظ على مصالح الامبريالية العالمية  واستمرار وجودها في المنطقة، فإن القرن الحالي يُراد منه المضي في المشروع الكولونيالي التوسعي الإجلائي ، لاسيّما بإشغال شعوب المنطقة بحروب ونزاعات طائفية وإثنية من شأنها إبعادها عن مهماتها الأساسية في  التحرّر والإستقلال والوحدة والتنمية والتقدم والحياة المدنية الحرّة. وقد أصاب ادوارد سعيد، كبد الحقيقة حين قال: إن أكثر الأيام إيلاماً وإظلاماً في تاريخنا الفلسطيني والعربي هو يوم وعد بلفور، لأنه كان يدرك تداعياته  وأبعاده على مستقبل المنطقة وارتباطه العضوي بالمشروع الصهيوني الذي تأسس وفقاً له.
   بتقديري إن استعادة الوعي بأهمية مشروع عربي نهضوي جديد يحتاج من تفاهمات واتفاقات بين النخب الفكرية والسياسية ، ولاسيّما من الطبقة الوسطى، وذلك يتطلب تجسير الفجوة بين صاحب القرار والمثقف، بحيث يكون الأخير شريكاً فاعلاً في اتخاذ القرار وتنفيذه، وأن يكون الصراع سلمياً والحوار مدنياً وحضارياً وأن يتم نبذ استخدام السلاح وتحريم اللجوء إلى العنف وسيلة لحل النزاعات ، وقد سبق أن نوقش مشروع نهضوي عربي على مدى عقدين ونيف من الزمان في إطار مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي لمركز دراسات الوحدة العربية ، إذْ لا مناص للقوى الحيّة الحاملة لعملية التغيير، ولاسيّما من الطبقة الوسطى من النهوض لمواجهة التحدّيات المشتركة للعالم العربي ككل ، خصوصاً في مجالات التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمن القومي .
ولعلّ الوحدة العربية بمنظورها الجديد يمكن أن تكون ديمقراطية الاسلوب بالضرورة، أي ألاّ تفرض فرضاً وإنما ينبغي أن تقترن برضا شعبي ومن خلال الاختيار الحر الديمقراطي وعبر صندوق الاقتراع أو الاستفتاء، بحيث تكون وحدة شعبية وليست فوقية أو انقلابية أو احتلالية أقرب  إلى الضم والإلحاق.
 أما صيغة الوحدة العربية فقد تكون أقرب  إلى الدولة الفيدرالية (الاتحادية) وقد فشلت حتى الآن جميع التجارب الاندماجية التي حسبما يبدو أن شروطها غير ناضجة، ويمكن أن يكون مدخل الوحدة تدريجياً واقتصادياً طويل الأمد يعتمد على وسائل وأساليب تعددية ومتنوعة وهو لا يشترط انضمام جميع الأقطار العربية اليه مرّة واحدة، بل يمكن لمن لديه جهوزية لذلك وتوفرت الشروط المناسبة لانضمامه.
أما مضمون الوحدة فهي مطلب للمجتمعات وليس حكراً على طبقة واحدة، لكنه دون أدنى شك ينبغي أن يصب في مبادئ العدالة الاجتماعية باعتباره أحد أركان المشروع النهضوي العربي الجديد، ولعل نقيض التخلف والنمو القاصر في ظل العولمة هو التنمية المستدامة المستقلة باعتبارها ركناً من أركان المشروع النهضوي.
وإذا كانت التنمية قد فشلت في تحقيق التقدم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وظل الاقتصاد العربي بجميع أقطاره يعاني من التخلف والتبعية في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر. وازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته، الأمر الذي عمّق الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، الذي يقوم على المضاربات العقارية والمالية وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية، وقد إزدادت المجتمعات العربية فقراً على الرغم من زيادة مردوداتها.
والتنمية المستقلة حسب المشروع النهضوي العربي لا تقوم على فرضيته الأولى "الاكتفاء الذاتي"، و"الانقطاع عن العالم" ، أو فرضية الثانية أي "الاندماج في السوق العالمي"، بل تعني الاعتماد على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وفي مقدمة ذلك القدرات البشرية والمدخّرات الطبيعية، والتعامل الصحيح مع العولمة. وأهم مبادئ التنمية المستقلة هي تحرير القرار التنموي من السيطرة الأجنبية وإعتماد مفهوم واسع للرفاه الإنساني كهدف للتنمية، يتجاوز المكوّنات المادية  إلى المكوّنات المعنوية للتنعّم الإنساني مثل الحرية والمعرفة والجمال، والاعتماد على المعرفة وإنشاء نسق مؤسسي للتكامل العربي والانفتاح الايجابي على العالم المعاصر.
أما نقيض الاستغلال الطبقي والاجتماعي فهو العدالة الاجتماعية وهي بحد ذاتها قيمة إنسانية كبرى في عالمنا المعاصر وهدف من أهداف النهضة العربية المعاصرة فليس لمجتمع أن ينهض من دون أن تكون العدالة أساساً للنظام الاجتماعي فيه.
والعدالة الاجتماعية تعني تكافؤ الفرص وإلغاء استغلال الإنسان  للإنسان والتوزيع العادل للثروة وبنية ملائمة لملكية وسائل الانتاج بإعادة الاعتبار للدولة في الميدان الاقتصادي وخلق قطاع عام قوي وقادر على قيادة عملية التقدم والتحديث مع مشاركة القطاع الخاص الوطني في النشاط الاقتصادي وآليات تجسد فكرة العدالة في الواقع العربي تتعلق بالانتاج والأجور والأسعار بما يحدّ من الاستقطاب الطبقي فيه، إضافة  إلى السياسات الضريبية والتأمينات الاجتماعية ضد البطالة وغيرها.
ولعلّ الانبعاث والتجدد الحضاري هو مرتكز أساس للانعتاق من التأخر الحضاري والتخلف التاريخي الذي عاشه العالم العربي.
ولكي يصار  إلى آليات المشروع النهضوي العربي فلا بدّ من أخذه ككل كامل ولا يمكن تأجيل أو استبعاد أو انتقاء بعض عناصره لكن ذلك لا يعني إمكانية تحققه دفعة واحدة، بل يمكن أن يتخذ سلسلة مسارات مختلفة ومتفاوتة .
كما لا بدّ أن يستند  إلى قاعدة عريضة من قوى لها مصلحة في التغيير، خصوصاً بتوفير كتلة تاريخية تشارك فيها القوى التغييرية والمنظمات المدنية، لاسيّما ذات الأجندات الوطنية، ومثل هذا البناء يحتاج إلى تراكم طويل الأمد ويتسم بالانفتاح والنقد والنقد الذاتي للتجارب التاريخية ولاستشراف أفاق المستقبل.
ولعل هذه العناصر الستة: الوحدة العربية والديمقراطية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والقومي والتجدد الحضاري، التي بلورها بواقعية واستشراف مسقبلي المشروع النهضوي العربي، إنما هي قراءة استخلاصية للكفاح العربي منذ عصر النهضة العربية  في القرنين الماضيين وإلى الآن. وهي قراءة ضدّية، بمعنى أن نقضيها يستولد من داخلها، فنقيض الاحتلال هو التحرر وهذا يستوجب  التحرر من الهيمنة الأجنبية الدولية والإقليمية، وذلك بتحقيق الاستقلال الوطني والقومي، الذي هو الرد التاريخي على الاستعمار والاحتلال والهيممنة الأجنبية.
ونقيض نظم الاستبداد وعدم المشاركة هو الديمقراطية التي يمكن أن تشكل الخيط الناظم لمفردات وعناصر المشروع النهضوي العربي، بل أنها السبيل الذي لا غنى عنه لمشاركة الناس في صنع مستقبلهم وتقرير مصيرهم، والديمقراطية لم تعد ترفاً فكرياً أو خياراً يمكن تأجيله أو الاستعاضة عنه، بل هي ضرورة لإطلاق طاقات المجتمع وقاعدة تبنى عليها الدولة الحديثة ويستقر عليها المجتمع الحديث. وقد كان أحد أسباب إخفاق المشاريع النهضوية العربية السابقة هو عدم إيلائه الديمقراطية ما تستحقه باعتبارها شرطاً لا غنى عنها لتحقيق النهضة ورافعة أساسية من روافعها، وهذه تتطلب تحقيق الحريات ولاسيما حرية الرأي والتعبير وحق التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي وحق الاعتقاد وحق المشاركة، ناهيكم عن تأكيد مبادئ حكم القانون والمساواة  لاسيما بين الرجال والنساء والمواطنة في إطار نظام تعددي وتمثيلي وتداول سلمي للسلطة في إطار دستور يعتمد على فصل السلطات ويعتبر الشعب مصدرها جميعاً، مع كفالة الشفافية والرقابة والمساءلة.
ونقيض التشظي والتشتت والتجزئة هو الوحدة العربية التي أصبح المجزأ فيها قابلاً للتجزئة في كيانات كانتونية أو دوقيات  ما هو دون الدولة، وإذا كان المشروع الوحدوي العربي قد فشل تاريخياً، فلا يعني ذلك أن الوحدة لم تعد ضرورة وجودية، خصوصاً وأن ما يجمع العرب على الرغم من اختلاف أقطارهم وكياناتهم وطبقاتهم، هو كثير من اللغة  إلى القيم الحضارية والدينية والموروث التاريخي فضلاً عن المصالح المشتركة. أما نقيض التجمّد التراثي في الداخل والتشويه في الخارج، فهو في التجدد الحضاري، ولن يكون ذلك ممكناً دون ضمان عدالة اجتماعية نقيضاً للاستغلال والظلم بكل صوره ومستوياته.

7- تؤمنون كما نعرف بدور المجتمع المدني في تغيير الواقع العربي، وترون في "الدولة المدنية" مخرجاً للصراع السياسي والأيديولوجي، فهل من إضاءة؟


أعتقد أن الدولة الحديثة لا يمكنها أن تنهض دون معادلة تربط ما بين الحكومة من جهة والمجتمع المدني من جهة ثانية والقطاع الخاص من جهة ثالثة، والأمر يتطلب توازناً وتناسقاً بين هذه القطاعات الثلاث، وبقدر ما تكون الحكومة مسؤولة عن تنفيذ السياسات العامة والخطط التنموية فإن المجتمع المدني يمكن أن يكون رديفاً للدولة ومكمّلا ومتمّماً للإستراتيجية  المقررة بصفته قوة رصد ورقابة من جهة ، ومن جهة أخرى "قوة اقتراح" لا يمكن للدولة أن تحقّق برامجها دونها ودون مشاركة القطاع الخاص أيضاً.
وإذا ما أريد حقاً أن تنهض الدولة فعليها إشراك مؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ القرار من جهة وفي تنفيذه من جهة أخرى.ولكي يلعب المجتمع المدني مثل هذا الدور فعليه هو الآخر أن يقدّم نقداً ذاتياً لبعض توجهاته ويتمتع بالاستقلالية بما فيها المالية، بحيث لا يكون جزءًا من أجندات خارجية ، وأن لا ينخرط بالصراع الأيديولوجي والسياسي وأن يضع مسافة واحدة بينه وبين السلطات والمعارضات، فهو ليس ضد حكومة بعينها أو مع معارضة بذاتها ، وإنما يقف مهنياً باستمرار مؤيداً لكل ما هو إيجابي ومنتقداً لكل ما هو سلبي، ومشاركاً في عملية التنمية وفي تقديم المقترحات ورصد الانتهاكات، وهو إذْ ينحاز إلى الضحايا فلا علاقة له بأفكارهم أو معتقداتهم أو اتجاهاتهم الفكرية والسياسية.
ولكي تكون الدولة بأركانها الثلاثة "مدنية"، فلا بدّ من إشباع كل حقل بصلاحياته ، خصوصاً حين يتم إعلاء مرجعيتها على جميع المرجعيات الأخرى ، سواء أكانت دينية أم سياسية أم حزبية أم مذهبية أم إثنية أم لغوية أم سلالية أم مناطقية أم جهوية أم غير ذلك، لاسيّما إذا وضعت مسافة بينها وبين هذه المرجعيات الفرعية، أو بين الهويّة الوطنية العامة وبين الهويّات الفرعية ذات الصفة الخصوصية التي ينبغي تأمين احترامها وضمان حقها في التعبير عن نفسها بطريقة حرّة في إطار مبادئ المساواة والمواطنة المتكافئة.
   ولعلّ مصطلح " مدنيّة الدولة" بسبب حداثته في بلادنا، فإنه يثير إلتباساً وإشكالاً غير قليل، ولذلك احتدم الجدل واشتدّ النقاش حوله منذ ثلاثة عقود ونيّف من الزمان، واتّسع نطاقه إبان ما سمّي موجة "الربيع العربي" في مطلع العام 2011 ولحدّ الآن، وقد شهد شدّاً وجذباً وتأييداً وتنديداً، تبعاً للمرجعيات الفكرية والآيديولوجية للجماعات المختلفة، التي يرى فيه بعضها "مدنّساً"، في حين يعتبره البعض الآخر "مقدّساً".
   جدير بالذكر أن الدستور التونسي الذي أبرم في العام 2014 كان سبّاقاً بتبنّي فكرة "الدولة المدنية"، حيث نصّت ديباجته والمادة الثانية منه على أن تونس "دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القوانين" واعتبر الدستور مثل هذا النص " جامداً" أي لا يمكن تعديله، وأرى أن في ذلك إبداع تونسي واجتهاد عربي، فلا  هي "دولة دينية" ، ولا هي "دولة علمانية" لما لهذين المفهومين من حساسية شديدة، لاسيّما حين ينصرف الذهن إما إلى التزمت والتشدد أو إلى الإلحاد والانحلال، سواء عن حسن نيّة وسذاجة أم عن سوء قصد كجزء من الصراع الآيديولوجي.
    وجاء في ديباجة الدستور التونسي " الدولة مدنية والسيادة فيها للشعب"... أما الفصل الثاني  فقد نص على" تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلويّة القانون ولا  يجوز تعديل هذا الفصل".
   ومثلما يواجه مصطلح " الدولة الدينّية" ردود فعل حادّة تصل أحياناً إلى درجة التعرّض للدين، من جانب جمهور واسع وقوى متعدّدة يسارية ويمينية، اشتراكية وقومية وليبرالية، فإن مصطلح " الدولة العلمانية" الآخر يثير حساسية شديدة ورفضاً واسعاً من أوساط دينية وشعبية، يصل أحياناً إلى اتهام دعاته بالمروق أو الكفر والإلحاد، الأمر الذي يضع فكرة  " الدولة المدنيّة" بين مصطلحين متناقضين لدرجة التناحر الأول- الدولة الدينّية والثاني - الدولة العلمانية.
   المصطلحان " الدولة الدينّية" و" الدولة العلمانية" يثيران أسئلة أخرى مشتبكة مع عديد القضايا التي يواجهها الفكر العربي- الإسلامي من جهة، والممارسة العملية من جهة أخرى، خصوصاً ما يتعلّق بمدى انطباقه على واقع الحال بغض النظر عن التسميات والتوصيفات.
   ومع ذلك فالمفهوم الذي يتم الترويج له تأييداً أو تنديداً لفكرة " الدولة المدنية"  لا زال لم يجد البيئة الحاضنة له على المستوى العربي والإسلامي، وهو ما يحتاج إلى عملية "تعريب" أو "تبيئة" أو "توطين"، باعتباره جزءًا من التطور الدستوري على الصعيد العالمي مع عدم نسيان الخصوصية الدينية والثقافية، التي لا يمكن تجاوزها وإلّا ستكون في مواجهة مع واقع الحال، مثلما لا يمكن إغلاق الأبواب والنوافذ أمام رياح التغيير الكوني الذي يشمل كل شيء، بما فيه أسس قيام الدولة ووظائفها، ولاسيّما تطوّر الفكر الدستوري والقانوني. ولا تعني إدارة الظهر تلك سوى التقوقع وضيق الأفق والإنعزال، بما يمنع بلداننا الاستفادة من التطور الأكاديمي والمعرفي  والثقافي - الإنساني. ولذلك وجدت في الاجتهاد التونسي إضافة نظرية وعملية إلى الفقه الدستوري العالمي بشأن مدنية الدولة.
   وبهذا المعنى فالدولة المدنيّة تعني اتحاد أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين مع وجود قضاء يطبّق هذه القوانين، ويُرسي مبادئ العدل في إطار عقد اجتماعي تتوافق فيه إرادات المجتمع، وكان أرسطو وابن سينا وابن خلدون وجون لوك ومونتسكيو قد تحدّثوا منذ عهود بعيدة عن ذلك، خصوصاً حين قالوا: الإنسان مدنّي بطبعه، لذلك فإن القواعد التي تنظم حياته وعلاقته بالآخر مدنيّة، ووجود "دولة مدنيّة" يعني أيضاً وجود مجتمع مدني، ومنظمات مستقلة تدافع عن قطاعات متعددة منه وتعبّر عن مصالحه.
   الدولة المدنية يمكن أن تكون صمّام أمان للجميع، لاسيّما حين تضع مسافة واحدة من جميع الفرقاء، لاسيّما إذا أخذت بنظر الاعتبار الثقافة السائدة في مجتمعنا ، وهي بالأساس ثقافة عربية - إسلامية، فضلاً عن تلاقحها مع الفقه القانوني الدستوري العالمي في تطوّره باستلهام قيم العصر وسماته الأساسية، مع مراعاة خصوصية مجتمعاتنا.


8- طرح بعض كبار المفكرين العرب المعاصرين، كالمرحوم محمد عابد الجابري حل "الكتلة التاريخية"، فهل ثمّة عوامل مساعدة فعلاً وعلامات في الأفق العربي تشير إلى إمكانية نهضة هذه الكتلة؟

سبق لي أن ناقشت المفكر محمد عابد الجابري بشأن أطروحاته الرئيسية ، لاسيّما في كتابيه، الأول، "بنية العقل العربي" والثاني، " نقد العقل العربي" ، وجئت على ذلك مرة أخرى في حوار أجراه معي خضير ميري ونشر في كتابي " تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"، وحين نعود إلى مشروعه اليوم بشأن العقل العربي فإننا نرى أنه يقوم على ثلاث محددات أساسية  هي: القبيلة والغنيمة والعقيدة .
القبيلة تقوم على "العصبية" حسب ابن خلدون. أما الغنيمة فهي أقرب إلى مفهوم "الخراج" أو "الريع" وليس على أساس العلاقات الإنتاجية، والمقصود بالخراج هو "الجباية" ودائماً ما يفرضه الغالب على المغلوب على شكل أتاوات أو ضرائب دائمة أو مؤقتة من القبيلة أو الإمارة أو الدولة ، أما " الريع" فهو الدخل النقدي أو العيني الذي يحصل عليه الشخص من ممتلكات أو هبات من  صاحب السلطة بصفة منتظمة تمكنه القدرة من العيش دون الحاجة إلى عمل إنتاجي . وكانت الغنيمة سابقاً تعني العطاء الذي يعيش منه أهل الدولة ومن تعلّق بهم وما ينتج عن هذا من ثقافة ريعية وعقلية ريعية وفكر ريعي.
أما العقيدة فالمقصود بها الاعتقاد والتمذهب، بحيث تكون قادرة على تحريك الجماعات والأفراد على نحو متعصّب وهي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالفعل السياسي والاجتماعي للفرق والطوائف والجماعات المختلفة.
   فما علاقة ذلك بـ "الكتلة التاريخية" الذي يذكر الجابري أنها أقرب إلى ما دعا إليه أو استخدمه المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي، لاسيّما في فترة هيمنة الفاشية الإيطالية المتحالفة مع النازية الألمانية على الحكم وانسداد آفاق بديل ثوري طبقي عمالي، وقد رأينا أن بعض المفكرين والسياسيين اليساريين يستخدمون هذا المفهوم في مجتمع يخلو من الطبقات أو مجتمع ما زالت الطبقات فيه جنينية أو هشّة.
   وإن كان البعض يقصد منه "التحالفات السياسية" التي تضم "تيارات" مختلفة، وهو المفهوم القريب من استخدامات الجابري، فذلك لا علاقة له بمفهوم الكتلة التاريخية الذي قصده غرامشي ، وكنت قد جئت على ذلك فيما كتبته عن خير الدين حسيب في المقالة المنشورة في مجلة المستقبل العربي والموسومة : خير الدّين حسيب- الرياضة النّفسية والمثقف الكوني و"الكتلة التاريخية" ، مجلة المستقبل العربي، العدد 454، كانون الأول (ديسمبر) 2016 ، علماً بأن التقارب بين التيارات المذكورة فيه من الصعوبات والعقبات والتعقيدات الشيء الكثير لدرجة يكاد يكون تحقيق مثل هذه الكتلة السياسية تاريخياً عسير المنال ، لأن ثمة فوارق وتباعدات وضعف وعي بين التيارات، إذْ أن تحقيق مثل تلك الكتلة ليس تمنياً أو رغبة أو مجرد اجتماعات يحضرها ممثلون عن التيارات المختلفة أو أجزاء منها لنطلق عليه "الكتلة التاريخية".
كان محمد عابد الجابري قد كتب دراسة عن " الكتلة التاريخية ... بأي معنى؟" دعا فيها إلى " الكتلة التاريخية"  وقصد من ذلك "كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلّق أولاً بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية وثانياً بعلاقات اجتماعية متوازنة يحكمها التوزيع العادل للثروة" وبالطبع فهذا المفهوم لا علاقة له بمفهوم غرامشي، الذي طرح مفهوم الكتلة التاريخية في إطار ثقافي فكري أخلاقي محدّد وهو إطار "بناء الهيمنة المضادة" للهيمنة البرجوازية في فترة صعود الفاشية.
ولعلّها مناسبة أن أشير إلى أهمية مشروع الجابري، الذي سلّط الضوء على التراث ومشكلاته وقدم قراءة جديدة ومفتوحة له، فقد حرّك الكثير من المياه الراكدة، وأعتقد أن فحص بنيان العقل العربي في ضوء المناهج البنيوية، إنما يقع في حقل الأبستمولوجيا النظرية وهو حقل دراسي مفتوح، ولا يمكن عدّه مشروعاً واقعياً أو معالجة جذرية. انه منهج قراءة ليس إلّا.
   وليس للمناهج التي من هذا النوع نصيب كبير من الصواب والخطأ، وبالتالي فان هناك مساحات فكرية في الخطاب العربي المعاصر تمارس نوعاً من القراءات على خطاب غربي أو مناهج أو أطروحات تفيد عمل نظريات المعرفة، أو مجالات علوم إنسانية تتوالد فيها المفاهيم وتتناسل، وهو ما أشرت إليه في كتابي تحطيم المرايا : في الماركسية والاختلاف.


210
الاتجاه الثالث- "النقدي"، الاجتهادي ، وإن كان محدوداً، وهو الذي قرأ الماركسية بعقل منهجي- نقدي، خارج دائرة الماركسية "المسلكية - الذرائعية" و"الطقوسية - المدرسية"،  بعيداً عن الجمود والانزياح في آن.
   ويمكن القول إن هناك صلة خفيّة بين الجامدين أو الانعزاليين وبين المتحلّلين أو الانزياحيين، وهي ابتعادهم عن جوهر المادية الديالكتيكية، وتحويل الماركسية إلى مجرد عنوان شكلي دون محتوى أو مضمون. وقد كان ماركس يؤمن بالحركة والتطوّر، وهو بالتالي يؤمن بأن الفكر نتاج الحركة، وأن فهم العالم يعني فهم التغيير، والتفسير هو تغيير ما نفهم أو ما نقع عليه... ولا يوجد فهم نهائي إلاّ على المستوى الإجرائي. إننا نثبت المعارف قليلاً في حافظة علمية لكي نقوم بتجاوزها وبالتالي فإن " الوعي" هو غير الفهم، فالوعي علاقة مباشرة بالمعرفة، بينما الفهم هو علاقة مباشرة بالوعي لأن الفهم هو تقليب الوعي، بينما هذا الأخير هو صلة لا بد منها لكل معرفة ، والتجربة هي مظهر من مظاهر التلاقي بين الوعي والفهم، لأن غالباً ما نعي أموراً كثيرة دون أن يتوفر لنا أوان فهمها.
لا يمكن اختزال الماركسية بماركس مع أنه كان الحلقة الذهبية الأولى فيها بما ابتدعه من منهج ودليل عمل ، لكن أحكامه وتعليماته تصلح لعصره، فضلاً عن أن الكثير منها تجاوزها الزمن أو لم يثبت صحتها ، وعلينا إن كنّا أوفياء للمنهج المادي الديالكتيكي أن نستنبط الأحكام والتعاليم منه  عند دراسة واقعنا وظروفنا التي نحن أكثر معرفة بها ، وبهذا المعنى دائماً ما كنت أردّد " إنني أنتسب إلى المنهج وليس إلى الشخص مع إعجابي الشديد بشخص ماركس ودوره التاريخي كفيلسوف اجتماعي ومفكر اقتصادي ومؤسس للحركة الشيوعية".
إن هذا يفسر غياب أو انحسار الفلسفة في العالم المعاصر، وذلك لأن المعلوماتية المتطوّرة قد تقود إلى " أمّية " بالفهم، وهي مقولة تكرّرت لدى بعض الباحثين، لكنهم بما حملوه من ملامح فكره نافذة وومضة نافذة وذكية بقدر ما تكون المعرفة متاحة، فإن الفهم يصبح نادراً وغير مسموح به كثيراً.
إن الوضعية النقدية هي طموح نظري نحو تحقيق الفهم الماركسي لوعي العالم ووعي المعرفة، لا من خلال ما هو سائد، بل من خلال ما هو نقيض له، أو مخالف له، أو معارض داخله. وتُعنى الماركسية بفهم العالم دون الإسراف بتصديق الوعي أو الإنحباس داخله، لأن الوعي يمكن أن يكون "زائفاً " أو "مغشوشاً"، وهو غالباً ما يحمل مخلّفات الآيديولوجية السائدة، وهذه الأخيرة تقابل مفهوم النسق أو البُنيات اللّاشعورية عند ميشيل  فوكو!
لقد أطلق ألتوسير رسالته " ضد استغلال الإنسان للإنسان" ودعا إلى تحقيق المساواة وإطلاق الحرّيات بما فيها حرّية الإبداع والجمال عبر القراءة الماركسية الحرّة والمتحرّرة لماركس من "ماركسيته"، وهذا الأمر قريب مما أفكر به شخصياً عندما استخدم الماركسية كمزيج للنقد والنقد الضدي، حيث تتمّ عملية كشف للواقع بكل عيوبه ومثالبه، بهدف تقويمه وإعادة بنائه وفق منظومة فكرية لحمتها وسداها تحقيق المساواة وقيم الجمال والحق، وهي ضرورية للحقوق المدنية والسياسية، وهي جزء من المنظومة الكونية والتي ما زالت ملتقى للبشرية باتجاه خير الإنسان وسعادته.
وأعتقدُ أن هذا جوهر كل فلسفة، سواءً كانت مادية أم مثالية، وجوهر كل دين وجوهر كل نظرية هو السعي "لإسعاد البشر"  وظلّ هذا هاجس البشرية منذ بدء الخليقة حتى الآن، وهو يتطور بتطور حاجات الإنسان المادية والروحية.
3-  كانت الحركة الديمقراطية والحقوقية العربية ، التي أنت أحد روّادها المعروفين، تحلم بتغيير ديمقراطي كبير يعيد الوطن العربي إلى سكة التاريخ، فكيف ترى هذا الحلم بعد سنوات من الربيع العربي؟

   الأحلام تتوالد ولا تنتهي، لأن مجرد جفاف الحلم أو ذبوله، في ذهن الإنسان يعني شعوره بالقنوط والإحباط، وربما اليأس. كنت ولا أزال منذ نحو 4 عقود من الزمان أشعر بالتشاؤم، لأن كل ما حولنا مدعاة له، والتشاؤم هو غير اليأس، فالأخير يعني الاستسلام والخنوع، والسعادة في النضال من أجل أحلامنا المتجدّدة، أما التشاؤم فهو إدراك الواقع والعمل على مقاومته من أجل تغييره. 
   كنت وصديقي الروائي العراقي والإعلامي الساخر شمران الياسري " أبو كاطع" نتبارى في تشاؤمنا، وأحياناً أبدو " متشائلاً"، بنحت من الروائي الفلسطيني أميل حبيبي وروايته الشهيرة " سعيد أبي النحس المتشائل"، لكنه سرعان ما أعود إلى تشاؤمي، وأعترف إنه كان أكثر تشاؤماً منّي، بل أكثر ثباتاً في تشاؤمه. لكن ثمة  آمال كانت تراودني أحياناً، وهي تأتي خفيفة سريعة منعشة مثل الريح التي تسبق المطر.
   وعلى الرغم من أن الأجواء السياسية كانت محتدمة في العديد من البلدان العربية عشية الألفية الثالثة وبُعيدها، فكانت "تكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب ويشتعل السهل كلّه" حسب ماوتسي تونغ فحتى وإن بدا كل شيء هادئاً واعتيادياً، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد، فما إن حرّكتها ريح شديدة حتى اشتعلت ملتهمة كل ما وحولها من أوهام القوة وجبروت الاستبداد، وقد أخذ الشباب العربي زمام المبادرة من أيدي الجميع، لأنه شعر بأن لا حلّ لمشاكله ومشاكل البلاد ككل، فضلاً عن خلاصها وانعتاقها، مثلما هو خلاصه وانعتاقه، إلاّ إذا قام بنفسه بإنجاز عملية التغيير، لهذا ظلّت جميع الأنشطة والفاعليات القائمة تلهث وراءه، لاسيّما بعد أن وصل به التشاؤم واليأس في تحسين الأوضاع العامة حدّاً لا يطاق في سلطات هرمة ومترهّلة وبيروقراطيات مستحكمة وتفرّد واستبداد وفساد وهدر لحقوق الإنسان.
ومع انفتاح العالم بعضه على بعض وارتفاع استخدام التقنيات الحديثة في العالم العربي بدأ ينشأ شكل جديد من المعارضة والاحتجاج، لاسيّما عبر الوسائل الالكترونية، وأصبح انتقال المعلومة وبالتالي إعادة صياغة المعرفة تراكمياً، وهو ما التقطه الشباب على نحو حيوي، بل وتم توظيفه لإحداث واقع جديد بعد رفض الواقع القديم.
هكذا كانت الثورة تتّسع بسرعة خارقة جغرافياً لتصل  إلى فئات واسعة في الأحياء والمناطق والبلدات القصيّة والنائية، مثلما هي في مراكز المدن والحواضر، حيث ينفتح الشباب ويتعايش، في ظل خيال جديد غير مألوف من قبل، ولعلّ مثل هذا الخيال بفضل  العولمة أصبح كونياً، وبمستطاع الفرد الاطلاع على ما يجري في العالم، فلا حدود ولا قيود لذلك، الأمر الذي زاد في اشتعال حركة الاحتجاج لتذهب متجاوزة حدود الجغرافيا، لاسيّما في ظل وعي جماهيري شبابي ورغبة في التغيير والتخلّص من واقع بائس، الأمر الذي يوحي بميلاد ملامح مستقبل جديد، خصوصاً إذا ما أُحسن قراءة ما حدث في ضوء تعزيز مشروع نهضوي عربي جديد كاستحقاق كوني تأخر نحو ربع قرن عن المسار العالمي.
لقد انكسر حاجز "الصمت" وتبدّد عامل "الخوف" وبدت الأنظمة المنيعة والقويّة، هشّة ومنخورة من الداخل، فمن كان منّا يتصور أن يبتدئ نهاره في تونس أو مصر أو ليبيا دون أن تقع عيناه على صورة بن علي أو حسني مبارك أو معمّر القذافي، سواءً عبر التلفاز أم في صحيفة أم إعلان أم ملصق في الشارع أم غير ذلك. وإذا بهم يرحلون في غضون أيام معدودات، ليس كما يغادر البشر العاديون، مواقعهم الوظيفية أو أماكن عملهم ورزقهم، بل غادر "القادة" مكرهين، مع إشارات بالأصابع والأيادي والصوت والصورة  إلى الفناء، أحدهما  إلى المنفى دون عودة، والآخر نُقل محمولاً  إلى قفص الاتهام في حال يُرثى لها والثالث قُتل بطريقة بشعة.
كلمة واحدة هي التي أطاحت بهم "إرحل"، والأمر شمل لاحقاً استقالة ثم مقتل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في ظل اندلاع صراع مفتوح ما يزال مستمراً داخلياً وإقليمياً ودولياً، واليوم فإن ما يحصل في الجزائر من انتفاضة شعبية  هدفها الأول كان إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على عدم الترشّح كخطوة أولى لتحقيق أهدافها على الرغم من تشبث العسكريين بمواقعهم ، وفي السودان كان هدف الهبّة الشعبية الأول إرغام الرئيس عمر حسن البشير على الرحيل بعد أن حكم البلاد 30 عاماً، وما يزال الصراع مفتوحاً بين بقايا العسكر وبين المدنيين على مستقبل الجزائر ومستقبل السودان.
هكذا انهارت الكيانات القائمة على نحو مريع وكأنها بنيان من ورق وأن كل ما بناه الرؤساء من أجهزة أمنية وأتباع وأشياع وأطيان وأقيان، ضاع مرّة واحدة وإلى الأبد، وبدا كل من حولهم يتبرأ منهم ويفكّ ارتباطه بهم ويتخلّى عنهم، كمن يريد النجاة بنفسه من سفينة تفشّى فيها داء الطاعون، فالكل يريد أن يغادر السفينة، إلّا ربانها بقي متمسكاً حتى اللحظة الأخيرة، فهلك هو ومن بقي معه.
صادف أنني كنت في براغ حين اندلعت حركة الاحتجاج وعشت وكتبت عن بعض تفاصيلها، وكيف تحوّل مسرح ليتارينا ماجيكا ( الفانوس السحري) بين لحظة وأخرى إلى "صانع قرار"، حيث كان يجتمع فيه قادة المعارضة وأعضاء المجتمع المدني، كما تحوّلت بعض المقاهي ودور النشر ومقرّات بعض مؤسسات المجتمع المدني قرب "ميدان التحرير" في القاهرة إلى مركز قرار أيضاً، وكذلك المقاهي المؤدية  إلى "شارع الحبيب بورقيبة" في تونس، وقد قمت بزيارة هذه الأماكن وحاورت العديد من النشطاء الذين ساهموا في قيادة حركة التغيير في سيدي بوزيد وصفاقس والقصرين والمهدية وتونس العاصمة، إضافة إلى القاهرة في ميدان التحرير وواقعة الجمل والاسكندرية وغيرها، وهو ما أدرجته في كتابي " الشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي"،الذي صدر عن دار أطلس ، بيروت العام 2012، خصوصاً وقد أرفقته بمقابلات متميزة مع الصديق الكاتب والباحث الدكتور خالد شوكات، الذي شارك في العملية السياسية نائباً ثم وزيراً وقيادياً بارزاً في حركة نداء تونس.
لم يكن أحد يتجرأ في الثمانينات على معارضة الرئيس محمد حسني مبارك أو المطالبة بتنحيته، لكن حراكاً تدريجياً راكم الكثير من المطالب بجرأة وشجاعة قادته العديد من مؤسسات المجتمع المدني ومعها حركات سياسية ظلّت متردّدة، ثم انخرطت لتحصد النتائج لصالحها بحكم تنظيمها ، وخصوصاً " الأخوان المسلمون".
وأتذكّر كيف شاع خبر مفاجأة الشاب أحمد عبدالله رزّه، لأسامة الباز مستشار الرئيس في العام 1996 ومطالبته برفض توريث الرئيس، فقد كانت تلك خطوة جريئة وشجاعة وفي وقت مبكر. وحين تأسست حركة كفاية في 21 شباط (فبراير) العام 2005 رفعت أولى شعاراتها بمناسبة ذكرى إضراب الطلاب " لا للتوريث"، وتجرأ المفكر محمد السيد سعيد بطرح رأيه بنظام الحكم وإنسداد الآفاق وقضية التوريث علناً وأمام رئيس الجمهورية في لقاء روتيني كان يجريه حسني مبارك سنوياً مع المثقفين.
وفي العام 2008 ساهم إضراب عمال المحلّة الكبرى في 6 نيسان (أبريل) من كسر جدارية ضخمة تمثل رمزياً الرئيس مبارك، وارتفعت أصوات المعارضة والمجتمع المدني ضد التوريث، بل أن تحالفاً كان قد أنشأ لرفض التوريث.
لم يكن للانتفاضتين التونسية والمصرية رمز قائد أو زعيم مخلّد أو ملهم مخلّص، يصبح لاحقاً "معبوداً" و"مقدساً"، و"فوق حدود النقد". ولم يكن لهما أيضاً نصوص مقدسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة ورمزية وواقعية في آن واحد. ومثلما كانتا ضد الصنمية، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات واليقينيات والقدسيات والسلفيات المشوّهة والوعود الزائفة، وكانتا عابرتين للطوائف والطبقات الاجتماعية والمجموعات القبلية والعشائرية، واضحتين في مطالبهما، وحاسمتين برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتين إخلاصهما ونزاهتهما والتزامهما بمطالب شعبيهما.
وقد انطلق الجيل الثوري الجديد من فضاء مجتمعي، بعيداً عن الآيديولوجيا وتفريعاتها الشمولية والدينية، مثلما كانت سمته وطنية عامة دون فئوية أو تعصب أو تطرف أو غلو.


4- أنت من كبار دعاة اللّاعنف والتسامح في المجال العربي، لكن هذا المجال فيما يبدو عصيّ على الخطاب اللّاعنفي، فهو اليوم من أكثر مناطق العالم عنفاً.. ما تفسيرك لهذه الحالة؟

ثمة أسباب لتفشي ظاهرة العنف وعدم التسامح في مجتمعاتنا، قسم منها يعود لأوضاعنا الداخلية، لاسيّما ضعف الدولة وغياب حكم القانون وشحّ الحريات وانعدام مبادئ المساواة والعدالة والشراكة في إطار المواطنة المتكافئة الأساس في الدولة القانونية المدنية العصرية، إضافة إلى ظواهر الأمية والتخلف والتفاوت في توزيع الثروة، والهوّة السحيقة بين المحرومين والمتخومين، كلّ ذلك يولّد أسباباً للعنف، إضافة إلى ما تغذّيه من عوامل أخرى مثل التمييز الديني أو الإثني أو اللغوي أو السلالي والمناطقي أو الجهوي وغير ذلك.
ويعود القسم الآخر لانتشار ظاهرة العنف إلى تداخلات الخارج، خصوصاً محاولات فرض الهيمنة والاستتباع من جانب القوى المتنفذة في العلاقات الدولية لنهب ثروات الشعوب والأمم والبلدان الصغيرة والضعيفة، الأمر الذي ينتج عنفاً في الداخل وأحياناً موجهاً للخارج، ومن دون معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإثنية والدينية والتربوية والنفسية للعنف، وإعادة النظر بنظام العلاقات الدولية، ليكون أكثر عدالة ومساواة، لا يمكن لجم العنف أو الإرهاب، علماً بأن الأول يستهدف الضحية بذاتها ولذاتها، لأنه يعرفها، في حين يضرب الإرهاب عشوائياً بهدف خلق حالة رعب في المجتمع وإضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المواطن بالدولة.
ستكون مخاطر العنف كبيرة وتزداد بالتراكم مع مرور الأيام لتصبح هناك بؤراً عنفية مستديمة، حيث يفقس بيض العنف وينتشر فايروس الإرهاب ولا يمكن القضاء على العنف بالعنف، مثلما لا يمكن مواجهة الإرهاب بالإرهاب، وإنما يحتاج الأمر إلى معالجات طويلة الأمد وخطط استراتيجية بعيدة المدى ومتدرّجة في الآن، علماً بأن الجانب الأمني والعسكري لا يمكنه وحده إنهاء ظواهر العنف والإرهاب، والأمن ينبغي أن يكون مترافقاً مع الكرامة، ولا أمن دون كرامة المواطن، وكرامة المواطن وتحقيق المواطنة السليمة مرتبطة كذلك بالأمن، خصوصاً الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي والديني وغير ذلك من مفردات الأمن الإنساني بمختلف جوانبه وفروعه وحيث جاء في القرآن الكريم "سورة قريش " الآية 4 " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" .
المسألة تحتاج إلى كفاح فكري طويل الأمد بحيث يتم حشد جميع الجهود للقضاء على ظواهر العنف والإرهاب، أولاً وقبل كل شيء تحتاج المجابهة إلى إرادة سياسية موحّدة، وثانياً إلى مساهمة جادة من المجتمع المدني وثالثاً إلى خطة إعلامية وتربوية في المجالات المختلفة للتصدّي لظاهرتي العنف والإرهاب، في إطار منهج حديث وعصري. ورابعاً احترام الحقوق والحريات، إذْ أن التجاوز عليها بحجّة الأمن يؤدي إلى تدهور حال حقوق الإنسان، التي ستكون تربة صالحة لأعمال العنف والإرهاب.
   ولكي يتم تطويق ظاهرتي التعصب والتطرف والقضاء عليهما،  لكي لا يتحولا بالسلوك إلى عنف وهذا الأخير قد يصبح إرهاباً، فلا بدّ من خطاب جديد، وقبل ذلك لا بدّ من فكر جديد، لكي يتم تجديد الخطاب  على أساسه، والأمر يحتاج إلى وضع معالجات طويلة الأمد تقوم على عدد من الدوائر والجبهات:
   الأولى - الجبهة الفكرية والحقوقية، باعتماد  مبادىء المواطنة والمساواة.
   والثانية - الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلك التي تستوجب توفير ظروف مناسبة للعيش الكريم، وفرص عمل متكافئة، ودون تمييز لأي سبب كان وتهيئة فرص تعليم وضمان صحي واجتماعي، الأمر الذي سيقطع الطريق على الفكر التعصّبي المتطرّف والإرهابي.
   الثالثة - الجبهة التربوية والدينية، والأمر يتطلّب تنقية المناهج الدراسية والتربوية عن كل ما من شأنه ازدراء الآخر أو تحقيره، لأن ذلك سيؤدي إلى إشاعة مناخ من الكراهية والأحقاد والكيدية، فالجميع بشر ومتساوون في الكرامة الإنسانية، وحسب قول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" أو قول الإمام علي لعامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي: "لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
   ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد، ودون هوادة لإصلاح المجال الديني بما ينسجم مع سمة العصر والتطوّر وإدماج المناهج والمدارس الدينية مع المناهج والمدارس التي تعتمدها الدولة بهدف توحيدها وإشاعة الثقافة المدنية فيها، وجعل الدين في خدمة المجتمع مُيسّراً، وذلك بالعيش المشترك لأتباع الأديان في إطار دولة تقوم على المساواة وتحترم الجميع وتأخذ بمبادىء الكفاءة والإخلاص للوطن، في تولّي الوظائف العامة.
   الرابعة - هي الجبهة القانونية والقضائية، ولا بدّ من تأكيد مبادىء احترام القانون وعدم التجاوز عليه لأي سبب كان، وحسب مونتسكيو فـ"القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً"، أي أنه ينطبق على الجميع.
   الخامسة - الجبهة الإعلامية والمدنية، وهنا ينبغي أن يلعب الإعلام دوراً مهماً ومعه المجتمع المدني في نشر ثقافة التسامح واللاّعنف والسلام المجتمعي واحترام الهويّات والخصوصيات التي هي جزء من تاريخنا بكل ما فيه من مشتركات، لا سيّما بتأكيد احترام الآخر.
   السادسة - الجبهة الأمنية، وهي جبهة مهمّة وأساسية، وبقدر ما هي جبهة وقائية فهي جبهة حمائية ولا بد أن تكون جبهة رعائية، وإذا كان تحقيق الأمن مسألة جوهرية وأساسية لأي تقدم وتنمية، وهو الذي اعتبره سيجموند فرويد عالم النفس النمساوي، موازياً للكرامة، بل يتفوق عليها أحياناً، خصوصاً في ظل الحروب والنزاعات الأهلية وانفلات الفوضى، إذ لا كرامة مع غياب الأمن، مثلما لا أمن حقيقي دون كرامة.
   إذا كان التسامح قيمة حضارية وواقعية على المستوى الكوني، فهناك رافعات أساسية لتجسيده، لكي يستطيع العالم الخروج من غلواء التعصّب والتطرّف والإقصاء والتهميش والعنف والإرهاب. ولن يتحقق ذلك بدون توفير تربة خصبة لبذر بذوره، وتعميق الوعي الحقوقي والأخلاقي والقانوني والاجتماعي بأهميته، من خلال الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف والمغايرة والتعايش واحترام الآخر، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الحكومات والدول.
   وبقراءة الوضع الراهن فهناك أربعة مواقف أو اتجاهات فكرية عربية من مسألة التسامح:
   الاتجاه الأول-الذي نطلق عليه "الرافض" فهو يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني أو الفكري أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، الداخلي أو الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه للحقيقة والأفضليات، أما المختلف والآخر فإنه لا يمثّل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والإستكبار.
   الاتجاه الثاني- هو الإصلاحي وهو تعبير عن تيار إصلاحي (توافقي) يتقبّل بعض أفكار التسامح بانتقائية بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وإنْ كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، وربما بريبة أيضاً.
الاتجاه الثالث- الذي نسمّيه الاتجاه التغريبي، فهو يؤيد فكرة التسامح ويحاول تعميمها على كل شيء، وهو يدعو إلى قطع الصلة بالتراث والتاريخ واعتبار التسامح قيمة حداثية لا علاقة لها بالإسلام، بل يضع في اعتباره كون التسامح نقيضاً للإسلام الذي يحضّ على "العنف" و"الإرهاب" حسب فهم خاطئ لبعض الاتجاهات الإسلاموية أو الإسلامية وموقفها من الحداثة، دون تمييز بين الإسلام وبين بعض الاتجاهات السياسية.
الإتجاه الرابع- الذي نعتبره قيمياً وهو تعبير عن التيار المؤيد للتسامح، والذي ينظر إليه كقيمة عليا، لاسيما بربطه بحقوق الانسان، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي- الاسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالتسامح لا يعني التهاون إزاء حقوق الانسان أو قيم العدالة أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
5- كنتم منحازون غالباً لمشاريع دمقرطة الأنظمة في الوطن العربي، لكن بعض تجارب التحول الديمقراطي من بغداد إلى تونس لم تجلب للناس سوى الفساد والطائفية وعدم الاستقرار، حتى عاد غالبيتهم يترحم على زمن الطغاة، فهل ترون مخرجاً لهذا المأزق؟

للأسف فشلت خطط الإصلاح والتحوّل الديمقراطي في العالم العربي باستثناءات محدودة، ويمكن القول أن التجربة التونسية على الرغم من المصاعب التي واجهتها والتحديات التي اعترضت طريقها والأوضاع الاقتصادية والمعاشية التي تمرّ بها، إلّا أنها نجحت حتى الآن في حماية الوحدة الوطنية وتطويق ظواهر العنف والإرهاب، وتمكنت من وضع دستور بتوجهات ديمقراطية يعتبر الأفضل من بين الدساتير العربية التي تم تقنينها في السنوات الأخيرة. وكانت مجلة الإيكونوميست البريطانية قد نشرت تقريراً نهاية العام 2018 عن مؤشرات الديمقراطية قسّمت فيه البلدان إلى أربع مجموعات:
   المجموعة الأولى- الأنظمة الديمقراطية الكاملة وتشمل 19 دولة تتربّع على رأسها  الدول الاسكندينافية، وفي مقدمتها النرويج والسويد، إضافة إلى  استراليا والأرغواي وتبلغ نسبة هذه الدول إلى  دول العالم 11.4%.
   أما المجموعة الثانية - فأطلق عليها التقرير "الديمقراطية المنقوصة" أو "المتصدّعة"، وضمّت 57 دولة، وبلغت نسبتها إلى  مجموع دول العالم 34.1، وقد صُنّفت الولايات المتحدة من المجموعة الثانية، وكذلك فرنسا وإيطاليا والهند و"إسرائيل"، وكانت تونس من الدولة العربية الوحيدة، ضمن هذا التصنيف.
   المجموعة الثالثة- "الأنظمة الهجينة" وشملت 39 دولة ونسبتها إلى  دول العالم 23.4%، وهي دول  لا يمكن إطلاق وصف الديمقراطية أو الاستبدادية عليها، وإنما هي احتوت على عناصر من هذه وأخرى من تلك، تبعاً لمؤشرات الديمقراطية التي حدّدها التقرير.

211
الدكتور عبد الحسين شعبان :
ما زال الفكر العربي يعاني من الركود وعدم الحيوية

حاوره : د.خالد شوكات

1- اشتغلت لعقود على نقد الفكر العربي المعاصر بمدارسه المتعددة، في سياق نزعتك النقدية والتجديدية، فكيف تقيّمون حال هذا الفكر الآن؟

ج1 - للأسف ما يزال ما نطلق عليه " الفكر العربي" بمدارسه المختلفة يعاني من الركود وعدم الحيوية، بل إنه غالباً ما يلجأ إلى الماضي لاجترار بعض الأحكام، تلك التي حتى لو كانت صالحة لزمانها، فإنها لا تصلح لزماننا، "والأحكام تتغيّر بتغيّر الأزمان" وتلك قاعدة فقهية معروفة. وحسب الإمام علي بن أبي طالب " لا تعلمّوا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، وهكذا فإن للضرورة أحكام.
   الإتكالية والتعويلية وعدم القدرة على الخلق والتجديد جعلت التيارات الفكرية المعاصرة في العالم العربي بكل تفريعاتها ومدارسها، سواءً أكانت قومية أم ماركسية أم إسلامية، أسيرة للماضي وتعيش عليه، وذلك ما زاد من تخلّفها وعدم مواكبتها روح العصر.
   والماضوية تعطّل الحوار وتلجم المتحاورين، خصوصاً حين يستعينون باقتباسات تعود إلى قرون من السنين، فما بالك إذا كانت من القرآن أو السنّة النبوية أو من أقوال ميشيل عفلق أو جمال عبد الناصر أو من ماركس أو لينين، عندها يتوقّف النقاش، طالما وصل إلى المناطق المحرّمة، وكأن ما قيل في السابق أصبح " مقدّساً"، وهكذا يتغالب المتحاورون بعضهم على بعض أو يتشاطرون باختيار الاقتباسات ليستدلوا على قربهم من "النظرية" أو "الفكرة" أو "الآيديولوجيا" أو " التعاليم" التي ينتسبون إليها ويزعمون أنهم يحافظون على نقاوتها ضد تشويهات الأعداء أو الخصوم حتى وإن كانوا من الفريق الواحد.
   الفكر العربي المعاصر بحاجة إلى التخلّص من ثقل الماضي دون القطيعة مع التراث، بل استلهامه، ولكن دون الغرق فيه، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكن استعادته، في حين يمكن الاستفادة من دروسه وعبره، مثلما يحتاج إلى قراءة الواقع في ضوء التقدّم العلمي والتكنولوجي، لاسيّما في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل"، ولا بدّ من نفض غبار الزمن وفتح النوافذ والأبواب لاستقبال هواء الحريّة، بمعنى "التحرّر" من عقد الماضي وإشكالاته الذي يتم استعادته في الكثير من الأحيان في عودة "سلفية" ضد منطق الحياة ذاتها، وضد منطق التطور والتغيير الذي لا غنى عنها.

2- أطروحاتك في نقد "الماركسية" والماركسيين ، خصوصاً كتابك "تحطيم المرايا"، كانت من الناحية الفكرية والعلمية في غاية الأهمية، فهل تلمسون لذلك أثراً في أداء اليسار العربي الراهن؟

ج 2- أثار كتاب "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف" الذي صدر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) ، بيروت، 2009 ، اهتماماً غير اعتيادي، فقد نظّمت له ندوة كبرى في بيروت وندوتان في القاهرة (في حزب التجمع - مجلة نقد وأدب) وفي مركز آفاق للدراسات الاشتراكية،(صلاح عدلي- الحزب الشيوعي المصري لاحقاً) وفي بغداد التأمت ندوة كبيرة في جامعة النهرين- مركز الدراسات الاستراتيجية، ساهم فيها سبعة من أساتذة الجامعة، وأخرى في مدينة العمارة، وفي تونس بادر "مركز الجاحظ" بتنظيم ندوة مهمة عنه، وكان من المؤمل أن تنعقد حوله مائدة مستديرة في دمشق وحلقة نقاشية في صنعاء، لكن بعض التطورات السياسية حالت دون ذلك، وكُتب عنه عدداً من الدراسات والأبحاث وغطّت الصحافة المكتوبة والمقروءة والمسموعة أخباراً ونقاشات عنه، وقام مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية بجمع نحو 40 مساهمة عنه تضمنت أسئلة وحوارات وآراء نقدية وطلب مني كتابة مقدمة لها، وضمّها في كتاب مع مقدّمة مطوّلة،  وصدر بعنوان  "الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية " الذي أثار  هو الآخر جدالات كثيرة.
   أعتقد أن اليسار العربي بشكل عام واليسار في كل أنحاء العالم أدرك أنه ليس بإمكانه اليوم الاستمرار في نفس أطروحاته السابقة، وما عليه إلّا إجراء مراجعة جادة ومسؤولة، وقراءة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية ذات الخصوصية، ليس عبر مسطرة الآيديولوجيا، بل انطلاقاً من الواقع بكل تشابكاته وتعقيداته، والسعي لتغييره وتطويره بما يستجيب لسمة العصر، خصوصاً وقد فشلت جميع التجارب الاشتراكية  بقضّها وقضيضها، وقادت إلى أنظمة تسلطية وبيروقراطية حزبية أوصلت البلاد إلى طريق مسدود، ناهيك عن انسداد آفاق التنمية، وشهدت التجربة الاشتراكية المطبّقة في عدد من البلدان التي حكمتها شحّ الحرّيات وتجاهل التنوّع وعدم الإقرار بالتعدّدية، إضافة إلى اختناقات اقتصادية ، والأهم من ذلك معارضة واسعة من السكان وبشكل خاص من العمال في الكثير من الأحيان، والتي زعمت تلك التجارب أنها تمثلهم باعتبار الحزب هو "الطليعة" أو يعبّر عنهم.
   وكان فشل "تجارب الأصل" قاد إلى إخفاق "تجارب الفرع" التي حاولت تقليد التجربة الاشتراكية، باقتباس النموذج ذاته: حزب واحد تدور حوله جبهة وطنية شكلية وأجهزة مخابرات تكاد تكون مطلقة الصلاحية وإعلام ديماغوجي وبيروقراطية حزبية متعالية يقف على رأسها اللجنة المركزية فالمكتب السياسي فالأمين العام الذي تنسب إليه جميع الفضائل : البطل، المفكّر، الفيلسوف، الأديب، القائد، الزعيم.
   ومع ذلك فإن هذه القراءة لم تكن واحدة، فبعض أجنحة اليسار انكفأت على نفسها، والأخرى تخلّت عن منطلقاتها بزعم التغيير، وهناك توجه ثالث حاول الاجتهاد من خلال النقد مع التمسك بقيم العدالة الاجتماعية التي انطلق منها، ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار الواقع الجديد والتغييرات الكبيرة في ميزان القوى على المستوى الدولي.
   ويمكن القول إن اليسار العربي تتجاذبه ثلاث اتجاهات:
   الاتجاه الأول -  "المتجمّد" الانعزالي والذي اتّسم بالجمود العقائدي ورفض قراءة التحوّلات الجارية على النطاق العالمي، بما فيها من تأثيرات للعولمة واعتبر كل ذلك مجرد انحرافات وتشويهات، ولذلك ظلّ متمسّكاً بالماضي ويعيش على الذكرى، فانكمش وتقلّص إلى حدّ التجمّد والتكلّس، وظلّ يردّد بعض المقولات التي عفا عليها الزمن ولم يقدّم أي مساهمة جدّية لفهم التغييرات الجديدة والسبيل لمواجهة التحديّات.
   الاتجاه الثاني - "السائل"  المعولم، الذي وجد في انهيار جدار برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 وسقوط الأنظمة الاشتراكية وتحلل الاتحاد السوفييتي، فرصة لاستبدال ولائه من موسكو إلى واشنطن، خصوصاً وبعضه كان الأكثر "تبعية" للسوفييت لدرجة أنه لم يتورّع من إخضاع مصائر حزبه وشعبه لمصلحة "الأممية" كما كان يبرّر، وإذا به ينقلب رأساً على عقب، فتحت عنوان " المتغيرات الدولية" و" العامل الدولي" يستدير نحو " معسكر العدو" ويصطف مع الولايات المتحدة، بل ويبرر مشاريعها العدوانية وخططها الحربية.
   وشارك بعض "المتمركسين" في المشروع الأمريكي الذي أطلق عليه "مشروع تحرير العراق" بزعم وجود أسلحة دمار شامل وعلاقة نظامه الدكتاتوري بالإرهاب الدولي، والسعي لاستبداله بنظام ديمقراطي، واتّضح عقم تلك المزاعم وخطلها وتحمّل الشعب العراقي تبعات الحصار الدولي، ونتائج " الفوضى الخلاقة" فيما بعد، فضلاً عن تفشي ظواهر العنف والإرهاب في المجتمع العراقي على نحو لم يسبق له مثيل.

212
التطرّف والعنف: سوريا تحت المجهر
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي

   لعلّ من المفارقة أن تعقد اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) بالتعاون مع جامعة نيويورك ومركز التعاون الدولي اجتماعها التشاوري على مستوى الخبراء بخصوص " التطرّف العنيف في سوريا ومنع انتشاره"، ويكون الهجوم التركي على الأراضي السورية قد بدأ تحت عنوان " نبع السلام" بزعم " القضاء على الإرهاب"، وهو الأمر الذي أثار  جدلاً واسعاً ونقاشاً عميقاً حول آثاره الراهنة والمستقبلية  وتأثيراته السوريّة والإقليمية والدولية، ارتباطاً مع عنوان الاجتماع ذاته.
   وكان العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة قد اشتغل على برامج ومشاريع وأجندات لسوريا، وحمل بعضها أبعاداً إنسانية تتعلّق باللاجئين والنازحين وغيرهم، وذلك منذ اندلاع الأزمة والاستعصاء الذي وصلت إليه. ومن هذه المنظمات وضعت الإسكوا في العام 2012 " الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا"،  وذلك من خلال حوارات ونقاشات في  إطار تشاركي بين الخبراء السوريين والأطراف المعنيين لاقتراح سياسات بديلة لمرحلة ما بعد الأزمة، والهدف هو رسم وصياغة مفردات مشروع يتعلّق بالتنمية المستدامة، انطلاقاً من واقع الحال وتطوراته بعد الأزمة.
   وإذا كانت حركة الاحتجاج في العام 2011 قد بدأت سلمية ومدنية، لكنه تم عسكرتها على نحو سريع ، الأمر الذي دفع بالصراع إلى مديات شاسعة  وعنفية ومنفلتة، لاسيّما بتداخلات إقليمية ودولية من خارج الحدود وضمن أهداف خاصة.
   وتسعى اجتماعات الخبراء إلى تحليل الاتجاهات التي يمكن لسوريا تبنيّها في المستقبل، لاسيّما معالجة الجوانب المتعلقة بالتنمية ما بعد النزاع، والتي تتركز حول إعادة البناء وتقليص الأضرار المادية ومعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للنزاع الذي يستمر منذ أكثر من ثماني سنوات.
   إن التحدّيات التي تواجه عملية إعادة البناء لا بدّ لها من بحث الفرص المتاحة أو الممكنة  بالترابط مع الإمكانات المتوفرة، ولعلّ أولى الأولويات تتركّز في بناء السلام وتعزيز مؤسسات الدولة و"حكم القانون"، وبدون ذلك لن تنجح الجهود في الوصول إلى الأهداف المرجوّة، وقد انصبّت نقاشات الخبراء في الأسكوا على عدد من القضايا الأساسية منها:
1- إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية .
2- إعادة بناء المؤسسات وفقاً لمبادئ الحوكمة الديمقراطية.
3- إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق المصالحة.
   وهذه تشمل عدداً من القطاعات أهمها: النوع الاجتماعي والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والبيئة والاستدامة، من خلال إحراز نجاحات في التنمية وترميم البنية التحتية وتعزيزها، إضافة إلى تحديث نظم الحكم والإدارة والقضاء وأجهزة إنفاذ القانون وفقاً للمبادئ العصرية.
   ومنذ العام 2017  عمل برنامج الاسكوا على مناقشة " الإطار الاستراتيجي لبدائل السياسات" بتقديم رؤى وتصورات  وأفكار يجري تحديثها بشكل دوري لتستجيب للتطورات التي تحدث بحيث يتم تكييفها للسيناريوهات المحتملة التي تنطلق من الواقع، وذلك عبر استشراف مستقبلي جديد لسوريا 2030 من خلال محاور أساسية للقطاعات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدستورية والقانونية والقضائية والتربوية والتعليمية والبيئية والبلدية والمجتمع المدني وغيرها.
   وفي العادة فإن اجتماعات المنظمات الدولية غالباً ما تنعقد وفقاً لقواعد Chatham  House  وكان التركيز في الاجتماع المشار إليه حول العنف والتطرّف، واستند في ذلك على دور داعش والشبكات الإرهابية الأخرى، وحسب تقديرات الأسكوا فإنه رغم هزيمته العسكرية، لكنه ما يزال يملك نحو 11.000(أحد عشر ألف) مقاتل محتجزين ونحو 75.000 (خمسة وسبعون ألف) نازح من عوائل داعش في مخيّم الهول شمال شرقي سوريا، وهو الذي هدّدت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بإطلاقهم أو عدم إمكانية حراستهم لحظة الاجتياح التركي لشرقي الفرات، والذي يمكن أن ينتقل تأثيرهم على دول الجوار بما فيها العراق بشكل خاص.
   ومثل هذا الأمر يجعل من مسؤولية دول المنطقة والمجتمع الدولي والقوى الدولية الكبرى التفكير الجدي بإعادة تأهيلهم ودمجهم وتوطينهم، ويشكل ذلك تحدّياً كبيراً في إطار مواجهة الإرهاب، سواء للمجموعات الإرهابية المحلية أو للمقاتلين الأجانب وهم من بلدان أوروبية وغربية مختلفة، إضافة إلى مقاتلين من بلدان عربية ومسلمة.
   إن مواجهة الإرهاب المتجسّد في التوحش والقتل العشوائي بالجملة يقتضي أولاً وقبل كل شيء الوقوف عند دوافعه، فلا إرهاب دون تعصب ديني أو طائفي أو مذهبي أو قومي أو سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك، وإذا ما انتقل التعصّب من التفكير إلى التنفيذ سيصبح تطرّفاً، وكل متطرّف هو متعصّب بالضرورة، والعكس ليس صحيحاً.
   وإذا ما أصبح التطرّف سلوكاً صار عنفاً، خصوصاً باستهداف الضحية بذاتها ولذاتها والتوجه للقضاء عليها أو لإسكاتها ، أما إذا ضرب العنف عشوائياً، فإنه سيصبح إرهاباً، هدفه إضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة بزعزعة الأمن وضعضعة النظام العام وإحداث رعب وهلع وخوف في المجتمع، وقد يكون الهدف الأبعد هو إسقاط الدولة من خلال الفوضى وهي بالنسبة للإرهابيين وداعش وأخواتها " الفوضى أفضل من دولة لا تحكم باسم الله"، ولحين أن  تتحقق تلك اللحظة، فإن إدارة التوحش تعمل لبناء شروط دولة الخلافة بتفكيك الدولة القائمة.
   وإذا كان ثمة انتهاكات أو ثغرات ونواقص في السياسات الداخلية، فإن التدخلات الخارجية كان لها تأثير كبير على تشجيع وتمويل وإدامة العنف والإرهاب، خصوصاً باستغلال التطرّف والتعصّب المجتمعي وحاجات الناس وظروفهم المعاشية، ناهيك عن الأمية والتخلّف، وكل تدخل خارجي، ولاسيّما عسكري أو إدامة للنزاعات المسلحة الداخلية أو فرض عقوبات اقتصادية تمس صميم الناس، جلب معه التطرّف، والتطرّف يقود إلى تطرف مضاد، يبدأ سلبياً: الموقف من الأجنبي وصولاً إلى استخدام العنف ضده أو ضد المتعاونين معه الذين يطلق عليهم " المرتزقة" أو "الطابور أو الرتل الخامس"، وقد تناولت قواعد القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي المعاصر مسألة التعامل مع المدنيين، وهو ما ذهبت إليه اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977 الأول - الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة  غير الدولية.
   وبالطبع، فثمة عقبات ستعترض سوريا حتى لو تمت هزيمة داعش، علماً بأن الهزيمة العسكرية لا تعني بالضرورة انتهاء داعش أو خطرها، لأن الأمر أبعد من ذلك حيث يقتضي تفكيك الشبكة الإرهابية وتجفيف منابعها وردم روافدها وقطع شريان التمويل لها، من خلال كفاح فكري طويل الأمد وسن قوانين وأنظمة  جديدة تحول دون انتشار التنظيمات الإرهابية، لاسيّما بتغليظ العقوبات وإصلاح منظومة القضاء والأنظمة الأمنية وأجهزة إنفاذ القانون ، وتحسين الأوضاع الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للعاطلين والقضاء على الأمية ووضع حد للتخلف وتوفير الحد الأدنى للعيش الكريم، فضلاً عن إعادة النظر بنظام التعليم والتربية، بما يؤدي إلى تنقيته من كل ما يتعارض مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، إضافة إلى بذل جهد كبير لإصلاح المجال الديني ، فكراً وثقافة وخطاباً، دون نسيان أهمية الجبهة الأمنية والاستخبارية من خلال نظام شامل للوقاية والحماية والرعاية.
   وإذا كان المجتمع السوري متماسكاً تاريخياً وهو مجتمع متنوّع وتعدّدي ومتعايش دينياً وقومياً ومجتمعياً ، لكن ذلك لا ينفي وجود ثغرات وعيوب ومثالب تتعلق أساساً بعدد من القضايا الإشكالية مثل الاعتراف بالآخر وإقرار التنوّع والتعددية واحترام منظومة الحقوق والحريات الأساسية ، مثلما لا ينبغي إهمال أن موجة الإرهاب ما بعد احتلال العراق، كان لها تأثير كبير في استنفار جميع التناقضات والنتوءات المجتمعية ، لاسيّما إذا ارتبطت بسياسات خاطئة وقصيرة النظر وبتشجيع ودعم من قوى خارجية وفقاً لأجندتها السياسية.
   وكان الإرهاب بعد العام 2011 ولغاية العام 2014 قد وجد قاعدة حاضنة له في سوريا بتشجيع من قوى دولية وإقليمية يهمّها تعميم الفوضى وقضم الدولة بالتدرّج وعلى مراحل، أما بعد احتلال الموصل العام 2014 وقبلها احتلال الرقة، فقد أصبح لداعش نفوذ كبير حيث جرت محاولات لإعلان "الدولة الإسلامية" وعاصمتها الرقة، بل إن المنظمات الإرهابية بدأت تنتشر على نحو واسع بتطبيق قوانينها على أجزاء غير قليلة من سوريا والعراق.
   إن انشغال المجتمع الدولي اليوم بمشروع التطرّف والعنف في سوريا، فلأنه أخذ يدرك أكثر من أي وقت مضى الدور المحوري لهذا البلد العريق من جهة، وما يمكن أن يتركه وجود الإرهاب من تأثيرات على المجتمع الدولي من جهة أخرى، وما يجلبه من تداخلات إقليمية، لاسيّما من جانب إيران وتركيا، ناهيك عن دور روسي متعاظم واختراق أمريكي من جانب آخر ، فضلاً عن موقف أوروبي متمايز ومغاير، وهو الأمر الذي لا بدّ من إعادة  بحثه استناداً إلى عدد من المستجدات منها :الاجتياح التركي الجديد والخارطة السياسية السورية بتضاريسها ومنعرجاتها المختلفة وتفاهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع الحكومة السورية، فضلاً عما ستؤول إليه لجنة إعداد الدستور ومصير اتفاقيات أستانة وجنيف، ناهيك عن مستقبل " المنطقة الآمنة"؟.





213
المنبر الحر / اتفاق سوتشي
« في: 18:16 31/10/2019  »
اتفاق سوتشي
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
أسفرت مباحثات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في سوتشي عن اتفاق من 10 نقاط أهمها تسيير دوريات مشتركة على تخوم " المنطقة الآمنة" للحدود السورية التركية كما نصّ الاتفاق على بدء تسيير دوريات للشرطة العسكرية الروسية والقوات السورية النظامية على الجانب السوري من الحدود، على أن تكون مهمتها الأساسية سحب القوات الكردية والأسلحة من المنطقة المحاذية للعمليات التركية " نبع السلام" ، لتبدأ بعدها موسكو وانقرة المحافظة على الوضع في المنطقة الحدودية .
وبموجب الاتفاق يلتزم الجانبان " وحدة سوريا وسيادتها" مع "تلبية متطلبات الأمن الوطني التركي" ، وذلك بالتأكيد على "اتفاق أضنة" وأن تكون موسكو الضامن الأساسي لتطبيقه، مع التأكيد على أن الهدف الأساسي يتمثّل في "إخلاء سوريا من الوجود العسكري الأجنبي". واستمرت المباحثات التي كان مقرراً لها نحو ساعتين ، لستة ساعات، الأمر الذي يعكس صعوبة التوصل إلى اتفاق، فضلاً عن الملفات المعقدة والصعبة التي تم بحثها، وهي تتلخص في 3 ملفات أساسية:
أولها- الموقف من إنشاء المنطقة الآمنة.
وثانيها- مساعي موسكو لفتح قناة حوار مباشرة بين أنقرة ودمشق.
وثالثها – الموقف من إبقاء الولايات المتحدة جزءًا من قواتها في مناطق شرق الفرات السورية لحماية المنشآت النفطية.
ووصف الرئيسان بوتين وإردوغان الاتفاق في مؤتمر صحفي مشترك عقب توقيعهما بأنه "اتفاق مصيري" ومهم للغاية، وذلك بعد أن تم تلاوته بالروسية والتركية من قبل وزيري خارجية البلدين. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن موسكو سوف تحتاج إلى معدات قتالية وتقنيات عسكرية لتنفيذ الاتفاق، وذلك في إشارة إلى احتمال إقلاع موسكو عن توجهها السابق القاضي بتقليص وجودها العسكري في سوريا، أما وزير الدفاع الروسي شويغو فقال أن أمام الولايات المتحدة ساعات محدودة للوفاء بالتزاماتها للانسحاب من سوريا.
وتحاول موسكو "إملاء الفراغ" بعد انسحاب واشنطن ، في رسائل مزدوجة ، أولها – التحذير من الفراغ الذي قد يستغله الإرهابيون، وثانيها- توفير شروط مطلوبة للأمن والسلام على الحدود ومنع الإرهابيين الاستفادة من التطورات الجديدة.
وثالثها – تطمينية للأكراد بالتأكيد على أهمية تعزيز الحوار بين دمشق وبينهم لأنهم جزء من الدولة السورية والنسيج الوطني السوري ويجب أن تراعى حقوقهم ومصالحهم، ورابعها- بخصوص استمرار عمل " اللجنة الدستورية" التي يفترض أن تعقد اجتماعاتها في جنيف.
أما إردوغان فكانت رسائله هي أن بلاده  ملتزمة بمبدأ وحدة وسلامة الأراضي السورية، وذلك بتأكيده " وليس لدينا أي أطماع في أراضي الغير" وإن الهدف هو "دحر الإرهابيين" و"إعادة اللاجئين السوريين" وأنه خطط لإعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى " المنطقة الآمنة".
وتزامن إعلان "اتفاق سوتشي" اقتراح وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارنباور لإنشاء منطقة آمنة في سوريا برعاية دولية لحماية المدنيين وضمان استمرار التصدي لتنظيم "داعش" الإرهابي، وقالت أنها اتفقت مع المستشارة أنجيلا ميركل على عرض الاتفاق على دول حلف شمالي الأطلسي خلال اجتماعه في بروكسل.
ويتضمن الاقتراح الألماني مشاركة فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى تركيا وروسيا في " قوة دولية" للانتشار في شمالي سوريا، وهو الأمر الذي اعتبر إرباكاً لحلفاء حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم الذي تنتمي إليه وزيرة الدفاع، وبدا وزير الخارجية الألماني  هايكو ماس متفاجئاً لأنه اعتبر عملية نبع السلام التركية "غزواً" وإنها تتعارض مع قواعد القانون الدولي.
وحتى الآن  فمن الصعب التكهن بما ستؤول إليه العلاقات السورية – التركية وما إذا كان الحوار المباشر الذي يقترحه الروس سيفضي إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً وإن العديد من القضايا العقدية ما تزال قائمة منها ما يتعلق بالمنطقة الآمنة ومنها ما يتعلق بمصير الأكراد وحقوقهم القومية السياسية والدستورية والموقف من حزب العمل الكردستاني PKK ومسألة الإشراف على المناطق النفطية بشمال سوريا، وكل ذلك يتطلب التزامات من الأطراف الأساسية، سواء أكانت روسيا أم تركيا أم الولايات المتحدة أم الاتحاد الأوروبي أم الكرد أم دمشق ، إضافة إلى الأمم المتحدة وقراراتها وكانت اتهامات سورية حكومية قد وجهت إلى إردوغان شخصياً بسرقة  المعامل والنفط والقمح وأنه اليوم يريد سرقة الأرض.
وقد رافق قمة بوتين – إردوغان إشارات اقتصادية مهمة، حيث تم الاتفاق على استخدام "الروبل" الروسي و"الليرة" التركية في التعامل الاقتصادي بين البلدين بدلاً من العملات الأجنبية، وخصوصاً الدولار، وتم بحث آلية مالية لتشبيك النظام المصرفي في البلدين ، كما اتفق البلدان على بناء محطة الطاقة النووية بمساعدة روسية واستمرار التعاون بشأن مشروع السيل التركي للغاز، وفي المجال العسكري استمرار التعاون بخصوص " صواريخ إس 400"، ويبقى الموضوع الأساسي هو الإرهاب والمقصود تركياً " حزب العمال الكردستاني" وسورياً وروسياً جميع المجاميع الإرهابية ، بما فيها داعش وجبهة النصرة " جبهة تحرير الشام" وأخواتها، وهو أمر مختلف عليه فيما يتعلق بإدلب ووجود الجماعات الإرهابية والمسلحة.




214
المنبر الحر / نبوءة فوكوياما
« في: 16:01 29/10/2019  »
نبوءة فوكوياما

بقلم عبد الحسين شعبان

في فبراير (شباط) 1989 ألقى فرانسيس فوكوياما المفكر الأمريكي من أصل ياباني، كلمة في جامعة شيكاغو بخصوص "العلاقات الدولية" تم نشرها في صيف 1989 في مجلة The National Interest، وكانت بعنوان "نهاية التاريخ" كما نشرت في مجلة Times Magazine التي تصدر في نيويورك.
كان يومها في السادسة والثلاثين من عمره، ويعمل في مؤسسة راند Rand المقرّبة من CIA بصفة "خبير في السياسة الخارجية السوفيتية"، لكن تلك المقالة سرت مثل النار في الهشيم، فنوقشت في بريطانيا وفرنسا، وترجمت إلى لغات عديدة، وذلك لثلاثة أسباب مهمة:
أولها- إعلان ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفييتي قبل نحو شهرين من أن الاتحاد السوفييتي سيكفّ عن التدخل في شؤون أوروبا الشرقية، وذلك في خطابه في الأمم المتحدة (7 ديسمبر/ كانون الأول 1988):
وثانيها- إن العام ذاته 1989 صادف انهيار الكتلة الاشتراكية بعد الإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية، حيث شهد العالم الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا وأعقبها هدم جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) في العام ذاته، وقبلها تغييرات للأنظمة في بولونيا وهنغاريا، ثم صوّت الاتحاد السوفييتي على حلّ نفسه في 26 ديسمبر/كانون الأول /1991.
وثالثها- إن فوكوياما أخذ يتدرّج في المناصب، حيث انتقل إلى نائب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، وسرعان ما تحوّلت مقالته إلى كتاب مقابل 600 ألف دولار، وتم نشره بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في 1992 ونشرته دار Free Press، ولذلك اكتسبت مقالته وفيما بعد كتابه أهمية كبيرة، باعتباره قريباً من أصحاب القرار ومؤثراً في اتخاذ القرار.
يقرّر فوكوياما في كتاب "مستقبلنا ما بعد الإنسانية أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدّم سريع ومذهل
واليوم وبعد مضي ثلاثة عقود من الزمان على ترويج أطروحته الشهيرة تلك، وبعد بلوغه السادسة والستين من عمره، فهل كانت الضجة التي رافقت مقالته وكتابه تستحق كل ذلك، أم إن ذلك جزء من الدعاية والصراع الأيديولوجي ضد الشيوعية حينها وما بعد الحرب الباردة، خصوصاً التحضير لاختراع عدو جديد هو "الإسلام" وشيطنة الآخر، لدرجة أن عقد التسعينيات كلّه، شهد مثل تلك الحملة الديماغوجية، والتي تُوّجت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001، بغزو أفغانستان في العام ذاته واحتلال العراق بعده في العام 2003؟
ولنا أن نتساءل أيضاً بعد أن خفت بريق نظرية فوكوياما عقب عقد ونيّف من الزمان، حيث كانت تتصدر فيه الواجهات: هل كانت تستحق كل ذلك العناء والانشغال العالمي بها؟ وبعد ذلك ما الذي تبقى اليوم من أطروحته التي بشرنا بها بنهاية التاريخ؟ ثم هل الرهان على اليقين الليبرالي "المنتصر" كفيل باجتراح المعجزات؟ أم ثمة حقائق أخرى أخذت تنتصب أمامنا، وهي بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من "المسلّمات" التي افترضها بشأن "حتمية تاريخية" لنمط آحادي لحضارة "سائدة" هي الغربية - الليبرالية (المسيحية - اليهودية) على حساب الحضارات الأخرى، بما فيها الحضارات التاريخية مثل الحضارة الصينية والهندية واليونانية والعربية - الإسلامية وغيرها؟
ولعلّ مراجعة الأطروحات التي تقول بظفر الليبرالية التي بدأها فرانسيس فوكوياما وإن تزعزع تشبثه بها بعد أحداث 11 سبتمبر، تكشف لنا هزال تلك الفرضيات الحتمية والافتراضيات التنظيرية، التي حاول تقسيم العالم بموجبها إلى قسمين: "عالم التاريخ" و"عالم ما بعد التاريخ"، وإذا ما أريد الخروج من عالم التاريخ ودخول عالم الما بعد تاريخي، فلا بدّ من نزع الهويّة الخاصة واللحاق بعالم ما بعد التاريخ، وهذا الأخير هو عالم الدول الصناعية المتقدمة، ويواجه العالم الجديد بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، مشكلات أساسية، وهي النفط والإرهاب الدولي واللاجئون.
وإذا كان فحص نظرية فوكوياما خارجياً يثبت خطلها، فإن فحصها داخلياً قاد إلى ممثل هذا الاستنتاج، حيث اضطرّ هو نفسه إلى تعديل أطروحته أو نقضها بسبب حالة الاستعصاء، بعد أن أثبت "التاريخ" أنه ماكر وخداع على حد تعبير هيغل، فقد أكدت الوقائع إخفاق، بل عدم قدرة تلك الفرضيات على تجاوز الواقع المعقّد، وهكذا أخذ فوكوياما يرجّح الجانب القانوني والمؤسساتي في بناء الدول على حساب حتميته التاريخية، ولذلك اعتبر أن جهود الديمقراطية الليبرالية في بناء المؤسسات كانت متواضعة جداً، وأنه إذا كان هناك شيء واحد تغيّر في تفكيره بشأن كل هذا، فهو بالضبط هذا السؤال حول صعوبة خلق المؤسسات.
وفي كتابه الانتقالي "مستقبلنا ما بعد الإنسانية: تبعات ثورة التكنولوجيا الحيوية" يقرّر أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدّم سريع ومذهل، حيث أشار ردًّا على صحيفة الهيرالدتربيون: إن أيسر طريقة لفهم أطروحته الجديدة هي إدراك الجانب السياسي للتكنولوجيا. وإذا كانت التكنولوجيا والمعلومات قد أضفت قدراً كبيراً من التأثير على الديمقراطية السياسية والليبرالية، فإن التكنولوجيا الحيوية من الممكن أن توفّر مجموعة أدوات للسيطرة والهيمنة في السلوك الاجتماعي.
وذهب فوكوياما إلى اعتبار الأدوية الجينية التي يتم إنتاجها لحقن إثر التفاعلات المناعية لكل مريض على حدة تحقق تقدماً واعداً في المستقبل، وقال إن العالم سيشهد خلال عشر سنوات قادمة ظهور العديد من الأدوية المختلفة التي من خلالها يتم تحسين الذاكرة وزيادة الذكاء.
وهكذا، يعود فوكوياما إلى تأكيد حقيقة قيام الديمقراطية التي تطورت ببطء شديد وتراكم طويل الأمد، منذ أن كانت إرهاصاً جنينياً، حتى أصبحت قويّة العود في بعض البلدان، وإن يجري تهديدها باستمرار، وما الموجة الشعبوية العارمة التي صاحبت صعود دونالد ترامب إلى قمة السلطة في الولايات المتحدة إلا تعبير عن ذلك والأمر يشمل أوروبا التي اكتسحت فيها الشعبوية بلداناً عديدة مثل فرنسا ممثلة "بالجبهة الوطنية" برئاسة مارلين لوبان وإيطاليا، حيث ظهرت حركة الـ 5 نجوم، وفي ألمانيا كان صعود "البديل الديمقراطي" ملفتاً، مثلماً فاز الشعبويون في هولندا والدانيمارك والنمسا والمجر والتشيك وبولونيا وغيرها.
إن صعود الموجة الإسلاموية التكفيرية ارتبط إلى حدود غير قليلة بموجة شعبوية دينية اتخذت من الإسلاملوجيا ضدية في مواجهة الإسلامفوبيا
وإذا كان ذلك ما عانته خارطة الديمقراطية في الغرب من تحديات وعرة وتضاريس معقّدة. ففي منطقتنا العربية، كان الأمر أشدّ سوءًا في ظلّ انقسامات مجتمعية عديدة ما دون الدولة وما قبلها، بل إن بعضها يهدد وجود الدولة واستمرارها، ويمكن القول إن "التجارب" الديمقراطية ما تزال محدودة وهلامية وهشّة، وليست أكثر من توجّهات في العديد من البلدان، التي واجهتها من معوّقات أساسية وعقبات عديدة هي: الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والمذهبية والتوتّرات الإثنية والقومية والعنف المجتمعي والإرهاب الدولي والحروب الإقليمية وشحّ الثقافة الديمقراطية، خصوصاً في ظلّ التفاوت الاجتماعي وعدم عدالة توزيع الثروة، إضافة إلى تفشّي الأمية وانتشار الجهل وعقبات أخرى، مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
جدير بالذكر أن صعود الموجة الإسلاموية التكفيرية ارتبط إلى حدود غير قليلة بموجة شعبوية دينية اتخذت من الإسلاملوجيا (أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام) ضدية في مواجهة الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام في الغرب) وذلك في إطار نزوع متطرف يستند إلى تعصّب، وسرعان ما يتحوّل التطرّف إلى سلوك، فيؤدي إلى العنف وهذا الأخير يمكن أن يصبح إرهاباً إذا ضرب عشوائياً، ولذلك لاحظنا الانتشار السريع والواسع للتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة وأخواتهم، تلك التي وجدت أن فيروس الإرهاب سريع الانتشار، وبيضه يمكن أن يفقس إذا ما كانت هناك بيئة صالحة لذلك.
ولا أدري أين نضع مقولات فوكوياما اليوم بعد العقود الثلاثة الماضية، ولاسيّما بعد التحديات العديدة التي واجهتها الديمقراطية، في عرينها الأصلي، إضافة إلى الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا؟ وأين يمكن أن نضع دولة مثل الصين، حيث ما يزال يحكمها حزب واحد، مهّد رئيسه شي جين بينغ للبقاء في منصبه إلى أجل غير مسمى، وكذلك دولة كبرى مثل روسيا التي استبدل فيها الرئيس فلاديمير بوتين مناصبه، ليمدّد إدارته لسلطة بلاده ليبقى هو على رأسها؟
وهكذا نرى أن الشعبوية التي شهدتها انتخابات الاتحاد الأوروبي مؤخراً ليست ردّة فعل عاطفية وفورة انتخابية إزاء واقع مأزوم، وإن كانت تستغل ذلك، ولكنّها تهديد حقيقي للديمقراطية الليبرالية، خصوصاً بجنوحها لتقديم تفسيرات لمفهوم الشعب في محاولة لنفي التنوّع والتعدّدية الثقافية، ومحاولة فرض نوع من التجانس عليه، الأمر الذي يعني فرض شكلٍ من أشكال الوحدة الإجبارية التي تقترب من الإكراه، فهل تحققت "نبوءة" فوكوياما أم أنها لم تكن أكثر هرطقة أيديولوجية جانبت الواقع واستنفذت أغراضها بعد محاولة فرض الهيمنة وإملاء الإرادة والتحكم بمسار العلاقات الدولية؟



215
المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة

عبد الحسين شعبان

أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب
العرب بحاجة إلى تلازم التنمية والديمقراطية
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات
حاوره : هشام الطرشي
منذ أن اقترحنا عليه إجراء حوار مع موقع "الصحيفة"، غصنا في جرد المواضيع والتيمات ذات الراهنية والتي من المهم استحضارها في لقائنا به، وفي كل مرة نحدد فيها موضوعا نجد أنفسنا أمام تساؤلات فلسفية لمحاورِنا تفتح أمامنا أبوابا وتفريعات وزوايا معالجة تحتاج إلى الكثير من التدقيق والمراجعة والتصويب.
إن الضبط والتدقيق في المفاهيم وأبعادها لا يعادله إلا ذلك الانفتاح الفكري والفلسفي على القيم الإنسانية وقدرة محاورنا على لجمها وتطويعها خدمة للإنسانية باختلاف روافدها ومساراتها، فالدكتور عبد الحسين شعبان، موسوعي الثقافة ومتنوع الانشغالات ومنتج أفكار وصاحب مبادرات، نجفي المنشأ ويساري الفكر وكوني القيم، وواحد من أبرز الأسماء التي انتصرت لـ"المادية الجدلية"، ظل متمسكا بأهدابها مع انفتاحه على الفكر الانساني بمدارسه المختلفة، بل وعمل على إغنائها باجتهادات وقراءات متجددة للفكر الاشتراكي من زوايا انتقادية منسجمة في شموليتها مع روح العصر والتعددية الانسانية والتنوع الفكري والحضاري.
والمفكر شعبان واحد من الروّاد الكبار للعمل الحقوقي والإنساني في العالم العربي، وأستاذ محاضر في العديد من الجامعات العربية والدولية، حيث استقرّ لتدريس "فلسفة اللّاعنف" في جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان التي يشغل فيها منصب نائب الرئيس المعني بالشؤون الثقافية.
نستضيف في هذا الحوار الخـاص الدكتور شعبان لمحاورته في قضايا التغيير والتنوير، ثم ننتقل معه إلى عوالم بوح إنساني ووجدانيات حميمية، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ليكشف فيها روحه الحيّة وعالمه الخاص ومواقفه من الحب والحياة والعمل والدين والهويّة ويقدّم نقداً لكل ذلك.
د. عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر عربي
دكتور شعبان، ننطلق معك في هذه الفسحة التواصلية مما تعرفه المنطقة العربية من متغيرات، كيف تقرأ هذا التغيير"فكريا"؟
شهدت المنطقة العربية خضّات كبيرة ضعضعت "الشرعيات" القائمة وأضعفتها إلى درجة كبيرة، بل وأطاحت بها في بعض التجارب، لكن رياح التغيير تلك التي هبّت على المنطقة، لم تستطع حتى الآن من إقامة أو بناء "شرعيات" جديدة، على الرغم من ما تركته من إرهاصات، وحسب المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي "الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد".
ولكنني أستطيع القول بثقة إن الماضي مضى ولم يكن بالإمكان إعادته، فما أطلقنا عليه "الربيع العربي" بما له وما عليه من إيجابيات وسلبيات ترك بصماته موضوعياً على الواقع العربي، فمن الناحية الفكرية على أقل تقدير تمكّن من إسقاط بعض المقولات والأفكار التي سادت عقب انتهاء عهد الحرب الباردة بانهيار الكتلة الاشتراكية وقيام ما سمّي بالنظام الدولي الجديد، الذي روّج له فرانسيس فوكوياما والذي يقوم على ظفر الليبرالية على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية، كمنظومة قيم ونظام اجتماعي، والذي عبّر عنه في مقالة نشرها في العام 1989 تحت عنوان "نهاية التاريخ" والتي تحوّلت إلى كتاب في العام 1992 تحت عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
ما هي إذا الفرضيات التي تؤشر لها؟
ثمة فرضيات شكّلت عائقا أمام التغيير الديمقراطي المنشود حتى بدا وكأنه استعصاءً أو وعداً غير قابل للتحقق، فالفرضية الأولى، هي أن بديل الأنظمة الوطنية حتى لو كانت تسلّطية هو الفوضى، في حين أن الأنظمة على قسوتها واستبدادها حامية للأمن والاستقرار، ومن الطبيعي أن يخلف أي عملية تغيير أو انتفاضة أو ثورة نوع من عدم الاستقرار وحتى الفوضى التي قد تندفع إلى الواجهة، وليس بالضرورة تقود إلى "الفوضى الخلّاقة" طبقاً للرئيس جورج دبليو بوش، ففي تونس ومصر على سبيل المثال، وحتى وإن برزت حوادث عنف، لكنها كانت محدودة، وهي تصاحب أي عملية انتقالية وأية سلطات مؤقتة.
أما الفرضية الثانية، فهي أن العرب ليسوا بحاجة إلى الديمقراطية بقدر حاجتهم إلى التنمية، ومصدر مثل الأطروحات بعضها خارجي عنصري استعلائي وبعضه داخلي ومحلي، فالأول يستكثر على العرب حاجتهم إلى نظام سياسي عصري، والثاني يستصغر دورهم، صحيح أن العرب بحاجة إلى الغذاء والدواء والعمل والتعليم والسيادة، ولكن من قال إن الإنسان يحيا بالخبز وحده؟
والفرضية الثالثة، هي أن الإسلام دين يحض على العنف ويدعو إلى الإرهاب، وهو دين غير متسامح، ومصدر هذه الأطروحة كذلك خارجي وداخلي، الأول يستهدف فرض الهيمنة والاستتباع، والثاني يعتقد أن الصراع الداخلي هو بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو صراع استئصالي إلغائي.
والطرفان يعتقدان أن الإسلام دين غير متسامح وتتعارض تعاليمه مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومثل هذه الأطروحة تريد إخراج نحو مليار إنسان وأكثر من نصف مليار من استحقاق الديمقراطية، وهو أمر غير معقول.واستمراراً لهذه الأطروحة فالذين يتعصّبون للإسلاميين يعتبرون العلمانيين خطراً عليهم، والعلمانيون يعتبرون الإسلاميين هم الخطر على الديمقراطية، وكل يبالغ بدور الآخر سلباً ويعلي من دوره إيجاباً، في حين أن اللعبة الديمقراطية تقتضي الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في إطار منظومة كاملة من القوانين والمؤسسات والممارسات التي تراكم التطور الديمقراطي، علماً بأن الإسلاميين ليسوا جميعهم كتلة صماء واحدة، مثلما ليس جميع العلمانيين كتلة واحدة، ففيهم اليساري واليميني، الجمهوري والملكي، الظالم والمظلوم أحياناً، ولهذا لا يمكن وضع الجميع في سلّة واحدة.أما الفرضية الرابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى دعم خارجي، بل إنه لن ينجح بدونه وهو اتهام من جانب القوى المحافظة للقوى التغييرية بأنها تعتمد على الغرب الذي له مصالح خاصة، انطلاقاً من نظرية «المؤامرة»، في حين أن بعض القوى الداعية إلى التغيير لم تجد بأساً من التعامل مع قوى خارجية حتى على حساب المصالحة الوطنية العليا، طالما ستنقلها إلى منصّات السلطة، فهي غير قادرة لوحدها على إنجاز عملية التغيير، ولكن ما حصل من حراك شعبي كان داخلياً بالأساس حتى وإن حصل على تعاطف أو دعم خارجي بهدف توظيفه سياسياً.ولا يمكن مصادرة كفاح وتضحيات حركة الإصلاح الداخلية لعقود من الزمان بزعم الدعم الخارجي وإثارة الشبهات حولها. وبالطبع فإن القوى الخارجية ستحاول أن تدسّ أنفها طالما كانت الجبهات الداخلية ضعيفة أو مفكّكة.والفرضية الخامسة، هي أن التغيير سيؤدي إلى تصدّع الهويّة الجامعة والمانعة للشعوب العربية، لاسيّما بصعود هويّات اثنية ودينية وطائفية وعشائرية ومناطقية، وهذا يعني بذر بذور التشطير والتشظي في جسم الدولة الوطنية.
وإذا كان انتعاش الهوّيات الفرعية حقيقة قائمة فإن له أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فقد غذّت الأنظمة العربية بشكل عام الانقسام المجتمعي تارة لأسباب دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو إثنية أو جهوية أو غيرها بهدف إبقاء سلطة الحاكم طبقاً للرؤية الميكافيلية «الغاية تبرر الوسيلة»، ولعل من الطبيعي أن يعقب كل عملية تغيير انبعاث للهويّات بسبب تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب نال الهويّات الفرعية أو لمحاولتها التفلّت من هيمنة "الأغلبية" وسنوح الفرصة لذلك.
والفرضية السادسة، هي أن التغيير يحتاج إلى ثقافة، وهي التي ينبغي أن تتأسس لكي يحدث التغيير، وهي غائبة حتى الآن عربياً، ولكن هناك شعوباً وأمماً في العالم الثالث كما تسمى سارت في طريق التغيير الديمقراطي بالترافق مع تطوير التربية والتعليم، بما فيها على قيم الديمقراطية، فهل ننتظر أن يتم القضاء على الأمية وأن تعمّ الثقافة لكي نفكر حينها بالتغيير أم أن هذا الأخير كما أرى مساراً طويلاً مركباً تتفاعل فيه عوامل كثيرة تنموية بجميع المجالات.أما الفرضية السابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى حامل اجتماعي وهذا غير متوفر، أي عدم وجود قوى من الطبقة الوسطى قادرة على حمل رسالة التغيير، والشباب الذي فجّر الحراك الشعبي وقاده ليس مؤهلاً لإدارة الدولة لأنه لا يمتلك الخبرات الكافية، ولعل هذه نظرة تشكيكية استصغارية للشباب ودوره ولإرادة التغيير، ومحاولة لفرض نوع من الأبوية والوصاية على التغيير.
في حين أن الفرضية الثامنة، هي أن التغيير بحاجة إلى جهد مجتمعي شامل، في حين إن المجتمعات العربية ما تزال المرأة فيها بعيدة عن المشاركة، لكن المشاركة النسوية في تونس ومصر واليمن وليبيا دحضت إلى حدود كبيرة هذه الفرضية، فقد كانت لها تأثير كبير في التفاعل الحقيقي، بل وفي المشاركة اللّاحقة، ولا يمكن الحديث عن تغيير حقيقي في أي مجتمع دون الحديث عن مساواة حقيقية وفعلية وقانونية ومجتمعية بين الرجل والمرأة، وذلك أولاً- تمكين المرأة لكي تنخرط في العمل العام السياسي والاجتماعي والمدني، وثانياً- تتولى مهمات قياديّة، وثالثاً- لكي تشارك في إدارة الدولة وهيئاتها المختلفة.لقد جرت متغيّرات عديدة في هذا المجال، فحتى لدى دول الخليج اليوم تشارك المرأة مشاركة فعّالة وتتخطى العقبات التي كانت في طريقها وهو أمر مهم يمكن التراكم عليه لحصول التغيير الحقيقي في المجتمع، وتبقى "الثورات نقراً في السطح وليس حفراً في العمق" على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ، إن لم تنزل إلى قعر المجتمع وتحرّره وتغيّر العلاقات الإنتاجية السائدة فيه، فضلاً عن العادات والتقاليد البالية تلك التي ترسّخت على مرّ العصور، ولاسيّما في النظر إلى المرأة حيث يتم استصغار دورها والتشكيك بإمكاناتها والتقليل من قدراتها، بل إن البعض يبرّر ذلك باسم الدين باعتبار النساء "ناقصات عقل ودين".
ولأن المناسبة شرط، لنتوقف قليلا عند المرأة..
لقد تحقق للمرأة بعض النجاحات وإن أجهض بعضها أو تعثّر، وخصوصاً حين واجهت عملية التغيير والتقدم قوىً تقليدية واسعة، وأستطيع القول أنه لا يمكن أن تحرّر المرأة بالكامل دون تحرّر المجتمع ككل، لكن هذا لا يعني ترك الحبل على الغارب وانتظار تحرّر المجتمع، بل لا بدّ من شن كفاح متعدّد من جانب المرأة والمناصرين لحقوقها مع أخذ خصوصيتها بنظر الاعتبار، ولا يمكن الحديث عن احترام حقوق الإنسان والممثلة بالشرعة الدولية دون الحديث عن مساواة المرأة بالرجل.
وتعتبر معركة المرأة في التحرّر أحد أهم وأكبر قضايا التغيير الحقيقية والتنوير الراهنة والمستقبلية، فقد كان قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 أحد أركان الصراع بين قوى التنوير والتغيير من جهة والقوى المحافظة من جهة أخرى في العراق، وكذلك الحال مع قانون الأسرة في اليمن لعام 1974، وفي السابق والحاضر كانت قضية المرأة في تونس مصدر نزاع مجتمعي بين التيارات الفكرية التقدمية والمحافظة، وهو أمرٌ يتعلّق بقضية المرأة في عموم البلدان العربية، وحين تحصل التراجعات والانقلابات الرجعية فإن أول شريحة تتعرّض لهضم الحقوق هي المرأة.
الحديث عن بنية وتركيبة المجتمع يدفعنا إلى الحديث عن التغيير، فهل أصبح حقيقة في ظل ما سمّي الثورة العلمية-التقنية من وجهة نظرك، وكيف تساهم هذه المحدّدات في رسم معالم التغيير المنشود؟
أكّد التغيير الذي حصل في تونس ومصر وبغض النظر عن بعض مآلات منعرجاته وتموجاته بسبب حدّة الصراع والتداخلات الخارجية في دول المنطقة عدداً من الحقائق المهمة، أولها، انكسار حاجز الخوف وحدوث التغيير في مزاج الناس، واستعدادها للدفاع عن قضايا الحريّة والكرامة والعدالة، بالنزول إلى الشارع وإرغام الحاكم على التخلي عن الحكم.
وثانيها، إمكانية التغيير باللّاعنف وعبر الوسائل السلمية، ولعلّ هذا الأسلوب الناجح هو الذي أجبر الحاكم في السودان على الانصياع بتدخل من الجيش لاحقاً، وهو الذي أرغم الرئيس في الجزائر على التخلّي عن ترشيح نفسه، وما يزال الحراك الشعبي مستمراً لتحقيق أهداف حركة التغيير، وهو الذي دفع لإجراء تغييرات دستورية وعملية إيجابية في المغرب والأردن وانعكست تأثيراته عل بعض الخطوات الانفتاحية والتي اتخذتها بعض دول الخليج أيضاً.
وثالثها، إن التغيير انطلق وحتى وإن تعثّر أو تأخر، لكن مساره مستمراً وهو مسار طويل الأمد، ويحتاج المستقبل إلى توجهات جديدة قد تأخذ أشكالاً جديدة غير مطروقة في السابق، أي أنه ما يزال في تفاعل ديناميكي.
ورابعها، إنه استحقاق داخلي، بالدرجة الأساسية وهو تتويج لكفاح طويل الأمد، حتى وإنْ حاول الخارج توظيفه أو التداخل معه، لكن ذلك لا يمنع النظر إليه باعتباره تراكماً طويل الأمد وتتويجا لتضحيات الإصلاحيين والتنويريين من التيارات الفكرية المختلفة اليسارية والعروبية وغيرها.
وخامسها، المشاركة الجماعية بما فيها من تعدّدية وتنوّع في إطار الوحدة الوطنية فلم تتأخر عنه قوة أساسية أو فئة مؤثرة، بل شارك فيه الجميع بفاعلية ووزن.
وسادسها، دور العلم والتكنولوجيا، ولاسيّما الطفرة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت جهازاً تعبوياً بامتياز، وهكذا كان يتم خلال لحظات التعبئة والتحريض والتنظيم، ولعلّ ذلك قد رسم معالم الطريق الجديد لإدارة الحكم وتوجهاته اللّاحقة، التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، فلم تعد تنفع استمرار الأنظمة الشمولية والتسلطية واحتكار العمل السياسي والمهني، وانفتحت ثغرات في جدار السلطة في العديد من البلدان، وسيكون ذلك بروفة أولية لتغييرات قادمة خلال السنوات العشر القادمة، خصوصاً بتراكم التجربة وفي ظل ميل عالمي للتغيير.
هل من تبرير أو تفسير لحالة الانكفاء التي أصابت المفكر أو المثقف العربي عموما، ونزوحه إلى عدم التفاعل مع المتغيرات المجتمعية؟
انقسم المثقفون العرب في الموقف من عملية التغيير ومما سمّي بالربيع العربي وهو انقسام سابق، فبعضهم كان يحرق البخور للسلطان ويؤدلج له خطابه ويلمّع إجراءاته، في حين كان البعض الآخر يمارس وظيفته الأساسية وأعني بذلك النقد، ودفع مثقفون عديدون على امتداد الوطن العربي أثماناً باهظة، حتى أنك أصبحت تنظر إلى لندن وباريس كعاصمتين أساسيتين للمثقفين العرب المنفيين والمطاردين في بلدانهم، والذين يجدون فيهما وفي غيرهما فسحة التعبير عن الرأي وحرّية الإبداع دون رقابة أو تسلّط.وبتقديري إن وظيفة المثقف الأساسية هي النقد، ولا قيمة لتجربة دون نقدها، لكن بعض المثقفين كان أقرب إلى المثقفين الطقوسيين أو الإداريين الذين حاولوا إخفاء رؤوسهم في الرمال مثل النعامة، في حين تجد مثقفين لا يريدون الانخراط في العمل العام ويظهرون كمثقفين مدرسيين، وآخرين مسلكيين أو حتى ذرائعيين.
أما المثقفون العضويون حسب تعبير غرامشي، فهم من تماهوا مع الحركة التغييرية وعبّروا عنها، ليس بمواجهة السلطات فحسب، بل في مواجهة مع مثقفين معولمين أحياناً اغترابيين، دعوا لقطع صلة الواقع بالتراث، وبرروا التعاون مع القوى الخارجية بزعم مساعدتهم في التخلص من الحكم التسلطي، ومقابل هؤلاء هناك مثقفون تقليديون ظلّوا يشدّدون على استلهام التراث لدرجة الغرق فيه، بزعم الخشية من الاختراق الخارجي و "الاستعمار" الثقافي والفكري، وهناك مثقفون محنّطون وسياسيون مملّون ومملؤون بالفراغ.
متغيرات مجتمعية عديدة أبانت ضعف الفاعل السياسي على مسايرتها وإبداع الحلول لتعزيزها وتثمينها، وقد دعوت في أكثر من مناسبة إلى التأسيس لعقد اجتماعي وسياسي جديد، بحسبك، ما هي أهم مميزات هذا العقد وخصائصه؟
ثلاثة مخاوف أساسية تسلّلت إلى الواجهة السياسية أو وجدت طريقها إليها ترافقاً مع "ربيع الحرية والكرامة" المفترض الذي حلّ على العالم العربي بالرغم من المرارات والخيبات، فقد ارتفع قلق وهاجس بعض الجهات والجماعات من حضور القوى الدينية أو السلفية، إما لاعتبارات ايديولوجية أو دينية بصبغة طائفية، أو لأسباب سياسية أو اجتماعية، وهكذا.
لكن هذا القلق لم يكن الهاجس الوحيد لدى هذه القوى التي بقيت متخوّفة أو متردّدة أو حتى مرتابة من التغيير لهذا السبب، بل كان الخوف من الفوضى موازياً للخوف من القوى الإسلامية، لاسيّما بعد تجربة "الفوضى الخلاقة" التي ضربت أفغانستان ومن ثم العراق، بعد احتلالهما العام 2001 و2003، على التوالي.
يضاف إلى ذلك، الخوف الكبير والقلق العميق من محاولات الاستغلال الخارجي، لحركة التغيير، سواءً من خلال توجيهها أو التأثير عليها، بل إن أصحاب نظرية المؤامرة كانوا يقدّمون هذا الهاجس على الهواجس الأخرى التي تعتبر مكمّلة أساساً، لهذا البرزخ الذي يمكن أن يكبر، مستندين إلى الكثير من الأمثلة والأدلّة، ولعل أكثرها إثارة بالنسبة للعالم العربي ما حصل في العراق نتيجة الاحتلال.
أنت تتحدّث عن خريطة طريق عربية.. ما هي ملامحها؟
لعلّ موضوعاً من هذا القبيل يعيدنا إلى فكرة مهمة وريادية كان قد طرحها مركز دراسات الوحدة العربية في ما أطلق عليه المشروع النهضوي العربي بصيغته الأولى، التي بدأت فكرتها في العام 1988 وجاء في إطار "مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي" وكان ذلك ضمن توصية بالحاجة إلى مشروع نهضوي والتي يمكن صياغتها في إطار فكرة جديدة لعقد اجتماعي عربي وهو ما ندعو إليه، يبحث في المشتركات وفي الخصوصيات في الآن ذاته، أي وضع خريطة طريق، بتضاريسها وألوانها على بساط البحث، خاصة بالمشترك الجامع الذي ينبغي تعظيمه على حد تعبير الأمير الحسن بن طلال وتقليص الفوارق، لاسيّما بتأكيد احترام الخصوصيات التي ينبغي مراعاتها بالنسبة لكل مجتمع وفي إطاره أيضاً.ولعلّ فكرة عقد اجتماعي عربي جديد أو خريطة طريقة عربية جديدة يمكن أن تستند إلى مشروع نهضوي عربي جديد هو الآخر أصبح لا مناص منه للقوى الحيّة الحاملة لمشروع التغيير والنهوض، ناهيك عن التحدّيات المشتركة التي تواجه العرب، خصوصاً التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمن القومي ومواجهة التحدّيات التي تتعلق بالوجود، مثلما هي "صفقة القرن" أو "وعد بلفور الجديد"، وذلك بعد أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو - 1916 لتقسيم البلدان العربية من جانب القوى الاستعمارية.
ولعلّ الركن الأول في هذه الخريطة والمشروع هو استعادة الجانب الوجداني الجامع للعرب، سواءً أسميته بـ«الوحدة العربية» أو «الاتحاد العربي» أو «فيدراليات عربية» أو «ولايات» أو «أقاليم»، المهم تقديم منظور جديد لفكرة التلاقي والتواصل العربي بأشكاله المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، وهذا التلاقي لا بدّ أن يكون متوافقاً عليه ديمقراطياً وبأسلوب ترتضيه الأطراف المختلفة، متجاوزاً فكرة جامعة الدول العربية التي كانت مهمة ومفيدة، لكن الظروف العالمية تجاوزتها وهي بحاجة إلى أفكار جديدة وتفاهمات جديدة وصولاً إلى وضع أهداف جديدة لها.
أما مضمون الوحدة، فهي مطلب للمجتمعات وليس حكراً على طبقة واحدة، لكنه دون أدنى شك ينبغي أن يصب في مبادئ العدالة الاجتماعية باعتباره أحد أركان المشروع النهضوي العربي الجديد، ولعلّ نقيض التخلف والنمو القاصر في ظل العولمة هو التنمية المستدامة المستقلة باعتبارها ركناً من أركان المشروع النهضوي.وإذا كانت التنمية قد فشلت في تحقيق التقدم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وظل الاقتصاد العربي بجميع أقطاره يعاني من التخلف والتبعية في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر، وازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته، الأمر الذي عمّق الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، الذي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية، وقد ازدادت المجتمعات العربية فقراً على الرغم من زيادة مردوداتها.والتنمية المستقلة حسب المشروع النهضوي العربي لا تقوم على فرضيته الأولى «الاكتفاء الذاتي»، و «الانقطاع عن العالم»، أو الفرضية الثانية أي «الاندماج في السوق العالمي»، بل تعني الاعتماد على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وفي مقدمة ذلك القدرات البشرية والمدخّرات الطبيعية، والتعامل الصحيح مع العولمة.
دعنا نأخذ منك اعترافات للبوح بجمل قصيرة.. وهنا نبدأ بالرؤية، ماذا عن رؤيتك؟
أحاول أن أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب.
أين أنت من التاريخ؟
أنا سليل رحّالة وجغرافيين ممن عرفتهم المنافي، وحفيد الشيخ حبيب شعبان أحد أبرز شعراء الغري الذي هجر الدراسة الحوزوية في النجف وغادر الحضرة العلوية واختار الشعر والمنفى، ليجد ملاذه في بومبي، حيث عاش ومات ودفن فيها.
كيف تنظر إلى المنفى؟
المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة، وأنا كائن حركي، لأنه في الأصل كانت الحركة وهي القاعدة، أما الثبات والاستقرار فهو مؤقت واستثنائي. وصرتُ أعرف نفسي أكثر في المنفى والدليل إليها هو وريقاتي التي تهبّ عليّ مثل ذكرى هي حاضر، والحاضر هو ذكرى أيضاً.
أي المدن أحب إلى قلبك؟
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات لي في النجف السعيد وبغداد الروح ودمشق الحميمة وبراغ الذهبية ولندن التنوّع وبيروت الخلود، منازل وغرف ومقاهي ومكتبات وصديقات وأصدقاء، ولأنني تعدّدي فإن روحي منثورة بين هذه المدن وقلبي موزّع بين نسائها.
كيف تنظر للحياة؟
أحتفل بالحياة وأنا متولّهٌ بها محفوف بكل أنواع الموسيقى والألوان والقصائد.
هل أنت حائر؟
حيرتي وجودية، وهي حيرة مستمرة ومتحركة، وحسب ابن عربي، فالهدى في الحيرة، لأن هذه حركة والحركة حياة.
كيف ترد على خصومك؟
أجد نفسي مترفّعاً في الكثير من الحالات، فأتردّد من منازلة بعض من لا يستحق المنازلة، ولن أرتضي لنفسي الخوض في البذاءات والهبوط إلى مستوى التفاهات. لا أستطيع أن أرفس الحصان إذا واجهني.
أجدك دائماً مع المظلوم.. لماذا؟
لم أقف مع "المنتصر" في الغالب وقد أتحالف مع الخسارة، خصوصاً حين يكون الثمن الذائقة الجمالية والمعيار الأخلاقي والكرامة الشخصية، ولذلك لم أنخرط في جوقة السمسرة لبيع البستان، فأي شجرة رمان فيه أو غصن مشمش أو فسيلة نخل تساوي عندي كل ثروات الأرض.. ولا طاقة لي بمجاراة من يغالي في اغتيال القيم. ولن أقبل لنفسي أن أكون جزءًا من مرابي الثقافة ومتصيّدي الفرص.
أين ترى بهجتك؟
بهجتي روحية وسعادتي حلقات متّصلة والنقد والمصارحة مع الذات أول مصادرها، وبالطبع أنا عاشق ورائحة العشق تملأ حياتي.
متى تكشف ما عندك؟
أعرف الكثير من الأسرار المثيرة للفضول، لكنني حريص على عدم البوح بها واحترم خصوصيات الناس وقد ائتمنت على الكثير منها.
لهذه الأسباب أنت تعاني؟
معاناتي من معاناة الناس وأعرف كم هي همومهم وعذاباتهم، وأدرك معنى أن يكون شعباً بأكمله عرضة للاستلاب والقهر، والحروب والحصار، لتأتي الحقبة الاستعمارية الجديدة بكل رموزها وتداخلاتها الدولية والإقليمية فتكشف هشاشة ما تبقى وتظهر حقيقة المستور.
هل أنت متحالف مع القدر؟
قضيتُ حياتي أبحث عن عطر الورد وأنام في حديقة الأمل لأستنشق الحرية.
وأين أنت من الفلسفة؟
احتفيت دائماً بالفلسفة ووقفت عند مداخل التاريخ ومخارجه، وأتوق دائماً إلى الذكريات وكأنها المستقبل.
بماذا ساعدتك الثقافة؟
الثقافة ساعدتني في اجتراح المعقول وغير المعقول في زمن ضاعت فيها الحدود. والثقافة هي التي عوضتني عن كل الخسارات ومنحتني هذه القدرة العجيبة على «ارتكاب» الأحلام.
أنت وطني كبير، كيف تأسس ذلك؟
نزعتي الوطنية رضعتها مع الحليب وهي بوصلتي في كل شيء وسفينتي لن ترسو في الشواطئ الغريبة.
كيف اجترحت كل تلك الآلام؟
الصبر نعمة ربانية وهو حصيلة حكمة الزمن المحسوس والمعيش، والبساطة جزء من تكويني وفيها أجد الصفاء المشتبك بالمصير الإنساني.
متى تهدأ روحك؟
مرفأي لن يهدأ وأغاني الروح لن تستكين، وهناك علاقة تكافلية وحيوية بيني وبين الناس.
وماذا عن الحب بعد السبعين كما تقول؟
الحب والحرية متلازمتان ولا أستزرع الأفكار في غير بيئتها ولا أستنبت التجربة إلّا في أرضها الصالحة، والعشق قيثارتي الأبدية وأنا عاشق لم يفرغ قلبي يوماً، ومع محمود درويش أردّد: لا أتذكر قلبي إلّا إذا شقّه الحب نصفين أو جفّ من عطش الحب.
ما هي أحب الأشياء إلى نفسك؟
العدل والمساواة، فقد آمنت بهما كمتوالية مع روح الإخاء الإنسانية، وبقدر خصوصيتي فأنا جزء من عالم متنوّع، والخصوصية لا تفترض التحلّل من الروابط الإنسانية العامة.
إلى أين ستمضي؟ فقد خسرت الكثير في حياتك، فمتى تتوقف؟
سأواصل وحدي المشوار حتى لو توقفت القافلة عن المسير أو أضاعت الطريق ولن أشعر بالوحشة. حين أصل إلى غايتي أشعر بالفراغ، ولذلك أبحث عن الريح لتبقى الحركة، كثيرون ما زالوا يعيشون في الماضي، لأنهم لا يريدون مواجهة الحاضر، أما أنا فحتى في الماضي كنت أتطلّع إلى المستقبل. لم أعتد أن أبلع لساني وكانت لي آرائي واجتهاداتي باستمرار، أخطأت أم أصابت، فأنا مفطور على النقد. وقد أبدو شيوعياً من قماشة أخرى، وربما أقرب إلى الغرابة، لكن النور الداخلي سبيلي إلى هذا القضاء المحيّر.
ماذا لو غابت العقلانية؟
العقلانية قيمة عليا وغيابها يعني حلول الجانب المظلم من الحياة، والاكتشافات العلمية منحت الفرص أكثر للبشر ليكونوا خيرين أو شريرين. ومقابل العقلانية يوجد نقيضها اللّاعقلانية (الشيء وضدّه) الأحاسيس والعواطف والأحلام والرغبات والصبوات يتم التعبير عنها من خلال الدين والجنس وسرديات التاريخ والأحلام، والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ.والطريق إلى العقلانية ليس واحداً وحسب ابن عربي «الطريق إلى الحقيقة تتعدّد بتعدّد السالكين»، وقد يصل الإنسان إليها بهزيمته أو كبوته، فيحاول معرفة أسبابها ويتعامل معها بروح نقدية ودون مكابرة، وينبغي التوقف عند الهزائم والانكسارات لأنها لا تمرّ سريعاً أما الانتصارات فغالباً ما تكون مؤقتة، وقد تقود العقلانية إلى نقيضها بثورة عنيفة لا عقلانية.
ماذا عن الثورات؟
«الثورات» لا عقلانية حتى وإن كان هدفها الوصول إلى العقلانية. والسعي وراء العقلانية قد يفجّر موجة من اللّاعقلانية. اللّاعقلانية هي القاعدة في الدين والجنس والحرب والموسيقى والفن والسياسة، لكنها تولد نقيضها. وتنمو العقلانية في رحم اللّاعقلانية.
من هم أعظم ثلاثة شعراء عرب معاصرين تربعوا على عرش الشعر؟
محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف.
وماذا عن الجواهري؟
الجواهري مثّل الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر الكلاسيكي.
أجدك كثير التأني وكثير التدقيق.. لماذا؟
الشجرة المُثمرة هي التي تطالها الحجارة، وهناك فرق بين وقفات التأمل النقدي والأحكام المتسرّعة.
كيف تمكنت من صياغة خطاب بلا ضغائن ولا اتهامات أو تخوين وأنت ابن الايديولوجيا؟
علينا الاعتراف بقانون النسبية، ونحن نخطئ ونصيب، لقد فعلت كل ما فعله أقراني من الماركسيين، لكنني لم أغلق أبوابي مطلقاً، وحاولت منذ وقت مبكّر أن أضع مسافة بيني وبينهم، وقد فضلت الوقوف في الفسحة النقدية، ولم أقصّر حتى في نقد نفسي، وقلت أكثر من مرة أنني أعتز حتى بأخطائي لأنها حميمية وهي جزء مني، فقد اجتهدت وأخطأت فـ «المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد» حسبما ورد في الحديث النبوي الشريف، ومن لا يعمل لا يخطأ.




216
حركة الاحتجاج التشرينية وإعادة قراءة المشهد العراقي
المنظور والمستور وما بينهما
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
   
   ليس من المجدي البحث عمّن أطلق " الشرارة الأولى " لحركة الاحتجاج التشرينية في العراق، فما إن اندلعت الشرارة حتى سرت مثل النار في الهشيم لتصل إلى السهل كلّه، فحالة الاحتقان والغضب عبّرت عن عمق الأزمة التي تحيط بالعملية السياسية التي ابتدأت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
   وسرعان ما توسّعت حركة الاحتجاج لتّتخذ شكل هبّة شعبية غير منظّمة، شارك فيها فتية وشبّان جلّهم بعمر الـ 20 عاماً، ومن غير المحسوبين على الأحزاب السياسية المشاركة في السلطة، خصوصاً في ظل استفحال البطالة التي تصل حسب التقديرات الرسمية إلى أكثر من 30% وفي بعض المحافظات إلى نحو 50% من القوى العاملة. ويقدّر أن ربع السكان يعيشون دون خط الفقر، أي بأجور لا تزيد عن دولارين في اليوم، وتفشي الفساد على نحو غير مسبوق، ناهيك عن استمرار نظام المحاصصة الطائفي - الإثني، وانفلات حيازة السلاح واستخدامه بأسماء مختلفة.
   إن الطبيعة العفوية للتظاهرات والصفة الاستقلالية للمحتجين هي حالة جديدة تعكس عمق الهوّة بين الأحزاب والتيارات والكتل السياسية، ولاسيّما الحاكمة والمشاركة من جهة، وبين الشارع الذي يضم الأغلبية الصامتة من المواطنين المستلبين والمطحونين والذين فقدوا الأمل في إمكانية إصلاح الأوضاع وتحسين ظروفهم المعاشية، من جهة أخرى.
   ولأن السلطة واجهت الحركة الاحتجاجية بالعنف والقمع واستخدام القوة المفرطة، منذ الدقائق الأولى، كما اعترفت لاحقاً، فإن ردود فعل الحركة الاحتجاجية اتجهت إلى حرق عدد من مقرات الأحزاب التي اعتبرتها مسؤولة أو مشاركة في المسؤولية التي وصلت إليها البلاد، الأمر الذي طرح شعارات من قبيل تغيير الحكومة وإقالة رئيس الوزراء وحلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات مبكّرة، فضلاً عن النقمة على بعض القوى الإقليمية، حيث ارتفعت بعض الهتافات ضد إيران والقوى المدعومة منها.   وكانت بعض شعارات الهبّة الشعبية ذات طبيعة وجدانية من قبيل "نريد وطناً" و"نازل آخذ حقي" و"هيهات منّا الذلة".
   وعلى الرغم من عفوية الشعارات وعدم وجود قيادة موحدة أو هيئة تنسيقية أو تنسيقيات معروفة لإدارة حركة الاحتجاج، فإن الشعارات الوطنية العابرة للطائفية والعرقية كانت هي الجامعة، وهكذا ترفّع هؤلاء الفتية والشبان الذين نشأت أغلبيتهم الساحقة في ظل الحصار الدولي الجائر والاحتلال فيما بعد، من التخويض في المستنقع الطائفي أو الإثني، وتجنبوا كل ما له علاقة به.
    ومثلما كان آباؤهم وأخوانهم الأكبر سنّاً يحلمون بتغيير يزيح الدكتاتورية ويحقق طموحاتهم في حياة كريمة، فقد كان هؤلاء يحلمون بعراق جديد ينعمون فيه بالأمن والأمان ويتمتعون فيه بالحدّ الأدنى من الحياة الحرّة الكريمة مثل سائر الشعوب والأمم،  فإذا بحيتان الفساد يسرقون حتى أحلامهم ويبدّدون ثروات البلاد لحساباتهم الشخصية، ويتبخّر نحو تريليون دولار (ألف مليار دولار) هي واردات النفط للسنوات المنصرمة، دون أن يتحقّق لهم شيئاً يُذكر على صعيد التنمية بجميع أركانها، وما تزال الخدمات وبشكل خاص الصحية والتعليمية والبلدية دون مستوى الحد الأدنى.
   حين يقول المحتجون أنهم يريدون "وطناً"، فهذا يعني شعور قلق وعدم طمأنينة وذلك بسبب التمييز والاستغلال والنهب، الأمر الذي يعني تعاظم الشعور بذبول الهويّة أو تبدّدها وتشويهها، فالوطن يعني وجود مواطنة ومواطنون لهم الحقوق مثلما عليهم الواجبات، ويخضع الجميع للقانون، وحسب مونتسكيو : فالقانون مثل الموت لا يستثني أحداً، وستكون المواطنة مبتورة وناقصة ومشوّهة مع الفقر والعوز والحاجة والجهل والأمية.
   يمكن القول بكل بساطة إن هدف حركة الاحتجاج هو تحقيق مواطنة سليمة ومتكافئة وتوفير فرص عمل وإنهاء للفساد ومساءلة المفسدين والحصول على حزمة الخدمات الضرورية ، لاسيّما في العمل والصحة والتعليم والسكن وغيرها، ومثل تلك القراءة لا تلغي التداخلات والاختراقات والتجاذبات التي حصلت لاحقاً، والتي نسب بعضها إلى ضلوع قوى أجنبية لإحداث "فتنة عراقية" تم احتواؤها بطريقة ناعمة حسب مصادر حكومية ، وهو أمر يحدث، لكنه ليس مبرراً لاستخدام القوة المفرطة في مواجهة شعب أعزل وتظاهرات سلمية، كانت حصيلتها أكثر من 120 قتيلاً وما يزيد عن 6 آلاف جريح بحسب التقديرات الرسمية بمن فيهم من القوى الأمنية.
   ويمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الجديدة من خلال الإضاءة على الأزمة الراهنة:
   أولا- تكاتف الطبقة السياسية الحاكمة والمشاركة في الحكم، فلم تنحاز أي منها  لجانب الحركة الاحتجاجية، على الرغم من تأكيد جميعها إن مطالبها عادلة ومشروعة، بل أن بعضها يزعم أنها مطالبه التي سبق أن رفعها ودعا إليها، لكنه لم يقف معها وظل موقفه يتراوح بين الرفض والسخط والتشكيك أو لعب دور المتفرج وأحياناً الناصح.
   ثانياً - أظهرت الحركة الاحتجاجية أن الصراع الأمريكي- الإيراني على الأرض العراقية قوياً ومؤثراً، وعلى الرغم من حدّته فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية على إيران ومحاولة العراق تجنّب الانخراط فيها أو النأي بالنفس كما يقول بعض ساسته، فإنه ليس بعيداً عنها، سواءً أراد أم لم يرد، وحتى لو كانت رغبة رئيس الوزراء والفريق الحاكم تجنب تأثيراته أو لعب دور توفيقي فيه كما هي زيارة عبد المهدي إلى الرياض، فإنه  لن يتمكن من لعب مثل هذا الدور فالقرار لا ينبع من رغبة بقدر ما يعكس توازن القوى على الساحة العراقية. فالعراق نصفه لطهران، بحكم امتداداتها ونفوذها السياسي والمذهبي والأمني وارتباط مجاميع سياسية بها ، ونصفه الثاني لواشنطن بحكم "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" التي ظلّت تحكم العلاقات الأمريكية- العراقية منذ العام 2008 ولحد اليوم، وترتب هذه الاتفاقية التزامات على العراق بما فيها التزامات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وعلمية وغيرها، ناهيك عن ذيول عملية الاحتلال منذ العام 2003.
   ثالثاً- إن السياق الذي سار عليه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وهو رجل معتدل وصاحب خبرة، لم يختلف كثيراً عن السياقات التي سبقته إليها الحكومات السالفة ، حيث ظلّ مرهوناً لتوازنات ضاغطة عليه، فلم يستطع بحكم نظام المحاصصة وضع حلول ومعالجات سليمة اقتصادية واجتماعية وثقافية  عاجلة لمعالجة الأزمة البنيوية التي يعاني منها العراق منذ الاحتلال الأمريكي ، وظلّ أسيراً لتلك التوازنات التي دفعته إلى دست السلطة، ولعلّ بعضها يرغب في دفعه خارجها بعد أن أصبح وجوده فيها أمر واقع.
   رابعاً-  تم اختيار عادل عبد المهدي من خارج البرلمان وضمن صفقة سياسية توافقية لعبت فيها مرجعية السيستاني الدور الأكبر وبموافقة إيرانية ودون اعتراض أمريكي، وقد كان "مرشح تسوية"، حيث كانت المنافسة في الجولة الأخيرة بينه وبين فالح الفياض، لكن حظوظه كانت أوفر من الآخر الذي تولى منصب مستشار الأمن الوطني ومسؤولاً عن "الحشد الشعبي"، وهو جيش موازٍ للجيش النظامي، حتى وإن أُخضع لنظامه، لكن تشكيلاته كانت متمايزة عنه، وقد تأسس عقب احتلال داعش للموصل بعد 10 يونيو (حزيران) 2014 وتمدّده في محافظات صلاح الدين والأنبار وأجزاء من ديالى وكركوك وصولاً للعاصمة بغداد.
   خامسا- إن الهبّة الشعبية هي امتداد لهبّات سبقتها، وإذا كانت هذه المرّة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية مثل الحلة والديوانية والنجف وكربلاء والعمارة والناصرية والبصرة وغيرها، إضافة إلى بغداد ، فإن حركة الاحتجاج في المناطق ذات الأغلبية السنية سبقتها في أواخر العام 2012 وما بعدها، حيث عانت تلك المناطق من كل ما تعاني منه المناطق الشيعية، إضافة إلى التهميش والعزل والإقصاء والتمييز، والجميع عانوا من نظام المحاصصة والفساد وضعف مرجعية الدولة على حساب المرجعيات الأخرى.
   وقد شهد العراق حركة احتجاجات سلمية واسعة منذ العام 2011 تلك التي اندلعت برفع مطالب شعبية عامة خارج دائرة الاصطفاف الطائفي والإثني . ووصلت في العام 2015 إلى اقتحام " المنطقة الخضراء" وصولاً إلى البرلمان، حيث تم العبث ببعض ممتلكاته، وهكذا لم تنجُ الحكومات المتعاقبة في عهد المالكي والعبادي واليوم عبد المهدي من الاحتجاجات الصاخبة.
   سادساً- كانت حكومة إقليم كردستان الأكثر وضوحاً في موقفها السلبي من حركة الاحتجاج ، لاسيّما للدعوات التي ارتفعت لإقالة عبد المهدي، وازدادت خشيتها من دخول السيد مقتدى الصدر رئيس "كتلة سائرون" على خط الأزمة، حين دعا  في تغريدة له إلى استقالة حكومة عبد المهدي والذهاب إلى إجراء انتخابات مبكرة، وكان بيان قد صدر بعد لقاء مسعود البارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ود.أياد علاوي رئيس كتلة الائتلاف الوطني العراقي، أكّد فيه الجانبان على دعم حكومة عبد المهدي، خصوصاً وإن الكرد وحكومة الإقليم لم يجدوا أكثر منه مرونة في الاتفاق على تسوية المشاكل  العالقة، والتي قد تمهّد الطريق أمام معالجة موضوع النفط  وغيره من المسائل العقدية.
   وإذا كانت حركة الاحتجاج لم تتمكّن من الاستمرار بذات الزخم بعد نحو أسبوع من المواجهة غير المتكافئة، لاسيّما عدم وجود ظهير سياسي يقف خلفها، ناهيك عن استخدام القوة المفرطة ضدها، أو احتواء بعض مطالبها بإجراءات تجميلية أو تهديئية، لكنها من جهة أخرى عمّقت الشرخ بين الشارع والحكومة وبين الشارع والأحزاب السياسية التي يتهمها المحتجون بأنها أسّ الفساد، وهو أمر قد يتكرّر إذا لم تكون الحلول سليمة والوعود منجزة وسريعة.
   لقد اضطرّت الحكومة على لسان رئيس الجمهورية برهم صالح الاعتراف باستخدام القوة المفرطة ضد المحتجين، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن ذلك، وخصوصاً بعد اقتحام مدينة الصدر وسقوط عدد من القتلى، وكمعالجة عاجلة وسريعة لاحتواء الأزمة أصدرت الحكومة 17 قراراً  صادق عليها البرلمان لامتصاص الغضب الشعبي ، وبعض تلك الإجراءات مؤقتة وليست أكثر من حقنة مورفين مهدّئة : رواتب لمدة 3 أشهر للعاطلين ووعود بتمليك قطع أراضي وإيجاد فرص عمل وبرامج تدريب وقروض للشباب وضرب المفسدين (إحالة نحو 1000 ملف فساد إلى القضاء) وغير ذلك، لكنها لم تطفئ غضب الشارع.
   وكانت الحكومة قد لجأت إلى بعض الإجراءات العقابية للحدّ من تأثير حركة الاحتجاج مثل التعتيم الإليكتروني وقطع الانترنيت واعتقالات ومداهمات لبعض المشاركين في الحركة أو الذين حاولوا اختراقها، وضع حواجز وتقطيع شوارع وطرقات للحيلولة دون وصول المحتجين إلى أماكن التجمع الرئيسية، إلا أن الحركة الاحتجاجية وإن خفّت نبرتها استطاعت من بلورة المطالب الشعبية الرئيسية وإعادة صياغتها وأجبرت الحكومة على التراجع، خصوصاً حين تعمّق كشف المنظور وأزيح الستار عن المستور، وما يزل جدار الأضداد ينذر بالمزيد من التباعد بين الحكومة والمجتمع، ناهيك عن أن صراع الأضداد يزداد اتساعاً، ولاسيّما بين طهران وواشنطن.


217
الجواهري وعبد الكريم قاسم
عبارة أثورة وبشرطة نور السعيد
هي التي تخرج الزعيم عن حلمه
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
   كرّمني الجواهري حين عدّني صديقاً له ،فكتب في العام 1986  في مقدمة كتاب "الجواهري في العيون من أشعاره" "... ويسرّني في الختام أن أخصّ بالشكر الجزيل والامتنان العميق أخي وصديقي الأديب والمؤلف الدكتور عبد الحسين شعبان، على أتعابه وفرط عنايته وجهوده الحميدة، سواء بما تقابل به معي في اختيار هذه " العيون" وفيما يختص بضمّ هذه اللقطة المختارة إلى جانب تلك أو في تصويرها أو الإشراف على طبعها وتصحيحها وكما قيل:
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه    لا يذهب العرف بين الله والناس"
   وكتاب "الجواهري في العيون من أشعاره" المشار إليه في أعلاه هو "مختارات من شعره ومن بعض قصائده" بذائقة أدبية، حيث تم اختيار العيون في إطار عشريات (كل عشر سنوات) من أشهر القصائد، ومن أهم الأبيات التي فيها للقصائد الطويلة، وكتب هو مقدمته، وقد صمّم غلافه الفنان مكي حسين، وصدر عن دار طلاس في دمشق (1986).
   ولعلّ وقع كلمة الصديق والأخ كبير في نفسي،  وهو ما عاد وكرّره في الأبيات التي أهداها إليّ في العام 1990، وأعتبر ذلك بمثابة تشريف أعتزّ به،  ولم أكن أعتبر نفسي  أكثر من "تلميذ" كان قد تأثّر بالجواهري الكبير في بدايات مشواره، فهو أكبر سنّاً من والدي، وكنت دائماً أعتبر أن الشعر بعامة والجواهري بخاصة أحد روافدي الروحية، وأشرتُ أكثر من مرّة أننا كبرنا مع الجواهري، حيث كانت مكتبة الأخوال والأعمام مليئة بدواوينه وبصحف ومجلات  وقصائد وأخبار عن كل ما يتعلّق بالجواهري، لدرجة كنت أشعر وكأنه يعيش معنا، وأتذكّر أن والدي عزيز شعبان كان يردّد دائماً :
أنا حتفُهم ألِجُ البيوتَ عليهم ُ    أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا
   وكان يستعيد قصيدة طرطرا التي يبدأها ونقوم بإكمالها له :
أيْ طرطرا تطرطري
      تقدّمي، تأخّري

تشيَّعي تسنّني
      تهوَّدي تنصَّري

تكرّدي تعرَّبي
      تهاتري بالعنصرِ

تعممي، تبرّنطي
      تعقلّي، تسدّري


   وأتذكّر أيضاً، أننا لأول مرّة نستنشق هواء الحرّية ونملأ أفواهنا باسم الجواهري، حين جاء مدرّس اللغة العربية جواد الرفيعي في متوسطة الخورنق، وكان حينها عضواً في الحزب الشيوعي، وقد اعتقلنا معاً في العام 1963، ليطلب منّا أن نحفظ قصيدة الجواهري التي تغنّى فيها بالثورة:
جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا        وبأنّـكَ الأمــــلُ المرجّى والمنى
عبد الكريم وفي العراق خصاصة             ليــــــدٍ وقد كنت الكريم المُحسنا
   وهي القصيدة التي رفض الجواهري أن أصنّفها ضمن قصائد الخمسينات في مختاراتي للعيون، بل قال بصيغة استنكارية: أنها لا تعود لي وأرجوك شطبها من أرشيفك. ولعلّ ذلك ما دفعني للبحث في ما يتعلّق بما وراءها ، وهو موضوع هذه المقالة. وامتثلت لقراره بالطبع، لكنه لم يكتفِ بذلك، فعاد واتّصل بي تلفونياً من براغ ليتأكد من ذلك.
   أعود إلى قصيدة جيش العراق، فلم يكن بوسعي  ونحن في الأسابيع الأولى للثورة  أن أخفي فرحي وغبطتي، لأنني كنت قد قرأت القصيدة في البيت واحتفظنا بها، وشعرت بنوع من التميّز على عدد من زملائي آنذاك، وهو ما أحاطني به الأستاذ الرفيعي. وعلى الرغم من أن هذه القصيدة ليست الأحب إلى قلبي من شعر الجواهري، لكنها ظلّت تشغلني لذكراها الخصوصية المصحوبة بالنشوة الأولى للثورة قبل أن نتجرّع مرارتها لاحقاً. وما زاد من انشغالي بالقصيدة هو تعليق الجواهري الآنف الذكر وتأكيده على حذفها.
   كما وظلّ موقف الجواهري الشديد من قاسم محيّراً لي وكنت أحاول الاقتراب في إيجاد تفسير له، على الرغم من معرفتي بما حصل بينه وبين قاسم، وهو ما رواه الجواهري لي في تسجيلات خاصة أجريتها معه في مطلع الثمانينات، واقتبس منها الصديق حسن العلوي وأشار إلى مصدرها في كتابه المتميّز " الجواهري ديوان العصر"، ثم دوّنت جزءًا منها  في كتابي الموسوم "الجواهري - جدل الشعر والحياة" ط/1، دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، 1997، وقد صدر قبل وفاته ببضعة أشهر، لكنني كنت أحاذر من التوغّل أكثر  في تلك المنطقة المحرّمة، حتى وقعت على "الطين الحرّي" كما يقال بعد حين، وذلك حين أتصل بي سعد صالح جبر في لندن، وقال هناك صديق يريد التحدث إليك، وهكذا التقيت بجرجيس فتح الله الذي ربطتني به صداقة وثيقة وتبادلنا الكثير من الآراء والرسائل واللقاءات فيما بعد، سواءً في المنافي أو  في كردستان، حتى توفي في العام 2006.
   وقد فكّ جرجيس فتح الله "اللغز الغامض" في علاقة الجواهري بقاسم، وهو الذي  بقيت أسعى لحلّه سنوات طويلة، حين روى لي ما حصل في المشادّة الكلامية بين قاسم والجواهري التي كنت أعرفها، لكنني أجهل خفاياها كما يُقال، وعبثاً حاولت ذلك دون جدوى، وحسب ما ذكر جرجيس فتح الله،إن هناك محاولات عديدة بُذلت للنيل من الشاعر الجواهري، مفادها أن نوري السعيد منحه أرضاً زراعية ومضخة لسقيها على الفرات وأوصى به إقطاعيين كبار، إلى غير ذلك من " الترهات"، التي تم ترويجها .
   وحين اندلعت الثورة كانت المهمة التي أنيطت  بوصفي طاهر هي إلقاء القبض على نوري السعيد بحكم كونه مرافقاً عسكرياً له طوال سنوات، حيث جرى اقتحام منزل السعيد الذي كان قد غادره عبر نهر دجلة في قارب ،كما هي الرواية المعروفة، فتم جمع الوثائق والمستمسكات والكتب منه وبضمنها نسخة من "ديوان الجواهري" وعليها إهداء شخصي رقيق إلى نوري السعيد وقد احتفظ بها قاسم في مكتبه .
   ويمضي فتح الله ليقول حين انفتحت معركة أولى بين الجواهري وجريدته "الرأي العام" وبين "جريدة الثورة" وصاحبها يونس الطائي كان ذلك بسبب ما نشرته جريدة الرأي العام من افتتاحية بعنوان " ماذا يجري في الميمونة؟" التي سأعود لروايتها على لسان الجواهري، وكان الطائي ينطق وإن لم يكن رسمياً بلسان قاسم، فاستغل التوتّر الذي حصل بين قاسم والجواهري،  فهدّد الطائي بنشر صورة تدين الجواهري وكان يقصد بـ"الجرم المعلوم" ولم يكن ذلك سوى " الإهداء المزعوم"، وهو ما أظهره الطائي لعدد من أصحابه وزوّاره في مقر الجريدة بنيّة نشره كمستمسك ضد الجواهري، ولكن أحد زائريه اختلس الوقت ليخفي "الصورة الزنغرافية" عن "الإهداء المذكور"، بناء على اقتراح من جرجيس فتح الله الذي كان ملاحقاً كما أخبرني، وظلّ الطائي يفتش عنها فلم يجدها. وعلى الرغم من أنني دوّنت ذلك على لسان فتح الله، لكنني حين أصدرت كتابي عن الجواهري، لم أذكر ذلك.
   واعتقدت أن الأمر ليس بذي بال، لكن جرجيس فتح الله نشر ذلك في جريدة القدس (العربي) بعد وفاة الجواهري، وأهملتُ الإشارة إلى الحادث في الطبعة الثانية من كتابي "الجواهري- جدل الشعر والحياة" (دار الآداب، بيروت، 2008) والطبعة الثالثة (دار الشؤون الثقافية ، بغداد،2010)، ولكن جرجيس فتح الله عاد ونشر مقالته المشار إليها في كتاب بعنوان " رجال ووقائع في الميزان" (حوار أجراه معه مؤيد طيّب وسعيد يحيى، دار آراس، إربيل، 2012)، الأمر الذي استوجب إجلاء الصورة وتوضيحها، علماً بأن الكتاب المذكور نُشر بعد وفاته.
   وحسب رواية فتح الله فإن الورقة الخاصة بالإهداء (الصورة الزنكغرافية) بقيت معه وقد سلّمها للجواهري، الذي بقي صامتاً ولم يبنس بحرف مثلما يقول،  وحسب تفسيري فإن الجواهري حين يهدي كتاباً أو ديواناً، يكتب عليه عبارات مودّة وليس في ذلك شيء  ينتقص من الجواهري أو يسيء إليه، لاسيّما في العلاقات الإنسانية ، ولم يجد قاسم ما يهدّد الجواهري به سوى ذلك  الإهداء الرقيق- وبالطبع فهو إهداء شاعر لرجل دولة - وهو الذي قال عن زيارته إلى بيت الجواهري، " هذا البيت هو الذي أنبت الثورة"، لكن عصابية قاسم وردود فعله الغاضبة والانفعالية هي التي دفعته للصدام مع الجواهري دون مبرّر كاف، فالجواهري كان يعدّ نفسه من معسكره وهو من قام بتمجيده ، ومن جانبي كنت رويت الحكاية  من زاوية سسيوسايكولوجية ثقافية وذلك حين ذكرت:
يمكن القول أن حساسية ما بدأت غير معلنة بين الزعيم عبد الكريم قاسم والجواهري بعد الثورة، لما يمثّل كلّ منهما من مكانة رفيعة حيث كان الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ورئيساً للوزراء ، أي على رأس السلطتين السياسية والعسكرية، بينما كان الجواهري زعيماً للسلطتين الثقافية والإعلامية في العراق، فهو رئيس اتحاد الأدباء ونقيب الصحفيين العراقيين، بما توّفر هاتين المسؤوليتين من نفوذ أدبي ومعنوي.
وأضفتُ: كنتُ كلما مررتُ في شارع الرشيد قرب ساحة حافظ القاضي، تستوقفني صورة الجواهري، وهي تزين واجهة استوديو المصور المعروف الفنان (أرشاك) فقد انتشرت صوره على نطاق واسع مما كان يثير حفيظة بعض المسؤولين وقد يكون قاسم في مقدمتهم، وبقدر ما كان اسم الجواهري مثيراً، فهو إشكالي أيضاً، وبتقديري إن الرمز يثير إشكاليات عديدة، ويكون مصدراً للصراع في زمانه أو حتى بعد ذلك الزمان، نظراً لموهبته الهائلة وقدرته على إثارة أسئلة ليس بالإمكان الإجابة عنها في الحال، وإلى تفرّده وخصوصيته وعنصر الجدّة لديه، خصوصاً إذا ما حاول صدم ما هو سائد أو الإتيان بما ليس مألوفاً.
وكنت قد سألت الجواهري في مطارحاتي العديدة معه: أبو فرات، نعود إلى العلاقة مع «الزعيم» عبد الكريم قاسم وقصة المنفى.. ماذا تقول؟ فأجاب: من أكثر القضايا إثارة، هو علاقة شاعر بجنرال قائد ثورة أو انقلاب، وأضاف: تعرفت على عبد الكريم قاسم في لندن، وقد رافقني إلى طبيب الأسنان، لمعالجة أسناني، عندها كان هو في دورة عسكرية، والتقيته في السفارة العراقية آنذاك. ومرّت الأيام وسمعت بنبأ «الثورة» وإذا بي أفاجأ بصورة رجل كنت قد نسيت ملامحه، فإذا به «الزعيم» الذي أُطلق عليه «الأوحد» فيما بعد، وركبه الغرور حدّ التعسف.
ثم خاطبني: يمكن أن تتعجّب إذا قلت لك أن «الزعيم» كان كثير التهيّب في علاقته مع الأدباء وكان أول بيت زاره في العراق بعد الثورة هو بيتي وقد تكرّرت الزيارات، وعندما بدأت الأمور تسوء وبدأ يركب رأسه وينفرد بكل شيء، كتبت مقالة في الصحيفة التي كنت أصدرها «الرأي العام» بعنوان: ماذا يجري في الميمونة؟ والميمونة قرية في جنوب العراق تعرّضت لهجوم بوليسي انتهكت فيه الأعراض.
وبعد ذلك جاء على ذكر المشادة الكلامية بقوله: وصادف أن قابلنا الزعيم عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع، باسم الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء، وكان يحضر معي السيد الحبوبي والدكتور صلاح خالص والفنان يوسف العاني والدكتور المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر، وإذا بالزعيم يخاطبني «.. أستاذ الجواهري: ماذا يجري في الميمونة؟..» وقد كنتُ أخشى مثل هذه المواجهة، لأنني كنت أتحاشاها، ولم أحدّد المعركة بعد. فأجبت بأدب وقلت له «سيدي الزعيم أنا لا أستطيع أن أدافع عن نفسي كثيراً في هذا الموضوع».
وقال مخاطباً الزعيم:   أسألك فقط سؤالاً واحداً، هنّ بناتك وأظنهن جئن إليك وعرضن ما تعرّضن له.. بمعنى أنني لم أكتب ذلك عبثاً. ويمضي الجواهري في روايته فيقول : وقد أحرج «الزعيم» فهو لا يستطيع أن يقول لي نعم ولا يرغب أن يقول لي: لا. وأخذ يتهرب. ويقول الجواهري:الغلطة الكبرى التي ارتكبتها حين قلت له «أثورة وبشرطة نوري السعيد؟» فخرج (الزعيم) عن حلمه لأول مرّة، وبدون تفكير منه حسبما أظن قال لي: أنت من بقايا نوري السعيد (ولديّ الوثائق).
ويواصل الجواهري روايته بالقول: كان يفترض بي أن أقول له، أنا فلان، أول من كنت تحاول مصاحبته في لندن وأول من زرته في البيت، وقد كنت آنذاك الغالب في هذه المعركة، لكنني لم أقل له ذلك، بل قلت له: هل تأذن لي بالخروج يا سيادة الزعيم؟ وأردفت بالقول بما نصَّه: «أتحداك وأمام الجالسين.. أتحداك وأشرت له بإصبعي.. نعم أتحداك مرة أخرى.. » وأعتقد أنني أرفقتها بـ" يا سيادة الزعيم عبد الكريم".
واستكمالاً لهذه الرواية: غضب الزعيم وبدا الشرر يتطاير من عينيه واتجه إلى الغرفة الأخرى لجلب الوثائق الدامغة على حد تعبيره، والمقصود عبارات الإهداء والمجاملة التي كتبها الجواهري لنوري السعيد، وهناك احتضنه وصفي طاهر وحاول التخفيف من روعه والتمسه أن يهمل ذلك أو ينساه، ثم عاد به إلى حيث اللقاء، وكان الجو قد تكهرب وهكذا انتهت الزيارة.
وكنت قد سألت الجواهري هل كانت هذه الحادثة، هي السبب في مغادرة العراق إلى المنفى؟ فأجاب ربَّ ضارة نافعة، مثلما يقولون. رحم الله عبد الكريم قاسم، فلو لم تكن له معنا هذه القصة، فقد كنّا قبعنا في العراق، والله العالم ما كان سيحدث لنا في السنوات السوداء، لكنه اضطرنا إلى «التشرّد» عن الوطن في خريف 1961، وربما للتشرّد الموعود، وهي حسنة وربما كفّارة عن كل ما فعله معنا قبل التشرد أنا وزوجتي «أم نجاح» وبنتينا خيال وظلال، وكنت بحكم علاقاتي مع اتحادات الأدباء، ونقابات الصحفيين في الدول الاشتراكية، قد أمّنت مقاعد دراسة لأبنائي في صوفيا وموسكو وباكو وبراغ، جزاهم الله ألف خير، وهكذا كان مصير فرات وفلاح ونجاح وكفاح. رحم الله عبد الكريم قاسم الذي قلت فيه : «ورمى بنا خلف الحدود كأننا / بُردٌ إلى الأمصار عجلى ترزمُ ».

   وعدتُ إلى سؤال الجواهري: كيف عشت خلف الحدود؟ ماذا كان هناك؟ زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟. فأجاب الاثنان معاً (أي والله)  كان هناك الفردوس المفقود والموعود معاً. كانت براغ الذهبية مدينة الأبراج والجمال. صحيح أننا دفعنا أثماناً باهظة من كراماتنا المهانة، ومن شماتة الشامتين، وتشفّي المتشفين، ولكننا مع جفاف الغربة، كسبنا حريتنا وحلاوة الحياة وقد أعطتنا براغ الكثير، وقلت فيها:
أطلتِ الشوطَ من عُمُري
      أطالَ الله من عُمرك

ولا بُلغتُ بالشرِّ
      ولا بالسوء من خبرك

وفي براغ كتب الجواهري قصيدته العصماء "يا دجلة الخير" التي يقول فيها:
حَييتُ سفحكِ عن بُعـدٍ  فحييني
      يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ

حييتُ سفحَك ظمآناً ألـوذُ  بــه
      لوذَ الحمائمِ بين الماء والطين

يا دجلةَ الخير يا نبعاً أفارقــهُ   
      على الكراهةِ بين الحين والحين

إني وردتُ عُيونَ الماء صافيـة   
      نبعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني


   كما كتب قصيدة كردستان موطن الأبطال  وقصيدة أرح ركابك وقصيدة رسالة مملحة وقصيدة زوربا وغيرها بما فيها ديوان الغربة وهي مجموعة قصائد صدرت في العام 1965.
   وبالعودة إلى جرجيس فتح الله فقد ذكر إنه أسرّ مسعود البارزاني بتلك الحادثة وأنا الشخص الثاني،  وهو لا يريد أن تذهب الظنون به بأنه يقصد دالّة أو فضلاً، وإنما فعل ذلك محبة واعتزازاً، وقال إنه سيحتفظ بها حتى الممات، فإن توفّاه الأجل قبل الجواهري، سيكون قد دفن السر معه، وإن توفي الجواهري قبله، فربما سيجد مناسبة لتدوينه، علماً بأنني لم أجد فيها سرّاً يذكر، بقدر ما هي حادثة عابرة ، وأستدرك بالقول أنه حتى الحوادث العابرة لشخصيتين متميزتين ، فإنها ذات دلالة خاصة ومعنىً معبّراً، فكيف لا والمسألة تخصّ الجواهري وعبد الكريم قاسم، ولهذا السبب كنت أسعى لأجد الوقت المناسب لإيضاح هذه المسألة بعد نشرها من جانب جرجيس فتح الله، مشدّداً على أن روح المجاملة والتواصل والمودة التي كان يبديها الجواهري مع الآخر، هي وراء ذلك الإهداء المملّح حتى وإن اختلف مع صاحبه وقال بحقه ما لم يقله مالك في الخمرة، فما بالك حين يهدي ديوانه له.


218
عبد الحسين شعبان:
المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة
أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب
العرب بحاجة إلى تلازم التنمية والديمقراطية
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات

 
حوار: هشام الطرشي الخميس 17 أكتوبر 2019 - 10:30
منذ أن اقترحنا عليه إجراء حوار مع موقع "الصحيفة"، غصنا في جرد المواضيع والتيمات ذات الراهنية والتي من المهم استحضارها في لقائنا به، وفي كل مرة نحدد فيها موضوعا نجد أنفسنا أمام تساؤلات فلسفية لمحاورِنا تفتح أمامنا أبوابا وتفريعات وزوايا معالجة تحتاج إلى الكثير من التدقيق والمراجعة والتصويب.
إن الضبط والتدقيق في المفاهيم وأبعادها لا يعادله إلا ذلك الانفتاح الفكري والفلسفي على القيم الإنسانية وقدرة محاورنا على لجمها وتطويعها خدمة للإنسانية باختلاف روافدها ومساراتها، فالدكتور عبد الحسين شعبان، موسوعي الثقافة ومتنوع الانشغالات ومنتج أفكار وصاحب مبادرات، نجفي المنشأ ويساري الفكر وكوني القيم، وواحد من أبرز الأسماء التي انتصرت لـ"المادية الجدلية"، ظل متمسكا بأهدابها مع انفتاحه على الفكر الانساني بمدارسه المختلفة، بل وعمل على إغنائها باجتهادات وقراءات متجددة للفكر الاشتراكي من زوايا انتقادية منسجمة في شموليتها مع روح العصر والتعددية الانسانية والتنوع الفكري والحضاري.
والمفكر شعبان واحد من الروّاد الكبار للعمل الحقوقي والإنساني في  العالم  العربي، وأستاذ محاضر في العديد من الجامعات العربية والدولية، حيث استقرّ لتدريس "فلسفة اللّاعنف" في جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان التي يشغل فيها منصب نائب الرئيس المعني بالشؤون الثقافية.
نستضيف في هذا الحوار الخـاص الدكتور شعبان لمحاورته في قضايا التغيير والتنوير، ثم ننتقل معه إلى عوالم بوح إنساني ووجدانيات حميمية، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ليكشف فيها روحه الحيّة وعالمه الخاص ومواقفه من الحب والحياة والعمل والدين والهويّة ويقدّم نقداً لكل ذلك.
 د. عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر عربي
 دكتور  شعبان، ننطلق معك في هذه الفسحة التواصلية مما تعرفه المنطقة العربية من متغيرات، كيف تقرأ هذا التغيير"فكريا"؟
شهدت المنطقة العربية خضّات كبيرة ضعضعت "الشرعيات" القائمة وأضعفتها إلى درجة كبيرة، بل وأطاحت بها في بعض التجارب، لكن رياح التغيير تلك التي هبّت على المنطقة، لم تستطع حتى الآن من إقامة أو بناء "شرعيات" جديدة، على الرغم من ما تركته من إرهاصات، وحسب المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي "الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد".
ولكنني أستطيع القول بثقة إن الماضي مضى ولم يكن بالإمكان إعادته، فما أطلقنا عليه "الربيع العربي" بما له وما عليه من إيجابيات وسلبيات ترك بصماته موضوعياً على الواقع العربي، فمن الناحية الفكرية على أقل تقدير تمكّن من إسقاط بعض المقولات والأفكار التي سادت عقب انتهاء عهد الحرب الباردة بانهيار الكتلة الاشتراكية وقيام ما سمّي بالنظام الدولي الجديد، الذي روّج له فرانسيس فوكوياما والذي يقوم على ظفر الليبرالية على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية، كمنظومة قيم ونظام اجتماعي، والذي عبّر عنه في مقالة نشرها في العام 1989 تحت عنوان "نهاية التاريخ" والتي تحوّلت إلى كتاب في العام 1992 تحت عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
 ما هي إذا الفرضيات التي تؤشر لها؟
ثمة فرضيات شكّلت عائقا أمام التغيير الديمقراطي المنشود حتى بدا وكأنه استعصاءً أو وعداً غير قابل للتحقق، فالفرضية الأولى، هي أن بديل الأنظمة الوطنية حتى لو كانت تسلّطية هو الفوضى، في حين أن الأنظمة على قسوتها واستبدادها حامية للأمن والاستقرار، ومن الطبيعي أن يخلف أي عملية تغيير أو انتفاضة أو ثورة نوع من عدم الاستقرار وحتى الفوضى التي قد تندفع إلى الواجهة، وليس بالضرورة تقود إلى "الفوضى الخلّاقة" طبقاً للرئيس جورج دبليو بوش، ففي تونس ومصر على سبيل المثال، وحتى وإن برزت حوادث عنف، لكنها كانت محدودة، وهي تصاحب أي عملية انتقالية وأية سلطات مؤقتة.
أما الفرضية الثانية، فهي أن العرب ليسوا بحاجة إلى الديمقراطية بقدر حاجتهم إلى التنمية، ومصدر مثل الأطروحات بعضها خارجي عنصري استعلائي وبعضه داخلي ومحلي، فالأول يستكثر على العرب حاجتهم إلى نظام سياسي عصري، والثاني يستصغر دورهم، صحيح أن العرب بحاجة إلى الغذاء والدواء والعمل والتعليم والسيادة، ولكن من قال إن الإنسان يحيا بالخبز وحده؟
والفرضية الثالثة، هي أن الإسلام دين يحض على العنف ويدعو إلى الإرهاب، وهو دين غير متسامح، ومصدر هذه الأطروحة كذلك خارجي وداخلي، الأول يستهدف فرض الهيمنة والاستتباع، والثاني يعتقد أن الصراع الداخلي هو بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو صراع استئصالي إلغائي.
والطرفان يعتقدان أن الإسلام دين غير متسامح وتتعارض تعاليمه مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومثل هذه الأطروحة تريد إخراج نحو مليار إنسان وأكثر من نصف مليار من استحقاق الديمقراطية، وهو أمر غير معقول.واستمراراً لهذه الأطروحة فالذين يتعصّبون للإسلاميين يعتبرون العلمانيين خطراً عليهم، والعلمانيون يعتبرون الإسلاميين هم الخطر على الديمقراطية، وكل يبالغ بدور الآخر سلباً ويعلي من دوره إيجاباً، في حين أن اللعبة الديمقراطية تقتضي الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في إطار منظومة كاملة من القوانين والمؤسسات والممارسات التي تراكم التطور الديمقراطي، علماً بأن الإسلاميين ليسوا جميعهم كتلة صماء واحدة، مثلما ليس جميع العلمانيين كتلة واحدة، ففيهم اليساري واليميني، الجمهوري والملكي، الظالم والمظلوم أحياناً، ولهذا لا يمكن وضع الجميع في سلّة واحدة.أما الفرضية الرابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى دعم خارجي، بل إنه لن ينجح بدونه وهو اتهام من جانب القوى المحافظة للقوى التغييرية بأنها تعتمد على الغرب الذي له مصالح خاصة، انطلاقاً من نظرية «المؤامرة»، في حين أن بعض القوى الداعية إلى التغيير لم تجد بأساً من التعامل مع قوى خارجية حتى على حساب المصالحة الوطنية العليا، طالما ستنقلها إلى منصّات السلطة، فهي غير قادرة لوحدها على إنجاز عملية التغيير، ولكن ما حصل من حراك شعبي كان داخلياً بالأساس حتى وإن حصل على تعاطف أو دعم خارجي بهدف توظيفه سياسياً.ولا يمكن مصادرة كفاح وتضحيات حركة الإصلاح الداخلية لعقود من الزمان بزعم الدعم الخارجي وإثارة الشبهات حولها. وبالطبع فإن القوى الخارجية ستحاول أن تدسّ أنفها طالما كانت الجبهات الداخلية ضعيفة أو مفكّكة.والفرضية الخامسة، هي أن التغيير سيؤدي إلى تصدّع الهويّة الجامعة والمانعة للشعوب العربية، لاسيّما بصعود هويّات اثنية ودينية وطائفية وعشائرية ومناطقية، وهذا يعني بذر بذور التشطير والتشظي في جسم الدولة الوطنية.
وإذا كان انتعاش الهوّيات الفرعية حقيقة قائمة فإن له أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فقد غذّت الأنظمة العربية بشكل عام الانقسام المجتمعي تارة لأسباب دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو إثنية أو جهوية أو غيرها بهدف إبقاء سلطة الحاكم طبقاً للرؤية الميكافيلية «الغاية  تبرر الوسيلة»، ولعل من الطبيعي أن يعقب كل عملية تغيير انبعاث للهويّات بسبب تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب نال الهويّات الفرعية أو لمحاولتها التفلّت من هيمنة "الأغلبية" وسنوح الفرصة لذلك.
والفرضية السادسة، هي أن التغيير يحتاج إلى ثقافة، وهي التي ينبغي أن تتأسس لكي يحدث التغيير، وهي غائبة حتى الآن عربياً، ولكن هناك شعوباً وأمماً في العالم الثالث كما تسمى سارت في طريق التغيير الديمقراطي بالترافق مع تطوير التربية والتعليم، بما فيها على قيم الديمقراطية، فهل ننتظر أن يتم القضاء على الأمية وأن تعمّ الثقافة لكي نفكر حينها بالتغيير أم أن هذا الأخير كما أرى مساراً طويلاً مركباً تتفاعل فيه عوامل كثيرة تنموية بجميع المجالات.أما الفرضية السابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى حامل اجتماعي وهذا غير متوفر، أي عدم وجود قوى من الطبقة الوسطى قادرة على حمل رسالة التغيير، والشباب الذي فجّر الحراك الشعبي وقاده ليس مؤهلاً لإدارة الدولة لأنه لا يمتلك الخبرات الكافية، ولعل هذه نظرة تشكيكية استصغارية للشباب ودوره ولإرادة التغيير، ومحاولة لفرض نوع من الأبوية والوصاية على التغيير.
في حين أن الفرضية الثامنة، هي أن التغيير بحاجة إلى جهد مجتمعي شامل، في حين إن المجتمعات العربية ما تزال المرأة فيها بعيدة عن المشاركة، لكن المشاركة النسوية في تونس ومصر واليمن وليبيا دحضت إلى حدود كبيرة هذه الفرضية، فقد كانت لها تأثير كبير في التفاعل الحقيقي، بل وفي المشاركة اللّاحقة، ولا يمكن الحديث عن تغيير حقيقي في أي مجتمع دون الحديث عن مساواة حقيقية وفعلية وقانونية ومجتمعية بين الرجل والمرأة، وذلك أولاً- تمكين المرأة لكي تنخرط في العمل العام السياسي والاجتماعي والمدني، وثانياً- تتولى مهمات قياديّة، وثالثاً- لكي تشارك في إدارة الدولة وهيئاتها المختلفة.لقد جرت متغيّرات عديدة في هذا المجال، فحتى لدى دول الخليج اليوم تشارك المرأة مشاركة فعّالة وتتخطى العقبات التي كانت في طريقها وهو أمر مهم يمكن التراكم عليه لحصول التغيير الحقيقي في المجتمع، وتبقى "الثورات نقراً في السطح وليس حفراً في العمق" على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ، إن لم تنزل إلى قعر المجتمع وتحرّره وتغيّر العلاقات الإنتاجية السائدة فيه، فضلاً عن العادات والتقاليد البالية تلك التي ترسّخت على مرّ العصور، ولاسيّما في النظر إلى المرأة حيث يتم استصغار دورها والتشكيك بإمكاناتها والتقليل من قدراتها، بل إن البعض يبرّر ذلك باسم الدين باعتبار النساء "ناقصات عقل ودين". 
ولأن المناسبة شرط، لنتوقف قليلا عند المرأة..
لقد تحقق للمرأة بعض النجاحات وإن أجهض بعضها أو تعثّر، وخصوصاً حين واجهت عملية التغيير والتقدم قوىً تقليدية واسعة، وأستطيع القول أنه لا يمكن أن تحرّر المرأة بالكامل دون تحرّر المجتمع ككل، لكن هذا لا يعني ترك الحبل على الغارب وانتظار تحرّر المجتمع، بل لا بدّ من شن كفاح متعدّد من جانب المرأة والمناصرين لحقوقها مع أخذ خصوصيتها بنظر الاعتبار، ولا يمكن الحديث عن احترام حقوق الإنسان والممثلة بالشرعة الدولية دون الحديث عن مساواة المرأة بالرجل.
وتعتبر معركة المرأة في التحرّر أحد أهم وأكبر قضايا التغيير الحقيقية والتنوير الراهنة والمستقبلية، فقد كان قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 أحد أركان الصراع بين قوى التنوير والتغيير من جهة والقوى المحافظة من جهة أخرى في العراق، وكذلك الحال مع قانون الأسرة في اليمن لعام 1974، وفي السابق والحاضر كانت قضية المرأة في تونس مصدر نزاع مجتمعي بين التيارات الفكرية التقدمية والمحافظة، وهو أمرٌ يتعلّق بقضية المرأة في عموم البلدان العربية، وحين تحصل التراجعات والانقلابات الرجعية فإن أول شريحة تتعرّض لهضم الحقوق هي المرأة.
  الحديث عن بنية وتركيبة المجتمع يدفعنا إلى الحديث عن التغيير، فهل أصبح حقيقة في ظل ما سمّي  الثورة العلمية-التقنية من  وجهة نظرك، وكيف تساهم  هذه المحدّدات في رسم معالم التغيير المنشود؟
أكّد التغيير الذي حصل في تونس ومصر وبغض النظر عن بعض مآلات منعرجاته وتموجاته بسبب حدّة الصراع والتداخلات الخارجية في دول المنطقة عدداً من الحقائق المهمة، أولها، انكسار حاجز الخوف وحدوث التغيير في مزاج الناس، واستعدادها للدفاع عن قضايا الحريّة والكرامة والعدالة، بالنزول إلى الشارع وإرغام الحاكم على التخلي عن الحكم.
وثانيها، إمكانية التغيير باللّاعنف وعبر الوسائل السلمية، ولعلّ هذا الأسلوب الناجح هو الذي أجبر الحاكم في السودان على الانصياع بتدخل من الجيش لاحقاً، وهو الذي أرغم الرئيس في الجزائر على التخلّي عن ترشيح نفسه، وما يزال الحراك الشعبي مستمراً لتحقيق أهداف حركة التغيير، وهو الذي دفع لإجراء تغييرات دستورية وعملية إيجابية في المغرب والأردن وانعكست تأثيراته عل بعض الخطوات الانفتاحية والتي اتخذتها بعض دول الخليج أيضاً.
وثالثها، إن التغيير انطلق وحتى وإن تعثّر أو تأخر، لكن مساره مستمراً وهو مسار طويل الأمد، ويحتاج المستقبل إلى توجهات جديدة قد تأخذ أشكالاً جديدة غير مطروقة في السابق، أي أنه ما يزال في تفاعل ديناميكي.
ورابعها، إنه استحقاق داخلي، بالدرجة الأساسية وهو تتويج لكفاح طويل الأمد، حتى وإنْ حاول الخارج توظيفه أو التداخل معه، لكن ذلك لا يمنع النظر إليه باعتباره تراكماً طويل الأمد وتتويجا لتضحيات الإصلاحيين والتنويريين من التيارات الفكرية المختلفة اليسارية والعروبية وغيرها.
وخامسها، المشاركة الجماعية بما فيها من تعدّدية وتنوّع في إطار الوحدة الوطنية فلم تتأخر عنه قوة أساسية أو فئة مؤثرة، بل شارك فيه الجميع بفاعلية ووزن.
وسادسها، دور العلم والتكنولوجيا، ولاسيّما الطفرة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت جهازاً تعبوياً بامتياز، وهكذا كان يتم خلال لحظات التعبئة والتحريض والتنظيم، ولعلّ ذلك قد رسم معالم الطريق الجديد لإدارة الحكم وتوجهاته اللّاحقة، التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، فلم تعد تنفع استمرار الأنظمة الشمولية والتسلطية واحتكار العمل السياسي والمهني، وانفتحت ثغرات في جدار السلطة في العديد من البلدان، وسيكون ذلك بروفة أولية لتغييرات قادمة خلال السنوات العشر القادمة، خصوصاً بتراكم التجربة وفي ظل ميل عالمي للتغيير.
 هل من تبرير أو تفسير لحالة الانكفاء التي أصابت المفكر أو المثقف العربي عموما، ونزوحه إلى عدم التفاعل مع المتغيرات المجتمعية؟
انقسم المثقفون العرب في الموقف من عملية التغيير ومما سمّي بالربيع العربي وهو انقسام سابق، فبعضهم كان يحرق البخور للسلطان ويؤدلج له خطابه ويلمّع إجراءاته، في حين كان البعض الآخر يمارس وظيفته الأساسية وأعني بذلك النقد، ودفع مثقفون عديدون على امتداد الوطن العربي أثماناً باهظة، حتى أنك أصبحت تنظر إلى لندن وباريس كعاصمتين أساسيتين للمثقفين العرب المنفيين والمطاردين في بلدانهم، والذين يجدون فيهما وفي غيرهما فسحة التعبير عن الرأي وحرّية الإبداع دون رقابة أو تسلّط.وبتقديري إن وظيفة المثقف الأساسية هي النقد، ولا قيمة لتجربة دون نقدها، لكن بعض المثقفين كان أقرب إلى المثقفين الطقوسيين أو الإداريين الذين حاولوا إخفاء رؤوسهم في الرمال مثل النعامة، في حين تجد مثقفين لا يريدون الانخراط في العمل العام ويظهرون كمثقفين مدرسيين، وآخرين مسلكيين أو حتى ذرائعيين.
أما المثقفون العضويون حسب تعبير غرامشي، فهم من تماهوا مع الحركة التغييرية وعبّروا عنها، ليس بمواجهة السلطات فحسب، بل في مواجهة مع مثقفين معولمين أحياناً اغترابيين، دعوا لقطع صلة الواقع بالتراث، وبرروا التعاون مع القوى الخارجية بزعم مساعدتهم في التخلص من الحكم التسلطي، ومقابل هؤلاء هناك مثقفون تقليديون ظلّوا يشدّدون على استلهام التراث لدرجة الغرق فيه، بزعم الخشية من الاختراق الخارجي و "الاستعمار" الثقافي والفكري، وهناك مثقفون محنّطون وسياسيون مملّون ومملؤون بالفراغ.
متغيرات مجتمعية عديدة أبانت ضعف الفاعل السياسي على مسايرتها وإبداع الحلول لتعزيزها وتثمينها، وقد دعوت في أكثر من مناسبة إلى التأسيس لعقد اجتماعي وسياسي جديد، بحسبك، ما هي أهم مميزات هذا العقد وخصائصه؟
ثلاثة مخاوف أساسية تسلّلت إلى الواجهة السياسية أو وجدت طريقها إليها ترافقاً مع "ربيع الحرية والكرامة" المفترض الذي حلّ على العالم العربي بالرغم من المرارات والخيبات، فقد ارتفع قلق وهاجس بعض الجهات والجماعات من حضور القوى الدينية أو السلفية، إما لاعتبارات ايديولوجية أو دينية بصبغة طائفية، أو لأسباب سياسية أو اجتماعية، وهكذا.
لكن هذا القلق لم يكن الهاجس الوحيد لدى هذه القوى التي بقيت متخوّفة أو متردّدة أو حتى مرتابة من التغيير لهذا السبب، بل كان الخوف من الفوضى موازياً للخوف من القوى الإسلامية، لاسيّما بعد تجربة "الفوضى الخلاقة" التي ضربت أفغانستان ومن ثم العراق، بعد احتلالهما العام 2001 و2003، على التوالي.
 يضاف إلى ذلك، الخوف الكبير والقلق العميق من محاولات الاستغلال الخارجي، لحركة التغيير، سواءً من خلال توجيهها أو التأثير عليها، بل إن أصحاب نظرية المؤامرة كانوا يقدّمون هذا الهاجس على الهواجس الأخرى التي تعتبر مكمّلة أساساً، لهذا البرزخ الذي يمكن أن يكبر، مستندين إلى الكثير من الأمثلة والأدلّة، ولعل أكثرها إثارة بالنسبة للعالم العربي ما حصل في العراق نتيجة الاحتلال.
أنت تتحدّث عن خريطة طريق عربية.. ما هي ملامحها؟
لعلّ موضوعاً من هذا القبيل يعيدنا إلى فكرة مهمة وريادية كان قد طرحها مركز دراسات الوحدة العربية في ما أطلق عليه المشروع النهضوي العربي بصيغته الأولى، التي بدأت فكرتها في العام 1988 وجاء في إطار "مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي" وكان ذلك ضمن توصية بالحاجة إلى مشروع نهضوي والتي يمكن صياغتها في إطار فكرة جديدة لعقد اجتماعي عربي وهو ما ندعو إليه، يبحث في المشتركات وفي الخصوصيات في الآن ذاته، أي وضع خريطة طريق، بتضاريسها وألوانها على بساط البحث، خاصة بالمشترك الجامع الذي ينبغي تعظيمه على حد تعبير الأمير الحسن بن طلال وتقليص الفوارق، لاسيّما بتأكيد احترام الخصوصيات التي ينبغي مراعاتها بالنسبة لكل مجتمع وفي إطاره أيضاً.ولعلّ فكرة عقد اجتماعي عربي جديد أو خريطة طريقة عربية جديدة يمكن أن تستند إلى مشروع نهضوي عربي جديد هو الآخر أصبح لا مناص منه للقوى الحيّة الحاملة لمشروع التغيير والنهوض، ناهيك عن التحدّيات المشتركة التي تواجه العرب، خصوصاً التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمن القومي ومواجهة التحدّيات التي تتعلق بالوجود، مثلما هي "صفقة القرن" أو "وعد بلفور الجديد"، وذلك بعد أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو - 1916 لتقسيم البلدان العربية من جانب القوى الاستعمارية.
ولعلّ الركن الأول في هذه الخريطة والمشروع هو استعادة الجانب الوجداني الجامع للعرب، سواءً أسميته بـ«الوحدة العربية» أو «الاتحاد العربي» أو «فيدراليات عربية» أو «ولايات» أو «أقاليم»، المهم تقديم منظور جديد لفكرة التلاقي والتواصل العربي بأشكاله المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، وهذا التلاقي لا بدّ أن يكون متوافقاً عليه ديمقراطياً وبأسلوب ترتضيه الأطراف المختلفة، متجاوزاً فكرة جامعة الدول العربية التي كانت مهمة ومفيدة، لكن الظروف العالمية تجاوزتها وهي بحاجة إلى أفكار جديدة وتفاهمات جديدة وصولاً إلى وضع أهداف جديدة لها.
أما مضمون الوحدة، فهي مطلب للمجتمعات وليس حكراً على طبقة واحدة، لكنه دون أدنى شك ينبغي أن يصب في مبادئ العدالة الاجتماعية باعتباره أحد أركان المشروع النهضوي العربي الجديد، ولعلّ نقيض التخلف والنمو القاصر في ظل العولمة هو التنمية المستدامة المستقلة باعتبارها ركناً من أركان المشروع النهضوي.وإذا كانت التنمية قد فشلت في تحقيق التقدم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وظل الاقتصاد العربي بجميع أقطاره يعاني من التخلف والتبعية في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر، وازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته، الأمر الذي عمّق الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، الذي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية، وقد ازدادت المجتمعات العربية فقراً على الرغم من زيادة مردوداتها.والتنمية المستقلة حسب المشروع النهضوي العربي لا تقوم على فرضيته الأولى «الاكتفاء الذاتي»، و «الانقطاع عن العالم»، أو الفرضية الثانية أي «الاندماج في السوق العالمي»، بل تعني الاعتماد على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وفي مقدمة ذلك القدرات البشرية والمدخّرات الطبيعية، والتعامل الصحيح مع العولمة.
 دعنا نأخذ منك اعترافات للبوح بجمل قصيرة.. وهنا نبدأ بالرؤية، ماذا عن رؤيتك؟
أحاول أن أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب.
أين أنت من التاريخ؟
 أنا سليل رحّالة وجغرافيين ممن عرفتهم المنافي، وحفيد الشيخ حبيب شعبان أحد أبرز شعراء الغري الذي هجر الدراسة الحوزوية في النجف وغادر الحضرة العلوية واختار الشعر والمنفى، ليجد ملاذه في بومبي، حيث عاش ومات ودفن فيها.
 كيف تنظر إلى المنفى؟
المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة، وأنا كائن حركي، لأنه في الأصل كانت الحركة وهي القاعدة، أما الثبات والاستقرار فهو مؤقت واستثنائي. وصرتُ أعرف نفسي أكثر في المنفى والدليل إليها هو وريقاتي التي تهبّ عليّ مثل ذكرى هي حاضر، والحاضر هو ذكرى أيضاً.
أي المدن أحب إلى قلبك؟
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات لي في النجف السعيد وبغداد الروح ودمشق الحميمة وبراغ الذهبية ولندن التنوّع وبيروت الخلود، منازل وغرف ومقاهي ومكتبات وصديقات وأصدقاء، ولأنني تعدّدي فإن روحي منثورة بين هذه المدن وقلبي موزّع بين نسائها.
كيف تنظر للحياة؟
أحتفل بالحياة وأنا متولّهٌ بها محفوف بكل أنواع الموسيقى والألوان والقصائد.
هل أنت حائر؟
 حيرتي وجودية، وهي حيرة مستمرة ومتحركة، وحسب ابن عربي، فالهدى في الحيرة، لأن هذه حركة والحركة حياة.
 كيف ترد على خصومك؟
أجد نفسي مترفّعاً في الكثير من الحالات، فأتردّد من منازلة بعض من لا يستحق المنازلة، ولن أرتضي لنفسي الخوض في البذاءات والهبوط إلى مستوى التفاهات. لا أستطيع أن أرفس الحصان إذا واجهني.
 أجدك دائماً مع المظلوم.. لماذا؟
لم أقف مع "المنتصر" في الغالب وقد أتحالف مع الخسارة، خصوصاً حين يكون الثمن الذائقة الجمالية والمعيار الأخلاقي والكرامة الشخصية، ولذلك لم أنخرط في جوقة السمسرة لبيع البستان، فأي شجرة رمان فيه أو غصن مشمش أو فسيلة نخل تساوي عندي كل ثروات الأرض.. ولا طاقة لي بمجاراة من يغالي في اغتيال القيم. ولن أقبل لنفسي أن أكون جزءًا من مرابي الثقافة ومتصيّدي الفرص.
أين ترى بهجتك؟
بهجتي روحية وسعادتي حلقات متّصلة والنقد والمصارحة مع الذات أول مصادرها، وبالطبع أنا عاشق ورائحة العشق تملأ حياتي.
متى تكشف ما عندك؟
أعرف الكثير من الأسرار المثيرة للفضول، لكنني حريص على عدم البوح بها واحترم خصوصيات الناس وقد ائتمنت على الكثير منها.
لهذه الأسباب أنت تعاني؟
معاناتي من معاناة الناس وأعرف كم هي همومهم وعذاباتهم، وأدرك معنى أن يكون شعباً بأكمله عرضة للاستلاب والقهر، والحروب والحصار، لتأتي الحقبة الاستعمارية الجديدة بكل رموزها وتداخلاتها الدولية والإقليمية فتكشف هشاشة ما تبقى وتظهر حقيقة المستور.
هل أنت متحالف مع القدر؟
قضيتُ حياتي أبحث عن عطر الورد وأنام في حديقة الأمل لأستنشق الحرية.
 وأين أنت من الفلسفة؟
احتفيت دائماً بالفلسفة ووقفت عند مداخل التاريخ ومخارجه، وأتوق دائماً إلى الذكريات وكأنها المستقبل.
بماذا ساعدتك الثقافة؟
الثقافة ساعدتني في اجتراح المعقول وغير المعقول في زمن ضاعت فيها الحدود. والثقافة هي التي عوضتني عن كل الخسارات ومنحتني هذه القدرة العجيبة على «ارتكاب» الأحلام. 
أنت وطني كبير، كيف تأسس ذلك؟
نزعتي الوطنية رضعتها مع الحليب وهي بوصلتي في كل شيء وسفينتي لن ترسو في الشواطئ الغريبة.
 كيف اجترحت كل تلك الآلام؟
الصبر نعمة ربانية وهو حصيلة حكمة الزمن المحسوس والمعيش، والبساطة جزء من تكويني وفيها أجد الصفاء المشتبك بالمصير الإنساني.
 متى تهدأ روحك؟
مرفأي لن يهدأ وأغاني الروح لن تستكين، وهناك علاقة تكافلية وحيوية بيني وبين الناس.
وماذا عن الحب بعد السبعين كما تقول؟
الحب والحرية متلازمتان ولا أستزرع الأفكار في غير بيئتها ولا أستنبت التجربة إلّا في أرضها الصالحة، والعشق قيثارتي الأبدية وأنا عاشق لم يفرغ قلبي يوماً، ومع محمود درويش أردّد: لا أتذكر قلبي إلّا إذا شقّه الحب نصفين أو جفّ من عطش الحب.
 ما هي أحب الأشياء إلى نفسك؟
العدل والمساواة، فقد آمنت بهما كمتوالية مع روح الإخاء الإنسانية، وبقدر خصوصيتي فأنا جزء من عالم متنوّع، والخصوصية لا تفترض التحلّل من الروابط الإنسانية العامة.
إلى أين ستمضي؟ فقد خسرت الكثير في حياتك، فمتى تتوقف؟
سأواصل وحدي المشوار حتى لو توقفت القافلة عن المسير أو أضاعت الطريق ولن أشعر بالوحشة. حين أصل إلى غايتي أشعر بالفراغ، ولذلك أبحث عن الريح لتبقى الحركة، كثيرون ما زالوا يعيشون في الماضي، لأنهم لا يريدون مواجهة الحاضر، أما أنا فحتى في الماضي كنت أتطلّع إلى المستقبل. لم أعتد أن أبلع لساني وكانت لي آرائي واجتهاداتي باستمرار، أخطأت أم أصابت، فأنا مفطور على النقد. وقد أبدو شيوعياً من قماشة أخرى، وربما أقرب إلى الغرابة، لكن النور الداخلي سبيلي إلى هذا القضاء المحيّر.   
ماذا لو غابت العقلانية؟
العقلانية قيمة عليا وغيابها يعني حلول الجانب المظلم من الحياة، والاكتشافات العلمية منحت الفرص أكثر للبشر ليكونوا خيرين أو شريرين. ومقابل العقلانية يوجد نقيضها اللّاعقلانية (الشيء وضدّه) الأحاسيس والعواطف والأحلام والرغبات والصبوات يتم التعبير عنها من خلال الدين والجنس وسرديات التاريخ والأحلام، والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ.والطريق إلى العقلانية ليس واحداً وحسب ابن عربي «الطريق إلى الحقيقة تتعدّد بتعدّد السالكين»، وقد يصل الإنسان إليها بهزيمته أو كبوته، فيحاول معرفة أسبابها ويتعامل معها بروح نقدية ودون مكابرة، وينبغي التوقف عند الهزائم والانكسارات لأنها لا تمرّ سريعاً أما الانتصارات فغالباً ما تكون مؤقتة، وقد تقود العقلانية إلى نقيضها بثورة عنيفة لا عقلانية.
 ماذا عن الثورات؟
«الثورات» لا عقلانية حتى وإن كان هدفها الوصول إلى العقلانية. والسعي وراء العقلانية قد يفجّر موجة من اللّاعقلانية. اللّاعقلانية هي القاعدة في الدين والجنس والحرب والموسيقى والفن والسياسة، لكنها تولد نقيضها. وتنمو العقلانية في رحم اللّاعقلانية.
من هم أعظم ثلاثة شعراء عرب معاصرين تربعوا على عرش الشعر؟
محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف.
وماذا عن الجواهري؟
الجواهري مثّل الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر الكلاسيكي.
 أجدك كثير التأني وكثير التدقيق.. لماذا؟
الشجرة المُثمرة هي التي تطالها الحجارة، وهناك فرق بين وقفات التأمل النقدي والأحكام المتسرّعة.
 كيف تمكنت من صياغة خطاب بلا ضغائن ولا اتهامات أو تخوين وأنت ابن الايديولوجيا؟
علينا الاعتراف بقانون النسبية، ونحن نخطئ ونصيب، لقد فعلت كل ما فعله أقراني من الماركسيين، لكنني لم أغلق أبوابي مطلقاً، وحاولت منذ وقت مبكّر أن أضع مسافة بيني وبينهم، وقد فضلت الوقوف في الفسحة النقدية، ولم أقصّر حتى في نقد نفسي، وقلت أكثر من مرة أنني أعتز حتى بأخطائي لأنها حميمية وهي جزء مني، فقد اجتهدت وأخطأت فـ «المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد» حسبما ورد في الحديث النبوي الشريف، ومن لا يعمل لا يخطأ.



219
ماركس في "مدينة الغنج والدلال"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
منذ الصباح الباكر أجلس في المقهى:
طنجة تستيقظ
لست أنا من يوقظ طنجة
من قال: الحلمُ ينام؟
...
...
...
طنجة سيّدة الأنوار السبعة
أغنية البحار
سعدي يوسف
من قصيدة طنجة -"ديوان طنجة" 2011
   إذا كان " الحب من أول نظرة"، فعشق طنجة من أول زيارة،  فتهيم غراماً بها وتزداد عشقاً لها كلّما اكتشفت مكنونات روحها بما فيه من سحر وألغاز، وحسب بربارا هايتن "طنجة هي الحياة"، وكما كتبت على لوحة رخامية في منزلها " الجنة هنا.. هنا.. هنا" وهي تعني طنجة .
   الألوان والأنغام تختلط في طنجة ، وما الحياة سوى لون ونغم، "وحق الهوى أن الهـوى سبب الهـوى .. ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى"، كما يقول محي الدين بن عربي ، فالزرقة للسماء والبحر، والخضرة تكسو الوديان والسفوح مطرّزةً بالأصفر والوردي، حتى لتبدو طنجة وكأنها حديقة أو غيمة سندس تفوح منها كل الأطايب، وتتفرّع على جانبيها أزقة وبيوت وأبواب ملوّنة تشمّ منها عبق التاريخ.
   منذ أن قرأت " الخبز الحافي" هامت روحي بطنجة، فقد كان الروائي محمد شكري بارعاً بجنونه الفائق  وعوالمه الليلية والنهارية الشائقة وشخصياته الهامشية الفاتنة التي روى حكاياتها التي تُحكى ولا تُحكى، فعدتُ أفتش عن " مجنون الورد" و"الخيمة" و"غواية الشحرور الأبيض"، مقتفياً خطاه  في المقاهي والحانات، من مقهى الحافة إلى مقهى الرقّاصة  في السوق القديم وصولاً إلى مقهى باريس ومقهى روكسي وغيرها،  وهكذا بدأ الحبل السرّي بيني وبين تلك المدينة الساحرة.
   واجتذبت طنجة عدداً كبيراً من كبار المبدعين الذين  تردّدوا عليها وعاشوا فيها مثل جان جينه والبرتومورافيا وأرنست همنغواي والجواهري وأدونيس وسعدي يوسف وخوان غوتيسولو ومارسيل خليفة وغيرهم، ولكل قصته وعشقه. ومن أزقة طنجة بزغ ابن بطوطة ليلفّ العالم، ثم  يعود ليرقد محتضناً أطالس الجغرافيا وكتب التاريخ وحكايات المجتمعات المتنوعة والشعوب المتمايزة.
   هكذا تتبدّى لك الأندلس حتى لتشعر أن  العالم كله في عهدتك،  فـ "المدينة الحلم"، حسب بول باولز، صوّرها الرسام هنري ماتيس في لوحته الشهيرة العام 1912" نافذة من طنجة"، الموجودة حالياً في متحف بوشكين في موسكو وعلّق عليها قائلاً: طنجة " جنّة الرسام" و"المرآة المفتوحة على العالم". ومكث ماتيس في فندق فيلا دي فرانس، وصادف في إحدى زياراتي لطنجة أن نزلتُ في الفندق ذاته وبجوار غرفته الرقم 35 وطلبت حينها من عامل الفندق أن يفتحها لي، فوجدت الضوء يملؤها من جميع الجوانب.
   وتعلّق الجواهري هو الآخر بطنجة التي وصفها بأنها مدينة " الدلال والغنج"حيث  ينطلق الليل من جفنيها، وينفرج الصبح عن نهديها، وذلك حين زارها في العام 1974، وقصة الجواهري مع طنجة مثيرة وملتبسة وسأعود إليها في وقت لاحق.
   فكيف حلّ ماركس ضيفاً على طنجة التي لم يزرها؟، لكن "للأفكار أجنحة" على حد تعبير ابن رشد، فقد زارت أفكاره طنجة وحلّقت فوق البحرين (البحر المتوسط والمحيط الأطلسي) حيث يلتقيان في طنجة في لقاء حميم لا مثيل له. وكانت "عودة ماركس" إلى طنجة عبر مهرجان ثويزا حيث دعيت للحديث عنها  ، فاستعدتُ مقابلة لي في جريدة "أنوال" المغربية قبل ثلاثة عقود من الزمان، عن "أزمة الماركسية"، وهو الموضوع الذي توسّعت في تناوله بكتابين الأول "تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف " والثاني "الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية". فهل العودة إلى استحضار ماركس دليل طمأنينة أم إشارة قلق؟ وهل هو سؤال شك وأزمة أم جواب يقين وثقة؟
   لكننا لسنا وحدنا من يعود إلى قراءة ماركس، فقد أخذ مدراء بنوك وشركات كبرى يشجعون على قراءته، فبعد أزمة العام 2008 كان كتاب " رأس المال"  الأكثر اهتماماً وكانت نتائج استفتاء لهيئة الإذاعة البريطانية BBC  قد صنّفت ماركس كأحد المؤثرين في العالم  بين 100 شخصية.
   والمهم كيف نقرأ ماركس والماركسية من بعده وأعني "المادية التاريخية" فقد كان هو الحلقة الذهبية الأولى فيها. أعداؤها حاولوا تأثيمها وأبلستها لأنها مثلت خطراً على مصالحهم الطبقية، أما أتباعها فصنّموها وألّهوها وربطوها بشخص ماركس ومن جاء بعده، حتى أن بعض أصحابنا أضفى عليها نزعة ريفية أو بدوية بالضد من جوهرها المدني الحداثي.
   وإذا كان الأعداء والخصوم قد لعنوها وطاردوها، فإن الأتباع والمريدين كانوا عبيد النصوص ، والنصوص كما هو معلوم منتهية، أما الواقع فمتغيّر، وهو لا متناهي، وبغض النظر عن منهج ماركس ، فإن تعليماته كانت تصلح لعصره وقد تجاوز  الزمن العديد منها، فما بالك حين أخفقت بالتجربة، وإذا كان المنهج يقتضي قراءة الواقع، فلا بدّ إذاً من استنباط الأحكام منه، والمرجعية أولاً وأخيراً للواقع الملموس وليس للنصوص، والممارسة جزء من النظرية مثلما الوسيلة جزء من الغاية.
   ولو عاد ماركس اليوم لأعاد النظر بالكثير من المسلمات والأحكام، خصوصاً في ظلّ العولمة والعصر الرقمي، حتى وإن تشبث المريدون بجعله أيقونة تصلح للمتحف. وتلك كانت جوهر مداخلة طنجة في فضائها الفكري المفتوح.



220
الترامبية في بعض ملامحها
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


   يعتبر بعض الباحثين أن مصطلح "الترامبية" هو تعبير عن تيار فكري آخذ بالتبلور منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب الإدارة في البيت الأبيض، وهو ليس عابراً أو ظرفياً، وإنما هو امتداد موضوعي لتراكم طويل الأمد في السياسة الأمريكية، في حين يراها آخرون أنها ردّ فعل سياسي طارئ ومؤقت ومرهون بوجود الرئيس ترامب على رأس السلطة في الولايات المتحدة.
   وثمة سؤال آخر يتمحور حول جوهر "الترامبية"، أهي وليدة التطورات الجديدة والشاملة في الأوضاع الدولية، خصوصاً بعد تراجع دور الولايات المتحدة عقب غزو أفغانستان 2001 واحتلال العراق 2003 وفشل سياساتها لمواجهة "الإرهاب الدولي"؟ أم هي محاولة شعبوية لرئيس امتهن التجارة وسعى لوضع السياسة في خدمتها، لاسيّما برفع أكثر الشعارات رنيناً وصخباً متجاوزاً على ما هو مألوف من سياسات تقليدية اعتادت عليها واشنطن؟
   وبعد ذلك فهل أصبح الوقت كافياً لتحديد الملامح الأساسية للترامبية سواءً أكانت تياراً فكرياً جديداً أم نهجاً سياسياً ارتبط بالرئيس الخامس والأربعين وسُجّل ماركة تجارية باسمه؟ ثم ما هي خصائص الترامبية وسماتها داخل منحى السياسة الأمريكية وانعكاساتها عالمياً، لاسيّما مستقبل العلاقات الدولية؟ الأمران جديران بالدراسة والتأمل بغض النظر عن "المصطلح" وما يمكن أن يتضمّنه من حمولة فكرية أو سياسية، إذْ يبقى جزءًا من ظاهرة نحاول التعرّف على ملامحها الأساسية:
الملمح الأول-  البزنس، "العمل التجاري" حيث يمثّل جوهر الترامبية فكراً وممارسة، لأنها تقوم على فلسفة توظيف السياسة في خدمة التجارة، وعلى الرغم من أن عدداً من الرؤساء جاءوا من ذات المهنة، لكن ترامب أخضع السياسة للبزنس، وهو لم يتصرّف أكثر من كونه "رجل أعمال" في حين أنه رئيس أكبر دولة في العالم، وقد مضى بسلوكه التجاري شوطاً بعيداً حدّ التطرّف بإخضاع السياسة والعلاقات الدولية  لاعتباراته.
الملمح الثاني- إعادة القرار في السياسة الخارجية إلى البيت الأبيض، بالدرجة الأساسية، وإضعاف ما سواه من مراكز مؤثرة، مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع "البنتاغون" والمخابرات المركزية الأمريكية CIA، ويدلّ على ذلك الإقالات أو الاستقالات لعدد من كبار المسؤولين والأركان في اتخاذ القرار، وربما كان أهمهم وزير خارجيته جيم ماتيس.
الملمح الثالث- إملاء الإرادة على الحلفاء طبقاً لقاعدة امتثالهم له ومشاركتهم "الحيوية" في تنفيذ القرار الأمريكي، سواء كان ذلك يتّفق مع مصالحهم أو لا يتّفق ، وقد أجرى العديد من الرؤساء الأوروبيين تعديلات على سياسة بلدانهم الخارجية تبعاً لمواقف واشنطن ، حتى وإن عبّروا عن تبرّمهم منها.
الملمح الرابع- التخلّي عن قيم الثقافة الأمريكية للحقوق والحريّات التي كانت واشنطن تتباهى بها تقليدياً وأخذت تضيق ذرعاً من انفتاحها، وخصوصاً إزاء المهاجرين، فأغلقت الأبواب وحاولت بناء أسوار لمنع الهجرة.
الملمح الخامس- العزلة والانقسام والتفرّد في السياسة الخارجية، وقد ازدادت واشنطن تدخّلاً بشكل مباشر في اختيار قيادات المنظمات الدولية، فترجّح كفّة هذا وتحول دون وصول ذاك في تصرّفات فجّة ومنفّرة للدبلوماسية الدولية.
   وأخذ المجتمع الدولي ينظر بعين عدم الثقة للسياسة الأمريكية وقراراتها المتفردة فيما يتعلق بالانسحاب من عدد من المنظمات والمعاهدات الدولية مثل: اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ (يناير/كانون الثاني/ 2017) وهي أولى الاتفاقيات التي انسحب منها ترامب، واتفاقية باريس للمناخ (يونيو/حزيران/2017) والانسحاب من اليونسكو (اكتوبر/تشرين الأول/2017) والاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني (مايو/أيار/2018) والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان (19 يونيو/حزيران 2018) وتجميد المبالغ المخصصة للأونروا (آب أغسطس/ 2018) والانسحاب من معاهدة نزع السلاح النووي مع روسيا ( 1 فبراير/شباط/2019) والموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق والاتفاقية الدولية لتنظيم الأسلحة التقليدية (26ابريل/ نيسان/ 2019) وغيرها.
الملمح السادس – ضعضعة التوازن الدولي بخلق الفوضى، لاسيّما بتشجيع الهويّات الفرعية وتفتيت الدول والبلدان وفرض الحصارات وإضعاف الثقة بميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية  بما يزعزع أركان النظام الدولي ويشيع جواً من التوتر وعدم الاستقرار، بما فيه منع أي تقاربات أو تحالفات سواء تخصّ الأصدقاء أو الخصوم، ولعل الموقف من البريكست والاتحاد الأوروبي ، ناهيك عن الموقف من الصين وروسيا خير مثال على ذلك.
الملمح السابع-  الرهان على التهديد بالقوة حتى وإنْ لم تستخدمها، حين تلجأ في الكثير من الأحيان إلى الضغوط الاقتصادية للتأثير على سياسات الدول، العدوّة والصديقة لابتزازها، من خلال هيمنة الشركات الكبرى والسيطرة على الموارد وفرض العقوبات الاقتصادية: روسيا والصين وتركيا وإيران وكوريا وسوريا وقبل ذلك العراق، متجاهلة مصالح الشعوب وما ينجم من ردود فعل بسبب ذلك.
الملمح الثامن – التناقض والتخبّط القائم على المنفعية والذرائعية، خصوصاً بنفي حق الشعوب بتقرير مصيرها والمثال الأصرخ هو فلسطين، حيث تنكّرت الترامبية لسياسات الرؤساء السابقين بمن فيهم: أوباما وجورج دبليو بوش وكلينتون، فقامت بنقل سفارتها إلى القدس، وأعلنت عن "إسرائيلية" الجولان السورية "بحكم الأمر الواقع"، وفي الحالين ثمة تعارض صارخ مع قرارات مجلس الأمن وما يسمّى بـ"الشرعية الدولية".




221
مسيحيو العراق وتراجيديا المصير *
               
د.موفق فتوحي**
fatoohiaaa@seznam.cz


   توطئة
   أود أن أؤكد أن هذه الدراسة تتعلق بتاريخ المسيحيين في العراق قبل وبعد الإسلام والى يومنا هذا، ولا علاقة لها بالمعتقدات الدينية ، فقد وجدت من الضروري تسليط الضوء على ذلك ، لاسيّما ما تعرّض له المسيحيون من اضطهاد وانتهاك وتنكيل في ظلّ هجمة إسلاموية طائفية متعصّبة ومتطرّفة وأعمال عنف وإرهاب تحت مزاعم وأقاويل وشعارات شتى ، ناهيك عن أهداف معلنة ومستترة لاستهدافهم، فضلاً عن أوهام وأخطاء شائعة  ماضوية وراهنة تتعلّق بوجودهم ومواطنتهم ومستقبلهم الذي يُراد به تفريغ المنطقة منهم فمن المستفيد من ذلك وما هي المستلزمات للحيلولة دون حصوله ؟
   ولم يأتِ الحديث عن استهداف المسيحيين من جماعات إسلاموية متطرفة فحسب ، بل ورد صادماً عن مصدر رسمي رفيع المستوى يتعلّق بفهم خاطئ لفكرة المواطنة ولمبدأ المساواة وللشراكة والمشاركة الأساس في قيم العدالة الإنسانية ، وهو ما جاء في كتاب من مكتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي حين وصف مسيحيي العراق بـ"الجالية المسيحية"، الأمر الذي زاد التباساً وغموضاً ولغطاً ، لاسيّما وقد ترافق ذلك مع ما تعرّض له المسيحيون من اضطهاد وتشريد في جنوب وشمال العراق، بدءًا بتهديم دور عباداتهم  وإجلائهم من منازلهم وانتهاءً بقتلهم ورمي جثثهم بالمزابل أو دفعهم قسراً إلى الهجرة.
   ولعلّ ما فعله تنظيم القاعدة الإرهابي وربيبه تنظيم داعش بهم، خصوصاً بعد احتلاله للموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014، وخلال وجوده الذي دام نحو 4 سنوات حتى تم هزيمته عسكريا في نهاية العام  2017، كأنه جاء متساوقاً مع النظرة الدونية لهم ومطالبتهم بدفع الجزية أو الدخول في الإسلام أو الرحيل، وعدا ذلك فإن المقابر ستكون بانتظارهم، على حد تعبير عبد الحسين شعبان في كتابه " المسيحيون ملح العرب" .

   أصل المسيحيين في بلاد الرافدين:

   مسيحيو العراق اليوم قوميا وبمختلف كنائسهم ينتمون إلى خمس قوميات هي: العربية والآشورية والكلدانية والسريانية والأرمينية، وطائفياً  إلى الكنائس الكاثوليكية و البروتستانتية و الأرثوذكسية ويقول المؤرخ البيزنطي اريوس في كتابة معجم الآثار المسيحية في الزيارة التي قام بها في المنطقة الواقعة في ما وراء الفرات بانه وجد له إخوة من المسيحيين و كانت هذا الزيارة في نهاية القرن الثاني و بدايات القرن الثالث الميلادي في حين تشير بعض المصادر "التي لم نستطع التوثق منها" بان أهل بلاد الرافدين قد اعتنقوا الديانة المسيحية في بداية القران الأول الميلادي على أيدي مبشرين جاءوا إلى العراق من بلاد الشام في (عام 224 ميلادية ) بعد إطاحة اردشير الأول الساساني بالحكم الأرشافي وتأسيس دولة السلالة الفارسية الساسنية التي ستحكم بلاد الرافدين إلى أربع قرون ، وقد فوجئ الساسانيون بانتشار المسيحيين في شتى أرجاء بلادهم و بتغلغلهم في مختلف ميادين الحياة، الأمر الذي كان يهدد معتقدات الساسانيين الوثنية و قد جاء ذكر الصراع المسيحي الوثني الفارسي في التاريخ السعردي وفي كتابين احدهما لشابور الأول و الأخر إلى موبير كريتير وقد حفظت في نقش رستم وهذه الآثار موجودة بقرب من برسه بوليس الإيرانية الواقعة أطلالها على بعد خمسين كيلو متر من مدينة شيراز الحالية
   في عهد شابور الأول 241 إلى 272 و هو أعظم ملك في السلالة الساسانية في القرن الثالث الميلادي وكان في بداية عهده متسامحا باتجاه المسيحيين بسبب الظلم والتعسف الذي كان المسيحيون يتعرضون له من قبل أتباع الديانة الزردشتية السائدة بين الساسانين و بالرغم من تسامحه فأنه قتل زوجته لاعتناقها المسيحية وقد ساهم هذا الملك بنشر المسيحية في مملكته من حيث لا يدري و ذلك بواسطة السبايا الذين أتى بهم من المنطقة الرومانية في حروبه الكثيرة مع بلاد بيزنطة فقد غزا منطقة إنطاكيا  "تركيا الحالية" مرتين وجلا الكثير من سكانها إلى بلاد بابل (العراق الجنوبي ) و كان بين السبايا ديمتر بانس مطران إنطاكيا و ذلك سنة 257 ميلادية، وقد ورد على لسان شابور العبارة المحفوظة في نقش رستم:" إننا استولينا على كل الناس و أتينا بهم سبايا و أسكناهم في مملكتنا إيران و فارس وفرثية و هوزتان و اثورستان (منطقة بابل) و في جميع البلدان الأخرى حيث ممتلكات آبائنا و أجدادنا الأقدمين" .
   و توالى ملوك الساسانين بعد شابور و جاء هرمزد الأول 272 _ 273 و برهان الأول 273 – 276  و بهرام الثاني 276 – 293 و بهرام الثالث 293- 303  و هرمزد الثاني 303 – 309 وفي كل هذه العهود كان ياتي ذكر تواجد المسحيين في بلاد الرافدين إلا انه في عهد هرمزد الثاني بدأ المسيحيون في المملكة الساسانية يوطدون و يرسخون شؤون كنيسة المشرق حيث كانت هذه الكنائس مشتتة ولا يجمعها جامع سوى ارتباطات ضعيفة بانطاكيا ولكن سرعان ما أخذ نفوذ أسقف المدائن في الازدياد حتى اعتبر نفسه المسؤول الأول و الأعلى على أساقفة المشرق و المدائن كانت حسب ما هو معروف لدى الجميع عاصمة الساسانيين و هذا يعني بأنة أسقف المدائن اعتبر نفسه الحبر الأعظم على كنيسة الشرق ( بمثابة البابا اليوم ) .
   اضطهاد المسيحيين في الشرق
   بعيدا عن الأساطير التي كانت تقال و تروى عن اضطهاد المسيحيين في قلب الإمبراطورية الرومانية تعرض مسيحيو الشرق لاضطهادات متكررة و كان هذا الاضطهاد يأخذ الطابع السياسي و المذهبي و لكن بتقديري كان الطابع السياسي للاضطهاد هو الأكثر و الأعمق ففي بداية ظهور المسيحية كانت  القوى السياسية و العسكرية في الشرق و العالم هي:

الإمبراطورية الرومانية

الإمبراطورية الفارسية

   وكان المسيحيون منتشرين في هاتين الإمبراطورتين و لم يتعرض المسيحيون في الإمبراطورية الفارسية إلى الاضطهاد إلى بعد ظهور مرسوم ميلانو سنة 313 ميلادية الذي أعلن فيه الملك قسطنطين الكبير قيصر الإمبراطورية البيزنطية شرعية الديانة المسيحية في الإمبراطورية لا بل أشهر هذا الإمبراطور النافذ في عالم ذلك الزمان مسيحيته ويقول دان بروان في كتابه الشهير دافنشي كوود ( لغز دافنشي) الذي أصبح أحد أفلام هوليود الشهيرة كان هذا القرار سياسياً وأمنياً أكثر منه  إيمانا فقد اشتد الصراع المسيحي الوثني في الإمبراطورية البيزنطية مما تطلب تدخل السلطة لحزم هذا النزاع فتدخل الإمبراطور قسطنطين و صاغ ديانة تمزج بين تقاليد و عقائد الوثنين و عقائد المسيحيين و اختار يوم الأحد كيوم مقدس و هو يوم الشمس الذي كان إلها للوثنيين، الأمر الذي أثار ضغينة الملك شابور الثاني 309- 379 فطالب الرومان بإعادة المقاطعات الخمسة الذي سيطر عليهاالرومان في عام 305 – 311 التي كانت جزءًا من الإمبراطورية الساسانية الثانية و سرعان ما تحولت هذه المطالبات إلى خصومات و حروب طائفية و دينية  وقد اشتبك شابور الثاني و قسطنطين في حروب أخذت الطابع الديني و يسجل التاريخ إن الامبراطور قسطنطين اخذ مع جيشه كنيسة متنقلة لإقامة الصلوات أثناء الحملة.
   وقد توفي قسطنطين أثناء الحملة و أكمل ابنه قسطنطين الثاني و انتصر في هذه الحرب وقد انعكست نتائج الحرب على مسيحيي العراق عن طريق فرض الضرائب المضاعفة عليهم برسالة وجهها شابور الثاني بتاريخ 341 ميلادية  إلى رئيس كنيسة الشرق البطريرك مار شمعون و كانت هذه الضرائب قاسية بحيث لم يستطيع الغالبية من أدائها ولهذا السبب بدأ التنكيل بهم و كان من ضحايا هذا التنكيل مار شمعون نفسه مع 130 من أتباعه فقد القي القبض عليهم و اخضعوا إلى التعذيب و اتهموا بالخيانة و التمرد بالضد من الملك و عصيان أوامره و كذلك احتقار النار و الشمس و رفض السجود لملك الملوك ( شابور )  و قد قتل ما شمعون وكان مقتلة بداية اضطهاد المسيحية فكل من صرح بأنه مسيحي ذاق الموت دون استجواب أو محاكمة.
   واستمرّ هذا الاضطهاد في المناطق الشمالية من بلاد الرافدين و بالذات في مدينة بيت كرماي ( كركوك) و اربيل الذي يطلق عليها الفرس حدياب و ذلك لوجود القوات الفارسية على الخطوط مع القوات الرومانية و استمر الاضطهاد في عهد يزدجرد الثاني 438 – 457 وقل زوجته التي كانت ابنته و اخذ يقصي المسيحيين من دوائر الدولة و طلب منهم جحود دينهم و السجود إلى الشمس و إلا سينزل بهم اشد العقوبات .
   و لا أريد أن أطيل في مجال أحوال المسيحيين في ظل الإمبراطورية الفارسية الساسانية إذا إنهم كانوا في حالة مد و جزر في كل عهود الملوك الفرس وقد انتهت معاناتهم بعد مقتل كسرى على يد ولده المولود من أمه البيزنطية واندحار الجيوش الفارسية من قبل الإمبراطور البيزنطي الشهير هرقل في الربع الأول من القرن السادس( 625م) وقد انتهت الإمبراطورية الفارسية بزمن الإمبراطور الساساني يزدجرد الثالث وقائده العسكري الأسطوري رستم الذي لم يستطيع بالرغم من قدراته وذكائه العسكري بقيادة المعارك أن يوقف أو يصد زحف العرب المسلمين الذين استولوا سنة 633 على البحرين وقطر وميسان والحيرة والانبار واحتلوا كل البلاد الواقعة غرب الفرات .
   وقبل أن انهي الكلام عن المسيحيين في العهد الساساني أود أن اذكر بان أتباع هذه الديانة استفادوا لا بل استغلوا الخلل الذي عاشته الإمبراطورية الفارسية فنقلوا مركز ثقلهم من شمال العراق نينوى بالذات أي من دير متى شمال الموصل إلى تكريت وسط العراق.و في (عام 636 ميلادية 15 هجرية) التقى الجيش الفارسي بالجيش العربي الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص في موقع القادسية القريب من الحيرة و انتصر العرب و قتل رستم القائد الفارسي و قد اتخذ المسيحيون ظاهريا الموقف المحايد ولكن بالسر ساعدوا الجيش العربي الإسلامي و شارك الكثيرون منهم في القتال مع الجيش العربي الإسلامي .

المسيحيون في العهد الإسلامي العربي

تميّز فجر الإسلام بوجود ثلاثة إمبراطوريات هي:
الفارسية
والبيزنطية
والحبشية

   و كانت الديانة السائدة في الإمبراطورتين البيزنطية و الحبشية هي المسيحية في حين كانت الديانة الزردشتية سائدة في الإمبراطورية الفارسية،  و كانت الإمبراطورية البيزنطية تسيطر على القسم الشمالي من الشرق الأوسط و آسيا الصغرى و يورو آسيا و بلدان الدانوب و الجزء الأكبر من أوربا الغربية  و البلاد الأفريقية الواقعة جنوب البحر المتوسط أما الإمبراطورية الفارسية فتسيطر على أعالي وادي الرافدين حتى المحيط الهندي . و كانت الحدود التي تفصل بين هاتين الإمبراطورتين واهية و كثيرا ما كانت تثار بينهما الحروب و النزاعات، الأمر الذي أنهك هاتين الإمبراطورتين في المرحلة الأخيرة من عمرهما أي سنوات حروب كسرى الثاني الفارسي و هرقل البيزنطي الروماني .
   في حين كانت الجزيرة العربية و خاصة قلبها بعيدة عن هذه الأحداث و منطوية على ذاتها و منشغلة بنزاعاتها القبلية أما ديانة ساكني الجزيرة العربية السائدة قبل الإسلام في ذلك الوقت  فهي أشكال متنوعة من الوثنية الشرقية المرتكزة على عبادة الشمس و القمر و الكواكب و كذلك الديانة التوحيدية التي كانت تدعى بالحنفية و قد تطورت هذه المعتقدات إلى عبادة القوى الخفية المتمثلة بالحجارة .
   و قد كان الحجر الأسود المحفوظ بالكعبة كرمز لوجود القبائل العربية و كعلامة للحفاظ على الوحدة بين القبائل و الحفاظ على شعورهم بالانتماء إلى عرق مشترك و على هذا الشعور الجماعي العميق بنا النبي محمد بالإسلام امة عربية إسلامية متحدة و كانت الكعبة موجودة منذ القرن الثاني قبل الميلاد و تقع قرب بئر زمزم الذي كان محطة طبيعة لتوقف البدو للتزود بالماء و قد وضع الحجر الأسود و حفظ بالكعبة الذي أضحى موضع الإكرام و العبادة لأصله السماوي وقد أصبحت الكعبة في القرن السادس الميلادي مركزا زاخرا بالأصنام حيث وضعت كل قبيلة معبودها وأصبحت الإلهة على عدد أيام السنة وذكر القرآن أسماء الآلهة في سورة النجم( أفرأيتم اللات  و العزة و مناه .....الخ)      و قورنت اللات بآلهة الشمس و العزة بافروديت ويلاحظ المؤرخون بان تعدد الآلهة قد تطور تحت تأثير المسيحية و اليهودية إلى نوع من التوحيد.
   و إلى فكرة الإله فوق سائر الآلهة و كان الاسم الذي أطلق على كبير الآلهة هو هبل (أصل الكلمة هو هبعل أي بعل الإله في اللغة الآرامية) .

المسيحية في الجزيرة العربية
   دخلت المسيحية إلى اليمن في القرن الثالث الميلادي و قد يكون دخولها انطلاقا من الحبشة و هناك عدة أساطير تنسب التبشير بالمسيحية في السواحل الجنوبية للجزيرة العربية إلى الرسل متى و توما و هناك من يعتقد بان المسيحية دخلت إلى اليمن و نجران من سوريا و بلاد مابين النهرين و أن اللغة السريانية كانت اللغة الطقسية فيها و مع هذا فلم تكن الكنيسة في اليمن منظمة و لم تشمل جميع القبائل العربية و في نجران كان طبقة برجوازية (غنية) من المسيحيين النساطرة تدفع الجزية إلى الملك الحميري .
   أما في الحجاز فيشير الطبري وابن هشام و ابن خلدون إلى تواجد المسيحيين فيها و يروي الطبري أن مسلة جنائزية اكتشفت قديما في جبل عقيق القريب من المدينة تحمل حروف سريانية كانت تعلو احد قبور رسل المسيح .

   و كانت تبوك حصنا يسكنه نصارى  قضاعة و جاورهم بني كلب من قبيلة تغلب النصرانية و في غزوة تبوك لم يتمكن النبي محمد و المسلمون من اقتحامها لحصانتها فحاصروها عشرون يوما ثم قفلوا راجعين عنها، أما يثرب فقد كانت شبه يهودية في حين كانت مكة مدينة للتعايش بين القبائل العربية و كانت قريش تشكل نواة سكان مكة و تتعايش شتى الأديان و المذاهب فيها أما السلطة فلم تكن بيد احد بل بيد مجالس تبت في الأمور حسب أهميتها وقد أخذت مكة أهميتها لوجود الحجر الأسود هذا المركز الديني الهام الذي يستقطب القبائل العربية مهما كان انتمائها الديني أو المذهبي و كانت إضافة إلى المركز الديني المركز التجاري الأهم إذ كانت القبائل المختلفة تأتي إلى الحج و التجارة في إن واحد و مثال على ذلك كان هناك شعراء مسيحيون مثل عدي بن زيد و الأعشى كانوا يقسمون أمام الحجر الأسود برب مكة و الصليب في إن واحد، وكان اليهود أيضا يكرمون هذا المعبد و يعيدون تاريخ تشيده إلى جدهم الأكبر إبراهيم الخليل و كانت منذ تلك العهود القديمة ترتفع في قلوب العرب عقيدة بموجبها إن الإله الذي عبده إبراهيم و إسماعيل هو الربّ الأعلى إلى السماء و الأرض و الخالق الذي هو ربّ العالمين و المسيطر على جميع آلهة المعبد هذه العقيدة التي بلورها النبي محمد بشعره السياسي الديني.
   و كانت المسيحية كما أسلفنا قد تغلغلت في الجزيرة قبل ظهور الإسلام في قلبها و في مناطقها الحدودية ( اليمن و بلاد الشام و بلاد ما بين النهرين ) و يقول ابن قتيبة  إن النصرانية كانت في ربيعة و غسان و بعض قضاعة، و يشهد الجاحظ فيقول كانت النصرانية قد وجدت سبيلها في تغلب و شيبان و قضاعة و سليح و العباد و تنوخ و لخم (كتاب الحيوان للجاحظ) و بالرغم من هذه الشواهد إلا أن المسيحية كمعتقد لم تترسخ في نفوس العشائر العربية حتى أن حسب قول الأب ألبير توما في كتابه تاريخ الكنسية السريانية يقول إن شخصا لعب دورا هاما في تاريخ العرب المسلمين و هو الأمام علي ابن أبي طالب قال عنهم "أنهم لا يعرفون من دينهم المسيحية سوى إنها تسمح لهم بشرب الخمر و أكل لحم الخنزير فكانت مسيحيتهم سطحية و ضحلة" وهذا يعني بان الأمام علي كان ضليع في فهم المبادئ الأساسية التي تقول عليها المسيحية .

المسيحيون العرب في بلاد مابين النهرين
   بعد انهيار سد مأرب في أواخر القرن الأول الميلادي الأمر الذي أدى إلى نزوح القبائل العربية و قد اتجهت  القبائل نحو المناطق الشمالية الشرقية و كان بين النازحين رهط من أولاد معن بن عدنان  الذين وصلوا ارض الرافدين و كان معهم أبناء من قبيلة قضاعة و اتفقوا مع أفراد من قبائل الأسد و تحالفوا معهم و سمي هذا التحالف بتنوخ و أسسوا مملكة التنوخين الأولى في القرن الثاني الميلادي و أعقبهم اللخميون في بدء العهد الساساني و دام حكمهم حتى مجيء الإسلام و سميت مملكتهم بمملكة التنوخين او اللخميين او المناذرة و كانت الحيرة عاصمة هذه المملكة و تقع جنوب الكوفة و اختلف المفسرين لمعنى كلمة الحيرة إلا إن أكثر التفسيرات تقول إن أصل الكلمة حيرتا و هي كلمة أرامية و تعني الحصن أو المعسكر أو الدير و عرفت الحيرة بمعالمها المعمارية و يذكر التاريخ قصر الخور نق و كان هذا القصر يشرف على النجف الأشرف و ما يليه من بساتين و يعتقد إن الخورنق اسم فارسي يعني موضع الأكل و الشرب و اللهو و دامت المملكة التنوخية و اللخميون المناذرة من عام 138 ميلادية و لغاية 628 ميلادية و حكمها 26 ملكا و كان ابرز ملوكها النعمان بن المنذر.
   و قد افتتح خالد ابن الوليد الحيرة في العام 623 ميلادية و أصبحت الديانة السائدة في الحيرة هي المسيحية و يقول الطبري إن امرؤ ألقيس الأول 288-328 ميلادية هو أول من تنصر من اللخميين بينما يقول ابن خلدون ان النعمان ابن الشقية  ( الأعور) 402- 431 هو اول من تنصر من ملوك المناذرة و هو الملك التاسع و قد أصبحت الحيرة منذ القرن الخامس الميلادي  مركزا دينيا هاما بالإضافة إلى كونها مركزا مرموقا للتجارة و الثقافة  وقد شيدت فيها كنائس جميلة و مزخرفة بالنقوش وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير "الأغاني" عن بيعة توما و كنيسة الباعوثه و بيعة دير اللج و كنيسة دير هند و قد كشفت التنقيبات الأثرية بعض هذه الآثار و قد سمعنا مؤخرا بان التنقيبات الأثرية قد كشفت أطلال كنيسة في مدينة النجف .
المسيحيون في العراق و الإسلام
 
   قبل أن أتحدث عن العلاقة التاريخية بين الإسلام و المسيحية في العراق أود أن أبين مدخلا إلى الظروف و الأسباب التي أدت إلى نجاح الفتوحات الإسلامية كما ذكرها المؤرخ فيليب حتى في كتابه الموسوم تاريخ العرب صفحة 143 الطبعة العربية
أولا- إن فارس و بيزنطة كانتا قد وهنتا بسبب الحروب التي استمرت بينهما أجيال طويلة مما أدى إلى إرهاق رعاياهما بالضرائب القاسية.
ثانيا- استيطان القبائل العربية فبل الإسلام في بلاد الشام و ارض النهرين و في المناطق الواقعة على حدود الهلال الخصيب.
ثالثا- ظهور الخلافات داخل الكنيسة المسيحية حيث نشأت النسطورية في العراق و فارس و المنوفيزية في سوريا و مصر مع ما لابس ذلك من عداوات طائفية خاصة عندما بدء البيزنطيون يضطهدون المنشقين عن كنيستهم.
رابعا- كان الروم قد أهملوا تحصيل الثغور بعد غزوة مؤته الواقعة شمال البتراء التي انتصر فيها عرب الشام الأمر الذي أبطل القائد الروماني هرقل دفع الهدايا التي كان يوزعها على قبائل الشام العربية إضافة إلى أن الأقوام العربية الساكنة في الشام يعتبرون الفاتحين قوم من بني جنسهم .
   و قد استقبل مسيحيو بلاد الرافدين الفاتحين العرب المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين بايجابية لا بل ساعدهم على الانتصار بسبب معاناتهم و لقرون من عسف العهود الفارسية الساسانية على مدى خمس قرون و قد ساهم في صفوف جيوش الفتح الإسلامي قبائل عربية نصرانية من الحيرة و من مناطق أخرى حقدا على إجرام الفرس الساسانيين وكان العرب المسلمين الفاتحين يخيرون النصارى بين قبول الإسلام أو دفع الجزية و قد دفع أجداد مسيحيو العراق المعاصرين الجزية و احتفظوا بديانتهم و مما لا شك فيه من لم يكن له قدرة أو من لا يريد دفع الجزية قد اسلم و أنهى المشكلة .
   و على هذا المبدأ تعايش المسيحيون مع المسلمين في عصر الخلافة الراشدية وكذلك الأموية و تأكيدا على دور المسيحيين في العهد الأموي كان شعراء بني أمية الكبار جرير و الفرزدق و الأخطل ثالوث الشعر في العصر الأموي و كان الأخطل و هو أعظم هذا الثالوث نصرانيا و قد تمتع أهل الكتاب أي النصارى و اليهود و الصابئة في العصر الأموي بوافر الحرية لقاء تأديتهم الجزية و الخراج و ارتبطت قضاياهم في الأمور الدينية و المدنية برؤسائهم الروحانيين و لم تطبق عليهم الشريعة الإسلامية و مع هذا التسامح لم يمنع حدوث حالات استثنائية كتلك التي أمر بها الوليد الأول 705 – 715 بقتل زعيم بني تغلب القبيلة العربية المسيحية لأنه ابا ان يعتنق الإسلام ( كتاب الأغاني ص 99)
   و قد فرض الخليفة عمر بن عبد العزيز قيوداً صعبة على رعاياه المسيحيين إلا أن هذه القوانين لم يعمل بها طويلا حيث أمر خالد بن عبد الله العزي عامل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الرابع  على العراق ببناء كنيسة لأمه المسيحية تتعبد بها كما انه منح النصارى و اليهود حق بناء المعابد و الكنائس ( كتاب الأغاني ص 99) وللعلم و في العام 886 ميلادية دخلت الفلسفة الفكر الإسلامي و ظهر مذهب المعتزلة و القدرية و كان ذلك خلال سنوات العهد الذهبي العباسي أي خلال خلافة هارون الرشيد و أبنائه الأمين و المأمون و المعتصم و الخلافة العباسية دامت 508 من 750 ميلادية الى 1258 ميلادية و في عهد العباسيين انتهت الخلافة العربية الإسلامية لتكون خلافة لأقوام المسلمين من كافة القوميات خاصة العربية و الفارسية و التركية.
   والحقيقة إن المؤسس الحقيقي إلى الخلافة العباسية كان أبو جعفر المنصور الذي بنى مدينة بغداد سنة 758 ميلادية و قد كانت قرية صغيرة في عهد الساسانين ومعناها "عطية الله" و قيل إن الاسم من(باغ) بستان و( داد) الإله وهو أسم فارسي أو إنه أسم مركب من(بيث) مكان و(غداد) الحظيرة أي موضع الحظيرة و هي تسمية آرامية و في نظر الكنيسة الشرقية كان تأسيس مدينة بغداد يعني أنها ستعيد مركزها التقليدي في الأرض الآرامية (بيث ماري ) و كانت الأرض التي أراد الخليفة أن يبني فيها مدينته لتكون زاخرة بالأديرة و كان للرهبان دورا كبيرا في الأساطير الدائرة حول التنبؤات عن تأسيسها.
   شرع المنصور في عام 762 ميلادية في بناء مدينة بغداد و استغرق بنائها 4 سنوات و صرف عليها بما يعادل 18 مليون دينارا و استخدم نحو 100000 مهندس وعامل  و أهل المعرفة بالبناء و سميت بالإضافة إلى بغداد بمدينة السلام و المدينة المدورة وأكثر الحجارة التي دخلت في بنائها نزعت من أنقاض طاق كسرى و في 7 تشرين أول سنة 775 ميلادية و توفي المنصور و هو في طريقه إلى الحج و حفر له 100 قبر تضليلا لأعدائه لئلا يمتهنوا قبره.
   و منذ مجيء المنصور لسدة الخلافة و مرورا بهارون الرشيد و أبناءه الأمين و المأمون و المعتصم كانت الحياة الفكرية مزدهرة و من ضمنها الدينية اذ انه و خلال تلك الحقبة الذهبية كان الجدل الفكري قائما بين أهل السنة و الشيعة و المعتزلة، فظهر أبي حنيفة النعمان( توفي سنة 767 ميلادية) و ابن حنبل( توفي عام 855ميلادية) ثم البخاري الذي توفي في البصرة( عام 878ميلادية) و استنبط كل منهم طريقته الخاصة بتفسير القران و الشريعة فانبثقت المذاهب الأربعة المعترف بها  وغير المعترف بها كالمعتزلة و الشيعة و كان اخطر هذه المذاهب هو مذهب المعتزلة الذي يؤمن بالعقل ويقول بان القرآن مكتوب و غير منزّل و كل شي في القران لا يفقهه العقل لا يعترف به و في هذه المرحلة الخطيرة من تطور الفكر الإسلامي دخلت الفلسفة بجنب علم الكلام .
   و قد استفادت الفئات غير المسلمة من هذه الحرية الفكرية و كان المسيحيون يمتازون في ذلك الوقت بمستوى ثقافي ملحوظ و كانوا من أهل العلوم و الحرف و حسن التكلم باللغات غير العربية كالسريانية و الآرامية و اللاتينية و كان منهم و الفلاسفة و الأطباء و الفلكيين.
   ودخلت كنيسة المشرق عصرا جديدا بمجئ العباسيين للحكم وقد استعان الخلفاء و الأمراء المسلمون بأبناء هذه الكنيسة و يعتبر المؤرخون المسيحيون بان العصر الذهبي العباسي كان عصرا ذهبيا لإتباع هذه  الكنيسة الذي كان من احد أهم أدوارهم هو نقل و تعريف الثقافة و الفلسفة الإغريقية و العلوم الغربية إلى المجتمع العباسي آنذاك و يقول المسعودي في "مروج الذهب" جزء 3 صفحة 379  جمع البرامكة حولهم العديد من المترجمين النصارى و في عهدهم أي البرامكة تأسست خزانة الحكمة التي أصبحت في عهد المأمون نواة لأكاديمية الترجمة التي عرفت بدار الحكمة.
   و كان أشهر أطباء العهد العباسي جبريل بن بختيشوع و ماسويه الذي عالج هارون الرشيد من مرضه و أصبح أول مدير لأول مستشفى في بغداد و صار ابنه يوحنا ماسويه (أبو زكريا ) رئيس المترجمين في عهد المأمون ) و سعى الرشيد لجمع المخطوطات و شرائها من المنطقة البيزنطية و كان للمسيحيين الدور البارز في شراء هذه المخطوطات و ترجمتها إلى العربية و كان أشهر المترجمين هو حنين بن اسحق ( 810- 873 ) م و هو أهم من نقل العلوم الإغريقية إلى العربية .
   وللعلم  كان الطب في بلاد مابين النهرين يرقى إلى عهود موغلة في القدم فقد اهتم به السومريون و البابليون و الأشوريون و ازدهر الطب في العهد العباسي و فتحت و أسست المستشفيات و كانت كتب جالينوس الإغريقي تشكل أساسا للمنهج الطبي و قد ترجم حنين بن اسحق الكثير من الكتب الطبية من السريانية إلى العربية في دار الحكمة و كانت شهرة الطب المسيحي المنبثق من مدرسة جند بسابور من السعه بحيث أصبح عامة الناس تعتقد بان المسلم ليس بإمكانه أن يصبح طبيبا ماهرا و هذا ما قاله الجاحظ في كتابه "البخلاء" (سأل احدهم الطبيب المسلم اسعد بن جاني هذه السنة وبأه و الأمراض متفشية و أنت عالم ولك  بيان و معرفة فمن أين يأتي هذا الوباء و لا تستطيع إيقافه . قال: واحدة فاني عندهم مسلم و قد اعتقد القوم قبل أن أتطبب لا بل قبل أن اخلق إن المسلمين لا يفلحون بالطب و اسمي اسعد وكان ينبغي إن يكون صليبا....)
   و كانت سلالة جرجس بن جبريل و ابنه بختيشوع بن جرجس و أولادة و أحفاده العشرة أشهر أطباء العصر الذهبي العباسي إضافة إلى أطباء كثر لا يسمح المجال لذكر أسمائهم و لأبد من الإشارة إلى أن المسيحيون في العهد العباسي كانوا أيضا في مد و جزر و لعل اخطر جزرا عايشوه هو عهد الخليفة المتوكل و هو الخليفة العباسي العاشر ( 747 – 861 م) وكان سنيا متعصبا وفي سنة 850 ميلادية اصدر أمرا بهدم ضريح الحسين في كربلاء ثم أقام قاضيا سنيا و منع دراسة علم الكلام و تعليمه و قد اشتهر بموجات غضبه التي كانت تنصب على المسيحيين و المسلمين و لقي أهل الذمة منه الكثير من الظلم و الأذى ويقول المسعودي في مروج الذهب بان الخليفة المتوكل اصدر أمرا بتأثير من المعمم الفتح بن خاقان التركي الأصل من شقين يقضي الأول بمعاقبة المسيحي و الذمي الذي يخرق العهود إذا تهجم بالأقوال على المسلمين أو على القرآن أو على النبي محمد و مارس أي ظلم على أي مسلم سواءً عليه كشخص أو على ممتلكاته أو أمواله و ممارسة أي صلة بامرأة مسلمة ولا فرق إن كان للزواج أو للفجور و مساعدة أعداء المسلمين أما الثاني فهو منع قرع النواقيس وعدم عرض الخمور و الخنازير و الصلبان أمام الأنظار و منع ركوب الخيل و استمال السرج إلى ركوب البغال و الحمير و منع استخدام أسماء و ألقاب إسلامية.
   و نتيجة لهذه القوانين اعتنق الإسلام الكثير من المسيحيين و غيرهم من أهل الذمة تخلصا من الظلم و التعسف و كانت هذه الأحوال مؤشرا إلى بدايات السقوط إلى الخلافة العباسية فقد كان الخلاف قائما بين العرب المسلمين و غير العرب المسلمين و كان يطلق عليهم "الشعوبيين" و "أهل الذمة" و كان العصبية القبيلة متأصلة في نفوس العرب، وكان هناك صراعا بين الشمال و الجنوب و لم يكن هناك انسجاما و لو بالحد الأدنى بين مكونات المجتمع العباسي كان هنالك صراعا بين الفرس و الأتراك الطورانيين و البربر الحاميين و العرب الساميين وظهر ضمن الدين الإسلامي نفسه نزاعات طائفية أدت إلى تمزيق الأواصر العامة التي تجمعهم و من هذه النزاعات كان بروز الشيعة و القرامطة و جماعة الحشاشين و اجتاحت أراضي الإمبراطورية العباسية ثورات مثل ثور الزنج و الثورة المزدكية ذات الطابع الاجتماعي و قد سقطت بغداد في عام 1258 ميلادية بعهد الخليفة المستعصم وبعد دخول هولاكو بغداد و خسر الخليفة المستعصم المعركة الأساسية وحاول أن يصل إلى حل سلمي بعد فوات الأوان فأرسل وزيره ابن العلقمي مع رئيس الطائفة المسيحية النسطورية للمفاوضة و الصلح و لعل سبب اختياره لرئيس الطائفة النسطورية هو إن زوجة هولاكو كانت  مسيحية و تدعى دقوس خاتون إلا إن هولاكو رفض مقابلتهم و أمر بانتهاك مدينة بغداد مما اضطر الخليفة المستعصم إلى تسليم نفسه إلى هولاكو دون قيد أو شرط ولكن هولاكو أمر بقتل الخليفة و من استسلم معه.
   و كان هولاكو وثنيا و لكن نكاية بالإسلام و ارضاءً لزوجته المسيحية و بدوافع سياسية و أمنية اظهر بعض العطف على المسيحيين و اليهود و بالرغم من حماية زوجة هولاكو لمسيحيي العراق في ذلك الزمان إلا أنهم لم يكونوا في وضع مستقر بل غالبا ما شاطرو إخوانهم المسلمين بنفس المصير و تعرضوا إلى القتل و النهب من قبل السلطات المغولية.
   و استمر حال المسيحيين في العهد العثماني بين مد و جز أيضا وكان الظلم يمارس على كل رعايا السلطنة العثمانية وقد قام السلطان مراد الرابع ( 1623 _1640) بإصلاح واسع النطاق و كان من القرارات المثيرة غلق المقاهي و منع التدخين و إغلاق أماكن شرب و بيع الخمور .
   وأصدر فرمانا خاصا يقضي على الفئات غير المسلمة بلبس الغبار و هو لباس خاص يميز الذمي عن المسلم و خلال هذه القرون الطويلة كانت الأقلية المسيحية بمختلف كنائسها تبحث دوما عن الطرق الكفيلة التي تحفظ كيانها و استمرارية حيويتها و نشاطها و قد تعرضت لكثير من الانتهاكات من جراء التغيرات المستمرة على الأنظمة السياسية

المسيحيون بعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921

   كان من نتائج الحرب العالمية الأولى سقوط وتفككّ الإمبراطورية العثمانية و ووقوع الولايات العراقية الثلاثة تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية التي كانت متحالفة مع الشريف علي بن الحسين( شريف مكة) الذي تعاون مع الإمبراطورية على وعد منها بإقامة الدولة العربية الموحدة و لكن الأمور سارت وفق المصالح البريطانية و حدث ما حدث وليس هو موضوعنا في هذا المجال.
   وكانت نتيجة لما حدث هو التوليفة العراقية الحالية التي تحققت بعد إرهاصات دامت ثمانية سنوات 1917 – 1925، من انتهاء الحرب العالمية الأولى وأربعة سنوات من تأسيس الدولة العراقية الحديثة (عام 1925 ) الذي وصفها السياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل حيث قال " ولد العراق في ساعة مجنونة" و يقول د. عبد الخالق حسين في مقاله الذي نشرته صحيفة عراق الغد الالكترونية الموسومة "العراق و الانتخابات الأمريكية": إن الدولة العراقية الحديثة بنيت أساسا  على التمييز الطائفي و العرقي امتداداً لنهج الحكم العثماني و كان عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قد نبّه و حذر مراراً منذ الخمسينيات من القرن الماضي بان هناك بركانا تحت السطح سينفجر يوما ما  , ما لم تتخذ الحكومات إجراءات و وطنية حقيقية مناسبة  لتلافي الكارثة و قال نصا في كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" ( ص 382- 383 ) ما يلي :
   " إن الشعب العراقي منشق على نفسه و فيه من الصراع القبلي و الطائفي و القومي أكثر من أي شعب عربي آخر باستثناء لبنان و ليس هناك طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم و على أهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية و هذا هو أوان الاعتبار فهل من يسمع" .
   لقد كان مسيحيو العراق يتبنون إستراتيجيتين و واضحتين الأولى هي إستراتيجية الكنيسة أي السلطة الدينية بمختلف طوائفها و هذه الإستراتيجية منطلقة من الحكمة التي قالها المسيح قبل ألفي عام ونيّف و هي ( أعطي ما لقيصر لقيصر و ما لـ لله لـ لله)  أي معناه مجاراة الحكومة الرسمية و محاولة الحصول على ما يمكن عليه من مكاسب خدمة لإتباعها و مريديها و عدم التدخل في الشأن السياسي، بل النشاط في مجال تقديم الخدمة الاجتماعية و المساعدات الإنسانية للناس مهما كان الانتماء الديني و القومي .
   أما الإستراتيجية الثانية فهي إستراتيجية المسيحيين كمواطنين عراقيين أصيلين و مخلصين لبلدهم و تتمثل هذه الإستراتيجية برفع جميع الحواجز بينهم و بين إخوانهم في الوطن، سواءً كانوا على دينهم أو طائفتهم أو من غيرها والمساهمة الجادة في النشاط السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي يخدم تقدم الوطن و عزته و تسخير إمكانياتهم لخدمة البلد، وقد ثمن هذا الدور المؤرخ والعالم العراقي سيّار الجميل في مقاله المهم  الموسوم وقفة تاريخية عن دور المسيحيين العراقيين الوطني و الحضاري و لحسن الحظ إن الموجة الدينية السياسية الضيقة السائدة في يومنا هذا لم تغري أي مسيحي لإقامة كيانات سياسية طائفية تستغل الدين و الطائفة لتحقيق مكاسب سياسية كما هي الموضة السائدة هذه الأيام، بل إن أغلبية العاملين في الحقل السياسي من المسيحيين كانوا و لا يزالون يعملون في إطار الأحزاب الوطنية العلمانية.
    و لقد ذكر الجميل في مقاله المشار إليه أعلاه أسماء لامعة من المسيحيين لعبت دورا في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي مثل الياس بن حنا الموصلي الذي انطق من بغداد إلى روما و إلى أمريكا الشمالية و كان أول رحالة من الشرق يصل العالم الجديد و كذلك العالم يوسف عتيشة الموصلي المولد عام 1599و الرحالة خضر بن الياس الموصلي 1679 – 1755  الذي كتب رحلة من الموصل إلى روما و بسبب تواجد البعثات التبشيرية الفرنسية تحول الكثير من مسيحيي العراق إلى المذهب الكاثوليكي و أعلنوا اتحادهم بكنيسة روما المركزية رسميا و بهذا الأعلام أصبح بابا روما هو الحبر الأعظم إلى أغلبية مسيحيين العراق .
   برغم من عهود القهر المار ذكرها فقد تعايشت الثقافتين الإسلامية و المسيحية في العراق واستطاعتا التغلب على المصاعب التي كان يؤججها متطرفو الطرفين بين الحين و الأخر و كان لكل منهما خصوصيتها و أدواتها، ففي الوقت الذي كان العلماء و الاختصاصيون المسلمون العراقيون ينشطون باسطنبول كانت أديرة الموصل تنشر العلم في الموصل و بقية الولايات، و قد ذكر سيار الجميل بأنة كشف عن سجلات مهمة تبرز اتصالات أدبية كانت تجري بين أدباء عراقيين و لبنانين في القرن التاسع عشر و اتضح من هذه المراسلات إن العراق عرف المطابع منذ عهد طويل عل أيدي المسيحيين العراقيين، و قد أسس هؤلاء مدارس تعلم فيها المسلمون و المسيحيون و بقية العراقيين و يكفي بروز العلامة اقليمس يوسف داود 1890 – 1925 و كان بحرا باللغة العربية، إضافة إلى اللغات الأخرى و ألف 85 كتاب في مختلف العلوم و قد انتخب عضوا عاملا في الجمعية الأسيوية الملكية البريطانية عام 1890  و يؤكد الجميل بأنة لا يبالغ عندما يقول بان العراق هو الموطن الحقيقي للمسيحية الشرقية و إن مدينة الموصل هي مركز لاهوت الشرق على الإطلاق نظرا إلى ما اجتمع بها من مطرا نيات و كنائس و أديرة
   و لعل ما يؤكد هذا القول هو رسم بطرياك طائفة الكلدان الكاثوليك عمانوئيل يوسف دلي كاردينال و حسب علمي بأنه الكريدنال الوحيد في العالم العربي و كان هذا التكريم قبل أقل من سنة.
   لقد كان ولا يزال لمسيحيي العراق مكانة اجتماعية مرموقة في نهايات العهد العثماني وفق ما تعهدت به السلطنة العثمانية في خط شريف همايون وقد انتهج الحكم الملكي المؤسس في عام 1921م خطاً يضمن حقوق هذه "الأقلية" الصامدة بالمشاركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الدولة والمجتمع فكان منهم عددا من الوزراء والنواب والمدراء العامون وضباط الجيش والمحامين والقضاة.
   واقتطف هنا مرّة أخرى من الدكتور سيّار الجميل "سنة 1963 عند مجيء البعثيين وعبد السلام عارف إلى حكم البلاد بدأت تحولات من نوع آخر بعد أن هيمنوا بالقوة وبانقلاب دموي على أمتداد40 سنة" وخصوصاً عندما ابتدأ العزف الجديد على كل من اسطوانتي "القومية الشوفينية" وبأساليب مرعبة وعلى "التعصب الديني" بأشكال مثيرة وبدائية، فانكمشت المشاركة الفعلية للمسيحيين العراقيين وبدأت عمليات الهجرة تأخذ لها مديات واسعة وخطيرة وللأسف الشديد ازدادت في هذه الأيام الأخيرة بسبب السياسات الحزبية الضيقة والطائفية التي أصبحت في أيامنا هذه شكلا من إشكال السياسة الرسمية للدولة العراقية الحديثة بعد العام 2003.
   أما الدور السياسي لمسيحيي العراق فيجب أن نذكر أسماء لامعة في الحركة السياسية العراقية مثل: داؤود يوسفاني الذي كان له دور أيام الاتحادين وبداية تشكيل العهد الملكي ونيقولا عبد النور ورؤوف الوس والشخصية الشيوعية البارزة يوسف سلمان فهد ورفاقه في الحزب الشيوعي العراقي آرا خاجادور ويوسف متى وشخصيات في الحزب الوطني الديمقراطي مثل الشهيد كامل قزانجي وخدوري خدوري ونائل سمحيري وكان الأخيران نائبين في البرلمان العراقي عن الحزب الوطني الديمقراطي.
   ولا يفوتني أن اذكر وأنا بصدد إنهاء هذا السجل بعض الأسماء اللامعة مثل الأب انستاز ماري الكرملي الذي يعتبر من ابرز علماء اللغة العربية والذي ساهم مساهمة جدية باغناء اللغة العربية ومجلته المشهورة والمعروفة بلسان العرب وكانت علامة بارزة في تاريخ النهضة العربية وقد ساهم مسيحيو العراق في الحقل الصحافي حيث ساهموا منذ نشأة الصحافة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ولا يزالون.
   ولا بد أن نذكر أسماء لامعة في هذا المجال أصدروا الصحف وكانوا رؤساء تحريرها ومحرريها مثل روفائيل بطي وتوفيق سمعاني وفتح الله سرسم  سليم حسون وفائق بطي .
   أما في مجال العلم فلابد من ذكر أسماء لامعة ليس على نطاق العراق بل على نطاق العالم العربي والعالم مثل د.متى  عقراوي أول رئيس لجامعة بغداد والمؤرخ مجيد خدوري والأستاذ فؤاد سفر والدكتور وليد خدوري والدكتورة روز خدوري والباحث بشير فرنسيس.
   أما في المجال الرياضي فلا بد من ذكر أسماء عمو بابا ويورا وباسل كوركيس وأكرم عمانؤيل وعمو يوسف وشدراك يوسف وناصر جكو وكوركيس إسماعيل وأيوب اوديشو.
   وقد ساهم مسيحيو العراق في النهضة الثقافية والفنية والأدبية ويكفي إن نذكر أسماء منير بشير واخيه جميل بشير وسيتا هاكوبيان وعازفة البيانو العالمية بياتريس اوهانسيان والشاعر الفريد سمعان ويوسف متى وناظم بطرس المذيع الاول في اذاعة بغداد والمخرج عوني كرومي والمخرج عمانوئيل رسام والشاعر جان دمو وسركو بولص والمصور أرشاك والمغنيتين الشهيرتين عفيفة إسكندر وأختها أنطوانيت اسكندر والمغنية الخالدة زكية جورج.
   وقبل أن أختتم هذه الدراسة أود أن اطرح إشكالية خطيرة تعيش معنا منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وهذه الإشكالية هي هل المسيحيون "أقلية" ؟ أو أن ما نعيشه الآن من صراع طائفي هو مرض زرعه الأجنبي في بلادنا ولا استثني بالدور الأجنبي هذا أي قوة خارجية لها مصالح في العراق وأعني إيران والولايات المتحدة ودول الجوار العربي، وغير العربي وسبق أن أشرت إلى ما ذكره الباحث الدكتور علي الوردي توصيفاً للمجتمع العراقي، وأرجو أن يكون الحوار بعيداً عن الطائفية والتحزّب السياسي والديني، وأن يتّسم بالعقلانية ويبتعد عن العدوانية، كما أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح الظلم الكبير الذي وقع على هذه الشريحة الأصيلة من المجتمع العراقي، بل أهل البلاد الأصليين، الذين أصبحوا هذه الأيام في قاموس بعض رجالات الحكم الحالي محوراً لتناقل الإخبار وللتسلية أحياناً "للقيل والقال"، وبصفتي مواطناً عراقياً فإنني لست جزءًا من "جالية" مثلي مثل غيري من العراقيين بغض النظر عن الدين والقومية واللغة والجنس والانحدار الاجتماعي والمعتقدات الفكرية، والكل كما يفترض وحسب الدستور "مواطنون عراقيون" لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، فالمسيحيون هم عراقيون أقحاح مصرّون على تقديم كل إمكانياتهم لخدمة هذا البلد العزيز على قلوبنا جميعاً، كما آمل أن يصل كلامي هذا إلى حكومتنا الوطنية لعلها تنصف شعبنا المناضل بكل قومياته وأديانه وطوائفه وتمنحه حقوقه بالكامل وتكف عن طلبها منهم تقديم الواجبات كما قال الصديق محمد سعيد الصكار في دعائه (اللّهم امنع الحكام عن الطلب من رعاياهم القيام بالواجبات فقط وسهل منحهم الحقوق).
   وقبل أن أختم هذه الدراسة بودي أن أنوه بالجهد الذي بذله عدد من المثقفين والحقوقيين العراقيين في الدفاع عن المسيحيين في محنتهم وما تعرضوا له من قسوة ومحاولات استئصال وتهميش وحسبي هنا أن استعرض ما كتبه المفكر العراقي الذي أصدر ثلاث كتب عن المسيحيين ليسلّط الضوء على المأساة التي يعيشونها، فقد كتب تحت عنوان "المسيحيون والهويّة" إن هناك سبع رسائل لاستهداف المسيحيين ، أولها- دفعهم للهجرة ، وثانيها- تمزيق النسيج الاجتماعي لمجتمعات وشعوب ظلّت متعايشة على الرغم من النواقص والثغرات والسلبيات التي تتعلق بالحقوق وبمبدأ المساواة والمواطنة الكاملة، وثالثها- إظهار عدم رغبة المسلمين في التعايش مع الغرب المسيحي ، ورابعها - تقديم دليل آخر على أن المسلمين لا يقبلون بالتنوّع والتعددية وهم ماضون في استئصال الأديان الأخرى وهو ما تردده "إسرائيل"، وخامسها- تأكيد جديد على أن العرب والمسلمين هم ضد الديمقراطية ، وسادسها - استنزاف طاقات علمية وفكرية وفنية وأدبية يمتلكها المسيحيون ، وسابعها- خسارة العرب والمسلمين المسيحيين المدافعين عن القضية الفلسطينية وعن عروبة فلسطين ، وفي ذلك تفاعل بين المطامع الخارجية والقصور الفكري الداخلي .
   أما عن الأخطاء الشائعة فيذكر المفكر شعبان أن الخطأ الأول هو تجاهل كون أغلبية المسيحيين عرب ، والعرب أغلبية في بلدانهم، وبهذا المعنى هم ليسوا أقلية ويقترح مصطلح " التنوّع الثقافي" أو " المجموعات الثقافية " بدلاً من مصطلح "الأقلية" الملتبس والغامض والذي يستبطن عدم المساواة والاستتباع .
   أما الخطأ الثاني، هو السعي لفصل غالبية المسيحيين عن عروبتهم، في حين إن الخطأ الثالث هو استصغار دور المسيحيين في إطار نظرة موروثة سائدة تارة لعددهم وأخرى لدينهم وثالثة للامتداد المسيحي في الغرب ورابعة التشكيك بولائهم ، بل إن البعض يعدّهم " طابوراً خامساً" .
   والخطأ الرابع هو محاولة عزل المسيحيين الحاليين عن حركة التنوير التي ساهموا فيها، فضلاً عن المشروع الحضاري الراهن الذي ساهموا في بلورته للانعتاق من نير الكولونيالية ولتحقيق الاستقلال. ويتعلّق الخطأ الخامس بإنكار مساهمة المسيحيين في نضال أمتهم وشعوبها وهو ما يروّج له التيار الإسلاموي الاستئصالي الشمولي .
ويقول شعبان في كتابه " أغصان الكرمة - المسيحيون العرب" صفحة 50  :" لعلّ بعض المتعصّبين لم يقرأوا تاريخ المسيحيين العرب في المنطقة، وإن كانوا قد قرأوا التاريخ فإن قراءتهم مغلوطة أو إغراضية أو قاصرة، فقد كان المسيحيون باستمرار يضعون الانتماء الوطني والعروبي " القومي" فوق انتمائهم الديني، مع اعتزازهم  بتاريخهم وثقافتهم وخصوصيتهم، سواءً كانوا متدينين أو غير متدينين، مثلهم مثل المسلمين، لكنهم في الوقت نفسه لا يشعرون بأنهم كاملو المواطنة مثلهم، حيث عانوا من التمييز واللّامساواة والتهميش الشيء الكثير، قانونياً ومجتمعياً، ولسبب مختلف عن أسباب إقصاء أو تهميش الآخرين لنزعات استبدادية، وذلك ما يتعلّق بنزعات استعلائية تعصبية باسم الدين أو تستخدمه وسيلة للهيمنة".
   وأخيراً رغم ما جرى من تعسف وإرهاب وتخويف ضد المسيحيين، فإنهم ظلّوا يتمسكون بعراقيتهم ومواطنتهم ويتعاملون على أساس الدفاع عن حقوقهم، علماً بأن حملة الهجرة الاضطرارية طالت مئات الآلاف منهم، وهو الأمر الذي يحتاج إلى معالجة أوضاعهم على أساس المواطنة الكاملة والحيوية وإلغاء جميع أشكال التمييز دستورياً وقانونياً، ووضع الكفاءة في مكانها الصحيح خارج دائرة  الولاءات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية، من أعلى المستويات في الدولة وحتى أدناها على أساس شرعة حقوق الإنسان الدولية التي وقّع عليها العراق.








ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأصل في هذه المادة محاضرة ألقيت بتاريخ 18/12/2008 في براغ بدعوة من المنتدى العراقي، ومحاضرة ألقيت في فيينا في العام 2009  بعنوان : مسيحيو العراق عبر التاريخ.
** اقتصادي وكاتب ومدير عام سابق في وزارة التخطيط (بغداد) وحالياً رئيس ا

222
اليسار وعاشوراء مشهد بانورامي
عبد الحسين شعبان

 
اليسار وعاشوراء
مشهد بانورامي – عبد الحسين شعبان
I
حين دعاني ” المجمّع الثقافي الجعفري” للحديث عن “الإصلاح العاشورائي في خدمة الإنسان” وجدتها فرصة مناسبة للحديث عن التضحية والشجاعة في مواجهة الظلم، لحدث تاريخي رمزي كبير ظل العالم يستذكره باستلهام وأمل، فلم يكن استشهاد الإمام الحسين في العام 61 هجري في معركة الطف الشهيرة في كربلاء حادثاً عابراً، بل كان فاصلاً تاريخياً مهماً ظلّ استحضاره يتصاعد عاماً بعد عام حتى أصبح حدثاً كونياً بكل ما تعني هذه الكلمة من تحقق ومعنى ودلالة. والحق يُقال فقد تردّدت في الاستجابة للمشاركة، خشية من إقحام اسمي خارج نطاق اهتمامه واختصاصه وتوجهه الفكري والثقافي، وكي لا تذهب التفسيرات وربما الظنون إلى أن مثل هذه المساهمة تستهدف  التقرّب أو التزلّف للتيار الديني السائد وتفريعاته ذات الأبعاد المذهبية، ولذلك اقترحت على الجهة المنظمة أن أتحدث عن تجارب ملموسة تحت عنوان “اليسار وعاشوراء” وهي جزء من مشهد بانورامي لعاشوراء في النجف في الخمسينات التي عشتها، ودور اليسار والحركة الشيوعية في إحياء مناسبة استشهاد الإمام الحسين ، حيث لم يكن هناك وجود لأحزاب الحركة الإسلامية، كما ظهر لاحقاً، وخصوصاً بعد ثورة  14 تموز (يوليو) العام 1958. ولكنني وضعت كل ذلك جانباً لأقدّم صورة حيّة من قلب المشهد وهي شهادة تاريخية حيّة لا علاقة لها بما يجري من اصطفافات سياسية، وذلك بحكم نشأتي في بيئة دينية لا أتنصل عنها ولا أتكبر عليها أو أستخف بها، بل كنت ولا أزال أحترمها وأعتز بها كجزء أصيل من تكويني الثقافي والمجتمعي، مثلما ترعرعت في عائلة يسارية وذلك جزء لا يتجزأ من روافدي الروحية، وهو أمر لا أخفيه وكنت قد قلت في وقت سابق أن أهم ينابيع التكوين الأولى كان القرآن الكريم وماركس والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، حيث كبرنا مع الجواهري.  ومع ذلك فقد كان ينمو معي الفكر النقدي للتيار الديني واليساري معاً، وهو ما انعكس على  كتاباتي منذ أكثر من 3 عقود من الزمان، على الرغم من أنني من دعاة تقاربهما مثلما هي دعوتي للتقارب مع التيار العروبي، كجزء من الخبرة والدرس التاريخي، وهو درس لا غنى عنه بتقديري ، لاسيّما الاعتراف بالآخر.  وفي مطالعة لي قبل أكثر من عقدين من الزمان عن السيد محمد باقر الصدر (نشرت في صحيفة المنبر التي كان يصدرها السيد حسين الصدر في لندن) جئت على أهمية التفاهم بين التيارين وما سبّبه صراعهما من تأثير سلبي على كل منهما، سواء على الصعيد الفكري أو العملي، والشيء بالشيء يذكر فقد كان الصراع الذي نشب بين التيارين اليساري والعروبي أشد قسوة وعبثية ولا معنى له وقد دفعت جميع الأطراف ثمنه باهظاً .
II
ومن وحي المناسبة الجليلة  ابتدأت حديثي  ببعض الخواطر والاستذكارات ،  وحاولت أن استفزّ الذاكرة  لتخرج من زواياها حتى وإن كانت مبعثرة أو متناثرة، للذهاب إلى عبق  تلك الأجواء بطقوسها الاحتفالية المهيبة، وفي محفل استذكاري، حرص المشاركون فيه على مساهمتي، على الرغم من أنني أشرت في بداية حديثي بالقول ” لا يُفتى ومالك في المدينة”، لكن المشهد البانورامي الذي قدمته بحضور متميّز لبناني وعربي، مسلم ومسيحي ودرزي ومن طوائف مختلفة، كان مؤثراً كما فهمت ولاحظت. وحينما نتحدّث عن المأساة الإنسانية للإمام الحسين  الذي خرج في مواجهة الظلم خصوصاً قوله الأثير “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي” فإنما نقصد استعادة (الحدث) بالتحقق : كيف وأين؟ واستحضار التاريخ (بامتلاء السردية بمعناها الإنساني)، فإنما لتأكيد حضور المعنى (لماذا نحن نحتفل وما هي رمزية مثل هذا الحدث ؟) وذلك للوقوف عند الدلالة ، فما هي العبر والدروس من ذكرى استشهاد الإمام الحسين.؟  ولعلّ ذلك ما كان يقصده اليسار حين يواجه الظلم ويتصدى للظالمين، أي أنه يستغل إيجابياً هذا الحدث كجزء من فضاء شعبي للتحريض والتعبئة خارج دائرة الدين أو التديّن وخارج التفريع الطائفي أو المذهبي، فذلك لم يكن يعنيه لا من قريب ولا بعيد، بل كان واضحاً في رفع شعاراته الوطنية وسط حشود شعبية تستلهم مسيرة الإمام الحسين  وكفاحه البطولي في مقاومة الظلم وعدم الرضوخ للظالم كجزء من عقيدتها الإيمانية. والمسألة بقدر ما هي يقينية إيمانية  عقائدية لدى البعض، فإنها وجدانية وواقعية ضد الظلم لدى اليسار الذي كان آنذاك يحسن استخدامها بدقة واقتدار كجزء من توجهه التحريضي التنويري، مع أن خيطاً رفيعاً فاصلاً بين اليقين الديني الإيماني وبين التوجه المدني اليساري في توجيه الأنظار صوب الظلم، وكان فيدل كاسترو في حواره مع القس بيتو في العام 1986 قد طرح المشتركات بين الكنيسة والماركسية على أساس الكفاح الدنيوي لتحقيق العدالة والمساواة بين البشر، لكن الأمر لا يخلو من حيرة وهذه الأخيرة تعبير عن  سؤال قلق وأداء وخشية من الاستثمار لغير صالح التوجه الإنساني، لأنها تطرح أسئلة تتعلّق بالفلسفة وهذه تولد أسئلة جديدة، خصوصاً وأن للشهادة والتضحية بالنفس بطولة وشجاعة رمزية ونبلاً وحميمية لا تتعلق بالزمان ولا بالمكان، بل تتجاوز ذلك إلى الفضاء الإنساني، وحسب ابن عربي فـ”الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمّد”. كثيرون يحتفلون بهذه المناسبة ، بعضهم عن إيمان، ولكن  الإيمان بدون العقل يقود إلى يقينية صماء وسيكون متعصباً ومتطرفاً وحتى عنيفاً وقد يصل إلى الإرهاب ، ولنتوقف عند بعض الممارسات التي لا علاقة لها بالمناسبة ولا علاقة لها بالدين والمذهب، وهي كثيرة لدرجة أصبحت من الطقوس المسكوت عنها، حتى وإن كان بعض علماء الدين لا يقرّونها، لكنهم لا يواجهون العامة بها، بل يعبرون عنها بطريقتهم الخاصة الأقرب إلى الهمس والمواربة منه إلى الإفصاح والإعلان .  والبعض الآخر يحتفي بالمناسبة انطلاقاً من تقليد طقوسي ديني أو حتى اجتماعي متوارث، وبالطبع فهناك فارق كبير بين الإيمان والعادة أي ما استقر عليه من تواتر الاستعمال وكثرة الاستخدام، والفارق يتعلق بالمدخلات، فحتى الإيمان سيكون مختلفاً بين شخص وآخر، فهناك إيمان واعي وآخر أعمى، مثلما يتعلق بالمخرجات من حيث التوجه والآداء وما يترتب عليه سواء بالإيمان أو التقليد.
III
شخصياً ما يهمني من هذه المناسبة هو القيم والمثل  الإنسانية ، فشجاعة الإمام الحسين حين يواجه الظالم إنما هي “فضيلة من فضائل القلب”، والشجاعة كرم أخلاقي وسمّو إنساني، وهي عكس الجبن والخنوع وشحّ الأخلاق، لأن الشجاعة تتعلّق بالخير، والسياسة بهذا المعنى هي ” فعل خير”، أما الجبن والخنوع بما فيه  من غدر وخسّة،  فهو “فعل شر” ولا علاقة له بالسياسة، والشرير ليس شجاعاً في حين أن الشجاع خيرٌ. والإيمان دون ضمير سيكون كاذباً ومشوّهاً، لا يمت إلى جوهر الدين وقيمه ، بل سيكون تعبيراً عن مصالح خاصة أو حزبوية طائفية لضيق أفق واستعداد لإلغاء الآخر أو إقصائه  أو تهميشه، وهكذا يكون الفرق كبيراً بين العارف وغير العارف والمؤمن الحقيقي والمؤمن المزيّف، مثلما هو الفرق كبير أيضاً بين العالِم والجاهل و”هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (القرآن الكريم،  سورة الزمر- الآية 9).
يقول ابن عربي
“أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه، فإنه يراك”. وهكذا يختلف الإيمان الواعي عن الإيمان المتخلّف، وكان الإمام جعفر الصادق  يعبّر عن جوهر الدين وقيمه السمحاء حين يقول ”وما الدين سوى الحب”، ففيه يكشف نور القلب وصدق السريرة. ولذلك حين نتحدث عن الإيمان ، فماذا  نقصد وأي مؤمن نعني: لأن المؤمن دون وعي سيكون منقاداً وخاضعاً ومسخّراً وقد يرتكب أفحش الأعمال، فيحمل سكيناً  ليطعن أقرب إنسان إليه أو كاتم صوت ليطلق النار عليه أو يلبس حزاماً ناسفاً  ليفجّر متجراً أو مدرسة أو مستشفى أو يسرق من المال العام أو الخاص سواء باسم الدين أو تحت غطائه، لا يهمّه من الدين سوى المظاهر، سواءً أطال لحيته أو لبس العمامة أو انتسب إلى هذا الحزب أو هذه الجماعة  إن كان رجلاً أو ارتدى النقاب أو الحجاب إن كانت امرأة، وهؤلاء كانوا المادة الخام، وخصوصاً من الشباب والشابات للتنظيمات الإرهابية مثل “القاعدة” وربيبتها “داعش” والجماعات المسلحة بمختلف تسمياتها خارج القانون، فإيمانها يختلف عن إيمان الروحانيات وإسلام القيم الإنسانية وروح التسامح والسلام ومحبة الآخر وإيمان العدل والمساواة الذي خاطب فيه الإمام علي عامله في مصر مالك بن الاشتر النخعي بقوله:  لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم ” فالناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” .
IV
لعلّ هدف الأديان جميعها والإسلام تحديداً والإمام الحسين بشكل خاص هو الإنسان لأنه القيمة العليا والحقيقة الأهم التي استخلفها الله على الأرض، وهو ما يعطي البشر المؤمنين الحقيقيين الكشف والفيض والإلهام،  فهناك علاقة للخير بالإيمان، فهل يمكن أن يكون السفاح والجلاد شجاعاً أم أن الشجاعة صفة لصيقة بالخير؟ الحسين لا يخص الشيعة وحدهم ولا يعني المسلمين فقط ولا يقتصر على المؤمنين، وإنما هو قيمة إنسانية لبني البشر، للناس جميعاً، لكل من يناضل ضد الظلم ومن أجل إحقاق الحق، وفلسفته التي تقوم على  مقاومة الظلم تعني جميع المظلومين وفي جميع العصور، فهناك علاقة بين الظاهر والباطن والعلّة والمعلول والسبب والنتيجة والماضي والحاضر، وكل فعل تضحية ومقاومة ضد الظلم إنما هي استلهام لسيرة معطّرة مصحوبة  بالفداء النبيل، تلك التي أقدم عليها الإمام الحسين براحة ضمير ووعي وطهارة روحية. ولهذه الأسباب كان اليسار معنيّاً بقضية استشهاد الإمام الحسين، بل إنه في الأربعينات والخمسينات كان القوة الأبرز التي تحتفل به مع جمهرة الناس، وتجد منهم :
1- قرّاء المنابر الحسينية، مثل الشيخ محمد الشبيبي والد حسين الشبيبي الذي أعدم في العام 1949 مع فهد  (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الشيوعي حينها وزكي وبسيم ويهودا صدّيق من قيادة الحزب. وكان “مجلس الشبيبي الحسيني العاشورائي” يكتظ في هذه المناسبة التي يتحدث فيها عن الظلم والظالمين.
2- شعراء المواكب الحسينية، مثل الشاعر عبد الحسين أبو شبع وهو عضو في الحزب الشيوعي منذ العام 1956 واسمه الحزبي “علي”، وكان في الستينات عضو لجنة المثقفين في النجف، حيث كان المشرف عليه السيد صاحب جليل الحكيم، سكرتير محلية الحزب الشيوعي في النجف حينها.
3- القرّاء المحرضون (الرواديد) ومنهم فاضل الرادود، وكان محسوباً على ملاك الحزب الشيوعي، وكان يقرأ القصائد الحسينية ، التي يكتبها أبو شبع وعدد من الشعراء الشعبيين حينها.
4- منظّمو الجمهور، حيث كانت خلايا خاصة تفرّغ لهذا الغرض في عاشوراء  والمناسبات الدينية الأخرى، ويتصدّرها بعض أبناء المدينة من الشيوعيين أو امتداداتهم أحياناً من عوائل معروفة، وكان “عزاء محلّة البراق” الأشهر في النجف وشعاراته الأكثر ثورية وتتحسب لها السلطات أكثر من حساب في كل عام.
          وكان العديد من العوائل الدينية في النجف على ملاك اليسار والحركة الشيوعية ولديهم نفوذ كبير حتى داخل أوساط الحوزة والمدارس الدينية والمقامات المقدسة، ومن هؤلاء: آل الرفيعي الذي كان منهم الكليدار وآل شعبان ومنهم (سرخدمة، أي رؤساء الخدم) وآل الحكيم  وآل الخرسان وآخرين، وهؤلاء جميعهم في حضرة الإمام علي. ولم يكن الأمر يقتصر على عدد من الرجال، بل إن بعض النسوة انخرطن في صفوف الحركة الشيوعية ورابطة المرأة وهن من العوائل الدينية المعروفة.
أما خارج الحضرة العلوية، فهناك آل الشبيبي وآل الجواهري وآل بحر العلوم وآل زيردهام وآل الدجيلي وآل سميسم وآل مطر وآل الخليلي وغيرهم كانوا من المحسوبين على الحركة الشيوعية. وفي مدرسة الخليلي في عكد السلام درس الشيخ حسين مروّة والشيخ محمد شرارة في العشرينات وتحوّلا لاحقاً من الدراسة الحوزوية إلى الحركة الشيوعية، وقال حسين مروّة في استذكاراته: لقد تعرّفت على ماركس في النجف، وذلك حين أعطاه حسين الشبيبي كتاب ” البيان الشيوعي” ليقرأه وقال لقد قرأته مرتين، لكن لم أفهم معناه في بداية الأمر، ثم زادت اهتماماته ، حتى أصبح من كبار الماركسيين، لاسيّما حين كتب ”  النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ” أربعة أجزاء..
V
كانت الاحتفالات العاشورائية مهيبة وصبغتها العامة وطنية لتمجيد البطولة والاستشهاد والقيم والمثل الشجاعة والإنسانية، والمقصود بذلك استنهاض الهمم لمقاومة الاستبداد، بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان لبعض علماء الدين من المجدّدين دور مهم في تجديد الحوزة العلمية النجفية التي كانت تقليدية وراكدة قياساً لما حصل حولها من تطور، وأذكر هنا على  سبيل المثال لا الحصر عدداً من علماء الدين الذين سعوا لتخليص الحوزة ومناهجها من الماضوية التلقينية وفتح  نوافذ  للجدل والحوار والعلم عليها وفي مقدمتهم: السيد أبو الحسن والشيخ محمد حسين والشيخ علي كاشف الغطاء  وعبد الكريم الزنجاني، الذي انشغل بالفلسفة، وكان السيد محمد البغدادي مثار جدل سياسي ومجلسه عامر في النجف لحوارات معمّقة، خصوصاً بعد فتوى السيد “محسن الحكيم” بشأن الشيوعية ” كفر وإلحاد” العام 1960? ومن التيار الجديد كان  الشيخ محمد رضا المظفر وشملت المدرسة التجديدية الحديثة الشهيد محمد باقر الصدر والسيد محمد بحر العلوم والسيد مصطفى جمال الدين والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد صادق الصدر وغيرهم.
وادى اليسار دوراً في تسييس التوجه الديني للدفاع عن مصالح الناس ضد الإقطاع والنظام الملكي وحلف بغداد وللتضامن مع العرب والعروبة، وذلك بنزع ثوب السلطة عن الدين وإبراز الجانب الوجداني الضميري والقيمي الإنساني في قضية استشهاده  الحسين لتأكيد الاستعداد للتضحية بأبعادها الرمزية والنفسية وبجانبها الاجتماعي والروحي، ومن جهة أخرى بالاستقامة، لاسيّما باستلهام المُثل النبيلة التي دفع الحسين حياته من أجلها، علماً بأنه واجه عدواً شرساً ومدججاً بالسلاح والمال والمغريات، بأنصار لا يتجاوزن 73 شخصاً بينهم 17 من أهل بيته، لكنه أصرّ على المواجهة ، لأنها مواجهة للظلم، وهكذا انتصر الحق على الدم والخير على السيف، لأن قضية الحسين ظلّت قائمة ومستمرة ويتغنى بها كل من يريد مواجهة الظلم ، وكما يقول الجواهري :
فداءٌ لمثواك من مضجع
                    تنوَّر بالأبلج الأروع
بأعبق من نفحات الجنا
          ن روحاً، ومن مِسكِها أضوع
ورعياً ليومك يوم «الطفوف»
                    وسقياً لأرضكَ من مصرع
وحزناً عليك بحبس النفوس
                    على نهجكَ النيّرِ المهيعِ
ولديّ نماذج عديدة لتثوير حركة الجمهور خلال الذكرى العاشورائية والمناسبات الدينية الأخرى سواء ضد حلف بغداد العام 1954-1955 أو ضد تزوير الانتخابات النيابية وحل المجلس العام 1954 أو ضد العدوان الثلاثي على مصر أو انتصاراً لثورة الجزائر ،وخصوصاً بعد خطف طائرة أحمد بن بلّة ورفاقه واعتقال  وتعذيب جميلة بوحيرد،  وسأكتفي بذكر ما حصل بعد العام 1956 حيث انتفض العراق ، وخصوصاً بغداد والموصل والحي والنجف، فكانت المواكب الحسينية هادرة بالتنديد بالعدوان الثلاثي ، لاسيّما بعد سقوط شهداء عديدين، وحيث ارتفع اسم عبد الناصر كرمز في مواجهة الامبريالية حينها، فردّدت الفتية اليسارية شعارات تقول :
كالو القائد جمال             رواحنه كله إله
يا هله
نريد مثله نمثله
يا هله
وأمريكا بالدولار
وفرنسا أم العار
والثالثة بريطانيا رمز الخيانة
يا علي – حيدر .
{ باحث ومفكر عربي




223
في خفايا تجارة الأعضاء البشرية
عبد الحسين شعبان
«إسرائيل»، التي هي البلد الوحيد المحسوب على الغرب لا تحرّم قوانينها تجارة الأعضاء البشرية وهي الدولة الأكثر استهلاكاً لتجارة الأعضاء البشرية.
حين تسمع أو تقرأ عن بيع أعضاء بشرية أو سرقتها من جثامين تتصور نفسك أمام فيلم هوليوودي عن «فرانكشتاين»، لكن هذا الأمر الذي يبدو متخيّلاً أو غير معقول يقوم به المحتل «الإسرائيلي» إزاء ضحاياه.
وكان الصحفي السويدي دونالد بوستروم، قد كشف ذلك حين نشر تقريراً في صحيفة «أفتون بلاديت» عن تجارة الأعضاء البشرية واتهامه ل«إسرائيل»، التي هي البلد الوحيد المحسوب على الغرب لا تحرّم قوانينها تجارة الأعضاء البشرية.
وحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC
فإن «إسرائيل» هي الدولة الأكثر استهلاكاً لتجارة الأعضاء البشرية، وقد انفضح تورطها بسرقة أعضاء جثامين شهداء فلسطينيين في إبريل/ نيسان العام 2017؛ حيث اضطرّت للإعلان عن فقدان 121 جثة لفلسطينيين كانت تحتجزهم منذ تسعينات القرن الماضي.
لكن تجارة الأعضاء البشرية لا تقتصر على الاحتلال «الإسرائيلي» وأساليبه الإجرامية فحسب، بل إن سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور الحالة المعيشية وانهيار أو ضعف أجهزة الدولة ومؤسساتها القضائية والقانونية بسبب الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة ونفوذ قوى إرهابية موازية للدولة في بعض البلدان، كان وراء انتعاش هذه التجارة غير الإنسانية، والتي تفشت في السنوات الأخيرة بين اللاجئين الذين يتم استغلالهم، لاسيما النساء والأطفال.
وأصبحت هذه التجارة كونية بفعل «العولمة»، وحسب تقارير منظمات وهيئات حقوقية وإنسانية دولية، فإن البلدان الأكثر رواجاً لهذه التجارة هي: الصين وباكستان ومصر والفلبين وكولومبيا، خصوصاً أنه قد أصبحت سوقاً جاذباً للحصول على الأرباح ولها بورصاتها السرية وشبكاتها الخفية وأجهزتها وسماسرتها، وارتفع الطلب عليها في السنوات الأخيرة، بازدياد الحاجة إلى استبدال الأعضاء التالفة بأعضاء سليمة.
وفي منطقتنا «ازدهرت» هذه التجارة، حتى يمكن القول إن بعض الفقراء من الضحايا أصبحوا «قطع غيار» بشرية رخيصة بانهيار الأنظمة الحمائية والقانونية التي هي ضعيفة بالأساس، فما بالك حين ينهار الأمن ومنظومة القضاء والنظم القانونية، وهو الأمر الذي استغلته مافيات قوية ومتنفّذة للحصول على الأعضاء البشرية بأسعار زهيدة أو حتى القيام بسرقتها بالتعاون مع أجهزة طبية وعاملين في هذا القطاع؛ حيث تتم سرقة الأكباد والقلوب والكلى، كما حصل لعائلة صومالية اختطف أفرادها في العام 2016 وهم في طريقهم للهجرة إلى أوروبا، لكن جثامينهم ألقيت على الطريق بعد حين، وهي منزوعة من بعض أعضائها.
وكانت السلطات المصرية، قد وضعت يدها على نحو 10 مراكز ومختبرات طبية متعاونة مع شركات دولية للاتجار بالأعضاء البشرية واعتقلت عدداً من أفرادها وصادرت ملايين الدولارات وسبائك ذهبية كانت بحوزتهم، كما قامت بتغليظ القوانين العقابية الخاصة بجريمة الاتجار بالبشر.
وحسب الإحصاءات الرسمية السورية، فهناك نحو 18 ألف إنسان سوري فقدوا أحد أعضائهم في السنوات الأخيرة، وأن معظم هذه الحالات كانت تتم بشكل غير قانوني، حتى وإن أدرجت في باب التبرّع «الإنساني»، وقد استغل «داعش» ذلك فحاول انتزاع أحد الأعضاء البشرية من ضحاياه. وفي اليمن استفحلت الظاهرة مع استمرار الأزمة اليمنية بأبعادها الإنسانية.
أما في ليبيا وبسبب انهيار النظام القانوني وانقسام وتفتت أجهزة الدولة ومؤسساتها وانتشار العصابات، التي يقودها أمراء الحرب، ظهرت تجارة جديدة قديمة هي أقرب إلى «تجارة العبيد»؛ حيث يُباع البشر في الأسواق، ويتم استغلالهم بالدعارة أو بيع الأعضاء، إضافة إلى مقاولات لبيع المهاجرين تتم بين التجار دون علم الضحايا؛ حيث يتم التعاقد معهم كعمال «أجراء» أو «مزارعين» للعمل في البلدان الأوروبية في مزادات مقابل مبالغ بخسة، وبالطبع استغل تنظيم «داعش» العائدات من الهجرة الدولية لتمويل الإرهاب.
وتبحث شركات الاتجار بالأعضاء البشرية عن الأطفال وصغار السن للحصول على أعضائهم لبيعها بأسعار باهظة الثمن، نظراً لما يتمتع به هؤلاء من نضارة وحيوية، وهؤلاء هم الفئة الأكثر استهدافاً بشكل عام وبين اللاجئين بشكل خاص؛ حيث التقطت شبكات السوق السوداء بعضهم لشراء «قطع غيار» لاستبدال ما هو تالف من بعض الأغنياء الذين يبدون استعداداً لدفع مبالغ طائلة مقابل تغيير الكلى أو استبدال قرنية العين أو غير ذلك، واقترنت هذه التجارة بالزواج بالقاصرات وعمالة الأطفال وشبكات التسوّل كغطاء لذلك.
لا يمكن وضع حد لتجارة الأعضاء البشرية، بل وللاتجار بالبشر دون تعاون دولي فعّال ووضع قوانين صارمة وعقوبات غليظة على المستويين الداخلي والدولي، سواء كانت الأسباب والدوافع سياسية أو اقتصادية أو كليهما، كما هي الأغراض «الإسرائيلية».
والأمر له علاقة أيضاً بتجارة المخدرات وعمالة الأطفال والعنف ضدهم وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتجارة السلاح، وغيرها من القضايا اللّاإنسانية والمرتبطة ببعضها على نحو وثيق وصارم.
ويتطلب ذلك أيضاً تنفيذ المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وتوقيع البلدان التي لم توقع عليها أو تنضم لها وتصديقها لتدخل حيّز التنفيذ، إضافة إلى مراجعتها وتطويرها، وذلك في إطار الالتزام بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان وتأمين إدماجها بالقوانين الوطنية في تعزيز المواطنة والمساواة والشراكة في فضاء من الحرية يؤمن الحد الأدنى للعيش الكريم.
drhussainshaban21@gmail.com




224
من فيض ذاكرة إدوارد سعيد
عبد الحسين شعبان
إذا كان كتاب «الاستشراق» أول كتب المفكر الفلسطيني الموسوعي إدوارد سعيد، فإن آخر كتبه التي زادت على العشرين هو كتاب «تأملات حول المنفى». الأول صدر في العام 1978، أما الأخير فقد صدر في العام 2000 وفيه جمع نحو 50 مقالة كان كتبها خلال ثلاثة عقود ونيّف من الزمان (1967-1999).
تصدّر الكتابان وما بينهما كتاب «عن الأسلوب المتأخر- موسيقى وأدب عكس التيار» ترجمة فواز طرابلسي، وقد دوّن فيه السنوات الأولى من سيرته حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، وكتاب «خارج المكان» الذي صدر في العام 1999 وتمّ تعريبه في العام 2000، قائمة الأعمال الإبداعية لإدوارد سعيد الذي أصبح الشخصية العربية العالمية الأكثر إثارة للجدل والنقاش من جانب تيارات فكرية وثقافية مختلفة، وأوساط أكاديمية وسياسية متعدّدة، خصوصاً توزّع أعماله بين «النقد الأدبي»، و«الهويّة الثقافية»، و«القضية الفلسطينية»، و«الموسيقى»، وغيرها.
وتعكس شخصية إدوارد سعيد مفارقات عدة، فبقدر ما هو فرد فإنه مثّل مجموعاً، لأنه عبّر عن ضمير، وإذا كان ولد في القدس العام 1935، فإنه ترعرع في القاهرة، ودرس في الإعدادية البريطانية، وقضى أوقاتاً في لبنان، وغادر إلى الولايات المتحدة، حين بلغ السادسة عشرة من عمره، التي حمل جواز سفرها لاحقاً، ليدرس في جامعة برينستون، ثم هارفرد، ومن ثم يشرع بالتدريس في العام 1963 في واحدة من أعرق الجامعات العالمية، وهي جامعة كولومبيا في نيويورك، وظل فيها حتى وافاه الأجل.
وكانت صدمة هزيمة 5 يونيو/ حزيران، العام 1967، تركت جرحاً عميقاً في حياته، وهو ما عبّر عنه حين استحضر انتماءه وهويته الفلسطينية العربية، حيث عاد بالذاكرة إلى عمليات الإجلاء والترانسفير الفلسطينية التي مارستها «إسرائيل» منذ قيامها، وما تعرّض له الشعب العربي الفلسطيني من استلاب دولي، وتواطؤات ألحقت الضرر البالغ بقضيته العادلة، وكان انصرف في تلك الفترة لكتابة مؤلفه المثير «الاستشراق» الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير، وتمت ترجمته إلى ستة وثلاثين لغة، وهو قراءة للخطاب الغربي عن «الشرق».
تعلّم سعيد من تناقضاته والواقع الذي عاش فيه كيف يفكّر إزاء المشروع الحضاري الفلسطيني والعربي المناهض للإمبريالية، والصهيونية، وأدرك دور المثقف والأكاديمي، ولاسيّما الذي يعيش في الغرب، فهو فلسطيني يعيش في الشتات، وفي مدينة «نيويورك» الكوزموبوليتية، متعددة الأعراق، وهو في الوقت نفسه متعدد الأصوات، وينطلق من تعددية داخلية، وتنوّع ذاتي، مثلما هو جزء من الهويّات الإنسانية المعاصرة المنفتحة، وغير المنغلقة.
وإذا كانت جروح المنفى كثيرة ومعتّقة، فإن إيجابياته غير قليلة، وهذا يعتمد على قدرة المنفي على التفاعل مع محيطه، والتأثير فيه، بما يساعد على الانفتاح والتلاقح ما بين الثقافات، والحضارات، حيث تتجاور الخصوصيات في إطار من التنوّع والتواصل، والتداخل، وهو ما حاول إدوارد سعيد توظيفه إيجابياً بعد التوقف عنده، وفحصه، واستخدام شحناته الحيوية لمصلحته، وقد عكسه في كتبه، ومحاضراته، وأنشطته المختلفة، فالمنفي، والمهاجر، أو المهجّر، يجد نفسه في «اللّا مكان» لدرجة يشعر أحياناً بأنه «عكس التيار»، ويعيش التهميش أحياناً، لكنه يعتبره امتيازاً وليس فداحة، لاسيّما حين يستمر في بحثه عن الحقيقة والعدالة.
ويُعتبر إدوارد سعيد الأخطر بالنسبة إلى الحركة الصهيونية في ما كتبه، وفي ما استطاع أن يلفت النظر إليه في أحد معاقلها الأساسية، ونعني به الولايات المتحدة، حيث اللوبي الصهيوني المتنفّذ، الذي عرف دوره منذ صدور كتابه الأول «الاستشراق» الذي لا يزال حاضراً حتى الآن، رغم مضي ما يزيد على أربعة عقود من الزمان، خصوصاً أن كتاباته جاءت متناغمة مع القيم الإنسانية في الوقوف ضد الحرب، والتطهير العرقي، والعنصرية، والهجرة القسرية، وتمزيق البلدان. وبسبب مواقفه هذه تعرّض للتهديد، بل إن مكتبه أحرق، فضلاً عن اتهاماته بأنه «عدو للسامية».
ولعلّ من يقرأ كتابه «خارج المكان» سيدرك أنه أمام إحدى أهم شهادات العصر، والأمر لا يتعلق بأهميته، أو بأسلوبه المشوّق، والممتع، أو بالسرد الدرامي، أو حتى بسبب مضمونه، إنما لما سلط فيه الضوء على خمول الضمير الإنساني في لحظة مفارقة من لحظات التاريخ الأشد مأساوية، خصوصاً أنه استطاع أن يخاطب العقل (الآخر) ويتحدّث عن تجربة اقتلاع شعب من أرضه، ورميه خارج المكان في محاولة لمحو ذاكرته، وهويته، ومصادرة تاريخه ومستقبله.
و«خارج المكان» يمثّل جسراً بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى، وبين حاضر لا يمكن أن يدوم، أما داخله فهو تمسك بالهوية والرمز، وبين الخارج والداخل صور، وانعكاسات، وأحداث، ووقائع، ومؤامرات، وآمال، وحروب، ولكن الذاكرة تظلّ قائمة كأنها تعيش واقعاً هو استمرار بحثها عن هوّية، ومكان، وأرض، ووطن مسلوب. وتتوحّد الهوية أحياناً مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، يحاول المغتصب اغتياله وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثّل الترحيل والإجلاء الاغتيال خارج المكان، بالتجريف، والإبعاد، وقطع الجذور الأولى، ومصادرة الحقوق بالاستيطان، والإلغاء.
drhussainshaban21@gmail.com



225
المنبر الحر / وعد نتنياهو
« في: 20:34 18/09/2019  »
وعد نتنياهو

عبد الحسين شعبان

في خطوة لا تبدو خارج السياق أعلن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو عشية انتخابات الكنيست (22) نيّته في ضم "غور الأردن" وشمال البحر الميت إلى "السيادة الإسرائيلية" بعد فوزه بانتخابات 17 سبتمبر (أيلول) الجاري، وقد حرص نتنياهو على جذب أصوات اليمين بشكل عام واليمين المتطرّف بشكل خاص لتوسيع القاعدة الانتخابية لتحالف الليكود، وذلك بأمل تكليفه بتشكيل الحكومة التي فشل في تشكيلها في الانتخابات الأخيرة في 9 أبريل (نيسان) 2019 حيث تطلّب حصوله على 61 عضواً في الكنيست من أصل 120.
وبعيداً عن التوقيت الانتخابي، فثمة جوانب قانونية دولية لمثل هذا التصريح الخالي من الدبلوماسية، فضلاً عن الجوانب السياسية والعملية، لاسيّما العسكرية وغير العسكرية، خصوصاً إمكانية تحقيقه والوسائل التي سيتم اتباعها والمدّة الزمنية لوضعه موضع التطبيق، علماً بأنه لا يأتي اعتباطاً، وإنما ينبع من خلفية فكرية وسياسية استراتيجية للدولة العبرية، التي ظلّت تتطلّع إلى استكمال المخطط الصهيوني بإجراءات وخطوات متواترة، وصولاً إلى تحقيق أهدافها منذ قيامها في 15 مايو (أيار) العام 1948.
وقد شجّع نتنياهو على استهتاره بالقانون الدولي وتجاسره في إطلاق مثل ذلك "الوعد"، دعم الولايات المتحدة، لاسيّما في ظل رئاسة دونالد ترامب، الذي تجاوز في اندفاعه بتأييد "إسرائيل" من سبقوه من الرئاسات الأمريكية، وخصوصاً رئاسة بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، الذين وضعوا " حلّ الدولتين" في برامجهم وإنْ كان بدرجات متفاوتة.
وكان ترامب قد أعلن في مايو(أيار) 2018 عن نقل سفارة بلاده إلى القدس، بالضد من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 الصادر في 20 أغسطس (آب) 1980 والقاضي بعدم الاعتراف بقرار الكنيست بضم القدس، وناشد الدول والبلدان إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية منها، كما يتعارض مع قواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولاسيّما اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، التي تعتبر القدس الشرقية "محتلّة" من جانب "إسرائيل"بعد عدوان 5 يونيو (حزيران)العام 1967.
وفي 25 آذار (مارس) 2019 اعتبرت واشنطن " مرتفعات الجولان السورية" جزءًا من السيادة الإسرائيلية بحكم " الأمر الواقع"، ومثّل ذلك انتهاكاً شديداً  للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة وميثاقها الذي لا تجيز ضمّ الأراضي بالقوة كمكاسب للحرب بحجة " الأمر الواقع"، مثلما يتعارض مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 497 الصادر في العام 1981 بشأن "بطلان ضمّ الجولان المحتلة" الذي اتخذه الكنيست "الإسرائيلي".
ويشمل "وعد" ضم " غور الأردن" (القطاع الشرقي للضفة الغربية) نحو 120 كلم من منطقة " عين جدي" قرب البحر الميت جنوباً ولغاية الخط الأخضر جنوبي بيسان شمالاً، ويبلغ عرضه 15 كلم، وكان الكيان الصهيوني قد وضع عينه عليه منذ احتلاله الضفة الغربية في العام 1967، وكثيراً ما كان يلوّح بين فترة وأخرى لضمّه، خصوصاً في المنعطفات السياسية الحادة والصراعات الحزبية الشديدة.
جدير بالذكر أن "إسرائيل" أقامت أكثر من 26 مستوطنة في هذه المناطق خلال العقود الخمسة الماضية، وكانت تنظر إلى "غور الأردن" باعتباره عمقاً "إسرائيلياً"، متجاهلة اتفاقية أوسلو الموقعة بين الجانب الفلسطيني و"الإسرائيلي" العام 1993، على الرغم من أنها لم تلبي الحد الأدنى من مطالب الشعب العربي الفلسطيني.
وكان إيغال ألون منذ العام 1982 قد أطلق فكرة استراتيجية مفادها اعتبار نهر الأردن حدوداً شرقية للدولة العبرية، وأكّد اسحاق رابين على ضرورة "منع كيان فلسطيني مشاطئ للبحر الميت" للحيلولة دون حصول تماس جغرافي مع أي رقعة عربية وذلك لإحداث نوع من الانسجام بين ، وهكذا تجتمع عوامل الجيوبولتيكا مع عناصر الديموغرافيا تحت عنوان "أمن إسرائيل"، وهو ما حاول نتنياهو استثماره لأغراض انتخابية، حين جعل ذلك هدفاً يسعى إليه وبالتالي أساساً لأية تسوية سياسية.
وتركّز الاستراتيجية " الإسرائيلية" على "غور الأردن" بدلاً من ضم كامل الضفة  الغربية إليها ذات الكثافة السكانية حيث يبلغ عدد نفوسها أكثر من 3 ملايين نسمة، في حين إن غور الأردن لا تزيد نفوسه على 200 ألف فلسطيني يمكن إجلاءهم بالتدرّج وعبر عمليات ترانسفير، أو حتى احتجازهم في أسوار وممرّات أقرب إلى المعسكرات.
وحسب وجهة النظر "الإسرائيلية" سيكون " غور الأردن " حاجزاً " إسرائيلياً" أمنياً في التصدي لأي تهديد يأتي من الضفة الشرقية، وهو ما اعتبره نتنياهو " الجدار الحامي الشرقي"، كما إن السيطرة على غور الأردن يعني السيطرة على الأحواض المائية  الجوفية في الضفة الغربية، خصوصاً الأحواض الشرقية وتكريس الفاصل الجغرافي بين فلسطيني الضفة الغربية وفلسطيني الأردن الذين يمثّلون عمقاً ديموغرافياً لأي كيانية فلسطينية مستقبلية، حيث تسعى "إسرائيل" لتطويق الضفة عبر حاجزين: الأول- شرقي يضم غور الأردن والثاني  - غربي هو جدار الفصل العنصري (القائم) بالضد من الشرعية الدولية وقرار محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر في 9 يوليو(تموز) 2004.
Drhussainshaban21@gmail.com



226
الاحتلال «الإسرائيلي» وهدم المنازل
                   
عبد الحسين شعبان
قبل سنوات خلت أصدرت السلطات «الإسرائيلية» قراراً عسكرياً بمنع البناء على جانبي الجدار العازل الذي أقدمت على إنشائه في المنطقة التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية بمسافة 250 متراً، وقد أصدرت «المحكمة الإسرائيلية العليا» قراراً في شهر يوليو / تموز 2019 يقضي بهدم مبانٍ سكنية تضم أكثر من 100 شقة في وادي الحمص (بلدة صور باهر). وتوجهت الجرافات إلى المنطقة، وهدمت المنازل بعد إنذار السكان بمغادرتها وسط حماس وهتافات من جانب الجنود الذين نفذوا القرار العسكري بفرح غامر، وهكذا تشرّد أكثر من 500 مواطن فلسطيني، كما تعرّض بعضهم إلى الاعتداء، لأنهم رفضوا مغادرة منازلهم.
وتأتي هذه الخطوة وسط تجاهل دولي، ولا سيّما بعد منح واشنطن المحتل «الإسرائيلي» ورقة بيضاء للتصرّف كما يشاء من خلال الاعتراف بسيادته على القدس ونقل سفارتها من تل أبيب إليها كجزء من «صفقة القرن»، إضافة إلى الضغوط التي مورست على السلطة الوطنية الفلسطينية اقتصادياً ودبلوماسياً وإنسانياً وأمنياً.
وإذا كان لمسألة هدم البيوت وإجبار سكانها على مغادرتها جانب إنساني يتعلق بالحق في السكن في أرض آبائهم وأجدادهم وهم أهل البلاد الأصليين، طبقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول «حقوق الشعوب الأصلية» الصادر في عام 2007، فإن له أبعاداً قانونية دولية تتعلق بقواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الإنساني والشرعية الدولية لحقوق الإنسان، إضافة إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لما تشكّله من انتهاكات سافرة من جانب المحكمة العليا «الإسرائيلية»، وهو ما ينبغي متابعته دولياً من جانب الفلسطينيين والعرب، على الصعيد الرسمي أو على صعيد المجتمع المدني ومؤسساته الدولية والإقليمية والعربية.
فالأمم المتحدة تقرّ بأن الأراضي التي احتلتها «إسرائيل» إثر عدوان ال 5 من يونيو / حزيران عام 1967 هي أراضٍ محتلة، بما فيها الضفة الغربية، ومن ضمنها القدس الشرقية، إضافة إلى قطاع غزة، وهذا يعني أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1979 تنطبق عليها، ولا سيّما الاتفاقية الرابعة، وحسب القانون الدولي لا يجوز الاستيلاء على الأراضي طبقاً للاحتلال أو القوة المسلحة، وقد ورد ذلك في مضمون القرار 242 الصادر بعد عدوان الخامس من يونيو / حزيران عام 1967، وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر في ال 9 من يوليو / تموز عام 2004.
وتحمي اتفاقية جنيف الرابعة الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما وبأي شكل كان في حالة قيام نزاع أو احتلال تحت سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه أو دولة احتلال، وهكذا تصبح حماية المواطنين الفلسطينيين «تحت الاحتلال الإسرائيلي» واجباً قانونياً على دولة الاحتلال، ويحظر عليها تدمير الممتلكات الخاصة التابعة أو المنقولة التي تتعلق بالأفراد أو الجماعات أو غيرها، علماً بأنه ليس للمحكمة «الإسرائيلية» العليا التي اتخذت قراراً بالسماح بهدم المنازل سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما أنه ليس من حق سلطة الاحتلال بناء جدار عازل على أراضٍ لا تعود لها أصلاً، فما بالك إذا كانت محتلة بالقوة العسكرية. وقد زعمت «إسرائيل» أنها تبني هذا الجدار ليكون سياجاً دفاعياً في عام 2000، وكانت الأمم المتحدة قد طلبت في عام 2003 رأياً استشارياً (فتوى قانونية) من محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن بناء الجدار الواقع في الأراضي الفلسطينية، وصدر القرار كما ورد ذكره بعدم شرعية ذلك، ودعت المحكمة «إسرائيل» إلى التوقف فوراً عن أعمال البناء وتفكيكه وتقديم تعويضات عن الأضرار الناجمة عنه.
ووفقاً لنظام محكمة روما الأساسي، فإن هدم البيوت يعتبر من الجرائم ضد الإنسانية، وكل ما يتعلق بإبعاد السكان قسراً أو نقلهم بالقوة والإكراه من مناطق سكنهم هو جريمة حرب، حيث تنص اتفاقيات جنيف على أن «إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها من دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة» يُعد جريمة حرب.
وهكذا فإن مثل هذه العقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين العزّل يعتبر جريمة حرب مثلما هو جريمة ضد الإنسانية، وهي انتهاك سافر لقواعد القانون الدولي، بما فيها حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وعلى أرض وطنه وبناء دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.
وإذا كان هذا الوجه القانوني لعدم هدم المنازل، فإن الوجه السياسي والإعلامي المباشر وغير المباشر لعملية هدم المنازل له علاقة بالانتخابات «الإسرائيلية» التي ستجرى في شهر سبتمبر / أيلول الجاري، وعلى خلفية دعم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو المتهم بالفساد والمتشبث بالسلطة بوصفه أطول رئيس وزراء حكم «إسرائيل» منذ تأسيسها.
drhussainshaban21@gmail.com


227
شينزن وليس تيانانمين
عبد الحسين شعبان
تستمر أعمال الاحتجاج والتظاهر في هونج كونج منذ أسابيع في أكبر تحدّ للحكم الصيني منذ تسلّمها من بريطانيا في العام 1997. وقضت اتفاقية التسليم، إبقاء هونج كونج على نظامها الرأسمالي لمدة 50 سنة قادمة.
ويعود سبب الاحتجاجات الحالية إلى صدور قانون يجيز تسليم المطلوبين إلى الصين، وتطوّر الأمر للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية، علماً بأن هونج كونج «المستعمرة البريطانية» السابقة تُدار وفقاً لمبدأ «بلد واحد بنظامين»، حيث يعطي لمواطنيها حقوقاً لا مثيل لها في الصين، وخصوصاً فيما يتعلق بباب الحرّيات وفي مقدمتها «حرّية التعبير»، علماً بأن رئيسة هونج كونج الحالية كاري لام موالية للصين، ويبلغ عدد سكانه 7 ملايين فقط، حيث يمتدّ أصول نحو 94% منهم إلى قومية الهان الصينية.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد حذّر بكين من مغبّة قمع التظاهرات على غرار ما فعلته في ساحة «تيانانمين» العام 1989، معتبراً أن حصول مثل هذا الأمر سيضرّ بالمفاوضات التجارية الجارية بين واشنطن وبكين. وأعرب في تصريحات أخيرة عن أمله في أن تنتهي أزمة هونج كونج سلمياً وتحلّ بطريقة إنسانية،ودعا نظيره الصيني شي جينبينج إلى التفاهم مع المحتجين حول الحلول الممكنة.
وكانت الأزمة بين هونج كونج وبكين قد اندلعت منذ أكثر من شهرين، ولكن بكين صعّدت مؤخراً من نبرتها ضد حركة الاحتجاج وهو ما أعاد إلى الأذهان أحداث ساحة تيانانمين، حيث سقط المئات من الضحايا قتلى وجرحى، بعد أن نزلت الدبابات لسحق حركة تمرّد قادها شباب وطلاب عزل، يطالبون بإصلاحات والمزيد من الحرّيات.
وحتى الآن فإن خيار تيانانمين بالنسبة لبكين غير وارد أو مستبعد على الأقل، على الرغم من حساسية الصين إزاء هونج كونج التي احتلتها بريطانيا في أعقاب حرب الأفيون (1839-1842) وانتظرت طوال هذه الفترة لتعود إليها سلمياً، ومارست سياسة طول النفس والتدرّج لاستعادتها مثلما انتهجت سياسة مرنة ومتميزة منذ عودتها، لأنها لا تريد التفريط بها على الرغم من اختلاف طبيعة الحكم الذاتي وليبرالية النظام الذي تتمتّع به هونج كونج في إطار النظام الاشتراكي الصيني وقواعده المعروفة بالمركزية.
ولذلك وخلال الأزمة الراهنة كشفت بكين عن خطط جديدة لتطوير «مدينة شينزن» وجعلها «مكاناً أفضل» من هونج كونج وفق الإعلام الصيني الذي واجه الأزمة، وكان قد ورد في وثيقة توجيهية رسمية نشرتها الحكومة الصينية بأنها تنوي تحويل مدينة شينزن إلى منطقة رائدة وواجهة لما أسمته «الاشتراكية الصينية».
ونصت الوثيقة على اعتبار أبناء هونج كونج وماكاو العاملين في شينزن والمقيمين فيها مواطنين وأوجدت نظام دخول وخروج ملائماً ومنفتحاً ودون قيود شديدة، بما فيها السماح لحاملي الإقامات من الأجانب بتأسيس شركات علمية وتكنولوجية سعياً لاجتذاب الاستثمارات وتسهيل تمركز الشركات العالمية فيها للحصول على الأفضلية والريادة، وهكذا يُراد أن تتحوّل شينزن من قرية لصيد الأسماك إلى عملاق اقتصادي وبسرعة كبيرة.
وعلى الرغم من أن الوثيقة تضمّنت أهدافاً وخططاً عامة، لكن تأكيدها أنه بحلول العام 2025 ستصبح شينزن إحدى أفضل مناطق العالم لناحية «القوة الاقتصادية ونوعية التطور» جاء لافتاً للنظر، كما شدّدت الوثيقة على أن السلطات الصينية تعتزم تحقيق اندماج أكبر مع هونج كونج وماكاو، وأبدت آمالاً كبرى بأن تقود شينزن الواقعة جنوب الصين العالم بحلول العام 2035، وهذا يعني حسب خبراء في جامعة فيلونج الصينية أن هونج كونج إن بقيت غير جاهزة لاستغلال فرص اللحاق بالتطور في عموم الصين ستكون متخلّفة جداً في المستقبل مقارنة بشينزن التي ستتقدم بوتيرة سريعة جداً، علماً أن شينزن تقع على الجانب الآخر من الحدود مع هونج كونج لما يُعرف بسور الصين العظيم.
لقد تغيّرت «صين ماوتسي تونج» منذ وفاته وانتهاء «ثورته الثقافية» إلى دولة صناعية متطورة خلال أربعة عقود من الزمان فقط، وانتقلت من ضفة التخلف إلى ضفة التقدّم، وذلك بفعل انتهاجها سياسة انفتاحية في الاقتصاد والإدارة والاستثمار، تلك التي وضعتها اليوم منافساً قوياً على الزعامة مع الولايات المتحدة، حيث تحتل المرتبة الثانية في اقتصاد العالم بعد الولايات المتحدة، ولعلّ ذلك سيكون حافزاً جديداً لها في السباق الاقتصادي عبر شينزن وليس وفقاً لخيار تيانانمين.
drhussainshaban21@gmail.com



228
شيركو بيكه س .. نبض الروح وضياء الشعر
عبد الحسين شعبان

 
 
حين نقرأ للشاعر الكردي العراقي شيركو بيكه س الذي رحل عن دنيانا الفانية يوم 4 آب (أغسطس) العام 2013 عن عمر ناهز الـ 73 عاماً، نتوقّف طويلاً عند علاماته الفارقة التي وضعها على طريق الشعر والجمال، فبيكه س لم يكن يكتب شعراً فحسب، بل إنه يتنفس الشعر ويعيشه بكل كيانه وروحه، في المرئي واللّامرئي وفي الممكن والمستحيل.
بلغته الباذخة الأنيقة وجملته المكثفة يأخذنا بعيداً إلى تلك الجبال البيضاء والصباحات المعطّرة والينابيع والنهيرات والأشجار والأزهار والحقول والنجوم والليل والقمر والآمال والأحلام والحرّية والمحبة.
I
استمعتُ إلى  بيكه س قبل أن أبدأ بقراءته وذلك في سطح منزل الصديق طارق الدليمي في إحدى الأماسي الدمشقية الجميلة، التي كان يضيفنا فيها في منزله العامر، والذي كان بمثابة منتدى أدبي وثقافي وفكري وسياسي بكل معنى الكلمة، وكان اللقاء بحضور هادي العلوي ومحمد عبد الطائي (أبو يوسف) وجمعة الحلفي، ولا أتذكّر إن كان صديقاً آخر. وسماع الشعر ليس مثل قراءته، ولاسيّما الشعر الحديث، ومع ذلك كانت دهشتي شديدة، لذلك حرصت على اقتناء مجموعته التي صدرت عن دار الأهالي في دمشق (في النصف الثاني من الثمانينات) والموسومة “مرايا صغيرة”، والتي قام هو بترجمتها إلى اللغة العربية كما أخبرني ، فاحتفظت  القصائد بروحها وألقها وكأنها مكتوبة بلغتها الأصلية.  وأعتقد أنها أول مجموعة له تُتَرجم إلى العربية، وتوالت صدور ترجمات مجموعاته  لاحقاً ” ساعات من قصب” و”  2000 كلمة لعام 2000″  و”سفر الروائح” (ترجمة آزاد البرزنجي)  و” إناء الألوان” ونشر له في دمشق والقاهرة مختارات من شعره. وكانت مرجعيته بعد اللغة الكردية، اللغة العربية كما يقول، ومن خلالها تعرّف إلى الآداب والثقافة العالمية، وكان قد قرأ لجبران خليل جبران وبدر شاكر السيّاب. كما قام بترجمة بعض قصائده (مروان علي – هولندا /أمستردام). وجئت على ذكر  بيكه س بإعجاب مرتين: الأولى- حين كتبت عن “بغداد عاصمة الثقافة العربية” في صحيفة الخليج (الإماراتية) ، في 10/4/ 2013 وكان هو يقاوم السرطان في منفاه السويدي حيث استسلم أخيراً وحيداً وبهدوء للقدر الغاشم بعد رحلة مضنية، وحيث ” لا أحد”، وهو ترجمة لاسمه الكردي بيكه س ، والثانية- بعد وفاته حين دعيت لإلقاء محاضرة في براغ  فاخترت الحديث عن ” براغ وثمّة عشق” وذلك في العام  2016 لأن العشق هو تلك الرحلة التي تأخذك من نفسك إلى نفسك حسب جلال الدين الرومي، وسيكون أوضح بلا تفسيرات، وفقاً لابن عربي. وامتاز شعر  بيكه س بالخصوصية الكردية صوراً وموضوعات ودلالات، لكنه بانفتاح ملحوظ على التجارب العربية والعالمية، متطلعاً إلى عالم أرحب بفضاء إنساني، فتوحّدت عنده  كردستان بالحرية والحب بالخير، والجمال بالأمل ، والحلم بالنضال، فشارك قوى شعبه في  كفاحه منذ يفاعته وسار على درب والده فائق بيكه س الذي كان شاعراً ومناضلاً في الآن، حيث انخرط في انتفاضة 6 أيلول/سبتمبر  1930 وسجن على أثرها، ثم أبعد إلى مدينة الحلّة في العام  1937  وقد توفّي في العام  1948   وكتب عنه  الشاعر الكبير الجواهري قصيدة رثاء يقول فيها : ” أنت الجميع وأنت الأحد ” في إشارة إلى اسمه الذي يعني “لا أحد” أو “الغريب”. ولد شيركو في مدينة السليمانية في 2  أيار/ مايو/ 1940 وهو الآخر سيُنفى إلى هيت في محافظة الأنبار (الرمادي) (غرب العراق)، حيث أحبّ اللغة العربية، ولكن تعلقه بلغته الكردية ومحبّته لها اكتسبه من والدته من خلال القصص والحكايات الشعبية التي كانت ترويها له،  وأحبّ كردستان التي تنقّل في العديد من مدنها وقراها وقصباتها وجبالها ووديانها، فاتسع أفقه .
II
التحق شيركو بالثورة الكردية في العام 1965 وعمل في مجال الإعلام وبعد اتفاقية 11  آذار/مارس 1970 بين الحركة الكردية والحكومة العراقية نشط في مجال اتحاد الأدباء الكرد، وصاغ مع مجموعة من زملائه من المبدعين بيان المرصد “بيان روانكه” العام 1970 الذي مثّل توجهاً جديداً للحداثة الشعرية الكردية على غرار “البيان الشعري” الذي وقّعه 4 شعراء والذي عبّر فيه فاضل العزاوي عن رؤيته اللاحقة في كتابه ” جيل الستينات – الروح الحية” 1997 كما جسّد رؤية سامي مهدي التي حاول إبرازها في كتابه “الموجة الصاخبة – شعر الستينات في العراق “1994. وكان “بيان الرؤية الجديدة” قد ضم مجموعة فنانين في مقدمتهم ضياء العزاوي ورافع الناصري، وهو جزء من الدعوة للحداثة الفنية، مثلما كان البيان الشعري دعوة للحداثة الشعرية والأدبية وتجديد اللغة، ولم أكن قد اطلعت على بيان المرصد “روانكه” في حينها، لكنني قرأت عنه في السنوات الأخيرة، فوجدته وجهاً آخر للبيانين الآنفي الذكر، الأمر الذي يعني نضوج حركة تجديد شعرية وإبداعية وثقافية في عموم العراق، ومنها كردستان. وقد شهد العراق في فترة الستينات حراكاً جديداً لروح جديدة وإبداع جديد مثلما مثّل رؤية تساؤلية نقدية لما هو قائم، وهذه الرؤية تفاعلت مع موجة عالمية، لاسيّما في فرنسا خصوصاً والغرب عموماً، وإرهاصات داخلية، عكست حساسية فردية جديدة، حين جرت محاولات للخروج من القوالب الجامدة والتمرّد على الكليشيهات القديمة. وقد ترافق ذلك مع خيبات ونكسات سياسية، فلم تعد النظرة الواحدية المتزمّتة والبعد الآيديولوجي يتحكّم بالحياة السياسية والثقافية، مثلما لم يعد الإيقاع المنفرد مقبولاً، وأصبح التطلّع للانفتاح وتجاوز الساكن والراكد والتقليدي مسألة تنسجم مع التطور وروح الموجة الجديدة الصاخبة التي عرفتها الستينات. وفي هذه الأجواء حاول شيركو بناء لغته الخاصة وهويّته المتميزة وصوته المنفرد وتدريجياً أخذ يتجاوز الآيديولوجي الذي أطلقنا عليه ” الواقعية الاشتراكية” استناداً إلى “نظرية جدانوف” ومسطرتها الصارمة، نحو الأفق الإنساني الواسع والعقلانية الواعية. وأستطيع القول إن شيركو يعتبر أحد روّاد القصيدة الكردية الحديثة بعد عبدالله كوران ، بل إنه الأكثر تمرّداً على نمط القصيدة الكلاسيكية .
III
حين تجدد القتال بين الحكومة والحركة الكردية في العام 1974 التحق شيركو  للمرة الثانية بالحركة الكردية المسلحة وعمل في الإذاعة الكردية وفي حقل الإعلام، وإثر اتفاقية الجزائر المبرمة في  6 آذار/مارس  1975 بين الرئيس صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي وبتهيئة ووساطة من الرئيس الجزائري هوّاري بومدين ووزير خارجيته آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، عاد شيركو إلى السليمانية، فتم إبعاده إلى هيت كما جرت الإشارة، وبقي في الإقامة الجبرية ثلاث سنوات، لكنه عاد إلى السليمانية والتحق مجدّداً بالثورة الكردية في نهاية العام 1984 وهي المرّة الثالثة التي يلتحق فيها بالبيشمركة . تجذّرت تجربته الشعرية والحياتية وكان عالم الشعر بكل ما فيه من رهافة وحساسية يملأ روحه، بل هيمن على عقله وكيانه:
الرائحة طريقي وبوصلتي
تأخذ بيدي
تحدّرت من جبين ذلك الجبل قطرات الندى
فاحت من الحقيقة رائحة الإله
خرج الشيطان من أحشاء الحجيم
وفاحت من الجحيم رائحة الكذب
شحذ ” قابيل ” كراهيته
وفاحت من الحرب رائحة الموت
لعلّ توق شيركو إلى الحرية وكراهيته للحرب والموت جعلته يتشبّث أكثر بالحياة بكل ما فيها من عنفوان وحيوية، وكانت قصيدته صوراً دفّاقة بأفق بعيد، تسافر مثل الريح، وتطير بلا أجنحة فوق أشجار البلوط وتعبر الشلالات الفضية والسماوات الزرقاء. كان يكتب قصيدته بريشة ملونة مثل ربيع كردستان، فتغدو مزهرة تحت ضوء الشمس الذهبية، بل تستطيع أن تسمع لحنها الداخلي وكأنه مونولوج سري، وأنت تقرأ حروفها فتدلّك على حكايا كثيرة وترشدك إلى خبايا كبيرة وتأخذك بعيداً في دروب أليفة، فشيركو يكتب بلغة القمر بكل ما فيه من أسرار ليفجّر طاقات النفس البشرية ، مثلما يكتب بلغة الوردة بكل ما فيها من عطر وشفافية  ونعومة، ويكتب بلغة الثلج  بكل ما فيه من صفاء ونقاء وبياض، ويكتب بلغة المطر فيبلل روحه الظمآنة إلى الحرية ويكتب بلغة النار ليُدفئ داخله بشعاع الأمل، ويكتب بلغة الطيور ليغرّد في الصباحات الندّية، ويكتب بلغة الأشجار فيسمو عالياً، ويكتب بلغة الجبل حيث الشموخ والرفعة والمستقبل. شيركو  بيكه س لا يكترث بالفواجع والآلام وحتى بالموت الذي يراه ماثلاً باستمرار،  يحاوره ويزوغ عنه مرّات ومرّات، لكنه مستعد لاستقباله أيضاً.
ها هو موتي يزورني كل ليلة مرّة أو اثنتين
يتكئ على أحلامي
هوذا موتي ظلٌّ لي
يحصي كل يوم خطوي
يفتش بين أوراقي
باحثاً عن آخر عنوان لي
IV
في لقائنا الأول في العام 1987  في دمشق كما أشرت كان ينتظر السفر إلى إيطاليا ليكون ضيفاً على لجنة حقوق الإنسان في فلورنسا،  ومن هناك ذهب إلى السويد حيث تقدّم بطلب اللجوء السياسي. وفي السويد تم منحه جائزة توفولسكي الأدبية، وسافر إلى الولايات المتحدة للقاء عائلته (والدته وأخته)، ولكنه بعد انتفاضة آذار (مارس) 1991 عاد إلى كردستان، وفي أول انتخابات لها في العام 1992  بعد انسحاب الإدارة الحكومية وفرض “الملاذ الآمن”، رشّح نفسه بصفته مستقلاً وكان قد أسّس قائمة باسم الخضر، واختير أول وزير للثقافة في كردستان، وكان في الوقت نفسه يترأس مؤسسة سردم ويصدر مجلة باسم العصر. في أول لقاء يستقبلني فيه بعد استيزاره في إربيل العام 1992  قلت له ماذا أناديك : الوزير الشاعر أم الشاعر الوزير؟  قال إنني شاعر وكفى، أما الوزارة فهي عابرة، وحين يمضي كل شيء لن يبقى سوى الشعر .. أليس كذلك كاك حسين؟ وأضاف حين تحتدم الأمور في اجتماعات مجلس الوزراء، أمسك ورقة وأخربش عليها أو أشرد في عالمي الخاص ومشروعي الثقافي والفكري وأفكّر في لقاء مع نفسي حيث تختمر القصيدة طازجة وشهيّة مثل خبز التنور. لم يمكث في الوزارة طويلاً، فتمرّد على الرتابة والنمطية واستقال من منصبه بعد عام ونيّف واعداً نفسه ألا يتورط مرة أخرى بالتنطع لأية مسؤولية حكومية خارج حقل الإبداع والثقافة ، خصوصاً حين احتدم المشهد الذي زاده  اندلاع المعارك الكردية – الكردية  فضاعف ذلك من غربته وإحباطه وقنوطه. كان  بيكه س يحمل الكثير من الهموم والأحزان ، حتى ضحكته كانت تحمل ثقل سنوات القهر والعذاب والترحال والنفي، لكن روحه كانت صافية ونفسه مشرقة وأحلامه وردية.
أصغيت إلى نبض الأرض
فحدثني عن حبهما ، هو والمطر
أصغيت إلى نبض الماء
فحدثني  عن حبهما، هو والنبع
أصغيت إلى نبض الشجر
فحدثني عن حبهما، هو والورق
وحين أصغيت إلى نبض القلب
فحدثني عن الحرّية
V
امتازت قصيدة شيركو بالتكثيف والإيجاز، وكان قد سبقه إلى ذلك بلند الحيدري الشاعر الكردي الذي كتب بالعربية والذي كانت لغته هو الآخر  “مقتصدة”، فشعره شعر صور على حد تعبير الناقد جبرا ابراهيم جبرا، الذي أسماه صاحب القصيدة البرقية “التلغرافية”، فهو يكتب بتكثيف شديد  ويعرف المدى الذي يريد الوصول إليه، كذلك كانت قصيدة شيركو الكثيرة الدلالة والواضحة الصورة، وإن كتب قصائد ملحمية مثل ” سفر الروائح” و” إناء الألوان” و” الكرسي”، لكن قصيدته المكثفة والموجزة كانت تصويراً لواقع متناقض ومعقّد يحاول أن يعطيه رمزية وإيحاء وبُعداً درامياً شديد التأثير. وقد ترجمت قصائده إلى العربية وإلى عدد من اللغات العالمية بينها الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، وبقدر اقتصاده بقصائده فقد تجد فيها حبكة درامية لحكايات صغيرة، وامتازت بالبساطة بقدر عمقها ودلالاتها، وكانت قصيدته عبارة عن لوحة متعدّدة بألوان الفرح والحزن، ونصّه مفتوحاً في فضاء شاسع، وكل ذلك في إطار إنساني، فقد حاول أن يؤنسن الأشياء ويضخّها في صور حيّة وناطقة مثل نوروز كردستان التي تزهو به في فصل الربيع. تغنّى  بيكه س بالعراق وبالأخوة العربية- الكردية وكان منشغلاً بالهمّ الفلسطيني في الوقت ذاته وتعكس قصائده تلك الروابط المتينة:
 استطاع شعاع أن يفلت من قبضة سنّارة
هرب…
وفي الطريق تعثّر بناي
فوقع وأدمى رأسه
ثم نهض
التفت
فرأى باب غرفة ” كنفاني” مفتوحاً دخل مع الدم
وحين أشعلت “أم سعد”  قنديل الغرفة
تضرّجت الحكايات
بلون الرمّان
كان شيركو  يسمع صوت الغابات ويقرأ الأمواج ويسافر مع الريح ويلاحق الشعاع،  كل ذلك وكأنه شيفرة غامضة  هو وحده الذي يفك رموزها السحرية القابعة في الأعماق،  لأنه يعرف سرّ الكلمة وحقيقة العشق، مثلما يعرف زيف الواقع ووهمه، لهذا عاش محتفياً بالحياة، لأنه يريد أن يجلس عرش القصيدة.
تذهب حلبجة إلى بغداد
تنظر إلى سدارتي القبانجي وعلي الوردي
 بجناح المقام ونبراس الفكر
تحلّقان كالفاختة
على القبّة الزرقاء والشناشيل
وتنثران السرور
تذهب حلبجة إلى بغداد
تمرّ بالشورجة
يتعطّر جسدها بعبق الهيل والقرفة والمسك
تحيط بها قبلات الفيلين
وبعد هنيهة
تستحيل القبل إلى نحل
وقامة حلبجة إلى خلية عسل
تأتي الحرية لتوزّع العسل على الجميع.
لقد ربح شيركو الشعر حتى وإن خسر كل شيء، لكن ذلك يكفيه لأنه ربح الريح والحياة والحركة.
الريح تنحني للخريف
الخريف ينحني للعاشق
باحترام
العاشق للعشق
العشق للخيال
والخيال لي
وأنا للشعر
رحل شيركو محمولاً بقلوب المحبّات والمحبين وعارفي قدر الشعر ومقامه، وقد ظلّ في سلوكه في الوطن والمنفى لصيقاً بالناس وهمومهم وفي الثقافة والسياسة والمرأة كان حضارياً وأنيقاً ومكتنزاً بالحب والجمال والخير.
وقد دفن في بارك الحرية في مدينة السليمانية مسقط رأسه.


229
في تفسير الظاهرة الإرهابية
عبد الحسين شعبان
لا يمكن اختزال الإرهاب في مقاربة واحدة مهما كان دورها كبيراً، لأن هناك عدداً من العوامل تتفاعل معها، وتتدافع فيها لتنتج بالنهاية ما نطلق عليه «الظاهرة الإرهابية». وبالطبع يختلف منظور الباحثين باختلاف خلفياتهم الفكرية والسياسية وتباين ظروف حياتهم ومجتمعاتهم، فضلاً عن اختلاف مناهجهم.
ويستند التفسير الثقافوي - الديني بشقيّه الغربي والإسلاموي إلى ربط العنف والإرهاب بالنصوص الدينية، فالمجاميع الإرهابية تحاول تفسيرها أو تأويلها بما يخدم مشروعها الإرهابي، من دون الأخذ بنظر الاعتبار سياقاتها التاريخية والظروف التي قيلت فيها ومدى توفّر شروطها.
وإذا كنا نعترف بأن ثمة حمولة أيديولوجية تتضمّنها بعض النصوص الدينية، فإن التركيز على ذلك واعتباره القاعدة وليس الاستثناء هو الذي دفع صنّاع القرار والقوى المؤثرة في الغرب بشكل عام لدمغ الإسلام بالإرهاب بزعم أن ثمة جينات إرهابية بين النص الديني والفعل الإرهابي، خصوصاً بعد أحداث ال 11 من سبتمبر / أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، اعتماداً على أطروحة الرهاب من الإسلام «الإسلامفوبيا».
ولعلّ من يميل إلى هذا التفسير أو من يحاول اعتباره العامل الحاسم في الظاهرة الإرهابية، إنما ينطلق من قراءة ميكانيكية جامدة للدين والثقافة، فالعنف والإرهاب وليدا التعصّب والتطرّف، وهذان الأخيران مرتبطان أيضاً بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والتاريخي والتربوي وبقية العوامل المؤثرة فيه داخلياً وخارجياً، وبالطبع من دون نسيان درجة الوعي الثقافي والديني.
أما أصحاب التفسير النفساني للظاهرة الإرهابية، فإنهم ينطلقون من اعتبار العوامل السيكولوجية المتأثّرة بالوضع السسيولوجي والاقتصادي للإرهابيين، هو الذي يقودهم للانخراط في الأعمال الإرهابية، بما فيها تفجير أنفسهم والانتحار وصولاً إلى تحقيق الهدف، وبقدر ما يكون مثل هذا التفسير صحيحاً، لكنه يبقى محدوداً وينطبق على حالات ضئيلة، بسبب إحباطات حياتية وشعور باللّاجدوى واستجابة لما هو غير عقلاني كتعويض عن حالات اليأس والقنوط، التي يظل الفرد أو المجموعة تتخبّط فيها لدرجة يستولي عليها مثل هذا الشعور، حيث يُقدم الإرهابي على إقناع نفسه أولاً بأنه ينفّذ واجباً، فما بالك حين يكون «أمراً إلهياً» فيلقى الثواب عنه في الآخرة، لكن مثل تلك الحالات لا يمكن تعميمها، كما أن نتائج الإحباط والشعور باليأس لا تقود كلها إلى نتائج واحدة.
وتستند أطروحة التفسير الاجتماعوي إلى واقع الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، وبشكل خاص إلى الفقر والعوز، وتتفاعل مع الجوانب النفسية، فتنتج ردود فعل حادة في ظلّ الشعور بالاستلاب والبطالة وتردّي الأوضاع المعيشية والصحية، وهو ما يوفّر مغريات للبحث عن أمن مادي ونفسي واجتماعي، وحين تكون الفرص شحيحة والظروف غير متكافئة، فقد يميل بعض الأفراد أو الجماعات المهمّشة إلى الإرهاب جزعاً ولا مبالاة، خصوصاً في ظروفهم البائسة. والأمر يشمل حتى بعض مسلمي أوروبا، فإضافة إلى عدم قدرة بعضهم على الاندماج، فإن ظروف حياة أوساط غير قليلة منهم مزرية، ولا سيّما بعد موجة اللاجئين التي ارتفعت وتيرتها في السنوات الأخيرة على نحو لا مثيل له تاريخياً، حيث فشلت سياسات العديد من البلدان في دمجهم مثلما هي إسبانيا وبلجيكا وفرنسا وغيرها، وهو ما يسهم في تغذية عوامل التوتر لدى الجاليات المسلمة.
وقد تمكن «داعش» من التغلغل في صفوفها واستقطاب المئات من المسلمين أو المتحوّلين دينياً إلى صفوفه، وذلك عبر التشكيك بجدوى العيش في تلك المجتمعات «غير العادلة» أو «الكافرة» أو المنقوصة الإيمان أو المشوّهة، ولا سيّما الشعور بفقدان الأمن الاجتماعي والإنساني.
في حين يذهب التفسير الجيوبوليتيكي إلى الصراع التاريخي على المصالح والنفوذ، ولا سيّما السياسي والديني وما تركه من حساسيات ومرارات قديمة وراهنة، وإذا كان هذا التفسير غربياً يقوم على «الإسلامفوبيا» فإنه في البلدان العربية والإسلامية يحمل لافتة «الويستفوبيا»، تلك التي تعتبر الغرب كلّه شروراً واستعلاء وعنصرية، استناداً إلى ترسّبات التاريخ وقراءة أحادية قائمة في الذاكرة الجمعية للناس تلك التي تتغذى على صدمة الاستعمار وما تركته على العرب والمسلمين، إضافة إلى استمرار الحروب والصراعات والنزاعات بشأن الموارد الطبيعية الأخرى في المنطقة مع وجود «إسرائيل» ودورها العدواني التوسعي الإحلالي.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العوامل المختلفة في فهم الظاهرة الإرهابية وتفسيرها، فإن مواجهتها عند ذاك ستكون مستندة إلى معطيات علمية وخبرات ميدانية وتجارب حياتية متراكمة وأدوات تجريبية ضرورية، إذْ ليس هناك نظرية جاهزة ومتكاملة تصلح لجميع المجتمعات، ويتطلّب الأمر معرفة ما لدى الإرهابيين من أفكار وخطط وبرامج.
وإذا كانت المقاربة الأمنية والعسكرية ضرورية ولا غنى عنها، فهي آخر العلاج، وينبغي أن تكون مقترنة باحترام كرامة الإنسان في إطار منظومة قوانين تكون درعاً واقية من جهة، ومقدمة لخطاب إقناعي وعقلاني مدعوم من الناس من جهة أخرى، فلم يعد نافعاً الخطاب العاطفي وردّة الفعل العشوائية وهكذا نحتاج إلى عمل تربوي طويل الأمد لبناء الإنسان، ويمكن للإعلام أن يلعب دوراً مؤثراً، خصوصاً إذا احتوى على الحقائق واستند إلى العلم والمعرفة، مثلما يمكن للمجتمع المدني أن يكون رديفاً للدولة وفاعلاً مجتمعياً في المجابهة.
drhussainshaban21@gmail.com



230
المنبر الحر / «تفاهة الشر»
« في: 13:38 02/08/2019  »
«تفاهة الشر»
عبد الحسين شعبان
أثار كتاب حنة أرندت «آيخمان في القدس.. تقرير حول تفاهة الشر» ردود فعل حادة وغير عقلانية وعنيفة ضد الكاتبة والكتاب، وذلك منذ صدوره قبل نحو ستة عقود من الزمان، لكن الجدل بأبعاده القانونية والسياسية والأخلاقية ما يزال قائماً ومستمراً.
الكتاب يتعلق بمحاكمة النازي آيخمان الذي اختطفته «إسرائيل» في العام 1960 من الأرجنتين بمخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي ومبادئ السيادة، لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة وجرائم حرب خلال الحرب العالمية الثانية، ولاسيما مساهمته في المذابح ضد اليهود، وهو ما عُرف ب«المحرقة اليهودية».
وكان آيخمان قد اختفى عن الأنظار وعاش في عزلة كاملة بعد أن فرّ إلى الأرجنتين عقب انتحار هتلر، ولكن الموساد «الإسرائيلي» توصّل إليه بعد 15 عاماً، وقام باختطافه بإشراف مدير الموساد آنذاك إيسار هرئيل.
وقد حاول الصهاينة أن «يبثّوا» هذا الخبر «المفرح» عبر محطة الإذاعة «الإسرائيلية»، بعد أن اقتربت الطائرة لتحط في مطار بن جوريون، وجاء فيه أن جلاد الشعب «الإسرائيلي» آيخمان سيكون في قبضة العدالة وتتم محاكمته في «إسرائيل» لينال جزاءه العادل.
ولعل السبب الحقيقي لمهاجمة أرندت، هو قولها إن الصهيونية تجاوزت الظروف التي انبثقت منها، وهي تغامر بالتحوّل إلى «شبح حي وسط أنقاض زمننا المعاصر»، بالمقارنة مع قوميات القرن التاسع عشر، علماً بأن أرندت هي نفسها كانت من أتباع الزعيم الصهيوني الألماني كيرت منفيلد «منظر الصهيونية الما بعد اندماجية»، الذي دعا إلى مساومة تاريخية مع الفلسطينيين من خلال رسم الحدود، بتأسيس دولة مشتركة علمانية مزدوجة القومية.
وقد استشرفت أرندت صعود تيار شعبوي ديني متشدّد بين «الإسرائيليين»، الأمر الذي لا بدّ من مشاركة الفلسطينيين.
أما «تفاهة الشر» في نظر أرندت، فتعود لعدم إيمانها بالنظريات الشمولية والممارسات الاستبدادية، والشر وفقاً لها لا يحتاج إلى «وحوش شيطانية؛ بل إلى ما هو أخطر وأدهى.. الحمقى والأغبياء».
لقد شعرت أرندت بواجبها كصحفية وأكاديمية وناقدة اجتماعية ولاجئة وشاهدة وناجية من المحرقة، أن تدوّن شهادتها في محاكمة آيخمان «الجزار النازي»، وهكذا أقنعت مؤسسة روكفلر بتغطية المحاكمة، وقد صوّرت آيخمان كمجرم بيروقراطي «مجتهد» وتافه في آن، بقدر ما هو إنسان عادي وشخصية لا طعم لها، وهو أشبه «بشبح داخل سائل روحاني» أكثر منه شرير، بقدر ما هو مخيف ومروّع، واستندت إلى عجزه عن التفكير والكلام المتماسك داخل المحكمة، وهو لم يجسّد الكره أو الجنون أو التعطش المتوثب للدم؛ بل شيئاً أسوأ بكثير، حيث جسّد الطبقية المتخفية للشر النازي داخل نظام مغلق تديره مجموعة من المجرمين المرضى، ويهدف إلى نزع الشخصية الإنسانية عن ضحاياه.
وتعتقد أرندت أن الشر فقد طبيعته المميّزة التي عرفها الناس، وذلك حين أعاد النازيون تعريفه «كقيمة مدنية جديدة»، وضمن هذا العالم المقلوب بدا أن آيخمان لم يكن واعياً لارتكابه أي شر، مثله مثل أي شرير يعتقد أن ما يقوم به هو عين الصواب، خصوصاً بتخريب أسس القوانين الأخلاقية، وهكذا كان آيخمان طموحاً ومتشوقاً إلى الترقي في السلم الوظيفي.. فلم يبد أي تفكير متميّز يختص به؛ بل كانت «تفاهته» هي المعبر الذي أهلّه ليصبح واحداً من أعظم المجرمين في العالم، ومثل هذا الاستنتاج الذي توصلت إليه ينطبق على جميع الأنظمة الشمولية «التوتاليتارية».
لقد اعتبرت أرندت المحكمة سياسية نظمها بن جوريون للبرهنة على أن المحرقة أكبر مجزرة لا سامية في التاريخ، فالذين يرتكبون الجرائم ليسوا بالضرورة وحوشاً أو شياطين، مع ملاحظة انتقادية للمجالس اليهودية التي لم تُبدِ التنبّه الكافي لمواجهة المخطط النازي، وقد ظنوا أنهم يخدمون مصالح اليهود، وانتهى بهم الأمر إلى تسهيل مهمة النازيين في إبادة أكبر عدد من اليهود بأقل جهد إداري وأقل كلفة ممكنة، في حين كان عليهم نُصح الضحايا بالهروب والاختفاء، وليس تسليم أنفسهم لآلة الذبح.
ولعل مثل هذا الاستنتاج المهم تناوله أيغون ردليخ في يومياته التي قمنا بإعدادها وترجمتها من الأصل التشيكي بعنوان: «مذكرات صهيوني» (1985)، والذي يكشف بشكل مباشر وغير مباشر أن هناك تواطؤاً بين القيادات الصهيونية، بما فيها منظمة «مكاباي هاكير» وبين النازية، وهو ما عكسته المذكرات في معسكر أوشفيتز البولوني (1940-1944)، والتي عثر عليها في سقف أحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف التشيكية بعد 23 عاماً من إعدام ردليخ نفسه، ومثل هذه الاتهامات راجت حول تواطؤ زعماء المجالس اليهودية مع المخططات النازية في «إسرائيل» ذاتها وفي خارجها، حتى قبل صدور كتاب أرندت.
لقد كانت تلك الأسئلة صادمة ومحرجة للقيادات الصهيونية التي ساومت على حساب الضحايا الأبرياء الذين أرسلوا إلى أفران الموت مقابل إرسال بضع عشرات أو مئات من المتموّلين والقيادات الصهيونية إلى فلسطين، وهو الأمر الذي يكشف الأساليب غير الأخلاقية التي مارستها الصهيونية خلال الاحتلال النازي، ودورها المتواطئ في المحرقة اليهودية.
drhussainshaban21@gmail.com


231
المنبر الحر / 67 دقيقة.. مانديلا!
« في: 01:52 25/07/2019  »
67 دقيقة.. مانديلا!
د. عبد الحسين شعبان

في الـ 9 من نوفمبر / تشرين الثاني عام 2009 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار يوم الـ 18 من يوليو / تموز من كل عام «يوماً عالمياً لنيلسون مانديلا» تقديراً وعرفاناً لدفاعه عن قيم السلام والحرّية والتسامح وحقوق الإنسان والمساواة ومناهضة التمييز العنصري، الذي قضى جلّ حياته يناضل من أجلها. وأصبحت تلك المثل والمعاني الإنسانية ملازمة له، سواء في سجنه المعتّق، والذي دام 27 عاماً، أو بعد تحرّره وإطلاق سراحه، ولا سيّما عند انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1994، فلم يدع الكراهية أو الحقد أو الانتقام تتسلّل إلى قلبه وتسيطر على عقله، لأنه ترك الماضي وراءه، وكان يتطلّع إلى المستقبل بثقة وأمل.
وكان مكسيم غوركي الروائي الروسي قد وصف أحد ثوريّي عصره بأنه كان «نصف عقله يعيش في المستقبل»، وأظن أن مثل هذا الوصف ينطبق بدرجة كبيرة على مانديلا، فحين أصبح رئيساً لجنوب إفريقيا شرع بإعداد خطة للمصالحة الوطنية عبر مقتضيات العدالة الانتقالية، ولم يبقَ أسير الماضي، بل ذهب بنظره بعيداً إلى المستقبل، ولا سيّما في البحث عن سبل التعايش بين الأجناس والأعراق والتكوينات وعن المشترك الإنساني القاسم المشترك الأعظم.
وتستوجب العدالة الانتقالية المساءلة لما حصل، وذلك لكشف الحقيقة كاملة، ليطلع عليها الضحايا أو عوائلهم، ومن ثم لجبر الضرر على المستوى الاجتماعي والأخلاقي، بهدف إبقاء الذاكرة حيّة وإطلاق أسماء الضحايا على مؤسسات ومرافق عامة ثقافية واجتماعية، إضافة إلى التعويض المادي والمعنوي على المستوى الشخصي.
ولكيلا يتكرّر ما حصل، لا بدّ من إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وتهيئة الظروف المناسبة للانتقال الديمقراطي عبر مصالحة وطنية بعيداً عن الثأر والكيدية، في ظل أوضاع انتقالية، تتجه فيها البلاد للانتقال من ضفة إلى أخرى، ومن حكم عنصري «أقلوّي» إلى حكم ديموقراطي «تعدّدي».
وفي عام 1989 أُسست «مؤسسة مانديلا»، ودعت كل فرد إلى تخصيص 67 دقيقة من وقته لمصلحة «العمل من أجل الآخرين»، وتعود رمزية الرقم 67 إلى أن مانديلا قضى 67 عاماً من حياته في خدمة الآخرين ومساعدتهم، فمقابل كل عام دقيقة، وإذا ما أضيفت الجهود الجماعية إلى بعضها، فستكون لها قيمة حقيقية، سواء على مستوى المؤسسة أو الجمعية أو منظمة المجتمع المدني أو الحي أو البلدة أو المدينة أو الدولة، فضلاً عن هدفها الإنساني وتأثيرها النفسي في المضحي بجزء من وقته أو راحته أو ماله أو على الآخر الذي يحتاج إليها.
وإذا كان الاحتفال هذا العام اختار شعار «العمل من أجل الآخرين»، فإنه في سنوات سابقة رفع شعارات عديدة منها «العمل ضد الفقر»، أو ضد «مرض نقص المناعة - الإيدز» أو غيرها، والذي كانت ترافقه حملات توعوية وتعليمية تتعلّق بالشعار الأساسي، فضلاً عن مساعدة اللاجئين والنازحين والمهاجرين من إفريقيا ومن البلدان النامية، بما فيها من البلدان العربية.
ومنذ عام 1999 بدأت مؤسسة مانديلا عملاً مكثفاً في المجال الإنساني مركزة على التنمية الريفية والتعليم، وخصوصاً بناء المدارس والصحة، ولا سيّما ضد وباء «الإيدز»، فضلاً عن سوء التغذية ونقصها وضعف وتدهور التعليم وازدياد البطالة واتساع نطاق الهجرة، ولعل جميع تلك الإشكاليات حين لا تجد حلاً مناسباً وإنسانياً، فإنها ستكون تربة صالحة لتفقيس بيض العنف بكل أشكاله وألوانه ومبرّراته، بما فيه «الإرهاب الدولي»، ولا سيّما في ظلّ التعصّب والتطرّف التي تولّده تلك التحديات الأساسية.
لقد تسامى مانديلا على الأحقاد والضغائن، وجنح خارج ردود الفعل إلى الفضاء الإنساني، وسعى لمشاركة وشراكة الجميع وفقاً لمبادئ المواطنة التي آمن بها، والتي تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، إضافة إلى المشاركة، وكانت مساعدة المستضعفين والنساء والأطفال هدفاً أساسياً لديه، خصوصاً في المجتمعات الأقل تطوراً، بل إنه كان يشعر بالسعادة حين يساعد الآخرين، فثمة تلازم بين التضحية والعطاء، وإذا كان الأخير للغير، فإن التضحية للنفس، وهكذا يجد الإنسان قيمة في نفسه يريدها قيمة عند الآخر، وكلّ ذلك جزء من العمل الخيري والتطوّعي.
ووفقاً لعلم النفس الاجتماعي، فإن الإنسان يشعر بالرضا والتأثير الإيجابي الذي يحدثه عمل الخير لمصلحة الآخرين، وقد توصل مانديلا إلى ذلك من خلال سيرته المهنية والقانونية وفترة سجنه ومعاناته وقناعته بأن العنف لن يولد إلّا العنف، وإنّ أي تقدّم حقيقي لن يحدث إلّا في ظروف السلام والتعايش والتسامح، وكان نيله جائزة نوبل للسلام حافزاً جديداً ومسؤولية إنسانية مضاعفة لمواصلة مشواره بعد إنهاء نظام الفصل العنصري الذي حكم البلاد أكثر من قرنين من الزمان، وهو الذي كان يردّد «لا يمكن إيقاف سيرنا نحو الحرية، وعلينا ألا نسمح للخوف بأن يقف في سبيلنا».
إن 67 دقيقة من عمل الخير من كل عام لا تعيق مسيرة أي إنسان، بل على العكس تسهم في «أنسنته» وجعله يرفل بالسعادة والراحة، فعسى أن يكون لكل إنسان 67 دقيقة!
drhussainshaban21@gmail.com

نشرت في صحيفة الخليج (الاماراتية) الاربعاء، 24/7/2019


232
المنبر الحر / الفساد ضد الفساد
« في: 00:20 20/07/2019  »
الفساد ضد الفساد
عبد الحسين شعبان

حين أُعلن عن تأسيس «المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق»، تساءل كثيرون، هل سيضع هذا المجلس حداً للفساد المالي والإداري، وقبل ذلك السياسي المستشري في العراق؟ أم أنه سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة، خصوصاً أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، والعنف الذي استفحل في المجتمع العراقي، في ظلّ نظام سياسي قام على المحاصصة الطائفية- الإثنية، الذي كانت قاعدته الزبائنية، والمغانم.
وخلال السنوات الست عشرة (ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق) تعرّضت الدولة العراقية لنهب منظم داخلي، وخارجي، إقليمي ودولي، حتى إن بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بدّد وحده نحو 8 مليارات، و800 مليون دولار، خلال فترة لا تزيد على عام واحد، كما ذهبت واردات النفط التي زادت على 700 مليار دولار، كلّها من دون حصيلة تُذكر، واستمر تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية، الصحية، والتعليمية، والبلدية، والبيئية، بما فيها الكهرباء والماء الصافي، ولم تنفع كل محاولات الاحتجاج الشعبية التي شهدتها بغداد، وبقية المحافظات.
وظلّت عشرات الآلاف من الملفّات لأشخاص متهمين بالفساد من دون معالجة جادة، ومسؤولة، بما فيها قضايا تعود إلى نحو 1000 من الشخصيات النافذة، بضمنها وزراء سابقون، ووكلاؤهم، ومديرون عامون، ونواب، ومستشارون وأصحاب الدرجات الخاصة.
لقد أصبح الحديث عن مكافحة الفساد في العراق مجالاً للتندر، وشاعت «ثقافة السخرية» في مجتمع لم يعرفها إلّا ما ندر، وفقد مصطلح مكافحة الفساد الكثير من معانيه، بل أصبح «شعاراً» يتشبث به الفاسدون أحياناً، قبل غيرهم، حيث يتجرأون على اتهام خصومهم، أو التواطؤ مع فاسدين آخرين للانتقام، أو الثأر، أو الكيدية، من المنافسين السياسيين. وقد بيّنت التجربة أن ليس كل من يزعمُ مكافحة الفساد حريص على المال العام، لاسيّما حين يتم غض النظر عن ملفات وإشهار أخرى، فمن يريد مكافحة الفساد حقاً لا يتّجه لزج القضاء في علاقات نفوذ، وتواطؤ مع من يسعى للتسقيط السياسي، أو النيل من منافس، وهناك أمثلة عدة على ذلك، جرت تسوية ملفاتها بعد ضجة صارخة، وتشويه سمعة، ووقف القضاء في الحالين عاجزاً، أو مغلولاً، لاسيّما في ظلّ أعمال العنف والتداخلات العشائرية، وإن كان هناك أمثلة إيجابية جريئة دفع بعض القضاة ثمنها باهظاً.
لقد حاولت الحكومات المتعاقبة، أو بعض الأحزاب والكتل فتح ملفات بعض الفاسدين، أو التهديد بفتحها ضد خصومها، (بما فيها خارج القضاء)، وأحياناً من التوجه السياسي نفسه، أو الحزبي، وسبق لها أن وضعتهم في مواقع متميّزة لاستفادتهم الشخصية والحزبية، وذلك شرط ولائهم المطلق لها، وفقاً لقاعدة «الولاء قبل الكفاءة»، لدرجة أن الدائرة أخذت تتسع تدريجياً من الولاء العائلي والشخصي إلى الطائفي، أو الإثني، إلى السياسي، أو الحزبي، ثم إلى المناطقي، أو الجهوي، علماً بأن نظرة الرأي العام كانت صائبة وسبّاقة، وكان صوته عالياً بتأكيد مخالفة هؤلاء وانتهاكاتهم اليومية، بل وحتى الإشارة إلى اتهامات صارخة لهم بالسرقة والتلاعب بالمال العام، لكنه كان يتم السكوت عن ذلك.
وقد كشف رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وجود أكثر من 50 ألف موظف في ملاكات تابعة لوزارة الدفاع (وحدها)، فما بالك بالموظفين المسجلين وهم غير فعليين، بمن فيهم من يتقاضى أكثر من راتب، أو يتسلّم رواتب لا يستحقها تحت عنوان «الخدمة الجهادية»، أو العيش في المنفى، أو تخصيص درجات خاصة لا تنطبق عليها المواصفات الوظيفية في التسلسل الإداري، فضلاً عن تزوير الشهادات لعدد من المسؤولين الكبار، ويضم ملف النزاهة أرقاماً تكاد تكون مذهلة بهذا الخصوص.
الأساس في مكافحة الفساد هو الفصل الحقيقي بين السلطات، بحيث تكون هناك مراقبة برلمانية، ومحاسبة، ومساءلة خارج الحكومة، ويمكن للمجاميع المتضامنة اتخاذ قرار على أساس برامج، ورؤى، وأهداف، ومطالب، وليس تبادل المنافع، أو المغانم، أو المساومات غير المبدئية على حساب المواطن.
نستطيع القول إنه لا حياة سياسية من دون فساد، لأن السياسة واقعياً هي صراع على النفوذ، والمصالح، والموارد، والامتيازات، مثلما هي «إدارة للشأن العام»، والتلازم بين الفساد والسياسة ليس تبريراً، لكنّ الفساد متفاوت الدرجة، والموقع، والخطورة، والامتداد، ولذلك فإن السياسة الناجحة هي التي توفّق بين إدارة الشأن العام، أو «الخير العام» حسب ابن خلدون، وبين صراع النفوذ، والمصالح، وبهذا المعنى يكون هدف العدالة في مكافحة الفساد ليس انتقاماً، وإنما إحقاقاً للحق، والمصلحة العامة.
وحتى الأنظمة الديمقراطية لا تخلو من الفساد، بل لا يوجد نظام سياسي يخلو منه، لكن النظام الديمقراطي توجد فيه منهجيات وآليات في المشاركة، والمراقبة، والمحاسبة، لترشيد السياسة العامة، فضلاً عن دور المجتمع المدني الذي هو شريك وراصد، و«قوة اقتراح».
والمهم ليس إكثار الحديث عن الفساد وتشكيل الهيئات واللجان، والبحث عن انتشاره، وتسطير توصيات لمكافحته، بل تمكين المؤسسات والأفراد وتنظيمات المجتمع المدني لمكافحته، وتحصين الإدارة بالوقاية، والحماية، والإجراءات الفعّالة لتطويقه، وحصره.
drhussainshaban21@gmail.com

نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) الأربعاء 17/7/2019

233
المنبر الحر / «سلطانات الرمل»
« في: 17:31 12/07/2019  »
«سلطانات الرمل»

عبد الحسين شعبان
لم أكن قد تعرّفت إلى البادية السورية قبل تعرّفي إلى الروائية السورية لينا هويّان الحسن، وبالتحديد بعد قراءة روايتها المدهشة «سلطانات الرمل» التي دوّنت فيها «سيرة أشهر فاتنات بادية الشام بين 1880 و1950»، وحين قرأت الرواية شعرت بأن الحسن لا تمتلك خيالاً خصباً فحسب، بل ولغة أنيقة، وجملة رشيقة، ورؤية مثيرة، مثلما اكتشفت الكمّ الهائل من المعلومات الغنيّة عن البادية، والتفاصيل الوفيرة عن العشائر، باستعادة دور العشيرة، ليس بصفتها ماضياً فحسب، بل باعتبارها حاضراً.
وإذا كان وجود قانون للعشائر في العراق يعود لفترة الاحتلال البريطاني (1914-1918)، فإن قانون العشائر السوري حديث نسبياً، ولكن إلغاء القانونين جاء متساوقاً مع أحداث «ثورية» حصلت في البلدين، أولها قيام الوحدة المصرية- السورية، وثانيها قيام ثورة 14 يوليو/ تموز في العراق، وكلاهما حصل في العام 1958، وقد نشرت الروائية لينا الحسن نص قرار إلغاء قانون العشائر بتوقيع الرئيس جمال عبد الناصر الذي صدر في 28 سبتمبر/ أيلول، وجاء فيه: يلغى قانون العشائر الصادر بقرار رئيس مجلس النواب السوري رقم 31 بتاريخ 13/6/1956 ويخضع أفراد العشائر إلى كل القوانين والقرارات والأنظمة المطبقة على المواطنين الحضريين في الإقليم السوري.
وعلى الرغم من مضي أكثر من 6 عقود على إلغاء قانوني العشائر في العراق وسوريا، وتراجع دور العشيرة فعلياً بحكم توجّهات الدولة المدنية في البلدين، فإن العودة إلى العشائرية أخذ يتسلّل مجدداً بالترافق مع تراجع هيبة الدولة، وعدم قدرتها على بسط نفوذها، وسلطانها على كامل البلاد.
لقد عملت بريطانيا على كسب بعض رؤساء العشائر لمصلحة أهدافها الاستعمارية، ومقابل ذلك أغدقت عليهم ليكون لهم دور سياسي أيضاً، ويصبحوا أعضاء دائمين في مجلسي النواب والأعيان، كما وزّعت عليهم الأراضي، ومنحتهم امتيازات وصلاحيات موازية للقضاء والحكومة في مناطقهم وإقطاعياتهم، بما فيها الفصل في النزاعات، إضافة إلى أحكام وسجون خاصة لإخضاع أبناء عشائرهم، وضمان موالاتهم.
لكن دور العشائر بدأ ينحسر بالتدريج بعد العام 1958 في العراق وفي سوريا بعد إلغاء قانوني العشائر، وإضعاف القاعدة المادية الاقتصادية والاجتماعية لرؤساء العشائر، وتوزّع أبناء العشائر، خصوصاً بعد الهجرة الواسعة من الريف، أو البادية باتجاه المدن على الأحزاب والنقابات والجمعيات، وساهم الإصلاح الزراعي بغض النظر عن أخطائه وتأثيره السلبي على الزراعة في إضعاف دور العشيرة.
وبعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وحرب قوات التحالف ضده في العام 1991، شهد العراق عودة العشائرية بقرار حكومي، حيث بدأ الرئيس السابق صدام حسين باستقبالهم وتكريمهم، بل إن بعض العشائر تم تصنيعها ظنّاً منه أنه بالإمكان حماية نظامه، وبالغ بعض هؤلاء في التوقيع له بالدم على «وثيقة حفظ العهد»، وقد حاول الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر توظيف بعضهم لمصلحة المشروع الأمريكي، مستغلاً الخلافات السياسية والطائفية، من جهة وضعف مرجعية الدولة، من جهة أخرى.
وهكذا أصبح لبعض هؤلاء شأن كبير استغله إلى حدود بعيدة. وتنقل مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الدور الجديد الذي يقوم به بعض رؤساء العشائر في الوقت الحاضر، وجاء في مقالة بعنوان «العشائر في العراق»، مع عنوان فرعي «استأجر شيخاً»، ما يلي: «بعد سقوط صدام حسين عام 2003، ملأ الشيوخ الفراغ بعد نشوء دولة هشّة، وفاسدة، ويقوم اليوم حتى بعض المحامين بتقديم النصيحة لزبائنهم باستخدام مجالس العشيرة بدلاً من اللجوء إلى المحاكم، خاصة بعد أن أقام الشيوخ علاقات وطيدة مع الميليشيات ذات النفوذ، وهذا ما أدّى إلى ازدهار»بزنس«جديد، حيث يقوم الشيوخ بعرض خدماتهم».
وبالعودة إلى رواية «سلطانات الرمل» شعرتُ وأنا أتابع تفاصيلها المتداخلة، والأسماء المتدافعة والأمكنة والأزمنة، بأن ثمة واقعاً جديداً في كل من سوريا والعراق، كأنه عودة القهقرى إلى ما قبل قرن من الزمان، خصوصاً بقطع خط التطوّر التدرّجي والتراجع إلى مرجعيات ما دون الدولة، وما قبلها، فضلاً عن استغلال بعض الإرهابيين، ولاسيّما «داعش»، لبعض تلك التشكيلات.
لقد أصبحت الظاهرة العشائرية التي كان حضورها باهتاً في سوريا لافتة للنظر، لجهة التداخل الخارجي من جهة، ومن جهة أخرى لجهة استعادة الدولة لمكانتها، وهيبتها. أمّا في العراق الذي تتنازعه مرجعيات عدة، فقد أصبحت طاغية لدرجة أن الدولة اضطرت لإصدار مرسوم حول «الدكّة العشائرية» نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، التي اعتبرتها ضرباً من الإرهاب، والدكّة تهديد أولي، أو إنذار، بالمحذور الآتي لدفع الطرف المعني للتنازل وتنفيذ ما يُطلب منه، حيث يتم إطلاق النار على منزل المراد تهديده، قبل القيام بعمل أكبر.
وإذا كانت رواية «سلطانات الرمل» تتحدّث عن مرحلة دخول المدنية إلى الريف، وعالم البدو، فإن مرحلة ما بعد نحو قرن من الزمان تظهر العكس، حيث تم ترييف المدن والحواضر، بل «بدونتها» في حين يدخل العالم إلى ما بعد «الحداثة».
drhussainshaban21@gmail.com



234
" عبء" الديمقراطية !!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


مثّل عنوان الندوة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي الدولي لهذا العام إشكالات الواقع والتحدّي في آن، بين "الديمقراطية الموعودة" و"الديمقراطية المفقودة"، خصوصاً حين حمل سؤالاً مكمّلاً: " أين الخلاص؟" بعد أن وضع " عبء الديمقراطية الثقيل" في  الصدارة.
لم يحدث أن واجهت الديمقراطية بصفتها المعيارية أو الإجرائية، مأزقاً مثلما تواجهه اليوم، فعلى مدى العقود الثلاثة ونيّف الماضية يمكنني أن أستحضر كمّاً هائلاً من المشاركات والدراسات والأبحاث والمؤتمرات بشأنها، وأتوقّف هنا عند ثلاث محافل مهمة كان آخرها جلسة عصف فكري "أكاديمي" نظّمتها جامعة فينيسيا (إيطاليا) (أيار/2019) حول "مصادر الديمقراطية" وقبلها بعقد ونصف من الزمان– ندوة دولية تم تنظيمها في سيؤول (كوريا الجنوبية) خريف العام 2002، حول "آفاق الديمقراطية" بحضور مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأسبق وذلك عشية غزو العراق، وسبقها- ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص (ليماسول) 1983 حول " أزمة الديمقراطية في الوطن العربي".
 ولم تكن الديمقراطية حينها، وخصوصاً في عالمنا العربي مطروحة على بساط البحث كخيار للحكم، خصوصاً في ظلّ هيمنة التيارات الآيديولوجية الشمولية آنذاك: القومية واليسارية والإسلامية. ولذلك يأتي "سؤال أصيلة"، بعد هذه السنوات، استفهامياً مثيراً فهل وصلت الديمقراطية إلى طريق مسدود؟  وهل ثمة أسلوب حكم آخر أفضل منها أو يتجاوزها؟
لقد اجتاحت الموجة الديمقراطية آخر ما تبقى من قلاع الدكتاتورية والاستبداد في أوروبا الغربية في سبعينيات القرن الماضي، وشملت اليونان والبرتغال وإسبانيا، وبدأ التململ في أوروبا الشرقية التي انتقلت من أنظمة شمولية إلى أنظمة تتوجه صوب الديمقراطية، لاسيّما بعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني/1989 وانتهاء عهد الحرب الباردة، وامتدت الموجة إلى أمريكا اللاتينية وعدد من بلدان آسيا وأفريقيا، ومع أن رياح الديمقراطية انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط ، إلّا أن حضورها اللّاحق حتى وإن جاء متأخراً، طرح عدداً من الأسئلة الجديدة- القديمة في ظل النكوص والتراجع وانسداد الأفق. وفاض الجدل حول مستقبل الديمقراطية وآفاقها، أكانت عريقة أم ناشئة أم جنينية؟.
وإذا كانت الانتخابات من مقتضيات الديمقراطية ، فهي ليست وحدها التي تقرر "شرعية الحكم" و"ديمقراطية النظام"، خصوصاً بضعف التمثيل وشحّ فرص الشراكة والمشاركة وعدم مراعاة التنوّع الثقافي وحاجات الناس وقيم الديمقراطية، الأمر الذي ولّد عزوفاً من جانب المواطن، حيث بدأت ثقته تهتز وحماسته تضعف في الإقبال عليها.
وتمثّل المبادئ الدستورية والقانونية العامة مثل  "الشعب مصدر السلطات" و"حكم القانون" و"فصل السلطات" و" الحقوق والحريات" و" تداول السلطة سلمياً"،  الجوانب المعيارية - القيمية في الديمقراطية، في حين أن الجوانب الإجرائية العملانية تتّبع الآليات المناسبة لإدارة التنوّع وتنظيم شؤون الحكم بما يتناسب مع تطور كل مجتمع.
وقد دلّت التجربة التاريخية لنحو ثلاث قرون من الزمان أن الديمقراطية كنظام تتطوّر وتتقدّم ، ولكن ليس دون مشكلات ونواقص وثغرات وعيوب، فهي ليست "مثالية"، بل هي كما عبّر عنها ونستون تشرشل  "النظام الأقل سوءًا من غيرها" ، وبهذا المعنى فهي ليست  "مخلّصاً" أو "خشبة نجاة" أو " وعداً"، بقدر ما تعبّر عن إمكانية إدارة الحكم وتداولية السلطة وتنظيم التنوّع بالإقرار بالتعددية، ومثلما تحمل مشتركات قيمية وإنسانية عامة، فهي تمتلك خاصيّات خصوصية، وهو ما أشار إليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47 الصادر في 4 ديسمبر (كانون الأول) العام 2000 والموسوم " تعزيز الديمقراطية وتوطيدها" .
وعلى هذا الأساس  فبإمكاننا القول إن الديمقراطية سلسلة تجارب غير مكتملة، تتطوّر وتتغيّر وتتقدّم وتتراجع أحياناً، وأهم ما فيها هو قدرتها على " إدارة التنوّع" باتباع آليات سلمية، وحتى مع خروجها أحياناً على جانبها المعياري باختيار المحكومين للحكام بصورة خاطئة، كما حصل مع هتلر أو مع صعود الموجة الشعبوية الجديدة، التي أوصلت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أو فوز الشعبويين حالياً في النمسا وهولندا والدانمارك وبولونيا وتشيكيا والمجر ، فضلاً عن ارتفاع رصيدهم في فرنسا (حزب ماري لوبان) وإيطاليا (حركة الـ 5 نجوم) وألمانيا (حزب البديل الديمقراطي) وغيرها، فإن معالجة مثل هذا التوجه "غير الديمقراطي" سيكون بوسائل ديمقراطية، لأنها حتى الآن الآلية السليمة والأكثر قدرة على معالجة أزمات الحكم وتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين.
   وفي منطقتنا واجهت الديمقراطية طائفة من التحدّيات الكبرى التي تقف حائلاً أمام اجتيازها العتبة الأولى مثل " النزاعات الطائفية والمذهبية" فضلاً عن "التوترات الإثنية والقومية" و"الحروب الأهلية "، و"العنف المجتمعي بجميع صوره" و"الإرهاب الدولي" و"الحروب الإقليمية"، ناهيك عن "شحّ ثقافة الديمقراطية"، لاسيّما بتعاظم كوابح ما قبل الدولة وما دونها مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
   وهكذا فالديمقراطية ظلّت تراوح "بين المحظور والمنظور"، وتتجاذبها عوامل شتى من شدّ وإرخاء ونجاح وإخفاق، لكنها بالرغم من كل نواقصها وعيوبها تمثل خيارات وآليات تستجيب للحدّ الأدنى من المشتركات الإنسانية والخصوصية الوطنية، وليس هناك موديل كامل ونهائي يصلح لجميع المجتمعات.






235
 

حين يُضرب السفير البولندي في «تل أبيب»!
عبد الحسين شعبان
تعرّض السفير البولوني ماريك مغيروفسكي لدى «إسرائيل» للاعتداء المفاجئ، عندما كان داخل سيارته يهمّ بمغادرة مقرّ السفارة، من جانب شخص يُدعى ليدرمان (65 عاماً)، وتعود أصوله إلى عائلة يهودية بولندية، وقد جاء إلى السفارة ليعرف لماذا لا تدفع بولندا التعويضات لليهود كما قال؟
وزعم المعتدي أن طاقم السفارة نعتوه ب «اليهودي الصغير»، فغضب وراح يضرب بقبضته سيارة السفير التي صادف أنها كانت تمرّ من أمامه، وشتمه بأقذع العبارات، بل فتح باب السيّارة، وبصق على السفير مرتين، وحاول الاعتداء عليه جسدياً بعد أن حاول السفير التقاط صور للمعتدي عبر جهاز الهاتف النقال. وقد تقدّم السفير بشكوى رسمية إلى الشرطة «الإسرائيلية» ضد المرتكب، وأرفق ذلك بصور للاعتداء مع مذكرة إلى وزارة الخارجية «الإسرائيلية».
ويأتي حادث الاعتداء على خلفية رفض الحكومة البولندية دفع تعويضات «لليهود» عن الممارسات النازية «الألمانية» إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت وارسو قد أقرت في عام 2018 قانوناً يمنع اتهام البولنديين أو الدولة البولندية بالتواطؤ مع النازيين بخصوص الجرائم المرتكبة تلك. وأثار صدور ذلك القانون تنديداً شديداً من جانب «إسرائيل» التي اعتبرت هدف تلك المحاولة منع الناجين من الحرب من ملاحقة جرائم ارتكبها «البولنديون» ضدهم.
وتقول وارسو: إن الشعب البولندي كلّه كان ضحية الممارسات النازية في تلك الفترة، وليس اليهود وحدهم، ويحق لكل بولندي بغض النظر عن دينه ومعتقده، سواء كان مسيحياً أم يهودياً أن يحصل على تعويض من ألمانيا، وليس من بولونيا، التي كانت كدولة «ضحية» تلك الممارسات العدوانية.
جدير بالذكر أن حادث الاعتداء أثار تداعيات مختلفة، فعلى أثر الشكوى البولندية جرى القبض على المعتدي وتقديمه إلى القضاء، وقد عمل محامو الدفاع عنه للتخفيف من الحادث بزعم أنه لم يكن يعرف السفير، وأنه مستعد للاعتذار منه، وقد جرى بالفعل إطلاق سراحه بقرار من المحكمة في «تل أبيب» بعد يوم واحد من توقيفه. من جهتها استدعت وزارة الخارجية البولندية سفيرة «إسرائيل» في وارسو آنا آزاري، واستنكرت الحادث، وطلبت منها بصورة رسمية تشديد الأمن حول السفارة البولندية في «تل أبيب».
وقد وصف الرئيس البولندي أندريه دودا خلال مؤتمر صحفي في تيرانا (ألبانيا) ذلك العمل بالشوفينية والكراهية. وقال في خطاب وجّهه إلى الحكومة «الإسرائيلية»: «تتطلّب مثل هذه المواقف إدانة قوية وعقوبة صارمة». كما استنكر رئيس الوزراء البولندي ميتوش موربيسكي بشدّة الاعتداء، ووصفه بالعنصري. وأشار إلى أنه يشعر بالقلق جرّاء تصاعد موجة العداء والكراهية للبولنديين التي تجتاح «إسرائيل» بسبب خلافات سياسية.
وسبق حادث الاعتداء إلغاء بولندا زيارة مقرّرة لمسؤولين «إسرائيليين» كانوا متجهين بالطائرة إلى مطار وارسو بسبب نيّتهم إثارة مسألة استعادة ممتلكات يهودية صودرت خلال حملة التطهير «النازية»، وهو ملف تعتبره بولندا مغلقاً. ولم يسمح لأعضاء الوفد الرسمي بالنزول من الطائرة التي عادت إلى «تل أبيب» بعد عدّة ساعات من الانتظار. وكان وزير الخارجية «الإسرائيلي» إسرائيل كاتس قد أثار حفيظة البولنديين قبل الحادث حينما قال: «إن البولنديين يرضعون معاداة السامية مع حليب أمهاتهم».
وعلى الرغم من أن الحكومتين البولندية و«الإسرائيلية» لا تريدان إطلاق صفة الأزمة الدبلوماسية على علاقاتهما، إلّا أن استفزاز «إسرائيل» للبولنديين المعروفين تاريخياً باعتزازهم بقوميتهم، جعل العلاقات البولونية - «الإسرائيلية» في وضع حرج للغاية، خصوصاً زعم «إسرائيل» تواطؤ البولنديين مع النازيين الألمان في الجرائم المرتكبة بحق اليهود، وهو ما يرفضونه بشدة.
وإذا كانت حكومة نتنياهو قد تمادت في إطار ما سمّي «صفقة القرن»، وحصلت على دعم أمريكي لا محدود، وتلقّت ثلاث هدايا دبلوماسية عشية الانتخابات «الإسرائيلية» الأخيرة التي تقرر إعادتها، فإنها في الوقت نفسه تلقت أربع صفعات دبلوماسية.
وجاءت الصفعات هذه المرّة من دول تعتبرها «إسرائيل» صديقة لها، الأولى: إلغاء زيارة رسمية «إسرائيلية» لوارسو، والثانية: استمرار إعادة أوكرانيا سياحاً «إسرائيليين» غير مرغوب فيهم، حيث اعترفت وزارة الخارجية «الإسرائيلية»: بأن كييف تعيد 1000 سائح «إسرائيلي» سنوياً، والثالثة: احتجاج حكومة طشقند (أوزبكستان) على كثرة دخول «الإسرائيليين» وهم يحملون أسلحة في حقائبهم، وأنها قرّرت اعتقال كل من يضبط بهذا الجرم. أما الرابعة، فهي تصويت البرلمان التشيكي على عدم نقل سفارة بلادهم إلى القدس.
وبغض النظر عن الهدايا والصفعات الدبلوماسية فإن «إسرائيل» تثبت للعالم أجمع ويوماً بعد يوم أنها «بؤرة حرب مستديمة وعنصر توتر دائم في المنطقة»، وهي تتنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولا سيّما حقه في تقرير مصيره، وإنها لا تحترم أي قواعد قانونية دولية أو دبلوماسية.
drhussainshaban21@gmail.com



236
أوجاع العرب وكوابيس المستقبل

حوار أجراه العزب الطاهر مع د.شعبان
س 1 - ما هي أهم التحديات والمخاطر التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة ,وهل عجزوا عن التعاطي معها بكفاءة تحد من تأثيراتها وتداعياتها السلبية ؟ وما هي أسباب العجز أو الفشل ؟
ج1 -  لا زالت التحدّيات والمخاطر التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة، هي ذاتها التي واجهتهم منذ أواخر القرن التاسع ونهاية عهد الدولة العثمانية ، لكنها أصبحت أكثر تعقيداً وانشباكاً، سواء على المستوى الوطني أم على المستوى العربي والإقليمي.
   وإذا كانت فكرة الاستقلال والتحرّر والوحدة القومية، قد ارتبطت بالدعوة إلى الإصلاح والنهضة، وإن كانت بشكل جنيني، فإنها اليوم أكثر تركيباً وعمقاً بسبب التحدّيات الخارجية والداخلية، تلك التي لعبت دوراً أساسياً في إخفاقهم من استكمال مستلزمات الانتقال إلى طور جديد بعد انحلال الدولة العثمانية وشكّلت كوابحاً أمام تنميتهم وتقدمهم، فالأسباب الخارجية تكمن في محاولة القوى الاستعمارية كبح جماح حركة التحرّر الوطني العربي بإرهاصاتها المبكّرة، والتي بدأت مع المشروع النهضوي الأول الذي قاده جمال الدين الأفغاني  ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والشيخ حسين النائيني وخير الدين التونسي ورشيد رضا وانطوان فرح وشبلي شميّل وصولاً إلى علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم .



   الهيمنة على المنطقة
   وقد وجدت المساعي الاستعمارية القديمة الجديدة فرصتها لفرض الهيمنة على المنطقة وسلب خيراتها ومواردها ارتباطاً مع الحرب العالمية الأولى 1914-1919 وتفكّك "الدولة العثمانية" التي كانت قد بلغت من الضعف والهزال، لدرجة أخذت تُدعى بـ " الرجل المريض"، حيث كانت تلك المرحلة الأولى لتنفيذ المخطط الامبريالي والذي ما زال مستمراً منذ أكثر من قرن من الزمان وحتى الآن ، وتقع في القلب منه فلسطين التي شكّلت رأس حربة مدبّبة وحادة في المشروع التدميري للمنطقة العربية.
   وكان لاتفاقية سايكس - بيكو السرّية العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا والتي انضمت إليها روسيا القيصرية، لكنها انسحبت منها بعد الثورة البلشفية العام 1917 ، الأثر الكبير في وضع اللمسات النهائية لتقسيم المنطقة ، خصوصاً بعد الخديعة التي تعرّض لها الشريف حسين وتبخّر الوعود التي قطعها له الحلفاء بمنح الشعب العربي الاستقلال بعد إعلان الثورة والتخلّص من التبعية العثمانية، وكانت الحلقة الثانية من المشروع الامبريالي - الصهيوني  منح بريطانيا لليهود وعد بلفور القاضي بإنشاء " وطن قومي" لهم في فلسطين  العام 1917، الأمر الذي امتد تأثيره وتفاعله بمراحله المتقدّمة لاحقاً، لاسيّما بعد التمكّن من إنشاء دولة "إسرائيل" في 15 أيار (مايو) 1948 ، إثر صدور قرار الجمعية العامة 181 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1947 .
   ومنذ ذلك التاريخ وشكّلت "إسرائيل" بؤرة عدوان توسّعي إجلائي مستديم حيث كان لها الدور الأخطر في تعطيل التنمية وعرقلة إمكانية تحقيق المشروع النهضوي العربي الحديث.
   ويمثّل هذا المشروع بأركانه الستة خلاصة خبرة ومراجعة فكرية واستفادة من الأخطاء التي صاحبتها والذي تبلور طوال ربع القرن الماضي بربطه بين الأهداف على نحو عضوي وعدم تجزئتها أو الافتئات عليها أو تقديم جزء وإهمال أو تأجيل آخر سواء بمقايضة أو بانتقائية قادت إلى التشوّه والاستبداد .
   أركان مشروع النهضة
   أما أركان المشروع النهضوي العربي الجديد فهي: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة وهي وحدة أو اتحاد أو أي عمل عربي مشترك على أساس ديمقراطية الأسلوب واجتماعي المضمون وليس فوقياً وإكراهياً، والتنمية المستدامة في مواجهة التخلّف، والاستقلال الاقتصادي في مواجهة التبعيّة وبالطبع بعد الاستقلال السياسي، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلّط، والتجدّد الحضاري لمواكبة التطور العالمي.
   وتتداخل الأسباب الخارجية مع الأسباب الداخلية في إطار نظرة شاملة للمشروع النهضوي الحضاري العربي، والتي كان غياب مثل هذا التفاعل بين أركانه أو إهمال بعضها عاملاً من عوامل الضعف والتشتّت والاستتباع التي عانى منها العالم العربي،  فعلى الرغم من حصول البلدان العربية على استقلالها، فإنها لم تتمكّن من بناء وحدتها القومية، مع أن  قيام جامعة الدول العربية في 22 آذار (مارس) 1945 كمنظمة إقليمية ، كان يمكن أن يكون نواة أولية لذلك، لكنّ ميثاقها وضع عقبات وقيود أمام الارتقاء إلى مثل هذا الطموح بإقامة كيان عربي موحّد، بل أنها جاءت تكريساً لما هو موجود وتأكيداً للأمر الواقع، وقد ازدادت العلاقات العربية- العربية احتداماً لدرجة الاحتراب خلال فترة ما سمّي بالمدّ القومي، ووصلت العداوة والبغضاء بين الأنظمة العربية إلى حدود كبيرة .
   وفشلت التجارب الوحدوية العديدة جميعها، لأنها لم تقم على دراسة كافية ولم تأخذ بنظر الاعتبار التدرّج والتراكم ودرجة تطور كل بلد عربي، فضلاً عن الاندفاعات العاطفية التي كانت وراء الدعوات التي صاحبتها والتي اصطدمت بالواقع لاحقاً، إضافة إلى تنازع المصالح القطرية والسلطوية الأنانية الضيقة وابتعادها جميعها عن الديمقراطية دون استثناء ومنها : الوحدة المصرية - السورية التي أقيمت في 22 شباط (فبراير) 1958 والاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن  في 14 شباط (فبراير) 1958 ، ومحاولات الوحدة الثلاثية: المصرية، السورية ، العراقية وميثاق 17 نيسان (أبريل) العام 1963،والمحاولات العديدة التي شارك في الدعوة إليها العقيد معمّر القذافي بين مصر  وسوريا وليبيا والسودان وغيرها منذ  العام 1971 وتجربة  الوحدة العراقية - السورية العام 1978-1979، والميثاق القومي الذي طرحه العراق  في شباط (فبراير) 1980، ومجلس التعاون العربي الذي تأسس في العام 1989 بين العراق والأردن ومصر واليمن والذي انحلّ عملياً إثر غزو الكويت 1990 ، والذي أدى إلى تبديد الحدّ الأدنى من " التضامن العربي".
   وعلى الرغم من استمرار الاتحاد المغاربي الذي تأسس في 17 شباط (فبراير) 1989، إلّا أن ثمة عثرات وتحديات تواجهه، من أبرزها قضية الصحراء المغربية (البوليساريو)، وخصوصاً العلاقات التي ظلّت مقطوعة بين دولتين منه، وهي المغرب والجزائر.
   وتأسّس مجلس التعاون الخليجي في 25 أيار (مايو ) 1981، وقد واجه مؤخراً مصاعب وإشكالات عديدة جعلت منجزه العملي محدوداً على الرغم من مضي نحو أربعة عقود على تأسيسه، ولاسيّما بعد اندلاع الأزمة بين ثلاث دول منه مع قطر وهي : المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والتي انضمّت إليها مصر.
س 2- من المسؤول عن الوضعية التى  وجد العرب أنفسهم فيها  خلال السنوات السبع المنصرمة ؟ هل هى ثورات الربيع العربى  ؟وهل أخفقت هذه الثورات أو الانتفاضات فى إحداث إختراق فى هذه الوضعية باتجاه التحديث وامتلاك مشروع نهوض حضارى حقيقى أم أن هذه الثورات كانت عبارة عن مؤامرة خارجية لفرض أجندات معينة فى مقدمتها فرض ما يسمى بالاسلام المعتدل لتبوء مقاليد السلطة وفق المنظور الأمريكى خصوصا ؟
ج2- النظام الأمني العربي معطل وليس مؤجلاً، وذلك لفقدان إرادة سياسية عربية موحّدة لإنجازه على الرغم من الحاجة الكبيرة إليه، بل إن التضامن العربي غير متوفر بحدّه الأدنى وذلك منذ عملية غزو الكويت العام 1990 ومن ثم حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991 وفرض حصار جائر عليه وفيما بعد احتلاله العام 2003.
   وإذا كانت القضية الفلسطينية  تمثل جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي، فإنها اليوم لم تكن كما كانت في السابق محط إجماع أو عمل موحد من جانب البلدان العربية، وكان آخر توجه هو المبادرة العربية للقمة المنعقدة في بيروت العام 2002، ثم بدأت المواقف بالتباعد، لاسيّما وإن مشروع اتفاقيات أوسلو ومعاهدات السلام العربية- الإسرائيلية، لم تحقق المرجو منها ووصلت إلى طريق مسدود وتتمادى إسرائيل أكثر فأكثر حين تعلن بتشريع خاص أنها دولة يهودية نقية أو خالصة، وهذا سيعني طرد ما بقي من العرب في فلسطين الذين يشكّلون 20% من سكانها.
   لعلّ الأمر يحتاج إلى تحديد الأوليات وبناء استراتيجية متدرّجة وطويلة الأمد تكون موحّدة ويسهم فيها كل بلد عربي بما يتمكن من دعم مادّي ومعنوي وبشري، لأن غياب الأمن العربي المشترك يعني تمدد القوى الإقليمية من جهته، واستمرار "إسرائيل" في التنكر للحقوق العربية والفلسطينية، وخصوصاً لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس. إنّ غياب مثل هذا المشروع هو الذي شجّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحديد 15 أيار (مايو) 2018 موعداً لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو القرار المؤجل منذ عهد الرئيس بيل كلينتون والمخالف لما يسمّى بالشرعية الدولية ولقواعد القانون الدولي .
   إن عدم حلّ القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يلبي الحدّ الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني يعني استمرار حالة الاحتراب وتعطيل خطط التنمية والإصلاح والديمقراطية ، إذْ لا يمكن تحقيق ذلك دون وجود سلام عادل ووطيد، وحتى لو تحقّق جزء من هذه الحقوق على صعيد قطري، فإنها ستبقى مهدّدة باستمرار وجود "إسرائيل" دولة عدوانية في المنطقة خارجة على القانون الدولي.
   الانقضاض الإقليمي
س 3-  هل ترى أن  المنطقة العربية تواجه  بالفعل ما يسميه البعض فراغا استراتيجيا  ,ما دفع قوى مختلفة، للإنقضاض عليه سواء  من داخل البلدان العربية أو من محيطها أو من العالم الأوسع، لتوظيف هذا الفراغ واستغلاله لصالحها ؟
ج3- تعاني المنطقة العربية من تراجعات خطرة، ولاسيّما على صعيد التعاطي مع فكرة الدولة، تلك التي بدأت تتشكل في أعقاب انهيار مرحلة الدولة العثمانية وما بعد الاستقلالات في الخمسينات. إذْ أنها لم تترسّخ حتى الآن في العديد من البلدان العربية، وعدنا في أحيان كثيرة إلى مرحلة ما قبل الدولة، لاسيّما بالحديث عن المرجعيات الدينية والمذهبية والتشكيلات العشائرية والجهوية والحزبوية الضيقة على حساب مرجعية الدولة العليا، التي ينبغي أن تخضع لها جميع المرجعيات ، وبحكم القانون.
    وكان مفهوم الفراغ الاستراتيجي في الأمن القومي العربي، قد دفع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص لطرح " مشروع النقطة الرابعة" الذي جاء على لسان خطاب للرئيس هاري ترومان في أول خطاب له في 20 يناير (كانون الثاني) 1949 وأقرّ العمل به في العام 1950، وتعزّز خلال أطروحات جون فوستر دلاس، والتي توّجت بمشروع أيزنهاور ونظريته لإملاء الفراغ العام 1957، حين وصف منطقة الشرق الأوسط بأنها " أقيَّم قطعة عقار في العالم" وذلك في مذكراته.
   حالياً تعاني المنطقة العربية من احترابات وصراعات وتآكل لفكرة الدولة في العديد من البلدان ، ولاسيّما التي شهدت تغييرات انقلابية كبرى: العراق بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003، حيث يعاني من ظواهر الطائفية والإثنية التي ترسّخت في بنية الدولة من خلال ما سمّي بالمكوّنات التي جاء الدستور على ذكرها 8 مرّات، مثلما يعاني من وجود ميليشيات خارج نطاق الدولة، وحتى حين تنضوي تحت لوائها لا تأتمر بأمرها بالكامل، ويعاني من العنف والإرهاب والفساد المالي والإداري، الأمر الذي يعيد المجتمع إلى تشكيلات ما قبل الدولة مثل العشائرية والجهوية والمناطقية والمرجعيات الدينية والطائفية وغيرها، وهذه كلّها تحول دون إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة المتساوية والهوّية الجامعة، ومثل هذه العودة لمرحلة ما قبل الدولة اتخذت أشكالاً مختلفة في اليمن وليبيا وسوريا حيث الاحترابات والتداخلات الخارجية والداخلية على أشدها وانحدرت هيبة الدولة إلى الحضيض، خصوصاً بالاحتكام إلى السلاح وانتشار المسلحين وشيوع ظواهر العنف والإرهاب.
   ولعلّ مثل هذه الوضع يشجع القوى الدولية والإقليمية على التدخل في شؤون المنطقة العربية، سواء من محيطها الإقليمي حيث تلعب إيران وتركيا دوراً كبيراً ومؤثراً على هذا الصعيد أم من نفوذها الدولي وخصوصاً علاقتها مع قوى محلية، ولاسيّما أحزاب الإسلام السياسي.
   أما القوى الدولية فهي تريد تحقيق مصالحها، سواء تلك التي تعرضت في الماضي إلى الضرر من أجل تعويضها أم لإدامة هيمنتها وبسط نفوذها الجديد، ولذلك سعت إلى توظيف هذا الفراغ واستغلاله، سواء من خلال الهيمنة على الجوار أو بيع السلاح أو جعل اقتصادياتها تابعة للقوى الكبرى، ولاسيّما حين تدخل ضمن سياسة المحاور. ويمكن ملاحظة إن اندلاع الصراع في سوريا جعلها عرضة للتداخلات الإقليمية : التركية والإيرانية والدولية ولاسيّما من جانب الولايات المتحدة وروسيا، ناهيك عن قوى الإرهاب الدولي وخصوصاً داعش وأخواتها التي لا زالت رغم هزيمتها العسكرية في العراق، فإنها تحتاج إلى عمل طويل الأمد فكري وسياسي وثقافي واجتماعي وتربوي وديني لتحقيق هزيمتها النهائية.


   الحلم المؤجل

س 4- هل صحيح أن النظام الأمني العربي ما زال حلماً مؤجلاً برغم أن الحاجة تشتد إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى ؟
ج4- الانتقال العربي من حال إلى حال، أي من التأخر والصراع والتشظي كما جاء في سؤالك إلى التقدم والسلام والوحدة يحتاج إلى فعل حقيقي ومثابر وطويل الأمد، كي لا يبقى العرب أرقاماً متناثرة ومتفرقة وغير مؤثرة في المعادلة الإقليمية والدولية، ناهيك عن ارتهان مستقبلهم بقوى كبرى : اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً.
   والأمر يحتاج إلى إرادة سياسية أولاً وإلى البدء الجاد لترميم العلاقات المتصدّعة وهذا يحتاج إلى تفاهمات وحلول للمشاكل القائمة بين البلدان العربية، كما يحتاج إلى إعلاء مرجعية الدولة وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والإثنية، وخصوصاً بالمواطنة التي تقوم على إشاعة الحريات وتحقيق المساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية ولو بحدّها الأدنى وكذلك بالشراكة والمشاركة وعدم التمييز، وتلك مستلزمات داخلية أساسية تحصن الدار والجار وترفع من شأن المشترك الجامع وهو العروبة الحيوية والفاعلة والحضارية، ويحتاج الأمر كذلك إلى المزيد من الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحرية التنظيم وحرية الاعتقاد والحق في المشاركة والديمقراطية وتداولية السلطة سلمياً وحق المحكوم في تغيير الحاكم بالوسائل الديمقراطية وبصندوق الاقتراع وإلى سن قوانين تستجيب لذلك ولروح العصر.

   

   مقاربات سياسية

س 5- فى ضوء  كل هذه المعطيات وما تواجهه المنطقة من تحديات ومخاطر وإخفاقات هل ثمة تصور لديك مستقبل العرب على كافة الصعد ؟هل هم قادرون على إحداث مقاربات سياسية واستراتيجية وأمنية واقتصادية واجتماعية بوسعها  أن تنقلهم من حالة التأخر والصراع والتشطى إلى دائرة الفعل والبقاء كرقم فى المعادلة الإقليمية والدولية ,فضلا عن التأثير فى واقعهم الذى أثبتت وقائع السنوات الأخيرة أنه مرهون بقوى إقليمية وخارجية بينما  يبدو العرب  خارج السياق ؟ ما هو الدور المطلوب من النخب السياسية الحاكمة والشعوب ومنظمات المجتمع المدنى بالذات فيما يتعلق بإدارة ما يطلق عليه بالحكم الرشيد المطلوب بالحاح للمنطقة العربية وفى رأيك ما هى محددات هذا  الحكم الرشيد وهل هى سياسة فقط أنه ينبغى أن تمتد الى كل الجوانب بالذات على صعيد الاقتصاد والعدالة الاجتماعية ؟

ج5 - النخب الحاكمة وغير الحاكمة، في السلطة وخارجها تتحمل مسؤولية مهمة على هذا الصعيد، سواء كانت سياسية أم ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية ، ويقع على عاتقها وخصوصاً وأنها تمثل الطبقة الوسطى إنجاز عملية الانتقال والتحوّل، ولاسيّما نبذ العنف وعدم استخدام السلاح وسيلة لحلّ الخلافات واللجوء إلى الحوار والتفاهم للتوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف.
   ويقع على منظمات المجتمع المدني مسؤولية الرصد والمراقبة والنقد، وذلك في إطار المشاركة في تحمّل المسؤولية، وعليها أن تتحوّل إلى قوة اقتراح للقوانين والأنظمة واللوائح، وتتقدّم إلى الحكومات باعتبارها شريكةً ومكمّلةً لها سواء باتخاذ القرار أم في تنفيذه.
   كما عليها أن تضع مسافة بينها وبين العمل السياسي والصراع الآيديولوجي، وتتمتع باستقلالية حقيقية، بحيث لا تنحاز إلى المعارضات ولا تكون جزءًا من السلطات، إنها تتعامل بموضوعية في كل ما يتعلق بالحقوق والحرّيات والدفاع عن المصالح العامة والعليا وعن مصالح أعضائها ومنتسبيها، كما عليها ألاّ تنخرط في المشاريع الدولية للقوى والمؤسسات الخارجية، تحت ضغط الحاجة إلى التمويل، فتصبح جزءًا من أجنداتها، وبالتالي يمكن التأثير عليها وتضيع هويتها، مثلما على الحكومات الترخيص لها للعمل القانوني والشرعي وتقديم لها الدعم والمساعدة المادية والمعنوية لأداء مهمتها لأنها جزء أساس وركن فاعل لا يمكن للدولة أن تحقق أهدافها بدونها.

   الأرض الصلبة

س6 -  الى أى مدى تعتقد أن الدولة الوطنية العربية تواجه خطر التفكيك والتقسيم على أسس عرقية ومذهبية ودينية فى ضوء خبرة ما جرى ومازال يجرى فى بعض الأقطار العربية وكيف يمكن حماية هذه الدولة ؟ لتكون أرضا صلبة لتوفير الحد  الأدنى من متطلبات ومقومات أى مقاربة قومية محتملة ؟
 ج6- ليس من باب نظرية المؤامرة القول إن هناك حياكة لمستقبل المنطقة بدأت منذ عقود من الزمان، لعلّ أبرز وأشدّ ملامحها خطورة هو قيام إسرائيل في 15 أيار العام 1948 وذلك بعد اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور، حيث تم البدء باحتلال الأرض واحتلال العمل واحتلال السوق تمهيداً للاحتلال الفعلي والاستمرار في ذلك باحتلال كامل فلسطين بعد عدوان 5 حزيران (يونيو)1967 والتوسع في الأراضي العربية، ولا تزال الضفة الغربية وقطاع غزة تحت هيمنة الاحتلال وكذلك الجولان السورية وجزء من الأراضي اللبنانية.
   لكن الخطر الآخر أو الوجه الثاني لعملية التفتيت والتقسيم الخارجية، التي راجت منذ مشروع برنارد لويس في العام 1979 ومشروع ايغال ألون العام 1982، هو الاحتراب الداخلي بسبب سياسات الاستبداد وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب الحوار والاعتراف بالآخر وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية وصعود الهوّيات الفرعية بسبب الإجحاف الذي لحقها والاضطهاد الذي تعرضت له ونهج الاستعلاء والفوقية والإقصاء والتهميش، ومن جهة أخرى ردود الفعل وضيق الأفق والانعزالية التي صاحبتها.
   وباختصار فإن غياب أو شح الحرّيات وعدم اعتماد مبادئ المواطنة الكاملة والمساواة التامة وسياسات التمييز، يضاف إليها أوضاع الفقر والتخلف والأمية، دفع العديد من بلدان المنطقة إلى الاحتراب الداخلي، خصوصاً حين تخلّت أو ضعفت الدولة في تلبية المهمات الأساسية من حماية أرواح وممتلكات المواطنين وحماية الأمن والنظام العام للجميع وفي نوع من المساواة أمام القانون، وقد وفّر ذلك أرضية للتفتت الذي إذا ما استمر ولاسيّما في أوضاع الانقسامات الداخلية واستهداف فئات واسعة من السكان لأسباب دينية (مسيحيين ، إيزيديين، صابئة...) أو إثنية أكراد ، تركمان،  وأمازيغ ومجموعات ثقافية أخرى أو عكسية  مسلمون: شيعة وسنّة، وعرب باعتبارهم حكام...، فإن النتائج ستكون وخيمة، حيث يمكن أن تتحوّل المنطقة إلى كانتونات ودوقيات وفيدراليات لا يجمعها جامع.

   مستقبل الجامعة العربية
س7- أى مستقبل ينتظر الجامعة العربية باعتبارها تمثل الإطار الجماعى للنظام الإقليمى العربى ؟
ج7 -  لا يمكن إصلاح أوضاع جامعة الدول العربية إذا لم تصلح أوضاع البلاد العربية وأنظمة الحكم فيها وجامعة الدول العربية وأنظمة الحكم السياسية تعاني من أزمة، الأمر الذي يتطلب:
        1. الإقرار بوجود الأزمة، ومن ثم البحث في إيجاد الحلول والمعالجات الضرورية لها.
        2. الابقاء على جامعة الدول العربية والعمل على إصلاح مؤسساتها ارتباطاً مع إصلاح الأنظمة العربية.
        3. مراجعة ميثاق الجامعة لتكييفه بحيث يصبح صالحاً للإنسجام مع التطورات الدولية، وبخاصة في الفقه الدولي والقواعد العامة للقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي.
        4. إجراء إصلاحات هيكيلية في أجهزة الجامعة على الصعيدين القانوني والإداري وتعديل نظام الموظف العمومي الإقليمي بحيث يكون ممثلاً للمؤسسة (الجامعة) وليس لبلده.
        5. الاهتمام بمؤسسات المجتمع المدني لتكون جزءًا لا يتجزأ من مشاركة الجامعة في اتخاذ القرار وفي تنفيذه في المجالات ذات العلاقة بحيث تكون عنصر رقابة ورصد ومساءلة ومساعدة لهيئات الجامعة، ولاسيما فيما يتعلق بالحريات والمرأة وحقوق الإنسان والثقافة والفن والأدب والاتصالات والرياضة وغيرها.
        وقد أشرت في كتابي " جامعة الدول العربية والمجتمع المدني- الإصلاح والنبرة الخافتة" (العام 2004) إلى أن إنشاء الجامعة كان حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الإقليمي على الرغم من أن ميثاقها اتسم بالبساطة الشديدة وقد حرص الآباء المؤسسون على حد تعبير الصديق ناصيف حتي على تأكيد مفهوم السيادة والتنسيق ورفض التدخل بالشؤون الداخلية، وإذا كانت الخبرة قليلة في ميدان العمل المشترك، ولاسيّما المؤسسي وإن الدولة الوطنية في مرحلة التأسيس، فإن هذه الخبرة أخذت تتوسع بإنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة وبرنامج الدفاع العربي والتعاون المشترك العام 1950، ومع كل ذلك ولأسباب شرحناها في أسئلة أخرى أخفقت الجامعة مثلما أخفق النظام العربي في حل النزاعات العربية- العربية ولم يتم التوصل إلى حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية.
   وهكذا تولّدت آراء مختلفة في النظر لمستقبلها، ويقول الرأي الأول : إن جامعة الدول العربية شاخت وانتهى دورها ولم يعد بالإمكان إصلاحها والأجدر عدم الرهان على كيان لم يعد صالحاً، ويحمل مثل هذا الرأي أوساطاً شعبية بسبب حالة الإحباط والقنوط. الرأي الثاني يراهن على المجتمع المدني الموازي والقوى والأحزاب الشعبية للممارسة الضغط الشعبي الذي يمكن أن يعيد إلى النظام العربي الرسمي نوعاً من الجدية والمسؤولية والتماسك بهدف الإصلاح. لكن مثل هذا الرأي يحتاج إلى إصلاح مؤسسات المجتمع المدني ذاتها وكذلك الأحزاب والقوى السياسية، التي لم تستطع أن تبلور رأياً جامعاً بشأن الإصلاح، ناهيك عن الاحترابات فيما بينها ونقاط الضعف العديدة التي تعاني منها.
   ولكننا نقول إن غياب كيان مؤسسي عربي جامع على الرغم من ضعفه ونواقصه وثغراته سيؤدي إلى نوع من الفراغ، ناهيك عن عدم وجود بدائل جاهزة لتبادل الرأي والحوار والتعاون في الأنشطة المشتركة وإن كانت بحدّها الأدنى، وخصوصاً على صعيد الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والتربية والصحة والمواصلات والبيئة وغيرها، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مشتركة في كل بلد عربي وعلى مستوى الجامعة لإصلاح الحال وتحديث أسس التعاون والمشترك به.





237
إيران و«تخوم الحرب»!

عبد الحسين شعبان
جاء تفجير ناقلتي نفط عملاقتين في بحر عُمان وتوجيه الاتهام لإيران من جانب واشنطن ليصب الزيت على النار، ويزيد من التوتر الحاصل في المنطقة، ويجعلها برمتها على حافة حرب، فهل سيتكرر السيناريو العراقي، أي استمرار الحصار لعدّة سنوات، ثم شن حرب شاملة أو محدودة لتغيير النظام؟ أم ثمة خيارات أخرى قد تلجأ إليها واشنطن بحيث تدفع إيران إلى تخوم الحرب من دون إشعال حرب فعلية، ولكن بتحقيق أهدافها؟
فعلى الرغم من امتلاك إيران ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم، ورابع احتياطي عالمي من النفط الخام، إلّا أن تأثير الحصار الأمريكي في الاقتصاد الإيراني بدأ يفعل فعله، سواء بتدهور التومان (العملة الإيرانية) أم حالة الركود والانكماش التي يشهدها، الأمر الذي يعني أن طهران ستعاني من اختناقات أشد وطأة في الفترة القادمة، وقد بيّنت تجربة الحصار على العراق 1990-2003 مدى خطورة نظام العقوبات على النسيج الاجتماعي والنفسي وتضعضع الوحدة الوطنية.
لكن طهران أعلنت رفضها التفاوض مع واشنطن ما لم تتخلَّ هذه الأخيرة عن شروطها، فهل ستغامر واشنطن بشنّ الحرب على الرغم من معرفتها بتكاليفها الباهظة جداً؟ أم أن هنالك خيارات أفضل من المجابهة المسلحة؟ ومع ذلك، فإنها توحي بعزمها على خوض معركة «كسر عظم»، من خلال حشدها العسكري غير المسبوق في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003، حيث استقدمت حاملة الطائرات «أبراهام لينكولن» التي وصلت إلى مضيق هرمز، مثلما وصلت مقاتلات «B-52» و«F-35»إلى قاعدة العديد في قطر، وأقدمت على سحب موظفيها غير الضروريين من العراق.
هكذا تتلبّد سماء العلاقات الأمريكية - الإيرانية بالغيوم السوداء، بل زادت قتامة على ما عرف ب «أزمة الرهائن» الأمريكيين، الذين احتجزتهم إيران كرهائن لمدة 444 يوماً (من ال 4 من نوفمبر / تشرين الثاني 1979 حتى ال 20 من يناير / كانون الثاني 1981)، ولكن هل ستقدم واشنطن حقاً على الخيار العسكري؟
يصعب التكهّن بما سيحدث وأي الخيارات ستكون الراجحة؟ ولكن من يعرف الدبلوماسية الإيرانية بدهائها وقدرتها على التقدم والتراجع، يدرك أن إيران قد تضطر إلى تقديم تنازلات لتفادي شنّ الحرب عليها، مع أن عملية كسب الوقت لها سقف زمني، خصوصاً أن طهران تعرف جيداً أن القوات الأمريكية رفعت من جاهزيتها وتأهّبها لمواجهة أي احتمال إيراني بتعريض «مصالح» واشنطن للخطر أو مصالح حلفائها في المنطقة، علماً بأن المنطقة التي تنشغل بها واشنطن وتضع إيران العين عليها، تعتبر أكبر خزّان نفطي استراتيجي، فضلاً عن كونه يضم بحاراً وممرات بحرية هي: الخليج العربي وخليج عدن وبحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود.
وواشنطن لا تخفي أهدافها، وفي المقدمة منها الدفاع عن المصالح الغربية وحماية «إسرائيل»، وضمان إمدادات النفط، ومنع إيران من استكمال برامجها النووية والصاروخية التي تهدّد المنطقة، وكذلك الحيلولة دون نشر الفكر الراديكالي (الثوري) الذي تتبنّاه إيران.
وإذا كان سيناريو الحرب أحد السيناريوهات المحتملة، فإن سيناريو تراجع إيران ومساومتها ممكن في اللحظة الأخيرة، إذا ما شعرت بأن واشنطن جادة في شنّ الحرب، ولكن مثل هذه الحرب ستضع واشنطن هي الأخرى أمام احتمالات قد تكون قاسية، ولا سيّما إذا امتدّت إلى بلدان أخرى، أولها العراق الذي ترتبط معه بمعاهدة إطار استراتيجي.
إن شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجسّد نموذجاً للاعب المغامر الواثق بنفسه الذي يتقمّص دور اللّامبالي بالنتائج، مخترقاً الخطوط الحمراء لإرعاب خصمه وإجباره على الانصياع، خصوصاً بالتلويح بشبح الحرب الشاملة أو الجزئية، والذي يستهدف خلط الأوراق، وإثارة زوبعة جديدة من «الفوضى الخلاقة»، على الرغم من أن هذا السيناريو قد يكون الأسوأ إذا امتدّ ليشمل بلدان المنطقة، بما فيها دول الخليج، إضافة إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
ولذلك قد تتردّد واشنطن في شنّ حرب شاملة، وتلجأ إلى الحرب الخاطفة «التكتيكية» بهدف إرباك النظام الإيراني وإضعافه وحلفائه، لتوجيه المسار السياسي لمفاوضات تكون فيها كفّة واشنطن هي الراجحة، لأن خيار الحرب الشاملة قد يؤدي إلى تصدّعات للنظام الإقليمي ولتوازنات القوى القائمة فيه، وقد شهدنا كيف كانت نتائج الحرب على العراق التي أيقظت غول الإرهاب، وفتحت الأبواب أمامه لينتقل إلى عموم دول المنطقة، بل والعالم.
ولهذا قد يكون سيناريو «تخوم الحرب» هو الأرجح، أي الوقوف عند بواباتها و«الإصبع على الزناد» كما يقال، وجرّ الطرف الآخر ليصل إلى الحافة من خلال التهويل، مع الاستمرار بالحرب الاقتصادية والنفسية والفكرية والإعلامية والدبلوماسية والقانونية التي من شأنها زيادة عزلة طهران، باستخدام جميع عناصر القوة الناعمة، وستكون هذه أكثر إيلاماً وأشدّ تأثيراً، وستتبعها الضغوط السياسية والعسكرية، ولا سيّما الدولية، كيما تضطر إيران وهي الطرف الأضعف إلى تقديم تنازلات أكثر لتجنّب الحرب.



238
 

«ما بعد» العدالة الانتقالية
عبد الحسين شعبان
هل وصلت تجارب «العدالة الانتقالية» إلى طريق مسدود؟ وهل أصبح الحديث عما بعد العدالة الانتقالية ضرورة لتجاوز الاستعصاء؟ وهل هناك خيار آخر أكثر ضماناً لتحقيق العدالة؟ أسئلة تواجهها العديد من تجارب العدالة الانتقالية، بما فيها التجارب العربية الجنينية التي لم تلج هذا الميدان إلّا منذ وقت قريب نسبياً.
وكان المغرب البلد الأول الذي باشر بذلك في عام 2004، حيث أسّس «هيئة الإنصاف والمصالحة»، في حين بدأت تونس مساراً رسمياً بهذا الخصوص في عام 2011، حيث خُصصت وزارة للعدالة الانتقالية، وأُسست «هيئة الحقيقة والكرامة». وحاولت كل من ليبيا واليمن التوجه لتطبيق بعض مبادئ العدالة الانتقالية، لكن تجربة ليبيا أخفقت بعد فترة حكم المجلس الوطني الانتقالي واندلاع الصراع، مثلما فشلت تجربة اليمن عقب فترة الحكومة المؤقتة، وتوقفت بسبب ظروف الحرب لاحقاً.
وظلّت النخب السياسية والفكرية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني العربية في حالة نقاش يشتدّ ويرتخي بخصوص العدالة الانتقالية، ففي العراق صدر «قانون اجتثاث البعث»، ثم تحوّل إلى «قانون المساءلة والعدالة»، لكنه أثار انقساماً مجتمعياً حاداً. أما في الجزائر، فبعد «العشرية السوداء» التي شهدت عنفاً لا مثيل له (1992-2002) بدأ البحث في قضايا العدالة الانتقالية، ولا سيّما للمختفين قسرياً، وعلى الرغم من المعاناة التي تحملها لبنان خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، لكنه لم يتمكن من سنّ قانون للمفقودين والمختفين قسرياً إلّا في ال 30 من نوفمبر / تشرين الثاني 2018. ولا تزال سوريا تعاني من تداخلات عديدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في ظروف الإرهاب والنزاع المسلّح. ولأن العدالة الانتقالية تأتي في العادة بعد فترات الصراعات والحروب والنزاعات الأهلية التي تشهدها بعض المجتمعات، فإن اتجاهين يثوران بشأن المعالجة:
الأول يدعو إلى التشدّد إزاء الماضي لدرجة الغرق فيه، وإبقاء كل شيء أسيراً له بما فيه العملية السياسية التوافقية الهشّة.
والثاني يريد قلب صفحة الماضي كلياً، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الإفلات من العقاب وعدم الاستفادة من دروس التجربة التاريخية، وكلا الاتجاهين يثير حفيظة أوساط واسعة من المتضررين في السابق والحاضر، فما السبيل لتحقيق العدالة؟
وعلى الرغم من أن جميع تجارب العدالة الانتقالية تشمل الجرائم المتعلقة بالإبادة وضد الإنسانية وجرائم الحرب وعمليات القتل خارج القضاء والتعذيب والاختفاء القسري، وغيرها من الارتكابات التي تتناولها القوانين الوطنية والقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن سبل معالجتها اختلفت وتنوّعت، لكن ما هو غير مؤكد حتى الآن أن هذه التجارب حققت مصالحة شاملة ومنيعة، وإن استطاعت منع حدوث النزاع المسلح باستثناءات محدودة.
إن وصول بعض تجارب العدالة الانتقالية إلى طريق مسدود أو حالة استعصاء أو ابتعاد عن هدف المصالحة الوطنية، يقتضي البحث عن طريق جديد يتجاوز آثار الماضي ويعيد البلاد إلى وضعها الطبيعي، وسيكون مثل هذا الأمر ضرورة لا غنى عنها، بعد أن ظلّت بعض تجارب العدالة الانتقالية تراوح في مكانها، ولم تحقّق أهدافها، ولا سيّما باستمرار الانقسام المجتمعي وانهيار النظام القانوني أو اندلاع نزاعات مسلحة جديدة.
ولأن العدالة الانتقالية خيار سياسي، فلا بدّ من البحث عن خيارات سياسية أخرى معدّلة أو مكمّلة ومتممة له، لكي تكون بديلاً لمنع الإفلات من العقاب ومنع تكرار الانتهاكات وتحقيق مصالحة وطنية لإرساء نظام ديمقراطي يقرّ ويعترف بكرامة الإنسان ويحفظ حقوقه ويعالج ذاكرة الماضي.
ومثلما تضافرت جهود سياسيين وناشطين حقوقيين ومؤسسات مدنية وبدعم من منظمات غير حكومية، إضافة إلى المجتمع الدولي لتحقيق العدالة الانتقالية، لا بدّ من التفكير في مسارات أخرى موازية أو رديفة للخيارات القائمة، لتجاوز حالة الركود التي مرّت بها بعض البلدان، لدرجة قادت بعض التجارب لخلق بؤر حرب دينية أو طائفية أو إثنية، ولا سيّما في ظل موجة الإرهاب الدولي وانتعاش التيارات الإرهابية - التكفيرية.
وإذا كانت العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية من (الأرجنتين إلى شيلي والبيرو) وفي إفريقيا (من رواندا وسيراليون إلى جنوب إفريقيا)، وفي أوروبا الشرقية (الدول الاشتراكية السابقة) وفي آسيا (سريلانكا ونيبال وتيمور الشرقية) وغيرها، قد سلكت هذا السبيل، فإن عدم تحقيق الأهداف يتطلّب تغيير الوسائل، والوسيلة من الغاية مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير غاندي.
وعلى الرغم من الأهمية العالمية لهذا المسار، خصوصاً لما أنجزه، غير أن الحاجة أكثر بكثير إلى ابتداع تطبيقات أكثر عمقاً وشمولاً في العالم العربي، على صعيد السياسة والحقوق والقانون، حيث تشتبك هذه المسائل مع البيئة التقليدية في المجتمع العربي والتأثيرات القبلية والدينية والطائفية والإثنية والمناطقية، وهو ما يدعو إلى التفكير لما بعد الخطوات الأولى للعدالة الانتقالية وانسداد أفق بعضها، فضلاً عن تأثيراتها الجانبية، لتغذية عوامل صراع جديدة.
drshaban21@hotmail.com



239

تشويه معنى التضامن الدولي
عبد الحسين شعبان
أعادني اجتماع نابولي لحقوقيي البحر المتوسط إلى عقود خلت، كان فيها لكلمة التضامن وقع شديد وتأثير فاعل، ولا سيّما في الأوساط الحقوقية والقانونية، وتحسب لها السلطات ألف حساب، وخصوصاً لردود الأفعال التي قد تترتّب عليها داخلياً وخارجياً. وكان للتضامن الدولي دوره الكبير في تغيير اتجاه أو التراجع عن خطوة أو التوقف عن إجراء يتعلق بقضايا سياسية أو تحسين معاملة لسجين رأي أو إطلاق سراح معتقل أو غير ذلك.
وقد روى لي المناضل الفلسطيني الراحل تيسير قبعة يوم كان سجيناً في الأرض المحتلة، مدى التأثير والتأثّر الذي حصل في تعامل سلطات الاحتلال معه، جرّاء الحملة التي انطلقت في عواصم عالمية وعربية لتوضيح مصيره ومن ثم المطالبة بحرّيته، كما كانت حملة التضامن العالمي وراء القوة المعنوية التي امتلكها نيلسون مانديلا الذي استمر حبسه 27 عاماً، خصوصاً في «اللحظة السحرية» حين كان يعلم فيها انطلاق حملات تضامن حقوقية معه، وكان لسلوكه الإنساني اللاحق دور كبير في سيادة قيم التسامح والسلام والتعايش وعدم الانتقام أو الثأر أو الكراهية.
ويمكنني القول: إن التضامن أصبح حقاً من حقوق الإنسان في البلدان التي يكون فيها الرأي العام صوتاً مسموعاً، خصوصاً بصدور قرار الأمم المتحدة رقم 55 لعام 2005، بخصوص الحق في التضامن، سواء كان مع الشعوب أم مع بعض الجماعات والقوى أم مع الأفراد، وهو ما يتطلّب إجراءات وقائية وأخرى حمائية، ووضع استراتيجيات لمنع حدوث الانتهاكات والتجاوزات.
وبقدر ما أصبح التضامن ضرورة لا بدّ للمجتمع الدولي من الاضطلاع بها، فإن بعض تطبيقاته امتازت بالتوظيف السياسي، والأمر شمل الضحايا واللاجئين والمهمشين والبيئة والأوبئة والأمراض والحروب والاتجار بالبشر والمخدرات وتجارة السلاح والتعصب والتطرف والعنف والإرهاب. وبعد انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات وهيمنة قطب واحد على العلاقات الدولية، ضَعُفَ دور التضامن وتأثيره، وتصدّعت جبهة المتضامنين، وخشي الكثير منهم من التشويه الذي يمكن أن يلحق به، كما لم تعد الحكومات تعيره الأهمية ذاتها التي كان يحتلها يوم كانت تأخذ بنظر الاعتبار حجمه وامتداده، بما يؤثر في سياستها الداخلية ومواقفها إزاء بعض القضايا الدولية، حتى اعتُبِرَ من يتضامن مع المقاومة ويدافع عن حقوق الشعب العربي الفلسطيني العادلة والمشروعة «إرهابياً» أو يُحسب على ملاك «الإرهاب»، ولا سيّما بعد تشويه صورة التضامن وإلصاق التهم جزافاً بمن يتضامن، وتلك مفارقة حقيقية.
ولعلّ أبرز وأهم حملة تضامن بعد انهيار جدار برلين في ال 9 من نوفمبر / تشرين الثاني عام 1989 والإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية، وتحلّل الاتحاد السوفييتي، كانت عشية الحرب على العراق (عام 2003)، والتي شملت أكثر من عشرة ملايين إنسان وعشرات العواصم والمدن الأوروبية، وكانت مطالبها الأساسية منع الحرب وحماية السكان المدنيين الذين عانوا من الحصار لنحو 12 عاماً، فضلاً عن زيف ادعاءات القوى والبلدان التي تريد شنّ الحرب بزعم وجود أسلحة دمار شامل، وعلاقة نظامه الديكتاتوري السابق بالإرهاب الدولي، والسعي لإيجاد نظام ديمقراطي بديل عنه.
وعلى الرغم من محاولات التضليل والخداع التي كانت تمارس بأشكال مختلفة للحيلولة دون أن يصل التضامن إلى مبتغاه، فإن الكثير من الحقائق باتت جلية وواضحة، الأمر الذي سيعيد إلى التضامن بريقه الباهر وصورته البهية، سواء على الضحايا أو على المرتكبين، وذلك لعدة دلالات:
أولها: أن حملات التضامن حتى وإن لم تؤتِ ثمارها في اللحظة المعينة، لكنها تشكّل رصيداً مستقبلياً يمكن المراكمة عليه، لتأكيد عدالة القضية التي يتضامن معها العالم.
وثانيها: أن التضامن معيار أخلاقي لرفض الظلم والدعوة إلى تحقيق العدالة بغض النظر عن الموقف السياسي، مثلما هو تعبير عن شراكة إنسانية وصداقة قائمة أو محتملة لما يتركه فعل التضامن من تأثير في النفس.
وثالثها: أن الشعوب والحركات والأفراد الذين يُتضامن معهم يشعرون بالقوة في مواجهة التعسف، لأنهم ليسوا وحدهم في المعركة.
ورابعها: أن الأطراف المرْتكِبَة حتى وإن أظهرت عدم اكتراثها بأصوات التضامن وازدراءها للحملات التضامنية، لكنها لا بدّ أن تعيد حساباتها، والمسألة مرتبطة بتصاعد حركة التضامن وامتداداتها لتصل إلى داخل صفوفها، وهو ما لا يمكن تجاهله إلى ما لا نهاية.
ولذلك كان إعلان نابولي الذي صدر عن اجتماع حقوقيي البحر المتوسط منسجماً مع المعايير الأربعة، حين أكّد على حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وفي المقدمة منها حقه في تقرير المصير، وعلى احترام الإرادة الحرة لشعوب المنطقة، وعلى تصدّيها للإرهاب الدولي، وحقها في التنمية المستقلة، وإدانته وشجبه سياسة الرئيس الأمريكي ترامب، بشأن اعتبار القدس عاصمة ل «إسرائيل»، خلافاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 لعام 1980، أو اعتبار الجولان السورية «إسرائيلية» بالضد من القرار رقم 497 لعام 1981، كما اعتبر الإعلان «إسرائيل» بممارساتها العنصرية بؤرة حرب مستمرة وخطراً على السلم والأمن الدوليين. وفي ذلك فعل من أفعال المواجهة لتأكيد عدالة القضايا الإنسانية، وترابطها على المستوى الكوني.
drhussainshaban21@gmail.com




240
تحديات العمل الإنساني

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   بقدر ما يثير الحديث عن "العمل الإنساني" مشاعر التعاطف والتضامن، في المجتمعات المتقدمة، فإنه في الوقت نفسه يثير الكثير من الهواجس والمخاوف لدى الأطراف المختلفة في منطقتنا، بما فيها الدول الكبرى والمنظمات الدولية الحكومية وشبه الحكومية، إضافة إلى الحكومات والجهات الرسمية، ولكل تبريراته  وحججه، فالأولى تحاذر من محاولة الحكومات استثمارها وتوظيفها في الصراع السياسي وحجبها عن معارضيها ، والحكومات تخشى من استثمارها لأغراض خارجية بهدف التحكّم بمسار الصراع وتوجيهه، ومثل هذه الهواجس والمخاوف، جعلت الأطراف المختلفة تنظر أحياناً لمن يتوجّه للعمل الإنساني بعين الريبة والحذر، إنْ لم يكن الشك والاتهام أحياناً.
   وتندرج تحدّيات " العمل الإنساني"، في دراسات السلام وحلّ النزاعات  وهو حقل مهم من حقول العلوم الاجتماعية الذي لم يأخذ حظّه مثل الاختصاصات الأخرى، على الرغم من أن منطقتنا الأكثر حاجة إليه، بسبب الأعداد الهائلة  من النازحين واللاجئين وضحايا النزاعات الدينية والطائفية والإثنية والحروب والصراعات المسلحة، تلك التي تعاظمت أعدادها في ظلّ ارتفاع شأن العصبيات ما دون الدولة وما قبلها، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع المعاشية.
   وإذا كان العمل الإنساني مفهوماً في البلدان المتقدمة، ويتم توقيره واحترامه، فإنه في بلادنا ما زال يثير علامات استفهام مختلفة، فبعض الحكام لا يقيم وزناً له وللعاملين فيه، وبالمقابل لا يقيم الباحثون والأكاديميون والعاملون في هذا الميدان  أي اعتبار لصنّاع القرار، وبدلاً من التصالح بين المواطن والدولة، وبين صاحب القرار والمواطن، ترى في أحيان كثيرة أن الهوّة تتّسع والفجوة تزداد بينهما، ناهيك عن سوء الأوضاع الإنسانية.
   لقد وضع القانون الإنساني الدولي قواعد عامة، إلّا أن المشكلة  تواجه من يريد تطبيقه في ظلّ  غياب وسائل التنفيذ، ناهيك عن عقبات السيادة  التي تقف حجر عثرة أحياناً أمام المساعدة الإنسانية، بما فيها تقديم التسهيلات للعاملين في الحقل الإنساني. ومناسبة الحديث هذا، ورشة عمل مصغرة ومحدودة إلتأمت لعدد من الخبراء بدعوة من "مركز عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية" في "الجامعة الأمريكية في بيروت"  لمناقشة فكرة أساسية تتعلّق بتحديات العمل الإنساني، في ظلّ تدهور الأوضاع الإنسانية في العديد  من دول المنطقة، وتأثيراتها على العالم العربي ككل. فكيف السبيل إلى ذلك في ظل إشكاليات السيادة وما طرأ على مفهومها من تطور منذ مؤتمر هلسنكي لعام 1975 حول "الأمن والتعاون الأوروبي" الذي حضرته 33 دولة أوروبية وأمريكا وكندا، لاسيّما باعتماد قاعدة حقوق الإنسان والتدخل الإنساني كجزء من مسؤولية المجتمع الدولي في ظلّ انتهاكات سافرة وصارخة إلّا أن تطبيقات هذه المسألة تم توظيفها لأغراض سياسية من جانب القوى المتنفّذة، وخصوصاً الولايات المتحدة، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية، التي استخدمت "مبدأ التدخل الإنساني" في إطار ازدواجية المعايير وانتقائية السياسات، وكان نموذجها الصارخ " احتلال العراق".
   وشملت الحوارات ضرورة تمييز العمل الإنساني عن العمل  السياسي والآيديولوجي، وإذا كانت مساعدة الضحايا هي الهمّ الأساس، فلا ينبغي النظر إلى خلفياتهم الفكرية وانحداراتهم الدينية وآرائهم ومعتقداتهم، وهذا يتطلب أيضاً إقامة علاقة متوازنة بين الحكومات والمعارضات، فالعمل الإنساني ليس من وظيفته الوقوف مع المعارضات مثلما لا يدخل في اختصاصاته معاداة السلطات، وإنما هدفه تأمين وصول المساعدات الإنسانية المادية والمعنوية للضحايا  وللمناطق المنكوبة، وبالطبع سيكون من واجبه أيضاً الحفاظ على استقلاليته المالية والسعي  لردم الهوّة بين العمل الإغاثي والعمل التنموي.
   إن تكلفة تهرؤ النسيج الاجتماعي باهظة في بلادنا، خصوصاً باستمرار ظواهر التعصّب ووليده التطرّف، وإذا وصل هذا الأخير إلى السلوك فيصبح عنفاً باستهداف الضحايا بالتحديد، ويصير العنف "إرهاباً" إذا ضرب عشوائياً، وهنا ينبغي مواجهة مكامن العنف البشري بجميع أشكاله والبحث في سياسات تنموية بديلة عمّا هو قائم، لأن استمرار الحال على ما هو عليه سيؤدي إلى المزيد من تصدّع كيانية الدولة الوطنية، خصوصاً بتراجعها عن القيام بوظائفها الرئيسية، فضلاً عن صعود إرادات الجماعات السياسية وارتفاع سقف مطالبها في ظل الاستقواء بالميليشيات على حساب إرادة الدولة التي أخذت تتراجع. ولعل الكثير من البلدان العربية عاشت وبعضها لا يزال يعيش هذه الحال: اليمن وليبيا وسوريا وقبلها العراق والسودان والصومال وفلسطين بالطبع وإنْ كان الاحتلال هو السبب الأساسي وراء ذلك.
   وإذا كانت المنظمات الدولية  لا تلبّي الحاجات الإنسانية، فإن معالجة الحكومات هي الأخرى ظلّت محكومة بالأجندات الخاصة والمشاكل الإدارية والبيروقراطية لأن المواطن ليس هو الأولوية لديها، وإنما الأمن ولاسيّما "أمن النظام"، فالأزمة ليست بالغذاء والدواء، بل بالأوضاع الإنسانية التي خلقتها وتأثيراتها الاجتماعية والنفسية على صعيد المستقبل لجهة السلام المجتمعي والدولي وقضايا العنف والإرهاب،  الأمر الذي يقتضي لمن يريد التصدّي لمثل تلك المهمات تطمين مختلف الأوساط على عدم انحيازه لصالح هذا الفريق أو ذاك، حيث يتلخّص هدفه في الجانب الإنساني، وحينها يستطيع كسب ثقتها من جهة و ثقة المواطن من جهة أخرى .

241
بلند الحيدري
خفقة الإبداع وريادة ما قبل الحداثــة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

      …       إلى بلند

نولدُ في الغربة أم نموتُ؟
هل تعرف الأشجار والبيوت؟
وجوهنا
وإننا
نولد كل ساعة
نموت كل  ساعة
وحولنا تولد أو تموت
الناس والأشجار والبيوت

سعدي يوسف
I
   حين أهداني ديوانه الأخير " دروب في المنفى" كتب لي: ... فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه" ، والفقرة هي مقطع من قصيدة " غريب على الخليج" لبدر شاكر السيّاب، وعلّق بلند قائلاً: وهكذا ننتقل من منفى إلى منفى، واستعدنا المقطع الذي قبله وأكملنا :
   "حتى الظلام- هناك أجمل، فهو يحتضن العراق،
   وا حسرتاه، متى أنام؟
   فأحسّ أن على الوسادة
   من ليلك الصيفي طلّاً فيه عطرك يا عراق
     بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة
   غنيّت تربتك الحبيبة
   وحملتها ، فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه".
   
   وردّدت عليه وأنا أتصفّح الديوان بين يدي:
أهرب من منفى إلى منفى
وأنا لا أحمل في صدري إلّا رمسي ...
لكنني إنْ متُ هنا في الغربة .. في المنفى
إنْ متُ غداً فسيحمل شاهد قبري: هذا وطني
هذا من أجلك يا وطني..
(من ديوان دروب في المنفى)
   وبالمناسبة فهذه الأبيات وضعت على شاهد قبره في مقبرة هاي غيت في لندن بالقرب من قبر كارل ماركس وقبور عدد من المنفيين اليساريين العراقيين.
   ودار بيننا حديث حول الغربة والوطن والهويّة واستذكر بلند، الشاعر اليمني عبدالله البردوني وردّد على مسامعي:
      بلادي من يدي طاغ       إلى أطغى إلى أجفـى
      ومن سجن إلى سجن      ومن منفى إلى منفى
      ومن مستعمر بـــــادٍ      إلى مستعمر أخفــى
      ومن وحش إلى وحشين      وهي النّاقة العجفــا
   
   ولعلّ ذلك ما كان ينطبق على حالنا حيث أكلت المنافي أكثر من نصف عمرنا البيولوجي، وما يقارب ثلثي عمرنا الإبداعي، وكنتُ قد اتصلت به بعد وصولي إلى لندن العام 1990، وكان هو قد استقرّ فيها بعد سنوات ثلاثة عشر عاشها في بيروت، لكن منفى بلند الفعلي كان قبل هذا التاريخ، حين تمرّد على مجتمعه ، وعاش حالة من الاغتراب، فترك الدراسة في سن مبكّرة وهجر العائلة، ليس هذا فحسب، بل انشقّ على القصيدة العمودية التي عاشها الشعر العربي لمئات السنين، باحثاً عن معنى جديد وشكل جديد ورسالة جديدة.
   أسّس بلند مع ثلّة من أصحابه جماعة أدبية فنّية أطلق عليها اسم " جماعة الوقت الضائع" وهو في بداية مشواره الإبداعي، لتكون مقهىً وملتقىً ومبيتاً أحياناً كما يقول، وأصدرت " الجماعة" مجلة بالاسم ذاته،  وقد أغلقتها الشرطة حين اعتبرتها ملاذاً للمتشرّدين من أمثال الشاعر حسين مردان.
   في فتوّته مارس بلند أنواع الرياضة ورغب أن يكون ملاكماً مقلّداً شقيقه صفاء الذي كان هو الآخر شاعراً ومتمرداً، حيث نصب خيمة سوداء في بساتين ديالى (بعقوبة) وقرر العيش فيها تحدّياً للتقاليد الاجتماعية السائدة، وكان صفاء قد انشغل بالشعر واللغة العربية وهو ما فعله بلند أيضاً، علماً بأنهما ينتميان إلى عائلة برجوازية حسب توصيفات تلك الأيام، فوالده أكرم كان ضابطاً بالجيش العراقي وتوفي العام 1945، ووالدته فاطمة ابراهيم أفندي الحيدري التي كان  والدها يشغل منصب شيخ الإسلام في اسطنبول (توفيت العام 1942)، وخاله داود كان وزيراً للعدل، لكن بلند قرر إحراجه وإحراج العائلة حين نصب طاولة منهكة وكرسياً بالياً ليعمل " كاتب عرائض" (عرضحالجي) أمام الوزارة، وفي الوقت الذي كان عدد من أفراد عائلته يتولى مناصب رسمية ، كان عدد آخر منهم قد انخرطوا في الحركة الشيوعية من أبرزهم جمال الحيدري الذي قتل تحت التعذيب  وشقيقه مهيب أيضاً بعد انقلاب شباط (فبراير) العام 1963.
   لم يدرس بلند الشعر في جامعة أو معهد، بل جاء إليه من خارج المناهج الأكاديمية والحلقات الدراسية، في حين كان أقرانه قد درسوا الشعر والأدب واللغة في دار المعلمين العالية وكليات الآداب والتربية فيما بعد، مثل بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف ورشدي العامل وآخرين، وحاول بلند تثقيف نفسه بنفسه وكان يذهب إلى المكتبة العامة لسنوات غير قليلة، ويقرأ، بل يلتهم ما فيها من الكتب المختلفة في الأدب والشعر والفن واللغة والفلسفة وعلم النفس، وكان يبقى لساعة متأخرة من الليل، بالاتفاق مع حارس المكتبة الذي عقد صداقة خاصة معه .
II
   في مهرجان أصيلة (المغرب) الأخير 2018 كان بلند الحيدري الغائب " الحاضر"، تأملت صورته بأناقته المعهودة وحضوره الهادئ وهي تتصدّر يافطاتٍ عُلّقت في أماكن عديدة في تلك المدينة الجميلة المستلقية بغنج على البحر ، وكان الاسم يتكرّر، خصوصاً يوم تكريم اثنين من الشعراء المبدعين هما الشابان: نسيمة الراوي من المغرب ومحمد المغربي من تونس، بمنحهما "جائزة بلند الحيدري" بصفته أحد من رموز الحداثة الشعرية، فقد كان بلند حداثياً قبل ما نعرفه عن زمن الحداثة، حيث يعتبر أحد أركان الحركة التجديدية في الشعر العربي الحديث، ولعلّ ديوانه "خفقة الطين" الصادر في العام 1946 هو الأول الذي يؤرخ لحركة الشعر الحر والتي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وامتدّت إلى الفنون الأخرى، أما أركانها فهي "المربع الذهبي"، فإضافة إلى ركنها الأول  بلند كانت الأركان الثلاثة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي.
   وكان بدر شاكر السيّاب في العام 1953 قد اعترف بذلك قائلاً: " كان هناك ثلاثة دواوين صدرت في العراق أولها - ديوان " خفقة الطين" لبلند الحيدري وثانيها- ديوان "عاشقة الليل" لنازك الملائكة، وثالثها- ديوان "أزهار ذابلة" لبدر شاكر السيّاب، وفتحت هذه الدواوين صفحة جديدة في تاريخ الشعر العراقي والعربي". وقد كتب عن مجموعته الأولى بانبهار الأديب اللبناني مارون عبود في  العام 1947 يقول: " أشهد أن ديوان بلند الحيدري- خفقة الطين، أفضل ما قرأت من دواوين الشباب بالشعر، ولعلّه الشاعر الذي تحلم به بغداد".
   وقد ظلّ بلند يخفق كل حياته في الضياع والمنفى والغربة، وضمّت مجموعته الأخيرة "دروب المنفى" 1996 خفقته الوداعية  وحملت قصيدته الأخيرة في المجموعة  "ما بين ذراعي أمي" حنينه الأول إلى "البئر الأولى" حسب رواية جبرا ابراهيم جبرا، وهو حنين يشبه الارتعاش حين يقابل الموت الذي بقي هاجساً قائماً في جميع مراحل حياته وإبداعه:
 ذات مساء ماتت أمي
وعلى مدّ ذراعيها استلقيت وكانت عينيّ
فانوساً أعمى يحملني من تيهٍ ولتيهٍ يبحث عنّي
في حيّ موبوء .. في حي
 أخشى أن لا يبقى حتى غبش الظن.
   
   وإذا كانت القصائد الأولى أقرب إلى التجريب، فإنه بدا أكثر عمقاً وشمولاً بارتفاع الموجة الجديدة من الشعر الحر، بحيث أصبح جزءًا من مدرسة أخذت تحفر طريقها بثقة أكبر وتحدٍّ أشد في مواجهة القصيدة الكلاسيكية، وخصوصاً بعد أن أصدر ديوانه الثاني "أغاني المدينة الميتة" في العام 1951 وأعاد نشره في العام 1957 " مع قصائد أخرى"، وفي العام 1961 نشر مجموعة بعنوان" جئتم مع الفجر" ضمّت قصائد ما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وهو ما يوحي منها عنوانها.
   وبعد تجربة سجنه نشر مجموعة جديدة (1965) تحت اسم " خطوات في الغربة" ثم " رحلة الحروف الصفر" 1968 و"أغاني الحارس المُتعب" 1971 والتي نالت جائزة "اتحاد الكتاب اللبنانيين"، ثم نشر في العام 1972 بعد عودته إلى بغداد، مجموعة بعنوان "حوار الأبعاد الأربعة"، وبعد منفاه اللندني نشر في العام 1984 " إلى بيروت مع تحياتي" وفي العام 1990 " أبواب إلى البيت الضيق"، وكان آخر مجموعة له " دروب في المنفى" 1996.
    لقيت الحركة التجديدية في الشعر تشجيع ودعم وتأييد بعض المبدعين الذين كان يُنظر إليهم كمرجعية للحداثة وكان من أبرزهم في العراق الناقد والأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا، الذي يقول عنه بلند في حديث مع الكاتب (1991) أنه أكثر من استقبل نتاجهم الإبداعي بإعجاب وتشجيع، حيث كان يرى في بلند وبدر شاكر السيّاب شاعرين مجدّدين وإن اختلف أسلوبهما في كتابة القصيدة الحديثة ، وكان يؤكد على بدر الاستمرار في أسلوبه ما دامت الصور تومي كل واحدة منها إلى الأخرى، فبدر " عين وذاكرة" مرهفة مليئة بالصور، ويعترف بلند أن مفرداته كانت "أغنى من مفرداتي".
   أما عن شعر بلند فيقول جبرا ابراهيم جبرا في العام 1951 أنه " شعر صُور"، فهو كالفنان الحاذق لا يلقي بالألوان على لوحته جزافاً ولا يرسل الخطوط عليها أنّى اتجهت، إنه يورد تفاصيله مرتبطة متماسكة، فتنمو القصيدة بين يديه نموّاً من الداخل ككل الأعضاء الحيّة، وإذا بها وحدة متكاملة لها أول ووسط ونهاية كما يقول أرسطو في وصف العمل الفني الصحيح، ويضيف جبرا: إن شعر بلند كالصور ذات الأعماق، فيها أضواء وظلال، فيها القريب وفيها البعيد وكلّها تستهدف وحدة الموضوع وقوته وبروز جماله.
III
   كم كنتُ سعيداً حين اطّلعت على الكتاب الذي أصدره المنتدى الثقافي العربي - الأفريقي والموسوم " بلند الحيدري- اغتراب الورد"، وأشرف على إعداده عيسى مخلوف، منشورات جمعية المحيط الثقافية، أصيلة ، المغرب، ط1، 1997، وذلك لمناسبة الذكرى الأولى لرحيله، والكتاب هو أقرب إلى استفتاء جديد على شعر بلند الحيدري بعد رحيله واعتراف برياديّته.
   وقد تضمّن إضافة إلى كلمتيْ التقديم لمحمد بن عيسى والمدخل لعيسى مخلوف 7 دراسات معمّقة لعبده وازن ومحي الدين اللّاذقاني وصبحي حديدي ورفعت سلام وعابد خزندار وبنعيسى أبو همالة وأسعد عرابي، إضافة إلى شهادات وآراء عددها 22 لشعراء ونقّاد بينهم أدونيس وسعدي يوسف ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وأدوارد الخرّاط والطيّب صالح ومحمد سعيد الصكّار وعباس بيضون وضياء العزاوي وجابر عصفور وآخرين.
   وجاء في كلمة محمد بن عيسى، الوزير والدبلوماسي والمثقف وصاحب مبادرة مهرجان أصيلة  عن بلند " لم يكن بلند الحيدري شاعراً مجدّداً فقط، وإنما كان أيضاً من قلّة من المبدعين الذين تآخى في حياتهم القول والفعل. كان ينتصر للقيم الإنسانية الرفيعة، وكان مثالاً لها، وهذا ما جعله في صراع دائم مع عالم لا يستجيب لرؤيته وحساسيته الشفافة المرهفة..."
   وسبب غبطتي  عند اطلاعي على كتاب " اغتراب الورد" يعود إلى الشهادة الجماعية برياديّة بلند، الذي لم تُنصف تجربته في حياته من جانب الكثير من النقّاد، باستثناءات محدودة، وضاعت أحياناً في سجال التراتبية الزمنية والأسبقية والقصيدة الموزونة أو النثرية والخروج على الوزن والقافية، على عكس تجارب السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، وفي بعض هذا التقييم دور للسياسة التي تُعلي وتُخفض، فبموجبها مُنح عدد من الشعراء ألقاباً بعضهم لا يستحقها وذيّلت أو قدّمت أسماءهم بألقاب من خارج دائرة الشعر والإبداع، والأمر لا يختص بالشعر، بل بعموم مفردات الثقافة والإبداع.
   وحسب تفسير سعدي يوسف فإن الأمر يعود إلى " الرافعة السياسية"، ففي حين كان  السيّاب والبياتي في دائرة اليسار، وكانت نازك في الدائرة القومية العربية، كان بلند في "زاويته الوجودية الجمالية" القلقة والمتوتّرة يبحث عن "فردانية" و"أناه" وسط صخب الشعارات وضجيج الأصوات، لأنه كان يريد صوته الخاص لإحساسه بالفجيعة والتشتّت والفراغ، في إطار نزعته التشاؤمية والأسى الذي انطوى عليه شعره، يضاف إلى ذلك إن بلند لم تسوّقه مؤسسة، وهو كذلك لم يسوّق نفسه، بل لم يكن يبالي بمثل تلك التصنيفات والأوصاف والصفات، وكان يكفيه أنه مبدع وله صوته الخاص وكبرياؤه المتميّز.
   وحين كان يُسأل بلند عن الريادة والأولوية كان يجيب بشيء من عدم الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيه، ويردّد أحياناً لا يحتاج الأمر إلى كل هذا التحبير، وبقدر ما أغفلت أو أهملت تجربته ودوره الريادي فقد عومل في سنوات اغترابه، سواء في لبنان وعلى امتداد الوطن العربي،  بما يستحقه من مكانة وتقدير، أما شموخه الذي كان يتعامل به فهو مستقى من اسمه الذي يعني باللغة الكردية  "شامخ" كصاحب الشأن ذاته.   
   وحتى وإنْ كانت صوره " باذخة" وأنيقة ونبرته قوية وواثقة، إلّا أن لغته كانت "مقتصِدة"، لتعبّر عن الإيجاز والتكثيف فقد كتب بلند قصيدته بتركيز كبير أقرب إلى أسلوب البرقيات، وهو ما دعا جبرا ابراهيم جبرا إلى أن يطلق على بلند بحق صاحب القصيدة التلغرافية "البرقية"، فقد كان يعرف المدى الذي يريد الوصول إليه تعبيراً عن الذات وتناقضاتها، حيث امتلك القدرة على ضخّ  أكبر كميّة من الصور والإيحاءات والمعاني بأقل كميّة من الكلمات.
   ويقول بلند معترفاً بنصيحة جبرا: أصبح همّي الرئيس هو الإيجاز في قصائدي، ولعلّ علاقته بالفنون التشكيلية والموسيقى هي التي جعلته يختار هذا الأسلوب، لاسيّما  ثقافته الفنيّة المتميّزة قياساً بشعراء الموجة الجديدة، مما أعطى تجربته الشعرية بُعداً جمالياً، خصوصاً حين تكون مفرداته مألوفة وصوره شفافة، في حين كان بدر شاكر السيّاب أقرب إلى التراث، ناهيك عن استخدام مستحدث للأسطورة.
   ويعترف بلند في شهادة خاصة عن علاقته ببدر شاكر السيّاب، إنهما كانا قد تأثّرا بالحركة العالمية للشعر الحديث عن طريق المهندس قحطان المدفعي الذي عاد إلى بغداد بعد أن أنهى دراسته في لندن، وقد حمل معه تسجيلات صوتية لعدد من أدباء العصر بينهم: إليوت وآراغون، ويقول إن ذلك كان له تأثير عليه وعلى بدر، حين " كنّا نلتقي مرّة في الأسبوع عند قحطان المدفعي لنستمع إلى هذه الاسطوانات لساعات وساعات، ونحاول أن نستلهم منها ما يعطي إضافة جديدة لتجربتنا الشعرية". ويعترف بتسرّب "إيقاعية إليوت" إلى تجربته الشعرية.
IV
"بيروت ... يا موتاً أكبر من تابوت
يا موتاً لا يعرف كيف يموت ...
لن يعرف كيف يموت "

   كانت بيروت التي عاشها بلند الحيدري " بيتاً حميماً ذا أبواب عديدة"، وكما يقول: "كان لكل منّا أن يجد نفسه في الباب الذي يُريد أن يكون فيه: المسلم مسلم والمسيحي مسيحي والمؤمن مؤمن، ولكل منّا أن يعبّر عن نفسه بكثير من الحريّة"، وهي ذاتها بيروت التي عرفتها وكتبت عنها نصاً بعنوان" العشق الملوّن" يوم كرّمتني الحركة الثقافية في انطلياس 2017 بقولي :" لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرتي الطّفليةِ المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زواياها بيروت بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير".
   وأضفتُ: هكذا بدأتْ ترتسمُ ملامحُ بيروت الجمال والمدى والتنوّع الثقافي والاجتماعي وكأنّني في فسيفسائيّة تختلطُ وصورة "النجف السعيد" أو ما يكنّى "خدُّ العذراء"، حيث يستلقي الشّعرُ متنفِّساً للمدينةَ المحافظةَ التي تآخت مع التمّرد، حتّى تفّجر "الفكرُ المنفتحُ في المجتمع المنغلق" على حدّ تعبير السيد مصطفى جمال الدّين.
   لقد صدرت معظم دواوين بلند في بيروت مثلما صدر معظم كتبي فيها، وقد كانت بيروت في السابق والحاضر، وعلى الرغم مما أصابها ، ملاذاً دافئاً يخفّف من مشاعر الغربة إنْ لم يتجاوزها، لدرجة شعور المرء إنه في بلده، والأمر ينطبق على العديد من المبدعين الذين عاشوا في بيروت بينهم ... محمود درويش ونزار قباني وأدونيس  ومعين بسيسو وسعدي يوسف وأنيس الصايغ  وعز الدين المناصرة، ووجدوا في بيروت الرئة التي يتنفسون بها هواء الحرية والإبداع والحداثة.
   أما النصف الآخر من غربة بلند فقد كان قاسياً على نفسه فيها، وهو مرحلة لندن، وهي ذاتها التي عشتها، ولكن قبل بيروت. وإذا كان في بيروت قد انغمس بالحركة الثقافية وعمل في مدرسة برمّانا مديراً ورئيساً لتحرير مجلة العلوم وكان حضوره مبرّزاً في مجالسها الأدبية وأنشطتها الثقافية والفكرية وحلقاتها النقاشية وأماسيها الشعرية، فإنه في لندن، ولاسيّما في السنوات الأولى عانى الكثير، خصوصاً مع تعمّق مأساة العراق، حيث شهد حرباً ضروساً دامت ثماني سنوات (1980-1988) مع إيران، ثم حرباً لقوات التحالف على العراق (العام 1991)، وذلك بعد مغامرة الحكم في العراق غزو الكويت في 2 آب/ أغسطس/1990، وفي تلك الفترة كتب قصائد عديدة مناجاة لوطنه المفقود وغير القادر من الوصول إليه والمهدّد من جميع الجهات ، وظلّ حلم العودة يراوده:
    " هل لي أن أحلم يا مدينتي بالرجوع لدارنا المطفأة الشموع؟
   هل لي أن أعود فأوقظ المصباح وأفتح الشباك للنجوم والغيوم والريح؟
   هل لي أن أحلم بالرجوع لكل ما في قلبك المقروح من دموع ؟
   ...   ...
   هل لي أن أحلم يا مدينتي أن أعود؟
   أبحث عن عينيّ بين دفتي كتاب مفتوح تركته عند الباب
    فاصفّر في أوراقه عتاب
    أود لو يعود
   أريد أن أعود من قبل أن يجفّ في الوعود
   سؤالها عن تائه الريح والأرصفة السوداء والضباب
   هل لي أن عدتُ غداً لمدينتي
   هل لي أن أسأل عن وطن لا عن كفن؟"
V
   أتذكّر حين ازدادت المخاطر التي تهدّد العراق ورفض حاكمه الانصياع للمناشدات والقرارات التي طالبته بالانسحاب من الكويت والاستماع إلى صوت العقل، تنادى عدد من المثقفين والباحثين والسياسيين العراقيين، للقاء  واجتمعنا في البداية مجاميع مصغّرة، ضمّت: صلاح عمر العلي ونوري عبد الرزاق وبلند الحيدري وإياد علاوي وفاروق رضاعة وتحسين معلة واسماعيل القادري وعبد الحسين شعبان، وفكّرنا بالسبل المتاحة لدرء كارثة الحرب والضغط من أجل نزع الفتيل، ناهيك عن ضرورة إظهار صوت آخر، يدين الغزو ويدعو لإنسحاب القوات العراقية دون قيد أو شرط، من جهة، ومن جهة أخرى القول " إن هذه الحرب ليست باسمنا"، مثلما لم يكن الغزو باسمنا.
   وقد تدارسنا الأمر وقرّرنا إصدار "نداء إلى الرأي العام" بعد مداولات مع قوى وشخصيات أخرى، وقلّبنا جميع الاحتمالات بما فيها ردود الفعل العربية والدولية، خصوصاً حين تأكّد لنا أن الحرب قائمة لا محال وكان لا بدّ أن يُسمع صوت العراقيين من خارج دائرة النظام وبعيداً عن جعجعة السلاح، ودعانا الأخ صلاح عمر العلي في منزله في منطقة ايلينغ بلندن، وهناك اتفقنا على إصدار النداء، الذي كان لي شرف كتابته، والذي حمل بعدين متوازيين أولهما-  "إدانة غزو الكويت ومطالبة الحاكم الانسحاب فوراً"، وتفويت الفرصة على القوى الإمبريالية والصهيونية، لكي لا تستفيد من التصدّع الحاصل، بل والشرخ الكبير في التضامن العربي، وثانيهما- ضرورة مواصلة الجهود للإتيان بنظام حكم ديمقراطي دستوري تعدّدي، يضع حدّاً للاستبداد والإرهاب.
   ووقع البيان كما أتذكّر : الأسماء في أعلاه، إضافة إلى موفق فتوحي ومحمد الظاهر ومحمود عثمان وعادل مراد ومهدي الحافظ وصلاح الشيخلي  وهاني الفكيكي (انضم إليه) وسمير شاكر محمود الصميدعي وعزيز عليّان وآخرين، لم تسعفني الذاكرة للاحتفاظ بأسمائهم، وأرجو ألّا أكون قد أخطأت ببعضهم، وكم أتمنّى من الأخ والصديق صلاح عمر العلي لو كان يحتفظ بأرشيفه الخاص بالبيان وبأسماء الموقّعين عليه لغرض التوثيق، بهدف نشره، والرجاء موجّه لمن وقّع هذا البيان أو احتفظ به.
   وكانت مداولات كثيرة جارية لتشكيل تجمّع للديمقراطيين في لندن وغيرها، وقد نشط فيها بلند الحيدري، وقبلها كانت محاولات أخرى مماثلة، في بداية الثمانينات قد جرت في الشام حيث تم تأسيس "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي أصبح صالح دكله أمينه العام وضمّ مجيد الراضي وابراهيم الحريري وادريس ادريس وآخرين، وكذلك "اتحاد الديمقراطيين" الذي ترأّسه أبو أيوب وآخر كان "محمد الحبوبي" على رأسه، و"المتّحد الديمقراطي" الذي ضم هاني الفكيكي ومحمد بحر العلوم ومصطفى جمال الدين وأيهم السامرائي، لكن هذه التنظيمات لم تتمكّن من مواصلة عملها لأسباب عديدة منها بعض الولاءات لأطراف سياسية وأخرى تتعلّق بظروف الغربة،  حيث كانت معظم هذه التنظيمات " مهاجرة"، وتأثرت أيضاً بالجغرافيا، أي بمكان نشأتها، وهو شأن جميع التنظيمات التي تأسست في الخارج أو طال أمد بقائها فيه، سواء بانشطارها عن أحزاب أم قوى جديدة تأسست، لكنها سرعان ما اختفت أو انطفأت.
   وكان "اتحاد الديمقراطيين العراقيين" الذي تأسس في لندن قد ضم محمد الظاهر (رئيساً) وبلند الحيدري (نائباً للرئيس) وفاروق رضاعة (أميناً عاماً) وقد انضم إلى المؤتمر الوطني العراقي الذي تأسس في فيينا العام 1992، وبالرغم من أن اسم بلند ومجموعة الشخصيات التي انتسبت للاتحاد تمثّل ثقلاً اجتماعياً وثقافياً، لكن دوره كان محدوداً ولم يتمكّن أن يحتل مكانه في ساحة المعارضة التي تتنافس فيها التنظيمات الآيديولوجية، مثل : الحركة الإسلامية والحركة الشيوعية والحركة الكردية، إضافة إلى تنظيمات البعث السوري، وشكّلت هذه المجموعات " جبهة العمل المشترك" (27 كانون الأول/ديسمبر/1990)، لكنها سرعان ما تفكّكت ودبّت الخلافات بين أطرافها مثلها  مثل "الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية "جوقد" التي سبقتها وتأسست في خريف العام 1980 والجبهة الوطنية الديمقراطية "جود" التي تأسست بعد الأولى بأسبوعين، والمؤتمر الوطني العراقي  الذي أعقبها 1992 وانضمت إليه الغالبية الساحقة من القوى المعارضة، لكنه هو الآخر ظلّ فوقياً وغير مؤثر وسرعان ما فقد إمكانات استمراره وانسحبت أو جمّدت علاقاتها به مجموعة الشخصيات والأحزاب والقوى التي أسسته.
   وبتقديري إن معارضة بلند وغيره من المثقفين كانت معارضة فكرية وثقافية بالدرجة الأولى، ومعارضة سلمية لمشروع الاستبداد، خصوصاً  وأن أعداداً كبيرة أعادت النظر بصيغة "الحزب الواحد" و"الحزب القائد" و"الطليعة" و"دكتاتورية البروليتاريا" و"العنف" وغيرها من الصيغ القديمة، وأقرّت بأهميّة التعدّدية والتنوّع واحترام الخصوصيات، ولذلك كان الاختلاف أمراً لا مفرّ منه مع المشروع السياسي الذي خضع لتأثيرات متعدّدة، دولياً وإقليمياً، بل تم توظيفه لاحقاً ليساهم باحتلال العراق، وللأسف وقع ضحية مثل هذا "الوهم" أو "التواطؤ" مثقفون  وإعلاميون وأدباء، ناهيك عن سياسيين، أما بسبب عجز في الرؤية أو تعويلات على الخارج أو لمصلحة ضيقة بتبريرية ذرائعية وانقلاب على المفاهيم والقيم الوطنية.
   وددتُ الإطلال على هذا الجانب، لأن بلند الحيدري وإن كان له تجربة سياسية سابقة، ولاسيّما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، حين انتمى للحزب الشيوعي وتصدّر مكانه في اتحاد الأدباء الذي كان يرأسه الشاعر الجواهري وبنفوذ ملحوظ من الأدباء الشيوعيين وأصدقائهم، إلّا أنه لم يكن منغمراً في العمل السياسي، بل إن مرارة تجربته بعد اعتقاله في العام 1963 دفعته للابتعاد عنه، لكنه اضطرّ للعودة إليه مجبراً لشعوره بأن بلاده أصبحت على شفا حفرة، فعسى يستطيع الإسهام بانتشالها عبر بث الوعي الديمقراطي والدعوة لإجراء انتخابات وسن دستور جديد للبلاد على أساس التعدّدية والتنوّع والاعتراف بحقوق الشعب الكردي وبالحقوق والحريّات الديمقراطية العامة والخاصة، وهو ما كان العديد من المثقفين يأملونه ويشاطرونه الرأي فيه.
VI
   وكنّا قد حضرنا سويّة مؤتمراً للمثقفين في برلين انعقد في مطلع التسعينات وكان يحمل كاميرته التي لا تفارقه، وخلال تلك الفعالية الثقافية أدرجنا في برنامجنا القيام، بثلاث زيارات مهمة:
   الزيارة الأولى إلى متحف برلين "بيرغامون" مدفوعين لمشاهدة الآثار العراقية  بشكل خاص والآثار القديمة بشكل عام، حيث يضمُّ المتحفُ  آثاراً لحضاراتٍ متنوّعة يعود أقدمها إلى ما يزيد عن 4 آلاف سنة قبل الميلاد. ولعلّ أكثر ما أثارنا هو مشاهدتنا " بوابة عشتار" و"طريق الموكب" الذي يعدّ الطريق الرئيسي لمدينة بابل التأريخية، إضافة إلى الرسومات والكتابات المسمارية فوق ألواح الطين والحجر والشمع والمعادن والخزفيات والفخاريات التي تعود إلى أكثر من 6000 سنة .
   وكم كان حزننا كبيراً لأن هذه الآثار ليست في متاحفنا، إلّا أن ثمة نوع من " الرضا" المكبوت كان داخل كل منّا،  لأن هذه الآثار محفوظة في أماكن آمنة ويمكن استردادها في ظروف أخرى، ولو كنّا نعلم أن تنظيم "داعش" الإرهابي سيدمّر النمرود العظيم ومدينة الحضر التاريخية الأثرية والمنارة الحدباء وجامع النبي شيت والنبي يونس، وسيحطّم  ثورين مجنّحين عند بوابة نرغال التاريخية في الموصل وغيرها من الآثار التي لا تقدّر بثمن، لكنّا قد تشبّثنا لتبقى آثارنا محفوظة بعيدة عن أيادي الإرهابيين الآثمة التي دقّتها بالمعاول، كما عملت طالبان في أفغانستان ذلك من قبلها حين دمّرت تماثيل باميان التي يعود تاريخها إلى ألفي عام.
   أما الزيارة الثانية، فكانت لقبر  برتولت بريخت الشاعر والكاتب والمسرحي الألماني والذي يعتبر من أهم كتّاب المسرح في القرن العشرين، وهناك جلسنا في مقهى قريب،  وتدفّق بلند في الحديث عن المسرح وعن بريخت الذي عاش في المنفى هو الآخر، فهرب إلى الدانمارك العام 1933 إثر وصول هتلر إلى السلطة، ومنها في العام 1941 إلى كاليفورنيا في أمريكا، التي مكث فيها إلى العام 1947، ثم عاد إلى ألمانيا الغربية، لكن سلطات الاحتلال منعته ، فاضطرّ الذهاب إلى ألمانيا الشرقية وأسّس "فرقة برلين" ثم "نادي القلم"، حتى وفاته في العام 1956.
   وتحدّث بلند عن نظرية بريخيت في "هدم الجدار الرابع"، والمقصود "إشراك المشاهد في العمل المسرحي". وحاول أن يشرح لي ما هو الجدار الرابع باعتباره جداراً وهمياً حيث يقف الممثلون على خشبة المسرح، وأبدى إعجابه الشديد بمسرح بريخت لأنه حسب رأيه مسرح يمثّل الغرابة ويجمع بين الكوميديا والتحريض، مثلما يجمع بعض المشاهد المتناقضة ليضمّها إلى بعضها في إطار واحد ليكوّن منها موضوعاً شديد الغرابة، مستخدماً بعض الأغاني. وقد حفّزني حديثه لقراءة بريخت ومسرحه لاحقاً.
   والزيارة الثالثة كانت في رحاب  روزا لكسمبورغ أو "روزا الحمراء" التي استحضرناها في برلين،  والتي كان لينين يطلق عليها لقب "نسر الماركسية المحلّق"، وهي مثقفة ومفكرة واقتصادية ماركسية بولونية الأصل وعاشت في ألمانيا، وقد عملت مع بليخانوف في زيوريخ (سويسرا)، ومن أهم مؤلفاتها " تراكم رأس المال" وتزّعمت مع كارل ليبنيخت "الجناح الثوري" في الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، ووقفت بشدّة ضد مشاركة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، كما عارضت فكرة لينين حول كون الحزب الشيوعي "أداة البروليتاريا" لتحقيق دكتاتوريتها، واعتبرت مثل تلك "الفكرة خاطئة وغير ديمقراطية"  (أي دكتاتورية الـ 9 بالعشرة ضد 1 بالعشرة) وأكّدت على أن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الاشتراكية وحكومة العمال، ولعلّ ذلك تبنّاه لينين في وقت لاحق (نظرياً) حين كتب يقول : إن من يفكر بالانتقال إلى الاشتراكية بطريق آخر  غير الديمقراطية، فإنه سيتوصل  إلى استنتاجات رجعية وخرقاء، سواء بمعناها السياسي أم الاقتصادي.
   وبالعودة إلى روزا فقد لعبت مع مجموعة من النساء الأمميات دوراً بارزاً في رفع شأن الحركة النسوية، وذلك تحضيراً للاجتماع الاشتراكي الدولي العام 1910 في كوبنهاغن الذي تقرّر فيه اعتبار يوم 8 آذار (مارس) يوماً عالمياً يتم الاحتفال به بصفته عيداً للمرأة، يُراد منه تكريم الحركة النسائية المدافعة عن الحقوق الإنسانية للنساء والحصول على حقوقهن في الاقتراع وحضر ذلك الاجتماع التاريخي نحو 100 امرأة من 17 بلداً، بمن فيهم ثلاث نساء كن انتخبن في البرلمان الفنلندي اتخاذ ذلك القرار بتمجيد ضحايا مجزرة نيويورك التي صادفت يوم 8 آذار (مارس) 1908، وبعد عام من تلك المسيرة، أعلن الحزب الاشتراكي الأمريكي ذلك اليوم عيداً وطنياً للمرأة.
   وكانت كلارا زيتكين قد اقترحت ذلك على مؤتمر كوبنهاغن ليصبح 8 مارس يوماً عالمياً، وأُحتفل بهذا اليوم لأول مرة في عام 1911، في كل من النمسا والدانمارك وألمانيا وسويسرا، لكن الاحتفال الرسمي بيوم 8 آذار (مارس) بدأ في آذار (مارس) الذي تلى ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا (1917) .
   وإضافة دور روزا لوكسمبورغ فقد كان دور كلارا زيتكن وكروبسكايا (زوجة لينين) كبيراً، وساهمتا في اجتماع كوبنهاغن بالتنسيق مع لينين الذي كان ظلّه حاضراً من وراء الكواليس، سواءً في مناقشة وتدقيق بعض النصوص  أو في بعض المقترحات، حيث كان يجلس في مقهى قريب يحتسي أقداح الشاي، ويكتب ويدوّن.
   وتلمستُ موقفاً متميّزاً لبلند من قضية المرأة ومن حقوقها ومساواتها، وكيف ينبغي أن يتعامل معها على جميع المستويات في الإدارة والقيادة والعمل والأجور وغير ذلك، وكان قد أثنى على القانون رقم 188 لعام 1959 بشأن الأحوال الشخصية واعتبره خطوة أساسية مهمة على طريق تحرير المرأة، وأشار بأسى إلى معاناتها بسبب الحروب والحصار والاستبداد، وذكرت له كيف تعاملت روزا مع المومسات اللواتي اضطررن لبيع أجسادهن وليس قوة عملهن حسب، وتوقّفنا عند شجاعتها حين نظّرت إلى هذه المسألة من زاوية إنسانية ، وأكثر من ذلك حين انخرطت عملياً في قيادة تظاهرتين في مدينة كولونيا (ألمانيا) للدفاع عن النسوة  المضطهدات على نحو مركّب وتوفير ضمانات صحية لهن مؤكدة أن تحرير المجتمع كفيل بتحرير النساء، لاسيّما هذه الشريحة المظلومة. وهو ما تناولته لاحقاً في كتابي " تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف".
   توقفنا عند الإرث الفكري والشجاعة والجرأة التي اتّسمت بها روزا وعلاقتها مع هانز حبيبها، وتحدثنا عن رسائلها إلى حبيبها التي تمتلك قيمة أدبية وغنىً روحياً ، ناهيك عن مقدار كبير من البوح الإنساني والطهارة الروحية والثقة العالية بالنفس.
VII
   اطّلعتُ مؤخراً على  كرّاس نُشر تحت اسم " الكنيسة والاشتراكية" (ترجمة محمد أبو زيد، إصدار مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2017) على آراء روزا لوكسمبورغ بشأن الأرضية المشتركة للاشتراكية الديمقراطية والكنيسة، وتأكيدها على أن الاشتراكيين (إقرأ الشيوعيين) لا يسعون إلى الصدام مع الدين، وقد وجدت فيها ردوداً على بعض الآراء المتطرّفة بزعم "اليسارية" أو "العلمانية"، ولاسيّما في بلداننا ومجتمعاتنا، التي تندفع لمعاداة الدين أحياناً، فسيصطدمون في جدار سميك لا يمكن اختراقه، كما إن المشروع النضالي  من أجل العدالة الاجتماعية لصالح المقهورين لن يتحقق ولن يُكتب له النجاح  إلّا بتحالفات مع قوى اجتماعية، بغض النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان، فتلك مسألة شخصية، ولكن في البحث عن الأهداف المشتركة ووفقاً للقيم المشتركة ذات البعد الإنساني . وتلك واحدة من الإشكاليات التي تواجه مجتمعاتنا، وكما تقول "إن ضمير الإنسان ومعتقده أمور مقدسة غير قابلة للتدخّل، فكل فرد حرّ في ممارسة المعتقد والقناعة التي تسعده".
   وكانت قد أسست مع ليبنكيخت وكلارا زيتكن " عصبة سبارتاكوس" العام 1916 التي قادت ثورة في العام  1919 وإعلان الجمهورية الاشتراكية الألمانية، لكن قوى الإشتراكيين الديمقراطيين قامت باغتيالها وألقت جثتها في قناة لاندفير في برلين بعد أن ألقت خطاباً نارياً في الرايخشتاغ، وذلك بعد شهرين من قيام جمهورية فايمر الألمانية.
   وقد اصطحبت بلند إلى المكان الذي يُعتقد أنها اغتيلت فيه، في الممرّ المؤدي إلى القناة  الذي كثيراً ما كنتُ أتردد عليه عند زياراتي العديدة إلى برلين برفقة عدد من الأصدقاء الذين يعيشون هناك وفي مقدمتهم هاشم المشاط وعلي ناجي بر وعصام الياسري وآخرين، وكنت قد أخذت صديقي الروائي أبو كَاطع (شمران الياسري) إلى المكان ذاته في العام 1976 عند زيارتنا إلى برلين الغربية.
   واستعاد  بلند معي الحديث عن حسين الرحال الذي ذهب للدراسة في برلين وشهد ثورة سباراتاكوس وتأثّر بها وعاد إلى العراق داعياً للشيوعية، ثم قام بتنظيم حلقات ماركسية مع عدد من أقرانه مثل محمود أحمد السيد وفاضل البياتي وزكي خيري وآخرين، تلك التي تمثل حلقة بغداد. وكنت حينها قد اطلعت على أطروحة الماجستير لعامر حسن فياض الذي كتب عن "جذور الفكر الاشتراكي التقدمي في العراق 1978".
   وتناولنا قضية النساء في روسيا وكوبا بعد الثورة، وقضايا النساء في مجتمعنا، لاسيّما ، الذي سيحصل بعد الحروب والحصار، والقوانين الغليظة التي كانت قد صدرت حينها، والتراجع عن حقوقها، وكم كان بلند حزيناً بسبب نكوص المدينة كما أسماها في بلادنا على حساب زحف الريف عليها لدرجة أن مدننا وحواضرنا تريّفت إلى حدود كبيرة وهذا شأن القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد، حيث تنتشر العشوائيات، ناهيك عن البعد عن قيم المدينة وقيم الريف في الآن. وكم سيكون حزنه كبيراً  وعيناه الواسعتان تضيقان لو شاهد أوضاع النساء اليوم حين تزدهر الشعوذة وتتفشّى الأميّة وينتشر التخلف وتتشظّى البلاد منحدرة نحو الطائفية؟

VIII
   وقد استكملنا تلك الجلسة الحوارية في برلين بجلسات ولقاءات في لندن، ودار حوار بيننا حول مستقبل الحركة الشيوعية في العالم العربي بعد انهيار جدار برلين  9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وتحلّل الكتلة الاشتراكية وحين سألني عن رأيي، قلت له: نحن مثل بريخت الذي كان يقول عن الحزب: أغادره كل يوم في المساء لأعود إليه في الصباح ، قال لا بل مثل آراغون الشاعر الفرنسي صاحب ديوان عيون ألزا الذي كان يقول:
لا تذهب بدوننا في الطريق الصحيحة
 فبدوننا ستكون خاطئة جداً
لربما نكون مخطئين
وتكون مصيباً
 لذلك لا تبتعد عنّا.
   وتناولنا العلاقة الملتبسة بين المثقف والسياسي، وخصوصاً حين يشعر الأخير أن بيده السلطة، سواءً كان حاكماً أم مسؤولاً حتى في حزب سرّي مقموع، واستعدنا علاقة ستالين بالمثقفين في الثلاثينات وما بعدها وحملة التنكيل التي تعرّضوا لها في ظل الهيمنة  الجدانوفية المريرة، التي  كانت تدعو إلى تسخير كل الإمكانات الفنية والإبداعية من فن وآداب وموسيقى لمواجهة الثقافة البرجوازية الغربية وتوظيف الإبداعي لصالحها السياسي والفني لصالحها الأيديولوجي، وكانت تلك السياسة الثقافية هي السائدة، بل كان بيدها القدح المعلاّ كما يقال في فترة  الثلاثينيات والأربعينيات، إلاّ أنه تم التخلي عنها بعد وفاة ستالين في العام 1953  لكن تأثيراتها لم تختفِ أو تغيب، وظلّت تبسط ظلالها حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي وثمانيناته، علماً بأن جدانوف اتهم  في ما يعرف بمؤامرة "الأطباء اليهود" وكان أحد أبرز ضحاياها ، وكان اتهامهم بالتعمّد في إهمال صحة القياديين في الحزب الشيوعي (المقصود ستالين)، وكان جدانوف من أبرز ضحايا تلك "المؤامرة.
   وضحكنا كثيراً حين رويت له ما كنت قد قرأته من أن ميخائيل شولوخوف مؤلف رواية "الدون الهادئ" ارتجف حين سأله ستالين عن بطل الرواية "كريكوري" المتمرّد، المتقلّب، الشجاع، القلق، الضاج بالفحولة ومعشوق النساء، ولاسيّما لجهة علاقته باكسينيا، لماذا لم ينتم إلى الحزب؟ فما كان منه إلّا أن يجيبه إجابة تقريرية: لم أقرّر أنا يا رفيق هو الذي قرّر، فقد كان ستالين يريد النهايات السعيدة أو الإيجابية التي تعتبر إن كل ما هو إيجابي فهو ملك للحزب، وهكذا تصوّر إن انتماء كريكوري للحزب يمكن أن يعطي النموذج.
   وتعرّض بألم لما أصاب المثقفون والثقافة من نكوص خلال الثورة الثقافية الصينية 1965-1976 حتى وفاة ماوتسي تونغ، حيث جرت عمليات تطويع وترويض وإهانة للمثقفين، ناهيكم عن محاولات توظيف طاقاتهم الإبداعية لصالح السلطة والجهاز البيروقراطي، ابتداء من الكرباج إلى مقصّ الرقيب، ومن العزل والمحاربة بلقمة العيش إلى كاتم الصوت، فضلاً عن وسائل أخرى أكثر مكراً ونعومة، ولكنها أكثر إيلاماً وأذى.
   وعُدنا لسلطاتنا التي استهدفت المثقفين ، سواء بالعمل على تدجينهم أو دمجهم بجهازها البيروقراطي ومؤسساتها الثقافية، بالإغداق عليهم أو إغراقهم كي لا يغنّون خارج السرب، وفي كل الأحوال تحرص على عدم خروجهم عن الفلك الذي تريده أن يدورون فيه بهدف الابقاء على الصوت الواحد وتطويع وسيلتهم الإبداعية، كي لا يتحوّلون إلى نقطة جذب، خصوصاً حين يتمتعون بقدر من الاستقلالية في الاجتهاد والمعالجة والموقف.
   وناقشنا " الواقعية الاشتراكية" التي تحوّلت تدريجياً إلى " أداة تبرير" للاستبداد وتمجيد الزعيم ، الفرد، حيث شكّلت كابحاً بوجه تطوير الثقافة، خصوصاً حين اعتمدت القوالب والصيغ والكليشهات لتقييم العمل الإبداعي، ولم يكن ذلك بعيداً عن مقارنة أجريناها مع المكارثية في الولايات المتحدة التي لا حقت المثقفين وقسّمتهم تبعاً لمواقفه الفكرية والسياسية، ناهيك عن أدوارها اللاحقة في التأثير على أعداد من المثقفين في بلداننا، بتغلغل بعض أجهزتها في دعم مؤسسات ثقافية وإعلامية، وهو الأمر الذي ازداد بصورة صارخة وشبه علنية أحياناً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من طوره القديم ضد الشيوعية والمعسكر الاشتراكي إلى طور جديد، وخصوصاً ضد ما سمّي بـ"الإسلام السياسي" في منطقتنا.
كما أجرينا مقارنة بين دور مثقفينا في الوقت الحاضر ودورهم في الخمسينات وكان بلند من دعاة ميثاق يؤكد معايير الحد الأدنى للاتفاق الثقافي والوطني، الذي يؤكد على حق المثقف ودوره ومسؤوليته وحقوقه الديمقراطية والمهنية، خصوصاً في ظل دعوة بإشاعة الحوار وسماع الرأي الآخر، آخذين بنظر الاعتبار التكوين الخاص للمبدع وعالمه الذاتي وما يريده من عملية الخلق، إضافة إلى وسيلته الفنية والمعايير الجمالية التي يريد إبرازها والتعبير عنها، مؤكدين على جدلية الثقافة والوعي، خصوصاً إذا ما عبّرت عن الحرية التي هي بتعبير ماركس "وعي الضرورة".
IX
قدّمت بحثاً في ندوة برلين بعنوان " الثقافة بين حاجز القمع وجدار الآيديولوجيا" وهو ما ضممته إلى كتابي " عاصفة على بلاد الشمس" الذي صدر في بيروت عن دار الكنوز الأدبية، في العام 1994، والذي كتب عنه بلند الحيدري في مجلة المجلّة (السعودية) اللندنية.
وكما جاء في مقالة بلند: وقد اجتمع لهذا الكتاب "عاصفة على بلاد الشمس" من فضائل كاتبه في الاختصاص بالقانون الدولي، وفي العامل ميدانياً في منظمة حقوق الإنسان العربي، وفي الصحفي والكاتب والدارس ما عزّز من نهجه في دقّة المعالجة واعتماده على الحقائق الثّابتة والمؤكّدة بالوثائق والأدلّة... إنه كتاب حقيق بالعودة إليه غير مرّة لإيفاء حقّه في البحث الجاد في مقوّماته وأبعاده.
وكان محمد مكية المعماري المعروف وصاحب ديوان الكوفة قد دعانا بلند وأنا لنكوّن إضافة إليه "لجنة ثقافية" للديوان، ووافقنا على اقتراحه وعملنا معه لبضعة أشهر، حيث وضعنا برنامجاً ثقافياً لفعاليات فكرية وثقافية وفنية وندوات خاصة، ونفّذنا بعضها بزخم كبير، ثم اقترح علينا عقد ندوة عن ميثاق 91 Charter الذي بادر إليه نجله كنعان مكيّة، الذي اشتهر باسم " سمير الخليل" مؤلف كتاب " جمهورية الخوف" .
ورغم التأييد الكبير الذي حظي به الميثاق حيث وقّع عليه عشرات من المثقفين العراقيين، إلّا أنه لم يتحمّل أن يوجّه له نقداً، ولاسيّما في موقفه من "القوات المسلحة" وهو ما دوّنته في هامش لكتابي الذي صدر في 1992 والموسوم "المحاكمة - المشهد المحذوف من دراما الخليج" (عن دار زيد - لندن) والذي جاء فيه "ومع الاتفاق الكامل من أن الجيوش غالباً  ما حدّدت الديمقراطية وأضعفت المجتمع المتمدن، كلّما تضخم حجمها كان ذلك  على حساب المجتمع  المدني وهو ما حدث في العراق بالفعل، إلّا أن ذلك ينبغي ربطه على نحو أشد وثوقاً بقضية الصراع في منطقة الشرق الأوسط وبخاصة لحل القضية الفلسطينية، وبالتالي تخفيض عسكرة الجيوش لعموم دول  المنطقة، إذ أن  استمرار سياسة "إسرائيل" العدوانية وعدم اعترافها بحقوق الشعب العربي الفلسطيني  لا يهدد السلم والأمن الدوليين حسب، بل تنذر بعواقب وخيمة، خصوصاً فيما يتعلق بنفقات السلاح وتضخيم الجيوش واحتمالات اندلاع الحروب وغيرها، وهو ما يجعل التعهد في الدستور العراقي الجديد بتحريم التجنيد الإلزامي وتقليص نفقات الدفاع والأمن الداخلي إلى 2% من مجموع الدخل القومي، إنما هو تعهد من طرف واحد ودون مقابل، خصوصاً وإن الفكرة لا تقترن ببقاء أو زوال صدام حسين، وإنما بقضية الوطن والأمة ككل" (المحاكمة - المشهد المحذوف من دراما الخليج، دار زيد، لندن، 1992، هامش رقم 45 ص 79-80)  وبسبب ذلك شعر بلند وكاتب السطور بنوع من الفتور وضعف الرغبة في الاستمرار، فانسحبنا بهدوء ومودّة ودون أثر يُذكر، وهو ما اتفقنا عليه.
كان بلند الحيدري شديد التواضع ويعبّر عن ذلك بطريقة مملّحة، وأتذكّر أنه حين عرّفني على الروائي اللبناني الكبير أمين معلوف الذي جاء لندن لإلقاء محاضرة في ديوان الكوفة بعد توقيع كتابه (مطلع التسعينات)، بادره إلى القول : " قبل سنوات كنت تأتي لتلتقط معي صورة للذكرى وها نحن اليوم نأتي إليك لنلتقط معك صورة"، وهذا ما يظهر اعتزازه بنجاح الآخرين ومكانتهم وإبداعهم.
   ولأن محمد فايق وزير الإعلام المصري الأسبق في زمن عبد الناصر بحكم موقعه كأمين عام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان يعرف العلاقة التي ربطتني مع بلند الحيدري وتعاوننا في الميدان الحقوقي والثقافي، فإنه بادر إلى الاتصال بي لتعزيتي ولنقل تعازيه إلى عائلته، وقد اتصلت بزوجته الفنانة التشيكلية دلال المفتي وأبلغتها بذلك وبحضور الصديق سعود الناصري الذي كان عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا.
   وقال محمد فايق في الكلمة التي ألقاها في الاحتفالية التي أقيمت لي في القاهرة بمناسبة نيلي وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - 2003) "... كان شعبان يندمج مع بلند الحيدري فكراً ووجداناً وشعراً... وينصهر مع الجواهري ويذوب في أشعاره ويتوحّد مع أفكاره... وكان يلتقي مع الشاعرين الكبيرين في إعلاء قيمة الإنسان وإطلاق طاقاته في ظل الحرّية التي عشقها ونذر حياته لها"، والكلمة منشورة في كتاب أصدره المركز العربي لنشطاء حقوق الإنسان الموسوم " عبد الحسين شعبان : الحق والحرف والإنسان"، وقدّم له المحامي حجاج نايل مدير المركز ، القاهرة، 2003.
   جدير بالذكر أن بلند الحيدري سبقني إلى رئاسة المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، وحين انتخبت رئيساً بعده وأمضيت عدّة سنوات في رئاستي للمنظمة، وكنت قد اخترت بلند الحيدري عضواً في المجلس الاستشاري مع نخبة ضمّت 15 عضواً من خيرة المثقفين العرب، بينهم الشاعر والمفكر العراقي صلاح نيازي، الذي رفد المكتبة العربية بعشرات الكتب والمؤلفات والترجمات والدراسات النقدية، إضافة إلى دواوين منها:  "كابوس في فضة الشمس" ، و"المفكر والهجرة إلى  الداخل" و"ابن زريق وما شابه" -وأصدر مجلة رصينة اسمها " الاغتراب الأدبي" في لندن، استمرت لنحو عقدين من الزمان.
   وحين تم اختطاف منصور الكيخيا الحقوقي والمثقف الليبي البارز ورجل الحوار والسلم، من القاهرة في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1993 حين كنّا نحضر مؤتمراً من فندق السفير بالدقي، شكّلنا لجنة للدفاع عنه في لندن كان على رأسها بلند الحيدري  وصديق الكيخيا صلاح عمر العلي والفنانة المسرحية ناهدة الرمّاح من العراقيين وعدد من الشخصيات العربية البارزة، إضافة إلى محمد المقرين أحد أبرز شخصيات المعارضة الليبية ورئيس المؤتمر الوطني الليبي لاحقاً وعلي زيدان رئيس الوزراء بعد الإطاحة بالقذافي وعدد من الشخصيات الفلسطينية والسودانية والخليجية والمصرية والمغاربية، وكنت قد ألفت كتاباً عن الكيخيا العام  1997 بعنوان " الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً"، كما أنتجت المنظمة فيلماً عنه في السنة ذاتها، لكن بلند الحيدري كان قد غادرنا حينها .
   وكان آخر لقاء

242
نابولي تحتضن للمرّة الثانية
اجتماع حقوقيي البحر المتوسط

وكالات - خاص/نابولي

   أنهى اجتماع حقوقيي البحر المتوسط أعماله وسط أجواء مفعمة بالثقة والإصرار على مواجهة التحدّيات الكبرى التي تعيشها شعوبها، وكان قد شارك في الاجتماع ممثلون عن البلد المضيف إيطاليا، من الحقوقيين والمحامين ، وشارك رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي وعدد من المعنيين بقضايا اللجوء والهجرة، إضافة إلى حقوقيين من اليونان وتركيا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا  وبلغاريا وسويسرا وعدد من كبار الحقوقيين بينهم أعضاء المجلس الدولي لاتحاد الحقوقيين الديمقراطي العالمي من أبرزهم بيل بورينغ Bill Bowring وفابيو مارسيللي Fabio Marcelli من إيطاليا، كما حضر حقوقيون من كرد تركيا وكاتالونيا والصحراء الغربية ولم يتمكن من الحضور حقوقيون من البرتغال وبلجيكا.
   ومن العالم العربي شارك حقوقيون من المغرب وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق ، وغاب عن الاجتماع ممثل تونس،
   وناقش الاجتماع القضايا التي تهم الحقوقيين في مختلف أنحاء العالم، ولاسيّما تلك التي تهدّد السلم والأمن الدوليين، وخصوصاً مسألة الإرهاب والإرهاب الدولي ونزع السلاح النووي عن دول المتوسط وتصفية القواعد العسكرية وتسوية النزاعات على النفط والغاز لما فيه مصالح الشعوب وعلاقات الدول القائمة على أساس الاحترام المتبادل والمشتركات الإنسانية ، كما ناقش الاجتماع مسائل تتعلق ببيئة البحر المتوسط وضرورة الحفاظ على بيئة نظيفة بعيداً عن التلوّث والاستخدامات التي تضر بالجنس البشري في الحاضر والمتقبل وتوقف الحقوقيون المتوسطيون  ليناقشوا مسألة اللاجئين والهجرة، حيث أصبح البحر مقبرة للموت حسب تعبير رئيس البلدية، وذلك انطلاقاً من الإيمان الراسخ بحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها دون أي افتئات عليها أو تدخل بشؤونها الداخلية،
   وكانت المجموعة العربية قد بلورت نداء وافق عليه المجتمعون واعتبر وثيقة من وثائق اجتماع نابولي الثاني باسم "إعلان نابولي" وبالقدر الذي تضامن فيه الحقوقيون العرب مع زملائهم وكانوا قد شاركوا قبل ذلك في اجتماع لحقوقي أوروبا (كمراقبين)، فإن الحقوقيين المتوسطيين ومعهم حقوقيي أوروبا أعلنوا عن تضامنهم مع إعلان نابولي الذي استقبلوه بالتصفيق وصدر إضافة إلى النسخة العربية باللغتين الإنكليزية والفرنسية.
وفيما يلي إعلان نابولي :
إعلان نابولي
حقوقيو البحر المتوسط يعلنون

نحن الموقعون في أدناه والمشاركون في مؤتمر حقوقي البحر المتوسط في نابولي (إيطاليا) 19 أيار (مايو) 2019 ، نعلن عن :
1- تضامنا الحار مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني وفي المقدمة منها حقه في تقرير المصير.
2- إدانتنا للسياسة الإسرائيلية العدوانية المستمرة، والتي هي التعبير الحقيقي للنهج الصهيوني العنصري الذي كان على الدوام بؤرة حرب وتوسع وإرهاب في المنطقة.
3- شجبنا الشديد للخطوة التي اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة " إسرائيل"،  واعتباره قراراً باطلاً ولاغياً ومخالفاً لقواعد القانون الدولي ولقرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 الصادر في 20 آب (أغسطس) 1980 وهو واحد من سبعة قرارات كانت قد صدرت قبله أدانت محاولات " إسرائيل" ضم القدس.
4- استنكارنا لقرار الرئيس الأمريكي ترامب اعتبار الجولان السورية تابعة لإسرائيل وهو قرار باطل شكلاً ومضموناً، ناهيك عن انتهاكه السافر لقواعد القانون الدولي روحاً ونصاً، فضلاً عن مخالفته الصريحة لقرار مجلس الأمن رقم 497 في 17 كانون الأول (ديسمبر) 1981 والذي دعا بالإجماع " إسرائيل" إلى إلغاء ضم مرتفعات الجولان بحكم "الأمر الواقع".
وبهذه المناسبة  فإننا ندعو إلى عدم الاعتراف بفرض قوانين " اسرائيل" وإدارتها وولايتها على الجولان السورية، ونعتبر أية خطوة تعترف بذلك لا قيمة قانونية لها، لأنها مخالفة للقواعد الآمرة في القانون الدولي تلك التي لا تعترف بضم الأراضي أو إلحاقها كمكاسب حربية جرّاء الاستيلاء عليها بالقوة.
5- وقوفنا إلى جانب الشعوب العربية التي عانت من الإرهاب الدولي، خصوصاً من التنظيمات الإرهابية المدعومة من قوى خارجية مثل تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة، وغيرها، تلك التي عملت على تفتيت البلدان العربية وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية فيها، حيث ما تزال سوريا تتعرّض إلى شتى المحاولات التي تريد النيل من وحدتها .
6- ندعو إلى العمل على حماية الدول الوطنية وتعزيز سيادتها واستقلالها على أراضيها وحق شعوبها في الحرية والتقدم والتنمية بعيداً عن سياسات إملاء الإرادة وفرض الهيمنة ونهب الثروات من جانب القوى المتسيّدة والمتنفّذة في العالم، ونؤكد حق الشعوب في اختيار أنظمة الحكم الخاصة بها وفقاً لخياراتها الحرّة والمستقلة، ولذلك نستنكر العقوبات التي تفرضها القوى الإمبريالية على الشعوب ونعلن عن تضامننا معها.
7- إيماننا بأهمية وضرورة حماية السلم والأمن الدوليين وبحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة أو الوسائل العسكرية، بما ينسجم مع مبادئ ومقاصد وميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً مبادئ عدم التدخل فيما يتعلق بصميم السلطان الداخلي للدول، وذلك وحده ما ينمّي علاقات التعاون في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.


243
                     



حوار الكرد والعرب.. «القوة الناعمة»

 
عبد الحسين شعبان
حظيت مبادرة جامعتي بغداد وكويسنجق للحوار العربي - الكردي باهتمام كبير، ولا سيّما أنها جاءت بعد عام ونصف العام تقريباً من توتر العلاقات بين بغداد وأربيل إثر الاستفتاء الكردي (25 سبتمبر / أيلول 2017)، خصوصاً في ظلّ التباسات وألغام احتواها الدستور، منها المادة 140 المرحّلة من المادة 58 من «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية»، والمناطق المتنازع عليها وقضايا النفط، والمركز القانوني للبيشمركة، والمنافذ الحدودية وغيرها.
ولذلك، فإن فتح قناة حوارية جديدة من خلال الوسط الأكاديمي الذي استضافته أربيل ومدينة كويسنجق التاريخية العريقة، مسألة مهمة لأن الاستثمار في الحوار أجدى وأكثر نفعاً لحل القضايا الخلافية، فقتال نصف ساعة أسوأ بكثير من حوار عقدين من الزمان على حد تعبير مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان السابق. وأظن أن ذلك أحد دروس التاريخ وعِبَر الحياة التي ينبغي أن يعيها الكرد والعرب ويدركوا معانيها جيداً، ليس على صعيد الحاضر، بل على صعيد المستقبل، فضلاً عن تمثّلها فعلياً، لأن الصراع، ولا سيما المسلح، ما إن يبدأ، لا يستطيع أي من المتحاربين أن يحدّد نهاية له.
لقد فشلت الحكومات المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري في القضاء على الحركة الكردية المسلّحة، لأنها تعبّر عن مطالب عادلة ومشروعة، أساسها حق تقرير المصير للشعب الكردي. ولذلك كانت تضطر بين فترة وأخرى للجوء إلى المفاوضات والحوار وتوقيع اتفاقيات هدنة أو سلام. وإذا كانت الحلول والمعالجات التي وضعتها الحكومات لم تلبِ حقوق الكرد التي تطورت مع تطور القمع والاستبداد الذي عاشه العراق، ولا سيّما في ظلّ النظام السابق، ولم تتمكن من إرساء قاعدة سليمة وأمينة للعلاقات على أساس الثقة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، فإن الحركات الكردية لم تستطع أن تحقّق أهدافها عبر السلاح أيضاً، وأخفقت في نيل مطالبها العادلة والمشروعة في ظل الاحتراب والاقتتال.
وإذا كان اللجوء إلى السلاح دفاعاً عن النفس اضطراراً، فقد انتهت تلك المرحلة، ولم يعد الاستثمار فيها ممكناً، ولا سيّما في ظلّ التوجّه العالمي للإقرار بالحقوق والحرّيات والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية، بل أصبح الاستثمار في قضايا السلام والتسامح وحقوق الإنسان هو الأساس بما يساعد في تعزيز دور ومكانة الحوار للوصول إلى تحقيق الأهداف.
الحوار إحدى وسائل «القوة الناعمة»، فما بالك إذا كان أكاديمياً يشمل تيارات وأنشطة وفاعليات متنوعة، فبإمكانه حينئذ أن يتحوّل إلى «قوة اقتراح» مؤثرة وفاعلة تُضاف إلى الدور الذي يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني والإعلام، بما يعزّز روح التفاهم والتعاون والمشترك الإنساني. وتتأتّى أهمية «قوة الاقتراح» من خلال تقديم «مشاريع قوانين» و«اقتراح لوائح وأنظمة»، فضلاً عن رصد ومراقبة تنفيذ الخطط والمشاريع، بما يساعد في مأسسة الحوار وإيجاد منصّات لتبادل الآراء والأفكار على نحو منظم ومستمر بين أصحاب القرار والأكاديميين.
كان واحداً من الاقتراحات التي تلقاها مؤتمر الحوار الأكاديمي، تأسيس معهد للحوار العربي - الكردي، يبحث في قضايا التعاون والعمل المشترك بما «يعظّم الجوامع» و«يقلّص الفوارق» التي ستظل قائمة لا يمكن إلغاؤها، ولكن لا بدّ من احترامها ومراعاتها استناداً إلى تعبيراتها عن هويّة خاصة.
وكان مثل هذا الحوار قد انطلق بعد نحو عام أيضاً في عمان بمبادرة من الأمير الحسن بن طلال، حين دعا نخبة من المثقفين العرب والكرد لحوار معرفي وثقافي، أساسه المشترك الإنساني، وأعقبه بعد خمسة أشهر بحوار لأعمدة الأمة الأربعة ضم: عرباً وتركاً وفرساً وكرداً، وقد تواصل الحوار في عواصم عربية أخرى مثل تونس وبيروت، الأمر الذي يؤكد أن الحوار أصبح ضرورة لا غنى عنها، وحاجة ماسّة بقدر ما هو خيار إيجابي أيضاً، يُسهم في التقارب والتواصل والتفاعل على أساس الأخوة العربية - الكردية التي رفع اليسار العراقي لواءها منذ الثلاثينات من القرن الماضي، حيث كان شعاره «على صخرة الأخوة العربية - الكردية تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية».
لم يكن الحوار في كويسنجق بين فريقين متناحرين هدفه التغالب والتكاسب، بل البحث في المشاكل الحقيقية ببعدها الأكاديمي والثقافي والأدبي والفني والتاريخي، فهو حوار مفتوح بين أكاديميين تجمعهم هموم مشتركة دون أن يعني ذلك عدم وجود خلافات واختلافات بينهم حول التاريخ واللحظة الراهنة وحول المستقبل، وهو أمر طبيعي، ولا سيّما إذا أُريدت الاستفادة من دروس التاريخ، والبحث عن قيم التحرّر والحرية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، ذلك أن الأمتين العربية والكردية عانتا من التقسيم الذي استهدف تفتيتهما وتوزيعهما على دول وكيانات، ولذلك يبقى حق تقرير المصير، بصفته مبدأ قانونياً وسياسياً معترفاً به من الأمم المتحدة، هدفاً مشروعاً للأمتين العريقتين، ويبقى لنا أن نعرف ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ ومَن أصدقاء الكرد؟ ومَن أعداؤهم؟ وهو سؤال كان قد تردّد في أول حوار عربي - كردي انطلق في لندن في رحاب المنظمة العربية لحقوق الإنسان قبل 27 عاماً، ولا يزال صداه مستمراً حتى الآن.
drhussainshaban21@gmail.com




244



حرّية المعتقد:
ضوء على وضعية المسيحيين في المشرق العربي

د. عبد الحسين شعبان*



   مدخل
   للحرّية الفكرية موقع مهم في منظومة الحقوق الأساسية للإنسان، وخصوصاً الحقوق المدنية والسياسية ، فبعد حق الحياة والعيش بسلام ، الذي هو حق مقدس لا يمكن الحديث عن أي من الحقوق دون توفّره ، هناك أربعة حقوق وحريات أساسية هي: الحق في الرأي والتعبير والحق في الاعتقاد والحق في التنظيم والحق في المشاركة.
   وقد أخذت بهذه الحقوق المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تنظّم حقوق الإنسان، وهو ما نطلق عليه اسم "الشرعة الدولية " ونعني بها: "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) العام 1948 وما بعده " العهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"  الصادران عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 واللّذان دخلا حيّز التنفيذ في العام 1976، وغيرهما من المواثيق والمعاهدات الدولية.
   ويعتبر ميثاق الأمم المتحدة   وما أعقبه من تقنينات وإضافات تطويراً معاصراً لما بدأته الثورة الفرنسية منذ ما يزيد على قرنين من الزمان (العام 1789)، وقبلها ما تضمنه الدستور الأمريكي العام 1776 بخصوص حقوق الإنسان وبشكل خاص الحقوق والحرّيات الأساسية والذي أعقبه الدستور الليتواني  الذي صدر قبل الدستور الفرنسي بنحو أربعة أشهر، يوم كانت ليتوانيا تضم بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا وأجزاء مهمة من بولونيا وتعتبر من الدول الأوروبية الكبرى.
   ولأن موضوع بحثنا يتعلّق بحق الاعتقاد، الذي كرّسته المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لذلك سنعتمدها أساساً في هذا البحث، وقد أكّدت على أن " لكل شخص الحق في حرّية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق ، حرية تغيير دينه أو عقيدته وحرّية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتهما، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة".
   وحرّية المعتقد أو حرّية الضمير أو الحرّية الدينية تقع ضمن مبدأ " حريّة الفرد في الحياة الخاصة"  أي حق الفرد في اعتناق ما يشاء من أفكار دينية أو غير دينية أو ضمن "مجموعة ثقافية في الحياة العامة"، وحقها في إظهار دينها ومعتقداتها وشعائرها الدينية، سواء بالتعليم أو بالممارسة أو الاحتفال ويشمل المصطلح الحقوقي حرّية تغيير الدين أو عدم اتباع دين.
   ويثير مبدأ حق الاعتقاد إشكالات دينية وقانونية ومجتمعية عديدة في العالمين العربي والإسلامي، وأقصد بذلك "الحق في تغيير الدين أو عدم الإيمان بدين محدّد"، إذْ يواجه من يُقدِم عليه أو يجاهر به أو يدافع عنه "بالردّة والارتداد" وأحكامهما، وتلك التهمة هي أقرب إلى "عقوبة مسبقة" تصل إلى أغلظ الأحكام، سواء على الصعيد القانوني أم على الصعيد الاجتماعي في إطار الموروث والتقاليد والعادات السائدة، وبهذا المعنى فإن مفعول المادة 18 المشار إليها سيكون معطّلاً بالكامل، وخصوصاً في البلدان التي تحدّد "دين الدولة"، وتفسّر الخصوصية الثقافية بما يخدم هذا التوجّه.
   وهكذا يصبح الدين أحياناً مصدراً للنزاعات والحروب وحجب حق الاعتقاد والتعبير، ومجالاً للتوتّر والاضطراب بقدر كونه فضاءً لجلب الأمل والطمأنينة للإنسان الذي هو بحاجة إليه روحياً ونفسياً. وكان النضال من أجل حرّية الاعتقاد والحرّية الدينية مستمراً منذ قرون من الزمان، وعانت الأمم والشعوب والعالم أجمع من حروب وإبادات وتصفيات ونزاعات لقرون من الزمان لأسباب تتعلّق بادعاء الأفضليّات والحق في احتكار الحقيقة والنطق باسمها.
   ويعتبر أول اعتراف دولي شامل بحرّية الديانة والحق في المعتقد هي تلك التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي صيغ على أساسه " العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية" ، وتم إنشاء اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في العام 1993 للإشراف على تنفيذ ما ورد فيه.
   وقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً في العام 1981 بعنوان "القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد" ويشمل هذا الإعلان على:
   1- حرّية الفكر والوجدان والدين والمعتقد.
   2- حرية الفرد في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
   3- الحق في إظهار الدين والمعتقد عن طريق العبادة وإقامة الشعائر وفي التعليم والاحتفال.
   4- عدم جواز تعريض أحد للإكراه أو الإخلال بحرّيته في أن يدين بدين ما أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
   5- لا يجوز إخضاع حرّية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده إلّا للقيود التي يفرضها القانون.


المسيحيون وحق الاعتقاد
   كيف يمكن في ظلّ هذا المدخل والمقاربة النظرية التي تتعلق بحق الاعتقاد، الحديث عن حقوق المسيحيين في الاعتقاد في الواقع العملي، سواء على الصعيد القانوني أم في الممارسة اليومية، ناهيك عن التعامل المتساوي والمتكافئ من جانب الدولة وأمام القانون والقضاء، خصوصاً وأن العديد من الدول العربية والإسلامية حدّدت دينها الرسمي، بعبارة "الإسلام دين الدولة الرسمي" أو حين نصّت دساتيرها على "الشريعة الإسلامية " وأحكامها باعتبارها "مصدراً أساسياً" أو "المصدر الأساس" في التشريع وينبغي عدم مخالفة أحكامه.
   فأين موقع المسيحيين والخصوصية الثقافية في مثل هذا التقنين؟ وكيف يمكن التواؤم بين المادة 18 من الإعلان العالمي والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والنصوص الدستورية التي تحدد دين الدولة والمصدر الأساسي في التشريع ؟
   وبالطبع فثمة زاوية نظر مختلفة إزاء مبدأ المساواة والحق في المشاركة السياسية وتولي المناصب العليا دون أي تمييز  بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي كما تقضي المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتي وقعت عليها العديد من البلدان العربية والإسلامية، وإن تحفّظت على بعضها أو بعض موادها، وبين هذه النصوص التي تحتاج إلى تكييف بحيث لا يحدث الأمر نوعاً من التحلّل إزاء الالتزامات الدولية أو المواثيق والعهود ذات الطابع الكوني وبين الخصوصية الوطنية والثقافية، وهذه الأخيرة يمكن أن تكون عامل رفد وإضافة ، وليس عنصر تعارض وتعاكس، مثلما ينبغي للنصوص الدولية أن تكون ذات أفق أوسع وأكثر رحابة لاستيعاب الخصوصية ، وليس عنصراً سلبياً لفرض الهيمنة والاستتباع.
   وثمة أسئلة أخرى ذات دلالة من قبيل: هل يمكن أن يكون مسيحياً رئيساً للدولة في بلد عربي مثلاً (باستثناء لبنان) أو البلدان الإسلامية الأخرى، فما بالك إذا كانت امرأة مسيحية؟ أليست الشراكة والمشاركة في تولّي المناصب العليا حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، لا تتحقّق المساواة دونه، فلماذا إذاً يتم التمييز بشأن هذه القاعدة، أيتعلق الأمر بحق الاعتقاد أو الانتماء الديني؟ أليس حق الاعتقاد هو الآخر ركناً من أركان الحرّيات والحقوق الأساسية الأربعة بعد حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف؟ وإلى مَ سيفضي التنكر لهذه الحقوق والحرّيات؟ وعلى مَ ستنعكس تبعاتها، لاسيّما المتعلقة بالهويّة الوطنية؟ وكيف السبيل للتوافق بين الانضمام للمعاهدات والاتفاقيات الدولية وتعطيل حق الاعتقاد؟ ألا تترك تلك ازدواجية في المعايير وتناقضاً وكيلاً بمكيالين؟
    هذه الأسئلة وغيرها نطرحها وهي بحاجة إلى حوار ونقاش جاد وهادئ وعلى قاعدة حقوق الإنسان ، يمكن أن يسهم فيه الأكاديميون ومراكز الأبحاث والدراسات، وكما يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تعقد حوله موائد مستديرة ويستطيع الإعلام أن يشارك فيه، كما لا بدّ من مساهمة رجال الدين، في إطار المشترك الإنساني والهدف هو التقريب ووضع ضوابط قانونية تنسجم مع المعايير الكونية من جهة، وتراعي الخصوصية والهوّية المحلية من جهة أخرى، ولاسيّما حين يتم ربط ذلك بالحداثة وبالتطور وسمة العصر.
   والأمر له علاقة بمستوى التطور الثقافي والفكري وقبول الآخر والاعتراف بحقه المتساوي والمتكافئ، خارج منطق الاستعلاء والتسيّد المسبق: "أغلبيّة" و"أقليّة" وخارج منطق "الأفضليّات" و"ادعاء امتلاك الحقيقة" والنطق باسمها، وهذا يعني الّا مبرر عددياً في السيادة بحكم الحجم وليس واجباً الاستتباع للسبب ذاته، علماً بأنها مسألة تتعارض مع قيم حقوق الإنسان الكونية، ناهيك عن الزعم بالمفاضلة على أساس الدين.
   ومنطق المشاركة والحق في الاعتقاد يقتضي عدم تعريض أي شخص لمساءلات وتبعات جزائية أو مدنية بسبب دينه أو تغييره أو التبشير به والدعوة له، وممارسة شعائره، وهي تشمل تحريم جواز قتله أو اعتقاله أو منعه من الزواج أو حرمانه من أولاده أو من الميراث أو الوظيفة العامة أو العمل أو أي حقوق أخرى، وهذه التفاصيل ينص عليها العهدين الدوليين المشار إليهما.
   وإذا كان هذا الأمر نظرياً فثمة عوائق وعراقيل عملية تقف بوجه، بل تحدّيات شديدة فهناك 57 دولة أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي بضمنها 22 دولة عربية (أعضاء في جامعة الدول العربية) تتحفّظ على هذه الصيغة، وهي تمثل نحو ثلث أعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم 193 دولة، وحتى بعض النصوص العمومية التي وردت في مواثيق عربية أو إسلامية مثل " حرية التفكير والعقيدة والدين" أو " عدم جواز تقييد حرية الإنسان ... إلّا للقيود التي ينص عليها القانون".. أو غير ذلك فإن تطبيقاتها تأخذ منحى آخر ، وخصوصاً في ظل احتدامات مجتمعية وتوترات دينية وشحن طائفي، وأحياناً تصل عقوبة المرتد إلى الإعدام إذا ثبت تعمّده وأصرّ بعد استتابته  .
هل المسيحيون أقليّة؟
على الرغم من أن منطق " الأقليّة" و"الأغلبيّة" مرفوض لما يمكن أن يرتّبه من اعتبارات تتعارض مع قيم حقوق الإنسان، ناهيك عن الأفضليّات وادعاء امتلاك الحقيقة وبالتالي الحق في التسيّد وفرض الهيمنة، نتساءل هل المسيحيون " أقليّة" وإذا ثبت الأمر عكس ذلك فكيف يمكن معالجة هذا الموضوع، علماً بأن منطق "الأغلبيّة" و"الأقليّة" نفسه هو مسطرة غير صالحة للقياس في هذه المسألة بالذات، حتى وإن انطبق على حقل السياسة والانتخابات والبرلمانات، لأنه لا يمكن المفاضلة بين دين وآخر، كما أن المفاضلة لا ينبغي أن تتم على أساس الدين، خصوصاً إذا كانت فردية، بل أساسها الكفاءة والنزاهة والإخلاص والوطنية، ومع ذلك نناقش هذا الأمر لتفكيك القاعدة التي يستند إليها البعض في التجاوز على حق الاعتقاد وعلى مبدأ المساواة الركن الأساس في المواطنة.
ويظلّ السؤال حائراً، ولاسيّما بعد موجة التطرّف الإسلاموي، وخصوصاً تلك  التي أعقبت ما أطلق عليه "الربيع العربي": فهل المسيحيون أقليّة؟  وما المقصود بذلك؟ وما يتوجّب عليه موقفهم؟ وتمتد هذه الأسئلة لتحتوي على إشكاليات راهنة من قبيل : هل كان إذاً  خريفاً على المسيحيين رغم كل التباساته وتباين زوايا النظر إليه؟ وماذا سيبقى منه إذا افترضنا  أنه يمكن أن يحقق أهدافه وإنْ بعد حين، فقد صادفته العواصف الهوجاء وتعرّض لمنعرجات حادة، فكيف به وهو يستثني مجموعة ثقافية لها حضورها الفكري والمعرفي والديني والاجتماعي والاقتصادي على صعيد الوطن العربي كلّه؟
ونعيد صياغة السؤال بشكل آخر:هل يولد الربيع والخريف في يوم واحد؟ ثم كيف يمكن أن يجتمع النقيضان، فالربيع يعقب الشتاء، في حين أن الخريف يعقب الصيف؟ وبعد كل هذا هل يمكن أن يكون الربيع للمسلمين العرب فقط، في حين يكون خريفاً للمسيحيين العرب وللمجموعات الثقافية الأخرى؟ أليس في الأمر ثمة مفارقة وإجحاف، فكيف سيكون "الربيع العربي" ربيعاً حقيقياً، إنْ لم يكن ربيع المواطنة وربيع الحقوق والحرّيات؟ ربيع الجميع وليس ربيع فئة أو طائفة أو دين على حساب الآخر، لدرجة أن إعلامياً كبيراً سبق له أن رحّب بثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 المصرية، اعتبر ما يشهده العالم العربي اليوم ليس "ربيعاً عربياً" وإنما سايكس بيكو جديد لتقسيم العالم العربي وتقاسم موارده ومواقعه.
 لعلّ زاوية النظر الخاصة بالمسيحيين قد تختلف عن غيرهم، وإنْ كان الاختلاف كما أحسب مؤقتاً أو ظرفياً، وإذا كان العالم  العربي يحتاج إلى ربيع حقيقي للتنمية والديمقراطية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان والحكم الصالح، فهذا لا يعني أن مثل هذا الربيع سيأتي كما نتخيّله شفافاً وأنيقاً وخال من المنغّصات، لأن الأمر يتعلّق بصراعات على السلطة والمصالح والنفوذ، وبالطبع ستظهر فيه نقاط معتمة، وأخذ ورد، وتقدّم وتراجع، ومثلما هو الربيع معتدل؟ لكن  تصادفه بعض العواصف وأحياناً  تصاحبها أمطار وسيول وانهيارات، هكذا هي الطبيعة، ولا نريد التشبيه، وقد يكون ما حصل للمسيحيين هو جزء من الجوانب السلبية التي ألحقت ضرراً مضاعفاً بهم فوق الضرار السابقة بما فيها التمييز، خصوصاً بصعود تيار الإسلام السياسي والإسلاموي منه بشكل خاص وهو الأمر الذي لم يقلق المسيحيين وحدهم وإنما أقلق المشهد العربي الراهن برمّته وربما المسرح الدولي أيضاً.
وهنا لا ينبغي إهمال ما تعرّض له المسيحيون، بل لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار،  فالاتجاهات الإسلاموية أو الإسلامية وبعضها المتطرّف والمتعصّب قد تصدّرت الواجهات حتى وإن كان الأمر بطريقة " تسليم المفتاح" على حد تعبير محمد حسنين هيكل في لحظة من لحظات تبرّمه من هيمنة "الأخوان المسلمون" والاعتراف الغربي الأمريكي بهم، وإنْ كان لم يأتِ قبولاً بحق ولا إعجاباً ولا حكمة، لكنه لتأجيج الفتنة بين المسلمين  .
وكان باكورة عمل بعض القوى الإسلامية أو السلفية هو التهديد بإقصاء المسيحيين أو استهدافهم عملياً أو التصدي لطريقة حياتهم وعيشهم، بما فيها استخدام العنف ضدهم، وهو الأمر الذي حاولت بحثه، خصوصاً بالارتباط مع إشكاليات التغيير والتنوّع الثقافي والعلاقة مع الآخر، في إطار مبادئ المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
وقد ازداد الأمر تعقيداً بعد تمدّد "مشروع داعش"، خصوصاً بعد احتلال نحو ثلث الأراضي العراقية بعد سيطرته على الموصل في 10 حزيران/يونيو 2014 ونحو ثلث الأراضي السورية واعتماد "الرقة" عاصمة للخلافة: ورغم هزيمته في العراق وتحرير الأراضي العراقية في نهاية العام 2017، فإن جيوبه وبقاياه لا تزال تقوم بأعمال انتحارية وتفجيرية كما إن خلاياه النائمة لا تزال تتحرك، سيّما وأن هزيمته الفكرية والسياسية لم تتحقّق بعد ولا يزال فاعلاً في سوريا على الرغم من الخسائر التي مني لها، والأمر يحتاج إلى تجفيف منابعه الثقافية والمالية وإعادة ترميم البيئة الحاضنة له، خصوصاً بمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية بإيجاد فرص عمل وتعمير المناطق المدمّرة وإعادة النظر بالمناهج الدراسية والتعليمية وبالخطاب الديني ومكافحة التعصّب والتطرّف والعنف وغير ذلك.
وكان من نتائج مشروع داعش إعادة  خلط الأوراق مجدداً في المنطقة، على الرغم من قيام التحالف الدولي لمكافحته، وصدور عدّة قرارات من الأمم المتحدة تدين التنظيم وهي تذكّر بالحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، والتي كان من نتائجها احتلال أفغانستان والعراق وما تركته تلك من ذكريات مأساوية لا تزال قائمة وماثلة للعيان، والأمر يحتاج إلى سياسة طويلة الأمد والاستثمار في الإنسان ذاته.
المسيحيون: أخطاء شائعة
نظرياً هناك خمسة أخطاء كبرى تنطوي على تصنيف المسيحيين كأقليّة في أوطانهم:
الخطأ الأول يتجاهل كون غالبيتهم عرب، والعرب " أكثريّة" في بلدانهم، وإنْ كنتُ، لا أميل إلى استخدام مصطلح "الأقليّة" و"الأكثريّة"، بالنسبة للمجموعات الثقافية: القومية والدينية والسلالية واللغوية، حتى وإن استخدمتها الأمم المتحدة ، لأنني أعتقد أنها مصطلحات تصلح لتوصيف القوى والتجمّعات السياسية والكتل البرلمانية، ولا تصلح لتوصيف التنوّع الثقافي، أو "المجموعات الثقافية"، وهو الأمر الذي توقفت لمعالجته لما له من دلالات وانعكاسات على مجمل النظام السياسي ومبادئ المساواة والمواطنة.
الخطأ الثاني هو السعي لفصل المسيحيين عن عروبتهم، إذْ أن أغلبيتهم الساحقة تعتبر الرابطة العروبية وهي رابطة حقوقية ووجدانية وانتماء إنساني واجتماعي، بل هي الحبل السري الذي يربطهم بأوطانهم وبشركائهم في الوطن الواحد، فهم والمسلمون وغيرهم ينتمون إلى الرابطة العروبية.
والخطأ الثالث هو استصغار دور المسيحيين، في إطار نظرة موروثة سائدة تارة لعددهم، وأخرى لدينهم، وثالثة للامتداد المسيحي في الغرب، ورابعة التشكيك بولائهم، بل أن البعض يعتبرهم طابوراً خامساً، لاسيّما  في الأزمات، وتفسّر دعواتهم للحداثة والتنوير أحياناً وكأنها أدوات "خادعة" وواجهات للنفوذ الغربي، وهناك من يعتبرهم خلايا نائمة، يمكن توظيفها حسب الطلب والشروط والحاجة.
وتهمل هذه النظرة ما لعبه المسيحيون من دور ريادي على مرّ التاريخ في هذه المنطقة، فقد سبقوا الإسلام في سكنى هذه المنطقة، بل أن أصولهم تمتد إلى ما قبل ذلك بكثير، حيث أبدعوا في حضارتها وثقافاتها وتفاعلاتها لاحقاً، سواءً مع شعوبها الأخرى أو مع الهجرات الوافدة إليها.
الخطأ الرابع هو محاولة عزل المسيحيين الحاليين عن "حركة التنوير" التي ساهموا فيها، لا سيّما السعي لتحديث مجتمعاتنا، فضلاً عن المشروع الحضاري الراهن الذي ساهموا في بلورته، للانعتاق من نير الكولونيالية ولإحراز الاستقلال والتحرر والتنمية والاصلاح والديمقراطية والانبعاث الحضاري والوحدة الكيانية، وكانوا باستمرار جزءًا فاعلاً في هذا المشروع، بل أنه لا يمكن تصوّر وجود هذا المشروع دون مساهمة لأبناء الديانة المسيحية أو للمتحدرين منها، بحكم دورهم التنويري التقدمي.
فحسب النظرة الانتقائية، فإن الراهن ليس استمرار للماضي، أما الحاضر فلا علاقة له بالتاريخ، وإذا كانت المساهمة المسيحية فعّالة وإيجابية في التاريخ المعاصر، فإن الاتجاهات الإقصائية ترى أن حاضرها مختلف، لاسيّما  الدعوة إلى المساواة والمواطنة وتكافؤ الفرص والحداثة وقيم حقوق الإنسان، وهذه أمور تختلف عن النضال ضد الكولونيالية والانعتاق من نيرها وإحراز الاستقلال، لأنها تتعلّق بموضوع المشاركة وإدارة الحكم وبالمسألة الديمقراطية، تلك التي يحترز منها كثيرون، حتى وإن لم يخالفوها علنياً.
أما الخطأ الخامس فهو يتعلق بإنكار مساهمة المسيحيين في نضال أمتهم وشعوبها، لا سيّما بصعود التيار الإسلاموي أو الإسلامي المتطرّف، وهو تيار استئصالي شمولي واحدي إطلاقي، ليس بحق المسيحيين فحسب، بل بحق مسلمين يختلفون معه في الرأي والتوجّه، ويعتقد المتطرّفون والمتعصّبون من التيار الإسلامي، السلفي أو الأصولي، أن على المسيحيين الانصياع وعدم المطالبة بالحقوق المتساوية والمواطنة المتكافئة، لأنهم "ذميون" و"لا ولاية لذميّ"، وبالتالي فإن المساواة التامة ليست ممكنة، وإذا ما أرادوا البقاء في "دار الإسلام" وتأمين حمايتهم، فما عليهم الاّ القبول بدرجة أدنى من المواطنة، أو مواطنة تابعة، أي ناقصة أو مبتورة، ولا ترتقي إلى الحد الأدنى للمعايير الدولية وللقواعد الدستورية المتعارف عليها في الفقه الدستوري.
هذه الأخطاء الخمسة الأساسية ، التي تم التعبير عنها في رسائل واضحة أو مستترة، معلنة أو مضمرة، علنية أو سرّية، شكّلت المشهد الأكثر احتداماً خلال السنوات المنصرمة، ولاسيّما في بعض البلدان التي فيها الوجود المسيحي كبير ومؤثر، ولاسيّما في مصر وسوريا والعراق ولبنان وغيرها. أما في فلسطين المحتلة فإن الوجود المسيحي تعرّض للاستئصال على نحو ممنهج ومدروس منذ قيام " إسرائيل" العام 1948، والأمر يتعلق بمحاولة صهيونية لإظهار الصراع باعتباره صراعاً دينياً: يهودياً - إسلامياً، وليس صراعاً وطنياً على الأرض والحقوق، بالنسبة لجميع الفلسطينيين بغض النظر عن ديانتهم.
لعلّ بعض المتعصّبين لم يقرأوا تاريخ المسيحيين العرب في المنطقة، وإن كانوا قد قرأوا التاريخ فإن قراءتهم مغلوطة أو إغراضية أو قاصرة، فقد كان المسيحيون باستمرار يضعون الانتماء الوطني والعروبي " القومي" فوق انتمائهم الديني، مع اعتزازهم  بتاريخهم وثقافتهم وخصوصيتهم، سواءً كانوا متدينين أو غير متدينين، مثلهم مثل المسلمين، لكنهم في الوقت نفسه لا يشعرون بأنهم كاملو المواطنة مثلهم، حيث عانوا من التمييز واللّامساواة والتهميش الشيء الكثير، قانونياً ومجتمعياً، ولسبب مختلف عن أسباب إقصاء أو تهميش الآخرين لنزعات استبدادية، وذلك ما يتعلق بنزعات استعلائية تعصبية باسم الدين أو تستخدمه وسيلة للهيمنة.
ومن باب النقد الذاتي يمكن القول أن ثقافة استعلائية ترسّخت لدى أواسط واسعة من المسلمين، وخصوصاً لدى التيارات الإسلامية والتقليدية بشكل عام قوامها التمييز ضد المسيحيين، وقد لعب الموروث السلبي والتقاليد البالية والنظرة الخاطئة إلى الآخر دوراً في الترويج لمثل هذه الثقافة، فضلاً عن قراءة مؤدلجة ومخطوءة للتعاليم الإسلامية، دون النظر إلى المشترك الإنساني، وثقافة التعايش السلمي بين الأديان والقوميات والسلالات واللغات المختلفة والمتنوعة.
وهناك شواهد إيجابية كثيرة في تاريخ العلاقات الإسلامية – المسيحية، ابتداءً من دستور المدينة الذي أبرمه الرسول لتأسيس المجتمع الإسلامي الجديد، حيث ضمن فيه حقوق الأديان والتكوينات الاجتماعية، بإقراره بطبيعتها التعددية ، ومروراً بالعهدة العمرية العام 15 هجري يوم رفض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي تسلّم مفتاح القدس من البطريرك صفرنيوس، الصلاة في كنيسة القيامة لكي لا يقال أنها أرضاً إسلامية، وأصدر قبل ذلك "تعهداً من جانبه باحترام أرواح وممتلكات وحقوق المسيحيين وطقوسهم وشعائرهم"، وصولاً إلى فتح القسطنطينية، حيث أصدر السلطان محمد الفاتح رسالة إلى سكان اسطنبول (الأستانة) الذي كان غالبيتهم من المسيحيين، منحهم فيها حقوقاً أساسية قوامها الأمن والسلامة الشخصية وحفظ المال والعرض وتأدية الطقوس الدينية.
وليس بعيداً عنه مقاومة مسيحيي الشرق العرب للغزو الفرنجي لبلاد العرب (مسلمون ومسيحيون) وهو الغزو الذي بدأ بتاريخ 29 أيار (مايو) 1453  .
المسيحيون سواء كانوا عرباً أو غير عرب، فهم قبل العرب والمسلمين في بلدانهم جزءٌ من أوطانهم، ومثلما يدافعون عن استقلالها وحقوقها وحرّياتها فإن لهم خصوصيتهم أيضاً، لاسيّما  حقهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحرية تامة، في إطار ما يسعون إليه من إقامة دولة مدنية تضع مسافة بين الأديان وتعتمد مبادئ المواطنة والمساواة. وإن تاريخهم منذ عهد الاستقلال وقيام الدولة العربية الحديثة يوضح على نحو جلي أن جوهر مطالبهم يتلخّص باحترام الخصوصية الإنسانية، والتعامل معهم كمواطنين على درجة واحدة من المساواة، بينهم وبين غيرهم من أبناء الوطن باعتبارهم" مواطنون لا ذميون"  حسب تعبير الإعلامي والمفكر المصري فهمي هويدي و"مواطنون لا رعايا"   وفقاً لكتاب الباحث والمفكر المصري خالد محمد خالد، دون محاصصات أو اقطاعيات أو دوقيات، لأن شعورهم العام هو الانتماء الوطني العروبي، بل أن بعضهم يعتبر نفسه جزءًا من الثقافة العربية- الإسلامية، خصوصاً وأن الإسلام هو حاضن العروبة.
   وساهم المسيحيون، ولاسيّما على المستوى الفكري في مشروع التحرّر من الهيمنة العثمانية، إضافة إلى المستوى العملي – التنظيمي، حيث حفظت أديرتهم وكنائسهم كتب التراث العربي، مثلما حافظوا على اللغة العربية وآدابها، وكانوا هم من يتولّى تدريسها، وذلك في معارضة للعثمانيين الذين كانت هوّيتهم " القومية التركية" هي الغالبة، في حين كانت هوّية المسيحيين العربية، هي العنصر الحيوي في حياتهم وثقافتهم، مثلهم مثل المسلمين العرب.
قد يكون مفيداً التذكير بكتب التنوير العربية المسيحية المعاصرة في مواجهة سياسة التتريك، إضافة إلى الصحف العربية التي صدرت في المهجر خلال القرن ونيّف الماضي، وهي تدلّ دلالة كبيرة وواضحة على دورهم المتميّز والريادي على هذا الصعيد، إذْ لا يمكن تصوّر تحقق مثل هذا العطاء دون الحضور والمساهمة الفعّالة للمسيحيين وهو ما دفع إعلامي يمتلك قلماً رشيقاً وجملة أنيقة لجرد العطاء المسيحي على نحو مكثف، فقد ذهب علي الصراف بعد عناء ومواصلة، لطرح سؤالٍ بسيطٍ في شكله، عميقٍ في جوهره وهو: لماذا يُظلم المسيحيون ويعاملون بتمييز وتنتقص من حقوقهم الإنسانية ولماذا يهجرون ديارهم؟ وبعد كل هذا نقول لماذا يعاملون كأقليّة؟
لقد رفع المسيحيون لواء الأدب والثقافة والفنون والتاريخ في العالم العربي، ليس هذا فحسب، بل حملوا المعارف والعلوم القانونية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية، فكيف يريدون تجريد العرب من هذا الامتياز العظيم، سواء بالضغط عليهم من أجل الهجرة أو التعامل معهم كغرباء عن وطنهم، وفي وطنهم، أو النظر إليهم كأقليّة، أو التعاطي مع كنائسهم وأديرتهم باعتبارها تخصّ الغرب، وهل يمكن التبرّع بالسيد المسيح للغرب، باعتبار أغلبيّة سكانه من المسيحيين،   علماً بأن مسيحي الشرق والعرب بصورة خاصة هم من قاوم طموح الغرب في حرب الفرنجة لإملاء الإرادة على العرب (مسلمون ومسيحيون)، ولا أقول حروب الصليبيين، ولم تقتصر مذابح الفرنجة، على المسلمين وحدهم، بل شملت المسيحيين أيضاً، وكان هدفها اقتصادياً وتوسعياً استعمارياً حتى وإن حملت راية الدين.
ولد السيد المسيح في الشرق وفي مدينة بيت لحم بالتحديد ونشأ في الناصرة وهو يسوع الناصريّ، ابن مريم بنت عمران فكيف يصحّ أن ننسب المسيحيين إلى الغرب، حتى وإن جاء المسيح للعالمين جميعاً، وهو ما ورد ذكره في كتاب المسلمين " القرآن الكريم" .
كتب هادي العلوي عن شرقانية السيد المسيح الذي يعتبر تراثه شرقياً وليس غربياً، فهو متصوّف اجتماعي، قبل أن يكون مبشّراً دينياً، موضحاً مسالك عودته من اغترابه في الغرب إلى رعاياه في الشرق.
ولعلّ الكراهية والنفور من الآخر والسعي إلى إلغائه ليست حِكْراً على دين أو جنسية أو مجتمع أو لغة، ومثلما هي موجودة في الغرب، فهي موجودة لدينا أيضاً تتشبث بأذيال الجهل وتتمسك بالاتجاهات المتطرفة والمتعصبة التي ترفض الآخر ولا تقبل التعايش معه، ولاحظنا أن مثل هذه التوجّهات لم تكن ضد الغرب  الغريب " المريب" حسب، بل ضد كل آخر بما فيها في بلادها وأمتها ومجتمعها، ولهذه الأسباب أيضاً هي ضد المسيحيين ووجودهم. ولهذا كانت جماعات الإسلام السياسي والمجموعات المتشددة وراء الهجرة المسيحية التي أصبحت ظاهرة ملفتة للنظر، وقد اتسعت بالنزوح وترك المدن والبلدات بعد تهديدات داعش.
فحسب بعض التقديرات المسيحية هاجر نصف مسيحيي العراق  وذلك بسبب أعمال العنف، وقد استهدفت القيادات الإسلاموية المتعصّبة، والتي لا علاقة لها بتعاليم الدين الإسلامي أو بالتاريخ والتراث الإسلامي، وإنْ لم يكن كلّه ناصعاً، لتتجاوز على الوجود المسيحي الذي يستمر منذ ما يزيد عن 14 قرناً، والذي احتل مكانة رفيعة في بعض الفترات، ولاسيّما في عهد الخليفة المأمون نجل الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد والتي سمّيت بغداد على اسمه " عاصمة الرشيد".
وبسبب احتلال داعش للموصل في 10 حزيران/يونيو/2014 وفرضها شروطاً على المسيحيين تبدأ من دخولهم للإسلام أو دفع الجزية في حالة رفضهم أو رحيلهم عن مناطقهم وإلّا فإن القبور ستكون مفتوحة لهم، بدأت هجرة جديدة للمسيحيين، وهو الأمر الذي شمل الإيزيديين على نحو شديد حيث تم سبي نسائهم وقتل شبابهم. واضطر عشرات الآلاف من المسيحيين إلى الهجرة مجدّداً. وإذا كان عدد المسيحيين يزيد على المليون عشية احتلال العراق وعدد نفوسه 23 مليون، فإن عددهم لا يزيد عن 350 الفا في حين أصبح عدد السكان أكثر من 36 مليونا .
وفي سوريا كان عدد المسيحيين نحو 16% من السكان وبسبب أعمال العنف والصراع الداخلي والتداخل الدولي لم يبقَ منهم سوى 6% وهذا العدد في تناقض أيضاً. وفي لبنان فقد اضطر للهجرة خلال الحرب الأهلية نحو 700 ألف لبناني كانت الغالبية منهم من المسيحيين الذين يتناقص عددهم باستمرار. وظلّت مصر التي يبلغ عدد الأقباط فيها نحو 8% من السكان يشكون من عدم المساواة .
المسيحيون وفلسطين
لمسيحيي فلسطين معاناتهم المضاعفة والمركبة، خصوصاً وقد تعرّضوا إلى الإجلاء القسري، لاسيّما بمصادرة وطنهم وهضم كامل حقوقهم الإنسانية.   وكان عددهم يزيد على 20 % من السكان قبل الاحتلال وبسبب التهجير المنظّم والمبرمج ، وصل عددهم الآن إلى أقل من1.5 % وكان في القدس وحدها ما يزيد  عن 50 ألف مسيحي، في الوقت الذي لا يصل عددهم اليوم إلى 5 آلاف.
وقد ساهمت موجة التطرّف والتعصّب والتكفير التي ضربت المنطقة في إجلاء وتهجير المسيحيين، متمثلة بوجهيها إعلان " إسرائيل" دولة يهودية نقية وتصاعد عدوانيتها، بالترافق مع إعلان قيام الدولة " الإسلامية" أو "الإسلاموية" في كل من العراق وسوريا  "داعش".
وبما أن الدولة في "إسرائيل" ستكون دينية يهودية، فلا مكان للمسيحيين وبالطبع للمسلمين وغيرهم فيها، لأنها تقوم على قاعدتين أصوليتين الأولى إن فلسطين أرض "الوعد الإلهي"، والثانية إنهم "شعب الله المختار"، وهو ما دأبت "إسرائيل" على العمل وفقاً له منذ قيامها في العام 1948، وخصوصاً إزاء المسيحيين، بهدف تفريغ فلسطين منهم، ولاسيّما من القدس لاعتبارات سيتناولها الكتاب.
ومن جهة أخرى فإن قيام دولة "إسلامية" أو إسلاموية نقية، سيعني طرد أتباع الديانات الأخرى، وهو ما باشرت به "داعش"، خصوصاً إزاء المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، وكذلك أتباع المذاهب الأخرى حتى وإنْ كانت إسلامية أو إن أصحابها مصنّفون ضمن الدائرة الإسلامية، لأن الأمر حسب داعش وعقيدتها هو تكفير الجميع، بل وحتى استئصالهم إنْ لم يعلنوا الولاء والبيعة لها والامتثال لأوامرها.
وبهدف معرفة ردود الأفعال إزاء الظاهرة الإقصائية والإلغائية، فلا بدّ من التوقّف عند عاملين، الأول: هو السياسات الصهيونية العنصرية والغربية الإستعلائية إزاء عرب فلسطين والحقوق العربية عموماً، مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم، التي بسببها تبرّر بعض الاتجاهات الإسلاموية المتعصّبة والمتطرفة سلوك هذا السبيل، سواء كانت تحت مسمّيات تنظيم القاعدة أو ربيبته داعش أو جبهة النصرة وأخواتها  أو غيرها من الجماعات الإرهابية، وذلك استناداً إلى كلام "حق يُراد به باطل"، أحياناً إذْ هل ينبغي مجابهة الجريمة، بالجريمة والإثم بالإثم، والرذيلة بالرذيلة؟ فجريمتان لا تولدان عدالة، وإثمان لا ينتجان براءة، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة.
والثاني هو محاولة خلق النقيض، بل التسابق معه ليس لنقضه، بل لموازاته في تطرّفه وتعصّبه وممارساته العنصرية الاستعلائية، ولعلّ ذلك ما قامت وتقوم به داعش في منافسة "إسرائيل" وبعض حاخاماتها المتطرفين، في الانغلاق، وإدعاء الحق، وإقصاء الآخرين، وهكذا تقف الأصولية اليهودية المتعصّبة، مقابل الأصولية الإسلاموية المتطرفة، ولاسيّما في الموقف من المسيحيين، بل من الآخر بشكل عام.
وللأسف لم ترتفع أصوات إسلامية ومدنية وعلمانية كافية حكومية أو غير حكومية لإدانة تلك الأعمال الإجرامية، ولوضع حد لاضطهاد المسيحيين وتهجيرهم، إضافة إلى استهداف المجموعات الثقافية الأخرى، دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية على أساس الهوّية الفرعية، ولم تدرك الكثير من الأوساط فداحة تفريغ المنطقة من المسيحيين، في ظلّ انشغالها بالفتنة الطائفية – المذهبية التي تضرب المنطقة بالصميم، فيما يسمى بالصراع السني – الشيعي، الذي لا يخلو من تداخلات خارجية دولية وإقليمية.
وهنا نريد استعادة خسارة المنطقة للوجود اليهودي العربي التي كانت كبيرة جداً، ومؤثرة جداً، ولم يدرك الكثيرون أبعادها حينها، بل إن بعضهم لا يزال غير مدرك لتأثيراتها السلبية على طبيعة الصراع في المنطقة، حيث ساهمت عملية تهجير اليهود العرب إلى "إسرائيل" في دعمها بالعنصر البشري التي هي بحاجة إليه، ربما أكثر من العناصر الأخرى، والحجة كانت أن كل يهودي يمكن أن يكون "طابوراً خامساً" أو حتى "صهيونياً" أو مؤيداً "لإسرائيل"، مثلما ترفع الموجة التكفيرية شعارات من شأنها اعتبار كل مسيحي موالياً للغرب أو إنه يمكن أن يكون عضواً في خلية نائمة، وبتقديري إن إفراغ المنطقة من المسيحيين ومن المسيحية العربية  هو الوجه الآخر من دعم المشروع الصهيوني.
وحسب وجهة النظر "الإسرائيلية" فإن الصراع بناء على هذه المعادلة سيصبح بين "أقليّة يهودية" و"أغلبيّة مسلمة" قوامها مليار ونصف المليار نسمة، مقابل بضعة ملايين يهود على النطاق العالمي، وإذا كان العرب والمسلمون لا يتحمّلون وجود مسيحية عربية بين ظهرانيهم، فكيف يتحملون وجود يهود؟ وهو الأمر الذي سعت "إسرائيل" بكل وسائل دعايتها وحربها النفسية لإبرازه.
إن الصراع الديني – الديني هو ما تسعى إليه "إسرائيل"، لأنه سيكون صراعاً إلغائياً تناحرياً، ولا يمكن إيجاد حلّ له إلاّ بقضاء أحدهم على الآخر، وهو ما يصب في خانة "إسرائيل" التي ستزعم إنها واليهود سيكونون ضحايا مقابل الغلبة " المسلمة" ولعلّ تصرّف داعش وسلوكها ضد المسيحيين بشكل خاص والمكوّنات الثقافية الأخرى بشكل عام يعطي مثل هذا الانطباع الذي تريده "إسرائيل" إزاء النزعة الإلغائية والإقصائية " المسلمة" ضد اليهود وضد كل آخر.
لا بدّ من إعادة قراءة طبيعة الصراع العربي- "الإسرائيلي"، لا باعتباره صراعاً دينياً، بل بكونه صراعاً وطنياً من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية والعربية المغتصبة وهدر سافر لحقوق الإنسان الفلسطيني، وبين عدوان واحتلال واستعمار استيطاني إجلائي، وهو صراع على الأرض وليس على قيم السماء، بين قوى تريد فرض هيمنتها على المنطقة، وبين أبناء المنطقة الذين يريدون حقهم في تقرير مصيرهم والعيش بسلام وأمن ورفاه.وكما قال أنطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي "إن اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض"  في لفتة ذات بعد مستقبلي.
خاتمة
انطلاقا من قاعدة الحق في الاعتقاد والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان نعتقد أن ما تعرّض له المسيحيون العرب وغير العرب أمرٌ يستحق الوقوف عنده من جانب الجميع مسلمين ومسيحيين، متدينين وعلمانيين، مؤمنين وغير مؤمنين، يمينيين ويساريين، لأنه أمرٌ يتعلق بالتعايش وبصميم العلاقات والحقوق الإنسانية، خصوصاً وأن المسيحيين ليسوا وحدهم من يدفع الثمن باهظاً، بل إن مثل هذه الصورة البشعة إزاء المسلمين ودينهم الحنيف، تجعلهم هم كذلك من يدفع الثمن، واقتضى الأمر من الجميع من أبناء المنطقة، الحريصون على تقدمها ورفاهها والسير بها في ركب الأمم المتحضرة، العمل لوضع حد لاستهداف المسيحيين، ولعلّ ذلك سبباً مهماً في وضع هذه المسألة على طاولة البحث والنقاش كي ما تكون حافزاً جديداً لحوارات جادة، ومسؤولة سواء على النطاق العربي أو ألإقليمي، ناهيك عن المجتمع الدولي.
والأمر له علاقة بـقضايا الهوّية والتنوّع الثقافي والتعدّدية والتغيير وحقوق الإنسان، فالمنطقة العربية تعاني أكثر من غيرها من الاستلاب والقهر وشحّ في حرّية الاعتقاد والضمير، بل إنها من أكثر مناطق العالم انتهاكاً لهذه الحقوق باسم الدين أحياناً حسب العديد من التقارير الدولية، وخصوصاً بتفشي الصراعات الطائفية والمذهبية.
إن إعادة بناء الدولة الوطنية وإقامة حكم القانون يتطلّب احترام مبادئ المواطنة كاملة ودون أي تمييز لأي سبب كان، وحين نتناول مسألة المواطنة، فإننا نقصد الحرية بما فيها الحريّات الأربعة، والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وسيعني ذلك قبول التعدّدية والإقرار بالتنوّع، الذي سيكون سداه ولحمته الإنسان، بعيداً عن التمييز لأسباب دينية أو قومية أو جنسية أو لغوية أو ما له علاقة بالأصول الاجتماعية والرأي السياسي، كما تذهب إلى ذلك الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
والباحث إذْ يدخل هذا الحقل فإنما يشعر بواجب ومسؤولية إزاء هدر حقوق الإنسان منظومة وتطلّعاً، سواءً الحقوق الجماعية أو الحقوق الفردية، ويأمل أن تساهم  مثل هذه الحوارات في تعزيز العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وغيرهم في البلدان العربية، بما يرسّخ المشترك الإنساني ومراعاة الخصوصيات الضرورية والهوّيات الفرعية، التي لا غنى عنها للتعبير عن الكيانية الخاصة، ومثل هذا الأمر ينطبق على العراق وسوريا ومصر ولبنان وغيرها، مع مراعاة خصوصية أوضاع المسيحيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
ولا تزال السياسة الرسمية في البلدان العربية تتجاهل العواقب الوخيمة التي قد تنجم عنها وحدانية الانتماء وإلغاء أو تهميش الهوّيات الفرعية، بزعم "الوحدة العربية" تارة و"الوحدة الإسلامية" أو "أحكام الشريعة"  في أخرى و"مصالح الكادحين الطبقية" في مرّة ثالثة، وهذه كلّها تحاول تطويع التنوّع والخصوصية والفردانية لصالح الشمولية والكلّانية، وهي نظرة تمتاز باستصغار الآخر والتعامل معه باستعلائية، سواء عبر تشريعات قانونية أم ممارسات مجتمعية وجزء منها يعود إلى الموروث السلبي، وبصورة جماعية أو فردية، دون أن تدرك ماذا يعني غياب المسيحيين عن المشهد العربي؟
إن غياب المسيحيين سيعني طفو وطغيان الصراع الطائفي على السطح، ذلك أن وجود المسيحيين إلى جانب المسلمين، يعطي للأمة العربية هذا الطابع المتنوّع دينياً مثلما هو وجود الكرد والترك والإيرانيين والأفغان والباكستانيين والبنغلادشيين والأندونيسيين والماليزيين والهنود والأفارقة وغيرهم إلى جانب العرب، ناهيك عن مسلمين من التيبت وتركمانستان وأوزباسكتان وروسيا وغيرها، فإنه يعطي للدين الإسلامي هذه الصيغة العالمية، القائمة على التنوّع والوحدة في الآن، تلك التي تقرّ بالتعددية على أساس المشترك الإنساني، الذي يجتمع أحياناً في وطن أو كيانية أو شعب على نحو موحد وليس واحد.
كما أن الوجود المسيحي هو جسر الوصل بين الحضارة العربية- الإسلامية، بما فيها الحضارات القديمة والحضارات الإنسانية، ولذلك فإن حماية وجودهم يعني حماية الوجود العربي ككل، وبهذا المعنى لا يكون المسيحيون " أقليّة" كيانية، لأنهم معادل مساوٍ من حيث الجوهر للكيانية المسلمة، وكلاهما ومعهما مكوّنات أخرى يشكّلان كياناً موحداً أساسه العروبة وجامع مشترك أعظم هو الوطن، في إطار بيئة إنسانية مشتركة.
وبعد كل ذلك فالأمر له علاقة بحق الاعتقاد الذي تقرّه المادة 18 من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان ومن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وهو يمثل أحد أركان الحقوق الأساسية التي لا يمكن الحديث عنها دون حق الاعتقاد.

245
"الاجتهاد في الإسلام والوعي بالتاريخ "
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   تثير مسألة الاجتهاد في الإسلام اختلافات حادة وتباينات عميقة لدى أوساط مختلفة فكرية وسياسية وثقافية ودينية، لجهة مرجعيتها وعلاقتها بقضية التجديد والتغيير، مثلما يثير الوعي بالتاريخ مثل هذا التعارض والتناقض في الفهم والسيرورة، لدى هذه الأوساط. ولهذه الأسباب حسناً فعلت إدارة معرض الكتاب الدولي في تونس بدورته الخامسة والثلاثين،  لإدراج الموضوعين في محور واحد للنقاش المفتوح في جلسة حوارية مثيرة، وكما هو متوقع فقد كانت ردود الأفعال حامية والمناقشات عالية النبرة.
   فالاجتهاد يعني استنباط الأحكام بما ينسجم مع المتغيّرات والمستجدات والتطوّرات التي تحصل في المجتمعات على صعيد العلم والتكنولوجيا والفقه القانوني والدستوري والسياسي والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أما الوعي بالتاريخ، فلا يعني استعادته، بل استحضاره ، بمعنى أخذ الدروس والعِبَرْ منه بما يفيد الحاضر والمستقبل، وتلك جزء من مهمة الاجتهاد، حيث يمكن أن تحدث النقلة النوعية في مستوى التفكير، بتعمّق الوعي ، في إطار مسار طويل  وتراكم تدرّجي وهو ما يؤدي إلى تطوير الخطاب الديني بشكل عام بحيث يستجيب لمتطلبات العصر، والأمر بقدر تعلقه بالإسلام، فإنه يتعلق بالأديان الأخرى أيضاً.
   وخطورة الخطاب الديني تتأتّى من كونه يحاكي القلب وليس العقل، وبالتالي يمكن أن يكون تأثيره عاطفياً وسطحياً وسريعاً، وهو مثل الموسيقى يمكن أن تصل إلى عدد كبير من الناس وتؤثر فيهم مقارنة ببقية الفنون الأخرى كالشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية والمعمارية وغيرها.
   الخطاب الديني يؤثر أيضاً في المشاعر التي قد تجنح بعيداً، فتدفع المرء إلى  التعصّب ووليده التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك، أي فعل ، فإنه سيصبح عنفاً، أي ينتقل من التفكير إلى التدبير، والعنف إذا ضرب عشوائياً سيصير إرهاباً، خصوصاً إذا استهدف إرعاب المجتمع وإحداث الفزغ في صفوفه وإضعاف الثقة بالدولة والقانون.
   كيف يمكن إذاً معالجة مسألة الاجتهاد بما يتجاوز الراهن الراكد والتقليدي الساكن، حتى ليبدو "الثبات" وإن كان نسبياً أقرب إلى التحجّر أحياناً، لأن كل شيء في الحياة والكون يتغيّر، فما بالك بالاجتهادات، فهي حتى لو صلحت لعصرها، فإن زمانها قد ولّى، أو أنها لم تعد تصلح لزماننا وتلك حكمة التاريخ حيث "تتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان"، وهي قاعدة فقهية معروفة، يضاف إلى ذلك ، فإن لكل زمان قوانينه التي تعبّر عن درجة تطوّر المجتمع، فما كان محظوراً في عصر قد يصبح مسموحاً في عصر آخر، و" للضرورة أحكام"، كما يُقال.
   والاجتهاد بقدر تعلّقه بالفكر الإسلامي يطرح سؤالاً محورياً هل الإسلام دين ودولة ويصلح لكل زمان ومكان؟ وكيف السبيل للتعاطي مع المتغيّرات بما فيها الحداثة والعلاقة بين الديني والعلماني وبين الاجتهاد ولغة الفكر أو الاجتهاد وفكر اللغة . باختصار هل يحتاج الإسلام إلى التحديث والتجديد ونحن في زمن العولمة والثورة الرقمية " الديجيتل" والانفجار الإعلامي الرقمي السيبراني؟ وإذا كان الجواب لا: فالأمر يقود إلى التحجّر والصنمية والجمود، أما إذا كان الجواب نعم: فكيف ومن أين نبدأ؟ هل نبدأ من الفرد، أم من المجتمع أم الدولة وماذا نريد؟
   ويتفرّع عن هذا السؤال "أسئلة الجدل" القديمة - الجديدة تلك التي تحدّد العلاقة بين الدين والعقل، وهي تطرح سؤال الدين من داخله وسؤال الدين خارجه، وكلاهما ينشغلان بالهمّ الفكري والإنساني والروحي، سواءً تفسيراته المثالية أو المادية، بأسبقية الوعي على المادة أو ألحقيته باعتباره انعكاساً للوجود المادي.
   والمطلوب من التجديد لا تغيير النصوص وإن كان بعضها قد استنفذ سياقه التاريخي، بل تغيير الفهم لتلك النصوص، بما يتناسب مع العصر، والمطلوب التدبّر والبحث عما يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم. وهناك في هذا المجال تحدّيان أساسيان : الأول يتعلق بتحديد الأهداف والأولويات فيما يتعلق بالبحث والاستنباط، والثاني باختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار من الاجتهاد والحريّة دون وصاية أو تابوهات أو محرّمات باستثناءات "ثوابت الدين" كما يُقال.
   هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطنعها  بعض "رجال الدين" تحتاج إلى إعادة النظر في معانيها ومبانيها ، انطلاقاً من قبول الاختلاف والحق في الاجتهاد وقد سبق للإمام  الشافعي أن قال: رأيي صواب يتحمل الخطأ ورأيك خطأ يتحمّل الصواب. إذاً لا بدّ من البحث عن حالة جديدة تتناسب والواقع الجديد، وليس البقاء مرتهنين لكتب السلف الصالح والتفتيش فيها عن حلول قديمة لواقع جديد؟ وإذا كان القرآن الأجمل والأحسن والأكمل فإن فيه دعوة إلى العلم والتعلّم.
   أما كوابح التجديد، سواء من داخل المؤسسة الدينية أم من خارجها فهي : عدم القناعة بالتجديد والاستكانة لما هو قائم وانخفاض درجة الوعي والخشية من الانفتاح، لاسيّما في مواجهة العامّة، وفقدان الامتيازات، وخدمة السلطان، وتلك تشكّل عقبات أمام أي عملية تجديد، وعلى غرار هوبز فـ " أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني".

246

عبد الحسين شعبان
باحث و مفكرعربي

في ظلّ حيرة وذهول عالميين بعد تفجير مسجدين في جنوب نيوزيلاندا وبعد العمليات الإرهابية التي استهدفت كنائس في سريلانكا مؤخراً، تطرح مجدداً مسألتين في غاية الأهمية والإلحاح على بداهتهما، الأولى - أن الإرهاب لا وطن له ولا دين ولا قومية ولا لغة ولا منطقة جغرافية ولا يمكن مجابهته بالوسائل العسكرية والأمنية لوحدها. والثانية- الحاجة إلى التربية على السلام واللّاعنف، وبقدر ما يشمل الأمر المجتمعات فإنه يشمل الأفراد أيضاً، فالتطرّف وهو وليد التعصّب إذا ما انتقل من التفكير إلى التدبير وأصبح سلوكاً سيتحوّل إلى عنف، والعنف حين يضرب عشوائياً ويستهدف خلق الرعب  والفزع في المجتمع يستهدف إضعاف ثقة الناس بالدولة والقانون، وعندها يصير إرهاباً ممتداً على مساحة جغرافية واسعة من العالم.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز التزام الدول والمجتمعات بنشر ثقافة السلام ورفع الوعي بأهمية اللّاعنف، إلّا أن ما قامت به الدول والمجتمعات  والمنظمات المعنية على اختلافها ليس بالمستوى المطلوب، حيث تفشّت ظواهر العنف والإرهاب في جميع المجتمعات، وكانت الهجمات الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 محطة أساسية وغير مسبوقة للوقوف عند الخلل الذي تلمّسه المجتمع الدولي إزاء نقص الوعي بأهمية وضرورة التربية على قيم السلام واللّاعنف، وكان ما أعقب ذلك من أعمال إرهابية اتخذ أشكالاً مختلفة ووسائل متنوّعة ، شملت العالم أجمع بما يلقي مسؤولية كبرى على الدول والمنظمات الدولية، ولاسيّما الأمم المتحدة لتعميم ثقافة السلام واللّاعنف، وتعزيز مستلزمات تعميق الوعي بأهميتها من خلال وسائل  تربوية وتعليمية حديثة ومتطورة تسهم في تعزيز القيم الإنسانية .
ويتطلب ذلك وجود استراتيجية ذات بعد إنساني في تعزيز الجهود الرامية للتربية على السلام واللّاعنف، ولاسيّما حين تكون الأدوات المعرفية مقترنة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي تحتاج إلى ربط التعليم بعملية التنمية المستدامة، والتربية بقيم التسامح والسلام واحترام حقوق الإنسان، وذلك بتنقية المناهج الدراسية ورفع كل ما يتعارض مع هذه القيم وإيلاء الاحتياجات الضرورية للمجتمعات من أجل مواجهة التحدّيات، خصوصاً بتدريب المعلمين وتأهيلهم  في إطار مناهج جديدة تستجيب لروح العصر وتنبذ كل ما له علاقة بالكراهية والعنصرية والعداء للآخر الذي هو بشر لا أكثر ولا أقل مثل غيره له الحقوق وعليه الواجبات ذاتها.
ولا بدّ لعملية التربية على السلام واللّاعنف من تعزيز المعارف والمهارات وتعميق القيم والمثل الإنسانية لإحداث تغييرات في سلوك الأطفال والشباب وأسرهم وعموم الناس لمنع حدوث الصدام والعنف والسعي لحل الخلافات بالوسائل السلمية، سواء على صعيد الأفراد أم الجماعات أم الحكومات والدول.
وقد انشغلت اليونسكو بالعديد من الأنشطة الرامية إلى تعزيز ثقافة السلام واللّاعنف، وذلك بمعالجة قضايا العنف المدرسي وإدماج حقوق الإنسان والتربية على السلام في البرامج الوطنية وسعت لبناء القدرات والتعليم في حالات الطوارئ، إضافة إلى إعادة البناء في المناطق التي تعرّضت للحروب والنزاعات.
ولعلّ من مستلزمات التربية على السلام وتعزيز ثقافة اللّاعنف الاهتمام بالمتلقين والمتعلمين وبالمحتوى والوسائل والبيئة التعليمية، إضافة إلى اختبار النتائج والعمل في ضوئها، وبخصوص بيئة التعليم فإن الرياضة والفنون والآداب وتنمية المواهب تلعب دورها في ترسيخ ثقافة المشترك الإنساني والتواصل مع الآخر.
وكانت قد تأسست جامعة دولية للسلام وأعدت برامج تتعلّق بالقانون الدولي وتسوية النزاعات ودراسات السلام الدولي وثقافة السلام والأمن الإنساني والثقافي والفكري والبيئي والغذائي والصحي وغير ذلك، وتزداد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للاستثمار في التربية على السلام واللّاعنف، وذلك بتعزيز الطرق التقليدية في تسوية النزاعات وفتح قنوات جديدة للتفاهم من خلال الفنون والآداب بمختلف أشكالها، وتعزيز الحوار سواء على الصعيد المحلي أم على الصعيد الدولي بما فيه ما أقرّته الأمم المتحدة تحت عنوان : الحوار والمصالحة، خصوصاً بالإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف.
وعلى الرغم من معاناة العالم العربي من التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، فثمة وجه  ثقافي للمقاومة باللّاعنف وهو تعزيز ثقافة السلام والتسامح، حيث تم إنشاء جامعة للّاعنف  وحقوق الإنسان، العام 2009 في لبنان، في إطار العقد الدولي لثقافة السلام واللّاعنف  (2001-2010)، وهو الذي ورد في  قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 53/243  في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) لعام 1998 بمبادرة من اليونسكو التي ستحتفل بالذكرى الـ 20 لهذه المناسبة المهمة، وكان من برامجها واختصاصاتها التربية على اللّاعنف وفلسفة اللّاعنف وثقافة اللّاعنف ومسرح اللّاعنف، واللّاعنف وحقوق الإنسان واللّاعنف والقانون الدولي الإنساني والأديان واللّاعنف والإعلام واللّاعنف وحلّ الخلافات باللّاعنف.
ولأن منطقتنا الأكثر ضرراً من العنف والأكثر تأثراً به، خصوصاً وهي تعاني من احتلال وحروب ونزاعات طائفية وإثنية واحترابات محلية، كما يحصل في اليمن وسوريا وليبيا  والعراق، ناهيك عن فلسطين المحتلة إضافة إلى تداخلات إقليمية ودولية، فإنها ينبغي أن تكون الأكثر انشغالاً بفكرة اللّاعنف حيث تحتاج منطقتنا إلى الوقاية مثلما تحتاج إلى الحماية وأخيراً إلى معالجة تركة الحروب والنزاعات، بحيث تولى التربية والتعليم الأهمية التي تستحقها .
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية ) الاربعاء 24/4/2019

247
عبد الرحمن اليوسفي
"الإجماع" حين يكون استثناء

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
I

   حين علمت بصدور مذكرات " عبد الرحمن اليوسفي" رئيس الوزراء المغربي (الأسبق) والذي يسمى في الأدب السياسي المغاربي " الوزير الأول" بادرت بالسؤال عنها لاقتنائها لما يمثله اليوسفي من رمزية وطنية وعروبية وحقوقية وإنسانية كبيرة، تكاد تكون نادرة في هذه الأيام، ولكي أطّلع على تفاصيل أخرى من حياته ومحطّات مهمة كنت أجهل الكثير عنها، وهو الأمر الذي تأكّدت منه بعد قراءتي نصوص المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء وهي بعنوان "أحاديث في ما جرى" عكست ما جاء في الجزء الأول "شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقه " كما قال اليوسفي نفسه ، والمقصود ببودرقه هو امبارك بودرقه (عباس)  الذي يقول في مقدمته الموسومة" محاولاتي مع بوح سي عبد الرحمن اليوسفي":
   " عندما قررتُ في سنة 2016 نشر رسالة باريس للمرحوم محمد باهي حرمة، وشرعت مع صديقي أحمد شوقي بنيوب في تجميع موادها من أرشيف صحافتنا ووثائقنا، برزت لنا مواد أخرى ذات أهمية ، كانت بدورها تتطلّع للنشر، وتتمثّل في مداخلات في الثقافة السياسية والذاكرة النضالية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي".
    ويشير بودرقه إلى أن ذلك حلم راوده لفترة قاربت عقدين من الزمن، وكثيراً ما حاول إقناع اليوسفي بتدوين سيرته، خصوصاً أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية وفي المقاومة وجيش التحرير وفي ما شهده المغرب من أحداث جسام بعد استقلاله، لكنه كان يقابل الإلحاح بالصمت أو بابتسامة عريضة تلك التي لا تفارقه ، والحاملة لكل المعاني والتأويلات التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن.
   ويبدو أن المذكرات ما إن صدرت حتى نفذت لأن كثيرين كانوا ينتظرونها  بشوق مثلي وعلى أحرّ من الجمر كما يُقال، وكنت قد سمعت عن عبد الرحمن اليوسفي وشاهدته  لأول مرّة حين حضر إلى بغداد في ربيع العام 1968 للمشاركة في الحفل التأبيني للشخصية الديمقراطية الكبيرة كامل الجادرجي، الذي أقيم في قاعة الخلد ببغداد، والذي كتبت عنه في جريدة المستقبل اللبنانية يوم 13 آذار (مارس) 2008 ما يلي:
أتذكر ذلك المساء الربيعي، يوم الجمعة 12 نيسان عام 1968، حين بدأ الحفل في قاعة الخلد ببغداد وامتدّ إلى حدائقها لتأبين وتكريم كامل الجادرجي المفكر الديمقراطي ـ الليبرالي، ولعل المفارقة التاريخية يوم اقترب التأبين من يوم مولده المصادف 4 نيسان 1897، حيث اجتمع عند تكريمه رجال فكر وقادة من المشرق والمغرب، إضافة إلى كوكبة لامعة من الشخصيات الوطنية العراقية، الأمر الذي يثير سؤالاً حاراً هو كيف يصبح الاستثناء قاعدة وتلتقي عندها التيارات المتصارعة بما فيها الشمولية أيضاً ؟ افتتح الحفل بكلمة لرفيق عمره ونائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي محمد حديد.
كان مصطفى البارزاني، الزعيم الكردي العراقي حاضراً بشخص صالح اليوسفي، رئيس تحرير جريدة التآخي، واعتلى المنصة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، لينقل تحية الأرز إلى النخيل، ثم ألقى يوسف السباعي تحية شعوب آسيا وأفريقيا، وأعقبه العلاّمة آغا بزرك الطهراني من الحوزة العلمية في النجف، ووصلت برقية الكنانة والأهرام إلى بلاد سومر وبابل وأرض الرافدين وكانت باسم خالد محي الدين وألقيت كلمات للفريق عفيف البزري وبرقية شفيق رشيدات ورسالة من أحمد بهاء الدين، كما تحدث في الافتتاح الدكتور صفاء الحافظ باسم أساتذة الجامعة، والأديب والمفكر اللبناني حسين مروة. وكان عبد الرحمن اليوسفي الشخصية المغربية البارزة، قد وصل لتوه، ومن الطائرة إلى الاحتفال (ليلقي كلمته المؤثرة ) واختتم الحفل بكلمة عائلة الفقيد ألقاها نجله رفعت الجادرجي.
   وبالعودة إلى مذكرات اليوسفي فقد جرّبت السؤال عنها في طنجة فلم أجدها، وفي الدار البيضاء في سفرة أخرى ، فقيل لي ستجدها في الرباط، وخابت جميع محاولات وآمالي في الحصول عليها في جميع المكتبات التي سألتُ عنها، وكان صديقي الأكاديمي والروائي والكاتب الدكتور محمد المعزوز قد وعدني بتأمين نسخة منها، ولكن الدكتور خير الدين حسيب حين عرف برغبتي  بالاطلاع عليها بادر بتقديمها لي مشكوراً وهي مهداة له من المؤلف ذاته وبخطه وبتوقيعه. وبالمناسبة فإن اليوسفي يرتبط بعلاقات صداقة حميمة مع عدد من الشخصيات العراقية في مقدمتهم أديب الجادر وقد تزاملا في عملهما في جنيف وفي إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

II
   لعلّ من خصال اليوسفي وشخصيته الأثيرة كما تقول مقدمة بودرقه وما تكشفه نصوص المذكرات ذاتها، وما عرفناه عنه، أنه كثير التأني والتأمل وقليل البوح وبقدر صبره وطول نَفَسِه وتحمّله للشدائد، فقد كان أيضاً دقيقاً في اختيارات جمله ومفردات خطابه، التي يحرص على تدوينها وتوثيقها لأنه لا يريد الارتجال أو لردود الفعل الآنية أن تأخذ مكانها عكس ما يرغب به المرء أحياناً. ومع كل التردد والانتظار وافق  أخيراً وبعد نأي على محاولات بودرقه المتكرّرة ومخاطباته المتعدّدة لتدوين سيرته أو لنقُل بعضاً منها، وهكذا شرع الأخير بتجميع وتوثيق واستكمال نتاجات ونشاطات اليوسفي المتنوعة التي غطت مرحلة تاريخية كاملة ، سواء على صعيد الفكر أم السياسة أم حقوق الإنسان أم القانون أم الإدارة أم الصحافة، وقد خصص الجزء الثاني والثالث من مذكراته لرؤيته الاستراتيجية على مستوى الفكر والمواقف والتحليلات السياسية، خصوصاً وهو من الموقع الأول في الدولة.
   ومن عمق الذاكرة الحيّة والمتوقدة لرجل تجاوز التسعين (مواليد 8 مارس /آذار 1924) ، أمكن رفد المكتبة المغاربية بشكل خاص والعربية بشكل عام، بمادة حيّة وزاخرة لمفكر رؤيوي وسياسي استراتيجي وصاحب رأي ووجهة نظر في التحوّل الديمقراطي، ومناضل مشهود له في ميدان حقوق الإنسان، وهذه المادة ليست سوى ذخيرة أولية يمكن قراءتها بعناوينها الأساسية والاستناد إليها بالتوسّع والتعمّق لفضاء أرحب للمغرب بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام، بل على مستوى السياسة والفكر العالميين، بما فيها ملابسات المنظمات الدولية الكبرى.
   ولعلّ أهمية قراءة هذه المذكرات أنها  تعطي القارئ فكرة تكاد تكون مدهشة عن عملية ديناميكية متواصلة، طرفيها: السلطة والمعارضة ، بما فيها من تداخل وتخارج واتفاق وتعارض وتواصل وتباعد، لكنها عملية متفاعلة تنطلق بالأساس من روح الشعور بالمسوؤلية الوطنية والواجب الإنساني والاعتبارات الأخلاقية في إطار اجتهادات خاصة لكل منهما، دون نسيان المشتركات التي تجمعهما  تحت " الخيمة الوطنية" ولذلك كان كل طرف على الرغم من الجفاء أحياناً يسعى لمدّ جسور من الثقة مع الطرف الآخر الشريك في الوطن حتى وإن بدت الضفتان متباعدتين.
   وبالفعل تم بناء هذه الجسور بعمل مضني في ظروف قاسية، لكن تحقيقه وإن كان صعباً وبدا في فترة ما مستحيلاً، إلّا أن روح الشعور العالي بالمسؤولية والحرص على تطور البلاد باتجاه التحوّل الديمقراطي هو الذي ساد في نهاية المطاف، وهذا ما حصل وهكذا انتقل اليوسفي من المعارضة إلى المشاركة ومن الرفض إلى النقد ومن المطالبة بتغيير النظام إلى تحمّل المسؤولية للمشاركة في  إدارته والمساهمة في إصلاحه والعمل من أعلى موقع في الدولة لتقديم رؤية جديدة تتعلق بالتطور السلمي استجابة لمتغيرات داخلية وعالمية.
   وقد أسهم هذا التطور في ثلاث جهات أساسية:
   أولها - توفر إرادة ملكية سامية بالانتقال السلمي للديمقراطية والعمل على تطويرها بخطوات تدرّجية وتراكمية.
   وثانيها - مجتمع مدني ناشط وأجواء حقوقية مساعدة راصدة وناقدة وتسعى لتكون "قوة اقتراح" وليس "قوة احتجاج" فحسب،  بل تبذل ما في وسعها لكي تكون شريكا في اتخاذ القرار وفي تنفيذه لتحقيق التنمية المنشودة.
   وثالثها- حركة سياسية وطنية التقت رؤيتها مع الإرادة الملكية العليا ومع تطلّعات المجتمع المدني، ويضاف إلى كل ذلك شجاعة من جميع الأطراف بمواجهة الصعوبات ومجابهة التحدّيات للوصول إلى المشترك الذي يخدم البلاد والعباد  ويطمح للحاق بركب البلدان الديمقراطية تأسيساً على قيم إنسانية مشتركة، وفقاً لثلاثة اعتبارات:
   الاعتبار الأول- تجاوز مآسي الماضي وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الأطراف المعنيّة في إطار مسار طويل الأمد ونضال متعدّد الجهات والوجوه والأشكال.
   والاعتبار الثاني- تطبيق معايير العدالة الانتقالية وفقاً للظروف المغربية، سواء بكشف الحقيقة أم بالمساءلة أم بجبر الضرر أم بالتعويضات للوصول إلى إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني ووضع آليات لمنع تكرار ما حصل، والهدف هو تحقيق المصالحة الوطنية، في إطار الاعتراف والتسامح بعيداً عن الانتقام والثأر والكراهية. وتعتبر التجربة المغربية بسياقها التاريخي أولى تجارب العدالة الانتقالية في العالم العربي، علماً بأن بعض من تولى مسؤولية قيادة مثل هذا التحوّل الحقوقي المهم هم من ضحايا العسف سابقاً الذين شاركوا بفاعلية في عملية التحوّل الديمقراطي، أذكر منهم الصديق إدريس بن زكري الذي قضى 17 عاماً في السجن وكنت قد أهديت له كتابي " الشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي" (2012) وكان قد غادرنا قبل هذا التاريخ.
   أما الاعتبار الثالث- فهو التطلع للمستقبل، خصوصاً باحترام معايير حقوق الإنسان والشرعة الدولية، والانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وإطلاق حريّة التعبير والحرّيات الديمقراطية بما فيها الحق في التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي والحق في الشراكة والمشاركة وعدم التمييز. وقد كانت للتغيرات الدستورية في المغرب التي حصلت بعد فترة ما سمي بالربيع العربي أن أرست قواعد دستورية جديدة لأفق تطور لاحق للانتقال الديمقراطي  توّجت بدستور العام 2011.
   وكانت فترة إدارة اليوسفي قد أسست لمثل هذا التطور، وكنت شاهداً وراصداً عليها، وداعماً لها بالمقترحات والمشاورات ، خصوصاً من خلال وزير حقوق الإنسان الصديق محمد أوجار، الذي أسهم بحيوية واقتدار في تحمّل مسؤولياته ما أهلّه اليوم ليكون وزيراً للعدل. وخلال رئاستي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن  كنت قد استضفته (أواخر التسعينات) في محاضرة بجامعة سواس Soas وفي لقاءات مع الجالية العربية ومع جهات رسمية ودولية عديدة لشرح آفاق التجربة المغربية، مثلما التقيت بالوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي أكثر من مرّة خلال رئاسته للوزارة، وهو ما سيرد ذكره في هذه المداخلة.
III
   ولد عبد الرحمن اليوسفي في يوم 8 آذار (مارس) 1924 في مدينة طنجة وتلقى تعليمه الأولي فيها وكانت طنجة حينها تخضع لنظام دولي بعد ثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي. خلال عمله النضالي تعرّض للسجن والتعذيب واضطر للعيش في المنفى 15 عاماً وعاد إلى المغرب العام 1980، بعد لقاء والدته مع جلالة الملك الحسن الثاني بطلب من الأخير، سألها في آخر اللقاء عن أي طلب لها ، فقالت له أريد عودة " ولدي" وهذا ما حصل، حيث كان قد صدر عفواً عنه.
    وكان عبد الرحمن اليوسفي على علاقة وطيدة مع المهدي بن بركة الذي اختطف من باريس العام 1965 واختفى قسرياً منذ ذلك الحين، ويتحدث في مذكراته بإعجاب عنه منذ أن تعرّف عليه العام 1943 فيذكر قدراته التنظيمية والحوارية وديناميكيته وطاقته العالية وفكره المتنوّر، وكان في ذلك التاريخ قد انخرط معه في حزب الاستقلال.
   ومن الطرائف التي يذكرها اليوسفي في مذكراته أنه ظلّ متمسكاً بالطربوش والجلباب  التقليدي في مراكش والرباط، لكنه تخلّى عنهما بعد حادثة عرضية منذ العام 1944، وعاد لارتدائهما في مناسبات بروتوكولية العام 1998 بعد تعيينه وزيراً أولاً من طرف الملك الحسن الثاني .
   ويستذكر اليوسفي عمله في الحركة الوطنية وفي تنظيم الخلايا النقابية العمالية التي شكّلت بذوراً للمقاومة في الحي المحمدي وكانت تنشط في إطار " الاتحاد العام للنقابات المغربية" التي يشرف عليها كما يقول، مناضلون من الحزب الشيوعي الفرنسي (في الأربعينات).
   ويروي اليوسفي عن لقائه  الأول بـ عبد الرحيم بو عبيد (1949-1950) في باريس، وكان عبيد قد اعتقل العام 1944 وقضى سنتين في السجن، ثم ذهب هو الآخر إلى باريس لإتمام دراسته، وكان مسؤولاً عن حزب الاستقلال فيها، ويستذكر انعقاد دورة للجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس (1951) ولقاءه بـ عبد الرحمن عزّام " أمين عام جامعة الدول العربية"، الذي ساعده في طرح القضية المغربية على العديد من الوفود العربية، لكن السلطات الفرنسية شعرت بعدم الرضا وقامت بطرده، وكان يومها مسؤولاً عن الطلبة.
   ولكن الملك محمد الخامس احتجّ على قرار الطرد والاحتجاز لدى السلطات الفرنسية، ثم تم تنسيبه إلى قيادة مكتب القاهرة وسعيه للحصول على جواز سفر مصري، لكن نجاح ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 حال دون ذلك. واضطر اليوسفي للعودة إلى طنجة (1952) ، ويستذكر الإضراب الذي تم تنظيمه في المغرب تضامناً مع تونس بعد اغتيال مجموعات متطرّفة فرنسية القائد النقابي التونسي  فرحات حشّاد (1952)، وتعرّض التظاهرات الحاشدة لقمع قوات الاحتلال الفرنسي، وخصوصاً في الدار البيضاء.
   وفي الوقت الذي كانت البلاد محتلّة من الفرنسيين، كان الشمال المغربي محتلاً من طرف إسبانيا، وكانت المقاومة المغربية تتركّز في الشمال، وحين انطلقت الثورة الجزائرية العام 1954، استفادت من هذا الفضاء الذي وفّرته المقاومة المغربية ، ويستذكر اليوسفي عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب 1955 ويشير إلى التنسيق بين قادة المقاومة في المغرب والجزائر، والبحث عن أسلحة ومعدّات لدعم جيش التحرير المغربي والجزائري وبمساعدة الأجهزة  المصرية في ذلك عبر أحمد بن بلّه الذي كان يمثّل الثورة الجزائرية ومعه محمد بوضياف ومحمد العربي بالمهيدي.
   ونقلت الأسلحة من الإسكندرية  بباخرة تدعى دينا Dina  وصلت إلى مدينة الناظور المغربية (28 شباط/فبراير/1955) وكان على ظهرها محمد بوخروبه وهو الاسم الحقيقي لـ"هواري بومدين" الذي كان يتابع دراسته بالأزهر الشريف.
   وكان ربّان السفينة شاب يوغسلافي اسمه ميلان،  عاش في الإسكندرية هو وزوجته وابنته، وحين حصل العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، تطوّع للدفاع عنها، فاستشهد في بور سعيد، حين انخرط مع المقاومة المصرية أثناء قيامه بإحدى العمليات. وكان الأمير مولاي الحسن قد زار مصر بعد تأميم قناة السويس وتفقّد عائلة ميلان الذي غامر بحياته لقيادة الباخرة التي نقلت الأسلحة  إلى المقاومة المغربية والجزائرية ، وقدّم لها هدايا رمزية، كما يذكر اليوسفي، وقد تزوّج الأخضر الإبراهيمي الشخصية الجزائرية الوطنية والدبلوماسية من ابنة ميلان واسمها مليكا.
   ويشير اليوسفي إلى أن المجلس الوطني للمقاومة كان يترأس اجتماعاته علّال الفاسي وبغيابه يتولى المهمة عبد اللطيف بنجلون، ويذكر أن الفقيه محمد البصري كان من أنشط عناصر هذا المجلس وهو ما أهّله ليكون رئيساً له وأعلن عن "ثورة الملك والشعب"، وفي الذكرى الثانية لها (1957) انتقد البصري انزلاق البلاد نحو الاستعمار الجديد بسبب سياسة الاستيطان الفرنسية، ويشير إلى الخلافات داخل حزب الاستقلال  التي قادت إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية 1959، وذلك اعتماداً على العناصر الشابة ذات التوجه التجديدي.
   ويروي عبد الرحمن اليوسفي قصة اختطاف القادة الجزائريين الخمسة يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1956، حين أقلعت طائراتهم من المغرب إلى تونس، حيث اعترضتها المقاتلات الحربية الفرنسية، والقادة الخمسة هم أحمد بن بلّه وحسين آية أحمد ومحمد خيضر ومحمد بو ضياف ومصطفى الأشرف، وقد توجهوا إلى تونس لحضور الندوة المغاربية التي شارك فيها الملك محمد الخامس والحبيب بورقيبة، وكان اليوسفي، كما ينقل، قد رافقهم خلال وجودهم  في المغرب، كما دافع عنهم لاحقاً كمحامي انتدبته الحكومة الثورية المؤقتة للثورة الجزائرية ، وبالتضامن من جانب قادة المقاومة المغربية.
   وبالطبع قضى القادة الخمسة نحو ستة سنوات في السجون الفرنسية، وأطلق سراحهم في 19 مارس (آذار) 1962 عشية محادثات إيفان وقبيل استقلال الجزائر بنحو 3 أشهر.
IV
   في العام 1959 حجزت السلطات المغربية جريدة "التحرير"  التي كان رئيس تحريرها عبد الرحمن اليوسفي واعتقلته، كما اعتقلت الفقيه محمد البصري بالدار البيضاء، إثر افتتاحية للجريدة، ونقل إلى "سجن لعلو" وقد أضرب عن الطعام مما اضطر إدارة السجن إلى استدعاء طبيبين لعلاجه، وقرّرا نقله إلى مستشفى ابن سيناء بالرباط، وتم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وبقي البصري نحو ستة أشهر.
   بعد خروجه من المعتقل التقى بالملك محمد الخامس في كانون الأول (ديسمبر) 1959 في جنيف وكان هذا آخر لقاء، حيث توفي الملك بعد ذلك كما يذكر اليوسفي  في 26 فبراير (شباط) 1961 وتولّى الأمير الحسن الذي أصبح الملك الحسن الثاني مقاليد العرش في مارس (آذار) 1961.
    ويذكر اليوسفي الصراعات التي أعقبت تولي الحسن الثاني إدارة البلاد، ابتداء من الاستفتاء على دستور العام 1962 ومروراً بإشكالات المجلس الدستوري  والانتخابات التشريعية، تلك التي يتناولها بمرارة حيث تمت الإطاحة به فيها، وكان الحزب قد رشحه عن طنجة، بينما نجح جميع أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الوطني للقوى الشعبية، وقد شهدت تلك المرحلة حملة ضد الصحافة وحرية التعبير،إضافة إلى  حملة الاعتقالات حيث  تعرّض لها العديد من المناضلين (حوالي 100) بإشراف الجنرال محمد أوفقير (مدير الأمن الوطني آنذاك) والرائد أحمد الدليمي وقد تم تقديمهم للمحاكمة وصدرت الأحكام بإدانتهم (1964) لاتهامهم بمؤامرة مزعومة، بينهم من حُكم عليه بالإعدام (11 من المتهمين)، وجاهياً وغيابياً، والقسم الآخر بأحكام غليظة. وحكم على اليوسفي سنتين مع وقف التنفيذ.
   ويقول اليوسفي أن هناك محاولة أولى للتناوب ابتدأت في ذكرى 20 أغسطس (آب) 1964، حيث أصدر الملك الحسن الثاني عفواً بتحويل بعض الأحكام من الإعدام إلى السجن المؤبد، ثم إطلاق سراح 65 معتقلاً بمن فيهم الفقيه البصري وعمر بنجلون ومؤمن الديوري، واستقبل الملك عبد الرحيم بوعبيد وأبلغه بالتفكير بتكوين حكومة وحدة وطنية، وأرسل ابن عمه مولاي علي لإقناع المهدي بن بركه العودة إلى المغرب، وتم اللقاء في فرانكفورت، وأبدى بن بركه تحفظاته حول الجنرال أوفقير وعصابة الإجرام  كما يسميها اليوسفي، لكن اختطاف المهدي بن بركه يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1965 بدّد تلك المحاولات وأدخل البلاد في دوامة جديد من الصراع وشغل الرأي العام الوطني والدولي، ولا يزال مصير بن بركه مجهولاً حتى الآن وكان الرئيس ديغول قد اتهم أوفقير بالضلوع بالعملية حسبما يذكر اليوسفي.
V
   يروي اليوسفي جانباً آخر من حركته في المنفى وهو متابعة دراسته واهتمامه بحقوق الإنسان وعمله في إطار اتحاد المحامين العرب (الأمين العام المساعد) ويشير إلى مشاركته بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليماسول (قبرص) 1983 والدفاع عن المناضلين الفلسطينيين أمام المحاكم الأوروبية وكذلك ضد الجرائم التي ترتكب في الفيتنام، كما عمل في إطار منظمة التضامن الأفروآسيوي (الأبسو) .
   وبعد صدور عفو عنه العام 1980 عاد إلى الوطن وكان قد تعرف على زوجته كما يقول" هيلين" في العام 1947 بمدينة الدار البيضاء كما يذكر، وهي من أصل يوناني، وسكن والدها الخياط في المغرب. بعد أن عاشت العائلة في فرنسا، وقد تزوج منها بعد 21 عاماً من التعرف الأول عليها، حيث انتقلت العائلة إلى مدينة "كان" الفرنسية.
   يتناول اليوسفي قيادة عمر بن جلون ثم عبد الرحيم بوعبيد للاتحاد الوطني للقوى الشعبية، ومن بعد قيادته، وتعيينه وزيراً أول بعد استقباله الملك الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط يوم الأربعاء يوم 4 فبراير(شباط) 1998 وخاطبه الملك قائلاً" إنني أقدّر فيك كفاءتك وإخلاصك وأعرف جيداً منذ الاستقلال إنك لا تركض وراء المناصب، بل تنفر منها باستمرار، ولكننا مقبلون جميعاً على مرحلة تتطلّب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام حتى نكون مستعدين لولوج القرن الحادي والعشرين..."
   ويشير اليوسفي إلى الثقة الكبيرة والواعدة من جانب الملك الذي قرّر أن يجعل "التناوب" لا مجرد تناوب أشخاص أو أحزاب، بل بداية مسيرة جديدة خصّها جلالته بقسم خاص..."
   وقد فتحت تلك الخطوة ديناميكية جديدة في المسار السياسي للمغرب وأغلقت الصفحات السابقة بما فيها من صراع ومآسي، وهو الأمر الذي شهد تطورات لاحقة لتعزيز التوجّه الديمقراطي ، خصوصاً ببناء أعراف جديدة وتفعيل ثقة المواطن بالدولة ومصالحة الشعب مع الحكومة .    وعلى الرغم من أن الحكومة كانت مدعومة بثقة الملك، لكنها تعرّضت لتحديات عديدة وواجهتها صعوبات داخلية وخارجية، بما فيها بعض التوجهات من داخل الحزب الذي يقوده اليوسفي الذي أصرّ على أنها تجربة علينا أن نخوضها كاجتهاد وهو ما حاولت أن أحاوره فيه.
   وكانت وفاة الملك الحسن الثاني 23 يوليو (تموز) 1999، وأتذكّر ذلك اليوم جيّداً، حيث كنّا باجتماع خبراء حقوقيين وعددنا 19 خبيراً في أثينا، وكان الأخ عبد العزيز البنّاني بيننا، وإذا بتلفون يأتيه فيتجه إلى زاوية من المكان الذي كنّا نجتمع فيه والحزن والألم ظاهرين عليه، ومن الحاضرين: بهي الدين حسن (مصر) هيثم مناع (سوريا) محمد السيد سعيد (مصر) أمين مكي مدني (السودان) خضر شقيرات وراجي الصوراني (فلسطين) وكاتب السطور (العراق)، وأبرقنا إلى اليوسفي نعزّيه.
   واستمر اليوسفي حتى تم إجراء الانتخابات في 27 سبتمبر (أيلول) 2002 بعد مبايعة الملك محمد السادس، وكانت تلك الانتخابات الأكثر نزاهة وهي بإشراف حكومة التناوب التوافقي، أو يمكن القول الأقل تزويراً حسب تأكيدات الصحافة العالمية بما فيها اللوموند الفرنسية ومنظمات دولية معتمدة.
   وكان اليوسفي قد قرّر الاعتزال بعد ذلك بنحو عام في أكتوبر (تشرين الأول) 2003، فكتب استقالته من الحزب وسلّمها إلى الصديق المحامي (رئيس نقابة محامي الرباط) محمد الصديقي (عضو المكتب السياسي) كما أبلغ عبد الواحد الراضي بنقل رسالة استقالته إلى أعضاء المكتب السياسي، مقدّماً تجربة رائدة على مستوى تحمّل المسؤولية بنزاهة منقطعة النظير ونكران ذات وشعور وطني صادق.
   ويشير الجزء الأول من المذكرات إلى بعض المعالجات التي أقدمت عليها حكومة اليوسفي مثل الضمان الصحي وتشغيل الشباب من حاملي الشهادات العليا وترسيخ الانتقال الديمقراطي، والأهم في ذلك هو مسار العدالة الانتقالية الذي تميّزت به التجربة المغربية، كما احتوت على عدد من الملاحق المهمة التي هي تحتاج إلى قراءة خاصة.
VI
   وكنت قد جئت على لقاء خاص جمعني باليوسفي  (ننيسان/ابريل/1999 في منزل المحامي عبد العزيز البنّاني) وقد نشرته في كتابي الموسوم" سعد صالح : الضوء والظل - الوسطية والفرصة الضائعة" والمنشور في بيروت العام 2009 والمطبوع ثانية في بغداد 2012، وأحاول أن أنقل بعض الفقرات الخاصة منه والتي جاء بعنوان " استعادة تاريخية" حيث ورد فيه :
في حديث جمعني في كازابلانكا " الدار البيضاء" العام 1999 مع عبد الرحمن اليوسفي وكان حينها قد تولّى رئاسة الوزراء " الوزير الأول" كما يسمّى في المغرب العربي بعد أن كنت قد تعرفت عليه عندما كان رئيساً لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو من الشخصيات الحقوقية المؤثرة، حيث عمل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان وفي اتحاد الحقوقيين العرب، ثم قبل تكليفاً ملكياً بتولي رئاسة الوزراء، وكان اليوسفي قد طلب اللقاء مع نخبة من زملائه العاملين في الإطارين ذاتهما، على دعوة عشاء نظمها الأستاذ عبد العزيز البنّاني في بيته، يومها تحرّك فيّ الهاجس الصحفي لسببين، الأول هو كيف يمكن لمعارض وطني قضى أكثر من ثلاثة عقود في المنفى أن يتبوأ رئاسة وزارة في عهد ما زال مستمراً وكان من أشد المعارضين له، بل داعياً لإلغائه؟ والثاني كيف يفهم السياسي الوطني معارضته من خلال هيكل الدولة وكيف يمكن التعامل معها؟
بادرت حينها إلى إثارة النقاش بسؤال الوزير الأول: ألا تشعر أحياناً بالغربة أو الاغتراب، يا " دولة" سي عبد الرحمن وأنت في هذا الموقع؟ وكان جوابه، نعم والى حدود غير قليلة، لكن شفيعي أن جزءًا من خطابي ما زال معارضاً، وهو ما كنت ألمسه في أحاديثه وخطبه التي تابعتها لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بما فيها عندما أستقبل عدداً محدوداً من الذين يرتبطون بعلاقة أو معرفة معه في منزله وكنت بينهم ، الذي رفض البقاء فيه رغم طلب الملك نفسه، لكنه عاد إلى شقته التي كان يسكنها قبل توليه الوزارة، وبعدها أردف اليوسفي قائلاً: لقد كنّا نعارض الدولة من خارجها وربما بعض معارضتنا الآن من داخلها، وهي تجربة اخترناها بالأغلبية رغم تحفظ بعض الأصوات ، وعلينا اجتيازها، نأمل أن تكون مفيدة وناجحة، وهي تجربة مفتوحة للزمن للمناقشة والتقييم.
وقال اليوسفي كنّا نعتقد ان بعض الملفات يمكن أن نفتحها بيُسر وسهولة وإذا بها مغلقة أمامنا، وبعضها اعتقدنا بصعوبة فتحها وإذا بها مفتوحة أمامنا، بل أننا استطعنا المضي فيها إلى حدود كبيرة، بما فيها ملفات التعذيب والمساءلة وجبر الضرر والتعويض، فضلاً عن إعادة النظر ببعض القوانين وتشريع قوانين جديدة.
   استذكرتُ أثناء حديثه سعد صالح، وأنا أعدّ كتاباً عنه،  فسعد صالح عندما انتقل إلى المعارضة، جاء إليها من موقع الدولة والمعرفة بشبكة علاقاتها المركّبة والمعقّدة، لاسيّما مواطن الخلل والضعف فيها، لا معارضة بالشعارات حسب، ولعلّ المعارضة ليست وظيفة دائمة، كما أن الحكم ليس هدفاً بحد ذاته أو وظيفة مستمرة، وعلى السلطة والمعارضة، فيما إذا توفّرت فرصة التناوب والتداول والانتخاب، انتظار رأي الناس ببرامجهم ومشاريعهم السياسية، فذلكم هو ما ندعوه بـ"التجربة الديمقراطية" في الدول العصرية المتقدمة. التجربة إذاً معيار أساس في المعرفة ولفحص وتدقيق النظرية، والتأكد من صواب وصحة ومدى انطباق الممارسة، وسيرها بخط متوازي مع النظرية.
   وإذا كان سعد صالح قد انتقل من موقع المسؤولية في الحكم إلى موقع المعارضة، فقد ترك بصماته وختمه على الحياة السياسية، فمن كان يتصوّر أن بإمكان مسؤول ما أن يبادر إلى اتخاذ إجراءات تتعلّق بإجازة أحزاب معارضة راديكالية وإلغاء السجون وإطلاق سراح المعتقلين، وإطلاق حرية الصحافة، لكن سعد صالح كان قد قرأ الوضع الدولي جيّداً، لاسيما بعد هزيمة الفاشية واتساع نطاق الأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وبخاصة بعد إبرام ميثاق الأمم المتحدة  العام 1945، وبالتساوق مع بعض إرهاصات الوضع الداخلي، (ومثل هذا الأمر قام به عبد الرحمن اليوسفي حين قرأ اللحظة التاريخية وقرر بشجاعة خوض التجربة) وهو ما يدخل في إطار علم السياسة التنبوئي حيث يضع الجميع أمام مسؤولياتهم.
   في الختام أقول أن اليوسفي جمع في شخصه الاستقامة الشخصية والنزاهة الأخلاقية، إضافة إلى قوة المبادئ وصلابة الرأي، فضلاً عن قدرته عن التقاط الجوهري من الأشياء، لاسيّما اللحظة التاريخية، وتعكس مذكراته الإيمان الحقيقي بقيم الحرية وحقوق الإنسان واحترام الرأي والرأي الآخر في وقت كانت الأفكار الشمولية هي السائدة، مثلما تظهر الغنى الروحي والثراء المعنوي .


248


                                                           نخشى العسكر ونلوذ بهم

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

أليست ثمة مفارقة حين نخشى من شيء، ثم نشعر بالحاجة إليه لتدارك ما هو أخطر؟
استعدت تلك الصورة الدرامية وأنا أتابع ما يحصل في الجزائر والسودان وليبيا، وكأن لسان حالي يقول: «كالمستجير من الرمضاء بالنار». وقد كان الاعتقاد السائد لدى أوساط عديدة في الخمسينات والستينات أن الجيش في العالم الثالث أداة تغيير بحكم تنظيمه وانضباطه وتمثيله لعموم السكان، فضلاً عن قدرته على حسم المعركة مع النظام السائد.
لكن ذلك الاعتقاد أخذ في التبدّد والانحسار بحكم التجارب المختلفة التي قادها أو شارك فيها الجيش بدور فعال منذ أول انقلاب عسكري حصل في العراق العام 1936 (انقلاب بكر صدقي)، مروراً بثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر، وثورة 14 يوليو/تموز 1958 في العراق، إلى سلسلة الانقلابات والثورات الناجحة والفاشلة في سوريا وليبيا والسودان واليمن والجزائر وموريتانيا والمغرب والأردن والصومال، وصولاً إلى جيران العرب في إثيوبيا وتركيا وإيران.
ويمكن القول استناداً إلى ما تقدّم، إن تجربة الجيش في الحكم في جميع دول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لم تكن ناجحة، وقد عطّلت التراكم الضروري لإحداث التغيير المنشود في بنية النظام السياسي ما بعد «الاستقلالات» لتحقيق التنمية والتوجه في طريق الإصلاح نحو الديمقراطية.
وإذا كان ثمة نمو اقتصادي واجتماعي وثقافي وتعليمي وصحي قد تحقق في بعض تلك التجارب بما فيه منجز الاستقرار النسبي، فإن تلك التجارب بقضّها وقضيضها وصلت إلى طريق مسدود، بسبب شح الحريات وانسداد الآفاق، وذهبت المبادئ والأهداف التي قال القادة إنهم جاؤوا لتحقيقها بما فيها تحرير فلسطين أدراج الرياح، خصوصاً في بلدان المواجهة مع العدو الصهيوني.
فهل يمكن بعد ذلك التعويل على الجيش أم إن للضرورة أحكاماً، خوفاً من انفلات الأوضاع لما هو أسوأ بما يؤدي إلى التشظي والتفتت؟ وهو ما حصل بعد موجة ما يسمى «الربيع العربي» في عدد من البلدان، كما في ليبيا واليمن وسوريا.
لقد دفع إصرار الحكام على التشبث بمواقعهم، وعدم الإصغاء إلى صوت الجمهور الهادر خارج قصورهم، اضطراراً، الجيش إلى التدخل خوفاً من حصول ما لا تحمد عقباه، فضلاً عن محاولته الإمساك بمقدرات البلاد كي لا تفلت من بين يديه، ففي الجزائر وبسبب «الولاية الخامسة» للرئيس عبد العزيز بوتفليقة حسم الجيش الموقف، وفي السودان وبسبب تمسك الرئيس المعتّق عمر حسن البشير لنحو ثلاثة عقود من الزمن حسم الجيش الموقف ايضا.
وقبل ذلك سبقت التجربة المصرية العالم العربي بالتخلص من حكم «الإخوان» بواسطة الجيش مع الشعب. 
وفي تونس التي لم يتدخل فيها الجيش يوماً في السياسة بحكمة الرئيس الحبيب بورقيبة، اختار الجيش «اللحظة التاريخية» ليُجبر زين العابدين بن علي على الفرار استجابة لإرادة الشعب.
وفي سوريا طالما جأرت بعض القوى بالشكوى من الجيش، فإذا به يبقى متماسكاً ليحمي وحدة البلاد حتى الآن. أما في ليبيا، حيث انتهك الزعيم معمر القذافي حرمة الجيش وجرّده من عقيدته الوطنية العسكرية، فإذا بنا أمام تجمعات عسكرية وميليشيات مسلحة كل منها يريد حسم المعركة لصالحه، وقد تجلى ذلك في تحرك قوات اللواء خليفة حفتر من الشرق الليبي وصولاً إلى العاصمة طرابلس لحسم الأمر مع الميليشيات.
وفي العراق وبسبب قرار بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي بحل الجيش تفشت الفوضى في البلاد واستشرت أعمال العنف والإرهاب لدرجة أن الحكومات المتعاقبة صرفت مليارات الدولارات على إعادة تأهيل الجيش لمواجهة «داعش» والقوى الإرهابية.
فهل يصبح الجيش اليوم رديفاً للدولة كظاهرة «عالمثالثية» بسبب غياب حكم القانون وضعف المؤسسات وهشاشة الشرعية الدستورية، أم إن ثمة خشية من مسلسل جديد لانهيارات أكثر احتداماً لما حصل ما بعد «الربيع العربي»؟ ثم ما السبيل لإعادة الأمور إلى نصابها لتحقيق السلم المجتمعي والتعايش بين الفئات المختلفة، وحفظ وحدة البلاد والحيلولة دون اندلاع احترابات أهلية؟
وإذا كان ذلك من مسؤولية النخب الحاكمة والمعارضة في السابق والحاضر، فإنه أيضاً من مسؤولية المجتمع الدولي، خصوصاً أن البلدان التي ذكرناها عانت تشوّهات عديدة وعزلة واستشرى فيها الفساد وتبدّدت الموارد، وانتشر التعصب والتطرف والإرهاب؛ الأمر الذي يحتاج المرور بمرحلة انتقالية يتعاون فيها الجيش مع المجتمع المدني والقوى الحاملة لواء التغيير، وإلا فإن نتائجها ستكون وخيمة على الجميع، بما فيها المجتمع الدولي، خصوصاً في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام.

نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية)، الاربعاء 17/4/2019

249
 

أخلاقيات التضامن الإنساني
عبد الحسين شعبان
حين ينظم المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمان، حلقة نقاشية لعدد من الخبراء والمختصين بشأن «أخلاقيات التضامن الإنساني»، فهذا يعني أن ثمة حاجة ضرورية وملحّة لاستكمال مقوّمات الحياة الاجتماعية والثقافية في إطار المنتظم الوطني والدولي.
وإذا كان ثمة حيرة تستبطن سؤالاً فسيكون سؤال قلق وعدم طمأنينة انطلاقاً من واقع مأزوم، سواءً على الصعيد الداخلي أم على صعيد العلاقات الدولية، حيث يشهد العالم تحوّلات كبرى بعضها موضوعي وآخر ذاتي، وقسم منها إيجابي والآخر سلبي، ولاسيّما ما يتعلق بمحاولات فرض الهيمنة والاستتباع والاستحواذ على خيرات الشعوب وثرواتها، ناهيك عن التفاوت الاجتماعي بين المتخومين والمحرومين على صعيد بلداننا، وعلى الصعيد العالمي بين البلدان الغنية والفقيرة، أو بين بلدان الشمال والجنوب، الأمر الذي زاد العالم انقساماً، بل توحشاً في ظل العولمة. وبعد ذلك ماذا يحتاج التضامن الإنساني لكي يرسي على أخلاقيات تعلي من شأنه وترفع من قيمته، خصوصاً والعالم لا يعتمد على الأخلاق بقدر قيامه على المصالح؟
إن القيمة الحقيقية لأي فكرة أو هدف أو فلسفة، هي مقدار اقترابها من تحقيق سعادة الإنسان، الذي هو «مقياس كل شيء»، على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، فلا قيمة للنمو الاقتصادي والنفوذ السياسي والقوة العسكرية والاكتشافات العلمية والتطور التكنولوجي، ما لم يصبّ في خدمة الإنسان ويساهم في رفاهة البشر.
ويأتي ذلك من النزعة الإنسانية التي تدرك أن كل فرد هو إنسان ليس أكثر وليس أقل، وله حقوق وعليه واجبات، ومن تلك النقطة الإنسانية يمكن البحث عن المشتركات في تضامن البشر وتعاضدهم، سواء على مستوى الجيل الحالي بحفظ حق الحياة وكرامة الإنسان أم على مستوى مسؤوليتهم إزاء الأجيال القادمة بحماية السلام وإبعاد خطر الحروب وحماية البيئة وضمان مستقبل أكثر رفاهاً لسكان الأرض، خصوصاً بترشيد استخدام الموارد وتوسيع آفاق المعرفة والتقدم العلمي والتكنولوجي لمنفعة البشرية وتقدمها.
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد اتخذت قراراً برقم 55 في العام 2005 بشأن التضامن الدولي، وذلك انطلاقاً من مراعاة مؤتمرات القمة العالمية الكبرى التي عقدتها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، انطلاقاً من مفهوم التضامن الإنساني الذي يقوم على تلاقي المصالح والمقاصد والأهداف بين الأفراد والشعوب والأمم والبلدان، للحفاظ على التطور الإنساني وتحقيق الأهداف المشتركة بما يعزز القيم المشتركة أيضاً.
وتقوم فلسفة النزعة الإنسانية على ثلاثة أبعاد منظوراً إليها أخلاقياً، بحيث تستطيع مواكبة الحاجات المتزايدة في العالم المعاصر، وهذه الأبعاد كما وردت في تقرير أصدرته «الهيئة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية» وتحت عنوان «هل تكسب الإنسانية معركتها؟» كتب مقدمته الأمير الحسن بن طلال وصدر الدين آغاخان (مقررا اللجنة) 1987، وهذه الأبعاد هي: البعد الأفقي يشمل أوسع قدر من البلدان والشعوب والأفراد، والبعد العمودي يتناول توسيع الجوانب الأخلاقية للتضامن الإنساني، والبعد الزمني يختص في الأجيال القادمة.
وإذا كان قد مضى ثلاثة عقود ونيّف على إصدار تلك الدعوة ذات الشحنة الإنسانية العالية، فإن الدعوة اليوم لميثاق يضمن «أخلاقيات التضامن الإنساني» تصبح أكثر إلحاحاً وراهنية، ولا شك فهي تحتاج إلى توفر إرادة سياسية ضرورية على مستوى كل بلد أو على المستوى الدولي، وهذا يتطلب إصلاح أنظمة الحكم ومؤسساته وتأكيد حكم القانون الذي هو انعكاس لقيم المجتمع ودرجة تطوره، وقد يسهم القانون في تطوير هذه القيم، لكنه لا ينبغي أن يكون منفصلاً عن الواقع، وحسب مونتسكيو، فالقانون ينبغي أن يسري على الجميع وهو «مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً».
وبالنسبة لمجتمعاتنا حين نقول إن سؤال أخلاقيات التضامن الإنساني هو سؤال أزمة فلأنها أزمة هويّة، وكان شكيب أرسلان قد سأل: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ وسؤال الأزمة يتطلب: الاعتراف بها وتحديد مظاهرها ثم سبل معالجتها، والأمر له علاقة بالمعنى والدلالة، فما معنى الأخلاق وكيف تتأكّد من التحقّق والامتلاء وماذا تعني حالة الفداحة والتبدّد التي نعيشها؟ والمعنى والدلالة له علاقة بالجمال والسلام واللّاعنف والتسامح والمساواة والعدالة، وتلك هي أخلاقيات التضامن الإنساني.
وكان روسو أكد عدم فصل السياسة عن الأخلاق، ولو توقفنا عند حالة اليابان فسنرى أنها لا تتبع ديناً موحّداً، حيث لا جنة ولا نار ولا آخرة ولا ثواب، لكن المجتمع يقوم على تربية الناس على أخلاقيات التضامن، تلك التي تتجسّد بحكم القانون والمساءلة والعدالة والسلام، وهذا ما تفتقده مجتمعاتنا.
نحن نحتاج إلى رياضة نفسية طويلة الأمد وإلى مراجعة ونقد ذاتي لتصحيح البيئة الأخلاقية وترميم الجوانب المتصدّعة فيها. ولا يقتضي مواجهة عدم الأخلاق باللّا أخلاق، بل على العكس، فرذيلتان لا تنجبان فضيلة، وعنفان لا يجلبان سلاماً، وجريمتان لا تنتجان عدالة، والقيم المشتركة هي التي تسمو وتحقق مواطنة سليمة ومتكافئة تقوم على الحرية والمساواة والعدالة والشراكة.
drhussainshaban21@gmail.com



250
المنبر الحر / النساء والتطرّف
« في: 22:33 04/04/2019  »
النساء والتطرّف

عبد الحسين شعبان


لا تزال أوضاع النساء ومسائل التطرّف والعنف تثير مناقشات متعدّدة، سواء من جانب جهات رسمية حكومية ودولية أم من جانب هيئات ومنظمات مدنية ودينية عديدة، ولاسيّما في البلدان التي شهدت صراعات مسلحة ونزاعات عنفية. وقد حظي هذا الموضوع باهتمام الأمم المتحدة ومنظّماتها المختصّة على مدى عقود من الزمان، لكن اندلاع موجات من التطرّف وهو نتاج التعصّب ويعيش في قلبه، ناهيك عن استشراء العنف بجميع أشكاله ومظاهره، جعل المسألة أكثر راهنية وتحتاج إلى معالجات وتدابير وإجراءات للحدّ منها.
وقد نظّمت الأسكوا «اللجنة الاجتماعية الاقتصادية لغرب آسيا» في بيروت حلقة نقاشية ساهم فيها خبيرات وخبراء حول «النساء ومنع التطرّف في المنطقة»، وذلك في الجامعة الأمريكية ببيروت وبالتعاون معها ومع معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة. وقد ركّزت الحلقة على بحث أوضاع النساء في خمسة بلدان هي: تونس والجزائر وفلسطين والعراق ولبنان، وبقدر وجود مشتركات بينها، فثمة مختلفات وخصوصيات لكل منها، علماً بأن الجامع بينها هو التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب الذي عانت منه هذه البلدان، والنساء بشكل خاص، مثلما تعاني من هذه الظاهرة المستفحلة بلدان عربية أخرى، مثل اليمن وليبيا وسوريا، وتعيش النساء أنواعاً متعدّدة من العسف والحرمان، بما يترك تأثيراته على الأمومة والطفولة والتربية والصحة والمشاركة وغيرها من العوامل التي تمسّ حقوق الإنسان بالصميم.
وقد اعتمدت بعض البلدان ومنها العراق «خطة وطنية» خاصة بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 الصادر في العام 2000، وهو القرار الذي دعا إلى إشراك النساء باعتبارهن صاحبات مصلحة نشطة في مجال درء الصراعات وحلّها، «كعنصر فاعل في السلام والأمن». وقد واجه هذا القرار تحدّيات أساسية قسم منها يتعلّق بالحكومات والآخر بالمجتمعات والقسم الثالث بالنساء وهي حالة تعاني منها الغالبية الساحقة من البلدان النامية، علماً بأن البلدان التي تتّبع التدابير والإجراءات المنسجمة مع قرار مجلس الأمن الدولي قليلة جداً ولا يزيد عددها على 20 دولة، وهذا يعني أن القرار المذكور ما زال غير فاعل أو غير مطبّق بسبب الصعوبات والعقبات التي تعترض طريقه، وهو ما ينطبق على العراق والعديد من البلدان العربية، حيث لم يتم مراعاة خصوصية المرأة وإشراكها في عملية الحفاظ على الأمن وبناء السلام، إضافة إلى انخفاض مستوى الوعي لدى أجهزة إنفاذ القانون والسلطة القضائية، يضاف إلى ذلك عدم تأمين المستلزمات الضرورية لمشاركة المرأة في حلّ النزاعات، وعدم تمثيلها في أجهزة صنع القرار كشريك على قدم المساواة لمنع الصراعات وتحقيق السلام.
وفي أية خطة عراقية أو عربية أو دولية، يفترض اتباع تدابير وقائية وأخرى حمائية، ثم تدابير علاجية، خصوصاً للنساء اللواتي تعرّضن للعنف أو شاركن فيه في ظروف مختلفة ولأسباب عديدة، قادت إلى التطرّف الذي ترك آثاره وانعكاساته عليهن أو على المجتمع ككل، وهناك نساء عشن تحت كنف العنف وفي ظل هيمنة المنظمات الإرهابية، أو التحقن بالتنظيمات الإرهابية لأسباب أسرية أو تأثيرات خاصة عاطفية أو نفسية أو اجتماعية أو أوهام دينية أو فكرية أو تعاملن معه أو اضطررن تحت عوامل مختلفة للتعاطي مع الجماعات الإرهابية إيماناً أو بفعل الأمر الواقع أو خوفاً.
وتلعب عوامل عدم المساواة الفعلية دورها في ذلك، ففي العراق على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن الدستور ساوى بين المرأة والرجل ونصّ على تكافؤ الفرص وعلى منع جميع أشكال العنف والتعسف ضد الأسرة والمرأة، لكن عدم المساواة قائمة في جميع المجالات.
وما زال العنف الأسري مستمراً، بل ارتفعت وتيرته على نحو كبير، خصوصاً في عدم صدور قانون يحرّم ذلك ويعاقب عليه، على الرغم من المطالبات العديدة من جانب بعض منظمات المجتمع المدني والمنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة، لكن مجلس النواب والقوى المتنفذة فيه ذات العقلية الذكورية تحول دون ذلك، ويبلغ عدد النساء اللواتي تعرضّن إلى العنف ما يزيد على 20% من النساء في العراق لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية أو دينية (الزعم بشرعية العنف ضد المرأة) أو نفسية.
وكان من عوامل زيادة تفشي العنف هو سيطرة داعش لمدة 4 سنوات على الموصل (العام 2014) وما يزيد على ربع مساحة العراق، لاسيّما في التعامل مع النساء غير المسلمات: المسيحيات والإيزيديات، إضافة إلى معاناة النازحات، واحتجاز زهاء 4000 امرأة من الديانة الإيزيدية وتعرّضهن للتعذيب والسبي والاتجار بهن.
وهناك أسباب اجتماعية للعنف ضد النساء تتعلّق بالطلاق والعنوسة والتشرّد وجرائم الشرف، إضافة إلى الممارسات العشائرية، التي ما تزال تعتبر المرأة سلعة للتبادل، وبعض الأعراف البالية التي ما تزال مستمرة.
وإذا كانت الحروب والنزاعات الأهلية والطائفية وذيولها أسباباً أساسية لشيوع ظاهرة العنف، فإن ضعف مرجعية الدولة لحساب مرجعيات دينية وطائفية وعشائرية، إضافة إلى الفساد المالي والإداري والسياسي، كانت أسباباً أخرى للتطرّف والعنف التي كانت النساء أولى ضحاياه.
drhussainshaban21@gmail.com



251
عبد الحسين شعبان
يرسم الصورة الحقيقية لـ "سلام عادل"
د. مهدي السعيد
لندن- صحافي وكاتب

حين اجتاحت النازية أوروبا الغربية في أربعينات القرن الماضي، كانت بعض شعوبها بعيدة عن معرفة الكثير من الحقائق التي واجهتها شرائح مجتمعاتها أو قادة تلك الشرائح. ولكن بعد هزيمة النازية وانحسار ظلها، بدأ بعض مثقفي ومفكري تلك الشعوب البحث عن المزيد من الحقائق التي لم تكن معروفة لهم قبل ذلك الحين إلّا النزر اليسير منها. وبعد اكتمال الصورة بمضي الوقت أخذت تتكشّف الكثير من الحقائق المبهمة، وبفضل بعض الباحثين من ذوي الباع الطويل سُلطت الأضواء على ما قد جرى بروح الحرص الشديد لقراءة باطن التاريخ الغامض.
ولعلي وأنا أقرأ كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان والموسوم بـ "سلام عادل ... الدال والمدلول وما يمكث وما يزول"، وكأني أقترب من تلك الحقيقة، لاسيّما بقراءة ملامح شخصية سلام عادل كاملة ودون أدنى إضاعة للجزئيات. وقد أدركت الآن وبعد فوات هذه الأعوام الطويلة من العمر أن دور الفرد في المجتمع يأخذ خصوصيته من جوهر العقيدة أو الفكر الذي يؤمن به، فهناك من يوظف فكره باتجاه مخالفة القيم الإنسانية فيتعلق بنزعة الشر التي تقوم على أساس تصفية الخصوم والمعارضين له في الفكر والسلوك، وهناك نزعة مضادة ومختلفة قطعاً تنطلق من توطيد حياة مزهرة ونافعة للجميع.
وفي أحيان كثيرة يتدخل تأثير السياسة من بوابة الصراع الآيديولوجي المحتدم بين الخير والشر كعامل مؤثر في حياة الأفراد والمجتمع، فإما أن يحول هذه الحياة إلى مأساة أو إلى ملهاة، وفي أغلب الظروف فإن دفّة المأساة هي  التي تسود، لأنها تتكرّر، بينما ظروف الملهاة تأتي لمرة واحدة، ثم تستقر إلى ما لا نهاية.
كتاب عبد الحسين شعبان يسلط الضوء على واقع الصراع السياسي المعقد الذي كانت لغة الدم هي السائدة فيه بدل الحوار والجدل، حيث بحث بدقة وعمق ما حصل في العراق المعاصر ، ولاسيّما مرحلة الستينات من القرن الماضي، فقد خرج حزب البعث العربي الاشتراكي عن جادة المألوف واختار سياسة الانتقام الوحشي من خصومه ونزع جلده كحزب مدني يعتمد الحوار والمنطق إلى "عصبة انتقامية" دمرت الحياة الاجتماعية وألحقت بالعراق أضراراً كبيرة للغاية لازالت مفاعيلها سارية حتى الآن.
لم يكتفِ شعبان بإبراز سيرة سلام عادل المبدئية وخصاله الشخصية الإنسانية والقيادية، بل خصّص جزءًا مهماً من كتابه للحديث عن معاناته الإنسانية الفائقة بعدما ألقي القبض عليه وأخضع للتعذيب الجسدي المميت والذي لا يمكن تحمّله لولا صلابته الفولاذية وإرادته التي حيّرت جلاديه. وتبقى هناك مسألة مهمّة تثير التساؤل المستمر ألا وهي كيف تسنّى للسفاحين أن يذبحوا بدم بارد زعيماً لحزب وطني ساهم وبشكل فعّال في بلورة النضال الوطني ضد الاستعمار ودوره المشهود في بناء جبهة الاتحاد الوطني وفي انتصار الثورة وفي ترسيخ الكثير من المفاهيم والأفكار التي عبّرت عن طموح  الشعب العراقي ودعت إلى تحرّره؟ وكيف أن روح الانتقام البشع لم تتورّع ولم تقف عند حدود المشاعر الإنسانية التي تميّز البشر عن الحيوانات؟ فأجهزت عليه دون أي اعتبار وطني سياسي أو أخلاقي.
لقد وزع الدكتور شعبان الكتاب على مدى ثمانية أقسام توزيعا ملائماً، فجمع بين السيرة الذاتية لسلام عادل وشهادات جلّاديه أو مريديه،لاسيّما من الذين عاصروه ، ثم ختم بحثه القيّم والمتميّز برزمة من الوثائق والتقارير السياسية المرتبطة بذلك، وهما تقرير الكونفرنس الثاني (1956) ووثيقة رد على أفكار تصفوية برجوازية (1957) وهما مساهمتان مهمتان لسلام عادل ، حاول شعبان أن يقدّم لهما قراءة نقدية جديدة ضمن منهجيته السردية .
لم يكتفِ الدكتور شعبان بسرديته المثيرة عن "سلام عادل"  وإنما تناول الحركة الشيوعية من زوايا مختلفة فكرية وسياسية عبر شخصية هذا المناضل الكبير فقط راسماً لنا ملامح مرحلة هامة من تاريخ العراق السياسي، التي حاول قراءتها بموضوعية ورؤية عقلانية منفتحة وبروح النقد والنقد الذاتي، خصوصاً وأن تلك المرحلة التي حققت منجزات غير قليلة بالخروج من حلف بغداد ونظام الكتلة الإسترلينية وإلغاء المعاهدات غير المتكافئة  مع بريطانيا والولايات المتحدة  اتسمت أيضاً بنشاط محموم للردّة  التي حصلت في 8 شباط 1963 فعطلت المساعي لبناء بلد حر ومستقل ويتمتع بالازدهار والتطور، وهو الوصف الذي يمكن انطباقه على تلك المرحلة المأسوية.

   



252
عبد الحسين شعبان في "داله ومدلوله"
ضوء سلام عادل ودوره في الحركة الشيوعية

د. محمد جواد فارس
طبيب وكاتب - لندن

   في البدء لا بدّ من الإشادة بما كتبه ويكتبه الدكتور عبد الحسين شعبان من كتب موسوعية  في مواضيع متنوّعة سياسية واقتصادية وفلسفية وحقوقية وثقافية تشكل إسهاماً في رفد المكتبة العراقية والعربية حيث بلغ عدد إصداراته ما يزيد عن 70 كتاباً ومؤلفاً، صب فيها عصارة أفكاره ووجهات نظره وتجربته الغنية مطعّماً إياها بالمعلومات القيّمة، تلك التي يستقيها من مصادرها المختلفة فيخضعها للتحليل والنقد في مسيرة طويلة ومضنية في البحث عن الحقيقة. ولعل مثل هذا العمل الفكري الجاد والمسؤول يساعد القراء من الأجيال الشابة ليعرفوا تاريخ العراق الحديث وحركته الوطنية واليسارية بشكل خاص، لكي تكتمل الصورة من جوانبها المختلفة لمن يريد البحث  والتقصّي.
    والإصدار الأخير ونعني به كتابه عن " سلام عادل - الدال والمدلول" الذي وقّعه في معرض بغداد للكتاب وفي احتفالية كبرى في نادي العلوية مع ندوة أقيمت عنه، يأتي بمناسبة الذكرى الـ 56 لاستشهاد سلام عادل الذي يمثل  شخصية تاريخية لعبت دوراً مهماً في تاريخ العراق الحديث والحركة الشيوعية على النطاق العربي.
   ولد خالد الذكر حسين أحمد الرضي المكنّى بسلام عادل في مدينة النجف عام 1924 على الأرجح من عائلة دينية ودرس وتخرج من دار المعلمين الابتدائية وانتمى إلى الحزب  العام 1944 وتعرّف على قائد الحزب يوسف سلمان يوسف (فهد) وتبوء مراكز قيادية  عديدة منها قيادة المنطقة الجنوبية التي شملت البصرة والعمارة والناصرية ثم تبعها بقيادته للجنة بغداد وبعدها للجنة الفرات الأوسط ثم أصبح أمينا عاماً للحزب العام 1955.
   خلال عمله اعتقل وفصل من وظيفته وعمل عاملاً ومارس مهماته الحزبية في العمل السري، وتزوج من ثمينة ناجي يوسف وهي رفيقته وشريكة حياته وأنجبت منه بنتان وولد (إيمان وعلي وشذى) ، وقد عرض الدكتور شعبان أهم محطات حياته وسجاياه الشخصية ومواقفه المبدئية وخلافاته مع عدد من المسؤولين القياديين البيروقراطيين الذين سبقوه مثل مالك سيف وحميد عثمان، ليصل إلى قصة استشهاده المثيرة بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963  في قصر النهاية  السيء الصيت.
                                                           
   وعلى الرغم من اطلاعنا على تاريخ سلام عادل ودوره، لكنني اكتشفت في مطالعتي للكتاب قضايا كثيرة تستحق التوقف عندها فقد عالج الباحث مشكلات الحزب والتحديات التي واجهته والأخطاء التي وقع فيها وما تعرّض له من تصفيات وإبادات  بموضوعية وله وجهات نظره الخاصة، ولاسيّما ما حدث في الموصل وكركوك ومن عمليات هيمنة على الشارع والإرهاب الفكري في العام 1959 كما يسمّيه، وكان يدعم وجهات نظره بالوثائق والشهادات والحوارات مع قيادات شيوعية، إضافة إلى معايشته وتجربته الشخصية، وهو ما أضفى على الكتاب حيوية، لاسيّما وقد حاول إظهار الوجه العروبي للحزب عبر وثائق الكونفرنس الثاني العام 1956 وكذلك عبر وثيقة رد على أفكار برجوازية تصفوية العام 1957 التي كتبها سلام عادل أو أشرف عليها كما يقول، وذلك رداً على بعض التوجهات الخاطئة لدى بعض الشيوعيين الأكراد.
   وقد أبرز المؤلف الشخصية الاستثنائية والمبدئية العالية والشجاعة النادرة والمؤهلات القيادية التي تمتع بها سلام عادل دون أن ينسى أخطاء تلك الفترة والتحديات التي واجهها، خصوصاً بعد ثورة 14 تموز، والصراعات الجانبية التي أنهكته، إضافة إلى ظروف موضوعية منها على المستوى الدولي: الصراع الصيني- السوفييتي ثم الصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وانعكاسات ذلك على الصراع بين الشيوعيين والقوميين ، واندلاع الحركة الكردية والالتباس في الشعارات والصراع مع قاسم بين التأييد والتنديد.
   ويُبرّز الكاتب دور سلام عادل الجامع والموحّد والمقرّب بين الرفاق لتحقيق وحدة الحزب على أساس مبدئي وإنهاء الانقسامات والانشقاقات التي نخرت كيانه وأضعفته، خصوصاً انشقاق راية الشغيلة، إضافة إلى انشقاقات أخرى، وقد تمكن سلام عادل بصبره وحكمته وبالتنازلات المتبادلة وبالاستعانة بالأشقاء ولاسيّما الحزب الشيوعي السوري والرفيق خالد بكداش إنهاء الانشقاق واستعادة وحدة الحزب دون شروط مسبقة، دون أن ينّزه أحد من الأخطاء والنواقص والإجراءات البيروقراطية بما فيها قيادة القاعدة الجسم الأساسي للحزب.
   لقد أسهم سلام عادل في بناء الجبهة الوطنية وسخّر كل إمكانات الحزب لقيامها لأن عقله الاستراتيجي كان منصبّاً على أن نجاحها سيقرّب من نجاح الثورة، وهكذا تشكلت جبهة الاتحاد الوطني العام 1957 وتألفت من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الكردستاني ،الذي نظم الحزب معه اتفاقاً خاصاً بسبب معارضة الأحزاب الأخرى لانضمامه، إضافة إلى الحزب الشيوعي. وكان هدف سلام عادل إنهاء هيمنة المستعمر البريطاني واستغلاله لثروات العراق ، وإلغاء المعاهدات مع بريطانيا وأمريكا والقواعد العسكرية في الحبانية والشعيبة.
   وعند نجاح الثورة تشكّلت أول حكومة ضمت وزراء من المشتركين في الجبهة ما عدا الحزب الشيوعي العراقي ،واتخذت خطوات لتعزيز الاستقلال الوطني ، وتم إعلان الجمهورية العراقية وإنهاء الملكية. ومن إنجازاتها الخروج من حلف بغداد ، والانسحاب من نظام الكتلة الإسترلينية وتحرير العملة العراقية وسن قانون الإصلاح الزراعي ، وقانون الأحوال الشخصية وإعطاء المرأة حقوقها ، والبدء بالتفاوض مع شركات النفط الاستعمارية لاستعادة حقوق العراق الذي تجسّد في سن قانون رقم 80 لعام 1961.                               
          
   أضاء الباحث موقف سلام عادل من القضية القومية معتبرا أن حركة الانبعاث القومي العربي "حركة تقدمية ديمقراطية"، وهنا أريد الإشارة إلى موقف فهد من قضية فلسطين برسالته من السجن بعد صدور قرار التقسيم عام 1947 التي ورد فيها : إن موقف الاتحاد السوفيتي كان بسبب الأوضاع والمؤامرات والمشاريع الاستعمارية المنوي تحقيقها في البلاد العربية وفي العالم، فالمهم في الموضوع هو وجوب إلغاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عن فلسطين وتشكيل دولة ديمقراطية مستقلة كحل صحيح للقضية، ومن واجبنا أن نعمل بذلك حتى النهاية، وإذا لم نتمكن بسبب مواقف رجال الحكومات العربية ومؤامراتهم مع الجهات الاستعمارية، فهذا لا يعني أننا نفضّل حلاً آخر على الحل الصحيح ونرى من الأدق أن تتصلوا بأخواننا في سورية وفلسطين وتستطلعوا رأيهم في تحديد الموقف .ولكن للأسف فثمة تداخلات عديدة دفعت الأمور باتجاه آخر.
   و أستذكر هنا عند صعود الخلاف الصيني - السوفييتي، وزعت قيادة سلام عادل كراس بالم دات سكرتير الحزب الشيوعي البريطاني الموسوم إلى أين تسير الصين؟ وكان ذلك بمثابة انحياز إلى الموقف السوفيتي اتجاه الصين بعد نقاشات عديدة آنذاك.
   ولسلام عادل موقف متميز من القضية الكردية التي اعتبرها الوجه الآخر للقضية القومية العربية فأكّد على حقهما في الوحدة وتقرير المصير وعلى الجانب الملموس أكّد على الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الكردي . وقد صاغ الحزب شعاره في الستينات تحت عنوان " السلم في كردستان" بعد اندلاع القتال ومن ثم شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان العراق".                                           
   وإذا كانت الصراعات قد أنهكت الحركة الوطنية فإن الجميع أخطأ وكان عليهم مناقشة أخطاء الماضي بروح التسامح والعمل المشترك والأهداف المشتركة ، خصوصاً وأن العراق وقع تحت الاحتلال بعد حكم دكتاتوري طويل الأمد، أما الذين مارسوا التعذيب وقاموا بالارتكابات فلا يكفي أن يقولوا اليوم أنهم مسؤولون عما حصل وإنما عليهم تحديد مسؤولية وصول البلاد إلى ما وصلت إليه ابتداء من التعاون مع الجهات الأجنبية وشركات النفط والمجازر التي ارتكبت وصولاً إلى الاعتذار لدم الشهداء وفي مقدمتهم سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد حسين أبو العيس وعبد الرحيم شريف وجورج تلو ونافع يونس وغيرهم.
   


253
«إسرائيلية» الجولان
عبد الحسين شعبان
«إن من ينزل عن هضبة الجولان، يكون قد تخلّى عن أمن «إسرائيل»، ذلك ما قاله إسحاق رابين رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق الذي اغتيل في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، بعد أن احتلت «إسرائيل» 80% من مساحة هضبة الجولان السورية في عدوان 5 يونيو/ حزيران العام 1967، والتي حرّرت سوريا جزءاً منها في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، (100 كم) بما فيها مدينة القنيطرة .
إن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، «إسرائيلية» الجولان يعيد إلى الأذهان مقولة رابين، وإصرار السياسة «الإسرائيلية» طيلة ما يزيد على نصف قرن على تهويد الجولان، وضمها نهائياً إلى «إسرائيل». ويأتي موقف ترامب مستفزّاً للمشاعر الإنسانية، والاعتبارات الأخلاقية، ولقواعد القانون الدولي بعد قراره في 14 مايو/ أيار 2018 نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبارها عاصمة لدولة «إسرائيل»، الأمر الذي يؤكد الخطة المنهجية المتصاعدة في تأييد الاحتلال « الإسرائيلي»، والتنكّر للحقوق العادلة والمشروعة للشعب العربي الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها «القدس».
وتتنكّر واشنطن بإجراءاتها تلك ل «الشرعية الدولية»، فضلاً عن القواعد العامة للقانون الدولي المعاصر، بما فيها قواعد القانون الإنساني الدولي، خصوصاً اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، حيث كان مجلس الأمن الدولي أصدر قراراً رقم 476 بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 1980 يعلن فيه بطلان الإجراءات التي اتخذتها « إسرائيل» لتغيير طابع القدس، ثم أعقبه بقرار رقم 478 بتاريخ 20 أغسطس/ آب من العام نفسه، يقضي بعدم الاعتراف بقرار الكنيست بشأن ضم القدس.
كما أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 497، الذي اتخذ بالإجماع في 17 ديسمبر/ كانون الأول 1981، الذي يدعو دولة «إسرائيل» إلى إلغاء قرارها بضم مرتفعات الجولان، ويعتبر فرض قوانينها وسلطاتها وإدارتها على مرتفعات الجولان السورية المحتلة ملغى وباطلاً، ومن دون فعالية قانونية على الصعيد الدولي.
ومن المفارقة أن يأتي إعلان ترامب «إسرائيلية» الجولان متزامناً مع الذكرى السادسة عشرة للحرب الأمريكية على العراق واحتلاله في العام 2003، واستمرار معاناة شعبه المتعاظمة والمركّبة، فضلاً عن تزايد التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه، فضلاً عن انفتاح الباب على مصراعيه لنشاط المنظمات الإرهابية فيه، وفي مقدمتها تنظيما القاعدة، ووريثها «داعش». وعلى مستوى التوقيت يأتي إعلان ترامب عن «إسرائيلية» الجولان كأنه خشبة خلاص لنتنياهو الذي تدهورت سمعته وفقد الكثير من شعبيته لاتهامه بالفساد، واحتمال مثوله أمام القضاء، كما يأتي هذا الإعلان قبل 20 يوماً من الانتخابات «الإسرائيلية».
لقد مارست «إسرائيل» خلال احتلالها الذي استمر نحو 52 عاماً سياسة تطهير عرقي لتغيير الواقع القومي والتركيب السكاني للجولان، ورفضت الانسحاب إلى ما وراء خطوط الهدنة، مستخفّة بقرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصاً القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973 ومتجاوزة على مبدأ أمر من مبادئ القانون الدولي الذي لا يجيز الاستيلاء بالقوة على أراضي الغير.
وكانت «إسرائيل» اعتبرت الجولان منذ اليوم الأول «منطقة عسكرية مغلقة يحظر على الناس دخولها» ثم أقامت المستوطنات عليها، آخذة في الاعتبار أهميتها الاستراتيجية، ابتداء من سفوح جبل الشيخ (قرب بانياس) وبمحاذاة خط وقف إطلاق النار (في 10 يونيو/ حزيران 1967) حتى القنيطرة، وانتهاء بحدود الشواطئ الشرقية لبحيرة طبريا (جنوب غربي الجولان). واستهدفت بذلك إقامة «بناء دفاعي» يضمن الحفاظ على مصادر المياه، ومنابع نهر الأردن، وتوفير الحماية لمستوطنات وادي الحولة والجليل، وهو ما تضمنه مشروع إيغال آلون الذي نشره في مجلة الشؤون الدولية (الأمريكية) على شكل مقالة في أكتوبر/ تشرين الأول 1976.
ولذلك شرعت في اتخاذ طائفة من الإجراءات المتدرّجة لمحو الطابع العربي للجولان، ابتداء من حل المجالس البلدية وإلغاء القوانين السورية وإبدالها بقوانين «إسرائيلية» (بعد قوانين الاحتلال)، وتغيير العملة، وفرض الرسوم، وتغيير رخص السيارات والإجازات الخاصة، وفرض منهج تعليمي « إسرائيلي» عنصري، وجميع ما يتعلق بالبريد والبرق والهاتف، وكل ما من شأنه تغيير طابع المنطقة قانونياً وإدارياً وفعلياً، لاسيّما استبدال هويّة الأحوال المدنية السورية ببطاقات «إسرائيلية»، ثم أقدم الكنيست بعد مرور 14 عاماً على احتلال الجولان إلى إصدار قرار بضمها إلى «إسرائيل»، خلافاً لقواعد القانون الدولي، وما يسمّى بالشرعية الدولية .
وتبرر «إسرائيل» تمسكها بهضبة الجولان بثلاث قضايا مركزية وحيوية لا تريد التخلي عنها، وهي تجمعها في عناوين رئيسية هي: الأمن والمياه والأرض، فالجولان خزّان مياه ومصدر للثروة المائية لا تريد التخلي عنه، وحسب رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، هي مصدر أساسي للأمن المائي، وهذا الأخير مصدر حيوي للأمن الغذائي، وبالتالي فهي عمق استراتيجي لأمنها لا غنى عنه.
drhussainshaban21@gmail.com


254
بئر نفط، وحين ذلك يمكن حكم  دول المنطقة والاستيلاء على ثروات شعوبها والتحكّم بمصائرها، ولعلّ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي نادت به كونداليزا رايس ليس بعيداً عن ذلك بما فيها ما بشّر به برنارد ليفي من مشاريع.
   وعلى صعيد المنطقة، خصوصاً دول المشرق، لاسيّما العراق وسوريا ولبنان وبعض دول الخليج واليمن وغيرها، إضافة إلى ليبيا في المغرب العربي، فإن ثمة ثلاث سيناريوهات محتملة حسب منهج الدراسات المستقبلية، بفعل استفحال الأزمة وعدم التوصل إلى حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة،
   السيناريو الأول - يقوم على التفتت وهذا يمكن أن يكون واقعياً (فعلياً) De Facto أو رسمياً وقانونياً لاحقاً De Jure وقد تحدث تصدعات أشد خطورة بانضمام أو ضم أو إلحاق أجزاء منها لبعض دول الجوار، وهناك تربّصات إيرانية وتركية بالنسبة للعراق وسوريا باعتبارهما ساحة نفوذ، ناهيك عن الأطماع الأجنبية الدولية.
   ومن العوامل التي ساهمت وتساهم في زيادة هذا التحدّي الإخفاق في حلّ الأزمات واستمرار الانقسامات الحالية وتعاظمها، خصوصاً بحصول بعض الفئات على امتيازات  ومكاسب وهيمنة المصالح الأنانية الضيقة عليها بحيث يصعب التخلّي  عنها، وستكون هذه على حساب وحدة الدولة وبسط سلطتها على كامل أراضيها.
   أما بالنسبة للسيناريوهات التونسية، وعلى الرغم من متابعتي للأوضاع التونسية وهو ما أوردته في كتابي " الشعب يريد- تأملات فكرية في الربيع العربي " من فصل خاص فيه قراءة للثورة التونسية ابتداء من اللحظة الثورية ووصولاً إلى المآلات التي أفضت إليها ، مناقشاً شعارات اليوم وشعارات الأمس والشباب وفن الانتفاضة وخريف الآيديولوجيا وربيع السياسة والخصوصية وقانون التطور التاريخي، والطبقة الوسطى والوعاء الحامل للثورة كل ذلك في إطار الجيل الجديد والعقل الجديد متوقفاً عند بعض حقائق التغيير محللاً الأطروحات المغايرة في ضوء التجارب الكونية دون نسيان التداخلات الخارجية ، ولكن " لا يُفتى ومالك في المدينة" كما يُقال.
   لكنني كمراقب أستطيع أن أقول، إن الوضع الاقتصادي هو المحرك الأساسي في تونس، وهو "التعبير المكثّف" عن سياسة الأحزاب والجماعات المختلفة وتطلعاتها لحكم البلاد، وهو وإن كان كذلك في أماكن أخرى، إلا أنه في بعض بلدان المشرق يرتدي عباءة الطوائف والصراعات المذهبية والإثنية وما عدا خطر الإرهاب الدولي الذي هو مشكلة كونية، فإن الصراعات الداخلية تبقى تدور في إطارها السياسي بالدرجة الأساسية لأن الوضع الأمني هو انعكاس للوضع السياسي، خصوصاً وإن الشعب التونسي محب للحياة ومقبل عليها. ولعلّ هذا المحور يعاني من بعض الاختراقات بسبب المشاكل الإقليمية، حيث ما تزال الأسلحة  متوفرة وتتدفق على تونس بسبب إنفلات الوضع الأمني في ليبيا. وستنتعش تونس اقتصاديا حين تبدأ  ليبيا باستعادة الدولة وإعادة الإعمار.
   السيناريو الثاني - استمرار الحال، وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه لسنوات لاحقة (5 أو 10سنوات  أو حتى أكثر ) فإما أن يتحسّن الحال لاحقاً أو يسوء، وستكون الاحتمالات الأخرى قائمة، فإذا تحسن الحال، يعني استعادة وحدة الدولة، وإذا ساء يعني الانجراف في التفتت وصولاً إلى الانشطار لاحقاً، وسيكون ذلك بعد استنزاف للموارد البشرية والمادية، وربما بالمزيد من الاحترابات الأهلية.
   السيناريو الثالث-  التوحيد، ويتطلب ذلك بيئة دولية مساعدة وإرادة سياسية وقبولاً بالآخر واستعداداً للحوار، وهو ما ينبغي أن تقوم به النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والمدنية، وهذه كما نعلم ضعيفة ومهمشة ومستلبة، بل إن بعضها ملحقاً بالنخب السياسية، ولدى بعضها "القابلية على الاستتباع" حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار" وهي لا تملك المال والنفوذ، في حين تتمتع النخب السياسية بالمال والسلاح والدعم الإقليمي والدولي أحياناً، ولذلك يتطلّب الأمر استعادة الوعي تمهيداً لاستعادة الإرادة، وهو أحد التحديات الكبرى التي تواجه الأمة العربية.



255
مجلة المسالك " التونسية"
من يقرأ الدين بطريقة خاطئة سيتوصل إلى حاضر ومستقبل خاطئين
نحاور في هذا العدد الأوّل المفكر والكاتب العراقي عبد الحسين شعبان وهو قامة  ثريّة متنوّعة الاهتمامات والانشغالات.
درس وتعلّم في مسقط رأسه مدينة (النجف) وتخرّج من جامعة بغداد وواصل دراسته العليا في براغ  فنال درجة الدكتوراه في فلسفة القانون، وعاش في المنفى ثلاث مرّات. انخرط في العمل السياسي منذ وقت مبكّر مع الحركة الشيوعية ولكنه لم يتقيد منذ الثمانينات بالمدرسة الكلاسيكية الماركسية (الارثوذكسية)  التي تمرّد عليها، وظلّ مخلصاً لقناعاته الفكرية "المادية الجدلية" كما يقول، مقدماً اجتهادات وقراءات جديدة للفكر الاشتراكي من زوايا انتقادية تنسجم مع روح العصر والنزعة الإنسانية.
وأثار كتابه " تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف" جدلاً واسعاً، ونظّمت ندوات وملتقيات لمناقشته في بيروت وبغداد والقاهرة وتونس وغيرها  حيث تشرّف "منتدى الجاحظ" بتنظيم ندوة عنه واستضافته في العام 2010 مع نخبة عربية، للحديث عنه في إطار مراجعاته النقدية للفكر الماركسي بشكل خاص والفكر السياسي - الاجتماعي بشكل عام، وقد جُمعت المناقشات والأبحاث والدراسات التي دارت حول هذا الكتاب وصدرت في كتاب جديد بعنوان: الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية، واشتمل 40 مساهمة.
 اشتغل على قضايا فكرية تتعلق بسسيولوجيا الأديان (المسيحية والإسلام) والتسامح واللّاعنف وقد اشتهر كتابه " فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي : الدولة والثقافة" الذي كتب مقدمته المطران جورج خضر.
يُعدّ من رواد العمل الحقوقي في العالم العربي وكانت له فيه بصمة واضحة قراءة وتنظيراً وممارسة ونقداً مؤكداً على الدور التنويري الذي يمكن أن يقوم به، وقد نال جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة - العام 2003) وشغل لسنوات مكانه في اللجنة العلمية في المعهد العربي لحقوق الإنسان الذي كان يستضيفه سنوياً لإلقاء محاضرات لتأهيل كوادر عربية في هذا الحقل الهام، الذي أغنى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات فيه.
كرّم في تونس من المعهد العربي للديمقراطية ومنتدى الجاحظ والجامعة الخضراء في احتفال مهيب يليق بمفكر حر، وقد صدرت وقائع حفل التكريم والتحايا التي وصلت من عديد النخب الفكرية والثقافية والشخصيات الاجتماعية والحقوقية، في كتاب بعنوان: "عبد الحسين شعبان - تونس والعرفان".
كتب الدكتور شعبان في حقول متعددة ومختلفة من القانون إلى الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة الدولية مثلما كانت له مساهمات متميّزة في أجناس أخرى مثل النقد والسرديات والتاريخ، بما فيه أنطولوجيا المثقفين العراقيين والعرب، إضافة إلى كتبه في الشعر والرواية، حين قدّم إضاءات لامعة لشخصيات ثقافية وأدبية.
له أكثر من 60 مؤلفا ً مطبوعاً وهو متفرغ للعمل الأكاديمي والبحثي في جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي (بيروت) .



س 1- ما هي قراءتك للمشهد العربي على ضوء التحوّلات الدراماتيكية والسياسية الراهنة؟

ج1-  لا أخفيكم سرّاً إذا قلت أنني متشائم منذ نحو 4 عقود من الزمان، وكان تشاؤمي يزداد كلّما تتّسع المساحات الظلامية في العالم العربي وتشحّ الحريات وينحسر حكم القانون وتتدهور حياة الناس المعاشية في الكثير من البلدان العربية، خصوصاً حين يرتبط الأمر بالحروب والنزاعات الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية وضعف الشرعية وارتفاع منسوب الفساد المالي والإداري، الأمر الذي عزّز من رقعة الاستبداد الذي هو سبب البلاء حسب المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي، واستناداً إلى قوله  "الثورة غالبا ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها ، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوي ممّا كانت أولاً" .
   ولكن تشاؤمي انخفض قليلاً حين هبت نسائم  الحراك الشعبي فيما أطلق عليه "الربيع العربي" في عدد من الأقطار العربية، تلك التي كانت فاتحتها تونس، حيث انتصرت الحركة السلمية المدنية  اللّاعنفية وتمكّنت من إحداث التغيير الأوّلي المنشود، وحذت حذوها مصر، التي كانت لسنوات تستعد لمثل تلك اللحظة الثورية، الأمر الذي أعطى خفقة من الحرية، وشعرت من أعماق قلبي وكأن ريحاً خفيفة منعشة هبّت على المنطقة، إلّا أن هذا التفاؤل الحذر سرعان ما انخفضت نسبته لدرجة أن ما يوازيه من تشاؤم حذر كان في منافسة شديدة معه، لاسيّما حين انكسرت موجة التغيير باندلاع العنف والإرهاب الذي هيمن على المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي.
   قد أكون حسب الروائي الفلسطيني أميل حبيبي "متشائلاً" وهو عنوان روايته " سعيد أبي النحس المتشائل"، لكن هذا التشاؤل أخذ تدريجياً يميل لصالح التشاؤم، لاسيّما بصعود الموجة الدينية ، وخصوصاً من جانب الإسلام السياسي بمدارسه المختلفة، سواء ما يطلق عليه الإسلام المعتدل أو الإسلام المتطرف، وصولاً للإسلام التكفيري الذي تجلّى بممارسة العنف والإرهاب بأبشع صورهما متمثّلاً بتنظيمات القاعدة وفيما بعد داعش وأخواته مثل "جبهة النصرة"  (جبهة فتح الشام ) وغيرها وأريد هنا أن أفرّق بين التشاؤم واليأس، فكل ما حولنا يشي بالتشاؤم بل مدعاة له، لكنني على الرغم من الأجواء الخانقة أحياناً لست يائساً، والتشاؤم هو تشخيص للحالة وإقرار بالواقع في حين أن اليأس يعني الاستسلام وهذا ما تريده القوى المتنفّذة ، ولا أجد نفسي ضمن هذا التصنيف، لأن روح المقاومة ما تزال متئدة وهو ما يدفعني لمقاومة اليأس والتبشير بعكسه في جميع المجالات.
   لنعترف أن أحزاب الإسلام السياسي سعت للوصول إلى السلطة، وهذا حق مشروع لها وأحترمه كثيراً، بل أدافع عنه، خصوصاً إذا كان ذلك عبر صندوق الاقتراع وبصورة سلمية وشرعية وقانونية. لكنها أرادت احتكارها وتهميش الآخرين، إضافة إلى فرض  نمط من الحياة وتشريع للقوانين من شأنه إحداث تصدّع في بنية الدولة، وهو ما لقي اعتراضاً شديداً، بل مقاومة قوية في مصر أدّت إلى الإطاحة بحكم "الأخوان" بفعل تدخل الجيش الذي حسم المعركة، ولقي تحفظاً شديداً في تونس على بعض أطروحات وممارسات حركة النهضة، التي سارعت بتغيير تكتيكاتها بذكاء وتبصّر لمآل الأخوان، لاسيّما بعد أن قرأت المشهد السياسي العربي والدولي، وأدركت أن توازن القوى ليس لصالحها، فاستدارت ببراعة وعملت بعد انتهاء "حكم الترويكا" بقيادتها إلى قبول التفاهم والتوافق الجديد بمساومة ضرورية، بل لا غنى عنها للحفاظ على ما تحقق لها من مكاسب.
   وهكذا انعقدت الصيغة الجديدة لحكم تونس بين حزب النهضة وحزب نداء تونس، وهي صيغة حفظت الوحدة الوطنية ومنعت الانفجار الذي كاد أن يكون قاب قوسين أو أدنى. ولم يكن ذلك بعيداً عن دور الشيخ راشد الغنوشي الذي أعرفه جيداً كما أعرف مقدار خبرته السياسية وكفاءته النظرية والتنظيمية.
   وقد لعب المجتمع المدني، دوراً مهماً في الحوار الوطني وفي نزع الفتيل، الأمر الذي استحق عليه جائزة نوبل (2015)، وأعني بها : الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين واتحاد الصناعة والتجارة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
   أعقتد أن الأسئلة التي واجهتها الأمة العربية والأمة الإسلامية منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ونهاية عهد الدولة العثمانية، ما تزال هي ذاتها تواجهها اليوم، وخصوصاً أسئلة الحرية والوحدة والتنمية، ومقوماتها ونعني به الاستقلال والتحرر وبناء الدولة والإصلاح، وإن كانت هذه الأسئلة جنينية في الماضي وأقرب إلى إرهاصات لمرحلة الحداثة الأولى، إلّا أنها اليوم أكثر تركيباً وتعقيداً وانشباكاً بسبب التحدّيات الخارجية، ولاسيّما وجود "إسرائيل" ودورها العدواني، كأداة حرب مستمرة، وكذلك التحدّيات الداخلية المتمثّلة في الانقسامات الطائفية والدينية بالدرجة الأولى، إضافة إلى المشكلات الإثنية والقومية والسلالية واللغوية وغيرها.
   باستعادة المشروع النهضوي العربي الأول الذي قاده جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والشيخ حسين النائيني وخيرالدين التونسي ورشيد رضا وأنطون فرح وشبلي شميل وصولاً إلى علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم ، فإن إشكالية  الحداثة والتمدّن واللّحاق بركب العالم المتطوّر مرتبطة بالتحرر السياسي في مواجهة الاستعمار والاستقلال الاقتصادي في مواجهة التبعية والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلط والوحدة العربية في مواجهة التجزئة والتجدد الحضاري لمواكبة روح العصر.

س 2- ما تقييمك لمسار الانتقال الديمقراطي في بلدان " الربيع العربي" وخاصة تونس؟

ج 2- أستطيع القول أن الشرعيات القديمة التي تأسست عليها معظم الأنظمة العربية تصدّعت وإن العواصف خضّتها أو زعزعت بعض أعمدتها أو اصطدمت بسواحلها وضفافها حتى وإن ظلّت قائمة، علماً بأن بعضها انهدم وأطيح به، وما هو مؤكد بالنسبة لي أنها تركت تأثيراتها على الجميع ، وأصبح لزاماً على العالم العربي استيعاب الاستحقاق التاريخي بالتغيير، الذي سارت بعض البلدان العربية في طريقه وإنْ ببطء وتدرّج لكنها تمكّنت من احتواء الانفجارات التي كانت محدقة واستجابت لبعض المطالب كما حصل في عُمان والأردن والمملكة المغربية، التي عملت على إعداد دستور جديد بمشاركة من قوى معارضة أساسية، لكن بعضها الآخر لم يستجب لاستحقاق التغيير، مثلما حصل في ليبيا واليمن، حيث اتخذ بُعداً مأساوياً وما يزال حتى الآن، خصوصاً بتعويم الدولة وبالصراعات المسلّحة واستشراء الفساد، ولاسيّما بالتداخلات الخارجية: الدولية والإقليمية، والأمر أكثر مأساوية في سوريا حيث اضطر ما يزيد عن ثلث السكان إلى الهجرة والنزوح في أوضاع بغاية السوء وتدهور الوضع المعاشي والصحي والتعليمي، وتحتاج سوريا اليوم لكي تتعافى جهوداً استثنائية على جميع المستويات، لتستعيد الدولة هيبتها وسيادتها  وتبسط سلطانها على جميع أراضيها، والأمر مرتبط أيضاً بحل سياسي في إطار التوافق الوطني وتوسيع دائرة الحريّات والمشاركة، سبيلاً لتلبية بعض المطالب الشعبية، وخصوصاً بتدويل القضية السورية ووجود أطراف دولية وإقليمية مؤثرة فيها مثل الأمم المتحدة وروسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وبعض دول الخليج التي كانت تموّل الجماعات المسلحة.
   وإذا كانت الشرعيات القديمة قد اهتزّت أو تزعزت وانهارت في بعض البلدان، إلّا أن  الشرعيات الجديدة لم تترسّخ أو تستقر بعد، وبعضها ظل مترنّحاً، وحسب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي "القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد ".
   وتونس حتى الآن ما تزال على مفترق طرق، على الرغم من أن أوضاعها قياساً لبلدان الحراك الشعبي أفضل بكثير ، خصوصاً وفيها نخبة متعلّمة ونسبة الأمية شحيحة قياساً بالبلدان العربية الأخرى، ودور المجتمع المدني مؤثّر ومهم، والانقسامات المجتمعية لا تكاد تُذكر قياساً بالبلدان الأخرى، سواءً على المستوى الديني أم الطائفي أم القومي بحكم التجانس الموجود فيها، باستثناء بعض الاختلافات في مستوى التطور بين الساحل والمناطق الأخرى التي تشعر بالغبن، كما أن دستور تونس الذي شُرّع بعد الثورة يعدّ الأكثر تطوّراً من غيره من دساتير المنطقة، وأعتقد أن ما تحتاج إليه تونس هو إرادة سياسية قوية وموحّدة للحفاظ على ما هو قائم وتطويره بالطرق السلمية ونبذ العنف ووضع حدّ لظاهرة الإرهاب واللّجوء إلى حل الخلافات بالحوار والتفاهم والتنازلات المتبادلة.
   والأهم في ذلك تأكيد حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات، وبالطبع فإن المدخل لنزع فتيل الأزمات المستفحلة هو: تحسين الوضع الاقتصادي الذي يعتبر حلقة مركزية لا غنى عنها  لإحداث التنمية المستدامة بحقولها المختلفة، خصوصاً وقد أخذ بالتردّي منذ نجاح ثورة جانفيه - يناير (أواخر العام 2010 مطلع العام 2011) ولحد الآن، حيث اتّسعت البطالة وازدادت الجريمة المنظمة، إضافة إلى أعمال العنف والإرهاب والتداخلات الخارجية.

س 3- إلى أي حدٍّ يساهم الخيار الديمقراطي في الحدّ من خطر الإرهاب والفساد؟

ج- 3 في ظلّ عملية الانتقال من طور إلى طور ومن حكم استبدادي فردي إلى حكم تعدّدي يتّجه نحو الديمقراطية أو يحاول اتباع أساليبها في الحكم، تحدث تصدّعات في نظام الإدارة والحكم، وهذا أمر طبيعي في أي مرحلة انتقالية حيث تتآكل الشرعية القديمة، وتشهد الشرعية الجديدة تجاذبات آيديولوجية وسياسية مختلفة، تحاول كل منها سحبها إلى ساحتها، الأمر الذي يؤدي إلى فراغات أو فجوات في نظام الإدارة والعمل الحكومي، خصوصاً حين يكون الكادر الجديد غير مستعد أو لا يمتلك المؤهلات الكافية، فضلاً عن بعض الانفلات في مراتب الدولة وأجهزتها بسبب التبدّلات السريعة وضعف الكفاءة، فيحدث أن تشهد هذه البلدان فساداً ظاهراً ومستتراً، مالياً وإدارياً، لم تشهده الدولة من قبل، أو أنه كان محصوراً بفئة الحكام وعوائلهم ومَنْ حولهم، ولا يتجاوز عدد هؤلاء أصابع اليد الواحدة التي تهيمن على كل شيء، كما كانت عائلة الرئيس السابق وما حولها، علماً بأنه في المرحلة الانتقالية تضعف الرقابة ويسود نوع من الانتهازية للكسب السريع على حساب الدولة والمال العام باختلال نظام المراتب البيروقراطية الذي تعرفه الشرعيات القديمة بحكم تقادمها في العمل الحكومي والوظيفي.
   وبغياب نخبة الحكم السابقة، ولاسيّما الكفاءات التي اكتنزتها لسنوات طويلة  ومجيء مجموعات حكم جديدة بكفاءة أقل، يجد البعض من الثورة المضادة والقوى التي تضرّرت مصالحها أو من قوى تريد فرض هيمنتها أو تحقيق مكاسب من الوضع الجديد، فرصته الذهبية لإحداث اختراق أمني وإضعاف الثقة بالنظام الجديد وهيبة الدولة وقد يلجأ بالفعل إلى بعض العمليات الإرهابية أو يشجّع عليها أو يتواطأ معها، ناهيك عن قوى إرهابية دولية مدعومة، من مصلحتها الإبقاء على حالة الفوضى التي غالباً ما تحدث في الفترات الانتقالية.
   وعلى المستوى الاقتصادي تستغل بعض القوى مواقعها الجديدة وقربها من السلطة السياسية فتعقد صفقات وتلجأ إلى أعمال غير مشروعة باستغلال أجهزة الدولة مستفيدة من أوضاع الانفلات السياسي والتصارع على السلطة، حيث تنشأ مافيات ومجموعات طفيلية بصورة سريعة مستغلة مرحلة الانتقال وعدم استقرار الأوضاع والقوانين.
   وقد مرّت دول أوروبا الشرقية والعديد من دول أمريكا اللاتينية بمثل هذه الأوضاع غير الطبيعية، بل والشاذة في المرحلة الانتقالية، لكن الخيار الديمقراطي كاستراتيجية بعيدة المدى، ستؤدي إلى المزيد من الرقابة والمحاسبة والشفافية، وبالتالي ستقود إلى تقليص دائرة الإرهاب والفساد، ولاسيّما إذا تم إقرار حكم القانون واستقلال القضاء ونزاهته، واستكمال بقية مستلزمات التحوّل الديمقراطي من قوانين ورقابة ومجتمع مدني وحريات الأساس في التنمية وغيرها.

س 4- هل يعتبر صعود الإسلام السياسي نتيجة لتراجع تأثير اليسار العربي والأحزاب العلمانية؟

ج 4- ثمة تغييرات طرأت على الخارطة السياسية العربية والإسلامية منذ أواخر السبعينات، ولاسيّما بعد الثورة الإيرانية، وعلينا الإقرار بذلك، ولاسيّما بعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 والإطاحة بالأنظمة الشمولية في شرق أوروبا وصولاً لانحلال الاتحاد السوفييتي.
   كان اليسار العربي بشقيّه الماركسي والقومي يعاني من أزمة حادة ، بل عضوية ، وهذه الأزمة شملت الأنظمة الإشتراكية وفروعها أنظمة حركة التحرّر الوطني، بما فيها الأحزاب الشيوعية العربية، والأحزاب القومية خارج السلطة . وللأسف كان البعض يكابر كثيراً لدرجة  يعتبر الحديث عن الأزمة بمثابة  انحراف أو عدم ثقة إن لم يكن إثماً عظيماً لأن أصحابه يريدون نشر الغسيل الوسخ على الملأ على حد تراشقات الصراع السياسي في تلك الحقبة، وحتى حين يريد هذا البعض الحديث عن المشكلات العميقة والمستفحلة المتعلقة بالحريات والاختناقات الاقتصادية والاستبداد السياسي، يسميها مجرد صعوبات أو نواقص، وإذا بالعورات تنكشف على الملأ وينهار المشهد بالكامل، وتظهر الحقيقة عارية فقد فشلت جميع محاولات التستر عليها.
   دعني أقول لكم إن اليسار العربي بشكل عام ظلّ إتكالياً ولم يستطع أن ينتج فكراً حرّاً ولم يقدّم استنتاجات تُذكر إلّا على نحو محدود جداً وظلّ أسير أطروحات " المركز الأممي" ولم يبذل جهداً كافياً بقراءة ظروف مجتمعاتنا وتاريخها والعوامل المحركة فيها  بكل تضاريسها وتعقيداتها بما لها وما عليها، ولاسيّما دور الدين وتأثيراته في حياة أمتنا العربية- الإسلامية، وغلب عليه الشكلانية والمحافظة والجمود، وكان يردّد أحياناً شعارات ومقولات أقرب إلى الأدعية والتعاويذ لما قاله مفكرون ومبدعون نحترمهم ونقدرهم، لكنهم قالوا ذلك لزمان غير زماننا، وأحياناً لأوضاع تختلف كلياً عن أوضاعنا، وحتى لو صحّت بعض استنتاجاتهم فقد عفا عليها الزمن،فما بالك إذا كان بعضها خاطئاً وهو ما أسميته في كتابي "تحطيم المرايا  في الماركسية والاختلاف"، النقد الماركسي لماركس، لاسيّما بعض تعميماته واستنتاجاته .
   ومثلما حاول لينين استنباط الأحكام في ضوء الواقع الروسي استناداً إلى  منهج  ماركس، فإنه كان  على اليسار الماركسي العربي استنباط الأحكام في ضوء المنهج، وللأسف فقد تم ترك المنهج مقابل التمسّك ببعض الأحكام التي لم تثبت الحياة صحة الكثير منها، ولو جاء ماركس اليوم لخالفها، انطلاقاً من معطيات القرن الحادي والعشرين والثورة العلمية - التقنية الثانية والطفرة الرقمية " الديجيتل" وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات، خصوصاً وإن منهجه ذاته يمتاز بالحيوية، ولا يُقبل الاستكانة أو الجمود .
   ويصبح اليوم لزاماً على الماركسيين " الماديين الجدليين" إعادة النظر بالكثير من الأطروحات وعدم استنساخ التجارب أو تقليدها  كما حدث في التجارب الاشتراكية التي فشلت جميعها، ولم تفضي إلى النتائج المرجوة، باستثناءات محدودة، جرى مراجعة عناصرها الأساسية، لكي تتواءم مع التطوّر الكوني.
   قلت في معرض تفسيري للظاهرة الدينية: ليس ماركسياً من يعادي الدين، لأن الدين ظاهرة اجتماعية، علينا دراستها والاستفادة منها بما يفيد تقويض استغلال الإنسان للإنسان، لا الوقوف ضدها أو معها، بقدر ما من الضروري معرفة كنهها والتعاطي معها بما يحترم عقائد الناس وينسجم مع العقل والتطوّر.
   وإذا كان هذا حال الماركسيين العرب، فإن وضع القوميين العرب ليس بأحسن منهم إنْ لم يكن أكثر جفافاً وجموداً وتخلّفاً، فقد عانوا من شحّ فكري وجدب نظري واعتمدوا على شعارات عاطفية وشخصيات كارزمية مثل جمال عبد الناصر الذي حقق منجزاً تنموياً في ظروف صراع دولي بين الشرق والغرب استطاع استثماره بشكل صحيح ، لكن النظام الذي أسسه وصل إلى طريق مسدود، لا مجال للحديث عنه الآن، وعانى ما عانت منه الأنظمة الشمولية من شحّ الحريات والآحادية الحزبية البيروقراطية والدور الديماغوجي للإعلام والسلطات المطلقة لأجهزة المخابرات.
     وعلى العموم ازدادت  لغة القوميين تخشّباً مع مرور الأيام ولم تستطع أن تسحب الشارع خلفها كما كانت في الخمسينات وإلى حدّ ما في الستينات في المعارك الوطنية، يضاف إلى ذلك إلى أن الأنظمة التي حكمت باسم القومية قادت إلى الاستبداد والدكتاتورية ومارست أنواعاً شتى من الظلم والاضطهاد وهدر حقوق الإنسان وكان النظام العراقي مثلاً صارخاً لذلك.
   وللأسف لم تجرِ مراجعات انتقادية كافية لمسيرة التيار اليساري (الماركسي والقومي) بل إن بعض الذين حاولوا التفلّت من ثقل البيروقراطية الحزبية الصارمة وبزعم التخلص من حقبة الجمود والتبعية السابقة، وقعوا صرعى الموجة النيوليبرالية وشعاراتها البراقة، بل إن بعضهم برّر التدخلات الأجنبية في تغيير أنظمة بلدانه تحت حجّة الظروف الموضوعية ودور العامل الخارجي في التغيير، ولم يكن ذلك سوى انحلال فكري وتخبط سياسي جديد لا علاقة بالفكر اليساري الذي يحتاج إلى تجديد حقيقي على جميع المستويات، مع الأخذ بنظر الاعتبار التطورات الدولية والإقليمية والمحلية وتوازنات القوى الحالية.
   لقد وجد الإسلام السياسي الفرصة مناسبة لتولي منصّات القيادة لأسباب أهمها حسب تقديري إن القمع والملاحقة نالت من اليسار الماركسي والقومي في الفترة الأولى أكثر بكثير مما تعرّض له، علماً بأن  التيار الإسلامي باستثناء "حركة الأخوان" التي تأسست في العام 1928 لم ينشأ أو يظهر إلى الساحة السياسية إلّا في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وقد لحقه القمع في أواخر السبعينات والثمانينات.
    وظلّ الإسلام السياسي بمدارسه المختلفة يمتلك ما لا يمتلكه اليسار وهو العمل "الشرعي" ولا أقول " القانوني"  ليس على أساس سياسي، بل وفقاً لمقتضيات دينية، فالصلاة في الجوامع والمساجد استمرت 5 مرات في اليوم، وهي عبارة عن اجتماعات وتجمعات يمكن أن  تستخدمها الخلايا الدينية دون رصد كبير من جانب السلطات، كما ساهمت الجمعيات الخيرية والمدارس الدينية المرخّصة والاحتفالات بالمناسبات الدينية وغيرها، بدور كبير  في تغذية مشروع الإسلام السياسي، ولاسيّما في تبهيت فكرة الدولة المدنية المتّسمة بالاستبداد.
   وهذه العوامل جميعها، إضافة إلى مجاملة السلطات الحاكمة للحقل الديني ولـ"رجال الدين" من الرأس حتى القاعدة، لإرضائهم أو بهدف كسبهم والحصول على دعمه لكن ذلك وفّر للتيار الإسلامي فرصة لم تتوفر لغيره للصعود، ولاسيّما حين أطيح بالأنظمة فوجد هؤلاء الفرصة سانحة لاعتلاء دفة الحكم أو للتأثير على مساره، إذْ أن جسمه الأساسي موجود في الداخل وليس في المنافي أو في بلدان الهجرة، كما أنه الأكثر تنظيماً والأوفر مالاً بما لا يُقاس مع الآخرين.
   وبالمناسبة لا يوجد في الإسلام مصطلح " رجال الدين " وإنما "علماء الدين " وهؤلاء يفترض أن يكونوا قلة قليلة ومحدودة ومؤهلة ومعترف بها. وليس كل دارس أو مرتدي للزي الديني يطلق عليه صفة العالم الديني، وإن كان في السنوات الأخيرة أعطى بعض هؤلاء لنفسه "حق" إصدار الفتاوى في ظل ضياع المعايير وسكوت المسؤولين والنخب عن فوضى الإعلام الذي استخدموه على نطاق واسع، عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على جمهرة واسعة من الناس في مجتمعات متدينة ويستفحل الجهل فيها بشكل عام، وأحياناً لا يميّز بعض الناس البسطاء بين الدين وما نطلق عليهم مجازاً "رجال الدين"، الذين هم مثل غيرهم يخطأون ويصيبون وبالتالي لا بدّ من مساءلتهم إسوة بغيرهم، فما بالك إذا كانوا أساساً غير مؤهلين لإصدار فتاوى أو أحكام قد تؤدي إلى احترابات وصراعات دينية وطائفية وإحداث فتن في المجتمع.
   لكن التيار الإسلامي بجميع توجهاته هو الآخر يعاني من أزمة عميقة وعضوية، خصوصاً وأن بعضه انخرط في الصراع المذهبي والطائفي،  أو إنه انضوى في صراع المحاور الإقليمية: فإمّا مع تركيا أو حليف لها بشكل مباشر أو غير مباشر أو مع بعض دول الخليج حسب تبدّلاتها امتداداً لحركة الأخوان، أو حليفاً لإيران، ولاسيّما من جانب الأحزاب الشيعية، حيث تكون الاصطفافات على أساس مذهبي، ولعلّ ذلك أحد مقاتل التيار الإسلامي، إذْ ليس بإمكانه الخروج من خيمة المذهبية، فهو إما شيعياً أو سنّياً أو من المذاهب الأخرى، حتى وإن كان المجتمع موحداً دينياً، لكن امتداداته ستكون متأثرة بهذا الانقسام
   إن اقتراب التيار الإسلامي من الحكم أفقده الكثير مما كان يتمتع به من "جهادية" وهو في المعارضة، حيث فقد معظم إداراته السياسية صدقيته، بل وأسفر عن حقيقة طموحه، وبدا أكثر ميلاً للتسلّط والانفراد وأكثر شغفاً بالسلطة والمال، وتلك أمور أوقعته في ورطة كبيرة في ظل تخلّف فكري عام لأطروحاته التي ظلّت متخلفة، لاسيّما في الموقف من المرأة والتحرّر الاجتماعي والحق في التعبير وحقوق الإنسان، وهو ما أدى إلى انحسار جمهوره، خصوصاً حين أصابه فايروس السلطة  بالتلوّث في الكثير من الأحيان.
   وثمة عوامل عديدة كان لها دور في عطوبية العقل السياسي العربي، بمكوناته الآيديولوجية والسياسية الثقافية ومدارسه الاجتماعية المختلفة، سواء كان ماركسياً أم قومياً أم إسلامياً، ويعود بعضها إلى الاضطهاد المزمن وشحّ الحريات والنظرة الشمولية الإقصائية للآخر وانعدام الجدل والحوار بما فيه في داخله والبيروقراطية الحزبية المعتمدة على النهج " اللينيني" الذي كان يسير عليه بما فيها الأحزاب الدينية، حيث يعتبر كتاب " ما العمل؟" للينين مرجعية تنظيمية لها وأساساً في علاقاتها مع أعضائها ومع هيئاتها بعضها مع البعض الآخر، وبالطبع فإن تعليمات وأطروحات ذلك الكتاب مضى عليها أكثر من قرن وعقد ونيّف من الزمان.

س5- ما هي الشروط  الممكنة لتحويل الإصلاح الديني  إلى فكر  مقاوم للعنف والإرهاب؟

ج 5- على غرار هوبز أفترض "أن أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني"، وإصلاح الفكر يفترض إصلاح الخطاب الديني الذي يقوم على خلفيات فكرية، لأن من يقرأ الدين أو التاريخ الديني بطريقة خاطئة سيتوصل إلى حاضر خاطئ وبالتالي مستقبل خاطئ أيضاً، إذ لا ينبغي قراءة الحاضر بعين الماضي، الأمر الذي يقتضي إجراء مراجعة نقدية هادئة وغير مستفزّة للحقل الديني وليس المقصود بذلك الكتب المقدسة، بل تفسيراتها وتأويلاتها، لاسيّما بأهمية إخضاعها لسياقها  التاريخي والاحتكام إلى العقل وروح العصر في الاستفادة منها بما يعزّز القيم الإنسانية النبيلة التي هي هدف الأديان وجوهر الرسائل التي جاء بها الأنبياء.
   وعلينا الذهاب إلى الحقيقة بكل ما نملك من معرفة وعقل وروح، فالدين هو دين العقل وليس دين الخرافة، والعقل أساس الدين والاجتهاد أساس العقل، والأديان تعلّم الحب وحسب الإمام جعفر الصادق "وما الدين سوى الحب"، أو حسبما ورد على لسان السيد المسيح " أحبّوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ".
   لكن الدين يستخدم ذريعة للقتل والإرهاب والتسلّط من جانب الجماعات التكفيرية والإرهابية التي تستند إلى نصوص ماضوية وتحاول توظيفها بما يخدم توجهاتها السياسية، ولهذا نقول أن ليس هناك فهم واحد وموحّد للدين، بل إن لكل مجموعة فكرية وثقافية ودينية "تدينّها" (طريقتها في التديّن) بمعنى تفسيراتها الخاصة للدين وتأويلاتها للنصوص الدينية وهذا ما ستشمله خارطة التديّن بخلفياتها المتباينة: الدين الرسمي والدين الشعبي والدين الآيديولوجي والدين القيمي والدين السياسي والدين الاجتماعي والدين العادل والدين الظالم ودين الأغنياء ودين الفقراء ودين المستغِلين ودين المستغَلين وذلك حسب القراءات المختلفة والتفسيرات المتعددة والتأويلات المتعارضة.
   وإذا كان الدين يمثل قيماً عادلة وإنسانية، لكن سلوك بعض المتدينين والعامة من ورائهم وفهمهم  الخاطئ للدين يجعل البعض يراه ظالماً أو لا إنسانياً أحياناً، ولنتأمل دعوة الأديان إلى التكافل الاجتماعي والمادي والأخذ بيد الفقير والمريض والضعيف وإلى السلام والطمأنينة والتعايش، سندرك أن ليس من الدين في شيء امتلاء الجوامع والمساجد والكنائس بالمصلين، في الوقت الذي تزدحم فيه الشوارع بالأطفال المشردين والمتسولين وتكتظ الأحياء باليتامى والأرامل، لاسيّما تلك التي شهدت الحروب والنزاعات الأهلية، وتتفشى الأمية وينتشر المرض ويستشري الجهل على نحو مريع، ويعاني الملايين من شظف العيش وشحّ المياه الصافية للشرب ونقص الكهرباء والفقر المدقع، في حين تذهب ثمرات سواعد العمل إلى جيوب حفنة من الطفيليين وتنهب موارد البلاد طولاً وعرضاً من القوى الداخلية والخارجية.
   وأيهما سيكون أسلم للدين أن نرى الأطفال مشردين أو متسولين واليتامى مقهورين والأرامل بلا مأوى والمجتمع يعاني من الأمراض وتتفاقم الأمية ويستشري الفقر وينعدم العدل ويسري الظلم وتختفي المساواة أم أن تكون المساجد مليئة بإحياء طقوس وشعائر ليست جميعها من صلب الدين؟ بل أن بعضها يشوّه جوهر الدين بما فيها ما أُدخل عليه من  ترّهات وممارسات تلوثت بها بعض الأديان والمذاهب .
   لقد جرى استغلال ملايين البشر باسم الدين واستلبت حقوقهم الأساسية، في حين أن الدين رسالة وأمانة هدفهما إنساني قبل كل اعتبار.    وهكذا ترى من يشن "الحرب باسم الله" مكفّراً الآخرين، مبرّراً أنواع العنف والإرهاب، انطلاقاً من أفكار التعصّب والتطرّف أو بسبب القراءة المغلوطة للنصوص الدينية ومحاولة تطبيق بعضها وكأنها تعليمات سرمدية، في حين أنها خاضعة لسياقها التاريخي، وقيلت بعضها لمناسبة محدّدة ينتهي مفعولها بانتهاء تلك المناسبة أو الحدث.
   وقد كان مثل هذا الجدل قديماً في الإسلام وفي القراءات المختلفة، فحسب المعتزلة وهي فرقة إسلامية (كلامية) ظهرت منذ بداية القرن الثاني الهجري في البصرة (أواخر العهد الأموي وازدهرت في العصر العباسي) تركت بصمتها في تاريخ الصراع الديني، ومن أبرز رموزها عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والحسن البصري والزمخشري والجاحظ والقاضي عبد الجبار دون أن ننسى أن الخليفة المأمون كان منهم وغيرهم، فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقيدتهم وقدموه على النقل وقالوا بالفكر قبل السمع . وقد رفضوا الأحاديث التي لا يقرّها العقل، بل إن الطريق إلى الله لديهم يمرّ عبر العقل حتى لو لم يأت الشرع على ذلك، وإذا ما تعارض أي نص مع العقل قدّموا العقل على أصل النص، فالأصل هو العقل ولا يتقدم الفرع على الأصل ، وبهذا المعنى يصبح العقل آمراً، بل هو الحاكم للنص.
   لكن الدين لدى البعض يهمل الجوهر ويتمسّك بالمظهر، حين يتشبث بحزمة الطقوس والشعائر والممارسات، حيث يُختزل:  إلى الحلال والحرام والكفر والإيمان والحق والباطل والنجس والطاهر، وليس ذلك سوى الصورة الشكلية والمظهر الخارجي للدين، في حين أن جوهره يمثل قيماً إنسانية للمساواة والعدل والإخاء والسلام والتنوّع والاختلاف، وحسب جلال الدين الرومي: إنك رأيت الصورة ولكنك غفلت عن المعنى.
   وثمة فوراق كبيرة بين الدين الذي هو منظومة قيمية إنسانية وبين التديّن الذي هو ممارسات وعادات وبعضها أقرب إلى ميثولوجيات وخرافات تشترك فيها الكثير من الأديان ، مثلما هناك فوارق بين القيم ومن يدعو إلى الالتزام بها، وأحياناً يقف هو بالضد منها سرّاً أو علناً وتحت ذرائع مختلفة وطبقاً لقراءات مختلفة، بعضها يعود إلى الماضي بحجة التمسّك بما جاء به السلف وبعضها الأخرى لحماية مصالحه، سواء كان في الحكم أم في خارجه، وأحياناً أخرى مجاملة للجمهور أو للعامة حتى وإن كان بعض علماء الدين أو ما يطلق عليهم مجازاً "رجال الدين" غير مؤمنين بها، لكنهم يضطرون إلى مجاراة العامة وعدم خدش ما استقر في أذهانهم باعتباره طقوساً دينية أو من حيثيات الدين، وهي ليست كذلك.
   لذلك أقول إن العلاقة مركّبة ومزدوجة ومتناقضة أحياناً بالحديث عن الإصلاح الديني، خصوصاً في ظل مفاهيم الحداثة ونقض القديم والتقليدي وغير الصالح لعصرنا، وكذلك إطلاق حرية التفكير وحرية العقل في إطار التقليل من سلطات المقدس ، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكن استعادته أو الغرق فيه، مثلما سيصبح الحاضر ماضياً وقديماً، ذلك أن التغيير سنّة مطلقة من سنن الحياة وما عداها نسبي.
   وإذا تأكدت هذه الفرضية فما علينا سوى النظر إلى الفكر الديني لتخليصه من كل ما يحول دون تقدّمه وتطوّره والسبيل إلى ذلك بالنقد والمراجعة والتصحيح والتصويب بما يتفق مع العقل وسمة العصر وروحه بعيداً عن إطار التقليد والمحاكاة للماضي، فحسب آلن تورين: الحداثة تحتاج إلى عقلانية وإلى انفجار معرفي حيث يصبح التركيز على العقل والعلم، أمران ضروريان ويقتضي ذلك إزالة التعارض بين الدين وبين العقل والعلم.
   وحاولت في كتابي " الإمام الحسني البغدادي - مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن" تناول هذه المسألة من ثلاث زوايا أحدها أكاديمي واجتماعي وثانيها فكري وثقافي وثالثها نقدي واستشرافي. ولعل هذه الزوايا التي تتعلّق بالفكر الديني وما هو سائد في أذهان العامة والنخبة بشكل خاص تحتاج إلى وقفة مراجعة وكان المفكر السوري صادق جلال العظم قد تصدّى إلى بعضها قبل أكثر من 4 عقود من الزمان على نحو اعتراضي جرى بعد هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967. كما جاء في  مؤلفه الأول في حينها " نقد الفكر الديني" الذي أثار وقتها ضجة، ولكنه فتح حواراً صاخباً وهادئاً في الآن ذاته وكان ضرورياً إزاء الكثير من القضايا المسكوت عنها وظلّ بعضها راكداً لعقود أو حتى لقرون من الزمان، خصوصاً لما تثيره من حساسية من التيارات الإسلامية بمختلف مدارسها السلفية منها والتوفيقية والمتشددة والمعتدلة.
   ويتعلق الأمر بمسألتين أساسيتين أولهما- إصلاح الدين من داخله، والثانية إصلاح الدين من خارجه، طبقاً لمعطيات العقل والعلم، بمعنى من المعاني إصلاح الحقل الديني ككل وإصلاح الحقل السياسي في الآن ذاته، إذْ لا يمكن إصلاح أحدهما إلّا بإصلاح الآخر للعلاقة العضوية بينهما.
   ولعلّ ذلك يواجه تحديين أساسيين أولهما - ما هو الهدف من الإصلاح وحدوده؟ وثانيهما ما هي الوسائل الناجعة التي يمكن الركون إليها لتحقيق ذلك، خصوصاً برفع التابوات والمحرّمات، باستثناء ما يتعلق بثوابت الدين وقيمه الإنسانية؟وسبق للإمام علي أن قال : لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم، وكان إقرار الإمام الشافعي بحق الآخر متقدماً حين قال " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب" بمعنى الاحتكام للعقل وإعطائه فسحة التفكير والاجتهاد.
   لكن ثمة كوابح من داخل الفكر الديني ومن خارجه  تحول دون تجديده منها: غياب الإرادة الموحدة وعدم توفّر القناعة لدى الكثير من المعنيين وانخفاض درجة الوعي لدى غالبيتهم والخشية من الانفتاح على الآخر، ناهيك عن تعارض المصالح والامتيازات التي قد يسببها الإقدام على عمل من هذا النوع قد يؤدي إلى خسارة محتملة، وحتى لو توفّرت قناعة أحياناً، فثمة عدم جرأة في اتخاذ قرار من هذا النوع للمضي في طريق التجديد، لاسيّما حين يكون العامة قد استقروا على دين السلف وبعض طقوسه وإن لم تكن من أصل الدين.
   أقول إذا ما توفرت عناصر التجديد فيمكن للدين أن يلعب دوراً إيجابياً كبيراً في حياة الناس والسلم الاجتماعي والتعايش المجتمعي وفي مقاومة العنف والإرهاب، وبث قيم المساواة والعدل والسلام والتسامح واللّاعنف، وتلك أقرب إلى الفرائض الإنسانية.

س 6- هل تعتبر الحريات الفردية والمساواة في تونس مسألة فقهية أم مسألة حقوقية؟

ج 6- تعتبر الحريّات جزءًا لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان الكونية، وهناك بعد حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف أربع حقوق أساسية أولها- حق التعبير بالوسائل المعروفة بما فيها الكلام والكتابة والتجمع والتظاهر والرأي، وثانيها- حق الاعتقاد، بحيث لا يمكن فرض اعتقاد على الإنسان أو نزع معتقده بالقوة، وسيكون ذلك تعسفاً وانتهاكاً لحقه وحريته في الاختيار، وثالثها - الحق في التنظيم، والمقصود بذلك السياسي والحزبي والنقابي والاجتماعي، أي حق الأفراد حسب قناعاتهم الانضواء تحت تنظيم يعبّر عنهم ويمثل إرادتهم الموحّدة والحرّة، ورابعها- الحق في المشاركة في الحياة العامة وفي تولي الوظائف العليا دون تمييز وفي إطار من المساواة.
   وتنحو العديد من البلدان المتقدّمة للالتزام بمساواة المرأة بالرجل بالقانون، لاسيّما بالاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عن الأمم المتحدة العام 1979 والمعروفة باسم "سيداو" وقد كانت تونس سبّاقة عربياً على هذا الصعيد، فمنذ العام 1956 كما تعلمون كانت المرأة تتقدم لاحتلال موقعها الطبيعي في ظل قانون وفّر لها الحماية القانونية والمساواة مع الرجل، وهو أمر يُحسب لنظام الرئيس بورقيبة، وما الحديث عن قانون جديد لمساواة المرأة بالرجل إلّا امتداد طبيعي لتطوّر زاد على 6 عقود من الزمان، سواء ما يتعلق بالزواج من غير المسلم أو يتعلّق ببعض الحقوق.
   وكان العراق منذ العام 1959 قد سنّ قانوناً للأحوال الشخصية ساوى فيه بين المرأة والرجل بما فيها في الإرث، واشترط  أن يكون الزواج مدنياً وأمام المحكمة وإلّا لا يعترف فيه ويتعرّض من يقدم عليه لعقوبات شديدة ضده.
   كما حصل تقدم بشأن حقوق المرأة في اليمن الجنوبية العام 1974 وشهدت البلدان التي ضمنت حقوق المرأة تقدّماً كبيراً على الصُعد المختلفة ، وحين انتكست هذه الحقوق أو جرى النكوص عن بعض هذه القوانين تراجعت هذه البلدان وشهدت نعرات تعصبّية ومتطرّفة، صاحبها عنف وإرهاب استهدف المرأة وحقوقها بالدرجة الأولى، إضافة إلى المجموعات الثقافية، وخصوصاً الدينية، ولاسيّما المسيحيين الذين تعرضوا إلى حملة منظمة من الجماعات الإرهابية وطالتهم موجة العنف بالصميم، سواء في العراق أم في سوريا أم في مصر، واستهدافاتهم المستمرة في لبنان. وكنت قد عالجت هذا الملف في كتاب صدر لي بعنوان " أغصان الكرمة - المسيحيون العرب" لذلك أقول إن مسألة الحريات والمساواة هي مسألة حقوقية وإنسانية عامة وشاملة  وهي مسألة جوهرية إذا أردنا التوجه صوب التحوّل الديمقراطي السلمي المدني، والقطع مع العنف.

س 7- ما هو دور النخبة في بناء المشروع التحديثي والدفاع عن السيادة؟

ج 7- النخب الحاكمة وغير الحاكمة، في السلطة وخارجها تتحمّل مسؤولية مهمة على هذا الصعيد، سواء كانت سياسية أم ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية، ويقع على عاتق الطبقة الوسطى إنجاز عملية الانتقال والتحوّل، ولاسيّما نبذ العنف وعدم استخدام السلاح وسيلة لحلّ الخلافات واللجوء إلى الحوار والتفاهم للتوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف وبالطبع بتأكيد حكم القانون.
   ويقع على منظمات المجتمع المدني مسؤولية كبيرة في هذه المرحلة بالذات، خصوصاً الرصد والمراقبة والنقد، وذلك في إطار المشاركة في اتخاذ القرار والمساهمة في عملية التنمية  وعليها أن تتحوّل إلى "قوة اقتراح" للقوانين والأنظمة واللوائح، وتتقدّم إلى الحكومات باعتبارها شريكةً ومكمّلةً لها، سواء باتخاذ القرار أم في تنفيذه، ولا تكتفي "بقوة الاحتجاج" فحسب.
   كما عليها أن تضع مسافة بينها وبين العمل السياسي والصراع الآيديولوجي، وتتمتّع باستقلالية حقيقية، بحيث لا تنحاز إلى المعارضات ولا تكون جزءًا من السلطات، وعليها التعامل بموضوعية في كل ما يتعلق بالحقوق والحرّيات والدفاع عن المصالح العامة والعليا وعن مصالح أعضائها ومنتسبيها، كما عليها ألاّ تنخرط في المشاريع الدولية للقوى والمؤسسات الخارجية، تحت ضغط الحاجة إلى التمويل، فتصبح جزءًا من أجنداتها، وبالتالي يمكن التأثير عليها وتُضيع هويتها أو يذوب لونها في خضم اختلاط الألوان وتشوه الصور، مثلما على الحكومات الترخيص لها للعمل القانوني والشرعي وتقديم الدعم لها والمساعدة المادية والمعنوية لأداء مهمتها، لأنها جزء أساس وركن فاعل لا يمكن للدولة أن تحقق أهدافها التنموية بدونها.
   وعلى النخب أن تعي الدور الذي يمكن أن تقوم به من خلال الإعلام والتربية ، خصوصاً بالترويج للقيم الإنسانية، الأمر الذي يحتاج إلى تعميق الوعي ونشر المعرفة، لاسيّما بإعادة النظر بالمناهج التربوية والتعليمية وتنقيتها من كل ما تعارض مع قيم حقوق الإنسان.
   ولعلّ أي مشروع حداثي لا بدّ أن يقوم على العقلانية والمدنية والحريّة، وتلك أسس قامت عليها الفكرة الليبرالية في أوروبا وفي عصر التنوير، لاسيّما بعد قيام " الدولة - الأمة" استناداً إلى فلسفة القانون الطبيعي، وعلى المستوى الاقتصادي اعتماداً على الإعلاء من حريّة السوق والحريّات الاقتصادية بشكل عام حيث روّجت لأفكار آدم سميث " دعه يعمل .. دعه يمرّ" ، أي حرية العمل والانتاج وحرية تصريف البضائع، أما على المستوى السياسي فقد قامت على إعلاء شأن الحرية بشكل عام والحريات المدنية والسياسية بشكل خاص.   وباختصار  تعتبر الفكرة الليبرالية من حيث الجوهر أن الحرية والفردانية هما الباعث والهدف من حياة الإنسان.
   وقد أخطأ بعض الليبراليين العرب "الجدد" ظنّاً  منهم أو تواطؤاً استمرأوه حين برّروا باسم "الليبرالية" وتحت حجة التخلّص من الاستبداد، المشروع الخارجي الإمبراطوري النيوليبرالي الذي يريد فرض الهيمنة  والاستتباع على الشعوب، بل استقووا به بذريعة أن التغيير من الداخل أمر غير ممكن في ظلّ تعنّت الأنظمة العربية وعسفها، وضعف الحركة الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني، وحاولوا تمرير ذلك في ظل ثقافة حقوقية متدنية وانعدام أو عدم فاعلية دعوات الحوار السلمي والتسامح والقبول بالآخر والإقرار بالتعددية والتنوّع وحق الشراكة والمشاركة، فضلاً عن استمرار القمع من جانب الأنظمة.
   وليس من مقارنة بين ظالم وظالم وبين اضطهاد واضطهاد ، فلا احتلال الخارج أفضل من طغيان الداخل، أو بالعكس، ولا فرق بين  الغزاة والطغاة، وبينهما وبين الغلاة ، خصوصاً " التكفيريين" الذين ضجّت بهم الساحة السياسية، في ظلّ الفوضى العارمة، حين تعرّضت الدولة العربية للتصدّع والتي لا تزال مهدّدة بوحدتها ومستقبلها في العديد من البلدان العربية.

س8 -  كيف تستشرف حال الخريطة السياسية العربية؟
 ج8- ليس من باب نظرية المؤامرة القول إن هناك حياكة لمستقبل المنطقة بدأت منذ عقود من الزمان، لعلّ أبرز وأشدّ ملامحها خطورة هو قيام "إسرائيل" في 15 أيار/مايو العام 1948 وذلك بعد اتفاقية سايكس – بيكو 1916 و وعد بلفور 1917، حيث تم البدء باحتلال الأرض واحتلال العمل واحتلال السوق تمهيداً للاحتلال الفعلي والاستمرار في ذلك باحتلال كامل فلسطين بعد عدوان 5 حزيران /يونيو (يونيو)1967، والتوسّع في الأراضي العربية، ولا تزال الضفة الغربية وقطاع غزة تحت هيمنة الاحتلال وكذلك الجولان السورية وجزء من الأراضي اللبنانية.
   لكن الخطر الآخر أو الوجه الثاني لعملية التفتيت والتقسيم الخارجية، التي راجت منذ مشروع برنارد لويس في العام 1979 ومشروع ايغال ألون العام 1982، هو الاحتراب الداخلي بسبب سياسات الاستبداد وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب الحوار والاعتراف بالآخر وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية وصعود الهوّيات الفرعية بسبب الإجحاف الذي لحقها والاضطهاد الذي تعرضت له ونهج الاستعلاء والفوقية والإقصاء والتهميش، ومن جهة أخرى ردود الفعل وضيق الأفق والانعزالية التي صاحبتها.
   وباختصار فإن غياب أو شح الحرّيات وعدم اعتماد مبادئ المواطنة الكاملة والمساواة التامة وسياسات التمييز، يضاف إليها أوضاع الفقر والتخلف والأمية، دفع العديد من بلدان المنطقة إلى الاحتراب الداخلي، خصوصاً حين تخلّت أو ضعفت الدولة في تلبية المهمات الأساسية من حماية أرواح وممتلكات المواطنين وحماية الأمن والنظام العام للجميع وفي نوع من المساواة أمام القانون، وقد وفّر ذلك أرضية للتفتّت الذي إذا ما استمر ولاسيّما في أوضاع الانقسامات الداخلية واستهداف فئات واسعة من السكان لأسباب دينية (مسيحيين ، إيزيديين، صابئة...) أو إثنية أكراد ، تركمان،  وأمازيغ ومجموعات ثقافية أخرى أو "مذهبية"  مسلمون: شيعة وسنّة أو " العروبة"، في بعض البلدان التي حكمت فيها أحزاب قومية عربية، فإن النتائج ستكون وخيمة، حيث يمكن أن تتحوّل المنطقة إلى "كانتونات" و"دوقيات" و"فيدراليات" لا يجمعها جامع، وجعل الجميع  يفكّر بمنطق "الأقلية".
   وحينها ستكون دولة " إسرائيل" التي تضم " اليهود" " أقلية"  متميّزة ومتقدمة على "الأقليات" الأخرى، علمياً وتكنولوجياً وثقافياً، خصوصاً في ظلّ الدعم الخارجي الأمريكي والغربي لها. وهذا هو بالذات مشروع  برنارد لويس الذي عبّر عنه كيسنجر في العام 1975 بقوله: علينا أن نقيم إمارة وراء كل بئر نفط، وحين ذلك يمكن حكم  دول المنطقة والاستيلاء على ث

256
المنبر الحر / مأزق الـ «بريكست»
« في: 21:55 22/03/2019  »
مأزق الـ «بريكست»

 
عبد الحسين شعبان
انتقلت الكرة من ملعب لندن إلى ملعب بروكسل بعد منح البرلمان البريطاني موافقته لحكومة تيريزا ماي 14 مارس /آذار الجاري على تأجيل موعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أن كان مقرراً حسم الموقف يوم 29 مارس /آذار الجاري. ويتوقع أن تعيد رئيسة الوزراء تيريزا ماي طرح خطتها ل «بريكست» للتصويت أمام النواب للمرّة الثالثة. وكانت قد حذّرت من التأجيل الطويل الأمد (21 شهراً) كما يطالب بعض النواب. وحسب الآلية القانونية التي تؤطر الانسحاب، فهي تتمثل بالمادة 50 من اتفاقية لشبونة التي تتطلب موافقة دول الاتحاد بالإجماع (27 دولة).
ويأتي هذا الانسحاب على خلفية الاستفتاء الذي جرى يوم 23 يونيو/حزيران 2016، حيث صوّت 51.9% لصالحه، وقد وافق قادة الاتحاد الأوروبي على تنظيم اتفاقية «بريكست»، وذلك في اجتماعهم في بروكسل (بلجيكا) في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لكن الاختلاف بين الحكومة ومجلس العموم أدخل العلاقة البريطانية - الأوروبية في مأزق جديد.
وكانت غالبية أعضاء مجلس العموم البريطاني قد رفضت اتفاق ماي (للمرّة الثانية) بشأن تنظيم «بريكست». وعلى الرغم من قرار التأجيل، فإنها اعتبرته لن يحلّ الأزمة، بل يزيد من تفاقمها، وعبّرت عن مخاوفها إزاء الانسحاب دون تنظيم اتفاق خلال زيارتها إلى شرق إنجلترا بقولها: ادعموه (أي الاتفاق) وسوف تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي أو ارفضوه ولن يعلم أحد ما الذي سيحدث؟ وهو الأمر الذي ظلّت تردّده طيلة العام الماضي كلّه. كما أنها حاولت في ستراسبورغ انتزاع تنازلات جديدة من قادة الاتحاد الأوروبي لتعزيز موقفها ولكن دون جدوى، باستثناء التعهدات في مسألة الحدود مع جمهورية إيرلندا. ويبرّر أصحاب قرار القفز من سفينة الاتحاد الأوروبي بأن تأثير بريطانيا سيعود بقوة في المستوى العالمي بعد فشل المعالجات التي أدارها الاتحاد الأوروبي لنحو عقد ونيّف من الزمان، خصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي تعاظمت في العام 2008 وتركت أثرها الثقيل في بريطانيا، وما زالت تبعاتها ماثلة حتى الآن، بارتفاع معدلات البطالة وسعر الفائدة والتضخم الاقتصادي، ناهيك عن مشاكل الأمن واللاجئين ومحاربة الإرهاب.
وقد وضعت تلك السياسات العديد من البلدان والشعوب الأوروبية أمام اختيارات قاسية، حيث لم تتمكّن الدول الصغيرة أو «أسواق الأطراف» من تحقيق معدلات نمو اقتصادي، وهو ما دفع سكان العديد من هذه البلدان للبحث عن عمل في البلدان المتقدمة مثل بريطانيا بسبب برامج الضمان الاجتماعي، وهكذا شهدت بلدان مثل بولونيا وهنغاريا واليونان وقبرص وغيرها انتقالاً واسعاً إلى بريطانيا، في حين ظلّت سويسرا خارج دائرة الاتحاد، لكنها امتلكت اقتصاداً أفضل ونمواً بمعدلات أعلى وبطالة أقل وعملة قوية، فما الحاجة إذاً لانضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي؟ وما الفائدة التي ستجنيها؟
وإذا كان دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتوقّعون تحسّن أوضاعها على المستويين العام والفردي، ولاسيّما على المدى الطويل، فإن هناك تقديرات عكسية متشائمة باحتمال سوء الأوضاع الاقتصادية وتردّي الحالة المعيشية خلال الخمسة عشر عاماً القادمة مقارنة بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، وحسب جريدة «الفايننشال تايمز» فإنه منذ الاستفتاء في يونيو/حزيران عام 2016 ولغاية ديسمبر/كانون الأول عام 2017، فإن الدخل القومي البريطاني انخفض بما يعادل 350 مليون جنيه استرليني في الأسبوع، خصوصاً بانخفاض ثقة المستهلك وتراجع الإنفاق إلى أدنى مستوى.
وسيبقى الجدل والنقاش مفتوحين، سواء اتّخذ القرار النهائي أم لم يتّخذ، وسواء حصل استفتاء جديد أم لم يحصل، فاللوحة لا تزال معقدة وغامضة وملتبسة والتكهنات بشأنها متضاربة ومتعاكسة، والزمن كفيل بتبيان أي الخيارات كان صائباً وأيها كان خاطئاً؟ وهو ما ستقرّره السياسة اللاحقة، ولاسيّما صناديق الاقتراع التي ستعكس مدى قناعة البريطانيين من عدمها.
وقدّم الأوروبيون بعض التنازلات لإقناع أعضاء مجلس العموم البريطاني للمصادقة على الاتفاق المبرم بين بروكسل ولندن، وأبدوا استعدادهم لإضفاء طابع ملزم عليه، لاسيّما ما يتعلق بتفادي الحساسية بشأن جمهورية إيرلندا (العضو في الاتحاد)، ولعل من ضمن أهدافهم الحفاظ على اتفاق السلام بين بريطانيا وإيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية الموقع عام 1998 والمعروف باسم «اتفاق الجمعة العظيمة» أو اتفاق بلفاست، إضافة إلى التبعات الاقتصادية والمالية، على كل بلد وعلى الاتحاد ككل، لاسيّما وقد أخذت الثقة تتزعزع بقدرته على الاستمرار بالحيوية والطموح الذي بدأه. وقد اعتبر بعض أعضاء مجلس العموم مثل ذلك «العرض» «فخّاً» يُبقي بريطانيا ضمن الاتحاد على الرغم من انسحابها، ولذلك طلب سقفاً زمنياً لنفاذه.
لا شكّ في أن ماي وأنصارها وخصومها والأطراف جميعاً في لحظة أزمة، بل إنهم في مأزق كبير، فإن ما حصل سيعرّض سفينة الاتحاد الأوروبي لعواصف هوجاء جديدة قد تأخذها بعيداً في التخبط دون مرسى قريب، خصوصاً بعد شحوب الكثير من الآمال التي عوّلت عليها.
drhussainshaban21@gmail.com


257
اليسار والسترات الصفراء
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   مثل البرق انتشرت بسرعة خارقة حركة " السترات الصفراء" احتجاجاً على رفع أسعار الوقود المخصص للسيارات، فقد نزل أعضاؤها إلى شوارع باريس، وخصوصاً في شارع الشانزليزيه الباذخ في أناقته ورقيّه، وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر/2018 والتحق بها عشرات الآلاف من الغاضبين على سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون، وخصوصاً سياساته الضريبية على حساب الفقراء والكادحين والمحابية بشكل صارخ للأغنياء، لاسيّما أصحاب المصارف والشركات الكبرى ومصالح الرأسمالية العليا.
   وإذا كان اليسار وراء حركة الاحتجاج الشهيرة قبل ما يزيد على 50 عاماً (مايو/أيار/1968)، والتي ضمّت طيفاً واسعاً من طلبة الجامعات والشبيبة، إضافة إلى  مثقفين وأكاديميين ومفكرين وتحالفت مع الحركة النقابية والعمالية، فإن حركة "السترات الصفراء" تقف اليوم وحيدة في الميدان، وإنْ حاول اليمين واليسار التواصل معها، لكن المطالب الشعبية العامة وسوء الأوضاع الاقتصادية كانت هي الأساس في اندلاعها، وساهم التواصل الاجتماعي في تدعيم وتعميم مطالبها وإعطائها مثل هذا الزخم المعنوي، وخصوصاً استمراريتها وتحدّيها للسلطات الحاكمة، التي استخدمت جميع الوسائل لإجهاضها أو تسويفها.
   واليسار الفرنسي مثله مثل اليسار الأوروبي والعالمي، فضلاً عن اليسار العالمثالثي بكل تفريعاته يشهد معاناة كبيرة، لاسيّما بصعود اليمين الشعبوي في عدد من البلدان مثل إيطاليا وفرنسا والمجر وألمانيا والنمسا وهولندا وغيرها وفاز مؤخراً في انتخابات البرازيل والسلفادور وقاد حركة تمرّد في فنزيلا المحاصرة من جانب واشنطن منذ عقد ونصف من الزمان، كما صعد الإسلاميون في الانتخابات التي جرت في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن موجة تكفير إرهابية شغلت العالم أجمع والتي تجلّت بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على نحو ثلث أراضي كل من العراق وسوريا، الأمر الذي استوجب إقامة" تحالف دولي" لمواجهتها، دون أن ننسى تأثيراتها على أوروبا بشكل خاص والغرب بشكل عام.
   ولعلّ اليسار بشكل عام والفرنسي بشكل خاص لا ينقصه المفكرين والمثقفين، لكن انسحابه من مهماته الأساسية، لاسيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ورضوخه لآليات العولمة عمّق من أزمته المعتّقة، خصوصاً ولم يعد الاصطفاف القديم قائماً، لا بالتمثيل ولا بالتعبير عن مصالح الكادحين وحقوقهم، وهو ما دفع النظام الرأسمالي العالمي وبعد انتهاء عهد "الحرب الباردة" وانحلال النظام الاشتراكي العالمي للتغوّل على المكتسبات التي حققها العمال والفلاحين في البلدان الرأسمالية العريقة، التي لم تعد تعتبر "دولة رعاية" حقيقية، كما كان يتم الترويج له.
   وازداد الأمر تعقيداً بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية الإجرامية في الولايات المتحدة واندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في العام 2008، مما دفع أوساطاً عديدة للانحياز لصالح اليمين الفاشي والعنصري الذي رفع أكثر الشعارات رنيناً وصخباً، بما فيها الحفاظ على "الهويّة الثقافية" لشعوب البلدان الغربية في مواجهة موجة ظاهرة اللجوء والهجرة، من الجنوب إلى الشمال ومن البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية.
   وشهد العالم أجمع قوارب الموت اليومية التي نقلتها شاشات التلفاز ومعسكرات احتجاز اللاجئين اللّاإنسانية والتي لا تتوفر فيها شروط الحد الأدنى،  ناهيك عن مخالفة العديد من البلدان الغربية لالتزاماتها الدولية التي تتطلبها الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت عليها،  فبعد أوروبا جاء دور واشنطن، التي عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مواقفه الشعبوية العدائية تجاه اللاجئين من المكسيك وأثار زوبعة لم تنتهي بعد، لبناء سياج عنصري بزعم حماية الولايات المتحدة، سيّما وأن سياسته تركت توترات على العديد من مناطق العالم بما فيها منطقتنا العربية ، خصوصاً حين أعلن على نحو سافر انحيازه لـ"إسرائيل" وقام بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس خلافاً لقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية وفي مقدمتها اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 .
   ومن باب الإنصاف القول: إن عوامل موضوعية وأخرى ذاتية كانت وراء صعود اليسار العالمي، لاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، إلّا أن مثل تلك العوامل غابت أو اختفت بسبب اختلال موازين القوى، ناهيك عن "الأزمة الفكرية" التي عاشها اليسار بعد انحلال الكتلة الاشتراكية وفشل النموذج الاشتراكي العالمي ممثلاً بالموديل السوفييتي وتوابعه، ليس هذا فحسب، بل حصلت تبدّلات بنيوية على نهج اليسار ومواقفه، فلم يعد قسماً منه في ظلّ العولمة ينظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قلعة الإمبريالية الأولى، وقد تخلّى الكثير من الحركات اليسارية بما فيها في منطقتنا وفي البلاد العربية عن شعاراتها في مواجهة الامبريالية، وبعضها نقل رحيله من الولاء لموسكو إلى التطلّع لواشنطن، باعتبارها القوة العالمية الأولى المتنفّذة  في العلاقات الدولية مسقطاً عنها صفة " الدولة الأكثر رعاية" لـ"إسرائيل" التي عانت المنطقة بسببها من احتلال وعدوان وحروب أكثر من سبعة عقود من الزمان. وزاد من أزمة اليسار العربي الوضع الإقليمي والتداخلات الحاصلة فيه إيرانيّاً وتركيّاً لفرض الهيمنة والاستتباع.
   ويمكن القول إن بعض مواقف اليسار في الغرب خفّضت جناحيها لشعارات التحالف مع حركات التحرّر الوطني ودفاعها عن قضايا حق تقرير المصير للشعوب وحقوق الإنسان بشكل عام، مزدرية من يريد أن يذكّرها بتلك الأطروحات، باعتبارها تعود إلى الماضي السحيق، وأكل الدهر عليها وشرب.
   وشهد اليسار أما تخلياً عن شعاراته ضد الامبريالية أو انكفاءً وعزلة وتقوقعاً، وعاش همومه الداخلية الخاصة بكل بلد، تلك المتعلقة بالأوضاع المعاشية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ومشكلات الحكم والانتخابات والتحالفات القلقة مع قوى ظلّت متربّصة بها، ولم نشهد منذ ثلاث عقود ونيّف من الزمان احتجاجات كبرى أو مواجهات من تلك التي عرفناها في الخمسينات والستينات والسبعينات، وتدريجياً، فقد اليسار الكثير من وزنه وتوازنه، خصوصاً حيال القضايا العامة المتعلقة بالسلام ونزع السلاح والعنصرية والتضامن الأممي، ناهيك عن النكوص عن بعض القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية، لدرجة بهت لونه وتغيّر شكله ومضمونه أحياناً. والأمر لا ينحصر على الغرب وحده إنما يمتد إلى منطقتنا  وهو ما أكدته الهبّات الشعبية التي حصلت فيها وأطلق عليها "الربيع العربي"  فلم يكن دوره فاعلاً أو بمستوى المسؤولية  كما هو في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، بل إن بعض توجهاته كانت سلبية، دون أن يعني ذلك تنزيه بعض التوجهات التي رافقت اندلاعه والتي أدت إلى حرفه في منعرجات ودروب ضيقة .
   فهل سيخلي اليسار الأوروبي التقليدي مواقعه لحركة " السترات الصفراء" مثلما أخلى اليسار العربي مواقعه للإسلاميين، أم أن ثمة حسابات أخرى وإعادة نظر ومراجعة ضرورية يمكن أن تعيد له بريقه أو شيئاً منه بعد الخيبات الكثيرة؟ الأمر الذي يحتاج إلى وقفات جادة ومسؤولة وشاملة على صعيد الفكر والممارسة وقراءة المستجدات والمتغيرات على الساحة الدولية والإقليمية والداخلية على نحو متمعن واستشرافي ، بما فيها مخرجات الثورة العلمية - التقنية الرابعة، ولاسيّما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام، والطفرة الرقمية " الديجيتل".
   لقد فعل اليسار الأوروبي والعربي فعلهما في الستينات، وامتدت حركة الاحتجاج  إلى الجامعات والأوساط الطلابية والشبابية في الغرب عموماً، بل ذهبت بعيداً إلى المكسيك والبرازيل واليابان، وكانت الشعارات ترتفع " ممنوع المنع" و" نطلب المستحيل لنحصل على الممكن"، وكانت حصيلتها في فرنسا إنزال الجنرال شارل ديغول من قمة السلطة بكل ثقله التاريخي، وفي الولايات المتحدة ارتفاع حركة معارضة الحرب على الفيتنام والمطالبة بالانسحاب الأمريكي من الهند الصينية وهو ما حصل لاحقاً، فضلاً عن تفجر حركة مطالبة بالحقوق المدنية وحقوق المرأة والدفاع عن المهمشين.
   ويمكنني الإشارة إلى بعض ملامح حركة اليسار وتوجهاته الجديدة في العالم العربي في بلدين كبيرين، ففي العراق شهد أواخر العام1967 ومطلع العام 1968 حركة احتجاج طلابية عارمة وتحركاً عمّالياً هي جزء لا يتجزأ من الموجة اليسارية وخيوطها الجيفارية التي تدعو لحرب تحرير شعبية طويلة الأمد، كما شهدت مصر في فبراير (شباط) ونوفمبر (تشرين الثاني) العام  1968 حركة احتجاج ومعارضة كبرى قد تكون الأولى من نوعها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر كانت من نتائج هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، إضافة إلى انبثاق وتطور حركة المقاومة الفلسطينية في إطار توجهات وطنية ويسارية جديدة، فهل ستنجب حركة "السترات الصفراء" يساراً جديداً متجاوزاً القائم مثلما شهدت الستينات تجاوزاً للتيار اليساري التقليدي من أفكار ماركس ووجودية سارتر إلى الحركة البنيوية التفكيكية  لميشيل فوكو وجاك دريدا وماركوز وجاك لاكان وهابرماز وأضرابهم.




258
الأكراد وحوار العقلاء

د. عبد الحسين شعبان


استعدتُ وأنا أستمع إلى محاضرة البروفسور الكردي العراقي شيرزاد النجار والموسومة " الأخوّة العربية- الكردية وحوار العقلاء" عبارة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق، حين سأله أحد الطلبة عما يمكن أن يدرسه ليحظى بالموقع الذي وصل اليه ، فأجاب " التاريخ والفلسفة"، وهما القضيتان الأساسيتان اللتان كانتا حاضرتين في حديث شيرزاد النجار في "منتدى تحوّلات - مركز ألف" في بيروت وبحضور متميز ولافت لنخبة فكرية وثقافية وسياسية.

التاريخ والفلسفة اللذان اعتمد عليهما كيسنجر وهو يتقدّم الصفوف في "تروست الأدمغة" أو " مجمّع العقول" الذي ضمّ أكاديميين بارزين منذ عهد الرئيس جون كيندي الذي اغتيل في 22 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1963 أصبح له شأن كبير فارتقى من جاء منه سلّم الدبلوماسية والأمن القومي، فإضافة إلى كيسنجر كان هناك زبيغينيو بريجنسكي ومادلين أولبرايت وستيفن هادلي وكونداليزا رايس . الدعوة لحوار عقلاء تُقرأ من عنوانها حين يتعلق الأمر بالعلاقة العربية- الكردية، من منظور فلسفي وتاريخي، حيث ركّز المحاضر على المشتركات الموحِّدة والجامعة وتجنّب المختلفات المفرِّقة والمشتتة، ولاسيّما بالدعوة لحوار القيم والمفاهيم وليس حوار البارود والدم، وذلك انطلاقاً من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

ولا تستند أهمية الوعي بالتاريخ وفلسفته على استعادته ، فالماضي مضى بكل ما له وما عليه فالسلفيون وحدهم يعيشون في الماضي ، لكن استحضار التاريخ غير استعادته والهدف منه هو الاستفادة من دروسه وعبره، بما يؤدي إلى تجاوز الأخطاء والثغرات والنواقص التي رافقته وهو ما ينطبق على العلاقة العربية- الكردية، خصوصاً وأن الأكراد تعرّضوا في التاريخ المعاصر ومنذ قيام الدولة العراقية، إذا أردنا الحديث عن العراق، إلى اضطهاد وتمييز مزمن ومعتّق، دون نسيان أخطاء قيادات الحركة الكردية وتأثيرات القوى الخارجية الإقليمية والدولية، التي ظلّت وما تزال تعمل لإضعاف الطرفين ولتعزيز نفوذها ومواقعها، وخصوصاً القوى الكبرى التي كثيراً ما أجّجت الحروب والصراعات وعقّدت المشاكل والاختلافات، إرضاء لمصالحها الأنانية الضيقة، بل قدّمت وعوداً لهذا الطرف أو ذاك ونكثت فيها.

وقد أثبتت التجربة التاريخية فشل جميع الحكومات الدكتاتورية والشوفينية والاستبدادية في حلّ القضية الكردية وتلبية مطامح الشعب الكردي في التعبير عن كينونته وهويته بما ينسجم مع التطور الكوني، مثلما لم تنجح الحركات الكردية في تحقيق طموحاتها ومطالبها عبر الحلول العسكرية والعنفية، وهو ما يتطلب البحث، بل والاستثمار في الحوار السلمي المدني وصولاً للمشتركات التي ترضي الطرفين، بالاعتراف المتبادل بحقوقهما وتقرير مصيرهما في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وعلى أساس المساواة والشراكة والمواطنة المتكافئة. وأكّدت التجربة أيضاً إن العيش المشترك ومعاً وعلى أساس الإقرار بالتنوّع والتعددية هو السبيل الكفيل لوصول الحوار إلى النتائج المطلوبة، وهو ما ينبغي أن يكون حوار عقلاء خارج دائرة الاصطفافات المسبقة، بل هدفه التوصل إلى ما هو مشترك ونافع ، لاسيّما بتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق وباحترام الهويّات الخصوصية في إطار الهويّة العامة الجامعة، الأمر الذي يقتضي إرساء ذلك بصياغات دستورية وقانونية انطلاقاً من القيم المشتركة التي تخص شعوب وبلدان المنطقة في التنمية والتحرّر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتوحيد كياناتها، فضلاً عن انبعاثها الحضاري، التي هي رافعات لأي مشروع نهضوي.

وإذا كانت الدولة العراقية قد عانت من ضعف الهياكل والتراكيب الحكومية وشح الحريات منذ تأسيسها في العام 1921 فإنها عانت من مشكلة كردية تفاقمت مع مرور الأيام بثورات وتمردات أهمها الثورة الكردية المعاصرة بقيادة الملّا مصطفى البارزاني. وإذا كان شعار " على صخرة الأخوة العربية- الكردية تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية"، قد جسّد تطلعات اليسار العراقي منذ الثلاثينات فأصبح في الستينات "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" شعاراً لعدد غير قليل من أطراف الحركة الوطنية العراقية بما فيها الحركة الكردية.

وقد كانت أول إشارة للاعتراف بشراكة العرب والأكراد في العراق في دستور العام 1958 التي تعززت بصدور بيان 11 مارس/آذار/ 1970 وإصدار قانون الحكم الذاتي العام 1974 لكن ما حصل من تداخلات خارجية وطغيان داخلي، ناهيك عن ظروف موضوعية ممثلة بالحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 ومن ثم احتلال العراق في العام 2003 أوجد صراعات وتشظّيات جديدة في العلاقات كان آخرها التوترات التي حصلت عشية وخلال حملة الاستفتاء الكردي في 25 سبتمبر/ أيلول/2017 وما صاحبها وأعقبها من ردود فعل، الأمر الذي يطرح مجدداً ضرورة استحضار عِبَر التاريخ ودروسه وفلسفته كي يكون الحوار عقلانياً ويديره عقلاء. لا ينظر كيسنجر إلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل من أن التاريخ ماكر ومخادع، إلّا من زاوية البحث في الأخطاء لعدم تكرارها، وإلّا فالتاريخ لا يعيد نفسه، بل يُنظر إليه ليُستفاد منه بالقياس، وتلك هي فلسفته الأساسية، وهي فلسفة وتاريخ العلاقة العربية - الكردية. وبالتاريخ والفلسفة يمكن التسلح لمواجهة الحاضر والمستقبل، وتلك كانت خلاصة وجهة نظر المفكر الكردي.

259
الدكتور عبد الحسين شعبان:

أتحفظ على مصطلح "المكوّنات"
 فالدولة هي اتحاد مواطنين أحرار
لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات...



أجرى اللقاء: بهاء الدين جلال
حوار خاص لمجلة كـــــولان

لا يمكن للحلول العسكرية والأمنية وحدها القضاء على
الإرهاب طالما تبقى الأسباب التي أدّت إلى نشوئه قائمة

الدكتور عبد الحسين شعبان مفكر وباحث عربي من العراق، له عدد من الكتب في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والأدب والثقافة والنقد. أستاذ القانون الدولي وحالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان في جامعة أونور(بيروت) وهو الصديق المقرب للشعب الكوردي و كان له الدور الرئيس في الدفاع عن حق التقرير المصير للكورد في زمن المعارضة و بعدها، إلتقته مجلة كولان الأسبوعية الكوردية و وجهت إليه أسئلة تتعلق بالتحولات التي تحدث الآن في الشرق الأوسط و كيفية القضاء على الفكر المتطرف و المتشدد الداعشي و كذلك مسألة الصراع الإيراني- الأمريكي وأمور أخرى تتعلق بالعلاقات بين إقليم كوردستان و المركز و حل المشكلات العالقة بينهما وفق الدستور، حيث أجاب عنها مشكورا:

•   س1   - المراقبون والمفكرون بانتظار حدوث تحولات كبيرة في الشرق الأوسط، وفي رأي بعض المراقبين قد تؤدي تلك التحولات إلى نشوب حرب عسكرية، وكمفكر سياسي كيف تقرأ الأوضاع الحالية  في الشرق الأوسط وما هي توقعاتكم لتلك التحولات؟

ج1-  أعتقد أن كل الاحتمالات مفتوحة، فالسلام لا يزال " بارداً" ومفقوداً، وحروب الدم ما تزال ساخنة و"متدفقة" في الشرق الأوسط ولم تنته بعد، سواء الخارجية منها أو الداخلية، وأعتقد أن البوابة الرئيسية لإحلال سلام عادل وشامل في المنطقة وإطفاء بؤر التوتر  يتطلّب أولاً وقبل كل شيء تحقيق تسوية للقضية الفلسطينية وأساسها ومرتكزها الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وإقامة الدولة المستقلة القادرة على الحياة.
   أما مشاكل المنطقة الأخرى والتي تفاقمت خلال العقود الأربعة الماضية، فهي ليست مستعصية وإنما تحتاج إلى عمل جاد ومثابر للتوصل إلى معالجات وحلول وتفاهمات بشأنها، سواء تلك التي تتعلّق بالتحدّيات الإقليمية أو مشاكل الحدود بما فيها بعض الإشكاليات التاريخية، إذا ما استطعنا تحكيم لغة العقل والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
   وبخصوص النزاعات الداخلية، الدينية والمذهبية والإثنية وغيرها، فيمكن أن تحل في إطار كل دولة وعلى أساس عقد اجتماعي جديد بأفق سياسي يعترف بالآخر ويقرّ بالتنوّع والتعددية في إطار قانوني وبطريقة سلمية تعتمد المواطنة المتساوية منطلقاً لتلبية الحقوق والحريات.
   وأعتقد أن معركة التنمية الشاملة والمستدامة وتحقيق الإصلاحات الداخلية، لاسيّما إعادة الإعمار والبناء ودخول عالم الحداثة والاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا ستكون الأعقد والأصعب، والأمر ينطبق بصورة خاصة على العراق وسوريا واليمن وليبيا، حيث تم تدمير البنية التحية والهياكل الإرتكازية والمرافق الحيوية، ناهيك عن تمزيق النسيج الاجتماعي وإثارة الضغائن والأحقاد الدينية والمذهبية والقومية، وبث الكراهية وروح الانتقام.
   ويحتاج الأمر إلى جهد مكثّف وخطة استراتيجية طويلة الأمد للقضاء على عوامل الانقسام والتفتت والتشظي التي عانت منها هذه البلدان، والتي سهّلت للقوى الإرهابية أن تجد البيئة المناسبة للانتشار، كما تتطلب الخطة مواجهة الفكر الداعشي وتفكيك الخلايا النائمة "والذئاب المنفردة" ، إضافة إلى تجفيف منابعه المالية وإصلاح البيئة الاجتماعية الحاضنة له وإعادة حرث التربة من جديد  ببذر قيم التسامح والسلام واللّاعنف، إضافة إلى روح التضامن والتآخي والمحبة، ولن يتم ذلك إلّا بعمل متعدد الجوانب على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني والتربوي والديني والنفسي، وبمراجعة نقدية من جميع القوى والتيارات باستشراف المستقبل.
    وقد أثبت الكثير من التجارب إن الحلول العسكرية والأمنية وحدها لا يمكنها القضاء على الإرهاب الذي يمكن أن يفقس بيضه طالما تبقى الأسباب التي أدّت إلى نشوئه وتطوره قائمة، بل تغذّي إعادة ظهوره، كلّما سنحت الفرصة لذلك.
   ما يحتاجه العراق وسوريا واليمن وليبيا والبلدان التي عانت من انهيار مؤسسات الدولة وانفلات الإرهاب والفوضى والفساد المالي والإداري هو إحكام سيطرة الدولة وإعادة هيبتها وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية  والطائفية والعشائرية والسياسية والحزبية والجهوية في إطار "حكم القانون"، مثلما تحتاج هذه البلدان إلى السلام المجتمعي  والمصالحات الضرورية والاستقرار، لكي تسير في درب التنمية الشاملة والمستدامة، التي لا يمكن أن تتحقق في ظلّ الاحترابات الداخلية وغياب السلام المجتمعي.
•   س2 - في هذه المنطقة المعقدة  والمشحونة برزت جبهتان، الأولى هي جبهة شيعية بقيادة إيران، ومن المعلوم أن إيران قد أنشأت دائرة نفوذ واسعة و التي تمتد من مضيق هرمز إلى باب المندب، الجبهة الثانية وهي السنية بقيادة المملكة العربية السعودية، والأهم من ذلك تعلن الولايات المتحدة الأمريكية أنها حليفة للسنة، أما روسيا تعلن أنها حليفة للشيعة، كيف ترى نهاية الصراع الشيعي – السني في الشرق الأوسط؟ برأيكم  ألا يؤدي هذا الصراع إلى نشوب حرب باردة أخرى طويلة المدى في الشرق الأوسط؟

ج2-  اندلع الصراع المذهبي في المنطقة بُعيد الثورة الإيرانية العام 1979 عبر ثلاث مقاربات مختلفة لكنها جميعها أدّت إلى إذكاء ناره وتأجيجه، كيما يصبح بؤرة مستديمة جديدة بعد الصراع العربي- الإسرائيلي :
   المقاربة الأولى - مسعى إيراني لتصدير الثورة وقد اتخذ من الشعارات الثورية منطلقاً له بإعلان "الموت لأمريكا" و"الهتاف ضد الشيطان الأكبر"، لكنه في واقع الأمر كان ذا محتوى سياسي وآيديولوجي وقومي حتى وإن كانت مستلزمات الإخراج تتطلب إضفاء مسحة دينية أو مذهبية شيعية عليه.
   المقاربة الثانية- مسعى عربي وبشكل خاص سعودي وخليجي وبرأس حربة عراقية حينها، للجم التمدّد الإيراني، خصوصاً وقد شعر العديد من دول الخليج بخوف من النفوذ الإيراني وخشية من التأثير الداخلي، لاسيّما وإن إيران ما تزال تحتل الجزر العربية الثلاث " أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى" منذ العام 1971 وتبسط السيادة عليها ، وترفض إعادتها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.
    والأكثر من ذلك فإن إعلاناتها المتكررة بتصدير الثورة الإسلامية كانت تثير الفزع  والرعب لدى العديد من البلدان، وزاد في الأمر تعقيداً اندلاع صراع طائفي في المنطقة ، بخلفية سياسية، وما حصل في مكة العام 1979 حين استولى أكثر من 200 مسلح على الحرم المكي وهو من مقدسات المسلمين، أثار ردود فعل سنّية مختلفة ومشاعر الكثير من المسلمين الذين قاموا بشجبها واستنكارها. وقد هزت هذه العملية العالم الإسلامي برمته، فمن حيث موعدها فقد وقعت مع فجر أول يوم في القرن الهجري الجديد، ومن حيث عنفها فقد تسبّبت بسفك للدماء في باحة الحرم المكي، وأودت بحياة بعض رجال الأمن والكثير من المسلحين المتحصنين داخل الحرم.
   المقاربة  الثالثة- مسعى حربي دولي ليس بعيداً عن تشجيع غربي وأمريكي تحديداً لثني إيران عن مدّ مشروعها السياسي والآيديولوجي، والهدف إضعاف دول المنطقة جميعها، باستثناء "إسرائيل" المستفيدة الأولى من ذلك الصراع العبثي، والسيطرة على منابع النفط والوقوف بوجه الاتحاد السوفييتي السابق، إضافة إلى الاستمرار في بيع السلاح وتأجيج نار العداء، وهكذا استمرت الحرب لنحو 8  سنوات (1980-1988) وتعطّلت التنمية  واحتجبت خطط الإصلاح، وكان من نتائج ذلك ارتفاع النزعات الحربية، خصوصاً بعد غزو القوات العراقية للكويت 1990 خلال نظام حكم صدام حسين ، ثم حرب قوات التحالف ضد العراق 1991 واستمرار الحصار الدولي على العراق ما يزيد عن 12 عاماً حتى تم الإطاحة بالنظام  في العام 2003.
   لا أعتقد أن الولايات المتحدة حليفة السنّة أو صديقة لهم على حساب الشيعة، كما إن روسيا ليست حليفة الشيعة ضد السنة، فالولايات المتحدة وروسيا حليفتا مصالحهما، فواشنطن حليفة بغداد " الشيعية"، حيث الحكم فيها منذ العام 2003 ولحد الآن بيد "الشيعية السياسية" التي حاولت أن تطبع الدولة بطابعها، أما حلف روسيا مع سوريا، فتحدّده المصالح بالدرجة الأساسية، وروسيا اليوم دولة براغماتية تتحرّك وفقاً للمصالح، وليست كما كانت في السابق تتحكّم فيها المعايير الآيديولوجية، وقد شعرت روسيا بمرارة لخسارة حليفها السابق في "العراق"، مثلما شعرت بالخيبة لأنها لم تحصل على موطئ قدم في "ليبيا"، ولذلك استماتت لكي تبقي على نفوذها في سوريا، لأن خسارتها ستعني أنها ستخرج من عموم المنطقة، ومن أجل ذلك أعادت ترتيب أولوياتها منذ العام 2015 ودخلت في موازنات بين تركيا وإيران من جهة وبين العرب و"إسرائيل" من جهة ثانية.
   وكنت قد كتبت بعد زيارتي لروسيا، بدعوة من مجلس شورى المفتين لروسيا لإلقاء محاضرة عن "نحو استراتيجية جديدة لمواجهة التطرّف والإرهاب"، عدّة مقالات بهذا الخصوص عن روسيا "المسلمة" وروسيا "العربية" وروسيا " اليهودية" وهل روسيا دولة عظمى؟ مسلطاً الضوء على الموقف الروسي إزاء قضايا الصراع في المنطقة  وتوازنات  القوى بما فيها ما يتعلق بـ"المنطقة الآمنة في سوريا" والتوافق الروسي - التركي - الأمريكي، من جهة والسوري - الإيراني -الروسي من جهة ثانية.
   إن وجود أديان وطوائف وقوميات حقيقة في الشرق الأوسط، وهو سرّ جماله، والتنوّع بقدر ما يمكن أن يكون ضعفاً فهو قوة في الآن، والعكس صحيح إذا لم نُحسن إدارته بشكل سليم، وإذا ما أقيمت دولاً مدنية تضع مسافة واحدة من جميع الأديان والطوائف والقوميات وتحقّق نوعاً من المساواة باتجاه مواطنة متكافئة، فيمكننا الحديث عن إطفاء نار الصراع ونزع فتيل الحرب، سواء كانت لأسباب سياسية  أم دينية أم إثنية، فالأديان والطوائف والقوميات حقيقة قائمة ولا يمكن نكرانها أو إلغاءها، لكن العمل ينبغي أن ينصبّ على إلغاء التمييز وعدم المساواة والاضطهاد المزمن والمعتق، على الصُعد القومية  والدينية والمذهبية وغيرها.
   أما ما نشهده اليوم من صراعات شيعية - سنّية فهو ليس بعيداً عمّا يتم تغذيته إقليمياً ودولياً، وعلى سبيل المثال عاشت دول مثل العراق وسوريا في نوع من التعايش المجتمعي والتكامل والتنوّع في إطار الوحدة، وكان الصراع بين الحكام من جهة والمجموعات الثقافية الدينية والقومية  من جهة أخرى، بسبب هضم حقوقها والاضطهاد والتمييز الذي عانى منه الشعب الكردي لم يكن على يد العرب، بل على يد الحكام الدكتاتوريين والمستبدين والظالمين الذين تجاوزوا،  على عموم السكان، لأن الأمر يتعلّق بالحقوق والحرّيات العامة والخاصة، مثلما له علاقة بحقوق المجموعات الثقافية التي تريد التعبير عن نفسها بحريّة في إطار حقوق مدنية وسياسية وإدارية ولغوية، يكفلها الدستور.
•   س3 - صحيح أن الخلافة الإسلامية لداعش  قد دمرت على الأرض بالتعاون بين دول التحالف ضد داعش وبين القوات المحلية الأخرى، ولكن لم يتم حتى الآن اجتثاث الفكر الداعشي وخطورة ظهوره مرة أخرى، برأيكم كيف يمكن القضاء على الفكر الداعشي؟

ج 3 -  يمكن القضاء على داعش بخطط طويلة الأمد ومتوسطة وآنية. أما الخطط الآنية  فهي بالدرجة الأساسية تتعلّق بإعادة النازحين إلى مدنهم وقراهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار، ويحتاج الأمر إلى إرادة سياسية حقيقية ومصالحة وطنية شاملة وتعاون بين الدولة والمجتمع المدني ، مثلما يمكن الاستفادة من المساعدات الدولية على هذا الصعيد وتوظيفها بشكل سليم بحيث تكون نتائجها سريعة وتنعكس على النازحين.
   ويحتاج  الأمر كذلك لخطط تربوية وتعليمية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، لإعادة التأهيل وإصلاح المناهج الدراسية والتربوية وتوفير فرص عمل للعاطلين، ولاسيّما للشباب، ناهيك عن خطة شاملة لتحسين مستوى المعيشة وتوفير الخدمات الضرورية مثل الماء الصافي والصالح للشرب والكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية الأخرى، ومعالجة الآثار النفسية التي تعرض لها ضحايا داعش.
    وعلى الصعيد الاجتماعي يتطلب الأمر تأسيس المنتديات لإشغال أوقات الفراغ في إطار نشاطات سينمائية ومسرحية وموسيقية وفنية ورياضية نافعة، ففي ظل تلك الأجواء يمكن الحديث عن إعادة بناء الإنسان الجديد لكي يشكّل النقيض لفكر داعش الإقصائي الإلغائي الذي لا يعترف  بالآخر، فالأوطان لا تُبنى  بالحجر فحسب وإنما بالبشر، لأن الإنسان مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس. وكل شيء ينبغي أن يكون غايته ووسيلته الإنسان.
•   س4 - العراق في هذه المنطقة الساخنة دولة خرجت للتو من حرب داعش، كما أن العملية السياسية فيه هشة و غير متماسكة، و  الحكومة المشكلة برئاسة عادل عبد المهدي لم تتمكن خلال  فترة(4-5)أشهر من عمرها من تقديم شيء يبعث على الأمل بالنسبة للمواطنين في العراق،  ما هي قراءتكم للأوضاع السياسية في العراق؟ و هل تعتقدون أن الحكومة تميل الآن إلى ولاية الفقيه الشيعية؟

ج4- لا أظن أن حكومة عادل عبد المهدي تميل إلى " ولاية الفقيه الشيعية" كما ورد في سؤالكم، لكنه دون أدنى شك، فإن عبد المهدي لا يستطيع الخروج من عباءة رجال الدين المتنفّذين في النجف، وهو يراعي التراتبية التي قامت عليها العملية السياسية بعد احتلال العراق العام 2003 ولا يستطيع مخالفتها، خصوصاً وإنه جاء بترشيح ومباركة منها، لاسيّما بعد أن وصلت الصراعات الشيعية- الشيعية إلى طريق مسدود، فتم اللجوء إلى حل وسط من خارج الكتل المتصارعة.
   وعلى الرغم من مؤهلات عادل عبد المهدي الفكرية والسياسية قياساً بالذين سبقوه، لكن ذلك وحده غير كاف بسبب نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية التي يخضع لها، كما أنه لا يستند إلى كتلة أو حزب يمكنه أن يمضي بقراراته خارج الدائرة المرسومة له، ولهذا تراه يتردد كثيراً في اتخاذ قرارات لا ترضي الفرقاء، لاسيّما الذين رشحوه لهذا المنصب، خصوصاً إذا دخل في صراعات جانبية، أو إذا انحاز إلى إحدى الكتل المتصارعة، وإلّا فإنه قد لا يجد أمامه سوى تقديم استقالته.
   إن فترة الخمسة أشهر غير كافية لإصدار حكم نهائي حول مآلات حكومة عادل عبد المهدي، لكنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال ، فحتى الآن لم تستكمل التشكيلة الوزارية وما تزال التجاذبات بشأن وزارات أربعة باقية هي: الدفاع والداخلية والعدل والتربية ، وبكل الأحوال فبتقديري إن الأمور ستبقى تراوح دون تقدّم يُذكر ودون نجاحات كبيرة حتى وإن كانت توجد رغبة لديه في تجاوز الواقع المأساوي الذي وصل إليه العراق، لأن ثمة عقبات موضوعية تحول دون ذلك منها الدستور الذي أسميته قبل عقد ونيّف ونصف من الزمان في مقالة منشورة في صحيفة النهار اللبنانية " الدستور غير الممكن دستورياً"، فهو يعطي الحق بيد ويسحبه باليد الأخرى بحكم الألغام الكثيرة المزروعة فيه والتفسيرات والتأويلات المختلفة لنصوصه التي تثير الكثير من الغموض والإبهام والتناقض. ويمكن مراجعة كتابنا عن: الدستور والدولة - من الاحتلال إلى الاحتلال الصادر في العام 2004.
   
•   س5- الجانب الآخر المسؤول عن تعقيد الأوضاع في العراق هو الصراع الأمريكي – الإيراني، ومن الواضح إن لإيران نفوذ كبير في العراق و من جانبها تعلن أمريكا نفسها كقوة كبيرة ومحتلة للعراق إنها هي مسؤولة عنها، كيف ترى مستقبل العراق من خلال الصراع المرير والمتواصل الأمريكي- الإيراني؟

ج5 - قلت في وقت سابق: العراق نصفه لواشنطن ونصفه الآخر لإيران وليس في الأمر افتئاتاً على أحد، وإنما هو محاولة واقعية لتوصيف الواقع، وقد تعزز  النصف الثاني خلال الحرب على داعش وفي ظلّ تشكيلات "الحشد الشعبي" والدور الذي قام به، وعلى الرغم من وجود نحو 20 قاعدة عسكرية أمريكية في العراق، أهمها قاعدة قرب إربيل وقاعدة "عين الأسد" غرب العراق، التي زارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عشية عيد الميلاد (ديسمبر /كانون الأول/2018) ، ودون استئذان أو ترخيص ولم يلتقِ مسؤولاً عراقياً واحداً بما يعدّ مخالفة صريحة للسيادة، فإن النفوذ الإيراني على الأرض متغلغل وواسع ومتنوّع: سياسياً وأمنياً واقتصاديا وتجارياً ومذهبياً، مثلما نشأت مصالح للعديد من الكتل السياسية الموالية أو الممالئة لإيران.
   وقد تضاربت التصريحات مؤخراً بشأن الدور المستقبلي لواشنطن أو لطهران في العراق، وكان الرئيس  ترامب قد صرّح أن " القواعد الأميركية في العراق ستكون بمثابة نقاط مراقبة، لرصد أنشطة طهران المتعلقة بـ الأسلحة النووية، أو أشياء أخرى" وبأن القوات الأميركية يجب أن تبقى في العراق، ليس فقط لمواصلة محاربة تنظيم «داعش»، بل "لمراقبة إيران" وقد حشد الرئيس الأمريكي لهذه الغاية دولاً عديدة ضمّها مؤتمراً دولياً انعقد في وارشو (بولونيا)، شباط/فبراير 2019، هدفه لجم إيران وتحجيم مشروعها في سوريا ولبنان واليمن وبلدان أخرى ودفعها للانكفاء للداخل على أمل الإطاحة بنظامها.
    أمّا الإيرانيون فإنهم طالبوا على لسان سفيرهم في بغداد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، وهو الأمر الذي تبنّاه عدد من قادة الحشد الشعبي والقوى الشيعية المؤيدة لإيران. وتتحرك قوى عراقية برلمانية ومن خارج البرلمان لمناقشة الانسحاب الأمريكي من العراق، علماً بأن عدد القوات الأمريكية غير محدد، لكن رئيس الوزراء العراقي قال إن عددها انخفض من 8 إلى 6 آلاف عسكري. وهذه هي القوات النظامية المعلن عنها، وهناك شركات أمنية وتعاقدات خاصة يمكن أن تندرج في تشكيلات تابعة للقوات الأمريكية.
   ولأن إيران تشكل عنصر إقلاق لـ"إسرائيل"، فإن واشنطن بإلغائها الاتفاق النووي مع طهران، سيزيد من احتمالات قيام " إسرائيل" بهجوم مباغت ضد إيران، سواء لتوريط واشنطن أو بالاتفاق معها، الأمر الذي قد يؤدي إلى إشعال حروب متعددة في المنطقة، ناهيك عن بعض ردود الأفعال من جانب القوى الموالية لإيران والقوى المؤيدة لخطة واشنطن في تقليص نفوذ طهران، وتبقى اللوحة معقدة وملتبسة ومتناقضة ومتداخلة الولاءات.
   لقد عبّرت إدارة الرئيس ترامب  عن اختلافها مع نهج الرئيس باراك أوباما الذي كانت "إسرائيل" ممتعضة منه، وفي الوقت نفسه لاقت سياسة ترامب إزاء إيران ترحيباً خليجياً لتشدّدها، لكن العراق سيبقى يتيماً وحائراً، وثمة أسئلة لجوجة قد تواجهه وهي أسئلة استباقية، بعضها افتراضي لكنها يمكن أن تثار بوجهه في أية لحظة ، فهل: سيتحول  إلى ممر أو مستقر لقوات أجنبية تخوض صراعات على أرضه، التي سبق وأن تخضبت بالدم لصراع فارسي - عثماني استمر لقرون من الزمان، وهذا يعني إلحاق  الضرر بالعراق وشعبه ومصالحه، ناهيك عن تقاطعات أخرى مع تركيا التي هي الأخرى  لها قاعدة عسكرية ترفض الخروج منها قرب إربيل بزعم مكافحة حزب العمال الكردستاني PKK .
   وعلى الرغم من كل الادعاءات عن استعادة السيادة العراقية منذ العام 2004 وما بعدها  بالخروج من الفصل السابع، فإن الواقع يشير إلى أن قيوداً ثقيلة ما تزال تكبّلها وتحدّ من إرادة العراق المستقلة، فالسيادة ما تزال معوّمة ومنقوصة وهي كذلك منذ أن فُرِض الحصار الدولي على العراق بعد احتلاله للكويت ورضوخه للقرارات الدولية ولنظام عقوبات شامل منذ العام 1990 وإلى اليوم.
   وما وجود قوات أجنبية "برضا" الحكومة العراقية أو بدونه إلّا انتقاص من سيادة العراق وحقه في بسط سلطته على جميع أراضيه والتحكم بثرواته. وستدفع الدولة العراقية أثماناً باهظة بسبب صراعات دولية وإقليمية على أرضها  لا ناقة لها فيها ولا جمل كما يُقال.
•   س 6- أكثر المناطق  العربية السنية في العراق قد دمرت بالكامل إبان حرب داعش، وإن تلك الحرب أدت كذلك إلى إضعاف الدور العربي السني ضمن العملية السياسية في العراق، باعتقادكم كيف يتمكن هذا المكون العراقي المهم من إعادة إعمار مناطقه و لعب دوره المؤثر في العملية السياسية العراقية؟

ج 6-  أنا شخصياً كنت قد تحفظت على مصطلح "المكوّنات" الذي ورد في الدستور عدّة مرّات (في المقدمة مرتين وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142) لأن ذلك ينتقص من مبادئ المواطنة، فالدولة حسب فهمي وقناعتي هي: اتحاد مواطنين أحرار لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وليس اتحاد مكوّنات، لأن ذلك لن يكون سوى تقاسم وظيفي ديني ومذهبي وإثني، يؤدي على نحو مباشر وغير مباشر إلى الانتقاص من مبادئ المواطنة في الحرية والمساواة والشراكة والمشاركة والعدالة.
    كما كنت قد انتقدت مصطلح "الأقليات" لأنه ينتقص هو الآخر وعلى نحو متعسّف من مبادئ المواطنة بافتراض وجود هوّيات "كبرى"  وأخرى "صغرى" و"أغلبيات" و"أقليات" و"هويّات عليا" و"هويّات دنيا" و" هويّات قوية" و"هويّات ضعيفة" وغير ذلك، وقد تحفّظت على إعلان "حقوق  الأقليات" الصادر عن الأمم المتحدة  العام 1992 وعلى "إعلان الشعوب الأصلية" الصادر العام 2007 ، لاحتوائهما على مصطلح "الأقليات" الذي يستبطن عدم المساواة والهيمنة من جهة، والاستتباع والخضوع من الجهة الأخرى.
   وبالنسبة لحقوق الشعب الكردي فمنذ عقود من الزمان وأنا لا أتوانى من الدعوة لمبدأ حق تقرير المصير بمعناه القانوني والسياسي والإداري، وبالشكل الذي يختاره ويتناسب مع مصالح النضال المشترك، ويشرفني أنني كنت أول من نظّم حواراً معرفياً وفكرياً وثقافياً عربياً - كردياً (العام 1992) لتعزيز الجوامع وتقليص الفوارق والبحث في حلول ومعالجات تصب بأهدافهما المشتركة.
   إن من يرغب في بناء عملية سياسية حقيقية فلا بدّ من العودة إلى المواطنة المتكافئة والمتساوية التي وردت في الدستور، بالرغم من كل التحفظات الواردة عليه، ولا بدّ من إزالة الألغام التي تعترضها مثل "المكوّنات" وإعادة تنظيم العلاقات والصلاحيات والاختصاصات بين السلطات الإقليمية والاتحادية، وذلك وحده يمكن أن يؤدي إلى معافاة الوضع السياسي ويعيد الثقة للناس لبناء دولة مدنية عصرية في إطار "حكم القانون" واستقلال القضاء وفصل السلطات وفي ظل انتخابات نزيهة وحرّة.
   كما يتطلّب الأمر إعداد قانون انتخابي جديد وقانون أحزاب جديد وتنقية الحياة السياسية مما شابها من أمراض وعللٍ لأنها قامت على أساس الزبائنية والحصول على المغانم والامتيازات على حساب الكفاءة والإخلاص، ومثل هذا الوباء أصاب جميع القوى دون استثناء، وإن بدرجات متفاوتة.
   ليس المطلوب مواجهة الطائفية بالطائفية، وضيق الأفق القومي بمثله، بل نبذ التمييز لأنه يمثل فكرة ضارة وخرقاء بجميع معانيها،  فالسنّية السياسية أو الشيعية السياسية ليستا سوى تعبير عن "طائفية" نحن بحاجة إلى وضع ضوابط لمنعها وتحريمها ومعاقبة من يروّج أو يدعو أو يمارس أي فعل من شأنه يدلّ عليها، لأنهما ستسببان انقساماً في المجتمع عمودياّ وأفقياً، ويعطلان أي إمكانية لبناء دولة عصرية تعترف بحقوق الإنسان والمواطنة. وكذلك الحال إثارة النعرات العنصرية والقومية. وكنت قد اقترحت مشروعاً لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة وأعدت نشره في كتابي " جدل الهويّات في العراق - الدولة والمواطنة"، 2010.
•   س 7- بالنسبة للعلاقات بين كوردستان وبغداد، هناك تقدم وتحسن في تلك العلاقة في الوقت الحاضر، وتتجسد هذه العلاقات فقط في المجالين المالي والاقتصادي، أما بالنسبة إلى المشكلات الرئيسة الأخرى وخاصة بعد عودة القوات العراقية إلى المناطق المتنازع عليها فأنها على حالها و لم تشهد أي تقدم يذكر، هل تعتقدون أن الحكومة الحالية في بغداد تسعى إلى حلحلة المشكلات القائمة مع كوردستان وفق الدستور العراقي؟

ج 7- أعتقد أن حكومة عادل عبد المهدي تسعى إلى حلحلة الأوضاع القائمة بين كردستان وبغداد، وقد اتضح ذلك من مشروع الميزانية الذي رحّبت به حكومة الإقليم، فضلاً عن محاولة التطبيع لبعض المناطق منعاً لأي احتكاك، سواء بتشكيل إدارات مشتركة أو غير محسوبة على أحد الأطراف كما حصل في سنجار مؤخراً.
   وكانت تلك الاحتكاكات من نتائج الدعوة للاستفتاء 25 أيلول/سبتمبر 2017 وردود الفعل التي جوبهت بها، وأعتقد أن الوضع الإقليمي والدولي لا يسمح بتدهور تلك الأوضاع، وعلى العكس من ذلك يمكن أن يسهم إيجابياً بإطفاء بعض المشكلات القائمة، لكن تبقى بعض العقد تحتاج إلى حلول دستورية وتوافقات سياسية طويلة الأمد مثل: مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها  الواردة في الدستور، ومشكلة النفط واستخراجه وإدارته، ومشكلة الرواتب بما فيها البيشمركة واختصاصات الإقليم والحكومة الاتحادية وغيرها.
   وأعتقد أن عادل عبد المهدي يمكن أن يخلق أجواء أكثر إيجابية من السابق ويوفر إمكانية أكبر للتفاهم ولتسوية بعض المشكلات العالقة، والبحث عن سبل جديدة ومعالجات مختلفة عن تلك التي جرت في السابق. ولا بدّ هنا من الاستفادة من التجربة التاريخية وعدم تكرار الأخطاء، كما لا ينبغي الإفساح في المجال لبعض ردود الأفعال  من التحكم بالعلاقة التاريخية وبالأخوة العربية- الكردية التي كنّا نقول في إطار اليسار العراقي والحركة الشيوعية لسنوات طويلة : على صخرتها تتحطم مؤامرات الاستعمار والرجعية.
نشرت في مجلة كولان باللغة الكردية وعلى موقع كولان باللغة العربية بتاريخ 11-12/آذار/مارس/2019.


260
عبد الحسين شعبان والحرث المعرفي في قصة وطن
            
ا.د. عامر حسن فياض 
   عودنا ( عبد الحسين شعبان ) على ولائم معرفية تفتح شهية العقل ، وآخر هذه الولائم هي وليمة " سلام عادل-الدال والمدلول وما يمكث وما يزول " تلك البانوراما الوثائقية للحركة الشيوعية .
حتى اللحظة يظل تأريخ العراق الحديث والمعاصر أرض بكر تعاني من يباب بحثي، بمعنى آخر أن أطنان الكتب والمؤلفات عن العراق قديمه ووسيطه وحديثه ومعاصره المعاش لا تسدّ استحقاقات كنوز من الأفكار والأحداث والشخوص التي لم تبحث بعد بحثاً حفرياً بمعول علمي موضوعي يقظ. واليباب البحثي المعرفي لتلك الأرض التي اكتنزت بالأفكار والأحداث والإعلام والمدارس يتأتى من غياب أو عدم اكتمال أو نقص نضوج المنهج في دراسة العراق ..
إن (عبد الحسين شعبان) كان وما يزال يحرص في كتاباته على المنهج ، فهو لا يكتف بالمعلومة، فحسب، بل يلاحقها ويفككها ويفسرها دون أن يسلّم بها تسليماً متسرعاً تتحكم فيه العشوائية والانتقائية والرغبوية، بل يهتم بالتفسير المنهجي للمعلومة أي أن ( شعبان ) يُمنهج كتاباته خصوصاً بعد أن نزع ثوب العقائدية والأيديولوجيا لينحاز إلى ركب الموضوعية والحيدة في البحث والكتابة، حيث اخذ يغادر العقيدية المعقدة والأدلجة المنحازة وفي الوقت ذاته ظل مهتديا بالبوصلة الوطنية ومسترشدا بالواقعية النقدية .. الواقعية التي لا تقع نزولا في دائرة الانحياز ولا تهبط صعوداً إلى فضاء المبالغة.
 وتلك البوصلة وذاك الاسترشاد تلمسناه عند عبد الحسين شعبان في معظم إن لم نقل في كل نتاجاته الـ 69 كتاباً في مختلف فنون المعرفة ( قانون – سياسة –أدب-فكر واديان –ترجمات ) بدأ بنشرها منذ عام 1981 حتى أصبح اليوم يستحق بجداره تسميته بالمفكر .
   إن الكتابة عن شخصية رمزية كسلام عادل الذي ختم حياته بالعطاء ببطولة استشهاده الأسطوري ، كما يقول شعبان ، هي كتابة عن قصة وطن .ويضيف شعبان " لا يمكن الكتابة عن سلام عادل دون الكتابة عن جزء مهم وحيوي من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، بل وتاريخ العراق المعاصر ، وحين نتحدث عن تاريخ الدولة العراقية الحديثة ، فلا بد أن نتناول تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية ولن تمر عليها إلا الخط العريض وليس مروراً عابراً .سلام عادل كانت له إسهامات في الفكر ومنجزات في الممارسة . وهو كان قد نشأ في بيئة مجنونة بالتاريخ بيد انه استحضر التاريخ لكي يغادره دون أن يسترجعه ليعيش ويعتاش منه .
وحتى شعبان تأثر بمعادلة ( الاستحضار والاسترجاع ) للتاريخ فكتب عن سلام عادل لكي يستحضر انجازاته وإضافاته لا لكي يسترجع مآسي وتداعيات الحقبات المفخخة بالدماء والقهر والتناحر في المشهد السياسي العراقي الملكي والجمهوري الأول والثاني .
ولان العراق كان وما يزال لا يستحق ماضيه الدامي وحاضره المضطرب بل يستحق مستقبل أفضل فقد تطلع عبد الحسين شعبان في كتابه عن سلام عادل إلى المستقبل فكتب عن العدالة الانتقالية من خلال سردية استشهاد سلام عادل . فبدلا من مشهد الدم بين القوى السياسية الذي كان سائدا زمن سلام عادل يطالب شعبان بالركون إلى مشهد حوار العقل بدلا من مشهد حوار الدم .
وتتلخص ابرز منجزات سلام عادل كما يرى عبد الحسين شعبان  في :-
o   استعادة وحدة الحزب الشيوعي العراقي وتجميع قواه بواسطة البحث عن الجوامع والمشتركات بعيداً عن التخوين والتهميش والتأثيم .
o   من سمات سلام عادل القيادية انه صاحب رأي متميز ومستقل ونقدي كما انه لم يكن يعرف المهادنة والتزلّف واسترضاء المسؤولين .
o   نظّم سلام عادل الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956 الذي أنتج معطيات وعطايا ايجابية بمساهمة متميزة منه وأهمها :-
-   انتخاب لجنة مركزية جديدة للحزب بعد أن كان اختيارها في الغالب بالتعيين .
-   اعتماد الكفاح الجماهيري السلمي أسلوباً في مواجهة سلطات العهد الملكي وطريقا في النضال السياسي .
-   التأكيد على أطروحة التحرر الوطني والقومي في البيان الختامي للكونفرنس .
-   التأكيد على الأخوة العربية الكوردية وحق التحرر وتقرير المصير والتحالف بين الحركتين التحرريتين العربية والكوردية .
-   التحضير لجبهة الاتحاد الوطني 1957 وعلاقته المهمة مع شبكة الضباط والجنود مع الإشراف على التنظيم العسكري للحزب والإعداد لثورة 14 تموز 1958 من خلال علاقته مع الضباط الأحرار .
وفي هذا الصدد يطالب عبد الحسين شعبان بضرورة العودة إلى قراءة وثائق هذا الكونفرنس لأنها تشوهت فيما بعد أو أهملت .
وعند ذلك فأن عبد الحسين شعبان يحرّضنا كما يحرض غيرنا على مواصلة السير في هذا الدرب، أي درب الحرث المعرفي في قصة وطن اسمه العراق .



261
سلام عادل ....الدال والمدلول

                                                           
جمال العتّابي
   صدر مؤخراً عن دار ميزوباتاميا في بغداد(2019)، للدكتور عبد الحسين شعبان، مؤلفه الجديد ( سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول ، بانوراما وثائقية للحركة الشيوعية)، والدكتور شعبان يسعى دائماً في مشروعه الثقافي والفكري التنويري، إلى كشف الحقائق وتبيان الوقائع ، عبر قراءاته التاريخية بعقلية متفتحة، والوعي بالتاريخ إنما يمثل اداة فعّالة في بناء المستقبل، والقراءة غير الوعي بهذا التاريخ ، الذي يتطلب ذكاء الباحث ، وقدرته على الفهم والتحليل، ولا بدّ لهذه المهمة من الارتكاز على منهج علمي في الدراسة .
       وفي تاريخ العراق المعاصر العديد من الأمثلة التاريخية الملتبسة والتي تقتضي دراستها بهذا المنهج، بحيادية وعلمية ،وبلا ولاءات مسبقة سياسية أو دينية وطائفية ، أو قومية وعرقية ، إن من أهم القواعد الذهبية في قراءة التاريخ ، أننا كلما ابتعدنا عن زمن وقوع الحدث ، كلما تسنى لنا النظر إليه باسترخاء أكثر وعقلانية أكبر ، بتأمل ومراجعة متأنية ، بلا عواطف مشحونة ومتوترة .
    هذا ما حاوله عبد الحسين شعبان وهو يتناول سردية استشهاد سلام عادل، والعودة إلى الجذر الفكري والسياسي والاجتماعي الذي رافق الصراع الدموي وجانبه (الإنساني) ، إذ كان سلام عادل ومئات القيادات والكفاءات المخلصين ، مدنيين وعسكريين ، على اختلاف توجهاتها ، بل ان العراق بمجمله دفع ثمنها باهظاً.
     للأسف لم يراجع تاريخنا بما في الكفاية كما يقول شعبان، ولم تسلط الأضواء على الأخطاء والنواقص، فلم نلحظ هناك من نقد حقيقي كما يقول شعبان ،والتاريخ مراوغ أو ماكر، حسب هيغل، وعلى شكل مأساة تارة وملهاة تارة أخرى ، حسب ماركس، والنقد فضيلة، ولاسيما في السرديات الثقافية ، وممارسة النقد والنقد الذاتي، إحدى أهم قواعد العمل التنظيمي الحزبي ، ولا بدّ من مراجعة ووقفة عند مفاصله الأساسية ، وخاصة في مواجهة الإخفاقات ، والأزمات السياسية ، وحتى مع النجاح، كما يقول لينين : كل الأحزاب التي هلكت أنما لأنها انساقت إلى الغرور ، ولم ترَ إلّا مصدر قوتها ، وخشيت أن تتكلم عن نواحي ضعفها .
     يقول شعبان عن كتابه الجديد، إنه إضاءات أولية بحاجة إلى أبحاث ودراسات وقراءات نقدية، ونضيف كذلك، إن الدراسات التي تناولت هذه الشخصية الأسطورية، ما تزال قليلة وقاصرة أن تحيط بهذه التجربة النادرة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية .
   الدال والمدلول، ثنائية لسانية حديثة لا انفصام بين عراها، وظّفها شعبان بذكاء ومهارة، للإشارة إلى العلاقة بين الرمز والمضمون، وهي علاقة متينة يستحيل الفصل بين طرفيها، فهما نسيج واحد، ملتحمان التحاماً شديداً. فالدال هو سلام عادل الرمز والأيقونة، والمدلول، الصورة العقلية عن هذا الرمز، أو هو القضية، فسلام عادل الإستثنائي، الشجاعة، الحيوية الفائقة، الكفاءات والمواهب والمبادرات، القدرات التنظيمية، الذكاء والثبات، سلام عادل، معلم الرياضيات والرسم والخط والمسرح، وهو القائد والمناضل والإنسان .
   سلام عادل ابن مدينة النجف، البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والدينية الجدلية ، المدينة لها مذاقها الخاص المعارض ، والجدل فيها ركن أساسي في حياتها، بما فيه الجدل الذي يجري داخل الحوزة الدينية التي جاء والده أحمد الرضي من صلبها، ولم يكن بعيداً عنها. إن دراسة متأملة   لشخصية سلام عادل ،يلمس بعمق هذا الجذر في تكوينه ، وهو جذر إنساني ونبيل ، هذه الخلفيات تتصارع عنده ، بل تمثل مونولوجا ً داخلياً بين التقليد والمعاصرة ، وبين القديم والحداثة ، سلام عادل كان يستعيد التراث ويتمثل الجوانب المضيئة فيه فكراً وسلوكاً .
     جانب من مواقفه السياسية والتنظيمية ، مبعثها وعيه المتقدم وإيمانه المبدئي الثابت وسعة أفقه في إستشراف المستقبل ، مع كل عوامل الإحباط المحيقة بالوضع السياسي العراقي ، التي تحاول الإجهاز على مطامحه وأحلامه ، الخطان (العام والخاص) يتوازيان عنده ويسيران معا ً، ليس مع مطالب شعبه فحسب ، بل مع حقوق الكورد، وحقوق الشعب الفلسطيني ،ان سيرة سلام عادل الشخصية تكاد تختصر في نهايتها سيرة العراق في سعيه الى الحرية .
      توصل الدكتور عبد الحسين شعبان الى تحديد سمات الفترة ما بعد تموز1958 التي شهدت صعود الدور الجماهيري للحزب الشيوعي العراقي ،والدور القيادي لسلام عادل فيه ، وفي تقديري إن الدكتور شعبان نجح الى حد كبير في القاء الضوء على اخفاقات الأطراف السياسية جميعا وبدون استثناء ،بعد أن دخلت في صراعات حادة وخطيرة ،إذ اندفع التيار الإستئصالي الإلغائي التهميشي ، وتجاوز ميثاق جبهة الإتحاد الوطني ، كما لم تكن كل القوى مدركة وواعية لما أقدمت عليه ، كما لم تكن بقضّها وقضيضها ناضجة، بل عاشت مرحلة مراهقة سياسية ، وتعاني من نقص في وعي قياداتها، ولجأت إلى التمترس والرغبة في كسب الشارع ،
   ويستنتج شعبان كذلك، أن العمل العلني كان مفاجأة لسلام عادل، دون وجود خبرة في إدارة الدولة، كما أن الجماهير أحدثت نوعاً من الإرباك لدى القيادة، التي تبنّت بعض الشعارات التي فرضها الشارع أحياناً. كذلك كانت تشكيلة قيادة الحزب الشيوعي بعد تموز1958، تعاني من انقطاع فرضته ظروف السجن والاختفاء لعدد كبير من أعضاء القيادة ، أو الهروب خارج العراق ، فمواجهة الحياة الجديدة تتطلّب مهارات وخبرات أخرى ، في إدارة العمل المهني والسياسي والثقافي .
    شكراً لعبد الحسين شعبان الذي أضاف لنا مورداً جديداً في سيرة سلام عادل الخالدة، ومرجعاً تاريخياً يفتح النوافذ على فضاء أوسع للبحث في هذه الشخصية الفذّة، لأنها لم تأخذ حقها من الدراسة والتقييم بعد، بما يوازي دورها المهم في الحركة الوطنية العراقية، وفي الحركة الشيوعية بوجه خاص، وهو ما يجمع عليه رفاقه وأصدقاؤه وحتى خصومه، فسلام عادل الإنسان والمناضل النادر سيظل إيقونة للتاريخ المضيء، وللبسالة في مواجهة الحقد والكراهية السوداء .   




262

أديب الجادر ... في ذمة الخلود

   بهدوء كامل وفي عزلته المجيدة وبعد معاناة طويلة من مرض عضال رحل أخيراً في جنيف أديب الجادر، الشخصية الوطنية العراقية البارزة والشخصية القومية العربية المرموقة، الذي شغل على مدى ما يزيد عن ستة عقود من الزمان مواقع مهنية وسياسية مختلفة، وقدّم مساهمات جليلة في خدمة العراق والعروبة والإنسانية وحقوق الإنسان.
   ولد أديب الجادر في مدينة الموصل في العام 1927 ودرس فيها وأكمل دراسته العليا في أسطنبول والولايات المتحدة في الهندسة.  وعمل في قطاع النفط مديراً، ثم رئيساً لمجلس إدارة شركة النفط الوطنية، وانتُخب في العام 1961 نقيباَ للمهندسين العراقيين، وعمل على تأسيس إتحاد المهندسين العرب.
   وفي العام 1964 شغل منصب عضو الرئاسة المشترك بين العراق ومصر، وأصبح وزيراً للصناعة (1964 ــ1965) ومن ثم وزيرا للإقتصاد في العام 1967.
   اعتقل بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) العام 1968 وبقي رهن الاعتقال دون محاكمة ما يزيد على العام، وحين أُطلق سراحه غادر العراق، وعمل بمواقع استشارية في الأمم المتحدة، كما شغل مواقع ثقافية واجتماعية وفكرية مهمة من أبرزها عضويته في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية، ورئاسة المنظمة العربية لحقوق الانسان الذي شارك في تأسيسها العام 1983 في ليماسول (قبرص).
   وكان بالرغم من مواقفه المعارضة لسياسات النظام السابق في العراق وممارساته الاستبدادية، شديد التدقيق بالمعلومات والتقارير التي تنقلها الجهات الدولية المعادية للعراق والأمة العربية، حيث وقف بوضوح وثبات ضد نظام العقوبات اللاإنساني الذي فُرِضَ على العراق ودعا من على أعلى المنابر الدولية لإلغائه لأن تأثيراته تقع على الشعب العراقي المغلوب على أمره، كما رفض الاستقواء بالقوى الأجنبية لإحداث التغيير المنشود.
   وفي مقابلة له عشية الحرب على العراق قال "نحن ضد الحرب ولا نريد أن يُحتل العراق من جديد أو يُحكم عسكريا... ولا يمكن الخروج من هذا المأزق الخطير إلا باحترام الإرادة الشعبية وتنظيم انتخابات حرة والقضاء على أسايب القمع وضمان الحريات وتأكيد وحدة العراق باحترام كل مكوناته الدينية والعرقية".
   زار وطنه العراق مرّة واحدة بعد احتلاله، ورفض تسلُّم أي منصب حكومي ولعل خلاصة تجربته الطويلة في العمل المهني والسياسي والإداري، أنه ربط العروبة بالتحرر والديمقراطية بالعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان، في إطار المشروع النهضوي العربي الجديد، الذي ساهم في بلورته، لأنه آمن به طريقاً لتقدم الأمة العربية ووحدتها وتنميتها وانبعاثها الحضاري.
   متزوج من السيدة هند السيد التي توفيت في جنيف أيضاً، وله إبنتان: سنا ولينا.
   الذكر الطيب للفقيد الكبير أديب الجادر والصبر الجميل لعائلته وأصدقائه ومريديه

   خير الدين حسيب





يمكن تقديم التعزية على العنوانين التاليين:
البريد الالكتروني للينا أديب الجادر:lina2005@bluewin.ch
البريد الالكتروني للدكتور خير الدين حسيب:  Khaseeb1929@gmail.com

263
أمريكا اللاتينية.. من اليمين إلى اليسار والعكس

عبد الحسين شعبان
لا تزال التطورات الحاصلة في فنزويلا تلقي بظلالها على عموم المشهد السياسي في أمريكا اللاتينية، لاسيّما لجهة التدخل الأمريكي، وتهديد واشنطن بعمل عسكري لدعم المعارضة بقيادة خوان جوايدو رئيس البرلمان الفنزويلي ضد حكومة اليسار البوليفاري بزعامة نيكولاس مادورو، ناهيك عن ردود الفعل الدولية، سواء من جانب روسيا أم الصين أم غيرها، الأمر الذي يثير خوفاً كبيراً، وقلقاً متصاعداً لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في هذه الدولة الغنية بالنفط، والمحاصرة منذ عهد الرئيس هوغو تشافيز، وخصوصاً منذ العام 2006، والذي شكّل هاجساً جديداً لواشنطن بعد كاسترو وكوبا.
وإذا بدأ المزاج السياسي منذ العقد الأول في الألفية الثالثة بالميل لصالح اليسار في العديد من دول أمريكا اللاتينية، فثمة ارتكاس حصل فيه، ويكفي أن نطلّع على ما أفرزته الانتخابات الرئاسية في سبع بلدان خلال العام 2018؛ ليتبيّن لنا التغييرات الحاصلة في العديد منها؛ حيث بدأ يتشكل «توازن» مؤقت بين اليسار واليمين، وأصبحت الأنظمة القائمة تتأرجح بينهما.
ويعكس مثال البرازيل مثل هذا التوازن القلق، فبعد سنوات من التوجه اليساري، فاز اليمين فيه، في حين فاز اليسار في المكسيك بعد أن كانت بوصلة «مكسيكو» موجهة نحو الشمال، لكنها استدارت باتجاه أمريكا الوسطى، خصوصاً في ظلّ سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتهديداته وابتزازه لبناء الجدار العازل، وموقفه من اللاجئين والمهاجرين.
ويبقى الموقف من اليسار أو اليمين مرهوناً بتغيّر الظروف والأحوال، فهو ليس ثابتاً أو مستقراً على طول الخط، وإنما هو تعبير عن تنامي الوعي لدى الناخبين للتصدي لظواهر الفساد المالي والإداري والسياسي من أيٍّ أتت، وذلك بمعاقبة النخب السياسية الغارقة فيه، وعدم التصويت لها، بل اختيار خصومها ليكونوا بديلاً عنها. وكانت البرازيل قد انتقلت من اليمين إلى اليسار، لتعود مجدداً إلى حضن اليمين. والسبب هو: «إنه الاقتصاد يا غبي»، حسب العبارة التي استخدمها بيل كلينتون خلال حملته الانتخابية الناجحة ضد جورج بوش الأب العام 1992، فالأزمات الاقتصادية لم تكسب اليمين أو اليسار أي مناعة، ولم يستطع الاحتياطي العالمي من النفط الذي تطفو عليه فنزويلا من إخراجها من وضعها الاقتصادي البائس، والسبب يعود إلى الضغوط الخارجية والعقوبات الأمريكية المفروضة عليها بالدرجة الأساسية، إضافة إلى السياسات الداخلية والفساد المالي والإداري، وفشل خطط التنمية التي لم تستطع توظيف الفوائض النفطية واستثمارها في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، وغير ذلك من «الوعود» التي ظل الفقراء يحلمون بها.
أما الأرجنتين فقد سجلت انكماشاً كبيراً في النمو؛ بسبب السياسات الداخلية الخاطئة التي ظلّت تراهن على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والأمر في بيرو لا يختلف كثيراً؛ حيث أوقع الفساد البلاد في أزمة خطِرة.
وتعاظم ضعف الثقة في دول أمريكا اللاتينية بين النخبة الحاكمة وشعوبها، لدرجة أن بعض البلدان انقسمت بين التيارين اليميني واليساري، خصوصاً بارتفاع النبرة الشعبوية ذات الرنين العالي والمدعومة أحياناً من واشنطن. كما ارتفعت قوافل المهاجرين من شعوب هذه البلدان بقصد التوجه إلى الولايات المتحدة، وهذا وحده دليل على تقهقر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتزايد البطالة، وتراجع مستويات العيش الكريم، ناهيك عن عبور مئات الآلاف من السكان خط الفقر إلى ما دونه، بأجور لا تزيد عن دولارين في اليوم. وينتشر العنف وتضعف الدولة أمام غول الإرهاب وانعدام الأمن. كما تنتشر المواجهات المسلحة في هذه البلدان بين مجموعات من المهرّبين وتجار المخدرات في المكسيك، وتتزايد التهديدات والابتزازات للسكان. وتشهد دول مثل الهندوراس والسلفادور وغواتيمالا التي تسمّى (دول المثلث الشمالي) نمو عصابات للجريمة المنظمة بشكل لافت؛ حيث ترتفع وتيرة العنف إزاء الشعوب الأصلية وسكان البادية والمدافعين عن البيئة والأرض والموارد الطبيعية.
والأمر يدلّ دلالة بالغة على فشل سياسات التنمية في تدبير وإدارة الأزمات الداخلية، إضافة إلى فشل سياساتها الخارجية؛ حيث تلعب واشنطن دوراً كبيراً في إذكاء الخلافات الداخلية والحساسيات المناطقية، فمثلاً تتنافس المكسيك والبرازيل حول «الزعامة الإقليمية»، ففي الوقت الذي تتجه فيه البرازيل نحو اليمين، وتلتحق بواشنطن وتنضم إلى الأرجنتين والباراغواي والأرغواي لتدخل في قطيعة مع اليسار، تفتح المكسيك حواراً سياسياً مع دول اليسار في مسعى لحل الأزمات.
ولم يتأخر رئيس البرازيل الجديد، ليثبت يمينيته وولاءه لواشنطن، في إعلان عزمه على نقل السفارة البرازيلية إلى القدس، بعد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إليها، من دون الاكتراث بعلاقات بلاده التاريخية بالعالمين العربي والإسلامي، على الرغم من عدم وجود ردود فعل عربية وإسلامية رسمية تتناسب وخطورة تلك الخطوة.
وهكذا فإن أمريكا اللاتينية التي كانت سبع دول منها خلال العقد الماضي تتجه صوب اليسار، إذا ببعضها يتراجع بشدة نحو اليمين، مثلما تستمر الضغوط على كوبا، وتواصل واشنطن حصارها على الجزيرة منذ خمسة عقود ونيّف من الزمان.
drhussainshaban21@gmail.com




264
انحسار الديمقراطية
عبد الحسين شعبان
سجّل التقرير الذي أصدرته مجلّة «الإيكونومست» البريطانية في نهاية عام 2018 أسوأ تراجع لمؤشرات الديمقراطية في العالم، وأشار إلى انحدار العديد من بلدان العالم منذ عام 2016، والتي قسّمها إلى أربع مجموعات؛ وهي:
المجموعة الأولى- الأنظمة الديمقراطية الكاملة؛ وتشمل 19 دولة تتربّع على رأسها الدول الإسكندينافية، وفي مقدمتها: النرويج والسويد، إضافة إلى أستراليا والأورغواي، وتبلغ نسبة هذه الدول إلى دول العالم 11.4%.
أما المجموعة الثانية - فأطلق عليها التقرير «الديمقراطية المنقوصة» أو «المُتصدّعة»، وضمّت 57 دولة، وبلغت نسبتها إلى مجموع دول العالم34.1 في المئة، وقد صُنّفت الولايات المتحدة من المجموعة الثانية، وكذلك فرنسا وإيطاليا والهند و«إسرائيل»، وكانت تونس الدولة العربية الوحيدة، ضمن هذا التصنيف.
المجموعة الثالثة- «الأنظمة الهجينة»، وشملت 39 دولة، ونسبتها إلى دول العالم 23.4%، وهي دول لا يمكن إطلاق وصف الديمقراطية أو الاستبدادية عليها، وإنما هي احتوت على عناصر من هذه وأخرى من تلك، تبعاً لمؤشرات الديمقراطية، التي حدّدها التقرير.
والمجموعة الرابعة- «الأنظمة التسلطية أو الاستبدادية» وعددها 52 دولة، ونسبتها إلى مجموع بلدان العالم 31.1%، وجاء ترتيب البلدان العربية بين المجموعتين الثالثة والرابعة.
وخلُصَ التقرير الذي درس حالة 167 دولة إلى استنتاج مثير؛ مفاده انحسار الديمقراطية؛ حيث لاحظ أن 89 دولة منها تغيّرت مراكزها وترتيبها الديمقراطي بما فيها بعض الأنظمة الغربية، تبعاً للمعايير التي استند إليها؛ وذلك حسب اقترابها أو ابتعادها عن المؤشرات التي وضعها.
ويثير الحديث عن الديمقراطية الكثير من الأسئلة ذات الطابع النظري والعملي في آن، فهل هي «أيديولوجية» جديدة؛ بعد فشل الأيديولوجيات والتجارب القومية والاشتراكية والإسلامية؟ أم هي وسيلة تقوم على آليات وأساليب حكم بغض النظر عن الأيديولوجيات؟ والأمر يتعلّق بالاحتكام إليها؛ لتفعيل إرادة الناس وحريّاتهم وحقوقهم في اختيار ممثليهم بانتخابات حرّة ونزيهة، وفي إطار من المساواة، مع تأكيد حكم القانون، وفصل السلطات، واستقلال القضاء.
وبعد ذلك، هل يمكن تحقيق التنمية بمعناها الإنساني والشامل أو ما يُطلق عليها «التنمية المستدامة» من دون الديمقراطية والحكم الصالح، خصوصاً وأنهما، حسب المؤشرات، رافعتان أساسيتان لتحقيق ذلك مع الالتزام بمكافحة الفساد في إطار من الشفافية والمساءلة؟ ولذلك فإن النكوص في بعض مؤشرات الديمقراطية، يستوجب البحث في وسائل وآليات جديدة لتعزيز جوهرها، وتعميق محتواها، وتوسيع دائرتها؛ لأن النظام الديمقراطي حتى الآن أفضل أنظمة الحكم التي ابتدعتها البشرية، الأمر الذي يتطلّب معالجة الاختلالات والتصدّعات التي ترافق مساره وتجديده باستمرار وفقاً لمتطلبات الحياة المتغيّرة دائماً، علماً بأن تصحيح الديمقراطية ينبغي أن يتم بوسائل ديمقراطية؛ وذلك يحتاج إلى المزيد من التفكير لابتكار أساليب جديدة في طريقة التمثيل على المستوى المحلي والبلدي وتلبية حاجة السكان الأساسية، المادية والروحية.
اعتمد التقرير على 5 مؤشرات لقياس الديمقراطية؛ هي: التعددية الحزبية والانتخابات، وأداء الحكومة، والمشاركة السياسية، والحرّيات المدنية، وثقافة الديمقراطية. ويعد صعود التيارات الشعبوية اليمينية واليسارية وانتعاش اليمين المتطرّف والعنصري وضعف العمل المؤسسي، وارتفاع النزعة الفردية ونكوص الدولة الوطنية أو تعثرها، من مظاهر انحسار الديمقراطية، خصوصاً ويأتي هذا التراجع في ظل ازدياد الهوّة العميقة في توزيع الثروة بين من يملكون ولا يملكون؛ حيث ما يزال 1% من سكان العالم، يملكون أكثر من 80% من الموارد.
وإذا كان تقرير «الإيكونوميست» قد شخّص حالة التراجع الديمقراطي لدول عريقة، فماذا سنقول بالنسبة للعالم العربي؛ حيث النزاعات والحروب الأهلية وصعود موجات الطائفية والنعرات العنصرية واستشراء التعصّب والتطرّف وتفشي ظاهرتي العنف والإرهاب التي ضربت بلداناً بكاملها ليس بعيداً عنها تداخلات إقليمية ودولية.
والسؤال الذي يثور هنا: هل هناك ديمقراطية واحدة أم ثمة توجهات مختلفة وخصوصية لتحقيقها مع مراعاة القواعد والمشتركات العامة؟ وماذا نسمّي الصين التي حققت تنمية هائلة خلال ربع القرن الماضي؟
ويمكننا القول استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 4 ديسمبر/كانون الأول عام 2000 بخصوص الديمقراطية، أنه لا يوجد نموذج عالمي واحد للديمقراطية، وأن الديمقراطية لها طبيعة غنيّة ومتنوّعة تنجم عن معتقدات وتقاليد اجتماعية وثقافية ودينية للأمم والشعوب، وإن جميع الديمقراطيات تتقاسمها خاصيات مشتركة، أي أنها تقوم على أساس المشترك الإنساني للتجربة البشرية الكونية.
وكان «المشروع النهضوي العربي» الذي أنجزه «مركز دراسات الوحدة العربية» وناقشه لأكثر من عقدين من الزمان وضع سبعة مؤشرات للانتقال إلى الديمقراطية، طبقاً للمعايير الكونية مع مراعاة الخصوصية:
أولها الحرّيات العامة وحقوق الإنسان، وثانيها تكريس التعدّدية، وثالثها إقرار النظام التمثيلي(المحلّي والنيابي)، ورابعها فصل السلطات، وخامسها إقرار نظام دستوري يحظى بشرعية شعبية، وسادسها التداول السلمي للسلطة، وسابعها إقرار نظام اجتماعي اقتصادي يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية وفرص متكافئة.
drshaban21@hotmail.com


265
وهو ما دققته في كتاب فوّاز طرابلسي المشار إليه، أيضاً.
   وسألته عن أحداث 13 يناير هل كان يمكن تفاديها؟ فقال إن الصدام بدا لا مفرّ منه بسبب تمترس الفريقين وتمسّكهما بمواقفهما، ولمّح إلى أن من أسباب انهيار التجربة هو الصراع على السلطة بين سالمين وعبد الفتاح في المرحلة الأولى، وبين علي ناصر محمد وعبد الفتاح اسماعيل في المرحلة الثانية، وحين طلبت منه استعادة صورة تلك الأحداث خلال زيارتي لعدن في العام 1987 روى لي ما حصل من صراع المكتب السياسي وكان مقرراً أن يكون الاجتماع الذي تفجّر به الموقف هو حضور الرئيس علي ناصر محمد، الذي جاء سكرتيره بحقيبته، ثم فوجئ الجميع باندلاع الرصاص، وحين سألته أين كنت أنت؟  قال أنه  تأخر في الوصول بمحض الصدفة ومعه صالح منصر ووصلا إلى  الاجتماع بعد نحو 20 دقيقة، وكان كل شيء قد انتهى فسمع إطلاق الرصاص وشهد جزءً من الصدامات ودونت تلك الملاحظات في " الإثنين الدامي في عدن".
   وبالعودة إلى أحداث ما بعد الوحدة والصراع المسلّح الذي تفجّر في العام 1994 قال: لقد تدهورت الأمور وساءت الأوضاع، خصوصاً بتفكيك منجزات الجنوب، بما فيها القضاء المدني الذي تسلّم حقيبة وزارة العدل فيه عبد الواسع سلّام (من الاشتراكيين) وتم الضغط عليه لمنع النساء القاضيات من مزاولة عملهن، وحين رفض وتمسّك بهن وبالكفاءات كما كان في الجنوب، تعرّض إلى محاولة اغتيال  واضطرّ إلى تقديم استقالته.
   وهكذا سارت أمور الدولة وضاقت قاعدتها الاجتماعية وتم تهميش الحزب الاشتراكي وفشل المطالبات بتصحيح المسار، فاعتكف البيض في منزله وقدّم برنامجاً من 18 نقطة، وحاول الضغط عبر المجتمع الدولي، فقام  بزيارة واشنطن والتقى آل غور نائب الرئيس الأمريكي حينها، واعْتقدَ أن واشنطن والرياض يؤيدانه في هذا المسعى.
   وبُذلت محاولات للاتفاق كان آخرها في عمان عشية الصدام حيث تم توقيع ما سمّي " اتفاق العهد والوفاق" الذي كان جارالله أحد الموقعين عليه ، لكن هذا الإعلان ولِدَ  كسيحاً، وسرعان ما تم تجاوزه حيث اندلعت الحرب في 21 أيار/مايو/ 1994 باستعادة المحافظات الجنوبية، وجرت محاولات لاستعادة اسم "جمهورية اليمن الديمقراطية" بشطب كلمة "الشعبية" ، وقد رفض عدد من القيادات الاشتراكية الانفصال من الناحية المبدئية وفي مقدمتهم جارلله عمر، وأعرب عن موقفه هذا غير مكترث بالاتهامات والتشويهات والضغوط، وقد اضطرّ إلى مغادرة عدن متوجهاً إلى القاهرة، وهناك كانت حزمة أخرى من المراجعات والاستعادات قد جرت معه.
   كانت نظرة الفريقين إلى الوحدة خاطئة، ولكل منهما هدفه منها، فعلي عبدالله صالح نظر إلى الوحدة مع الجنوب كونها عودة "الفرع إلى الأصل"،(هكذا جاءوا صاغرين وبشروطنا)  وعلي سالم البيض اعتقد أن ثمن الوحدة سيكون مشاركة حقيقية ومساواة في الحقوق والواجبات، والتخلّص من الأزمة الطاحنة التي لفّت الجنوب عشية الوحدة، ولكن الأمور سارت بغير ما تشتهي سفن البيض منذ البداية، فتألف مجلس الرئاسة من خمسة أعضاء، ثلاثة من الشمال واثنان من الجنوب. وكانت الغلبة فيه للشمال، ناهيك عن الجيش وأجهزة الدولة، وتحصّنت مؤسسة الرئاسة بحمايات وحراسات خارج المألوف.
   ويذكر فواز طرابلسي إن حيدر أبو بكر العطاس، وهو أول رئيس وزراء بعد الوحدة اليمنية، حين سُئل أين تذهب عائدات النفط؟ أجاب إلى خزينة الدولة بالطبع، فما كان من الرئيس إلّا أن قال له: تذهب إلى الرئاسة وتوضع تحت تصرفها، إسوة بالملوك والأمراء في دول الخليج.
   وإذا كانت المملكة العربية السعودية ضد حكم الاشتراكيين في جنوب اليمن، لكن قيام وحدة على حدودها ليمن واحدة موحدة، لم يكن ليروق لها، ولذلك كانت تميل إلى بقاء الحال على ما هو عليه، وحسب جار الله عمر، فإنها دعمت علي سالم البيض مادياً، وقد ساعد هذا على الافتراق ، ناهيك عن ارتداد علي عبدالله صالح عن اتفاقية الوحدة وإضعاف الحزب الاشتراكي وتبهيت صورته، واستبعاد علي سالم البيض من دائرة القرار، أي إنه انقلب على شراكة الحزبين وعلى المشاركة في القرار بين الرئيس ونائبه (البيض).
   وفي العام 1995 و1996 وما بعده كنّا نلتقي لقاءات متواصلة في القاهرة وكان يتّصل به الرئيس علي عبدالله صالح على نحو متكرّر، وأحياناً يومياً ويدعوه للعودة، خصوصاً بعد أن استتبت له الأمور، فسألني ما هو رأيك بالعودة إلى اليمن بعد وعود وتطمينات من جانب الرئيس؟ وهناك ضمانات لعودتي ومن الرئيس مباشرة ووعود بعدم التعرّض لي، ومع كل هاتف كان يعيد عرض شروطه وشروط الحزب الاشتراكي لتطبيع الحياة السياسية مثل إطفاء قضايا التعقيبات والملاحقات وإصدار عفو عام  والتمهيد لعودة المنفيين الآمنة وإعادة ممتلكات الحزب الاشتراكي وإجراء إصلاحات سياسية وإقرار التعددية.
   قلتُ له شخصياً أنا مع العودة، لكن الأمر متروك لك وأنت تقدّر ظروفك على المستوى الشخصي والسياسي، خصوصاً موضوع الثقة الذي هو ضروري ولا غنى عنه في أي عمل أو تحالف، وبما أن الرئيس هو من يتصل بك وهو الذي يدعوك، فلعلّها فرصة جيدة وإيجابية لفتح صفحة جديدة ومعالجة آثار الماضي، بتوسيع دائرة الحريات، وقد تسهّل هذه العودة فتح حوار وطني عام وشامل ، ومثل هذا الدور لا يستطيع أحد أن يلعبه أفضل منك، ومع احترامي ومحبتي وتقديري لجميع الرفاق من قيادة الحزب الاشتراكي، إلّا أن دور جار الله كان متميّزاً لشخصيته المحورية الجامعة، وبقدر ما يتّصف بصلابة مبدئية فلديه مرونة عالية وقدرة كبيرة على مدّ الجسور مع الآخرين، لاسيّما بتواضعه الجم وتهذيبه وحنكته السياسية وخبرته العملية. ويعرف الرفيق ياسين نعمان (الأمين العام السابق) ود. محمد المخلافي نائب الأمين العام الحالي للحزب الاشتراكي رأيي هذا  كما يعرفه آخرون أيضاً بمن فيهم محمد عبد الملك المتوكل وعبد الملك المخلافي وعبد العزيز المقالح وعز الدين سعيد الأصبحي.
   كنت واثقاً أن جار الله عمر يستطيع أن ينهض بمثل تلك المهمة، فهو قادر على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق وتحجيم الخلافات وإيجاد الحلول والمعالجات وتقديم التنازلات والوصول إلى اتفاقات، بحكم شخصيته الكارزمية والتي تحظى باحترام الفرقاء المختلفين، وهو يتصرّف بعفوية ولباقة في الآن.
   وقد سألني ماذا لو اتصلّ بك الرئيس صدام حسين وطلب منك العودة بنفس الضمانات التي قدّمها لي الرئيس علي عبدالله صالح، فهل ستعود؟ قلت له كلّا، فسألني لماذا؟ فقلت له لقد طرحنا عليه مشروع عودة جماعية أساسها تطبيع الحياة السياسية بعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية العام 1988 التي كان موقفنا منها معروفاً، خصوصاً بعد توغّل  القوات الإيرانية في الأراضي العراقية، ولكنه تصرّف بعدم مسؤولية وغرور، ولم يكن مستعداً لقبول الرأي الآخر، وحصل ما حصل بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، فأجهز على ما تبقى من هوامش، محتكراً العمل السياسي والنقابي والاجتماعي والثقافي والرياضي غالقاً جميع المنافذ، علماً بأن دائرة الحكم وقاعدته الاجتماعية أصبحت أضيق من قبل بكثير، ولاسيّما بعد اشتداد تأثير الحصار الدولي الجائر.
   فالمسألة بالنسبة لي ليست عودة شخصية بقدر ما هي توجّه وطني عام بعد أن عانت البلاد من حروب ومغامرات وهي تعاني حالياً (آنذاك) من حصار دولي وهدر سافر وصارخ لحقوق الإنسان، يضاف إلى ذلك إن نظرتي تمايزت اليوم عن البارحة، وبالنسبة لي ومن منظور حقوقي لست ضد حاكم بعينه، بل ضد الاستبداد والطغيان من أي أتى، في حين إن المعارضات ضد الحاكم وليست ضد الاستبداد، بل إن بعضها يستسيغ التعاون مع قوى أجنبية أو استبدادية تحت ذرائع أو مبررات التخلص من الحاكم، وبعضها لا يقل سوءًا عن الحاكم نفسه، وحسب أدونيس " السلطة في مناوئيها" أو "قفا السلطة" حيث يتناوب هؤلاء: الوجه والقفا. وبقدر ما تذهب النظرة الحقوقية لانتقاد الحكم وتدعوه للالتزام بشرعة حقوق الإنسان، فإنها تدعو المعارضة كذلك، وتلك مهمة مزدوجة ومركبة وحسّاسة وقد لا ترضي الطرفين.
   لقد أخذت أتعاطى السياسة من زاويتها الثقافية والحقوقية والفكرية، وأتعامل مع الجميع من نفس المنظور، وأضع مسافة واحدة من الجميع (السلطة والمعارضة) ومعياري هو مدى القرب أو البعد من احترام الإنسان وحقوقه الأساسية والشخصية، ناهيك عن المصالح الوطنية والقومية العليا، وبالنسبة لي الحساسية الإنسانية هي الأساس، وليس الموقف المنحاز سلفاً لاعتبار سياسي أو آيديولوجي أو إثني أو ديني.
   قلت له إن عودتك مؤشر لانفتاح سياسي وليس شخصي، وكنّا نقلّب الأمور حيث كنت أقيم في فندق Hilton القاهرة وهو يسكن في الدقي، فكنت أوصله إلى منزله مشياً على الأقدام ويستمر حوارنا ولكن حديثنا لم ينتهِ، فيعود هو لإيصالي إلى الفندق، وأعود أنا لإيصاله مرّة أخرى إلى منزله، وهكذا حدث ذلك لأكثر من مرة ولأكثر من سفرة لي للقاهرة.
    وقد هاتفني عشية قراره بالعودة لليمن ليبلغني بأنه سيعود، وفعلاً عندما عاد لليمن أصبح محطة استقطاب للعائدين من جهة ونواة للقاء الوطني بين مختلف الأطراف السياسية الأخرى، وتدريجياً احتلّ مكانة متميّزة في علاقته مع الحزب الحاكم (المؤتمر) ومع شريكه حزب التجمع اليمني للإصلاح ومع التنظيم الناصري وبعض القوى القومية الأخرى، بما فيها جناحي البعث العراقي والسوري، وكنت كلما أزوره في منزله في جلسة (قات) أرى عشرات من الأصدقاء يجتمعون في بيته، سواء من قيادات الأحزاب أو من قيادات المجتمع المدني ونخبة من الأكاديميين والمثقفين والأدباء، وأحياناً بعض الشخصيات الأجنبية التي تزور اليمن.
   وكم من مرّة كلّفته لمساعدة عراقيين فارّين من القمع والحصار، سواءً لإيجاد عمل أو للحصول على إقامة أو لتسوية بعض أمورهم، كان آخرهم على ما أتذكّر د. فدوى محمود وفاضل العكّام وجهاد زاير.
 
جار الله عمر مع الدكتور شعبان والدكتورة فدوى محمود وفاضل العكام  وجهاد زاير
   لم يكن اغتيال جار الله عمر شخصياً، فلم يكن له عدو واحد حسب معرفتي المتواضعة، وحتى لو كان له خصوم كثيرون لكنهم دون استثناء يعترفون بفضله على اليمن وعلمه وحلمه ومعرفته ووسطيته واعتداله كما أعتقد، ولذلك فالقاتل لم يكن فرداً يمتلئ قلبه بالحقد والكراهية والتعصّب والتطرّف، أو مجرماً عادياً، بل كان مركباً من مجموعة من العوامل ساهمت في اغتياله، سواء من بعض أجنحة الحزب الحاكم أم ذيوله، ناهيك عن تداخلات أخرى، لدق إسفين بين الحزب الاشتراكي وحزب الإصلاح الذي كان يحضر مؤتمره وفرِغ لتوّه من إلقاء كلمته، فتقدّم منه القاتل وأطلق النار عليه، وقد كان اغتياله اغتيالاً للوحدة اليمنية وللتسامح اليمني وللاعتدال والثقافة والتحوّل الديمقراطي ولكبرياء التواضع.

266
جار الله عمر
كبرياء التواضع
عبد الحسين شعبان


الشهيد جار الله عمر
   
   مع كل ذكرى تحلّ لاستشهاد الرفيق جار الله عمر، أشعر بغصّة  ومرارة لفقدانه، وهو في أوج عطائه وتألقه قائداً وطنياً جامعاً وعروبياً أصيلاً واشتراكياً متنوّراً، ولهذا فقد ترك غيابه فراغاً كبيراً لا يمكن  تعويضه بسهولة، خصوصاً في ظروف اليمن الحالية والأوضاع العربية بشكل عام.
    وكنت أشعر بالحرج مع نفسي لأنّني لم أكتب عنه لأعبّر عن فداحتي وخسارتي الشخصية لصديق مثله ، ولكنني قرّرت إدراج اسمه على مخطط لكتاب أنوي إصداره عن عدد من الشخصيات العربية والعالمية، وجاءت الفرصة هذا العام، حين اتصل بي إعلامي نابه من شبيبة الحزب الاشتراكي اليمني، سبق أن أجرى معي مقابلة في صنعاء في العام 2011 على ما أتذكّر، وطلب مني شهادة شخصية عن جار الله عمر، وهو في موقع نضالي متقدّم من أرض  الوطن، ولم يكن لي إزاء هذا الطلب إلّا الاستجابة بكل ممنونية وهذا ما كنت أنتظره.
   فالكتابة أولاً- هي شهادة عن صديق ورفيق عرفته  منذ عقود من الزمان واشتركت معه بآمال وهموم وخيبات في ظروف مختلفة،
    وثانياً- هي شهادة في الوقت نفسه عن تجربة اليمن الديمقراطية، بما لها وهو كثير، وما عليها وهو ليس بقليل، وآن الأوان لمراجعة تجاربنا من موقع نقدي منفتح بعيداً عن التعصّب والانحياز، لاسيّما في كشف أخطائنا.
   وثالثاً- إن هذه القراءة الارتجاعية واستعادة التاريخ هدفها المستقبل، خصوصاً واليمن يعيش ظروفاً بالغة القسوة والتعقيد، سواء على مستوى السلطة والصراع الداخلي الدموي أم على صعيد الحرب المشتعلة فيه منذ العام 2015، يضاف إلى ذلك الأوضاع المعيشية والصحية الكارثية بكل معنى الكلمة، حسب توصيف الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية. ولهذا تصبح الكتابة عن جار الله عمر والتجربة اليمنية "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يُقال.
   والاستهلال يبدأ من لقائي الأول بجار الله عمر وزيارتي الأولى لعدن واليمن (العام 1974)، فقد كنت في كل لقاء وحوار وجدل معه أزداد إعجاباً بتواضعه الكاريزمي وكبريائه المعرفي وومضاته الفكرية، مثلما أزداد اندهاشاً بالتجربة اليمنية وبالشعب اليمني، وهو ما قلته في شهادتي المتلفزة والموجهة لشابات وشبان يحتفلون بالذكرى الـ 16 لاستشهاده. والكتابة عنه بلا أدنى شك ستكون ذو شجون لجهة رمزيته وشخصيته الجامعة ودوره الفعّال والمؤثر، ناهيك عن أي حديث عنه إنما هو حديث عن اليمن، وستكون مثل هذه الكتابة مراجعة مع الذات وبصوت عال من موقع النقد والنقد الذاتي المسؤول.
I
   ولأن التجربة اليمنية امتازت برومانسية عالية  سواءً من داخلها أو من خارجها لدى اليسار العربي بتوجهاته المختلفة وأجنحته المتعددة، لجهة علاقتها بحركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية بشكل خاص أو لجهة منجزاتها ومكاسبها، ناهيك عن المنعرجات التي مرّت بها والمآلات التي وصلت إليها، ولذلك فهي تحتاج إلى وقفة تأمّل وتساؤل مشروع ومراجعة ضرورية: فهل كنّا أمام تجربة "اشتراكية" أم تجربة "ذات توجّه اشتراكي" كما وصفها المنظّرون السوفييت؟ أم هي "مقدمة للثورة الوطنية الديمقراطية" كما أعتقد،  لأن مهماتها كانت متداخلة ومتشابكة لدرجة الاندغام وفي طليعتها الانتقال من السيطرة البريطانية المباشرة والإرث الاستعماري الطويل الأمد إلى نظام وطني بفعل ثورة مسلحة، وصراعات داخلية عشية الاستقلال وقيود وعقبات قبلية ومناطقية وعادات وتقاليد ثقيلة وأوضاع اقتصادية ومعيشية متخلفة وتآمر خارجي دولي وإقليمي.
   ومقابل ذلك كان هناك نخبة متميّزة من الثوريين الحالمين الذين عركتهم المعارك وتصلّب عودهم في المواجهة، ولاسيّما المسلحة، كل عدّتهم إرادة سياسية صلبة ومبادئ عامة ذات نزعة عروبية وتطلعات لحياة أكثر عدلاً وإنصافاً، وهكذا وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام مهمات جديدة ومعقّدة، فهم لا يمتلكون تجربة كافية لا في الإدارة ولا في الاقتصاد ولا في الدبلوماسية والسياسة الدولية ولا في العمل العام. لذلك فالقول إنها مقدمات للثورة الوطنية الديمقراطية ليس افتئاتاً عليها أو انتقاصاً من شأنها وتقليلاً من قيمتها، مثلما لا ينبغي المبالغة في تعظيمها وتبجيلها ونسيان أخطائها. وواجهت اليمن من حيث الجوهر مهمات مركبة ومزدوجة وطنية واجتماعية، يضاف إليها هدف وحدوي باتحاد الشطرين الجنوبي والشمالي الذي ظلّ هدفاً تسعى إليه.
   لم تكن اليمن يومها تمتلك أية قاعدة صناعية أو إنتاجية، وليس فيها طبقة عاملة مؤثرة، وإن نسبة الأمية كانت مرتفعة وإن الإرث الاستعماري البريطاني كان قوياً، إضافة إلى الروابط الاجتماعية القبلية والجهوية، فضلاً عن انتشار السلاح، وهناك من أورد عشية أحداث اليمن، خصوصاً حين اندلعت الاحتجاجات الشعبية في 27 كانون الثاني (يناير) 2011 ضد حكومة علي عبدالله صالح بأن عدد سكان اليمن نحو 30 مليون نسمة في حين أن عدد قطع السلاح تزيد عن 68 مليون قطعة، وحسب وصف يمني طريف يقول " يولد اليمني والبندق معه" والمقصود إن السلاح رفيق الرجال، فلا رجولة دون السلاح، وتلك واحدة من القيم اليمنية القبلية المؤثرة والتي لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند وضع برامج التحوّل الديمقراطي.
   لعلّ تلك الرومانسية كنت قد شاهدتها بأن عيني في اليمن خلال زيارتي الأولى حين لمحت تظاهرة شعبية، فاقتربت منها لأسمع شعاراتها وإذا بها تطالب بتخفيض الرواتب : واجب علينا واجب / خفض الرواتب واجب/ واجب علينا واجب/ حرق الشوادر(النقاب)/ واجب ولم أسمع في حياتي حزباً أو جهة أو شخصاً يطالب بتخفيض راتبه، فما بالك إذا كان  زهيداً، إلّا في اليمن. ولذلك كنت أتندّر مع محمود راشد (مدير دائرة المجتمع المدني في جامعة الدول العربية - القاهرة): ونهتف معاً: واجب علينا واجب/خفض الرواتب واجب (وهو شاهدناه سويّة في عدن آنذاك).
   وقد وصف ديفيد هيرست تلك التجربة المثيرة بـ " اشتراكية بدوية بوجه إنساني" تمثّلاً بحركة دوبشك الإصلاحية التشيكوسلوفاكية "اشتراكية بوجه إنساني"(ربيع براغ 1968)، لكن التجربة لم تكن بدوية، وإنما يمكن توصيفها بتجربة رومانسية ثورية بمسحة قبلية- ريفية في إطار مؤدلج منفصل عن الواقع ومستنسخ لتجارب اشتراكية مختلفة، من حيث الظرف والمنشأ والتكوين والتطوّر الاجتماعي، وكان الروائي أبو كاطع (شمران الياسري) يتندّر على بعض أنظمة العالم الثالث الدكتاتورية ذات الطبيعة الشمولية المتخلّفة ويسمّيها "فاشية بدوية" أو "فاشية ريفية" لعدم تمركز رأس المال المالي حسب التعريف الكلاسيكي للفاشية.
   وبتقديري إن اليمن كانت قد بالغت باتخاذ إجراءات التأميم التي شملت مساكن وورش صيد وبعض المرافق البسيطة، ولم تكن مثل تلك الإجراءات التي حصلت في العالم الثالث دليل التحوّل الاشتراكي، بقدر ما هو تقليد لبلدان "الأصل" الاشتراكية، التي هي الأخرى شوّهت الفكرة الاشتراكية الإنسانية بمثل تلك التطبيقات الصارمة والتي حدّت من دور القطاع الخاص وقلّصت إلى حدود كبيرة من المبادرات الشخصية .
   ويحتاج التحوّل الاشتراكي إلى بناء قاعدة صناعية وإنتاجية وتحقيق تنمية متوازنة وعلى جميع الصُعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية وغيرها، مثلما يفترض في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية دعم الصناعات الوطنية  والقطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمار الداخلي وتحقيق نهوض تعليمي ، بالقضاء على الأمية ووضع القوانين والأنظمة التي تساعد على تمكين المرأة تمهيداً لتحرّرها ومساواتها مع الرجل، خصوصاً في ظل حكم القانون، ولعلّ ذلك هو الذي يقود إلى النضج والتراكم والاكتمال، لكن التياسر والاندفاع الثوري كان جزءًا من الرومانسية  الثورية لتلك المرحلة، ولم تكن اليمن لتشذّ عنها، حيث كنّا نرفع أكثر الشعارات رنينياً وصخباً معتقدين أنها "الثورية" بعينها ، دون أن ندري أن بعضها كان بالضد لما أشار إليه لينين في كتابه "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية"،(صدر في العام 1920) الذي كثيراً ما كنّا نتغنّى به .
   وإذا كان الطابع الرومانسي والحلم بقيام اشتراكية في هذا الجزء الفقير من العالم ، والذي كانت ميزانيته عشية الاستقلال 1967 (خمسة ملايين جنيه استرليني) فإن الطابع العنفي- الدموي كان شديد الوضوح فيها، ولم يختلف الشمال عن الجنوب حيث ذهب رؤساء عديدون ضحية العنف والصراع الدموي على السلطة ابتداء من فيصل عبد اللطيف ومروراً بقحطان الشعبي وابراهيم الحمدي وأحمد الغشمي وسالمين (سالم ربيّع علي) وعبد الفتاح اسماعيل.
   وشهد العديد من البلدان  ذات الطابع الشمولي مثل تلك الإرتكابات وكنت قد أشرت في مقالة لي بعنوان" العنف وفريضة اللّاعنف- شذرات من تجربة شخصية" المنشورة في مجلة آفاق أدبية، بغداد، العدد 3-4، 2017 ، إن الآيديولوجيات الشمولية جميعها  وقعت في نهاية المطاف ضحية نفسها، فـ"العنفية العقلانية" التي حاولت التعكّز عليها لم يكن هدفها سوى إيجاد "مبرّرات" مشروعة لها لممارسة العنف ونزع سلاح الخصم وإرغامه على الانصياع، لكن تلك "المنطلقات" ذاتها، استخدمت كذريعة للتصفيات الداخلية بزعم التآمر أو مخالفة المبادئ أو ما سوى ذلك من حجج راح ضحيتها أقرب الناس إليها.
   وكم من مرّة في التاريخ القريب وليس البعيد "الثوري وغير الثوري" يحصل هذا. ونستحضر هنا ما قام به أدولف هتلر في الحادثة المشهورة بـ "ليلة السكاكين الطويلة" أو "عملية الطائر الطنان" وهي عملية التطهير التي وقعت في ألمانيا النازية بين 30 حزيران(يونيو) و 2 تموز(يوليو) 1934، عندما نفذ النظام النازي سلسلة من عمليات الإعدام السياسية خارج القضاء شملت المئات من أنصار النظام.
   أما مجزرة الثلاثينات وما بعدها التي ارتكبها جوزيف ستالين بحق رفاقه في الحزب، فقد أصبح العدد بمئات الآلاف، بل بالملايين، وكانت محاكمات العام 1936 -1938 كوموتراجيديا حقيقية، حيث أجهز ستالين في محاكمات صورية على الحرس البلشفي الأول وقادة ثورة أكتوبر، والذي شمل قيادات تاريخية مثل بوخارين وزينوفيف وكامينيف  ومجموعة كبيرة من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية واتهمهم بالتخريب والتآمر لصالح الامبريالية والتجسّس لحساب بريطانيا وألمانيا واليابان .
   واقتفى أثره منغستو هيلا ميرام (أثيوبيا)  الذي دعا قيادته إلى وليمة للدم فقام بتصفيتهم، وعرفت فترة حكمه بالإرهاب الأحمر، حيث قتل مئات الآلاف من الخصوم والأعداء، وخصوصاً في أعوام 1977-1978بزعم ثوريته وماركسيته وحزمه ضد المؤامرات الخارجية.
   أما بول بوت (كمبوديا) فقد قتل في الفترة ما بين 1974-1979 ما يزيد على ثلث السكان البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة، حيث يقدّر عدد ضحاياه بنحو ثلاثة ملايين  وفرض نمط حكم استبدادي تحت عنوان تحقيق الاشتراكية الزراعية، فأجبر سكان المناطق الحضارية على الانتقال إلى الريف للعمل في المزارع الجماعية.
   وشهدت بغداد مجزرة مروّعة قام بها صدام حسين عُرفت بمجزرة "قاعة الخلد" (تموز/يوليو) العام  1979 التي أودت بثلث القيادة القطرية لحزب البعث وعشرات من الكوادر المتقدّمة في محكمة خاصة وبمحاكمة صورية بزعم اكتشافه مؤامرة.
   وحصل الأمر على نحو مشابه في أحداث اليمن والصراع الدموي الذي راح ضحيته قيادات بارزة من الحزب الاشتراكي وفي مقدمتهم "عبد الفتاح اسماعيل"، إضافة إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل، في صراع عبثي أغرق التجربة بالدم.
   وبعد فالتجربة اليمنية مثل كل التجارب الاشتراكية الأخرى  اتسمت بالشمولية والوحدانية وادعاء الأفضليات واحتكار الحقيقة، ولهذا كانت تزعم أنها تحكم باسم "كل الشعب"، ولذلك احتكرت العمل السياسي والنقابي والاجتماعي، وكان شعار الجبهة القومية " كل الشعب قومية/ تحيا الجبهة القومية" الذي اتخذه المؤتمر الخامس للجبهة القومية المنعقد في آذار/مارس/ العام 1972، وعلى نفس المنوال حاك صدام حسين  شعاره"الجميع بعثيون وإن لم ينتموا " وتحكّمت تلك التجارب بالإعلام والثقافة والفنون والآداب والتجارة والسياحة والرياضة، وفرضت سلطتها بواسطة أجهزة الأمن والمخابرات ذات الصلاحيات الكبيرة باسم " أمن الدولة" وكان من أبرز سماتها جعل قرارات الحزب فوق الدولة، وهذا الأخير في نهاية المطاف خضع لأجهزة المخابرات التي كان يتحكّم فيها الولاء للزعيم والقائد الذي بيده جميع السلطات.
II
   كنتُ قد تعرّفتُ على جارالله في آذار (مارس) العام 1974 عند أول زيارة لي لعدن حيث ألقيت محاضرة في ندوة طلابية وشبابية بعنوان "ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي" نشرت في جريدة "طريق الشعب" العلنية حينها، وكان قد عرّفني عليه الرفيق شايع محسن الذي أصبح عضواً في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وفيما بعد سفيراً لليمن "الموحّدة" في العام 1990 في لندن، وتعرّفت في الوقت نفسه على سلطان أحمد عمر (الذي ساهم في الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب، وكانت الشرارة الأولى قد انطلقت من جبال ردفان) وقد حملت له رسالة من الصديق أحمد محمد زيدان الذي درس معنا في العراق في جامعة بغداد وتخرجنا في العام نفسه 1967-1968 (أصبح سفيراً لبلاده في كوبا) وانضم إلى الحزب الديمقراطي الثوري ليصبح عضواً في لجنته المركزية حيث كان سلطان أحمد عمر أمينه العام .
   والتقينا في أحد الأماسي في عدن: جار الله عمر وشايع محسن وسلطان أحمد عمر وسعيد سيف (عبد الرحمن النعيمي) الذي تعرّفت عليه في تلك الزيارة الأثيرة، حين كان قادماً من ظفار. كتبت عن النعيمي وعلاقتي الخاصة به في كتابي الموسوم" عبد الرحمن النعيمي : الرائي والمرئي وما بينهما" دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 2016.
 
جار الله عمر مع عبد الرحمن النعيمي

   كما التقيتُ في تلك الزيارة سالم ربيّع علي (سالمين) رئيس مجلس رئاسة الشعب الأعلى الذي كان يوصف بأنه " بوخارين" الجبهة القومية "القائد المحبوب" وصاحب المبادرات ودعانا  إلى بيته بحضور الروسي فلاديمير(فولوديا) والسوداني حسن أبا سعيد والألماني كجمن، وكان معنا جار الله عمر وآخرين.
   كما استمعت في تلك المناسبة إلى عبد الفتاح اسماعيل  الرؤيوي والمثقف والأديب الذي ألقى محاضرة بحضور نخبة متميّزة من الحاضرين وجمع من قيادات الجبهة القومية، وسألني على هامش المحاضرة عن أوضاع العراق وكيف تسير "الجبهة الوطنية" ونظرة الحزب الشيوعي إزاء المستقبل.
   والتقيت بعدها بعلي ناصر محمد رجل الدولة وصاحب الكفاءة الإدارية كما عُرف لاحقاً، الذي كان حينها رئيساً للوزراء، وفي زيارتي الثانية لعدن التقيت به حين تبوأ منصب رئاسة الجمهورية وكنت برفقة عامر عبدالله ونزيهة الدليمي لحضور مؤتمر دولي لمجلس السلم العالمي حول الوجود العسكري الإمبريالي في مطلع العام 1982، وبعد أن غادر المسؤولية التقيته مرّات كثيرة في دمشق والقاهرة وبيروت.
   وكم كانت دهشتي كبيرة أن تلك اللقاءات تجري خارج البروتوكولية التي نعرفها والبيروقراطية الحزبية المراتبية، ولعلّ كل شيء في اليمن في تلك الفترة كان عفوياً وتلقائياً، وأتذكّر أن لقاء تلفزيونياً ضم الممثل السوفييتي والممثل الألماني الديمقراطي وكاتب السطور دام نحو ثلاث ساعات وكان البثّ مباشراً، ولقي اهتمام المسؤولين قبل المشاهدين جرى فيه التطرّق للأوضاع العربية والعالمية ودور الشباب والطلاب المستقبلي.
    وكان تعليق جار الله عمر: نحن نحتاج إلى مثل هذه الحلقات المباشرة أسبوعياً لتثقيف شبيبة اليمن وإطلاعهم على التجارب العالمية والعربية، بما يعزّز وعيهم ويزيد من تلاحمهم مع أشقائهم وأصدقائهم. وحين قلت له يمكنكم إعادة البث خلال فترات متباعدة، فاجأني بأن البثّ كان مباشراً وبدون " فيديو تيب"، حيث كان التلفزيون اليمني في أول عهده. وقد علّق صديقنا السوفييتي حينها إن تلفزيون عدن هو أكثر تلفزيون "ديمقراطي" في العالم، فقد كانت دهشته كبيرة، حين عرف أن كلّ شيء يجري دون رقابة وحذف ومونتاج وتدقيق.
   حين شاهدني فخري الدليمي الذي قنصلاً في السفارة العراقية (أصبح سفيراً في قطر لغاية العام 2003) في التلفزيون، قام بزيارتي في اليوم التالي صباحاً إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه، فقد كنّا زملاء في الكلية، وكان هو عضواً في حزب البعث في حينها وقد تزاملنا في سفرة إلى القاهرة في شباط/فبرايرالعام 1965.
   وكان أن صادف وجود فوّاز طرابلسي من قيادة منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، في عدن وتعرّفت عليه في تلك الزيارة. وبالمناسبة ظلّ فواز طرابلسي الأكثر التصاقاً بالتجربة اليمنية والأكثر إخلاصاً لها، وقد أصدر كتاباً مهماً عنها بعنوان " جنوب اليمن في حكم اليسار" - شهادة شخصية (دار رياض الريّس، بيروت، 2015). وهو عبارة عن حوارات معمّقة وباذخة أجرتها معه الكاتبة والروائية المناضلة بشرى المقطري.
   وفي زيارتي الأولى كان جار الله عمر وسلطان أحمد عمر، يتردّدان على فندق 26 سبتمبر في التوّاهي الذي مكثت فيه في عدن، وقد اصطحباني في جولات إلى مناطقها المختلفة من العروسة والمعاشيق وحي كريتر إلى التوّاهي وخورمكسر والصهاريج والمناطق الجديدة وعلى امتداد الساحل.
III
    ما إن التقينا جار الله وأنا حتى شعر كل منا بعلاقة خاصة أو خصوصية مع الآخر، فهناك نوع من الكيمياء ربطتنا، وامتدّت هذه إلى سنوات طويلة حتى استشهاده، وقد نقلت ذلك لعامر عبدالله  خلال زيارتنا إلى عدن لتمثيل اللجنة الوطنية العراقية للسلم  في وفد برئاسته وعضوية نزيهة الدليمي وكاتب السطور كما أشرت، وكان أن زارنا جارالله عمر مع مجموعة من الأصدقاء في أحد الأماسي حيث مكان إقامتنا في العروسة مع الوفد السوري برئاسة أحمد الحسن الذي أصبح وزيراً للإعلام وعضوية موريس صليبا عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري وعطية الجودة (متفرّغ في القيادة القومية السورية وعامل في مجالات التضامن والسلم)، وكان عامر عبدالله يعتقد أن إسكاننا في العروسة هو مزيد من التكريم لنا، في حين أقامت بقية الوفود في فندق عدن الدولي، وحين سأل جار الله عمر، أجابه على استحياء: لقد تم تخصيص هذا السكن للوفدين العراقي والسوري خشية من الاحتكاك مع الوفد العراقي الرسمي برئاسة د. عصام عبد علي.
   وحين زرت اليمن مكلّفاً من الكتل الحزبية التي تمايزت عن إدارة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1987 كنت أول من اتصلت به بعد عبد الجليل غيلان من منظمة التضامن الأفرو آسيوي، جار الله عمر الذي رافقني أيام زيارتي، واتصلا بمحسن (محمد سعيد عبدالله) الذي أصدر لي جواز سفر يمني خاص استخدمته لنحو 5 سنوات لتسهيل مهمتي وحصولي على تأشيرات الدخول، وكنت قبل ذلك ومنذ أوائل الثمانينات قد استخدمت جواز سفر يمني وآخر سوري. وكان نوري عبد الرزاق قد زار اليمن قبلي وأجرى مباحثات  مع اليمنيين  وأطلعهم على خلافاتنا مع إدارة الحزب.
   خلال وجودي في عدن تمكّنت من إرساء علاقة خاصة مع اليمنيين وتسهيل أمور بعض رفاقنا الذين كانوا مهدّدين بالطرد من جانب الجناح الرسمي، ومنهم علي شوكت عرمش المغضوب عليه آنذاك و4 من الرفاق الآخرين الذين استحصلت لهم جوازات سفر يمنية، إضافة إلى 7 من رفاقنا في سوريا. وقد اجتمعت في هذه الزيارة بسالم صالح نائب الرئيس آنذاك، وقام بترتيب اللقاء الفنان جعفر حسن، وكان قد انتهى حينها من تلحين أغنية " البتاع" التي لقيت صدى وشهرة.
IV
   ولد جار الله عمر في محافظة إب في قرية كهال العام 1942، ودرس في الكتاتيب ، وبعد ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 التي ساهم في التظاهرات المؤيدة لها، درس في كلية الشرطة 1963 وتخرّج منها وعيّن مدرساً فيها، وقد اعتقل في العام 1968 وكان قد دافع عن صنعاء في حصارها الذي دام 70 يوماً، وبقي في السجن لثلاث سنوات، وحين خرج منه، غادر صنعاء إلى عدن العام 1971  واستمر فيها إلى حين التئام الوحدة بين الشطرين  الجنوبي والشمالي، فاستقرّ فيها.
   وقد تعمّقت علاقتنا في تلك الفترة حيث كنت كثيراً ما أزور صنعاء لحضور مؤتمرات وللمشاركة في ندوات ولإلقاء محاضرات، إضافة إلى التدريس في دورات أكاديمية وتأهيلية ومنها دورة تعز التي استمرت لأكثر من 3 أسابيع، وفي كل زيارة كان لا بدّ لي من "جلسة قات" في منزله العامر حيث يعتاد اليمنيون على "المقْيل" ، وكنت أشعر بحميمية لذلك المقام المهيب، فهو المكان الذي يجمع الأصدقاء والرفاق ويجمع الآراء المختلفة في إطار وحدة أساسها احترام الآخر والإصغاء إلى صوت العقل وإقرار بالتنوّع وتأكيد التعددية والحرص على فتح حوارات معمّقة باتجاه الأصلح والأفضل، لاسيّما بالدعوة إلى حكم القانون وإلى الديمقراطية وإلى احترام حقوق الإنسان ، ولعلّ تلك كانت الكلمات الأخيرة على لسان جار الله يوم استشهد بعد إلقاء كلمته المؤثرة في 28 ديسمبر (كانون الأول) في العام 2002  أمام مؤتمر حزب التجمع اليمني للإصلاح وبحضور نحو أربعة آلاف شخص وبتغطية إعلامية عالمية نقلتها مباشرة شاشات التلفزة.
   هذه الكلمات تعيدني إلى أول لقاء جمعني بالرفيق جار الله عمر حيث دار الحديث حول السبل الكفيلة بتعميق التجربة اليمنية وتخليصها من النواقص والثغرات باتجاه جمع أوسع قدر ممكن من القوى في إطار موحد: هل هو جبهة وطنية تضم القوى الرئيسية؟ أم تنسيق وتعاون على مشتركات؟ أم حزب موحّد (كان الجبهة القومية يومها) على طريقة الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية السابقة؟ وكانت اليمن قد تأثّرت بهذا النموذج في إطار  صيغة تجمع الحزب والبرلمان والحكومة (الترويكا).
   وهكذا استنسخت التجربة واقتبس الموديل أو النموذج السوفييتي، وخلال زيارتي الأولى كانت الترويكا حاكمة: سالمين (الرئيس) وعبد الفتاح اسماعيل (الأمين العام) وعلي ناصر محمد (رئيس الوزراء). وبعد ذلك وفي العام 1977 بدأت التحضيرات لتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني بعد حوارات ومناقشات داخلية شملت كل من الجبهة القومية التي هي امتداد لحركة القوميين العرب بجناحها اليساري ممثلاً بالترويكا وحزب اتحاد الشعب الديمقراطي وهو امتداد للتيارات الماركسية (الشيوعية الرسمية) بقيادة عبدالله باذيب وحزب الطليعة الشعبية وهو امتداد للتيارات البعثية اليسارية (كتلة صلاح جديد) بقيادة أنيس يحيى.
   وأتذكّر أن جار الله كان مهموماً بفكرة غرامشي والكتلة التاريخية  وكان قد تأثر ببعض أطروحات منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، حيث كان فوّاز طرابلسي دائم التردّد على عدن وحظي بمكانة خاصة لدى قياداتها. ولكن ثمة هواجس كان يتلمّسها بشأن الحفاظ على الكيانات القائمة والتقارب فيما بينها، وكانت تجربة الثورة الكوبية أمامه وهي التي دمجت الأحزاب المتقاربة كلها في إطار الحزب الشيوعي، حيث كان الهوى السائد آنذاك والميل العام يذهب باتجاه جمع هذه التنظيمات المتقاربة من حيث الأفكار، المختلفة من حيث التأريخ، في إطار أفق مستقبلي غرضه ترصين وتعزيز الثورة الوطنية الديمقراطية.
   ولكن حسبما يبدو أن مثل هذه التجارب لم يكن بإمكانها التطوّر المطلوب لانتفاء المعارضة، التي لم يكن مسموحاً لها أو مرخّصاً بها، وهي ذاتها تجارب التيارات القومية: جمال عبد الناصر والاتحاد الاشتراكي،  وأحمد بن بلّه  وبعده  هواري بو مدين  وجبهة التحرير الوطني الجزائرية والبعثين العراقي والسوري وفكرة «الحزب القائد»، ومعمّر القذافي واللجان الثورية والخميني والحرس الثوري وغيرها من التجارب الشمولية التي حاولت استنساخ التجارب الاشتراكية أو بعض جوانبها وتقليدها على نحو أعمى، وللأسف فقد تنبهنا وإنْ بوقت متأخّر إلى خطل مثل تلك الأطروحات، التي لا يزال البعض متشبثاً بها حتى الآن، على الرغم من انهيار التجارب الأصلية والتجارب الفرعية منذ 3 عقود من الزمان.
   وحين تكون المعارضة محرّمة أو ممنوعة أو ملاحقة، فمن الطبيعي أن تضيق رؤية الحاكم ويستبد بالبلاد والعباد ويدفع باتجاه التنظيم الواحد الذي يمتلك الحقيقة المطلقة ويسفّه كل ما عداه في إطار الرأي الواحد والذوق الواحد والزعيم الواحد ، وهكذا تنتعش الانتهازية وتتفشى الوصولية وتنتشر المداهنة وتضمر الحيوية وروح المبادرة.
   وستغدو المجتمعات دون اختلاف أو تمايز وتباين وكأنها ضد الطبيعة البشرية التي هي بالأصل متنوّعة ومتعدّدة ومختلفة،وهكذا سيكون كل نظام بلا معارضة  استبدادياً وسلطوياً، لاسيّما حين لا يعترف بالحق في الاختلاف وشرعية النقد وحرّية التعبير والتطلّع للتغيير، وكان ذلك من أسباب وصول التجارب الاشتراكية جميعها تقريباً إلى طريق مسدود بسبب شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتنوّع وقبول التعددية، ناهيك عن الاختناقات الاقتصادية ووصول التنمية إلى طريق مسدود، إضافة إلى الكثير من التشوّهات التي شهدتها على صعيد الإدارة والحكم وانتهاكات حقوق الإنسان، وكان الإمام علي منذ وقت مبكر قد أشار إلى أن فساد الأمم في ثلاث: وضع الصغير مكان الكبير والجاهل مكان العالم والتابع مكان القائد، وتلك سمات الأنظمة الواحدية الإطلاقية التي تزعم احتكار الحقيقة.
   ولعلّ ذلك جزء من أخطائنا نحن اليساريين  والماركسيين والتي أخذها عنّا القوميون وما أسمتهم الأدبيات السوفييتية " الديمقراطيون الثوريون" وعلينا أن نعترف بذلك، وليس ثمة في الأمر عيب أو نقص طالما أن الحياة نفسها تجيب على أسئلة علينا الإقرار بأن بعض ما كنّا نعتقده تجاوزه الزمن وأصبح عتيقاً، حتى وإن كان صحيحاً في حينها فلم يعد يصلح الآن، أو أنه كان صالحاً في بلد لكنه لا يصح لبلد آخر، ناهيك عن أن بعضه كان خاطئاً من الأساس بسبب فرضيات خاطئة أو معطيات ومعلومات غير دقيقة، ولهذا لا بدّ من مراجعة التجربة ونقدها بطريقة إيجابية بما يعزّز التيار الجديد من داخل حركة اليسار العربي واليسار الدولي وهذه قضية عامة لا تخصّ اليسار العربي أو القوى التحرّرية العربية لوحدها، إنما تخصّ المناضلين اليساريين على المستوى العالمي.
    وما لفت انتباهي في جار الله هو ليس تواضعه الكاريزمي فقط، وإنما سعة أفقه واستعداده لتقبّل الجديد ونقده الذاتي لنفسه وحزبه والتيار السائد آنذاك، ولم يكن يتوارى أو يختفي وراء الشعارات العامة، أو يحاول إلقاء اللوم على الخصوم أو الأعداء فحسب، أو يبرّر بعض الأخطاء والثغرات أو يحاول التستّر على الانتهاكات، وإنما كان يبحث ويدقّق ويسأل ويراجع، وكان من الوضوح بمكان بحيث يشخّص النواقص ويؤشر للعيوب، ويسعى لتفهّمها وتفهم الظروف العامة التي أوجدتها، ومن هذا المنطلق كان نقده للوحدة وما بعد الوحدة، علماً بأنه كان شديد الحرص على عدم انهيار التجربة، وقد سعى من داخل الحزب كما أعرف ومن خارجه لمنع الصدام، فإذا كان الافتراق خطيئة، فإن الصدام كان أقرب إلى الجريمة بالنسبة إليه.
   ولذلك، حاول بكل الوسائل وقف حمام الدم، والحيلولة دون الصدام المسلح، لمنع تفتّت الوحدة التي ناضل الحزب الاشتراكي من أجلها، كما ناضل جارالله عمر منذ يفاعته حين انتمى لحركة  القوميين العرب في العام 1960 من أجلها أيضاً، ولكن فكرة الوحدة نضجت لديه واكتسبت بُعداً جديداً في إطار المشروع النهضوي العربي الذي كان متحمّساً له داعياً لوحدة عربية ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون، أي أن وظيفتها مزدوجة وهدفها تحقيق الخير للناس.
   وحسب معلوماتي المتواضعة فإن قلّة من قيادة الحزب الاشتراكي هي من قدّمت رؤية مستقبلية ومنهجية للوحدة اليمنية مغايرة لما هو سائد، وفي مقدمة هؤلاء القلّة كان جار الله عمر، الذي كان يميل  إلى التأنّي والتحضير الجيّد وعدم الاستعجال في اندماج الشطرين، وكان رأيه الذي اقترحه على القيادة، التمهيد لفترة انتقالية، قد تستمر بضع سنوات (5 مثلاً) بحيث يتمكّن فيها الجنوب اليمني من استثمار موارده النفطية ومراكمة مداخيلها، ويتحوّل بذلك إلى قوة اقتصادية.
   وفي الوقت نفسه كان يعتقد أن المرحلة الانتقالية تحتاج إلى برنامج تدرّجي للتحوّل الديمقراطي وإقرار التعددية بما سيكون مؤثراً على الشمال بعد الوحدة، وهو ما كنت قد عرفته منه بعد حصول المحذور والصدام المسلح، ولكن رأي غالبية القيادة وفي مقدمتهم علي سالم البيض ذهبت باتجاه آخر، وكانت ترى أن "الوحدة أهم من النفط" وإن التحالف هو بين حزبين على رأس السلطة السياسية، هما: حزب المؤتمر الوطني برئاسة علي عبدالله صالح الحاكم في الشمال والحزب الاشتراكي برئاسة البيض الحاكم في الجنوب.
   وكانت تلك الرغبات العاطفية والإرادوية قد طغت على الجوانب العملانية والمنهجية، وللأسف فإن معظم الوحدات التي أقيمت بين الأقطار العربية كانت على هذه الشاكلة، الأمر الذي أصاب الجمهور العربي بالإحباط والقنوط أحياناً لفشل التجارب الوحدوية غير المدروسة بما فيها الوحدة الاندماجية المصرية - السورية العام 1958، والتي انتهت بالانفصال في العام 1961 دون نسيان التآمر الدولي والإقليمي للإطاحة بها، إضافة إلى أخطائها وثغراتها الداخلية، فالهدف النبيل والعادل يحتاج إلى وسائل سليمة وصحيحة للوصول إليه، وإلّا ستكون النتائج عكسية.
   هكذا انتهت "جنّة الفقراء الفقيرة" كما يسميها الشاعر محمود درويش وفردوس اليسار العربي( اليمن الديمقراطية ) كما اصطلح على تسميتها إلى جزء من بلد يحكم بطريقة شمولية وفي ظلّ عسكرتاريا خاصة، ممزوجة بنزعة قبلية وبصبغة شبه دينية، بعد أن كانت في إطار نظام مدني واعد، وبرغم كل مساوئ التجربة الاشتراكية الدولية المستنسخة في اليمن وتشوّهاتها وصراعاتها الداخلية، لكن بديلها كان متخلفاً ووضع العصي في عجلة التقدم المنشود، بل أجهز على بعض المكتسبات المتحققة في الشطر الجنوبي.
   لقد حقّقت اليمن بمصطلحات تلك الأيام منجزات مهمة على صعيد "الرعاية الاجتماعية" بتأمين حق الإنسان في العلم والعمل والسكن والصحة، وحسب توصيف فواز طرابلسي " دولة نفطية بلا نفط"، وهو يقصد الرفاهية، فإن هذه المنجزات، إضافة إلى حقوق المرأة  " قانون الأسرة" والإصلاح الزراعي والقضاء على الأمية والقوانين المدنية، كلّها ذهبت أدراج الرياح في صفقة توحيد غير متكافئة، ابتدأها أعداء الحزب الاشتراكي، ولاسيّما من جماعة حزب التجمع للإصلاح بالتكفير والعنف الآييولوجي الذي انتهى بعنف دموي بتنظيم سلسلة من محاولات الاغتيال، ناهيك عن الحملة المنظمة ضد قانون الأسرة الذي منع تعدّد الزوجات وحدّد المهر بمبلغ رمزي وسمح للزوجة بطلب الطلاق وغير ذلك.
   وبُعيد الوحدة جرت محاولات عديدة لاغتيال قادة الاشتراكي بينهم جار الله عمر وحيدر أبو بكر العطاس وياسين نعمان وتم اغتيال بن حسينون وزير النفط في حضرموت وقد لعب الأفغان العرب المتعاونون مع حزب الإصلاح دوراً في ذلك، وكان العديد من فتاوى التكفير قد صدرت، الأمر الذي شكّل عائقاً أمام تطور الوضع، خصوصاً وقد لقيت تلك المحاولات تواطؤاً إن لم يكن مشاركة خفية من الحزب الحاكم..
V
   في أوائل الثمانينات لبّى الجواهري دعوة لزيارة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وقد صادف ذلك بعد دعوة خاصة كانت قد وجِّهت إلينا من رئاسة اليمن، لحضور المؤتمر الذي عقده مجلس السلم العالمي في عدن، بخصوص مخاطر الوجود العسكري في الخليج كما جرت الإشارة إلى ذلك. وقد رويت ذلك في كتابي "الجواهري- جدل الشعر والحياة"، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، ط1، 1997.
   كان الجواهري يسأل عن الطبيعة والناس والطقس في عدن وعن الكتّاب والادباء والرئاسة وغيرها، ولقي التشجيع منّي على زيارته لاعتبارين، الأول لموقف اليمن المشرّف آنذاك من المعارضين العراقيين، حيث استقبلت المئات منهم، وللتسهيلات التي قدمتها للعمل والدراسة والعلاج والجوازات وغيرها، فضلاً عن مساعدات أخرى.
أما الثاني، لاعتقادي بأنها كانت تمثل "نموذجاً" متميّزاً يمكن أن يتحوّل باتجاه تحقيق العدالة والتقدم، وما كنا ندري أن ثمة رواسب وعقداً وموروثاً لا يمكن تخطيّها بسهولة وبهذه السرعة، فتحولت التجربة إلى دورات اقتتال وعنف وغدر راح ضحيتها بشر وكفاءات وموارد أضرت باليمن الجنوبي كثيراً.
وحاولت اليمن الجنوبية وقيادة الحزب الاشتراكي الخروج من الأزمة بالالتئام مع الشمال والتخلّص من حالة الذبول التدريجي، خصوصاً بعد وقف المساعدات السوفيتية لها وانهيار الكتلة الاشتراكية وتردّي الأوضاع المعاشية والاقتصادية، وهكذا كان الهروب إلى الأمام، بل إن بعض القيادات اندفع على نحو شديد في ظل اصطفافات جديدة، ولا ينبغي أن ننسى قوة  التقاليد القديمة والموروث المتأصل والاستقطابات القبلية والجهوية، حيث لم يمسّ التغيير سوى قشرة فوقية.
   ذهب الجواهري إلى عدن وهو محمّل بانطباعات أقلّها إيجابي، وإذا كان ثمة سلبيات، فتعود إلى المناخ والطبيعة وقسوة الحياة، لكن المحذور قد حصل، فلم يكن أحد من المسؤولين باستقباله، واكتفى العراقيون (المنظمة الشيوعية) باستقبال بسيط له من المسؤولين هناك، وعندما أجريت الاتصالات، كانت المبررات تتعلّق ببعض الإشكالات داخل اليمن وبالتحديد في اتحاد الكتاب آنذاك، ويبدو أن النار كانت تتّقد تحت الرماد كما يقال، حتى اندلعت أحداث 13 كانون الثاني (يناير) 1986 وراح ضحيتها نحو 10 (عشرة) آلاف قتيل بصراع "القبائل الماركسية" كما أطلق عليه في حينها.
   ورغم أن الجواهري خلّد عدن بقصيدة رائعة، لكن مرارته وانطباعاته ظهرت فيما بعد وقد نشرت القصيدة في صحيفة " الثوري" العدنية بتاريخ 6/3/1982.
من مَوطن الثلجِ زحّافاً إلى عدن/       خَبَّتْ بي الريحُ في مهر بلا رسنِ/
كأسي على صهوة منه يصفقها/       ما قيّضَ الله لي من خلقهِ الحسن/
من موطن الثلج من خضر العيون به/   لموطن السمرِ من سمراء ذي يزن/
من كل ملتفة الكشحين ناعمةٍ/      ميادةٍ مثل غصن البانةِ اللدن/
      
يا للتصابي.. ألا ينفكُّ يجذبني/      على الثمانين جذب النوق بالعَطن/ 

عندما عاد الجواهري من رحلة عدن، بادرني بالسؤال بطريقته: أهذه عدن جنّتكم "الموعودة"؟ أهي اليمن السعيد؟ أهو حلمكم الثوري؟ كونوا إذن حالمين.. ربّما بكوابيس أو سعالي قد تطلع من البحر.. لا أدري، فلست أريد مثل هذا الحلم. وأضاف أنا حلمي أخضر وليس رمادياً.. إنه عشقي في براغ. قلت له في "موطن الثلج".. من "خضر العيون" قال نعم. فأكملت "لموطن السمر من سمراء ذي يزن" قال "خليّها إلك" أي أنها من حصتك!!..
فهمت أن الزيارة لم تكن موفقة، ومن ثم تداعيات الاستقبال الأول وبعدها، علمت أن الرئيس السابق علي ناصر محمد لم يستقبله، لأنه كان في زيارة خارج اليمن، لكنه عاد قبل يومين من سفر الجواهري إلى دمشق عبر صنعاء التي احتفت به، دون أن يحدد موعداً للقاء. وصادف حين سأل عن جار الله عمر لم يكن موجوداً، وكنت قد كتبت له رسالة خاصة.
   وبغض النظر عن بعض الملابسات، فقد كان الجواهري يقرأ الأحداث قبل الآخرين.. أهي فراسة شاعر، أم نباهة متوجّس عركته التجربة وصقلته الحياة أم شكوك مثقف يريد أن تُدقّق كلماته وخطواته وقائع وحقائق وليس مجرد شعارات؟

VI
   حين أصبح جار الله عمر وزيراً للثقافة العام 1993 كان ذلك إقراراً من جانب النخب الحاكمة وغير الحاكمة، بل والجميع بالقدرات النظرية والعملية التي يمتلكها والمؤهلات الكبيرة التي حملته إلى هذه المسؤولية، لاسيّما سعة أفقه وعمق معرفته وعلو ثقافته، إضافة إلى انفتاحه وتقبّله للرأي الآخر واعترافه بالحق في الاختلاف، وتلك المؤهلات جعلته يتولّى أعلى المسؤوليات بجدارة مثل الدائرة السياسية والدائرة الآيديولوجية في الحزب، وكان محاوراً من الطراز الأول، فبالإضافة إلى السياسة العامة، كان يحتفظ دائماً بصوته الخاص.
   كان جار الله عمر منفتحاً على التيارات والمجموعات الدينية ويتعامل معها باحترام، لأنه هو نفسه كان متديّناً داخل الحزب الاشتراكي، فقد كان يقيم الصلوات في أوقاتها، وأتذكّر حادثة ذات دلالة مهمة حيث دعاني إلى المشاركة  بمناسبة اجتماعية   لـ "حفل ختان" جماعي في قرية قرب صنعاء، وذهبنا إلى القرية سويّة بعد أن جاء لاصطحابي من فندق "حدّة" الذي كنت أقيم فيه، وجلسنا على الأرض مع الناس وأخبرهم بأنني من المثقفين الشيوعيين العراقيين  واهتمّ الناس بي كثيراً، ولكن بعد حوالي ساعة اختفى جار الله وكان قد قال لي لديّ ارتباط لمدة ساعة وسيعود بعدها لمواصلة مشوارنا ولحضور جلسة "قات"، وقد ذهب بالفعل ولا أعرف إلى أين ذهب، وبقيت لوحدي في الغرفة التي فيها مجموعة من الناس، وجيء بالأكل وأكلنا واستمعتُ إليهم واستمعوا إليّ.
    وبعدها جاء جارالله وكان مبتسماً، وخطر على بالي بأن لديه  موعداً حزبياً أو موعداً شخصياً أو حتى موعداً عاطفياً، فكل الأمور ممكنة فقال لي: لا تصدّق إذا أخبرتك. قلت له: أين كنت؟ قال لي: كنت في الجامع، إنني أصلّي في هذا الجامع كل يوم جمعة ولم أنقطع عن الصلاة طيلة حياتي منذ أن كنت فتى. وأضاف: أنا ماركسي لكنني مؤمن بالله، وإيماني حقيقي ولديّ علاقة خاصة بالسماء. وتذكّرت هنا ما أعرفه عن الحزب الشيوعي السوداني الذي ضم الكثير من المؤمنين بمن فيهم قيادات عليا كانت تقوم بتأدية الصلوات في أوقاتها .
   احترمته كثيراً وقدّرت باعتزاز نزاهته الأخلاقية، فالمؤمن الحقيقي والمسلم الصادق، يهمّه مثلما يهم الماركسي واليساري والاشتراكي، إلغاء استغلال الإنسان للإنسان ويمكنهما أن يلتقيا على احتياجات الأرض وقيم البشر وليس على قيم السماء، وبسلوكه هذا أراد أن يفضح بعض المتدينين الذين يستخدمون الدين وظيفة ووسيلة لتحقيق غاياتهم  ومآربهم الأنانية الضيقة ويسخرونه سياسياً لأغراض خاصة، ناهيك عن اتهام الاشتراكيين بالكفر والإلحاد بهدف قطع صلتهم بمجتمعاتهم المتديّنة أصلاً على نحو عفوي وتلقائي وليس تديّناً آيديولوجياً على طريقة الأحزاب الدينية المتعصّبة في الغالب.
   ولم يكن جارالله يتظاهر بتديّنه يوماً ما. قال لي هذا سرٌ لك حتى وإن شاهدني الناس إنني أقف في الجامع مع المصلين وهم يشاهدونني أسبوعياً، ولكن إن سُئِلتُ سوف لا أجيب، لكنني أعرف أنك من أسرة دينية ومن بيئة دينية ومن مدينة دينية، وأعرف أنك من المتنورين القادرين على استيعاب مثل هذا التناقض "المحبّب"، قلت له: نحن نعيش في تجاور الأضداد، وقد حدّثته عن عشرات من الشيوعيين العراقيين المتدينين، بل إن قسماً منهم كان يصلي ويصوم وهو في المعتقل معنا العام 1963، على الرغم من تندّرات بعض الرفاق، وشخصياً أعرف العديد من أبناء العوائل الدينية الذين انتموا إلى الحركة الشيوعية، دون أن يغادروا معتقداتهم الدينية المتأصّلة.
   ومثل هذا التجاور والهارموني أراه منسجماً، فعلاقة الإنسان بالسماء شخصية، والنزاع ليس على قيمها، بل على ما يحصل في الأرض، والأمر يتعلّق بكفاح الإنسان من أجل الخير والسلام والحرية والعدل والمساواة، والهدف هو الوصول إلى سعادة بني البشر بإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، وذلك ما كان يؤمن  به جارالله عمر، مثلما آمن أيضاً بالحرية باعتبارها القيمة العليا، وكان ضد كل أنواع التمييز، ولذلك سعى للتكامل بين صنعاء وعدن وكان يريد مساواة حقيقية، وتشاركاً ومشاركة وشراكة، وأظن أن هذه القيّم الأساسية التي آمن بها جار الله ينبغي أن تكون ملهمة للشباب المتطلّع لاستعادة وطنها موحداً في إطار الحريّات والمواطنة السليمة والمتكافئة التي  تقوم على المساواة والعدالة والشراكة.
   كما آمن جارالله عمر بمساواة المرأة بالرجل كجزء من إيمانه بمبادئ المساواة، وكان حريصاً أن يكون للمرأة دوراً متميّزاً وأن تحصل على حقوقها، وأن القانون الذي تم وضعه لليمن العام 1974، حول موضوع الأحوال الشخصية اعتبره خطوة مهمة على صعيد تحرير المرأة .
   وكان قد سألني عن القانون رقم 188 لعام 1959 الذي صدر في العراق بشأن الأحوال الشخصية والذي ساوى بالإرث بين المرأة والرجل ومنع تعدّد الزوجات إلّا باستثناءات قليلة وحدّد سن الزواج بـ 18 عام واعتبر عقد الزواج وغايته إنشاء رابطة مشتركة للحياة ويتحقق بالإيجاب والقبول ورفض أي شكل من أشكال الإكراه الذي اعتبره "جريمة" يحاسب عليها القانون بالحبس لثلاث سنوات وقد تصل إلى عشر سنوات ومنح الزوجة الحق في طلب الطلاق، كما فرض تسجيل الزواج في المحاكم المدنية وإلّا فسوف لا يعترف به ويتعرض من ينتهك ذلك للمساءلة القانونية.
   وانصبّ سؤاله مرّة أخرى حول: كيف شرّع هذا القانون وما هو دور اليسار فيه وما هي ردود القوى المحافظة والدينية، لاسيّما الإقطاعيين وغير الإقطاعيين وردود فعل السكان بشرائحهم المختلفة منه وذكرت له دور "رابطة المرأة العراقية" في حينها برئاسة الدكتورة نزيهة الدليمي والحزب الشيوعي، وذكرت له أن واحداً من أسباب الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم كان هو إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي استفزّ جميع القوى المحافظة في العراق وفي محيطه العربي والإقليمي.
   هكذا كان جار الله عمر يفكّر في ردود الفعل المحتملة إزاء قانون الأسرة في اليمن، ويخشى من تداعياته السياسية مثلما هي ردود الأفعال العراقية والإقليمية حينها. وكان قد ناقش هذا الموضوع كذلك مع الرفيق ماجد عبد الرضا حين كان يلقي محاضرات في المدرسة الحزبية، في عدن أواخر العام 1971 في إحدى زيارته، وهو ما أخبرني به "أبو دنيا" كذلك. وقد تخرّج على يده العديد من الكوادر الحزبية والحكومية اليمنية.
   كان لجارالله علاقات واسعة مع حركات التحرر الوطني، والحركة القومية العربية ويعتبر أحد مؤسسي المؤتمر القومي العربي (1990) الذي كان بمبادرة من خير الدين حسيب وعدد من الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية العربية من اتجاهات عروبية وإسلامية ويسارية، وقد حضرت معه العديد من المؤتمرات العربية بما فيها الفكرية والحقوقية في بيروت ودمشق والقاهرة وصنعاء وكان دائماً رصيناً، وإذا تحدّث كان بتكثيف عال وبوضوح كاف ، وكان حديثه شائقاً وبلهجة يمنية شمالية محببة.
   من أقواله التي أتذكّرها  أيام حكم اليسار في الجنوب اليمني " البندق في يد والكَلمْ في يد" أي "البندقية في يد والقلم في اليد الأخرى". وكان له علاقات خاصة مع ثورة (ظفار) في أواسط السبعينات، ولعلّ علاقته الأكثر اكتمالاً واستمرارية كانت مع فلسطين والثورة الفلسطينية، فقد كان عقله مبرمجاً على فلسطين وبوصلته موجّهة إليها دائماً، وربّما أراد أن تتوجّه جميع الجهود العربية نحوها، لأنه كان يدرك أن قضية الحرية والاستقلال والتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانبعاث الحضاري والوحدة العربية سوف لا تتحقّق بدون فلسطين وهزيمة المشروع العنصري الصهيوني.
   العروبة وفلسطين والعدالة الاجتماعية مضمون كفاح جارالله عمر وهي رسالته القائمة إلى الشباب، لذلك على الشباب أن يضعوها نصب أعينهم دائماً.
VII
   أتذكّر أغنى وأعمق حواراتي مع جار الله عمر وأكثرها صراحة وشفافية كان في القاهرة في التسعينات وبعد انهيار التحالف بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني وتصدّع العلاقة مع الرئيس علي عبدالله صالح، لاسيّما حين اندلع القتال في العام 1994 وقد التبس على الكثيرين وأنا منهم موقف الحزب الاشتراكي أو بعض أطرافه وأجنحته التي تباينت في تقديراتها على أقل تقدير، لاسيّما العلاقة بين المبدئي والتكتيكي وبين الصلابة الفكرية والمرونة العملية، سواء قبيل اندلاع القتال أو خلاله أو ما بعده .
   كنت دائماً أريد استطلاع مواقفه من عدد من المحطات في اليمن منها: هل هناك علاقة له أو معرفة باغتيال الرئيس أحمد الغشمي التي جرت في 24 حزيران/يونيو 1978 باعتباره مسؤولاً عن ملف الشطر الشمالي حسب علمي، وقد نفى ذلك بالكامل، وقال إن القرار كان بيد سالمين وصالح مصلح اللذان تعرّضا للمساءلة وعلى أثرها نحّي سالمين واضطرّ تقديم استقالته، لكنه تحصّن بالقصر الذي اقتحم وقتل فيه، وكان منفذ عملية اغتيال الغشمي قد تطوّع للقيام بها وهي عملية انتحارية، وربما من العمليات الانتحارية الأولى في المنطقة، لأنه كان مدركاً أنه سيموت أيضاً، وهكذا تطوّع مهدي أحمد صالح بحمل

267
الدكتور شعبان يحاضر في عينكاوا - إربيل في مقر منظمة كلدوآشور

سورايا بريس / عنكاوا

بدعوة من مؤسسة سورايا ألقى المفكر والأكاديمي الدكتور عبد الحسين شعبان محاضرة بعنوان: الهويّة وتضاريس التنوّع الثقافي في منظمة كلدو أشور للحزب الشيوعي الكردستاني.
وكانت مؤسسة سورايا للثقافة والاعلام قد استضافت  في باكورة نشاطاتها الثقافية لهذا العام الباحث والمفكر العراقي اليساري الدكتور (عبد الحسين شعبان )في ندوة فكرية يوم الإثنين  25/2/2019 وعلى قاعة الشهداء لمنظمة كلدو أشور للحزب الشيوعي الكوردستاني في بلدة عنكاوا، تحدث فيها عن (الهويّة وتضاريس التنوّع الثقافي ) حضرها نخبة من المثقفين والسياسيين من أبناء شعبنا وممثلي منظمات المجتمع المدني للأديان والقوميات المتنوعة .
في بداية الندوة رحب (نوزاد بولص الحكيم ) رئيس مؤسسة سورايا بالحضور والمشاركين في الندوة ، وأكد على أهمية هذه الندوة للتعريف بحقوق "المكونات" او المجاميع الثقافية في العراق وقدسية هذا المكان التي أقيمت فيه الندوة  والذي يمثل صرحا ثقافيا وسياسيا لبلدة عنكاوا منذ انتفاضة آذار 1991 للدفاع عن حقوق المواطنة في العراق .
 
بعدها ألقى شعبان محاضرته الفكرية حول قضية التنوع الثقافي وإدارته والهوية الخاصة والعامة وضرورة احترامهما في إطار قانوني ومجتمعي للحفاظ على هذا النسيج الثقافي المتنوّع  وإقرار مبادئ المساواة وفقاً للصياغات الدستورية والبحث عن الحلول المناسبة لحقوق المجاميع الثقافية الإثنية والقومية واللغوية والدينية  كي تحافظ على تراثها وتأريخها العريق، لاسيّما وأن جذورها تعود إلى الشعوب الأصلية التي عاشت على أرض هذا البلد مثل (المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين ) والكلدانيين والأشوريين في العراق، والهدف مساواة الجميع في إطار مواطنة فاعلة دون أي تمييّز لأي سبب كان ، خصوصاً حين تتمتع بحقوقها كاملة وغير منقوصة.
وقدّم الدكتور عبد الحسين شعبان الكثير من المعلومات القيمة حول الموضوع والتجارب الدولية بهذا الشأن التي نالت استحسان الجمهور الذي امتلأت به القاعة ، وبعدها جرت مداخلات ومناقشات واستفسارات من قبل الحضور .
 
والجدير بالذكر أن الدكتور (عبد الحسين شعبان ) كان في زيارة الى العاصمة بغداد وعقد لقاءات عديدة ووقع على كتابه الأخير في نادي العلوية ببغداد تحت عنوان (سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول )  حول مسيرة الشهيد سلام عادل وهي عبارة عن بانوراما وثائقية للحركة الشيوعية في العراق .
كما قام بتكريمه اتحاد الحقوقيين العراقيين عن دعوته للتسامح واللاعنف ومساهماته التجديدية في الفكر الحقوقي  ومحاولاته النقدية لكل ما يتعارض مع معايير حقوق الإنسان .
وقد تم تكريمه من قبل الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في إقليم كوردستان عن دوره في ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 .

268
كوبا "الثورة والدولة" في دستور جديد!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   في 24 فبراير/ شباط الجاري سيتم التصويت في استفتاء شعبي على الدستور الكوبي الجديد، وذلك بعد أن صوّت البرلمان بنوابه البالغ عددهم 560 نائباً بالإجماع على المشروع  بعد مناقشته بحضور راوول كاسترو الأمين العام للحزب الشيوعي. وافتتح باب النقاش على الدستور الذي ساهمت فيه نقابات واتحادات وجمعيات وهيئات مدنية متنوّعة، إضافة إلى جمهور واسع، لسماع آرائهم ومقترحاتهم طيلة ثلاثة أشهر من 15 أغسطس/آب لغاية 15 نوفمبر /تشرين الثاني قبل عرضه على البرلمان (ديسمبر/ كانون الأول/2018).
   ووصل عدد الاقتراحات إلى 783 ألفا و174 اقتراحاً  لتعديلات أو إضافات أو حذف أو إلغاء. وقامت لجنة مختصة بتصحيح 60% من النص الأصلي، وشارك في النقاش الغالبية الساحقة من الذين يحق لهم التصويت من سكان كوبا البالغ عددهم 11 مليون نسمة.
   وكان من أهم التعديلات إلغاء فقرة تتعلق ببناء المجتمع الشيوعي، وهي التي كانت من أبرز ما تصدّر دستور العام 1976. وقد أثارت تلك النقطة ردود فعل متباينة، منها أن كوبا تخلّت عن نظامها الشيوعي، خصوصاً بانفتاحها على اقتصاد السوق، حيث يعمل الآن 591 ألف كوبي في القطاع الخاص، وهو ما لم يكن مسموحاً به قبل سياسات الانفتاح وتخفيف وطأة تدخل الدولة التي كانت سائدة طيلة نصف القرن الماضي.
   لكن الاتجاه الآخر يعتبر مثل ذلك التطور مجرد قراءة جديدة للحظة التاريخية التي تستوجب التعاطي مع مستجدات العصر والانفتاح أكثر على الملكية الخاصة والاستثمار الأجنبي، مع حفاظ الدولة على مكتسباتها الاشتراكية وعدم التخلي عن مقاليد السلطة، واعتبر منسق لجنة صياغة الدستور أوميرو أكوستا إن هذا الدستور هو " تعبير صادق عن الطابع الديمقراطي والتشاركي لشعبنا لأنه انبثق منه ويعبّر عن روحيته".
   وأكّد الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل الذي تولّى السلطة في 19 أبريل/نيسان 2018 خلفاً لراوول كاسترو الذي حكم من 2008 ولغاية 2018، بعد أن تولى شقيقه فيديل كاسترو زعيم الثورة فعلياً  قيادة البلاد من العام 1959 ولغاية العام 2008، إن الدستور الجديد ينص على إعادة صلاحيات رئيس الجمهورية ونائب الرئيس ورئيس الحكومة وهو يحدد سقف الترشّح عند تولّي السلطة للمرّة الأولى بـ 60 عاماً، كما يحدد مدّة الرئاسة بـ 5 سنوات قابلة للتجديد لمرّة واحدة.
   وقد أثار موضوع "زواج المثليين" نقاشات حادة وردود فعل كبيرة بسبب الصيغة الملتبسة التي احتواها الدستور بتعريفه الزواج بأنه "اتحاد بين شخصين" وليس بين رجل وامرأة، كما هو حال دستور العام 1976، وكانت غالبية المشاركات والمشاركين قد عبّرت عن رأيها برفض هذه الصيغة التي تم العدول عنها، والإبقاء على الصيغة القديمة التي تغلق الباب أمام زواج المثليين.
   ويحتوي مشروع الدستور الجديد على ديباجة و224 مادة، وسيقوم بنسخ دستور العام 1976، الذي جاء في ظروف الصراع الأيديولوجي الحاد وثقافة الحرب الباردة، فهل سيشكل الدستور الجديد قطيعة مع الثورة، لاسيّما لأجيال ما بعد الثورة؟ أم أن الدولة أصبحت من القوة بمكان فأخذت تجري مراجعة للتجربة بإيجابياتها وسلبياتها، متوسمة إحداث إصلاحات هيكلية وضرورية في بنية النظام؟ .
   ولعلّ دواعي الإصلاح كان قد مهّد لها راوول كاسترو الذي قام بتشجيع السياحة الأجنبية التي ارتفعت من 400 ألف إلى 4 مليون سائح والسماح لبيع وشراء المنازل والممتلكات وإدخال مقتنيات التكنولوجيا والعولمة مثل الانترنيت والكومبيوتر والهواتف النقالة وتخفيض العمالة الحكومية والقيود المفروضة على الكوبيين للسفر وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتشجيع الاستثمارات الأجنبية.
   وكان مثل هذا التطور والانفتاح يحتاج إلى قاعدة تشريعية ودستورية شرعية لمواجهة التحديات المجتمعية، تلك المرتبطة أساساً بالتنمية والحريّات، ناهيك عن التحديات الإقليمية والدولية، لاسيّما بعد الزيارة التاريخية لباراك أوباما إلى هافانا (  20 مارس /آذار 2016).
   "حروب سبعة، آخرها الحرية والحداثة" كان هذا عنوان فقرة ختامية في كتابي الموسوم " كوبا- الحلم الغامض"، (دار الفارابي، بيروت، 2010) والحروب الخمسة اجتازتها كوبا بنجاح خلال القرن ونصف القرن الماضي، ورغم ما تحقق، فإن حقل الحريات وحقوق الإنسان بحاجة إلى إعادة نظر، وإقرار بالتعددية وحرّية التعبير وحق الاجتماع والاعتقاد والتنظيم والمشاركة، فقد أدى التضييق على هذه الحقوق إلى استثمار الثورة المضادة لهذه الثغرات والمثالب، الأمر الذي كان يحتاج إلى مراجعة جادة ومعالجة إيجابية لإدراجها في الدستور.
   وسيبقى مصير كوبا ومستقبلها رهناً بمواجهة التحدي الخاص بقدرتها في الاستثمار بالعلم والتكنولوجيا لمواكبة التطور العالمي، التي ظلّت محرومة منها بسبب الحصار الأمريكي الجائر عليها منذ ما يزيد عن نصف قرن، إضافة إلى شحّ الإمكانات والعزلة ونقص الموارد.
   ويأتي الدستور بمثابة الجرعة الأولى للانتقال الديمقراطي بمبادرة من داخل منظومة النظام لاعتبارات براغماتية ولكسر حالة الجمود السياسي والركود المجتمعي والحراك الشعبي ولتطوير الاقتصاد وفكّ العزلة، ولكن المطلوب اليوم وفي المستقبل هندسة جديدة تربط الاشتراكية بالديمقراطية، وتضفي عليها "وجهاً أكثر إنسانية"، وذلك هو الضمان لتحقيق مجتمع أكثر عدالة.

269
كوبا «الثورة والدولة» في دستور جديد
عبد الحسين شعبان
في 24 فبراير/ شباط الجاري سيتم التصويت في استفتاء شعبي على الدستور الكوبي الجديد، وذلك بعد أن صوّت البرلمان بنوابه البالغ عددهم 560 نائباً بالإجماع على المشروع بعد مناقشته بحضور راوول كاسترو الأمين العام للحزب الشيوعي. وافتتح باب النقاش على الدستور الذي ساهمت فيه نقابات واتحادات وجمعيات وهيئات مدنية متنوّعة، إضافة إلى جمهور واسع، لسماع آرائهم ومقترحاتهم طيلة ثلاثة أشهر من 15 أغسطس/ آب لغاية 15 نوفمبر /تشرين الثاني قبل عرضه على البرلمان (ديسمبر/ كانون الأول/2018).
ووصل عدد الاقتراحات إلى 783 ألفاً و174 اقتراحاً لتعديلات أو إضافات أو حذف أو إلغاء. وقامت لجنة مختصة بتصحيح 60% من النص الأصلي، وشارك في النقاش الغالبية الساحقة من الذين يحق لهم التصويت من سكان كوبا البالغ عددهم 11 مليون نسمة.
وكان من أهم التعديلات إلغاء فقرة تتعلق ببناء المجتمع الشيوعي، وهي التي كانت من أبرز ما تصدّر دستور العام 1976. وقد أثارت تلك النقطة ردود فعل متباينة، منها أن كوبا تخلّت عن نظامها الشيوعي، خصوصاً بانفتاحها على اقتصاد السوق، حيث يعمل الآن 591 ألف كوبي في القطاع الخاص، وهو ما لم يكن مسموحاً به قبل سياسات الانفتاح وتخفيف وطأة تدخل الدولة التي كانت سائدة طيلة نصف القرن الماضي.
لكن الاتجاه الآخر يعتبر مثل ذلك التطور مجرد قراءة جديدة للحظة التاريخية التي تستوجب التعاطي مع مستجدات العصر والانفتاح أكثر على الملكية الخاصة والاستثمار الأجنبي، مع حفاظ الدولة على مكتسباتها الاشتراكية وعدم التخلي عن مقاليد السلطة. واعتبر منسق لجنة صياغة الدستور أوميرو أكوستا أن هذا الدستور هو «تعبير صادق عن الطابع الديمقراطي والتشاركي لشعبنا لأنه انبثق منه ويعبّر عن روحيته».
وأكّد الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل الذي تولّى السلطة في 19 إبريل/نيسان 2018 خلفاً لراوول كاسترو الذي حكم من 2008 ولغاية 2018، بعد أن تولى شقيقه فيديل كاسترو زعيم الثورة فعلياً قيادة البلاد من العام 1959 ولغاية العام 2008، أن الدستور الجديد ينص على إعادة صلاحيات رئيس الجمهورية ونائب الرئيس ورئيس الحكومة وهو يحدد سقف الترشّح عند تولّي السلطة للمرّة الأولى ب 60 عاماً، كما يحدد مدّة الرئاسة ب 5 سنوات قابلة للتجديد لمرّة واحدة.
وقد أثار موضوع «زواج المثليين» نقاشات حادة وردود فعل كبيرة بسبب الصيغة الملتبسة التي احتواها الدستور بتعريفه الزواج بأنه «اتحاد بين شخصين» وليس بين رجل وامرأة، كما هي حال دستور العام 1976، وكانت غالبية المشاركات والمشاركين قد عبّرت عن رأيها برفض هذه الصيغة التي تم العدول عنها، والإبقاء على الصيغة القديمة التي تغلق الباب أمام زواج المثليين.
ويحتوي مشروع الدستور الجديد على ديباجة و224 مادة، وسيقوم بنسخ دستور العام 1976، الذي جاء في ظروف الصراع الأيديولوجي الحاد وثقافة الحرب الباردة، فهل سيشكل الدستور الجديد قطيعة مع الثورة، لاسيّما لأجيال ما بعد الثورة؟ أم أن الدولة أصبحت من القوة بمكان فأخذت تجري مراجعة للتجربة بإيجابياتها وسلبياتها، متوسمة إحداث إصلاحات هيكلية وضرورية في بنية النظام؟
ولعلّ دواعي الإصلاح كان قد مهّد لها راوول كاسترو الذي قام بتشجيع السياحة الأجنبية التي ارتفعت من 400 ألف إلى 4 ملايين سائح والسماح ببيع وشراء المنازل والممتلكات وإدخال مقتنيات التكنولوجيا والعولمة مثل الأنترنت والكومبيوتر والهواتف النقالة وتخفيض العمالة الحكومية والقيود المفروضة على الكوبيين للسفر وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتشجيع الاستثمارات الأجنبية.
وكان مثل هذا التطور والانفتاح يحتاج إلى قاعدة تشريعية ودستورية شرعية لمواجهة التحديات المجتمعية، تلك المرتبطة أساساً بالتنمية والحريّات، ناهيك عن التحديات الإقليمية والدولية، لاسيّما بعد الزيارة التاريخية لباراك أوباما إلى هافانا ( 20 مارس /آذار 2016).
«حروب سبعة، آخرها الحرية والحداثة» كان هذا عنوان فقرة ختامية في كتابي الموسوم «كوبا- الحلم الغامض»، (دار الفارابي، بيروت، 2010) والحروب الخمسة اجتازتها كوبا بنجاح خلال القرن ونصف القرن الماضي، ورغم ما تحقق، فإن حقل الحريات وحقوق الإنسان بحاجة إلى إعادة نظر، وإقرار بالتعددية وحرّية التعبير وحق الاجتماع والاعتقاد والتنظيم والمشاركة، فقد أدى التضييق على هذه الحقوق إلى استثمار الثورة المضادة لهذه الثغرات والمثالب، الأمر الذي كان يحتاج إلى مراجعة جادة ومعالجة إيجابية لإدراجها في الدستور.
وسيبقى مصير كوبا ومستقبلها رهناً بمواجهة التحدي الخاص بقدرتها على الاستثمار بالعلم والتكنولوجيا لمواكبة التطور العالمي، والتي ظلّت محرومة منها بسبب الحصار الأمريكي الجائر عليها منذ ما يزيد على نصف قرن، إضافة إلى شحّ الإمكانات والعزلة ونقص الموارد.
ويأتي الدستور بمثابة الجرعة الأولى للانتقال الديمقراطي بمبادرة من داخل منظومة النظام لاعتبارات براغماتية ولكسر حالة الجمود السياسي والركود المجتمعي والحراك الشعبي ولتطوير الاقتصاد وفكّ العزلة، ولكن المطلوب اليوم وفي المستقبل هندسة جديدة تربط الاشتراكية بالديمقراطية، وتضفي عليها «وجهاً أكثر إنسانية»، وذلك هو الضمان لتحقيق مجتمع أكثر عدالة.
drhussainshaban21@gmail.com













270
حين يكون القضاء «بخير»
عبد الحسين شعبان
لعلّ المسألة الأولى التي واجهت العراق منذ الاحتلال عام 2003 هي «احتياجات العدالة» والسبيل للوصول إلى رضا الناس، أفراداً وهيئات، حيث يفترض أن تكون الإجراءات شفّافة وتصل إلى أفراد المجتمع الذين بإمكانهم التعرّف على مساراتها، سواء بالمعلومات أو بالمشورة القانونية، لحلّ المنازعات الجارية والوصول إلى نتائج عادلة ومنصفة.
وقد واجهت العراق طائفة حادة قديمة وجديدة من النزاعات، سواء ارتفاع منسوب النزاعات العائلية وتأثير ذلك في مشكلات السكن والدخل والوضع المعاشي والاقتصادي وعلى الأطفال وتعليمهم وتربيتهم، إضافة إلى نزاعات الملكية وما صاحبها من عمليات تزوير واحتيال، وكذلك مشكلات العمل والخدمة والفصل السياسي والسجناء والمعتقلين وغير ذلك. وقد راجت في سنوات ما بعد الاحتلال منازعات لم يعرفها العراق من قبل، خصوصاً تلك التي تتعلّق بالتطهير الديني أو الطائفي أو الإثني، في العديد من المناطق المختلطة، سواء في العاصمة بغداد أم البصرة أم الموصل أم كركوك أم الحلة أم غيرها.
وإذا كان المحور الأساسي لأي نظام للعدالة هو الإنسان، فإن القضاء هو الأكثر تأهيلاً لحل النزاعات، ويفضّل الناس بشكل عام اللجوء إليه للفصل في نزاعاتهم، لكن بروز مرجعيات جديدة تقدّمت على مرجعية الدولة أضعف من دور القضاء، وخصوصاً في ظل استشراء ظواهر العنف والإرهاب، حتى بدت الدولة معوّمة أو عاجزة أو حتى متواطئة مع القوى المتنفّذة.
وقد شهد القضاء العراقي تصدّعات وتحديات عديدة ما بعد الاحتلال فثمة عيوب ومثالب عانى منها بسبب حالة الفوضى السائدة وعدم استقرار الأوضاع والظروف الاستثنائية وطول الإجراءات وتعقيدات البيروقراطية والتدخّلات السياسية والحزبية والعشائرية، مع التأكيد على وجود قضاة نزيهين وشجعان، بل إن بعضهم دفع حياته ثمناً لموقفه وجرأته، علماً أن مجزرة القضاء التي قام بها بول بريمر، شملت نحو 250 قاضياً، تركت صدمة كبيرة على الجسم القضائي والقانوني، خصوصاً حين احتوت قائمة الذين تم عزلهم قضاة معروفين بكفاءتهم ونزاهتهم، وقد تمت إعادة بعضهم إلى الخدمة لاحقاً.
وقد واجهت احتياجات العدالة مشكلات متعدّدة ومتنوّعة، في السنوات الأربع الماضية، شملت معالجة مشاكل النازحين واللاجئين بسبب احتلال «داعش» للموصل وتمدّده في محافظات صلاح الدين والأنبار وجزء من ديالى وكركوك، الأمر الذي جعل أكثر من مليوني إنسان بحاجة إلى إجراءات استثنائية تقتضي إعطاء الأولوية لعودة النازحين وإعادة الإعمار والإصلاح والتنمية وإيلاء اهتمام خاص بالمحافظات المنكوبة، وخصوصاً الموصل والبصرة، و للناس الأشد ضعفاً، لاسيّما الفقراء والمهمّشين والنساء والأطفال والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة، فهؤلاء يحتاجون إلى مسارات عدالة سهلة وسريعة ومعقولة لحماية حقوقهم ومصالحهم.
وإذا كان الإنسان (الفرد) هو محور العدالة، فلا بدّ من أخذ ذلك ضمن قاعدة شمولية كلية عامة تطبق على الجميع، فكلّ ظلم يتم منعه أو حلّه بإنصاف، يُسهم في تمكين الناس قانونياً، وخصوصاً إذا تم ربطه بالتنمية.
ويعاني قطاع الشباب بشكل خاص من مشكلات قانونية، سواءً في الحياة أو العمل، علماً أن قدرته على التحمّل كبيرة، قياساً للأكبر منه سناً، وكذلك لاستخدامه شبكات التواصل الاجتماعي ومنجزات الثورة العلمية - التقنية بما فيها تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والاستفادة من مصادر المعلومات والمشورة القانونية.
وقد أشارت إحصائية صدرت في لبنان (2017) عن «معهد لاهاي للابتكار القانوني» (هولندا) HiiL
وبالتعاون مع «المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة» (بيروت)، فإن 73 % من الشباب يعتمد على هذه المصادر، في حين أن نسبة غير الشباب تقل عن 50%، وتظهر الدراسة أن معدل انتشار المشاكل بين الشباب، ولاسيّما الجرائم المنظمة وقضايا العنف والإرهاب، هي الأكثر شيوعاً على المستوى العالمي، بحكم اندفاع الشباب وروح المغامرة والتحدّي التي يمتلكها، ناهيك عن عدم تقدير العواقب القانونية لما يقدم عليه أحياناً.
أما احتياجات العدالة بالنسبة للمرأة فهي في الغالب تتعلّق بالتمييز وعدم اعتماد مبادئ المساواة، إضافة إلى القوانين المجحفة، وبعض التقاليد والعادات البالية بالضد من «اتفاقية سيداو» الدولية بشأن «منع جميع أشكال التمييز ضد المرأة» (1979). وتتدنّى ثقة النساء بالسلطات الرسمية لجهة تأمين مستلزمات احتياجات العدالة بسبب النظام الاجتماعي الذكوري والمنحاز، والتفسيرات الخاطئة والتأويلات المغرضة للنصوص الدينية.
لم يسأل ونستون تشرشل الزعيم البريطاني عن الدمار الذي أصاب المدن البريطانية بسبب القنابل الألمانية، بل كان أول سؤال وجهه لمن حوله: هل القضاء بخير؟ وحين كان الجواب مطمئناً، قال إن بريطانيا بخير، وهو الجواب الذي اطمأن إليه شارل ديجول حين دخل فرنسا محرّراً وسط دمار عام، لكنه حين عرف أن القضاء فعّال وأن الجامعات كانت تشتغل بطاقة وحيوية حتى في الملاجئ قال: إذاً فرنسا ستنهض.
drshaban21@hotmail.com


271

الإمارات و"دبابات" البابا!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
" كم دبابة عند بابا الفاتيكان؟" كان ذلك تعليقاً ساخراً لجوزيف ستالين الزعيم الشيوعي  السوفيتي على خبر نقله له ونستون تشرشل الزعيم البريطاني المحافظ في مؤتمر يالطا (11 فبراير/شباط/1945) عن انضمام البابا إلى الحرب على أدولف هتلر الزعيم الألماني النازي.
استعدتُ ذلك وأنا أتابع زيارة البابا فرانسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وعاصمتها أبو ظبي بدعوة من الشيخ محمد بن زايد  وبمشاركة من شيخ الأزهر أحمد الطيب، وهي زيارة تاريخية بكل معنى الكلمة ، حيث أقام الحبر الأعظم قدّاساً حضره أكثر من 135 الفاً من المسيحيين البالغ عددهم أكثر من مليون إنسان في دولة الإمارات،  وقام بزيارة أول كنيسة كاثوليكية أنشئت في العام 1965 بهبة من الشيخ زايد باني دولة الإمارات وواضع أسس نهضتها التي قامت على التسامح والمحبة والحكمة.
ثمة رسائل راهنة ومستقبلية تبعثها زيارة البابا، لاسيّما لجهة علاقة المسيحيين بالمسلمين لتوطيد العيش الإنساني المشترك وقيم التسامح والسلام.
أولتها- يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
وثانيتها- إن القيم الإنسانية هي التي تجمعهم مثل قيم السلام والتسامح والمحبة والإخاء والمساواة والعدالة والشراكة.
وثالثتها- إن بإمكان البشر العيش والعمل معاً في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بغض النظر عن دينهم ولغتهم ولونهم وعرقهم وجنسهم وأصلهم الاجتماعي.
ورابعتها - إن الأساس في العلاقات بين البشر هو الاحترام المتبادل للخصوصيات والهويّات والثقافات.
وخامستها- إن للبشر حقوقاً متبادلة في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحريّة ودون إكراه أو خوف، فالعبادة هي علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه، تلك التي ينبغي أن تحترم وألّا يتم التجاوز عليها تحت أي ذريعة أو حجة.
جدير بالذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة وهي دولة مسلمة تحتضن أكثر من 200 جنسية وفيها أكثر من 40 كنيسة ومعابد للسيخ والبوذيين، كان آخرها المعبد الهندي الذي افتتحه رئيس وزراء الهند فارندرا مودي (العام الماضي- 2018)، وتلك الحقائق تؤكد مجدداً أن الإسلام دين تسامح ورحمة ومعاملة إنسانية، على الرغم من محاولات تشويهه، سواء من جانب الجماعات التكفيرية الإرهابية، أم باتهامه  من بعض القوى المتنفّذة في الغرب كدين يحضّ على العنف ويدعو للإرهاب، ولعل المثل الإماراتي والفضاء الرحب الذي يوفره يؤكد على قبوله للتنوّع والتعددية وضمانه لحرية العبادة وحقوقها.
وتترافق زيارة البابا، مع اختيار العام 2019، عاماً للتسامح في الإمارات، بعد أن أُطلق على العام 2018 عام الشيخ زايد، وكانت أبو ظبي قد احتضنت، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2018، مؤتمراً عالمياً لتعزيز الحوار بين أتباع الأديان  ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب الذي نظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وتأتي مشاركة البابا في منتدى حوار الأديان لتأكيد الأخوة الإنسانية وتواصلاً مع المبادرات العديدة التي قادتها دولة الإمارات.
ولأننا أبناء حضارة عالمية واحدة، وإن كانت الثقافات متعدّدة ومتنوّعة فيها، فكان لا بدّ من التفكير في مدّ الجسور والقنوات للعيش معاً وبسلام ومساواة بغض النظر عن الاختلاف في الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس أو الأصل الاجتماعي، الأمر الذي يقتضي أن نأخذ بعضنا بعضا ً بالتسامح على حد تعبير فولتير، لأن البشر خطّاؤن . وسيكون نقيض التسامح الاحتراب والإلغاء والإقصاء، ومثل هذا سينتج التعصب ووليده التطرّف وهذا  الأخير يمكن أن يقود إلى العنف والإرهاب.
لقد حظي البابا فرانسيس باحترام المسلمين وتقديرهم، فهو من العالم الثالث أولاً (الأرجنتين) وقد أدركته الحروب والمآسي التي عانى منها العالم، وقد اتسم نهجه بالتسامح والتواصل مع  المسلمين، ولعلّ موقفه الإنساني من اللاجئين كان لافتاً، خصوصاً وأن القسم الأكبر منهم من البلدان الإسلامية هارب من جحيم الحروب والنزاعات الأهلية، يضاف إلى ذلك موقفه النبيل من مسلمي الروهانغا في بورما.
لقد أخطأ ستالين حين نظر إلى إمكانات دولة الفاتيكان التي لا يتجاوز عدد نفوسها سوى بضعة مئات، بمنظار القوة المسلّحة، وأغفل أن هذه الدويلة الصغيرة كبيرة جداً لما تمثله من قوة روحية هائلة، تلك التي سرعان ما تتحوّل إلى قوة مادية تشمل أكثر من ملياري مسيحي، كما أخطأ مرّة أخرى في منظوره للقوة  التي احتسبها بالقوة العسكرية وعدد الفرق والدبابات والصواريخ، في حين أن البابا بذاته ولذاته يمثل "قوة روحية" لا مثيل لها وهي أشد وأقوى وأكثر مضاءً من القوة المسلّحة، بل إن أسلحته أكثر فعالية من بين جميع الأسلحة الأوتوماتيكية والذرية والالكترونية.
يمكن للبابا بقوة المحبة وروح الخدمة التي يقول عنها "القوة الحقيقية" أن يحرّك ملايين البشر، ولعلّ ذلك ما أثار اهتمام العالم أجمع الذي تابع مبادرة أبو ظبي بشغف وتطلّع لترسيخ قيم التسامح والسلام ، لأن  عالماً بلا محبة هو بلا سلام، وتلك رسالة كان قد وجهها الشيخ محمد بن زايد لرُسل السلام والمحبة، خصوصاً حين تلتقي إرادة الروحانيين والنخب الفكرية والثقافية مع الإرادة السياسية.
drhussainshaban21@gmail.com


272
الملف الكردي بين واشنطن وأنقرة
عبد الحسين شعبان
رغم الوعود التي أطلقها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، قبل أسابيع، بمنحه ضوءاً أخضر لتوسيع دور تركيا في سوريا بعد انسحاب الولايات المتحدة منها، إلّا أن المسألة أكثر تعقيداً كما يبدو، فجون بولتون مستشار الأمن القومي، أدلى بتصريحات مناقضة لتوجّهات رئيسه، حيث وضع شروطاً على أنقرة لتطبيقها بعد الانسحاب الأمريكي، الأمر الذي أثار حفيظة الإدارة التركية، التي تصرفت بطريقة غير دبلوماسية، كما تم وصفها، فألغت لقاءً كان من المزمع عقده بين أردوغان وبولتون، وشنّت الأجهزة الرسمية والإعلامية التركية هجوماً عنيفاً ضد هذا الأخير. فهل سيعطّل الملف الكردي التفاهمات بين واشنطن وأنقرة؟ وهل سيكون الأكراد ضحايا مساومة دولية جديدة؟
ويبدو أن الأكراد شعروا بمرارة من تصرف الدبلوماسية الأمريكية المتناقضة، ليس بعيداً عنها استحضار الدور الماكر الذي لعبه هنري كيسنجر مع أكراد العراق في العام 1975، فسرعان ما تم التخلّي عنهم بعد استنفاد دورهم، وتبدّدت جميع الوعود التي أُعطيت لهم، سواء من جانب واشنطن، أو من جانب طهران الشاه حينها، الأمر الذي يجعلهم في قلق وحيرة، إزاء التباس الموقف الأمريكي، وضبابية الأفق بشأن حقوقهم، ومصيرهم.
ولعلّ هذه الأسئلة المشروعة تولد أسئلة أخرى أكثر حيرة تضع الجميع في دوامة الشك إزاء المستقبل، منها: هل سيكون أكراد سوريا هذه المرّة عرضة للخداع والاستغلال وضحايا جدداً؟ رغم عدالة ومشروعية قضيتهم؟ وهل نكثت واشنطن وعودها؟ وكيف سيتم التعاطي مع الوقائع الجديدة على الأرض؟ وما هي المدّة التي سيستغرقها الانسحاب الأمريكي؟ ومن سيملأ الفراغ ؟ وكيف سيحسم الملف الكردي الشائك تركيّاً، وأمريكياً، وروسيّاً، وبالدرجة الأولى سوريّاً، بما فيه كرديّ؟ ثم ماذا عن المنطقة العازلة (الآمنة) التي بادرت تركيا لإعلان الاستعداد لإنشائها بالتعاون مع واشنطن، علماً بأن لقاء الرئيس الروسي بوتين مع الرئيس التركي أردوغان في موسكو لم يسفر عن تفاهم بشأن «المنطقة الآمنة»، ووردت إشارات غامضة بشأن اتفاقية أضنة الموقعة بين سوريا وتركيا العام 1998 التي سمحت حينها للقوات التركية بالتوغل لمسافة 5 كيلومترات لملاحقة المجموعات المسلحة التي تقول إنها تهدّد أمنها الوطني.
لقد كان رد الفعل التركي شديداً إزاء التصريحات الأمريكية التي أعقبت وعد ترامب، وقال أردوغان إن الأتراك لن ينتظروا إذناً لتنفيذ أي عملية عسكرية في سوريا، وأشار إلى أن تركيا لن تقدّم تنازلات في مجال مكافحة الإرهاب، معلناً أن بلاده ستبدأ قريباً جداً حملة ضد التنظيمات الإرهابية في الأراضي السورية، وإن التحضيرات توشك على الانتهاء شرق الفرات، مشيراً إلى أن تركيا لا تقبل الرسالة التي بعثها بولتون، مشدّداً على أن ادعاءات استهداف الأكراد إنما هي « افتراء دنيء»، على حد تعبيره، لافتاً النظر إلى أن تركيا تحارب الإرهاب بغض النظر عن الانتماءات العرقية، وانتقد أردوغان السياسة الأمريكية في منبج «التي تحاول صرف نظرنا عمّا يجري هناك»، حسب تعبيره.
ومن المشاكل العويصة التي تواجه علاقة أنقرة - واشنطن، مشكلة الأسلحة التي بحوزة المسلّحين الأكراد ، وكذلك مصير القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا، وهاتان المشكلتان ستؤججان الخلاف التركي - الأمريكي، فضلاً عن أنهما مشكلتان سوريّتان بامتياز، حيث أعلنت دمشق رفضها قيام المنطقة العازلة، واستعدادها للعمل على كل ما من شأنه استعادة السيادة على جميع الأراضي السورية، كما أن الجماعات الكردية هي الأخرى رفضت إقامة المنطقة العازلة باتفاق أمريكي- تركي، لأن تركيا ليست محايدة، بل هي طرف في الصراع، كما تقول.
وتصرّ تركيا على استرداد الأسلحة من الجماعات الكردية المسلّحة مثلما تريد إخلاء القواعد العسكرية الأمريكية، أو تدميرها. وكانت صحيفة «حرييت» كتبت مقالة بعنوان «سلّموها أو دمّروها»، والخلاف الآخر حول منبج، فالأتراك يريدون انسحاب المقاتلين الأكراد بشكل كامل، وتطبيق خريطة طريق تركية - أمريكية. وتنفي تركيا أي وعد بحماية المسلحين الأكراد، كما أعلن مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي.
وهكذا يصبح الأكراد في حلبة الصراع مجدداً يواجهون مخاطر شديدة، وتحدّيات جديدة، وقلقاً مستمراً يتعلّق بمستقبلهم، وحقوقهم، ومصيرهم، خصوصاً أن التجربة التاريخية برهنت على محاولة القوى الخارجية استغلال الحركة الكردية لمصلحة أهدافها الأنانية الضيقة. فمن جهة تزداد تركيا تشدّداً وعنتاً للحصول على المكاسب في لحظة تاريخية مفارِقة، أما الولايات المتحدة فتتأرجح حسب مصالحها بين حلفائها الأكراد والأتراك، فتقدم خطوة وتتراجع خطوتين، وعلى الرغم من التوافق الضمني التركي - الروسي، فإن ثمة إشكالات لا تزال قائمة بينهما، وتشتبك بالموقف السوري المدعوم إيرانياً، وقد يكون التوصل إلى صيغة مناسبة تضمن الحقوق الكردية السياسية والمدنية العادلة في إطار الدولة السورية وعلى أساس دستور جديد، تسهم في إنجازه مختلف التيارات السياسية والاتجاهات الأيديولوجية والمجموعات العرقية، وبمساعدة من الأمم المتحدة يقرّب الأكراد من دمشق ويبعدهم عن وعود بعيدة.
drhussainshaban21@gmail.com


273
طه صفوك الجبوري
اسم في الذاكرة
عبد الحسين شعبان
 
   هاتفني الرفيق أبو الجاسم " قاسم سلمان" لينقل لي خبر رحيل الصديق طه صفوك الجبوري " أبو ناصر" ، وأعادني هذا الاتصال إلى ما يزيد على نصف قرن من الزمان. ثم لفت انتباهي محمد السعدي  إلى ما كتبه عنه في موقع البيدر. وكنتُ قد تعرفتُ على طه في العام 1967، وبعد انشطار الحزب الشيوعي العراقي إلى قسمين : مجموعة عزيز الحاج " القيادة المركزية" التي تمرّدت على الخط الرسمي ، ومجموعة "اللجنة المركزية" ذات التوجّه التقليدي.
   وبالرغم من نقدنا لبعض توجّهات اللجنة المركزية، لكن اختيار القيادة المركزية طريق العنف واستخدام السلاح لحلّ خلافاتها مع اللجنة المركزية جعلنا نختار الأخيرة دفاعاً عن القيم الشيوعية والاعتبارات الأخلاقية التي كنّا نتوسّمها. وكان "أبو ناصر" من ذات التوجه، إذْ لم نرتضِ أن يستخدم السلاح والاتهام والتخوين ضد رفاق الأمس، وباستثناء بعض المتطرفين والصقور، وهؤلاء موجودون بالفريقين وفي كل زمان ومكان، فإن التوجه العام كان يميل إلى التلاقي والتقارب بغض النظر عن بعض اشتراطات تلك المرحلة وادعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة.
   ومن جانبنا كنّا نعتزّ برفاق القيادة المركزية وواصلنا صداقاتنا معهم على الرغم من افتراقنا عنهم وبقينا على هذا الحال، نحاورهم ونناقشهم ونساجهلم ونتعامل معهم كرفاق وأصدقاء في موقعين مختلفين، سواء بالعلاقة الخاصة بيننا أم على مستوى العلاقات السياسية بشكل عام، لشعورنا أن غاياتنا وأهدافنا مشتركة، بل وواحدة، بالرغم من اختلاف  أساليبنا ووسائلنا وكنّا نعتقد أنه لا بدّ من تسوية للأزمة القائمة، سواء قبل الانشطار أو ما بعده.
I
   كان طه صفوك الجبوري الأكثر حماسة، وخصوصاً لجهة علاقته بالرفيق عبد الأمير عباس " أبو شلال" (مرشح اللجنة المركزية) وسخّر كل إمكاناته وإمكانات عائلته لخدمة ذلك التوجّه، وكان شغله الشاغل استعادة الحزب لدوره وموقعه، خصوصاً وكنّا لتوّنا قد حققنا انتصاراً كبيراً على صعيد الحركة الطلابية بفوزنا الساحق بالانتخابات (ربيع العام 1967)، وكان على الرغم من مواجهته أحياناً لفريق القيادة المركزية، إلّا أنه يحظى باحترامهم أيضاً، وكنت قد سمعت من فريق القيادة لأكثر من مرّة ما معناه : للأسف إن طه مع اليمين كما كانوا يطلقون على الذين بقوا مع اللجنة المركزية.
   لم نكن في البداية نتجاوز عدد أصابع اليد من الذين استمروا في التعاون مع التنظيم الرسمي أو الذين يدورون في فلكه، وذلك في عموم كليات ومعاهد بغداد والثانويات، ولكل قصته وخلافاته وهواجسه، خصوصاً وأن نكسة العام 1963 أدركت غالبيتنا ، فعلى سبيل المثال كان حسن أسد الشمري الذي اختير أميناً عاماً لاتحاد الطلبة بعد الانتخابات التي جرت لعموم طلبة جامعات العراق في بغداد والبصرة والموصل، قد ذهب مع فريق الكادر المتقدّم "مجموعة ابراهيم علاّوي" التي أصدرت بياناً اعتبرت فيه انشقاق مجموعة عزيز الحاج يمينياً ضد يميني اللجنة المركزية (اليمين ضد اليمين) والكل في مركب واحد، لكن ابراهيم علاوي وبعد مفاوضات مع مجموعة القيادة المركزية طوى تلك التحفّظات والتحق بالقيادة وأصبح عضواً في لجنتها المركزية، ثم أميناً عاماً لها بعد اعتقال عزيز الحاج.
   وكان قد حصل التباس لدىعزيز الحاج حيث كان يعتقد أن الانتخابات الطلابية أجريت بعد انقسام الحزب (الذي حصل في 17 أيلول/سبتمبر 1967) وهو ما كتبه وكرّره  لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بل أعاده على مسامعي، وكنت قد حاولت أن أوضّح له الفارق بين التاريخ الذي يذكره وبين التاريخ الصحيح الذي يؤكد أنها أجريت في ربيع العام 1967 وليس في خريفه ، أي قبل انقسام الحزب وليس بعده، وقد أرسلت له صفحات مصوّرة من كراس كنت قد كتبته في بشتاشان في العام 1983 (بمناسبة الذكرى الـ 35 لتأسيس اتحاد الطلبة) بطلب من "إدارة الحزب" جرّاء انقطاع التواصل وضعف الخبرة التي كانت بسبب سياسة تجميد المنظمات الجماهيرية في أواسط السبعينات بضغوط حكومية. وكان الكرّاس بعنوان "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق"، نشرته مطبعة "طريق الشعب"، وقبل ذلك وفي العام 1981 كتبت مادة بطلب من مجلة "فكر" نُشرت على حلقتين، وفي الحلقتين والكراس بشكل خاص وثّقت الانتخابات الطلابية ونتائجها، خصوصاً وقد كنت في قلب الحدث كما يُقال، وإذا كان التنظيم الطلابي بجسمه الأساسي التحق بمجموعة عزيز الحاج، فهذا شيء آخر ولا يغيّر من الحقيقة في شيء.
   المجموعة الصغيرة العدد القوية الإرادة والشديدة العزيمة توسّعت وانتشرت، وكما أتذكّر كان من البارزين فيها إضافة إلى حسن أسد الشمري وطه صفوك يوسف مجيد الذي كانت علاقته مع مكرم الطالباني وصلاح زنكنة الذي كان ينقل لنا الوقائع قبل أن تصلنا رسمياً، بحكم قربه من شقيقه عبد الخالق زنكنة وبقايا لجنة بغداد وبعض كوادر اللجنة العمالية التي ظلّت مع اللجنة المركزية في حين أنهما كانا المرتع الأساسي لانشقاق القيادة المركزية ولؤي أبو التمن الذي كان موقفه أخلاقياً فهو ضد العنف، لكن الكثير من أطروحات القيادة  المركزية ونقدها لسياسة الحزب العامة كانت تستهويه، خصوصاً لتلك المرحلة العمرية وكنت من ذات القماشة، مع تساؤلاتي النقدية لموقف السوفييت من عدوان 5 حزيران / يونيو1967، ناهيك عن إرهاصات أولية مغايرة لمواقف متمايزة بصدد القضية الفلسطينية، إضافة إلى تخبّطات إدارة الحزب السياسية بعد نكسة العام 1963.
   وكانت نقاشات قد دارت في صفوفنا حول شعار " كل شيء إلى الجبهة" أم " كل شيء من أجل الجبهة" وهي التي أعادت نقاشات وسجالات في داخلنا وخارجنا بشأن قضايا الصراع الداخلي وبعض مواقفنا العربية.
   ومن الذين شاركوا بفاعلية ونشاط ملحوظ ومحوري كان سعد الطائي وحميد برتو وفائز عبد الرزاق الصكَر وسعدي السعيد ومهدي السعيد ورضا الكربلائي ومحمود شكاره وشاكر المنذري وكاظم عوفي البديري واتسعت المجموعة لتضمن صلاح الصكر وفلاح الصكر وصبحي مبارك إضافة إلى علي العاني ويحيى علوان وجمال أسد وشاكر الدجيلي ومحمد حسن السلامي وصالح ياسر وآخرين.
   وكان من أبرز طلبة الثانويات الذين وقفوا مع هذا التوجه،إضافة إلى  سعدي السعيد، مالك علي الذي درس في السليمانية لاحقاً وقد ضممته إلى الوفد الذي زار الملّا مصطفى البارزاني في كلالة (أيار/مايو 1970)، وحمّاد الخطيب ومحمد الأسدي وأبو العيس وشيروان جميل بالطة الذي استشهد مع مجموعة الـ 12 رفيقاً الذين على يد عيسى سوار(القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني).
    ومن طلبة جامعة البصرة، محمد فؤاد هادي ونزار جعفر، ومن طلبة ثانويات إربيل (معهد المعلمين - منعم العطّار) ومن السليمانية نوروز شاويس الذي أصبح عضواً في سكرتارية اتحاد الطلبة بعد مجيئه إلى بغداد أواخر العام 1968 ولفترة قصيرة، ومن جامعة الموصل زهير جعفر(أبو جنان) ومن طلبة الثانويات في الفرات الأوسط: محمد جواد فارس مسؤولاً عن الحلة، وطالب عواد مسؤولاً عن كربلا. ومن الطالبات الجامعيات رقيّة الخطيب وعطية فاضل الخطيب وبخشان زنكنة ورابحة الناشئ ، إضافة إلى هناء أدوارد بوشة وفارعة فاضل وكانتا قد تخرجتا من كلية الحقوق عشية الانشقاق. ومن هذه المجموعة كانت النواة الصلبة للتنظيم الطلابي ولتأسيس مكتب سكرتارية لاتحاد الطلبة، ولا شك أن هناك آخرين أيضاً، لكن هذا ما أسعفتني به الذاكرة المتعبة.
II
   كنتُ في الصف المنتهي بالجامعة (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) حين حصل الانشطار وقد عملت كل ما في وسعي ألّا ينتقل الانشقاق إلى اتحاد الطلبة حتى وإن استمر في الحزب وحاولت أن أحاور الطرفين وأضغط عليهما ( كل بمنطق الآخر)، لكن مثل هذا الأمر لم يكن ممكناً، حتى وإن حاول كلا الفريقين أن يقول ذلك، لكنهما وكل على انفراد حاول السيطرة على اسم الاتحاد وإبعاد خصومه والزعم بتمثيله.
   وقد بدأ التمايز والانقسام والحسم يأخذ طريقه إلى الجسم المهني، بل أصبح مسألة لا مفرّ منها، وإذا كان فريق القيادة المركزية  هيمن على الجمهور الطلابي والكادر الطلابي الأساسي وشبكة الكوادر المتوسطة والدنيا، فإن فريق اللجنة المركزية الذي كنّا نمثّله استمر يحمل راية "الشرعية" والتمثيل الخارجي، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من التنظيم، ناهيك عن الأصدقاء والجمهور الطلابي لم تكن معه، وتلك واحدة من مفارقات السياسة.
   وللأسف شهدت تلك الفترة كما عرفت لاحقاً ممارسات وضغوط من جانب بعض البيروقراطيين الحزبيين ضد رفاق القيادة المركزية في الدول الاشتراكية، وتلك خطيئة لا بدّ من الإقرار بها، وهو الأمر الذي تكرّر في أوقات لاحقة، ولاسيّما خلال الثمانينات بسبب الخلافات الفكرية والسياسية ضد فريق من إدارة الحزب وكوادره التي اعترضت على  النهج السائد آنذاك، ولاسيّما في الموقف إزاء " الحرب العراقية- الإيرانية".
   ولعلّ لتلك الممارسات جذرها التاريخي، فقد حدثت انتهاكات من جانب بعض الكوادر الطلابية الشيوعية ضد زملاء لهم من القوى الأخرى (القومية والبعثية) خلال فترة العام 1959، ولاسيّما بعد حركة الشوّاف وكانت بعض تلك التصرّفات تغلّف باسم "الثورية" و"اليسارية" ضد القوى الرجعية و"المتآمرة"، لكنها في واقع الأمر مثّلت نهج احتكار العمل السياسي والنقابي والمهني، وحملت ميلاً  إقصائياً وتهميشياً للآخر وعدم اعتراف بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، وهو أمر لا بدّ من الإقرار به ونقده.
   وطرح مثل هذا التناقض والمقصود: أغلبية ساحقة على صعيد اتحاد الطلبة وجمهور غفير، ولكن بلا "شرعية" للتمثيل الخارجي، مقابل " أقلية" اتحادية تمثّل عموم طلبة العراق، أو على أقل تقدير تعبّر عنهم أو تنطق باسمهم في المحافل الدولية، أسئلة جديدة كانت تحتاج إلى حوارات جدّية لبلورة رأي بشأنها، حتى وإن كانت بنبرة خافتة في داخلنا، خصوصاً حين نواجه من الفريق الآخر، ولكن تلك التساؤلات مهّدت لدينا في وقت لاحق عملياً تطوير فكرة أننا لسنا لوحدنا من يمثل طلبة العراق، أي أن الاتحاد ليس الممثل الوحيد والشرعي فقط، ولكنه قد يكون المنظمة الأكثر تمثيلاً أو الأجدر تعبيراً، لتمثيل الطلبة.
   وعند هذه النقطة الإشكالية والحسّاسة غادرنا بالتدرّج فكرة ادعاء التمثيل الكامل أو الشرعية الواحدية، الأمر الذي احتاج إلى كفاح فكري داخلنا وداخلهم وبيننا وبينهم، وأظنه سؤالاً واجه عموم الحركة الطلابية لاحقاً وهو ما حاولنا طرحه خلال مباحثاتنا مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق بعد 17 تموز (يوليو) 1968، وقد أدرنا نقاشات واسعة بيننا وبينهم ومن جانبنا كان لؤي أبو التمن وكاتب السطور، ومن جانب الاتحاد الوطني كان كريم الملّا ومحمد دبدب.
   وكنتُ قد ذكرت في مطالعة لي في احتفالية أقيمت في برلين (1998) بمناسبة الذكرى الـ 50 لتأسيس اتحاد الطلبة (تُليت نيابة عني لعدم تمكّني من الحضور) كيف أن ذلك بالنسبة لي كان مدخلاً مهماً زاد من قناعتي بفكرة التعددية والتنوّع وعدم ادعاء احتكار العمل المهني والنقابي والسياسي بالطبع، ناهيك عن الاعتراف بالآخر، وبالحق في الاختلاف.
   وإذا كان طه صفوك عمل في قيادة طلبة الثانويات فإن تمكننا من استقطاب بعض الكوادر جعله يتفرّغ لمهمات خاصة وذلك بعد أشهر من انقلاب 17 تموز/يوليو/1968 ،  ولكن الصداقة والحوار بيننا بقيا مستمرين، وأتذكّر أنه كان ينتقل من مقهى إلى مقهى ومن زقاق إلى زقاق ومن موعد إلى آخر، كأنه يطير بلا جنحة، وتعلو شفتيه ابتسامة بريئة وفي عينيه تساؤلات كثيرة ورغبة في المعرفة والاستقصاء. وكنت أحياناً أقوم بنقله وإيصاله بسيارتي الفولكس واغن لأداء مهمات عديدة، وبالمناسبة كنت الوحيد الذي يمتلك سيارة بين مجموعتنا، وقد جعلتها في خدمة الحركة، وباستثناء لؤي أبو التمن الذي كان يستخدم سيارة والده الطبيب صادق أبو التمن، والتي درّب الرفيق محمد الخضري السياقة فيها،  فإن الغالبية من الأسماء المذكورة كانت تعيش في الأقسام الداخلية عدا طلبة الثانويات. وأتذكّر حادثة طريفة، حين استعار الخضري سيارة لؤي أبو التمن لنقل بريد حزبي، وظلّ لؤي ينتظره عند مدخل كلية التجارة ووالده ينتظر في العيادة، الأمر الذي كان محرجاً، واتضح أن عطلاً حصل فيها لم يتمكن الخضري من إصلاحه إلّا بعد نحو ساعتين قضاها لؤي بالقلق والانتظار.
III
   عقدنا العديد من اللقاءات في بستان صفوك الجبوري والد طه في الراشدية، ونظمنا عدة سفرات طلابية إلى هناك، وحضرها بعض الطلبة العرب وبعض الأصدقاء الفلسطينيين معنا بدعوة مني ضمن توجه بادرنا إليه لتعزيز علاقاتنا العربية، كما انعقد المؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة في 28 كانون الأول /ديسمبر 1968 في بستان صفوك الجبوري (والد طه)، وكنت أعرف أن بعض الرفاق تدرّبوا على استخدام السلاح فيه أيضاً.
   أتذكّر أننا نظمنا احتفالاً في كلية التجارة بمناسبة معركة الكرامة (1968)، لكنه انتهى إلى حيث لا نرغب، حيث هوجمنا على نحو مباغت ولم نكن مستعدين أو متحسبين لمثل هذا الهجوم، خصوصاً وقد سقط من يلقي الكلمة باسمنا مغشياً عليه. وكم كان طه متألماً لأننا فشلنا في الدفاع عن أنفسنا، وكان الهجوم من المجاميع البعثية المتطرّفة في كليات التجارة والحقوق والآداب، حيث فضّ الاحتفال وتم تمزيق اللافتات وتفرقنا دون تحريك ساكن، وقد ظلّت مجموعة القيادة المركزية تتندّر علينا لدرجة التشفي وتستعيد بمناسبة وأخرى تلك الواقعة.
   كما شاركنا في التظاهرة التي تم تنظيمها بمناسبة الذكرى الأولى لعدوان 5 حزيران/يونيو/ 1967 (أي في 5 حزيران/يونيو/1968) وذلك بالتعاون مع حزب البعث (المجموعة المؤيدة لسوريا)، لكنه بعد بضعة أشهر من انقلاب  17 تموز(يوليو) 1968 ، لم يشارك في الأنشطة الجماهيرية العامة مثل الاحتفال بذكرى ثورة أكتوبر في ساحة السباع (الذكرى الـ 51) أو التظاهرات المؤيدة لبيان 11 آذار (مارس) 1970 والتي تم قمعها بما فيها التظاهرة المركزية في 21 آذار (مارس) 1970، وحين سألته لماذا لم تشارك : ابتسم ولم يجب كعادته حين يواجه بسؤال مفاجئ، وقدّرت أن الأمر كان بقرار خاص حتى أن علاقاته الاجتماعية تقلّصت، هكذا تبادلنا النظرات، ثم علّق " الأمر ليس بيدي".
   لم يكن طه صفوك مرتاحاً لما حصل من تصدّع وعدائية لعلاقتنا مع القيادة المركزية، خصوصاً بعد اتهام فريق اللجنة المركزية باغتيال سامي مهدي الهاشمي، وقد اضطرّ مثل الآخرين للتواري عن الأنظار دفعاً لأية احتكاكات أو ردود فعل انتقامية ، وكنت قد رويت لأكثر من مرّة تداعيات هذا الحادث الأليم وموقفي منه وإدانتي له ومطالبتي لإدارة الحزب لاتخاذ الإجراءات الرادعة ضد المسبّبين فيه، والمسؤولين عنه، وليس سرّاً إن ذلك الحادث كاد أن يصدّع علاقتي "القلقة" بالحزب، خصوصاً وأن الراحل أحد أصدقائي وشقيقه الهارب من سجن الحلّة " سعدون سامي الهاشمي" (بعد كسر السجن) وقد ساهمت في نقله من سدّة الهندية إلى بغداد وإسكانه في بيت في منطقة الزويّة، وظلّت علاقتي وطيدة به قبل الجريمة وبعدها وإلى الآن. وكنت الوحيد الذي حضر مجلس الفاتحة لثلاثة أيام في جامع براثا في منطقة العطيفية.
   حاولت أن أستذكر آخر لقاء جمعني بطه صفوك قبل ذهابي إلى كردستان (أيار/مايو/1970) للإشراف على تأسيس اتحاد الطلبة العام في كردستان، وذلك في منزلي في منطقة العطيفية الذي كان غالباً ما يزورني فيه هو وحسن أسد الشمري الذي كان محكوماً لـ 10 غيابياً، لكنه أكمل دراسته الجامعية، وبعد 17 تموز/يوليو 1968 تم تسوية قضيته وغادر لاستكمال دراسته إلى موسكو، ويوسف مجيد الذي التحق بوظيفة إدارية بعد بيان 11 آذار/مارس 1970، وتحدّثنا حول تردّي الأوضاع وانسداد الآفاق لعملنا الطلابي والمهني، خصوصاً وكنت على رأس وفدين للحوار مع البعثيين، وكان رأيي أنه علينا ابتداع أساليب جديدة، فمسألة الجبهة الطلابية أو التنسيق الذي كنّا نفكّر فيها قد انتهت أو أصبحت صعبة المنال. وما كان معروضاً علينا لم يعد ممكناً الآن بعد الانتخابات، ولاسيّما بعد الهجوم الذي بوشر ضدنا مباشرة بعد بيان 11 آذار (مارس) 1970.
   لقد رفضنا عروضاً مهمة من جانب الاتحاد الوطني في السابق، وكنت أعتقد أن استراتيجيتنا مشوّشة ومرتبكة وربما غير واضحة، فإذا كنا نريد التحالف فهذا يعني علينا ترتيب أوضاعنا على هذا الأساس، أما إذا  كنّا نريد الحوار  لغرض الحوار أو نريد أن يكون موقعنا على نفس درجة قوى السلطة فهو غير ممكن وغير واقعي ، فهذا سيعني أن علينا اتباع طريق آخر، أو اتباع طريق المعارضة.
   ولعلّ ذلك يتطلّب دراسة إمكاناتنا واستعداداتنا، علماً بأن موازين القوى بدأت تتغيّر لصالح السلطة التي بدأت تُرسّخ أقدامها، كما أن علاقتها بالسوفييت ليست مرهونة بتزكياتنا كما يعتقد البعض، وقد كانت السلطة قد أقدمت على طائفة من الإجراءات التقدمية بمصطلح  تلك الأيام بما يحرجنا وإنْ لقيت دعمنا، لكن قاعدتها أخذت بالاتساع، وإن الحركة الكردية  تراعي مصالحها حتى وإن كانت على حسابنا، وعلينا أخذ العبرة من تاريخ التحالف معنا، وهذه الوقائع تفرض علينا إجراء مراجعة،  وبعد نقاش بصوت عال اتفقنا طلبت منه أن يكتب رسالة إلى إدارة الحزب بشأن هذا النقاش العمومي، وكنتُ قد كتبت أكثر من مرّة، بهذا الخصوص.
IV
   عدتُ من كردستان إلى بغداد، بعد أن كان مقرراً سفري إلى سوريا ومنها إلى الخارج لإكمال دراستي، لكن ثمة ضرورة استدعتني للعودة بطلب من المكتب السياسي، مع وعود بوقف الحملة وفتح حوار جديد، وخلال وجودي في كردستان نظمت وفداً لزيارة الزعيم الكردي المّلا مصطفى البارزاني وهو قرار كنّا قد اتخذناه في وقت سابق، بعد بيان 11 آذار (مارس) 1970،واستجدت مسألة أخرى هي الحملة البوليسية الشرسة التي تعرضنا لها، الأمر الذي كان يقتضي اطلاعه على ما حصل لنا. وقد رافقنا في تلك الزيارة الملازم " خضر"، الفريق "نعمان سهيل التميمي" أحد أبرز قادة الأنصار الشيوعيين منذ العام 1963 حيث استضافني في قاعدة بيرسيرين التي بقيت فيها عدّة أيام، وعاد الوفد في اليوم التالي، كل إلى موقع عمله.
   وحظي اللقاء بالبارزاني وبحضور عزيز شريف باهتمام كبير، وكان صالح اليوسفي كتب لنا رسالة باسم البارزاني أعرب فيها عن تضامنه معنا، ولعلّها الرسالة الأولى بعد بيان 11 آذار/مارس 1970 التي حملت انتقادات الحركة الكردية للسلطة ولحزب البعث وأكّد أنه سيبذل قصارى جهده لإطلاق سراح المعتقلين، وختمها بالآية القرآنية " لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها" (سورة البقرة، الآية 286)  وقد تُرجمت الرسالة إلى الانكليزية والفرنسية والإسبانية ووزعت على جهات دولية مختلفة، كما نُشرت في جريدة "كفاح الطلبة" السريّة وكذلك في جريدة " طريق الشعب" السريّة، ووجدت نسخاً منها في الخارج بعد وصولي إلى براغ.
   وحين اشتدّت حملة السلطة ضدنا وتوسعت دائرة الاعتقالات لدرجة أنها شملت عضو قيادة الوفد المفاوض لؤي أبو التمن قرّرنا تلبية دعوة وصلتنا من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لزيارة عمان ودمشق واللقاء بالمقاومة الفلسطينية تعبيراً عن دعمنا، والهدف هو إبعاد عدد من الكوادر عن الملاحقة والاحتفاظ بها كاحتياطي للمستقبل وكان وفداً قد ذهب إلى عمّان ودمشق برئاسة محمد النهر وذلك قبل ثلاثة أشهر من الوفد الثاني الذي كان من المقرر ذهابه.
   وحين ذهبنا للسفر وكان ذلك في ليلة 17 تموز /يوليو/1970 أبلغنا "أبو وائل" مسؤول الجبهة الشعبية في بغداد أن اثنين من العراقيين اعتقلا عند الحدود قبل يومين (كما فهمنا من بقايا القيادة المركزية)، لكنه أبدى استعداده لنقلنا إذا قرّرنا ذلك وعلى مسؤوليتنا.
   وعلى الرغم من أنني كنت رئيساً للوفد ، لكنني لم أرغب أن أقرر لوحدي فاجتمعنا نحن الخمسة الذين كان من المقرّر توجهنا إلى عمّان في لقاء سريع وخاطف في مكتب الجبهة الشعبية، لنتخذ قراراً، واستقرّ الرأي على عدم الإقدام على هذه الخطوة التي فيها مغامرة غير محسوبة النتائج. واتفقنا على اللقاء الأسبوع المقبل لكي نستعرض الموقف ونقرر الوجهة بعد التشاور مع مرجعيتنا.
   وبعد يومين من هذا اللقاء، اعتقل سعدي السعيد ومعه أبو العيس عضوي الوفد، عند بستان والد طه صفوك في الراشدية، حيث ضاقت السبل بهما فقرّرا الاختفاء في الريف وذهبا إلى هناك، ويبدو أن المنطقة كانت مراقبة والوجوه الغريبة كانت مرصودة، إضافة إلى ثرثرات أهالي الريف وتهويلاتهم كما يقول الروائي  أبو كاطع (شمران الياسري)، وهكذا وصلت "الإخبارية"، فتم مداهمة البستان الساعة الرابعة صباحاً في نفس يوم وصولهما، واعتقلا ومعهما صفوك الجبوري والد طه، وتمكن طه من الفرار معتمداً على معرفته بتضاريس المنطقة وطرقها، فأطلق لساقيه الريح، وهكذا أفلت من ملاحقيه. 
   وفي وقت لاحق التقيت صفوك والد طه وروى لي الكثير من الطرائف والمقالب التي حدثت معه او شاهدها في قصر النهاية، وقد ذكّرتني تلك القصص بحكايات هادي راضي (أبو حسن) عن قصر النهاية وتمثيلياته الفكاهية حين كان يتقمّص شخصيات الجلادين، ويقوم بتقليدهم في السفرات والمهرجانات التي كانت تنظمها جمعية الطلبة العراقيين في تشيكوسلوفاكيا في السبعينات، وكذلك في كردستان خلال فترة الكفاح المسلح في الثمانينات. وعلمت لاحقاً أنه طه صفوك الجبوري سيتوجه للدراسة الحزبية في موسكو، في حين أنني توجّهت بعد بضعة أسابيع إلى براغ، وكان العديد من الأصدقاء من الذين يأتون ويذهبون يحملون سلامات وتحيات متبادلة مني إليه ومنه إليّ في أوقات لاحقة بما فيها خلال عمله في لجنة المنطقة الوسطى.
   عند انتهاء دراستي وعودتي إلى العراق، كنّا نلتقي باستمرار مع كل من أبو عليوي (هاشم محسن) وعرب عكاب يوسف (أبو عمّار) وسعد الطائي، إضافة إلى أخي حيدر الذي كان قد تخرج لتوّه، وكان طه صفوك دائماً ما يدعو الوالدة لزيارة البستان ويستأنس بعمل السمك المسكوف لها. وقد توثقت علاقتي بوالده وشقيقه وعائلته خلال تلك الفترة أكثر من السابق.
   وفي ظهيرة أحد الأيام جاءني طه صفوك ومعه عامر مطر وزوجته أم شموس، وكانا مطلوبين في ديالى، وقد استضفتهما في منزلي ليومين ،وكان عمر " شموس" بضعة أشهر ، ثم جاء لنقلهما إلى مكان آخر وفيما بعد إلى بلغاريا. وقد انقطعت أخباري عنه وأخباره عني بعد التحاقي بالخدمة العسكرية الإلزامية، ولكننا عدنا والتقينا، في كردستان وعدّة مرّات في براغ أواخر الثمانينات وبعدها في الخارج حتى وإن تباعدت بيننا السبل.
   وأذكر منها لقاء طريفاً، حصل في براغ العام 1989 التي انتقلت إليها لنحو عام بعد مرحلة سوريا وكردستان، وكان عن طريق الصدفة، أنني خرجت من محطة المترو قرب ساحة الفاتسلفاك للذهاب إلى موعد مع منظمة التضامن (التشيكوسلوفاكية)، وإذا بي ألمح طه صفوك ومعه آرا خاجادور، وبعد السلام والكلام دعياني إلى شرب فنجان قهوة، ودخل معي في حوار حول بعض القضايا الإشكالية وظلّ آرا (أبو طارق) يستمع إلى الحديث ولا يعلّق، وبعد أن ذهب (أبو ناصر) إلى الحمام، فاجأني آرا  بطرافته المعهودة بالقول: إن أبو ناصر أصبح مسؤولي، وكنت قد علمت بمسألة تنحية آرا في اجتماع برلين آذار/مارس (1989)  وفصل كل من باقر ابراهيم ونوري عبد الرزاق وعدنان عباس وحسين سلطان وناصر عبود، وهو القرار الذي علّق عليه باقر ابراهيم (أبو خولة) بقوله: اجتمع خمسة (يقصد الذين حضروا اجتماع م.س.) ففصلوا خمسة .
   وأصبح طه صفوك عضواً في اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع العام 1985 من ضمن المجموعة التي سمّيت " العشرة المبشّرين بالجنة" في فترة دبّت فيها الخلافات والتعارضات داخل الحزب الشيوعي، حيث بدأ الصراع يتّخذ شكلاً علنياً مع تطورات الحرب العراقية - الإيرانية، خصوصاً بعد انتقالها إلى الأراضي العراقية وانشقت مجموعات عديدة عن إدارة الحزب وعارضت سياسته ونهجه العام، وكنّا قد أعلنا عن تشكيل حركة المنبر الشيوعية وأصدرنا مطبوعاً بالاسم ذاته "المنبر".
   لم تستمر عضوية طه صفوك " السرّية" في اللجنة المركزية سوى بضعة سنوات،  وكنت أمازحه بالقول: لقد تم اختيارك بالخطأ وبالوقت الخطأ وبالطريقة الخطأ، وكان هو يضحك، فقد أدرك حالة الانحسار التي كانت تمرّ بها الحركة الشيوعية التي شهدت الانهيار العام للمنظومة الاشتراكية، ناهيك عن تردّي أوضاع الحركة الشيوعية العربية والعراقية، حيث توزعت إدارات الحزب وكوادره، بل وعموم جمهور الحزب في الخارج على بلدان المنافي واللجوء ابتداء من سكرتير الحزب عزيز محمد ومروراً بأعضاء في المكتب السياسي واللجنة المركزية وكوادر حزبية متقدمة، وهو اتجاه لعموم القوى السياسية المعارضة، وكان هو أن ذهب إلى هولندا، خصوصاً بعدما أصاب العمل المسلح من نكوص بعد استخدام السلاح الكيمياوي ضد العديد من القواعد الأنصارية، فضلاً عن اختراقات للتنظيمات المهيأة للداخل في ظروف بالغة التعقيد، وكنت أنا قد اخترت لندن قبله، وظلّت الاتصالات والعلاقات واللقاءات قائمة.
   وعقب تلك الفترة أصيب طه صفوك بالإحباط، بقدر حماسته، وربما شعر بالإهمال بعدم ترشيحه في المؤتمر الخامس، وظلّ على هذا الحال حتى وفاته، تتصارعه وجهتان، بين الماضي والحاضر، وبالرغم من الاختلاف ظلّت علاقتنا مستمرة والاتصالات التلفونية قائمة، وكان آخر لقاء لي معه على أرض الوطن في شارع المتنبي، حين عرف بوجودي في بغداد، واتصل بي واتفقنا على موعد في صباح يوم جمعة، وكان الزمن قد أخذ منه الكثير وبدا طه هرماً ومتعباً ومتشائماً وحزيناً.
   واستعدنا بعض الذكريات، بما فيها النقد الذاتي لكلّ منّا،عدّدت له أخطائي بكل أريحية وقلت له أنني أعتز بها، فهي جزء مني لا أنكره، وهي أخطاء صميمية لأنها مواقف لاجتهادات لم تزكِ الحياة بعضها وبعضها الآخر تجاوزه الزمن ولا ننسى إن بعض المواقف قامت على فرضيات خاطئة أو معطيات غير دقيقة، ولهذا علينا الاعتراف علناً بذلك دون خشية أو خوف، فالاعتراف بالخطأ فضيلة كما يُقال.
   أما التغطية على الأخطاء والنواقص والعيوب فإنها ستعني ارتكاب خطأ جديد ومعالجة الخطأ بالخطأ، وهكذا سيكون الخطأ مضاعفاً ومركّباً، خصوصاً حين يتسم بحجب الحقيقة، بل والخداع، وتلك لعمري تربية مدمّرة وليس معمّرة. والنقد الذاتي والمراجعة كفيلان بوضع التجربة على المحك وإفادة الجيل الجديد، لإضاءة ما هو إيجابي لتعزيزه وما هو سلبي للتخلّص منه، خصوصاً بتنمية روح النقد والتساؤل والعقلانية.
   قلت له : كان عزيز شريف يردّد قولاً طالما استعرته لتوصيف حالنا " الشيوعي مثل راكب الدراجة عليه أن يسير دون توقف، وإذا توقف سقط على الأرض" هكذا كان علينا أن نمضي دون مراجعة جادة أو سؤال محدد إلى أين؟ ثم أين " أناي"  من هذا الجمع الحاشد وكيف أميّز صوتي؟ ولماذا عليّ التماهي فيه لدرجة الذوبان، وإلّا سأكون  مارقاً ومرتداً وبرجوزاياً صغيراً أو كبيراً ، لا فرق؟
   الذين لا يخطئون ليسوا بشراً، فكل من يعمل يخطأ، وكان الروائي الفرنسي فيكتور هوغو يقول " إنه لثناء باطل أن يُقال عن رجل أن اعتقاده السياسي لم يتغيّر منذ 40 عاماً، فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث، إنه كمثل الثناء على الماء الراكد لوجوده وعلى الشجرة لموتها".
   قلت له المهم ضبط الإيقاع وتدقيق التوجه وتحديد البوصلة لكي تكون دقيقة وغير مضببة، ولا بدّ من الحفاظ على الحساسية الإنسانية التي لا بدّ أن تبقى عالية جداً، ولا يهم إنْ أخطأت أو أعدت النظر بمواقفك وتراجعت عمّا تعتقد إنه لم يعد صالحاً، ففي الحياة الكثير من المنعرجات والتضاريس وهي لا تسير بخط مستقيم دائماً ، وبعد قهقهات ونكات وذكريات ، كان معي واضحاً وصادقاً، خصوصاً لجهة الاعتراف بالأخطاء، وقال إنها أخطاء مشتركة، لقد اندفعنا وعملنا وحصد غيرنا، لكنني غير نادم على كل ما حصل وترحمنا على الشهداء الذين قضوا بعضهم بسبب الأخطاء أو ضعف اليقظة، فحياة البشر هي الأغلى دائماً.
   وإذا كان الكثير قد تغيّر في طه، إلّا أن حميميته ظلّت قائمة ومودتّه مستمرة، وتلك أنبل ما في الإنسان، بغض النظر عن المواقف السياسية التي تخطأ وتصيب، وهكذا هي الحياة دائماً.


274
 

الإعلام والأمن السيبراني

عبد الحسين شعبان
يعتبر مهرجان القرين الثقافي (الكويتي) الذي ينظّمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أحد المهرجانات الثقافية العربية المعمّرة، مثل مهرجان المربد (العراقي) وموسم أصيلة (المغربي) ومهرجان الجنادرية (السعودي)، وقد التأم هذا العام في دورته الخامسة والعشرين، وكان موضوع ندوته الأساسية «الإعلام الجديد والأزمات الثقافية»، التي خُصّصت لأبحاث ودراسات وحوارات معمّقة شملت «تأثير الثورة التقنية في الاتصالات»، وأسهمت هذه الثورة جذرياً في التأثير في حياة الناس أفراداً وجماعات وشعوباً وبلداناً، حيث لم تترك مجالاً من مجالات الحياة إلّا وتغلغلت فيه، لدرجة جعلت العالم مختلفاً، بفعل هيمنة وسائل الاتصال وتكنولوجيا الإعلام والمواصلات. وبقدر ما زادت من درجة التواصل بين الناس، فإنها في الوقت نفسه وضعت حواجز بينهم، إذْ تقلّص التفاعل المباشر وحلّ محلّه العالم الافتراضي في الكثير من الأحيان.
وانتقل الإنسان من عالم المعرفة إلى عالم المعلومات، وهذه الأخيرة تصل إليه دون خبرة إنسانية، حتى أن «الإعلام الجديد» أصبح منتجاً للمعرفة وليس ناقلاً للمعلومات فحسب، بل مؤثراً في كل شيء تقريباً من العلم إلى الشائعة، ومن الرأي إلى الخبر، سواء كان صحيحاً أم كاذباً، ومن هتك الأسرار الشخصية إلى الاختراقات وتهديد الأمن الوطني، ما يدفع الحكومات والمجتمعات إلى التفكير في إيجاد معالجات وحلول لمنع التأثير السلبي للظواهر الجديدة، وهو ما نعني به الأمن السيبراني.
وهناك رأيان متعارضان بشأن التعاطي مع الظواهر الجديدة في الإعلام، الأول - يريد منع أو تحريم أو وضع رقابة شديدة على وسائل الاتصال الحديث، تحت عنوان «الأضرار» التي يمكن أن تلحقها بالفرد أو الجماعة أو الدولة، تلك التي قد تؤدي إلى جرائم، والثاني - لا يريد أي نوع من الرقابة كي لا تستغلها الحكومات لحجب الآراء والمعلومات والأخبار بعنوان «حريّة التعبير» التي ينبغي أن تكون مصانة، حسب الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وبين هذا وذاك هناك رأي ثالث ينحاز إلى حريّة التعبير ولا يريد الحدّ منها، لكنه يفرّق بين حريّة التعبير و«حريّة» التشهير وإلحاق أضرار بالفرد أو المجتمع أو الدولة، لذلك يقتضي إيجاد توازن بين حريّة التعبير والحق في حماية الخصوصية والحفاظ على الأسرار الشخصية والعامة من الأضرار المحتملة أو الناجمة عن الاستخدام غير الشرعي أو غير القانوني لحريّة التعبير، بما يؤدي إلى التجاوز على أسسها.
وقد ناقشت الندوة «الشعبوية الاتصالية» التي دأب على اعتمادها بعض الأشخاص أو الجهات التي تشتغل على تشكيل الرأي العام، مع قياس درجة المناعة الشخصية أو المجتمعية إزاء تلك الظاهرة، من خلال فهم ودراسة التقنيات وربطها بالقيم الجديدة التي يروّج لها الإعلام الرقمي «الجديد»، ناهيك عن علاقتها بالاقتصاد الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وعناصر الحماية تلك هي ما نقصده بالأمن السيبراني الذي هو مجموعة من الوسائل التقنية والتنظيمية والإدارية التي يتم اتباعها لمنع الاستخدام غير المصرّح به أو سوء استغلاله، وذلك لضمان استمرارية عمل نظم المعلومات وحق الحصول عليها من جهة وتعزيز حماية وسرّية الخصوصيات الشخصية أو العامة المتعلّقة بالأمن الوطني من جهة أخرى، واتخاذ التدابير الضرورية لعدم التجاوز عليها.وإذا كان الإعلام القديم منحصراً بمن يقوم بالوظيفة الإعلامية ليؤرخ اللحظة حسب توصيف ألبير كامو للصحفي، فإن أي فرد بإمكانه أن يقوم بهذا الدور في الإعلام الجديد من خلال الإيميل والهاتف النقال وجميع الوسائل التي يطلق عليها الذكية للاتصال smart، بحيث يمكن إرسال خبر وصورة وصوت وبالتفاصيل المحيطة خلال لحظات ليصل إلى العالم أجمع.
وإذا كان التحكّم بوسائل الإعلام ما قبل الصحيفة والراديو والتلفزيون والكتاب وغيرها، ممكناً ويسيراً، فإن من الصعوبة بمكان التحكّم بوسائل الإعلام الجديدة، تلك التي لها وجه إيجابي يتعلّق بعولمة الثقافة والعلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والحقوق والمعلومات والجمال، ووجه آخر سلبي قد يكون خطراً، وهو ما يدفع العالم ثمنه باهظاً، وتلك إحدى مفارقات ثمن الذكاء الإنساني، حيث يتم عولمة الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف، وحين يتحوّل الأخير إلى سلوك يصبح عنفاً بالتحريض عليه، وهكذا يمكن أن يتحوّل إلى إرهاب إذا ما ضرب عشوائياً.
ومثل هذا الإشكال يطرح المسألة من زاويتها الإنسانية، ما السبيل لتنظيم استخدام المنجزات العلمية- التقنية، بحيث لا يؤدي إلى إلحاق ضرر بالإنسان دون حجب حقه في إبداء الرأي والتعبير والحصول على المعلومات وغير ذلك من الحقوق المتعلقة بالثقافة والعلم والتكنولوجيا والتعليم والآداب والفنون؟
drhussainshaban21@gmail.com


275
المنبر الحر / الثقافة والذاكرة
« في: 20:36 17/01/2019  »

 

الثقافة والذاكرة
                     
عبد الحسين شعبان
ينطوي مفهوم الثقافة على بعدين أساسيين، أحدهما كوني عام، والآخر وطني، أو محلي خاص، ويتجسّد البعد العالمي بالمشترك الإنساني الجامع للبشر، أما البعد الوطني أو الفرعي فهو الذي يأخذ السمات الخاصة والمعتقدات وطرائق الحياة التي تمكّن مجموعة بشرية من الشعور المشترك بتميّزها عن الآخرين، بفعل الروابط الخاصة التي تجمعها، لأن الثقافة في نهاية المطاف تمثّل مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل طرائق العيش من مأكل، وملبس، وعادات، وتقاليد، إضافة إلى الحقوق الأساسية للإنسان والنظم القيمية التي يعتمدها، علاوة على الفنون والآداب.
وذهب إعلان مكسيكو في 6 أغسطس/‏ آب 1982 بشأن السياسات الثقافية والتنوّع الثقافي، إلى تأكيد ذلك من خلال هويّات تُميّز الجماعات والمجتمعات الإنسانية، وهو ما يقرّه القانون الدولي لحقوق الإنسان، كما ورد في العهدين الدوليين الأول- الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثاني - الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادرين في العام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، واللذين دخلا حيّز النفاذ في العام 1976، إضافة إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة في العام 1979.
والثقافة ركن لا غنى عنه في عملية التنمية بجميع جوانبها، ولا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود من التنمية من دون إعطاء الثقافة المكان الذي تستحقّه، فقد كانت في السابق والحاضر وستكون أكثر تأثيراً في المستقبل، عنصراً أساسياً لتقارب الشعوب، فالمجتمعات من دون ثقافة هي بلا ذاكرة، كما أن الثقافة عنصر جوهري للاستقرار الاجتماعي، مثلما هي محرّك أساسي للنشاط الاقتصادي، ولنتذّكر طريق الحرير في الماضي والحاضر، وما يمكن أن يبعثه اليوم من فرص جديدة للتقارب والتعاون على المستوى الكوني. وقد لعبت المسيحية، وبعدها الإسلام، دوراً مهماً وحيوياً في التقارب بين ثقافات الشعوب على المستوى العالمي.
وفي حوار مغاربي جمعني مع نخبة من المثقفين على هامش مهرجان الناظور السينمائي لمناقشة دور الثقافة في المشترك الإنساني، بما لها من تنوّع وتعدّد وتشعّب، ابتدأنا فيه من دور السينما، فهي ليست للمتعة من خلال الصورة والصوت والحركة، بل إنها أفكار ومشكلات تعبّر عن مضمون ومعنى اجتماعي أيضاً، وهذا الأخير يمكن أن يكون عنصراً للخير، أو عنصراً للشر، بحسب الجهات التي توظّفه. والشيء ذاته ينطبق على الموسيقى، فهي رسالة سلام وصداقة بين الشعوب يمكن تعميمها بالتذوق والتواصل والتفاعل، أما عن المسرح، فكثيراً ما ردّدنا القول الأثير « أعطني خبزاً ومسرحاً أعطك شعباً مثقفاً»، وفي الشعر كان أكتافيو باث، الشاعر المكسيكي الحائز على جائزة نوبل يقول: «إذا خلا رأس السياسي من الشعر تحوّل إلى طاغية»، وهكذا، فالبشر من دون فن سيتعرضون للصدأ سريعاً، وللعطب على نحو شديد بفقدان التخيّل وانحسار الرؤى والأحلام.
الثقافة من هذه الزاوية هي رافعة أساسية للقيم الإنسانية التي بإمكانها إذا ما تم نشرها وتعميقها رفع درجة الوعي، ولاسيّما بالمشترك الإنساني لما يمكن أن تقوم به من دور للتواصل بين الشعوب والبلدان على الرغم من شسوع المسافات، وبهذا المعنى فهي أداة صداقة وتعاون، وإحدى وسائل إنعاش الذاكرة المشتركة، خصوصاً إذا ما كُرّست للخير والعمران والجمال والسلام، بدلاً من نكء الجراح، والهدم، والحرب، والكراهية، والانتقام.
ولكي تكون الثقافة عادلة، فلا بدّ أن تكون شاملة ومن دون تمييز، خصوصاً في الموقف من المرأة، فلا حريّة حقيقية من دون تحرّر المرأة، وإلغاء جميع أشكال التمييز ضدها، ولا يمكن تحرير المجتمع من دون تحرير المرأة، وإلّا فإن نصفه سيبقى معطلاً وغير فاعل.
وقد حاول إعلان مكناس حول «حوار الثقافات وأسئلة الهويّة» الاستناد إلى هذا المفهوم والبنيان عليه في إطار مشروع للتواصل الثقافي من خلال التعبير عن رؤية جديدة تنطلق من الحوار والإقرار بالحق في الاختلاف.
ولا يمكن تحقيق ذلك من دون دور حقيقي للثقافة بشكل عام، وللفن بشكل خاص، سواء في السينما، أو المسرح، أو الموسيقى، أو الغناء، أو الرقص، أو الرسم، أو النحت، أو الكتابة، وستكون الحياة من دون ثقافة مملّة، بل غير ممكنة في العالم المعاصر، والإنسان يختلف عن الحيوان بثقافته، ولغته، وقدرته على التحكّم في عواطفه.
ومن تجارب الشعوب، فإن الاطلاع على ثقافة الغير هو الوسيلة الأولى للتواصل التي يمكن أن تغتني بالاختلاط والتبادل والتفاعل، أما العزلة والتصورات المسبقة عن الآخر، فإنها تقود إلى الاستعلاء من جهة، ومن الجهة الأخرى إلى ضيق الأفق، فضلاً عن ردود الفعل العدائية حدّ التناحر.
drhussainshaban21@gmail.com

276
 

«إسرائيل» خارج الـ «يونيسكو»

عبد الحسين شعبان
دخل انسحاب «إسرائيل» من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) حيّز التنفيذ ابتداءً من الأول من الشهر الجاري (2019)، وكانت هي أعلنت انسحابها يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، بزعم انحياز «اليونيسكو» للفلسطينيين عبر تبنّيها قرارات لمصلحتهم. وكانت «اليونيسكو» في العام 2016 أدرجت 55 موقعاً تراثياً في العالم على قائمة المواقع المعرّضة للخطر، منها البلدة القديمة في القدس المحتلة، وأسوارها، ما خلّف غضباً «إسرائيلياً»، كما تبنّت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه قراراً ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى، وحائط البراق. كما صوّت المجلس التنفيذي «لليونيسكو» في العام 2017 لمصلحة قرار يؤكد قرارات المنظمة السابقة باعتبار «إسرائيل» محتلة للقدس، ويرفض سيادتها عليها.
وقال داني دانون سفير «إسرائيل» في الأمم المتحدة معلقاً على خلفية قرار «تل أبيب» بالانسحاب من «اليونيسكو»: «إن «اليونيسكو» تسعى لإعادة كتابة التاريخ، من خلال محاولات محو صلة اليهود بالقدس، وأضاف»: إن «إسرائيل» لن تكون عضواً في منظمة هدفها العمل ضدها، وتصبح أداة استغلالية يتلاعب بها أعداء «إسرائيل».
وكانت «اليونيسكو» تلقت بلاغاً في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2018 بشأن انسحاب «إسرائيل» من المنظمة وفقاً للقرار الذي اتخذته في أكتوبر الماضي، كما جاء على لسان أودري أزولاي، المديرة العامة «لليونيسكو».
جدير بالذكر أن «إسرائيل» انضمت إلى «اليونيسكو» في العام 1949 كجزء من محاولة إضفاء الشرعية على وجودها غير الشرعي، لاسيّما بتشريد نحو نصف الشعب العربي الفلسطيني، والاستيلاء على أكثر من نصف أراضي فلسطين، إضافة إلى توسعها بالتجاوز على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 الخاص بالتقسيم، ورفضها، وتملّصها من القرار 194 لعام 1949 الخاص بحق العودة، فضلاً عن محاولاتها الاستيلاء على الممتلكات الثقافية الفلسطينية، والأماكن المقدّسة، وسعيّها المستمر لتغيير التركيب الديموغرافي والسكاني والطابع التعليمي للقدس، وبقية مناطق فلسطين.
وبسبب هذه المواقف دخلت في إشكالات ومشكلات مع منظمة «اليونيسكو»، وكان أول قرار «لليونيسكو» بخصوص القدس هو في العام 1956 الذي دعا لاتخاذ جميع التدابير لحماية الممتلكات الثقافية في المدينة في حال النزاع المسلّح. وفي العام 1968 دعا قرار «لليونيسكو» «إسرائيل» إلى الامتناع عن إجراء أي حفريّات في المدينة، أو نقل للممتلكات، أو تغيير لمعالمها، أو ميزاتها الثقافية.
وفي العام 1974 أصدرت «اليونيسكو» قرارين في مؤتمرها العام، 1- توجيه نداء عاجل إلى «إسرائيل» للامتناع عن الإجراءات التي تحول دون تمتع السكان العرب الفلسطينيين بحقوقهم في التعليم والحياة الثقافية والوطنية. 2- إدانة «إسرائيل» لتغيير معالم القدس. وقررت «اليونيسكو» في العام 2003، إرسال بعثة فنية إلى القدس لتقييم الوضع في البلدة القديمة، وواصلت ذلك في العامين 2005 و2006 بوضع القدس على لائحة التراث العالمي المهدّد بالخطر، مشيرة إلى العقبات التي تضعها «إسرائيل»، وطالبتها في العام 2007 بتقديم تقرير مفصل بشأن الحفريات في منحدر باب المغاربة المتاخم للمسجد الأقصى.
وأدرجت «اليونيسكو» هذه المواقع على قائمة التراث العالمي متبنية في العام 2016 قراراً ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى، وحائط البراق، وصوّت المجلس التنفيذي في العام 2017 على قرار يعتبر القدس محتلة من جانب «إسرائيل»، ويرفض السيادة عليها، وكان مجلس الأمن الدولي اتخذ مثل هذا القرار العام 1980 بعد أن قرر الكنيست ضم القسم الشرقي من القدس بعد احتلالها العام 1967. وفي العام 2018 قررت «اليونيسكو» اعتبار البلدة القديمة وأسوارها ضمن قائمة مواقع التراث الديني. إن اتخاذ «اليونيسكو» مثل هذه القرارات إنما ينسجم مع ميثاقها الذي أكّد على رفض العنصرية والعنف، وتعزيز قيم السلام والتسامح والاعتراف بالآخر، وهو ما لم تفعله «إسرائيل» منذ تأسيسها، بل على العكس حاولت استغلال المنظمة لتمرير خططها، وحين فشلت بدأت مشاكلها مع «اليونسكو» متهمة إيّاها بالانحياز لمصلحة العرب والفلسطينيين.
وباستعادة تاريخ علاقة «إسرائيل» «باليونيسكو» فقد شهد توتراً مستمراً، ففي العام 1974 تم طرد «إسرائيل» من «اليونسكو» إثر قيامها بحفريات في منطقة الحرم المقدسي، لكنها عادت في العام 1979 بعد تهديدات من جانب الولايات المتحدة بوقف دعمها المالي للمنظمة الدولية، ولكن «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة وكندا، توقفت عن دفع حصّتها من ميزانية «اليونسكو» بعد قبول السلطة الفلسطينية دولة عضوة فيها (العام 2011)، وعُلِّق حقها في التصويت العام 2013، وكان ذلك تدهوراً جديداً في العلاقة التي انتهت بانسحابها الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع العام الجاري.



277
والأمر يتطلّب تنقية المناهج الدراسية والتربوية عن كل ما من شأنه ازدراء الآخر أو تحقيره، لأن ذلك سيؤدي إلى إشاعة مناخ من الكراهية والأحقاد والكيدية، فالجميع بشر ومتساوون في الكرامة الإنسانية، وحسب قول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" أو قول الإمام علي لعامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي: "لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
   وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون مرجعية الدولة فوق جميع المرجعيات التي لا بدّ أن تخضع لها، سواء كانت سياسية أو حزبية أو دينية أو تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو مناطقية أو غير ذلك.
   ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد، ودون هوادة لإصلاح المجال الديني بما ينسجم مع سمة العصر والتطوّر وإدماج المناهج والمدارس الدينية مع المناهج والمدارس التي تعتمدها الدولة بهدف توحيدها وإشاعة الثقافة المدنية فيها، وجعل الدين في خدمة المجتمع مُيسّراً، وذلك بالعيش المشترك لأتباع الأديان في إطار دولة تقوم على المساواة وتحترم الجميع وتأخذ بمبادىء الكفاءة والإخلاص للوطن، في تولّي الوظائف العامة.
   الرابعة - الجبهة القانونية والقضائية،
   ولا بدّ من تأكيد مبادىء احترام القانون وعدم التجاوز عليه لأي سبب كان، وحسب مونتسكيو فـ"القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً"، أي أنه ينطبق على الجميع، وبتأكيد استقلال القضاء ونزاهته وتنقية النصوص الدستورية والقانونية عن كل ما يتعلّق بالتطرف والتعصّب والتمييز.
   الخامسة - الجبهة الإعلامية والمدنية،
   وهنا ينبغي أن يلعب الإعلام دوراً مهماً ومعه المجتمع المدني في نشر ثقافة التسامح واللاّعنف والسلام المجتمعي واحترام الهويّات والخصوصيات التي هي جزء من تاريخنا بكل ما فيه من مشتركات، لا سيّما بتأكيد احترام الآخر.
   السادسة - الجبهة الأمنية والاستخبارية،
   وهي جبهة مهمّة وأساسية، وبقدر ما هي جبهة وقائية فهي جبهة حمائية ولا بد أن تكون جبهة رعائية، وإذا كان تحقيق الأمن مسألة جوهرية وأساسية لأي تقدم وتنمية، وهو الذي اعتبره سيجموند فرويد عالم النفس النمساوي، موازياً للكرامة، بل يتفوق عليها أحياناً، خصوصاً في ظل الحروب والنزاعات الأهلية وانفلات الفوضى، إذ لا كرامة مع غياب الأمن، مثلما لا أمن حقيقي دون كرامة. ومع استخدام الوسائل العسكرية والحربية ضد الجماعات الإرهابية، فينبغي في الوقت نفسه الحرص على حماية المدنيين وعدم تعريضهم للأذى واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على هذا الصعيد، ولاسيّما اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، الأول - الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة ، والثاني - الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
   ويمكن القول إن تحقيق الأمن وحماية الحقوق الإنسانية والكرامة الفردية والجماعية هي مسؤولية متكاملة للدول والحكومات والقوى الفاعلة والحية في المجتمع، من أحزاب ونقابات ومؤسسات رأي عام ومنظمات مجتمع مدني وإعلام، خصوصاً بالبحث عن المشتركات ومحاولة فكّ الاشتباك الذي يحصل أحياناً بالممارسة، وبتقديري، فإن ذلك أحد أركان الخطاب الجديد لمواجهة التطرّف والإرهاب، خصوصاً بتوسيع دائرة الحقوق والحريّات وتعزيز الهويّة الوطنية المشتركة.
   ويعتمد نجاح الدول على قدرتها في الموازنة بين سبل المجابهة وسبل الحماية، إضافة إلى سبل الرعاية، ولا بدّ من اعتماد تشريعات وآليات جديدة أكثر قدرة على استقطاب الشباب وامتصاص طاقاتهم عبر نوادي أدبية وأنشطة ثقافية ورياضية وفنية من رسم وموسيقى وغناء ومسرح وغيرها.
   وهذا يعني إشراك مؤسسات المجتمع المدني في عملية التنمية باعتبارها مكمّلة ومتمّمة لاتخاذ القرارات وتنفيذها، وهي بهذا المعنى يمكن أن تكون "قوة اقتراح"، وليس "قوة احتجاج" فحسب.
   ويعتبر الحفاظ على الدولة الوطنية واحداً من المهمّات الجديدة، التي تواجه مجتمعاتنا، والتي تقع في صلب استراتيجيات مجابهة التطرّف، إذْ لا يمكن إحداث التنمية من دونها، فالدولة الوطنية وإن كانت هي نتاج اتفاقية سايكس بيكو (1916) أصبحت اليوم مهدّدة في ظلّ التطرّف ومحاولات التديين والتطييف والإثنية والتشظّي، والهدف هو تجزئة المجزّأ وتذرير المذرّر.
   إن حزمة الاستراتيجيات تلك التي تواجه التطرّف على المستوى الداخلي، يمكنها وفي ظل تعاون وطني شامل وإدارات سليمة مواجهة التحدّيات الخارجية، سواءً بالسعي مع غيرنا من شعوب الأرض وأممه لإعادة صياغة نظام العلاقات الدولية، ليصبح أكثر عدالة وأشد قرباً إلى التعبير عن المصالح المشتركة بين الدول والأمم والجماعات الثقافية، الأمر الذي يحتاج إلى توازن قوى دولي من نوع جديد، لا بدّ من العمل عليه.
   وإذا كان نظام القطبية الثنائية قد انتهى وبشكل خاص (1945 - 1989)، فإن نظام الأحادية القطبية بدأ يتفكّك ويتآكل، ولم تعد الولايات المتحدة المتحكّم الوحيد في نظام العلاقات الدولية، وهناك محاور إقليمية ودولية، وخصوصاً في ظل صعود روسيا وعودتها المؤثرة على النطاق العالمي والدور الجديد الذي تلعبه الصين بما لها من إمكانات، ناهيك عن دول البريكس الأخرى مثل: الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويمكن القول لا بدّ من إيجاد مواطن قدم للعرب فيها، خصوصاً حين يكون هناك حد أدنى من التنسيق والعمل المشترك، وبقدر ما للمسألة من أفق استراتيجي، فإن لها خطوات أولى تمهيدية يمكن الشروع بها والعمل في إطارها.
   ولا شكّ أن ثمة مشتركات إنسانية تجمعنا مع شعوب الأرض، وخصوصاً قوى التحرّر والتقدم في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، لا بدّ من تعزيز التعاون والتنسيق معها سواء في المحافل الدولية أو على الصعيد الميداني، والهدف هو توثيق عرى الصداقة والتفاعل الثقافي والتواصل الحضاري، لأن التطرّف الذي ينجبه التعصّب سيلد العنف والإرهاب وهذه مسألة تشمل جميع وشعوب البلدان النامية الأكثر تضرراً منه، إضافة إلى شعوب العالم أجمع.
   ولعلّ من المناسب أن نذكر هنا ما أورده كورت فالدهايم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في تقرير كتبه في أواسط السبعينات، عزا فيه أسباب الإرهاب إلى اختلال نظام العلاقات الدولية، خصوصاً بوجود "حق الفيتو وتهاون الدول الكبرى القيام بواجباتها واغتصاب حق الشعوب"، وقد قصد بذلك الأسباب العالمية.
   أما على الصعيد الداخلي، ولا سيّما في البلدان النامية فيمكن إضافة: ضعف البناء الديمقراطي وشحّ الحريّات وعدم احترام حقوق الإنسان وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والقومية وهضم أو تهميش حقوق المجاميع الثقافية ونشوء ظاهرة الهجرة، واتساع العمالة الخارجية، وبخاصة من بلدان الجنوب إلى الشمال، ومشاكل اللاجئين كل ذلك يساعد في إيجاد أجواء خصبة لبذرة التطرّف.

الخاتمة- دور الجامعات في مكافحة الإرهاب

   في خاتمة هذا البحث وبعد أن تناولنا قضايا التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والقرارات الدولية بخصوصها والإشكالات النظرية والعملية بشأنها، لاسيّما بعض الالتباسات التي تتعلّق بالدين واستخداماته ومحاولة الإرهابيين والتكفيريين التعكّز عليه، وبعد أن شخّصنا بعض المنطلقات النظرية للإرهاب الديني وحلّلنا البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودعونا إلى خطاب جديد وفكر جديد، بل واستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، نتوقّف عند دور الجامعات كخاتمة لهذا البحث مع بعض التوصيات :
   تمثّل الجامعات  فضاءً واسعاً ومهماً، خصوصاً وهي تمثّل أكبر التجمّعات البشرية من الفئات الشبابية المتعلّمة والمتطلّعة لأخذ مكانها في الحياة العامة. والشباب بطبيعته يمتاز بالحيوية والجرأة والإقدام والاندفاع، الأمر الذي يحتاج أن تولي الجامعات اهتماماً خاصاً واستثنائياً به لما له من تأثيرات كبرى بالإيجاب أو السلب على عموم المجتمع، خصوصاً وإن الشباب هم الفئة الأكثر استهدافاً وتعرّضاً للخطر، سواء محاولة تجنيدهم أو التلاعب بعقولهم، سيّما وإن بعضهم يعاني من اليأس والقنوط والانعزال.
   وفي الحالة الأخيرة فإن بعض  قطاعات من الشباب إذا ما تُركت عرضة للتيارات المتشدّدة والمتزمّتة فإن الجماعات التكفيرية والإرهابية ستجد الطريق إليها سالكاً، خصوصاً وإن الشباب حساس بطبعه ويتأثّر بما حوله سريعاً، لاعتبارات موضوعية وذاتية، مثل سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور مستوى المعيشة والاضطهاد والتمييز والاستلاب الخارجي ومحاولات فرض الهيمنة والاستتباع وغير ذلك، علماً بأن شعوره مضاعف إزاء عدم المساواة وشحّ الحريات ونقص فرص العدالة والمشاركة ، لذلك على الجامعات تقع مسؤوليات كبيرة للاضطلاع بمهمة مركّبة أساسها تحصين الشباب ووقايته من التأثر بالجماعات الإرهابية من جهة، ومن جهة ثانية دفعه بالاتجاه الإيجابي للوقوف ضد التطرّف والإرهاب بجميع صوره وأشكاله وضد جميع مبرّراته وحججه.
   وحسب تقرير منظمة اليونسكو فلا بدّ من النظر في الجهود الرامية إلى منع التطرّف العنيف ضمن إطار أعم وأشمل من مجرد المواجهات الأمنية والعسكرية، فلا شك في أن الاستجابات الأمنية مهمة، إلّا أنها غير كافية ولن تعالج الظروف العديدة الكامنة التي تولد التطرف العنيف وتدفع الشباب إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرفة العنيفة.
   ويمضي تقرير اليونسكو لتأكيد الحاجة إلى:  قوة إقناع (كالتعليم)، وهذا الأخير ينبغي أن يكون جيداً ومجدياً، ويتطلب ذلك دعمه وتطوير المهارات وإيجاد فرص للتوظيف واحترام التنوّع وتحضير الشباب لدخول سوق العمل، إضافة إلى الاستثمار في البرامج التي تروّج للمواطنة وتوفير تعليم شامل من الابتدائية وحتى التعليم العالي
وهذا يتطلّب :
1- تنمية الوعي الفكري والثقافي وتطويرهما للقدرات الشبابية داخل الجامعات والتركيز على الأمن الفكري للطالب الجامعي، كأمن ذاتي وجزء من الأمن العام للبلد ككل، أي تقوية مناعة الشباب الجامعي ضد فايروسات التطرّف والعنف والإرهاب.
2- إمداد المجتمع بالكفاءات المؤهلة من الخريجين والتخصصات الملائمة لواقعه ومستقبله، خصوصاً تلك التي تكون مسلّحة بالعلم والمعرفة وبقيم السلام والتعايش والمشترك الإنساني، وذلك نقيضاً للتطرّف والعنف والإرهاب، وكلّما استطاعت الجامعات تخريج الطلبة طبقاً لهذه المعايير والقيم، كلّما استطاعت أن تضخّ المضادات الحيوية في المجتمع ضد الإرهاب.
3- تطوير البحث العلمي، سواء داخل الجامعات بالنسبة للطلبة، أو عبر المؤسسات الخاصة بالبحث العلمي، والذي لا يمكن إحراز التقدم الحقيقي من دونه، خصوصاً بتخصيص الموارد الكافية له وتوفير السبل الناجعة للاستفادة منه والكفيلة بتسهيل مهمته. ولابدّ من مواكبة التطورات على هذا الصعيد بالاستفادة من التجارب العالمية، آخذين بنظر الاعتبار المستجدات والمتغيّرات في الساحة الدولية، سواء إزاء قضايا الإرهاب والإرهاب الدولي أو بيئاته الحاضنة فكرياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً واستغلال الأديان وتوظيفها لإضفاء نوع من القدسية والشرعية على استخداماته.
   ويلاحظ إن جامعاتنا تعاني من أوجه قصور عديدة أهمها: ندرة البرامج المشتركة المعنية لمواجهة الجرائم الإرهابية  الخشنة والناعمة منها بما فيها الحرب النفسية، وغالبيتها لا تزال تدور في الإطار التقليدي للأدوار المتعارف عليها دون تطوير، إضافة إلى عدم وجود خطط مستقبلية متوسطة وطويلة المدى، واقتصار الأنشطة والفاعليات الخاصة لجهود الجامعات على بعض الأنشطة الداخلية وعدم انفتاحها على البيئة المجتمعية خارج الجامعة، وعدم وجود آليات وتشريعات محددة لتقويم مجموعة الجهود المبذولة لمواجهة الجرائم.
   ولعل نسبة كبيرة من الشباب ممن يتم تجنيدهم في المنظمات الإرهابية ويجري استغلالهم من جانب التكفيريين هم من العاطلين عن العمل، سواءً كانوا خريجين ومتعلمين، وفي أغلب الأحيان ممن لم يتموا تعليمهم، بل إن بعضهم من الأميين، وبسبب ظروفهم القاسية انساقوا وراء الأفكار المسمومة، لاسيّما لشعورهم بالاستلاب والتمييز وطغيان الكراهية والانتقام والثأر من المجتمع، خصوصاً بالتقصير الحاصل بإيجاد فرص عمل لهم وعيش كريم يوفّر الحد الأدنى، ناهيك عن الاستلاب الخارجي الواقع على مجتمعاتهم بسبب عدم عدالة العلاقات الدولية، واستمرار احتلال الأراضي ومحاولات التسيّد وغيرها.
   وفي الجامعات والمراحل التي تسبقها فيلاحظ الخلل في المناهج الدراسية التي تفتقر إلى إعلاء شأن القيم الإنسانية ونبذ التمييز، خصوصاً وإن قيم الحرية والمساواة بين البشر بغض النظر عن دينهم ولونهم وجنسهم ولغتهم وعرقهم وأصلهم الاجتماعي، وقيم العدالة ، ولاسيّما العدالة الاجتماعية ، وقيم الشراكة والمشاركة التي تنمّي روح العمل الجماعي وتقرّ بالتعددية والتنوّع والاعتراف بالآخر، ما تزال ضعيفة، وأحياناً غائبة عن المناهج الدراسية.
   تستطيع الجامعات أن تلعب دوراً مهماً في مواجهة الفكر الإرهابي التكفيري، بتشجيع قيم الحوار ورفض التعصّب ووليده التطرّف، وإعلاء شأن التسامح والسلام والمشترك الإنساني، الأمر الذي يضيّق الهوّة أمام التكفيريين، فالجامعة بهذا المعنى ليست مؤسسة لمنح الشهادات العلمية أو العليا فقط، بل هي مؤسسة للتواصل والتفاهم والتنمية والشراكة والمشاركة والمعرفة والتنوير لتعزيز القيم الوطنية والإنسانية وتحصين الطلبة ما يساعد على أن يكونوا سوراً أمام انتشار الفكر التكفيري وبهذا المعنى.
   يمكنني القول إن ينتظر أن تقوم به الجامعات على هذا الصعيد هو:
1- الدور الوقائي والحمائي- أي العمل على تحصين الجامعة والشباب الجامعي ومن خلاله والمجتمع من الوقوع ضحية الأفكار التفكيرية الإرهابية، من خلال بث الوعي الثقافي والفكري ونشر القيم البديلة وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى توفير أرضية مناسبة وبيئة صالحة لبذر القيم الوطنية والإنسانية وتعاليم الأديان الصحيحة التي تدعو للخير والسلام والمحبة والإيثار والصدق وحب العمل والإخلاص والوفاء كقيم معتمدة وأساسية فالبشر أخوة.
   وهناك وسائل متعددة لتحقيق ذلك، سواء عبر مؤتمرات أو ندوات أو حصص دراسية أو ورش عمل مع عرض التجارب العربية والعالمية والقوانين الدولية والإنسانية التي تجرّم الإرهاب وتحاسب على مرتكبيه.
   وقد يحتاج الأمر إلى ندوات وحوارات بشأن الوسطية والاعتدال وفريضة الّلاعنف والتسامح وتنمية الجانب الإنساني التكاملي لدى الطلبة وخصوصاً باحترام الرأي المخالف وتأكيد حق الاختلاف، ولاسيّما الاختلاف في الرأي أو الاختلاف في العرق أو اللغة أو الدين أو الجنس، إذْ لا تطور حقيقي دون نزع فتيل التعصب والقضاء على التطرّف والعنف ووضع حد لظاهرة الإرهاب، ودون الاعتراف بالآخر وحقه في التعبير عن آرائه ومعتقداته وممارسة شعائره وطقوسه بحرية. وهذا يستوجب المساواة أساساً، والنظر إلى المختلفات كأمر طبيعي، فالوحدة في الثوابت التي تخصّ البشر والتباين في الفروع.
   2- الدور العلاجي، ويتمثل بمعالجة بعض حالات الشباب الجامعي وغير الجامعي الذين انضموا إلى الجماعات التكفيرية الإرهابية، عن طريق احتضانهم لإعادة تأهيلهم، لاسيّما بإيجاد فرص عمل لهم وتحسين أوضاعهم المعيشية وتبصيرهم بحقيقة الأديان والقيم الإنسانية التي تنبثق عنها، وكلّما تسلّح الشباب بالعلم والعقلانية والمعرفة، وكلّما استطاعوا أن يكونوا سداً مانعاً وحامياً ضد الفكر الإرهابي التكفيري، فإنهم يستطيعون في الوقت نفسه احتواء بعض الحالات والتعامل معها بصورة إيجابية.
   إن دور الجامعة يقتضي التصدّي للإرهاب: كفكر وفلسفة وثقافة ودين وسلوك وواقع مفروض، لأنه يشكل تهديداً أمنياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً ومجتمعياً ودينياً وتربوياً وقانونياً، الأمر الذي يحتاج إلى تضافر جميع الجهود وفي المقدمة منها الجامعات باعتبارها مؤسسات علمية وساحات فكرية للجدل والنقاش لدحض الأفكار الخاطئة ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، سواء كانت باسم داعش أو تنظيم القاعدة قبلها أو أخواتهما.
   وتؤكد خطة اليونسكو العالمية بشأن التعليم كونه أداة لمنع التطرّف والعنف وتعزيز الائتلافات الإعلامية بما فيها شبكات الانترنت، ولاسيما التركيز على تمكين الشباب للمشاركة وتكريس التنوّع الثقافي وتطوير المناهج الدراسية وتدريب المعلمين ودعم وإصلاح بيئة المدرسة وتعزيز اختيار الطلبة لممثليهم بشكل حر وديمقراطي .
   وبالعودة إلى ظروف العراق ودور الجامعات، ولاسيّما بعد 10 حزيران/يونيو 2014 حين احتلّ داعش مدينة الموصل وتمددّ إلى محافظة صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى ووصل إلى مشارف العاصمة بغداد، وكاد داعش أن يهدد إربيل عاصمة إقليم كردستان، وخلال وجوده الذي قارب ثلاث سنوات حاول تغيير الأنظمة القانونية والمناهج المدرسية وتدخل على نحو سافر في بعض المناهج الجامعية، كما فرض نظاماً شمولياً إسلاموياً مسيئاً لقيم الإسلام، ولاسيّما باستباحة الأديان الأخرى، وخصوصاً من المسيحيين والإيزيديين، وتعريض نسائهم للبيع في سوق النخاسة. وهكذا فإن المرأة والمجموعات الثقافية كانتا الأكثر استهدافاً وتضرراً من الحروب والنزاعات الدولية والأهلية.
    وحاول داعش تغيير التراكيب السكانية والديموغرافية منطلقاً من نظرة متعصّبة إزاء الآخر، أي آخر مختلف، أو مغاير، وكل مختلف غريب وكل غريب مريب، وعمل على غسل عقول وأدمغة الشباب بشكل عام والأطفال منهم بشكل خاص بهدف خلق بيئة خصبة لنشر أفكاره ومعتقداته، مساهماً في إيجاد أوضاع نفسية واجتماعية مشجعة على ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى تعامل من نوع جديد مع هذه النتائج، لاسيّما بتفكيك الخلايا النائمة لإعادة بذر قيم السلام والتسامح والّلاعنف فيها.
    ولن يتحقق هذا وإن كان بحدّه الأدنى إلا بتحسين الأوضاع الاجتماعية وإعادة بناء ما خربته الحرب وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتعويض السكان عمّا لحق بهم من غبن وأضرار. ولابدّ من إعادة تأهيل الأطفال دون سن الـ 18 وإعادة تأهيل الشباب، بمن فيهم الذين انتموا إلى داعش قناعة أو قسراً، بسبب ظروف الإرهاب والقمع والإكراه، ناهيك عن معالجة الآثار السايكولوجية لضحايا داعش، كي لا يندفعوا باتجاه الثأر والانتقام والعنف، ولا بدّ من إجراء حوار معرفي وثقافي ومجتمعي إزاء الظواهر العنفية والإرهابية بما فيها لبعض من تورطوا فيها.
   إن العمل على تأمين الأمن الفكري والأمن المجتمعي يقتضي وضع برامج عمل للجامعات والتعاون فيما بينها ومع أجهزة الدولة الأخرى بهدف تحقيق التنمية دون نسيان دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ودور الإعلام والمثقفين بشكل خاص، ولا بدّ من تحديد الأولويات من الجانبين الفكري والثقافي إلى الجوانب القانونية والحقوقية، مع تأكيد الجوانب الإقتصادية والاجتماعية، وبالطبع الجوانب التعليمية والتربوية ، وتأكيد الجوانب الأمنية والاستخبارية والعسكرية التي ينبغي أن تكون آخر "العلاج الكي" مع ضرورة الحفاظ على الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان.
   وعلينا تحديد تعريف علمي للإرهاب لكي لا يختلط مع مفاهيم أخرى، ولكي لا يتم التجاوز على الحريات وكرامات الناس بحجة مكافحة الإرهاب، ويمكن للجامعات أن تسهم في فتح قنوات للحوار وورش عمل بشأن ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب ، وهو الحوار الذي يمكن أن يبلور تعريفاً واضحاً للإرهاب لاعتماده من جانب الدولة في المحافل الدولية، سواء المنظمات  المدنية العالمية أم الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ولا بدّ من العمل على تجفيف المنابع الفكرية والاقتصادية، لأن محاربة الإرهاب هي عملية متكاملة ومتداخلة ومركبة ومعقدة، ولا يمكن إهمال أي جانب منها، سواء كان الإرهاب على المستويات المحلية أم إرهاباً على مستوى الدول والحكومات.
    وحسبي هنا أن أشير إلى أن الجامعات والبحث العلمي يمكن أن يسهما في مكافحة الإرهاب من خلال: 1- الاستثمار في التربية 2- محاربة الجهل 3- تأمين الحقوق الأساسية للإنسان 4- نشر ثقافة المواطنة، وقيم المساواة والسلام والحرية والعدالة والمشاركة. 5- الاستفادة من مخرجات التعليم والبحث العلمي في الخطط التنموية للدولة، خصوصاً تلك التي تشكل المرتكز الأساسي في مكافحة الإرهاب.









Summary
Towards a New Counter-Terrorism Strategy
Dr Hussain A. Shaban*

   Extremism has become rampant in many societies, including some advanced societies, albeit in the old days of humanity. However, though “globalization,” the scientific revolution and tremendous development of information technology, communications, and digitalism, it is a global threat that could not have been measured a few decades ago, whether in the depth of its impact, its speed and vast outreach, until the whole world became a “space” for the virus of the terrorism. It is no longer just a danger to civil and community peace, but has become a global threat to international peace and security.
   Extremism becomes material when it moves from theory to practice, from thought to reality, let alone if religion is used as an excuse to abolish, exclude and impose opinion by force, violence and terrorism outside the rule of law and the judiciary. This is especially by expiation of the latter, for the other claiming to posses the truth and declares preferences.
   The phenomenon of extremism has spread the occurrence of violence and terrorism, which hit the Arab and Islamic countries at their core. It threatens fragmentation, if not division, which sometimes takes a social character, particularly when it finds a suitable environment for hatching eggs. Various groups of terrorist forces, from the organization of al-Qaeda and its branches to the Islamic state in Iraq and Syria, “Daesh” and its sister group the Front of Victory or “Fatah al-Sham” according to the new or other designation.
   It is worth mentioning that the emergence of extremism has escalated to an alarming degree, after the wave of the “Arab Spring” which began in early 2011, whose “side” symptoms were the outbreak of chaos, insecurity and the spread of financial and administrative corruption that weakened the national state, and attempts by armed groups outside the rule of law and the judiciary. Some of these groups undertook to destroy the elements of the state’s components, either by “voluntary” action or through behavior and conduct leading to the same result.
   If one of the essential functions of any State is the maintenance of public order and security and the protection of the lives and property of citizens, then extremist terrorist groups that have adopted violence as a means of resolving disputes between them and the State and have effectively led to a “civil war” dynamic, which contributed to the destruction of government institutions, economic and vital facilities, and the disruption of development. In addition, the process of accumulation and development, not to mention the absurdity and disregard of life, public and private property; whether paralyzing the organs of the State and lack of ability to carry out its tasks in part, most notably in chaos and insecurity.
   If the change is “imposing an eye” as it is “imposition of kefiyeh,” for example, it is an option and a choice, yet at the same time “forced,” because this is the nature of things. However, access to it also needs to provide objective and subjective conditions to achieve it, as well as gaining public opinion. Even in countries where change has a popular will, the collapse of the old “Sharia” has not yet been completed and has faced great problems and challenges for transition and transformation.
Antonio Gramsci said, “The old is dying and the new cannot be born.” The vast majority of the world’s experiences have confirmed that the change in power has quickly receded, and sometimes the reactions are stronger and more severe, which will ultimately delay the process of gradual natural evolution.
   This is because the degree of society’s development and the prevailing economic, social and cultural laws in addition to the level of awareness people and culture in general did not rise to achieve it, and vice versa. When development is consistent with the measure of public awareness, moving them from one stage to another, but without jumping on the stages or burning them, the more established, stable and successful they become, for the reason that it is a natural development and not imposed.

The research highlights a number of core topics, including:
1-   Trilateral extremism, fanaticism and terrorism
2-   Over 20 international resolutions and conventions:
-   13 of which were before the terrorist attacks of September 11, 2001, and 3 even more extreme after.
-   Most notable of these is from the UN Security Council: Resolution No. 1373 of September 28, 2001, which authorized a preemptive or preventive war, the right to war and invasion is in the interests of the nation-state.
-   International resolutions issued by the UN Security Council after the authoritative occupation of Mosul on June 10, 2014, and all seven of which were based on Chapter VII of the Charter of the United Nations.
3-   In contrast to extremism, the spread of a culture of non-violence, tolerance, peace, rejection of hatred, recognition of diversity, pluralism and recognition of the other.
4-   In advocating both new ideas and discourse, through approaches to dry out the ideological environment that incubates terrorism and confronts it intellectually, politically, legally, socially, educationally and religiously, in addition to the security and intelligence front without forgetting the media and civil front, especially the participation of civil society.




* Born in Al Najaf/Iraq in 21/3/1945 , has PhD(CSc) in International Law , he is an  Intellectual, Academic Researcher,  Thinker, Legal Consultant and Author of over 60 books within International Law, Constitution Law, Politics, Ideological conflict, In the Jurisprudence of Contemporary Religions, Nationalities and Ethnic Issues, Culture, Literature, Human Rights and Civil Society. A media expert within television, radio and current affairs.
Present, Vice President  of  The Non Violence University and Human rights, and Professor of Non- Violence and Human Rights subject, and The International Law and Humanitarian International Law.
 Awarded the most prominent human rights activist in the Arab world (Cairo, 2003)





278

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إقليم كردستان

كردستان العراق 25-29/9/2018


البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهـــاب
ودور الجامعات في التصدي والمواجهة على المستويين الفكري والأكاديمي



د. عبد الحسين شعبان*


   
 
تـوطئــة   
   أصبح التطرّف Extreme ظاهرة متفشّية في العديد من المجتمعات، بما فيها بعض المجتمعات المتقدّمة، وإنْ كان قديماً قِدَم البشرية، إلاّ أنه وبفعل "العولمة"، والثورة العلمية - التقنية والتطوّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتيل" والمعلوماتية، بات أكثر خطورة وتهديداً على المستوى العالمي بما لا يمكن قياسه قبل بضعة عقود من الزمان، سواء بعمق تأثيره أم بسرعة انتقاله أم مساحة تحرّكه، حتى غدا العالم كلّه "مجالاً حيوياً" لفيروساته، الأمر الذي لم يعد تهديده للسلم الأهلي والمجتمعي فحسب، بل أصبح عالمياً بتهديده للسلم والأمن الدوليين.
   ويصبح التطرّف فعلاً مادياً حين ينتقل من التنظير إلى التنفيذ، ومن الفكر إلى الواقع، ومن النظرية إلى الممارسة، فما بالك إذا استخدم الدين ذريعة للإلغاء والإقصاء وفرض الرأي بالعنف والإرهاب خارج نطاق القانون والقضاء، لا سيّما من خلال التكفير Expiation للآخر بزعم امتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات.
   التكفير حكم ليس بالضرورة أن يصدر عن محكمة، بل تصدره أحياناً جماعة سرّية خارج القانون والقضاء، بحق شخص أو مجموعة من الناس لا تتفق معها بزعم مخالفتها للدين أو العقيدة فتقوم بتأثيمها لفعل ما ومن ثم تحريمها وبالتالي تجريمها، والأمر يشمل الأفكار والأشخاص .
وكان من نتائج استشراء ظاهرة التطرّف انتشار ظاهرة العنف Violence والإرهاب Terrorism، وهو الأمر الذي تفشى في العديد  البلدان العربية والإسلامية وأخذ يهدّد الدولة الوطنية بالتشظّي والتفتّت، إنْ لم يكن بالانقسام، الذي يتّخذ في بعض الأحيان طابعاً مجتمعياً، خصوصاً حين يجد بيئة صالحة لتفقيس بيضه، وتفريخ مجموعات متنوّعة ومختلفة من القوى الإرهابية، ابتداءً من تنظيم القاعدة وفروعها ووصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وأخواتها "جبهة النصرة" أو "فتح الشام" حسب التسمية الجديدة أو غيرها.
جدير بالذكر أن ظاهرة التطرّف استفحلت لدرجة مريعة، بعد موجة ما أطلق عليه "الربيع العربي" التي ابتدأت في مطلع العام 2011، والتي كان من أعراضها "الجانبية" تفشي الفوضى وانفلات الأمن واستشراء الفساد المالي والإداري وإضعاف الدولة الوطنية ومحاولة التغوّل عليها من جانب جماعات مسلّحة خارج حكم القانون والقضاء، وأخذت بعض تلك الجماعات على عاتقها تهديم مقوّمات الدولة، سواء بفعل "إرادي" أم عبر سلوك وتصرّف يؤدي من شأنه إلى النتيجة ذاتها.
وإذا كان من الوظائف الأساسية لأي دولة هي حفظ الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، فإن الجماعات المتطرّفة والإرهابية التي اعتمدت الإرهاب والعنف وسيلتين لفض النزاعات بينها وبين الدولة في الغالب، وبينها وبين المجتمع، قادت من الناحية الفعلية إلى "حروب أهلية"، الأمر الذي أدى إلى تدمير المؤسسات الحكومية والمرافق الاقتصادية والحيوية، وعطّل التنمية وعملية التراكم والتطوّر،  ناهيك عن العبث والاستخفاف بالأرواح والممتلكات العامة والخاصة، سواء بشلّ أجهزة الدولة أم تعويمها وإفقادها القدرة على القيام بمهامها كلاًّ أو جزءًا، خصوصاً في ظل الفوضى وانعدام الأمن.
وإذا كان التغيير "فرض عين" مثلما هو "فرض كفاية" كما يُقال، أي أنه خيار واختيار، وفي الوقت نفسه "اضطرار"، لأن ذلك من طبيعة الأشياء، إذْ لا يمكن دوام الحال على ما هو عليه إلى ما لا نهاية، فذلك من المُحال، لكن الوصول إليه يحتاج هو الآخر إلى توفّر شروط موضوعية وأخرى ذاتية لإنجازه، وكسب للرأي العام، فحتى البلدان التي حصل فيها التغيير بإرادة شعبية، بانهيار أو تآكل "الشرعيات القديمة" لكن "الشرعيات الجديدة" لم تُبنَ بعد أو لم تستكمل، وواجهتها مشكلات جمّة وتحدّيات كبرى أمام عمليات الانتقال والتحوّل من طور إلى طور. وحسب أنطونيو غرامشي "فإن الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد".
وقد أكّدت الغالبية الساحقة من التجارب العالمية أن التغيير الذي حصل بحكم القوة سرعان ما ارتدّ على أعقابه، وأحياناً تكون ردود الفعل أقوى وأقسى، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تأخير عملية التطوّر الطبيعي التدرّجي، لأن درجة تطوّر المجتمع والقوانين السائدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومستوى وعي الناس والثقافة عموماً لم ترتقِ لتحقيقه، والعكس صحيح، كلّما كان التطوّر منسجماً مع درجة تطوّر ووعي الناس، ناقلاً إيّاها من طور إلى آخر، ولكن دون قفز على المراحل أو حرق لها، كلّما كان أكثر رسوخاً وثباتاً ونجاحاً، لأنه تطوّر طبيعي وليس مفروضاً.
ثلاثية التعصّب والتطرّف والإرهاب
التطرّف ابن التعصّب Fanaticism ووليده العنف، وقد يقود هذا الأخير إلى الإرهاب. ويستهدف العنف في العادة ضحية أو ضحايا بعينهم، في حين أن الإرهاب هو استهداف مجموعة من السكان بهدف إحداث نوع من الرعب والفزع في المجتمع وإظهار الدولة بمظهر الضعيف والعاجز عن حماية الأمن، وإذا كان العنف يخضع للقانون الجنائي الوطني، فالإرهاب يخضع إليه أيضاً، إضافة إلى القوانين الدولية، خصوصاً إذا كان للأمر علاقة بجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب.
وقد بات هذا الثلاثي (التعصّب والتطرّف والإرهاب) قضية دولية مطروحة على طاولة البحث والتشريح في الأمم المتحدة وعلى صعيد المجتمع الدولي كله، فلم يعد كافياً منذ  أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة وهزّت العالم، وجود قرارات تعالج قطاعياً وجزئياً بعض مظاهر التعصّب والتطرّف والإرهاب في العلاقات الدولية، وإنما استجدّت الحاجة الملحّة والماسّة إلى بحث شامل لهذه الظواهر بأبعادها ودلالاتها المختلفة.
للتعصّب سبب والتطرّف ثمرة لهذا السبب، أما الإرهاب فهو نتيجة، الأمر الذي سيبقي الحاجة ضرورية لمعالجة أسباب التعصّب والتطرّف، وليس معالجة النتائج فحسب، وحتى النتائج فهناك من يريد تحميل تسديد فواتيرها للآخرين، وإنْ كان الجميع مشمولين بها، لكن القوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية تريد تعليقها على شماعة "البعض"، ولتلك الأسباب تتنصّل عن أي محاولة لوضع ضوابط ومعايير لإيجاد تعريف دولي جامع ومتفق عليه لظاهرة الإرهاب. وعلى الرغم من أن الحديث عن الإرهاب يرتفع بوتيرة متسارعة منذ ما يزيد على 5 عقود من الزمان، إلاّ أنه يتم الاتفاق على تعريفه، وبالتالي وضع الخطط والوسائل الكفيلة لمواجهته.
وقد كانت الأمم المتحدة قد أصدرت منذ العام 1963 ولغاية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، نحو 13 اتفاقية وإعلاناً دولياً حول الإرهاب ، لكنها لم تتوصل إلى تعريف لماهيته بسبب التفسيرات والتأويلات الخاصة التي تريد القوى النافذة في العلاقات الدولية فرض مفهومها وإملاء استتباعها على الشعوب والأمم، خصوصاً حين تحاول دمغ المقاومة بالإرهاب وتغض النظر عن إرهاب الدولة والجماعات العنصرية الاستيطانية الاستعلائية، وخصوصاً في فلسطين المحتلّة، في حين تتحدّث أحياناً عن إرهاب فردي أو عمليات عنف محدودة ومعزولة.
وعلى الرغم من أن مجلس الأمن الدولي أصدر 3 قرارات بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وفي ما بعد 4 قرارات بعد احتلال "داعش" للموصل في العام 2014، لكن الأمر لم يتغيّر، وظلّ تعريف الإرهاب عائماً، بل ازداد التباساً بحكم التفسيرات المختلفة بشأنه، باختلاف مصالح القوى الدولية ، لأن القوى المتنفّذة تحاول احتكار العدالة وفرض مفهومها الخاص للإرهاب، وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر بعد يوم واحد من أحداث 11 سبتمبر (أيلول) القرار 1368 في 12 (سبتمبر/أيلول) الذي اعتبر الحدث تهديداً للسلم والأمن الدوليين شأنه شأن أي عمل إرهابي وطالب الدول بعمل عاجل لتقديم المرتكبين ورعاتهم إلى العدالة .
ثم صدر القرار 1373 في 28 (سبتمبر/ أيلول) من الشهر ذاته والعام ذاته (2001)، وهو من أخطر القرارات بخصوص الإرهاب الدولي، لأنه أعطى المبرّرات للعودة إلى القانون الدولي التقليدي و"الحق في الغزو" و"شن الحرب"، أنّا شاءت الدولة تحت عنوان حماية مصالحها القومية، أو إذا شعرت أن ثمة خطر وشيك الوقوع يهدّدها أو من المحتمل تهديدها أو أن ذلك يلبي مصالحها القومية، وذلك حين رخّص القرار لما سمي بـ"الحرب الاستباقية"، أو "الحرب الوقائية"، الأمر الذي يثير إشكالات وتحفظّات فقهية وسياسية لتعارضاته مع ميثاق الأمم المتحدة.
والقرار يتجاوز أيضاً على مضمون المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز للدول "حق الدفاع عن النفس" (فرادى أو جماعات) إلى أن تتم دعوة مجلس الأمن للانعقاد، وذلك حين سمح، لمجرد الشبهات شن الحرب ضدّ دولة أو جهة ما، تصنّف باعتبارها "إرهابية" (دول محور الشر وقائمة المنظمات الإرهابية مثلاً)، كما أهمل القرار الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية والقانونية التي تكمن وراء ظاهرة الإرهاب الدولي، وكذلك وراء ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف، مثلما أغفل مبدأ حق تقرير المصير والحق في المقاومة .
وكان القرار الثالث هو القرار 1390 الذي صدر في 16 يناير (كانون الثاني) 2002 قد فرض التزامات ومسؤوليات على الدول بشأن مكافحة الإرهاب الدولي وتجفيف منابعه والقضاء على بؤر تمويله وغير ذلك، ودعا هذا القرار إلى تعاون الدول مع الأمم المتحدة وإلاّ اعتبرت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها للحملة الدولية لمكافحة الإرهاب . وقد صدر هذا القرار بالتوافق وليس بالتصويت، ويتلخص مضمونه وتفسيراته وتأويلاته في أنه أعطى للمرّة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة: الحق في اتخاذ عقوبات خارج نطاق حدود الدول وأدرجها ضمن الفصل السابع، حيث نص على تجميد الأموال وحظر توريد الأسلحة ووضع أسماء أشخاص مطلوبين للعدالة ومنظمات كذلك، إضافة إلى ضرورة تعاون الدول وإلّا اعتبرت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها للحملة الدولية لمكافحته
أما القرارات ما بعد احتلال داعش للموصل فهي أربعة:
الأول - رقم 2170 وصدر في 15 أغسطس (آب) 2014 بشأن التهديدات التي يتعرّض لها السلم والأمن الدوليين نتيجة الأعمال الإرهابية وفيه إدانة للفكر المتطرّف وتنديد بتجنيد المقاتلين الأجانب.
الثاني - رقم 2178 الصادر في 24 سبتمبر (أيلول) 2014 وفيه أيضاً إدانة للتطرّف والعنف والإرهاب، ويستعيد القرار 1373.
الثالث - رقم 2185 والذي صدر في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) والذي أكّد على دور الشرطة كجزء من عمليات الأمم المتحدة لرفع درجة المهنية لمحاربة التطرّف والإرهاب.
الرابع - رقم 2195 في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2014 حثّ الدول على العمل الجماعي والتصديق على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وشدّد على العلاقة بين مكافحة الإرهاب والتطرّف المقترن بالعنف ومنع تحويل الإرهاب
يمكن القول إن كل تطرّف ينجم عن تعصّب لفكرة أو رأي أو آيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو إثنية أو سلالية أو لغوية أو غيرها، ولكن مهما اختلفت الأسباب وتعدّدت الأهداف، فلا بدّ أن يكون التعصّب Fanaticism وراءها، وكلّ متطرّف في حبّه أو كرهه لا بدّ أن يكون متعصّباً، لا سيّما إزاء النظر للآخر وعدم تقبّله للاختلاف، وكل اختلاف حسب وجهة نظر المتعصّب يضع الآخر في خانة الارتياب، وسيكون غريباً، وكل غريب أجنبي، وبالتالي فهو مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرّف.
التطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، والتطرّف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً أو غيره، كما يمكن للتطرّف أن يكون علمانياً، حداثياً، مثلما يكون محافظاً وسلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، باعتباره مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.
أما الإرهاب فإنه يتجاوز التطرّف، أي أنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف هو إرهاب، خصوصاً إذا ما كان دفاعاً عن النفس ومقاومة العدوان وحسب نعوم تشومسكي، فالإرهاب هو كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما في طريق الاغتيال والخطف وأعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فردياً أو تقوم به مجموعات أو تمارسه دولة، وهذا الأخير هو الإرهاب الأكثر خطورة .
وإذا كان هذا التعريف البسيط والعميق الذي يقول به مفكر أمريكي، فإن صعوبات جمّة تعترض المجتمع الدولي للاتفاق على تعريف المقصود بالإرهاب في القانون الدولي بسبب خلفية الجهات والقوى والبلدان التي تنظر إليه كل من زاويتها ومصالحها. وغالباً ما يحدث التسييس والخلط المتعمّد والمقصود بين الأعمال الإرهابية وأعمال المقاومة المسلحة.
وتحاول "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة وقوى متنفّذة في العلاقات الدولية اعتبار كل عمل عنفي حتى وإن كان اضطراراً ودفاعاً عن النفس ومن أجل التحرّر الوطني، وهو ما تقرّه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، "إرهاباً"، علماً بأن القانون الدولي يعتبر اللجوء إلى الدفاع عن النفس واستخدام جميع الوسائل المشروعة بما فيها القوة، عملاً مشروعاً في حالات النضال من أجل الانعتاق وتحقيق الاستقلال وحق تقرير المصير .
وكلّ إرهاب تطرّف، وبالطبع كل متطرّف هو متعصّب ولا يصبح الشخص إرهابياً إلاّ إذا كان متطرّفاً، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابي، فالفعل سواء كان عنفياً أم إرهابياً  تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً، لأن ثمة عمل إجرامي تعاقب عليه القوانين، أما التطرّف، ولا سيّما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، وخصوصاً في المجتمعات المتخلّفة، كما أن بعض التطرّف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرّض على الإرهاب، بما فيه عن طريق الإعلام بمختلف أوجهه.
وإذا كان التطرّف يمثّل نموذجاً قائماً على مرّ العصور والأزمان، فإن نقيضه الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوّعة، لأن الاجتماع الإنساني من طبيعة البشر، حيث التنوّع والتعدّدية والاختلاف وهذه صفات لصيقة بالإنسان، وكلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية توصلت إليها البشرية بعد عناء، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.
التطرّف يعني في ما يعنيه ادّعاء الأفضليات، فـ"الأنا" أفضل من "الأنت"، و"النحن" أفضل من "الأنتم"، وديني أفضل من الأديان الأخرى، وقومي فوق الأمم والقوميات الأخرى لدرجة الزعم بامتلاك الحقيقة، وتلك البذرة الأولى للتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.
في النقيض للتطرّف
لا يمكن القضاء على فكر التطرّف وجذوره، ما لم يتم القضاء على فكر التعصّب الذي يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وما سواه إلاّ بطلان ووهم على أقل تقدير. وقد أثبتت التجارب أن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتمّ القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح، كما لا يمكن القضاء على التطرّف بالتطرّف أو مواجهة الطائفية بالطائفية أو مجابهة الإرهاب بالإرهاب، وإنْ كان "آخر العلاج الكيّ" كما قالت العرب، لكن:
عنفان لا يولدان سلاماً،
وإرهابان لا يبنيان وطناً،
وظلمان لا ينتجان عدالة،
وطائفيتان لا تنتجان مواطنة،
الأمر الذي يحتاج إلى معالجة الظاهرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً ودينياً وقانونياً ونفسياً، وهو علاج قد يكون طويلاً ومتشعّباً، ولا يقع على الدولة وحدها إنجازه بقدر ما تحتاج إلى طاقات جميع القوى الحيّة والفاعلة في المجتمع التي يهمّها إنجاز التغيير بوسائل سلميّة تدرجية وإحداث التراكم المطلوب.
ولعلَّ القضاء على الفقر والأمية والتخلّف ضمن استراتيجية بعيدة المدى يساعد في خلق بيئة مناسبة لنشر قيم السلام والتسامح واللاّعنف وقبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية، وذلك في إطار المواطنة التي تقوم على أركان متوازية ومتكاملة، تبدأ بالحرية وتمرّ بالمساواة والعدالة، لا سيّما الاجتماعية لتصل إلى الشراكة والمشاركة، وبذلك يمكن تجفيف منابع ومصادر القوى المتطرّفة والإرهابية، بالقضاء على أسباب التعصّب.
   التطرّف لا ينمو إلاّ إذا وجد بيئة صالحة لنموّه ومثل هذه البيئة بعضها ناجم عن أسباب داخلية وأخرى خارجية، وبهذا المعنى ثمّة دلالات لهذه الظاهرة:
   1 – أنها ظاهرة راهنة وإنْ كانت تعود إلى الماضي، لكن خطورتها أصبحت شديدة العمق والتأثير، ولها تجاذبات داخلية وخارجية، عربية وإقليمية ودولية، لأن التطرّف أصبح كونياً، وهو موجود في مجتمعات متعدّدة ولا ينحصر في دين أو دولة أو أمّة أو شعب أو لغة أو ثقافة أو هويّة أو منطقة جغرافية أو غير ذلك، وإنْ اختلفت الأسباب باختلاف الظروف والأوضاع، لكنه في جميع الحالات لا يقـبل الآخر ولا يعتـرف بالتـنوّع، ويسعى إلى فرض الرأي بالقـوة والعنـف والتـسيّد إن تطلّب الأمر ذلك.
   ومع أن منطقتنا وأممنا وشعوبنا الأكثر اتهاماً بالتطرّف، إلاّ أنها في واقع الحال الأكثر تضرّراً منه، حيث دفعت الثمن لعدّة مرّات ولعدّة أضعاف جرّاء تفشّي هذه الظاهرة، الأمر الذي لا ينبغي إلباس المنطقة ثوب التطرّف تعسفاً أو إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين بشكل خاص، باعتبار دينهم أو تاريخهم يحضّ على التطرّف والإرهاب، علماً بأن المنطقة تعايشت فيها الأديان والقوميات والسلالات المختلفة، وكان ذلك الغالب الشائع، وليس النادر الضائع كما يُقال.
   وإذا كانت البلدان العربية والإسلامية تعاني اليوم من ظاهرتَي التطرّف والإرهاب، وتشهد نزاعات واحترابات دينية وطائفية وإثنية، فقد سبقتها أوروبا إلى ذلك وشهدت "حرب المئة عام" بين بريطانيا وفرنسا . مثلما شهدت "حرب الثلاثين عاماً" في العام 1618 - 1648 والتي انتهت بصلح وستفاليا . وهناك أشكال جديدة من حروب إبادة تعود لأسباب دينية أو طائفية أو عنصرية، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في البوسنة والهرسك 1992 - 1995، وحرب كوسوفو 1998 - 1999، واحتلال أفغانستان العام 2001، واحتلال العراق العام 2003 وغيرها، وإن كانت أسباب الحروب مختلفة أساسها المصالح الاقتصادية ومحاولات التسيّد وفرض الهيمنة، لكنها تلبس لبوساً مختلفة.
   فخلال عقد من الزمان شنّت "إسرائيل" حرباً ضدّ لبنان العام 2006، وفرضت حصاراً على غزّة العام 2007، وقامت بثلاث حروب أوّلها - وأطلق عليها اسم "عمود السحاب" في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009، وثانيها – "عملية الرصاص المصبوب" في العام 2012، أما الثالثة – فهي "عملية الجرف الصامد" في العام 2014. وبهذا المعنى فالتطرّف والإرهاب  موجودان في جميع المجتمعات والبلدان، وليسا محصورين في منطقة أو دين أو أمة أو غير ذلك.
   2 - تثير ظاهرة التطرّف ومخرجاتها التباسات نظرية وعملية بعضها يعود إلى القوى الدولية الكبرى، والآخر إلى قوى التطرّف المحلية التي تستند إلى تفسيرات وتأويلات تنسبها إلى "الإسلام" لا سيّما بالعلاقة مع الآخر، بما يمكن تصنيفه بـ"الإسلاملوجيا" أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام، في حين يستخدم الغرب "الإسلامفوبيا" (الرهاب من الإسلام)، في محاولة لتعميم وربط بعض الأعمال الإرهابية والمتطرّفة، بالإسلام والمسلمين.
   ولهذا فإن البحث في موضوع التطرّف والإرهاب ينبغي أن يفكّك الظاهرة على المستويين النظري والعملي، ولا بدّ وأن يتناول موقف الجماعات والتيارات الفكرية المختلفة، الجديد منها والقديم، والديني وغير الديني، على النطاقين المحلي والدولي، وقد لعبت المصالح الدولية والتوظيف السياسي الإغراضي ومحاولات الهيمنة والتسيّد دوراً مهمّاً في انتشار ظاهرة التطرّف.
   3 - لم تعد الظاهرة تقتصر على جماعات محدّدة أو فئات محدودة كانت الدولة تغضّ الطرف عنها أحياناً، بل إن تهديدها وصل إلى أساسات الدولة والهويّة، وخصوصاً في مجتمعاتنا التي غالباً ما تلجأ إلى العنف في حل الخلافات، الأمر الذي يحتاج إلى حوار فكري وثقافي ومعرفي، ليس بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب فحسب، بل بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، داخل كل بلد وعلى مستوى إقليمي لتحديد ضوابط وأسس توافقية لمواجهة هذه الظاهرة، التي لا يمكن القضاء عليها أو محاصرتها إلاّ بنقيضها، ونعني بذلك أفكار التسامح واللاّعنف وقيم العدل والمساواة والتآخي والتضامن بين الأمم والشعوب، واحترام الهويّات الفرعية، وتلبية حقوقها.
   وبالطبع لن يتم ذلك دون التوصّل إلى تفاهمات واتفاقات في إطار التكامل والتفاعل والتواصل وتعظيم المشتركات والجوامع وتقليص المختلفات والفوارق، وجعل الحوار السلمي الوسيلة المناسبة والفعّالة لحل الخلافات، وصولاً لتحقيق المشترك الإنساني.
   وإذا كان الحوار مطلوباً على مستوى دول وأمم المنطقة التي هي بحاجة إلى حوار بينها وبين بعضها البعض، فإنها أيضاً بحاجة ماسة إلى حوار داخلي في إطار الدولة الوطنية، وهو الأساس الذي يمكن الانطلاق منه، ناهيك عن حوار مع المجتمع الدولي حول المشتركات الإنسانية.
الدين والإرهاب

أنطلقُ في هذه المقاربة التاريخية من تجربة عملية راهنة قامت بعد احتلال داعش لكل من مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية وتمدّدت لنحو ثلث الأراضي السورية والعراقية، لأطرح عدّة أسئلة تتعلّق بالفكر الديني الحاضن للإرهاب، ولعلّ هذه المسألة بقدر قِدَمها  فهي جديدة أيضاً في شكلها ومضمونها وتنوّع أدواتها وأساليبها، فأيّ فكر هذا الذي يخرج فيه الإنسان عن سويّته الإنسانية ليُقدِمَ على قتل أبرياء بدم بارد وبجنون غير مألوف، ومثل هذا الأمر يتكرّر في أصقاع متباعدة من المعمورة، لدرجة أن المرء يتساءل بحيرة: ما الذي يربط إرهابياً في مانيلا وآخر في لندن وثالث في نيويورك ورابع في باريس أو بروكسل أو مدريد مع إرهابيين آخرين في بغداد أو دمشق أو القاهرة أو بيروت أو  الرياض أو صنعاء أو مقاديشو أو طرابلس أو الرباط أو تونس أو تشاد أو النيجر أو فلسطين أو سيناء  أو غيرها من المدن والمناطق والبلدان؟
وإذا كان الدين يُوظّف لخدمة الأهداف السياسية، فذلك لأنه يمثل فضاءً مقدساً يتعكّز عليه الإرهابيون لتمرير مشاريعهم السياسية واستغلال الآخرين تحت عناوين دينية أو طائفية، خصوصاً حين يتحكّم التعصّب بهم ويستبدّ التطرف بسلوكهم، فينخرطوا في العنف ويخوّضون بالإرهاب.
فهل ثمة علاقة للدين بمثل تلك الأعمال الإرهابية التي يقومون بها؟ ثم كيف نفرّق بين الدين والتديّن؟ وسؤالنا الآخر الذي سنخصص له حيّزاً في هذا البحث يتناول ظروف نشأة البيئة الحاضنة التي تساعد على انتشار الفكر الإرهابي باسم الدين، وسبل مواجهة الفكر الحاضن للإرهاب. 
وإذا كان هناك عدم معرفة مباشرة وشخصية بين الإرهابيين، فمن المؤكّد ثمة روابط ومشتركات تتعلّق بالتعصّب والتطرّف التي تجمع هؤلاء جميعاً، وقد وفّرت وسائل التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية " الديجيتل" سهولة الاتصال والتواصل فيما بينهم، مثلما أوجدت بيئات حاضنة مولّدة أو منتجة للإرهاب، كما ساعدت في الوقت نفسه على خلق وإنشاء بيئات مستعدة أو متقبّلة للتعاطي مع الإرهاب، وهي بيئات ضرورية يمكن للإرهابيين التنقّل فيها والانتقال إليها كلّما تضيق بهم السبل، وهكذا تنشأ علاقة بين البيئة المشغّلة والمصنّعة لفايروس الإرهاب والبيئة المتلقية والمستجيبة للفكر الإرهابي سلبياً أو إيجابياً، وذلك عبر ورش عمل وتهيئة ضرورية دينياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وتربوياً وبالطبع نفسياً .
وإذا كانت الحضانة الدولية للإرهاب الديني في العالمين العربي والإسلامي غير مباشرة في السابق، فإن تطوّراً مهماً حصل في نهاية عقد السبعينات، ولاسيّما بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان العام 1979 واستمرّ حتى بعد انهيار جدار برلين العام 1989 وتحلّل الكتلة الاشتراكية، حيث اشتغلت الآلة الآيديولوجية الغربية لاختراع عدو جديد لها وكان  "الإسلام" هو هذا العدو، فالهدف هو فرض الاستتباع والهيمنة على المنطقة والاستحواذ على ثرواتها، ومن جهة ثانية عملت القوى الغربية على دعم الجماعات "الإسلامية"، ولاسيّما المتطرّفة، بوسائل مختلفة خدمة لسياستها الخارجية وأهدافها الاستراتيجية وتاكتيكاتها المتغيّرة  .
وبالمقابل فإن القوى الإرهابية التي هاجر بعض قياداتها إلى الغرب عملت على استغلال أجواء التسامح وفضاء الحرّيات والديمقراطية، فقامت بتجنيد الشباب، وهو ما جاء دورهم بشكل خاص عقب احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق  العام 2003 ، وذلك بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة.
وإذا كانت الحضانة الفكرية الأساس الذي تتمحور حوله الحواضن الأخرى، لما يشكّله الدين من عقيدة قويّة ومتماسكة ومؤثرة، فإن التطور التكنولوجي سهّل نشر أفكار التعصّب والتطرّف والإرهاب،  ووفّر أرضية مشتركة للإرهابيين ، ولاسيّما لدى الأجيال الشابة بحكم حماستها واندفاعها واستعدادها للتطرّف، سواء بحكم جهلها بصحيح الدين من جهة، فضلاً عن تقليدية العديد من رجال الدين وعدم مواكبتهم التطور العلمي، ناهيك عن عدم رغبتهم في تجديد أو إصلاح المنظومة الدينية التي تنتمي إلى عصور خلت، خصوصاً في ظل التفاوت الاجتماعي والفقر والتخلّف والأميّة والشعور بالاغتراب عن مجتمعاتها والاستلاب الروحي والنفسي.
وبعض هذه البيئات الحاضنة تطوّرت لتصبح منتجة للإرهاب ومصدّرة له، وكان لغياب قيم الحريّة والسلام والتسامح والعدل والمساواة في مجتمعاتنا عاملاً أساسياً في استنبات الإرهاب، لاسيّما في ارتفاع معدّلات البطالة واتّساع حجم الفئات المهمّشة وغياب الأفق المستقبلي لأجيال تشعر بالضياع.
   وقد شجّعت جهات رسمية ودينية بعض أفكار التعصّب والتطرّف، سواء  بسبب محافظتها وسلفيتها أم لأغراضها الأنانية ضد الحركة التقدمية العروبية واليسارية، وذلك عبر المبالغة في نشر مظاهر التديّن وفرض الحجاب على النساء ومنع الاختلاط بين الجنسين والدعوة لحملات إيمانية مصحوبة بالتكفير والتأثيم والتحريم والتجريم  إضافة إلى تنمية بعض  المشاعر الطائفية وسحبها على الصراع السياسي، لأنها مثيرة ومؤثرة ومستقطبة في الآن.
   كان تشكيل تنظيم القاعدة الذي انطلق منه "الأفغان العرب" وصولاً إلى انبثاق تنظيم داعش، التعبير المتطوّر للفكر الإرهابي المستند إلى التعاليم الدينية، الذي يقوم على فكرة أساسية ملخّصها استبدال "حكم الدولة" بـ"حكم الله"، ولعلّ الفارق بين القاعدة وداعش أن الأخير بنى استراتيجياته على احتلال الأراضي والاحتفاظ بها وإقامة كيان فيها مثّل نواة دولة "الخلافة" ولهذا قام بتمزيق الحدود "الاستعمارية" التي تشكّلت وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو العام 1916 في أعقاب انحلال الدولة العثمانية، ولاسيّما بين العراق وسوريا، وذلك  بعد احتلال الرقة والموصل.
وترتبط ظاهرة الإرهاب الديني الإسلاموي موضوعياً وذاتياً بصعود تيار الإسلام السياسي في السبعينيات، ولاسيّما الأثر الذي تركته الثورة الإيرانية العام 1979 على الصراع السنّي - الشيعي، إضافة إلى شحّ الحريات، ولاسيّما حرّية التعبير وشيوع مظاهر التسلّط والاستبداد في الحكم، وقد استغل التيار "الإسلامي" أو الإسلاموي صراعه مع السلطات الحاكمة، تحت منابر مختلفة ومتنوعة، بعضها علنية وأخرى شبه علنية أو حتى سرّية، ابتداءً من المساجد والجوامع ومروراً بالجمعيات الخيرية والاجتماعية والمناسبات الدينية إلى استخدام نصوص الدساتير والقوانين النافذة، مستفيداً من مهادنة السلطات ومداهمتها له بحجة عدم استفزازه وتجنّب التعرّض له، بل ومجاملته حدّ التزلف أحياناً ليرضى عنها.
وهكذا خاض هذا التيار حرباً ناعمة هي الأكثر مكراً، ولاسيّما التعارض بين الأقوال والأفعال لتصل إلى أشدّ الأساليب قوة وعنفاً، وقد استخدم الإرهابيون جزءًا من التاريخ  الإسلامي لتبرير الإرهاب، باستخدام بعض النصوص الفقهية التي قيلت في سياقها التاريخي، ومحاولة استعادتها وتطبيقها على الحاضر، بل إسقاطها عليه، وحتى لو كانت تصلح للماضي، فإنها لا تصلح للحاضر، فهل يمكن استعادة بعض الأحكام بشأن الخوارج  أو أحكام بن تيمية التي قيلت في  القرن الثامن  هجري  على نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ وهل يمكن  تكفير فرق بكاملها  ومذاهب برمتها والزعم بامتلاك الحقيقة باعتبارهم وحدهم  "الفرقة الناجية" وهو ما مثل أساساً في أطروحات داعش.
      
   بعض المنطلقات النظرية للإرهاب الديني

لمعرفة منبع التكفير الديني الإرهابي يحتاج الباحث إلى الوقوف عند بعض منطلقاته النظرية، ليستطيع فهم تطوّره، لا سيّما بربط حلقاته التاريخية، إضافة إلى متابعة بعض شخصياته مثل أسامة بن لادن الذي تأثّر بمؤسس تنظيم القاعدة عبد الله عزّام والذي كان معلّمه الأول في أفغانستان، حيث التقيا في قاعدة بيشاور التي انطلقت منها تنظيمات القاعدة، والتي كان فيها أكبر معسكرات التدريب أيام الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وكانت قد حظيت بدعم أميركي.
فما أن تأسّس تنظيم القاعدة حتى أخذ يتربّع على عرش التنظيمات الإرهابية، لا سيّما بعد أن لمع اسم أسامة بن لادن، حيث عمل الأخير جاهداً لإيصال المساعدات إلى "المجاهدين" في أفغانستان، وحسبما يقول أيمن الظواهري في إحدى تسجيلاته الصوتية، إنه كان على صلة بجماعة "الإخوان المسلمين" في جزيرة العرب، كما يسمّونها، وكانت التوجيهات التي صدرت له هي الاتصال بالجماعة الإسلامية في لاهور، لكن بن لادن تجاوز ذلك ووجد الطريق إلى "المجاهدين" في أفغانستان، الأمر الذي أدّى إلى فصله، وهو ما يذكره الظواهري.
جدير بالذكر أن المرجعية الفكرية الأولى لأسامة بن لادن كان أبو علي المودودي وسيّد قطب بالدرجة الأساس، وهو ما يتّضح من لغته، فقد كان يستخدم مصطلح "جاهلية المجتمع" و"ردّة المجتمع"، التي كثيراً ما تردّدت في كتاباتهما، وهو الأمر الذي أدّى به إلى استباحة دماء المسلمين، وتبرير قتلهم بزعم إقامته "المجتمع المسلم".
وإذا كان المودودي وسيد قطب مرجعين أساسيين لأسامة بن لادن، فإن شخصية مثيرة للجدل، ساهمت في تأطير الجانب النظري للفكر التكفيري ونعني بها سيد إمام الشريف المعروف باسم الدكتور فضل أو الدكتور عبد القادر عبد العزيز، وقد وضع "الشريف" كتابين مرجعيين لتنظيم القاعدة ولأي تنظيم إسلاموي إرهابي، يمكن أن يستقي منهما أفكاره، وجلّ أفكار هذين الكتابين يقوم على تحديد "أحكام الكفر" من جهة، و"الجهاد" من جهة أخرى، ولعلّ اسمَي الكتابين يدلّ عليهما، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، فالكتاب الأول كان اسمه "الجامع في طلب العلم الشريف"تأليف  الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز ، 1994، أما الكتاب الثاني فهو الموسوم "العمدة في إعداد العدّة" تأليف الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز .
في الكتابين نعثر على أحكام مثيرة وخطرة في الآن، تمثّل اغتراب الجماعة الإرهابية عن الفكر السائد في مجتمعاتها، بل وعن مجتمعاتها، وخصوصاً عن التعامل الشعبي مع الإسلام من عموم المسلمين، وذلك بعيداً عن التأطير الآيديولوجي، حيث يحاول فيهما تأصيل التكفير، بجعل بلاد المسلمين "بلاد كفر" وجب الهجرة منها إلى حين يتم تطبيق "شرع الله"، ولعلّ ما قام به "داعش" من محاولة تأسيس "الدولة الإسلامية" بعد احتلال الموصل والتمدّد لنحو ثلث الأراضي العراقية، خصوصاً بربط ذلك باحتلال الرقة السورية، هي تطبيق عملي لفكر الشريف التدميري الإلغائي.
ويعتبر سيد إمام الشريف أن جميع البلدان الإسلامية كافرة وخارجة عن الملّة، ولذلك وجب الخروج عليها، واستوجب الأمر الجهاد ضدها، وهذا "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يُقال، وهو واجب على المسلمين، لأن الحكم بغير ما أنزل الله من قوانين هو كفر، والمقصود بذلك جميع القوانين الوضعية.
وبهذا المعنى يضع الشريف والفكر التكفيري الجميع في خانة الخروج عن شرع الله، طالما ارتضوا بوجود قوانين تحكمهم هي من صنع البشر، لأن ذلك سيكون خروجاً على الإسلام، الأمر الذي يقتضي مواجهته وتحريمه وإبطال ما يتّخذ بخصوصه من أحكام، وصولاً إلى خلع الحكام وإقامة حكم الإسلام.
ووفقاً لذلك يضع الشريف وتنظيم القاعدة وربيبه "داعش" في خانة الكفر: حكام البلاد الإسلامية وقضاتها  . كما يقدّم أسبقية "الجهاد" على الاستحقاقات الأخرى، ويضع محاربة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، أي أنه يستهدف المسلمين قبل المسيحيين والنصارى واليهود وغيرهم، وهكذا فإن مثال المرتدين هو الذي يحظى بالأفضلية من الكفار والوثنيين وأتباع الديانات الأخرى. ويعتبر الفكر التكفيري أن مجتمعاتنا تسبح في "جاهلية مطبقة" و"كفر سافر"، الأمر الذي اقتضى تقويمهما بالسيف.
أما كتاب "إدارة التوحش"  فهو لمؤلفه أبو بكر الناجي يمثل مرجعية فكرية للإرهاب، ويقصد بالإدارة " مرحلة ما بعد السلطة الحاكمة"،وقد حاول داعش بعد احتلاله للموصل والرقّة الحكم وفقها. وكان قد تدفق الآلاف من الإرهابيين المهاجرين الذين تم تجنيدهم بوسائل مختلفة في الغرب، وخصوصاً بتشجيع ما سمّي بالجهاد النكاحي، وقد ترك ذلك مشكلة اجتماعية خطيرة لأطفال الدواعش، فقسم كبير منهم لا يُعرف آباؤهم .
وكان الإرهاب المستند إلى نصوص فقهية والمتستّر وراء الدين هو الأخطر، ولاسيّما في العقود الأربعة الماضية، وأنتج هذا الإرهاب "مرجعية" من خلال منظومة فكرية يسّرت تجنيد الآلاف وزجّهم في عمليات قتل للأبرياء وبدم بارد مشفوعة بتفسيرات وتأويلات للدين وقراءات خاصة للنصوص الدينية، مثلما قامت هذه المرجعية عبر وسائل الاتصال الحديثة ببناء شبكة واسعة عبر وسائل الاتصال الحديثة ، علماً بأن التطرّف الديني ليس مقتصراً على دين واحد، بل ينطبق على أتباع الديانات المختلفة وأهل المذاهب المتنوعة داخل الدين الواحد، فلدى الشيعة متطرّفون ولدى السنّة كذلك، وفي المسيحية متطرفون أيضاً من مختلف المذاهب، وكذلك بالنسبة لمعتنقي اليهودية، سواء اليهود المقيمين على أرض فلسطين أم حيث يعيشون في بلدان أخرى، يوجد متطرفون ويبرّرون اغتصاب الأرض وانتهاك حقوق الإنسان.
وبتقديري إن الإرهاب الفكري يعتبر من أخطر أنواع الإرهاب، لماذا؟ لأن الإنسان إذا اقتنع بفكرة ما وتغلغلت في تلافيق دماغه تحوّلت هذه الأخيرة إلى قوة مادية يصعب اقتلاعها وهو ما تدفعه  للتضحية بالنفس في سبيلها، ولذلك يعتبر الإرهاب الفكري المنبع الحقيقي لجميع أنواع الإرهاب، حيث يتأسس عليه الإرهاب السياسي والديني وإرهاب السلطات والمعارضات وتنشأ وفقا له البيئات الفكرية والاجتماعية والثقافية والتربوية والنفسية الحاضنة له.
لقد سمّمت الأفكار التكفيرية عقول بعض الشباب، خصوصاً وقد أخضعوا في الكثير من الأحيان لعمليات غسل أدمغة، الأمر الذي قاد إلى تعكير حياة العديد من البلدان والشعوب، وجعلت الواقع على ما فيه من تحديات وآلام ومصاعب، أشد قسوة وعسفاً، وذلك بإشاعة الرعب والهلع بين الناس، من خلال المفخخات والتفجيرات والأحزمة الناسفة والمقابر الجماعية، وأعمال الانتقام وإشاعة روح الكراهية، والغريب أن شعار "الله أكبر" ظلّ يتصدّر أطروحات الإرهابيين وأعمالهم وأعلامهم وشعاراتهم، حتى إن الذبح وقطع الرؤوس بالسيف كان باسم " الله".
وإذا كانت "غزوة" 11 سبتمبر /أيلول العام 2001 كما يسمونها وقبلها تفجيرات نيروبي ودار السلام وبالي وتفجيرات أوروبا، ولا سيّما أنفاق إسبانيا ولندن وعدد من تفجيرات باريس وفرنسا عموماً وتفجيرات ألمانيا وغيرها، هي ضرب تكتيكي في الأطراف، فإن استراتيجية التنظيم، على الرغم من استخدامها الإرهاب الخارجي، فإن مهماتها الأساسية ظلّت داخلية عربية وإسلامية بامتياز، أي تقديم مواجهة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، مع الاستمرار بمشاغله البعيد، لتنفيذ استراتيجية التصدي للقريب.
لقد كان لأسامة بن لادن والظواهري وما بعدهما أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام "داعش"، وخصوصاً أبو بكر البغدادي دوراً كبيراً في ضخّ الفكر التكفيري، لا سيّما بالاستراتيجية العسكرية للسيطرة على مناطق شاسعة وإخضاعها لقوانينها، وهو ما جعلها تتمدّد لفتح جبهات قتالية من أفغانستان مروراً بالعراق، ووصولاً إلى سوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر وتونس والمملكة العربية السعودية، وغيرها.
الإرهاب بالأصل أو بالفرع، هو واحد،
ولا دين له
ولا جنسية له
ولا وطن
ولا لغة
ولا منطقة جغرافية،
إنه فكر التعصّب والتطرّف والإلغاء.

البيئة الحاضنة للإرهاب

إذا كان مصطلح " البيئة الحاضنة" قد شاع استخدامه، وخصوصاً بعد احتلال داعش للرقة والموصل، إلّا أن مضامينه مختلفة ومتعدّدة. ولكن هزيمته العسكرية في كلتي المدينتين، في نهاية العام 2017 وربيع العام 2018، لا تعني انتهاء تأثيره، فما يزال الحديث عن "الخلايا النائمة" و"الذئاب المنفردة" قائماً، مما يعني أن هزيمته الفكرية لم تتحقّق، وهذه الأخيرة تحتاج إلى شروط معينة سنأتي على ذكرها خاتمة لهذا البحث.
ومن الناحية القانونية فالبيئة الحاضنة تعني سهولة تحرّك التنظيمات الإرهابية في بعض المناطق، التي توفّر حيّزاً يمنحها شروطاً وأسباباً ملائمة تسمح لها بالتحرك، يضاف إلى ذلك قدرتها على التغلغل فيها، فإمّا لعدم وجود ردّ فعل قوي إزاءها أو لعوامل مشجّعة لها على الاستمرار بما يعني وجود مشتركات بين الإرهاب القادم والإرهاب الكامن، أي بين الإرهاب المتحرّك والإرهاب الساكن، والأمر يتعلّق بالفكر والسلوك.
وتأسيساً على ما تقدّم  يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من البيئة الفكرية  الحاضنة للإرهاب، وهي التي تمثّل الحيّز الجيوبولتيكي:
النوع الأول- البيئة المصنّعة للإرهاب،
وهي البيئة المنتجة له وليست حاملة لفايروسه فحسب، وهذه البيئة تعتمد على نخب فكرية وسياسية وثقافية تعمل على بلورة المنطلقات الفكرية للإرهاب الديني، وذلك باستخدامها الدين كمرجعية لخطابها السياسي، وبالطبع وفقاً لتفسيراتها وتأويلاتها للنصوص الدينية. وتسعى هذه المجموعة حتى وإن كانت صغيرة لإنضاج العوامل الذاتية للقيام بالإرهاب: توفير أموال، حلقات نقاش، كتب ودراسة، مساعدات، تسهيلات وذلك بالاستفادة من إنضاج العوامل الموضوعية: اضطهاد طائفي، شعور الإقصاء أو التهميش أو التمييز، ضعف التنمية، عدم تلبية احتياجات المناطق المعنيّة، أحزمة الفقر ، العشوائيات.. الخ .
وتستفيد هذه البيئة من عوامل سياسية ثقافية مجتمعية مثل: مجاملة السلطات لرجال الدين ومحاولة التملّق لهم والسكوت على الخطاب الديني الصادم أحياناً لقيم العصر والتقدم والمبني على فكر ماضوي، وبقدر ما يرخّص لخطباء المساجد والجوامع، بل يتم تمويلهم وغضّ النظر عن أصحاب الفتاوى المجانية الذين يقولون ما يشاءون في التحريض الطائفي والاستعداء للأديان الأخرى، فإنه يتم التحريض على أصحاب الخطابات المضادة أو المغايرة ومنعهم أحياناً وملاحقتهم في أحيان أخرى، وذلك بوضع الديني - المقدس مقابل العلماني- الإلحادي.
كما أن أحد أسباب ظهور مثل هذه الخطابات هو ضعف الهويّات الوطنية أو نقص الوعي بأهميتها وتدنّي خطابها، والتباس مفهوم الدولة وتغوّل السلطة عليها وتغليب الهوّية الدينية والطائفية والفرعية على الهويّة الوطنية العامة.
النوع الثاني- البيئة المولّدة للإرهاب
تلك التي تتّسم بحضور مؤثر للتطرّف الديني وتغليبه على حساب مرجعية الدولة ومؤسساتها، ويلعب الفقر والجهل وضعف التنمية، ولاسيّما في المناطق البعيدة والنائية والريفية بشكل عام دوراً على هذا الصعيد، مثلما تكون  المدن والأحياء الفقيرة المكتظّة بالسكان مرتعاً خصباً للجماعات التكفيرية والإرهابية التي تقوم بالتغلغل في أوساط السكان، ولاسيّما الفقراء منهم، مستغلة معاناتهم واحتياجاتهم وقهرهم لتحوّلهم على طريق الفكر وغسل الأدمغة إلى قنابل موقوتة.
النوع الثالث - البيئة المستعدّة لقبوله
وقد يتحوّل الاستعداد إلى تعاطف تدريجي وربما لاحقاً إلى انقياد. وعلى أقل تقدير فالموقف غير السلبي من وجود التنظيمات الإرهابية يخلق مجالاً حيوياً لها للعمل، ويبني في هذه البيئات مرتكزات يمكن أن تشكل عناصر جذب مؤثرة في الحاضر أو في المستقبل، خصوصاً إذا كانت هذه البيئات تشعر بالهشاشة والضعف وعدم التماسك والوحدة، فما بالك إذا كان بعضها يشعر بالتهميش والتمييز وعدم المساواة والحيف والغبن.
وبالطبع فهناك فروق بين هذه الحواضن، فبعضها يحتضن الإرهاب ويسهم في توليده وإنتاجه، والبعض الآخر يضطر للتعامل معه كأمر واقع، لا يمكن ردّه أو الوقوف بوجهه، لاسيّما الخشية من إرهابه، والقسم الثالث انقاد له أو استسلم له، لأنه لا مجال للبقاء في مدينته أو قريته أو منزله دون التعامل معه، فما بالك حين لا يكون لديه بديلاً مناسباً، إضافة إلى ما يسمعه عن ظروف النزوح السيئة والمعاناة الإنسانية الباهرة التي عاشها النازحون، وهكذا ظلّ الكثيرون "أسرى" للإرهاب الديني التكفيري بل إن الإرهابيين أخذوا المدنيين دروعاً بشرية وفرضوا على أبنائهم الانخراط في صفوفهم .
ويبقى قسم قليل من الموالين له  أو المتعاطفين معه أو الذين اضطروا وتحت التهديد للتعاطي معه، فهؤلاء يختلف التعامل معهم عن غيرهم، مع ضرورة أخذ  الأمور بسياقها وظروفها باستثناء بعض العناصر القليلة التي ظلّت "خلايا نائمة" حاولت وتحاول الثأر والانتقام من هزيمة داعش .


خطاب جديد وفكر جديد
   لكي يتم تطويق ظاهرة التطرّف والقضاء عليها  ، لا بدّ من خطاب جديد، وقبل ذلك لا بدّ من تجديد الفكر، لكي يتم تجديد الخطاب، والأمر يحتاج إلى وضع معالجات طويلة الأمد تقوم على عدد من الدوائر والجبهات:
   الأولى - الجبهة الفكرية والحقوقية،
   باعتماد  مبادىء المواطنة والمساواة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية التي يفترض فيها أن تكون "دولة الحق والقانون" وتستند إلى قواعد العدل والشراكة والمشاركة، إذْ لا يمكن القضاء على التطرّف والإرهاب بوسائل عسكرية أو أمنية فقط، بل لا بدّ من مجابهة فكرية راهنة مثلما هي متوسطة وطويلة المدى، فالنّصر الحقيقي على التطرّف هو في الجبهة الفكرية أولاً، خصوصاً حين يدير الشباب والناشئة ظهورهم للتطرّف ويبنون علاقات وجسور من الثقة والاحترام بينهم وبين الآخر، وفقاً للمشتركات الإنسانية، مع احترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، بما ينسجم مع جوهر الحريّات العامة والخاصة وقيم حقوق الإنسان.
   والثانية - الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
   وتلك التي تستوجب توفير ظروف مناسبة للعيش الكريم، وفرص عمل متكافئة، ودون تمييز لأي سبب كان وتهيئة فرص تعليم وضمان صحي واجتماعي، الأمر الذي سيقطع الطريق على الفكر التعصّبي المتطرّف والإرهابي.
   الثالثة - الجبهة التربوية والدينية،
   والأمر يتطلّب تنقية المناهج الدراسية والتربوية عن كل ما من شأنه ازدراء الآخر أو تحقيره، لأن ذلك سيؤدي إلى إشاعة مناخ من الكراهية والأحقاد والكيدية، فالجميع بشر ومتساوون في الكرامة الإنسانية، وحسب قول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" أو قول الإمام علي لعامله في مصر ما

279
المفكر العراقي د.عبدالحسين شعبان ينتزع العرفان...
مسيرة فكرية وثقافية رائدة..
عكاب سالم الطاهر
المقالات الثقافية
في الثامن من شهر كانون اول 2018..وصلتُ العاصمة اللبنانية بيروت ، لحضور معرض الكتاب الدولي بدورته 62. وعلى هامش المعرض حصلتُ على كتاب « تونس والعرفان ..وقائع حفل تكريم ومسيرة فكرية وثقافية رائدة..».. الكتاب صدر عن جهات ثلاث : *المعهد العربي للديمقراطية.. *منتدى الجاحظ.. *الجامعة الخضراء.. من هو المحتفى به ؟ هو الدكتور عبدالحسين شعبان..دكتوراه فلسفة ( مرشح علوم ) في العلوم القانونية من اكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ ، معهد الدولة والقانون .أكاديمي ومفكر ، باحث في قضايا الانسانيات والحقوق والاديان والفكر السياسي. استاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاعنف. له نحو 60 كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة. نود الاشارة الى ان ما ذكرناه مختصر ومركز جداً من سيرة حافلة بالعطاء المتنوع. تونس..و..عرفانها.. الكتاب الذي بين ايدينا ، من اصدار « دار الفارابي » اللبنانية..ومن اعداد : المعهد العربي للديمقراطية. وغطى 366 صفحة من القطع الكبير. صدرت طبعتهُ الاولى في أيلول 2018... مشروع الحضارة وفي تقديمه للكتاب ، يقول الكاتب والصحفي التونسي ، خالد شوكات : « هذا الكتاب ، هو ديوان عرفان بالجميل ، تقدمه تونس للمفكر العربي العراقي الكبير الدكتور عبدالحسين شعبان ، الذي قدم للمشروع الحضاري العربي المعاصر ما يزيد عن نصف قرن من العطاء الفكري والحقوقي والسياسي والانساني. ...». ومضى يقول : « تعتبر رحلة الدكتور عبدالحسين شعبان ،مع الفكر العربي المعاصر ، رحلة احد المفكرين الكبار ، ممن آثر الجمع على الطرح ، وفضل المراكمة على القطيعة ، ودعا للبحث عن المشترك لا التركيز على المختلف، ومن هنا يصح القول بانه من بناة الجسور بين الروافد والتيارات والمدارس الفكرية....» . وقائع حفل التكريم... وعلى الصفحة 13 من الكتاب ، وتحت عنوان : وقائع حفل التكريم..ادرجت الكلمات التي القيت في حفل التكريم ، او التي ارسلت للمشاركة فيه لتعذر وصول اصحابها ، وقام الناشر بتثبيتها حسب الحروف الابجدية.. ساعمد الى الانتقاء كنماذج ، فهي تشترك بسمة الاشادة بالدكتور شعبان.. في كلمته ، قال الدكتور جورج جبور ، بروفسور في العلوم السياسة، ومحاضر للدراسات العليا بكلتي الحقوق والاداب بجامعة دمشق وحلب « عبدالحسين شعبان اسم مشرف في سوريا.لدى مثقفيها على تنوع آرائهم. ولدى قيادي دولتها ومسؤوليها عن الشؤون الثقافية...».. ومن المغرب ، قال الدكتور جمال بندحمان ، الاستاذ الجامعي في المملكة المغربية ان الدكتور عبدالحسين شعبان يمثل الفكر المركب والافق الانساني . عطر الكتب ومن الكويت ، قال الدكتور حامد حمود العجلان « تعرفت عليه أكثر من خلال كتبه والتي تزيد على خمسين كتاباً ومنشوراً . فمن خلال كتبه نتعرف الى رهافة احساسه وثقافته وتجربته السياسية وجرأته على نقد الذات بنقده للايديولوجيا التي تشرب بها منذ صغره..» . و قال الاستاذ حجاج نائل ، وهو مدير البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان في مصر : « واذا كان لي شرف نيل صداقة هذه الشخصية الفذة في عشرات المناسبات والاحداث وحتى على المستوى الانساني ، فقد وجدتُه بحق ، الحقوقي الاول الذي يستحق التكريم ».. وقالت السيدة رندا سنيورة ، المديرة العامة لمركز المرأة للارشاد القانوني والاجتماعي، فلسطين -- القدس المحتلة « لقد جمع شعبان في عمله النضالي بين الفكر والممارسة ، فكان مفكراً جريئاً ، امتاز بالشجاعة في طرح افكاره والدفاع عنها..».. ومن الجزائر قال عالم الاجتماع في جامعة الجزائر الدكتور الزبير عروس : « حاول شعبان دون تكلف او افتئات على عصره ، ان يجعل من انتمائه الثقافي الاصل والمكتسب ، من معارفه العالمية المتعددة الجذور....».. العراقيون.. وادلى المثقفون العراقيون بدلوهم ، وهم : الاستاذ حميد الياسري..الدكتور المهندس خالد المعيني..الاستاذ زيد الحلي..الاستاذ شبيب المالكي..الدكتور شيرزاد احمد امين النجار.. الدكتور احمد عبدالمجيد...الدكتور صائب الكيلاني...الاستاذ ضياء السعدي..الاستاذ ليث الحمداني..الدكتور عامر حسن فياض... الدكتور عبدالحميد الصائح..الاستاذ عبدالرحمن مجيدالربيعي..الدكتور علي كاظم الرفيعي..الدكتور عمران القيسي..الاستاذ نصير شمة..الاستاذ وثاب شاكر.. تقييم... الشهادات بحق الدكتور عبدالحسين شعبان كثيرة..لا نستطيع الاحاطة بها جميعاً.. لكننا انتقينا عينات منها.. هذه الشهادات يجمعها قاسم مشترك ، وهو الاقرار بالسمات الايجابية العديدة للمفكر العراقي الانساني الدكتور عبدالحسين شعبان. وهو ما يجعلنا - كعراقيين - نفتخر ونعتز ونقيم عالياً ، عطاء الدكتور عبدالحسين شعبان.. تحية لتونس الخضراء ، وهي تفصح عن عرفانها.. العمر المديد للمفكر اليساري..الصديق الدكتور عبدالحسين شعبان..



280
طريق حكومة عادل عبد المهدي
وألغام الدولة العميقة
عبد الحسين شعبان
باحث مفكر عربي

استأنف البرلمان العراقي جلساته الاعتيادية بهدف التوصل إلى تسمية  الوزراء المتبقين من التشكيلة الحكومية التي باشر بها رئيس الوزراء  عادل عبد المهدي، حيث وافق البرلمان على 14 وزيراً وظلّت العقدة قائمة بشأن وزارتين سياديتين هما وزارة الداخلية التي كانت كتلة الفتح برئاسة هادي العامري تصرّ على تسمية فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي وزيراً للدفاع، في حين ترفض كتلة سائرون بقيادة السيد مقتدى الصدر تسميته.
أما الوزارة الثانية فهي وزارة الدفاع التي تقع ضمن حصة السنّية السياسية وفقاً لنظام المحاصصة الطائفية - الإثنية السائد منذ احتلال العراق العام 2003. وكان  رئيس كتلة  الوطنية إياد علاوي قد رشح فيصل الفنر الجربا وزيراً للدفاع وهو طيار مشمول بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة الوريث لهيئة " اجتثاث البعث" التي تأسست في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 مايو /أيار/2003- 28 يونيو/حزيران/2004) وكان قد اتهم بمشاركته بقمع الحركة الاحتجاجية المعروفة بالانتفاضة الشعبانية في المحافظات الجنوبية بعد حرب الخليج الثانية (مارس/آذار/1991) وعقب تحرير الكويت، لكن محكمة التمييز برّأته من تلك التهمة، ومع ذلك قرر البرلمان للمرّة الثانية تأجيل البت بالأمر وعُلّق اختيار وزيري الدفاع ووزارات  أخرى وإن تم لاحقا تسمية بعضهم بالأقساط
وحتى كتابة هذه المقالة ما تزال التجاذبات بشأن وزارتي الداخلية والدفاع مستمرة، على الرغم من تدهور الأوضاع الأمنية وارتفاع حوادث العنف السياسي كوسيلة لتصفية الخصوم، سواء عبر القتل أم التهديد أم محاولة الاغتيال السياسي والطعن بسير الوزراء الذين تم اختيارهم بأساليب شتى، وهو ما دعا ممثل السيد علي السيستاني الشخصية الدينية المتنفذة في النجف للتحذير من عواقب هذه الظواهر المجتمعية المذمومة على حد تعبير عبد المهدي الكربائي ممثله، لأنها أخذت تهدد المجتمع وتشكل خطراً على المنظومة الاجتماعية.
ويلاحظ أن ظاهرة العنف العشائري والاعتداء على الآخرين والاستقواء على بعض الضعفاء أصبح سائداً وهو ما أثار ردود فعل مختلفة في ظل أزمة سياسية حادة وضعف الدولة وتآكل هيبتها، علماً بأن خطورتها قد تنتقل من البرلمان والفاعلين السياسيين إلى الشارع، خصوصاً على مستوى التظاهرات وأعمال الاحتجاجات، تلك التي ما تزال مستمرة منذ أسابيع في  محافظة البصرة التي تعاني من شح المياه ومن تدهور الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية والبيئية على نحو مريع مع احتمال انتقالها إلى محافظات أخرى، أو حتى اللجوء إلى لغة السلاح، لاسيّما بين جماعات مسلحة وفصائل شبه عسكرية بعضها يرتبط بالحشد الشعبي وله صلات وثيقة بإيران، وبعضها منفلت من عقاله في إطار ردود الأفعال وحالات الغضب الشعبي.
وكانت قد وصلت تهديدات إلى عدد من الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي الأمر الذي قد ينذر بخروج الأمور عن السيطرة واندلاع العنف والفوضى. وكان مجهولون قد اغتالوا مؤخراً عضواً قيادياً بارزاً في " سرايا السلام" التابعة للسيد الصدر وهو حسين الحجامي الذي قتل بهجوم مسلح في منطقة الشعلة ببغداد ذات النفوذ الصدري، بواسطة أسلحة كاتمة للصوت.
وعلى الرغم من  البرنامج الحكومي لوزارة عادل عبد المهدي الذي أكد على محاربة الدولة العميقة ، إلا أن اختياره لم يكن بعيداً عن توافقات حصلت في داخلها وفي جوارها وحولها، ومع ذلك كان هناك استبشار أولي في تكليفه لشخصيته المتوازنة ، لكن مثل هذا الارتياح تبدد سريعاً  وخيّم على المشهد السياسي منطق الدولة العميقة مجدداً ، لاسيّما حين تشبثت القوى السياسية والكتل البرلمانية بمواقفها واستحقاقاتها كما تقول، وهكذا ظلّت مشكلة رئيس الوزراء بالدرجة الأساسية ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان قائمة منذ الانتخابات التي جرت في 12 مايو/أيار الماضي.
وحتى الآن فإن نحو نصف الوزارة ما يزال شاغراً وبعض الوزارات معلقة وتحتاج إلى توافقات جديدة، يقدّم فيها كل طرف تنازلات للطرف الآخر.
والحديث عن الدولة العميقة يشمل بالدرجة الأساسية اليوم حزب الدعوة الذي حكم بالتحديد منذ العام 2005 ولغاية العام 2018، وتتهم بعض الأطراف السياسية نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق لدورتين  بمحاولة عرقلة جهود عادل عبد المهدي من خلال زرعه عناصر خفيّة في أحشاء الدولة بحيث تمثل مراكز قوى، ولاسيّما داخل أجهزة الأمن والمخابرات والجيش وغيرها.
فالدولة خلال السنوات المنصرمة تعاني من فساد مالي وإداري وسياسي لدرجة أصبح العراق في أسفل السلم الكوني بسبب استشراء الفساد وهو ما ظلّت تؤكده سنوياً منظمة الشفافية الدولية، ففي ظلّ حكومة المالكي وحسب تقرير برلماني تبدد نحو 360 مليار دولار وضاع الكثير من الأموال على مشاريع وهمية، ناهيك عن التلاعب بالمال العام ونهب الثروة أو هدرها بطريقة لا مسؤولة ودون مساءلة تُذكر، وتعكس عملية احتلال الموصل في 10 يونيو/حزيران/2014 مدى تغلغل الفساد حتى داخل القوات المسلّحة التي ينبغي  أن يكون لها عقيدة عسكرية وانضباط كبير، ناهيك عمّا صُرف عليها من مبالغ طائلة لإعادة التأهيل، ولم تكن عملية تحرير الموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية، لاسيّما محافظات صلاح الدين والأنبار أو أجزاء من محافظتي كركوك وديالى ومشارف بغداد (جرف الصخر)، بمعزل عن استنفار شعبي ودعم دولي عبر تحالف واسع.
إن وجود مراكز قوى وغياب وحدانية اتخاذ القرار والألغام الكثيرة التي احتواها الدستور العراقي والتعارض بين صلاحيات الدولة الاتحادية وصلاحيات إقليم كردستان فيما يتعلق بالبيشمركة والنفط وبعض التداخلات الخارجية ، جعل العراق دولة فاشلة بفعل نظام الزبائنية الذي يقوم على تقسيم الغنائم وفقاً لمصالح طائفية أو إثنية أو حتى امتدادات دولية وإقليمية والدولة الفاشلة ليس بإمكانها تلبية طموحات النخب الفكرية والثقافية ومطالب الناس الحيوية، لاسيّما الخدمات الصحية والتعليمية والتصدي للبطالة فضلاً عن استعادة هيبة الدولة وبسط سلطانها على جميع أراضيها وحماية سيادتها واستقلالها .
 والنخب ذاتها في مثل هذه الأوضاع  تصاب بالتصدّع في ظل حالة الخوف والاحتقان السياسي، لاسيّما إذا كان هناك سلطات سرّية وقوى نافذة وغير خاضعة للقانون، ولعلّ استمرار معاناة النازحين، سواء عدم عودة الكثير منهم أم الاختفاء القسري لأعداد من الشباب بحجة كونهم تعاونوا مع داعش خلال احتلاله للموصل وما بعدها.
ومقابل تراجع دور النخب الفكرية والثقافية، خصوصاً المستقلة ، نلاحظ تضخّم دور البيروقراطية الطفيلية الحزبية السياسية والدينية والإثنية وتغلغلها في جميع مفاصل الدولة لدرجة إن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي كان قد صرّح بوجود عسكريين فضائيين زاد عددهم عن 50 ألف  يتقاضون رواتب تصل إلى 500-600 مليون دولار من خزينة الدولة، والأمر يشمل أعداداً كبيرة من المدنيين، فضلاً عن وسائل صرف عديدة في غير أوجه الصرف، تلك التي كلفت الميزانية مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية والمثال الصارخ على ذلك استمرار أزمة الكهرباء منذ ما يزيد عن 15 عاماً، وهؤلاء إذا انضموا إلى القطط السمان المدعومة من مراكز القوى والاستقطابات الطائفية  والمذهبية والإثنية، فسيكون لهم القدرة على تعطيل سير عمل الدولة والعبث بأمنها الوطني ونهب الأموال والثروات، بما فيها تهريب النفط، سواء من جنوب العراق (البصرة) التي تعاني من شظف العيش أو كردستان التي تعرضت إلى هزّة كبيرة إثر ردود الفعل إزاء الاستفتاء الذي دعت إليه حكومة الإقليم في 25 سبتمبر/أيلول/2017.
وهكذا تبقى الدولة داخل الدولة والمقصود بذلك المنظمات السرّية ذات السطوة داخل الدولة أو المؤثرة في عملها، سواء أكانت دينية أم عشائرية أم حزبية، بعيدة عن الأنظار وخارج دائرة المساءلة لأن سلطتها سرّية وأذرعها طويلة، ومثل هذا الأمر ساهم في خلق طبقة سياسية جديدة تعتاش على الانقسام الطائفي - الإثني وتستغل غياب وحدانية القرار السياسي وهشاشة الوحدة الوطنية وضعف الهويّة الجامعة، وهكذا تكون الحكومة غير المرئية التي تدار بواسطة الأبناء والأصهار والأقارب والنافذين الحزبيين خفية وتمارس سياسة عميقة ولها ميزانيتها غير الخاضعة للمراقبة.
وإذا كانت الدول الشمولية تمارس دوراً سرياً بواسطة تنظيمات غير منظورة وبزعم حماية الأمن الوطني، فإن انهيار الدولة وحل بعض مؤسساتها العسكرية والأمنية واستشراء الفوضى، في ظل الانقسامات السياسية والمذهبية والإثنية، سيكون أكثر خطورة، وهذا ما فعله بول بريمر الذي قاد إلى تعويم الدولة وحتى الآن فإن محاولات إعادة البناء قد تستغرق زمناً طويلاً، لاسيّما في ظلّ تعدد المرجعيات التي تعلو على الدولة ذاتها أحياناً، وغياب الحد الأدنى من الوحدة الوطنية وحكم القانون واستقلال القضاء.
ويبدو إن سوء الحظ صادف عبد المهدي، فقد واجهت حكومته أزمة حادة إثر ارتفاع ملوحة مياه الشرب في البصرة والمحافظات الجنوبية، ورافقها أزمة بيئية وصحية خطيرة بسبب نفوق كميات ضخمة من أسماك الأنهار والبحيرات في محافظات بابل وواسط والديوانية، لأسباب مجهولة ، ناهيك عن التحديات التي ورثتها من الحكومات السابقة وما تزال العقد الرئيسية قائمة وأولها نظام المحاصصة والألغام التي احتواها الدستور ووجود جماعات مسلحة خارج القانون حتى وإن أُدمجت بالقوات المسلحة، لكن هناك استياء من أوساط واسعة من السكان من سلوكها وخشيتهم من بطشها، على الرغم من أن الجميع يقرّ بالدور المهم الذي لعبه الحشد الشعبي في تحرير الموصل والمناطق التي احتلها داعش.
ولعلّ هذا أول اختبار يواجهه عادل عبد المهدي، فإن استطاع تجاوزه وتوصل إلى توافقات ترضيه في اختيار بقية المرشحين، فالأمر سيكون خطوة مهمة أولى لتجاوز تدرجي وإن كان بطيئاً لما سارت عليه الحكومات السابقة، وإلّا  فإن رضوخه للقوى المتنفذة سيجعل منه أضعف من رئيسي الوزراء اللذين سبقاه، فالمالكي والعبادي كانا مدعومين من كتلة سياسية كبيرة ومهيمنة، أما عبد المهدي، فإنه لا يمثّل إلّا نفسه حتى وإن كانت كفاءته ومقدرته السياسية أوسع وأعمق وأكبر من غرمائه السابقين، لكن توازن القوى داخل البرلمان سيكون مؤثراً على توجه حكومته، ولعلّ التجاذبات حول وزارتي الداخلية والدفاع خير دليل على ذلك.
 والدولة العميقة التي تحدّث عنها ستكون له بالمرصاد لتعطيل أو تسويف أي قرار يتخذه إذا ما تعارض مع مصالحها، ناهيك عن أي اختلال في المعادلة الإيرانية- الأمريكية للنفوذ سيؤدي إلى خلخلة مواقعه، ولاشكّ فإنه والحالة هذه سيبقى محكوماً بمثل هذا التوازن وغير قادر على تجاوزه. وكان عليه أن يتعامل منذ البداية كرئيس لوزارة قوية ومؤثرة وهو ما يريده الشارع، وإلّا فالأفضل له تقديم استقالته ليحتفظ بهامش طالما ظلّ يبحث عنه في السنوات الماضية.
إن استشراف صورة الوضع العراقي مستقبلياً تكاد تكون ضبابية حتى الآن، فمنذ الاحتلال والعراق يعاني من خمسة تحديات أساسية:
أولها- الطائفية السياسية ونظام المحاصصة وليدها ، وقد قام على الزبائنية والغنائم، المر الذي أضعف الدولة وقوّض من عملية إعادة البناء بسبب التجاذبات المذهبية - الإثنية.
وثانيها- الميليشيات التي أخذت طابعاً " شرعياً أو شبه " شرعي" بعد إلحاق قوات الحشد الشعبي بالقوات المسلحة العراقية، واعتبارها جزءًا منه، والميليشيات بشكل عام تنتمي إلى القوى السياسية الشيعية التي شكّلت المشهد الأبرز في الوضع السياسي العراقي بعد الاحتلال.
وثالثها- العنف والإرهاب ، فقد استفحل في العراق على نحو لا مثيل له ، لاسيّما بعد تمكّن داعش من احتلال محافظة الموصل ومحافظتي صلاح الدين والأنبار وسيطرته على أجزاء من محافظتي كركوك وديالى، ووصوله إلى مشارف العاصمة بغداد. وعلى الرغم من هزيمته واندحاره إلّا أن بيئته ما تزال صالحة وبيضه يمكن أن يفقّس ، باستمرار سوء أوضاع النازحين وعدم عودتهم إلى بيوتهم، ناهيك عن تردي الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية ، والأكثر من ذلك هو عدم استعادة الوحدة الوطنية في إطار مصالحة وطنية حقيقية.
ورابعها- الفساد المالي والإداري الضارب الأطناب في كيان الدولة العراقية والذي ينخر بجسدها وهو الوجه الثاني للإرهاب، فما زال أمام هيئة النزاهة أكثر من 13 حالة فساد كبرى، بينها أكثر من ألف حالة لوزراء ونوابهم وأصحاب الدرجات الخاصة وأعضاء في البرلمان وبعضهم من المتنفذين في الأحزاب القائمة، وغالباً ما يفلتون من العقاب، لأسباب تتعلق بدور القضاء ومحاولات التأثير عليه وبتواطؤ مع بعض المتسيّدين في الدولة ومفاصلها.
خامسها - هشاشة السيادة الوطنية، فالنفوذ الإيراني لا يزال قوياً ومؤثراً في العراق، سواء أكان بشكل مباشر أم غير مباشر، غبر القوى السياسية الحليفة لإيران أو عبر علاقات خاصة طائفية أم مصلحية أم أمنية، وكذلك فإن الولايات المتحدة لها نفوذ قوي سياسي واقتصادي وعسكري وأمني، وهو مكفول في إطار معاهدة الإطار الإستراتيجي بين بغداد - واشنطن، الأمر الذي يجعل السيادة العراقية معوّمة، وهو ما يعطّل إمكانية الخروج من المأزق الراهن، لذلك فالاعتقاد السائد إن العراق سيستمر يدور في أزمته ما لم تتوفر إرادة سياسية موحدّة، تستطيع أن تنهض به لتتجاوز نقاط ضعفه الحالية وتضعفه في إطار محيطه العربي، علماً بأنه يملك طاقات وكفاءات كبيرة ولديه موارد هائلة، ولكن ما يحتاجه هو اختيار الطريق السليم وبتعاون شامل عابر للطائفية والمحاصصة وإطار حكم القانون.



281
للمرة الأولى في الصحافة :
د. عبد الحسين شعبان يروي أسرار حياته
الأكاديمي  والمفكر المختص في القانون الدولي والخبير في ميدان حقوق الإنسان والاستشاري في عدد من المنظمات والدوريات الثقافية والإعلامية. د. عبد الحسين شعبان ، التقيته للحديث عن (كواليس الدنيا) .. فقلت له : عجزت سطوري عن الوصف، فأنتم مدرسة كبيرة لأجيال متعاقبة عراقية وعربية، تنهل منكم معارف عديدة.. لكن مجلة " دنيا" أحبت مرافقتكم في كواليس دنياكم بما لا يعرفه القارئ المتابع للدكتور عبد الحسين شعبان...
رنا خالد
•   حياتك الأسرية
      - تزوّجت عند بلوغي الـ 43 عاماً ولدي ابنتان (سوسن) حاصلة على شهادة ماجستير قانون، متزوجة وتعمل في دبي و(سنا) حاصلة على شهادة ماجستير في اللغة الانكليزية والثقافة وتعمل في الاسكوا " اللجنة الاقتصادية - الاجتماعية لغرب آسيا والباسك" التابعة للأمم المتحدة في بيروت. وقد "منحت بناتي كل ما كنتُ أتمنّاه لشخصي دون قيود ثقيلة وخاصة الحرّية".
* إذا نحن أمام حالة بوح عن جانب غير معروف عن المفكر والأديب والأكاديمي شعبان، وهو الذي يوصف دائماً بالصراحة وشجاعة الرأي والموقف، ولنبدأ من: لماذا تأخرت بالزواج ؟
      لم أتأخر أبداً والزواج محطّة حب أطول من المحطات الأخرى، بما سبقها وما    لحقها .
** هل تزوجت عن حب؟
      الحب هو حبل التواصل الدائم لديّ، والزواج من دون حب مثل شجرة دون ماء أو جسد بلا روح، وسيكون أقرب إلى بركة راكدة .
** وهل المرأة تمثّل نصف المجتمع من وجهة نظركم ؟؟
      المرأة كل المجتمع، ولك أن تتصوّر مجتمعاً دون نساء، إنه الخواء واليباس والجدب. ومثل هذا المجتمع، بلا أدنى شك، لا يطاق، ويغدو كئيباً وممّلاً وبائساً وبلا عطر.
** أول ما يلفت نظرك بالمرأة؟
      الروح حين تكون مشعّة تبعث فيك الأمل، وتضفي عليك البهجة والحبور والإشراق، وبالطبع هناك علاقة بين الشكل والمضمون.
** ما الذي حوّل حياتك ؟
      الحب،
      حيث نقلني من ضفة إلى أخرى، شعرت معه أنني غادرت عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، وكنت قد سرت أولى خطوات اختياري الفكري مع أولى قبلات الحب التي تعلمّتها.
** هل كان ذلك  في فترة الجامعة ؟
      كلّا، قبلها بسنوات وتحديداً عندما كان عمري 14 سنة، وأول فتاة تواصلت معها جسدياً وعاطفياً كانت أكبر منّي بثلاثة أعوام . تعلّمنا الفنون بصورة مشتركة، أما قبل هذه الفترة فقد كانت العلاقات سطحية وعابرة وليست أكثر من تذوق أولي لمعنى الحب.
** هل هذا هو الحب الأول؟
      ليس هناك حب أول وحب آخر، فكل حب هو الأول، لأن الحياة مسار ومسيرة وحب دائم.
** هل الإعجاب مفتاح للحب ؟؟
       نعم ولا...فالإعجاب وحده لا يكفي، لكن الحوار والتواصل والصداقة، هي مفاتيح للقلب والعقل معاً، وبالتالي هي الطريق إلى الروح.
** المرأة الأولى في حياتك ؟
      كل النساء اللواتي عرفتهن هنّ امرأة أولى، ومع كل بداية هي أولى، ولا يمكن أن تسبح بماء النهر مرّتين، حسب "المثل الصيني" الشهير، لأن الحياة متجددة ومتغيّرة، وكل تغيير سيكون جديداً، وهذه سنّة الحياة .
** ماذا يعني لديك الجمال؟
      الجمال هو تناسق بين الشكل والمضمون، في إطار ديالكتيكي لا انفصال بينه ، والجمال يعني الاقتراب من الكمال حتى وإن كان متخيّلاً، وفضيلة الجمال في الروح أيضاً، وهي عكس رذيلة القبح في السلوك والعلاقة، والجمال هو أحد تجليات الأهداف السامية، أما الاستعباد فيمثل القبح. وهكذا ، الظلم يمثل الرذيلة والبشاعة، في حين أن العدل يمثل الجمال والخير.
** هل تحب السهر؟
      كلّا، أنام مبكراً جداً، فأنا "كائن صباحي" وتعلّقي بالصباح اكتسبته من فترة عيشي في الشام  التي أحببتها بشغف خاص: ياسمينها وطقسها وأهلها ومثقفيها ونسائها وتراثها وتاريخها وكتبت عنها نصاً أدبياً بعنوان: " علّمتني الشام حب الصباح"  وكنت قد كتبت بأنني سوراقي  بقدر عراقيتي فأنا سوري،  لا أستطيع وأنا العراقي إلاّ أن أفكر بطريقة أقرب إلى سوريا أو إلى الشام. ولا أستطيع كلّما اقتربت من سوريا إلاّ ان أفكّر عراقياً.
** وماذا يعني لك الشروق ؟
      الشروق يعني الانبثاق والجديد، وكثيراً ما تسحرني خيوط الشمس وهي تتسلّل من خلف النوافذ فتبعث في النفس دفئاً خاصاً.
** وماذا عن الجامعة ؟
      إنها فضاء حب وحوار وتواصل وصداقة، وقبل ذلك رواق علم وبيت معرفة.
** ألديك نستولوجيا (حنين) إلى الجامعة؟
      أشعر دائماً إنني منتمٍ إليها ويمكنني القول إنني أجد نفسي فيها ، على الرغم من الابتعاد عنها كان "...على الكراهة بين الحين والحين" كما يقول الجواهري الكبير في فراقه القسري عن دجلة ، وعندما أزور الجامعة أشعر بنفس الشعور حينما كنت طالباً فيها  وقضيت أجمل أيام حياتي وأكثرها حيوية.
** كيف غادرتها ردحاً من الزمان ؟
      أنا لم أغادرها إلّا مجبراً، ولكن صلتي بها ظلّت مستمرة، فقد درستُ في جامعة بغداد في  "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية" وبعد تخرجي انتسبت إلى جامعات ثلاث هي (جامعة 17 نوفمبر) و"جامعة جارلس" (كلية القانون) حيث حصلت على ماجستير (علاقات دولية ثم قانون عام)  و"أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية" (معهد الدولة والقانون) ونلت درجة الدكتوراه (مرشح علوم في فلسفة العلوم القانونية - اختصاص قانون دولي)، وعُينتُ لفترة قصيرة في جامعة بغداد (مركز الدراسات الفلسطينية) واضطررت إلى الانقطاع في العام 1980، ولكن بعد ذلك عدت إلى عملي بصورة متواصلة ومتقطّعة في "جامعة صلاح الدين" (إربيل) كلية القانون والسياسة حين سمحت الظروف بذلك في أواخر السبعينات، وبعد انتهاء فترة الفصل السياسي  في العام 2003 أكملت خدمتي فيها (2008-2010)، وعلى الرغم من تقاعدي الآن فأنا أدرّس في بيروت ، وأشرف على أطروحات لطلبة الدراسات العليا، كما أنني حالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف.
** أنت حالياً بصفة أستاذ زائر للعراق؟
      نعم، ألقيت محاضرات متخصّصة كأستاذ زائر للماجستير والدكتوراه ومحاضرات مشتركة لطلبة معهد العلمين في النجف، وهذا جزء من عملي كأستاذ زائر غير متفرّغ، ولديّ محاضرات في الشهر القادم في ميلانو وعدد من المؤسسات الأكاديمية الإيطالية. وكنت الشهر الماضي محاضراً في السليمانية (مركز الدراسات المستقبلية) بدعوة من وزير التعليم العالي لإقليم كردستان البروفسور يوسف كوران، ولديّ ارتباطات ومحاضرات مع جامعات عربية عديدة.
** لمن يسمع عبد الحسين شعبان؟
      فيروز الأولى بالنسبة لي ، كنت في فترة سابقة أستمع كثيراً لأم كلثوم وعبد الوهاب ونجاة الصغيرة وعفيفة اسكندر وناظم الغزالي ورضا علي وأحب الاستماع إلى المقام العراقي، وخصوصاً محمد الكبنجي، وأطرب لأغاني حسين نعمة وسعدون جابر وفاضل عواد والياس خضر وكاظم الساهر وأحبّ ألحان سامي كمال وكمال السيد وكوكب حمزة وطالب القرغولي، وأعجبت كثيراً بمنير بشير  ويسحرني سيّد العود العراقي نصير شمّا.
      أما على المستوى العالمي، ففي جيلنا كنّا نحب فرانك سيناترا  وألفس برسلي وأرمسترونغ وغلين ميلر وجيمس براون وسيفي ويندر وفرقة البيتلز وفرقة أبَا، وفي الموسيقى الكلاسيكية أحبّ بتهوفن وباخ وموزارت ونيقولاي ريمسكي كورساكوف ودفورجاك وكنت قد عشقت جايكوفسكي، كما انشغلت بمشاهدة شبه مزمنة للمسرح والسينما، وهما جزء مني بل إنني جزء منهما، وإذا كان أحد مفكري مطلع القرن العشرين هو القائل "أعطوني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً"، لكنه لو عاش إلى الخمسينات من القرن الماضي ، لاستبدل المسرح بالسينما، والسينما الفن السابع، هي من أرقى الفنون والأكثر تأثيراً وانتشاراً.
** ما المدن التي أحببتها دائماً ؟
      دمشق وبراغ اللتان لن أنساهما أبداً، أما بيروت فتبقى في القلب، والنجف فإنها ما تزال "توشوشني" وبغداد تسكن روحي.
** ما هي أقسى لحظات ضعف الإنسان؟
      حين يفقد الثقة بنفسه!
      القوة، ليست مادية فحسب، بل هي روحية: نعم والقوة الروحية تستطيع أن تواجه العنف وتنتصر عليه، وهناك فارق بين القوة والعنف، وقد كتبت عن قوة اللّاعنف الخارقة.
** ماذا يعني لك السفر؟
      أنا في سفر دائم وذلك سفر الروح وأستعين بابن عربي هنا ، فأذكر :الأسفار ثلاثة ..سفر من عنده وسفر فيه وسفر إليه وهذا الأخير سفر التيه والحيرة، وسفر التيه والحيرة  لا معنى له . وعلى غرار حيرة ابن عربي : الهدى بالحيرة والحيرة حركة والحركة حياة.
** اللون الأصفر كما يراه د. شعبان؟
      الاعتدال والنشاط والطاقة والبهجة والمحبة والابتكار وهو لون الشمس.
** أليس اللون الأصفر له علاقة بالغيرة  كما هو شائع؟
      الغيرة أمرٌ ذميم ، خصوصاً إذا ما تحوّل إلى سلوك قد يصل إلى إيذاء الآخر، والمنافسة غير الغيرة، لأنها تدفع الإنسان للتحدي والمواجهة، وهذه ينبغي أن تكون شريفة مثل علاقة الوسيلة بالغاية، فلا غاية شريفة دون وسيلة شريفة، وحسب المهاتما غاندي، فإن العلاقة بين الوسيلة والغاية هي مثل العلاقة بين الشجرة والبذرة، لا انفصال بينهما، بل إن علاقتهما عضوية.
** الرياضة التي تحبّ ممارستها دوماً ؟
       المشي وبكل الأوقات.
** وبعد المشي؟
      الحمّام وقيل قديماً: ثلاثة أفضلهم العتيق: الخلّ وربما "الخمر" والحمّام والصديق.
** ما الوقت الذي لا تحب أن يشاركك فيه أحد؟
      النوم
** عندما تسترخي بماذا تفكر ؟
      شيئان يكادا يلازمانني هما: الفقراء وفلسطين.ولا أقول ذلك من باب الشعارات، ولكن عليك أن تفتش في كل ما كتبته طيلة نحو خمسة عقود من الزمان فستجد هناك حبلاً  سرّياً بيني وبين الفقراء وبيني وبين فلسطين، إذ لا أشعر بالطمأنينة على إنسانيتي إنْ لم أدافع عن الفقراء وعن فلسطين والفلسطينيين الذين عانوا ولا يزالون من ظلم مركّب.
** وماذا تتمنى لهما؟
      العيش الكريم والعدل والسلام مثلما أتمنى لمجتمعاتنا الحرية والمساواة وهذه القيم تمثّل محور تفكيري. 
** ثلاث صفات تحبّها؟
      الشجاعة والتسامح وعمل الخير.
** ثلاث صفات تكرهها؟
      الظلم والعنف والغدر.
** ماذا عن الكرم ؟
      كل شجاع كريم و"الجود بالنفس أسمى غاية الجود" ، وكل بخيل جبان وبالعكس.
** أين تضع الحسد ؟
      هناك فارق بين الحسد والغبطة، فالغبطة تعني أن تتمنى للنفس ما لدى الغير من نعمة، أما الحسد فيعني التمني بزوال نعمة الآخرين، والحسد صفة ذميمة وهادمة في حين أن الغبطة أمر يدفع المرء من خلال التحدي لنيل ما يتمناه الإنسان.
** أجمل محطات حياتك؟
      كلّها جميلة: الماضي والحاضر، والإنسان يمكنه أن يخلق الجمال مع نفسه وفيما حوله، ليشيع روح المحبة.

وما زال خلف الكواليس الكثير في حياة ضيفنا الكبير، لكن المساحة المخصصة في المجلة لا تسعها غير أنها ستكون أمام القراء  من جديد في أعداد لاحقة.



282
دولة مدنية.. هل هي إبداع عربي؟
عبد الحسين شعبان
إذا نصّ الدستور التونسي الصادر بعد الثورة (2014) في ديباجته، وفي الفصل الثاني، منه على «مدنيّة الدولة»، فإن مثل هذه النصوص فتحت الشهية لنقاش وجدل واسعين، ليس في تونس فحسب، بل في العالمين العربي والإسلامي. وكان مثل هذا الجدل والنقاش قد أثيرا واحتدما خلال العقدين ونيّف الماضيين، بحثاً عن جواب مقنع وتوافقي بين تيارين متصارعين لدرجة القطيعة أحياناً، وهما التيار الديني، والتيار العلماني، فما المقصود بالدولة المدنية، وكيف ينظر إليها الفرقاء، ولاسيّما الذين يريدون الإبحار كل إلى ضفته؟
المتشددون من التيارين يثيرون اعتراضات بشأن «هوية» الدولة، فأنصار الفريقين، بغض النظر عن اختلافاتهم، وتمايزاتهم، يبحث كل منهم عن «مرجعية» تطمئنه، الأمر الذي يحتاج إلى صيغة مناسبة، وابتداع إجابة مشتركة تجمع التيارات المتناقضة في إطارها، وتضع مسافة واحدة من الجميع، وليس ذلك سوى «الدولة المدنية».
إن إصرار التيار الإسلامي، بمدارسه المختلفة، على مرجعية الشريعة قاد أحياناً إلى انعزالية، خصوصاً بوضعها مبادئ الدولة في تعارض كامل مع فكرة الحداثة، والحرية، والعقلانية، والديمقراطية، ولعلّ أحد نماذجه المشوّهة والمزورة هو تنظيم « داعش»، وأخواته، ويقابل هذا التيار تيار علماني يرفض أي نص يسترشد بالمرجعية الإسلامية كمصدر من مصادر الدستور والقانون، حتى وإنْ تمت استجابتها لروح العصر، ويدعو البعض من أنصار هذا التيار إلى قطع الصلة مع الماضي، أو إحداث القطيعة الأبستمولوجية مع التراث، متجاوزاً على الخصوصية الثقافية لأنها تعيق تحقيق الحقوق والحريات بمرجعياتها الكونية ذات الشمولية والمعروفة باسم «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان».
وبين هذا وذاك، كان لا بدّ من ابتداع إجابة عربية على قاعدة الاحترام المتبادل، وجاءت هذه المرّة من تونس بعد نجاح الثورة التي أطلق عليها ثورة الياسمين العام 2011 لتؤكد إمكانية الإبداع الفكري والحقوقي، وتقديم حلول ذاتية ومتميّزة لمشكلات كبرى مطروحة، مع الأخذ في الاعتبار ما وصل إليه الفكر الدستوري القانوني، والعقل الحقوقي الدولي.

وكان الدستور التونسي نصّ في ديباجته على الدولة المدنية، وأكد ذلك في الفصل الثاني: «تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القوانين»، وقد أعطى تميّزاً لهذا الفصل الذي يعتبر «جامداً» على بقية فصول الدستور، بحيث لا يمكن تعديله، لأنه يمثّل جوهر فكرة الدستور، وقواعده الأساسية التي قام عليها.
وبمناسبة الذكرى الثامنة للثورة السلمية - المدنية، فقد انعقدت حلقات أكاديمية حول الفكرة، وواقعها، وآفاقها المستقبلية، نظرياً وعملياً، شارك فيها مفكرون، وباحثون، وأكاديميون، ونشطاء من مختلف التيارات الفكرية التونسية والعربية، وحظيت بدعم من مؤسسة «هانز زايدل» الألمانية، وقام بتنظيم الفعالية «المعهد العربي للديمقراطية»، بالتعاون مع «الجامعة الخضراء»، و»المركز المغاربي للبحوث والدراسات».
جدير بالذكر أن تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية، وإن واجهت تحدّيات كبرى، لكنها قياساً بالتجارب العربية الأخرى، مرّت بسلاسة زادها فاعلية الحوار المجتمعي، والتوافق السياسي بين الفرقاء، حيث ظلّت تونس دولة قائمة ومستمرة تحمل ملامح مدنية، جرى تثبيت أسسها في الدستور الجديد بديلاً عن النظام الاستبدادي، والدولة الدينية، أو العسكرية، أو الأمنية، وقد استتبعت ذلك تطبيقات وخطوات عدة في مؤسسات الدولة عبر قوانين، وتشريعات، وأنظمة، ما زالت تثير جدلاً واسعاً ومستمراً، وهو ما حصل بشأن الموقف من حقوق المرأة، ومساواتها مع الرجل في جميع الميادين. ولعلّ فكرة الدولة المدنية في تونس هي منزلة بين المنزلتين ، فلا هي دولة دينية، ولا هي دولة علمانية، الأمر الذي جعل التجربة محطّ اهتمام، ونقاش، وتنوير، ووسطية، لاسيّما بمحاولة امتصاص حساسيّة الأطراف المختلفة تاريخياً، عبر حوار ساهم فيه المجتمع المدني بدور كبير.
وإذا كانت ثمة عقبات تعانيها الدولة المدنية في المنطقة العربية، فالأمر ليس استثناءً عربياً، فحتى الدول الديمقراطية العريقة تعاني تحدّيات هي الأخرى، وما حصل في فرنسا من حراك قام به أصحاب «السترات الصفراء» يطرح أسئلة في غاية الأهمية حول «أزمة الديمقراطية»، وما بعدها، ومستقبلها، ارتباطاً «بالانتخابات»، ونتائجها، والدعوة المتسعة اليوم لتوسيع دوائر الحكم المحلي، واختصاصاته، وصلاحياته، ومباشرة اختيار ممثلين للإدارات والبلديات قريبين من جمهورهم، ويحظون بدور تنفيذي أكبر.
ولعلّ الحوار حول طبيعة الدولة وهويّتها هو جزء من الصراع الأيديولوجي العالمي، وإن كان جزءآه العربي والإسلامي أشد حدّة في ظلّ عوامل إحباط ونكوص عدة من جانب قوى مختلفة، ومتناحرة، بعضها يريد شدّها إلى الخلف، حيث أنظمة الاستبداد، وبعضها يريد جذبها إلى شاطئه الخاص، سواء كان إسلامياً أو علمانياً، فضلاً عن محاولات هيمنة واستتباع خارجية غربية قديمة، وجديدة.
وبتقديري، فقد وصلت الحلول الواحدية والإطلاقية، تلك التي تريد احتكار الحقيقة وتزعم أفضلياتها على الآخر، إلى طريق مسدود، وآن الأوان للتخلّي عن منطق المغالبة، والعودة إلى منطق المواصلة على أرضية مشتركة، بعيداً عن التناحر والتقاتل، بل بالتفاعل والتواصل.
drhussainshaban21@gmail.com




283


مقدمة لكتاب " يوميات أرمينيا"
أرمينيا وسمفونية المبارز!


أ.م.د.عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

حين قرأت باقة المقالات الموسومة:" الزمان تتجول في بلد الكنائس والمتاحف والمشاهير" للدكتور أحمد عبد المجيد المنشورة يوم 25 أيلول/سبتمبر2018 (الحلقة الأولى) و7 تشرين الأول /اكتوبر (الحلقة الثامنة) عن أرمينيا، غبطته كثيراً وذلك لخمسة أسباب:
أولها- لقلمه السيّال والنافذ، فقد كتب بلغة إعلامي متمرس وبأسلوب صحافي باهر، مقدماً نظرة عميقة وشاملة في بعدها التاريخي والسسيولوجي والثقافي والفني وبلغة سلسة وجملة أنيقة، لدرجة جعلنا نشاطره في تلك الرحلة الأثيرة وكأننا كنّا معه في الحدائق والساحات والشوارع والمعالم التاريخية.
وثانيها- كاميرته الدقيقة، فقد قدّم لنا مشاهداً رائعة وصوراً مؤثرة كانت قريبة منّا لدقة التفاصيل وعمق المعاني، بحيث كنّا نرى ما وراء الصور، خصوصاً عنايته باللون وكتلة الضوء والظلال، وتلك حرفة الروائي مثلما هي حرفة الفنان التشكيلي، فلم يهمل شاردة أو واردة إلّا وجاء عليها وتلك مُكنة إذا امتلكها الصحافي أصبح قادراً ليس على تقديم الحقائق والوقائع والأخبار، فحسب، بل امتلاك دربة  القص وأسلوب السرد والمخيال الذي يتمتع به الروائي مثلما يتميّز به الرسّام.
وثالثها- لطريقته الناعمة في عرض الحقائق التاريخية بما فيها من قسوة أحياناً، فقد كتب بعين المؤرخ وجاء على أهم التفاصيل وتوقّف عند بعض المحطات، فكشف لنا خفايا وخبايا لم نكن لنطلع عليها خلال زيارة سريعة أو قراءة لكتاب أو معرفة بصديق أو صديقة. ولم يكتفِ بالمشاهدة، بل رجع إلى المصادر والمراجع ليطعّم سرديته بمعلومات ليس من السهل الحصول عليها دون البحث المضني، ويعود ذلك لخلفيته الأكاديمية.
ورابعها- لعقله السسيولوجي، فهو لم يكتفِ بالسرد التاريخي والواقع العملي، بل نظر إلى المعطيات الاجتماعية والتناقضات الموضوعية والذاتية وأخضعها إلى مخبره السسيولوجي وتحليلاته الاجتماعية مستفيداً من ثقافته السياسية أيضاً، وهكذا عرض علينا تاريخ وحاضر أرمينيا وما تعرّض له الأرمن خلال القرن ونيّف الماضي ، ولاسيّما المجازر التي عاشوها، محاولاً قراءة الواقع والتاريخ من خلال النقد مركّزاً على المشترك الإنساني والتعايش والتكامل بين الأمم والشعوب. ولم ينسَ أن يتحدث عن بعض خصائص الأرمن وشجاعتهم ودقتهم ووفائهم وهو ما لمسناه في علاقاتنا معهم ، سواء في العراق أم في سوريا أم في لبنان أم في أوروبا.
وخامسها- لذوقه الفني والأدبي، حيث أطلّ على الفنون والآداب في أرمينيا، وكان ذلك جزءًا من سرديته وكأنه يكتب نوتة موسيقية من وحي المكان، فحيثما تذهب تسمع الموسيقى الأرمينية وخاجادوريان يصدح بسمفونياته الجميلة وكأنه يتسلل بين ثنايا سطور أحمد عبد المجيد.
لقد وضعت سردية الأستاذ أحمد عبد المجيد حول أرمينيا بصمة جديدة في أدب الرحلات حين عزز المشاهدة المباشرة والإطلاع بالاختلاط والتفاعل، بتوسيع مدارك القرّاء والتعرف على حياة شعوب وأمم من خلال الجسور والقنوات الإنسانية، وقد كانت رحلته ممتعة ومثيرة على نحو يجعل القارئ مستعداً للقراءة دون توقف، بل لا يريد لتلك السردية أن تنتهي.
*****
حين أتذكّر يريفان، أستعيد زيارتي إلى أرمينيا لحضور مؤتمر دولي في العام 2010 وكان بصحبتي طيلة أيام المؤتمر الصديق الليبي علي زيدان الذي كان أحد معارضي نظام معمر القذافي والذي شارك معنا في اجتماع للدفاع عن منصور الكيخيا وإجلاء مصيره حين اختطف العام 1993 في القاهرة، وبعد عام ونيّف من زيارتنا أصبح رئيساً لوزراء ليبيا بعد الإطاحة بالنظام، حيث تم الكشف عن مصير الكيخيا الذي اختطف من القاهرة ونقل إلى طرابلس وتوفي في العام 1997، وكنت قد كتبت عن تلك الحادثة المروعة كتاباً بعنوان:" الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً"، لندن، 1998.
وبالعودة إلى أرمينيا فقد كنت قد كتبت عن زيارتي لها مقالة في صحيفة العرب القطرية ، الإثنين 19 أبريل/نيسان 2010 وأجد في هذه المقالة ما يمكن أن يفيد القارئ تعاشقاً مع سردية أحمد عبد المجيد البديعة، وهي مقاربة من ذات الأرضية التي انطلق منها وإن كانت بحبر آخر وتلك هي الرؤية الإنسانية المتعددة، وحين طلب مني تقديم كتابه الممتع والشائق هذا، أعدت قراءتها فوجدت فيها مادة يمكن إضافتها إلى سرديته.
*****
" يُطلق على أرمينيا وعاصمتها يريفان بلد الورد والشمس، فالزهور تنشر عطرها في كل مكان، والشمس لا تغيب عنها مدة 340 يوماً من السنة. وهذا البلد الذي كان ضمن السلطة السوفيتية منذ مطلع العشرينات تمكّن من إحراز الاستقلال في العام 1991، والانضمام إلى الأمم المتحدة العام 1992.
ورغم مآسي الأرمن والمجازر التي تعرّضوا لها تاريخياً، فبلدهم يجسّد الفرح والجمال ويُعرف بـ "المتحف في الهواء الطلق" لكثرة التماثيل التي تنتشر في الشوارع والساحات العامة والمنتزهات والحدائق التي تطوّق وتتغلغل فيها، كما ترسم صخور يرفان صورة المدينة الوردية، لاسيّما في مركزها الرئيسي. ويقرّ الأرمن ويعترفون بفضل الكاتب المعروف والمخلّد خاجادور أبوفيان لاكتشاف اللغة الأرمينية الجديدة، وذلك في القرن التاسع عشر.
كأن العالم كلّه قد تواطأ على إسدال الستار على المجازر التاريخية التي تعرّض لها الأرمن طيلة ما يزيد عن قرن من الزمان، ولعلّ مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001 حول العنصرية والذي كان لي شرف المشاركة فيه عضواً في اللجنة التحضيرية الخاصة بالعالم العربي، قد استعاد مسألة اعتذار المستعمرين عن ما تسبّبوه من آلام وأذى للشعوب المستعمَرة، ناهيكم عن أعمال الإبادة والقمع والاضطهاد، الأمر الذي شجع الأرمن وجهات دولية لأغراض مختلفة مطالبة تركيا بالاعتذار.
ورغم أن الأرمن في إطار الدولة العثمانية كانوا يعيشون مثل غيرهم من الشعوب والأمم والأديان، لاسيّما ما يصطلح عليه بـ "الأقليات"، والمقصود بذلك المجاميع الثقافية الإثنية والسلالية والدينية واللغوية ، وغيرها إلّاّ أن ما حصل لهم منذ العام 1895 على يد السلطان عبد الحميد ولاحقاً على يد طلعت باشا وأنور باشا وصولاً إلى المجزرة الكبرى في العام 1915، واستمراراً حتى العام 1922، يعتبر الأسوأ في تاريخ أرمينيا.
وإذا كان الحديث عن التاريخ ضرورياً فالهدف هو الاستفادة من عبره ودروسه وتقييمه، ولعلّ هذا الأمر لا يستهدف أي إساءة لتركيا، لاسيّما بعض مواقفها الايجابية من القضية الفلسطينية، فهذا الأمر شيء والبحث في التاريخ شيء آخر، وفي تاريخ كلّ أمة ثمة نواقص وثغرات وعيوب وارتكابات لا بدّ من الإقرار بها والاعتذار عنها.
كانت أولى المجازر ضد الأرمن هي المجزرة التي ارتكبت في العام 1895، وراح ضحيتها عشرات الآلاف منهم، وفي العام 1909 كانت مجزرة أدنه هي الأبشع حيث سقط فيها الآلاف أيضاً، أما مجزرة العام 1915 فقد كانت الأسوأ على الاطلاق، وقتل فيها على نحو جماعي مئات الألوف من الأرمن بعد أن تم تجنيد الرجال للحرب العام 1914 بدون سلاح، وللقيام بأعمال خدمية، ثم بوشر بقتل المتميّزين من العلماء والأطباء والكتاب والمثقفين وأصحاب الاختصاصات، والأكثر من ذلك كان كل شيء قد تم بصمت ودون احتجاجات تُذكر.
 وخلال الحرب وما بعدها حصلت مذابح كثيرة منها معركة الجزء الشرقي التي حصلت في 26/5/1918 وراح ضحيتها الآلاف أيضاً، واستمرت المجزرة حتى العام 1922، ولكن بتواطؤ أكبر هذه المرة، حين انضمت أرمينيا إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان يرغب في تسوية علاقته مع تركيا، فتمّ التنازل للأخيرة عن جبال آرارات الشهيرة وأصبح نهر أراكس عند أقدام سلسلة الجبال هو الحدّ الفاصل لأرمينيا وتركيا، كما تقول الرواية الأرمنية.
وما تزال الحدود بين تركيا وأرمينيا مغلقة، إذْ لا يمكن الوصول إلى تركيا من أرمينيا إلاّ عبر جورجيا التي تربطها بأرمينيا علاقات متميّزة، وما تزال علاقة أرمينيا بروسيا جيدة جداً، مثلما هي علاقتها طيّبة مع إيران.
ظل الأرمن يعانون بصمت ويكبتون مشاعرهم، ولعلّ مشكلة الجيل الثالث ما تزال مستمرة حتى اليوم، حيث تراه يبحث في بطون التاريخ والكتب عن أقارب أو أجداد له وعن كل خيط يربطه بالماضي، إذْ أن السياسة والمصالح الدولية لعبت دورها، فلم يرخّص لهم باستعمال كلمة الجنيوسايد (الابادة الجماعية) الاّ في أواسط الستينات، رغم مجازر الاناضول وفان وأرضروم وساسون وديار بكر وغيرها، إلى أن تم بناء مجمع رمزي للضحايا في العام 1965 في يريفان، علماً بأن الأرمن ساهموا بتفان وإخلاص في "بناء الاشتراكية"، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية أرسلوا نحو نصف مليون جندي دفاعاً عن "الاتحاد السوفيتي" السابق.
سألت مرافقتي الجميلة " أرمينه" هل لديكم نستالوجيا (حنين) إلى الماضي،  رغم أنها لا تتذكّر شيئاً عنه لأن عمرها 31 عاماً، فأجابت أن الكبار وحدهم هم من يعيش على الذكرى لأن حياتهم كانت سهلة وظروفهم الاجتماعية بسيطة وبعض المستلزمات مؤمنة، والغالبية أقرب إلى الكسل منها إلى الإبداع والمنافسة الفردية المشروعة، فضلاً عن شحّ الحريات والنظام الشمولي.
مرافقتي قالت بعد سؤالي عن الجمال الأرميني أن الأرمينيين بسبب الاختلاط والتزاوج اكتسبوا بعض الملامح الجديدة، فبعد أن كان الشكل الغالب للنساء قبل عقود من الزمان هو: الشعر الأجعد والقوام الأشقر والأنف الكبير والعنينين الزرقاوين، أصبح اليوم أقرب إلى خليط جميل ومتجانس من تعاشق ملامح وأمم وحضارات وثقافات متنوعة، ولعلّ ذلك ما أعطى هذه الملاحة للوجوه المشرقة.
*****

لا أدري لماذا تذكّرت شخصيتين عراقيتين أثيرتين الأولى هي الجواهري الشاعر الكبير الذي كان يتغزّل بالكونياك الأرميني (آرارات -وأصل الكلمة أشوري) وأتذكر أنه في كل مرّة يتذوقه كان يقارن ذلك بالكونياك الفرنسي (كورفازية أو نابليون)  ولم يكن قد عرف بعد أنواعاً أخرى مثل الريمي مارتين أو Hennessy X O أو غيرها . وكان الجواهري يعتبر الكونياك أرارات من نوع الـ 7 نجوم، في حين أن الأنواع الأخرى أحسنها برتبة 5 نجوم .
وكان يدعونا عامر عبدالله وأنا لتناول كأس صغير قبل الظهيرة لفتح الشهية كما يقول حيث اعتدنا القيام بزيارته مرات عديدة قبل الظهر، وبالمناسبة فالكونياك آرارات كان يفضّله رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل على غيره، وكان ستالين الزعيم الروسي قد أهداه عدّة صناديق منه. وبالمناسبة فمعمل آرارات تم بناؤه العام 1877 وهو أرميني – فرنسي. وكان مؤسسه نيرسين تايربان.
أما الشخصية الثانية فهو آرا خاجادور أحد ابرز القيادات العمالية النقابية الشيوعية في العراق، وظل بُعده الوطني متميّزاً رغم حنينه للماضي واعتزازه بقوميته الأرمنية، لكن أمميته جعلته يغضّ النظر عن ارتكابات السلطة السوفيتية، ناهيك عن اعتقاده أن قضية الأرمن لا يمكن حلّها الاّ بتحقيق الاشتراكية، وقد ظلّ هذا القائد الشيوعي العراقي الذي يعيش في براغ يرفض الاحتلال الأمريكي لبلده حتى وفاته في 4/12/2017.
ثمة أسماء أرمنية كانت مؤثرة عالمياً وذات شهرة كبيرة، من أبرزها وأهمها على الاطلاق هو الموسيقار آرام خاجودوريان، الذي ينتصب تمثاله أمام دار الاوبرا، ولا أدري لمَ قفزت الى ذاكرتي سمفونيته الشهيرة رقصة المبارز sword، وقد يعود الأمر الى مشاهدتي لتمثال أم ارمينيا (وهي تحمل سيفاً كبيراً دلالة على أنها أمٌ مقاتلة) حيث نُصب هذا التمثال في المكان الذي كان ينتصب فيه تمثال ستالين الذي أزيح العام 1956 بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، بعد أن قدّم نيكتا خروشوف تقريره الشهير الذي كشف فيه عن المجازر التي ارتكبها ستالين.
أما الاسم الثاني فهو انستاس ميكويان نائب رئيس مجلس السوفيت الأعلى، وأتذكّر زيارته إلى العراق العام 1959 والاستقبال الذي حظي به من جموع غفيرة وهي تهتف: ميكويان أهلاً يا هلا بهاي جيّتك ... كل الشعوب حيّيتك.. أهلاً. وقد أخبرني آرا خاجادور إنه التقاه في مبنى السفارة بطلب خاص منه. وميكويان هو شقيق  آرام ميكويان مصمم طائرة الميغ الشهيرة مع اليهودي غوريان.
أرمينيا التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق لم تسلم من المشاكل حتى الآن، ولم تتخطّ عتبة الماضي بسهولة، وما تزال الكثير من التحديات تواجهها، ففي الفندق الذي أقمت فيه وكانت الاجتماعات الأساسية للفيدرالية الدولية لحقوق الانسان تنعقد فيه، واجهتنا تظاهرة تندّد بأعمال القمع واغتيال عدة نشطاء في آذار (مارس) 2009، وقد بادرنا للمشاركة فيها، الأمر الذي أغضب بلدية مدينة يريفان التي ألغت حفل العشاء المقام على شرف المؤتمر. وبالمناسبة فالفيدرالية الدولية كانت تعقد مؤتمرها الـ 37 وهي منظمة حقوقية تأسست العام 1922 في باريس وتضم عضويتها 155 منظمة من 115 بلدا.
قبيل إعلان استقلال أرمينيا عانت من حروب وتعرّض الأرمن إلى عقاب جماعي قرب باكو (أذربيجان) ودامت الحرب 4 سنوات، حتى تم وقف إطلاق النار العام 1992 بين وأذربيجان وناغورا كاراباخ (الذي يتمتع باستقلال واقعي De facto ويبلغ عدد نفوسه 170 ألف نسمة).
الدولة الجديدة التي كانت جزءًا من الصراع العثماني - الفارسي أصبحت جزءًا من الدولة السوفييتية، وهناك أجزاء منها في تركيا، واجهت كوارث طبيعية غير قليلة، فبعد أن اشتهرت بالصناعات الكيماوية تعرّضت لزلزال ضخم راح ضحيته 25 ألف ارميني وذلك في 7/12/1988، مثلما عانت من حروب، وتعاني حالياً من بطالة ومن قلّة الأجور والموارد، إذ أن الحد الأدنى لا يتجاوز 200 دولار في الشهر، الأمر الذي يجعل التنمية تحت مخالب كثيرة منها الفساد المالي والإداري والتهديدات الخارجية والشعور بالقلق إزاء المستقبل. ولكن أما آن الأوان للاعتراف والاعتذار للأرمن لما تعرضوا له تاريخياً.
بيروت في 15/10/2018






مقدمة لكتاب الدكتور أحمد عبد المجيد المعنون : يوميات أرمينيا (بلد الكنائس والمتاحف والمشاهير )، الأنس للطباعة والنشر، بغداد ، 2018.



284
المنبر الحر / دين العقل
« في: 21:12 10/12/2018  »
 

دين العقل
عبد الحسين شعبان
على غرار هوبز، أفترض «أن أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني»، ولا يمكن إصلاح الفكر الديني دون إصلاح الفكر السياسي والبيئة السياسية الحاضنة، وحين يتم إصلاح الفكر سيقود بالضرورة إلى «إصلاح الخطاب»، فمن يقرأ الدين أو التاريخ الديني والسياسي بطريقة خاطئة، لايتوصل إلى حاضر خاطئ فحسب؛ بل إلى مستقبل خاطئ أيضاً، والقيم الإنسانية النبيلة هي هدف الفلسفات والأديان وجوهر الرسالات التي جاء بها الأنبياء.
فالدين هو دين العقل، والعقل أساس الدين، أما الاجتهاد فهو أساس العقل، والأديان تعلّم الحب وحسب الإمام جعفر الصادق «وما الدين سوى الحب»، أو حسبما ورد على لسان السيد المسيح «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم»، وهكذا علينا الذهاب إلى الحقيقة بكل ما نملك من معرفة وعقل وروح وبهذا المعنى، فالدين ليس دين الخرافة والجهل والأنانية.
لكن الدين في وجهه الآخر، يُستخدم ذريعة للقتل والإرهاب والتسلّط من جانب الجماعات التكفيرية والإرهابية التي تستند إلى نصوص ماضوية تحاول توظيفها بما يخدم توجهاتها السياسية، ولهذا نقول إن ليس هناك فهم واحد وموحّد للدين، بل إن لكل مجموعة فكرية وثقافية ودينية «تدينّها» (طريقتها في التديّن)، حسب درجة تطوّرها وتفسيراتها الخاصة وتأويلاتها للنصوص الدينية، وهذا ما ستشمله خارطة التديّن من خلفيات متباينة، بل متناقضة، خصوصاً حين يتم ربطه بالسياسة والمصالح والإيديولوجيات. فهناك الدين الرسمي والدين الشعبي والدين السياسي والدين الاجتماعي ودين الأغنياء ودين الفقراء ودين المستغِلين ودين المستغَلين، وذلك حسب القراءات المختلفة.
وإذا كان الدين يمثّل قيماً عادلة وإنسانية، لكن سلوك بعض المتدينين والعامة من ورائهم وفهمهم الخاطئ للدين، يجعل البعض يراه «ظالماً» أو لا «إنسانياً»، بل وعنفياً وقاسياً كما تحاول بعض القراءات الغربية أن تصنّف الدين الإسلامي، باعتباره يحضّ على العنف والإرهاب، ولكن لنتأمل دعوة الأديان إلى التكافل الاجتماعي والمادي، والأخذ بيد الفقير والمريض والضعيف وإلى السلام والطمأنينة والتعايش، فحينها ندرك أن الكرامة الإنسانية والعدل هما الأساس في الدين، وليس من الدين في شيء إن امتلأت الجوامع والمساجد والكنائس والكُنس والمعابد بالمصلين أم فرغت، في الوقت الذي تزدحم فيه الشوارع بالأطفال المشردين والمتسولين وتكتظ الأحياء باليتامى والأرامل، لاسيّما تلك التي شهدت الحروب والنزاعات الأهلية، وتتفشى الأمية وينتشر المرض ويستشري الجهل على نحو مريع، ويعاني الملايين من شظف العيش وشحّ المياه الصافية للشرب ونقص الكهرباء والفقر المدقع. فأيّهما سيكون أسلم للدين؟.
لقد جرى استغلال ملايين البشر باسم الدين واستُلبت حقوقهم الأساسية، في حين أن الدين رسالة وأمانة، هدفه إنساني قبل كل اعتبار. وهكذا ترى من يشنّ «الحرب باسم الله» في الماضي والحاضر، وقد شهدت منطقتنا محاولة إخضاعها وفرض الاستتباع عليها، فيما أطلق على حروب الفرنجة مجازاً «الحروب الصليبية» وعانت أوروبا حروباً دينية وطائفية وما عُرف بحرب ال 100 عام وحرب الثلاثين عاماً والتي لم تنتهِ إلّا بإبرام صلح ويستفاليا العام 1648، واليوم فإن الحروب الناعمة أو الخشنة والتي تشن تارة باسم مكافحة الإرهاب من جانب القوى المتنفّذة وأخرى ضد الغرب «الصليبي» من جانب الجماعات التكفيرية، تبرّر استخدام جميع أنواع العنف والإرهاب، منطلقة من خلفيات التعصّب والتطرّف وعدم الاعتراف بالآخر وحقه بالاختلاف.
وهكذا تتمسك القوى «الإسلاموية» بقشور الدين وتهمل لبّه، وتستند في ذلك إلى قراءات ماضوية للنصوص الدينية التي عفا عليها الزمن متشبثة بالمظهر وتاركة الجوهر، مختزلة الدين: إلى الحلال والحرام والكفر والإيمان والحق والباطل والنجس والطاهر، وغير ذلك من الثنائيات، في حين أن جوهره يمثل قيماً إنسانية للمساواة والعدل والإخاء والسلام والتنوّع والتعددية، وحسب جلال الدين الرومي: إنك رأيت الصورة ولكنك غفلت عن المعنى.
وثمة فوارق كبيرة بين الدين، الذي هو منظومة قيمية إنسانية، وبين التديّن الذي هو ممارسات وشعائر وعادات بعضها أقرب إلى ميثولوجيات وخرافات يشترك فيها الكثير من الأديان، مثلما هناك فوارق بين القيم ومن يدعو إليها، وأحياناً يقف هو بالضد منها سرّاً أو علناً وتحت ذرائع مختلفة وطبقاً لقراءات مختلفة أيضاً، بعضها بحجة ما جاء به السلف وبعضها الآخر لحماية مصالحه، سواء كان في الحكم أم في خارجه، وأحياناً أخرى مجاملة للجمهور أو للعامة حتى وإن كان بعض الحكّام أو علماء الدين أو ما يطلق عليهم مجازاً «رجال الدين» غير مؤمنين بها، لكنهم يضطرون إلى المسايرة وعدم خدش ما استقر في الأذهان باعتباره طقوساً دينية أو من حيثيات الدين، وهي ليست كذلك.
لذلك أقول إن العلاقة مركّبة ومزدوجة ومتناقضة أحياناً بالحديث عن الإصلاح الديني، خصوصاً في ظل مفاهيم الحداثة ونقض القديم والتقليدي وغير الصالح لعصرنا، وكذلك إطلاق حرية التفكير وحرية العقل في إطار التقليل من سلطات المقدس وحسب الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب»، بمعنى الاحتكام للعقل، ولا دين إلّا بالعقل.
drshaban21@hotmail.com


286
منعطفات الواقع والفكر العربييْن: حوار مع عبد الحسين شعبان
27.11.18
حوار
المحاور:
عبد الحقّ لبيض وجمال بندحمان
 
 
 
أن تحاور قامةً في مكانة د. عبد الحسين شعبان، فأنت مطالَبٌ بسبر أغوار تاريخ تشكّل الفكر العربيّ، والوقوف عند أهمّ منعطفاته وقضاياه. والدكتور عبد الحسين شعبان باحث في القضايا الإستراتيجيّة العربيّة والدوليّة. وُلد في مدينة النجف. تخرّج من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة في جامعة بغداد. استكمل دراستَه العليا في براغ، حيث نال درجتي الماجستير والدكتوراه في القانون. خبير في ميدان حقوق الإنسان والقانون الدوليّ. رئيس المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان في بريطانيا سابقًا. عمل أمينًا عامًّا لمنظّمة العدالة الدوليّة، وأمينًا عامًّا لمركز الدراسات العربيّ ــــ الأوروبيّ، وأمينًا لمنتدى حقوق الإنسان. من إصدراته: بانوراما حرب الخليج (1995)، العراق: الدستور والدولة ، من الاحتلال إلى الاحتلال (2004)، فقه التسامح في الفكر العربيّ الإسلاميّ ــــ الثقافة والدولة (2005).
الدكتور شعبان، العراقيُّ المولد، ماركسيُّ الهويّة الفكريّة، لكنْ من خارجِ ما تكلّسَ فيها من قوالب. وهو يساريٌّ متجدّد، حتى حين انهار اليسارُ العربيّ. وهو عروبيٌّ حتى الثمالة، لكنّه ناقدٌ للأطر القوميّة التي عرفتها التجربةُ التاريخيّةُ العربيّة. وهو ابنُ النجف، لكنّه ثائرٌ على الطائفيّة والتقوقع المذهبيّ.
حاصرناه، أثناء زيارةٍ علميّةٍ إلى المغرب، لنستكشفَ معه أهمَّ متغيّرات الواقع والفكر العربييْن، في زمنٍ عزّ فيه وضوحُ الفكر. وتنقّلنا بين محطّاتٍ عديدة، مسلّحين بالمادّة الفكريّة التي أنجزها.
***
لبيض: يظلّ سؤال "المشروع النهضويّ العربيّ" ملحًّا في سياق التحوّلات التي تعرفها المجتمعاتُ العربيّة من تخلّفٍ وتبعيّة. غير أنّ الحاجة إلى هذا المشروع تستدعي إعادةَ قراءة المنجز الفكريّ النهضويّ الذي بدأه العربُ منذ قرنٍ ونيّف، وتستدعي التساؤلَ عن أسباب توقّف المشاريع النهضويّة العربيّة وعدم بلورتها واقعيًّا في سياق بناء الدولة الوطنيّة العربيّة حينها، وعدمِ امتدادها داخل المجتمعات العربيّة.
 
شعبان: قبل الخوض في قراءة المشاريع النهضويّة العربيّة قراءةً ناقدةً، فلنطرح القضايا التي من شأنها أن تؤسِّس للمشروع النهضويّ العربيّ الراهن.
القضيّة الأولى هي "الوحدة،" خصوصًا أنّ الأمّة تعيش حالةً من التشظّي منذ اتفاقيّات سايكس ــــ بيكو. فلا حديث عن حاضر المشروع النهضويّ العربيّ أو مستقبله من دون لملمة المشتَّت على أسس الديمقراطيّة والتعدّديّة والحقّ في الاختلاف، وذلك في اتجاه كيانيّةٍ كبرى، مادام عالمُنا اليوم هو عالمَ الكيانات الكبرى.
القضيّة الثانية: الاستقلال. فلا يمْكن أمّةً أن تحقِّق نهضتَها إلّا باستقلالٍ تامّ، سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ، يَضمن بناءَ كيانيّةٍ حاضرة، تتفاعل وتتقارب، في إطار لعبة المصالح المشتركة مع الكيانات الكبرى. ولا ننسى أنّ بناءَ استقلال المشروع القوميّ تَحُول دونه مشاريعُ كيانيّةٌ منافسة: أ) المشروع الإيرانيّ، الذي  يشكّل استراتيجيّةً واضحةَ المعالم لمشروع مذهبيّ فارسيّ ــــ إيرانيّ يسعى إلى بناء أمّةٍ متمدّدةٍ على حساب مصالح جيرانها، أي الشعوب العربيّة. ب) المشروع التركيّ، الذي يُعدّ اليوم امتدادًا فعليًّا وحضاريًّا لمشروع "العثمنة،" ما يعني أنّه مشروعٌ إيديولوجيّ ومذهبيّ وطائفيّ يعبّر عن طموح أمّةٍ كان لها دور كبير في التاريخ البشريّ، ويسعى اليوم إلى التمدّد على حساب الأمّة العربيّة. ج) إضافةً إلى هذين المشروعين القوميين، اللذين يمكن التعاطي معهما في إطار الحوار الحضاريّ، لا الصراع والمواجهة، هناك مشروع ثالث يُعدّ من أخطر المشاريع التي تواجه مستقبلَ البناء الحضاريّ للأمّة العربيّة، وأعني به المشروعَ الصهيونيّ. وهذا المشروع يستمدّ وجودَه وامتدادَه من وهن المشروع العربيّ، ومن النكوص الحضاريّ للشعوب العربيّة، وبما يتوافر له من دعم خارجيّ وغطاء دوليّ.
القضيّة الثالثة: التنمية. وأقصد بها المفهومَ الجديدَ الذي يأخذ في الاعتبار البعدَ الإنسانيَّ الشامل والمستديم، أو ما يُعرف في أدبيّات الأمم المتحدة بـ"التنمية المستدامة،" وهي غير "النموّ" الذي كان يعني قديمًا تحقيقَ نوعٍ من التراكم الاقتصاديّ. والحقّ أنّ التجارب العربيّة التي اعتمدتْ نهجَ "النموّ" وصلتْ إلى الباب المسدود لأنّ "النموّ" لم يكن تنميةً شاملةً (سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وقانونيّة وتربويّة ودينيّة...) تمسّ كلَّ مناحي الحياة لدى المواطن العربيّ.
القضيّة الرابعة: الديمقراطيّة، باعتبارها منظومةً متكاملةً من التشريعات والإجراءات ــ ــ إذْ إنّ جزءًا منها سياسيّ، وآخرَ يتعلّق بالقوانين، وثالثًا يرتبط بالقضاء وحياديّته، ورابعًا يتعلّق بالمجتمع المدنيّ وفضاء الحريّات العامّة.
القضيّة الخامسة: الانبعاث الحضاريّ. وأعني به ضرورةَ إحياء الأمة بحيث تستفيد من تراثها من دون أن يصيرَ عالةً عليها، فتعيدُ "استثمارَ" ما هو صالحٌ منه لبناء الحاضر والمستقبل، بعيدًا عن التخندق وراء قراءةٍ تمجيديّةٍ للتاريخ وللتراث.
القضيّة السادسة: العدالة الاجتماعيّة، التي تتلخّص في توفير العيش الكريم للمواطن العربيّ، وتحقيق الضمانات الاجتماعيّة له.
هذه  القضايا الستّ، في اعتقادي، تشكّل مدخلًا أساسًا لبناء المشروع النهضوي العربيّ الجديد. وهي عينها القضايا التي أثارها روّادُ حركة النهضة العربيّة منذ القرن التاسع عشر،  لكنّ "النخب" الحاكمة لم تتجاوبْ معها لتبنّيها مشروعًا بديلًا قائمًا على الاستبداد. وقد نوقشتْ مفرداتُ المشروع النهضويّ العربيّ على مدى عقديْن ونيّف من الزمان في إطار المشروع المستقبليّ الاستشرافيّ للأمّة العربيّة، الذي يعود الفضلُ في استكماله إلى مركز دراسات الوحدة العربيّة.
 
بندحمان: ألا تروْن أنّ جزءًا من أسباب فشل المشاريع النهضويّة السابقة هو ارتباطها بأشخاص محدّدين (الأفغاني، الكواكبي، ...)؟ ثمّ ألسنا في حاجة إلى جهات رسميّة تكون بمثابة "حاملٍ للمشروع" حتى يتحقّق له النجاح؟
لبيض: وهل العيب في هذه المشاريع التي ظلّت نخبويّة ضيّقة، أمْ في التشكّلات الاجتماعيّة التي لم ترْقَ إلى مستوى استيعاب اللحظة النهضويّة الإصلاحيّة؟
 
شعبان: لا نجاح لأيّ حركة تغيير فاعلة وحقيقيّة من دون قيادة أصحاب الفكر والثقافة، وبعد نضوج الشروط الثقافيّة والفكريّة. هل نتصوّرنّ الثورةَ الفرنسيّة من دون فولتير و"فكرة التسامح،" ومن دون روسّو ومفهوم "العقد الاجتماعيّ،" ومن دون مونتسكيو وكتاب روح القوانين؟! لقد نضجت الثورةُ الفرنسيّة عبر تهيئةٍ ثقافيّةٍ امتدّت سنين مديدةً، وهذا لم يحصل في سياقنا العربيّ. صحيح أننا كنّا، منذ القرن التاسع عشر، أمام تناسل اجتهاداتٍ فكريّةٍ ترمي إلى إحداث التغيير المنشود، غير أنّ شروطَ إنضاج المشروع الثقافيّ والفكريّ (من وضوحٍ في الرؤية، وفاعليّةٍ في أدوات الإنجاز،...) لم تكن متوافرةً، وهي ما تزال غيرَ متوافرة. ومن أجل إنضاج فكرة المشروع الحضاريّ النهضويّ العربيّ، فإنّنا نحتاج اليوم إلى إعادة قراءة المقاربات الإصلاحيّة السابقة كي لا نعيد إنتاجَ الأخطاء ذاتها. 
على المثقف أن يؤدّي دورًا في حركة التغيير هذه. لكنّه سيكون عاجزًا عن إنجازها ما لم يكن مُدعّمًا بقوًى اجتماعيّة تكون بمثابة "حامل شرعيّ" لتلك الحركة. غير أنّ ذلك يستوجب حصولَ نسبة كبيرة من الوعي لدى الشعوب ــ ــ الوعي بضرورة التغيير وتبنّي أفكاره والمقاومة من أجل تحويلها إلى ممكناتٍ ملموسة.
بندحمان: أشار عبد الحقّ إلى أنّ المشاريع النهضويّة ارتبطتْ بأسماء أصحابها ومريديها، ولم تتجاوزْهم إلى مرحلة التبنّي الرسميّ والجماهيريّ. لكنّ الواقع يدحض ذلك؛ مثلًا: تجربة الحكم الشيوعيّ في العراق، والتجربة القوميّة في مصر وسوريا، والتجربة اليساريّة في المغرب، والتجربة الإخوانيّة في مصر. ومع ذلك، فقد آلت هذه التجاربُ إلى الفشل. فأين الخلل؟ أفي حاملي المشروع، أمْ في البنية الاجتماعيّة التي بلورته وسهرتْ على تطبيقه، أمْ في العامل الخارجيّ؟
 
شعبان: العامل الخارجيّ كان وسيظلّ ضاغطًا على أيّ مشروع نهضويّ في العالم العربيّ، استنادًا إلى لغة المصالح. لكنْ لا بدّ من مراجعةٍ داخليّة، وعدمِ حصر المشكل فيه. فإذا كانت أفكارُ ذلك المشروع تصْلح لنهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإنّها لا تتساوق مع معطيات اللحظة، الحبلى بأسئلةٍ مغايرةٍ تستجيب لتحدّياتِ عالمٍ مغاير . لقد حاولنا في تجاربنا السابقة تكرارَ تجارب عالميّة، بدلًا من بنائها بأنفسنا عبر تهيئةٍ ثقافيّة ملائمة لعناصر التكوين المجتمعيّ العربيّ. فالتجربة القوميّة في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن فشلتْ بسبب تقليدها لتجاربَ قائمةٍ في سياقات مختلفة، ولم تضع الخصوصيّات الوطنيّة ضمن أولويّات اهتماماتها.
ثمّ إنّ فشل التجربة الاشتراكيّة، من الاتحاد السوفياتيّ إلى الصين، ومن كوبا إلى عدن، دليلٌ ناصع على أنّ هناك خللًا في النظريّة نفسها، لا في التطبيق وحده. لذلك تنبغي إعادةُ النظر في أسس كلّ نظريّة، ثم في تطبيقاتها. والشيء ذاتُه ينطبق على النظريّات والتطبيقات القوميّة والإسلاميّة. إنّ ما يجب أن يَحكم بناءَ المشروع النهضويّ العربيّ هو البعدُ الإنسانيّ المفتوح على التجارب المختلفة والمتنوّعة، والمستجيبة لحاجات المجتمعات العربيّة، من دون وصاية، ومن دون ادّعاء امتلاك الحقيقة الملهمة.
وبالعودة إلى العامل الخارجيّ المعوِّق لتجربة المشروع النهضويّ العربيّ، لا بدّ من ذكر أربع محطّات أساسيّة حالت دون المشروع المعادي للمشروع القوميّ النهضويّ: 1) اتفاقيّة سايكس ــــ بيكو (1916)، وما نتج عنها من تفاعلات، أهمُّها وعد بلفور (1917) الذي وعد بإقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين. 2) تأسيس دولة "إسرائيل" (1948). 3) هزيمة حزيران (1967)، وما نتج عنها من صدمة حضاريّة للعالم العربيّ كشفتْ عوراتِه وهشاشتَه في مقاومة المشروع الصهيونيّ. 4) صدمة "الربيع العربيّ" التي كشفتْ درجةَ توغّل العامل الخارجيّ في شؤوننا الداخليّة؛ فعلى الرغم من أنّ انطلاقة "الربيع" كانت عفويّة وذاتيّة، فإنّ الخارج استغلّها لخدمة أجندته الليبراليّة "الجديدة."
 
لبيض: لكنّ المثقف العربيّ لم يقدّم الدعمَ اللازم لهذا الحَراك. أضف إلى ذلك تخاذلَ النخب السياسيّة والمدنيّة...
 
شعبان: فعلًا، كانت الأحلام كبيرةً بحجم التضحيات التي قدّمتْها الشعوب. كنّا نعوِّل على دعاةٍ ومناضلين وحقوقيين ملأوا أسماعَنا ضجيجًا قبل الربيع العربيّ، لنفاجأ بأنّ الفساد ينبعث من مكاتبهم، وأنّ معظمَ المثقفين راحوا يلهثون وراء المناصب والامتيازات (بل إنّ بعضهم، في العراق مثلًا، يحتمي بالطائفيّة والمذهبيّة ويسترزق من غنائمها)! ومع ذلك نقول إنّ الربيع العربيّ مسارٌ طويلُ الأمد. وإذا كانت المرحلة الأولى قد اعترتها كبوةٌ أو انكسار، فإنّ الموجة ما تزال مستمرّة، وإنْ تباطأ زخمُها. لكنْ، على الرغم من كلّ خيبات الربيع العربيّ، فقد حقّق ثلاثة أمور أساسيّة هي: إسقاطُ فكرة وجود حاكم يملك كلَّ شيء؛ والإعلاءُ من شأن الحرّيّات (بما فيها حرّيّة التعبير)؛ والرفعُ من قيمة الديمقراطيّة.
 
بندحمان: اعتبرتم الربيعَ العربيّ مسارًا طويلًا، لا لحظةً موقّتة. إذا كان كذلك، فهو يحتاج إلى قيادة، وهذا ما لم يتحقّق حتى الآن . فهل يمكننا الحديثُ راهنًا عن "ثورات من دون قيادات" على غير عادة الثورات القديمة؟
 
شعبان: هذا يتضمّن وجهًا إيجابيًّا، وآخر سلبيًّا. غيابُ القيادة يحرِّر الحَراكَ من البعد الإيديولوجيّ، لكنّه يُدخله في عالم الفوضى، أو قد ترْكب موجتَه أطرافٌ تسيء إليه (مثلما حصل في تجربة مصر مع الإخوان).
 
بندحمان: أكيد. لكنّ سؤالي هو: كيف تقوّمون دورَ القوميين في المرحلة الراهنة؟ هل ما زال ممكنًا أن يؤدّوا دورًا في حركات التغيير العربيّ، خصوصًا بعد ما طرأ على لعبة الصراع مع "إسرائيل"؟
لبيض: قبل الإجابة على سؤال الأخ جمال، لا بدّ من أن أرجع بكم إلى مرحلة أساسيّة لم نتطرّق إليها في حديثنا، وأعني زلزال 11 أيلول 2001. فهذا الحدث خلق ارتباكًا داخليًّا، خصوصًا بعد إلصاق تهمة "الإرهاب" بالعرب والمسلمين، ما ولّد انبثاقَ مجموعةٍ من المشاريع "الإصلاحيّة" التي تبنّت المؤسّسةُ الرسميّة العربيّة مجموعةً منها (وثيقة الإصلاح السعوديّة، إعلان الجزائر، الوثيقة الإصلاحيّة اليمنيّة، إعلان الدوحة،...). أضف إلى ذلك مجموعةً من المبادرات "الإصلاحيّة" الغربية (مشروع كونداليسا رايس وبوش وباول، والمبادرة الإصلاحيّة الألمانيّة، ومثيلتها الفرنسيّة،...). فهل كان لهذه المشاريع والمبادرات دور في تهيئة الأجواء لانبعاث الحراك المجتمعيّ سنة 2011؟
 
شعبان: هناك ثلاثة عوامل تحكّمتْ في مسار الربيع العربيّ. الأول: وصولُ منطق الصراع بين الأنظمة وحركات التغيير إلى لحظةٍ مفصليّة. فقد كانت هناك رؤيتان متناقضتان: رؤية حركات التغيير (شبه الموحَّدة)، ورؤية الأنظمة الحاكمة التي سعت إلى احتواء الغضب الشعبيّ. في هذه اللحظة دخلتْ على الخطّ مشاريعُ عربيّةٌ وخارجيّة بغرض الحفاظ على استقرار الأنظمة واستيعاب حركات التغيير عبر تقديم "إصلاحات" شكليّة تُرضي (إلى حدٍّ ما) حركاتِ التغيير... لكنْ ضمن الوضع القائم الضامن "للاستقرار."
العامل الثاني: وقوفُ بعض القيادات التقليديّة كابحًا أمام الحَراك. ويعود ذلك إلى عجزها عن رؤية المتغيِّرات في الواقعيْن الدوليّ والعربيّ، وإلى خوفِها من انفلات الأمور منها (حركة الإخوان المسلمين، حتى 25 يناير 2011، لم تكن قد انخرطتْ كليًّا في الحراك المصريّ، وبعض اليساريين شكّكوا في نوايا حركة التغيير).
العامل الثالث: كونُ القيادات التي شكّلها الحراك شابّةً، وبعيدةً عن أيّ لونٍ إيديولوجيّ محدّد. وهو ما أعطى ذلك الحراكَ زخمًا. وهنا أعود إلى ما طرحه الأخ بندحمان. أعتقد أنّ الأحزاب ذاتَ النزعة الشموليّة تعاني اليوم تخشّبًا أصاب مفاصلَها الأساسيّة، على مستوى اللغة والخطابِ العامّ والممارسة. وتتساوى في ذلك الأحزابُ اليساريّةُ والقوميّةُ كافّةً، التي ينبغي أن تعيد النظرَ في واقع وجودها، وأن تجدِّد منظوراتِها وأدواتِ عملها. حتى القضيّة الفلسطينيّة تحتاج إلى مقاربة جديدة بعيدةٍ عن الشعارات الجوفاء التي حملها القوميون في سبعينيّات القرن الماضي.
 
بندحمان: دول عربيّة عديدة تتحدّث، في الآونة الأخيرة، عن "عدالة انتقاليّة" قبل تحقيق الانتقال الديمقراطيّ. هذا ما حدث في المغرب من خلال تأسيس "لجنة الإنصاف والمصالحة،" وفي تونس، وفي اليمن قبل الصراع الدامي الراهن. كيف تقوِّمون هذه التجربة؟ أهي مجرّدُ ترويج لمفاهيم برّاقة بلا مضامين فعليّة تؤسِّس لانتقال ديمقراطيّ حقيقيّ؟ ولماذا نجحتْ هذه التجربة في بعض الدول الأوروبيّة والأفريقيّة والأمريكيّة اللاتينيّة، وفشلتْ عندنا؟
 
شعبان: الأنظمة الملكيّة كانت أرحمَ من الأنظمة "الثوريّة" أو "التقدميّة." فانتهاكات الأنظمة الملكيّة وتجاوزاتُها كانت "مقنَّنةً" لا منفلتة. وأوّلُ دولة عربيّة أقرّت تجربةَ الانتقال الديمقراطيّ، بشكل سلسٍ وناجح، هي المملكة المغربيّة. وهذا يعود إلى عوامل عديدة، أهمُّها تحقّقُ نوعٍ من النضج السياسيّ لدى النظام والمعارضة معًا؛ فحين أدرك الفريقان أنّ التجربة الكونيّة متّجهة نحو التحوّل الديمقراطيّ بادرا إلى تأسيس مرحلة جديدة يمكن اليوم التأكيدُ أنّها جنّبت البلادَ مخاطرَ الاحتراب المفتوح.
تاريخيًّا، مرّت تجربةُ "العدالة الانتقالية" بأربع مراحل.
ــــ المرحلة الأولى في أوروبا الغربيّة، وشملت اليونان بعد الانقلاب على حكم العقداء (1974)، والبرتغال بعد انقلاب العام 1974 الذي قضى على الدكتاتور سالازار، وإسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو (1978).
ــــ المرحلة الثانية شملتْ جنوبَ إفريقيا. فحين فاز المؤتمرُ الوطنيّ الأفريقيّ في العام 1994، قرّر المساءلة من دون ثأرٍ أو كيديّة، وكشْفَ الحقيقة، وجبْرَ الضرر، والتعويضَ. كما شملتْ جزءًا من أميركا اللاتينيّة (الأرجنتين وتشيلي ونيكاراغوا...).
ــــ المرحلة الثالثة شهدتْ أهمَّ التجارب في العدالة الانتقاليّة، ألا وهي تجربة أوروبا الشرقيّة. وهناك أربعُ تجارب تستحقّ أن نتوقّف عندها في هذه المرحلة. أ) التجربتان الأوليان كانتا في بولونيا وهنغاريا، وقد اتّسمتا بالسلميّة والسلاسة، وحققّتا ما أسمّيه "فقهَ التواصل،" إذ انتقل جزءٌ من السلطة إلى المعارضة، وأجريت انتخاباتٌ نزيهةٌ وشفّافة. ب) التجربة الثانية هي تجربة تشيكوسلوفاكيا، التي انجرّت في لحظاتٍ خلف ما أسمّيه "فقهَ القطيعة،" إلّا أنها استعادت الوعيَ بضرورة الاقتفاء بفقه التواصل، فحقّقتْ بذلك انتقالًا سلميًّا. ج) التجربة الثالثة كانت في رومانيا، التي شهدتْ فقهَ القطيعة في أشد صوره قتامةً. وهو ما حدث أيضًا إلى حدٍّ ما في ألمانيا الديقراطيّة. كما شهدتْ تجربةُ يوغسلافيا صراعاتٍ دمويّةً، سواء تعلّق الأمر بمجازر البوسنة والهرسك أو بكوسوفو ومناطقَ أخرى.
ــــ أمّا المرحلة الرابعة فهي تجربة المنطقة العربيّة. وباستثناء تجربة المغرب "الناجزة،" فإنّ تجربتيْ تونس ومصر ما تزالان تحتاجان إلى مراجعات جدّيّة.
أمّا لماذا نجح الانتقالُ الديمقراطيّ في بلدانٍ وفشل في أخرى، فهناك أربعةُ عوامل أساسيّة: أ) الفضاء الديمقراطيّ الإقليميّ المؤثّر في بعض البلدان الاشتراكيّة المذكورة. ب) المستوى الثقافيّ والتعليميّ العالي الذي تتمتّع به شعوبُ هذه الدول. ج) ضعفُ العامل الدينيّ في التدافع السياسيّ؛ ففي معظم هذه الدول لم يتحوّل الدينُ إلى إيديولوجيا دوغمائيّة، أو إلى حالة مذهبيّة وطائفيّة تسعى إلى إلغاء الآخر. د) إدراك السلطات في غالبيّة هذه البلدان أنّ التغيير أضحى حتميّةً تاريخيّةً، وأنّ عليها التنازلَ خضوعًا لاشتراطات التاريخ وحركيّته الدائبة. والبلَدان اللذان لم يحصلْ فيهما هذا النوعُ من "فقه التواصل" كما ذكرنا هما رومانيا (حيث تشبّث تشاوشيسكو بالكرسيّ، فكان على البلاد أن تدفعَ الثمنَ دماءً من أجل تحريرها من الطاغية) ويوغوسلافيا (التي تفكّكتْ بسبب النزاعات الدينيّة التي ورثتْها أصلًا من مرحلة الإدماج القهريّ عند تأسيس الاتحاد الفيدراليّ اليوغوسلافيّ).
إنّ العوامل التي أسّستْ لفقه التواصل لم تتحقّق بالشكل المطلوب في عالمنا العربيّ. أنظرْ إلى تجربة العراق التي عمّقت الشعورَ بالطائفيّة والمذهبيّة والمحاصصة، ما أدخل البلادَ في نفقٍ مظلم وغامض المسالك والمخارج. وقسْ على ذلك معظمَ تجارب الانتقال الديمقراطيّ العربيّ الأخرى، التي ظلّت شعاراتٍ جوفاءَ تخدم أجندةَ السلطات الحاكمة وتكرِّس نوعًا جديدًا من الهيمنة المقنّعة لفكر الاستبداد والتحكّم. فتونس قد تحتاج إلى فترة زمنيّة أخرى لقياس إمكانيّة التحوّل الديمقراطيّ الحقيقيّ، ومصر بحاجة إلى فترة انتقالٍ قد تكون طويلةً للتخلّص من ماضي الاستبداد.
لبيض: ذكرتم أنّ من أسباب نجاح تجارب الانتقال الديمقراطيّ في بعض الدول الأوروبيّة والأميركيّة اللاتينيّة ضعفَ توظيف الدين أداةً للصراع والتدافع في تدبير الشأن العامّ. والمتأمِّل في الساحة السياسيّة العربيّة يلحظ درجةَ حضور العامل الدينيّ في كلّ مناحي الحياة العامّة. فهل نحتاج اليوم، قبل أيّ إصلاح سياسيّ أو عدالة انتقاليّة، إلى عمليّة تصفية الحساب مع العامل الدينيّ من خلال نهج إصلاح دينيّ حقيقيّ؟
 
شعبان: ليس المطلوب إضعاف الدين. المطلوب إضعافُ استغلال الدين، وأضعافُ توظيفه من جانب الجماعات الدينيّة وبعضِ رجال الدين من أجل إحداثِ تفرقةٍ اجتماعيّة. ويتطلّب هذا الواقع إصلاحَ المجال الدينيّ بجميع مفرداته وحقوله، وإخضاعَ جميع المرجعيّات ــــ أكانت دينيّةً أمْ حزبيّةً أمْ عشائريّةً أمْ مناطقيّةً ــــ لمرجعيّة الدولة.
إنّ إصلاح المجال الدينيّ هو جوهرُ كلّ إصلاح؛ فبحسب تعبير هوبز، فإنّ كلّ إصلاح مفتاحُه الفكرُ الدينيّ. والإصلاح الدينيّ يحتاج إلى فتح الحوار على جميع الصعد، وجعلِ التديّن حقًّا شخصيًّا من دون إكراه. ومن شأن الإصلاح الدينيّ أن يؤدّي إلى تقليص التأثير السلبيّ لبعض رجال الدين والجماعات الدينيّة، ولاسيّما من يدعو إلى العنف.
 
لبيض: هل قدرُ أيّ إصلاح دينيّ أن يصطدمَ بمفهوم "العَلمانيّة" ذي الحمولة الثقافيّة الغربيّة المتعارضة مع سيروة تشكّل الوعي لدى الفرد العربيّ؟
 
شعبان:  بغضّ النظر عن التقاء أو تعارض فكرة إصلاح المجال الدينيّ مع التوجه العلمانيّ وحمولته الثقافيّة، فإنّ أساسَ ذلك الإصلاح هو تمكينُ الدولة من بسط سلطاتها على الجميع، انطلاقًا من حكم القانون، بما في ذلك حقُّها في احتكار العنف. ولعلّ تراكمَ ذلك، بالممارسة العمليّة، يؤدّي إلى وعي جديد لدى الفرد العربيّ. وقد حدث أن اتّجهت بعضُ الدول العربيّة بعد مرحلة الاستقلالات إلى قيام أنظمة مدنيّة بتوجّهات ليبراليّة، سواء في تشريع القوانين، أو في نظام التعليم والتربية، أو في جعل مرجعيّة الدولة تعلو على الجميع. لكنّ ذلك حمل منذ البداية بعضَ الخلل البنيويّ حين جرى تقديمُ تنازلات إلى بعض رجال الدين، أو أُقحم الدينُ في مرجعيّات الدولة، فعمدت بعضُ الجماعات الدينيّة إلى توسيع رقعة نفوذها السياسيّ باسم "المقدّس." وهذا أدّى إلى شحّ الحريّات، وإلى تطوّر أساليب القمع، وأدّى في النهاية إلى المأزق الذي تعانيه دولُنا إلى الآن. وهذا مأزق بنيويّ وعضويّ، إنْ لم تتمكّن دولُنا من إزالة "ازدواجيّة المرجعيّة" فيه فستكون معرّضة إلى الزوال، أو التفتّت في طوائف ومناطقيّات.
 
بندحمان: أيّ دور تبقّى لليسار العربيّ في مشاريع إصلاح حال الأمّة؟
شعبان: مثلُ هذا السؤال ينطلق من شقّيْن أساسين. الأوّل يتعلق بدور اليسار الذي انحسر على نحو ملحوظ منذ انهيار الكتلة الاشتراكيّة، بل قبلها أيضًا. والثاني غيابُه المؤثِّر عن أحداث "الربيع العربيّ،" بل وقوف بعضه ضدّ عمليّات التغيير تحت مبرِّرات مختلفة.
يعود نكوصُ اليسار الماركسيّ العربيّ إلى اتكاليّته الفكريّة. فقد كان يعوِّل، في الغالب، على مرجعيّة موسكو ويأتمر بأوامرها؛ ولئن تمرد بعضُ هذا اليسار عليها فسرعان ما يجد في بكين أو تيرانا ملاذَه. أما اليسار القوميّ العربيّ فهو لم يستطع تطويرَ أدواته، وظلّت شعاراتُه عموميّةً ورومانسيّة؛ يضاف إلى ذلك فشلُ تجربته في جميع البلدان التي حكم فيها، إذ قدّم نماذجَ أقربَ إلى الأنظمة الشموليّة في أوروبا الشرقيّة.
على اليسار العربيّ، بشقّيه الماركسيّ والقوميّ العربيّ، إعادةُ النظر في الكثير من أفكاره ولغته وخطابه، وتقديم نقد ذاتيّ صريح وواضح لممارساته وتعويليّته. فأمامه الكثير من الفرص، لاسيّما بعد فشل المشروع الإسلاميّ، ووصولِ الدول العربيّة إلى مفترق طرق. لكنْ على الشيوعيين، قبل غيرهم، إعادةُ النظر في النظريّة وفي بعض أركانها التي تآكلتْ. بل عليهم أيضًا إعادةُ النظر في بعض مواقفهم من العروبة والوحدة العربيّة وتقسيم فلسطين، والتخلّصُ من بعض الأوهام حيال ما يتعلّق بالقوميّات والسلالات والحريّات والحقوق الديمقراطيّة. وعليهم، بشكل خاصّ، ردُّ الاعتبار إلى فكرة المواطَنة، التي تقوم على مبادئ المساواة والعدالة والشراكة، في فضاء الحريّة التي لا تمْكن مقايضتُها بأيّ قيمةٍ أخرى.
 
لبيض: حدّثْنا قليلًا عن فكرة "أعمدة الأمّة الأربعة" التي تحملون مشعلَ التبشير بها. هل يمكن الاعتمادُ على هذه الأعمدة لبناء مشروع حضاريّ للأمّة العربيّة بعيدًا عن التنافس الإقليميّ أو فكر الهيمنة الذي يمكن أن تحمله أطرافٌ من هذه المبادرة؟
 
شعبان: كنتُ ولا أزال مؤمنًا بأنّ الحوار مسألةٌ لا غنى عنها لتطوير مجتمعاتنا وأممنا. وقد بدأتُ ذلك في ما يتعلّق بالمسألة الكرديّة، وكان لي شرفُ تنظيم أول حوار عربيّ ــــ كرديّ، وقد احتضنتْه المنظّمةُ العربيّةُ لحقوق الإنسان في لندن، التي كنتُ رئيسَها سنة 1992، وذلك بدعوة 25 مثقفًا عربيًّا و25 مثقفًا كرديًّا ليناقشوا القضايا التي ما تزال مطروحةً حتى الآن (الدولة، الحكم الذاتيّ، الفيدراليّة، حقّ تقرير المصير،...). وعلى مدى زاد عن خمسة عقود بقيتُ مدافعًا عن حقوق الأكراد، وكتبتُ عشرات الأبحاث في هذا الاتجاه، من دون أن يعني ذلك انحيازي إلى مواقف القيادات الكرديّة، التي تعرّضتْ إلى نقدي، شأن القيادات القوميّة العربيّة والإسلاميّة واليساريّة، سواء بسبب ما يتعلّق بحقوق الشعب الكرديّ، أو بقضايا أوسع تمسّ العلاقاتِ بالقوى الإمبرياليّة والصهيونيّة.
أما مشروع "أعمدة الأمّة الأربعة" فقد دعوتُ إليه منذ ما يزيد عن العقد، وتحقّقتْ فرصةٌ أولى لجمع نواةٍ للقاءٍ مهمّ في تونس، وذلك بدعوةٍ كريمة من "المعهد العربيّ للديمقراطيّة،" وُجّهتْ إلى عدد محدود من العرب والإيرانيين والترك والكرد سنة 2016. وفي تمّوز 2018 اتّخذ الأمير الحسن بن طلال مبادرةً بدعوةٍ أوسع إلى حوار أعمدة الأمّة الأربعة في عمّان، وذلك في إطار منتدى الفكر العربيّ، بعد نجاح تجربة جديدة في الحوار العربيّ ــــ الكرديّ (شباط 2018) في إطار المنتدى أيضًا.
وإذا كان لي شرفُ بلورة هذا التوجه، فإنّ مواصلتَه تحتاج إلى قناعات نخبةٍ مؤمنةٍ بالحوار باعتباره ضرورةً ملحّةً في ظلّ احتدام الصراعات الإثنيّة والطائفيّة التي تعيشها مجتمعاتُنا ودولُنا. وأعتقد أنّ بناء المشروع النهضويّ العربيّ الذي يستوعب المجموعات الثقافيّة المختلفة داخله، ويمنحها حقوقَها السياسيّة والثقافيّة والإداريّة كاملةً في إطار منظومة حقوق الإنسان والشرعيّة الدوليّة، كفيلٌ بإحداث نوعٍ من التوازن على مستوى الإقليم.
وإذا كان هناك مشروع تركيّ وآخر إيرانيّ في إطار " الدولة ــــ الأمّة،" فإنّ غيابَ مشروع عربيّ، أو غيابَ الحدّ الأدنى من التنسيق العربيّ، أدّى إلى اختلالات، وفسح المجالَ أمام تمدّد إقليميّ على حساب الأمّة العربيّة. وكان أحد أوجه الضعف هنا هو الصراعات العربيّة ــــ العربيّة، خصوصًا بعد غزو القوّات العراقيّة للكويت سنة 1990 وبداية انهيار الحدّ الأدنى من التضامن العربيّ، وما استتبع ذلك من معاناة العراق الحصارَ والاحتلالَ. وتؤكّد التجاربُ التاريخيّة أنّ العراق كلّما كان ضعيفًا، ازدادت شهيّةُ الصراع التركيّ ــــ الإيرانيّ عليه. واليوم، فإنّ نفوذ إيران فيه واسعٌ وكبير، مثلما أنّ هناك تدخّلًا تركيًّا واحتلالًا لأراضٍ في شماله.
إنّ الحوار بين نخبةٍ من المثقفين من "أعمدة الأمة الأربعة،" عربًا وتركًا وفرسًا وكردًا، يهدف إلى التعرّف إلى الثقافات المختلفة التي تمثّل جزءًا من حضارة إنسانيّة مشتركة. وقد يشجّع على القيام بدراساتٍ إثنوغرافيّة وسوسيوثقافيّة عن طبيعة المجتمعات المعنيّة ومشتركاتها ومختلفاتها، من أجل توظيف العناصر الإيجابيّة الخاصّة بالشعوب وعاداتها وتقاليدها ومصادر قوتها.
 
بندحمان: قد نعيب على مبادرتكم أنّها مركزيّة إقصائيّة؛ فهي لم تنتبهْ إلى تشكّلات ثقافيّة وإثنيّة أخرى مثل الأمازيغيّة في المغرب العربيّ. ألا تشكّل هذه ركنًا أساسيًّا من أركان الأمّة؟
 
شعبان: المبادرة ركّزتْ على الأمم. أما الحديث عن التعايش بين الأديان أو الثقافات أو السلالات أو اللغات، فهناك في المنطقة تركمان وأرمن وآشوريون وسريان وأمازيغ،... وهذه المجموعات ينبغي الاعترافُ بها على قدم المساواة مع الآخرين على أساس المواطَنة الحرّة. كما ينبغي الاعترافُ على قدم المساواة بجميع الأديان، لأنّ الأمر يتعلق بحقٍّ أساسٍ من حقوق الإنسان، ألا وهو حقُّ الاعتقاد وحقُّ التعبير، وينبغي أن يكرَّس ذلك دستوريًّا.
 
 لبيض: كيف يمكن أن يتمتّع هذا النوعُ من الائتلاف الحضاريّ بالقوّة في مواجهة المشروع الصهيونيّ؟
 
شعبان: المشروع الصهيونيّ قام على ثلاثة أركان: احتلال الأرض، واحتلال العمل، واحتلال السوق. وإذا كان وعد بلفور (1917)، الذي جاء عقب اتفاقيّة سايكس ــــ بيكو، هو الحلقة الأولى في المشروع الصهيونيّ، فإنّ قرار التقسيم (1947) ومن ثم إعلان قيام دولة إسرائيل (15 أيّار 1948) كان الحلقة الثانية. ويمكن اعتبارُ عدوان 1967 هو الحلقة الثالثة، خصوصًا بعد ضمّ كامل أراضي فلسطين، بما فيها القدس. أما الحلقة الرابعة فهي هجرة اليهود السوفييت إلى الكيان الصهيونيّ عشيّة انهيار الاتحاد السوفييتيّ، وعودة العلاقات بين هذا الكيان والدول الاشتراكيّة السابقة.
كلّ ذلك هيّأ الفرصةَ لاتفاقيّة أوسلو في العام 1993. ولكنّ الكيان رفض تطبيقَ هذه الاتفاقيّة رغم إجحافها، وظلّت القضايا الأساسيّة معلّقةً مثل القدس والمياه والحدود واللاجئين. وتمادت "إسرائيل" في غيّها بإعلان صيغة الدولة اليهوديّة النقيّة (عبر قانون القوميّة في 19 تمّوز 2018)، وهدفُها النهائيّ طردُ الفلسطينيين العرب (حوالي 20% من مجموع فلسطين المحتلّة عام 48).
إنّ الحوار بين مثقّفين متنوّعين من الأمم الأربع يمكن أن يعزِّز مواقفَ شعوبها لنقض الأطروحة الإسرائيليّة، ولمقاومتها. فهذه الشعوب جميعها مهدّدة، ولن يتوقّف التفتيتُ على العرب وحدهم، بل سيشمل جميعَ شعوب المنطقة من عرب وفرس وترك وكرد. علينا جميعًا أن نعي حقيقة التحدّيات التي تواجهنا، خصوصًا إرهاب "إسرائيل،" إضافةً إلى إرهاب الجماعات المسلّحة والخارجة على القانون، تحت مبرّرات دينيّة أو غير ذلك.
الدار البيضاء
 


287
 

المتخيّل والواقعي في تجنيد الإرهابيين
عبد الحسين شعبان
حين عرفت أن كمبرلي مينرز عارضة الأزياء البريطانية انضمت إلى «داعش»، أصبتُ بالدهشة بل والحيرة؛ وذلك لسببين، الأول - ما الذي يجمع الفنانة البريطانية الجميلة بالإرهاب و«داعش» نموذجاً لها، والأمر ليس حادثة واحدة عابرة، بل كان لجيش «داعش» الإرهابي، علاقات مع آلاف النساء، إضافة إلى الرجال الذين ينتمون إلى ثقافات متناقضة مع «داعش»؟ والثاني - كيف يمكن تجنيد «داعش» للإرهابيين؟ أي ما هي الوسائل التي يستخدمها للوصول إليهم وإقناعهم، بل لغسل أدمغتهم، بحيث يصبحون أداة طيّعة بيده، حيث يأمرهم بتفجير أنفسهم وقتل العشرات والمئات من البشر بدم بارد وكأنهم يمارسون هواية يحبّونها ودون أدنى شعور بالذنب أو الارتكاب أحياناً؟
وأول ما خطر ببالي دور وسائل التواصل الاجتماعي، فهي بقدر ما تلعب من دور إيجابي، فلها أدوار سلبية بلا أدنى شك ولم تستطع المنظومة القانونية الحد منها؛ وذلك أحد وجوه العولمة المتوحشة، حيث تحوّلت من وسائل تعارف بين الناس لتسهيل حياتهم وطريقة عيشهم إلى وسائل دعاية لنشر الكراهية والانتقام والحقد، بل لتكون المسبّب في تدمير العديد من العائلات وهدم المجتمعات بعيداً عن أي قيم إنسانية أو أخلاقية، بحيث تتمكن جماعات إرهابية جاهلة من السيطرة على عقول نخب متعلمة وتعيش في مجتمعات متحضّرة، وتجرّها لارتكاب «الكبائر» باسم الدين.
فماذا يجمع الأوروبي ذو الثقافة الغربية الديمقراطية والليبرالية، المسيحية الأصول بتنظيم إرهابي؟ نبادر إلى القول إن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت أبواب التعصب والتطرّف والعنف والإرهاب على مصراعيها للتأثير على عقول الشابات والشباب وتحويلهم إلى أداة إجرامية، حيث يتم تجنيد الأشخاص عبر وسائل جاسوسية إما ترغيباً أو ترهيباً للوصول إلى أكبر قدر من المعلومات الخاصة عن أشخاص ومؤسسات وأجهزة حكومية عدوة أو صديقة، سواء لقاء مبالغ أو عبر استدراج من خلال بعض نقاط الضعف.
وقد تطور مثل هذا الأمر خلال الانفجار الهائل في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية - الديجيتال، عبر لقاءات مباشرة أو اتصالات هاتفية أو رسائل بالبريد الإلكتروني أو من خلال شيفرات خاصة وبلغات مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا استدرجت بعض أوساط الشباب إلى سلوك طريق العنف والقتل واستباحة الكرامات، من خلال أفكار وشعارات تم استزراعها في العقول، لتنقلهم من عالم التخلف والبؤس أحياناً، أو عدم الرضا عن مجتمعاتهم، إلى عالم الحقيقة الافتراضية والدين الافتراضي؛ وذلك من خلال متناقضات: منها مواجهة ما هو قائم بالقتل والتدمير والتفجير والأحزمة الناسفة، ليتم مقابله تصوّر الحياة الرغيدة بالجنس والوعد بالجنة والعدل المطلق، وهكذا يبقى المتخيّل والافتراضي في الحياة والآخرة.
لقد استغل «داعش» الشباب الذي يقضي ساعات طويلة يومياً على الأنترنت ليتحدث عن أوضاعهم ويسحبهم إلى طريق لم يرغبوا أن يكونوا جزءاً منه يوماً ما، وهكذا وفي لحظة ما يصبحون جزءاً من عالم الجريمة وسفك الدماء، وهذا ما يقوم به أيديولوجيو الجيش الإلكتروني الذي جنّد أرقاماً خيالية، حيث بلغ عدد المجندين في صفوفه حسب إحصائية ألمانية إلى 200 ألف مجنّد، سواء عبر الفيسبوك و تويتر واليوتيوب وغيرهما، وحسب بعض الأرقام هناك نحو 50 ألف فتاة بين 16-24 عاماً، ضمن حركة «داعش» العنكبوتية، حيث يستدرجن بوسائل ناعمة وخبيثة من خلال توجيه أسئلة وعبر نصائح تقدم لهن من مواقع خاصة وتسهيلات بعد اختبارات للانخراط في صفوف التنظيم وعبر اللغات التي يتحدثن بها. ويضم الجيش الإلكتروني خبراء متخصصين للاتصال بمجموعات مباشرة، سواء في المقاهي أم المدارس والجامعات أم المحلات العامة أم المساجد والجوامع والأماكن الدينية.
ويتم التجنيد في مرحلته الأولى بتأكيد الالتزام الديني وتأدية الفرائض الدينية، ثم يبدأ العمل بشكل تدرّجي وهادئ لضخ المفاهيم الخاصة بالتنظيم الإرهابي، وبعدها تزيّن لهم صورة ما سمّي ب«الجهاد»، ليرسلوا إلى سوريا أو العراق أو غيرهما.
وحين يلتحق الشباب والشابات في المواقع الأمامية للمواجهة، هناك يخضعون للمراتبية، يقف على رأسها الأمراء والمشايخ الذين لهم القرار، وعلى الآخرين الانصياع والتنفيذ.
وحسب اعترافات قيادي كبير في تنظيم «القاعدة» كان قد تم إلقاء القبض عليه في سوريا، قال: إن عملية التجنيد تحتاج إلى «تزكية» من أشخاص ثقة ومعروفين، وربما يحتاج البعض أكثر من تزكية لضمان المعلومات الصحيحة، ثم تبدأ التهيئة النفسية والتعليمات الأمنية من الملابس والشكل العام الذي ينبغي أن لا يجلب الانتباه، وعدم إعطاء أي دليل على التوجه الديني وصولاً إلى المواقع المتقدمة ليبدأ بعدها التدريب وضمن المواعظ المعروفة: الكتمان والسرّية واختيار الطرق الأكثر أماناً، وبالطبع تقتضي شروط العمل السري عدم الثرثرة والتزام الصمت أحياناً وعدم إخبار أحد والصبر وقبل كل ذلك إعطاء الضمير والقلب إجازة مفتوحة، أو ربما حفظه في ثلاّجة إلى الأبد.
drshaban21@hotmail.com



288
 

البرازيل بين ضفتي العرب و«إسرائيل»
عبد الحسين شعبان
ما إن أعلن فوز الرئيس جاير بولسونارو في الانتخابات البرازيلية التي جرت في 29 (أكتوبر) تشرين الأول 2018 حتى قرّر نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، وهو القرار الذي سبقه إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 14 مايو /‏أيار 2018 اعترافاً منه بأنها عاصمة لدولة «إسرائيل»، فاتحاً الباب لمسلسل الاعتراف، وهو ما شجّع بعض من ينتظر اتخاذ مثل هذه الخطوة، لكنه كان يخشى ردود فعل عربية وإسلامية.
وكانت جواتيمالا قد قرّرت نقل سفارتها إلى القدس بعد يومين من قرار الرئيس الأمريكي، وتبعتها الباراجواي في خطوة مماثلة في سبتمبر/‏أيلول 2018، وإن ظلّت مترددة وكذلك هندوراس التي صادق برلمانها على نقل السفارة، لكن الإعلان لم يتم رسمياً، كما أن رئيس البرلمان الروماني عبّر عن رأي مماثل، إلّا أن المعارضة أتت من رئيس البلاد، كما قررت تشيكيا نقل سفارتها في 12 أيلول/‏ سبتمبر أيضاً.
فهل هذه خطوات منفردة ومعزولة أم أنها حلقات متواصلة، بحيث يصبح الأمر الواقع واقعاً، ويتم التطبيع الدبلوماسي والدولي بصورة هادئة وناعمة دون ضجة تُذكر؟ علماً بأن هذه القرارات والإجراءات القاضية بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة «إسرائيل» تعتبر مخالفة صريحة وواضحة لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ولاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها 1977 وانتهاكاً سافراً لما يسمى ب«الشرعية الدولية»، لاسيّما أن المدينة، وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، لا تزال محتلة، وخصوصاً قسمها الشرقي منذ العام 1967.
وحين قرر الكنيست «الإسرائيلي» ضمّها في العام 1980 كان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 واضحاً وصريحاً بأن إجراء «إسرائيل» يعتبر باطلاً ولاغياً، علماً بأن مجلس الأمن منذ العام 1967 دعا إلى انسحاب «إسرائيل» من جميع الأراضي العربية المحتلة (بعد العدوان)، وفقاً لقراري مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 ولم يعترف بأي نتائج قامت على أساس استخدام القوة واحتلال الأراضي. وكان الاحتلال «الإسرائيلي» منذ العام 1967، قد باشر بإجراء تغييرات بنيوية وإدارية وقانونية لتحويلها بالتدريج إلى جزء من «إسرائيل».
ولهذا فإن خطوة رئيس البرازيل الجديد والحكومات التي اتخذت خطوات مماثلة، تعتبر تجاوزاً فظاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وستؤدي إلى تفاقم الأوضاع سوءاً، حين يتم تشجيع المعتدي على الاحتفاظ بالأراضي التي احتلها، بل منحه الشرعية لاحتلاله، وهو ما سيعقّد الوصول إلى حل سلمي وعادل.
وحتى الآن ليس هناك ردود فعل جادة وحازمة، لا من جامعة الدول العربية ولا من منظمة التعاون الإسلامي أو من بعض الدول فرادى، فإن ما صدر يعتبر دون الحد الأدنى من المستوى المطلوب، علماً بأن العالم الإسلامي الذي ينتمي إليه العرب بغالبيتهم الساحقة يزيد على مليار ونصف المليار إنسان، وهناك مجالات ودوائر مختلفة يمكن التحرّك فيها لمنع الدول والحكومات من التمادي في قرارها بنقل سفاراتها إلى القدس، لاسيّما في المجال الاقتصادي بدءاً من النفط والعلاقات الاقتصادية والتجارية إلى المجالات الأخرى، كما أن المجال القانوني مهم جداً، وعلى سبيل المثال يمكن الذهاب إلى محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري بشأن الإجراء الذي أقدمت عليه هذه البلدان، وغالباً ما كان للضغط الدبلوماسي والسياسي والإعلامي تأثيره، خصوصاً حين تكون البلدان العربية موحّدة، كما يمكن التحرك لتنشيط نظام المقاطعة على المستوى العالمي في الوسط الفني والإعلامي والتجاري والأكاديمي وغيرها، ونعلم كم هي مؤثرة المقاطعة الأكاديمية الأوروبية ضد «إسرائيل» والمعروفة Baycott BDS.
إن موازين القوى الدولية تحتاج إلى جهد طويل ومثابر لمعالجة الاختلال الحاصل فيه، خصوصاً في ظلّ تصدّع المواقف العربية، ومواقف بعض القوى الصديقة في أوروبا وإفريقيا وآسيا، حيث قام بعضها بنقل رحيله من ضفة الصداقة مع العرب إلى ضفة الصداقة مع «إسرائيل» التي منحها امتياز «الدولة الأكثر رعاية». في حين كان قد قطع العلاقات الدبلوماسية معها منذ العام 1967 وحتى نهاية الثمانينات.
ويتطلّب الأمر ضرورة تحقيق وحدة وطنية فلسطينية والانفتاح على العالم العربي والإسلامي بمواقف موحدة، ليتخذ الأخير إجراءات حازمة إزاء نقل السفارات الذي يمثّل تطوّراً خطراً. ويحتاج ذلك إلى الضغط على الحكومات وتنشيط الحركة الشعبية والرأي العام العربي والإسلامي ليدرك خطورة هذا الوضع، لاسيّما أنه يترافق مع ما يسمى «قانون القومية» الذي يمثّل إعلاناً مسبقاً عن طرد أكثر من 20% من سكان فلسطين الأصليين الموجودين حالياً في الأراضي المحتلة سنة 1948.
ولا بد من التوقّع أنه بدون ردود فعل حازمة، فإن الاعترافات بالقدس المحتلة «عاصمة» مزعومة ل«إسرائيل» ستتوالى، خصوصاً حين يكون العرب ضعفاء وغير موحّدين ومواقفهم متناقضة، وسنرى تسابقاً حد التهافت على ذلك.


289

290
بثينة شريف سلاماً للروح الحيّة

عبد الحسين شعبان

يبدو أن المصائب والنكبات لا تأتي إلينا فرادى، بل تدهمنا على نحو مفاجئ وكأنها جيش زاحف لا تحدّه حدود، ليس الأمر على المستوى العام، فقد بات الأمر معروفاً ما يعانيه العراقيون من محاصصة طائفية وإثنية، وفساد مالي وإداري مستشر وعنف ما زال مستفحلاً ظاهراً وكامناً وإرهاب لا تزال خلاياه النائمة والمتيقظة، تعمل بطاقة كبيرة، في ظلّ ضعف الدولة وانحسار هيبتها ووجود مرجعيات منافسة لها وأحياناً تتقدم عليها، سواء كانت دينية ومذهبية أم سياسية وحزبية وعشائرية وغيرها.  قال لي نوري عبد الرزاق حسين عبر الهاتف من القاهرة: ثمة خبر مزعج وهو رحيل فاروق عبد الجليل برتو في جنيف، وعلّق لقد أخذ جيلنا ينقرض ، واستعدت بعد هاتفه أسماء أصدقاء ورفاق وزملاء وأقارب كثر رحلوا في وقت قصير، وكأنهم كانوا على موعد مع القدر، فما إن ننتهي من تأبين وحتى قبل أن نتنفس الصعداء، وإذا بخبر مأسوي جديد يصلنا، حتى قبل أن نستفيق من أثر الصدمات السابقة والحزن العميق. بعد وصولي إلى بغداد بيوم واحد وصلني خبر رحيل الصديقة بثينة شريف ” أم سعد” وهي احدى  أعمدة الحركة النسوية في العراق، وقد عملت مع الدكتورة نزيهة الدليمي الرائدة الأولى التي اقترن اسم رابطة المرأة العراقية باسمها ومعها سافرة جميل حافظ وبشرى برتو وشخصيات نسوية أخرى ، وكان لوالدتها مقبولة أحمد دور كبير لرعاية ذوي المعتقلين بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 وهي عقيلة الدكتور حكيم شريف شقيق عزيز شريف الشخصية اليسارية المعروفة، وشقيقه الآخر المحامي عبد الرحيم شريف الذي استشهد تحت التعذيب في قصر النهاية العام 1963. في هذه الأجواء والمفعمة بالوطنية والإنسانية والتضحية نشأت وترعرعت بثينة، وقد وجدت طريقها للعمل العام أولاً عبر رابطة المرأة وثانياً من خلال تنظيمات الحزب الشيوعي حيث استمرت في عضويته نحو 6  عقود من الزمان وكانت حين رحيلها قد بلغت 80 عاماً حيث ولدت العام 1938  لعائلة دينية تعود أصولها إلى مدينة عانه، وأنهت دراستها الثانوية في الأعظمية وحصلت على بعثة دراسية هي الجامعة الأمريكية في بيروت وتخصصت في علوم الكيمياء وتخرجت العام 1957 وانتسبت إلى كلية الهندسة (معيدة) لتدريس الهندسة الكيماوية وانخرطت في تلك الفترة في جمعية الهلال الأحمر كمتطوعة . تزوجت من الدكتور محمد الجلبي في العام 1963 عشية الانقلاب البعثي ضد عبد الكريم قاسم، وذهبا لقضاء شهر العسل في البصرة، وعادا ليلة الانقلاب وقد اعتقل الجلبي وعذّب في قصر النهاية وفي مبنى الإدارة المحلية بالمنصور، حيث استشهد وبعد فترة اعتقلت بثينة أيضاً بعد اختفاء دام عدّة أسابيع، ولم تلتقِ شريك حياتها إلّا وهو على حافة الموت، وكانت بثينة قد تعرّضت للفصل السياسي لمدة 6 سنوات وأعيدت إلى الوظيفة العام 1969 ولوحقت مرّة أخرى في أواخر السبعينات عند اشتداد الحملة الحكومية ضد الشيوعيين واختفت لنحو عام ثم تمكّنت من الذهاب إلى الشام، وعملت هناك بكل نشاط وحيوية في المجال النسوي، وبعدها التحقت بقوات الأنصار الشيوعية . وأتذكر أنني قابلت بثينة شريف في كردستان وهي ترتدي الشروال والملابس الكردية وتجوب القرى والقصبات. وبقيت عدّة سنوات هناك ثم نسّبت لمهمات خارجية لرابطة المرأة التي مثلتها في مؤتمرات دولية، ثم انكبت على دراسة تاريخ الحركة النسوية الديمقراطية في بلغاريا لنيل الدكتوراه، وبعد تخرجها العام 1993 توجهت للتدريس في ليبيا في جامعة ناصر، وعادت بعد الاحتلال مباشرة لتسهم في إعادة بناء بلدها، لكنها اصطدمت بالموجة الطائفية وبنظام المحاصصة والتمييز، حيث تفشّى الإرهاب واستشرى الفساد المالي والإداري وانتشر العنف، لكن ذلك لم يفل من عزيمتها. كانت أسئلة بثينة تكبر يوماً بعد يوم وتدريجياً ، كانت أميل إلى التساؤلية العقلية الانفتاحية، فالحلم بالغد السعيد والوطن الحر يحتاج إلى المراجعة والنقد ولم يعد يكفي التبشير واليقينية الإيمانية، خصوصاً بعد انهيار النموذج الاشتراكي وانكشاف عورات الأنظمة الشمولية جميعها في بلدان الأصل والفرع. هكذا كانت الأقدار الغاشمة تواجه جيل الخمسينات والستينات الأكثر حلماً والأكثر تميّزاً.تحلّت بثينة بعلو شأن وكرم خلق وظلّت حتى آخر أيام حياتها مثل وردة ، وحتى وإن أخذت تذوي، لكن ألقها بقي مفعما ورائحتها زكية وروحها حيّة، وتركت أثراً طيباً ومثلاً جميلاً فسلاماً وألف سلام .


291
هل روسيا دولة عظمى؟
عبد الحسين شعبان
يجادل كثير من العرب وربما في العالم الثالث، كجزء من رغبة في استعادة التوازن في العلاقات الدولية، على أن روسيا اليوم أصبحت قوية وقادرة على مجابهة الولايات المتحدة، ويستند بعضهم على معطيات الصراع الأيديولوجي الذي غطى أكثر من سبعة عقود من الزمان بين المعسكرين «الاشتراكي والرأسمالي» وثمرته الحرب الباردة (1947-1989)، وإلى القدرات النووية التي كانت تمتلكها روسيا السوفييتية.
ولعل المثال الأقرب إلى مثل هذه التقديرات، هو الحضور الروسي في الأزمة السورية، من دون نسيان موقف روسيا الحاسم في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وقبل ذلك في الشيشان وغيرها، لكن ذلك شيء، وعودة روسيا كقوة عظمى على المستوى العالمي، شيء آخر، فقد كان سباق التسلّح وحرب النجوم من أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى فشل خطط التنمية بسبب شحّ الحريات والبيروقراطية المستحكِمة.
وبالعودة إلى الأزمة السورية المندلعة منذ العام 2011، فقد أدركت روسيا أن موقفها من العراق وليبيا (2003 و2011)، أفقدها مواقعها التقليدية في البلدين، لذلك اندفعت للمشاركة في الأحداث المتسارعة في سوريا، إلى جانب نظام الرئيس الأسد، يضاف إلى ذلك شعورها بأن الأخطار باتت قريبة منها؛ بل عند حدودها الجنوبية، لاسيما مشاركة مئات الشيشانيين في المنظمات الإرهابية بمن فيهم عدد من قياداتها، وهذا سيعني أن قوات حلف شمالي الأطلسي «الناتو»، ستصبح قاب قوسين أو أدنى من حدودها؛ الأمر الذي يمثل تهديداً حقيقياً وليس افتراضياً لأمنها الجيوستراتيجي، ارتباطاً مع احتمالات امتداد الجماعات الإرهابية الإسلاموية إلى العمق الروسي، علماً أن الديانة الإسلامية هي الديانة الثانية في روسيا، حيث يزيد عدد المسلمين على 20 مليون مسلم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك احتمال استبدال صادرات الغاز الروسي المتوجه إلى أوروبا، وهو يمثل نسبة كبيرة من الدخل القومي، بالغاز القطري الذي يمكن أن يمرّ عبر الأراضي السورية، ومنها إلى تركيا وإلى جنوبي إيطاليا، فأوروبا، فسيكون ذلك بمثابة قطع أحد شرايين الحياة بالنسبة لها. وهذا كله سيكون «واقعاً» إذا خسر الروس مواقعهم في سوريا؛ لذلك بدت المعركة مصيرية لأنها معركة «كسر عظم». وكان رأي الكرملين في تبرير تلك الانعطافة، أو تفسيرها، هو أن المنظمات الإسلاموية المتطرّفة مثل «داعش» و«النصرة» (جبهة تحرير الشام لاحقاً)، تمثل خطراً كبيراً على روسيا أيضاً، وعلى السلم العالمي.
وقد اعتمد الرئيس بوتين منذ توليه الحكم في العام 2000، سياسة خارجية جديدة ورسم ملامحها وحدّد مرتكزاتها في ولايته الثانية؛ قوامها تطوير قدرات روسيا لتكون شريكاً فاعلاً للولايات المتحدة وأوروبا، لاسيما بعد نشوء حالة جديدة من العلاقات الدولية تتميز باستخدام القوة على نحو مباشر، عبر تحالف دولي بقيادة الدولة العظمى المتسيّدة للعالم، منذ انتهاء عهد الحرب الباردة وانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني1989.
واستهدفت السياسة الروسية الجديدة، العمل على تغيير موازين القوى على نحو هادئ، خصوصاً في إطار محيطها الإقليمي ونطاقها الحيوي، مستفيدة من مراجعة سياساتها وأخطائها مما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا، وقد اختلف الأمر بالنسبة لسوريا على نحو جلي وواضح في مواقفها من قرارات مجلس الأمن الدولي، التي كانت واشنطن تريد فرضها، فعارضتها بشدة واستخدمت حق الفيتو (النقض)، وظلّت تستخدمه حتى وصل إلى 7 مرات في العام 2017 (منذ العام 2011)، والسبب في ذلك، كي لا تفقد مواقعها وتخسر معها مصالحها الحيوية، وكي لا يتكرّر المشهد الليبي الذي انعكس سلباً عليها، وعلى ليبيا والمنطقة والعالم، وقبل ذلك ما حصل في العراق.
ولكي تتضح معالم صورة روسيا من خلال سياساتها الخارجية المتعدّدة الاتجاهات، يمكن رصد ما عرضه بوتين في اجتماعه بالسفراء الروس بعد توليه الإدارة للمرّة الثانية (2004)، حين تناول عدداً من الدوائر ذات العلاقة بتوجهات السياسة الخارجية الروسية الجديدة.
أولها: أن السياسة الخارجية ينبغي أن تصبح أداة تحديث لروسيا.
وثانيها: أولوية علاقة روسيا مع الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. والمقصود بذلك (الدول التي انسلخت عنه واستقلت).
وثالثها: إبقاء العلاقة مع أوروبا بذات الأولوية التقليدية.
ورابعها: السعي للشراكة مع واشنطن.
وخامسها: التعاون مع الدول الواقعة على الساحل الآسيوي من المحيط الهادئ، من أجل تطوير سيبيريا.
وكان بوتين وما يزال إلى حدود غير قليلة يتعامل بحذر شديد مع فكرة «الدولة العظمى»، على الرغم من محاولته العزف على «الوطنية الروسية» التي تبقى حاضرة في أذهان كثير من الروس، والتي يمكن الاستناد إليها في مرحلة الأزمات الحادة والاستعصاءات الوطنية، كما حصل في الحرب العالمية الثانية، وما يحصل اليوم؛ لمواجهة الحصار ونظام العقوبات المفروض على روسيا، لكن ذلك شيء، ومستلزمات الدولة العظمى شيء آخر.
drshaban21@hotmail.com



292
في ندوة عن سسيولوجيا الدين والتديّن
عصام نعمان وجورج جبور يرشحان عبد الحسين شعبان لجائزة نوبل
الشيخ حسين أحمد شحادة : شعبان رسم لنا خارطة طريق


بيروت- منتدى تحوّلات /خاص

   في ختام مداخلته الموسومة " الإسلام دين علماني " قال الدكتور عصام نعمان الوزير والنائب السابق إن اقتراحاً استثنائياً يود طرحه على منتدى تحوّلات والمحاضرين والمجتمعين، وهو قراءة السيرة الذاتية المتميّزة للدكتور شعبان التي أعدّتها الحركة الثقافية في انطلياس بمناسبة تكريمه العام 2017، وأردف: كم هو ثمين وغني ومشرق وليس كثير عليه أن نرشحه لنيل جائزة نوبل ، كونه مفكراً رائداً ومناضلاً ميدانياً من أجل حقوق الإنسان والسلام والعدل واللّاعنف والتسامح والجمال.
   وقد تفاعل معه الدكتور جورج جبور المستشار الأسبق لرئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد للأبحاث والدراسات، بتأييد الاقتراح والدعوة للمضي فيه وكان قد سبق له القول أن شعبان انتقل من الدائرة العراقية والعربية إلى الدائرة الإقليمية ومنها إلى الدائرة العالمية ليصبح شخصية كونية، وهو يستحق بما قدمه من جهد وفكر ونضال هذه الجائزة. جاء ذلك في ندوة نظمها منتدى تحوّلات في مركز " الألف" لمناسبة مناقشة كتاب "الإمام الحسني البغدادي - مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن".
   وقد افتتح الندوة سماحة الشيخ حسين شحادة، المفكر الإسلامي وأمين عام ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار الذي أشاد بدور المفكر شعبان وجهده وأهمية كتابه الذي توقف عنده من خلال ظلاميتين الأولى- الظلامية الدينية التي سبقت الاحتلال، والثانية- ظلامية التفسير الآحادي التي أصابت العرب بالجمود والتصحّر والجفاف في ظل صراع آيديولوجي محفوف بالإلغاء والإقصاء والتهميش. وقال إن كتاب شعبان لا يبحث في الماضي، بل يدعونا للتغيير "من قفا نبكي" إلى "قفا نفكّر"، وتوقّف عند النجف مدينة الجدل والحوار حيث يُطرح سؤال الحرية وسؤال الوحدة، لافتا النظر إلى الشخصية الإشكالية ونعني به الحسني البغدادي. وقال لقد رسم شعبان لنا خارطة طريق وأعاد طرح أسئلة النهضة الأولى التي ما تزال راهنة، خصوصاً بالاحتكام إلى مرجعية العقل، وضرورة المراجعة النقدية وتصحيح نظر الماركسية بالظاهرة الدينية.
 وأضاف الشيخ شحادة: أصافح شعبان ولا أكاد أختلف معه في ضرورة البحث عن موجبات تحرير الدين والماركسية من صنمية العلاقة، ورد الاعتبار للإنسان لأنه هو المقياس لكل نهضة أمة، وأضاف على إيقاعاته إن الحرية الدينية الأساس والمدخل الحقيقي لسسيولوجيا الدين والتديّن، وإن المشكلة هي مع الدين ومع التديّن، والصراع ليس حول قيم السماء، بل حول قيم الأرض.
وكان الدكتور عصام نعمان قد أشار إلى أنه " لا اكتم القارئ أنني شديد الإعجاب بأسلوب شعبان في التحرّي عن المشتركات في طروحات الإسلاميين وطروحات التقدميين، متدينين وغير متدينين، وأشاطره الرأي في معظم ما أبداه من آراء أو باشره من مقاربات، ولا أعتبر نفسي متطفلاً إن أفصحتُ بدوري عن مقاربات مماثلة في هذا السبيل، ولاسيّما لجهة العلاقة الإشكالية بين الإسلام والعلمانية."
   وجاء في كلمة الدكتور جورج جبور: لعلّ كتاب الدكتور شعبان الجديد هو الألصق، من بين عديد كتبه، بالتراث الفكري الذي تشربه في بيئته العائلية ... وكثيرا ما خاض في تفاصيل وضع اليسار في العراق،  أحبّ أن يسلط الضوء على الدين والتدين من خلال التأريخ للإمام الحسني البغدادي، والاهتمام بتراثه الفكري.
   وأشار الأستاذ سعد محيو الكاتب والإعلامي في كلمته، التي أرسلها مكتوبة حيث تعذر حضوره بسبب مرضه المفاجئ، إلى أن هذا الكتاب شكّل مفاجأة لنا. فها هو مفكّر ماركسي علماني كبير يتقدّم الصفوف للدعوة إلى إغلاق صفحة الشقاق والصراع بين الفكرين اليساري والديني، إنطلاقاً من الاعتراف بحاجة الناس الروحية إلى الدين، ومن مساهمة رجال دين، في مقدمهم الإمام الحسني البغدادي، وهو عنوان الكتاب، في النضالات  التحررية والقومية في المنطقة.
   وحين طُلِبَ من الدكتور شعبان اعتلاء المنصة قال بخجل شديد وتواضع جم : أشعر أنني محرج وقلق للغاية، بل إنني شديد الحيرة بكل ما لهذه الكلمة  من معاني ودلالات، وإذْ أشكر الزملاء في ما قدموني به استميحكم العذر بما أستحقّه ولا أستحقه ، وأشار إلى أنه يقتفي أثر ابن عربي: الهدى في الحيرة والحيرة حركة والحركة حياة.
   ثم تناول جدلية النجف بما فيها حوزتها الدينية مشيراً إلى أن مفتاح كل إصلاح هو الفكر الديني حسب هوبز، لافتاً النظر إلى أن كتابه عن الحسني البغدادي وحفيده  السيد أحمد الحسني البغدادي يسلط الضوء على العلاقة المركّبة والمزدوجة بين الديني والسياسي والديني والسلطوي والديني والديني، لأن ثمة فهم غير موحد للدين الذي اعتبره يمثل قيماً إنسانية مشتركة وهي الجامع مع فلسفات وأفكار ذات نزعة إنسانية، فهناك فوارق بين الدين الرسمي والدين الشعبي، مثلما هناك اختلافات جوهرية بين دين الفقراء دين الأغنياء وبين دين المستغِلين ودين المستغَلين ودين التعصّب والتطرّف  والعنف والإرهاب ودين التسامح والسلام والمحبة والإنسانية.
   وقال إن المراجعة ضرورية وهي فرض عين وليس فرض كفاية، والمهم هو الوصول إلى الحقيقة وحسب أفلاطون يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكل روحك، وقال إن العقل أساس الدين ولذلك فهو يدعو لدين العقل وليس لدين الخرافة، والاجتهاد أساس العقل، وقد تتعدد الطرق إلى الحقيقة بتعدد السالكين حسب ابن عربي، وكلما كان الطريق إلى الله جميلاً ازداد الإنسان جمالاً وطمأنينة، والدين قناعة وراحة وأمان، وذلك هو الإيمان الحقيقي وليس القتل والإرهاب والعنف.
   وقارن شعبان  بيننا وبين اليابان حيث لا يوجد إله واحد، بل آلهة متعددة وهم ليسوا معنيين بالجنة والنار ولا يخشون من العقاب ولا ينتظرون مكافأة من الله، لكنهم مسالمون وأكثر احتراماً للقانون والنظام وأقل تعصباً وتطرّفاً وعنفاً وإرهاباً، وأبعد عن الفساد المستشري في العالمين العربي والإسلامي.
   وقد أدارت عالمة الاجتماع، الدكتورة رفيف صيداوي الأكاديمية والباحثة في مؤسسة الفكر العربي، الندوة التي ضمّت نخبة من المفكرين والباحثين والمختصين وجمهوراً مهتماً بقضايا الحوار والتواصل. وجاء في كلمتها التقديمية : في قراءتِه السوسيولوجيّةِ للدّين والتديّن، انطلق الدكتور عبد الحسين شعبان من مسار السيّد الحسني البغدادي، ولم يكُن ذلك بهدف دراسة سيرتِه الذاتيّة، بل بوصفه وجهاً من وجوه مرحلةٍ من تاريخ العراق، التي تعكس تداخُلَ الساحة السياسيّة والفكريّة والعقليّة والدينيّة، محاولاً كما يقول في مقدمة كِتابه: "تقديم قراءة للمشهد السائد في عهده من خلال النقد والنقد الذاتي للعلاقة المركّبة والمزدوجة والمتناقضة بين السياسي والديني وبين الديني والسلطوي".
 
 
 

294
المنبر الحر / روسيا "العربية"
« في: 19:33 24/10/2018  »
روسيا "العربية"
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   بين روسيا الأمس وروسيا اليوم ثمة فوارق غير قليلة في الجوهر والمحتوى والدلالة، فروسيا السوفييتية هي ليست روسيا الاتحادية، مثلما روسيا الآيديولوجية هي غير روسيا البراغماتية، وروسيا السابقة كانت تقدّم المعيار الآيديولوجي وتضع الاشتراكية هدفاً  في إطار المصالح العليا للدولة السوفييتية ، أما اليوم فـ "المصالح الحيوية" هي ما تريد روسيا تأمينها  بغض النظر عن الآيديولوجيا، والمصالح قبل الصداقة وليس العكس.
   وعلى سبيل المثال تقف روسيا اليوم موقفاً وسطاً بين العرب و"إسرائيل"، وهي وإنْ ساهمت في تأسيس الأخيرة بتأييدها قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947، وكانت أول دولة اعترفت بها  في 15 مايو/أيار 1948، إلاّ أنها قطعت علاقاتها معها في العام 1967 وظلّت مقطوعة إلى أواخر الثمانينات، لكن أمس ليس اليوم وربما غير غد، وعلينا أن ندرك أن روسيا الحالية "دولة رأسمالية" بكل معنى الكلمة لا تختلف في البحث عن مصالحها عن الدول الرأسمالية الأخرى في الغرب. صحيح أنها تتناقض مع المصالح الرأسمالية الغربية، ولاسيّما الولايات المتحدة في الكثير من الأحيان والمواقع، لكن مصالحها الخاصة والحيوية تبقى هي الأساس في علاقتها مع العرب ومع أعدائهم في الآن ذاته.
   حين نتحدّث اليوم عن روسيا " العربية"، فإنما نقصدُ مضي قرن من الزمان على العلاقات العربية - الروسية، فبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العام 1917 التي تصادف ذكراها المئوية هذه الأيام، تلقّف العرب الدعوة لحق تقرير المصير التي أطلقتها بحماسة شديدة، خصوصاً بعد فضح اتفاقية سايكس - بيكو الاستعمارية 1916 بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية التي انسحبت منها. وهي دعوة سابقة لمناداة الرئيس الأمريكي ويلسون بحق تقرير المصير في العام 1918.
   وكانت روسيا قد وقفت ضد نظام الانتداب الاستعماري الذي اعتبره فلاديمير لينين "شكلاً من أشكال اللصوصية"، الأمر الذي انعكس إيجاباً على العالم العربي. أما النداء "إلى جميع الكادحين المسلمين في روسيا والشرق"، فقد ترك هو الآخر صدىً إيجابياً ، خصوصاً حين ناشد مسلمي الشرق من فرس وترك وعرب وهنود.
   وابتدأت أولى العلاقات  العربية مع الاتحاد السوفييتي الذي تأسس العام 1922 مع المملكة العربية السعودية في إبريل/نيسان/1924 واعترفت موسكو بالمملكة في العام 1926 وزار الأمير فيصل موسكو العام 1932، وتعكس رسائل حكيموف "القنصل العام" في جدّة مثل هذه العلاقات التي عملت الدوائر الغربية على تقطيع أوصالها. أما مع اليمن فقد تأسّست العلاقات في العام 1927 ووقع الإمام يحيى في العام 1928 على معاهدة صداقة وتجارة مع الاتحاد السوفييتي ودخلت حيز التنفيذ في العام 1929، وحاولت بريطانيا عرقلتها.
   وفي العراق أرسل الشيخ مهدي الخالصي رسالة إلى لينين لتأييد النداء الخاص بمسلمي روسيا والشرق، وكان زينوفيف قد رحّب بإرسال وفد إلى موسكو باسم الكومنترن الذي كان رئيسه، كما كان الشيخ محمود الحفيد في القسم الكردي من العراق قد كتب رسالة إلى قنصل روسيا في أذربيجان وتبريز (إيران) في العام 1923، واعترفت موسكو بحركة رشيد عالي الكيلاني العام 1941 وتم الاعتراف الرسمي بين البلدين العام 1944. وكان الاتحاد السوفييتي أول بلد اعترف بالثورة العراقية في 14 يوليو/تموز 1958 وتم توقيع معاهدة صداقة وتعاون العام 1972.
   وكذلك الحال في سوريا حيث حصل الاعتراف في العام 1944 وتعزّزت في سنوات الستينات والسبعينات وتم توقيع معاهدة صداقة وتعاون العام 1980، وكان دخول الروس على خط الأزمة السورية العام 2015 قد أعادهم إلى المنطقة ، حيث تم تأسيس قواعد عسكرية دائمة في اللاذقية وطرطوس، وقد يكون الاندفاع الروسي تعويضاً عن خسارة  نفوذهم في العراق وليبيا.
   أما في مصر فالعلاقات كانت حذرة ومعقدة منذ ثورة يوليو 1952 ، لكن الأمر تطور بعقد صفقة الأسلحة في العام 1955، وكان إنذار بولغانين العام 1956 وتأييد تأميم قناة السويس دوراً مهماً في التعاون الاقتصادي والفني والعسكري (1958-1960) بعد الوحدة المصرية- السورية، وفيما بعد في بناء السد العالي وحرب الاستنزاف، ولكن المرحلة من 1971-1975 شهدت انحساراً بعد طرد الخبراء السوفييت وإلغاء المعاهدة المصرية- السوفييتية، لاسيّما بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ، حيث أخذت ترجح كفة العلاقة مع الغرب حتى انهيار نظام حسني مبارك، إلّا أنه بعد الإطاحة بحكم الأخوان العام 2013، اتسمت بحرارة جديدة نسبياً.
   وإذا كانت العلاقات العربية - الروسية قد شهدت محطات باردة وسلبية قبيل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أبرزها عودة العلاقات الروسية -"الإسرائيلية" وانكفاء الدور الروسي عموماً، ولاسيّما في العراق خلال الحصار وفيما بعد الاحتلال وكذلك في ليبيا التي تُرك أمرها للناتو، إضافة إلى ضعفه في مصر وبقية البلدان العربية، إلّا أن العودة الروسية إلى سوريا أكدت حقيقة لا بدّ من الإقرار بها والتعاطي معها هي أن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس.

295
من الطرفين" ولا تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، ولابدّ من وقفها فوراً والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
   وحين انتقلت الحرب إلى الأراضي العراقية أعلنت عن رفضي للمشروع الحربي والسياسي الإيراني، واعتبرت الحرب عدوانية هجومية من الجانب الإيراني في العام 1982 ودفاعية وطنية من الجانب العراقي، لذلك دعوت إلى الدفاع عن الوطن وعن الاستقلال الوطني وهو الموقف الذي بلورناه لاحقاً، دون أن يؤثر ذلك على دعوتنا لقيام حكم ديمقراطي ينهي الدكتاتورية ويشيع الحريات الديمقراطية ويقرّ بالتعددية والتنوّع ويتمتّع فيه الشعب الكردي بحقوقه ويعيد المهجرين العراقيين ويلغي القوانين الاستثنائية ويسنّ دستور جديد للبلاد ويجري انتخابات برلمانية حرّة، ويعيد العراق إلى موقعه الصحيح.
   محطة المؤتمر الرابع للحزب
   كانت محطة المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي (1985) نقطة انعطاف في العلاقة بين توجهين، وانعكس ذلك على صعيد الثقافة والمثقفين، حيث أصدرنا نداءً وقعه 75 مثقفاً ومثقفة وقرّرنا العمل المشترك بالتعاون مع عامر عبدالله وباقر ابراهيم ومجموعة من الرفاق الذين تم تنحيتهم بينهم حسين سلطان وعدنان عباس وماجد عبد الرضا وعشرات الكوادر الشيوعية، إضافة إلى حلقة من الأصدقاء داخل التنظيم وخارجه من الذين كانوا يتعاطفون معنا.
   وحين أُبلغ ماجد عبد الرضا بفصله من الحزب وقطع مخصصه، بما فيه علاج ابنته الراقدة في المستشفى وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، بادرنا مهدي الحافظ وكاتب السطور للاتصال بالدكتور جورج حبش لتأمين مخصصات أو إيجاد عمل لماجد، وساهم تيسير قبعة بتعيينه في "مجلة الهدف" التي كان رئيس تحريرها بعد بسام أبو شريف صديقنا "صابر محي الدين" وقرّر الحكيم حبش بعد العودة من سفره تخصيص أعلى راتب له وتقديم المساعدات لرفاقنا من ضحايا الاستبداد الحزبي .
   وقدّم لنا تيسير قبعة كما أشرت في مداخلتي الموسومة "غيمة فضيّة في فضاء الذاكرة" والمنشورة في صحيفة الزمان على حلقتين بتاريخ 29/6/ و2/7/2016، العديد من المساعدات المادية والمعنوية ، خصوصاً تأمين فرص عمل والحصول على جوازات سفر وتأشيرات دخول لبعض الدول الاشتراكية وغيرها.
   كيف أسّسنا حركة المنبر؟
   لم تنشأ الحركة الاعتراضية المسمّاة بالمنبر دفعة واحدة، فقد بدت أقرب إلى  الارهاصات والتململات التي شهدها الحزب الشيوعي، ولاسيّما بعد انفراط عقد الجبهة الوطنية مع حزب البعث في العام 1978 وما بعدها، وقد تفاعلت فيها ظروف المنفى وهجرة معظم قيادات الحزب وأعداد واسعة من كوادره وجمهور عريض من أعضائه، وخصوصاً من المثقفين.
وساهم في إشعال فتيل الصراع على نحو شديد الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية وقضايا التحالفات وأساليب الكفاح، إضافة إلى مسائل فكرية مزمنة وعقد وحساسيات متراكمة ومشكلات يومية تتعلق بالبيروقراطية الحزبية التي رفعت من درجة حرارة الصراع التنظيمي والفكري وبدأت تتقارب بعض وجهات النظر لعدد غير قليل من الشيوعيين، وخاصة بعد الحرب العراقية - الإيرانية وفصولها المأساوية.
وإذا كان ثمة نوع من الانسجام والتقارب بين موقف كتلة المنبر الشيوعية وبين قيادة الحزب الرسمية، من إدانة الحرب باعتبارها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية وتحميل المسؤولية الأساسية للنظام العراقي في شنّها واختراقه للحدود الدولية وتوغّله داخل إيران، فإن هناك اختلافات أخذت تتصاعد بشأن المشروع الحربي والسياسي الإيراني، لاسيّما بعد انتقال الحرب إلى  الأراضي العراقية، وخصوصاً في تموز (يوليو) العام 1982.
وفي مشروع الوثيقة التقويمية الأولى التي صدرت عن مجموعة من القيادات والكوادر الشيوعية والموسومة " من وحي اليوبيل الذهبي الخمسيني للحزب الشيوعي العراقي: حديث صريح في الهموم والآمال" وكان د. مهدي الحافظ قد كتبها بعد مداولات ومشاورات ومراسلات، في العام 1984 وأرسلها لي لإبداء ملاحظاتي بشأنها، وكان رأيي ضرورة النشر العلني على أوسع نطاق لتطوير الصراع الفكري من جهة والتنبيه إلى المخاطر التي تهدد العراق من جهة أخرى، حيث جاءت الإشارات واضحة إلى إدانة الخطط الحربية والسياسية الإيرانية الرامية إلى  فرض "بديل إسلامي" خارج حق تقرير المصير للشعب العراقي في اختيار نظام الحكم الذي يريده، والذي يسعى إليه، ناهيكم عن الأهداف الإيرانية الأخرى، لاسيّما بتصدير الثورة، وصدرت الوثيقة بتوقيع عدد من قادة وكوادر الحزب الشيوعي العراقي في 15/11/1984 وهم "نواة حركة المنبر".
وكانت المنبر قد نشرت هذه الوثيقة في وقت لاحق (كانون الأول/ ديسمبر/1987) بعنوان " معالم الأزمة في حزبنا الشيوعي العراقي"  وتعريفاً بالمنشورات وباسم هيئة تحرير المنبر أوضحت: أن المنبر تنشر مجموعة من الوثائق والدراسات التي تعالج جوانب الاختلاف الأساسية مع القيادة الرسمية، وتعكس وجهة نظر المعارضة الحزبية المتّسعة ضد النهج البيروقراطي، سواءً ما يتعلق بإطارها الفكري أو السياسي أو التنظيمي ... وهي تسعى لتقديم مساهمة في تقييم التجربة النضالية.
وعبّرت حركة المنبر عن نفسها بوضوح أكبر عندما أكّدت: أنها تتوخّى تقديم رؤيتها الجديدة للعملية الثورية التي تواجه الحركة الشيوعية والعمّالية العالمية بما ينسجم مع التطورات والمتغيّرات التي أفرزتها الحياة، سواء على الصعيد العراقي أم القومي أم الإقليمي أم الأممي، وهي بذلك تدخل حلبة الصراع المحتدم منذ سنوات، كتيار شيوعي متميّز، يسعى من خلال الحوار والجدل وإثارة النقاش إلى  خلق رؤية جديدة متطورة " وكان لي شرف كتابة المقدمة باسم هيئة التحرير والتوطئة للكرّاس في العام 1987.
ووردت في تقديم المنشورات والتوطئة تعريفات مهمة عن جوانب الصراع الحزبي، لاسيّما إزاء برنامج وسياسة القيادة الرسمية ومعالم الأزمة في الحزب ورأي المنبر بسبل حلّها والموقف منها، إضافة إلى  القضية الوطنية العراقية والاختلالات الخطيرة في المعايير الآيديولوجية والسياسية، فضلاً عن غياب الديمقراطية وتجميد النظام الداخلي عملياً، وبروز ظاهرة البيروقراطية والفردية والتسلّط... وتعطيل المبادئ التنظيمية السليمة في حياة الحزب الداخلية وابتداع أساليب وأشكال غريبة لتكريس النهج الانعزالي التصفوي المصحوب بـ "الجملة الثورية" والمتعكّز على أكثر الشعارات " يسارية" ورنيناً ولكنها الأكثر بُعداً عن الواقع وما تتطلّبه الحياة.
وقد انفجر الخلاف على نحو حاد عشية المؤتمر الرابع للحزب، وخصوصاً في العام 1984 وما بعده، وكانت عبارة عزيز محمد الأمين العام للحزب قد تم تداولها وذاع صيتها حين ردّد في المؤتمر وعشيته: اجتمعنا ليلغي نصفنا النصف الآخر، حيث كان نهج التفريط قد ساد، لدرجة أن أحد أعضاء اللجنة المركزية وهو ما تمت الإشارة إليه في إحدى أعداد جريدة المنبر قد قال: لا يهم إذا أبقينا 10% من أعضاء الحزب، لا سيّما إذا كانوا مطيعين، وهو أفضل من 90% مشاغبين حيث تم تفجير الموقف بالكامل بإجراءات تمهيدية لاستبعاد أعداد من كوادر وقادة الحزب من الحضور، بل فصل العديد منهم أو تم إبعادهم عن مواقع المسؤولية وعزلهم وتهميشهم.
وللاحاطة بنشاط حركة المنبر الذي كان مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا وعبد الحسين شعبان من أبرز العاملين فيه يمكن الاعتماد على 3 مصادر أساسية.
   المصدر الأول: وثيقة معالم الأزمة في حزبنا الشيوعي العراقي التي كتبها د. مهدي الحافظ في العام 1984 وتمت الإشارة إليها وقدّم لها كاتب السطور حين تم طبعها بكراس العام 1987.
   والمصدر الثاني: وثيقة نشرت في "مجلة الغد" اللندنية وهي مقابلة أجرتها مجلة الغد اللندنية التي يرأس تحريرها الدكتور ابراهيم علاوي الأمين العام في حزب القيادة المركزية بعد عزيز الحاج، ونشرت في عددها رقم 21، تشرين الأول (اكتوبر) 1987، وقد نشرت مرّة أخرى في كتاب عبد الحسين شعبان – الصوت والصدى، من إعداد كاظم الموسوي  وجاء في هامشها ما يلي: صاغ نص الإجابات د.عبد الحسين شعبان، واطّلع عليها د.مهدي الحافظ وأبدى عليها بعض الملاحظات البسيطة، وأخذها كاتب النص بنظر الاعتبار، ووافق عليها نوري عبد الرزاق، الذي قدمها باسم المنبر إلى  مجلة الغد.
   أما المصدر الثالث فهو عشرة أعداد من جريدة المنبر وعدد من البيانات والكراريس التي أصدرتها الحركة و المقصود بأعداد المنبر هي من العدد صفر الذي صدر في فيينا  وهو عدد تجريبي (تحرير وإعداد د. مهدي الحافظ ) أما الأعداد المتبقيّة فقد صدرت بإشراف وتحرير د. عبد الحسين شعبان في بيروت، وصدر عدد واحد منها في براغ، أما العدد الأخير فقد صدر في لندن،  وقد امتدّت للفترة بين 1987-1990.
   إرهاصات التأسيس
   كنت مدعوّاً إلى بلغاريا من جانب وزارة الثقافة، وقد اضطررت للمكوث فيها لفترة أطول من الضيافة، حيث دخلت فيها المستشفى لمدة أربعة أسابيع، وكنتُ حينها مكلفاً من جانب "مجموعة الشام"، وخصوصاً عامر عبدالله وباقر ابراهيم (اللذان شرعا بكتابة مذكرات احتجاجية أوصلاها إلى السوفييت تعكس جوانب من الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي)، للاتصال بحسين سلطان من جهة وبمهدي الحافظ من جهة أخرى، وتم تأمين اللقاء مع " أبو علي" الذي كان متحمّساً لإعلان موقف، وأطلعته على مسوّدة الوثيقة التي كتبتها بتكليف من عامر وباقر حول أزمة الحزب وسبل الخروج منها والمعالجات التي اقترحتها والأسباب التي دفعتنا للافتراق عن القيادة، وأبدى تأييداً لها، ثم اتفقت مع الحافظ للقاء، واقترحت عليه بدلاً من براغ أن يكون المكان في براتسلافا، لكي لا يتم رصد حركتنا، وهو ما حصل، ومن هناك تحدثنا مع نوري عبد الرزاق بالتلفون، وكان متفقاً مع الحافظ على اتخاذ مثل هذه الخطوة الضرورية، أي إبراز صوت المعارضة الحزبية العلنية، وقال أنها لأول مرّة يتم اللجوء إلى وسائل علنية للتعبير عن وجهة نظر المعارضة الحزبية، واتفقنا على تحديد موعد لاجتماع يضم نخبة من الكوادر والقيادات (بين 20-25 رفيقا)، بل حدّدنا بعض الأسماء المشتركة.
   وفي بلغاريا تم اجتذاب عناصر التنظيم الذين كان بعضهم على صلة بـ "أبو علي"، أما في براغ، فكان الجو مهيئاً، وحصل الأمر كذلك مع تنظيم هنغاريا أيضاً بوجود د. علي حنوش، حيث كان لدينا بحدود 10 رفاق في كل بلد من هذه البلدان. والأهم من ذلك هو توثيق صلتنا مع بعض الرفاق في كردستان، إضافة إلى اليمن والجزائر وليبيا، حيث قمت بزيارات خاصة لها، باستثمار بعض الندوات والاجتماعات العربية التي كنت أدعى لها بصفتي الأكاديمية، إضافة إلى دعم من منظمة التحرير الفلسطينية .
   وللأمانة فقد قدمت لنا م.ت.ف دعماً مادياً ، لكنه رمزياً، إذْ أن الدعم المعنوي والتفهم لموقفنا الوطني كان هو الأهم، وكان لدينا مراسلات مع ياسر عرفات "أبو عمّار" وسبق لنوري عبد الرزاق أن التقاه لهذا الغرض، كما قدّم لنا العديد من أطراف حركة التحرر في سوريا ولبنان مساعدات معنوية، وأودّ هنا أن أشيد بمجموعة الجبهة الشعبية (البحرين) بقيادة عبد الرحمن النعيمي " سعيد سيف" (الذي عاد إلى البحرين وأسس "وعد") ومجموعة جريدة الحقيقة "رابطة الشغيلة" بقيادة زاهرالخطيب وناصر قنديل وحميدي العبدالله،  إضافة إلى قيادات الجبهة الشعبية (جورج حبش وتيسير قبعة) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمة وقيس السامرائي) وجبهة النضال الشعبي (خالد عبد المجيد ومحمد عادل) وفتح بشقيها (في براغ السفير سميح عبد الفتاح، وفي الشام عبد الهادي النشاش) وعاطف أبو بكر بصفته الشخصية والصداقية.
   وحين عدت إلى دمشق فوجئت بشيء من التردد  بل والتغيير في موقف باقر وعامر فقد أبديا بعض المحاذير بشأن اتخاذ موقف معارض معلن وأكّدا أنهما يفضلان البقاء في إطار ما هو قائم على الرغم من تنحيتهما واعتراضاتهما على الخط السياسي لاحقاً، وأبديا تحفظاً حول العمل في إطار مستقل وقال الرفيق باقر "أريد أن أبقى شيوعياً"، قاطعاً الطريق على عمل مشترك يعبّر بصورة علنية عن المعارضة الحزبية، وكانت تلك إحدى المفارقات، لكنه استمر في موقفه المتحفظ هذا إلى حين تم فصله في العام 1989 فبدأ بالكتابة والنشر والعلاقات على نطاق أوسع.
   وكان ماجد عبد الرضا قد فصل فاندفع باتجاه الإعلان ، وبعد مداولات مع مهدي تقرّر أن نجتمع 6 رفاق فقط هم : أحمد كريم، نوري عبد الرزاق، مهدي الحافظ، خالد السلام، ماجد عبد الرضا وعبد الحسين شعبان ، وأطلق بعض إدارات التنظيم الرسمي على هذا  التجمع "حزب الدكاترة " لوجود  4 منهم يحملون شهادة الدكتوراه، وكأن الشهادة الأكاديمية سبّة أو منقصة.
   وخلال عملنا عقدنا اجتماعين موسعين ، حضر في الأول نحو 16 رفيقاً وفي الثاني على ما أتذكر نحو 22 رفيقاً، وكان العديد من طلبات الانتساب والانضمام والائتلاف قد وصلتنا من مجاميع حزبية غير قليلة، ابتداء من بهاء الدين نوري الذي أجرينا معه مباحثات، إلى منظمات وتجمعات كانت قد اتخذت مواقف مقاربة من موقفنا، لكننا توخّينا الدقة وحرصنا على تماسك مجموعتنا، ولكنها  للأسف هي الأخرى تصدّعت، ولاسيّما بعد غزو الكويت العام 1990، فانسحب الرفيق ماجد  عبد الرضا وقرر العودة إلى العراق على مسؤوليته الشخصية.
   واجتمعنا نوري عبد الرزاق وكاتب السطور وأخذنا رأي مهدي الحافظ تلفونياً،  وأصدرنا تعميماً اعتبرنا فيه مسألة العودة شخصية، وليست باسم حركة المنبر، وبسبب التطورات الحاصلة لاحقاً إلتقينا في القاهرة (مهدي ونوري وكاتب السطور) وقرّرنا الإبقاء على علاقاتنا "الرفاقية" والكتابة إلى الرفاق لإبلاغهم "وقف العمل" في المنبر لاستنفاذ أغراضه كما قال مهدي، واتفقنا على المحافظة على علاقاتنا الصداقية بالأساس لتقديم نموذج رفاقي من نوع جديد يمتاز بالتسامح واحترام الاجتهادات دون تخوين أو اتهام، علماً بأن رأيين كانا قد سادا في داخلنا:
الأول- مثّله ماجد عبد الرضا: حين اعتبر الفرصة مواتية للعودة للعراق وكان صبره قد نفذ، خصوصاً بانقطاع مخصصه من منظمة التحرير الفلسطينية بعد غزو الكويت والضغوط التي تعرّض لها، إضافة إلى انهيار النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا واحتمال عدم تمديد جواز سفره الخاص الممنوح له من اليمن الديمقراطية وقال بالحرف الواحد: إذا لم تقرّروا  العودة سأعود لوحدي وأتحمل نتائج عودتي.
   وبالمناسبة فقد ساد مثل هذا الرأي لدى العديد من الأطراف الكردية، فقد شكّلت "الجبهة الكردستانية" وفداً برئاسة محمود عثمان ووصل إلى براغ وطلب من السفير الفلسطيني (سميح عبد الفتاح - أبو هشام) التوسط لفتح حوار مع بغداد وقد التقيت به في منزل السفير الفلسطيني، وقام الأخير بتسهيل مهمة الوفد عبر السفير الفلسطيني في تونس الطيب عبد الرحيم  وانتظر الوفد في تونس أكثر من أسبوعين على أمل أن تنجح تدخلات ياسر عرفات أبو عمّار في فتح حوار مع الحكومة العراقية ولكن دون جدوى.
   وكانت الجبهة الكردستانية تعتقد أن بغداد ضعيفة وهي بحاجة إلى حلفاء داخليين وإنه يمكنها الحصول على بعض التنازلات منها، ولا بأس حتى وإنْ قدّمت هي تنازلات بخصوص الموقف تداخلات غزو الكويت، ولكن الجواب السلبي للحكومة العراقية " يمكن العودة كمواطنين صالحين" وعدم إبداء أي استعداد لاستقبال وفد للتفاوض، قطع الطريق على مثل تلك المحاولة ، الأمر الذي دفع الجبهة الكردستانية لاتخاذ موقف متشدّد ضد بغداد، على الرغم من عودتها لفتح باب المفاوضات بعد فشل الانتفاضة في ربيع العام 1991، وتلك حكاية أخرى.
والثاني- مثّله نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وعبد الحسين شعبان والغالبية الساحقة من الرفاق والأصدقاء الذين عوّلوا على إثارة النقاش العلني وتشجيع الصراع الفكري، مؤكدين أن السلطة لم تتراجع فلم تقدّم ما يمكن الاطمئنان إلى إمكانية إجراء تغيير في نهجها المعادي للديمقراطية على الرغم من كل ما حصل من نكبات وويلات وحروب وفشلت جميع مساعينا في نصحها أو محاولة إجبارها على التراجع، بل إن تقديراتنا ومعلوماتنا كانت تشير إلى  إن الوضع ازداد سوءًا، ووصل الغرور والعجرفة إلى مديات كبيرة لا يمكن بأي شكل من الأشكال التفكير بإعادة الأمور إلى ظروف ما قبل العام 1978،خصوصاً وإن النظام كان قد تورّط في مغامرة غزو الكويت (2 آب/أغسطس 1990). وكان مع هذا التوجه إلى حد ما عامر عبدالله وباقر ابراهيم وعدنان عباس وآرا خاجادور فيما بعد وعشرات من الكوادر الحزبية، علماً بأن رفاقاً آخرين من المجاميع الشيوعية المختلفة  بمن فيهم من التنظيم الرسمي عادت إلى العراق وإنْ كان العدد محدوداً جداً.
   صحيفة المنبر
   كان مهدي الحافظ أحد عناصر الحركة الأساسيين، وكان يتابع معي إصدار المنبر التي كُلّفت بالإشراف عليها وعلى تحريرها وطبعها، خصوصاً وإن حركة الاحتجاج كانت تتّسع، ويمكن رصد أبرز الشخصيات فيها : زكي خيري، عامر عبدالله، باقر ابراهيم، حسين سلطان، عدنان عباس، مهدي الحافظ، نوري عبد الرزاق، ناصر عبود، عبد الوهاب طاهر، ماجد عبد الرضا، خالد السلام، أحمد كريم، محمود البياتي، علي عبد الرزاق، عبد اللطيف الراوي، علي حنوش، محمود عبد الكريم، كاظم الموسوي، محمد جواد فارس، ساهرة القرغولي، فاطمة محمد تقي، رحيمة السلطاني، محمد السعدي، جهاد كاظم، عباس عبيدش، خليل الجزائري، عبد الباقي شنّان،كمال جعفر،عصام الحافظ الزند ، ليث حميد، ضياء خوجه نعمة، علي عرمش شوكت، صلاح مهدي، طلال شاكر، موسى السيد، فاضل الربيعي، جمعة الحلفي، خيرالله سعيد ، عبد الحسين شعبان ، إضافة إلى عشرات الرفاق الذين لم تحضرني أسماؤهم، مع وجود رفاق غير قليلين داخل التنظيم وقسم منهم لا يزال يعمل فيه، بل احتلّ مواقع قيادية، واستوعبت جريدة المنبر أقلاماً أدبية وفنية وثقافية كبيرة ومتميّزة وامتدت من المنافي البعيدة وحتى كردستان وتسربت إلى داخل الوطن. وكنّا نرسل بعض الأعداد المحدودة بواسطة تنظيم فلسطيني، كما كان لها نافذة عربية ودولية مهمة وعلاقات متشعبة.
   مهدي الحافظ ومتفرقات العلاقة
   أربع قضايا يمكن أن أستحضرها مع مهدي الحافظ على الرغم من تناقضاتها، ولكل منها وفي كل مرحلة دلالات قد تكون مختلفة :
الأولى- اجتماع كوادر تنظيمات الخارج (في فندق الحزب الشيوعي التشيكي القديم) لمناقشة مشروع ميثاق العمل الوطني الذي طرحه حزب البعث أواخر العام 1971 واحتمال قيام الجبهة حين تساءلت: هل أن السوفييت يريدون عقد الجبهة الوطنية أم أن قيادة الحزب مقتنعة بذلك؟ ثم ما هي الضمانات للحريّات والديمقراطية؟ عندها قامت الدنيا ولم تقعد وبعد أخذ الاستراحة جاءني حميد بخش (أبو زكي) وطلب منّي تقديم اعتذار في بداية الجلسة التالية ، لأن الأمر جد خطير والكثير من الرفاق أبدى امتعاضه (لأن حديثي كما قال فيه تعريض بالسوفييت) حاولت أن أناقشه ، لكن الأمر كان بلا جدوى، وطلبت الكلام عند بداية الجلسة اللاحقة ، ولكنني بدل "الاعتذار" ثبّت رأيي الأول وزدت عليه من خلال التوضيح، بأن هذا الموقف عرضه أحد أعضاء المكتب السياسي في اجتماع رسمي كنت أحضره، وكنت قد ناقشت الرفيق بوجهة نظري لضمان استمرار أي تحالف  لا بدّ من توفّر عنصري الثقة والحريات، إضافة إلى الحق في النقد، وقلت إن ذلك من مسؤوليتنا ونحن أعرف بظروفنا ولا بدّ من وضع ذلك في سلّم أولوياتنا .
جدير بالذكر أن مهدي الحافظ لم ينبس ببنت شفة واعتبر وجهات نظري رأياً يُحترم، سواء اختلفنا أم اتفقنا معه (علماً بأن مثل هذا الرأي كان يعتبر من الكبائر لدى البعض آنذاك).
وكان الاجتماع قد ضمَ: صفاء الحافظ وسعيد اسطيفان وجوهر شاويس وهناء أدور وحميد بخش وسهيلة السعدي وخليل الجزائري وكريم حسين وخالد السلام وحميد برتو ونوزاد نوري وعبد الحسين شعبان ومهدي الحافظ الذي كان قد أصبح عضواً في اللجنة المركزية وهو ما دوّنته في كتابي "المثقف وفقه الأزمة" الصادر عن دار بيسان، بيروت، 2016.
   الثانية كتب مهدي الحافظ مداخلة في مجلة اليسار العربي 1983 التي كان يصدرها من باريس ميشيل كامل ( الحزب الشيوعي المصري) وعدد من الشخصيات اليسارية المصرية، وهي تعقيب في إحدى الندوات على بحث مقدّم، وكان يعبّر بذلك عن وجهة نظر نقدية في الحديث عن أزمة اليسار العربي وبالدرجة الأساسية أزمة قيادته وبرامجه وعلاقته بالجمهور، وأتذكّر أنني كنت قد اطلعت على المقالة - المداخلة، بعد وصولي إلى الشام قادماً من كردستان لغرض العلاج، وكان قد نبّهني إليها أبو خيام "الحافظ" نفسه ووجدت فيها مادة أولية صالحة لإجراء حوار حول قضايا اليسار ومشكلاته وإشكالاته.
   وكان مثل هذا الرأي يلقى تطيّراً من إدارة الحزب التي كانت ومعها قيادات شيوعية ويسارية عراقية وعربية تنفي بمكابرة وجود أزمة في حركة اليسار التي هي جزء من حركة التحرّر العربي التي تمثلها أنظمة " صديقة"، فضلاً عن ذلك إنها جزء من الحركة اليسارية  والعمالية والشيوعية العالمية، الأمر الذي يعني أن الأزمة أبعد من ذلك، ويختصر هذا الرأي  الإشكالية المزمنة والمعتّقة بشأن الأزمة إلى مجرد صعوبات أو متاعب تواجهها حركة اليسار، وربّما هي صعوبات عارضة وليست جوهرية.
   وكان أن جرى نقاش محموم حول المقالة التي لم يتم مناقشتها، بقدر انتقاد كاتبها والتعريض به، وحانت فرصة لأحد الرفاق ليسألني إن كنت قد قرأت المقالة، فأجبت نعم، فقال إنها فرصة لترّد عليها وتفنّد ما ورد فيها، فقلت أرى أن المقالة معقولة وفيها وجهات نظر قابلة لإجراء حوار بخصوص مشكلات وإشكالات يعاني منها اليسار، فأزاد وهل ستذهب لدحض آراء الحافظ؟
   ضحكت وقلت له: إن رأيي هو أبعد مما ذهب إليه مهدي الحافظ لأنني أعتبر الأزمة بنيوية وعضوية، ولا يمكن حلّها دون اتخاذ تدابير وإجراءات حازمة وإعادة النظر بالمناهج والسياسات وأسس التنظيم ذاته، فالأزمة مركّبة ومتشابكة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، خصوصاً وقد جرى تحنيط الماركسية وتحويلها إلى مجرد مقولات أقرب إلى الأدعية والتعاويذ يتم تردادها في مواقع غير مناسبة وفي أزمنة مختلفة، في حين أننا نهمل المنهج ونتمسك ببعض النصوص، ونحاول أن نكيّفها على أوضاعنا وفي ظروف غير التي جاءت فيها، الأمر الذي أحدث انفصاماً بيننا وبين الواقع.
   وإذا كان منهج ماركس صحيحاً فإن علينا استنباط الأحكام الخاصة بنا، لا تكرار استنتاجات قال بها ماركس أو لينين أو غيرهما، لأنها قيلت في زمان غير زماننا وبعضها حتى لو كان صحيحاً، لكنه لا يصلح لبلداننا، ناهيك عن أن الحياة أثبتت خطاً الكثير منها، فما قاله هؤلاء الرواد المبدعين من استناجات يصلح لعصرهم، أما عصرنا حيث الثورة العلمية - التقنية والآفاق التي فتحتها والتي تنتظر أن تفتحها، فإنها تحتاج إلى استنتاجات أخرى تتناسب مع روح العصر ونبض المجتمع .
   وبدلاً من مناقشة آراء الحافظ ووجهة النظر هذه ، قال  محدثي في نوع من التخابث: لا تدع العلاقات الشخصية والارتياحات الصداقية تطغى على مواقفك من القضايا المبدئية، ولعلّ من الظواهر السائدة في العلاقات الحزبية هو النظر إلى الصداقة على نحو فيه الكثير من الانتقاص أو حتى الازدراء، فالكثير من "أدعياء المبدئية" اكتشفوا بعد عقود من الزمان أن ليس لهم " أصدقاء"، وقد اعترف أحد الشيوعيين المخضرمين الذي أمضى في الحزب ستة عقود من الزمان إنه كان بلا صديق وأخذ يكتشف الناس والبشر والمجتمع خارج منظار الحزب أو عدسة إدارته، لاسيّما بعد أن أعفي من مواقعه، وهو ما تلمسته لدى العديد منهم الأمر الذي عاظم من شعوري بالعطف على هؤلاء لدرجة الشفقة أحياناً، فالصداقة قيمة عليا  وكنز ثمين، علماً بأن الكنز لا يكون صديقاً على الدوام، ولكن الصديق يكون كنزاً في كل الأحوال، كما يقول المثل الروسي .
   القضية الثالثة هي العمل في ميدان حقوق الإنسان، فقد كان مهدي سبّاقاً حين حضر المؤتمر التأسيسي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليماسول (قبرص) العام 1983، وقام بتأسيس فرع لها في فيينا وعقد سلسلة من المؤتمرات والاجتماعات، تسنّى لي حضور بعضها ، وأصدر بعضها في كراريس، لكن المنظمة هي الأخرى كانت تعاني من أزمة، وانفجر الصراع في الرباط العام 1997 بعد أن قدّم أديب الجادر رئيس المنظمة استقالته من على منصّة المؤتمر والتي أحدثت ضجة وخلقت بلبلة.
   وبعدها انتخب د. علي أومليل رئيساً وهو الآخر قدّم استقالته بعد بضعة أشهر والأسباب هي ذاتها ولاسيّما محاولة الاستئثار بالقرار والتحكّم بمسار المنظمة، وبعد جدل ونقاش واسعين بدأ خارج المؤتمر وانتقل إلى داخله، وبهدف إيجاد تسوية لإخراج موحد، تقرّر أن يرشح من العراق اثنين ، مهدي الحافظ وكاتب السطور، وأتذكّر جيداً أنني قلت لمهدي الحافظ: أنا أفضل ألّا أرشح، ليبقى عن العراق شخص واحد، وحين يتم انتخابك يمكن أن ترشحني حسب ما يجيز النظام الأساسي كي لا يحصل الاستغناء عن أحدنا وأعرف أنه كان محسوباً على أديب الجادر وغيابه سيؤثر عليه، لكنه أصرّ على أن الاتفاق حصل لانتخاب اثنين.
   وحين جرت الانتخابات لم يحصل مهدي على النسبة المطلوبة من الأصوات حيث تمت الإطاحة به، وكانت تلك صدمة لمهدي الحافظ الذي لم يتوقّع ذلك، في حين أنني كنت أعرف الأجواء والمطبخ الذي يتم فيه ذلك، وقد حذّرته منه، وكان أكثر ما يؤلم الحافظ هو محاولة الغدر والخديعة والطعن من الخلف، وقد سبق له في مؤتمر المنظمة العام 1993 في القاهرة أن شعر باستمالة الجهات المتنفذة ترشيح آخرين ضده، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
   وبعد أن انفجر الصراع داخل المنظمة نقلتُ النقاش والتساؤلات حول مستقبل الحركة الحقوقية العربية إلى جريدة الحياة اللندنية (1998) بشأن مشكلاتها وإشكالياتها التي تعمّقت خلال السنوات المنصرمة، كما تم توسيعه في مجلة الضمير التي كنّا نصدرها في لندن فلم تعد القضية شأن داخلي، بل أصبحت قضية "رأي عام"، لكن تلك التجربة تركت مرارة جديدة لدى مهدي  الحافظ.
   القضية الرابعة هي الاتفاقية العراقية- الأمريكية واتفاقية الإطار الاستراتيجي،  وكان مركز كارينجي قد وجّه الدعوة لنخبة من المثقفين والسياسيين والاختصاصيين بينهم على ما أتذكر : فالح الفيّاض ومهدي الحافظ ورائد فهمي وهشام داوود، وممثلين عن الكرد والشبك ومجموعة طارق الهاشمي وعدد آخر، وفاجأني مهدي بأنه كان أول المتحدثين حين طلب تمديد أو تجديد الاتفاقية أو توقيع اتفاقية جديدة على غرار الاتفاقية الأمنية التي كان مفعولها ينتهي في أواخر العام 2011، وبرّر ذلك إن غياب الأمريكان سيعني إطلاق يد إيران وقدّم ورقة مكتوبة (صفحة واحدة)، ودارت مواقف الآخرين في ذلك الفلك ولم تكن بعيدة عنه.
أما موقف الفيّاض فقال: باسم دولة القانون في حينها نحن لسنا مع أو ضد، بل ننتظر فيما إذا كانت الأغلبية تريد تمديد أو تجديد الاتفاقية فسنأخذ بهذا الرأي أو على العكس إذا لم تكن الأغلبية مقتنعة فسوف نقف إلى جانبها وندعو لانسحاب القوات الأمريكية والأجنبية من العراق.
وأتذكّر إن  الشخصية الكردية الأكاديمية أبدت تحفظات منهجية حول قانونية الاتفاقية وشروط انعقادها، ويومها سألني الحافظ بحنق من يمثّل صاحبنا: أوك أم حدك؟ فقلت له ممازحاً إنه من جماعة "المنبر" وضحكنا بعد ذلك، وكنت قد قدمت مطالعة هي خلاصة لكتابين كنت قد أصدرتهما لتبيان عدم شرعية الاتفاقية ولا قانونيتها ، لاسيّما وهي اتفاقية غير متكافئة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وفيها الكثير من عيوب الرضا التي تبطل مبدأ الإرادة الحرة Pacta Sunt servanda  (العقد شريعة المتعاقدين)، علماً بأن أطروحتي للدكتوراه كانت دراسة مقارنة حول الاتفاقيات المتكافئة وغير المتكافئة مع إشارة خاصة للمعاهدات العراقية- السوفييتية (الكتابان هما: الأول المعاهدة العراقية - الأمريكية: من الاحتلال العسكري إلى الاحتلال التعاقدي، إصدار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية ، عمان، 2008. والثاني- بغداد - واشنطن : أي مقايضة للاحتلال العسكري؟ في حيثيات الاتفاقية العراقية - الأمريكية، إصدار، مركز العراق للدراسات، بغداد، 2011)
   وذكرت مثالاً كنت استشهدت به على لسان عبد الفتاح ابراهيم كان قد ردّده نوري السعيد العام 1924 في منتجع برمّانا خلال مجادلته بشأن اتفاقية العام 1922 المجحفة المذلة الاسترقاقية كما كان يصرّ ابراهيم على تسميتها.
 يقول عبد الفتاح ابراهيم عن لقائه بنوري السعيد كنّا وفداً  يمثّل جمعية طلابية في بيروت، حيث كان يدرس "علم الاجتماع" في الجامعة الأمريكية ويرافقه محمد زينل وصباح نجل نوري السعيد، وكان "الباشا" مسترخياً في المنتجع الصيفي ويلبس دشداشة بيضاء ويجلس على فرشة على الأرض وبيده كأس عرق أبيض زحلاوي وحاول عبثاً إقناعنا بتبريراته للتحالف مع طرف قوي هو بريطانيا وبأن العراق خرج لتوّه من سيطرة الدولة العثمانية وإن لديه مشاكل معلّقة معها (المقصود مشكلة الموصل ) ومشاكله مع إيران لم يتم تسويتها (وكانت إيران حتى ذلك الوقت ولغاية العام 1937 لم تعترف بالمملكة العراقية) وهنا تطلّع في وجوهنا وأخذ رشفة عرق قوية وخاطبنا: تكبرون وتعقلون وتتعلمون ، وإذا كنّا كبرنا جميعاً، لكننا لا ندري من منا عقِل وتعلّم، وخلال الجلسة ردّدتها على مسامع "أبو خيام" والحاضرين عدّة مرات .
اتفقنا على اللقاء وليس الوداع
   كان آخر لقاء لي مع مهدي الحافظ في نادي العلوية 2013 بعد حضوري لاحتفالية أقيمت في بغداد بعنوان " بغداد عاصمة الثقافة العربية" وهي المرّة الأولى التي التقيت فيها رئيس الوزراء نوري المالكي الذي كنت قد عرفته منذ الثمانينات ودار حوار بحضور نحو 12 مثقفاً أذكر منهم فاضل ثامر وياسين النصيّر ويحيى السماوي ومحمد مظلوم وكوكب حمزة وناجح المعموري وشوقي عبد الأمير وعالية طالب وآخرين، وأدار الحوار النائب حينها علي الشلاه، واستفسر مني عمّا دار في اللقاء وعن لقائي مع عمّار الحكيم الذي كنت قد عدتُ منه مباشرة إلى نادي العلوية وكنّا قد اتفقنا على اللقاء، لإجراء حوار صريح على أن أقوم بإعداده للنشر، وهو ما حاولنا وضع بعض المحطات الأولى له في بيروت، وحين زرت بغداد كان مهدي مسافراً، لذلك لم نتمكّن من إنجاز المشروع. وحين توفي محمود البياتي اتّصل بي مستفسراً ومعزياً لأنه يعرف عمق علاقتنا.
   كان مهدي الحافظ مُقلاً في كتاباته ، لكن إذا كتب أجاد وهو دقيق في اختيار كلماته وأنيق في إبراز جمال عبارته وعميق في الوصول إلى المعاني، ويمتلك نعمة القراءة وكان ملتزماً بمعايير العدل والأخلاق، متحضّراً ومسالماً وغير ميّال إلى العنف وبعيداً عن أي شكل من أشكال القسوة أو الإيذاء، وكان محبّاً للحياة ومقبلاً عليها مثل إقباله على الثقافة بألوانها المختلفة.
   رحل مهدي الحافظ ودفن في فيينا قرب نهر "الدانوب الأزرق" بناء على وصيته، وكان قد عاش فيها فترة من حياته كموظف في منظمة اليونيدو منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
   مهدي الحافظ المنسوج من خيوط نفيسة لا أقول وداعاً، بل اشتياقاً فالنبيذ المعتّق من تلك الخابية اللذيذة المذاق ما زال ينتظرك، أما كان عليك أن تؤجل الرحيل لكي ننجز مشروع الحوار.




296
مهدي الحافظ: يا له من زمن؟
لم يبقَ ما يحتجّ به سوى الموت

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   توطئة
   رحل مهدي الحافظ بهدوء ودون أن تتبعه ضوضاء فارغة وجلبة مزعومة، (4/ تشرين الأول/اكتوبر/2017)، ونحن إذْ نستعيد الذكرى الأولى لوفاته، فإنّما نريد التوقّف عند بعض المحطّات الأساسية في مسيرته. وفي مثل هذه المناسبات غالباً ما تفتتح الكتابات فيها: بالقول رحل "الرفيق المناضل"، وحين خطرت الفكرة ببالي  وكتبت الشق الأول منها، لكنني سرعان ما حاولت طردها، فقد خشيت أن يحسبه البعض من صنف "المناضلين" الافتراضيين أو الهوائيين، حيث يبرع باعة الكلام المتجولين والباحثين عن الوجاهات من منتهزي الفرص ليقطعوا الماضي عن الحاضر، والكلمة عن الحلم والطموح المشروع، باللهاث وراء المكاسب.
   حين وصلني نبأ رحيله تجمّدت  أطرافي ولم أقوَ على الحركة لبضعة ثوان فقد مرّت خاطفة تلك العقود الخمسة التي حاولت استعادتها وكأنها شريط سينمائي.
   قالت لي د. منيرة البياتي وهي في ذروة انفعالها وحزنها ما الذي تبقى لنا : رحل الأحبّة سريعاً الواحد بعد الآخر...؟ ماذا نتذكّر يا عبد الحسين؟ فمهدي الحافظ جزء من تاريخنا وصداقتنا له تكاد تكون صداقة العمر كلّه بحلوّه ومرّه وبإيجابياته وسلبياته. كنت صامتاً وفي فمي طعم مرارة غامضة، فكيف يتحوّل شخص مثل مهدي الحافظ إلى مجرد مربع صغير في جريدة لا يكاد يلفت النظر، ولهذا فقد كان لموته نكهة حزن إضافية، ولعلّه موت يحرجنا بقدر ما يحزننا.
   كنتُ أفكّر بما خبّأه لنا الزمان، فمهدي الحافظ حتى عشيّة وفاته كان يطفح بالحيوية وحبّ الحياة والتمتّع بأطايبها، غاب هكذا فجأة مثل شهاب وحتى دون مؤشر بالمرض.. دخل المستشفى لبضعة أيام لإجراء فحوصات ولم يخرج منها إلّا إلى القبر.
   وظلّت منيرة البياتي تردّد على مسامعي: كان مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق قد شكّلا جزءًا من وعينا في مرحلته الأولى....   واستعادت هذا الكلام مرّة أخرى،  وهي تردّ على رسالتي بتعزيتها بوفاة نضال وصفي طاهر، ولم تنسَ في كل مرّة أن تتذكّر شقيقها القاص والروائي والصحافي محمود البياتي  ( توفي في 31/10/2014) انظر مقالتنا عنه: (محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا) وهي تعرف عمق علاقتنا، وكم تأثّرتْ لما كتبته عنه وما قلته في احتفاليته التأبينية التي أقيمت في عمان. وكلّما مرّ يوم جديد، يزداد شعوري بأن محمود كان " أخي الذي لم تلده أمي"  وقالت منيرة وقد أخذتها " العبرة" عبر التلفون وقد تغيّر صوتها: ليس للحياة من طعم فالموت يحيط بنا من كل جانب، وردّدنا معاً بيت شعر للجواهري عن الموت اللئيم حين يقول :
 ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه / دم أخوتي وأقاربي وصحابي
وردّدت عليها بيت شعر للشريف الرضي الذي ينطبق على حالنا ويقول فيه :
ما أخطأتك النائباتُ       إذا أصابت من تحبّ

   الماضي الذي لا يمضي
   لقد تغيّرت الدنيا والناس ولم يبقَ من الأحلام سوى الأقل. نشعر بالخيبة أحياناً حين نقلّب أمانينا وأحلامنا، فقد كانت أجمل وأكبر، وهكذا لم يبقَ سوى أن نستعين بالذاكرة وهي التي لا تفارقنا، بل تكاد تطوّقنا مثل سياج يحيط بنا من كل جانب، وكأننا في دائرة.
   كلّما كنّا نلتقي: نوري ومهدي ومنيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي وماجد عبد الرضا وموفق فتوحي وتيسير قبعة وبسام أبو شريف وصادق الشافعي وسالم المندلاوي وآخرين مجتمعين أو متفرّقين من شلّة أصدقاء أواخر الستينات وأوائل السبعينات وما بعدها نسارع دائماً لاستحضار الماضي وكأنه اليوم قد حدث  أو بالكاد بالأمس، وكنتُ قد استعدت مع السيد هاني فحص ذكرياته عن النجف لا باعتبارها ماضٍ، بل حاضر أكثره مستقبل، لأنه  لم يمضِ، وهو ما دوّنه بكتاب بالعنوان ذاته.
   ودائماً ما كنتُ استفزّه بالقول "أخرج  النجف التي في داخلك"، وكنت بذلك أخاطب نفسي أيضاً، عن تلك المدينة التي ظلّت "توشوشني"، هكذا ظلّ الماضي يعيش فينا ولا يريد أن يمضي، إنه  حاضرٌ وحيٌّ في ذواتنا، خصوصاً حين يكون أكثر طهرية وصدقاً وعفوية؛ إنه ماضينا الذي لا يمضي، بل لا نريده أن يمضي.
   بقي مهدي الحافظ على الرغم من جميع الخيبات والمرارات والآلام والخسائر التي حلّت به محافظاً على توازنه ورباطة جأشه، فما أن يرى أحد الرفاق والأصدقاء حتى يسارع إلى عناقه واحتضانه، وكان يمارس ذلك بعفوية وتلقائية ومحبّة، مع أن لديه الكثير إزاء بعض "الأعدقاء" على حدّ تعبير الشاعر وليد جمعة الذي نحت الكلمة في قصيدة له بالعنوان ذاته، حين يتحوّل الأصدقاء إلى أعداء وإنْ ظلّوا يرتدون جلباب الصداقة، فقد تحمّل مهدي الحافظ من هؤلاء إساءات كثيرة، بل بلا حدود.
   وكان أحد "أعدقائه" كما أخبرني يوزّع شكوكه واتهاماته به يساراً ويميناً بسبب اختلاف الرأي والموقف، وخصوصاً بصدد الحرب العراقية - الإيرانية، لكن مهدي الحافظ وهو يعرف كل ذلك ظلّ يعامله  بكل ترحاب وبأريحية، بل ولهفة أحياناً لاعتبارات قديمة، وكان يفعل ذلك دون تكلّف وربما بشيء من الشفقة أو الرحمة، مشفوعة بنوع من التسامح والترفّع، في زمن تشوّهت فيه العلاقات الإنسانية وساد النفاق الاجتماعي وتفشّى التكاذب "والصداقة" المصلحية.
   كان مهدي الحافظ بالرغم من فرحه الظاهري وابتسامته التلقائية حيث تلتمع عيناه ، ينزف من الداخل، خصوصاً حين يشعر أن القيم القديمة أخذت تتآكل والأماني علاها الغبار وأصابها الصدأ . وحتى حين يحاول إيجاد تفسير لبعض تلك المواقف لا يفعل ذلك مع الحقد، بل كان يقصد إبقاء الذاكرة في دائرة الضوء وكي لا يلفّها النسيان، ويتجنّب دائماً إصدار الأحكام.
   لم يكن مهدي الحافظ استعراضياً ولم يعرف كثيرون، لاسيّما من الساسة الجدد دوره الفعلي وكفاءاته ونضاله، فهو غالباً ما يحجم عن الكلام عن نفسه، وحين جاء عبداللطيف الشوّاف على ذكره في هامش مطوّل في كتابه "شخصيات نافذة" إعداد وتقديم الدكتور حمدي التكمجي، دار الورّاق للنشر، طبعة العام 2013،  استغرب كثيرون ممن كانوا يعتقدون أنه مجرد "موظف دولي" أو أحد " المترفين" أو "الارستقراطيين" الذين يستهويهم الحديث في السياسة، ولديه اطلاع على بعض قضايا العراق وتاريخه وليس ابن مدينة الشامية التي ولد فيها في العام 1937 وارتوى من " نهر الفرات الحزين".
   وعلى ذكر "قضاء الشامية" فقد خصّها الانتداب البريطاني بصفة "لواء" بضمّها إلى مدينة النجف، ولذلك كان يُقال " لواء عموم الشامية والنجف" ومقرّه مدينة النجف، ويضم عدداً من الأقضية والنواحي وينتهي بالحدود العراقية - السعودية وكان يتبع  ذلك اللواء: الكوفة والعباسية والكفل وأبو صخير والمشخاب (الفيصلية أو السوارية) ونواحي غماس والمهناوية والصلاحية وغيرها، وكان الزعيم عبد الكريم قاسم قد عيّن معلماً في مدينة الشامية (مدرسة القحطانية) وقضى فيها عاماً دراسياً واحداً (1931-1932) قبل أن يلتحق بالجيش حسبما تقول بعض الروايات، وينتسب مهدي الحافظ (مهدي أحمد حافظ) إلى عشيرة آل دعيبل النجفية وكانت عائلته قد هاجرت من النجف إلى الشامية في مطلع القرن العشرين وعمل والده مختاراً لعدّة سنوات وأعقبه شقيقه موسى.
النشاط السياسي
   كان مهدي الحافظ قد بدأ حياته السياسية عضواً في اتحاد الطلبة وقد اعتقل في العام 1954 إبان انتفاضة الفلاحين في الشامية مع عدنان عباس وصادق العطية وهديب الحاج حمود وحسن الحاج  ودّاي العطية وموجد الحاج حمود وآخرين، وكان يومها طالباً في المتوسطة ، وتم نقله إلى غمّاس، وتوّلت هيئة الدفاع عن العدالة برئاسة المحامي توفيق منير الدفاع عنه ( أسقطت الجنسية  عن توفيق منير إثر قيام حلف بغداد العام 1955 ونفي إلى تركيا، وعاد بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958 إلى العراق وكان أحد أبرز قيادات حركة السلم، ولكنه اعتقل وأعدم عام 1963 بعد الانقلاب الدموي). وبعدها انتمى مهدي الحافظ إلى الحزب الشيوعي في أواسط الخمسينات، وبعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 انتخب رئيساً لاتحاد الطلبة العام في المؤتمر الثالث (شباط/فبراير/1960).
   وفي السبعينات من القرن الماضي كان مهدي الحافظ عضواً مؤثراً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وعمل في سكرتارية الجبهة الوطنية التقدمية مع حزب البعث العربي الاشتراكي 1973-1978 وبعدها تم تعيينه كوزير مفوض العام  1978 في السفارة العراقية في جنيف، ثم استقال العام 1980 حيث كان قد انصرف للعمل في المعهد الأفرو- آسيوي الذي تأسس حينها، ثم التحق بعمل جديد في الأمم المتحدة في فيينا (اليونيدو) ونسّب في أواخر التسعينات مديراً لفرعها الإقليمي في بيروت حتى تقاعده.  وقد أسس في مطلع التسعينات الهيأة الاستشارية مع أديب الجادر وتولّى الأخير رئاستها وكان مهدي الحافظ أمينها العام، ونظمت أول اجتماع لها لمناقشة عراقية- عربية في فيينا عن نتائج حرب الخليج الثانية العام 1991، شارك فيها نخبة من المثقفين والاختصاصيين العراقيين والعرب، بينهم كاتب السطور.
   انتقالة خارج السياق
   ظلّ مهدي الحافظ حتى في ظلّ انتقالته السياسية الجديدة التي قد يكون فاجأ بها كثيرين يحمل همّاً كبيراً ورغبة حقيقية في الخدمة العامة والوظيفة الحكومية، وإذا ابتعدنا على بعض الاعتبارات الشخصية وإغراءات المواقع الرسمية،  فيمكنني القول إنه كان "حالماً" بإمكانية إحداث تغيير يضع البلاد على طريق الديمقراطية، وقد سبق لي أن اختلفت معه في إمكانية انجاز شيء يُذكر من تلك "الأحلام" التي هي أقرب إلى "الأوهام" منذ الأيام الأولى للاحتلال.
   وأتذكّر حوارنا بعمان في فندق الفورسيزون Four Seasons وكان قد حدثني عن فظاظة بول بريمر مع أعضاء مجلس الحكم الانتقالي  والوزارة المنبثقة عنه  وتعامله معهم بخشونة واستخفاف كبيرين، فقلت له "استقلْ" وهذه فرصة لك، وتحمّل نتائج استقالتك، ففي ذلك تكون أقرب إلى نفسك وأردفت : لقد فقد جرّبتم وأخفقتم.
   ولعلّ هذا الموقف المندفع نحو الوضع الجديد ما بعد الاحتلال  كان سبباً في الجفاء بينه وبين أديب الجادر الذي شعر بالخيبة والمرارة، فانسحب من المشهد واعتزل الحياة العامة (انظر مقالتنا: أديب الجادر - الحزين الذي لم تفارقه الابتسامة،  صحيفة الزمان العراقية، الثلاثاء 18/2/2014) ، في إطار ما سمّي بتجمّع الديمقراطيين المستقلين الذي تأسس في لندن عشية احتلال العراق، وترأسه عدنان الباججي، لكنه سرعان ما تبخّر أو ذاب كفصّ ملح في الماء سريعاً، وكانت العديد من التنظيمات قد أنشئت على عجالة عشيّة الاحتلال، ولم يكن بعضها بعيداً عن تشجيع بعض الدوائر الغربية والأمريكية. 
   وكنت قد حاورته بأن السبيل إلى الخدمة العامة ليس المشاركة أو الرفض والموالاة أو المعارضة، ففي بعض الأحيان وبغض النظر عن النظام السياسي، تتقدّم "شرعية الإنجاز" التي تسدّ جزءًا من النقص في شرعية النظام السياسي، طالما يحقّق بعض المكتسبات التي يستفيد منها الشعب، وبما أن هذه الأخيرة غير ممكنة التحقيق في ظل التقاسم الوظيفي ونظام المحاصصة الطائفي - الإثني ، فهذا سيعني إن إمكانية التغيير ستبقى معوّمة بفعل غياب الحدّ الأدنى من شروط تحقّق وحدة الإرادة والعمل، ناهيك عن تشظّي وانشطار مؤسسات الدولة، لاسيّما بتطييفها وأثننتها.
   ومع أنني كنت على خلاف شديد مع وجهة نظر مهدي الحافظ  بشأن محاولة الاستفادة من الظرف الجديد و"المشاركة" في العملية السياسية، لكنني احترمت اجتهاده واختياره وكلّما كنّا نلتقي  نواصل حوارنا وكأننا بدأنا الآن ولا يخلو ذلك من بعض النكت والقفشات، خصوصاً حين كان ينقل لي بعض ما يجري في المطبخ السياسي. وإذا كان لي من قول بشأن اجتهاده فإنه رغم  اختلال المشهد والتهافت من حوله و"القابلية على الاستتباع" لدى الغالبية الساحقة، من القوى والشخصيات الطامحة، باستعارة تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار" فإنه حاول تقديم  القول الصادق والفعل الملتزم والخلق الرفيع والنزاهة الشخصية والمعنوية، ولذلك بدا  مختلفاً، بل وغريباً عمّا هو سائد، لأنه في غير مكانه، خصوصاً وإن التلوث في البيئة السياسية العراقية انعكس على الجميع.
   وكنتُ قد استمعت إلى شكوى عدد من المسؤولين والوزراء من الذين انخرطوا في مشروع ما بعد الاحتلال، سواء بزعم عدم الانعزال أم رغبة في التغيير من الداخل أم عدم وجود بديل عن هذا الخيار أم عدم القدرة على مواجهة المشروع الأمريكي. وأتذكّر أنني خاطبت أحدهم : بما كان يردّده الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول " ليس من حق وزير أن يشكو ... فلا أحد أجبره على أن يكون وزيراً".
   وحسب قراءتي المتواضعة فإن الواقع كان مزدحماً بالكثير من الألغام النظرية والعملية، ابتداء من صيغة نيغروبونتي  - بول بريمر- زلماي خليل زاد، إلى دستور نوح فيلدمان وبيتر غالبريث، ناهيك عن الشحن الطائفي والإثني الذي يذكّر بعصر المداخن عقب الثورة الصناعية في أوروبا، حيث تتّجه جماهير غاضبة تملؤها الكراهية والحقد الذي تم تأجيجه بالصدور نحو أهداف ملتبسة وموهومة أحياناً تحت شعارات طائفية وإثنية بلا حدود.
   مشتركنا  الطلابي- اليساري
   كنت قد عرفت مهدي الحافظ قبل أن أتعرّف عليه، حين أصبح رئيساً لاتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية في أول انتخابات طلابية عامة بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وذلك في المؤتمر الثالث العام الذي ضمّ قوى سياسية متعدّدة (شباط/فبراير 1960)، لاسيّما من القوميين العرب والكرد والبعثيين والوطنيين الديمقراطيين، وإنْ كانت الغلبة والمواقع الرئيسية للشيوعيين، ولكنه سافر بعدها للدراسة في براغ وانقطعت أخباره.
   وحين عاد سرًّا كانت النكبة قد حلّت بالحزب الشيوعي والتنظيم الطلابي المدعوم من جانبه إثر انقلاب شباط (فبراير) العام 1963، وجرت محاولات إعادة التنظيم ولحمة العلاقات، حيث بدأت الخيوط تلتقي وتتواصل وإنْ ببطء شديد وليس من دون إشكالات ومشاكل، خصوصاً بسبب الانتكاسة من جهة، ثم النكوص بعد خط آب (أغسطس) العام  1964 الذي عُرف بلغة تلك الأيام " اليميني التصفوي" وبعدها "الانقلاب السريع" في الخط السياسي العام 1965 من جهة أخرى.
   ولعب مهدي الحافظ  بعد عودته  دوراً كبيراً في إعادة بناء شبكة الكادر الطلابي الذي حقّق خطوة مهمة بلقاء موسع (الكونفرنس الثاني الذي ضم ممثلين عن 11 كلية ومعهداً في بغداد) في تشرين الثاني/نوفمبر العام 1965 مع استمرار عمله في مجال العلاقات الوطنية مع : عامر عبدالله وحسين جواد الكمر.
   وقد توّج العمل في الميدان الطلابي بنصر كبير حين استطاعت الحركة الطلابية فرض إجراء انتخابات مهنية عامة في ربيع العام 1967 إثر صدور قانون انتخابات تحت اسم "اتحاد طلبة الجامعة"، وكانت نتائجها  باهرة، بل ومفاجئة إلى حدود كبيرة حتى بالنسبة لنا، حيث فازت قوائم "اتحاد الطلبة العام" بنسبة 76 من المقاعد الانتخابية وحصلت على أكثر من 80% من الأصوات في جامعة بغداد.
   أما جامعة البصرة فقد فاز اتحاد الطلبة  بالمقاعد الانتخابية بنسبة 100% في حين حصل في جامعة الموصل على أكثر من 60% من المقاعد الانتخابية ونحو 75% من أصوات الناخبين، ولم يكن ذلك بمعزل عن ضغوطات رافقتها واعتداءات صاحبتها بما فيها تكسير بعض الصناديق الانتخابية، علماً بأنه تم إلغاء الانتخابات بعد يوم واحد من إعلان النتائج.
   وكتبت بعض الصحف الصادرة آنذاك تبريراً لإلغاء النتائج تقول: "أن القوى الشعوبية الحاقدة عادت ترفع رأسها من جديد". وكانت "جريدة المنار" قد كتبت افتتاحية شديدة اللهجة علّقت فيها على نتائج الانتخابات الطلابية تحت عنوان "جرس الخطر يدقّ في سماء العراق"، وهكذا يمكن القول إن الانتخابات الطلابية كانت معركة وطنية كبرى بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
   وحين حصل الانشطار في الحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) 1967 لم يكن مهدي الحافظ مع هذا التوجّه، ومثلما كان العديد منّا ضد خط آب (أغسطس) العام 1964 الذي وُصِفَ بأنه "يميني وذيلي" بلغة تلك الأيام، لكنه في الوقت نفسه كان ضد التوجه المتياسر الذي اتبعته القيادة المركزية بإدارة عزيز الحاج من جهة أخرى.
   ثلاث خصال
   ثلاث صفات أستطيع أن أدونها عن مهدي الحافظ بكل أريحية ودون أن أخشى من الممالئة أو الوقوع في المبالغة، وهي تلمستها حين تعرّفت عليه عن قرب طيلة خمسة عقود من الزمان وتوثقت علاقتي به مع مرور الأيام وشهدت علاقتنا تحدّيات كثيرة في ظروف وأوضاع مختلفة، فقد عملت في إدارة المنظمة الحزبية التي كان يتولى الحافظ مسؤوليتها لنحو 3 سنوات ويتناوب عليها آرا خاجادور ، وكثيراً ما اختلفتُ معه، ولكن ذلك لم يفسد في الود قضية كما يُقال.
   كما عملت بصحبته وإلى جانبه في إطار قيادة العمل الطلابي في الخارج لنحو ثلاث سنوات أيضاً، وحضّرنا سويّة مع آخرين لاجتماع موسّع لمنظمات الخارج في برلين الغربية العام 1972، حيث كنت رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين في تشيكوسلوفاكيا في الوقت نفسه، ونظّمنا مهرجاناً واسعاً في مدينة براتسلافا (سلوفاكيا) هو الأول في حينها وأصبح تقليداً سنوياً، ثم عملت معه في هيئة حزبية واحدة لمدة زادت على ثلاث سنوات ، ولاسيّما حين شكّلنا حركة المنبر الشيوعي، وكنّا باتصال مستمر ودائم طيلة فترة الثمانينات والتسعينات أيضاً واستمر هذا حتى  بعد انتقالي إلى لندن وانتقاله إلى بيروت .
   وكان مهدي الحافظ قد أُبعد عن إدارة الحزب منذ أواخر السبعينات واتخذ اجتماع اللجنة المركزية في العام 1980 قراراً بإعفائه ونوري عبد الرزاق من عضويتها، وحاولت مع عزيز محمد الأمين العام السابق للحزب  إعادة الصلة شبه المقطوعة وتلطيف الأجواء بينه وبين الحافظ، ونظّمت لهما لقاءً بعد جفوة كبيرة في دمشق في ربيع العام 1981 ولقاءً آخر بعده في خريفه، لكن الأمور كانت تسير بالاتجاه المعاكس بسرعة كبيرة، وخصوصاً بعد تطورات الحرب العراقية- الإيرانية، ولم أكن بعيداً عنها، وهو ما عبّرت عنه علناً بالكتابة أو النشاط أو المشاركة في الحملة العربية والدولية، وكان ذلك سبباً أساسياً في الاختلاف الذي حصل بين شبكة الكادر وعدد من المسؤولين في إدارة الحزب وبين الشق الثاني من الإدارات الحزبية، الذي كان موقفه أقرب إلى قيادة الحركة الكردية، لاسيّما برفع شعار " إسقاط الدكتاتورية وإنهاء الحرب" في حين كانت المجموعة المعترضة قد ركّزت على إنهاء الحرب كمهمة عاجلة وأساسية والإتيان بنظام ديمقراطي باعتباره تحصيل حاصل.
   أما عن صفاته فهي:
الأولى - شجاعته فقد  كان شجاعاً وغير هيّاب في قول الرأي. وأحتفظ بالعديد من الأمثلة، ولربّما كان رأيه سبباً في سوء علاقته مع ألمانيا الديمقراطية وكذلك مع السوفييت، الذين لم يرغبوا في تجديد موقعه سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي، ولم تتّضح تفاصيل تلك الطبخة عشية المؤتمر العاشر إلّا بعد مجيء نوري عبد الرزاق من بغداد، حيث أبلغه المسؤول السوفييتي ساشا بحقيقة الأمر، وأكّد هذا الأخير ترشيحهم لفتحي الفضل من السودان سكرتيراً عاماً للاتحاد بدلاً من مهدي الحافظ.
   ولا أستبعد ثمة تأثير من جانب الدولة العراقية التي كان الألمان والسوفييت يراعون مصالحهم في العلاقة معهما، حتى وإن كان الأمر على حساب الحزب الشيوعي أو أحد كوادره  البارزة، وثمة أمر آخر حصل خلال انعقاد المؤتمر العاشر، ألا وهو حضور شخص غريب قال إن دعوة وجهت له من السكرتير العام لاتحاد الطلاب العالمي (المقصود مهدي الحافظ)، وقد أخبرني ناظم الجواهري الذي شارك في الوفد مع خليل الجزائري وعدنان الجلبي وكاتب السطور بأن الأجهزة الأمنية التشيكية قد استدعته للاستفسار عن هويّة الشخص الغريب الذي حضر المؤتمر، ولكن معظم الأسئلة كما قال كانت تدور حول مهدي الحافظ، وهي لعبة طالما تثيرها بعض الأجهزة الأمنية والمخابراتية لإثارة نوع من الشكوك بشأن بعض الشخصيات التي لا تتواءم معها أو لا تنفذ رغباتها أو رغبات "الأخ الأكبر" حسب رواية جورج أورويل.
الثانية- اجتهاده، فقد كان مجتهداً وله رأي خاص يحاول أن يستنبطه في ضوء ما هو قائم من أوضاع، وهو وإن يراعي "التوازنات" والحسابات الخاصة أحياناً وهو ما أصبح  أكثر ميلاً له في السنوات الأخيرة للحفاظ على المواقع، لكنه بشكل عام كان له رأي خاص طالما ظلّ يدافع عنه، سواء إزاء بعض الاندفاعات أيام الجبهة الوطنية والاضطرار بعدها إلى تقديم تنازلات لا مبرّر لها، أم في نقده للموقف الرسمي للحزب الشيوعي من الحرب العراقية- الإيرانية  أم من بعض القضايا العربية، وكانت الدعاية الحزبية قد روّجت ضدّه عدداً من الاتهامات بينها تفسير بعض مواقفه بالتأثّر بمواقف قيادة حزب البعث، كما تم تسريب ذلك إلى صحيفة السياسة الكويتية بُعيد انعقاد المؤتمر الرابع (تشرين الثاني/نوفمبر/1985) والذي عكس التباعد والانقسام بين رؤيتين داخل الحزب الشيوعي.
والثالثة -  كرمه وسخاءه، فقد كان معطاءً وبيته مفتوحاً ويده ممدودة وقد سبق لي أن قلت إن كل كريم شجاع وهما صفتان متلازمتان، وكان كثيراً ما يضغط على نفسه لكي يوفّر ما يريد الأصدقاء، وظلّ يستضيفنا في بيته، سواء في براغ أم في فيينا ويحاول أن يعمل كل ما يسعدنا ويوفّر لنا الإقامة الطيبة وسبل الراحة وهو ما كان يفعله مع العديد من الأصدقاء في بغداد أيضاً.وإذا كنت قد جئت على بعض الأمثلة لإضاءة هذه المسألة بالنسبة لمن لا يعرفه، إلّا أن الكثير من الأصدقاء يعرفون ذلك ويشهدون له.
   وهذه الصفات أصيلة لدى مهدي الحافظ ولذلك ظلّت لصيقة به، سواء في أوقات الضيق أم الرهاوة، بل وفي كل الأوقات، ولم يفقد بوصلته في هذه الميادين الثلاثة التي تمثّل جوهر شخصيته ذات الطابع المرح بقدر استقامتها وذات الأريحية والانفتاح بقدر نزاهتها ومرونتها وعدم تشدّدها.
   مؤتمر كراكوف
   أتذكّر أنني حين زرت براغ في طريقي إلى مدينة كراكوف (بولونيا) للمشاركة في الاجتماعات التحضيرية للذكرى المئوية لميلاد فلاديمير أليتش  لينين العام 1969 استقبلني مهدي الحافظ في المطار، وكنتُ قد كتبت له برقية من دمشق أبلغه فيها بقدومي وضرورة أن يتم ترتيب أمور الفيزا خارج جواز السفر، وذكرت له السبب لاحقاً بأن قراراً قد صدر حينها بمنع  السفر إلى أوروبا  إلّا بموافقات خاصة في ذلك العام.
   وزرت براغ وكراكوف ووارشو ثم عدت إلى براغ ومنها إلى بغداد عن طريق بيروت ومنها زرت الشام وعدت إلى بيروت قبل توجهي إلى بغداد، وكان مهدي الحافظ قد أرسل معي حقائب تعود إلى نوري عبد الرزاق، بعد أن كان نوري قد عاد إلى بغداد ليستقر فيها حيث حلّ مهدي الحافظ محلّه في سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي. وحين وصلت  بغداد اتصلت بنوري  وزرته في بيته بالكرادة وأعطيته الحقائب المُرسلة من مهدي الحافظ، وتناقشنا حول موضوع الانتخابات الطلابية.
   وكان ذلك بمثابة استكمال لمناقشتي مع مهدي الحافظ، وخصوصاً حول مستقبل العمل الطلابي والشبابي في ظل الأوضاع الجديدة والمتغيّرات على الساحة السياسية بوصول حزب البعث إلى السلطة وعمله في المنظمات المهنية من موقعه الرسمي. وكان هذا النقاش قد ثار في صفوفنا، خصوصاً بعد عدم توصّلنا إلى اتفاق مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق لعقد صيغة تحالف أو جبهة طلابية أو تعاون أو تنسيق، في حين كان الاتحاد الوطني يريد منّا الاندماج في تنظيم واحد والمقصود بذلك ذوباننا في ما هو سائد.
   وكان وفدنا مؤلفاً من لؤي أبو التمن وكاتب السطور، ومن جانب الاتحاد الوطني كريم الملّا ومحمد دبدب، وكان يحضر في اجتماعاتنا بشكل مستمر "حسن المطير" الذي  أُعطي اسماً مستعاراً " فيصل" وكان الجميع ينادونه بهذا الاسم وعرفنا لاحقاً  أن "الملازم فيصل" في قصر النهاية هو المقصود بحسن المطير الذي كان يعمل برفقة ناظم كزار مدير الأمن العام، وأعدم معه في الحركة الانقلابية ضد البكر - صدام يوم30 حزيران (يونيو) 1973.
   وقد تعرّفنا على حقيقته من الوفد الكردي المفاوض معنا والذي كان يمثل مجموعة (المكتب السياسي- جلال الطالباني) حيث ضمّ الوفد طيب محمد طيب ( أعيد إلى وزارة الخارجية بعد الاحتلال، وعيّن سفيراً في أرمينيا) وفاضل ملّا محمود رسول (انتقل من الحركة الكردية إلى القيادة المركزية للحزب الشيوعي ومنها بعد الثورة الإيرانية إلى التيار الإسلامي، وقتل مع عبد الرحمن قاسملو في فيينا حين كان يقوم بمهمة الوساطة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والحركة الكردية الإيرانية / الحزب الديمقراطي الكردي العام 1989)، كما كان يحضر عن القوميين العرب صباح عدّاي (عضو اللجنة المركزية للحركة الاشتراكية العربية ، توفّي مؤخراً). وقد رويت تفاصيل حوارنا مع الاتحاد الوطني في أكثر من مناسبة، وورد ذلك أيضاً في تفصيلات ذكرتها في كرّاس أصدرته في العام 1983 في بشتاشان (كردستان العراق) بعنوان "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق".
   مهدي الحافظ والاتحاد الوطني
   كان الاتحاد الوطني لطلبة العراق متشدّداً ضد مهدي الحافظ ويعتبر وجوده سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي، سبباً في المواقف السلبية من بعض المنظمات الطلابية المنضوية تحت لواء الاتحاد المذكور ضده، وذلك بفعل الحملات التي تم تنظيمها في الخارج حيث كان مهدي الحافظ في قيادة لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي. وحين قرّر الاتحاد الوطني بُعيد الانتخابات الطلابية العام  1969 وإثر عقد أول مؤتمر له بعد 17 تموز (يوليو) العام 1968 منح عضويات شرف لقادة الحركة الطلابية، بمن فيهم من الأطراف الأخرى، استثنى منّا مهدي الحافظ، وحاز على عضوية الشرف حينها كل من : نوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمن وكاتب السطور لدورهم التاريخي في الحركة الطلابية ومنح الاتحاد 20 شخصية محسوبة على حزب البعث و4 شخصيات محسوبة على الحركة الكردية عضويات شرف أيضاً، وكانت جريدة النور "الكردية" قد نشرتها والصحافة المحلية وقامت بتعميمها أجهزة الإعلام الرسمية.
   وبالعودة إلى العلاقة مع الاتحاد الوطني فقد كان مهدي الحافظ قد استمع لي وأنا استعرض علاقاتنا الوطنية وبالتحديد مفاوضاتنا مع الاتحاد الوطني عشية الانتخابات والاحتمالات المتوقّعة وتناقشنا طويلاً حول مهماتنا في خارج العراق وما يمكن أن تلعبه قوانا لدعم تحرّكنا في الداخل. وفي واحدة من المناقشات حضر معنا عيسى العزاوي أحد قيادات الحركة الطلابية في الأربعينات (المهندس الشيوعي العتيق وكان يعمل حينها مترجماً في مجلة قضايا السلم والاشتراكية).
   واستكملت الحوار بعد عودتي إلى بغداد مع  نوري عبد الرزاق  الذي طرح عليّ تساؤلات عديدة وفي غاية الذكاء والأهمية، وكان بعضها قد طرحته على نفسي: ما الذي يمكن عمله بعد أن وصلت مسألة التحالف مع الاتحاد الوطني إلى طريق مسدود؟ وهل تَشدّدنا أكثر من اللازم أم أن الاتحاد الوطني قطع علينا الطريق ببعض المطالب التعجيزية ؟
   وكنت منذ عقود من الزمان قد أجريت مراجعة انتقادية بهذا الشأن بما لنا وهو كثير وما علينا وهو غير قليل: فإذا كانت استراتيجيتنا ترجّح التعاون فكان عليها تقديم بعض التنازلات وإذا كانت استراتيجيتنا ليست معنية حقيقة بالتحالف ولا تريد التوصل إلى ما هو مشترك، فعلينا التصلّب في الموقف، وكان هذا هو رأي نوري عبد الرزاق الذي بلوره بشكل واضح وطرحه عليّ على صيغة تساؤلات، وأرى الآن أن ثمة تخبّط بين هذا وذاك وظلّ الاجتهاد الشخصي والتقدير لأهمية التحالف من عدمه هو الذي يحدّد الموقف، لاسيّما بغياب استراتيجية واضحة.
   تحالفات قلقة
   وإذا كان لي أن أشير إلى تجارب التحالف الأولى، فقد تمكّنا من الاتفاق مع قيادة حزب البعث  في إطار "الجمعية العراقية للعلوم السياسية" التي  كنت أترأس وفدها للحوار مع حزب البعث والتي انضوت لاحقاً في إطار "جمعية الحقوقيين العراقيين"، ثم عادت واستقلّت في وقت لاحق. وعلى الرغم من صعوبة المفاوضات لاسيّما مع حامد الجبوري ولاحقاً مع محمد محجوب، إلّا أن الذي رجّح قيام مثل هذا التحالف، هو الموقف الإيجابي من القيادي البعثي صديقي زهير يحيى المرشح للقيادة القطرية في المؤتمر القطري الثامن في العام 1974 والذي توفي في ظروف غامضة في وقت لاحق، وسبق لي وأن ذكرته في أكثر من موقع ولأكثر من مناسبة فقد كان مهذباً ومتواضعاً ومثقفاً ومخلصاً حقيقياً للتحالف، وكانت علاقتي به قد توثقت قبل 17 تموز (يوليو) 1968  بنحو سنتين وفيها الكثير من الخصوصيات والأسرار. ولا أريد أن أنسى الدور الإيجابي أيضاً للصديق مجبل السامرائي (الذي أعيد إلى وزارة الخارجية بعد الاحتلال وأصبح سفيراً للعراق في فنلندا قبل إحالته على التقاعد).
   ولم يكن ما تحقّق بمعزل عن مرونة من جانبنا أيضاً وكنت في هذه القضية أنسّق مع ماجد عبد الرضا، ولكنه على الرغم من النجاح الذي تحقّق إلّا أن عدداً من الفائزين في الانتخابات تمت ملاحقتهم واعتقل بعضهم، ولاسيّما من القوميين، الأمر الذي وضع علامات استفهام كبيرة حول جدوى مثل تلك التفاهمات التي حسبما  يبدو طارئة وظرفية، بل لا تعدو أحياناً أن تكون تكتيكية بغياب الثقة اللازمة والمتبادلة بين السلطة ومعارضتها، وأستطيع أن أضيف الآن إن ثمة تعارض كان بين التوجّه السياسي لعدد من القيادات وبين الدوافع الأمنية ومركز القوة الذي أخذ يهيمن بالتدريج على كل شيء، وكثيراً ما كانت هناك تعارضات بين ما يقوم به ناظم كزار و"جهاز حنين" و"العلاقات العامة" " النواة لجهاز المخابرات"وكانت بإشراف صدام حسين، وبين توجّهات العديد من قيادات البعث وكوادره، وهو التناقض الذي طالما يحصل في الأنظمة الشمولية، حيث يتم إخضاع كل شيء لضرورات  الأمن وتمنح الأجهزة الأمنية صلاحيات لا حدود لها في الكثير من الأحيان، بحيث تتغوّل على الدولة والحزب.
   مأزق الاحتواء والطريق المسدود
   أما بشأن الموقف الطلابي، فان حزب البعث تشدّد في موضوع الاسم والرئاسة والأغلبية والتمثيل الخارجي، وإن خفّف موقفه من المسألة الأخيرة لاحقاً لمصاعب عملية، مؤجلاً بحثها لحين آخر، ولكن نحن من الجهة الأخرى لم تكن لدينا المرونة المطلوبة، أو بالأحرى الوضوح الكافي للحدّ الذي نريد الوصول إليه من التحالف، ناهيك عن الثقة الكافية بسبب تجارب عديدة، فباستثناء الاسم حيث كان الرأي حاسماً بشأنه فإن الأمور الأخرى كانت قابلة للنقاش، لكن فريق الاتحاد الوطني المفاوض لنا أصرّ على قيام تنظيم واحد بحجة "وحدة الحركة الطلابية"، ولم يكن ذلك يعني سوى الانضواء تحت لواء " الاتحاد الوطني" وكان مجرد طرحه إحراج لنا، بل انتقاص من كرامتنا ولم أكن مقتنعاً به شخصياً، وهو ما أبلغت إدارة الحزب برفضه بالكامل.
   وكنّا اقترحنا اسماً وسطاً " الاتحاد العام لطلبة العراق" وكان هذا الاسم قد ورد  بالقانون رقم 97 لسنة 1969، واعتبرنا هذا الاسم  يعبّر عن الطرفين، ولكننا من جهة أخرى طرحنا موضوع المساواة في توزيع المقاعد بحيث يكون عدد مقاعدنا بقدر المقاعد التي يحصل عليها الاتحاد الوطني في المكتب التنفيذي والأمانة العامة، وبالمقابل لا بدّ من مساواة عدد ما يأخذه القوميون الكرد ، بما يأخذه القوميون العرب. وفيما يتعلّق الأمر بالرئاسة فهي إمّا دورية أو يتم تداول الرئاسة والأمانة العامة بينهم وبيننا، وبالطبع فتلك صيغة ليست مقبولة أو حتى ممكنة في ظلّ توازن القوى السائد، خصوصاً وكنّا قد توصلنا إلى اتفاق بشأن 80% من الأهداف النقابية المشتركة، وقد سبق وأن قدمت قراءة نقدية لموقفنا في وقت لاحق.
   لكن ما عاظم التباعد وشدّد الحملة ضدنا وسرّع في  اتخاذ إجراءات "عقابية" وملاحقات هو عدم اعترافنا بشرعية الانتخابات ونزاهتها والنتائج التي تمخضت عنها، حيث نظّمنا حملة عالمية وعربية بدعم من اتحاد الطلاب العالمي الذي كان مهدي الحافظ ممثلنا فيه.
   وحضر وفد من اتحاد  الطلاب العالمي كلجنة لتقصي الحقائق والتقينا به في بغداد  حميد برتو وأنا، وكان الوفد يضمّ كجمن من ألمانيا الديمقراطية (نائب السكرتير العام) وفتحي الفضل من السودان (نائب الرئيس) وأصبح لاحقاً سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي خلفاً لمهدي الحافظ في مؤتمر براتسلافا (المؤتمر العاشر) الذي انعقد في يناير /كانون الثاني من العام 1971، وكان اجتماع اللجنة التنفيذية قد انعقد قبل ذلك بنحو أسبوع، وشاركت بالاجتماعين، وكنت قد وصلت من القاهرة، حيث شاركت بمؤتمر بمناسبة ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر (بعد وفاته بنحو أربعة أشهر - 15 كانون الثاني /يناير /1971 حيث نُظم في جامعة القاهرة ) وقدّمت بحثاً بعنوان: عبد الناصر وحركة التحرّر العربي (نشرناه في نشرة لجنة التنسيق التي كنّا نصدرها خارج الوطن).
   في بغداد نظمنا لوفد IUS (اتحاد الطلاب العالمي) اجتماعاً مع سكرتارية اتحاد الطلبة (انعقد في بيت خاص في بغداد الجديدة) وحضر اللقاء على ما أتذكّر: لؤي أبو التمن، حميد برتو، محمد النهر، ناظم الجواهري، سعدي السعيد، فائز عبد الرزاق الصكَر وصبحي مبارك ولم تتمكّن رابحة الناشئ  من الحضور، وكانت قد حلّت محل الرفيقة رقيّة الخطيب في سكرتارية الاتحاد والأخيرة تزوجت من عزيز حميد الذي استشهد في العام 1970 في قصر النهاية، وهو شيوعي قديم عمل في فترة سلام عادل  مسؤولاً عن محلية العمارة في 1954.
   وكان قد حصل تداول في المسؤولية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمل اتحاد الطلبة وإن بقي بعضهم في المسؤولية أو عاد إليها بطلب خاص من إدارة الحزب كما حصل مع لؤي أبو التمن وكاتب السطور، فقد شملت التغييرات غياب : حسن أسد وصلاح زنكنة ويوسف مجيد وطه صفوك وسعد الطائي وهادي صالح الكليباوي ونوزاد شاويس وحميد برتو وآخرين واقتصر الحضور على الأعضاء الفعليين في مكتب السكرتارية في الانتخابات التي أجريناها في الكونفرنس الرابع الذي انعقد في جزيرة " أم الخنازير" ببغداد بتاريخ  10/10/1969، وكنّا ننسق حينها مع ماجد عبد الرضا من إدارة الحزب وصاحب الحكيم المسؤول الحزبي حينها، أي عشية الانتخابات الطلابية العامة والتي اتخذنا قراراً بشأن المشاركة فيها سواءً عبر التحالف مع الاتحاد الوطني ، وهو ما كنّا نأمل تحقيقه على الرغم من الصعوبات والعقبات والاشتراطات، وإنْ فشلنا في الوصول إلى ذلك ، فيمكن أن نرشّح لوحدنا أو مع بعض القوى القريبة منّا مهما صغُر حجمها. وكان المؤتمر الرابع قد انعقد في جديدة الشط " الراشدية" ببغداد في 28 كانون الأول /ديسمبر العام 1968 في بساتين صفوك الجبوري، وكان التنسيق حينها مع د. كاظم حبيب من مكتب لجنة بغداد.
   والتقى وفد اتحاد الطلاب العالمي بممثلين عن القائمة المهنية الديمقراطية التي ضمّت ممثلين عنّا وعن القوميين (الحركة الاشتراكية)  واستمع إلى شهادات حيّة من بعض الذين تعرضوا للأذى أو الاعتقال أو الاحتجاز خلال الانتخابات. وعلى الرغم من تأييد وفد اتحاد الطلاب العالمي لمواقفنا واقتناعه بوجهات نظرنا وتأكيده في الاجتماعات العديدة واللقاءات الثنائية على أن الانتخابات حسب المعطيات التي عرضناها "غير شرعية" وشابها الكثير من العيوب التي أثرت على نتائجها، لكن كجمن الألماني غيّر رأيه لاحقاً وكتب تقريراً ممالئاً للاتحاد الوطني لطلبة العراق، بناء على طلب من السفارة الألمانية في بغداد وبتوجيه من القيادة الحزبية للحزب الاشتراكي الألماني الموحّد، حيث كان العراق أول دولة اعترفت بجمهورية ألمانيا الديمقراطية من خارج الكتلة الاشتراكية وأقامت علاقات دبلوماسية معها وجرى تبادل التمثيل الدبلوماسي بصفة "سفير".
    وبعد أن توثقت علاقتي بكجمن في الخارج من خلال مساهمتي في عدد من المؤتمرات والاجتماعات الدولية سألته عن سبب تغيير موقفه فأجاب " كما تعلم إنني حزبي ولا بدّ أن ألتزم بقرارات "القيادة" التي كان رأيها هو تقديم الأهم على المهم " حسبما قال، "والأهم هو العلاقات الثنائية بين البلدين"، أما تفاصيل تتعلق بانتخابات مهنية ، فلا يمكن مقارنتها بالعلاقات المختلفة والمتنوّعة بين البلدين.
   مهدي الحافظ في سكرتارية الجبهة الوطنية
   خلال وجود مهدي الحافظ في براغ لمهمته المهنية حاول الدراسة في مدرسة الاقتصاد العليا، وهي مدرسة تخرج الكادر الحكومي والحزبي المتقدم ، وتعتبر من المدارس الاقتصادية المتقدمة في العالم بعد كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics) في  بريطانيا والكليات الاقتصادية الشهيرة في الهند وبولونيا ، ولكن بسبب قبول أحد الطلاب ممن لم ينهِ دراسته الثانوية سحبت الحكومة العراقية الاعتراف بها، وقد حاولنا عبر بيانات وإيضاحات تقديم ما يعزّز الثقة بالمدرسة الاقتصادية العليا حتى أعيد الاعتراف بها، وكنت قد حضرت مناقشة مهدي الحافظ ودفاعه عن أطروحته ، وأتذكر أن  هشام البعّاج الذي كان يدرس في المدرسة ذاتها حضر أيضاً، كما حضر حميد برتو وآخرين الاحتفالية التي أقيمت بعدها، وكان ذلك في العام 1973، وعاد مهدي الحافظ إلى بغداد حيث كان قد انتدب إلى العمل في سكرتارية الجبهة الوطنية، واستمر في إلقاء بعض المحاضرات في الجامعة المستنصرية ، وأساس وظيفته كان في وزارة النفط.
   وكان الحافظ قد تخرّج من كلية التربية في بغداد- قسم الكيمياء، ودرس من العام 1961 ولغاية العام 1964 في مدرسة الإعداد الحزبي في براغ مع عزيز الحاج وماجد عبد الرضا وخلال زياراته المتكررة إلى براغ كنت ألتقيه في كل مرّة ، سواء مع نعيم حداد أم مع آخرين في إطار مجلس السلم العالمي بصحبة عزيز شريف ونوري عبد الرزاق وآخرين، وسبق أن رويت في إحدى المرّات عن مناقشة بين الجواهري وعزيز شريف في فندق الانتركونتيننتال، وذلك في كتابي " الجواهري- جدل الشعر والحياة" دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 1997، وط2 دار الآداب 2008.
   خلال عمله في سكرتارية الجبهة لم يتردد مهدي الحافظ في تبنّي الكثير من القضايا المتعلقة بحياة الناس، وأتذكّر أنني كتبت له بخصوص قضية هادي راضي الذي أعيد من براغ بقرار حزبي بيروقراطي خاطئ لتتسلّمه الأجهزة الأمنية، وقد بذل ما في وسعه ليس لإطلاق سراحه فحسب ، بل لاستحصال جواز سفر له بعد عدّة أشهر ليعود إلى براغ، وحين عدت إلى بغداد كان مهدي الحافظ قد أبعد من سكرتارية الجبهة بقرار من إدارة الحزب، ونسّب إلى مكتب العمل الآيديولوجي، والتقيت به عدة مرّات وأخبرته بأنني سأذهب إلى أداء الخدمة الإلزامية وبقينا على اتصال، ثم أخبرني بأنه سيغادر إلى الخارج وقد تطول إقامته، وعرفت إنه نسّب إلى العمل في السفارة العراقية في جنيف.
   تواصل جديد من دمشق
   وحين وصلت إلى دمشق في تموز /يوليو العام 1980، اتصلت به تلفونياً وأعطيته عنواني وتواصلت معه بالمراسلة، وجاء إلى دمشق والتقينا وشعرت إن قرار إبعاده ترك لديه حزناً شديداً، لاسيّما ما صاحب ذلك من محاولات للإساءة ، ساهم فيها بعض "أعدقائه"، وقد تردّت صحته واضطر لإجراء عملية جراحية لقرحة نازفة في المعدة.
   والتقينا في دمشق وبيروت مثلما التقينا لاحقاً في القاهرة وبراغ وفيينا وبغداد عدّة مرّات وكنت أشعر في كل مرّة إن ثمة تراكم حاصل في علاقته مع الحزب، وحاولت من جانبي تخفيفه، ولكن تباعد المواقف، ولاسيّما إزاء التطورات السريعة، لم يجعل أي منّا بعيداً عن التأثّر بها، ولاسيّما الموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، وكنت قد أصدرت كرّاساً بعنوان " النزاع العراقي - الإيراني" في مطلع العام 1981 وكتبت قبل ذلك عدّة مقالات حول الموضوع لقيت ارتياحاً لديه، وأثّرت وجهات نظر غير تقليدية بخصوص الموقف من حقوق العراق المشروعة، خارج قرار اللجوء للحرب الذي كان خطأ بكل المعايير، لكن المطالبة بالحقوق ونقد اتفاقية 6 آذار  (مارس) 1975 وهو ثابت ينبغي التمسك به شيء،  في حين أن اللجوء إلى الحرب شيء آخر، وكان هذا موقفي ذاته حيث كتبت رسالة إلى المكتب السياسي(1975) أوضح فيها رأيي المستند إلى قواعد القانون الدولي والمنسجم مع المصلحة الوطنية العليا في حينها، وكانت الرسالة تتألف من 13 صفحة، وكانت إدارة الحزب قد عبّرت عن تأييدها غير المبرّر لاتفاقية 6 آذار/مارس 1975 المجحفة وغير المتكافئة.
*****
   اللجنة الوطنية العراقية للسلم
   حين كلّفتُ بإعادة تأسيس اللجنة الوطنية العراقية للسلم وليس المجلس الوطني للسلم والتضامن (وهي التسمية الرسمية التي احتفظت بها بغداد حيث بقي عزيز شريف رئيساً لها) تحرّكتُ على القوى السياسية والشخصيات الوطنية، وفاتحت بعض القوميين للانضمام، فوافق هاشم علي محسن ومحمد الحبوبي ومن البعثيين فاضل الأنصاري وباقر ياسين، ومن الأكراد مسعود البارزاني وآخرين واقترحت ثلاثة أسماء جديدة هي: الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك. كما اقترحت الإبقاء على جميع الأعضاء السابقين من طرفنا وهم : نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ ورحيم عجينة وبشرى برتو وعامر عبدالله ونزيهة الدليمي وكريم أحمد وصفاء الحافظ، وأرسلت القائمة الجديدة إلى الرفيق باقر ابراهيم الذي كلّفني بالمهمة باسم المكتب السياسي  والتي استغرقت بضعة أسابيع لإنجازها وإجراء اتصالات بالشخصيات الجديدة، فأعادها لي وكان قد وضع اسمي من ضمن القائمة بقلمه وبخط يده، مؤشراً أن هذا قرار المكتب السياسي.
   وكان أولى مهمات اللجنة السفر إلى عدن لحضور المؤتمر الدولي لمجلس السلم العالمي، وكان الوفد برئاسة عامر عبدالله وعضوية د. نزيهة الدليمي وكاتب السطور، والتقينا بشاندرا رئيس مجلس السلم وبعلي ناصر محمد الرئيس اليمني وشرحنا لهما كل على انفراد وللوفود الأخرى ظروف عملنا وما أصاب المجلس القديم من تصدّع وعرضنا عليهم التشكيلة الجديدة شارحين لهم التعددية الفكرية والتنوّع السياسي الذي تحتويه ودون أن نطلب منهم شيئاً محدداً فيما يتعلق بالتركيبة الرسمية، والأكثر من ذلك قلنا لشاندرا: أننا لم ننتخب رئيساً لنا لأننا نعتبر عزيز شريف رئيسنا جميعاً حتى وإن بقي رسمياً مع " مجلس بغداد". وقد حصل احتكاك بين عامر عبدالله ود. عصام عبد علي الذي ترأس الوفد الحكومي بسبب الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية.
   وبعد التحاقي بقوات الأنصار وخلال عودتي للعلاج عرفت بأنه تم تنحيتي من اللجنة المذكورة التي عملت على إعادة تأسيسها وكنت منسقاً لأعمالها لسبب رئيس أنني وضعت فيها اسمي مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق، وكان ذلك جزءًا من الصراع الفكري الذي اتخذ أبعاداً إقصائية وإلغائية مختلفة ، لا يتّسع المجال لذكرها.
   بعد أن تعرّض موقعنا للهجوم من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني، في أحداث بشتاشان الإجرامية 1983ومقتل نحو 60 رفيقاً وما بعدها من تداعيات خلال عبورنا جبل قنديل الرحيب، الذي يبلغ ارتفاعه 7800 قدم والمكسو بالثلوج طيلة أيام السنة باستثناء شهري تموز /يوليو وآب/أغسطس، وصلنا إلى إيران حيث تقرّر ذهابي إلى العلاج وهو قرار سابق للجنة الطبية ووصلت  إلى طهران بعد معاناة شديدة لا يتسع المجال لذكرها. ومن هناك كتبت إلى مهدي الحافظ ، وعرفت أنه كان دائم الاستفسار عني، خصوصاً وثمة أخبار عن إبادة من كان في موقع الإعلام المركزي قد تم تناقلها، حيث كنت مستشاراً لفصيل الإعلام المركزي وسكرتيراً للمنظمة الحزبية، وفي الموقع ذاته ، كانت الإذاعة والجريدة ونشرة "مناضل الحزب" التي كنّا نصدرها باسم المكتب الآيديولوجي المركزي ومسؤوليات أخرى.
   تطورات الحرب العراقية- الإيرانية والافتراق مع إدارة الحزب
   كانت وجهات نظر العديد من الرفاق قد أخذت تتبلور وتنضج بشأن الحرب العراقية - الإيرانية، خصوصاً بعد انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية ، وذلك بعد معركة خرمشهر (المحمّرة) 1982، وكنت ممن بادر بالكتابة عن الحرب وتطوراتها كراساً وعدّة أبحاث ودراسات ، وشعرت إن  موقفي أصبح أكثر بُعداً من إدارة الحزب، بل أصبح أكثر عمقاً وحسماً وشمولاً بعد دخول الجيش الإيراني للأراضي العراقية، عبر عملية عسكرية في منطقة حاج عمران العام 1982، وكنت قد كتبت إن الحرب لم تعد عدوانية هجومية من الجانب العراقي ووطنية دفاعية من الجانب الإيراني، بل إن تغيير المواقع يفرض اعتبار استمرار "الحرب عدوانية من الطرفين" ولا تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، و

297
في استشكال «حوار الحضارات»
عبد الحسين شعبان
تعمدت الحديث عن «حوار الحضارات» مثلما «صراعها»، لاعتقادي أننا وإنْ كنّا من ثقافات مختلفة ومتنوّعة، لكننا ننتمي إلى حضارة واحدة وهي ما نعيشه اليوم مثلما عاشت البشرية في عهود أخرى حضارة مغايرة، وبقدر ما يمكن النظر إلى الحضارة باعتبارها «موحّدة»، فهناك تباين في فروعها المتعدّدة، وهي التي تمثّل الهويّات المختلفة لشعوب وأمم وثقافات ولغات وأديان اختلفت عن غيرها.
ويمتد الكلام ليشمل «حوار الأديان» وفي أحيان أخرى «حوار المذاهب»، تقاربها أو صراعها، وبالطبع فالقاسم المشترك هو اختلافها، لأن الأخيرة تمثّل اجتهادات إزاء قضايا فقهية وعملية، تكوّنت رؤى وتصورات إزاءها، عبر الزمن وبالتراكم والإضافة، تارة لتقريب الدين وأخرى بعيداً عنه، حيث دخلت عليه عادات وتقاليد ومثيولوجيات ورغبات حكام أو فقهاء أو غير ذلك، وقد يكون هناك بون شاسع بين المقاصد الأولى وبين ما وصل إلينا من تشوّهات.
ومن «حوار المذاهب» ننتقل أحياناً إلى حوار «الأقليّات» أو «القوميات» والمقصود المتحدرين منها من المجاميع الثقافية، والأساس في ذلك هو حوار الحقوق والحريات ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وتلك أركان أساسية للمواطنة، تمثّل القيم الإنسانية المشتركة للأديان أو المذاهب أو القوميات أو الهويّات أو اللغات، بما فيها من مشتركات ومتداخلات وتمازج ثقافات في إطار الحضارة الإنسانية الجامعة.
والأمر له امتداد بعيد المدى، قديماً مثلما هو حديث بالطبع، خصوصاً في ظل العولمة والثورة العلمية - التقنية، ولاسيّما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية، ووجدت الأفكار والمعتقدات طريقها إلى التلاقح منذ القدم؛ حيث يكثر الكلام عن طريق الحرير سابقاً أو راهناً ومستقبلاً، وكان الإسلام وقبله المسيحية قد لعبا أدواراً أساسية ومهمة في إطار امتزاج ثقافات الشعوب وتأثيراتها على الحضارة الكونية الموحّدة والمتنوّعة معاً.
الحوار اليوم أصبح «فرض عين وليس فرض كفاية» كما يقال، لأنه لا غنى عنه وهو اضطرار مثلما هو اختيار، لأن عكسه سيعني استمرار الصراع والاحتراب الذي قد يقود إلى نزاعات دولية أو أهلية، خصوصاً إذا ما دخل الدين والاختلاف الطائفي والقومي عليها، فستكون هذه الصراعات كارثية، لأنها تتعلق بقيم السماء وليس بالأرض، وهكذا تتخذ طابعاً إلغائياً وإقصائياً واستئصالياً.
ويمثّل الحوار بعداً إنسانياً مجتمعياً، أساسه الإقرار بالتنوّع وقبول التعددية والاعتراف بالآخر والحق في الاختلاف، ولا حوار متكافئ دون ذلك، وهذا يفترض إيجاد مساحة مشتركة للجميع ومحاربة التعصّب والتطرّف ونبذ الكراهية والعمل على توفير الفرص المناسبة للتسامح والسلام وبالتالي الانتقال من الاحتراب إلى التعاون، فالصراع سوف لا ينتهي، ويبقى قائماً ويأخذ أشكالاً متعدّدة، سلمية ولاعنفية، هدفها تعزيز القيم المشتركة وتطوير التنمية وتحقيق السلام والمشترك الإنساني، لاسيّما حين يعتمد على المنافسة الإنسانية الشريفة للأصلح والأفضل.
وتشكّل ظاهرتا العنف والإرهاب وهما نقيضا الحوار ومن الظواهر التي تواجه مجتمعاتنا، خطراً حقيقياً على البشرية والحضارة الإنسانية وثقافاتها، لأن الإرهاب لا دين له ولا جنسية ولا قومية ولا لغة ولا أصل اجتماعي؛ إنه يضرب في كل مكان، وقد ارتفع منسوبه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
وإذا كان العنف لاعتبارات شخصية ونفسية، سياسية أو فكرية أو قومية أو دينية أو مذهبية، يخضع للقانون الجنائي، باعتبار أن المرتكب يستهدف الضحية بعينها، فإن الإرهاب أشمل وأوسع، لأنه يستهدف خلق الرعب والذعر والهلع في عموم الدولة أو في المجتمع الدولي.
وعلينا التمييز بين إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات أو الأفراد ف«إسرائيل» تمارس إرهاب الدولة بشكل صارخ وسافر لحقوق الشعب الفلسطيني منذ تأسيسها في العام 1948 ولغاية اليوم، كما يمكن إدراج قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة إلى القدس والامتناع عن مدّ منظمة الأونروا «غوث اللاجئين» بالمال الضروري لاستمرارها، ضمن أعمال إرهاب الدولة، مثلما هناك إرهاب الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون وخاصة إرهاب الجماعات التكفيرية مثل «داعش» والقاعدة وأخواتهما، إضافة إلى إرهاب الأفراد لاعتبارات سياسية في القتل والقنص والخطف وطلب الفدية وغير ذلك.
drshaban21@hotmail.com



298
المنبر الحر / روسيا «المسلمة»!!
« في: 19:48 01/10/2018  »
روسيا «المسلمة»!!

عبد الحسين شعبان
لم يخطر ببالي أن أحاضر في موسكو بالذات عن «الإسلام»، ولكن مجلس شورى المفتين لروسيا، هو الذي كان قد وجه الدعوة لنا، للمشاركة في ندوة فكرية تناولت قضايا السلام وحوار أتباع الأديان والثقافات في مواجهة التطرّف والإرهاب برعاية الشيخ رافيل عين الدين مفتي روسيا وبحضور مطران القدس عطا الله حنا، وقد ساهم في تنظيم الحوار، المنتدى الاجتماعي للثقافة العربية بالتعاون مع السفارة اللبنانية في موسكو.
وقد التأم الحوار الذي افتتحه الدكتور روشان عباسوف النائب الأول لرئيس المجلس ورئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية، في «مسجد موسكو الجامع»، الذي هو تحفة معمارية فريدة ومنارة ومعلم في المدينة العريقة، وقد افتتحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس في العام 2015 عند إعادة تشييده، وحضر الافتتاح كل من رئيسي قيرغيزستان وكازاخستان. وتعكس هندسة المسجد وفلسفته رسائل المحبة والسلام والوحدة والتآخي بين الشعوب، حيث يعيش في روسيا أكثر من 20 مليون مسلم، إضافة إلى البلدان الإسلامية المحيطة، والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق الذي تأسس في العام 1922.
وتقوم فلسفة مسلمي روسيا، على تعزيز الحوار والتعاون، لاسيّما على الصعيد المجتمعي وفي المجالات المختلفة لتأمين أوسع مشاركة وشراكة لمكافحة التطرّف ومواجهة الإرهاب، وكان هذا العنوان جوهر مضمون محاضرتي في هذا المحفل المتنوّع، المختلف والمؤتلف، لاسيّما بتعزيز القيم المشتركة للأديان والفلسفات ذات الأبعاد الإنسانية، خصوصاً وإن الإرهاب غالباً ما يتم تلوينه بألوان دينية أو مذهبية أو إيديولوجية، الأمر الذي يستوجب لمحاربته مواجهة التعصّب ووليده التطرّف، وإذا ما تحوّل هذا الأخير إلى فعل وسلوك سيؤدي إلى العنف، وقد يقود إلى الإرهاب الذي يضرب عشوائياً، والفارق بين العنف والإرهاب إن الأول يستهدف الضحية بعينها لأنه يعرفها ولأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية أو فكرية أو غيرها، أما الإرهاب فإنه يستهدف خلق نوع من الرعب والفزع لدى الناس وإضعاف هيبة الدولة وبالتالي تشكيك المواطن، بقدرتها على حمايته.
إن وضع حدٍّ لظواهر العنف والإرهاب يقتضي خلق بيئة مشجّعة بعيدة عن التعصّب والتطرّف ومثل هذه البيئة لا بدّ أن تعترف بالتنوّع وتقرّ بالتعدّدية والحق في الاختلاف، ولا شكّ أن ذلك يستلزم توفير ظروف مناسبة لنشر ثقافة التسامح واللّاعنف والسلام والاعتراف بالآخر ونبذ كل ما له علاقة بالكراهية والحقد والانتقام. ولن يكون ذلك ممكناً دون اعتماد الحوار سبيلاً لنزع فتيل التوترات وحل النزاعات ووقف الاحترابات، وتوفير السبل الكفيلة للقضاء على الجهل والأمية ونشر التعليم ومكافحة الفقر وتأمين فرص عمل والقضاء على البطالة، وخصوصاً في صفوف الشباب، وقد أثبتت التجارب أن الجهد الأمني والاستخباري والعسكري لوحده غير كافٍ في القضاء على الإرهاب، إنْ لم يتم تجفيف منابعه وقطع إمداداته المالية والاقتصادية وتفكيك مرتكزاته الفكرية.
ومنذ العام 1998 نوقشت مسألة الحوار بين الحضارات والثقافات، والمقصود بين أتباعها أو المنتسبين إليها، وتقرّر اعتبار العام 2001 «عام الحوار» في الأمم المتحدة، وتبنّى المؤتمر الإسلامي في العام 2005، اقتراح العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز بشأن مسألة حوار الحضارات. ولعلّ هذا التوجه كان نقيضاً للفكرة الرائجة في الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص والتي نظّر لها فرانسيس فوكوياما بشأن «نهاية التاريخ» العام 1989 وصموئيل هنتجتون حول «صدام الحضارات» العام 1993 وفيما بعد «بيان المثقفين الأمريكان الستين» الذي صدر بُعيد أحداث سبتمبر/أيلول الإرهابية العام 2001 التي خلقت ردود فعلها، المزيد من الفوضى في العلاقات الدولية، ولاسيّما الدعوة إلى حروب وقائية أو استباقية كان من نتائجها غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق العام 2003، ورافق ذلك شنّ حروب إعلامية ونفسية خشنة وناعمة بشكل مباشر أو بالوكالة واستخدام جميع منجزات الثورة العلمية - التقنية بما فيها ثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية «الديجيتل».
المنتدى الحواري المنعقد في موسكو، شاركت فيه مؤسسات وشخصيات علمية وثقافية وفكرية وأدبية متنوعة من روسيا والعالم العربي ومن منابع متنوّعة ومناشئ مختلفة، وضمّ متدينين وعلمانيين، وكان هدفه الرئيسي، التأكيد على القيم الإنسانية الموحّدة لبني البشر بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وقومياتهم ولغاتهم، ولاسيّما قيم الحرّية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة بين الشعوب والمجتمعات، كما نبّه إلى خطر الطائفية بالنسبة لروسيا والبلاد العربية ودعا إلى توسيع مجالات التعاون الإنساني والحوار البنّاء وتفعيل دور «الدبلوماسية الشعبية» لإثراء الثقافات وتلاقحها، على أساس من احترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية.
روسيا «المسلمة» تبدو اليوم أكثر انسجاماً مع محيطها الأرثوذكسي على الرغم من التحديات التي تواجهها، بل أكثر انفتاحاً على المحيط الإنساني، وما التفاعل مع العالم العربي سوى حوار بصوت عالٍ يحمل أبعاداً متعددة أساسها المشترك الإنساني.
Email: drshaban21@hotmail.com


299
عن الاختفاء القسري مرّة أخرى
عبد الحسين شعبان
يحتفل العالم كل عام باليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، وقد تقرّر الاحتفال بهذا اليوم عقب تبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة « الاتفاقية الدولية المتعلقة بحماية ضحايا الأشخاص من الاختفاء القسري» التي دخلت حيّز النفاذ في العام 2010.
وكنت انشغلت بهذا الملف منذ ربع قرن تماماً، حين اختفى زميلنا منصور الكيخيا، وزير الخارجية الليبي الأسبق في القاهرة، بعد أن حضرنا سويّة اجتماع الجمعية العمومية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان الذي أنهى أعماله يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول 1993، وفي العاشر من الشهر ذاته خرج منصور الكيخيا ولم يعد، وظلّت غرفته في فندق السفير بالدقي مغلقة إلى اليوم الثاني، حيث شاع خبر اختفائه قسرياً.
كان الإجراء الأول الذي اتخذه عدد من المثقفين العرب هو تشكيل لجنة في لندن لإجلاء مصيره ترأسها الشاعر بلند الحيدري، كما تشكلت لجنة قانونية في القاهرة من كبار الحقوقيين، والمحامين، وعدد من الشخصيات العامة لمتابعة قضيته. ولم يجل مصير الكيخيا الذي ظلّ غامضاً، ومبهماً، وملتبساً، إلّا بعد إطاحة نظام القذافي حيث بدأت بعض خيوطها تتكشف، لاسيّما بعد اعترافات مدير مخابراته، حيث تم اكتشاف قبره في العام 2012 ونظمت « الدولة» احتفالية تكريمية خاصة له.
وتلك قصة مثيرة روى كاتب هذه السطور فصولها على حلقات، سواء قبل إجلاء مصيره في كتابه الموسوم « الاختفاء القسري في القانون الدولي والواقع العربي»، أو بعده، حيث كان اختطف من القاهرة، ووضع في صندوق السيارة، ووصل إلى طرابلس، وتم التحقيق معه، وبقي سجيناً لمدة 4 أعوام حتى توفي في العام 1997، ولكنه لم يدفن، بل استبقي في «ثلّاجة» بناء على رأي إحدى العرّافات التي كان يستمع إليها الزعيم الليبي، كي لا يصيبه مكروه، والقضية تصلح أن تكون فيلماً سينمائياً درامياً مثيراً، ففيها الكثير من الحبكات الدرامية المتشابكة .
إن الاحتفال باليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، له دلالات عدة، من أهمها أنه واحد من أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية، وكان نظام المحكمة الجنائية الدولية، المعروف بنظام روما لعام 1998، نص على ذلك قبل إقرار اتفاقية الأمم المتحدة (2010). ولعل هذه الجريمة لا تسقط بالتقادم، خصوصاً بتأكيد مسؤولية الدولة عن هذا العمل الشنيع، والشائن، حيث تمتد آثارها إلى أبعد من حدود الضحية المباشرة التي تعاني فوق سلبها حريتها، الحرمان من الحماية القانونية التي هي حق أساسي للإنسان، وتشمل آثار عملية الاختفاء القسري، ذوي الضحية أيضاً.
وهكذا تتوّسع دائرة الفعل لتشمل ضحايا آخرين، لاسيّما وهم يجهلون مصير الضحايا المختفين، سواء أكانوا على قيد الحياة أم فارقوا الحياة، وقد تطول هذه الفترة فتترك آثاراً نفسية واجتماعية وقانونية ومادية في ذوي الضحية، خصوصاً إذا كان المختفي هو العائل الأساسي في العائلة، فضلاً عن أن العديد من البلدان التي تنتشر فيها ظاهرة الاختفاء القسري، وهي تزيد على 63 بلداً، لا توجد فيها تشريعات قانونية تنظّم الآثار المترتبة على هذا الفعل شديد القسوة، وإن وجدت فهي غير كافية ورادعة.
والدلالة الأخرى تشير إلى أن الاحتفال ينبّه إلى ضرورة الارتقاء بالوعي بخطورة هذه الظاهرة، وما تسبّبه من أضرار بالمجتمعات، وعلى مصير علاقة الفرد بالدولة، وبقضية الحرية والتنمية والسلام المجتمعي، وحكم القانون، الأمر الذي يتوجب على البلدان التي لم توقع، أو وقعت ولم تصادق على هذه الاتفاقية، ومنها العديد من البلدان العربية والإسلامية، أن تستكمل الإجراءات الخاصة على الصعيد الداخلي ، فحتى الآن صادقت على الاتفاقية 49 دولة وانضمت إليها 58 دولة، علماً بأن البلدان العربية هي أكثر البلدان حاجة إلى هذا المسار القانوني، خصوصاً وهي تعاني تفشي الإرهاب، والعنف، والنزاعات، والحروب الأهلية، واختفاء عشرات الآلاف من البشر، لاسيّما بعد هيمنة «داعش» على الموصل والرقة، كما لم يجل مصير عشرات الآلاف في ليبيا واليمن، الأمر الذي يقتضي التعاطي مع هذا الملف بجدية كبيرة.
وكانت الأمم المتحدة أولت اهتماماً مبكّراً بظاهرة الاختفاء القسري، ففي عام 1979 أصدرت قراراً بعنوان «الأشخاص المختفون»، أشارت فيه إلى القلق المتزايد بخصوص الاختفاء القسري، والتقارير الدولية المتّصلة بذلك. وفي العام 1980 أنشأت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الفريق العامل المعني بمتابعة حالات الاختفاء القسري. وفي العام 1992 أقرّت الجمعية العامة «إعلاناً بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، غير الطوعي»، تضمن 21 مادة، واعتبر الإعلان أعمال الاختفاء القسري جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها التكتم على مصير الضحية، وكان المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا العام 1993 طلب من جميع الدول اتخاذ التدابير الفعّالة بغية الوقاية من الأفعال التي تسفر عن الاختفاء القسري.
ولعلّ الدلالة الأخيرة هي ضرورة إبقاء قضية الاختفاء القسري في دائرة الضوء، لأن الخاطفين يريدونها أن تدخل دائرة النسيان .
drshaban21@hotmail.com



300
المنبر الحر / المغطس العراقي
« في: 19:27 29/08/2018  »
المغطس العراقي
عبد الحسين شعبان
أثار تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بشأن موقف العراق من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، موجة واسعة من ردود الفعل الإيرانية الحادّة. وعلى الرغم من أن العبادي كان حذراً ومُحترساً إلى درجة كبيرة، بقوله: «من حيث المبدأ نحن ضد العقوبات في المنطقة (ويُفهم من كلامه أن الأمر يشمل تركيا أيضاً)... لكننا سنلتزم بها لحماية مصالح شعبنا».
ومع أن تصريح العبادي يندرج في خانة «النأي بالنفس»، لكن هناك من استخدمه ذريعة ليطالب العراق بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بإيران بسبب الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت، وهي تقدّر بمليارات الدولارات، كما ذهبت إلى ذلك معصومة ابتكار نائبة الرئيس الإيراني.
أما مجتبى الحسيني، ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي يقيم في النجف منذ العام 2015، فقد ندّد بموقف العبادي، واصفاً تصريحاته بأنها «لا مسؤولة» «ولا تنسجم مع الوفاء للمواقف المشرّفة للجمهورية الإسلامية الإيرانية»، بل اعتبر موقفه تعبيراً عن «انهزامه النفسي تجاه أمريكا التي ينخرط معها، ويخضع لها في مؤامراتها على جارة العراق، إيران»!.
وقد درج بعض رجال الدين الإيرانيين المقيمين في العراق، وهم «أجانب» بالطبع، حسب القانون الدولي، التدخّل على هذا النحو السافر بالشأن السياسي العراقي الداخلي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003. كل ذلك يحصل دون ردود فعل رسمية من جانب بغداد، سواء إزاء هذه التدخّلات التي تخصّ صميم السلطان الداخلي أم إزاء المطالبات غير المشروعة بالتعويضات من جانب مسؤولين إيرانيين.
وإذا كانت العقوبات ضد أي شعب مسألة لا إنسانية بغض النظر عن تصرّفات حكّامه، فلماذا كان الحصار المفروض على الشعب العراقي «محموداً» في حين أن الحصار على الشعب الإيراني «مذموم»؟ ونستطيع القول بثقة أيًّا كانت أسباب الحصار والعقوبات على الشعوب، فإنها لا تلحق الضرر بالأنظمة بقدر ما تفعل فعلها المميت في الشعوب، ولم يحدّثنا التاريخ أن حاكماً زهقت روحه بسبب الجوع، لكن الحصار بلا أدنى شك عرّض شعوباً للمجاعة، وأودى بحياة الآلاف والملايين من السكان المدنيين الأبرياء، وحدث خلال الحصار المفروض على العراق وفاة مليون و650 ألفاً من العراقيين، ولهذا فالموقف المبدئي وخارج سياسات الكيل بمكيالين أو الموقف ذو الطبيعة الازدواجية كان ولا يزال وسيبقى هو ضد فرض العقوبات على شعب بكامله بسبب سياسات حكّامه.
ونلاحظ حتى اليوم التشوّهات التي خلقتها إجراءات الحصار والعقوبات على المجتمع العراقي وعلى الشخصية العراقية، بما فيها الميل إلى العنف باستخداماته المختلفة تحت مبررات ومزاعم شتى، تارة طائفية أو مذهبية وأخرى إثنية، وثالثة بزعم الدفاع عن الهويّة والدين وغير ذلك.
لقد بلغت القرارات الدولية المفروضة على العراق بعد غزو الكويت في 2 أغسطس/آب 1990 وبعد حرب قوات التحالف الدولي ضده في 17 يناير /كانون الثاني/ 1991 نحو 75 قراراً، بما فيها القرارات التي صدرت بعد الاحتلال العام 2003، ولا يزال العراق حتى الآن يئن منها، بما فيها دفع التعويضات، ولذلك فإن موقف العبادي وغيره من الأطراف السياسية التي تتحفّظ على العقوبات على إيران وتركيا، حتى وإنْ كانت قراءاتها السابقة مخطئة ومتأخّرة، إلّا أنه يمكن النظر إليها اليوم من زاويتين: الأولى - لسبب مبدئي أساسه إن الحصار ضد الشعوب وليس ضد الحكام، والثانية - عدم توريط العراق بما لا طاقة له على تحمّله أعباء جديدة فوق ما عليه من أعباء، فضلاً عن ذلك، فالعراق لا يزال مكبّلاً باتفاقية «الإطار الاستراتيجي» مع الولايات المتحدة التي تفرض عليه التزامات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية وغيرها، فقد حاول العبادي مراعاة ذلك وعدم الدخول في مجابهة غير متكافئة مع واشنطن، دون أن يعني الانخراط في مشروعها بشأن فرض العقوبات على المنطقة.
ولم تكن المواقف الإيرانية ضد تصريحات العبادي فحسب، بل إن بعض القوى العراقية لا تقلّ نقداً لها، حيث هدّدت بمهاجمة المصالح الأمريكية، إذا ما تمادت واشنطن في تطبيق الحصار على إيران. ولعلّ ذلك يثير تساؤلات جديدة حول مستقبل الدولة العراقية وما وصلته من حالة انشطار وتمزّق وتشظٍ. فهل المفروض تبنّي الموقف الإيراني برفض الحصار، وهو موقف لا يقوى عليه العراق، أم اعتماد الموقف الأمريكي في تنفيذ فرض العقوبات على طهران، وهو موقف لا إنساني قد لا يستطيع العبادي أو غيره المضي فيه دون دفع ثمن باهظ؟
ولعلّ هذا الأمر يعيدنا إلى أطروحة «القرار العراقي المستقل» التي يكثر الحديث عنها دون القدرة على تحقيقها، خصوصاً والبلد مجروح السيادة ومنقسم ويعاني إرهاباً وعنفاً وطائفية ومحاصصة وفساداً مالياً وإدارياً، ولا يزال مرتهناً، بما فيه تشكيل الحكومة الجديدة لإشارة من بريت ماكفورك الدبلوماسي الأمريكي، وإيعاز من قاسم سليماني قائد فيلق القدس، عرّابيّ الطبخة الجديدة. فمتى سيخرج العراق من المغطس؟
drshaban21@hotmail.com



301
قول ثان في الطائفية
عبد الحسين شعبان
هل الطائفية مُنتج محلي أم ثمة فعل خارجي حاضر فيها، لاسيّما ما يشهده العالم العربي من صراعات ؟ وإذا كان العامل الداخلي قويّاً في الأزمة الطائفية الراهنة موضوعياً وذاتياً، فإن العامل الخارجي مؤثر، خصوصاً على صعيد التداخل الإقليمي والدولي.
ويبدو أن هناك خلطاً أو التباساً أحياناً بين الطائفة والطائفية، في حين أن هناك فروقاً شاسعة بينهما، فقد يولد المرء ودون اختيار منه في طائفة معينة ومن دين معين وحتى من قومية وسلالة ومنطقة معيّنة، لكنه لا يصبح طائفياً إلاّ إذا تحزّب لطائفة وتعصّب لإثبات تفوقها وتطرّف لتأكيد أفضلياتها وتسيّدها.
وحين تصدّعت تجارب الدولة العربية المعاصرة وانتكست الحداثة الجنينية في بعضها وتعطلت خطط الإصلاح والتنمية بسبب شحّ الحرّيات من جهة والتهديدات الخارجية من جهة أخرى، خصوصاً بعد قيام «إسرائيل»، صعد الاحتقان الطائفي إلى الصدارة، ولاسيّما بنكوص المواطنة الحاضنة للتنوّع.
وكانت القوى الخارجية قد لعبت على هذا الوتر الحساس، وقد بلور المؤرخ برنارد لويس،الذي توفي قبل أشهر قليلة، فكرة تقسيم الوطن العربي إلى 41 كياناً، وذهب هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق ومستشار الأمن القومي للقول منذ العام 1975: «علينا أن نقيم وراء كل بئر نفط دويلة»، لأنه يرى في التقسيم والتفتيت خدمة للمشروع الصهيوني الذي سيجعل «إسرائيل» الدولة الأقوى بين دول تمثل «أقلّيات» في الشرق الأوسط، لكي تكون أكثر تقدماً علمياً وتكنولوجياً في محيطها.
وكشف إيغال آلون منذ العام 1982 عن الأهداف الاستعمارية الاستيطانية للعدوان «الإسرائيلي» بعد 5 يونيو/ حزيران العام 1967 الهادفة إلى تقسيم العالم العربي والتوسع على حسابه، حين قال (واجبنا استيطان «إسرائيل» الكبرى). وأضاف: إن من يشكّ في هذا يضع علامة استفهام حول «العقيدة الصهيونية»، وقد بلور المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لاحقاً هذه الآراء باستراتيجيتهم إزاء الشرق الأوسط، وعلى أساسها نفّذوا عملية غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق 2003، حيث دمّروا الدولة العراقية وفتحوا الباب على مصراعيه لاندلاع الصراع الطائفي وانفلات العنف واستشراء الإرهاب الذي لم يتوقّف عند حدود العراق.
وهكذا امتدّ الصراع إلى سوريا واليمن واستمرّ وجوده في لبنان، بل تعدّى ذلك إلى بعض دول الخليج ودول الإقليم مثل إيران وتركيا والباكستان وأفغانستان، ووصلت شذرات منه إلى دول أخرى بما فيها المغرب العربي، الأمر الذي أصبح تهديداً واضحاً وخطيراً للأمن العربي ولاستقرار مجمل دول الإقليم.
وتعتبر الطائفية اليوم أكثر الأوراق المؤثرة في النزاعات القائمة وفي عدم الاستقرار الذي تشهده المنطقة، حيث يتم تغذيتها إقليمياً ودولياً، ناهيك عن ارتباط بعض أطرافها بأهداف ومصالح خارجية بما يساهم في إدامة الصراع وتعتيقه حتى أصبح كل ما له علاقة بالتاريخ البعيد سبباً في تأجيجه، وكأنه راهن.
ومن مظاهر هذا الصراع استنزاف طاقات البلدان العربية على حساب الصراع العربي - «الإسرائيلي» من جهة، وعلى حساب قضايا التنمية والإصلاح والديمقراطية والعدالة والمساواة من جهة أخرى، حيث لعب دوره في تمزيق الوحدة الوطنية وفي زرع عدم الثقة بين الفرقاء وبث روح الكراهية والعداء، ناهيك عن إضعاف روح المواطنة، حين يتقدّم الانتماء المذهبي والطائفي والهوّيات الفرعية على الانتماء للوطن وعلى الهوّيات العامة الجامعة.
ومن مظاهره الأخرى ظهور تنظيم «داعش» في أواخر العام 2013، في كل من العراق وسوريا حيث استطاع بسرعة خاطفة وبوقت قياسي فرض نفوذه العسكري والسياسي والميداني على مناطق واسعة تجاوزت على ثلث أراضي كل من العراق وسوريا، ولاسيّما باحتلال الموصل «العراقية» والرقة «السورية» التي جعلها عاصمة له.
وشكّل مثل هذا الحدث نقطة تحوّل مهمة في مجرى الصراع السياسي القائم على أساس المصالح والنفوذ، الأمر الذي طرح تساؤلاً كبيراً حول حقيقة هذا التنظيم ووجوده وصناعته ودعمه، وهو ما صدر في تقرير مكثّف عن «مركز دراسات الشرق الأوسط - الأردن» في العام 2017، كما وردت إشارات إليه في كتاب الدكتور فواز جرجس «داعش إلى أين؟: جهاديو ما بعد القاعدة؟» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»، العام 2016.
واليوم بعد هزيمة داعش عسكرياً في العراق وسوريا، فهل سيتم تحويل هذا النصر إلى نصر سياسي، باستعادة الوحدة الوطنية وإعادة تأسيس الشرعية على أسس جديدة، قوامها تحريم الطائفية واعتماد المساواة والشراكة والمشاركة أساساً في تحقيق المواطنة المتكافئة وإطلاق دائرة الحرّيات وتوسيعها واحترام خيارات الناس وحقوقها في إطار عقد اجتماعي دستوري سياسي جديد يؤكد احترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، ويعمل على تعزيز التنوّع وحمايته؟
drshaban21@hotmail.com



302
روح العصر والعمل الحقوقي
عبد الحسين شعبان
تركت الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي الذي دار في أجوائها، بصماتها على العمل الثقافي، والحقوقي أيضاً، وليس العمل السياسي وحده من تأثر بها، سواء على مستوى العلاقة بين الدول والحكومات من جهة، أو على مستوى منظمات المجتمع المدني، وغير الحكومي، من جهة أخرى.
وإذا كان انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 إيذاناً بتحوّل كبير على الصعيد الدولي، تجلّى بإطاحة الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، وتجربتها «الاشتراكية»، وامتداد ذلك لاحقاً إلى العديد من البلدان التي أطلقنا عليها «دول التحرر الوطني»، فإن انعكاساته كانت دراماتيكية على بلدان «الأصل»، و»الفرع»، وخصوصاً على المنظمات التي أسميناها «الجماهيرية»، مثل اتحادات العمال، والطلاب، والشباب، والنساء، إضافة إلى المنظمات المهنية مثل الصحفيين، والمحامين، والحقوقيين، وغيرها من منظمات السلم والتضامن التي كانت ذات خلفيات يسارية، أو قومية، الأمر الذي أضعف الكثير من إمكاناتها وقدراتها،فضلاً عن تأثيراتها في المشهد العام.
لقد حققت المنظمات «الشعبية» والمهنية الكثير من الإنجازات في الماضي، خصوصاً التصدّي للكثير من القضايا والتحدّيات ذات الطابع الدولي والوطني والقومي، إضافة إلى منجزها المهني في ظروف معقدة، ومملوءة بالإشكالات السياسية والفكرية، لكنها تراجعت لأسباب موضوعية خلال العقود الثلاثة الماضية، الأمر الذي يستوجب دراسة التطوّرات الحاصلة في الوضع الدولي، وامتداداته الإقليمية والداخلية، والتفاعل معها بهدف إيجاد صيغ جديدة وهيكليات مناسبة تستجيب لروح العصر، فضلاً عن استحداث وسائل عمل جديدة، وصولاً لتحقيق الأهداف، لاسيّما توسيع دائرة العمل، وتخفيض درجة المركزية التي عرفتها المنظمات المهنية والتقريب بين قمة الهرم وقاعدته، وبث روح الحيوية والانفتاح وإقرار التعددية، والتنوّع، والحق في الاختلاف.
ولعلّ هذه الإشكاليات تكاد تكون عامة وشاملة لجميع المنظمات المهنية والمدنية الدولية والعربية، وقد تنبه لها اتحاد الحقوقيين العرب مؤخراً، وكان درس منذ عدة سنوات سبل تجديد العمل والتوجه صوب عقد شراكات مع جهات ومنظمات ذات بعد دولي، كما حصل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي ساهمت في برامج تدريب وتأهيل، وندوات ومؤتمرات، ودعمت تأسيس مركز إقليمي للقانون الدولي الإنساني.
وكان على رأس أولويات الاتحاد الحفاظ على نفسه بعد تعرض مقرّه الرئيسي وممتلكاته في بغداد إلى العبث، حيث سيطرت عليها بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 جماعات مسلحة. علماً بأن الاتحاد تأسس في العام 1975 في بغداد، بعد سلسلة مشاورات وحوارات وزيارات واستطلاع رأي مع مجموعة من الشخصيات الحقوقية والقانونية العربية والدولية.
وعلى الرغم من الظروف العصيبة، فقد تمكّن الاتحاد من عقد اجتماع المكتب الدائم، مؤكداً حفاظه على استقلاله ومهنيته، لاسيّما إزاء ما واجهه من عواصف عاتية، وشد وجذب، مثلما حافظ على صفته الاستشارية في الأمم المتحدة في جنيف، وفي «اليونسكو». كما ساهم عبر فريق عمله في تونس ومصر والعراق واليمن والجزائر والمغرب وفلسطين والأردن ولبنان والسودان ودول الخليج، وغيرها، في تقديم قراءات جديدة بخصوص العديد من القضايا الحقوقية والدستورية، بما يملكه من خبرات على هذا الصعيد.
وانطلاقاً من كل ما تقدّم أقرّ المكتب الدائم ( الدورة 39 المنعقدة في عمان مؤخراً) مقترحات لتطوير عمله ورفع كفاءة أدائه، واتخذ قراراً باعتماد مبدأ التداولية في المواقع القيادية، بتحديد مسؤوليات الرئيس الذي استحدث موقعه بولايتين، وكذلك ولايتين للأمين العام غير قابلة للتجديد، كما استحدث منصب أمناء عامين مساعدين، مع نائب واحد للرئيس. وتقرّر أن يتم عقد المؤتمر العام لانتخاب الهيئات القيادية العام القادم (2019)، بعد أن أخّرت الظروف السياسية عقده ما يزيد على عقدين من الزمان، ولكي يتساوق ذلك مع الرغبة في التجديد تقرّر عقده بمن حضر مع مراعاة النظام الأساسي وتعديله، على أن يتم اختيار المندوبين في كل بلد من خلال الجمعيات العضوة بعدد أكبر من البلدان التي ليس فيها منظمات، تبعاً لقاعدة ديمقراطية في التمثيل.
لقد تابعت عمل الحقوقيين العرب منذ أن تأسس الاتحاد، وساهمت في العديد من أنشطته على مدى يزيد على عقد ونصف العقد من الزمان، وأرى أن الإعلان عن الرغبة في التجديد، وفي تداول المسؤوليات، وفي تحديدها وتوسيع دائرة اتخاذ القرار، هو سابقة إيجابية تسجلّ للاتحاد حتى إن تأخّرت، لكنها يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للعمل الحقوقي بشكل خاص، والعمل المهني بشكل عام.
وينبغي للعمل الحقوقي أن يضع مسافة واحدة من الحكومات والمعارضات، وألّا ينخرط في الصراع الأيديولوجي، وأن يحافظ على استقلاليته وأدائه المهني، فذلك وحده يكسبه الاحترام اللازم كي يكون جهة رقابية وراصدة غير منحازة تساهم في اتخاذ القرار من جهة، وتكون شريكة مع الدولة أيضاً في تنفيذه، وتتحمّل مسؤولية نجاحه، أو فشله، خصوصاً إذا تم الاعتراف بها قانونياً، واستطاعت ممارسة عملها على نحو علني، وشرعي، وسلمي.
drshaban21@hotmail.com



303
ثقافة التعايش وفقه الحوار
                     
عبد الحسين شعبان
حين يصبح التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، بجميع أشكاله وألوانه ومبرّراته ودوافعه، خطراً يهدّد البشرية برمّتها ، فإن هذا الخطر يكون مضاعفاً في المجتمعات والأمم النامية التي تعاني الاحترابات والنزاعات والصراعات، الأمر الذي سينعكس على تنميتها وتقدّمها، فما بالك بتعرّضها لتحدّيات خارجية أيضاً، تلك التي تحاول زرع الفتن، وإشعال الحروب الأهلية والإقليمية وتغذية كل ما من شأنه إثارة روح الكراهية والشقاق بينها، خصوصاً باستهداف المناطق الرخوة والخاصرات الهشّة التي تزيد الهوّة عمقاً بما يؤدي إلى التباعد والتنافر والتناحر، وحتى الحروب والنزاعات الإثنية، والدينية، والطائفية، تلك التي باتت منتشرة في شرقنا الأدنى والأوسط.
ولم تقتصر تلك الصراعات الدموية على فئة، أو مجموعة، أو شعب، أو أمة، أو قومية، أو دولة، أو جغرافيا، أو لغة، أو دين، أو طائفة، بل أصبح الجميع من ضحاياها، ووقوداً لها، أرادوا أم لم يريدوا، وهو ما حاولت قوى دولية وإقليمية توظيفه لمصالحها الخاصة، بما فيها «إسرائيل» المستفيد الأول منها، والتي وجدت الفرصة مناسبة لإعلان مشروع دولتها «القومية» اليهودية النقية.
من هنا تتأتّى أهمية ثقافة التعايش وفقه الحوار لتوثيق عرى المشترك الإنساني الذي أصبح اليوم ضرورة لا غنى عنها لاستمرار وتطوير العلاقات بين الأمم والشعوب، ومنها أمم الإقليم العربية والتركية والفارسية والكردية، لاسيّما، في ظلّ التناقضات والصراعات التي تعيشها، منذ قرن ونيّف من الزمان، حتى أصبح «فرض عين وليس فرض كفاية»، كما يُقال، وغدا هاجساً لدى نخبة من المثقفين والأكاديميين والناشطين المدنيين والممارسين العرب الذين دعوا إلى مواصلة مشروع حوار معرفي وثقافي لوضع أسس علاقات متكافئة ومتساوية لأمم الإقليم هدفها تعظيم القيم الإنسانية المشتركة، مثل قيم الحرية، والمساواة، والعدالة، والمشاركة والشراكة، والسلام، والتسامح، والعيش المشترك، وتقليص الفوارق كي لا تتحوّل الاختلافات والتنوّع والتعدّدية إلى خلافات إقصائية وإلغائية وتهميشية، خصوصاً حين يتم طمس الحقوق والتجاوز على ما يجمع البشر، ويوحّدهم، ويصون اختلافاتهم وهويّاتهم الفرعيّة ولغاتهم الخاصة، بل وخصوصيتهم بشكل عام.
وكان «منتدى الفكر العربي» احتضن حوارات عربية- تركية، وعربية - إيرانية، وعربية - كردية، وقد دعا إلى حوار شامل تحت عنوان «أعمدة الأمة الأربعة»، ورعاه في عمّان الأمير الحسن بن طلال، والفكرة تنطلق من كون الحوار وسيلة حضارية لتعزيز ثقافة التفاهم والتعاون والعمل المشترك، ولاسيّما بين المثقفين، وبين هؤلاء وأصحاب القرار، بهدف تجسير الفجوة من جهة، وتطوير التنمية والمشاركة في صنع القرار وتنفيذه من جهة ثانية. وتأتي هذه المبادرة تتويجاً لسلسلة لقاءات تمهيدية في تونس وبيروت، سعياً لبلورة مشروع مستقبلي يضمّ تحت لوائه «أعمدة الأمة الأربعة»، من عرب، وترك، وفرس، وكرد.
وحين خاطب الأمير الحسن النخبة التي شاركت في الحوار دعا إلى استخدام منطق العقل، وأدب الحوار، مشدّداً على المكوّنات الديموغرافية الأربعة التي تواجه تحدّيات كثيرة، فرغم الاختلافات فيما بينها، إلّا أنه لا ينبغي أن ندع الفوارق تسيطر على المشتركات. وكتب لاحقاً: إن هذا الحوار هو خطوة أولى تسعى لخلق المشتركات بين هذه الأعمدة، ووسيلة للتواصل والاتفاق على الهويّة الجامعة، واللغة الجامعة.. لاسيّما وأنها جميعها مستهدفة. ولهذا فإن إقامة إطار «شوروي» (استشاري) يتّسع للجميع، وسقف من الأمن والوعي المشترك، سيكون هدفه تجنّب ما يريده بنا من لا يحبّون حضارتنا، ولا لغتنا، ويسعون إلى تفتيتنا إلى هويّات فرعية ضعيفة مستضعفة.
إنّ قيمة مثل هذا الحوار تكمن في التواصل المعرفي والتفاعل الثقافي لما يتّصل بمجمل علاقات الأمم الأربع، خصوصاً في وضعه التعايش السلمي والمصالح المشتركة الآنية والمستقبلية في أولوية اهتماماته، لاسيّما بالتركيز على الإيجابيات، وما هو جامع من قيم إنسانية، بما فيها علاقات التآخي بين الأمم والشعوب، وحقها في تقرير مصيرها. وكان البيان الختامي تضمّن توصيات تتعلّق بالاستمرارية لتفعيل الرؤية المشتركة، وتشكيل فريق عمل لبحث جوانب العلاقات المختلفة، وكل ما له علاقة بالتنمية والتعاون بروح القيم الإنسانية السامية، والعمل على نقل الحوار إلى عواصم ومدن «أعمدة الأمة الأربعة»، مثلما وضع مسألة الاهتمام بالشباب وإعدادهم بروح التآخي والمشترك الإنساني ضمن برامجه.
وقد يكون مناسباً أن تسهم «جامعة الدول العربية» كمنظمة إقليمية، وكذلك «منظمة التعاون الإسلامي» في تأطير وبلورة مشروع حوار جامع استناداً إلى القيم الإنسانية، لتعزيز ثقافة التعايش وفقه الحوار، ولمواجهة ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، خصوصاً بالتعاون بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية والثقافية والمؤسسات الأكاديمية والتربوية.
drshaban21@hotmail.com



304
الإرهاب والدين.. علاقة آثمة
             
عبد الحسين شعبان
شهدت ندوة «الفكر الديني الحاضن للإرهاب»، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الأربعين، نقاشاً واسعاً بخصوص علاقة الدين الإسلامي، أو الأديان بشكل عام، بالإرهاب، خصوصاً أن سبل المجابهة لا تزال قاصرة، أو غير فاعلة حتى الآن في تقليص، أو الحد من ظاهرة استخدام الدين وتوظيفه في قضايا الإرهاب.
وقد أثار مفهوم «الإرهاب الإسلامي» جدلاً كبيراً، خصوصاً وقد تم استخدامه لأغراض سياسية استهدفت إملاء الإرادة وفرض الهيمنة على دول المنطقة، وشعوبها التي دُمغت بالإرهاب، في حين إن العديد من المنظمات الإرهابية التي انطلقت من الغرب مثل «بايدر ماينهوف» الألمانية، و»الألوية الحمراء» الإيطالية، وغيرهما، لم تتهم بأنها تمارس إرهاباً مسيحياً، وكل ما كان يقال إنها منظمة إرهابية ألمانية، أو إيطالية، أو يابانية (الجيش الأحمر الياباني)، وكذلك بالنسبة لإيرلندا، والباسك وغيرهما، وكل هذه المنظمات لم تصبغ دينياً، بل نسبت إلى أوطانها .
وإذا كان الدين كمرجعية، مصدراً فكرياً من المصادر الأساسية التي تعتمد عليها الجماعات والديانات السماوية بشكل خاص، فإن هذا ينطبق على المنظمات الإرهابية التي تستخدم «الإسلام» كمرجعية نظرية، مثلما تعتمد منظمات أخرى على اليهودية، أو المسيحية، أو غيرهما. والأساس في كل ذلك هو أن التعصب أصبح متفشياً، والتطرّف مستشرياً، والعنف منتشراً، والإرهاب مستفحلاً، أي إن التشدّد والإلغاء والإقصاء والتهميش هي الظواهر السائدة، ولذلك فإن إلصاق اسم الدين بالإرهاب لا ينبغي أن يقتصر على ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، إلّا إذا استخدمنا الإرهاب المسيحي، أو اليهودي، وعكس ذلك فإن إلصاق صفة الإرهاب بالإسلام وإعفاء الآخرين منها ستكون مقصودة ومغرضة، كما أن استخدام كلمة الجهاد والجهاديين على العمليات الإرهابية، هو الآخر أمر مقصود، ومفتعل، لأن للجهاد شروطه، والجهاد من أجل الحق هو غير الإرهاب، وهو جهاد دفاعي هدفه حماية البلاد والعباد من العدوان، والإرهاب، والظلم.
وحتى لو انتسب العديد من الإسلاميين لمنظمات إرهابية، بل وشاركوا في عمليات إرهابية، فلا يمكن دمغ المسلمين جميعاً والإسلام بالإرهاب. صحيح أن تنظيم «القاعدة» وزعيمه أسامة بن لادن، وتنظيم «داعش» وزعيمه أبو بكر البغدادي وغيرهما، نسبوا أنفسهم للإسلام، ونصّبوا أنفسهم أئمة له، واستندوا في أطروحاتهم على المفاهيم الإسلامية المتعصّبة والمتطرّفة التي لا علاقة لها بالحاضر، أو بسمة العصر الراهن، لكن مثل الانتساب بقدر ما ألحق ضرراً بالعالم، فإن ضرره كان أشد ضراوة بالمسلمين، والعالم الإسلامي، والدين الحنيف بشكل خاص، فكيف يمكن تصوّر أن نحو مليار ونصف المليار مسلم هم ينتسبون إلى هذه العقيدة الإرهابية لو اقتنعنا بمثل هذه الأطروحات، وكيف يمكن لدين أن يضم هذا القدر من الإرهابيين؟
الإرهاب ظاهرة كونية، وهو لا دين له، ولا لغة، أو أمة، أو قومية، أو هويّة، أو منطقة جغرافية، إنه موجود في جميع الديانات، واللغات، والأمم، والقوميات، والهويّات، وفي جميع أنحاء العالم، فحيثما يوجد التعصّب الديني يمكن أن يتحوّل بالسلوك إلى تطرّف، وهذا الأخير إلى عنف إذا أصبح فعلاً، والعنف يضرب الضحية باستهدافها لأنه يعرفها، سواء كان دينياً، أوطائفياً، أو غير ذلك، في حين أن الإرهاب يضرب عشوائياً، ويستهدف خلق الرعب والفزع في النفوس، والتأثير في المعنويات، وخلق عدم الثقة بالدولة وأجهزتها، لأهدافه السياسية الخاصة. ولعلّ المسلمين هنا هم أول ضحايا الإرهاب الذي يتم نعته بالإسلامي، حتى إن امتدّ خارج البلدان الإسلامية.
ولعل من الإشكاليات الأساسية التي لا تزال مصاحبة لظاهرة الإرهاب الدولي، هي غياب تعريف واضح للمفهوم، بالرغم من وجود أكثر من 13 اتفاقية وإعلان دولي منذ العام 1963 بخصوص الإرهاب، وقضاياه، ومتفرعاته، لكن لم يتم تحديد تعريف له، ومنذ أحداث 11 سبتمبر/‏ أيلول 2001 الإرهابية صدرت ثلاثة قرارات دولية مهمة، لعل أخطرها القرار 1373 في 28 سبتمبر/‏ أيلول من العام نفسه، لكنها لم تضع تعريفاً للإرهاب، وإن رخّصت بشن حرب وقائية، أو استباقية ضد خطر وشيك الوقوع، أو محتمل للقيام بعمل إرهابي، وفي ذلك عودة للقانون الدولي التقليدي الذي يعطي «الحق في الحرب»، و»الحق في الغزو»، لأسباب تتعلق بمصالح الدولة القومية.
وبعد احتلال «داعش» للموصل صدرت في العام 2014 والعام 2015 أربعة قرارات دولية مستندة إلى القرار 1373، لكنها جميعها لم تعط تعريفاً للإرهاب، علماً بأنها حددت عقوبات لمن لا يتعاون مع المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب، وتجفيف منابعه الفكرية، وموارده الاقتصادية.
لقد أثارت ندوة أصيلة أسئلة حول فك الاشتباك بين الإرهاب والدين، وقدّمت مقاربات تحليلية، بعضها غير تقليدي وجريء بشأن ظاهرة الإرهاب الدولي، والبيئة الحاضنة له، سواء المنتجة والمصدّرة، أو المستقبِلة، وأكّدت على أهمية التربية ودور التعليم في تقديم نموذج معرفي جديد، وكذلك دور العامل الاقتصادي والاجتماعي في تطويق الظاهرة، ودعت إلى فكر ديني جديد يعتمد خطاباً عصرياً يعترف بالآخر، ويقوم على قبول التنوّع والتعددية، بما يتلاءم مع مستجدات العصر.
drshaban21@hotmail.com



305
مستقبل الإقليم.. تكامل أم تناحر؟
           
عبد الحسين شعبان
«عليك دائماً أن تعمل كرجل فكر، وأن تفكّر كرجل عمل»؛ ذلك ما قاله المفكر الفرنسي هنري برجسون. وأجِدُ ترابطاً عملياً لهذه العبارة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في علاقات دول الإقليم وأممه بين بعضها، خصوصاً حين تصل الأمور إلى مفترق طرق، فإمّا استمرار التناحر وتبديد الطاقات البشرية والمادية وتعطيل التنمية، وإما التفاهم والتعاون وصولاً للتكامل والمشترك الإنساني.
وإذا كان حصاد الحروب والنزاعات والصراعات في الإقليم الذي نعيش فيه، والذي يضمّ الأتراك والفرس والكرد والعرب، عدّة ملايين من الضحايا وما يزيد على 12 تريليون دولار في التقديرات غير المبالغة خلال العشرين عاماً الماضية، فهذا يعني تعويم التنمية أو تعطيلها على أقل تقدير، وعرقلة خطط الإصلاح، التي لا يمكن الحديث عنها إلّا في ظل أجواء الاستقرار والسلام. ف«الحروب تولد في العقول»؛ ولذلك ينبغي «بناء حصون السلام في العقول أيضاً»، حسب دستور «اليونيسكو»؛ ولأن وظيفة النخب الفكرية والثقافية بشكل عام، التوجّه إلى الإنسان ومخاطبة عقله، فلا بدّ لها إذاً أن تتحرّك؛ لتقديم رؤية نقيضة للحرب على الرغم من الخراب والدمار وثقافة العنف.
خطر ذلك ببالي، وأنا أساهم في جلسة لإعلان منبر جديد للحوار باسم «منتدى التكامل الإقليمي»، أطلق من الجامعة اللبنانية. والفكرة وإنْ انطوت على تقدير إيجابي لمستقبل علاقة أمم الإقليم المشرقي، الذي اعتبره مجالاً حيوياً لاهتمامه، فهي في الوقت نفسه تمثّل جامعاً يسعى إلى تعظيمه، وأمّا ما هو مفرّق فقد نظر إليه بكونه طارئاً وعابراً وظرفياً ينبغي العمل على تقليصه.
ولعلّ هذه النظرة المستقبلية، شغلت مثقفين من بلدان عدّة تلمّسوا بتجاربهم وكلٌ من موقعه أهمية الحوار خارج دائرة الاشتباكات الإيديولوجية والاستقطابات الطائفية والاحترابات الإثنية والمصالح الأنانية الضيقة؛ لأنها تقوم باختصار على أن الأمم والشعوب، التي تعيش في المنطقة، والتي تعاني توتّرات وصراعات داخلية وإقليمية وخارجية، تحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع بعضها؛ لتنميتها بروح القيم الإنسانية، التي تمثّل المشتركات بين البشر، وكان ذلك مدار بحث وحوار في تونس وما ينتظر أن ينطلق بصورة واسعة في منتدى الفكر العربي بعمّان.
وإذا توقّفنا عند الحروب والصراعات، التي تعيشها دول الإقليم، فسنراها حروباً مركّبة سياسية واقتصادية وإيديولوجية حتى وإنْ حملت في حقيقتها مصالح قوميّة جيوسياسية ونزعات للهيمنة وفرض الإرادة، سواء حدثت بصورة مباشرة أم بالواسطة، وبالتداخل والتناظر مع مصالح دولية أحياناً، ليس بعيداً عنها الدور «الإسرائيلي» العدواني المستمر.
فهل ثمة فرصة لأمم الإقليم؛ لتعزيز الروابط فيما بينها، والنهوض بمستلزمات التحدّي الذي يواجهها، خصوصاً وأن هناك استهدافاً شاملاً لها جميعاً دون استثناء؟ ثم كيف يمكنها استثمار اللحظة التاريخية والتقاط ما هو جوهري ومستقبلي؛ لبناء العلاقات وفقاً لقيم ومبادئ كونية جامعة قوامها: الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة واحترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، وتلك جوامع إنسانية لبني البشر، فما بالك بالنسبة لشعوب المنطقة. وإذا كانت أوروبا قد سبقتنا بوضع حدٍّ لحروبها الطائفية، ولاسيّما بين البروتستانت والكاثوليك، وخصوصاً «حرب الثلاثين عاماً»؛ بإبرام معاهدة وستفاليا 1648، فسيكون جديراً بالإقليم المشرقي إعادة بناء علاقاته وفقاً لهذه الأسس الجيوسياسية الثقافية، وعلى قواعد القانون الدولي المعاصر، وميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي يمكن أن تضع حداً لحروب عبثية باسم السنّة والشيعة، وباسم «الإسلام» ضد الأديان الأخرى، وهذا ما كان قد طغى على خطاب «داعش»؛ بعد هيمنته على ثلث مساحة كل من العراق وسوريا، لاسيّما باستهداف المسيحيين والإيزيديين، وأتباع الأديان الأخرى، وجميع المسلمين وفقاً لاجتهاداته الجهنمية بتكفير الجميع.
وبتقديري، إن النخب الفكرية والثقافية والحقوقية ومن موقعها التنويري يمكن أن تكون «قوة اقتراح» وخصوصاً، حين تستطيع بناء جسور الثقة مع أصحاب القرار؛ بحيث تصبح شريكاً فاعلاً ومشاركاً لا غنى عنه في عملية التنمية المنشودة، سواء في صنع القرار أم في تنفيذه.
يمكننا تصوّر كم كان وجه الإقليم سيكون مختلفاً ومكانته كبيرة؛ لو اعتمد «تعاهداً» أو «ميثاقاً» عاماً للسلام؛ أساسه احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق تقرير المصير وإنماء التعاون والشراكة ؟ وكم سيكون انعكاسه فاعلاً على كل بلد، وعلى مستوى الإقليم؛ بل على المستوى الكوني؛ بالاستثمار لمصلحة الإنسان وحقوقه وحرّياته وتعليمه وصحته وبيئته وتنميته؟ وبالطبع بالتكامل وليس بالتناحر!!
drshaban21@hotmail.com


306
مستقبل الإقليم.. تكامل أم تناحر؟
           
عبد الحسين شعبان
«عليك دائماً أن تعمل كرجل فكر، وأن تفكّر كرجل عمل»؛ ذلك ما قاله المفكر الفرنسي هنري برجسون. وأجِدُ ترابطاً عملياً لهذه العبارة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في علاقات دول الإقليم وأممه بين بعضها، خصوصاً حين تصل الأمور إلى مفترق طرق، فإمّا استمرار التناحر وتبديد الطاقات البشرية والمادية وتعطيل التنمية، وإما التفاهم والتعاون وصولاً للتكامل والمشترك الإنساني.
وإذا كان حصاد الحروب والنزاعات والصراعات في الإقليم الذي نعيش فيه، والذي يضمّ الأتراك والفرس والكرد والعرب، عدّة ملايين من الضحايا وما يزيد على 12 تريليون دولار في التقديرات غير المبالغة خلال العشرين عاماً الماضية، فهذا يعني تعويم التنمية أو تعطيلها على أقل تقدير، وعرقلة خطط الإصلاح، التي لا يمكن الحديث عنها إلّا في ظل أجواء الاستقرار والسلام. ف«الحروب تولد في العقول»؛ ولذلك ينبغي «بناء حصون السلام في العقول أيضاً»، حسب دستور «اليونيسكو»؛ ولأن وظيفة النخب الفكرية والثقافية بشكل عام، التوجّه إلى الإنسان ومخاطبة عقله، فلا بدّ لها إذاً أن تتحرّك؛ لتقديم رؤية نقيضة للحرب على الرغم من الخراب والدمار وثقافة العنف.
خطر ذلك ببالي، وأنا أساهم في جلسة لإعلان منبر جديد للحوار باسم «منتدى التكامل الإقليمي»، أطلق من الجامعة اللبنانية. والفكرة وإنْ انطوت على تقدير إيجابي لمستقبل علاقة أمم الإقليم المشرقي، الذي اعتبره مجالاً حيوياً لاهتمامه، فهي في الوقت نفسه تمثّل جامعاً يسعى إلى تعظيمه، وأمّا ما هو مفرّق فقد نظر إليه بكونه طارئاً وعابراً وظرفياً ينبغي العمل على تقليصه.
ولعلّ هذه النظرة المستقبلية، شغلت مثقفين من بلدان عدّة تلمّسوا بتجاربهم وكلٌ من موقعه أهمية الحوار خارج دائرة الاشتباكات الإيديولوجية والاستقطابات الطائفية والاحترابات الإثنية والمصالح الأنانية الضيقة؛ لأنها تقوم باختصار على أن الأمم والشعوب، التي تعيش في المنطقة، والتي تعاني توتّرات وصراعات داخلية وإقليمية وخارجية، تحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع بعضها؛ لتنميتها بروح القيم الإنسانية، التي تمثّل المشتركات بين البشر، وكان ذلك مدار بحث وحوار في تونس وما ينتظر أن ينطلق بصورة واسعة في منتدى الفكر العربي بعمّان.
وإذا توقّفنا عند الحروب والصراعات، التي تعيشها دول الإقليم، فسنراها حروباً مركّبة سياسية واقتصادية وإيديولوجية حتى وإنْ حملت في حقيقتها مصالح قوميّة جيوسياسية ونزعات للهيمنة وفرض الإرادة، سواء حدثت بصورة مباشرة أم بالواسطة، وبالتداخل والتناظر مع مصالح دولية أحياناً، ليس بعيداً عنها الدور «الإسرائيلي» العدواني المستمر.
فهل ثمة فرصة لأمم الإقليم؛ لتعزيز الروابط فيما بينها، والنهوض بمستلزمات التحدّي الذي يواجهها، خصوصاً وأن هناك استهدافاً شاملاً لها جميعاً دون استثناء؟ ثم كيف يمكنها استثمار اللحظة التاريخية والتقاط ما هو جوهري ومستقبلي؛ لبناء العلاقات وفقاً لقيم ومبادئ كونية جامعة قوامها: الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة واحترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، وتلك جوامع إنسانية لبني البشر، فما بالك بالنسبة لشعوب المنطقة. وإذا كانت أوروبا قد سبقتنا بوضع حدٍّ لحروبها الطائفية، ولاسيّما بين البروتستانت والكاثوليك، وخصوصاً «حرب الثلاثين عاماً»؛ بإبرام معاهدة وستفاليا 1648، فسيكون جديراً بالإقليم المشرقي إعادة بناء علاقاته وفقاً لهذه الأسس الجيوسياسية الثقافية، وعلى قواعد القانون الدولي المعاصر، وميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي يمكن أن تضع حداً لحروب عبثية باسم السنّة والشيعة، وباسم «الإسلام» ضد الأديان الأخرى، وهذا ما كان قد طغى على خطاب «داعش»؛ بعد هيمنته على ثلث مساحة كل من العراق وسوريا، لاسيّما باستهداف المسيحيين والإيزيديين، وأتباع الأديان الأخرى، وجميع المسلمين وفقاً لاجتهاداته الجهنمية بتكفير الجميع.
وبتقديري، إن النخب الفكرية والثقافية والحقوقية ومن موقعها التنويري يمكن أن تكون «قوة اقتراح» وخصوصاً، حين تستطيع بناء جسور الثقة مع أصحاب القرار؛ بحيث تصبح شريكاً فاعلاً ومشاركاً لا غنى عنه في عملية التنمية المنشودة، سواء في صنع القرار أم في تنفيذه.
يمكننا تصوّر كم كان وجه الإقليم سيكون مختلفاً ومكانته كبيرة؛ لو اعتمد «تعاهداً» أو «ميثاقاً» عاماً للسلام؛ أساسه احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق تقرير المصير وإنماء التعاون والشراكة ؟ وكم سيكون انعكاسه فاعلاً على كل بلد، وعلى مستوى الإقليم؛ بل على المستوى الكوني؛ بالاستثمار لمصلحة الإنسان وحقوقه وحرّياته وتعليمه وصحته وبيئته وتنميته؟ وبالطبع بالتكامل وليس بالتناحر!!
drshaban21@hotmail.com


307

55 عاماً على حركة معسكر الرشيد
استعادة شخصية


عبد الحسين شعبان

أعيد نشر هذه المادة مجدداً وذلك استجابة لطلب من رفيق قديم وصديقين لتسليط ضوء أقوى على انتفاضة معسكر الرشيد التي قادها حسن السريع وذلك إثر اطلاعهم على ما كتبته عن سلام عادل من دراسة نشرت في صحيفة الزمان العراقية على 8 حلقات والموسومة  " الدال والمدلول وما يمكث وما يزول" ، وانتهز فرصة ذكرى الستين لثورة 14 تموز وذكرى ال 55 لحركة معسكر الرشيد لأعيد نشر هذه المادة .


وجهت حركة 8 شباط (فبراير) 1963 (الانقلاب المعروف بإسم انقلاب 14 رمضان)، ضربة موجعة وقاسية للتنظيم الشيوعي في العراق، فتمزّقت وانهارت معظم تشكيلات الحزب الشيوعي ومنظماته الجماهيرية بسبب حملة القمع والتصفية، التي قام بها " الحرس القومي" وأجهزة الأمن.
لكن تلك الحملة التي قامت بها الحركة الانقلابية وجناحها الأساسي " حزب البعث" والحرس القومي، رغم إتسّاعها واستمرارها، لم تكن " ماحقة"، كما أراد لها منفذوّها، فلم تستطع رغم شراستها وانفلاتها من عقالها، القضاء على الحركة الشيوعية.
*   *   *
وبادرت نخبة متميزة في العاصمة بغداد ومدن الفرات الاوسط وريفه والجنوب إلى إعادة بناء التنظيمات وإعادة ربط وتجميع " الرفاق" المقطوعين والمختفين عن الانظار، في حين إتجهت منظمة الاقليم (فرع كردستان) إلى العمل المسلح، وكان هدف الجميع إشعار الرأي العام بأن " المقاومة" السلمية والمسلحة، سواءً الدفاع عن النفس، أو القيام بعمليات محدودة كما حصل في ريف الفرات ومناطق اخرى، لم تنتهِ. وساعد في إبراز وجود مقاومة وممانعة، الحملة الحكومية الدعائية والعسكرية ضد الحركة الكردية، التي إبتدأت في حزيران (يونيو) 1963، بعد ان إنقطع حبل الوصل، الذي ظل مرتخياً منذ القضاء على حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وتبديد الوعود بإعطاء حقوق الشعب الكردي، خصوصاً بعد طرح مشروع " اللامركزية" الادارية بديلاً عن " الحكم الذاتي"، الذي كانت تطالب به الحركة الكردية وقوى يسارية بما فيها الحزب الشيوعي.
ورغم إتسّاع الحملة العالمية للتضامن ضد حكم البعث وممارسات الحرس القومي الدموية، ناهيك عن تمّزق تحالفاته الداخلية وبخاصة مع القوميين العرب والناصريين، الاّ انه لم يتراجع عن مواقفه، بل ازداد عنفاً في التعامل مع الآخرين، وقد ضاقت قاعدته السياسية تدريجياً، وبخاصة بعد شنّه هجوماً شديداً ضد التيار القومي العربي الناصري وحركة القوميين العرب وضد شخص القائد العربي جمال عبد الناصر والتجربة الناصرية بشكل عام، خصوصاً بعد اتهام القوميين العرب "بالمؤامرة السطحية"، كما سميّت في حينها، حيث اعتقل العشرات من قياداتهم والمئات من قواعدهم، وأرسل عدداً منهم إلى سجن نقرة السلمان الذي كان يضم بضعة آلاف من الشيوعيين، وهكذا بدأت بعض التململات داخل الجيش.

كما شنّ الحكم الانقلابي الجديد هجوماً (في حزيران/يونيو) العام 1963 أشدّ قسوة ضد الحركة الكردية وقيادتها بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني وكان هذا الهجوم الأكثر شراسة، خصوصاً وقد وصف وزير الدفاع في حينها صالح مهدي عماش الحرب ضد الاكراد، بأنها ليست أكثر من "نزهة" وإنّ الحملة ستنتهي بنجاح، وسيتم القضاء على "المتمردين"! ولم تستثنِ الحملة المتلاحقة والمستمرة حتى تيار " الحزب الوطني الديمقراطي" بقيادة كامل الجادرجي، الذي فضّل الصمت والابتعاد عن الأضواء، إذ لم تجدِ الملاحظات والانتقادات التي وجهها مباشرة أو بطريق غير مباشر، إلى الحكم أية آذان صاغية  خصوصاً بتعمق نهج الاستئثار والانفراد ومعاداة الديمقراطية.

في ظل هذه الأوضاع حدثت إحدى المفاجآت أو المفارقات أو كليهما حين قاد العريف حسن سريع الشيوعي التوّجه، حركة انقلابية مضادة ضد الحكم الانقلابي في 3 تموز (يوليو) 1963. واستولى في حينها على معسكر الرشيد ومعدّات وأسلحة واعتقل وزراء ومسؤولين عسكريين وحزبيين على مستوى رفيع.
*   *   *
   كنت آنذاك قد خرجت من المعتقل، حيث إعتقلت في " خان الهنود"، مركز شرطة النجف بعد ثلاثة أيام من الانقلاب، وفيما بعد نقلت إلى " الموقف الجديد"  تحت الأرض، وأطلق سراحي بناءً على توسّطات قام بها عمي الدكتور عبد الامير شعبان، لدى الحاكم العسكري العام رشيد مصطلح وناجي طالب الشخصية القومية البارزة وأحد كبار الضباط الاحرار الذين خططوا لثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وتوجهت منذ اليوم لاستعادة حريتي للبحث عن خيط يربطني بالحزب ويعيد صلتي، خصوصاً وقد كنت مفصولاً من الدراسة ووجدت ضالتي بجارنا وصديقنا عبد المنعم الجزائري ورفيقه شمسي الكرباسي صديقنا العتيق، الذي هُجّر فيما بعد إلى إيران في حملة السبعينيات ضد ما سميّ "بالتبعية الايرانية"،  وتوفي هناك في أواخر الثمانينيات أو أوائل التسعينيات. وكنت قد إلتقيته في دمشق في الثمانينيات.
وكان الجزائري والكرباسي قد اختفيا عن الانظار طيلة أشهر، وظلاّ على ارتباط مع بعضهما ومع رفاق محدودين وبعض الاصدقاء المقرّبين، لنقل بعض الأخبار والمعلومات. كنّا نلتقي ليلاً في دار الجزائري الملاصقة لدارنا وأخوه محمد حسن (صلة الوصل)، ونتبادل الاحاديث والأخبار، وأحياناً كنّا نخاطب بعضنا بعضاً من فوق السطوح، رغم الحذر الشديد وفي جنح الظلام، حيث كان يرمي رسالة على سطح المنزل ملفوفة بحجر وأفعل الشيء ذاته لتأمين الاتصال أحياناً.
   وكان ما يجري بيننا هو محاولة استذكار بعض الاصدقاء والرفاق والبحث عن مكان اختفاء ومعرفة مواقف المعتقلين والسعي للاتصال بمن يطلق سراحه ويكون موقفه جيداً أو غير منهار. وكنت من جانبي أنظمّ صلة خاصة مع المحامي حسن شعبان الذي كان قد أطلق سراحه بعد اعتقال دام بضعة أشهر في الموقف العام في بغداد، حيث كان عضواً في اللجنة التحضيرية لمهرجان هلسنكي للشباب والطلاب 1962، وكان شعبان قد تخرّج لتوّه وافتتح مكتباً للمحاماة، وظل مختفياً في النجف طيلة فترة حكم البعث، في زقاق معروف بإسم " عكد الخمايسي"، حيث كان لعائلته احدى الدور التي تؤجّر إلى زوار مرقد الامام علي، الذين يأتون للتبرك والزيارة، فإنتقلت إحدى المسنّات (العجائز) للسكن معه للتغطية أولاً ولرعايته واستقبال من كانوا يأتون إلى زيارته ثانياً، رغم إن عددهم لم يتجاوز 3 أشخاص كنت أحدهم.
ومن المفارقة إن بيت حسن شعبان (الذي يختفي فيه) كان مقابل بيت الشيخ عباس شعبان والد المناضل المعروف وهاب شعبان وأخيه عبدالإله شعبان، وكانت واحدة من الهموم التي تواجهنا هو كيفية التمويه على مكان الاختفاء، خوفاً من الثرثرة ونقل الأخبار، التي قد تصل إلى الطرف الآخر وبخاصة إلى الحرس القومي، ورغم استمرار اختفاء حسن شعبان (أبو مضاء) نحو ثمانية أشهر، فانه لم يعرف به أحد حتى من آل شعبان المقابلة بيوتهم لبيوت حسن شعبان أو القريبة منها!
كنّا نتبادل الرأي ونقوم بتحرّك محدود، وكنّا نراجع مواقف وردود أفعال السلطة والحزب وفيما بعد الحركة الانقلابية. (أي قبل وبعد الانقلاب). وبدأنا نسمع عن اختلافات داخل مجاميع الحكم والحزب.
وفي أحد الأيام داهمت قوات الحرس القومي بيت عبد المنعم الجزائري واعتقل الجزائري وكاد والدي أن يُقتل، حيث حاول بعض أفراد الحرس القومي أن يوجه رشاشته إليه، لمنعه من محاولة اقتحام الدار، لاعتقاده أنهم جاءوا لاعتقالي مرة أخرى، وليس لإعتقال جارنا الجزائري. وفوجئنا بأن الحرس القومي، تسلّق دورنا وقام بعملية أشبه بالانزال لإعتقال عبد المنعم الجزائري.
كهذا تفرقت الحلقة المصغّرة، وبقيت أتصل بحسن شعبان، الذي كاد هو الآخر أن يقع في الفخ، حيث داهم أفراد الحرس القومي داره وفتشوا عنه عدّة مرّات، لكنهم لم يعثروا عليه، فقد استطاع عبر السطوح القفز إلى سطوح دور متلاصقة وتمكّن بعد ذلك من الإختباء في مخبئه الذي أشرت إليه، في " بيت الزوار". وكنا نطلق عليه إسم بيت " الحاج شيخ". ولا أدري من أين جاءت التسمية، ولكن ذلك كان بمثابة إسم سري لمكان اختفاء حسن شعبان!؟
 حاولت بعدها الاستفسار عن عبد النبي حسن الدلال، فهو من الشيوعيين المعروفين في المدينة وكان مسؤولاً عن الخط الطلابي، فاضافة إلى كونه جارنا، فهو صديقنا أيضاً وكان لفترة قصيرة قد تناوب في الاشراف على خليتنا مع أنيس كاشف الغطاء، وكان المسؤول عن خليتنا  رحيم كاطع الغزالي.وكنت أعرف إن الصديق عبدالنبي " أبو فاروق" لم يعتقل، وحاولت الاتصال بأخيه حميد حسن الدلال، الذي زارنا إلى المعتقل أكثر من مرّة ونقل لنا الأخبار، وكنّا قلقين عليه مع إعجابنا بشجاعته في تلك الظروف، وكان يخبرنا إنه مرسلٌ لمعرفة أوضاعنا (حصل ذلك قبل منع المواجهات ومنع استلام الأغذية من خارج التوقيف)، وعرفت إن حميد الدلال اعتقل أيضاً، في حين هرب عبد النبي إلى إيران.
إتصل بي بعد ذلك أحد الرفاق الذين كنت على صلة بهم، وسبق وأن كنا في خلية واحدة عام 1962. وبعد أن تم جسّ النبض كما يقال، فاتحني للعمل في التنظيم الجديد، الذي قال إنه يعرف أحد " الرفاق"، الذي يريد الاتصال بي، لكنه بسبب عدم وجود معرفة سابقة، فضّل إرساله، وهو على علاقة خيطية كما أبلغني، وكان متحمساً للعمل.
ثم جاءني أحد " الرفاق" الذين لم أكن قد تعرفت عليه سابقاً، وأخبرني بأنه مندوب الفرات الاوسط، وأن صلته مع القيادة المتبقية وذلك لغرض تطميني من موضوع إحتمالات الاندساس أو التواطؤ، خصوصاً وإنه لمحّ لي بأن المرجع هو لجنة التنظيم المركزي، ولم أكن أفقه من ذلك سوى " الإسم"!
وعرفنا فيما بعد أنه مرسل أو بالتنسيق أو ضمن خطة جمع الرفاق من مركز الفرات الاوسط، الذي كان بقيادة الرفيق " باقر ابراهيم"، وكان بصحبته الرفيقين عدنان عباس وكاظم الجاسم، إضافة إلى زكي خيري (الذي كان معاقباً بسبب كتلة الأربعة التي ضمت خيري وعامر عبدالله وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس والاخير استشهد تحت التعذيب عام 1963، ضد سلام عادل، وكان زكي خيري يقضي فترة اعادة التأهيل في لجنة قضاء الشامية، ثم في لجنة الفرات بعد انتقاده لنفسه، كما تقضي التقاليد الحزبية الصارمة آنذاك). وهذا الامر عرفته لاحقاً بالطبع من خلال العلاقة مع بعض الرفاق وكذلك من خلال النشر وبخاصة من خلال: مذكرات زكي خيري وبهاء الدين نوري، وباقر ابراهيم الذي يذكره بالتفصيل مع بعض النوادر والتعليقات المثيرة!!
وبالمناسبة فقد حدثني عدنان عباس (عضو اللجنة المركزية سابقاً) عن وجوده في النجف خلال إنقلاب 8 شباط(فبراير) وكان حينهاعضواً في منطقة الفرات الاوسط ومن قياداتها التاريخية، وانه غادر النجف لآخر مرة بعد مرور نحو شهر على الانقلاب، وسار على الاقدام إلى ريف الكوفة بصحبة باقر ابراهيم وزكي خيري وكاظم الجاسم، وترك المسؤولية في تنظيم النجف إلى محمد موسى، وهو أحد الابطال الشعبيين، الذين لهم مكانة خاصة في النجف وكان يسكن في منطقة الجديدة في بيت حزبي، وفي اليوم نفسه الذي غادر به عدنان عباس (أبو ناديا) والرفاق الآخرين، البيت الحزبي فجراً، تمّ مداهمة الدار واعتقل محمد موسى بعد أن اعتقلت خالته، وكنت معتقلاً خلال تلك الفترة، ووقع عليّ الخبر وقع الصاعقة للعلاقة التاريخية بالرجل، منذ أن كنت طفلاً ثم فتىً، ولاعتقادي أن هناك حقداً دفيناًضده ومن المحتمل الاّ نراه ثانيةً. وكان محمد موسى قد قاد تظاهرة يوم 8 شباط (فبراير) وألقى خطاباً نارياً وتحريضياً ضد الانقلابيين بالقرب من الصحن الحيدري (باب القبلة- مدخل شارع الرسول المعروف بشارع موسكو) واستمر ظهوره في أزقة النجف لنحو ثلاثة أيام، ثم اختفى عن الأنظار وكان معه خلال تلك الفترة رفيق من الموصل يدعى فيكتور، ولا ادري أين حلّ به الدهر!!؟
بعد اعتقاله وتعذيبه في النجف، نُقل محمد موسى إلى الحلة وهناك تعرّض للتعذيب أيضاً، حيث كان سابقاً مسؤولاً حزبياً لقضاء الحلة باشراف من الصديق صاحب الحكيم الشخصية الشيوعية التاريخية في منطقة الفرات الاوسط، مسؤول محلية الحلة، الذي اعتقل عام 1962 في الحلة، ومن الحلّة أرسل محمد موسى إلى بغداد واختفى أثره في قصر النهاية. ولدى الباحث دراسة خاصة عن محمد موسى وشهادات لبعض من عرفه، سينشرها قريباً وكنت قد إلتقيت في المعتقل بآخر ثلاث أشخاص كانوا مع محمد موسى، وهم عامل المطبعة الكادر يحيى طربال وعضو اللجنة المحلية مجيد الحلوائي (اخ جاسم الحلوائي) ورفيق آخر إسمه محسن (عضو محلية)، وذلك بعد أسابيع من التحقيق والتعذيب معهم، حيث تم نقلهم إلى الموقف الجديد " تحت  الارض"، وهناك استفسرت منهم عن آخر تفاصيل اعتقال محمد موسى. وكان محمد الحياوي عامل النسيج والمتفرّغ الحزبي معتقلاً معنا، وهو على معرفة وثيقة مع محمد موسى، ونقل لي كيف استطاع الزوغان عام 1957 من الفخ المنصوب له، وانقاذ ما يمكن انقاذه، كما روى لي كيف تم كبس المطبعة!؟
قبيل هذه الفترة ذاتها تقريباً وصلنا خبر اعدام سلام عادل (أبو ايمان) أمين عام الحزب وحسن عوينه (أبو فلاح) ومحمد حسين أبو العيس، حين أذاع راديو بغداد النبأ يوم 7 أو 9 آذار (مارس)، وكان وقع هذا الخبر ثقيلاً ومؤلماً لدرجة الإحباط، حيث تبدّدت الكثير من الآمال، وشعر الكثير منّا بالقنوط، وترافق ذلك بنقل مسؤول السجن (المعتقل) صاحب الحكيم إلى جهة مجهولة وتعرّضه للتعذيب في مركز الحلة، ثم في بغداد (مركز المأمون). وكان الحكيم مربياً حقيقياً لنا لا ينام الاّ بعد أن ننام، ويسهر على كل صغيرة وكبيرة في المعتقل، إضافة إلى مكانته الحزبية كان مهاباً من المعتقلين العاديين، وظلّ يعمل بصمت وصبر وتواضع طيلة حياته، رغم تعرّضه لإجحاف وإساءات وجحود في الثمانينيات!
ولا يمكن لباحث منصف كتابة تاريخ النجف الشيوعي، إضافة إلى تاريخ الفرات الاوسط، دون أن يخصص حيّزاً مهمّاً لصاحب جليل الحكيم (وهو من عائلة دينية من سدنة الروضة الحيدرية)، عملت والدته منذ الخمسينات مراسلة حزبية مع سجن نقرة السلمان، واعتقل هو لأول مرة عام 1950، وقد فصل من الدراسة عام 1953 بعد أن اختفى عن الأنظار، وخلال هذه الفترة إحترف العمل الحزبي، وبعد ذلك، اعتقل عدّة مرّات في العهد الملكي وحُكم عليه بعد انتفاضة العام 1956 لمدة عام، وبعد عام 1958 كان عضواً في محلية النجف ورئيساً لاول اتحاد طلابي منتخب بعد اعادته إلى الدراسة، وكان مسؤول اللجنة المحلية يومها محمد حسن مبارك (أبو هشام)، ثم أصبح صاحب الحكيم مسؤولا للمحلية أواخر عام 1959 أو بداية العام 1960، وكانت يومها تضم: د.خليل جميل الجواد (الطبيب المعروف والشخصية الاجتماعية البارزة) عبدالسادة الخباز (أبو لميعة)، محمد موسى، المحامي حسين الرفيعي، علي النوري (من كربلاء)، ساجد حمادة!! (من الديوانية)  ومحمد رؤوف الجواهري ومحمد الجواهري، واستمر في ذلك حتى مطلع العام 1962، حيث سلّم مسؤوليتها إلى أنيس عباس ناجي. وانتقل ليكون مسؤولاً عن محلية الحلة(بابل) وقد اعتقل في أواخر العام 1962، ونقل بعدها إلى معتقل النجف وهناك إلتقينا به، ومنه بعد الانقلاب إلى الحلة ومن الحلة إلى بغداد " مركز المأمون" وبعد ذلك إلى سجن نقرة السلمان، وأطلق سراحه أواخر العام 1964 أو أوائل العام 1965 حيث عاد إلى صفوف الحزب.
كان حلقة الوصل بيننا وبين التنظيم الجديد هو عدنان الخزرجي، الذي عرفت إسمه فيما بعد وإلتقيت به أثناء اشراف لي على تنظيم ألمانيا الطلابي في العام 1973. اعتقل الخزرجي (الذي تخرّج من ألمانيا- دكتوراه في الفلسفة لاحقاً) خلال حملة جديدة مكثفة بعد مقتل محمد رضا الشيخ راضي، أحد ابرز المسؤولين البعثيين في النجف والذي اشتهر بقسوته، على أيدي فلاحين شيوعيين أثناء زركة من الحرس القومي على ريف منطقة العباسيات في الكوفة وبحثاً عن المحامي حسين الشعلان، وبعد أن تعرّض للتعذيب في مقر الحرس القومي نقل إلى الديوانية، ثم حُكم عليه وأودع في سجن الحلّة الشهير، وترافق ذلك أيضاً مع قيام حركة حسن سريع.
*   *   *
   شكّلنا لجنة للتنظيم الجديد، باسم لجنة النجف- للحزب الشيوعي العراقي وضمت بعض الرفاق من الكوفة وأبو صخر، وكانت امتداداتها واسعة وصلت حسب احصاءات آخر اجتماع لها نحو 60 رفيقاً وصديقاً وجمعنا تبرعات واشتراكات نحو 50 ديناراً آنذاك، حاولنا ارسالنا إلى مركز الحزب في الفرات.
   كانت اللجنة المسؤولة مؤلفة من عدنان الخزرجي ومحسن القهواتي، الذي كان عاملاً في احدى مطابع النجف (لا أتذكر ان كان مطبعة النعمان أو المطبعة الحيدرية). وكان يدرس في المدرسة الاعدادية (المسائية على ما أتذكر) وكفاح سميسم وصادق مطر وعبد الحسين شعبان وانضم إلينا علي الخرسان، الذي كان معتقلاً قبل انقلاب شباط (فبراير)، أي منذ أيام عبد الكريم قاسم الأخيرة، واطلق سراحه، وكان السبب في اعتقاله انه قام بتوزيع منشورات للحزب في مقاهي النجف بصورة علنية، كجزء من خطة الحزب آنذاك للفت الانتباه إلى مواقفه وبخاصة حركته الجماهيرية قبل سقوط قاسم، وكان علي الخرسان إسمه الحزبي (وائل)، في الخليّة ذاتها التي عملت فيها لبضعة أشهر، وكان فيها قبل ذلك جبار رضا عبدننه (العلي) (ناهض) وكوثر الواعظ (هيثم) (الدكتور- طبيب الاسنان)، الذي كانت عيادته في السبعينيات ملتقىً للشيوعيين واليساريين وكان قد اعتقل عام 1963 في النجف، ونقل بعدها إلى سجن أم عباسيات، وعندما أطلق سراحه أعيد إلى الدراسة بعد فصلنا جميعاً، ثم أكمل دراسته في الاتحاد السوفييتي، وهو أحد الوجوه الاجتماعية المعروفة، وطارق شكر الذي اعتقل معنا أيضاً، ثم هاجر إلى الكويت وعند هروبي العام 1970 بعد صدور أمر بإلقاء القبض عليّ، إلتقيته في الكويت، كما إلتقيت أحد الشيوعيين القدامى واسمه موسى مشكور، الذي كان يعمل كاتباً لدى جديّ في خان شعبان وهرب إلى الكويت العام 1963 وبقي هناك، وبعد الغزو الصدامي للكويت انتقل للعيش في ساندياغو (الولايات المتحدة) منذ العام 1990 وكان آخر لقاء لي مع طارق شكر في العراق العام 2003 بعد عودتي إلى بغداد.
وارتبط بهذه اللجنة أعضاء وأصدقاء كثيرون أتذكّر منهم محمد صادق الكويتي، عبد الامير السبتي، وهاب شعبان، طارق شكر (الصراف) ناجي الدباغ، وعبد علي الشرقي وعبد الامير الغرّاوي، باسم كمونة، حميد الدباغ (عامل) وعلاء عاتي ورواء مرتضى فرج الله وغيرهم، وكان لدى الشرقي وحده أكثر من 10 أصدقاء أو رفاق مقطوعين.
   كنت قد فصلت من الدراسة بعد اعتقالي، كما فصل آخرون. وكان التحرّك الأول للجنتنا هو المطالبة باعادتنا للدراسة أو اعتبار فصلنا بمثابة تأجيل سنة لأسباب طبية(صحية) ونجحنا في ذلك عشية الامتحانات النهائية. كما قمنا بفضح عملية تسريب الأسئلة الامتحانية للبكلوريا للجماعات المحسوبة على السلطة آنذاك، والتي كانت فضيحة صارخة، اضطرت السلطة والإتحاد الوطني المحسوب عليها إلى الاعتراف، بها ولكنها حاولت إلصاق التهمة بالشيوعيين والعناصر المندّسة حسبما جاء في بيان رسمي حول سرقة الأسئلة الامتحانية.
كنّا بشكل عام وهذا ما عرفناه نتلقى التعليمات من مركز باقر ابراهيم، أو شيء اسمه " منطقة الفرات الاوسط"، أو هكذا ركب الإسم في رؤوسنا، وكسبنا بعض الاصدقاء الجدد وأعدنا علاقات بعض المنقطعين بمن فيهم عامل الكهرباء عبد الحسين الشيباني، الذي كان يعيد كتابة البيانات بخطه الجميل. وكانت تحذيرات المركز بضرورة المحافظة على النفس واليقظة ازاء الاندساس. وأعتقد أنها كانت تمتاز ببعد نظر في تلك الفترة العصيبة وتحدّ من اندفاعاتنا، ولعلّ بعضها يقترب من التهوّر أحياناً.
   عقدنا 4 اجتماعات اثنان منها في بيت عبدالله الشمرتي صديقنا ورفيقنا، الذي فضّل تقديم جميع التسهيلات لنا دون أن يكون عضواً في الحزب (المقصود التنظيم الجديد) وظل على موقفه هذا، لكنه تعرّض فيما بعد للاعتقال وكاد أن يُرمى في السجن ويُقدّم إلى المحاكمة، حيث جلب لنا بيانات ووثائق من الحزب الشيوعي السوري، وألقي عليه القبض في الحدود، وأقتيد مخفوراً ولولا تدخلات أحمد الشمرتي المعروف بعلاقاته الواسعة لأودع السجن. وكان أنذاك يتردّد على دمشق للتسجيل في كلية الحقوق.
    لا أتذكر إنْ كان آخرون قد انضموا إلى اللجنة، ولكنني أتذكّر إننا كنّا في حالة توسع شديد. وعقدنا اجتماعاً في الكوفة في جامع الكوفة الشهير تمويهاً لرجال الحرس القومي وآخر في منطقة الجسر في بستان لاحد الفلاحين من اصدقائنا بواسطة تسهيلات من رفيقنا محمد الكويتي وسهام ماضي.

كانت حملة الاعتقالات سريعة ومكثفة، فقد اعتقل الخزرجي وبعده اعتقل محسن القهواتي، كما اعتقل كمونة وآخرون. واضطررنا إلى قطع الاتصالات والهرب حسب إتفاق كان بيننا، خصوصاً بعد أن عرفنا بواسطة رفيقنا علي الخرسان، عن طريق الحلاّق خضير الجزائري، الذي نقل له رزاق كشكول عضو قيادة منظمة البعث والحرس القومي اكتشافهم لحلقات من التنظيم الجديد واعتقالهم لبعض العناصر، وإنّ الحملة ستكون مركزة وخاطفة.
*   *   *
هربت إلى بغداد، التي كنّا نقضي فيها أوقاتاً طويلة ولدينا فيها الكثير من البيوت والعلاقات والأقارب والأصدقاء. إستأجر والدي سيارة تاكسي(أجرة). وكنت قد ذهبت مشياً على الأقدام إلى خارج المدينة وبعد نقطة التفتيش، التي هي في حي السعد، ركبت من هناك في السيارة، وكنت قد بت ليلة خارج البيت احتراساً من احتمالات الاعتقال. وفي بغداد اتصلت بلجنة الكاظمية أو بقاياها ومع بعض الأصدقاء والرفاق. وكان آخر تشكيلة لها بقيادة محمد أمين الاسدي (المحامي فيما بعد) الذي بادر مع نخبة لاعادة تشكيل التنظيم الجديد، لكنه اضطر إلى الهرب إلى إيران بعد انكشاف حركتها.
وبواسطة صديق خياط يدعى صادق وصيدلي إسمه عبد الأمير السعدي (كان طالباً آنذاك) وهما يسكنان في منطقة النواب حصلنا على صحيفة " طريق الشعب"، التي صدرت في حزيران (يونيو) العام 1963، وحرّرها في حينها عبد الجبار وهبي " أبو سعيد" وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي، قبل إلقاء القبض عليهم واعدامهم في تموز (يوليو) العام 1963، أي بعد شهر تقريباً من صدور أول عدد من صحيفة طريق الشعب، التي انعشت الكثير من الآمال، لكن تسارع الأحداث وفشل حركة سريع وفيما بعد اعدام العبلي والحيدري وأبو سعيد، سبّب بعض ردود الفعل السلبية وبخاصة في الجوانب المعنوية.
كنت " أختفي" أو هكذا يخيّل إليّ في منطقة الإنباريين في الكاظمية في بيت عمي شوقي شعبان، الذي كان معتقلاً في النادي الاولمبي وقبلها في الكاظمية واستقرّ به المقام في الموقف العام ببغداد (القلعة الخامسة). وأتحرّك بين بيت جدي التاجر المعروف الحاج حمود شعبان، في منطقة سوق حمّد (تانكي الماء)،  الذي دوهم بيته في أيام الانقلاب، حيث كانت المقاومة في المدرسة المقابلة له، وأصيب بعدها بأيام بجلطة قلبية وصاحبه مرض القلب، بضعة شهور لم تمهله طويلاً، وعلى أثرها توفي في بيروت آب (أغسطس) العام 1963، وكذلك في الأسواق التجارية حيث الكثير من أقاربي ووالدي يعملون في تجارة الأقمشة، وكانت السوق التجارية أرضاً خصبة لسماع الاخبار، من جهة ولمعرفة بعض توجّهات الحكم وخفاياه من جهة اخرى، حيث كانت ترد الكثير من المعلومات التي أسمعها وأدققها وأنقلها إلى الموقف العام عند زيارة  عمي شوقي.
ونقلت لهم في إناء خاص صحيفة الشعب بعد تمويهات كثيرة وكانت عمتي أمينة هي التي حملت " البريد" مع الكثير من المأكولات والحلويات دون أن تدري حقيقة ما يتضمنه. نقلت لهم بعد أول مواجهة في ذلك الصيف الساخن والملتهب  تداعيات حركة حسن سريع، وكان الرأي السائد عندهم وفي الشارع المؤيد للشيوعيين هو خطأ الانتظار طالما كانوا قد بدأوا بالتنفيذ، ولذلك كان لا بدّ من "تصفية" القيادات السياسية والعسكرية، التي وقعت في الفخ واعتقلت أثناء وصولها إلى معسكر الرشيد، لأن الأمر اقترب من التردّد وهو ما أوقع الحركة في عدم الحسم والحزم ازاء الخصم، في لحظة إقتضت اتخاذ قرار حازم وسريع والمبادرة لحسم المعركة، لأن الانتظار سيعني تمكين الطرف الآخر من تجميع صفوفه ومن ثم الانقضاض وهو الطرف الأقوى وهذا ما قاد الحركة إلى الفشل والى المزيد من التنكيل بالشيوعيين.
ولعل حادثة قطار الموت قد تمت بعد هذا التاريخ، حيث اقتيد بضعة مئات من الشيوعيين معظمهم من العسكريين في قطار خاص بالحمولة وفي ظروف مناخية سيئة وكانت أرضه عارية الاّ من الاسفلت وبدرجة حرارية عالية في صيف قائض، حين انعدمت التهوية بعد اغلاق الابواب وكاد الجميع يموتون، لولا السرعة الفائقة التي قاد بها سائق القطار" عبد العباس المفرجي" وهو والد الصديق مظهر، ووجود أطباء في القطار نفسه اضافة إلى اسعاف أهالي السماوة . ومن الطريف بالذكر ان عبد العباس المفرجي، الذي أنقذ المعتقلين اعتقل هو الآخر، ونقل معهم إلى سجن نقرة السلمان.
 كما إن عدم توزيع السلاح والتنسيق مع قطعات عسكرية أخرى وتنظيمات أخرى ساهم في تقوقع الحركة وانتهائها، رغم البطولة والشجاعة، التي تحلّى بها حسن السريع وزملائه سواءً عند الاقدام أو في المحاكمة فيما بعد وتحمّل التعذيب ومواجهة الموت ببسالة وثقة.
وهنا أريد أن أتوقف قليلاً فيما ساد في أوساطنا من ارهاصات وارتباكات وردود فعل سواءً كانت تنظيمية أو شبه تنظيمية أو فردية على شكل اجتهادات أو حالات من الجزع وعدم الصبر. وحتى هذا التاريخ لم أقرأ دراسة أو بحثاًً عن حركة السريع، باستثناء كتاب الصديق د. علي كريم، الذي ظل يدور في اطار كتابه الخاص بتدوين مذكرات طالب شبيب، والذي صدر بعنوان: من حوار المفاهيم إلى حوار الدم، ولعلّ هذا الحدث وأحداث أخرى لم يسلّط عليها الضوء الكافي لنقدها وبحثها من زاوية موضوعية، فالبطولة شيء والحدث ما ترّتب عليه وطريقة التفكير شيء آخر!!
قبل هروبي من النجف بأيام وصلنا ما يسمى بالانذار" ج"، تشبثاً بالانذارات العسكرية. وكان الأمر محصوراً كما قيل لنا بعدد محدود من الكوادر، ولا ندري ما هو دورنا وتأثيرنا لكي نبّلغ بمثل هكذا سرّ خطير (إنْ وجد)، اذ لا بدّ من الاستعداد لأحداث مهمة قد تجري سريعاً، وعلينا مراقبة الموقف والتهيؤ لأية إحتمالات. ولم نكن ندرك حقيقة الأمر، فنحن مجموعة قليلة أولاً وصغيرة السن ثانياً وتجربتنا بسيطة آنذاك ثالثا،ً ومعرفتنا وثقافتنا محدودة وبخاصة في الجوانب العملية والحياتية رابعاً، وخامساً ولم يكن لأي منّا معرفة في الامور الخاصة بالدولة والحكومة والجيش. فما معنى الانذار "ج"؟
كان السؤال الذي راودني كثيراً وأعتقد أنه راود الزملاء الآخرين " وماذا بعد!؟ " بعد يوم أو يومين ألغي الانذار، ثم تكرر الأمر مرة أخرى وأخرى. وفي بغداد تكرّر الأمر كذلك، وهو ما تكرّر على نحو أشد وأوضح بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963. ربما كانت بروفات لإعادة الثقة بالنفس وقد تكون بصفتها توجهات فردية، ولكن رد الفعل كان عكسياً معي، فبعد مرّة أو مرتين بدأت أهمل هذه الانذارات " الخلبيّة" كما سميّت فيما بعد.
أما الهدف وبخاصة بعد الانقلاب الثاني بقيادة العقيد (المشير) عبد السلام عارف، فقد كان يسعى إلى بعث الثقة في النفس وشحذ الهّمة والروح الجهادية واختبار درجة الاستعداد والجاهزية. قد يكون الأمر من باب رفع المعنويات أو حتى المبالغات في القدرات الذاتية أو شيئا من الاجتهادات الشخصية أو العلاقة مع بعض العسكريين. ولكن الأمر لم يكن يخلو من مفارقات.
كنّا نسهر أحيانا أنا وعلي الخرسان بعد استكمال بناء بيتنا الجديد في حي السعد، في الحديقة أحياناً وفي السطح أحياناً وبجوارنا الراديو وننتظر حتى نمّل وتأتينا بعد أيام بعض الاخبار " المقنعة" وغير المقنعة، بأن أمراً ما كاد أن يحدث، لكن الظروف استوجبت التأجيل. وأخذ الأمر بُعداً آخر بعد العام 1965 أيام ما سمّي " بالعمل الحاسم". وهذا حصل بعد انهيارات كثيرة في المعنويات وفكّ ارتباط وزعل على الحزب بسبب خط آب في حينها، وضمن مستوى الوعي والادراك السائد آنذاك، إضافة إلى نزعات التشدّد و" التياسر" والارادوية، التي كانت سائدة وظلّت إلى حدود غير قليلة في أوساط الحزب، ناهيكم عن الذكريات المؤلمة للفترة السابقة.
لكنني بكل صراحة وأقولها للتاريخ لم أكن أدرك حقيقة ما يجري فعلياً رغم إن قناعتي كانت إن الحزب لا يستطيع أن يعمل شيئاً قبل أن يضمد جراحاته العميقة ويعيد لحمة ما تبقى ويصحح نهجه السياسي ويتخلّص من تردّده وحركته البندولية، وهي سمة ظلّت ملازمة لقيادته مع الأسف الشديد.
أتذكر مرة وكنّا ما نزال في المعتقل، كان هناك من يحاول أن يبعث الامل في نفوس البعض، عن طريق أخبار يبّثها بإحتمال قيام حركة مضادة للبعث، وإن فلان وفلان من الرفاق لم يعتقلا، وان الفرع الكردي يستعد للتحرك، واذا جرى التنسيق مع قيادة البارتي (بزعامة البارزاني) سيكون الأمر مضمونا تماماً، وإن الحركة الانقلابية بدأت تتآكل وربما تنهار، وعندما سمع انفجاراً حدث، وسمعنا دوّيه في يوم مولد النبي محمد (ص)، في احتفالية في الميدان الرئيسي للمدينة، حيث يوجد " خان الهنود" هتف قائلاً إنه الانذار "ج". وسترون من يكون في الواجهة!؟ وأخذ يذكر إسم العقيد غضبان السعد وسعيد مطر وآخرين.
واتّضح إن القضية هي مجرد سقوط كراسي حديدية وربما انفجار قنينة غاز، هاج على إثرها الجمع وردّد الفلاحون هوستهم الشهيرة " مليوصة يا حسين الصافي "، حيث كان متصرّفاً (محافظاً) للواء الديوانية (القادسية) وجلب الفلاحين في سيارات كبيرة للمشاركة في الاحتفال المذكور، الذي إنفض بفضيحة، ظلّ الجميع يتندّرون بها.
وحيث كنّا في " خان الهنود" استجلينا الأمر من كاكه حمه الشرطي المكلف بحراسة غرفتنا، بما حصل وعرفنا الحقيقة، واذا بصاحبنا ينطفئ فقد كانت حماسته تعويضاً عن شعور بالمرارة من جهة، وتشبثاً بالامل من جهة أخرى، وغالباً ما كانت تحدث قضايا ومواقف مماثلة ومتناقضة من هذا القبيل!!
*   *   *
كنت أتوجّه بسيارة خالي ومعي والدي وأحد أقاربنا إلى بغداد من الكاظمية وعبرنا جسر الأعظمية (جسر الأئمة) واذا بالحرس القومي يوقف سيارتنا في نقطة التفتيش. وطلبوا هوياتنا وعرفنا منهم أو هكذا قالوا: إن انقلابا شيوعياً " أبكَعاً " قد حدث ولكنه فشل. وكنت يومها أحمل " طريق الشعب" في جيبي (وهي مطبوعة على الآلة الكاتبة ومعها نسخة أو نسختين بخط اليد). وكاد يغمى عليّ، خصوصاً بأخبار "الانقلاب الفاشل" وقبلها "انتفاضة معسكر الرشيد" واحتمال اكتشاف أمري. بعد لحظات تنفسّت الصعداء فقد سمحوا لنا بالمرور وحمدت الله على انهم لم يفتشوا جيوبنا، والاّ سيكون مصيري في كف عفريت. فمن يدري ماذا سيكون رد الفعل المباشر؟
بعد وصولنا إلى سوق المرادية وفي خان شعبان الذي كان لجدي الحاج حمود شعبان، أطلعت نعمان شعبان على الجريدة، التي قرأها بخوف شديد فوق سطح الخان، ثم قمت برمي ما عندي في أطراف شارع المتنبي بعد ذلك وبالقرب من نقابة المحامين، ونعمان الذي توفي في أوائل التسعينيات هو صديقي وأقاربي وكنت صلته بالحزب، وقد مثلّ الحزب في الجمعية العراقية للعلوم السياسية العام 1969 في قائمة مشتركة مع حزب البعث والحركة الكردية والحركة الاشتراكية العربية، وكان ذلك من التحالفات الأولى بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) بين الشيوعيين والبعثيين، كما كان عضواً في لجنة طلابية سابقة ضمّت حكمت سليمان(من الموصل) وعطية فاضل (الدكتورة في الاقتصاد لاحقاً) وعبد الامير صالح السعدي (انتمى إلى الحزب الحاكم لاحقاً وهو غير الذي ورد ذكره ) وزميل كان محسوباً على ملاك القيادة المركزية سابقاً إسمه (حسن).
عدنا إلى البيت سريعاً حيث كان الجو يميل إلى منع التجول واتصلت بأصدقائي والحلقة المصغرة في الكاظمية، لأستجلي الأمر منهم وأنتظر فيما إذا كانت هناك أية معلومات أو أخبار. واتفقنا على ضرورة اليقظة والحذر من الاندساس وانكار علاقتنا مع بعضنا في حالة اعتقال أحدنا.
علمت بان بقايا الحزب أو بعض منظماته المتقطعة، لم يكونوا يحبذوا قيام حركة في هذا الوقت بالذات ضمن وعينا آنذاك. ثم تأكد لي هذا الأمر بعد حوارات مع " أبو خولة" – باقر ابراهيم أحد قادة الحزب التاريخيين وعضو المكتب السياسي لسنوات طويلة والمسؤول عن منطقة الفرات الاوسط خلال أحداث العام 1963، الذي علّق على مذكرات زكي خيري (عضو المكتب السياسي) ومقترحاته في حينها (العام 1963)، حول المبادرة بالهجوم على حامية النجف (العسكرية) أو ركوب القطار المتوّجه من الديوانية إلى بغداد والزحف ببضعة مسلحين من الفلاحين من هناك، وهي آراء كثيراً ما كانت تتردّد من باب رد الفعل وربما اليأس أو عدم الصبر أو بمكابرات " ثورية"، وهو ما دوّنه باقر ابراهيم في مذكراته. ولعلّ في هذا الجزء من مذكرات باقر ابراهيم ملء لي العديد من الفراغات في معلوماتي وفي ذاكرتي أيضاً.
ومثل تلك الفنطاريات الثورية والمغامرات كانت تتردّد بين بعض أفراد مجموعتنا الصغيرة، وكانت تلاقي صدىً وتُشمّر السواعد لجمع السلاح أو الاعلان عن فشل العمل السياسي أو غير ذلك. وأعتقد إن نظرة باقر ابراهيم كانت أكثر بعداً وواقعية من مثل تلك الاطروحات الصبيانية المغامرة، وحمداً لله لم يبادر البعض بتوريطنا مغبة اندفاعات غير محسوبة.
عرفت إن " أبو سلام" الشخص الذي كان اسمه يتردد في المحكمة، التي انعقدت سريعاً لمحاكمة حسن سريع، ورفاقه ظل مجهولاً، وربما ظلّت تلك احدى أبرز الحلقات المفقودة في حركة حسن سريع وبخاصة علاقة التنظيم المدني بالتنظيم العسكري، وكان الصديق طلال شاكر  " أبو ميلاد" قد حدثني عن جوانب خفية من علاقة حسن السريع ببعض تنظيمات الحزب، وعلاقة بعض رفاق وتشكيلات بقايا الحزب بالحركة، خصوصاً وإن هناك تجمّعات غير قليلة وتشكيلات مستقلة عن بعضها عملت باسم الحزب الشيوعي آنذاك قبل تجميعه فيما بعد وبخاصة بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 الذي أطاح بحكم البعث.
وقد حدّثني الرفيق عباس قاسم (بولس مراد) الذي عمل معي في جمعية الطلبة في براغ عندما كنت رئيساً لها، وكان متهماً بأحداث الموصل وسجن في حينها، ولكن أطلق سراحه عشية إنقلاب 8 شباط (فبراير)، بأنه ساهم في تلك التشكيلات وكان على رأس بعضها، وربما اعتقد أنه المسؤول الأول، إذْ لم يكن يعرف بأن هناك تشكيلات أخرى. وكان ذلك اثناء وجوده في براغ في السبعينيات وبعد خروجه من بغداد في أواخر العام 1965، وهذا الأمر حصل معنا أيضاً، فقد اعتقدنا اننا الوحيدون الذين يمسكون بتلابيب التنظيم، ولكن حسبما أعتقد وكما اتضح الامر بعد سقوط حكم 8 شباط (فبراير)، كانت مجاميع أخرى، وربما تنظيمات أخرى، وهذا ما حصل في بغداد ومدن أخرى أيضاً.
وبخصوص التنظيم الجديد عدت إلى النجف بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) وحاولنا اعادة تشكيل هيئة جديدة للنجف مؤلفة من شقيق عبد الرزاق السبيّس (لا اتذكر اسمه) وعباس فيروز (خياط) وحسون (عامل في مقهى) وعلي الخرسان ورفيق آخر نسيت اسمه وكاتب هذه السطور (طلاّب أعيدوا للدراسة). ثم جرى اتصال بيننا وبين منظمة العاصمة بواسطة بريد لا أعرف أو لا أتذكر كيف وصلنا، واتضح إننا نواة لما سميّ باللجنة الثورية ووزعنا بياناتها وبخاصة من قبل عبد الحسين الشيباني(عامل الكهرباء) وعلي الخرسان، وكنّا نعيد كتابة البيانات في فندق يعود إلى السيد هادي الخرسان (شقيق علي الخرسان)، ولكننا عرفنا ان مركز الحزب استعاد نشاطه ووصلتنا أدبيات وبيانات، واتصل بنا بعض الرفاق القدامى الذين نعرفهم ونثق بهم، مما أدى إلى انقطاع اتصالنا مع ما سمي باللجنة الثورية أو مجموعة ثورية متمردة على القيادة (لم أعد أتذكر ذلك)، أو بالاحرى لم أكن أميّز ذلك كثيراً لاعتقاد بعضنا أن نهجاً جديداً ثورياً قد بدأ بأسماء ثورية أو هكذا تصوّرنا ويعود الأمر إلى قلّة تجربتنا ، ولظروف العمل السري القاسية وانعدام الحريات.
ولا أدري إنْ كان ذلك نواة للجنة الثورية التي قادها سليم الفخري الضابط الشيوعي ومدير الاذاعة والتلفزيون في زمن قاسم أم جهة أخرى؟ وبالمناسبة فقد استدرج الفخري ورفاقه خلال تخطيطهم لحركة انقلابية ليقعوا في الفخ ويحكم عليهم بأحكام ثقيلة، ولم يطلق سراحهم الاّ بعد العام 1968، ومات سليم الفخري في لندن عام 1990 وحضرت حفل تأبينه، وظلّ في السنوات الأخيرة من حياته داعية لحقوق الانسان وكانت له علاقات متميّزة وواسعة مع الكثير من الشخصيات الوطنية العراقية .
لم نكن نفكّر رغم قلة تجربتنا بشيء أبعد من الحزب أو بديلاً عنه أو بارتباط خارجه، رغم سخطنا على بعض توجهات القيادة ومرارتنا بسبب النكسة التي حلّت بالحزب وتمزق شمله، خصوصاً وإن الكثير من الأسئلة بدأت تواجهنا وتراود عقولنا وشكلت تلك ارهاصات أولية لاختلافات فكرية ونظرية وعملية فيما بعد.
بعد هرب صلتنا (السبيس) إلى البادية (منطقة عرعر) حسبما أتذكر، انفرطت علاقاتنا التنظيمية. واتضح لنا وجود تنظيمات أخرى في الفرات والنجف. كما قمت بمحاولة تنظيم اتصالات جديدة لمجموعتنا مع منظمة بغداد عن طريق أحمد سنجر  وهو صديق حسن شعبانالموظف في احدى سفارات الدول الاشتراكية.
ثم ارتحلت عن النجف كليّاً حين إلتحقت بعد ذلك بجامعة بغداد (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) وداهمنا يومها خط آب، الذي صدمنا ورفضت تنظيمات النجف توزيع البيان الشهير، كما تم إتلاف حوالي 100 نسخة من صحيفة طريق الشعب، التي روّجت لخط آب الذي وصف " بالتصفوي والذيلي والانتهازي"، في محاكاته لسلطة عبد السلام عارف والسعي لتخفيض شعارات الحزب والدعوة المستترة والمعلنة لحل تنظيماته والانضواء في " الإتحاد الاشتراكي". ولم يكن ذلك بمعزل عن السياسة السوفيتيية، التي روّجت لفكرة "طريق التطور اللارأسمالي" وإمكان تحقيق التحول الإشتراكي عبر سلطة "الديمقراطيين الثوريين"، وهو ما جرى الحديث عنه في وقت لاحق خلال فترة التحالف مع حزب البعث في السبعينات، لكن رفض ومعارضة خالد بكداش لفكرة التطور اللارأسمالي وموضوع حلّ الاحزاب الشيوعية، مثلما حصل في مصر والجزائر، كان كفيلاً بإحداث نوع من الحراك في التيار الشيوعي العربي، ورغم ما يقال عن خالد بكداش من تبعية لموسكو، الاّ أن موقفه عام 1964 من هاتين المسألتين، كان شجاعاً ومبدئياً، رغم أن البعض يعتبر ذلك خطوة خارج السياق.
ولعلّ في تنصّل معظم قادة وأركان خط آب في الدفاع عنه فيما بعد خير دليل على فشله وعدم واقعيته، إذْ ليس من الممكن في أجواء الصراع وبخاصة بعد حركة حسن السريع، طرح مثل هذا الخط السياسي والفكري دون وجود مقدمات وتمهيدات، فضلاً عن مبررات موضوعية كافية، فقد كان غبار المعارك ما يزال يغطي الكثير من الزوايا، وأسئلة الضحايا كانت ما تزال تستفهم وتطالب بالعدالة، واذا كان بعض أقطاب خط آب قد اتجه إلى فكرة " العمل الحاسم" النقيضة، فإن باقر ابراهيم كان، استثناءً، حيث ظلّ أميناً لمواقفه  وهي مسألة تبعث على الاحترام بشأن الدفاع عن الرأي والثبات على المواقف، رغم الاختلاف في وجهات النظر في تقييم الحدث، وقراءة المستجدات التي أعقبته ، بما فيها المتغيّرات والتطورات وما أفرزته الحياة ذاتها!
أعتقد إنه آن الآوان لإجراء مراجعة انتقادية للتجرية بما لها وما عليها، خصوصاً ونحن نتعاطى معها الآن باعتبارها ماضياً لا يمكن استعادته، وليس من باب التنديد أو التمجيد، بقدر ما هي تجربة علينا إعادة قراءتها بالارتباط مع مجمل تاريخ الحركة الشيوعية، بما فيها ممارساتها السلبية والخاطئة وردود فعل الآخرين إزاءها، وبخاصة المجازر التي ارتكبت العام 1959 في الموصل، وفيما بعد في كركوك، وتشجيعنا وحثنا على إعدام العديد من القيادات القومية والبعثية، بمن فيهم من الضباط الاحرار الذين شاركوا في ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وفي المقدمة منهم: رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي وغيرهما!! إضافة إلى محاولة الاستحواذ على الشارع وعزل وإبعاد الآخرين شركاء الأمس في جبهة الاتحاد الوطني، وما خلّف ذلك من احتكاكات بين تيارين متقاربين، لكنهما دفعا ثمن منافستهما غير المبدئية وغير الديمقراطية ومحاولات إلغاء كل منهما الآخر،  وهو الأمر الذي جلب الكثير من الكوارث على العراق، في العقود الأربعة الماضية، خصوصاً بتهميش الطبقة الوسطى وازدراء تيار الوسط الديمقراطي والسعي للاستئثار بالحكم وتصفية الهوامش الديمقراطية وتمجيد عبادة الفرد التي أوقعت البلاد في كوارث لا حدود لها، ابتداءً من الحرب العراقية- الإيرانية وغزو الكويت، وصولاً إلى ما تعرّض له العراق من حصار دولي ثم احتلال!!

308
ثلاثية التاريخ والسياسة والدين
في مقاربات عبد الحسين شعبان
   
د. محمد جواد فارس
طبيب وكاتب/ لندن

   أطلّ علينا الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه الجديد الموسوم  (الإمام الحسني البغدادي:مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن)  ليطرح بجرأة الترابط الجدلي بين التاريخ والسياسة والدين وهي مسائل مسكوت عنها أو غير مطروقة بالطريقة التي حاول بحثها من موقع النقد والنقد الذاتي مسلطاً الضوء على شخصية دينية ومن عائلة معروفة على المستوى الاجتماعي والديني في العراق وعموم الطائفة الشيعية في العالم الإسلامي .
   وتتسم هذه المقاربة النقدية بالأهمية، خصوصاً بعد ما تعرّضت له منطقتنا العربية وعلى وجه التحديد والعراق بوجه خاص من أحداث وتطورات في العقود والسنوات  الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ولاسيّما احتلال العراق وتفشي الطائفية والعنف والإرهاب ، وذلك بعد حروب وحصار.
   وإذا كان الأجداد قد تركوا لنا الكثير من الإبداع الذي أنجبه أبناء الرافدين على مدى تاريخهم العريق  في مجالات متعددة مثل الهندسة والقانون والأدب كما هي الجنائن المعلقة ومسلّة حمورابي وملحمة جلجامش، والتي تناولها الكثير من المؤرخين العرب  وغير العرب،  فإن ما حلّ بهم أيضاً من ويلات ونكبات ومآسي وضع المؤرخون أمام حيرة ألا وهي قدرة العراقيين على اجتراح كل ذلك وتجاوز المحن والتطلع إلى مستقبل أفضل، وهو ما عكسته الأساطير والقصص والملاحم الشعرية التي عالجت قضايا الفلسفة والعلوم والفن والثقافة والوجود والخلود بشكل عام، وذلك ما ورد في الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام . 
                                                           
   وقد شرّعت هذه الأديان العبادة التي تربط الإنسان بالخالق، وهي موجهة بشكل عام إلى إرشاد الإنسان نحو الحرية الفردية وتطوّر المجتمع في الابتكار والإبداع وفق ما ينسجم مع تطورات الحياة.
   في كتابه ناقش الدكتور شعبان الجدل الدائر والمزمن بين التاريخ والسياسة والدين وهي ثلاثية حتى وإن تباعدت حقولها ووجدت حدود فيما بينها إلا أنه لا يمكن فصلها عن بعضها البعض بسبب تداخلات وتفاعلات تجري بالأساس داخل المجتمع. ولم يكتفِ الباحث بحديث التنظير، بل حاول أن يعرض ما استقر من مفاهيم حول هذه القضايا في أذهان عموم الناس خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت التعصب والتطرف والعنف والذي تجلّى مؤخراً بظهور ما سمي بالدولة الإسلامية (داعش) والممارسات المنكرة التي أقدمت عليها من الإساءة للدين والقيم الأخلاقية والإنسانية ، ومها الذبح والاغتصاب وهي أمور لا تمتّ إلى الإسلام بصلة .       
                                                                         
   وقد أحسن الدكتور شعبان في اختياره شخصية دينية معروفة في توجهها الوطني ومقاومة المحتل بتعريضها للنقد وبقدر  مواقفها الراديكالية في السياسة فهي محافظة دينياً لاسيّما في التوجّهات الخاصة في الشعائر الحسينية، لكنّه لم يتوقف في ذلك بل إنه قدّم نقداً ذاتياً إلى المعسكر الشيوعي الذي ينتمي إليه، خصوصاً لبعض المواقف الصبيانية المتطرّفة وبعض المبالغات والتقديرات التي أثبتت الحياة عدم صحتها فاستعرض بعض مواقفنا أواخر الخمسينات وبعض مواقفنا أيام الجبهة وفي الموقف من حركة خان النص . وأعتقد أن هذه التقييمات الشجاعة هي ضرورة لا غنى عنها للمراجعة في السياسة والتاريخ والدين ليس فقط من جانب العلمانيين والمدنيين ومن مختلف التوجهات بل من جانب الدينيين والحركات الدينية في الدرجة الأساسية، خصوصاً في موقفهم من اليسار والحركة الشيوعية.
   لقد عرّف شعبان القارئ بكتاب البغدادي" وجوب النهضة" الذي كان قد أعدّه لمقاومة المحتلين البريطانيين في الحرب العالمية الأولى ولم يتسنَ له إصداره إلا بعد عدوان حزيران على الأمة العربية العام 1967 ، وكما ذكر شعبان فهو مساهمة ودرس  في الكفاح ضد الاحتلال والصهيونية وتأكيد على مدى التمسّك بفكرة الدفاع عن الوطن والحق في مقاومة الاحتلال، وهي الخبرة التي استمدها حفيده السيد أحمد الحسني البغدادي في مقاومته للاحتلال الأمريكي ووقوفه ضد تشكيلاته اللاحقة.
   وإذا كان الكتاب قد ربط بين التاريخ والسياسة والدين  وناقش موضوعات مهمة في شرح وافٍ للدين والظاهرة الدينية بشكل عام كما تناول العلاقة بين الدين والسياسة من خلال جدليات الحوزة الدينية فإنه توقّف على نحوٍ منهجي لبحث موضوع فتاوى تحريم الشيوعية التي كانت قد صدرت عن عدد من كبار رجال الدين لكنها خلقت في الوقت نفسه انقساماً ليس في المجتمع العراقي فحسب بل داخل الوسط الديني والعلمائي ذاته ، ففي حين أصدر السيد محسن الحكيم فتواه باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد وتبعه عدد من رجال الدين بينهم عبد الكريم الجزائري وأبو القاسم الخوئي وآخرين ، فإن عدداً آخر من علماء الدين امتنعوا عن إصدار هذه الفتوى حتى وإن كان لهم رأي بالشيوعية مثل الحسني البغدادي والقائني والزنجاني والحمّامي لاعتقادهم أن ذلك سيسبّب شرخاً اجتماعياً وانشطاراً مجتمعياً ولم يجدوا لذلك مبرراً والضرر سيكون  أكثر من النفع.       
   لقد كان اتهام الشيوعيين العراقيين بالكفر والإلحاد له دوافع سياسية وليس لأسباب دينية ، فهم ساهموا في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في المواكب الحسينية واستغلوا جميع المناسبات لطرح المطالب الشعبية ولم يجدوا في ذلك ضيراً ولم يتهمهم أحد حينها بالإلحاد أو بالكفر، لكن نفوذهم وهيمنتهم على الشارع بعد العام 1959 دفعت بعض رجال الدين إلى استغلال بعض التصرفات العدائية منهم إلى اتهامهم ، وقد نجد في الكتاب   نقداً لمثل هذه المواقف من جميع الأطراف التي أدت إلى تمترسات وصدامات حادة دفعت الجميع ثمنها باهظاً، ولاسيّما بعد الاحتلال.                                                     
   أختتم بواقعة من ذاكرتي حين كنت لا أزال فتى في العاشرة من عمري حيث كانت الدعاية الانتخابية العام 1957، في مدينة الحلّة وأنا ابنها ، للشيخ عبد الكريم الماشطة تعبّر عن ضمير الناس حين جمعت بين الدفاع عن لقمة العيش والحرية والقضايا الخدمية . وكان الشعار: من  يريد الخبز والعمل والمدارس والمستشفيات والمعامل بدلاً من القنابل والمنشآت الحربية فليصوّت للشيخ عبد الكريم الماشطة. والماشطة رجل دين ونصير للسلم وداعية اجتماعية وشخصية عربية وإسلامية وعالمية، وفي ذلك دلالة على أن العديد من رجال الدين كان يقيمون علاقات طيبة مع الشيوعيين وتجمعهم أهداف مشتركة.
      إن كتاب شعبان هو مساهمة فكرية وثقافية في نقد الفكر السياسي العراقي الديني والمدني وفيه استفزاز واستثارة للذاكرة العراقية التي لا تعتمد عليها فقط بل إنها تذهب إلى الوثائق والمراجع لتدقيقها وتدوينها وذلك خدمة للتاريخ والسياسة والدين
 
محمد جواد فارس
طبيب وكاتب

لندن أواخر أيار -مايو 2018
 

 
 
 
 
 
 

309
مشكلة «أطفال الدواعش»!
عبد الحسين شعبان
أثارت مناقشة ملف الأطفال «مجهولي النسب»، انقساماً بين السوريين، بين من يعد الملف يتمثل ببعد إنساني ووطني، ومن ينظر إليه نظرة ازدراء وشك، وهناك من يعده ملفاً سياسياً، ويريد التعامل معه عبر إشراك أوروبا، وتشترك جهات اجتماعية ودينية وسياسية وبرلمانية ومدنية وحقوقية وقانونية بمناقشة هذا الملف المعقّد والشائك، ليس على صعيد أوضاع الماضي؛ بل على صعيد أوضاع المستقبل، والأمر بقدر ما يخصّ سوريا، فهو يعني بلداناً أخرى إقليمية أو أوروبية.
وعلى الرغم من أن قضية «مجهولي النسب» مشكلة قائمة في العديد من البلدان العربية، إلّا أن الملف السوري ل«مجهولي النسب» ينصرف إلى «داعش» و«عمليات السبي»، التي حلّلها «الداعشيون»، وبيع النساء في سوق النخاسة وغير ذلك، والأمر يشمل المتطوعين الأوروبيين، ولاسيّما من النساء، والولادات التي شهدتها مقرّات إقامة «الدواعش»، وخصوصاً حيث مقرّ ما سُمي ب«الخلافة» في الرقة وغيرها من المناطق.
و«مجهولو النسب»؛ هم الأطفال المولودون من أم معلومة وأب مجهول أو غير معلوم، سواء كان «أجنبياً» أم من ذات الجنسية، ولا تتيح معظم القوانين العربية منح الجنسية للأولاد من أب مجهول، وإن كان بعضها بما فيها القانون السوري يشترط توفر شروط وآليات قانونية وأحكام خاصة. وحسب بعض المعلومات المتوافرة، فإن عدد الأطفال من «مجهولي النسب» من زيجات أو علاقات جنسية ل«الدواعش» يبلغ 300 طفل، وهناك من يقول، إن عددهم قد يصل إلى نحو 2000، وهؤلاء يحتاجون إلى إيواء في دور أيتام أو إلى دور حضانة برعاية الأمهات، فضلاً عن خصوصية التعامل معهم، ولاسيّما في الكبرْ.
ومن الناحية القانونية، يختلف الأطفال من «مجهولي النسب» عن «المكتومي القيد» الذين يُعرف آباؤهم وأمهاتهم أو من آباء وأمهات معروفين؛ لكنهم لا يحملون الجنسية السورية، وإن ولدوا في سوريا مثل أبناء الجماعات «الداعشية» المسلحة.
وبعيداً عن الجوانب القانونية والحقوقية، فإن هناك جانباً إنسانياً واجتماعياً يحتاج إلى معالجة، ولاسيّما وأن هؤلاء الأطفال قد ولدوا في مناطق النزاع المسلح، ويحتاج هذا الملف إلى تسوية؛ لأنه من تداعيات الأزمة السورية. ويتوزع بعضهم على مخيّمات الرقّة أو قرب الحدود التركية، وأعمارهم لا تتجاوز ال 6 أعوام، وهم سيحتاجون إلى مدارس ورعاية صحية وكل ما يحتاج إليه الأطفال، علماً بأن بعض الأطفال لم يصرّح بهم، ولعل ذلك يحتاج إلى تدخل من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وخصوصاً من منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف».
طرحت موضوع الأطفال من «مجهولي النسب» لمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف الجنسي، الذي يصادف هذا الشهر (يونيو/حزيران)، والذي يتعلّق بحالات النزاعات المسلحة، ومن المقرر الاحتفال هذا العام بهذا اليوم تحت عنوان «حقوق الأطفال المولودون في الحرب والمأزق الذي يتعرضون له».
جدير بالذكر أنه في 19 يونيو/حزيران العام 2015، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد قرّرت اعتبار هذا اليوم من كل عام يوماً عالمياً للقضاء على العنف الجنسي في حالات النزاع، وقد خصصته للتوعية من أجل وضع حدٍّ للعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات المسلحة، وتعويض وتكريم ضحاياه، ولعلّ أكثرهم ضرراً هم الأطفال الذين ستظل الحرب تلاحقهم؛ باعتبارهم من مجهولي النسب، وهو عنف معنوي وأدبي سيبقون يجترحونه طيلة حياتهم. وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر القرار رقم 1820 في 19 يونيو/حزيران العام 2008 وندّد فيه بالجماعات الإرهابية التي تستخدم العنف الجنسي كأسلوب من أساليب الحرب؛ لإذلال المدنيين وخصوصاً النساء والأطفال.
وحسب تعريفات الأمم المتحدة، فإن العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات المسلحة هو الذي يتخذ أشكالاً متعدّدة؛ مثل: الاغتصاب والاستعباد الجنسي والدعارة القسرية والحمل القسري والإجهاض القسري والتعقيم (من العقم) القسري والزواج القسري وأي شكل من أشكال العنف الجنسي المماثلة. ولعلّ مثل هذه الأساليب في ترويع السكان المدنيين كانت قد استخدمت في النزاعات المسلحة كجزء من الأعمال والتكتيكات العسكرية؛ لإخضاع الخصم أو العدو وتحت ذرائع عرقية أو دينية أو سياسية أو غير ذلك، بالضد من اتفاقات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني حماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية، علماً بأن آثار العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات المسلحة تمتد عبر الأجيال؛ حيث تشمل الأطفال ممن يسمّون ب«مجهولي النسب» أو «أصحاب الدماء الخبيثة» أو «أطفال العدو» وتنبذهم المجتمعات، فيتحولون إلى مادة للانتقام من وضعهم الاجتماعي ويكونون بؤرة للإرهاب؛ لذلك يقتضي احترام قواعد القانون الدولي الإنساني والاتفاقات والمعاهدات الدولية ذات الصلة، مع ضرورة توعية المجتمعات بمخاطر ذلك، ناهيك عن الجانب الإنساني، فهؤلاء لا ذنب لهم، ويتطلب الأمر ملاحقة المرتكبين، وإنزال أقسى العقوبات بهم؛ نظراً لفداحة الجرائم التي ارتكبوها.


drhussainshaban21@gmail.com


310
فيليتسيا لانغر شاهدة بأم العين

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

" أنا شخصياً ، أنا اليهودية ، أنا سليلة العائلة اليهودية التي فقدت عائلتها في المحرقة النازية، شاهدة على ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بأم عيني، شاهدت الفظائع التي يرتكبها هذا الاحتلال وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني" هذا ما جاء في كتاب "بأم عيني" للمحامية اليهودية فيليتسيا لانغر المعادية للصهيونية والمدافعة عن حقوق الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون " الإسرائيلية" ، وهو شهادة عادلة ومنصفة على الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان التي يرتكبها الاحتلال "الإسرائيلي".
وكان اسم فيليتسيا لانغر قد ارتفع في المحافل الحقوقية الدولية بالتدرّج بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وارتبط حينها بأسماء عدد من المثقفين والأدباء الفلسطينيين الذين بدأ أدبهم وشعرهم ينتشر في العالم العربي الذي أخذ يقرأ محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأميل حبيبي وغسان كنفاني وإميل توما وإدوارد سعيد وناجي العلي وغيرهم، في موجة من الإعجاب لدرجة الانبهار بالأدب الرفيع واللغة الأنيقة والكلمة المقاومة والريشة المحرّضة.
أطلق الأسرى الفلسطينيون على  فيليتسيا لانغر  لقب"الحاجة فولا" التي قامت بتمثيلهم أمام المحكمة العسكرية وكان مكتبها في القدس قد رفع دعاوى بالآلاف ضد الجيش "الإسرائيلي" و"المخابرات الإسرائيلية الداخلية - الشاباك"، وقد نجحت في الكثير من القضايا على إطلاق سراح الأسرى وحالت دون تنفيذ قرارات ترحيل آخرين أو إبعادهم، إلى جانب مساندتها نضالاتهم داخل السجون ودفاعها عن مطالبهم العادلة لتحسين ظروف اعتقالهم وتطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949 بشأن " معاملة الأسرى".
وعملت لانغر على فضح جهاز الشاباك بكشفها حقيقة ما يتعرّض له الأسرى من عمليات تعذيب وحشية جسدية ونفسية، ولاسيّما للنساء والأطفال، وساهمت بتزويد الإعلام والمنظمات الحقوقية الدولية بمعطيات وشهادات حيّة وحقيقية عن أساليب التعذيب التي تمارس في السجون والمعتقلات "الإسرائيلية" خلافاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية وللقواعد القانونية العامة كاشفة حقيقة النظام العنصري الاستعلائي الاستيطاني ودعاواه "الديمقراطية" الزائفة.
وكان أهم ما تركّز عليه لانغر في دفاعها عن الأسرى مسألتين أساسيتين هما:
الأولى أن المعتقلين هم "أسرى حرب" ينبغي أن تطبّق عليهم اتفاقيات جنيف لعام 1949 وفيما بعد بروتوكولي جنيف لعام 1977 الأول - الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
والثانية- إن من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال، وإن من يجب محاكمتهم هم قادة الاحتلال وذلك طبقاً للقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وكنت بسبب انشغالاتي بالقضية الفلسطينية قد قرأت بإعجاب  شديد،  في أواخر السبعينات، كتابين لفيليتسيا لانغر: الأول- بعنوان " بأم عيني" والثاني- الموسوم "أولئك أخواني".  وقد أدركت منذ ذلك الحين وعلى مرور نحو خمسة عقود أهمية "المقاومة القانونية" في مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي"، لاسيّما في الدعوة لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية  وجرائم الإبادة الجماعية، إضافة إلى جريمة شن الحرب وتشريد شعب واغتصاب وطنه، وأعتقد أن المعركة الفكرية والثقافية، سواء على المستوى الدبلوماسي والدولي، ولاسيّما في جانبها الحقوقي والقانوني لا تقلّ شأناً على المواجهة بمختلف جوانبها من أجل تمكين الشعب العربي الفلسطيني في حقه بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وتتأكّد هذه الحقيقة يوماً بعد آخر أن "القوة الناعمة " يمكن أن تكون سلاحاً مؤثراً وفعّالاً استكمالاً متوازياً مع الأسلحة الأخرى ، علماً بأن الدبلوماسية والقانون وحقوق الإنسان تتداخل مع الحقول الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية إلى حدود كبيرة وهي في ديناميتها جزء من حركة  مقاومة سلمية مدنية ضرورية، وهو ما يحتاج إلى استراتيجية تكاملية بين وسائل الكفاح المختلفة، لتفنيد الرواية "الإسرائيلية" ومزاعمها الخرافية.
توفيت لانغر عن عمر ناهر الـ 88 عاماً، فقد ولدت في العام 1930 في بولونيا من أبوين يهوديين وهاجرت إلى فلسطين المحتلة العام 1950 برفقة زوجها ميستيو لانغر الناجي من معسكرات الاعتقال النازية، ودرست القانون وتخرجت من الجامعة العام 1965، وقد انضمت إلى الحزب الشيوعي، ولكنها تركت " إسرائيل" في العام 1990 وهاجرت إلى بلدها الأصلي ألمانيا، لأنها كما قالت لصحيفة الواشنطن بوست: لا تريد أن تكون "ورقة التين لتغطي على الاحتلال".
نالت في العام 1990 جائزة الحق في الحياة (المعروفة باسم جائزة نوبل البديلة) لدفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني. وحصلت على جائزة كرايسكي (النمسا) العام 1991 لانجازاتها في ميدان حقوق الإنسان ومنحها الرئيس الألماني هورست كولر في العام 2009 "وسام الصليب الفيدرالي لجمهورية ألمانيا الاتحادية"، كما منحتها السلطة الوطنية الفلسطينية "وساماً فلسطينياً" رفيع المستوى .
مارست لانغر قناعاتها الفكرية برفض الاحتلال بكل شجاعة وجرأة ولم تثنها الحملة الصهيونية ووصفها "بالخائنة" والإساءة إليها عن مواصلة كفاحها الحقوقي العادل، بل دفعها ذلك لتكريس حياتها كلّها للدفاع عن القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية، ولم تمنعها رؤية المحرقة من وقوفها ضد اضطهاد شعب آخر تم وضعه تحت محرقة مستمرة.


311
عبدالحسين شعبان يستقرئ تجربة العراق ما بعد الاحتلال
الأكاديمي العراقي يؤكد أن التعصب استُزرِع بالتربة العراقية فأنتج تطرفًا قاد إلى الإرهاب.
محمد الحمامصي
ظواهر التعصب والتطرُّف والعنف والإرهاب لا تزال مستمرة
 حلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي كان عاملًا أساسيًّا في إضعاف هيبة الدولة
 ثلاثة روافد تغذى الإرهاب في العراق
رأى الباحث الأكاديمي العراقي د.عبدالحسين شعبان أن ثلاثة روافد تغذى الإرهاب في العراق، وفقس في بيئتها بيض التطرُّف: أولها: الطائفية ونظام المحاصصة أحد مخرجاته، وثانيها: الفساد الذي كان الوجه الآخر للإرهاب والتطرُّف، وثالثها: ضعف وتدهور مكانة الدولة التي أجهز عليها الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003؛ الأمر الذي ساعد على بروز أنواع التطرُّف والإرهاب، وخصوصًا الطائفي المرتبط بتكفير الآخر و"شيطنته" ومحاولة إقصائه أو تهميشه والسعي للتسيُّد عليه، وكانت باكورة أعماله غير القانونية وغير الشرعية، حلّ الجيش وقوى الأمن الداخلي.
وقال شعبان في دراسته "التطرُّف والإرهاب.. إشكاليات نظرية وتحديات عملية" الصادرة سلسلة "مراصد" بمكتبة الاسكندرية أن صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية تكرَّست في مجلس الحكم الانتقالي الذي قسّم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وكرد، وخصّص نسبًا لكل منهم، وباشر بتأسيس نظام الزبائنية الذي يقوم على الامتيازات والمكاسب، ففتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الفساد بمختلف أنواعه وأشكاله، لدرجة أصبحت الغنائمية سمة تطبع التشكيلات الحكومية اللاحقة وذيولها.
وكان بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق (13 مايو/آيار 2003 – 28  يونيو/حزيران 2004) بعد الجنرال جي غارنر، قد بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وأعقبته حكومتان بددتا نحو 20 مليار دولار، وهما حكومتان مؤقتتان. وكان الهدر الأكبر خلال فترة ما بعد انتخابات عام 2006 وعام 2010 (أي من عام 2006 إلى عام 2014)، لا سيّما وقد شهدت واردات العراق ارتفاعًا هائلًا؛ حيث بلغ ما وصل للحكومة العراقية نحو 700 مليار دولار، لكنها لم تـثمر عن شيء جدي في إعادة الإعمار أو إصلاح البنية التحتية أو الخدماتية من تعليم وصحة وخدمات بلدية وبيئية وغيرها؛ وذلك بسبب استشراء الفساد والرشوة وهدر المال العام، وكان ذلك وجهًا آخر للإرهاب.
ولفت د. شعبان أنه حتى الآن هناك نحو ألفٍ من كبار موظفي الدولة بمن فيهم وزراء ونواب ووكلاء وزارات ومدراء عامون ونوابهم متهمون بقضايا فساد، وإن كان نظام المحاصصة الغنائمي القائم على الزبائنية يعمل بكل طاقته للتملّص من المساءلة والمحاسبة القانونية في ظلّ قضاء عليه كثير من الضغوط والتأثيرات السياسية. فضلًا عن أنه - وأجهزة الرقابة الأخرى - قائم على نظام المحاصصة التي تجعل الإفلات من العقاب أمرًا مألوفًا، خصوصًا بوجود الميليشيات وضعف أجهزة إنفاذ القانون والدولة عمومًا.
وأكد أن حلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي بما فيه شرطة النجدة وشرطة مكافحة الجريمة وحرس الحدود، كان عاملًا أساسيًّا في إضعاف هيبة الدولة، وانتشار الفوضى والعنف والإرهاب، لا سيّما بفرض الطائفية ونظام المحاصصة كصيغة معتمدة من قبل الاحتلال. الأمر الذي دفع العديد من الشرائح الاجتماعية إلى اللجوء لمرجعيات ما قبل الدولة: الدينية والإثنية والطائفية والعشائرية والمناطقية والجهوية والعائلية وغيرها، لتكون حامية وداعمة لها.
وإذا كانت نظرية "الصدمة والترويع" وفيما بعد نظرية "الفوضى الخلاقة" قد استهدفتا التفكيك وإعادة التركيب، إلاّ أنهما أفضيا إلى تفشِّي ظواهر التعصب والتطرُّف والعنف والإرهاب التي لا تزال مستمرة منذ أكثر من 13 عامًا وتتّخذ أشكالًا مختلفة ولها رءوس عديدة.
الأمر يتطلب خطوات ملموسة وجدية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية سياسية ومجتمعية في إطار قانوني وحقوقي.
وتساءل د. عبدالحسين شعبان هل الإرهاب الدولي صناعة عراقية أم أنه جزء من إنتاج كوني كانت سوقه العراقية رائجة؟ وأضاف "لقد ارتبط في أذهان كثير من العراقيين والعرب - بعد احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق العام 2003 - محاولة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، إضفاء مسحة دينية على احتلاله للعراق، فتارة باسم الحرب الصليبية التي قيل عنها إنها زلّة لسان، وأخرى باسم الفاشية الإسلامية خلال العدوان على لبنان عام 2006، وثالثة بمحاولات السخرية من الإسلام والمسلمين برسم صور كاريكاتورية للرسول صلى الله عليه وسلم وإلصاق كل عمل إرهابي بهم في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد. الأمر الذي شجَّع القوى المتطرفة الداخلية لاعتبار كل ما هو غربي عنصريًّا واستعلائيًّا في ردة فعل لخطيئة بخطيئة أخرى لمجابهة الأولى.
وأضاف "اندفعت كثير من المجاميع الإرهابية والتكفيرية وتشكيلاتها القديمة والجديدة، في ظل استنفار طائفي، باتجاه سفك دماء العراقيين من مختلف الانتماءات الدينية والاثنية. الأمر الذي أصاب التنوُّع والتعددية الثقافية المجتمعية بالصميم ولحق الضرر الكبير بالنسيج الاجتماعي المتعايش، وخصوصًا لفئات المسيحيين والآشوريين والأرمن والكلدانيين والأيزيديين والصابئة المندائين والشبك والكاكائية وغيرهم. وإن كان الأمر يشمل الجميع دون استثناء، لكن هذه المجاميع الثقافية التي يطلق عليها مجازًا بـ "الأقليات" تعرّضت بكياناتها إلى عنف شديد، واضطرت أعداد واسعة منها إلى الهجرة بعد ما لحق بها من انتهاكات سافرة بالأرواح والمقدسات والممتلكات وغيرها. وقد تعرضت النساء الإيزيديات إلى عمليات السبي، وهو شكل من أشكال العبودية؛ حيث تم بيعهن بسوق النخاسة، الأمر الذي يندى له جبين الإنسانية".
وأكد شعبان أن التعصب استُزرِع بالتربة العراقية فأنتج تطرفًا، وهذا الأخير قاد إلى الإرهاب المنفلت من عقاله، خصوصًا بإشعال الصراعات المذهبية والاثنية التي اتخذت طابعًا استئصاليًّا أو تهميشيًّا بعد الاحتلال. ولكن ذلك لا يعني أنه أمر مستورد بقدر ما كانت هناك ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وطائفية ونفسية ساعدت في انتشار فايروسه على نحو مريع، وذلك بالاستفادة من الحواضن التي شكَّلت بيئة صالحة لنموها، وأساسها غياب المصالحة الوطنية والشعور بالتمييز والإقصاء. وبدلًا من اعتماد الدستور على المواطنة والمساواة والمشاركة المجتمعية المستندة إلى الحرية والعدل باعتبارها ركائز للدولة العصرية الحديثة، فإنه ذهب إلى ما يسمى بـ "دولة المكوّنات" التي ورد ذكرها في الدستور ثماني مرات، وليس ذلك سوى تكريس لصيغة المحاصصة".
 ضرورة وضع حد للفساد
ولفت إلى أن الوضع الإقليمي أسهم بتداخلاته وأذرعه المختلفة في تعقيد التفاعلات الداخلية؛ بحيث أصبح الإرهاب مؤسسة ممولة خارجيًّا وداخليًّا، أي ذاتيًّا ولها هيكلياتها، وهي قائمة بذاتها، وتتغذى من كل ما حولها وتُغذِّي المحيط أيضًا. وإذا كانت شوكة الإرهاب التي انكسرت نسبيًّا في الأعوام من 2007 إلى2010، فإنها عادت وأصبحت أكثر حدّة بعد الأزمة السورية بحكم العامل الجغرافي والمتغير الجيوسياسي للقوى المتصارعة في المنطقة. وزاد تأثير ذلك بحكم الاختلاف السياسي الذي تكرّس بعد انتخابات عام 2014 الأمر الذي دفع بالقوى المتصارعة بما فيها الإقليمية إلى تكثيف جهودها لدعم هذا الفريق أو ذاك، والعمل على إضعاف هيبة الدولة العراقية التي ظلت معوَّمة ومفتتة. وزاد الأمر تعقيدًا بعد هيمنة داعش على الموصل في 10 يونيو/ حزيران عام 2014.
وخلص د. شعبان إلى أنه باستقراء تجربة ما بعد الاحتلال، فإنه يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية:
أولا: لا يمكن القضاء على الإرهاب باستخدام القوّة المسلّحة وحدها في مواجهة الإرهابيين، وهو ما أفرزته التجارب العالمية جميعها.
ثانيا: القضاء على الإرهاب والتطرُّف يحتاج إلى وحدة وإرادة وطنية بغض النظر عن الخلافات السياسية، مثلما يحتاج إلى حفظ الكرامة وحقوق الإنسان؛ إذ لا ينبغي للإجراءات والتدابير الهادفة إلى ملاحقة الإرهاب والإرهابيين أن تفضي إلى الانتقاص من كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، فذلك سوف يؤدي إلى اختلال المعادلة لحساب الأمن ولغير صالح الحقوق، وهو الأمر الذي ثارت من أجله شعوب العديد من البلدان العربية فيما سُمِّيَ بـ "الربيع العربي"، بغض النظر عن مآلاته وملابساته وتعرجات مساراته.
ثالثا: تتطلب مكافحة الإرهاب والقضاء على التطرُّف وضع حد للتمييز الطائفي ولنظام المحاصصة.
رابعا: العمل على وضع حدٍّ للفساد وملاحقة المفسدين والمتسببين في هدر المال العام، وتلك كانت مطالب التظاهرات التي اندلعت منذ عام 2015 إلى الآن.
خامسا: إعلاء مرجعية الدولة وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والإثنية والحزبية والسياسية والعشائرية وغيرها.
سادسا: وضع الكفاءات العراقية، ولا سيّما من الشابات والشباب في المكان الصحيح والملائم لإدارات الدولة، وذلك خارج دائرة الولاء، باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة.
سابعا: اعتماد استراتيجية علمية متكاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية ودينية وإشراك المجتمع المدني فيها، تبدأ بالوقاية وتمر بالحماية وصولًا إلى الرعاية باتخاذ تدابير طويلة ومتوسطة المدى، وفي الوقت نفسه إجراءات آنية ضرورية، في إطار عمل مؤسسي، إضافة إلى الجوانب الأمنية والاستخبارية. وستكون ركيزتها الأساسية: إرادة سياسية جامعة وتوافق وطني عام لتجفيف منابع الإرهاب اقتصاديًّا وماليًّا، والعمل على خفض مستويات البطالة والفقر والتهميش، وكذلك خطة إعلامية وثقافية وتربوية مجتمعية لنشر ثقافة اللاّ عنف والتسامح والاعتراف بالآخر والإقرار بالتعددية والعيش المشترك والمواطنة المتساوية، ومعالجة مشكلات وقوانين الاجتثاث والإقصاء التي تركت مردودات سلبية على المجتمع وعلى الوحدة الوطنية. ومثل هذا الأمر يتطلب خطوات ملموسة وجدية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية سياسية ومجتمعية في إطار قانوني وحقوقي.

312
سلام عادل ..  الدال والمدلول وما يمكث وما يزول
عبد الناصر يعيّن هويدي سفيراً في بغداد
ويرد السعدي بتعيين البزاز نظيراً له في القاهرة

الحلقة 7
عبد الحسين شعبان


   وبالعودة إلى حازم جواد حول "اللقاء" بسلام عادل فقد ذكر أنه تم برفقة طالب شبيب (وهذا يعني إن اللقاء حصل قبل سفر الوفد إلى القاهرة) حيث يقول أمين هويدي في كتابه (كنت سفيراً في العراق 1963-1965- الفرص الضائعة الوحدة العربية، تقديم خير الدين حسيب ، ط2، 2017، ص 18 وما بعدها) أنه تلقى مكالمة هاتفية قصيرة مفادها أن الرئيس جمال عبد الناصر عيّنه سفيراً في العراق، وذلك يوم 20 شباط ، وأن التعليمات التي صدرت له تقتضي أن يرافق وفداً عراقياً على مستوى عال سيصل القاهرة ظهر اليوم التالي لمشاركة الشعب المصري احتفالاته بأعياد الوحدة، وفعلا وصل الوفد في موعده في اليوم التالي: أي 21 شباط/فبراير.
   وفي يوم 22 شباط (فبراير) بدأت المباحثات كما يذكر هويدي، وبعد الانتهاء من الجولة الأولى سافر الوفد إلى الجزائر للقاء الرئيس أحمد بن بلّا وقادة الثورة الجزائرية وعاد مساء اليوم التالي، أي يوم 23 ، وعقدت الجولة الثانية للمباحثات في صباح يوم 25 شباط/ فبراير ويقول هويدي: وفي بداية الجلسة قدّمني الرئيس جمال عبد الناصر للوفد العراقي بصفتي مرشحاً كسفير للجمهورية العربية المتحدة في بغداد، ووافق وزير الخارجية  العراقي (طالب شبيب)على الترشيح بكلمات طيبة، ويقول عبد الستار الدوري إن علي صالح السعدي أجاب عبد الناصر، في حينها وفي دعوة لنقابة المحامين، إن سفيرنا في مصر سيكون "أستاذنا" عبد الرحمن البزاز.
   وهذا يعني أن الوفد لم يعد إلى العراق قبل يوم 25، فإما أن يكون قد عاد مساء 25 شباط /فبراير أو يوم 26 شباط/فبراير  (المصدر السابق أمين هويدي، ص 19 و20 ) وهذا يعني أن سلام عادل يكون قد فارق الحياة قبل يومين أو ثلاثة أيام على أقل تقدير وأن علي صالح السعدي لم يلتقه عند عودته ولا يتذكّر الدوري أنه سأل السعدي إن كان قد التقى سلام عادل أم إن السعدي اكتفى باللقاء " التحقيق" الذي قام به حازم جواد، الأمر الذي أعرض عنه السعدي وكنت قد سألت صلاح عمر العلي: هل إن علي صالح السعدي التقى سلام عادل، فقال لم يطرق سمعي ذلك، وأغلب الظن أ، حازم جواد هو الذي التقاه، وأضاف إن مسؤوليات علي صالح السعدي كأمين للسر، فضلاً عن مزاجه كانت غير ذلك، في حين إن حازم جواد كان منشغلاً بأمور التنظيم والحزب وما يتعلق بأمنه أيضاً.
    وحسب اعتقاد نوري عبد الرزاق إن الاحتمال الأرجح أن علي صالح السعدي لم يلتقِ سلام عادل وأنه لم يذكر ذلك أمامه مع العلم إن لسانه لم يكن معقوداً، وخصوصاً في السهرات الليلية.
   حوار أم تحقيق؟

   أما حكاية "الحوار- التحقيق" بين حازم جواد وسلام عادل فقد تم في غرفة مدحت ابراهيم جمعة وقد جرى الحديث التالي بينهما:
   سأل السجّان للسجين : لماذا طلبتني؟
   قال سلام عادل : للاحتجاج على التعذيب والمعاملة السيئة للمعتقلين.
   يقول حازم جواد طلبت منه الاعتراف لينتهي التعذيب... ثم سألته هل من دولة لا تمارس التعذيب فحتى الاتحاد السوفييتي يقوم بذلك؟ ثم أعطونا المعلومات وتفاصيل الخط العسكري للحزب لينتهي الأمر وخاطب جواد، سلام عادل: الأمر بيدك!!.
   لم يردّ سلام عادل على مقترح جواد، وطلب منه إصدار بيان سياسي مشترك يؤكد الحفاظ على سيادة الدولة والاستقلال الوطني والعمل الوطني المشترك ونسيان الماضي،  ولكن حازم جواد يقول: لاحظت أنه يريد أن يكسب الوقت، وقلت له " أنت سجين وأنا السجان" وأنصحك بإعطاء معلومات وما لديك وبعدها نبحث في اقتراحك.
   توقّفتُ عند رواية حازم جواد وتواريخها واكتشفت أنها غير متجانسة أو منسجمة، فإذا كان علي صالح السعدي في مصر فمعنى ذلك أن طالب شبيب كان معه، فهل يمكن أن يكون شبيب قد حضر اللقاء ولم يحضر السعدي؟ وإذا كان سلام عادل قد بقي تحت التعذيب طيلة الأيام الأربعة أي من يوم 19 ولغاية 23 حيث استشهد، فهذا يعني أن الوفد كان لا يزال موجوداً في القاهرة ولم يعد إلى بغداد، وهكذا يُستدل على أن علي صالح السعدي يمكن أن يكون قد التقاه قبل سفره ولكنه لم يخبر الدوري، لكنّ حازم جواد يؤكد في مقابلته مع غسّان شربل بشكل لا غموض فيه ولا لبس أن السعدي لم يلتقه لأنه كان في القاهرة وفي ذلك تناقض صارخ.
     وفي مقالة نشرت مؤخراً في جريدة المشرق (العراقية) (1 نيسان/ ابريل/ 2016) للسيد أمير الجنابي  وكان قد كتب مقالة أخرى بتاريخ 15/7/2005 في الحوار المتمدن بذات المضمون حيث نقل على لسان أحد الكتاب والروائيين الفلسطينيين محمد أبو عزّة (سكرتير تحرير مجلة دنيا العرب التي كانت تصدر في دمشق في الثمانينات) أنه كان ضمن طاقم الحرس القومي في مديرية الأمن العام ببغداد مع مجموعة من العرب والفلسطينيين، وفي فترة النهار وصلنا ضيف أقمنا له "وليمة دسمة" كما يقول تضمنت صنوف التعذيب والهتك الجسدي والنفسي على مدى ساعات، ولم يكن الضيف سوى سلام عادل .
   وتمضي الرواية وهي تستعيد الواقعة تلك وإنْ بمشاعر مختلفة وربما بشعور بالذنب حين يقول: وحاولنا قهره ولكن طاقته على الصمود والتماسك كانت لا توصف وجاءتنا الأوامر بالإبقاء على الرجل لأن شخصية مهمة في طريقها إلينا ولم تكن تلك سوى علي صالح السعدي الذي حين وصل حاول أن يقرّب فمه من سلام عادل وقال له : أنت منتهٍ وليس عليك إلّا الاعتراف وكرّر ذلك عدّة مرّات.
   لكن الدوري يعتقد إن ذلك قد يكون حصل مع حازم جواد وليس مع السعدي، مع ملاحظة مهمة هي أن سلام عادل لم يعتقل في الأمن العام. وتمضي الرواية المنشورة في المشرق فتقول : إن سلام عادل أجاب السعدي بتعجّب وبكلمات متقطعة ولكنها مفهومة وواضحة: أنت سكرتير حزب وتطلب مني الاعتراف؟... ثم سكت للحظات وبدا وكأنه يستجمع قواه، ثم فجأة بصق بوجه السعدي بصقة يخالطها الدم... وبعد أن مسح السعدي البصقة أشار إلينا بأن أجهزوا عليه وهذا ما حصل. وتقول الرواية أنه تم فقأ عينيه وكسر عظامه وقطع أصابع يديه ومن ثم ذبحه. وهناك رواية شفوية أخرى تصب بالاتجاه ذاته وتزيد عليه بأنه تم سحق جسده بسيارة ثم ذوّب بالأسيد.
    وبغض النظر عن الروايات المتناقضة والمتضاربة فإن المؤكد بالنسبة لي هو ما قاله حازم جواد في مقابلة له مع غسان شربل في العام 2004 المنشورة في جريدة الحياة والتي صدرت كجزء من كتاب بعنوان : العراق من حرب الى حرب - صدام مرّ من هنا، (دار رياض الريس ، بيروت ، 2009) إنه التقى سلام عادل ودار بينهما "حديث"، وقد أسميته "تحقيقاً" وليس حواراً، وقد عبّر عنه حازم جواد  نفسه حين خاطب سلام عادل مذكّراً إياه إنما يجري بينهما إنما هو علاقة " سجين بسجّان" وقد نفت ثمينة ناجي يوسف (أرملة سلام عادل) بشدّة ما ورد من افتراءات وإساءات حازم جواد لسلام عادل في ردها المنشور في جريدة الحياة بتاريخ 28  شباط/ فبراير/2004 وقد نفى زكي خيري في مذكراته "صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم "، مركز الحرف العربي، السويد، ط2،  1996، وج 2 طبعة خاصة في السويد ، إعداد سعاد خيري الحديث عن "حوار" أو " لقاء" أو استعداد لذلك من جانب سلام عادل.
   وكما ذكر محسن الشيخ راضي  للباحث ، وهو المسؤول الأول عن الهيئة التحقيقية، "المكتب الخاص" إن ما سمّي "لقاء" بين حازم جواد وسلام عادل هو بمثابة تحقيق وهو بين طرفين غير متكافئين أحدهما معتقل والآخر بيده السلطة، وهذا يعني أن التحقيق الأساسي مع سلام عادل أجراه حازم جواد، بل أنه كان هنالك أكثر من جلسة ومنها أن "لقاء ثانياً" وربما "اللقاء" الأخير مع سلام عادل هو ما يذكره محسن الشيخ راضي الذي شاهد سلام عادل وهو بانتظار مقابلة حازم جواد، ولكنه كما نقل لي كان  قد شارف على الموت أو في ساعاته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه.
   وحسب رأي طالب شبيب: ما قيمة الحوار الذي دار إذا كان الأمر قد انتهى بموت هؤلاء " خطأ وجهلاً"  وقد تقدّم الطبيب صادق حميد علوش ليقرر كطبيب شرعي: أنهم ماتوا بالسكتة القلبية لأنهم ظلّوا حتى الصباح معلّقين وأرجلهم مرتفعة عن الأرض قليلاً. وقد أُبلغنا في صباح أحد الأيام بأن قادة الحزب الشيوعي قد ماتوا!! فغطينا نحن مع الأسف ذلك بقرارات رسمية (هكذا بكل بساطة ماتوا!!) (انظر: كتاب علي كريم - عراق 8  شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدم، مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، مصدر سابق، ص 199).
   تشويه مقصود
   وبالعودة للقاء الأول الذي يذكره حازم جواد فقد حاول أن يقلل من قيمة سلام عادل وقال أنه لم يشعر إزاءه بالاحترام، ثم برّر ذلك ربما لأنه كان مكسور الجناح وسجيناً، لكن طالب شبيب قال للباحث: إن سلام عادل كان متماسكاً وبدا صلباً رغم ما تعرّض له من تعذيب ورغم الأجواء التي أحيط بها، وتعامل بكبرياء القائد وليس بمنطق من خارت عزيمته.
   ومع كل ما تعرّض له سلام عادل فقد كان ذهنه يقظاً ووطنيته فائضة حين طالب حازم جواد وهو في هذا الوضع كجزء من تحدّيه للانقلابيين الحفاظ على الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية والوقوف ضد القوى الاستعمارية، وتلك معايير للوطنية التي ردّ بها سلام عادل خلال التحقيق معه ومطالبته بكشف الأسرار الحزبية.
    ولم تسفر جلسة "التحقيق" تلك عن شيء، لكن حازم جواد ينسب إلى سلام عادل أن قدّم 3 نصائح للانقلابيين وسلطتهم الفاشية وهي: عليكم عدم تأميم النفط وعدم المضي لعقد الوحدة مع مصر وعدم السير في طريق الإصلاح الزراعي، وحين ينقل حازم جواد تلك النصائح فإنما ينقلها مقطوعة عن أية مقدمات  أو دلالات ولا ندري كيف وردت وتحت أي صيغة؟ لكننا نستطيع أن نخمّن أن الهدف منها هو الإساءة إلى سلام عادل حين يشكّك به بقوله: "أهو عميل بريطاني؟"..
   جدير بالذكر إن ما حصل لإيران حين أممت النفط في عهد الدكتور محمد مصدق ظلّ هاجساً لدى بعض الشيوعيين، حيث ساهمت المخابرات المركزية الأمريكية CIA بتنظيم انقلاب للإطاحة بمصدق وإعادة شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى السلطة وكان ذلك في العام 1953. ربما حاول حازم جواد الانتقاص من موقف الحزب الشيوعي من التأميم انطلاقاً من هذه المعلومة، لاسيّما مما أشيع عن موقف زكي خيري الذي كان من أشد معارضي تأميم النفط كما يقول ابراهيم علّاوي وكان قد جاء في تصريح له إن الحزب يدعو إلى فرض رقابة صارمة على شركات النفط" وهو موقف أثير حوله لغط كثير وغمز مستمر (انظر: جريدة الديلي تلغراف البريطانية، 20 نيسان/ابريل/1959) في حين كانت تصريحات سلام عادل في 30 آذار/مارس/1959 وقبله تحركات ابراهيم كبه وزير الاقتصاد قد أثارت مخاوف احتكارات النفط العالمية، وقد جاءت متساوقة مع موقف عبد الكريم قاسم (انظر: نجم محمود، المقايضة ، مصدر سابق، ص 182 وما بعدها).
   وكان زكي خيري قد نفى أي توجه للحزب لتأميم النفط العراقي بشكل كلّي أو جزئي، ويعتقد زكي خيري وهذا اجتهاده  أن مهمة تأميم النفط تخرج من مهمات الثورة الوطنية وتدخل في مهمات الثورة الاشتراكية ويعلق ابراهيم علّاوي على هذه الجزئية بقوله " وهذا تخريج طريف في بلادته" ويذكر بتأميمات حصلت في المكسيك وإيران ومصر لمصالح أجنبية (انظر: نجم محمود (ابراهيم علاوي- المقايضة، مصدر سابق، ص 185)



313
سلام عادل ..  الدال والمدلول وما يمكث وما يزول
الاستخبارات الأمريكية تنصب إذاعة في الكويت لبث أسماء
 الشيوعيين وعناوينهم غداة انقلاب شباط 1963
الحلقة 6
عبد الحسين شعبان


استشهاد سلام عادل: روايات وسرديات مختلفة
   ظلّ استشهاد سلام عادل لغزاً غامضاً وتعددّت الروايات بشأنه، وبعضها اقترب من اليقين حتى جاءت رواية أخيرة لآرا خاجادور لتثير أسئلة جديدة وربّما لتحرّك ما استقرّ في الذاكرة وفي الأذهان، بخصوص ما كُتب وما تم تناقله وتردّد كثيراً على الأفواه والألسن، ولأن بعض من كان في تلك الأيام في موقع المسؤولية ما يزال حيّاً فقد اقتضى البحث العلمي والكشف عن الحقيقة، بذل المزيد من الجهد لإجلاء واقع الأمر، والتوجّه بالسؤال خصوصاً حين يتم الإقرار بأن ما حصل كان "جريمة "بكل معنى الكلمة.
   ولأن ما كتبه حازم جواد وقبله طالب شبيب وقبلهما هاني الفكيكي، يحتاج إلى تدقيق وتوثيق، خصوصاً حين تكون هناك رواية أخرى مختلفة أو مغايرة أو غير متطابقة، ناهيك عن رواية نقيضة بالكامل، فإن الأمر يحتاج فحص كل ما تجمّع من معلومات ووثائق ومذكرات وشهادات وحوارات بما فيها ما ورد في كتاب حنّا بطاطو، خصوصاً الجزء الثاني الموسوم " الحزب الشيوعي" ط2 ، 1996 والجزء الثالث المعنون " الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار"، ط2 ، 1999،  وهو ترجمة عفيف الرزاز وصدر عن مؤسسة الأبحاث العربية، للتوصل إلى تقديم استنتاجات مشفوعة بتحليل ورؤية يفرضها المنهج البحثي لمقارنة الوقائع والسرديات وما تخفي الكلمات وراءها من معاني واستدلالات.
   ودائماً هناك وعلى مرّ التاريخ ميثولوجيات ترتبط بالبطولات وتحاول أن تضفي عليها شيئاً من عندياتها وخصوصاً بتقادم الزمن حيث تتكدّس تصوّرات ومعطيات وتراكمت رؤى ومنظورات قد لا تكون موجودة أصلاً، ولهذا السبب حاول الباحث أن يخصص هذا المبحث لرمزية الاستشهاد وما ارتبط به من حكايات وقصص وبعض خيالات أو توهّمات أو حتى مبالغات، ناهيك عن ضياع بعضها في غمرة تقديرات مسبقة.
   انقلاب ومقاومة

   حين وقع الانقلاب صبيحة يوم 8 شباط (فبراير) 1963، بادر سلام عادل إلى إصدار بيان شديد اللهجة يندّد بالانقلاب ويدعو إلى مقاومته ويحرّض على الاستيلاء على السلاح من مركز الشرطة لتوزيعه على الجماهير لمواجهة الانقلابيين، وما جاء في البيان " إلى السلاح .. اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية".   وبالفعل بدأت أعمال المقاومة في الكاظمية وعكَد الأكراد ومناطق متفرّقة  من بغداد ولكن التظاهرات الحاشدة، ولاسيّما أمام وزارة الدفاع انفضّت بفعل إعلان منع التجوّل والبيانات التي بدأ الإنقلابيون بإذاعتها من إذاعة وتلفزيون بغداد.
   وإذا كان التحضير للانقلاب معروفاً، لكن المفاجأة بساعة الصفر أخذت قيادة الحزب الشيوعي على حين غرّة، خصوصاً في ظلّ السياسة الانتظارية والتراجع عن المواقع وحالة الخدر التي عاشها طيلة شهور وأسابيع كلّها. وهكذا بدأت القوى تخور بالتدريج، خصوصاً بعد استسلام عبد الكريم قاسم في اليوم الثاني، حيث أعدم وعُرضت صورته في التلفزيون للتأثير على معنويات المقاومة التي تراجعت وتكاد تكون انتهت بعد 3 أيام، حيث "استتبّت" الأمور للانقلابيين وكانت دوريات "الحرس القومي" تجوب المدن والشوارع وتفتش السيارات وتبحث عن الشيوعيين وتزجّ بهم في السجون والمعتقلات، ولاسيّما بعد صدور البيان رقم 13.
    وكان عبد الكريم قاسم قد أعدم في محاكمة صورية بدار الإذاعة العراقية وفي غرفة الموسيقيين، حيث كان قد التقاه عبد السلام عارف وحازم جواد وأحمد حسن البكر وعلي صالح السعدي وطالب شبيب وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي وآخرون، وقد تشكّلت فرقة تنفيذ قرار الإعدام برئاسة عبد الغني الراوي والضابط منعم حميد والضابط عبد الحق، كما أعدم أيضاً فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب وطه الشيخ أحمد مدير الحركات والخطوط العسكرية في الجيش والضابط كنعان حداد مرافق الزعيم، وكان وصفي طاهر قد قتل خلال مقاومته في وزارة الدفاع وقيل أنه انتحر.
   أما أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام فقد ترك الزعيم عبد الكريم قاسم يتناقش مع المهداوي حيث اقترح الأخير الاتصال بالسفارة السوفييتية  والطلب منها القيام بإنزال جوي سوفييتي في بغداد لمساندته في دحر الانقلابيين، وهنا استأذن العبدي من الزعيم بالمغادرة قائلاً: يا سيادة الزعيم عندما تصل الحلول إلى استدعاء قوات سوفييتية، فهذا يعني أن الأمور انتهت، وأنا سأستسلم "للجماعة" وخرج هائماً في الليل وخاض في نهر دجلة وكان الجو بارداً وقد التقطته إحدى دوريات الحرس القومي وهو في حالة يرثى لها، وأرسل إلى سجن معسكر الرشيد كما يروي حازم جواد في حواراته مع غسان شربل، التي سنأتي على ذكرها.
   كان حازم جواد لولب انقلاب 8 شباط/فبراير وهو أمين سر القيادة القطرية قبل  علي صالح السعدي حيث عيّن في دمشق من القيادة القومية، ثم أرسل إلى العراق لقيادة التنظيم وذلك بعد قيادة فؤاد الركابي، ولكنه اعتقل في أواخر العام 1960 وبقي في السجن لنحو عام واحد وأطلق سراحه بعفو خاص نهاية العام 1961، وخلال وجوده في السجن تولّى علي صالح السعدي مهماته في أمانة السرّ، وفي العام 1962 أمسك حازم جواد وبأهم المواقع الحزبية وهو يعتبر من الناحية الفعلية القائد الحقيقي للانقلاب الدموي في 8 شباط (فبراير) العام 1963 وقد شغِلَ منصب وزير الدولة لرئاسة الجمهورية في البداية ثم منصب وزير الداخلية بعد علي صالح السعدي الذي أصبح وزيراً للإرشاد، علماً بأن السعدي كان قد اعتقل قبل أسبوع من انقلاب شباط (فبراير).
   بيان رقم 13

   واستمرّت إدارة حازم جواد في قيادة التنظيم، سواء في التحضير أو خلال حكم البعث، وقد أذاع بنفسه البيان رقم (1) يوم 8 شباط (فبراير) العام 1963. وحين اشتدّت أعمال المقاومة قبل إعلان الحكومة اقترح طالب شبيب وهو "أكثر المسؤولين وعياً وليبرالية" على حدّ تعبير حازم جواد، إصدار إنذار هو البيان رقم 13 القاضي "بإبادة الشيوعيين"، وحسبما يذكر حازم جواد أنه اعترض على ذكر الشيوعيين بالاسم واقترح بدلاً عنه تعبير "الفوضويون" فأصرّ شبيب "إصراراً" عجيباً، وقال لا بدّ أن نسمّيهم بالاسم حتى تفهم الناس، ولكنه ندم على ذلك ندماً شديداً، وهو ما أخبر به كاتب السطور حين التقاه في كردستان العام 1992 خلال مؤتمر صلاح الدين  للمعارضة أو في دمشق العام 1994 والعام 1995 وكذلك في لندن عندما جاء لتقديم طلب اللجوء السياسي العام 1997 ولكنه توفّي هناك بعد بضعة أشهر ، وبرّر للكاتب أن قصده كما قال إيقاف المقاومة وإخافة المقاومين وشلّ حركة الشيوعيين، لكن الأمور اتجهت باتجاه آخر.
   وكان حازم جواد يعتقد أن الحزب الشيوعي سيكتفي بإصدار بيان أو يقوم بإخراج تظاهرة محدودة ضد الانقلاب، ولم يكن يتصوّر استمرار المقاومة بين 8-10 شباط ويعتبر تلك المقاومة سبباً جديداً لتشدّد العسكريين الذين كانوا ينتقدونه على تقديره الخاطئ، الأمر الذي دفعهم إلى الميل إلى حملات الإعدام ، وخصوصاً أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد السلام محمد عارف وغيرهم وهو ما أكّده للكاتب عبد الستار الدوري حين قال إن معظم أعضاء القيادة كانوا يميلون إلى الرأي الذي ذكره حازم جواد.
   ويضع حازم جواد في رقبة صالح مهدي عماش المذبحة التي ارتكبت بحق الشيوعيين والتي أيّدها البكر وحردان (المقصود بُعيد حركة انتفاضة حسن السريع في معسكر الرشيد وعشية تسفير عدد من كبار الضباط وشخصيات شيوعية ووطنية بارزة إلى سجن نقرة السلمان، فيما عُرف بقطار الموت) وقد روى للكاتب العقيد غضبان السعد المحلق العسكري السابق في موسكو العام 1959قصة قطار الموت كاملة، وكما حدثت كشاهد عيان وقد جئت على ذكرها في العديد من الكتابات، (حديث خاص مع غضبان السعد، براغ، 1976 وبغداد 1978 ودمشق 1981).
   اعتقال سلام عادل
   وبخصوص اعتقال سلام عادل يقول حازم جواد وهو ما كان قد دوّنه هاني الفكيكي في كتابه " أوكار الهزيمة" (دار رياض الريّس، لندن،1992) إن علي صالح السعدي (وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء حينها) أبلغهم بنبأ سار وهو اعتقال هادي هاشم الأعظمي (المسؤول الثاني بعد سلام عادل) وعضو المكتب السياسي وهو رجل كانت تُنسب الأساطير حول صموده في العهد الملكي وكان محكوماً لمدة 20 عاماً ولكن ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 أفرجت عنه.
   وكان الأعظمي قد اعتقل مصادفة في الأعظمية وعرّف بنفسه وطلب اللقاء مع علي صالح السعدي وقد  تطوّع بتحطيم تنظيمات هذا "الحزب القذر" على حد تعبيره، وأشار إلى أن سلام عادل يحضّر لانقلاب وباشر بإرشادهم إلى الدور الحزبية بما فيها الدار الحزبية التي كان يسكنها سلام عادل في الكرادة الشرقية ،  وكما يذكر حازم جواد أنه عرّفنا بنحو 35 مقرّاً سرّياً للحزب جميعها في مناطق الطبقة المتوسطة وما فوق في بغداد، حيث اعتقل نحو 100 قيادي وكادر وقمنا بتفكيك شبكات تابعة للحزب في مناطق العلوية والكرادة والسعدون وعرصات الهندية والمسبح ومناطق شعبية .
   وكان الملك حسين بن طلال ملك الأردن قد ذكر في مقابلة مع محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام في باريس (فندق كريون) أن إذاعة سرية كانت قد نصبتها الاستخبارات الأمريكية في الكويت تبث أسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكّن من اعتقالهم وإعدامهم.
   ولا أدري كم استمرّ بث تلك الإذاعة أياماً أم أسابيعاً؟ ومن كان  يلتقطها ؟ وهل كانت تبثُّ بشيفرة أم بالأسماء الصريحة؟ وخلال العقود الماضية حاولت العثور على مصدر أو معلومة تدلّني على حقيقة الأمر فلم أجد ذلك، كما أنني لم أتعرّف على شخص قال أو كتب أنه استمع إلى الإذاعة وإلى الأسماء السرّية.
   وإذا كان المقصود بوجود علاقات واختراقات فتلك مسألة أخرى، ولعلّ علي صالح السعدي نفسه أشار إلى ذلك، سواء في أحاديث شفوية أم  في جلسات خاصة، وكان أن شاع هذا القول لعلي صالح السعدي، بعد دعوة خاصة في بيت لطفي الخولي في القاهرة، وكان الخولي قد وضع مسجلاً خاصاً لحديث السعدي، وقام بنشره في مجلة الطليعة "المصرية"  التي أعدته بطريقة أقرب إلى الحوار، حيث كان قد دعا الخولي بعض الصحفيين ووجّه هؤلاء أسئلة إلى السعدي، الذي أخذ "راحته" في الحديث، ومنها "جئنا بقطار أمريكي"، مشيراً إلى اختراقات من جانب الأجهزة الاستخبارية الأمريكية وقد تردّدت أسماء مثل صالح مهدي عمّاش وإيلي زغيب وعلي عبد السلام (أعدم بعد العام 1968) وآخرين.
   وشكّك عبد الستار الدوري بصحة الرواية المنسوبة إلى السعدي وقال إنه لم يسمعها منه، أما عن الاختراقات فهي موجودة في جميع الأحزاب، وهو ما سبق أن كرّره هاني الفكيكي أمام الباحث، كما أورده في كتابه " أوكار الهزيمة".
   وبغض النظر عن وجود تصريح أو عدم وجود تصريح للسعدي، فإن الانقلاب خدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر وغير مباشر فيما يتعلق بإجهازه على ما تبقّى من منجزات ثورة 14 تموز/يوليو 1958 سواءً على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الخارجي، ولاسيّما في الصراع بين الشرق والغرب.
   قصر النهاية

   يروي حازم جواد أن عليّ السعدي هو الذي اقترح الاستيلاء على مقر  قصر الرحاب لتحويله إلى المعتقل الأساسي للقيادات الشيوعية وهو الذي عُرف لاحقاً باسم "قصر النهاية" منذ أن تركته العائلة المالكة في يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958، ثم أصبح مرفقاً تابعاً لمديرية المصايف وللسياحة وكان يديرها رشيد مطلك صديق عبد الكريم قاسم الذي أطلق عليه لقب "رسول الثورة" حيث كان صلة الوصل بين مجموعة الضباط الأحرار وقاسم تحديداً والأحزاب الوطنية . والهدف تحويل قصر الرحاب إلى معتقل خاص هو إخضاع المعتقلين لتحقيق مركزي، وكان يرأس جهاز التحقيق في قصر النهاية محسن الشيخ راضي ويعاونه هاني الفكيكي.
   يعترف حازم جواد ولكن بعد فوات الأوان أن قصر النهاية كان رمزاً للظلم، وأن شقيقه حامد اعتقل فيه وقال  بعد زيارته إلى ألمانيا: إن معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة يعتبر فندقاً بخمس نجوم مقارنة بقصر النهاية، (الصحيح إن معسكر أوشفيتز بيركينو بنته ألمانيا خلال احتلالها النازي لبولونيا وهو يبعد حوالي 70 كم من مدينة كراكوف وقد تسنّى لكاتب السطور زيارته في خريف العام 1969 وهو معسكر اعتقال مرعب بكل معنى الكلمة).
   كان معتقل قصر النهاية تحت إشراف مدحت ابراهيم جمعة وهو من أكثر الذين أشرفوا على عمليات التعذيب، وحين سأل كاتب السطور محسن الشيخ راضي كيف استشهد سلام عادل ومن قام بتعذيبه أجاب: " كلّنا مسؤولون ومرتكبون وعلينا قول الحقيقة"  وكان الباحث قد أجرى حوارات مع الشيخ راضي على ثلاث مراحل وهي عبارة عن لقاءات واستفهامات واستفسارات، وأضاف الشيخ راضي: وتبدأ المسؤوليات من القيادة حتى أدنى المواقع ولا أحد يستطيع أن يعفي نفسه من المسؤولية، ولاسيّما القيادات العليا وكبار العسكريين.
   وكان حازم جواد يتردّد على قصر النهاية وكذلك بقية أعضاء القيادة باستثناء عبد الستار الدوري (مدير الإذاعة والتلفزيون) الذي أكّد للكاتب أنه لم يزر قصر النهاية مطلقاً ولم يحبّذ محاولة إذلال الآخرين حتى وإن كانوا " أعداء" أو "خصوماً"، ونقل للكاتب أنه حين جيء بعبد القادر اسماعيل وعدد من الكوادر الشيوعية للظهور في تلفزيون بغداد والإدلاء باعترافاتهم،  كان رأيه من سيصدق كلامهم ذلك طالما هم " أسرى" ومعتقلون، وذكر أن عبد الكريم الشيخلي تعامل معهم بقسوة خلال تهيئتهم للإدلاء باعترافاتهم.
   وحين اعتقل سلام عادل يقول الدوري إن علي صالح السعدي مرّ عليه لدار الإذاعة وطلب مرافقته للقاء سلام عادل فاعتذر عن ذلك، وحين سألته هل كان ذلك قبل زيارتهما للقاهرة أو بعد زيارتهما؟ فلم يتذكّر، لكنه يقول إن وكالة أنباء الشرق الأوسط ومختلف الإذاعات ووكالات الأنباء والصحف كانت قد نشرت خبر اعتقال سلام عادل حيث كنّا في القاهرة.
   وكان د.تحسين معلّه قد قال للباحث أنه زار قصر النهاية بحكم وظيفته كطبيب وتقتضي مهنته معالجة المعتقلين وكانت قيادة حزب البعث قد طلبت منه ذلك، وأنه لم يكن مرتاحاً مطلقاً عمّا يجري فيه وروى للباحث أنه تعرّف على سلام عادل في قصر النهاية وهو معصوب العينين، وكان كل جزء من جسده يئن من شدّة التعذيب، وروى طالب شبيب إلى علي كريم وهو ما قاله أمام الباحث أيضاً إنه اشمأز حين رأى حسن عوينة وهو محطّم ولكنه أشاد ببطولته، مثلما أشاد ببطولة سلام عادل ، وعن الحوار الذي دار بين حازم جواد وسلام عادل في قصر النهاية سخر شبيب ولو بعد نحو ثلاثة عقود من الزمان في لقاء مع الكاتب في كردستان (1992) كيف ينعقد الحوار بين سجّان وسجين. (انظر: علي كريم- عراق 8 شباط 1963، من حوار المفاهيم إلى حوار الدم، مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 1999)
   جدير بالذكر أنه خلال فترة حكم البعث التي لم تزد عن 9 أشهر صدرت أحكاماً رسمية بإعدام نحو 150 شيوعياً أو مؤيداً لهم كما يوثقها حنا بطاطو (ج 3، ص 303) علماً بأن عشرات كانوا قد قضوا بالتعذيب ولم يتم الإعلان عن استشهادهم بينهم عدد من إدارات الحزب العليا مثل عبد الرحيم شريف وحمزة سلمان الجبوري ونافع يونس والملازم هشام اسماعيل صفوت وجورج تلو، وحسب توثيق حنّا بطاطو فإن المكتب الخاص بالتحقيق لدى الحرس القومي قتل وحده 104 أشخاص عثر على جثث 43 منهم خلال الفترة 1963-1964 مدفونة في منطقتي الجزيرة والحصوة قرب الحلّة، وعثر في أقبية قصر النهاية على أدوات التعذيب وأكوام صغيرة من الثياب الملطخة بالدماء منثورة هنا وهناك وبرك دم على الأرضية ولطخات على الجدران (انظر: حنا بطاطو- العراق، ج 3، المصدر السابق ، ص 304).
   وعلى الرغم من تأييد ميشال عفلق للانقلاب واستخدام القوة لقمع أية مقاومة والعمل على حماية النظام الجديد، إلاّ  أن فضائح التعذيب والحملة العالمية ضد الإجراءات القمعية التي اتخذها حزب البعث إزاء خصومه وحلفائه من القوميين اضطرّته إلى التحفظ عليها وعدم تأييده لها . وقد كشف عن ذلك في وقت لاحق في العام 1964 حين قال: في أيار/مايو 1963 أو قبله رجوت الرفيق حمدي عبد المجيد أن يذهب إلى بغداد وينبّه الزملاء الأعضاء هناك إلى مخاطر الارتجال... ويعرف الرفيق حمدي أني حذّرت باستمرار من سياسة سفك الدماء والتعذيب، كائنة من كانت الضحايا... لقد كان للثورة في أشهرها الأولى حقها المشروع في الدفاع عن نفسها ضد الذين وقفوا في وجهها بقوة السلاح، أما بعد ذلك، فلا يمرّ شهر أو أسبوع إلّا ونسمع أو نقرأ عن إعدام عشرات الرجال (انظر: كلمة ميشال عفلق في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي، 1964) وقد أكّد لي صلاح عمر العلي ذلك، بقوله: صحيح إنه لم ينتقد أو يعارض استخدام جميع الأساليب لفلّ مقاومة الطرف الآخر، لكنه كان حساساً إزاء العنف والتعذيب فيما بعد.
   وقد شاعت الكثير من القصص والحكايات المأساوية عن التعذيب في بغداد والمحافظات وشملت الرجال والنساء، وحتى الأطفال وقد صدر ما سمّي بـ"الكتاب الأسود" بعد انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 الذي قاده عبد السلام عارف ضد حلفائه البعثيين،(انظر: كتاب المنحرفون، وهو كرّاس صدر بموافقة مديرية الاستخبارات العسكرية، هيئة الدليل الدولي، بغداد ، العدد 1، 1964).
   وقد تم توثيق بعض الانتهاكات والارتكابات باعترافات وصور ووثائق وشهادات نُشرت في كتاب "المنحرفون" ولكن أكثر ما هو مؤثر وكوموتراجيدي هو الطرفة التي وردت في مداخلة العقيد في الجيش السوري محمد عمران عضو القيادة القومية للحزب العام 1964 والتي تعبّر عن واقع حقيقي عاشه العراق في ظل انفلات الأوضاع . ولعلّ تلك الطرفة هي " سخرية سوداء" حين قال خلال مؤتمر حزبي في دمشق " بعد المؤامرة الشيوعية " يقصد حركة حسن السريع 3 تموز (يوليو) 1963 طُلب من أحد ضباط الجيش (العراقي) إعدام 12 شيوعياً، ولكنه أعلن أمام عدد كبير من الحاضرين أنه لن يتحرك إلّا لإعدام 500 شيوعي، ولن يزعج نفسه من أجل 12 فقط، وكان حديثه هذا أمام المؤتمر القطري الاستثنائي لحزب البعث العربي الاشتراكي (سوريا) العام 1964، وقد كانت مداخلته بعنوان: ملاحظات الرفيق محمد عمران أمام المؤتمر القطري الاستثنائي في 2 شباط/فبراير 1964، ص 3 (انظر كذلك: حنا بطاطو- العراق، ج 3، مصدر سابق، ص 304).
   منطق الجلاد ومنطق الضحية
   رغم مكابرة حازم جواد  ومحاولته النيل من سلام عادل  والتقليل من شأنه، بل والغمز من قناتة، لكنه يقر في نهاية المطاف  إن موقفه كان صلباً و"إنه لم يعترف"، ولكنه كما يقول كان يحاول إيجاد مخرج للورطة بأقل ما يمكن من الخسائر. ويكشف جواد عن مكنونات صدره وصدور بعض رفاقه بقوله: إن نار الحقد تأجّجت ضد الشيوعيين، خصوصاً بعد أن اكتشفنا أن الحزب يملك قوة كبيرة كنّا نستهين بها ، لاسيّما داخل القوات المسلحة، وهو بذلك "يبرّر" استخدام التعذيب.
   وعن الحوار المزعوم يقول حازم جواد أن سلام عادل أودع سجن قصر النهاية بعد إلقاء القبض عليه وكان قد طلب اللقاء به أو بعلي صالح السعدي الذي كان في مصر  في نهاية آذار (مارس) عن طريق مدحت ابراهيم جمعة (مدير المعتقل) (التواريخ ليست صحيحة فقد اعتقل سلام عادل يوم 19 شباط /فبراير واستشهد يوم 23 أي بعد أربعة أيام فقط على اعتقاله ، وأعلن عن استشهاده رسمياً من دار الإذاعة يوم 7 آذار (مارس).
   وهذا يعني أن علي صالح السعدي  عند اعتقال سلام عادل كان موجوداً في بغداد  لأن الوفد حسب التواريخ التي دققتها والاقتباسات التي سأنقلها عن أمين هويدي تشير إلى أن الوفد سافر يوم 21 شباط (فبراير) للقاء جمال عبد الناصر وكان برئاسة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية علي صالح السعدي وضمن الوفد عبد الستار الدوري (مدير عام الإذاعة والتلفزيون) الذي التبس عليه يوم اعتقال سلام عادل ولكن ما يتذكّره جيداً إن الخبر نشر في القاهرة على نطاق واسع.
   وضمّ الوفد كلّ من : طالب شبيب (وزير الخارجية) وصالح مهدي عمّاش (وزير الدفاع) وفؤاد عارف (وزير الدولة) وحردان التكريتي (آمر القوة الجوية) وخالد مكي الهاشمي (آمر الدبابات) ووفد شعبي ضم حسين جميل وجلال الطالباني وأديب الجادر وعبدالله السلّوم السامرائي.



314
سلام عادل ..  الدال والمدلول وما يمكث وما يزول
أهم خدمة تقدم للعدو هو إخفاء أخطاء الحزب
 والزعم بصواب سياسة قياداته
الحلقة 5
عبد الحسين شعبان

   ويروي عبد اللطيف الشوّاف عن حالة قاسم بعد إعدام الطبقجلي والحاج سرّي، فيقول إنه من فرط حزنه وتأثّره أصيب بنوع من الانهيار والخلل العصبي ، وقد سمع أنه في إحدى المرّات في وزارة الدفاع طلب ثلاث أقداح للشاي وأمر بوضع واحد للحاج سرّي وآخر للطبقجلي والثالث له، لمشاركتهما في احتساء الشاي في جزء من توهماته وحالة الاضطراب النفسي  التي عاشها، على الرغم من أنه كان يردّد أنّهما دقّا اسفيناً في الثورة وهما وراء موقف عبد الوهاب الشوّاف، ولولا تحريضهما وإسنادهما له لما أقدم على ذلك، لكنها انسحبا بعد ذلك وتركا الشوّاف يلاقي مصيره وحده .
   ويقول عبد اللطيف الشوّاف الذي أصبح وزيراً لدى قاسم إن إعدام الطبقجلي والحاج سرّي كان مأساة حقيقية لعبد الكريم قاسم الذي استمر لبضعة أيام عصبياً وحزيناً وبائساً مثلما بقي الفريق محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة في حالة حزن وتردّد وقرف من الوضع الذي آلت إليه الثورة .
    وكان تبرير قاسم بعد حين أنهما لم يتركا له خياراً إلّا تنفيذ حكم الإعدام. وكنت قد استمعت إلى روايته تلك لأول مرّة في القاهرة  في مطلع العام 1971 حينما كنت أحضر مؤتمراً بمناسبة ميلاد الزعيم العربي جمال عبد الناصر وذلك بعد وفاته بنحو 4 أشهر أقيم في جامعة القاهرة، وقدمت  فيه بحثاً بعنوان: "عبد الناصر وحركة التحرر الوطني العربية".
   (انظر: عبد اللطيف الشوّاف- عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون، ذكريات وانطباعات، دار الورّاق، لندن - بيروت، ط1، 2004، هامش ص 88 و89 ويمكن مراجعة كتابنا: عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل، مصدر سابق، ص 64 و65 وما بعدهما).
   واستغل قاسم الصراعات الداخلية في الحزب الشيوعي، وخصوصاً بين سلام عادل وكتلة الأربعة المشار إليها، ووجود مشاكل أخرى مع عضوين من اللجنة المركزية هما سليم الجلبي ( الذي كان عضواًمركزياً في الخمسينات) وداوود الصائغ وهو أحد مثقفي الحزب وكان عضواً قيادياً وشارك في حركة تكتلية في الخمسينات عُرفت باسم "رابطة الشيوعيين" التي تم حلّها بعد توحيد الحزب أسوة بالمجموعات الأخرى ، حيث تم اعتراف متبادل بالأخطاء، بما فيها تخطئة إدارة بهاء الدين نوري وحميد عثمان التي اتخذت إجراءات متشدّدة بحق عدد من الرفاق القياديين وخطوات سياسية طائشة.
   أقول استغلّ قاسم الوضع الداخلي في الحزب فاستمال داوود الصائغ وأوحى له بالتقدّم بإجازة باسم الحزب الشيوعي واستجاب الأخير لهذا الإغراء مدفوعاً بمشاكله مع إدارة الحزب وشعوره بالغبن، وحين تقدّم الحزب الشيوعي (الأصل ) بطلب الحصول على الإجازة القانونية، على الرغم من استيفائه للشروط، رُفض طلبه بزعم وجود حزب آخر بالاسم ذاته، فاضطر الحزب إلى استبدال اسمه إلى " اتحاد الشعب" اسم جريدته المركزية، ولكن وزارة الداخلية رفضت طلبه مرّة أخرى بدعوى أن أهدافه قريبة من أهداف الحزب الشيوعي (جماعة المبدأ- داوود الصائغ) .
   وكان طلب الحزب الأصلي قد تقدّم به زكي خيري أكبر الأعضاء سناً، الذي كان حينها وبعض إدارات الحزب أكثر مقبولية لدى قاسم من سلام عادل، ولذلك لم يدرج اسمه ضمن الهيئة المؤسسة بسبب تشنجات قد حصلت بينه وبين قاسم إثر مقابلة نظمها له عامر عبدالله وهو ما ترويه ثمينة ناجي يوسف في كتابها (سلام عادل- سيرة مناضل، جزءان، مصدر سابق).
   وقد اتخذت قيادة سلام عادل سلسلة من الخطوات التكتيكية  لسحب ثقة  الجمهور بجماعة المبدأ وإظهاره بمظهر المؤسّس من السلطة ذاتها، وكانت عملية الاختراق قد حصلت بأن أرسلت إدارة الحزب إلى داود الصائغ عدداً من الكوادر للانضمام إليه، وحين أعلن عن أسماء الهيئة المؤسسة انسحب هؤلاء بصورة جماعية بحيث فقدت الهيئة المؤسسة شرعيتها المطلوبة ضمن إطار قانون تنظيم الحياة الحزبية، وحين تم استبدال الأعضاء المنسحبين بأعضاء جدد وأعلنت الأسماء مجدداً، انسحب هؤلاء مرّة أخرى لإحراج قاسم من جهة والصائغ من جهة أخرى، وهكذا أصبح الحزب الذي حظي بدعم السلطة مصدر تندّر وحينها ظهرت نكتة الحزب الشيوعي لصاحبه  (؟)
   لكن سلام عادل لم يكتفِ بهذا القدر من التكتيك، بل حاول فتح حوار مع الصائغ نفسه لإقناعه بخطأ توجهه ودعوته للتنسيق مع الحزب والاستفادة من منبره العلني، لاسيّما بعد أن زاد حجم التضييق على الحزب واعتقلت السلطات المئات من كوادره وأعضائه (قيل إن العدد كان عشية انقلاب 8 شباط/فبراير/1963 خمسة آلاف معتقل) وتم الاتفاق سرّاً معه على أن يدعم الحزب جريدته " المبدأ" ويقوم كادر من الحزب بتحرير موادها الرئيسية، وهكذا عمِلَ الحزب ظلّاً لجريدة المبدأ.
   أتذكّر هنا حدثاً شخصياً مؤثراً بالنسبة لي، فقد كان موسى مشكور أحد أعضاء الهيأة المؤسسة لحزب داود الصائغ موظفاً لدى جدي الحاج حمود شعبان (في خان شعبان  في سوق المرادية للتجار ببغداد) وقصته كالتالي : فقد كان قد خرج من السجن بعد استشهاد شقيقه مهدي مشكور في سجن بغداد العام 1953، ويروي عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)  في كتابه "من أعماق السجون في العراق" الذي نشره باسم مستعار (محمد راشد) في العام 1955 ، أن الرفيق مهدي ظلّ يردّد في اللحظات الأخيرة " أني ما أريد أروح ... ما أريد ... أنا شاب أريد أن أبقى معكم يا رفاق... أنا شاب عمري عشرين " لكنه فجأة بدأت تتغير ملامحه حيث كان مصاباً  بجرح إثر هجوم الشرطة على السجن، ثم توفى .
   كان والد موسى مشكور شيخ  معمم قد طلب من  جدي إيجاد عمل لموسى مشكور لديه  في الخان حيث كان يعمل في تجارة  الأقمشة بالجملة، ولاسيّما بالاستيراد ، لأنه من الصعب عليه الحصول على عمل، خصوصاً لعدم تمكّنه من الحصول على شهادة " عدم محكومية" التي عُرفت لاحقاً " تحقيق هوّية" ، ووافق جدي شريطة ألّا يقوم بأي نشاط سياسي خلال عمله في الخان، واستمر هو في العمل حتى الثورة، وظهر كمسؤول للأسواق التجارية، ثم برز ككادر قيادي  في الهيأة المؤسسة لجماعة الصائغ (العام 1960).
   لم يعرف أحد منّا خطة سلام عادل لتفليش " جماعة الصائغ" ولذلك تقاطر على الخان، في محاولة لثني موسى مشكور عن انضمامه إلى الصايغ،عدد من الأقارب بينهم  شوقي شعبان وحسن شعبان وناهض شعبان ووهاب شعبان ومعين شعبان ونعمان شعبان  وكان عدد من الأصدقاء يتساءل عن أبعاد تلك " الخطوة" مثل عبد الواحد الخلف والمحامي عبد الوهاب عباس وصادق الحسني وحسين خليفة ومنعم الصائغ  وحسين قويزي وعلي الغرباوي وآخرين . وكنّا جميعاً نحاول أن نقنعه بالانسحاب من الجماعة أو نفهم مبرراته على الأقل، ولم يكن يردّ علينا سوى بابتسامات مبهمة وأجوبة غامضة أكثر منها إفصاحاً عن موقف، حتى إن خالي ناصر شعبان  سأله مرّة وبحضور خالي رؤوف وخالي جليل ووالدي عزيز شعبان: ما سبب اختياره الصائغ وتفضيله على الحزب الأصلي الذي كان بعنفوانه وألقه، فلم يسمع منه سوى إجابات مبهمة وهي تنمّ عن اختيار له ظروفه وخصوصياته، وأن الأمر متروك للزمن!.
   وحين تم انسحاب الغالبية الساحقة من الهيأة المؤسسة في المرّتين الأولى  والثانية وانكشفت اللعبة فهمنا ذلك، وكنّا قد عرفنا في وقت لاحق خطة الحزب، وكان هو يضحك ويحمرّ وجهه ويردّد آن الأوان لتعرفوا الحقيقة.
   وبالمناسبة فقد كانت اللجنة المركزية أو المكتب السياسي تجتمع أحياناً في منزله بالكاظمية قرب الكورنيش، وقد اضطر إلى الهرب في اليوم الأول لانقلاب 8 شباط/فبراير وبعد عدّة أشهر ظهر في السعودية يؤدي فريضة الحج ويرتدي العمامة البيضاء، وقد التقاه هناك موسى شعبان وأبلغنا بذلك، ثم انتقل إلى الكويت وعاش فيها لغاية الغزو العام 1990، وكنت قد التقيته في الكويت أول مرّة العام 1965 مع خالي المحامي جليل شعبان، ومرّة أخرى في العام 1970 حين اضطررت الهرب إليها بعد ملاحقتي. وقد لاحظت اتساع أعماله، لاسيّما بعد أن تعرّف على أحوال السوق مثلما عرف التجار الكويتيون أمانته ودقة عمله، ولكنه خسر الكثير من أمواله وممتلكاته، بعد غزو القوات العراقية للكويت في العام 1990، وصادف أن كان حينها في لندن، وقد التقيته فيها، ثم في الولايات المتحدة حيث يعيش في ساندياغو واستضافني فيها وكان حين يسألونه عن العلاقة بيننا يردّد وبكل تواضع " أنني تعلمت التجارة في بيت شعبان" (حديث خاص مع موسى مشكور، ساندياغو،1998  وقد استعد معه بعض تفاصيل تلك الفترة).
   أعود إلى اتفاق للظل مع داود الصائغ لتحرير المبدأ التي كانت تصدر بصورة علنية، حيث أوكل سلام عادل الأمر إلى بديع عمر نظمي وهو أحد مثقفي الحزب حينها وقد نشر وترجم العديد من الكتب المهمة وعدنان البراك أحد المثقفين والإعلاميين البارزين في الحزب وقتذاك وقد استشهد العام 1963 ومجيد الراضي وهو شاعر ومثقف وابراهيم الحريري وكان يكتب عموداً في صحيفة اتحاد الشعب باسم " صديق حمدان" أو " حكايات حمدان" وتكفّل الحزب حسب رواية الحريري بكل شيء يتعلّق بمكتب جريدة المبدأ، عدا الحارس الذي كان موظفاً مرسلاً من الأمن (حديث خاص مع ابراهيم الحريري، دمشق، 1984).
   ولعلّ حكاية جريدة وحزب المبدأ تصلح وحدها للتأكيد على العقل الديناميكي لسلام عادل والحيوية البالغة التي يتمتع بها، وكذلك على المرونة العالية التي يتحلّى بها مع المبدئية وبُعد النظر، وخصوصاً في تشخيص الجوهري من الأشياء والقضايا.
النقد والنقد ثم النقد
للأسف لم يراجع تاريخنا بما فيه الكفاية، ولم تسلّط الأضواء على أخطائنا ونواقصنا، وغالباً ما زعمنا إن العدو سيستفاد منها، ولذلك حاولنا أن ندثّرها بأكثر من غطاء لكي لا يطّلع عليها المتربّصون بنا في ظل صراع محموم، وهكذا كانت تتكرّر وتتناسل تلك الأخطاء والنواقص، لأنه لم يتم كشفها ومساءلة المسؤولين، ولم يسهم النقد في كشف أخطاء الماضي، الاّ بحدود الصراعات الدائرة، بين هذا الطاقم القيادي أو ذاك، وتصفية حسابات بين الفرقاء، أما التاريخ فقد ظل "صامداً" ككتلة صمّاء، لا يمكن الاقتراب منها، وقد يكون بعضهم مسؤولاً عنها، والآخر لا يريد ذكر الحقيقة ويخشى الاقتراب منها، لأنها تتعلّق بفترة سكوته وصمته لسنوات طويلة، اعتاد فيها على تلقّي التعليمات وإعطاء الأذنين الصاغيتين دائماً.
لم نلحظ هناك من نقد حقيقي لتاريخنا، خصوصاً مسلّمات الماضي وعيوبه، لاسيّما إذا كان المعنيون قريبين من الطاقم الإداري أو من متفرّعاته، وحتى حين كُتبت الكثير من المذكرات، ظلّت الكثير من العقد الأساسية دون مساس، وإن جرى التعرّض لها، فمن باب إلقاء الحجة على الآخرين، وفي أحسن الأحوال سمعنا نقداً مثيراً للشفقة، لمن يقول أنه يتحمّل المسؤولية وهو بالطبع كذلك، لأنه كان على رأس الهرم أو من المحيطين به أو من حواشيه.
والغالب الأعم يتحدّث هؤلاء باستمرار عن  صواب سياستنا التي أثبتها التاريخ، والدفاع عن نقاوة النظرية وإن كان الأمر معكوساً، ففي تاريخنا بعض المطبّات والانحرافات التي علينا مراجعتها مثلما فيه الكثير من الإشراقات والإيجابيات التي يمكن استلهامها، كما لا يكفي الحديث عن إننا نمتلك "أعظم" نظرية في العالم، علماً بأنها لا ينبغي أن تكون بمعزل عن البراكسيس، وفي حين نحن تركنا المنهج، حوّلنا التعاليم النظرية إلى نصوص مقدسة وتشبثنا ببعض الأحكام والتطبيقات أو الممارسات التي كانت تصلح لعهود مضت، في حين علينا استنباط الأحكام التي تتلاءم مع ظروفنا ودرجة تطور مجتمعاتنا.
لاحظتُ إن جميع القوى السياسية " الشمولية" سارت بالاتجاه ذاته، فحزب البعث أو الجماعات المتبقّية منه تتحدّث عن كل شيء باستثناء صدام حسين، وغالباً ما ينزّه ويمجّد، وإنْ جرى الحديث عن الارتكابات والجرائم، فهي ليست سوى أخطاء هناك من يقوم بها، وقد لا يعرف بها "الرئيس" وإذا انتقدت توجّهاتهم وحاورت في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، فإنك ستكون حاقداً أو مشبوهاً وفي أحسن الأحوال فإنك جاهلٌ.
أما القوميون العرب فلا يمكن المساس باسم جمال عبد الناصر أو حتى نقده، فالنقد سيضعك في خانة العداء للقومية العربية أو في صف "الشعوبية"، وحتى لو ذكرت مشروعه السياسي بملاحظات أو آراء، بخصوص قضية الحريات ووحدانية التنظيم السياسي وملاحقة اليسار وهزيمة 5 حزيران/يونيو/العام 1967، فإن ذلك ليس سوى تفاصيل بالنسبة لهم، إذْ لا يمكن المساس باسم الزعيم " الخالد" والأمر يتعلق بغياب النقد الذاتي، وعدم قبول نقد الآخر.
ولم نسمع نقداً للمشروع الإسلامي من داخله، باستثناء مناكفات في فترة المعارضة بين جماعات سياسية، وإلاّ فإن المرجعية "مقدسة" والتعرّض لها سيجعلك في عداد الملاحدة أو من يتنكّرون لدورها التاريخي، وأحياناً تعتبر من طائفة أخرى، حتى لو كنت من صلب الانتماء الديني أو المذهبي، ضمن التصنيفات السائدة. صحيح إن بعض الارهاصات النقدية قد بدأت، لكنها ظلّت أقرب إلى نقر في السطح وليس حفراً في العمق، حسب تعبير ياسين الحافظ بتوصيفه للثورة.
وإذا كانت الحركة الكردية قد عصفت بها رياح عاتية من داخلها، وواجهت نقداً حاداً وشديداً، وصل حدّ الاتهامات، فإن هذا النقد غالباً ما يطوى على حساب المصالحات السياسية الظرفية، وبذلك يضيع النقد الموضوعي الذي هو حاجة ماسّة وضرورية للتطوّر والتقدّم، وأحياناً تضيق بعض القوى الكردية بالنقد حتى إذا كان انحيازك لصالح الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، مثلما هناك تواطؤ أحياناً بخصوص علاقاتها الخارجية مع القوى الدولية بما فيها المعادية لمصالح شعوبنا فما هي المصلحة من السكوت أو تبرير علاقة مع "إسرائيل" وبعض دعاة التفكيك في السابق والحاضر.
النقد فضيلة، ولاسيّما في السرديات الثقافية، وغيابه يجعلنا أمام حالة من الصدام والاحتدام المستمرين، خصوصاً في النظر إلى الآخر، أما على صعيد الآخر من الداخل فسيكون بديله الاستكانة والخنوع أو الاحتقان والاختناق حتى يحصل المحذور، لذلك فإن الكثير من التمرّدات والانشقاقات ليست بعيدة عن ذلك، إذْ أن الإلغاء والتهميش واحتكار الحقيقة وادعاء امتلاك الأفضليات ستقود إلى نتائج أخرى في ظل غياب النقد ، وهو ما حاول الباحث تسليط الضوء عليه باعتباره الأساس في فقْه الأزمة.
وإنْ كنتُ قد قدّمت قراءات انتقادية للحركة الشيوعية وتاريخها، فلأنني معني بها أكثر من غيرها وما أريده لها أن تكون معافاة وسليمة، كما إنني عندما أسترجع جزء من التاريخ، فلأنه يحتاج إلى إعادة نظر بروح رياضية ودون خشية من النقد والاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها، والأمر قد ينسحب على الإدارات المسؤولة التي ارتكبت الكثير من الأخطاء، وظلّت تنكر أو تتصرّف باعتبارها فوق النقد، خصوصاً في ظلّ غياب المساءلة والشفافية، الأمر الذي يحتاج إلى نقد شفاف وجريء دون تجريح أو إساءة، بقدر ما يهمّ تاريخنا وعلاقاتنا الرفاقية ونظرتنا المختلفة إلى الماضي وإلى الحاضر وإلى المستقبل، ناهيك إلى الحياة ذاتها بما فيها من مستجدّات ومتغيّرات، بما فيها محاولة قراءة الماركسية بروح القرن الحادي والعشرين وبمنهج ماركس الذي لا يزال يمتلك حيوية، لا بتعاليمه التي تصلح لعصره، وعفا الزمن على الكثير منها.
وأخيراً فالنقد لتاريخنا الشيوعي واليساري هو نقد  من الداخل، وهو نقد مسؤول للذات ونقد لمسار يعني جميع الشيوعيين والماركسيين، بل وعموم الوطنيين، وكل من هو حريص على المستقبل الشيوعي، إذْ لا يمكن الحديث عن تاريخ الدولة العراقية، دون المرور على تاريخ اليسار العراقي الذي لعب دوراً مهماً منذ تأسيسها.
والهدف من النقد تسليط الضوء على بعض النواقص والثغرات في مسيرة اليسار والحركة الشيوعية، لكي لا تتكرّر ولكي يتعرّف عليها الجيل الحالي والمستقبلي وينتفع منها، ونقد التاريخ هو أيضاً نقد للبرامج والسياسات والممارسات والشخصيات وما علق به من سلوكيات غريبة. ولعلّ أهم خدمة تقدّم إلى العدو هو إخفاء أخطائنا والزعم بصواب سياستنا على طول الخط، فتلك المهمة الإيمانية التبشيرية الاستكانية لا تصلح الاّ للدعاة والمروّجين المنحازين، وهي غير المهمة النقدية العقلانية التساؤلية، التي يضطلع بها من يبحث عن الحقيقة.
ولعلّ واحداً من أهداف هذه الاستعادة التاريخية في المسيرة البطولية لسلام عادل هو الحرص على الحقيقة كي لا تضيع بما فيها من آلام وعذابات ودروس وعِبَر، وهو ما حاول الباحث فيه تسليط الضوء على بعض الجزئيات التي يهتم بها بما فيها المنسي أو المُهمَل أو غير المرغوب استذكاره أو غير المسموح الحديث عنه، كي لا تندثر أو تتبدّد أو يطويها النسيان، وذلك استكمالاً لصورة المشهد من زواياه المختلفة.
لعلّ القراءة المفتوحة ودون عقد مسبقة كانت هي الأكثر استقبالاً وحفاوة للنصوص الجديدة التي تركت الآيديولوجيا جانباً والتشدق بالأفضليات وحاولت التفتيش عن الحقيقة من خلال النقد، ولا أحد يعفي نفسه منه.





315
سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول
الرجعية جزء من مذبحة كركوك وتراجع الحزب الشيوعي
عن المشاركة في حكومة تموز 1958 بإيعاز من السوفييت
الحلقة 4
عبد الحسين شعبان [/b]
علماً بأن جريدة الحزب" اتحاد الشعب" كانت قد مهّدت لهذا الشعار حين حملت مقالة باسم " هيئة التحرير" (يوم 28 نيسان/أبريل/1959) عنواناً " إشراك الحزب في الحكم ضرورة وطنية" ووردت فيه دعوة وإن كانت على استحياء لإعادة النظر في تركيب السلطة السياسية... على أساس مبدأ التمثيل الصادق لسائر القوى الوطنية المخلصة ونبذ الحساسية إزاء حزبنا . وتبعت هذه المقالة مقالتان في يومين متتاليين (انظر" نجم محمود (ابراهيم علّاوي)- المقايضة: برلين - بغداد، منشورات الغد، لندن، 1991، ص 305 و306) وهو الأمر الذي اضطّر الحزب للتراجع عنه في اجتماع أواسط تموز/يوليو العام 1959 . 
ولم يكن ذلك بمعزل عن تدخل موسكو كما تقول بعض التقديرات وينقل ابراهيم علّاوي (نجم مجمود) أن لغطاً كثيراً حصل حول دور جورج تلّو الذي كان يعالج في موسكو إثر إصابته في حادث غامض راح ضحيته غازي أبو التمن، وحين عاد إلى بغداد كلّف بنقل رأي السوفييت بضرورة التراجع عن هذا التوجه، وكان بهاء الدين نوري قد كتب في " جريدة صدى القاعدة، العدد 4، أيلول/سبتمبر/1989" عن التدخلات السوفييتية السافرة لحمل قيادة الحزب الشيوعي العراقي على اتباع نهج يميني خاطئ إزاء سلطة قاسم، ولاسيّما المطالبة بالمشاركة في الحكم (أيار/ مايو/1959) .
وكانت جريدة البرافدا قد نشرت تقرير الاجتماع الموسع (أواسط تموز/ يوليو/1959) على صفحاتها يوم 17 آب/أغسطس/1959 مشيدة بأهميته واستحسنت توجهاته، (انظر كذلك: ابراهيم علّاوي- المقايضة، مصدر سابق، ص 320-321) ولا شك أن السوفييت غيّروا رأيهم بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، بل وحاولوا الظهور بمظهر الناصح لسلام عادل، ونقلاً عن أحد المنظّرين (العلماء) السوفييت المشارك في الحوار حول الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي السوري، يذكر: قلنا لسلام عادل: لا تعلّقوا آمالكم على قاسم وهكذا جرى، مات قاسم وأضرّ بالحزب..." ولم يكن ذلك صحيحاً حسبما يؤكده العديد من الوثائق ومن عاصر تلك المرحلة من موقع المسؤولية (حديث خاص مع بهاء الدين نوري- نوكان/ ناوزنك/كردستان/آب/أغسطس/1982).
والسبب الثاني ما حدث في الموصل من أعمال قمع وتنكيل أعقبت حركة الشواف واتّهم بها الحزب الشيوعي لاسيما "محكمة الدملماجة" الشهيرة حين تردّد اسم "عبد الرحمن القصاب"، عضو اللجنة المحلية في الموصل الذي قيل أنه كان يستلم التعليمات من مهدي حميد وبإشراف من حمزة سلمان الجبوري (عضو اللجنة المركزية)الذي كان موفداً من المكتب السياسي لهذه المهمة والذي كان يحمل رسالة خطية من المكتب السياسي كتبها له جمال الحيدري بتوجيه من سلام عادل، مفادها إنزال الضربات بالخصم بأقسى ما يمكن، وقد عرضها في اجتماع اللجنة المركزية عندما أريد محاسبته على التشدّد وأعمال العنف، وقد ألقي القبض عليه لاحقاً في زمن قاسم وأرسل إلى  سجن نقرة السلمان، ثم استدعي بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 حيث قتل تحت التعذيب مثلما قتل مهدي حميد أيضاً بنفس الطريقة، انتقاماً وثأراً.
أما بخصوص محكمة الدملماجة التي تم تشكيلها بعد فشل حركة الشواف (آذار/مارس/1959) فقد تم إعدام 17 شخصاً دون محاكمة، ووفقاً لقرار محكمة صورية سمّيت ثورية، وتم تنفيذ حكم الاعدام بهم على الفور، ناهيك عن أعمال عنف واعتقالات وتعذيب، ثم إنقلب الأمر على الشيوعيين في الموصل وألحق بهم من الخسائر والاغتيالات الشيء الكثير، وقد يكون فاق ما لحق بالآخرين خلال حركة الشواف وتمرّده ضد حكم قاسم.
والسبب الثالث أحداث كركوك التي استفزّت عبد الكريم قاسم، فوصفها بالفوضوية في خطابه الشهير بكنيسة مار يوسف، ويومها قال قاسم (أن تلك الأعمال تذكّر  بأعمال هولاكو)، ولعلّ اندفاع الحزب الشيوعي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، في صراع ضد التركمان، لم يكن له من مبرّر، الأمر الذي يعزوه البعض إلى  أن قيادة منظمة كركوك للحزب من الكرد، بما يضفي على الصراع بُعداً قومياً، لاسيّما في ظل بعض المشكلات والحساسيات في الماضي، تلك التي أصبحت تعبيراتها اليوم مختلفة، وإن كان جزء منها يعود إلى  الماضي.
وقد ذكرت العديد من المصادر أن عدد القتلى بلغ 31 تركمانياً وتجاوز عدد الجرحى نحو 130 وتم نهب 70 محلاً تجارياً وقد جاءت هذه المجزرة المروعة بعد الأحداث المأسوية التي حصلت في الموصل وفي ظلّ أجواء مشحونة لكن قيادة الحزب لم تعالج مثل هذه القضايا ببعد نظر ورؤية مستقبلية ونظرة حقوقية وإنسانية.
وعلى الرغم من التبريرات التي قيلت عن التدخلات الخارجية ودور مشبوه لشركات النفط ، وهو موجود فعلاً وليس مبالغة، لكن سقوط ضحايا والقيام بارتكابات ليست بمعزل عن مسؤولية القوى المتنفّذة، لاسيّما القريبة من الحكومة، دون استبعاد أن بعض القوى الرجعية كانت جزءًا من المشكلة،  لكن الأمر تجاوز ما حصل في تظاهرة 14 تموز (يوليو) العام 1959، الأمر الذي لم يتم التوقّف عنده ونقده على نحو جريء، وقد ساهمت أحداث كركوك الدموية في سوء العلاقة بين قاسم وبين الحزب الشيوعي وإلى حدّ ما بينه وبين الحركة الكردية. وكان ينبغي على قيادة سلام عادل اتخاذ موقف حازم إزاء المسؤولين ومحاسبتهم وعدم ترك الحبل على الغارب كما يقال.
وإذا كان اعتراف قيادة الحزب في العام 1959 وفي خضم الصراع وذروته أن ثمة "عناصر مندسّة استثمرت بعض الاندفاعات وساقتها في اتجاهات تدميرية أحياناً" وإن: "لجوء بعض الجماهير المتأخرة سياسياً إلى أساليب السحل وتعذيب الموقوفين ونهب الممتلكات والتجاوزات على حقوق وحرّيات بعض المواطنين الأبرياء هو أسلوب لا يجمعه جامع مع الكفاح الثوري" ، ولذلك كان عليها الاعتذار عمّا حصل للضحايا وعوائلهم وهو ما يزال مطلباً لدى التركمان تجدّدت الدعوة له في العام 2009 في ذكرى 14 تموز (يوليو). وما ينطبق على أحداث كركوك يمكن أن ينطبق على أحداث الموصل، لاسيّما في الموقف من الضحايا الأبرياء والقتل خارج القضاء.
   بداية حقبة الدماء وليس نهايتها
كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشلاً، فقد اتّجه بالحكم نحو الفردية والارتجال وتدريجياً أصبح دكتاتوراً فردياً، وإذا كانت النزعة الثأرية، الانتقامية، الكيدية قد سادت بعد الثورة، لاسيّما من خلال محاكمات المهداوي لأقطاب العهد الملكي، لكن قاسم وخصوصاً بعد الأحداث الدموية في الموصل وكركوك بدى أقل دموية، بل أصبح ميّالاً إلى  التسامح " عفا الله عما سلف"، حيث أطلق سراح الرئيس عبد السلام عارف بعد الحكم عليه وأطلق سراح من شارك بمحاولة اغتياله وإطلاق الرصاص عليه في شارع الرشيد. لكن سياسته أدّت إلى  تقسيم الحركة الوطنية ودفعت بها إلى  التناحر بين أطرافها، وأظنّ أن الخطأ، بل والخطيئة التي وقع بها هي إعدام الجنرالين ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، وهما من قادة الثورة، وذلك بعد حركة الشواف في الموصل، علماً بأنهما لم يكونا مشاركين في محاولة التمرد تلك، وقد يكون ذلك الأمر هو الذي دفعه للتفكير بطريقة مختلفة، لاسيّما إزاء العقوبات الغليظة .
باختصار لم يكن لقاسم أي مشروع للتغيير الداخلي فقد تنكّر لوعوده بانهاء فترة الانتقال وإجراء انتخابات وسن دستور دائم، لاسيّما بعد منجزات الثورة في العام الأول، وخصوصاً الخروج من حلف بغداد ونظام الكتلة الاسترلينية وإبرام معاهدات واتفاقيات اقتصادية مع الدول الاشتراكية، وحتى القوانين والقرارات التي اتّخذها بشأن مسألة النفط وغيرها ظلّت عائمة في ظلّ سياسة التفرّد بالحكم ومعاداة جميع القوى الوطنية، ناهيك عن التخبّط بخصوص قضية مطالبته بالكويت أوموقفه من الحركة الكردية وحقوق الشعب الكردي.
وأظنّ أن ما عاناه العراق من فترة حكم قاسم تركت انطباعاتها على العقود اللاحقة، حتى أن البعض ما يزال يفكّر ومن جميع الأطراف بعقلية العام 1959 وما بعده (لاحظ ما ينشر أحياناً)، لاسيما التناحر والانشقاق الذي حصل في صفوف الحركة الوطنية العراقية.
   لماذا سقط عبد الكريم قاسم؟
يمكنني القول أن هناك أربعة أسباب أساسية أدّت إلى  الإطاحة بنظام قاسم:
السبب الأول مطالبته بضمّ الكويت في العام 1961، وهذه أشبه بحكاية مشؤومة دفع العراق ثمنها لاحقاً بمغامرة صدام حسين العام 1990 بغزو الكويت، الأمر الذي ساهم في تدمير العراق وفرض حصار دولي عليه دام 13 عاماً، ومن ثم احتلاله في العام 2003، وقد كانت مطالبة قاسم تعني فيما تعنيه اللعب لتغيير الجيولوليتيك في منطقة ستراتيجية وغنيّة بالنفط وجزء من مناطق نفوذ القوى الغربية، وهو أمر غير مسموح به، بل محرّم في إطار السياسة الدولية.
السبب الثاني إصداره قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي منح المرأة بعض حقوقها فيما يتعلّق بقضايا الزواج والطلاق والنفقة والنسب والوصية والإيصاء والإرث وقد اعتبر عقد الزواج رضائياً بين رجل وامرأة تحلّ له شرعاً وغايته إنشاء رابطة مشتركة للحياة واعتبر كذلك كل شكل من أشكال الإكراه جريمة، وحدّد السن القانوني بالثامنة عشر من العمر واشترط تسجيل عقد الزواج لدى محاكم الأحوال الشخصية، وبخصوص الطلاق فيحق طلبه إذا كان الزوج قد تزوّج بامرأة أخرى دون إذن المحكمة أو تسبب في ضرر مستحكم أو حكم عليه بعقوبة تزيد عن ثلاث سنوات أو هجر زوجته لمدة سنتين أو بسبب المرض أو العنّة أو غير ذلك.
وجاء في الأسباب الموجبة في تشريعه هو: تعدّد مصادر القضاء واختلاف الأحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرّة وحقوق الفرد غير مضمونة. وقصد من ذلك إنصاف المرأة، ليكون القانون واقعاً يجمع أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها. فسخّرت الأوساط الدينية والتقليدية والرجعية كل قواها ضده وعملت للإطاحة به.
وقد استثمرت الجماعات القومية فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" فحشدت القوى ضد نظام قاسم والشيوعيين، لاسيّما في إطار غطاء ديني. ومن الطريف أن محاولة جرت خلال مجلس الحكم الانتقالي للإطاحة بالقانون الذي جرى تسويف بعض مواده وتجميدها من الناحية العملية، وتم التصويت على إلغائه، لكن بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق لم يصدّق على ذلك، وطلب إعادة مناقشته والتصويت عليه، فكانت النتيجة الإبقاء عليه.
والسبب الثالث- إصدار القانون رقم 80 لعام 1961 بخصوص استعادة 99.5 % من الأراضي العراقية من شركات النفط الاحتكارية، بحجب "حقها" بالتصرف غير القانوني في التنقيب. وقد فتح هذا القرار معركة ضارية ضده وتآمراً لا حدود له على نظام قاسم من جانب القوى الاستعمارية، التي تلقّت ضربة أخرى عند تأميم النفط العام 1972، الأمر الذي جعلها لا تستكين ولا تستسلم حتى تم إلغاء نتائجه على الرغم من أن موارده ذهبت لمغامرات عسكرية وأجهزة أمنية وثم تبديدها بشكل لا عقلاني، وزاد الأمر عندما تعرضت بعد العام 2003 للسرقات وعمليات النهب والابتزاز.
والسبب الرابع حرب قاسم ضد الثورة الكردية التي بدأت في 11 أيلول (سبتمبر) 1961 بشروعه بقصف مناطق البارزانيين، الأمر الذي فتح معركة مع الأكراد، وقبلها بالطبع كانت معركته مع نظام عبد الناصر والقوميين والبعثيين، ناهيك عن تدهور علاقته مع الحزب الشيوعي وملاحقة قياداته وكوادره.
كل ذلك مهّد للإطاحة بقاسم في 8 شباط (فبراير) العام 1963 ومعه أطيح بما تبقى من مكتسبات الثورة. جدير بالذكر أن عدم حل المشكلة الكردية بشكل عادل ويلبي طموحات الكرد، كان أحد أسباب ضعف الدولة العراقية واختلالها منذ تأسيسها، وكان عامل هدر وإنهاك للأنظمة العراقية الملكية والجمهورية.
إن ما سمّي بفترة "المدّ الثوري" أو "المدّ الأحمر" أو "الهيمنة الشيوعية"، لم يكن المقصود منها أخطاء الحزب الشيوعي وما ارتكبه في الموصل وكركوك ومحاولته الانفراد بالشارع، ولاسيّما بعد القضاء على حركة الشوّاف وملاحقة القوى القومية والبعثية فحسب، بل لأن الفترة القصيرة من " شهر العسل" التي ذاق فيها الحزب السلطة أو شمّ رائحتها شهدت طائفة من الإجراءات  الثورية المهمة، فقد حققت خلال تلك الفترة القصيرة ما يلي:
1- انسحاب العراق رسمياً من حلف بغداد في 24 آذار (مارس) 1959.
2- إيقاف مفعول الاتفاقية العراقية- البريطانية في 4 نيسان (أبريل) 1959.
3- مغادرة آخر مجموعة من الجنود والضباط البريطانيين الأراضي العراقية في 30 أيار/مايو/1959.
4- ارتفاع علم العراق على قاعدتي الحبائية والشعيبة الجويتين.
5- فسخ الاتفاقيات الثلاث مع الولايات المتحدة التي وقعها العراق بين عامي 1954و1955 والمتعلقة بـ " المساعدة" العسكرية واستخدام العراق للأسلحة والمعدّات الأمريكية واستخدام " المساعدة الاقتصادية" على أساس مبدأ أيزنهاور.
6- خروج العراق من الكتلة الاسترلينية (منطقة الاسترليني) في حزيران/يونيو /1959.
(انظر: كتاب تاريخ الأقطار العربية المعاصر، أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي، معهد الاستشراق، دار التقدم، ج1، 1976، ص 329-331 ) محاولة تقييم حكم قاسم 1958-1963.
وبالطبع فثمة أسباب أخرى للإطاحة بحكم قاسم داخلية وخارجية كي لا يكون نقطة استقطاب وتأثير لبعض شعوب المنطقة، ولذلك سعت القوى الإمبريالية لإعادة حصان تموز الجامح إلى الحظيرة وعملت ما في وسعها لتفريق القوى الوطنية، خصوصاً وأن مصالحها تضرّرت بسبب الإجراءات التي اتبعتها حكومة الثورة فضلاً عن خطوات داخلية مثل الإصلاح الزراعي.
   سلام عادل وجماعة المبدأ
   شرع " الزعيم " عبد الكريم قاسم بإعلان رغبته في تنظيم الحياة الحزبية بعد انفجار الأزمة مع القوميين واستقالة وزرائهم في شباط/فبراير/1959 وهم:  ناجي طالب والدكتور عبد الجبار الجومرد وبابا علي الشيخ محمود والدكتور محمد صالح محمود ومن ثم محمد صديق شنشل وفؤاد الركابي  واتساع أزمة الحكم مع الشيوعيين بعد خطابه في كنيسة  مار يوسف ( 29/7/1959) الذي اتهم فيه الشيوعيين "بالفوضوية" ونسب إليهم ما حدث من أعمال إرهاب وقتل خارج القضاء بحقّ التركمان في كركوك (14-15 تموز/يوليو/1959)  وكان هذا الخطاب بمثابة إعلان عن نهاية ما سمّي بـ " المدّ الثوري" أو المدّ الأحمر"، الذي استمرّ 4 أشهر ونصف تقريباً.
   ولعلّ واحداً من تجلّيات التعبير عن الأزمة هو شعور الحزب الشيوعي بأنه غير ممثل بحكومة الثورة ومطالبته في مسيرة الأول من أيار/مايو/العام 1959 بالمشاركة في الحكم وتوجّس قاسم خيفة من تمدّد نفوذه، الأمر الذي زاد من حدّة التناقض بين قمة السلطة وقاعدتها.
   وكان قاسم قد فكّر بمخرج من أزمة الحكم بالدعوة إلى تنظيم الحياة الحزبية، وقام وزير الداخلية (أحمد محمد يحيى) بالطلب من الأحزاب السياسية التقدّم للحصول على الترخيص القانوني لممارسة العمل الحزبي بصورة شرعية (مطلع العام 1960) تمهيداً لإنهاء فترة الانتقال التي كرّر "الزعيم" عبد الكريم قاسم عدّة مرّات رغبته في إنهائها، ولم تنتهِ حتى انتهى حكمه بانقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
   لقد شهدت الفترة التي أعقبت حركة العقيد عبد الوهاب الشوّاف تصعيداً ضد القوميين والبعثيين، كما أصدرت محاكمة الشعب أحكاماً بالإعدام بحق مجموعة من الضباط والمشاركين بالحركة بينهم اثنين من قادة ثورة 14 تموز/يوليو/1958 وهما ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سرّي، على الرغم من أن التحقيقات والمحاكمات لم تثبت اشتراكهما المباشر بالحركة ، لكن الضغوط التي مورست على قاسم والأجواء المهيمنة على الشارع  دفعت الأمور بهذا الاتجاه، ويبدو أن قاسم ندِم على تنفيذ أحكام الإعدام، ولم يستطع حينها مقاومة الكتل البشرية التي كان يموج بها وتذكّر بعصر المداخن ، فاضطرّ نزولاً عند صخب الشعارات التي كانت أصداؤها تتصاعد في كل مكان: " لا تكول ما عندي وقت أعدمهم الليلة"، أي لا تبرّر تأخير حكم الإعدام بحق الذين صدرت أحكاماً بحقهم، بل أعدمهم هذا اليوم، فأقدم على تنفيذ الأحكام.




316
سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول
الترهل في جسد الحزب الشيوعي منعه من قرارات حاسمة ضد عبد الكريم قاسم

الحلقة 3

عبد الحسين شعبان

التقاط الجوهري من الأشياء
تتعدّى مزايا سلام عادل كونه شهيداً وبطلاً، فهذا أمرٌ مفروغ منه، لكن قيمته الحقيقية هي في مواهبه ومبادرته التنظيمية وعقله الستراتيجي في التقاط الجوهري من الأشياء وقدرته في الاستفادة من الكفاءات التي حوله، ولاسيّما قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
كما حاول بعد الثورة ضم وإشراك الكثير من القيادات " التاريخية" و"الشابة" لاحقاً إلى قوام اللجنة المركزية وهيئات الحزب، لتوسيع دائرة اتخاذ القرار على الرغم من بعض تناقضاتها، وذلك يتجلّى بعمله الدؤوب في استعادة وحدة الحزب دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش، بل بمشاركة واعية، وكذلك في إعداد الكونفرنس الثاني العام 1956.
أعتبر شخصياً وثائق الكونفرنس الثاني من أهم وثائق الحزب وأنضجها حتى الآن، آخذاً بنظر الاعتبار سياقها التاريخي، وهي الوثائق التي لم يتم الحديث عنها منذ أكثر من 6 عقود من الزمان وكأنها أصبحت نسياً منسيّاً، ثم في التحضير لجبهة الاتحاد الوطني العام 1957 وإقامة علاقة مع شبكة الضباط والجنود والأشراف من التنظيم العسكري، والإعداد للثورة بالعلاقة مع الضباط الأحرار العام 1958.
وحتى بعد الثورة فقد كان الترويج لأهم شعارات الحزب من صنع ومشاركة سلام عادل وقيادة الحزب، بحيث أصبحت قوة مادية في الشارع  وهي الخروج من حلف بغداد الاستعماري والتحلّل من الاتفاقيات والمعاهدات الاسترقاقية المذلّة والانسحاب من نظام الكتلة الاسترلينية والدعوة للإصلاح الزراعي والتوجه لاستعادة حقوقنا من شركات النفط الاحتكارية والانعطاف نحو المعسكر الاشتراكي والمطالبة بالحريات وإبراز أهمية حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، لاسيّما في العام الأول من عمر الثورة. ولهذا لا يمكن اختزال سلام عادل إلى مجرد قيامه ببعض المهمات الحزبية أو إشرافه على الجريدة كما ورد في تعليق لكادر حزبي.
خلافات ومعوّقات
لكن الخلافات التي دبّت في الحزب الشيوعي، إضافة إلى نهج الغرور ومحاولة الانفراد بالشارع وتهميش دور الآخرين دفعت قيادته إلى ارتكاب أخطاء عديدة اعترف بها على نحو شجاع تقرير العام 1959 (اجتماع ل.م) وإن كان الأمر يحتاج إلى طائفة من التدابير لم يتم التوصل إليها أو لم تتخذ الإجراءات المناسبة التي تقتضيها، وهو ما أضعف محتوى سياسة الحزب وجوهرها، خصوصاً بعض الأطروحات العائمة التي طبعت السياسة العامة. فما معنى تضامن - كفاح ثم : "كفاح، تضامن، كفاح"، الذي يتم شرحه بتأييد الخطوات الإيجابية في سياسة عبد الكريم قاسم ونقد الخطوات السلبية، وتأييد السياسة الخارجية ذات الشحنات الإيجابية ونقد السياسة الداخلية ذات التوجّهات السلبية.
 كما أن شعار " السلم في كردستان" لم يكن شعاراً يليق بالحزب الشيوعي، فقد كان يمكن وضع شعارات أكثر تعبيراً عن الشعب الكردي من جهة على سبيل الحكم الذاتي، وخصوصاً بربطه بالديمقراطية لمعالجة مبدأية تتجاوز اللحظة الآنية ذات الاعتبار الأخلاقي العام والتي تتعلّق بقضية السلام إلى طرح حلول ذات أفق مستقبلي، وقد حاول سلام عادل تعديل ذلك بالتقرير الذي ساهم في إعداده جمال الحيدري بتوجيه منه وتحت إشرافه حول القضية الكردية، ولكن بعد فوات الأوان.
وكان على سلام عادل معالجة قضية "شرعية القيادة" ليس بالإنجاز فحسب، بل في الأطر الحزبية والديمقراطية ، خصوصاً وإن ظروف ما بعد الثورة كانت تسمح بذلك، ولعلّ من ذيول هذه القضية ظهرت ما عُرف "كتلة الرفاق الأربعة" (عامر عبدالله وزكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أو العيس) ولو كان قد تم عقد مؤتمر أو حتى كونفرنس حزبي في فترة كان الحزب "علنياً" أو "شبه علني" لكان قد اكتسب شرعية أكبر بل وشرعية حقيقية، لكن ذلك لم يحصل.
وقد أحدثت تلك الإجراءات وما رافقها ردود فعل سلبية، ليس هذا فحسب، بل إن العقوبات التي أنزلت بالرفاق المتكتّلين دفعت بعضهم إلى كتابة رسائل مذلّة بحق أنفسهم وتاريخهم وقد ناقشت هذا الموضوع في كتابي عن عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل" وعكست تلك الرسائل التي تم تقديمها باسم " النقد الذاتي" (زكي خيري وأبو العيس) التشدّد في طلب تجريح الذات وليس نقدها والإساءة إلى النفس، الأمر الذي زاد من حدّة المشاكل حول الشرعية الحزبية في ظلّ عدم انعقاد مؤتمر للحزب، وهو ما كان ينبغي ألّا يسمح به أصلاً وألاّ يطلب منهم ذلك، لأن ذلك سيؤدي إلى التذلّل ويساعد على المداهنة والمراوغة.
ولم يدرس الحزب بشكل كاف موضوع السلطة والموقف منها بشكل كاف في عهد سلام عادل وقد يكون الانقسام الذي حصل في القيادة الحزبية وراء ذلك، واضطرّ سلام عادل إلى السفر إلى موسكو للدراسة الحزبية، برضاه أو بالرغم عنه، وسواءً كان ذلك تحت ضغط السوفييت أم بدونه، لكنه حين قرّر العودة إلى العراق وقطع دراسته كان ينوي اتخاذ خطوات جديدة أكثر تشدّداً إزاء قاسم ولكن الترهل الذي أصاب جسم الحزب وانقسام قيادته لم يساعده في ذلك، وظل الحزب يعاني من سياسة انتظارية، الأمر الذي بث روح الملل والروتينية حد القنوط في صفوفه، وكان هذا بحد ذاته بداية "هزيمة" قبل انقلاب 8 شباط (فبراير) الفاشي.
كان الحزب يتصرّف وفقا لرد الفعل وينتظر القدر " الغاشم" (المؤامرة المنتظرة ليتصدّى لها) وتدريجياً لم يكن لنا حلفاء يعتدّ بهم، أما ما أطلق عليه " النضال الجماهيري" فقد انحسر بالتدرّج حيث ضعفت مبادراتنا، وكانت أقرب إلى ردود فعل سواء إزاء سلطة قاسم أو بخصوص المسألة الكردية أو لمواجهة الإضراب الطلابي الذي فرضه البعثيون والقوميون والاتحاد الوطني لطلبة العراق تحضيراً لانقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963 وغيرها.
ولم يكن التراجع منظّماً واتّضح أننا واجهنا التحدّيات بخطة طوارئ فاشلة "وبمسدس مايثور" "لأنه تعرّض للصدأ" حسب وثيقة تقويم صدرت العام 1967 في غمرة الصراع الحزبي، كما أن مواجهة انقلاب 8  شباط (فبراير) كانت محدودة على الرغم من البطولة والبسالة، وكلّ ذلك حتى وإنْ كان يتحمل قسطه الأكبر الرفيق سلام عادل بصفته التنظيمية بنجاحاته وإخفاقاته، لكنه لا ينبغي نسيان خصاله الباهرة وسجاياه وشفافيته الإنسانية المتميّزة ، فضلاً عن بطولته النادرة، ونحن حين نتناول ذلك فإننا إزاء تقويم سياسي وعلينا أن نضع العواطف جانباً ونركن قدر الإمكان في البحث عن الحقيقة والتعامل مع المعطيات والمعلومات المتوفرة بروح موضوعية .
   الوحدة أم الاتحاد؟
   لقد أطاحت ثورة 14 تموز (يوليو) بالنظام الملكي وأعلنت العراق جمهورية ، وكان الحزب الشيوعي من الأحزاب التي هيّأت للثورة أو شاركت في التحضير لها مثله مثل الأحزاب الأخرى، على نحو مباشر أو غير مباشر وبدرجات متفاوتة بالطبع مع نفوذ كل حزب ودوره، وكان كادره القيادي قد اطّلع على بيان صدر عن الحزب يوم 12 تموز (يوليو) يوحي فيه إلى  احتمال قيام أحداث مهمة ويوصي بالاستعداد لها ورفع درجة اليقظة.
   وعندما اندلعت الثورة وجد الحزب نفسه سبّاقاً إلى  تأييدها في الشوارع والساحات ومعه الأحزاب الأخرى، على الرغم من درجة تعبئتها كانت أدنى كثيراً، وكان لمثل هذا التأييد الشعبي أن يؤدي إلى  قطع الطريق على رجالات العهد الملكي ومنعهم من القيام بحركة مضادّة، كما أنه يكون قد قطع الطريق أمام التدخلات الخارجية، على الرغم من إنزال القوات الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأردن، لكن التفاف الشعب وفيما بعد دعم حكومة الجمهورية العربية المتحدة وحكومات البلدان الاشتراكية، لاسيما الاتحاد السوفيتي أحبط أية إمكانية للانقضاض على الثورة.
ومنذ الأيام الأولى احتدم النقاش الداخلي، لاسيّما بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست في 7 آذار (مارس) 1957، حول شعارات الوحدة والاتحاد، فحزب البعث إندفع باتجاه "الوحدة الفورية" وهو ما يذكره عدد من قادته مثلما هو خالد علي الصالح وهاني الفكيكي وعبد الستار الدوري وحازم جواد وعلي صالح السعدي وطالب شبيب، وتسنّى لي محاورة بعضهم بشكل مطوّل ومعمّق، وكان الرأي السائد أن ميشيل عفلق بعد زيارته إلى  بغداد وبقائه في فندق بغداد، حسم الأمر برفع شعار الوحدة العربية، في حين أن الشيوعيين، لاسيّما عامر عبدالله وعزيز الحاج وسلام عادل وجمال الحيدري وبهاء الدين نوري وآخرين ، كانوا قد رفعوا شعار الاتحاد الفيدرالي وروّجوا له، وتسنّى لي حوار عدداً منهم أيضاً، وكان الطرفان يستفزّ أحدهما الآخر بطريقة صبيانية أحياناً، أوعلى أقل تقدير غير عقلانية، واندفع داخل الطرفين تيار إستئصالي، إلغائي، تهميشي، ونسى الجميع ميثاق جبهة الاتحاد الوطني، ولعلّ ما كتبه العديد من قيادات أحزاب تلك المرحلة تعكس التوجهات السائدة ودرجة الاستقطاب والتنافر.
وأظن أن الحركة الوطنية بأطرافها الأساسية، انقسمت حول هذين الشعارين، فالحركة الكردية مالت إلى  شعار الاتحاد الفيدرالي ومعها أوساطاً من الحزب الوطني الديمقراطي، وما سمّي بالجناح اليساري الذي قيل أن كامل قزانجي يمثله وهو الذي استشهد العام 1959 في أحداث حركة الشواف في الموصل، كما مالت حركة القوميين العرب وبقايا حزب الاستقلال وبعض الشخصيات القومية الأخرى إلى  شعار الوحدة العربية مع الجمهورية العربية المتحدة، وهو ما كان حزب البعث يطرحه.
وكان هذا الانقسام عمودياً ومركزياً من القمّة إلى  القاعدة، وفي حين انحاز أحد قادة الثورة العقيد  عبد السلام عارف إلى  شعار الوحدة وألقى عدداً من خطبه الرنانة في عدد من المدن والمحافظات العراقية، كان الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء أقرب إلى  شعار الاتحاد الفيدرالي، وقلْ إنه لم يكن مع شعار الوحدة الاندماجية المطروح.
وأستطيع القول من باب النقد الذاتي وليس افتئاتاً على أحد، أن الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة في تلك الفترة، وعاشت مرحلة مراهقة سياسية، ولعل وعي الكثير من قياداتها كان متدنّياً، فضلاً عن التمترس والرغبة في كسب الشارع والحصول على المواقع في الجيش والسلطة والمؤسسات النقابية والمنظمات الاجتماعية، في وضع أشبه بالغليان، أو حركة سيرك بكل الاتجاهات.
   خصوم قاسم

لقد عشعش مرض الطفولة اليساري لدى غالبية أطراف الحركة الوطنية وأعني بذلك نهج التهميش والعزل والإقصاء والاستئصال، فالبعثيون والقوميون استقووا بالجمهورية العربية المتحدة وبالرئيس جمال عبد الناصر وببعض قادة الجيش وانضمّ إليهم بعض القوى المخلوعة والمتضرّرة من الثورة وحاولوا المرّة تلو أخرى الانقضاض على الحكم الجديد، سواءً بحركة العقيد عبد الوهاب الشواف أو بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد (رأس القرية) ببغداد وصولاً إلى  انقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963.
والشيوعيون ومن حولهم استقووا بالشارع وأصبحوا ينظرون للآخرين من خلال مواقعهم بغرور أحياناً وبعسف أحياناً أخرى، لاسيّما باختلال المعادلة بين قمة السلطة وقاعدتها، فعلى الرغم من تمثيل جميع القوى الوطنية بحكومة الجمهورية الأولى، إلاّ أن الحزب الشيوعي أستُثني منها، وهو الأطول عمراً، والأكثر تضحية والأصلب عوداً في محاربة النظام الملكي، لكن حصته من مناصب ما بعد الثورة كانت محدودة في السلطة، وإلى حين استيزار د. نزيهة الدليمي بعد احتدام الصراع مع القوميين والبعثيين، لم يكن أحد يمثّله في الوزارة، بما فيهم ابراهيم كبة أو غيره في حين كان حسين جميل وهديب الحاج حمود يمثّلان الحزب الوطني الديمقراطي وقبل ذلك محمد حديد، وكان محمد صدّيق شنشل يمثل حزب الاستقلال وكان فؤاد الركابي يمثل حزب البعث، أما الحزب الشيوعي فقد استبعد في بداية الأمر، ثم ضمّ لاحقاً.
جدير بالذكر أن مسألة الوحدة الفورية أم الاتحاد الفدرالي كانت قد واجهت ثورة 14 تموز ونالت من الجدل والصراع ما لم تنله مسألة أخرى، وقد تشبّث كل فريق بوجهة نظره وأحياناً ذهب بعيداً فيها، فالشيوعيون الذين لم يكونوا بعيدين عن موضوع الوحدة أو الاتحاد كما تبين وثائقهم راحوا يبالغون أحياناً في عرض مساوئ الوحدة، خصوصاً بتجربة الوحدة المصرية - السورية والموقف الرسمي من الحزب الشيوعي السوري الأمر الذي ساهم في التباعد مع الأطراف الوطنية العراقية، والبعثيون أنفسهم حين تشبثوا بالوحدة الفورية بالغوا فيها لدرجة ازدروا كل شكل من أشكال الاتحاد سواها، والهدف هو إحراج الشيوعيين وإظهارهم بمظهر أعداء الوحدة، علماً بأن الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان كان قد طرح موضوع الوحدة والاتحاد منذ العام 1931 ونادى مع الحزب الشيوعي الفلسطيني بـ"اتحاد عربي" وكانا يدعوان إلى وحدة طوعية وفدرالية تحفظ الاستقلال التام للدولة الوطنية ، بمعزل عن نفوذ الاستعمار.
وكان البيان الذي وزّعه فهد في الناصرية العام 1932 قد دعا إلى "اتحاد الجمهوريات العمّالية والفلاحية في البلدان العربية" وفي العام 1935 اتخذ كونفرنس الأحزاب الشيوعية العربية في المشرق قراراً في الدعوة للاتحاد العربي، ولهذا أقول بأن حماسة الشيوعيين للوحدة والاتحاد ليست أقل من القوى القومية ، لكنهم كانوا يراعون الفروق في تطور البلدان العربية وأنظمة الحكم والظروف الداخلية وغير ذلك، وهو ما كان قد تبنّاه الكونفرنس الثاني الذي جرت الإشارة إليه العام 1956 حين رفع شعار الوحدة العربية معتبراً الطريق إليها يقوم بزوال الاستعمار وتحقيق الاصلاحات الديمقراطية.
(انظر: عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ثلاثة أجزاء ، ج 2 ، دمشق، 2003، ص 333 وما بعدها. انظر كذلك: الحزب الشيوعي العراقي - خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي ، 1956، ص 53).
   تناقضات وأخطاء

وكانت مواقف الحزب الشيوعي متناقضة أحياناً، فبدلاً من يفكّر بالاستيلاء على السلطة استولى على الشارع وحاول احتكار العمل السياسي والنقابي تحت شعارات "لا حرية لأعداء الشعب"، و"لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية"، الأمر الذي جعله في تناقض آخر بينه وبين السلطة، متجهاً نحو اليسار إزاء الشارع، ومتوجهاً نحو اليمين إزاء الموقف من السلطة، باستعارة توصيفات الستينيات.
ومن جهة أخرى فقد جعلت تلك المواقف الحزب الشيوعي في تعارض مع غالبية قوى جبهة الاتحاد الوطني، وبالرغم من نفوذه الجماهيري الّا أن الشعور بالعزلة تسلّل إليه بالتدرّج إزاء علاقته بالقوى الوطنية الأخرى، بغض النظر عن مسؤولياتها هي أيضاً.
أعتقد، بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي للثورة وحرصها عليها، فإنها لم تكن على قدر من الوعي يؤهلها لرؤية متطلبات تطوير الثورة بالتعاون مع القوى الوطنية على برنامج حد أدنى، وعلى الرغم من اندفاعات القوى الأخرى وتكتّلها للإطاحة بحكم قاسم وفي فترة مبكرة زمنياً، لكن الممارسات السلبية للاستحواذ على الشارع وعزل الآخرين قادت إلى   أحادية ومحاولة تزعّم، بعد انفضاض جبهة الاتحاد الوطني، التي كان يمكن تجديد برنامجها بما يستوجب لمرحلة ما بعد الثورة، لكن جميع القوى لم تكن مدركة وواعية لما أقدمت عليه.
ومرّة أخرى أقول: إنه بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي ولاسيّما قيادة سلام عادل ونبله واستشهاده لاحقاً، فإن المرحلة السياسية وسياقها التاريخي، لم يؤهلاه ليتخذ مواقف أخرى، فذلك كان حدود مستوى التفكير السائد، فارتكب العديد من الأخطاء والممارسات السلبية وأعمال العنف والإرهاب، لاسيما ما حدث في الموصل وكركوك، وبقدر مسؤولية القوى الأخرى، كانت كبيرة جداً، إلاّ أنه لا ينبغي التقليل من المسؤولية التي تقع على الحكم والجماعات القريبة منه، لاسيّما الحزب الشيوعي، الذي كان عليه أن لا يلعب دور الشرطي لحكومة يمكنها أن تسائله على ارتكاباته حتى وإنْ سكتت عنها، ناهيك عن أن الارتكاب مدان بالأساس ومرفوض لإعتبارات سياسية وإنسانية وأخلاقية، وتحت أية مبررات، أوردت أمثلة كثيرة على ذلك في كتابي عن عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل"، لاسيّما بعض الحوادث التي يمكن الرجوع إليها.
كانت قيادة الحزب الشيوعي قبيل الثورة قد تمرّست في النضال والتضحيات في ظروف العمل السري، وحقّقت إنجازات مهمة منها توحيد الحزب العام 1956 وقيادة انتفاضة العام ذاته تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي، ثم تشكيل جبهة الاتحاد الوطني التي كان للحزب دوراً فعّالاً فيها العام 1957، كما تم الاتصال بمنظمة الضباط الأحرار، ومع قيادة الثورة تحديداً من قبل رشيد مطلك (الوسيط) بين الحزب وقاسم، وعقد اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، بعد رفض أحزاب الجبهة قبوله عضواً فيها بسبب مواقف بعضهم من القضية الكردية.
لكن العمل العلني فاجأ قيادة سلام عادل، التي اعتادت على العمل السري، ولم يكن لديها خبرة في شؤون الدولة والإدارة، ناهيك عن الأعداد الغفيرة التي انخرطت في صفوف الحزب، وأحدثت نوعاً من الإرباك لدى القيادة، التي تصرّفت بطريقة غير موحّدة، وببرنامج غير موحّد أيضاً، بل يمكن القول دون برنامج واضح ومحدّد، وتقاذفتها اتجاهات شتى، فمن جهة هناك تيار أقرب إلى  قاسم مثّله عامر عبدالله وما سمّي "كتلة الاربعة" لاحقاً التي ضمت زكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس الذي لم يكن فكرياً منسجماً مع الرفاق كما يقول آرا خاجادور في حواراتي المطوّلة معه، لكنه كان قد أبدى تحفّظات حول قيادة سلام عادل، وتيار آخر بقيادة الأمين العام سلام عادل وجمال الحيدري عضو المكتب السياسي والعدد الأكبر من اللجنة المركزية، الأمر الذي عطّل بعض قرارات اللجنة المركزية وأدخلها في صراعات جانبية كثيرة.
كان تشكيل قيادة الحزب ما بعد الثورة قد جاء من ثلاث روافد مهمة: الأول من السجون، حيث ضمّت سجناء قضوا سنوات طويلة في السجن مثل زكي خيري وعزيز الحاج وعزيز محمد وآرا خاجادور وهادي هاشم الأعظمي وبهاء الدين نوري وصادق الفلاحي وآخرين، والثاني من المنفيين الذين عادوا إلى  الوطن، مثل محمد حسين أبو العيس وعبد القادر اسماعيل وغيرهم، أما الثالث فمن المختفين عن الأنظار في "أوكار حزبية"، مثل سلام عادل وعامر عبدالله وناصر عبود وجمال الحيدري وآخرين، أي أن الجميع منقطع عن الحياة العامة، ولا علاقة له بتصريف شؤون الحكم أو الدولة، كما أن مستوى الثقافة كان متدنّياً إلى  حدود كبيرة، ناهيك عن نظرة ستالينية جامدة إلى  الحياة والمجتمع والتقدّم، كلّ ذلك أفرز تشدّداً وتطرّفاً مثلماً كان لدى القوى الأخرى، ولاسيّما من القوميين والبعثيين، بل أن الجميع شعروا أن المعركة هي معركة كسر عظم، وعليهم أن يتخلّصوا من الآخر قبل أن يتخلص منهم، أي أراد كل فريق أن يتغدّى بالفريق الأخر بدلاً من أن يتعشى به.
في هذه الأجواء لعب قاسم لعبته، فبعد تقريب الحزب الشيوعي واستثماره "ماشة نار" للقضاء على خصومه في الجيش، لاسيّما عبد السلام عارف، خصوصاً بحشوده المليونية وجماهيره الغفيرة وشعاراته الرنانة، لكنه استشعر الخوف وسعى لتحجيم دوره وإضعاف تأثيره منه لثلاثة أسباب:
السبب الأول هو تظاهرة الأول من أيار (مايو) 1959 والمطالبة: "الحزب الشيوعي بالحكم" للضغط على قاسم لتمثيل الحزب الشيوعي، ثم تنكّر واستنكر الحزب وقيادته بعد اجتماع موسع للّجنة المركزية هذه السياسة وشعاراتها. وقد رويت في مطالعتي عن آرا خاجادور ملابسات رفع شعار المطالبة بالحكم في المسيرة الشهيرة على الرغم من أن جريدة اتحاد الشعب كانت قد هيأت له منذ يوم 28 نيسان (إبريل)، ولكنه ظل شعاراً عاماً ولم تتخذ القيادة موقفاً موحداً بشأنه، بل أنها انساقت وراء الجماهير التي رفعته وبدلاً من توجيهها أصبحت تحت رحمتها (انظر : شعبان ، عبد الحسين - آرا خاجادور وزيارة التاريخ ، مقالة نشرت في صحيفة الزمان على ثلاث حلقات بين 28 و30/1/2016-  ورسالة مفتوحة إلى الراحل آرا خاجادور والمنشورة في صحيفة الزمان العراقية في 9/12/2017) .





317
سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول:
كلوا فالحزب يريدكم أقوياء
ح 2
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
من الخيار السلمي إلى الخيار العنفي
وبخصوص تغيير سياسة الحزب من الخيار السلمي إلى الخيار العنفي خلال بضعة أشهر لا تزيد على عدد أصابع اليد، سألتُ عامر عبد الله خلال مطارحتي معه في الثمانينات، إضافة إلى مقابلات عديدة معه نشرت بعضها وانتظر نشر بعضها الآخر أو ضمّه إلى الطبعة الجديدة من كتابي "عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل - فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، دار ميزوبوتيميا، بغداد ، 2013، عمّا إذا كان اختيار الأسلوب الكفاحي العنفي قد تمخّض عن مؤتمر أو كونفرنس ((Conference ، علماً بأن الكونفرنس الثاني الذي عُقد العام 1956 كان قد اتخذ قراراً بالخيار السلمي، فأجاب: كانت الأمور أقلّ تعقيداً والثقة عالية وظروف العمل السري لا تسمح كثيراً بعقد مؤتمر أو اجتماع موسع لأخذ رأي القيادات والكوادر، بل إنني كنت قد كتبت رأياً بهذا الخصوص وعرضته على سلام عادل، فأبدى تأييداً وحماسةً، واقترح أن يتم تعميمه، ليصبح هذا الرأي بمثابة رأي الحزب وتوجيهاً للرفاق، وقد سعينا إلى تثقيف كادر الحزب الأساس وملاكاته المهمة بضرورة الاستعداد لكل طارئ جديد.
وكانت انتفاضة تشرين الثاني(نوفمبر) من العام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر في 29 تشرين (اكتوبر) من العام ذاته ، التي شارك الحزب بقيادتها، بروفة جديدة لقياس استعداداتنا، لا سيّما الجماهيرية للنزول إلى الشوارع وقطع الطريق على القوى الرجعية فيما إذا تحرّك الجيش، وهو ما حصل يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958، حيث كانت الكتل البشرية الهائلة، صمام الأمان لانتصار الثورة، وكان الحزب قد أصدر تعميماً داخلياً لكوادره للاستعداد للطوارئ يوم 12 تموز (يوليو)، أي قبل يومين من اندلاع الثورة.
لقد ساهم الكونفرنس الثاني 1956 في استعادة هوّية الحزب بعد توحيده، وكان التقرير الذي كتبه عامر عبدالله وبتوجيه سلام عادل وإشرافه، قد عكس ذلك، خصوصاً وقد ترافق مع جو الحماس العروبي والانتعاش القومي التحرّري وتلك كانت وراء القراءة الجديدة والتصحيحية للكونفرس الثاني للحزب الشيوعي، "المخالفة" من حيث التوجّه لسياسة الحزب عشية إعدام فهد وما بعدها، فالأمر يعود إلى أن العالم العربي شهد كلّه والعراق بشكل خاص انتعاشاً وطنياً وعروبياً، وخصوصاً قبيل وبُعيد العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، بتأميم قناة السويس وانطلاق أصوات تدعو لتأميم النفط وإسقاط الأنظمة القائمة.
الحزب والهوّية العروبية
 والجدير بالذكر أن الكونفرس الثاني الذي سبق انتفاضة العام 1956 ببضعة أشهر، كان قد أكّد  على هوّية الحزب العراقية في إطار محيطه العربي " لتحرير أرض العروبة من الإستعمار والتخلّف..."
ويلاحظ هنا أيضاً اللغة الجديدة  المستخدمة في الكونفرنس ووثائقه وهي لغة مختلفة عمّا ساد من خطاب طيلة الفترة الممتدة من العام 1948 ولغاية الكونفرنس الثاني العام 1956 ابتداءً من عنوان التقرير ومروراً بالعديد من مفاصله الأساسية التي أكدت على "أمّة العرب" و"الوحدة القومية" و"الوحدة العربية" و"وحدة العرب" و"ركب العروبة" و"حركة التحرّر العربي"  و"خطر الصهيونية والاستعمار" واعتبار " إسرائيل" قاعدة للاستعمار، وإن الحل العادل والجذري يكمن بالقضاء على الاستعمار وحكم عملائه وصنيعته الصهيونية المجرمة...
   بالعودة إلى التقرير الذي صدر عن الكونفرنس فقد كان عنوانه هو " خطتنا السياسية في سبيل التحرّر الوطني والقومي" فقد وردت فيه  دعوة صريحة إلى "تحقيق أمّة العرب أجمع في الوحدة القومية"، استناداً إلى أن هذا العصر هو عصر الشعوب والانبعاث القومي للأمم المستعمَرة والمضطهَدة، من أجل حق تقرير المصير.
أما أهم النقاط التي يمكن إضاءتها وهي تعكس العقل الستراتيجي لعامر عبدالله وبتوجيه من سكرتير الحزب سلام عادل وإشرافه فهي:
1-   تأييد السياسة السوفييتية بشأن مبدأ التعايش السلمي بين الدول بغضّ النظر عن نظامها الاجتماعي، حيث اعتبر الكونفرنس الثاني المؤتمر العشرين  (للحزب الشيوعي السوفييتي) "حدثاً خطيراً" فتح أمام البشرية جمعاء آفاقاً رحبة، و"علّمنا درساً ثميناً في توحيد الحركة الشيوعية والحرص على وحدة حزبنا وتعزيز قوى السلم في بلدنا..."
2-   إدانة حلف بغداد باعتباره أداة لاستبعاد الشعوب وأن هدف الغرب هو استرقاق بلدان الشرق العربي وأن نضال شعوب الشرق ضد الكتل الاستعمارية، إنما هو نضال من سبيل الاستقلال الوطني داعياً إلى الانسحاب من ميثاق بغداد الاستعبادي العدواني.
3-   أكّد التقرير على الوحدة العربية حيث جاء فيه: " إن وحدة العرب أصبحت باهرة بعد أن أزيحت السياسات الخاطئة"،  مؤكداً على " ركب العروبة الزاخر بالحيوية" معتبراً الحركة القومية العربية حركة تقدمية ديمقراطية بمحتواها وشكلها وإن الطريق إلى الوحدة التامة (المقصود الوحدة الشاملة) ينفتح على أساس زوال الاستعمار عن العالم العربي وتحقيق الإصلاحات الديمقراطية.
وفي ذلك نقد ذاتي واعتراف صريح بضرورة تصحيح مسار الحزب ومواقفه بشأن بعض الاتجاهات الانعزالية وضيقة الأفق والموقف الخاطئ من قيام "إسرائيل"، والشعارات والتكتيكات السلبية والضارة التي اتّخذها الحزب خلال تلك الفترة. وهو ما نشرته صحيفة "اتحاد الشعب" في أواسط تشرين الأول (اكتوبر) العام 1956.
4-   أكّد على ضرورة قيام الجهة الوطنية الموحّدة، باعتبارها سلاحاً في معركة التحرّر الوطني، وهي حقيقة قائمة تنشأ وتنمو وتتعزّز في نار المعارك الوطنية.
ولأول مرّة وبهذا الوضوح خاطب تقرير شيوعي رسمي "جماهير الضباط والجنود" كما دعا إلى اتحاد قوى الشعب،  مذكّراً بالشخصيات الوطنية مثل: شعلان أبو الجون ( أحد قادة ثورة العشرين) والزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد (الذي قاد ثورة العام 1919 في السليمانية) ومحمد جعفر أبو التمن الزعيم الوطني العراقي وحسن الأخرس وعبد المجيد كنّه من الشخصيات الوسطية العراقية ومصطفى خوشناو العسكري الكردي الذي أعدم في أواسط الأربعينيات.
5-   شدّد النقد ضد شركات النفط التي تنهب ثروة العراق.
6-   حيّا تأميم قناة السويس وانتقد حكومة نوري السعيد ومؤامراتها "السافلة" في الظلام لكسر عضد نصر القومية.
7-    شدّد الحزب في تقريره على: خطر الصهيونية والإستعمار وبعض العناصر المشبوهة.
وفي إطار نقد ذاتي جريء حذّر من " تسرّب المفاهيم الخاطئة إلى ملاكات الحزب بعد حرب عام 1948"  وذلك في إطار مراجعة أولية لم تستمر للأسف بشأن الموقف من الصهيونية و"إسرائيل". واعتبر "إسرائيل" قاعدة الإستعمار وأن الحل العادل والجذري يكمن "بالقضاء على الإستعمار وحكم عملائه وصنيعته الصهيونية المجرمة".
ولعلّ في ذلك ردًّا غير مباشر على الأطروحات الصادمة للمزاج الشعبي التي كتبها زكي خيري من السجن في مناقشة لعزيز شريف بخصوص القضية الفلسطينية وكان شريف قد انتقد مواقف الحزب والاعتراف بقرار التقسيم ونشر في جريدة الوطن التي كان يصدرها في حينها، وقد كان ردّ زكي خيري عليه بتبرير كون  " اليهود أمّة" ولهم " الحق في تقرير المصير" وأن إسرائيل " دولة ديمقراطية" مقارنة بالبلدان العربية الرجعية، لأن فيها حزباً شيوعياً علنياً ونقابات مرخّص بها.

8-   شدّد على المهمات العاجلة التي تتلخّص في تحويل السياسة القائمة من سياسة تعاون مع الاستعمار وتوافق مع الصهيونية وانعزال عن حركة التحرّر العربي إلى سياسة مستقلة، مؤكداً على التضامن العربي.
9-   وعند حديثه عن الحركة التحرّرية العربية ربطها التقرير بالمسألة القومية الكردية بالقول: هاتان الحركتان التقدميتان ضد الاستعمار وأحلافه تتضافران في سبيل التحرّر الوطني والقومي " وليس ثمة طريق في الظرف الراهن سوى طريق الكفاح مع الحركة التحرّرية العربية الصاعدة، في سبيل التحرّر الوطني والقومي لجماهير الشعب العراقي، في سبيل الوحدة العربية وتأمين الاستقلال الذاتي لكردستان العراق وفق اتحاد اختياري كفاحي أخوي يفتح أمام الشعب الكردي طريق التحرر الشامل والوحدة القومية للأمة الكردية".
 وأكّد التقرير على أن الشعب الكردي في العراق هو جزء لا يتجزأ من الأمة الكردية في جميع أجزاء كردستان التي مزّقها الاستعمار.
ودعا التقرير إلى الاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير وبمشروعية كفاح الشعبين العربي والكردي إلى التحرّر والوحدة القوميّة، مؤكداً الأخوة العربية- الكردية.
 وكان الحزب الشيوعي قد تبنّى موقفاً متقدماً بشأن المسألة الكردية، حين دعا منذ العام 1935 إلى مبدأ حق تقرير المصير، واعتمد قاعدة الاستقلال الذاتي لكردستان العراق في العام 1956 في كونفرنسه الثاني، تجسيداً لذلك المبدأ في الواقع العملي، داعياً إلى وحدة الأكراد القومية، مثل دعوته إلى الوحدة العربية، في إطار التحالف بين الحركتين التحرريتين العربية والكردية.
جدير بالذكر أن ناصر عبود عضو المكتب السياسي في حينها يستبعد الدور المنسوب لعامر عبدالله في كتابة تقرير الكونفرنس الثاني لأنه حسبما يقول: لم يكن لا جمال الحيدري ولا عامر عبدالله في عداد اللجنة المركزية آنذاك، بل هما شاركا في الكونفرنس  الذي انتخبهم من بين الحاضرين ليكونا عضوين في اللجنة المركزية. ولا شكّ أن سلام عادل كان له الدور البارز في الإعداد، سواء للكونفرنس الثاني أم للتقرير الذي سيقدّم فيه، لكن ذلك لا يمنع من أن يكون سلام عادل قد استعان بعامر عبدالله في كتابة التقرير، وهو ما كنتُ قد أشرت إليه في كتابي عن عامر عبدالله وفي مطالعاتي عنه.
ردود أفعال واختلالات
أعتقد أن لجان التثقيف الحزبي لم تضع يوماً في جدول عملها قراءة وثائق الكونفرنس الثاني، لا سيّما بعد محاولات "ازدراء" العروبة أو تبشيعها أو حتى "تنغيلها"، لدرجة أنها أصبحت كلمة "منبوذة" أو "مرذولة"، بل أن بعضهم حاول أن ينسبها إلى الأنظمة التسلطية التي حكمت العراق، ولاسيّما بعد انقلاب العام 1963، بل وإلى  صدام حسين وحزب البعث في ممارساتهم القمعية ضد الآخرين دون أن يدرك خطر ذلك على هوّية الحزب الوطنية والقومية، في حين أن التقرير الذي صدر العام 1956 يختلف في لغته وأفقه عن التوجهات اللاحقة، ولاسيّما في ظروف الصراع ما بعد ثورة تموز/يوليو 1958.
وقد دفعت في إطار المنافسة الضيقة الشيوعية- القومية وبعض ردود الفعل السلبية إزاء قيادة جمال عبد الناصر وتحالفاته مع القوى القومية واضطهاده لليسار المصري والسوري خلال فترة الوحدة المصرية- السورية وتحالفاته مع القوى القومية ضد حكم عبد الكريم قاسم، إلى أن تسود في صفوفنا وجهات نظر خاطئة إزاء "الفكرة القومية" التي نظرنا إليها بمنظار أوروبي، في حين إن تقرير الكونفرنس الثاني الذي كتب بتوجيه وإشراف من سلام عادل وبدور مميز لعامر عبدالله وصيغ بلغة متينة وبأسلوب رشيق، كان لديه تصوراً آخر حين تحدث عن العروبة والوحدة العربية، وهو تقرير مؤيد من أعضاء الكونفرنس جميعهم، بل وكان الحزب عموماً آنذاك  قد تبنّاها!.
وبتقديري أن العودة إلى قراءة هذه الوثائق بروح نقدية منفتحة سيسهم في التعريف بجزء مهم من تاريخ الحزب من جهة، وبمنهج جديد كان قد اعتمده وكان هذا المنهج يحتاج إلى تعميقه وتطويره من جهة ثانية، خصوصاً وأن أعداء الشيوعية حاولوا استغلال بعض الثغرات المفارقة لهذا التوجه لتشويه سمعة الحزب وإظهاره بمظهر المعادي للعروبة، ولعبت بعض التوجهات الضيقة الأفق دوراً في ذلك، سواء كانت باسم "الأممية" أو من انحدارات غير عربية دوراً في ذلك، لاسيّما بالضد من التوجهات الخاطئة لبعض الجماعات السياسية باسم "القومية" أو "العروبة" التي اتبعت في إطار منهج متعصب وشوفيني، وخصوصاً من المسألة الكردية.
وكنت قد اقترحت على لجنة العمل الآيديولوجي المركزي التي كنت عضواً فيها وكان سكرتيرها كريم أحمد الداوود عضو المكتب السياسي وضمّت عضويتها مهدي عبد الكريم عضو اللجنة المركزية وأبو سمير الذي استشهد في  بشتاشان"، أن تدرج وثائق الكونفرنس الثاني ضمن البرنامج التثقيفي لعموم هيئات الحزب، لكنه لم يتسنَ لنا الحصول عليها، وأبدى مهدي عبد الكريم (أبو كسرى) ملاحظة من احتمال التوسّع بمطالبتنا بوضع وثائق المؤتمرات الثلاثة للحزب بما فيها المؤتمر الثالث المؤيد للجبهة الوطنية مع حزب البعث ضمن البرنامج، الأمر الذي قد يثير بعض الإشكالات التي نحن في غنىً عنها.
وقد تمّت الموافقة على اقتراحي بإعادة طبع كرّاس" ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية" الذي صدر في العام 1957  ردّاً على بعض التيارات القومية الإنعزالية  في إقليم كردستان داخل الحزب الشيوعي . وكانت لجنة العمل الآيديولوجي المركزي تشرف على إصدار نشرة " مناضل الحزب" وهي نشرة داخلية صدر منها أربعة أعداد في حينها (1982-1983)، إضافة إلى إعدادها للبرنامج التثقيفي لعموم ملاكات الحزب.
نوادر سلام عادل
وعن بعض نوادر سلام عادل وشخصيته المرحة يروي عامر عبد الله عن قدرته في التعامل مع المتغيّرات: فيقول كنّا في دمشق قبل ثورة تموز (يوليو) العام 1958، وقد ذهبنا لتناول العشاء، في مطعم في شارع بغداد مبتهجين بحريّتنا وكأننا حمامتين انطلقتا من القفص لتوّهما، ويومها كان سلام عادل منشرحاً بعد أخبار سارة عن علاقات الضباط الأحرار والتئام الحزب وتوسّع نشاطه تحضيراً للثورة المنشودة، لا سيّما بوعود عربية واشتراكية بدعمها عند قيامها بعد جهود مضنية وشروحات مطوّلة قُدِّمت للأصدقاء والأشقاء، فاعتدل في جلسته ونادى على النادل ونقّده (أي منحه)" ليرة" سورية قائلاً" جيب أي (إجلب) لنا إضافي لما يريده الشباب، ونظر إلى عامر عبد الله  قائلا: أبو عبد الله  أكو فلوس (أي يوجد لدينا نقود).. نحن "زناكين" (أي أغنياء) وهي لفتة يحبّها عامر عبد الله ، وكان يقوم بتمثيلها كثيراً، خصوصاً وأن لقاءه مع أبو إيمان (حسين أحمد الرضي- سلام عادل، أمين عام الحزب آنذاك) كان حرّاً وبدون عوائق، سواء في دمشق أو في موسكو، في حين كان يلتقيه في بغداد متخفّياً لابساً العقال والكوفية أو متنكّراً بزي آخر أو في أحد البيوت الحزبية، ويتحدّثان بهمس في ظروف العمل السري والملاحقة.
ويذكر عامر عبد الله  أنه في أحد أيام عيد الحزب أو احتفاءً بإحدى مناسباته، أولمت السيدة ثمينة ناجي يوسف (زوجة سلام عادل) طعاماً إضافياً وبنوعيات أفضل، وأنها حضّرت لهم "طبقاً من الدولمة" ودجاجاً وما شابه، الأمر الذي يُعتبر بذخاً في تلك الأيام العصيبة وظروف الحزب المالية القاسية (العام 1956 أو ما بعده) وخاطب سلام عادل عامر عبد الله  والآخرين: كُلوا فالحزب يريدكم أقوياء!!
سلام عادل في ليلة الثورة
   في مطالعتي عن وميض عمر نظمي الموسومة " وميض عمر نظمي - حالم قتلته النزاهة" (انظر: جريدة الزمان   في 23 و24 و26/10/2016)  رويت تفاصيل كيف قضى سلام عادل ليلته عشيّة الثورة، وكنت قد أوردت بعض التفاصيل التي نقلها لي عامر عبدالله، ولكنني سمعت رواية أخرى نقلها لي ابراهيم الحريري، وعاد ودوّنها في خاطراته المثيرة.
   وتنصبُّ رواية الحريري التي سمعها من مهدي أحمد الرضي الموسوي شقيق سلام عادل نقلاً عن كمال عمر نظمي، الذي كان سجيناً معه في سجن " نقرة السلمان" بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، أن سلام عادل جاء إلى بيت كمال نظمي مساء يوم 13 تموز/يوليو/1958 دون موعد مسبق، وطرق الباب وفتح له نظمي وبعد السلام والسؤال عن الأخبار والأحوال سأل سلام عادل ، نظمي : هل يوجد بانزين كاف في سيارتك؟ فأجابه نظمي نعم، ثم طلب منه اصطحابه في جولة بشوارع بغداد في الهزيع الأخير من ليلة 14 تموز/يوليو 1958، فانطلقت السيارة لتمرّ من أمام وزارة الدفاع وتوجّهت بعد ذلك إلى منطقة الصالحية، حيث محطة الإذاعة والتلفزيون، ثم المرور أمام منزل نوري السعيد في كرادة مريم وكانت الأنوار مطفأة، عدا مصباح واحد أو اثنين فوق الباب الخارجية، التي يوجد أمامها شرطي يغالبه النعاس.
    أراد سلام عادل أن يستكشف بنفسه الترتيبات الأخيرة قبيل ساعة التنفيذ وليتأكد أن الأمور سائرة كما هو مخطط لها ولا شيء يوحي بحركة غير اعتيادية، وفي طريق العودة مرّ أمام وزارة الدفاع أيضاً، وحين وصلا إلى المنزل حاول سلام عادل النوم، ولكنه لم يستطع وظلّ يصعد وينزل ويتحرّك طيلة الليل وحتى الصباح، وحين فتح الراديو عرف أن الثورة انطلقت بتحرّك الجيش .
   أما رواية عامر عبدالله فتقول إن سلام عادل وجمال الحيدري باتا ليلة 13 و14 تموز/يوليو/ 1958  في منزل ناظم الطبقجلي في منطقة الصليخ وعلى سطح الدار بانتظار الإعلان عن الثورة وكنتُ قد حاورت عامر عبدالله مشكّكاً تصديقي للرواية التي تقول أن الطبقجلي كان صديقاً للحزب كما كان يؤكد عامر عبدالله، فعاد وكرّر  على مسامعي نعم ودليله أن سلام عادل وجمال الحيدري باتا عنده ليلة الثورة.
   قد يكون عامر عبدالله قصد إنهما كانا عنده ليلة الثورة ولكن هل استمرّا حتى الصباح أم إن سلام عادل غادر المنزل حين خيّم الظلام ليتوجّه إلى منزل كمال نظمي (المقصود ليلة 14 /تموز). ويقول كمال نظمي في حديثه مع شقيق سلام عادل إنه وسلام عادل توجها إلى دائرة البريد لإرسال برقية إلى مجلس السيادة ورئاسة مجلس الوزراء الذي أُعلن عنهما تأييداً للثورة باسم الحزب الشيوعي  وكان عامل البريد قد تردّد وقتها وخشي أن يكون في الأمر ثمة مساءلة، لكنه استلم البرقية منهما.
   قد لا تتعارض الرواية الأولى مع الرواية الثانية، فقد يكون سلام عادل قضى جزءًا من الليل في بيت الطبقجلي وبصحبة جمال الحيدري أو أنهما كانا في ليلة 13 في منزل الطبقجلي ثم افترقا ليلة 14 أو أنهما كانا سويّة ليلة 14، وبعدها افترقا وقضى سلام عادل الجزء الأخير من تلك الليلة في منزل كمال عمر نظمي بعد أن ترك بيت الطبقجلي (انظر: عامر عبدالله - النار ومرارة الأمل، مصدر سابق)
   وكما أشرنا فقد كان أول عمل قام به سلام عادل صبيحة الثورة هو إرسال برقية تهنئة إلى قيادة الثورة وتقول ثمينة ناجي يوسف إن سلام عادل بعد أن سمع البيان الأول، ارتدى بدلته لأول مرّة بعد أن ظلّ يلبس الملابس العربية الشعبية (العباءة والدشداشة والكوفية والعقال) واصطحب معه الكادر الشيوعي دلّي مريوش (ولم تقل أن كمال مظمي كان معهما) واتجه صوب بريد الأعظمية ليرسل من هناك البرقية: وكان نصّها :
   بغداد - مجلس السيادة للجمهورية العراقية
   رئيس مجلس الوزراء السيد عبدالكريم قاسم

   نهنئكم من صميم قلوبنا على خطواتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد النبيل على يد الاستعمار وأعوان الاستعمار.
   إننا نعبّر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطوّر عراقنا الحبيب، وتبوؤ شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحرّرة الناهضة المحبّة للسلام، وموكب الإنسانية العاملة من أجل تحررها وإلى الأبد من أنيار الاضطهاد والاستعمار.
   إن شعبنا العراقي، بعربه وأكراده، سيسجّل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية. وإنه لعلى ثقة كبرى من قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة القوى التحرّرية العربية في جميع ديارها وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة، ومن قوى الحرية والسلام في جميع أنحاء العالم وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي.
   وإن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي تضع قوى الحزب إلى جانب مؤازرتكم وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
14 تموز/يوليو/ 1958
(انظر: ثمينة ناجي يوسف- سلام عادل، سيرة مناضل، مصدر سابق، ص 224.)
(وقارن: عزيز سباهي- عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ثلاث أجزاء، ج 2، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق ، 2003، ص 277-278)








318
سلام عادل ..
الدال والمدلول وما يمكث وما يزول: ح 1

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


   مدخل شخصي

   حين أكتب عن سلام عادل فثمة اعتبارات شخصية وعائلية، إضافة إلى علاقات شيوعية وسياسية، فكلانا ينتمي إلى النجف المدينة المعطاء والمركز الحضاري الثقافي المفتوح للعلم والأدب والفقه والدين والسياسة والتنوّع العرقي واللغوي على الرغم من طابعها العروبي وحفاظها على لغتها العربية السليمة.
   وكان عمّي ضياء شعبان صديقاً لسلام عادل ويفتخر بصداقته، خصوصاً وأنه يعتبر نفسه من "أنصار السلام" لأنه وقّع على نداء ستوكهولم الشهير الذي استهلّه عالم الفيزياء الفرنسي فريدريك جوليو كوري في العام 1950 والذي وقّع عليه ما يزيد عن 273 مليون إنسان، والذي دعا إلى حظر الأسلحة الذرية.
   وبعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وظهور سلام عادل إلى العلن، كان عمّي ضياء غالباً  ما يحاول استثارة حفيظتنا بقوله :" إنني صديق سكرتير حزبكم" وأحياناً يمازحنا بقوله أنه سيشتكينا عمّي شوقي وأنا إلى " أبو إيمان" إذا تأخّرنا في تلبية طلباته أو قصّرنا في تأدية واجباتنا المدرسية.
    وكنّا أيضاً نعرف والد سلام عادل  السيد أحمد الرضي، كما كان نجيب ناجي يوسف  شقيق زوجته "ثمينة" صديقاً مقرّباً جداً لخالي ناصر شعبان، إضافة إلى العلاقات العائلية ومعرفتي اللاحقة بشقيقه إبراهيم وبالدكتورة إيمان كريمة سلام عادل  التي عرفتها في موسكو أواسط السبعينات والتقيتها في دمشق وكردستان حين التحقت لفترة وجيزة بقوات الأنصار الشيوعية في مطلع الثمانينات ، وأم إيمان "ثمينة ناجي يوسف" التي التقيتها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في موسكو وأعتزّ بها وبشقيقتها نوال ناجي يوسف وشقيقها الصديق نزار ناجي يوسف الذي استشهد في العام 1983 في كردستان في معارك جانبية مع الاتحاد الوطني الكردستاني بعد جريمة بشتاشان.
   لهذه الأسباب وغيرها فإن الكتابة عن سلام عادل ليست سهلة، خصوصاً  حين يختلط العام بالخاص والوطني بالسياسي والحزبي بالمبدئي، لاسيّما وأن وقصة استشهاده وحدها والبطولة التي أبداها في مواجهة جلّاديه حسبما اعترفوا بذلك  تكفي لأن تجعل منه رمزاً كبيراً على مختلف المستويات، سواء في شجاعته وكبريائه أو دفاعه عن المثل والقيم التي آمن بها لدرجة أنه دفع حياته في سبيلها وقد رحل وهو لا يزال في أوج طاقته وحيويته وإبداعه حيث لم يتجاوز الأربعين إلّا ببضعة أشهر.

   وإذا كان الحزب قد خسر في العام 1949 قيادة فهد فإنه نُكب بغياب قيادة سلام عادل في العام 1963، وكلاهما كانا مشروعي زعامة شيوعية ، بل ويمكن القول زعامة وطنية عراقية، لكن النظام الملكي ومن خلفه الاستعمار البريطاني حصد زعامة فهد وهي في طريقها للاكتمال والتفتّح، مثلما اقتطعت الموجة الفاشية زعامة سلام عادل الشابة وهي في طريقها إلى النضج والاغتناء، وهما قيادتان من الوزن الثقيل سياسياً وعملياً وتنظيمياً، وهو الأمر الذي عانى منه الحزب في السنوات التي تلت استشهادهما، خصوصاً وأن غالبية من تولّى موقع القيادة والمسؤولية بعد سلام عادل كان أقرب إلى الإدارات الحزبية والمسؤولين التنفيذيين باستثناءات محدودة  كعامر عبدالله مثلاً، على الرغم من أن ذلك يثير ردود فعل الآخرين من أقرانه ومجايليه مع إقرارهم بمواهبه ومؤهلاته .

   القائد لا يصنع  بقرار ولا يتكوّن بناء لرغبة أو لإملاء فراغ أو استناداً لقرار حزبي أو سياسي، وإنما تُنجبه ظروف وأوضاع، بعضها موضوعي وآخر ذاتي، وهذا مهمّ جداً لجهة كارزميته وتجاربه ومعارفه والأدوار التي لعبها في حياته والخبرات التي اكتسبها وعلاقاته مع الآخرين وقدرته على التميّز، سواء برأي مستقل أو من خلال موقعه، ناهيك عن قدرته على التراجع والتقدّم حسبما يتطلّبه الموقف الذي يجمع بين المبدئية وبين إمكانية تحقيق الأهداف بمرونة عالية، أي حسن اتخاذه القرار وتنفيذه، وتحمّل نتائجه حتى لو كان خاطئاً، ومن متطلّبات القيادة الحسم وعدم التردّد.

   على طريق الشيوعية

   ولد سلام عادل في النجف العام 1922 وهناك من يقول إنه ولد في العام 1924 وهو ما نشرته جريدة البرافدا إثر استشهاده واسمه الحقيقي "حسين أحمد الرضي الموسوي" ووالده "سيّد" معمّم يعتمر العمامة السوداء في إطار الحوزة الدينية النجفية، تخرج من دار المعلمين الابتدائية في بغداد (الأعظمية) العام 1944 وعمل معلّماً في الديوانية وكان رياضياً ورساماً ومخرجاً مسرحياً ومتذوقاً للشعر، وخلال وجوده في دار المعلمين اقترب من تنظيمات الحزب الشيوعي ثم انتمى إلى الحزب في العام 1944 على يد محمد حسين فرج الله في الديوانية، والتقى بـ زكي بسيم في بغداد، الذي اصطحبه إلى أحد البيوت السرية في الكرادة الشرقية، وهناك التقى بفهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الذي أبلغه بأنه أصبح "عضواً" في الحزب وكان قد تم اختيار "مختار" اسماً حركياً له، ثم عُرف لاحقاً باسم "عمّار" وما بينهما هناك من يقول أنه استخدم اسم " هاشم" بعد عودته من لندن، حيث شارك في مؤتمر للأحزاب الشيوعية لدول الكومنولث العام 1954، ودخل لندن وخرج منها دون أن يُكتشف أمره، ولكن الاسم الذي اشتهر به وظلّ ملازماً له حتى استشهاده هو"سلام عادل".

   وصادف أن كان بهجت العطيّة في العام 1946  قد أصبح مديراً لشرطة الديوانية حيث وضع خطة لمضايقة الشيوعيين وكان قد عرف النشطاء منهم بعد مراقبة دقيقة، وربّما هي التي أهّلته لكي يحتل موقع مدير التحقيقات الجنائية لاحقاً، بل أصبح أحد الأعمدة المهمّة للعهد الملكي، وكان العطية قد أرسل في طلب سلام عادل  وجرى بينهما حوار كانت نتيجته فصل سلام عادل من وظيفته.

   حوار سلام عادل مع بهجت العطية

   تروي ثمينة ناجي يوسف التي أصبحت لاحقاً زوجة لسلام عادل وأنجبت منه إيمان وعلي وشذى، أن بهجت العطية قال له : إن أمر فصلك وصل إليّ وهو الآن معي وبإمكاني إيقاف تنفيذه، وحاول توجيه النصح له بترك الشيوعية قائلاً  : لو كنت أنت وجماعتك من الـ"فابيين" أو "الاشتراكيين الديمقراطيين" لأمكن التساهل معكم ، لكنكم شيوعيون وأنتم مشكلة مثل "جرثومة السلّ" تتكاثر بالانقسام وليست هناك وسيلة لمقاومتكم غير القوة ، وطلب منه بنبرة لا تخلو من تهديد ، تخفيف حماسه واندفاعه مخاطباً إياه : إنك تحطّم نفسك نتيجة هذا الاندفاع.
   فماذا كان جواب سلام عادل؟ فبدلاً من أن يرد على أسئلته ومطالبه بادر هو بتوجيه  السؤال لبهجت العطية مخاطباً إياه: كيف يمكن أن نُصلح الوضع؟ فأجابه العطية: ليس أنتم بيدكم إصلاح الوضع ، واستمرّ بسياسة الإقناع والتهديد (العصا والجزرة) قائلاً: عليك أن تختار وأنت شاب ذكي بحيث تخط لنفسك طريقاً جيداً ومريحاً، وفهم سلام عادل مثل هذا القول المبطّن فردّ عليه بالقول: هل تريد أن تشتريني وتساومني على شرفي وأصبح جاسوساً؟ فأجابه العطية : أنت لم تفهمني، الأمر ليس كذلك، ثم خاطب سلام عادل قائلاً ماذا لو جاء قرار فصلك من الوظيفة ؟ كيف يمكنك العيش؟
   هنا تغيّر منطق الحوار بالنسبة لسلام عادل الذي استشاط غضباً وقال له: تسألني  ماذا أعمل؟  وأنا أجيبك: لدي يدان وتقول لي ماذا أعمل؟ أبيع لبناً على الجسر، سخر بهجت العطية وردّ عليه: نعم " بلي" كم من المعلّمين رأيناهم يبيعون اللبن على الجسر؟ وأضاف تذكّر يا حسين بعد أن تذوق الجوع أني حاولت أن أجنّبك نتائج هذا الطريق ، فأجابه سلام عادل : أنت لا تحميني، بل تريد أنت أن تدافع عن معاهدة 1930 وعن الاستعمار ، فردّ بهجت العطية على سلام عادل بغضب: أنت مفصول، (انتهى الحوار).
   وكانت حملة الفصل قد بلغت نحو 100 معلم ، هذا ما قاله سلام عادل لفهد الذي طلب منه الاحتراف الحزبي براتب 6 دنانير ، لكن سلام عادل كان له رأي آخر عبّر عنه للسكرتير العام بالتالي: لقد قلت لبهجت العطية بأنني سأبيع لبناً على الجسر وأريد أن أقدم نموذجاً للمعلمين المفصولين. وهكذا اختار عمله، فاشترى منقلة وفحماً وأسياخاً وبدأ ببيع الأكباد والقلوب (الفشافيش) على قارعة الطريق في منطقة "علاوي الحلة" بالقرب من "سينما الأرضروملي" أو "سينما قدري" كما كانت تُعرف أو "سينما بغداد" لاحقاً، وكاراج السيارات المزدحم بالسوّاق وكان ذلك بصحبة رفيقه محمد حسين فرج الله الذي كان هو الآخر مفصولاً، ثم عمل في عدة أماكن منها أنه فتح دكاناً لبيع الكبة لتحضير وجبات الإفطار والطعام للعمال في ساحة الوصي ( ساحة الوثبة لاحقا قرب سينما الفردوس) ثم عمل مفتشاً لباصات مصلحة نقل الركاب وهناك قاد إضراباً للعاملين وحينها قررت الحكومة فصله مرّة أخرى.
   بعدها عمل معلماً في مدرسة أهلية  للأكراد الفيلية بتوصية من ناجي يوسف وبدعم من الحاج علي حيدر والد عزيز الحاج ، كما عمل في المدرسة التطبيقية النموذجية (دار المعلمين الريفية) وكان مبنى هذه المدرسة في الرستمية بصحبة محمد شرارة ومهدي المخزومي ومدحت عبدالله، وخلال تلك الفترة كانت قد نشأت له علاقات مع بدر شاكر السياب  وكاظم السماوي ونازك الملائكة وكان يلتقيهم في بيت محمد شرارة ولكنه فُصل من التعليم مرة ثانية في نهاية العام 1948، وكما تقول ثمينة ناجي يوسف بأن سلام عادل تعرّف في تلك الفترة على حسين مروّة الذي كان صديقاً مقرّباً لوالدها.

   ثم أُلقي القبض عليه في 19 كانون الثاني (يناير) العام 1949 وحكم لمدة ثلاث سنوات وسنتين تحت الإقامة الجبرية، وانتهت محكوميته بداية العام 1953  وقد نقل إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي ثم إلى الموقف العام في بغداد، وكان من المفترض أن يقضي مدة الإقامة الجبرية في مدينة الرمادي، ولكنه هرب منها في اليوم الثاني لوصوله.

   انتدبه الحزب ليكون مسؤولاً عن المنطقة الجنوبية وهي تضم الناصرية والعمارة والبصرة التي كان مقرّه فيها، كما يقول كريم أحمد الداوود الذي تسلّم مسؤولية القيادة في نيسان (إبريل) العام 1953 بعد اعتقال المسؤول الأول بهاء الدين نوري (في محلة السفينة بالأعظمية مع مادلين مير زوجته وصادق جعفر الفلاحي) وذلك بعد التشاور بينه وبين ناصر عبود (المسؤول الثاني) وارتقى بعدها لعضوية اللجنة المركزية.

   زواج سلام عادل

   تزوّج سلام عادل من ثمينة ناجي يوسف التي ارتبط مع عائلتها، وخصوصاً والدها بعلاقة طيبة حميمة، وكان ناجي يوسف (الطالقاني ) شخصية وطنية وتربوية وأصبح نقيباً للمحامين في الستينات وكان يعرف نشاط سلام عادل ويتعاطف معه ولكنه في الوقت نفسه حاول أن ينبّهه للمخاطر التي تهدّده.

   وكان سلام عادل قد خطب ثمينة قبل دخوله السجن حتى أنه حين ألقي عليه القبض ودخل السجن كان خاتم الخطوبة بإصبعه، وبعد خروجه منه ارتبط بها رسمياً في حزيران (يونيو) العام 1953 وبعدها بثلاثة أيام سافر إلى البصرة مقر علمه ، علماً بأن مقتضيات السكن في بيت حزبي تقتضي وجود عائلة دفعاً للشبهات، وكانت ثمينة قد أصبحت عضواً في الحزب منذ العام 1949، وقد تأثرّت بسلام عادل منذ أن تعرّفت عليه في الديوانية، عندما كان  معلماً خاصاً لها بتكليف من والدها، وقد وافقت على الزواج منه، وتمت إجراءات الزواج الأصولية المدنية وطبقا للتقاليد الدينية المعروفة، وسافرت مع زوجها سلام عادل إلى البصرة.

   وعن زواج سلام عادل واقترانه بثمينة تقول السيدة نوّار سعد صالح أن " خاله أم نجيب" عقيلة ناجي يوسف ووالدة ثمينة اتصلت بهم ودعتهم بإلحاح إلى زيارتها في موعد محدد "دون أن نعرف السبب وذهبنا إلى بيتهم أنا ووالدتي وكنت طفلة حينها في الصف الخامس ابتدائي، وعند وصولنا عرفنا أن المناسبة هي عقد قران ثمينة على سلام عادل (حسين أحمد الرضي) وكما عرفنا فإن الموضوع كان في غاية السرية وأنه كان سجيناً وهو لا يزال مطلوباً، لكن "خاله أم نجيب" اعتزازاً بنا أصرّت على حضورنا ومشاركتها الحفل الذي لم يضمّ سوانا، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي رأيت فيها سلام عادل بملامحه الذكية الحادة" ( حوار خاص مع الباحث في براغ 8 كانون الأول/ديسمبر 1989 ولندن 1992 وعمان 2004- انظر كتابنا : سعد صالح: الضوء والظلّ - الوسطية والفرصة الضائعة، الدار العربية للعلوم، بيروت ، 2009، ص 146).

   وكنت قد وجّهت أسئلة إلى المحامي لؤي سعد صالح كما التقيته في عمّان العام 2007 في جلسات مطولة ودوّنت فيها بعض إجاباته واستكملتها من خلال مسوّدة مذكراته التي لم تنشر، حيث اقتبست منها بعض الفقرات التي أدرجتها في كتابي المذكور، ومن جملة ما يذكره لؤي سعد صالح أن والده كان يقيم كل يوم أربعاء منتدى أدبياً يعرف باسم "مجلس الأربعاء" يتم فيه استقبال عدد من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين وغالبيتهم الساحقة من الرجال، لكن الملفت أن امرأتين كانتا تحضران المجلس وكان والدي يحترم المرأة ويحب كثيراً مناقشتها وكانت ثمينة ناجي يوسف على صغر سنّها تناقش الوالد وتحاوره، وكما كنت ألاحظ ، فقد كان والدي معجباً بمنطقها وشخصيتها، وكذلك كانت الدكتورة فاطمة الخرسان (أعدمت العام 1969) تحضر مجلس الوالد وكان يجلس معها طويلا ًويحاورها في مسائل شتى .

   وتذكر نوار سعد صالح أن ناجي يوسف وزوجته كانوا الأقرب إلى والدها ووالدتها، وتقول: وكانت الزيارات مستمرة بين العائلتين واستمرت العلاقة حتى بعد وفاة والدي، ومن المفارقة أننا عرفنا بإعدام سلام عادل العام 1963، وذلك عبر الخالة أم نجيب وقد حدثتنا عن تعذيبه وإعدامه وعن مراسلاتها السرية مع ثمينة حين كانت في موسكو. وتذكر أن إيمان الابنة البكر لسلام عادل "وهي طفلة" كانت تهدد جدّتها(أم نجيب):  إذا لم يلبوا رغبتها فسوف تقوم بإخبار الآخرين عن والدها ووالدتها، كما تقول أن والدتها أي السيدة رباب زوجة سعد صالح ، أخفت ثمينة في إحدى المرّات وقامت بتغطيتها بعباءتها ونقلتها من مكان إلى آخر بسيارتهم الخاصة، لأن رقم سيارة سعد صالح "10 كربلاء" معروف للشرطة ولم يكن يتم تفتيش سيارتهم.

   ويروي ناصر عبود أن سلام عادل كان قد تزوج في بيته المتواضع في منطقة القاهرة ببغداد وبقي فيه لثلاثة أيام وقد تم إرساله بعدها إلى البصرة لقيادة العمل الحزبي في المنطقة الجنوبية، وأصبح بعدها عضواً في اللجنة المركزية في العام 1954 دون أن يمرّ بمرحلة ترشيح .(انظر: توفيق التميمي، مقابلة مع ناصر عبود، صحيفة التآخي، 4/8/2015)

   الدولة واليسار

   لا يمكن الكتابة عن سلام عادل دون الكتابة عن جزء مهم وحيوي من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بل وتاريخ العراق المعاصر وحين نتحدث عن تاريخ الدولة العراقية الحديثة، فلا بدّ أن نتناول تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية ولن نمرّ عليها إلّا بالخط العريض وليس مروراً عابراً.
    ولعلّ ما هو بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى هو وقفة جدّية للمراجعة الجريئة بخصوص مسيرة اليسار النضالية ودور بعض شخصياته البارزة بما فيها الشيوعية ، بكل ما لها وهو كثير وكبير  جداً، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، وذلك بعيداً عن التقديس والتمجيد، لاسيّما حين يكون الهدف هو البحث عن الحقيقة ومعالجة ما يستلزم إزاءها. ولأن الكثير من المياه جرت تحت الجسور وإن اللحظة التاريخية لا يمكن استعادتها، لكنه يمكن قراءتها حتى وإن كانت الزوايا مختلفة، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة تأملية ونقد ذاتي ورؤية جديدة، خصوصاً بوجود حقائق ومعطيات جديدة.
   ولعلّنا حين نكتب فإننا نحاول قدر الإمكان تجنّب ادعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة وهدفنا هو البحث عنها ورؤيتها خارج نطاق الآيديولوجيا والتصورات المسبقة، لذلك ليس مهمتنا غضّ النظر عن النواقص والعيوب أو التعامل في نوع من المجاملة والارتياح، ولكن بالطبع دون نسيان البطولات والتضحيات الكبيرة.
   لقد اختزلت بعض الكتابات "الحزبوية" قيمة الجانب القيادي في شخصية سلام عادل  المتميّزة وانجازاته السياسية والتنظيمية وتعاملت معها بطريقة التلقي والتلقين وخارج دائرة النقد، دون أن تمعن النظر في مدى الحيوية الفائقة التي كان يتمتع بها والمبادرات التي أقدم عليها بشجاعة وثقة، فضلاً عن كفاءاته ومواهبه التنظيمية الإبداعية، تلك التي جعلت منه قائداً حقيقياً وليس مجرد مسؤول أو موظف إداري أو مسلكي يقوم بمهمات إدارية وروتينية، وبالطبع فإن القائد الحقيقي لا ينزّه عن الأخطاء أو النواقص وهي لا تنتقص منه أو تقلّل من شأن ما أنجزه، بل على العكس تُظهر حقيقة منجزه وعلى حد تعبير الجواهري الكبير في وصف عبد الناصر :
أكبرتُ يومَكَ أن يكون رثاء
الخالدون عهدتُهم أحياءَ
لا يعصم المجدُ الرجالَ ، وإنما
كان العظيم المجد والأخطاءَ
تُحْصَى عليه العاثرات ، وحسبه
ما فات من وثباته الإحصاء

   وحين سألته  لمن  كنت تتمنّى يا أبا فرات  أن تقول هذه القصيدة لو لم تقلها لعبد الناصر؟ فقال كنت أتمنى أن يقولها أحدٌ بحقي، فلديّ من النواقص والمثالب ما لا أخشاه ولا أخفيه ، وبالطبع كان مثل هذا الاعتراف الجريء يقوم على قاعدتين أساسيتين أولاً لأننا بشرٌ والبشر بطبعهم خطاؤون على حد تعبير فولتير، وثانياً ففي أي عمل ثمة ثغرات ونواقص، لكن ذلك لا ينفي ولا ينتقص من النجاحات والمنجزات، والأمر ينطبق على الجميع فما بالك حين يتعلق بشخصية رمزية كسلام عادل الذي ختم حياته المفعمة بالعطاء ببطولة استشهاده الأسطوري.
   ونحن إذْ نكتب فذلك لأننا جزء من هذه المسيرة الطويلة والعويصة، وساهم كل منّا بدوره فيها وكل من موقعه بغضّ النظر عمّن أصاب أو أخطأ أو اقترب أو ابتعد عن قيم الشيوعية ومثلها، وتاريخ الأشخاص والحركات مهما كَبُر وصَغُر ، فقد مضى ولا يمكن إعادته، والكلام عنه يبقى مجرد اجتهادات وتقديرات واستنتاجات وهي التي تُبقي التاريخ مفتوحاً وقابلاً للإضافة والحذف ، حسبما تقتضيه الحالة وطبيعة القوى المهيمنة، فالتاريخ مراوغٌ أو ماكرٌ أحياناً حسب هيغل، وقد يعيد التاريخ نفسه ففي المرّة الأولى يظهر على شكل "مأساة" مثلما قد يظهر في المرّة الثانية على شكل "ملهاة" حسب ماركس الذي استلهم عبارته من هيغل ذاته، وهو سجال مفتوح وبلا نهاية حسب المؤرخ بيتر جيل.
إنجازات سلام عادل
وكان من أهم إنجازات سلام عادل هي تمكّنه من استعادة وحدة الحزب وتجميع قواه، خصوصاً بقدرته على استيعاب التنظيمات المختلفة وضمّها إلى الحزب مشخّصاً النواقص والأخطاء لدى جميع الفرقاء، لاسيّما بانتهاج سياسة جديدة قوامها البحث عن الجوامع والمشتركات التي تقرّب ولا تُبعّد والسعي للبحث عن نقاط مشتركة وإيجابية لدى الجميع بعيداً عن التخوين والتأثيم، وذلك حين وضع نصب عينيه إنهاء نهج الإقصاء والتفريط والعزل، وهو الأمر الذي جعل من الحزب قوة أساسية برزت خلال الانتفاضة الشعبية التي حدثت عقب العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي - الإسرائيلي على مصر في العام 1956 إثر تأميم قناة السويس .
جدير بالذكر أن الحزب بقيادة سلام عادل (بعد تنحية حميد عثمان)، كان قد استجمع قواه وكتله وتنظيماته المنقسمة حيث اعترف الجميع بأخطائهم بهدف توحيد الحزب وكانت منظمة راية الشغيلة قد انشقّت عن الحزب في العام 1953 ومن أبرز قياداتها آنذاك جمال الحيدري وعزيز محمد، وقد وصفتها جريدة القاعدة بأنها زمرة بلاطية (نسبة إلى البلاط الملكي) وإنها انحطّت في المستنقع والقاذورات اليمينية، متهمة إيّاها  بالانتهازية.
أما "منظمة وحدة الشيوعيين" فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف التي ساهم عامر عبد الله بحكم صلته الوطيدة معهما في إقناعهما، والبقية الباقية بحلّ المنظمة والالتحاق بالحزب. كما انضمت كتلة داوود الصائغ  "رابطة الشيوعيين " لاحقاً  إلى الحزب، واعترف الجميع بأخطائهم في لحظة تطّهر غير مسبوقة، بما فيها التنظيم الأصلي (القاعدة) الذي اعترف أن القيادة التي اتّخذت قرارات الفصل كانت جاهلة والمقصود بذلك  قيادة حميد عثمان الذي جرت محاولات لمحاسبته وتجميده فيما بعد، وكان قد هرب من السجن ليصبح المسؤول الأول، لكنه تصرف بفوقية وبيروقراطية، ونشر بيانا باسمه، فتقرّر مساءلته وتجميد عضويته بمبادرة شجاعة من سلام عادل ساهم في تنفيذها ناصر عبود وشارك فيها حكمت كوتاني مسؤول محلية الموصل.
وكان ناصر عبود قد اصطحب حميد عثمان كما يروي من الموصل إلى بغداد واستبقي في بيت حزبي لكنه قرر السفر إلى كردستان وهناك انتمى إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (انظر: توفيق التميمي، مقابلة مع ناصر عبود ، صحيفة التآخي، مصدر سابق).
وهكذا تم استعادة وحدة الشيوعيين بتدخّل من خالد بكداش والحزب الشيوعي السوري الذي تم الاحتكام إليه، لا سيّما بإنهاء انشقاق راية الشغيلة، وصدرت حينها جريدة "اتحاد الشعب" (السرّية)( العام 1956) لتعلن عن قيام وحدة الحزب.
ولعلّ موقف سلام عادل من وحدة الحزب وحرصه على الرفاق بغض النظر عن الاختلافات والتباينات في اتجاهاتهم، لاسّيما في المنعطفات الحادة هو ما كان حاضراً ومتداولاً بين الرفاق كجزء من الثقافة الحزبية ما بعد الانقسامات والانشقاقات المتكررة. وقد كان باقر ابراهيم وحسين سلطان يردّدان مقولته الشهيرة " إن إخراج أي رفيق من الحزب إنما هو اقتلاع شعرة من عيوني" وقد استعاداها في الثمانينات حين جرت حملة تصفيات وفصل وتفريط بالجملة يوم احتدم الخلاف بشأن قضايا فكرية وسياسية وتنظيمية ، وأهمها الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية.
وبالطبع لم تكن حياة سلام عادل الحزبية سهلة فقد سبق أن تعرّض هو ذاته لعقوبات وتنحيات من جانب عناصر بيروقراطية وانتهازية ، ففي فترة تولي مالك سيف إدارة الحزب بتوصية من فهد أُبعد سلام عادل في العام 1948 اثر اعتراضه على الموقف الحزبي من فلسطين وبقي بصلة فردية وسُحبت بعض مهماته كما تنقل ثمينة ناجي يوسف.
وفي فترة حميد عثمان الذي تولّى إدارة الحزب في العام 1954 بعد هروبه من السجن استبعد سلام عادل من اللجنة المركزية وكان عثمان قد اتهمه بالإنحراف اليميني، ونُقِل إلى منطقة الفرات الأوسط. وحين تبلور موقف جديد لأغلبية أعضاء اللجنة المركزية ضد حميد عثمان تم استدعاءه فتسلّم دفة القيادة  في حزيران/يونيو 1955 بعد أن تم وضع اليد على مطبعة الحزب كما يذكر حنا بطاطو في كتابه الثاني بعنوان : العراق - الحزب الشيوعي ، ص 342) . علماً بأن عمله في منطقة الفرات الأوسط كما نقل لكاتب السطور بعض من عاصره مثل حسين سلطان وعدنان عباس وصاحب الحكيم ومحمد الحياوي كان متميزأً، سواءً على الصعيد السياسي أم على الصعيد الحزبي والإعلامي، وخصوصاً في الريف. وفي مطارحات خاصة في بشتاشان خريف العام 1982 كان الباحث قد وجّه أسئلة إلى كل من مهدي عبد الكريم وعبد الرزاق الصافي حول شخصية سلام عادل ودوره القيادي وموقفه من القضية الكردية ارتباطاً بالتطور الذي حصل في الموقف من القضية العربية في العام 1956 وبالتحديد بعد الكونفرنس الثاني، وعقب انتعاش حركة التحرر الوطني العربية بُعيد تأميم مصر لقناة السويس ومقاومة العدوان الثلاثي.
إن ما تعرّض له سلام عادل من بيروقراطية حزبية تدلّ على أنه باستمرار كان له رأي متميز ومستقل ونقديٌّ بما فيه إزاء القيادات ، حيث اعتاد على التعبير عن وجهات نظره،  بكل وضوح حتى لو أدى ذلك إلى خسارة مواقعه الحزبية، وتلك إحدى سماته القيادية البارزة، حيث لم يعرف المهادنة والتزلّف واسترضاء المسؤولين كجزء من الأمراض التي تفشّت في الحزب في وقت لاحق .
جدير بالذكر أن سلوك حميد عثمان اتّسم بالتهور، وعلى حد تعبير حنّا بطاطو كان يمتاز بـ " حماسة كبيرة وحكمة ضئيلة" وقد ورط الحزب الشيوعي بمواجهات مكلّفة ولا معنى لها مع الشرطة، حيث دعا للإضراب السياسي العام ثم رفع شعار الكفاح المسلح وبناء "جيش شعبي ثوري" واعتبار الريف "قلاعاً ثورية"، ويبدو أنه تأثر بالمسيرة الكبرى التي قادها ماوتسي تونغ وبالثورة الصينية.
وهكذا بدّد قوى الحزب وفرط برفاقه ورفع شعارات لم يكن الحزب قادراً على تنفيذها، فضلاً عن قراراته الفردية وأوامره الهستيرية ومبادراته المغامرة ومعاركه الانتحارية، ولهذه الأسباب أزيح من موقعه وهو ما ورد في مقتبسات من كتاب حنّا بطاطو (ج2 ص 343، وج3 ،  ص 13 وما بعدها) .
وقد شكل سلام عادل لجنة مركزية جديدة عملت هذه اللجنة لنحو عام في التحضير للكونفرنس الثاني أي من (حزيران/يونيو 1955 ولغاية 1 حزيران/ يونيو 1956) وقد ضمّت الرفاق التالية أسماؤهم:
1- حسين أحمد الرضي (سكرتيراً عاماً)
2- عامر عبدالله
3- كريم أحمد الداوود
4- فرحان طعمه
5- جورج حنّا تلو
6- محمد صالح العبلّي
7- هادي هاشم الأعظمي
8- عطشان ضيّول الايزرجاوي
9- ناصر عبود
ومنذ أيلول أي بعد انعقاد الكونفرنس الثاني العام 1956 ولغاية أيلول/سبتمبر العام 1958 ضمّت قيادة الحزب  بعض الأعضاء إلى اللجنة المركزية وأصبح عددهم 12، والأعضاء الجدد هم : شريف الشيخ ومحمد بابلي - كاكا فلاح وجمال الحيدري والأعضاء الاحتياط هم : عزيز الشيخ وصالح الحيدري وعبد الرحيم شريف وحكمان فارس الربيعي  وداود الصائغ وصالح الرازقي (المصدر السابق - حنا بطاطو، ج3، ص 18-21).
الكونفرنس الثاني والتوجّه الجديد
ومن منجزاته في تلك الفترة أيضاً عقد الكونفرنس الثاني للحزب العام 1956 والذي أقرّ سياسة جديدة بقراءة المتغيّرات على الساحة الدولية والتي رجّحت الخيار السلمي الجماهيري تأثراً بنهج التعايش السلمي الذي اتبعه الاتحاد السوفييتي وكان التقرير الذي صدر عنه يفصح عن هذا التوجه البارز.
وقد انعقد الكونفرنس في بغداد الجديدة وحضره 28 كادراً حزبياً وانتخب لجنة مركزية جديدة مضفياً شرعية جديدة على القيادة الحزبية التي ظلّ اختيارها غالباً يتم بالتعيين،  فتحت ظروف القمع أحياناً يجري إملاء الفراغ  لمن يعتقل أو لمن يضطر للخروج من دائرة النضال، ولم تكن الاختيارات موفقة في الكثير من الأحيان بسبب الظروف غير الطبيعية، خصوصاً بضعف الكفاءة  ونقص المعرفة وقلّة التجربة، إضافة إلى الارتباطات الشخصية، ناهيك عن عدم قناعة الكادر أحياناً وهناك أمثلة كثيرة لا مجال لذكرها.
وقد كان انعقاد الكونفرنس والاحتكام إلى الشرعية الحزبية في الانتخاب تطوراً مهماً حصل في ظل قيادة سلام عادل التي حاولت أن تجميع ملاكات الكادر وتوحيدها في إطار قيادة جديدة متنوّعة المشارب والاتجاهات تجمعها وحدة الإرادة والعمل والانسجام، دون تمييز بسبب ماضيها سواءً كانت مع هذه الكتلة أو تلك، وسرعان ما اندمجت المجموعات والكتل والشخصيات ، بل وانصهرت في بوتقة حزب مديد وذا حيوية كبيرة.

319
في العنف ضد الأطفال
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   في ذروة الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان ومحاصرة العاصمة بيروت اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الطارئة (19 أغسطس/آب 1982) قراراً يقضي باعتبار الرابع من يونيو/حزيران، من كل عام يوماً عالمياً لضحايا العدوان، ولاسيّما من الأطفال الأبرياء، فقد روِّع العالم كثرة الضحايا من الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين خلال العدوان المذكور.
   واليوم وبمناسبة مرور 70 عاماً على قيام "إسرائيل" (15 مايو/أيار 1948) والذي تزامن هذا العام مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فقد اجتاحت موجات غضب واحتجاج فلسطين من أقصاها إلى أقصاها ، وهو ما واجهته "إسرائيل" بالقمع والإرهاب الذي راح ضحيته حتى الآن   أكثر من 20.000 ضحية (بين قتيل وجريح)  معظمهم من الأطفال ، علماً بأن الغالبية الساحقة مع حركة الاعتراض والرفض كانت خارج الجدار العنصري الذي بنته "إسرائيل" لتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية  وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وزرع مستوطنات وجزر ومناطق في قلب التجمّعات البشرية الفلسطينية.
   وكانت محكمة العدل الدولية  قد أصدرت فتوى استشارية (العام 2004) بعد أن لجأت إليها السلطة الوطنية الفلسطينية، قضت بموجبها ببطلان بناء الجدار ودعت إلى تفكيكه وهدمه، إضافة إلى تعويض الفلسطينيين جراء الأضرار التي لحقت بهم.
   حين حدّدت الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة ووضعت إنهاء جميع أشكال العنف ضد الأطفال واستغلالهم وإهمالهم في صلب برنامجها (2030) وقد احتفلت منظمة الأمم المتحدة للطفولة " اليونسيف" هذا العام باليوم العالمي لضحايا العدوان على الأطفال تحت شعار " العنف ضد الأطفال صفر بحلول 2030" وهو ما يستوجب عملاً دؤوبا وشاملاً على جميع المستويات الدولية وغير الدولية، الحكومية وغير الحكومية  لوقف العنف بشكل عام وضد الأطفال بشكل خاص، وذلك بإعمال الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، ولاسيّما اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 وكل ما يتعلّق بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لاسيّما العهدين الدوليين - الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثاني - الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها (بروتوكولي جنيف) لعام 1977 الأول- المتعلّق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني - المتعلّق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
   ولعلّ مسألة حماية الأطفال من العنف والعمل على تأمين مستلزمات القضاء عليه، مسؤولية كبرى لا تقع على عاتق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وحدها، بل تتجاوزها لتشمل الحكومات والمنظمات المدنية والاجتماعية والتربوية والدينية، إضافة إلى الجامعات ومراكز الأبحاث، خصوصاً وإن للعنف أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والأسرية والنفسية فضلاً عن عدم المساواة والتمييز ونظام العقوبات والمناهج الدراسية وغيرها، كما أن أنواعه متعدّدة، فهناك العنف الجسدي والعنف الجنسي والعنف النفسي، إضافة إلى أشكال جديدة من العنف عبر الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل العنف الحديثة وهي ظواهر منتشرة على الصعيد العالمي وفي جميع المجتمعات تقريباً وإنْ كانت بأشكال متفاوتة.
   ومن أولى دلالات الاحتفال باليوم العالمي بوقف العنف ضد الأطفال الأولى - هو اعتراف المجتمع الدولي باستمرار هذه الظاهرة اللّإنسانية  وما تتركه من تأثيرات نفسية وعقلية وبدنية على الأطفال في جميع أنحاء العالم. وثانيها - تأكيد الالتزام بحماية حقوق الأطفال، ولاسيّما اتفاقية حقوق الطفل المشار إليها، ولعلها مناسبة للتذكير بدعوة البلدان للإنضمام إليها، وثالثها- إن هذه المناسبة جديرة بالتأمل بوضع الأطفال ومعاناتهم، ولاسيّما في البلدان النامية، حيث يذهب العديد منهم ضحايا العنف والإرهاب والنزاعات المسلحة والحروب، إضافة إلى الحروب الأهلية الطائفية والدينية والإثنية، فضلاً عن معاناتهم بسبب العقوبات الاقتصادية والأوبئة والأمراض والفقر والأمية والجهل وانتشار المخدرات، ولاسيّما بين الأحداث منهم والإتجار بهم إناثاً وذكوراً أو استخدامهم دروعاً بشرية أو غير ذلك.
   لقد قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1998 تعيين ممثل خاص يُعنى بأثر النزاع المسلح على الأطفال على أمل تقليص حالات العنف ضدهم وتحسين أوضاعهم، إلّا أن عددهم تضاعف في السنوات الأخيرة، كما ارتفعت نسبة الانتهاكات  المرتكبة ضدهم في معظم مناطق  الصراع، كما تذكر العديد من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية وهو ما تؤكده منظمة اليونسف، سواء في اليمن أو الصومال أو فلسطين أو سوريا أو العراق وغيرها، وهناك نحو 250 مليون طفل يعيشون في بلدان ومناطق الصراع يحتاجون إلى المزيد من الحماية طبقاً للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولاسيّما في مجال حماية حقوق الطفل.
   جديرٌ بالذكر إن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد قرّرت يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني العام 1954  كيوم للطفل العالمي، وكان اتحاد النساء الديمقراطي العالمي قد قرر في وقت سابق العام 1949 يوم 1 يونيو (حزيران) يوماً للطفل العالمي، ومهما اختلف موعد الاحتفال  فهو مناسبة لكي نعتبر الأطفال رمزاً بوصفه يوماً للتسامح والتضامن والتكافل والتفاهم  والبراءة والسلام على النطاق العالمي. وفي الوقت نفسه لتجديد المطالبة باحترام حقوق الأطفال ورفع التحفظات التي وضعتها بعض الدول على حقوقهم التي قررتها الأمم المتحدة.

320
المنبر الحر / الاستبداد الناعم
« في: 21:24 14/06/2018  »
الاستبداد الناعم
عبد الحسين شعبان
ذكّرتني الأزمة العراقية ما بعد الانتخابات والطعون والاتهامات التي صاحبتها، بما سبق وراج في الفكر السياسي والقانوني، «مصطلح النهايات» الذي أخذ يتردّد خلال العقود الثلاثة الماضية «نهاية التاريخ» و«نهاية الفلسفة» و«نهاية الأيديولوجيا»، وأعقبها مباشرة دعوات لمصطلح «الما بعديّات»: «ما بعد التاريخ» و«ما بعد الماركسية» و«ما بعد العلمانية» و«ما بعد الحداثة» وأخيراً «ما بعد الديمقراطية».
واستعدتُ تحذيرات المفكر الفرنسي ألكسيس دوتوكفيل قبل نحو قرن وثلاثة أرباع القرن عن بعض مساوئ الديمقراطية، والخشية على الديمقراطية من الديمقراطية نفسها، وكلّ تلك الانتقادات الحصيفة التي تعتبر «الديمقراطية أحسن نظام حكم سيّئ»، خصوصاً حين يتحوّل «حكم الأغلبية» إلى نوع من الاستبداد أو الدكتاتورية.
والسؤال لا يتعلّق بالعراق أو ببعض البلدان التي انتقلت من أنظمة الاستبداد التقليدية إلى أنظمة انتقالية لم تتوضّح معالمها بعد، حتى وإن زعمت أنها على طريق الديمقراطية، وإنما يشمل الغرب ذاته معقل الديمقراطية، بما فيه الولايات المتحدة التي حاول دوتوكفيل دراسة تجربتها على نحو عميق، فوضع كتابين كبيرين بعنوان «الديمقراطية في أمريكا».
فالديمقراطية لا تتحقق إلّا عبر منظومة متفاعلة من القوانين والأنظمة والمؤسسات الدستورية والقضائية والممارسة والشفافية والتربية، وذلك في فضاء من الحرية والمساواة والمشاركة واعتراف بالتنوّع والتعددّية، فأين نحن من كل ذلك حين يتم اختزال «الديمقراطية» بصندوق اقتراع؟ وهذا الأخير يتم الالتفاف عليه وتجري محاولات مستميتة لتغيير نتائجه والتلاعب به بوسائل تبدأ من التضليل والوعود وتمرّ بالتحريم والتأثيم باسم الدين أو بغيره ولا تنتهي بالتزوير، حيث تعقد الصفقات بوسائل ناعمة أو خشنة، بما فيها التأثير في المؤسسات المسؤولة التي يفترض أن تكون هي الحامية والمحايدة، لا مشاركة ومتواطئة.
وكان صعود قوى شعبوية يمينية متطرّفة إلى قمة السلطة في الغرب بفعل «الديمقراطية» قد نبّه إلى مخاطر جديدة، وكان المثال الأشد تأثيراً هو دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة، الذي دشّن عهده بطائفة من القضايا الّلاديمقراطية والمعادية لحقوق الإنسان بدءاً من موقفه من اللاجئين، ووصولاً إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وما بينهما قضايا تخص حياة الناس من الصحة إلى التعليم، فهل انتهت «الديمقراطية التمثيلية؟
وإذا كان انهيار جدار برلين في العام 1989 قد دفع مفكراً مثل فرانسيس فوكوياما لينظّر عن «نهاية التاريخ» ويبّشر «بظفر الليبرالية»، فماذا سيقول بعد ثلاثة عقود من الزمان، حيث تبيّن التجربة أن الديمقراطية واجهت وتواجه مأزقاً كبيراً في موطنها، الأمر الذي فجّر الكثير من التناقضات، على الصعيد الداخلي في العديد من البلدان الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعد انسحاب بريطانيا منه.
ولم تستطع الديمقراطية كبح جماح الإرهاب الذي تفشّى في جميع بلدان العالم، وأحياناً قادت إلى خيارات سيئة وسلبية جداً، ولعلّ ذلك إحدى المفارقات التي سبق ل ألكسيس دو توكفيل أن طرحها منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وإذا كان مثل هذا التحذير قد ورد على لسان «أبو الديمقراطية» أو حامل صليبها، كما يسمّى، وكانت حينها نظاماً واعداً، فماذا سنقول نحن إزاء تجربة ولدت عليلة منذ البداية وزادت اعتلالاً خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، في ظل استشراء الطائفية والإثنية كنظام للمحاصصة يقوم على الزبائنية، واستفحال الإرهاب والعنف وتفشّي الفساد المالي والإداري واستمرار ضعف الدولة ووجود مرجعيات تحاول تجاوزها؟
لقد تنبأ دوتوكفيل منذ وقت مبكر بخطر الديمقراطية نفسها على نفسها، محذّراً من «الاستبداد الديمقراطي» الذي هو نوع جديد من الاستبداد «أشدّ مكراً» أحياناً من الاستبداد التقليدي، لدرجة أنه يبدو «جذّاباً» لكنه «أكثر فتكاً» من الأول، وهو استبداد «خفي» أحياناً مقابل «الاستبداد المعلن»، وهو استبداد يحطّم قيم الناس، خصوصاً حين تشرعنه السلطات وتعطيه توصيفاً قانونياً «دستور»أو «قانون انتخابات» أو «برلمان»، وكل هذه توظّف لتكريس الامتيازات، ناهيك عن إسهامها في التدليس وسوء الأخلاق، ويتم التبرير أحياناً باسم «حكم الأغلبية» و«إرادة الشعب» وبمعزل عن قيم الديمقراطية نفسها وبلا ضوابط كافية تمنع الارتداد والتراجع عن جوهر الديمقراطية وفلسفتها في الغاية والوسيلة. ويزداد الجدل ويتعاظم أكثر من أي وقت مضى حول جوهر الديمقراطية ومحتواها، وخصوصاً في التجارب الناشئة وفي المجتمعات الانتقالية، فهل «رأي الأغلبية» وحده هو الفيصل في الحكم على الديمقراطية؟ أم ثمة معايير أخرى، تتعلق بالمضمون وليس بالشكل؟ دون إهمال الآليات والوسائل التي هي الأخرى ينبغي أن تكون ديمقراطية، فلا غاية عادلة دون وسيلة عادلة، ولا وسيلة ظالمة توصلك إلى هدف نبيل.
الديمقراطية الحقة لا تحمي المجتمعات من الدكتاتورية الفردية أو «الأقلويّة»، بل ينبغي أن تحميها من «دكتاتورية الأغلبية»، سواء كانت هذه الدكتاتورية سياسية أو مجتمعية باسم العادات والتقاليد طبقاً لاعتبارات دينية أو طائفية أو إثنية بزعم «الأغلبية»، ولا تتحقق الديمقراطية إلّا باحترام رأي «الأقلية»، وإلّا سيكون للديمقراطية الناعمة أسنان حادة وربّما قاطعة.
drhussainshaban21@gmail.com


321
المنبر الحر / كل عام وأنتم بخير
« في: 22:13 12/06/2018  »
كل عام وأنتم بخير
أنتهز فرصة حلول عبد الفطر المبارك لأرسل إليكم أعطر التحيات وأحر الأماني متمنياً لكم النجاح والتقدم في الحياة والعمل والصحة والسعادة على المستوى الشخصي.
مع خاص احترامي وتقديري.
ع. شعبان

322
الكونفوشيوسية والخصوصية
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

كان مجرد ذكر اسم كونفوشيوس إيجابياً في الصين يعني أنك ستصنّف في خانة "الأعداء"، لأنه حسب التوصيف السائد  يعتبر "عدواً رجعياً". وهو ما جاء عليه زعيم الصين "التاريخي" المعاصر ماوتسي تونغ، في أكثر من مناسبة، وخصوصاً خلال التجمّعات الطلاّبية الغاضبة في فترة الثورة الثقافية 1965-1976.
وقد تم طي صفحات تلك الحقبة المتشدّدة، واتّجهت الصين منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات  لولوج مرحلة جديدة شهدت انفتاحاً تدرّجياً، ولاسيّما على التراث التاريخي ورموزه واستلهام ما هو إيجابي منه. وهكذا أعيد الاعتبار إلى الفيلسوف كونفوشيوس وأنتج فيلماً عنه، بصفته قائدا عسكرياً موهوباً ومعلماً كبيراً للقيم الإنسانية والمثل التقدمية.
وإذا كان ثمة تحوّل في الجانب الثقافي، فلأن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والإنسانية بشكل عام شهدت تطوراً ملحوظاً ، وخصوصاً وأن مسألة التفكير بالمستقبل والتطلّع إليه بقراءة منفتحة للتراث التاريخي الفكري والثقافي والفلسفي، كانت حاضرة جداً.
وحتى وإن بدا أن الأمر يحتاج إلى زمن لمحو ما تركته عملية التشويه والاستعداء لكونفوشيوس والكونفوشيوسية والقطيعة الأبستمولوجية مع التراث، إلّا أن التوجّه الجديد كان بمثابة صحوة للصين ترافقت مع تقدّمها العلمي والتكنولوجي وسياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعتها، إضافة إلى علاقاتها الدولية الجديدة.
لقد استخدم اسم كونفوشيوس أداة مغرضة لمهاجمة "أعداء" الشيوعية أيام ارتفاع أعلام الثورة الثقافية وصخبها الذي هزّ الشوارع والميادين، ولاسيّما بملاحقة الضمائر ومحاربة التفكير الحر، تلك التي كانت ذريعة لتصفية الخصوم والمنافسين، لكنه بدا اليوم أن الاسم ذاته يعمل كأداة  إيجابية ذات بعد أخلاقي في الصين الحالية. وكانت دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت العام 2008 في الصين مناسبة لتسليط الضوء على أفكار كونفوشيوس، وخلال حفل افتتاح الدورة الأولمبية تمت الإشارة إلى " المنتخبات الأدبية" لكونفوشيوس، وكانت مدرسة الكادر الحزبي في شنغهاي قد أقيمت على طاولة القراءة والكتابة الخاصة بكونفوشيوس كما تم تأسيس " المعهد الكونفوشيوسي"، وقد لاحظنا مثل هذا الاهتمام خلال زيارتنا للصين في إطار  ندوة فكرية لـ "الحوار العربي - الصيني" بدعوة من  المعهد الصيني للدراسات الدولية.
ولفت انتباهي الاهتمام الكبير، بل والشغف الخاص من جانب المنظمين حين جئت على ذكر كونفوشيوس في بحثي الموسوم: "الفلسفة التاوية وصنوها الفلسفة الصوفية: وحدة الوجود والحضور بالغياب" مع أنني تلمّستُ وجود بقايا تحفّظات لدى الجيل الأكبر الذي تأثّر بنقد "الماوية" لأفكار كونفوشيوس والفلسفة الكونفوشيوسية باعتبارها ضد النظريه الماركسية وتطبيقاتها الماوية أو ضد "تصيين الماركسية".
ويبدو أن الجيل الأكثر حداثة والأصغر سنّاً يميل أكثر من سابقه إلى التلاقح بين الفلسفة الصينية القديمة والفلسفة الماركسية، خصوصاً وإن القسم الأكبر من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني الذي يربو عددهم على 80 مليون أخذ يتخلّى عن الفكر الماوي المتشدّد مع استمرار تقديره واحترامه لشخص الزعيم التاريخي ماوتسي تونغ. وقد شاهد كاتب السطور طوابير المصطفّين الذين يرغبون في زيارة ضريحه في العاصمة بكين في ساحة تيان آن من ، التي سبق وأن شهدت احتجاجات كبيرة وصدامات مع الشرطة العام 1989 بسبب المطالبة بالمزيد من الحرّيات .
ولم يكن الاهتمام بالفكر الكونفوشيوسي حكومياً فحسب، بل إن الاهتمام المجتمعي، وخصوصاً الأكاديمي كان  أكبر بكثير، ولاسيّما من جانب المجتمع المدني، وذلك في محاولة لإضفاء الطابع الإنساني على النظام السياسي الشيوعي في الصين، والذي لا يزال يحمل ثقله المركزي.
ويكمن أحد أسباب الاهتمام بالكونفوشيوسية هو الشعور بالاعتزاز للخصوصية الصينية والانتماء إلى تراث عريق، لاسيّما بعد مرحلة عاصفة من النقد والتبشيع والتغييب، ومثل تلك الخصوصية تعني ابتداع طريق خاص ليس بالضرورة يمرّ عبر التجربة الغربية باعتبارها التجربة الديمقراطية الوحيدة على المستوى العالمي، فقد كانت هناك محاولات خلال العقد الماضي لمزاوجة الديمقراطية بالكونفوشيوسية ، والأمر لا يقتصر على التنافس الانتخابي، بل القدرة على الأداء والأهلية وشرعية المنجز التاريخي، أما ما يتعلّق الأمر بالمرونة والتواضع والعاطفة، فهذه يمكن أن تضع إطاراً ومقاربة أخلاقية للإجراءات السياسية والممارسات العملية انطلاقاً من جوهر الكونفوشيوسية وروحها.
فهل مثل هذا التوجّه سيجعل الصين أكثر قرباً من الديمقراطية الغربية أم ثمة مراجعات في إطار الديمقراطيات الغربية ذاتها؟ وهذه تحتاج إلى إعادة قراءة لأدائها، وهي التي يطلق عليها مرحلة "ما بعد الديمقراطية"، ولاسيّما بصعود الشعبوية اليمينية في العديد من بلدان أوروبا والولايات المتحدة ورمزها الأكبر هو دونالد ترامب.
ربما سيكون التوقف عند التجربة الصينية بما تحمله من امتدادات "شرقانية" على الرغم من أنها لم تخلع معطفها الماركسي القديم بعد، مفيداً لجهة مقاربة التجارب الأخرى، ولكن النجاح الكبير الذي حققته خلال العقود الأربعة الماضية كفيل بقراءة جديدة للموديل الصيني، فمن يدري ماذا سيُنتج تفاعل التجارب الكونية الأخرى؟ لعله قواعد أكثر انسجاماً وعمقاً وتلبية لمصالح الناس وحقوقهم، والمهم هو أن الخصوصية يمكن أن تكون عاملاً إيجابياً في رفد الكونية، مثلما تعطي هذه الأخيرة نفحة منعشة للخصوصية.


323
«الهولوكوست» وما يخفيه النفاق
                     
عبد الحسين شعبان
لا شيء يُرضي «إسرائيل»، فلا إنكار أو التقليل من صدقية روايتها بشأن «الهولوكوست»، ولا حتى الإقرار بها يُشفي غليلها، إذْ لا بدّ من الاعتراف بفاتورة حساب تبقى مستمرة مع الزمن، وقد أقدمت ألمانيا منذ عقود من الزمان على دفع تعويضات بمليارات الدولارات، وفعلت سويسرا ذلك تحت بند ودائع ضحايا الهولوكوست «النائمة» في مصارفها.
وقد صوّت البرلمان البولوني مؤخراً بالأغلبية على قانون «يجرّم من يشير أو يحمّل بولونيا أية مسؤولية عن التخلّص من يهودها» (حوالي ثلاثة ملايين) خلال الاحتلال النازي لها. وقد أثار هذا القرار حملة ««إسرائيلية»» عنيفة للضغط على الرئيس البولوني أندري دودا لثنيه عن المضي في إقرار القانون، لأن «إسرائيل» تريد من الجميع الشعور بالذنب وتحميلهم المسؤولية، عن جرائم الإبادة الجماعية تلك، وفي الوقت نفسه الحصول على تواطئهم على ممارساتها العدوانية وانتهاكها لحقوق الشعب العربي الفلسطيني.
وكان إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية «ماكابي هاكير» قد كشف في مذكراته التي عُثر عليها في مدينة غودوالدوف (التشيكية) العام 1967 بعد إعدامه في العام 1944، حين كان معتقلاً في معسكر أوستفيز، عن تعاون اليهود مع النازية في إرسال بضع عشرات من المتموّلين اليهود والقيادات إلى فلسطين، مقابل إرسال مئات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الموت. وقد تسنّى لكاتب السطور زيارة هذا المعسكر المُرعب في خريف العام 1969 والذي يبعد عن مدينة كراكوف البولونية نحو 70 كيلومترا، واستمع إلى بعض الشهادات وقرأ الكثير عنه وعن معسكرات الاعتقال تلك في وقت لاحق.
ولكن ما الذي حصل ليتّخذ البرلمان البولوني مثل هذا القرار في هذا الوقت بالذات، حيث تتوجّه الأنظار إلى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهادف نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟. ويبدو أن هناك دولاً بلقانية حاولت هي الأخرى التنصّل عن مسؤولياتها، بشأن «محرقة اليهود» وذلك في سعيها للحصول على «براءة ذمة» من «إسرائيل» وتحسين علاقتها معها.
فكرواتيا، وعلى الرغم من امتناعها عن التصويت على مشروع القرار الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إلّا أنها أقدمت على التوقيع على صفقة سلاح مع «إسرائيل» للحصول على طائرات «أف 16»، علماً بأنه كان يوجد في كرواتيا معسكر اعتقال هو الأكبر خارج ألمانيا النازية هو معسكر «ياسنوفيتش» ويُعرف «أوستفيز البلقان». وكانت صربيا ذاتها قد احتفلت باليوم العالمي «للهولوكوست» باستذكار العلاقة التاريخية باليهود تملقاً واسترضاء ل «إسرائيل».
أما الحالة في ألبانيا وكوسوفو، فالأمر مختلف لكون المسلمين يشكّلون الأغلبية في البلدين، ومن المفارقة أن يكون عدد اليهود قد ازداد في ألبانيا في نهاية الحرب عمّا كان قبلها، وهو ما يوثقه الباحث السوري محمد الأرناؤوط الخبير بالشؤون البلقانية، ولكن الأمر مختلف بالنسبة لكوسوفو التي احتلتها إيطاليا الفاشية العام 1939. وحين يستذكر الكوسوفيون اليوم ما تعرّض له اليهود، فإنهم يربطون ذلك بحملة الإبادة التي تعرضوا لها من جانب صربيا عامي 1998-1999، وكم كان جديراً بهم لو استحضروا ما يتعرّض له الفلسطينيون يومياً من قمع وأعمال إبادة.
يمكن القول إن مواقف الكثير من القوى البلقانية في السلطة وخارجها، مثلما هي مواقف الدول الاشتراكية السابقة التي كانت متعاطفة مع العرب ومؤيدة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، انقلبت رأساً على عقب عشية وبُعيد انهيار جدار برلين العام 1989، فأعادت علاقتها مع «إسرائيل» التي ظلّت مقطوعة منذ العام 1967، ومنحتها حظوة باعتبارها «الدولة الأكثر رعاية»، وهو ما يعكس حقيقة «اللوبي اليهودي» الذي عمل كقوة ناعمة في هذه البلدان.
وكان كاتباً يُدعى ييرجي بوهاتكا (واتّضح لي أنه اسم مستعار وظلّ لغزاً حتى الآن) قد كتب 4 حلقات في مجلة المنبر (المنصّة) في العام 1975 حول علاقة الصهيونية بالنازية، ولفتت إحدى المستشرقات نظري إليها، فقمت بترجمتها وإعدادها للنشر، في 5 حلقات في «مجلة الهدف» الفلسطينية، ثم نشرتها بكرّاس بعنوان «مذكرات صهيوني» في العام 1986، ورويت قصتها في مقالة نشرتها عن جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية عند وفاته في العام 2008، حيث كان بوهاتكا قد أعدّ كتاباً للنشر في براغ، وقام باستلام مكافأته وأشرف على طبعه وتدقيقه، لكن الكتاب اختفى قبل يومين من إصداره، وكان بعنوان «النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية».
وخلال فترة البريسترويكا وما بعدها برز النشاط اليهودي، سواء بالهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي السابق ودعم «إسرائيل» بالعنصر البشري، أو بحلّ اللجنة الاجتماعية السوفييتية لمناهضة الصهيونية التي أسسها الرئيس أندروبوف العام 1983، أو بالدور المريب في روسيا لاحقاً، وكان باكورة ذلك مقتل ي. يفسييف العالم السوفييتي المناهض للصهيونية في العام 1990 في ضواحي موسكو.
drhussainshaban21@gmail.com




324
حين تفعل الثقافة فعلها

عبد الحسين شعبان
لم تكن مدينة أصيلة، ذات الطراز الأندلسي قبل أربعة عقود من الزمان وبالتحديد في العام 1978، سوى إحدى «مدن» المغرب الساحلية المحدودة السكان والمساحة التي تستلقي بطريقة أقرب إلى العزلة على شواطئ المحيط الأطلسي، لكنها بفعل عمل مثابر وإصرار أكيد وإرادة واعية وعقل مستنير، أخذت تزهر مثل شجرة اللوز حين يلامسها هواء منعش، لدرجة أن أصيلة تنتظر موسمها الثقافي بفرح غامر مثلما تنتظر الأرض العطشى المطر في موسم الصيف، فتزهو به المدينة الممتزجة بألوان البحر والشمس الذهبية، حيث تكون مستعدة لاستقبال زوارها من مغرب الوطن العربي الكبير ومشرقه، ومن ضفتي المتوسط والمحيط الأطلسي وعلى امتداد أوروبا والعالم كلّه، وكأنها تدعو الجميع إلى وليمة شهيّة للفكر والفن والأدب والثقافة بكل أجناسها.
وبالتدرّج والتراكم اندغم الموسم الثقافي للمدينة المفتوحة ليتفاعل مع برنامج التنمية لها ولعموم البلاد، حيث تم تأسيس بنية تحتية وإنشاء مرافق عمرانية تكون قادرة على استيعاب هذا التطوّر، لترتدي المدينة حلّتها الموسمية، بما فيها من رمزية ثقافية ومدنيّة، وكأنها معرض مفتوح في الهواء الطلق يزورها عشرات الآلاف من المثقفين والسيّاح كل عام.
هكذا تحوّلت «المدينة» التي عُرفت قديماً باسم «أزيلا» أو «أرزيلا» أو «أصيلا»، لتستقر على اسم «أصيلة» إلى صرح حضاري جاذب وواعد. وكانت قد تأسست قبل ما يزيد على ألفي عام من الزمان، وشهدت ألواناً مختلفة من الهجرات والسلالات والأديان، حيث استعادت مجدها التاريخي والاستراتيجي والتجاري، مجددة ذلك بموسمها الثقافي، بفضل أحد أبرز رموز الثقافة والدبلوماسية والإدارة الذي كان لإصراره الدور الأكبر في أن تنتقل أصيلة من «قرية» معزولة وربما منسيّة إلى حاضرة مدنيّة يُشار إليها بالبنان.
حين عاد محمد بن عيسى إلى المغرب بعد انتهاء عمله في الولايات المتحدة، قرّر أن يخدم مدينته ومسقط رأسه، ففكّر بإنعاش العمران بالثقافة والثقافة بالعمران، وهكذا انعقد رباط وثيق بين الاثنين، فكلّما كانت المدينة تتطوّر عمرانياً، كانت مكانتها الثقافية والحضارية تزداد أهمية حتى غدت أحد معالم المغرب المهمة، وهي ملتقى سنوي للحوار وتبادل الرأي والاستئناس بوجهات النظر لنشر ثقافة السلام واللّاعنف وبحث وتحليل قضايا التعصّب والتطرّف والغلو والإرهاب، وفي الوقت نفسه التفكير في البدائل: التسامح والإقرار بالتنوّع والتعددية والاعتراف بالآخر وحقه بالاختلاف، وإحياء قيم العدل والجمال والخير، عبر التواصل والتفاعل والاجتماع الإنساني، لاسيّما بالفن والأدب والفكر والثقافة بكل فروعها وأغصانها، وتلك هي رسالة أصيلة «الأصيلة».
حين تتوغّل في «المدينة» وأنت قادم من مدينة طنجة التي لا تبعد عن أصيلة أكثر من 40 كيلومتراً يواجهك البحر بزرقته المميّزة، وكأن لون الفيروز انطبع عليه أو أنه انطبع على الفيروز ليأخذ لونه، وكما يقول الشاعر الجواهري في غزله ببراغ:
«أعلى الحسن ازدهاءً وقعت/ أم عليها الحسن زهواً وقعا؟»
ولعلّ أول ما يلفت انتباهك أن منازل المدينة متّشحة بالبياض وملفّحة بالزرقة هي أيضاً، وذلك في إطار تناسق جميل، يضاف إليه جداريتها المزيّنة برسوم فنانين تشكيليين من مدارس وأجيال مختلفة، وحين تسير في دروبها الضيقة وفي الأحياء القديمة تشاهد الأسوار العالية المحاطة بها، وفي كل ذلك ثمة أمر يدعوك للتأمل، وهو نظافة المدينة والهواء العذب حتى في أيام الصيف الحارة، علماً بأن مناخها معتدل ومطير باستثناء فصل الصيف، حيث يكون جافاً نسبياً. أما البيئة فغدت مصدر اهتمام المسؤولين والناس على حدّ سواء، حيث تتميّز البيوت والأزقة بواجهات جميلة مغروسة بالنباتات والورود، وتحرص بلدية «المدينة» ومهندس فكرة موسم أصيلة الثقافي رئيسها، على أن ترتدي ثوبها الأخضر.
وقد خلّدت المدينة أسماء زوارها ومريديها من كبار المثقفين، ومنهم الشاعر العراقي بلند الحيدري والروائي السوداني الطيب صالح وتشكايا أوتامسي الشاعر الكونغولي والشاعر الفلسطيني محمود درويش والمفكر المغربي محمد عابد الجابري والشاعر المغربي وابن أصيلة أحمد عبد السلام البقالي والشاعر والأديب المغربي محمد عزيز لحبابي وغيرهم.
منذ أربعة عقود من الزمان بدأت مكانة أصيلة تزداد أهمية بالترافق مع مهرجانها أو موسمها الثقافي المفتوح، حيث يحجّ إليها سنوياً عشرات من المثقفين الكبار، ويحرص مئات من الفنانين والأدباء الشباب على زيارتها. وفي هذا العام يطفئ موسم أصيلة السنوي 40 شمعة من عمره وهو عمر النضج، حيث يعتبر أحد أكثر وأهم المهرجانات الثقافية المعمّرة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار «مهرجان المربد» (العراق) و«مهرجان الجنادرية» (المملكة العربية السعودية)، و«مهرجان البابطين» (الكويت)، وهو مثل كل عام مناسبة حيوية تنبض بالحياة، وخصوصاً في دينامكيتها الثقافية أدباً وموسيقى وغناءً وفنوناً: رسماً ونحتاً ومسرحاً في أجواء مشبعة بالحرّية وثقافة السلام والتنوّع والتعددّية.
drhussainshaban21@gmail.com



325
حين يختل العمل السياسي
عبد الحسين شعبان
غالباً ما تجنح الحركة السياسية حين تكون خارج السلطة في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، إلى رفع أكثر الشعارات جذرية، ورنيناً، فهي تبدأ من «إسقاط النظام»، من دون أن تأخذ في الاعتبار توازن القوى، أو تحسب حساباً للظرف الموضوعي، والذاتي، فإمّا أن تضخّم من إمكاناتها الذاتية، وإما تقلّل من إمكانات خصمها، وقد يقودها ذلك إلى «حرق المراحل»، لأن «التغيير» لن يتحقق من دون حصول التراكم المطلوب والتطوّر التدرّجي وتلبية المطالب التي تخصّ الناس وصولاً إلى الهدف الأساسي.
وإذا كان المبرّر أن الأنظمة لا تستجيب للمطالب الشعبية، وتدير ظهرها للإصلاح، وتعزف عن التغيير، وترفض الحوار مع الفاعليات والأنشطة السياسية غير الحاكمة، فإن ذلك لا ينبغي أن يدفعها إلى التشدّد، والتطرّف، والعنف، لأن اللجوء إليه يقود إلى العزل والعزلة حتى من لدن أوساط تتّفق معها حول قضايا الإصلاح والتغيير، كما أنه ليس مبرراً التعاون مع قوى خارجية، مهما كانت تسمياتها، بحجة عجزها عن تحقيق مطالبها وحدها.
إن ازدراء المطالب الاحتجاجية، واستصغارها، والاستخفاف بها، والقفز مرّة واحدة إلى القضايا الكبرى والأهداف الاستراتيجية، هي التي تجعل الخلل في العمل السياسي ظاهرة شائعة، لاسيّما في استسهال رفع الشعارات الصاخّبة، فتبليط شارع، أو بناء مدرسة، أو إنشاء مستوصف، أو مستشفى في حي، أو ضاحية، أو خفض الضرائب، أو توسيع مجالات الاستفادة من الضمان الاجتماعي والتقاعد والعناية بالمسنين وحماية الطفولة والأمومة، وتعزيز حقوق المرأة، وإيجاد فرص عمل للشباب، وكل ما يتعلق بتحسين مستوى المعيشة، هي هموم مطلبية وجزئية، ولكنها أساسية لسير عجلة الحياة، وهي التي ينبغي أن ينشغل بها العمل السياسي العربي في مختلف البلدان، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، لأن مهمة تحسين الحياة المادية والروحية للإنسان، تبقى مطالب يومية متراكبة، ومتخالقة، ومتطوّرة، تنمو باستمرار وتتشعّب وتتسع، وتحتاج من جانب السلطة ومعارضتها والمجتمع المدني وأصحاب الأعمال، إلى التعاون لتلبية ما هو ممكن منها ضمن خطط تنموية مستدامة.
إن أي تطوّر يحتاج إلى تراكم، حتى إنْ كان بطيئاً، لاسيّما في مجالات أساسية، مثل: التعليم، والصحة، والخدمات، والعمل، والضمان الاجتماعي، ومجال الحريات والحقوق، وعكس ذلك فإن البلدان التي حاولت اختزال التطوّر بانقلابات وثورات وتغييرات سريعة، وبالقوة، أو عبر الوسائل المسلحة والعنفية، بغض النظر عن اضطرارها بسبب تشبث الأنظمة السياسية، وصلت لاحقاً إلى طريق مسدود حتى إن حقّقت مكتسبات مرحلية لا يمكن الاستهانة بها، لكنها ارتدّت على أعقابها لاحقاً، الأمر الذي أضاع سنوات من التنمية، وعطّل المسار التدرّجي والتاريخي لها.
وإذا تمكّنت تلك البلدان عبر الثورات من إحداث نمو اقتصادي وتطور في مجالات صناعية وزراعية عدة، فإنها اصطدمت لاحقاً بعقبات كبرى، خصوصاً في الجوانب المدنية والسياسية والإنسانية، وتجربة البلدان الاشتراكية، وأنظمة ما أسميناه «حركة التحرر الوطني» خير دليل على ذلك.
إن الأهداف الكبرى هي أهداف عادلة ومشروعة، لكنها ليست يومية، أو آنية، أو راهنية، إلّا إذا استثنينا تحرير الأراضي، وصدّ العدوان، وتحقيق الاستقلال، وحق تقرير المصير، لكن ذلك لا يمنع من وضعها ضمن البرامج المستقبلية، فالملحّ والضروري الذي لا يقبل التأجيل، هو تحسين حياة الناس، وإيجاد فرص عمل، والقضاء على الأميّة، وتأمين المستلزمات الضرورية للصحة والبيئة، ومكافحة الفساد المالي والإداري، ومواجهة التعصّب والتطرّف، والعنف، وتحقيق التعايش السلمي والمجتمعي.
ويحتاج الأمر إلى إصلاح نظم الحكم والإدارة، وتعزيز وتطوير حكم القانون الذي يقول عنه مونتسكيو «إنه مثل الموت، لا يفرق بين الناس»، خصوصاً بوجود قضاء نزيه ومستقل، وإجراء مصالحة حقيقية بين السلطات الحاكمة وشعوبها، بضمان الحقوق الجماعية والفردية، وتلك مسؤولية مشتركة وإن كانت درجاتها متفاوتة، ولكن شراكة المجتمع المدني ورقابته مسألة في غاية الأهمية، لاسيّما مساهمته في صنع القرار، وفي تنفيذه، كما أن من واجبه أن يتحوّل إلى «قوة اقتراح»، وليس «قوة احتجاج»، فحسب.
ولعل مناسبة الحديث هذا هو انعقاد «مؤتمر فكر 16» الموسوم «تداعيات الفوضى وتحدّيات صناعة الاستقرار» الذي نظّمته «مؤسسة الفكر العربي» في دبي، والذي خصّص أحد جلساته لمناقشة «اختلال آليات العمل السياسي»، خصوصاً حين يتم اللجوء إلى العنف لحلّ الخلاف بين الحاكم والمحكوم، تلك التي ستلحق ضرراً بالمجتمع ككلّ، لاسيّما وإن دورات العنف، والفعل ورد الفعل إذا ما استحكمت بالمتصارعين فإنها ستزرع ألغاماً يمكن أن تنفجر في كل لحظة لتدمّر ما بنتّه سواعد الأجيال، وهو ما كان محط مراجعة مهمة من عدد من المسؤولين، وأصحاب القرار، وقادة الفكر والأكاديميين في هذا المؤتمر. تلك المراجعة التي تحتاج إلى حوار مجتمعي ومن موقع نقدي لرسم مشروع نهضوي عربي جديد لإنسان عربي جديد وثقافة جديدة، وهو العنوان الأساس لمؤتمر "فكر" هذا العام.


drhussainshaban21@gmail.com


326
سكريبال والحرب الدبلوماسية
                     
عبد الحسين شعبان
لم يشهد العالم منذ انهيار جدار برلين العام 1989 أزمة دبلوماسية كبرى مثلما هي أزمة تسميم الجاسوس الروسي المزدوج سيرجي سكريبال، وابنته يوليا، في مدينة سالزبري بجنوب بريطانيا. وتذكّر هذه الأزمة التي نشبت بين روسيا وبريطانيا، بأزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962. ومثلما اصطف الغرب حينها مع واشنطن، فإنه يقف الآن خلف لندن، في حين تحاول روسيا مواجهته بمحور روسي - صيني - إيراني، وتسعى لاستمالة تركيا على خلفية ردود فعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إزاء الانقلاب العسكري الفاشل في العام 2016، وتوتر العلاقة مع الغرب بشأن الموقف من الأكراد في سوريا.
سكريبال إذاً، هو «كلمة السر» لحملة جديدة من الحرب الباردة التي كانت تعتمل مثل النار تحت الرماد في إطار مواجهة غربية شاملة مع الكرملين، وزعيمه فلاديمير بوتين الذي فاز بولاية رابعة بعد أسبوعين من اندلاع الأزمة مع بريطانيا إثر حادث التسمّم في 4 مارس/ آذار 2018. وعلى الرغم من عقد منظمة حظر الأسلحة النووية التي مقرّها لاهاي جلسة في 4 إبريل/ نيسان الجاري لمناقشة القضية وعقد مجلس الأمن الدولي جلسة أخرى في اليوم التالي، لكن الادعاءات والاتهامات المتبادلة ظلّت مهيمنة على الموقف.
ثلاث تطورات جديدة تستحق التوقف عندها منذ اندلاع الأزمة:
أولها- مشاركة فرنسا في التحقيقات، حيث تساءلت موسكو على أي أساس تم إشراكها في الجانب التقني الذي أصيب به مواطنان روسيان، وما علاقتها بحادث وقع على الأراضي البريطانية؟ وما هي القواعد التشريعية الإجرائية التي تسمح لدولة أجنبية بالتدخل في تحقيق داخل المملكة المتحدة؟ في حين أن طلبها المشاركة في التحقيق لم يُلَب.
وثانيها، أن المختبر البريطاني لم يستطع التأكّد من المصدر الدقيق لغاز الأعصاب الذي أطلق عليه «نوفيتشوك»، لكنه قال إنه من الصنف الذي يستخدم عسكرياً، وإنه مادة سامة جداً، وحسب مركز الأبحاث الدفاعية (بورتون داون): لا يوجد دواء (ترياق) مضاد يمكن استخدامه لإلغاء تأثيرها.
وثالثها- مذكرة وزارة الخارجية الروسية المرسلة إلى نظيرتها البريطانية التي تضمنت 14 سؤالاً (31 مارس /آذار/2018)، بشأن توضيح سبب حرمان روسيا من حق وصول قنصلها إلى اثنين من مواطنيها المصابين على الأراضي البريطانية، كما طلبت توضيح الدواء الذي استخدم لمعالجتهما، وكيف حصل عليه الأطباء البريطانيون؟
وهكذا أخذت القضية تتدحرج مثل كرة الثلج، حيث ارتفع منسوب حدّة التوتر والصراع بين موسكو ولندن، وبين الأولى والغرب عموماً، وإنْ كانت أسباب أخرى لا يمكن إهمالها، منها: الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط، ولاسيّما في سوريا، إضافة إلى أوكرانيا ودول شرق أوروبا التي خلعت المعطف السوفييتي لترتدي طقم حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وكان سكريبال أدين في روسيا في العام 2006 بتهمة التجسس لمصلحة بريطانيا. وقد حُكم عليه لمدة 13 عاماً، ولكن أطلق سراحه بعد أربعة أعوام، ولجأ إلى بريطانيا في إطار صفقة لتبادل الجواسيس مع الولايات المتحدة. وقد حملت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، على روسيا واتّخذت طائفة من الإجراءات ضدّها، من أبرزها طرد 23 دبلوماسياً، وإعلانها عدم مشاركة وزراء، أو أفراد من العائلة الحاكمة، في كأس العالم الذي ستستضيفه روسيا في صيف العام الجاري 2018، فضلاً عن تجميد أصول الدولة الروسية في بريطانيا.
وردّت روسيا بالمثل، فقامت بطرد عدد مساوٍ لما أقدمت عليه بريطانيا (23 دبلوماسياً). لكن هذا الحادث لم يقتصر على الدولتين، بل امتدّ ليشمل الغرب، حيث قامت 29 دولة بطرد 145 مسؤولاً روسياً تضامناً مع بريطانيا، وكانت ردود فعل موسكو لا تختلف عن رد فعلها على بريطانيا فأعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: إن بلاده قرّرت طرد 60 دبلوماسياً أمريكياً ردّاً على قرار واشنطن طرد الدبلوماسيين الروس، كما أقدمت موسكو على إغلاق القنصلية الأمريكية في مدينة سان بطرسبرج، وسلّمت موسكو خطاب احتجاج للسفير البريطاني لوري برستو، اعتبرت ما قامت به لندن يمثّل «إجراءات استفزازية».
جدير بالذكر أن روسيا نفت عن نفسها تهمة تصنيع المادة السامة وحاولت التقليل من أهمية الجاسوس المزدوج، وإلّا لما أطلقت سراحه، واتهم لافروف بريطانيا وشركاءها بممارسة «ألعاب صبيانية»، «تتجاهل كل قواعد السلوك المقبولة».
ولم يكتفِ الروس بذلك، بل روّجوا بضع مقولات من شأنها أن تُلقي الكرة في الملعب البريطاني، منها أن بريطانيا تعيش «وضعاً غير مريح» وجدت نفسها فيه بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن هذه الحادثة ليست الأولى، فهناك عدد من الاختراقات للأمن البريطاني شملت عدداً من الروس، وأنه لا وجود لأدلة قاطعة تؤكد على التورّط، الأمر الذي يلقي بالمزيد من ظلال الشك والغموض على الحادث، فضلاً عن التباساته وتداعياته. وأخيراً أيمكن أن يكون طرفاً ثالثاً مستفيداً وراء هذه الجريمة، كما نقول في القانون الجنائي؟
drhussainshaban21@gmail.com



327
«ثقافة السلام» و«سلام الثقافة»
                     
عبد الحسين شعبان
مثلث مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين، وجهاً مشرقاً للثقافة العربية، فهي لم تقتصر على الشعر فحسب، بل ساهمت في الانفتاح على الثقافات العالمية، ولاسيّما حين عملت مع منظمات دولية مرموقة لنشر ثقافة السلام من خلال إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتواصل الإنساني. وسعت باستمرار لتقديم الوجه الإيجابي للعرب والمسلمين، ولاسيّما الصورة المتسامحة والمعتدلة.
والمتتبع لحركة الثقافة الكويتية يشعر بالاعتزاز، فقد كانت الكويت حتى قبل استقلالها مهجوسة بالثقافة وبالحداثة، ومنذ أواسط الخمسينات اتجهت لاستقطاب أدباء ومفكرين ومثقفين عرب. وكان تأسيس «مجلة العربي» وفّر زاداً معرفياً مهماً تغذّى عليه جيل متلهف للمعرفة والعلم والثقافة، وعلى مدى عقود ساهمت هي ومجلات أخرى تختص بالفكر والثقافة العالمية والفنون والإبداعات والمسرح والترجمة في تخصيب أرضية ثقافية إيجابية، للتواصل والتفاعل بين المثقفين العرب.
مناسبة الحديث هذا هو انعقاد الدورة الحادية عشرة لمهرجان البابطين، حيث أعلن فيها تأسيس «مركز البابطين للثقافة العربية» في جامعة لايدن الهولندية التي تأسست في العام 1575 وتقرّر أن يعقد «منتدى البابطين العالمي للسلام» في العام المقبل 2019 بالتعاون مع الأمم المتحدة، في إحدى المدن العالمية التي ترمز للسلام، وذلك بحدّ ذاته إحدى رسائل السلام الثقافية للعالم.
جدير بالذكر إن عبد العزيز البابطين كان قد تقدّم بمبادرة للسلام، وصدرت في كرّاس بعنوان «تأملات من أجل السلام» قدّم له وزير خارجية مالطا الأسبق ورئيس برلمانها الفخري مايكل فريندو، وتضمنت سبع قواعد من أجل السلام ووسائل تحقيقه.
وتمثل المبادرة نداءً ضميرياً ووجدانياً باعتبار السلام قيمة إنسانية عليا، وهدفاً لا بدّ من العمل على تحقيقه وأسلوب حياة، في الوقت نفسه ينبغي اعتماده لنبذ العنف وكل ما يتعلّق بسياسات إملاء الإرادة واستخدام القوة أو التهديد بها لفرض الهيمنة أو الاستقواء على الآخرين تحقيقاً لرغبات أنانية ضيقة.
إن مبادرة السلام الثقافية العربية تعكس الاهتمام الحيوي والرغبة الصادقة في الإقرار بالتنوّع والتعددية والاعتراف بالآخر بغض النظر عن معتقده ودينه وقوميته وجنسه ولغته ولونه وأصله الاجتماعي، ولن يتحقق ذلك سوى من خلال الحوار الصريح والصادق على أمل تحقيق السلام بين الدول والشعوب، وفي داخلها أيضاً، فالسلام حاجة إنسانية ماسّة وضرورية لبني البشر، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطور أو يتقدم دونها.
و«لا سلام حقيقياً دون عدالة» ودون تعاون من جميع الفرقاء للوصول إليه، ولعلّ مقولة مهمة تتردّد دائماً على لسان الشيخ البابطين مضمونها: «عالم بلا سلام هو عالم مظلم» وهو مظلمٌ حقاً، فالحروب بغض النظر عن طبيعتها تلحق ضرراً بالغاً بالشعوب والأفراد على حد سواء، ولاسيّما ما يستقرّ ذلك بأذهانها، وخصوصاً ما تتركه من ضحايا ومآس وممارسات لا إنسانية تصاحبها عادة، حيث تزرع الكراهية والأحقاد والرغبة في الانتقام، سواء كانت حروباً دولية أم أهلية.
إن قواعد السلام السبع التي تطرحها المبادرة تقوم وترتبط بالثقافة فكراً ومحتوى، ذلك إن استمرار الحرب والزعم بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، لن يجرّ سوى المزيد من الويلات، وبالتالي فإن البحث عن السلام هو القيمة الحقيقية لوضع حدّ للحروب، وخصوصاً إذا كان مترافقاً مع العدالة، إذْ لا ينبغي أن تكون الغاية شريفة، بل لا بدّ أن تكون الوسيلة كذلك، والغاية إلى الوسيلة مثل البذرة إلى الشجرة حسب المهاتما غاندي قائد المقاومة اللّاعنفية، وليس مبرراً استخدام وسيلة غير شريفة بحجة أن الوسيلة شريفة، لأن الوسيلة جزء من الغاية ولا تنفصل عنها، و«رذيلتان لا تنجبان فضيلة» مثلما «جريمتان لا تنتجان عدالة».
واستلهمت القواعد السبع لصنع السلام من التاريخ الإنساني. أولها: هو الاحترام والصدق، وذلك أساس ثقافة السلام، لأن السلام ضرورة لا غنى عنها وهذه هي القاعدة الثانية التي تحتاج إلى تفاعل وتواصل وتبادل لاستمرار الوجود البشري، وثالثها: هي الإجماع في عملية بناء السلام، ورابعها: أن السلام حاجة وينبغي أن تكون شاملة ودائمة.وخامسها إن السلام مسار متواصل، أي سيرورة طويلة الأمد يحتاج إرساؤه إلى عمل مثابر ودائم وبناء مستمر، ومثلما يقول ميثاق اليونيسكو التأسيسي: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام». وسادسها: إن السلام ثقافة، أي أنها بحاجة إلى رعاية وترصين بالأدب والفن والفكر والدين والسلوك والعيش المشترك والوعي بأهمية ذلك ومن خلال الإعلام ووسائل الاتصال، لكي يترسخ ويتعزز باستمرار.وسابعها أن السلام تربية وتعليم، لا بدّ من إعداد الأجيال الحالية والقادمة عليها، ابتداء من الحضانة وحتى الجامعة.
والسلام ينبغي أن يكون درساً أصيلاً ومستمراً ودون انقطاع وعليه تدور القيم الأخرى مثل التسامح والتآزر والمساواة والعدالة والحرية والتضامن وغيرها، وذلك بوسائل عديدة منها فعل الخير وإصلاح ذات البين والوساطة وخريطة طريق وعمل مشترك وتفاعلي، خصوصاً بالمساواة بين البشر وعدم التمييز، لأن السلام مطلب جماعي إنساني شامل.
drhussainshaban21@gmail.com


328
القدس ومعركة القانون والدبلوماسية

عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
I
   "إن أي نقاش أو تصويت أو قرار لن يغيّر من الحقيقة التاريخية، وهي إن القدس عاصمة الشعب اليهودي وعاصمة إسرائيل". بهذه اللغة الاستعلائية والاستفزازية واجه داني دانون مندوب "إسرائيل" في الأمم المتحدة قرار الجمعية العامة الصادر في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2017، الخاص برفض قرار الإدارة الأمريكية بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة. وأكثر من ذلك أنه اعتبر الفلسطينيين يواصلون تضليل المجتمع الدولي والاختباء خلف مداولات فارغة المضمون، بدلاً من الجلوس حول طاولة المفاوضات. فكيف يمكن النظر إلى القرار الأممي من زاويتنا كعرب ومعنيين بالفكر القانوني والحقوقي الدولي؟
   الملاحظة الأولى التي يمكن إدراجها على هذا الصعيد هو ما أثاره قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول القدس من جدل فقهي قانوني وسياسي واسع حول أهميته وتأثيره، ناهيكم عن إمكانية تطبيقه في الحال أو في المستقبل، لاسيّما لإصدار قرارات أخرى استناداً إليه لمنع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تنفيذ قراره بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وهو القرار الذي سبق للكونغرس الأمريكي أن اتخذه العام 1995 وكان الرؤساء الثلاثة بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما قد أجّلوا تنفيذه خلال عقدين ونيّف من الزمان.
   إما الملاحظة الثانية فهي التي تتجلّى بشبه الإجماع الدولي الذي حظي به القرار الذي نال تصويت 128 دولة داعمة له، مقابل تسعة أصوات رافضة وامتناع 35 دولة عن التصويت وانسحاب دولتين. ولعلّه من القرارات المهمة التي صدرت من الجمعية العامة بهذا القدر من الانحياز الأقرب إلى التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وهذا له أكثر من  دلالة وأعمق من معنى.
   الملاحظة الثالثة إن الجمعية العامة عقدت جلسة استثنائية لتصدر هذا القرار التاريخي وهي الجلسة العاشرة الاستثنائية في تاريخ تأسيس المنظمة الدولية منذ العام 1945 وحتى الآن، ولم يكن ذلك بمعزل عن معركة دبلوماسية دولية ينبغي على العرب مواصلتها، وعدم الإنكفاء بشأنها كما حصل عند إلغاء القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، والذي صدر في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1975 في عهد الأمين العام الأسبق كورت فالدهايم، وتم إلغاؤه في ديسمبر (كانون الأول) العام 1991، بسبب تراجع الحد الأدنى من التضامن العربي بعد غزو الكويت، واختلال موازين القوى على المستوى الدولي، إثر انهيار وتفكك الكتلة الاشتراكية.
   الملاحظة الرابعة تتعلّق بمضمون القرار فقد جاء واضحاً ويصبّ في قرارات دولية سابقة من المهم التذكير بها، وذلك برفضه أية إجراءات تهدف إلى تغيير الوضع القانوني لمدينة القدس المحتلّة واعتبار تلك الإجراءات ملغاة وباطلة، كما دعا إلى تكثيف الجهود لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في الشرق الأوسط،  والتي لها وضع خاص بموجب القرار الأممي المعروف باسم قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 والذي أنشئت وفقاً له دولة "إسرائيل" في 15 مايو (أيار) 1948.
    كما أن قرار الجمعية العامة  ينسجم مع العديد من القرارات التي اتّخذتها الأمم المتحدة، وخصوصاً القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بتاريخ 20 أغسطس (آب)  1980 بخصوص عدم الاعتراف بضم "إسرائيل" القدس إليها وفقاً لقرار صادر من الكنيست بالضد من الشرعية الدولية، وذلك بعد احتلالها العام 1967، علماً بأنها حسب قرارات الأمم المتحدة ظلّت تتمتع بوضع خاص وهو ما جاء به القرار 181 لعام 1947. والقرار 478 واحد من سبع قرارات أدانت ضم القدس من جانب "إسرائيل" واعتبارها عاصمة لها.
   يُذكر أن "إسرائيل" ضمّت القدس الشرقية إليها العام 1980 بعد احتلالها العام 1967 وأعلنتها عاصمة موحدة لها ولم يعترف المجتمع الدولي بذلك. وكان قرار المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988 قد اعتبر القدس عاصمة للدولة الفلسطينية التي يعترف بها العالم، وكان مثل هذا التطوّر حصل باعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل عن الشعب العربي الفلسطيني العام 1974 ثم قبولها كعضو العام 2012 في الأمم المتحدة ، وكذلك في العديد من المنظمات الدولية.
   الملاحظة الخامسة إن قرار الجمعية العامة جاء بعد قرار اتخذته منظمة اليونسكو يوم 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 بنفي ارتباط اليهود كدين بالمسجد الأقصى وحائط البراق ويعتبرهما تراثاً دينياً إسلامياً خالصاً. كما يتساوق مع قرار اتخذه مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام، حيث طالب فيه "إسرائيل" بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأكّد على  عدم شرعية إنشائها للمستوطنات منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية .
   وعلى الرغم من ردّة الفعل الواسعة الشعبية والرسمية، العربية والإسلامية والدولية، بشأن قرار الرئيس ترامب، فإن مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن الدولي من جانب مصر نيابة عن فلسطين، تحاشى الإشارة إلى الولايات المتحدة بالاسم، ولكنه دعا الدول لعدم الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة " إسرائيل" وطالبها بعدم نقل سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية إليها. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة استخدمت "حق الفيتو" لمنع إصدار مثل هذا القرار.
   وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ذهب أبعد من ذلك حين هدّد بمعاقبة الدول التي تصوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً تلك التي تتلقّى مساعدات مالية من الولايات المتحدة. وكانت نيكي هيلي قد أعلنت عن إصرار بلادها المضي في هذا الطريق قائلة: أنه حقها كدولة ذات سيادة وأن قرار واشنطن يعكس رغبة الشعب الأمريكي.
II
   رأيان يتنازعان بشأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وهما يشتبكان بخصوص اختصاصات مجلس الأمن والجمعية العامة: الأول- يعتبر القرار إلتفاف على اختصاصات مجلس الأمن الدولي. أما الثاني- فيقرر عند فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار يتعلّق بالسلم والأمن الدوليين، فيمكن إحالة المسألة إلى الجمعية العامة، وهناك سوابق قانونية بذلك، من أولها القرار رقم 377 والمعروف باسم "الاتحاد من أجل السلام" لعام 1950 بشأن المسألة الكورية.
   وإذا كان هناك من يعتبر قرار الجمعية العامة هزيمة لواشنطن ، فهناك من يخفّف من القيمة القانونية لمثل هذا القرار ويهوّن من حجيته القانونية على الرغم من كونه يشكّل  سابقة قانونية دولية يمكن الاستناد إليها، والمقصود بذلك القرار 377 بشأن كوريا. وكان مجلس الأمن الدولي قد أخفق في التوصّل إلى قرار بشأن الوضع في كوريا، فلجأت واشنطن إلى الجمعية العامة لتحصل على الأغلبية فيه ولتمنع الاتحاد السوفييتي في حينها من استخدام "حق الفيتو".
   وكانت الولايات المتحدة تحاول إرسال قوات إلى كوريا بإصدار قرار من مجلس الأمن، ولكنها لم تفلح في ذلك، فلجأت إلى الجمعية العامة كمخرج مناسب، خصوصاً باحتمال لجوء الاتحاد السوفيتي إلى حق استخدام الفيتو، وكذلك لإمكانها الحصول على الأغلبية فيها حين كانت موازين القوى لصالحها في الجمعية العامة. والمفارقة أن واشنطن التي تبنّت مثل هذا الخيار آنذاك، نراها اليوم ترفض نتائجه.
   وعلى الرغم من أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص القدس يمثّل "توصية" هي أقل من حيث القوة القانونية التي تمتلكها قرارات مجلس الأمن الدولي، إلاّ أنه من ناحية أخرى يسمح بالذهاب لمحكمة العدل الدولية، التي من اختصاصاتها الفصل في النزاعات الدولية (بين الدول) التي تُعرض عليها وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية والنصوص والوثائق القانونية، وكذلك إصدار فتاوى استشارية، أي إصدار أحكام مدنية وليست جزائية بخصوص القضايا المعروضة عليها. ومحكمة العدل الدولية هي محكمة حقوقية تقضي بالمسؤولية المدنية والتعويض.
   واستناداً إلى هذه السابقة القانونية المهمة يمكن إقامة دعوى لطلب التعويض وهو ما حصل بعد المجازر المرتكبة من جانب صربيا، إذْ طلبت الجهات المتضرّرة من صربيا (البوسنة والهرسك من محكمة العدل الدولية العام 1993 وقف هذه المجازر وطلب التعويض). ولا ينبغي الاستخفاف بطلب التعويض أو بإصدار حكم مدني، لأن هذا الأخير لو صدر فإنه سيسهم لاحقاً بملاحقة المرتكبين عبر محكمة جنائية كأن تكون المحكمة الجنائية الدولية، والأمر يحتاج إلى طائفة من الإجراءات التي ينبغي اتباعها بما ينص عليه ميثاقها (ميثاق روما الذي صدر في العام 1998 ودخل حيز التنفيذ في العام 2002) لاتخاذ العقوبات اللازمة بموجب قواعد القانون الدولي المعاصر المعتمدة وقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف، الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية غير المسلحة والصادران عن المؤتمر الدبلوماسي 1974-1977.
   إن هذا القرار من شأنه حمل المعتدي على وقف جرائمه، وفي حالة القدس فالمقصود جرائم الاستيطان والعنصرية، ناهيك عن الاحتلال غير الشرعي وغير القانوني استناداً إلى القرار 181، باعتبار ما حصل بشأنها من جانب "إسرائيل" يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي وتهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين، فكيف تُقدم الولايات المتحدة على مجاراة هذه المخالفة القانونية الدولية السافرة وتعترف بالقدس عاصمة لدولة "إسرائيل"، والأمر يمتد إلى من تستّر على هذه الجريمة أو تواطأ مع المعتدي، أو قام بالتدليس أو بالإكراه.
   وإذا كانت هذه جريمة دولية، فاستناداً إلى "كونية الحق" يمكن الملاحقة على الجرائم الدولية الأخرى الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان.


329
«ثقافة السلام» و«سلام الثقافة»
                     
عبد الحسين شعبان
مثلث مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين، وجهاً مشرقاً للثقافة العربية، فهي لم تقتصر على الشعر فحسب، بل ساهمت في الانفتاح على الثقافات العالمية، ولاسيّما حين عملت مع منظمات دولية مرموقة لنشر ثقافة السلام من خلال إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتواصل الإنساني. وسعت باستمرار لتقديم الوجه الإيجابي للعرب والمسلمين، ولاسيّما الصورة المتسامحة والمعتدلة.
والمتتبع لحركة الثقافة الكويتية يشعر بالاعتزاز، فقد كانت الكويت حتى قبل استقلالها مهجوسة بالثقافة وبالحداثة، ومنذ أواسط الخمسينات اتجهت لاستقطاب أدباء ومفكرين ومثقفين عرب. وكان تأسيس «مجلة العربي» وفّر زاداً معرفياً مهماً تغذّى عليه جيل متلهف للمعرفة والعلم والثقافة، وعلى مدى عقود ساهمت هي ومجلات أخرى تختص بالفكر والثقافة العالمية والفنون والإبداعات والمسرح والترجمة في تخصيب أرضية ثقافية إيجابية، للتواصل والتفاعل بين المثقفين العرب.
مناسبة الحديث هذا هو انعقاد الدورة الحادية عشرة لمهرجان البابطين، حيث أعلن فيها تأسيس «مركز البابطين للثقافة العربية» في جامعة لايدن الهولندية التي تأسست في العام 1575 وتقرّر أن يعقد «منتدى البابطين العالمي للسلام» في العام المقبل 2019 بالتعاون مع الأمم المتحدة، في إحدى المدن العالمية التي ترمز للسلام، وذلك بحدّ ذاته إحدى رسائل السلام الثقافية للعالم.
جدير بالذكر إن عبد العزيز البابطين كان قد تقدّم بمبادرة للسلام، وصدرت في كرّاس بعنوان «تأملات من أجل السلام» قدّم له وزير خارجية مالطا الأسبق ورئيس برلمانها الفخري مايكل فريندو، وتضمنت سبع قواعد من أجل السلام ووسائل تحقيقه.
وتمثل المبادرة نداءً ضميرياً ووجدانياً باعتبار السلام قيمة إنسانية عليا، وهدفاً لا بدّ من العمل على تحقيقه وأسلوب حياة، في الوقت نفسه ينبغي اعتماده لنبذ العنف وكل ما يتعلّق بسياسات إملاء الإرادة واستخدام القوة أو التهديد بها لفرض الهيمنة أو الاستقواء على الآخرين تحقيقاً لرغبات أنانية ضيقة.
إن مبادرة السلام الثقافية العربية تعكس الاهتمام الحيوي والرغبة الصادقة في الإقرار بالتنوّع والتعددية والاعتراف بالآخر بغض النظر عن معتقده ودينه وقوميته وجنسه ولغته ولونه وأصله الاجتماعي، ولن يتحقق ذلك سوى من خلال الحوار الصريح والصادق على أمل تحقيق السلام بين الدول والشعوب، وفي داخلها أيضاً، فالسلام حاجة إنسانية ماسّة وضرورية لبني البشر، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطور أو يتقدم دونها.
و«لا سلام حقيقياً دون عدالة» ودون تعاون من جميع الفرقاء للوصول إليه، ولعلّ مقولة مهمة تتردّد دائماً على لسان الشيخ البابطين مضمونها: «عالم بلا سلام هو عالم مظلم» وهو مظلمٌ حقاً، فالحروب بغض النظر عن طبيعتها تلحق ضرراً بالغاً بالشعوب والأفراد على حد سواء، ولاسيّما ما يستقرّ ذلك بأذهانها، وخصوصاً ما تتركه من ضحايا ومآس وممارسات لا إنسانية تصاحبها عادة، حيث تزرع الكراهية والأحقاد والرغبة في الانتقام، سواء كانت حروباً دولية أم أهلية.
إن قواعد السلام السبع التي تطرحها المبادرة تقوم وترتبط بالثقافة فكراً ومحتوى، ذلك إن استمرار الحرب والزعم بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، لن يجرّ سوى المزيد من الويلات، وبالتالي فإن البحث عن السلام هو القيمة الحقيقية لوضع حدّ للحروب، وخصوصاً إذا كان مترافقاً مع العدالة، إذْ لا ينبغي أن تكون الغاية شريفة، بل لا بدّ أن تكون الوسيلة كذلك، والغاية إلى الوسيلة مثل البذرة إلى الشجرة حسب المهاتما غاندي قائد المقاومة اللّاعنفية، وليس مبرراً استخدام وسيلة غير شريفة بحجة أن الوسيلة شريفة، لأن الوسيلة جزء من الغاية ولا تنفصل عنها، و«رذيلتان لا تنجبان فضيلة» مثلما «جريمتان لا تنتجان عدالة».
واستلهمت القواعد السبع لصنع السلام من التاريخ الإنساني. أولها: هو الاحترام والصدق، وذلك أساس ثقافة السلام، لأن السلام ضرورة لا غنى عنها وهذه هي القاعدة الثانية التي تحتاج إلى تفاعل وتواصل وتبادل لاستمرار الوجود البشري، وثالثها: هي الإجماع في عملية بناء السلام، ورابعها: أن السلام حاجة وينبغي أن تكون شاملة ودائمة.وخامسها إن السلام مسار متواصل، أي سيرورة طويلة الأمد يحتاج إرساؤه إلى عمل مثابر ودائم وبناء مستمر، ومثلما يقول ميثاق اليونيسكو التأسيسي: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام». وسادسها: إن السلام ثقافة، أي أنها بحاجة إلى رعاية وترصين بالأدب والفن والفكر والدين والسلوك والعيش المشترك والوعي بأهمية ذلك ومن خلال الإعلام ووسائل الاتصال، لكي يترسخ ويتعزز باستمرار.وسابعها أن السلام تربية وتعليم، لا بدّ من إعداد الأجيال الحالية والقادمة عليها، ابتداء من الحضانة وحتى الجامعة.
والسلام ينبغي أن يكون درساً أصيلاً ومستمراً ودون انقطاع وعليه تدور القيم الأخرى مثل التسامح والتآزر والمساواة والعدالة والحرية والتضامن وغيرها، وذلك بوسائل عديدة منها فعل الخير وإصلاح ذات البين والوساطة وخريطة طريق وعمل مشترك وتفاعلي، خصوصاً بالمساواة بين البشر وعدم التمييز، لأن السلام مطلب جماعي إنساني شامل.
drhussainshaban21@gmail.com




330
تيلرسون و«سحر» الدبلوماسية
عبد الحسين شعبان
كانت إقالة ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي 13 مارس/ آذار 2018، متوقّعة منذ بضعة شهور، حيث تردّد الكثير من التسريبات عن الخلاف بينه وبين الرئيس دونالد ترامب، لدرجة إحراجه خارج حدود اللياقة والبروتوكول لأكثر من مرّة. وفي الوقت الذي كان مهندس السياسة الخارجية الأمريكية يسعى إلى التهدئة، سواء بالنسبة للملف الكوري الشمالي، أو الملف النووي الإيراني، ويعمل جاهداً للتخفيف من حدّة التباعد في الموقف الأوروبي، كان الرئيس ترامب يحلّق عالياً ويتّجه بعيداً عن وزير خارجيته الذي يبحث في الملفات على الأرض، ويقوم بزيارات مكوكية للعديد من العواصم.
وإذا كان تيلرسون من مدرسة هنري كيسنجر، وزير الخارجية والأمن القومي الأسبق، وصاحب «الدبلوماسية الواقعية»، أو «الواقعية الدبلوماسية»، فهل ستكون إقالته آخر ما تبقى من طيف كيسنجر الذي تجوّل في أروقة البيت الأبيض سنوات، وترك سحره أثراً كبيراً في سياسات واشنطن؟ وهل ستكون إقالته آخر المسلسل للطاقم القيادي الذي جاء معه، أم ثمة استحقاقات أخرى؟
حسبما يبدو، فإن مسلسل الإقالات مستمر منذ أن تولّى ترامب الرئاسة، فقد شملت في اليوم ذاته الذي أقيل فيه ستيفن جولدستون، مساعد وزير الخارجية لشؤون الدبلوماسية والعلاقات العامة، وجون ماكينتْي كبير المستشارين لحملته الانتخابية القادمة لعام 2020، وفي وقت سابق استقال توم برايس، وزير الصحة، وقبله أقال ستيف بانون كبير المستشارين، والملقّب «أمير الظل، أو أمير الظلام»، وكان أنطوني سكارموتشي مدير الاتصالات في البيت الأبيض قد أقيل، كما أقال راينس بريبوس كبير موظفي البيت الأبيض، وشون سبايسر المتحدث باسم البيت الأبيض، وجيمس كومي مدير ال FBI، وإنجيلا ريد كبيرة فريق المراسم المنزلية في البيت الأبيض، كما استقال مايكل فلين من منصبه كمستشار للأمن القومي، وأقال سالي يايتيس، وزيرة العدل بالوكالة، ودانيال راجسديل، مسؤول إدارة الهجرة والجمارك، وغيرهم. كما أقال مؤخراً مستشار الأمن القومي ماكماستر، وعين جون بولتون بديلاً له.
صحيح أن النظام الدستوري الأمريكي يمنح الرئيس صلاحيات تكاد تكون مطلقة، في كلّ ما يتعلّق بالسلطة التنفيذية، ومهمة الوزراء تنفيذ قراراته، وتلبية رغباته، شريطة ألّا تتعارض مع الدستور، وإذا كان لهم حق الاعتراض، إلّا أن القرار الأخير للرئيس، فإذا أصرّ على رأيه، فللوزير الانصياع أو الاستقالة، أما الرقابة على الرئيس فهي من السلطة التشريعية، وهذه تتحدّد بمخالفة الدستور، أو الخيانة العظمى، وعندها يمكن أن تتحرّك لسحب الثقة منه، أو الضغط عليه لتقديم استقالته، وتتم المعالجة دستورياً.
وإذا كان تيلرسون قد جاء من خلفية نفطية، فإن خلفه وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو جاء من خلفية أمنية، وفي حين كان الأول يسعى لامتصاص بعض هفوات الرئيس، واندفاعاته، وشطحاته، فإن الثاني، حسبما يبدو، كان من المعجبين والمؤيدين لسياساته، وبذلك يكون ترامب تخلّص من طاقمه الذي جاء معه، ومن الكثير ممن لم يؤيدوه الرأي.
لقد اعتمد تيلرسون على منهج كيسنجر، فأعلى من شأن الدبلوماسية واعتبرها «الأولوية في السياسة الأمريكية»، وحاول أن يهندس استراتيجية واشنطن وفقاً لنتائجها بسعيه لإدارة الأزمات على نحو هادئ، مخالفاً بذلك توجهات المؤسسة العسكرية، ومؤسسة الاستخبارات المركزية، اللتين حاولتا دفعها باتجاهات أكثر تشدداً.
وكان النفط في المقدمة من سياساته، حيث شغل تيلرسون منصب الرئيس السابق لكارتيل نفطي عالمي ضخم اسمه «إكسون - موبيل» الذي تمتّد جذوره إلى آل روكفلر، وقد كان اختياره لمنصبه بدعم من ديفيد روكفلر الذي توفى في العام الماضي (20 مارس/ آذار 2017) وهنري كيسنجر، لرغبتهما في أن يكون على رأس الدبلوماسية الأمريكية شخص قادم من خلفية نفطية، وهدفهما هو إعادة تنظيم عالمية لمجال الصناعات النفطية، عبر الحكمة الشهيرة التي تردّدت في الحرب العالمية الأولى «من يملك النفط يسيطر على العالم...» وهي التي كان كيسنجر يؤمن بها، ويحاول أن يعتمدها في علاقاته الدبلوماسية.
جدير بالذكر أن كيسنجر كان واحداً من السياسيين القلائل الذين أيّدوا انتخاب دونالد ترامب بحماسة شديدة، وكما قال إنه الأكثر تفرّداً من الذين شهدتهم استناداً إلى استراتيجية خاصة، ومن المفارقة أن الرئيس ترامب غرّد قبيل إقالة تيلرسون بثلاثة أسابيع (18 فبراير/ شباط 2018)، بقوله: إنه سيلتقي كيسنجر وسيبحث معه عدداً من الملفات منها: الملف الكوري الشمالي، والصيني، والشرق أوسطي، خصوصاً بعد قراره نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والحملة العالمية المندّدة له، بما فيها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017.
ومع أن كيسنجر كان ميّالاً للواقعية السياسية وللدبلوماسية، إلّا أنه يعتقد: من الخطأ الافتراض أن الدبلوماسية وحدها تستطيع تسوية النزاعات الدولية دائماً، وهو ينظر إلى ذلك في إطار ما يطلق عليه «الواقعية السياسية» حين تكون تلك السياسة رديفة للتوجّهات المناوئة لأولوية الخيار الدبلوماسي، خصوصاً تفتيت جبهة الخصوم والمنافسين، وهم اليوم الصين وروسيا.
فهل سيكون العالم أمام تصعيد عسكري بتولّي بومبيو منصب وزير الخارجية، وهو الذي يؤمن «بأفضلية مفعول الغارات الجوية على الدبلوماسية»؟
drhussainshaban21@gmail.com



331
حصان طروادة الجديد في الانتخابات العراقية!

عبد الحسين شعبان
هل سيتكرّر مشهد انتخابات العام 2014 في انتخابات العام 2018، وخصوصاً الصراع داخل الطاقم الحاكم من «حزب الدعوة»؟ أم أن ثمة اتفاقات ستحصل في ربع الساعة الأخير، ولاسيما إذا كان الموقع الأول مهدداً أو معرّضاً للضياع.
وبتقديري أن مثل هذا الاحتمال يجعل الفريقين المتخاصمين داخل الحزب والمجموعات الشيعية الأخرى معهما، تعيد التفكير أكثر من مرة وهي تقرّر وجهة تحالفاتها النهائية، كيما يبقى «طير السعد» يحطّ في مزرعة الحزب.
وهنا قد تتداخل وتتفاعل عوامل شتى مأخوذة بالعصبيّة المذهبية من جهة، والمصلحة السياسية من جهة أخرى، للتوافق مجدداً على مرشح الوقت الضائع، مثلما كان الأمر بالنسبة لحيدر العبادي الذي وصل إلى رئاسة الوزارة بضربة حظ في ظلّ الصراع المحتدم آنذاك، فجيء به «مرشحاً للتسوية» من خارج الاحتمالات المتوقعة، خصوصاً بعد تكوّن رأي عام سياسي لغير صالح رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي أنهى حينها دورتين، وفاز في المقاعد التي تؤهله لتشكيل الوزارة في ولاية ثالثة، لكن المياه ذهبت باتجاه آخر.
ويجري الصراع اليوم بين حيدر العبادي ونوري المالكي، خصوصاً وقد تقرّر في «حزب الدعوة» أن ينزل كل فريق في قائمة مستقلة، بعد أن تعذّر عليهما الاتفاق على خوض الانتخابات في قائمة موحّدة، على أن يترك لأعضاء الحزب وجماهيره التصويت لمن تعتقد أنه أهلٌ لذلك.
وقد سعى كل فريق لجمع أكبر عدد من الحلفاء حوله لمنافسة غريمه أولاً، والفريق الآخر الشيعي المنافس ثانياً، وبالطبع لنيل أوسع قدر من المقاعد ليمكّنه وبعد صفقات محتملة لتشكيل الوزارة.
جديرٌ بالذكر أن نفوذ العبادي بدا كبيراً بفعل الانتصار الذي حققه الجيش العراقي بدعم التحالف الدولي للقضاء على «داعش»، وتحرير الأراضي العراقية، إضافة إلى سياسته الوسطية ونجاحه في تسوية الخلافات مع أربيل، بعد أزمة الاستفتاء الحادة في 25 سبتمبر/أيلول 2017، التي كادت تعصف بوحدة العراق، كما أن القوتين المؤثرتين في السياسة العراقية ونعني بهما واشنطن وطهران، قد ترغبان في استمراره.
لكن هذا السيناريو ليس نهائياً، إذ قد يستنزف الصراع على أصوات الناخبين الفريقين، فيُحدث اختراقاً من خارج الدائرة المنظورة، ولعلّ مشهد انتخابات العام 2010، غير بعيد عنّا، حين كان الصراع على أشدّه بين «حزب الدعوة» وجماعتين أساسيتين هما: «المجلس الإسلامي الأعلى» و«التيار الصدري» الذي كان بينه وبين المالكي «ما صنع الحداد»، بسبب «صولة الفرسان» البصرية ضدّه.
خلال تلك الانتخابات تسلّل فريق ثالث جمع عدداً من الأحزاب والكتل التي عملت باسم المجموعات السنّية، سواء على نحو مباشر أم غير مباشر، وكان حصان طروادة في هذا السباق هو رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، ليحصل على 91 مقعداً، في حين حصل غريمه المالكي على 89 مقعداً، وكان تفسير المحكمة الدستورية العليا، للنص الدستوري بشأن الكتلة الأكبر لصالح المالكي، الذي تحالف مع آخرين في البرلمان لاستعادة الموقع الأول وتأليف الوزارة، خصوصاً بعد مساومات مع الحركة الكردية وحكومة الإقليم، وهي التي كانت بؤرة لخلافات لاحقة كادت أن تكون مستعصية.
فهل سيتكرر المشهد بانتخابات 12 مايو/أيار 2018، حيث الصراع بين المالكي (دولة القانون) والعبادي (النصر)، فتندفع كتل أخرى للتحالف منافسة لهما منها (الفتح)، التي يمثل ركنها الأساسي جماعات الحشد الشعبي: كتلة بدر (هادي العامري)، وعصائب أهل الحق (قيس الخزعلي)، وكتائب «حزب الله» وكتائب الإمام علي، وكتلة النجباء وآخرين، يقابلها ائتلاف «سائرون»، الذي أسسه السيد مقتدى الصدر بعد إنشاء حزب الاستقامة، وذلك بالتحالف مع قوى يسارية، وإن كانت صغيرة، لكن لديها نفوذ معنوي مثل الحزب الشيوعي، وحركات وتجمعات وكتل مختلفة ومتناقضة، تسعى كل منها للوصول إلى البرلمان، عبر التحالف مع قوى احتجاجية من جهة، ولها ثقل في الشارع من جهة أخرى، لاسيّما أنها تعلن عن محاربة الفساد والإثراء من المال العام.
وعلى الضفة الأخرى تعاد تحالفات قديمة جديدة بين كتلة ائتلاف الوطنية بزعامة علاوي، وبمشاركة من كتل سنّية مثل صالح المطلق، نائب رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس البرلمان الحالي سليم الجبوري، ومجموعات أخرى، في حين استمر نائب رئيس الجمهورية الحالي أسامة النجيفي في تحالف «متّحدون»، بالتعاون مع رجال أعمال سنّة وقوى سنّية متفرقة، ولاسيّما في الموصل.
وإذا كانت تحالفات الحشد والجماعات الشيعية الأخرى تحظى بدعم إيران، فإن تحالفات علاوي والصدر والنجيفي تحظى بدعم عربي، دون إهمال الدعم الأمريكي، سواء كان مباشراً أم غير مباشر، وقد تكون النتائج والاصطفافات التي تترتّب عليها، لاسيّما إذا انحاز الصدر إلى مجموعة علاوي، مرجّحاً موضوع الكتلة الأكبر، خصوصاً حين يتم التحالف مع القوى الكردية ومجاميع شيعية أخرى، وهو الذي يجعل احتمال مشهد العام 2014 ماثلاً، وإن كان البديل ليس من حزب الدعوة هذه المرّة، إذا تعذّر بقاء العبادي.
drshaban21@hotmail.com



332
المنبر الحر / حوار عربي- كردي...
« في: 20:44 15/03/2018  »
حوار عربي- كردي...
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

تأتي مبادرة الحوار العربي - الكردي، التي دعا إليها سمو الأمير الحسن بن طلال في عمان، كجزء من جهد غير حكومي لنخب فكرية وثقافية وأكاديمية وكأنها عكس التيار السائد، ففي حين يرتفع منسوب العنف ويستشري الإرهاب ويتفشّى التعصب وينتشر التطرّف وتندلع حروب أهلية ونزاعات مسلحة في العديد من البلدان العربية ، هناك من لديه رؤية مغايرة استشرافية ونقدية.
وتنطلق الفكرة من رصد  إيجابي للعلاقة الاستراتيجية التاريخية البعيدة المدى بين العرب والكرد، تلك التي تحتاج إلى وعي ضروري لتعزيز "الجوامع" وتقليص "الفوارق" واحترامها، من خلال المصارحة وصولاً للمصالحة، سواء بما يتعلق بحلّ الخلافات بين بغداد وإربيل ، من جهة أم التنبيه إلى مخاطر التداخل الإقليمي ، التركي والإيراني من جهة ثانية، دون نسيان العامل الدولي المؤثر على الأحداث الراهنة ومستقبل المنطقة ، وخصوصاً النفوذ الأمريكي والروسي.
وفي الوقت الذي كان الحوار يحتدم حول القيم والمبادئ والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، كانت الغوطة تتعرض لمأساة إنسانية، بالترافق مع توغل الجيش التركي في عفرين السورية  وجبل قنديل في العراق، بزعم ملاحقة حزب العمّال الكردستاني PPK، لكن ذلك لم يمنع مثقفون مؤمنون بالحوار من التصميم على مواصلته والانفتاح على الآخر والبحث عن المشترك الإنساني.
وتعود حكاية الحوار العربي - الكردي الذي انطلق قبل أكثر من ربع قرن إلى العام 1992 ، حيث تم تنظيم أول حوار في لندن من جانب المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ولكنه تعثّر بسبب اندلاع القتال الكردي - الكردي 1994-1998، ثم بوشر به في العام 1998 في القاهرة، ونشأت تحت هذه المظلّة جمعيات ومنظمات دعت إلى استمراره، لكن الخلاف بين بغداد وإربيل، طغى على صوت الحوار والعقل، لاسيّما حين تأزمت العلاقة، التي نجمت عن إقدام إربيل على إجراء استفتاء للاستقلال في 25 سبتمبر (أيلول) 2017، اعتبرته بغداد مخالفاً للدستور واتّخذت خطوات عديدة للضغط عليها، أولاً لثنيها عن الاستمرار فيه، وثانياً لردعها من اعتماد نتائجه.
ولم يكن ذلك بمعزل عن التداخلات الإقليمية، حين انضمت طهران وأنقرة إلى بغداد في ردود فعلها العملية، سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وتجارياً، فضلاً عن دعمهما لاستعادة المنافذ الحدودية والمطارات التي كانت بغداد تطالب بها ، إضافة إلى قضايا عُقدية معتّقة مثل كركوك وبعض المناطق التي تسمّى " متنازع عليها ". وامتنعت بغداد بسبب الخلافات من دفع رواتب الموظفين في إقليم كردستان، إلّا إذا أعادت إربيل واردات تصديرها للنفط البالغ 300 ألف برميل يومياً، أي نحو 10% من الإنتاج العراقي للنفط.
إن واحداً من تجلّيات الحوار هو التفكير بصوت عالٍ وتبادل الرأي والاستئناس بوجهات النظر، لتكوين تصوّر يمكن أن يفيد أصحاب القرار ويُسهم في تخفيف حدة  التوترات، وتلك إحدى أهداف "منتدى الفكر العربي"، منظّم هذا الحوار، الأمر الذي يُستحسن مأسسته وتوسيعه بإشراك نخب سياسية وثقافية عربية وكردية فاعلة فيه. كما أنّ الحوار يمكن أن يكون نواة لحوار مثقفين من دول الإقليم عرباً وتركاً وفرساً وكرداً، يأخذ بنظر الاعتبار حسن الجوار واحترام الخصوصيات وعدم التدخل بالشؤون الداخلية ، وعلى أساس المصالح المشتركة.
 لم يشعر المتحاورون أنهم فريقان متناحران، لكي يتشبث كل منهما برأيه على أساس المغالبة والمطاولة، بل اجتمعوا كمثقفين جمعتهم هموم إنسانية مشتركة أساسها الحرية والعدالة وحق تقرير المصير، دون أن يعني ذلك عدم وجود اختلاف بينهم حول التاريخ واللحظة الراهنة والمستقبل، وهذا أمر طبيعي ونكرانه هو الذي قاد إلى الاحتراب والاقتتال، سواء محاولات فرض الهيمنة والاستتباع بزعم الأغلبية والاستعلاء أحياناً، أو التفلت والانقسام بزعم المظلومية وضيق الأفق أحياناً أخرى.
وإذا كانت الدعوة قد وجّهت بالأساس إلى عدد محدود من العراقيين العرب والكرد، وعدد آخر من المثقفين من غير العراق، ومن البلد المضيف (الأردن) ، فإن الهدف منها أيضاً هو فتح قناة للتواصل، بحيث يكون الحوار مجسّاً من مجسّات العلاقة، يمكن تطويره للمعرفة الفعلية والمباشرة لما يفكّر به الطرفان، وهو العنوان الذي اجتمع تحت لوائه المتحاورون، والموسوم بسؤالين متقابلين: ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ والأمر لا يتعلّق بالسياسة وتعقيداتها وتقاطعاتها فحسب، حتى وإن كانت محورية وأساسية، بل بالاقتصاد والتجارة والثقافة والأدب والفن والتراث والتاريخ واللغة وغيرها، بما يسمح بإقامة علاقات متكافئة أساسها الاحترام المتبادل للخصوصيات، مع مراعاة الهوّية العامة الجامعة والمواطنة المتكافئة والمتساوية، دون إقصاء أو تهميش.
إن القصد من الحوار المعرفي- الثقافي هو التواصل والتفاعل والترابط، وليس الترابح والتناحر والتدافع، وإنما التفكير بحلول عقلانية وسلمية وإنسانية لإدراك حقيقة إن أي احتراب سينعكس سلباً على الطرفين، ولن يستفيد منه سوى أعداء الأمتين العريقتين العربية والكردية وعلى أمم الإقليم، وهو ما حمل سمو الأمير إلى الدعوة للبحث عن كيفية استئناف المسار الذي يؤدي إلى "عصبة أمم مشرقية".



333
"المسيحيّون في المشرق العربي - نحو دولة المواطنة"*
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكـّر عربي

"آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة، فكتبتُ هذه المخطوطة"
   كان ذلك ما أجاب به فريدريك أنجلز رفيقه كارل ماركس، الذي طلب منه كتابة ملاحظات حول مخطوطة كان قد أرسلها له، فانتظر عدّة أشهر، ولكنه فوجئ حينما وصلته حزمة أوراق هي أقرب إلى "مخطوطة" مع رسالة من سطر واحد، لكنّها كثيرة الدّلالات وعميقة المعاني، ويتلخّص مضمونها باعتذار عن التّأخير، وكان السّببُ كما برّر هو "ضيق الوقت". هذا ما واجهته حين طُلب مني تقريظ كتاب الدكتور "نائل جرجس" القيّم، لأنّ التركيز يحتاج إلى تكثيف وتـأمّل وتأنٍّ، أي يحتاج إلى "وقت" كافٍ، وهو ما افتقدته.
   أستهلُّ كلامي من العنوان "المسيحيّون في المشرق العربي - نحو دولة المواطنة"، وهو يتضمّن فكرة الوجود المسيحي وفي الوقت نفسه الدعوة الحثيثة لإقامة دولة المواطنة، ولكن لماذا المسيحيّون؟ ألأنّ استهدافهم في المشرق العربي بات قضية وجود؟ أم لأنّ وجودهم بحدّ ذاته أصبح قضية تتعلّق باستهداف الدولة الوطنية ذاتها مثلما يتعلّق الأمر بمستقبلها؟
   فإلغاء الوجود المسيحي يعني هدم ركن أساس من أركان الدولة العصرية التي يُفترض بها أن تقوم على المواطنة، مثلما يعني حذف جزء مهم وأصيل من تاريخ مجتمعاتنا، ناهيك عن بتره من حاضرنا، "فالمسيحيّون ملح الأرض" كما قال السيد المسيح، وهم متجذّرون فيها وليسوا "أغراباً" أو "وافدين"، وهم أهل البلاد قبل مجيء الإسلام وبعده، بل شركاء فيها، كما ورد في القرآن الكريم: "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يَـمْـتَـرون" (سورة مريم، الآية 34).
   أتـوقّـف عند ذلك لأنني لا أريد أن يستغرقنا التاريخ، وليس القصدُ في ذلك إهماله أو نسيانه أو الافتئات عليه، حتى وإنْ كان التاريخ "مراوغاً" على حدّ تعبير هيغل، وإنما أفضّل مناقشة واقع الحال، علماً بأن التاريخ لا يكتبه المؤرّخون وحدهم، بل يكتبه الأدباء والفنانون حسب غوركي، لأنهم يشتركون في هواية الغوص في التفاصيل، لكنّها غواية البحث عن الحقيقة دون أدنى شك.
- I -
   أنطلقُ في قراءتي لكتاب الدكتور جرجس من بعض الاستنتاجات التي خـلُصَ إليها وحاول أن يدرجَها في خاتمة كتابه، والتي تتناول عدداً من المفاهيم والأطروحات ذات الصّلة بالعنوان الفرعي الذي وضعه، والمقصود بذلك "دولة المواطنة"، وأهمّها: العلمانية التي يعتبرها "الحلّ الأمثل لتحرير المشرق العربي" واقْتَرحَ نموذجاً شبيهاً بالحالة التركية.
   والديمقراطية ودولة القانون، إذْ كان غيابهما سبباً في تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي تنامي "التطرّف الإسلامي والإرهاب والعنف، الذي يحصد أرواح المسيحيين وغيرهم من المواطنين..." وهي استنتاجات وردت في ثنايا الكتاب، وشكّلت خيطاً ناظماً لفصوله وهو ما يحتاج إلى إضاءات ترتبط بخصوصية كل حالة وتجربة.
   وهو يعتبر الديمقراطية "الضمانة المثلى لإرساء السّلام والعدالة..." إذْ أن "دمقرطة" الشرق الأوسط هي الأساس لتحقيق احترام حقوق "الأقلّيات" وضمان اندماجها في مجتمعاتها. كما يدعو إلى اعتماد "الديمقراطية التـوافقيّة" لأنّها "تمثيل فئات الشّــعب كافّــة وحتى تقاسم السّلطة بينها"، ويستبعد فكرة النظم البرلمانية ونظام الحكم الرئاسي لأنّهما لا يلبيّان ما يطمح إليه.
   ووفقاً للعديد من التجارب يمكن اختيار "الديمقراطية التوافقية" لفترة انتقالية محدودة، أي لتجاوز مراحل الانتقال والتحوّل الديمقراطي، التي غالباً ما تكون عسيرة، كما أنّها قد تؤدّي إلى المحاصصة والتقاسم الوظيفي، الديني أو المذهبي أو الإثني أو غير ذلك، في حين أنّ حقوق الإنسان وحدها تؤدّي إلى نوع من "التطامن" في تلبية حقوق المجموعات الثقافية المشروعة، وهي التي يمكن أن تؤمّن الضمانات الضرورية وخصوصاً في المجتمعات المتعدّدة الثقافات، لأنه حتى الديمقراطية التي هي في التعريف "المبسّط" حكم "الأغلبية" قد تقود إلى تهميش أو إقصاء مجاميع ثقافية، دينية أو سلالية أو لغوية أو غيرها.
   أمّا بخصوص الحالة التركية "صلُحت أم لم تصلح؟" فـإنّه لا يمكن تعميمها وإنْ كانت الاستفادة من التجارب جميعها ضرورية ولكن دون استنساخ أو تقليد، نظراً لاختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتاريخ تطوّر كل بلد.
   ويطرح المؤلّف موضوع الفيدرالية وإنْ كان بتردّد، فهو معها لأنّها يمكن أن تحدّ من انتهاك حقوق المسيحيّين والحفاظ على هويّتهم وتعزيز حقّهم في تقرير مصيرهم، لكنّ الطّابـع الدّيني يمكن أن يتحوّل إلى نوع من التقسيم أو إلى نظام طوائف (لبنان مثالاً) ويستبعد الانفصال أو الاستقلال وقد وجدتُ ذلك ملتبساً.
   وبعد أن يسلّط الضوء على عدد من العناوين الخاصة بحقوق الإنسان وتطبيقات الفكر الإسلامي المعاصر على غير المسلمين، والمساواة في دساتير دول المشرق العربي، يستعرض بعض الخلاصات المهـمّة منها: عدم تطوّر العقلية العربية المشرقية وانخفاض مستوى الوعي الحقوقي، وعدم تمـثّل مفاهيم الحداثة وطغيان الهـويّة الدينية على مبادىء المواطنة وعدم إقرار مبادىء المساواة، وهي خلاصات أجدُني متّفقاً معها.
   ويـركّز المـؤلّف على عدد من الحلول التي نشترك معه في خطوطها العريضة ومنها الإقرار بالتعدّدية وصياغة قوانين وتشريعات أحوال شخصية خالية من أشكال التّمييز مع مراعاة الاتفاقيات الدولية وسنّ قانون زواج مدني (والمقصود قانون موحّد)، وإنْ كانت الفكرة غير واضحة لأنّه ربطها مع إمكانية المحافظة على قوانين الأحوال الشّخصية لكلّ طائفة، ناهيك عن مراجعة المناهج التعليمية والتّربوية وتحريم الحضّ على الكراهية والعنف وهي مسألة جديرة بالاهتمام، ويمكن أن نضيف الدّور المهمّ والبارز الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني كـ"قوّة اقتراح" و"مشاركة"، وليس "قوّة احتجاج" و"اعتراض" وحسب، إضافة إلى ضرورة "إصلاح الفكر الديني" وتنقيته من كل ما علق به من شوائب لا علاقة لها بالدين، كما ينبغي التمييز بين الدين والنصّ الإلهي والتفسير والتأويل الفقهي، فهذه الأخيرة من صنع البشر وهم خطّاؤون.
- II -
   أرى أنّ الباحث في جهده المضني قد نجح في مقاربة عدد من الأطروحات والمفاهيم ذات العلاقة بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، مستخدماً - على نحو متقن ودقيق - مصادر ومراجع مـهمّة ومعتمدة، في إطار منهجيّة وضعها لنفسه بأسلوب سلس ولغة متماسكة، ما يفتح الشهيّة لنقاش حقوقي ومعرفي وثقافي، فيما يتـعلّق ببعض المفاهيم التي طرحها مثل "الأقـليّة" و"الأكثرية" وهي مصطلحات بحاجة إلى رؤية مـوحّدة إزاءها نظراً لما تحمله من إغراض وقصدية حتى وإن استخدمتها "الأمم المتحدة" في "إعلان حقوق الأقـليّات" الصادر العام 1992 و"إعـلان حقوق الشعـوب الأصلية" الصادر العام 2007، وهنا يمكن أن نُــدرج عدداً من التناظرات فيما يتعلّــق بالهويّة، بقدر ما يرتبط بالعنوان الذي نناقشه، فهناك هـويّة ثابتة وأخرى متحوّلة، وهناك هويّة ساكنة وثانية متحرّكة.
   لقد توّلدت عندي قناعة منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان عن عدم استخدام مصطلح "الأقليّة" و"الأغلبيّة" إلاّ "مجازاً"، لا سيّما بخصوص المجموعات الثقافية ولا أقول "الأقلّيات" لأنّها تستبطن ضمنيّاً عدم المساواة والهيمنة من جهة، والاستتباع والرّضوخ من جهة أخرى. وأفترض أنّها مصطلحات تصلح لتوصيف القوى والتجمّعات السّياسية والحزبية والكتل البرلمانية وليس "المجتمعات المتعدّدة الثقافات"، لأنّ المسألة لا تـتعلّق بالعدد والحجم، إنّما لها علاقة بالحقوق المتساوية التي ينبغي أن تتـمتّع بها المجموعات الثقافية صغيرها وكبيرها، بغضّ النظر عن عددها.
   الأمر الذي توقّفتُ عنده باجتهاد حاولت أن أحاجج فيه بأكثر من محفل وبحث وكتاب، ويمكن الإشارة هنا إلى كتابين الأوّل بعنوان: "فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي - المواطنة والدولة"، والثاني: "أغصان الكرمة - المسيحيّون العرب"، لما لتلك المصطلحات من دلالات وانعكاسات على مجمل النّظام السّياسي ومبادىء المواطنة التي تقوم على الحرّية والمساواة والعدالة والشّـراكـة والمشاركة.
   أضف إلى أن ثـمّة هـويّة عـامّة أو شاملة وهـويّة فرعية أو خاصة، والهويّة سواء أكانت "أقلّـويّة أو "أغلبـويّة"، فهي قد تكون مضطهَدة أو مضطهِدة!! مثلما يمكن أن تكون الهويّة مفتوحة أو مغلقة، وتتوزّع الهويّات الفرعية أحياناً بين الإثنيات والأديان والسلالات واللّغات والآيديولوجيات.
- III -
   سأحاول أن أضعَ سيناريوهات هي أقرب إلى الأوهام التي عاشت معنا بخصوص حلّ مسألة الهويّات، دينية كانت أو إثنية أو غيرها، إذْ لا أجد هناك حلولاً مطلقة أو نهائية أو سرمدية لهذه المسألة، لأنّها تشبه الكائن الحي في تطوّرها وتفاعلها، إذْ أنّها كالحقوق الإنسانية تتخالق على نحو لا محدود. وفي هذا المجال يطيب لي أن أشتبك ودّياً مع المنظومة المعرفية والحقوقية التي يتبنّاها المؤلّف اتّفاقاً وتمايزاً.
   السّيناريـو الأوّل أو الوهم الأوّل - إنّ الدول الصّناعية والمتقدّمة والدّيمقراطية والعلمانية والليبرالية حلّت مسألة الهويّة، بإقرار مبادئ المواطنة، لكنّ مثل هذا الحل كان مبتوراً وظرفياً وغير متكامل، لأنّ حاجات الإنسان في تطوّر دائم، الأمر الذي يتطلّب تعميقاً وتطويراً تلبية لاحتياجات جديدة تعبّر عن الهويّة في حقب زمنية لاحقة.
السّيناريو الثّاني أو الوهم الثّاني - إنّ تحقيق المواطنة الكاملة والمساواة التامّة في الدول الديمقراطية العلمانية المتقدّمة ذات التوجّه الليبرالي، يدفع صراع الهويّات إلى الخلف، لكنّ ذلك، مثلما تُبيّن التّجربة، لم ينهِ الصراع أو الجدل أو التفكير في خيارات وبدائل لانبعاث الهوّيات الفرعيّة.
وهناك نماذج كثيرة مثل الصّراع بين الوالانيين والفلامانيين في بلجيكا على الرّغم من أنها دولة ديمقراطية وفيدرالية وعلمانية والمواطنة المتساوية فيها محترمة، وكذلك رغبة كاتالونيا وإقليم الباسك بالانفصال عن إسبانيا ومقاطعة الكيبك عن كندا، واسكوتلاندا عن بريطانيا، وحساسيّات ومشاكل جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وغيرها، إذْ توجد نحو 20 مسألة تتعلّق بحقوق المجموعات الثقافية تنتظر حلولاً ومعالجات مُرضية في الغرب.
الفارق الأساسي بين مجتمعاتنا والمجتمعات الديمقراطية هي أنها تمتثل لحكم القانون في حلّ خلافاتها وهو ما سعى المؤلّف لإبرازه ونتّفق معه، أي أنهم يلجأون إلى السلم والاحتكام إلى الدستور وإلى التفاهم والتسويات الرّضائية، في حين أنّ النزاع لدينا ينتقل إلى الوسائل العسكرية والعنفية، وأحياناً يتمّ الاستقواء بأطراف خارجية تزيد اللوحة تعقيداً.
السّيناريو الثّالث أو الوهم الثّالث - اعتقادنا أنّ الدول الاشتراكية السّابقة حلّت مسألة الهويّة، حتى ظنّ البعض أنّ ألمانيا الديمقراطية أصبحت "أمّة منفصلة" عن الأمّة الألمانية، وهو ما تبنّاه دستورها في العام 1977 بحكم نظامها الاجتماعي، لكنّ هذا الوهم سرعان ما أثبت "قصر النظر"، وأدّى لدى فريق من الذين كانوا ينظرون إلى التجربة الاشتراكية باعتبارها "قوّة مثل" و"نموذج رائد"، إلى القنوط واليأس والإحباط، خصوصاً بعد أن اندلعت الموجة الدينية والطائفية، بكلّ بدائيّتها في العديد من الدول الاشتراكية السابقة، وقادت هذه إلى انقسامات وحروب طاحنة، فيوغسلافيا انشطرت إلى ستة أقسام والاتحاد السوفييتي إلى خمسة عشر قسماً، وانفصلت جمهورية تشيكوسلوفاكيا مخملياً إلى جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك، ولا تزال الحروب والصّراعات قائمة والحلول بعيدة المنال، كان آخرها بين روسيا وأوكرانيا، خصوصاً بشأن شبه جزيرة القرم.
السّيناريو الرّابع أو الوهم الرّابع - إنّ صراع الهويّات ينحصر في العالم الثالث، لكنّ ذلك ليس صحيحاً بالكامل، فقد استطاعت بلدان "عالمثالثية" أن تجد طريقها الخاص إلى الديمقراطية وتجد حلولاً لقوميات وأديان ولغات متعدّدة، مثل الهند وماليزيا، اللّتين لهما هويّات موحّدة، مع الهويّات المتعدّدة الدينية والطائفية والإثنية والسلالية واللّغوية، المختلفة والمتعايشة والمتصالحة في الآن، دون أن يختفي الصّراع أو الجدل المحتدم بينها، وهناك تجارب أخرى على هذا الصعيد، والمسألة مرهونة بنوع نظام الحكم من جهة، ومن جهة أخرى بالخيارات المجتمعيّة ودرجة التوافق الوطني والثّقافي، ووسائل التعبير عن الشعور بالتميّز والخصوصيّة.
السّيناريو الخامس أو الوهم الخامس – ترفُّعنا عن التخويض في المسألة الدينية وذيولها الطائفية، بزعم "علمانيّـتنا" وإيماننا بالهويّة الوطنية الجامعة، العابرة للطوائف والإثنيات، باعتباره الحلّ الأمثل، لكنّ ذلك لم يكنْ إلاّ هروباً إلى الأمام وعدم مواجهة المشكلة التي تعيش بيننا، حتى إذا ما استفحلت أصبحت الحلول المطروحة لمعالجتها شحيحةً ومحدودةً، خصوصاً وقد تمّ استثمارها من قوى خارجية إقليمية ودوليّة.
ويبقى النموذج "الداعشي" مثالاً صارخاً في استهداف المسيحيّين، لا سيّما بفرض "التأسلم" عليهم أو مطالبتهم بدفع الجزية أو الرحيل، وإلاّ فإنّ القبور المفتوحة تنتظرهم. وذلك جزء من مخطّط بعيد المدى يسعى منذ عقود لتفريغ المنطقة من أهلها الأصليّين ليتحكّم أصوليّوها، ابتداءً من فلسطين مروراً بلبنان والعراق وسوريا ومصر وغيرها. فداعش ودولة الخلافة "الخالصة" هي الوجه الآخر لدولة "إسرائيل" اليهودية "النقية".
- IV -
   والآن لماذا يُستهدف المسيحيّون وهل حقّاً هم "أقليّة"؟
   عدّة أسباب تقف خلف استهداف المسيحيّين وتتزامن مع نشوء تيار "أصوليّ" متطرّف ومتعصّب، سواء اتّخذ اسم تنظيمات "القاعدة" أو "داعش" أو "جبهة النصرة" (جبهة فتح الشام) أو أي مسمّى آخر، وواكبه احتلال العراق وما تركه من ردود أفعال على شعوب المنطقة.
   السّبـب الأوّل: دفع المسيحيّيـن للهجرة لترسيخ الاعتقاد السّائد - وخصوصاً لدى المجتمعات الغربية - على أنّ المسلمين لا يريدون العيش مع المسيحيّين في دول المشرق، وجوهر المشكلة هو تعـصّبهم وتطرّفهم حتى مع سكان البلاد الأصليّين. هذا ما تروّج له الصهيونيّة العالمية، وقد لقي صداه في الغرب لدرجة أنّ هناك "رُهاب" من الإسلام وهو ما يُطلق عليه "الإسلامفوبيا".
   السّبـب الثّانـي: تمزيق النّسيج الاجتماعي لمجتمعات وشعوب أصيلة ومتجذّرة في تعايشها وشراكتها، الأمر الذي سيؤدّي إلى مضاعفة أسباب الهجرة. وهنا تبرز مسألة معالجة "الاندماج والإدماج" التي تحدّث عنها الدكتور جرجس، والتي ربطها بفكرة المواطنة.
   السّبـب الثّالث: إظهار عدم التّعايش "الإسلامسيحي" في الشرق، مما يعني عدم رغبة المسلمين في التعايش مع الغرب المسيحي، حيث يوجد ما يزيد عن 15 مليون مسلم يعيش في أوروبا وأميركا وكندا وغيرها، وهو ما يثير مشكلات تتـعلّق بالهويّات وتفاعلها.
   السّبـب الرّابع: تشويه صورة العرب والمسلمين بشأن الأديان الأخرى، والدليل محاولة "استئصال" المسيحيين وهو ما تتعـكّز عليه "إسرائيل" مستفيدة في دعايتها السوداء من الأعمال الإجرامية لداعش والجماعات الإرهابية، لأنّها  تدّعي أنّ صراعها مع العرب والمسلمين هو صراع دينيّ تناحريّ إقصائيّ لا يمكن حـلّه. وبما أنّ المسلمين يزيد عددهم على مليار ونصف المليار إنسان، فهذا يعني أنّهم يريدون "استئصال" اليهود من الوجود.
   وتستهدف "إسرائيل" من وراء ذلك استدرار العطف من جهة وكسب الغرب والعالم إلى جانبها من جهة أخرى، باعتبارها "ضحية".
   وهكذا يختفي بطريقة مبرمجة ومدسوسة الجانب العنصري الصهيوني المتعصّب في الصراع مع العرب ليصبّ في مصلحة "إسرائيل"، التي تغتصب الأرض وتطرد سكانها الأصليين وتمارس العدوان منذ قيامها وحتى يومنا.
   السّبـب الخامس: ضيق هامش الاعتراف بالتنوّع والتعدّدية وادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة، وبالطبع شحّ مساحة الديمقراطية في العالم العربي وتدنّي مستوى الحرّيات العـامّة والشخصية، ما شجّع خلق بيئة خصبة لنمو العنف والإرهاب والاستبداد، حيث تجد التنظيمات الإرهابية ضالّتها في استهداف الآخر، لا سيّما المسيحيين وأتباع الأديان الأخرى.
   السّبـب السّــادس: استنزاف طاقات علميّة وفكريّة وفنيّة وأدبيّة يمتلكها المسيحيون، فضلاً عن كفاءات اقتصادية واجتماعية هائلة تشكّل الموزاييك المجتمعيّ والتنوّع الطائفي. وفي ذلك خسارة كبرى لشعوب المنطقة وطاقاتها البشرية وإضعاف لدولها الوطنية.
   السّبـب السّابـع: إضعاف التضامن المسيحي الدولي مع شركائهم المسلمين في الشرق وتحديداً فيما يخصّ القضية الفلسطينيّة علماً أن مسيحيّي الشرق، خصوصاً الذين يعيشون في الفاتيكان قد دافعوا عن عروبة فلسطين بقوّة وجدارة، وقد رفض الفاتيكان حينها قرار التّقسيم رقم 181 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1947، وهو ما ورد على لسان رئيس أساقفة نيويورك سبلمان Spelman انطلاقاً من فكرة أنّ أرض فلسطين كلّها مقدّسة بالنّسبة للمسيحيّة، وذلك بعد إعلان بريطانيا انتدابها على فلسطين وإحالة القضية إلى الأمم المتحدة. وهنا أستحضر الموقف الريادي للمطران كبوجي.

- V -
   خلاصة القول: كان المسيحيّون وسيبقون جزءًا من النّسيج الاجتماعي والسّياسي والتاريخي لبلدان المنطقة وشعوبها، ولعلّ واحداً من سرّ جمال التكوينات الثقافية العربية، لا سيّما للمشرق العربي هو التنوّع والتعدّدية التي عرفها، لكنّ المنطقة ولأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، شهدت هجرة مسيحيّة في العقود الأخيرة الماضية، وإذا كان المسيحيّون قبل نحو قرن من الزمان يشكّلون نحو 20% من سكان المنطقة، فإنّهم اليوم أقل من 5% وقد تتراجع نسبتهم كلّما ارتفعت موجة العنف والإرهاب التي تدفعهم للهجرة خصوصاً بازدياد درجة معاناتهم وشعورهم بالاستلاب.
   وقد حاولت "إسرائيل" منذ احتلالها فلسطين التركيز على تهجير المسيحيّين، وفصلهم عن المسلمين، بهدف تفريغ الوطن منهم بزعم أنّ الصراع ديني وهو بين المسلمين واليهود، وليس صراعاً كيانيّاً حقوقيّاً يـتعلّق بشعب احتُـلّت أراضيه، وبين مغتصب ومستعمر استيطاني إجلائي.
   وحين أقول إنّ المسيحيين ليسوا "أقليّة" فلأنّ أغلبيتهم عرب وهؤلاء بالطبع "أغلبية" في بلدانهم، كما أنّ الأكثرية السّاحقة منهم تعتبر الرابط العروبيّ وخصوصاً اللّغة العربية هي التي تجمعهم بأوطانهم وبشركائهم، ناهيك عن دورهم التنويري والحداثوي ومساهمتهم في نضال أمّتهـم وشعوبها من أجل انبعاثها الحضاري.
   "المسيحّيون في المشرق العربي" موضوع راهني ومستقبلي لأنّ معالجة قضايا التنوّع والتعدّدية وحقوق المجاميع الثقافية ترتبط بصميم المواطنة ودولة القانون والحقّ. وهو ما حاول الدكتور نائل جرجس عرضه بتقديم رؤى وتصوّرات وطرح حلول وإجابات ناجعة، وإن تغـلّب فيها السياسي أحياناً على الحقوقي، وهو ما يثير أسئلة متشابكة ومـعقّدة بقدر تعقيدات الواقع العربي بحاجة إلى حوار معرفي وموضوعي، بحيث تنسجم المقدّمات النظرية الحقوقية مع الاستنتاجات العملية ولا يترك للأحكام المسبقة أن تأخذ طريقها في إطار البحث العلمي. ويتطـلّب الأمر تكوين رأي عام مجتمعي يؤمن بالمشترك الإنساني ويقرّ بمبادىء المساواة والعدالة والشراكة في فضاء من الحرّية، كيما تصبح مبادىء المواطنة ملزمة على صعيد الدولة والمجتمع.

334
نقض «الرواية «الإسرائيلية»»
عبد الحسين شعبان
في الحلقة النقاشية التي نظّمها «منتدى الفكر العربي» في عمان، برعاية الأمير الحسن بن طلال، انصبّت المناقشات حول «مستقبل القضية الفلسطينية في إطار المشرق العربي» بمراجعة تاريخية، وصولاً للحاضر، واستشرافاً للمستقبل، مع شيء من التركيز على العلاقة العضوية «الأردنية - الفلسطينية» ومقوّماتها، ومحدّداتها، بما فيها مستقبلها المؤسسي العربي والإسلامي الذي يُعنى بالقدس تحديداً. وهو ما دعا الأمير الحسن إلى الحثّ على تأسيس مرصد متخصص بالشؤون الفلسطينية يعمل عليه فريق من الشباب العربي ل«إبراز ما يحدث في فلسطين من أحداث ووقائع، ويُسهم في إيجاد حالة متقدمة من التفاعل مع التحديات الحقيقية التي تواجه الفلسطينيين وتعزيز صمودهم».
كما اشتمل الحوار على قضايا اللاجئين والقرار 194 بخصوص «حق العودة»، وما يتعلّق بقضايا الطاقة والمياه والبيئة والمسار الخاص «بالأرض مقابل السلام»، لاسيّما وصول الحلول المطروحة إلى طريق مسدود، بما فيها اتفاق أوسلو الفلسطيني- «الإسرائيلي» لعام 1993.
وكانت «الدبلوماسية والثقافة» أحد المحاور التي شملتها الحلقة النقاشية، باعتبارها تمثّل «القوة الناعمة» التي على العرب والمسلمين وأصدقائهم استخدامها لنقض «الرّواية «الإسرائيلية»»، وهو ما تم إهماله على مدى عقود من الزمان، إذْ كان بالإمكان استخدامها كسلاح دولي مؤثر وفعّال لدعم قضيتهم استكمالاً متوازياً مع الأسلحة الأخرى، خصوصاً أن الدبلوماسية والثقافة تتداخل مع الحقول السياسية والاقتصادية والتجارية إلى حدود كبيرة.
وإذا أخذنا القدس نموذجاً، فبقدر ما هي «قضية خاصة» نظراً لرمزيتها الروحية والتاريخية للعرب، ولأتباع جميع الأديان، من يهود ومسيحيين ومسلمين، فإنها في الوقت نفسه تشكّل «لبّ القضية الفلسطينية» وجوهر الصراع العربي - «الإسرائيلي» التي لا يمكن الحديث عن أي حلّ من دون استعادتها باعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة، وهو ما ذهب إليه المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر العام 1988، الذي أعلن قيام الدولة الفلسطينية التي اعترفت بها حتى الآن أكثر من 140 دولة، خصوصاً بعد انضمامها للأمم المتحدة العام 2012.
وتعتبر الحلقتان الدبلوماسية والثقافية جزءاً من حركة مقاومة سلمية مدنية ضرورية لاستكمال سبل المواجهة الأخرى، خصوصاً باستخدام «القوة الناعمة» لمصلحة الحق في مواجهة الباطل. ولأن الأمر يحتاج إلى استراتيجية تكاملية تتجاوز ما هو طارئ ومؤقت، إلى ما هو مستمر وبعيد المدى، فلا بدّ من توظيفها وبالوسائل المتاحة تساوقاً مع الأهداف العامة التي يسعى إليها الشعب العربي الفلسطيني، سواء ما يتعلّق بالقدس أو بعموم القضية الفلسطينية بمفرداتها المختلفة انطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير.
لقد تمثّلت المعارك السياسية والعسكرية، طوال نحو قرن من الزمان، بطائفة من الاصطفافات والاستقطابات السياسية، والحروب، والنزاعات، تلك التي ابتدأت منذ وعد بلفور العام 1917 وقبله اتفاقية سايكس - بيكو السرية العام 1916 لتقسيم المنطقة إلى كيانات، وفي محاولة الالتفاف على مشروع «الثورة العربية» بقيادة الشريف حسين، وحروب «إسرائيل» العدوانية منذ قيامها في العام 1948، ولكن الحلقة الدبلوماسية من الصراع العربي - «الإسرائيلي» ووجهتها القانونية ظلّت بعيدة عن الاهتمام المطلوب. ولم تنل الحلقة الثقافية الاهتمام الذي تستحقه.
وكلاهما يمثّل جانباً حضارياً وسلمياً كجزء من «دبلوماسية القوة الناعمة» التي على العرب ومناصريهم استخدامها حيثما أمكن، لأنها كانت، ولا تزال شرطاً لا غنى عنه لخوض معركة ناجحة، وبوسائل متنوّعة، وأساليب متعدّدة، وحديثة ومقنعة، فضلاً عن ذلك فإن تأثيرها سيكون فعّالاً إذا أُحسِن استخدامها، لما له من انعكاسات على الجوانب الأخرى، بما فيها الموارد الأولية كالنفط والغاز مثلاً، واستخداماتهما التي يمكن أن تكون حيوية في إطار توازن المصالح، وتبادل المنافع والمشترك الإنساني.
إن استخدام الوسيلتين الدبلوماسية والثقافية يعني الضغط على المجتمع الدولي لاحترام قراراته، ومن ثم تطبيقها، خصوصاً القرار 2334 الصادر في 23 ديسمبر/ كانون الأول لعام 2016 بشأن إدانة الاستيطان «الإسرائيلي»، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو واشنطن إلى سحب قرارها الاعتراف بالقدس عاصمة «لإسرائيل»، علماً بأن الاستيطان يعتبر جريمة دولية.
وإذا كانت إدانة الاستيطان هدفاً دبلوماسياً راهناً، فإن قرار «اليونيسكو» الصادر في 18 أكتوبر / تشرين الأول 2016 والقاضي باعتبار الأماكن المقدسة في القدس من تراث العرب والمسلمين تأكيد لقرار سابق لليونسكو صادر في 13 أكتوبر / تشرين الأول من العام نفسه يقضي بنفي «نظرية الهيكل» ويعتبر «المسجد الأقصى» و«الحرم القدسي» و«حائط البراق» جزءًا من التاريخ الفلسطيني، وبالأسماء العربية، وليس بالتسمية اليهودية «جبل المعبد».
إن واحداً من أهداف التحرّك الدبلوماسي والثقافي العربي هو إقناع المجتمع الدولي، ليس بصحة الرواية التاريخية العربية فحسب، بل بالحق العربي الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى، التشكيك في صدقية الرواية «الإسرائيلية» ومزاعمها الخرافية، خصوصاً بالاستناد إلى قرارات منظمات دولية حقوقية وثقافية، وبوسائل القوة الناعمة، بما فيها الأدب والفن وكل ما له علاقة بالتأثير في الرأي العام لإقناعه أكثر فأكثر بالحقيقة العربية، سواء بشأن القدس خصوصاً، أو فلسطين عموماً.
drhussainshaban21@gmail.com


335
أزمة الهويات في سوريا والعراق ولبنان


شروق صابر
تعد أزمة الهوية من الأزمات المتشابكة والمتداخلة، سواء من حيث مسببات حدوثها، أو مخاطرها على ركائز الأمن القومي العربي، بعد أن أصبحت مدخلا للصراعات وبوابة للتدخلات الخارجية التي استغلت حالة المظلومية التي تعاني منها الأقليات، سواء كانت عرقية أو إثنية أو دينية. ومن هنا جاءت أهمية جلسة العصف الذهني التي عقدتها "وحدة الدراسات العربية والإقليمية" بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فى 14 فبراير 2018، تحت عنوان "صراع الهويات في سوريا والعراق ولبنان"، والتي تحدث فيها د. عبد الحسين شعبان، أستاذ الاجتماع والمفكر العراقي، عن أزمات الهوية التي انفجرت داخل المجتمعات العربية، والتي تعود إلى سوء إدارة بعض نُظم الحكم للتنوع الثقافي والتعددية بأشكالها المختلفة، والتي لم تحظى بالاهتمام الكافي خلال الفترة الماضية.
وبدأ د. شعبان بطرح فكرتين. الأولى أنه رغم أن قضية الأقليات لم تكن مطروحة داخل المجتمعات العربية بشكل واضح، فقد ظهر على مسرح الأحداث استقطابات حادة ومثيرة انفجرت على نحو غير مسبوق. ويعود ذلك إلى اعتماد الدولة على المركزية الشديدة والصارمة فى إدارتها لذلك التنوع. وتكمن الإشكالية الرئيسية في معالجة وطرح تلك القضية فى تقديره إلى التركيز بشكل رئيسي على العامل الخارجي، ولم تحظ التكوينات المجتمعية بالقدر الكافي من الدراسة والبحث من أجل تقديم حلول جذرية لمشاكلها بدلا من الاكتفاء بوضع مسكنات وحلول شكلية.
الفكرة الثانية أن هناك الكثير من الممارسات الخاطئة في تاريخنا تستوجب الاعتراف بها. أي لابد من إعادة قراءة التاريخ وتقييمه لمعرفة ما هو إيجابي من أجل تطويره، وما هو سلبيفي معالجة تنوع  الهويات لمعرفة نقاط الضعف، والتي كانت من بين العوامل التي تسببت في التوترات التي تشهدها المنطقة والتي تدفع ثمنها بشكل رئيسي الشعوب العربية.
ورأى د. محمد السعيد إدريس، مستشار المركز، أن التجربة العراقية تنعكس على التجربة السورية، أي يوجد عوامل تأثر وتأثير بين الأحداث والتفاعلات بين البلدين. وأن هناك ضرورة لدراسة ما يحدث في العراق؛ فهل ينتج عن تطور تلقائي للأحداث أم أن هناك عوامل ومدخلات تسرع من تطورات الأزمة العراقية.
ولفت د. شعبان الانتباه إلى أن أزمة الهوية لا تقتصر فقط على منطقتنا العربية، لكن العالم أجمع يعيشها، حيث انفجرت مشكلة الهويات الفرعية في أوروبا الشرقية لاسيما بعد انهيار الاشتراكية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، مع ملاحظة وجود فوارق بين ما يحدث داخل البيئة العربية وما يحدث داخل البيئة الأوروبية. كما أنه فى الدول الأوروبية أيضا هناك بعض الاختلافات من حالة إلى أخرى، حيث تم معالجة بعضها بهدوء نسبي إلى حد ما، وهناك أزمات أخرى في مناطق رخوة انفجر فيها الصراع وتحول إلى صراع دموي في الكثير من الأحيان.ففي أوروبا الشرقية كانت الدولة المركزية الشديدة الصرامة تغطي على التناقضات القائمة، حتى ظنت الشعوب أن الاشتراكية استطاعت حل واحتواء مشكلة القوميات، إلا أنه بعد مرور سنوات عديدة تجددت وانفجرت المشكلات القومية والإثنية على نحو غير مسبوق، حتى جرى تهجير العديد من سكان المناطق وأصحاب ديانات مختلفة بأكملهم إلى مناطق أخرى، وإحلال سكان آخرين محلهم، في إطار  استبدال هوية بأخرى بديلة، وتغيير سكاني ديموغرافي لهويات أخرى.
في هذا الإطار، أضاف د.عادل عبد الصادق،الخبير بوحدة الدراسات العسكرية والأمنية بالمركز، أن تجربة أوروبا الشرقية تختلف في الكثير من جوانبها عن تجربة مجتمعاتنا العربية، انطلاقًا من موقف الدول الأوروبية في ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في دعمهم لعمليات التحول في أوروبا الشرقية، بخلاف ما حدث في المنطقة العربية من اضطهاد للأقليات والهويات الفرعية مما أدى إلى المزيد من الشحن الطائفي والاحتقان.
وأوضح د. شعبان أن حرمان تلك الأقليات من حقوقها وحرياتها يُعد انتهاكا صريحا وانتقاصا من حقوق المواطنة، التي يندرج ضمنها أربعة قضايا أساسية، هي: الحريات، والمساواة، والشراكة أو المشاركة، والعدالة. ولذلك فعندما يتم ذكر تعبير المواطنة يُقصد بها القضايا المركزية السابقة التي نستطيع في ظلها أن نحتكم إلى قواعد قانونية، يكون أساسها دستوريا، وتديرها مؤسسات، بالإضافة لوجود مؤسسات رقابية تشرف على أداء هذه المؤسسات، ويتم اللجوء إليها في حالة وجود اختلافات أو أي صورة من صور انتقاص حقوق المواطنة. لذلك فإن غياب الحقوق المرتبطة بالمواطنة كان من بين العوامل الرئيسية فيصعود أزمة الهويات الفرعية التي يضيع في ضوئها وحدة وتماسك الدولة.
وأكد د. أيمن عبد الوهاب، رئيس وحدة الدراسات المصرية بالمركز، أنه إذا أردنا الحديث عن دولة حديثة ينبغي أن ننطلق من المواطنة التي تقوم على أساس فكرة الحوار، سواء كان حوارًا ثقافيًا أو حوارا بين الأجيال والطوائف داخل المجتمع. لذلك نجد أن تنامي فكرة الهوية في العراق مرتبط بصعود الأيديولوجية أو إعادة النظر في مفهوم الدولة وسيادتها وعلاقاتها مع السلطة. أي أن الأمر يتطلب إعادة تقسيم السلطة بعيدًا عن المصالح، كخطوة أولية مهمة من أجل تعزيز المواطنة.
وطرح د. معتز سلامة، رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بالمركز، سؤال: هل موضوع الهوية نشأ على مدار العقود وكرسه نظام صدام حسين أم أنه دُفع به في غزو احتلال العراق؟
وأوضح د. عبد الحسين أن جميع المجتمعات مركبة، فليس هناك مجتمع بسيط؛ ففي العراق هناك قوميتان رئيسيتان، هما العرب (ويمثلون 80% من سكان البلاد)، والأكراد، إضافة إلى التركمان. وهناك وجود محدود للآشوريين الذين يتحدثون اللغة السريانية. أما دينيا، فهناك المسلمون، والمسيحيون والصابئة المنداريون، والصابئة غير المنداريين، واليزيديون، وهناك تكوينات أخرى أقل منها. أما إذا أردنا تقسيمها إلى طوائف فإن المسلمين في العراق ينقسمون إلى طائفتين رئيسيتين، هما الشيعة، والسنة.
وتحدث د.شعبان عن اضطهاد المسيحيين في المنطقة، حيث لاحظ استهدافًا من جانب إسرائيل للمسيحيين، بهدف تفريغ الدولة منهم وذلك من خلال اتباع كافة السبل من أجل حثهم على ترك فلسطين. ونتيجة لذلك، نجد بعد أن كانت نسبتهم إلى إجمالي السكان قبل الاحتلال ما يقرب من20%، تراجعت هذه النسبة إلى أقل من 1.25%، وكان عدد المسيحيين في القدس وحدها 50 ألف مواطن، اليوم مع الزيادة السكانية لمدة 70 عامًا أصبح لايزيد عددهم عن 5 آلاف مواطن.
ويتضح ذلك على نحو ملحوظ فيما يخص الاضطهاد والتهجير المتعمد الذي تعرض له مسيحيو الشرق، وبشكل خاص في العراق وسوريا ومن قبلهما لبنان. هذا بالإضافة  للصور المختلفة للتهميش والإقصاء الذي يتعرض له المسيحيون في بعض الدول العربية الأخرى، وهى إشكالية لا تزال قائمة في تلك البلدان، ومازالت بحاجة إلى حلول مبتكرة.
وفي سوريا في فترة أواخر الأربعينيات من القرن العشرين كانت نسبة السكان المسيحيين 18%، وبعد ما تعرضوا له من عمليات إجلاء وتهجير بجانب ما حدث من أعمال عنف واستهداف في السنوات الأخيرة تراجعت هذه النسبة إلى (6%- 8%). الأمر ذاته في حالة مسيحيي العراق، فقد بلغ عددهم قبل الاحتلال أكثر من مليون مواطن أما الآن لا يزيد عددهم عن 400 ألف مواطن، وذلك بسبب اضطرار نصفهم إلى الهجرة بسبب ما تعرضوا له من عمليات إبادة واستهداف مباشر.
حدث ذلك الأمر أيضًا في لبنان، ففي أثناء الحرب الأهلية التي شهدها لبنان هاجر حوالي 700 ألف مواطن كان أغلبهم من المسيحيين.
وتحدثت أ. شيماء منير، الباحثة بوحدة الدراسات العربية والإقليمية بالمركز، عن البعد الخارجي في تعزيز صراع الهويات في المنطقة، خاصة موضوع الصراع السني الشيعي، الذي يحقق المصالح الصهيونية في المنطقة من أجل تراجع الصراع العربي– الإسرائيلي.فعلى الرغم من المظلومية والتهميش الذي عانت منه الأقليات المختلفة، إلا أن إثارة تلك المشاكل ظهرت على نحو غير مسبوق مع الاحتلال الأمريكي للعراق، ومحاولة إحياء مشروع تقسيم المنطقة على أسس عرقية. ويتضح هنا المصالح الصهيونية في تهجير مسيحيي الشرق من أجل تعزيز فكرة الدولة اليهودية الخالصة، تحت ذريعة مواجهة  المسلمين وذلك بعد تفريغ دول المشرق من المكون المسيحي، خصوصا في سوريا والعراق والذي يعد العنصر المسيحي هناك داعما  للعروبة ومناهضا لمخططات التقسيم. كما أن لذلك الصراع على الهويات بعد آخر يتمثل في تراجع الهوية العربية لصالح الهوية الشرق أوسطية التيدعي إليها شيمون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد. 
وانتقل د. شعبان من ذلك إلى مسألة تحويل الدولة من دولة بسيطة إلى دولة مركبة، بحيث يتم تأسيسها على مبدأ الفيدرالية، والذي طالبت به الحركة الكردية وبعض القوى اليسارية في العراق.كان الحكم السابق في العام 1970 قد أقر بمبدأ الحكم الذاتي، وتم تشكيل مجلس تنفيذي (حكومة)، ومجلس تشريعي (برلمان)، وسلطة تشريعية، ولكن ظلت معظم الصلاحيات في أيدي السلطة المركزية. وبالرغم من اعتراف هذا الحكم ببعض حقوق الأكراد لكنه لا يرتقي إلى درجة الحكم الذاتي، حيث شابته الكثير من النواقص والثغرات التي أدت إلى اندلاع القتال بين الحركات الكردية من جهة، والحكومة، من الجهة الأخرى.
وبعد العام 2003 أسس برايمر لفكرة تقسيم العراق تحت عنوان "تحويل العراق من دولة بسيطة إلى دولة مركبة"، أي تحويله إلى دولة فيدرالية، من حيث توزيع المصالح بين السلطات خاصة إذا كان بالدولة مكونات. وورد في الدستور العراقي الذي شُرع عام 2005 ومن قبله قانون إدارة الدولة العراقية لعام 2004 ثمان مرات كلمة "المكونات" داخل الدستور، والتي شملت الشيعة، والسنة، والأكراد. كما تم تقسيم مقاعد البرلمان على أسس طائفية وعرقية، بواقع 13 مقعدا للشيعة، و5 مقاعد للسنة، و5 مقاعد للأكراد، ومقعد واحدًا للتركمان، ومقعدًا أيضًا للآشوريين.
هذا التقسيم لم يكن عادلا، حيث كان من المفترض أن يتم تخصيص 80% من المقاعد للعرب وللأكراد، و20% من المقاعد للآخرين. وذلك يؤكد أن الهدف كان هو تحقيق التقسيم التفتيتي التدريجي الذي يقوم بزرع الكراهية والعداء والتناقض بين الأكراد من جهة، وبين العرقيات والإثنيات والأديان من جهة أخرى، والذي أدى إلى انفجار شديد الخطورة كاد أن يقضي على مئات الآلاف من السكان إذا لم يجرى احتوائه وهو ما حدث من تفجير للإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء عام 2006.
وأشار د. شعبان  فى الوقت ذاته إلى أن الفيدرالية تظل شكل من أشكال نظم الحكم الإيجابية، التي تتضمن توزيع الصلاحيات بين الفئات والجماعات، فهناك أكثر من 40 فيدرالية في العالم، وجميعها ناجحة، ولكن تختلف الفيدرالية التي نتحدث عنها في العراق عن باقي الفيدراليات الأخرى. ففي النظام الفيدرالي الطبيعي إذا تعارض الدستوران الإقليمي والفيدرالي ستكون الغلبة للدستور الفيدرالي، أما في النظام الذي نتحدث عنه إذا تعارض الدستوران الفيدرالي والإقليمي فإن الغلبة تكون للدستور الإقليمي. ويحق للأقاليم أن تنشئ بعثات داخل السفارات العراقية تعني بالشئون الاجتماعية والثقافية وغيرها، وهو ما يشكل دويلة داخل دولة، وما ينتج عنه من تداعيات أخرى خاصة بموضوع الدفاع، فالبشمرجة صفتها داخل الدستور العراقي "حرس حدود" لا تخضع إداريًا للجيش العراقي والقوات المسلحة إلا بصرف الرواتب، أما قيادته وتشكيلاته وكل ما يتعلق بشئونه الخاصة فإنها تخضع لإدارة وطنية.
وأشارت د. أميرة محمد عبد الحليم، الخبير بوحدة الدراسات الدولية بالمركز، إلى "الفيدرالية" في التجربة الصومالية وأوضحت أنه في عام 2002 بدأ الحديث عن تكوين سلطة سياسية في الصومال وأن تصبح الصومال دولة فيدرالية بمعنى وجود حكومة مركزية وحكومات أقاليم، وحتى الآن يوجد صراع بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم مؤخرًا. فعلى سبيل المثال، وأثناء الأزمة القطرية قامت حكومات الأقاليم بقطع العلاقات مع قطر أما الحكومة المركزية أبقت معها العلاقات ومن ثم نحن نتحدث عن دول داخل دولة واحدة تحت الرعاية الأمريكية.
وطرح د. معتز سلامة سؤالًا حول ما إذا كان الكشف عن بقاء الطائفية والهويات سوف يقضي إلى انهيار الدول فهل نمضي في هذا المسار أم لا؟
واستكمل د. عبد الحسين الحديث بالتأكيد على أهمية اعتراف الفرد بأنه داخل مجتمع يضم "مكونات"متعددة، وهو ما أوضحه د. وحيد عبد المجيد، مدير المركز،بالعودة إلى ما ورد في بعض كتابات "جان جاك روسو" والتى نفهم منها أن المجتمع مثله كمثل الحقل، من الممكن أن يصبح بستانًا أو غابة، وما يصنع الفرق الأساسي هو ما يطلق عليه "فكرة المعرفة المتبادلة"، بأن تعرف العناصر المكونة للمجتمع بعضها البعض، فعدم وجود المعرفة المتبادلة بهوية تلك العناصر يجعل كل عنصر يكون صورة خيالية للعنصر الآخر.ففي العراق، على سبيل المثال، تم تكوين صورة على أن اليزيديين يعبدون الشيطان، هذه الصور عندما يتم نقلها من جيل إلى آخر تخلق نوعًا من الكراهية والعداء تظل تحت الأرض غير واضحة للعيان في ظل وجود قبضة حاكمة؛ فمن يتولى حكم هذه المجتمعات يتخلى عن وظيفة التكامل الاجتماعي ويتحول إلى "لاصق اجتماعي" بأسلوب من القهر يقوم بلصق هذه المكونات فتبدو كوحدة كاملة رغم تفتيتها. وعندما يتم رفع هذه القبضة يتم اكتشاف ما تم ستره منذ عقود من الزمان، فالمجتمع المتعدد الثقافات والذي حظر فيه الحوار والنقاش للتعارف المتبادل هو السبب فى ظهور وتطور تلك الأزمات في المجتمعات ولذلك فإن توحيدهم يحتاج إلى عقود من الزمان.
وأشارت د. أميرة عبد الحليم إلى أن الشعور بالتمايز الداخلي هو ما يؤدي إلى سعي قومية أو جماعة إثنية معينة إلى تمييز نفسها عن الآخرين،حيث نرى أن  الشعور بالتمايز في أفريقيا على سبيل المثال خلق العديد من المشكلات منذ منتصف التسعينيات.فعندما اتجهت الدول إلى التحول نحو الديمقراطية، بدأت جماعة معينة السيطرة على السلطة والثروة مقابل تهميش للجماعات الأخرى. هذا الشعور بالتهميش هو ما أدى إلى تحرك تلك الجماعات للبحث عن انتمائها الأولي بعيدًا عن الانتماء الدولي، ومع صعود فكر الإرهاب خلال العقدين الأخيرين بدأت هذه الاجتماعات تمييز نفسها الآن على أساس ديني لكي تتمكن من رفع السلاح لمواجهة السلطة.
ورأى د. جمال عبد الجواد،مستشار المركز، إن فشل محاولة الانقسام الكردي عن جسد الدولة العراقية يعد مؤشرا إيجابيا لمحاولة إمكانية التعايش بين الأكراد والعرب على أرضية جديدة، نظرًا لحدها من التطرف والجموح الكردي نحو الاستقلال وخلق تعبيرات سياسية خاصة بالمطالب والطموحات التي يطالب بها الأكراد تكون أقل تطرفًا أو رفضًا للبقاء ضمن الدولة العراقية.

نشرت في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، 1/3/2018، كما نشرت في صحيفة بوابة الأهرام يوم 24/2/2018. وكان مركز الأهرام قد استضاف الدكتور شعبان في جلسة عصف فكري ضمّت مسؤولي أقسام المركز ومدراء الوحدات وقام بتقديمه رئيس المركز الدكتور وحيد عبد المجيد واستغرقت الجلسة ثلاث ساعات ، وذلك في 13/2/2018.


336
التسلّح ونزع السلاح
عبد الحسين شعبان
«الحرب هي امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى»، بهذه المقولة الاستراتيجية التي تعود إلى المفكر النمساوي كلاوزفيتز، بدأت مداخلتي في ندوة «المعهد السويدي بالإسكندرية» التي نظّمت بالتعاون والشراكة مع «معهد استوكهولم لأبحاث السلام الدولي» Sipri و«مركز دراسات الوحدة العربية»، الذي تولّى إصدار الطبعة العربية من الكتاب السنوي، منذ العام 2003 والموسوم «التسلّح ونزع السلاح والأمن الدولي»، الذي يعدّه معهد استوكهولم.
وتكمن أهمية هذا الإصدار على ما يحتويه من معلومات ورصد للوقائع واستخلاصات لخبرات عسكرية وأمنية واستراتيجية متنوّعة، إضافة إلى تفاصيل دقيقة عن تطور حركة التسلح وتجارة السلاح ومسألة نزع السلاح والأمن الدولي.
يُذكر أن السويد لم تدخل أي حرب منذ أكثر من 200 عام، بل إنها اتّخذت موقفاً مناوئاً لها، ولاسيّما دعوتها إلى نزع السلاح وتحقيق السلم والأمن الدوليين، واتّبعت سياسة حيادية سلمية طوال القرنين المنصرمين لقناعتها أن هذا النهج يمكن أن يوصل إلى العدالة، وهو ما حمل رئيس وزرائها أولف بالما إلى الدعوة لتعويض شعوب البلدان النامية عمّا لحق بها من ظلم وإجحاف بسبب السياسات الاستعمارية الغربية، ولكنه راح ضحية دعوته الإنسانية تلك، حين تم اغتياله في 28 فبراير/شباط من العام 1986.
وبتقديري أن إصداراً بحثياً بهذا العمق والمشاركة الواسعة لإعداده من جانب نخبة متميّزة، يعتبر مرجعاً أساسياً ذا قيمة معرفية وعملية، سواء لأصحاب القرار والخبراء العسكريين والاستراتيجيين من جهة أم للسياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين وجميع العاملين في الحقل العام من جهة أخرى.
وبغضّ النظر عن الاتفاق والاختلاف مع ما يذهب إليه هذا «الإصدار» الذي يتألف من 864 صفحة من القطع الكبير، فإن المعلومات التي يوفّرها للباحث تشكّل مادة استثنائية حتى وإن اختلفت التقييمات بشأنها، ولاسيّما فيما يخصّ بعض التقديرات التي تتعلق بمشاكل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وقضايا الصراع العربي- «الإسرائيلي»، لكنها تبقى معطيات أساسية ومفيدة ومهمة.
لا أدري من هو القائل «إن امتلاك السلاح يوازي استخدامه»، لأنه سيكون واحداً من مظاهر قوّة الدولة العسكرية، تلك التي تكتمل مع عناصر القوة الأخرى، الاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية والإدارية والقانونية والتربوية والإنسانية وغيرها. وكلّما ازدادت القوة، بل فاضت عن الحدّ يتولّد شعور، ربما أقرب إلى «الوهم» أحياناً، للتنفيس عن هاجس «فائض القوة» أو الامتلاك الذي يزيد عن الحاجة، سواء باستخدامها أو التهديد بها، وهكذا تنشأ الحروب بسبب تباين المصالح واختلافها ومحاولة البعض فرض الهيمنة على الآخر.
ويعرّف «برنامج أوبسالا» النزاعات المختلفة بناء على الاحتكام إلى القوة في النزاع الناشئ عن تباين، وعندما تبرز جماعة جديدة ويتغيّر التباين، يسجّل نزاع جديد، وحسب هذا البرنامج، فالنزاعات النشطة هي التي يزيد فيها عدد القتلى على 25 شخصاً ويصل إلى 1000، أما النزاعات المستأنفة، فهي تنام وتستيقظ وتوقع ضحايا أقل من 25 قتيلاً وما زاد عن الألف في عام واحد يعتبر حرباً.
فهل أن عدد القتلى وحده هو المعيار الصحيح، أم هناك جوانب إنسانية في النزاعات والحروب هي التي تحدد طبيعتها؟ والأمر يتعلق بحجم الدمار الذي تتركه، فضلاً عن تعطيلها للتنمية والتطور الديمقراطي والتأثير في حقوق الإنسان، سواء حقوق الأفراد أم المجموعات الثقافية: الإثنية والدينية واللغوية السلالية. ويضاف إلى ذلك، ولاسيّما في الحروب الحديثة استمرار الصراع ونوع السلاح المستخدم، وما له علاقة بتجارة السلاح وقضايا الاتجار بالبشر والمخدرات وغسل العملات والجريمة المنظمة، واندلاع العنف بأشكاله، وخصوصاً باستشراء ظاهرة الإرهاب الدولي.
وقد شكّل الإنفاق العسكري خلال الحرب الباردة 1947 -1989 عبئاً كبيراً على الدول في إطار «سباق التسلّح» الذي كان سائداً ووجهاً من وجوه الصراع الأيديولوجي المتعدّدة، بما فيها الحرب النفسية، ووسائل القوّة الناعمة، ولاسيّما الثقافية والإعلامية والأدبية والفنية، للتأثير في الخصوم أو الأعداء.
وعلى الرغم من جميع المحاولات لنزع السلاح وتوقيع اتفاقيات «سالت 1» العام 1972 و«سالت 2» العام 1979 ومعاهدات نزع السلاح النووي أو الأسلحة التدميرية الأخرى، بين المعسكرين المتناحرين (أمريكا والاتحاد السوفييتي)، فإن مجرد تخصيص الولايات المتحدة تريليوني دولار لبرنامج «حرب النجوم»، كان كفيلاً بإلحاق هزيمة بالطرف الآخر، الذي انهار تحت عبء التسلّح، إضافة إلى شحّ الحريات والاختناقات الاقتصادية وسوء الإدارة والبيروقراطية.
واحدة من القضايا التي لفتت انتباهي في إصدار هذا العام هو مصطلح «العصر الأنتروبوسيني» الذي أطلقه مدير معهد استوكهولم دان سميث، وقد استفسرت منه عمّا يعنيه، وحين دققت المعطيات التي يوفّرها بحثه اكتشفت أنه يعني «الحقبة الجيولوجية الراهنة»، تلك التي وردت الإشارة إليها في اجتماع المؤتمر الجيولوجي الدولي المنعقد في مدينة كيب تاون (جنوب إفريقيا) في شهر أغسطس/ آب/ 2016، حيث اتخذ قراراً بإطلاق اسم الأنتروبوسيني، وقصد بذلك أن الأنشطة البشرية هي القوى المؤثرة الحاسمة في الجيولوجيا والإيكولوجيا، الأمر الذي ينعكس على شروط الحياة في وقت السلم، فما بالك بالنزاعات والحروب؟
drhussainshaban21@gmail.com





337
في مئويته الثانية : ماركس المفترى عليه
عبد الحسين شعبان
   حلّت قبل مدة قصيرة الذكرى المئوية الثانية لميلاد كارل ماركس ، الفيلسوف والمفكّر وعالم الاجتماع والاقتصادي والسياسي، الذي شغل العالم وملأ الدنيا، بأفكاره ونظرياته وأطروحاته، وقبل ذلك بمنهجه الجدلي. وكنت كتبت قبل ثلاثة عقود ونصف من الزمان (1983) مقالة في مجلة الهدف الفلسطينية بعنوان: “بروموثيوس هذا الزمان”، وهو استعارة عن حامل شعلة الفكر الربانية، أشرت فيه إلى فضل ماركس على البشرية من خلال اكتشافه قوانين الصراع الطبقي وفائض القيمة، وقلت ولا أزال إن إضافته الأساسية هي في منهجه الجدلي، وهو المنهج الذي استخدم بطرق خاطئة في الكثير من المرّات.  وإذا كان ماركس مفترى عليه في عصره وحياته، فلم ينجُ من الافتراء حتى بعد  مماته وبعد تاريخ طويل. والإفتراء جاء من جانب أعدائه وخصومه مثلما ورد من جانب مريديه وأتباعه على حدٍّ سواء، خصوصاً حين تعامل هؤلاء مع تعاليمه كنصوص مقدّسة، وحفظوا بعض مقولاته بطريقة أقرب إلى الأسفار التوراتية أو الآيات الإنجيلية والقرآنية. وأكثر من ذلك حين ردّدوها بوصفها تعاويذ أو أدعية فيها شفاء من كل شيئ وتم استخدامها بطريقة تلقينية لا علاقة لها بزمنها أو بجوهر العصر لاسيما بإضفاء قدسية كهنوتية عليها كان ماركس من أشد أعدائها، خصوصاً حين نزّهوه عن الخطأ ووضعوه خارج نطاق النقد وهو الذي عد المثقف ناقداً اجتماعياً. وجرى أحياناً التعامل مع ماركس والمادية الجدلية انطلاقاً من موروثات ريفية أو بدوية أو دينية وبطريقة انتقائية فيها الكثير من الخفّة والركاكة، في حين هي فلسفة حداثية مدنية يسمح منهجها بالحذف والإضافة والتطوير. وكان الأعداء والخصوم في السابق والحاضر وجدوا في ماركس وفلسفته، وخصوصاً منهجه خطراً على مصالحهم، فلعنوه وطاردوه بسبب الأفكار الجذرية التي حاول التنظير لها لإحداث التغيير المنشود ضد الفكر البرجوازي والهيمنة الرأسمالية الطبقية السائدة. أما المريدون والأتباع فقد عدوه “قديساً” لا يأتيه الباطل من خلفه أو من أمامه، وحسب  بعض دعاته إن كل مساس بفكرة قال بها ماركس أو استنتاج  توصل إليه كأنه مساس بأيقونة تستحق أن توضع في متحف بحيث لا تطالها الأيادي أو تلمسها ، ومنطق هؤلاء مثل منطق أصحابنا الإسلاميين على اختلاف انحداراتهم، شيعة وسنّة، يعتبرون ما قاله أئمتهم أو مرشدوهم يمثّل الحكمة والرشاد والفضيلة،  وهكذا يتم تمجيد هؤلاء دون نقاش لآرائهم وأفكارهم، سواءً في الماضي أم في الحاضر، علماً بأنهم مثل غيرهم بشر يصيبون ويخطئون، لكن الآيديولوجيا العمياء تريد إضفاء القدسية عليهم وعلى أعمالهم، والأمر ينسحب على الآيديولوجيات القومية والبعثية، فمجرد ذكر أي انتقاد لزعيم أو قائد يجعل منه عدوًّا أو خصماً، علماً بأن الأعمى يكاد يرى نتاج سياسات الاستبداد والإقصاء والتهميش. وبالعودة إلى ماركس فإن مثل هذه النظرة التقديسية تبقى حبيسة في النفوس كلّما سمع أحدهم نقداً أو تقريضاً لبعض أفكاره، أو أن الزمن تجاوز الكثير من أحكامه واستنتاجاته، والأمر ينسحب على لينين وحتى ستالين وإلى الأمين العام لهذا الحزب أو ذاك، سواء في تجارب الأصل أم في تجارب الفرع، وهي ثقافة سائدة لدى جميع الأحزاب الشمولية، شيوعية أو قومية أو إسلامية، حيث يتم التعامل معها من منظور عشائري، فكيف يتم انتقاد شيخ العشيرة مثلاً أو المرشد أو الإمام أو آية الله. لا أخال أحداً من جيلنا الستيني لم يترك اسم ماركس شيئاً لديه، سواءً كان من أنصاره أم من خصومه، ومع ذلك فإن ماركس لم يُقرأ عربياً وعراقياً، علماً بأن الأزمة الراهنة للرأسمالية، أعادت ماركس إلى الواجهة مرّة أخرى وكانت نتائج استفتاء لهيئة الإذاعة البريطانية BBC قد وضعت ماركس من بين 100 شخصية مؤثرة في العالم، حتى أن رجال أعمال ومدراء مصارف ورؤساء شركات تأمين شرعوا بقراءة كتاب “رأس المال” على نحو جديد الذي كان من بين الكتب الاقتصادية والسياسية الأكثر انتشاراً في أواخر العقد الماضي، ومع ذلك أقول إن ماركس لم يُقرأ عندنا، واصطفّ خصومه ينددون به ويتهمونه شتى التهم بما فيها الإلحاد، استناداً إلى تفسيرات خاطئة وإغراضية لعبارته الشهيرة ” الدين أفيون الشعوب” التي أخذها عن الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، ووصولاً إلى رفض فكرته بإلغاء الاستغلال والانقسام الطبقي، مثلما كان مريدوه يتجمعون ليتغنّون بمواهبه وعبقريته، دون أن يستنبطوا الأحكام الصحيحة بواسطة منهجه وليس بتكرار مقولاته وأحكامه.وأعرف (شيوعيين) متعصبين أشدّ التعصّب، لم يقرأوا كتاباً واحداً كاملاً لماركس باستثناء “البيان الشيوعي” في أحسن الأحوال، ولولا الدراسة الشكلية في المدرسة الحزبية لبعض الكوادر لما كان تم قراءة هذا الكرّاس كاملاً في العديد من الحلقات والمفاصل الحزبية التنظيمية العليا أو الوسطية، خصوصاً وإن العمل اليومي المسلكي والإداري يكاد يستغرق الأغلبية الساحقة منها وحتى تلك القراءات كانت خلطة من رؤية سوفيتية وطبعات مستنسخة في مدارس الدول الاشتراكية الأخرى، ولكن ما أعرفه أيضاً أن صورة ماركس ولينين كانت تعلّق فوق الرؤوس أحياناً وفي المكاتب إذا سمحت الظروف، ولو إن بعضهم علّق صورة الخميني لاحقاً في ظروف الحرب العراقية – الإيرانية في المنفى، وهو أمرٌ ليس من باب النكتة، بل واقعاً. ماركس الذي كان شبحه يجوب أوروبا العجوز، “رمز الشيوعية” لوحق في فرنسا وطرد منها وذهب إلى بروكسل فطاردوه وانتقل إلى ألمانيا ليشارك في ثورة العام 1848 وحين فشلت غادر إلى لندن ليقضي فيها بقية حياته من العام 1849 ولغاية العام 1883 وعاش في ظروف مادية قاسية، ولولا مساعدات رفيقه في الفكر والعمل، فردريك إنجلز لما تمكّن من العيش وكان قد كتب معه: البيان الشيوعي ” المانيفاستو” والعائلة المقدسة، وأزهرت أفكارهما لتنجب ما نطلق عليه “الماركسية” أو “التمركس″، خصوصاً وهما مثّلا الحلقة الذهبية الأولى فيها. وأهم استنتاجات البيان الشيوعي أن تاريخ المجتمعات الإنسانية هو تاريخ نضال الطبقات وأن المجتمع أخذ بالانقسام إلى طبقتين ، أغلبية محرومة ” البروليتاريا” وأقليّة متخمة ” البرجوازية”، وبنى ماركس استنتاجاته على هذا التقدير، واضعاً رسالة للطبقة العاملة للإطاحة بالرأسمالية وإلغاء المجتمع الطبقي. واستقرأ التاريخ الإنساني ومراحله، وهو ما أكّد استنتاجه من أن الرأسمالية هي المرحلة الأخيرة للتطور الإنساني، وإن تناقضاتها ستؤدي إلى انهيارها الحتمي، وقد حاول لينين تطوير هذه القاعدة التي ارتكز عليها ماركس، فاعتبر “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، وحلّل ماركس وشرح وفسّر الرأسمالية القائمة في عهده أحسن تحليل وتشريح وتفسير، وهو ما يدعونا للقول أن “الماركسية هي علم الرأسمالية” بامتياز، وكان للمنهج الذي اعتمده والذي ما يزال صالحاً الأساس في بلورة استنتاجاته.


انعكاس الواقع
 وقد قرّر ماركس أن تفكير البشر هو انعكاس لواقعهم الاجتماعي الذي يحدّد نمط حياتهم ووجودهم، باعتبار المادة هي أساس الوجود وهي في حالة تطور والتاريخ البشري مرهون لهذا التطور في الظروف المادية، ووفقاً لهذه القاعدة حدّد ماركس رؤيته للكون والعالم والثروة والاقتصاد والسياسة والثقافة والتغيير والثورة. وإذا كان منهجه الجدلي صحيحاً، فليس جميع مقولاته صحيحة، وحتى لو كان بعضها صحيحاً، فإنها ليست صحيحة لعهدنا، خصوصاً في ظل الثورة العلمية- التقنية، أو أنها كانت صحيحة لذلك العهد، فإنها لا تصلح لعهدنا وعلينا استنباط الأحكام الخاصة بنا في ظل الظروف الملموسة. وبهذا المعنى ليست جميع التنبؤات الذي قال بها ماركس يمكن أن تتطابق مع الواقع، فالرأسمالية حطّمت الإقطاع ووجهت النظم والحكومات والبلدان نحو المدنية وتمركزت المِلْكية بيدها أو بيد فئة صغيرة، خالقة عالماً جديداً. وهذا يجسّد صواب رؤية ماركس حيث تعولمت الرأسمالية من خلال ثورة الاتصالات والمواصلات وتمركز المال وازدادت الفجوة الطبقية والاجتماعية، الأمر الذي كان حسب ماركس يقتضي عملية التغيير. وإذا كانت الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة قد أعادت “طيف ماركس” إلى الواجهة، بعد أن أصبح شبحه «أثراً بعد عين» كما يُقال، الأمر الذي اعتبره البعض جزءًا من المتحفية إذا جاز التعبير، فإنها في الوقت نفسه استحضرت التجربة الشيوعية الدولية، خصوصاً نماذج الماركسية السوفييتية المطبقة. صحيح أن ماركسية القرن الحادي والعشرين لا تشبه ماركسية القرن العشرين، وإنْ كانت تلتقي مع ماركسية ماركس في القرن التاسع عشر، لكنها قد تتجاوزها إلى آفاق أكثر رحابة في ظل مرحلة ما بعد الحداثة والثورة العلمية-التقنية والعولمة وتأثيرها، ومعارفها وعلومها. ولعلّ “الماركسية السوفييتية” تختلف اختلافاً كبيراً عن “ماركسية ماركس” وطبعتها الكلاسيكية، مثلما تختلف هذه الأخيرة التي كشف ماركس قوانينها في القرن التاسع عشر، عن ماركسية ما بعد سقوط جدار برلين العام 1989 ولا شك أن ماركسية القرن الحادي والعشرين ستكون شيئاً آخر، حيث لم يعد التاريخ كما كان المتخيّل منكشفاً في ثنائيات وتبسيطات في ماضيه وحاضره ومستقبله، وعن تشكيلات ومراحل وأدوار يحكمها الصراع الطبقي بكليّاته، ويطرح أشكالاً تتواءم مع التفسيرات اليقينية والحتميات السائدة آنذاك. وكانت إنجازات ماركس قد ساهمت في تعميم معارف عصره، واستنباط حلول تتواءم مع التطور السائد حينئذ، وهو ما أسماه الانتقال إلى عالم الحرية، الذي لم يكن سوى فهم الضرورة، وظلّت الماركسية الكلاسيكية تدور في وحول “الحتميات التاريخية” على نحو سرمدي، وإنْ لم تعر اهتماماً بدور الفرد، معتبرة إيّاه عرضة للتوّهمات والكبوات، وعندما حلّت لحظة تطبيق الماركسية من خلال نظام حاكم، هيمنت عليها الهرمية الكيانية البيروقراطية الحزبية، حيث ارتفع دور الفرد القائد الزعيم، وإن اعتبر الأفراد بفرديتهم وبجمعهم ليسوا سوى جزء صغير وربما مجهري من حركة التاريخ ومساره، الذي تصنعه الطبقة العاملة وطليعتها ويتربع على عرشه القائد الذي تُنسب إليه جميع الصفات الخيّرة فكرياً وإنسانياً وأخلاقياً لدرجة التماهي بينه وبين الطبقة. وقد عمّمت الستالينية نموذجاً احتذى به القادة الآخرون وساروا على هداه، ولعلّ بعض زعماء ما أطلق عليه “حركة التحرر الوطني”، قلّد هذا النموذج بحذافيره، بل زاد عليه في ظروف العالم الثالث المتخلفة، ممارسات أكثر بؤساً على صعيد الإدارة والاقتصاد والسياسة والثقافة وحقوق الإنسان، وبشيء من موروثه وعاداته وتقاليده بما لا ينسجم مع الفكرة الماركسية. لقد شغلت الماركسية، لاسيّما منذ البيان الشيوعي العام 1848العالم أجمع والعلاقات الدولية خلال 170 عاماً ولا تزال، وعندما وصلت إلى السلطة لأول مرة بعد سقوط كمّونة باريس العام 1871  بنجاح ثورة أكتوبر العام 1917 شقّت العالم إلى قسمين، وشهد التاريخ أولى تجارب الحكم «الاشتراكي» وتوسّع الأمر بقيام الجمهوريات الديمقراطية الشعبية بعد الحرب العالمية الثانية العام 1945 ومن ثم نجاح ثورة الصين العام 1949 وتأثر بعض حركات وزعامات العالم الثالث، بالحركة الشيوعية والاشتراكية الدولية، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، خصوصاً بعد نجاح الثورة الكوبية العام1959 .
مادية جدلية
بهذا المعنى كانت المادية الجدلية منهجاً للتحليل وأداة للعمل من أجل التغيير، وإذا كان قد سبق ماركس وجايله الكثير من المفكرين والباحثين، مثل كانط وديكارت وهيغل وفيورباخ وغيرهم، إلّا أنه كان الوحيد بينهم الذي ترك مثل هذا التأثير على العالم أجمع، فلم يكن مفكّراً كبيراً أو باحثاً متعمقاً أو فيلسوفاً حالماً أو منظماً وداعية حسب، بل كان كلّ ذلك. ولعلّ في هذه الموسوعية وربط الفكرة بالعمل مصدر قوّته وربما مصدر ضعفه في آن، فالمشروع الماركسي الفلسفي قدّم رؤية للتاريخ من جهة، مثلما قدّم منهجاً للتحليل، وهما الأساسان اللذان تعتز الماركسية في حلقتها الذهبية الأولى (ماركس وانجلز) بإضافتهما إلى علم الاجتماع الإنساني، مثلما كانت مشروعاً لتحرير الإنسانية، وحركة ثورية ذات أهداف محددة، لكنها لم تنجح في الاختبار في تجارب دامت نحو 70 عاماً، ولعلّ الجزء المهم منها ظلّ يوتوبياً، ففي كل فلسفة جزء من اليوتوبيا. لم تحبس الماركسية نفسها في إطار الجدل الفكري الأوروبي، بل كانت الساحات العالمية كلّها مجال حركتها، الأمر الذي وضعها في مواجهة الرأسمالية في كلّ مكان، وهذا الأمر أخذ طابعاً تعبوياً وسياسياً بعد التجارب الاشتراكية الأولى، خصوصاً بعد ثورة أكتوبر وتأسيس الأممية الثالثة بقيادة لينين العام 1919 التي استمرت حتى العام 1943? حيث تم حلّ الكومنترن. احتفى البعض بموت الماركسية، بل إنه أهال عليها التراب بعد دفنها، وما تبقّى منها وضعه في إطار الذكريات أو الكتب المتحفية، وكان بعض الماركسيين قد حاول تدوير تاريخه وإنكار احتسابه على هذا التيار الذي ظنّ أنه تم توديعه إلى الأبد ولم يعد أحد يتذكّره، وإذا بالأزمة المالية العالمية تعيده إلى الصدارة ويصبح طيف ماركس وليس شبحه في كل مكان.
فكرة شمولية
 وكما أصبح الحديث عن موت الماركسية بوصفها فكرة شمولية توتاليتارية، ومدخلاً للحديث عن ولادة الليبرالية الجديدة، فقد أصبح الحديث عن فضائل الأخيرة وسيادتها وظفرها مسألة موازية، وهو ما بشّرنا بها فرانسيس فوكوياما حين تحدّث عن نهاية التاريخ وتلقفها بعض زملائنا من الماركسيين القدامى “الليبراليين الجدد”، منتشين باكتساح العولمة للقارات والدول والأمم والشعوب واللّغات والنظم والحدود. وإذا كان هناك في الغرب من أخذ يتحدّث عن عودة ماركس ولكن ليست الماركسية الوضعية النقدية، حيث يريد ماركس لا بسترته المتّسخة، بل كعالم إنثربولوجي وسسيولوجي واقتصادي، ويسير خلفه لا جوقة الرعاع والبروليتاريا، بل مجموعة من البروفسيرات والأدباء والفنانين والمثقفين وأجمل النساء، وهؤلاء يريدون من الماركسية ومن ماركس فكرته الفلسفية ضمن طائفة الأفكار الفلسفية التي تغتني بها اللوحة الفكرية الأوروبية-الغربية، أما هدف تغيير العالم وليس تفسيره، كما دعا إليه ماركس، فهذا أمر تاريخي ومتحفي ليس إلاّ حسب وجهة نظرهم، بحيث لا يتم جمع النظرية إلى جانب التطبيق، وهو ضرورة، انفصلت عنها التجارب الاشتراكية بالكامل وفي جميع الحقول والمجالات. لاشكّ أن الذي مات هو النموذج أو الموديل السوفييتي، وقد أثبت فشله وعدم صلاحه وبالتالي انهياره، لأنه لم يكن ماركسياً أو اشتراكياً، بقدر كونه نموذجاً توتاليتارياً-استبدادياً حيث شكلت قاعدته القسرية الإكراهية الأساس في تطبيقه، الأمر الذي جعله صورة مشوّهة للماركسية الكلاسيكية، رغم بعض نقاط ضعف الأخيرة، وكانت صورة لينين وبالدرجة الأساس ستالين الشاهد الحقيقي للتشويه القيمي والفكري للماركسية، لاسيّما بغياب وجهها الإنساني. ولذلك فإن تبديد أو حتى موت النموذج القسري سيكون متوائماً ومنسجماً مع جوهر الماركسية وذاتها لا خلافاً معها، خصوصاً أن أفكار ماركس المستقبلية لم تكن محط اقتناع، بل هي الأخرى حملت إشكاليات زمانها، فضلاً عن إشكاليات زماننا. وإذا كانت تقديرات ماركس وقراءة بعض أطروحاته، لاسيّما التي تم تطبيقها لم تزكها الحياة، مثل نظريته عن الدولة، التي قال إنها ستذبل وإشكالية دور الفرد في التاريخ، ودور العامل النفسي ووصمه شعوباً بالرجعية بالكامل في معرض حديثه عن الشعب التشيكي، فإن جوهر منهجه ظل حيوياً وقادراً على تحليل واستنباط الأحكام والحلول، رغم أن البعض أرادها أحكامه وحلوله، في حين يقتضي المنهج الماركسي أن نكتشف قوانينا وحلولنا وأحكامنا، لا قوانين وأحكام ماركس، التي كانت تصلح لزمانه وليس لزماننا. هل يحق لنا أن نقول إن الماركسية كفلسفة تستطيع أن تجدّد نفسها رغم شيخوخة بعض جوانبها، حتى إن استبقت بعضاً منها في المكتبات أو اليوتوبيات أو الأحلام أو المتحفيات، فتلك مأثرة الفكر الحي ورائدة بروموثيوس الذي يستحق كما الماركسية القراءة الارتجاعية، بمنهج نقدي وضعي، لا بمسلّمات عفا عليها الزمن!!
 باحث ومفكر عربي




338
«الإسلامفوبيا» و«الويستفوبيا»
عبد الحسين شعبان
بتواضعه الجمّ وعلمه الوافر لفت المفكر المغربي عبدالله الساعف، في كلمته المكثفة التي ألقاها خلال حفل تكريمه من مركز الذاكرة المشتركة في «مكناس» إلى أن اللّغة تمثّل ركناً أساسياً في الهوّية، وكأنه يواصل حواراً مفتوحاً منذ عقود من الزمان حول دور اللغة، سواء كان دستورياً وقانونياً أم عملانياً ووظيفياً، لاسيّما إذا ما تناولنا الهوّية بتكوينها الثقافي والأنثربولوجي المتعلّق بالإنسان بالدرجة الأولى، في علاقته مع غيره ممن يشتركون معه في الوطن والدين والمجتمع، من جهة، وعلى صعيد المشترك الإنساني الكوني، من جهة أخرى.
ولعلّ مثل هذا التشخيص ينطلق من رؤية معاكسة للثنائيات المتصارعة، في النظر إلى الآخر، حيث إن مقابل الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) هناك الويستفوبيا (الرهاب من الغرب) فكلاهما ينمّان عن مخاوف مسبقة تغذّيها أحياناً معطيات بعضها صحيح يتم التعكّز عليه وبعضها الآخر خاطئ، بل و إغراضي، وهو الذي يتّجه بعيداً عن المشترك الإنساني، مروّجاً لصراع خفي وظاهر يتعلّق بالمصالح بالدرجة الأساسية، حتى وإنْ ارتدت جلباباً ثقافياً، سواء كان غربياً باسم الدفاع عن الحضارة المسيحية وقيم الحداثة والتنوير أم عربياً وإسلامياً، باسم الدفاع عن الحضارة العربية - الإسلامية والأصالة والتراث ورفض الاستتباع. وفي كل الأوقات، كان هناك من يجد مبررات وذرائع مختلفة للاتجاهات الإقصائية والإلغائية، لتأجيج عوامل التناحر.
وعلى سبيل المثال فهناك «الويستفوبيا» مقابل «الويستلوجيا»، وهذه الأخيرة تعني استخدام السياسات الغربية ضد قيم الغرب «المعلنة»، ولاسيّما الثقافية منها، ولعلّ نموذجها الراهن هو ازدراء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للأفارقة ولشعوب البلدان النامية، وحديثه المستفِز ضد اللاجئين وضد التزامات واشنطن الدولية التي اتخذت منحىً استخفافياً، في حين أن القيم الغربية تقوم على احترام الآخر والإقرار بالتعددية والتنوّع في إطار النظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان والتسامح، وهي قيم إنسانية تتساوق مع مبادئ الحرية والمساواة والشراكة والعدالة.
وتتعارض هذه القيم الإنسانية جملة وتفصيلاً مع السياسات الرسمية الغربية، بما فيها التنظيرات التي تتّخذ الإسلام «عدواً»، خصوصاً باتهامه بالحضّ على العنف والإرهاب، دون تفريق أحياناً بين الإرهابي والمسلم، وبين المسلم والإسلاموي، وبين المسلم والإسلامي، وبين الدين والتديّن، متنكّرة لقيم الإسلام الإنسانية السمحاء، خصوصاً حين تدغمه مع بعض الممارسات العنفية المتعصّبة والمتطرّفة، والتي هي ليست حكراً على المسلمين وحدهم، بل هي موجودة لدى العديد من أتباع الأديان وفي جميع المجتمعات، سواء كانت متقدمة أم متأخرة وإن كان هناك فوارق بينها.
وكان انهيار جدار برلين وانتهاء عهد الحرب الباردة التقليدية (1947-1989) فرصة مناسبة لانتعاش التيارات المعادية للإسلام والمبشّرة ب«نهاية التاريخ» و«صدام الحضارات»، بالتجاوز على معاني «الخصوصية» باسم «الشمولية» واستخدام معايير «ازدواجية» و«انتقائية» إزاء الدول النامية ومنها الدول العربية والإسلامية، وفي أحيان غير قليلة توظيف قواعد القانون الدولي وما يسمّى ب «الشرعية الدولية» لخدمة الأغراض السياسية الأنانية الضيقة.
وقد نظّر فرانسيس فوكوياما منذ العام 1989 لفكرة تقسيم العالم إلى عالمين: عالم تاريخي وآخر ما بعد التاريخ، مؤكداً بأن مشكلات العالم الأساسية الراهنة هي النفط والإرهاب واللجوء، وهذه تمثّل تحدّيات كبرى وغير مسبوقة للغرب الذي تتجسّد فيه العدالة والإنسانية، لاسيّما بعد «ظفر» الليبرالية و«هزيمة» الاشتراكية، كما دعا إلى استبدال البندقية من كتف إلى كتف، وجعل الغرب على أهبة الاستعداد.
أما صموئيل هنتنجتون فقد كتب في مجلة «الفورين أفيرز» عن «صدام الحضارات» منذ العام 1993، معتبراً غياب الشيوعية لا يعني زوال التهديد، داعياً إلى بناء القدرات الدفاعية والأمنية والمخابراتية والفضائية، لأن المشكلة حسب وجهة نظره فكرية بالأساس وتتعلّق بالثقافة والحضارة، وإن الصراع هو حضاري وثقافي بين الغرب والحضارات الأخرى. وبما أن الثقافة سياج الهوّية، فلا بدّ لمن يريد تحقيق الانتصار الكامل والنهائي من اقتلاع وتذويب الثقافات الأخرى المناوئة لليبرالية ومنها الإسلام، لأن خطره قائم من المغرب إلى باكستان، وذلك في محاولة لخلط الأوراق.
ولعلّ مثل هذا المفهوم الإلغائي هو نفسه مفهوم تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن والظواهري وأبو مصعب الزرقاوي، وتنظيم داعش وأبو بكر البغدادي، وجبهة النصرة (جبهة فتح الشام)، الذي نظّر أيضاً لمفهوم الصدام الحضاري مع الغرب، مستخدماً التعاليم الإسلامية السمحاء ضد الإسلام في إطار ما نطلق عليه «الإسلاملوجيا»، مقابل «الويستلوجيا» متناسياً ومتجاهلاً حاجة البشر إلى الحوار والتفاهم والعيش المشترك لتحقيق التعاون والتنمية لما فيه خير الجميع.
فالعرب والمسلمون بحاجة إلى الغرب مثلما هو بحاجة إليهم، ولا يمكنهما الاستغناء عن بعضهما. وإذا كانت حاجة البلدان النامية إلى الغرب علمياً وتكنولوجياً وثقافياً، لأنه يمثل مستودعاً لخير ما أنجزته البشرية من تقدم في المجالات المختلفة، فإنه بحاجة إليها بما تمتلك من موارد ونفط وأسواق وغير ذلك، الأمر الذي يصبح فيه الحوار والتفاهم والتعاون ضرورة ماسة وحاجة ملحّة لا غنى عنها، وخصوصاً على صعيد العلاقات الدولية، والشيء ذاته يمكن أن ينطبق على صعيد العلاقات الداخلية.
drhussainshaban21@gmail.com



339
ثقافة التنمية وتنمية الثقافة
             

عبد الحسين شعبان
في إطار مهرجان «القرين» الثقافي السنوي في دولة الكويت، التأمت ندوة مهمة نظّمها «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» بعنوان «اقتصادات الثقافة العربية ودور الكويت في تنمية المعرفة». والحقيقة أن العنوان يحمل تفاصيل عدة، ومتفرّعات كثيرة، يتداخل فيها دور القطاعين العام والخاص في «تنمية الثقافة»، وفي «ثقافة التنمية»، كما يندرج تحت العنوان ذاته دور الهيئات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية في نشر الثقافة من جهة، وفي تعزيز اقتصادات الثقافة من جهة أخرى، بما فيها الثقافة الإلكترونية (النشر الرقمي)، خصوصاً أن السؤال يتعلق بالمستقبل، فهل الثقافة سلعة، أم خدمة مساعدة ترفد التنمية؟
وإذا كانت اقتصادات الثقافة في العالم وصلت إلى آفاق رحبة، وحققت نجاحات باهرة على هذا الصعيد، فإنها في العالم العربي لا تزال في بداية الطريق، ويكفي أن نشير إلى أن نسبة الإنفاق في البلدان العربية لا تزيد على 3 في الألف من الدخول القومية، بل إن بعض البلدان أقل من ذلك بكثير، على الرغم من أن الدساتير العربية، جميعها تقريباً تشير، وبدرجات متفاوتة ومختلفة، إلى مسؤولية الحكومة في رعاية الثقافة، باعتبارها «حقاً» لكل مواطن تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه.
ولعلّ هذا الأمر يستوجب إجراء مراجعة مسؤولة من جانب الحكومات والقوى الفاعلة في المجتمع حول قيمة الثقافة كحاجة روحية للإنسان، خصوصاً حين تقترن بالمعرفة، إنتاجاً ونقلاً وتلقياً، مثلما تمثّل مورداً أساسياً للدخل يمكنه أن يعود بمردود مادّي ومعنوي على الدولة والمجتمع والفرد، بما يتفاعل مع عملية التنمية.
وإذا كان على الدولة أن تلعب دوراً محورياً في التنمية الثقافية، بتخصيص الموارد والبيئة الحاضنة لتفجير طاقات المجتمع والفرد، فلا بدّ لها من التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني ومع قطاع أصحاب الأعمال، ومهما يكن دور المؤسسات الثقافية في التعبير عن الواقع المعيش وحياة الناس، لكن مسؤولية الدولة تبقى أساسية، سواء في سن القوانين وتشريع الأنظمة، أو في ضمان كفالة الثقافة وحمايتها لتحقيق السلام المجتمعي باعتبارها جزءًا حيوياً ومهماً من التنمية.
وقد أصبحت الثقافة مجالاً واسعاً وكبيراً للاستثمار، حيث توجد بلدان تقوم اقتصاداتها على الثقافة بجميع جوانبها، ابتداء من موروثها الثقافي إلى الحقول العلمية والتقنية، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي «الروبوتات»، ويتعلق الأمر بتنمية المعرفة كجزء من الثقافة بما فيها الخيال الذي هو حسب عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين «أهم من المعرفة» حيث ينضوي تحت لوائه: الإبداع، والابتكار، والتميّز، والتجديد.
والثقافة بهذا المعنى هي أحد الأسلحة الناعمة والمؤثرة في عملية التنمية بمفهومها الإنساني الشامل والمستدام، ولا نقصد بذلك «النمو الاقتصادي» فحسب، بل «توسيع خيارات الناس» في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية والنفسية، لإحداث التطوّر والتغيير المطلوبين. ومن الصعب تصوّر تحقيق التنمية المستدامة من دون ثقافة، الأمر الذي يقتضي الربط بين التنمية والثقافة، لأن أحدهما يكمّل الآخر، بل هما وجهان لعملة واحدة، وهناك علاقة جدلية ومصيرية ووجودية بين الثقافة وأي مشروع تنموي.
وإذا كانت الثقافة هي نتاج لكل الناس، فينبغي أن يكون استهلاكها لكل الناس أيضاً، لأنها لم تعد محصورة بالنخبة فحسب، والإبداع هو كل ما يشمل التعبير عن إحساس المجتمع بالجمال والحرّية والهوّية الإنسانية، وهذا جزء من الاقتصاد، فالسينما والمسرح والفنون والآداب والسياحة، بما فيها السياحة الدينية والآثارية، تمثل استثمارات اقتصادية كبيرة للجميع، بما توظّفه من خدمات، ونقل، وأماكن إقامة، وغيرها من الفرص الكبيرة لخلق وظائف لآلاف الناس.
واستناداً إلى ذلك، فالثقافة ليست مجرد هامش تعبير، بقدر ما هي مكوّن أساسي من مكوّنات التنمية، ولكنها اختُزِلت في ظل الأيديولوجيات الشمولية ليقتصر دورها على الإرشاد والتوجيه والدعاية، وحتى اليوم فالتعامل معها يُنظر إليه من باب الإلحاق والتبعية، بل إن الصراعات السياسية المحمومة على تولّي المناصب «السيادية»، لا تضع الثقافة في صلب اهتماماتها، حيث دائماً ما يُنظر إليها نظرة استصغارية.
أما أهم الكوابح التي واجهت الثقافة والمثقف على المستوى العربي فهي: شحّ الحريات والثيوقراطيات الدينية، والانقسامات والصراعات الطائفية، إضافة إلى العادات والتقاليد البالية، وقلّة التخصيصات المالية من جانب الحكومات، فضلاً عن تحكّم رأس المال في التوجهات الثقافية، تضاف إلى ذلك محاولات فرض استتباع خارجي لتعميم نمط الثقافة السائدة ذات المضمون المعولم، لاسيّما بتسليع الثقافة، من دون أن ننسى ما للتعصّب والعنف والإرهاب من تأثيرات سلبية في الثقافة والتنمية في السنوات الأخيرة، الأمر الذي تدارسته «ندوة القرين» التي ضمّت نخباً فكرية وثقافية عربية متنوّعة، وحثّتهم على تبنّي الدعوة لبناء مشروع ثقافي عربي لمواجهة التحدّيات والاختراقات التي تواجهها الأمة العربية، مشفوعة بالدعوة لتأسيس مجلس أعلى للثقافة العربية يجمع بين الجهات الحكومية والمفكرين والمثقفين العرب، وممثلين عن القطاعين الخاص والعام، لإطلاق مبادرات ثقافية جامعة تكون جهة تواصل وتفاعل بين الجهات المختلفة المعنية بتنمية الثقافة وبثقافة التنمية.
drhussainshaban21@gmail.com



340
بغداد - واشنطن : أي تاريخ وأي مستقبل؟
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   شهدت العلاقات العراقية - الأمريكية تصدّعاً كبيراً بعد الإٌطاحة بالنظام الملكي إثر ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958، وظلّت في حالة فتور وعدم ارتياح وريبة وعداء، تعمّق مع مرور الأيام، حتى وقوع العراق تحت الاحتلال العام 2003 . ويمكن رصد ثلاث محطات أساسية تعرّضت فيها المصالح الأمريكية إلى ضربة موجعة في العهد الجمهوري.
   المحطة الأولى - بعد الثورة مباشرة، ولاسيّما في إعلان الخروج من حلف بغداد "حلف السنتو". وعلى الرغم من أن واشنطن لم تكن عضواً رسمياً في الحلف، إلّا أنه كان مدعوماً منها باعتباره حلقة مهمة من حلقات مشروعها في المنطقة القاضي بتطويق الشيوعية وتقليص نفوذ حركة التحرّر الوطني، حيث كان الحلف يضم تركيا وإيران وباكستان والعراق وجميعهم حلفائها آنذاك، إضافة إلى بريطانيا. وكان إقدام العراق على إلغاء المعاهدة الأمريكية - العراقية المبرمة بين البلدين العام 1954، والتوجّه صوب الكتلة الإشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفييتي، أحد الأسباب الأساسية في الافتراق والعداء اللاحق بين البلدين.
   المحطة الثانية- قطع العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، بعد عدوان الخامس من يونيو (حزيران) العام 1967، بسبب انحياز واشنطن إلى تل أبيب ودعمها عسكرياً وسياسياً، وهو الأمر الذي أضعف من دورها في المنطقة العربية والعالم الإسلامي ككل، بل وأساء إلى سمعتها.
   المحطة الثالثة - تأميم النفط العام 1972 وخسارة الشركات الأمريكية لمليارات الدولارات. وكان النفط أحد أسباب واشنطن في مناصبة العداء للعهد الجمهوري الأول، وخصوصاً بعد صدور القانون رقم 80 لعام 1961 الذي تم بموجبه استعادة 99.5% من الأراضي العراقية من أيدي الشركات الاحتكارية للتنقيب عن النفط.
   وكانت الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 فرصة جديدة لواشنطن لاستعادة شيء من نفوذها المفقود، مستغلة اندلاع الثورة الإيرانية العام 1979  وتوتّر العلاقات الخليجية- الإيرانية ، حيث عملت على إدامة أمد الحرب حماية لمصالحها الاستراتيجية.
   وكشفت فضيحة إيران غيت وكذلك المعلومات الاستخبارية والعسكرية المسرّبة إلى بغداد، السياسة الازدواجية التي مارستها طيلة تلك الفترة والتي انقلبت بعدها ضد بغداد إثر الغزو العراقي للكويت العام 1990، وقادت حملة لتحريره العام 1991، ثم فرضت حصاراً دولياً على العراق دام ما يزيد عن 12 عاماً (من العام 1991 ولغاية العام 2003)، وصولاً إلى احتلال العراق تحت حجة "وجود أسلحة دمار شامل" و"ضلوعه بالإرهاب الدولي"، وهي نفسها التي أخرجته من قائمة الدول الراعية للإرهاب خلال الحرب مع إيران.
   وفي الوقت نفسه أزيلت بعض العوائق عن الصادرات الأمريكية المتوجّهة إلى العراق، ووصل حجم التجارة البينية إلى ما يقارب مليار دولار سنوياً عدا التجهيزات العسكرية الأمريكية، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحافي الفرنسي آلان غراش رئيس تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك في كتابه " الخليج : مفاهيم لفهم حرب معلنة" الذي صدر في العام 1991.
   وكان الرئيس جورج دبليو بوش قد وضع ثلاثة أهداف له للحرب على العراق أولها- نزع سلاح صدام حسين ، وثانيها - جعل العالم أكثر أمناً، وثالثها - تحرير الشعب العراقي (والمقصود نشر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية). وبغض النظر عن عدم شرعية الأساس القانوني وبطلان الادعاءات وزيف الاتهامات، فإن النتائج العملية تقول: إن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بل ازدادت التهديدات الإرهابية، وإن واشنطن أول من قام بانتهاك حقوق الإنسان في العراق، وقد كشفت حوادث التعذيب ومحاولات إذلال العراقيين ذلك، لاسيّما ما حصل في سجن أبو غريب ومجازر الحديثة والإسحاقي ومذابح الفلوجة وغيرها.
   وحتى العملية السياسية التي صنّعتها واشنطن لم تكن قادرة على "نقل العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية"، لأنها قامت على نظام المحاصصة الطائفي الإثني وتقاسم السلطة على نحو أدى إلى شيوع ظواهر الإرهاب والعنف والفساد المالي والإداري والرشا، ناهيك عن استشراء الميليشيات خارج نطاق الدولة وانتشار السلاح على نحو لم يسبق له مثيل، خصوصاً في ظل ضعف هيبة الدولة، وصعود مرجعيات لموازاتها مثل المرجعيات الطائفية والإثنية والعشائرية والمناطقية وغيرها .
   أما حقيقة أهداف واشنطن فقد كانت ثلاثة أيضاً - الأول- اقتصادي وهو متمثلٌ بالنفط وتوابعه والثاني - أمني استراتيجي وهو متمثلٌ بالموقع الذي يحتله العراق في علاقاته مع واشنطن، ولاسيّما في مواجهة إيران والإرهاب و"أنظمة الشر"، والثالث ديني حسب معتقدات بوش، التي هي خليط من أفكار دينية وأوهام تاريخية.
   وفي المرحلة الجديدة ما بعد الاحتلال مرّت العلاقات العراقية- الأمريكية بخمس فترات يمكن تصنيفها كالآتي - الأولى بدأت بالحكم المباشر للجنرال جي غارنر واستمرت من 9 نيسان (ابريل) ولغاية 13 أيار (مايو) 2003، حيث تسلّم القيادة منه بول بريمر. والثانية بحكم مدني مطلق للحاكم الأمريكي السفير بول بريمر، واستمرت حتى 30 يونيو(حزيران) العام  2004، وكان قد أصدر "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" في 8 آذار (مارس) 2004 وشكّل مجلساً للحكم الانتقالي تابعاً له في 13 تموز (يوليو) 2003.
   الثالثة- بدأت بعد إجراء انتخابات على أساس دستور دائم في العام 2005، حيث تم الاستفتاء على الدستور في 15 اكتوبر/تشرين الأول وأجريت على أساسه الانتخابات في 15 ديسمبر /كانون الأول من العام ذاته. وهي فترة انتقالية استمرت بإدارة عراقية وإشراف أمريكي مع وجود القوات الأمريكية التي وصل عددها إلى 170 ألف عسكري، وفيها تم توقيع اتفاقية أمنية عراقية- أمريكية العام 2008، وكان من المفترض إجراء استفتاء شعبي عليها حسبما نصّت، لكن الحكومة العراقية سوّفت هذا الأمر حتى تم انقضاء مدّتها نهاية العام 2011.
   ولم تتمكّن القوى المؤيدة " راقياً" لإبرام معاهدة جديدة أو الولايات المتحدة والرئيس بوش تحديداً من الوصول إلى صيغة تعاقد جديد، بحيث ينتقل "الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي"، وهكذا شهدت الفترة الجديدة نوعاً من الفتور وبرود العلاقة السياسية، ولاسيّما مع مجيء الرئيس باراك أوباما وبالأخص مع مطلع العام 2012 واستمرّ مثل هذا الضعف أو عدم الاكتراث حتى العام 2014.
   أما الفترة الرابعة فهي بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014، وابتدأت مع ترشيح حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، حيث استعاد الطرفان الرغبة في تعزيز العلاقة، ولاسيّما العسكرية والأمنية لما يجمعهما من أهداف في  محاربة داعش والقضاء على الإرهاب.  أما الفترة التي تلتها الخامسة فقد شهدت صعود الرئيس دونالد ترامب لرئاسة  للبيت الأبيض (يناير/كانون الثاني /2017) وتميّزت بتطوّر مستوى التعاون في الجانب الأمني والعسكري والسياسي.
   والسؤال الذي يواجه الباحث هو إلى أين تسير علاقات بغداد - واشنطن في ظل استمرار التخبّط العراقي في تحديد الأولويات؟ ويحتار المرء أحياناً من أين يبدأ؟ وعلى أي الطرق يسير؟ وإذا كان زيادة الإنتاج النفطي هو الأولوية لبغداد والحفاظ على الوضع القائم كي لا ينهار بسبب الأزمة المالية التي سبّبها انخفاض أسعار النفط والمجهود الحربي ضد داعش، دون أن ننسى الفساد المستشري في أجهزة الدولة ومفاصلها وهو الوجه الآخر الثاني لداعش. فماذا هي فاعلة بشأنه ونظام المحاصصة الطائفي - الإثني الذي يلهج الجميع بذمّه: هل لإعادة بناء وترميم البنى التحتية أو لزيادة التسليح أو لمحاربة الفساد أو لتحسين قطاع الخدمات، ولاسيّما الصحة والتعليم أو للقضاء على البطالة أو لحلّ الخلافات مع إقليم كردستان؟
   وإذا كانت تلك جميعها تمثل أولويات وأهداف آنية ومتوسطة المدى، فمن أين ستبدأ  بغداد ؟ وكيف ستتصرف كدولة؟ في إطار خضمٍّ من الصراعات الداخلية والإقليمية، خصوصاً بعد الأزمة الحادة مع إقليم كردستان بسبب الاستفتاء الكردي (25 سبتمبر/ أيلول/2017)، تلك التي لا تزال لم تجد لها حلولاً مقبولة بشأن المناطق المتنازع عليها وبالدرجة الأساسية "محافظة كركوك" وفقا للمادة 140 من الدستور، وقد يتطلب الأمر تعديلات دستورية ضرورية وأساسية وهي لا تزال مجمّدة منذ العام 2006 ولحدّ الآن.
   ولكي تضع واشنطن لبغداد حساباً في اعتبارها ، فلا بدّ أن تكون بغداد موحدة في حركتها  ومصدر قرارها ، إذْ لا يزال الكثير من الأطراف العراقية يتعامل مع الولايات المتحدة منفرداً، وأحياناً  بما يتعارض مع قرار الحكومة وسياساتها ، وهي ظاهرة لا تضعف وحدة القرار العراقي فحسب، بل تربك أداءه في تحقيق أهداف السياسة الخارجية وفي التعامل مع المحيط العربي والإقليمي أيضاً وليس مع واشنطن فحسب.   وإذا كانت بغداد وحواشيها لا تزال متخبّطة إزاء العلاقة مع واشنطن، فإن هذه الأخيرة لها استراتيجيتها النابعة من مصالحها وأهدافها.
   والمتتبع يلحظ سعي واشنطن لإجراء الانتخابات في موعدها المعلن (15 أيار/مايو/2018) وتشجيع  إقامة كتلة كبيرة، بعيدة عن تأثير النفوذ الإيراني، والأمر يحتاج إلى تحالفات جديدة شيعية - كردية - سنّية قريبة من واشنطن يُرجح أن يكون على رأسها رئيس الوزراء الحالي، ويمكن لها أن تحظى بدعم مادي ومعنوي لإعادة إعمار المناطق المتضرّرة وعودة النازحين إليها. وحسب قراءتنا الأولية فإن الخطوط العريضة لمثل هذا الاستنتاج هي :
   1- القضاء على داعش واستكمال ملاحقته عسكرياً بالتعاون مع القوات العراقية وإبراز دور التحالف الدولي، والإبقاء على عدد القوات الأمريكية القتالية والخاصة في العراق، بحجة حماية الأراضي التي تم طرده منها وإفشال مخططاته بالعودة إليها والعمل على تعزيز سبل مكافحة الإرهاب الدولي من خلال تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
   2- تقليص النفوذ الإيراني بتطويقه ومنعه من التمدّد في العراق والسعي لإبعاد الحكومة العراقية من أن تكون تابعاً له أو تدور في فلكه، سواء ما  له علاقة بامتداداته العربية في سوريا ولبنان واليمن والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، إضافة إلى العلاقة مع حماس وقطاع غزة ، وذلك انسجاماً مع أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ككل.
   3- تشجيع إقليم كردستان على البقاء ضمن "العراق الديمقراطي الفيدرالي"، وتعزيز أواصر الصداقة معه، خصوصاً بعد أن كانت واشنطن قد تحفظت إزاء خطوة الاستفتاء. وعلى الرغم من علاقة واشنطن مع بغداد والدولة العراقية ككل لما تشكّله من ثقل، فإنها في الوقت نفسه تريد تأكيد العلاقة الخصوصية مع الإقليم والتحالف المستمر مع الحركة الكردية.
   4- إبقاء نقاط المراقبة الميدانية والجوية واستمرار الاستطلاعات الأمنية والاستخبارية، لإفشال المشروع الإيراني ومنعه من إيجاد ممرات بديلة وطرق برية أخرى لإدامة الاتصال بين طهران ودمشق عبر بغداد وصولاً إلى البحر المتوسط مروراً ب
الأراضي اللبنانية، ضمن محور "الهلال الشيعي".





341
العنف وفريضة اللاعنف.. شذرات من تجربة شخصية ح 4
حصار العراق بزعم إسقاط نظامه سخرية لمن يحاول تسويغه أو التواطؤ معه
عبد الحسين شعبان
   لقد برّر ستالين ملاحقة ضحاياه وقتل الملايين من البشر بـ "الدفاع عن الاشتراكية" ضد الأعداء والامبرياليين والمتواطئين معهم، وشنّ صدام حسين حروبه باسم الحقوق وبهدف منع التآمر على نظامه، ناهيك عن تصفية خصومه، سواء داخل حزبه أو خارجه... كل ذلك تحت مزاعم امتلاك الحقيقة، والغايات الشريفة التي تبرّر استخدام جميع الوسائل حتى وإن كانت غير عادلة، وباختصار إن ذلك يعني "الغاية تبرر الوسيلة" وهو المبدأ الميكافيللي الذي لا يقيم وزناً للإنسان.
   وكان كتاب "الأمير" للفيلسوف الإيطالي ميكافيللي قد صدر إبان عصر النهضة، وهو من الكتب التاريخية المهمة في علم السياسة، رغم مضي أكثر من 5 قرون على صدوره، وعلى افتراض وجود غايات عادلة ، فهل يمكن استخدام وسائل غير عادلة لتحقيقها؟ هل يجوز ذلك أخلاقياً وفكرياً وقانونياً أم ثمة اختلالات بنيوية، لاسيّما بين العنف والأخلاق؟ فالعنف يجعل القضية العادلة قضية غير عادلة ووسائل العنف تحطّ من شأن القضايا العادلة. ولكي نصل إلى الغاية العادلة يجب استخدام وسائل عادلة أيضاً، أي الانسجام والتناغم بين الغاية والوسيلة التي يتم السعي لتحقيقها.
   وكنتُ دائماً ما أضرب مثلاً بخصوص الحصار المفروض على العراق بالقول: إن الزعم بمحاصرة العراق هو نظامه، إنما هو سخرية لمن يقوم بها ولمن سوّغها أو لمن يحاول التواطؤ معها أو الاقتناع بها، وهو أقرب إلى استهداف طائرة ركاب تقلّ على متنها  380 راكباً، بحجة وجود إرهابي واحد عليها أو الشك بوجوده، أو مثلما هو تجفيف بحيرة كاملة وحرمان السكان من الماء بحجة وجود سمكة خبيثة فيها، ومثل هذا العنف الجماعي هو لا إنساني وهو ينطلق من تبرير الأسلوب الميكافيلي: الغاية تبرر الوسيلة، في حين إن الوسيلة جزء من الغاية، وإذا كانت الغاية غير معروفة بالملموس ، فالوسيلة ملموسة، وبالتالي لا يمكن أن تكون وسيلة غير عادلة تنافح وتكافح من أجل قضية عادلة.
   والعلاقة بين الوسيلة والغاية حسب غاندي، الذي كثيراً ما استشهدت به، هي علاقة عضوية متينة ومترابطة ولا انفصام بينهما، لأن الغاية كامنة في الوسيلة، وهي مثل "علاقة البذرة بالشجرة"، والعكس صحيح. وإذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، لاسيّما وهي بعيدة المدى لأنها تتعلّق بالمستقبل، فإننا يمكن أن نسيطر على الوسائل، لأنها جزء من الحاضر، أي إن الغاية تعيش للمستقبل، أما الوسيلة فهي تعيش في الحاضر.
   وقد حاول كارل ماركس ورفيقه انجلز تبرير استخدام العنف باستمرار صراع الطبقات، وحين يزول هذا أو يحلّ لصالح انتصار الاشتراكية والشيوعية، فسيزول معه كل عنف، لاسيّما بزوال الظلم وسيادة العدل، أي تبرير استخدام العنف بانتظار المستقبل، ويظل ذلك مجرد وعد، لكن الحقيقة سارت باتجاه آخر، ويختلف اللّاعنفيون عن مبرّري العنف، إنهم لا يعدون أحداً بالمستقبل، إنما وعدهم هو "الآن... الآن... وليس غداً" ، أي إن استعمال الوسيلة هو المقدمة الضرورية للغاية.
   العنف يفرض نوعاً من التشابه، بل يجبر على مثل هذا التشابه أحياناً، وذلك بجعل مجموعات سكانية ثقافية دينية أو لغوية أو إثنية أو سلالية تتشابه فيما بينها، وذلك تحت زعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، إضافة إلى عوامل أخرى، في حين أن أفرادها مختلفون . العنف وحده هو الذي يجبرهم على مثل هذا "التشابه" الإجباري الإكراهي، في حين إن اللّاعنف هو خيار الاختلاف، وهكذا هم البشر مختلفون ومتباينون بحكم تلقائيتهم وعفويتهم  وظروف نشأتهم وتكوّنهم، إضافة إلى أوضاع حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
   يناقش صديقي الفرنسي فيلسوف اللّاعنف جان ماري مولر فكرة البير كامو الملتبسة عن فلسفة العنف واللّاعنف، تلك التي تردُ مراراً في رواياته ، لاسيّما في حوادث القتل، فيقول إن بعض خصومه أخذوا عليه هروبه إلى مثالية " اللّاعنف"، على الرغم من أنه لم يدّعه قط، ويعرّج على مقدمة كتبها جان بول سارتر على كتاب فرانتز فانون " معذبو الأرض" العام 1961 بخصوص عنف الشعوب المستعمرة، فيقدّم نقداً لاذعاً للّاعنفيين بقوله ما أشدّ سذاجتهم فهم "لا ضحايا ولا جلادون" في تلميح واضح إلى ما كتبه كامو.
   ويقدّم جان ماري مولر في كتابه " نزع سلاح الآلهة" عرضاً موسعاً للأديان، ولاسيّما للمسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف، مقدّماً قراءة معمّقة للنص الديني مستنتجاً " إن الله لا يسمح بانتصار الشر" وإن حصل ذلك فإمّا إنه ليس قديراً، وإمّا إنه ليس طيباً، والله هو الذي يصلّي للبشر لأنه محبّة، وهو مطلق.
   والفريضة التي يتحدّث عنها يقصد بها الفضيلة التي تمنح الإنسان هذا القدر من المحبّة والطهرانية والروحانية الإنسانية، وتقرّب البشر من بعضهم، بغض النظر عن الدين أو حتى الإيمان أو التديّن أو اللّاتديّن ، لأن الجميع يمكن أن يجتمعوا في خيمة التعايش والسلام وحب الخير.
   هل اللّاعنف مطلق؟
   وإذا احتسبنا كامو على اللّاعنفيين، فإنه مثل غيره لا يؤمن بفكرة " اللّاعنف المطلق"، وإنْ كان يطلّ على بعض أطروحات غاندي بإبداء التقدير له، وهو الآخر كان قد طعن في صحة عدم وجود لاعنف بصورة مطلقة، دون أن يُشرْعِنْ القتل أو ممارسات العنف.
   وإذا كان العنف ظاهرة لصيقة بالصراع، وهو في الغالب أحد مخرجاتها أو أبعادها فإنه نوعان: الأول - العنف المباشر، مثل القتل، والتعذيب، والإيذاء الجسدي، والحصار والعقوبات الاقتصادية وغيرها والثاني - " العنف غير المباشر"، وقد يكون هذا ناعماً مثل التمييز في النوع الاجتماعي (الجندر)، في التعليم، لأسباب تتعلّق بالدين والطائفة أو العرق أو القومية أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي.
   والعنف يكون أيضاً بواسطة الاستغلال، لاسيّما باستمرار التفاوت الطبقي بين المتخومين والمحرومين، والأغنياء والفقراء في النظام الاجتماعي أو من خلال استقطابات اجتماعية أو دينية أو عرقية أو جهوية أو غيرها، بما فيها وجود قوانين وتشريعات غير عادلة أو لا تحقق المساواة والتكافؤ في الفرص، وسيادة قيم سلبية مثل عدم التسامح والاستعلاء، والخوف من الاستخدام السلبي للتباين في علاقات القوة وفرض الهيمنة والاستتباع في إطار ازدواجية في المعايير.
   وحين يكون العنف الأول ظاهراً، يكون العنف الثاني كامناً أو غير ظاهر، وهذا الأخير يعمل ببطء وتدرّج ، ويسهم في تآكل القيم الإنسانية، وقد يكون أكثر خبثاً من الأول.
   وتحدّد الاتجاهات والسياقات والسلوك، العنف وتأثيراته السلبية وكذلك سبل مجابهته بالثقافة النقيضة، فمثلما هناك سلوك سلبي (عنفي) ، هناك سلوك إيجابي (لا عنفي)، سواء كان مرئياً أو غير مرئي، وأمثلة عديدة على السلوك السلبي وسياقاته: التمييز العنصري وإنكار حق تقرير المصير وازدواجية المعايير ، أما اتجاهاته فتتمثّل بالمشاعر والقيم، مثل الخوف، انعدام الثقة والكراهية وغيرها وعكسها تتمثل اتجاهات اللّاعنف، التي ترفض التمييز وتدعو إلى مقاومته سلماً وتعترف بحقوق الغير، خصوصاً إيمانها بالتسامح والمساواة بين البشر والمشترك الإنساني.
   ويشمل العنف الثقافي، العنف المباشر وغير المباشر، إضافة إلى الأوجه الرمزية في الثقافة، المتمثلة بالأفكار وتعاليم الدين واللغة والفن وغيرها من العلوم الاقتصادية والتكنولوجية التي تشرْعِنْ العنف، ويرى غالتونغ وهو عالم نرويجي ومؤسس لمعهد بحوث السلام في أوسلو، إن القضاء على العنف المباشر يتم من خلال تغيير السلوك وانتهاءً بالعنف غير المباشر " البنيوي" لمعالجة التناقضات وانتهاءً بالعنف الثقافي من خلال تغيير الاتجاهات، وكان قد انتقد البلدان الغربية في موقفها من البلدان النامية.
   وهناك عنف اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي ونفسي وإعلامي وقانوني وجنسي وأسري وتربوي محلي ودولي، وهناك عنف رمزي وتكنولوجي وعلمي وفني بما فيه أفلام الأكشن والألعاب الاليكترونية.
   رموز اللّاعنف
   ومن أبرز دعاة اللّاعنف الفيلسوف ديفيد ثورو الأمريكي من أصل فرنسي (1817-1862) الذي كان داعية ضد نظام العبودية، ومحرّضاً على العصيان المدني وضد دفع الضرائب. وكانت تأثيراته كبيرة على دعاة اللّاعنف المعاصرين من تولستوي (1828-1910) وغاندي (1869-1948) ومارتن لوثر كينغ (1929-1968)، خصوصاً وهو أول من وضع اللبنات الأولى لنظرية المقاومة السلمية، أو بلور رؤيته لمناهضة القوانين غير العادلة مؤكداً على الضمير قبل القانون، باعتباره قوة ضبط داخلية وهو المعوّل عليه لأنه هو المنوط به ما يفعله الإنسان.
   وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء نيلسون مانديلا (1918-2013) الذي ما إن أُفرج عنه في العام 1990 حتى تحوّل إلى داعية للتسامح واللّاعنف والمصالحة الوطنية، وكان قد انتقل من الإيمان بالعنف إلى اللّاعنف بعد أن قضى 27 عاماً في السجن. واستطاع بدعوته الإنسانية تلك وإدارته مفاوضات مع دي كليرك ونجاحه في انتخابات العام 1994 التي أصرّ أن تكون لكل الأعراق والأجناس والانحدارات أن ينهي نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي دام فيها أكثر من قرنين من الزمان حيث كانت تتحكم فيه " الأقلية البيضاء".
   إن غاندي وكنغ ومانديلا لم يكونوا غريبين، كما إن زعاماتهم لم تكن منتجاً غربياً، فهم جزء من مجتمعات عانت من التمييز والاضطهاد وهم من استطاع قيادتها نحو تحقيق أهدافها بالوسائل اللّاعنفية.
   
   ما يشبه الخاتمة
   إذا كنتُ قد توصلت إلى اللّاعنف، وجئت إلى فضيلته على دفعات ومراحل، فإن فريضته لم تتكوّن هكذا مرّة واحدة أيضاً. لقد جئناها من مواقع ومنابع مختلفة، بما فيها عنفية أحياناً أو لم تشكّل قطيعة نهائية مع العنف أو لا تزال متردّدة إزاءه، لكن الاهتداء إليه جاء بعد تجارب مريرة عشناها وعانينا منها  مثلما عانت منها شعوبنا وأوطاننا. وآن الأوان للبحث عن اللّاعنف لدى كل منّا، وفي تراثنا وثقافتنا، لتعميمه وليصبح هو القاعدة وليس الاستثناء، حتى وإن كنّا لا نستطيع أن نلغي العنف من حياتنا.
   وإذا كان لكل منّا صدمته من العنف، فصديقنا جان ماري مولر الفيلسوف الأشهر في العالم المعاصر وزميلنا في جامعة اللّاعنف انتقل إلى فريضة اللّاعنف، حين طُلب منه أن يلتحق بالجيش الفرنسي وليقاتل الشعب الجزائري، المستعمَر والمحتَل والذي ذاق مرارة العسف والعنف طيلة قرن وأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، فرفض وامتنع، وفضّل السجن على أن ينخرط في مقاتلة شعب يتطلّع لنيل حريته واستقلاله وحقه في تقرير مصيره، رافضاً كليّاً اللجوء إلى العنف.
   هكذا  كانت صدمة الجزائر الخطوة الأولى لتحوّله نحو فلسفة اللّاعنف، وقد كرّس لذلك حياته منذ مطلع الستينات من القرن الماضي وحتى اليوم ويعتبر كتابه "نزع سلاح الآلهة" مرجعاً مهماً في فلسفة اللّاعنف، لاسيّما علاقة ذلك بالأديان، وهو مع كتابه التأسيسي " قاموس اللّاعنف" من الكتب التي لا بدّ من الاطلاع عليها لمن يريد التعرّف على فلسفة اللّاعنف، ويبقى لكل إنسان صدمته من اللّاعنف، سواء حدثت مرّة واحدة أو جاءت على مراحل ودفعات مثلما هي كانت بالنسبة لكاتب السطور.


342
العنف وفريضة اللاعنف.. شذرات من تجربة شخصية ح 3
واشنطن تسوّغ استخدامها العنف ضد أفغانستان بمواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي
   وإذا كان الإنسان هو من يقوم بالفعل المادي أو المعنوي لممارسة العنف، لأنه وحده القادر على استخدامه، فإنه أيضاً هو من يقدّم مبرّراته لممارسته، سواء كانت مقنعة أم غير مقنعة، وقد يجد تلك المبررات أو الحجج في الآيديولوجيات والعقائد أو في الأديان والمذاهب أو في نمط الثقافة السائد، تلك التي تحاول أن تُشرْعن العنف وتسوّغه، بحيث تجعل من استخدامه "مقبولاً" أو مبرّراً .
   إذاً كيف السبيل للحديث عن اللّاعنف وسط ازدحام المشهد العام المحلي والإقليمي والدولي بالعنف، حيث تطغى الثقافة العنفية على ما سواها تحت عناوين ومسوّغات مختلفة، فهل من الممكن التخلّص من العنف كظاهرة سائدة، بالمطلق أم ثمة مساحة يبقى فيها استخدام العنف مبرّراً حتى وإن كانت محدودة، وإنْ كانت اختلافات بيّنة في تحديد تلك الحدود والمساحات؟
   القطيعة مع العنف
   مثل غيري ممن تصدّوا للظاهرة أعترف أن مفهوم اللّاعنف هو مفهوم جديد على مجتمعاتنا وثقافاتنا، بل على الثقافة البشرية برمّتها، سواء المتقدّم منها أو المتأخر، خصوصاً وأن هناك تقاليداً موروثة من العنف، بل جبالاً وعرة منه على مرّ التاريخ، قد تحجب أية رؤية جديدة لفلسفة اللّاعنف. فكيف السبيل إلى إحداث القطيعة المعرفية العملانية مع العنف سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي العام؟علماً بأن مفاهيمنا الآيديولوجية تشرّبت بالكثير من العنف، ليس هذا فحسب، بل إن ممارسات باسم الدين وجدت ضالتها في العنف غير المقنن، بل في عنف منفلت، لاسيّما بسيادة فكرة التعصّب، الذي ينجب التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى فعل مادي يؤدي إلى العنف والإرهاب.
   والعنف عمل يقصد منه إلحاق الأذى الجسدي والنفسي، المادي والمعنوي بشخص أو مجموعة من الناس بعينهم، أي إن الضحايا سيكونون معروفين للجاني والمرتكب، في حين إن الإرهاب عمل عشوائي يستهدف إحداث أذى ورعب وهلع وخوف في المجتمع للتأثير على الرأي العام، وغالباً ما يكون هدفه سياسياً ويكون الضحية أو الضحايا غير معروفين للجاني أو المرتكب.
   وإذا كان العمل العنفي يندرج في إطار القوانين الجنائية، وإن الجزاء والعقاب يخضع للقوانين والأنظمة القضائية المحلية، فإن الإرهاب يندرج في إطار القوانين الدولية، سواءً كانت داخلية أم خارجية، لأنه يمثّل جريمة دولية تستهدف الإبادة الجماعية وهي جرائم ضد الإنسانية، إذا ما استهدفت ديناً أو طائفة أو فئة أو إثنية أو لغة أو سلالة، تحت مبرّرات إقصائية وإلغائية تمييزية.
   إن من يفكّر بالقطيعة مع العنف، قد يُتّهم أحياناً بأنه يفعل ذلك لكي يمارس قطيعة مع الدين ذاته، لأن في الأديان نظام عقوبات صارم كما يقولون، خصوصاً وأن الغالب الشائع من التفسيرات تؤدي إلى مثل هذا الاستنتاج الذي هو في حقيقته، مجرد تأويل وقراءة إرادوية سطحية للأديان وقيمها، وحسب هذا التفسير أو التبرير، فالعبرة هي ليس بالنادر الضائع، لاسيّما إذا كانت المصالح والأهواء هي المهيمنة من جانب قوى سائدة تتمترس في مواقعها وتدافع عنها بأسنانها، بل إنها هي التي تهاجم، وبالعنف، من يريد نيل حقوقه أو وقف استغلاله لتحقيق قدر من العدالة والمساواة. إذاً فكيف السبيل لإشاعة ثقافة اللّاعنف، بحيث تصبح مثل هذه الفلسفة سائدة ليس ببعدها الأخلاقي فحسب، بل في جانبها الحقوقي وبُعدها القانوني؟
   غاندي والحقيقة
   إذا كان اللّاعنف حسب غاندي يعبّر عن حقيقة الأديان، لأنه ليس آيديولوجيا أو عقيدة أو تعاليم دينية، بل هو فلسفة، والفلسفة في أحد تعبيراتها هي "حبّ الحكمة" ، وحتى غاندي لم يقل إن الإنسان يمتلك الحقيقة المطلقة، لأن من يقول ذلك سيكون مستعداً لإلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه، بزعم امتلاكه للحقيقة، تلك التي تدعوه للدفاع عنها، حتى وإن استخدم العنف ضد خصومها، الذين هم خصومه. وهكذا سيكون العنف وسيلة للدفاع عن حقيقته الخاصة، تلك التي تنتقص من الآخر وتضعه في مصاف العدو أو الخصم الذي ينبغي إخضاعه.
   هكذا دافعت الآيديولوجيات عن نفسها عبر قادة أو أحزاب أو جماعات، لأنه دفاع عن فلسفتهم ودينهم وعقيدتهم، ولكن السؤال هل الحقيقة آيديولوجية، أي عقائدية ، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية أو مذهبية أو غير ذلك؟ وإذا كان الجواب نعم حسب دعاة العنف، فإن من يدّعي امتلاك الحقيقة ينفي الآخر، يعزله ، بل ويجهز عليه إذا شعر إن ثمة حقيقة أخرى قد لا تكون آيديولوجية تواجه حقيقته، وهي حقيقة إنسانية ، تتعلّق بالوجود الإنساني، وهي الحقيقة الأهم والأساس، التي يحاول العنفيون إلغاءها أو تعطيلها بفرض آيديولوجيتهم. وهكذا تضيع الحقيقة الوجودية التي لا تعني سوى الاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، وهذا بحدّ ذاته تفاعل وتداخل مع فلسفة اللّاعنف، بنقض فلسفة العنف.
   إن الزعم بامتلاك الحقيقة يمثّل الخلفية الفكرية للتعصّب، وهذا إذا ما سيطر على الإنسان، فسيدفعه إلى التطرّف، لأن كل متطرّف إنما هو متعصّب، وإذا ما حاول المتطرّف فرض إرادته على الآخر، ففي الغالب الأعم يلتجئ إلى العنف لإرغام الآخر، ويبرّر ذلك بامتلاكه للحقيقة والأفضلية، تلك التي تعطيه " شرعية" للقيام بفرض عقيدته أو آيديولوجيته أو دينه أو مذهبه أو نمط حياته على الآخر.
   العنف وجه آخر للباطل
   لعلّ ذلك يعبّر عن جوهر العنف الذي سيكون وجها آخر للباطل، لأن هذا الأخير ينبثق من زعم إدعاء الأفضليات وتمثيل الحقيقة، وهكذا سيكون كل تبرير للعنف بهذا القدر باطلاً، لأنه يريد أن يفرض الرأي بإقصاء الآخر وبالعنف إذا اقتضى الأمر، وهذا ما يجد تبريره عند بشر يزعمون أن الحقيقة معهم حيثما مالوا تميل.
   ولكن هل الدعوة إلى اللّاعنف مطلقة؟ يجيب غاندي على ذلك بالنفي ويشرح ذلك بتفسير منطقي وواقعي، فإذا تعذّر أن نحيا بلا عنف بصورة مطلقة، فلا بدّ إذاً من استخدام مقنّن ومحدود للعنف، لأننا في الحياة يستحيل أن نتجنّب كل عنف، كما إن كل شيء نسبي، ولكن الاختلاف حول حدود العنف يتراوح من حالة إلى أخرى، وهذه الحدود ليست متساوية لدى جميع البشر وكل منهم لديه رؤاه وممارساته التطبيقية، حيث أحياناً يتم اللجوء إلى العنف لتجنّب الأسوأ أو لدرء وقوع كارثة أخطر وأشدّ هولاً، وهو ما يُطلق عليه "قانون الضرورة الأسود".
   القاعدة والاستثناء
   ونقول بالعربية "الضرورات تبيح المحظورات"، أو"للضرورة أحكام"، وهو قول بليغ على تجاوز القاعدة باتجاه الاستثناء، وهذا ليس سوى تقنين لاستخدام العنف بحدّ الأدنى باسم " حُكم الضرورة" . وإذا كان ثمة واقعية في الأمر، فإن هذا الاستخدام ينبغي أن يخضع لضوابط وحدود وزمن، خصوصاً وإن هناك حالات تستوجب مثل هذا العنف، كأن يكون "حالة الدفاع عن النفس" لرد الاعتداء مثلاً سواء كان الاعتداء شخصياً أو عاماً، مثل مواجهة احتلال أو مجابهة غزو أو لتحييد عدوانية المعتدي. وحتى في هذه اللحظة علينا أن نتذكّر دائماً، بل نبقي نصب أعيننا إن اللّاعنف هو القاعدة، والعنف هو الاستثناء، أي أننا إذا اضطررنا اللجوء إلى العنف فإنه ليس خياراً، بل أقرب إلى الإكراه، والإرغام، حين تتقدّم الوسائل الأخرى.
   وإذا كان مثل هذا الاستخدام للعنف المقنّن ضرورة مرهونة بظرفها التاريخي، فإنها لن تكون مساوية للشرعية، لأنها استثنائية وانتقالية وظرفية، في حين إن الشرعية هي القاعدة، وهذه هي تمثل اللّاعنف. والشرعية تتأتّى دائماً من القاعدة وليس من الاستثناء، فالضرورة تقنّن حرّية خياراتك أحياناً، أي أنك لست حرّاً في اختيار وسيلتك، ولو كان الأمر كذلك، أي لو توفّرت أوضاع وظروف أخرى لاخترت غير تلك الوسيلة، وهكذا سيكون تبرير العنف بالضرورة ليس مساوياً للشرعية، لأنه هذه الضرورة ليست حتمية، وقد تتاح للمرء فرصاً عديدة لتجاوز "ضرورة " استخدام العنف، إلى عكسها.
   الغاية والوسيلة
   الأمر له علاقة وثيقة وعضوية بين الغاية بالوسيلة، فالغاية العادلة، حسبما تزعم الآيديولوجيات والعقائد الشمولية والنسقية المغلقة تبرر استخدام جميع الوسائل بما فيها  العنف الذي سيكون مشروعاً، لأنها أهدافها عادلة كما تزعم، وهكذا يمكن تعذيب إنسان أو امتهان كرامته أو تعريضه للأذى الجسدي أو النفسي، طالما تزعم الجهة التي تقوم بذلك أن هدفها عادل وبالتالي سيكون مشروعاً ما تقوم به. وإذا كان ذلك على المستوى الشخصي أو السياسي المحدود، ففي العلاقات الدولية هناك امتدادات له ومزاعم مختلفة ومتنوعة.
   وتبرّر اليوم القوى المتسيّدة في العلاقات الدولية، استخداماتها للقوة أو التهديد بها أو القيام بأعمال عنف لبسط إرادتها، سواء كان عنفاً مسلحاً باستخدام السلاح والحروب، أم عنفاً اقتصادياً بفرض نظام عقوبات أو عنفاً ثقافياً بمحاولة ضخ وتعميم نمط سائد للثقافة، وازدراء الآخر، ويتم ذلك تحت عناوين " مكافحة الإرهاب" و"الحرب المشروعة" و"العادلة" و"الوقائية" و"الاستباقية".وأحياناً وبموجب علاقات القوة والتسيّد يتحوّل الضحايا إلى إرهابيين مثل ما تتهم "إسرائيل" المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، في حين أن الفلسطينيين  يمارسون حقهم في الدفاع عن أنفسهم وتقرير مصيرهم ضد محتلّي بلادهم ومن أجل حريتهم واستقلالهم.
   وإذا كان كلٌّ يلقي اللوم على الآخر أيضاً، فمن يا ترى يملك الحقيقة وهو ما دفع الأديب الروسي الكبير تولستوي للقول " إذا كان الجميع يدافع عن نفسه فمن أين يأتي الهجوم"؟، أي من هو البادئ ومن هو المسبّب، ولعلّ هذه الفكرة الواقعية نراها تتكرّر في الحروب الدولية والنزاعات المسلحة والأهلية وحتى بين الجماعات الدينية والكتل السياسية والأشخاص أحياناً، لأن كل فريق يحاول أن يضع الحق إلى جانبه وبالتالي يعطي نفسه شرعية استخدام العنف أو ممارسته بحيث يتم إجبار الآخر على الاستسلام أو الهرب.
   وتبرّر الآيديولوجيات العنف بربطه بالعدل أي الزعم بتحقيق العدل بواسطة العنف، وحتى يكون الأمر ذلك منطقياً، فإن القضية التي تستوجب القيام بالعمل العنفي لا بدّ أن تكون "مبرّرة"، لأنها عادلة حسب وجهة النظر هذه، ولأجلها تهون كل القضايا، بما فيها استخدام العنف. أما العدو أو الخصم فلا شكّ فإن  قضيته ظالمة أو غير عادلة ، وتلك أسباب ومبرّرات تشمل الخلافات الشخصية والنزاعات الأهلية والمسلّحة والحروب، وهي تتعلّق بالمصالح ومناطق النفوذ والامتيازات ومحاولات الهيمنة وفرض الاستتباع وإملاء الإرادة.
   تصوروا مثلاً تبرير داعش " تنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام" التي تعتبر الجميع خصومها، لأنها هي وحدها الفرقة " الناجية" وكل ما حولها إنما هو من قبيل البدع، "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، وكان خطاب أبو بكر البغدادي في جامع النوري الكبير بالموصل بعد احتلالها بنحو عشرين يوماً أي في 29 حزيران (يونيو) 2014 ، قد اعتبر نفسه مدافعاً عن الإسلام بل خليفة للمسلمين محاولاً إضفاء الشرعية على تصرفاته وسلوكه.    
   وليس داعش أو تنظيم القاعدة أو أخواتهما هو من يسلك هذا السبيل لوحده، فدولة عظمى مثل الولايات المتحدة برّرت حربها على العراق واحتلاله بفريّة كبرى وهي وجود أسلحة دمار شامل ، إضافة إلى علاقته بالإرهاب الدولي، ومارست ضده حصار دولي جائر لمدة زادت على 12 عاماً، وذلك من أجل تسويغ فعل الحرب والعنف ضده، لأن  الهدف "عادل" حسب مبرّراتها، وكانت تعتبر حربها على الفيتنام والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا، بما فيهم عشرات الالاف من الجنود الأمريكان، "عادلة"، لأنها تدافع عن "المدنيّة" و"التحضّر"، بل إن حصارها على كوبا الذي زاد على خمسة عقود من الزمان، إنما هو دفاع عن "العالم الحر" وقيمه، وهكذا كانت وسائل الدعاية والصراع الآيديولوجي ضد الاشتراكية لعقود من الزمان.
   لقد برّرت واشنطن استخدامها للعنف بهدف مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، وحاولت إيجاد مسوّغات "قانونية" و"شرعية" لشنّ حربها على أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، وذلك بعد مهاجمة تنظيم القاعدة برجي التجارة العالمية في نيويورك العام 2001، وتمكّنت من استصدار قرارات دولية تعطيها المبررات لممارسة العنف وهو ما حاولت أن تمرّره من خلال الأمم المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية الإجرامية، حيث صدرت ثلاثة قرارات هي الأخطر في تاريخ المنظمة الدولية، وأهمها القرار 1373 الصادر في 28 أيلول/سبتمبر 2001، الذي فيه عودة لقواعد القانون الدولي التقليدي التي تجيز " الحق في الحرب" و"الحق في الغزو" أنّا شاءت الدولة، وإذا شعرت بأي تهديد لمصالحها القومية ومجالها الحيوي.
   وقد أعطى هذا القرار للدول الحق في شن الحرب بزعم وجود خطر وشيك أو محتمل، وهي "حرب وقائية" أو "استباقية" ولكن ضد عدو مجهول أو غير معروف إلّا باسم "الإرهاب الدولي"، وهو الذي تحدّده الولايات المتحدة والقوى المتنفذة، ولم يكن ذلك سوى تسهيل مهمتها و"شرعنة" العنف طبقاً لأهدافها "القومية" ومصالحها " المشروعة".


343
المنبر الحر / ما بعد حل الدولتين
« في: 21:47 12/01/2018  »
ما بعد حل الدولتين
عبد الحسين شعبان
عشية إقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على إصدار قرار بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، طرح معهد واشنطن للشرق الأدنى، رؤية جديدة لحل القضية الفلسطينية والصراع العربي «الإسرائيلي»، أطلق عليها «الحلّ الإقليمي». وتقوم هذه الرؤية التي قدّمها أحد كبار منظّري المعهد، روس وماكوفسكي، على مسارين:
الأول؛ فلسطيني «إسرائيلي»، والثاني عربي «إسرائيلي»، بهدف تطبيع العلاقات الفلسطينية «الإسرائيلية»، والعربية «الإسرائيلية»، «وذلك مقدمة لانسحاب «إسرائيل» من أراضي فلسطينية وعربية (وليس بالضرورة من الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلها عام 1967 في عدوان 5 يونيو/حزيران).
وتقترب هذه الخطة من أطروحة نتنياهو التي عرضها خلال زيارته للولايات المتحدة في 18 سبتمبر/أيلول 2017. وتحاول واشنطن تكييف هذه الرؤية مع مبادرة السلام العربية لعام 2002، المعروفة باسم «مبادرة بيروت»، للوصول إلى «صفقة القرن» حسب ترامب، التي تقود إلى «الحل الشامل»، ولكن وفقاً للرؤية «الإسرائيلية» الأمريكية، وللتفسيرات والتأويلات التي تستجيب لها.
وبعد أكثر من ربع قرن من المفاوضات الماراثونية، ما الذي تبقّى من خيار مدريد أوسلو (1991-1993)، وهل تصلح «الرعاية الأمريكية» في ظلّ الانحياز الصارخ للجانب «الإسرائيلي»؟ وأين نحن من أطروحات «حل الدولتين» التي تبنّاها الرؤساء بيل كلينتون في آخر عهده، وجورج دبليو بوش، وباراك أوباما، الذي بشّر به في بداية ولايته الأولى (مطلع عام 2009)؟ ثم ماذا يعني «الحل الإقليمي» الذي هو أدنى بكثير حتى من خيار أوسلو، الذي لا يلبّي مطالب الحد الأدنى؟
لقد تناوب على العملية التفاوضية أربعة رؤساء أمريكيين، وخامسهم هو الرئيس ترامب، وهي المفاوضات التي انطلقت في مؤتمر مدريد (30 أكتوبر/تشرين الأول 1991)، ووصلت إلى طريق مسدود في عام 1999، لعدم انطلاق «مفاوضات الحلّ النهائي» الذي رفضته «إسرائيل»، والذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر/أيلول عام 2002، خصوصاً أن القضايا الأساسية ظلّت معلّقة مثل: إقامة الدولة، واعتبار القدس عاصمتها، وتأكيد حق العودة والتعويض، وتحديد الحدود، وحلّ مشكلة المياه... الخ.
والرؤساء الذين تناوبوا على المفاوضات هم بوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن، وأوباما، وأخيراً ترامب، ولم تستطع تلك المفاوضات التوصّل إلى أي حلّ مقبول مرضي، في إقامة سلام متوازن بمرجعية دولية، أساسها قواعد القانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً القرار 242 لعام 1967، والقرار 338 لعام 1973، والقرار 478 بشأن عدم شرعية ضمّ القدس عام 1980.
إن ما يميّز إدارة ترامب عن الإدارات السابقة، هو تخلّيها عن مشروع «حلّ الدولتين» والبحث في «حلّ إقليمي»، يتراوح بين «مشروع الحكم الذاتي» (الموسع)، و«الكونفيدرالية» المرتبطة بالأردن، مع الحفاظ على الهيمنة «الإسرائيلية» على كامل الأراضي الفلسطينية غربي النهر، علماً بأن الإدارة الأمريكية انحازت إلى مطالب نتنياهو بالإبقاء على الاحتلال «الإسرائيلي» لمنطقة الغور، واعتبار الحدود الأردنية الفلسطينية، هي الحدود الآمنة لدولة «إسرائيل».
والمسألة الأكثر خطورة في موضوع المفاوضات «المنشودة»، تتعلّق بالاستيطان الذي لا تعتبره الإدارة الأمريكية عقبة أمام المفاوضات، وهذا يعني أن الكتل الاستيطانية سيتم ضمها لدولة «إسرائيل» في أي حلّ؛ لأن إدارة ترامب لا تجد تعارضاً بينها وبين المستوطنات في القدس، علماً بأن تقرير المبعوث ميتشيل في عهد الرئيس كلينتون، كان قد أكّد أن البؤر الاستيطانية وعددها حوالي 240 بؤرة، «غير شرعية» ويجب تفكيكها.
واستناداً إلى تمادي واشنطن في غضّ النظر عن الاستيطان، أقدم الكنيست «الإسرائيلي» على إصدار قانون مؤخراً، سمّي «تبييض المستوطنات»، سيؤدي تطبيقه فعلياً إلى قضم القدس الشرقية، وذلك دون اكتراث لقرار مجلس الأمن الدولي، الذي استنكر الاستيطان، وهو القرار 2234 الصادر في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016، وفي ظل إدارة أوباما، حيث لم تستخدم واشنطن «حق الفيتو» لمنع صدور هذا القرار.
وهناك دعوات عربية من شخصيات مرموقة، تطالب الأمم المتحدة اعتبار صدور هذا القرار بمثابة إخطار عالمي جديد، بكون الاستيطان جريمة دولية لا بدّ من وقفها، وتحديد يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني، يوماً عالمياً لمناهضة الاستيطان.
وكان المبعوث الأمريكي جرينبلات، قد أبلغ الجانب الفلسطيني الشروط الأمريكية التسعة لاستئناف المفاوضات، وهي ليست سوى مطالب «إسرائيلية» غير مشروعة، وإذا ما بدأت المفاوضات المزعومة، فإنها لن تنتهي، بل ستستغرق التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، في حين تمضي «إسرائيل» باستكمال مخططها لقضم الأراضي الفلسطينية و«تهويد القدس».
وتضغط إدارة ترامب على تطبيع العلاقات العربية «الإسرائيلية»، وتستبعد إدراج موضوع الاستيطان، بل إنها تطالب العرب والفلسطينيين بوقف التحريض ضد «إسرائيل»، ودفع تهمة الإرهاب عنها ومطالبة السلطة الفلسطينية بالامتناع عن دفع رواتب الشهداء والأسرى الفلسطينيين.
إن اتفاق أوسلو ونهج المفاوضات السابق، لا يوفّران أرضية مناسبة للتوصّل إلى حلّ يضمن حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وفي مقدمتها حق تقرير المصير، ولو بمعيار الحد الأدنى. وقد كشف اختبار القدس فشل الرهانات المعلنة والمستترة، التي ستصطدم جميعها بالتوحش «الإسرائيلي» والغطاء الأمريكي.
drhussainshaban21@gmail.com


344


كلمة عبد الحسين شعبان عن أبو كَاطع في نادي العلوية
أبو كَاطع يشرق في بغداد
حين تكون قريباً من إنسان ما يصعب عليك رؤية جميع مزاياه، قد تحتاج إلى أن تبعد عنه أحياناً، لترى ما كنت قائلاً عنه، حتى لأن ما هو اعتيادي وربّما يتبين بنظرك يصبح فريداً ومتميّزاً.
ما إن افترقنا وتغيّرت الأماكن في نهاية السبعينات، هو في براغ وأنا في بغداد، بدأت أشعر بفرادة الرجل وقيمته، إبداعياً وإعلامياً وشخصياً، وكنت أتهيأ لزيارته في مدينة القباب الذهبية " براغ" العام 1981 على أمل أن يجتمع شملنا مجدداً  جاءني الخبر صاعقاً: لقد رحل أبو كَاطع في حادث سير مؤسف. هكذا وبكل بساطة، غاب مثل شهاب... قلت مع نفسي لعلّه فعلها هذه المرّة واختفى وكأنه يمارس لعبته التي ظلّت ملازمة له طيلة عقد من الزمان، يختفي ويظهر، ثم يختفي، لكنه هذه المرّة قرّر الرحيل  وكدتُ أن أطلق صرخة غوته  على لسان فاوست لأردّد: قف أيها الزمن ما أجملك، لكن الزمن مضى سريعاً دون أن يلتفت، فقد كان متربصاً، مخادعاً ماكراً ولعيناً مثل الموت.
وكما يقول الشريف الرضي:
   ما أخطأتك النائبات
            إذا أصابت من تحبّ
أو كما قال الجواهري:
   يظلّ المرء مهما أدركته
            يد الأيام طوع يد المصيب
وقد كتب لي السيد حسين الصدر في إحدى المرّات معزّياً بقوله :
   سيف المنايا مرهف الحدّ
            يردي ولا تقوى على الردّ

   أعود لفرادة أبو كاطع ومغايرته:
" إنه فك رموز الحرف بفضل والدته التي كانت تعرف قراءة القرآن، واستطاع أن يعلّم نفسه بنفسه، فلم تسنح له ظروف الحياة للدراسة النظامية والأكاديمية". وهكذا كان عصامياً بامتياز واعتمد على قراءاته الذاتية.
* أصبح لذلك الفتى الفلّاحي - القروي المنشأ، علاقة بعالم الحرف وعقد صداقات عديدة بينه وبين القلم، لم يفرّقه عنها سوى الموت اللئيم.
* جمع بين العمل الإذاعي والصحافي والروائي. فقد كان برنامجه الشهير " احجيه بصراحة يبو كاطع " من إذاعة بغداد 1959 وما بعده، جامعاً، مثلما كان عموده في صحيفة " طريق الشعب" التي كان القرّاء، يقرؤونها بالمقلوب، أي من عمود أبو كاطع بالصفحة الأخيرة، ليقيسون بها درجة حرارة الجو السياسي.
* وكانت  رباعيته " الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس حميّد  مدخلاً جديداً وساخراً في فن القص، وفي الوقت نفسه في تدوين جزء مهم من تاريخ الدولة العراقية في الريف.
* كانت الرواية قبل أبو كَاطع، هي رواية المدينة، حتى وإن تناولت الريف، لأنها ستتحدث عن رؤية المدينة الريف. أما بعد أبو كَاطع فقد كان الريف حاضراً. وإذا كان غائب طعمه فرمان  وفؤاد التكريتي ومحمد خضير وعبد الرحمن مجيد الربيعي وقبلهم عبد الملك نوري وذو النون أيوب وغيرهم روائيو المدينة، فإن أبو كَاطع كان روائي الريف بكل تناقضاته، ناقلاً حديث الدواوين والمضايف والمجالس، ليحصل منه مادة للرواية والأقصوصة والحكاية والعمود الصحافي، أي حياة الفلاحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق المحرّم والحب واللوعة والظلم والقسوة، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية، مسلّطاً الضوء على الريف والخداع والاستغلال.
* اتهم من محكمة الثورة بالمتاجرة بالسلاح، وكانت تلك التهمة تعني أغلظ العقوبات، وحسب تندّراته كانت عقوبتها " أقلن .. أقلن الإعدام".
* كان أبو كاطع رؤيوياً- حسب غوركي عن أحد ثوريّ عصره " إن نصف عقله يعيش في المستقبل " والتاريخ لا يرويه المؤرخون فحسب، بل الفنانون هم من يقومون بذلك.
* كان ساخراً وسخريته حزينة - ووجد في السخرية وسيلة يستثمر فيها ما اختزن في ذاكرته من حياة الريف أو ما استحضره من خيال وما كان يحلم به من رؤى. وقد نقل حياة الريف من داخل الريف وليس عنه إلى المدينة . لم يكن طارئاً أو متطفّلاً على الريف، بل كان من صلبه ولم يكن متفرّجاً.
* في كتابه الأيام قدّم طه حسين الشاب الريفي القادم من قرية المينا، المتشبّع بالثقافة الأزهرية كنقيض للحضارة الغربية التي تخيفه. أما الطيّب صالح ففي روايته " موسم الهجرة إلى الشمال" جسّد علاقة الريفي بالمدنية الأوروبية، حين وضعه بين سيقان فتاة شقراء، مضيفاً تناقضاً وازدواجية جديدة على أصوله الفلاحية ذات المسحة السوداء وحاضره الانكليزي.
* رواية أبو كاطع كسرت احتكار الرواية لصالح الريف على حساب المدينة، حين رسم صورة ضاحكة جديدة لابن المدينة وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه.
* اعتمد أبو كَاطع الاسلوب المباشر والخطاب ذو التوجه الآيديولوجي، خصوصاً في رباعيته : الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس حميّد، لكن مثل هذا التوجه خفّ في روايته "قضية الحمزة خلف" وقصة "موت الكلبة مرزوكة"، وحكاية "الضبع الأكبر" التي نشرتها لأول مرّة، وقد يكون تأثر بـ جورج أرويل وروايته " مزرعة الحيوان" .
* استخدم أبو كَاطع اللهجة الشعبية أو المحكية بأسلوب باذخ دون أن يلتفت إلى ما قيل بشأنها من انتقاص للغة العربية أو الفصحى، لأنه كان يريد إحداث التأثير المطلوب . وكان يجدها أكثر تعبيراً، وإن حافظ على اللغة العربية، لكنه كان يلجأ إلى العامية لتطعيمها وحاول في حكاية " يوم القيامة أو يوم الحساب أو شيء قريب من هذا " أن يستخدم اللهجة السورية، لاسيّما حين يتمازح مع صديقه السوري عصام، فأكثرَ من كلمات " تقبرني" أو "العمى" أو "لكان" وهذه بمثابة لازمات يرددها بمتعة.
* ظل محلياً وصميمياً عراقياً إلى أبعد الحدود وهنا ندرك الأفق اللغوي، خصوصاً حين يسعى المبدع لتخطي حدود المكان إلى عالم أكثر شساعة.
* سخريته لم تكن للفكاهة فحسب، بل كانت سخرية جادة . وحسب كارل ماركس، فالموقف من السخرية يعني اتخاذ موقف جاد من الحياة، وهي سلاح من الوزن الثقيل لا يخشاه الحكام والمستبدون، بل البيروقراطيون، وقد استخدمها أبو كَاطع  بشكل راقي مصحوبة بحِكَم وأشعار وأمثال شعبية.
* لعلّ قلمه وشخصيته المملّحة " خلف الدواح - كعود الفرحان" كان مثل ريشة  ناجي العلي وشخصية" حنظلة" الأثيرة، وكان ناجي العلي قد استشهد في لندن العام 1987.
* حين تقول حنظلة فإنك تعني خلف الدواح، وعندما نستذكر أبو كاطع فأنت في ناجي العلي أيضاً، ولا يمكن تصوّر حنظلة دون فلسطين ، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدواح دون الريف العراقي والعراق كلّه.
هي السخرية في الحالتين:
وجوه ومؤخرات
زهور وتوابيت
حمامات وبنادق
طاغون ومظلومون
هي السخرية المشتركة والهوّية المشتركة للظالمين والطغاة والفاسدين ، مثلما هي هوّية المضطهدين والمهمّشين والضحايا، وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات.
لقد كان أبو كَاطع مدرسة حقيقية في فن النقد والتحريض والتعبئة، فيها الكثير من عناصر الجذب والإقناع والجد بقدر ما فيها من دعابة وسخرية وضحك.
ولا أدري إلى أي حد يمكن أن نستذكر الروائي تشارلز ديكنز صاحب رواية " قصة مدينتي" A take of two cities ، فقد امتاز هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاذعة، وصوّر جانباً من حياة البؤساء والفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.


نادي العلوية - بغداد 10/9/2017


345
الإمام الحسني البغدادي.. مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن
التاريخ والسياسة
ح  6
مرجع يرفض الإنخراط بعمل منظم ضد عبد الكريم قاسم
وفي العام 1914 حين حاول البريطانيون احتلال العراق نشبت معارك الشعيبة قرب البصرة تطوّع العديد من رجال الدين للذود عنها وشارك فيها البغدادي، كما شارك في جبهة الكوت، وكان بصحبته السيد محمد هادي مكوطر وكانت الهوسة الشهيرة قد تردّدت: ثلثين الجنة لهادينا….. وثلث لكاكا أحمد وأكراده…. ومعروف إن السيد محمد سعيد الحبوبي (1849-1915) كان على رأس المجموعات التي تصدّت للاحتلال، وبعد عودته توفّي في الناصرية، أي قبل أن يصل إلى النجف .
وحين كانت عوامل وأسباب الثورة الكبرى تنضج كان الحسني البغدادي يستحثّ القادة ورجال الدين لتنظيم مضابط تدعو البريطانيين للاعتراف بحقوق الشعب العراقي، وقد كان الشيخ محمد تقي الشيرازي الحائري (1842-1920) هو القائد الفعلي، حيث انطلقت ثورة العشرين في 30 حزيران (يونيو) 1920. وقد حاول الحاكم البريطاني ليجمان استمالته بتقديم مفاتيح الروضة العسكرية في سامراء (مقام الإمام علي العسكري) إليه، وذلك بهدف زرع الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة، فكما هو معلوم بأن الغالبية الساحقة من سكان سامراء هم من الطائفة السنّية، ومن جهة أخرى حاول تحريض الشيخ ضاري المحمود ضدّه وضدّ الشيعة ، فما كان من الأخير إلّا أن أجابه “إنه مرجعنا” فباءت محاولته بالفشل، الأمر الذي أراد الانتقام منه بإهانته في وقت لاحق لكنّ الضاري ردّ له الصاع صاعين وقام بقتله.
 وقد تم تسفير النائيني والأصفهاني إلى خارج العراق 1923 لاعتراضهما على خضوع الملك فيصل الأول للإنكليز، مثلما تم تسفير الخالصي إلى الهند ومنها إلى إيران، وقد عاد النائيني والأصفهاني “عودة مشروطة” بالتعهد بعدم ممارسة النشاط السياسي، في حين رفض الخالصي ذلك وتوفي في إيران العام 1925 وعاد نجله الشيخ محمد الخالصي إلى العراق في العام 1949 ليترأس المدرسة الخالصية في الكاظمية.
وكان البغدادي منذ البدايات ضد “المؤسسة الفارسية الدينية” في العراق، وكان يعتقد إن دورها سينتهي وتأثيرها سيكون محدوداً بعد أن أصبح العراق دولة، وإن ما يأتي من “عملة صعبة” بزعم دعم المرجعية والعتبات المقدسة سوف لا تكون الحاجة إليه شديدة، كما هي حينذاك، فضلاً عن أن تخلّف العراقيين سوف لا يستمر طويلاً. وكان ذلك قد جاء في حوار له مع السيد محسن الحكيم (العام 1923).
لأنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه
أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه
السيد المسيح
الحسني البغدادي والعدوان الثلاثي
اتّخذ الحسني البغدادي مواقف راديكالية من النظام الملكي بشكل عام، وعند حدوث العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي “الإسرائيلي” على مصر بشكل خاص، العام 1956? وحين حدثت الهبّة الجماهيرية في النجف وبغداد والحي والموصل ومناطق أخرى من العراق، تضامناً مع الشقيقة مصر، جابهتها السلطات الحكومية بالقمع وقامت بإطلاق الرصاص على طلبة المدارس المنتفضين في النجف، وسقط ثلاثة من أبناء النجف، وهاجت المدينة المنتفضة، حيث تمكّن المتظاهرون من السيطرة على المدينة لنحو 9 أيام، وكان الجيش قد أرسل لضبط الأمن والنظام دون أن يتدخّل في ردع المتظاهرين.
وحاولت السلطة امتصاص حالة الغضب الشعبي، فأرسلت الدكتور محمد فاضل الجمالي لزيارة بعض رجال الدين، والتقى الحسني البغدادي به في منزله في النجف، وذلك بهدف التهدئة واستعادة زمام المبادرة كي لا يفلت من يد الحكومة. وكانت الزيارة برفقة محمد علي كمّونة، رئيس بلدية النجف حينها، وقد نقل له الجمالي تحيات الملك فيصل الثاني واعتزازه بمواقفه وطلب منه التعاون لتهدئة الموقـف.
وقد بادره الحسني البغدادي بالقول: ما كنت أرضى بمقابلة أحد من أركان النظام، بل كنتُ سأغلق الباب في وجههم، ولكن اختياركم من جانب الملك جاء لأن والدك ” عباس″ صديقي، والمرء يُحفظ بولده، وإن مجيئك كان بسبب توجيهي رسالة شديدة، تندّد بالموقف الرسمي بشأن العدوان، الذي استنكرته الجماهير في كل مكان، رجالاً ونساءً .
وعلى ذكر النساء، فقد كانت إحدى التظاهرات التي قادها الشيوعيون في النجف مجموعة نسوية شاركن فيها، كما إن التظاهرات التي استمرت لعدّة أيام كانت عامة شارك فيها الجميع من القوميين والبعثيين والشيوعيين والوطنيين بشكل عام. وختم حديثه لقد قابلتكم للاعتبارات التي ذكرتها، ولكن قطيعة بيني وبين النظام قد حصلت، وقد جئتم “بعد خراب البصرة”.
جدير بالذكر الإشارة إلى أن الحركة الوطنية في النجف آنذاك أرسلت وفوداً إلى عدد من رجال الدين لحثّهم على استنكار مواقف الحكومة العراقية والتضامن مع المتظاهرين، فضلاً عن إدانة موضوع إطلاق النار وقتل عدد منهم، وكان جدار الصحن العلوي المواجه للسوق الكبير قد تعرّض إلى إطلاق نار، وقامت السلطات ليلاً بمعالجة الأمر، ولكن آثاره ظلّت واضحة، واعتبرت حينها وصمة عار في جبين النظام الملكي، لكن نظام صدام حسين استخدم السلاح داخل الصحن العلوي في النجف، والصحن الحسيني والعباسي في كربلاء، وخصوصاً خلال أحداث ما سمّي بالانتفاضة الشعبانية بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت (آذار /مارس 1991  ولاسيّما في كربلاء والنجف.
استقرار عواطف
وأتذكّر أن قمصان الشهداء عبد الحسين الشيخ راضي وأحمد الدجيلي والخياط، وهي مضرّجة بالدم، كانت مرفوعة فوق رؤوس المتظاهرين وهم يجوبون الشوارع والأسواق والصحن العلوي، وذلك بهدف استدرار العواطف من جهة، وممارسة ضغوط على رجال الدين لاتخاذ موقف واضح ضد سلطة نوري السعيد من جهة أخرى، ولذلك فقد توجّهت بعض التظاهرات إلى بيوت بعض رجال الدين، وكان الجمهور الغاضب يطالبهم باتخاذ موقف صريح وحازم، لاسيّما محاسبة المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، وعلى الرغم من أنّ الإدانة عامة وشاملة، لكن الاستجابة كانت متفاوتة، خصوصاً باتخاذ موقف الإدانة الشديد.
وأتذكّر أيضاً وهذا ما كان شائعاً في صفوفنا حينذاك، إن تجاوب السيد الحسني البغدادي كان شديداً وقوياً، وكانت برقيته استنكارية إلى الحكومة العراقية لموقفها المتفرّج إزاء العدوان الثلاثي من جهة ومن موضوع التعرّض للمتظاهرين من جهة ثانية، فضلاً عن دعوته لإقالة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي المعتّق. وقد حاولت العثور على نصّها فوجدته منشوراً لدى عبد الحميد الراضي وفي كتاب: ” محمد الحسني البغدادي- المسيرة الجهادية والفكرية في قراءة حوارية ووثائقية ” اكثر من سبعة عقود من الزمن في قسم الوثائق- (وثيقة 7)? وكان قد نشرها عبد الرضا فرهود أيضاً في مجلة الكوثر، العدد 642? 1422. ولكنها بدون عنوان أنقلها بالنص (نص برقية البغدادي إلى الملك):
 “إن الموقف المتفرّج تجاه العدوان الثلاثي المسلح على مصر مخالفة للشريعة الإسلامية، وإنه إلغاء لحقيقة استقلال المسلمين من سلطة المشركين وليس لهذه الوزارة برئاسة نوري السعيد مفعول قانوني. نناشدكم بإقالتها في الوقت الذي نؤكد لكم إن قيامكم بهذا الواجب يجمع كلمة المسلمين، ويقطع طمع الكافرين والله سبحانه ولي النصر، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام على من اتّبع الهدى”.
وحين حدثت ثورة 14 تموز (يوليو)1958 استبشر بها الحسني البغدادي، وقد أرسل برقية تهنئة عاجلة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس مجلس الوزراء، واستلم جواباً تحريرياً، وكانت جريدة البلاد (البغدادية) قد نشرتها وهي بالعنوان التالي- سيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم المحترم بطل الثورة العراقية ،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
“نبتهل إلى الله تعالى بنهضتكم رفع أعلام الدين وإعزاز الإسلام والمسلمين… قاضية فوراً على كل قوة استعمارية في جميع أوطاننا العربية والإسلامية” (محمد الحسني البغدادي). وكانت البرقية بتاريخ 6 محرم 1378 . وكان جواب الزعيم الذي ندوّن نصّه:
سماحة الفقيه الأكبر السيد البغدادي دامت بركاته،
” كان لكتابكم أطيب الأثر في نفوسنا. نرجو من الله أن يوفقنا إلى خدمة دينه وحماية شريعته والقضاء على الظلم والظالمين.”
الزعيم الركن عبد الكريم قاسم – رئيس الوزراء – 8 محرّم 1378
وقابل الحسني البغدادي وفداً عسكرياً برئاسة فؤاد عارف الذي جاء إلى النجف باسم قيادة الثورة وكان يأمل أن تسير الأمور بما يحقّق طموحات الشعب العراقي، لكن قلقه بدأ يكبر ونقده أخذ يزداد بالتدرّج، وسرعان ما أصبحت كفّة النقد أثقل، خصوصاً بعد أن يئس من استقرار الأوضاع بسبب الصراع السياسي الحاد الذي بدأ بعد الثورة بين القوميين والشيوعيين، واتّسع شق الخلاف بدخول الإسلاميين حلبة هذا الصراع، وكانت مواقفهم النقدية من حكم قاسم أقرب إلى القوميين، حتى وإن اختلفت المنطلقات.
وكنّا نعرف أنّ الحسني البغدادي متضايق من “انحراف” الثورة كما أسماه، ومن هيمنة الشيوعيين وإرهابهم الفكري، كما مورست عليه بعض الضغوط من “جماعة العلماء” الأكثر تشدّداً في مواجهة ما سمّي بالمدّ الأحمر، فاضطرّ لكتابة نص يؤيد فيه منشوراتهم، علماً بأنهم كانوا على خلاف شديد مع السيد محسن الحكيم الأب الروحي للجماعة، أشار فيه أنه مقدر دعوتها إلى التمسّك بالدين ووحدة الأمة ووحدة الكلمة، وأن عملها مشكوراً، لأنه لم يخرج عن الحق والواقع.
وللأسف فلم نكن نصغي إلى ذلك كثيراً، وأصابنا نوع من الغرور والتعالي، حتى على أوساط كانت مقرّبة منّا، أو يمكن تحييدها على أقل تقدير باستثمار الصراعات الداخلية في صفوفها، ولأن قوانا الذاتية كانت كبيرة ونبالغ فيها أحياناً، فقد كنّا نستخفّ أحياناً بالجبهة الواسعة التي أخذت تتشكّل ضدنا، سواء بصورة رسمية “الجبهة القومية التي ضمّت البعثيين والقوميين على تعدّد مجموعاتهم” أو بصورة غير رسمية، حيث جمعت القوميين والبعثيين والإسلاميين وبعض رجالات العهد الملكي والمتضرّرين من الثورة من الإقطاعيين وغيرهم.
وبالطبع كان هناك بعض الخيوط التي ترتبط بشركات النفط والدول التي تقف وراءها، والتي أعلنت صراحة عن عدائها للحكم الجديد، في محاولة لإعادة “حصان تموز الجامح” إلى الحظيرة، وخصوصاً بعد الخروج من حلف بغداد الاستعماري وفكّ الارتباط بالكتلة الاسترلينية، وبالأساس في الخوف من وقوع العراق في قبضة الشيوعية ودائرة النفوذ السوفييتي.
ليس هذا فحسب، بل إن معسكر الخصوم كان قد امتدّ إلى داخل الوسط الديمقراطي أيضاً، سواءً  في الحكم أو خارجه، الذي جرى الاستهانة به في إطار نزعة تسيّدية استعلائية سادت صفوفنا، وانعكست على علاقتنا بـ”الحزب الوطني الديمقراطي” بقيادة كامل الجادرجي وجناحه الآخر “الحزب الوطني التقدمي” بقيادة محمد حديد، وشخصيات محسوبة على عبد الكريم قاسم، عسكريين ومدنيين.
وتلك للأسف كانت السياسة العامة السائدة، وظروف الصراع التي اتخذت طابعاً متعصّباً ومتطرّفاً وإلغائياً على تناقضاته في إطارات يسارية طفولية في الممارسة اليومية، ويمينية في الموقف من استلام السلطة، وهو ما ينطبق على جميع القوى السياسية دون استثناء بشكل أو بآخر حتى وإن كان على نحو معاكس، وأعتقد إننا بسببها، إضافة إلى أسباب أخرى مهمة، دفعنا ثمناً باهظاً ونالنا من حملة تنكيل ما لم ينل أحداً، سواء في فترة عبد الكريم قاسم، وخصوصاً بعد خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف واتهامه الشيوعيين بالفوضوية في أحداث كركوك أو بعده، في ظل حكم انقلاب شباط (فبراير) العام 1963 وما بعده، حين انفلت العنف على مصراعيه، ليتم قتل المئات تحت التعذيب، واعتقال عشرات الآلاف من الشيوعيين وأنصارهم ومن الوطنيين العراقيين بشكل عام.
هل الدين غير الحب
الإمام جعفر الصادق
جماعة العلماء
نشطت بعض المجموعات الدينية القريبة من “المرجعية”، وكان أكثرها تأثيراً وأبرزها حضوراً “جماعة العلماء” التي عملت بدعم غير مباشر من قيادة السيد محسن الحكيم في التصدّي للمدّ الشيوعي، وكان رئيسها الشيخ مرتضى آل ياسين، بمساعدة محمد تقي بحر العلوم ومحمد جواد الشيخ راضي وإسماعيل الصدر، وحظيت بدعم أبو القاسم الخوئي ومهدي الحسيني الشيرازي وعبد الهادي الشيرازي وعبد الكريم الجزائري وبدعم محدود في البداية من السيد الحسني البغدادي، ولم يتجاوب معها عدد من رجال الدين، بل وقفوا ضد توجهاتها وفي مقدمتهم السيد حسين الحمّامي والشيخ فاضل القائيني والشيخ عبد الكريم الزنجاني، خصوصاً وقد رافق تحرّكها بعض الإشاعات التي شكّكت بمقاصدها، لاسيّما وقد كان باكورة هذا التحرّك هو تكفير الحزب الشيوعي، وكان البغدادي يتّفق معهم من حيث تحريم “الشيوعية الإلحادية” التي هي بنظره “المسألة الكبرى”، إلّا أنّه يختلف وإياهم في “المسألة الصغرى”، لأنه لا يجوز الإفتاء بإلحاد الشيوعيين، لأنها تؤدي إلى احترابات وفوضى وهو ما حاول السيد “الحفيد” توضيحه (انظر أحمد الحسني البغدادي- تأصيل معرفي بين الثورية واللّاثورية، ج 5? القسم الثاني، 2011? ص 30 وما بعدها).
وبقدر ما كانت تتودّد “الجماعة” في البداية لكسب “الزعيم المحبوب” و”ربّان السفينة الأفضل” كما أسمته في منافسة مع ما كان يخاطبه به الشيوعيون بـ”الزعيم الأوحد”، وفي محاولة استرضائية لغروره، فإنها حاولت أن تصبّ جام غضبها على الشيوعيين، مستغلة الأخطاء التي وقعوا فيها والاندفاعات التي قامت بها المقاومة الشعبية، حيث عملت على دق الأسافين بين الزعيم وبينهم، خصوصاً باستثمار بعض التصرّفات الصبيانية التي أظهرتها وكأنها معادية للدين. وكانت جماعة العلماء قد أصدرت مجلة باسم ” الأضواء الإسلامية” العام 1959 واستمرت حتى العام 1962. وكان رئيس تحريرها محمد باقر الصدر الذي كان يكتب افتتاحياتها  (لخمسة أعداد) ثم تلاه الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكان من بين محرّريها محمد حسين فضل الله.
وفي البداية كانت بياناتها تذيعها إذاعة بغداد (الراديو الرسمي) وكان معظمها يكتبه محمد باقر الصدر. وقد سمح لها بتأسيس مدارس ابتدائية ومتوسطة وإعدادية (في بغداد والبصرة والحلّة والنعمانية) كما قامت بتأسيس “كلية أصول الدين” بإدارة السيد مهدي الحكيم والسيد مرتضى العسكري.
لكن الحسني البغدادي لم يرغب في الانخراط بعمل منظّم ضد حكم قاسم، والأمر يعود لعدم رغبته في ممارسة عمل سياسي مباشر، وكان يفضل العمل الدعووي والوعظي غير المباشر، وثانياً وهذا مهم، لتعارض توجهات عمل جماعة العلماء، مع منهجه، يضاف إلى ذلك الإتهامات التي حامت حولها، لاسيّما بشأن دعم إيران والسافاك الإيراني لها، خصوصاً وأن نشاطاتها انصبّت على السعي لمنع تغلغل الحزب الشيوعي في مؤسسات الحكم، وذلك بعد رفع الحزب شعاره بالدعوة إلى إشراكه بالحكم في 1 أيار (مايو) 1959 والذي سرعان ما تم سحبه والتخلّي عنه.
وبالمناسبة فإن شعار الدعوة للمشاركة بالحكم في مسيرة الأول من أيار لم يصدر بقرار من المراجع الرسمية للحزب، بل وجد ضالته عبر طرحه في المسيرة من قبل أوساط متحمّسة حزبية وحتى غير حزبية، ولم يكن سلام عادل الأمين العام للحزب (حسين أحمد الرضي) الذي قتل تحت التعذيب العام 1963 يمانع في ذلك، بعد أن استشار بعض أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، الذين أبدوا استحساناً، وبعضهم حماسة لطرحه لأنه داعب ما كانوا يفكّرون به، ولامس جزءًا من طموحاتهم، وهكذا استمرأوا الترويج له، وكنت قد رويت جزءًا من ذلك في حديث خاص مع آرا خاجادور القيادي الشيوعي العمّالي حينها في مقالة موسّعة كتبتها عنه بعنوان “آرا خاجادور وزيارة التاريخ” (صحيفة الزمان العراقية ابتداء من  28/1/2016).
  وكان الشعار قد انتشر مثل النار في الهشيم، ولم يعد ممكناً التراجع عنه، ولعلّ ذلك واحد من أخطاء القيادة الشيوعية، التي انساقت وراء أهوائها واضطرّت إلى مداهنة الشارع والسير خلف عواطف ورغبات بعض القياديين، دون حساب موازين القوى الداخلية والعربية والعالمية، وردود الفعل المحتملة فضلاً عن ذلك دون وضع استراتيجية لكيفية وضع هذا الشعار موضع التنفيذ الفعلي، في حين كان عليها قيادة الشارع لا السير في ذيله، خصوصاً برفع شعارات ذات طابع شعبوي وديماغوجي، إذْ لا يجوز طرح مثل هذا الشعار الستراتيجي وتبنّيه بمثل تلك الخفّة دون دراسة وتمحيص لنتائجه الخطرة وتأثيراته على مستقبل الحزب.
الأديان التي تعلّم ” الحب الأخوي” استخدمت ذريعة للقتل،
وأعظم اكتشافاتنا العلمية صارت أداة دمار شامل .





346
رسالة مفتوحة إلى الراحل آرا خاجادور
عبد الحسين شعبان
   رحل القائد العمّالي الشيوعي آرا خاجادور واسكنيان عن 93 عاماً في العاصمة التشيكية براغ (4 كانون الأول / ديسمبر/2017)، وكان قد انضم إلى الحزب الشيوعي وأصبح عضواً فيه خلال الحرب العالمية الثانية، وفي قيادة الفرع الأرمني للحزب العام 1943. حُكِم عليه العام 1949 بالسجن المؤبّد بتهمة الشيوعية، وأُسقطت عنه الجنسية خلال وبُعيد إبرام حلف بغداد الاستعماري، لكنه أصرّ أن وطنه هو نقرة السلمان وهويّـته عراقية وهواه أممي.
   أُطلق سراحه بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 بعد أن قضى عشر سنوات في السجن، وانتُخِب أميناً عاماً للاتحاد العام لنقابات العمال في العراق، ومثّله في اتحاد النقابات العالمي في براغ. وانضمّ إلى اللجنة المركزية وأصبح في الثمانينات عضواً في المكتب السياسي ومسؤولاً عن قوات الأنصار الشيوعية، لكنه اختلف مع قيادة الحزب التي فصلته عملياً تحت عنوان "وضع نفسه خارج الحزب"، والسبب في ذلك هو موقفها المائع من الحصار الدولي المفروض على العراق وبشكل خاص في موقفها من الاحتلال الأمريكي للعراق ومشاركتها في مجلس الحكم الانتقالي والعملية السياسية التي ناهضها بشدّة وحاول أن يصدر عدداً من البيانات ويكتب عدداً من المقالات والآراء لإيضاح وجهة نظره، لاسيّما للدفاع عن هويّة الشيوعيين الوطنية والدعوة إلى عدم التفريط بها تحت أية حجة أو ذريعة، وقد أصدر كتاباً بعنوان "نبض السنين " احتوى على أطروحاته المناهضة للاحتلال.
   عاش في براغ في السنوات الأخيرة من حياته في ظروف قاسية وعانى من الجحود والإهمال والتنكّر، لكنه بفضل صداقاته وحب ومساعدة العديد من رفاقه سواءً اختلفوا أو اتفقوا معه في الرأي،  تمكّن من الاستمرار ولو بالحدود الدنيا من مستلزمات العيش وضنكه. وأتذكّر أنني في كل زيارة له كان يستقبلني ويودّعني بعبارة مولوتوف وزير الخارجية السوفييتي (1939-1957) " النصر لنا" بخفّة دمه ودماثة خلقه .
   وكنت خلال ربع القرن الماضي قد دخلت معه في حوارات وسجالات متّصلة ومتقطّعة، نشرت بعضها تحت عنوان "هامش على هوامش آرا خاجادور - في شؤون وشجون الحركة الشيوعية!" بتاريخ 26/9/2007.
   كما نشرتُ مادة أخرى في صحيفة الزمان العراقية عن كتابه الموسوم " نبض السنين" بعنوان "آرا خاجادور: الشيوعية المعتّقة"، على ثلاث حلقات بتاريخ 24 و25 و26 شباط/فبراير 2015 وأعيد نشرها على خمس حلقات في موقع الحوار المتمدّن بتاريخ 21 و23 و24 و25 و26 شباط/فبراير 2015.  ونشرت ثلاث حلقات أخرى في صحيفة الزمان العراقية أيضاً بعنوان: آرا خاجادور وزيارة التاريخ بتاريخ 28 و29 و30/1/2016  وهي سردية حوارية معه.
   الأسئلة التي أنشرها اليوم هي رسالة خاصة مرسلة إلى آرا خاجادور، لكنّها أصبحت مفتوحة بعد رحيله وقد وددت أن أشرك القرّاء معي في إطلاعهم على محتواها، علماً بأنني نشرت من وحيها أجوبة مستلّة من حوارات معه في مقالة بجريدة الزمان أيضاً، العدد 5651 - الخميس 9 شباط (فبراير) 2017  وكانت بعنوان: وطني نقرة السّلمان وهويّتي عراقيّة والهوى أممي.
نص الرسالة المفتوحة:
رسالة وحوار مع آرا خاجادور
عزيزي أبو طارق أو أبو اسكندر كما يحلو لك
تحياتي الحارة وتمنياتي الصادقة، لك بالصحة وراحة البال والمزاج الطيب. لقد كانت لقاءاتنا الأخيرة في براغ (قبل أيام من حلول العام الجديد وبعد رأس السنة /2016) في غاية الأهمية، ليس فقط للتواصل الإنساني، بل أيضاً لمواصلة الحوار وتقليب بعض صفحات التاريخ والوقوف عند بعض المحطات التاريخية، كما حصل خلال زيارتي لكم للاستشفاء في الصيف الماضي مع ابنتي سنا (آب/ أغسطس 2015)، ومثلما كنت أفعل في كل مرّة أدوّن بعض ما يدور بيننا من حوارات وأعدّ بعضها للنشر أو للاحتفاظ به في أرشيفي، حتى تسنح الفرصة لذلك.
وفي لقائنا قبل الأخير الذي نشرت عنه في صحيفة الزمان (ثلاث حلقات) والموسوم "آرا خاجادور وزيارة التاريخ"، كانت هناك إطلالة اكتشفت أهميتها من خلال الاتصالات والقراءات والإضاءات الأخرى، والأهم ما فيها أنها لم تقتصر على النخبة الرفاقية، بل إن القارئ العراقي بشكل خاص، والقارئ العربي بشكل عام اطّلع على جزء حيوي من تاريخنا، خصوصاً باستعادته من خلال رؤية انتقادية وهو ما لمسته عبر رفاق لبنانيين وسوريين وأردنيين وفلسطينيين ومغاربيين وخليجيين.
ولذلك فإن شعوري بالواجب يصبح أكثر وبالمسؤولية يكون أكبر. ولعلّ ما يزيد من ثقلهما هو ما أبديته من استحسان وتحبيذ لما نُشر، وكانت إشادتك بوجود صديقنا العزيز حميد برتو حيث كوّنتما وجهتي نظر مشتركة خلال ربع القرن الماضي، وكنّا خلال الفترة المنصرمة في حوار متواصل حتى وإن كان متباعداً أحياناً. وقد واصلنا حوارنا الأخير بحضور الصّديق عصام الزند، ومرّة أخرى مع الصّديق موفق فتوحي واتفقنا على استكماله، وقد وعدتكم بأنه بعد عودتي إلى بيروت بنحو ثلاث أسابيع سأقوم بإرسال باقة أسئلة لكم، على أن يتم إعداد الأجوبة لها وأقوم بتحريرها تهيئة لطبعها.
ربما تأخّرت قليلاً، فقد كان في برنامجي زيارة العراق، حيث توجّهت في البداية إلى النّجف للقاء بعض المثقفين والأدباء فيها حسب اتفاق خاص، ثم الذهاب إلى الحلة لإشهار كتابي "أغصان الكرمة - المسيحيون العرب" الذي نظّم مركز حمورابي احتفالية به، وبعدها ألقيت محاضرة في نادي الصيد في بغداد بدعوة من مركز دجلة للتخطيط الاستراتيجي، ثم عدتُ إلى بيروت، وفي هذه المحطات وفي غيرها كان اسم آرا خاجادور يتردّد في اللقاءات وكانت الرغبة في سماع المزيد من أخباره، أقرب إلى الشّغف بالمعرفة والنّهم في النّهل منها، لاسيّما وهي تتحدّث عن تاريخ مُعاش وعن دفاتر غير مكتوبة، وهي التي أضاءت عليها الحوارات المنشورة في الزمان وفي العديد من المواقع الاليكترونية، إضافة إلى كتابكم "نبض السنين".
 أكتبُ ذلك وها آنذا أفي بوعدي الذي قطعته لك بحضور موفق فتوحي بإرسال باقة أسئلة وفتح باب الحوار ونوافذه كي يتسلّل من خلالهما نور الحقيقة، كما تراها أنت. وبإمكانك الإجابة على ما تراه من الأسئلة حسب أهميتها وتقديرها لك أو إهمال بعضها أو تركه أو تأجيله، خصوصاً وأنّني وضعت بعض هذه الأسئلة كفرشة واسعة، على أن أقوم بتبويبها وتنسيقها بعد الإجابات، بما فيها ضم بعضها إلى بعض أو تنظيمها لكي تأتي متناسقة ومنسجمة.

ع. شعبان
20/2/2016
الأسئلة والحوار
1-   هل هناك ما يريد آرا خاجادور أن يقوله ولم يقله حتى الآن؟ وهل لك أن تفصح عمّا ترغب في الكلام عنه ولم يكن ممكناً سابقاً؟
2-   هل نستطيع العودة إلى المجتمع الأرمني في الأربعينات حتى توجهت إلى الشيوعية؟ أية خصائص ميّزته، وبماذا كان الحزب الشيوعي يتميّز؟ كيف تصف ذلك؟ وبم اختلف حزب ما قبل السجن عن حزب ما بعده؟
3-   ما هو دور وتأثير الحرب العالمية الثانية على تكوين وعيك الأممي؟ هل هي انتصارات الجيش الأحمر أم هاجس العدالة وتجربة أول حكومة عمالية في العالم؟
4-   التقيت الرفيق فهد مرتين: هل يمكن أن تطلعنا على أهمية ذلك في حياتك اللاحقة؟
5-   بماذا يمتاز فهد عن غيره من القيادات الشيوعية العراقية؟ وأية موصفات شخصية وقيادية لديه، وبمَ يختلف عن سلام عادل  الذي عاصرته من العام 1958 ولغاية العام 1963 وأية مواصفات شخصية وقيادية امتلكها؟ وهل تكوّنت رمزيتهما من خلال استشهادهما؟
6-   هل يمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتعاش الحركة الشيوعية؟ وبِمَ تفسّر الانشقاقات التي رافقتها: أهو قصور ذاتي لدى النخب الشيوعية أم نقص في توجه بعض القيادات وتزمّتها أم ظروف العمل السري؟
7-   قلت في حديث سابق معي وبعد إصدار كتابي "سعد صالح - الوسطية والفرصة الضائعة": إن الحزب الشيوعي وفهد عَتَبا على سعد صالح لعدم إجازة حزب التحرّر الوطني الواجهة للحزب الشيوعي بعد إجازة خمسة أحزاب علنية، لكنه تفهّم موقفه لاحقاً بعد أن أرسل له ممثلاً عن الحزب (حسين الشبيبي): هل يمكن توضيح ذلك للقارئ؟
8-   حين أطلق سعد صالح دعوة لقيام جبهة وطنية أرسل الحزب له هادي هاشم الأعظمي للاستطلاع منه عن رغبته واستعداده لهذه المبادرة؟  ما هي معلوماتك وهل يمكن إضاءة  ذلك؟
9-   كيف استقبل الحزب وفهد بالتحديد موقف الاتحاد السوفييتي بالموافقة على قرار التقسيم لعام 1947 بعد أن كان يرفض القرار؟ وكيف تمكّن من الاستدارة بموقفه من الرفض إلى التأييد؟ ألم يؤثر هذا الموقف على شعبية الحزب لاحقاً؟ وهل كان التبرير مقنعاً؟ ما هو دور كرّاس "أضواء على القضية الفلسطينية" في تغيير مسار الحزب وهل كان هناك تأثيرات خارجية أخرى غير سوفيتيية؟ (المقصود فرنسية).
10-   اختلف موقفنا من القضية الفلسطينية من العام 1948 ولغاية العام 1956 عن توجهاتنا الأولى، حتى اتخذ الكونفرنس الثاني  للحزب العام 1956 مواقف جديدة أكثر اقتراباً من نبض الشارع العربي، كيف تقيّم ذلك الآن؟ وهل كان ذلك بتأثير من سلام عادل وعامر عبدالله، ولماذا تراجع موقفنا بعد الثورة؟
11-   بقراءة سريعة هل يمكن تقييم انشقاق راية الشغيلة - القاعدة ومع من وقفت ولماذا؟ وهل يمكن مراجعة التجربة؟
12-   كيف تلقيت وأنت في السجن خبر تأميم قناة السويس من جانب جمال عبد الناصر، ثم العدوان الثلاثي على مصر الانكلو – فرنسي الإسرائيلي العام 1956؟
13-   هل كانت مبرّرات قيام ثورة 14 تموز 1958 ناضجة؟ أم كان يمكن ترك خط التطور التدريجي يأخذ مداه؟ كيف تقيّم من يقول أن 14 تموز كان انقلاباً عسكرياً وقاد إلى حكم فردي؟
14-   هل كانت سياسة: "كفاح - تضامن - كفاح" في زمن قاسم صحيحة؟ وهل كان يمكن استلام السلطة؟ ولماذا لم يفعل الحزب ذلك؟ هل امتثل لرأي السوفييت بعدم المغامرة والتحذير من الاندفاعات كما قيل، وكما جاء في بعض الكتب السوفييتية من قولها: حذرنا سلام عادل؟ أم أن قصوره الذاتي وعدم وحدة الرأي لدى قيادته كان وراء ذلك؟
15-   كيف تقيّم حالة الغرور التي صاحبت توجهاتنا بعد الثورة؟ ألم يكن بالإمكان إحياء جبهة الاتحاد الوطني والتفاهم مع القوى الأخرى، أم ترى أنها هي التي تتحمّل المسؤولية الأساسية في انفراط الجبهة؟
16-   أنت قائد نقابي وعملت في قيادة أكبر النقابات وأهمها (عمال النفط) وأصبحت أميناً عاماً في اتحاد نقابات العمال، أين أصبح هؤلاء العمال؟ وهل بقي للحزب وجود لدى الطبقة العاملة؟
17-   هل كانت خطة طوارئ لمواجهة احتمالات انقلاب عسكري؟ وأين كان الخط العسكري؟ ومن دعا إلى حل التنظيمات العسكرية التابعة للحزب الشيوعي لكسب ود عبد الكريم قاسم؟ أليس في ذلك تمهيداً لإنجاح انقلاب 8 شباط العام 1963 أم ماذا؟
18-   أين أخطأ قاسم بحق الحزب الشيوعي؟ وأين أخطأ الحزب الشيوعي بحق قاسم؟
19-   لماذا بعد ما حصل أخذنا نبكي على الزعيم ونصفُ عصره بالذهبي، في حين نحن نلوم أنفسنا في عدم أخذ السلطة منه وإزاحته عن المسؤولية؟ أليس في ذلك ازدواجية وبكاء على الأطلال؟
20-   هل كانت مقاومة الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 ضرورية؟ ألم تفرّط بقوى الحزب؟ ويبرّر البعثيون بيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين بالمقاومة والبيانات الصّادرة لمواجهة الانقلاب؟ كيف تقيّم ذلك الآن؟
21-   هل كانت الاستعدادات للمقاومة كافية؟ أليست تلك مغامرة؟ أم أنها عمل ثوري ورد فعل طبيعي لا بدّ منه؟ ألم يكن بالإمكان تقليل الخسائر وتجميعها لحين اللّحظة الثورية المناسبة؟
22-   هل كان بالإمكان تأجيل حركة 3 تموز العام 1963 المعروفة باسم "حركة حسن سريع" أو "انتفاضة معسكر الرشيد" أم أن ذلك ضرب من التخمين وقراءة متأخّرة للأحداث؟
23-   ماذا عن خط آب 1964 ومن هم أشد المتحمّسين له وهل صحيح أن الدعوة للانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي كانت بمبادرة من السوفييت؟
24-   لماذا تم تنحية عبد السلام الناصري (أنور مصطفى ) من المسؤولية الأولى في الحزب الشيوعي العراقي؟ هل لأن السوفييت لم يرغبوا به أم لأسباب داخلية؟
25-   كيف تم اختيار عزيز محمد أميناً عاماً؟ ما هي خلفيات ذلك وهل كان السوفييت وراء ذلك؟
26-   كيف تقيّم قيادة عزيز محمد خلال الـ 29 عاماً؟ وهل ترك القيادة رغبة منه أم أنه مرغم؟ وكنت قد قلت إن هناك محاولة للإطاحة به، بدأت في الشام: هل كان السوريون على علم بها؟ وهل يمكن توضيح ذلك؟
27-   كيف تنظر إلى الحزب بعد احتجاجات القاعدة الحزبية على خط آب العام 1964 وماذا عن اجتماع الـ 25 كادراً قيادياً (العام 1965)؟
28-   هل كانت خطة العمل الحاسم رد فعل لخط آب؟ أم كانت بناءً على دراسة ميدانية ؟ وهل كان بإمكان الحزب استلام السلطة فعلاً أم إن المسألة للاستهلاك الداخلي، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية؟
29-   من كان مع "خطة العمل الحاسم" التي توليت فيها مسؤولية أساسية؟
30-   هل يمكن وصف حياة السجن حيث قضيت 10 سنوات بالكمال والتمام، بما لها وما عليها، ونقاط القوة فيها ونقاط الضعف؟
31-   قضيت نحو 6 سنوات في حياة الأنصار في الجبال الوعرة: هل يمكن ذكر نقاط القوّة ونقاط الضعف فيها؟ هل كانت ضرورية أم أنها مفروضة ولم يكن لها من مبرّر؟
32-   ماذا عن تظاهرة 1 أيار العام 1959 ورفع شعار "الحزب الشيوعي بالحكم": هل هناك تيار قيادي دعا إليها أم أن القيادة سارت خلف الجماهير بدلاً من قيادتها؟
وبكل الأحوال من المسؤول؟ وهل كانت المعالجة بمستوى المسؤولية؟ ألم يدفع الحزب الثمن باهظاً بسببها، خصوصاً باستنفار القوى الإمبريالية والقوى الرجعية والقومية وبالأخص استفزاز قاسم حليفنا؟
33-   ماذا عن مراكز القوى بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 داخل الحزب الشيوعي؟ هل صحيح أن الصراع بين يمين ويسار؟ ومن هم اليمين ومن هم اليسار بمصطلحات تلك الأيام؟
34-   يقول باقر إبراهيم: إن سلام عادل عاد من الدراسة في موسكو عن طريق البصرة سرّاً وبمساعدة سوفييتية، وأنه ومحمد صالح العبلي ذهبا لاستقباله حيث وصل على ظهر باخرة سوفييتية؟ ألم يكن انكشاف مسألة من هذا النوع تضع علامات استفهام على علاقاتنا الأممية وأن القوى الأخرى ستستغلها، خصوصاً وهي تتهمنا بأننا "عملاء موسكو"؟
35-   راجت إشاعات كثيرة حول استشهاد الرفيق سلام عادل، ولعلّها أكثر انتشاراً قيام محسن الشيخ راضي بالإشراف على تعذيبه عند اعتقاله، هل لديك معلومات وما هي أقرب الروايات إلى الواقع وكيف يمكن فحص دقتها؟ وكنت قد سألت الشيخ راضي عند زيارته لي في فندق فلسطين "الميرديان" (بغداد)، فقدّم رواية أخرى سأحاول نشرها؟ ماذا تقول؟ (وللعلم فرواية الشيخ راضي مختلفة تماماً عن رواية آرا خاجادور التي كنت قد دققتها مع آخرين لم يكونوا يميلون إلى روايته وقام أحدهم بالكتابة إليه).
36-   هل في نيّتك كشف المستور أو المسكوت عنه وأنت مسؤول عن أمن الحزب؟ وإلى متى ستقبض على الأسرار؟ مثلاً الاختراقات الأمنية، الاندساس، التواطؤات المباشرة وغير المباشرة، أموال الحزب وكيف تم التلاعب بها ومسؤولية من ولماذا تم السكوت عن ذلك؟ ومن هو المسؤول الأساسي عن سياسة التفريط؟
37-   كيف تقيّم العلاقة بالسوفييت، سياسياً، حزبياً، من خلال العلاقة مع KGB؟ هل علاقة الأخير هي الطاغية؟ ماذا تقول؟
38-   يقول كريم مروّة إن "بوناماريوف وسوسلوف" كانا وراء اتهام جورج حاوي الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني بالعمل لصالح المخابرات المركزية الأمريكية، وبالطبع كان الأمر بدعم من خالد بكداش، والسبب كما يراه هو معاقبة الحزب الشيوعي اللبناني على خط التجديد الذي اتخذه المؤتمر الثالث العام 1969 (الذي مثّل إرهاصاً أولياً للخروج على الوصفة السوفييتية)، ثم اتضح عدم صحة تلك الادّعاءات، بل كَذِبَها، لدرجة أنهم أسقطوها بكل هدوء واستقبلوا حاوي مع نيقولا شاوي مبدين حفاوة مبالغة، ألا يعني ذلك تدخلاً بالشؤون الداخلية لحزب شقيق والتحكّم بقياداته وسياساته، خصوصاً وأن الغالبية العظمى تمتثل لذلك، وهو الأمر الذي ساد في العلاقة مع الأحزاب في الدول الاشتراكية ومع أحزاب أخرى... كيف تقيّم ذلك؟
39-   ماذا قدّم جهاز أمن الحزب؟ ألم يستخدم في الكثير من الأوقات في دائرة الصراع الحزبي، بل أحياناً جهاز تجسّس على الشيوعيين.. كيف يمكن قراءة ذلك الآن؟
40-   من المسؤول من طرفنا عن أحداث الموصل (حركة الشواف 1959) وماذا عن الرسالة التي أبرزها حمزة سلمان الجبوري عضو اللجنة المركزية (ل.م.) المرسل إلى الموصل من طرف المكتب السياسي والتعليمات التي حملها معه، عند محاسبته؟
41-   هل يمكن الحديث عن محكمة الدملماجة: ما هي حدود المسؤولية؟ وكيف تصرّفنا إزاء ذلك؟ أي لماذا لم ندِن قتل 17 متهماً دون الرجوع إلى القضاء وبعد انتهاء المواجهات المباشرة؟ لماذا نبرّر حتى الآن مثل تلك الأعمال؟
42-   القوى الخارجية والإمبريالية والقوى القومية بدأت تحيك المؤامرات ضد حكم ثورة 14 تموز 1958، ألم يكن لنا دور في ذلك لاحتكارنا العمل السياسي والقمع الفكري الذي مارسناه ضد الآخرين، علماً بأننا لسنا في السلطة؟
43-   هل يمكن مراجعة ما حصل في الموصل برؤية انتقادية موضوعية، خصوصاً التحريض بعدها على إعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سرّي (وهما من قيادات الثورة) ولم يكونا مشتركين في حركة التمرّد الشوافية؟
44-   كيف يمكن تقييم دورنا في ما حصل في كركوك في 14 تموز العام 1959؟ وإذا كانت شركات النفط هي المسؤولة ، فما هو دورنا؟ وهل ما قمنا به كان صحيحاً؟ ولماذا لم تذكر الحقائق وحتى الرفيق عزيز محمد مسؤول الإقليم حينها والموجود في كركوك وقت حدوث المذبحة ضد التركمان ، تحدّث على نحو غامض عن أيادي خفية لا يعرف أحد شيئاً عنها وكأن هناك من جاء من كوكب آخر ليبدأ بإطلاق الرصاص وينهال بالرمي على التركمان في مجزرة ذهب ضحيتها العشرات، وهو ما دفع قاسم لاتهامنا بالفوضوية؟
45-   ألم يحن الوقت للاعتذار من أهل الموصل ومن التركمان على ما حصل؟ أترى في ذلك ضعفاً من جانبنا أم قوة لنا في مراجعة التجربة ونقد أنفسنا؟
46-   ظلّت قيادات الحزب على تاريخه المجيد تتأرجح بين اندفاعات يسارية وبين ارتدادات يمينية، وكانت التهم تكال الواحد ضد الآخر، وأحياناً هناك من ينتقل بين هذه وتلك؟ أتجد في ذلك ضعفاً في فهم التعاليم الماركسية وقصوراً في التأهيل النظري والمستوى العلمي أم أنانية ورغبة في التسيّد؟ ثم ألم يحن الوقت لقول ذلك؟
47-   لماذا كنت ضد خط آب (أغسطس) 1964 وهل كان الحزب قادراً على اتخاذ سياسة آخرى في ظروف الانكسار والهزيمة؟ أم لديك تبرير آخر؟
48-   كانت حيرة القواعد الحزبية كبيرة، فقد أسمينا حركة 17 تموز (يوليو) 1968 "بالانقلاب العسكري"، وبعدها أطلقنا عليه "التغيير الثوري"، ثم بدأنا بعد إبرام  الجبهة الوطنية في العام 1973 نقول إنها ثورة، وثورة عظيمة، ومن أهم ثورات العالم الثالث، معتبرين صدام كاسترو العراق، ألا يدلّ ذلك على سذاجة وسطحية وانتهازية ووصولية في اتخاذ المواقف؟
49-   من كان مندفعاً في تزويق الجبهة الوطنية ومن أصبح متطرفاً في وقت لاحق ضدها وضد حزب البعث؟ ألا يدل ذلك عن صبيانية يسارية وانتهازية سياسية وحزبية؟
50-   من كان وراء حملة "عسكرة الحزب" بعد انتهاء الجبهة الوطنية،أي حملة التجنيد الاجباري بالذهاب إلى كردستان؟
51-   كيف انتقلنا من تقييم حزب البعث من حزب تقدمي واتخذ اجراءات تقدمية على صعيد السياسة والاقتصاد وقوانين العمل والضمان جعلت نظامه في طليعة العالم الثالث إلى حزب فاشي ونظامه دكتاتورياً فاشياً؟ أليس في الأمر ثمّة خفّة وقصور نظر في الحالين؟
52-   لماذا حملنا السلاح في العام 1974 ضد الحركة الكردية (الجيب العميل كما كان النظام يسميها) وهي حركة حليفة على الرغم من تباين المواقف وتعارضها أحياناً؟ أليس في ذلك ممالئة للنظام وخطأً ستراتيجياً؟
53-   هل ترى نقاط ضعفنا القاتلة تتمركز في موضوع الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة؟ أي في مسألة استقلاليتنا وكيف تقيّم موقفنا من ذلك:
1.    أيام حكم قاسم
2.   خلال حكم الأخوين عارف وتجربة الاتحاد الاشتراكي
3.   خلال حكم البعث بعد 17 تموز 
4.   المشاركة بوزيرين في العام 1972
5.   الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية
6.   المشاركة في حكومتين (أحدهما في السليمانية والثانية في إربيل)
7.   التحالف مع الحركة الإسلامية بعد الاحتلال في إطار مجلس الحكم الانتقالي، الامتداد للمؤتمر الوطني العراقي.
8.   الموقف المائع من الحصار الدولي
54-   لماذا اندفعت قيادة الحزب ضد الحركة الإسلامية في العام 1977؟ أفي ذلك ثمن التحالف مع النظام، وماذا بقي من استقلاليتنا حينها؟
55-   ثم كيف نسير يداً بيد مع النظام لبناء الاشتراكية وهو من باشر إلى قص أجنحتنا بإجبارنا على حلّ منظماتنا الديمقراطية والجماهيرية : الطلبة والشبيبة والمرأة وغيرها. ومن كان مندفعاً بهذا الاتجاه ومن تحفظ عليه أو عارضه؟
56-   لماذا سكت الحزب عما سمّي محكمة الثورة 1973- 1978 والمحاكم الخاصة في فترة الجبهة؟ ألسنا شركاء بالمسؤولية؟
57-   هل كان موقفنا من الحرب العراقية – الإيرانية صحيحاً خارج نطاق تحالفاتنا الجديدة المباشرة وغير المباشرة: الحركة الكردية ، إيران وسوريا؟ أليس في ذلك إضعافاً لموقفنا وانفضاضاً من الناس عنّا؟
58-   رفعنا شعارات: إسقاط  النظام الدكتاتوري وإنهاء الحرب، ماذا كان صدى هذا الشعار في الداخل الذي نتغنّى به؟
59-   ماذا كان صدى شعار: إسقاط الدكتاتورية وإنهاء الحصار، أليست مثل هذه الشعارات برّانية وليست جوّانية؟ ولو كانت قيادة الحزب في الداخل في بغداد والمحافظات هل ستتخذ مثل هذه الشعارات؟
60-   ألم يكن ضياعاً للوقت والجهد مناقشات طويلة وإقصائية حول : أيهما أجدر: إسقاط الدكتاتورية أم إنهائها؟ وإسقاط النظام أولاً  أو وقف الحرب، وإنهاء الحصار أولاً أم تقديم إسقاط النظام، وأين الحلقة المركزية من سياساتنا؟ وما هي العلاقة بين الوطني والاجتماعي؟
61-   ألا تشعر إن قيادة الحزب بعد العام 1963 ضعيفة وبعض عناصرها خامل، بل هزيل، وقبله كانت منقسمة، وبعضها بعيد عن نبض الشارع، بسبب السجون والمنافي؟
62-   كنت أحد أركان التحضير للمؤتمر الرابع العام 1985 مع عزيز محمد وفخري كريم، هل أنت نادم على نتائجه رغم أنك أصبحت عضواً في المكتب السياسي أم أنه تم استغفالك؟ أم ماذا؟
63-   لماذا تأخرت في إعلان تخلّيك عن جماعة المؤتمر الرابع؟
64-   هل كنت تعوّل مرّة أخرى على عودة التحالف مع البعث العام 1989 بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وهو ما ذكرته عن البيان المحبوس؟ أليس في ذلك رهان جديد على ذات الحصان أم ثمة ظرف موضوعي؟
65-   هل كان بالإمكان تشكيل كيانية أخرى تضم جماعة باقر إبراهيم – عامر عبدالله، وجماعة المنبر، خصوصاً وأن المواقف بينكم أصبحت متقاربة؟ لماذا لم يحصل ذلك؟
66-   هل كنت مع رهان إرسال مجاميع شيوعية إلى الداخل؟ خصوصاً وأن غالبيتها الساحقة كانت يلقى القبض عليها وإذا كنت ضدّ ذلك لماذا لم تعلن رأيك؟
67-   ماذا عن تعذيب بعض الشيوعيين واستشهاد بعضهم في كردستان في بعض مقرّات الأنصار؟ كنت مسؤولاً فماذا تقول؟
68-   ماذا تقول عن الجماعة التي تسلّلت إلى الداخل وضمّت عمر علي الشيخ وزوجته بخشان محمد وعادل حبه وسليم إسماعيل وسيد هادي (أبو عادل السياسي) وحسّان عاكف حمودي.. ما الذي حصل وكيف تم اكتشاف المجموعة ولماذا لم تعتقل؟
69-   لماذا لم تتم محاسبات جدّية بعد أحداث بشتاشان ومن هو المسؤول عن مقتل أكثر من 80 رفيقاً، من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، وما هو دور القرارات الخاطئة التي اتخذناها، وخصوصاً في بشتاشان الثانية؟
70-   ماذا تعرف عن تعذيب الرفيق أحمد الناصري (أمين) واستشهاد الرفيق منتصر واضطرار سامي حركات إلى ترك القاعدة الأنصارية والتوجّه إلى بغداد والاستشهاد هناك. هل يمكن أن تفيد القارئ؟
71-   هل أغلق ملف بشتاشان ومتى؟ وبقرار من مَنْ؟ وماذا تقول لعوائل الضحايا؟
72-   نبرتك إزاء القيادة تغيّرت بعد الاحتلال العام 2003 على الرغم من الاتهامات التي حاولت توجيهها لك، على نحو معلن أو مستتر، هل الأمر يتعلّق بالهويّة الوطنية للحزب والموقف من الاحتلال والاتفاقية العراقية – الأمريكية أم لشعورك بأن التغيير والإصلاح الداخلي بات في خبر كان؟


ملاحظة: هذه هي الوجبة الأولى من الأسئلة وستصلك أسئلة لاحقة في ضوء إجاباتك ويمكن إرسال ما سيتوفر من إجابات أولاً بأول ، لكي يتم تحضيرها لإعادة القراءة والصياغة.


347
هل تستمر دبلوماسية "القوة الناعمة"؟

عبد الحسين شعبان

   أعلنت المحكمة الاتحادية  العليا أنها ستبتُّ في الدعاوى المرفوعة ضد مسؤولين أكراد بتهمة المشاركة في الاستفتاء على الانفصال، وذلك بعد قرارها بعدم قانونية إجراء الاستفتاء. ويأتي هذا التطور بعد رفض الحكومة الاتحادية إجراء حوار مع قيادة إقليم كردستان قبل إلغاء نتائج الاستفتاء، وهو ما أفادت به رئاسة حكومة الإقليم التي قالت: إن بغداد ترفض البدء في حوار مع إربيل لحلّ الملفّات الخلافية، لكن ذلك لم يمنع من إرسال الإقليم وفداً إلى  بغداد للقاء القيادات السياسية.
   ولعل ثمة عقبات كبيرة تواجه الموقف الكردي، أولها النقد الذي تعرّضت له قيادة إقليم كردستان لإصرارها على إجراء الاستفتاء وثانيها التصدّع الذي أصاب الوحدة الكردية بسبب الانقسام في مواقف الحركة الكردية وثالثها الأوراق التي تملكها بغداد وتستطيع اللعب بها، وهو ما لم تحسب له قيادة الإقليم حسابها . ولعلّ موقف حكومة الإقليم لا تُحسد عليه بسبب إصرار بغداد على تخفيض حصة الإقليم من الميزانية العامة من 17%  إلى 12.67% وهي ميزانية العام 2018 .
وقد تعزّزت ثقة بغداد بنفسها بعد النجاحات التي حققتها بالمعارك العسكرية، ولاسيّما في تحرير الموصل، وبعد تحرير قضاء القائم على الحدود العراقية- السورية وإخراج ما تبقّى من مقاتلين دواعش من راوه. تكون السلطات الاتحادية قد بسطت سيطرتها على كامل الأراضي العراقية التي كانت قد احتلّها داعش. وكانت بغداد قد طلبت عشية تحرير قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك من سلطات إقليم كردستان تسليمها إدارة المطارات والمنافذ الحدودية التي كانت عملياً تحت سيطرة قوات البيشمركة منذ احتلال العراق العام 2003 وباتفاق بعد العام 2005، إضافة إلى بعض حقول النفط والأراضي المتنازع عليها، وخصوصاً الأراضي التي قامت بتحريرها  من أيادي داعش.
وكانت محطة الاستفتاء الكردي في 25 سبتمبر/أيلول 2017 مفترق طرق بين الإقليم والحكومة الاتحادية، ولم تفلح المحاولات المتعدّدة في ثني إدارة  الإقليم من إلغاء الاستفتاء أو حتى تأجيل موعده، الأمر الذي عاظم من الأزمة المستفحلة أصلاً بين بغداد وأربيل وفي العراق عموماً، وهي أزمة حكم مستديمة، لدرجة أنها بعد احتلال داعش للموصل أصبحت البلاد كلّها على حافة الهاوية أو على شفير حفرة كما يقال.
وإذا كانت النتائج قد حُسمت حتى الآن لصالح بغداد، دستورياً وعسكرياً وقضائياً، إضافة إلى الجوانب الاقتصادية والتجارية والنقل والمواصلات وغيرها، وكل ذلك بدعم إقليمي إيراني وتركي، وتأييد دولي إلى حدود غير قليلة، فإن تغيير موازيين القوى دفع بغداد للمطالبة من الكرد اعترافاً صريحاً وواضحاً بشأن إلغاء الاستفتاء والنتائج المترتبة عليه قبل أي حديث عن حوار حول المشكلات العالقة ، ولاسيّما بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم قانونية إجرائه، بل إن بغداد تريد تنازلاً أكبر من الإقليم باتجاه تأكيده الالتزام بوحدة العراق، خصوصاً وإن الدستور هو الضامن لها حسب نصوصه، ولاسيّما المادة الأولى منه.
فما هي التوقّعات بشأن الصراع بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم؟ وماذا تريد بغداد من إربيل، وهذه الأخيرة من بغداد؟ وإذا كان الضغط الأمريكي قد دفع الطرفين إلى الجلوس إلى طاولة مفاوضات بشأن القضايا الفنية والتداخلات الميدانية،  فإنه لم ينجح حتى الآن سياسياً في إجراء حوار للتوصّل إلى توافق بخصوص المشكلات القائمة وبعضها معتّقٌ، وخصوصاً مشكلة كركوك المزمنة والمستعصية، وذلك لأن بغداد تضع شروطاً مسبقة أولها هو إبطال مفعول الاستفتاء، في حين أن الإقليم وإنْ تراجع، فإنه لا يريد إعطاء مثل هذا المستند إلى بغداد، أي لا يرغب التوقيع على ورقة بيضاء يمكن استخدامها ضده في المستقبل، سيّما وأنها تتعلّق بالحلم الكردي في إقامة دولة، حتى وإن أخطأ التقدير والتوقيت والتكتيك، وهو يحاول بعد تغيّر موازين القوى وخيبة الأمل والمرارة من القوى الدولية والإقليمية، أن يناور ويداور، عسى أن يتمكن من تأجيل البت في نتائجه لبضعة سنوات أخرى.
ومع ذلك فلم تتوقف "دبلوماسية الهاتف" التي تحاول التهدئة، ولاسيّما في المناطق التي تحتشد فيها القوات الاتحادية وقوات البيشمركة ، وهناك مسؤولون حكوميون وآخرون غير مباشرين، منخرطون في التهيئة للمفاوضات الخلفية ، على أمل أن ينعقد الحوار رسمياً، خصوصاً بتحلحل بعض المواقف الكردية، وهو ما أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز.
ولم يعد بعد صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا أمام الإقليم سوى الإقرار به، وإلاّ فإن رفضه سيتسبب بإشكالات جديدة قد لا تكون كردستان قادرة على مواجهتها أو تحمّل تبعاتها بعد إجراءات بغداد التقييدية،  علماً بأن المحكمة قرّرت عدم  قانونية إجراء الاستفتاء طبقاً لتفسيرها للمادة الأولى من الدستور التي تنصّ على "أن جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق".
وتدرك حكومة الإقليم، ولاسيّما  بعد استقالة رئيس الإقليم مسعود البارزاني في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري أن ليس بإمكانها المضي في طريق الجفاء والافتراق مع بغداد، ، ولذلك سارعت للتعبير عن احترامها لقرار المحكمة الاتحادية، وأكّدت إن ذلك يمكن أن يكون أساساً للبدء بحوار وطني شامل لحل الخلافات الدستورية بأكملها.
وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد أكّد أن لا حوار قبل تسليم المنافذ الحدودية  جميعها والمطارات والانسحاب من الأراضي المتنازع عليها لبسط قوات الحكومة الاتحادية كامل سلطتها، وجاء مثل هذا التصريح مؤخراً إثر لقائه مع رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق يان كوبيش، الذي بحث معه الإجراءات الحكومية، مؤكداً على ثوابت الحكومة الاتحادية التي هي في الوقت نفسه لصالح المواطنين الكرد. جدير بالذكر إن القوات الاتحادية من جيش وشرطة اتحادية وقوات مكافحة الإرهاب إلى جانب الحشد الشعبي كانت قد دخلت كركوك والمناطق المتنازع عليها يوم 16/10/2017.
لقد اضطرّ إقليم كردستان إلى التراجع عن موقفه المتشدّد قبيل اندلاع الأزمة، لاسيّما حين انتشرت قوات الحكومة الاتحادية، والأمر يعود إلى أن بغداد مارست سياسة مرنة من جهة وصلبة من جهة أخرى، وهي "دبلوماسية القوة الناعمة"، خصوصاً وقد دعمت إجراءاتها بنصوص دستورية وتطبيقات قضائية، وساعد في ذلك الخلافات الحادة بين الأحزاب السياسية الكردية وخصوصاً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) وكتلة كوران (التغيير) والجماعة الإسلامية وفريق من الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، وبسبب عدم وجود موقف كردي موحد اضطرّت قوات البيشمركة إلى إخلاء مواقعها للجيش العراقي، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحادّة لامتناع بغداد عن دفع الرواتب قبل تسديد واردات الحقول النفطية إليها.
ولعبت ظروف الحرب مع داعش وعبء وجود ملايين اللاجئين العرب، دورها في اختلال موازين القوى لصالح بغداد التي بدت موحدة من جانب الشيعية السياسية الحاكمة والسنّية السياسية المشاركة ، كما حصلت على دعم إقليمي حين رفضت كل من إيران وتركيا، إضافة إلى سوريا التعامل مع الإقليم خارج موافقة السلطة الاتحادية، ولذلك لم يبق أمامه سوى المفاوضات حتى وإن تضمنت بعض التنازلات، تلك التي تريدها بغداد صريحة وواضحة.
وثمة مشكلات أخرى على هذا الصعيد ، خصوصاً وأن عدداً من النواب الكرد يخضعون للمساءلة القانونية، فكيف يمكن الوصول بالحوار إلى شاطئ السلام في حين إن القضاء يتحرّك لملاحقة النواب الأكراد الذين صوتوا لصالح الاستفتاء ، ولهذا فإن تشدّداً جديداً قد يرافق العلاقة بين بغداد وإربيل، وهو ما دعا رؤوساء الكتل الكردية إلى الاجتماع والتلويح بالانسحاب من العملية السياسية، وهو خيار مفتوح حسب ما تم التعبير عنه، وقد يحتاج الأمر إلى صفقة سياسية على غرار الصفقة التي تمت بين البارزاني ونوري المالكي عشية قبول الأول بتجديد ولاية ثانية للمالكي.
يذكر أن 14 نائباً كردياً في مجلس النواب العراقي يواجهون حكماً بالإعدام لمشاركتهم في استفتاء الانفصال مؤخراً، وقال رئيس كتلة الاتحاد الإسلامي الكردستاني في البرلمان العراقي مثنى أمين وهو أحد هؤلاء النواب الذين رفعت ضدهم دعاوى قضائية لمشاركتهم في الاستفتاء "إنهم يريدون محاكمتنا وفقاً للمادة 156 من قانون العقوبات العراقي لأننا قمنا بالإدلاء بأصواتنا بطريقة ديمقراطية ومدنية لصالح الاستقلال كبقية الكرد.
وتنص المادة 156 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 على أنه " يعاقب بالإعدام من ارتكب عمداً فعلاً بقصد المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها وكان هذا الفعل من شأنه أن يؤدي إلى ذلك" لكن هذه المادة ألغي العمل بها في إقليم كردستان بموجب القانون رقم 21 لسنة 2003، وتلك إشكالية دستورية وقانونية أخرى، تواجه نصوص الدستور العراقي الذي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة لاحتوائه على الكثير من الألغام، فضلاً عن تنازع الصلاحيات بين الإقليم والسلطة الاتحادية،إضافة إلى صيغة "المكونات" التي اعتمدها الدستور ووردت في نصوصه ثماني مرّاتعلى حساب فكرة المواطنة ، وليس تلك سوى المحاصصة الطائفية - الإثنية، التي كانت سبباً أساسياً في أزمة الحكم في العراق، ناهيك عن علاقة البيشمركة (كحرس للإقليم) في إطار القوات المسلحة العراقية، وازداد الأمر تعقيداً بتداخل ذلك مع قوات الحشد الشعبي بعد هيمنة داعش على الموصل.
إذا كانت الدبلوماسية الناعمة التي اعتمدتها بغداد بخصوص  الاستفتاء، فهل ستستمر بها؟ وهل ستحاول إدارة الإقليم هي الأخرى التمسك بها للوصول إلى حلول ممكنة وعملية؟ وإلاّ فإن حافة الهاوية ينتظر العلاقة المهزوزة والضعيفة الثقة بين بغداد وإربيل.



348
«ذاكرة مياه المحيط».. التنوّع والتسامح
                     
عبد الحسين شعبان

«يموت ببطء.. من لا يعرف كيفية الاهتداء بفضل عينيه»، مقطع من قصيدة للشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي تثار اليوم أسئلة جديدة حول أسباب وفاته في 23 أيلول (سبتمبر) 1973 وبعد أيام من حصول الانقلاب العسكري ضد نظام الزعيم الاشتراكي سلفادور أليندي والذي قاده الجنرال بينوشيه، وتم تدبيره من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
في النظر يتولّد الإحساس الأول، أي ما أن تقع العين على الصورة حتى يتكوّن الانطباع الأولي من المُشاهدة، سواء كان شعوراً بالجمال أو بالقبح، وسواء كان الفعل مُفرحاً أو مُحزناً ودليل خير أو إيحاء شرّ، فكيف إذا مرّ شريط كامل لفيلم سينمائي يعكس صورة من صور الحياة، بل تواصل حيّ معها؟.
وإذا كانت «الأذن تعشقُ قبل العين أحياناً»، حسب الشاعر بشار بن برد، فإن الصورة هي لغة بصرية تفهمها العين وتلتقطها بسرعة خاطفة لتحوّلها إلى الدماغ الذي يصدر أوامره ليتأتّى حكم القلب عليها. والصوت قد يكون صورة حسّية ومتخيّلة يصل إلى الأذن فالدماغ ومنه إلى القلب، حسب صاحب الفلسفة الحسيّة لودفيج فيورباخ.
في الناظور، المدينة المغربية الشمالية الجميلة، حيث الشمس صافية والطقس خريفي ودافئ، التأمت تظاهرة سينمائية فنّية وثقافية كبرى، وعلى ضفاف بحيرة مارتشيكا انتصبت خيمة كبيرة لعرض أفلام وفعاليات «المهرجان السينمائي العالمي للذاكرة المشتركة» والموسوم هذا العام «ذاكرة مياه المحيط»، حيث تحوّلت المدينة بفضله إلى لوحة فنية وملوّنة وحيوية لمنطقة الريف الكبير، وهي تذكّر بعبد الكريم الخطابي، قائد ثورة الريف العام 1925، ضد الاستعمار الإسباني.
كانت الدورات الخمس قد بدأت بضفتي البحر المتوسط، فالدورة الأولى كانت بعنوان «الذاكرة والتاريخ في العلاقات المغربية - الإسبانية (2012)»، ثم جاءت الدورة الثانية لتوسم ب «الهجرة وحقوق الإنسان والتعدّد الثقافي» (2013)، أما الدورة الثالثة فحملت عنوان «السينما وأسئلة المتوسط» (2014)، وركّزت الدورة الرابعة على «إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط» (2015)، وكان شعار الدورة الخامسة «المتوسط ذاكرة العالم» (2016)، وجميعها نظّمت في مدينة الناظور التي تشهد خلال انعقاد دورات مهرجان السينما الدولي، عرساً جماعياً سنوياً تظلّ تعيشه بحميمية وشوق.
وكان الهدف من اختيار شعار الدورة السادسة «ذاكرة مياه المحيط»، هو الرغبة في توسيع دائرة الاهتمام في مناطق مختلفة من العالم، حيث تم اختيار الهند لتكريمها من خلال «السينما الهندية» التي غذّت المخيّلة الجماعية العربية لسنوات طويلة بمنجز فني كبير، وصنعت نجوماً عالميين لسينما بوليود تضاهي سينما هوليوود، مثل شاروخان وأمتياب باشان وكارينا كابور وإيشوريا رآي وآخرين.
كما شاركت هذا العام «مؤسسة الثقافات الثلاث» في تقديم جائزة باسمها أيضاً، إضافة إلى جائزة الجهة المنظمة «مؤسسة الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلام». وامتاز الحضور السينمائي والثقافي بمشاركة مكثّفة من دول أمريكا اللاتينية التي كانت لافتة، فشاركت بعض الأفلام من دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأورجواي والمكسيك وبيرو وكولومبيا والدومينيكان وغيرها، كما كان الحضور الأوروبي متميزاً، ولاسيّما من فرنسا وإسبانيا واليونان وبلغاريا وبولونيا وغيرها، مع حضور عربي وبالطبع، مشاركة مغربية ملحوظة ووازنة من فنانين وأدباء وأكاديميين.
وبقدر اختيار «ذاكرة مياه المحيط» عنواناً للمهرجان في دورته الحالية، فإن البحر المتوسط بماضيه وحاضره ومستقبله كان حاضراً بقوة أيضاً، وهو ما يشكّل خلفية لدائرة نقاش وتفكير رحبة تغني الذاكرة وتعطي للمشتركات حقها، لاسيّما بفتح آفاق جديدة.
من أسئلة المهرجان المهمة التي طرحها عدد من الأفلام الوثائقية والأفلام الروائية الطويلة التي بلغت 17 فيلماً، موضوع قبول الآخر واحترام التنوّع والتسامح واللّاعنف واحترام حقوق الإنسان، ولاسيّما حقوق المرأة ونبذ التعصّب والتطرّف والإرهاب، وتأكيد المشترك الإنساني بالانفتاح على الغير ومدّ جسور التواصل بين الثقافات، ولاسيّما من خلال القيم الجمالية، ذات الأبعاد الرمزية والإيحائية التي يتم التعبير عنها بشكل سردي ومضمون دلالي إنساني.
وشهدت أيام المهرجان، فعاليات مختلفة فنيّة وثقافية متنوّعة، من غناء ورقص ومعارض للفنون التشكيلية ودورات تدريب على التصوير الفوتوغرافي وندوات وحوارات، كما مُنحت جوائز عديدة لأفضل سيناريو وأفضل ممثلة وممثل، إضافة إلى جائزتين رئيسيتين، حيث فاز فيلم وثائقي بجائزة الذاكرة المشتركة للمخرجة الكولومبية ليزيت ليموني Lizatte Lemonie بعنوان Amnesthesie «أمنستيزيا»، كما فاز بجائزة الثقافات الثلاث الفيلم الروائي الطويل للمخرجين مانو هوريو وخوسي هركيتا، وهو إنتاج مشترك إسباني- مغربي والموسوم La fabulosa Casablanca (كازابلانكا الرائعة).
السينما بقدر ما هي أداة تعبير ثقافي وفكري وفلسفي، فهي أداة إمتاع وجمال وإحساس، وبقدر ما تخاطب القلوب فإنها تخاطب العقول لاسيّما بإثارة أسئلة في بطن أسئلة، لأنها محاكاة للحياة الواقعية والمتخيّلة المتغيّرة والمتجدّدة، والتي تستمر في بحث دائم عن الحقيقة والجمال والخير والقيم الإنسانية في صراع مع القيم النقيضة، وهي جوهر الصراع الكوني على مدى التاريخ.


drhussainshaban21@gmail.com




349
العراق وتوازن القوى بين الاضطرار والاختيار !!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
رداً على دعوة رئيس وزراء إقليم كردستان نجيرفان البارزاني إلى حوار جدّي مع بغداد لحلّ المشكلات، قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي: أنه يطالب سلطات الإقليم بإعلان الالتزام بعدم السعي للانفصال عن العراق، وذلك طبقاً لقرار أصدرته المحكمة الاتحادية العليا أكّدت فيه عدم جواز انفصال أي إقليم أو محافظة أو إدارة محلية عن البلاد، استناداً إلى أحكام الدستور.
وجاء قرار المحكمة بناءً على طلب من مجلس الوزراء الاتحادي بتفسير المادة الأولى من الدستور التي تنص على أن " جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ونظام جمهوري نيابي برلماني ديمقراطي". وخلصت المحكمة إلى أن هذه المادة والمواد الدستورية الأخرى ذات العلاقة تؤكد "وحدة العراق" مضيفة أن المادة 109 من الدستور: تُلزم السلطات الاتحادية أيضاً بالمحافظة على هذه الوحدة . علماً بأن قرار المحكمة المذكور كان قد صدر بموافقة 6 أعضاء (أغلبية ) ومعارضة 3 أعضاء.
ويأتي قرار المحكمة الاتحادية العليا بعد أسابيع من إجراء سلطات الإقليم، الاستفتاء في محافظات كردستان (إربيل والسليمانية ودهوك) إضافة إلى حلبجة ، كما شمل المناطق التي سمّيت في الدستور بـ" المتنازع عليها" ، وكانت قوات البيشمركة قد وضعت اليد عليها بعد تحريرها من أيادي تنظيم الدولة الإسلامية " داعش" عقب احتلال محافظة الموصل 10 يونيو (حزيران) 2014 والتمدّد إلى محافظتي صلاح الدين والأنبار، إضافة إلى أجزاء من محافظتي كركوك وديالى.
وكانت الاحتكاكات قد وصلت مرحلة منذرة بالصدام بُعيد رفع علم كردستان على الدوائر الرسمية العراقية، بناء على قرار من محافظ كركوك نجم الدين كريم، الذي كانت إقالته إشارة أولى من جانب بغداد باستعادة المناطق المتنازع عليها والمنافذ الحدودية وحقول النفط والمطارات، لتصبح بيد السلطة الاتحادية حسبما ينصّ عليه الدستور.
إن دعوة نجيرفان البارزاني إلى حوار جدي مع السلطات الاتحادية، لبحث جميع المشاكل في ضوء الدستور العراقي، وحل الخلافات والقضايا العالقة، مع تأكيد استعداده للتعاون معها، لصرف رواتب موظفي الإقليم ، هي خطوة جديدة بعد استعادة  للتعاون معها، لصرف رواتب موظفي  الإقليم، هي جديدة استعادة الحكومة الاتحادية المناطق التي سيطرت عليها قوات البيشمركة بعد احتلال داعش للموصل أو تلك التي تمدّدت فيها بعد احتلال العراق العام 2003، علماً بأن بغداد ظلّت تغضّ النظر عنها، أو أنها دخلت في إطار مساومات غير مبدئية مع حكومة المالكي بالتحديد قبل هذا التاريخ. وكان نجيرفان البارزاني قد عبّر عن رغبته في الحوار بعد أن عرض أوضاع الإقليم التي قال عنها أنه " في مرحلة حسّاسة تتطلّب وحدة الصف، كما إن المشاكل لا تحلّ بالقوّة العسكرية".
وكانت موازيين القوى قد تغيّرت، فبعد الحديث عن "حدود الدم" ورفض أي مقترح عن تأجيل أو إلغاء الاستفتاء أو نتائجه، بدأت القيادات الكردية الكلام مجدداً عن الحوار والاستعداد لتأجيل نتائج الاستفتاء، علماً بأن مثل هذا الإجراء لم يكن "برسم التنفيذ" كما يُقال، وأنه لا يعني سوى الرغبة في معرفة رأي الشعب الكردي، وتحويلها لاحقاً من حلم مشروع إلى تطبيق حقوقي، يتّخذ شكلاً قانونياً، لكن هذا الأخير ليس قراراً انفرادياً، وإنما هو قرار يتعلق بمصير ومستقبل الدولة العراقية، حيث يقتضي الأمر تفاهمات جديدة، لاسيّما إذا أريد إقامة كيان جديد ينشطر عنها، فضلاً عن ذلك، فالأمر له علاقة بدول الإقليم، حيث عارضته بشدّة كل من طهران وأنقرة، وحتى دمشق المشغولة بهمّها الداخلي، فإنها حذّرت من خطوة الانفصال لما لها من تأثير جيو سياسي سيشمل دول الإقليم التي تعاني من مشكلة كردية مستمرة، بل إن أوضاع كرد العراق، ولاسيّما في السنوات المنصرمة، لا يمكن مقارنتها بنظرائهم من دول الإقليم من حيث الحقوق والحرّيات والمشاركة في إدارة الحكم وسياساته، إضافة إلى الشراكة في الثروة والقرار السيادي.
إن القيادات الكردية، التي استمرّت موحّدة من حيث الظاهر حول قرار إجراء الاستفتاء، بدت مختلفة، بل ومتعارضة بعد إجرائه، خصوصاً وإن الموقف من قرارات حكومة بغداد، بشأن استعادة سيادة السلطة الاتحادية  على كركوك والمناطق المتنازع عليها، بما فيها المطارات والمنافذ الحدودية وحقول النفط، كان متبايناً، وهو الأمر الذي دفع رئيس الإقليم السابق مسعود البارزاني، إلى اتهام طرف كردي (يقصد جناح أساسي في الاتحاد الوطني الكردستاني) بالخيانة، لموافقته على عدم المواجهة مع القوات العسكرية الاتحادية وإخلائه المناطق المذكورة دون أية مجابهات.
لقد أدرك عدد من القيادات الكردية إن بغداد جادة في تنفيذ قراراتها، بل وعازمة على "تطبيق الدستور " كما قالت، لفرض نفسها كقوة موحّدة لإدارة الحكومة، حيث توافقت الشيعية السياسية الحاكمة مع السنّية السياسية المشاركة ، وفي ظل دعم شعبي وبتأييد طهران وأنقرة، إضافة إلى تحفظات المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة التي كان لوم مسعود البارزاني شديدا لها، لأنه يعتبر الأكراد حلفائها، وإذا بها تتركهم في محنة، بل تخذلهم في ظرف عصيب، خصوصاً وأن قراءتهم للأحداث كانت خاطئة.
لذلك أخذت تتكرّر الحكمة الكردية القديمة التي تقول " لا صديق للأكراد سوى الجبال" وقد ردّدها بعض القادة الكرد بمرارة، وهو ما كان ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، وأقصد بذلك "دكتاتورية الجغرافيا السياسية " الوعرة التي طالما حاصرت الأكراد وقطعت عليهم طريق الأمل في تحقيق أحلامهم تاريخياً .
إن قرار الاستقلال هو قرار في غاية الخطورة وكان ينبغي التفكير به ملياً، بغض النظر عن أحقية الشعب الكردي في تقرير مصيره، لكن المسألة لها علاقة بتوازن القوى Balance of power ، وهذه تكبح وتحدّ من تحقيق حلمهم المشروع لأنها تتعامل مع الواقع، بما فيه من عُقد وإشكالات وتحدّيات ومصالح.
ومن أهم القضايا التي تتطلب تفاهماً جديداً لتوازن القوى الجديد المعابر الحدودية مع تركيا وإيران، وكان الاتفاق بشأنها قد تم مبدئياً، على تسليمها وإدارتها من قبل الحكومة الاتحادية، إلاّ أن هناك تلكؤًا قد حصل وهذا أدى إلى عودة التوتر من جديد، بعد تأخّر إدارة الإقليم من تسليمها، الأمر الذي قد ينذر باستئناف العمليات العسكرية وإعادة انتشار الجيش العراقي.
وسبب التأخير يعود إلى عدم ثقة قيادة الإقليم بالسلطة الاتحادية وخشيتها من احتمال تمدّدها وجعلها الإقليم في وضع حرج ولا يُحسد عليه، بعد أن كان الإقليم هو الذي يحاول قضم الأرض لمصلحته، وخصوصاً في المناطق التي تم تحريرها من داعش.
وكانت قيادة الإقليم قد أبدت استعدادها بقبول " إشراف" السلطة الاتحادية على الحدود ، لكنها تحفّظت بشأن سيطرتها على المعابر المؤدية إلى إقليم كردستان، في حين تعتقد بغداد إن الدعوة للحوار قبل إلغاء الاستفتاء ونتائجه وتأكيد عدم الرغبة في الانفصال، تستهدف كسب الوقت وتعزيز الدفاعات الكردية. وكانت الحكومة العراقية قد اتهمت الإقليم بقيامه تحريك قواته وبناء دفاعات جديدة لعرقلة انتشار القوات الاتحادية، خلال فترة التفاوض.
وشدّدت بغداد على تأمين سيطرتها على المناطق المتنازع عليها والحدود. وتشعر بغداد بأنها أكثر قوة ونفوذاً وتأييداً داخلياً وخارجياً من قبل، خصوصاً في ظلّ تطوّرات الموقف الكردي الداخلي وتصدّع الوحدة الوطنية الكردية ما بعد الاستفتاء، لاسيّما ما حصل من اعتداءات على مقرّات بعض الأحزاب الكردية، واقتحام مقر البرلمان واستخدام العنف ضد بعض الإعلاميين ومحاولات إحداث فوضى واضطرابات في إربيل ودهوك. وعلى الرغم من تنحّي رئيس الإقليم مسعود البارزاني، فإن تأثيره على المشهد الكردي لا يزال كبيراً، فهو يمثل المرجعية السياسية (قيادة فوق قيادات الإقليم الحكومية) إضافة إلى كونه رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني أقدم وأقوى الأحزاب الكردية وأكثرها انسجاماً.
ولعلّ آخر تطور في محاولة لإحداث توازن جديد للقوى، هو اقتراح قيادة الإقليم "نشر قوات مشتركة" من السلطة الاتحادية ومن قيادة البيشمركة عند معبر حدودي استراتيجي مع تركيا بمشاركة قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، بهدف إيجاد تسوية سلمية وإنهاء احتمالات المواجهة العسكرية، لكن هذا الاقتراح لقي إهمالاً من جانب بغداد التي قالت إن الهدف منه هو المناورة، وكان هذا هو جزء من اقتراح ضمّ خمس نقاط" لنزع فتيل الأزمة"، وكانت قد تقدّمت به إدارة الإقليم إلى الحكومة الاتحادية يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول ) المنصرم وتضمن وقف إطلاق النار واستمرار التعاون في التصدّي لداعش وانتشاراً مشتركاً في المناطق المتنازع عليها... الخ.
وإذا كانت المفاوضات قد بدأت فيما يتعلق بالجوانب الفنية بناء على توصية واقتراح أمريكي، فإن القضايا السياسية لن تطرح للنقاش حسب العبادي ما لم يتراجع الأكراد عن الاستفتاء. جدير بالذكر إن سياسة العبادي وإدارته للأزمة نجحت حتى الآن ، خصوصاً وقد استخدم كل ما لديه من قوة ناعمة، وتعامل بثقة كبيرة وهدوء، حيث حاز على تأييد الداخل والخارج، الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين القوى اختياراً واضطراراً في آن وهو ما ينبغي قراءته عند التفكير بحل شامل للأزمة الراهنة.


350
كردستان وتداعيات ما بعد الاستفتاء
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   أعلن مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان عن تنحيّه وعدم ترشيح نفسه وطلب من البرلمان توزيع صلاحياته على سلطات الإقليم. وكانت ولايته قد انتهت بعد تمديدها لمرتين لمدة عامين لكل منهما، وهي الولاية الثانية، حيث حكم كردستان منذ العام 2005 حين انتخب رئيساً في البرلمان، ثم فاز بانتخابات رئاسية مباشرة في العام 2009 وحصل على 69% من أصوات الناخبين لتولّي دورة ثانية، انتهت في العام 2013.
   وكان من المقرّر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في إقليم كردستان مطلع الشهر الجاري (نوفمبر/تشرين الثاني) بانتهاء رئاسة البارزاني، لكنها تأجّلت لثمانية أشهر بسبب عدم تقديم الأطراف السياسية لمرشحيها في ظل الأزمة الطاحنة سياسياً وعسكرياً ومالياً، تلك التي يعيشها الإقليم، ولاسيّما في صراعه مع الحكومة الإتحادية، فضلاً عن مشكلاته الداخلية بتصدّع الوحدة الوطنية الكردية.
   وصادق البرلمان على قرار توزيع الصلاحيات بين الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية بموافقة الغالبية من أعضائه، كما أعلن إلغاء ديوان رئاسة الإقليم، وسيكون من مهمات حكومة الإقليم التي يترأسها ابن شقيقه ادريس، نجيرفان البارزاني، مهمة المصالحة مع الحكومة العراقية وإدارة مفاوضات مع الدول المجاورة ومع أحزاب كردية كانت قد خالفت إجراء الاستفتاء أو تحفّظت عليه، إضافة إلى تبعات ما بعد استعادة كركوك من جانب القوات الاتحادية، وهي مهمات ثقيلة وتحمل عقداً بعضها معتّق، ناهيك عن تداخلاتها الإقليمية والدولية.
   وكان مسعود البارزاني قد ألقى كلمة مؤثرة تنضح مرارة وخيبة أمل، إضافة إلى دروس بليغة،  منها ما أسماه "الخيانة العظمى" التي بسببها انسحبت قوات البيشمركة من كركوك في إشارة إلى جناح في الاتحاد الوطني الكردستاني كان قد تفاوض مع قائد القدس افيراني قاسم سليماني على عدم مواجهته قوات البيشمركة، القوات الاتحادية في إطار صفقة سياسية، ومنها خذلانه من المجتمع الدولي، ولاسيّما من الولايات المتحدة، التي كانت قد أبدت تحفّظها على إجراء الاستفتاء، فضلاً عن توقيته، خصوصاً وإن المجابهة مع داعش لم تكن قد انتهت بعد، وهي لا تزال مستمرّة حتى الآن، وتعتبرها واشنطن الأولوية الأساسية في العراق، التي لا يتقدّم شيئاً عليها، ناهيك عن أنها تريد التعامل مع العراق ككل وليس جزءًا منه.
   ويبدو إن قيادة الإقليم كانت تراهن على "الأمر الواقع"، حتى أن هوشيار الزيباري وزير خارجية العراق لفترة زادت على عقد ونيّف من الزمان، كان قد صرّح بأن ما بعد الاستفتاء سيكون شيئاً آخر، لا يشبه ما قبله، وإن عشرات الدول ستكون مؤيدة له إنْ لم تكن قد وافقت على الأمر الواقع، لكن مثل هذه التقديرات وربما بعض النصائح المباشرة أو غير المباشرة  التي كانت تأتي من مستشارين محليين وأجانب بعضهم مسؤولين سابقين، كانت بعيدة كل البُعد عن الواقع، خصوصاً في ظلّ إصرار عراقي غير مسبوق، حيث توحّدت الشيعية السياسية الحاكمة مع السنيّة السياسية المشاركة في الحكم على موقف واحد.
   يضاف إلى ذلك ردود فعل عربية عديدة داخلياً وعلى مستوى الإقليم، فضلاً عن ردّ فعل شديد من جانب إيران وتركيا وهما الدولتان اللتان تواجهان مشكلة كردية حادة إضافة إلى سوريا التي بدأت الورقة الكردية تتحرّك فيها على نحو مختلف منذ العام 2011،  وخصوصاً الدور العسكري  الذي تقوم به حالياً باسم " قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أمريكياً، كما إن الدور الذي يقوم به حزب العمال الكردستاني PKK في كل من سوريا والعراق، أصبح مُقلقاً عراقياً وعربياً وبشكل خاص تركياً وإيرانياً.
   لعلّ الوضع الذي وجد فيه نفسه مسعود البارزاني وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني هو أقرب إلى العام 1975 وبعد اتفاقية 6 مارس (آذار) بين شاه إيران محمد رضا بهلوي وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها، حيث لم يقف الحلفاء إلى جانب الزعيم التاريخي الملّا مصطفى البارزاني، وهو ما عبّر عنه بمرارة بُعيد  انتهاء الحركة المسلحة واضطراره اللجوء إلى إيران بعد حرب استمرّت لعام كامل.
   وكان البارازاني الكبير شديد الغضب وكثير العتب إزاء مواقف الولايات المتحدة التي تخلّت عن الحركة الكردية، إضافة إلى شاه إيران، وحاول كتابة رسائل تضجّ بالشكوى والألم إلى هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة حينها، وفي ذلك أحد دروس الكرد الذين لم يبق من صديق لهم وقت الضيق سوى الجبال، حسب حكمة كردية قديمة يردّدها عدد من الزعماء الكرد، خصوصاً في المنعطفات التاريخية، الأمر الذي ينبغي وضعه في الحسبان دائماً، في ظل دكتاتورية الجغرافيا السياسية، تلك التي تحيط كردستان العراق من جميع جوانبه ولا سبيل لتغييرها وتحقيق الحلم الكردي، إلّا بإجراء تغييرات جوهرية في عموم المنطقة.
   وخيبة أمل مسعود البارزاني أكثر شدّة من أبيه، لأن خسارة الأول المعركة كانت بسبب خذلان العامل الخارجي  أساساً وتخلّيه عن دعمه الأمر الذي سبّب اختلالاً جوهرياً في ميزان القوى العسكري، في حين إن خيبة أمل الإبن نجمت من غياب الوحدة الوطنية، سواء بمواقف كتلة كوران (التغيير) أو الحركة الإسلامية أو أطراف من الاتحاد الوطني الكردستاني التي تسبّبت في انسحاب غير متفق عليه أو لم يتم التوافق بشأنه، كما يفصح قرار تنحية ورسالته التي وجهها إلى العالم بهذه المناسبة .
   بعد إعلان مسعود البارزاني انسحابه من رئاسة الإقليم قال " أنا مسعود البارزاني، أحد أعضاء البيشمركة وسأستمر في مساعدة شعبي في نضاله نحو الاستقلال" ، وعلى أثر ذلك اجتمع برلمان كردستان وقرر قبول الاستقالة وكان قد تردد عشيّة هذا القرار، تشكيل قيادة سياسية عليا، سيكون من مهماتها الإبقاء على "امتيازات" الرئيس البارزاني بصفته مرجعية عليا كانت قد تقرّرت باجتماع الأحزاب الكردستانية (المتوافقة معه)، وسيكون من مهماتها مقابلة الدبلوماسيين الأجانب وعدم اتخاذ قرارات تتعلّق بالقضايا الحساسة من جانب الحكومة دون موافقتها.
    ولعل ذلك يعطيها حضوراً سياسياً أقرب إلى فكرة "المرشد الأعلى" أو القائد الفعلي أو ما سمّاه منتقدوه " مجلس قيادة الثورة"، حيث سيبقى خارج دائرة العمل التنفيذي الحكومي اليومي والمسلكي، علماً بأن أحد أقطاب الاتحاد الوطني الكردستاني (نائب الأمين العام - كوسرت رسول) سيكون نائباً له في هذا الموقع الجديد، حتى وأن كان الأمر مؤقتاً، وذلك كي لا يحصل " فراغ دستوري" كما ورد في رسالته الموجهة للبرلمان.
   لقد طوى مسعود البارزاني يوم الأحد 29 أكتوبر(تشرين الأول) 2017 صفحة من صفحات تاريخ كردستان الأكثر إثارة وحساسية، لاسيّما على صعيد تمتّع كردستان بالفيدرالية واعتبار الكرد شريكاً أساسياً في صياغة الدستور وفي إشغال مناصب عليا في الدولة العراقية بينها رئاسة الجمهورية لثلاث دورات ، وكان يأمل أن يصل بالإقليم  إلى محطّة جديدة يعلن فيها عن استقلاله بعد إجراء الاستفتاء، ولكن التوافقات الإقليمية والدولية، فضلاً عن الوضع العراقي كان عائقاً شديداً أمام ذلك الطموح، الذي بسببه تراجعت بعض مكاسب الإقليم وهو ما تحمّله بعض الأطراف الكردية مسؤوليته، إضافة إلى تصدّع العلاقات العربية- الكردية .
   وبغضّ النظر عن بعض الاجتهادات وفيما بعد الاصطفافات والأخطاء، فقد لعب مسعود البارزاني دوراً كبيراً في قيادة الحركة الكردية، منذ ثورة سبتمبر/ أيلول العام 1961 بمرافقة والده، وفيما بعد أصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات ثم رئيساً للحزب الذي تأسس العام 1946، ودخل بحروب مع غريمه جلال الطالباني، وأكبرها الحرب التي استمرت أربع سنوات 1994-1998، كما دخل في مفاوضات عديدة مع صدام حسين الذي أعانه ضد جلال الطالباني الذي كان مدعوماً من إيران في العام 1996، حيث دخل الجيش العراقي إلى إربيل، وكان لاعباً أساسياً في ساحة المعارضة العراقية، وجمع "شملها" في صلاح الدين العام 1992  ليصبح واحداً من ثلاث قياديين أساسيين فيها، هم إضافة إليه: السيد محمد بحر العلوم واللواء حسن النقيب، كما كان عضواً فاعلاً في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله بول بريمر بعد الاحتلال وفقاً للمحاصصة الطائفية - الإثنية .
   واليوم وبعد شهر ونيّف على قول الكرد " نعم" فإن المرارة أخذت تكبر بعد سلسلة الإجراءات والتداعيات التي اضطرّت الكرد للتراجع، أهمها: إعادة كركوك إلى سلطة الدولة الإتحادية وهي التي تسمى لدى القيادات الكردية " قدس الأقداس"، إضافة إلى عدد  من المناطق المتنازع عليها، وكان مسعود البارزاني قد تحدّث عن "حدود الدم" التي قال عنها إنها ترسم الحدود الكردستانية.
   كما اضطرّ الإقليم إلى إعادة بعض حقول النفط والمنافذ الحدودية، كما إن الانقسام الكردي الذي حصل بشأن الاستفتاء وبعده، ستكون تأثيراته كبيرة جداً على مستقبل الإقليم، إذْ أنه منذ احتلال العراق العام 2003 ولحد الإعلان عن الرغبة في إجراء الاستفتاء، كان الموقف الكردي موحداً، لذلك حصل الكرد على مكتسبات كبيرة، وكان البعض ينظر إليهم بأنهم يتمدّدون في كركوك على حساب التركمان والعرب، وكذلك في المناطق المتنازع عليها، بل إنهم يحكمون جزءًا من بغداد، إضافة إلى إقليم كردستان الذي لا يشاركهم فيه أحد.
   فما الذي سيحصل وهل سيبقى مسعود البارزاني رئيساً للحزب الديمقراطي الكردستاني؟ وكيف سيتم التعامل مع حكومة الإقليم برئاسة نجيرفان البارزاني ؟ وماذا عن نجله مسرور البارزاني رئيس مجلس الأمن القومي في الإقليم والمسؤول عن الأمن منذ العام 2012؟ وكيف ستكون نتائج الانتخابات الكردية وكذلك نتائج الانتخابات العراقية وكلاهما سيجريان في العام المقبل 2018؟
   كل ذلك  يثير أسئلة كبرى، لكن الجواب عليها يحتاج إلى انتظار كي تنجلي هذه الموجة العاصفة وتعود الأمور إلى مجاريها، ولاسيّما مع بغداد التي تتعامل بثقة أكبر مع الإقليم خصوصاً في إطار الصلاحيات الممنوحة للدولة الإتحادية دستورياً، وذلك بفعل تدخّل أمريكي للجلوس إلى طاولة مفاوضات، ابتدأت بقياديين عسكريين من الجيش العراقي والبيشمركة لتنتهي لاحقاً في إطار القيادات السياسية، علماً بأن رئيس الوزراء حيدر العبادي كان قد أعلن عن قبوله للحوار شريطة أن يعلن الإقليم إلغاء الاستفتاء ونتائجه.

351
المرأة والسلام والأمن
                     
عبد الحسين شعبان
يمثّل العنوان ثلاثية تكاد تكون مترابطة بشأن المرأة والسلام والأمن، لاسيّما في العقدين الماضيين، ففي أكتوبر/تشرين الأول العام 2000 صدر القرار رقم 1325 عن مجلس الأمن الدولي، بخصوص المرأة والنزاعات، حيث ارتكز على الدور الذي يمكن للمرأة أن تلعبه في بناء السلام وتحقيق الأمن، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، خصوصاً إن النساء الأكثر تضرراً أثناء الحروب والنزاعات المسلحة.
وكانت بعض الآراء الفقهية بدأت تأخذ طريقها إلى التشريعات الدولية وقواعد القانون الإنساني الدولي بشأن حماية الأشخاص غير المقاتلين والمدنيين، بشكل عام، والنساء بشكل خاص. وذهبت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقها بروتوكول جنيف لعام 1977، إلى وجوب حماية النساء ضد أي اعتداء، أو عنف جسدي، أو إذلال بأنواعه المختلفة، خصوصاً ما تم تقنينه في البروتوكول الأول: الخاص ب«ضحايا المنازعات الدولية المسلحة»، والبروتوكول الثاني الخاص ب«ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية».
وسعت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» منذ قيامها إلى نشر أحكام القانون الإنساني الدولي المتعلّقة بحماية المدنيين، للارتقاء بعالم أكثر إنسانية وسلاماً وأمناً، ويحفظ للنساء كرامتهن، ويراعي ظروفهن في أوقات الحرب، مثلما في أوقات السلم، خصوصاً بإلغاء التمييز بجميع أنواعه بحقهن، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية سيداو لعام 1979، التي تعتبر تطويراً عملياً لفقه المرأة في القانون الدولي، وتأكيداً لخصوصيتها في إطار احترام حقوق الإنسان والشرعة الدولية، تلك التي تم تأكيدها في الإعلان العالمي الصادر في العام 1948 أو في العهدين الدوليين الصادرين في العام 1966 والداخلين حيّز التنفيذ في العام 1976 باعتبارهما اتفاقيتين شارعتين، أي منشئتين لقواعد قانونية جديدة، أو مثبتتين لقواعد قائمة، خصوصاً وأنهما صدرا عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
واستكمالاً للحماية الخاصة بالمرأة أثناء النزاعات المسلحة، صدر القرار 1325 الذي وردت الإشارة إليه، فأكد على أهمية التنوع الاجتماعي في قضايا السلام والأمن، ودعا الدول الأعضاء إلى العمل على تأمين مشاركة النساء على جميع الصعد في صنع القرارات عند حلّ النزاعات، وفي عملية السلام. ولعلّ تلك هي المرة الأولى التي يخصّص فيها مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة كاملة لمناقشة تجارب المرأة أثناء النزاعات المسلحة، وهو ما حاول المجلس متابعته من خلال دزينة من القرارات صدرت في الأعوام 2008 و2009 و2010 و2013 و2015، خصوصاً بتأكيد العلاقة العضوية بين ثلاثية «المرأة والسلام والأمن» التي تقوم على أربعة مرتكزات أساسية هي:
1- المشاركة، والهدف منها إشراك المرأة بصورة كاملة ومتكافئة وتمثيلية في جميع مستويات اتخاذ القرار، بما في ذلك مباحثات السلام والمفاوضات لتحقيقه، وفيما بعد خلال العملية الانتخابية (ترشيحاً وتصويتاً)، إضافة إلى المواقع الرسمية المحلية والدولية وفي المجالات الاجتماعية والسياسية والمدنية الواسعة.
2- منع النزاعات، والقصد بذلك تضمين منظور النوع الجنسي (الجندر) في أسس الحل، والوقاية، والحماية من خلال مشاركة المرأة، للحيلولة دون نشوب النزاعات المسلحة وانتشارها وعودة ظهورها، خصوصاً إذا توجّهت الجهود لمعالجة الأسباب الجوهرية لاندلاعها، وقد يقتضي الأمر نزع سلاح جميع الفرقاء، بمن فيهم الفئات الأكثر تهميشاً، وتطبيق ذلك على الصعيد الداخلي (المحلي) والدولي لبناء السلام، وترسيخ الأمن.
3- الحماية، وتشمل حماية النساء (السيدات والفتيات كما ورد في نص القرار 1325)، وتأمين احتياجاتهن الأساسية أثناء النزاعات، وما بعدها، بما فيها الإبلاغ عن حالات العنف الجسدي، وملاحقتها قضائياً، والتأكيد على تطبيق القانون الوطني والمعاهدات الإقليمية والدولية بهذا الخصوص. ويستوجب الأمر من جميع الأطراف، اتخاذ التدابير الضرورية لتأمين حمايتهن، سواء كانت تدابير انضباطية عسكرية، أو تدريبية للقوات المسلحة، أو غيرها، وحظر جميع أشكال العنف الجنسي بحق النساء والأطفال الواقعين في منطقة تُهدّد بخطر وشيك بالعنف الجنسي، ونقلهم إلى مناطق آمنة.
4- العلاج والمعافاة، ويتطلّب ذلك تأمين وصول الخدمات الصحية إلى النساء والإرشاد النفسي عند الصدمات، ويشمل ذلك الناجيات من العنف الجسدي.
وإذا كانت الحروب والنزاعات المسلحة الأكثر قسوة على النساء والأطفال على مدى التاريخ، فالمفارقة التاريخية لا تزال قائمة ومستمرة، حين تستبعد المرأة من عمليات بناء السلام وجهود فرض الاستقرار، فضلاً عن المباحثات للوصول إلى ذلك، تحت ذرائع شتى، خصوصاً في ظل انعدام المساواة.
واستناداً إلى القرار 1325 والقرارات الدولية التي تبعته، إضافة إلى اتفاقية سيداو والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فإن المسؤولية القانونية تقتضي ملاحقة الجناة ومرتكبي الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحروب، بما فيها الجرائم التي تتضمن عنفاً جسدياً لوضع نهاية للإفلات من العقاب، خصوصاً في ما يتعلّق بجرائم العنف الجسدي المرتبطة بالنزاعات التي يقع تحت مظلتها جميع الضحايا.
مناسبة الحديث هذا، التأمت حلقة نقاشية نظمتها «الأسكوا» في بيروت، شارك فيها ممثلون لحكومات وخبراء مستقلون وشخصيات نافذة في المجتمع المدني، خصوصاً وقد آن الأوان لتكون المرأة مشاركة فاعلة في جميع الترتيبات لرسم السياسة العامة لصنع السلام وتحقيق الأمن والاستقرار.
drhussainshaban21@gmail.com




352
                              22/10/2017

الأخوات والإخوة أعضاء مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية المحترمين

تحية الزمالة،
   بعد ما يزيد عن 40 عاماً من عملي في تأسيس وإدارة والإشراف على مركز دراسات الوحدة العربية، آن الأوان لأسلم المسؤولية لمن يستحقها، ولي ثقة كبيرة بأنكم ومعكم فئة متميزة من المفكرين والباحثين والممارسين العروبيين التقدميين قادرون على حمل الأمانة، كما حملتموها معي طيلة السنوات الماضية، بالرغم من الحصار الذي تعرض له المركز والحروب الناعمة والخشنة التي واجهها، ولكنه ظل أميناً على حمل رسالة المشروع النهضوي العربي الراقي والمتطلع إلى إحداث تغيير حقيقي في وعي المواطن العربي والنخب العربية والمجتمع العربي.
   وكما صارحتكم في السابق بأن المركز كان جزءاً مهماً من حياتي، بل وحتى أكثر من عائلتي وأصدقائي، فإنه سيظل في ضميري ووجداني، وخصوصاً لمواصلة النهج الذي اختضته لنفسي وهو المهمة العظمى التي علينا أن نعمل معاً جميعاً لتحقيقها، وتحت شعار الخبز مع الكرامة والحفاظ على استقلالية المركز وتوجهاته.
   ولأنني قررتُ إعفاء نفسي من مواصلة العمل اليومي الروتيني والتفرغ لكتابة مذكراتي، والتي سيكون المركز جزءاً منها، فإنني أقدم استقالتي من رئاسة مجلس الأمناء واللجنة التنفيذية ومن جميع المسؤوليات التي توليتها خلال الفترة المنصرمة، وستثبت مشاعري مع كل عمل فكري جاء يخدم مركز دراسات الوحدة العربية. 
أصافحكم فرداً فرداً وأشارككم من القلب وكلي أمل بأن تواصلوا المسيرة بكل عزة.
                                خير الدين حسيب
                              رئيس اللجنة التنفيذية
                               رئيس مجلس الأمناء
-   صورة الأخوات والإخوة العاملين في المركز مع كل الشكر والتقدير على تعاونكم معي أثناء عملي في المركز والذي ما كان يمكن انجاز ما تم بدونكم، وآمل وأتمنى أن تواصلوا مسيرتكم وتحافظوا على استمرار المركز واستقلاليته.

353
كردستان ودكتاتورية الجغرافيا السياسية
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

   كان جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق الأسبق (الذي رحل يوم الثلاثاء 3/10/2017) يردّد دائماً حكمة كردية تقول "ليس للأكراد من صديق سوى الجبال"، وبقدر ما تحمل هذه الحكمة من مرارة، ففيها جزء كبير من الحقيقة ودروس تاريخية ينبغي استيعابها، ذلك إن الجغرافيا السياسية حكمت الكرد إلى حدود كبيرة. وإذا أخذنا بتكوّن عدد من دول المنطقة خلال القرن المنصرم، سنعرف أن مساحة كردستان تزيد على 400 ألف كيلو متر مربع  ويقطنها ما يزيد على 35 مليون إنسان موزعة على أربع دول ترتبط معهم بوشائج كثيرة، بعضها في الأصول العرقية وبعضها في اللغة والدين،إضافة إلى التاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
   وكان القسم الأكبر من الكرد يعيشون في حدود الدولة العثمانية، وأصبحوا لاحقاً من مواطني ثلاث دول أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، هي : تركيا (العام 1923) بعد هزيمتها بالحرب ووفقاً لمعاهدة لوزان، والعراق الذي تأسس العام 1921 وسوريا التي تأسست في العام 1925. والقسم الرابع كان في إيران.
   ومع إن اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 قسّمت البلاد العربية، كما تم تقسيم  شمل الكرد أيضاً الذين كانوا ضحية صراع بين الامبراطورية الفارسية والدولة العثمانية، لعدّة قرون من الزمان، وكانت أرضهم جزءًا من مساومات تاريخية بينهما، اشتملت عليها معاهدات مثل أرضروم الأولى 1823 وأرضروم الثانية 1848 وبروتوكول طهران العام 1911 واتفاقية القسطنطينة العام 1913  وصولاً لمعاهدة سيفر ما بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا حكمت الجغرافيا السياسية كردستان، إضافة إلى المصالح الدولية.
   وقد ظلّت القضية الكردية غائبة عن الأروقة الدولية منذ إبطال مفعول معاهدة سيفر لعام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد، ولاسيّما بعد إبرام معاهدة لوزان، لغاية العام 1991 حتى صدور القرار 688، عن مجلس الأمن الدولي، والذي يتعلّق بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية في المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، ووقف القمع باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
   وكان ذلك القرار، إضافة إلى قرارات دولية عديدة من نتائج مغامرة غزو الكويت العام 1991 التي فرضت العقوبات الدولية على العراق. وقد صدر القرار تحت تأثير الهجرة  الجماعية التي شملت مئات الآلاف من الكرد باتجاه الجبال "أصدقاؤهم الوحيدون" حسب الحكمة الكردية.
   وبعد ذلك اتخذت الدول الثلاث بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة قراراً باعتبار خط العرض 36 والذي يشمل محافظات كردستان الثلاث السليمانية وإربيل ودهوك ملاذاً آمناً، ومنعت القوات العراقية والطيران العراقي من التحليق فوقه.
   ومرّة أخرى دخلت الجغرافيا السياسية على الخط بفعل التنسيق التركي - السوري - الإيراني، الذي ظلّ يتربّص بالتجربة الكردية الوليدة بعد انتخابات العام 1992 والتي رافقها أخطاء عديدة، منها نظام المحاصصة، إضافة على القتال الذي اندلع بين طرفيها الرئيسين: الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) وهنا كان للجغرافيا السياسية دور في الصراع الدموي الكردي - الكردي، فقد استعان (حدك) بالجيش العراقي في العام 1996 لطرد غريمه أوك من إربيل، وكان أوك ينسق مع إيران ضد عدوّه التاريخي (حدك)، وقبل ذلك مع الحكومة العراقية ضد قوات الأنصار الشيوعية التي شهدت مجزرة في بشتاشان العام 1983.
   ولكن في أوقات الشدّة يبقى الأكراد وحدهم يواجهون مصيرهم، في حين تظل الجبال صديقهم الوفي عند الضيق، وتصبح ملاذهم وحاميهم من حملات الغزو، ولكنها في الوقت نفسه كانت تعرقل قيام وحدتهم وتحقيق طموحهم، سواء في الحصول على حقوقهم، أو لقيام دولة خاصة بهم. وهنا تتدخل الجغرافيا السياسية مرّة أخرى " لتقرير المصير" وقد حصل هذا في العام 1975، فإيران الشاهنشاهية والولايات المتحدة، سرعان ما تنكّرا لحقوق الكرد التي قالوا إنهم يدعمونها ضد حكومة بغداد، وتُركوا وحيدين بعد استفحال القتال بين قيادة القوات الكردية والحكومة العراقية في مارس (آذار) 1974 واستمر لمارس (آذار) العام 1975، حيث تم الاتفاق في الجزائر بتوقيع اتفاقية الشاه محمد رضا بهلوي وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها، في 6 مارس (آذار) والتي أدّت إلى انهيار الحركة الكردية.
   لم تنفع وقتها وعود كيسنجر أو دعم الشاه وهو الأمر الذي ترك مرارة لدى الزعيم الكردي الكبير مصطفى البارزاني، ففي لحظة وجد المقاتلون البيشمركة أنفسهم أمام الجبل، الصديق الوحيد الصامد الذي حنى عليهم واحتضنهم وأخفاهم من الطيران والقصف الذي يتعقبهم، تلك هي دكتاتورية الجغرافيا السياسية التي لا مردّ لها والتي يعيش في كنفها الفرس والترك والعرب والكرد، وكنّا قد دعونا إلى حوار لمثقفي الأمم الأربعة.
   وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وإذا كان في المرّة الأولى كمأساة ففي المرّة الثانية  يبدو كمهزلة، خصوصاً وقد بقي الأكراد عُزلاً بلا معين أو نصير أو داعم، وحتى من يدعم حقوقهم فإنه قد يثير التباساً وكراهية ضدهم في لحظة تاريخية مفصلية، مثلما تحاول "إسرائيل" إظهار تعاطفها مع حقوقهم، وهي التي تضطهد الشعب الفلسطيني  وتحرمه من أبسط حقوقه، وباستثناء قناعات فكرية ومبدئية بشأن "حق تقرير المصير"، كمبدأ قانوني وحقوقي لشعب عانى من الاضطهاد طويلاً، فإن ثمة لا أحد يقف معهم، خصوصاً في ظلّ سياسات وتطبيقات ستكون مثار خلاف شديد، إن لم يتم بالتوافق بشأنها وفي ظرف إقليمي ودولي لا بدّ من مراعاته.
    إن اختيار "اللحظة الثورية"، أي انسجام الظروف الموضوعية مع الظروف الذاتية أمرٌ في غاية الأهمية إزاء استراتيجية وتكتيك أية حركة أو جماعة سياسية أو تنظيم حزبي،  والأمر لا يتعلق بالاستفتاء فحسب، وهي خطوة حصلت وإنْ أثارت ردود فعل حادة، سواء  بشأن توقيت الاستفتاء وما يترتب عليه، ولاسيّما في المناطق التي تسمّى " متنازع عليها"  ثم بخصوص إعلان الدولة التي لا تزال تثير التباسات عديدة، ولكن ماذا بعد الاستفتاء؟ وكيف سيتم وضع نتائجه موضع التطبيق في ظل انقسام كردي وغياب الوحدة الوطنية، ورفض عراقي؟ وكانت الشيعية السياسية الحاكمة قد اتفقت مع السنّية السياسية المشاركة، مستنفرة دول الإقليم التي تهدد بالتدخل، سواء من جانب تركيا أو إيران، والأمر يتم بوسائل ناعمة أو خشنة، بالمقاطعة والحصار وإغلاق المنافذ الحدودية والتأليب الداخلي، فضلاً عن وسائل قد تكون غير منظورة.
   ليس هذا فحسب، بل إن أصدقاء الكرد " الجدد" وأعني بذلك قوى التحالف الدولي، ابتداء من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، كلّها اعترضت على إجراء الاستفتاء أو تحفظت عليه  أو طلبت إلغائه أو تأجيله، بل إن قوى دولية عديدة ظلّت تدعو علناً وبأعلى الأصوات بما فيها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ودول عربية وخليجية ومرجعية السيستاني والأزهر الشريف، إلى وحدة الأراضي العراقية ، بل إن العديد منها اعتبر انفصال كردستان مقدمة لتقسيم المنطقة، وفق خرائط إثنية وعرقية ودينية وطائفية وجهوية لجهات لا تضمر وداً لشعوب المنطقة، الأمر الذي سيثير نزاعات جديدة، إذا ما بدأت فقد تستغرق عقوداً من الزمان، ويكفي أن لدينا صراعاً أساسياً أصبح مستديماً ونقصد به الصراع العربي - "الإسرائيلي"، فما بالك إذا اندلعت حروب طائفية وإثنية، فالأمر سيكون كارثياً بامتياز.
   كما إن المصالح النفطية للقوى الاحتكارية الدولية ومن ورائها القوى الكبرى لا تريد التفريط بحلفاء أساسيين مثل تركيا التي هي عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي، ولديها علاقات دبلوماسية كاملة مع " إسرائيل". أمّا العراق فيمكن أن يذهب بعيداً بالاتجاه الإيراني، ولذلك فإن دعمه والحفاظ عليه موحداً سيكون لصالح استمرار الحفاظ على المصالح الدولية والإقليمية فيه، كما إن موضوع حقوق الكرد في سوريا سيكون مطروحاً على خط النقاشات والمفاوضات، في جنيف والأستانة، وفي أي حل دولي للأزمة السورية، لاسيّما وأن قوات التحالف تدعم  "قوات سوريا الديمقراطية" التي تشكل القوى القومية الكردية عمادها، وهو ما سيمهّد لتفاهم روسي - أمريكي على صيغة توافقية ترضي الطرفين، وتأخذ بنظر الاعتبار الموقف التركي.
   وبخصوص إيران، فإن الولايات المتحدة والغرب عموماً، يعملون على إحداث تغيير جذري داخلها، خصوصاً وإن هناك تحفظات خليجية وإقليمية على دورها، ولعلّ أي تغيير في إيران أو تركيا ستكون القضية الكردية مطروحة فيه على بساط البحث، وهكذا تبقى كردستان محكومة بالدكتاتورية الجيوسياسية، التي تحتاج إلى تغييرات عميقة باتجاه حلول ديمقراطية في المنطقة لإحداث نوع من أنواع القبول بكيانية كردية جديدة، وربما أكثر من واحدة وأكثر من شكل، وقد يكون سابقاً لأوانه اليوم وفي ظل اختلال توازن القوى، تصوّر قيام حالة كردية مستقلة ومنفردة في ظل غياب وحدة وطنية كردية .
   ولعلّ البدء بالحوار لتطويق ما هو حاصل، سواء بقبول حدود ما قبل 19 مارس (آذار) 2003 والتفاوض بشأن المناطق المتنازع عليها وقضايا الحدود والنفط والمواصلات وشكل العلاقة المستقبلي، سواء بالبقاء في العراق وفي إطار الدولة الفيدرالية الموحدة أو في إطار شكل جديد، ربما يكون كونفدرالياً بتعديلات ضرورية للدستور، وإن كان الشكل الحالي أقرب إليه، ولكن إذا كان العيش المشترك مستحيلاً فسيكون " الطلاق أبغض الحلال عند الله" وليتحمّل الطرفان  مسؤولية ذلك، خصوصاً إذا ما تجنّبنا خيار الحرب، وهو الخيار الأكثر كارثية وإيلاماً.
   وبالنسبة لكردستان، لا بدّ من قراءة اللوحة الجيوسياسية جيداً، حيث أنها محاطة بجيران أقل ما يقال عنهم أنهم غير مرحّبين بالكيان الجديد، إذا تقرّر إقامته عنوة ودون اتفاق مع الأطراف المعنية، لاسيّما في ظل موقف دولي غير مشجع أو ضبابي  على أقل تقدير، خصوصاً وإن الهدف الذي يشكل شبه إجماع إقليمي ودولي هو محاربة داعش وتجفيف منابع الإرهاب، وباستثناء الموقف الفرنسي  الذي دعا رئيس الوزراء حيدر العبادي لزيارة باريس في إطار وساطة أعلن عنها، على الرغم من أن الزيارة كانت مقرّرة قبل ذلك كما أشار ناطق رسمي حكومي، فإن الجبال وحدها ستبقى وفيّة إلى النهاية لصداقة الكرد المديدة على أرضهم وفي وطنهم.

354

أسئلة ما بعد استفتاء كردستان
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
بعد شدّ وجذب ورفض وتأييد، مرّ الاستفتاء الكردي بهدوء داخل إقليم كردستان وفي المناطق المتنازع عليها، على الرغم من بعض التحفظات والمناشدات على المستوى الدولي، أو ردود الفعل الحادة على المستوى الإقليمي، لاسيّما الإيراني والتركي،  أو الرفض الشديد وشبه الجماعي على المستوى الداخلي من جانب الحكومة الاتحادية والغالبية الساحقة من القوى السياسية على اختلاف توجهاتها وتياراتها.
ومع تلويح تركي بالخيار العسكري وقصف إيراني لمواقع قرى كردية قالت طهران أن فيها قواعد لإرهابيين، ومناورات للجيش العراقي، واتصالات بين طهران وأنقرة وبغداد وإجراءات معلنة ومستترة للعقوبات من جانب البرلمان العراقي وبعض القوى العراقية، فإن احتمالات اندلاع حرب داخلية عربية - كردية أو بمشاركة أطراف إقليمية ليس وارداً على الأقل في الوقت الحاضر، لكن ذلك لا يمنع من تصاعد التوتر في المناطق المتنازع عليها واحتمالات انفلاتات محدودة من هذا الطرف أو ذاك بما فيها أعمال عنف وإرهاب قد يستغلها داعش والمنظمات الإرهابية.
لقد أصرّ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على إجراء الاستفتاء في موعده المقرر في 25 سبتمبر (أيلول) ولم يلتفت إلى جميع المناشدات بالإلغاء أو التأجيل، خصوصاً بعد فشل محاولات الحصول على ضمانات من بغداد ومن المجتمع الدولي كما قال، لذلك مضى إلى الاستفتاء باعتباره الحل الأخير لتأكيد حق شعب الإقليم في إقامة كيانية خاصة به، تأخذ شكلاً قانونياً ينتظر بعد إعلانه اعتراف المجتمع الدولي به، لكن ذلك لن يكون سريعاً أو برسم التنفيذ، بل إنه يحتاج إلى حوار طويل لكي يتم التوصل إلى ما هو مقبول من الأطراف المختلفة.
وكانت بعض نتائج الاستفتاء الأولية قد قالت أن نسبة المشاركين بلغت أكثر من 70% وهي في إربيل أكثر من 80 %  وأكثر منها في دهوك في حين كانت في السليمانية نحو 55% ، وفي المناطق المتنازع عليها كانت المشاركة عموماً ضعيفة، لكن العملية مرّت بسلاسة ودون حدوث مفاجآت منتظرة أو غير محسوبة، علماً بأن المشمولين بالاستفتاء حسب المفوضية الخاصة بالاستفتاء بلغ عددهم 5 ملايين إنسان.
ومع بدايات التصويت بنعم أو لا وهو الاستمارة الانتخابية الوحيدة، أصدر البرلمان العراقي سلسلة من القرارات منها: فرض السيطرة المركزية على المنافذ الحدودية والمطارات وإلزام الشركات النفطية الأجنبية بالتعامل مع الحكومة العراقية (الاتحادية) فقط والبدء بإجراءات لملاحقة أموال قادة الإقليم في الخارج وقطع مرتبات الموظفين الأكراد الذين شاركوا في الاستفتاء، وتضمّنت إجراءات البرلمان : إغلاق المنافذ الحدودية مع كردستان في كل الاتجاهات واعتبار البضائع الداخلة منها مهرّبة، وإعادة حقول النفط إلى سيطرة الحكومة الاتحادية، خصوصاً حقول شمال كركوك، إضافة إلى إلزام الحكومة استعادة المناطق المتنازع عليها.
وإذا كان الكرد قد أعلنوا استعدادهم للحوار مع بغداد بعد الاستفتاء، لاسيّما عند فشل المفاوضات قبله، فإن ردّ الفعل من جانب بغداد، كان رفض الحوار، الأمر الذي سيعني تصعيد حدّة التوتر بين الطرفين، ولكن إلى أين سيفضي الموقف؟ وكيف يمكن حل أي قضية دون حوار وأخذ ورد، سواءً طال هذا الحوار أم قصر؟ وبغض النظر عن مطالب وحقوق ومشروعية كل طرف، فالحوار هو السبيل الأنسب والأنجع للتوصّل إلى حلول مرضية وبأقل الخسائر للأطراف المختلفة، لأن عكسه ستكون الحرب والصراع المسلح، وهذه مهما كانت نتائجها فإنها ستكون الأكثر إيلاماً وأذى وإبتعاداً عن تلبية الحقوق.
ولعلّ أول سؤال يتبادر إلى الذهن كيف يمكن للحكومة الاتحادية استعادة المنافذ الحدودية، التي يسيطر عليها الإقليم منذ أواخر العام 1991 حيث كانت الإدارة الحكومية قد انسحبت ، بالإضافة إلى قوات الأمن والشرطة وحرس الحدود، وتركت كردستان التي حظيت بدعم التحالف الدولي كمنطقة آمنة safe heaven. لتقيم سلطة الإقليم،ثم كيف يمكن للكرد تنفيذ نتائج الاستفتاء في إطار خطة طويلة الأمد؟ بتقديري إن الطرفين في نهاية المطاف سيضطران إلى الجلوس إلى طاولة الحوار، ولعلّ من الأفضل الركون إليه الآن وليس بعد حين.
هكذا سيكون عراق ما بعد الاستفتاء هو غيره عراق ما قبل الاستفتاء، وكذلك كردستان، وبما إن الأمر سياسي بامتياز فهو يحتاج إلى حل سياسي بامتياز أيضاً، أي إن المسألة المطروحة ليست أزمة سياسية للحكم كما نعرفها منذ تصدّع إطار الشرعية الدستورية في العراق، وخصوصاً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وما بعدها في إطار سلسلة الانقلابات العسكرية والدكتاتوريات الحاكمة وصولاً للاحتلال، بل له علاقة بمستقبل الدولة العراقية وكيانيتها، فإمّا أن تبقى دولة كما عرفناها منذ التأسيس 1921 أو أن لا تكون، بمعنى أن جزء منها قرر الإنفصال عنها وإعلان الاستقلال في إطار تمثيله للشعب الكردي لتقرير مصيره عبر استفتاء حصل على موافقة ساحقة بالتأييد لإقامة دولة مستقلة.
ولكن السؤال ما هي حدود هذه الدولة؟ هل هي حدود ما قبل 19 مارس/آذار العام 2003 أم أنها ستشمل كركوك وبعض المناطق المتنازع عليها كما يريد الكرد؟ أو إن موضوع كركوك بشكل خاص سيبقى مؤجلاً، وقد يتطلب ذلك شكلاً مشتركاً لإدارة مشتركة؟
وأياً كان الوقت الذي سيستغرقه قيام الدولة وأياً كان طريقة قيامها، سلماً أو حرباً، وأياً كان شكل نظامها ديمقراطياً أو دكتاتورياً، فهناك مشكلات لا بدّ من بحثها في إطار التغيير الجيوبوليتيكي الذي سيطال المنطقة في الحال وفي المستقبل، بعضها ربما على نحو عاجل والآخر تدرجي طويل الأمد، وربما بعضها يحتاج إلى تغييرات مجتمعية وسياسية لا تتعلّق بالعراق وحده ، بل بدول الإقليم والمحيط .
وسيتم الأمر في إطار تحالفات واصطفافات إقليمية جديدة والأمر رهن بالسياسة، ولا سياسة من دون الحوار، حتى وإن كان الحوار بالسلاح، باعتبار الحرب شكلاً من أشكال السياسة بوسائل حربية أو عسكرية حسب المفكر كلاوزفيتز، ولكن في نهاية المطاف، لا بدّ من حوار حتى لو كان طويلاً  واستغرق عقداً أو أكثر من الزمان، لكنه في الأخير لا بدّ من التوصّل إلى حلول لتحديد شكل العلاقة المستقبلية، فكيف ستكون؟
وماذا لو أعلنت هذه الدولة أنها ستتّحد بالعراق في إطار دولة كونفدرالية مثلاً؟ أي الإبقاء على الجيش موحداً والسياسة الخارجية وبعض الفاعليات الاقتصادية مثلا النفط، وفيما عدا ذلك سيكون الاستقلال كاملاً في جميع القضايا الأخرى، أو أن الاستقلال سيكون كاملاً وتاماً ونهائياً كدولة مستقلة.
وبالتالي هل ستكون دولة صديقة أم عدوّة؟ وهل تتحالف مع أعداء العراق العربي مثلاً أم أنها ستنتظم في إطار معاهدة صداقة وتعاون مع العراق وفقا لمصالح الشعبين الجارين وأهدافهما المشتركة والعلاقات المتبادلة والمتفاعلة والمتداخلة بينهما؟
وكانت علاقة الإقليم بالمركز من أواخر العام 1991 أقرب إلى كونفدرالية، سواء في أوقات المعارضة أو حين كان الكرد شركاء أساسيين وفاعلين في العملية السياسية، وحين صيغ الدستور العراقي الدائم العام 2005 بعد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 أخذ هذه الحقائق بنظر الاعتبار، سواء في وزن وصلاحيات الإقليم واستقلال القوات المسلحة الكردية (البيشمركة) وقضايا النفط والمناطق المتنازع عليها بموجب المادة 58 من قانون إدارة الدولة التي تم ترحيلها للمادة 140 من الدستور والتي لم تنفذ، وإنْ كانت هذه ألغاماً في الدستور الذي يقول الفرقاء إنهم متمسكون به، لكنه في واقع الحال يصدر إشارات منذرة بالانفجار بين فترة وأخرى وعند أول منعطف يصادفه.
وحين يلقي الكرد اللوم على عاتق بغداد بعدم تنفيذ الدستور، فإن بغداد تعتبر القضم التدريجي لهذه المناطق هو الذي يحول دون التطبيع وإجراء إحصاء سكاني ومن ثم القيام بالاستفتاء، وإن كان الأمر أبعد من ذلك. ويذهب الكرد إلى أن الدستور أعطاهم الحق في إجراء الاستفتاء باعتبار تطبيقه " ضمانة لوحدة العراق" وبما أنه لم يطبّق، بل إن ما يقارب من 50 مادة منه ظلّت معوّمة، لأن معظمها معلقاً بتشريع قانون خاص بها فمن حقهم اللجوء إلى الاستفتاء لحسم مصيرها، إلاّ أن بغداد ليست وحدها المسؤولة عن عدم تطبيق الدستور، بل إن الإقليم هو الآخر مسؤول فيما وصل إليه وضع البلاد الذي انتهى منذ ما يزيد على ثلاث سنوات للخضوع إلى حرب فرضها عليه داعش بعد احتلال الموصل العام 2014، ناهيك عن ما تعانيه البلاد من عنف وإرهاب وتمييز وفساد مالي وإداري ونظام محاصصة طائفي وإثني، بل إن بغداد تعتبر الشروع بإجراء الاستفتاء إنما هو خروج على الدستور الذي أقسم الجميع على حفظه لوحدة العراق. وهكذا يعلّق الجميع مشاكلهم وأخطاءهم على شمّاعة الدستور.
قد يكون من السابق لأوانه التكهن بما ستؤول إليه العلاقة بين بغداد وأربيل ولكن يمكن القول بثقة: إن الحركة الكردية فشلت في تحقيق أهدافها بالسلاح والعمل العسكري ، كما فشلت الحكومات المتعاقبة من القضاء على الحركة الكردية بالعمل المسلح والحرب التي شنّتها ضد الشعب الكردي وليس هناك من سبيل الآن سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فهي التي سيكون بإمكانها إيجاد الحلّ المناسب.
وهناك أسئلة معقدة بخصوص مشكلات محافظة كركوك ومناطق سهل نينوى وسنجار وما يتصل بالمناطق المتنازع عليها في محافظتي صلاح الدين وديالى والموصل، وهذه قد تشهد احتكاكات وأعمال عنف أو بعض الصدامات المسلحة المحدودة، لكنه من غير المحتمل أن يذهب أي طرف من الأطراف المتنازعة إلى شن الحرب لأنه لا غطاء سياسياً دولياً لها، لاسيّما من قوات التحالف الدولي التي تقوم بدور كبير في محاربة داعش وفي دعم العراق كدولة والإقليم كجزء منه يطمح في تحقيق الاستقلال.
كما إن شن الحرب من جانب بغداد على الإقليم أو حتى على المناطق المتنازع عليها لفك ارتباطها بالإقليم بالقوة، سيساعد على تسريع الاعتراف الدولي بالدولة الكردية، التي سيكون الاستفتاء مبرراً شرعياً وقانونياً لصالحها، خصوصاً وإن الحكومة العراقية لا تحظى بالتأييد الدولي في ظل حكم الأحزاب الإسلامية، بل إن البعض يعتبرها موالية لإيران التي يتعارض مشروعها مع العديد من دول المنطقة.
وإذا أخذنا تاريخياً بموضوع مظلومية الكرد، فإن شن أي حرب مهما كانت الأسباب، سيعيد إلى الأذهان حملات الأنفال  وقصف حلبجة بالسلاح الكيماوي وسيكون ذلك ليس في صالح بغداد أو التسوية السلمية لكلا الطرفين.
ومن المشكلات التي تحتاج إلى التفكير بحلول لها هو إدارة الموارد المائية، خصوصاً وأن نهر دجلة يمرّ من خلال إقليم كردستان ويمر الفرات بمحاذاته قريباً من المناطق الكردية   السورية، الأمر الذي سيكون محط اشتباك تركي وسوري (كردي) وعراقي وهي مشكلة قائمة منذ السبعينات، لاسيّما باستكمال بناء مشروع الكاب التركي لبناء منظومة سدود ضخمة وحجب  منسوب المياه باتجاه العراق العربي.
ثم كيف سيتم التعامل مع الأكراد العراقيين الذين يحملون الجنسية العراقية خارج الإقليم، والعرب الذين سيكونو داخل الإقليم ،سواء في مناطق كركوك سابقاً، أو بعض الذين استقروا بعد حملات داعش في كردستان. ولو كان الأمر يتم بالتفاهم لكان بالإمكان حمل هويتين أو جنسيتين مزدوجتين كما هي بين الجيك والسلوفاك.
وهناك مشكلات تتعلق بالمواصلات البرية وطرق النقل وما يترتب على ذلك من أعباء على الدولة والإقليم وكيف يمكن حلّها. والأهم من ذلك كيف سيكون إنتاج وتصدير النفط من حقول كركوك وبيد من؟ وكل ذلك يحتاج إلى حوار طويل الأمد، خصوصاً بعد الاستفتاء، سواء كان حواراً عاجلاً أم آجلاً، كما يحتاج إلى تنازلات متبادلة ومراعاة المصالح المشتركة.




355
فزّاعة الاستفتاء الكردي
هل حانت اللحظة " التاريخية" للدولة الكردية؟
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   كلّما اقتربنا من يوم 25 سبتمبر (أيلول) الجاري يزداد الجدل احتداماً والنقاش صخباً بخصوص الاستفتاء الكردي وما بعده، فالرافضون والمعارضون أفرطوا في التبشيع والتشنيع، والمتحمّسون والمؤيدون أفرطوا في المدائح والمزايا. وبين هذا وذاك، هناك غموض والتباس وقلق وحيرة لدى الكثيرين، فالفريق الأول يعتبر الاستفتاء مقدّمة للانفصال، وله تداعيات خطيرة بخصوص مستقبل الدولة العراقية ووحدتها الجيوبوليتيكية، في حين أن الفريق الثاني يعتبر الاستفتاء حقاً للأكراد في تقرير مصيرهم، كما يجد في التوقيت فرصة مناسبة، بسبب صعود الورقة الكردية إقليمياً ودولياً، إضافة إلى الدور الذي قام به البيشمركة والكرد عموماً، سواء في العراق أو سوريا في مواجهة داعش.
   وبغضّ النظر عن ردود الفعل الدولية والإقليمية التي ترفض أو تتحفّظ أو تحذّر من احتمالات اندلاع صراعات إثنية وعرقية جديدة في المنطقة، فإن الكرد وبخاصة قيادة إقليم كردستان برئاسة مسعود البارزاني يصرّون على موضوع الاستفتاء لثلاثة أسباب رئيسية مبدئية وتكتيكية في الآن، فكيف يمكن فهمها؟ ووفقاً لأية اعتبارات يمكن التعاطي معها، سواء في الحاضر أو في المستقبل؟
   السبب الأول- إنهم يريدون تأكيد حقهم في تقرير المصير، وتحويله من صيغة نظرية عامة إلى صيغة عملية ملموسة، خصوصاً وإنهم يدركون أن نتائج الاستفتاء ستكون بـ" نعم"، بما فيه إقامة دولة مستقلة، على الرغم من تردّد الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، لكي لا تذهب النتائج لصالح "غريمه" التاريخي الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، ورفض حركة كوارن "التغيير"، التي كان زعيمها ناوشيروان مصطفى من أشدّ المتحمّسين لإقامة ثلاثة كيانات في العراق، وهو ما عبّر عنه في مقابلة له مع جريدة اللوموند الفرنسية في العام 1987، ويكاد كون الوحيد من بين الكوادر الكردية المتقدّمة مَنْ اعتبر بيان 11 آذار (مارس) العام 1970، لا يلبّي الحد الأدنى من طموحات الشعب الكردي، كما أن الجماعة الإسلامية هي الأخرى أبدت تحفّظات عديدة على الاستفتاء بينها "التوقيت".
   وعلى الرغم من التردّد والتحفّظ بشأن التوقيت، فإنني أعتقد أنّ الكرد بشكل عام، تداعبهم فكرة قيام الدولة الكردية، إذْ إنهم الشعب الوحيد  من بين شعوب المنطقة الذي يكاد يكون بلا دولة، وإن أمتهم مجزأة، مثل الأمة العربية التي تطمح إلى تحقيق وحدتها. وإذا كان هذا هو الغالب الشائع، فإن السياسيين الكرد يناورون بتصعيد هذا الشعار أو تخفيضه حسب الظروف وحسب موازين القوى ، فتراهم يقدّمون خطوة ويؤخّرون أخرى ، إضافة إلى الصراعات الداخلية بينهم، ناهيك عن المنافسات الشخصية والحزبية.
   وقد شهدت الفترة بين 1994-1998 صراعاً كردياً - كردياً وقتالاً دموياً، وكان العامل الإقليمي فيه قوياً، ففي حين تعاون (أوك) مع إيران لإزاحة خصمه من الساحة، استعان (حدك) بالحكومة العراقية العام 1996، لوضع حد لسيطرة (أوك) على أربيل. وانقسمت كردستان إلى إدارتين، ولولا ضغط وتدخّل الولايات المتحدة الأمريكية، لما كان بالإمكان تسوية المشاكل العالقة بين الطرفين، والتي تطفو على السطح كلّما مرّت أزمة حتى وإن كانت عابرة، وحالياً لا يزال البرلمان الكردستاني معطّلاً وولاية رئاسة الإقليم منتهية، والوصول إلى حلول مرضية بعيد المنال، فكيف يمكن وضع نتائج الاستفتاء موضع التطبيق إذاً؟
   وإذا أصبح شعار "الحكم الذاتي" مقبولاً منذ أواسط الستينات، وخصوصاً بدعم من اليسار العراقي، الذي كان مؤثراً آنذاك، فإن بيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 نصّ عليه في ظل حكم حزب البعث، وصدر "قانون الحكم الذاتي" في العام 1974 على الرغم من نواقصه وثغراته، لكنه أسّس لواقع جديد.
   ثم تطور شعار الحكم الذاتي في الثمانينات ليصبح "الحكم الذاتي الموسّع" واستقرّ عند شعار "الفيدرالية"، خصوصاً بعد إقرار صيغة "حق تقرير المصير" من جانب المعارضة في فيينا حزيران (يونيو) وصلاح الدين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1992، وصدور قرار من البرلمان الكردستاني بـ"الاتحاد الفيدرالي" في 4 تشرين الأول (اكتوبر) من العام ذاته.
    واحتوى قانون إدارة الدولة العام 2004، وفيما بعد الدستور العراقي الدائم العام 2005، على صيغة الفيدرالية، التي جاءت أقرب إلى النظام الكونفدرالي بحكم الصلاحيات الواسعة الممنوحة للكرد، حيث كان الإقليم هو الكيانية القائمة حصراً. وهذا ما زرع ألغاماً كثيرة في طريق تطبيقه اصطدم بها الجميع، الذين اكتشفوا أنفسهم، كلّما تقدّموا خطوة يقتربون من القنبلة الموقوتة للانفجار.
   والسبب الثاني- إن هدف الدعوة للاستفتاء لا يُقصد منه قيام الدولة الآن، وهو ما عبّر عنه بعض القادة الكرد، وإنما هو في حقيقته ممارسة ضغط لمقايضة بغداد لتقديم تنازلات يمكن استثمارها في مرحلة لاحقة، لاسيّما حين نضوج الظروف الموضوعية. أما الهدف الآني من الاستفتاء فقد يكون دفع بغداد لتسديد مستحقات الإقليم التي تبلغ 17% من قيمة الميزانية العراقية التي أوقفتها الحكومة العراقية كما تقول، لعدم تسوية القضايا المتعلّقة بحقوق تصدير وإنتاج النفط التي تم الاتفاق عليها في كانون الثاني (يناير) العام 2014، وفي كانون الأول (ديسمبر) من نفس العام.
   وسواء تم التوصل إلى تسوية مرحلية أو لم يتم، فإن موضوع الدولة الكردية، سيبقى أحد التحدّيات الأساسية التي تواجه العراق، مثلما هو التحدّي الطائفي، وهذان التحدّيان لو استمرا فإنهما قد يذهبان بعيداً باتجاه تفتيت الدولة العراقية، تمهيداً لانقسامها حسب بعض السيناريوهات المطروحة والتي قد تستغرق وقتاً ليس بالقصير.
   السبب الثالث- قد يكون أحد أهداف الاستفتاء الحالي هو إبقاء الوضع الراهن Status que، في كركوك على ما هو عليه دون تغيير بما فيه موضوع تصدير النفط، أي عدم تحريك ساكن، فبعد أن رفع مجلس المحافظة علم كردستان (آذار/مارس 2017) لم يتغيّر شيء على الرغم من قرار القضاء ببطلانه، فضلاً عن ردود الفعل الإقليمية والدولية، علماً بأن مشكلة كركوك حسب تقديري لا حلّ لها في إطار ما هو مطروح من حلول متناقضة وحادة، فعودة القديم إلى قِدمه ليس ممكناً أو مقبولاً، والمغالبة والاستقواء وفرض الأمر الواقع صيغة غر مقبولة، ناهيك عن أنها قد تنذر بحرب أهلية، خصوصاً في ظل احتدام المشهد السياسي وتفشّي ظواهر العنف والإرهاب واستغلال القوى المتعصّبة والمتطرّفة، فضلاً عن التداخل الإقليمي الذي ينبغي أن يُحسب حسابه، سواء الإيراني وهو مؤثر وكبير أو التركي وهو غير قليل، ولاسيّما في موضوع حساس مثل كركوك.
   ولكن ما العمل وكيف السبيل إلى حل ممكن؟
    لقد ظلّت كركوك عقدة مستعصية وتم تأجيلها في اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970 وبعد إعادة المفاوضات مع الحركة الكردية 1991، كان هناك اقتراح قد تردّد بإقامة "إدارة مشتركة"،  ولكن الاتفاق لم يتحقق، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 تم تعليق موضوع كركوك، ولم تستطع المادة 58 من قانون إدارة الدولة أو المادة 140 عن الدستور العراقي، إيجاد حلّ لها ، بل إن الأمر ازداد تعقيداً وتعسّراً، لاسيّما ما صاحب ذلك من أعمال عنف وإرهاب ومناطق نفوذ ومحاولات هيمنة.
   لقد حاول النظام السابق تغيير التركيب السكاني والديموغرافي لكركوك بتشجيع هجرة العرب إليها ومنحهم امتيازات على حساب الكرد والتركمان، بل إن قراراً صدر من "مجلس قيادة الثورة" في 6 أيلول /سبتمبر العام 2001، يقضي بإمكان تغيير الهوّية إلى العربية، ولم يمنح هذا الحق لغيرها، وهو الأمر الذي انقلب بعد الاحتلال إلى ضده، وسواء في الماضي أم في الحاضر، فإن أية محاولات لتغيير التركيب السكاني والواقع القومي بالقوة أو بالإغراءات لن تجدي نفعاً، لاسيّما إذا لم تتم على نحو عفوي وبطريقة تلقائية ودون إرغام أو إكراه وهو ما يحدث عادة عبر زمن طويل وتراكم تدريجي، فقد كانت كركوك بموجب إحصاء العام 1957 ذات أغلبية تركمانية، وفي السبعينات أصبحت بأغلبية عربية ، للأسباب التي سبق ذكرها، وبعد الاحتلال أصبحت بأغلبية كردية بعد "التدفق" الكردي عليها واحتدام الصراع حول مصيرها وما رافقه من أعمال عنف ومغالبة واستقطاب، ولا زالت كركوك "عقدة العقد"، خصوصاً وإن القادة الكرد جميعهم يتمسّكون بها كجزء من كردستان، وكما يسمّيها جلال الطالباني الرئيس العراقي السابق: "قدس الأقداس" .
   فهل ستبقى مشكلة كركوك معلّقة إلى ما لا نهاية، وبؤرة حرب مستديمة؟ أم ثمة إمكانات لوضع حلول واشتراع معالجات طويلة الأمد لتطبيع الحياة فيها وتعزيز التعايش بين سكانها؟  وبقدر ما كانت إحدى نقاط قوة العراق من حيث التعايش القومي والديني والمذهبي واللغوي، فإنها أحد أكبر نقاط ضعفه، ولعلّ ضعف المواطنة والشعور بها وشحّ الحرّيات، خصوصاً في ظل عدم المساواة وغياب الشراكة الحقيقية والمشاركة، كانت وراء هذه العقدة المعتّقة والمستديمة والتي يمكن أن تفجّر الوضع في العراق برمّته.
   ولذلك فإن أي حل يبدأ من إطفاء بؤرة التوتر ونزع الفتيل عنها، ثم البحث عن تفاهمات ترضي جميع الأطراف إذا قرّروا البقاء متعايشين، وهذا يتطلّب إرادة سياسية موحدة وتنازلات متقابلة وإدارة سليمة للأزمة يشترك فيها الفرقاء جميعهم دون استثناء، وعكس ذلك سيدفع الجميع الثمن باهظاً.
   وبعد ذلك لماذا يكون الاستفتاء فزّاعة طالما إن إمكانية تطبيق نتائجه غير متوفرة،  في الوقت الحاضر؟ أي أنها ليست برسم التنفيذ، والأمر لا يعود إلى رغبة فريق الموالاة أو الممانعة، ولكن بفعل توازن القوى، وخصوصاً الإقليمي والدولي.
   وحتى لو كانت  نتائج الاستفتاء بـ"نعم" وهي ستكون كذلك، لصالح قيام دولة كردية، فهل ستعلن قيادات الكرد الرغبة في عدم العيش المشترك مع الشعب العربي في العراق؟ وإذا افترضنا ذلك أيضاً، فهل ستقوم الدولة غداً؟ وهل ستكون سلوفاكيا أم  كوسوفو أم تيمور الشرقية أم جنوب السودان مثلاً ؟ وهذه أسئلة على جميع الأطراف التفكير بإجابات لها.
    وإذا كانت قناعتي الشخصية والاستشرافية بأن الدولة الكردية قادمة إن آجلاً أم عاجلاً، وربما هناك أكثر من دولة كردية ستقوم، ولكن قيامها قد لا يكون آنياً، أي برسم الاستفتاء. وبواقعية، يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، وقد يحتاج إلى عقد أو حتى عقدين من الزمان أو أكثر، مثلما قد يتطلّب ذلك حدوث تغييرات جوهرية في إيران وتركيا وسوريا، جميعها أو بعضها، بحيث تنشأ الدولة في محيط إقليمي غير معادٍ أو رافض لقيامها، ومثل هذا الاحتمال ليس وارداً في الوقت الحاضر باستثناء سوريا، التي سيكون فيها وضع الكرد أقرب إلى الوضع العراقي فيما إذا حدثت تغييرات، لكنه سيكون مع تعقيدات أشد ومشكلات أعوص وتداخلات خارجية أوسع ومنافسات داخلية أشمل وسقف حقوق أدنى.
   فلماذا الخشية من الاستفتاء؟ وسواء أجري الاستفتاء أو لم يجرِ، فإن حق الكرد في تقرير المصير وقيام دولة مستقلة سيبقى قائماً، وهم يتمسّكون به، ولعلّه سيكون من الأفضل الآن وحتى قيام تلك الدولة، أن يكون الحل "سلمياً" و"رضائياً" إذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً  "فالطلاق أبغض الحلال عند الله" كما يُقال، وحتى لو حصل فمن الأفضل بحكم ارتباطات العرب بأشقائهم الكرد، الإبقاء على علاقات الصداقة والتعاون والمشتركات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والإنسانية جميعها، وألّا يُسمح بتسرّب قوى معادية للعرب والكرد أو لدول المنطقة  وتطلّعات شعوبها للتحرّر والسلم والتنمية والتقدّم، خصوصاً حين يكون التفاهم والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة هي الأساس في العلاقة بين بلدانها وشعوبها.
   وأعتقد أن ذلك ضمانة للعلاقة العربية - الكردية، سواء في الحاضر أو في المستقبل، وعلى جميع الأطراف العراقية، وخصوصاً عرب العراق وكرده إضافة إلى القوى الإقليمية، ألّا تحرق المراحل وتستعجل اندلاع الصراع، لأن نتائجه ستكون وخيمة وكارثية على الجميع. إنّ قيام الدولة الكردية يحتاج إلى بيئة حاضنة وتأييد واضح من المجتمع الدولي، وهذا غير متوفّر في المدى المنظور، وذلك يعني أنّ القرار بإقامة الدولة، بالاستفتاء أو بغيره، سيكون مؤجلاً عراقياً وإقليمياً ودولياً، وأعتقد أن القيادة الكردية تدرك - حتى وإن رفعت من سقف مطالبها وشعاراتها- أن حرارة الجو السياسي تزداد ارتفاعاً وحساسية وحراجة، خصوصاً وهي تسعى لاقتناص اللحظة التاريخية المناسبة لتحويل "الحلم الكردي" المشروع إلى واقع ممكن وملموس وحقيقي.

356
أثمة ملامح نظام دولي جديد؟
                     
عبد الحسين شعبان

لعلّ بعض التحليلات المتداولة تذهب إلى القول إننا أمام ملامح لنظام دولي جديد أخذ يتكوّن، بعد تخلخل مواقع القوى العظمى المهيمنة، وخصوصاً الولايات المتحدة التي تكرّست بعد انتهاء عهد الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، باعتبارها القوة الأولى الأساسية المتنفذة في العلاقات الدولية.
وإذا كان النظام الدولي الذي شهده القرن العشرين قد انتقل ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى هيمنة بريطانيا وفرنسا كقوتين عظميين، فإن الحرب العالمية الثانية وما بعدها جعلت من الولايات المتحدة القوة العظمى الأولى في العالم، خصوصاً تحكّمها بمصادر القوة والتحالفات التي قادتها لاحقاً، عسكرياً وسياسياً، والتقدّم العلمي والتكنولوجي والثقافي والفني والأدبي الذي فاق الجميع بلا استثناء، فضلاً عن التقدم الهائل في ميدان الصناعة والزراعة والتجارة، بما فيها تجارة السلاح، حيث نصّبها القوة الأولى بلا منازع.
كان نظام ما قبل الحرب العالمية الأولى استمراراً لاتفاق ويستفاليا في القرن السابع عشر 1648 ومؤتمر فيينا العام 1815 بعد محاولات إجهاض الثورة الفرنسية وهزيمة نابليون، حيث كانت قواعد القانون الدولي التقليدي تجيز حق الغزو، والحق في شن الحرب الاستباقية أو الوقائية، إضافة إلى حق الحصول على مكاسب سياسية بما فيها الاستيلاء على الأراضي بالقوة تحت مبرر احتمال «خطر وشيك الوقوع» أو للحفاظ على المجال الحيوي، وكل ذلك يندرج في الاستقواء على الآخرين دفاعاً عن «المصالح القومية»، والتي خيضت حروب كثيرة تحت عنوانها ومبرراتها.
وكان الطور الجديد للنظام الدولي قد تكرّس بعد الحرب العالمية الأولى بتأسيس عصبة الأمم العام 1919 وجرت محاولات لتقييد استخدام القوة واللجوء إلى الحرب، وخصوصاً في ميثاق بريان كيلوك (ميثاق باريس) العام 1928 وقد انقسم العالم بفعل ثورة أكتوبر/تشرين الأول العام 1917، إلى معسكرين، حيث بدت بعض ملامح نظام جديد تظهر تلك التي تحققت بعد قيام الأمم المتحدة في العام 1945 خصوصاً بعدم الاعتراف بالدبلوماسية السرية، لاسيّما بعد فضح اتفاقيات سايكس - بيكو السرّية التي أبرمتها بريطانيا وفرنسا العام 1916، واتسمت العلاقات الدولية بنوع جديد من الصراع الأيديولوجي بين نظامين متناحرين.
لكن الحرب العالمية الثانية وما بعدها، والتي أدت إلى هزيمة ألمانيا واليابان والقضاء على النازية والفاشية، دفعت الأمور باتجاه صراع مديد عُرف بالحرب الباردة بعد تفكك الحلف المعادي لدول المحور منذ أن أطلق ونستون تشرشل صيحته الشهيرة بالقضاء على الشيوعية العام 1947، واستمرت هذه الحرب بوسائل خشنة وناعمة، عسكرية واقتصادية وثقافية، حتى تمكن المعسكر الرأسمالي من الإطاحة بالكتلة الاشتراكية من دون حرب بفعل سباق التسلح وبشكل خاص «حرب النجوم» العام 1983 والهجوم الأيديولوجي والدعائي، إضافة إلى الأوضاع الداخلية التي تتعلق بشح الحريات والاختناقات الاقتصادية.
وهكذا انتقلنا من نظام القطبية الثنائية والتوازنات التي كان يقوم عليها بسلبياتها وإيجابياتها إلى نظام تتحكم به قوة واحدة وتدور في فلكها قوى أخرى كالاتحاد الأوروبي وغيره من البلدان التي ظلّت تتعامل مع الحليف الأكبر من موقع أدنى.
ومن أبرز ملامح الهيمنة في هذا النظام هو الحرب على العراق العام 1991 ثم احتلاله في العام 2003 بعد غزو أفغانستان، وانبعاث الهوّيات الفرعية وتفتيت الدول الوطنية، واعتبار «الإسلام» الخطر الأساسي بعد انهيار الشيوعية، كما ذهب إلى ذلك صموئيل هنتنغتون بأطروحته حول «صدام الحضارات» وقبله «فرانسيس فوكوياما بأطروحته حول نهاية التاريخ، منطلقين من ظفر الليبرالية كنظام سياسي واجتماعي على المستوى العالمي.
لكن ملامح هذه المرحلة أخذت بالتصدّع خلال عقدين من الزمان بصعود الصين كقوة اقتصادية عظمى وعودة روسيا كقوة مؤثرة بعد غياب الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى تحالفات جديدة خارج الهيمنة الأمريكية، كما هو دور دول البريكس، فإضافة إلى الصين وروسيا، هناك البرازيل وجنوب إفريقيا والهند، وهي قوى صاعدة، لاسيّما في المرحلة الانتقالية الحالية التي تشهد صراعاً بأنواع مختلفة، مع اتفاق مصالح، الأمر الذي يجعل من التكتلات الكبرى أساساً في مواجهة الدور الأمريكي المهيمن والآخذ بالتراجع على الرغم مما يملكه من مصادر قوة لا يزال يحتفظ بها.

وإذا كان القرن التاسع عشر، هو قرن القوميات فإن القرن العشرين هو قرن الأيديولوجيات، أما نهايته فقد كانت تؤشر إلى قرن جديد، وربما سيكون عنوانه قرن المصالح الاقتصادية، وهكذا فإن ما طرحه بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق في كتابه «أمريكا والعصر التكنوتروني» من التعددية القطبية لا يأتي بعد القطبية الثنائية، ولكنه يعقب الهيمنة الأمريكية مع وجود مصالح مشتركة، منها مكافحة الإرهاب والتعصب والتطرّف الذي يهدّد العالم.
ومناسبة الحديث عن نظام دولي جديد، كانت ضمن حلقة نقاشية في بيروت لمركز دراسات الوحدة العربية، شارك فيها مفكرون وباحثون وممارسون سياسيون عرب من أقطار مختلفة.



357
بغداد تحتفي بـ " أبو كَاطع"
بغداد - وكالات / خاص
         إلتأم في نادي العلوية ببغداد احتفال ضخم حضره عدد كبير من الشخصيات الفكرية والثقافية والأدبية والفنية والإعلامية، وجمهور واسع من محبّي أبو كَاطع والعارفين بفضله، خصوصاً ما قدّمه من منجز إعلامي وروائي على مدى زاد عن ربع قرن من الزمان، لاسيّما رباعيته الشهيرة "الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميد"، إضافة إلى حكاياته وإقصوصاته، التي كان ينشرها في صحيفة " طريق الشعب" في السبعينات وفي عدد من الصحف العراقية وفيما بعد العربية بعد اضطراره إلى مغادرة العراق والعيش في المنفى وقبل ذلك برنامجه الإذاعي في أواخر الخمسينات " احجيه بصراحة يبو كَاطع" من إذاعة بغداد .
         وكان الاحتفال بمناسبة الذكرى الـ 36 لرحيل أبو كَاطع " شمران الياسري" حيث وافته المنيّة في حادث سير أليم  حين كان متوجهاً من براغ إلى بودابست لزيارة نجله الأكبر "جبران".
         وكان نادي العلوية قد دعا الأديب والأكاديمي الدكتور عبد الحسين شعبان لتوقيع كتابه الموسوم "أبو كَاطع- على ضفاف السخرية الحزينة" وهو طبعة ثانية. وكان شعبان قد تبرّع بريع الطبعة الأولى إلى "أطفال العراق تحت الحصار"، وقد تبرّع بريع هذه الطبعة إلى "أطفال العوائل النازحة من الموصل ومناطق غرب العراق"، لاسيّما بعد هيمنة داعش عليها. وقد إلتأم الاحتفال في قاعة غصّت بالحضور يوم 10 أيلول (سبتمبر) 2017.
         وقد رحّب الاستاذ فلاح كمونة باسم اللجنة الثقافية للنادي بالحضور .
         وافتتح الاحتفالية الإعلامي عماد جاسم، وتحدّث فيها الباحث والأكاديمي د. شجاع العاني وتلاه الأديب والناقد فاضل ثامر ثم دعا السيد إحسان شمران الياسري (نجل أبو كَاطع) ليتحدث عن والده، واختتم الأمسية المفكر عبد الحسين شعبان ، الذي تحدّث عن سخرية أبو كَاطع الحزينة، واعتبر "حنظلة "ناجي العلي ، بمثابة "خلف الدوّاح"،  وإذا كان حنظلة فلسطين شاهداً لما حدث في فلسطين، فإن خلف الدوّاح العراقي (كَعود الفرحان)، هو الشاهد الآخر، لما حدث في العراق وفي كلا الحالين كما قال: وجوه ومؤخرات، حمامات وبنادق، مظلومون وظالمون، واعتبر شعبان أبو كَاطع "جارلز ديكنز" العراقي، وسخريته جادة، لأن لديه موقفاً حاداً من الحياة، وقد رسم صورة الريف العراقي بريشة فنان عليم وأصيل، وهو جزء من تاريخ الدولة العراقية.
         وإذا كانت الآيديولوجيا طاغية في مرحلته الأولى، فإنها خفّت في مرحلته الثانية، خصوصاً في رواية "قضية الحمزة الخلف" وعدد من الحكايات والقصص وكذلك أخذ يقلل من  استخدامه العامية أو اللهجة الشعبية، وإنْ كان يجد فيها الوسيلة الأكثر تعبيراً عما يريد أن يوصله إلى قارئه،لاسيّما حين يطعّمها بمملّحات مثيرة للضحك والدعابة وإن كانت سوداء أحياناً.
         وقد توافد جمع غفير للاقبال على شراء الكتاب وطلبوا من مؤلفه توقيعه، ثم قدّم  الدكتور فارس الدوري رئيس نادي العلوية درعاً للتميّز للدكتور شعبان، كما بادرت جريدة الزمان ممثلة برئيس تحريرها (طبعة العراق) الدكتور أحمد عبد المجيد  على تقديم باقة ورد وهديّة إليه، وكانت جريدة الزمان بمبادرة من مؤسسها الاستاذ سعد البزاز قد كرّمت الدكتور شعبان في وقت سابق ، وقدّمت له وسام "الإبداع" (العام 2009) وهو عادة ما يقدّم إلى كبار الشخصيات الفكرية والثقافية والفنية.
         وساهم عدد من الفضائيات والصحف في تغطية خبر احتفالية أبو كاطع. وكتب الصحافي زيد الحلي عموداً في صحيفة الزمان بعنوان" د. شعبان يغني الأحد لأبي كَاطع " كما كتب الشاعر منذر عبد الحر في جريدة الدستور عموداً بعنوان: الدكتور عبد الحسين شعبان يوقع كتابه الجديد في بغداد، وكتب قبل ذلك الإعلامي حسن عبد الحميد عموداً استباقياً يرحب فيه بالدكتور شعبان وبالثقافة اللّاعنفيّة التي يدعو إليها، في صحيفة الدستور. وقد جرى استذكار أبو كَاطع وعرضاً وتقريضاً لكتاب شعبان بأخبار صحفية ومقالات عديدة، وكان د.شعبان قد كتب في "مجلة أفق" التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي مقالة بعنوان : "العراقيّ أبو گاطع… سيّد الدّعابة البارِعة والسُّخرية اللّاذِعة - القبح في مواجهة الجمال".
        أبو كَاطع الذي ظلّ ممنوعاً مثلما هو مؤلف الكتاب منذ الثمانينات ولغاية العام 2003، عاد مشرقاً إلى بغداد التي أحبّها وقد منحته مدينة السلام ما يستحق من الاحتفاء والتقدير، لاسيما " حب الناس" الذي لا يضاهيه شيء.
 

358
العراقيّ أبو گاطع… سيّد الدّعابة البارِعة والسُّخرية اللّاذِعة
القبح في مواجهة الجمال

 
 
د. عبد الحسين شعبان*
لا أخال أحداً من الذين أدركهم الوعي من جيل ما بعد ثورة 14 تمّوز (يوليو) العام 1958، وخصوصاً من المثقّفين أو القريبين منهم، لم يسمع باسم "أبو گاطع" أو يردِّد "لازِمة" اشتهرت باسمه، وهي عنوان برنامجه الشهير، "إحجيه بصراحة يبوگاطع" (إحكيها)…

فالرجل احتلّ مكانة استثنائيّة ليس في الأدب والصحافة العراقيّة فحسب، بل وعلى الصعيد الشعبيّ، وانشغلت أوساطٌ واسعة من مختلف التيّارات (المُوالاة والمُعارَضة وما بينهما) بما يكتبه وما ينشره في عموده الصحافيّ، ولاسيّما في مطبوعات الحزب الشيوعي في السبعينيّات: مثل مجلّة الثقافة الجديدة، التي كان مدير تحريرها، وجريدة الفكر الجديد (الأسبوعيّة)، وجريدة طريق الشعب(اليوميّة)، وقبل ذلك في أواخر الخمسينيّات ومطلع الستينيّات، كَتَب في عددٍ من الصّحف اليساريّة العراقيّة، لكنّ برنامجه الإذاعي (من إذاعة بغداد) كان الأكثر شهرة، بل إنّ شهرته جاءت من برنامجه.
وارتفع رصيده ليس كصحافي فحسب، بل إنّ دخوله عالَم الرواية، وصدور رباعيّته كان قد وضعه في مكانة مرموقة بين الروائيّين الكبار أمثال "غائب طعمة فرمان"، و"فؤاد التكرلي"، و"محمّد خضير"، و"عبد الرحمن مجيد الربيعي"، وآخرين؛ لكنّ ما تميّز عنهم، هو قدرته في توظيف مخزونه الريفيّ وضخّه في الرواية التي هي في الغالِب مدينيّة، بحيث أصبحت حياة الريف مألوفة لدى قارئ الرواية وهو ابن المدينة في الأغلب الأعمّ.
وكان "أبو جبران" (وهو نجله الأكبر) يطمح أن يصبح روائّياً، وحين دسَّ مخطوطته (الرباعيّة) بيد غائب طعمة فرمان، طالباً منه قراءتها قبل طباعتها، همس بأذنه (أريد أن أكون منكم)، أي من كتّاب الرواية، فالرواية وما تحفل به ظلّت هاجسه حتّى حين يكتب عموده الصحافي، فقد كان يبحث عن حبكة درامية، ومتن وقفل بمثابة خاتمة ليجعل القارىء يفكِّر في نهايات مفتوحة.
كان صدور رباعيّته: الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس حميّد، (العام 1973)، محطّة جديدة لا على مستوى الرواية العراقية فحسب، بل في تقديمٍ روائيٍّ ريفيٍّ يستطيع أن يؤثّر على المدينة ومثقّفيها، وليس كما كان العكس جارياً، فلم يعُد "أبو گاطع" في خطابه أو حكاياته وأقصوصاته، ولاسيّما رباعيّته، يقتصر على مُخاطَبة الفلّاحين والأوساط الشعبية، بل امتدّ ليشمل ما يكتبه عن المدينة بما تحتويه من تيّارات فكرية وثقافية واسعة، سواء من كان معه أم ضدّه، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً حول كتاباته لدرجة أنّها مُنعت فتمّت ملاحقته بتُهم أقلّها "الإعدام" على حدّ تعبيره الساخر، حيث اضطرّ إلى مغادرة العراق نحو المنفى (العام 1976)، مع ملابسات ما حصل له لاحقاً (في براغ)، وهناك قضى بحادث سير في 17 آب (أغسطس) العام 1981.
مرّ 36 عاماً على رحيل "أبو گاطع" "شمران يوسف الياسري"، (أبو جبران) الذي اشتهر بكنيَتِه، كما اشتهرت راويته الشخصيّة الأثيرة المعروفة باسم "خلف الدوّاح"، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي، وليس وهميّاً. فاسمه هو "گعود الفرحان"، الذي كنت قد نشرت صورته لأوّل مرّة في كتابي "على ضفاف السخرية الحزينة"، وكان خلف الدوّاح مثل ظلّ "أبو گاطع"، مُلازماً له.
لقد أتقن "أبو گاطع" حرفته وأدرك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب،مبتكراً طُرقاً مباشرة وغير مباشرة للنقد والتّحريض والتّفكير، والهدف هو الوصول إلى القارئ، سواء بتفخيخ حكاياته وأقصوصاته وجُمله أم باستدراجه لدائرة الإيهام. وفي كلّ الأحوال دفعه للتّساؤل والشك،لما تستثيره نصوصه، فتارةً يستفزّ المتلقّي من البداية، وأخرى يرخي له المقدّمة ليوحي له بنهاية مستريحة، لكنّه سرعان ما يُفاجئه قبل الخاتمة بالعودة إلى دائرة السؤال، تلك هي حبكته الدراميّة المتميّزة.
وعلى الرّغم من كونه مثقّفاً أعزل وفرداً "نفراً" -على حدّ تعبيره- وبإمكانات محدودة وشحيحة، إلّا أنّ أسئلته المُشاغِبة كانت تتميّز بإثارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسّسات أحياناً، في ظلّ أساليب الدّعاية والحرب النفسيّة والصراع الإيديولوجي الذي كان سائداً على نحو حادّ في زمانه.
ودليلي على ذلك أنّه  اضطرّ لطباعة روايته "الرّباعية"على نفقته الخاصّة، بعد أن امتنعت الجهات الرسمية من طبعها، بزعم عدم استيفائها الشروط الفنّية، لكنّه باع عشرات، وربّما مئات النسخ، حتّى قبل صدورها لدفع ثمنها إلى المطبعة، وقد حجز العديد من الأصدقاء نسخهم قبل أن تُطبَع، ولا أعتقد أنّ كاتباً استطاع أن يفعل ذلك قبله أو بعده. إنّها طريقة "أبو گاطعيّة" بامتياز، له براءة اختراعها.
كان تأثير ما يكتب كبيراً على السلطة ومعارضتها، بل حتّى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراعٌ "مكتوم" بين قيادة "مُسترخِية" وقاعدة "مُستعصيَة"، فقد كان أقرب إلى "بارومتر" يقيس فيه الناس درجة حرارة الجوّ السياسي. وقد نجح في توظيف علوم عديدة لاختيار الوسيلة الأنجع واختبارها، وذلك من خلال عِلم النفس وعِلم الاجتماع وأساليب التغلغل الناعم والحكاية الشعبية ليصل إلى مراده، متحدّياً الجميع أحياناً، بمَن فيهم نفسه، حتّى وإن اقتضى الأمر المُغامرة، باحثاً في كلّ ذلك عن المُغايرة والتميّز والجديد والحقيقة البيضاء.
ولهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً، ناهيك بالقيَم الجماليّة التي حاول إظهارها، كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع، خالِقاً أبطالاً هدفهم إسعادنا، على الرّغم ممّا كان يعانيه من ألم، وكما قال غائب طعمة فرمان عنه: "إنّه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كلّ شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاق ثمارها وملوحة عرق الكدح فيها، يتغنّى بشفافيّة روح، بشجاعة قلب، وحكمة نظرية ومُكتسَبة بما يمثِّل الهيكل الإنساني لحياة ابن الريف".
والقراءة لا ينبغي أن تكون من باب التمجيد والمُجامَلة، بقدر ما تكون قراءة نقدية منهجية وموضوعية، بما له وما عليه، فضلاً عن إمكانية إفادة القارىء من الأجيال الحالية والقادمة، بالأجواء السياسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة في عهده والتحدّيات والكوابح التي اعترضت طريقه، ودَوره المتميّز على الرّغم من ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة، فلم يتمكّن من إكماله دراسته، وهو ما يطرح أسئلة على الجيل الحالي والأجيال المستقبلية: ترى من أين جاءت موهبته؟ وكيف تمكّن من صقلها؟ ثمّ كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته؟ بحيث احتلّ هذه المكانة الاستثنائية ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقّلاً من عالَم الصحافة السريع والكثير الحركة إلى فضاء الرواية الذي يحتاج إلى التأمّل والدّقة.
لقد عرف العراق مع "أبو گاطع"  لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر الذي برز فيه صاحبه بنتاجه المتنوّع، سواء في حديثه الإذاعي الموجَّه إلى الفلّاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المَجالس والمَضايف والديوانيّات، ليجعله مادّة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته، وبخاصّة رباعيّته أو رواية "الحمزة الخلف".
لا أدري إلى أيّ حدٍّ – ونحن نستعيد "أبو گاطع" – يُمكن أن نستذكر الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز  صاحب رواية: "قصّة مدينتَين A Tale Of Two Cities"، فقد امتاز أسلوبه هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللّاذِعة، وصوَّر جانباً مهمّاً من حياة الفقراء وحظيَ بشعبيّة لم ينلها مجايلوه.
وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب "أبو گاطع"، فثمّة أحزانٌ كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد "أبو گاطع" فيها بعض التخفيف من قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحكاً أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا على النقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.
لقد أدرك "أبو گاطع" أنّ الحزن معتّقٌ في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كلّ شيء، فحتّى فرح العراقيّين وغناؤهم ومناسبتهم المختلفة، كلّها مغلَّفة بالحزن الجميل.
إنّ سخريةً مثل سخرية "أبو گاطع"، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادّة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يُواجِه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشكلاته وهمومه بنَوعٍ من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تُعبِّر عن موقف مقابل لكلّ تلك الإشكاليّات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: "إنّي أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً".
لقد كتب "أبو گاطع" تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالَج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم. كما حاول الكشف عن حياة مطويَّة تقريباً، فصوَّر الواقع بكاميرا بانوراميّة، مُلتقطاً صُوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، ولاسيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته.
وصدق الروائي الروسي مكسيم غوركي حين قال: "التاريخ لا يكتبه المؤرّخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان"، فقد كان "أبو گاطع – أبو جبران" هو مؤرِّخ الريف، حيث عكست رباعيّته حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحبّ المحرَّم والظُّلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدّين وخداعهم. ولولا "أبو گاطع"، لضاع هذا الجزء المهمّ من تاريخ الدولة العراقية، وللدقّة لضاعت إحدى الرؤى التي يُمكنها مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان عن الريف العراقي.
ولأنّ ما كتبه "أبو گاطع" لا يزال راهنيّاً، بل يمثّل جزءاً من حياتنا اليوميّة، فإنّه لا يزال حاضراً بيننا، وأراه باستمرار في المعركة الدائرة في مجتمعاتنا ضدّ التعصّب والتطرّف والغلوّ والطائفية، وهي معركة الحداثة والحرّية وحقوق الإنسان والجمال والانفتاح واستعادة هَيبة الدولة الوطنية ووحدتها، في مواجهة استمرار التخلّف والقمع والإقصاء والقبح والانغلاق والفوضى والميليشيّات.
تلك هي معركة "أبو گاطع"، وهي معركة خارجية ضدّ الهَيمنة ومحاولات فرض الاستتباع والإرهاب بقدر ما هي معركة داخلية ضدّ قوى الظلام والاستبداد، إنّها معركة مع الآخر وفي الوقت نفسه هي معركة مع الذّات أيضاً، (النحن والأنا) لتطهيرها ممّا علق بها من أدران وترهّات وتشويهات. إنّها باختصار معركة الحقيقة والتقدّم، وبالطبع فهي معركة كلّ كاتب حرّ وصاحب فكر مُنفتِح.
"أبو گاطع" الذي رحل قبل أكثر من  ثلاثة عقود ونصف من الزمان، لا زال يعيش بيننا، نحدّثه ويحدّثنا، نستمع إلى قهقهاته وإلى أنّاته، ونتحسّس عمق جرحه وألمه من طرف ابتسامته الساخرة.



 


359
مسلمو ميانمار بين نارين
عبد الحسين شعبان

منذ 25 أغسطس /آب المنصرم (2017) ومسلمو ميانمار يتعرضون إلى حملة جديدة من العنف والتطهير والإجلاء، فبعد ساعات من إطلاق قوات ميانمار (بورما سابقاً) النار على مئات من الفارين من المعارك في ولاية أراكان، اعتقلت السلطات البنغالية نحو 70 لاجئاً من مسلمي الروهينجا، وعمدت إلى إعادتهم بالقوة إلى ميانمار، وقال أحد المسؤولين الإداريين إن بنغلادش تستضيف حالياً عدداً كبيراً من مسلمي الروهينجا (يقدر عددهم بنحو 400 ألف)، ولن تستقبل المزيد منهم. وكانت سلطات الحدود قد رفضت السماح لعدة آلاف، لاسيّما من النساء والأطفال اللاجئين، من العبور إلى أراضيها.
وكان اللاجئون قد روَوا قصصاً مروعة عما جرى لهم في ولاية أراكان، وكل ذلك كان يتم بعلم السلطات الحكومية التي لم تحرّك ساكناً، كما أنها لم تفرّق بين المدنيين والعسكريين، أو بين الأهالي العزّل ومن يحمل السلاح للدفاع عن نفسه، بل إن الجيش الميانماري قام برد فعل قاس جداً ضد تحرّك عسكري لمسلّحي الروهينجا وعلى نحو عشوائي.
وكانت بعثة من الأمم المتحدة برئاسة أمين عامها الأسبق كوفي أنان، قد أصدرت تقريراً تضمن عدداً من التوصيات، منها حث الحكومة على عدم إضاعة فرصة التنمية ودعت إلى وقف العنف الذي اندلع بين البوذيين والمسلمين، ومجابهة التعصّب والتطرّف والإرهاب كظواهر مستفحلة ومنذرة بأسوأ العواقب، كما خاطبتها بضرورة الاعتراف بالحقوق الإنسانية للمسلمين ومعاملتهم على قدر المساواة ووفقاً لمبادئ المواطنة.
وكانت الأمم المتحدة قد أكدت في وقت سابق أن 87 ألفاً من المسلمين قد فرّوا خلال عمليات تطهير نفذتها قوات ميانمار في أكتوبر/ تشرين الأول العام 2016، حيث أحرقت القوات الحكومية قرى بكاملها وجرّفت مزارع وهجّرت سكانها، الذين اضطرّوا إلى الفرار، لكن الكثير منهم لم يستطيعوا الوصول إلى بنغلادش. وقد استخدمت القوات الحكومية هذه المرّة قاذفات صواريخ، الأمر الذي أوقع خلال أيام قليلة أعداداً كبيرة من الضحايا.
وتواجه الحكومة الميانمارية تهماً عدّة، منها ارتكاب جرائم حرب من قتل وتشريد وحرق للقرى ومحاصرة السكان ومنعهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، بل إن بعض الجرائم ترتقي إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، لاسيّما استخدام مروحيات وآليات لإبادة المدنيين وقذفهم بالصواريخ، مثلما هناك اتهامات بقيام السلطات الميانمارية أو غضّها الطرف عن عمليات إبادة جماعية تعرّض لها المسلمون في ميانمار، وهو ما يحاسب عليه القانون الدولي.
لعل هذا الصراع الذي اتخذ طابعاً عنصرياً ودينياً لا يتعلق بانتهاكات فردية بحق أشخاص، بل إنه يشمل أكثر من مليون إنسان من مسلمي الروهينجا، الأمر الذي يعني، أن جرائم جماعية ترتكب وعلى نحو مبرمج ومنهجي وروتيني، وهو ما يقتضي من المجتمع الدولي التحرّك السريع لوقف هذه المجزرة المستمرة منذ أعوام، والتي قد يؤدي استمرارها إلى اندلاع موجة جديدة وخطرة من أعمال العنف والتعصّب والتطرّف والإرهاب، قد تمتد إلى العديد من البلدان المجاورة. وقد أعرب الفاتيكان والبابا شخصياً عن تضامنه مع المجموعة الثقافية المسلمة في ميانمار.
ويعود سبب المشكلة إلى أن السلطات الحاكمة لا تتعامل مع مسلمي الروهينجا المختلفين ثقافياً عن المجموعة الأكبر سكانياً من البوذيين، على قدر من المساواة واحترام الحقوق والحريات، أي بصفتهم مواطنين ولهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات، وإنما تعتبرهم وافدين أو مهاجرين غير مرغوب بهم، سواء باختلاف ثقافتهم ودينهم مع الثقافة والدين البوذي السائدين. وانطلاقاً من هذه النظرة العنصرية - الاستعلائية أيضاً، يستمر وضع المسلمين في ميانمار في التدهور، لا سيما عدم الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية وإنكار التنوّع الديني والسلالي واللغوي.
والغريب أن المجزرة التي تعرّض لها المسلمون تزامنت مع تقرير الأمين العام الأسبق كوفي أنان (23 أغسطس/ آب/ 2017) الذي سلّمه إلى الحكومة بشأن بعثة تقصي الحقائق في أعمال العنف ضد مسلمي الروهينجا. وفي حين تندلع مجزرة جديدة لا يزال الموقف الدولي يدور في إطار الإدانات أو المناشدات بتقديم المساعدات، على الرغم من الأوضاع الإنسانية القاسية، خصوصاً أنه خلال أسبوع واحد تم تهجير نحو 50 ألف مسلم.
وإذا كان على مجلس الأمن الدولي اتخاذ قرار حازم لوقف المجزرة والدعوة لمنح المسلمين حقوق المواطنة كاملة، بما فيها المساواة التامة والمشاركة والشراكة في وطنهم على أساس عادل وحقهم في تأدية طقوسهم وشعائرهم الدينية، فإن من واجبه أيضاً اتخاذ قرارات بموجب الفصل السابع الخاص بالعقوبات في حالة تمادي سلطات ميانمار بعدم الانصياع للقانون الدولي وصوت العقل والحكمة.
ومن واجب البلدان العربية والإسلامية وهي تزيد على 57 بلداً، ومنظمة التعاون الإسلامي تقديم الدعم والمساندة بجميع أشكالها، لكي يستطيع مسلمو الروهينجا الصمود أمام محاولة اقتلاعهم ورميهم خارج الحدود في ظروف قاسية، فذلك واجب إنساني هو «فرض عين وليس فرض كفاية»، كما يُقال.
drhussainshaban21@gmail.com



360
لمناسبة ذكرى رحيله
في حضرة "أبو گاطع" ورحاب الكلمة الحرّة
عبد الحسين شعبان
 أكاديمي وأديب عربي   

غادرنا شمران الياسري في 17 آب (أغسطس) العام 1981 في حادث سير لئيم، حين كان متوجهاً من براغ إلى بودابست لزيارة نجله الأكبر "جبران"، لكن ذكراه لم تغادرنا، وما هذا الاستذكار مثل استذكارات سنوية ومناسبات مختلفة أقمناها في المنافي البعيدة في براغ ولندن ولوند ودمشق وبرلين وكوبنهاغن وبيروت وغيرها، إلّا وقفة مراجعة تأملية لمنجز الرجل وإبداعه الروائي والإعلامي والنضالي، إذ ما زال الكثير من محبيّ شمران الياسري والعارفين بفضله يستعيدون ذكراه رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمان خصوصاً وقد اكتسبت هذه الاستعادة نكهة خاصة حين أصبح الاحتفاء بأبو كَاطع في بغداد ممكناً. وصدق الشرف الرضي حين قال:
             ما أخطأتك النائبات/ إذا أصابت من تحبّ
   فقد كان "أبو گاطع" يحلم في بغداد التي أحبّها  حتى في مغتربه أو منفاه، لكن عينيه لم تتكحّلا بمرآها الجميل، فقد كان ذلك الذئب اللئيم حسب تعبير الجواهري الكبير يتربّص به، وكأنه ينتظره بعدما أفلت منه مرّات عديدة.
   وأبو گاطع هاشمي النسب وهو ابن السيد يوسف ، وسليل أسرة " آل ياسر" العربية المعروفة، وقد ولد في قرية محيرجة " الموفقية" في قضاء الحي بالكوت. وكان أحد رموز الأسرة من أبرز رجالات ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق(1914-1918) وما بعده، وأعني به السيد نور الياسري.
I
   انشغل شمران يوسف الياسري والذي سيُعرف لاحقاً باسم برنامجه الإذاعي الشهير " أبو گاطع"، بهموم رسم الحرف وحياكة الكلمة وصياغة الفكرة، منذ أن بدأ مشواره الأول في العمل العام حيث انخرط في أواسط الخمسينات وبعد محاولات عديدة، باليسار العراقي، الذي كان آنذاك يمثّل أحلام وطموحات الثقافة والمثقفين بشكل خاص، وعموم الفقراء والكادحين، بشكل عام، لاسيّما في بحثه الحثيث عن قيم الحرّية والمساواة والعدل، التي ستصبح هاجساً لـ "أبو گاطع" يُغني إبداعه ويغذّي أفكاره نحو التغيير الذي كان يتطلّع إليه، خصوصاً وقد تلمّس معاناة فقراء الريف واستغلال الإقطاعيين لهم.
   وإذا كان برنامجه الإذاعي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 قد ذاع صيته واشتهر لدرجة كبيرة، حيث أصبح الكثير من الناس يردّدون عنوان برنامجه " احجيه بصراحة يبو گاطع " فإنّه أصبح بمثابة مثل شعبي، حتى أنهم لا يعرفون مصدره، إلّا أنّه بفعل شيوعه أصبح أقرب إلى لازمة شعبية، دخلت العقل الجمعي.
   وكان عموده في صحيفة "طريق الشعب" في السبعينات أقرب إلى بارومتر يقيس فيه الناس درجة حرارة الجو السياسي، ليس من جانب المعارضة أو الممانعة، بل حتى من جانب الموالاة وأصحاب السلطة أيضاً، ولهذا كان الجميع يقرأ الجريدة بالمقلوب، أي من الصفحة الأخيرة، حيث عمود " أبو گاطع"،سواء اتفقوا معه أم اختلفوا، لأنهم كانوا يجدون فيه ما يفصح عن حقيقة الأوضاع السياسية.
   وكان عموده فرصة لاستنشاق هواء حر ونقي، مشفوعاً بالنقد اللاذع الممزوج بالسخرية، حتى وإنْ كانت سوداء، تلك التي يملّحها بمطارحاته مع "خلف الدواح" والمقصود " كَعود الفرحان" والذي ظنّ الكثير أنه شخصية وهمية، وكان ذلك الاعتقاد سائداً حتى لدى نخبة من رفاقه وأصدقائه حتى  نُشرت صورته في كتابي لأول مرّة قبل 20 عاماً، وكانت مفاجأة للجميع، حيث ظهر وكان يضع الشيماغ والعقال على رأسه وبملامح ذكاء حاد وذهن ثاقب.
II
   كنتُ كلّما مرّ الزمن أشعر بمسؤولية أكبر إزاء أبو كاطع كمبدع، بل وإزاء الصداقة التي ربطتنا، ناهيك عن مسؤولية توازيها، وهي التعريف به وبمكانته في تاريخ الثقافة العراقية، وكنتُ قد أدركت إن جيلاً بدأ يتكوّن في المنافي البعيدة والباردة وفي العراق أيضاً، وهو لا يعرف أبو گاطع، وتلمّستُ ذلك فعلياً حين كان توجّه إليّ أسئلة بعضها حائر بشأن "أبو گاطع"، وأعتقد أن هذا النقص في التعريف به وبفنه وروايته وأقصوصاته وإبداعه بشكل عام بما فيه عموده الصحفي الذي له طعم خاص،لا يزال قائماً على الرغم من تغيّر الظروف، ولذلك وجدت من الواجب إطلاع القارئ العراقي بشكل خاص والعربي بشكل عام على فن "أبو گاطع" وإبداعه ونضاله لمواجهة النسيان والجحود والتنكّر.
   وحين أقدّم للقارئ روائياً وصحافياً متميّزاً بسخريته المحبّبة وأسلوبه النقدي اللاذع ومحاكاته للجمهور، فإنني أقصد التعريف بالواقع العراقي ثقافة وأدباً وفكراً ضمن سلسلة لعدد من الشخصيات المتميّزة، وقد شملت الدراسة قبله الشاعر الكبير الجواهري في كتابين (1986 و1997) (الأول بعنوان الجواهري في العيون من أشعاره، والثاني الجواهري: جدل الشعر والحياة) وأعقبته بدراسة عن حسين جميل " جذور التيار الديمقراطي في العراق" 2007 ثم كتاب عن سعد صالح (جريو) الموسوم " الوسطية والفرصة الضائعة" (2009) وكتاب عن عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل -فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية" 2013.
   وتشمل هذه السلسلة شخصيات مثل بدر شاكر السياب وغائب طعمة فرمان وهادي العلوي والسيد محمد حسين فضل الله والسيد باقر الصدر، وخالد علي الصالح وأديب الجادر وعبداللطيف الراوي ووميض نظمي وخير الدين حسيب وفهد (يوسف سلمان يوسف)وشاكر السماوي والملّا مصطفى البارزاني وروفائيل بطي وعلي الوردي وفرحان باقر وناهدة الرمّاح وأحمد الصافي النجفي وعبد الأمير الحصيري ومظفر النواب وكامل الجادرجي وسهيل قاشا وآرا خاجادور وغيرهم، إضافة إلى شخصيات أخرى من العديد من البلدان العربية.
   والهدف هو وضع بعض الشخصيات الوازنة في دائرة الضوء والإفساح في المجال لقراءتها جمالياً من خلال رؤى وخلفيات متنوّعة ومتعدّدة فنياً، فضلاً عن معرفة تفاصيل حياتها ومصادر ثقافتها، ناهيك عن آرائها وأفكارها بما فيها من هواجس ومخاوف وأحلام ونقاط ضعف إنسانية.
III
   ثمة أسئلة تواجه الباحث في أدب وفن أبو گاطع: تُرى من أين جاءت موهبته وكيف تم صقلها؟ وهو الذي لم يترك تاريخه الشخصي سانحة للدراسة، وخصوصاً في سنوات الخمسينات والستينات، حين انخرط في العمل السياسي واضطرّ للاختفاء في الريف. ثم كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته بحيث احتلّ هذه المكانة المتميّزة ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقلاً من عالم الصحافة السريع والكثير الحركة، إلى فضاء الرواية  الذي يحتاج إلى التأمل والدقة والخيال؟ وهي أسئلة بحاجة إلى المزيد من الدراسات النقدية، التخصّصية لإملاء هذا الفراغ.
   لقد عرف العراق لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر مع "أبو گاطع"، الذي برز فيه بنتاجه المتنوّع، سواء حديثه الإذاعي الموجّه إلى الفلاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المجالس والمضايف والديوانيّات، ليجعله مادة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته وخاصة رباعيته أو رواية "قضية الحمزة الخلف".وهي جزء أول من رباعية لم تكتمل بسبب رحيله.
   وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب "أبو گاطع"، فثمّة أحزان كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد "أبوگاطع" فيها بعض التخفيف عن قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحك أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا للنقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.
   وكما يقول المتنبي:
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ      وَلَكِـنّهُ ضَحِـكٌ كــالبُـكَاء
   وهو ما دعا الشاعر نزار قبّاني في إحدى زياراته للعراق للقول:
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك      وبعض من الغــناء بكاء
   لأنّه كان يدرك أن الحزن معتّق في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كل شيء، فحتى فرح العراقيين وغنائهم ومناسبتهم المختلفة، كلّها مغلفة بالحزن الجميل ومُدافة بالحزن الجليل. 
   إنّ سخرية مثل سخرية "أبو گاطع"، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يواجه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بنوع من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تعبّر عن موقف مقابل لكل تلك الإشكاليات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: "إني أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً".
IV
   
   لقد كتب "أبو گاطع" تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم، لدرجة أنّ روائي المدينة غائب طعمة فرمان يقول عن شخصياته "لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني، كنت أمام ما نسمّيه موسوعة الريف، ولكنّ كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً".
   وحاول "أبو گاطع" الكشف عن حياة مطوّية تقريباً، فقام بتصوير الواقع بكاميرا بانورامية، ملتقطاً صوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، لاسيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته، فقد كان يعرف تمام المعرفة البيئة التي يتحدّث عنها بجميع تفاصيلها وتعقيداتها وتناقضاتها، وهو لا يأتيها زائراً أو مشاهداً، بل راصداً لها وفاعلاً فيها، لذلك جاءت صوره حسيّة تلامس حياة الريف بكل إيجابياته وسلبياته.
   وأعتقد أن الروائي الروسي مكسيم غوركي كان على حق حين قال: "التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان"، فقد كان "أبوگاطع – أبو جبران" هو مؤرّخ الريف، حيث عكست رباعيته " الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس حميّد" حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحب المحّرم والظلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدين وخداعهم. ولولا "أبو گاطع"، لضاع هذا الجزء المهم من تاريخ الدولة العراقية، وللدقة لضاعت إحدى الرؤى لها، والتي يمكن مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان للريف العراقي.
   ولأنّ ما كتبه "أبو گاطع" لا يزال راهنياً، بل يمثّل جزءًا من حياتنا اليومية، فإنه لا يزال حاضراً بيننا، وأراه باستمرار في المعركة الدائرة في مجتمعاتنا ضدّ التعصّب والتطرّف والغلوّ والطائفية، وهي معركة الحداثة والحرّية وحقوق الإنسان والجمال والانفتاح واستعادة هيبة الدولة الوطنية ووحدتها، في مواجهة استمرار التخلّف والقمع والإقصاء والقبح والانغلاق والفوضى والميليشيات.
   تلك هي معركة "أبوگاطع"، وهي معركة خارجية ضد الهيمنة ومحاولات فرض الاستتباع والإرهاب بقدر ما هي معركة داخلية ضد قوى الظلام والاستبداد. إنّها معركة مع الآخر وفي الوقت نفسه هي معركة مع الذات أيضاً، (النحن والأنا) لتطهيرها مما علق بها من أدران وترهات وتشويهات. إنّها باختصار معركة الحقيقة والتقدّم، وبالطبع فهي معركة كل كاتب حرّ وصاحب فكر منفتح.
   إنّ استعادة الذكرى ليس تقليداً أو طقساً روتينياً بقدر ما هي مسؤولية ومساهمة في إحيائها وتخليد حياة "أبوگاطع" وفنّه، وهي دعوة للنّقاد في تناول أعماله الإبداعية، سواء الروائية أو حكاياته وأقصوصاته وبعض مقالاته الصحافية، والكتابة عنها وعن أسلوبه وسخريته وتهكّمه الممزوجين بالحزن، من خلال مقاربتها بدراسات مقارنة عربية وأجنبية، كما لا بدّ لنا من تشجيع طلبة كلية الآداب والإعلام والدراسات الإنسانية والثقافية عموماً، كتابة أطروحات أكاديمية عنه في الجامعات والمعاهد العراقية والعربية.
   وإذْ نعيد استذكار الراحل "أبوگاطع" سنوياً، فإننا سبق أن دعونا الجهات الرسمية وغير الرسمية، لا سيّما الثقافية والإعلامية، بما فيها اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين ونقابة الصحفيين العراقيين، إلى إطلاق اسم "أبوگاطع" على مؤسسة أو ساحة عامة أو حديقة أو قاعة، وتخصيص جائزة باسمه تقدّم للمبدعين من الشابات والشبّان، وإقامة تمثال في مكان عام أو في مدخل إحدى المؤسستين، يليق به وبفنّه وإبداعه وبالأدب والإعلام العراقي وبتاريخه النضالي، الذي قدّم له حياته.
   "أبو گاطع" الذي رحل قبل ثلاث عقود ونصف من الزمان، لا زال يعيش بيننا، نحدّثه ويحدّثنا، نستمع إلى قهقهاته وإلى أنّاته، ونتحسّس عمق جرحه وألمه من طرف ابتسامته الساخرة.

361
مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
إني أحدثك لترى     
فإن رأيت             
فلا حديث           
النفري             
          قلم السياسي مغمّساً بحبر الذاكرة
         حين كتب مهدي السعيد "سيرته الذاتية" التي بدأت من أزقة الكرخ القديمة كما يروي وصولاً إلى براغ ولندن ودمشق، لم يكن يدر في خلده، إنه سيدوّن بعفوية شيّقة جوانب مهمّة من تاريخ محلّة الدوريين بشكل خاص، والمحلّة البغدادية بشكل عام، بكل تناقضاتها الإيجابية والسلبية وعناصر القوة والضعف فيها. وذهب أكثر من ذلك في مشواره السردي حين رسم بريشته لوحة بانورامية للمشهد السسيوثقافي لمدن عاش فيها، مستعرضاً في الوقت نفسه علاقات واسعة وعميقة مع رفاق وأصدقاء جمعته معهم حياة كاملة بكل عنفوانها وبكل ما لها وما عليها، بحلوها ومرّها، بما فيها من معاناة وقلق وهموم وآمال وأحلام وانكسارات.
          وبعدسة فنان حاول مهدي السعيد أن يصوّر لنا عدداً من اللاعبين على خشبة المسرح وحركاتهم وسكناتهم بعيني مراقب دقيق، وفي أحيان كثيرة كان يقترب من المشاركة أو يكون جزءًا منها، لكنه لا ينسى المراقبة التي سرعان ما يعود إليها وكأنه لا يريد أن يفقد متعة المشاهدة، وحسب صموئيل بيكت "المتعة بالفِرجة"، خصوصاً وإن مسرحنا السياسي ازدحم في العقود الثلاثة الماضية بألوان شتى من اللاعبين، من هواة السيرك إلى محترفي الجمنازتيك مروراً بالسحرة والمشعوذين وقرّاء الكف وفتّاحي الفال وصولاً إلى أصحاب التعاويذ والحروز المتنّوعة، حتى إنك لا تستطيع أن تميّز أحياناً بين الشيء وضدّه، فقد اختلطت الوجوه والصور والمواقف.
           وحسبنا أن نردّد قول شاعرنا الجميل مظفّر النواب : "قتلتنا الردّه إن الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّه"، خصوصاً حين إفتُقِدَتْ الصدقية التي كانت الرأسمال الإنساني الحقيقي سواء على الصعيد السياسي أو ببعديها الإجتماعي والثقافي، يوم كانت الأخطاء ذاتها صميمية، فالمرء يجتهد، وقد يخطأ وقد يصيب. وحسب قول الإمام الشافعي : "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب" والبشر وفقاً لفولتير "خطّاؤون"، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة فحيثما يميل تميل معه، لذلك اقتضى أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
         وحين تنهار المنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية أو تتصدّع أركانها، سواء بفعل عوامل خارجية أو داخلية، فإن صورة المجتمع تتشّوش بفعل الفوضى والعنف والزيف، خصوصاً حين تتداخل القضايا والمصالح. ولو تابعنا البرامج والسياسات والعلاقات الإجتماعية بغض النظر عن المواقع والمواقف، فسنرى الكثير من عناصر الشبه بينها، حتى إن المرء لا يستطيع أن يميّز أحياناً بين ذات الشمال وذات اليمين، لاسيّما حين أخذ بعضهم يستعير لسان الآخر وخطابه، حتى وإن كان متخماً بعكسه وأشبعنا بضدّه على مدى سنوات طوال. هكذا تضبّبت الصورة واختلط المشهد وتداخلت المواقع والأطروحات.
          كان مهدي السعيد وهو ابن البيئة الشعبية البغدادية الكرخية يقارب المشهد السياسي برؤية سسيوثقافية، ولم يرغب أن تفلت حادثة كبرى أو صغرى إلّا وحاول أن يمرّ عليها ولو سريعاً، كما توقّف عند بعضها وتعمّق في أخرى، لكن حبكته الدرامية ظلّت تنتقل معه وتتداخل مصادرها بين الإجتماعي والثقافي، وإنْ ظلّ السياسي والحزبي لاحقاً متميّزين في رؤيته على نحو بارز وشديد.
         ولكنه بالتدرّج أخذ يتّجه نحو أفق أوسع رحابة، منتقّلاً من العمل الحزبي "الضيّق" إلى العمل السياسي بمعناه "الواسع"، ومن هذا الأخير إلى العمل الإعلامي، خصوصاً باتساع معارفه وعلاقاته العربية بعد أن عمل في السفارة اليمنية في براغ وفيما بعد حين انتقاله إلى لندن، حيث توسّعت دائرة اهتماماته وعلاقاته العراقية، إضافة إلى الوسط الإعلامي العربي. وقد وفّر له ذلك فرصة إجراء مراجعات تاريخية، لاسيّما في سنوات ما بعد الإحتلال، لينتقل إلى التأمل وإعادة قراءة بعض الأحداث ونقدها بروح منفتحة وغير حزبوية.         
      جيل الستينات : جيل الأسئلة
       منذ أن علقَ مهدي السعيد بالسياسة، فتعلّق بأهدابها وركض وراء أحلامها الوردية حتى وإنْ كلفته منافي ومعاناة، لكنه واصل سيره في دروبها الفسيحة والوعرة في الآن، منتقلاً من  محطة إلى أخرى ومن مدينة إلى ثانية، حاملاً معه ذكريات متنوعة مختزناً أسراراً عديدة.   
       وكنت قد تعرّفت عليه وعلى أشقائه في العام 1960 وذلك من خلال صديقي العزيز جواد العادلي عن طريق صاحب المكوى "اسماعيل" الذي يرد ذكره في المذكرات، وهو من أقارب العادلي وكانت عائلته صديقة لعائلتنا وسكنوا بجوارنا لفترة من الزمن، وكان شقيق جواد العادلي "حمودي العادلي" وهو عضو في الحزب الشيوعي معتقلاً معنا، وقد تمّ تقديمه للمجلس العرفي العسكري، وحكم عليه لثلاث سنوات قضاها في سجن نقرة السلمان الصحراوي. وبعد إطلاق سراحنا وتسوية أمور فصلنا من المدرسة وقبولي في الجامعة، إلتقيت بهادي ومهدي وفيما بعد سعدي السعيد عدّة مرّات، حتى تعمّقت علاقاتنا خلال أحداث انشقاق الحزب الشيوعي في العام 1967 واستمرت خلال العقود المنصرمة.                                                                                                                                                                                                                                                         
       ولذلك حين طلب مني مهدي السعيد كتابة مقدمة لسيرته الذاتية، ركنت مشاعر الصداقة جانباً لكي أقرأ ما أعرفه ولا أعرفه عن صديق جمعتني به صداقة زادت على خمسة عقود ونصف من الزمان. ولا أذيع سراً إذا قلت إنني بقدر ما أعرف مهدي السعيد فقد استمتعت بما كتبه وبما لفت الإنتباه إليه وبما حاول إضاءته، فقد عاش الأحداث  بكل جوانحه منذ أواخرالخمسينات ومطالع الستينات من خلال معاينة ومعايشة ومشاركة، خصوصاً حين بدأ وعيه الأول يتشّكل مع السنوات الأولى من ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958  ليتوقف عند محطتة الراهنة، وهو بعد نحو نصف قرن من التعب والكدّ والإنشغال، يراجع بروح إيجابية مسيرته التي لا تخلو من مرارة وخيبة، بل إنه يراجع مسيرة جيلنا أيضاً، خصوصاً لماعاناه.
             وحين أتحدّث عن جيلنا فهو جيل الستينات الذي أفلح الشاعر والروائي فاضل العزّاوي في كتابه "جيل الستينات - الروح الحيّة" في تسليط الضوء على معاناته الفائقة وإرهاصاته الباهرة، سواء على الصعيد السياسي والثقافي أو على الصعيد الإجتماعي لا سيّما التطلّع إلى الحداثة والإنفتاح على المدارس المختلفة في الأدب والفن والعمارة بكل صنوفها وألوانها، خصوصاً بعد هزّة العام 1963 الإرتدادية، التي أحدثت صدمة كبرى في الحركة الفكرية والثقافية والسياسية في العراق. وكان هذا الجيل قد اجترح عذابات لا حدود لها على صعيد الفكر والهوّية والعلاقة بالآخر والتنوّع والتعدّدية، وبالطبع في قضايا الحريات العامة والخاصة، ولاسيّما حرّية التعبير والإعتقاد والتنظيم والحق في المشاركة.
           ويختلف جيل الستينات الذي عاش فترة انتقال حادّة وأوضاع تغيير على صعيد عالمي، عن جيل الأربعينات والخمسينات، حيث سادت اليقينيات الآيديولوجية والتقسيمات الإستاتيكية "شبه الثابتة" في تقويم طبيعة الصراع، ناهيك عن الإنخراط فيه، كما إنه يتميّز عن جيل السبعينات والثمانينات الذي بدأ معه صراع من نوع آخر وكان المشهد قد اكتمل، فجيل الستينات هو جيل الأسئلة الكبرى، حيث لم تعد تكفيه الإجابات الجاهزة، واليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية، فقد أخذت الأسئلة تتكدّس، وكان الجواب لا يجد سبيلاً للإقناع، وهكذا كانت الإرهاصات تكبر وتغتني بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي احتاج إلى نوع جديد من الجدل على مستوى الداخل الجوّاني، إضافة إلى الخارج الفوقاني.
         لم يتحدث مهدي السعيد عن جيل الستينات بشكل عام، بل اختار "حلقة" محدّدة منه طابعها العام متمرّد وبأشكال متنوّعة وامتازت بنوع من التضامن والتواصل والمودّة، على الرغم من العواصف والمتغيّرات والصراعات (الداخلية والخارجية) التي كانت سائدة فضلاً عن اختلاف المواقع والمواقف والمآلات لاحقاً، وهو ما قد أعود إليه في وقت آخر.
        ويذكر مهدي السعيد بالأسماء عدداً من أفراد تلك "الحلقة" اليسارية التي عملت بثقة وظلّت متماسكة في كل الظروف أصابت أم أخطأت.
        بصمة مملّحة
       جاءت سيرة مهدي السعيد مزيجاً من ذكريات ومذكرات واستعارات ومراجعات وتجارب وخبر منها ماهو ناجح ومنها ماهو فاشل، وبقدر ما حاولت تقديم عرض جاد لتجربة ذاتية وسياسية بامتياز، فإنها في الوقت نفسه حفلت بطرائف وحكايات ومصادفات ممتعة حاول الكاتب تمليح نصّه لكي لا يأتي ثقيلاً، وقد وضعها بأسلوب مبسّط ويكاد يكون عفوياً، ولعلّها تعكس جوانب من شخصيته المرحة رغم جديّتها.
        السيرة الذاتية لمهدي السعيد تضمّنت بوحاً في جزء غير قليل منها وكشفاً لواقع سسيوثقافي، حاول أن يعطيه بصمته الخاصة، خصوصأً باستعراض لا يخلو من دهشة الكاتب ذاته الذي اختزن هذا الكمّ الهائل من الصور والمشاهد والأحداث والمفارقات في ذاكرته، وقد يكون مفيداً قراءة هذه المذكرات كحلقة متصلة ومتكاملة، بل ومتراصة على الرغم من المراحل التي وضعها.
        محلّة الدوريين
        تحدّث مهدي السعيد عن طفولته وعائلته،  وفي الوقت نفسه فإنه غاص في الكلام عن محلّة الدوريين، منبع صباه ومسقط رأسه، حيث تناول دراسته وصداقاته، حتى وصل إلى تشكّل وعيه، ثم انخراطه بالعمل السياسي، وفي أواسط الستينات نشط في إطار الحزب الشيوعي ثم أصبح عضواً فيه، وعمل في اتحاد الطلبة وانتخب في المؤتمر الرابع المنعقد في "جديدة الشط" في منطقة "الراشدية" في  28  كانون الأول (ديسمبر) 1968 عضواً في لجنته التنفيذية، وكان شقيقه سعدي السعيد عضواً في سكرتارية اتحاد الطلبة منذ أواخر العام 1967، حيث تمّ تجديد انتخابه في الكونفرنس الرابع الذي التأم في جزيرة "أم الخنازير" ببغداد في 10 تشرين الأول / أكتوبر 1969. وحسب معرفتي المتواضعة فقد لعب كل من مهدي وسعدي السعيد دوراً مهماً في مواجهة حركة الإنشقاق الكبرى التي قادها عزيز الحاج في (17 أيلول /سبتمبر/ 1967) ولاسيّما في نطاق طلبة الثانويات، واستطاعا أن يشكّلا ركائز مهمة وأساسية.
         وتقرّر أن يمنح الحزب زمالة دراسية لمهدي السعيد الذي كان قد تخرّج من الثانوية ولم يجد فرصة للدراسة في بغداد، وحاول الدراسة في دمشق، لكنه عاد بسبب التكاليف الباهظة، وهكذا غادر هو ومحمد الأسدي إلى براغ في العام 1969 الذي مُنح هو الآخر زمالة دراسية، وحينها انتخب في قيادة الإتحاد في المؤتمر الرابع أيضاً، وواصل مهدي السعيد نشاطه في براغ فأصبح عضواً في لجنة التنسيق الطلابية (لقيادة تنظيمات الخارج) في أواسط السبعينات، ثم عضواً في لجنة تشيكوسلوفاكيا للحزب، وعاد إلى العراق ليخدم العلم، واضطّر إلى الهجرة مرّة أخرى بسبب تردّي الأوضاع السياسية، وانهيار صرح الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين، لاسيّما اشتداد حملة المطاردة ضد الحزب الشيوعي وأعضائه ومؤيديه.
         وفي عودته الثانية إلى براغ أكمل الدكتوراه وعمل لمدة 10 سنوات مترجماً في السفارة اليمنية، ثم اضطّر إلى اللجوء للعاصمة البريطانية "لندن" بعد انهيار النظام في تشيكوسلوفاكيا واندماج اليمن الجنوبية بالشمالية وتحقق الوحدة اليمنية، وكان وقتها يحمل جواز سفر يمني جنوبي، ولم يكن مؤكداً تجديد عقد العمل معه، لذلك اختار اللجوء.
        وفي لندن واصل عمله السياسي، وهذه المرّة من خلال المعارضة العراقية التي عمل في إعلامها وحضر عدداً من مؤتمراتها، كما كتب في صحف وإذاعات عربية كجريدة "الحياة" وإذاعة "كل العرب"، واتّسعت دائرة علاقاته، وأخذ ينظر إلى الماضي برؤية نقدية أكثر من قبل، حيث قرّر أن يستقل في نشاطه السياسي والثقافي.
        ولأنه اتخذ موقفاً خلال اجتماعات واشنطن للمعارضة العراقية كما يقول، حيث كانت توضع اللمسات ماقبل الأخيرة لغزو العراق، فقد استبعد من المشاركة لاحقاً في التشكيلات الحكومية والإعلامية، ويعدّد بمرارة إن جميع من كانوا معه حصلوا على مناصب عليا، وهو الوحيد الذي تمّ استثناؤه كما يذكر، ولكنه غير نادم على ذلك، فقد تكشّفت أمامه الكثير من الحقائق ما بعد الإحتلال، ولم يكن يرتضي قبول الكثير منها، وهو سعيد بما اتخذه من موقف يسرده في هذه المذكرات، من خلال نقد ذاتي وهو ماعبّر عنه أمامي أكثر من مرّة.

         الطفولة - الينبوع - المستقبل
         ويتناول في محطات الطفولة الأولى، انتقال والده ووالدته من الناصرية حيث ينحدر من عشيرة آل إزيرج العربية، ليستقرّا في بغداد وفي محلة الدوريين، وكيف التحق والده الفلاح البسيط كما يقول بخدمة العلم العام 1948 حيث أرسل إلى فلسطين، وكانت العائلة  قد استبشرت قبل ذلك بولادة الصبي الذي أسماه "مهدي" تيمّناً بالمهدي المنتظر "صاحب الزمان"، وهو ثالث أخوته بعد كاظم وهادي، ويأتي رابعهم سعدي الذي سيرافق مهدي في مسيرة الشقاء والشيوعية والمنافي، وكان سعدي قد غيّر اسمه إلى "عادل" بعد اعتقالات وملاحقات، وبذلك تمكّن رسمياً من الحصول على جواز سفر، لمغادرة العراق للدراسة أولاً، ثم عاد إلى العراق، وحين اشتدت حملة ملاحقة الشيوعيين اضطر للسفر إلى بيروت ومنها إلى دمشق، حيث عمل في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" وفيما بعد هاجر إلى باريس للإستقرار.
         يتحدّث مهدي السعيد عن محلّة الدوريين الينبوع المتدفق بالجديد، ولا سيّما سوقها الشهير المعروف "سوق عيسى" وكيف كان الناس بعد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، متعايشين ومتضامنين، لكن ما حدث من شرخ سياسي أدى لإنقسامهم إلى قسمين، وكانت السياسة قد لعبت بالرؤوس كما يقال، فالقسم الأول وقع تحت تأثير الحزب الشيوعي، في حين وقع القسم الثاني تحت نفوذ القوميين، وخصوصاً من حزب الإستقلال ومن ثم حزب البعث، وكان مثل هذا التصنيف امتداداً لنفوذ الأحزاب قبل الثورة، لكنه اتّخذ طابعاً عدائياً وتناحرياً بعدها، حيث اشتّدت الخصومات والعداوات والبغضاء.
         ولم يكتفِ مهدي السعيد "أبو ثبات" كما كنّا نكنّيه أو الرفيق "صائب" أو "أبو أسيل" لاحقاً بتصوير الأجواء السياسية المحتدمة، بل سرد علينا حكايات وقصصاً ممتعة وفي الوقت نفسه لها دلالات ينبغي أن تقرأ في سياقها التاريخي عن الوضع الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والتعليمي والصحي لسكان محلّة الدوريين.
         ولم ينس أن يتعرّض للإنتماءات العرقية والتنوّع والتعدّدية التي عرفتها، فهناك العوائل المسيحية و الصابئية  (المندائية)، وهناك عرب من غرب العراق من أصول سنّية، مثلما هناك العرب الشيعة، وهؤلاء غالبيتهم من وسط وجنوب العراق إضافة إلى وجود مجموعة من العوائل الكردية، وهو بذلك حاول أن ينقل لنا حالة التعايش والتسامح والتضامن التي كانت الكثير من مناطق ومحلّات بغداد تعيشها بطريقة عفوية وتلقائية ودون أية حساسيات، مثلما كانت محافظات أخرى تعيش ذلك مثل الموصل والبصرة وكركوك وديالى والحلة وغيرها، وهي مناطق توتر وعنف وتطهير عرقي وطائفي، إضافة إلى محافظات إقليم كردستان مثل إربيل والسليمانية ودهوك.
        الشقاوات
         ينتقل السعيد بعد ذلك ليحدثنا عن صنف إجتماعي آخر، ألا وهو "الشقاوات" وهم صنف يمتاز بقيم ومفاهيم خاصة عن النخوة والشهامة والدفاع عن المظلوم، وفي الوقت نفسه يلتجأ إلى أخذ "الأتاوات" أحياناً واستخدام العنف ومحاولات الإستقواء على الآخرين لفرض الهيمنة عليهم. ويشير إلى أنّ مُثل الشجاعة والتصدي للغرباء والدفاع عن أبناء المحلّة كانت تستهوي الشباب تشبّهاً أحياناً ببعض الشقاوات، ويقول أنه "وفي إحدى مراحل النمو كدتُ أفقد بوصلة التطور الإيجابي وأتحوّل إلى صنف الشباب الذي يمارس الشقاوة"، ولكن تربيته العائلية والمحيط الإجتماعي هو الذي جعله يختار طريق التعليم والسياسة لاحقاً، وإلّا كما يقول كنت : "مقتولاً أو قابعاً في السجون".
          والشقاوات التي يتحدث عنهم مهدي السعيد وإنْ كانوا يحترمون المثقفين والأدباء، فهم انقسموا أيضاً بانقسام الشارع السياسي، فمال قسم منهم إلى القوميين والبعثيين، بل أصبح بعضهم من الجهاز الصدامي المعروف باسم "جهاز حنين" الذي أشرف عليه صدام حسين نفسه، ومن أبرز أعضائه كان "جبار كردي" و "ستار كردي"، وكان آخر عمل قاما به هو إطلاق النار على تظاهرة احتفالية شيوعية بمناسبة ثورة أكتوبر (1968) في ساحة السباع ببغداد، حيث استشهد فيها 3 أشخاص وجرح 12 شخصاً، أما القسم الثاني فمال إلى الشيوعيين ومن أبرزهم "خليل أبو الهوب" الذي قُتل في العام 1959 في مقهى بشارع النصر ببغداد، ومساعده فاضل طويرني الذي لجأ إلى ألمانيا الديمقراطية، وفيما بعد إلى براغ وعاد إلى بغداد في أواسط السبعينات.
          وتعتبر ظاهرة الشقاوات قديمة وتعود إلى العهد العثماني، ومن أبرز الشقاوات "أحمد قرداش"، واشتهر عدد من الشقاوات في مطلع القرن العشرين مثل "إبن عبد كه" الذي ذاع صيته و"موسى أبو طبرة" و"جواد الأجلّك"، وقد تناول سِيَرِهمْ عالم الإجتماع المبدع علي الوردي، وخلال اندلاع ثورة العشرين، انضم إليها بعض الشقاوات وأبلوا فيها بلاءً حسناً مثل "عبدالمجيد كنّه" وهو عمّ الوزير خليل كنّه، وقد ساهم في مقاومة الإنكليز، إضافة إلى تكليفه بمهمات أخرى.
         وحسب حسن العلوي فإن نوري السعيد هو الآخر كان قد اعتمد على الشقاوات في الإنتخابات وفي إيذاء الشيوعيين المناهضين للنظام الملكي، وكانت مكافأة لهم السماح بالإستيلاء على أحد الكراجات والإستحواذ على مردودها. وإذا كان النظام البعثي قد استفاد من الشقاوات فإنه قام بتصفيتهم لاحقاً، ولم يسمح بنمو ظاهرة العنف خارج نطاق الدولة التي تعزّز توجهها الشمولي الكلّاني منذ اليوم الأول.
           طرائف ومفارقات
           يستذكر السعيد بشغف مرور سيارة الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله  خلال ذهابهما أسبوعياً وفي يوم الجمعة إلى المقبرة الملكية، وكيف كان يصطف الجميع على جانبي الطريق ليقوم الملك الشاب بالتلويح لهم. جدير بالذكر إن الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله قتلا يوم 14 تموز /يوليو/ العام 1958 وتمّ التمثيل بجثة الأخير وسحله في الشوارع  فيما بعد، وكانت جثته قد تمّ تعليقها لتتدلّى من سطح أحد فنادق الكرخ، حيث اجتمع الناس ليشاهدوها وترتفع حماستهم لرميها بالأحذية. وكان مهدي السعيد قد شاهد هذا الحادث، مثلما شاهده كاتب السطور وسبق أن كتب عنه لما تركه من تأثير سلبي عليه.
         ويستحضرمهدي السعيد حادثة طريفة، وهي كيف إن الجاموس القادم من "جسر الخرّ" والعائد إلى معدان محلّة الذهب، الواقعة على مشارف شارع الشيخ معروف، كان قد عطّل الموكب الملكي، وأحدث نوعاً من الارتباك والخوف، خصوصاً في ظلّ الأوضاع السياسية غير المستقرّة، ولم تفلح سيارات المرافقين وهي تهدر "بالهورنات" (الزمّورات) العالية لانفراج الموقف، حيث كان الجاموس على ما يبدو "يتبختر" بتمهّل وهو يمرّ من أمام سيارة الملك الشاب.
              وفي موقف آخر عطّل "مهدي خبالو" مرور سيارة الملك فيصل الثاني، حين حاول قطع خط سير الموكب الملكي دون أن يلتفت لأحد، وكان قد واصل عبوره للشارع ببطيء شديد مع ابتسامة عريضة، واضّطرت حينها سيارة الملك إلى التّوقف ريثما اجتاز "مهدي خبالو" الشارع باتجاه الرصيف، ولم يكن مثل هذا المشهد يمرّ دون ارتباك واستنفار من جانب الشرطة تحسّباً لما قد يحدث.
           ثم يعود ليخبرنا من هو "مهدي خبالو"؟ فيقول إنه : معلم وصاحب معشر ومزاج طيب وعلاقات اجتماعية حسنة، ولكن بعض تصرّفاته الغريبة جعلت بعض أصدقائه يتمازحون معه فيلقبونه باسم "مهدي خبالو"، علماً بأن توجّهه السياسي كان قريباً من القوميين العرب، وهو صديق لكاظم شقيق مهدي السعيد الذي كان طالباً متفوقاً في الإعدادية المركزية التي كان لها شأن كبير في الخمسينات، خصوصاً وكانت تحظى باهتمام المسؤولين وكان من منتسبيها أبناء الطبقات العليا والمتوسطة، إضافة إلى المتفوقين في الدراسة، ولعبت دوراً سياسياً معارضاً للنظام الملكي، خصوصاً في انتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي الأنكلو - فرنسي الإسرائيلي.
          ويتحدّث عن بعض المحلات الشعبية القريبة من محلّة الدوريين مثل محلّة الذهب التي كانت تضمّ بعض بيوت الدعارة، ولا ينسى أن يروي لنا تفاصيل المجزرة التي تعرضّ لها المومسات في إحدى الصباحات حين فاق الناس ليشاهدوا كيف تمّ ذبحهن، وقد قام هو بفضوله ودهشته الطفولية بمشاهدة سبع جثث مقطوعة الرؤوس ملقاة على الأرض وبقع الدماء تحيط بها من كل جانب، حيث هرع مع أطفال المحلّة بعد ذيوع الخبر.
         وفي غمرة ذلك يحدثنا السعيد عن الفرق الرياضية الشعبية وكيف لمع نجم اللاعب الشهير "ناصر جيكو" في الخمسينات ومحمد راضي في الستينات وغيرهم.
         وفي المذكرات يتناول مظهراً آخر يلتجأ إليه بعض العاطلين عن العمل، والهدف الحصول على ربح سريع ودون بذل جهد، ألّا وهو لعبة "السي ورق" المشهورة التي يستدرج إليها السذّج والمغفلين.
         وبعد ذلك يصوّر لنا ساحة المتحف التي تعجّ بالمسافرين والمارّة، وهناك ألعاب السحرة والقردة ومربي الأفاعي والعقارب، والحلاقين الذين يفترشون الرصيف، وكانت أخته الكبرى شريفة تصطحبه معها باستمرار لحلاقة شعر رأسه في الساحة وعلى الطريقة الشعبية.
         ويستذكر مهدي السعيد بعض المشاهد التي ستبقى عالقة في ذاكرته، منها : منطقة اسمها "جولة أم عليوي"، وهي كما يقول كانت مسرحاً لطفولته، وفيها عدداً من بيوت الأغنياء بينهم "أمين خاكي" أحد أبرز القادة العسكريين، وهو عراقي من أصول تركية، وهكذا كانت تتجاور الأصول الاجتماعية في المحلّات البغدادية. وتضمّ المحلّة أيضاً الكتاتيب ومن أشهر الملّايات "الملّه قادرية" التي تعلّم على يدها مبادىء القراءة وحفظ بعض صور من القرآن قبل ذهابه إلى المدرسة.
         وبالقرب من المنطقة كانت دار الإذاعة في الصالحية حيث كان مهدي السعيد طفلاً يقتنص النظر إلى بعض المطربين مثل حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وعبد الصاحب شرّاد، وبعد العام 1958 يقول كنّا نرى مصطفى جواد وشمران الياسري (أبو كاطع) وغيرهما يترددون على دار الإذاعة. أما عزيز علي المطرب المعروف فقد كان يتحاشى الجلوس في المقهى كما يقول.
         شيوعيو محلّة الدوريين
         ويمضي مهدي السعيد في سرديته ليتناول عمل الحزب الشيوعي في محلّة الدوريين والمحلات المجاورة، وكيف كان عبدالأمير عباس "أبو شلّال" يستخدم "الدراجة الهوائية" في حركته وتنقلاته. وكان قد أصبح في وقت لاحق عضواً مرشحاً للجنة المركزية، وحين انفرط عقد الجبهة بقي أبو شلّال في العراق وعاش في ظروف بالغة القسوة.
         وقد حدثني سعد البزّاز حين انتقل إلى لندن وأصدر بعد حين "جريدة الزمان"، أن كتاباً جاءه من رئاسة الجمهورية يطلب منه الاتصال بعدد من الشخصيات والطلب منها الإدلاء بتصريح ضد "العدوان الثلاثيني" العام 1991، أي بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وانسحابها إثر حرب قوات التحالف ضدّ العراق، التي بدأت 17 كانون الثاني (يناير) العام 1991 وانتهت في 26 شباط (فبراير) من العام ذاته.
         وحسبما نقل لي البزّاز فقد أرسل أحد الصحفيين ومعه مصوّر (وكان البزّاز حينها رئيساً لتحرير صحيفة الجمهورية) واستدلّ الصحافي والمصوّر على البيت، لأن عنوانه كان قد جاء من ديوان الرئاسة، ووصلوا إليه وفوجئوا برجل مهاب وكبير السن ويبدو على مظهره أنه خارج دائرة السياسيين المعروفين، وحين طلبوا منه الإدلاء بتصريح، اعتذر معلّلاً ذلك بأنه لا يفقه بمثل هذه الأمور، وعليهم أخذ آراء الخبراء والمختصين وأساتذة الجامعة في حين إنه صاحب دكان صغير يبيع فيه بعض احتياجات العمل اليومي المنزلي. فواجهوه بأنه سياسي وقيادي في الحزب الشيوعي، فقال لهم "كان زمان" وإنه نسي كل شيء.
        وهكذا تملّص أبو شلّال الذي لفّ رأسه باليشماغ من الظهور أمام الشاشة أو عدسة المصوّر كي لا يفسّر الأمر بأنه تنازل أو ما شابه ذلك مع إنه قال لهم أثناء الحديث إن الناس جميعاً ضدّ العدوان الثلاثيني. وهنا بدأت حيرة البزّاز، فماذا سيكتب للرئاسة ؟ هل سيقول إنه رفض. أو امتنع أو اعتذر ؟ والتفسيرات والتأويلات ستكون غير مقبولة وستجلب معها مشكلات للرجل، وببراعته كتب ما معناه : إن الرجل بلغ من العمر عتيّا، وهو منشغل بقوته اليومي، فضلاً عن ذلك، فهو بسيط ولا يمكنه التعبير، كما أن وضعه الصحي بائساً. وبذلك كان أبو شلّال  بمنأى عن استجواب أو إعادة استذكار أو تبعات أخرى.
           كما يحدثنا مهدي السعيد عن فتح محل لكيّ الملابس، ويبدو إن المحل كان محطة حزبية استخدمها حسن عوينه القيادي في الحزب الشيوعي وعضو لجنة الارتباط، وقد قتل تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 في قصر النهاية، وأذيع خبر استشهاده مع سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس يوم 7 آذار (فبراير) 1963. ويقول مهدي السعيد إنه تعرّف على حسن عوينه بعد نشر صوره في وقت لاحق.
         ويذكر أيضاً أن الطبيب الشيوعي فاروق برتو افتتح عيادة له، وهو شقيق بشرى برتو وهي قيادية أيضاً في الحزب الشيوعي، وزوجة  رحيم عجينة القيادي في الحزب أيضاً، حيث كان قد خصّص أحد أيام الأسبوع مجاناً لعلاج المراجعين، ولاسيّما من الفقراء وضعيفي الحال، ويقول جرت محاولات لدهم عيادته من جانب شرطة التحقيقات الجنائية لأن صيته كان قد ذاع وعرف الناس إنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ولذلك انبروا للدفاع عنه تلقائياً.
         ومن الشخصيات التي يتناولها أيضاً عطشان ضيول (الإيزرجاوي) الذي كان مسؤولاً في الخط العسكري للحزب الشيوعي، وقد سكن مع والدته بعد انتقاله من الناصرية في محلّة الدوريين، وإنه أصبح بعد ثورة 14 تموز (يوليو) مساعداً لآمر المقاومة الشعبية طه البامرني، وكان من دعاة الإستيلاء على السلطة أيام حكم عبد الكريم قاسم، ويقول أن ثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وآخرين كانوا ضدّ هذا التوجه، وقد فتح هذا الموضوع مع العاني في لندن مستذكراً الإيزرجاوي، كما سأل عنه آرا خاجادور في براغ.
         ويروي السعيد نقلاً عن آرا خاجادور إن اللجنة المركزية حينها أبعدت سلام عادل إلى موسكو الذي كان يميل إلى استلام السلطة وإزاحة عبدالكريم قاسم، ويقول إن ذلك كان جزء من الصراع حول السلطة بين تيارين : الأول ممثلاً بمجموعة الأربعة : زكي خيري، عامر عبدالله، بهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وإن كان الأخير أقرب إلى سلام عادل، لكنه احتسب على الجماعة المتكتلة حتى وإن لم يتفق معها فكرياً (وقد استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/فبراير/ 1963)  و كان هؤلاء ضد توجّه سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول، والأخيرأبعد إلى موسكو ومنعه ال KGB من الإتصال بالآخرين، ويروي قصته الدرامية حيث توفي في ألمانيا.
      ثورة 14 تموز
           يتحدث مهدي السعيد عن يوم ثورة 14 تموز وشعوره عند هدم تمثال الجنرال مود الذي قال حين احتل بغداد "جئنا محرّرين لا فاتحين"، ويذكر كيف هرب نوري السعيد ولجأ إلى بيت الإستربادي في الكاظمية، وكيف دخل هو ووالدته إلى بيت نوري السعيد. ثم يتناول كيف أسّس الشيوعيون التنظيمات سريعاً مثل الشبيبة الديمقراطية والمقاومة الشعبية.
          ويستعيد مهدي السعيد أيام تموز والمهرجانات، وكيف صافح عبدالكريم قاسم وكذلك الملّا مصطفى البارزاني، ولكنه يتناول بمرارة الإنقسام الشعبي، ولاسيّما بين الشيوعيين والقوميين، خصوصاً بعد حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في منطقة "رأس القرية" بشارع الرشيد، وكان من بين من شاركوا بها صدام حسين، وينشّط ذاكرته بحديثه مع د.تحسين معلّه، خصوصاً عن قضايا التعذيب في قصر النهاية.
        ومن مظاهر اشتداد حالة الإحتقان الشعبي اغتيال الشيوعيين أحد الأشخاص وسحله في مدينة الكاظمية، وقد اتهم بها منذر أبو العيس الذي صدر الحكم بإعدامه، وقد تمّ تنفيذه بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963. ويشير إلى أن محلّة الدوريين كانت تعجّ بالخلافات. ويتوقف عند انقلاب البعثيين الأول الذي أطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وطارد الشيوعيين واعتقل الآلاف منهم وكيف جرت محاولة لإعتقال أخيه كاظم.
       
        أول مهمة حزبية
        وعن أول مهمة حزبية له كانت عشية حركة حسن سريع في 3 تموز (يوليو) العام 1963، وهو نائب عريف حاول قيادة انتفاضة مسلحة ضد حكم البعث الأول، لكنها فشلت واعتقل المشاركون فيها وحوكموا وأعدموا.
        أما المهمة التي كلّف بها فهي كتابة بيانات بخط اليد على ورق الكاربون، وكان المسؤول عن المجموعة حسبما يقول "محمد كريم" الذي أعدم في حركة حسن سريع، لينتقل بعدها إلى عمل حزبي منظّم، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية ويستعيد العلاقات في تلك الفترة، ويستذكر عدد من المسؤولين بينهم كاظم حبيب، وكيف ساهم عدد من الرفاق في إعادة التنظيم منهم: حسن أسد الشمري وصلاح زنكنة وحميد برتو ولؤي أبو التمّن وسعد الطائي وطه صفوك وكاتب السطور وآخرين، ويقول إنه تم تشكيل فرقة حزبية صدامية ويروي حادثة مقتل سامي مهدي الهاشمي في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية. وكنت قد رويت في أكثر من مناسبة موضوع تصدّع علاقتي بالحزب بسبب هذه الحادثة وحوادث أخرى حدثت في كردستان لتعذيب شيوعيين على يد رفاقهم.
         ويستعرض السعيد خلال هذه الفترة عدداً من الأحداث العامة والخاصة منها اعتقال شقيقه سعدي (المرة الأولى حين كان لا يزال في بغداد، ثم يذكر اعتقاله لمرّة ثانية حين غادر هو بغداد) وسفره بعد حصوله على زمالة دراسية، ليصل إلى محطته الجديدة "براغ".
         يقول عن براغ أنها مدينة الأحلام، لكن أحلامه كادت أن تطير لأن زمالته مُنحت إلى شخص آخر، وكان عليه الإنتظار لبضعة أشهر، وحصل الأمر كذلك مع رفيقه محمد الأسدي ريثما يتم قبولها بعد بضعة أشهر، ويتحدث عن معاناته خلال تلك الفترة وعلاقاته مع الطلبة مثل حسون الربيعي وعلاء صبيح وسلمان الحسن وفؤاد زلزلة، وعن مقهى سلافيا والعلاقة مع الملحقية الثقافية، ولاسيّما مع عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، ويستذكر حادثة حصلت لعلي صالح السعدي الذي حضر حفلاً بمناسبة الذكرى الثانية لبيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 وكان بصحبة السفير محسن دزئي، وكان من الحاضرين عبد الستار الدوري ومهدي الحافظ وموسى أسد وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وآخرين، وكان السعدي قد أطرب للمقامات البغدادية التي أدّاها علاء صبيح، وحاول مصافحته، ولكن الأخير امتنع عن ذلك وحين سأله لماذا؟ أجابه بأن يديك ملطّختان بالدماء وقد احتدّم الموقف، وحاول دزئي ورفاقنا احتواءه.
           وبعد قبوله وانتقاله إلى مدينة أخرى لدراسة اللغة، ثم دراسته في كلية الزراعة، سلّط ضوءًا على حياة الطلبة والأجواء الاجتماعية السائدة وهي ذكرتني برواية "الجليد" لصنع الله إبراهيم التي كتبها عن فترة دراسته في موسكو (1973) وهي فترة مقاربة لما عاشه مهدي السعيد في براغ، وفي الرواية وأحداثها ثمة بحث عن الذات وعن المرأة وعن الجمال.
         بين براغ وبراغ   
         ثم يتناول السعيد بعد ذلك المقطع الفاصل بين المرحلتين، أي بين براغ وبراغ، حين غادرها أول مرّة عائداً إلى العراق أدى خدمته العسكرية الإلزامية في أجواء من القلق والخوف الذي رافقه، وكيف تمكن من التخلص من استحقاقات خطرة، قد تؤدي بحياته، فكما هو معلوم كان العمل السياسي محرّماً في الجيش، كما إن الانتساب إلى حزب آخر غير حزب البعث قد يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، وهي مشاعر عاشها الكاتب نفسه الذي التحق في فترة مقاربة لفترة السعيد لأداء الخدمة الإلزامية وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
         وفي غمرة ذلك لا ينسى أن يذكر بعض الطرائف، منها إنه حين كان خفراً كان من مسؤولياته "سجن المعسكر" وكيف طلب منه السجناء تنظيف السجن، وقد وافق على ذلك لأنه كان قذراً للغاية والرائحة الكريهة تنبعث منه، وكان قد نُصح بأن يكون يقظاً كي لا يهرب أحد السجناء واسمه "صدام" وكان متهماً بقتل أحد أبناء منطقته، وطلبوا منه مشاهدة التلفزيون وتعهدوا أمامه بعدم الهرب وفعلاً تم ذلك، وحين عادوا جميعهم افتقد إلى وجود صدام بينهم، وهكذا  يقول "سيطر عليّ الخوف، ووقفت صامتاً أضع يدي على خدي وعيناي تتجهان إلى السماء"، ولكن بعد قليل ظهر صدام وكأنه جاء من وراء غمامة سوداء ودخل السجن، وفي اليوم التالي هرب الجندي "صدام" بعد أن استلم الخفارة أحد جنود الصف المكروهين كما يقول.
         لقد عكست مذكرات مهدي السعيد، في بعض محطاتها حياة مسكوت عنها بما فيها من خفايا وعقد ومشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية في الإطار السياسي الذي عمل فيه أو في الدولة الاشتراكية التي عاش فيها نحو عقدين من الزمان، وهي تكشف جذور الانهيار اللاحق، دون إنكار الإيجابيات بالطبع مثل كفالة الدولة لحق التعليم وتكاليفه وتوفير مستلزماته من السكن والمنحة، إضافة إلى التأمين الصحي وغير ذلك، لكن هناك شعور بالإجحاف والغبن لدى فئات واسعة، ناهيك عن شحّ الحرّيات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن غياب التعدّدية وعدم الإقرار بالتنوع وحرّية التعبير. وقد كان لسيادة العقلية الستالينية البيروقراطية  الأوامرية  سبباً آخر في تراجع الأحزاب الشيوعية والماركسية، بل وجميع الأحزاب الشمولية بما فيها أحزاب الفرع في المشرق العربي، سواء من كان منها في السلطة أو من كان خارجها حتى وإن كان من ضحاياها.
         وفي براغ يتحدث عن لقائه الأول بالجواهري ثم علاقته به، وخصوصاً عبر ابن شقيّقه رواء الجصاني الذي ربطته به علاقة وثيقة ومع عائلته أيضاً، ويذكر تحت عنوان لحظات مع المبدعين عن لقائه مع عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعز الدين المناصرة وسميح القاسم الذي رافقه برحلة إلى برلين لحضور مهرجان للطلبة العراقيين وعن قيادته لخلية المثقفين التي ضمّت : مفيد الجزائري وحسين العامل وجيان (يحيى بابان) وقادر ديلان وغريب الكروي (أبو وجدان) وصبري كريم (أبو شيرين) وحمزة رجبو.
       ويتناول بعض صداقاته في براغ لا سيّما مع موفق فتوحي وحميد برتو وفيصل اسماعيل وسميرة البياتي وحميد الدوري والعلاقة بين البعثيين والشيوعيين التي انتقلت من التحالف إلى العداء.
         وعن حياته في لندن يقول كانت أولى العوائل العراقية الأولى التي تعرّف عليها هي عائلة يعقوب قوجمان "أبوسلام" الشيوعي العراقي العريق، وهو صديق رفيقة عادل مصري والد "سرود" الذي عمل معه في لجنة التنسيق الطلابية ويتحدث عن عمله في إذاعة كل العرب مع نجم عبد الكريم وعلاقته الوطيدة مع نبيل ياسين الذي كان قد عيّن رئيساً لتحرير جريدة "المؤتمر"، وكيف بدأ يتعرف على المعارضة العراقية بشخصياتها المختلفة.
        وهكذا بدأت دائرته تتّسع وأفقه يمتد، الأمر الذي عرّضه لإنتقادات حزبية، وفضل هو محيطه السياسي وعمله مع المعارضة على الانتماء الضيق.
وينقل كيف اضطر إلى الإستقالة من عمله في إعلام المؤتمر الوطني العراقي قبل ذلك بعد أن جمد الحزب الشيوعي عضويته فيه (العام 1994) ويقول : "أصيب الكثير من الشيوعيين العراقيين العاملين في المؤتمر بالإحباط، لأن المشكلة لا تتعلّق بتمويل المؤتمر، فالشيوعيون حين انضموا إليه كانوا يعرفون جيداً الجهات المموّلة له مسبقاً، فلماذا إذن وافقوا على الإنخراط فيه؟"
        وبقي بلا عمل ويقول : "انطويت على نفسي لبعض الوقت، ولكني فكرّت من جديد بالعودة إلى عملي السابق... كحل وسطي ينقذني من حالة البطالة" واتصل بعامر عبد الله الذي أبلغه أنه ارتكب خطأ كبيراً، لأن الحزب لازال بعلاقات قوية مع قيادة المؤتمر، وقام عامر عبد الله الاتصال بأحمد الجلبي رئيس المؤتمر الذي أوعز إلى محمد عبد الجبار بإعادتي إلى العمل.
       ويحدثنا عن الكثير من المفارقات حول عمله في إعلام الوفاق (إياد علاوي) وإصداره "مجلة المسلّة الثقافية" بمشاركة عربية وبدعم من نبيل ياسين ولقاءاته مع ابراهيم الجعفري والقيادات الكردية،
        ويستعرض علاقاته مع المعارضة العراقية بحضوره مؤتمر لندن ومؤتمر واشنطن، حيث التقى بجلال  الطالباني  ومسعود البارزاني  وإبراهيم أحمد. وينقل عن لقاء مع وزارة الخارجية الأمريكية، وضمّ الوفد : حميد الكفائي وعبد الحليم الرهيمي ومهدي السعيد وإسماعيل  زاير وأحمد  الركابي  و شميم رسّام وربيع وعدد آخر بينهم أكراد، وكان من جانب وزارة الخارجية عدداً من المسؤولين بينهم سحر وهي سيّدة فلسطينية بالأصل وهي مسؤولة عن الملف العراقي.
        وكان هناك سؤال طُلب من الجميع الإجابة عنه وهو : ماذا سنفعل بالبعثيين ؟ وكان الجواب جماعياً "اجتثاثهم من الحياة السياسية وإبعادهم عن أية مهمة" و "معاقبة القياديين بأقصى درجات العقوبة بما فيها التصفيات الجسدية" ويعلّق مهدي السعيد بالقول : من جانبي وجدت هذا الموقف غير معقول... ونحن لسنا قصّابين للبشر، ولا نبحث عن الانتقام، و البعثيون في كل الأحوال "مواطنون عراقيون" وعلينا التعامل معهم بروح التسامح، أما من قام بالارتكاب فمن حق القضاء أن يأخذ مجراه (وقد دققت هذا الموقف معه وأكّد لي ذلك بالنص المنشور).
       ويبدو إن موقف شميم رسّام كان قريباً من هذا الموقف، وقد قاطعها أحد الأكراد كما يقول، واعترض على وجودها لأنها محسوبة على النظام البعثي وسبق أن رافقت طارق عزيز وعملت مترجمة للوفد العراقي فأجهشت بالبكاء، ويواصل مهدي السعيد حديثه وأنقل هذه الفقرة لدلالتها بقوله :" إن سيامند البنّا أخبرني بعدم رضا الأمريكان عن أطروحاتي، فتفاجئت لأنني سمعت منهم تقييمات إيجابية مباشرة عديدة لتحليلاتي".
         ويذكر إن لهذه الحادثة تداعياتها ويتساءل : هل كان هناك ثمّة تدخّل خارجي لا أعرف مصدره إلى الآن ؟ ويترك هذا السؤال بلا جواب، إذْ بعد الاحتلال كما يذكر حصل جميع المشاركين على مراكز مهمة وبعضهم أسندت إليهم رئاسة صحف أو إدارة إذاعة أو رؤساء للجان انتخابية أو مهمات استشارية ثقافية، وهناك من أصبح ناطقاً باسم الحكومة أو مديراً لإحدى الفضائيات وإنه الوحيد الذي على ما يبدو (أغضب الأمريكان) فاستبعدوه ؟
        وحسبما يقول كان نوري البدران (الذي أصبح وزيراً للداخلية بعد الاحتلال) قد سأله قبل الغزو الأمريكي بعدّة أسابيع  أي وظيفة تريد، فأجابه : الاشتغال بالسلك الدبلوماسي، وحبذا لو كان في براغ، أو جامعة الدول العربية أو عمادة إحدى الكليات العراقية، فأبلغه البدران يجب إطلاع إياد علاوي على الموضوع. وطلبوا منه الذهاب إلى عمان تحضيراً للدخول إلى العراق.
        وفعلاً أرسلوا له تذكرة السفر. ثم أخبره أننا سندخل بملابس عسكرية مع الأمريكان، ويذكر مهدي السعيد إنه حين سمع ذلك توقف قليلاً ويعلّق مهدي بحرارة بقوله : ولكنني لم أتحمل مثل ذلك.. وقد استحضر كل تاريخه السياسي "فأجبته بأني لا أدخل مع الأمريكان بملابس عسكرية، وإنما أدخل لوحدي كمدني". وهنا قال له البدران أنت لا تريد أن تأتي معنا، فكرّر عليه قوله، وفي اليوم التالي : أعاد التذكرة إلى السكرتيرة إيمان وتفاجأت بذلك، ولكن طبعاً لم أتفاجأ، كما يقول.
       دمشق والأسرة الجديدة
       ظلّ مهدي السعيد مضرباً عن الزواج حتى استقطبته دمشق، بل احتضنته، فتذكّر أيام دراسته الأولى لبضعة أشهر، ولكن هذه المرّة لم يكن من بد إلّا وعقد زواج مع رفيقة أرادها أن تكون مواصلة لحبه القديم لدمشق. كان سعيداً للغاية بهذه العلاقة وأنجب طفلتين، لكن زوجته تعرّضت إلى متاعب غير قليلة بسبب الأحداث التي حصلت في السنوات الأخيرة، فلم يستطع سحبها إلى لندن ولم يتمكن هو من الإقامة في دمشق، وهكذا ظلّ معلقاً بين دمشق ولندن.
       وكما يقول الموسيقار شوبان : "القلب في وارشو والعقل في باريس" فقد كان قلب مهدي السعيد في الشام وعقله في لندن. لم يعرف ما كان يخبئه له الزمن، فقد أصيبت زوجته بالسرطان ولم ترخّص لها السلطات البريطانية الالتحاق به في لندن إلّا في العام 2016، ولكن بعد وصولها ببضعة أسابيع دخلت المستشفى ولم تخرج منها، وتلك كارثة أخرى حلّت بمهدي السعيد.
       
       كتاب لذاكرة مفتوحة
       في الختام، أقول إنني قرأت مذكرات مهدي السعيد وسيرته الذاتية، كأنها كتاب مفتوح أمامي. ويستطيع كل إنسان أن يقرأها بطريقته، إذْ لا أقفال فيها أو ألغاز، فقد كتبها بلغة سلسة وبانتقالات سريعة وعناوين فرعية جاذبة.
            يمكنني القول أن مذكراته جاءت على شكل أمواج، فتارة صاعدة وأخرى نازلة، لكنها في كل الأوقات متحرّكة وغير ساكنة، وقد حاول فيها أن يواخي الحبر مع الذاكرة واللون مع الفرشاة والعدسة مع العين، لذلك جاءت حارّة وطازجة وامتازت بروح إيجابية بشكل عام، حملت إشارات فرحة وإن تخلّلها حزن دفين أيضاً.
       إنها مذكرات تستحقّ القراءة والنقد والتقريظ لما زخرت به من أحداث وتجارب ودروس تتطلّب التفكير ليس بأوضاع الحاضر فحسب، بل بالمستقبل أيضاً، خصوصاً أن التاريخ حلقات متّصلة لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل.
     



362
"أصيلة" وفضاء الإصلاح والتجديد
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
   يصعب الحديث عن الإصلاح والتجديد في العالم العربي دون تناول المجال الديني، وهذا الأخير يشمل الفكر والوسائل والأدوات والقوانين والأنظمة والتربية والثقافة والوضع الاقتصادي والاجتماعي، بل كل ما له علاقة بالتنمية البشرية المستدامة، التي هي منظومة متكاملة ومتداخلة بحيث لا يمكن إهمال أو تأجيل جزء منه، لأنه سيؤثر على الأجزاء الأخرى، لترابطها وتفاعلها ، وإنْ كانت درجة تطور أقسامها متفاوتة.
   والإصلاح بطبيعته يحتاج إلى تطوّر وتراكم كمّي وقد يكون طويل الأمد ليصل إلى التجديد بمعنى حدوث تغيير نوعي حسب المنهج الجدلي، إذا ما توافرت العوامل الذاتية والموضوعية ، والشروط الداخلية والخارجية لتحقيقه.
   ولأن موضوع المجال الديني حسّاس ومتميّز جدّاً، فإن المقاربة ستكون حسّاسة ومتميّزة أيضاً، لاسيّما إذا انصرف الأمر إلى الإصلاح والتجديد الذي يتعلق بالعقائد والمورثات والعادات والتقاليد وما استقرّ عليه المجتمع وترسّخ في وعيه لدرجة التقديس أحياناً.
   وكانت "جماعة أصيلة" التي يرأسها محمد بنعيسى مدركة جداً لمثل هذا التشابك بما فيه من مُدخلات ومُخرجات وإمكانات وعقبات، حين خصصت الندوة الأساسية لمهرجان "أصيلة 32" لبحث ومناقشة "الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية"، بالمرور على أنماط التديّن الجديدة وخلفياتها الثقافية والاجتماعية، مثلما توقفت عند الخطاب الفكري الإسلامي الراهن باتجاهاته وتوجّهاته، إضافة إلى بعض المقاربات التأويلية والعملية الجديدة لتمظهراته، وخصوصاً بالإطلالة على مسألة "العيش المشترك" والتي استغرقت حواراً مفتوحاً يخصّ الدين والدولة والمجتمع وما له علاقة بالحقوق الأساسية مثل: الحق في الحياة والحرّية والمساواة والعدل والشراكة والمشاركة، وهي اللبنات الأساسية والتي لا غنى عنها  للمواطنة المتكافئة.
   ويحتاج الإصلاح مثلما هو التجديد، في المجال الديني إلى رؤية وإرادة وشجاعة وأدوات وحوامل اجتماعية تستطيع تحمّل المسؤولية، ولاسيّما حين تتوفّر بيئة مناسبة وظرف موضوعي مساعد. أي أنه باختصار لا بدّ من توفّر شروط معينة ذاتية وموضوعية مناسبة لتحقيقه. وقد يتوفر الشرط الموضوعي لكن الشرط الذاتي يكون غائباً أو غير مهيأ، والعكس صحيح أيضاً حين يتوفّر الشرط الذاتي ولم ينضج الظرف الموضوعي.
   فمن الناحية الذاتية قد لا تتوفر قناعات للاصلاح والتجديد، أو أن هناك خشية منه لأنه يتعارض مع المصالح والامتيازات، إضافة إلى الخوف من " العامة" أحياناً، لأنه سيعارض ما ترسّخ لديها من مفهومات ومعتقدات استقرت مع مرور الزمان، بحيث أصبحت "تابوات" وهي أقرب إلى "مقدسات" ولهذا فإن أي مساس بها قد يثير ردود أفعال لا تحمد عقباها، إضافة إلى أنه قد يلقى مقاومة من جانب القوى التقليدية باعتباره يخالف المألوف لدرجة يمكن تفسيقه باعتباره بدعة، "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ، وبهذا المنطق يدافع أصحاب الفكر التقليدي عن القديم حتى وإن كان بالياً.
   وقد حاولت حركة النهضة من الأفغاني ومحمد عبده والطهطاوي والكواكبي والتونسي والنائيني وصولاً إلى طه حسين، إصلاح المجال الديني وإسباغ سمة العصر عليه، لكنها اصطدمت بعقبات وتحدّيات كثيرة رسمية ودينية واجتماعية. ولا شكّ أن مثل صدمة الاستعمار قبل قيام الدولة الوطنية وصدمة ضياع فلسطين (النكبة 1948 والنكسة 1967) اللتان مرّ بهما الفكر العربي المعاصر، تركتا أثراً سلبياً على تطوّره بما فيه الجزء المؤثر فيه، ونعني به المجال الديني، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك صدمة "الحرب العراقية - الإيرانية" وصولاً لاحتلال العراق، ثم صدمة "الإرهاب الدولي" الذي طبع مرحلة ما بعد العام 2001 ولحد الآن، سواء كان على شكل داعش أو قبلها القاعدة، وهي مرحلة شملت أيضاً صدمة تعثر وارتداد موجة الربيع العربي.
   والسؤال الآن كيف يمكن إصلاح المجال الديني أو تجديده؟ومن يقوم بذلك؟ هل المؤسسة الدينية قادرة على اقتحام هذا الميدان؟ وهل هي راغبة؟ ثم هل لديها المؤهلات لوحدها؟  أم أنها تحتاج إلى رافعة من خارجها؟ وبعد ذلك ثمة عقبات موضوعية داخلية وخارجية تجعلنا نتساءل:كيف يمكن مواجهة قروناً من السكونية والنمطية والرتابة لأن الناس حسب عمانوئيل كانط.." يعيشون حياتهم برتابة عادية وليس لهم أدنى حاجة إلى الفكر".
   وكانت ثمة محاولات وإرهاصات طفولية سبق أن جرّبتها قوى باسم اليسار والحداثة برفض الدين أو التقليل من شأنه، لكنها اصطدمت  بجدار سميك وقاسي لدرجة أنه تم تكفيرها وتأثيمها وتجريمها. ولذلك لا بدّ من التفريق بين الدين والتديّن وبين قيم الدين وسلوك رجال الدين، والأمر بحاجة مرّة أخرى إلى التراكم والتطوّر بما له من علاقة عضوية بين بـ الثيولوجيا والانتربولوجيا والسوسيولوجيا، أي بين الدين والإنسان والمجتمع،  تلك الثلاثية التي ينبغي أن تحكمها منظومة من الضوابط القانونية.
   والأمر الذي يحتاج إلى تعامل مرن وحذر في الوقت نفسه، بدءًا من التراث ووصولاً إلى ما هو راهن لتفكيكه وتنقيته من التعصّب والتطرّف، وهذان هما الجذران الحقيقيان للإرهاب، بضخّ البديل، لاسيّما قيم التسامح واللّاعنف والإقرار بالتنوّع والتعدّدية والاعتراف بالآخر وقبول الحق في الاختلاف، لاسيّما، بتوفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم المشترك الذي يمثّل فضاءً رحباً للإصلاح والتجديد.



363
مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
ح/4


وهكذا بدأت دائرته تتّسع وأفقه يمتد، الأمر الذي عرّضه لإنتقادات حزبية، وفضل هو محيطه السياسي وعمله مع المعارضة على الانتماء الضيق.
وينقل كيف اضطر إلى الإستقالة من عمله في إعلام المؤتمر الوطني العراقي قبل ذلك بعد أن جمد الحزب الشيوعي عضويته فيه (العام 1994) ويقول : "أصيب الكثير من الشيوعيين العراقيين العاملين في المؤتمر بالإحباط، لأن المشكلة لا تتعلّق بتمويل المؤتمر، فالشيوعيون حين انضموا إليه كانوا يعرفون جيداً الجهات المموّلة له مسبقاً، فلماذا إذن وافقوا على الإنخراط فيه؟"
وبقي بلا عمل ويقول : "انطويت على نفسي لبعض الوقت، ولكني فكرّت من جديد بالعودة إلى عملي السابق... كحل وسطي ينقذني من حالة البطالة" واتصل بعامر عبد الله الذي أبلغه أنه ارتكب خطأ كبيراً، لأن الحزب لازال بعلاقات قوية مع قيادة المؤتمر، وقام عامر عبد الله الاتصال بأحمد الجلبي رئيس المؤتمر الذي أوعز إلى محمد عبد الجبار بإعادتي إلى العمل.
ويحدثنا عن الكثير من المفارقات حول عمله في إعلام الوفاق (إياد علاوي) وإصداره "مجلة المسلّة الثقافية" بمشاركة عربية وبدعم من نبيل ياسين ولقاءاته مع ابراهيم الجعفري والقيادات الكردية،
ويستعرض علاقاته مع المعارضة العراقية بحضوره مؤتمر لندن ومؤتمر واشنطن، حيث التقى بجلال  الطالباني  ومسعود البارزاني  وإبراهيم أحمد. وينقل عن لقاء مع وزارة الخارجية الأمريكية، وضمّ الوفد : حميد الكفائي وعبد الحليم الرهيمي ومهدي السعيد وإسماعيل  زاير وأحمد  الركابي  و شميم رسّام وربيع وعدد آخر بينهم أكراد، وكان من جانب وزارة الخارجية عدداً من المسؤولين بينهم سحر وهي سيّدة فلسطينية بالأصل وهي مسؤولة عن الملف العراقي.
وكان هناك سؤال طُلب من الجميع الإجابة عنه وهو : ماذا سنفعل بالبعثيين ؟ وكان الجواب جماعياً "اجتثاثهم من الحياة السياسية وإبعادهم عن أية مهمة" و "معاقبة القياديين بأقصى درجات العقوبة بما فيها التصفيات الجسدية" ويعلّق مهدي السعيد بالقول : من جانبي وجدت هذا الموقف غير معقول... ونحن لسنا قصّابين للبشر، ولا نبحث عن الانتقام، و البعثيون في كل الأحوال "مواطنون عراقيون" وعلينا التعامل معهم بروح التسامح، أما من قام بالارتكاب فمن حق القضاء أن يأخذ مجراه (وقد دققت هذا الموقف معه وأكّد لي ذلك بالنص المنشور).
ويبدو إن موقف شميم رسّام كان قريباً من هذا الموقف، وقد قاطعها أحد الأكراد كما يقول، واعترض على وجودها لأنها محسوبة على النظام البعثي وسبق أن رافقت طارق عزيز وعملت مترجمة للوفد العراقي فأجهشت بالبكاء، ويواصل مهدي السعيد حديثه وأنقل هذه الفقرة لدلالتها بقوله :" إن سيامند البنّا أخبرني بعدم رضا الأمريكان عن أطروحاتي، فتفاجئت لأنني سمعت منهم تقييمات إيجابية مباشرة عديدة لتحليلاتي".
ويذكر إن لهذه الحادثة تداعياتها ويتساءل : هل كان هناك ثمّة تدخّل خارجي لا أعرف مصدره إلى الآن ؟ ويترك هذا السؤال بلا جواب، إذْ بعد الاحتلال كما يذكر حصل جميع المشاركين على مراكز مهمة وبعضهم أسندت إليهم رئاسة صحف أو إدارة إذاعة أو رؤساء للجان انتخابية أو مهمات استشارية ثقافية، وهناك من أصبح ناطقاً باسم الحكومة أو مديراً لإحدى الفضائيات وإنه الوحيد الذي على ما يبدو (أغضب الأمريكان) فاستبعدوه ؟
وحسبما يقول كان نوري البدران (الذي أصبح وزيراً للداخلية بعد الاحتلال) قد سأله قبل الغزو الأمريكي بعدّة أسابيع  أي وظيفة تريد، فأجابه : الاشتغال بالسلك الدبلوماسي، وحبذا لو كان في براغ، أو جامعة الدول العربية أو عمادة إحدى الكليات العراقية، فأبلغه البدران يجب إطلاع إياد علاوي على الموضوع. وطلبوا منه الذهاب إلى عمان تحضيراً للدخول إلى العراق.
وفعلاً أرسلوا له تذكرة السفر. ثم أخبره أننا سندخل بملابس عسكرية مع الأمريكان، ويذكر مهدي السعيد إنه حين سمع ذلك توقف قليلاً ويعلّق مهدي بحرارة بقوله : ولكنني لم أتحمل مثل ذلك.. وقد استحضر كل تاريخه السياسي "فأجبته بأني لا أدخل مع الأمريكان بملابس عسكرية، وإنما أدخل لوحدي كمدني". وهنا قال له البدران أنت لا تريد أن تأتي معنا، فكرّر عليه قوله، وفي اليوم التالي : أعاد التذكرة إلى السكرتيرة إيمان وتفاجأت بذلك، ولكن طبعاً لم أتفاجأ، كما يقول.
دمشق والأسرة الجديدة
ظلّ مهدي السعيد مضرباً عن الزواج حتى استقطبته دمشق، بل احتضنته، فتذكّر أيام دراسته الأولى لبضعة أشهر، ولكن هذه المرّة لم يكن من بد إلّا وعقد زواج مع رفيقة أرادها أن تكون مواصلة لحبه القديم لدمشق. كان سعيداً للغاية بهذه العلاقة وأنجب طفلتين، لكن زوجته تعرّضت إلى متاعب غير قليلة بسبب الأحداث التي حصلت في السنوات الأخيرة، فلم يستطع سحبها إلى لندن ولم يتمكن هو من الإقامة في دمشق، وهكذا ظلّ معلقاً بين دمشق ولندن.
وكما يقول الموسيقار شوبان : "القلب في وارشو والعقل في باريس" فقد كان قلب مهدي السعيد في الشام وعقله في لندن. لم يعرف ما كان يخبئه له الزمن، فقد أصيبت زوجته بالسرطان ولم ترخّص لها السلطات البريطانية الالتحاق به في لندن إلّا في العام 2016، ولكن بعد وصولها ببضعة أسابيع دخلت المستشفى ولم تخرج منها، وتلك كارثة أخرى حلّت بمهدي السعيد.
       
كتاب لذاكرة مفتوحة
في الختام، أقول إنني قرأت مذكرات مهدي السعيد وسيرته الذاتية، كأنها كتاب مفتوح أمامي. ويستطيع كل إنسان أن يقرأها بطريقته، إذْ لا أقفال فيها أو ألغاز، فقد كتبها بلغة سلسة وبانتقالات سريعة وعناوين فرعية جاذبة.
يمكنني القول أن مذكراته جاءت على شكل أمواج، فتارة صاعدة وأخرى نازلة، لكنها في كل الأوقات متحرّكة وغير ساكنة، وقد حاول فيها أن يواخي الحبر مع الذاكرة واللون مع الفرشاة والعدسة مع العين، لذلك جاءت حارّة وطازجة وامتازت بروح إيجابية بشكل عام، حملت إشارات فرحة وإن تخلّلها حزن دفين أيضاً.
إنها مذكرات تستحقّ القراءة والنقد والتقريظ لما زخرت به من أحداث وتجارب ودروس تتطلّب التفكير ليس بأوضاع الحاضر فحسب، بل بالمستقبل أيضاً، خصوصاً أن التاريخ حلقات متّصلة لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل.


364
مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
الحلقة 3
ويقول مهدي السعيد إنه تعرّف على حسن عوينه بعد نشر صوره في وقت لاحق.
         ويذكر أيضاً أن الطبيب الشيوعي فاروق برتو افتتح عيادة له، وهو شقيق بشرى برتو وهي قيادية أيضاً في الحزب الشيوعي، وزوجة  رحيم عجينة القيادي في الحزب أيضاً، حيث كان قد خصّص أحد أيام الأسبوع مجاناً لعلاج المراجعين، ولاسيّما من الفقراء وضعيفي الحال، ويقول جرت محاولات لدهم عيادته من جانب شرطة التحقيقات الجنائية لأن صيته كان قد ذاع وعرف الناس إنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ولذلك انبروا للدفاع عنه تلقائياً.
         ومن الشخصيات التي يتناولها أيضاً عطشان ضيول (الإيزرجاوي) الذي كان مسؤولاً في الخط العسكري للحزب الشيوعي، وقد سكن مع والدته بعد انتقاله من الناصرية في محلّة الدوريين، وإنه أصبح بعد ثورة 14 تموز (يوليو) مساعداً لآمر المقاومة الشعبية طه البامرني، وكان من دعاة الإستيلاء على السلطة أيام حكم عبد الكريم قاسم، ويقول أن ثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وآخرين كانوا ضدّ هذا التوجه، وقد فتح هذا الموضوع مع العاني في لندن مستذكراً الإيزرجاوي، كما سأل عنه آرا خاجادور في براغ.
         ويروي السعيد نقلاً عن آرا خاجادور إن اللجنة المركزية حينها أبعدت سلام عادل إلى موسكو الذي كان يميل إلى استلام السلطة وإزاحة عبدالكريم قاسم، ويقول إن ذلك كان جزء من الصراع حول السلطة بين تيارين : الأول ممثلاً بمجموعة الأربعة : زكي خيري، عامر عبدالله، بهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وإن كان الأخير أقرب إلى سلام عادل، لكنه احتسب على الجماعة المتكتلة حتى وإن لم يتفق معها فكرياً (وقد استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/فبراير/ 1963)  و كان هؤلاء ضد توجّه سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول، والأخيرأبعد إلى موسكو ومنعه ال KGB من الإتصال بالآخرين، ويروي قصته الدرامية حيث توفي في ألمانيا.
      ثورة 14 تموز
           يتحدث مهدي السعيد عن يوم ثورة 14 تموز وشعوره عند هدم تمثال الجنرال مود الذي قال حين احتل بغداد "جئنا محرّرين لا فاتحين"، ويذكر كيف هرب نوري السعيد ولجأ إلى بيت الإستربادي في الكاظمية، وكيف دخل هو ووالدته إلى بيت نوري السعيد. ثم يتناول كيف أسّس الشيوعيون التنظيمات سريعاً مثل الشبيبة الديمقراطية والمقاومة الشعبية.
          ويستعيد مهدي السعيد أيام تموز والمهرجانات، وكيف صافح عبدالكريم قاسم وكذلك الملّا مصطفى البارزاني، ولكنه يتناول بمرارة الإنقسام الشعبي، ولاسيّما بين الشيوعيين والقوميين، خصوصاً بعد حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في منطقة "رأس القرية" بشارع الرشيد، وكان من بين من شاركوا بها صدام حسين، وينشّط ذاكرته بحديثه مع د.تحسين معلّه، خصوصاً عن قضايا التعذيب في قصر النهاية.
        ومن مظاهر اشتداد حالة الإحتقان الشعبي اغتيال الشيوعيين أحد الأشخاص وسحله في مدينة الكاظمية، وقد اتهم بها منذر أبو العيس الذي صدر الحكم بإعدامه، وقد تمّ تنفيذه بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963. ويشير إلى أن محلّة الدوريين كانت تعجّ بالخلافات. ويتوقف عند انقلاب البعثيين الأول الذي أطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وطارد الشيوعيين واعتقل الآلاف منهم وكيف جرت محاولة لإعتقال أخيه كاظم.
       
        أول مهمة حزبية
        وعن أول مهمة حزبية له كانت عشية حركة حسن سريع في 3 تموز (يوليو) العام 1963، وهو نائب عريف حاول قيادة انتفاضة مسلحة ضد حكم البعث الأول، لكنها فشلت واعتقل المشاركون فيها وحوكموا وأعدموا.
        أما المهمة التي كلّف بها فهي كتابة بيانات بخط اليد على ورق الكاربون، وكان المسؤول عن المجموعة حسبما يقول "محمد كريم" الذي أعدم في حركة حسن سريع، لينتقل بعدها إلى عمل حزبي منظّم، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية ويستعيد العلاقات في تلك الفترة، ويستذكر عدد من المسؤولين بينهم كاظم حبيب، وكيف ساهم عدد من الرفاق في إعادة التنظيم منهم: حسن أسد الشمري وصلاح زنكنة وحميد برتو ولؤي أبو التمّن وسعد الطائي وطه صفوك وكاتب السطور وآخرين، ويقول إنه تم تشكيل فرقة حزبية صدامية ويروي حادثة مقتل سامي مهدي الهاشمي في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية. وكنت قد رويت في أكثر من مناسبة موضوع تصدّع علاقتي بالحزب بسبب هذه الحادثة وحوادث أخرى حدثت في كردستان لتعذيب شيوعيين على يد رفاقهم.
         ويستعرض السعيد خلال هذه الفترة عدداً من الأحداث العامة والخاصة منها اعتقال شقيقه سعدي (المرة الأولى حين كان لا يزال في بغداد، ثم يذكر اعتقاله لمرّة ثانية حين غادر هو بغداد) وسفره بعد حصوله على زمالة دراسية، ليصل إلى محطته الجديدة "براغ".
         يقول عن براغ أنها مدينة الأحلام، لكن أحلامه كادت أن تطير لأن زمالته مُنحت إلى شخص آخر، وكان عليه الإنتظار لبضعة أشهر، وحصل الأمر كذلك مع رفيقه محمد الأسدي ريثما يتم قبولها بعد بضعة أشهر، ويتحدث عن معاناته خلال تلك الفترة وعلاقاته مع الطلبة مثل حسون الربيعي وعلاء صبيح وسلمان الحسن وفؤاد زلزلة، وعن مقهى سلافيا والعلاقة مع الملحقية الثقافية، ولاسيّما مع عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، ويستذكر حادثة حصلت لعلي صالح السعدي الذي حضر حفلاً بمناسبة الذكرى الثانية لبيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 وكان بصحبة السفير محسن دزئي، وكان من الحاضرين عبد الستار الدوري ومهدي الحافظ وموسى أسد وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وآخرين، وكان السعدي قد أطرب للمقامات البغدادية التي أدّاها علاء صبيح، وحاول مصافحته، ولكن الأخير امتنع عن ذلك وحين سأله لماذا؟ أجابه بأن يديك ملطّختان بالدماء وقد احتدّم الموقف، وحاول دزئي ورفاقنا احتواءه.
           وبعد قبوله وانتقاله إلى مدينة أخرى لدراسة اللغة، ثم دراسته في كلية الزراعة، سلّط ضوءًا على حياة الطلبة والأجواء الاجتماعية السائدة وهي ذكرتني برواية "الجليد" لصنع الله إبراهيم التي كتبها عن فترة دراسته في موسكو (1973) وهي فترة مقاربة لما عاشه مهدي السعيد في براغ، وفي الرواية وأحداثها ثمة بحث عن الذات وعن المرأة وعن الجمال.
         بين براغ وبراغ   
         ثم يتناول السعيد بعد ذلك المقطع الفاصل بين المرحلتين، أي بين براغ وبراغ، حين غادرها أول مرّة عائداً إلى العراق أدى خدمته العسكرية الإلزامية في أجواء من القلق والخوف الذي رافقه، وكيف تمكن من التخلص من استحقاقات خطرة، قد تؤدي بحياته، فكما هو معلوم كان العمل السياسي محرّماً في الجيش، كما إن الانتساب إلى حزب آخر غير حزب البعث قد يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، وهي مشاعر عاشها الكاتب نفسه الذي التحق في فترة مقاربة لفترة السعيد لأداء الخدمة الإلزامية وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
         وفي غمرة ذلك لا ينسى أن يذكر بعض الطرائف، منها إنه حين كان خفراً كان من مسؤولياته "سجن المعسكر" وكيف طلب منه السجناء تنظيف السجن، وقد وافق على ذلك لأنه كان قذراً للغاية والرائحة الكريهة تنبعث منه، وكان قد نُصح بأن يكون يقظاً كي لا يهرب أحد السجناء واسمه "صدام" وكان متهماً بقتل أحد أبناء منطقته، وطلبوا منه مشاهدة التلفزيون وتعهدوا أمامه بعدم الهرب وفعلاً تم ذلك، وحين عادوا جميعهم افتقد إلى وجود صدام بينهم، وهكذا  يقول "سيطر عليّ الخوف، ووقفت صامتاً أضع يدي على خدي وعيناي تتجهان إلى السماء"، ولكن بعد قليل ظهر صدام وكأنه جاء من وراء غمامة سوداء ودخل السجن، وفي اليوم التالي هرب الجندي "صدام" بعد أن استلم الخفارة أحد جنود الصف المكروهين كما يقول.
         لقد عكست مذكرات مهدي السعيد، في بعض محطاتها حياة مسكوت عنها بما فيها من خفايا وعقد ومشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية في الإطار السياسي الذي عمل فيه أو في الدولة الاشتراكية التي عاش فيها نحو عقدين من الزمان، وهي تكشف جذور الانهيار اللاحق، دون إنكار الإيجابيات بالطبع مثل كفالة الدولة لحق التعليم وتكاليفه وتوفير مستلزماته من السكن والمنحة، إضافة إلى التأمين الصحي وغير ذلك، لكن هناك شعور بالإجحاف والغبن لدى فئات واسعة، ناهيك عن شحّ الحرّيات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن غياب التعدّدية وعدم الإقرار بالتنوع وحرّية التعبير. وقد كان لسيادة العقلية الستالينية البيروقراطية  الأوامرية  سبباً آخر في تراجع الأحزاب الشيوعية والماركسية، بل وجميع الأحزاب الشمولية بما فيها أحزاب الفرع في المشرق العربي، سواء من كان منها في السلطة أو من كان خارجها حتى وإن كان من ضحاياها.
         وفي براغ يتحدث عن لقائه الأول بالجواهري ثم علاقته به، وخصوصاً عبر ابن شقيّقه رواء الجصاني الذي ربطته به علاقة وثيقة ومع عائلته أيضاً، ويذكر تحت عنوان لحظات مع المبدعين عن لقائه مع عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعز الدين المناصرة وسميح القاسم الذي رافقه برحلة إلى برلين لحضور مهرجان للطلبة العراقيين وعن قيادته لخلية المثقفين التي ضمّت : مفيد الجزائري وحسين العامل وجيان (يحيى بابان) وقادر ديلان وغريب الكروي (أبو وجدان) وصبري كريم (أبو شيرين) وحمزة رجبو.
       ويتناول بعض صداقاته في براغ لا سيّما مع موفق فتوحي وحميد برتو وفيصل اسماعيل وسميرة البياتي وحميد الدوري والعلاقة بين البعثيين والشيوعيين التي انتقلت من التحالف إلى العداء.
         وعن حياته في لندن يقول كانت أولى العوائل العراقية الأولى التي تعرّف عليها هي عائلة يعقوب قوجمان "أبوسلام" الشيوعي العراقي العريق، وهو صديق رفيقة عادل مصري والد "سرود" الذي عمل معه في لجنة التنسيق الطلابية ويتحدث عن عمله في إذاعة كل العرب مع نجم عبد الكريم وعلاقته الوطيدة مع نبيل ياسين الذي كان قد عيّن رئيساً لتحرير جريدة "المؤتمر"، وكيف بدأ يتعرف على المعارضة العراقية بشخصياتها المختلفة.
نشرت في صحيفة الزمان العراقية ، 8/8/2017


365
ترامب وتوازن القوى في أمريكا
د. عبد الحسين شعبان
بعد تسرّب خبر اللقاء الخاص بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس
الروسي فلاديمير بوتين، والذي قيل إنه لقاء «سرّي»، «وذلك على هامش قمة
العشرين المنعقدة في هامبورج 7-8 يوليو/ تموز 2017، ضجّ الكثير من وسائل الإعلام «مجدّداً» عن إمكانية عزل الرئيس الأمريكي ترامب ومحاكمته على خلفية العلاقة الخاصة مع روسيا، واختراق موسكو للانتخابات الرئاسية، لكن تدهور العلاقات السريع، وإقدام الكونجرس على اتخاذ عقوبات جديدة ضد روسيا، ردّت عليها موسكو بعقوبات مماثلة، بطرد مئات من الدبلوماسيين وتقييد بعض المواقع، دفع الأمور إلى التأزم ليس بصدد العلاقات الأمريكية الروسية فحسب؛ بل في انعكاسه على الداخل الأمريكي؛ حيث تزداد زخماً حملة إقصاء الرئيس ومحاكمته أو إجباره على تقديم الاستقالة».
وكان ترامب والحزب الجمهوري قد تلقيّا هزيمة كبيرة بفشلهما في إلغاء «برنامج الرعاية الصحية الشامل» والمعروف باسم «أوباما كير»، إضافة إلى حال الفوضى والتخبط والتناقض الذي ساد الإدارة الأمريكية منذ تولي ترامب، وهو الأمر الذي دفع بكبير موظفي البيت الأبيض راينس بريباس للاستقالة من منصبه.
الحملة ضد ترامب، بدأت بعد إعلان فوزه مباشرة بردود أفعال اعتراضية، لكنها اتخذت اليوم طابعاً منظماً، ويشارك فيها: قادة الحزب الديمقراطي وعدد من الصحف والمنابر الإعلامية المعروفة، إضافة إلى بعض قادة الحزب الجمهوري.
والسؤال المهم هو: هل بالإمكان دستورياً عزل الرئيس الأمريكي وكيف وَوِفق أي المبرّرات؟ ولعلّ العزل أو المحاكمة أو الإقالة تتطلب اتباع آليات دستورية متعدّدة ومعقّدة وهي إجراءات يعتورها الكثير من العقبات ويقف بوجهها العديد من العراقيل. ومنها أن الجمهور الذي صوّت لترامب لا يزال متماسكاً وهذا يعترض على تقديم رئيس البلاد للمحاكمة، وقد زادت نسبة المعترضين على اتخاذ الإجراءات ضد الرئيس على 53% حسب مجلة نيوزويك الأسبوعية
(24 يوليو/تموز2017). كما أن الحزب الجمهوري ما يزال مسيطراً على مجلس الشيوخ ومن المستبعد موافقته على إقصاء الرئيس، وهي سابقة سياسية قد تهدّد مستقبله.
وحسب الدستور الأمريكي وهو من أعرق الدساتير الديمقراطية في العالم؛ حيث أبرم بين أعوام 1776و1788؛ فإنه يجوز تقديم الرئيس ومسؤولين آخرين للمحاكمة بشرط توفّر مبرّرات مقنعة منها ارتكاب «الخيانة العظمى» أو«تلقّي رشا» أو«سوء الإدارة» أو«سوء السلوك». وعند التحقق من ذلك ينعقد مجلس النواب للتصويت على سريان مفعول الجريمة، ويتم التصويت بالأغلبية البسيطة (نصف + واحد) وحين يتقرّر ذلك يخضع الرئيس للمحاكمة وفقاً للائحة الاتهام، ولكنه يستمر بمنصبه لحين رفع توصية من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ الذي ينبغي أن يصوّت بعزله ويحتاج قرار إقصاء الرئيس إلى «ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ»، وحينئذ تنقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه.
أما أهم الاتهامات الموجّهة إلى ترامب فتتلخص ب:التقصير. ومثل هذه التهمة وُوجه بها رئيسان في كل تاريخ الولايات المتحدة الذي يقارب 240 عاماً، وهما: اندرو جونسون (الرئيس السابع عشر 1865 - 1869 الذي تولّى الرئاسة مع نهاية الحرب الأهلية، وبعد اغتيال ابراهام لينكولن (الرئيس السادس عشر) والذي كان نائبه؛ حيث دخل في صراع مع مجلس النواب الذي سحب الثقة منه وتمت تبرئته من قبل مجلس الشيوخ بفارق صوت واحد. وبيل كلينتون الذي قام مجلس النواب باتهامه بالتزوير وإعاقة العدالة بعد فضيحة مونيكا ليونسكي 1998، إلّا أن مجلس الشيوخ برّأه من هذه التهمة العام 1999 وأكمل فترة ولايته.
حتى الآن ليس هناك ما يدلّ على ارتكاب ترامب الخيانة العظمى أو تلقّي الرشا، أو سوء الإدارة أو السلوك، على الرغم من أن خصومه حاولوا تعظيم أخطائه وتصرفاته الغريبة، علماً بأن الدستور الأمريكي يمنحه صلاحيات واسعة، منها إقالة من يشاء وتعيين بدائل عنهم، كما إن الحصول على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، أي 67 من مجموع 100 تبدو عسيرة. واستناداً إلى التجربتين السابقتين؛ فإنه من المستبعد نجاح المساعي لتقديم لائحة اتهام بحق الرئيس ترامب ضمن الظروف السائدة.
ولكن ماذا بشأن الاستقالة؟ وهي حالة مقاربة لخيار الرئيس ريتشارد نيكسون (الرئيس السابع والثلاثون) العام 1974،الذي فضّل الاستقالة على المثول أمام الكونجرس كمتهم، علماً بأنه ثبت عليه ارتكاب جريمة إعاقة العدالة خلال التحقيقات بفضيحة ووترجيت، مما دفع بقادة الحزب الجمهوري للضغط عليه لتقديم الاستقالة لإنقاذ حزبهم، لا سيّما في الانتخابات المقبلة، ومع ذلك فقد كانت هزيمتهم شديدة في الانتخابات تلك.
فهل يمكن قبول الرئيس ترامب الانحناء أمام العاصفة أم أنه سيمضي بالشوط إلى نهايته غير مكترث بما حوله وغير عابئ بما يُقال بشأنه؟ لأنه رئيس غير تقليدي وفاز بطريقة غير تقليدية وإن توازن القوى حتى الآن يميل لصالحه.
drhussainshaban21@gmail.com



366
مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
الحلقة 3
ويقول مهدي السعيد إنه تعرّف على حسن عوينه بعد نشر صوره في وقت لاحق.
         ويذكر أيضاً أن الطبيب الشيوعي فاروق برتو افتتح عيادة له، وهو شقيق بشرى برتو وهي قيادية أيضاً في الحزب الشيوعي، وزوجة  رحيم عجينة القيادي في الحزب أيضاً، حيث كان قد خصّص أحد أيام الأسبوع مجاناً لعلاج المراجعين، ولاسيّما من الفقراء وضعيفي الحال، ويقول جرت محاولات لدهم عيادته من جانب شرطة التحقيقات الجنائية لأن صيته كان قد ذاع وعرف الناس إنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ولذلك انبروا للدفاع عنه تلقائياً.
         ومن الشخصيات التي يتناولها أيضاً عطشان ضيول (الإيزرجاوي) الذي كان مسؤولاً في الخط العسكري للحزب الشيوعي، وقد سكن مع والدته بعد انتقاله من الناصرية في محلّة الدوريين، وإنه أصبح بعد ثورة 14 تموز (يوليو) مساعداً لآمر المقاومة الشعبية طه البامرني، وكان من دعاة الإستيلاء على السلطة أيام حكم عبد الكريم قاسم، ويقول أن ثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وآخرين كانوا ضدّ هذا التوجه، وقد فتح هذا الموضوع مع العاني في لندن مستذكراً الإيزرجاوي، كما سأل عنه آرا خاجادور في براغ.
         ويروي السعيد نقلاً عن آرا خاجادور إن اللجنة المركزية حينها أبعدت سلام عادل إلى موسكو الذي كان يميل إلى استلام السلطة وإزاحة عبدالكريم قاسم، ويقول إن ذلك كان جزء من الصراع حول السلطة بين تيارين : الأول ممثلاً بمجموعة الأربعة : زكي خيري، عامر عبدالله، بهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وإن كان الأخير أقرب إلى سلام عادل، لكنه احتسب على الجماعة المتكتلة حتى وإن لم يتفق معها فكرياً (وقد استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/فبراير/ 1963)  و كان هؤلاء ضد توجّه سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول، والأخيرأبعد إلى موسكو ومنعه ال KGB من الإتصال بالآخرين، ويروي قصته الدرامية حيث توفي في ألمانيا.
      ثورة 14 تموز
           يتحدث مهدي السعيد عن يوم ثورة 14 تموز وشعوره عند هدم تمثال الجنرال مود الذي قال حين احتل بغداد "جئنا محرّرين لا فاتحين"، ويذكر كيف هرب نوري السعيد ولجأ إلى بيت الإستربادي في الكاظمية، وكيف دخل هو ووالدته إلى بيت نوري السعيد. ثم يتناول كيف أسّس الشيوعيون التنظيمات سريعاً مثل الشبيبة الديمقراطية والمقاومة الشعبية.
          ويستعيد مهدي السعيد أيام تموز والمهرجانات، وكيف صافح عبدالكريم قاسم وكذلك الملّا مصطفى البارزاني، ولكنه يتناول بمرارة الإنقسام الشعبي، ولاسيّما بين الشيوعيين والقوميين، خصوصاً بعد حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في منطقة "رأس القرية" بشارع الرشيد، وكان من بين من شاركوا بها صدام حسين، وينشّط ذاكرته بحديثه مع د.تحسين معلّه، خصوصاً عن قضايا التعذيب في قصر النهاية.
        ومن مظاهر اشتداد حالة الإحتقان الشعبي اغتيال الشيوعيين أحد الأشخاص وسحله في مدينة الكاظمية، وقد اتهم بها منذر أبو العيس الذي صدر الحكم بإعدامه، وقد تمّ تنفيذه بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963. ويشير إلى أن محلّة الدوريين كانت تعجّ بالخلافات. ويتوقف عند انقلاب البعثيين الأول الذي أطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وطارد الشيوعيين واعتقل الآلاف منهم وكيف جرت محاولة لإعتقال أخيه كاظم.
       
        أول مهمة حزبية
        وعن أول مهمة حزبية له كانت عشية حركة حسن سريع في 3 تموز (يوليو) العام 1963، وهو نائب عريف حاول قيادة انتفاضة مسلحة ضد حكم البعث الأول، لكنها فشلت واعتقل المشاركون فيها وحوكموا وأعدموا.
        أما المهمة التي كلّف بها فهي كتابة بيانات بخط اليد على ورق الكاربون، وكان المسؤول عن المجموعة حسبما يقول "محمد كريم" الذي أعدم في حركة حسن سريع، لينتقل بعدها إلى عمل حزبي منظّم، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية ويستعيد العلاقات في تلك الفترة، ويستذكر عدد من المسؤولين بينهم كاظم حبيب، وكيف ساهم عدد من الرفاق في إعادة التنظيم منهم: حسن أسد الشمري وصلاح زنكنة وحميد برتو ولؤي أبو التمّن وسعد الطائي وطه صفوك وكاتب السطور وآخرين، ويقول إنه تم تشكيل فرقة حزبية صدامية ويروي حادثة مقتل سامي مهدي الهاشمي في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية. وكنت قد رويت في أكثر من مناسبة موضوع تصدّع علاقتي بالحزب بسبب هذه الحادثة وحوادث أخرى حدثت في كردستان لتعذيب شيوعيين على يد رفاقهم.
         ويستعرض السعيد خلال هذه الفترة عدداً من الأحداث العامة والخاصة منها اعتقال شقيقه سعدي (المرة الأولى حين كان لا يزال في بغداد، ثم يذكر اعتقاله لمرّة ثانية حين غادر هو بغداد) وسفره بعد حصوله على زمالة دراسية، ليصل إلى محطته الجديدة "براغ".
         يقول عن براغ أنها مدينة الأحلام، لكن أحلامه كادت أن تطير لأن زمالته مُنحت إلى شخص آخر، وكان عليه الإنتظار لبضعة أشهر، وحصل الأمر كذلك مع رفيقه محمد الأسدي ريثما يتم قبولها بعد بضعة أشهر، ويتحدث عن معاناته خلال تلك الفترة وعلاقاته مع الطلبة مثل حسون الربيعي وعلاء صبيح وسلمان الحسن وفؤاد زلزلة، وعن مقهى سلافيا والعلاقة مع الملحقية الثقافية، ولاسيّما مع عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، ويستذكر حادثة حصلت لعلي صالح السعدي الذي حضر حفلاً بمناسبة الذكرى الثانية لبيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 وكان بصحبة السفير محسن دزئي، وكان من الحاضرين عبد الستار الدوري ومهدي الحافظ وموسى أسد وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وآخرين، وكان السعدي قد أطرب للمقامات البغدادية التي أدّاها علاء صبيح، وحاول مصافحته، ولكن الأخير امتنع عن ذلك وحين سأله لماذا؟ أجابه بأن يديك ملطّختان بالدماء وقد احتدّم الموقف، وحاول دزئي ورفاقنا احتواءه.
           وبعد قبوله وانتقاله إلى مدينة أخرى لدراسة اللغة، ثم دراسته في كلية الزراعة، سلّط ضوءًا على حياة الطلبة والأجواء الاجتماعية السائدة وهي ذكرتني برواية "الجليد" لصنع الله إبراهيم التي كتبها عن فترة دراسته في موسكو (1973) وهي فترة مقاربة لما عاشه مهدي السعيد في براغ، وفي الرواية وأحداثها ثمة بحث عن الذات وعن المرأة وعن الجمال.
         بين براغ وبراغ   
         ثم يتناول السعيد بعد ذلك المقطع الفاصل بين المرحلتين، أي بين براغ وبراغ، حين غادرها أول مرّة عائداً إلى العراق أدى خدمته العسكرية الإلزامية في أجواء من القلق والخوف الذي رافقه، وكيف تمكن من التخلص من استحقاقات خطرة، قد تؤدي بحياته، فكما هو معلوم كان العمل السياسي محرّماً في الجيش، كما إن الانتساب إلى حزب آخر غير حزب البعث قد يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، وهي مشاعر عاشها الكاتب نفسه الذي التحق في فترة مقاربة لفترة السعيد لأداء الخدمة الإلزامية وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
         وفي غمرة ذلك لا ينسى أن يذكر بعض الطرائف، منها إنه حين كان خفراً كان من مسؤولياته "سجن المعسكر" وكيف طلب منه السجناء تنظيف السجن، وقد وافق على ذلك لأنه كان قذراً للغاية والرائحة الكريهة تنبعث منه، وكان قد نُصح بأن يكون يقظاً كي لا يهرب أحد السجناء واسمه "صدام" وكان متهماً بقتل أحد أبناء منطقته، وطلبوا منه مشاهدة التلفزيون وتعهدوا أمامه بعدم الهرب وفعلاً تم ذلك، وحين عادوا جميعهم افتقد إلى وجود صدام بينهم، وهكذا  يقول "سيطر عليّ الخوف، ووقفت صامتاً أضع يدي على خدي وعيناي تتجهان إلى السماء"، ولكن بعد قليل ظهر صدام وكأنه جاء من وراء غمامة سوداء ودخل السجن، وفي اليوم التالي هرب الجندي "صدام" بعد أن استلم الخفارة أحد جنود الصف المكروهين كما يقول.
         لقد عكست مذكرات مهدي السعيد، في بعض محطاتها حياة مسكوت عنها بما فيها من خفايا وعقد ومشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية في الإطار السياسي الذي عمل فيه أو في الدولة الاشتراكية التي عاش فيها نحو عقدين من الزمان، وهي تكشف جذور الانهيار اللاحق، دون إنكار الإيجابيات بالطبع مثل كفالة الدولة لحق التعليم وتكاليفه وتوفير مستلزماته من السكن والمنحة، إضافة إلى التأمين الصحي وغير ذلك، لكن هناك شعور بالإجحاف والغبن لدى فئات واسعة، ناهيك عن شحّ الحرّيات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن غياب التعدّدية وعدم الإقرار بالتنوع وحرّية التعبير. وقد كان لسيادة العقلية الستالينية البيروقراطية  الأوامرية  سبباً آخر في تراجع الأحزاب الشيوعية والماركسية، بل وجميع الأحزاب الشمولية بما فيها أحزاب الفرع في المشرق العربي، سواء من كان منها في السلطة أو من كان خارجها حتى وإن كان من ضحاياها.
         وفي براغ يتحدث عن لقائه الأول بالجواهري ثم علاقته به، وخصوصاً عبر ابن شقيّقه رواء الجصاني الذي ربطته به علاقة وثيقة ومع عائلته أيضاً، ويذكر تحت عنوان لحظات مع المبدعين عن لقائه مع عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعز الدين المناصرة وسميح القاسم الذي رافقه برحلة إلى برلين لحضور مهرجان للطلبة العراقيين وعن قيادته لخلية المثقفين التي ضمّت : مفيد الجزائري وحسين العامل وجيان (يحيى بابان) وقادر ديلان وغريب الكروي (أبو وجدان) وصبري كريم (أبو شيرين) وحمزة رجبو.
       ويتناول بعض صداقاته في براغ لا سيّما مع موفق فتوحي وحميد برتو وفيصل اسماعيل وسميرة البياتي وحميد الدوري والعلاقة بين البعثيين والشيوعيين التي انتقلت من التحالف إلى العداء.
         وعن حياته في لندن يقول كانت أولى العوائل العراقية الأولى التي تعرّف عليها هي عائلة يعقوب قوجمان "أبوسلام" الشيوعي العراقي العريق، وهو صديق رفيقة عادل مصري والد "سرود" الذي عمل معه في لجنة التنسيق الطلابية ويتحدث عن عمله في إذاعة كل العرب مع نجم عبد الكريم وعلاقته الوطيدة مع نبيل ياسين الذي كان قد عيّن رئيساً لتحرير جريدة "المؤتمر"، وكيف بدأ يتعرف على المعارضة العراقية بشخصياتها المختلفة.



367
مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
الحلقة - 2
    يتحدّث مهدي السعيد عن محلّة الدوريين الينبوع المتدفق بالجديد، ولا سيّما سوقها الشهير المعروف "سوق عيسى" وكيف كان الناس بعد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، متعايشين ومتضامنين، لكن ما حدث من شرخ سياسي أدى لإنقسامهم إلى قسمين، وكانت السياسة قد لعبت بالرؤوس كما يقال، فالقسم الأول وقع تحت تأثير الحزب الشيوعي، في حين وقع القسم الثاني تحت نفوذ القوميين، وخصوصاً من حزب الإستقلال ومن ثم حزب البعث، وكان مثل هذا التصنيف امتداداً لنفوذ الأحزاب قبل الثورة، لكنه اتّخذ طابعاً عدائياً وتناحرياً بعدها، حيث اشتّدت الخصومات والعداوات والبغضاء.
         ولم يكتفِ مهدي السعيد "أبو ثبات" كما كنّا نكنّيه أو الرفيق "صائب" أو "أبو أسيل" لاحقاً بتصوير الأجواء السياسية المحتدمة، بل سرد علينا حكايات وقصصاً ممتعة وفي الوقت نفسه لها دلالات ينبغي أن تقرأ في سياقها التاريخي عن الوضع الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والتعليمي والصحي لسكان محلّة الدوريين.
         ولم ينس أن يتعرّض للإنتماءات العرقية والتنوّع والتعدّدية التي عرفتها، فهناك العوائل المسيحية و الصابئية  (المندائية)، وهناك عرب من غرب العراق من أصول سنّية، مثلما هناك العرب الشيعة، وهؤلاء غالبيتهم من وسط وجنوب العراق إضافة إلى وجود مجموعة من العوائل الكردية، وهو بذلك حاول أن ينقل لنا حالة التعايش والتسامح والتضامن التي كانت الكثير من مناطق ومحلّات بغداد تعيشها بطريقة عفوية وتلقائية ودون أية حساسيات، مثلما كانت محافظات أخرى تعيش ذلك مثل الموصل والبصرة وكركوك وديالى والحلة وغيرها، وهي مناطق توتر وعنف وتطهير عرقي وطائفي، إضافة إلى محافظات إقليم كردستان مثل إربيل والسليمانية ودهوك.
        الشقاوات
         ينتقل السعيد بعد ذلك ليحدثنا عن صنف إجتماعي آخر، ألا وهو "الشقاوات" وهم صنف يمتاز بقيم ومفاهيم خاصة عن النخوة والشهامة والدفاع عن المظلوم، وفي الوقت نفسه يلتجأ إلى أخذ "الأتاوات" أحياناً واستخدام العنف ومحاولات الإستقواء على الآخرين لفرض الهيمنة عليهم. ويشير إلى أنّ مُثل الشجاعة والتصدي للغرباء والدفاع عن أبناء المحلّة كانت تستهوي الشباب تشبّهاً أحياناً ببعض الشقاوات، ويقول أنه "وفي إحدى مراحل النمو كدتُ أفقد بوصلة التطور الإيجابي وأتحوّل إلى صنف الشباب الذي يمارس الشقاوة"، ولكن تربيته العائلية والمحيط الإجتماعي هو الذي جعله يختار طريق التعليم والسياسة لاحقاً، وإلّا كما يقول كنت : "مقتولاً أو قابعاً في السجون".
          والشقاوات التي يتحدث عنهم مهدي السعيد وإنْ كانوا يحترمون المثقفين والأدباء، فهم انقسموا أيضاً بانقسام الشارع السياسي، فمال قسم منهم إلى القوميين والبعثيين، بل أصبح بعضهم من الجهاز الصدامي المعروف باسم "جهاز حنين" الذي أشرف عليه صدام حسين نفسه، ومن أبرز أعضائه كان "جبار كردي" و "ستار كردي"، وكان آخر عمل قاما به هو إطلاق النار على تظاهرة احتفالية شيوعية بمناسبة ثورة أكتوبر (1968) في ساحة السباع ببغداد، حيث استشهد فيها 3 أشخاص وجرح 12 شخصاً، أما القسم الثاني فمال إلى الشيوعيين ومن أبرزهم "خليل أبو الهوب" الذي قُتل في العام 1959 في مقهى بشارع النصر ببغداد، ومساعده فاضل طويرني الذي لجأ إلى ألمانيا الديمقراطية، وفيما بعد إلى براغ وعاد إلى بغداد في أواسط السبعينات.
          وتعتبر ظاهرة الشقاوات قديمة وتعود إلى العهد العثماني، ومن أبرز الشقاوات "أحمد قرداش"، واشتهر عدد من الشقاوات في مطلع القرن العشرين مثل "إبن عبد كه" الذي ذاع صيته و"موسى أبو طبرة" و"جواد الأجلّك"، وقد تناول سِيَرِهمْ عالم الإجتماع المبدع علي الوردي، وخلال اندلاع ثورة العشرين، انضم إليها بعض الشقاوات وأبلوا فيها بلاءً حسناً مثل "عبدالمجيد كنّه" وهو عمّ الوزير خليل كنّه، وقد ساهم في مقاومة الإنكليز، إضافة إلى تكليفه بمهمات أخرى.
         وحسب حسن العلوي فإن نوري السعيد هو الآخر كان قد اعتمد على الشقاوات في الإنتخابات وفي إيذاء الشيوعيين المناهضين للنظام الملكي، وكانت مكافأة لهم السماح بالإستيلاء على أحد الكراجات والإستحواذ على مردودها. وإذا كان النظام البعثي قد استفاد من الشقاوات فإنه قام بتصفيتهم لاحقاً، ولم يسمح بنمو ظاهرة العنف خارج نطاق الدولة التي تعزّز توجهها الشمولي الكلّاني منذ اليوم الأول.
           طرائف ومفارقات
           يستذكر السعيد بشغف مرور سيارة الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله  خلال ذهابهما أسبوعياً وفي يوم الجمعة إلى المقبرة الملكية، وكيف كان يصطف الجميع على جانبي الطريق ليقوم الملك الشاب بالتلويح لهم. جدير بالذكر إن الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله قتلا يوم 14 تموز /يوليو/ العام 1958 وتمّ التمثيل بجثة الأخير وسحله في الشوارع  فيما بعد، وكانت جثته قد تمّ تعليقها لتتدلّى من سطح أحد فنادق الكرخ، حيث اجتمع الناس ليشاهدوها وترتفع حماستهم لرميها بالأحذية. وكان مهدي السعيد قد شاهد هذا الحادث، مثلما شاهده كاتب السطور وسبق أن كتب عنه لما تركه من تأثير سلبي عليه.
         ويستحضرمهدي السعيد حادثة طريفة، وهي كيف إن الجاموس القادم من "جسر الخرّ" والعائد إلى معدان محلّة الذهب، الواقعة على مشارف شارع الشيخ معروف، كان قد عطّل الموكب الملكي، وأحدث نوعاً من الارتباك والخوف، خصوصاً في ظلّ الأوضاع السياسية غير المستقرّة، ولم تفلح سيارات المرافقين وهي تهدر "بالهورنات" (الزمّورات) العالية لانفراج الموقف، حيث كان الجاموس على ما يبدو "يتبختر" بتمهّل وهو يمرّ من أمام سيارة الملك الشاب.
              وفي موقف آخر عطّل "مهدي خبالو" مرور سيارة الملك فيصل الثاني، حين حاول قطع خط سير الموكب الملكي دون أن يلتفت لأحد، وكان قد واصل عبوره للشارع ببطيء شديد مع ابتسامة عريضة، واضّطرت حينها سيارة الملك إلى التّوقف ريثما اجتاز "مهدي خبالو" الشارع باتجاه الرصيف، ولم يكن مثل هذا المشهد يمرّ دون ارتباك واستنفار من جانب الشرطة تحسّباً لما قد يحدث.
           ثم يعود ليخبرنا من هو "مهدي خبالو"؟ فيقول إنه : معلم وصاحب معشر ومزاج طيب وعلاقات اجتماعية حسنة، ولكن بعض تصرّفاته الغريبة جعلت بعض أصدقائه يتمازحون معه فيلقبونه باسم "مهدي خبالو"، علماً بأن توجّهه السياسي كان قريباً من القوميين العرب، وهو صديق لكاظم شقيق مهدي السعيد الذي كان طالباً متفوقاً في الإعدادية المركزية التي كان لها شأن كبير في الخمسينات، خصوصاً وكانت تحظى باهتمام المسؤولين وكان من منتسبيها أبناء الطبقات العليا والمتوسطة، إضافة إلى المتفوقين في الدراسة، ولعبت دوراً سياسياً معارضاً للنظام الملكي، خصوصاً في انتفاضة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر وضد العدوان الثلاثي الأنكلو - فرنسي الإسرائيلي.
          ويتحدّث عن بعض المحلات الشعبية القريبة من محلّة الدوريين مثل محلّة الذهب التي كانت تضمّ بعض بيوت الدعارة، ولا ينسى أن يروي لنا تفاصيل المجزرة التي تعرضّ لها المومسات في إحدى الصباحات حين فاق الناس ليشاهدوا كيف تمّ ذبحهن، وقد قام هو بفضوله ودهشته الطفولية بمشاهدة سبع جثث مقطوعة الرؤوس ملقاة على الأرض وبقع الدماء تحيط بها من كل جانب، حيث هرع مع أطفال المحلّة بعد ذيوع الخبر.
         وفي غمرة ذلك يحدثنا السعيد عن الفرق الرياضية الشعبية وكيف لمع نجم اللاعب الشهير "ناصر جيكو" في الخمسينات ومحمد راضي في الستينات وغيرهم.
         وفي المذكرات يتناول مظهراً آخر يلتجأ إليه بعض العاطلين عن العمل، والهدف الحصول على ربح سريع ودون بذل جهد، ألّا وهو لعبة "السي ورق" المشهورة التي يستدرج إليها السذّج والمغفلين.
         وبعد ذلك يصوّر لنا ساحة المتحف التي تعجّ بالمسافرين والمارّة، وهناك ألعاب السحرة والقردة ومربي الأفاعي والعقارب، والحلاقين الذين يفترشون الرصيف، وكانت أخته الكبرى شريفة تصطحبه معها باستمرار لحلاقة شعر رأسه في الساحة وعلى الطريقة الشعبية.
         ويستذكر مهدي السعيد بعض المشاهد التي ستبقى عالقة في ذاكرته، منها : منطقة اسمها "جولة أم عليوي"، وهي كما يقول كانت مسرحاً لطفولته، وفيها عدداً من بيوت الأغنياء بينهم "أمين خاكي" أحد أبرز القادة العسكريين، وهو عراقي من أصول تركية، وهكذا كانت تتجاور الأصول الاجتماعية في المحلّات البغدادية. وتضمّ المحلّة أيضاً الكتاتيب ومن أشهر الملّايات "الملّه قادرية" التي تعلّم على يدها مبادىء القراءة وحفظ بعض صور من القرآن قبل ذهابه إلى المدرسة.
         وبالقرب من المنطقة كانت دار الإذاعة في الصالحية حيث كان مهدي السعيد طفلاً يقتنص النظر إلى بعض المطربين مثل حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وعبد الصاحب شرّاد، وبعد العام 1958 يقول كنّا نرى مصطفى جواد وشمران الياسري (أبو كاطع) وغيرهما يترددون على دار الإذاعة. أما عزيز علي المطرب المعروف فقد كان يتحاشى الجلوس في المقهى كما يقول.
         شيوعيو محلّة الدوريين
         ويمضي مهدي السعيد في سرديته ليتناول عمل الحزب الشيوعي في محلّة الدوريين والمحلات المجاورة، وكيف كان عبدالأمير عباس "أبو شلّال" يستخدم "الدراجة الهوائية" في حركته وتنقلاته. وكان قد أصبح في وقت لاحق عضواً مرشحاً للجنة المركزية، وحين انفرط عقد الجبهة بقي أبو شلّال في العراق وعاش في ظروف بالغة القسوة.
         وقد حدثني سعد البزّاز حين انتقل إلى لندن وأصدر بعد حين "جريدة الزمان"، أن كتاباً جاءه من رئاسة الجمهورية يطلب منه الاتصال بعدد من الشخصيات والطلب منها الإدلاء بتصريح ضد "العدوان الثلاثيني" العام 1991، أي بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وانسحابها إثر حرب قوات التحالف ضدّ العراق، التي بدأت 17 كانون الثاني (يناير) العام 1991 وانتهت في 26 شباط (فبراير) من العام ذاته.
         وحسبما نقل لي البزّاز فقد أرسل أحد الصحفيين ومعه مصوّر (وكان البزّاز حينها رئيساً لتحرير صحيفة الجمهورية) واستدلّ الصحافي والمصوّر على البيت، لأن عنوانه كان قد جاء من ديوان الرئاسة، ووصلوا إليه وفوجئوا برجل مهاب وكبير السن ويبدو على مظهره أنه خارج دائرة السياسيين المعروفين، وحين طلبوا منه الإدلاء بتصريح، اعتذر معلّلاً ذلك بأنه لا يفقه بمثل هذه الأمور، وعليهم أخذ آراء الخبراء والمختصين وأساتذة الجامعة في حين إنه صاحب دكان صغير يبيع فيه بعض احتياجات العمل اليومي المنزلي. فواجهوه بأنه سياسي وقيادي في الحزب الشيوعي، فقال لهم "كان زمان" وإنه نسي كل شيء.
        وهكذا تملّص أبو شلّال الذي لفّ رأسه باليشماغ من الظهور أمام الشاشة أو عدسة المصوّر كي لا يفسّر الأمر بأنه تنازل أو ما شابه ذلك مع إنه قال لهم أثناء الحديث إن الناس جميعاً ضدّ العدوان الثلاثيني. وهنا بدأت حيرة البزّاز، فماذا سيكتب للرئاسة ؟ هل سيقول إنه رفض. أو امتنع أو اعتذر ؟ والتفسيرات والتأويلات ستكون غير مقبولة وستجلب معها مشكلات للرجل، وببراعته كتب ما معناه : إن الرجل بلغ من العمر عتيّا، وهو منشغل بقوته اليومي، فضلاً عن ذلك، فهو بسيط ولا يمكنه التعبير، كما أن وضعه الصحي بائساً. وبذلك كان أبو شلّال  بمنأى عن استجواب أو إعادة استذكار أو تبعات أخرى.
           كما يحدثنا مهدي السعيد عن فتح محل لكيّ الملابس، ويبدو إن المحل كان محطة حزبية استخدمها حسن عوينه القيادي في الحزب الشيوعي وعضو لجنة الارتباط، وقد قتل تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 في قصر النهاية، وأذيع خبر استشهاده مع سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس يوم 7 آذار (فبراير) 1963.



368
مهدي السعيد وسرّديته السسيوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
الحلقة - 1-
إني أحدثك لترى     
فإن رأيت             
فلا حديث           
النفري             
          قلم السياسي مغمّساً بحبر الذاكرة
         حين كتب مهدي السعيد "سيرته الذاتية" التي بدأت من أزقة الكرخ القديمة كما يروي وصولاً إلى براغ ولندن ودمشق، لم يكن يدر في خلده، إنه سيدوّن بعفوية شيّقة جوانب مهمّة من تاريخ محلّة الدوريين بشكل خاص، والمحلّة البغدادية بشكل عام، بكل تناقضاتها الإيجابية والسلبية وعناصر القوة والضعف فيها. وذهب أكثر من ذلك في مشواره السردي حين رسم بريشته لوحة بانورامية للمشهد السسيوثقافي لمدن عاش فيها، مستعرضاً في الوقت نفسه علاقات واسعة وعميقة مع رفاق وأصدقاء جمعته معهم حياة كاملة بكل عنفوانها وبكل ما لها وما عليها، بحلوها ومرّها، بما فيها من معاناة وقلق وهموم وآمال وأحلام وانكسارات.
          وبعدسة فنان حاول مهدي السعيد أن يصوّر لنا عدداً من اللاعبين على خشبة المسرح وحركاتهم وسكناتهم بعيني مراقب دقيق، وفي أحيان كثيرة كان يقترب من المشاركة أو يكون جزءًا منها، لكنه لا ينسى المراقبة التي سرعان ما يعود إليها وكأنه لا يريد أن يفقد متعة المشاهدة، وحسب صموئيل بيكت "المتعة بالفِرجة"، خصوصاً وإن مسرحنا السياسي ازدحم في العقود الثلاثة الماضية بألوان شتى من اللاعبين، من هواة السيرك إلى محترفي الجمنازتيك مروراً بالسحرة والمشعوذين وقرّاء الكف وفتّاحي الفال وصولاً إلى أصحاب التعاويذ والحروز المتنّوعة، حتى إنك لا تستطيع أن تميّز أحياناً بين الشيء وضدّه، فقد اختلطت الوجوه والصور والمواقف.
           وحسبنا أن نردّد قول شاعرنا الجميل مظفّر النواب : "قتلتنا الردّه إن الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّه"، خصوصاً حين إفتُقِدَتْ الصدقية التي كانت الرأسمال الإنساني الحقيقي سواء على الصعيد السياسي أو ببعديها الإجتماعي والثقافي، يوم كانت الأخطاء ذاتها صميمية، فالمرء يجتهد، وقد يخطأ وقد يصيب. وحسب قول الإمام الشافعي : "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب" والبشر وفقاً لفولتير "خطّاؤون"، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة فحيثما يميل تميل معه، لذلك اقتضى أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
         وحين تنهار المنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية أو تتصدّع أركانها، سواء بفعل عوامل خارجية أو داخلية، فإن صورة المجتمع تتشّوش بفعل الفوضى والعنف والزيف، خصوصاً حين تتداخل القضايا والمصالح. ولو تابعنا البرامج والسياسات والعلاقات الإجتماعية بغض النظر عن المواقع والمواقف، فسنرى الكثير من عناصر الشبه بينها، حتى إن المرء لا يستطيع أن يميّز أحياناً بين ذات الشمال وذات اليمين، لاسيّما حين أخذ بعضهم يستعير لسان الآخر وخطابه، حتى وإن كان متخماً بعكسه وأشبعنا بضدّه على مدى سنوات طوال. هكذا تضبّبت الصورة واختلط المشهد وتداخلت المواقع والأطروحات.
          كان مهدي السعيد وهو ابن البيئة الشعبية البغدادية الكرخية يقارب المشهد السياسي برؤية سسيوثقافية، ولم يرغب أن تفلت حادثة كبرى أو صغرى إلّا وحاول أن يمرّ عليها ولو سريعاً، كما توقّف عند بعضها وتعمّق في أخرى، لكن حبكته الدرامية ظلّت تنتقل معه وتتداخل مصادرها بين الإجتماعي والثقافي، وإنْ ظلّ السياسي والحزبي لاحقاً متميّزين في رؤيته على نحو بارز وشديد.
         ولكنه بالتدرّج أخذ يتّجه نحو أفق أوسع رحابة، منتقّلاً من العمل الحزبي "الضيّق" إلى العمل السياسي بمعناه "الواسع"، ومن هذا الأخير إلى العمل الإعلامي، خصوصاً باتساع معارفه وعلاقاته العربية بعد أن عمل في السفارة اليمنية في براغ وفيما بعد حين انتقاله إلى لندن، حيث توسّعت دائرة اهتماماته وعلاقاته العراقية، إضافة إلى الوسط الإعلامي العربي. وقد وفّر له ذلك فرصة إجراء مراجعات تاريخية، لاسيّما في سنوات ما بعد الإحتلال، لينتقل إلى التأمل وإعادة قراءة بعض الأحداث ونقدها بروح منفتحة وغير حزبوية.         
      جيل الستينات : جيل الأسئلة
       منذ أن علقَ مهدي السعيد بالسياسة، فتعلّق بأهدابها وركض وراء أحلامها الوردية حتى وإنْ كلفته منافي ومعاناة، لكنه واصل سيره في دروبها الفسيحة والوعرة في الآن، منتقلاً من  محطة إلى أخرى ومن مدينة إلى ثانية، حاملاً معه ذكريات متنوعة مختزناً أسراراً عديدة.   
       وكنت قد تعرّفت عليه وعلى أشقائه في العام 1960 وذلك من خلال صديقي العزيز جواد العادلي عن طريق صاحب المكوى "اسماعيل" الذي يرد ذكره في المذكرات، وهو من أقارب العادلي وكانت عائلته صديقة لعائلتنا وسكنوا بجوارنا لفترة من الزمن، وكان شقيق جواد العادلي "حمودي العادلي" وهو عضو في الحزب الشيوعي معتقلاً معنا، وقد تمّ تقديمه للمجلس العرفي العسكري، وحكم عليه لثلاث سنوات قضاها في سجن نقرة السلمان الصحراوي. وبعد إطلاق سراحنا وتسوية أمور فصلنا من المدرسة وقبولي في الجامعة، إلتقيت بهادي ومهدي وفيما بعد سعدي السعيد عدّة مرّات، حتى تعمّقت علاقاتنا خلال أحداث انشقاق الحزب الشيوعي في العام 1967 واستمرت خلال العقود المنصرمة.                                                                                                                                                                                                                                                         
       ولذلك حين طلب مني مهدي السعيد كتابة مقدمة لسيرته الذاتية، ركنت مشاعر الصداقة جانباً لكي أقرأ ما أعرفه ولا أعرفه عن صديق جمعتني به صداقة زادت على خمسة عقود ونصف من الزمان. ولا أذيع سراً إذا قلت إنني بقدر ما أعرف مهدي السعيد فقد استمتعت بما كتبه وبما لفت الإنتباه إليه وبما حاول إضاءته، فقد عاش الأحداث  بكل جوانحه منذ أواخرالخمسينات ومطالع الستينات من خلال معاينة ومعايشة ومشاركة، خصوصاً حين بدأ وعيه الأول يتشّكل مع السنوات الأولى من ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958  ليتوقف عند محطتة الراهنة، وهو بعد نحو نصف قرن من التعب والكدّ والإنشغال، يراجع بروح إيجابية مسيرته التي لا تخلو من مرارة وخيبة، بل إنه يراجع مسيرة جيلنا أيضاً، خصوصاً لماعاناه.
             وحين أتحدّث عن جيلنا فهو جيل الستينات الذي أفلح الشاعر والروائي فاضل العزّاوي في كتابه "جيل الستينات - الروح الحيّة" في تسليط الضوء على معاناته الفائقة وإرهاصاته الباهرة، سواء على الصعيد السياسي والثقافي أو على الصعيد الإجتماعي لا سيّما التطلّع إلى الحداثة والإنفتاح على المدارس المختلفة في الأدب والفن والعمارة بكل صنوفها وألوانها، خصوصاً بعد هزّة العام 1963 الإرتدادية، التي أحدثت صدمة كبرى في الحركة الفكرية والثقافية والسياسية في العراق. وكان هذا الجيل قد اجترح عذابات لا حدود لها على صعيد الفكر والهوّية والعلاقة بالآخر والتنوّع والتعدّدية، وبالطبع في قضايا الحريات العامة والخاصة، ولاسيّما حرّية التعبير والإعتقاد والتنظيم والحق في المشاركة.
           ويختلف جيل الستينات الذي عاش فترة انتقال حادّة وأوضاع تغيير على صعيد عالمي، عن جيل الأربعينات والخمسينات، حيث سادت اليقينيات الآيديولوجية والتقسيمات الإستاتيكية "شبه الثابتة" في تقويم طبيعة الصراع، ناهيك عن الإنخراط فيه، كما إنه يتميّز عن جيل السبعينات والثمانينات الذي بدأ معه صراع من نوع آخر وكان المشهد قد اكتمل، فجيل الستينات هو جيل الأسئلة الكبرى، حيث لم تعد تكفيه الإجابات الجاهزة، واليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية، فقد أخذت الأسئلة تتكدّس، وكان الجواب لا يجد سبيلاً للإقناع، وهكذا كانت الإرهاصات تكبر وتغتني بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي احتاج إلى نوع جديد من الجدل على مستوى الداخل الجوّاني، إضافة إلى الخارج الفوقاني.
         لم يتحدث مهدي السعيد عن جيل الستينات بشكل عام، بل اختار "حلقة" محدّدة منه طابعها العام متمرّد وبأشكال متنوّعة وامتازت بنوع من التضامن والتواصل والمودّة، على الرغم من العواصف والمتغيّرات والصراعات (الداخلية والخارجية) التي كانت سائدة فضلاً عن اختلاف المواقع والمواقف والمآلات لاحقاً، وهو ما قد أعود إليه في وقت آخر.
        ويذكر مهدي السعيد بالأسماء عدداً من أفراد تلك "الحلقة" اليسارية التي عملت بثقة وظلّت متماسكة في كل الظروف أصابت أم أخطأت.
        بصمة مملّحة
       جاءت سيرة مهدي السعيد مزيجاً من ذكريات ومذكرات واستعارات ومراجعات وتجارب وخبر منها ماهو ناجح ومنها ماهو فاشل، وبقدر ما حاولت تقديم عرض جاد لتجربة ذاتية وسياسية بامتياز، فإنها في الوقت نفسه حفلت بطرائف وحكايات ومصادفات ممتعة حاول الكاتب تمليح نصّه لكي لا يأتي ثقيلاً، وقد وضعها بأسلوب مبسّط ويكاد يكون عفوياً، ولعلّها تعكس جوانب من شخصيته المرحة رغم جديّتها.
        السيرة الذاتية لمهدي السعيد تضمّنت بوحاً في جزء غير قليل منها وكشفاً لواقع سسيوثقافي، حاول أن يعطيه بصمته الخاصة، خصوصأً باستعراض لا يخلو من دهشة الكاتب ذاته الذي اختزن هذا الكمّ الهائل من الصور والمشاهد والأحداث والمفارقات في ذاكرته، وقد يكون مفيداً قراءة هذه المذكرات كحلقة متصلة ومتكاملة، بل ومتراصة على الرغم من المراحل التي وضعها.


369
ما بين الصهيونية والساميّة
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

في غمرة إجراءاتها التعسفية لمنع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى وشنّ حملة إرهابية ضد عرب فلسطين وفي محيط مدينة القدس ذاتها، لم تتوانَ " إسرائيل" من صرف الانتباه عن محاولاتها المستمرة لتهويد مدينة القدس بعد أن ضمّتها رسمياً بقرار من الكنيست إليها العام 1980 خلافاً لقواعد القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التي اعتبرت قرار ضم القدس باطلاً ولاغياً ويتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. والأكثر من ذلك فإنها تحاول الظهور بمظهر "الضحية" بزعم إن أي انتقاد أو احتجاج على تصرفاتها " اللاشرعية" واللّا قانونية، إنما هو معاداة للصهيونية ، وكل عداء يعني في وجهه الآخر، عداء للسامية.
جدير بالذكر إن الأمم المتحدة وجمعيتها العامة كانت قد أصدرت قراراً في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1975 برقم 3379 يقضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وفي حينها شنّت " إسرائيل" حملة ضد الأمم المتحدة وأمينها العام الأسبق كورت فالدهايم، متهمة إيّاها بمعاداة السامية، مثلما حاولت تشويه سمعته بكونه كان ضمن تشكيلات النازية في شبابه. واستماتت لإلغاء القرار. وكان ممثلها في الأمم المتحدة إسحاق هيرتزوغ الذي أصبح لاحقاً رئيساً "لإسرائيل" (العام 1986) قد صرّح أنه لن تمرّ فترة رئاسته إلاّ ويكون القرار قد أُعدم. وبدأ حملة دولية تطالب بإلغاء القرار، خصوصاً حين وقّع نحو 800 شخصية دولية سياسية وفنية وثقافية وأدبية تدعو الأمم المتحدة بالتراجع عن قرارها.
وصادف أن تغيّر ميزان القوى الدولي والعربي لصالح الصهيونية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، ولاسيّما الاتحاد السوفييتي وتدهور التضامن العربي إلى درجة مريعة بفعل مغامرة غزو الكويت العام 1990، ومن ثم شنّ الحرب على العراق وفرض نظام عقوبات شديد عليه، حتّى تمكّنت " إسرائيل" من التأثير على الموقف الدولي بكسب عدد من الدول في التصويت لصالح إلغاء القرار، فألغي بالفعل في ديسمبر/ كانون الأول العام 1991.
وتحاول " إسرائيل" اليوم صرف النظر عن انتهاكاتها السافرة لحقوق المسلمين وأتباع الديانات المختلفة ، برمي كل من يقف ضد إجراءاتها تلك بمعاداة السامية. وللأسف فإن أوساطاً أوروبية تساند حملتها تلك وقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون وخلال استقباله رئيس الوزراء " الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو(16 يوليو/تموز/2017) عمّا يفيد بأن مناهضة الصهيونية ليست سوى إعادة اختراع جديد لمعاداة السامية. علماً بأن معاداة السامية تهمة تعاقب عليها القوانين الأوروبية، وتعتبر أقرب إلى ممارسة العنصرية.
وتحاول القوى المناصرة لـ "إسرائيل" اليوم تقديم الصهيونية باعتبارها "حركة تحرّر" "لتمثيل الشعب اليهودي" والتعبير عن "حقوقه" في بناء وطنه، ولذلك فإن كل مناهض للصهيونية وأيديولوجية "إسرائيل"، إنّما هو مناهض لحركة تحرر ولحقوق شعب، وبالتالي فهو معاد للسامية وضد حقوق اليهود.
واستناداً إلى مثل هذا التوجه، فإن أي انتقاد لممارسات " إسرائيل" يمكن أن يدمغ بمعاداة السامية. ووفقاً لمثل هذا الاجتهاد المريب فقد تعرّض بعض الناشطين في عدد من البلدان الأوروبية إلى اتهامات مثلما أُخضعوا إلى تحقيق بسبب جملة قيلت هنا أو تعليق قيل هناك، إزاء الصهيونية " العقيدة السياسية لإسرائيل"، كما يتلقى العديد من وسائل الإعلام الأوروبية رسائل وكتابات تندّد بأي انتقاد لـ " إسرائيل"  وأحياناً تتّهمها بالعداء للسامية على نشر مواد خبرية أو برامج تلفزيونية أو إذاعية لما يحدث في فلسطين من جانب الاحتلال "الإسرائيلي". والحملة تشمل أحياناً تنظيم تظاهرات واعتصامات أمام مداخل الوسائل الإعلامية لممارسة ضغوط على بعض الإعلاميين تصل أحياناً إلى التهديدات.وإذا ما عرفنا أن ثمة تواطؤ من جانب بعض الحكومات الأوروبية فإن بعض وسائل الإعلام تتردّد من نشر أو بث ما يؤدي إلى تعريضها للمساءلة أو الاتهام أو الضغوط.
إن الحملة التي انطلقت من فرنسا بلاد الحرّيات والحقوق، إنّما تستهدف ربط معادى الصهيونية بالسامية ، وذلك لإبعاد الصورة المأساوية التي يعيشها الشعب العربي الفلسطيني المحروم من حقوقه في تقرير المصير وإعادة اللاجئين وإقامة الدولة وعاصمتها القدس الشريف، حيث تستمر الانتهاكات لأبسط الحقوق وآخرها " حق العبادة" وممارسة " الشعائر الدينية "، إضافة إلى قتل الأطفال والنساء وهدم البيوت وتهجير السكان الأصليين، وتلك لا يجمعها جامع مع أي اعتبار إنساني أو تحرّري أو أخلاقي أو قانوني دولي، بل هي تمثّل جوهر العقيدة الصهيونية، الرجعية والاستعلائية، ولا علاقة بالأمر بمعاداة السامية.


370
ماذا ما بعد الموصل:
خيار محسوم أم حساب ملغوم؟!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

أعلن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي عن نهاية ما أسماه "دولة داعش" في العراق بعد مرور نحو 8 أشهر على إطلاق معركة " قادمون يا نينوى" . وجاء هذا الإعلان بعد تفجير الإرهابيين " جامع النوري الكبير" وهو صرحٌ تاريخي بُني قبل 850 عاماً. وكان أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم  قد أعلن في خطابه الذي ألقاه فيه " قيام الدولة" قبل ثلاث سنوات (29 يونيو/ حزيران العام 2014)، ليس هذا فحسب، بل إن داعش قام بتفجير منارة الحدباء التاريخية التي توصف ببرج بيزا العراقي نسبة إلى برج بيزا الإيطالي المائل . وهذا يعني حسب تفسير الخبراء العسكريين أنه قرّر الانسحاب بعد أن مُني بهزائم شديدة، لم يستطع معها البقاء في الموصل " عاصمته".
I
تتباين الإجابات على سؤال ما بعد الموصل، وتختلف التقديرات بدرجات حادة أحياناً، وهي تتفاوت بين الرغبة والقدرة، وبين المشروع والممنوع، وبين الممكن والمحال، فهناك أسباب أدّت إلى تمدّد داعش وانتشار الداعشية وهذه ما تزال موجودة، وهي تحتاج إلى خطوات جذرية وإجراءات فعّالة لمعالجتها، إذا ما أريد إلحاق الهزيمة بالإرهاب.
فهل حسمت معركة الموصل مصير التنظيم الإرهابي "داعش" أم أن المسافة بين تحرير الموصل وهزيمة الداعشية ما تزال شاسعة، لاسيّما وداعش ما يزال في الحويجة وتلعفر وحديثة والقائم وعلى امتداد الشريط الحدودي العراقي- السوري: ثم ماذا عن داعش في سورية، لاسيّما في الرقة  "المحاصرة" وفي منبج وضواحي الباب وضواحي تدمر والبوكمال والميادين والبادية السورية وصولاً إلى دير الزور؟.
لقد  كانت هزيمة داعش العسكرية كبيرة جداً وربما مفصلية، سواء في محافظتي صلاح الدين والأنبار وتحديداً في مدينة الرمادي  وكذلك في محافظة ديالى التي انحسر فيها التنظيم في الأشهر الأخيرة وبعد ذلك في الموصل، إلّا أن ذلك  لا يعني نهاية له ، خصوصاً وإن الأسباب التي أدّت إلى نشوء الداعشية ما تزال تجد تربة خصبة تتغذّى منها، الأمر الذي يحتاج إلى اقتلاعها من جذورها ونشر القيم النقيضة لها.
وإذا كانت الداعشية فكرة تعصّبية متطرّفة وإرهابية، تقوم على إلغاء الآخر كلياً بزعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، فإن أفكار التسامح والتعايش والسلام واللّاعنف هي ما يمكن مواجهته بها، وذلك للحيلولة  دون تمكّنه من غسل أدمغة الشباب اليائس والمحبط ، خصوصاً بالقضاء على البطالة والفقر والجهل والأميّة والتخلّف وتحقيق المواطنة السليمة القائمة على إشاعة الحرّيات والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية، والشراكة والمشاركة وعدم التمييز لأي سبب كان.
وقد دلّت الكثير من التجارب مع المنظمات الإرهابية، لاسيّما تلك التي تتذرّع بالدين وتستخدمه سلاحاً لتغطية أهدافها السياسية، إنها على الرغم من تعرّضها لهزائم، فإنها  تمتلك قدرات لا يمكن الاستهانة بها أو الاستخفاف بإمكاناتها اللوجستية والتعبوية. يكفي أن نشير إلى أنه حين لحقت الهزيمة بتنظيم القاعدة الإرهابي، وهو "التنظيم الأم" في أفغانستان وصولاً إلى اغتيال أسامة بن لادن الشخصية الكارزمية القيادية للتنظيم في 2 (مايو)  أيار 2011، فإنه استمرّ وأنتج وفرّخ تنظيمات أخرى، لعلّ أهمها هو "تنظيم داعش" و"جبهة النصرة " (جبهة فتح الشام - لاحقاً) وغيره من التنظيمات الإرهابية.
وقبل ذلك حين قُتل أبو مصعب الزرقاوي في 7(يونيو) حزيران 2006 في العراق، إلاّ أن التنظيم لم ينتهِ. وقد نقلت وكالات الأنباء خلال الأيام الأخيرة لمعركة الموصل مقتل أبو بكر البغدادي (لكنه لم يتأكد حتى الآن) ، إلّا أن التنظيم على الرغم من خسارته الفادحة وهزيمته الموصلية، فإنه لا يزال يشغل مساحة ليست بقليلة من أرض العراق وسوريا، ناهيك عن وجوده في النيجر ونيجيريا (بوكو حرام) والمغرب العربي (ليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا)، فضلاً عن قيامه بعمليات إرهابية في العديد من البلدان الغربية وغيرها.
وإذا كانت خسارة داعش للموصل مختلفة نوعاً ما، وذلك لأنها هي العاصمة بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) 2014، فهذا يعني أنه خسر معها أهم مصادره المالية، تلك التي كان يحصل منها على مبالغ طائلة لاسيّما من الآتاوات ، إضافة إلى بيع النفط بعد وضع يده على بعض الآبار لتغطية عملياته واجتياحاته ورواتب العاملين معه، مقاتلين وغيرهم.
لم ينشأ الإرهاب من فراغ، بل جاء نتيجة للتطرّف وهذا الأخير يقوم على التعصّب، وهو متغلغلٌ أحياناً في العقول ومعشش في الرؤوس بسبب أوضاع اجتماعية واقتصادية وثقافية، خصوصاً في ظلّ الانغلاق ورفض الآخر والميل إلى التفرّد والتماثل وعدم الإقرار بالتعدّدية والتنوّع وحق الاختلاف، وحسب داعش: كل آخر، هو غريب وأي غريب مريب، وبالتالي: أما عليه الخضوع ودفع الجزية إنْ لم يكن مسلماً أو الرحيل وإلاّ فإن الموت ينتظره، وهو ما حصل مع المسيحيين والإيزيديين في العراق ، هذا إذا كان رجلاً، أما إذا كانت امرأة، فالسبي هو ما  تناله، وهذا ما حدث للإيزيديات بشكل خاص، حيث تم بيعهن في سوق النخاسة. وكانت عمليات داعش أقرب إلى حرب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي يجرّمه القانون الدولي.
 لقد ابتكر الإرهاب الداعشي عمليات نوعية في السابق، وليس مستبعداً بعد هزيمته الموصلية أن يبتدع أساليب جديدة،  فمن ابتكار مهاجمة مبنى التجارة العالمي في نيويورك بواسطة الطائرات، العام 2001، إلى حوادث دهس وقتل بواسطة سيارات، كما حدث مؤخراً في عدد من المدن والبلدان مثل  نيس (فرنسا)  وبروكسل ( بلجيكا) ولندن (بريطانيا) وغيرها، وهذه لا تكلّف كثيراً، لكن المال يبقى عموداً فقرياً له وعنصراً مهماً في رفده، مثلما يرفده استمرار البطالة والفقر والتمييز والتهميش والطائفية وهدر حقوق الإنسان.
وإذا ما اجتمع المال و"العقيدة" والأوضاع العامة والخاصة، للإرهابيين فإن عملهم المتوحّش، سوف لا تكون له حدود ، خصوصاً بتوفّر أرضية مناسبة لنمو بذور الإرهاب وتفقيس بيضه، الأمر الذي يحتاج إلى تجفيف المنابع وقطع خط الإمدادات والتواصل، وردم الهوّة التي تشجع على استمراره وانتعاشه، وهذا يتطلّب مواجهة الفكر بالفكر أيضاً، فالوسائل العسكرية والأمنية، وإنْ كانت ضرورية أحياناً - وآخر العلاج الكي كما يقال -  لكنها لوحدها لا تكفي للقضاء عليه.
II
إذا كان العراق في نهاية السبعينات  قد أوشك على التخلّص من الأمية باعتراف منظمة اليونسكو، فإنه بسبب الحروب والحصار والاحتلال والطائفية والإرهاب والفساد، عاد القهقري حيث انتكست التنمية، ووجد الإرهاب مرتعاً خصباً له في ظل تخلّف المناهج الدراسية وعدم مواكبتها للتطور، ناهيك عن اعتمادها على أفكار ماضوية واحتوائها على الكثير من الآراء التي تقوم على الكراهية ولا تقبل التنوّع وترفض التعددية، الأمر الذي يشكل أرضية صالحة لنمو الإرهاب.
لقد  مرّ العراق  بأطوار خمسة للتنمية، أولها حين تأسست الدولة في العام 1921، لاسيّما بعد انطلاق حقل بابا كركر النفطي في كركوك العام 1927، ثم تأسيس مجلس الإعمار العراقي العام 1950  ولغاية ثورة 14 (تموز) العام 1958، وهي مرحلة شهدت نجاحات تنموية إيجابية وإن كانت محدودة.
أما المرحلة الثانية فكانت بعد الثورة، حيث توسّعت الخدمات التعليمية والصحية وشملت قطاعات سكانية واسعة وشعبية، إضافة إلى تعزيز شبكة الطرق والجسور والهياكل الإرتكازية والبنى التحتية .
أما المرحلة الثالثة فكانت بعد تأميم النفط العام 1972 والطفرة النفطية عقب حرب اكتوبر (تشرين الأول) العام 1973، حيث ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، وشهدت هذه المرحلة توسّعاً كبيراً في ميدان التنمية وتراكم الموارد، لاسيّما في القطاعات المختلفة وارتفاع مستوى المعيشة والرفاه الاقتصادي.
أما في المرحلة الرابعة فقد رزح العراق تحت وطأة انكماش لعملية التنمية بسبب الحرب العراقية - الإيرانية العام 1980-1988، وفيما بعد غزو الكويت 1990، وحرب قوات التحالف ضد العراق 1991، والحصار الدولي الذي فُرِضَ عليه حتى احتلاله العام 2003،حيث تعرّضت التنمية إلى انهيار شامل، خصوصاً مع تفكّك بنية الدولة وحل الجيش العراقي واستشراء الطائفية والإرهاب والفساد، ولعلّ المرحلتين الأخيرتين مهدتا لنشر بذور الإرهاب، سواء بإسقاطه خارجياً أو بانتعاشه داخلياً.
وإذا ما أضفنا إلى هذه العوامل عدم عدالة العلاقات الدولية والشعور بالغبن والإجحاف الذي تعاني منه شعوب الأمة العربية ولاسيّما  الشعب الفلسطيني، الذي تعرّض للظلم والاحتلال والعدوان لما يقارب من سبعة عقود من الزمان، فإننا نستطيع أن ندرك أن بيئة حاضنة لنشوء الإرهاب لا تزال موجودة، بل إنها شكّلت مرتعاً له حيث أخذت تتكوّن على نطاق واسع لاسيّما بعد الاحتلال، وهذه وجدت ذرائع عديدة لممارسة الإرهاب باسم الدين أو المذهب، وذلك كغطاء شرعي لتبرير جرائمها، بالضد من الدين ذاته وتعاليمه السمحاء ورسالته الإنسانية.
III
إذا كانت معركة الموصل قد ألحقت خسارة فادحة بداعش وبمستقبل الداعشية في العراق، فإن انعكاساتها ستعود أيضاً على العالم العربي، لكن المعركة مع داعش والإرهاب الدولي سوف لا تنتهي سريعاً، حسبما صرّح به الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند بقوله "إن الحرب بعيدة كل البعد عن نهاياتها. وكانت بعض المخاوف قد عبّرت عن نفسها باحتمال وجود "خلايا نائمة" قد تقوم بتنفيذ بعض العمليات الهجومية الانتحارية، إضافة إلى قلق من احتمال اندلاع صراعات طائفية وإثنية على مراكز النفوذ، وقال يان كوبيش ممثل الأمم المتحدة في العراق :" إن سحق داعش في الموصل لا يعني نهاية الحرب على الإرهاب وأمام العراق المزيد من العمل للتعافي الكامل وإرساء السلام الدائم".
يمكن القول إنه من السابق لأوانه اعتبار هزيمة داعش في  الموصل هزيمة للداعشية،  فالمعركة قد تطول لفترة غير قصيرة ، لأن التنظيم الذي عُرف بالمكر والخداع واستخدام تاكتيكات متنوّعة وبارعة ومفاجئة، قد يستخدم خططاً جديدة وبديلة، تعويضاً عن قيام الدولة والركون إلى بناء مؤسساتها، بالعودة إلى ضرب المواقع لمنعها من الاستقرار وإعادة البناء، وسيستغل الخلافات حول مصير المناطق المحرّرة وعائديتها، خصوصاً وهناك مناطق متنازع عليها في الموصل وبشكل خاص في كركوك، إضافة إلى ديالى، فضلاً عن الخلافات بين ما يسمّى بالسنّية السياسية، حول مناطق النفوذ، وبدا الأمر واضحاً من انعقاد مؤتمرين للسنّة بدلا ً من واحد واختلافات حول التمثيل، إضافة إلى خلافات حادة بين الشيعية السياسية، حول مصير الحشد الشعبي وقياداته ومحاولة توظيف النصر العسكري لصالح هذه الجماعة الشيعية أو تلك، فضلاً عن اختلافات وصراعات كردية- كردية، ساهم في اندلاعها الموقف من الاستفتاء الذي دعا له رئيس الإقليم مسعود البارزاني في 25 سبتمبر (أيلول) القادم.
الأمر لا يخص العراق وحده، فسوريا والتسويات التي ستجري فيها، لاسيّما بعد لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين، إضافة إلى مخرجات  الأستانة "5"، وارتباط ذلك بتركيا وإيران،والأطراف الإقليمية الأخرى، كلّها ستكون مطروحة في إطار مواجهة المجتمع الدولي لداعش وللإرهاب الدولي.
IV
ولعلّ من الاستخلاصات المبكرة لذلك، القول بأنه ليس من المعقول والمنطقي أن تستمر الصيغة السياسية في العراق ذاتها، تلك التي تأسست بعد الاحتلال وفقاً لنظام المحاصصة الطائفي- والإثني، وقادت إلى اختناقات وردود فعل وتوترات وأعمال عنف وإرهاب وفساد، بسبب الشعور بالتهميش والتمييز وعدم المساواة. وقد يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بالدستور ذاته المليء بالألغام، ولكن ذلك يحتاج إلى وحدة وطنية حقيقية وثقة وتوافق وطني ورغبة في التغيير الحقيقي.
 كما لم يعد معقولاً أو منطقياً ما بعد الموصل أيضاً، ممارسة سياسات ترقيعية وتسويات ظرفية على أساس "ترضيات" بعقد المؤتمرات الصاخبة والخطابات الرنّانة وترديد الأناشيد  الحماسية حول الوحدة الوطنية المزعومة في غياب المصالحة الوطنية والمجتمعية وتفاقم المشاكل بين بغداد وإربيل، بل وصولها إلى استعصاءات أحياناً في أجواء عدم الثقة والتهديد بانشطارات قد تكون خطرة على صعيد المنطقة كلها.
ولم يعد مناسباً أو ممكناً غضّ الطرف من جانب الدول الإقليمية والمجتمع الدولي الذي كانت  سياستهما تقوم على اللّامبالاة أو حتى التشجيع غير المعلن أو المبطّن ببقاء الحال طالما بقيت ظواهر العنف والإرهاب خارج حدودهما، دون أن تدركا أن المنطقة متّصلة ومتواصلة مع دول الإقليم والعالم، وإن الإرهاب يمكن أن ينتقل إليهما وهو ما حصل فعلاً، فلم يعد درءه ممكناً، حيث لم ينجُ منه أي مجتمع أو دولة، سواء أكانت إيران أم تركيا أم غيرها مهما ادعت الحصانة والوقاية.
إن الخروج  من دوامّة داعش ما بعد الموصل وتحرير جميع الأراضي العراقية يتطلّب مصارحة ومكاشفة بالأسباب التي أدت إلى ظهور داعش وقيام الداعشية، لأن ما يواجه  العراق والمنطقة ما بعد تحرير الموصل، قد لا يقلّ أهمية إنْ لم يزدْ خطورة عمّا سبقها، خصوصاً لإعادة بناء ما خربته الحرب وإعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم وتعويضهم والشروع بوضع خطط تنموية مستدامة وإنسانية وشاملة في جميع المجالات إستناداً إلى مبادئ المواطنة الأساس في الدولة العصرية الدستورية، وعلى أساس حوار مجتمعي ومصالحة حقيقية بعيداً عن المغالبة ووصولاً إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على احترام حقوق الجميع.
وقد دلّت الكثير من التجارب الدولية إن التصدي للإرهاب لن يتم بمثله أي بالضد النوعي، ولكن بوسائل مختلفة، فالغايات الشريفة تتطلّب وسائل شريفة، والوسيلة العادلة هي من صلب الغاية العادلة، وإذا كان الظالم يستخدم وسائل ظالمة، فعكسه ينبغي للعادل أن يستخدم وسائل عادلة، وهذه كثيرة ومتنوّعة، وذلك لأن الجريمة لا تحارب بالجريمة، فجريمتان لا تنتجان عدالة.



371
فلسطين ومعركة الثقافة
                     
د. عبد الحسين شعبان

في مدينة كراكوف التاريخية (بولونيا) اتّخذت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، ومقرّها في باريس، قراراً تاريخياً بتسجيل مدينة الخليل (الفلسطينية)، والتي لا تزال تحت الاحتلال «الإسرائيلي» على لائحة التراث الإنساني العالمي الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته، وذلك يوم 7 يوليو (تموز) 2017.
واتخذ القرار في أعقاب تصويت سرّي أثار جدلاً واسعاً ونقاشاً متواصلاً على المستوى الدولي، ولاسيّما ردود الفعل «الإسرائيلية» الحادّة، وذلك لما للقرار من رمزية تتخطّى الجانب التاريخي على أهميته، وتذهب إلى أبعد من ذلك، لاسيّما التشكيك بمجمل الرواية «الإسرائيلية» بخصوص «أرض الميعاد». ولا شكّ أن الصراع هو قديم وجديد في الآن، بل إنه يتجدّد في كل لحظة، وهو لا يتعلّق بالآثار التاريخية فحسب، بل بمجمل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً «حق تقرير المصير».
وصوّت لصالح القرار 12 دولة عضو في لجنة التراث العالمي، مقابل 3 دول صوّتت ضده، وامتنعت 6 دول عن التصويت. ويشمل ملف التسجيل: البلدة القديمة لمدينة الخليل والحرم الإبراهيمي العتيق. وقد وضع القرار الحرم الإبراهيمي الذي يطلق عليه اليهود «كهف البطاركة» على قائمة المواقع «المهدّدة». ويعتبر من المقدسات الدينية، حيث دفن فيه الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وكانت مدينة الخليل، لعقود سابقة، مسرحاً للصراعات بين المستوطنين اليهود الذين يعيشون في جيوب استيطانية، بينما يحيط بهم سكان المدينة الفلسطينيون البالغ عددهم نحو 200 ألف نسمة.
ويأتي هذا القرار امتداداً لطائفة من القرارات التي تمّ اتخاذها في وقت سابق، منها قراران مهمّان تم اتخاذهما في العام المنصرم، أحدهما اتخذته «اليونسكو» في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 يقضي باعتبار الأماكن المقدسة في القدس من تراث العرب والمسلمين.
وثانيها: قرار اتخذه مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2016 بخصوص وقف الاستيطان «الإسرائيلي» في الأراضي العربية المحتلة، علماً بأن الاستيطان وإجلاء السكان بالإكراه يعتبر «جريمة دولية».
وكانت (الأسكوا) «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» في وقت لاحق قد أصدرت تقريراً يدين «الأبرتايد»، إزاء الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في 15 مارس ( آذار) 2017.
ولعلّ من دلالات قرار اليونيسكو الأخير بخصوص الخليل اعترافه بأنها «مدينة محتلّة»، وبالطبع فلا يحق لسلطة الاحتلال تغيير معالمها أو تركيبتها السكانية أو نظام علاقاتها، طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها: الأول الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، الصادرين عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف (1973-1977). كما أنه يعيد تأكيد حقوق عرب فلسطين في أرضهم وتراثهم وفي حقهم الدولي غير القابل للتصرّف، ونعني به «حق تقرير المصير».
والقرار من زاوية أخرى يعدّ نصراً لكلّ القوى التحررّية وهزيمة للصهيونية وحماتها، ولذلك فإن السفير «الإسرائيلي» كارمل شاما هاكوهين لدى منظمة «اليونسكو» شنّ حملة قاسية ضد المنظمة ذاتها واعتبرها منحازة للفلسطينيين وأن قراراتها مسيّسة، والسبب أنها انتصرت للعدالة وللتاريخ والحقيقة، حين أكدت «فلسطينية» مدينة الخليل وتراثها الثقافي.
وكانت حكومة بنيامين نتنياهو قد فشلت في محاولاتها لمنع صدور القرار، وحاولت تقديم دلائل باطلة، مضمونها أن تراث مدينة الخليل، يهودي بالأصل، وأن المدينة ترتبط باليهود منذ آلاف السنين، وهي مكان ميلاد مملكة داوود، وتعتبر من أقدم المواقع الأثرية اليهودية.
القرار الأممي الذي اتخذته اليونيسكو يعكس درجة التفّهم الدولي لشرعية وعدالة القضية الفلسطينية، حيث أخذ العالم ينظر إليها بعين العطف والتضامن، وباقة القرارات الدولية التي تم اتخاذها مؤخراً تعد تطوراً مهماً وتراكماً إيجابياً أخذت وتيرته تزداد وزخمه يتعاظم منذ أن قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1974 الاعتراف ب «منظمة التحرير الفلسطينية» كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني. ومثل هذا التطوّر الكمّي التدرّجي، لا بدّ أن يتحوّل إلى تغيير نوعي بالتراكم، يمكن للفلسطينيين والعرب توظيفه بالاتجاه الصحيح.
وبقدر ما تعكس قرارات المجتمع الدولي تطوراً إيجابياً للقضية الفلسطينية، فإنها بالقدر نفسه تعكس انحسار وتراجع المشروع «الإسرائيلي» وانكشاف مدى اللّاعدالة واللّاشرعية التي قام عليها، إضافة إلى استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان خلافاً لجميع قرارات الأمم المتحدة. ولعلّ كل نجاح فلسطيني دولي يعني فشلاً «إسرائيلياً»، وتلك فرضية ينبغي اعتمادها باستمرار كمؤشر في الصعود الفلسطيني والهبوط «الإسرائيلي».
النجاح الفلسطيني الجديد هو انتصار للدبلوماسية الثقافية، التي ينبغي إيلاء اهتمام أكبر بها، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل على المستوى العربي، وهناك الكثير من الشواهد والأدلة، على أننا نحتاج إلى مزيد من العمل والمثابرة والمعرفة والدبلوماسية، لاقتحام هذا الميدان المهم الذي تركنا جزءًا كبيراً منه ل «إسرائيل» في العقود السبعة الماضية، وآن الأوان لكي نُحسن التعامل معه لتحقيق اختراقات جديدة للمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وذلك بإضافة أبعاد جديدة إلى حقوقنا العادلة والمشروعة.
drhussainshaban21@gmail.com



372
عطشان ضيول الأيزرجاوي
 الشيوعية والجيش والثورة: أحلام وكوابيس*

د. مهدي السعيد
كاتب وصحافي - لندن

كان عطشان ضيول الأيزرجاوي أحد الشيوعيين العسكريين الذين امتازوا بالجرأة والشجاعة والإقدام، لذلك كان محبوباً من قبل الضباط والجنود، حيث عمل في قيادة الخط العسكري للحزب الشيوعي بُعيد ثورة 14 تموز عام 1958.
ينحدر عطشان من عشيرة آل ازيرج في الناصرية، وقد انتقل مع عائلته إلى بغداد في الفترة التي انتقلت والدتي ووالدي من الناصرية إلى بغداد أيضاً. ولأن والدته كانت قريبة لوالدتي، فقد سكنتا في محلة واحدة هي "محلة الدوريين"، وكان عطشان منذ صباه قد انخرط في العمل السياسي، وإزداد نشاطاً حين دخل الكلية العسكرية وتخرّج منها ضابطاً.
ولكنه في السنة الثانية بعد تخرّجه منها أُلقي القبض عليه وأودع السجن، حيث خضع أثناء ذلك إلى عمليات تعذيب قاسية وشديدة على يد شرطة بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية، وقد تحدّث عن ذلك التعذيب خلال إدائه للشهادة أمام " محكمة الشعب" ورئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي.  وقال إن من بين وسائل التعذيب التي مورست ضده كانت إرغامه على الجلوس فوق المدفأة النفطية الساخنة،إضافة إلى اجباره الجلوس على القناني الزجاجية المكسورة والفارغة. وكان هذا التعذيب استثنائياً وقد تم ممارسته في العراق لأول مرّة ضد السجناء والمعتقلين الشيوعيين.
كانت وزارة الداخلية والتحقيقات الجنائية تعتبران عطشان ضيول الايزرجاوي فريسة كبيرة لأنه ربما يكون عضواً في قيادة الحزب الشيوعي آنذاك، ووقع بأيديهم صدفة وأنه قد يكون مشرفاً على قطاع الجيش، كما علمت لاحقاً بأنه قد التقى وهو لازال صبياً أو شاباً بالرفيق فهد في الناصرية.
كان عطشان مربوع القامة وذا شارب كث، ووجه عريض وخشن وكنتُ قبل أن أراه أسمع والدتي تتحدّث عنه كثيراً وتذهب خصيصاً لزيارة والدته في رأس الشارع المؤدي إلى سوق عيسى وعلاوي الحلة. وكان يأتي إلى البيت متخفياً، ولكنه حينما يدخل البيت ويخرج لا يتهيّب من السير الاعتيادي في الشارع. وكان الشرطي السرّي يتصوره مسلحاً ولا يقدم على التعرّض إليه، ولكن بعد فترة، كما أتذكر،ازداد عدد الشرطة السرّية التي تراقب بيته ليل نهار، إلّا أنه مع كل ذلك كان يأتي إلى البيت بين الحين والآخر ولكن بصورة مفاجئة. وأتذكّر جيداً أنه كان يضع جريدة تحت إبطه الأيمن ويمشي في الشارع في غاية الشجاعة دون خوف أو وجل ليبدو وكأنه يحمل مسدساً متحدّياً الشرطة الواقفة قرب الباب، وفي بعض الأحيان يمرّ قرب باب بيتنا ويتوقّف برهة من الزمن كي يلقي بالتحية على والدتي، ثم يأخذ بمداعبة الصغار ويمسح رؤوسهم بلطف شديد وأنا منهم. وكانت حركات ساقيه غير متوازنة نتيجة تمزّق عضلات إحداها بسبب التعذيب الذي تعرّض له.
انقطع عطشان كلياً عن زيارته لبيتهم بعد أن كثرت مراقبته من قبل الشرطة السرية التي كما سمعنا قررت اعتقاله مرة أخرى. لكن الحيرة بدأت تشغل رجال الشرطة بعد أن علموا بأن زوجته "أم نضال" تبدو حاملاً. وهذا يعني أنه كان يأتي إلى البيت تحت جنح الظلام ويخرج منه باكراً دون أن يعرف أحد من هؤلاء الشرطة بمواعيد رجوعه إلى البيت لذلك أخذوا يراقبون البيت طوال الليل كي يمسكوا به. ولكنه انقطع كلياً عن المجيء إلى البيت، واستمرّ الحال حتى قيام ثورة 14 تموز، حيث عاد إلى الجيش وأصبح آمراً مساعداً لقائد المقاومة الشعبية العقيد طه البامرني.
كان عطشان أحد أقوى أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ومسؤولاً عن الخط العسكري. وقد سمعت من الضابط الطيار الشيوعي السابق عبد النبي جميل بأن معظم الضباط وحتى ضباط الصف ما بعد ثورة 14 تموز كانوا لا ينفذون أي أمر يأتيهم إلاّ أوامر عطشان الذي أخذ يتجول بين المعسكرات المختلفة للقاء الضباط والجنود وترتيب أمورهم، وكانوا يدينون له بالولاء بشكل كبير وكان بإمكانه أن يزيل عبد الكريم قاسم ويستلم السلطة.
كان سلام عادل الأمين العام للحزب الشيوعي يعتمد عليه كثيراً، وكان محسوباً على توجهه الثوري، وحين اصطدم الزعيم عبد الكريم قاسم بالشيوعيين،"انشقت" قيادة الحزب الشيوعي، فكان سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول مع فكرة إزاحة الزعيم من السلطة وإبعاده عن الحكم، ولكن دون الانتقام منه، بل تكريمه والاعتناء به ولكن أخذ السلطة منه، في حين كان ثابت حبيب العاني وعامر عبد الله وآخرون ضد هذه الفكرة، فنشب صراع خفي بين تيارين، إذْ كان سلام عادل ذا خبرة تنظيمية وسياسية كبيرة، لكنه لم يكن حازماً، وإرتأى أن يأخذ قراراً بذلك بعد إشراك آخرين أساسيين في هذا الأمر.
أخبرني "آرا خاجاودور" خلال إحدى جلساته معي في براغ بأن عطشان كان الوحيد على حق. فحين اجتمعنا بمنطقة السكك لبحث الأمر تصدى ثابت حبيب العاني بقوة لرأي عطشان مؤيداً من قبل عامر عبد الله الذي كان يتودّد لعبد الكريم قاسم كثيراً.
أما سلام عادل فقال يجب أن نؤجل الأمر بعض الوقت إلى أن أذهب في سفرة خاصة سريعة إلى موسكو لأخذ رأي القيادة السوفياتية. وكان هذا الموقف قد أجهض رأي عطشان في الحال وبدا الرأي الآخر هو السائد.
قال لي "آرا خاجادور" إن اللجنة المركزية آنذاك أبعدت سلام عادل إلى موسكو وقد تحوّل العديد من أعضائها ضده، بما في ذلك زوجته "أم ايمان"، إلّا عطشان ضيول وأنا وقليل من الرفاق بقينا متواصلين معه.
سألتُ ثابت حبيب العاني في لندن عن حقيقة هذا الأمر وقلتُ له: هل هذا صحيح يا أبا حسان؟ حاول أن يتذكر الموقف جيداً ولأنه يبدو قد سبق له أن دخل في صراعات عديدة مع عطشان حينما كان الثاني مسؤولاً عن الجيش فإنه استمر حتى تلك اللحظة يمقته، فبدلاً من الإجابة على سؤالي هذا بدأ يكيل الشتائم لعطشان ويصفه بـ"المتهور"، ولكنه توقّف في اللحظة التي قلتُ له: لماذا تغضب بهذا الشكل فلعلمك أن عطشان هذا هو من أقربائي.
اعتذر أبو حسان وحولّ الحديث إلى موضوع آخر.وحينما عدتُ إلى البيت، اتصل أبو حسان بي هاتفياً وقال: أرجو أن لا تكون قد غضبت مني فقد هاجمتُ "عطشان". قلتُ: لا لم أغضب أبداً لأنه أقرب إليك وإن كان من أحد أقاربي، ودخلنا في حديث آخر يختلف قطعاً عن قضية عطشان.
أسفر هذا الاختلاف عن تغييرات عميقة في سياسة القيادة الحزبية حيث انتصر خط "الإبقاء على عبد الكريم قاسم" بعد أن عاد سلام عادل من موسكو. وتبع ذلك ارسال أو "نفي" عطشان إلى الاتحاد السوفيتي بحجة كونه يحتاج إلى الدراسة في المدرسة الحزبية هناك. وذهب إلى الاتحاد السوفيتي غير أن أخباره انقطعت منذ ذلك الحين، بل وانقطعت عن أهله ومعارفه، والذي اتضح لاحقاً أنه وضع بيد السوفييت الذين منعوا عليه الاتصال بقيادة الحزب أو مغادرة البلاد إلى أي جهة أخرى.
وكان جهاز الـ"كي جي بي" KGB يتابعه بدقة، وقد عرف أنه بذلك قد أزيح كلياً عن المشهد السياسي في العراق.
وحين وقع انقلاب شباط 1963 كان لا يزال في موسكو وقد علم بالضربة الماحقة التي تعرّض لها الشيوعيون في العراق، وقرر الهرب من مكان إحتجازه السياسي في الاتحاد السوفيتي، وتمكن كما يبدو من الحصول على جواز سفر مزور بواسطة الحزب الشيوعي الأردني. وقد أشيع خبر هروبه من المكان المحتجز به، ولكن لا أحد يعلم إلى أين اتجه. فقد قرّر التوجه إلى ألمانيا الشرقية– سابقاً - حيث يوجد لديه هناك العديد من الأصدقاء أحدهم فوزي الذي كان قد التجأ إليها بعد أن حدثت له مشكلة في منطقة "الجعيفر" بمنطقة الكرخ عام 1962.
كان فوزي شيوعياً، وقد تعرّف على عطشان عبر أحد اللاجئين العراقيين بألمانيا. وكان هذا اللاجئ محسوباً على خط الكفاح المسلح بعد إقامته في ألمانيا. واهتم به الاثنان وأخذا يقدمان له المساعدات، حيث حاول في ذلك الوقت إعادة بناء الحزب الشيوعي، فأصدر نشرة حزبية ضد قيادة اللجنة المركزية. وفي تلك الفترة ذاع صيته أكثر من السابق، واعتبر الشخص الأول الذي فكر في إطلاق "حركة الكفاح المسلح"، هذا ما كتبه كاظم السماوي صاحب جريدة "الإنسانية" أيام الزعيم عبد الكريم قاسم في أكثر من مقالة في مطلع السبعينات في المجلات الفلسطينية كـ"الهدف" و"الحرية".
كان السماوي معجباً بـ"عطشان" إلى حد كبير، بحيث يعتبره أهم شخصية سياسية انطلقت من قلب الجيش العراقي، وعملت في صفوف الحزب الشيوعي بطاقة سياسية مذهلة. والشيء نفسه كتب عنه أحد أكبر الكتّاب السوريين والمقصود حيدر حيدر في روايته التي دارت أحداثها حول الشأن العراقي، وتحديداً تجربة الحزب الشيوعي العراقي وحركة الكفاح المسلح. ولكن الكاتب وقع في خطأ غير مقصود،إذْ أشار في روايته الموسومة "وليمة لأعشاب البحر" بأن عطشان ضيول هو الذي أسس حركة الكفاح المسلح في جنوب العراق وهو الذي قاد المقاتلين فيما بعد.
هكذا كلام لم يكن صحيحاً لأنّ عطشان في فترة اندلاع حركة الكفاح المسلح في أهوار العراق في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي لم يكن موجوداً في العراق وإنما في الاتحاد السوفيتي ومن ثم في ألمانيا ويبدو أن الكاتب اعتمد على روايات بعض العراقيين الذين كانوا معجبين بشجاعة وبطولة عطشان.
إن حركة الكفاح المسلح في أهوار العراق التي اندلعت بُعيد انقلاب شباط عام 1963 كانت محدودة وضعيفة للغاية، ولم تتطوّر إلّا في الفترة التي ترافقت مع انشقاق عزيز الحاج وبعد ذلك. ولكن البدايات كانت عبارة عن جيوب للمقاتلين الذين سبق لهم أن هربوا من المدن أو المحافظات إلى الأهوار حماية لأنفسهم من أزلام الانقلاب والحرس القومي.
غير أن التحوّل الكبير لحركة الكفاح المسلح ربما بدأ بعد إعلان أمين الخيون عن تجميع عدد محدود من المقاتلين وانضمام وجوه جديدة وفعالة في هذه الحركة، كالمهندس خالد أحمد زكي، الذي كان يعيش في بريطانيا، وكذلك مظفر النواب بعد هروبه من سجن الحلّة مع مجموعة من المناضلين عام 1967.
كان خالد أحمد زكي الداينمو الحقيقي لحركة الكفاح المسلح، وكان متأثراً بتجربة المكافح والمقاتل العالمي جيفارا.وفضّل هذا المناضل الكفاح المسلح على حياة الرغد وتحوّل إلى مناضل بمنتهى الشجاعة والإباء واستشهد وهو واقف
بقي عطشان متخفياً لدى أحد أصدقائه قرب مدينة "نورنبرغ"، لكنه بعد فترة بدأ يشعر بشيء من المخاطر المجهولة الهوّية، فقرر الانتقال إلى برلين. وفي برلين استقرت حالته بعض الشيء ولكن طبيعته التي تعود عليها لم تتركه منكفئاً، فقد بدأ يفكر جدياً في إعادة بناء التنظيم، إذْ كان خبيراً بالعمل السري لأن معظم حياته قضاها متخفياً، لكنه في هذه المرة أراد أن يبدأ من الصفر، فكانت أولى نشاطاته في برلين هي إصدار نشرة حزبية تبشر ببناء حزب شيوعي جديد. واستطاع عطشان في ألمانيا أن يجمع عدداً لا بأس به من الشيوعيين القدماء الذين وجدوا أخيراً القائد المطلوب. واستمر بعض الوقت في العمل على تأسيس خلايا جديدة إمتد نشاطها إلى الخارج، إضافة إلى إعادة بعض المنقطعين عن الحزب.
بعد فترة من العمل السري المحكم جاء الشخص المعني بالصلة الحزبية، كما هي العادة ولم يجده في البيت فاستغرب كثيراً لأنه كان على موعد معه، وحين انتظر قليلاً أمام شقته بدا يساوره الشك من حدوث شيء ما، فقرر العودة إلى بيته والاتصال به لاحقاً، لكنه بدل أن ينزل إلى الطابق الأرضي مشياً على الأقدام قرر استخدام المصعد الكهربائي الذي يخترق الجزء المفتوح من البناية. وحين أطل من على كابينة المصعد إلى الأسفل لاحظ وجود جثة إنسان مطروحة على الأرض، نزل إليها في الحال وتفاجأ بأنها جثة مسؤوله الحزبي "عطشان"، فصرخ بأعلى صوته "لقد قتلوك"، وأخذ يبكي بصوت عالٍ مما دفع بسكان البناية إلى التوجه نحوه واتصلوا بالشرطة فوراً والتي حضرت إلى المكان ونقلت الجثة في إحدى سياراتها.
وبعد إجراء المسح الميداني على الجثة والمكان سألوا عنه الأصدقاء فعرفوا هوّيته من خلال جواز سفره الأردني. ثم اتصلوا بالسفارة الأردنية. حيث تطلب الأمر قضايا عديدة حتى يتم نقله إلى بلده، إذْ لم يكن لأحد أن يعرف بوجوده في ألمانيا إلّا ثلاثة لأنه كان متخفياً. ولم تكن مصلحة للمخابرات الألمانية بقتله ولا حتى البعثيين العراقيين لأنهم لم يكونوا في السلطة آنذاك. وتوجهت الاتهامات نحو معارفه أي نحو "كي جي بي" أو الحزب الشيوعي العراقي الرسمي.
وعلى الرغم من أن الخلافات الداخلية أكثر حدّة وضراوة من الخلافات مع العدو، الأمر الذي يرجّح احتمالات الانتقام، سواء بتصرف فردي أو لمجموعة قليلة من الأفراد، لكنني  أسقط الاحتمال الثاني لأن منهج الشيوعيين العراقيين طوال تاريخهم لا يحبّذ الاغتيالات السياسية للأشخاص، وإلّا لكانوا اغتالوا أول من خرج عليهم وتواطأ مع العدو وهو "مالك سيف". وأعتقد أن الحزب الشيوعي بريء من قتل عطشان ضيول، لأنني متأكد بأن قيادة الحزب سابقاً ولاحقاً لا تتخذ من هذه الأساليب لتصفية الخصوم أو الشيوعيين المنشقين عليها.
لقد كانت طريقة قتله تدل على احتراف كبير للأشخاص الذين ارتكبوا هذه الجريمة. فقد تبيّن انهم رموه من الطوابق العليا إلى الأرض ولم يستخدموا الرصاص لكي لا يقال إن القاتل هو عنصر عسكري مدرّب.


















ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فقرة من كتاب يصدر قريباً للدكتور مهدي السعيد بعنوان " الجذور" وهو عبارة عن مذكرات للكاتب مع عنوان فرعي " من أزقة الكرخ العتيقة إلى براغ ولندن ودمشق - سيرة مناضل".

373
نظرة أخرى لمسألة الإتجار بالبشر
عبد الحسين شعبان
 
تحت عنوان “لا طلب.. لا عرض” أعدّت المخرجة المسرحية سمر عسّاف، وبمبادرة من ” مركز الفنون والآداب Mellon Grant في الجامعة الأمريكية في بيروت بالشراكة مع منظمة ” كفى عنف واستغلال”، مسرحية قدمتها وسط جمهور جلّه من النساء والشباب على مسرح المدينة في شارع الحمرا. المسرحية، التي أعقبها نقاش مفتوح مع غادة جبور مسؤولة قسم الإتجار بالنساء في منظمة “كفى”، تناولت موضوع ” الدعارة” والأفكار المغلوطة عنه، واستندت في ذلك إلى مقابلات مسجّلة مع نساء سوريّات ناجيات من شبكة تجارية مختصّة بالإتجار بالبشر ولاسيّما من النساء،  حيث قامت المخرجة عسّاف ذاتها بتسجيل هذه المقابلات بتاريخ 10 ابريل (نيسان) و12 مايو (أيار) 2016 بالتعاون مع غادة جبور.
كما قامت ساندي عيسى وهي مختصة بالصحافة الاستقصائية بتصوير مقابلات مع نساء سوريات ناجيات، إضافة إلى مقابلات مع المقدّم مصطفى بدران الذي اتخذ قرار مداهمة ” بيت الدعارة”، حيث تم احتجاز عدداً من النساء بلغ 75 امرأة. وتابعت المسرحية القرار الإتهامي الصادر بحق الأشخاص المتهمين بالاتجار بالبشر، كما استندت إلى ما يقوله الرجال ” مشترو الجنس″ حول دوافع ممارساتهم وتصوراتهم لعملية الشراء ” الرخيصة” وللمتعة المشتراة، تلك التي وثّقتها بدراسة خاصة. ما يلفت النظر هو الأسلوب المؤثر الذي ناقشت فيه المسرحية بعض الآراء الخاطئة بشأن تجارة الجنس، تلك التي يقترب بعضها من المسلّمات، خصوصاً لجهة شيوعها عن عالم الإتجار بالبشر ولاسيّما بالنساء،وحاولت إخضاع ذلك إلى  منظومة فلسفية فكرية، شكّلت خلفية للمسرحية بجميع مفرداتها، والتي وضعت هدفاً لها هو ” مكافحة الاستغلال الجنسي للنساء والاتجار بهن” والهدف الأعمق والأوسع هو “رفع الوعي” إلى خطورة هذه المسألة التي ترتبط فيها قضايا أخرى مثل تجارة المخدرات وغسل الأموال وتجارة السلاح والإرهاب الدولي. وكانت منظمة “كفى” قد أطلقت حملة في العام 2014 بعنوان ” الهوى ما بينشرى”.
ومن الأخطاء التي تكاد تكون راسخة في هذا الميدان هي تلك التي تزعم ” إن الدعارة أو تجارة الجنس هي أقدم مهنة في التاريخ” ولكن المهنة تتطلّب تأمين الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية والأمن الذاتي، ومثل هذا الأمر مفقود في عملية بيع وشراء الهوى، حيث تتعرّض نسبة كبيرة من النساء إلى أشكال العنف المادي والمعنوي، فضلاً عن العنف الجنسي على يد مشتري الجنس والوسطاء وغيرهم. وتشير إحصائية إلى أن نسبة الوفيات من النساء اللواتي يتعاطين هذه المهنة هي أكثر من 40 بالمئة لدى غيرهن، لذلك إن قدِمْ هذه المهنة لا يبرّر القبول بها كظاهرة حتمية للمجتمعات، وإلاّ فإننا سنقبل بالجريمة بوصفها موجودة منذ القدم.
إن هذه المهنة هي ليست مهنة اختيارية للنساء، وإنما هي اضطرارية ومفروضة وأحياناً بسبب غياب الخيارات الأخرى، والغالبية الساحقة من النساء دخلنها وهنّ دون السن القانوني بسبب الفقر والحاجة وظروف اجتماعية واقتصادية وشخصية قاسية، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الخيار الحر. ويتم الترويج أحياناً إلى إن مثل هذه الممارسة الجنسية، هي من قبيل الحرّية وهي حق للمرأة للتصرّف بجسدها، لكن الظروف التي تجبر المرأة على ممارستها، ولاسيّما الحاجة إلى المال تجعلها خاضعة للرجل الذي يعبّر عن ذكوريته وتسيّده في شراء الجنس. وأشارت دراسة لمنظمة كفى إن 80 بالمئة من مشتري الخدمات الجنسية، هم من الذين يشاهدون أفلاماً جنسية ويحاولون تمثيلها مع النساء من خلال شراء الجنس. وتبرّر بعض الأطروحات الخاطئة إن الرجل بحاجة إلى تعدّدية الممارسة الجنسية لأنه لا يستطيع السيطرة على شهواته، الأمر يدفعه لتبرير شراء الجنس، وتلك مسألة تشكّك بها الدراسات الاجتماعية والنفسية، مثلما تقول وجهة نظر أخرى خاطئة لو لم تعرض المرأة جسدها للبيع، فسوف لا يجد الرجل الخدمات الجنسية لشرائها، مثلما هناك وجهة نظر أخرى تقول إن تحريم تجارة الجنس يجعلها سرّية أو غير مرئية، الأمر الذي يحمل فكرة خاطئة تدعو إلى ترخيص بيعه، بمبرر إنه سيبقى تحت الرقابة ومقنن شرعياً.
وحسب القانون الدولي فإن الإتجار بالأشخاص بهدف الاستغلال الجنسي محرّم، خصوصاً استغلال الضحايا وأوضاعها الصعبة، الأمر الذي يجعل من ذلك جريمة يحاسب عليها القانون، لاسيما استغلال الموقع الضعيف للنساء وخداعهن أو تهديدهن أو ابتزازهن، لاستقطابهن أو إبقائهن في دائرة بيع الخدمات الجنسية. لقد وظّفت المسرحية تقنية آليكي بلايت ” التوصيل المسجل” واعتمدت على مونتاجات لمقابلات من الحياة اليومية، وجاء عرضها على هامش ” إعادة الإعمار ما بعد الحرب: سوريا والعراق واليمن وفلسطين”. إن مسألة الاتجار بالبشر ومنها تجارة الجسد مسألة قانونية وحقوقية وأخلاقية ودينية، إضافة إلى كونها مسألة إنسانية أساساً، ولا بدّ من حملة توعوية وتربوية بين النساء والرجال، لوضع حد لآثارها الضارة، ناهيك عن إنزال أقسى العقوبات بمرتكبيها.
{ باحث ومفكر عربي


374
ما بعد الموصل.. «داعش» و«الداعشية»
                     
د. عبد الحسين شعبان

من السابق لأوانه القول إن هزيمة «داعش» في الموصل هي نهاية له، على الرغم من الجانب الرمزي في سياق مواجهة التنظيم الإرهابي. والأمر له علاقة بأسباب داخلية وأخرى خارجية، وله أبعاد فكرية ودينية وطائفية وسياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وتاريخية وتربوية ونفسية، أي أنه يتعلق بمجمل الأوضاع التي أدت إلى نشوء التنظيمات الإرهابية، ابتداء من تنظيم القاعدة ووصولاً إلى تنظيم «داعش». وبقدر ما هناك بيئة عراقية ساعدت على نشوئه، فهناك فضاء إقليمي ساهم في انتشار فيروسه، وتأمين حركته وانتقاله، مستفيداً من أوضاع دولية وإقليمية.

وإذا كان دخول الجيش العراقي جامع النوري الكبير الذي أعلن منه أبو بكر البغدادي دولته في يونيو/ حزيران العام 2014، قد طوى صفحة من صفحات التنظيم، فإن صفحات أخرى، ربما أهم بحاجة إلى أن تطوى تماماً، ليُصار إلى إغلاق هذا الملف كليّاً والتخلّص من تبعاته وآثاره، وقد يحتاج الأمر إلى وقت وجهد لا يمكن الاستهانة بهما لتحقيق هذا الهدف. والأمر لا يتعلق بالعراق فحسب، بل في سوريا أيضاً حيث تتزامن المعارك لتحرير الرقة من قبضة «داعش»، وفي بقية المناطق والبلدان التي عمل فيها «داعش» ولا يزال، مثلما هناك بلدان أخرى لديه فيها خلايا نائمة حتى وإن لم تظهر إلى العلن أو أنه لم يقرّر تنفيذ عمليات إرهابية مباشرة فيها، لكنها تعتبر ممرّاً وعيناً ومموّلاً له.

لم ينشأ «داعش» من فراغ، بل هو حصيلة ثقافة سائدة بأشكال مختلفة سيطرت على عقول شباب يائس جرت عملية غسل دماغ لهم بشكل منهجي طوال عقود من الزمان، ووجدت ضالتها في الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث الفقر والجهل والأمية وشحّ الحرّيات والتمييز، إضافة إلى الإذلال الذي تعرّضت ولا تزال له شعوب بكاملها جراء اختلال نظام العلاقات الدولية، وكل ذلك أوجد مناخات لانتعاش الإرهاب وتفقيس بيضه، لاسيّما بفشل الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال في العديد من دول المنطقة وعدم قدرتها على إنجاز مهمات التحرر الوطني وتحقيق التنمية المنشودة بمختلف جوانبها، يضاف إليها دور العنصر الخارجي والتدخّلات الأجنبية والحروب والاحتلال والعدوان المستمر.

ولعبت المدرسة بشكل عام والمناهج التربوية بشكل خاص، إضافة إلى بعض المؤسسات الدينية وبعض رجال الدين بخطابهم الماضوي الإلغائي إزاء الآخر، دوراً سلبياً في نشر أجواء التشدّد والتعصّب المنتجة للتطرّف، وهذا الأخير حين يتحوّل من الفكر إلى الممارسة، ينتج عنفاً وإرهاباً، كجزء من عقيدة استعلائية تدّعي امتلاك الحقيقة والأفضلية بالتعكّز على الدين وزعم القرب إلى الله، الأمر الذي ساعد في سيادة الخطاب الآحادي والتفسير «الإسلاموي»، باعتباره مقدساً وغير خاضع للنقاش والجدل، علماً بأنه مجرد اجتهاد فقهي قابل للخطأ والصواب.

هكذا نمت «الداعشية» في إطار المنظومة الثقافية السائدة، خصوصاً بضعف المواطنة أو الشعور بها وغياب أو شحّ مبادئ الشراكة والمشاركة والمساواة والعدالة الاجتماعية التي هي أركان أساسية للمواطنة، فما بالك حين تمارس سياسات تمييزية وانتهاكات لحقوق الإنسان.
والآن كيف يمكن أن تسهم عملية تحرير الموصل في دحر «داعش» والأهم من ذلك في القضاء على «الداعشية» كفكر إرهابي، إقصائي، استئصالي متطرّف وضد قوانين الطبيعة والمدنية والعصر؟ ف «الداعشية» لا تزال تمتلك تأثيراً آيديولوجياً على قطاعات يائسة من الشباب لشعورها بالتمييز والقنوط وانعدام الأمل. وحتى من الناحية العسكرية والسياسية ف «داعش» ما زال يهيمن على مناطق أخرى مثل قضاء تلعفر القريب من الموصل وصحراء نينوى والأنبار، إضافة إلى قضاء الحويجة وقضاء الشرقاط والشريط العمراني الواصل بين قضاءي حديثة والقائم على الحدود العراقية - السورية، وذلك بالطبع يحتاج إلى جهد مركّب ومتنوّع بما فيه حملة دعائية وفكرية ضده بمنظومة قيمية نقيضة له.

صحيح أن هزيمة «داعش» العسكرية في الموصل ستنعكس إيجاباً على المعارك التي ستدور في هذه المناطق على الرغم من استحقاقات كل واحدة منها، الأمر الذي يتطلّب جهداً عسكرياً واستخبارياً وأمنياً مكثّفاً دقيقاً وهادفاً للحفاظ على أرواح وممتلكات المدنيين، إضافة إلى جهد ثقافي وتربوي وديني واقتصادي واجتماعي لمواجهة الفكر «الداعشي» و«الداعشية» عموماً، خصوصاً بتفكيك خطابها وعناصر فكرها وفقاً لمنهج متسامح وإنساني وعصري.
إن القضاء على «الداعشية» يحتاج إلى مشروع بديل، بحيث يتكرّس الانتصار الفكري استراتيجياً بمختلف الجبهات والميادين ليستطيع أن يحلّ محلّ «داعش» و«الداعشية»، والمدخل إلى ذلك في العراق هو سرعة إعادة بناء ما خرّبته الحرب وإعادة النازحين إلى مناطقهم وتعويضهم، والشروع في تنمية البلاد وفق خطط مدروسة ومتدرّجة، وحل مشكلة المناطق المتنازع عليها بتطبيق المادة 140 من الدستور، وبالطبع، فالأمر يحتاج إلى توفّر إرادة سياسية موحدة وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، وإعلاء شأن المواطنة كقيمة عليا خارج نطاق نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية ووضع حد لظاهرة الفساد، الوجه الآخر للإرهاب، فذلكم هو السبيل للقضاء على «الداعشية».



375
العنف والإرهاب وما بينهما
د. عبد الحسين شعبان

غالباً ما يُطرح بُعيد كل عمل إرهابي السؤال عن العلاقة بين العنف والإرهاب، وهل كل عمل عنفي هو عمل إرهابي؟ وأين يمكن إدراج حقّ الدفاع عن النفس؟ وكيف السبيل للتحرر من شباك العنف وبالتالي الإفلات من شرنقة الإرهاب؟
ولأنّ الإرهاب يضرب في كلّ مكان، وهو في الأغلب الأعمّ يكون عشوائياً، فإنّ هدفه تهديد المجتمع وإرعاب الناس وإضعاف الثقة بالدولة وإعلاء شأن الجماعة الإرهابية، فذلك لأنّه لا ينشغل بالضحية، بل يرتكب عمله بقصد إلغائي، تدميري، في محاولة لفرض نمط «مختلف»، وسلوك «غريب» وحياة «غير مألوفة» لما هو سائد، وذلك بواسطة القوة والعنف، كما هو إرهاب تنظيم «داعش» مثلاً.
ثمة فوارق أحياناً بين العنف والإرهاب، وإن كان كلاهما يشكّلان جريمة بالتجاوز على القانون، لكن معظم الجرائم التي تقوم بها القوى الإرهابية تتم ضدّ مجهول وفي قطاعات شعبية، لا علاقة لها بالصراع وبما يحدث، في حين أن العنف يستهدف الضحايا بالتحديد، أي أنه يختارهم اختياراً، لغرض محدّد.
الإرهاب والعنف جريمتان تستهدفان ضحايا، لكن الجريمة الأولى هدفها يختلف عن الجريمة الثانية، فجريمة العنف تندرج تحت لواء القانون الجنائي ضدّ أفراد أو جهات محدّدة، في حين أن جرائم الإرهاب تُحتسب على الجرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم جماعية وجرائم إبادة وتحكمها قواعد القانون الإنساني الدولي، إضافة إلى القوانين الوطنية.
وهنا لا ينبغي أن نهمل الجانب الفكري للإرهاب فهو يمثّل فكراً ناجماً عن تطرّف وهذا الأخير يقوم على التعصّب. وإذا كانت المجابهة مع الإرهاب عسكريّة فإنها لن تؤدّي إلى القضاء عليه لوحدها، بل ينبغي أن تتعدّاه إلى تفكيك الظاهرة ومتابعة حلقاتها وكشف أهدافها ووسائلها، ومحاربتها بفكر مضاد وبوسائل مختلفة، ف«الوسيلة جزء من الغاية»، بل إنهما مترابطان، ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، وعلى حدّ تعبير المهاتما غاندي، «الوسيلة والغاية مثل البذرة من الشجرة».
وإذا كان الفكر الإرهابي أحاديّاً وإقصائيّاً ومعادياً للآخر، فإنّ الفكر النقيض الذي تحتاجه مجتمعاتنا ينبغي أن يقوم على الاعتراف بالآخر، والإقرار بالتعددية والتنوّع، وهذا يتطلّب نبذ التمييز بجميع أشكاله، سواء كان دينياً أو إثنياً أو بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الأصل الاجتماعي أو لأي سببٍ كان، أي الاعتراف بمبادىء المساواة.
الإرهابي لا يؤمن بالحوار ويحاول أن يبسط سلطانه على محيطه بالقوة، وبدلاً من الإقناع يلتجئ إلى التفجير والمفخخات خارج أي اعتبار إنساني، طالما تتلبسه فكرة «امتلاك الحق» والسعي للوصول إلى هدفه بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة أحياناً، وقد تكون هذه الأخيرة بنظره مشروعة، طالما يحاول «أدلجة» سلوكه وإعطاء نفسه مبرّرات قمع الآخر أو تصفيته، سواء كان ذلك بزعم الدخول إلى الجنّة أو إبادة الخصم الكافر أو القضاء على المروق والإلحاد، أو غير ذلك من محاولات إخضاع الآخر.
وإذا تمكّن التطرّف من التوغّل في العقول، والتغلغل فيها، فإنّه سيتمكّن ممّن يُصاب بلوثته، خصوصاً من تعرّض لعمليّة غسل دماغ لدرجة تعمي بصيرته وتشلّ مشاعره الإنسانية، ليقوم بفعلته، سواء بتفجير نفسه أو تفجير عدوّه أو خصمه، أو السعي لإذلاله والقضاء عليه.
ولكن ما السبيل لقطع دابر الإرهاب؟ هل بالعنف أو بالقوة والوسائل العسكريّة ؟ التجارب أكّدت إن المعالجة الأمنية غير كافية لوحدها، لأن الإرهاب يتناسل ويتوالد إذا ما استمرّت الظروف المؤاتية لتناميه، إذ لا يمكن القضاء على الإرهاب إلاّ بنشر الفكر المعاكس والمضاد، وبالمزيد من احترام الحقوق والحرّيات واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية وتحقيق القدر الكافي من العدالة وتحسين ظروف العيش الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية.
لقد سمّم الإرهاب القائم على التطرّف والتكفير علاقات المجتمعات مع بعضها بعضاً، وأضرّ بعلاقات فئاتها وأديانها ومذاهبها وحتى أفرادها، مثلما أشبع المجتمعات الدولية بهواء ثقيل ورائحة كريهة، ولكن الخطر الأكبر هو السيطرة على عقول الشباب أفراداً وجماعات والعبث بها، خصوصاً بزراعة الكراهية وتبرير العدوان وإيجاد الذرائع لإقصاء الآخر واستسهال عمليات القتل والتفجير.
وإذا كانت يد الإرهاب طويلة وضاربة، فليس ذلك بفعل الإمكانات المادية والاقتصادية فحسب، فمثلها بعشرات ومئات الأضعاف يوجد في العالم، لكن التطرّف والتكفير قوي بقدرته على اختراق عقول الشباب العاطل، الممسوس بكرامته والشاعر بشحّ فرص العيش الكريم وانعدام العدالة وعدم المساواة وحالات الإحباط واليأس التي يصاب بها.
drhussainshaban21@gmail.com


376
عن المصالحة الوطنية وإدارة الأزمات
                     
عبد الحسين شعبان

راجت في العقود الأخيرة، خصوصاً بعد تجربة الانتقال السياسي في أوروبا الشرقية وجنوب إفريقيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية، فكرة المصالحة الوطنية، ووَجدت هذه الأخيرة في «العدالة الانتقالية» وسيلة لتحقيقها. وفي المنطقة العربية ارتفع الجدل، واتسع النقاش حولها، بين موالاة ومعارضة، بعد موجة ما أطلق عليه ب«الربيع العربي»، تأييداً، أو تنديداً، فهناك من يرفعها إلى درجة التقديس، في حين أن هناك من ينزلها إلى درجة التدنيس، ولكل تفسيراته، ومبرراته. وبين هذا وذاك، فالمصالحة الوطنية، كما أكدت العديد من التجارب الكونية مسألة ضرورية للانتقال الديمقراطي.
لكن المصالحة الوطنية تحتاج إلى شروط ومستلزمات لإنجاحها، مثلما تستوجب وجود جهة معتمدة لإدارة النزاع، وهذه الجهة يمكن أن تفرزها التطورات ذاتها، لا سيما بتبادل المواقع بين معارضات سابقة، وحكومات معزولة، وما بينهما، حيث تبرز مشكلات عدة، واتهامات وملاحقات، تحتاج إلى الفصل فيها من جانب القضاء، أو عبر عملية سياسية انتقالية جديدة، وهو ما يندرج في إطار العدالة الانتقالية، التي تكون المصالحة الوطنية ختامها. كيف السبيل للوصول إلى المصالحة الوطنية المنشودة، خصوصاً بعد اندلاع العنف، وانفجار الصراع المسلح؟ بالتأكيد سيكون ذلك صعباً، بل عسيراً أحياناً، ولكنه ليس مستحيلاً، فقد توصل الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، إلى إنهاء النزاع المسلح مع المعارضة، الذي دام 52 عاماً بفعل توفر إرادة سياسية، ووصول الطرفين إلى قناعة أنه لا يمكن لأحدهما القضاء على الآخر، الأمر الذي يحتاج إلى تقديم تنازلات متبادلة وصولاً للمصالحة الوطنية.
ويتطلب ذلك أحياناً جهوداً كبيرة قد تتخطى القدرات الوطنية، لتتشابك مع قدرات إقليمية ودولية، وهي من دون أدنى شك تحتاج إلى اتخاذ تدابير وإجراءات استثنائية، لأن العنف ومحاولات الاستئصال تقود إلى شق المجتمعات بين موالين وأتباعهم، ومعارضين وأنصارهم، وستترك بلا أدنى شك، تداعيات اجتماعية خطرة، لا سيما إذا طال أمدها، لأنها ستؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، والروابط التقليدية.
والمسار الذي تتخذه إدارة الأزمات يبدأ بمحاولة الاحتواء containment، ثم يأخذ منحى تحويل الأزمة transformation، وأخيراً البحث عن الحلول الممكنة، أي اتخاذ قرار resolution بعد بحث ونقاش واتفاق، وقد يستغرق ذلك فترات زمنية طويلة وخطوات تدريجية، وصولاً لإنهاء النزاع، وتحقيق المصالحة الوطنية، أي تحويل النزاع العنفي العسكري إلى نزاع مدني إيجابي وبناء، تتم فيه معالجة مسببات النزاع الرئيسية، وصولاً إلى حله. ويحتاج ذلك إلى فتح حوارات واسعة، والبحث عن المشتركات المشروعة للأطراف المتنازعة، والسعي للتغلب على بعض المعضلات، لا سيما التوصل إلى توافق وطني يقدم الأولويات الوطنية على المصالح الخاصة، بأخذ أهداف الفرقاء المتنازعين في الاعتبار.
وتعتمد إدارة الأزمات على مسارات متعددة عبر تفعيل الدبلوماسية الرسمية والشعبية، والاستعانة بالتعليم والبحث العلمي وقطاعات المال والأعمال والإعلام والاتصالات، إضافة إلى دور بعض رجال الدين والشخصيات الاجتماعية والثقافية، كما يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دوراً إيجابياً على هذا الصعيد، لكن ثمة عقبات تعترض الوصول إلى المصالحة الوطنية المنشودة، من أهمها تسييسها، أي جعلها وسيلة لإملاء الإرادة بفرض تنازلات من طرف على حساب طرف آخر. مثلما تتشبث بعض الأطراف المستفيدة من استمرار الصراع بمواقفها وإصرارها على محاكمة عهد كامل، أو اجتثاث جميع من كان بارزاً فيه، الأمر الذي سيكون عقبة أمام التوصل إلى مصالحة وطنية شاملة.
إن حالة عدم الاستقرار السياسي، والانفلات الأمني، وضعف المؤسسات العسكرية، وجهات إنفاذ القانون، تحول دون إنجاح المصالحة الوطنية، لا سيما إذا كان السلاح منتشراً، والثقة بين الفرقاء المتنازعين غائبة.
أما الخطوة الأولى لنجاح عملية المصالحة فإنها تتطلب اعترافاً رسمياً بما حصل من انتهاكات لحقوق الإنسان، ومساءلة المتهمين بارتكابها، لا سيما إذا كانت انتهاكات جسيمة، وممنهجة، والهدف ليس الانتقام والثأر بقدر ما يُراد التوصل إلى إحقاق الحق وتحقيق العدالة، مع أخذ مبادئ التسامح في الاعتبار.
وحسب تعبير لزعيم عراقي راحل، ينبغي اعتماد مبدأ «الرحمة فوق القانون»، وهو ينطبق أكثر على الظروف الاستثنائية، وهي التي نطلق عليها تعبير «العدالة الانتقالية»، أي أنها عدالة مؤقتة وانتقالية، محكومة بظروف استثنائية، وبانتقال البلاد من طور إلى طور آخر، ومن نظام إلى آخر، باستخدام أدوات قضائية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وغيرها، كما ينبغي أن تبقى الذاكرة الوطنية حية، حين يتم جبر الضرر وتعويض الضحايا والمتضررين، مادياً ومعنوياً، وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، لكي لا يتكرر ما حصل.
drhussainshaban21@gmail.com


377
 آراء ومناقشات
في تجديد الفكر الديني: مساهمة في الحوار الدائر حول الإسلام والحداثة(*)
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي.

(*) في الأصل ورقة قدمت إلى: ندوة «الإسلام السياسي بين المعارضة الاحتجاجية وتحمّل مسؤولية الحكم»، منتدى الجاحظ - تونس، بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 2016.
(**) البريد الإلكتروني:   drhussainshaban21@gmail.com.
تمـهيـــد
تندرج مسألة «الإسلام والحداثة» في إطار تجديد الفكر الديني من خلال أسئلة شائكة ومعقّدة تتعلّق بالرابط الذي يمكن الإسلام أن يطلّ فيه على عالم الحداثة. فرغم التطوّر الهائل الذي حصل في العالم على مستوى العلم والتكنولوجيا والاتصالات والمواصلات والإعلام والمعلومات، بما فيه الطفرة الرقمية (الديجيتل)، فإن الإسلام، وبالأحرى الفكر الإسلامي، لا يزال يراوح عند بوابة الحداثة، بل حتى دونها، ويخشى كثيرون الدخول فيها أو اجتياز عتبتها؛ فهناك ما يشدّهم إلى الخلف، ويحجب عنهم النظر إلى المستقبل بزعم الأصولية والسلف الصالح وغير ذلك من التبريرات.
الحداثة (Modernity)، تعني نقض القديم والتقليدي، وإطلاق الحرّية للعقل والتفكير في حركة نهوض وتطوير وإبداع هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك، وهدفها تبديل النظرة الجامدة للأشياء والكون والحياة، والتقليل من سلطات المقدس، ولكنها في الوقت نفسه تشترط التغيير والتجديد وتخطي الأساليب القديمة؛ فالماضي أصبح ماضياً، ولا يمكن استعادته أو العيش فيه، مثلما سيصبح الحاضر ماضياً وقديماً، وتلك سنّة الحياة، إذْ إن التغيير هو السمة المطلقة في الحياة، وما عداه فهو نسبي.
الأمر الذي يحتاج إلى تحديث (Modernization) هو الفكر الديني، وهذا له مدلول تاريخي ودينامية لتحوّلات بنيوية، مثلما حدثت في أوروبا منذ القرن السادس عشر حتى تبلور في الثورة الصناعية والثورة العلمية - التقنية التي رافقتها والتي قادت إلى الثورة الفرنسية عام 1789 وثورات أوروبا في القرن التاسع عشر.
والفكر الحداثي (Modernism) يعني التخلص ممّا يحول دون تقدّم الفكر وتطوّره، ولا سيّما حبسه في إطار من التقليد والمحاكاة للماضي، وحسب ألان تورين، فالحداثة تحتاج إلى عقلانية (Rationalism) وإلى انفجار معرفي، بحيث يصبح التركيز على العقل والعلم، فهل يصل الإسلام والفكر الإسلامي إلى ذلك؟ أم أن ثمّة معوّقات تقف حجر عثرة أمامه؟ وهل سيتمكّن الفكر الإسلامي من اجتياز بوابة الحداثة، الأمر الذي سيعني دخول عالمها، وبالتالي هل يستطيع تكييف التعاليم الإسلامية بحيث تستجيب لروح العصر بتقديم قراءات جديدة تنسجم مع التطوّر الكوني‏ .
أولاً: الديني والعلماني
إذا كانت أسئلة الجدل بين الدين والعقل قد صيغت في الماضي البعيد والقريب على أنحاء مختلفة ومتباينة لمفهوم الدين نفسه، فإن سؤال الدين من داخل الدين سيطرح إشكالاته النقدية هذه المرّة في ضوء البحوث المنهجية المهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب الديني، إلى مهمات تجديد الفكر الديني ذاته، لأنه لن يكون في الإمكان تجديد الخطاب من دون تجديد الفكر، ولا سيّما بجعله يستجيب للتطورات والمتغيّرات ويتساوق مع روح العصر.
كما أن سؤال الدين من خارج الدين يشتبك مع سؤال الدين من داخله، لأن كليهما ينشغلان بالهمّ الفكري والإنساني والروحي، سواءٌ كانت تفسيراته مثالية أو مادية، بأسبقية الوعي أو بألحقيته، باعتباره انعكاساً للوجود المادي‏ .
السؤالان: الدين من داخله والدين من خارجه، يتداخلان من خلال علاقة السياسي بالديني، وكيف يمكن التواؤم بين الديني كمنظومة وبين السياسي، كمتحرك قابل للائتلاف، والاختلاف، وعلى أي قاعدة يمكن البناء، وما هي عوامل التلاقي وعوامل التعارض، وهل يمكن تحديد حقل كل منهما ليتم بالتالي احترام حقوقه وواجبات الدين والسياسة كحقلين منفصلين.
وإذا كان الأمر قد اقتصر في الكثير من الأحيان على تفسير العقائد الدينية، التي يتعلّق بعضها بالظواهر الغيبية وتعطّش البشر الروحي للشعور بالطمأنينة الداخلية، ولا سيّما في ظل عجز الإنسان عن تفسير وحلّ الكثير من الأسئلة التي تواجهه، فبعضها الآخر يتعلق بجانبها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بالقدر الذي يمكن أن تكون جزءاً من الصراع الدائر بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة، كسياق لصيرورة وجودية لامتناهية، وبالقرب أو البعد من المُثُل والقيم التي تروّجها الأديان والفلسفات والأفكار، وخصوصاً التي تريد تأمين سعادة الإنسان ورفاهه، سواءٌ في الدنيا أو الآخرة، ولنا في تفسير هيغل للدين مثـلاً، فقد كان بالنسبة إليه يعني الرغبة في السمو الإنساني نحو الأعلى والأكمل ومن خلاله يتجسّد «الإله»، وهو ما قام فيورباخ بنقده، ومنه استمدّ ماركس رؤيته في شأن الدين‏ .
وضمن هاتين الرؤيتين؛ التاريخانية والغيبية للدين، أو المثالية والمادية، ابتدأ النقاش المثير للجدل في زمن الحداثة وما بعدها ليزداد الإشكال المتعلق بالوعي الديني، إلى أن أصبح الكلام على مقدرة الدين على مواجهة العصر وتحدّياته ينحصر في مجموعة من الدراسات والأطروحات والأفكار والمقترحات النظرية، لكيفية طرح التجديد ضمن التباس العلاقة بين النقل والعقل وبين الشريعة والزمن، أي بين الثابت والمتحرّك، أو بين القطعي الدلالة والظنّي الدلالة، أو فلنقل بين القابل للانفتاح على الفكر والعصر، وبين المغلق على النص والزمن!
من هنا كان لا بدّ من فتح ملفات التجديد والاجتهاد والحداثة لمقاربة الهواجس المشتركـة بين الديني والعلماني في زمن الحداثة‏ ، على أن يتم انتهاج أسلوب الحوار الموضوعي الهادف إلى إتمام التكامل بين الدين والدنيا، لأن المسألة لا تتعلق بقيم السماء فحسب، بل إن الإشكالية تكمن في الأرض، ويدور الصراع حول القيم والمفاهيم التي يجسّدها الدين والفكر فعـلاً لا قولاً، وارتباطاً بمفاهيم الحرية والعدالة وسعادة ورفاهة البشر.
لقد وضع هيغل مفهوماً واضحاً للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية محدّدة، معتبراً أن الحداثة بدأت مع عصر التنوير، وقال إن الحرية مكوّن عظيم الأهمية للحداثة، وأنها بمنزلة «الروح». ومرّت فكرة الحداثة بتطورات عديدة من ديكارت، صاحب «الحداثة الفلسفية» (أنا أفكر إذاً أنا موجود) إلى ماكس فيبر الذي ربطها بتطور العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية، تلك التي مهّدت لمنجزات كبرى في إطار الثورة العلمية - التقنية.
وعلى الرغم من تلقينا النصَّ الديني بكل الاحترام والتقدير، إلا أن المسافة الزمنية بين زمن النص الأول وبين زماننا الحالي، تدفعنا إلى البحث والتساؤل عمّا إذا كان الموجود بين أيدينا حالياً من معطيات وشواهد، أو الذي وصلنا، هو نفسه من «وحي» اللحظة الأولى، أو فلنقل هل العلاقة اليوم بين وعينا الفكري وتطبيق حَرفية (نصيّة) النص تؤدي إلى ذات النتيجة المطلوبة في زمن الوحي الأول والمتلقي الأول؟!
ويمكن أن نسأل بعبارة أخرى: هل المكوّنات الدلالية للنص واحدة وثابتة في كل المسافات الزمنية بموجب وحدة النص نفسه ووحدة مصدره المقدس؟ وهل ما يطرأ على الزمن من تغييرات ومستجدات أساسية وجوهرية، تفرض التقيّد بحرفية النص أو تسمح بالتغييرات؟ وإلى أي مدى يمكن التحرك لربط النص والعصر وأسلوب التلقي؟
لقد وصلنا النص الديني عبر طرق النقل البشرية من خلال الفعاليات الاجتماعية والمدارس الفقهية، وكان للعقل والوعي البشري التأثير الأول والأساس في عملية النقل والتدوين والتصنيف والانتقاء والعرض. وفي حالات كثيرة، ومن خلال مناقشة النص بالنص ذاته، نجد أن بعض العلماء قد لجأوا إلى التشدّد في التزام الحَرفية (النصّية) تغطية لهشاشة مقدرتهم المعرفية أو لضعف في مقدرتهم العقلية التي من المفروض أن تعمل على استنباط ما يتناسب مع العصر ومتغيّراته وتيسّر كل ما له علاقة بالدين بحيث يصبح مقبولاً ومنسجماً مع متطلبات عصره.
ولو أخذنا في الحسبان أنَّ قسماً غير قليل من مكوّنات الماضي قد فُقدت، إمّا لعدم تدوينها المباشر أو لاختلال في دقة النقل، كأن يُنقل جزء من الحدث لا كامله، فإن ذلك يشكّل مشكلة الوقوع في نصف الحقيقة، أو بمعنى يمكن القول: إن ما نُقل هو انطباع أو تصوّر أو تفاعل الناقل مع الحدث وعنه لا الحدث نفسه، مع احتمال أن يكون الحدث المنقول منتقصاً من مجمل معطياته وملابساته؛ ودرجة الاحتمال هنا عالية.
هذا إضافة إلى تعارض المعطيات نفسها وتناقضها، ما يعني أنَّ الحدث الماضي ذهب ولم يعد في الإمكان تمثله أو تصوّره بالكامل، كما كان لغياب أكثر أجزائه المكوّنة له ولحصول التشويش في الجزء المنقول منه، يجعله غير دقيق أو لا يفي بمتطلّبات إجلاء الحقيقة كاملة.
أضف إلى ذلك تعرّض النص الديني الشفاهي نفسه لتحوُّل نوعي في طبيعته زمن صدوره، ولا سيَّما بانتقاله من الشفاهة إلى التدوين، وهذا التحوّل لم يعد تحوّلاً شكلياً، بل ينال من نظام الاتصال وحال العلاقة لا بين المتكلم والمستمع فحسب، بل بين نص ومتلقٍّ، ما يعني أن المتلقي الأول قد انتهى إلى الأبد ولا يمكن استرجاعه، وأن مُبَلِّغ النص لم يعد حاضراً مع نصه، بل أصبح النص هو المعبّر الحصري له.
وهكذا حلّت الكتابة المدوّنة بدلاً من صوت المتكلم، الذي بلَّغ الوحي، وفقد الكلام قوة التأثير الموجودة في الخطاب الشفهي ومجمل التأثيرات المرافقة (نبرات، إيماءات، حركات جسدية معبرة...)، التي لا يمكن النص المكتوب أن ينقلها، وبالتالي فإن كل مكوّنات أو ملابسات حدث التبليغ والتلقي الأول ستكون غائبة‏ .
والتجديد لا يعني تغيير النصوص، بل يعني تغيير الفهم لتلك النصوص بما يتناسب مع الحال المعاصر. وللأسف فإن بعض علماء العصر اعتادوا ألّا ينظروا إلى النصوص الدينية إلا من خلال الفقه القديم والتراث، ولا سيّما الموروث منه كونه يمثّل القدرة على فتح مغاليق الفهم الصحيح للحاضر، وأن أي خروج عن نص الفقيه هو خروج عن الملّة. بينما المطلوب هو التدبّر والبحث عمّا يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم، الذي أصبح مختلفاً، اختلافاً جذرياً عن واقع الأمس البعيد في زمان الفقه القديم.
إن الاجتهاد، مَلَكَة فطرية مكتسبة، تحصل للفقيه، ويُمْكِنُه - من خلالها - أن يختار من النصوص والاجتهادات ما يتلاءم مع الظروف المستحدثة، وما يتناسب مع واقع الحياة المتجدّد وما يمكن استنباطه من الأحكام والقواعد.
ثانياً: عن فكرة الإسلام دين دولة
إذا ما أخذنا مقولة أن الإسلام دين يصلح لكل زمان ومكان‏  بحسب نصّيتها وحرفيتها، بما فيها من أحكام وقواعد خضعت لزمانها وكانت تعبيراً عنه، فإن هذا يعني أن الإسلام ليس بحاجة إلى التحديث والتجديد والتناغم مع التطور العلمي والتكنولوجي والعولمة والحداثة وما بعدها؟ لعل استنتاجاً مثل هذا سيقود إلى التحجّر والصنمية والجمود، من خلال نص لا يمكن تكييفه لمتطلبات الزمن، أو إعادة قراءته بما امتلك الإنسان من تطور عقلي واكتشافات علمية!
وهكذا فإن مثل هذا الحكم سيعني إقفال باب التطوير والتجديد للفقه الإسلامي ووضع حاجز لا يمكن اختراقه بين الماضي والحاضر، في حين أن أي فكرة أو فلسفة أو دين ستكون صالحة بقدر ما يمكن تكييفها وتحديثها وعصرنتها، بما يتمشى مع تطور العصر والزمن.
وإذا ما أقرّينا بأن قواعد الدين الإجمالية هي كلّية وشاملة أي عامة ومجرّدة، فعلينا أن نبحث في الجزئيات والتفاصيل، لأن أمرها متروك للاجتهاد ومفتوح على الزمن فهي غير محصورة الحدوث في واقع واحد، وهذا ما يدعو إلى استنباط الأحدث من الاجتهاد الدائم المستمر.
وإذا كانت البشرية قد تقدّمت في شتى الميادين وخطت خطوات جادة في ميدان العلم والمعرفة والثقافة، وأضافت كمّاً هائلاً من المعلومات يزداد ارتفاعاً، بحكم المعطيات الجديدة، فإن الفقه الذي لا يواكب الزمن بما يجب عليه، سيبقى عاجزاً عن تلبية حاجات الإنسان المتطورة التي لا تتوقف، والسبب الأول هو أنه لا يتسع ليشمل المجالات المتغيّرة والمتحرّكة، أو أنه اتّسع إلى حدٍ ضئيلٍ جداً، تاركاً الكثير من المسائل المعلقة من دون جواب، أو حتى تركها متقوقعة على ذاتها في إطار الزمن الماضي. ولعل ذلك لا يلبّي الكثير من الحاجات المعاشة والمستجدات المستمرة، وهكذا ستكون آلاف الموضوعات الفردية والمجتمعية، غير خاضعة للبحث والتمحيص في بوتقة الفقه، لأنه بصراحة لا يمكنه النقاش حولها، لافتقاده الأدوات اللازمة والضرورية لذلك‏ .
وما من شك في أن الإحساس بالزمن وخوض غمار الواقع وتحدياته على مستوى الأفكار والعلوم من موقع الإيمان بفريضة النقد الذاتي والمراجعة الفكرية، بهدف المواءمة لروح العصر الاجتماعية، سيضع العقل السكوني أمام تحدّيين أساسيين: الأول يتعلق بتحديد الهدف من أي اجتهاد أو تجديد، الأمر الذي يستلزم أن تكون له الأولوية في البحث والاستنباط، وبما أن النص القرآني هو نص مفتوح على الزمان والمكان، فإنه يحرّك العقل باستمرار نحو قراءة الواقع بحثاً عن حياة إنسانية أفضل، ولعل الأفضل دوماً هو ما استجدّ من الحداثة والعصرية.
أمّا التحدي الثاني، فهو اختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار رحب من الاجتهاد والحرية، من دون وصاية مسبقة أو تابوهات ومحرّمات، باستثناء ما يتعلّق بثوابت الدين وقيمة الإنسانية كما يقال.
إن الإسلام، بحسب المفهوم القرآني، وإن استمدّ قوانينه وتشريعاته من الوحي وبيّناته المثبتة في الكتاب، إلا أن مقوماته الموضوعية تتصل بالشرط الإنساني، أي بآليات التطبيق الفعلي الذي يغدو مع الزمن جزءاً من التاريخ؛ وإلى أن يتخلص العقل الديني من موروثات التفسير الحرفي (النصّي) المغلق للكتاب، فإن الحداثة ستظل غير قادرة على الانتقال من حافة الزمن إلى حيث يجب، أي عمقه وجوهره، وهكذا تبقى أسيرة قوالب وصيغ جاهزة وجامدة لمناهج التفكير، وتدريجاً تنقطع عن الحياة، كلما انقطعت وشائج الصلة بينها وبين العالم المتغير وعلومه وتقنياته السريعة والملهمة.
هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطنعها بعض المجتهدين تحتاج اليوم إلى إعادة النظر في مبانيها ومسوّغاتها وصلاحياتها، فهي وضعت في زمان غير زماننا. وكَيلا تستمر فتاوى المعاملات على الأقل في استهلاك القديم واجتراره ضمن أطر تجاوزتها الأيام فلا بدّ من ضرورة البحث عن أدوات جديدة متطوّرة في أصول جديدة تساعد على تطوير نظام الاستدلال بوسائل عصرية، لأنّ إهمالها يخالف منطق العقل والتاريخ ويحول دون تحقيق غاية الدين من هداية الإنسان التي هي أقوم. وإذا أردنا العودة إلى الإمام علي في هذا الشأن فقد جاء على ذكر ذلك بقوله: «لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»‏ ، ولعل في ذلك إدراك عميق ومبكّر لأهمية تساوق الدين مع واقع التطور والحياة المتغيّرة.
كما يجب التشديد على ضرورة تبادل الآراء والاطلاع على ما استجدّ من تطورات ومتغيّرات، وخصوصاً أننا نعيش في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات والمعلومات، ولا سيّما ما يتعلق بالطفرة الرقمية (الديجيتل)، وبكل ما له علاقة بالثورة العلمية - التقنية السيبرنيطيقية.
ولعلّ التطورات التي حصلت خلال العقود الخمسة ونيّف الماضية، تكاد تزيد بعشرات ومئات المرّات عن التطورات العالمية على مدى خمسة قرون أو ما يزيد، بل لكل ما أنجبته البشرية في تاريخها، وهو الذي يدفع ويساعد على الاجتهاد استناداً إلى قول الرسول (ﷺ): «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، أي هناك حرية للخطأ، والخطأ مع الاجتهاد، حق مسموح ويمكن أن يعطي صاحبه أجراً، لطالما حاول وسعى للاجتهاد وأخطأ فيه.
هكذا يصبح مبدأ اختلاف الآراء والأفكار، أحد العوامل الأساسية في الوصول حيث يريد الفكر من التلاقح والتفاعل، سواءٌ على المستويات النظرية أو العلمية وفي الحقول العملية والاجتماعية كافة، وعلى الرغم من أهمية الاجتهاد الشخصي ودور الفرد في التاريخ. فإن الأعمال الكبرى تحتاج إلى عمل جماعي وطاقات منتجة تصبّ بعضها مع بعض لإحداث التغيير المنشود، وحسب رأي الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، أي إعطاء فسحة للعقل وللتفكير والاجتهاد.
لا تكمن المأساة في استنادها إلى النص، بل في منهجية انحباس قراءة النص ودلالاته قراءة أحادية، وضمن ظواهر التأثيم والتحريم والتجريم، وأحياناً دون معرفة كافية، ولا سيّما بعلوم العصر، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى ويبعث على التشاؤم والقنوط، بل والعزلة، وخصوصاً إذا كانت الأحكام تتعارض مع المعطيات العلمية، لما أنجزه العقل البشري، وهذا الأخير «نعمة ربانية» لا بدّ من استثمارها على أحسن وجه، إذْ إن أي محاولة لاغتيال العقل أو اعتقاله ستلغي إمكان الحوار بين المقاربات المختلفة لنشاط الفكر الإنساني، بل ستعمل على تعميق الاختلاف المصطنع بين العلم والدين، اللذين سيبدوان في تناقض لا يمكن الجمع بينهما.
ثالثاً: فكر اللغة ولغة الفكر
يجب أن ينطلق التجديد الديني من وقفة صحيحة على قنوات الإنتاج المعرفي والثقافي لتفسير النصوص مع الأخذ في الحسبان، أن لكل عصر من عصور «الفكر الديني» أساليبه في استخدام «النص الإلهي» تحت شعار «حاكمية» هذا النص على الواقع، وتتم قراءته أحياناً بطريقة متعسّفة أو إرادوية تبعاً لخلفيات المرجع القارئ. كما أن دور القراءة لا ينبغي أن يكون استعادة ما نقله السلف، بقدر ربط ذلك بالواقع من خلال نقده بما يستجيب لجوهر الدين وقيمه الإنسانية، ولا سيّما في محاربة الاستغلال والظلم والدعوة للحق والعدل والكرامة الإنسانية.
ولأن الفكر الديني عند بعض المتكلمين باسم الدين يقوم على «فكر اللغة» وليس على «لغة الفكر»، فقد وقع أحياناً بالماضوية والجمود، ولأنه يستند عند بعضهم إلى مرجعية «التفسير التاريخي للنص»، فقد اتُّهم بتصدير المشكلات التاريخية على واقع لا يتحمّل شيئاً من مسؤولية تلك المشكلات إلّا بمقدار إهماله في أن يجد لها حـلاً ليتسنى له تجديد وعيه بالدين على قاعدة: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون﴾‏ .
وإذا كان التقديس يشمل الشروحات والتفاسير الأحادية، فإن ذلك يُعدّ من عوامل جمود الفكر الديني، ولتجديده يجب أن يواجه تحدّيات الاختبار بدءاً من إشكال المنهج ومن إشكال تجديد شخصية الفقيه المفتوح على تجديد أصول الفقه الإسلامي ومبانيه، ليتمكن بالتالي الإطلاع على علوم العصر بحيث يكون قادراً على الإجابة عن الأسئلة الشائكة والمعقدة لواقعنا المعاصر.
وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح، فإن المنهج الصحيح في حلّها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع فهم من سبقنا من الفقهاء؛ فثمة فارق جوهري بين أن نبحث عن حلول لمشكلاتنا الراهنة في كتب السلف الصالح الذي أثرى فكره وعصره بتجربته العلمية في قراءة النص، وبين أن نصبّ عقولنا وفاعليتنا الفكرية على المشكلات التي تعترضنا لنجد لها الحل من واقعنا وزماننا مراعين ألّا تجيء نتائجنا الفكرية متعارضة مع تطورات الحياة ومتغيّراتها، وليس في هذا النموذج من معنى تجديد الفكر الإسلامي ما يجافي دعوة القرآن الكريم إلى الانحياز إلى الأحسن والأكمل والأجمل من الأفكار والأقوال والأعمال.
وأقول إنّي أرى أن الدعوة إلى التجديد تتكامل مع الدعوة إلى العلم والتعلّم، وما هي إلّا بحث عن الأجمل والأكمل والأحسن، ولا أعتقد بأن أحداً ما يمكنه الوصول إلى أعماق مفهوم القرآن بعيداً من التدبّر والتفكّر من أجل تجديد الوعي بالنصوص المدوّنة، وقد تم تأكيد الدعوة إلى إعمال العقل واحتكام الإنسان إليه في تدبّر أمور دينه ودنياه.
ومن الجدير بالذكر أن هناك بعض الكوابح من داخل وخارج الفكر الإسلامي تعوق إرادة التجديد، منها:
1 - عدم القناعة بالتجديد والاستكانة لما هو قائم من فكر تقليدي متوارث ومستنسخ، وذلك لا يعني سوى النقل لما هو متعارف عليه ومتداول، فالجديد قد يكون غريباً، وكل غريب مريب.
2 - انخفاض درجة الوعي بأهمية التجديد وعدم الشعور بالحاجة إليه، ناهيك بعدم القدرة على تحمّل مشاق البحث والتدقيق واستنباط الأحكام بما يستجيب للزمن الراهن.
3 - الخشية من الانفتاح على الآخر، بحجة الحفاظ على العقيدة ونقاوتها ومنع اختلاطها بعقائد أخرى، وكذلك الخوف من «العامة» الذين استمروا على الفكر السائد واعتادوا تقليد ما قبلهم، وبالتالي قد يمكنهم الإعراض عن المجددين أو اتهامهم بالبدع وما شابه ذلك.
4 - تعارض التجديد مع المصالح والامتيازات التي يحصل عليها بعض رجال الدين باسم الدين. وهذه المصالح والامتيازات قائمة ومستمرة، بل ومزدهرة، حتى وإن اتخذت لبوساً طائفياً أو مذهبياً‏ .
ولعل مثل هذا الأمر يؤدي إلى التقوقع والانغلاق والنظر إلى الآخر بوصفه «عدواً»، الأمر الذي قد يؤدي إلى حجب روح التجديد بحجة الثقافة الغازية أو «الغزو الثقافي»، وهنا نستحضر الصورة النمطية منظوراً إليها عكسياً، فبقدر الإسلاموفوبيا‏  أو (الرهاب من الإسلام) وهي النظرة السائدة في الغرب للنظر إلى الإسلام، بوصفه ديناً يحض على الكراهية والعنف والإرهاب، هناك الويستوفوبيا (الغربوفوبيا)، أي النظر بعدائية إلى كل ما هو قادم من الغرب بوصفه شراً مطلقاً.
وإذا كان الغرب السياسي بفلسفاته وأنظمته يستهدف فرض الاستتباع على المسلمين والإسلام وكبح جماح تنمية شعوب العالم الثالث ومنعها من تمثّل هويّاتها الثقافية، فإن الغرب في الوقت نفسه مستودع للعلم والتكنولوجيا ولخير ما أنجبته البشرية من أدب وفن وجمال وعمران، بما فيه تأييد بعض حقوقنا العادلة والمشروعة، ولا سيما من جانب بعض الأوساط في الغرب الثقافي‏ .
لقد جرى تشويه صورة العرب والمسلمين على نحو صارخ، ولا سيّما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، بحجة أن بؤرة الإرهاب والعنف تكمن في الإسلام ذاته كدين. وتم اختزال تلك الصورة لتنطبق على أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وغيرهم ممن انخرط في تنظيمات القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الربيبة، أما الإسلام بصورته الاعتيادية، فهو أمْيَل إلى الاعتدال والتسامح؛ وللأسف، فقد اختلطت صورته والتبست قيمه عبر تنظيرات أيديولوجية بعضها مغرض مع سبق الإصرار، وبعضها ساذج وهو ما نطلق عليه «الإسلاملوجيا»‏  أي «الإسلام ضد الإسلام»، وهي محاولات لا تقلّ خواءً عن الافتراضات المسبقة، لكنها أشد خطراً من السابق، حيث تتم محاولة إلصاق كل ما هو عنفي وقاسٍ وإرهابي بالإسلام.
ومع تغيّر شكل ووجهة الصراع الأيديولوجي في أواخر الثمانينيات نشط فرانسيس فوكوياما لتقديم نظريته «نهاية التاريخ» عام 1989‏  متخذاً من الإسلام عدوّاً جديداً بعد انهيار الشيوعية، ثم جاء دور نظرية «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»‏  التي روّج لها صموئيل هنتنغتون منذ العام 1993، والتي تجسّدت في بيان المثقفين الأمريكان الستين بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر والذي كان أقرب إلى البيان الحربي منه إلى إعلان ثقافي، على الرغم من دعوته إلى الحوار، لكن الأجواء التي سادت كانت كلها تشجع على التهميش والاستئصال، وهو ما جرى التعبير عنه خلال الحرب العالمية ضد الإرهاب الدولي، التي وجدت ضالّتها في احتلال أفغانستان عام 2001 واحتلال العراق عام 2003، وما صاحب ذلك من أعمال إرهاب وعنف منفلتة من عقالها وفي تعارض مع القواعد القانونية والإنسانية الدولية.
وقد جرت عدة محاولات لأبلسة الإسلام وصيغت نظريات جعلت الصراع بين الأديان، وبوجه خاص مع المسلمين والإسلام، أمراً لا مفرّ منه، ولا سيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، فكان لا بدّ من البحث عن عدوّ، وإن لم يجدوه، فلا بدّ من تصنيعه، فما بالك حين يأتي بعض المتأسلمين ليقدّموا الذرائع لهم، وخصوصاً بما يقومون به من أعمال إرهابية هي ضد الإسلام والمسلمين أساساً قبل أن تكون ضد الآخرين.
ولولا الأزمة العالمية الاقتصادية والمالية التي عصفت بالولايات المتحدة وبالنظام الرأسمالي العالمي وانهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين كبرى وانخفاض سعر الدولار بوجه خاص لكانت الحملة المعنونة «القضاء على محور الشر» قد أصابت بلداناً أخرى كانت على لائحة التنفيذ.
ولعل الوجه الآخر لهذه الحملة كانت «إسرائيل» بحربها التي دامت 33 يوماً ضد لبنان تحديداً، عام 2006 ومن ثم حروبها على غزة؛ الأولى - التي دامت 22 يوماً في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 أطلق عليها اسم عمود السحاب. بعد حصار مفتوح وهو ما بشرت به كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة حين وعدت بقيام شرق أوسط جديد ولم يكفها الحديث عن شرق أوسط كبير، ولكن صمود الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني فوّت على واشنطن وحليفتها فرصة استكمال مخططاتها العدوانية. والثانية - عملية الرصاص المصبوب في العام 2012، أما الثالثة - فهي عملية الجرف الصامد في العام 2014.
وتستغل هذه التوجهات بعض أعمال العنف والتزمّت والتعصّب والغلوّ التي تتم باسم الإسلام وتريد إعادة الزمن إلى الوراء، أي إلى ما يزيد على 1400 سنة إلى الخلف، وتكفير وتأثيم وتجريم كل ما يعاكس نظرتها، وترفض أي تساوق مع التحديث والتجديد والمعاصرة، وهو ما ينبغي التوقف عنده ودراسته بعمق، لأن تلك الصورة النمطية المشوّهة التي لا تزال معلقة بذاكرة الغرب السياسي من غزوات الفرنجة الأولى، وحتى احتلال العراق، المفتوح على احتلال الهويّة والثقافة والدين والمستقبل، لا ينبغي لها أن تكون مبرّراً لحجب الفكر الديني في إطار ضيِّق والعيش مع الماضي والإبحار في التاريخ ونصوصه، من دون رؤية الحاضر واستشراف المستقبل، بعقل منفتح وفكر يقبل الآخر، ويتعامل معه على أساس المساواة والحقوق والعدالة، وهو ما يفترض أن يتم التمسك به لنا وله، ومن خلال التناظر والتباين وعلى أساس المشترك الإنساني، الذي يفترض التحرك من قاعدة واحدة أو من قواعد مختلفة، ولكن لأهداف واحدة أو موحّدة، مع احترام الخصوصيات والهويّات والتمايزات، ولكن في إطار عالم يستجيب للحداثة ومتطلباتها بحيث يتساوق الفكر الديني معها لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه.
نشرت في مجلة المستقبل العربي، بيروت، عدد 459 - أيار(مايو)2017



378



جدل المواطنية والانتماء الطائفي
مــقاربـــة للـحالــة العــــراقـيـــة



د. عبد الحسين شعبان*



 

مقدمــة
   انفصل العراق عن الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بعد احتلاله من بريطانيا 1914-1918، وتأسّست المملكة العراقية من ثلاث ولايات هي: بغداد، والموصل، والبصرة، في 21 آب (أغسطس) 1921 بتنصيب الأمير فيصل ملكاً على العراق، وبعد حكم بريطاني مباشر رفضه العراقيون، وواجهوه بسلسلة من الانتفاضات والتمرّدات، أبرزها انتفاضتَي النجف العام 1918 والسليمانية العام 1919، التجأت بريطانيا إلى عصبة الأمم لمنحها "حق" الانتداب على العراق، وذلك في 25 نيسان (أبريل) العام 1920.
   لكن العراقيين المطالبون بالاستقلال واصلوا رفضهم واحتجاجهم، فاندلعت ثورة العشرين في 30 حزيران (يونيو) 1920، التي غطّت العراق من أقصاه إلى أقصاه واستمرّت بضعة شهور، إلاّ أنها لم تتمكّن من تحقيق أهدافها بسبب الوحشية التي استخدمتها بريطانيا في قمعها من جهة، وبالمكر ومحاولات الاستمالة بعض الأطراف من جهة ثانية، وهكذا نجحت في إجهاض الثورة، ومارست بعدها سياسة انتقامية إزاء زعمائها، لتتمكّن من ربط العراق بطائفة من المعاهدات المجحفة والمذلّة، وخصوصاً معاهدة العام 1922 ، ومعاهدة العام 1930 وقد استمرّت صيغة الانتداب لغاية العام 1932، وبعدها حصل العراق على استقلاله، وانضم إلى عصبة الأمم، وإن ظلّ هناك الكثير من القيود التي تثلم سيادته الوطنية.
ثلاث عُقد مزمنة:
   منذ أن تشكّلت الدولة العراقية سنة 1921 وإلى اليوم عانت من ثلاث إشكاليات جوهرية، كادت أن تكون عُقداً مزمنة، وهذه العُقد ذات الطبيعة الموضوعية والمنهاجية تتعلق بطبيعة النظام السياسي وفلسفة الحكم والمواطنة والهويّة والحداثة، وهي من نتائج اتفاقية سايكس بيكو التي مضى عليها أكثر مئة عام ، وتراوحت هذه القضايا في حدّتها، واختلفت في تأثيراتها تبعاً للظروف والتداخلات الخارجية والعوامل الداخلية، فقد كانت محدودة في فترة العهد الملكي، بل كادت أن تختفي في فترة العهد الجمهوري الأول، لكنها عادت وبالتدرّج أصبحت بؤرة شديدة السلبية والخطورة، في أواسط الستينات والسبعينات، ولا سيّما خلال فترة الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988 وفيما بعد خلال فترة الحصار الدولي المفروض على العراق 1990 - 2003 تمهيداً للاحتلال.
   القضية الأولى: عدم الاعتراف بحقوق الأكراد، وكانت اتفاقية لوزان  لعام 1923 قد التفّت على معاهدة سيفر  لعام 1920 التي اعترفت جزئياً بحقوق الكرد، الأمر الذي دفعهم لعدم المشاركة في الاستفتاء الأول عند تأسيس الدولة العراقية، ولا سيّما بعد ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919.
وكانت الإشارة إلى المسألة الكردية قد وردت في قرار لمجلس وزراء الحكومة العراقية المؤقتة، التي نادت بالأمير فيصل الأول ملكاً على العراق، حين جرى التأكيد على مشاركة الأكراد في انتخابات المجلس التأسيسي وفقاً لما نصت عليه معاهدة سيفر. ويُذكر أن معاهدة سيفر بين دول الحلفاء والحكومة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، نصّت على حق الأكراد بالتمتع بشكل من أشكال الحكم الذاتي يمكن أن يتحّول إلى نوع من الاستقلال مع السماح لأكراد كردستان الجنوبية (أكراد العراق) بالانضمام إليهم إذا رغبوا بذلك.
ولم يكن الانتداب البريطاني الذي فرض على العراق في 25 نيسان (أبريل) 1920 ليتجاهل وجود الأكراد وحقوقهم، فقد نصّت المادة 16 على أن "لا شيء مما في هذا الانتداب يمنع المُنتدِب من تأسيس حكومة مستقلّة إدارياً في المقاطعات الكردية..."، وكانت الحكومة البريطانية قد أوعزت إلى المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، الإسراع في وضع لائحة القانون الأساسي (الدستور الدائم الذي صدر في العام 1925)، استناداً إلى صك الانتداب والمعاهدة العراقية البريطانية .
وقد تراجعت القضية الكردية وحقوق الأكراد في المحافل الدولية منذ معاهدة لوزان التي أسدلت ستاراً كاد أن يكون كثيفاً عليها، استمرّ سبعة عقود من الزمان . ولذلك ظلّت القضية الكردية دون حلّ ومصدر قلقٍ وتوتر للعديد من دول المنطقة. وكانت على النطاق العراقي تزداد تعقيداً مع مرور الأيام، لا سيّما شعور الأكراد بالتمييز وعدم المساواة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الهويّة الموحّدة، وبالقدر الذي كانت القضية الكردية تكتسب أهمية متزايدة سواءً على صعيد الحكم أو الحركة الوطنية العربية والكردية، فإنها تركت تأثيرات إنسانية خطيرة على وضع الأكراد، ناهيكم عن تأثيراتها السلبية على دول المنطقة وعلى قضية التنمية والديمقراطية بشكل عام.
   القضية الثانية: تتعلّق بقوانين الجنسية؛ لا سيّما قانون الجنسية الأول رقم (42)  لعام 1924، الذي بذر بذرة الطائفية في العراق ، إضافة إلى حزمة من قوانين الجنسية التي عزّزت من الشعور بالتمييز، خصوصاً حين اقترنت بعمليات تهجير ونزع للجنسية بزعم التبعية غير العثمانية، تحت عنوان الأجانب، وكان المقصود بذلك من هم من أصول إيرانية، وقد شملت حملة التهجير في الثمانينات نحو نصف مليون مواطن عراقي بحجة "التبعية الإيرانية" وعدم الولاء السياسي، والتي اتّسمت بموجة عداء وكراهية عشية وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، وقد كانت الثورة الإيرانية والمشروع السياسي الذي رافقها، لا سيّما ما عُرف بـ"تصدير الثورة" والتمدّد إلى الخارج عاملاً من عوامل زيادة الشحن الطائفي الذي استخدم لأغراض سياسية من الأطراف المختلفة .
   والقضية الثالثة: عدم اكتمال وتبلور هويّة عراقية جامعة على أساس المواطنة الفاعلة، والتي يمكن أن تتعايش تحت سقفها هويّات فرعية وذات خصوصية وتنوّع وتعدّدية، والسبب يعود إلى ضعف وهشاشة البُنى والتراكيب الدولتية "الحكومية" التي أقيمت تحت عناوين "الديمقراطية" أو غير ذلك، في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية التي أعقبته، ومما ضاعف الأمر وأضفى عليه خطورة هو انحسار موجة الحداثة والثقافة المدنية والحقوقية، وإضعاف دور الطبقة الوسطى، وهيمنة الفكر والثقافة التقليديين بالتدرّج.
   وارتبط ذلك بتراجعات على مستوى الإقليم بشكل خاص ودول العالم الثالث بشكل عام، بصعود بعض التيارات الدينية وارتفاع رصيد الهويّات الفرعية، علماً بأن العديد من البلدان النامية شهدت موجة من الانقلابات العسكرية التي لعب فيها الجيش دوراً أساسياً، سواء بمشاركة حركات وأحزاب شمولية أو انفراد قيادات عسكرية تسلطية بالحكم، الأمر الذي ساهم في إضعاف التوجّهات الديمقراطية من جهة والهويّة الجامعة من جهة أخرى، خصوصاً بالترابط مع موجة الشحن الطائفي والاصطفافات المذهبية وصعود الهويّات الفرعية .
   وقد كان للمركزية الشديدة في السلطة والرأسية في العلاقات دوراً كبيراً في ذلك، خصوصاً بضعف ثقافة الحداثة وعدم تغلغلها في المفاصل الاجتماعية المختلفة، حيث بقت محصورة لدى بعض النخب وأحياناً في قشرتها الفوقية، في حين أن جذور الثقافة التقليدية والموروث الديني كانت عميقة الغور وتحفر في باطن المجتمع بينما ظلّت الثقافة الجديدة تنقر في السطح.
   إن فشل المشروع الحداثي بتياراته المختلفة ساهم في صعود المشروع الديني، سواء بطبعته التقليدية أو بطبعته الإرهابية، علماً بأن ما يجمعهما هو إقصاء الآخر وعدم الاعتراف بالتنوّع والتعدّدية ومحاولة إملاء الإرادة، وقد حاولت الجماعات الدينية توظيف الدين بطريقة آيديولوجية مغلقة ولا تقبل الآخر. وكانت التضحية بالحرّية والكينونة الفردية لحساب ما سمي الجماعة أو التضامن الاجتماعي امتداداً للماضي الفلاحي القروي والبدوي على حساب الحداثة ومستلزماتها سبباً آخر في التراجع .
   هكذا نشأت الدولة العراقية ضعيفة، ولم تستكمل بناء هويّتها الموحّدة والمتينة، خصوصاً بالقضايا العُقدية التي واجهتها، وبالتدخّلات الإقليمية والدولية، وبعدم الاستقرار الذي عاشته، حيث كانت دولة قلقة، وأقرب إلى الطوارئ أحياناً، فشهدت سلسلة انقلابات عسكرية، وتمرّدات، وثورات، حتى أُطيح بالنظام الملكي سنة 1958، لكن العهد الجمهوري كان أكثر اضطراباً وعنفاً واستبداداً، وضاقت بالتدريج قاعدة الدولة الاجتماعية، حتى جاء الاحتلال الأمريكي إلى العراق على أنقاض الاحتلال البريطاني الأول وأنظمة جمهورية متصارعة وحروب وحصار وتناحرات داخلية، فعمّق من هذه الوجهة وذلك بقرار الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر عند تشكيل مجلس الحكم الانتقالي وفقاً لنظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، وقد كان ذلك يعني تعزيز الانتماءات الضيقة الطائفية والإثنية، ولا سيّما بعد إضعاف مرجعية الدولة .
من دولة بسيطة إلى دولة مركّبة
   استمرّت الدولة العراقية منذ 1921 وحتى 2003، دولة بسيطة، أي دولة مركزية هرمية الصلاحيات، ولكن مع مرور الأيام أخذت السلطة تتمركز شيئاً فشيئاً وبالتدرّج، بيد واحدة شديدة الصرامة، لكن تلك المركزية بدأت بالتحلّل وإن كانت ببطء شديد، بل إن عوامل التفكّك ازدادت من داخلها، لا سيّما في المراحل الأخيرة من فرض الحصار الدولي على العراق 1990-2003 ، لكن انهيارها المدوي كان بفعل العامل الخارجي، حيث لعب الاحتلال دوراً حاسماً في انحلالها، فبدأ بحلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي، الأمر الذي ساهم في إحلال الفوضى التي عمّت البلاد، وحملت معها فيروس الطائفية التي هبّت رياحها مترافقة مع مظاهر التسلّح، حيث بدأت تتشكّل ميليشيات، بعضها كان قد نشأ في الخارج خلال الحرب العراقية - الإيرانية، إضافة إلى هدر المال العام والفساد المالي والإداري الذي ترافق مع حكومات الاحتلال وما بعده .
   ويمكن القول إنه منذ أواخر العام 1991، وبفعل انفصال المنطقة الكردية تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مركّبة دون قرار منها، ولكن بحكم الأمر الواقع، لا سيّما عندما أعلن برلمان إقليم كردستان المنتخب لأول مرّة 1992، الاتحاد الفيدرالي من طرف واحد ، أي أن الدولة أصبحت دولة اتحادية حتى دون إرادتها، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلاف في المسارات بين الإقليم "غير المعترف به" من جهة، وبين الحكومة التي خضعت لعقوبات دولية وضغوط وتحدّيات بحكم انتهاكاتها لحقوق الإنسان، إضافة إلى تدخلات خارجية، وهو ما واجه "دولة" ما بعد الاحتلال، التي أقرّت ضمن مسارها الجديد "النظام الفيدرالي" أساساً، حيث ورد النص عليه في "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" ، وفي نص الدستور الدائم .
الدولة في طور "مختلف": المواطنة والطائفية
   ثمة خلاصات واستنتاجات أولية يمكن وضعها بعد عرض مسار الدولة العراقية ومسألتَي المواطنة والطائفية على مدى نحو قرن من الزمان، من خلال بعض العلامات الفارقة وهي:
   العلامة الأولى - انتقال العراق من الحكم الشمولي، المركزي، الشديد الصرامة، إلى حالة من الفوضى أقرب إلى اللاّدولة، تبلورت على نحو لاحق بصيغ دستورية وقانونية أساسها مركز ضعيف وإقليم قوي، الأمر الذي سيعني مع مرور الأيام تناقض وتعارض في صلاحيات الدولة "الاتحادية" وصلاحيات "الإقليم"، خصوصاً فيما يتعلّق بالتمثيل الخارجي ووضع البيشمركة وعلاقته بالجيش وباتفاقيات النفط واستخراجه وتصديره والتصرف بوارداته، وكل ما يتعلّق بالخلافات الجوهرية بين الدستور الاتحادي ودستور الإقليم. ولعلّ من مخرجات هذه الوضعية هي استمرار التآكل وربما الانحلال بعد محاولة إعادة بناء الدولة بتركيب جديد بعد تفكيكها، لكن مظاهر التآكل ظلت قوية واستمرّت تفعل فعلها، حتى غدا المشهد أقرب إلى التشظّي.
   وقد بدت صورة الدولة العراقية قوية وواعدة كما هو ظاهر في الماضي، ولكنها في الوقت نفسه كانت تخفي الكثير من عناصر الضعف في داخلها، وهي التي بدأت تقضم في كيانيتها بفعل شحّ الحرّيات ونقص جرعة المواطنة وانعدام أو ضعف المساواة والشراكة والمشاركة، لا سيّما إزاء المجاميع الثقافية، الإثنية والدينية، وقد ترافق ذلك مع انفراد بالسلطة ومغامرات داخلية وخارجية ونزاعات وحروب وحصار دولي أوصلت الدولة إلى ما هي عليه الآن.
   ويمكننا لغرض الدراسة والتشخيص تأشير ورصد بعض الظواهر السلبية التي عانت منها الدولة العراقية في السابق والحاضر، المتعلّقة بالمواطنة والطائفية من خلال ما يلي:
    أ - من الناحية النظرية يمكن القول: إن أية وحدة دون المواطنة والمساواة والحرّيات والعدالة الاجتماعية والمشاركة بحدّها الأدنى، ستتحوّل مع مرور الأيام إلى وحدة قسرية أو إكراهية، أو هكذا سيشعر جزء من المواطنين. (والأمر لا يتعلّق بالعراق فحسب، بل يمكن متابعته مع العديد من البلدان ذات الثقافات المتعدّدة)، خصوصاً للذين يشعرون من المجموعات الثقافية المختلفة أنهم ليسوا على قدم المساواة مع الآخرين، أو أنهم "مواطنون من الدرجة الثانية"، سواء كان ذلك بنصوص دستورية كما هي الدساتير العراقية وقوانين الجنسية، أو من الناحية الفعلية وفي التطبيقات والممارسات اليومية، فما بالك حين تفرض صيغة "أغلبية" طائفية على أخرى.
   ب - إن الوحدة السائدة إذا كانت مفروضة أو غير مرغوب فيها، ستكون مثل "السمنة" الزائدة، لأنها تخفي خلفها العديد من الأمراض، الكامنة أو التي لا تظهر أحياناً، وبالتالي فالسمنة ليست دليل صحة وعافية، بل هي دليل مرض واعتلال حتى وإن لم تظهر علائمه بصورة سريعة.
ج - انبعاث الهويّات الفرعية الذي وصل إلى ذروته، بل كاد أن ينفجر بُعيد الاحتلال الأمريكي للعراق والذي كانت مقدّماته أسبق من ذلك. ويعود مثل رد الفعل هذا إلى جانب موضوعي يتعلّق بالوضع الجديد الذي فرضه الاحتلال وإلى غياب السلطة المركزية الصارمة، فضلاً عن الشعور المزمن بالإقصاء والتهميش الطويل الأمد، وبعضه إلى جانب ذاتي يتعلّق بتبلور الهويّات الفرعية ذاتها بعد كبت وحرمان، لكن ما هو سلبي في هذه الظاهرة، هو المبالغة في ردود الفعل، لا سيّما التي اتّسمت بعداء وكراهية ونزعة انعزالية، ولا يخلو الأمر من تداخلات واختراقات خارجية.
ولم يقتصر الأمر في ذلك على العراق وحده، فقد كان انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات سبباً في اندلاع نزاعات وحروب أهلية يعود قسمها الأكبر إلى انبعاث الهويّات الخاصة والفرعية، وإلى عدم الإقرار بالتنوّع والتعدّدية ومبادىء المساواة، ناهيك عن ضعف أساسات المواطنة، وبقدر ما يكون الأمر مشروعاً، فإن إدارته إذا كانت سليمة سيتم وفقاً لها، تلبية الحقوق والحريّات والاعتراف على قدم المساواة بالآخر، كما حصل حين قرّرت تشيكوسلوفاكيا الانقسام إلى دولتين بصورة سلمية، وهو ما أطلق عليه "الانفصال المخملي" حيث تأسس كيانان أحدهما سمّي جمهورية الشيك "تشيكيا" والثاني جمهورية سلوفاكيا، والعكس صحيح فقد قاد الأداء السيىء إلى نزاعات وحروب أهلية، كما حصل في يوغسلافيا السابقة التي انشطرت إلى 6 دول، والاتحاد السوفييتي السابق الذي انقسم إلى 15 دولة.
د - إن عوامل التفكّك التي عانت منها الدولة العراقية، والتي برزت في فترة الحصار الدولي سارت بالتدرّج والتراكم لتصبح ظاهرة متميزة، خصوصاً حين ترافقت مع صعود الموجة الطائفية وحالة الفوضى وانفلات العنف وهضم الحقوق، وقد شكّلت تلك أرضية صالحة وتربة خصبة لتفقيس بيض الطائفية عبر الشحن الطائفي، وبالطبع جاء ذلك على حساب الهويّة والمشترك الجامع، بل استخدمت الفوارق والمختلفات للمزيد من التباعد تارة باسم "المظلومية" وأخرى باسم "الأغلبية" وثالثة الزعم بـ"احتكار الحقيقة" و"ادّعاء الأفضليات".
العلامة الثانية - انتقال العراق من الدكتاتورية الواحدية الإطلاقية وتخوين الآخر وإنكار وجود معارضة، إلى دولة المحاصصة الطائفية - الإثنية الغنائمية، ذات المراكز المتعدّدة، وهكذا نشأت دكتاتوريات مصغّرة على نطاق الطوائف والإثنيات، ومرجعيات أخرى غير مرجعية الدولة مثل المرجعيات المذهبية والإثنية والعشائرية والمناطقية وغيرها، فقد تحولت الدولة بفعل النظام الجديد إلى دولة زبائنية للحصول على المكاسب والامتيازات.
العلامة الثالثة - انتقال العراق من نظام الحزب الواحد إلى فوضى الأحزاب، وكلّها تعمل كأحزاب غير قانونية أو غير مرخّص لها، فحتى الآن لا يوجد قانون للأحزاب السياسية، ولم يتم التوصل إلى صيغة دستورية لذلك في البرلمان، علماً بأن العراق لم يعرف الحزبية الشرعية والقانونية إلاّ فترتين وجيزتين هما: الأولى في العام 1946 حين أجاز وزير الداخلية سعد صالح 5 أحزاب سياسية استمرت في العمل الشرعي والقانوني لبضعة أشهر حتى جرى حلّها. والثانية في العام 1960 حين أجاز وزير الداخلية أحمد محمد يحيى عدد من الأحزاب السياسية، استمرت في العمل لنحو سنتين، وعلى نحو محدود، ثم جرى تحريمها بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
العلامة الرابعة - انتقال العراق من بلد مستقل إلى تآكل الاستقلال الوطني: وضعف السيادة ما بعد الحرب العراقية - الإيرانية من خلال:
( أ ) الحصار الدولي ونظام العقوبات المفروضة عليه والتي تجلّت بعدد من القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واستمرت أكثر من 12 عاماً، ولا زالت تبعاتها حتى الآن.
(ب) وقوع العراق تحت الاحتلال لاحقاً العام 2003، واضطراره إلى التوقيع على معاهدات مجحفة وغير متكافئة، منها اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
(ج) احتلال داعش للموصل ونحو ثلث الأراضي العراقي، وهكذا ظلّت سيادة العراق معوّمة ومجروحة منذ العام 1991 ولحد الآن.
العلامة الخامسة - انتقال العراق من وجود جيش وطني بغضّ النّظر عن القيادات الآيديولوجية والانتماءات الضيّقة على مستوى القيادات والمغامرات العسكرية، التي قام بها على صعيد الداخل والخارج إلى جيش يفتقد إلى عقيدة عسكرية متينة بسبب انضمام مليشيات تابعة لأحزاب وقوى معارضة وفقاً للتقاسم الوظيفي الإثني والمذهبي، فحتى وإن اعتبرت البيشمركة والحشد الشعبي جزء من القوات المسلّحة، إلا أنهما يحتفظان بقيادات تكاد تكون مستقلّة ولها مرجعيات خاصة بها، وخصوصاً بالنسبة للبيشمركة الكردية التي تتقاضى رواتبها من الحكومة العراقية، لكنها تأتمر بأوامر رئاسة إقليم كردستان في إطار فيدرالية رخوة، فلم يتشكّل بعد مجلس الأقاليم ولا وجود لإقليم سوى إقليم كردستان . أما الحشد الشعبي فهناك اتهامات متكررة بخصوص انتهاكاته، على الرغم من الدور الذي قام به في التصدي لداعش، الأمر الذي اضطرّ رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحّة إلى إلحاقه به، لكن الاتهامات التي حدثت في الفلوجة والرمادي، وتكرّرت في معارك الموصل.
العلامة السادسة - انتقال العراق من احتكار السلاح إلى انفلات السلاح واستخداماته وبوجود ميليشيات واتهامات متبادلة بينها. وهذا المظهر لوحده يعني أن هناك مراكز قوى، وهذه يمكن أن تحتكم للسلاح إذا اقتضى الأمر، لأنها لا يمكن أن تسلّم سلاحها للدولة أو تمتثل لإرادتها إذا ما تعارضت مع مصالحها. ومن يمتلك السلاح يوازي استخدامه، لذلك فإن ما ينتظر العراق من احتدامات وصراعات مسلّحة قد يكون خطيراً بحكم انتشار السلاح.
العلامة السابعة - انتقال العراق من الفساد الذي كان محدوداً وغير ظاهر، إلى فساد منفلت من عقاله، فمن بول بريمر إلى الآن بدّد الحكام الجدّد حوالي 1000 مليار دولار: أي تريليون دولار ضاعت هباءً منثوراً دون إنجازات تُذكر .
وبعد استخلاص بعض الاستنتاجات من قراءة المشهد السياسي العراقي، فما الذي سيتغيّر ما بعد داعش؟ وأية مستجدات متحملة؟
سيناريوهات محتملة
حسب الدراسات المستقبلية هناك ثلاث سيناريوهات يمكن بحثها ما بعد داعش، علماً بأن الباحث كان قد كتب قبل أكثر من عامين أن خشيته هي ما بعد داعش، لما للأمر من صلة بجدل الهويّات وصراعها من جهة، وبفكرة المواطنة التي يعتمد على تعزيزها أو احترامها بقاء الدولة العراقية، سواء بوضعها الحالي أو بتفتتها تمهيداً لتقسيمها أو تأمين عناصر جديدة يمكن بواسطتها إعادة لحمة الدولة العراقية وتعزيز وحدتها الوطنية واستعادة مكانتها، ويتطلب ذلك أولاً وقبل كل شيء توفّر إرادة سياسية وتوافق وطني ومصالحة سياسية حقيقية.
أما السيناريوهات المحتملة فهي:
1 - سيناريو التفتّت 
   ويمكن أن ينقسم سيناريو التفتت إلى ثلاثة أقسام محتملة وهي:
   أ - التفتّت الواقعي (Defacto fragmentation)، وذلك بتحوّل الدولة إلى "كانتونات" أو "فيدراليات" أو "دوقيات" أو "مناطقيات" لا يربطها رابط وثيق فيما بينها، سواءٌ كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً.
   ب - التفتّت الرسمي Dejure Fragmentation) ( وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.
   ج - الانضمام والإلحاق (Joining and Annex)، وهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.
   د - التقسيم بعد التشظي وهناك عدد من المشاريع على هذا الصعيد، لعلّ أبرزها مشروع جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، الذي سبق أن وافق عليه الكونغرس الأمريكي العام 2007 والذي يفترض تقسيم العراق إلى:
   ثلاث أقاليم، شيعية وسنّية وكردية، وفعلياً تقام نقاط تفتيش بينها، ويكون لكل إقليم هويته الخاصة وحدوده وموارده وسلطاته، وفعلياً سيتحوّل إلى دويلة.
   أما راهنياً فهناك أطروحات تدعو إلى إقامة الإقليم السني، أو أكثر من إقليم، خصوصاً وأن هناك دعوات لإقامة إقليم أو أكثر في الموصل، والأمر قد يشمل على إقليم للأنبار وآخر لصلاح الدين. وحتى كردستان فقد تكون مهيّأة لأكثر من إقليم بسبب النزاع السياسي، لا سيّما بين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة وبين الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة كوران "التغيير" من جهة أخرى، وهكذا يمكن أن يكون إقليم خاص بإربيل يضم دهوك وآخر للسليمانية يضم حلبجة.
   وثمّة مشكلات بين الشيعية السياسية التي يمكن أن تقسم وسط وجنوب العراق إلى مناطق نفوذ وأقاليم في المناطق الشيعية والتي لن تتحقق بدون اندلاع صراعات بين مليشيات، شيعية – شيعية وهي كالآتي: مجموعة الصدر، لواء بدر، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، النجباء، حزب الدعوة، المجلس الإسلامي الأعلى، وبقية الأحزاب والكتل الشيعية.
   والانقسام سوف لا يستثني المناطق السنّية التي يمكن أن تنقسم إلى عدد من مراكز القوى وصراعات عشائرية ومناطقية، وخصوصاً بين الحزب الإسلامي وقوى أخرى منافسة لها ولا تريده الانفراد بتمثيل السنة، إضافة إلى قوى معارضة للعملية السياسية.
   أما الاحترابات الأهلية، فقد تبدأ شيعية ـ سنية أو كردية - تركمانية أو كردية -عربية أو كردية - عربية + تركمانية، لكنها في نهاية المطاف قد تهدّد كيان العراق الموحّد، حتى وإنْ بقيت الوحدة شكلية، خصوصاً وأن سلطات الأقاليم إذا ما تكرّست وإذا ما شعرت أنها ليست بحاجة للامتثال لقرارات المركز، فإنها قد تتحوّل إلى دويلات متصارعة، لأنها لا تريد أن تخسر الامتيازات والمكاسب ومناطق النفوذ.
   ومن العوامل التي تسهم في زيادة التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الإرهاب وأعمال التفجير والمفخّخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية، ناهيك عن شحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.
ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، وخصوصاً فيما إذا تم القضاء على داعش، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السّلطة، وقد يقود إلى حروب أهلية مصغّرة، محلية، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح.
2 - سيناريو استمرار الحال
وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه من دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، وخصوصاً أن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرأ وزير الدفاع خالد العبيدي على كشف محاولات ابتزازه، وصفّق له الشارع طويلاً، بغض النظر عن شبهات الفساد التي تحيط بوزارته، عاقبه مجلس النواب بسحب الثقة منه، فمن بعد ذلك سيغامر ويكشف ملفات الفساد أو التعرض للفاسدين؟
وإذا توقّف مشروع الإصلاح وهو متعثّر فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وأن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها، خصوصاً وأن عوامل الهدم ستكون فعّالة في ظل شعور بالتمييز ومواطنة غير متساوية، وتقديم الهويّات الخاصة أو حتى اختراع هويّات على الهويّة العامة. فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟

3 - سيناريو التوحيد
إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب في شأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزءًا من أسباب الخراب التي تعانيها البلاد.
إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومُستلبة ومُلحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلّى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار"، ولا سيّما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءًا منها والنفوذ وأحياناً تقود ميليشيات مدعومة من بعض دول الجوار أو القوى الدولية، لذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.
كما أن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل تضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.
وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللاّمركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن تجاوزها، وأولها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العدالة، ولا سيّما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكّل جوهر الهويّة الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية . وسيبقى ما يهدّد الدولة في ظل عدم الشعور بالأمان إزاء مواطنة متساوية وهويّة موحّدة عامة تعترف بالهويّات الفرعية، تحدّيات عديــدة تكمن بالأساس في عدم التوصل إلى حل لها منذ نشوء الدولة العراقيـة المعاصرة.
ثلاث إشكاليات وثلاث رافعات
   ثلاث إشكاليات أساسية تغذّي فكرة التفتيت، إذا ما استحكمت وهي ذاتها يمكن اعتبارها ثلاث رافعات ضد التفتيت لو جرى وضع حلول ومعالجات لها، باستمرارها ستكون الدولة العراقية التي نعرفها "في خبر كان"، وإنْ تم تطويقها والتخلّص من آثارها السلبية، حتى وإن احتاجت إلى وقت ليس بالقصير، وهذه الإشكاليات والرافعات هي:
   أوّلها: الطائفية ونظام المحاصصة أحد مخرجاته، إذْ أن استمراره سيعني دفع الدولة نحو المزيد من التفتيت والانقسام والتمذهب والتطييف والإثننة، وعكسه إذا ما تم التخلص منها. وكان الباحث قد اقتراح مشروعاً لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، ويعتبر ذلك بمثابة حجر الزاوية في استعادة مقوّمات الدولة العراقية وتعزيز الهويّة الوطنية الجامعة .
   وثانيها: الإرهاب والفساد وهما وجهان لعملة واحدة، فإن تم استعادة الدولة لمكانتها وهيبتها، فإنها يمكن أن تستعيد بالتالي وحدتها، والعكس صحيح أيضاً، ولا سيّما إذا استحكم أمراء الطوائف.
   وثالثها: الهويّة التي أجهز عليها الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، وهي وإن كانت ضعيفة أو هشّة، لكنه يمكن تقويتها بتلبية المطالب وبالاتفاق والتوافق وحل المشاكل العالقة مع إقليم كردستان، وإعادة النظر بالدستور سواء بتغييره أو بتعديله بما يؤدي إلى تعزيز المواطنة وإبراز الجوامع والمشتركات وتقليص الفوارق والمختلفات فيما يتعلق بالهويّات الفرعية واحترام خصوصياتها.
   لقد تكرّست صيغة المحاصصة الطائفية - الإثنية منذ تأسيس مجلس الحكم الانتقالي الذي قسّم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وكرد، وخصّص نسباً لكل منهم، وباشر بتأسيس نظام الزبائنية الذي يقوم على الامتيازات والمكاسب، ففتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الفساد بمختلف أنواعه وأشكاله، لدرجة أصبحت الغنائمية سمة تطبع التشكيلات الحكومية اللاّحقة وذيولها .
   وإذا كانت نظرية "الصدمة والترويع" وفي ما بعد "الفوضى الخلاقة" قد استهدفتا التفكيك وإعادة التركيب، إلاّ أنهما أفضيا إلى تفشّي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب وتمذهب الدولة التي لا تزال مستمرّة منذ 14 عاماً وتتّخذ أشكالاً مختلفة ولها رؤوساً عديدة.
   وإذا كان "داعش" والقوى الإرهابية قد تعرّضت خلال الأشهر الأخيرة إلى هزائم كبيرة في صلاح الدين والرمادي، وخلال عمليات تحرير الموصل التي ما تزال مستمرة، لكن تأثيرهما ما يزال قائماً والبيئة الحاضنة مستمرّة، خصوصاً باستمرار نظام المحاصصة الطائفي - الإثني المُنتج للفساد المالي والإداري والسياسي.
خـاتـمـــة
لقد اندفعت الكثير من المجاميع الإرهابية والتكفيرية وتشكيلاتها القديمة والجديدة، في ظل استنفار طائفي، باتجاه سفك دماء العراقيين من مختلف الانتماءات الدينية والإثنية، الأمر الذي أصاب التنوّع والتعددية الثقافية المجتمعية بالصميم ولحق الضرر الكبير بالنسيج الاجتماعي المتعايش، وخصوصاً لفئات المسيحيين والآشوريين والأرمن والكلدانيين والأيزيديين والصابئة المندائين والشبك والكاكائية وغيرهم، وإن كان الأمر يشمل الجميع دون استثناء، لكن هذه المجاميع الثقافية التي يُطلق عليها مجازاً بـ"الأقليات"  تعرّضت بكيانياتها إلى عنف شديد، واضطرّت أعداداً واسعة منها إلى الهجرة بعد ما لحق بها من انتهاكات سافرة بالأرواح والمقدسات والممتلكات وغيرها. وقد تعرّضت النساء الإيزيديات إلى عمليات السبي، وهو شكل من أشكال العبودية، حيث تم بيعهنّ بسوق النخاسة، الأمر الذي يندى له جبين الإنسانية.
لقد استُزرِع التعصّب بالتربة العراقية فأنتج تطرّفاً، وهذا الأخير قاد إلى الإرهاب المنفلت من عقاله، وجرى كل ذلك في إطار حواضن طائفية ومذهبية وإثنية غذّاها نظام المحاصصة الذي أشعل الصراعات المذهبية والإثنية وأيقظ الفتن النائمة التي اتخذت طابعاً استئصالياً أو تهميشياً بعد الاحتلال، ولكن ذلك لا يعني أنه أمرٌ مستورد بقدر ما كانت هناك ظروفاً اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وطائفية ونفسية ساعدت في انتشار فايروسه على نحو مريع، وذلك بالاستفادة من البيئة الصالحة لنموها وأساسها غياب المصالحة الوطنية والشعور بالتمييز والإقصاء. وهنا لا بدّ من إعادة مرجعية الدولة وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والإثنية والحزبية والسياسية والعشائرية وغيرها.



379
في التباس مفهوم الإرهاب الدولي
                     
عبد الحسين شعبان

أعادتنا الأحداث الإرهابية التي حصلت في لندن ومانشستر ببريطانيا والمنيا بمصر، والتي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء، إلى سؤال كبير، ما هو الإرهاب الدولي؟ وهو السؤال الذي ظل عائماً طوال عقود من الزمان، وفشلت عصبة الأمم وبعدها هيئة الأمم المتحدة في إيجاد تعريف محدّد له ولمعناه ومبناه.
وفي الكثير من الأحيان يتم خلط الإرهاب بالمقاومة لأغراض سياسية، وهو ما تعتمده «إسرائيل»  في سياستها التوسعية الاستيطانية، حين تعتبر كل مقاومة لإرهابها الدولي، «إرهاباً»، علماً بأن المقاومة عمل مشروع من أجل «التحرر الوطني»، حسب القانون الدولي، مثلما هو حق الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وبسبب غياب تعريف واضح، وكما يُقال في القانون، «جامع مانع» للإرهاب الدولي، فهناك تعريفات متناقضة ومتعارضة تطلق على توصيف بعض الأعمال تبعاً للجهة التي خلفها أو المستفيدة منها، وهذه تتراوح بين التأييد والتنديد، وبين التقديس والتدنيس، فما هو الإرهاب الدولي؟

رصد الباحث ألكس شميد Alex Schmid في كتابه Political Terrorism وجود نحو 109 تعريفات لمصطلح الإرهاب، وهي تنطلق من خلفيات ومصالح سياسية مختلفة. ويذهب الباحث والمفكّر الأمريكي نعوم تشومسكيNoam Chomsky إلى تحديد مضمون الإرهاب، الذي يعني حسب وجهة نظره: كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما عن طريق الاغتيال والخطف أو أعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فردياً أو تقوم به مجموعات أو تمارسه دولة، وهو الإرهاب الأكثر خطورة. وعلى الرغم من وجود حزمة من القرارات الدولية بخصوص الإرهاب، لكنها ومنذ العام 1963 كانت قطاعية، أي أنها تشمل تشريعات تتناول بعض مجالات الإرهاب مثل الهجمات الإرهابية على متن الطائرات أو الاستيلاء عليها أو تهديد النقل الجوي أو مكافحة التفجيرات أو تمويل الإرهاب الدولي أو مكافحة الإرهاب النووي أو غيرها، إلا أن معظم الاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة لم تعالج موضوع الإرهاب بصورة شاملة، بل عالجت ظواهر الإرهاب الفردي وإرهاب الجماعات، واستبعدت معالجة ظاهرة الإرهاب الدولي الذي تمارسه الدول وحكوماتها.
وحتى بعد صدور ثلاثة قرارات دولية من مجلس الأمن الدولي عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول العام 2001 إلاّ أن التعريف ظل ضبابياً إن لم تكن المهمة أصبحت أكثر تعقيداً، وهذه القرارات هي:
1- القرار رقم 1368 الذي صدر بعد يوم واحد من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الذي أرخ لفاصل تاريخي بخصوص مكافحة الإرهاب الدولي.
2- القرار رقم 1373 الصادر في 28 سبتمبر/أيلول العام 2001، (أي بعد سبعة عشر يوماً من الحدث الإرهابي)، وهو أخطر قرار في تاريخ المنظمة الدولية، عندما أعطى الحق للدول (المتنفّذة بالطبع) بشنّ حرب استباقية أو وقائية بزعم وجود «خطر وشيك الوقوع» أو «محتمل»، ويعتبر هذا القرار عودة للقانون الدولي التقليدي الذي يجيز «الحق في الحرب» و«حق الفتح» «والحق في الحصول على مكاسب سياسية في الحرب»، وذلك تبعاً لمصالح الدولة القومية.
3- القرار رقم 1390 الصادر في 16 يناير/كانون الثاني 2002 والذي فرض على الدول التعاون لمكافحة الإرهاب الدولي، وإلاّ فإنها يمكن أن تتعرض إلى العقوبات الدولية.
كما أصدر مجلس الأمن 4 قرارات دولية أخرى بعد احتلال «داعش» للموصل، في 10 يونيو/حزيران 2014، وهي على التوالي:
1 - القرار رقم 2170 وصدر في 15 أغسطس/آب 2014، وذلك على خلفية سلّة القرارات التي أشرنا إليها.
2 - القرار رقم 2178 وصدر في 24 سبتمبر/أيلول 2014، ونصّ على «منع تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق». ودعا الدول إلى «وضع ضوابط فعالة على الحدود، وتبادل المعلومات».
3 - القرار رقم 2185 وصدر في 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، وأكد على دور الشرطة كجزء من عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الخاص بالبعثات السياسية، وعلى التعاون المهني لمكافحة الإرهاب ومشاركة الجميع.
4 - القرار رقم 2195 الصادر بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2014 حول التهديدات التي يتعرض لها السلم والأمن الدوليان.
وقد صدرت هذه القرارات جميعها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتنفيذ العقوبات في الحال واستخدام جميع الوسائل المتاحة بما فيها القوة لوضعها موضع التطبيق.
ومع أنّ تعريف الإرهاب مسألة مهمّة لجهة التحديد القانوني، إلّا أنّ الدول العظمى المتنفّذة لا ترغب في الوصول إلى توافق دولي حول مضمونه ومعناه، لأنّه يتعارض مع مصالحها ومحاولاتها لبسط هيمنتها، كما يحدّ من استخداماتها لأشكال متنوّعة من القوّة، التي قد ترتقي إلى الإرهاب الدولي.
drhussainshaban21@gmail.com



380
•   الشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي، دار أطلس، بيروت، 2012.
•   الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية، مركز حمورابي، بيروت، 2013.
•   جدل الهويّة والمواطنة في مجتمع متعدّد الثقافات، المركز الدولي لعلوم الإنسان، بيبلوس 2016.
د- ثـقافــة وأدب
•    الجواهري في العيون من أشعاره (بالتعاون مع الشاعر الكبير الجواهري)، دار طلاس، دمشق، 1986 .
•    بعيداً عن أعين الرقيب: محطات بين الثقافة والسياسة، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994 .
•    الجواهري - جدل الشعر والحياة، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997. دار الآداب، ط2، بيروت، 2009. ط/3، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2010.
•   أبو كاطع - على ضفاف السخرية الحزينة، دار الكتاب العربي، لندن، 1998 .
•   جذور التيار الديمقراطي في العراق - هل انقطع نسل الليبرالية العراقية؟ (قراءة في أفكار حسين جميل)، دار بيسان، بيروت، 2007.
•   سعد صالح - الوسطية والفرصة الضائعة: الضوء والظل، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010. ط/2 دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2012.
•   عامر عبدالله، النار ومرارة الأمل - فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية، دار ميزوبوتيميا، بغداد، 2014.
•   أغصان الكرمة - المسيحيون العرب، مركز حمورابي، بغداد / بيروت، 2015.
•   عبد الرحمن النعيمي - الرائي والمرئي وما بينهما، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2016.
•   المثقف وفقه الأزمة - ما بعد الشيوعية الأولى، دار بيسان، بيروت، 2016.
هـ- تــرجــمات
•   مذكرات صهيوني، دار الصمود العربي، بيروت، 1986.
صدر عنه (كتاب تكريمي)
•   عبد الحسين شعبان - صورة قلمية - الحرف والحق والإنسان، دار المحروسة، القاهرة، جمع وإعداد البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2004.
•   عبد الحسين شعبان - الصوت والصدى - حوارات ومقابلات في السياسة والثقافة، إعداد وتقديم كاظم الموسوي، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010.
•   عبد الحسين شعبان - المثقف في وعيه الشقي، حوار وتقديم توفيق التميمي، دار بيسان، بيروت، 2014.
و- إعداد وكتب مشتركة
•   حرية التعبير وحق المشاركة السياسية في الوطن العربي (إعداد وتقديم) دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994.
•    ثقافة حقوق الإنسان (تحرير وتقديم)، وقائع خمسة ملتقيات فكرية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان - لندن، القاهرة، 2001.
•   العراق تحت الحصار (بمشاركة الدكتور عزيز الحاج، النائب جورج غالوي والدكتور وميض جمال عمر نظمي) مركز البحوث العربية، إعداد حنان رمضان خليل، القاهرة، 2001.
•   لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق، إصدار مطبعة طريق الشعب، بشتاشان، كردستان (العراق)، نيسان (ابريل)، 1983.
•   الوجود الامبريالي في الشرق الأوسط: مظاهره ومخاطره، منشورات الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، دمشق، 1986.
•    الديمقراطية والأحزاب في البلدان العربية: المواقف والمخاوف المتبادلة، مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999.
•    سؤال التسامح (دراسة وحوار مع الباحث) ومشاركة عدد من أساتذة الجامعة ومدراء مراكز الأبحاث في الأردن، إعداد وتقديم الدكتور نظام عساف، مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان، عمان، مطبعة الشعب (أربد)، 2003.
•   مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تشرين الأول (أكتوبر) 2003.
•   احتلال العراق: الأهداف - النتائج - المستقبل، مركز دراسات الوحد العربية، بيروت، أيار (مايو) 2004.
•   احتلال العراق وتداعياته عربياً وإقليمياً ودولياً - مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، آب (أغسطس)، 2004.
•   برنامج لمستقبل العراق بعد إنهاء الاحتلال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تشرين الأول (أكتوبر)، 2005.
•   حال الأمة العربية 2005، النظام العربي: تحدي البقاء والتغيير - مجموعة من الباحثين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نيسان (أبريل) 2006.
•   حال الأمة العربية 2007 (تقرير): أزمات الداخل وتحدّيات الخارج، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، آذار (مارس)، 2007.
•   القانون الدولي الإنساني - دراسات وآراء، مجموعة مؤلفين، اتحاد الحقوقيين العرب، عمان، 2009.
•   أمين الريحاني والتجدّد الحضاري، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع جامعة سدني (استراليا) بيروت، آب (أغسطس)، 2012.
•   أمين الريحاني والتجدّد الحضاري، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع جامعة سدني (أستراليا) بيروت، آب (أغسطس)، 2012.
•   الطائفية والتسامح والعدالة الانتقالية: من الفتنة إلى دولة القانون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2013.
جوائز وأوسمة
حاز على عدد من الجوائز والأوسمة منها :
•   وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة 2003).
•   وسام الصداقة العربية - الكردية (إربيل 2004) .
•   وسام اتحاد الحقوقيين العرب لدفاعه عن الحريات والحقوق على المستويين العربي والعالمي (عمان 2005).
•   جائزة العنقاء الذهبية من دار القصة العراقية لدفاعه عن الثقافة وحقوق الإنسان (العمارة - العراق: 2006).
•   وسام مهرجان الفيلم العربي في روتردام لدفاعه عن قيم التسامح (هولندا 2008).
•   وسام وشهادة تقديرية من اتحاد الحقوقيين العراقيين عرفاناً بدوره الفكري الرائد وإبداعه ووطنيته، بغداد، شباط (فبراير) 2009.
•   وسام ودرع الإبداع، من جريدة الزمان التي تمنح لكبار المبدعين، (بغداد، 2009).
•   وسام ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار، بيروت، 2015.
•   وسام وجائزة المعهد العربي للديمقراطية ومنتدى الجاحظ والجامعة الخضراء، (تونس 2016).

















ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت الحركة الثقافية في انطلياس (لبنان) بمناسبة المهرجان اللبناني للكتاب كرّاساً بعنوان: أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي، ننشر ما خصّ الدكتور شعبان المفكر والأكاديمي العراقي الذي تم تكريمه ، السنة 32، الحركة الثقافية - انطلياس، آذار 2017.


381
عبد الحسين شعبان
سيرة تمرّد ومغامرة قلم  *
)الحركة الثقافية في انطلياس)
- I -

أكاديمي ومفكّر من الجيل الثاني للمجدّدين العراقيين، يساري النّشأة والتوجّه، ومنذ أواخر الخمسينات ارتبط بالحركة الشيوعية وأصبح عضواً في الحزب الشيوعي في مطلع الستينات، لكنه لم يتقيّد بتعاليم المدرسة الماركسية التقليدية ولم يلتزم أطرها التنظيمية التي تمرّد عليها، وكانت له مساهمات متميّزة في نقد وتجديد التيار الاشتراكي واليساري. ويعدّ من المثقفين الماركسيين الإشكاليين الذين سلكوا طريق التجريب والجدل، متخلّياً عن اليقينية التبشيرية الإيمانية، مختاراً طريق العقل والأسئلة، لا سيّما محاولاته إعادة قراءة الماركسية من داخلها ومن منظور نقدي وضعي جديد.
وله مساهمات أخرى في التنوير والحداثة، خصوصاً الانشغال بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان والقوانين الدستورية والدولية بما فيها قضايا النزاعات والحروب والتّسامح واللاّعنف. وقد أفرد حيّزاً من جهده لمعالجة قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي.
   جمع بين العمل الفكري والممارسة العملية وبين العمل الأكاديمي والعمل النضالي، مثلما أعطى لنشاطه السياسي مسحة حقوقية، وذلك في إطار منظومة ثقافية أخضعها هو نفسه للمراجعة والنقد والنقد الذاتي، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق باجتهادات لم تبرّرها الحياة أو أن حقائق جديدة ظهرت كان لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار.
   جمع السياسة بالثقافة فامتزجت مع بعضها البعض لدرجة لا يمكن فصلهما، وهو وإن ظلّ يقارب السياسة خارج الأطر الآيديولوجية والحزبية التقليدية السّائدة، لكنه كان يأتيها بوسائل ثقافية تمثّل رأياً ووجهة نظر رحبة بعيداً عن التبشيرية، لأن هدفه البحث عن الحقيقة والخدمة العامة وإعلاء شأن الحقوق، وفي حديث له عن تجربته بعنوان: "محطات بين الثقافة والسياسة" في الكوفة غاليري في لندن (شباط/ فبراير) 1994، وصدر بكرّاس بعنوان: "بعيداً عن أعين الرقيب" ردّد ما قاله الشاعر أكتوفيوباث من أنه "إذا خلا رأس السياسي من الشعر فإنه يتحوّل إلى طاغية"، فالثقافة حسبما يرى تضفي على السياسة نكهة مملّحة، وبدونها تصبح الأخيرة خشنة ويابسة. وبهذا المعنى حاول أن يفهم السياسة بتناقضاتها، علماً وممارسة، وخصوصاً بعد أن خاض غمار عالمها الفسيح، "المليء بالمبادىء والقيم والأخلاق، وفي الوقت نفسه بالأشباح والغدر والمصالح" كما يقول.
   ومع مرور الأيام نمت وكبرت في داخله عوامل الثقافة بإشراقها وغصونها وتفتّح أزهارها وانتشار نورها، وحسب ما يقول: "وجدت في وسيلتي الإبداعية في الكتابة، الأساس للتعبير عمّا في داخلي ولإعلان هويّتي، وبالتالي لتأكيد ارتباطي العميق بالحياة". وكان قد تحدّث في أمسيته اللندنية الوارد ذكرها عن روافده الروحية التي كوّنت شخصيته، واضعاً القرآن والشعر وماركس أساساً في ذلك.
   وغالباً ما يذكر ثلاثيته الأثيرة "الطفولة والروح والأمل"، فكأنها تعبير عن العلاقة بين الأديان والشعر والفكر في الإنسان فيقول عن بدايات تكوّن الوعي لديه: "في المنزل الذي وُلدت فيه في "عكَد السلام" في النجف، كان صوت القرآن الكريم مدوّياً وهادراً، حيث يفتتح والدي نهاره بقراءة القرآن وظلّ على عادته تلك طوال أيام حياته على ما أظن. وشكّل القرآن أحد الروافد الروحية الأساسية في تكويني وفي منظومة القيم التي تأثّرت بها لاحقاً خصوصاً: الخير والمروءة ومساعدة الفقير ونصرة المظلوم والدفاع عن الحق والانحياز إلى العدل والرحمة والتسامح وغيرها. وفي مرحلة نشأتي الأولى تلك، اطّلعت على "نهج البلاغة" للإمام علي، وهو ما دفعني لاحقاً للاطلاع على المذاهب الأربعة، وفيما بعد على الإنجيل، إضافة إلى البوذية وتعاليمها.
وإلى جانب ذلك كان جو البيت الذي ترعرع فيه يميل إلى الأفكار الجديدة، التقدمية، اليسارية، حيث كان "ماركس يعيش معهم" على حد وصفه، وكان المنزل أقرب إلى ورشة عمل يومية تحتشد فيه الأوراق والصحف والمجلاّت والكتب والمناشير السريّة، ويلتقي فيه شبّان من طبقات مختلفة، مثقفون ورجال دين وشيوخ ويساريون ويمينيون، ومتدينون وغير متدينين ومؤمنون وملحدون، لكن أجواء النجف بشكل عام والعائلة بشكل خاص كانت متعايشة ويتجاور فيها الأضداد، وهو ما أكسبه مرونة وسماحة وتواصلاً مع الآخر.
فالنجف رغم طابعها العروبي هي ملتقى الأعراق والأمم واللّغات، بحكم كونها المركز الديني للشيعة في العالم، وفيها الحوزة العلمية التي تستقبل المئات من الدارسين سنوياً، كما يوجد فيها مرقد الإمام علي، ويؤمّها الزوار من جميع أنحاء العالم، ولا سيّما الإسلامي، وفيها أكبر مقبرة في العالم (مقبرة وادي السلام "الغري") التي تستقبل الجنائز لتدفن بالقرب من مقام الإمام علي تبركاً بتربتها. يُضاف إلى ذلك أنها مدينة تجارية مفتوحة، فهي على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات المارّ بالكوفة، يلتقي فيها الحضر والبدو، القبائل والوافدون، المِلَلْ والنِّحَلْ، ففيها الإيراني والتركي والأفغاني والباكستاني والهندي والتّبتي ومن آسيا الوسطى، والعديد من إلى أبناء بلاد الشام، وبشكل خاص من سوريا ولبنان، إضافة إلى دول الخليج المختلفة، وهؤلاء جميعهم ينصهرون في بوتقتها العروبية وتتلاقح الحضارات والثقافات في أجواء من الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق والخصوصيات.
وفي تاريخها كانت النجف مركزاً للأديرة المسيحية في مملكة الحيرة مثلما كانت عاصمة الخلافة الإسلامية فيما بعد في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب وتكنّى بـ"خدّ العذراء" و"المشهد" و"الغري" وغيرها من التسميات. وبقدر ما يمكن اعتبارها مدينة دينية إلاّ أن وجهها الآخر مدني وحضاري وثقافي، لا تكتمل هويّتها إلاّ بذلك، ويعود تاريخ "جامعتها" إلى نحو ألف عام، منذ أن جاءها الإمام الطوسي هارباً من بغداد العام 448-449 هجرية، وتوفي فيها العام 460هـ. وفي هذه الأجواء التي تتآخى فيها المدينة مع التمرّد عرف الفتى طريقه الأول للتمرّد فكرياً واجتماعياً وثقافياً، حيث تشكّلت أولى ملامح وإرهاصات الحداثة لديه في مدينة طابعها الظاهر المحافظة، لكنها كانت تغلي من الداخل لكل ما هو حديث وجديد.
وكان الشعر بشكل خاص والأدب بشكل عام ركناً أساسياً في تكوين عالم الفتى الروحي، حيث ظلّ الجواهري الكبير "أبو فرات" ملازماً له طيلة حياته وانعقدت بينهما لاحقاً صداقة مديدة قاربت الثلاثة عقود من الزمان، نتج عنها كُتباً ومقابلات وحكايات نشر قسماً منها، وما زال القسم الأكبر ينتظر النشر، وظل مؤلفه "الجواهري جدل الشعر والحياة" الصادر في العام 1997، بوصف عدد كبير من النقاد من أهم ما كتب عن الجواهري ومرجعاً لا غنى عنه في بحث سيرته وشعره. أما كتابه "الجواهري في العيون من أشعاره"، الذي كتبه بالتعاون معه (1986) فإنه يمثل ذائقة شعرية لنحو سبعة عقود ونصف من التجربة الشعرية الجواهرية، وقد احتوى على "جواهر الجواهري".
ومثلما حمل دواوين الجواهري معه أينما حلّ وحيثما رحل، فقد عاد لقراءة معمّقة للقرآن عام 1978 وعام 1982، وعاد لقراءة ثالثة مع التفاسير المختلفة في مطلع الألفية الثالثة، وكان ذلك مقدمة لأبحاثه ودراساته المعاصرة عن "الإسلام" و"المسيحية"، مثلما ظلّ مستغرقاً في إعادة قراءة الماركسية بمراجعة نقدية لماركسيتنا على مدى أكثر من 5 عقود من الزمان، كما قال، وظلّت كتب ماركس أو ثلاثيته أثيرة لديه "الثامن عشر من برومير، لويس بونابرت" و"النضال الطبقي في فرنسا" و"الحرب الأهلية في فرنسا" وغيرها.
   ولعلّ نزعة التمرّد ومغامرة التجديد وحبّه للشعر بشكل خاص والأدب بشكل عام دفعه للقراءة بإعجاب كبير وبعمق شديد لبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، ونزار قباني، وكاظم السماوي، ورشدي العامل، وسعدي يوسف، وأدونيس، ومحمود درويش، ويوسف الصايغ، وعبد الرزاق عبد الواحد، وسامي مهدي، وحميد سعيد، ومصطفى جمال الدين، ومظفر النواب، ولميعة عباس عمارة، وعاتكة الخزرجي.
- II -
   أما ينابيع المعرفة والثقافة التي نهل منها الفتى في بداياته، فإضافة إلى ما ذُكر فقد كانت من الكتب الأولى التي قرأها وأحبّها وأثّرت فيه هي كتابات المنفلوطي لا سيّما كتابيه:"النظرات والعبرات" وقرأ أيضاً كتابات جبران خليل جبران، خصوصاً "الأجنحة المتكسرة" وكتابَي سلامة موسى "أحاديث إلى الشباب" و"الشخصية الناجحة"، وقرأ روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وأيضاً قرأ معظم ما كتب نجيب محفوظ، التي كانت قد صدرت في تلك الفترة، أو التي كانت قد وصلت إلى العراق، وكانت في مكتبة أعمامه وأخواله، وكذلك في مكتبة الدكتور ناهض شعبان، التي تُعتبر من أغنى المكتبات الشخصية التي عرفها.
وأثّرت فيه ثلاثية نجيب محفوظ الأثيرة "قصر الشوق والسكرية وبين القصرين" وفيما بعد "خان الخليلي" و"ثرثرة فوق النيل" و"السّمان والخريف" وصولاً إلى "حب تحت المطر" و"الحرافيش" وغيرها.
وفي هذه المرحلة التي تعتبر المرحلة الأولى لتبلور الوعي السياسي لديه، لا سيّما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 قرأ لفهد (يوسف سلمان يوسف) "أمين عام الحزب الشيوعي الذي أعدم العام 1949" كتاب "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" وكراساً بعنوان "البطالة" وكتاب "الجبهة الوطنية" لحسين الشبيبي، كما كان يقرأ لعزيز الحاج وعامر عبد الله وزكي خيري ومحمد حسين أبو العيس وعبد الرحيم شريف مقالات وكراريس، واستوقفته بعض السجالات حول الوحدة العربية والقومية والإصلاح الزراعي ومسألة الدولة، إضافة إلى كتب مترجمة عن اللغة الصينية بينها كرّاس "الشيوعي الناجح" وكرّاس "الليبرالية والتسيّب" وكرّاس عن "التثقيف الذاتي".
كما قرأ لعالم الاجتماع علي الوردي الذي ظلّ ملازماً له، خصوصاً بتحليل طبيعة المجتمع العراقي والشخصية العراقية، وروايات لغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ولاحقاً لعبد الرحمن مجيد الربيعي وشمران الياسري "أبو كاطع" وآخرين، وفي هذه المرحلة ازداد تردّده على السينما والمسرح، وظل على هذه العادة حتى اليوم.
وفي معرض القراءات كانت قصص مثل "الأم" لمكسيم غوركي و"العقب الحديدية" لجاك لندن، وروايات آرنست همنغواي "الشمس تشرق أيضاً" و"وداعاً للسلاح" و"لمن تقرع الأجراس" و"الشيخ والبحر" ولإيميلي برونتي "مرتفعات وذرينج" ولمرغريت ميتشيل "ذهب مع الريح". أما تولستوي فقد قرأ له بشغف كبير سيرة حياته إضافة إلى "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، وقد عاد لقراءته لما له من علاقة بأفكاره عن اللاّعنف وتأثيراته على غاندي ومارتن لوثر كينغ، كما قرأ لبلزاك "الزوجة الضائعة".
ثم استهوته روايات مثل: "العاصفة" و"سقوط باريس" لإيليا اهنربرغ و"الدون الهادىء" لشولوخوف، كما قرأ لديستوفسكي "الأبله" و"مذلّون ومهانون" و"الأخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب" و"ذكريات من منزل الأموات" وقرأ لغوغول "المعطف" و"المفتش"، ولتشيخوف "الحوذي" و"الخال فانيا" و"بستان الكرز" ومن قراءاته أيضاً لـِ ألبير كامو "الغريب" و"الطاعون" كما قرأ لفكتور هوغو "كاتدرائية نوتردام" وقرأ أيضاً لسيمون دي بوفوار "الجنس الآخر" و"المثقفون" ولجان بول سارتر "الوجود والعدم" و"نقد العقل الجدلي" وقرأ أيضاً لكولن ولسون "اللاّمنتمي" و"ما بعد اللاّمنتمي" و"ضياع في سوهو" وغيرها، وشكّلت تلك القراءات ذخيرة معرفية لديه، لا سيّما بارتفاع منسوب الشك والأسئلة.
   كما قرأ للينين وبليخانوف وماركس وأنجلز ولوكاش وغرامشي وتولياتي وتروتسكي وأوسكار لانكة وغيرهم.
ولم يكن الأدب وحده هو المهيمن على الشاب، بل أخذت الموسيقى تتسلّل إليه وتتوغّل فيه، وخصوصاً سيمفونيات جايكوفسكي: "بحيرة البجع" و"كسّارة البندق" و"بستان الكرز" و"سبارتاكوس" و"روميو وجولييت" و"الجمال النائم"... وكان قد شاهد بعضها "أوبرا" في مسرح البولوشوي تياتر، ومسرح النارودني ديفادلو (المسرح الوطني في براغ)، وبحكم المتعة، لم يكن يفوّت فرصة مشاهدتها في لندن أيضاً على مسرح رويال ألبرت تياتر، كما أعجب كثيراً بـ"بتهوفن"، والسيمفونية التاسعة الناقصة (الأمل) والخامسة (القدر)، وكذلك (سوناتات القمر) لموزارت، ولـ"باخ" "رائعته الشهيرة"، مثلما أعجب بـ"سيمفونية شهرزاد" لريمسكي كورساكوف، و"سيمفونية العالم الجديد" للموسيقار التشيكي أنتونين دفورجاك في السبعينات.

- III -
   وُلد الفتى، في مدينة النجف الأشرف (العراق) في 21 آذار (مارس) 1945 لأسرة عربية كبيرة، يعود أصلها إلى اليمن (جبل النبي شُعيب)، وهي بطنٌ من حمْيَر القحطانية التي نزحت من اليمن إلى بلاد الشام بعد انهيار سد مأرب، ونزلت فرقة منها إلى العراق باتجاه منطقة الفرات الأوسط، وسمّوا بالشعبيين الذين هم عشيرة (آل شعبان) الموجودة حالياً في النجف والكوفة وكربلاء والبصرة وبغداد، أما الفرقة الثانية فقد توجّهت إلى أرض الجزيرة، وهي موجودة اليوم في الرمادي بمحافظة الأنبار، (قرية البوشعبان)، والفلوجة، وفي محافظة صلاح الدين في بيجي ومكحول ومحافظة الموصل، أما القسم الثاني فقد اختار التوجّه إلى مصر وتونس والمغرب، وسمّي هؤلاء بـ"الأشعوب".
   أما الذين بقوا في بلاد الشام (سوريا والأردن ولبنان) فقد عرفوا بـ"الشعبانيين"، و"آل شعبان"، وهؤلاء يرتبطون مع الأسرة في النجف وبغداد بوشائج متينة، في حين أصبح اسمهم في فلسطين (قطاع غزة) "أبو شعبان"، وكان لعشيرة آل شعبان رئاسة الخدمة في حضرة الإمام علي منذ قرون وبفرامين سلطانية معتمدة من الدولة العثمانية.
   درس وتعلّم في مسقط رأسه ثم استكمل دراسته في جامعة بغداد وتخرّج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وواصل دراسته العليا في براغ في جامعتين الأولى جامعة 17 نوفمبر والثانية جامعة تشارلس (كلية الحقوق)، حيث نال درجتي الماجستير، في العلاقات الدولية والقانون العام، ثم واصل مشواره العلمي في أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية فحاز على درجة الدكتوراه (مرشح علوم) في القانون (دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية) من "معهد الدولة والقانون"، واختصّ بالقانون الدولي.
   شخصيتان أثرتا في حياة الفتى السياسية، إضافة إلى أعمامه وأخواله، الأول اسمه محمد موسى، وهو يمثّل نموذج البطل الشعبي، الذي يقتحم الميدان وهو مدجّج بسلاحه، متحدّياً الشرطة وعارفاً كيف يزوغ عنها وفي الوقت المناسب، وقد استشهد في العام 1963، وكان قد عاش في بيت شعبان بصورة متقطّعة متخفياً عن الأنظار في العام 1955 - 1956 خلال أيام حلف بغداد واشتداد الإرهاب. أما الثاني فهو صاحب جليل الحكيم صديق عمره، حيث رافقه في مسيرته منذ بدايتها في العمل الطلابي وفي المعتقل وفي المنافي، وهو مثال نادر في الوفاء والإخلاص.
   خلال عمله السياسي والمهني والنقابي تعرّض للملاحقة والاعتقال والتعذيب، وفُصل من الدراسة حين كان في الصف المنتهي من الثانوية العامة في العام 1963 وأفلت من الاعتقال مرّة أخرى، كما تعرّض للملاحقة في العام 1970 حيث توارى عن الأنظار لبضعة أشهر، حينها كان يفاوض عن الحزب الشيوعي مع حزب البعث الحاكم في قطاعَين مهمَّين هما: الطلبة وجمعية العلوم السياسية التي اندمجت بجمعية الحقوقيين العراقيين لاحقاً، علماً بأنه كان قد مُنح عضوية شرف لنضاله في صفوف الحركة الطلابية من جانب الاتحاد الوطني لطلبة العراق (الرسمي)، لكن ذلك لم يمنع من ملاحقته.
   واعتُقل مرةً أخرى في العام 1979، وتعرّض خلالها للتعذيب، واستدعي للاستجواب لأكثر من 5 مرّات حيث كان يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، وكاد أن يُعدم، بل إن حبل المشنقة كان قريباً من رقبته. واضطرّ لمغادرة العراق إلى المنفى في العام 1980. وكان قد أجبر على اختيار المنفى لأول مرّة في العام 1970، واستثمر وجوده في المنفى لنيل شهادة الدكتوراه، وعاد إلى العراق بعد انتهاء دراسته في العام 1977، ولكنه عاد للمنفى مجدداً بعد تدهور الحياة السياسية في العراق، وتصدع العلاقة بين حزب البعث والحزب الشيوعي.
   كانت وجهته الأولى الشام، حيث كُـلّف بمسؤولية العلاقات الوطنية والعربية في الحزب الشيوعي وكان نطاق عمله يمتد إلى بيروت، لكنه سرعان ما عاد للالتحاق بقوات الأنصار الشيوعية في كردستان، حيث عمل مستشاراً سياسياً لفصيل الإعلام، ومسؤولاً للمنظمة الحزبية للإعلام المركزي، وعضواً في هيئة تحرير جريدة "طريق الشعب" وعضواً في "هيئة تحرير إذاعة صوت الشعب العراقي"، كما عمل عضواً في "لجنة العمل الآيديولوجي المركزي"، ومحرراً رئيسياً لنشرة "مناضل الحزب"، وعضواً في اللجنة الإعلامية للجبهة الوطنية الديمقراطية "جود".
   تعرّض خلال وجوده في كردستان مثل العديد من الأنصار إلى مخاطر شتّى، خصوصاً وأن وجودهم كان في مناطق جبلية نائية على الحدود العراقية - الإيرانية في نوكان وناوزنك ومن ثم في بشتاشان، واقترب الموت منه عدّة مرّات، لا سيّما خلال هجوم قامت به قوات الاتحاد الوطني الكردستاني، بتواطؤات مع الحكومة، حيث استشهد نحو 60 شخصاً من رفاقه، في أحداث بشتاشان الشهيرة العام 1983، مما اضطرّه ومئات آخرين إلى عبور جبل قنديل مشياً على الأقدام لمدة زادت عن 32 ساعة، وهو جبل يبلغ ارتفاعه 7800 قدم، وتكسوه الثلوج طيلة أيام السنة باستثناء شهرَي تموز (يوليو) وآب (أغسطس)، وبسبب قرحة حادة مهدّدة بالانفجار غادر الموقع للعلاج في أرومية "الرضائية"، وكاد أن يكشف أمره، وبناء على ذلك وبمساعدة كردية توجّه إلى طهران مستخدماً وسائل مختلفة ومتنوّعة مكّنته من الوصول إلى دمشق التي غادرها للعلاج في موسكو، حيث مكث في المستشفى نحو 3 أشهر، وكان قبلها قد رقد في مستشفى يافا في دمشق لمدة أسبوعين، حيث عانى من أمراض عديدة ظهرت تأثيراتها لاحقاً.
   اختلف مع قيادة الحزب الشيوعي هو وعدد من رفاقه، وكان سبب الاختلاف السياسي المباشر هو موقفها الممالىء لإيران في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988)، وكان موقفه الأول هو إدانة الحرب التي لا تخدم حسب وجهة نظره إلاّ الإمبريالية والصهيونية، ولذلك حمّل النظام السابق مسؤولية شنّها، وأصدر كتاباً بهذا المعنى بعنوان: "النزاع العراقي - الإيراني - ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي" العام 1981، وحين انسحبت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية بعد معركة المحمّرة (خرمشهر) 1982، اعتبر استمرار الحرب تحت أي ذريعة هي محاولة لإدامتها ولتدمير طاقات البلدين، الأمر الذي يستوجب إدانتها والدعوة إلى وقفها فوراً، وهو المسار الذي اتّخذه منذ بدايات الحرب.
   وبعد أن انتقلت الحرب إلى الأراضي العراقية 1983 كان من أوائل الذين حذّروا من المشروع الحربي والسياسي الإيراني، خصوصاً بالتلويح للبديل الإسلامي وفرض شروط مجحفة على العراق، واعتبر مواجهة هذا المشروع واجباً وطنياً دون أن يقلّل ذلك من دعوته لتغيير النظام والإطاحة بالدكتاتورية وإقامة نظام ديمقراطي بديلاً عنه، لكنه دعا إلى وقف الحرب فوراً والجلوس إلى طاولة مفاوضات والاتفاق على حلول سلمية وفقاً لقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وعلى أساس سياسة حُسن الجوار وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
   وقد بلور موقفه ذلك بتحرّك عربي ودولي بالدعوة إلى وقف الحرب فوراً والشروع بمفاوضات سلمية للتوصل إلى حلول ومعالجات للمشاكل العالقة بين البلدين مع تأكيده على حقوق العراق في الماء واليابسة، وإدانته لاتفافية 6 آذار (مارس) لعام 1975 بين شاه إيران محمد رضا بهلوي وبين صدام حسين نائب الرئيس حينها والتي عرفت باسم "اتفاقية الجزائر" التي قدّمت فيها الحكومة العراقية تنازلات لإيران لم يكن لها من مبرّر على الإطلاق بما فيها ما سمي بخط الثالويك بخصوص شط العرب، وهو خط وهمي من أعمق نقطة في وسط النهر وحتى البحر، علماً بأنه نهر وطني عراقي لا تنطبق عليه شروط الأنهار الدولية، وقد عاد النظام نفسه للاعتراف بذلك، الأمر الذي دفعه هذه المرة لشن الحرب، تحت عنوان "استعادة الحقوق"، وحصل ذلك بعد الثورة الإيرانية بنحو عام ونيّف، أي في 22 أيلول (سبتمبر) العام 1980.
   أصدر بالتعاون مع عدد من رفاقه في بيروت، أواسط الثمانينات صحيفة باسم "المنبر" الشيوعية، وكان محرّرها الأساسي والمشرف على إصدارها، وضمّت نخبة مهمّة من مثقفين وأكاديميين حاولوا تقديم قراءات جديدة للماركسية بما ينسجم مع التطوّر وروح العصر ومصالح الأمة العربية، ولذلك كانت دعوته لمراجعة بعض مواقف الحزب الشيوعي جريئة ومتقدمة، مثل الموقف من القضية الفلسطينية، ولا سيّما من قرار التقسيم بما فيه نقده المبكّر لمواقف الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية من عدد من القضايا العربية، والموقف من الوحدة العربية والموقف من الديمقراطية عموماً والديمقراطية الداخلية خصوصاً، والموقف من التحالفات وأساليب الكفاح وغير ذلك، الأمر الذي استغرق منه إعادة قراءة الماركسية من مصادرها وتدقيق ما صلح وما لم يصلح منها، باعتبار أن كارل ماركس هو وليد حقبته الزمنية التاريخية، وأن آراءه واستنتاجاته تعود لعهده، وقد لا تصلح لزماننا، وعلينا استنباط الأحكام والاستنتاجات التي تنسجم مع التطوّر الحاصل في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال وغيرها، مع تأكيده على صلاح المنهج الديالكتيكي، وهو ما عبّر عنه في كتابه "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف" (2009).
   وبعد فترة صراع بين طرفين شيوعيين شعر أن الأمر استنفذ أغراضه وأن الحياة تجاوزت هذا النمط من التفكير، خصوصاً وأن الأدوات قديمة وليس بإمكانها إجراء تغيير حقيقي، لأن التغيير يحتاج إلى فكر جديد ووسائل جديدة وأداة حاملة للمشروع، وهذا لم يتوفّر.
   وبعد توقف الحرب العراقية - الإيرانية قدّم هو ومجموعة من رفاقه مشروعاً يتضمّن أساساً لمصالحة وطنية، عبر بلاتفورم سياسي تضمّن عدداً من النقاط أهمها: إعادة إعمار ما خربته الحرب، وإحداث تنمية شاملة وإعادة المهجرين العراقيين إلى وطنهم وتأمين عودة سليمة لهم ولجميع المعارضين وعدم ملاحقة أي منهم، وحل القضية الكردية سلمياً بتلبية المطالب المشروعة للشعب الكردي وإطلاق الحريّات والتمهيد لفتح حوار وطني لإجراء تغييرات دستورية، وانتهاج سياسة عربية من شأنها تعزيز موقع العراق، لكن الحكومة لم تستجب لتلك المطالب وظلّت سادرة في غيّها متعالية ومتنكّرة لأي استحقاق سياسي جديد يقوم على الإقرار بالتعدّدية والتنوّع وإجراء إصلاحات دستورية وقانونية من شأنها تطبيع الحياة السياسية وتوسيع دائرة الحريّات والحقوق.
   وفي إطار العمل مع المعارضة فقد كانت بداياته في الشام، حيث كان ممثلاً للحزب الشيوعي ولحركة المنبر الشيوعية فيما بعد، وتقرّر نقل إصدار صحيفة "المنبر" إلى أوروبا فصدر منها عدد واحد في "براغ" التي انتقل إليها، ثم أصدر عدداً آخر في لندن التي استقر فيها، وكان قد مكث في براغ عام وبضعة أشهر، وقرّر أن ينتقل إلى لندن بعد غزو القوات العراقية للكويت (1990).
   وفي لندن ومنذ أواخر العام 1990 كان أحد الشخصيات البارزة في المعارضة العراقية ممثلاً لحركة المنبر الشيوعية، وعندما تقرّر إيقاف إصدار الجريدة كان يمثّل شخصه باعتباره يسارياً مستقلاً، وشارك في العديد من المؤتمرات، وانتُخب عضواً في قيادة المعارضة المؤلفة من 17 شخصية في مؤتمر انعقد في فيينا (حزيران - يونيو) العام 1992، وبعد نحو 4 أشهر انعقد مؤتمر موسّع ثاني في كردستان العراق، وانتخب فيه أميناً للسرّ، لما عرف بالمؤتمر الوطني العراقي، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992.
   وعلى الرغم من أنه هو الذي أعد التقرير السياسي للمؤتمر والبيان الختامي، لكن هذه الوثائق التي كانت تندّد بالحصار وبنظام العقوبات الدولي وُضعت على الرف وتصرّفت الإدارة المتنفّذة بالمؤتمر بما كانت تمليها عليها أجندتها، وهو ما دفعه للاعتراض على هذا التوجّه سواء في اجتماعات قيادة المعارضة أو بالكتابة ضد الحصار وضد القرارات الدولية في تغريد خارج السرب - كما يُقال - واضطرّ بعد أشهر قليلة إلى تقديم مذكرة موسّعة في تموز (يوليو) العام 1993. وحين شعر أنَّ الصراع بلا جدوى، خصوصاً وهناك اصطفافات جديدة أخذت تتكوّن داخل المعارضة مثلما نشأت مصالح جديدة، فاضطرّ لتقديم استقالته بعد بضعة أشهر وكانت استقالة مدوّية، لأنها ندّدت بالتوجّه الممالىء للقوى الدولية وشخّصت عِلل المعارضة التي أسماها بالتعويلية على القوى الأجنبية والعزلة عن الشارع العراقي، لا سيّما في الموقف من الحصار الدولي، وذلك منذ وقت مبكر، الأمر الذي أحرج الكثير.
   ولم يتراجع عن هذا الموقف، رغم مناشدات شخصيات مرموقة في المعارضة، إضافة إلى مغريات قُدمت له، مثلما مورست عليه ضغوط وتعرّض إلى تهديدات بهدف إجباره على السكوت، لكنه واصل التعبير عن وجهات نظره وقناعاته لأنه كان يشعر بأن واجبه الوطني وقيمه اليسارية وتاريخه النضالي يفرض عليه أن يتّخذ مثل هذا الموقف مهما كانت النتائج، لأنه كان قد قرأ اللحظة التاريخية، وأدرك أن ما يُضمر للعراق هو التدمير، وهو ما حصل فعلاً بعد احتلاله في العام 2003 أي بعد أكثر من 10 سنوات من موقفه الذي أعلن فيه انسحابه من أنشطة المعارضة الرسمية وتوجّهات إداراتها المريبة تلك.
    وفي الوقت الذي اتخذ مثل هذا الموقف الذي يعتزّ به، كانت أجهزة النظام العراقي تلاحقه حيث تم كشف محاولة لاغتياله في إربيل في العام 1993 عبر إرسال عملاء لتسميمه، وكانت سلطات الإقليم قد ألقت القبض على عناصر مرسلة من بغداد، واعترفوا بذلك، وحسبما نقل له مسؤولون سياسيون وأمنيون رفيعو المستوى في الإقليم، فإن 5 أسماء من قادة المعارضة كانوا ضمن قائمة الاغتيال، وكان هو من بينهم.
   لكن كل تلك المواجهات لم تثنه من اتخاذ الموقف الصحيح بإعلان رفضه للحصار ولنظام العقوبات ولتعويل المعارضة على القوى الخارجية، ولا سيّما القوى الإمبريالية وأجهزتها الأمنية، وهو واحد من الدروس الأساسية في حياته، إذْ ليس العداء لنظام ما أو حكومة ما مبرّراً للتعاون مع قوى أجنبية وأجهزة أمنية لا تضمر إلاّ الشرّ لبلداننا وشعوبنا، حتى وإن غلّفت ذلك بالحديث عن الديمقراطية والحريّات وحقوق الإنسان.
   وبتواضع حاول أن يقدّم هذا الدرس للمعارضات العربية التي هي معارضات مشروعة، بل وضرورية ضد أنظمة حكم استبدادية شريطة أن لا ترتبط بالأجنبي أو تراهن على القوى الخارجية في إنجاز عملية التغيير، فهذه لها أجندتها التي تريد بواسطتها توظيف المعارضات لخدمة مصالحها، وهو ما دلّت عليه تجارب المعارضات العربية جميعها، فالوسيلة ينبغي أن تقترن بالغاية، ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، وهما مثل البذرة إلى الشجرة، حسب المهاتما غاندي، قائد المقاومة اللاّعنفية.
   وإذا كان للظالم قضية ظالمة، فإنه سيختار لها وسيلة ظالمة أيضاً، أما المظلوم فبقدر غايته العادلة والأخلاقية، فإن ذلك يتطلّب منه اختبار وسيلة عادلة وأخلاقية، وتلك يعجز عنها الظالم، وبهذا المعنى فالقضية العادلة تحتاج إلى وسيلة عادلة في الآن ذاته، فكيف يستقيم تعاون معارضات مع قوى خارجية ليست أقلّ شراً من الحاكم نفسه؟
   وقد بيّنت تجارب التدخّلات الخارجية كم كان الضرّر فادحاً، خصوصاً حين تمّ استخدام العنف والوسائل العسكرية لحلّ الخلاف بين الحاكم والمحكوم، وربّما ذلك ما يحاول به الحاكم والظالم والمتسلّط الخارجي استدراج المحكوم والمظلوم والضحية، فالعنف سوف يخدم الظالم والطاغية والغازي، سواء استخدموه هم أو استخدمه المظلوم، لأنه حسب غاندي "فخ ينصبه الظالم ويقع فيه المظلوم"، وهو تدمير للذات، وحتى في حالة الدفاع عن النفس، فالعنف أحياناً يلوّث القضايا النبيلة، سواء كانت باسم الدين أو القومية أو الاشتراكية ويشوّه غاياتها الإنسانية، وستكون نتائجه مؤلمة ومكلفة وطويلة وملتبسة.
   ولعلّ أخطر ما في استخدام العنف هو تبرير الغاية العادلة باستخدام وسائل لا تنسجم معها أو بالضد منها، أي تبريرها بوسائل لا أخلاقية، وليس هناك من مسوّغ لكي تكون القضية عادلة لتبرّر استخدام جميع الوسائل، حتى وإن كانت غير عادلة، وهو ما انزلقت إليه قوى آيديولوجية كثيرة عبر ممارسات عنفية، سواء كانت في السلطة أو خارجها، وسواء باسم الوحدة أو تحرير فلسطين أو الاشتراكية أو الإسلام، فذلك سيعني أدلجة للعنف بحيث يصبح نظرية واستراتيجية، تفترض ادّعاء الأفضلية وامتلاك الحقيقة، وبالتالي تبرير كل شيء بما فيه محق الإنسان.
   والآيديولوجية حسب جبران خليل جبران هي: "كالزجاج يرى الإنسان الحياة من خلالها، إلاّ أنها تفصله عن الحياة"، وهكذا يتحوّل الإنسان من منظومة القيم الإنسانية التي يحملها سواء كانت دينية أو اشتراكية أو قومية باستخدامه العنف، إلى شخص نقيض لتلك القيم، خصوصاً حين تتقدم القسوة ويحلّ الإجبار محل الإقناع والإكراه بدلاً من الحوار .
   وفي سيرة تمرّده وجد في بعض الممارسات السياسية تبريرات هي أقرب إلى الميكافيلية التي تقول "الغاية تبرر الوسيلة"، وما أن يصل الإنسان إلى هذه النتيجة، فتلك ستكون هزيمته الأولى، لأن الغاية موجودة في الوسيلة، وحسب الصديق جان ماري مولر فيلسوف اللاّعنف: "الغاية مجرّدة أما الوسائل فهي ملموسة، وفي حين تختصّ الغاية بالمستقبل، فإن الوسيلة تُعنى بالحاضر"، فهل نتخلّى عن الحاضر لحساب المستقبل؟ وهل يمكن تبرير التعاون مع القوى الخارجية لتدمير بلداننا، لكي نعيد بنائها وفقاً لمستقبل سعيد، ننعم فيه بالرفاه!!.
   وإذا كانت الغايات دائماً متشابهة لكن الوسائل دائماً مختلفة، وفي نهاية المطاف فإن الوسائل هي التي تحدّد المعايير الأساسية لتقويم الغايات التي نسعى لتحقيقها. وحسب صديقه د. وليد صليبي وهو أحد رواد اللاّعنف في العالم العربي "إن التلازم بين الغاية والوسائل ضروري ليس من أجل أخلاقية العمل، فحسب، بل من أجل فاعليته أيضاً"، إذْ أن فاعلية أية وسيلة تقاس بمدى تحقيقها للغاية النبيلة التي تسعى إليها، وبمدى إزالتها للظلم وليس إلغائها للظالم أو القضاء عليه.
   والوسيلة ينبغي أن تكون في خدمة الإنسان، ولا يمكن تحديدها إلاّ تبعاً لمتطلّباته التي لا بدّ أن تكون متطلبات أخلاقية وفعالة في الوقت نفسه. وباختصار إنها خيارات اللاّعنف تلك التي توصّل إليها شعبان، وازداد إيمانه بها واعتمدها في رحلة كفاحه الحقوقية وسيلة لحل الخلافات مع الآخر. وهو ما انكبّ عليه دراسة وتدريساً وممارسة خلال ربع القرن الماضي، فالعنف بما فيه الموجّه ضد الآخر هو عنف موجّه ضد الذات أيضاً.
- IV -
   حين انصرف إلى العمل الحقوقي والفكري وابتعد تدريجياً عن العمل السياسي أصبح واحداً من روّاده في العالم العربي في العقود الثلاثة الماضية، وكانت له بصمة واضحة فيه، قراءة وتنظيراً ونقداً وممارسة، مؤكداً على الدور التنويري الذي يمكن أن يقوم به، لا سيّما إذا كان مهنياً ومستقلاً وسلمياً بحيث يضع مسافة متساوية بين الحكومات من جهة وبين المعارضات السياسية من جهة ثانية، وبقدر ما ينتصر الحقوقي للضحية فإنه ليس بالضرورة يؤيّد أفكاره، وهو ليس ضد حاكم بعينه، بل إنه مع الحقوق والحريّات بشكل عام، ولذلك عليه أن ينأى بنفسه عن الصراع الآيديولوجي والفكري، الأمر الذي يتطلّب سد النقص الشديد والفادح في الوعي الحقوقي بشكل خاص والوعي بشكل عام.
   ولكي يكون المجتمع المدني قوياً وموثراً فلا بدّ له من اتخاذ مبادرات، لكي يتحوّل من "قوة احتجاج" إلى "قوة اقتراح"، ومن "قوة اعتراض" إلى "قوة اشتراك"، أي أن يكون شريكاً مع الحكومات في اتخاذ القرار وفي تنفيذه، لا سيّما فيما يتعلّق بالتنمية بمختلف جوانبها.
    وفي هذا المجال له مساهمات وازنة، لا سيّما في نشر الثقافة الحقوقية وفي التربية على حقوق الإنسان، وحاول أن يضخّ ذلك من خلال وسائل الإعلام أيضاً، كما شارك في مؤتمرات دولية هامة، منها مؤتمر فيينا الدولي حول حقوق الإنسان لعام 1993، والمؤتمر العالمي الذي انعقد في قصر شايو "باريس" عند ساحة التروكاديرو وبالقرب من برج إيفل (1998)، وذلك بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومؤتمر ديربن ضد العنصرية عام 2001، ومؤتمرات إقليمية وعربية متنوّعة ومختلفة.
   وكان يلقي محاضرات سنوية لتأهيل كادرات مهنية خاصة في مجال حقوق الإنسان في المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس، حيث شغل عضوية لجنته العلمية وفي عدد من البلدان والجامعات والمراكز، وشغل خلال نشاطه الحقوقي مواقع عديدة منها أنه كان رئيساً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا وعضو مجلس أمنائها في (القاهرة)، وأسس في إربيل وبيروت ولندن "الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان"، وكان أميناً عاماً لمنظمة العدالة الدولية ولمنتدى حقوق الإنسان وللأكاديمية الدولية للسلام، ولكنه استقال من جميع هذه المواقع، وقرّر التفرغ للبحث العلمي، ولإغناء قضايا المجتمع المدني فكراً وتنظيراً.
   وخلال عمله اتخذ عدداً من المبادرات مهمّة على الصعيد الفكري والحقوقي والثقافي، منها أنه: نظّم أول حوار عربي - كردي في لندن العام 1992 بحضور 50 شخصية عربية وكردية. وكان أول من دعا لتنظيم حوار بين مثقفي الأمم الأربع (العرب والترك والفرس والكرد)، وتحقّق ذلك لأول مرّة في تونس تلبية لمبادرته من جانب المعهد العربي للديمقراطية 2016.
   وكان قد تحفّظ على قرار الأمم المتحدة بخصوص "الأقليات" العام 1992، على الرغم من تقديره الإيجابي له، لا سيّما اعترافه بحقوق "المجموعات الثقافية"، لكنه اعتبر أن استخدام القرار مصطلح "الأقليات" إنما يستبطن الهيمنة والتسيّد من جهة، مثلما يفترض الخضوع والاستتباع من جهة أخرى، الأمر الذي يعني الانتقاص من مبدأ المساواة والاعتراف المتكافىء، بغض النظر عن الأقلية والأكثرية، وظلّ متمسّكاً بمبدأ حق تقرير المصير ببعده الحقوقي والإنساني.
   كما سبق له أن اقترح مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق العام 2007، وصاغ على أساسه لائحة تنسجم مع القوانين العراقية النافذة العام 2009. وكان أول من خاطب الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم بخصوص مأساة المهجرين العراقيين عشية الحرب العراقية - الإيرانية وبُعيدها 1980، وطالب بإلغاء قرارات نزع الجنسية عن عشرات الآلاف من العوائل العراقية بموجب قرار مجلس قيادة الثورة السابق رقم 666 الصادر في 7 أيار (مايو) 1980.
   وكان قد دعا لتطبيق القرار 688 الصادر في 5 نيسان (أبريل) العام 1991 الخاص باحترام حقوق الإنسان في العراق ووقف القمع الذي يتعرّض له السكان المدنيون، حيث أطلق عليه "القرار اليتيم" و"التائه" و"المنسي"، وذلك بديلاً عن قرارات الحصار الدولي التي كانت تطحن عظام العراقيين، مثلما تهدر كراماتهم، وهو الموقف الذي تميّز به مع ثلّة من العراقيين الذين أدانو الحصار الدولي اللاّإنساني، باعتباره جريمة إبادة ضد الشعب العراقي وهو الموقف ذاته الذي اتخذه من احتلال بلده العراق العام 2003.
   وتأسّست بمبادرة منه وزميله الدكتور جورج جبور اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379، والتي تمّ استبدال اسمها إلى "اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية"، وكان هو أمينها العام وزميله شغل رئاستها 1986.
   ونشط في حملة التضامن لإجلاء مصير المختفين قسرياً، وذلك بالتعاون مع العديد من المنظمات الدولية، وألّف كتاباً عن "منصور الكيخيا والاختفاء القسري"، (بالعربية والإنكليزية)، واعتبِرَ الكيخيا أحد رموز الاختفاء القسري، وهو الشخصية الليبية المعارضة التي اختفت قسرياً في القاهرة، حين كان يحضر والكيخيا مؤتمراً حقوقياً في كانون الأول (ديسمبر) 1993، علماً بأن الكيخيا كان وزيراً لخارجية ليبيا سابقاً، وممثلاً عنها في الأمم المتحدة، وقد نظم عنه عدّة فعاليات وندوات في بلدان مختلفة، ودعم فكرة إخراج فيلم عنه بعنوان "اسمي بشر"، للمخرج محمد مخلوف.
   وهو من الحقوقيين الذين دعوا لتنظيم "محكمة شعبية" أي محكمة ضمير يمكن أن تتحول لاحقاً إلى محكمة دولية، لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، وقد ألّف في ذلك كتاباً بعنوان: "سيناريو أولي لمحكمة القدس الدولية العليا" العام 1987. وأعقبه في العام 2010 بتقديم 5 سيناريوهات بشأن المحاكمة الدولية وأدرجها في كتاب بعنوان "لائحة اتهام - حلم العدالة الدولية في مقاضاة إسرائيل" وقد دعا جامعة الدول العربية التوجّه إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بخصوص القدس، ونظّم مؤتمراً لذلك، وهو التوجّه ذاته الذي دفعه لتبنّي فكرة الرأي الاستشاري بخصوص جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل لتقطيع أوصال الضفة الغربية والوطن الفلسطيني، وقد اتخذت محكمة العدل الدولية قراراً بعدم شرعيته، ودعت إلى تفكيكه في 9 تموز (يوليو) العام 2004.
   وهو من الشخصيات العربية التي آمنت بالتسامح ودعت إليه، وكان قد نظم مؤتمراً له في العام 1996، أي بعد صدور قرار اليونيسكو بإعلان مبادىء التسامح في العام 1995. وأصدر كتاباً بعنوان: "فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي" وقدّم له المطران جورج خضر.
   وكان من المبادرين لإدانة ما تعرّض له المسيحيون في العراق وفي البلاد العربية وما يواجهونه من تحدّيات، وهم أهل البلاد الأصليون بهدف إجلائهم من ديارهم وقد خصّص لهم ثلاثة كتب كان الأول بعنوان: "المسيحيون والربيع العربي - في إشكاليات الديمقراطية والتنوع الثقافي في العالم العربي" العام 2012، و"المسيحيون ملح العرب" العام 2013، و"أغصان الكرمة - المسيحيون العرب" العام 2015، وشارك في عدد من الندوات الإقليمية والدولية للدفاع عن الوجود المسيحي، مثلما حاضر في عدد من البلدان والجامعات والمراكز دفاعاً عنهم وهو الموقف ذاته الذي اتّخذه من المجموعات الثقافية الأخرى، لا سيّما ما تعرّض له الإيزيديون على يد داعش والجماعات الإرهابية وكذلك "الصابئة المندائيون" وغيرهم.
المناصب التي شغلها
   في نشاطه الحقوقي والفكري والأكاديمي شغل عضوية العديد من المنظمات منها:
•   عضو اتحاد المحامين العرب (القاهرة).
•   عضو جمعية المحامين الدولية (لندن).
•   عضو مجلس أمناء منتدى الفكر العربي (عمان).
•   عضو اللجنة العلمية للمعهد العربي لحقوق الإنسان (تونس).
•   عضو اتحاد الكتّاب العرب (دمشق).
•   عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين (بغداد).
•   عضو اتحاد الحقوقيين العرب (المكتب الدائم). (بغداد - عمان) وممثله السابق في اليونسكو (باريس).
•   عضو اتحاد الحقوقيين العراقيين (بغداد).
•   عضو اتحاد الصحفيين العالمي (براغ).
•    ساهم في إعادة بناء اللجنة الوطنية للسلم والتضامن وكان منسقاً لأعمالها في مطلع الثمانينيات.
•   الأمين العام الأسبق للجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية (دمشق).
•   الأمين العام لمركز الدراسات العربي - الأوروبي (باريس)
•    المدير العام السابق لقناة البغدادية الفضائية (القاهرة).
•   عضو سابق في مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) ورئيسها سابقاً في (لندن).
•   مؤسس الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان والتنمية (كردستان - بيروت - لندن - بغداد) وأول رئيس لها في مؤتمرها التأسيسي (بغداد - نقابة المحامين 5/11/2004).
•   الأمين العام المساعد للرابطة العربية للديمقراطية (صنعاء).
•   عضو المجلس الاستشاري لدار الخبرة (بغداد).
•   مستشار مركز حمورابي للبحوث والدراسات (بغداد).
•   عضو مجلس أمناء المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (بيروت).
•   المدير العام للمركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني (عمان - بيروت).
•   عضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت).
•   نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) - بيروت.

أبرز مؤلفاته
أ- في القانون والسياسة الدولية
•    النزاع العراقي - الإيراني، منشورات الطريق الجديد، بيروت، 1981.
•   المحاكمة - المشهد المحذوف من دراما الخليج، دار زيد، لندن، 1992.
•   عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994.
•    بانوراما حرب الخليج، دار البراق، لندن - دمشق، 1995.
•   الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً، شؤون ليبية، واشنطن - لندن، 1998.
•   السيادة ومبدأ التدخل الإنساني، جامعة صلاح الدين، إربيل (العراق)، 2000.
•   من هو العراقي؟ إشكالية الجنسية واللاّجنسية في القانونين العراقي والدولي، إصدار دار الكنوز الأدبية ومركز دراسات الشرق، بيروت، لبنان تموز (يوليو)، 2002.
•   الإنسان هو الأصل - مدخل إلى القانون الدولي الإنساني، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2002.
•   جامعة الدول العربية والمجتمع المدني - الإصلاح والنبرة الخافتة، دار المحروسة، القاهرة، 2004.
•   إشكاليات الدستور العراقي المؤقت - الحقوق الفردية والهياكل السياسية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية (بالأهرام)، كراسات استراتيجية، العدد 140، القاهرة، حزيران (يونيو)، 2004.
•   العراق: الدستور والدولة، من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة، 2004.
•   المجتمع المدني - الوجه الآخر للسياسة: نوافذ وألغام، دار ورد، عمان، 2008.
•   المعاهدة العراقية - الأمريكية: من الاحتلال العسكري الى الإحتلال التعاقدي، المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، عمان، 2008.
•   بغداد - واشنطن: أي مقايضة للاحتلال العسكري؟!- في حيثيات الاتفاقية العراقية- الأمريكية، إصدار مركز العراق للدراسات، بغداد، 2011.
•   المجتمع المدني- سيرة وسيرورة، دار أطلس، بيروت، 2012.
•   الانتخابات والتغيير- الثورة في صندوق الاقتراع، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 2014.
ب- في الصراع العربي - الإسرائيلي
•    الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي، ط 1، مركز الدراسات الفلسطينية، ط2، دار الجليل، دمشق 1985.
•   سيناريو محكمة القدس الدولية العليا، شرق بريس، نيقوسيا، 1987 .
•   القضايا الجديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي، دار الكتبي، بيروت، 1987 .
•   الانتفاضة الفلسطينية وحقوق الإنسان، دار حطين، دمشق، 1991 .
•    المدينة المفتوحة - مقاربات حقوقية حول القدس والعنصرية، دار الأهالي، دمشق، 2001.
•   لائحة اتهام: حلم العدالة الدولية في مقاضاة إسرائيل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.
ج- أديان وقضايا فكرية
•   الصراع الأيديولوجي في العلاقات الدولية، دار الحوار، اللاذقية، 1985 .
•   قرطاجة يجب أن تدّمر، فصول من الحرب الأيديولوجية، دار صبرا، نيقوسيا- دمشق،1985 .
•   أمريكا والإسلام، دار صبرا، نيقوسيا - دمشق، 1987.
•   الإسلام وحقوق الإنسان، مؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني ،ط1، بيروت ،2001 (ط2، رابطة كاوا، إربيل، 2002)، طبعة ثانية جديدة، دار بيسان، بيروت، 2014.
•   الإسلام والإرهاب الدولي - ثلاثية الثلاثاء الدامي، الدين - القانون - السياسة، دار الحكمة، ط1، لندن، أيلول (سبتمبر) 2002، (ط2/ دار ورد، عمان، 2008).
•   فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي - الثقافة والدولة (مقدمة المطران جورج خضر) دار النهار، بيروت، 2005. (ط/2 دار آراس، إربيل، 2012).
•   تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف، الدار العربية للعلوم (ناشرون) ومنشورات الاختلاف (الجزائر) - حوار وتقديم خضير ميري، بيروت، 2009.
•   جدل الهويّات في العراق - الدولة والمواطنة، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010.
•   المسيحيون والربيع العربي، دار آراس، إربيل، 2012.
•   المسيحيون ملح العرب، دار ضفاف، الشارقة، 2013.
•   كوبا الحلم - الحلم الغامض، دار الفارابي، بيروت، 2011.
•   الشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي، دار أ

382
المنبر الحر / الحب وسط المأساة!!
« في: 23:13 24/05/2017  »
الحب وسط المأساة!!
عبد الحسين شعبان
"هناك بعض الناس لا يعتبرون غيرهم بشراً، وينظرون إليهم على أنّهم أشياء، فيفعلون بهم أيّ شيء."هذا ما قالته المغنية الأميركية من أصول أرمنيّة "شير"، بعد أن شاهدت فيلم "الوعد- THE PROMISE " الذي يتناول قصّة إبادة الأرمن التي ابتدأت في 24 إبريل-نيسان- العام 1915 في غمرة أحداث الحرب العالميّة الأولى (1914-1919) والتي شهدت بدايات إنهيار الإمبراطورية العثمانيّة.
الفيلم يتحدّث عن طالب أرمني يُدعى مايكل بوغوصيان (أوسكار إيزاك-الأمريكي من أصل غواتيمالي) الذي كان يحلم بتطوير النظام الطبي في بلدته، حيث يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون منذ مئات السنين، والتي تقع جنوب تركيا.
حين يبدأ بوغوصيان مشواره الدراسي في مدينة القسطنطينية (اسطنبول) ذات التنوّع والتعدديّة الثقافيّة والإثنيّة يلتقي بالفاتنة الأرمنيّة "أنّا" (الممثّلة الفرنسيّة شارلوت لو بون) فيقع في غرامها على الرغم من علاقتها مع الصحافي والمصوّر الأمريكي "كريس مايرز" (كريستيان بيل-الممثّل البريطاني) الذي يحتفظ بدفترٍ يكتب فيه يوميّات عن أعمال الإبادة الجماعيّة ويتمّ العثور عليه ويُعتقل، ولولا وصول خبر اعتقاله إلى السفارة الأمريكيّة لكان مصيره في خبر كان مثل غيره من مئات الألوف الذين ذهبوا ضحايا بدمٍ بارد، حيث تدخّلت السفارة الأمريكيّة لإنقاذه ومن ثم ترحيله .
الحدث الدرامي والمأساوي هو ما يميّز الفيلم الذي أضفى مخرجه الإرلندي تيري جورج لمساته الفنّية عليه، خصوصاً وأنه قد عمل سابقاً على موضوع الإبادة في فيلمه المرشح لجائزة الأوسكار "أوتيل رواندا" .وبلغت تكاليف إنتاج فيلم "الوعد" 100مليون دولار قام بالتبرّع بها رجل الأعمال الأرمني الراحل "كيرك كيركوريان" الذي نجت عائلته من المذبحة التي ارتكبت حينها.
الفيلم يعيدنا إلى الموقف من المجاميع الثقافية الأخرى، الإثنيّة والدينيّة والسلاليّة واللّغويّة، حيث تندلع أعمال إبادة وحشيّة اليوم بحق الشعب الفلسطيني الذي تستمر معاناته منذ نحو سبعة عقود من الزمان. ونستحضر معه المآسي التي حصلت للإيزيديين على يد داعش بعد احتلاله للموصل، خصوصاً قتل شبابهم وسبي نسائهم،وقبل ذلك ما حصل للصابئة المندائيين في العراق من أعمال استهداف وعنف حيث اضطرّ الآلاف منهم إلى الهجرة، مثلما تعرّض المسيحيون لا سيّما في العراق وسوريا إلى مأساة حقيقيّة بسبب أعمال التعصّب والعنف والإرهاب.
المأساة التي حصلت للشعب الأرمني لم يتمّ الاعتذار عنها، علماً بأنّ الرواية التاريخيّة التي حاول الفيلم أن يضيء عليها تقول أن نحو مليون ونصف المليون من أبنائه قتلوا غدراً. وإذا كان التاريخ مراوغاً حسب "هيغل" فحسبنا اليوم بالوقائع الدامغة التي تستوجب عمل كلّ ما من شأنه حماية البشر، ووضع حدّ للمآسي الإنسانية بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي، فالبشر، كل البشر، لهم الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف.
إنّ أبسط ما يمكن تقديمه للضحايا في الماضي والحاضر هو تحريك ضمير المجتمع الدولي للاعتراف بما حصل والاعتذار عنه وكشف الحقيقة كاملةً وتعويض الضحايا وجبر الضرر والعمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية لكي لا يتكرر ما حصل ولكي لا يفلت الجناة من العقاب. وذلك ما يندرج في إطار العدالة الانتقاليّة على المستوى الدولي والوطني.
وإذا كان فيلم "الوعد- THE PROMISE " يعكس مأساة الشعب الأرمني الحقيقية التاريخيّة فإنّ ما يجري على أرض الواقع يتطلّب عملاً جاداً ومسؤولاً وعلى جميع الجبهات، الفكريّة والثقافيّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة والقانونيّة والدبلوماسيّة لاستئصال التعصّب والتطرّف والإرهاب وإشاعة ثقافة التسامح والسلام والتآخي نقيضاٍ للثقافة السائدة التي تقوم على الكراهية والعنف والانتقام.
ملاحظة أخيرة لا بدّ من الإشارة إليها بخصوص الفيلم وهي أنّه، على الرغم من محاولته تصوير بشاعة الجريمة إلا أنّه لا يخلو من تمرير دعاية موجّهة، مثل "مدنيّة وتحضّر" الأميركيّين والفرنسيّين والغرب عموماً ودفاعهم عن حقوق الإنسان، كما يُدَسّ فيه اسم "اليهود"، لدرجة أنّ أحد المسؤولين الأتراك يخاطب أحد موظّفي السفارة الأمريكيّة في أنقرة بقوله "أنت تدافع عن الأرمن لأنّك يهودي "، مُظهراً تعاطفاً زائفاً في حين أن العرب في حلب والموصل وبيروت وعمان والقاهرة وغيرها من المدن العربيّة  هم من استقبل الأرمن ووفّروا لهم الأمن والحماية، دون أن ننسى أنّ عدداً من العوائل التركية ساهم في إنقاذ عوائل وأفراد من جيرانهم ومعارفهم الأرمن بتأمين مخابئ لهم ، كما قاموا بتربية بعض الأطفال الذين فقدوا ذويهم خلال أعمال الإبادة.
ومثلما ترتفع اليوم المطالبات بالاعتذار للأرمن، فإنها تشمل إعتذار الفرنسيين عن احتلالهم للجزائر وما ارتكبوه من أعمال بربريّة واعتذار الأمريكان لسكان البلاد الأصليين على ما قاموا به من إبادة بحقّهم، واعتذار البريطانيين عن وعد بلفور الذي ألحق أفدح الأضرار بالشعب العربي الفلسطيني.
وبغضّ النظر عن كل شيء فإنّ الفيلم هو لائحة اتّهام، بل وثيقة إدانة لأنّه يُظهر المأساة الحقيقيّة لشعب تعرّض للإبادة.

.

383
ما بعد مؤتمر الأستانة:
قراءة في البعدين الإقليمي والدولي للأزمة السورية
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

   ظلّت الأزمة السورية  متأرجحة بين العواصم الدولية والإقليمية، انعكاساً لما يجري على الأرض، وكان من مخرجات ما بعد حلب أن يحدث نوعاً من التقارب الإقليمي والدولي، لعقد مؤتمر تحضره الأطراف السورية يبحث في حيثيات الأزمة ابتداءً من ترسيخ الهدنة ومروراً بوقف إطلاق النار وصولاً للحل السياسي المنشود.
   لم يتصوّر أحد قبل انعقاد المؤتمر أن العاصمة الكازاخستانية المعروفة باسم "الأستانة"  والتي كان اسمها سابقاً "آلما أتا" ستكون محطّة لحوار بين السوريين أولاً وهم الذين رفضوا الجلوس إلى جانب بعضهم البعض على طاولة مفاوضات لتسوية سلميّة للنزاع المندلع منذ 15 آذار (مارس) العام 2011 والذي اتخذ طابعاً عسكرياً وعنفياً بعد بضعة أسابيع، واستمرّ منذ ذلك اليوم ولحد الآن، خصوصاً بتبادل اتهامات مستمر، فالمعارضة حاولت "أبلسة" الحكومة، وسعت لشلّ مؤسسات الدولة، ومن جهة ثانية نظرت الحكومة إلى المعارضة باعتبارها جزءًا من مؤامرة دولية تستهدف سوريا، وبين هذا وذاك استمرّ القتال وتعطّلت التنمية، وانحسرت سيطرة الدولة على العديد من المناطق التي خرجت عن سلطتها، وعمَّ الدمار بمختلف أشكاله في جميع أنحاء سوريا.
   ودفع الشعب السوري الثمن باهظاً، ليس فقط بآلة الإرهاب والعنف وانعدام الأمن والأمان والحياة الطبيعية فحسب، بل من خلال عمليات نزوح ولجوء شملت أكثر من 8 مليون سوري ، إضافة إلى تخريب مدن بكاملها، وتحطيم بُنيتها التحتية، وتعريض بيئتها وأراضيها للتصحّر، وتعثر الزراعة والصناعة كليّاً أو جزئياً، كما سادت الفوضى العديد من المناطق، وهيمنت الجماعات الإرهابية على نحو ثلث الأراضي السورية، وأصبحت الرّقة عاصمة لـ"داعش"، الذي فرض على المناطق التي تحت هيمنته نمط حياة أقرب إلى التوحّش، تعود إلى القرون الوسطى، وفي تعارض كامل مع روح العصر والمدنية والتحضّر.
موسكو وأنقرة وطهران
   جمعت محطّة الأستانة للحوار إضافة إلى السوريين (الحكومة والمعارضة المسلّحة) ثلاث جهات دولية، هم الروس والأتراك والإيرانيون، وهم قوى فاعلة في الملف السوري، وكان يمكن ضمّ السعودية وقطر، وبالطبع الولايات المتحدة إلى حوار الأستانة، لكي تكتمل أطراف الحوار الأساسية، لكن ذلك لم يحدث لأسباب تعود إلى حساسيات الجهات المشاركة وأدوارها في الصراع، فدول الخليج التي دعمت الجماعات المسلّحة وقوى المعارضة وموّلتها، لم يكن في أجندتها وارداً أن يتم الحوار، لذلك اعتبرت أن الأمر لا يعنيها، وشكّكت في أن يصل الحوار إلى نتيجة ملموسة، خصوصاً وأنها كانت قد رفعت أعلى الشعارات رنيناً، بانحيازها ضدّ الحكومة السورية، مراهنة على المعارضة والقوى المسلّحة، إضافة إلى ذلك أن الذين برزوا في هذا الحوار هم المعارضون المسلّحون على الأرض، وليس الجماعات السياسية "الخارجية"!.
   أما إيران فقد رفضت حضور السعودية، كما لم ترغب بحضور الأمريكان، في حين كان الروس يميلون إلى حضور السعودية وجميع الأطراف الدولية ذات التأثير في الملف السوري، بهدف استكمال النّصاب - كما يُقال - خصوصاً لجهة العلاقة بحضور الأمريكان الذين ظلّوا متردّدين في الحضور. وبغض النظر عن كون الأطراف الدولية الغائبة منحازة كلّياً إلى جانب المعارضة والجماعات المسلّحة، وأن غيابها بلا أدنى شك سيؤثر على الاتفاق الشامل للحلّ، لكن ثمة استدراكات، فواشنطن أعلنت أنها تقف ضدّ الإرهاب وتسعى للقضاء على "داعش"، ولم تعد تطرح مسألة رحيل الرئيس الأسد عن السلطة، الأمر شجّع بعض أطراف المعارضة السياسية على المشاركة في لقاء موسكو التكميلي بعد أن كانت تشكّك بجدوى مؤتمر الأستانة، ناهيك عن قوته الإلزامية، وقد كانت مبادرة موسكو استدراكية أيضاً بهدف سدّ النقص في مؤتمر الأستانة والتعويض عنه بلقاء المعارضة وزير خارجيتها سيـرغي لافروف في موسكو بعد مؤتمر الأستانة .
   لقد كان اختيار الأستانة مكاناً لانعقاد المؤتمر ما يبرّره، فهي مقرّبة جداً من موسكو، مثلما هي في الوقت نفسه مصدر ثقة بالنسبة لواشنطن، الأمر الذي أضفى على المؤتمر أهمية خاصة، لا سيّما وأن كازاخستان ترغب في لعب دور الوسيط، وقد ساهمت في التقارب بين موسكو وأنقرة، وهي إحدى الجمهوريات السوفييتية المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي بعد انحلاله، وذلك حين قرّرت الاستقلال في كانون الأول (ديسمبر) في العام 1991، بعد أن كانت منذ العام 1917 "جمهورية سوفيتيية".
دبلوماسية ما بعد حلب و"المناطق الآمنة"
   لقد فتحت استعادة الحكومة السورية سيطرتها على حلب، وإخراج المسلّحين وهزيمة الإرهابيين، الباب أمام حركة دبلوماسية سريعة وكثيفة بشأن الحلّ السياسي، خصوصاً وأن الحل العسكري أو الأمني لم يكن بإمكانه إنهاء الصراع في سوريا، فلم تتمكّن الدولة حتى الآن من القضاء على المجموعات الإرهابية والمسلّحة، أو إنهاء المعارضة، فضلاً عن الدعم الإقليمي والدولي، والتسليح والتجهيز والتمويل.
   كما لم تتمكّن المجموعات الإرهابية والمسلّحة ومن ضمنها المعارضة، من الإطاحة بنظام الحكم، حتى وإن أضعفوا الدولة، لكن تماسك الجيش ووجود نواة صلبة ملتفّة حوله، حال دون الانهيار، وذلك بمساعدة إقليمية - دولية، منها الدعم اللوجستي الذي قدّمه حزب الله اللبناني، إضافة إلى الدعم الإيراني المتعدّد الوجوه عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، يضاف إلى ذلك الدعم الروسي العسكري، وخصوصاً من خلال الضربات الجويّة التي كانت مؤثّرة جداً في إلحاق هزيمة بالقوى الإرهابية التكفيرية، الأمر الذي غيّر من موازين القوى بين الفرقاء المتنازعين في الأزمة السورية.
   لكن القوى الإرهابية والمسلّحة وبقية قوى المعارضة لم تفلظ أنفاسها، وإنْ انحسر دورها وتمزّقت وحدتها، إلاّ أنها ما تزال عنصر مشاغلة وتهديد وورقة بيد القوى الدولية التي تبحث عن موطىء قدم لها في سوريا، بعد أن فشلت في الإطاحة بالدولة، فعلى الأقل قد تجد فرصة في "مناطق آمنة" Safety Zone أو Safety Area واختراقات محدودة، لكي تبقى بؤرة توترات مستديمة ومستمرة ومصدر إزعاج مستقبلي .
   وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اقترح بعد مؤتمر الأستانة، إقامة "مناطق آمنة" لإيواء النازحين واللاّجئين، وتقديم المساعدات الضرورية لهم، وأبدى وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف استعداد موسكو مناقشة الفكرة شريطة التنسيق مع دمشق وموافقتها، وجاء ردّ الفعل السوري سريعاً على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، الذي حذّر من تداعيات خطيرة قد يسفر عنها تحقيق هذه الفكرة دون التنسيق مع الحكومة السورية، لأنه سيؤدي إلى المساس بالسيادة الوطنية. وكانت دمشق قد رحّبت بنتائج مؤتمر الأستانة، واعتبرت وقف إطلاق النار خطوة تمهيدية للحوار السوري - السوري .
   ويعيد مفهوم المناطق الآمنة إلى الأذهان القرار الذي اتخذ بشأن الملاذ الآمن في شمال العراق، لا سيّما بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 688 في 5 نيسان (أبريل) 1991، الذي أدان القمع الذي يتعرّض له المدنيون العراقيون في أجزاء كثيرة من العراق، والذي شمل مؤخراً المناطق السكانية الكردية، وتُهدّد نتائجه السلم والأمن الدوليين في المنطقة ، وهو مسألة ترفضها الحكومة السورية بشدّة، لأنها تدرك أن وجود مثل هذه المناطق ودون الاتفاق معها يعني ثلم جزء من سيادتها، وهو الأمر الذي ارتبط بفرض الحصار على العراق، الذي استمر أكثر من 12 عاماً، وكان ذلك تمهيداً لغزوه.
   وعلى الرغم من الغموض والإبهام فيما يتعلّق بإقامة المناطق الآمنة في سوريا وجوارها، فإن الرئيس ترامب زادها غموضاً والتباساً خلال مهاتفته الملك سلمان بن عبد العزيز "ملك المملكة العربية السعودية"، لا سيّما حين عوّم المسألة وعمّمها بشموله دول الجوار الإقليمي. وإذا كان الأمر يتعلّق بالنازحين واللاجئين السوريين، فمن باب أولى التنسيق والتعاون مع دمشق التي تشترط موافقتها على أي منطقة آمنة لأغراض إنسانية. أما إذا كان الأمر يمتد إلى جوار سوريا (عمان وبيروت وأنقرة) حيث الكثافة الكبيرة للاجئين السوريين، فيقتضي موافقة حكومات هذه البلدان.
   وبالعودة إلى سوريا كيف سيتمّ اختيار المناطق الآمنة؟ ومن سيديرها؟ وكيف ستتكفّل الجهات الدولية تقديم المساعدة لها؟ وهل ستكون الدول الضامنة لمؤتمر الأستانة الدور الأساسي فيها؟ وكيف سيتم التنسيق مع الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية الأخرى؟ هذه وغيرها أسئلة تحتاج إلى تفاهمات مسبقة، تتم مع دمشق، خصوصاً وأن هناك رؤى مختلفة ومتعارضة إزاء موضوع إدارة المناطق، فـ"وحدات الحماية الكردية" تعمل بالتعاون مع قوات التحالف الدولي "الأمريكي" باسم "قوات سوريا الديمقراطية" وهناك مناطق تابعة للجيش التركي في وسط منطقة جرابلس، حيث يوجد فيها الآن، مثلما هناك مناطق تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، مثل "جبهة فتح الشام"، و"داعش" وغيرها، مثل إدلب والرّقة، فكيف سيتم التعامل معها؟
   لقد اضطرّت القوى المعارضة، إضافة إلى الجماعات المسلّحة - دون أن نُدخل في حسابنا الجماعات الإرهابية والتكفيرية، سواء "داعش" أو "جبهة فتح الشام" أو أخواتها - إلى القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، والأمر يتعلّق أولاً باختلال موازين القوى على الأرض، ولا سيّما بعد خروجها من حلب، بل إنها كانت في حالة تراجع وتقهقر مستمرين، وثانياً أصبح واضحاً وبعد نحو 6 سنوات أن القوى الدولية الإقليمية تهمّها مصالحها، وأنها غير معنية باستمرار الحرب الأهلية حتى لو تم تدمير كامل سوريا، فذلك إحدى أهدافها، وسيكون المستفيد الأول منها "إسرائيل" والصهيونية، وثالثاً أن الضغوط التي تعرّضت لها من جانب تركيا أجبرتها على قبول الحوار مع الحكومة السورية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وربما ساعد ذلك في دفع العملية السياسية.
   وقد يكون للداخل التركي انعكاساً إيجابياً على الأزمة السورية، "فربّ ضارّة نافعة" - كما يُقال - خصوصاً بعد تعرّض النظام التركي لهزّة عميقة إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز (يوليو) العام الماضي 2016 ، والتي لا تزال تداعياتها مستمرّة حتى الآن، وتواجه سياسة تركيا الإقليمية تحدّيات عديدة، إضافة إلى ردود فعل داخلية وخارجية، فالانقلاب ترك ندوباً وآثاراً على الدولة التركية، بل وصورة تركيا التي تم رسمها على نحو إيجابي في السنوات الخمسة عشر الماضية، باعتبارها تمثل نموذجاً "للإسلام المعتدل" و"الدولة المدنية" والحداثية، وهو الأمر الذي أصبحت الشكوك بشأنه تكبر، ليس في الغرب فحسب، بل في دول الإقليم، بسبب تدخلاتها من جهة، وفي الداخل التركي أيضاً حيث يتخذ الصراع طابعاً عنفياً.
   وكانت مفاوضات الأستانة (كانون الثاني/ يناير/ 2017)، قد شملت قضيتين أساسيتين تم الاتفاق عليهما وهما:
   - تثبيت الهدنة
   - وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سوريا.
   أما المرحلـة الثانية من المفاوضات فستـبدأ في شباط (فبرايـر) 2017، حيث سيتم عقد جولة جديدة في إطار الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سلمي، استمراراً لجنيف 1 و2 و3 .
   وإذا كانت نتائج مؤتمر الأستانة الأولية خطوة بالاتجاه الصحيح، فهل سيكون التوصل إلى خريطة طريق ممكناً بعدها، ولا سيّما بغياب واشنطن أم أن الدور الروسي، إضافة إلى الدور الإقليمي، ولا سيّما التركي والإيراني كفيل بذلك؟ وحتى لو لم تكن تركيا ممثلة للأطراف الغائبة، فإن مثل هذا الاتفاق سيكون عاملاً مهماً في الحملة المناهضة للإرهاب وكما قال الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب: إن مكافحة الإرهاب هي من أولوياته، بالتناغم مع الدور الذي تلعبه واشنطن في العراق ضدّ "داعش"، حيث تقود قوات التحالف الدولي لتحرير الموصل، بالتعاون مع القوات العراقية.
مشاريع الدستور
   ثمّة أسئلة ضرورية لبحث حيثيات الأزمة السورية ومنها: هل يحظى مؤتمر الأستانة بالإجماع، بعد أن غابت عنه المعارضة السياسية؟ أم أنه "بروفة" أولية تبعها لقاء لافروف بالمعارضة السورية؟ ولعلّ مثل هذا اللقاء التكميلي مهم لجهة عقد مؤتمر جنيف القادم. وكانت روسيا قد دعت على لسان لافروف: التحلي بالصبر لدى تشجيع المعارضة السورية على المشاركة في مفاوضات السلام، وكان هو ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف قد دعيا إلى الاستفادة من تجربة الأستانة لتفعيل عملية السلام.
   وقد برّرت بعض القوى السياسية المعارضة غيابها عن لقاء لافروف بالصفة الشخصية للدعوة (قائمة الرياض - الهيئة العليا للمفاوضات)، وقال فريق آخر: "قائمة موسكو"، و"قائمة القاهرة" و"قائمة الداخل"، وممثّل عن الكرد وآخرين، أن المعارضة ستشكّل فِرقاً لصياغة الدستور السوري الجديد والمقترح، وذلك على هامش لقائهم بوزير الخارجية الروسي، ويأتي مثل هذا التوجّه بعد أن أعدت وزارة الخارجية الروسية مسوّدة مشروع لدستور جديد، أساسه توسيع صلاحيات البرلمان على حساب صلاحيات الرئيس ومنع تدخّل الجيش في المجال السياسي، وتأكيد سمو القانون الدولي في النظام القانوني السوري.
   وكان لافروف قد دعا المعارضة إلى المشاركة النشيطة في ترتيب عملية تفاوضية مستدامة من أجل تسوية الأزمة السورية في جنيف، بالتعاون مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، علماً بأن هناك مسوّدة كردية لمشروع دستور سوري أعدّها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وسلّمها لوزير الخارجية الروسي، وذلك بتوسيع صلاحيات الأقاليم اللاّمركزية، علماً بأن المسودّة الروسية ترفع اسم "العربية" من الجمهورية العربية السورية، وترفع صفة دين الدولة "الإسلام"، وهو النص الذي تتضمنه جميع دساتير البلدان العربية تقريباً، وتسمح الصيغة المقترحة بإمكانية تغيير الحدود بواسطة الاستفتاء واعتبار اللغتين العربية والكردية متساويتين في مناطق الحكم الذاتي الثقافي الكردي.
   وبرّرت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا اقتراح مشروع دستور على الأطراف السورية، بقولها: "إن موسكو لا تحاول فرض أفكار ما على أحد، إنما يكمن الهدف من مبادرتها في تحفيز النقاش بين السوريين" .
    والسؤال الآن: ماذا بعد الأستانة؟ وماذا بعد لقاء موسكو مع المعارضة السورية؟ هل سيكون بالإمكان توفير أرضية صالحة وخصبة لمؤتمر جنيف برعاية الأمم المتحدة؟ والجواب هو ما عبّر عنه الروس من رغبة يمكن الاستدلال عليها من استضافتهم المعارضة السورية، وكان الهدف واضحاً هو استكمال مؤتمر الأستانة تمهيداً لعقد مؤتمر جنيف.
ميزان القوى الجديد
   إن التطوّرات الجديدة والتبدّل في موازين القوى قد يسهم في تغيير أو تعديل توجهات بعض أجندات المعارضة، لا سيّما إذا حصل نوع من التفاهم الروسي - الأمريكي، بعد التوافق الروسي - التركي، على الرغم من وجود بعض المنغصّات الدولية الأخرى، وذلك غير دول الخليج وتردّد الولايات المتحدة، ونعني به تحفّظات فرنسا وألمانيا التي لم يحظ مؤتمر الأستانة برضاهما، كما كان دور الأمم المتحدة فيه محدوداً، ولعلّ من أسباب نقد بعض القوى للمؤتمر، أنه انعقد في رحاب مدينة محسوبة على موسكو التي لها دور مؤثّر في قراراتها.
   وإذا كان ثمّة أسباب داخلية دفعت تركيا إلى المشاركة الفاعلة في مؤتمر الأستانة، فإن هناك أسباباً أخرى منها مشاكل المهجرين واللاجئين السوريين وعدم إيفاء أوروبا بوعودها والتزاماتها، وهو ما كانت تركيا تريد به ابتزاز أوروبا، فضلاً عن محاولتها محاصرة حزب العمال الكردستاني PKK، الذي لا زال وجوده يؤرقها، فهي حتى الآن لا تعترف بحقوق الكرد القومية، وتتخذ موقفاً استعلائياً وشوفينياً من القضية الكردية ومن قضايا المجاميع الثقافية الأخرى، يضاف إلى ذلك أن حزب العمال الكردستاني لا يقتصر نفوذه السياسي والعسكري داخل تركيا، بل إنه يتمدّد داخل الأراضي السورية، ولا سيّما في عفرين والقامشلي، وكذلك داخل الأراضي العراقية في جبل قنديل.
   وقد تمكّن مؤخراً من فرض سيطرته على قضاء سنجار، الأمر الذي حاولت تركيا أن تضغط فيه على إقليم كردستان وعلى حكومة بغداد، بل أعطت تعهداً بانسحاب قواتها من العراق، بعد أن كانت تتمنّع عن مثل هذا الالتزام وتتذرّع بأن أولوياتها محاربة القوى الإرهابية التي تشنّ عليها حملات من داخل الأراضي العراقية، وبالمقابل فقد تعهّدت إربيل وبغداد بمواجهة حزب العمال الكردستاني وإبعاده عن سنجار، حتى وإنْ لم يتمكنا، لا سيّما وأن المعركة مع "داعش" لم تحسم، ولا يمكن الدخول في معركتين في آن واحد.
   وبغض النظر عن اختلاف التقييمات بخصوص مؤتمر الأستانة، فإنه نجح حتى الآن في تثبيت وقف إطلاق النار، وهذه خطوة لصالح الحكومة السورية التي سيكون بمقدورها إعادة الانتشار وإعادة السيطرة الإدارية على مناطق البلاد التي أفلتت من قبضتها خلال السنوات الخمس ونيّف الماضية من الحرب، وقد يقلّص من قدرة المعارضة والجماعات المسلحة التي أصبحت الممرّات أمامها مغلقة، ويمكن استهدافها فرادى، علماً بأن هدف الإيرانيين والروس هو الشروع بالتفاوض الطويل الأمد، خصوصاً بتقوية مواقع الجيش السوري.
   وإذا كان ثمة اختلافات في الرؤية بين الإيرانيين والروس، فإن إيران التي ساهمت منذ البداية في دعم الحكومة السورية، لا تريد تجيير ذلك لمصلحة الروس، كما أن الروس الذين كان لهم دور حاسم في ضرب مواقع الإرهاب والجماعات المسلّحة، ولا سيّما في معارك حلب، لا يريدون الخروج من المشهد دون وضع بصمتهم الواضحة عليه، ويعتبرون سوريا حليفة لهم بدءًا من الحكومة، مثلما هي بعض أطراف المعارضة التي يستميلونها، ولذلك يطمحون في إجراء تقارب بينهما لتتمكّن روسيا أن تلعب دور مستقبلي في سوريا وعند أي تغيير محتمل أيضاً.
   أما تركيا، فإن وضعها الخاص سيتوضّح لاحقاً، لا سيّما في جنيف، فيما إذا كانت قد قرّرت التخلّص من عبء علاقتها بالجماعات المسلحة والمعارضة، بل يمكن أن تذهب أبعد من ذلك، حيث يمكنها التطبيع مع الحكومة السورية بعد أن اختل ميزان القوى لصالح استمرار النظام برئاسة بشار الأسد.
   واللاّفت في مفاوضات الأستانة أن الذي مثل المعارضة المسلّحة، هم ممن لهم فعل على الأرض، وليسوا من معارضة الخارج، في حين أن اللقاءات السابقة ضمّت مجاميع سياسية معارضة، لكنها لا تملك رصيداً قوياً على الأرض، وخصوصاً في الجانب العسكري.
بيان الأستانة
   وكان البيان الختامي لمؤتمر الأستانة قد حدّد الوجهة العامة التي يمكن أن ترضي الحكومة والمعارضة، وذلك بتأكيده على :
1 - الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية (أي إبعاد فكرة التقسيم التي يتم التلويح بها) من جانب القوى الخارجية وبعض الجماعات المسلحة والمعارضة أحياناً.
2 - إن سوريا دولة متعدّدة الأعراق والأديان وغير طائفية وديمقراطية (وهذه أطروحات جديدة كانت المعارضة تدعو إليها، ووافقت عليها الحكومة السورية).
3 - تأكيد محاربة "داعش" وجبهة "فتح الشام"، باعتبارهما تنظيمين إرهابيين وهو اشتراط للحكومة السورية مدعوماً من إيران وروسيا، وتفريقهما عن بقية المنظمات المسلّحة، أي إجراء فرز بين الجماعات والقوى المناهضة للحكومة السورية، وهو بقدر ما يأتي لصالح الحكومة السورية، فإنه يتطابق مع طموح الشعب السوري والقوى الإقليمية والدولية في التخلص من الإرهاب، فضلاً عن انسجامه مع طموح بعض المعارضات المسلّحة التي تريد تمييز نفسها عن الجماعات الإرهابية والتكفيرية.
4 - التأكيد على قرار مجلس الأمن 2336، الذي صدر في 31 كانون الأول (ديسمبر)  2016، حيث كان وزراء خارجية كل من تركيا وإيران وروسيا قد أصدروا بياناً مشتركاً في موسكو في 20/12/2016 أكّدوا فيه على "إطلاق محادثات بين حكومة الجمهورية العربية السورية ومجموعات المعارضة المسلّحة في الأستانة...".
5 - تأكيد الأطراف المشاركة على الحل السياسي، باعتباره الحل الوحيد من خلال عملية سياسية مبنية على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بالكامل ، واستبعاد الحل العسكري على نحو صريح وواضح، وهو وإنْ كان إقرار بواقع أليم جاء بعد نحو 6 سنوات، لكنه يمثل روح القرارات الدولية والقوى الحليفة للحكومة السورية، لا سيّما بعد أن أحرزت نجاحات عسكرية على الأرض.
6 - تثبيت وتقوية نظام وقف إطلاق النار من خلال ترتيبات متفق عليها، وبدعم من قرار مجلس الأمن 2336 لعام 2016، بما يساهم في تقليص العنف والحد من الانتهاكات وبناء الثقة وتأمين وصول سريع وسلس ودون معوّقات للمساعدات الإنسانية تماشياً مع قرار مجلس الأمن 2165 لعام 2014 وتأمين الحماية وحريّة التنقّل للمدنيين في سوريا .
   وأعتقد أن ذلك لو حصل وتم الالتزام به سيفتح الباب أمام عودة الحياة الطبيعية وسيضغط على جميع الأطراف من أجل إنجاز تسوية من شأنها إعادة هيبة الدولة وإخضاع الجميع لسلطانها مع إجراء التغييرات المطلوبة للانتقال الديمقراطي.
   وإذا كان الوفدان السوريان قد تباحثا من خلال غرفتين منفصلتين وعبر وسيط، حيث كان دي ميستورا وممثلين من الوفد الروسي والتركي، فإن المباحثات القادمة ربما ستشهد حواراً تمهيدياً مباشراً أو شبه مباشر، ولكن أكثر قرباً وتواصلاً وقد تتبدّل بعض المواقع.
   وصدر البيان عن الدول الثلاث الضامنة ، الذي أكّد في إحدى فقراته على هدف محاربة الإرهاب (داعش والنصرة)، وهو أمر سيكون ملزماً لهذه الدول بالطبع.
مصارعة على الطريقة الرومانية
   أوجدت محطة الأستانة إطاراً جديداً للمفاوضات، وهي مختلفة عن مفاوضات جنيف، وإن كانت لا تتعارض معها، لكنها خطوة متقدمة عليها، وخصوصاً بتأكيد فشل الحل العسكري والتركيز على الحل السياسي، باعتباره الحل الوحيد لتسوية الأزمة، لا سيّما وأن جميع الأطراف أنهكتها الحرب التي استمرّت، وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية التي قد توصل أحد الطرفين المتصارعين إلى الموت، في حين أن الطرف الآخر قد يبلغ به الإعياء والإنهاك حد العجز الذي هو أقرب إلى النهاية، وقد كان لتغيير الموقف التركي أثر بالغ في تحقيق الهدنة بين الحكومة والمعارضة.
   وسيكون موضوع الدستور السوري واحداً من القضايا المعروضة للنقاش، فيما إذا نجحت الأطراف في إرساء دعائم وقف إطلاق النار والشروع بالاتفاق حول مستقبل العملية السياسية والتغيير المنشود طبقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي. وإذا كان هدف التوصل إلى حلّ سياسي، قد أجمع عليه المتفاوضون، فإن ذلك لن يتحقّق دون خطوات عملية لوقف إطلاق النار، وهذا يمكن أن يتم إذا ما شعرت الأطراف جميعها أن مرحلة انتقالية بعيدة المدى تنتظر سوريا، وأنها يمكن أن تتبلور وفقاً لصيغة اتفاقية ورضائية مكفولة دولياً.
   لقد لعب الدعم الروسي دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى لصالح الحكومة السورية، كما كان للتقارب التركي - الروسي مؤخراً، أثراً إيجابياً في تقريب وجهات النظر، سواء بالتحضير لمؤتمر الأستانة أو لإقناع المعارضة المسلّحة بالحضور والمشاركة، وقد عكس لقاء موسكو للدول الضامنة ذلك بالدعوة إلى ضرورة عقد مفاوضات سياسية بين الأطراف السورية - السورية، أي بعد نجاح وقف إطلاق النار وتحقق شروط الهدنة والالتزام بها، وبهذا المعنى فإن الأطراف الثلاثة استبعدت الحل العسكري كليّاً وهو تطوّر جديد في الأزمة السورية، خصوصاً إذا ما تم الالتزام به.
الأزمة استثنائية والحلّ الاستثنائي
   كان حضور الحكومة والمعارضين السوريين إلى الأستانة يعني فيما يعنيه الخروج من معطف جنيف الذي حاولت القوى الدولية إلباسه للسوريين (حكومة ومعارضة) برعاية الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه فإن هذا الخروج ليس إلى فراغ، بل إلى رعاية روسية أساسية وإن كانت ليست معارضة لاتفاقات جنيف، لكنها أكثر واقعية وقدرة على التنفيذ من خلال التوافق الدولي - الإقليمي (روسيا - تركيا).
   ربّما كانت القراءة الأولى لمؤتمر الأستانة باعتباره تحدّياً روسياً للمجتمع الدولي، لكن دخول تركيا وتأثيرها على المعارضة، أعطاه أهمية استثنائية، ولا يمكن إنجاح أي حلّ في سوريا إلاّ إذا كان استثنائياً، فالأزمة استثنائية وتتطلّب حلاًّ استثنائياً، وأعتقد أن وضع مسودة تنفيذ القرار 2254 الصادر في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015 عن مجلس الأمن الدولي ستكون الخطوة الأساسية لنجاح أي اتفاق لاحق، وقد نصّ هذا القرار على "أن الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد"، ودعا إلى "تشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، كما طالب بوقف الهجمات ضدّ المدنيين بشكل فوري، وقد تمّ التصويت عليه بالإجماع (15 دولة عضو في مجلس الأمن).
   الجديد في الأزمة السورية الراهنة هو الضمانة الروسية التي تمكّنت من حل بعض العُقد أمام مؤتمر جنيف في شباط (فبراير) 2017، يضاف إلى ذلك فصل المعارضة المسلّحة عن الجماعات الإرهابية مثل "داعش" و"حركة أحرار الشام الإسلامية" و"جيش الإسلام" و"الجيش الحرّ" وغيرها، وهذه خطوة مهمّة.
   ولكن تبقى هناك عقبات جدّية ما بعد الأستانة أهمها: تحديد المشاركين باسم المعارضة ويطمح الروس أن تشارك جميع القوى الفاعلة، خصوصاً وأن بعضها قد غاب عن الحضور، وتمثيل الأكراد الذين لديهم حضور في المناطق الشمالية ويديرونها ذاتياً، وكيف سيكون الأمر في المستقبل، أي العلاقة بين المركز والأقاليم أو الأطراف، خصوصاً وأن مطالب عديدة أخذت تتبلور في أوساطهم تدعو إلى الفيدرالية أو الحكم الذاتي أو اللاّمركزية، وكلّها تبدي اعتراضاً على فكرة الدولة المركزية البسيطة، التي عرفتها سوريا منذ استقلالها، وأخذت تروج بدلاً عنها فكرة الدولة اللامركزية والمركّبة، فهل نحن بصدد نظام لا مركزي؟ وأين حدود صلاحيات المركز والأقاليم؟ وهل هي إدارية أم قومية؟ وحسب المصطلح المستخدم "الثقافية"؟ ووفق أي الاعتبارات سيتم تحديدها؟ وعلى أي النسب السكانية سيتم تقريرها؟ وهذه أسئلة تحتاج إلى أبحاث مستفيضة وتراضٍ وتوافق استثنائي وتاريخي في الوقت نفسه، وقد تكون المفاوضات فيها مضنية.
   ولعلّ هذه الإشكالات الاستثنائية تحتاج إلى حلول استثنائية وتنازلات متبادلة من جميع الأطراف، كما أن الأطراف الكردية غير متفقة مع بعضها البعض، علماً بأن موسكو تريد مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي وشخصيات قريبة من النظام وأخرى محسوبة على محور القاهرة، في حين ترى أنقرة ضرورة مخاطبة الهيئة العليا للمفاوضات وهي ترفض دعوة الأكراد، الأمر الذي يحتاج إلى مرونة من جهة، مثلما يحتاج إلى وضوح وأفق لكي لا تُخلق بؤراً جديدة للتوتر والصراع أو تُبقي عليها، بحيث تنفجر في أي وقت.
   وإذا كان الموقف التركي قد تغيّر تماماً، وانتقل من حالة الرفض لأي مفاوضات لا تحدّد مصير الرئيس الأسد، إلى مفاوضات قد لا تتطرّق إلى ذلك مراعية مصالحها السياسية والاقتصادية وأوضاعها الداخلية، فإن للنجاحات التي أحرزها الجيش السوري وتراجع القوى المسلحة في مناطق عديدة، وخصوصاً في منطقة الباب وحلب دور كبير في ذلك، ناهيك عن فتور علاقات تركيا مع الناتو وضيق صدرها من الولايات المتحدة التي اتهمتها ولو لم تسمّيها بالاسم، بالتحريض على الانقلاب الفاشل ودعم فتح الله غولن، وقد يكون لتولي الرئيس دونالد ترامب أثر كبير في مجريات الأحداث في سوريا بغض النظر عن مواقفه الأخرى، والأمر قد يكون له صلة بالعلاقة الروسية - الأمريكية.
   ولعلّ أهم نتائج مؤتمر الأستانة على الصعيد الدولي والإقليمي هو إنشاء إطار ضامن وأوكل له مهمّة أساسية معلنة بوضع آليات لمراقبة وقف إطلاق النار، وذلك بعد أن تمكّن اللاّعب الروسي، الإمساك بالملف السوري، خصوصاً بعد قرار إدارة أوباما، التراجع إلى الخلف لانشغالها بملفات داخلية وإبداء تركيا استعدادها لجلب المعارضة المسلحة للأستانة مع تخلّيها عن فكرة تنحية الرئيس الأسد.
   هكذا أصبحت موسكو هي الضامنة، وليست طرفاً في الصراع كما كان المعارضون المسلحون يتهمونها، بل أدانوها بارتكاب مجازر عديدة في المناطق التي تحت سيطرتهم، وهذا يعني أنها أصبحت مقبولة كطرف حيادي يرعى مؤتمراً لتثبيت وقف إطلاق النار، ثم سيضمن مراقبة ذلك. وسيكون لها وفقاً لهذا التقدير دور مستقبلي قد يصبح كبيراً أكثر مما هو عليه للوصول إلى تسوية شاملة، فيما إذا سارت الأمور حسب ما هو معلن ومقرر.
خريطة الطريق الروسية
   وحسب ما ترشّح، فإن لدى الروس أربع حلقات أساسية لحل الأزمة السورية، وقد تلتقي معها كلياً أو جزئياً إيران وتركيا، وخصوصاً بعد نتائج مؤتمر الأستانة، ولحين تبلور رؤية أمريكية جديدة في عهد ترامب، فإن هذه الخطة ستأخذ مجراها إلى التطبيق ويعتمد نجاحها على دفع اللاّعب الأمريكي بوقت لاحق للتعاطي مع المشروع الروسي.
   الحلقة الأولى للخطة الروسية، تقوم على إرساء وقف إطلاق النار بشكل حقيقي في المناطق المتنازع عليها بين الحكومة السورية والجماعات المسلّحة.
   أما الحلقة الثانية، وقد بدأت خطواتها الأولى بشن حرب تشارك فيها الأطراف المختلفة للقضاء على جبهة فتح الشام "جبهة النصرة سابقاً" وكان من مؤشرات ذلك صراع الجماعات المسلحة مع جبهة فتح الشام في إدلب التي ترافقت مع العمليات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي وموسكو من خلال استهداف مقرّاتها واجتماعات قيادييها، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الحلقة قد تتوسّع لتشمل محاربة "داعش".
   وتقضي الحلقة الثالثة بإقرار دستور جديد لسوريا وقد تمّت الإشارة إلى مشاريع الدساتير المقترحة والمشاريع التي ستعكف على تقديمها قوى المعارضة، وكانت المسوّدة الروسية قد استندت على الدستور السوري الذي تم تعديله العام 2012، وهناك قلق لدى العديد من النخب السورية الحاكمة وغير الحاكمة في أن يكون هذا الدستور صيغة مماثلة أو مقاربة لدستور بول بريمر بخصوص العراق للمرحلة الانتقالية 2004 والذي تم صياغة الدستور الدائم على أساسه لعام 2005، وهو الذي كرّس نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، لكن الروس يؤكّدون أن ذلك يتم بوحي من الأرضية الدستورية السورية نفسها وبأيدٍ سورية، مع ملاحظات حول شكل نظام الحكم وصيغة اللاّمركزية المطروحة فيه .
   وتعتبر الحلقة الرابعة من أهم حلقات الخطة الروسية، وذلك برفع أي فيتو عن أي من المرشحين للرئاسة، ولكن كل ذلك مرهون بنجاح عملية إحلال السلام، وتعاون الأطراف الإقليمية مع موسكو، لا سيّما تركيا وإيران، وبالطبع فإن صيغة البيان الختامي فجّرت خلافات جديدة بين الجماعات المسلّحة والمعارضة، لا سيّما بشأن الدور الإيراني الضامن.
   في الختام يمكن القول إن مؤتمرات السلام التي انعقدت لحلّ الأزمة السورية في السنوات الثلاث الماضية، جميعها بما فيها مؤتمر الأستانة، ساهمت في كسر الحاجز النفسي وتطبيع العلاقات بين القوى المعارضة والحكومة السورية. وإذا كانت المؤتمرات الأولى ضمّت جماعات سياسية مثل "المجلس الوطني السوري - الدوحة" ثم "هيئة الائتلاف الوطني - اسطنبول"، ولاحقاً "الهيئة العليا للمفاوضات - الرياض"، فإن مؤتمر الأستانة مثّل جماعات مسلّحة على الأرض حملت تسميات من قبيل "جيش الإسلام" و"جيش إدلب الحر" و"الجبهة الجنوبية" و"صقور الشام".
تركيا: تسوية الأزمة بدون الأسد أمر غير واقعي
   وإذا كانت تركيا المتعهّد باسم الجماعات المعارضة المسلحة، فإن روسيا ظهرت وكأنها الأقرب لتمثيل الحكومة السورية كقطب أساسي، وإن حظرت إلى جانبها إيران، لكن تحفّظات بعض الأطراف المسلّحة جعلها في المرتبة الثانية، وإذا كان هناك من تبدّل نوعي، فهو يتعلّق بتهميش دور المملكة العربية السعودية وقطر، خصوصاً بعدم حضور المعارضات السياسية المدعومة من جانبيهما.
   ومن التطوّرات المهمّة التي تبلورت عشية وخلال وبُعيد مؤتمر الأستانة أن تركيا التي كانت تصرّ على رحيل الأسد، تخلّت عن هذه الفكرة، وقد عبّر نائب رئيس وزرائها محمد شيمشك في مؤتمر دافوس (سويسرا) ما يؤكّد ذلك حين قال: إن تسوية الأزمة السورية بدون الرئيس السوري بشار الأسد، تعدّ في الوقت الراهن أمراً غير واقعي، وذهب أكثر من ذلك حين أضاف "الأسد يتحمّل مسؤولية معاناة الشعب السوري، لكن يجب أن نكون براغماتيين، وأن ننطلق من الواقع، فالوضع تغيّر جذرياً، ولذلك لا يمكن لتركيا أن تواصل الإصرار على تسوية بدون الأسد، وأنه أمر غير واقعي" .
   صحيح أن مؤتمر الأستانة ركّز على الجوانب العسكرية، المتعلّقة بتثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار، إلاّ أنه فتح الأفق واسعاً بعد انسداد دام لسنوات أمام تسوية سياسية، وهو ما حاول دي ميستورا الحديث عنه، ولا سيّما استئناف مؤتمر جنيف في شباط (فبراير) 2017، أي محاولة إضفاء بُعدٍ أممي على ما جرى في الأستانة، وتبقى الأزمة السورية، سورية بالدرجة الأساسية، وحلّها سورياً أيضاً، مهما كان دور القوى الإقليمية والدولية كبيراً، وهذا الحل الميداني يحتاج إلى خريطة طريق طويلة الأمد، وتفاهمات وشجاعة استثنائية في الوقت نفسه، لأن الهدف هو إعادة بناء سوريا وترميم ما خربته الحرب، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية وتاريخية.
كولومبيا وتجارب العدالة الانتقالية
   وسيكون ذلك ممكناً حين يتم اعتماد قواعد العدالة الانتقالية، مع حساب الخصوصية السورية، تلك التي تقوم على كشف الحقيقة: ما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟ وكيف حصل؟ لتحصين الأجيال القادمة، وذلك دون نسيان المساءلة عمّا حدث مع الأخذ بنظر الاعتبار الابتعاد عن الثأر والانتقام والكيدية، فمثل ذلك سيولّد ردود فعل وانقسامات تزيد من الشروخ الاجتماعية الحاصلة، وهنا لا بدّ من اعتماد مبادىء التسامح، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير الحساسيات والضغائن والفتن ويدخل البلاد في أتون تقسيمات طائفية وإثنية.
   والخطوة الأخرى التي يمكن اعتمادها تقوم على جبر الضرّر، خصوصاً المعنوي بإطلاق أسماء مكتبات وساحات عامة وشوارع وقاعات ومدارس وغيرها على ضحايا يخلّدهم الشعب السوري، وكذلك تعويض الضحايا وأسرهم وجميع المتضررين مادياً ومعنوياً، خارج أي اعتبار سياسي أو قومي أو ديني أو طائفي أو اجتماعي أو مناطقي أو أي اعتبار آخر، ودون أي تمييز، والعمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، التي تعزّز من احترام حقوق الإنسان وحرّياته باعتبارها ركيزة أساسية من الركائز الدستورية التي تقوم على المواطنة الفاعلة، لا سيّما بأجواء من الحريّة التي هي أسمى الحقوق والمساواة والعدالة، وخصوصاً العدالة الاجتماعية والشراكة والمشاركة.
   الأزمة السورية استثنائية والحل استثنائي أيضاً، وإذا كان الهدف هو تحقيق المصالحة الوطنية التاريخية وإعادة لحمة المجتمع السوري، فلا بد من إنهاء جميع تبعات الصراع المسلّح الاستئصالي، الإلغائي، التهميشي، وتحقيق العيش المشترك والتفاهم، وقطع دابر التدخلات الخارجية التي كان لها دور أساسي في إشعال الفتنة واستمرارها. وأول ما تحتاجه المصالحة هو بناء جسور الثقة لوقف التعقيبات القانونية، وإطفاء القضايا المتعلّقة لكل من يلقي السلاح ويستجيب لنداء الوطن والوحدة الوطنية والتحوّل الديمقراطي، وقد جرّبت شعوباً كثيرة مثل هذه الحلول ونجحت في تجاوز أزمتها، ولعلّ آخر الأمثلة كانت التجربة الكولومبية التي استحق عليها الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس جائزة نوبل العام (2016)، وذلك تقديراً لجهوده في تسوية النزاع المسلح في بلاده .
   وكان الرئيس الكولومبي قد اتفق مع الحركة اليسارية (المتطرّفة) التي تُدعى "فارك" بعد مفاوضات مضنية دامت 4 سنوات لوضع حدٍّ لصفحة الصراع المسلح الذي استمر 52 عاماً وأودى بحياة 220 ألف مواطن وساهم في تعطيل التنمية وهدر طاقات البلاد.
لقد كان الاستمرار بالنسبة للطرفين يمثل نوعاً من المكابرة والعبث، فوافقت الحركة على إنهاء الكفاح المسلّح، وإلقاء السلاح وتسليمه إلى الحكومة والتوصل إلى مصالحة مع الدولة وبشروطها، ووافقت الحكومة على التوصل إلى حلول سلمية ومدنية، باستبعاد المساءلة الفورية أو المباشرة، ذلك أن اشتراط تحقيق العدالة كشرط للسلام قد يفضي إلى استمرار الحرب الأهلية، خصوصاً في ظل نفوذ لا يزال يملكه المتمردون، الذين يبلغ عددهم أكثر من 15 ألف مسلح، فكان لا بدّ من اللجوء إلى الوسائل السلمية واللاّعنفية باعتبارها سلاحاً ماضياً للوصول إلى الأهداف المرجوة، حتى وإن ألحق بعض الخسائر بمسألة العدالة القانونية المنشودة.
الاتفاق الكولومبي كان أقرب إلى صفقة سياسية حين وضع السلام مقابل العدالة، مقدّماً الأول على الثانية، لأننا لو أخذنا بمعيار تطبيق مستلزمات العدالة القانونية والقضائية عند الاتفاق، فإن ذلك سيعني ملاحقة أعضاء حركة "فارك"، التي تصل جرائمها إلى جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضدّ الإنسانية، خصوصاً لجهة عدد الضحايا وتدمير المنشآت وإحراق المزارع وإتلاف البيئة وتهجير مئات الآلاف من السكان، وقد يكون بعضها من مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية.
لعلّ التجربة الكولومبية اليوم هي إحدى تجارب العدالة الانتقالية الجديدة، خصوصاً بتقديم السلام على المساءلة، ومن أبرز عناصرها هي: تعهّد قادة الحركة المسلّحة بتسليم أسلحتهم، والامتناع عن زراعة المخدرات وإتلاف ما يوجد لديهم، والتوقف عن الاتجار بها أو بعمليات تهريبها أو القيام بأي خرق لحقوق الإنسان، كما تعهّدوا بتقديم تعويضات (من المال السّحت الذي حصلوا عليه) إلى المزارعين، وأولاً وقبل كل شيء إعلاء حكم القانون ومرجعية الدولة والعودة إلى المجتمع كأفراد مدنيين. وأعتقد شخصياً أن ذلك أمراً في غاية الأهمية.
أُطلقَ على الاتفاق بين الرئيس سانتوس وقادة الحركة المسلحة: العدالة التوافقية أو العدالة البنّاءة، وهي عدالة مؤقتة وانتقالية تشمل جوانب قانونية وأخرى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وهذه تعني حسب حيثياتها: لا معاقبة الجاني وإعادة الحق لأصحابه، بل الاتفاق على تعهّد المرتكب بعدم تكرار ارتكاب جرائم جديدة وإعادة جزء من الحق لأهله، والاعتراف بحق الدولة في استعادة سلطتها، باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحق لها احتكار السلاح واستخدامه.
وإذا كانت شروط العدالة الانتقالية  تقوم على كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرّر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، فإن التجربة الكولومبية، قفزت على النقطة الأولى، وتركت أمرها لتنفيذ الاتفاق، وإذا كان مثل هذا الإشكال يجنّب الشعب الكولومبي الويلات والمآسي التي عاشها لعقود من الزمان، فلا بدّ أن يكون مرحّباً به لعلاقته بالمستقبل وليس بالماضي، فالانتقام والثأر قد يدفع إلى ردود فعل متقابلة، وهكذا.
وكانت التجربة الأرجنتينية في أواخر السبعينات وما بعدها قد سلكت طريق التوافق بإطفاء الحرائق ووقف التعقيبات القانونية بحق المرتكبين، كما سلكت التجربة التشيلية في أواخر التسعينات ذات الطريق، وهما شقّا تجربة جديدة في العدالة الانتقالية، قائمة على فقه التواصل وليس فقه القطيعة، وهو ما سلكته تجربة الدول الاشتراكية السابقة منذ أواخر الثمانينات، خصوصاً بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، ويمكن هنا أن نستذكر تجربة جنوب إفريقيا للعدالة الانتقالية التي استبعدت الانتقام، لأن فتح مثل هذه الصفحة قد يؤدي إلى استشراء العنف الذي سيصاحبه ردود أفعال مضادّة، والعنف يولّد عنفاً، وهكذا، كما أن التجربة المغربية للعدالة الانتقالية وهي من داخل النظام واستمراراً له مفيدة جداً، ويمكن قراءتها بصورة هادئة، حتى وإن كانت الأجواء ساخنة، لأن فيها ما ينفع مثل التجارب الأخرى، وهي ليست للتقليد أو للاستنساخ، بل لاستلهام الدروس والعبر، خصوصاً من وجود بعض المشتركات العامة.
قد يصلح الدرس الكولومبي والأمريكي اللاتيني ودروس أوروبا الشرقية، وجنوب إفريقيا والمغرب لبلدان وشعوب أخرى، ويكون مفيداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف الخاصة بكل بلد، علماً بأن مهمة تحقيق السلام، هي مهمة إنسانية مشتركة وعامة.
ولعلّ مؤتمر الأستانة ولقاء موسكو قد فتحا الطريق أمام مؤتمر جنيف الذي يحتاج إلى خريطة طريق تستكمل ما بدأته مؤتمرات جنيف السابقة، الأول في حزيران (يونيو) 2012، والثاني في كانون الثاني (يناير) 2014، والثالث الذي كان مقرراً بترتيب من محادثات فيينا للسلام ومجلس الأمن الدولي ومبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، على أن تتوافق عليها القوى السورية أساساً، حكومة ومعارضة، ولا بد لها لكي توضع موضع التطبيق أن تحظى بتأييد ودعم إقليمي ودولي.



384
ما الذي تبقّى من المشروع الفلسطيني؟

عبد الحسين شعبان

حين يخصّص مركز الخليج للدّراسات (التّابع لدار الخليج)، مؤتمره السنوي السابع عشر المنعقد في الشارقة، لبحث موضوع "مستقبل المشروع الفلسطيني" وبمشاركة نخبة متميّزة من المفكّرين والباحثين العرب من فلسطين والمغرب والبحرين ومصر والعراق والإمارات وغيرها، فذلك له دلالات عديدة:   
أوّلها- إنّه يستعيد القضية الفلسطينية كمحور للقضايا العربية، خصوصاً وتشهد الساحة العربية اليوم ، بل ومنذ ثلاث عقود من الزمان،  تراجعات مختلفة، لا سيّما لشيوع ظواهر التعصّب والعنف والإرهاب والطائفيّة، تلك التي زادت من الانقسامات والتباعدات والاحترابات العربية الموجودة أساساً، في حين كانت القضية الفلسطينية جامعاً ومشتركاً ومرتكزاً للعمل العربي الموحّد، وإنْ كان بحدّه الأدنى الذي أُطلق عليه "التضامن العربي" الذي بدأ هو الآخر بالتقهقر، والذي طال اليوم الدولة العربية بوجودها ووحدتها باندلاع حروب أهلية ونزاعات مذهبية.
وثانيها-  محاولة  نابهة لردّ الاعتبار للقضية الفلسطينية في الوعي العربي الذي أخذ بالتصدّع، خصوصاً وأنّها تتزامن مع إعلان الأسرى الفلسطينيّين الإضراب عن الطعام في "السجون الإسرائيليّة" وسط حالة من اللّامبالاة على أقلّ تقدير على الرّغم ممّا ترتّبه من مسؤوليّات دولية يمكن استنفارها، لأنّها تتعلّق بالحقوق والقوانين والشرعيّات الدولية التي تنتهكها "اسرائيل" جهاراً نهاراً دون أيّ رادع أو مساءلة.
وثالثها- إنّ توقيت انعقاد المؤتمر يأتي بعد صدور قرارين دوليّين مهمّين : الأوّل عن منظمة اليونيسكو بتاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأوّل) العام 2016 والخاص باعتبار الأماكن المقدّسة في القدس من تراث العرب والمسلمين. وكان هذا القرار قد استكمل بقرار لاحق صدر بعده بعدّة أيّام (26 أكتوبر- تشرين الأول) أدان الانتهاكات "الإسرائيليّة " في الأماكن المقدّسة، وهو القرار الذي وصفه "كرمل شامة هاكوهين" السفير "الإسرائيلي" لدى اليونيسكو  بقوله:  "إنّ هذا القرار هو الأكثر عبثيّة ومكانه الوحيد مزبلة التاريخ" .
أمّا القرار الثاني فكان قد صدرعن مجلس الأمن الدولي بتاريخ 23 ديسمبر ( كانون الأوّل) 2016 والخاص بمنع الاستيطان، إضافة إلى صدور تقرير من منظمة الإسكوا الذي أدان بدوره "الأبرتايد الإسرائيلي" وكان "أنطونيو غوتيرس" الأمين العام للأمم المتّحدة قد قرّر سحب التقرير، فما كان من ريما خلف المديرة التنفيذيّة للإسكوا إلّا أن قدّمت استقالتها.
       إنّ هذه القرارات والأجواء الإيجابية التي خلقتها تستوجب متابعة فلسطينية وعربية ودولية لما لها من جوانب معنوية على حركة التضامن التي
أخذ رصيدها يرتفع خصوصاً في إطار المجتمع المدني الذي خصّص له المؤتمر محوراً خاصّاً ، ويتعلّق الأمر بملاحقة متّهمين صهاينة بارتكاب جرائم أو صدور قرارات من مؤتمرات دولية تدين "اسرائيل" وتدعو لمقاطعتها أكاديميّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، لأنّها تمارس جريمة الأبرتايد . وقد أصبح لحركة التضامن صوت مؤثّر في أوروبا وأمريكا اللّاتينية  وكندا وأفريقيا وآسيا وتحتاج لتفعيل وتوسيع وإسناد.
ورابعها- إنّ القضية الفلسطينيّة لم تعد تهمُّ الفلسطينيّين وحدهم أو العرب فحسب على الرغم من وجود نزاعات إنعزالية وانكفائية لديهم ، فتارة بزعم "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، وأخرى برفع شعار "هذا البلد أوّلاً" وإنّ الفلسطينيّين هم أدرى بشؤونهم، لتبرير تقديم التنازلات.
      لكنّ المشروع الوطني الفلسطيني ليس مشروعاً وطنيّاً خالصاً ، بقدر ما هو مشروع عربي وأممي في الآن، إذْ لا يمكن تحقيق تقدّم وتنمية حقيقيّة ودائمة دون حلّ عادل للقضية الفلسطينيّة، وحتّى الإصلاحات الديمقراطية المنشودة لا يمكن  لها أن تتوطّد  وتترسّخ باستمرار حالة الحرب، كما أنّ قضايا مثل "السلام العالمي" و"حقّ الشعوب والأمم في تقرير مصيرها"، هي قضايا ذات أبعاد إنسانيّة ودوليّة تتعلّق بالتحرّر والحريّة والعدالة. وهي جزء لا يتجزّأ من قواعد القانون الدولي واتّفاقيّات جينيف لعام 1949 وملاحقها ونظام العدالة الدوليّة، لأنّ الفلسطينيّين والعرب والعالم أجمع يواجهون استعماراً استيطانيّاً إجلائيّاً عنصريّاً، وهو محرّم دوليّاً بموجب نظام محكمة روما لعام 1998 والذي دخل حيّز التنفيذ العام 2002، ويعتبر جريمة دوليّة تستحقّ العقاب ولا تسقط بالتقادم.
      وإذا كان جوهر المشروع الصهيوني يقوم على الاستيطان الذي تحوّل مع مرور الأيّام، وخصوصاً منذ قيام "إسرائيل" إلى مشروع تمييز عنصري ونظام أبرتايد بكلّ ما تعنيه الكلمة، فالمشروع الفلسطيني هو نقيضه، لأنّه : يتعلّق بجوهر المسألة الإنسانيّة وحقوق الإنسان.  كما عبّر عنه نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب أفريقي، ورمز التسامح العالمي.
     ولهذه الأسباب فقد كان حاضراً على طاولة البحث والمناقشة في المؤتمر مطالبة بريطانيا الاعتذار عن وعد بلفور (2 نوفمبر - تشرين الثّاني -1917) وتعويض الشعب العربي الفلسطيني بتمكينه من استعادة حقوقه العادلة والمشروعة، مع استذكار اتّفاقيّة سايكس بيكو (1916)، باعتبارهما حدثان دوليّان أساسيّان كان لهما أثر كبير في الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني وامتدّت إلى الوطن العربي بتفكيكه وتفتيته.وهو ما يواجهه اليوم بعد أكثر من قرن من الزمان.


385
ماذا يعني تدويل قضية الأسرى الفلسطينيين ؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عربي

          بدأ أكثر من 1500 أسير فلسطيني بسجون الإحتلال "الإسرائيلي" إضراباً مفتوحاً عن الطعام مطالبين بتحسين ظروف حياتهم. وقد سارعت مصلحة السجون "الإسرائيلية" إلى إتخاذ اجراءات عقابية شديدة، من بينها عزل بعضهم في سجن انفرادي وتهديدهم بترحيلهم إلى سجن النقب الصحراوي.
         ويعتبر هذا الإضراب الأوسع بعد إضراب مايو (أيار) العام 2012 الذي شارك فيه نحو 2500 أسير فلسطيني. وتتمثل أهم مطالب الأسرى في تحسين اتصالهم بذويهم والسماح بالزيارات الدورية وتقريب مدتها وزيادة أوقاتها وتوفير الخدمات الطبية وإطلاق سراح المرضى وذوي الإعاقات وأصحاب الأمراض المستعصية ومراعاة احتياجات الأسيرات وإيصال الكتب للأسرى والسماح بالدراسة لمن يرغب وغيرها.
         ويعتبر يوم الأسير الفلسطيني 17 أبريل (نيسان) من كل عام هو يوم تضامني ومناسبة لتجديد التضامن على المستوى الدولي، لاسيّما التذكير بمأساة الشعب العربي الفلسطيني ومعاناته من الإحتلال. وكان المجلس الوطني الفلسطيني قد أقرّه في العام 1974 ليكون يوماً للوفاء ولشحذ الهمم ودعم الحق في الحرية وتكريم الأسرى على تضحياتهم.
        وعلى الرغم من مئات الآلاف من الأسرى الذي مرّوا بالسجون الإسرائيلية، إلاّ أنّ قضية الأسرى بحاجة إلى معالجات قانونية كجزء من معركة لم تأخذ حقها في هذه الجبهة المهمة، ولا سيّما في الإطار الدولي والدبلوماسي، ف"إسرائيل" التي اعتقلت خلال انتفاضة الأقصى العام 2000 (الإنتفاضة الثانية) نحو 40 ألف معتقل يستمر الآلاف منهم إلى الآن في السجون موزعين على 27 معتقلاً لا تتورع عن ارتكاب أقسى أنواع التعذيب والعقوبات بحقّهم. وتبرر ذلك بأنها تتعامل معهم باعتبارهم "مجرمين" و "مخرّبين" و "إرهابيين"، وبالتالي فهم يستحقون السجن والعقاب، خصوصاً وهم حسب مسوّغاتها "جناة" صدرت الأحكام القانونية بحقّهم، وهي ترفض اعتبارهم "أسرى حرب" كما ترفض تصنيفهم "أسرى سياسيين"، وهدفها هو منع تدويل قضيتهم وإضعاف دور التضامن معهم.
           وثمّة فوارق بين المركز القانوني للأسيرعلى المستوى الدولي عمن قام بارتكاب جريمة أو مارس عملاً إرهابياً أو أي فعل من شأنه أن يؤدي إلى خرق القانون ويستحق عليه العقاب، ومثل هذا الإختلاف في تحديد المركز القانوني للأسير له تبعات قانونية وسياسية وعملانية خطرة للغاية، تبعاً للقانون الإنساني الدولي.
           وعلى الدولة التي لديها أسرى حرب الإمتثال إلى إتفاقيات جنيف الصادرة في 12 أغسطس (آب) 1949 تتويجاً لتطور الفقه الدولي، والتي جاءت بعد اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و 1907 وغيرها من الإتفاقيات والمعاهدات الدولية، وقد تناولت اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة، إضافة إلى البروتوكول الأول الملحق بها الخاص ب : "حماية ضحايا المنازعات المسلحة" الصادر عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف الممتد من العام 1974 ولغاية 1977، موضوع حقوق الأسرى، تلك التي تنتهكها "إسرائيل" جهاراً نهاراً.
           وإذا كانت "إسرائيل" لم تنضمّ حتى الآن إلى اتفاقيات جنيف، إلاّ أنها ملزمة بتطبيق أحكامها، التي هي قواعد آمرة وكما تسمّى باللاتينية  Jus Cogens   أي  قواعد ملزمة وواجبة الأداء، ولا يمكن التذرّع بعدم التوقيع على الإتفاقيات الخاصة بالأسرى للتحلل من الإلتزامات التي ترتبها، لا سيّما وهي تشكل محور القانون الإنساني الدولي.
        وتزعم "إسرائيل" إن المعتقلين هم من المدنيين وهو غير مقاتلين وبالتالي لا تنطبق عليه شروط "أسرى الحرب..."، خصوصاً تلك التي تم تحديدها بالخضوع إلى قيادة عسكرية وحمل السلاح بصورة علنية ووجود شارة مميّزة وارتداء ملابس عسكرية، ولكن هذا المنطق لا يصمد أمام المحاججة القانونية، فهؤلاء المختطفون والمعتقلون في غير سوح             القتال إنما يخضعون لإتفاقية جنيف الرابعة، باعتبارهم مدنيين ويرفضون احتلال وطنهم ويناضلون من أجل حريته واستقلاله طبقاً لمبدأ حق تقرير المصير ولقواعد القانون الدولي.
         يضاف إلى ذلك إن المعتقلين هم "أسرى" بموجب ما تمّ من اتفاقيات أوسلو العام 1993، حيث تمّ الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كسلطة إدارية وسياسية (كيان مستقل) على جزء من أراضي فلسطين، وأصبح سكان هذا الجزء غير خاضعين لسلطات الإحتلال، فكيف يتمّ اعتقالهم من جانب السلطات "الإسرائيلية" في هذه المناطق التي تعتبر تحت سيادة السلطة الفلسطينية.
       إن تحديد المركز القانوني مهم جداً لجهة مطالبة المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته، لاسيّما وإن سلطات الإحتلال قامت باعتقال الأسرى في مواجهات عسكرية أو مداهمات أمنية ليست بعيدة عن صفة الأعمال العسكرية التي تنطبق عليها اتفاقيات جنيف، كما إن تحديد المركز القانوني للأسير يمنع "إسرائيل" من نزع الصفة القانونية عن الأسرى الذين تحكمهم قواعد القانون الإنساني والدولي، وبشكل خاص اتفاقيات جنيف وملاحقها، وبالتالي ينبغي الإعتراف بحقوقهم، خصوصاً وهم يقومون ب "حق الدفاع الشرعي عن النفس" الذي تقرّه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، كما يسعون للتخلص من الإحتلال وما يقومون به من أعمال مقاومة تعتبر مشروعة وتقرّها قواعد القانون الدولي المعاصر.
       وآن الآوان لإضاءة هذه القضية الملتبسة عن قصد من جانب "الإسرائيليين" على المستوى الدولي، لما لها من ارتباطات بالحقوق العادلة والمشروعة للشعب العربي الفلسطيني ككل وحقوقه غير القابلة  للتصرف.







386
المنبر الحر / العروبة والقومية
« في: 20:13 11/05/2017  »
العروبة والقومية
عبد الحسين شعبان

لسنوات غير قليلة استخدم كل ما نعنيه أو نقصده بالعروبة باعتباره "قومياً"، وهو أمرٌ بحاجة إلى توضيح وفكّ اشتباك، فالفكرة القومية كأيديولوجيا شيء، والفكرة العروبية كرابطة إنسانية – اجتماعية وجدانية شيء آخر. إن واقع تطور الفكرة العروبية وضع أمامنا طائفة من المتغيّرات الجديرة بالدراسة والنقد، لا سيّما وأنه لا يمكن الان الحديث عن "فكرة عروبية" أو "قومية عربية" من دون الحديث عن عملية انبعاث جديدة لتيار عروبي تقدمي، بجناحين أساسيين:
الأول: الإيمان بالديموقراطية السياسية دون لفٍ أو دوران،
والثاني: الإيمان بالعدالة الاجتماعية دون ذرائع أو مبررات.
ولا يمكن للتيار العروبي التقدمي أن يحلّق من دون هذين الجناحين، إذْ أن انكسار أحدهما يقود إمّا إلى الدكتاتورية والاستبداد أو إلى الاستتباع وقبول الهيمنة، وبالتالي فإن تعطّل أحد الجناحين سيضرّ بالعروبة وبفكرة الوحدة العربية.
إن فكرة الوحدة العربية مسألةٌ محوريةٌ ومفصليةٌ يشترك فيها على نحو وجداني أبناء العروبة من أقصى الخليج إلى أقصى المحيط وفقاً لشعور تلقائي وعفوي بالانتماء إلى المشترك العربي – الإنساني. ولا يمكن للأمة العربية أو حتى للفكرة الوحدوية العربية أن تتقدما من دون التنمية المستدامة المستقلة.
كما لا يمكن الحديث عن العروبة دون أخذ مفهوم الحداثة بعين الاعتبار، ولا يمكن أن نتحدّث عن دولة عربية منشودة دون الأخذ بفكرة الدولة الدستورية الديمقراطية المؤسساتية، ولن يتحقّق ذلك إلاّ في ظل سيادة القانون ودولة عصرية قائمة على المواطنة الكاملة وعلى مراعاة شروط المساواة والعدالة والمشاركة.
ومثل هذه الحداثة تؤسَسْ على أربعة أركان هي: المدنية والعلمانية والعقلانية والديمقراطية، التي تشكّل محتوى وجوهر أي تغيير اجتماعي، لا سيّما في إطار دولة دستورية عصرية حداثية.
وبالعودة إلى بدايات فكرة نشوء الدولة – الأمة/ الوطن – الأمة تاريخياً، نرى أن فكرة الدولة في أوروبا انطلقت من فكرة الأمة وقامت على أساسها ضمن حدود سياسية معينة، بينما، دولنا العربية الطامحة لتحقيق دولتها العربية الموحدة ما زالت أجزاءً مبعثرةً ومتفرقةً، متفرّعة عن أمةٍ ممزّقةٍ وموزّعةٍ إلى كيانات وكانتونات ودوقيات ما قبل الدولة يتحكّم فيها الإنتماء الديني والطائفي والمذهبي والإثني والعشائري وغيرها.
وإذا كانت الرابطة العروبية قد نشأت وتعمّقت في ظل الشعور بالاستلاب أيام الدولة العثمانية، فإن التعبير عنها سار باتجاهين متباعدين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، خصوصاً في خضم الصراع السياسي:
الأول؛ دعا إلى ضرورة العمل على قيام وحدة عربية فورية شاملة بغض النظر عن سياسات ورغبات الأنظمة، فيما سعى الثاني، إلى قيام اتحاد عربي على أساس التقارب السياسي والاجتماعي، لا سيّما بين الأنظمة، أو إيجاد دولة المركز (القاعدة)، الأساس التي يمكن أن تلتف حولها دول وأقاليم أخرى، لتشكّل دولة الوحدة السياسية والاجتماعية.
ولتحقيق ذلك ظهر فريقان طالب الأول منهما، بقيام وحدة اندماجية فورية دون الالتفات إلى تفاوت الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان العربية، فيما دعا الثاني إلى تعزيز فكرة الدولة القطرية لتكون مركز الدولة الموحّدة المقبلة، ولكنه لاحقاً استمرأ فكرة الدولة القطرية، وأخذ يدافع عنها بأسنانه وأظافره بضراوة لا مثيل لها.
وصاحب ذلك، صراع آخر ظهر على أشدّه بين التيارين الاشتراكي الماركسي واليساري وبين الوحدوي "القومي" العروبي، لا سيّما حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحركة الناصرية، الذين كانوا ميّالين إلى إتمام الوحدة العربية الفورية،وفيما بعد يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السائدة.
أما الحركة الشيوعية والماركسية فقد تبنّت شعار "الاتحاد الفيدرالي" بزعم تهيئة الظروف وتمهيد الطرق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإقامة شكل من أشكال الاتحاد الذي يمكن أن يتعزّز فيما بعد ليصل إلى الوحدة.
يمكنني القول إن كلا الأطروحتين تضمّن جزءًا من الحقيقة، لكنهما كانا على خطأ رئيس أيضاً. فخطأ الحركة الشيوعية كان في التقليل من أهمية شعار الوحدة الجاذب للجماهير، لأن هذه الوحدة بغضّ النظر عن طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية، هي وحدة شعوب، ووحدة الطبقة العاملة في هذه البلدان، وكان على الشيوعيين أن يتبنّوا شعار الوحدة، وأن يبذلوا كل الجهد في سبيل تحقيقه، لأنهم سيكونوا الأكثر مصلحة في إقامة الكيان العربي الكبير والموحّد.
ولكن بحكم تأثيرات أممية وخارجية، وربما بحكم نفوذ بعض "العناصر غير العربية" على قيادات الأحزاب الشيوعية في العالم العربي أو قلّة وعي القيادات الشيوعيّة العربية، فإن اختيارها دفعها للتقليل من أهمية الدعوة لشعار الوحدة وعدم استخدامه كشعار مركزي، علما بأن الحركة الشيوعية العربية تبنّت شعار الوحدة العربية منذ العام 1935، لكنها أهملته في حملة التثقيف الأساسية، مقدّمة القضايا والمطالب الاجتماعية والطبقية عليه.
أما خطأ القوميين العرب ولا سيما الناصريين والبعثيين وهم أكثر الدعاة تمسكاً بوجوب قيام الوحدة، فقد عملوا بعد وصولهم إلى سدّة السلطة بوعي منهم أو دونه على تعميق عوامل التباعد والتنافر بين الدول العربية مما أدى إلى المزيد من التشرذم والانقسام واتّساع هوة الخلاف بينهم، ما ساهم في ترسيخ فكرة قيام الكيانات القطرية باعتبارها "مملكة الخلود".


387
ما بعد مؤتمر الأستانة:
قراءة في البعدين الإقليمي والدولي للأزمة السورية
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

   ظلّت الأزمة السورية  متأرجحة بين العواصم الدولية والإقليمية، انعكاساً لما يجري على الأرض، وكان من مخرجات ما بعد حلب أن يحدث نوعاً من التقارب الإقليمي والدولي، لعقد مؤتمر تحضره الأطراف السورية يبحث في حيثيات الأزمة ابتداءً من ترسيخ الهدنة ومروراً بوقف إطلاق النار وصولاً للحل السياسي المنشود.
   لم يتصوّر أحد قبل انعقاد المؤتمر أن العاصمة الكازاخستانية المعروفة باسم "الأستانة"  والتي كان اسمها سابقاً "آلما أتا" ستكون محطّة لحوار بين السوريين أولاً وهم الذين رفضوا الجلوس إلى جانب بعضهم البعض على طاولة مفاوضات لتسوية سلميّة للنزاع المندلع منذ 15 آذار (مارس) العام 2011 والذي اتخذ طابعاً عسكرياً وعنفياً بعد بضعة أسابيع، واستمرّ منذ ذلك اليوم ولحد الآن، خصوصاً بتبادل اتهامات مستمر، فالمعارضة حاولت "أبلسة" الحكومة، وسعت لشلّ مؤسسات الدولة، ومن جهة ثانية نظرت الحكومة إلى المعارضة باعتبارها جزءًا من مؤامرة دولية تستهدف سوريا، وبين هذا وذاك استمرّ القتال وتعطّلت التنمية، وانحسرت سيطرة الدولة على العديد من المناطق التي خرجت عن سلطتها، وعمَّ الدمار بمختلف أشكاله في جميع أنحاء سوريا.
   ودفع الشعب السوري الثمن باهظاً، ليس فقط بآلة الإرهاب والعنف وانعدام الأمن والأمان والحياة الطبيعية فحسب، بل من خلال عمليات نزوح ولجوء شملت أكثر من 8 مليون سوري ، إضافة إلى تخريب مدن بكاملها، وتحطيم بُنيتها التحتية، وتعريض بيئتها وأراضيها للتصحّر، وتعثر الزراعة والصناعة كليّاً أو جزئياً، كما سادت الفوضى العديد من المناطق، وهيمنت الجماعات الإرهابية على نحو ثلث الأراضي السورية، وأصبحت الرّقة عاصمة لـ"داعش"، الذي فرض على المناطق التي تحت هيمنته نمط حياة أقرب إلى التوحّش، تعود إلى القرون الوسطى، وفي تعارض كامل مع روح العصر والمدنية والتحضّر.
موسكو وأنقرة وطهران
   جمعت محطّة الأستانة للحوار إضافة إلى السوريين (الحكومة والمعارضة المسلّحة) ثلاث جهات دولية، هم الروس والأتراك والإيرانيون، وهم قوى فاعلة في الملف السوري، وكان يمكن ضمّ السعودية وقطر، وبالطبع الولايات المتحدة إلى حوار الأستانة، لكي تكتمل أطراف الحوار الأساسية، لكن ذلك لم يحدث لأسباب تعود إلى حساسيات الجهات المشاركة وأدوارها في الصراع، فدول الخليج التي دعمت الجماعات المسلّحة وقوى المعارضة وموّلتها، لم يكن في أجندتها وارداً أن يتم الحوار، لذلك اعتبرت أن الأمر لا يعنيها، وشكّكت في أن يصل الحوار إلى نتيجة ملموسة، خصوصاً وأنها كانت قد رفعت أعلى الشعارات رنيناً، بانحيازها ضدّ الحكومة السورية، مراهنة على المعارضة والقوى المسلّحة، إضافة إلى ذلك أن الذين برزوا في هذا الحوار هم المعارضون المسلّحون على الأرض، وليس الجماعات السياسية "الخارجية"!.
   أما إيران فقد رفضت حضور السعودية، كما لم ترغب بحضور الأمريكان، في حين كان الروس يميلون إلى حضور السعودية وجميع الأطراف الدولية ذات التأثير في الملف السوري، بهدف استكمال النّصاب - كما يُقال - خصوصاً لجهة العلاقة بحضور الأمريكان الذين ظلّوا متردّدين في الحضور. وبغض النظر عن كون الأطراف الدولية الغائبة منحازة كلّياً إلى جانب المعارضة والجماعات المسلّحة، وأن غيابها بلا أدنى شك سيؤثر على الاتفاق الشامل للحلّ، لكن ثمة استدراكات، فواشنطن أعلنت أنها تقف ضدّ الإرهاب وتسعى للقضاء على "داعش"، ولم تعد تطرح مسألة رحيل الرئيس الأسد عن السلطة، الأمر شجّع بعض أطراف المعارضة السياسية على المشاركة في لقاء موسكو التكميلي بعد أن كانت تشكّك بجدوى مؤتمر الأستانة، ناهيك عن قوته الإلزامية، وقد كانت مبادرة موسكو استدراكية أيضاً بهدف سدّ النقص في مؤتمر الأستانة والتعويض عنه بلقاء المعارضة وزير خارجيتها سيـرغي لافروف في موسكو بعد مؤتمر الأستانة .
   لقد كان اختيار الأستانة مكاناً لانعقاد المؤتمر ما يبرّره، فهي مقرّبة جداً من موسكو، مثلما هي في الوقت نفسه مصدر ثقة بالنسبة لواشنطن، الأمر الذي أضفى على المؤتمر أهمية خاصة، لا سيّما وأن كازاخستان ترغب في لعب دور الوسيط، وقد ساهمت في التقارب بين موسكو وأنقرة، وهي إحدى الجمهوريات السوفييتية المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي بعد انحلاله، وذلك حين قرّرت الاستقلال في كانون الأول (ديسمبر) في العام 1991، بعد أن كانت منذ العام 1917 "جمهورية سوفيتيية".
دبلوماسية ما بعد حلب و"المناطق الآمنة"
   لقد فتحت استعادة الحكومة السورية سيطرتها على حلب، وإخراج المسلّحين وهزيمة الإرهابيين، الباب أمام حركة دبلوماسية سريعة وكثيفة بشأن الحلّ السياسي، خصوصاً وأن الحل العسكري أو الأمني لم يكن بإمكانه إنهاء الصراع في سوريا، فلم تتمكّن الدولة حتى الآن من القضاء على المجموعات الإرهابية والمسلّحة، أو إنهاء المعارضة، فضلاً عن الدعم الإقليمي والدولي، والتسليح والتجهيز والتمويل.
   كما لم تتمكّن المجموعات الإرهابية والمسلّحة ومن ضمنها المعارضة، من الإطاحة بنظام الحكم، حتى وإن أضعفوا الدولة، لكن تماسك الجيش ووجود نواة صلبة ملتفّة حوله، حال دون الانهيار، وذلك بمساعدة إقليمية - دولية، منها الدعم اللوجستي الذي قدّمه حزب الله اللبناني، إضافة إلى الدعم الإيراني المتعدّد الوجوه عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، يضاف إلى ذلك الدعم الروسي العسكري، وخصوصاً من خلال الضربات الجويّة التي كانت مؤثّرة جداً في إلحاق هزيمة بالقوى الإرهابية التكفيرية، الأمر الذي غيّر من موازين القوى بين الفرقاء المتنازعين في الأزمة السورية.
   لكن القوى الإرهابية والمسلّحة وبقية قوى المعارضة لم تفلظ أنفاسها، وإنْ انحسر دورها وتمزّقت وحدتها، إلاّ أنها ما تزال عنصر مشاغلة وتهديد وورقة بيد القوى الدولية التي تبحث عن موطىء قدم لها في سوريا، بعد أن فشلت في الإطاحة بالدولة، فعلى الأقل قد تجد فرصة في "مناطق آمنة" Safety Zone أو Safety Area واختراقات محدودة، لكي تبقى بؤرة توترات مستديمة ومستمرة ومصدر إزعاج مستقبلي .
   وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اقترح بعد مؤتمر الأستانة، إقامة "مناطق آمنة" لإيواء النازحين واللاّجئين، وتقديم المساعدات الضرورية لهم، وأبدى وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف استعداد موسكو مناقشة الفكرة شريطة التنسيق مع دمشق وموافقتها، وجاء ردّ الفعل السوري سريعاً على لسان وزير الخارجية وليد المعلم، الذي حذّر من تداعيات خطيرة قد يسفر عنها تحقيق هذه الفكرة دون التنسيق مع الحكومة السورية، لأنه سيؤدي إلى المساس بالسيادة الوطنية. وكانت دمشق قد رحّبت بنتائج مؤتمر الأستانة، واعتبرت وقف إطلاق النار خطوة تمهيدية للحوار السوري - السوري .
   ويعيد مفهوم المناطق الآمنة إلى الأذهان القرار الذي اتخذ بشأن الملاذ الآمن في شمال العراق، لا سيّما بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 688 في 5 نيسان (أبريل) 1991، الذي أدان القمع الذي يتعرّض له المدنيون العراقيون في أجزاء كثيرة من العراق، والذي شمل مؤخراً المناطق السكانية الكردية، وتُهدّد نتائجه السلم والأمن الدوليين في المنطقة ، وهو مسألة ترفضها الحكومة السورية بشدّة، لأنها تدرك أن وجود مثل هذه المناطق ودون الاتفاق معها يعني ثلم جزء من سيادتها، وهو الأمر الذي ارتبط بفرض الحصار على العراق، الذي استمر أكثر من 12 عاماً، وكان ذلك تمهيداً لغزوه.
   وعلى الرغم من الغموض والإبهام فيما يتعلّق بإقامة المناطق الآمنة في سوريا وجوارها، فإن الرئيس ترامب زادها غموضاً والتباساً خلال مهاتفته الملك سلمان بن عبد العزيز "ملك المملكة العربية السعودية"، لا سيّما حين عوّم المسألة وعمّمها بشموله دول الجوار الإقليمي. وإذا كان الأمر يتعلّق بالنازحين واللاجئين السوريين، فمن باب أولى التنسيق والتعاون مع دمشق التي تشترط موافقتها على أي منطقة آمنة لأغراض إنسانية. أما إذا كان الأمر يمتد إلى جوار سوريا (عمان وبيروت وأنقرة) حيث الكثافة الكبيرة للاجئين السوريين، فيقتضي موافقة حكومات هذه البلدان.
   وبالعودة إلى سوريا كيف سيتمّ اختيار المناطق الآمنة؟ ومن سيديرها؟ وكيف ستتكفّل الجهات الدولية تقديم المساعدة لها؟ وهل ستكون الدول الضامنة لمؤتمر الأستانة الدور الأساسي فيها؟ وكيف سيتم التنسيق مع الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية الأخرى؟ هذه وغيرها أسئلة تحتاج إلى تفاهمات مسبقة، تتم مع دمشق، خصوصاً وأن هناك رؤى مختلفة ومتعارضة إزاء موضوع إدارة المناطق، فـ"وحدات الحماية الكردية" تعمل بالتعاون مع قوات التحالف الدولي "الأمريكي" باسم "قوات سوريا الديمقراطية" وهناك مناطق تابعة للجيش التركي في وسط منطقة جرابلس، حيث يوجد فيها الآن، مثلما هناك مناطق تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، مثل "جبهة فتح الشام"، و"داعش" وغيرها، مثل إدلب والرّقة، فكيف سيتم التعامل معها؟
   لقد اضطرّت القوى المعارضة، إضافة إلى الجماعات المسلّحة - دون أن نُدخل في حسابنا الجماعات الإرهابية والتكفيرية، سواء "داعش" أو "جبهة فتح الشام" أو أخواتها - إلى القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، والأمر يتعلّق أولاً باختلال موازين القوى على الأرض، ولا سيّما بعد خروجها من حلب، بل إنها كانت في حالة تراجع وتقهقر مستمرين، وثانياً أصبح واضحاً وبعد نحو 6 سنوات أن القوى الدولية الإقليمية تهمّها مصالحها، وأنها غير معنية باستمرار الحرب الأهلية حتى لو تم تدمير كامل سوريا، فذلك إحدى أهدافها، وسيكون المستفيد الأول منها "إسرائيل" والصهيونية، وثالثاً أن الضغوط التي تعرّضت لها من جانب تركيا أجبرتها على قبول الحوار مع الحكومة السورية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وربما ساعد ذلك في دفع العملية السياسية.
   وقد يكون للداخل التركي انعكاساً إيجابياً على الأزمة السورية، "فربّ ضارّة نافعة" - كما يُقال - خصوصاً بعد تعرّض النظام التركي لهزّة عميقة إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز (يوليو) العام الماضي 2016 ، والتي لا تزال تداعياتها مستمرّة حتى الآن، وتواجه سياسة تركيا الإقليمية تحدّيات عديدة، إضافة إلى ردود فعل داخلية وخارجية، فالانقلاب ترك ندوباً وآثاراً على الدولة التركية، بل وصورة تركيا التي تم رسمها على نحو إيجابي في السنوات الخمسة عشر الماضية، باعتبارها تمثل نموذجاً "للإسلام المعتدل" و"الدولة المدنية" والحداثية، وهو الأمر الذي أصبحت الشكوك بشأنه تكبر، ليس في الغرب فحسب، بل في دول الإقليم، بسبب تدخلاتها من جهة، وفي الداخل التركي أيضاً حيث يتخذ الصراع طابعاً عنفياً.
   وكانت مفاوضات الأستانة (كانون الثاني/ يناير/ 2017)، قد شملت قضيتين أساسيتين تم الاتفاق عليهما وهما:
   - تثبيت الهدنة
   - وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سوريا.
   أما المرحلـة الثانية من المفاوضات فستـبدأ في شباط (فبرايـر) 2017، حيث سيتم عقد جولة جديدة في إطار الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سلمي، استمراراً لجنيف 1 و2 و3 .
   وإذا كانت نتائج مؤتمر الأستانة الأولية خطوة بالاتجاه الصحيح، فهل سيكون التوصل إلى خريطة طريق ممكناً بعدها، ولا سيّما بغياب واشنطن أم أن الدور الروسي، إضافة إلى الدور الإقليمي، ولا سيّما التركي والإيراني كفيل بذلك؟ وحتى لو لم تكن تركيا ممثلة للأطراف الغائبة، فإن مثل هذا الاتفاق سيكون عاملاً مهماً في الحملة المناهضة للإرهاب وكما قال الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب: إن مكافحة الإرهاب هي من أولوياته، بالتناغم مع الدور الذي تلعبه واشنطن في العراق ضدّ "داعش"، حيث تقود قوات التحالف الدولي لتحرير الموصل، بالتعاون مع القوات العراقية.
مشاريع الدستور
   ثمّة أسئلة ضرورية لبحث حيثيات الأزمة السورية ومنها: هل يحظى مؤتمر الأستانة بالإجماع، بعد أن غابت عنه المعارضة السياسية؟ أم أنه "بروفة" أولية تبعها لقاء لافروف بالمعارضة السورية؟ ولعلّ مثل هذا اللقاء التكميلي مهم لجهة عقد مؤتمر جنيف القادم. وكانت روسيا قد دعت على لسان لافروف: التحلي بالصبر لدى تشجيع المعارضة السورية على المشاركة في مفاوضات السلام، وكان هو ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف قد دعيا إلى الاستفادة من تجربة الأستانة لتفعيل عملية السلام.
   وقد برّرت بعض القوى السياسية المعارضة غيابها عن لقاء لافروف بالصفة الشخصية للدعوة (قائمة الرياض - الهيئة العليا للمفاوضات)، وقال فريق آخر: "قائمة موسكو"، و"قائمة القاهرة" و"قائمة الداخل"، وممثّل عن الكرد وآخرين، أن المعارضة ستشكّل فِرقاً لصياغة الدستور السوري الجديد والمقترح، وذلك على هامش لقائهم بوزير الخارجية الروسي، ويأتي مثل هذا التوجّه بعد أن أعدت وزارة الخارجية الروسية مسوّدة مشروع لدستور جديد، أساسه توسيع صلاحيات البرلمان على حساب صلاحيات الرئيس ومنع تدخّل الجيش في المجال السياسي، وتأكيد سمو القانون الدولي في النظام القانوني السوري.
   وكان لافروف قد دعا المعارضة إلى المشاركة النشيطة في ترتيب عملية تفاوضية مستدامة من أجل تسوية الأزمة السورية في جنيف، بالتعاون مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، علماً بأن هناك مسوّدة كردية لمشروع دستور سوري أعدّها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وسلّمها لوزير الخارجية الروسي، وذلك بتوسيع صلاحيات الأقاليم اللاّمركزية، علماً بأن المسودّة الروسية ترفع اسم "العربية" من الجمهورية العربية السورية، وترفع صفة دين الدولة "الإسلام"، وهو النص الذي تتضمنه جميع دساتير البلدان العربية تقريباً، وتسمح الصيغة المقترحة بإمكانية تغيير الحدود بواسطة الاستفتاء واعتبار اللغتين العربية والكردية متساويتين في مناطق الحكم الذاتي الثقافي الكردي.
   وبرّرت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا اقتراح مشروع دستور على الأطراف السورية، بقولها: "إن موسكو لا تحاول فرض أفكار ما على أحد، إنما يكمن الهدف من مبادرتها في تحفيز النقاش بين السوريين" .
    والسؤال الآن: ماذا بعد الأستانة؟ وماذا بعد لقاء موسكو مع المعارضة السورية؟ هل سيكون بالإمكان توفير أرضية صالحة وخصبة لمؤتمر جنيف برعاية الأمم المتحدة؟ والجواب هو ما عبّر عنه الروس من رغبة يمكن الاستدلال عليها من استضافتهم المعارضة السورية، وكان الهدف واضحاً هو استكمال مؤتمر الأستانة تمهيداً لعقد مؤتمر جنيف.
ميزان القوى الجديد
   إن التطوّرات الجديدة والتبدّل في موازين القوى قد يسهم في تغيير أو تعديل توجهات بعض أجندات المعارضة، لا سيّما إذا حصل نوع من التفاهم الروسي - الأمريكي، بعد التوافق الروسي - التركي، على الرغم من وجود بعض المنغصّات الدولية الأخرى، وذلك غير دول الخليج وتردّد الولايات المتحدة، ونعني به تحفّظات فرنسا وألمانيا التي لم يحظ مؤتمر الأستانة برضاهما، كما كان دور الأمم المتحدة فيه محدوداً، ولعلّ من أسباب نقد بعض القوى للمؤتمر، أنه انعقد في رحاب مدينة محسوبة على موسكو التي لها دور مؤثّر في قراراتها.
   وإذا كان ثمّة أسباب داخلية دفعت تركيا إلى المشاركة الفاعلة في مؤتمر الأستانة، فإن هناك أسباباً أخرى منها مشاكل المهجرين واللاجئين السوريين وعدم إيفاء أوروبا بوعودها والتزاماتها، وهو ما كانت تركيا تريد به ابتزاز أوروبا، فضلاً عن محاولتها محاصرة حزب العمال الكردستاني PKK، الذي لا زال وجوده يؤرقها، فهي حتى الآن لا تعترف بحقوق الكرد القومية، وتتخذ موقفاً استعلائياً وشوفينياً من القضية الكردية ومن قضايا المجاميع الثقافية الأخرى، يضاف إلى ذلك أن حزب العمال الكردستاني لا يقتصر نفوذه السياسي والعسكري داخل تركيا، بل إنه يتمدّد داخل الأراضي السورية، ولا سيّما في عفرين والقامشلي، وكذلك داخل الأراضي العراقية في جبل قنديل.
   وقد تمكّن مؤخراً من فرض سيطرته على قضاء سنجار، الأمر الذي حاولت تركيا أن تضغط فيه على إقليم كردستان وعلى حكومة بغداد، بل أعطت تعهداً بانسحاب قواتها من العراق، بعد أن كانت تتمنّع عن مثل هذا الالتزام وتتذرّع بأن أولوياتها محاربة القوى الإرهابية التي تشنّ عليها حملات من داخل الأراضي العراقية، وبالمقابل فقد تعهّدت إربيل وبغداد بمواجهة حزب العمال الكردستاني وإبعاده عن سنجار، حتى وإنْ لم يتمكنا، لا سيّما وأن المعركة مع "داعش" لم تحسم، ولا يمكن الدخول في معركتين في آن واحد.
   وبغض النظر عن اختلاف التقييمات بخصوص مؤتمر الأستانة، فإنه نجح حتى الآن في تثبيت وقف إطلاق النار، وهذه خطوة لصالح الحكومة السورية التي سيكون بمقدورها إعادة الانتشار وإعادة السيطرة الإدارية على مناطق البلاد التي أفلتت من قبضتها خلال السنوات الخمس ونيّف الماضية من الحرب، وقد يقلّص من قدرة المعارضة والجماعات المسلحة التي أصبحت الممرّات أمامها مغلقة، ويمكن استهدافها فرادى، علماً بأن هدف الإيرانيين والروس هو الشروع بالتفاوض الطويل الأمد، خصوصاً بتقوية مواقع الجيش السوري.
   وإذا كان ثمة اختلافات في الرؤية بين الإيرانيين والروس، فإن إيران التي ساهمت منذ البداية في دعم الحكومة السورية، لا تريد تجيير ذلك لمصلحة الروس، كما أن الروس الذين كان لهم دور حاسم في ضرب مواقع الإرهاب والجماعات المسلّحة، ولا سيّما في معارك حلب، لا يريدون الخروج من المشهد دون وضع بصمتهم الواضحة عليه، ويعتبرون سوريا حليفة لهم بدءًا من الحكومة، مثلما هي بعض أطراف المعارضة التي يستميلونها، ولذلك يطمحون في إجراء تقارب بينهما لتتمكّن روسيا أن تلعب دور مستقبلي في سوريا وعند أي تغيير محتمل أيضاً.
   أما تركيا، فإن وضعها الخاص سيتوضّح لاحقاً، لا سيّما في جنيف، فيما إذا كانت قد قرّرت التخلّص من عبء علاقتها بالجماعات المسلحة والمعارضة، بل يمكن أن تذهب أبعد من ذلك، حيث يمكنها التطبيع مع الحكومة السورية بعد أن اختل ميزان القوى لصالح استمرار النظام برئاسة بشار الأسد.
   واللاّفت في مفاوضات الأستانة أن الذي مثل المعارضة المسلّحة، هم ممن لهم فعل على الأرض، وليسوا من معارضة الخارج، في حين أن اللقاءات السابقة ضمّت مجاميع سياسية معارضة، لكنها لا تملك رصيداً قوياً على الأرض، وخصوصاً في الجانب العسكري.
بيان الأستانة
   وكان البيان الختامي لمؤتمر الأستانة قد حدّد الوجهة العامة التي يمكن أن ترضي الحكومة والمعارضة، وذلك بتأكيده على :
1 - الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية (أي إبعاد فكرة التقسيم التي يتم التلويح بها) من جانب القوى الخارجية وبعض الجماعات المسلحة والمعارضة أحياناً.
2 - إن سوريا دولة متعدّدة الأعراق والأديان وغير طائفية وديمقراطية (وهذه أطروحات جديدة كانت المعارضة تدعو إليها، ووافقت عليها الحكومة السورية).
3 - تأكيد محاربة "داعش" وجبهة "فتح الشام"، باعتبارهما تنظيمين إرهابيين وهو اشتراط للحكومة السورية مدعوماً من إيران وروسيا، وتفريقهما عن بقية المنظمات المسلّحة، أي إجراء فرز بين الجماعات والقوى المناهضة للحكومة السورية، وهو بقدر ما يأتي لصالح الحكومة السورية، فإنه يتطابق مع طموح الشعب السوري والقوى الإقليمية والدولية في التخلص من الإرهاب، فضلاً عن انسجامه مع طموح بعض المعارضات المسلّحة التي تريد تمييز نفسها عن الجماعات الإرهابية والتكفيرية.
4 - التأكيد على قرار مجلس الأمن 2336، الذي صدر في 31 كانون الأول (ديسمبر)  2016، حيث كان وزراء خارجية كل من تركيا وإيران وروسيا قد أصدروا بياناً مشتركاً في موسكو في 20/12/2016 أكّدوا فيه على "إطلاق محادثات بين حكومة الجمهورية العربية السورية ومجموعات المعارضة المسلّحة في الأستانة...".
5 - تأكيد الأطراف المشاركة على الحل السياسي، باعتباره الحل الوحيد من خلال عملية سياسية مبنية على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بالكامل ، واستبعاد الحل العسكري على نحو صريح وواضح، وهو وإنْ كان إقرار بواقع أليم جاء بعد نحو 6 سنوات، لكنه يمثل روح القرارات الدولية والقوى الحليفة للحكومة السورية، لا سيّما بعد أن أحرزت نجاحات عسكرية على الأرض.
6 - تثبيت وتقوية نظام وقف إطلاق النار من خلال ترتيبات متفق عليها، وبدعم من قرار مجلس الأمن 2336 لعام 2016، بما يساهم في تقليص العنف والحد من الانتهاكات وبناء الثقة وتأمين وصول سريع وسلس ودون معوّقات للمساعدات الإنسانية تماشياً مع قرار مجلس الأمن 2165 لعام 2014 وتأمين الحماية وحريّة التنقّل للمدنيين في سوريا .
   وأعتقد أن ذلك لو حصل وتم الالتزام به سيفتح الباب أمام عودة الحياة الطبيعية وسيضغط على جميع الأطراف من أجل إنجاز تسوية من شأنها إعادة هيبة الدولة وإخضاع الجميع لسلطانها مع إجراء التغييرات المطلوبة للانتقال الديمقراطي.
   وإذا كان الوفدان السوريان قد تباحثا من خلال غرفتين منفصلتين وعبر وسيط، حيث كان دي ميستورا وممثلين من الوفد الروسي والتركي، فإن المباحثات القادمة ربما ستشهد حواراً تمهيدياً مباشراً أو شبه مباشر، ولكن أكثر قرباً وتواصلاً وقد تتبدّل بعض المواقع.
   وصدر البيان عن الدول الثلاث الضامنة ، الذي أكّد في إحدى فقراته على هدف محاربة الإرهاب (داعش والنصرة)، وهو أمر سيكون ملزماً لهذه الدول بالطبع.
مصارعة على الطريقة الرومانية
   أوجدت محطة الأستانة إطاراً جديداً للمفاوضات، وهي مختلفة عن مفاوضات جنيف، وإن كانت لا تتعارض معها، لكنها خطوة متقدمة عليها، وخصوصاً بتأكيد فشل الحل العسكري والتركيز على الحل السياسي، باعتباره الحل الوحيد لتسوية الأزمة، لا سيّما وأن جميع الأطراف أنهكتها الحرب التي استمرّت، وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية التي قد توصل أحد الطرفين المتصارعين إلى الموت، في حين أن الطرف الآخر قد يبلغ به الإعياء والإنهاك حد العجز الذي هو أقرب إلى النهاية، وقد كان لتغيير الموقف التركي أثر بالغ في تحقيق الهدنة بين الحكومة والمعارضة.
   وسيكون موضوع الدستور السوري واحداً من القضايا المعروضة للنقاش، فيما إذا نجحت الأطراف في إرساء دعائم وقف إطلاق النار والشروع بالاتفاق حول مستقبل العملية السياسية والتغيير المنشود طبقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي. وإذا كان هدف التوصل إلى حلّ سياسي، قد أجمع عليه المتفاوضون، فإن ذلك لن يتحقّق دون خطوات عملية لوقف إطلاق النار، وهذا يمكن أن يتم إذا ما شعرت الأطراف جميعها أن مرحلة انتقالية بعيدة المدى تنتظر سوريا، وأنها يمكن أن تتبلور وفقاً لصيغة اتفاقية ورضائية مكفولة دولياً.
   لقد لعب الدعم الروسي دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى لصالح الحكومة السورية، كما كان للتقارب التركي - الروسي مؤخراً، أثراً إيجابياً في تقريب وجهات النظر، سواء بالتحضير لمؤتمر الأستانة أو لإقناع المعارضة المسلّحة بالحضور والمشاركة، وقد عكس لقاء موسكو للدول الضامنة ذلك بالدعوة إلى ضرورة عقد مفاوضات سياسية بين الأطراف السورية - السورية، أي بعد نجاح وقف إطلاق النار وتحقق شروط الهدنة والالتزام بها، وبهذا المعنى فإن الأطراف الثلاثة استبعدت الحل العسكري كليّاً وهو تطوّر جديد في الأزمة السورية، خصوصاً إذا ما تم الالتزام به.
الأزمة استثنائية والحلّ الاستثنائي
   كان حضور الحكومة والمعارضين السوريين إلى الأستانة يعني فيما يعنيه الخروج من معطف جنيف الذي حاولت القوى الدولية إلباسه للسوريين (حكومة ومعارضة) برعاية الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه فإن هذا الخروج ليس إلى فراغ، بل إلى رعاية روسية أساسية وإن كانت ليست معارضة لاتفاقات جنيف، لكنها أكثر واقعية وقدرة على التنفيذ من خلال التوافق الدولي - الإقليمي (روسيا - تركيا).
   ربّما كانت القراءة الأولى لمؤتمر الأستانة باعتباره تحدّياً روسياً للمجتمع الدولي، لكن دخول تركيا وتأثيرها على المعارضة، أعطاه أهمية استثنائية، ولا يمكن إنجاح أي حلّ في سوريا إلاّ إذا كان استثنائياً، فالأزمة استثنائية وتتطلّب حلاًّ استثنائياً، وأعتقد أن وضع مسودة تنفيذ القرار 2254 الصادر في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015 عن مجلس الأمن الدولي ستكون الخطوة الأساسية لنجاح أي اتفاق لاحق، وقد نصّ هذا القرار على "أن الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد"، ودعا إلى "تشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، كما طالب بوقف الهجمات ضدّ المدنيين بشكل فوري، وقد تمّ التصويت عليه بالإجماع (15 دولة عضو في مجلس الأمن).
   الجديد في الأزمة السورية الراهنة هو الضمانة الروسية التي تمكّنت من حل بعض العُقد أمام مؤتمر جنيف في شباط (فبراير) 2017، يضاف إلى ذلك فصل المعارضة المسلّحة عن الجماعات الإرهابية مثل "داعش" و"حركة أحرار الشام الإسلامية" و"جيش الإسلام" و"الجيش الحرّ" وغيرها، وهذه خطوة مهمّة.
   ولكن تبقى هناك عقبات جدّية ما بعد الأستانة أهمها: تحديد المشاركين باسم المعارضة ويطمح الروس أن تشارك جميع القوى الفاعلة، خصوصاً وأن بعضها قد غاب عن الحضور، وتمثيل الأكراد الذين لديهم حضور في المناطق الشمالية ويديرونها ذاتياً، وكيف سيكون الأمر في المستقبل، أي العلاقة بين المركز والأقاليم أو الأطراف، خصوصاً وأن مطالب عديدة أخذت تتبلور في أوساطهم تدعو إلى الفيدرالية أو الحكم الذاتي أو اللاّمركزية، وكلّها تبدي اعتراضاً على فكرة الدولة المركزية البسيطة، التي عرفتها سوريا منذ استقلالها، وأخذت تروج بدلاً عنها فكرة الدولة اللامركزية والمركّبة، فهل نحن بصدد نظام لا مركزي؟ وأين حدود صلاحيات المركز والأقاليم؟ وهل هي إدارية أم قومية؟ وحسب المصطلح المستخدم "الثقافية"؟ ووفق أي الاعتبارات سيتم تحديدها؟ وعلى أي النسب السكانية سيتم تقريرها؟ وهذه أسئلة تحتاج إلى أبحاث مستفيضة وتراضٍ وتوافق استثنائي وتاريخي في الوقت نفسه، وقد تكون المفاوضات فيها مضنية.
   ولعلّ هذه الإشكالات الاستثنائية تحتاج إلى حلول استثنائية وتنازلات متبادلة من جميع الأطراف، كما أن الأطراف الكردية غير متفقة مع بعضها البعض، علماً بأن موسكو تريد مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي وشخصيات قريبة من النظام وأخرى محسوبة على محور القاهرة، في حين ترى أنقرة ضرورة مخاطبة الهيئة العليا للمفاوضات وهي ترفض دعوة الأكراد، الأمر الذي يحتاج إلى مرونة من جهة، مثلما يحتاج إلى وضوح وأفق لكي لا تُخلق بؤراً جديدة للتوتر والصراع أو تُبقي عليها، بحيث تنفجر في أي وقت.
   وإذا كان الموقف التركي قد تغيّر تماماً، وانتقل من حالة الرفض لأي مفاوضات لا تحدّد مصير الرئيس الأسد، إلى مفاوضات قد لا تتطرّق إلى ذلك مراعية مصالحها السياسية والاقتصادية وأوضاعها الداخلية، فإن للنجاحات التي أحرزها الجيش السوري وتراجع القوى المسلحة في مناطق عديدة، وخصوصاً في منطقة الباب وحلب دور كبير في ذلك، ناهيك عن فتور علاقات تركيا مع الناتو وضيق صدرها من الولايات المتحدة التي اتهمتها ولو لم تسمّيها بالاسم، بالتحريض على الانقلاب الفاشل ودعم فتح الله غولن، وقد يكون لتولي الرئيس دونالد ترامب أثر كبير في مجريات الأحداث في سوريا بغض النظر عن مواقفه الأخرى، والأمر قد يكون له صلة بالعلاقة الروسية - الأمريكية.
   ولعلّ أهم نتائج مؤتمر الأستانة على الصعيد الدولي والإقليمي هو إنشاء إطار ضامن وأوكل له مهمّة أساسية معلنة بوضع آليات لمراقبة وقف إطلاق النار، وذلك بعد أن تمكّن اللاّعب الروسي، الإمساك بالملف السوري، خصوصاً بعد قرار إدارة أوباما، التراجع إلى الخلف لانشغالها بملفات داخلية وإبداء تركيا استعدادها لجلب المعارضة المسلحة للأستانة مع تخلّيها عن فكرة تنحية الرئيس الأسد.
   هكذا أصبحت موسكو هي الضامنة، وليست طرفاً في الصراع كما كان المعارضون المسلحون يتهمونها، بل أدانوها بارتكاب مجازر عديدة في المناطق التي تحت سيطرتهم، وهذا يعني أنها أصبحت مقبولة كطرف حيادي يرعى مؤتمراً لتثبيت وقف إطلاق النار، ثم سيضمن مراقبة ذلك. وسيكون لها وفقاً لهذا التقدير دور مستقبلي قد يصبح كبيراً أكثر مما هو عليه للوصول إلى تسوية شاملة، فيما إذا سارت الأمور حسب ما هو معلن ومقرر.
خريطة الطريق الروسية
   وحسب ما ترشّح، فإن لدى الروس أربع حلقات أساسية لحل الأزمة السورية، وقد تلتقي معها كلياً أو جزئياً إيران وتركيا، وخصوصاً بعد نتائج مؤتمر الأستانة، ولحين تبلور رؤية أمريكية جديدة في عهد ترامب، فإن هذه الخطة ستأخذ مجراها إلى التطبيق ويعتمد نجاحها على دفع اللاّعب الأمريكي بوقت لاحق للتعاطي مع المشروع الروسي.
   الحلقة الأولى للخطة الروسية، تقوم على إرساء وقف إطلاق النار بشكل حقيقي في المناطق المتنازع عليها بين الحكومة السورية والجماعات المسلّحة.
   أما الحلقة الثانية، وقد بدأت خطواتها الأولى بشن حرب تشارك فيها الأطراف المختلفة للقضاء على جبهة فتح الشام "جبهة النصرة سابقاً" وكان من مؤشرات ذلك صراع الجماعات المسلحة مع جبهة فتح الشام في إدلب التي ترافقت مع العمليات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي وموسكو من خلال استهداف مقرّاتها واجتماعات قيادييها، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الحلقة قد تتوسّع لتشمل محاربة "داعش".
   وتقضي الحلقة الثالثة بإقرار دستور جديد لسوريا وقد تمّت الإشارة إلى مشاريع الدساتير المقترحة والمشاريع التي ستعكف على تقديمها قوى المعارضة، وكانت المسوّدة الروسية قد استندت على الدستور السوري الذي تم تعديله العام 2012، وهناك قلق لدى العديد من النخب السورية الحاكمة وغير الحاكمة في أن يكون هذا الدستور صيغة مماثلة أو مقاربة لدستور بول بريمر بخصوص العراق للمرحلة الانتقالية 2004 والذي تم صياغة الدستور الدائم على أساسه لعام 2005، وهو الذي كرّس نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، لكن الروس يؤكّدون أن ذلك يتم بوحي من الأرضية الدستورية السورية نفسها وبأيدٍ سورية، مع ملاحظات حول شكل نظام الحكم وصيغة اللاّمركزية المطروحة فيه .
   وتعتبر الحلقة الرابعة من أهم حلقات الخطة الروسية، وذلك برفع أي فيتو عن أي من المرشحين للرئاسة، ولكن كل ذلك مرهون بنجاح عملية إحلال السلام، وتعاون الأطراف الإقليمية مع موسكو، لا سيّما تركيا وإيران، وبالطبع فإن صيغة البيان الختامي فجّرت خلافات جديدة بين الجماعات المسلّحة والمعارضة، لا سيّما بشأن الدور الإيراني الضامن.
   في الختام يمكن القول إن مؤتمرات السلام التي انعقدت لحلّ الأزمة السورية في السنوات الثلاث الماضية، جميعها بما فيها مؤتمر الأستانة، ساهمت في كسر الحاجز النفسي وتطبيع العلاقات بين القوى المعارضة والحكومة السورية. وإذا كانت المؤتمرات الأولى ضمّت جماعات سياسية مثل "المجلس الوطني السوري - الدوحة" ثم "هيئة الائتلاف الوطني - اسطنبول"، ولاحقاً "الهيئة العليا للمفاوضات - الرياض"، فإن مؤتمر الأستانة مثّل جماعات مسلّحة على الأرض حملت تسميات من قبيل "جيش الإسلام" و"جيش إدلب الحر" و"الجبهة الجنوبية" و"صقور الشام".
تركيا: تسوية الأزمة بدون الأسد أمر غير واقعي
   وإذا كانت تركيا المتعهّد باسم الجماعات المعارضة المسلحة، فإن روسيا ظهرت وكأنها الأقرب لتمثيل الحكومة السورية كقطب أساسي، وإن حظرت إلى جانبها إيران، لكن تحفّظات بعض الأطراف المسلّحة جعلها في المرتبة الثانية، وإذا كان هناك من تبدّل نوعي، فهو يتعلّق بتهميش دور المملكة العربية السعودية وقطر، خصوصاً بعدم حضور المعارضات السياسية المدعومة من جانبيهما.
   ومن التطوّرات المهمّة التي تبلورت عشية وخلال وبُعيد مؤتمر الأستانة أن تركيا التي كانت تصرّ على رحيل الأسد، تخلّت عن هذه الفكرة، وقد عبّر نائب رئيس وزرائها محمد شيمشك في مؤتمر دافوس (سويسرا) ما يؤكّد ذلك حين قال: إن تسوية الأزمة السورية بدون الرئيس السوري بشار الأسد، تعدّ في الوقت الراهن أمراً غير واقعي، وذهب أكثر من ذلك حين أضاف "الأسد يتحمّل مسؤولية معاناة الشعب السوري، لكن يجب أن نكون براغماتيين، وأن ننطلق من الواقع، فالوضع تغيّر جذرياً، ولذلك لا يمكن لتركيا أن تواصل الإصرار على تسوية بدون الأسد، وأنه أمر غير واقعي" .
   صحيح أن مؤتمر الأستانة ركّز على الجوانب العسكرية، المتعلّقة بتثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار، إلاّ أنه فتح الأفق واسعاً بعد انسداد دام لسنوات أمام تسوية سياسية، وهو ما حاول دي ميستورا الحديث عنه، ولا سيّما استئناف مؤتمر جنيف في شباط (فبراير) 2017، أي محاولة إضفاء بُعدٍ أممي على ما جرى في الأستانة، وتبقى الأزمة السورية، سورية بالدرجة الأساسية، وحلّها سورياً أيضاً، مهما كان دور القوى الإقليمية والدولية كبيراً، وهذا الحل الميداني يحتاج إلى خريطة طريق طويلة الأمد، وتفاهمات وشجاعة استثنائية في الوقت نفسه، لأن الهدف هو إعادة بناء سوريا وترميم ما خربته الحرب، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية وتاريخية.
كولومبيا وتجارب العدالة الانتقالية
   وسيكون ذلك ممكناً حين يتم اعتماد قواعد العدالة الانتقالية، مع حساب الخصوصية السورية، تلك التي تقوم على كشف الحقيقة: ما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟ وكيف حصل؟ لتحصين الأجيال القادمة، وذلك دون نسيان المساءلة عمّا حدث مع الأخذ بنظر الاعتبار الابتعاد عن الثأر والانتقام والكيدية، فمثل ذلك سيولّد ردود فعل وانقسامات تزيد من الشروخ الاجتماعية الحاصلة، وهنا لا بدّ من اعتماد مبادىء التسامح، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير الحساسيات والضغائن والفتن ويدخل البلاد في أتون تقسيمات طائفية وإثنية.
   والخطوة الأخرى التي يمكن اعتمادها تقوم على جبر الضرّر، خصوصاً المعنوي بإطلاق أسماء مكتبات وساحات عامة وشوارع وقاعات ومدارس وغيرها على ضحايا يخلّدهم الشعب السوري، وكذلك تعويض الضحايا وأسرهم وجميع المتضررين مادياً ومعنوياً، خارج أي اعتبار سياسي أو قومي أو ديني أو طائفي أو اجتماعي أو مناطقي أو أي اعتبار آخر، ودون أي تمييز، والعمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، التي تعزّز من احترام حقوق الإنسان وحرّياته باعتبارها ركيزة أساسية من الركائز الدستورية التي تقوم على المواطنة الفاعلة، لا سيّما بأجواء من الحريّة التي هي أسمى الحقوق والمساواة والعدالة، وخصوصاً العدالة الاجتماعية والشراكة والمشاركة.
   الأزمة السورية استثنائية والحل استثنائي أيضاً، وإذا كان الهدف هو تحقيق المصالحة الوطنية التاريخية وإعادة لحمة المجتمع السوري، فلا بد من إنهاء جميع تبعات الصراع المسلّح الاستئصالي، الإلغائي، التهميشي، وتحقيق العيش المشترك والتفاهم، وقطع دابر التدخلات الخارجية التي كان لها دور أساسي في إشعال الفتنة واستمرارها. وأول ما تحتاجه المصالحة هو بناء جسور الثقة لوقف التعقيبات القانونية، وإطفاء القضايا المتعلّقة لكل من يلقي السلاح ويستجيب لنداء الوطن والوحدة الوطنية والتحوّل الديمقراطي، وقد جرّبت شعوباً كثيرة مثل هذه الحلول ونجحت في تجاوز أزمتها، ولعلّ آخر الأمثلة كانت التجربة الكولومبية التي استحق عليها الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس جائزة نوبل العام (2016)، وذلك تقديراً لجهوده في تسوية النزاع المسلح في بلاده .
   وكان الرئيس الكولومبي قد اتفق مع الحركة اليسارية (المتطرّفة) التي تُدعى "فارك" بعد مفاوضات مضنية دامت 4 سنوات لوضع حدٍّ لصفحة الصراع المسلح الذي استمر 52 عاماً وأودى بحياة 220 ألف مواطن وساهم في تعطيل التنمية وهدر طاقات البلاد.
لقد كان الاستمرار بالنسبة للطرفين يمثل نوعاً من المكابرة والعبث، فوافقت الحركة على إنهاء الكفاح المسلّح، وإلقاء السلاح وتسليمه إلى الحكومة والتوصل إلى مصالحة مع الدولة وبشروطها، ووافقت الحكومة على التوصل إلى حلول سلمية ومدنية، باستبعاد المساءلة الفورية أو المباشرة، ذلك أن اشتراط تحقيق العدالة كشرط للسلام قد يفضي إلى استمرار الحرب الأهلية، خصوصاً في ظل نفوذ لا يزال يملكه المتمردون، الذين يبلغ عددهم أكثر من 15 ألف مسلح، فكان لا بدّ من اللجوء إلى الوسائل السلمية واللاّعنفية باعتبارها سلاحاً ماضياً للوصول إلى الأهداف المرجوة، حتى وإن ألحق بعض الخسائر بمسألة العدالة القانونية المنشودة.
الاتفاق الكولومبي كان أقرب إلى صفقة سياسية حين وضع السلام مقابل العدالة، مقدّماً الأول على الثانية، لأننا لو أخذنا بمعيار تطبيق مستلزمات العدالة القانونية والقضائية عند الاتفاق، فإن ذلك سيعني ملاحقة أعضاء حركة "فارك"، التي تصل جرائمها إلى جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضدّ الإنسانية، خصوصاً لجهة عدد الضحايا وتدمير المنشآت وإحراق المزارع وإتلاف البيئة وتهجير مئات الآلاف من السكان، وقد يكون بعضها من مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية.
لعلّ التجربة الكولومبية اليوم هي إحدى تجارب العدالة الانتقالية الجديدة، خصوصاً بتقديم السلام على المساءلة، ومن أبرز عناصرها هي: تعهّد قادة الحركة المسلّحة بتسليم أسلحتهم، والامتناع عن زراعة المخدرات وإتلاف ما يوجد لديهم، والتوقف عن الاتجار بها أو بعمليات تهريبها أو القيام بأي خرق لحقوق الإنسان، كما تعهّدوا بتقديم تعويضات (من المال السّحت الذي حصلوا عليه) إلى المزارعين، وأولاً وقبل كل شيء إعلاء حكم القانون ومرجعية الدولة والعودة إلى المجتمع كأفراد مدنيين. وأعتقد شخصياً أن ذلك أمراً في غاية الأهمية.
أُطلقَ على الاتفاق بين الرئيس سانتوس وقادة الحركة المسلحة: العدالة التوافقية أو العدالة البنّاءة، وهي عدالة مؤقتة وانتقالية تشمل جوانب قانونية وأخرى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وهذه تعني حسب حيثياتها: لا معاقبة الجاني وإعادة الحق لأصحابه، بل الاتفاق على تعهّد المرتكب بعدم تكرار ارتكاب جرائم جديدة وإعادة جزء من الحق لأهله، والاعتراف بحق الدولة في استعادة سلطتها، باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحق لها احتكار السلاح واستخدامه.
وإذا كانت شروط العدالة الانتقالية  تقوم على كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرّر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، فإن التجربة الكولومبية، قفزت على النقطة الأولى، وتركت أمرها لتنفيذ الاتفاق، وإذا كان مثل هذا الإشكال يجنّب الشعب الكولومبي الويلات والمآسي التي عاشها لعقود من الزمان، فلا بدّ أن يكون مرحّباً به لعلاقته بالمستقبل وليس بالماضي، فالانتقام والثأر قد يدفع إلى ردود فعل متقابلة، وهكذا.
وكانت التجربة الأرجنتينية في أواخر السبعينات وما بعدها قد سلكت طريق التوافق بإطفاء الحرائق ووقف التعقيبات القانونية بحق المرتكبين، كما سلكت التجربة التشيلية في أواخر التسعينات ذات الطريق، وهما شقّا تجربة جديدة في العدالة الانتقالية، قائمة على فقه التواصل وليس فقه القطيعة، وهو ما سلكته تجربة الدول الاشتراكية السابقة منذ أواخر الثمانينات، خصوصاً بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، ويمكن هنا أن نستذكر تجربة جنوب إفريقيا للعدالة الانتقالية التي استبعدت الانتقام، لأن فتح مثل هذه الصفحة قد يؤدي إلى استشراء العنف الذي سيصاحبه ردود أفعال مضادّة، والعنف يولّد عنفاً، وهكذا، كما أن التجربة المغربية للعدالة الانتقالية وهي من داخل النظام واستمراراً له مفيدة جداً، ويمكن قراءتها بصورة هادئة، حتى وإن كانت الأجواء ساخنة، لأن فيها ما ينفع مثل التجارب الأخرى، وهي ليست للتقليد أو للاستنساخ، بل لاستلهام الدروس والعبر، خصوصاً من وجود بعض المشتركات العامة.
قد يصلح الدرس الكولومبي والأمريكي اللاتيني ودروس أوروبا الشرقية، وجنوب إفريقيا والمغرب لبلدان وشعوب أخرى، ويكون مفيداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف الخاصة بكل بلد، علماً بأن مهمة تحقيق السلام، هي مهمة إنسانية مشتركة وعامة.
ولعلّ مؤتمر الأستانة ولقاء موسكو قد فتحا الطريق أمام مؤتمر جنيف الذي يحتاج إلى خريطة طريق تستكمل ما بدأته مؤتمرات جنيف السابقة، الأول في حزيران (يونيو) 2012، والثاني في كانون الثاني (يناير) 2014، والثالث الذي كان مقرراً بترتيب من محادثات فيينا للسلام ومجلس الأمن الدولي ومبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، على أن تتوافق عليها القوى السورية أساساً، حكومة ومعارضة، ولا بد لها لكي توضع موضع التطبيق أن تحظى بتأييد ودعم إقليمي ودولي.



388
عبد الحسين شعبان في ثقافته الاستثنائية*
د. عمران القيسي
ناقد وأديب، فنان تشكيلي - العراق

   سوف أحاول جهدي ركن عواطف الصّداقـة التي تمتدّ ما يزيد عن الخمسين عاماً جانباً، وأتحدّث عن كائن عراقي مـفكّر اعتاد أن يقف دوماً على الطرف المضاد من المعادلة السائدة، سيّما وأنه يعيش كأي عراقي آخر، إشكالية العلاقة الوثنية بين النظام والمواطن، وبين السّلطة والمثقّف بشكل خاصّ.
   ليس بفعل انتمائه المـبكّر للحركة اليسارية في العراق، وليس بفعل موقفه النقدي مما يجري على مستوى العلاقة المغشوشة بين الدولة والفرد وبين السياسة والثقافة، صار عبد الحسين شعبان مراقباً "شرساً" لكل ما يجري أو يتكوّم من سلبيات في الحياة اليومية للفرد العراقي والثقافة العراقية، بل لأنه نتاج بيئةٍ مثقفة في مدينة تآخت مع التمرّد، حيث لا يخلو بيت فيها من مكتبة عامرة. فالنجف التي تنهض على رفوف من الكتب والمخطوطات، لم تكن أحادية الثقافة، بل دفعتها الضرورة لأن تكون متنوّعة، ومنها انطلقت حركات فكريّة متجدّدة، كما انطلقت حركات شعرية متنوّرة، وحركات سياسية بالغة الأثر والتأثير.
   فبعض القادة من اليساريين الشيوعيين الذين يتحدّرون من أصول نجفية، كان أهلهم من العوائل الدينية، سواء في الحوزة العلمية أو في حضرة الإمام علي مثلما هو مكرّمنا حيث احـتلّت عائلته رئاسة الخدمة في الروضة الحيدرية منذ قرون، أو مـمّن يقرأون في عاشوراء سيرة مقتل الحسين، وخير مثال لنا هو "الشهيد" حسين الشبيبي الذي أعدم مع يوسف سلمان يوسف (فهد) مؤسّس الحزب الشيوعي العراقي، أو "الشهيد" حسين أحمد الرضي (سلام عادل) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي الذي قتل تحت التعذيب عام 1963.
   من هذه المدينة طلع محمد سعيد الحبوبي الشاعر والفقيه وعلي الشرقي الشاعر والوزير، والشاعر الجواهري والشاعر محمد صالح بحر العلوم والشاعر أحمد الصافي النجفي، والشاعر والحقوقي والوزير سعد صالح، كما خرّجت نخبة من رجال الدّين المتميّزين والمجدّدين بينهم من لبنان الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، ولا ننسى هنا القراءات المتميّزة التي قدّمها السيّد محمد باقر الصدر للفكر الإسلامي ومحاولة تلقيحه برؤية عصرية.
    نعم من النجف طلع عبد الحسين شعبان الذي سرعان ما اندمج ورعيل جيل الستينات الشعري والأدبي والثقافي في بغداد، خصوصاً وكان يحمل معه إضافة إلى هموم الثقافة، قضايا النضال، فجمع بين الثقافة والسياسة وبين العلم والقلم. هو القادم من عمق الثقافة النقدية المعمّقة ومن بيوتات الأدب والعلم والمعرفة والجدل، حيث تلتقي الكثير من الروافد الروحية والثقافية والفكرية بعمق التاريخ.
   حقاً كانت النجف منبع الفكر وفي الوقت نفسه منبع التمرّد، فقد استلهمت قيم البطولة لتتحدّى الإنكليز في ثورتها العام 1918 وفيما بعد في قيادة الثورة العراقية الشاملة العام 1920، وبقدر ما هي مدينة دينية فإنها مدينة تتقبل الآخر وتتفاعل معه، وهو ما يُطـلِق عليه المحتفى بفكره "جوار الأضداد"، ففيها المتديّنون وغير المتديّنين، وفيها المؤمنون وغير المؤمنين وفيها اليساريون واليمينيون والتقدّميون والمحافظون، وتتعايش فيها سلالات ولغات وأقوام، وإنْ كانت العروبة واللغة العربية هي الفضاء الجامع، فتلك سمات المدن المثقفة، حيث تختلط السياحة الدينية والتجارة مع الثقافة في هارموني منفتح.
   لذلك لا أستطيع أن أتحدّث عن هذا (الحواري) إلاّ من زاوية فكرية، لأن العلاقة معه قامت على أساس فكري وثقافي ونضالي، قوامه وحدة الانتماء إلى اليسار العراقي المعاند وإلى قيم الحداثة والجمال والعدل.
   فإذا كانت صورة عبد الحسين شعبان قد فُهمت بالنسبة لنا نحن الذين جايلناه، من ضمن صورة الوضع الإنساني والشرط التأريخي الذي يعانيه كل مثقف عربي اليوم، فإن هذه الصورة "الشعبانية" هي الصدى لصورة المثقف العراقي الذي لـخّص شعبان نفسه بصفة "الجدلي الماركسي"، الباحث عن "الفهم والتخالق بين الأحداث والأفكار والوقائع". من هنا يجب أن نفهم خصوصية الثقافة عند شعبان وربما العديد من العراقيين، التي كانت زاداً فكرياً ومعرفياً في خضم صراعه من أجل التغيير، خصوصاً وقد خيّمت آنذاك نزعات أخرى في ظل انهيارات وهزائم.
   لقد طرح عبد الحسين شعبان عبر وعيه الثقافي معادلة هـامّة، قوامها الاجتهاد بكافة الثوابت الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية والفردية، فأسقط بذلك مقولة "لا اجتهاد في معرض النص". فالنص أي نص، ديني أو فلسفي أو سياسي أو قانوني، لا بدّ وأن يخضع للاجتهاد والتفسير والتأويل، فهو بذلك اقترب كثيراً من اثنين أوّلهما المتصوّف الحلاج بن محيي الدّين الذي قال:
"ألا أبلغ أحبائي بأني / ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي / ولا البطحا أريدُ ولا المدينة"
   كما اقترب كثيراً من المعرّي القائل:
"في اللاّذقية ضجة ما بين أحمد والــــمسيحُ
هذا بناقوس يدّقُ وذا بمئذنة يــــــــــــصيحُ
كلٌ يعظِّم دينه يا ليت شعري ما الصحيحُ؟"
   تساؤلات شعبان تتوالد ولا ينسى حتى نفسه فيسائلها بكل أريحية ويتـوقّف عند أخطائه وأخطاء جيلنا ليعبّر عنها بصميميّة مثلما هي صميمية أيضاً، تتـعلّــق باجتهادات أو مواقف لم تثبت الحياة صحّتها أو تجاوزها الزمن.
   قرأ ماركس وأنجلز بمنظار نقدّي مفتوح على خليج من الأسئلة ومن دون مسلّمات إيمانية تبشيرية جاهزة، بل كان العقل النقدي التساؤلي وراء الكثير من أطروحاته، وبهذا المعنى يتحدّث عن الماركسية باعتبارها حضوراً وليس غياباً، حتى وإن تم إهمال الكثير من أحكام ماركس وتعليماته، بل ونقدها ماركسياً، ويقصد بذلك "جدلياً"، لا سيّما باستخدام منهج ماركس ذاته منتقداً تحنيط الماركسية التي أفقدتها روحها وسلبتها لبّها وجـمّدتها على نحو فقدت فيه حيويتها.
   ومن أبرز الإشكاليات التي شغلته هي تلك العلاقة المشوبة بالقصور، بين الماركسية والدين، وقد أوضح ذلك في كتابه الحواري (تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف)، إذْ كتب مجيباً على السؤال: "بكل أسف لم تستوعب الحركة الشيوعية والتيارات الماركسية هذه الحقائق، فـظلّت تدور في إطار النظرة المتعالية والفوقية للتعامل مع العالم الروحي للإنسان، ومع الدين بشكل خاص، وقد تم إخضاع الكنيسة للدولة بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 بزعم العلمانية وإكراه المؤمنين على السير في ركابها، وجرت عملية انتقاص وإساءة للأديان وصودرت أراضي وأملاك الكنائس والأديرة، وأكثر من ذلك اعتبر الإلحاد شرطاً لعضوية الحزب، وفيما بعد لعضوية الكومسمول (منظمة الشبيبة الشيوعية)".
   إنّ إشكالية الدين في مجتمعاتنا وحساسيتها دفعت شعبان لتقديم قراءات منفتحة بخصوص الدين الذي يعتبره ظاهرة اجتماعية لا ينبغي معارضتها أو تأييدها بقدر ما يـتطلّب الأمر دراستها وتوظيفها بما ينسجم ومصالح النضال ضد الاستغلال وبهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد تـوقّف عند قراءة ماركس وخصوصاً في "المسألة اليهودية" مشيراً إلى أنه لم يقدّم أطروحة كاملة حول المسألة الدينية أو السسيولوجيا الدينية. وقد استكمل شعبان بحثه حول الماركسية والدين بكتابه الموسوم "الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية".
   بالطبع ما كتبه عبد الحسين شعبان هنا عن المثال الروسي، عشنا ارتدادته السلبية في العراق بعد ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958، حيث حدث شرخ كبير بين الحركة الشيوعية العراقية والجماعات الدينية، وقد وصلت إلى حد إصدار الفتاوى بتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي - مثل فتوى السيد محسن الحكيم التي صدرت في شهر شباط (فبراير) من عام 1960، وقد شجّع ذلك على حصول المذبحة الكبرى بحقّ الشيوعيين إثر انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، ومقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وطاقمه الحاكم، إضافة إلى أبرز قيادات الحزب الشيوعي العراقي، وبالطبع فإن مراجعة شعبان شملت أيضاً نقده لمواقف "الشيوعية اليسارية الطفولية" إزاء الدين والتديّن والإيمان، تلك استغلّتها القوى الرجعية والمحافظة المعادية للماركسية.
   أدرك عبد الحسين شعبان بنظرته الموسوعية الثاقبة أن النكبة والانكسار هي في الفكر أكثر مما هي في حقل السياسة، لذلك ذهب إلى معالجة هذه المسألة وأخذت أسئلته تكبر منذ هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 والتدخّل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا 21 آب (أغسطس) العام 1968، وحين واصل مشواره للدراسة في الدول الاشتراكية بدأت أسئلته ومراجعاته النقدية تغتني بتجارب عملية، والأكثر من ذلك فإن الأخطاء المتكرّرة التي عاشتها قيادات الحركة الشيوعية العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، دفعته للتفكير في مجالات وحقول أخرى غير الحقول السياسية المباشرة لخدمة بلده وأمته.
   وكان قد اضطرّ إلى مغادرة العراق أكثر من مرّة، مثلما اعتقل أكثر من مرّة، واقترب الموت منه عدّة مرّات، ولعلّ واحدة منها كنت قريباً منها في ساحة السباع ببغداد العام 1968 حين سقط 3 شهداء وعدد من الجرحى في تظاهرة سلمية، وبعد ذلك غامر في العيش بالجبال الوعرة مع نخبة من رفاقه ليقود إعلاماً مضاداً للإعلام الرسمي في حركة أنصارية في المناطق النائية، خصوصاً المثلث العراقي - الإيراني - التركي، ثم في منطقة بشتاشان، وكان هؤلاء بين مطرقة وسندان 3 دول هي العراق وتركيا وإيران، ولم يكن لديهم سوى بضعة كتب وأحلام وإصرار على اختيار نمط حياة غير سائد وغير مألوف.
   وهناك أيضاً اقترب الذئب الذي ظلّ يتـرصّده إثر هجوم مسلّح تواطأت فيه قوى عديدة، فاضطرّ ومن معه إلى عبور جبل قنديل الشهير، فعاد إلى المنفى بعد تعرّضه لأمراض وإشكالات صحيّة عديدة ليتفرغ هذه المرّة للعمل الحقوقي والفكري، خصوصاً في ظل الخيبات المتكرّرة.
   كان شعبان يدرك أنّ دوراً استثنائياً ينتظره في عواصم الغرب، هناك حيث بدأ العمل في قضايا حقوق الإنسان والتربية على ثقافة المجتمع المدني، وكان قد توصّل إلى قناعة أن أوضاعنا العربية لا يمكن معالجتها بالانقلابات أو بالحركات المسلّحة والعنفية ولا بتبديل فوقي لنظام الحكم، كما أن المعارضات كانت وجهاً آخر للسلطة، وقد آمن أنه آن الأوان لبناء المجتمع المدني لوضع الأسس الحضارية للبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من خلال نشر ثقافة قبول الآخر والإقرار بالتعدّدية والتنوّع ونبذ كلّ ما له علاقة بالعنف، وليس غريباً عليه أن يؤسس مع ثـلّة متميّزة من اللبنانيات واللبنانيين وشخصيات عربية وعالمية "جامعة اللاّعنف" وأن يدعو إلى "التسامح" والمصالحات ونبذ الكراهية وحل المشاكل والإشكالات عبر الحوار السلمي والتفاهم والوسطية والاعتدال ليس على الصعيد النظري فحسب، بل في حياته الشخصية والعملية أيضاً.
   كان شعبان بفعل دراساته القانونية مطّلعاً على مساوىء قانون الجنسية العراقي، وهو القانون الذي ترك بصماته على الواقع الذي يميّز بين المواطنين العراقيين، الذين تم تصنيفهم بين الفئة (أ) والفئة (ب)، إضافة إلى هدر حقوق "الأقليّات" ولذلك كان من أكثر الحقوقيين العراقيّين صوتاً وتنويراً ودعوة لإصدار "قانون جديد للجنسية" على أساس المساواة في الحقوق وعدم التمييز، كما كان أول المدافعين عن المهجّرين العراقيّين على المستوى الدّولي، وهي الدعوة المتواصلة في دفاعه عن اللاجئين العراقيين في جميع المحافل الدولية. ولا توجد عاصمة أوروبية لم تشهد له مساعدة لهذا اللاّجىء أو ذاك أو لإطلاق سراح هذا المعتقل أو ذاك أو لهذا المختفي قسرياً أو ذاك.
   وحين وقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي، وعمد هذا إلى تفكيك الدولة ولم يبق فيها العراق ما يمكن أن تنهض عليه أعمدة بناء جديدة، خصوصاً بعد حلّ الجيش العراقي وبعض أجهزة الدولة، فكلّما ازدادت المشكلات تعقيداً في العراق، ذهب الباحث والمفـكّر عبد الحسين شعبان أعمق في البحث والتحرّي، فكان أن شرّح وفـنّد مزاعم الاحتلال بالشرعية وحاجج بسلاح القانون ليثبت أن ما يسمى "تحريراً" إنما هو احتلال ممنهج بعد حصار دولي جائر، كما وقف بصلابة ضد نظام المحاصصة الطائفي الإثني الذي أسماه "نظام الغنائم والزبائنية" كاشفاً عن الألغام العديدة التي احتواها الدستور وذلك في كتابه العراق "الدستور والدولة من الاحتلال إلى الاحتلال".
   إنه (ديوجين) حامل المصباح الأزلي، لذلك نراه يكتب ويحاور ويجادل ويحاضر ويقدّم اللوائح ومشاريع القوانين، خصوصاً تلك التي تـتعلّق بإلغاء الطائفية وتحريمها، ويطرح بدائل عنها لتعزيز المواطنة، وهو الأمر الذي يتابعه على المستوى العربي.
   كتبتُ عنه يوماً بأنه "مفـكّر يمارس عملية إعادة تكوين الذاكرة بشكلها الصحيح"، وربّما وضعه هذا الأمر في موضع بالغ الخطورة، قد يكون موقفاً "إرهابياً" يرعبنا لأنه ينكأ جراحنا التي لم تندمل، فنقد التجربة وخصوصاً الشخصية، إنّما استهدف تجاوز ما تجاوزه الزمن وعدم تكرار الأخطاء، وإعادة النظر بالكثير من المسلّمات و"الكليشيهات"، في رؤيوية استشرافية جريئة.
   لم يكتفِ شعبان بنقد التّجربة الماركسية العربية، وبعض مفاصلها الأساسية، بل أيضاً ناقش بجرأة مواقف المرجعيات الدينية الشيعية من قضية الاحتلال الأمريكي للعراق بما فيها من جوانب المهادنة، أو من قضية ولاية الفقيه التي لم تستسيغها النجف ممثّلة بـ"السيد السيستاني"، لكن "الشيعية السياسية" حاولت تقديمها لمرجعية النجف على "طبق من ذهب" لأسباب سياسية مصلحيّة بين الطرفين.
   ومن موقعه المعرفي والاجتهادي دعا إلى التمسّك بمرجعية الدولة التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات، وإنه إذ يفعل ذلك انطلاقاً من خلفيته القانونية بتأكيد "مبدأ حكم القانون"، لأنه يدرك أن تعدّد المرجعيات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية والعشائرية والحزبية، إنما يؤدّي إلى إضعاف الدولة والحطّ من هيبتها، فليس هناك من جهة جامعة وقادرة على حماية حقوق الإنسان "كمرجعية عليا" غير الدولة، وهو يرى بكلّ صراحة بأنّ ثقافة حقوق الإنسان لا تزال متدنية في عالمنا العربي إلى حدود مريعة، ومن هذا المنطلق بقدر دعوته للتغيير في العالم العربي إلاّ أنه ظلّ يدعو للتمسّك بالدولة الوطنية التي لا يمكن الحديث عن أي تغيير وديمقراطية دونها.
   عبد الحسين شعبان المُحتفى بمنجزه الفكري والثقافي والحقوقي والحائز على جائزة "أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي" (القاهرة 2003)، وأوسمة وجوائز ثقافية وفكرية كان آخرها من تونس العام 2016، هو من الجيل الثاني للروّاد الحداثيين المجدّدين "عراقيّون وعرب".
   وكنتُ دوماً أسائلُ نفسي: ألا يهدأ المحارب، المشاكس، المشاغب، المتمرّد حتّى على نفسه بعد هذه التّجربة المديدة؟  لكنّني أتفاجأ كلّما زرته في بيته فأراه منكّباً على طاولته يكتب، والأوراق والكتب متناثرة حوله، لذلك أسميته (كادح الكتابة) "الشغيل الأبدي" الذي يستمرّ عشقه المعـتّق للحروف كأنه وُلِــدَ ومعه حزمة أقلام وأوراق وكُتُب.   

*الكلمة التي ألقاها الدكتور عمران القيسي في حفل تكريم د. شعبان يوم 5/3/2017
في إطار المهرجان اللبناني للكتاب السنة السادسة والثلاثون 2017 (دورة منير أبو دبس)
الحركة الثقافية - انطلياس برعاية فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون



389
في المواطنة والحوار والإرهاب
عبد الحسين شعبان


       أعادت حوادث القتل والتّهجير التي جرت في شبه جزيرة سيناء والتي استهدفت الأقباط، ما حصل لمسيحيّي العراق، سواء نزوحهم من البصرة وبغداد وكركوك والموصل خصوصاً بعد احتلالها من قبل داعش العام 2014 ،إلى كردستان ومنها إلى المنافي البعيدة، الأمر الذي لا يزال مستمرّاً في سوريا كما جرى في لبنان خلال الحرب الأهلية، وينبغي أن نتذكر باستمرار ما حدث لمسيحيّي فلسطين الذين كان عددهم يزيد على 20 % من السكان قبل الاحتلال وبسبب التهجير المنظّم، وصل عددهم الآن إلى أقل من 1،5 % وكان في القدس وحدها ما يزيد  عن 50 ألف مسيحي، في الوقت الذي لا يصل عددهم اليوم إلى 5 آلاف.
      إنّ حوادث القتل ومحاولات الاستئصال والإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر تطرح مسألتين أساسيّتين :
      أوّلها: غياب أو ضعفِ المواطنة، فحيثما تكون هذه هشّة يتمّ التّهميش والإلغاء وتجري محاولات للتّسيّد والهيمنة،حيث تستقوي جهات نافذة تفرض نفسها على مصادرة حقوق الآخرين، وكلّما ضعفت أو اهتزّت أركان المواطنة كان التعصّب والتطرّف جاهزين ولها بالمرصاد، وحيث يسودان فذلك يعني أنّ العنف والإرهاب سيجدان طريقهما إلى المجتمع.
     ثانيها: غيابالحوار الذييفترضالاعترافبالآخر على قدر من المساواة، وذلك يعني الإقرار بالتنوّع والتعدّدية، وغيابه سيفضي إلى نوع من الإلغاء أو التّهميش أو الانتقاص من الحقوق، وليست تلك سوى حقوق المواطنة. هكذا تظهر العلاقة العكسية بين الإرهاب والمواطنة، فسيادة الإرهاب ستكون بسبب ضعف المواطنة أو الانتقاص من أركانها، والعكس صحيح، فإنّ وجود مواطنة حيوية تقوم على الإقرار بالحريّات وممارستها، ولاسيّما حرية التعبير، والحق في التنظيم و الاعتقاد ، والحق في المشاركة والشّراكة،سيعني الإعلاء من القيم الإنسانية العليا، وهذه تغتني بمبادئ المساواة وعدم التمييز والعدالة وخصوصاً الإجتماعية، إذ إنّ المواطنة ستكون قاصرة وناقصة مع الفقر، والمواطنة تحتاج أيضاً إلى الاعتراف بالحق في المشاركة وتولّي الوظائف العليا دون تمييز.
        خلال الشّهرين المنصرمين قدّر لي أن أشارك بعدد من المؤتمرات والأنشطة الثّقافية والفكرية والحقوقية، وفي عدد من البلدان العربية، وكان العنوان الأساسي لها: ماالسّبيللمواجهةالتعصّبوالتطرّف؟ وما علاقتهما بالعنف والإرهاب؟ وأيّ تعارض بين الطائفية والمواطنة؟ وأخيراً هل نحتاج إلى خطاب جديد لمجابهة ثقافة الكراهية والإقصاء والتّهميش؟
         وبقدر ما لهذه الظواهر من اشتباك ثقافي واجتماعي وسياسي، فلها خلفيّات دينيّة وطائفيّة وثقافيّة وتربويّة، وتنعكس على سلوك الأفراد والمجموعات، لاسيّما التي تدّعي امتلاك الحقيقة، أو التيتعتبر لها أفضليّات على الآخرين، لهذه الأسباب أو لغيرها.
       وإذا كان الخطاب السّائد قاصراً، ويتّسم بالشّحن والتّحريض، أفلا تستلزم الحاجة إلى إعادة النظر به، بل مراجعة منطلقاته الفكرية والثّقافية؟ ثمّ كيف يمكنإصلاح الخطاب دون إصلاح الفكر؟ والمسألة لا تقتصر على الفكر الدّيني وحده بل على إصلاح الفكر الطاغي، وتعزيز مستلزمات مراجعة نقدية مفتوحة، يشارك فيها الجميع، قوى وتيّارات ومنظّمات مجتمع مدني ونقابات وإعلام، لأنّ الأمر يتعلّق بصميم توجّهات المجتمع وسلامة جميع أفراده. والمجتمعات المتصالحة مع نفسها تجد فيها نوعاً من "التّطامن" يساعد على تطويق ظواهر إلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه أو محاولات التسيّد عليه.
        ولأنّ ظواهر التعصّب والتطرّف استفحلت في عالمنا العربي بشكل خاص، وباتت تهدّد وجود الدولة الوطنية، فقد استوجب الأمر إحياء لغة الحوار، الذي لم يعد اختياراً فحسب، بل أصبح ضرورة و اضطراراً، فبدونه ستكون التّربة خصبة للعنف والإحتراب، خصوصاً في ظلّ التمترسات المذهبية.
        والحوار ينبغي أن يستهدف أوّلاً وقبل كلّ شيء الاتّفاق والتّوافق حول سبل تعزيز المواطنة، التي ستبقى حجر الزاوية في مواجهة العنف والإرهاب اللّذين يتحوّلان إلى فعل، بعد أن يستحوذ التعصّب والتطرّف على عقول أفراد أو مجاميع فئويّة، وهو ما أضحى جزءًا من المشهد البارز في بغداد ودمشق وطرابلس وصنعاء، ووجد حواضن له أحياناً لـ "يفقّس فيها بيضه" في مصر وتونس، وصولاً إلى المغرب والجزائر وغيرها،خصوصاً بفعل عمليّة "غسل الأدمغة" لبعض الشّباب المقبل على عنف لاحدود له، بما فيه مع النّفس حين يُقدم على عمليّات إنتحاريّة تحت مزاعم ومبرّرات شتّى، بعضها ديني أو مذهبي، وآخر إجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، وبقدر ما ينطبق على إرهابيّي المنطقة، فإنّه أيضاً يشمل إرهابيّي الغرب الذين يأتون ليفرغوا ما في جعبتهم من عنف في بلداننا.
        هل تنفع الوسيلة الأمنية لوحدها في التّصدّي للظاهرة الإرهابيّة؟
سؤال حائر ظلّ يتردّد في العديد من المؤتمرات الدوليّة والعربيّة الحقوقيّة، وهو وإن كانت الإجابة عنه معروفة سلفاً، لكنّ الرّكون إليه لوحده أو تقديمه على سواه من سبل الوقاية والحماية، جعل استمرار الإرهاب، يعيد طرحه بشدّة كبيرة، خصوصاً وإنّ الحاجة تتعاظم إلى تكامل الوسائل المتنوّعة للتّصدّي للظاهرة الإرهابيّة سياسيّاً، واجتماعيّاً، واقتصاديّاً، وثقافيّاً، وتربويّاً، ودينيّاً، إضافة إلى الوسائل الأمنيّة والعسكريّة، وهذه كما يقول "العرب" هي آخر "العلاج-الكي".
         وإذا كانت المواطنة نقيضاً للإرهاب، فهذه الأخيرة تحتاج إلى حوار بعقل مفتوح وقلب "حار" كما يقال، خاصة وإنّ بلداننا تقف عند مفترق طرق، فكلّما ارتفع شأن المواطنة تناقص خطر الإرهاب، والعكس صحيح أيضاً، حيث تظهر "العنعنات" الدينيّة والمزاعم الطائفيّة والدعوات الإنفصاليّة والإستتباع للخارج الإقليمي،ولكلّ ما له علاقة ببقايا ما قبل الدولة.



390
أبعد من حدود استقالة "ريماخلف"!
عبد الحسين شعبان

كان للإستقالة التي قدّمتها ريما خلف،المدير التّنفيذي للإسكوا "الّلجنة الإقتصاديّة والإجتماعيّة لغربي آسيا" من منصبها، رمزيّة خاصة، فهي موظّفة رفيعة المستوى وعملت من موقع المسؤولية في المنظّمة الدولية لسنوات طويلة، واطّلعت على الكثير من الخفايا والخبايا التي أضاءت عليها ونبّهت عنها في رسالتها. وفي نهاية المطاف اضطّرت للإجتماع العلني حين لم يعد السكوت ممكناً،بل يصبح تواطئاً، لأنّه سيؤدّي لمخالفة ضميرها، كما عبّرت عن ذلك.
وهي وإن تحلّت بمهنيّة عالية ودبلوماسيّة راقية، وحاكت خطابها الموجّه للأمين العام "انطونيوغوتيريز" بخيط من حرير،لكنّها فتحت معركة دبلوماسيّة وقانونيّة وحقوقيّة ذات أبعاد أخلاقيّة ثقافيّة وفكريّة وإنسانيّة، بدأت تظهر وتنتشر ممّا يدفع العرب والفلسطينيّين لضرورة مواصلتها بذات الإيقاع.                                                             
       وإذا كان موقف "ريما خلف" يتّسم بالشّجاعة والمبدئيّة،فإنّها استندت إلى قيم العدالة وحقوق الإنسان المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتّحدة وقواعد القانون الدولي، ومثل هذا الموقف ،وخارج دائرة التّمجيد لخطوة جريئة ومن أعلى قمّة الهرم الدولي، يطرح العديد من الحقائق وينبّه إلى طائفة من الاعتبارات التي ينبغي أخذها على محمل الجد وهي :          1-لا يمكن للوظيفة الدوليّة، ومهما بلغت درجة الالتزام الوظيفي والمهني أن تكون بالضدّ من القيم الإنسانيّة، فالمهنيّة لاتعني الحياديّة الزّائفة أو الحرفيّة العقيمة التي لا تفرّق بين الحقّ والباطل، وبين العدل والظلم، فتلك ليست سوى جحود وتحجّر، ذلك أنّ الوظيفة الدوليّة ينبغي ألّا تلغي "إنسانيّة" الإنسان، ولعلّ من أولى مسؤوليّات الموظّف الدولي  وشروط عمله أن يكون منصفاً، ووجوده ينبغي أن يكون إيجابيّاً بإعلاء القيم الإنسانيّة وعدم السّماح بإجراءات أو قرارات تخالفها أو تمسّ جوهرها.                                                           

2 - إن ردود الفعل الدوليّة إزاء ممارسات "اسرائيل" أخذت تميل لمصالح حقوق الشّعب الفلسطيني، وتدريجيّاً بدأت تبتعد عن الانحياز المسبق لها، وليس أدلّ على ذلك قرار الأونيسكو باعتبار الأماكن المقدّسة في القدس من تراث العرب و المسلمين   (نوفمبر- تشرين الثاني2016) وكذلك قرار مجلس الأمن الدولي بشأن وقف الاستيطان "الاسرائيلي" في الأراضي الفلسطينيّة ( ديسمبر – كانون الأوّل 2016).           
3– هناك "مناطق فراغ"لم يتمّ الاشتغال على ملئها من العرب ومن الجانب الفلسطيني، وهي كثيرة، ولاسيّما في الإطار الدولي الحكومي، وغير الحكومي (منظّمات المجتمع المدني) وهذه تحتاج إلى معرفة عميقة واستراتيجيّات جديدة مرنة طويلة المدى، والأمر يتطلّب هندسة جديدة لعلاقاتنا الدوليّة، ووضع القضيّة الفلسطينيّة في المكان الذي تستحقّه، وتحديد "جبهة الأصدقاء" و "جبهة الأعداء"، إضافة إلى مسعى جديد لتحييد دول كانت منحازة "لإسرائيل" حتّى وقت قريب، لكنّها أخذت تشعر بالحرج إزاء انتهاكاتها وممارساتها المنافية للشرعة الدوليّة لحقوق الإنسان .           
وهنا يمكن التّركيز على ما هو أساسي بقدر ما هو ممكن مثل :                     
وضع فكرة حق تقرير المصير التي يقرّها المجتمع الدولي، موضع التطبيق من خلال الترويج لدولة فلسطينيّة قابلة للحياة، تكون ضمانة للمجتمع الدولي مع تأكيد حق العودة.
ويمكن هنا التأكيد على حلّ يلبّي الحد الأدنى من الحقوق ويأخذ بالاعتبار القرار 181 العام 1947 وهو القرار الذي تأسّست "اسرائيل" بموجبه، والقرار 194 العام 1948 الخاص بحقّ العودة، إضافة إلى قرارات مجلس الأمن الدولي 242 العام 1967 ، و338 العام 1973 (المتعلّقان بالإنسحاب الإسرائيلي) لأنّها قرارات مقبولة دوليّاً.     
      4– إظهار الممارسات "الإسرائيليّة" العنصريّة، تلك التي تناولها تقرير الإسكوا والخاصة  بتأسيس نظام الفصل العنصري " أبرتايد " والذي يهيمن على الشّعب الفلسطيني بأجمعه، سواء في الأراضي الفلسطينيّة أو ما يسمّى عرب الـ 48 أو ما بعد الإحتلال الإسرائيلي العام 1967 وفي المخيّمات وبلدان الجوار والشّتات، برفض حقّ العودة، وبناء مستوطنات في الأراضي الفلسطينيّة.                                         
وهنا يمكن إعلاء صوت التّضامن الدولي بما فيه إجراءات المقاطعة الثّقافية والأكاديمية والسّياسية والإقتصادية لـ "إسرائيل"، وكلّ ما له علاقة بسحب الإستثمارات وفرض العقوبات لإجبارها على الانصياع لقواعد القانون الدولي. ولعلّ مؤتمر ديربن ضدّ العنصريّة (جنوب أفريقيا – العام2001 ) كان نموذجاً حيويّاً على فاعليّة التّضامن الدولي حين دمغت ثلاثة آلاف منظّمة حقوقيّة ممارسات "إسرائيل" ووصمتها بالعنصريّة.                                                                                   
         5–إنّ سحب تقرير الإسكوا بخصوص الممارسات "الإسرائيليّة" ومسألة "الأبرتايد" يعكس أزمة الأمم المتّحدة المستفحلة، إضافة إلى خضوعها للقوى المتنفّذة وبيروقراطيّتها، فخلال شهرين فقط وصلت لـ "ريما خلف" تعليمات بسحب تقريرين أعدّتهما الإسكوا، لاعتبارات سياسيّة وليست اعتبارات مهنيّة تتعلّق بالجوهر أو المضمون، كما تقول. وهو الأمر الذي يحتاج إلى تحالفات واسعة وعريضة مع ملاحظة المتغيّرات على السّاحة الدوليّة وموازين القوى.                                                                               
إنّ استقالة "ريما خلف" هي أقرب إلى "لائحة اتّهام"وذلك حلم العدالة في مقاضاة "إسرائيل".

391
الذاكرة ولحظة الحقيقة
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   تذكّرتُ وأنا أشارك في مؤتمر بمدينة مكناس في المغرب حول "الذاكرة والهويّة ومسارات الاعتراف" حديثاً لأحد الوجوه الإعلامية البارزة التي كافحت ضدّ سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأعني به ماكس دوبريز Max du Preez الذي حوّل نشاطه لاحقاً لتدوين ذاكرة الضحايا، مسجّلاً شهادات متنوّعة قام بمهمّة بثّها تلفزيونياً.
   كان دوبريز قال مذكّراً العالم أجمع، ولا سيّما التجارب الناشئة والجديدة في مسار العدالة الانتقالية بأنها "لحظة عظيمة لا تموت، سوى مرّة واحدة، ولا يمكن تكرارها ومقارنتها بكتابات المؤرخين". وبخصوص تونس التي كان يزورها (خريف العام 2016) قال: "تونس لديها الآن لحظة لكتابة التاريخ، لحظة فريدة من نوعها لتقول: لا نستطيع فعل ذلك عن طريق مؤرخ واحد أو كاتب واحد، بل نستطيع كشعب تسجيل كل تاريخنا، ما حدث قبل الثورة وأثناءها، وهذا سوف يبقى. وإن أضاعت تونس هذه الفرصة فلن تأتي مرّة أخرى... ولهذا فعندما يتعلّق الأمر بالحقيقة وبالتاريخ... فنحن نكتب التاريخ الآن".
   هكذا استعدتُ الخيط الرابط بين عنوان المؤتمر وبين حديث دوبريز، وهو حديث عن لحظة الحقيقة التاريخية، التي لا ينبغي إهمالها أو دفعها إلى دائرة النسيان، بل ينبغي استحضارها لتكون في دائرة الضوء دائماً، سواء ما يتعلّق بموضوع العدالة الانتقالية أو بالمشترك الإنساني وبالتعايش المجتمعي والاعتراف بالحقوق، عندها يمكن أن تكون الذاكرة مشتركة على ما فيها من تناقض واختلاف، كما يمكن أن تصبح درساً للجميع للانتقال من طور تاريخي إلى آخر، ومن الإلغاء والتهميش إلى الاعتراف بالتنوّع والمغايرة.
   وبهذا المعنى فالعدالة الانتقالية بقدر ما هي فلسفة ومنهجية جديدة تفرضها الضرورات الانتقالية، فإنها بالقدر نفسه فلسفة تربوية وتاريخية لتحقيق العدالة، لأنها تكشف عن الذاكرة بما فيها من مآسٍ وويلات وظلم، ليس بهدف الانتقام أو الثأر أو العدوانية، بل لمعالجة إرث الماضي وانتهاكاته الجسيمة على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب، خصوصاً حين يتم ذلك بصورة سلمية وبتوافق مجتمعي للانتقال الديمقراطي.
   وقد اهتدت العديد من التجارب الدولية وهي تبحث في أركان الذاكرة وتخوض في تفاصيل الهويّة إلى طريق العدالة الانتقالية، ولعلّ تجربة جنوب إفريقيا التي عانت من التمييز العنصري والاستعمار الاستيطاني لأكثر من قرنين من الزمان، تعتبر نموذجية على هذا الصعيد، وإنْ كان لكل تجربة إيجابياتها وسلبياتها، مثلما هي تجربة المغرب للعدالة الانتقالية التي دلّلت على إمكانية تحقيق المصالحة من خلال تحوّلات من داخل النظام نفسه، عبر مساءلة تراعي مبادىء التسامح، لا سيّما الاعتراف بما حصل وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني.
   كما كشفت تجارب العدالة الانتقالية في بعض البلدان الاشتراكية السابقة في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات عن إمكانية التحوّل الديمقراطي، باعتماد فقه التواصل واستبعاد فقه القطيعة، أي بتقليص دائرة المساءلة وإعلاء شأن التوافق المجتمعي، مثلما حدث في بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا السابقة وغيرها.
   أما عن تجارب أمريكا اللاتينية فيمكن القول إن تجربة الأرجنتين في أواخر السبعينات كانت متميّزة، حيث تم إصدار عفو عام وإطفاء القضايا المتعلّقة بعد موجة عنف ضربت البلاد حين اعتمدت المساءلة للمرتكبين. وكانت تجربة تشيلي في التسعينات حيوية جداً، خصوصاً حين تم الاتفاق بين المعارضة ونظام بينوشيه على دستور جديد وانتخابات حرّة، على أن تبقى المؤسسة العسكرية والتي قامت بارتكابات شنيعة، خارج دائرة المساءلة.
   وتبرز اليوم تجربة كولومبيا باعتبارها من أشجع التجارب الدولية وأكثرها براغماتية، فبعد صراع مسلّح ودموي دام 52 عاماً وراح ضحيته نحو 220 ألف إنسان، وتعطّلت فيه التنمية وجُرّفت الأراضي الزراعية ودمّرت البيئة، تمكّن الرئيس خوان مانويل سانتوس في العام 2016 من التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحركة المسلّحة، وذلك بتسليم أسلحتها للدولة مقابل عدم ملاحقة المرتكبين، وخصوصاً بتسليم جزء من الأموال التي كانوا يحصلون عليها من خلال زراعة وبيع المخدرات. وقد نال الرئيس الكولومبي جائزة نوبل على مبادرته الجريئة تلك.
وإذا كانت المظالم التاريخية والثقافية تثير ردود فعل حادّة، فإن بعضها سلبي حتى وإن تغلّف أحياناً بمطالب وشعارات صحيحة من حيث الجوهر القانوني للعدالة، لكنها قد تؤدي إلى استمرار الصراع ودفعه إلى مديات جديدة، الأمر الذي يحتاج معه إلى وقفة جديّة لمعرفة الحقيقة لماذا حدث وكيف حدث؟ والهدف ليس نكء الجراح، بل للتخلص من آثار الماضي، وملامسة جوهر وحقيقة الإشكالات التي تطرحها أسئلة الهويّة والذاكرة في علاقاتها المتشابكة بالارتباط مع سؤال الاعتراف، خصوصاً حين تبقى الذاكرة حيّة في الضمائر لكي لا يعاد تكرار ما حدث، وما نجم عنه من خسارات لطاقات وثروات وعقول.
ومثلما لا يمكن تجريد الإنسان من شعوره بالانتماء إلى الأرض وفي الوقت نفسه بالانتماء إلى لغة وهويّة تنعش وجوده وتؤنسن حياته، فإنه لا يمكن تجريف ذاكرته لأنها جزء من تاريخه وطريق يوصل الماضي بالحاضر نحو المستقبل.


392
الحقوقي بعين الصحافي
شبيب المالكي وشرعية الإنجاز
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

   لم يدع الصحافي والكاتب أحمد عبد المجيد اللّحظة تفلت من بين يديه إلاّ ويؤرّخها. هكذا فعل حين اقترب موعد الذكرى الأربعين لتأسيس "اتحاد الحقوقيين العرب"، أوَليس الصحافي مؤرخ اللحظة حسب تعبير ألبير كامو؟ لذلك بادر إلى تأليف كتاب ليقدّمه هديّة لشبيب المالكي بهذه المناسبة ومن خلاله للحقوقيين العرب، حيث كان بعضهم قد رافق مسيرة الاتحاد طيلة العقود الأربعة الماضية ومن بينهم رئيس الوزراء اليمني الأسبق محسن العيني والوزير المصري المخضرم مفيد شهاب، وكان الاتحاد قد تأسّس في العام 1975 في بغداد التي أصبحت مقرّاً له لغاية الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حيث دوهمت مقرّاته وتم الاستيلاء على البناية التي يملكها، وبصفة مؤقتة انتقل مقرّ الاتحاد إلى الشام، وفيما بعد إلى عمّان لحين تسوية المتعلّقات التي تخصه وانعقاد مؤتمره العام.
   الشهادة التي كتبها أحمد عبد المجيد هي ليست انطباعات شخصية عن أمينه العام شبيب المالكي، بل هي سيرة مرافقة لمنجزه الإداري والحقوقي، إضافة إلى منجز الاتحاد، حيث يبدأ معه منذ أن كان متصرّفاً (محافظاً) لكربلاء التي كانت تضم حينها النجف والكوفة، في حين كان أحمد عبد المجيد طالباً، ثم في بداية خطواته الأولى في الإعلام التي اجتازها بمثابرة وجهد وعناء وليس دون خسائر، ليصبح أحد الإعلاميين المتميّزين والبارزين.
- I -
   ينحدر شبيب المالكي من البصرة ثغر العراق الباسم (المدينة التي لا تزال منكوبة منذ الحرب العراقية - الإيرانية العام 1980 وإلى اليوم)، وكان قد جاء إلى الإدارة من خلفية سياسية وثقافية وبعد تجارب عديدة ومريرة، ليحتل منصباً إدارياً رفيعاً في محافظة ليس من السهل قيادها، خصوصاً وأن البيئة التي عمل فيها لم تكن صالحة، ناهيك عن ردود فعل سياسية بشأن الوضع الجديد (الانقلاب العسكري في 17/ تموز/ يوليو/ 1968)، فضلاً عن أن المدينة في جزء منها له طابع ديني شديد الحساسية، الأمر الذي يحتاج معه إلى مرونة وحكمة وبُعد نظر عند التعامل مع أهلها والقادمين إليها من الزوّار في مناسبات دينية مختلفة. ولعلّ الإصرار على النجاح وتحدّي الصعاب وتذليل العقبات هي التي كانت الشغل الشاغل للشاب البصري الأنيق كما يقول عبد المجيد.
   ولكي يبعد عبد المجيد عن نفسه الانحياز في سردية المنجز الثقافي والإعلامي والتنموي، فإنه يحيل المسألة إلى أن الكثير من أبناء جيله الذين يشاطرونه مثل هذه الانطباعات التي هي ليست ملفاً شخصياً كما يقول في مقدمة الكراس الذي ألّفه والذي هو بعنوان: "شبيب المالكي - رحلة الكفاح والنجاح: شهادة صحفية عمرها أربعة عقود ونيّف" (إصدار شركة الأنس للطباعة، بغداد، 2016)، وإنما هي إقرار واعتراف يعدّ ضرورة في زمن الجحود والتنكّر والنّسيان.
- II -
   بتواضع الإعلامي المجرّب يحاول أحمد عبد المجيد أن يقدّم الكتاب باستدراك ذكي بقوله: "وأعترف أن ما ورد في هذا الكتاب لم يكن ليصلح إلاّ للنشر في صحيفة، جريدة أو مجلة، لكني آثرت في نهاية المطاف أن أغامر فأصوغ المحتوى بين دفتي كتاب متواضع رأيت أن أفاجىء به المالكي (شبيب) وأصدقاءه وزملاء مهنته، تزامناً مع الذكرى الأربعين لتأسيس الاتحاد الذي انعقد خلاله وعلى هامشه اجتماع المكتب الدائم وذلك في بيروت للمدّة 7 - 8 تشرين الأول/أكتوبر: 2016".
   ولكن لماذا يخشى أحمد عبد المجيد المغامرة؟ ربما لكونه مهجوساً بالماضي وهو يخشى بعض التفسيرات المغرضة، وكان قد فاتحني عشية إطلاق مبادرته، فقلت له: إن هذه المفاجأة ستكون سارة، ثم ألسنا نغامر حين نبحث عن الحقيقة؟ ولتكن مغامراتنا بدلاً من الحروب والعنف والتهميش والمؤامرات، تواصلاً إنسانياً ومودّة وعرفاناً بالجميل وتقديراً للجهد. وأي جهد هو بحاجة إلى تقويم، والتقويم لا يعني الانحياز، بقدر ما هو نقد إيجابي للوصول إلى ما هو أحسن وأصوب وأفضل.
   وحين أُعطيَ عبد المجيد حق الكلام في الجلسة الختامية، قام بعرض مبادرته لتأليف الكتاب، والحديث عن سجايا الرجل وما قدّمه لمدينة كربلاء، إضافة إلى بعض مواقفه الشخصية، الأمر الذي أفسح في المجال لإضاءة جوانب من المسيرة الحقوقية واقتراح تكريم الرجل في احتفالية خاصة ستترافق مع مسيرة تجديد الاتحاد وتطويره وتعديل نظامه الأساسي وهيكلياته من أجل انطلاقة جديدة تفتح أفقاً جديداً لعمل الحقوقيين العرب، سواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد المهني، في إطار تعزيز الثقافة الحقوقية والوعي الحقوقي ورفد قطاعات واسعة بحاجة إلى التربية على احترام الحقوق والحرّيات وإشاعة ثقافة السلام والتسامح واللاّعنف، وهو ما كنت قد عرضته في الجلسة ذاتها، ونال تأييد الجمع الحقوقي العربي.
- III -
   تعرّفت على المالكي ونحن من إطارين سياسيين متوازيين، بل متصارعين في أغلب الأحيان، ومتقاربين في أحيان قليلة، وأشهد أنني كلّما اقتربت منه زادت قناعتي بحرصه على التواصل مع الآخر على الرغم من الاختلافات، وكان موقفه كما أعلم إيجابياً من التعاون الوطني بين البعثيين والشيوعيين، سواء خلال عمله في الإدارة الحكومية أو في المنظمات المهنية مثل جمعية الحقوقيين العراقيين ومجلس السلم والتضامن العراقي، فكانت علاقته متميّزة مع عزيز شريف الذي ربطته به علاقة متميّزة وعامر عبد الله الذي يكن له احتراماً خاصاً، ومع نوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا وآخرين، إضافة إلى علاقته مع المحامين اليساريين مثل هاشم صاحب وعبد الرزاق السعيدي ورؤوف ديبس وسالم المندلاوي وعدد آخر من الحقوقيين اليساريين.
   وخلال السنوات الأخيرة قبل الاحتلال، وكان قد أبعد من الوزارة العام 1997 كنّا نلتقي في إطار فعاليات عامة عربية ودولية وفي مؤتمرات مختلفة، ونتبادل الآراء والهموم بشكل مباشر أحياناً فيما يتعلّق بالوضع العام وهي قليلة جداً بسبب الحذر، وفي أكثر الأحيان على نحو غير مباشر، وهو يعرف ملاحظاتي وتحفّظاتي على النظام السابق وما لحقني بسببها وكذلك ما لحق بالعائلة طيلة ما يزيد عن عقدين من الزمان، لكنه دائماً ما يشيد بمواقفي من الحرب العراقية - الإيرانية ومن الحصار الدولي ومن الاحتلال، وهو ما ذكره في كلمته حين تم تكريمي من اتحاد الحقوقيين العرب في عمان العام 2005، وتسليمي وسام الاتحاد لدفاعي عن الحقوق والحرّيات في العالم العربي.
   وصادف أن التقيته في الطائرة القادمة من القاهرة بعد يومين من بدء حرب قوات التحالف على العراق العام 2003، وكان هو قادم من تونس، وكنت أنا أحضر حفل تكريم لي في القاهرة لنيل وسام "أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي"، ولم ينسَ على الرغم من قلقه من تهنئتي، وكنّا نتوجّه إلى دمشق، حيث كنت على موعد مع عبد الحليم خدّام وبالاتفاق مع الصديق صلاح عمر العلي الذي حضر من لندن، وكنّا قد التقينا بعدد من القيادات العربية وبأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، إضافة إلى قوى وتيارات يسارية وقومية مختلفة، والهدف هو استطلاع آراء ومواقف القوى المختلفة من الاحتلال الذي عارضناه، سواء قبل حدوثه أو بعده، مثلما عارضنا التعويل على القوى الخارجية والمراهنة على الحلول البرّانية، وكان هذا موقفنا من الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق، وهي مواقف كان معنا فيها الشيخ جواد الخالصي والسيد أحمد الحسني البغدادي وفوزي الراوي وماجد السامرائي وحامد الجبوري وآخرين من التيار اليساري والعروبي.
   قال لي شبيب المالكي ونحن بالطائرة وقد استأذنا المضيفة لنجلس قرب بعضنا: ماذا تعتقد إلى أين ستصل الأمور؟ قلت له: حسبما يبدو فإن الأمور منتهية والنظام سيطاح به وستحدث فوضى لا تُعرف حدودها، وسألني فيما إذا قرّر العودة إلى العراق في مثل تلك الظروف، فقلت له: أفضل لك أن ترتّب زيارة إلى اليمن أو إلى المغرب أو أي بلد آخر لحين انتهاء المعارك أو حتى يمكنك البقاء في سوريا. وعدنا والتقينا في الشام على الغداء وتبادلنا وجهات النظر، وكان الرأي ليكن الاتحاد بعيداً عن الإشكالات القائمة في الساحة السياسية وليحافظ على توجّهه المهني وربما هذه فرصة مناسبة لم تسنح قبل ذلك.
   ولكن المالكي بحكم مسؤوليته وارتباطاته عاد إلى العراق خلال القصف الأمريكي وبقي فيه، ثم اضطرّ بعد ذلك للخروج، وقد أصرّ على دعوتي للانضمام إلى المكتب الدائم الذي انتخبت له في دورة دمشق.
   ومع أنني أعتقد أن الكثير من المنظمات الحقوقية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدني، هي امتدادات لقوى سياسية أيام الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي الدائر بين الشرق والغرب، سواء على المستوى الدولي أو على المستوى المحلي، لكنها في الوقت نفسه كانت مجالاً حيوياً ومناسباً لتدريب وتأهيل قيادات عديدة وإكسابها خبرات ومؤهلات ومهارات إدارية مهمّة، لكن مثل هذا الأمر تغير كثيراً بسبب تغيير الظروف والأوضاع.
   وقد آن الأوان لإعادة النظر بالكثير من المفاهيم والآراء المتعلّقة بعمل المنظمات والجمعيات والاتحادات ونشاطها وإدارتها وبرامجها ومرجعياتها، لأن بقاء أساليب عملها ونشاطها وتوجّهاتها وهياكلها على ما كانت عليه سيؤدي إلى ترهّلها وبالتالي عدم إمكانيتها لمواكبة التطوّر الحاصل في هذا الميدان، فضلاً عن تمثل روح العصر ومستجداته.
   ولا بدّ من مراجعة انتقادية بهدف إيجابي لمؤسسات المجتمع المدني الأخرى، فهي تحتاج إلى إعادة نظر ونقد فيما يتعلّق بأدائها وإداراتها وتمويلها وأساليب عملها، فما كان صالحاً في الستينات أو السبعينات لم يعد صالحاً بعد عقود من الزمان وهو ما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، وينطبق ذلك على الجميع بدون استثناء بما فيه: اتحاد المحامين العرب واتحادات الطلبة والشبيبة والمرأة واتحاد العمال والمعلمين والمهندسين والصحفيين ومجالس السلم والتضامن، خصوصاً وأن بعضها قد ضعف لحدود كبيرة وانحسر دورها لدرجة كبيرة، بل كاد يتلاشى، وبعضها الآخر ظل هياكل ومكاتب شبه فارغة أو أنها تقوم بفعاليات محدودة جداً وليست ذا تأثير وفي مناسبات محدّدة وتصدر بيانات لا يقرأها سوى قلّة قليلة من أعضائها ولا يعيرها الرأي العام الاهتمام المطلوب مثلما كانت سابقاً، فقد كان بإمكانها تعبئة الشارع وحتى الإطاحة بحكومات أو إجبارها على التخلي عن معاهدات وسياسات وتدابير اتخذتها.
   ولعلّ هذه المقاربة التي كان اتحاد الحقوقيين العرب، قد توصّل إليها في اجتماع المكتب الدائم مؤخّراً تقوم على ضرورة إجراء تغييرات جوهرية من شأنها تعديل النظام الأساسي وعقد مؤتمر عام، إضافة إلى تكريم الأمين العام الذي يتحدّث كتاب أحمد عبد المجيد عن منجزه المهم، فقد كان الأمين العام شبيب المالكي ولسنوات هو من يقوم بتكريم المبرّزين من الحقوقيين، ولذلك جاء الوقت ليقوم الحقوقيون ممثلين باتحادهم بتكريمه وهو تكريم يستحقه.
- IV -
   يقول عبد المجيد تقديراً للعلاقة التي ربطته بشبيب المالكي: "صادفتني في حياتي شخصيات عديدة تركت بصماتها في نفسي" ثم يضيف: "وتحت وقعها كنت أعزو كثيراً مما تحقق لي أو أنجزته عبر عقود من الكفاح والمثابرة والألم، إلى تلك المعارضات التي ظهرت أمامي أو في طريقي الطويل المترع بالأمل والقلق...".
   وعبد المجيد مثل غيره من الصحفيين الذين عاشوا سنوات الشباب الأولى وتأثّر باليسار وفكره ومنجزه السياسي والثقافي وبقصائد مظفر النواب، لكن عمه طارق الخفاجي الذي اعتبر عميد الصحفيين في كربلاء وأخيه نوفل من الإعلاميين القريبين من شبيب المالكي، هما من قرباه إلى المالكي، ثم يتحدث عن مواهب المالكي وقدرته على استقطاب الناس وعلاقته بالإعلام، وبالمناسبة فالمالكي عمل في الإعلام أيضاً وأدار مجلة سياسية العام 1963 بالتعاون مع الصحافي لطفي الخياط.
   ويقول عبد المجيد: إن المالكي ظل حامياً لأسرتهم ومدافعاً عنها ويردّ عنها السهام التي تأتيها من قنوات سرّية وأخرى علنية، خصوصاً التداخل ما بين الحزبي وما بين الإداري، وأحياناً يصل الأمر إلى التنافس غير المشروع المصحوب بالحسد والغيرة والغدر وغير ذلك.
   ويذكر أن المالكي حين غادر كربلاء فإنه ترك أثراً طيباً ومواقف متميّزة. وحين كانت النجف (قضاءً) يتبع لكربلاء كان تحت إدارة المالكي أيضاً. وأعرف من بعض أفراد عائلتنا وأصدقائنا النجفيين مواقف المالكي وحرصه على تقديم أحسن الخدمات على الرغم من شحّ الإمكانات في حينها، وكما ذكر لي المالكي نفسه فإن ذلك كان يتم باتفاق وتوصية خاصة من الرئيس أحمد حسن البكر، وخصوصاً العلاقة مع السيد الخوئي كما كانت له علاقات مع بعض الأدباء والمثقفين ورجال الدين والوجهاء، ويروي السفير السابق عبد الحسين الرفيعي في كتابه "النجف الأشرف - ذكريات ورؤى وانطباعات ومشاهد" وكان مسؤولاً حزبياً كيف تمكّن المالكي من لعب دور إيجابي في نزع فتيل الأزمة التي لو استمرّت لكانت نتائجها غير محمودة العواقب، وذلك خلال رفع شعارات ضد الحكومة وردود الفعل المنفلتة إزاءها، حيث تم إطلاق النار في صحن الإمام علي وكان المشهد محتدماً.
   يعدّد أحمد عبد المجيد منجزات المالكي وحسناً يفعل حين يذكّر بها، فعسى أن تنفع الذكرى المؤمنين وحتى غير المؤمنين، لا سيّما حين يسود الفساد الإداري والمالي اليوم وتضعف الحصانة ويقلّ الشعور بالمسؤولية إزاء هدر المال العام، ناهيك عن ارتفاع درجة المحسوبية والمنسوبية في ظل نظام يقوم على الغنائمية ويعتمد على الزبائنية التي أساسها الاصطفافات والمحاصصات الطائفية والإثنية.
   ولا بدّ من إضاءة بعض المفاصل من منجز المالكي فيقول عبد المجيد: إنه عظّم عدد المدارس في مدينة كربلاء وشيّد مبان جديدة، وأنه أسّس مهرجان الأخيضر باستقدام عدد من الفنانين لإحياء معالم الحصن التاريخي بحيث أصبح تقليداً سنوياً، وكان المالكي قد أهدى لي صورته مع الجواهري خلال حضوره المهرجان، كما حضر يوسف العاني وسامي عبد الحميد وزينب وناهدة الرماح وجعفر علي، كما أقام مقهىً سياحياً وفيه كازينو عائمة على ساحل بحيرة الرزازة، وفتح مركزاً للشرطة لتأمين الحماية اللازمة وتولى عملية ترويج لزرع مساحات خضراء لحزام لكربلاء. وقد رعى شبيب المالكي العتبات المقدّسة وهناك كراس بعنوان "كربلاء بين الماضي والحاضر" وهو معزّز بالصور، ويذكر عبد المجيد أسماء بعض المحافظين الذين ظلّت كربلاء تتذكّرهم بعد المالكي منهم عبد الرزاق الحبوبي وآخرهم كان صابر الدوري الذي وقّع العديد من أهالي كربلاء مذكرة تطالب بإطلاق سراحه.
   وبعين الصحافي النابه يرصد أحمد عبد المجيد جهود الحقوقيين ودعوتهم لصياغة ملف دفاع عن ضحايا الحصار الاقتصادي ليتسنى تقديمه إلى المحاكم الدولية، بوصفه عملاً لا شرعياً ولا أخلاقياً، ويمكنني إضافة ملف آخر اشتغلت عليه جهات عديدة بالتعاون مع منظمات دولية مرموقة ومناصرة للحقوق العربية يحتوي على معلومات توثيقية عن ضحايا الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، وكذلك ملف آخر يتابع توثيق الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب العربي الفلسطيني بهدف مقاضاة مرتكبيها، وذلك في إطار دعم الحقوقيين العرب لكفاحهم العادل والمشروع من أجل حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
   ويذكر أحمد عبد المجيد عن المالكي وقوفه إلى جانبه في ثلاث مواقف:
   الأول - في العام 1991 حين تناول في عموده الصحافي لجريدة القادسية نقداً إلى الشركة الوطنية للصناعات الكيماوية والبلاستيكية، وكان هذا قد استفز مدير التصنيع العسكري وكان المشرف على وزارتي الصناعة والنفط هو حسين كامل، فتم طرده من الجريدة واضطرّ إلى المكوث في المنزل وعدم مغادرته (ثلاثة أشهر).
   وكما يقول المثل: "ربّ ضارّة نافعة" فقد ألّف عبد المجيد كتابه الرابع الموسوم : "خريف الجليد - 72 ساعة هزّت العالم". ولولا تلك العزلة الإجبارية لما كنّا قد قرأنا له هذا الكتاب، ولم يكتفِ حسين كامل (صهر الرئيس صدام حسين) بذلك، بل أقام دعوى قضائية ضدّه، لكن تدخّل المالكي بطريقته الخاصة أنقذه من حكم محقّق، علماً بأنه كان في قوام نقابة الصحافيين العراقيين (الرسمية) وهو نائب للرئيس.
   الثاني - في أواخر التسعينات وكان يومها سعد البزاز رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية، والأمر يتعلّق بالصحافي عيسى العيسى (الذي كان موظفاً في وكالة الأنباء العراقية) حيث تدخل المالكي بعد طلب من عبد المجيد الذي استعان به لإنصاف المتظلّم العيسى وهو مستأجر لشقة أريد إخلائها بالقوة.
   الثالث - في العام 1994 حين انتقد أحمد عبد المجيد محافظ نينوى (الفريق الركن محمد عبد القادر) وذلك لتعويقه ترويج معاملات الصحافيين بالحصول على قطع أراضي سكنية في مساقط رؤوسهم، فأقام المحافظ دعوى قضائية ضده في الموصل وجرى تبليغه بالحضور، ويعتقد عبد المجيد أن حضوره كان فخاً له لإلقاء القبض عليه أو احتجازه، ولكن اتصاله بالمالكي وكتابه طلب تحريري بنقل الدعوى إلى محاكم بغداد بحسب الاختصاص المكاني للجريدة، هو ما ساعده على التخلّص مما كان يُضمر له. ويستنتج عبد المجيد أن قضايا النشر والإعلام في تلك الحقبة غالباً ما تخضع إلى متابعة مباشرة في قيادة الدولة وأن الاتصالات الهاتفية كانت أرضية تخضع للمراقبة الأمنية، وهو ما يسجل للمالكي بموقفه هذا إيماناً منه بحق التعبير وحق النقد، لا سيّما عبر منابر رسمية.
- V -
   ولعلّي هنا أسجّل للمالكي موقفاً كنت قد اطّلعت عليه وتابعته في حينها هو تحفظه على حملة التسفيرات التي شملت أعداداً من العراقيين بحجة التبعية الإيرانية، علماً بأن غالبيتهم ولدوا في العراق وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطناً سواه، وكنت قد استعدت هذا الموقف معه قبل عدّة سنوات، خصوصاً بعد صدور كتابي "من هو العراقي؟" العام 2002 والذي تحدثت فيه عن حملة التهجير، فعاد وأكّده لي وطلبت منه أن يوثقه فأرسله لي برسالة. والموقف لا يتعلّق بالمالكي وحده، بل بأحد أبرز القياديين البعثيين الذي أعدم بيد رفاقه العام 1979، في "مجزرة قاعة الخلد" بعد أن كان قد اعتقل بُعيد "مؤامرة ناظم كزار" الشهيرة العام 1973، وأعني به عبد الخالق السامرائي.


نص رسالة شبيب المالكي
مواقف وطنية وإنسانية.. قصة التسفيرات

   عزيزي أبو ياسر
   "عام 1971 شنّت الحكومة حملة تسفيرات ظالمة ضدّ المواطنين العراقيين من التبعية الإيرانية ممن أمضوا مئات السنيين في العراق، حتى أنها شملت بعض العراقيين من أصول عربية ومن غير التبعية الإيرانية.
   وخلال هذه الفترة كنت أشغل منصب "محافظ لكربلاء" وكان النجف الأشرف أحد الأقضية التابعة للمحافظة في حينه، وقبل أن تصبح محافظه فيما بعد، وقد شملت هذه الحملة الجائرة أعداداً كبيرة من المواطنين في هذه المحافظة، فأبديت معارضتي الشديدة لهذه الحملة وتصدّيت لها بكل قوة وأوقفت بعضها ومنعت عدد كبير من المواطنين من شمولهم بالتسفير وبخاصة رجال الدين والمثقفين والفنانين.
   ولعلّ هذا الأمر هو الذي أدى بالسلطات المركزية في بغداد إلى إبعادي بضمي إلى وفد برئاسة عضو مجلس قيادة الثورة المناضل عبد الخالق السامرائي لزيارة الصين علماً بأن مهمة الوفد ليس لها أية علاقة بعملي كمحافظ، وقد ضم الوفد عدداً من المختصين بالاقتصاد والسياسة الخارجية من بينهم المرحوم مرتضى الحديثي وزير الخارجية ود. فخري قدوري وزير الاقتصاد ومدلول ناجي المحنّة رئيس مؤسسة المبايعات الحكومية وعفيف الراوي وكيل وزارة الإصلاح الزراعي وغيرهم من المختصين.
   ومن الجدير بالذكر وخلال تواجدنا في الصين وحول موضوع التسفيرات جرى حوار بيني وبين المناضل عبد الخالق السامرائي، وكانت تربطني به علاقة ودية قديمة وقد وجّه لي رحمه الله السؤال التالي ساخراً ومنتقداً: لماذا هذه الحملة الظالمة التي شملت تسفير المواطنين بحجة أنهم من التبعية الإيرانية؟ أيّهما أكثر عروبة واستوطن العراق موسى الكاظم، ويقصد بذلك الإمام موسى بن جعفر (ع) حتى يسفر من يحمل لقب "الموسوي" من ذريته أم من يحمل لقب "تكريتي" أو "عاني" ويبقى في العراق؟ أما أنا فقد تم نقلي إلى منصب "محافظ الموصل" بعد موقفي هذا من التسفيرات". (انتهى).
أخوك شبيب المالكي (أبو فارس)
   وقد كنت أحتفظ بهذه الرسالة التاريخية حتى وإن كانت حديثة، لأقوم بضمّها إلى ملف آخر، لكن ما ذكره أحمد عبد المجيد، في الصفحة (34) من كتابه في إشارة إلى التسفيرات وحملة التهجير، فوجدتُ أن الوقت قد حان لنشرها، ولي حديث آخر حول عبد الخالق السامرائي، وكنت قد استمعت إلى أكثر من شهادة عنه من: شريف الربيعي ووليد جمعة وصلاح عمر العلي وحامد الجبوري ومعن بشور وجهاد كرم ورغيد الصلح وعبد الحسين الرفيعي ومن ابن عمه صالح السامرائي.
   وأختتمُ باستنتاج من ذات الأرضية التي انطلق منها أحمد عبد المجيد حيث يقول: "وأكاد أجزم أن موقف المالكي إزاء قضيتي وسواها، وانحيازه إلى العاملين في الإعلام تسبّب له في إحراجات معروفة ليس أقلّها، كما أظن، إعفاءه من منصبه الوزاري"، وأقول مرة أخرى إن ذلك ما ينطبق عليه القول "رب ضارّة نافعة" فمن يدري ماذا ستكون نتائج غضبة منفلتة من عقالها؟ فقد كانت المواقف ذات الطابع الإنساني هي التي تغلب على علاقة شبيب المالكي بالآخرين بغض النظر عن توجّهاتهم، ومثل هذا السلوك في الأعراف الحزبية السائدة ذات المركزية الصارمة والأوامرية الشديدة والهوس الأمني المصحوب بالشك، تفسّر على أنها ضعف في "الحزم الثوري" وتهاون إزاء الأعداء أو الخصوم، وهذه بحد ذاتها نقطة استفهام كفيلة بأن لا تقصي المرء من موقعه وإنما قد تأخذ به إلى الهلاك!!.


393
ترامب وحكم القانون
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

   أثار قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن منع مواطني 7 بلدان إسلامية (6 منها عربية هي العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال) إضافة إلى إيران من دخول الولايات المتحدة (لمدة ثلاث أشهر) وتعليق قبول اللاجئين (لأربعة أشهر) واستثناء طالبي اللّجوء السوريين إلى أجل غير مسمّى، موجة عارمة من ردود الأفعال المختلفة، بين مؤيّديه الذين يعتبرون ذلك من مظاهر السيادة، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق بالأمن القومي، وهو حق للرئيس بموجب الدستور، وبين معارضيه الذين يعتبرون مثل هذا الإجراء مخالفاً للمبادىء القانونية والدستورية العامة التي تقوم على المساواة وعدم التمييز، وبالتالي فهي تتعارض مع الدستور.
   والأكثر من ذلك، فإن مثل هذا القرار أثار اختلافاً حادّاً بين ما هو سياسي وبين ما هو قانوني، فالقضاء الذي حكم بعدم جواز اتخاذ مثل هذا الإجراء، أيّدته محكمة الاستئناف، الأمر الذي دفع ترامب إلى التعليق عليه فور صدوره بأنه سيواجهه بالمحكمة، والمقصود بذلك "المحكمة الدستورية العليا"، وطعن به باعتباره "مسيّساً"، وأياً كانت الأسباب، فإن ما هو سياسي أصبح في خلاف مع ما هو قانوني وقضائي، وهناك خلاف بين ما هو حق دستوري للرئيس وفي بعض قراراته التي تتعارض مع الدستور نفسه، فضلاً عن تعارضها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.
   وحين نقض القضاء "القرار الرئاسي"، كانت تبريراته قانونية بأن طعن البيت الأبيض فيه (وهو طعن سياسي) مرفوض حسب ما ورد على لسان القضاة الثلاثة في محكمة الاستئناف، لأن الإدارة الأمريكية لم تبرهن على أن استمرار تعليق هذا القرار (الرئاسي) قد يؤدي إلى انتهاكات خطرة لأمن الولايات المتحدة.
   وإذا كان الاتجاه المؤيد لقرار الرئيس الأمريكي يستند إلى مبادىء السيادة، فإن هذه الأخيرة لم تعد مطلقة كما كانت في القانون الدولي التقليدي، بل أصبحت مقيّدة في القانون الدولي المعاصر، وازدادت تقييداً مع مرور الأيام بحكم المعاهدات والاتفاقيات التي تنضم إليها الدولة والمنظمات الإقليمية والدولية التي تنتمي إليها، والتي يتم بموجبها التنازل عن جزء من سيادتها.
   وحين أصبحت قاعدة حقوق الإنسان، قاعدة مستقلّة وآمرة، أي ملزمة في القانون الدولي أي Jus Cogens، فإن السيادة ازدادت تقييداً ولم يعد بإمكان دولة ما اتخاذ قرارات انفرادية حتى وإن كانت داخلية، إذا كانت تتعارض جوهرياً وصميمياً مع سموّ قواعد حقوق الإنسان، وذلك منذ إقرار مؤتمر هلسنكي لها في العام 1975 وهو المؤتمر الخاص بالتعاون والأمن الأوروبي الذي شاركت فيه 33 دولة أوروبية، إضافة إلى أمريكا وكندا، وما صدر عنه يعتبر بمثابة اتفاقية شارعة أي منشأة لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لها.
   ومن جهة أخرى فالقرار الرئاسي يعتبر انتقاصاً من مبادىء المساواة، فاستثناء مواطنين بلد ما يندرج في إطار التمييز والعنصرية والدعوة إلى الكراهية والتحريض والعنف، وهو مخالف لروح المادتين (19 و20) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966، وهو في الوقت نفسه مخالف لقرارات "مؤتمر ديربن" حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب لعام 2001. والأكثر من ذلك، فإن القرار الرئاسي يتعارض مع مبادىء الدستور الأمريكي نفسه، وهو من أعرق الدساتير العالمية، خصوصاً لمخالفته لمبادىء المساواة والتمييز ضد شعوب بكاملها على أساس الدين والعرق.
   وتختلف الرؤية السياسية عن الرؤية القانونية، ليس فقط بالتبرير، بل بالقواعد التي تحكمهما، وحين يبرّر ترامب إجراءه الأكثر رمزية بالأمن القومي، يقول القضاة إن قرارهم يتساوق مع "المصلحة العامة"، وهنا يظهر الافتراق والتعارض ما بين السياسة والقانون، علماً بأن قرار المحكمة الدستورية العليا سيكون حاسماً، وينبغي الامتثال له.
   لقد كنّا نعتقد وما زلنا أن الولايات المتحدة هي بلد القانون والمؤسسات، وأن تهمة التسييس للقضاء وعدم النزاهة أو الحيادية أو المهنية، هي تُهم جاهزة يتم تلبيسها للعالم الثالث ولمعارضي سياسة واشنطن كلّما اقتضت الحاجة لذلك، وهو ما لمسناه خلال فترة الحصار على العراق، وفيما بعد تبرير احتلاله باتهامه امتلاك أسلحة دمار شامل، وإذا بنا اليوم أمام ظاهرة جديدة، وهي أن الرئيس الأمريكي نفسه، وهو أعلى درجة في سلّم الهرم، يتّهم القضاء الأمريكي وقراراته بالتسييس.
   لقد تعلّمنا خلال دراستنا القانونية، أن القانون حسب مونتسكيو مثل الموت لا يستثني أحداً، وهو ما حاولنا أن ندرّسه لطلابنا، مشيدين بالمؤسسات التي تم بناؤها في الدول المتقدّمة والتي سبقتنا في ميدان حكم القانون ومنها الولايات المتحدة، بما فيها مؤسسات القضاء التي هي الأكثر احتراماً، لكن ما هو جديد أن الرئيس الأمريكي هو من يطعن بقراراتها ويتّهمها بالتسييس. وإذا كان مثل هذا الأمر يتعلّق بمسألة ذات اختصاص داخلي أمريكي، وإن كانت لها انعكاساتها الدولية، فما بالك حين يتعلّق الأمر بشرعنة الاستيطان من جانب "إسرائيل"، فسيكون من حقنا وحق جميع المدافعين عن حقوق الإنسان التساؤل من منظور العدالة والحقوق: من سيقاضي المرتكبين؟ ومن لديه مثل هذه القدرة على ملاحقتهم حتى لو تمت إدانتهم؟ ومن سينصف الضحايا؟



394
قضم الضفة الغربية: ماذا يعني؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   كانت صدمة "إسرائيل" حادّة جداً، ووقعها شديد القسوة، وذلك بصدور قرارين دوليين خلال فترة شهرين، أحدهما من اليونيسكو، والثاني من مجلس الأمن الدولي، والقراران يطعنان بالممارسات "الإسرائيلية"، ويؤكدان بطلانها وعدم شرعيتها، فضلاً عن تعارضها مع قواعد القانون الدولي وانتهاكها لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، وإذا أردنا التوسّع في تفسير دلالاتهما، فإنهما يشكّكان بشرعية الوجود "الإسرائيلي"، خصوصاً بتجاوزها على مبادىء الأمم المتحدة وأهدافها، التي ساهمت في تأسيسها.
   وقضى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 الصادر عشية عيد الميلاد 24/ديسمبر (كانون الأول) 2016 بعدم شرعية الاستيطان (الذي يندرج في القانون الإنساني الدولي باعتباره جريمة دولية)، إضافة إلى تعارضه مع قواعد القانون الدولي. أما قرار اليونيسكو الصادر في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 فقضى بعدم أحقية "إسرائيل" السيطرة على الأماكن التاريخية في القدس باعتبارها تمثل إرثاً للشعب العربي الفلسطيني، مثل المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف وحائط البراق، باستخدام أسمائها العربية، وليس التسمية اليهودية "جبل المعبد".
   ولأن "إسرائيل" اعتادت أن تتعامل باستهتار مع المجتمع الدولي وتستهين بقرارات المنظمات الدولية، بوضع نفسها فوق القانون، فقد تصرّفت بردّ فعل غاضب مندّدة بالمنظمتين الدوليتين، بل ذهبت أبعد من ذلك بتحدّيهما حين قرّرت توسيع دائرة الاستيطان الذي هو أقرب إلى إعادة "احتلال المُحتلّ"، من أراضي الضفة الغربية والقدس. وبدلاً من الامتثال لقرارات ما يُسمى بـ"الشرعية الدولية"، فإنها لجأت إلى التصعيد، الأمر الذي لقي سخط المجتمع الدولي حتى إن بريطانيا وفرنسا وألمانيا شجبت مشروع الاستيطان الجديد، وكانت إدارة ترامب قد حذّرت من الخطوات الأحادية على الرغم من انحيازها الكامل "للإسرائيليين" ودعمها لهم، وإعلانها عن نيتها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
   وقد أعلن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو مصادقة مجلس الوزراء على بناء 2500 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وهو ما أيّده بحماسة منقطعة النظير وزير الحرب أفيغدور ليبرمان. وتأتي هذه الخطوة التصعيدية الجديدة استمراراً للقضم التدريجي لأراضي الضفة الغربية التي اتبعتها "إسرائيل" سواء في الضفة عموماً وفي القدس خصوصاً. ولعلّ من دلالات هذه الخطوة أنها تأتي عشية تدشين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقعه في البيت الأبيض.
   الخطوة "الإسرائيلية" هي رد فعل مباشر لقراري مجلس الأمن واليونيسكو، وفي الوقت نفسه هي رد فعل لخطاب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ومؤتمر باريس، الأمر الذي سيعني بلغة التحليل السياسي زيادة عزلة "إسرائيل" واتّساع دائرة المعارضين لممارساتها ذات الطابع غير الشرعي والمخالف لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.
   وكانت التبريرات "الإسرائيلية" لبناء المستوطنات (المستعمرات) الجديدة هي الحجة المعروفة بالاستجابة للاحتياجات السكنية والحفاظ على سير الحياة الطبيعية، وستقام "المستوطنات" داخل الكتل الاستيطانية، أي بتوسعتها، بينها 100 وحدة ستبنى شرق مدينة رام الله. وكان نتنياهو قد أبلغ مجلس الوزراء المصغّر (الكابينيت) أنه سيرفع القيود "المفروضة" على سياسة البناء الاستيطاني في القدس الشرقية والضفة الغربية (المحتلة)، ووعد أن "الفترة المقبلة ستشهد عملية بناء إلى ما لا نهاية"، الأمر الذي سيعني من الناحية الفعلية تقويض أي جهود للسلام، سواء كانت على المستوى الدولي أو الإقليمي، فضلاً عن أن أي حديث عن مفاوضات في ظل تفاقم عمليات الاستيطان، سيعني رضوخاً للأمر الواقع وضرباً من العبث لا معنى له، وقبولاً لإملاء الإرادة "الإسرائيلي".
   وتسعى "إسرائيل" من خلال ضغوطها تلك، الظهور أمام المجتمع الدولي، بأن رفض المفاوضات المباشرة من جانب الفلسطينيين يعني أنهم والعرب معهم لا يريدون تسوية سلمية، في حين أنها لم تستجب لمبادرة السلام العربية التي أقرّها مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت العام 2002، وضربت جميع المساعي التي اتخذت بهذا الشأن من جانب العرب والفلسطينيين بما فيها تقديم تنازلات وصولاً لسلام عادل ولو بحده الأدنى.
   ونقلت القناة الثانية "الإسرائيلية" أن نتنياهو قال للوزراء إنه سيتم تنفيذ مخططات بناء واسعة خاصة في القدس الشرقية وسيضم مستوطنة "مستعمرة" (معاليه آدوميم) شرقي القدس إلى "إسرائيل"، وهي "مستوطنة" واقعة في بلدة أبوديس العربية، لحين اجتماعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، علماً بأنه سبق للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أن حذّر من اتخاذ مثل هذه الخطوة التي لن تساعد في عملية السلام. وكانت لجنة التنظيم والبناء في البلدية "الإسرائيلية" بالقدس قد وافقت على بناء 566 وحدة استيطانية جديدة في القدس المحتلة، وذلك في إطار مسعى "إسرائيلي" يندرج ضمن مشروع "القدس الكبرى" الذي يقضي بضم القدس الشرقية إلى "إسرائيل"، وتوسيع الاستيطان فيها، بعد أن ضمتها "إسرائيل" قانونياً في العام 1980 بقرار من الكنيست لقي رفض المجتمع الدولي وعدم اعترافه بتلك الخطوة غير الشرعية والتي تتعارض مع مبادىء الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولا سيّما اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملاحقها.
   ويعني ضم "مستوطنة" معاليه آدوميم في بلدة أبوديس، اقتطاع أراضي فلسطينية جديدة على حدود العام 1967، الأمر الذي سيقود إلى تعقيد أي تسوية ويمنع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، ويكشف للعالم أجمع انتفاء أي مشروع جاد للتسوية لدى "الإسرائيليين"، خصوصاً وأن نتنياهو عاد يردّد في الأسابيع الأخيرة "أن القدس ليست مستوطنة وعليه سيستمر البناء هناك". ومثل هذه الخطوات هي بمثابة حرب جديدة، بل هي استمرار للحروب التي تشنها "إسرائيل" ضدّ الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة، وهي بالضدّ من قرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973 الذي يقضي بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي العربية التي احتلتها في عدوان الخامس من حزيران العام 1967.
   ويبدو أن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" نتنياهو استدرك بشأن مستعمرة (مستوطنة معاليه آدوميم)، فقام بتأجيل مناقشة ضمّها بمبرّر وصول إدارة ترامب وعدم رغبته في مفاجأته بخطوات أحادية الجانب.
   جدير بالذكر أن هذه  "المستعمرة - المستوطنة" كانت إحدى نقاط الخلاف بين إدارة أوباما و"إسرائيل"، وكان روبرت غيبس المتحدث السابق في البيت الأبيض، قد قال في بيان مكتوب إن الرئيس أوباما يرفض اعتبار توسيع النشاط الاستيطاني أمراً مشروعاً، مؤكّداً أن ذلك يجعل من الصعب توفير مناخ ملائم للمفاوضات، مثلما أكّد البيان على حلّ الدولتين بقيام دولة فلسطينية تعيش بسلام إلى جانب "إسرائيل"، وهو الموقف الذي يستهدفه الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا بالدعوة إلى مؤتمر دولي.
   لعلّ القرارات "الإسرائيلية" ببناء مستوطنات في القدس وفي الضفة الغربية ومحاولات ضم أراضي على حدود العام 1967 الفلسطينية، "إعادة احتلالها" يعتبر تحدّياً جديداً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 الذي تمت الإشارة إليه (وهو أول قرار يمرّ بإدانة "إسرائيل" من مجلس الأمن منذ العام 2008)، حيث طالبها بوقف بناء المستوطنات في القدس الشرقية والضفة الغربية، وكان قد صوّت لصالحه 14 دولة (أعضاء في مجلس الأمن)، وحتى الولايات المتحدة لم تستخدم حقها في الفيتو لمنع إمرار القرار، لكنها امتنعت عن التصويت. وكان مشروع القرار قد قدّمته نيوزيلندا والسنغال وفنزويلا وماليزيا.
   ولذلك يعتبر قرار بناء "المستوطنات" تحدّياً جديداً لمجلس الأمن الدولي الذي اعتبر الاستيطان "عملاً غير مشروع"، ناهيك عن أنه كان قد أصدر قراراً رقم 476 في 30 يونيو (حزيران) 1980، أعلن فيه بطلان الإجراءات التي اتخذتها "إسرائيل" لتغيير طابع القدس، وأكّد القرار مجدداً "أنه لا يجوز الاستيلاء على الأرض بالقوة"، و"ضرورة حماية البعد الروحي والديني الفريد للأماكن المقدسة في المدينة" وذكّر "باتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12 أغسطس 1949، والمتعلّقة بحماية المدنيين وقت الحرب"، كما شجب استمرار "إسرائيل" في تغيير المعالم المادية والتركيب الجغرافي والهيكل المؤسسي ووضع مدينة القدس الشريف".
   إن الاحتلال والضم والاستيلاء بالقوة على الأراضي يعتبر من تركة الماضي، وهو بموجب القانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة، وهو عمل باطل بطلاناً مطلقاً، الأمر الذي يفترض من المجتمع الدولي وما يسمى بالشرعية الدولية ممارسة الضغوط المختلفة على "إسرائيل" لحملها على تنفيذ القرارات الدولية، خصوصاً العودة إلى حدود 4 يونيو (حزيران) العام 1967، ووقف عمليات الاستيطان، وتفكيك المستوطنات وإبطال ضم القدس والجولان وغيرها من الأراضي العربية المحتلة.
   إن استمرار "إسرائيل" في سياستها الإجلائية الاستيطانية سيعني ليس الإبقاء على بؤر التوتر، بل صبّ الزيت على النّار لكي تبقى مشتعلة وهو ما يهدّد السلم والأمن الدوليين، ويجهض أي محاولة لتنفيذ حلّ الدولتين على أساس احترام حقوق الشعب العربي الفلسطيني، بما فيها حقه في تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة القادرة على الحياة، واعتبار القدس عاصمة لها، وحل مشاكل الحدود والمياه واللاجئين بإقرار حق العودة والتعويض، وذلك يمثل معيار الحد الأدنى كما يقال.
   وسيكون اليوم من واجب القوى الكبرى، وخصوصاً أعضاء مجلس الأمن الدائمين أن يمارسوا ضغوطهم لوقف سياسة الاستيطان الجديدة وهستيريا قضم الضفة الغربية، لأن ذلك سيفتح الاحتمالات على حروب جديدة، علماً بأن قطاع غزة يعاني من حصار منذ نحو 10 سنوات تقريباً، مثلما تعرّض إلى 3 اعتداءات سافرة وصارخة، وكان العدوان الأول - أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 وحمل اسم عملية عمود السحاب. والثاني - الموسوم بـعملية الرصاص المصبوب في العام 2012، أما الثالث - فقد كان في العام 2014 وأطلق عليه عملية الجرف الصامد.
   وإذا كان الفلسطينيون والعرب قد كسبوا الجبهة السياسية والدبلوماسية، سواء بشجب أوروبا الغربية أو بعدم الارتياح الروسي والصيني من مشاريع الاستيطان "الإسرائيلية"، إضافة إلى المواقف الداعمة للدول الإسلامية بشكل خاص والدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بشكل عام، فإن المطلوب منهم المزيد من توحيد المواقف لجعل سياسات نتنياهو وإجراءاته مكلفة له على الأرض وفي الميدان أيضاً، بالصمود الفلسطيني، ولا سيّما برأب الصدع بين الفلسطينيين وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفصائلية الضيقة، وعلى الصعيد العربي المزيد من الدعم والتضامن لتعزيز الدبلوماسية الفلسطينية وتعضيدها. وقد أكّدت التجربة أن وحدة منظمة التحرير الفلسطينية وتضامن عربي فعّال وتأييد دولي للأصدقاء كان له أكبر الأثر في إحراز الشعب الفلسطيني على مكاسب إيجابية.
   إن الاستيطان كان أحد أكبر العقبات أمام اتفاق أوسلو العام 1993 الذي وصل إلى طريق مسدود، وسيبقى طريقاً مغلقاً ما لم تتوقف "إسرائيل" بالكامل عنه. والغريب أن هذه العملية الاستيطانية الجديدة هي أكبر حجماً منذ العام 2013، وظلّت الدعاية "الإسرائيلية" مستمرة لها، فهذا رئيس الوزراء نتنياهو يقول على موقعه "نبني وسنواصل البناء" وهذا وزير الدفاع ليبرمان يقول "تعود إلى الحياة الطبيعية في يهودا والسامرة" وفقاً للتسمية التوراتية للضفة الغربية المحتلة منذ العام 1967.
   إن هدف "إسرائيل" منع قيام دولة فلسطينية وعزل الضفة الغربية داخل كانتونات، وذلك دون أي اكتراث لموقف المجتمع الدولي، وهو جزء من مخطط مسحي وخرائطي لمستقبل القدس العام 2020، والمخطط كان سالكاً منذ العام 1979 بخصوص الضفة الغربية، وضمن هذا المخطط فإن ما يعرف مشروع 5800 لعام 2050 سيكون من ضمنه بناء أكبر مطار بمنطقة البقيعة في الضفة لاستقبال 35 مليون مسافر و12 مليون سائح، إضافة إلى مشاريع سكك حديدية.
   وحتى الآن هناك أكثر من 650 ألف مستوطن على 145 مستوطنة و116 بؤرة استيطان بالضفة الغربية و15 مستوطنة بمدينة القدس.
   وبالعودة للاستيطان الصهيوني، فهو مصطلح يعود إلى الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وهو آخر استعمار عنصري استيطاني إجلائي في العالم، لا سيّما بعد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، الذي دام أكثر من قرنين من الزمان، أي أنه من تراث الماضي فلم يعد في عالمنا المعاصر وجود دولة عنصرية، ولذلك فإن المطالبة بإقامة دولة "إسرائيل" اليهودية النقية يعني طرد أكثر من 20% من سكان البلاد الأصليين، أي عرب فلسطين في إطار سياسة تطهير عرقي لم تعد مقبولة عالمياً، لكن إسرائيل التي ترفض حلّ الدولتين وتتنكر حتى لاتفاقيات أوسلو التي هي أقل من الحد الأدنى، متمسكة بهذا الإجراء لما تبقى من عرب الـ48، وهذا سيعني الاستمرار في ممارسة سياسة تمييز عنصري جديدة في المنطقة "أي الأبرتايد الصهيوني".
   وإذا كان مؤتمر ديربن العام 2001 قد أدان العنصرية واعتبر الممارسات "الإسرائيلية"، شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وخصوصاً في أكبر عملية استفتاء للمجتمع المدني، شملت نحو 3000 منظمة حقوقية، فإن من واجب المجتمع الدولي العمل للحيلولة دون تفقيس بيض العنصرية الجديد الذي سيعني جرعات جديدة لاستمرار الكيان العنصري الاستعلائي الذي هو مشروع حرب دائمة في المنطقة.
   إن بناء المستوطنات وقضم الأراضي وضمها بالقوة أو السعي للحصول على مكاسب سياسية جراء الحرب والعدوان والتوسّع، هو انتهاك لنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة 1949، لا سيّما للسكان المدنيين، وكان مجلس الأمن الدولي منذ العام 1979 قد اتخذ قراراً برقم 488 اعتبر فيه المستوطنات غير شرعية. كما أكّدت محكمة العدل الدولية في لاهاي العام 2004 أن بناء جدار الفصل العنصري غير شرعي وينبغي تفكيكه وهو يهدف خدمة المشاريع الاستيطانية وأن القيود على السكان الذين تبقوا ما بين الجدار الفاصل وبين الخط الأخضر قد يؤدي إلى رحيلهم، وأن السيطرة على الأراضي الخاصة والمرتبطة بإقامة الجدار، كما ينبغي تعويض الفلسطينيين، ويشكّل مساً بالأملاك الشخصية، مما يعد خرقاً للمواد 46 و52 لاتفاقيات لاهاي لعام 1907 والمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة.
   لقد بدأت الحركة الصهيونية بعملية الاستيطان حتى قبل قيام "إسرائيل"، حيث تم إنشاء 19 مستوطنة قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال (بازل) السويسرية العام 1897، وعملت الصهيونية على شراء الأراضي والاستيلاء عليها وبشكل خاص بعد العام 1908 ولغاية الانتداب البريطاني على فلسطين في 24 يوليو (تموز) العام 1922، وزاد الأمر بعد الانتداب ولغاية قيام دولة "إسرائيل" العام 1948.
   أما بعد قيام "الدولة" العبرية فقد توسّعت حركة الاستيطان نتيجة انفتاح باب الهجرة على مصراعيه وارتفعت بعد العام 1967 وصولاً إلى العام 1979، حيث أقيمت 799 مستوطنة قروية جديدة، وبعد هذا التاريخ جرى الاهتمام بالمستوطنات الصناعية حيث تصاعد ما سمي بالاستيطان الاقتصادي والسكني والوجود الحضري، مقابل القروي والتعاوني والريفي، وذلك منذ نهاية الثمانينات.
   إن الموجة الجديدة من المستوطنات هدفها هو قضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وستعني فيما تعنيه إبطال أي عمل يؤدي إلى حل سلمي مقبول من الفلسطينيين وهو بحدّه دون الأدنى، لأنه سيعني إلغاءً لوجودهم.



395
وطني نقرة السّلمان
وهويّتي عراقيّة والهوى أممي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   "أنت غير عراقي. لقد أُسقطتْ عنك الجنسية... اكْتُبْ رسالة إلى أهلك تطلب منهم ما تحتاجه قبل تسفيرك إلى خارج العراق..."، قال ذلك مدير السجن لـ"آرا خاجادور"، بلهجة أوامرية استعلائية باردة، بعد صدور (المرسوم رقم 17) في 22 آب/ أغسطس العام 1954.
   وكانت وزارة نوري السعيد الثانية عشر قد تشكّلت في 3 آب/أغسطس وعُرفت لاحقاً بـ"وزارة المراسيم" وقد جاء تشكيلها تحضيراً لحلف بغداد، وأهم مراسيمها "إسقاط الجنسية" و"مكافحة الأفكار الهدّامة" (المرسوم رقم 16)، وإغلاق النقابات وحلّ الأحزاب وإلغاء امتيازات الصحف، وقد أصدر وزير الداخلية سعيد قزاز في حينها تعليمات تقضي بمراجعة من شملهم قانون إسقاط الجنسية أقرب مركز للشرطة وتقديم تعهّد خطي بنبذ الشيوعية خلال شهر واحد لمن كان داخل العراق وشهرين لمن كان خارجه.
   وضمّت قائمة إسقاط الجنسية العراقية شخصيات سياسية معارضة متنوّعة، بينهم: كامل قزانجي وتوفيق منير (اللّذان سُفّرا إلى تركيا) وعزيز شريف الذي كان متوارياً عن الأنظار، وظنّت السّلطات أنه كان في سوريا، فكتب رسالة من مخبئه يُعلن فيها أنه موجود في العراق تحدّياً لها، وعدداً من السجناء الذين صدرت بحقهم أحكاماً غليظة مثل: زكي خيري وبهاء الدين نوري وأكرم حسين وجاسم حمودي وعبد الرزاق الزبيدي وصادق الفلاحي وكامل صالح السامرائي ومحمد عبد اللطيف وعلي الشيخ حسين الساعدي، وبعض الذين كانوا في الخارج بينهم الشاعر كاظم السماوي والشاعر عدنان الراوي والدكتور صفاء الحافظ وآخرين.
   وتعكس حكاية آرا خاجادور الدرامية هشاشة الوضع القانوني في العراق، والذي عانت منه الدولة العراقية، حيث كان قانون الجنسية العراقية (رقم 42 لعام 1924) قد صدر قبل صدور القانون الأساسي (الدستور) العام 1925، ووضع القانون درجتين للجنسية (أ) و(ب) واشترط وجود شهادة جنسية وليس جنسية فقط، الأمر الذي جاءت تداعياته لاحقاً واستثمر لأسباب سياسية، فـ"آرا" الأرمني اكتسب الجنسية العراقية منذ ولادته، وفي سنة صدور القانون، ولأنه كان محكوماً بتهمة الشيوعية حكماً مؤبداً، فقد جرت محاولات لمساومته سياسياً تحت حجة عدم عراقيته، وبالطبع فإن كل حالة عوملت على انفراد.
   ولعلّ حكاية آرا خاجادور حول الجنسية تلك، تفتح أمامنا خزّان حكايات عديدة، منها نفق بعقوبة الذي ساهم في حفره، وأطلق السجانون عليه لاحقاً اسم "نفق آرا"، وكان د. موفق فتوحي قد زار بعقوبة في أوائل السبعينات في إطار مشروع لوزارة التخطيط العراقية، وهناك استمع إلى مرافقه وهو يتحدث عن عدد من مباني المدينة ومن ضمنها سجن بعقوبة، وحين وصلوا إلى السجن همس محدثه في أذنه: "هنا كان نفق آرا خاجادور الشهير".
   قلت لـ"آرا": كيف تعاملت مع طلب مدير السجن؟
   وما أن بدأ يتحدث عن ذكرياته حتى بدأت المعلومات تتدفّق وكأنها أقرب إلى محفوظة اختزنت في الذاكرة. وقد اختلطت هنا الأريحية وخفّة الدم في جوابه رغم الأجواء الثقيلة والسوداوية التي كان يعيشها، فقال: لقد كتبت رسالة إلى الأهل أطلب منهم إرسال الشاي والسكر والتتن (التبغ - السجائر)، وذلك بدلاً من طلب بدلة وملابس ونقود وما شابه ذلك. وما أن اطّلع مدير السجن على ما كتبته، بصق بوجهي، وعلّق بشراسة على ما كتبت قائلاً: أتمزح معي؟ فقلت له: أنا "آرا" الأرمني العراقي الشيوعي، "وطني نقرة السلمان، وهويّتي العراق، وإنني أممي وأحبُّ الإنسانية".
   استعدت تلك الحكاية الدرامية لأفتح نافذة جديدة لحكاية أخرى في ذاكرة آرا خاجادور، وهي حكاية لا تقلّ غرابة وإثارة عن حكاية الجنسية، وإن كان ظلّها أخفّ من الحكاية الأولى. يومها كان آرا وعدد من رفاقه، ولا سيّما عمر علي الشيخ ومهدي حميد، قد شرعوا بحفر نفق بعقوبة الشهير، العام 1954 وقد هرب منه السجناء، وبعد فشل العملية وإلقاء القبض على الهاربين جاءه أحد الجنرالات للتحقيق معه، وكان سؤاله المحيّر:
   "يا آرا الأرمني، كيف حفرت النفق؟ بالله عليك أخبرني؟ وأين ذهبت بالتراب؟... قل لي فقط لمعلوماتي العسكرية... كيف فعلتها؟"، كرّر النقشبندي - كما يذكر آرا اسمه - سؤاله، لكن آرا استخفّ بسلطوية السائل حيث ناكفه: "إن ذلك سرّ المهنة، فكيف تريدني أن أفشي السرّ"، فما كان من الجنرال إلاّ أن ازداد حيرة وشعوراً بالخذلان. وكان آرا ورفاقه قد بدأوا بحفر النفق، وكما يقول: "إن الحاجة أم الاختراع"، فقد كانوا ينقلون التراب "بالكونية" ويعملون منه مخاديد (وسائد) ودواشك (أفرشة) ينامون عليها، لكي لا يلفتوا نظر الحرّاس. أما أدواتهم التي استعملوها فكانت أدوات المطبخ البسيطة (الجفاجير والسكاكين والملاعق).
   استعدتُ مع آرا تلك الاستذكارات، عسى أن نبتعد ولو قليلاً عن أوجاع عراقنا الحاضر الذي أصبح مرتعاً للزبائنية ونظام الغنائم والمحاصصات الطائفية والإثنية والإرهاب والعنف والفساد والرشا، ولعلّ آرا ما يزال كما عرفته منذ نحو خمسة عقود من الزمان، يُتابع كل صغيرة وكبيرة، على الرغم من أنه في الثالثة والتسعين من عمره المديد، ويعيش وحيداً بشقة في قلب العاصمة التشيكية براغ، لكنه لا يزال يتمتّع بحيويّته، وأستطيع القول إنني لم أقابل شخصاً بأريحيّـته وفي سنّه، فهو ما أن تبدأ معه الحوار حتى يأخذك بعيداً لعوالمه الخاصة وأحلامه الكبيرة ومغامراته ومتعه، وكما يقول اللبنانيون إنه "عيّيش" (أي يحب الحياة)، على الرغم من مراراته المعتّقة والظّلم الذي حاق به، لكنه لم يتراجع قيد أنملة عن الأمل الذي ظل رفيقه الأول والأخير حتى وهو يقضي عشر سنوات عجاف في السجون، قسمها الأكبر في سجن صحراوي اسمه "نقرة السلمان"، مثلما يقضي نحو 5 سنوات أخرى في الجبال الوعرة متنقلاً بين ناونزنك ونوكان وبشتاشان، ومن سوران إلى بهدنان، ومن موقع إلى آخر لقيادة حركة الأنصار الشيوعيين.
   وكان سلام عادل الذي استشهد تحت التعذيب في العام 1963 قد اقترح استبقائه في المنفى، حيث كان في العام 1959 سكرتيراً عاماً لاتحاد نقابات العمال وعمل في براغ في سكرتارية اتحاد نقابات العمال العالمي، واستمر هناك بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الذي نجا منه، وعاد سرّاً إلى العراق في مطلع العام 1965، واضطرّ إلى المنفى ثانية في العام 1970 وحتى العام 1974 ممثلاً للحزب الشيوعي في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، وفي أواخر الثمانينات وانتهاء مهماته في قيادة قوات الأنصار الشيوعية، عاد إلى منفاه براغ. وكانت السجون والجبال والمنافي قد أعطت الرجل حيّزاً من التسامح والاعتراف بالآخر، حيث مارس رياضة نفسية للتغلّب على آلامه وعذاباته، ولكي لا يتحوّل الاختلاف والخلاف إلى نوع من الكراهية والحقد، وقد ساعدته في ذلك بيئته العائلية ونشأته الأولى الانفتاحية.
   وحين تعرّضت الحركة الشيوعية إلى التصدّع والانحسار أصابه ما أصاب العشرات من القيادات والكوادر، بسبب ضيق مساحة الرأي والخلاف الذي سرعان ما استبدل الحوار والجدل بالعقوبات والتهميش والعزل لدرجة اعْتُبِر آرا خارج إطار الحزب، وبدأت تلك الخلافات تتعمّق خصوصاً عند توغل القوات الإيرانية في الأراضي العراقية، ولاحقاً بسبب الحصار الدولي والرهان على العنصر الخارجي والمشاركة في جوقة مجلس الحكم الانتقالي وتشكيلات ما بعد الاحتلال، وكان قد عبّر عن جزء من آرائه في كتابه "نبض السنين" الذي قدّم له رفيقه الذي ظلّ مخلصاً له د. عبد الحميد برتو.
   آرا خاجادور وغيره العشرات من الشيوعيين، سواء كانوا من موقع المسؤولية أو خارجها، ما زالوا يتصرّفون ويتعاملون بكونهم مرجعية شيوعية خارج نطاق الأوامرية والبيروقراطية ويميّزون أنفسهم عنها بمواقف مختلفة، لأن حياتهم وتضحياتهم تأسَّست على أحلامهم لوطنهم أولاً وللقيم والمثل التي ضحّوا من أجلها، وليس عبثاً حين يكون حوار آرا مع مدير السجن أن وطنه نقرة السلمان وهويّته عراقية وانتماءه أممي، وهو لم يخفِ ذلك، وكان يعتقد ولا يزال أن علاقته مع المركز الأممي، سواء كانت شخصية أو حزبية، هي من باب وحدة الأفكار والأهداف، ويمكن أن تكون من باب وحدة الوسائل والأساليب، أو تكاملها وتفاعلها،  وربما الآن أصبح أكثر حريّة في انتقاد بعض توجهات الرفاق الأشقاء، لأنه حسب تعبيره لا يعرفون ظروفنا، وعلينا نحن أن نقرّر ما يخصّنا. ولعلّ التعويلية والاتكالية كانتا أحد أسباب إخفاق الحركة السياسية في بلادنا بمختلف تياراتها.
   آرا الأرمني كما يسمّيه السجانون، الشيوعي الوطني الأممي وقائد حركة الأنصار الشيوعية العربية التي تأسّست من أربعة أحزاب شيوعية عربية (العراقي والسوري واللبناني والأردني) وأحد طاقم الرعيل الأول يستعيد حكاية هروبه من سجن بعقوبة التي مضى عليها ستة عقود ونيّف من الزمان، والذي ترك الجنرال يضرب أخماساً بأسداس: "كيف فعلها آرا الأرمني؟ وأين أخفى التراب؟".
   يقول آرا: إن النفق الذي تمّ حفره طوله 27 متراً وعرضه حوالي متر واحد، لكننا بالصبر الشديد والسريّة التامّة تمكّنا من إنجاز مهمتنا واستكمال حفر النفق بأدوات بدائية، وربط داخل السجن بخارجه عبر استطلاعات كنّا نقوم بها، حيث نرسل عمر علي الشيخ "المتمارض" إلى المستشفى خارج السجن، فيعاونه أحد الأطباء القوميين ويسهّل مهمّته، لأنه كان يتعاطف مع السجناء، ويعطيه الفرصة لمراجعته أكثر من مرة في الأسبوع، وهكذا تمكّنا من رسم الخطة وتنفيذها.
   وعندما حانت ساعة الصفر باتفاق بين الحزب في الخارج والقيادة السجنية في الداخل التي اضطرت إلى تأجيل الموعد لثلاثة أيام، وذلك بسبب حساب الليالي المقمرة، وكانت لحظة التنفيذ بالغة الرهافة والدقة والحذر، مثلما هي بالغة البطولة والشجاعة، حيث ظلّت حديث العراق كلّه، فقد استطاع الشيوعيون الخروج من تحت الأرض وكأنها قد انشقت لتدفع بهم إلى الحريّة.
   يقول آرا كان سجن بعقوبة حديثاً ومبنيّاً من الكونكريت، ومكان الحفر ليس مناسباً، لكننا بدأنا بالحفر في مكان طيني واعتقد رفاقي أنه سينهار علينا، لكن خبرته التي اكتسبها من أماكن العمل المختلفة التي اشتغل فيها من مكاتب لتنظيف طائرات مطار الشعبية في الصحراء العام 1941، وفيما بعد في النفط، كما عمل نجاراً مع والده العسكري السابق في أيام العطل كلّها، مكّنته من اكتساب مهارات عدّة.
   وحين سألته متى اهتديت إلى طريق الشيوعية؟ قال: إن أول خلية انتظم فيها، ضمّت آرام ميلكونيان وآرديشست وسيروب وهو كهربائي، وآرا خاجادور، ويومها كان فهد "يوسف سلمان يوسف" أمين عام الحزب قد علّق بقوله: نصبنا وتداً في مقر الاستعمار. وكان المسؤول ستيبان سترايكيان، قبل تأسيس الفرع الأرمني للحزب الشيوعي في العام 1943، مثلما كان كريكور بدروسيان هو مسؤول الفرع الأرمني وهو لبناني الأصل وعربيته ضعيفة، وكان يتبادل الحوار مع فهد بالفرنسية أحياناً، ومع حسين محمد الشبيبي بالإنكليزية، كما يقول آرا، وقد أصبح آرا مسؤولاً للفرع الأرمني وهو في مطلع العشرينات من عمره. وقد حكم عليه بالسجن المؤبد في العام 1948، وبقي في السجن حتى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958.
   وقد سألت آرا خاجادور عن لقاءاته مع فهد، فقال: التقينا في دار الحكمة في الشورجة، مرّة بدون موعد، وأخرى بموعد وبطلب منه، حيث كنت أتردّد على دار الحكمة للقاء بزكي بسيم، وكان الأخير مسؤول الدار، وهو الشخص الثاني في الحزب عملياً، وكانت لقاءاتي معه مستمرة، كما التقيت حسين محمد الشبيبي الذي كان مسؤول التثقيف.
   وعن أعضاء قيادة الفرع الأرمني قال إنهم: أنترانيك ستراليان وشقيقه ستيفان وآرام بوكوس وآرا، وكانت بعض اللقاءات تتم عند زكي بسيم وفي إحداها التقوا حسين محمد الشبيبي الذي كان لتوه قد خرج من المعتقل. ويقول آرا: إن الشبيبي كان واسع الاطلاع وعميق الثقافة، وله باع طويل باللغة العربية، وكان مسؤولاً عن حزب التحرّر الوطني الذي حاول الحزب الشيوعي تشكيله كواجهة له، حين أجاز سعد صالح جريو وزير الداخلية 5 أحزاب وطنية العام 1946 وكان الحزب الشيوعي قد شكّل عصبة مكافحة الصهيونية التي ضمّت عدداً من اليهود في صفوفها بينهم سكرتيرها يعقوب مير مصري، (عادل مصري) وكان مسؤولها محمد حسين أبو العيس. وقد أشرت إلى ملاحظة آرا حول إرسال حسين الشبيبي إلى سعد صالح يستفهم منه، لماذا لم يرخّص لحزب التحرر الوطني؟ وحين شرح صالح للشبيبي الأسباب التي دعته لمثل ذلك الإجراء، تفهّم الحزب موقفه. وقد أدرجت معلومة آرا الجديدة بالنسبة لي في الطبعة الثانية لكتابي عن "سعد صالح - الوسطية والفرصة الضائعة".
   وحين سألته: كم دامت عملية الحفر؟ فأجاب: دامت العملية بضعة أشهر، وكنّا نضطر للتوقف أحياناً لأسباب تتعلق باحتمال انكشاف العمل، ثم نعاود الحفر وأحياناً في الظلام، ونقوم بتكسير الحجر، ثم استعنا لاحقاً بسلك كهربائي لغرض الإضاءة الداخلية، وكنا ننقل التراب إلى الغرف لنعمل منه وسائد وأفرشة، حتى إن السجناء الآخرين لم يشعروا بأي شيء غريب. وكنا قد اتفقنا مع الحزب خارج السجن في إحدى الزيارات العائلية على موعد التنفيذ، حيث أرسل الحزب 3 أشخاص بالدراجات يأتون ويذهبون لمدة 3 أيام يترقبون بدء العملية وليقوموا بمساعدة الهاربين، لكن عملية التنفيذ تأخّرت، الأمر الذي كان مرور هؤلاء لعدّة مرات أمام دائرة السجن سيثير الشبهة عليهم.
   ولم نكن ندري ما الذي حصل وقرّرنا التنفيذ خوفاً من انكشاف العملية. ويضحك آرا ويقول: بعد عدّة سنوات سمعت من عامر عبدالله يردّد في وصف الوضع السياسي بقوله: هناك "بصيص من النور في نفق مظلم"، وكلّما كان يقول ذلك كنت أستعيد لحظة تدفق حزمات الضوء إلى داخل النفق، فأضحك في سريّ. وكنّا قد حضّرنا دشاديش، وخرجنا إلى الهواء الطلق، وكنت أنا آخرهم.
   كان زكي خيري بصحبة عزيز الحاج وبعد مشي طويل ومرهق وجدا مقهى عند عبور السكّة، فجلسا فيه بعد أن أخذ التعب منهما مأخذاً، وسألهم الجالسون: من أنتما أيها الغريبان، وهل تطلبان مساعدة؟ فأجابا: نحن سمّاجة "أي صيادو سمك". وكانت المدينة قد استنفرت بالكامل، وجاء عبد الرزاق عبد الغفور من التحقيقات الجنائية لمتابعة ملاحقة الهاربين، حيث ألقي القبض عليهما بعد ساعات من هروبهما، وظلّت الدوريات تبحث وتفتّش باستنفار عن اثنين آخرين.
   وفي مسيرهما آرا وعمر علي الشيخ صادفا شخصين واقفين، حيث بادراهما هذان الشخصان بالقول: "حوّلوا" (أي تفضلوا - أو قرّبوا)، وين رايحين: (إلى أين ذاهبان)؟ أجابا "آرا وعمر علي الشيخ": لعبور دجلة، قالا لهما: لماذا لا تعبران الجسر؟ ثم سألوهما: جاتلين (قاتلين)، أو ناهبين (أي سارقين)، فأجاب عمر علي الشيخ: نحن شرفاء، فأجابه الفلاّح: "جا الينهب بنية موشريف؟" أي (الذي يختطف امرأة ليس شريفاً).
   سألوا آرا: يبدو عليك أنك غريب، ربما شعروا باللهجة أو اللكنة غير العربية، فأجاب: إنني من خانقين حيث تختلط اللغات واللهجات، لكن الخبر انتشر في القرية مثلما تنتشر النار في الهشيم، ليس هذا فحسب، بل إن عمر علي الشيخ سألهم: من انتخبتم؟ هل أنصار السلام؟ الأمر الذي زاد في تأكيد هويّتهم السياسية.
   وبعد حين جاء شاب بيده بندقية وسلّم عليهم وقال لهم: رفاق نحن من مؤيدي أنصار السلام، وهناك اثنان ألقي القبض عليهما (واحد طويل وضخم والثاني قصير ونحيف)، وعرفوا بأن زكي خيري وعزيز الحاج قد تم إلقاء القبض عليهما. واضطرّ آرا وعمر علي الشيخ أن يبيتا ليلتهما في البساتين. ويقول آرا: إنه كان يدخن، ولكنه توقف عن ذلك لكي لا يستدلوا عليه، بناء على محادثة مع عمر علي الشيخ، لكن الشرطة طوّقت القرية وشاهدوا أفرادها يحومون حولهم، خصوصاً بعد تسلّل خيوط نور الفجر الأولى من بين الأشجار، ثم سمعوا رمية إطلاقة في الهواء وصوت يصرخ: هذا آرا الأرمني الجثيث أي (العريض المنكبين).
   طالبهم آرا بعدم الاعتداء قائلاً: أنا آرا، وهو ما ذكرني بما قاله يوم ألقي القبض عليه في العام 1967 في بغداد وردّدناه حينها باعتزاز: أنا آرا خاجادور  (يا ناس كولوا للحزب آرا انلزم)، أي يا ناس قولوا للحزب إنني اعتقلت، وهي وسيلة إخبار لدرء الاحتمالات السلبية التي قد تتبع اعتقاله.
   وإذا كان لي أن أضع القارىء أمام هذه اللّقطة المملّحة، فإنها جزء من لقطات عديدة احتواها دفتر لخزّان معلومات لا ينضب اسمه آرا خاجادور وحسبي أن أختم هذه اللقطة بالقول: لا يصنع القائد بقرار ولا يتكوّن بناءً على رغبة أو لإملاء فراغ أو لاختيار حزبي وإنما تنجبه ظروفاً وأوضاعاً بعضها موضوعي وآخر ذاتي، منها كارزميته ومؤهلاته الشخصية والأدوار التي لعبها في حياته والخبرات التي اكتسبها وقدرته على اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، سواء كان صائباً أو خاطئاً، إذْ ليس هناك أقسى من التردّد والانتظار، لا سيّما حين يستوجب الحسم، ومثلما على القائد اتخاذ القرار، فلا بدّ من المرونة في التنفيذ.
   وإذا كانت قيادة فهد قد امتلكت كفاءة نظرية وفكرية وأخرى عملية وتنظيمية، وتمكّنت من رسم استراتيجيات وإدارة تكتيكات تبعاً للظروف الملموسة، فإنها في الوقت نفسه كانت وراء تشجيع قيادات شابة لتولي المسؤوليات برز فيها سلام عادل وجمال الحيدري وأبو العيس وآرا خاجادور وآخرين، إذْ ليس هناك أسوء من اختيار قيادات غير مؤهلة.



396
صفاء الحافظ وصباح الدرّة
37 عاماً على الاختفاء القسري
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   أعادني خبر اختطاف عشرات المواطنين العراقيين في وضح النهار في شمال العاصمة العراقية بغداد، إلى ظاهرة الاختفاء القسري التي ظلّت مستفحلة في العديد من المجتمعات، بل إن نحو 63 بلداً في العالم تعاني منها، ولأن الاختطاف الذي يسمّى بلغة القانون الدولي والأمم المتّحدة "الاختفاء القسري"، ظاهرة شائعة في العراق في الماضي والحاضر، فإن اعتراف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي: "... بإقدام قوة مجهولة على اعتقال 30 شخصاً من منطقة التاجي والطارمية، ولم يُعرف حتى الآن مرجعية هذه القوة، ولا مصير المعتقلين ولا الجهة التي اقتيدوا إليها"، يعتبر مسألة جديدة، فهو اعتراف صريح، بأن جهة مجهولة استغلّت قيام الجيش باعتقال عدد من المطلوبين، فنفّذت عمليتها المدبّرة، سواء باسم الدولة أو بعض أجهزتها أو بانتحال صفتها من جانب ميليشيات مسلّحة.
   في السابق كانت الدولة وحدها هي من يحتكر العنف، وإذا ما حدث عمل من هذا النوع، فإن إصبع الاتّهام سرعان ما يوجّه إليها، إذْ من سواها قادر على القيام باختطاف مفكّر أو صاحب رأي أو ناشطة سياسية وحقوقية أو رجل دين وإخفائه إلى ما لا نهاية، الأمر الذي سيدخل معها في نزاع حول اختصاصاتها، وهو أمر غير مسموح به على الإطلاق، ولكن منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، فإن جماعات عديدة من داخل الدولة وبجوارها ومن خارجها، ناهيك عن الاختراقات الأجنبية، من يقوم بهذا الدور سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.  وظلّت الكثير من الحوادث يلفّها الغموض والإبهام والالتباس والتقديرات المتباينة، وإن لم تخرج من دائرة الصراعات الطائفية والإثنية ومصالح أمراء الطوائف بألوانهم واتجاهاتهم المختلفة الفاقعة منها والباهتة.
   وفي العادة فإن الدولة تنكر أية صلة لها بالخطف وتبعد عن نفسها وعن أجهزتها الشبهة، بل تحاول إلصاقها بالأجنبي أو بأعدائها، كما حصل في حال الاختفاء القسري للفقيه القانوني د. صفاء الحافظ وللخبير والباحث الاقتصادي د. صباح الدرّة، وهما شخصيتان وطنيتان عراقيتان وعالميتان، فالأول عضو في مجلس السلم العالمي، والثاني عمل في سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، وقد اختطفا في شباط (فبراير) العام 1980، ولا يزال مصيرهما مجهولاً.
   ومنذ ذلك التاريخ لم أترك مناسبة إلاّ وذكّرتُ بهما في المحافل الحقوقية الدولية والعربية، ليس للعلاقة الشخصية فحسب، بل للدلالات الخاصة، سواء ما يتعلّق بالجهات الخاطفة أو المتواطئة أو المدسوسة التي أسهمت في أن تقع الشخصيتان بيد الخاطفين، لا سيّما وكانا قد اعتقلا قبل ذلك وتعرّضا للتحقيق والاستجواب لأكثر من مرّة، وحتى بعد تغيير النظام وانكشاف الكثير من الأمور، فقد ظلّت قضيتهما خارج دائرة الضوء، وربما يكون من مصلحة البعض ذلك، كي لا تتم المساءلة الضرورية، وكي لا ينال المتورطون عقابهم العادل، ولكن ذوي الضحايا وأصدقائهم ومن تعنيهم قضية حقوق الإنسان من مصلحتهم إجلاء مصير الشخصيتين الوازنتين.
   وبالطبع فإن موضوع الاختفاء القسري يشمل أسماء أخرى ذات شهرة واسعة مثل المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس العام 1965، وموسى الصدر الذي اختفى في ليبيا العام 1978 ومنصور الكيخيا الذي ضاع كل أثر له في القاهرة العام 1993، وشبلي العيسمي الذي اختفى قسرياً في لبنان العام 2011، إضافة إلى شخصيات عراقية مثل: عايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي ومحمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى وعزيز السيد جاسم وضرغام هاشم وشاكر الدجيلي وآخرين.
   وكنت أتوقّع أن يجلى مصير العراقيين المختفين قسرياً بعد العام 2003، ولكن للأسف لم تتم متابعة مثل هذه الملفّات، في حين أن المطالبة بكشف مصير منصور الكيخيا أتت أُكلها، في نهاية العام 2012، وتقول الرواية أنه نُقل "سرّاً" من القاهرة إلى طرابلس الغرب، بعد اختفائه قسرياً العام 1993 خلال حضورنا لمؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وبقي "سجيناً" في أحد "المساكن" بعيداً عن الأنظار، وتوفي في العام 1997، لكنه لم يدفن، وإنما استبقي في ثلاجة لحين الإطاحة بالقذافي العام 2011، وكان قد استمع إلى نصيحة إحدى العرّافات، بأن دفن شخصية مهمة قد يؤدي إلى وفاته، فأبقى عليه لمدّة نحو 14 عاماً، حتى تم اكتشافه، وأرسل الحمض النووي إلى معهد خاص في سيراييفو لتحليله وفحصه، والتأكّد من أنه يعود للكيخيا، وخصوصاً بعد مقارنته بالحمض النووي لابنه رشيد وأخيه محمود، وقد نُظم احتفال مهيب لتكريمه، تشرّف كاتب السطور بحضوره وإلقاء كلمة فيه (نهاية العام 2012)، علماً بأن الكاتب كان قد أصدر كتاباً عنه بعنوان: "الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجاً".
   وبخصوص الحافظ والدرّة، وبغض النظر عن الملابسات الغامضة التي اكتنفت عملية اختفائهما والاتهامات العديدة التي صاحبتها في غمرة صراعات سياسية وحزبية، فقد آن الأوان للكشف عن مصيرهما ومتابعة بعض الخيوط بخصوص اختفائهما، إذْ لا ينبغي أن نجعل النسيان الذي يراهن عليه المتورطون يطغى على القضية، ولا بدّ لها وجميع قضايا الاختفاء القسري أن تظل في دائرة الضوء لكشف المتسبّبين والمتواطئين فيها أمام الرأي العام ولمنع تكرار حوادث الاختفاء، بهدف ردع القائمين عليها، باعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم. والأمر يشمل قضايا المختفين قسرياً في الجزائر والمغرب ولبنان والعراق (وكردستان العراق أيضاً) وأفغانستان وليبيا وإيران وسوريا وتشيلي والأرجنتين، وغيرها.
   وإذا كان هناك من سكت عن الاختفاء القسري للحافظ والدرّة، أو حاول التقليل من شأن تلك الجريمة، فإن جرائم الاختفاء القسري التي تبعتها، لم يعد السكوت عنها ممكناً، الأمر الذي على الجميع إدراكه بأن مثل هذه الجرائم يمكن أن تطال "الجميع"، طالما تمكّن الخاطفون والمتواطئون معهم الإفلات من العقاب، حيث شملت مجموعات ثقافية وبشرية تم استهدافها مثل الصابئة المندائيين والمسيحيين والإيزيديين الذين سُبيت نساءهم، في محاولة لفرض نوع من التأسلم "الداعشي" على كل من يختلف مع الفكر التكفيري الإرهابي، ولعلّ الوطن بكامله تعرّض إلى الاختطاف، وتحوّل العراق بمشيئة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، من شعب موحّد إلى "مكوّنات" متناحرة، حسبما ورد في الدستور ثمان مرات، وحلّت الطائفية والإثنية محلّ المواطنة الجامعة، في محاولة لإعادة الجميع إلى أصولهم الدينية أو المذهبية أو العرقية ولو بالإكراه.





397
المنبر الحر / في نقيض التطرّف
« في: 21:09 31/01/2017  »
في نقيض التطرّف
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

   يمكن القول إن التطرّف ابن التعصّب، ووليده الإرهاب، وهي ظواهر متفشّية في العديد من المجتمعات والبلدان، بما فيها المتقدّمة. صحيح أنها قديمة قِدَم البشرية، إلاّ أن خطرها ازداد خلال العقود الثلاثة الأخيرة، سواء بعمق تأثيره، أو سرعة انتقاله، أو مساحة تحركه، حتى غدا العالم كلّه "مجالاً حيوياً" لفيروساته، بفعل "العولمة" والثورة العلمية - التقنية، والتطوّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات، والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتيل".
   وحين يهيّمن التطرّف على الفكر، يتحوّل بحكم ادّعاء الأفضليات، والزعم بامتلاك الحقيقة إلى فعل مادي، لينتقل من التنظير إلى التنفيذ، ومن النظرية إلى التطبيق، فما بالك إذا استخدم الدين، وفرعه الطائفية في أغلب الأحيان ذريعة للإلغاء والإقصاء وفرض الرأي بالقوة والعنف، والإرهاب خارج نطاق القانون والقضاء، لا سيّما من خلال التكفير.
وكان من نتائج استشراء التطرّف انتشار العنف والإرهاب، وهو الأمر الذي ضرب البلدان العربية والإسلامية بالصميم وأخذ يهدّد الدولة الوطنية بالتشظّي والتفتّت، إنْ لم يكن بالانقسام، الذي يتّخذ في بعض الأحيان طابعاً مجتمعياً، خصوصاً حين يجد بيئة صالحة لتفقيس بيضه، وتفريخ مجموعات متنوّعة ومختلفة من القوى الإرهابية، ابتداءً من تنظيم القاعدة وفروعها، وصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وأخواته جبهة النصرة أو "جيش الشام" حسب التسمية الجديدة أو غيرها.
جدير بالذكر أن ظاهرة التطرّف استفحلت لدرجة مريعة، بعد موجة ما أطلق عليه "الربيع العربي" التي ابتدأت في مطلع العام 2011، والتي كان من أعراضها "الجانبية" تفشي الفوضى وانفلات الأمن واستشراء الفساد المالي والإداري وإضعاف الدولة الوطنية ومحاولة التغوّل عليها.
التعصّب سبب، أما الإرهاب فهو نتيجة، مرَّت عبر بوابة التطرّف، الأمر الذي يتطلّب معالجة جذرية لأسباب التعصّب والتطرّف وليس معالجة النتائج، فحسب. والتطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، كما أن التطرّف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً أو غيره، وقد يكون التطرّف علمانياً، حداثياً، مثلما يكون محافظاً وسلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، باعتباره مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.
أما الإرهاب فإنه يتجاوز التطرّف، أي أنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف هو إرهاب، خصوصاً إذا ما كان دفاعاً عن النفس، ومقاومة العدوان.
وكلّ إرهاب تطرّف، ولا يصبح الشخص إرهابياً إلاّ إذا كان متطرّفاً، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابي، فالفعل الإرهابي تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً، لأن ثمة عملاً إجرامياً تعاقب عليه القوانين. أما التطرّف، ولا سيّما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، خصوصاً في المجتمعات المتخلّفة، كما أن بعض التطرّف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرّض على الإرهاب، بما فيه عن طريق الإعلام بمختلف أوجهه، فالكلمة قد تكون ملغومة، والصورة قد تكون مفخخة، والمعلومة قد تكون حزاماً ناسفاً، لا سيّما إذا استولت على العقول.
وإذا كان التطرّف يمثّل نموذجاً قائماً على مرّ العصور والأزمان، فإن نقيضه الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوّعة، لأن الاجتماع الإنساني من طبيعة البشر، حيث التنوّع والتعدّدية والاختلاف، وهذه صفات لصيقة بالإنسان، وكلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية توصّلت إليها البشرية بعد عناء، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.
لا يمكن سيادة القيم النقيضة لفكر التطرّف ما لم يتم تفكيك منظومة التعصّب وجذورها الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها. وقد أثبتت التجارب أن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتم القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلّح، كما لا يمكن القضاء على التطرّف بالتطرّف، أو مواجهة الطائفية بالطائفية، أو مجابهة الإرهاب بالإرهاب، وإنْ كان "آخر العلاج الكيّ" كما قالت العرب.
إن نقيض التطرّف ليس التطرّف المضادّ، كما أن نقيض التعصّب ليس التعصّب المعاكس، مثلما أن نقيض الإرهاب ليس الإرهاب، وعنفان لا يولّدان سلاماً، وإرهابان لا يبنيان وطناً، وظلمان لا ينتجان عدالة، وطائفيتان لا تنجبان مواطنة، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة بفكر وخطاب جديدين، ولا تقع المسؤولية على الدولة وحدها، وإن كانت تتحمّل المسؤولية الأساسية، لكن تشعّب المعركة ضدّ "الثالوث غير المقدس" تقتضي مشاركة جميع القوى الحيّة والفاعلة في المجتمع.
ولعلَّ القضاء على الفقر والأميّة والتخلّف ضمن استراتيجية بعيدة المدى يساعد في خلق بيئة مناسبة لنشر قيم السلام والتسامح واللاّعنف وقبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية، في إطار المواطنة التي تقوم على أركان متوازية ومتكاملة، تبدأ بالحرّية وتمرّ بالمساواة والعدالة، لا سيّما الاجتماعية في إطار من الشراكة والمشاركة، لأن التطرّف لا ينمو إلاّ إذا وجد بيئة صالحة لنموّه، ومثل هذه البيئة بعضها ناجم عن أسباب داخلية وأخرى خارجية.


398
المثقف وظاهرة الاغتيال السياسي
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي


- 1 -
   يوم سقط حسين مروّة مضرّجاً بدمائه وقف مهدي عامل (حسن حمدان) مودّعاً رفيقه أمام ضريح السيدة زينب في ضواحي دمشق قائلاً: إذا لم توحّدنا الثقافة بوجه الظلام والتخلّف، فماذا سيوحّدنا بعد؟ ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحية القادمة بعد مرور ثلاثة أشهر فقط، وقد سبقه صحافيان لامعان، هما خليل نعوس وسهيل الطويلة، ونعيد ما قاله مهدي عامل بقلب المعادلة أي جعلها معكوسة: هل الموت هو الذي يوحّدنا أم أن الحياة والثقافة والجمال والتنوّع والتعدّدية واحترام حق الاختلاف والرأي والرأي الآخر هي التي ينبغي أن تقربنا عن بعضنا إن لم تستطع توحيدنا؟
   مناسبة هذه الاستعادة هي اغتيال الشخصية اليسارية الأردنية، ناهض حتر في عمّان، على يد أحد المتطرفين الإسلامويين.
   لقد وجدتُ في الموت الذي يعني الغياب علاقة وجودية بالحياة، وقد تكون تلك مفارقة، إلاّ أنها مفارقة حقيقية وسائدة، خصوصاً لما يتركه الفقدان من فداحة وحزن يؤثر على مشاعر البشر وعواطفهم، لهذا السبب فهم يبحثون عما يقرّبهم إن لم يكن يوحّدهم، خصوصاً إزاء الأقدار الغاشمة، لكن البشر بطبيعتهم يعودون إلى حيث كانوا، لا سيّما وأن النسيان يجعل مما هو اعتيادي ومستمر قائماً. هكذا إذاً تتفجّر الرغبة والإحساس بما ينبغي أن نكون عليه من تقارب واتحاد ووحدة لمواجهة العبث والموت والفواجع والكوارث.
   البحث عمّا يوحّد، كان هاجس الصديق الكاتب والباحث حمادة الفراعنة، الذي وجد في الموت وكأنّه رديف للتوحيد، حين قال إن معاذ الكساسبة، الطيار الأردني الذي اغتاله "داعش" وحّد الأردنيين، مثلما وحّدهم اليوم ناهض حتر، وإذا كان المثقفون يُصدمون عند كل مفاجأة لاغتيال أحدهم، فنتساءل مع الفراعنة، متى يرتقي هؤلاء ومعهم التيارات الفكرية والسياسية إلى ما هو يوحّد، خصوصاً بتحديد الأولويات وتقديم ما هو استراتيجي وثابت على ما هو طارىء وظرفي؟
   وإذا كان أول الفلسفة سؤال، كما يُقال، فمن أين نبدأ؟ وكيف ومتى يمكننا تحديد أولوياتنا واختيار جبهة أصدقائنا وخصومنا وأعدائنا بالاتفاق والاختلاف وبالتعايش والمساكنة والمغايرة؟ ثم ما هي المعايير التي يمكن الاحتكام إليها؟
   أليس الاتفاق على قاعدة الحدّ الأدنى للخيار الديمقراطي السلمي المدني يمكن أن يكون وسيلة للتفاهم وللمنافسة في آن؟ وهذا يقتضي الاتفاق على أسس وقواعد لما هو مشترك، خصوصاً بنبذ العنف وحلّ الخلافات بالطرق السلمية وإقرار التعدّدية والتنوّع.
   وإذا كان الاغتيال السياسي يعني محاولة لإسكات الخصم أو العدوّ أو حتى الصديق إذا كان منافساً أو مختلفاً أو مغايراً، وذلك بتغييبه واستئصاله، فإن الرأي والفكرة والموقف لا يمكن تغييبهما أو استئصالهما أو إسكاتهما حتى عند تصفية مفكّر أو اغتيال مثقف أو صاحب رأي، سواء كان ناشطاً مدنياً أو سياسياً أو رجل دين متنوّر أو صاحب مشروع فكري واجتماعي وغير ذلك.
   ويمكن مقارعة الحجة بالحجة، ومواجهة الرأي بالرأي، والفكرة بالفكرة، وليست الرصاصة مقابل الكلمة، وكاتم الصوت مقابل الرأي، والمفخخة مقابل الفكرة، فذلك دليل عجز وضعف وضيق أفق، ولن يحل الاغتيال السياسي محلّ ارتفاع الصوت والقناعة بالرأي، وقوة الفكرة.

   إن مسلسل الاغتيال السياسي لن يتوقف، وناهض حتر لن يكون الأخير، لأن قوى التكفير والظلام لا تتورع من استخدام جميع الوسائل للوصول إلى غاياتها، خصوصاً وأنها غير قادرة على المجابهة تحت نور الشمس، إلاّ بالتأثيم والتحريم والتجريم، فتلك وسيلتها باستخدام الدين وتوظيفه لأغراضها السياسية الأنانية الضيّقة، والتي تتعارض مع سياق تطوّر المجتمع، بل ومع سمة العصر، والتقدم الذي حصل على المستوى العالمي.
   وإذا قُدر لي أن كنت قد تعرّفت على ناهض حتّر قبل عقد ونيّف من الزمان، والتقيته في عدد من المناسبات، فإنني بتجرد أقول: وجدته مجتهداً وصاحب رأي، وله وجهات نظر يدفع بها ويدافع عنها، ويقبل النقاش حولها، اتفقت أو اختلفت معه، وسواء كان مصيباً أو مخطئاً، فقد وجدت فيه شجاعة في معاكسة المألوف ومعارضة السائد، وأحياناً التحريض عليه بصوت عالٍ وأحياناً بدويّ، فقد كان فضاء الحرّية الذي منحه لنفسه عالياً، مثلما كان التعبير عن الرأي لديه واسعاً، وهو ما يدافع فيه ويكافح وينافح، بالقلم والحرف والصوت والصورة، ودفع حياته ثمناً لذلك.
- 2 -
   وبعد ذلك: ماذا يعني الاغتيال السياسي لمثقف وصاحب رأي ومجتهد، لا يملك سوى قلمه وصوته، وهو بقيمة ناهض حتر، الذي أدانت السلطات الأردنية عملية اغتياله، مثلما أدانتها الأحزاب والقوى السياسية بمختلف تياراتها الماركسية واليسارية والقومية العربية والإسلامية، والمنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني العربية والعالمية؟ وبقدر ما كان حتر أردنياً، فكان عربياً، وبالقدر نفسه كان أممياً وإنسانياً، يؤمن بتآخي الشعوب وبالمشترك الإنساني وبما يوحّد البشر ويحقّق العدالة والمساواة، وكان مكافحاً شجاعاً يُصارع الحجة بالحجة ويدفع الرأي بالرأي ويطرق الفكرة بالفكرة.
   وكان ناهض حتر واضحاً في تصدّيه للفكر التكفيري المتطرّف وللجماعات الأصولية المتعصّبة، مثلما كان ضدّ التدخلات الخارجية من أي ومن أين أتت، سواء باسم مواجهة أنظمة دكتاتورية أو نشر وتعميم الديمقراطية، لأنه أدرك مثل عديد المثقفين أن أي تدخّل أجنبي سيقود إلى تعقيد الأوضاع الداخلية، وينشر الفوضى والتشرذم في المجتمعات العربية، وكان يعرف ما حصل للعراق بعد الاحتلال الأمريكي ويتألّم لذلك، ولا يريد لسوريا أن تكون الضحية المقبلة، ولهذا كان يدعو للانتقال الديمقراطي بوسائل سلمية ومدنية، وبتوفير أدوات مناسبة تهيّىء لذلك، ولن يكون ذلك إلاّ بالإقرار بحق الاختلاف والتنوّع والتعددية، وعبر أسلوب الحوار، وبالضغط الشعبي.
   كما كان ناهض حتر يدرك خطر الصهيونية على الأمة العربية ووسائلها الخبيثة في التغلغل الناعم، إضافة إلى آلتها العسكرية العدوانية وحروبها التدميرية، لأنه يعرف أن "إسرائيل" مشروع عدوان دائم ومستمر، وكل عدوان يولّد عدواناً، لأن أساس وجودها واستمرارها قائم على الاستلاب والتوسّع، وهي آخر استعمار عنصري استيطاني في العالم.
   وقد بادر بزيارتي في منزلي ببيروت قبل نحو خمسة أعوام، ، ودعاني لتحرّك عربي لمناهضة المشروع الصهيوني، ولا سيّما إعادة الروح إلى "اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" التي كان لي الشرف أن أكون أميناً عاماً لها، وأن يكون الدكتور جورج جبور رئيساً لها، وقد ضمت كوكبة من المفكرين والمثقفين العرب، أو أي شكل جديد يصبّ في هذا الميدان، ولدرء تصدّع البلدان العربية وانتشار الفوضى والتفتّت.
- 3 -
كنت في العام 1994 قد نظّمتُ ندوة فكرية "حول الاغتيال السياسي" في لندن "الكوفة كاليري" في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكانت المناسبة اغتيال الشيخ طالب السهيل التميمي في بيروت، وقد تابعت خلال السنوات المنصرمة حوادث الاغتيال السياسي البارزة التي حصلت في العالم العربي، وحاولت الكتابة عنها أو الإشارة إليها مثل:
اغتيال غسان كنفاني وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار على يد "الموساد الإسرائيلي" في بيروت، وكذلك اغتيال باسل الكبيسي ويحيى المشد عالم الذرة المصري الذي كان يعمل لحساب العراق في باريس، واغتيال خليل الوزير "أبو جهاد" في تونس على يد "الأجهزة الإسرائيلية"، واغتيال ناجي العلي في لندن، ومحمد المبحوح في الإمارات، واغتيال علي شريعتي في لندن، ومحاولة اغتيال مصطفى البارزاني في كردستان، واغتيال عبد الرحمن قاسملو وفاضل رسول في فيينا، والسيد محمد صادق الصدر في العراق.
وكذلك: اغتيال الفنان السوداني الخوجلي عثمان، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، واغتيال فرج فودة في مصر، والطاهر جعوط ويوسف فتح الله في الجزائر، وجار الله عمر في صنعاء، ومحمد باقر الحكيم في النجف، وسيرجيو ديميلو ممثل الأمم المتحدة في بغداد، ومئات من العلماء والأكاديميين العراقيين.
وتكرّرت حوادث الاغتيال اللبنانية، فقد اغتيل رفيق الحريري رئيس الوزراء الأسبق، وجورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي الأسبق، وجبران التويني رئيس تحرير جريدة النهار، والكاتب والإعلامي سمير قصير، ومحاولة اغتيال مي شدياق ومروان حمادة، كما اغتيل في تونس خلال فترة قصيرة شخصيتين بارزتين هما: شكري بلعيد ومحمد براهمي.
أياً كانت الذرائع المستخدمة سواءً سياسية أو فكرية، وأيّاً كانت المبرّرات والمسوّغات، "طبقية" أم قومية" أم "دينية" أم "مذهبية" أم غيرها، وأيّاً كانت الوسائل المتبعة: رصاصة أو سكين أو كاتم صوت أو كأس ثاليوم أو حادث سيارة أو تفجير أو مفخخة أو عبوة ناسفة، أو اختفاء قسري، كما حصل لموسى الصدر في طرابلس (ليبيا)، ومنصور الكيخيا الذي اختفى من فندق السفير بالدقي (القاهرة)، وصفاء الحافظ وصباح الدرّة اللذان فُقدَ أي أثر لهما في العراق منذ العام 1980،  وعزيز السيد جاسم الذي اختفى قسرياً منذ العام 1991، فإنها من زاوية علم النفس الاجتماعي تلتقي عند عدد من النقاط هي باختصار:
الأولى – أنها تستهدف تغييب الآخر وإلغاء دوره ومصادرة حقه.
الثانية – أنها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة في الغالب.
الثالثة – أنها تتّسم بسرّية كاملة وقد يقوم بها بعض المحترفين.
الرابعة – أنها تستخدم كل الأساليب لتحقيق أهدافها من أكثرها فظاظة وبربرية إلى أكثرها مكراً ونعومة، بحيث يمكن إخفاء أي أثر يُستدلّ عليه من الضحية.
الخامسة – الحرص على إخفاء هويّة المرتكبين وقد يمشي المجرم في جنازة الضحية، الأمر الذي قد تنصرف فيه الأذهان إلى أطراف أخرى، بما فيها قد تكون صديقة أو قريبة، بهدف التمويه ودق الأسافين وإضاعة معالم القضية.
السادسة – أنها تتجاوز على القانونية والشرعية، سواءً كانت الحكومات هي المسؤولة عن تطبيق القانون والشرعية وهكذا يُفترض، فما بالك حين تقوم بعض أجهزتها بالضدّ من ذلك، أو كانت من قوى التطرّف والإرهاب التي لا تعترف بالقانون وبالشرعية، بل إنها تنتهكهما جهاراً نهاراً، ولعلّ ما قام به "داعش" وقبلها "القاعدة" وربيبتها "جبهة النصرة" وأخواتها، ليس سوى محاولة لإلغاء الآخر، بل إنهاء حياته، بهدف إسكاته، وذلك ما استهدفه قاتل ناهض حتر.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة، هما أسوأ درجات انتهاك حقوق الإنسان، وهما دليل ضعف وليس وسيلة قوة، ولذلك فإن الجهات التي تلجأ إليهما أحياناً، تحاول التنصّل منهما رسمياً أو تنفي مسؤوليتها عن أعمال ترتكب باسمها، بل تحاول خلط الأوراق للتمويه على هويّة المرتكب.
نُشرت في مجلة المصير "التونسية"، العدد 1، يناير (كانون الثاني) 2017

399
عن أشكال العبودية الجديدة
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   إذا كان المجتمع الدولي قد اتّجه في القرنين الماضيين لإلغاء العبودية، فإن ثمّة أشكالاً جديدة أخذت بالظهور ترافقاً مع موجة التعصّب، والتطرّف، والإرهاب، التي ضربت العالم في العقود الثلاثة الماضية، والتي اتّخذت شكلاً تكفيرياً وتدميرياً، بل وإبادياً في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد ظهور تنظيم "القاعدة"، وربيبه تنظيم  "داعش" في العراق والشام.
   وفي ظلّ العولمة، وبفعل التطوّر العلمي والتقني، خصوصاً في تكنولوجيا الإعلام، والمعلومات والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتيل"، فإن ظاهرة العبودية بشكلها القديم الذي أخذ العالم كلّه يتبرأ منها، ويسنّ القوانين لمكافحتها، بدأت بالظهور عبر أشكال جديدة، مثل الاتجار بالبشر، وتجارة المخدّرات، وتجارة السلاح، وتبييض الأموال، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التي تلحق ضرراً بليغاً بالإنسان، وكرامته وآدميته.
   وإذا كانت العبودية بشكلها القديم مظهراً مستهجناً في عالمنا المعاصر، لدرجة أنه كاد ينقرض، فإن ظهورها بحلّة جديدة ليس فقط أمراً لا أخلاقياً ولا إنسانياً فحسب، بل إن ضرره وخطره على المجتمع ككلّ، أصبحا أشدّ بأساً بما لا يقاس، فضلاً عن أنه جريمة دولية بحق الإنسانية، خصوصاً حين يتعلّق الموضوع باستعباد فئات، أو مجاميع بشرية، أو أشخاص من خلال قيود وإجراءات من شأنها التحكّم فيهم، وإخضاعهم لظروف وأوضاع تكاد تقترب من سلب حريّتهم، بتوظيفهم واستغلالهم بما يعود بالنفع المادي على الجهات التي تستخدمهم.
   لعلّ مناسبة هذا الحديث، هو ندوة مهمّة نظّمها مركز جامعة الدول العربية في تونس، بمرور 170 عاماً على إصدار أمر المشير أحمد باي يقضي بـ"إلغاء الرّق وعتق العبيد" وذلك في العام 1846، وإذا كان هذا القرار المتقدّم يأتي من دولة صغيرة قياساً بجيرانها من جنوب وشمال البحر المتوسط، إلاّ أنها كبيرة بما قدّمته للبشرية في السابق والحاضر بريادتها وحجم تأثيرها.
   والشيء بالشيء يُذكر - كما يُقال - فإن تونس بعد ثورة 14 جانفي (يناير - كانون الثاني 2011) أصدرت قانوناً جديداً يقضي بـ"منع الاتجار بالبشر ومكافحته"، في 3 أغسطس (آب) 2016، بهدف منع جميع أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرّض لها الأشخاص، وخاصة النساء والأطفال ومكافحتها بالوقاية من الاتجار بهم، وردع مرتكبيه وحماية ضحاياه ومساعدتهم.
   إن أشكال العبودية الجديدة التي يواجهها العالم تحتاج إلى بحث معمّق للظاهرة من جوانبها المختلفة، التاريخية والقانونية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وغيرها، حيث لا يزال هناك نحو 45 مليون إنسان تشملهم ظاهرة الاتجار بالبشر، وتبلغ قيمة هذه التجارة نحو 150 مليار دولار. وقد ساهمت الحروب والنزاعات الأهلية، إضافة إلى ظواهر الإرهاب والعنف والهجرات والنزوح، وتمزّق الروابط الاجتماعية والعائلية، في تعريض الملايين من النساء والأطفال للابتزاز والاغتصاب وتجارة الجنس والمخدّرات وتبييض الأموال وتجارة السلاح وغيرها، وجميعها تشكّل انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان وكرامته.
   وقد أقدم "داعش" على عمليات استرقاق جديدة، وعبودية مستحدثة، لا سيّما إزاء أتباع الأديان الأخرى، من المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين، حين اشترط عليهم الدخول في الإسلام على طريقته، أو بدفع الجزية أو الرحيل، وإلاّ فإن القبور سوف تنتظر الرجال، ويكون مصير النساء السبي والبيع في سوق النخاسة، وهو ما حصل لمئات النساء الإيزيديات بعد احتلال "داعش" للموصل في 10 يونيو (حزيران) 2014.
   وكانت الندوة قد سلّطت الضوء على موضوع التعامل مع الرق والعبيد في الحضارة العربية - الإسلامية، وعلى الرغم من عدم وجود نص تحريمي في ذلك الزمان، إلاّ أن الإسلام دعا منذ وقت مبكر إلى "معاملة الأسرى والعبيد معاملة حسنة والرفق بهم"، ونهى الرسول محمد (ص) على تسميتهم بالعبيد، خصوصاً أن الإسلام ساوى بين البشر في الكرامة الإنسانية، وكان النبي محمد (ص) يشجّع على عتقهم، وبهذه المناسبة نستذكر الفاروق عمر بن الخطّاب الذي قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، وهو نصّ ورد ما يشابهه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 والذي جاء في مادته الأولى: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق...".
   وبالتدرّج، وبحكم قوانين التطوّر وتوقيع العديد من البلدان العربية على الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، فإن دساتيرها وقوانينها أخذت تنحو منحى تحريم تجارة العبيد، بل والمساءلة على من يقوم بها، وقد يكون مناسباً ليس فقط التوقيع على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة في هذا المجال، بل تغليظ العقوبات لمن يرتكب جريمة الاتجار بالبشر بمختلف أشكالها وفروعها.
   وإذا كانت العبودية بشكلها القديم قد انتهت ولم يعد لها وجود في عالمنا، فإن الأشكال الجديدة من الاستعباد تشكّل خطراً حقيقياً على الإنسانية جمعاء، وهي تمثّل انتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية وللشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ولا بدّ من التعاون على المستوى الدولي لوضع حدٍّ لهذه الظاهرة المشينة.



400
المنبر الحر / عن حكم القانون
« في: 21:17 16/01/2017  »
عن حكم القانون
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
حين تبنّى عدد من النواب الكوريين "عشية العام الجديد 2017" مذكرة لإقالة الرئيسة بارك غيون، بسبب فضيحة فساد واسعة، ونقل صلاحياتها إلى رئيس الوزراء، امتثلت الرئيسة، فالأمر كان وفقاً للدستور، وطبقاً لحكم القانون. استعدتُ بهذه المناسبة وأنا أقلِّب أوراقي كيف أوقف الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي العام 2014، في قضية استغلال نفوذ؟ مثلما استذكرتُ فضيحة ووترغيت بحق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التي هزّت العالم، كما يُقال، حيث كان يتنصّت على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس، ووجّهت التّهمة إليه تمهيداً لمحاكمته وعزله تحت عنوان "إعاقة العدالة"، ومخالفة القانون.
وكانت تهمة الرئيس الفرنسي جاك شيراك تبديد المال العام، وتهم فساد أخرى، وذلك خلال رئاسته بلدية باريس، وقد تم الحكم عليه بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ. أما رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، فقد اتهم بالتهرّب من العدالة، إضافة إلى فضائح مالية وأخلاقية، حيث اضطرّ لتقديم استقالته وصدر الحكم عليه بالسجن سبع سنوات. هكذا في الدولة القانونية يُستدعى العديد من المسؤولين للتحقيق، أو يقالون طبقاً لأحكام الدستور والقانون، فلا فرق بين حاكم ومحكوم إزاء القانون، فما هو حكم القانون؟
يُعتبر "حكم القانون"، أو "سيادة القانون" أصلاً من الأصول الدستورية، بمعنى أن السلطات العامة في أي دولة لا يمكنها ممارسة سلطتها إلاّ وفقاً للقانون، وفي الأغلب الأعم والشائع السائد وفقاً لقوانين مكتوبة صادرة طبقاً لإجراءات دستورية متفق عليها في الدستور، والهدف من ذلك هو تحقيق الحماية ضدّ التعسف، والأحكام الجائرة. ويعني حكم القانون وجود قوانين وتشريعات ناظمة، وعلى أساسها تُقام المؤسسات، وينعقد القضاء وتتم من خلاله حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام والأمن العام.
وفي الدول الديمقراطية يكون المسؤول الأول في الدولة ابتداءً من رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، وانتهاءً بشرطي، أو جابي الضرائب، يتحمّلون المسؤولية ذاتها عن الأعمال التي يقومون بها، مثل أي مواطن آخر، الأمر الذي يصبح تنفيذ القانون ملزماً للجميع، لمن وضعه، ولمن يقوم بتنفيذه والجميع مطالبون بالتقيد به، ولذلك نلاحظ حالات كثيرة تتم فيها متابعة المسؤولين في الدولة بصفتهم الشخصية، ويمثل كثيرون منهم أمام القضاء لمحاسبتهم واتخاذ عقوبات بحقهم.
ويرتبط مفهوم حكم القانون وسيادة أحكامه بعدد من المفاهيم منها:
1 – عدم سن قوانين بأثر رجعي "لا عقوبة ولا جريمة إلاّ بنص".
2 – افتراض البراءة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".
3 – العقوبة المضاعفة "لا يعاقب الإنسان إلّا مرة واحدة عن الجريمة المعينة التي ارتكبها" (مع السماح بإعادة المحاكمة في حال توفّر أدلّة جديدة).
4 – مبدأ المساواة القانونية (أي عدم التمييز بسبب الدين، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الأصل الاجتماعي).
وحسب مونتيسكيو: القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً.
5 – إخبار المتهم بالجريمة التي يتهم بها.
6 – أن تقوم بحبسه جهة قضائية.
ومبدأ حكم القانون لا يتعرّض إلى عدالة القانون ذاته، ولكن يُعنى بالمحافظة على النظام القانوني من خلال الامتثال لحكم القانون، وعكسه ستكون الفوضى، ولكن مبدأ حكم القانون يعتبر شرطاً من شروط الدولة الديمقراطية، وكان أرسطو أول من تحدث عن هذا المبدأ باعتباره من القانون الطبيعي.
وبرغم الاختلاف الفكري والسياسي بين الأنظمة السياسية، فإنها جميعها تتحدث عن مبدأ حكم القانون، وفي الدول الديمقراطية فإنه يشكّل وسيلة لفرض قيود على الحكومة، ومنعها من التغوّل على المواطن، أو الاستبداد في الحكم، أو التعسف في إصدار الأحكام، في حين تستخدمه الدول الشمولية والدكتاتورية للتغوّل على المواطن بزعم حماية المجتمع.
وتميل الدول الشمولية إلى استخدام مبدأ حكم القانون بما يضمن إخضاع الدولة لمن بيدهم السلطة، وأحياناً تبتلع السلطة الدولة، وتخضعها لصالحها، وتوظفها لمصلحتها بزعم الدفاع عن مصالح الأمة، أو الشعب، أو الكادحين، أو مصلحة الثورة، أو تحرير الأراضي، أو إعلاء شأن الإسلام، أو غير ذلك من ذرائع هدفها الزوغان من حكم القانون واستخدامه أداة لإملاء الإرادة على الآخرين.
وقد سارت جميع الأنظمة الشمولية في هذا الاتجاه دولياً: الفاشية، والدول الاشتراكية السابقة، وإقليمياً دول ما نسميه بـ"التحرر الوطني" التي حكمت باسم القومية أو الدين أو مصالح الكادحين، مبررة ذلك بالصراع مع العدوّ والأخطار الخارجية ومهمات تثوير المجتمع وتغييره عبر الثورة على القوانين ومن خلالها، يتم تجاوز الواقع. وأياً كانت المبرّرات، فإن النتيجة كانت لغير صالح حكم القانون الذي لن تتقدّم الدول وتتحقق التنمية بمعناها الشامل والمستدام إلاّ من خلاله، وحتى لو كان القانون متخلفاً فينبغي العمل على تغييره بالوسائل السياسية والدستورية ومن خلال التراكم والتطوّر، مثلما يمكن أن يلعب الرأي العام وقواه الحيّة دوراً في ذلك.
وقد أكّدت جميع التجارب العالمية والإقليمية والعربية، أن التغييرات الانقلابية التي حصلت ويتم فيها التجاوز على القانون سرعان ما عادت وانتكست، مؤخِّرة التطوّر الطبيعي التدريجي.
وفي الدول الديمقراطية: الشعب مصدر السلطات (بواسطة ممثليه)، في حين أن هدف القانون في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية هو "مصلحة الشعب التي تمر عبر مصلحة الحاكم". أما في الأنظمة الديمقراطية، فإن طاعة القانون، ليست في جميع الأحوال ناجمة عن الخوف من العقوبة، بل وفي الكثير من الأحيان من خلال القناعة، وعبر التراكم الحقوقي والثقافة الحقوقية والديمقراطية تنشأ ثقافة عامة في المجتمع تشجّع على احترام القانون، وتزدري منتهكيه بما فيه المخالفات البسيطة لأنظمة المرور مثلاً، أو لاختراق الدّور عند الانتظار أمام دائرة أو مؤسسة أو في مطار، في حين أن الطاعة في الأنظمة الشمولية تأتي عن طريق الخوف، أو الردع، أو العقوبات الغليظة واللاقانونية أحياناً، أي أنها طاعة إجبارية وإكراهية في الأغلب.
"القانون فوق الجميع" في الأنظمة الديمقراطية، وفي نقيضها الأنظمة الشمولية "الحاكم فوق القانون"، والحاكم هو الذي يسنّ القانون من خلال قرارات فوقية، بحجة "حكم الضرورة" و"الأوضاع الاستثنائية" وأحياناً تبرير "المحظورات" بحجّة "الضرورات"، أو من خلال مجالس تشريعية مزيفة أو مزوّرة أو بانتخابات شكلية، وحتى لو تضمّنت شكلياً على القيم الديمقراطية، فإنها تعطّل تحت ذرائع مختلفة، في حين أن القيم الديمقراطية يتم تعميقها برقابة الرأي العام في الأنظمة الديمقراطية (إعلام، مؤسسات مجتمع مدني، منظمات حقوقية..).
 وأساس القوانين في الأنظمة الديمقراطية: الحريّات العامة والخاصة، ولا سيّما حريّة التعبير والحق في تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات، وحق الاعتقاد ومبادىء المساواة والشراكة والمشاركة والمساءلة والشفافية، في حين أن بعض القوانين تعطّل أو تسوّف تحت ذرائع مختلفة، فتارة بزعم مصالح البلد العليا، وأخرى بحجة التحدي الخارجي وثالثة التغيير بالقوة أو بالثورة للقضاء على أعدائها حتى لو تم التجاوز على القانون وانتهاك حقوق الإنسان، وكل ذلك يتم تبريره بحجج وشعارات كبرى لا تصمد أمام الواقع الموضوعي.



401
المنبر الحر / حوار الأمم الأربع
« في: 22:02 15/01/2017  »
حوار الأمم الأربع
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   "منذ بداية الثورة (14 جانفي – يناير/ كانون الثاني 2011) وإلى الآن حضرت نحو  300 مؤتمر وندوة وفعالية حقوقية وثقافية وتدريبية، كان أغلب المحاضرين والمتحدثين فيها أجانب وغربيين، لكن هذه الفعالية لها نكهة خاصة، فالمتحدثون فيها هم من أبناء المنطقة: عرباً وكرداً وتركاً وفرساً... إنه شيء مختلف ونحتاج إليه وإلى حوار جاد ومسؤول للبحث عن المشتركات التي تجمعنا".
   بهذه الرؤية اختصر أحد المشاركين مبادرة الحوار بين مثقفي الأمم الأربعة، التي أطلقها "المعهد العربي للديمقراطية"، والذي تأسَّس في العام 2012 بعد نجاح الثورة التونسية، واتّخذ من تونس العاصمة مقرّاً له، وهو امتداد لـ"مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي" الذي تأسَّس في روتردام (هولندا) العام 2004.
   ولم يأتِ هذا الحدث الثقافي المتميّز إلاّ بعد حوار ونقاش وجدل بين نخب مختلفة ومتعدّدة، وفي بلدان عديدة، الأمر الذي وفّر قناعات متراكمة وخبرات مضافة، لتأكيد أهمية مثل هذا الحوار الذي لم يعدْ حسب تقديري ترفاً فكرياً، بقدر ما هو حاجة ضرورية وماسّة، فالحوار الثقافي بشؤونه وشجونه بين مثقفي الأمم الأربعة أصبح اختياراً وخياراً لا غنى عنه، ولا مناص من اعتماده وسيلة فعّالة للعلاقة بين البلدان والأمم والشعوب والجماعات، وبهذا المعنى فهو في الوقت نفسه اضطرار، لأن نقيضه سيعني استمرار الحال على ما هو عليه من تباعد وانغلاق وتناحر، على أقل تقدير.
   وفي حين يتجه العالم أمماً وشعوباً وهيئات نحو التقارب والتعاون والتكامل، تستمر منطقتنا في حالة من التنافر والنزاع والاحتراب، تلك التي لا يستفيد منها إلاّ أعداء الأمم الأربع، ومن يغيظهم أي تقدم يحصل على طريق إذابة الثلوج التي تمنعهم من التلاقي والتراضي والتشارك.
   إن عالمنا المعاصر عالم متشابك ومتعدّد ومتداخل من المصالح والمنافع والمشتركات، خصوصاً في ظل المرحلة الثانية من الثورة العلمية – التقنية منذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، ولا سيّما في مجال الاتصال والتواصل والمواصلات، الأمر الذي يتطلّب التغيير باتجاه التعايش والتفاهم والتسامح والسلام والتواصل، وعكسه سيستمر الصراع والاحتراب والتخندق والتمترس والانعزال الذي دفعت ثمنه شعوبنا وأممنا غالياً، فما بالك باستمرار النزاعات والتناحرات والحروب الخارجية والداخلية، الدولية والأهلية، وشيوع ظواهر الإرهاب الدولي العابر للقارات والحدود، وهو إرهاب معولم لا دين له ولا قومية ولا لغة ولا جنسية ولا منطقة جغرافية ولا هويّة خاصة.
   ومثلما كان الحوار العربي – الكردي فكرة عامة، فقد أصبحت بفضل المبادرة التي أطلقتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان منذ أكثر من ربع قرن والتي تبلورت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) العام 1992، فكرة ملموسة وقابلة للتنفيذ والتفاعل والتواصل، حيث تم تنظيم حوار في لندن لأوّل مرّة بين مثقفين من العرب والكرد (من أقطارهم المختلفة) وضم الحوار 25 عربياً و25 كردياً، وعلى أساسه نُظّم الحوار الثاني العام 1998 في القاهرة، ومن ثم تمَّ تأسيس جمعيات للصداقة العربية – الكردية في فلسطين والأردن والعراق ونواتات أخرى غيرها.
   الحوار بين مثقفي الأمم الأربع ينطوي على عدد من الاعتبارات، وأهمها:
   الأول – أنه حوار ثقافي معرفي يتّصل بمجمل علاقات الأمم الأربع، وهدفه تعزيز وتوطيد العلاقات بمختلف جوانبها، وبين المثقفين بشكل خاص. وهو حوار سلمي ومستقبلي، لا يبحث في الماضي إلاّ بالقدر الذي يتناول ما هو إيجابي وجامع وموحّد، أي أنه لا يستغرق في بحث السلبيات القديمة والعقد التاريخية، وإنما يركّز على الإيجابيات والمشتركات، لا سيّما في بعدها الإنساني، وفيما يتعلّق بالقيم الإنسانية المشتركة، وحقوق الإنسان، بما فيها حق الأمم والشعوب بتقرير مصيرها بحريّة، وحقها في اختيار نظامها الاجتماعي دون تدخل أو هيمنة أو أي شروط مجحفة أو غير متكافئة.
   الثاني – أنه حوار يستهدف دعم مشروع الانتقال الديمقراطي ودحر التحدّي الإرهابي، وذلك بالتنمية واعتماد قيم التّسامح والسّلام واللاّعنف، وهو حوار يبحث في أواصر الصداقة والتضامن. وبهذا المعنى فإنه يستهدف تطويق ظواهر التعصّب والتطرّف والطائفية والعنصرية والإلغاء والتهميش، والتصدي لمحاولات زرع الشكوك والألغام بين الأمم الأربعة، خصوصاً وأن قوى غير قليلة خارجية وداخلية، استعلائية ومتطرّفة، يهمّها أن تبقى أممنا وشعوبنا في حالة من التباعد والتفرّق والتشتّت والتشظّي، بل والاحتراب والكراهية.
   الثالث – أن مثقفي هذه الأمم بقدر اعتزازهم بهويّتهم وخصوصيتهم وتراثهم وتاريخهم ولغتهم، فإنهم في الوقت نفسه يشعرون بأنهم جزء من حضارات وامتداد لثقافات تفاعلت في الماضي في إطار أديان وسلالات ولغات كانت عامل قوّة وليست عنصر ضعف وعامل غنى وليس عنصر خواء، واليوم فإن المثقفين بشكل عام يشعرون أكثر من أي وقت مضى أنهم جزء من الثقافة الإنسانية، وبقدر محليتهم فهم مثقفون كونيون بما يحملونه من قيم، يتواصلون بها مع الآخر، ويعترفون لغيرهم مثلما لأنفسهم بالحقوق والمساواة. وهذا يعني أن اعتزازهم بثقافتهم وخصوصيتها ولغتها، إنما هو تفاعل مع القيم الإنسانية والحضارة البشرية بشكل عام.
   وفي ختام ندوة "حوار الأمم الأربع" التي استمرت 3 أيام، (23 – 25 ديسمبر / كانون الأول 2016) صدر "إعلان تونس" الذي تضمن الأسس والأهداف والوسائل التي قام عليها تأسيس "المنتدى المشترك للأمم الأربع" وكُلِّف المعهد العربي للديمقراطية باعتباره صاحب المبادرة في إدارة شؤونه واقتراح الخطط والبرامج لأنشطته وفعالياته، مع تشكيل لجنة عليا للمتابعة تعمل على رسم السياسات وبناء الاستراتيجيات لإنجاح مساره وتحقيق أهدافه.
   وأكّد "إعلان تونس" على تقريب وجهات النظر، والمساهمة في نشر ثقافة الحوار، ومحاربة الأفكار والمشاريع المتعصّبة والمتطرّفة والإرهابية، بتشجيع مراكز القرار على التواصل والتعاون والعمل المشترك، وبما يساعد الأمم الأربعة على ضمان مصالحها وتحقيق تطلعاتها، خصوصاً عندما أكد على استقلال القرار الوطني، ومنح الأولوية لإيجاد حلول بين أبنائها، وبما يجنّب أهوال التدخّل الخارجي ويعزّز قدراتها الذاتية.
   لعلها المرّة الأولى التي يتمّ فيها الاتفاق على تنظيم "منتدى مشترك" للأمم الأربع، ينعقد سنوياً بالتتابع في ما بينها، ويكون مفتوحاً لمثقفين ونشطاء مدنيين ومؤسسات مجتمع مدني، وذلك من خلال المساهمة في العمل على تعبئة قوى التنوير والتحرّر والديمقراطية لمجابهة المشاريع الإرهابية "الداعشية" ودعم مسارات الانتقال الديمقراطي في المنطقة، وفي مقدمتها التجربة التونسية، كما توجّه إعلان تونس إلى مخاطبة الحكومات المعنية والجهات السياسية والمنظمات الإقليمية والدولية، ذات الصلة.



402
سـؤال وستـفاليا العـربـي
والخرائط الجديدة ما بعد "داعش"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
هل سنحتاج إلى "وستفاليا" لرسم الخرائط الجديدة ما بعد "داعش" أم ثمّة تحدّيات أخرى لا تقل خطورة عن "داعش" نفسه؟ سؤال طرحه مايكل اكسورثي وباتريك ميلتون في مقالة لهما بعنوان "وستفاليا لا تصلح للشرق الأوسط"، وذلك في مجلة (فورين أفيرز Foreign Affairs)، (أكتوبر/تشرين الأول 2016)، وإذا كان المقصود بالسؤال الصراع العربي – "الإسرائيلي" وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالجواب سيكون مختلفاً وربما معروفاً، لا سيّما باستمرار سياسة "إسرائيل" العدوانية وانتهاكها لأبسط القوانين الدولية، إضافة إلى الشرعة الكونية لحقوق الإنسان. أما إذا كان الموضوع يتعلق بالداخل العربي والنزاعات الأهلية، فالأمر بحاجة إلى إضاءة عربية على معاهدة وستفاليا، وهي مقاربة مختلفة.
وكانت معاهدة "وستفاليا" قد اختتمت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا 1618 - 1648، فهل ستستطيع إطفاء الحرائق الدينية والطائفية والإثنية في المنطقة بما فيها من نزاعات وحروب أهلية وتداخلات خارجية؟
أياً كانت الإجابة عن السؤال سلباً أو إيجاباً، فإن المعطيات المتوفرة بين أيدينا تؤكد ارتفاع وتيرة التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب في المنطقة خلال العقد الماضي، ولا سيّما بعد اندلاع موجة ما سمّي بالربيع العربي والفوضى التي أعقبته، خصوصاً بتدهور هيبة الدولة، وبالأخص بعد احتلال "داعش" للرقة وتمدّده باتجاه العراق، واحتلاله للموصل (ثاني أكبر محافظة عراقية)، إذْ يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة، وقضاء الموصل لوحده يضم مليون وسبعمائة ألف نسمة.
وهكذا فتح "داعش" مع ارتفاع منسوب الاستقطاب والتداخل الدولي والإقليمي السبيل لرسم خرائط جديدة للمنطقة، الأمر الذي يطرح احتمالين أساسيين:
الاحتمال الأول – هو إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد الانتهاء من طرد "داعش"، واستعادة لحمة الدولة الوطنية في العراق وسوريا وبقية البلدان التي تعاني من الاحتراب الداخلي، مثل ليبيا واليمن، بفتح آفاق لتسوية تاريخية توافقية.
والاحتمال الثاني – هو أن تتمسَّك الأطراف المتصارعة بمواقعها، وأن يعود الغرماء إلى التشدّد أكثر من قبل، وهذا سيعني أن "وستفاليا" ليست صالحة لمثل هذه التسوية، وأن الخرائط الجديدة سترسم بالدم، وقد سبق لبرنارد لويس أن بشّر بها منذ العام 1979 وبشكل خاص بعد العام 1982، حين وضع خرائط جديدة للمنطقة العربية بتفتيتها إلى نحو 41 كياناً، وذلك على أساس ديني ومذهبي وإثني وغيرها، من خلال دوقيات وإمارات وفيدراليات وكيانات.
تفتيت المنطقة
وكان هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية الأسبق، هو الذي دعا إلى تفتيت المنطقة العربية في العام 1975: علينا إقامة إمارة وراء كل بئر نفط، والمقصود بذلك هو جعل المنطقة العربية بلا هويّة جامعة، وتجزأتها إلى هويّات متناحرة وتقسيمها طولاً وعرضاً، ليصبح الجميع "أقليات" متنازعة، حينها تكون "إسرائيل" الأقلية المتميّزة تكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً، خصوصاً بدعم من الغرب ومساعدته المستمرة.
ومن الناحية  الفعلية فقد ألغى "داعش" الحدود التي رسمتها معاهدة سايكس – بيكو السرّية التي أبرمتها بريطانيا وفرنسا في العام 1916 بالتعاون مع الإمبراطورية الروسية، والتي كشفتها الثورة البلشفية في العام 1917، والتي كانت تقضي تقسيم "تركة" الرجل المريض "الدولة العثمانية" بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك حين سيطر "داعش" على نحو ثلث الأراضي السورية، إضافة إلى ثلث الأراضي العراقية، وخصوصاً بعد استيلائه على محافظتي صلاح الدين والأنبار (أكبر محافظة عراقية من حيث المساحة)، وأجزاء من محافظتي كركوك (وخصوصاً الحويجة التي لا تزال تحتلها، على الرغم من هزيمته في صلاح الدين والرمادي) وديالى، ووصل تهديده إلى بغداد، والعنوان هو "إقامة الدولة الإسلامية".
ومنذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014 عمل "داعش" على إلغاء هويّة المناطق التي احتلّها وفرض عليها نظاماً إسلاموياً بالسيف والإرهاب، خصوصاً بتفسيره المشوّه للإسلام، ناهيك عن موقفه الإقصائي من الأديان والمعتقدات الأخرى، مثل المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، الذين استبيح دمهم وأخذت نساؤهم سبايا، وطولبوا بدفع الجزية أو الدخول بالإسلام، ليس هذا فحسب، بل إنه تعامل بذات القسوة مع الرأي الآخر أياً كان، سواء من هذه الطائفة أو تلك، طالما لا يرتضي أو لا يقر أو لا يمتثل لتعاليمه، كما قام بتدمير الصروح التاريخية والأثرية التي لا تقدّر بثمن من النمرود العظيم إلى مدينة الحضر الخالدة، ومن الجوامع إلى الكنائس ذات القيمة الحضارية.
وإذا كان "داعش" صائراً إلى زوال، لأنه ضد منطق التاريخ والحياة والتقدم والعصر، فإن ما بعد "داعش" سوف لا يكون مثل ما قبله إيجاباً أو سلباً، سواء على المستوى الجغرافي أو الديموغرافي أو الإداري أو القانوني أو السياسي، أو من جهة من سيتولى الحكم فيها وفي المناطق التي يتم تحريرها، إضافة إلى الجانب الفكري والعقيدي الشديد الأهمية، فالنصر على "داعش" يقتضي تجفيف منابعه الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وخصوصاً محاولة استغلاله للدين.
وستكون المسألة لها علاقة بالقوى المشاركة في التحرير والاستحقاقات السياسية التي تريد الحصول عليها؟ يضاف إلى ذلك حصول بعض الاحتكاكات الطائفية والاتهامات المتبادلة، فالحشد الشعبي متهم بانتهاك صارخ وسافر لحقوق الإنسان، وخصوصاً في بعض المناطق التي دخلها مثل صلاح الدين، وهناك تحسّس شعبي وتخوّف عام من نفوذ إيراني متعاظم في هذه المناطق ما بعد "داعش"، خصوصاً حين تم مسك الطريق الذي يربط العراق بسوريا، يقابلها اتهامات أخرى لأهالي المنطقة الذين اضطر بعضهم، وإنْ كان قسم قليل، إلى التعامل مع "داعش" وتسهيل مهماته أو التواطؤ معه، الأمر الذي قد يقود إلى انتقامات أو انفلاتات وأعمال عنف ما بعد التحرير.
ويضاف إلى هذا المشهد وجود قوات تركية ومطالبات وأطماع حول الموصل ومزاعم بالدفاع عن التركمان وغير ذلك مما يزيد المعقّد تعقيداً، وفوق كل ذلك هناك رغبة كردية في البقاء في المناطق التي يتم تحريرها وإلحاقها بكردستان، وهو ما جرى التعبير عنه لأكثر من مرّة على لسان القادة الكرد، مما أثار ردود فعل وإشكاليات عربية وتركمانية، إضافة إلى المشكلات الطائفية – الدينية (سنة وشيعة) ومسلمين ومسيحيين وإيزيديين وغيرهم.
كما أن الوجود الأمريكي، لا سيّما العسكري أصبح أكثر تأثيراً من خلال أعداد الجنود والمدربين والقواعد العسكرية، إضافة إلى النفوذ السياسي والأمني منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق في نهاية العام 2011، خصوصاً وأن واشنطن تسعى لتقليص نفوذ إيران، وهو ما صرّح به الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي عبّر عن موقفه، بل قراره الذي بإلغاء الاتفاق مع إيران بخصوص الملف النووي، وقد يزيد مثل هذا الموضوع في رسم الخرائط الجديدة، باعتبارها وسيلة من وسائل الهجوم قبل الدفاع، وهي خرائط ستكون مضرّجة بالدم.
احتمالات أخرى
ولعلّ مثل هذه القضايا وقضايا أخرى تتعلق بعموم بلدان المنطقة، ترتبط إلى حدود كبيرة بثلاث سيناريوهات متوقّعة يمكن أن تحكمها، كما تذهب إلى ذلك الدراسات المستقبلية، فالسيناريو الأول يتعلّق باستمرار الحال، أما السيناريو الثاني فيتعلّق بتدهور الحال، مقابل السيناريو الثالث الذي يتحدّد بتحسّن الحال.
إن استمرار الحال سيعني الجمود وعدم التغيير، الأمر الذي سيقود إلى احتمالات أخرى ربما أسوأ مما هي عليه، وإذا كان دوام الحال من المحال كما يقال، أي أنه غير ممكن لفترة دائمة أو طويلة، لأنه سيؤدي إلى التدهور والانحدار، فإن سيناريو تدهور الحال هو الأشد خطورة، حيث تعمل قوى عديدة بإدراك منها أو بعدم إدراك بما يؤدي إلى هذه النتيجة، خصوصاً حين تُغلِّب الثانوي على الأساسي، والتكتيكي على الاستراتيجي والطارىء والظرفي على الثابت والمبدئي، ولعلّ ذلك ما تستغلّه القوى الخارجية الطامعة بالمنطقة، والمستفيدة من هذه الانقسامات.
والتفتيت قد يؤدي إلى الانحلال، فإما أن يكون واقعياً Defacto Fragmentation أو التفتت الرسمي أي الفعلي Dejure Fragmentation، وذلك حين يتم تحويل الدولة إلى "دويلات" متنازعة، تحت عناوين مختلفة "أقاليم" أو فيدراليات أو غيرها، أو عبر الانضمام والإلحاق.
والأمر أصبح مطروحاً على نحو واسع، وقد يتحقّق بالقوة بعد احترابات ونزاعات مسلّحة. وقد يحصل على اعتراف دولي (شامل أو جزئي)، وقد تأخذ الأجزاء المنقسمة باسم الأقاليم أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف إليها شيئاً من اسمها السابق، وسيكون لهذه الدويلة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي (وجنوب السودان أحد الأمثلة).
ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب على النخب الحاكمة في الإقليمي أو الكيانات المتعارضة التخلي عنها.
وهناك من يطرح مستقبل الموصل ما بعد "داعش" فيقترح أكثر من إقليم، وكذلك أقاليم لصلاح الدين والأنبار، بتخطي فكرة الأقاليم الثلاث السني والشيعي والكردي، التي طرحها جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي منذ العام 2007 ووافق عليها الكونغرس الأمريكي.
أما النوع الآخر من التفتت وغياب الوحدة، فهو الذي يقوم على الانضمام والإلحاق Joining and Annex، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما إيران وتركيا يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتّت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي، لا سيّما إذا ضعُف العامل الدولي.
ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، وخصوصاً فيما إذا تم القضاء على "داعش"، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السلطة، وإلى حروب أهلية مصغّرة محلية، وليس بالضرورة أن تكون بين الشيعية السياسية والسنية السياسية، بل داخل السنيّة السياسية ذاتها، وداخل الشيعية السياسية باختلاف جماعاتها، وداخل الإقليم الكردستاني (بين إربيل والسليمانية)، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح. وبقدر ما ينطبق الأمر على العراق، فهو ينطبق على سوريا إلى حد كبير، ويمكن أن تمتد خريطة التفتت إلى ليبيا واليمن، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
   وعلى عكس سيناريو استمرار الحال، وسيناريو التفتت هناك سيناريو التوحيد وتحسّن الحال، وهذا يتطلّب توفّر إرادة سياسية ووعي لخطوة ما حصل وما يمكن أن يحصل من تفتيت الدولة الوطنية وضبابية مستقبلها، ناهيك عن تعطّل خطط التنمية والإصلاح.
   ولعلّ مثل هذا السيناريو يحتاج إلى مقدمة ضرورية تبدأ بالحوار من دون شروط لتحقيق المصالحة الوطنية والسياسية والمجتمعية لتأخذ شكلها القانوني، على أساس المشاركة والعيش المشترك.
مسؤولية النخب
وهنا تأتي مسؤولية النخب في بلورة المستقبل لمواجهة التحدّيات الجديدة، لأن هناك من سيسعى لاستغلال ما حصل، فيركب الموجة القادمة منتهزاً الفرصة للاستفادة منها وتوظيفها، بما فيها قوى خارجية إقليمية ودولية لا تضمر الخير لدول المنطقة وشعوبها، مثلما حصل خلال موجة ما سمّي بالربيع العربي.
فهل يمكن "لوستفاليا عربية" أن تنقذ بلادنا من فيروس الإرهاب وطوفان الطائفية ووباء التطرف وتضع البلاد على عتبة المواطنة الفاعلة؟ وهو ما حققته "وستفاليا" الأوروبية، بإقرار الحريّات الدينية والاعتراف باستقلال الدول وسيادتها ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها وإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية.
وإذا كانت الدعوة "لوستفاليا" عربية، فالمسألة ليست من باب الاستنساخ أو التقليد، بل الاستفادة من جميع التجارب لإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية، ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء، ويضع مسألة العيش المشترك والمواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان، والهويّة الجامعة مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية، في صدارة المهمات التي ينبغي أن يلتقي عندها الجميع.
لقد حاول "داعش" رسم خرائط المنطقة بالدم، فهل ستتمكن مجتمعاتنا رسمها بالتفاهم والتوافق والمشاركة والاعتراف بالآخر؟ أم أن الخنادق والحواجز والسدود التي أقامها "داعش" لا تزال محفورة في الديموغرافيا والجغرافيا والسيسيولوجيا والسيكولوجيا، بل في الروح؟ إنه سؤال وستفاليا العربي!!



403
من وحي مؤتمر فكر – 15:
"بصرة الإمارات"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
حين يزور المرء دولة الإمارات العربية المتحدة، لا يستطيع إلاّ أن يبدي إعجابه بمستوى التطوّر الحاصل في البلد:
أولاً – في معيشة المواطن ورفاهه وتمتّعه بقدر كبير من العيش الكريم والضمان المستقبلي.
وثانياً – للعلاقة الإيجابية التكافلية بين الحاكم والمحكوم، وهي علاقة تمتاز بدرجة عالية من الرضا والقبول، الذي نادراً ما يوجد في دول العالم الثالث، حيث يغلب على العلاقة التصادم والتشكّك، في حين أنها في دولة الإمارات، علاقة تصالحية ووثوقية.
وثالثاً – للاستثمار الكبير في الميدان الإنساني، والمقصود هنا ليس مستوى البناء والعمران والطرق والجسور والخدمات البلدية وغيرها، وإنما في فرص العمل وكفالة التعليم بمختلف مراحله، إضافة إلى التقدم الكبير في الميدان الصحي وتوفيره لعموم المواطنين.
ورابعاً – للقدرة الكبيرة على التعايش السلمي واحترام الخصوصيات في إطار الأمن الإنساني، لا سيّما إذا ما عرفنا بوجود الكم الهائل من الأجانب من مختلف الجنسيات، سواء على مستوى العمالة الوافدة أو مستوى السياحة أو خدمات المطارات وغير ذلك.
وإذا كانت مبادرة تأسيس وزارة للسعادة قد جاءت من باب الاستثمار البشري لمستقبل الإنسان، فإن الأمن الإنساني، اختار تأسيس وزارة للتسامح، وهما خطوتان اتخذتا في العام 2016.
وقد كان مؤتمر "فكر – 15" الذي تنظمه سنوياً "مؤسسة الفكر العربي" هذا العام قد خصص أعماله لـ"التنمية الثقافية" بمناسبة مرور 45 عاماً على تأسيس دولة الإمارات، فرصة مناسبة للاطلاع على جوانب أخرى مهمّة من حياة الناس في "دول مجلس التعاون الخليجي"، حيث تصادف الذكرى الـ 35 لتأسيسه، الأمر الذي طرح أبعاداً جديدة لتناول مسألة التنمية من زاوية العلاقة بالثقافة والآداب والفنون، فالخليج والإمارات تحديداً، ليست آبار نفط وصحارى وأبنية شاهقة فحسب، وإنما هناك ثقافة ومثقفون وآداب وفنون وإبداع، إضافة إلى عمران وبناء وتعليم وتطبيب مجاني وعمل وضمان، في حين أن بلداناً نفطية أخرى لديها مؤهلات إضافية، لكنها تعيش أوضاعاً أقل ما يقال عنها إنها قاسية ومؤلمة، بسبب حروب ومغامرات وهدر للمال العام، والبصرة المدينة والحالة نموذج لذلك.
خلال زيارتي للطبيب الاختصاصي الكبير فرحان باقر، برفقة طبيب الأسنان كوثر الواعظ للاطمئنان على صحته، وهو يدلف عامه نحو التسعين، وقد حبته الإمارات برعاية وإقامة خاصة في ربوعها العامرة في "أبو ظبي"، مقدّرة علمه وتفانيه، تجاذبنا أطراف الحديث بين الحاضر والماضي، واستذكرنا كيف كان العراق مضرب المثل، وكان الشيخ زايد مؤسّس الدولة الاتحادية يردّد: "علينا أن نجعل الإمارات مثل البصرة"، وكان ذلك بالطبع أيام ازدهارها في أواخر الستينات ومطلع السبعينات، وكيف كانت العلاقة الإيجابية بينه وبين الرئيس أحمد حسن البكر الذي كان فرحان باقر طبيبه الخاص، وقد نقل له هذا الإعجاب بعروبة الشيخ زايد ورجاحة عقله وإنسانيته.
وإذا كان حال البصرة يرثى له اليوم على الرغم من أنها كانت ولا تزال المصدّر الرئيس للنفط في العراق، لكنها من المدن الأكثر فقراً وخراباً، وحتى التمور التي كان مصدرها الأساسي محافظة "البصرة" العراقية ليس لدول الخليج فحسب، بل للعالم أجمع، فإنها اليوم تعاني من شحّ في هذه المادة الغذائية الغنيّة، وذلك بفعل الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت 8 سنوات وراح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين، إضافة إلى أكثر من 6 ملايين نخلة، ومن ثم الحصار الدولي الجائر، وفيما بعد الاحتلال الأمريكي وما فعله بالعراق الذي تعرّض إلى فوضى عارمة، وظلّت البصرة منذ ذلك التاريخ تتنازعها ميليشيات وجماعات مسلّحة ومراكز نفوذ وإرهاب وعنف طالت الجميع، وبشكل خاص مجموعاتها الثقافية المتميّزة، من المسيحيين والصابئة المندائين وغيرهم، ويتمدّد فيها النفوذ الإقليمي على نحو لم يسبق له مثيل، فضلاً عن استشراء الفساد المالي والإداري وتفشي الطائفية السياسية.
لسنا بصدد مقارنة بين البصرة والإمارات، فالأمر قد يدخل في باب الحسد أحياناً، وفي هذه المقاربة نستهدف الغبطة، لأن الحسد يعني تمنّي زوال نعمة الآخرين، في حين أن الغبطة تعني التمنّي لأنفسنا مثل ما عند الآخرين من نعمة وصلوا إليها بتعب وإرادة وحسن تعامل وبُعد نظر وحكمة، لا سيّما بإرضاء المواطن وتوفير حاجاته وتلبية حقوقه، وخصوصاً الاقتصادية والاجتماعية، في ميدان العمل والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وغير ذلك.
ومن باب الألم والشعور بالمسؤولية أيضاً استعدنا موقف الشيخ زايد ومبادرته الأخيرة لإنقاذ العراق عشية الاحتلال، والحيلولة دون تدميره، خصوصاً وقد أدرك بحكمته وبُعد نظره ما كان يُخطط له، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، وكان الثمن باهظاً والجرح لا يزال نازفاً.
وقد أسعفتني الذاكرة واستعدت زيارة الشيخ زايد إلى العراق العام 1974، واتصلت بمنذر المطلك السكرتير الخاص بالرئيس البكر حينها، وزوج ابنته، لأستفسر منه عن الانطباع الشخصي للبكر عن الشيخ زايد، فأجابني: إن "أبو هيثم" على الرغم من أنه قليل الكلام، إلاّ أنه كان يكرّر القول في مجلسه: إن الشيخ زايد رجل عربي وشهم وله رؤية ثاقبة ويعمل بإخلاص من أجل بلده والعرب، ويا حبّذا لو وُجد مثله أو على شاكلته من الذين يتولون شؤون الأمة، وهو الانطباع الذي كنت قد استمعتُ إليه من الشيخ عبد العزيز التويجري ومن شخصيات عربية عديدة، عَرَفت الشيخ زايد عن قرب.
لقد قدّم العراق للدولة الناشئة مساعدات عديدة كيما تنهض، وقد ذكر لي الدكتور فرحان باقر أن عدداً من الكوادر الطبية والتعليمية، لا سيّما من وزارتي الصحة والتعليم العالي أُرسلوا للعمل في الإمارات، بمتابعة خاصة من الرئيس البكر نفسه، وباتصالات مباشرة لضمان سرعة وحُسن التنفيذ، إضافة إلى مهندسين وفنيين من مختلف الاختصاصات. كما قدّم العراق منحة مالية لوزارة الصحة، ودعم تأسيس أول جامعة في الإمارات، وقد نشرت في حينها مجلة ألف باء العراقية الخبر بصورة موسّعة في شهر (نوفمبر – تشرين الثاني/ العام 1977).
وقد أشاد الدكتور عز الدين إبراهيم مستشار رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة للشؤون الثقافية بمساهمة العراق في إنشاء أول جامعة بدولة الإمارات، وإرسال الأساتذة والمدرسين للتدريس فيها، ومن الجدير بالذكر أن الدكتور عبد العزيز البسّام وهو شخصية أكاديمية عراقية مرموقة كان رئيساً لها.
ولتعزيز العلاقة ودعم دولة الإمارات مادياً ومعنوياً قدّم العراق فسائل النخيل هديّة للإمارات، بتوجيه رئاسي خاص، كما حدثني بذلك منذر المطلك، واليوم فإن التمور الإماراتية تُعتبر من أفخر التمور في المنطقة والعالم، ونتذكّر من الصور القليلة التي بثها التلفزيون العراقي في حينها، الحفاوة الكبيرة التي استقبل فيها الرئيس البكر، الشيخ زايد الذي أخذه بالأحضان على خلاف الرؤساء الآخرين الذين كان يصافحهم، ويُقال إنه أرسل طائرة خاصة إلى H3 لجلب حليب النياق لفطور الشيخ زايد. وحسب سعدون حمادي، فإن الشيخ زايد أهدى الرئيس البكر في وقت لاحق مبلغاً قدره 15 مليون دولار بشيك خاص، لكن البكر أودعه في البنك المركزي العراقي لحساب خزينة الدولة.
وإذا كان الشيخ زايد قد تمنى أن تكون الإمارات مثل البصرة، فيحق لنا أن نتمنّى أن تكون البصرة مثل "الإمارات" مثلما نتمنى لجميع البلدان العربية أن تكون على مستوى المواطن في الإمارات من حيث المعيشة وكفالة العمل والصحة والتعليم والضمان، وبصرة الإمارات أو إمارات البصرة هي "الحكمة ضالة المؤمن" كما يُقال!!.



404
ميانمار: أية تجربة تنتظرها؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
لم تكن التحدّيات التي تواجه التجربة الجديدة في ميانمار بشرية فقط، تتعلّق بالانتقال الديمقراطي والعقبات التي تقف في طريقه فحسب، بل كانت كارثية طبيعية أيضاً، فقد واجهت البلاد كارثتين طبيعيتين هما الزلزال الذي ضربها، والفياضانات الكبرى التي اجتاحتها لدرجة أن أكثر من 600 ألف مشرّد عانوا من ظروف قاسية، وأدّت الأمطار الغزيرة إلى انهيارات أرضية كانت نتائجها وخيمة.
 لنحو قرن من الزمان خضعت ميانمار (وهو اسمها الجديد بعد أن استبدل الاسم القديم "بورما" في العام 1989)، للاستعمار البريطاني، الذي حكمها خلال 1948 - 1852، وبعدها عانت من حكم الدكتاتورية العسكرية نحو نصف قرن أيضاً (من الاستقلال ولغاية عام 2016)، علماً بأن الانتقال إلى الحكم المدني بدأ في العام 2011، وحقّق إصلاحات سياسية محدودة، لكنه تباطأ وتلكأ وانتكس في العديد من القطاعات، على الرغم من وجود بعض هوامش الحرّيات، ولا سيّما حرّية التعبير، وخصوصاً في الإعلام.
ولهذه الأسباب نستطيع أن ندرك المصاعب الجدّية التي تواجه التجربة الميانمارية للانتقال الديمقراطي، ولا سيّما في ميدان العدالة الانتقالية، إذا ما عرفنا تاريخها خلال القرن ونصف القرن الماضيين، تُضاف إليه عوامل جديدة، وهي انفجار عناصر التعصّب والتطرف المجتمعية، خصوصاً بعد وصول تجربة الحكم السابقة إلى طريق مسدود، الأمر الذي وضع البلاد على مفترق طرق، فإما استمرار القديم على قدمه، وهذا ما قد يؤدي إلى الانفجار، أو حلحلة الأوضاع باتجاه تغيير يتم عبر الانتخابات، وهذا ما حصل بالفعل.
وقد شهدت ميانمار، التي يبلغ عدد سكانها 51 مليون نسمة وتتكوّن من 130 مجموعة ثقافية دينية وسلالية وإثنية وفيها نحو 30 لغة، تطوّراً سياسياً جديداً بإجراء أوّل انتخابات حرّة، وتشكيل حكومة منتخبة، واختيار رئيس جديد للبلاد (مارس / آذار 2016)، ولا تزال التجربة الوليدة تواجه تحدّيات كبرى، خصوصاً أن التركة العسكرية الدكتاتورية ثقيلة، وتأثيراتها ونفوذها لا يزالان باقيين، إضافة إلى استمرار تأثير القوات المسلّحة، سواء على الصعيد الدستوري (النص بأن يكون 25% من أعضاء البرلمان من العسكريين وفقاً لدستور العام 2008) أو على الصعيد العملي والسياسي.
وعلى الرغم من أن ميانمار كانت خلال الحرب العالمية الثانية بؤرة مواجهة يابانية –بريطانية، فإن علاقاتها اليوم طيبة مع اليابان وكوريا الجنوبية، وجيّدة مع الهند والصين التي تتحدث النسبة الأكبر من السكان بلغتها، وهي في الوقت ذاته عضو في المجموعة الآسيوية. كما أن علاقة ميانمار وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد رفع عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقوبات بلاده الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها، حيث كانت تعتبر "دولة منبوذة"، وأعلن ذلك عند زيارة زعيمة الرابطة الديمقراطية وزيرة خارجية ميانمار أونغ سان سوتشي المكتب البيضاوي، وتأتي هذه الخطوة المهمة بعد سنوات من التقارب الميانماري – الأمريكي.
ولكن وجهاً آخر سلبياً رافق التطوّرات الإيجابية التي حصلت في ميانمار، ففي السنوات الخمس الأخيرة ارتفعت وتيرة التعصّب وأعمال العنف ضدّ المسلمين الذين يزيد عددهم على مليون نسمة، خصوصاً مع ظهور وتنامي نزعة قومية فوقية في البلاد قادها اتجاه أحادي عرقي وديني تزعمه راهب بوذي ويُعرف التشكيل التنظيمي لهذا الاتجاه اختصاراً باسم "ماباثا".
وقد نجحت "الماباثا" في صياغة أربعة قوانين تمييزية رجعية ومتخلفة الأول – قانون حماية العرق والدين، والثاني – قانون الحدّ من عدد السكان، والثالث – قانون زواج النساء البوذيات، والرابع – تغيير الديانة والزواج الأحادي، وهي قوانين أحدثت صراعاً وعنفاً في المجتمع، واتهِم من عارض هذه القوانين بأنه "خائن"، واعتبرت هذه القوانين استهدافاً للمسلمين، في حين برّرها أنصارها بأنها تحدّ من "الغزو الإسلامي".
وخلال عام 2015 ارتفع عدد سجناء الرأي وتعرّضت حركات احتجاج لأعمال عنف، كما ازدادت هجرة المسلمين المعروفين باسم "الروهينغا" من ميانمار إلى بنغلاديش بحكم أصولهم البنغالية وإلى بلدان أخرى، وحسب الأمم المتحدة، فقد خاض هذه المغامرة نحو 100.000 شخص ما بين عام 2014 و2015، وتعرّضت العديد من القوارب إلى الغرق وتوفي العشرات من الفارين، ومُنع اللاجئون من الوصول إلى تايلند وماليزيا وأندونيسيا، إضافة إلى نزوح داخلي شمل نحو 140 ألف نازح من مسلمي الروهينغا، بأوضاع صحية ومعيشية ونفسية سيئة للغاية.
وإذا كان الحكم العسكري الاستبدادي قد تعامل مع الجميع بمنطق القوة، فإن الانتقال إلى الوضعية المدنية فجّر صراعات عديدة كانت غير منظورة، وقد كان نصيب المسلمين الجزء الأعظم منها. فهل سيستطيع الرئيس المنتخب هيتين كياو أن يضع حداً لها، خصوصاً أنه بدأ عهده بشيء من الانفراج السياسي، فقام بإطلاق سراح عشرات المعتقلين والسجناء السياسيين وأصدر عفواً عاماً، الأمر الذي رجّح موضوع المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ووضعه في جدول عمل الحكم الجديد، إضافة إلى مطالبات مؤسسات المجتمع المدني.
وعلى الرغم من أن الرئيس الجديد هيتين كياو حاز على 360 صوتاً من مجموع 652 نائباً، فإنه سيكون - بحكم المراتب الحزبية - خاضعاَ لقيادة "حزب الرابطة من أجل الديمقراطية"، التي تتزعمها سوتشي الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والتي كان من المؤمل أن تكون في موقع الرئاسة لولا قيود وضعت أمام توليها هذا المنصب في حقبة النظام السابق، وهي تتعلّق بالجنسية البريطانية التي يحملها نجلاها، لكنها أنيطت بها حقيبة وزارة الخارجية.
وإذا كان السلام المنشود وتحقيق المصالحة الوطنية والمجتمعية هدفاً يُراد الوصول إليه، كما هو معلن، خصوصاً بالتخلص من إرث الماضي، فإن الأمر يقتضي تحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة، وجبر الضّرر وتعويض الضحايا، وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، لمنع تكرار ما حدث من جهة، ولمواجهة أعمال التطرّف والعنف من جهة ثانية، وهو ما دعا سوتشي إلى التصريح خلال زيارة كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة في 6 أيلول (سبتمبر) 2016، قائلة: "علينا تحقيق السلام المنشود".
وكان أنان قد دعا لإعادة الثقة وإيجاد السبل الكفيلة بالتمسّك بالقيم المشتركة القائمة على العدل والإنصاف والمساواة، وهو ما قابله البوذيون بفتور ملحوظ، خصوصاً أن البلاد قد هيمنت عليها نزعات الإقصاء والاستئثار، وهو ما يضعها على مفترق الطرق.



405


في نستولوجيا المثقف اليساري

عبد الحسين شعبان(*)

الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد
ابن عربي
- I -
ما الذي تبقّى من المثقف اليساري في مجتمعاتنا؟ فهل انقرض أم خفّ وزنه أم ضَعُف تأثيره، وشغلته ظروف الحياة ومشكلاتها عن أحلامه وطموحاته، أم أنه يمكن أن يستعيد دوره وموقعه وألقه؟ أتراه أصبح جزءًا من الماضي وتراثه، ومجرّد ذكريات يحنّ إليها بعضنا بين الفينة والأخرى، أم أن حضوره الحالي والمستقبلي، على الرغم من محدوديّـته، هو جزء من معركته بشكل خاصّ لإثبات وجوده وتأكيد استمراره، وكذلك جزء من معركة اليسار بشكل عامّ، الذي ما بات يعاني من حالة انحسار وانكماش بسبب أزمته الخاصّة وأزمة الحركة اليسارية والتحرّرية بشكل عام؟
يمكن هنا تسليط الضوء على ما ذهب إليه "ميشيل فوكو"، وخصوصاً في مقالته التي تحمل عنوان "المهمّة السياسية للمثقّف" ردّاً على سؤال وجِّه له: "هل بوسع المثقف اليساري أن يفعل شيئاً بوصفه فاعلاً، وبوصفه الوحيد القادر على الفعل داخل حراك اجتماعي؟"، وكان جوابه: "إنّ الرأي الذي يقول إنّ تدخّل المثقّف بوصفه مُعلّماً أو صاحب رأي، لا أتبنّاه... لأنني أعتقد أن الناس ناضجون بما يكفي كي يقرّروا...".
   ولعلّ نظرة مثل هذه، تشكّل خروجاً على الفكرة التبشيرية لدور المثقف في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تلك التي كانت تعطيه دوراً ريادياً في تبصير الناس وتنويرهم وتوجيههم نحو التحرّر.
   لقد أعلن فوكو بذلك "نهاية المثقّف"، خصوصاً عندما اعتبر مفهوم المثقف ذاته غامضاً وعائماً، فالمثقف مذنبٌ حين يصمت وحين يتكلّم وحين يكتب وحين يستقيل، لأن وظيفته الجديدة، بحسب فوكو، هي النّضال ضد مسلّماته، فهو إما أن يكون ملتزماً أو مزيفاً، وهو ليس وسيطاً عقارياً بين آيديولوجيات، لأنه ينبغي أن يكون صوت المظلومين والصامتين والمهمّشين.
   وقد كان "أنطونيو غرامشي" صاحب فكرة "المثقف العضوي"، وهي المقولة الأثيرة التي ظلّ أصحابنا الماركسيون واليساريون يستخدمونها بمناسبة ومن دون مناسبة، وقد عني بها الاقتراب من الجماهير، والعمل وسط المواقع الدقيقة للحركات الاجتماعية، بل التماهي معها.
لا يتحدّث بعض مثقفي اليسار، ولا سيّما العربي في الكثير من الأحيان، عن الحاضر أو المستقبل، لكنه يغوص في الماضي ويستغرق فيه مستذكراً بشغف أيّامه الجميلة كما يسمّيها أحياناً، يوم كان دوره مؤثّراً وصوته هادراً وإبداعه راقياً. ربما يجد في تلك النستولوجيا "الحنين إلى الماضي" تعويضاً عن حاضر باهت ومستقبل مجهول وأحلام مُنكسرة، وقد يرجع ذلك إلى شعوره بأنّ الماضي معروف، وهو يستحضر جزءه المشرق، أما الحاضر فلا يزال ملتبساً والمستقبل لا يُبشّر بالخير حسب معطياته.
في نبرة المثقف اليساري تشعر أن ثقته بالمستقبل ضعيفة، بحكم موقعه المتواضع والتابع أحياناً، لذلك يتشبّث بالتاريخ وبالماضي، كجزء من محاولة البقاء، وهي سمة عامة لنا نحن العرب، الذين نتحدّث عن ماضينا "التليد"، أكثر ممّا نتحدّث عن حاضرنا ومستقبلنا.
وبالطّبع تختلف مهمّات المثقف اليساري الراهنة عن مهماته السابقة، وكذلك وسائل وأساليب تحقيق أهدافه، ناهيك بأدواته، وهي أمور لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند تناول دور المثقف وأفقه المستقبلي في ظلّ الأزمة الراهنة وسُبل الخروج منها.
صحيح أن التراجع والانكسار والخذلان والخيبة هيمنت على المثقف اليساري، أو مثقف التحرّر الوطني، كما يطلق عليه بعضهم، باستثناء قلّة ظلّت متشبّثة بممانعتها ومقاومتها ورفضها لمشاريع ومخطّطات تريد فرض الأمر الواقع على شعوبنا وبلداننا، وعلى الثقافة والمثقفين من جانب جهات متسيّدة ومتنفّذة خارجية وداخلية، لكن حتى بعض هذه القلّة يعيش هو الآخر في الماضي، ولا يريد تطوير أدواته لمواجهة الحاضر واستشراف المستقبل. والبقية الباقية ليس لديها الوسائل والمستلزمات الكافية للمواجهة بسبب اختلال موازين القوى وتشتّتها "شيعاً وأحزاباً"، لكنها ظلّت حريصة على أن يبقى صوتها مستقلاً ونقدها مستمراً.
تحاول الجهات المتنفّذة على الثقافة والمثقفين فرض منهجها، تارةً باسم "العولمة" وتارةً أخرى باسم "التغيير والدمقرطة"، وفي تارة ثالثة تحت عنوان "مواجهة التغريب والاستكبار" ولكن من موقع السلفية والماضوية، وبين هذا وذاك من المشاريع الكبرى، يتم إلغاء أو تحجيم فردانية المثقف، وتحويل إبداعه إلى مجرّد دعاية وترويج لمصلحة الحاكم أو صاحب القرار أو السياسي المتسلّط، بما فيها في المعارضات أحياناً، سواء بزعم مواجهة العدوّ الخارجي والخطر الأجنبي الداهم، وأخرى باسم المصلحة الوطنية العليا وأهداف الثورة، وثالثة باسم الدّين، أو باسم المذهب أو غير ذلك من التبريرات التي تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة.
وإذا كان النضال ضدّ الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، ومن أجل الاستقلال والانعتاق والتحرّر الوطني والوحدة الكيانية العربية والعدالة الاجتماعية، هي الأساس الذي اعتمده المثقف اليساري في مرحلة التحرّر الوطني في الأربعينات والخمسينات من القرن الفائت وما بعدهما، فإن هذا النضال اتّخذ أشكالاً جديدة، وإنْ كانت محدودة، لكن مرجعيتها الفكرية أخذت بالاتّساع والعمق، ويمكن أن تكون نواة أوّلية لما أسماه "أنطونيو غرامشي" بـ"الكتلة التاريخية" التي تحتاج إلى جهود جبّارة من المثقفين للوصول إليها في إطار أجواء حوار ومصالحة بعد مصارحة بين التيارات المختلفة.
- II -
أهي نهاية المثقّف العضوي؟
نعود إلى السؤال: أين المثقف اليساري، الماركسي والقومي العربي والليبرالي الوطني؟ وكيف يمكن توظيف إبداعه ليستعيد دوره؟ ومن حقنا، بعد الارتكاس والتقهقر الذي تعرّض له المثقف، أن نصوغ السؤال الملغوم: أهي نهاية للمثقف العضوي بحسب غرامشي؟ وهل بإمكان "تفاؤل الإرادة" تغيير "تشاؤم الواقع"، أم ثمة عوامل ينبغي استكمالها لتحقيق ذلك؟ وهل صعود مثقف العولمة والمثقف النيوليبرالي هي نهاية للمثقف اليساري؟ أم ثمة دور يمكن أن يضطّلع به المثقف اليساري في إطار مشروع نهضوي عربي جديد، يقوم على مرتكزات أساسية هي الاستقلال السياسي والاقتصادي والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة العربية والتجدد والانبعاث الحضاري، ومرّة أخرى أين رمزية مثقف الأربعينات والخمسينات وكارزميته من رمزية مثقف اليوم؟
لقد أسهمت الحقبة البترودولارية في إضعاف المثقف اليساري ومحاصرته، وأدّت تدريجياً إلى نكوص دوره أو انكفائه أو شعوره بالانكسار والخذلان في ظل توازن قوى ليس لمصلحته، وخصوصاً فشل المشروع الاشتراكي واليساري والتحرري عموماً، وانهيار النموذج "البلدان الاشتراكية" التي يمكن أن نطلق عليها "أنظمة الأصل"، وتقهقر بلدان التحرّر الوطني أي "أنظمة الفرع".
الأمر لا يعود إلى هشاشة أو ضعف مناعة بعض المثقفين اليساريين فقط، وإنما ينبغي التوقف عند الدور التدميري الخطر الذي لعبه مثقف العولمة في تدهور مكانة الثقافة والمثقف بشكل عام، وخصوصاً إزاء محاولة تزييف الوعي وتزيين الواقع ورسم صور وردية، عن النظام العالمي الجديد، والتبشير بقيمه تحت عناوين الدور الريادي لليبرالية الجديدة، وهو ما دعا إليه "فرانسيس فوكوياما" في نظريته "نهاية التاريخ" وصموئيل هنتنغتون في أطروحته "صدام الحضارات".
لقد حاول "إدوارد سعيد" أن يفحص بدقّة الدور المتغيّر للمثقف العربي، من خلال مقاومة إغراءات الجبروت والمال، وفي تعريفه للمثقف يقول: "هو شخص يواجه القوة بخطاب الحق"، ويصرّ على أن وظيفته هي أن يُخبر مريديه ونفسه بالحقيقة، وقد جمع بذلك عمق معرفته، وصرامة أدواته البحثية، وأخلاقية ما يقوم به من أفعال سياسية.
وفي ظل الصراع الآيديولوجي العالمي، استُخدمت وسائل متعدّدة من الدعاية البيضاء والسوداء للتأثير على المثقف وجرّه إلى حلبة الصراع، وخصوصاً أن وتيرته الدعائية كانت تسير بكثافة وسرعة لامتناهية. وتعرّض الكثير من المثقفين، في فترة الحرب الباردة، في كلا المعسكرَين المتصارعَين، إلى التنكيل والتهميش إن لم ينصاعوا إلى الإرادات السياسية، وكان بعضهم بين مطرقة الغرب وسندان الشرق.
وهكذا كان المثقف عموماً، واليساري خصوصاً، عرضةً للتجاذب بين الاعتراض والمقاومة والممانعة وبين الخضوع والاستسلام والمُسايرة. وحين انهارت الكتلة الاشتراكية، تبدَّل كثير من خرائط بعض المثقفين اليساريين، فوجدوا في العولمة والخصخصة وازدراء الاشتراكية واعتبار الليبرالية "الجديدة" مفتاح الحلول في العالم المعقّد!
كيف تمكّنت القوى العولمية، باسم الحداثة وما بعد الحداثة، من إقناع المثقف اليساري الذي كان يعتبر الإمبريالية والصهيونية العدوّ رقم واحد للشعوب، بأنها "مُحرّر الشعوب" وفاعل الخير المخلّص والمُنقذ من أنياب الدكتاتوريات والأنظمة المستبدّة، لبناء مجتمع الخير والرفاه والوفرة والحرّيات والمساواة، أي مجتمع الحليب والعسل والرفاه، كما هو "العالم الحرّ"؟!
وأخيراً، ما هو السبيل لاستعادة دور المثقف، باعتباره فاعلاً ومؤثراً، وليس تابعاً أو مُلحقاً أو مُستزلماً وخانِعاً؟ وما هي الوسائل الجديدة لمجابهة ثقافة العولمة، وخصوصاً في ظلّ واحدية إطلاقية تكاد تكون شاملة في الميادين المختلفة؟ هل الاكتفاء بالشعارات والصّيغ القديمة، كفيل بمواجهة العولمة بوجهها المتوحّش، أم لا بدّ من وسائل جديدة تستند بالدرجة الأساسية إلى العِلم واستثماراته، وخصوصاً في جيل الشباب، لتنمية العقول والمدارك، واستيعاب مُنجزات الثورة العلمية – التقنية بما فيها من تكنولوجيا الإعلام والمواصلات والاتصالات والطفرة الرقمية "الديجيتل"؟.
والأمر يتعلّق بضرورة مراجعة المثقف اليساري لتجربته، ونقدها، والتخلّص من الجمود التي صاحبها، وخصوصاً التجارب الشمولية التي قادت إلى الإقصاء والتهميش والانتقاص من قيمة الحرّية والفرد والفردانية، على حساب الشعارات الكبرى ذات الرنين العالي، كالمساواة، وإن كانت ذات طابع شكلي، والعدالة التي كانت ناقصة ومبتورة في ظلّ شحّ الحرّيات، علماً بأن واقع الأمر كان يسير في اتجاه آخر.
ويحتاج الأمر كذلك إلى وضع قضية الحرّيات في موقعها الصحيح، ولا سيّما حرّية التعبير وحرّية الاعتقاد والحق في تشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، والحق في الشراكة في الوطن الواحد والمُشاركة بتولّي المناصب العليا في الدولة والمجتمع من دون تمييز لأي سبب كان، سواء إثنياً أو دينياً أو طائفياً أو بسبب الجنس أو اللغة أو الأصل الاجتماعي. فالتحوّل الديمقراطي المنشود لن يتمّ من دون تأمين مستلزمات احترام سيادة القانون واستقلال القضاء وتداول السلطة سِلمياً، وتلك من واجبات المثقف بشكل عام، والمثقف اليساري بشكل خاص.
ولا بدّ للمثقف أن يعمل على إعادة تفعيل دور الجامعات، وإعادة النظر بالمناهج التربوية ومؤسسات البحث العلمي، وتجسير الفجوة بين المثقف وصاحب القرار، أي أن يمارس دوره كقوّة اقتراح وليس كقوّة احتجاج فحسب، فضلاً عن مطالباته بتحسين الخدمات الصحية والتربوية والبلدية، وجعلها في خدمة الجميع، وكذلك تحسين أوضاع الناس وتقليص الفجوة بين المتخومين والمحرومين، وبين مَن يملكون ومن لا يملكون، ولن يتم ذلك سوى بنضال سلمي مدني طويل الأمد، يلعب فيه مثقف اليسار، الماركسي والقومي، دوراً مهماً في المُمانعة وفي مواجهة تغوّل القوى الدولية والمحلية وهضمها للحقوق والحرّيات الديمقراطية، ومحاولاتها فرض الاستتباع عليه بالوعد أو الوعيد، بالترغيب أو بالترهيب، خصوصاً بتجديد منهجه وأساليب عمله، مستفيداً من الإعلام ومستخدماً إياه، إلى جانب الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني على هذا الصعيد.
- III -
بين أُمميَّـتَيْن
إن المثقف اليساري في المرحلة الجديدة، هو أقرب إلى المثقف الكوني، فالحدود أمامه مفتوحة، والجسور موصولة، وجميع وسائل الاتصال والتكنولوجيا يمكنه استخدامها للتواصل مع مثقفي العالم من موقع التضامن والتساند والأهداف المُشتركة والطرق المختلفة لتحقيق تلك الأهداف لكل منهما، بحسب ظروف كل بلد وخصائصه وتطوّره ودور اليسار فيه، وتلك النظرة الأممية الجديدة مختلفة عن الأممية الشيوعية أو الاشتراكية السابقة، التي قامت على وجود مركز مقرّر وفروع تابعة له.
هل نحن أمام أمميّة جديدة؟ وما الفرق بينها وبني الأمميّة القديمة؟ ثمّة أممية جديدة في طور الإنشاء أو في مخاض للتأسيس، وخصوصاً في جانبنا الفكري والثقافي، وصولاً إلى أممية ثقافية كونية طوعية واختيارية، قائمة على أساس التفاهم والتضامن والمساواة، ومن دون قسر أو إكراه أو إملاء للإرادة، فالمثقف اليساري اليوم، لا يستطيع تحقيق أهدافه العامة والخاصة، من دون انخراط في حركة واسعة ومرنة لليسار العالمي، وخصوصاً لمواجهة التغوّل الإمبريالي العولمي وذيوله المحلية.
وإذا كانت هذه نظرتنا إلى مثقف اليسار، وما تبقى منه، وصولاً إلى المثقف الكوني، كأحد عناصر المُجابهة لتحقيق التنمية والرفاه والتقدّم، فهي رؤية عدد من المثقفين اليساريين الآخرين، بلورها "إدوارد سعيد"، الذي شكّل الصورة الحضارية للمثقف الفلسطيني في أفضل رموزه، باعتباره مثقفاً كونياً مُنحازاً للإنسانية، يعيش عصره على نحو جدلي، ويحلّل الظّواهر بعقل معرفي ومنهجية فكرية أساسها النقد، وهو معني بكشف هذه الظواهر وتحليلها وتفكيكها واستنطاقها، مثلما فعل "هابرماز"، و"دريدا"، و"تودروف"، و"آلن تورين" وغيرهم، وتتجلّى مرجعيّـته الأساسية الموجِّهة لعمله في الممارسة النقدية التي تتعرّض لفكّ التداخل بين الظواهر التي يدرسها.
في كتابه "الاستشراق" لم يتّهم إدوارد سعيد مثقف السلطة فحسب، بل السلطة ذاتها التي تقولب "المثقفين"، ولكنه دافع عن المثقف وعن الاختلاف والمُغايرة، وذلك ما بحثه تفصيلياً في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، مُعتبراً الثقافات والحضارات تتلاقح وتعيش بعضها على بعض، وبخصوص الهويّة، فقد عبّر سعيد عن ازدواجيتها، فمن جهة هي هويّة مختلفة، ومن جهة أخرى هي هويّة مؤتلِفة.
إن كتاب "خارج المكان" هو محاولة لإحياء الذاكرة، أي إبقائها حيّة، والبحث في التفاصيل الصغيرة، التي تشكّل عوالمها مهمّة أساسية يستعيدها المنفيّون واللاّجئون. وهو بهذا المعنى بحث في الهويّة، على الرغم من العواصف، والتنقّلات والهجرات والثقافات. فالهويّة ظلّت تشكّل الهاجس الذي يطلّ برأسه ويلوح بصورة عفوية، من دون استحضار مسبق. وقد سبق لـ"أمين معلوف"، الروائي اللبناني العالمي الذي مُنح أعلى وسام فرنسي، أن تحدّث عن موضوع الهوّية في كتابه "الهوّيات القاتلة"؛ وقد مثّل هو شخصياً هذا البُعد المُتحرّك في الهويّة، بحمله الثقافتين العربية والفرنسية، وقدرته في أن يكون جسراً للتواصل، من دون أن يعني ذلك تجاوز المعاناة الإنسانية الفائقة، ولا سيّما في التعبير عن تلك الهويّات المزدوجة، بل المتعدّدة والمتنوّعة.
أما "أدونيس"، ففي كتابه "موسيقى الحوت الأزرق" يُناقش فكرة الهويّة، ويستهلّ حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء، بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسَها على حدّ تعبيره، وأعني بها التعارف، أي الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال "رؤية الذّات، خارج الأهواء"، ومنها بخاصة الآيديولوجية، ويمكن أن نضيف إليها الدينية والقومية وغيرها، بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية.
وتستند هذه الرؤية إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محلّ الفكر التبشيري - الدّعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة، التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يُشارك فيها الجميع، على الرّغم من تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً، وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً، إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر. ثانياً وثالثاً يكشف لنا أن الهوّية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها مُتحرّكة ومُتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار مُنفتح بقبول التفاعل مع الآخر. وإذا كانت ثمّة تحوّلات تجري على الهويّة على صعيد المكان - الوطن، فالأمر سيكون أكثر عرضة للتغيير بفعل المنفى وعامل الزمن وتأثير الغربة والاغتراب.
وكان إدوارد سعيد قد قال بعدم وجود هويّة صافية، وإنما الهويّات جميعها مُركّبة من عناصر مختلفة وتراثات متنوّعة، وعليه فالهويّة كما يقول أدونيس: ليست بركة مُغلقة، وإنما هي أرخبيل مفتوح، أي أنها، بحسب سعيد، ليست ثابتة أو جامدة أو نهائية. إنها حيوية وديناميكية تغتني باستمرار مع عناصر ثقافية متجدّدة، وهذه هي شخصية سعيد ذاته، فهو فلسطيني أمريكي الجنسية، يرى ذاته في الآخر، ويرى الآخر في ذاته، من دون أي وقوع في التبسيط أو السذاجة.
ولذلك يقول سعيد في كتابه "خارج المكان" إنه "عربي أدّت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وأن تلك الثقافة، إذْ تلقي ظلال الشكّ على الفكرة القائلة بالهويّة الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات".
وفي آخر حوار معه أجرته صحيفة "الرأي العام" الكويتية في 27 سبتمبر/أيلول العام 2003 قال: "هناك تهديد للمشروع الحضاري العربي، وللأسف يُسهم العرب في هذا التهديد. ثمّة نوع من الانتحارية العربية تنعكس في السياسة العربية، وهي لا تؤدي إلى مستقبل إيجابي، وهناك تغييب في المفاهيم العربية، وأنا شخصياً أعاني من ذلك في الغرب"، وقصد سعيد من ذلك الدعوة للحوار والتسلّح بالحضارة والعِلم والتعليم.
من هو المثقف الكوني؟
ونعرض هنا وجهتَي نظر متميّزتَين لمثقفَين يساريين، الأولى لمثقف يساري اشتراكي حاول تقديم قراءة جديدة ونقدية بجرأة وشجاعة للتراث العربي – الإسلامي، من خلال مفهوم  مُستحدث للمثقف الكوني، ونعني به الباحث العراقي "هادي العلوي"، والثانية لمثقف يساري واشتراكي أيضاً، قرأ التطوّرات الجديدة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية من زاوية نقدية، وعمل على المشاركة في تقديم تصوّر حقوقي لمواجهة تداعيات مثقف التحرّر الوطني وتصدّعاته، وذلك بطرح مفهوم المثقف الكوني، ونقصد بذلك الباحث المصري المجدّد "محمد السيد سعيد".
- IV -
المثقف الكوني، بحسب هادي العلوي، هو "المتصوّف أو التاوي"، الذي يتميّز "بالتجرّد الكامل واللاّتشخّص واللاّحدود واللاّتناهي". ويقيم على الوحدة المطلقة "بإلغاء المسافة بين الخلق والخالق والتوحّد معهما". ويضيف العلوي صفات أخرى إلى "المثقف الكوني" الذي يُفترض فيه "عمق الوعي" المعرفي والاجتماعي معاً، و"عمق الروحانية" (السلوك الروحاني وليس الفكر الروحاني "الغيبي")، وهذه الصفات هي: القوّة أمام مطالِب الجسد والترفّع عن الخساسات الثلاث السلطة والمال والجنس.
إنّ نموذج المثقف الكوني هو أقرب إلى التماهي مع أهل الحق في الإسلام "فقهاء القرن الأول والمتكلّمون والأحبار المستقلّون المعدودون في الطّور قبل الصوفي، ثم المتصوّفة أقطابهم من دون صغارهم..." ويمثّل "التاوي" و"المسيح"، كما ورد في كتابه "المرئي واللاّمرئي في الأدب والسياسة": التماهي مع روح الخالق، بعيداً عن السلطة والتعفّف عن المال، مردّداً قول السيّد المسيح حين دعا إلى إخراج الأغنياء من ملكوت الله. ويمنح العلوي مثقفه الكوني: هوّية مُعارضة، أي لقاحية، كما يسمّيها، لمواجهة التشخّص والمحدودية والتناهي. وبذلك يفسح في المجال أمامه لاختيار الطريق للوصول إلى الله/ الحق، والانحياز ضدّ مركزية الدولة والدّين المُمأسَس والأغنياء.
من "تكوينات المثقف" الكوني لدى العلوي: "التعالي على اللذائذ"، بحيث يأخذ من الحياة ما يفرضه دوامها، فيأكل عند الحاجة، وينام عندما يغلبه النوم، "ولا يملك شيئاً لئلاّ يملكه شيء، وهو كبير وقوي وحاكم" (المقصود حرّ وغير خاضع لسلطة)، وليس صغيراً أو ضعيفاً أو محكوماً. ويوجّه العلوي نقداً للمثقفين المعاصرين العرب، ولا يستثني أحداً، وذلك وفقاً لقياساته المسطرية حين يقول: "المثقفون مأخوذون بالخساسات الثلاث ويجعلونها من صميم العمل الثقافي". ويمضي إلى القول "لقد سبقني إلى مُعاداة المثقف شيخنا فلاديمير لينين، حين اتّهمهم بالرخاوة والروح البرجوازية".
لقد أطلق عليهم العلوي اسم "شيوعية الأفندية" (الأفندي السيد الكبير باللغة التركية) وقَصد بذلك نمطاً من الشيوعية يقوم على الآيديولوجيا الصّرفة المُجرّدة من اليوتوبيا المقطوعة عن ساحة الصراع الطبقي. ويعتبر هؤلاء "مثقفين وشيوعيين يحاربون الشيوعية"، وهو ما سمّيناه في كتابنا "الصراع الآيديولوجي في العلاقات الدولية" الماركسلوجيا مثلما هناك "إسلاميون يحاربون الإسلام".
ويعتبر هادي العلوي أن المثقف الصوفي ومَن حكمه متروحِنْ بعلاقة مزدوجة مع الروح الكونية، التي يسميها الباري أو الحق أو التاو، مع الخَلق في آن واحد.
وبتلك "الرَوْحنة" يكتسب المثقف، بحسب العلوي، الطاقة الاستثنائية التي تضعه في مواجهة السلطات الثلاث: سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال. وفي هذا الطّور الأعلى من الاستقطاب، يتخلى المثقف الكوني عن "اللذائذية"، باختلافه عن عـالم الدين وربما عالم الطبيعة. إنه بذلك يعّبر عن نكران ذاته وتخلّيه عن حقوقه لمصلحة الإنسان (الآخر)، وهو يردّد قول عبد القادر الجيلي "أفضل الأعمال إطعام الجياع"، حين يتمنّى أن يملك الدنيا ليوزّعها على الفقراء، فتلك كانت رؤيـة العلوي الحقيقية إزاء الفقراء، فقد كان لا يريد بقاء الامتيازات محاصصة – بين "أهل الدولة" و"أهل الدين"، بل تساوياً مع العامة.
ووضع العلوي أعداء المثقف الكوني في دوائر أربع سمّاهم "الأغيار الأربعة" وهم: الحاكم والمثقفون والرأسمالية والاستعمار، معبّراً في بياناته المشاعية وعلاقاته الروحانية عن تحدّيهم، وخصوصاً أنه كان يعيش بفكره مع شيوخ الصوفية الذي يقول عنهم : "أنا أعيش بينهم وأكلّمهم، وأنا دائم الحديث مع النّفس في الخلوات... من لاوتسه إلى ابن عربي".
وإذا كان العلوي لا يعتبر "التملّك" غريزة لدى الإنسان، بل صفة مكتسبة، فإنه بحسب تقديري، رغبة منه في النزوع إلى الحق المطلق "المثالي" والوقوف ضدّ الاستغلال من زاوية إنسانية "مطلقة"، ولكنني أعتقد أن الرغبة في التملّك متأصّلة في الإنسان وفي النفس البشرية، فضلاً عن أنها حق شخصي للإنسان، ولذلك ورد ذكرها في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عام 1948 (المادة السابعة عشرة) التي نصّت على: "أن لكل شخص حق التملّك ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسّفاً".
وعندي أن ذلك أقرب إلى طبيعة النفس البشرية على مرّ التاريخ، ولهذا السبب انشغل علماء الاجتماع والقانون والاقتصاد والسياسة في بلورة الآراء والتوجّهات بخصوص تنظيم الملكية، في بحث مستديم عن العدالة الاجتماعية، الهاجس الذي يبحث عنه بنو البشر على مرّ العهود. كما كرّست الدساتير والقوانين والأنظمة على مرّ العصور الكثير من حقولها لتنظيم الملكية وتحديد وظيفتها، سواءً الملكية الفردية أم الاجتماعية، بحيث تعود بالخير على المجتمع ككل، وكان هذا جوهر الصراع أيضاً بين المدارس الفكرية والفلسفية، المثالية والمادية.
أما "الجنس" الذي يعتبره العلوي غريزة يتساوى في طلبها المثقف الشرقي مع الحاكم الشرقي، فمن خصائص المثقف الكوني، بحسب العلوي، الابتعاد عنه، لأنه من الخساسات الثلاث، أو طلب القليل منه والاكتفاء بحدود الوظيفة، في حين أن الحاكم لا يرتضي بالكثير، بينما لا يطلب مثقفه الكوني سوى القليل.
وهنا أيضاً أجد اختلافاً مع الطبيعة البشرية، فالجنس حاجة إنسانية يتساوى في طلبها المثقف والحاكم، وإشباع هذه الحاجة يتساوى فيها الغني مع الفقير، والحاكم مع المحكوم، والمثقف مع غير المثقف. صحيح أن الظروف الاجتماعية ودرجة التطوّر والوعي والوفرة المالية، قد تحدّ أو تزيد من مدى إشباع هذه الغريزة أو الرغبة، لكن الأساس فيها يبقى هو الحاجة الإنسانية، بغض النظر عن عناصر الاختلاف الأخرى.
أخيراً، أقول إذا كانت نزعة التصوّف قد استوطنت العلوي واحتلّته احتلالاً، فإنه استحلاها واستطيَبها، وعاش معها ليؤنس، "الإله" في ذاته المغتربة عن العالم.
- V -
مثقف التحرّر الشامل
أما "محمّد سيّد سعيد"، فإنه يتناول بزوغ ظاهرة "المثقف الكوني" أو "الكوكبي" الذي من خصائصه الأداء الداخلي الناجح في مجالات النمو (التنمية) والتقدّم كافة، وكل إنجاز داخلي في ميادين "الصحة" و"التعليم" و"التكنولوجيا" و"الثقافة" و"الاقتصاد" يصبّ في هذا الاتجاه، وخصوصاً باختلاف المضمون الحقيقي لمشروع التحرّر الوطني، فلم يعد هذا المشروع ينهض على الصّدام مع الغرب (الاستعمار والإمبريالية سابقاً)، بل عملية تحرّر عملاقة من علاقة الضدّية الحاكمة (على نحو عكسي) بين تجربة وطنية ما من ناحية، والغرب من ناحية أخرى.
يقول سيد سعيد في مقالة بعنوان "نهاية مثقف التحرر الوطني" (جريدة الحياة 3/9/1994): "يستحيل أن تُستكمل عملية التحرّر هذه بالعودة إلى المنطق الطبيعي لأي اختيار، أي قياس عائد وتكلفة أي اختيار، ومدى اقترابه أو ابتعاده من قيَم سامية لعموم الإنسانية. ويدعو سيد سعيد إلى ولادة عربي جديد "مثقف التحرّر الشامل" الذي هو "مثقف كوني" بالضرورة، لأنه يُدرك أن عملية التحرّر هي فعل عالمي، وهو بالتالي "يتصوّر فاعليته في إطار تحالف عالمي، فضفاض نسبياً، من أجل السلام والمساواة والرفاه للعالم كله". ويعرّف محمد السيّد سعيد مثقف التحرّر الوطني، بأنه ذلك الكائن الذي تفتَّح وعيه الكوني على صدمة الاستعمار والهيمنة الغربية على عالَمه القومي.
بهذا المعنى، فإن مثقف التحرّر الوطني يقف ضدّ التجزئة، ويناضل لبناء دولة الوحدة وليس تحقيق "الاستقلال الوطني". إنّ مثقف التحرّر الوطني هو وليد "اتفاقية سايكس بيكو" العام 1916، وأضيف إليها منذ العام 1948 بُعد جديد جوهري، هو نشوء "الدولة العبرية" واغتصاب أرض فلسطين، فلم يعد نضاله يقتصر بحسب سيد سعيد على قيام دولة الوحدة وضدّ التجزئة، بل يناضل (بالضرورة) ضدّ المشروع الصهيوني الاغتصابي - التوسعي. وهو بالطّبع نضال ضدّ الغرب الداعم لقيام إسرائيل.
ويصل السيد سعيد إلى استنتاجات مثيرة، منها أن المثقف العربي سجن نفسه في الإطار التكنوقراطي البحت، الأمر الذي أدّى إلى تعقيم (من العُقم) طاقاته الفكرية والإبداعية وأفقده الخيال الجسور، بحيث انهمك في تحسين أداء ما هو قائم ولترقيع ما هو مهترئ ومختوم. (وهو يقصد بذلك مثقف السبعينات والثمانينات وما بعدها، علماً بأن مثقف الأربعينات والخمسينات ولغاية الستينات كان دوره مختلفاً وريادياً).
لقد أصبحت للغرب دعامتان أساسيتان في المنطقة: الأولى – "ضمان تدفّق النفط" بأرخص الأسعار والثانية – "ضمان أمن إسرائيل" ودعم مشاريعها التوسعية والعدوانية. وأصبح مثقف التحرّر الوطني نفسه، أسيراً لشعارات الصراع الآيديولوجي القديمة ولفترة الحرب الباردة، فأصبح دعم الاتحاد السوفييتي "ضرورة تأريخية"، بغضّ النظر عن التعقيد الجديد في تلك العلاقة، بما فيها نخبة مثقفي التحرّر الوطني والشعارات التي كانت ترفعها "القوى الاشتراكية" التي تُبشّر بأفول النظام الرأسمالي، بسذاجة عالية ودعائية تبسيطية "غير علمية"، بحسب تعبير السيد سعيد، وكانت تلك أحد مصادر أزمة المثقف العربي في فترة ترييع الاقتصاد وصعود عنصر النفط، وتجديد الرأسمالية خلاياها وتجاوز بعضها أزماتها. كما يذهب إلى ذلك المفكر المصري "محمود عبد الفضيل" في كتاب جماعي "المثقف العربي – همومه وعطاؤه" (من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية).
لقد أبدى مثقف التحرّر الوطني إعجاباً شديداً بالنموذج الاشتراكي، ودعا إلى تقليده، وخصوصاً بعد إسهام الاتحاد السوفييتي في القضاء على الفاشية، وغضّ الطرف عن النظام الشمولي، وعدم الإقرار بالتعددي، وإهدار الحقوق والحريات، ولذلك وقف مذهولاً عند الأزمة الطاحنة التي عاشها النموذج الاشتراكي في مطلع الثمانينات، حتى أطيح به في أواخرها، وانهار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، لدرجة أن "إيمانيته" العمياء تلك أوقعته ضحية، وهو الأمر الذي دفع الخطاب التقليدي المُنتَج في نهاية الحرب العالمية الثانية في أزمة حقيقية، سواء على الصعيد النظري أم على الصعيد العملي، وازداد الأمر تعقيداً في ظلّ العولمة والثورة العلمية التقنية والاتصالات والمواصلات، لدرجة أن إشكالية "الأصالة والمعاصرة" تعقّدت في جدول أعمال المثقف العربي منذ ربع قرن من الزمان، دون حل مرضٍ.
ولم يكتمل مسار التطوّر الفكري والثقافي، وظلّ يعاني من عدم استقرار ويفتقد في الكثير من الأحيان إلى الحيوية والدينامية. ومع ذلك، وبحسب" محمود عبد الفضيل"، فقد كانت هناك مشاريع فكرية جادة سبحت ضدّ التيار، منها كما يذكر:
1.   ثلاثية محمد عابد الجابري (المغرب) حول بنية العقل العربي .
2.   ثلاثية جمال حمدان (مصر) حول عبقرية المكان وأبعاده الاستراتيجية .
3.   دراسة طارق البشري (مصر) حول إشكالية "الوافد" والموروث.
4.   دراسة حسين مروّة (لبنان) عن النزعات المادية في الإسلام .
5.   مشروع محمد سلمان حسن (العراق) في إعادة بناء الاقتصاد السياسي في ظل أطروحات أوسكار لانكه وكاليستكي.
6.   ثلاثية محمد حسنين هيكل (مصر) عن حروب 1956، 1967، 1973.
ويمكن إضافة مشروع "علي الوردي" (العراق) في دراسة المجتمع العراقي وطبيعة الشخصية العراقية، ومشروع "هادي العلوي" في دراسة التراث ومخالفة ما هو سائد في الكثير من الأحيان، وهناك حقول مهمّة في الأدب والرواية والشعر والفن والعمران، أسهمت في تقديم رؤية للمثقف العربي.
انحسار دور المثقف
لقد انحسر دور المثقف العضوي بحسب مفهوم غرامشي، وهو المثقف الذي يعبّر عن هموم الناس ووجدانهم وحلمهم، والحلاّل لمشاكلاتهم، وسواء أكان مثقفاً يسارياً أو مثقفاً للتحرّر الوطني، فإن المثقف الراهن، توقّف عن إنتاج المعرفة، بل أصبح جلّ همّه هو إعادة توزيعها ترجمةً أو تأليفاً.
وكان المثقف العضوي أو المثقف اليساري والعروبي يدافع عن قيَم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتحرير الشعوب والوحدة الكيانية العربية والتنمية المستقلة، فإذا به الآن يتحوّل إلى قطري، وفي بعض الأحيان محلّي، وخصوصاً في ظلّ مواصفات ما قبل الدولة الطائفية والإثنية والعشائرية والجهوية والمناطقية، ويؤيد التطبيع بحجة الواقعية السياسية، ولا يرى الخطر في الصهيونية والإمبريالية.
هكذا يحاول بعض المثقفين اليساريين تمييع الفروق وإضاعتها. وبحجة فشل القطاع العام وسياسة التخطيط السابقة، يستمرىء البعض الدعوة للخصخصة وبيع القطاع العام، وهكذا بدأت صورته تهتز عند الناس، وخصوصاً بدعوة البعض للتدخل الأجنبي أو التعاطي معه، كما حصل في احتلال العراق، حيث عمل بعض المثقفين مستشارين لقوات الاحتلال، وتعاقد بعضهم الآخر مع البنتاغون، وبرّر آخرون مثل هذه المواقف بحجة وجود نظام دكتاتوري قمعي.
وبقدر ما كان المثقف اليساري أحياناً يدافع عن الدكتاتوريات ويبرّر ممارساتها القمعية، بزعم مصلحة الاشتراكية أو الثورة، فإنه اندفع بعد الانكسارات والتراجعات إلى الدفاع عن التدخّل الخارجي وتبيض صفحة الإمبريالية باعتبارها قادرة على الإطاحة بالدكتاتوريات وتحقيق التغيير المنشود، وخصوصاً بانسداد الآفاق، وتحت حجة الواقعية السياسية والعولمة وغيرها.
وبعد كل ذلك فهل سيتمكّن المثقف اليساري استعادة الدور الريادي والطليعي الذي كان يمثله ويلتحم بالأحداث بقلبه وعقله ووسيلته الإبداعية، أم يبقى ملحقاً بالسياسي وتابعاً له ويبرّر خطابه ويزّين مشروعه ويؤدلج سياساته ويدافع عن انتهاكاته؟
خللان رئيسان ألمّا بدور المثقف اليساري أو مثقف التحرّر الوطني وسلوكه وإنتاجه الفكري، الخلل الأول: هو توجّهه نحو التكنوقراطية والزعم بالحيادية والانصراف عن الشأن السياسي أو الشأن العام، لذلك هَزُلَ منجزه وحيويته وقوته ولونه الخاص، وبعضه صار جزءًا من تزويق الخطاب السياسي الرسمي للحاكم أو للسياسي المتنفّذ، وأحياناً لامتدادات خارجية تحت باب "الدّمقرطة" و"اللّبرلة".
أما الخلل الثاني: فإن الدعاية والتحريض أصبحا جزءًا من الخطاب السائد على حساب المُنتج الفكري والثقافي العميق، واستُخدم ذلك في الصراع السياسي، سواءً للتيارات الدينية والسياسية من جانب المثقف الممالىء للسلطة، أو بما يتوافق مع الجهات المتنفّذة في المعارضة، وهكذا انحسر دور المثقف العضوي أو دور الطليعة الثقافية وخرج من دائرة التأثير والفعل، إلى التبرير والتسويغ، سواء عبر تطويعه بالقمع السياسي البوليسي أم بالقمع الآيديولوجي الفكري لتبنّي خطاب السلطة أو المعارضة السائد بحيث يكون بوقاً لهما.
الجدب وشحّ الإنتاج
لذلك، فإن الجدب وشحّ الإنتاج شمل الكثير من المثقفين، بحيث إننا لم نشهد نشوء مدارس فكرية جديدة، كتلك التي نشأت في الأربعينات والخمسينات مثلاً في الشعر الحديث والأدب والفن والمسرح والسينما والفن التشكيلي والنحت والموسيقى والغناء وغيرها، فضلاً عن الإنتاج الفكري.
وعاش الكثير من المثقفين عزلتهم الفردية أو عملوا في إطار دكاكين ثقافية، ومن ضمن جماعات صغيرة، في حين كان مثقفو السلطة يتبخترون، حتى دون منجز ثقافي، وهكذا كان حصاد الفكر خلال العقود الخمسة الماضية محدوداً، مثلما هو في الجانب الأكاديمي والجامعي، الأمر الذي أوقع الثقافة وإنتاجها في أزمة عميقة، وحلّ محل أصحاب الإبداع الحقيقي بعض المقاولين والسماسرة الفكريين الذي يملكون الصحف والمجلات ووكالات الأنباء والإذاعات والمحطات الفضائية ومراكز الأبحاث والدراسات، يساراً ويميناً، وبعضها أنشئ بدعم خارجي بهدف تقديم خدمات للجهات المموّلة. ولم تنحسر الفجوة بين صاحب القرار والمثقف، بل ازدادت هوّة وعمقاً، واضطرّت أعداد من المثقفين إلى الهجرة.
وإذا كان، بحسب المفكر والباحث المغربي "علي أومليل" من يتأسّف لعدم الاعتراف بدور المثقف العربي الريادي الذي يطمح إليه، فإن فكرة أخرى انتشرت في السبعينات عن الدور السلبي لسلطان المثقفين في الغرب. فقد راجت فكرة تضخّم سلطة المثقفين، وخصوصاً صنّاع الآيديولوجيات، لكن الأمر ليس موحّداً، فهناك أيضاً من يتحدّث في الغرب عن فقدان العرش الذي كان يتربّع عليه المثقفون منذ قرنَين من الزمان بصعود الحركة التنويرية. (كتابه "السلطة الثقافية والسلطة السياسية").
إذا كان لا بدّ من دور ريادي للمثقف اليساري، فلا بدّ أن يؤكد المثقف أنه يستحقه وجدير به، وخصوصاً بانحيازه لقيم الحرية والديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان والسلام والخير والجمال.

406
كلمة د. عبد الحسين شعبان*


في ندوة حوار مثقفي الأمم الأربعة
تونس – بمناسبة اعتبار صفاقس عاصمة الثقافة العربية
23 – 25 كانون الأول (ديسمبر) 2016

   باعتزاز أقف بينكم في هذه الندوة الحوارية التأسيسية للمبادرة التي أطلقها "المعهد العربي للديمقراطية"، والذي تأسَّس في العام 2012 بعد نجاح الثورة التونسية في 14 جانفي – يناير (كانون الثاني) 2011، واتّخذ من تونس العاصمة مقرّاً له، وهو امتداد لـ"مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي" الذي تأسَّس في روتردام (هولندا) العام 2004.
   وكانت مبادرتا تأسيس المعهد والمركز من بنات أفكار الدكتور خالد شوكات ونخبة من المثقفين العرب الذين استشعروا منذ وقت مبكّر أهمية تعزيز الوعي بالحقوق والحريّات وبنشر قيم الديمقراطية وتعميم ثقافتها والتربية عليها، وفي المرّتين أي في المركز والمعهد شرّفني زملائي باختياري رئيساً لمجلس الأمناء.
   وإذا كنّا نعقد ندوتنا الحوارية في 23 – 25 ديسمبر (كانون الأول) 2016، فإن هذا التاريخ يمكن أن يمثّل علامة مضيئة على طريق التفاهم والتعاون والمشترك الإنساني، وهي القواعد الأساسية التي اعتمدت عليها مبادرة إطلاق الحوار بين مثقفي الأمم الأربعة، والتي يمكن أن تأخذ مكانها في سجل المبادرات الجادّة والسّاعية إلى مدّ الجسور والتقارب بحيث يصبح الطريق سالكاً بما يعزز دور الثقافة والمثقفين فكراً وأداءً، لا سيّما بين الأمم الأربعة والمقصود بذلك: العرب والترك والفرس والكرد، خصوصاً بتأكيد الاحترام المتبادل والحقوق المتكافئة، وقيم المساواة والعدل والشراكة والجمال.
   ولم يأتِ هذا الحدث الثقافي المتميّز إلاّ بعد حوار ونقاش وجدل بين نخب مختلفة ومتعدّدة، وفي بلدان عديدة، الأمر الذي وفّر قناعات متراكمة وخبرات مضافة، لتأكيد أهمية مثل هذا الحوار الذي لم يعدْ حسب تقديري ترفاً فكرياً، بقدر ما هو حاجة ضرورية وماسّة، فالحوار الثقافي بشؤونه وشجونه بين مثقفي الأمم الأربعة أصبح اختياراً وخياراً لا بدّ منه، ولا مناص من اعتماده وسيلة فعّالة للعلاقة بين البلدان والأمم والشعوب والجماعات، وبهذا المعنى فهو في الوقت نفسه اضطرار، لأن نقيضه سيعني استمرار الحال على ما هو عليه في أقل تقدير، وذلك سيعني استمرار التباعد والانغلاق والتناحر.
   وفي حين يتجه العالم أمماً وشعوباً وهيئات نحو التقارب والتعاون والتكامل، تستمر منطقتنا في حالة من التنافر والاحتراب والنزاع، تلك التي لا يستفيد منها إلاّ أعداء الأمم الأربعة، ومن يغيظهم أي تقدم يحصل على طريق إذابة الثلوج التي منعت من التلاقي والتراضي والتشارك.
   إن عالمنا المعاصر هو عالم متعدّد ومتداخل ومتشابك من المصالح والمنافع والمشتركات، خصوصاً في ظل المرحلة الثانية من الثورة العلمية – التقنية منذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، ولا سيّما في مجال الاتصال والتواصل والمواصلات، ولم يسبق أن حدث مثل هذا التطوّر الهائل والذي لا مثيل له في كل تاريخ البشرية.
   إن العقود الخمسة الأخيرة من الزمان أو أقل من ذلك تعادل عشرات بل مئات المرات التطوّر الذي عاشته البشرية لما يزيد عن خمسة قرون من تاريخها، إضافة إلى الطفرة الرقمية (الديجيتال) والمعلوماتية الهائلة، الأمر الذي يتطلّب التغيير باتجاه التعايش والتسامح والتواصل، وعكسه سيستمر الانعزال والتخندق والتمترس والصراع والاحتراب الذي دفعت ثمنه شعوبنا وأممنا غالياً، ولا سيّما المثقفين الشريحة الأكثر تأثراً والأشد حساسية إزاء شحّ الحريّات وضيق فرص العيش والانغلاق على الذات، فما بالك بالنزاعات والتناحرات والحروب الخارجية والداخلية، الدولية والأهلية، وشيوع ظواهر الإرهاب الدولي العابر للقارات والحدود، وهو إرهاب معولم لا دين له ولا قومية ولا لغة ولا جنسية ولا منطقة جغرافية ولا هويّة خاصة.
   وإذا كان لي شرف البدء في إطلاق فكرة الحوار بين مثقفي الأمم الأربعة منذ أكثر من عقد من الزمان، فإنها أصبحت اليوم بفضل المعهد العربي للديمقراطية حقيقة قائمة يمكن تطويرها وجعلها مؤسّسة فاعلة تستطيع أن تستقطب مثقفين عرب وترك وفرس وكرد، بحيث تكون فضاءً لحوار معرفي وثقافي حرّ ومفتوح لإغناء القيم الإنسانية المشتركة وتعزيز الروابط التي تجمعنا كبشر، يمكننا أن نعيش ونعمل من أجل سعادة بلداننا وخير أممنا ورفاه شعوبنا وإعلاء شأن قيم الجمال والخير والسلام والمساواة والمشترك الإنساني، بدلاً من الكراهية والتعصّب والتطرّف والعنف والإلغاء.
   والهدف من الاجتماع على الحوار هو تعزيز وتعميق القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع بين الأمم والشعوب وثقافاتها وحضاراتها المتفاعلة، المتراكبة، المتداخلة، المتخالقة، بل والمتشابكة، ولديها الكثير من الجوامع التي ينبغي تعظيمها، ولديها الكثير من الخلافات والاختلافات التي ينبغي تقليصها، خصوصاً وأن بعضها عفا عليه الزمن.
   ومثلما كان الحوار العربي – الكردي فكرة عامة، فقد أصبحت بفضل المبادرة التي أطلقناها منذ أكثر من ربع قرن والتي تبلورت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) العام 1992 في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان فكرة ملموسة وقابلة للتنفيذ والتفاعل والتواصل، حيث تم تنظيم حوار في لندن لأول مرّة بين مثقفين من العرب والكرد (من أقطارهم المختلفة)، وضمّ الحوار 25 عربياً و25 كردياً، وعلى أساسه نُظّم الحوار الثاني العام 1998 في القاهرة، ومن ثم تمَّ تأسيس جمعيات للصداقة العربية – الكردية في فلسطين والأردن والعراق ونواتات أخرى غيرها، وهناك هيئات تنسيق لها.
   الحوار بين مثقفي الأمم الأربعة ينطوي على عدد من الاعتبارات، وأهمها:
   الأول – أنه حوار ثقافي معرفي يتّصل بمجمل علاقات الأمم الأربعة، وهدفه تعزيز وتوطيد العلاقات بمختلف جوانبها، وبين المثقفين بشكل خاص، وأبناء الأمم الأربعة في بلدانهم المختلفة بشكل عام.
   الثاني – أنه حوار سلمي ومستقبلي، لا يبحث في الماضي إلاّ بالقدر الذي يتناول ما هو إيجابي وجامع وموحّد، أي أنه لا يستغرق في بحث السلبيات القديمة والعقد التاريخية، وإنما يركّز على الإيجابيات والمشتركات، لا سيّما ببعدها الإنساني، وفيما يتعلّق بالقيم الإنسانية المشتركة، وحقوق الإنسان، بما فيها حق الأمم والشعوب بتقرير مصيرها بحريّة، وحقها في اختيار نظامها الاجتماعي دون تدخل أو هيمنة أو أية شروط مجحفة أو غير متكافئة.
   الثالث – أنه حوار يقوم على أُسس من التّسامح والسّلام والدعوة للاّعنف، وهو يبحث في أواصر الصداقة والتضامن. وبهذا المعنى فإنه يستهدف تطويق ظواهر التعصّب والتطرّف والإلغاء والتهميش للآخر بغض النظر عن المبرّرات التي تسوّغ ذلك، خصوصاً بتقديم القيم النقيضة.
   الرابع – أنه يسعى لتعزيز الروابط الأخلاقية والاجتماعية التي تجمع المثقفين في الأمم الأربعة والتصدي لمحاولات زرع الشكوك والألغام بينها، خصوصاً وأن قوى غير قليلة لا تضمر الود لها ويهمها أن تبقى في حالة من التفرّق والتشتّت والتشظّي والتباعد، بل والاحتراب والكراهية.
   الخامس – أن مثقفي هذه الأمم بقدر اعتزازهم بهويّتهم وخصوصيتهم وتراثهم وتاريخهم، فإنهم في الوقت نفسه يشعرون بأنهم جزء من حضارات وامتداد لثقافات تفاعلت في الماضي في إطار أديان وسلالات ولغات كانت عامل قوّة وليست عنصر ضعف وعامل غنى وليس عنصر خواء، واليوم فإن المثقف بشكل عام يشعر أكثر من أي وقت مضى أنه جزء من الثقافة الإنسانية، وبقدر محليته فهو مثقف كوني بما يحمله من قيم، وبما يتواصل به مع الآخر، وبما يعترف به للغير من حقوق ومساواة. وهذا يعني أن اعتزازه بثقافته وخصوصيتها ولغتها، إنما هو تفاعل مع القيم الإنسانية والحضارة البشرية بشكل عام.
   السادس – أن هذه المبادرة لكي تنجح وتستمر وتتطوّر، لا بدّ أن تُمؤسس على نحو مرن وقابل للتواصل والانفتاح بهدف التأطير والتنسيق، وابتداء يمكن إيكال ذلك إلى المعهد العربي للديمقراطية، صاحب المبادرة، لكي يأخذ على عاتقه دعوة أكبر عدد من المثقفين، وبالتالي وضع جدول عمل مناسب، لتعزيز أهداف الحوار وصولاً إلى المشترك الإنساني.
   السابع – إذا كان لنا تسجيل الشكر والاعتزاز، فهو لتونس التي جاءت دعوتها الكريمة لمناسبة كون صفاقس عاصمة الثقافة العربية، ليتم الإعلان عن مبادرة حوار الأمم الأربعة في حلقتها الأولى التي ترى النور اليوم، ولهذا فإن تونس باعتبارها البلد المضيف، والذي أطلقت منه المبادرة، بفضل المعهد العربي للديمقراطية ورئيسه الدكتور خالد شوكات، فلنقف اعتزازاً بريادتها وجدارتها في تحمّل هذه المسؤولية، ولنصفق عالياً لحوار مثقفي الأمم الأربعة.
    

407
الإرهاب: التفكير والتكفير!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
يحتاج المراقب لمعرفة منبع التكفير الإرهابي، الوقوف عند بعض منطلقاته النظرية، ليستطيع فهم تطوّره، لا سيّما بربط حلقاته التاريخية، إضافة إلى متابعة بعض شخصياته مثل أسامة بن لادن الذي تأثّر بمؤسس تنظيم القاعدة عبد الله عزام والذي كان معلّمه الأول في أفغانستان، حيث التقيا في قاعدة بيشاور التي انطلقت منها تنظيمات القاعدة، والتي كان فيها أكبر معسكرات التدريب أيام الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وكانت قد حظيت بدعم أميركي.
فما إن تأسّس تنظيم القاعدة حتى أخذ يتربّع على عرش التنظيمات الإرهابية، لا سيّما بعد أن لمع اسم أسامة بن لادن، حيث عمل الأخير جاهداً لإيصال المساعدات إلى "المجاهدين" في أفغانستان، وحسبما يقول أيمن الظواهري في أحد تسجيلاته الصوتية، إنه كان على صلة بجماعة "الإخوان المسلمين" في جزيرة العرب، كما يسمّونها، وكانت التوجيهات التي صدرت له هي الاتصال بالجماعة الإسلامية في لاهور، لكن ابن لادن تجاوز ذلك ووجد الطريق إلى "المجاهدين" في أفغانستان، الأمر الذي أدّى إلى فصله، وهو ما يذكره الظواهري.
الجدير بالذكر أن المرجعية الفكرية الأولى لأسامة بن لادن كان أبو علي المودودي وسيد قطب بالدرجة الأساس، وهو ما يتّضح من لغته، فقد كان يستخدم مصطلح "جاهلية المجتمع" و"ردّة المجتمع"، التي كثيراً ما تردّدت في كتاباتهما، وهو الأمر الذي أدّى به إلى استباحة دماء المسلمين، وتبرير قتلهم بزعم إقامته "المجتمع المسلم".
وإذا كان المودودي وسيد قطب مرجعين أساسيين لأسامة بن لادن، فإن هناك شخصية مثيرة للجدل، ساهمت في تأطير الجانب النظري للفكر التكفيري ونعني بها سيد إمام الشريف المعروف باسم الدكتور فضل أو الدكتور عبد القادر عبد العزيز، وقد وضع "الشريف" كتابين مرجعيين لتنظيم القاعدة ولأي تنظيم إسلاموي إرهابي، يمكن أن يستقي منهما أفكاره، وجلّ هذين الكتابين يقوم على تحديد أحكام الكفر من جهة، و"الجهاد" من جهة أخرى، ولعلّ اسمَي الكتابين يدلان عليهما، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، فالكتاب الأول كان اسمه "الجامع في طلب العلم الشريف"، أما الكتاب الثاني فهو الموسوم "العمدة في إعداد العدّة".
في الكتابين تقع على أحكام مثيرة وخطرة في الآن، تمثّل اغتراب الجماعة الإرهابية عن الفكر السائد في مجتمعاتها، بل وعن مجتمعاتها، وخصوصاً عن التعامل الشعبي مع الإسلام من عموم المسلمين، وذلك بعيداً عن التأطير الآيديولوجي، حيث يحاول فيهما تأصيل التكفير، بجعل بلاد المسلمين "بلاد كفر" وجب الهجرة منها إلى حين يتم تطبيق "شرع الله"، ولعلّ ما قام به "داعش" من محاولة تأسيس "الدولة الإسلامية" بعد احتلال الموصل والتمدّد لنحو ثلث الأراضي العراقية، خصوصاً بربط ذلك باحتلال الرقة السورية، هي تطبيق عملي لفكر الشريف التدميري الإلغائي.
ويعتبر سيد إمام الشريف أن جميع البلدان الإسلامية كافرة وخارجة عن الملّة، ولذلك وجب الخروج عليها، واستوجب الأمر الجهاد ضدها، وهذا "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يُقال، وهو واجب على المسلمين، لأن الحكم بغير ما أنزل الله من قوانين هو كفر، والمقصود بذلك جميع القوانين الوضعية.
وبهذا المعنى يضع الشريف والفكر التكفيري الجميع في خانة الخروج عن شرع الله، طالما ارتضوا بوجود قوانين تحكمهم هي من صنع البشر، لأن ذلك سيكون خروجاً على الإسلام، الأمر الذي يقتضي مواجهته وتحريمه وإبطال ما يتّخذ بخصوصه من أحكام، وصولاً إلى خلع الحكام وإقامة حكم الإسلام.
ووفقاً لذلك يضع الشريف وتنظيم القاعدة وربيبه "داعش" في خانة الكفر: حكام البلاد الإسلامية وقضاتها (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [سورة المائدة، الآية 44].
ويضع الفكر التكفيري أسبقية "الجهاد" على الاستحقاقات الأخرى، ويقدّم محاربة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، أي يضع المسلمين قبل المسيحيين والنصارى واليهود وغيرهم، أي إن مثال المرتدين هو الذي يحظى بالأفضلية من الكفار والوثنيين وأتباع الديانات الأخرى. ويعتبر الفكر التكفيري أن مجتمعاتنا تسبح في "جاهلية مطبقة" و"كفر سافر"، الأمر الذي اقتضى تقويمهما بالسيف.
لقد سمّمت الأفكار التكفيرية عقول بعض الشباب، خصوصاً وقد أخضعوا في الكثير من الأحيان لعمليات غسل أدمغة، الأمر الذي قاد إلى تعكير حياة العديد من البلدان والشعوب، وجعلت الواقع على ما فيه من تحديات وآلام ومصاعب، أشد قسوة وعسفاً، وذلك بإشاعة الرعب والهلع بين الناس، من خلال المفخخات والتفجيرات والأحزمة الناسفة والمقابر الجماعية، وأعمال الانتقام وإشاعة روح الكراهية، والغريب أن شعار "الله أكبر" ظلّ يتصدّر أطروحات الإرهابيين وأعمالهم وأعلامهم وشعاراتهم.
وإذا كانت "غزوة" 11 سبتمبر /أيلول العام 2001 كما يسمونها وقبلها تفجيرات نيروبي ودار السلام وبالي وتفجيرات أوروبا، ولا سيّما أنفاق إسبانيا ولندن وعدد من تفجيرات باريس وفرنسا عموماً وتفجيرات ألمانيا وغيرها، هي ضرب تكتيكي في الأطراف، فإن استراتيجية التنظيم، على الرغم من استخدامها الإرهاب الخارجي، فإن مهماتها الأساسية ظلّت داخلية عربية وإسلامية بامتياز، أي تقديم مواجهة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، مع الاستمرار في مشاغلة البعيد، لتنفيذ استراتيجية التصدي للقريب.
ولذلك لا يمكن النظر إلى قانون جاستا الصادر عن الكونغرس والذي أعطى الحق لعائلات ضحايا 11 سبتمبر من مساءلة البلدان التي ينتمي إليها الإرهابيون أو يحملون جنسيتها، والذين قاموا بتفجير برجَي التجارة العالمية في نيويورك، وهجمات واشنطن، إلاّ من زاوية التوظيف السياسي الذي يستهدف الابتزاز وإملاء الإرادة، بغض النظر عن السياسات ذات الطبيعة الازدواجية والانتقائية، ومثل هذا الأمر حاول الرئيس أوباما التنبيه لمخاطره على صعيد العلاقات الدولية، مشيراً إلى إمكانية ملاحقة دبلوماسيين عسكريين أمريكان، لكن موجة العداء وقصر النظر هي التي تدفع إلى مثل هذه الإجراءات ذات الطبيعة العدائية.
ثمَّ من سيعوّض الضحايا الفلسطينيون الذين احتلّ وطنهم وهجّروا منه؟ ومن سيعوّض الأمة العربية، ومنها دول مثل مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق، التي عانت من انتهاكات "إسرائيل" السافرة لحقوقها وارتكابات متواصلة، بل وعدوان مستمر عليها، ناهيك عن تعطّل التنمية وتبديد الأموال بسبب حروب "إسرائيل"، وما زال العراق وأفغانستان يعانيان من وطأة الاحتلال الأمريكي لهما؟
لقد كان لأسامة بن لادن والظواهري وما بعدهما أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام "داعش"، وخصوصاً أبو بكر البغدادي دوراً كبيراً في ضخّ الفكر التكفيري، لا سيّما بالاستراتيجية العسكرية للسيطرة على مناطق شاسعة وإخضاعها لقوانينها، وهو ما جعلها تتمدّد لفتح جبهات قتالية من أفغانستان مروراً بالعراق، ووصولاً إلى سوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر وتونس والمملكة العربية السعودية، وغيرها.
الإرهاب بالأصل أو بالفرع، واحد، ولا دين له ولا جنسية له ولا وطن ولا لغة ولا منطقة جغرافية، إنه فكر التعصّب والتطرّف والإلغاء.



408
"فكر – 15" والتكامل الثقافي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
اختارت مؤسَّسة الفكر العربي هذا العام "أبو ظبي" لعقد مؤتمرها السنوي "فكر – 15"، لسببين مهمّين: الأوّل – الذكرى الخامسة والثلاثون لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، والثاني – الذكرى الخامسة والأربعون لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة. والحدثان البارزان لهما علاقة بتجارب العمل العربي المشترك، حيث كان قد تقرر الأمر في مؤتمر "فكر – 13" المنعقد في الصخيرات بالمغرب، والذي تم تنفيذه بالتئام مؤتمر "فكر – 14" بالقاهرة.
وقد استند مؤتمر "فكر – 15" إلى "فلسفة السؤال" ضمن منهجية اعتمدت على عدد من المحاور والاستراتيجيات التي تنطلق من فكرة التكامل العربي وتصب فيه، خصوصاً ببحث المستجدّات والمتغيّرات، استمراراً لمؤتمر "فكر – 14"، الذي انعقد تحت عنوان "التكامل العربي" بمناسبة مرور 70 عاماً على تأسيس جامعة الدول العربية، بتشجيع أجواء الحوار وتوفير المناخ المناسب لتبادل الرأي والتفاعل والتواصل، لبحث ما هو مشترك من جهة، ومن جهة ثانية الوقوف عند التحدّيات والعوائق التي تواجه العرب، والتي تحتاج إلى مواجهة مشتركة، خصوصاً وأن تبعاتها لا تعود على طرف بعينه، بل إن تأثيراتها ستكون على الجميع، فالجزء يتأثّر بالكلّ، بقدر ما يؤثّر فيه.
وإذا كان العالم يتّجه إلى التعاون والعمل المشترك من خلال إقامة كيانات كبرى وتجمّعات إقليمية ودولية أبعد من حدود البلدان وسيادتها، فالأوْلى بالعرب التقارب والتعاون، لا سيّما وأن ما يجمعهم من مشتركات هو أكثر بكثير مما يجمع الآخرين، الأمر الذي يستوجب تعزيز ثقافة التعاون والعمل المشترك، لا سيّما بوجود مصالح وأهداف مشتركة تتعلّق بالمصير العربي ذاته، والهويّة العربية بشكل عام، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون استقرار سياسي وأمني ومن خلال ممارسة فعلية بتوفّر إرادة سياسية فاعلة وواعية بالمخاطر التي تهدّد الأمة العربية على الصُّعد الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية، ليس بحاضرها فحسب، بل بمستقبلها.
وكانت أسئلة مؤتمر "فكر – 14" قد وضعت مكانة مهمّة للتكامل الثقافي بالدعوة لتعزيز ثقافة المواطنة والانفتاح والتسامح وقبول الآخر في المجتمعات العربية، للإدراك المشترك بأهمية توفير الأبحاث الضرورية لتنفيذ قرارات التكامل العربي ومشروعاته التي سبق لجامعة الدول العربية ومؤسساتها أن اتخذتها، فبعضها لا يزال معطّلاً، أو تم وضعه على الرف، أو أن بعضها الآخر حالت الخلافات دون مواصلته، علماً بأن الكثير من المستجدّات تتطلّب إعادة القراءة لـ "مواجهة التطرّف والإرهاب والتدخلات الخارجية ومخاطر حرب الشبكات والحروب الفضائية".
وإذا كان الهدف هو بناء اقتصاد المعرفة المنتج والمؤسّسات الإنتاجية الزراعية والصناعية والتجارية والخدماتية، استجابة لحاجات المواطنين والأجيال القادمة، فإن الاستثمار الأول في التعاون المشترك ينبغي أن يكون في قطاع التعليم والتربية والقضاء على الأمية التي لا تزال مستفحلة في العالم العربي، حيث تقدر بأكثر من 70 مليون إنسان.
وقد خصَّصت المؤسّسة تقريرها السنوي هذا العام لدراسات وأبحاث لها علاقة بموضوع مؤتمرها، تحت عنوان "الثقافة والتكامل الثقافي في دول مجلس التعاون: السياسات والمؤسسات، التجليات" وهو التقرير التاسع للتنمية الثقافية الذي تصدره المؤسسة. ويأتي هذا التقرير بمواضيعه والمشاركين فيه، تأكيداً لأهمية الثقافة والمثقفين في التنمية وفي عملية البناء من أجل تطوير المجتمع، وهو تقرير متميّز لتركيزه على الحياة الثقافية والمشهد الثقافي بكل ما يتميّز به من حيوية وغنى وتنوّع.
وكما هو واضح من عنوانه، فالتقرير يتكوّن من ثلاثة أبواب، حيث بحث الباب الأول في السياسات والاستراتيجيات من خلال قراءة نقدية للتنمية والاستراتيجية الثقافية. أما الباب الثاني فقد عرّف بالمؤسسات والهيئات الثقافية، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، من منتديات أدبية وثقافية، إلى مراكز الأبحاث والدراسات إلى جمعيات اللغة العربية والمراكز الثقافية والمتاحف وغيرها، ولفت التقرير الانتباه إلى دور المرأة ومشاركتها في الحياة الثقافية. وكان الباب الثالث مشوقاً بتسليطه الضوء على جوانب من الإبداع الثقافي في الخليج، قصة ورواية وشعراً ومسرحاً وسينما وفنون بصرية، مثلما قدّم سجلاً بأسماء هيئات ومؤسسات ومراكز أدباء وفنانين وعاملين في الوسط الثقافي.
يمكن القول إن التقرير قدّم مادة ثقافية علمية موثّقة تكاد تكون لأول مرة بهذه الدرجة من الاتساع والشمولية، الأمر الذي يمكن اعتماده مرجعاً أكاديمياً للباحثين والمهتمين بمختلف الاختصاصات والفروع، ولا سيّما الثقافية، إضافة إلى المسؤولين من صنّاع القرار، وكل من يريد فهم التطورات في الواقع العربي الخليجي بكل تضاريسه. وأعتقد أن مؤسَّسة الفكر العربي بإصدارها مثل هذا التقرير تكون قد افتتحت بُعداً جديداً في تقارير التنمية العربية، ألا وهو البُعد الثقافي الذي غالباً ما يظل مستبعداً، أو أقل اهتماماً وأدنى استدعاءً من بقية الأبعاد الأخرى، السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، وهو ما دأبت عليه منذ العام 2008.
وسبق أن ركّزت تقاريرها على التعليم والإعلام وحركة التأليف والنشر والمعلوماتية والإبداع، إضافة إلى ملفات الحراك الثقافي، وكل ما يتعلّق بمعوّقات التنمية، كما خصّصت المؤسّسة تقاريرها لاحقاً لجوانب أخرى راهنة، مثل اقتصاد المعرفة والتكامل المفقود بين التعليم والبحث العلمي وسوق العمل، والربيع العربي بعد أربع سنوات. والتقرير الجديد حسب تقديري بقدر ما هو مبادرة تخص دول مجلس التعاون الخليجي والثقافة الخليجية، فإنه في الوقت نفسه يمكن أن يؤسس لحالة عربية، سواء لبلدان المشرق أو لبلدان المغرب، بحيث يمكن مقاربة مشهدها الثقافي بصورة بانورامية، وذلك بإعلاء شأن الثقافة والمثقفين وقيم الخير والجمال والأمل، كما يمكن أن يسهم في إرساء قيم العمل المشترك والتعاون لما فيه احترام حقوق الإنسان وتعزيز سقف الحريّات وإشاعة التسامح ونبذ التطرّف ومواجهة الإرهاب، وتحقيق التنمية المستدامة بجميع جوانبها، خصوصاً وأنه يمثّل جهداً متميّزاً وإن كان مختلفاً ومتفاوتاً في مستواه، لكنه بشكل عام يبقى عملاً نوعياً رائداً بحاجة إلى رفد وتراكم بكل ما هو جديد، وما يندرج تحت هذا العنوان بكل تفاصيله وتشعباته.
وإذا كانت السياسة قد أبعدت العرب عن بعضهم بعضاً، فإن بإمكان الثقافة والتكامل الثقافي تقريبهم إلى بعضهم بعضاً، والأدب والفن والثقافة بكل فروعها وألوانها وسيلة عملية وإنسانية للتواصل والتفاعل البشري.



409
بوصلة الباحث وشعار الداعية
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
في العديد من الأنشطة والفاعليات الفكرية والثقافية، غالباً ما يظهر الاختلاف واضحاً وجليّاً بين الداعية السياسي وبين الباحث، لا سيّما إذا كان الأخير موضوعياً وهدفه البحث عن الحقيقة من دون الترويج لمجموعة سياسية، مدنية أو دينية، يمينية أو يسارية. وقد لفت انتباهي مثل هذا التباين واضحاً، في حلقة نقاشية نظّمها مركز دجلة (العراقي) بالتعاون مع منظمة فنلندية معنية بحل الأزمات، وانعقدت في إربيل، وناقشت باجتماع مغلق، ومن دون حضور إعلامي "الأزمة العراقية وسبل الخروج منها"، بهدف تقديم رؤى وتصورات.
ثمّة ما يجمع الداعية السياسي بالباحث الأكاديمي، وإن كانت الأهداف تتباعد بينهما أحياناً، فضلاً عن الوسائل، ولكن بغض النظر عن صحة أو خطأ التحليلات التي يطرحها الداعية السياسي، فإن هدفه الأساسي هو الوصول إلى السلطة، والترويج لجماعته أو حزبه أو قوميته أو طائفته، وتبرير السياسات التي يتبعها. فالطائفيون يتجمعون تحت عنوان الطائفة حتى إن كان بينهم ما صنع الحداد، وآخرون جاؤوا من مشارب شتى يتحالفون لأغراض انتخابية لتجميع من هم خارج التجمعات الدينية أو الإثنية، بعضها يساري وماركسي، وآخر يؤمن بالليبرالية الجديدة، وبدور مشروع لواشنطن، ويعوّل على الغرب، وقد يتسرّب من خلالها من يغضّ الطرف عن الدور "الإسرائيلي" في المنطقة، أو ليس لديه حساسية إزاء التدخلات الإقليمية والدولية، سواء كانت إيرانية أو تركية أو دولية أمريكية أو بريطانية، الأمر الذي سيكون التحالف فيه أقرب إلى كشكول قبل أن يكون له هويّة محدّدة.
وكنت قد سألت أحد أصحاب هذه المشاريع في الارتباط والانفكاك من تحالف إلى آخر، كيف يستطيع أن يفعل ذلك بالانتقال من اليسار إلى ما يسمى بالليبرالية، ثم منها إلى مجموعة دينية أو طائفية، وأخيراً إلى حزمة من أصحاب رؤوس الأموال؟ فقال لي: إنها صفقة ليس إلاّ، وهكذا تبتذل فكرة التحالف نفسها بين فئات اجتماعية وقوى سياسية حين تختزل إلى مجرد مكاسب أنانية ضيقة.
أما الباحث الذي لا يسعى لأن يلعب دوراً سياسياً، فهو غير معني بالترويج لمشروع آيديولوجي أو سياسي، بقدر ما يشغله البحث عن الحقيقة، وقد تكون مرّة أو مخيّبة للآمال أو صادمة، لكنها أقرب إلى الواقع. إنه يقدّم الوقائع على الرغبات والمعطيات على الإرادة، وبالتالي قد يصل إلى استنتاجات مختلفة عما يدعو إليه الداعية السياسي الذي يروّج لمشروع قد يكون عبر تحالف أو تواطؤ أو تهافت أو تهالك على المواقع، طالما أن الهدف هو الوصول إلى السلطة أو ملامسة جانب من جوانبها.
والحديث عن التيارات يبدو في أحد جوانبه مغايراً للحقيقة الموضوعية، فما أن تجمّع بضعة أفراد، حتى أطلقوا على أنفسهم "التيار"، ولكنهم سرعان ما ينفكّون عن بعضهم، وهكذا يتفرع التيار إلى تيارات ويفرّخ جداول عديدة، حتى دون أن تكون وجهته واضحة ومعالمه بائنة، ويعود ذلك في قسم منه إلى استسهال استخدام المفاهيم دون التدقيق فيها.
وإذا كان هناك تيار يساري وماركسي، وإن كانت مدارسه مختلفة ومتباينة، لكنه يدعو في المحصلة إلى إنهاء استغلال الإنسان للإنسان، مثلما هناك تيار قومي عروبي يدعو إلى الوحدة العربية، وهذان التياران تكوّنا تاريخياً، ووجد تيار إسلامي لاحقاً كان هدفه إقامة دولة إسلامية أو مرجعيتها الإسلام والشريعة، طبقاً لتفسيراته، حتى إن كانت القراءات متعدّدة وبعضها يندرج تحت لواء مذهبي، سواء ادعى الاعتدال أو الوسطية أو اختار التطرّف، والأمر ينطبق على التيارات الأخرى أيضاً.
وحول الليبرالية التي راج رصيدها مؤخراً في عالمنا العربي، فقد كان نسلها قد انقطع بفعل الثورات والانقلابات العسكرية وهيمنة قوى من الطبقة البرجوازية الصغيرة، أساسها ريفي أو قروي أو حتى بدوي على مقاليد الأمور. وفي مصر وسوريا والعراق، يكاد يكون ما يسمى بالتيار الليبرالي قد انقرض، منذ أواخر الخمسينات، دون إهمال بعض الإرهاصات الجديدة، لكنه لا يوجد تيار واضح المعالم، يمكن أن يُطلق عليه اسم تيار ديمقراطي أو ليبرالي، إلاّ إذا استثنينا بعض دعاة الليبرالية الجديدة وأصواتهم العالية.
وهناك إشكالية أخذت تكبر، خصوصاً في السنوات الأخيرة، ولا سيّما بعد انهيار الأنظمة الشمولية وظهور نسبة من الباحثين المستقلين خارج نطاق الاستقطابات القديمة، وهي أن البون أخذ يتسع بين الباحث والداعية السياسي الذي لا يعنيه البحث عن الحقيقة بقدر ما يشغله الحصول على مكاسب محددة، مثلما يبدو الاختلاف شاسعاً بين المثقف والباحث من جهة، وبين رجل الدين من جهة أخرى، الأمر الذي يتم فيه تهميش الباحث والمثقف لحساب رجل الدين الذي يزعم أنه يمتلك الحقيقة وينطق باسمها وأحياناً باسم الله، معلياً من شأن المقدس.
وإذا كان الباحث يسعى لتشخيص المرض، ووضع المعالجات الضرورية، ومن ثم الوصول إلى استنتاجات لتعميم الخبرة بالتراكم والتجربة، فإن الداعية السياسي يبحث عن مدى المكسب الذي يحققه من خلال ذلك، وهو يسعى لكسب الجمهور، وأحياناً لتضليله، وذلك دفاعاً عن جماعته أو حزبه أو طائفته، بغض النظر عن أخطائها وارتكاباتها، لأن حمولته الآيديولوجية هي الأساس والدافع، بغض النظر عن اقترابها وابتعادها عن الحقيقة، مثلما يحاول أحياناً توظيف الباحث لمصلحته، سواء بالترغيب أو الترهيب، أي بالامتيازات أو بالإقصاء، ولعلّ مجرد قبول الباحث بمثل هذا الدور سيفقده جزء من وظيفته ويحوّله بالتدريج إلى داعية كلياً أو جزئياً.
إن قيم البحث العلمي والأمانة الأكاديمية والثقافية، تقتضي من الباحث الحفاظ في بحثه عن الحقيقة، والتمسّك بالموضوعية وعدم الانحياز المسبق، تلك التي لا يعيرها الداعية السياسي أي اهتمام إذا تعارضت مع أهداف جماعته ومصالحها، وبقدر ما يقدّم الباحث من رؤية فهو يحاول استشراف المستقبل، ولا يهمه التكتيكات السياسية والأحابيل الحزبية والمناورات الطائفية والمذهبية، لأنه يبحث في القيم والمفاهيم ويعطي قوة المثل للسياسي لكي يتمسّك بها ويتشبّث بمعاييرها، حتى وإن اضطر إلى المساومة والتكتيك وتخفيض سقف المطالب، لكن البوصلة ينبغي أن تكون واضحة وغير مضببة، وهي المآل الذي يريد الباحث أن يصل إليه المجتمع.



410
كل عام وأنتم بخير


أنتهز مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة (2017)
لأتوجّه إليكم بأطيب الأماني وأرق التحيّات
راجياً لكم صحة موفورة وسعادة مستمرة
أصافحكم
 ع. شعبان
 
Wish you a

Merry Christmas

and

Happy New Year

Dr. Shaban
 

411
ثلاث عُقد قانونية لـ"إسرائيل"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
ثلاث عُقد قانونية دولية ظلَّت "إسرائيل" تواجهها بعنف من جهة، واستخفاف من جهة أخرى، بل إنها تتحدّى المجتمع الدولي بخصوصها، وهذه العُقد الثلاث تتعلّق بوجودها وحدودها ومستقبلها، خصوصاً باتّساع دائرة المطالبة بالتزامها قواعد القانون الدولي.
العُقدة الأولى: (الوجود) وهي تتعلّق بـ(البرنامج النووي "الإسرائيلي")، الذي بدأ منذ الخمسينات، وقد فضح مردخاي فعنونو "الفني الإسرائيلي" بالصور والوثائق امتلاك "إسرائيل" ما بين 100 – 200 رأس نووي بقدرات تدميرية، بما فيها قنابل نووية حرارية، وقد كشفت ذلك صحيفة الصنداي تايمز في حينها، أما فعنونو فقد قضى حكماً بالسجن لمدة 18 عاماً.
والأمر لا يتعلّق بتسريب أخبار على طريقة ويكيليكس على أهميتها، بل إن هناك عدداً من العلماء المتخصّصين من أيّد ذلك، بينهم تيودور تايلر الذي عمل رئيساً لبرنامج الأسلحة الذرية في البنتاغون، الأمر الذي يعني أن "إسرائيل" قوّة نووية رئيسية، يمكن أن تكون في المرتبة السادسة في العالم على قائمة الدول النووية، ولكنها ترفض الانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وهي تتشبّث بهذا الموقف منذ العام 1968.
وفي الوقت الذي ترتفع الدعوات لمنع انتشار الأسلحة النووية، يتم غضّ النّظر عن تطويرها القدرات العسكرية النووية، وذلك تحت ذريعة الهواجس الأمنية والعسكرية من المحيط العربي. ولعلّ الاهتمام بالسلاح النووي كان قد بدأ مع بداية تأسيس "إسرائيل" حين خاطب ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء لأول حكومة "إسرائيلية" بعض العلماء اليهود المهاجرين من ألمانيا إلى فلسطين بقوله: أريد منكم أن تهتموا منذ الآن بالأبحاث الذرية وبإنجاز كل ما يمكن إنجازه من أجل تزويد الدولة اليهودية المنشودة بأسلحة نووية.
العُقدة الثانية: (الحدود) وهي تتعلّق برفض "إسرائيل" التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المبرمة في العام 1982، والتي دخلت حيّز التنفيذ في العام 1994، وقد انضم إليها حتى الآن 167 دولة، في حين هي ترفض الانضمام إليها، بل إنها لا تعترف بالقواعد القانونية التعاهدية التي تم الاتفاق عليها. لماذا؟ الجواب باختصار: لأنها لا تريد ترسيماً لحدودها سواء كانت بحرية أو بريّة، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تقرّ بحدودها، كما أنها الدولة الوحيدة بلا دستور، لأنها لا تريد إقرار مبادىء المساواة، الأمر الذي لا يعني سوى التمدّد على حساب العرب، كلّما كان ذلك ممكناً وفقاً لمشروعها العتيق بقيام دولة "إسرائيل" من النيل إلى الفرات، وهو مشروع حرب دائمة وعدوان مستمرّ.
جدير بالذكر أن دولة فلسطين التي تم الاعتراف بها كدولة غير عضو في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 2012، وعضو كامل العضوية في منظمة اليونيسكو، انضمت إلى اتفاقية قانون البحار في العام 2014، ضمن عدد من الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها، مثلما انضمت إلى اتفاقية أخرى تتعلّق بمياه الأنهار والأحواض العذبة العابرة للحدود، أو المتشاطئة بين دولتين أو أكثر، وهي اتفاقية خاصة بالأنهار الدولية.
وتوفّر اتفاقية قانون البحار نظاماً شاملاً للقوانين المعمول بها في محيطات العالم وبحاره، وتؤسّس وتثبّت لأعراف وقواعد من شأنها أن تحكم الاستخدامات والموارد، بما فيها ترسيم الحدود المتعلّقة بالمياه الإقليمية ومراقبة البيئة والأنشطة الاقتصادية والتجارية، وكذلك تسوية النزاعات بين الدول، وتحدّد المياه الإقليمية بـ 12 ميل، لكن "إسرائيل" كما تشهد الوقائع اليومية، تخرق تلك القواعد بصورة سافرة فيما يتعلق بالمياه الإقليمية لقطاع غزة وتمنع السلطة الفلسطينية من ممارسة حقهما في السيادة البحرية على حدودها، وذلك بفرض حصار غير شرعي وغير قانوني، وبالتالي غير إنساني وغير أخلاقي في انتهاك سافر وصارخ للقانون الدولي، ولا سيّما لقانون البحار، كما تقوم بمنع الصيادين الفلسطينيين من الصيد في المياه الإقليمية.
وعلى الرغم من أن "إسرائيل" ليست طرفاً في اتفاقية قانون البحار، لكن ذلك لا يمنع من تقدم دولة فلسطين بالشكوى ضدّها في المحكمة الدولية الخاصة بقانون البحار والتي مقرّها مدينة هامبورغ (الألمانية)، والهدف هو التعريف بالحقوق وتأكيدها أمام المجتمع الدولي، وخصوصاً بالحجج القانونية والمسؤولية الدولية، وذلك لضمان التزام الدول الأخرى بالحقوق الفلسطينية، وهو جزء من معركة طويلة الأمد، خصوصاً وأن الاتفاقية تعطي للدول حقوقاً سيادية بعمق 200 ميل بحري كمنطقة اقتصادية خالصة فيما يتعلّق بالموارد الطبيعية وغيرها، بما فيها الغاز الطبيعي الذي هو مصدر تنازع كبير، لا سيّما قبالة ساحل غزة.
والأمر يخصّ لبنان أيضاً، فقد ارتفعت شهيّة الأطماع "الإسرائيلية" بسبب احتياطات الغاز والنفط المحتملة بالقرب من الشواطىء اللبنانية، وانفجر النزاع بشأنها في العام 2011، وما يزال مستمراً، وهو يشمل قبرص أيضاً.
العُقدة الثالثة: (المستقبل)، فـ"إسرائيل" تدرك أن تطبيق العدالة الدولية ليس بصالحها، ولهذا السبب انسحبت من نظام محكمة روما الذي أبرم في العام 1998 ودخل حيّز التنفيذ في العام 2002. وفي الوقت الذي ذهبت إلى التوقيع عليه تكتيكياً في اللّحظات الأخيرة قبل إغلاق باب الانضمام لتكون دولة مؤسِّسة، فإنها انسحبت منه بعد دخوله حيّز التنفيذ، والسبب يعود إلى وجود نص يتعلّق بالاستيطان الذي تعتبره المحكمة الجنائية الدولية "جريمة تستحق المساءلة والعقاب".
وإذا كانت "إسرائيل" قد انسحبت من نظام روما ومعها الولايات المتحدة، فإنهما لم يوقّعا أساساً على اتفاقية قانون البحار، أي أن "إسرائيل" لا تتصرف لوحدها في مخالفة القانون الدولي وانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني والعربي، بل هي تحظى بدعم أمريكي مستمر على جميع الصعد المادية والمعنوية، وإلاّ كيف يسمح لها وهي بؤرة للتوتر، عدم إخضاع منشآتها النووية للرقابة الدولية؟
وتبقى المعركة مع "إسرائيل" لها أوجه متعدّدة، سياسية واقتصادية وثقافية ودبلوماسية ودولية وإعلامية، خصوصاً فيما يتعلّق بمواجهة هذه العقد القانونية التي تكشف حقيقة دولة "إسرائيل"، ومخالفتها لقواعد القانون الدولي.
ويأتي قرار اليونيسكو بإبطال نظرية الهيكل التي تحاول "إسرائيل" التعكّز عليها تاريخياً لإثبات عائدية المناطق المقدسة في القدس، فرصة تاريخية مناسبة يمكن توظيفها باتجاه الدعوة لتنفيذ قرار الأمم المتحدة حول بطلان قرار ضم القدس الذي اتخذه "الكنيست الإسرائيلي" العام 1980، مثلما هو دعوة لتحمّل الدول الكبرى لمسؤولياتها، ولا سيّما بريطانيا وذلك بمناسبة مرور 100 عام على وعد بلفور الذي سيصادف العام القادم، ومطالبتها بالاعتذار والتعويض، لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من نيل حقوقه غير القابلة للتصرّف وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.



412

علَّمتني الشام حب الصباح
د. عبد الحسين شعبان
(1)
إذا كان أندريه بارو عالم الآثار الفرنسي وأول مدير لمتحف اللوفر، هو القائل: "لكلّ إنسان متحضّر وطنان، وطنه الأم وسورية"، فماذا سيقول عربي وسوراقي، عاش فترة من أجمل أيام حياته في دمشق؟ وهو المنتمي إليها وطناً ولغةً وهويّةً وعشقاً. أظنّه سيقتفي مثلي أثر محمود درويش القائل: دمشق ارتدتني يداك / دمشق ارتديتُ يديك.
كنتُ قد قلتُ في مقابلة لي مع مجلّة تحولات: أن هوّيتي سوراقية مشرقية، فبلاد الرافدين وبلاد الشام تجمعهما هوّية حضارية واحدة. ولكن لماذا أنا سوراقي؟ أجيب: "لأنني لا أستطيع وأنا العراقي إلاّ أن أفكر بطريقة أقرب إلى سورية أو قلْ إلى الشام"، وذلك لشعوري بوحدة الانتماء ووحدة المصير. وكلّما اقتربتُ من دمشق لا أستطيع إلاّ أن أفكّر ببغداد، فهما شقّان يكمّل بعضهما بعضاً. وأحياناً أقع في حيرة من أمري حين لا أستطيع أن أفاضل بينهما، وأقنع نفسي حين أتخيّلهما كما لو أنهما كالذّهب المشعشع في الميزان كفّتان، أو لكأنهما جناحا طير لا يمكنه الطيران إلاّ بهما معاً، فإن غاب أحدهما سقط أرضاً لا محال. والحق أقول بأني أحيا في حالة من التماهي في كيانيتي وعقلي بينما هو سوري وما هو عراقي.
هذه القناعة تولّدت لديّ منذ عقود من الزمان، وأخذت تترسّخ يوماً بعد يوم على نحو تلقائي وعفوي، غير متكلّف أو مُفتعل. ربما لعب مزاجي العروبي دوراً في ذلك، على الرغم من يساريتي وانتمائي "الماركسي"، وقد يكون ذلك "انشقاقاً" مبكّراً بين الثقافي الذي يقبع في داخلي، وبين السياسي الذي انضوينا تحت لوائه.
لكنني لا أكتفي بالمزاج وحده وبالعاطفة بمفردها، وإنْ كان لكلّ إنسان عاطفة، وينبغي أن يوليها اهتماماً ولا يستخفّ بها، لأن العاطفة لصيقة بالإنسان مثل الإحساس والشعور. وقلت وأنا أصف نفسي إنني حسّي، بمعنى أني فيورباخي، باستعارة نظريته في المعرفة التي اعتمد فيها على التجريبية والحسّية، ويستدخل فيورباخ الرغبة أو العاطفة إلى جانب الحسّ، فالرأس مصدر النشاط والقلب مصدر العاطفة. وحسب فيورباخ: فالأذن هي التي توصل إليك أولى الأحاسيس والإشارات، ومنها تنتقل إلى الدماغ، ومنه تتحوّل إلى فعل إرادي بمرورها على القلب أيضاً. هكذا إذن، وضمن هذا التوصيف المجازي فأنا حسّي بامتياز، وأشعر أن إحساسي مجزّءٌ بين العراق وسورية، وبين بغداد والشام، ولم يكن ذلك اعتباطاً، وإنما هو شعور بالمشتركات والمتداخلات والمتفاعلات والمتلاقحات ما بين بلاد الشام وأرض الرافدين، أكانا في جانبيهما العربي أم في جانبيهما الكردي. وكأن لسان حالي يؤكد قول الشاعرة العراقية عاتكة الخزرجي: "أهوى دمشق هواي / بغداد الحبيبة لو أفيها‏".
(2)
 كنت قد كتبت في وصيّـتي في تسعينات القرن الماضي: إذا داهمني ذلك "الذئب الذي ظل يترصّدني"، مثل قدر غاشم، فانقلوني إلى النجف، وإنْ تعذّر ذلك، فإلى إربيل لعلاقتي الوثيقة مع الشعب الكردي، وإنْ كان ثمّة صعوبات أو موانع في ذلك، فدمشق هي المكان المناسب، وكدتُ أقول القدس، لكنها ما تزال محتلّة من الصهاينة، ولأن القدس شقيقة دمشق، أصل بلاد الشام وروحها وعقلها، فإن العراق وسورية يؤلفان "سوراقيا"، جوهرة العرب، وإذا كان العراق جمجمة العرب، كما أطلق عليه عمر بن الخطاب، فالشام قلبها ومصر جناحيها.
لم أعرف أن والدتي الراحلة نجاة شعبان والتي افتقدتُ رؤيتها لنحو 20 عاماً، ستستطيع أن تلتحق بي، وفي دمشق بالذات، حيث انتظرتْ مثل غيرها من العراقيين الذين كانت وجهتهم الأولى دمشق، ولكنه عندما حان موعد رحيلها، لم تختر غير الشام، وخاطبتني عشية وفاتها قائلةً: "ادفنوني" قرب مقام السيّدة زينب إنْ استطعتم. تلك هي وصيتي الوحيدة... ونزولاً عند رغبتها كان لها ما أرادت، حتى إننا أقمنا الفاتحة على روحها بدمشق في منطقة المزّة، وفي "دار السعادة"!.
لم تكن والدتي تعرف بوصيتي المكتوبة، أنني وضعت الشام في أولوياتي، إلاّ أنه إحساس الأم قلّما يخطىء، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق بولدها. قلت مع نفسي كيف استطاعت أن تخمّن رغبتي؟ ولم أكن أجرؤ أن أتحدث أمامها، عن ذلك "الجهم" الذي يجلس على صدورنا، وكأنه حرسٌ على أنفاسنا حسب تعبير الجواهري، لكن دهشتي سرعان ما تبدّدت، فكيف لا وهي تعيش في قلبي وتتحسّس ما لديّ كل يوم، بل كل ساعة وكل لحظة، فكيف لا تقرأ عشقي لدمشق عيشاً أو رحيلاً، فالشام هي الملاذ الأوّل وربّما هي الملاذ والمستقر الأخير.
منذ مطلع الستينات كانت الشام قبلتنا. كان والدي مولعاً بها لدرجة الهيمان، فهي أكثر من مدينة بالنسبة له، لأنها بوابة الشرق إلى العالم، وهي التاريخ المزدان بقصص وحكايا وبطولات ومآسي. إنها أبلغُ من صُوَر اللّغة. وعلى الرغم من زيارته لبعض البلدان العربية، ولبراغ وبرلين ووارشو، إلاّ أن عشقه للشام وللقدس ورام الله، ظلّ مثل حبّه الأول يستعيده بمناسبة ودون مناسبة، وكانت والدتي تشعر أن صلاتها أكثر طهرية في مقام السيّدة زينب، وكنتُ قد اصطحبتها مرّتين من لندن إلى دمشق وعدد من الزيارات إلى دمشق من بيروت.
دمشق أو الأرض المسقية حسب معناها القديم، هي أقدم مدينة مسكونة ومتواصلة في التاريخ، وإحدى محطات طريق الحرير، وطريق البحر، وموكب الحج الشامي، والقوافل المتّجهة إلى بلاد فارس، أو آسيا الصغرى، أو مصر، أو الجزيرة العربية. وبقدر ما هي مدينة تجارية، فلها مركز سياسي مرموق تاريخاً، منذ الدولة الأموية، وأقام فيها أو دفن صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، وعُرفت بأنها مدينة الياسمين، وجاء في وصف ياقوت الحموي قوله: "ما وصفت الجنّة بشيء، إلاّ وفي دمشق مثله".
ودمشق هي الشأمُ، أو: الشام: سُمّيتْ بذلك لأن أول مَن نزل بها سام بن نوح، فجُعلت السين شيناً لتغير اللّفظ الأعجمي؛ وكان اسم الشام الأول: سُورَى. وقال جماعة من أهل اللغة: (باعتبار) أنه يجوز أن لا يهمز فيقال "الشام"، فيكون جمع شامة، سمّيت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشُبِّهت بالشامات..!
وهذه الشام لا تشعرك بالغربة، فالغريب فيها مثل ابن البلد، ولم يحدث أن أحسست يوماً من أن هناك فارقاً بيني وبين أي شامي، أو أنني أختلف عنه في "الحقوق" الشخصية والاجتماعية. قد ينطبق على وصفنا هذا بيت الشعر العربي: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا / نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
لم أشعر بالأمان في أي بلد عربي أكثر من الشام. صحيح أن بغداد كانت آمنة في الستينات، والقاهرة أليفة، لكن حظوظ دمشق، كانت الأوفر والأكثر طمأنينة، لأنها الأكثر تعايشاً.
خلال القرون الغابرة التي مرّت على الشام كان النسيج الوطني السوري وما زال يتشكل من فسيفساء مجتمعية ذات ألوان وأشكال متعدّدة المشارب ومتنوّعة الانتماءات، وقد شكّل المجتمع الشامي أو الدمشقي تعدّدية ثقافية نوعية، دينية وإثنية تفاعلت مع بعضها بعضاً، لدرجة لا تستطيع أن تميّزها، فضمن ذلك الهارموني الموزائيكي هناك أديان وطوائف وإثنيات وأقوام ولغات، بل هناك أحياء تسمى بأسمائها، وقد حافظت جميعها على قدر من الاحترام الضروري في علاقاتها المشتركة، لا سيّما من خلال والتعايش والاختلاط، والمشترك الإنساني، وقد كان التنوّع مصدر غنىً وإثراء بتلاقح الثقافات، ولم يكن في الغالب الأعم مصدر توتّر واحتقان وعنف، إلاّ في ظروف محدّدة ومحدودة.
وإذا كانت "مقبرة الغرباء" في السيدة زينب قد احتضنت رفات عدد من الأصدقاء والأحبّة والمبدعين العراقيين، فلأنهم عاشوا فيها وقرّروا عدم مغادرتها، كالجواهري الكبير، ومصطفى جمال الدين، وغضبان السعد، وعبد اللطيف الراوي، وفاضل الأنصاري، وعلي كريم، وعبد الوهاب البياتي، وهادي العلوي، وسعيد جواد، وحسين مروّة، وغيرهم كثر..
ولأنها دمشق، فهي لا تعبّر عن ذاتها إلاّ بالتنوّع والتعدّدية والتسامح. إنها مدينة جامعة لأكثر من هويّة، وإنْ دافتها بوتقة العروبة، لكن هويّاتها الفرعية حافظت على خصوصياتها مع احترام هويّتها العامة الشاملة. والمدن مثل النّساء، فكما لكل امرأة رائحتها ومذاقها، بوحُها وسرّها، حزنها وفرحها، دمعتها وابتسامتها، سحرها وغموضها، روحها وشكلها، فلكلّ مدينة خصوصيتها وطباعها وطبيعتها، في دمشق تتجاور الكثير من الهويّات، حيث تلتقي فيها الدهشة والجمال والفتنة والإثارة، ومثلما دمشق الغوطة والربوة وسحر الشجر وعبق الحجر وذكاء البشر، وأسماء الكنائس والجوامع، فإن فيها أجمل النساء وأكثرهن عذوبةً ورقةً وصفاءً.
دمشق سرّة الياسمين حسب أدونيس، جمعت بين عظمة الماضي وروعة الحاضر، هي السندس الأخضر واللاّفندر (الخزامى)، هي الفل والياسمين والقرنفل والريحان. وكان نزار قباني على حق حين خاطبها معتذراً لأنه لم يعبّر عن عشقه لها.
آه يا شـــامُ كيفَ أشرحُ ما بـي / وأنــا فـيــكِ دائــمـاً مـَســـكونُ
سامحيني إن لم أكاشِفكِ بالعشقِ/ فأحلى مَا في الهَوى التضمينُ
 في العشق ثمّة رفرفات، رفّة فؤاد ورفّة مودّة ورفّة براءة ورفّة سلام.
من منّا لم يستحضر قصيدة الشاعر أحمد شوقي "دمشق" التي كتبها دعماً للشعب السوري ضدّ الاحتلال الفرنسي، فقد عاشت سورية في الوجدان العربي، ونستذكر منها البيتين اللذين تردّدت أصداءهما في العالم العربي كله.
سلام من صبا بردى أرقُّ / ودمع لا يكفكف يا دمشق
وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجةٍ يدق
 (3)
باستعادة سوراقيا يقول الجواهري في قصيدته "دمشق يا جبهة المجد":
شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّاً، ولا مَذِقا
وما وَجَدْتُ إلى لُقْياكِ مُنْعَطَفاً
إلاّ إليكِ،ولا أَلْفَيْتُ مُفْتَرَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي بَلَداً
لكنْ كَمَنْ يَتَشَهّى وَجْهَ مَن عَشِقا
قالوا (دِمَشْقُ) و(بَغْدادٌ) فقلتُ هما
فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما انْبَثَقا
مَن قالَ أنْ ليسَ مِن معْنىً للفْظَتِها
بلا دِمَشْقَ وبَغدادٍ فقد صَدَقا
يمّم العراقيون وجههم صوب الشام: أحمد الصافي النجفي، الجواهري، مصطفى جمال الدين، عبد الوهاب البياتي، مظفر النواب، سعدي يوسف، يوسف الصايغ، عبد الرزاق عبد الواحد، شاكر السماوي، هادي العلوي، حسن العلوي، يوسف العاني، ناهدة الرمّاح، زينب (فخرية عبد الكريم)، جواد الأسدي، شوقية، حميد البصري، كوكب حمزة، سعدون جابر، وفؤاد سالم، وغيرهم.
مَن مِن العراقيين لم يرتوي من بردى ومن منهم من لم يزر الجامع الأموي وسوق الحميدية أو يحلو له قضاء الأماسي مرتقياً قمة جبل قاسيون؟! أو زائراً في أيام الصيف بلودان أو الزبداني أو نبع عين الفيجة أو عين الخضرة.
وهذا الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي الذي اختار دمشق موطناً استقرّ فيه، فأحبها وتغنّى بجمالها يقول:
أتيت جلّق مجتازاً على عجل / فأعجبتني حتى اخترتها وطنا‏
لا يبرح الحسن يوماً عن مرابعها / كأنما الحسن من قدم بها افتتنا‏
أيقنت أني من أهل الجنان ففي / دمشق أسكن جنات تفيض هنا‏
عجبت ممن أتاها كيف يبرحها / فهل يرى في سواها عن دمشق غنى؟‏
ويقول عنها الشاعر مظفر النواب: "إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله خرافي لحضارات شنقت نفسها على أبوابها، إنها دمشق الأقدم، ملتقى الحلم ونهايته...".
أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فيرتل شكره شعراً لدمشق التي ضمّته إلى صدرها ومحت عنه آلام الفراق والغربة:
شكراً دمشق وهبت العمر أجمعه / حسن الختام وهذا ثوبه الخلق‏
يا أخت بغداد.. مليونان من بلدي/ في طهر أرضك ما ريعوا ولا رهقوا‏
بنصفهم ضاقت الدنيا بأجمعها / وأنت تسمو بك الأرحام والخلق‏
شكراً دمشق ولا والله لا طمع / ولا ادعاء ولا خوف ولا ملق‏
بها تغزّل الشاعر البحتري والشاعر أبو تمام والشاعر أبو نؤاس، ولجمالها الساحر وجمال طبيعتها وناسها تغزل أحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وسعيد عقل الذي تمازجت كلمات قصائده مع اللحن الرحباني والصوت الفيروزي، ليؤكدوا بأن دمشق هي تأويل هذا الشرق في اكتمال خطاه:
ظَمِئَ الشرقُ فَيَا شامُ اسْكُبي / واملأي الكأسَ لَهُ حتّى الجَمَامْ
أهلُكِ التاريخُ من فُضْلَتِهِمْ / ذِكْرُهُمْ في عُرْوَةِ الدهْرِ وِسَامْ
أُمَوِيُونَ فإن ضِقْتِ بِهِمْ / أَلْحَقُوا الدنيا بِبُستانِ هِشامْ
أنا لَسْتُ الغَرِدَ الفَرْدَ إذا / قُلْتُ طابَ الجَرْحُ في شَجْوِ الحَمامْ
أنا حَسْبِي أنَّني من جَبَلٍ / هُوَ بين اللهِ والأرض كلامْ
قِمَمٌ كالشمسِ في قِسْمَتِها / تَلِدُ النورَ وتُعْطِيهِ الأنامْ
نعم هي دمشق فيحاء الشرق وحورية المدائن وترنيمة العشق الأزلي ومفخرة التاريخ وفيض الحضارات، كما قال الشاعر سعيد عقل:
"قرأتُ مجدَكِ في قلبي و في الكُتُـبِ         شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ"
 إنها دمشق تراتيل الأنبياء والقديسيين:
 "شآمُ أرضَ الشّهاماتِ التي اصْطَبَغَتْ         بِعَـنْدَمِيٍّ تَمَتْـهُ الشّـمْسُ مُنسَـكِبِ"
‏   فيروز غنّت وطرّبت وأطربت... وفي دمشق كان لصوتها معنى آخر "هنا الترابات من طيب ومن طربِ / وأين في غير شام يطرب الحجر".
نعم هي الشام، الياسمين والفل، هي الشام التي قال عنها الشاعر محمد كرد علي:
الفلُّ يبدأ من دمشق بياضه / وبعطرها تتطيبُ الأطياب‏
والحبّ يبدأ من دمشق فأهلنا / عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا‏
فالدهر يبدأ من دمشق وعندها / تبقى اللغات وتحفظ الأنساب‏
ودمشق تعطي للعروبة شكلها / وبأرضها تتشكل الأحقاب‏
(4)
تتعانق العروبة من سوريا عبر الجزيرة إلى العراق حتى بطاح البصرة، هو هذا الهلال الخصيب، بلاد الرافدين وبلاد الشام التاريخية التي نعرفها. ولا تستطيع التحدّث عن سورية من دون التحدّث عن لبنان وعن فلسطين التي هي في قلب سورية. وهو ما يشكّل الهويّة المانعة الجامعة للمنطقة كافّة، وليس لدولها، لأنها امتداد لشعب واحد موحّد لغة وتاريخاً وحضارة وأدياناً، وحين تأتي إلى سوريا والعراق من الشمال لناحية مدينة دياربكر الكردية "التركية"، فستجد أنها أيضاً أرضاً موحّدة فإلى يسارك (المنطقة الكردية العراقية) وإلى يمينك (المنطقة الكردية السورية) وشمالها يوجد الامتداد التركي الكردي وتتصل بالمنطقة الكردية الإيرانية، جغرافياً ومجتمعياً وتاريخاً ولغةً.
ومثلما تعرّضت الهويّة العربية التاريخية إلى تهديدات خطرة في السابق، منذ حروب الفرنجة، وغزو نابليون لمصر وفلسطين وجبل لبنان، والاحتلال البريطاني والفرنسي، فإنها تتعرّض اليوم إلى تهديدات أشد خطورة وبأساً، تستهدف الوجود العربي والهويّة العربية، والدولة الوطنية العربية، لتجزأة المجزّء وتقسيم المقسّم، أي تمزيق الهويّات الوطنية في كل بلد عربي، وجعل الصراع بين الهويّات صراعاً تناحرياً وإلغائياً، بدلاً من حوار وجدل تكاملي بخصوص الحقوق والحريّات ومبادىء المساواة والشراكة والمشاركة.
(5)
في دمشق ازددت عروبة، وأستطيع القول إنني وبعد أن زرت جميع البلدان العربية وتعرّفت على مجتمعاتها وثقافاتها وأحوالها، وارتبطت بصداقات طويلة وعميقة مع العديد من نخبها، أن الشام هي البلد الذي تشعرك بانتمائك العروبي وبهويتك العربية وجمال لغتك العربية أكثر من أي بلد عربي، فكل شيء في الشام ينبض بالعروبة، وأقول مع نزار قباني:
دمشـقُ، يا كنزَ أحلامي ومروحتي / أشكو العروبةَ أم أشكو لكِ العربا؟      
وفي دمشق عظُمَ اهتمامي باللغة العربية، وزاد شغفي بها وأخذت أشعر أكثر من ذي قبل ما تركت النجف عليّ من تأثيرات آسرة في البلاغة والنّحو وفخامة اللّغة وتنوّع معانيها، فازددت الاستمتاع بها مثلما ارتفعت درجة إحساسي بأهميتها وجمالها لفظاً وشكلاً ومحتوى، فمثلاً يوجد في اللغة العربية عشر مفردات للحب وعشرون لفعل الحب وأربعون لمشتقاته. أما في اللغة الفارسية فهناك ست مفردات فقط، ثلاث منها أصلية وثلاث من أصول عربية هي: العشق والوله والمحبة. أما في اللغة الإنكليزية فهناك مفردة واحدة للحب هي: Love. أما Like فهي تشبه مبدأ الشبيه، في حين أن كلمة Erotic هي للحب والغزل، وهي عروس أروس السامية.
ونلاحظ هنا الثراء في الكم اللغوي للغة العربية قياساً باللغات الأخرى، وبالطبع فإن هذا يعكس تفاوتاً في الكم الوجداني، فالإنسان يعبّر عمّا يمارسه في حياته العملية ويحوّله إلى لغة، ولذلك تجد كثرة مفردات الحب باللغة العربية، وهي دليل الوجدانية كما يقول هادي العلوي.
وفي دمشق ازددت "فلسطنةً"، فعلى الرغم من انتمائي الوجداني لفلسطين وتعلقي من باب الحقوق والعدالة بقضيتها، فقد شعرت بحرّية أكبر وأنا أتناول مواقفنا اليسارية بالنقد، بما فيها نقد الأسس التي بُنيت عليها بعض المواقف ابتداءً من قرار التقسيم وما تبعه من التباسات وارتباكات على مستوى النظرية والممارسة.
ومع أن ماركسيتي "المادية الجدلية"، أصبحت أكثر رحابة لي في التنظير والتّحليل وإعادة القراءة والانفتاح، بالانتقال التدريجي من الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية، التي كانت مرحلتها الأولى براغ، فإن الوضعية النقدية كانت قد اغتنت في الشام، إضافة إلى التفسير والتأويل، وهي المرحلة الأكثر عمقاً وشمولاً، حيث شهدت حوارات عربية لقوى وتيارات عروبية ويسارية وماركسية متعدّدة ومتنوّعة ومختلفة، وكان لها الأثر الأكبر في تحرير جزء غير قليل مما تبقّى خارج نطاق النقد عندي، والذي أخضعته للفحص والتدقيق في إطار تعزيز منظومتي المعرفية.
وفي دمشق زاد إحساسي أكثر بالجمال والتّمتع به، فبعد براغ التي فجّرت فيّ الينابيع الأولى، جاءت دمشق لتحفزّني، بل تستفزني للاستمتاع أكثر بالحياة وما تزخر فيه من إبداع وتنوّع، وتدعوني أكثر فأكثر إلى التأمّل والهدوء. وأستطيع القول إنني أخذت أنظر بعمق أكثر إلى الطبيعة وأسرارها ومناخها وفصولها وأشجارها وزهورها وأنهارها وبحارها وجبالها وسهولها، فالشام هي بلد التنوّع، فما لم يكن يلفت انتباهي أو لا أتوقّف عنده، فإذا بي أبدو مندهشاً أمامه لدرجة كبيرة.
دمشق مثل بغداد شذّبتني وساهمت في اعتدالي وزادتني مرونة وتسامحاً، وملت فيها أكثر فأكثر إلى القبول بالآخر واحترام "حق الاختلاف"، وتلك سمة التمدّن، ومعنى ذلك أن دمشق دمْشقتني، مثلما بغداد بغددتني، أي أنهما مدّناني، فالدمشقة والتبغدد معناهما، التمدّن، والتحضّر.
وفي التمدّن، يكون الإقرار بالتنوّع والتعدّدية مسألة بديهية، بحكم التعايش والتجاور والاختلاط، الذي ينمّي روح التسامح وقيم الاعتراف بالآخر وقبول الحق في الاختلاف. وفي دمشق تجتمع أديان وملل ونحل ولغات، فهناك المسلم والمسيحي، والعربي والكردي والتركماني، مثلما يوجد فيها السني والعلوي والدرزي، إضافة إلى الطوائف المسيحية كافة. وفي دمشق تتجاور المساجد والكنائس والحانات، من باب توما إلى باب شرقي وحي الميدان، ومن الجامع الأموي الكبير وجامع الباشورة أو السادات أو مدرسة وجامع النورية أو جامع الشيخ محيي الدين أو مقام السيدة زينب أو مقام السيّدة رقيّة، إلى كنيسة يوحّنا المعمدان ومصلى القديس حنانيا وكاتدرائية القديس أنطونيوس والقديس بولس وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي وكنيسة سيدة دمشق والسيدة العذراء وكنيسة الروس والكنيسة الإيطالية ودير الراهبات، وغيرها.
في الشام اغتنت صداقاتي وتنوّعت، وازددت إيماناً بالصداقة، وعرفت فيها صداقات أصيلة، ووفاء منقطع النظير، رجالاً ونساءً. ودائماً ما كنت أكرّر ثروتي في هذا العالم صداقاتي، فمن يريد أن يبحث عن الصديق قبل الطريق – كما يُقال – فسيجده في الشام. لم يترك أحد من العراقيين الشام، حسب علمي إلاّ وبكى عليها حسرة وألماً لفراقها، حتى وإن عانى فيها، وإذا كان هناك استثناء، فهذا من الشواذ عن القاعدة. أتذكر صخرة في الربوة، كُتب عليها: "اذكريني دائماً". وليس نحن الذين نتذكّر (دمشق)، بل نطلب منها هذه المرّة أن تتذكرنا، وتلك رسالة العاشق والمعشوق.!!
في دمشق ازداد شغفي بالفن والأدب، فقرأت عشرات الروايات العالمية والعربية والسورية، وشاهدت أعداداً كبيرة من الأفلام. وكنت في الستينات والسبعينات خلال زياراتي المتكرّرة للشام أحضر كلما صادفني يوم ثلاثاء عروضاً خاصة في سينما الكندي، حيث يفتح باب المناقشة بعدها، لحوار حول الفيلم وأحداثه ودور الممثلين والممثلات والإخراج والرواية، وغيرها من الأمور التي يشترك فيها الجمهور مع أصحاب الاختصاص.
وأتذكّر أنني تخلّفتُ عن المشاركة في مهرجان الشباب والطلاب العالمي في برلين (العام 1973) بسبب ارتباطي بزيارة دمشق ولقاء الأهل والأحبّة، فقد كنت على موعد في اللاذقية ورأس البسيط ومع البحر والشمس والغابات والجمال. لم أترك صيفاً يمرّ إلاّ وكنت أزور الشام، وأحياناً أستغل بعض الشتويات لأزورها وأجد ألف ذريعة وحجة لكي أجهّز نفسي للقاء الحبيبة.
دمشق علمتني حب الصباح، والصباح دليل الأمل، ويمكن القول أنّه دليل العافية وحسب المفكر هنري ديفيد ثورو تقاس صحة الإنسان بحبّ الصباح وحبّ الربيع، فالفجر والإشراق والضوء والنور والندى والهدوء تجتمع كلها مع الأمل، وحتى لو كنت متشائماً بفعل إن كل ما حولنا مدعاةً للتشاؤم، فالأمل لا يجعلني يائساً بقدر ما يمتلك من الاستمرارية والتواصل والإصرار على التغيير. وفي الأمل تشعّ الابتسامة والبهجة والإقبال على الحياة والفرح بالنهار الجديد.
   إنّه الصباح الذي يهبط علينا فنسمع أصوات الحساسين مغرّدةً بشدوٍ جميل، وفيه تنبعث روائح الزهور وعطور الياسمين مثل ريعٍ مجاني يستمتع به الجميع في الحدائق الفسيحة، المضلّلة بأشجار السدر الفوّاحة حيث نمضي إلى الحب أو نعود منه وقد تذوقنا زهرة الصبّير والمشمش الحموي أو استطعمنا التين البلدي واللوز الأخضر، إنه الصباح الذي نرى فيه النساء أحلى وأجمل. وإذا كنت أميل إلى الأماسي قبل دمشق وأتأمل القمر وأراقب النجوم، فإن دمشق أخذتني إلى الصباح والإشراق، وهكذا غدوت صباحياً ومتعتي صباحيّة وعشقي صباحي، وأصبحت بفضلها مشّاءً صباحيّاً، تارة في حي التجارة والقصور وأخرى في منطقة المزّة.
 إنها دمشق سرّة الياسمين والوجه الآخر للعشق، وصدق من قال: "وعزّ الشرق أوّله دمشق".










نُشرت في كتاب عنوانه: (الرسائل الدمشقية) بمشاركة 21 كاتباً، صدر عن دار الفارابي، بيروت، (ديسمبر/كانون الأول 2016).


413
نزع سلاح الآلهة
المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف
الكاتب: جان ماري مولر
تقريظ: عبد الحسين شعبان


بعد كتابَيه معنى اللاّعنف (1995)، واستراتيجية العمل اللّاعنفي (1999)، أصدر فيلسوف اللاّعنف الأبرز على المستوى العالمي، جان ماري مولر، كتاباً بعنوان «قاموس اللّاعنف» (2007)، وأعقبه بكتاب عن غاندي المتمرّد (2011)، ويأتي كتابه الجديد «نزع سلاح الآلهة»، تتويجاً لفلسفته التي كرّس حياته من أجلها، منذ أن أريد له في مطلع الستينات أن يلتحق جندياً في الجيش الفرنسي للذهاب إلى الجزائر لمقاتلة الجزائريين الذين يناضلون لتحرير بلادهم ونيل الاستقلال، فرفض وامتنع وسُجن وأُقصي، وهكذا تكوّنت لديه  قناعات بأهمية الانخراط في عمل لا عنفي، بل إن اللاّعنف أصبح قضيته الأساسية. ويأتي كتابه الجديد: «نزع سلاح الآلهة» تتويجاً لمعرفية حركية دينامية طوال خمسة عقود من الزمان.
الكتاب مقسّم إلى جزأين، يبحث في جزئه الأوّل الموسوم «المسيحية قيد المناقشة»، ما له علاقة بكلام الله وأقوال البشر، فيسلّط ضوءًا على المسيحيّة ومصادرها في مناقشة فلسفية لبعض تعاليمها ودعوتها لعدم مقاومة الشرّ وعدم الحذو حذو الشرّير، ويطرح مولر فريضة المصالحة وفضيلة الوداعة، إضافة إلى فضيلتَي الرّحمة والطيبة، بدلاً عن العنف، وذلك لكي يكون الإنسان قريباً من الآخر.
ويعدّ مولر، يسوع المسيح شهيداً للاّعنف، والشهادة هي للحقّ، ويتوصّل إلى قناعة بإفلاس آلهة العنف، ويعتبر الله «ليس إلاّ» محبّة، والمحبة هي للإله الطيّب، في حين أن المخافة هي من الإله الشرير، ويؤسس على ذلك بقوله: الله ليس محبة فقط، بل إنسانية.
يقول مولر: في البداية خطر ببالي أن أعنون مخطوطي بـ«نزع سلاح الله»، ولكن سرعان ما تبيّن لي أن الأمر سيكون غلطاً، إذْ أن الإله حق، في كل الأحوال، وهو ليس مسلّحاً، ومن قلّة العقل، بالتالي، ادّعاء تجريده من سلاحه. في وسع أي شخص كان أن يشك في وجود الله، لكن لا يجوز لأي أحد أن يتجاهل وجود آلهة مسلحة متعدّدة تخيّلها البشر العنفيون لتبرير عنفهم. وهذه الآلهة الأكذوبة هي التي على الإنسان نزع سلاحها ليقوى على التفكّر بالله. (ص24- 25).
ويتوقّف مولر عند الحروب الدينية في القرن السادس عشر، فيمتدح التسامح، ويقتبس فقرة من فولتير لربط قضية الدين بالعنف، بقوله: «ولكن عجباً ألأن ديننا دين إلهي يتعيّن عليه أن يسود بالكره، بالسخط، بالنفي، بمصادرة الممتلكات، بالسجون، بالتعذيب، بالقتل، بالتسبيحات المرفوعة إلى الله حمداً على هذه الجرائم؟». (ص230).
ويسمّي الحرب العالمية الأولى «المذبحة الفظيعة»، كما يتناول مواقف الكنيسة ذات الطبيعة المزدوجة، ويدعو إلى وضع حد لمسألة الأسلحة النوويّة، مثلما يدعو إلى «الحظر المطلق للحرب» ويوضح قوّة العمل اللاّعنفي بوجه العنف. (ص281).
يقدّم مولر قراءات جديدة للنصّ الديني، بقوله: إنّ الله لا يسمح بانتصار الشّر (ص284)، وإن حصل ذلك، فإما أنه ليس قديراً، وإما أنه ليس طيباً، والله لا يقحم نفسه في تاريخ البشر ليحل محلّهم، واستناداً إلى ذلك يتوصل إلى قناعة بأن العنف الذي ينوء التاريخ بثقله هو من صنع أيادي البشر حصراً، ومن مسؤوليتهم أن يحطموه، وليس من الضروري التضرّع إلى الله حتى يرضى إبداء رأفته بالعالم، وهو الذي «يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجّار»، ولا يحتاج الله إلى أن يأمر البشر بالصلاة له ليكفّوا عن عنفهم، بل هو الذي يصلي لهم، كيما يصنعوا السلام. (ص293).
إن ما يُبهر البشر في العنف هو العنف، ولكي يكف البشر عن العنف، فعليهم أن يغيّروا موقفهم منه، وأن يخضعوا لعملية تطهّر جذرية للانصراف عنه، ولنزع شرعيته، وعند ذاك يمكنهم أن يكتشفوا حكمة اللاّعنف. ويقول مولر: «واللاّعنف هو الرواق الذي يفتح للإنسان طريق الاحترام والرّحمة والطيبة والمحبّة، وفيما يتعداها أيضاً طريق التعالي» (المقصود السموّ).
وفي الجزء الثاني المعنون «الإسلام قيد المناقشة» يبحث مولر في «الإسلام والإسلامية» ويسأل عن الرابط بينهما، فهناك مسلمون يشجبون «الإسلامية» مؤكّدين أن لا صلة بينها وبين الإسلام، والمقصود بالإسلاميّة تحويل الدين إلى آيديولوجيا، فالإسلام بحسب وجهة النظر الكلاسيكية هو دين، أما الإسلامية فهي آيديولوجيا بمعنى «نسقية» وتسيّدية، في حين أن الإسلام هو دين يعلّم على التسامح والسلام والعدل والرحمة والحب، ولذلك يستغرب مولر أن يؤدي الانتساب إلى الإسلام إلى فرض نظام سياسي قهري وقمعي عليهم، أو اقتراف أفعال تعصّب وعنف، وهو يرى أن هناك إسلامَيْن: إسلام العنف وإسلام اللاّعنف وكلاهما يزعم الرجوع إلى القرآن، ومثلما هناك أصوليّة إسلامية هناك أصولية مسيحية. ومن واجب «المؤمنين» أن يكشفوا النور عن جوهر الدين والدعوة إلى التسامح واللاّعنف والسلام بدلاً من التمترس بالآيديولوجيا، سواء كانت إسلامية أو غيرها. (ص 300 – 301).
ويبحث مولر في فكرة الجهاد، فيركّز فيها على الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والتغلّب على العنف لدى الإنسان بمجاهدة الأهواء لتحرير نفسه من القيود التي تشدّه، إلى الأعمال الشائنة والشهوات الفاسدة، مقابل الجهاد الأصغر الذي يركّز على مقاتلة العدوّ بالسلاح، في حين أن معنى الجهاد الأكبر هو مقارعة الشرّ بوصفه صراعاً ضد وسوسات الشيطان المسمّى إبليس، «العدوّ» الذي يقبع داخل كل فرد، والذي من شأنه أن يؤدي إلى التهلكة، والمقصود بالجهاد الأكبر كما فهمه مولر هو عن إماتة «الكافر» المقيم في قلب كل مؤمن.
ويتوقّف مولر عند المفكر المصري الإسلامي سيد قطب الذي أُعدم العام 1966، وذلك حين يميّز بين ثلاث مراحل في نزول الأوامر الإلهية المتعلقة بالجهاد: مرحلة الخطر والمقصود بها (المرحلة المكية) التي أسميها بالمصطلح الحديث مرحلة بناء الحركة واكتمال أركان الدعوة الإسلامية أي «المرحلة التبشيريّة»، ثمّ مرحلة الإباحة، والمقصود بها "المرحلة المدينية بعد هجرة الرسول إلى يثرب/ المدينة المنوّرة" وامتلاك المسلمين عناصر قوّة الرد (المواجهة)، وهي المرحلة الدفاعية، ثم مرحلة ما بعد تأسيس الدولة (أي بعد دخول مكّة وإقامة الدولة الإسلاميّة)، تلك التي أصبح الإسلام فيها سيّداً، وهي ما نطلق عليه المرحلة الهجومية، ومن هذا المنطق يدعو قطب إلى أن يكون الإسلام المعاصر أشد قوة وبأساً، ولا بدّ له من نضال وجهاد. (ص310)، والمقصود بذلك استلهام واستعادة المرحلة الهجومية.
ويستهدف مولر من إبرازه دور الجهاد في المنظومة الفكرية الإسلاميّة، أوضاع الحاضر حيث يسود العنف والإرهاب باسم الدين وتتجه جماعات متوحشة لِلَويّ عنق النص الديني لكي ينسجم مع تعاليمها، سواء كانت سلفية، أو أصولية، أو راديكالية متطرفة، وباسم القاعدة أو داعش أو غيرها، كما يجري هذه الأيام. وحين يناقش الأمر يعود إلى بعض الأصول التي تساعد على تقديم تفسيرات وتأويلات لتبرير العنف، سواء على يد ابن تيمية أو على يد سيد قطب، أو غيرهما، وكنت أتمنى عليه مناقشة آراء بعض العلماء المسلمين الآخرين مثل علي شريعتي والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله، وقد كتبت له بذلك.
يمكن القول إن كتاب الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر هو من أهم الكتب المرجعية التي تبحث في مسألة اللّاعنف، وهو إضافةً إلى غناه وعمقه وجرأته في تناول قضايا العنف واللاّعنف من زاوية الديانتين المسيحية والإسلامية، فإنّه يمتاز بالجدّة والشموليّة والاجتهاد، وخصوصاً أنه يدخل في عمق الإنسان، فلسفةً واجتماعاً وحقوقاً وأخلاقاً وقوانين، ناهيك بطبائعه وأمزجته وسلوكه، لأن العنف مؤسّس في بنية المجتمع وفي فلسفة إداراته وأدوات ارتهانه من داخله ومن خارجه حسب مؤلف الكتاب.
 ولأن التمييز بجميع أشكاله بات جزءًا من المشهد العام، وأنّ العنف باسم الدين أو بغيره يزداد مأسويّة ويتسبّب بالقتل والتهجير وانتهاك الكرامة والوجود والحقوق، فإن مولر لهذه الأسباب يدعو إلى تعليم اللاّعنف، وكم كان مستبشراً حين عرف أن جامعة له تؤسّس لأول مرّة، وكان قد قال فيها عند إطلاق كتابه: كم هو سعيد لأنّه يحاضر في بلد عربي «لبنان»، عن اللاّعنف، لأنه يدرك المسؤوليّة التربويّة والأكاديميّة والفكريّة والثقافيّة والحقوقيّة للجامعات ومناهجها، لأنها مؤتمنة على قيم الإنسان كإنسان.
لقد أعادني كتاب نزع سلاح الآلهة إلى حوار دار في بكين في معهد الشؤون الدولية التابع لوزارة الخارجية، حين ناقشنا فيه الفلسفة التاوية الصينية وفيلسوفها الكبير لاوتسه، كما تناولنا الفيلسوف كونفوشيوس أيضاً، بمقارنة مع الفلسفة العربية – الإسلامية الصوفية متجسّدة بمولانا محيي الدين بن عربي الذي يرقد في حي ركن الدين بدمشق. ولعلّ أهم ما يميّزهما هو الروحانية وحب الآخر متبلوراً في حب الله المطلق، والله حسب الكتاب ومولر هو مطلق وهو محبّة، وبالتالي لا يمكن أن يكون عنفيّاً، أو مع العنفيين، وإلاّ كيف يفعل الله ما يفعله البشر؟
في رواية الروائي الروسي دستوفسكي «الأخوة كارامازوف» يتحاور أخوان في خصوص مبدأ القصاص والرد بالمثل واستخدام العنف ضد العنف، والأخوان في الرواية هما إيفان وأليوشا، والأمر له علاقة بما تعرّض له الأطفال على يد الجلادين، فيقول إيفان لأخيه ما معناه: القصاص أو العقاب لا يساوي عندي دمعة من عين طفل: أوَتقول لي إن الجلادين سوف يتعذّبون في الجحيم؟ ولكن ما جدوى ذلك؟ وبدلاً من الانتقام أو الثأر فإنّه  يطلب الغفران وزوال العذاب...
 ذكرتني هذه الرواية بما تعرّض له بشير الحاج علي اليساري الجزائري على يد الجلادين بعد التحرير واستقلال الجزائر، (كتابه الموسوم "العسف")، وكان كلّما فاق من المغطّس يسمع شاباً بجواره وبين حفلة تعذيب وأخرى: يقول سنعذّبهم مثلما عذّبونا وسنستخدم كل الوسائل لإذلالهم مثلما حاولوا إذلالنا، فما كان من بشير الحاج إلا أن يجيبه: وما الفرق بيننا وبينهم: نحن نريد كنس التعذيب وإنهائه إلى الأبد، وهو الذي يسميه دستوفسكي «التناغم الأبدي» في روايته المذكورة. وقد سبق لي أن أشرت إلى دعوة خير الدين حسيب إلى ممارسة الرياضة النفسية عند مداخلته في الحلقة النقاشية حول «العدالة الانتقاليّة»، وليس ذلك سوى نوع من التطهّر الروحي والتخلص من ثقل الكراهية، والرغبة في الانتقام والثأر والكيديّة.
وحين نستذكر اللاّعنف يحضر الروائي الروسي الشهير تولستوي، صاحب رواية: «الحرب والسلام»، ودعواته إلى عدم مقاومة الشرّ بالعنف، ففي كتابه «ما هو مذهبي؟» أراد القول: «لا ترتكب عنفاً أبداً، بمعنى آخر لا ترتكب أبداً أي فعلة مناقضة للمحبة»، أي أن الانتقام وسيلة سيئة، وحسب تصويره فالحرب الروسية - اليابانية هي بين مسيحيين وبوذيين، يقتل أحدهما الآخر في حين أن المسيحية والبوذية لا تدعوان إلى القتل وتحرّم ديانتهما قتل البشر، بل إن البوذية تحرّم حتى قتل الحيوانات.
لقد رفض تولستوي طاعة أوامر الدولة التي تفضي إلى العنف، لأنه غالباً ما يكون عنفاً ظالماً وكان يقول لا للجيش الذي يكفل العنف لقهر الشعب، ومن هنا موضوع رفض الإعدام. وترك تولستوي أثراً كبيراً لدى المهاتما غاندي، فقد كتب غاندي عنه بمناسبة مئويته العام 1928: كان أكثر رجال عصره صدقاً، إنه أعظم رُسل اللاّعنف الذين شهدهم عصرنا الحالي.
إذا كان العنف قوة خشنة وقاسية وإكراهية، فإن اللاّعنف قوة ناعمة، وهي قوّة الإرادة البشرية، وطابعها الإنساني، وذلك هو جوهر كتاب مولر.
الكاتب: جان ماري مولر
الكتاب: نزع سلاح الآلهة – المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف.
ترجمة ديميتري أفييرنيوس
إصدار جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان، بيروت، 2015.
440 صفحة من المقطع الكبير.



414
خير الدّين حسيب
الرياضة النّفسية والمثقف الكوني و"الكتلة التاريخية"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
"أستطيع القول من خلال تجربتي الشخصية، ونظرتي إلى الذين قاموا بتعذيبي عندما اعتقلت لمدة سنتين ونصف السنة تقريباً في معتقل قصر النهاية – ويسمّونه بهذا الاسم لأنهم يعتبرون أن من يدخله لا يخرج منه حيّاً، وقد تنقّلت خلال تلك الفترة في ستة سجون "معتقلات" – إن نظرتي كانت إلى "هؤلاء" ملؤها الحقد والرغبة في الانتقام، في حين أنها تغيّرت بعد ممارستي رياضة نفسية، وأصبحت أتعامل مع الأحداث بهدوء وتفهّم يختلفان تماماً عن نظرتي قبل ذلك. لهذا أعتقد أنه من المفيد أن يمارس الذين تعرّضوا للتعذيب أثناء فترة سجنهم أو توقيفهم هذه الرياضة النفسية".
بهذا المدخل المؤثّر بدأ الدكتور خير الدّين حسيب مداخلته وتعليقه في الحلقة النقاشية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية عن "العدالة الانتقالية"*، والتي كان فيها يستعيد ذكريات مؤلمة بعد أكثر من أربعة عقود ونصف من الزمان. ولم يكن هدفه استثارة العواطف للظهور بمظهر الضحية، بل كان يتعامل مع الواقع من موقع القوة والتسامح، وهو يتطلّع إلى المستقبل، بعيداً عن روح الثأر والانتقام، متجاوزاً محنته وآلامه الشخصية.
وعند تلك المقاربة الإنسانية يمكن التوقّف لقراءة دلالاتها من خلال ثلاث قضايا أساسية اتّسمت بها نظرة حسيب:
أولها – توظيف الخاص ليصبح عاماً لإدراكه العلاقة العضوية بين الخاص والعام، وإخضاع ما هو ذاتي لما هو موضوعي في إطار من التوازن والتجاذب. وتكمن وراء تلك الرؤية، فلسفة بعيدة النظر، لا تقيم في الماضي، بل تستفيد من دروسه وأخطائه باستشراف المستقبل، إذْ لا يمكن بناء تجربة ناجحة من خلال الفعل وردّ الفعل والعنف والعنف المضاد. وكان غاندي محقّاً حين قال: "ربما هناك قضية أنا مستعد أن أموت من أجلها، لكن ما من قضية مستعد أن أقتل من أجلها".
وثانيها – سلوكه كمثقف عضوي جمع بين التنظير والممارسة (البراكسيس)، إذْ لا يمكن فصل الفكر عن الممارسة الإنسانية، وهو بذلك يعبّر عن نفسه بوضوح كمثقف كوني، جامعاً بين انتمائه العروبي وانتمائه الإنساني، من خلال الهموم الإنسانية المشتركة، خصوصاً وعيه بالدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في عملية التغيير.
لا يكفي القول بوجود فكرة صحيحة، بل لا بدّ من عمل صحيح لوضعها موضع التطبيق، فالعمل هو منتهى الفلسفة وتحقّقها، وما قيمة الخطابات الفكرية التي تشيد بالمُثل السامية، إنْ لم تكن هي حاملة لها من خلال الممارسة، وهو ما يربط الغاية بالوسيلة، فالغايات الشريفة تحتاج إلى وسائل شريفة لتنفيذها، وهذه الوسائل تصبح جزءًا من الغاية ذاتها.
وثالثها – دعوته المتقدّمة لمسألة الكتلة التاريخية، فقد أدرك منذ وقت مبكر، أن ليس بإمكان قوّة لوحدها، مهما بلغت من نفوذ شعبي وقوّة تنظيم وقدرة على التعبئة أن تحكم أو تقود الأمّة منفردة، وبمعزل عن تعاون مع قوى أخرى تجمعها أهداف مشتركة، وإنْ تباينت طرق الوصول لتحقيق هذه الأهداف، ولذلك قام بمبادرات فكرية مختلفة وشرع بتنظيم أنشطة وفعاليات سياسية وتنظيمية، لتهيئة التربة المناسبة التي يمكن لبذرة المشروع النهضوي العربي أن تنمو فيها.
وأعتقد أن ذلك من إحدى خلاصات الكتاب** المهمّة ومن خلاصات تجربة حسيب التاريخية، ولنكون منصفين أكثر، فلا يمكن مناقشة أفكار خير الدّين حسيب وكتاباته المتنوّعة، بما فيها كتابه المشار إليه، دون التوقّف عند هاجسه الأكاديمي وروح البحث العلمي التي تتلبّسه، تلك التي عمل على توظيفها لهدفه الأكبر والأسمى، وهو الوحدة العربية التي شعر بعد تجارب مريرة وإخفاقات عديدة، أنه لا يمكن إنجازها وجنْي ثمار نتاجها إلاّ بتوفّر شروط سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تساعد على ذلك، ومنها أجواء من القناعة وحريّة الاختيار والتعبير والمناخ الديمقراطي الذي يستطيع أن يحميها، ولهذه الأسباب وضع العروبة محوراً لتيارات فكرية وسياسية متنوّعة، باعتبارها جامعاً للوصول إلى إنجاز مشروعه المستقبلي.
وإذا كان مكسيم غوركي قد قال عن أحد أبرز ثوريّي عهده، "إن نصف عقله يعيش في المستقبل"، فإن انهمام حسيب بالدراسات المستقبلية، جعل عقله يفكّر بطريقة مزدوجة ومركّبة: نصف للحاضر، بما فيه استخلاص بعض تجارب الماضي، ونصف للمستقبل، وهو ما عمل على وضعه كـ بلاتفورم فكري وثقافي ومرجعي، لما أطلق عليه "المشروع النهضوي العربي"، بالتعاون مع نخبة متميّزة من المفكّرين والباحثين العرب.
ومثل هذا الانشغال بالبحث والنظر إلى المستقبل، هو ما دعا حسيب إلى تقديم مشروعه الفكري الباذخ، وذلك بعد تأمّل كثير وتأنٍّ كبير ومعاناة فائقة. وتقوم فلسفته على استمرارية تفاعلية، تربط التاريخ بالحاضر، وهذا بالمستقبل الذي كرّس له مشروعه الحضاري. وكان الصديق معن بشور على صواب حين تحدّث عن هاجسَي حسيب: الأول "المعلومة الموثّقة"، والثاني "الاستشراف المستقبلي"، فالمثقف ينشغل بما هو دائم وجوهري واستراتيجي، وحتى لو تعرّض إلى ما هو آني، فهو يخترقه ليصبح جوهرياً على حد تعبير إدوارد سعيد، ولعلّ ذلك ما يطبع الكتاب، الذي تناول أحياناً ما هو ظرفي ومؤقت، ليحوّله حسيب إلى ما هو بعيد المدى ومستمرّ، وليس عابراً أو طارئاً.
أعترف بأنني، وعلى غير العادة، واجهت صعوبة كبيرة في تقريض هذا الكتاب، نظراً لاتّساع موضوعاته وتنوّعها، وكثرة المحاور التي جاء على مناقشتها، وباقة الأفكار التي احتواها، ورؤيوية كاتبها وإشكاليته، سواء اتفقت أو اختلفت معه، فلا بدّ لك منذ البدء الإقرار بقيمة الجهد المعرفي وحجم المعلومات الغنية، وجرأة التحليل، فضلاً عن المصادر المهمّة والمتنوّعة التي اعتمدها، ولذلك لا تستطيع إلاّ أن تشعر بالاحترام والتقدير لكاتبها، ولهذه الأسباب تجاوزت على طريقة كتابة التقاريض والقراءات ذات الطبيعة المدرسية الصرفة، لأضع ما هو فكري بالدرجة الأساسية، خصوصاً عندما أُخضعه للنقد، بربطه بما هو إنساني.
عرفت الدكتور خير الدّين حسيب منذ الستينات، وإنْ كانت المواقع مختلفة، فهو أستاذ في "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية"، وأنا طالب حينها في الكلية ذاتها، وهو قومي عربي ناصري يُشار إليه بالبَنان، وأنا شيوعي ماركسي يساري، خارج من المعتقل ومُعاد إلى الدراسة بعد فصل، وهو قريب من السلطة حتى وإنْ كان من موقع الاختلاف أحياناً بعد تجربته كمحافظ في البنك المركزي 1964 – 1967 وإدارته للسياسة الاقتصادية وما سمّي بالقرارات الاشتراكية في عام 1964، وأنا لست بعيداً من السلطة فحسب، بل ومن موقع المعارضة.
في تلك الأجواء والاحتدامات التي كان يمور فيها العراق عرفت حسيب، وصادف أن أحرزنا نجاحاً ساحقاً في انتخابات الطلبة عام 1967، ونحن في ظروف عمل سرّية، أو شبه سرّية، ومئات من رفاقنا في السجون، بل وكنّا نعاني الإقصاء، الأمر الذي لفت الانتباه مجدّداً إلى أن أي قوّة سياسية مهما بلغت من مكانة ومقدرة وتنظيم، لا يمكنها حكم البلاد لوحدها، وجاءت هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 لتؤكد ذلك، وخصوصاً أن أي تجربة يُراد لها النجاح، لا بدّ أن تعتمد على التيارات الأساسية التي عليها البدء بالحوار والاتفاق على ما هو مشترك، ولا سيّما التيار القومي العربي متمثّلاً بالقوميين والناصريين بمختلف فروعهم والبعثيين بشقّيهم الأساسيين (العراقي والسوري)، والتيار اليساري والماركسي بثقله الأساسي الممثّل بالحزب الشيوعي، وخصوصاً بجناحيه بعد انشطار العام 1967، والتيار القومي الكردي بفريقيه المتعارضين: جناح الحزب الديمقراطي الكردستاني (الأساسي)، وجناح المكتب السياسي حينها الذي كان قريباً من الحكم.
ولم يكن آنذاك معروفاً وجود تيار إسلامي أو ديني من الطرفين (المذهبيين)، وإنْ كان ثمة تجمّعات أو مراكز اتّخذت شكلاً تربوياً أو ثقافياً (مدارس دينية ومراكز بحثية وبعض مطبوعات)، لكن التيار الديني بالمعنى الذي تعرفه مصر مثلاً، لم يكن معروفاً في العراق، وأخذ لاحقاً بالتبلور منذ أواسط الستينات، وإن كانت بعض نواتاته موجودة.
وانطلاقاً من ذلك، فإنني حاولت إضاءة فكرة أساسية وردت في الكتاب وهي العلاقة بين التيارات الأساسية، وهي الفكرة التي تبلورت لدى خير الدّين حسيب لاحقاً، وإنْ كنتُ أعتقد أن جذورها كانت قد بدأت عنده منذ النصف الثاني من الستينات، وهو ما أخذ يطلق عليه الكتلة التاريخية والتي تجلّت في البحث عن المشتركات التي تجمع القوميين والماركسيين والإسلاميين لاحقاً.
وكان قد بدأ الحوار بين القوميين والإسلاميين منذ وقت مبكر في الثمانينات، وعلى قاعدته تلك تأسّس المؤتمر القومي – الإسلامي بعد تأسيس المؤتمر القومي العربي في عام 1990، وذلك تجسيداً لتلك الفكرة التي كان حسيب - ولا يزال - مؤمناً بها، حتى وإنْ اعترتها صعوبات أو وقفت أمامها عوائق أو تعرّضت للانتكاس بفعل تغييرات وتطوّرات أثّرت في بعض المواقع وغيّرت بعض المواقف.
وإنْ كنتُ وما أزال أعتقد أن ثمة عقبات جدّية بين الفرقاء، باستعارة عنوان رواية كازانتزاكي "الاخوة الأعداء"، أو قصيدة وليد جمعة "الأعدقاء"، لأن الأمر ما يزال يحتاج إلى مصارحات ومكاشفات، بعيداً عن المجاملات والتسويات، ولن يكون ذلك دون مراجعات ونقد، ونقد ذاتي، بحيث تنعقد العلاقات على أساس متين مع ضمان حق النقد والاختلاف، مصحوباً بالاحترام لأفكار الغير، وهذا بتقديري لم يحدث، وإنْ حدث فلا يزال "نقراً في السطح وليس حفراً في العمق"، على حد تعبير المفكر ياسين الحافظ، والأمر لا يخصّ الإسلاميين وحدهم، بل إن الجميع مشمول به.
وعدا ذلك، فإن هناك تحديات كبرى تحول دون تحقّق فكرة الكتلة التاريخية، سواء بمعناها الغرامشي أو بالمعنى الذي نظّر إليه حسيب، لضعف الثقافة السياسية عموماً وشحّ مستوى الوعي، ناهيك عن عدم أهلية الكثير من القيادات وعدم رغبتها في تحقيق ذلك، وغياب حق النقد وقبول الآخر، فالقوى المرشحة للعمل في إطار الكتلة التاريخية حتى وإن أعلنت في الكثير من الأحيان استعدادها لقبول مثل هذا المشروع، لكنها لمجرّد اقترابها من السلطة أو حتى شمّ رائحتها سرعان ما تتحوّل إلى النقيض منه تحت حجج ومبرّرات مختلفة، وقد رأينا كيف استدارت لدرجة الجحود، العديد من القوى الإسلامية وعادت إلى مواقعها الإلغائية السابقة، بعد التغييرات التي حصلت في بعض البلدان العربية، فيما أطلق عليه موجة "الربيع العربي"، وكيف تنكّرت قوى لبعضها البعض بعد جبهات وطنية وتحالفات قيل عنها إنها ستكون استراتيجية؟ ولو راجعنا السبب الحقيقي وراء ذلك لاكتشفنا أنه يعود إلى القرب أو البُعد من السلطة "المُلك العضوض"، كما قالت العرب، ناهيك بادعاء الأفضليات، والزعم بامتلاك الحقيقة والسعي لاحتكار الحكم ومنع الآخر، حتى وإن كان حليفاً، من الوصول إليه أو المشاركة فيه، وفوق ذلك استمرار هيمنة الفكر الشمولي الإقصائي، السبب الجذري الأساسي في التعامل بازدراء مع الآخر.
وكنتُ وما أزال أعتقد أن الحوار ينبغي أن يأخذ شكلاً جديداً بين الماركسيين واليساريين عموماً، وبين التيار القومي العربي، بتوجهاته المختلفة، وهو ما سبق أن طرحته في مناسبات مختلفة، حتى وإنْ كانت هناك أسباب لما حصل بينهما من صراعات وتناحرات أدّت إلى تباعدهما، لكنه لا ينبغي أن يكون ثمة قطيعة بين التيارين المحوريين، كعامل موضوعي، إضافة إلى عوامل ذاتية أخرى، وخصوصاً أن كليهما ضعيف حالياً ويعاني تشظّيات وانشطارات، فضلاً عن وهن على الصعيد الفكري، وتعسّر القدرة الحقيقية على التجديد، عطفاً على ضغط الماضي بثقله وإخفاقه، ولا سيّما في الموقف من المسألة الديمقراطية وقضية الحرّيات، وحقوق الإنسان والإقرار بالتعدّدية والتنوّع.
وإذا أردنا مقارنة التيارين اليساري الماركسي والقومي العربي أو العروبي عموماً، مع  القوى التقليدية من خصومهما، فسنصل إلى استنتاجات مثيرة ليست لصالحهما، هذا إذا كانا متحدّين ومتعاونين، فما بالك إذا كانا متفرّقين ومتناحرين، أو بعيدين من بعضهما.
وحتى لو انحسر نفوذ التيار اليساري والشيوعي وهو ما حصل فعلاً، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وتقلّص نفوذ التيار القومي العربي بانهيار أو تراجع أو ضعف الأنظمة الداعمة له، فإنهما بغضّ النظر عن الأخطاء والنواقص والثغرات والممارسات السلبية، يمثّلان "إسمنت" الكتلة التاريخية، فيما إذا توفرت الشروط الأخرى، وهما جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة العربية المعاصر ومن تاريخ المنطقة ودولها، بما يحملانه من هموم، وبما يتمتّعان به من زخم، وما يعبّران عنه من ثقافة مدنية سلمية، الأمر الذي يتطلّب قراءة نقدية "إيجابية" لمساراتهما بتشخيص الأخطاء والنواقص والعيوب، والأهم من ذلك العمل على تجديد خطابهما ولغتهما، بحيث تستبدل الشمولية بالتعدّدية، والواحدية والإطلاقية بالتنوّع وقبول الآخر، وادعاء امتلاك الأفضليات وامتلاك الحقيقة، بالقدرة على رسم برنامج واقعي يستجيب لما حاصل من تطوّر، من خلال التعاون والعمل المشترك.
ولأن الحديث الذي ابتدأت به مراجعة الكتاب عن العدالة الانتقالية، يبدأ من الرياضة النفسية، فإن الهدف منه هو الوصول إلى المصالحة الحقيقية لإنجاز التغيير الديمقراطي، وقد واجهت تجارب الربيع العربي جميعها مثل هذه المسألة على نحو حاد، كما تفاوتت زوايا النظر إليها بين فقه القطيعة وفقه التواصل، وبين التشدّد والتّسامح، دون أن يعني ذلك نسيان ما حدث، بل العمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، لكي لا تتكرّر تجارب الماضي، وهكذا تكبر الحاجة إلى جبر الضرر والتعويض، ولا سيّما بعد كشف الحقيقة والمساءلة.
ولعلّ تجارب العدالة الانتقالية لها علاقة بالبعد أو القرب من دائرة العنف الذي شكّل معادلة طردية لفقه القطيعة ومعادلة عكسية لفقه التواصل. وهناك تجارب دولية مهمّة يمكن الاطّلاع عليها، مثل تجربة جنوب أفريقيا، وتجربة أوروبا الشرقية، وتجربة بلدان أمريكا اللاتينية، والتجربة المغربية وغيرها.
ونحن إذ نتناول فكرة العدالة الانتقالية، يمكن أن نقدّم الدكتور خير الدّين حسيب نموذجاً عراقياً وعربياً، ناهيك بكونه بحكم رمزيته وشخصيته ودوره نموذجاً عالمياً للتطهّر من أدران الحقد والانتقام والكراهية، والتعامل على نحو هادىء وعقلاني للتفكير: ماذا حصل وكيف حصل ولماذا حصل؟
والمهم هو فتح صفحة جديدة لتجاوز تدمير الآخر، فكل تدمير للآخر، سيكون تدميراً للذات، ومثل هذا التدمير لا يخصّ الآخر وحده، بل إنه سيدمّر النفس، وأي عنف ضد الآخر، هو عنف ضد الذات أيضاً بنزع إنسانيتها، ولهذا فإن خير الدّين حسيب بنظرته ذات المدلول التسامحي – الإنساني يريد أن يقول، لا لتدمير الذات مرّة أخرى، بلجوئها إلى الانتقام والثأر والكيدية، مثلما لا لتدمير الآخر، انتقاماً وثأراً ورد فعل، فمردود ذلك سيقع على الذات أيضاً بتدميرها الآخر، وفي حين يتم تدمير الآخر، فإن الذات تدمّر نفسها أيضاً، وكأن لسان حاله يقول: رذيلتان لا تنجبان فضيلة.
الهدف إذاً ليس نكء الجراح، ولكن المقصود هو تجاوزها، الذي لن يتم دون ممارسة رياضة نفسية، بكل ما تحمله من ألم وعذاب أحياناً، لكنها ذات معنى إنساني وحضاري من التحقّق والامتلاء والدلالة. وحسيب حين يتحدث فهو ليس فرداً، بل هو مجموع أو يعبّر عن ضمير، حتى وإن كان واحداً، وأستطيع القول، سواء من موقع الاختلاف أو الاتفاق، وبعد هذه المعرفة الطويلة والنقاش والجدل والحوار واختلاف زوايا النظر: إنه مكوّن إنساني، أكاديمي وثقافي وفكري: وطني وعروبي وعالمي، وهو مجموع في واحد، ممن أطلق عليهم صفة "المثقف الكوني" باستخدام إدوار سعيد.
والمثقف الكوني هو الذي يمثّل مبادىء كونية مشتركة، ويواجه خطاب القوّة بخطاب الحقّ، ويصرّ على أن وظيفته هي أن يُجبر نفسه ومريديه بالحقيقة التي يكون إخلاصه لها قبل كل شيء، وقد كان إدوارد سعيد، قلقاً بشأن اختفاء صورة المثقف هذه، حين يتحوّل إلى "مهني مجهول الهويّة"، في حين هو يريده "مقاوم" بفكره ونشاطه، هيمنة السلطات السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية.
وفي حين كانت فلسطين والعروبة والوحدة، الثلاثي الذي لا ينفصل عن كل أنشطة المركز، وتوجّهات حسيب بالذات، فمنها يبدأ وإليها ينتهي، فإن الكتاب، بأقسامه الثلاثة وفصوله الستة والثلاثين، تدور في ذات الفلك وتصبّ في نفس الهدف، ولو استعرضت عناوينها، ناهيك بمضامينها، سترى أن الرابط بينها خيوطاً حيكت من ذات النسيج، وحتى لو كان بُعدها عالمياً، فـ العرب هم الهدف، والوحدة وسيلة لتحرّرهم على الرغم من التجارب الفاشلة، بل هي ركن من أركان المشروع النهضوي العربي، إضافة إلى الديمقراطية التي تعزّز رصيدها بعد فشل التجارب العربية، والتنمية المستقلة، التي لا يمكن بدونها إحداث تغيير حقيقي في العالم العربي، وهي تنمية شاملة ومستدامة واجتماعية وذات بعد إنساني، ولا يمكن الحديث عن مشروع نهضوي عربي دون تحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك في إطار الاستقلال الوطني والقومي، باستلهام التراث، بما فيه من إيجابيات نحو المعاصرة، وصولاً للتجدّد الحضاري، وهي العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي.
ولأن حسيب مجموع، فهو يتناول في كتابه قضايا ذات إشكاليات فكرية وسياسية جامعة، عراقياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً، ففي القسم الأول يتناول تهديدات الخارج وتحديّات الداخل، ويتوقّف في هذا القسم عند تسعة فصول، لامست جانباً مهمّاً منها وهو فكرة الحاجة إلى كتلة تاريخية تجمع تيارات الأمة الرئيسية، مع إشارة خاصة للعراق.
أما القسم الثاني فيتكوّن من 14 فصلاً، ووضع له عنواناً صفحات من قضايا عربية، جاء فيه على وجدانيات مثل الكتابة عن رحيل بشير الداعوق ووداع عبد العزيز الدوري، وقد اشتبكتُ عند واحدة منها الخاصة بفكرة المثقف الكوني ومقولة غرامشي بخصوص "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، وفي هذا القسم توقفتُ عند الفصل الخاص بالعرب والعالم بعد الاتفاق النووي الإيراني، وهو يطرح سؤالاً حيوياً: ما العمل؟ كما بحث في فصل خاص المسؤولية الأمريكية بخصوص داعش، وهو فصل جدير بأن يأخذ حيّزاً واسعاً من النقاش، ففيه رؤية ومعرفة ومعلومات وتحليل واستنتاجات.
أما القسم الثالث فهو بعنوان: "حول شؤون الأمة" وضمّ 13 فصلاً. وركّز غالبيتها عن العراق، سواء بما له علاقة بالجانب الاستراتيجي المتعلّق بالاحتلال أو بالمأزق العراقي أو ما يتعلق بما بعد انتخابات العام 2010.
ويطرح خير الدّين حسيب في كل كتاباته وأبحاثه وحواراته المتلفزة حول العراق خطة سياسية بعيدة المدى، كان قد قدّم قراءاتها الأولى في نشاط فكري واسع لإعداد دستور عابر للطائفية وقانون انتخاب عصري وقانون أحزاب تقدمي، ومواقف ناضجة من مسألة النفط والقضية الكردية والإعلام والجيش والتنمية بشكل عام، وذلك في ما يتعلّق بسبل الخروج من الاحتلال، وما يتبعه من عملية سياسية قامت على المحاصصة الإثنية – الطائفية، وكان قد توقّف في بحث منفصل عند موضوع العرب والاستحقاقات التاريخية، المصارحة والمصالحة وهذه تحتاج إلى مراجعات مستقلّة بخصوص اليمن وليبيا وسوريا ومصر وتونس ولبنان.
والكتاب وما يعرضه يُريك شخصية حسيب عن كثب، فبقدر ما فيه من العناد والصلابة والثبات والحدّية، ففيه من التّسامح واللّيونة والمرونة والانفتاح، وبخاصة إذا ما شعر أن الأمر يتعلّق بالمستقبل وبمصلحة الأمّة ومشروعها الحضاري.
ولأنني ابتدأت بداية غير تقليدية في تقريض الكتاب، فذلك لأن كاتبه شخصية استثنائية، ولهذا لا يمكن تقريض كتابه أو الإحاطة به، ولا سيّما بما قبله دون الذهاب إلى الكاتب بطبيعة الحال، فما بالك إذا كان هذا الكاتب إشكالياً ومتعدداً لدرجة لا يمكن جمعه، فهو عالم اقتصاد وأكاديمي متمرّس ومفكّر ذو عقل رؤيوي واستراتيجي، لا ينظر للقضايا إلاّ بارتباطها ببعضها وبما حولها، ولا يبحث في الظواهر إلاّ بعلاقاتها المعقّدة والمتشعّبة، وبقدر ما يشعر بثقل الحاضر وبالخيبة والمرارة، فإن ثقته بالمستقبل وبالمشروع النهضوي العربي الحضاري لا حدود لها.





415
في التنوّع الثقافي وملحقاته!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
إذا كانت المنطقة العربية تزخر بالتنوّع الثقافي بمختلف أشكاله ومضامينه، سواء كان تنوّعاً دينياً أو إثنياً أو سلالياً أو لغوياً، فإن هذا التنوّع كان مصدر قوة وثراء وإبداع لا حدود لهما في الماضي، أمّا اليوم فإنه أصبح مصدر قلق ونزاعات وحروب، لا سيّما بصعود موجات التعصّب والتطرّف، التي نجم عنها عنف وإرهاب لا مثيل لهما.
وقد كان "التنوّع والمشاركة والتسامح" عنوان لقاء فكري وثقافي وحقوقي التأم في "البرلمان اللبناني" في بيروت، بمشاركة أربع جهات فاعلة: أولاها – "الاتحاد البرلماني العربي"، الذي سبق له أن قرّر في مؤتمره الثالث والعشرين المنعقد في القاهرة 10 – 11/أبريل (نيسان) 2016 "ضرورة الوقوف بوجه التطرف وانعدام التسامح والتشجيع على ثقافة السلام والحوار".
وثانيتها – "مركز الديمقراطية وبناء السلام" الذي يتّخذ من إيرلندا الشمالية مقرّاً له ويترأسه اللورد الدردايس بصفته رئيساً لحزب التحالف في إيرلندا الشمالية، والذي قاد المفاوضات التي أدّت إلى التوصل إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" الشهير العام 1998، وهو طبيب نفسي استشاري في بلفاست.
وثالثتها – "مؤسسة ويستمنستر حول الديمقراطية"، التي لها تجربة غنيّة في نشر الوعي بثقافة الديمقراطية.
ورابعتها – "الشبكة العربية للتسامح" التي تضم شخصيات عربية وازنة، ونظمت على مدى أكثر من ثماني سنوات فعاليات وأنشطة متميّزة لنشر ثقافة التسامح واللاّعنف.
وإذا كان التنوّع لا يعني الاختلاف والتمايز بأنواعهما فحسب، بل إنه يشمل الإقرار بحق المغايرة، وهذا هو الأهم، إضافة إلى اعترافه بمبادىء المساواة والمواطنة والحقوق الإنسانية المتساوية. أما المشاركة، فتعني الإقرار بحق الاختلاف، أي أن الآخر هو إنسان يشترك في الإنسانية والحقوق مع غيره، لذلك لا ينبغي التمييز أو الإقصاء أو التهميش ضده، لأي سبب كان، سواء كان دينياً أو إثنياً أو لغوياً أو سلالياً أو بسبب اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو غير ذلك. في حين أن إقرار مبادىء التسامح، هو اعتراف مسبق بوجود الاختلاف، وأن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وذلك وجه آخر للمساواة والتمسّك بالحقوق وقبول الآخر.
ويواجه التنوّع في العالم العربي اليوم تحدّيات عديدة ومتنوّعة، فوجهه الأول إيجابي، والمقصود به التنوّع في إطار الوحدة، والآخر سلبي، وهو الانغلاق والتعصّب والميل إلى التباعد والعزلة، ويعود ذلك في أحد أسبابه إلى الاضطهاد والعزل الذي تعرّضت له مجاميع ثقافية، دينية أو قومية أو لغوية أو غيرها.
وهكذا يكون التنوّع مع الوحدة في مواجهة للتذرّر مع الانعزالية، مثلما تكون الشمولية والوحدة مع الحفاظ على الخصوصية، مواجهة الانقسامية وضيق الأفق، ذلك أن عدم إقرار التنوّع والتنكّر لأسس المشاركة وازدراء التسامح، سيؤدي إلى تهديد الوحدة مثلما يشجّع على الانغلاق، بإضعاف العناصر الجامعة لهويّة المجتمع وللمشترك الإنساني، وقد يقود ذلك إلى نزاعات وحروب تعود بالسلب على الجميع، مثلما تسهّل على القوى الخارجية استغلالها والتدخل بشؤونها تحت عناوين مختلفة.
وحسب توماس هوبز يمكن للحرب الأهلية أن تتحوّل إلى نوع من التدمير الذاتي، لأن العنف لا يدمّر الآخر فحسب، بل يدمّر الذات، وإذا ما استفحل فإنه سيقوّض مقومات التنمية ويسهم في زعزعة السلام والأمن، ويكون بيئة خصبة لانتشار الجريمة والفساد المالي والإداري وكل ما يتعلّق بخرق حكم القانون وتعطيل الحياة المدنية والسلمية الطبيعية.
ولو عدنا إلى معرفة الكثير من أسباب الحروب والنزاعات الأهلية، لوجدنا أنها تكمن بالدرجة الأساسية بعدم الإقرار بالتنوّع الثقافي والتنكّر لمبدأ الشراكة والمشاركة وعدم الاعتراف بمبادىء التسامح، وحسب الفيلسوف الفرنسي فولتير، إن البشر خطّاؤون، لذلك علينا أن نسامح بعضنا بعضاً، وعلينا القبول بمسافة منتصف الطريق، لأن التعصّب لن ينتج إلاّ منافقين وعصاة.
لقد قادت نزعة ادعاء الأفضليات أو الزعم بالتفوق أو احتكار الحقيقة أو غير ذلك من المبررات إلى التسلّط والهيّمنة وعدم قبول الحق في الاختلاف، وبالتالي عدم قبول الآخر، وأدّت هذه إلى انهيار العلاقات الإنسانية، سواء باسم الدين أو القومية أو المذهبية أو الآيديولوجية أو الجنس أو اللون أو اللغة أو الأصل الاجتماعي، في حين أن البشر يُخلقون متساويين، ولا سيّما في الكرامة الإنسانية.
لقد بيّنت الكثير من التجارب العالمية لبناء السلام ومنها تجربة إيرلندا الشمالية الغنيّة جداً، أن الحوار وسيلة فعالة وناجعة للوصول إلى السلام، حيث استمرت المفاوضات أكثر من 30 عاماً، حتى تم التوصل إلى الاتفاق بإنهاء النزاع المسلح، كما تعكس تجربة الحوار الكولومبي المضنية درساً مهمّاً على هذا الصعيد، فقد دام الحوار أربع سنوات حتى تم التوصل إلى وقف الحرب الأهلية التي استمرت 52 عاماً، لذلك استحق عليها الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، جائزة نوبل، وكان النزاع المسلح قد أودى بحياة ما يزيد عن 220 ألف مواطن، وهدر طاقات البلاد وإمكاناتها، وتعطيل التنمية وتخريب البيئة.
لعلّ دراسة تجربة أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وتجارب أوروبا الشرقية، بخصوص الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية، ستكون مفيدة للعديد من البلدان العربية التي تواجهها مثل هذه المشاكل، والهدف هو الاستفادة من هذه التجارب، مع أن لكل بلد خصوصياته، فتجربة المغرب للعدالة الانتقالية تختلف عن تجربة تونس، مثلما تختلف تجربتي بولونيا وهنغاريا عن تجربة ألمانيا الديمقراطية، وهكذا.
إن إقرار التنوّع يحتاج إلى توافق مجتمعي، سياسي أولاً وقبل كل شيء، ثم توافق دستوري وقانوني، إضافة إلى توافق قيمي، عبر المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية وغيرها، وهو ما يوفر الأرضية المشتركة والمتوازنة لمبادىء الشراكة التي تحمل في ثناياها قيم التسامح والاعتراف بالآخر، وهو أمر يتطلّب إدماج الشباب فيه على نحو كبير، إضافة إلى تعميم فكرة التربية على الحوار وقبول الاختلاف والتنوّع، وكل ما له علاقة بالمصالحة مع الذات، قبل المصالحة مع الآخر، لأنها ستكون الجسر المؤدي للتفاهم مع الغير والمختلف.
لا أظن أن مثل هذه القضايا يمكن الحصول عليها من خلال الكتب والقراءة وحدهما، بل يحتاج المرء إلى التجربة العملية التي تفترض التعايش المشترك، إضافة إلى الحوار الهادف، ولذلك كان أحد قرارات الملتقى، هي التحضير لمؤتمر يشارك فيه برلمانيون وأكاديميون وتربويون ورجال دين ومؤسسات مجتمع مدني وفاعلون سياسيون، للبحث في قضايا التنوّع الثقافي، القومي والديني.




416
حكيم الحكّام من قاسم إلى صدام
ثلاث لقطات مثيرة في مذكرات الدكتور فرحان باقر(*)
عبد الحسين شعبان
أكاديمـي ومفكّـر عربي
حين أهداني الدكتور فرحان باقر، الطبيب الاختصاصي الكبير في الأمراض الباطنية كتابه: (حكيم الحكّام: من قاسم إلى صدام)، قرأته باستمتاع شديد، وكنت قد عزمت العقد للكتابة عنه، ودوّنت بعض الملاحظات، لا سيّما ما ورد فيه من لقطات مثيرة، لكنني فقدتها في زحمة كتب ومشاغل وأسفار وهموم وأمراض.
وحين دعاني في المرّة الثانية على العشاء في مطعم بأبو ظبي بصحبة الدكتور كوثر الواعظ طبيب الأسنان والشخصية الوطنية العراقية، قرّرت إعادة البحث عن الملاحظات أو إعادة قراءة الكتاب مرّة أخرى للإضاءة عليه. إنه كتاب بقدر ما هو تلقائي وعفوي بامتياز، فهو عميق وغني بالمعلومات والحقائق، ناهيك عن أنه يعكس تجربة إنسانية في غاية الدقة والحساسية، لا سيّما إذا أخذناها بسياقها التاريخي ارتباطاً بظروف البلد العامة والسريّة المطبقة التي كانت تحكمه.
يضاف إلى ذلك أن للدكتور فرحان باقر مقام خاص، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو الأكاديمي، وهو ما أقدّره حق قدره، وبعد كل ذلك أن الكتاب احتوى على حوادث مثيرة ومعلومات خاصة عن حياة وسلوك الرؤساء، وقد وددتُ أن أشرك القارىء في متعة الاطلاع عليها، والاستمتاع بها من جهة، ومن جهة أخرى توخّيت الفائدة التي يمكن أن يتحصّل عليها القارىء والمتلقي من علاقة طبيب برئيس، بما تحمله هذه من تناقض في بلد مثل بلدنا، وفي ظل أنظمة مثل أنظمتنا.
وكنتُ قد كتبت عن علاقة الشاعر الجواهري بالزعيم عبد الكريم قاسم تحت عنوان: "الزعيم مرافقاً للجواهري" حين التقاه لأول مرّة في لندن العام 1949 وعن علاقة الشاعر أدونيس بعبد الفتاح إسماعيل رئيس اليمن الجنوبية، الذي قدّم له ديوانه، وعن علاقة الروائي ماركيز بالزعيم الكوبي كاسترو، وعلاقة الأديب والمنظّر أندريه مالرو بالزعيم الفرنسي ديغول، وعلاقة الروائي الروسي غوركي بلينين، فكيف كانت علاقة الطبيب بالرئيس؟
ومهما كانت أسباب هذه العلاقات ودوافعها، فإنه لا يمكن النظر إليها من زاوية ندّية أو صداقية بحتة، حين يكون أحدهم على رأس السلطة، والآخر "مجرد" أديب أو مفكّر، فالعلاقة مع إيجابياتها، لكنها ستفتقد لعنصر التكافؤ وهو أساس كل علاقة سويّة. قد تكون الصداقة بالطبيب مختلفة، وحسبي ما أقوله إنه "الدكتاتور" الوحيد الذي لا أعارضه، بل أمتثل بكل قناعة لحُكمه وأنصاع بكل أريحية لتعليماته، فـ"دكتاتوريته" محبّبة لا تستوجب المقاومة أو الرفض.
عدتُ إلى ملاحظاتي ووجدتها ما زالت طازجة وتحتفظ بطراوتها وحيويتها، وهو ما أحاول أن أدوّنه هنا من لقطات ثلاث لها دلالاتها ومعانيها:
اللقطة الأولى – اعتقال عبد الرحمن البزاز، حسبما يروي كبير الأطباء فرحان باقر الذي كان الطبيب الخاص للرئيس أحمد حسن البكر، أن الدكتور مكي الواعظ، لم يتمكّن حينها من إيصال الدواء والعلاج اللازمين إلى الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق الأسبق لمرتين: الأولى (في أيلول / سبتمبر 1965) والثانية (في نيسان / أبريل 1966)، بعد سقوط طائرة الرئيس الأسبق عبد السلام محمد عارف، وقد قدّم استقالته بعد أن تعرّض إلى ضغوط كثيرة من جانب العسكريين في (6 آب /أغسطس 1966) في عهد الرئيس عبد الرحمن محمد عارف.
وكان البزاز وهو أحد فقهاء القانون حينها، معتقلاً بعد انقلاب العام 1968 في ظروف سيئة. وعند زيارة فرحان باقر للرئيس البكر يقول: كنت منزعجاً أيّما انزعاج، وحين سألني عن سبب تجهّمي قلتُ له: يا سيادة الرئيس، إن إيصال الدواء هو من أبسط حقوق المعتقل، ليس هذا فحسب، بل إن طاقم أسنان البزاز الاصطناعية كانوا قد حرموه منها أيضاً، ويضيف قلت له: يا سيادة الرئيس ليس لي علاقة بالتحقيق، وما سيقوله القانون، (ولا أتدخّل في ذلك)، ولكن الأمر بالنسبة لي، أنظر إليه كطبيب ومن زاوية إنسانية بحتة وتلك هي مهنتي. (حديث خاص في أبو ظبي مع فرحان باقر، العام 2013).
ويضيف باقر في روايته: أن البكر فوجىء بتلك الأخبار، وقرّر جلب البزاز إلى القصر الجمهوري لفحصه، وهذا ما حصل، وحسب باقر يبدو أن الرئيس البكر لم يكن يعلم ما يجري في المعتقلات، وتكرّر الأمر مع أستاذ جامعي آخر، كما يقول، وهو استنتاج يؤكّد أن الأمن والمخابرات كانت "دولة داخل الدولة"، فهي فوق الحزب الحاكم، بل إنها بالتدريج أخذت تدير حتى الحزب بدلاً من أن تخضع إليه، وهي التجربة ذاتها التي عاشتها البلدان الاشتراكية السابقة وجميع البلدان ذات الأنظمة الشمولية.
وقد سمعت من عامر عبد الله الوزير الشيوعي (1972 – 1978) قصصاً عجيبة، بما فيها حين أصبح لبعض الوقت وزيراً للداخلية بالوكالة، وقد نقل لي شبيب المالكي، أن بعض المتشدّدين كان قد اعترض على كون عامر عبد الله وزيراً للداخلية بالوكالة لخطورة المسألة، فما كان من البكر إلاّ وأنْ خاطبهم بغضب: الجماعة معنا، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ وكان عامر عبد الله قد حاول تخفيف أحكام الإعدام التي صدرت بحق ظافر حسن النهر وأربعة من رفاقه من جماعة "جيش التحرير الشعبي" ومن بقايا القيادة المركزية، ووعده البكر خيراً، إلاّ أنه عند المراجعة الثانية، اتّضح أنهم أعدموا بعد لقائه ومحاولته الأولى مع البكر (العام 1974).
ويستنتج باقر أن المخابرات (ما يسمى يومها العلاقات العامة هي امتداد لجهاز حُنين السرّي، وهو جهاز صدامي) أصبحت ومعها الأمن تحت إدارة صدام حسين (النائب حينها)، ويضاف إليها مكتب الإعلام القومي، وأن البكر كان يتصل بنائبه ليطلب منه المساعدة لحل هذه القضية أو تلك (ص 44 – 46 وص 60)، وحسبما هو معروف، ليس كل ما كان يطلبه البكر كان يتم تنفيذه، وتدريجياً أصبح يسمى صدام حسين، "الرجل الأقوى في الحكم"، حتى حان الوقت ليكون "الرجل الأول" في العام 1979.
وقد سبق أن روى لي صلاح عمر العلي عضو مجلس قيادة الثورة سابقاً وعضو القيادتين القطرية والقومية، قصة تعذيب وزير الصحة السابق شامل السامرائي، وهي التي كانت إحدى أسباب الخلاف والاحتكاك بينه وبين القيادة، وأنه طلب التحقيق بشأنها، وتم تشكيل لجنة وجيء بالسامرائي إلى القصر الجمهوري، وكان في اللجنة طه ياسين رمضان (الجزراوي)، وفي اجتماع للقيادة قدّم تقريره بأن السامرائي أجاب بنفسه أنه لم يتعرّض للتعذيب، وهكذا كانت تسير الأمور (حديث خاص مع صلاح عمر العلي – لندن 1990).
اللقطة الثانية – زيارة غريشكو وزير الدفاع السوفييتي إلى بغداد، حسبما يروي فرحان باقر أن الجنرال أندريه غريشكو وزير الدفاع السوفييتي تقرر أن يزور العراق (بغداد) في أيار (مايو) 1972. وأعتقد أن التاريخ الدقيق هو العام 1971، وقد ارتبط هذا التاريخ بذاكرتي باعتقال ثابت حبيب العاني بعد خروجه من اجتماع كان قد ضمّه مع عزيز محمد (عن الحزب الشيوعي) في بيت مظهر المطلك، وصدام والرئيس البكر (عن حزب البعث) في مفاوضات بخصوص حلحلة بعض القضايا، ولا سيّما بعد حملة الاعتقال التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية بعد بيان آذار (مارس) العام 1970، وقد رويت حادثة الاعتقال وملابساتها في كتابي عن عامر عبد الله "النار ومرارة الأمل – فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، ودقّقت المسألة لأكثر من مرّة مع منذر المطلك خلال زيارتي إلى عمّان، وهو من قام بإيصال ثابت العاني (أبو حسّان) بسيارته إلى منطقة الكرادة بعد انتهاء الاجتماع، ولكن الخاطفين الذين كانوا يتابعون السيارة، اطمأنوا إلى أن العاني ترجّل منها وأنها ابتعدت عن المكان، فقاموا باختطافه ونقله إلى "قصر النهاية" ليتعرّض إلى أبشع تعذيب. (1 أيار/ مايو/ 1971).
وكنت قد وصلت براغ قبل فترة قصيرة، وكُلفت حينها بترؤس وفد من الشيوعيين العرب لمقابلة السفير العراقي في براغ، احتجاجاً على اعتقال ثابت حبيب العاني، في حملة نظمناها في الخارج، وهو ما رواه السفير محسن دزئي في مذكراته أيضاً، وقام بنقل صورة عن مذكرتنا الموجّهة للرئيس البكر، إلى وزارة الخارجية العراقية، وقال إذا لم يكن لديكم مانعاً، فسأنقل صورة عنها إلى الملاّ مصطفى البارزاني، فرحّبنا بذلك.
كان من المؤمل أن يزور أندريه غريشكو بغداد، لكن الزيارة تأجّلت، وفهم الجانب العراقي أن السبب هو اعتقال ثابت حبيب العاني عشية الزيارة، ووعد بإطلاق سراحه، وهو ما حصل عند زيارته فعلاً، وسافر العاني بعدها للعلاج من اثر التعذيب الذي تعرّض له.
وهنا حصلت المفارقة التي يتحدّث عنها فرحان باقر، فقد أصيب غريشكو بمرض مفاجىء عند قدومه إلى بغداد (أيار / مايو/ 1971) وكان الرئيس البكر قد أسند علاجه إليه، في ظرف سرت فيه شائعات كما يقول عن تسميمه، ولذلك اهتم به المسؤولون العراقيون كثيراً وعلى نحو مبالغ. ويقول باقر: إن المرض انحسر خلال 72 ساعة (ص 69).
اللقطة الثالثة – سفر الرئيس البكر إلى جنيف، ويروي فرحان باقر قصة سفر الرئيس البكر إلى سويسرا، وحسب روايته: أن البكر هاتفه وأعلمه بنيّـته السفر إلى جنيف للاستشفاء والاستجمام، منتهزاً وجود صهره السيد منذر المطلك سفيراً للعراق، وعرض عليه رغبته في مرافقته، علماً بأنه كان ينوي السفر إلى براغ مع عائلته كما يقول للعلاج، واتفقا على اللقاء في جنيف حسب قول فرحان باقر.
وقد سألت منذر المطلك عن زيارة البكر إلى سويسرا، وروى ما يلي: اتصل بي (عمي) الرئيس البكر شخصياً من بغداد، وقال: أنا أحضّر حقائبي للسفر إليكم، وكانت هذه هي السفرة الأولى (تموز/ يوليو العام 1982)، ومكث فيها شهراً كاملاً في جنيف. أما السفرة الثانية، فإنها لم تتم، حيث يقول المطلك: اتصل بي عدنان خير الله وزير الدفاع في حينها، وقال لي: (عمّنا) في وضع صحي سيّىء جداً، وكنّا ننوي إرساله بطائرة خاصة إليكم، لكن الرأي استقرّ على استقدام أطباء له من بريطانيا، خصوصاً بارتفاع نسبة السكر في الدم، ويمضي إلى القول إن هؤلاء جاؤوا فعلاً، ولكنه توفي بعد فترة قصيرة. وبالمناسبة فقد توفي البكر في شهر تشرين الأول (أكتوبر) العام 1982.
وكانت قد سرت شائعات في حينها عن ضغوط كان قد تعرّض لها الرئيس البكر، بسبب اعتقاد أن الجيش ما زال يميل إليه، وبما أن العراق في حالة حرب، بل في مأزق، خصوصاً بعد معركة المحمّرة "خرمشهر"، وانسحاب القوات العراقية (في أيار/ مايو، العام 1982)، فلا بدّ من التفكير في حلول ومعالجات من شأنها أن تستجيب للتغييرات الحاصلة. وهو ما دفع الدكتور رياض إبراهيم حسين وزير الصحة الأسبق، إلى تقديم اقتراح يمنح البكر دوراً في المشهد السياسي، لا سيّما وأن نفوذه في الجيش كبير، والهدف هو استقطاب العسكريين وزيادة حماستهم، كأن يكون أميناً للقيادة القومية بدلاً من ميشيل عفلق، وهو الاقتراح الذي أودى بحياته كما قيل، فقد تمّت تصفيته في ظروف غامضة ودون تهمة محدّدة، ومرّت "الفعلة" بصمت ودون أي سؤال عن مصيره. وكان رياض إبراهيم حسين هو المشرف على علاج البكر في حينها، لكنه استبدل على نحو مفاجىء ليكون بدلاً عنه الدكتور صادق علوش.
وحسب رواية فرحان باقر أن هواجساً كانت تقف وراء استبدال سفر الرئيس بتوفير العلاج له في بغداد، باقتراح من الرئيس صدام حسين. وأياً كانت الدوافع، فإن البكر لم يسافر، كما روى المطلك، ولكن للقصة ذيول أخرى، حيث يقول فرحان باقر: لكنني مضيت في خططي للسفر، فاتجهت حسب الحجز إلى المطار، وإذا بي أفاجىء بمنعي من السفر، الأمر الذي يعني أن هناك من كان يتنصّت على مكالماتي مع الرئيس البكر ولا يريدني السفر معه.
وعلِمَ الدكتور فرحان باقر لاحقاً أن جواز سفره موجود في دُرج الرئيس صدام حسين، وذلك من خلال سكرتير رئيس مجلس قيادة الثورة طارق حمد العبد الله، الذي قضى منتحراً في العام 1986، وهو ما دوّنه الصحافي ليث الحمداني في كتابه "أوراق من ذاكرة عراقية – هوامش من سيرة صحافية" (الصادر عن مطابع دار الأديب، عمان، 2016)، والعبدالله هو من قام بإعادة جواز سفر فرحان باقر إليه بعد حين. (حديث خاص مع فرحان باقر في أبو ظبي، العام 2013 وآخر مع منذر المطلك في عمان 2007)، كذلك انظر: (ص 88 – 91 من كتاب فرحان باقر).
وبعد، فالكتاب بكل ما فيه يُقرأ من الغلاف إلى الغلاف بمتعة حقيقية، وهو عبارة عن سردية جميلة لعراق الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات، في مجالات مختلفة من الطب إلى التعليم ومن الاجتماع إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى الإدارة، ومن الشارع إلى الرياسة، وهو مكتوب حسب قناعتي بلغة شفافة ورقيقة وتكاد تكون عفوية، مثلما هو مكتوب بكثير من التهذيب والأخلاقية.
إنه كتاب يستحق القراءة لشخصية تستحق التكريم والاحتفاء، والدكتور فرحان باقر، قدّم زهرة شبابه وعلمه وجهده للعراق، ورغم شيخوخته فما زال حالماً بأيام أكثر أمناً وسلاماً وعدلاً.




417
ترامب بين الشعبويّة والنخبويّة!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
بعد صدمة الانتخابات الأمريكية وفوز دونالد ترامب، انتشر اللّون الأحمر، وهو لون "الحزب الجمهوري" على مواقع كثيرة من الخريطة السياسية للولايات المتحدة، وانحسر إلى حدود معيّنة الجدار الأزرق بخسارة هيلاري كلينتون مرشّحة الحزب الديمقراطي.
الرئيس الجديد المنتخب "الخامس والأربعون"، البالغ من العمر 70 عاماً، هو تاجر عقارات كبير، وهو من خارج المؤسّسات والنّخب التقليدية والسياسية الأمريكية، وقد استطاع بخطابه الشعبوي دغدغة عواطف الفئات المهمّشة والأكثر فقراً في المجتمع، إضافة إلى الطبقة المتوسطة، وجميع المتضرّرين من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة العام 2008، وهو الذي جعله يكسب الانتخابات في تخطّيه العتبة الانتخابية المقرّرة 270 صوتاً لضمان الفوز إلى 306 صوتاً في حين حصلت منافسته على 218 صوتاً.
ويأتي هذا الفوز العاصف والمفاجىء لترامب خارج الكثير من التوقّعات واستطلاعات الرأي وانحياز الكثير من وسائل الإعلام المسبق ضدّه، وقد كانت الحملة الانتخابية هي الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، لما شهدت من انحدار في مستوى المناظرات وما اتّسمت به من بذاءات وشتائم وتركيزها على الفضائح والاتّهامات، بدلاً من التنافس في البرامج والخطط وتقديم ما هو أصلح للناس.
الهزيمة تبدو مجلّجلة ليس لهيلاري كلينتون فحسب، بل للنُّخب الحزبية المتحكّمة بالحزبين الأساسيين، اللّذين طبعا الحياة السياسية على مدى قرنين ونيّف من الزمان، خصوصاً وأن ترامب اعتمد على شعبويّـته الشخصية وخطابه التهريجي، متحدّياً المؤسسة التقليدية برمّتها، بما فيها الحزب الجمهوري، حيث كان في معارضته التيار المحافظ داخل الحزب، لكن فوزه سيكرّس الحزب كقائد للبلاد دون منازع، وربما لأوّل مرّة بهذه القدرة الشاملة، فهو يمتلك الأغلبية في مجلس الشيوخ، وكذلك في مجلس النواب، والأغلبية مكفولة له في المحكمة العليا، وزاده وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وقد تعيد هذه الهيمنة إلى الأذهان فترة ذهبية عاشها الحزب الجمهوري خلال رئاستي رونالد ريغان وجورج بوش (الأب) من العام 1981 وحتى حرب الخليج الثانية 1990 – 1991، والتي عُرفت بما سمّي "بالنظام العالمي الجديد" وانهيار الكتلة الاشتراكية.
والسؤال الآن: هل ستبقى الشعبويّة التي صبغت آراء ترامب المرشّح وخطبه النارية، تحكم سلوك ترامب الرئيس، أم أنه سيتمّ التخلي عنها، سواء برغبة أو بحكم الضرورة والمسؤولية؟
سينتظر ترامب حتى حلول (يناير/ كانون الثاني القادم 2017)، ليتم نقل السلطة إليه رسمياً، ويتولّى إدارة البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة، فهل سيعيد النظر بخطابه كمرشح ليقدّم خطاباً جديداً كرئيس؟ وهل ستبقى الشعبوية تحكم تصرفاته أم أنه سيعود إلى النخبوية السياسية التي حكمت إدارات البيت الأبيض بحكم عدد من الاعتبارات، منها مسؤولياته الكونية ومراعاته لمصالح الاحتكارات العالمية، ولا سيّما للمجمّع الصناعي الحربي، خصوصاً حين يطّلع على ملفات الأمن القومي وقضايا المؤسسة الحاكمة ودور الـCIA والعلاقات الدولية المعقّدة، وخصوصية العلاقة بالحلفاء؟
فهل سيتغلّب ترامب الرئيس على ترامب المرشّح؟ أي هل سينقلب ترامب رجل الأعمال المتمرّد والمشاكس الشعبوي المحتجّ والمحرّض المستفزّ، إلى ترامب النخبوي المسؤول والحاكم والمعني بمسؤوليات كبرى إزاء السياسة العالمية؟
وماذا سيبقى من ترامب المرشح، الذي تحدث بلغة إقصائية ضدّ المسلمين وهدّد بمنع دخولهم للولايات المتحدة مؤقتاً؟ هل سيتشبّث بذلك أم أن علاقاته بـ57 دولة إسلامية، ونحو مليار و600 مليون مسلم ستفرض عليه نمطاً آخر من التصرّف؟ ويبدو أن الاحتمال الثاني هو الذي سيتغلّب، وإن بقي موقفه معادياً "للراديكالية الإسلامية" كما سمّاها، فقد رفع موضوع منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة (مؤقتاً) من موقعه الألكتروني بعد فوزه، مؤكّداً أنه سيضع مصالح أمريكا في المرتبة الأولى، وسيسعى لقواسم مشتركة مع الأمم الأخرى، وقال: سنتفاهم مع كل الدول الأخرى التي لديها رغبة في التفاهم معنا، ولن نسعى للعداء.
إذا كان ترامب شعر بالقوّة من خلال خطابه الشعبوي واستخدامه لغة غير معتادة، سواء لإدهاش من يدعمونه أو لاستفزاز من يكرهونه، فإنه أدرك أنه الأقرب إلى نفسية الشعب الأمريكي، وخصوصاً للرجل الأبيض الذي شعر بحاجة للتغيير، وقد ذاق ذرعاً إزاء سياسات آل بوش وآل كلينتون اللذان هُزما أمام ترامب، ومعهما هُزم باراك أوباما، الذي تطوّع وقرينته ميشال ترامب بالترويج لهيلاري كلينتون في حملتها الانتخابية.
فكيف سيتصرّف ترامب على صعيد السياسة الداخلية فيما يتعلّق ببرنامج التأمين الصحّي الذي عرف باسم "أوباما كير Obama Care" وتحديد نسبة الفائدة، وإزاء مخصّصات التعليم والصّحة؟ ثم على الصعيد الخارجي، ماذا عن دعوته: إلغاء الاتفاقيات الدولية والعلاقة مع إيران، لا سيّما البرنامج النووي الإيراني؟ وكيف سيتعاطى مع "خيار الدولتين" التي قالت عنه "إسرائيل" بعد فوزه، إنه سقط وطالبته بتنفيذ وعوده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة أبديّة لدولة "إسرائيل".
ثم كيف سيطبّق موضوع تقليص الهجرة وطرد عشرة ملايين لاجىء غير شرعي من الولايات المتحدة؟ وإذا كان ترامب قد وضع في أولوياته محاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، فكيف سيتصرّف إزاء سوريا والعراق واليمن وليبيا، وهي بلدان ملتهبة بصراعات داخلية وتداخلات خارجية؟ وإذا كان لا يريد الخوض في حروب، فكيف سيتعامل مع روسيا وإيران ودول الخليج؟ ثم كيف سيعاقب الصين ويحدّ من نفوذها الاقتصادي؟ وبعد ذلك كيف سيتعامل مع حلفائه في حلف شمال الأطلسي، هل سيستمرّ بشطحاته حين قال: عن بلجيكا إنها قرية في أوروبا؟ في حين أن بروكسل هي مقرّ الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو الأمر الذي يحتاج منه إلى معرفة بالسياسة وبأوروبا وتاريخها تحديداً؟
وهل سيبقى على مطالبته المكسيك دفع كلفة بناء الجدار العازل بينها وبين الولايات المتحدة، والذي طوله 1600كم؟ وهل سيستمر بازدراء اللاتينيين؟ وهل ستبقى نظرته للعرب والخليج بشكل خاصّ نظرة استعلائية، في حين يعبّر بفجاجة وعدم لياقة دبلوماسية عن أطماعه في نفوطهم وأموالهم؟
هذه أسئلة ربما سيوجّهها ترامب الرئيس (النخبوي) إلى ترامب المرشح (الشعبوي)، وسيتوقّف على جواب المرشّح، للرئيس تحديد مسار ولايته، بل والعالم أيضاً، وإلاّ فإن الإمبراطورية الأمريكية قد تنتهي هي نفسها إلى التفتّت، وحتى لو كانت هناك إرهاصات بخصوص مطالبات باستقلال كاليفورنيا، وهي من الولايات الغنية جداً، ويبلغ عدد نفوسها نحو 34 مليون نسمة، فلا ينبغي التعاطي معها باستخفاف، إذا ما استمرّ ترامب في تطبيق برنامجه الانتخابي بطريقته الفوضوية، التي قد تُفقد واشنطن حلفائها، الأوروبيين واللاتينيين والشرق أوسطيين، ولن تحقّق "عظمة" أمريكا التي يتحدّث عنها.


418
الأمل.. في الطريق إلى لياج!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
لا أدري كيف وجدتُ نفسي في مدينة سوون Suwon الكورية، وأنا أستعيد قصيدة الشاعر أحمد رامي التي غنّتها كوكب الشرق أم كلثوم، لأدندن بها في ذلك الجوّ الخريفي المنعش:
"بالأمل أسهر ليالي / في الخيال/ وابني علالي/واجعلك فيها نديمي/ واملكك ليلي ويومي"
قد تكون تلك الاستعادة اللاّشعورية، جاءت بوحي من عنوان المنتدى العالمي للإنسانيات WHC الموسوم بالأمل “The Humanities of Hope”، والذي يعقد جلسة تحضيرية له وطاولة مستديرة في كوريا، تمهيداً لالتئامه في مدينة لياج Leige (البلجيكية) في أغسطس (آب) العام 2017.
المنتدى الذي تنظمه منظمة اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، سيحضره أكثر من 1800 مشارك من مختلف أنحاء العالم، من العاملين في مجالات العلوم والسياسة والفن والاتصال وفروع الإنسانيات المختلفة، وأيضاً العديد من المنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية. وقد نُظّمت تحضيراً لذلك، الطاولة المستديرة في مدينة سوون Suwon الكورية، وعنوانها: "الطريق إلى لياج Leige"، كما سيُنظّم عدد من الفعاليات الإقليمية، وصولاً إلى المنتدى العام الرابع، منها مؤتمر إقليمي في لبنان (بيبلوس) ومؤتمر إقليمي آخر في جمهورية مالي (باماكو) ومؤتمر ما قبل لياج في باريس، يضمّ خلاصات المؤتمرات التحضيرية الإقليمية.
الأمل هو المظلّة الكبرى للقاء سوون، فهل نحن محكومون بالأمل على حد تعبير المسرحي السوري سعد الله ونّوس، الذي قاوم مرض السرطان بالأمل، مثلما كان عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد يدرك أن إحدى وسائل العلاج هو بعث الأمل، فلا أمل حقيقياً إلاّ بالأمن الروحي والنفسي للإنسان، ولذلك جعله موازياً للكرامة الإنسانية، ولا كرامة حقيقية بانعدام الأمن، وسيتحوّل الأمن إلى نوع من الاستبداد والتسلّط بغياب الكرامة.
والحق في الأمل بعد حق الحياة يتقدّم على بقية الحقوق، الأمر الذي يحتاج إلى تنمية عوامل الجمال والإحساس به وتمثّله وجعله عنصراً ملازماً لحياتنا وحقوقنا الثقافية والإنسانية. ولكن دعنا نتساءل: ماذا يعني الأمل؟ وهل الأمل حق؟ وهل يحتاج إلى تنظيم فعاليات وأنشطة دولية له؟ أسئلة وإشكاليات كنت قد طرحتها في وقت سابق، خصوصاً ارتباط ذلك بالسعادة والجمال والتسامح.
ولعلّ تلك الأسئلة، بقدر ما هي بسيطة، فهي معقّدة، لأنها تتعلّق بجوهر ومحتوى الفلسفات والأديان والنظريات، التي تزعم جميعها أن هدفها هو وصول الإنسان إلى السّعادة، علماً أن حاجات الإنسان المادية والروحية لا حدود لها ولا ضفاف، لأنها حاجات متواصلة ومتطوّرة ومتخالقة، ارتباطاً بتطوّر الإنسان، وتقدّم العلوم والاكتشافات، فما بالك حين نكون أمام الطور الجديد من الثورة العلمية – التقنية الهائلة، ولا سيّما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتيل".
وإذا كانت علوم الإنسانيات قد انحسرت وهُمّشت، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، فإنها اليوم لكي تحقق حضوراً ودوراً جديدين ينبغي أن تعود إلى الفضاء العمومي، إضافة إلى السياسات المتعلّقة بالعلم، وهو ما كانت عليه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
يستهدف المنتدى العالمي للإنسانيات، بلورة تفكير شامل بخصوص الإنسانيات ودورها في عالم متعدّد المراكز والثقافات، يأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع، لكنه يبحث عن سبل تحقّق المشترك الإنساني، وهو الهدف الذي يريد الوصول إليه في عدد من الحقول الإنسانية، وهكذا سيكون معنياً على سبيل المثال، لا الحصر بـالتزايد السكاني، وموجات الهجرة العالمية ومتطلّبات الطاقة والبيئة، والهويّات في سياق العولمة، والعالم الرقمي أو الطفرة الرقمية "الديجيتيل" وغيرها، وسيتعاون على تنظيمه، إضافة إلى اليونيسكو، المجلس الدولي للفلسفة والعلوم CIPSH و"لياج معاً" Liege Together.
وبقدر ما يجمع المنطقة العربية مع العالم من مشتركات، فإن لها خصوصيات وتحدّيات ينبغي إبرازها، لا سيّما فيما يتعلّق بالمواطنة والمساواة وحقوق المجاميع الثقافية وقضايا التنمية والحداثة والتواؤم والتعارض مع المجتمع الدولي، إضافة إلى قضايا السلام والأمن ومواجهة العدوان والاحتلال، ناهيك عن الإرهاب والتطرّف.
وقد تولى المركز الدولي لعلوم الإنسان (لبنان) وبالتعاون مع اليونيسكو سلسلة المشاورات في المنطقة العربية تحضيراً للمؤتمر، وشارك بفعالية في الأعمال التحضيرية وآخرها الطاولة المستديرة في سوون، وقدّم عدّة اقتراحات لتعزيز "ثقافة الأمل"، من بينها نشر وتعميم قيم التسامح واللاّعنف، ولا سيّما في المناهج التربوية، التي ينبغي تنقيتها عن كل ما يتعارض مع ذلك، ويمكن لليونيسكو أن تقوم بدور فعّال في مساعدة البلدان المختلفة لتحقيق هذه الغاية وصولاً للمشترك الإنساني، انطلاقاً من الإعلان العالمي للتسامح الصادر عن اليونيسكو العام 1995. ويحتفي المركز باليوم العالمي للفلسفة، كما يقيم مؤتمراً إقليمياً حول "المركزية الإثنية والتاريخ" في (كانون الثاني – يناير/ شباط – فبراير) 2017.
شارك في الطاولة المستديرة شخصيات متنوّعة، حرصت اليونيسكو على تمثيل جغرافي لاختيارها مع مراعاة اعتبارات كثيرة أكاديمية وثقافية وربما سياسية، إضافة إلى توازن في الحضور النوعي، فقد كان متحدثون لكل من: الصين والولايات المتحدة واليابان وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والمنطقة العربية (التي كان لي شرف الحديث عنها)، إضافة إلى الجهة المنظّمة (اليونيسكو) والجهة المضيفة والمشاركة في التنظيم، وهي كوريا. وقد زاد عدد المشاركين من مختلف دول العالم على ثمانين مشاركاً، إضافة إلى هيئات وجامعات ومراكز أبحاث كورية متعدّدة، وفي الوقت الذي كانت ورشات عمل ديربن وبكين العام 2015 قد بحثت موضوع التعدّدية الثقافية والشفاء ورسائل إلى عصر العلوم والتكنولوجيا التحويلية، فإن الطاولة المستديرة في سوون ركّزت على الأمل، والدور الذي يمكن أن تلعبه الإنسانيات في تجسير الفجوة بين الأكاديميين وأصحاب القرار.
وإذا كان شعار الأمل هو الأساس الذي انعقدت الطاولة المستديرة تحت لوائه، فإن لافتة كبيرة ارتفعت تحت عنوان: “Overcoming the crisis of civilization toward a sustainable society”. وتعني: "التغلّب على أزمة الحضارة نحو مجتمع مستقرّ".
الأمل لا يعني التفاؤل، مثلما التشاؤم لا يعني اليأس. الأمل هو الإصرار على تحقّق الأفضل وتجاوز الواقع لما هو أحسن، وأكثر سعادة ورفاهاً للإنسان. وبقدر ما نحن محكومون بالأمل، فنحن محكومون بالحريّة حسب تعبير جان بول سارتر.
وكما يقول الطغرائي في قصيدته الشهيرة (لاميّة العجم):
أعلّلُ النّفس بالآمال أرقبُها / ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
وأختتم بقول الشاعر الفرنسي جاك بريفير: "إن كانت السعادة نَسَتْكَ بعض الشيء... فلا تنساها"، ولعلّ ذلك يمثّل جوهر فكرة التمسّك بالأمل!



419

عبد الحسين شعبان وطائرة اليسار..
 هل تجنبت الخيبة لتهبط بمطار الأمل؟
عكاب سالم الطاهر
مهندس وإعلامي وكاتب عراقي
   بعد اتصال هاتفي، التقيت الصديق الأستاذ حيدر شعبان في مقهى (الشابندر) بشارع المتنبي في العاصمة العراقية بغداد، في أجواء يعبق فيها التراث البغدادي، وسحب دخان (الناركيلة). التقيت الأستاذ حيدر، بامتنان كبير، تسلّمت منه نسخة من كتاب (المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى) تأليف الدكتور عبد الحسين شعبان، من منشورات بيسان للنشر والتوزيع – بيروت/2016.
الإهداء: معاً على الطريق
   كتب عديدة وصلتني من مؤلفين: عراقيين وعرب، موشحة بإهداءات من مؤلفيهما. لكني، هذه المرّة، شعرت بأن ما تضمنه إهداء الدكتور شعبان، له مضمون يتعدى الطعم الخاص. وليعذرني الصديق عبد الحسين شعبان حين أشرك القارئ بقراءة سطور الإهداء، حيث جاء فيها: (الصديق عكاب سالم الطاهر: مع المودّة أهديك هذا الكتاب، ومعاً على طريق الحرف النظيف والكلمة الحرة، أصافحك).
   وأشعر أن يداً محمّلة بالدفء امتدّت نحوي، ولا بدّ لكلتا يدي أن تطبقا على تلك اليد بدفء وترحيب أكبر.
من هو المؤلف؟
   الدكتور عبد الحسين شعبان، له حضور واسع: عراقياً وعربياً وعالمياً، وليس انتقاصاً منه، أن نقدّم السطور التعريفية التالية: (ولد في النجف عام 1945)، ناشط في حقوق الإنسان، مفكر إنساني. ابتدأ مناضلاً مع القوى اليسارية في العراق منذ شبابه، فحوصر ولوحق حيثما رحل. وتميّز بموسوعية قانونية ثقافية. جدلي التفكير). هذه السطور منتقاة من الجزء الأول من موسوعة (أعلام وعلماء العراق)، تأليف الباحث حميد المطبعي.
   وأعتز كثيراً أن المفكّر عبد الحسين شعبان قدّم الطبعة الثانية من كتابي (على ضفاف الكتابة والحياة – الاعتراف يأتي متأخراً)، التي صدرت مطلع  عام 2016 – وفي (التقديم)، كان هناك تعريف بشخصية الدكتور شعبان، حرصت على تدوينها، وأنقلها هنا كتعريف مضاف بهذه الشخصية الغزيرة العطاء: (دكتوراه فلسفة (مرشح علوم) في العلوم القانونية من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ، معهد الدولة والقانون. أكاديمي ومفكر، باحث في قضايا الإنسانيات والحقوق والأديان والفكر السياسي. أستاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاّعنف. له نحو (60) كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة).
الاستهلال…
   والآن، وبعد هذه الممهدات الضرورية، دعونا نفتح الكتاب ونقرأ.
   يبدأ الدكتور عبد الحسين شعبان باستهلال، وهو كما نراه يماثل (التقديم). وفي الصدارة منه، يثبت المؤلف قولاً للفيلسوف الألماني (نيتشه) جاء فيه: (حتى الشيطان يخجل من الحقيقة).
   ومن السطر الأول من الاستهلال، يفرق الباحث بين (الداعية السياسي) و (المثقف). إذْ يقول: (يختلف الداعية السياسي عن المثقف، في أن الأول يستخدم جميع الوسائل للتبشير بأفكاره وللترويج لسياسة جماعته أو حزبه أو الفئة التي ينتمي إليها، بما فيها تبرير أفعالها وسلوكها، وأخطائها… في حين أن وظيفة المثقف هي النقد، ونقده يدعوه لنشر الحقيقة والمعرفة، وكشف المزعومات التي تنتجها جماعة سياسية لنفسها، أو طائفة دينية أو فريق يضع بوجه النقد ميليشيات ثقافية).

بعيداً عن التعسف
   ولكي لا نتعسّف في قراءة المسارات، نتساءل: هل أن كل (الدعاة السياسيين) هم بتلك السمة التي أشار إليها الباحث، وهل أن كل المثقفين هم بتلك السمة: النقد ونشر الحقيقة والمعرفة؟. دون شك (التعميم) في هذه الحالة وفي غيرها موقف لا موضوعي. وها هو الباحث شعبان يقول: (بلا أدنى أوهام، فثمة مثقفون تحولوا إلى دعاة ومؤدلجين لأنظمة أو جماعة سياسية أو دينية أو مذهبية، وفقدوا بذلك جزءًا من وظيفتهم، ولا سيّما حين يغلب عليها الجانب الدعائي التبشيري والترويجي على حساب الجانب التساؤلي النقدي، في محاولة لإبراز المزايا والمحسن، وإخفاء العيوب والمثالب…).
   إذن: شطب الدكتور عبد الحسين شعبان على هذا التساؤل المصحوب بالتوجس، حين ابتعد عن (التعميم).
أخلاق المناظر.. ومتاهات المناورة
   ومن موقع رصد موضوعي، يقرر الباحث: (غالباً ما يواجه النقد بالاتهام أو الشك، ويتم التعامل معه بالخفّة وعدم الاتزان، ويخرج بعضهم عن أخلاق المناظرة والمبادرة والمحاورة، ليدخل في متاهات المبارزة والمناورة والمؤامرة، والأكثر من ذلك حين يتصرّف خارج نطاق أي اعتبار، سوى ما يهيمن عليه من إلغاء الآخر أو استئصال أو تحطيمه).
بين المراجعة والتراجع
   وألمس في المعالجات التي تضمنها الكتاب، أن الهم الأساس للباحث، هو (المراجعة)، بكل ما تتضمّنه وتشترطه، لكي لا تتداخل مع خندق (التراجع) الذي هو موقف ارتدادي لا تصحيحي. وحين يكون الباحث عبد الحسين شعبان في خندق المراجعة، فان ذلك ليس موقفاً مفاجئاً، فالباحث من الرعيل اليساري، ومنذ شبابه، ذلك الجيل الذي شهد الانتصارات والكبوات. إذن هو ناقد يستظل بخيمة اليسار، خياره الأول. فها هو يقول: (في تاريخنا بعض المطبّات والانحرافات التي علينا مراجعتها، مثلما فيه الكثير من الإشراقات والإيجابيات التي يمكن استلهامها..). إذن هو نقد من الداخل وهو نقد مسؤول للذات، كما أشار الباحث.
315 صفحة وخمسة أقسام
   اشتمل الكتاب على خمسة أقسام، موزعه على (315) صفحة.
   القسم الأول، حمل عنوان (القراءة والنقد والأزمة). وتصدره مبحث بعنوان: مأزق المثقف الشيوعي.
   أما القسم الثاني، فهو بعنوان: المثقف والموقف من الآخر. ويقول الباحث إن هذا القسم يتناول حدثين يتعلّقان بكتابين صدرا له، وهما: النزاع العراقي- ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي. وقد صدر عام 1981. أما الكتاب الثاني فحمل عنوان:
 عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية. وصدر عام 2014.
الرقم الصعب
   القسم الثالث، يسلّط الضوء على (المثقف والرقم الصعب). ويتناول فقه الأزمة ومتفرعاتها من خلال الثقافة ودور المثقف، واختلال العلاقة بالسياسي.
   أما القسم الرابع، فقد حمل عنوان (المثقف وأزمة الثقافة) واحتوى القسم الخامس على أربعة مباحث، وكان عنوانه (المثقف وثقافة الأزمة).
بعيداً عن مطار الخيبة
   في تقديمي لكتابي العاشر، الذي حمل عنوان: (على ضفاف الكتابة والحياة –الاعتراف يأتي متأخراً)، كتبت: (كانت رحلة أتصورها مثيرة. تداخلت فيها الأحلام والأوهام. انتصر الحلم على الوهم حيناً، لكن الأوهام تفوقت في أحيان كثيرة. وبأسى كبير أقول: إن طائرة الأحلام تحوم بقيت بحثاً عن مطار تهبط فيه. وأتعبها الحوم والانتظار. بحيث رفضت جميع المطارات إعطائها إذناً بالهبوط. مطار واحد استقبلها هو: مطار الخيبة).
   وكان ما كشفت عنه، اعترافاً مرّاً. ومرارته بحجم ظاهرة التداعي والنكوص والإحباط. كانت الوحدة القومية حلماً، فتحولت إلى سراب. كانت الاشتراكية حلماً، لكن الدولة الاشتراكية الأولى في العالم تفككت وانهارت.. تداعيات كبرى وقعت، لتفضي الى خيبة بحجمها.
   لكن طائرة الباحث اليساري الدكتور عبد الحسين شعبان، ابتعدت عن مطار الخيبة، لتهبط في مطار الأمل، وهو أمل مرٌّ، كما يذكر الباحث. وأميل للقول: إن ما يحتاجه اليساريون العراقيون خاصة، هو: التمسّك بقوة الأمل، بتلك الأحلام التي نحتوا في الصخر، من أجل تحقيقها.
   الكتاب استقرائي تحليل، يفصح عن جهد كبير، بذله الباحث. إنه كتاب يُقرأ..


420
في مغزى الانتخابات المغربية
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري 2016 باحت الصناديق الانتخابية بأسرارها، ودفعت مجدّداً حزب العدالة والتنمية إلى الواجهة، فقد حصل على 125 مقعداً من مجموع 395 مقعداً، هي إجمالي مقاعد البرلمان بزيادة 18 مقعداً عن الدورة البرلمانية السابقة، حيث صوّت له مليون وثمانمئة ألف مغربي، بزيادة أكثر من نصف مليون صوت عما حصل عليه في انتخابات العام 2011. وتلاه حزب الأصالة والمعاصرة الذي حصل على 103 مقاعد بزيادة 56 مقعداً عن الدورة السابقة التي حصل فيها على 47 مقعداً. وشارك في الانتخابات 24 حزباً سياسياً وتحالفان انتخابيان.
تعتبر الانتخابات الأخيرة هي الثانية بعد دستور العام 2011، وهي محطة سياسية جديدة واختبار آخر للدستور وللعملية السياسية، بعد موجة الربيع العربي، فقد راعى الدستور المستجدات والمتغيّرات التي حصلت بعد الحراك الشعبي، فقام بإجراء تكييفات قانونية وسياسية  ومؤسسية، أراد لها أن تكون تعويضاً عن "الربيع العربي"، ولربما اختار هو ربيعه الخاص على الطريقة المغربية، التواصلية وليست الانقطاعية، التي مثلت فقهاً استبعد القطيعة واختار الاستمرار والتراكم.
هذه الانتخابات هي الثانية التي يفوز بها حزب العدالة والتنمية، ومع أن حكمه شهد تجاذباً وشدّاً وإرخاءً وابتعاداً واقتراباً من القصر الملكي، فضلاً عن اتباعه إجراءات تقشفية أثارت استياء شعبياً، إلاّ أنه في نهاية المطاف تمكّن من الحصول على أعلى الأصوات والمقاعد. وكان الجميع مقتنعين بشعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"، أي جعل التغيير مرتبطاً بالكرامة، والحرّية بالأمن، وهي تجربة جديرة بالدراسة، وخصوصاً منذ حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمن اليوسفي في أواخر التسعينات، ارتباطاً بمسألة المصالحة والعدالة الانتقالية والانفراج السياسي وأجواء الحرّيات التي أعقبته.
وتقوم العملية السياسية في المغرب على ثالوث أساس، أركانه المؤسسة الملكية والوحدة الوطنية (حسب الاصطلاح المغربي وحدة تراب البلاد) والجمع بين الإسلام والحداثة على نحو تفاعلي. وهذه العناصر تعتبر من الثوابت الوطنية التي يلتقي على قاعدتها الجميع. ومنذ العام 2002 أصبح الوعي بأهمية الانتخابات وسيلة للفوز بالسلطة من جهة، ومن جهة أخرى لعرض البرامج السياسية لمختلف الفاعلين السياسيين من القوى والأحزاب والجماعات.
وعكست الانتخابات الأخيرة، على الرغم من احتدام الصراع بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة، الأول فرع من فروع الإسلام السياسي بطبعة مغربية منفتحة أقرب إلى الطريقة التركية، والثاني من الوسط الليبرالي ومعارض شديد للإسلاميين، ولكنه قريب من القصر، حدّة المواقف وشدّة التعارضات، لدرجة النزول إلى مستوى التراشق أحياناً، عبر فضائح شخصية لعدد من السياسيين، وانزلاق إلى اتهامات خطرة بالعمالة والخيانة وغير ذلك، لكنها لم تؤثر على واقع شفافية الانتخابات ونزاهتها، وهو ما يسجل للتجربة المغربية الجديدة.
ويعزو البعض فوز حزب العدالة والتنمية إلى تنظيمه وانضباطه ووجوده بالسلطة في السنوات الخمس الماضية من جهة، وإلى عزوف شعبي عن الممارسة الانتخابية لجمهور واسع وعريض من جهة ثانية، الأمر الذي مكّن الحزب وهو يتوفر على كتلة شبه مستقرة، سواء في الريف أو المدينة، لضمان الفوز المريح له.
وقد تمكّن الحزب بطريقة بارعة من خوض الصراع الآيديولوجي والدعائي، وذلك بتوظيف خطابه لجهة المظلومية السياسية التي ظلّ متمسكاً بها، ودغدغة بعض عواطف الناس، وتمكّن من استثمار ذلك بذكاء وأساليب ناعمة، حتى وهو في قمّة السلطة السياسية، فأعاد ضخّ كل ذلك مجدداً في حملته الانتخابية.
لقد أكل حزب العدالة والتنمية من جمهور الأحزاب الأخرى، التي ضعف دورها، وخصوصاً في أوساط الطبقة الوسطى التي كان تعاطفها مع اليسار وأحزابه، ولا سيّما حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، وكذلك تعاطفها مع الاتجاه الليبرالي، وحزب الاستقلال بشكل خاص، وهي أحزاب تمتدّ إلى مرحلة الاستقلال والتحرّر الوطني، لكن رصيدها تدهور في العقد ونصف العقد الماضي.
الانتخابات الأخيرة بقدر ما رفعت من حزب العدالة والتنمية، لكنها في الوقت نفسه كرّست حزب الأصالة والمعاصرة، كحزب منافس قوي وخصم شديد، حيث حصل على المرتبة الثانية، وهكذا انتقل المغرب من الهندسة السياسية السابقة التي تقوم على ثنائية التنافس بين حزب الاستقلال القريب من القصر في حينها وحزب الاتحاد الاشتراكي المعارض إلى هندسة ثنائية جديدة، تقوم على حزب العدالة والتنمية مقابل حزب الأصالة والمعاصرة.
وبمراجعة مقاعد القوى السياسية نستطيع أن نلاحظ مدى التبدّل الذي حصل في الساحة المغربية، فقد حصل حزب الاستقلال على 46 مقعداً، وجاء في المرتبة الثالثة، ولكن مع فارق شاسع عن المرتبتين الأولى والثانية، وأعقبه حزب التجمع الوطني للأحرار الذي حاز على 37 مقعداً (المرتبة الثالثة).
أما الاتحاد الاشتراكي فقد حصل على المرتبة السادسة حيث نال 20 مقعداً بعد أن كان لديه 40 مقعداً، وهو يعدّ أكبر الخاسرين، والحركة الشعبية على 27 مقعداً (المرتبة الخامسة)،  كما حصل الاتحاد الدستوري على 19 مقعداً (المرتبة السابعة)، ونال حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي) على 12 مقعداً (المرتبة الثامنة)، والحركة الديمقراطية الاجتماعية على 3 مقاعد،  وفيدرالية اليسار الديمقراطي على مقعدين وحصل حزبان آخران على مقعدين لكل منهما.
جمع حزب العدالة والتنمية بعض عوامل النجاح استراتيجياً وتكتيكياً من خلال: زعيم كارزمي "عبدالإله بنكيران" وطاقم قيادي متفاهم وتنظيم متماسك وعلاقة قوية بالأوساط الشعبية في الريف والمدينة، إضافة إلى وسائل دعاية ناجحة وصلات مباشرة بالناخبين، ولهذا فإن عناصر الفوز فيه كانت متوفّرة على عكس بعض تجارب الإسلام السياسي في البلدان العربية الأخرى.
يمكننا القول إن الانتخابات المغربية الأخيرة كانت مناسبة لتأكيد مرحلة جديدة أساسها طيّ صفحة الماضي، وانتهاء عهد المعارضة السلبية ومقاطعة الانتخابات، والانتقال من محاولة تهديم بيت السلطة، إلى دخول هذا البيت، بل والاقتناع بذلك، فلم يعد أي حزب خارج لعبة الانتخابات، والجميع يلعب تحت سقف البيت وفي الحدود والمساحة المتاحين له، من أجل تحسين شروط اللعب، وهو ما كان يدركه الملك الحسن الثاني ووريثه الملك محمد السادس الذي فهم المزاج العام وتعاطى معه في ظروفه الجديدة، ولا يزال يعتبر البناء السياسي الديمقراطي الأساس الذي يمكن تحقيق التنمية والتطوّر من خلاله.



421
معركة الموصل و"الأخوة الأعداء"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
فيما تُعلن جميع الأطراف السياسية استعدادها لخوض معركة تحرير الموصل والمشاركة في القضاء على "داعش"، تختلف الرؤى والتصوّرات، بل والخطط حول الوجهة التي ستتخذها والآفاق التي تنتظرها، وبقراءة مواقف القوى والجماعات المنضوية في العملية السياسية يتبيّن مدى التباعد بينها، لدرجة أن هناك الكثير ممّا يُعلن غير ما يُبطن.
فبعد توتّرات واستقطابات بين بغداد وإربيل، قام رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني بزيارة بغداد، في محاولة لإعادة شيء من حبل الوصل بين الطرفين وتلطيف الأجواء بينهما، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس الإقليم إلى بغداد منذ العام 2013 وبعد تولي حيدر العبادي رئاسة الوزارة (في 8 سبتمبر/ أيلول العام 2014)
وكانت أهم الملفّات العالقة التي تصدّرت المباحثات تتعلّق بالنفط، والخلاف بشأن عقوده وإنتاجه وتصديره، دون إشراف أو معرفة الحكومة العراقية، ورواتب البيشمركة (المحجوزة) وحصّة الإقليم المُحتجبة، فضلاً عن تفاصيل معركة الموصل ومستقبلها ما بعد التحرير، دون إهمال موضوع الاستفتاء المقترح لإعلان دولة كردية، فيما إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود بين الطرفين، وهو ما كان قد لوّح به البارزاني لعدّة مرّات، وبمناسبة وغير مناسبة، بما فيها ما يشمل دائرة المنافسة الكردية – الكردية، بين إربيل والسليمانية.
وإذا كان هذا هو المعلن من الزيارة، فإن هناك ما يدور الحديث عن أهداف أخرى، يندرج فيها إقامة تحالفات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وأطراف سياسية، ردّاً على زيارة نوري المالكي رئيس الوزراء السابق إلى السليمانية ولقائه مع غرماء البارزاني من الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة كوران "التغيير"، يضاف إلى ذلك البحث عن بديل لوزير المالية هوشيار الزيباري، وزير خارجية العراق لأكثر من ثمان سنوات، الذي تمت إقالته بعد استجواب من البرلمان.
إن فكرة "تجرؤ" بغداد على إقالة وزير معتمد وأساسي لدى إربيل، ومن ثم محاولة بعض القوى الالتفاف على حزب البارزاني بإقامة علاقات جانبية لعزله، هما ما أقلق إربيل، وربما كان ذلك أحد أسباب زيارة بغداد. وقد يكون هناك ثمة ضغوط أمريكية مورست على الطرفين الحكومي والكردي (الإقليمي)، للقاء وإزالة بعض الكتل الصخرية التي اعترضت طريقهما خلال الأعوام الماضية، ولا سيّما في القضايا العقدية التي تم ذكرها، والتي تعقّدت بفعل الأزمة الاقتصادية والمالية العامة، وانخفاض أسعار النفط.
ولم يكن ملف النازحين بعيداً عن المفاوضات الحكومية – الكردية، علماً بأن الإقليم يستضيف نحو مليوني نازح من محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار منذ هيمنة "داعش" على الموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014.
وعشيّة الحملة لتحرير الموصل ظهرت تداعيات أخرى معارضة لزيارة البارزاني إلى بغداد، فقد دعا النائب عبد السلام المالكي (من كتلة دولة القانون التي يرأسها نوري المالكي) إلى تحريك دعوة قضائية وإصدار مذكرة قبض بحق البارزاني بتهمة "التخابر مع الأجنبي وتهريب ثروات البلد والتعامل مع الأنظمة الإرهابية"، وهو تحريض وكيدية تعكس مدى العداء الذي وصل بين المالكي والبارزاني، مثلما ارتفعت أصوات تدعو إلى حسم موضوع الاستفتاء الكردستاني، ومن جانبه أكّد البارزاني أن استقلال الإقليم لن يتمّ من دون الاتفاق مع بغداد.
وفي حين تحتدم المعركة على مشارف الموصل ويتم تحرير قرى وقصبات، وخصوصاً بعد الاستيلاء على قاعدة القيارة الجوية في 25 أغسطس /آب المنصرم (2016)، (تقع جنوب مدينة الموصل بحوالي 60 كم)، ويحاول "داعش" حجز الموصل خلف الأسوار، فإن بعض الأصوات التشكيكية تظهر للعلن محذّرة من "اختناقات طائفية وتصفية حسابات" وقد جاء ذلك على لسان رئيس ائتلاف "متحدون" أسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق ونائب رئيس الجمهورية السابق، الذي قال: إن أخطاء الحكومة السابقة، ونهجها العسكري كانا وراء سقوط الموصل، مشيراً إلى أن تحريرها يجب أن يكون على يد قوات "الحشد الوطني" (وهو تنظيم تم تدريبه أمريكياً من أهالي الموصل)، والجيش والشرطة وقوة مكافحة الإرهاب، إضافة إلى البيشمركة ودعم قوات التحالف الدولي، وانتقد مشاركة الحشد الشعبي الذي يضم مجموعات عسكرية شيعية، كما انتقد جماعة حزب العمال الكردستاني PKK. وقال النجيفي في حديث مع وفد المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الوطنية الأمريكي: إن القوات العسكرية في المدينة، مارست نهجاً غير مقبول من المواطنين ما أفقد الجيش صفته الوطنية.
ولم يفت المرجع الشيعي المتنفذ في النجف علي السيستاني إلاّ أن ينبّه إلى مواجهة الفوضى، وكان أحمد الصافي ممثله في كربلاء، "قد أكّد على ضبط الأمور عن طريق القانون"، لكن رجل الدين محمد تقي المدرسي دعا إلى تشكيل محكمة دولية لجرائم الحرب يكون مقرّها العراق رافضاً استبعاد الحشد الشعبي من المشاركة في تحرير الموصل، وأن هذا الاستثناء له أهداف سياسية وتقوم على التمييز بين أبناء القوات المسلحة (ويقصد استثناء جماعة الحشد الشعبي التابعة للقوات المسلحة وتحت إدارة رئيس الوزراء نفسه باعتباره القائد العام للقوات المسلحة).
يمكن القول إن هزيمة "داعش" في الموصل محقّقة، لعدّة أسباب سياسية وعسكرية واستخبارية اجتماعية ودينية ومدنية:
أوّلها – أنه ضدّ منطق الحياة والتطوّر، وإذا كان خلال العامين ونيّف قد حكم مناطق شاسعة بالحديد والنار، فإن إمكانية بقائه أصبحت شبه مستحيلة بعد اندحاره في صلاح الدين والأنبار، سواء من داخل الموصل أو من خارجها، حيث يُحاصر ويُضرب، ناهيك عن المقاومة السريّة، المدنية المباشرة وغير المباشرة الرافضة لقوانينه وأنظمته، على الرغم من الإعدامات وأعمال التنكيل ضد السكان.
 ثانيها – أنه لا يستطيع مواجهة كل هذا الحشد العسكري الدولي والعراقي، الرسمي والشعبي، بما فيه قوات البيشمركة، إضافة إلى قوات شعبية نظامية تم تدريبها تمهيداً لهذه المعركة.
وثالثها – أن هناك تعاوناً يجمع العرب والكرد، حيث يتم التعاون بين القوات المسلحة والبيشمركة، وقوات شبه نظامية أو شعبية، في إطار عمل عسكري موحّد، على الرغم من الخلافات والتناقضات أحياناً، لكن مسألة تحرير الموصل تتقدّم على غيرها، وهو ليس اختياراً بقدر ما هو اضطرار، لأن الجميع مهدّدون بوجودهم واستمرارهم. ونتذكر كيف هبّ الجميع، بما فيه قوى إقليمية لمواجهة "داعش" حين اقتربت من إربيل؟ كما نتذكّر كيف كان الاستنفار على أشدّه يوم معركة جرف الصخر والطريق إلى بغداد وعند مشارفها؟
ورابعها – أن معركة تحرير الموصل، تعني اليوم الولايات المتحدة، وهي إذا لم تفعل شيئاً يُذكر في السابق، وكانت عمليات قصفها متباعدة وغير كثيفة، فإنها معنية مباشرة بذلك، ومعها قوات التحالف الدولي، لأن استمرار الوضع كما هو عليه يمكن أن يهدّد العملية السياسية التي صمموها في العراق برمّتها.
وخامسها – أن لكل طرف من الأطراف أهدافه العامة والخاصة ما بعد التحرير، فالكرد يريدون إدارة مشتركة للموصل بعد تضحيات البيشمركة، وقد يحاولون الاحتفاظ ببعض المناطق التي سمّيت بالدستور "المتنازع عليها" بعد تحريرها، وهو ما عبّر عنه مسعود البارزاني، لكي لا ينفلت الوضع وتحدث انتقامات وتصفية حسابات.
وعرب الموصل يتخوّفون من تمدّد كردي مثلما تخشى ذلك الكثير من الأوساط الشيعية داخل الحكومة، ولهذا تصرّ على مشاركة ووجود الحشد الشعبي. وبعض القيادات الموصلية وفي مقدمتها النجيفي تريد إقامة إقليم باسم الموصل، سواء يمثل المحافظة أو يمكن أن تضم إليها عدداً من المحافظات، وهو ما قد يلقى معارضة شديدة من الشيعية السياسية، وتردّداً ورفضاً من السنية السياسية المنقسمة حول مناطق النفوذ والحصص والامتيازات.
أما الأمريكان فهم باتوا أكثر اقتناعاً بمشاركتهم العتيقة – الجديدة بشأن تقسيم العراق إلى كيانات، وعلى الأقل، يتم وضع حدود ونقاط تفتيش بينها، وتحدّد لها هويّات أقرب إلى باسبورتات، وتبقى بغداد موحّدة، تمثل العراق الموحّد شكلياً والمقسّم فعلياً، وذلك طبقاً لمشروع جو بايدن في العام 2007، واستمراراً لمشروع برنارد لويس الخاص بالعالم العربي منذ العام 1979 والعام 1982 القاضي بتشطيره وتفتيته إلى دويلات تصل إلى 41 كياناً.
وقد يؤدي هذا الوضع إلى احترابات محتملة داخل الشيعية السياسية، فالحشد الشعبي المدعوم إيرانياً يريد حصة أكبر، خصوصاً وأن نفوذه اتسع، وهذا بحد ذاته سيطرح مشكلات جديدة، ولا سيّما بين القوى المسلحة مثل لواء بدر، وجماعة مقتدى الصدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وجماعة النجباء، وغيرها من القوى السياسية الشيعية التي تشكّلت وانضمت إلى الحشد الشعبي للحصول على الامتيازات وزادت عن 40 قوة مسلّحة.
والسنية السياسية ليست بحال أحسن من الشيعية السياسية، فعلى الرغم من التهميش والتمييز لمناطق بكاملها، فهناك مشكلات النازحين التي ستواجهها وإعادة الإعمار والتعويض عن الغبن والخسائر التي لحقت بالناس، وقد تقود منافستها إلى صراع واحتراب على مناطق النفوذ والامتيازات.
أما الخلاف الكردي – الكردي، فهو مرشح للانفجار بين السليمانية وإربيل، وعلى أقل تقدير، فإن المشكلة القائمة بين الطرفين قد تؤدي إلى التباعد وحتى إلى الدعوة لإقامة إقليم السليمانية – حلبجة مقابل إقليم إربيل – دهوك.
ولعلّ ذلك هو ما قصدته من العنوان الذي وضعته لهذه المقالة "الأخوة الأعداء"، وهي رواية للكاتب اليوناني كازانتزاكي، وهو ما كنت قد عبّرت عنه قبل أكثر من عام ونصف بقولي: خشيتي ما بعد "داعش".



422
جائزة نوبل والدرس الكولومبي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
فاز الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس هذا العام (2016) بجائزة نوبل للسلام تقديراً لجهوده من أجل تسوية النزاع المسلّح في بلاده، وهو ما أعلنته كارين كولمان فايف رئيسة لجنة نوبل للسلام في أوسلو (7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري).
وجائزة نوبل للسلام هي إحدى جوائز نوبل الخمسة التي أوصى بها ألفريد نوبل، وقد أراد بها التعويض عن تنامي القوة المدمّرة، حيث كان قد أدرك خطورتها على صعيد السلام العالمي، فهو مخترع الديناميت، لكنه لم يُستعمل إلاّ بعد وفاته.
وتمنح جائزة نوبل سنوياً في العاصمة النرويجية "أوسلو"، وهو تقليد اعتمد منذ العام 1901، ومنذ سنوات اعتبر يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول من عام، (وهو يوم صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة العام 1948)، يوماً للاحتفال بتسليم الجائزة من قبل معهد نوبل النرويجي، حيث يتم اختيار المرشحين للجائزة من قبل هيئة يعيّنها البرلمان النرويجي حسب وصية صاحبها.
وقال سانتوس الذي تسلّم قيمة الجائزة "900 ألف دولار أمريكي": إنه قبلها باسم ضحايا الحرب الأهلية، وخاطب الكولومبيين قائلاً: هذه الجائزة لكم، فقد أصبح السلام أقرب من أي وقت مضى، وتبرّع بثمنها إلى ضحايا النزاع المسلّح الذي عاشته البلاد منذ بدايات الحرب الباردة واستمر إلى الآن.
جاء منح الجائزة لسانتوس بعد إعلان التوصل إلى اتفاق مع الحركة اليسارية الستالينية المتطرفة (فارك) والتي استمرت المفاوضات المضنية بشأنها نحو 4 سنوات، وكانت هذه الحركة تقود "كفاحاً مسلحاً" استمرّ 52 عاماً، وأودى بحياة ما يزيد عن 220 ألف مواطن وساهم في تعطيل التنمية وهدر طاقات البلاد وإمكاناته على الحرب الأهلية.
وكان هدف الحركة، تغيير نظام الحكم بالقوّة المسلحة، ولجأت إلى جميع الوسائل لذلك، بما فيها غير المشروعة، مثل تجارة المخدرات للحصول على المال والسلاح، إضافة إلى التهريب وخطف السكّان المدنيين الأبرياء العزل، وطلب الفدية من ذويهم أو من الدولة، وتجنيد الأطفال واستخدام بعضهم قنابل بشرية موقوتة، لكنها في نهاية المطاف وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد بإمكانها الاستمرار، ولهذه الأسباب وافقت على الدخول في مفاوضات مع الحكومة إلى أن توصلت إلى الاتفاق المذكور.
أدرك سانتوس هو الآخر أن الحكومة غير قادرة القضاء على الحركة المسلحة بالوسائل العنفية، التي استنزفت البلاد وعطّلت تقدمها وتنميتها، لذلك لجأ إلى فتح باب المفاوضات لإنهاء النزاع المسلح، ونجح في ذلك. كما أدركت الحركة المسلحة صعوبة، بل واستحالة إطاحة النظام، خصوصاً بعد المتغيّرات في الوضع الدولي وانهيار الكتلة الاشتراكية وتراجع اليسار بألوانه المختلفة.
لقد كان الاستمرار بالنسبة للطرفين يمثل نوعاً من المكابرة والعبث، فوافقت الحركة على إنهاء الكفاح المسلّح، وإلقاء السلاح وتسليمه إلى الحكومة والتوصل إلى مصالحة مع الدولة وبشروطها، ووافقت الحكومة على التوصل إلى حلول سلمية ومدنية، باستبعاد المساءلة الفورية أو المباشرة، ذلك أن اشتراط تحقيق العدالة كشرط للسلام قد يفضي إلى استمرار الحرب الأهلية، خصوصاً في ظل نفوذ لا يزال يملكه المتمردون، الذين يبلغ عددهم أكثر من 15 ألف مسلح، فكان لا بدّ من اللجوء إلى الوسائل السلمية واللاّعنفية باعتبارها سلاحاً ماضياً للوصول إلى الأهداف المرجوة، حتى وإن ألحق بعض الخسائر بمسألة العدالة القانونية المنشودة.
حصل الاتفاق على التسوية في 26 أيلول/سبتمبر المنصرم 2016 في مدينة قرطاجة الكولومبية، بحضور رؤساء من دول أمريكا اللاتينية، وحين عُرض على الاستفتاء الشعبي كانت النتيجة مفاجأة تماماً، فقد رفضت الأغلبية الاتفاق مع الحركة المسلحة، وبلغت نسبة الرافضين 50.2%، أما نسبة الموافقين فهي 48.8%، وتلك إحدى مفارقات العدالة الانتقالية، وقد يحتاج الأمر إلى جهد أكبر للترويج لعملية السلام، خصوصاً إذا ما شعر الناس بجدواها.
الاتفاق هو أقرب إلى صفقة سياسية حين وضع السلام مقابل العدالة، مقدّماً الأول على الثانية، لأننا لو أخذنا بمعيار تطبيق مستلزمات العدالة القانونية والقضائية عند الاتفاق، فإن ذلك سيعني ملاحقة أعضاء حركة "فارك"، التي تصل جرائمها إلى جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، خصوصاً لجهة عدد الضحايا وتدمير المنشآت وإحراق المزارع وإتلاف البيئة وتهجير مئات الآلاف من السكان، وقد يكون بعضها من مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية.
لعلّ التجربة الكولومبية اليوم هي إحدى تجارب العدالة الانتقالية الجديدة، خصوصاً بتقديم السلام على المساءلة، ومن أبرز عناصرها هي: تعهّد قادة الحركة المسلّحة بتسليم أسلحتهم، والامتناع عن زراعة المخدرات وإتلاف ما يوجد لديهم، والتوقف عن الاتجار بها أو بعمليات تهريبها أو القيام بأي خرق لحقوق الإنسان، كما تعهّد بتقديم تعويضات (من المال السّحت الذي حصلوا عليه) إلى المزارعين، وأولاً وقبل كل شيء إعلاء حكم القانون ومرجعية الدولة والعودة إلى المجتمع كأفراد مدنيين. وأعتقد شخصياً أن ذلك أمراً في غاية الأهمية.
أُطلقَ على الاتفاق بين الرئيس سانتوس وقادة الحركة المسلحة: العدالة التوافقية أو العدالة البنّاءة، وهذه تعني حسب حيثياتها: لا معاقبة الجاني وإعادة الحق لأصحابه، بل الاتفاق على تعهّد المرتكب بعدم تكرار ارتكاب جرائم جديدة وإعادة جزء من الحق لأهله، والاعتراف بحق الدولة في استعادة سلطتها، باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحق لها احتكار السلاح واستخدامه.
وإذا كانت شروط العدالة الانتقالية تقوم على المساءلة وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، فإن التجربة الكولومبية، قفزت على النقطة الأولى، وتركت أمرها لتنفيذ الاتفاق، وإذا كان مثل هذا الإشكال يجنّب الشعب الكولومبي الويلات والمآسي التي عاشها لعقود من الزمان، فلا بدّ أن يكون مرحّباً به لعلاقته بالمستقبل وليس بالماضي، فالانتقام والثأر قد يدفع إلى ردود فعل متقابلة، وهكذا.
وكانت التجربة الأرجنتينية في أواخر السبعينات وما بعدها قد سلكت طريق التوافق بإطفاء الحرائق ووقف التعقيبات القانونية بحق المرتكبين، كما سلكت التجربة التشيلية في أواخر التسعينات ذات الطريق، وهما شقّا تجربة جديدة في العدالة الانتقالية، قائمة على فقه التواصل وليس فقه القطيعة.
قد يصلح الدرس الكولومبي والأمريكي اللاتيني لبلدان وشعوب أخرى، ويكون مفيداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف الخاصة بكل بلد، علماً بأن مهمة تحقيق السلام، هي مهمة إنسانية مشتركة وعامة، ولكن كل بلد يحتاج إلى "سانتوسه" الخاص، ليحمل راية السلام، ويخمد النيران.



423
تركيا والموصل والخرائط!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
برّرت تركيا إرسالها قوات عسكرية إلى العراق، بحماية الأمن القومي التركي ومكافحة الإرهاب، وهما مبرّران مشروعان يحق لتركيا بموجبهما الدفاع عن أراضيها وحماية مواطنيها من شرور الإرهاب، لكن هذين المبرّرين لا يعطيان الحق لتركيا أو لغيرها في اختراق سيادة بلد آخر أو اجتياز حدوده الدولية.
وإذا كانت سيادة العراق معوّمة ومجروحة بفعل عناصر متداخلة ومعقّدة، منها تداعيات الاحتلال الأمريكي، ثم سيطرة "داعش" على الموصل وأجزاء واسعة من مناطق غرب العراق، يضاف إليها النفوذ الإيراني المهيّمن على السياسة العراقية، لكن ذلك ليس مبرّراً لتركيا لانتهاك السيادة أو ما تبقّى منها، بحجة أن الآخرين يخرقونها.
إن مثل تلك المبرّرات تعني العودة إلى القانون الدولي التقليدي الذي كان يجيز "الحق في الحرب" و"الحق في الغزو" بزعم حماية المصالح القومية، ولكن ذلك أصبح من تراث الماضي، ولا سيّما بعد تأسيس الأمم المتحدة.
لقد حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البحث عن سند قانوني يدعم المطالب التركية، من خلال إعادة قراءته وتحفّظه على معاهدة لوزان المبرمة في العام 1923، والتي رسمت الحدود بين الدولة التركية الجديدة وجيرانها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي جرى تقاسمها وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو السرّية لعام 1916، وتبعاً لنتائج الحرب العالمية الأولى.
وقال أردوغان: إن المشكلة الأساسية في الموصل هي "إعادة بناء المنطقة وفقاً لخطة تطبّق فيها، وهي ليست في مصلحة تركيا"، بل تهدّد بقاءها. وذهب أبعد من ذلك حين صرّح بخصوص محاربة الإرهاب: "لن ننتظر حتى تدقّ المنظمات الإرهابية أبواب بلادنا، سنقوم من الآن بملاحقتها وننقضّ عليها أينما وجدت"، وأضاف: إن وجود قوات تركية في منطقة بعشيقة قرب الموصل هو من أجل حماية "استقلالنا ومستقبلنا".
أردوغان على حق حين يسعى لحماية بلاده، ولكن عليه اتباع الوسائل القانونية وعدم التجاوز على حقوق الآخرين، الأمر الذي يتطلّب التعاون مع دول الجوار، ولا سيّما العراق، إضافة إلى قوات التحالف الدولي، بخصوص مكافحة الإرهاب. أما اتخاذ قرارات فردية ودخول الأراضي العراقية حتى دون التشاور مع حكومة البلد، فإن ذلك سيزيد من تعقيد المشاكل، كما أنه لا يساعد على توحيد الجهود للقضاء على الإرهاب.
لم يكتفِ أردوغان بذلك، بل حذّر العراق وسوريا بقوله: لقد بدأنا بتنفيذ خطتنا، وأن النار التي تحاولون إشعالها ستحرقكم أكثر منّا. ولم ينسَ في ظل هذا الاندفاع والحماسة البعيدة عن الدبلوماسية والقواعد القانونية الدولية التعاهدية أو العرفية، أن ينتقد معاهدة لوزان، ويقول إنها كانت مفروضة على تركيا مثلما تم فرض معاهدة سيفر عليها، العام 1920.
لقد حدّدت معاهدة لوزان الحدود لعدّة بلدان كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية، مثل بلغاريا واليونان وقبرص ودول المشرق العربي، والتي حكمتها لنحو أربعة قرون، فكيف يمكن إعادة القديم إلى قدمه؟ أليس في ذلك ضرب من إسقاط الرغبات على الواقع؟ فالعالم تغيّر كثيراً منذ نحو قرن من الزمان، والأمر لا يتعلّق بدول المنطقة فحسب، بل يشمل أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا، وعلى من لديه خيال أن يتصوّر ماذا تعني إعادة القديم إلى قدمه، غير نزاعات وحروب وحرائق ستندلع لتشمل العالم كلّه؟
إذاً ماذا تعني إعادة جريدة ديليليش (وهي الجريدة المؤيّدة للرئيس التركي) نشر الخرائط التركية الجديدة "القديمة"، وهي تضمّ فيها أجزاء من العراق وسوريا وبلغاريا وأرمينيا وجورجيا إلى تركيا؟ وبالطبع، فكركوك والموصل وإربيل وحلب وإدلب والحسكة هي في الصدارة من ذلك. أليس في الأمر ثمة أزمة، وهي أزمة تفكير وواقع؟
يمكنني القول: إن تلك الآراء كانت تظهر وتختفي تبعاً لتوازن القوى، فكلّما كان العراق ضعيفاً، وهو ما حصل منذ الحرب العراقية – الإيرانية، وبعد الاحتلال الأمريكي، وكذلك كلّما كانت سوريا  ضعيفة ومنقسمة كما هي اليوم، بسبب الاحترابات الداخلية، تطلّ تلك المطالبات برأسها، فضلاً عن ارتفاع منسوب الشحنة القومية الاستعلائية فيها.
إن الخطاب العالي النبرة الذي ذهبت إليه القيادة التركية، والذي ازداد تطرّفاً بعد محاولة الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا في شهر يوليو/ تموز الماضي (2016)، يستبطن الرغبة في توجيه الأنظار نحو الخارج وصرفها عن المشاكل الداخلية المستفحلة، وهو أحد الأسباب الأساسية لتصعيده في الفترة الأخيرة، كما يمكن تفهّم محاولة أنقرة مداعبة المشاعر القومية للتركمان تحت عنوان حمايتهم، وخصوصاً في تلعفر التي تسكنها غالبية تركمانية، إضافة إلى كركوك التي فيها نسبة تركمانية وازنة.
ولكن حماية التركمان وبقية المجموعات الثقافية واجب، يستلزم من تركيا إذا أرادت تحقيقه، مخاطبة الحكومة العراقية باحترام حقوق الإنسان وإقرار مبادىء المساواة والمواطنة المتكافئة وعدم التمييز واعتماد مبادىء المشاركة والشراكة الحقيقية، وكذلك مناشدة الهيئات الدولية لممارسة ضغوطها لتحقيق ذلك، الأمر الذي يتطلّب منها أولاً وقبل كل شيء احترام حقوق الكرد في تركيا، وتلبية مطالبهم العادلة والمشروعة في حكم ذاتي أو إدارة ذاتية، والسماح لهم باستخدام لغتهم بصورة رسمية وحقّهم في التعلّم بها، وممارسة حقوقهم السياسية كاملة كمجموعة ثقافية متميّزة، وتأكيد ذلك دستورياً، والأمر يشمل الحقوق الثقافية للمجاميع المتنوّعة الأخرى بمن فيهم العرب.
أعتقد أن خشية القيادة التركية من تفجّر الموضوع الكردي في تركيا، ما بعد تحرير الموصل وما بعد حسم الصراع في سوريا، ومطالب الكرد في البلدين بصيغة من صيغ الحكم الذاتي أو اللاّمركزية أو الفيدرالية أو غير ذلك، هي التي تدفعها إلى هذا الخطاب المتشدّد بدلاً من البحث فيما يمكن التعاون به لمكافحة الإرهاب من جهة، ومن جهة ثانية لإيجاد تسويات لمشكلات تتعلّق بالمسألة القومية والهويّة وذيولها.
إن الدعوة لإعادة النظر بمعاهدة لوزان ومخرجاتها، ليس ورقة خاسرة فحسب، بل هي مسألة غير ممكنة، فقد مضى نحو قرن من الزمان على حسمها وتثبيت عائدية الموصل إلى العراق، وقد شكّل مجلس عصبة الأمم لجنة للتحقيق الأممي في 30 سبتمبر (أيلول) العام 1924، وأجرت هذه اتصالات وقامت بزيارات إلى لندن وأنقرة ودمشق وبغداد والموصل، وقابلت عدداً من الشخصيات والأعيان وأهالي المنطقة، وقرّرت في نهاية العام 1925، ضم الموصل إلى العراق لاعتبارات جغرافية وقومية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وسياسية، كما ورد في تقريرها، ووافقت عليه تركيا مع تعديلات طفيفة، ووقّعت في تلك الفترة معاهدة عراقية – تركية – بريطانية.



424
اليونيسكو و"نظريّة" الهيكل
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

أعلنت اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) عدم أحقية "إسرائيل" في امتلاك الأماكن التاريخية في القدس، ورفضت وصفها بأسمائها اليهودية، وقالت في قرار اتخذته لجنة فرعية بالمنظمة يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري (2016) إنها إرث تاريخي خاص بالتاريخ الفلسطيني، مثل المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف وحائط البراق، وذلك بالأسماء العربية، وليس بالتسمية اليهودية "جبل المعبد".
صوَّت لصالح القرار 24 دولة، ورفضته 6 دول، هي: (المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وأستونيا وهولندا ولتوانيا)، وامتنعت بعض الدول عن التصويت مثل: فرنسا وألبانيا واليونان والأرجنتين واليابان وعدد من الدول الإفريقية، وغابت عن جلسة التصويت صربيا وتركمانستان.
أثار قرار اليونيسكو ردود فعل حادّة لدى دولة "إسرائيل" وسخطاً شديداً وغير مسبوق ضد اليونيسكو، لم يظهر مثله في تاريخها، باستثناء مرتين:
الأولى – حين صدر قرار الأمم المتحدة 3379 في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1975 والخاص باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
حينها ثار حاييم هيرستوغ ممثل "إسرائيل" في الأمم المتحدة، فقام ومزّق القرار من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل إنه تباهى بصهيونيته، واصفاً القرار بأنه مدعاة للاشمئزاز. وكانت غولدا مائير رئيسة وزراء "إسرائيل" (السابقة) قد قالت بتحدٍّ: علينا أن نعلق الباجات على صدورنا ونكتب عليها "إنني صهيوني". وحين تولى هيرستوغ رئاسة الدولة في "إسرائيل" (1986) أقسم: ألاّ تنتهي مدّة رئاسته (1990) إلاّ ويكون القرار 3379 قد أعدم. وفعلاً بُعيد ذلك بقليل تم إلغاء القرار الأممي التاريخي، في سابقة خطرة في 16 ديسمبر (كانون الأول) العام 1991.
الثانية – قرار نحو 3000 منظمة مجتمع مدني بإدانة الممارسات "الإسرائيلية" ودمغها بالعنصرية، وذلك في مؤتمر ديربن (جنوب إفريقيا) العام 2001، وحينها هدّدت الولايات المتحدة وكندا بالانسحاب من المؤتمر، وعملتا على تعويم القرار، وخصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية الإجرامية، وسعت "إسرائيل" و"حماتها" إلى العمل على تغيير وجهته في مؤتمرات لاحقة في جنيف حول العنصرية، وتحقّق لها ما أرادت، وللأسف الشديد ففي المرتين حصل العرب على نصر سهل وكبير ثم ناموا، في حين كان ذلك حافزاً جديداً لـ"إسرائيل" ويقظة لها في المحافل الدولية للقيام بكل ما من شأنه دعم وجودها واستمرارها وتبرير احتلالها وعدوانها القائمين.
من هذا المنظور نقرأ ردود الفعل "الإسرائيلية" اليوم حول قرار "اليونيسكو"، فقد قال عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إنه قرار سخيف واليونيسكو تمثّل مسرحاً للهزل. أما رؤوفين ريفلين رئيس الدولة فعلّق عليه بقوله: إن من يُقدم على فعلة إنكار علاقة اليهود بالقدس، فإنه يهين نفسه، وقال رئيس الكنيسيت يولي أدلشطاين: إن القرار دليل عدم وجود المنظمتين (ويقصد اليونيسكو والأمم المتحدة)، ناسياً أن "إسرائيل" تأسست بقرار الأمم المتحدة 181 لعام 1947، ووصف وزير الداخلية الحاخام إرييه درعي: اليونيسكو، بأنها عار يلطّخ الأمم المتحدة، وجاءت التعليقات وردود الفعل من قبيل أن القرار دعم للإرهاب وهو معاد للسامية، وغير ذلك.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كانت "إسرائيل" لا تكترث بالقرارات الدولية، فلماذا أقامت الدنيا ولم تقعدها لصدور قرار من اليونيسكو بشأن مسألة تاريخية؟ الجواب يعود إلى موقفها من القرار 3379 الذي يسحب الشرعية القانونية عن قيام دولة "إسرائيل"، لا سيّما بممارستها العنصرية، ويصب في هذا الاتجاه قرار مؤتمر ديربن وتقرير غولدستون حول الممارسات "الإسرائيلية". أما قرار اليونيسكو، فإنه يسحب الشرعية التاريخية التي تحاول "إسرائيل" التعكّز عليها بادعاء احتلال المناطق الفلسطينية المقدسة.
لذلك نلاحظ الغضب والتوتر على سلوك وتصرفات القادة "الإسرائيليين"، عند سماعهم خبر نفي علاقة اليهود بالمسجد الأقصى. وهو ما عبّر عنه نتنياهو بسخرية حين اعتبر عدم وجود علاقة "لإسرائيل" بالأماكن المقدسة، هو مثل نفي علاقة الصين بسور الصين أو مصر بالأهرام.
إن قرار اليونيسكو ذا الأهمية الاستثنائية ينسف نظرية الهيكل "دولياً" ويفضح زيفها علمياً، ولهذا لا بدّ من العمل على دعمه وتعميمه واستخدامه في الصراع الدبلوماسي والقانوني والتاريخي، المدني والسلمي، ضد "إسرائيل"، خصوصاً بحشد دول ومنظمات دولية أخذت تدرك أكثر فأكثر، حقيقة عدوانية "إسرائيل" والدور التخريبي الذي تقوم به في المنطقة وعلى النطاق العالمي بتهديد السلم والأمن الدوليين. والقرار انتصار للحق العربي التاريخي في فلسطين، حيث لم تستطع الحفريات التي امتدت لعشرات السنين إثبات العكس، ومثل هذا القرار بالتالي يفقد أي مبرّرات أخرى سواء بضم القدس، فضلاً عن اعتبارها عاصمة أبدية "لإسرائيل".
وإذا كانت القدس مدينة الأديان السماوية الثلاث، فهي مدينة مفتوحة في الإدارة الفلسطينية السابقة يوم كانت ضمن الدولة العثمانية وحتى الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيم البلاد العربية وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو العام 1916، مثلما كانت ملتقى لأتباع الديانات الثلاث، فإنها يمكن أن تكون كذلك، خصوصاً برفع يد الاحتلال عنها، وتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وإذا كان القرار خطوة إيجابية في الطريق الصحيح، فالأمر بحاجة إلى تعزيز وتعميق واستخدام جميع الوسائل المشروعة للضغط والإقناع لدعم هذا القرار والاستناد إليه بإصدار قرارات لاحقة. فهذا المكسب الذي تحقّق على المستوى الدولي ينبغي ألاّ يضيع في غمرة الأحداث وازدحام الأجندات، ولا بدّ من إلفات النظر لمحاولة التراجع والنكوص عنه، وإلى الضغوط التي سيتعرّض لها البعض، وكانت مديرة عام اليونيسكو السيدة ايرينا بوكوفا قد صرّحت بعدم رضاها على القرار، وقالت إن القيمة العالمية للمدينة يرجع إلى التركيب المترابط الذي يجب أن يشجّع على الحوار وليس المواجهة.
وينبغي ألاّ ننسَى أن الولايات المتحدة قد أوقفت دعمها لليونسكو البالغ 80 مليون دولار سنوياً في العام 2011 بعد قبول عضوية دولة فلسطين. وقد نتوقع إجراءات أخرى مماثلة بعد صدور هذا القرار، وهو ما يذكرنا بالوسائل التي تم استخدامها على مدى نحو 15 عاماً، بخصوص القرار 3379، حتى أطيح به في سابقة لم تحدث في تاريخ الأمم المتحدة أن أصدرت قراراً، ثم عادت وناقضت نفسها بنفي تهمة العنصرية عن الصهيونية.




425
أما الشرط الثاني، فهو أنك تستطيع حماية ثلاثة أشخاص من الملاحقة؟ فسألني من هم؟ قلت: اثنان أنت تختارهم والثالث أنا، وضحكنا كثيراً، وكان يستعيد تلك الشروط "الجهنمية" كما يسمّيها حين نلتقي، وهو ما استعدناه في جلسة على الغداء دعوته إليها مع باقر إبراهيم (أبو خولة) في بيروت في مطعم الكبابجي الشعبي الذي يحبّه كثيراً.
ظلّ يسأل عني حين غبت عنه لأدائي للخدمة الإلزامية، وهو شديد الحساسية لخصوصية وضعنا، فلا يحاول الاستفسار مباشرة أحياناً. وكانت صلتي قد انقطعت بالعالم الخارجي تماماً، وكان يسأل حسن شعبان عني، الذي كان يطمئنه طالما لم يحدث شيء ذو بال، فالخبر السيىء يصل بسرعة كما يقال.
بعد انفكاكي من الخدمة الإلزامية، وكانت الموافقة على تعييني قد صدرت قبل أكثر من عام ونيّف على ملاك جامعة بغداد، كلية القانون والسياسة، وبسبب عدم الموافقة على انتدابي طيلة أكثر من عام، علمت بتنسيبي إلى مركز الدراسات الفلسطينية بصفة تدريسي، وظلّت علاقتي مع المركز قائمة إدارياً، حسب كتاب الموافقة على تعييني الأول والمنسّب إلى المركز، ولكنني لم ألتحق بعد انتهاء مدة الخدمة الإلزامية التي كان متبقّياً منها نحو ستة أشهر، ولكنني لم أكملها بعد صدور قرار من مجلس قيادة الثورة يسمح بدفع البدل النقدي، وهو ما بادرت إليه على الفور. ويبدو أن تلك الإجراءات والتعليمات والقوانين التي جرى إعدادها بخصوص العسكريين والهاربين والغائبين والمفقودين، كانت تمهيداً للحرب العراقية – الإيرانية.
حين علمتُ أن وميض أصبح مديراً للمركز بالوكالة، قررت الذهاب إلى بيته، وهناك فوجىء بمجيئي وبالتغييرات التي طرأت عليّ، سألني هل أنت مطارد؟ قلت له: أنا موظف عندك، فضحك، قال: أتمزح؟ قلت له: منذ أكثر من سنة ونيّف، وأطلعته على كتاب تعييني، قال: لقد استلمت المركز بالوكالة، وسيكون الأمر لمدة محدودة، ثم سألني: كيف يمكنني مساعدتك، وبماذا؟ قلت له: أنهيت الخدمة الإلزامية، ولا بدّ لي من الالتحاق بالعمل الذي نُسبت إليه، وإلاّ سأعتبر مستقيلاً بعد إنذاري. ما أريده هو أن ألتحق رسمياً وأن تمنحني موافقة نظامية للسفر ضمن الإجازة الصيفية.
فكّر قليلاً، ثم قال: أنت تطلب حقاً، وأنا أتصرف ضمن صلاحيتي وفي إطار القانون، وأردف ذلك بالقول: غداً نلتقي في المركز و"تدلَّل"، قلت له: أرجو أن لا أسبب لك إحراجاً، قال: أبداً، والمسألة نظامية وهي بيننا (بين مدير المركز وتدريسي وهي مسألة طبيعية)، قلت له: غداً سأسجل مباشرة، وبعدها بأيام سأمرّ عليك للحصول على موافقة السفر، ضمن العطلة الصيفية لأساتذة الجامعة، وإن كان الوقت المتبقي منها قصيراً؟ وحصل ذلك بالفعل. أتذكّر وأنا أمدّ يدي لأستلم الورقة التي انزلقت من بين أوراق كثيرة كانت أمامه ولا تزال صورتها محفوظة لدي، ودّعني بابتسامة ودون كلام لأنه كان يعرف أنني لن أعود.
عند حصولي على موافقة السفر وإجراء معاملة تأشيرة الخروج بسهولة ويُسر (كأستاذ جامعي)، ذهبت إلى المركز لأودّعه قبل سفري بيوم واحد، وكنت قد غيّرت مكان سكني، تحوطاً لأي احتمالات، لكنني لم أجده.
قبل سفري بأسبوع، ودّعت رياض عبد عيسى الزهيري الذي كان معي في الخدمة الإلزامية، حيث توجّه إلى دمشق، وبتشجيع مني، وكنت قد أعطيته بعض العناوين والأسماء، لأنني أعرف وضعه وما حصل له، كما ضربت له موعداً في مقهى الحجاز بالشام، مع إشارة بمن سيتصل به، وسألني كيف لي أن أعرفه، قلت له: إنه يعرفك، وهو سيبادر بالكلام معك. وكنت أرغب في مساعدته بالحصول على عمل كأستاذ جامعي بالجزائر وهو من المختصّين القلائل البارعين والأساتذة القديرين في القانون الإداري.
ومضى الأسبوع وهو ينتظر حتى حان موعد اللقاء، فذهب في اليوم المحدّد وفي الساعة المحدّدة ليجلس في المقهى المذكور وأخذ يتلفت يميناً ويساراً، وإذا بي أدخل إلى المقهى وكان أول من استقبلني هو الشاعر عزيز السماوي، وبصوته الجهوري قال: أهلاً أبو علي (الحمدلله عالسلامة). فالتفت رياض مندهشاً عندما سمع اسمي، لكنه تنفّس الصعداء، وضحكنا كثيراً، وتذكرنا الأصدقاء والأعدقاء وتلك الأيام التي لا تنسَ، مستحضرين ذكر الأسماء الطيبة والنزيهة والإنسانية، وفعلاً أرسلنا أوراقه مع توصيات إلى الجزائر حيث تم قبوله، فغادرنا للعمل، وكنت قد حصلت على موافقة للعمل أيضاً في إحدى الجامعات، كما حصلت على تعيين للعمل في سوريا، في وزارة العمل، ولكن قيادة الحزب الشيوعي، طلبت مني التفرغ لاستلام مسؤولية العلاقات الوطنية والعربية وخصوصاً مع القيادة القومية في سوريا، إضافة إلى مسؤوليات أخرى.
لم أنسَ مساعدته تلك التي يعتبرها "طبيعية"، وضمن حدود القانون والصلاحيات الممنوحة له، ولكنني حرصت ودفعاً لأية حساسيات أو ردود فعل أو تفسيرات بدعم معارضين وما شاكل ذلك أن أتجنّب الحديث عنها، مثلما تجنّب هو الآخر، وكأننا باتفاق ضمني (اتفاق جنتلمن). فهو من جانبه لم يذكّرني يوماً حتى عندما نكون وحدنا بذلك، علماً بأن رغبتي كانت جامحة بأن أبوح للجميع بما قدمه لي، وعلى أقل تقدير للمقرّبين مني. واستمرّ الأمر حتى بعد أن زالت المحاذير، فلم أذكر ذلك إلاّ الآن فقط، وبعد رحيله، وذلك إقراراً مني بدوره واعترافاً بجميله واستذكاراً لمواقفه الجريئة، فوميض المثقف، الشفاف، الجاد، تجتمع في خصاله الذاتية: البساطة جداً لدرجة الزهد، والصدق جداً لدرجة الطفولة، والشجاعة جداً لدرجة التضحية بالنفس.
   باستعادة تلك الأيام وأنا أستذكر اللحظة الأخيرة التي تقابلنا بها قبل مغادرتي بغداد العام 1980، حين التقت عيناي بعينيه، أدركت كم هو كبير هذا الرجل، وكم هو منسجم مع نفسه، وكم يكون الإنسان سعيداً حين يكون باتساق بين عقله وقلبه وضميره، وأظن أن الشاعر الجواهري هو الذي قال: ألا ليت الإنسان ينسجم مع نفسه دائماً!!.
- IX -
كان وميض قد سأل عني عامر عبد الله في براغ العام 1983 خلال حضورهما المؤتمر الذي دعا إليه مجلس السلم العالمي، خصوصاً وقد علم أنني كنت منسقاً لأعمال اللجنة الوطنية للسلم التي أسسناها بالشام تمييزاً لأنفسنا عن مجلس السلم والتضامن العراقي. وقد ضممنا إليها الأعضاء السابقون، إضافة إلى مجموعة جديدة من الخريطة السياسية والثقافية العراقية، بينهم الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، وكان قلقاً بعد أن سمع بما جرى لنا في مجزرة بشتاشان، على يد الاتحاد الوطني الكردستاني "أوك" وقد عرف أنني التحقت بفصائل الأنصار الشيوعية في مهمة إعلامية وفكرية، وهو ما أصبح متداولاً وإن على نحو محدود، وطمأنه عامر عبد الله بأنني بخير، وقد وصلت إلى دمشق، وسأتوجّه إلى موسكو للعلاج، بعد أن نجوت من المذبحة.
وحين تأسَّست الجمعية العربية للعلوم السياسية العام 1987 بمبادرة من خير الدّين حسيب، كان لوميض جهد كبير فيها، وقد ترأسها لدورتين، وكان اجتماعها الأول في قبرص، وقد أطلعني جورج جبور على مسعاه بهذا الاتجاه، مثلما دعا لتأسيس علم سياسة عربي، وكان قد سألني إن كان لدي مانعاً من حضور المؤتمر، حتى ضمن الوفد السوري،  فاعتذرت لكي لا تختلط الأمور. وأستطيع القول إن فترة إدارة وميض كانت الأكثر حيويةً وتنوّعاً في الأنشطة والفعاليات والدراسات والنشر، بما فيها حيوية المجلة التي تصدرها. وهو ما كنت أتابعه من خلال ما ينشر.
وفي أواخر الثمانينات التقى ماجد عبد الرضا في براغ، وأخبرني ماجد أنه سمع كلاماً مهمّاً وموضوعياً، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وكان وميض قد نشط بعد حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، إثر غزو القوات العراقية للكويت، مع مجموعة من الشخصيات الوطنية العراقية، بينها عدّة شيوعيين من الذي عادوا إلى العراق ومعظمهم بسبب خلافات داخلية، منهم: ماجد عبد الرضا وحسين سلطان وخليل الجزائري وخالد السلام، إضافة إلى حسن شعبان وسعد ناجي جواد ودريد سعيد ثابت (في بغداد)، وكانت المجموعة متحرّكة، يدخل فيها واحد ويخرج منها آخر، لكنها عُرفت باسم "مجموعة الثمانية".
وكانت المجموعة تسعى للحصول على جريدة، وقابلت لهذا الغرض وبترتيب من وميض، طارق عزيز، لشرح توجهاتها وكونها ليست تنظيماً، وإنما مجموعة من الشخصيات الوطنية المتنوّعة المشارب، التي تسعى لتقديم رؤيتها إزاء الأوضاع بما يعزز النهج الوطني، ويساهم في مواجهة التحديات الخارجية. وقد طلب طارق عزيز من المجموعة تأسيس حزب لتتم إجازته في إطار توجهات كانت قد أعلنت عنها السلطة في حوارات قيادية تم تسريبها إلى مجلة "اليوم السابع" في باريس، وقد ناقشت المجموعة المسألة وتفاوت الرأي حولها بين الموافقة عليها أو الاستمرار في طلب منح امتياز لإصدار جريدة تحمل اسم "الإخاء الوطني"، ولكن سرعان ما دبّت الخلافات بينها أيضاً، خصوصاً حين شعرت أن الأجواء لا تزال ملبّدة بالغيوم، وأن السلطة غير مستعدّة لتقديم أي تنازل مهما كان بسيطاً، واكتفت بإرسال بعض المذكرات بين حين وآخر ثم توقفت.
وفي إحدى زيارته للقاهرة، وكنّا نحضر مؤتمراً مشتركاً، ناقش معي الفكرة، وقلت له: إن الحكم غير جاد، وورطة لكم إصدار جريدة، فماذا ستكتبون؟ وكيف سيمكنكم أن تتحاشوا صور الرئيس وتصريحاته؟ وستكون كل كلمة محسوبة عليكم، وحتى لو كان الأمر جاداً من جانب السلطة في منحكم جريدة، فعليكم الاعتذار بحجة عدم وجود كادر وعدم توفر رأسمال، كما أن المسألة تحتاج إلى تفرّغ ليس بمقدور المجموعة تحقيقه، علماً بأن حسن شعبان كان قد اختير لرئاسة تحرير الجريدة.
قلت له: من الممكن أن تطلبوا إصدار مجلة فكرية فصلية (كل 3 أشهر أو 4 أشهر أو 6 أشهر) تناقشوا فيها قضايا نظرية عامة، لنشر الوعي الديمقراطي والثقافة الحقوقية، وهو بنظري أجدر لكم، ولكن قبل كل شيء هل النظام مستعد لفتح صفحة جديدة وإقرار التعددية فعلاً وإطلاق حريّة ولو محدودة للأحزاب للعمل الشرعي القانوني، وحل المسألة الكردية وإعادة المهجرين وانتهاج سياسة عربية وإقليمية جديدة، وإعادة النظر بالدستور وبمسألة الحزب القائد؟ أم هناك نوعاً من الاستهلاك والتسويق المحلي والدولي، بسبب فشل مغامرة الكويت والرغبة في امتصاص النقمة الداخلية؟
ولديّ مراسلات مع خليل الجزائري بهذا الخصوص، وأحتفظ بعدد من رسائله، يمكنني نشرها في وقت مناسب، وهو الذي راح ضحية مقابلة تلفزيونية قال فيها: إنه مع معارضة دستورية ويدعو لحل سلمي للقضية الكردية، وبالتفاوض مع القيادات الكردية. وكان قد عاد إلى العراق بعد عودة ماجد عبد الرضا وحسين سلطان قبله.
وكنّا خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها قد جرّبنا أن ننصح النظام، وأن نبحث معه وإن كان على نحو مباشر أو شبه مباشر أو حتى غير مباشر إمكانية تحقيق مصالحة، والانفتاح على القوى الأخرى لإعادة الإعمار وبناء ما خرّبته الحرب، والانطلاق في طريق التنمية، لكننا وصلنا إلى طريق مسدود سواء في كتلة "المنبر الشيوعية" أو في "مجموعة باقر إبراهيم وعامر عبد الله" وغيرهما من القيادات الحزبية التي كانت بصدد مراجعة لمواقفها، وخصوصاً من الحرب العراقية – الإيرانية والمشروع الحربي والسياسي الإيراني، الذي عارضناه بشدّة كما هو معلوم.
كما أن لبعض أطراف الحركة الكردية محاولات أخرى في الثمانينات، منفردة ومجتمعة، لكنها هي الأخرى فشلت في حلحلة مواقف النظام، وقد بذل مكرّم الطالباني جهوداً كبيرة للوساطة، بما فيها مع الشيوعيين، وقد فشلت جميع تلك الجهود.
- X -
أتذكّر أننا التقينا في القاهرة على هامش ندوة حقوقية – إعلامية نظمها اتحاد الصحفيين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان العام (1999) لتدريب إعلاميين على الثقافة الحقوقية، وحقوقيين على الثقافة الإعلامية، وحدث شيء مثير في تلك الندوة، فحين تكلّم جاسم القطامي وهو شخصية قومية عربية كويتية مرموقة، ووصل إلى الحصار على العراق وموت مئات الآلاف من الأطفال، تهدج صوته وبكى بصوت عالٍ، فما كان من ناصر العبد العال زميله ورفيقه إلاّ أن أخذ الورقة من يديه وأكمل قراءتها.
في القاهرة دعانا الأخ حلمي شعراوي رئيس مركز البحوث العربية – الإفريقية، لإلقاء محاضرة عن العراق وظروف الحصار، وقدّمنا كأكاديميين ومفكرين عراقيين، بل معارضَين، حيث قال: إن وميض هو من معارضة الداخل وشعبان هو من معارضة الخارج، لكنهما يلتقيان عند نقطة أساسية وهي أن التغيير ينبغي أن يكون بأيدي عراقية، وأنه حق للشعب العراقي وحده دون سواه، إضافة إلى دعوتهما لقيام نظام ديمقراطي تعددي، وهما يلتقيان عند موقف موحّد إزاء الحصار الدولي المفروض على العراق ويرفضان القرارات الدولية ونظام العقوبات الذي يقع على كاهل العراقيين وليس السلطة.
وقد أصدر المركز لاحقاً: المداخلتين بكرّاس، وضمّ إليهما مقالة كان قد كتبها عزيز الحاج في وقت سابق عن التركيبة السياسية العراقية، ومقالة أخرى كتبها جورج غالاوي، وصدر الكراس بعنوان: "العراق تحت الحصار" وكانت الطبعة الأولى في العام 1999، وصدرت طبعة ثانية عشية غزو واحتلال العراق (مارس – آذار 2003).
وفي القاهرة أيضاً، طلب مني وميض في إحدى المرّات اللقاء مع أحمد الحبوبي الوزير السابق والعروبي المعارض، فاتصلت به، ورحّب بذلك، ثم قمنا بزيارته في بيته، ودخلنا في حديث وحوار متشعب، وإن كنا من منابع مختلفة، لكن ما يجمعنا هو الكثير من المشتركات، وأظن ذلك كان يزيده حزناً، ولم تمنعه ظروفه وهو الذي يعيش في بغداد من لقاء معارضين للنظام. وكان حريصاً حتى بعد الاحتلال على متابعة موقف الحبوبي لأن لديه تقييماً ورمزية لبعض الشخصيات لوطنيتها ونزاهتها، وهو ما كان يبحث عنه.
جدير بالذكر أن وميض لعب دوراً مشرّفاً أيام الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق، حيث كان على رأس مجموعة متطوّعة، عملت خلال أكثر من عشر سنوات على التخفيف من تبعات نظام العقوبات، حيث كان ينتقل بين عمان وبغداد بالحافلات (السيارات الكبيرة) ولساعات طويلة، في ظروف مناخية وصحية قاسية، بهدف جمع التبرعات وتوفير ما يمكن توفيره من الأدوية للمحتاجين، خصوصاً وأن زوجته طبيبة، وكم استطاع إنقاذ عشرات بل ومئات العوائل من موت محقق، بسبب عدم الحصول على المضادات الحيوية أو بعض الأدوية الضرورية. إذا كان التاريخ سيسجل ما قام به وميض على الصعيد السياسي والفكري، فإن مساهمته الإنسانية في مساعدة الناس البسطاء ستضيف الكثير إلى رصيده.
في إحدى اللقاءات وأعتقد أنها في بيروت أو القاهرة، كان وميض قد أعطى تصريحات لإحدى الصحف حول مقتل محمد صادق الصدر، وحلّل الموقف والاحتمالات والتداعيات، وقد سألني عن رأيي ، فقلت له: ليس لديّ ما أضيفه بخصوص التحليل والتوجّه وموضوع المرجعيات، باستثناء النبرة الجازمة، وكحقوقي لا أستطيع الجزم بخصوص المرتكب، حتى وإن توفرت لديّ بعض القرائن أو المؤشرات، لكنها ليست كافية لإصدار حكم حول هويّة الجاني.
وكان وميض قد ذكر ثلاث احتمالات هي: الأول هو احتمال جهات خارجية، وقد يكون من بينها الموساد الإسرائيلي، والثاني احتمال تصفيات داخل المؤسسة الدينية (الشيعية – السياسية) بسبب الاختلافات بين توجهات بعضها البعض، خصوصاً وبعضها في الخارج ولا سيّما في طهران، والآخر في الداخل، والخلافات والاتهامات كانت على أشدّها بين الطرفين. والثالث قد يكون الموضوع غير سياسي أي شخصي أو عمل إجرامي فردي، وكل هذه الاحتمالات ممكنة وواردة.
وأقدّر أن ثمة في الأمر خشية من اتهام الحكومة العراقية أو حتى وضعها في دائرة الاتهام، حتى وإن كان بصورة غير مباشرة، وهذا لم أطلبه من وميض بالطبع، ولكن كان من الممكن القول إن هناك جهات أخرى مستفيدة في إسكات صوته، وعلى التحقيق الحكومي أن يكشف ذلك، علماً بأن الأمر يخلق فتنة، فلا بدّ من تحقيق نزيه وتقديم المرتكبين إلى العدالة. نظر إليّ وميض من خلف نظارته، وعلى طرف شفتيه ابتسامة خفيفة، وقال: لو كنت مكانك لقلت ذلك. فقمت وقبّلت رأسه.
وأذكر حادثة ثانية لها دلالة، فعشية غزو العراق انعقد مؤتمر في بيروت، وكنت قد طلبت الكلام على غير عادتي قبل بدء الجلسة، إذْ نادراً ما أتحدث في المؤتمرات العامة، لكنني كنت أريد أن أوجه كلمة للتاريخ، حيث كنت أشعر أن العراق موضوع على طاولة التشريح، فعسى أن تكون تلك الكلمات مساهمة مع غيرها في تغليب صوت العقل والحكمة.
كنت أعرف توجّه المؤتمر وإدارته، إضافة إلى بعض المزاودات التي ستُقال فيه، والخطابات الرنانة وارتفاع الأصوات والقبضات، وكأنها تحلّ مشكلة الغزو الإمبريالي – الهمجي الذي يستهدف العراق والأمة العربية ككلّ. انتظرت أن أحصل على الكلام، لكنه تحدث 30 متحدّثاً في الجلسة، ولم أعط "حق الكلام"، وغرّبت وشرّقت الكلمات بلغة بعضها يعود إلى أيام أحمد سعيد وصوت العرب. وللتاريخ أقول: لم يكن العراقيون هم من تحدث، بل كان بعض الأخوة العرب الذين أخذتهم الحماسة، وإن كنت أقدرها وأقدر مشاعرهم، لكن لغة العواطف في مثل تلك الظروف الحساسة ليست هي المطلوبة. كتبتُ ورقة مرّتين إلى الرئاسة أذكّرها بأنني طلبت الكلام قبل بدء الجلسة، ولكن دون جدوى، فما كان مخططاً له قد تم تنفيذه.
في اليوم الثاني، وعلى عادتي في مثل هذه المؤتمرات الكبيرة، والتدافع حول طلب الكلام، كنت أجلس في اللوبي، ولكنني تذكّرت موعداً مع أحد الأصدقاء باللقاء في المؤتمر، فدخلت القاعة لأستدعيه للخروج لنتحدّث، وكان أحد المتكلمين قد انتهى من كلامه، وإذا برئيس الجلسة يفاجئني بأن الكلمة لي.
لم أتردّد وأخذت المايكروفون، وقلت: لا أحد يستطيع المزاودة عليّ في موقفي من الحصار الدولي الجائر، ومن رفضي للقرارات الدولية (ولديّ كتباً بذلك منذ العام 1994 وما بعده)، وكنت قد أعلنت رأيي منذ سنوات طويلة، أنني ضدّ التدخّل الخارجي، لا سيّما العسكري، وأعتبره كارثة حقيقية، واختلفت مع أطراف في المعارضة العراقية بسبب ذلك، ولكنني بصراحة استمعت يوم أمس إلى دعوات ونداءات تزيد من غطرسة الحاكم، وبدلاً من نصحه بالتنازل لشعبه وتحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة السياسية والانفتاح وإطلاق الحريّات وحل المسألة الكردية وإعادة المهجرين، فإنني على العكس سمعت كلاماً مغايراً للأسف الشديد.
وأضفت على ذلك: أعتقد أن الحاكم لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام، فلديه الكثير الذي يسمعه يومياً. وقلت: إن الحكم في العراق بالنهج السائر عليه من جهة، وبالحشود للحرب ضدّه من جهة ثانية، حيث تُدقُّ طبول الحرب، سينتهي إلى كارثة محققة لا محال، وآن الأوان ولو من باب "الهزيمة المشرفة"، انتهاج سبيل آخر، وذلك مسؤوليتنا كنخب عربية في تبصير الحكّام، ومخاطبتهم في هذه اللحظات التاريخية الحساسّة.
ساد صمت بعد كلامي وبعد دقائق خرجت من القاعة ولحقني وميض، وقال: إنك تعبّر عنا وأنت مثّلتنا جميعاً، وأتذكر أن سعد قاسم حمودي الذي كان حاضراً، تبعني لخارج القاعة وشدّ على يدي، وكنت أرى شفاهه تتحرّك، ولكنني لم أسمع صوته، وهو ما فعله للأمانة نبيل نجم أيضاً، حين صافحني بحرارة متمنّياً لي الصحة والسلامة. أذكر ذلك لأنه مقطع من مشهد عام لا يزال مؤثراً في الواقع العربي. وهو ما كان يحزّ في نفس وميض.
- XI -
لقد كان وميض منذ اللحظة الأولى للاحتلال رافضاً له، وللتشكيلات التي أقيمت على أساسه، وعند عودتي إلى بغداد، في شهر حزيران (يونيو) العام 2003 التقيته، واتفقنا على تحرّك مشترك، كل من موقعه ضدّ الاحتلال، خصوصاً وأن محاضرتي في الجامعة المستنصرية كان لها صدىً طيباً في أوساط عديدة ومن تيارات مختلفة، لا سيّما القوى المناوئة للاحتلال. وكانت بعض الأسماء تتردّد حول إمكانية ضمّها إلى مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله لاحقاً بول بريمر، ومن ضمن هذه الأسماء اسمه، ولكنه كان رافضاً بحزم، خصوصاً بالتشكيلة التقسيمية الطائفية – الإثنية التي أعلن عنها فيما بعد.
التقينا ثلاث مرات عند الزعيم العروبي ناجي طالب الذي استمريت في زيارته كلما زرتُ بغداد، وفي إحداها كان معه صبحي عبد الحميد وعبد الحسين الجمالي، وحضر معنا في إحدى الجلسات الشيخ جواد الخالصي، وهو الذي اصطحبني في المرة الثالثة، وكان وميض قد تأخر، فأرسل لي الشيخ جواد الخالصي، وعجبت حين وجدت الشيخ الخالصي في بغداد دون عمامة، وقد لفّ يشماغاً (كوفية) على رقبته، وجلست بجانبه في السيارة رشاشة كلاشنكوف.
وعلى الرغم من شحّ إمكانية أن يكون ناجي طالب على رأس تشكيلة كان يُراد لها كصيغة انتقالية، لكن ذلك ما أوصلناه للأخ الأخضر الإبراهيمي، الذي طلب ملاحظاتي حول الدستور، وكتبتها وأرسلتها له بالفاكس بعد زيارتي الثانية في تشرين الثاني/ كانون الأول (نوفمبر/ ديسمبر) العام 2003، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، وكان الأمريكان قد قرّروا كل شيء، ولذلك كان من العبث، بل السذاجة التعويل على صيغة المحاصصة والتقاسم الوظيفي، وحتى أديب الجادر الذي عمل مع عدنان الباججي توصل إلى هذه القناعة بعد زيارة للعراق دامت عشرة أيام فقط، وغادر، ولم يعد بعدها إلى بغداد على الإطلاق، وكتب مقالة كانت أقرب إلى مرثية للوضع المحزن والمأساوي الذي انحدرت إليه البلاد، حيث الطائفية والمحاصصة والفوضى والعنف والفساد، ونشر ذلك في جريدة الحياة اللبنانية (لندن).
الجلسة مع ناجي طالب ممتعة، فهو كثير الإصغاء وكثير الأسئلة، وكثير التهذيب وكثير التواضع، وكانت أسئلته نابعة من انضباطه العسكري وعقله المنظم، ومن كونه رجل دولة من الطراز الأول، وهو أحد أبرز الضباط الأحرار الذين خطّطوا للثورة.
كنت قد عرّفته بنفسي في أول لقاء، وذلك كي أشكره، حتى وإنْ كان الأمر بعد عقود من الزمان، فقد ساهم في إطلاق سراحي ثم سراح عمي شوقي في العام 1963، ببرقية من الحاكم العسكري العام رشيد مصلح في حينها، لعلاقة والده مع عمي الدكتور عبد الأمير شعبان الذي كان طبيباً في سوق الشيوخ في الأربعينات، واستمرت تلك العلاقة، حيث كنّا نتلقّى أنواعاً من التمور الممتازة سنوياً من الحاج طالب، واستمرت في كل سنوات الخمسينات تقريباً.
وكان وميض قد سأل ناجي طالب مرّة: ماذا لو قررت الأمم المتحدة أن تتولى إدارة المرحلة الانتقالية؟ كان يصمت كثيراً، ثم يعلّق بهدوء، لن أقبل ذلك إلاّ إذا كان هناك إجماعاً من كل القوى التي ستشارك، ووفقاً لبرنامج سأضعه وفي المقدمة منه انسحاب القوات المحتلة من العراق.
حين تأسَّس المؤتمر التأسيسي (الوطني العراقي)، وضمّ شخصيات قومية وإسلامية ووطنية عامة، كان وميض وآخرون يريدونني أن أكون عضواً في أمانته العامة، وهناك من ألحّ عليّ وأنا أحترمه كثيراً، وكان رأيي ولا يزال أن لا أمل في التشكيلات التي تقام على عجالة، لأنها ستنتهي بسرعة، فضلاً عن أنه لم يجرِ حوار جاد بين الأطراف المشاركة، خصوصاً لمعرفة كل منها للآخر، وهو ما سيجعل الألغام كثيرة في طريقها.
يضاف إلى ذلك أن هناك اختلالاً في موازين القوى، وستضطر القوى المعارضة للتعاون مع الجهات الخارجية، إذا أرادت أن يكون له حصة في العراق ضمن ما هو قائم، وهو ما فعلته المعارضة السابقة، مع تغيّر الكثير من الظروف والمعطيات، وبهذا المعنى سنضيع فرصة 20 عاماً أخرى لنعود ونلتقي مع القوى الأجنبية المتنفّذة ذاتها، وإذا كنت قد رفضت ذلك قبل 20 عاماً، فهل سأقبل به بعد 20 عاماً مع العمر والتجربة والخيبات الكثيرة.
وكنت ولا أزال أعتقد أن وسائل التأثير كثيرة ومتعدّدة، ويمكن العمل كل من موقعه وبالاتجاه الذي يراه دون أي صيغ ملزمة أو التزامات مسبقة. ولم تستطع جميع التحالفات الظرفية السريعة الاستمرار سواء تحت عناوين معينة أكانت المقاومة أو غيرها للأسباب المذكورة، ويحتاج الأمر إلى ظرف أنسب ومراجعة أشمل ونقد ذاتي من جميع الأطراف والشخصيات.
وخلال فترة ما بعد الاحتلال كان وميض حريصاً على مواقف الشيوعيين، وكان يتمنى ألاّ ينخرط الحزب الشيوعي في الصيغة الطائفية – الإثنية التي شكّلها بول بريمر باسم "مجلس الحكم الانتقالي". وظل يستفسر عن مواقف بعض الشيوعيين القياديين الذين يعرفهم وبعض الكوادر الحزبية، وغالباً ما كان يتصل بآرا خاجادور، وعندما يفقد رقم هاتفه أو رقم هاتف باقر إبراهيم (وقد عمل معه في المؤتمر القومي العربي، وفي المؤتمر التأسيسي)، يعاود الاتصال بي ليستفسر عنهما، وأعيد إعطائه أرقام هواتفهما، مثلما اتصل بالشام بصاحب الحكيم ومحمد جواد فارس وآخرين. وكان يهمه أن يعلن الشيوعيون موقفاً ضد الاحتلال الأمريكي ويدعون إلى سحب القوات الأمريكية، فذلك ما يجنّبهم أي شرخ أو مساس بالهويّة الوطنية العراقية، وبالمناسبة فقد كان معجباً بموقف المنبر المتوازن من الحرب العراقية – الإيرانية.
ظلّ وميض متشبثاً بالأمل، ولكنه كان يأكل بنفسه، بل يحرق في أعصابه، وكم أتذكر بألم حين اعتدى عليه أحد الأشخاص خلال مناظرة تلفزيونية. كان وميض كبيراً ولم ينجر إلى استفزازات عابرة لهذا وذاك أو لاتهامات ظالمة، فقد كانت نزاهته تصل حد الهوس أحياناً، مع أن الأجواء العامة في السابق والحاضر كانت تتّسم بالالتباس والغموض والتآمر المحموم، كل ضد الآخر. وفي حين كان البعض يختفي وراء عناوين أو واجهات أو مؤسسات، كان وميض واضحاً كالحقيقة وشفافاً كزجاج الكأس، لأنه صاحب مشروع تغيير اجتماعي، لم يجد من وسيلة إلا وطرقها رغم الظروف القاسية، فقد عمل على إصدار جريدة: العرب ثم التيار، وكان يريد أن يوصل الرأي بكل الوسائل المشروعة.
أتذكّر حين سُئلت أكثر من مرة من القيادات الكردية: من يمكن أن أرشحه في بغداد لمشاركة في ندوة الحوار العربي – الكردي؟ وفي كل مرة كنت أقول: عليكم بوميض، وكنت أضيف اسم سعد ناجي جواد لاختصاصه بالقضية الكردية، حيث كانت أطروحته في لندن عنها، وكتب كتاباً ودراسات عديدة. وفي العام 2004 دُعينا إلى ندوة في إربيل عن الحوار العربي – الكردي نظّمها المفكّر الكردي السوري صلاح بدر الدين، منسق جمعيات الصداقة العربية – الكردية، وكان وميض حاضراً، وحين حان موعد اللقاء مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الذي وضع المنظمون مكاني إلى جانبه، ودخل وميض القاعة ولم يستدلّ على مكانه، فقمت من مكاني وأجلسته فيه.
وحين تكلّم كان مُبهراً، سواء في العرض أو في الموقف، أو في طريقة التناول أو في التأثير، وهو ما دعا البارزاني للإشادة به، وقد أكّد على الأخوة العربية – الكردية والمصير المشترك مع إقراره بحق تقرير المصير، دون أن ينسى التذكير بقضية العرب المركزية فلسطين.
لم أزر بغداد مرّة، وهي زيارات متكرّرة لعشرات المرات خلال السنوات الـ 13 الماضية، إلاّ وزرت فيها وميض، لكي أطمئن على صحته، ولكي أطفىء بعض الشوق لديّ، ولأستمع إلى أحاديثه المملّحة التي تزيدني رغبة بالتواصل، مثلما كنا نضحك لبعض القفشات والنكت.
حين عرف بمرضي اتصل أكثر من مرّة، واطمئن من أخي حيدر، وبعد شهور كلّمني بقوله: كنت أظن أنك آخر من يصاب بالقلب، وإذا بك مثلنا، فقلت له: إن أصحاب القلوب الرقيقة هم أكثر من غيرهم عرضة للإصابة، على عكس ذوي القلوب الغليظة.
ستفقد الوطنية العراقية أحد أعلامها الكبار، وستخسر النزاهة أحد أقطابها البارزين، وذلك بغياب وميض جمال عمر نظمي، أحد الأصوات المتفردة والواثقة من نفسها والمعتدّة بأطروحتها الجدلية، وسيكون حزن المجتمع الأكاديمي كبيراً برحيل أستاذ غير تقليدي، مجدّد وجريء ومبادر ويتقبّل الحوار والرأي الآخر، بل يسعى إليه حتى مع طلبته، وبقدر ما كان وميض معتزاً بفرديته، فلم تكن لديه أوهاماً بأنها بديل عن الجمهور في عملية التغيير، التي كان مؤمناً بها، لكنه يدرك أهمية نضوج الظرف الموضوعي والذاتي، وعدم حرق المراحل كي تحين اللحظة الثورية، التي كان يترقّبها وظلّ يراقبها، لكنها لم تأتِ حتى الآن، مثلما جاءت يوم انفجر العراق من أقصاه إلى أقصاه في 14 تموز (يوليو) العام 1958.



في الصورة: أحمد الحبوبي، وميض نظمي، وعبد الحسين شعبان



426
وميض نظمي
الحالم الذي قتلته النزاهة!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
- I -
لم يكن وميض جمال عمر نظمي الذي فقدناه، إلاّ الإنسان النزيه، الموصوف بالرقة والدفء والصراحة والرجولة (الجنتلمانية)، ونستطيع أن نتلمّس ذلك من نبرته وابتسامته الموحية ونظرة عينيه المشعّتين بالوداعة والسلام. هكذا يمكننا بسهولة التعرّف على حجم الصدق والأمانة والإخلاص المتدفّق من كلامه، والطّافح على وجهه، سواء كان الحديث مباشراً أو غير مباشر عن أمر لا يريد أن يفضي به، أو يحرص على عدم التصريح فيه، وذلك تبعاً للظروف. وبقدر ما هو رجل الرفاهة والخير والجمال، فهو رجل الصلابة والمواقف الجريئة والتحدّي أحياناً.
لم يكن وميض سياسياً تقليدياً أو حزبياً "منضبطاً" بمعناه البيروقراطي، بل كان من نمط السياسيين المنفتح الذي يستخدم عقله، قبل أن يستخدم عاطفته، وقبل أن يتلقى التعليمات من جهة تزعم امتلاكها للحقيقة أو حق النطق باسمها. كان سياسياً يقلّب الأمور ويفحص المعطيات ويفكّر، ليحدّد الموقف والاتجاه، ضمن بوصلة هو أعدّها لنفسه التي منحها سقفاً عالياً من الحرية، حتى في ظروف لم يكن هذا النوع من التفكير مقبولاً.
إن فعل التفكير هو بحدّ ذاته محنة، خصوصاً في ظلّ سيادة محنة عدم التفكير. وإذا كان وميض سياسياً من نوع جديد ومختلف، لأن المفكر الذي في داخله كان يشرئب دائماً ليعبّر باللحظة المناسبة عن الموقف ويتّخذ القرار، لذلك كان يتجاوز على التقاليد المألوفة في العمل السياسي، ولا سيّما في القوى والأحزاب الشمولية، وهو ما قاده للتمرّد، بل جعله متمرداً دائماً.
وإذا كان السياسيون التقليديون قد انخرطوا في العمل السياسي واعتادوا على الأوامرية والانضباطية، فإن وميض كان يتميّز عنهم، لأن فهمه للسياسة مختلفاً عن فهمهم لها، وحسب ابن خلدون: السياسة عموماً هي صناعة الخير العام، وهي أمانة وتفويض، ولا مجرى لها إلاّ بين تضاريس المحاسبة والتوضيح. وكلّما انحدر الكلام في السياسة ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم، وهو ما كان وميض قد درسه ثم درّسه لما يزيد عن 3 عقود من الزمان.
وإذا كانت السياسة حسب فلاديمير لينين هي التعبير المكثّف عن الاقتصاد، فإنها حسب حنا أرندت تعني بكل بساطة الحرّية، وهو ما حاول وميض تجسيده بنزعته الأرسطوية التي تعيد السياسة إلى الفضاء العام باعتبارها نشاطاً إنسانياً يهدف لتحقيق الخير العام لجميع أفراد المجتمع.
جمع وميض بين العمل السياسي والعمل الفكري، وبين الممارسة اليومية وبين النظرية، واضعاً للبراكسيس مكانة خاصة، بل وضرورية لإعادة النظر بالكثير من المسلّمات النظرية، لا سيّما إذا لم تعد تتماشى مع نسق الحياة وتطوّرها.
وإذا كان جيل السياسيين عندنا يمتاز بالنّقمة والسّخط والعداء للآخر، وادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة والتفوّق، فإن وميض وربما عدد قليل من جيله، انفرد بمنهج مغاير، حيث كان يسعى للتواصل مع الآخر والتكامل معه، وكان باستمرار يبحث عن مساحات للقاء والتقارب.
ووميض وإن كان من جيلنا، إلاّ أنه انتمى إلى جيل سبقنا، وتأدّب بأدبه وتخلَّق بأخلاقه. إنه جيل الرواد الذين جمعوا بين السياسة والأخلاق، وهو جيل شفاف بشكل عام ارتبط بقواعد عمل طبقها في الغالب الأعم على نفسه وعلى الآخر. وبهذا المعنى، فإن وميض الذي فهم السياسة أيضاً باعتبارها "علم وفن إدارة الدولة"، جعل الأخلاق معياراً لا يبتعد عنها.
ربما كانت معايشة وميض لذلك الجيل أو بقاياه، هي التي عزّزت عنده تلك السّمات، حتى بدا أكبر من عمره، وتجربته بدت أكثر غنىً وعمقاً، خصوصاً وأن ذلك الجيل الذي سبقنا لم يُصب بأمراض العمل السري وفايروس المؤامرات والدسائس، الذي استحكم في عدد من سياسيي جيلنا، وأصبح دليل الشطارة والفهلوة والإغراق في التكتيك، حتى غدا الاستراتيج، تكتيكاً يومياً، لا سيّما على صعيد العلاقات الخاصة.
لم أشأ التحدّث عن الجيل الذي تبعنا أو الأجيال التي أعقبتنا، وبخاصة الجيل الحالي من السياسيين، الذي أصبح له قاموسه الخاص البعيد عن تراث الأجيال التي سبقته، فجيلنا والجيل الذي سبقنا، والأدق الجيلين اللذين سبقونا من الحركة الوطنية لم يعرف الطائفية، ولم يتورّط بعلاقات مشبوهة مع الأجنبي، وكان شعار محاربة الاستعمار الأساس في توجهاته بغض النظر عن آيديولوجيته، بل كانت شبهة حقيقية إذا كان لديك أية علاقات مع جماعات خارجية، وكانت الأنظمة الداخلية للأحزاب بشكل عام تحرّم تلك العلاقات.
كان ذلك في الماضي ويمكن تأرخته لغاية الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980، وعلى نحو أوضح لغاية غزو القوات العراقية الكويت العام 1990، وفيما بعد خلال فترة الحصار الدولي الجائر 1991 – 2003، حيث استحدثت تبريرات وتنظيرات للاستعانة بالقوى الخارجية، لدرجة أخذ يتباهى معظم السياسيين اليوم بعلاقاتهم مع هذه الدولة أو تلك، ومع هذا الجهاز أو ذاك.
وتلك من الظواهر الشاذّة إذا قرأنا تاريخ الجيل السياسي الأوّل والجيل السياسي الثّاني والجيل السياسي الثّالث، وذلك باحتساب عشرينية لكل جيل، أي من العشرينات إلى الستينات وما بعدها، وباستثناءات محدودة لبعض أقطاب الحكم الملكي، فإن السمة العامة السائدة لجميع القوى والشخصيات كانت "الوطنية"، حتى وإن كان ثمة اجتهادات في تحقيقها وفي التحالفات لتعزيزها.
أما الظاهرة الأخرى التي برزت في الجيل السياسي الحاكم، فهي شراهته إزاء المال واندفاعه دون أي اعتبار وطني للاستحواذ على المال العام والانخراط في عمليات فساد مالي وإداري وسياسي، واستثمار المواقع السياسية لأغراض شخصية وانتخابية وحزبية والتغطية على الفساد. وبالطبع، لا أرغب في التعميم فهو "الصَّخرة التي يتكىء عليها المتعبون"، لكن لكل قاعدة هناك استثناءات.
وبشكل عام كانت الأجيال الأولى من السياسيين أكثر نزاهة وترفعاً وزهداً، ولعلّ تلك الصفات جميعها تلتصق بشخصية وميض وتقود حركته وتشكّل خلفية لمواقفه التي اتخذها، صائبة كانت أم خاطئة، لكنها صميمية ونزيهة.
- II -
لقد تمرّد وميض على نفسه – أي على واقعه – أولاً مثلما تمرّد على أسرته، ثم تمرّد على مجتمعه، وبالتالي تمرّد على الحركة السياسية وتقاليدها السائدة، خصوصاً الخضوع والطاعة والانصياع لقرارات الهيئات العليا، لكنه عرف كيف يوائم بين تمرّده الشخصي والتمرّد العام في هارموني، سعى لوضع أسس المصالحة بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخر، المختلف، المغاير، بحيث يكون بقدر ما هو متباين، فهو منسجم، وبقدر ما هو متوافق فهو متعارض، وبقدر ما هو متقارب، فهو متباعد، وكان يجد في ذلك نوعاً من التكامل والتفاعل والتواصل.
وتلك سمة تميّز بها وميض عن كثير من أقرانه السياسيين، فلم يدع الحقد أو الكراهية أو الانتقام تتسلّق إلى قلبه، ووقف حتى مع "جلاّديه" وهم رفاق الأمس، حين اعتقل في العام 1963، موقفاً إنسانياً فيه الكثير من قيم التسامح، رغم آلامه وعذاباته، لأنه كان يدرك طبيعة البيئة السياسية والتربية التنظيمية المتزمتة والولاءات الحزبية، تلك التي رفضها، لا سيّما بصورتها الأوامرية الفوقية الزجرية، والأكثر من ذلك كان يشعر أحياناً بالعطف على بعض المتورّطين منهم، فهو المترفّع عن الصغائر، تلك التي لا ينصرف إليها إلاّ أصحاب العقول الخاوية.
ولعلّ أحد الأسباب أنه صاحب مشروع حضاري، ويعرف أن الثأر أو الكيديّة أو ردّ الفعل غير العقلاني، سيعود بالخسارة عليه قبل غيره، لذلك تحلّى بقدر كبير من التسامح، وهو ما ندعوه "بالتطهّر" الروحي، بعيداً عن روح الانتقام ومواجهة العنف بالعنف، وفي ذلك ممارسة لرياضة روحية مع نفسه ومع الآخر. ولعلّ ذلك أحد دروس العدالة الانتقالية، حيث كان وميض أكثر ميلاً إلى الصّفح من العقاب، وإلى المصالحة من المساءلة، ولكن بوضع ضوابط بعدم تكرار ما حصل من جميع الأطراف.
كان وميض إيجابياً جداً ومرهفاً جداً ومحبّاً جداً ووفياً جداً وجريئاً جداً، وهو ما جعله متميّزاً جداً، وفي الوقت الذي كانت ترتفع القبضات لتنادي العين بالعين والسن بالسن، كان وميض يفكر في الطريقة المثلى لفتح حوار وصولاً إلى التفاهم والمصالحة والمشترك الإنساني، واضعاً ما هو استراتيجي قبل ما هو تكتيكي، وما هو ثابت قبل ما هو طارىء، وما هو مستمر قبل ما هو ظرفي، فقد كان وميض رؤيوياً وصاحب عقل استراتيجي.
وأريد هنا أن أعيد ما قاله عنّي في مداخلته المنشورة في كتاب "الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية" التي هي قراءة لكتابي "تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف"، لأنها أكثر انطباقاً عليه: "إن ما قام به شعبان هو رد اعتبار للفكر، فالرجل كماركسي ظلّ يردّد منذ أكثر من 20 سنة، وحتى قبل ذلك حسب اطلاعي، أن هناك أزمة عميقة على صعيد الفكر والممارسة"... وأقول: "إن كتاب المفكّر شعبان قد "تأخّر" على الرغم من أهميّته الكبيرة، فهو برحابته واستقلاليته، طرح أفكاراً جديدة، ولو كنّا في أوروبا لتلقّفها، أولاً وقبل أي جهة أخرى، الحزب الشيوعي واستفاد منها وساهم في مناقشتها، لكن أوضاعنا ليست طبيعية، فلا شعبان يقبل أن يخوض معتركه الفكري ونشاطه الإبداعي المتنوّع ضمن أطر وسياقات تقليدية ضيّقة تحرّر منها، ولا الحزب الشيوعي يقبل أي نقد لأفكاره وممارساته، ناهيكم عن الاعتراف بأخطائه".
أظنّ أن هذا ينطبق على وميض نظمي وموقفه الفكري من الحركة القومية، التي يمكنني القول إنه سبقها بعقود، فبعضها قد تجمّد وتخشبّت لغته، وبعضها الآخر عاد القهقري، لما ما قبل ذلك، متشبثاً بصيغ ما قبل الدولة، ولو راجعنا الخطاب الناصري أو البعثي للحركات القومية أو بقاياها لوجدنا أن خطابها الستيني أكثر تقدّماً من خطابها خلال ربع القرن الماضي.
استجاب وميض لإيقاع زمنه، فمع صعود الحركة القومية العربية، لم يجد نفسه وهو ابن الخامسة عشر سوى أن ينخرط في انتفاضة العام 1956 دفاعاً عن الشقيقة مصر، ضدّ العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي – الإسرائيلي، وتشرّب من الفكرة الوحدوية العروبية حتى فاض، ما جعله رومانتيكياً أحياناً، أوَتوجد فكرة واقعية لا تحتاج إلى قدر من اليوتوبيا؟ وإن وجِدتْ فستبدو فكرة جامدة دون أي خيال يُذكر!!، ولذلك كانت رومانتيكية وميض جزء من التشبث بالحلم الضروري لأي فكرة، فما بالك إذا كانت جديدة.
وقد أدرك وميض أهمية إعلاء ما يربط العرب على ما يفرّقهم، وهو ما قرأه، لا في كتب التاريخ فحسب، بل بحاضرها ومستقبلها، في إطار البحث عن مكانتهم بين الأمم، ولذلك ترى حديثه يرشّح بالحزن والشوق والحب والسّلاسة والتغنّي، وهو حديث موشّى بالأمل ومطرّز بالأحلام، بوحدة عربية جامعة، تعيد للعرب انبعاثهم الحضاري وتضعهم على طريق التنمية والتقدّم.
لم يكن وميض ماضوياً، وحين يتعاطى مع الراهن واليومي، فإنه كان يفكر بالمستقبل. وكان عقله مستقبلياً، حسب مكسيم غوركي، بوصف أحد ثوريّي عصره الكبار، فقد نظر إلى التجزئة والموروث والتقاليد البالية والحدود المصطنعة، باعتبارها أثقال على صدر الأمة وينبغي إزاحتها، لكي تستطيع أن تتنفّس بحرّية وبشكل طبيعي، وهي أصفاد وضعها المستعمر وذيوله لتكبيل الأمّة ومنعها من تحقيق أهدافها في التنمية المستدامة واللّحاق بركب الشعوب والأمم المتقدّمة.
وإذا كان شيئاً من التقليد بقي في شخصه، فهو ذلك الرابط ما بين الديني بمعناه الطهري، الروحي والأخلاقي، وما بين المدني، التقدّمي والإنساني، وفي كل الأحوال بقيت العروبة والوحدة العربية تمثّل جوهر مشروعه الاجتماعي، فتراه يطعّمها بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ثم يستلهم التراث الحضاري للإسلام وغير ذلك. وكان في القلب منها والمؤشر لها كبندول الساعة النابض هي القضية الفلسطينية، ولعلّ كل من يعرف وميض يقدّر مدى تعلّقه بذلك وإيمانه به ورؤيته المستقبلية له.
- III -
كان بعض القوميين والعروبيين يرون في وميض نظمي قريباً من الضفّة الأخرى اليسارية والماركسية، في حين أن بعض من في الضفّة الأخرى، كان يريد منه القطع مع الماضي للانتقال إليها أو إلى فضائها. ويقول وميض عن ذلك: "بدأت أتأثّر بالماركسية والمادية التاريخية منذ بدايات فشل محاولات الوحدة والانفصال (السورية – المصرية)، لكنني لم أقتنع بأن الطبقة العاملة يمكن لها أن تستلم السّلطة في العراق، إذْ لا توجد عندنا طبقة عاملة، سوى باصات المصلحة وبضع سكك حديدية وعمال النفط والميناء. وقد حاولت فهم المسألة على نحو أكثر استيعاباً، بعيداً عن الشعارات العامة التي يطرحها الحزب الشيوعي".
ويقارن ذلك بعد انتقاله إلى الغرب، فيقول: حيث وجدت ماركس يتحدّث عن البرجوازية والتقدّم، ويضرب مثلاً على ذلك "فعند كل ربع ساعة يتحرّك قطار، وكل ساعة يتحرك باص، والإضراب في الغرب يُسقِط النظام السياسي خلال أيام...."، في حين أن في دولنا علينا الوصول إلى التحرّر الوطني والقومي، ثم تأتي المسألة الاجتماعية، كما يقول. (مداخلته في كتاب الحبر الأسود والحبر الأحمر – من ماركس إلى الماركسية).
   كان لوميض ضفّة أخرى أو حتى نهر خاص به، فقد كان يفكّر قريباً من أنطونيو غرامشي المفكّر الشيوعي الإيطالي، الذي دعا لإقامة "الكتلة التاريخية"، وبنظر وميض يمكن أن تتلاقى السواقي والجداول والنهيرات، على اختلافها وتفرّعاتها في نهر كبير، وكان هو من يريد التقريب بين الضفتين العروبية الوحدوية، والاشتراكية اليسارية، ويجد هو في نفسه الميزان، وتلك خصوصية أخرى له، امتازت بها شخصيته.
وبقدر ما ظلّ متمسّكاً بفردانيته واستقلاليته وتميّزه، فإنه كان يدفع باتجاه من يصنع التاريخ، ولكن هؤلاء يحتاجون إلى قيادات متفانية وذات معرفة لتسوسهم. قيادات جريئة وعلى قدر من المسؤولية والمعرفة والتجرّد، وصولاً إلى ما هو منشود، ولذلك لم يهمل دور الفرد في التاريخ، وهو ما تجسّد في إيمانه بقيادة جمال عبد الناصر، مع إقراره بالأخطاء الفادحة التي ارتكبت في عهده.
- IV -
 لم أشأ أن أتحدّث عن وميض نظمي ماضياً، فكنت دائماً أراه حاضراً. أكثر من خمسة عقود مضت منذ أن تعرّفت عليه مباشرة، والتقيته لأوّل مرّة وجهاً لوجه، بعد أن كنت أسمع عنه من الأخ المحامي حسن شعبان، الذي كان زميله في كلية الحقوق، وقد سبقه إلى التخرج بعامين، حيث تخرج في العام 1962، في حين تخرّج وميض في العام 1964، وكثيراً ما تسامرنا حسن شعبان وأنا وهو في مخبئه وأنا خارج من المعتقل والمفصول من الدراسة، وجئنا على ذكر وميض وشخصيته المحبّبة الجذابة.
كان اللقاء الأول أقرب إلى مراجعة ونقد، وكأنه استكمال لحديث سابق، وهو ما دأبنا أن نبتدىء به حديثنا طيلة السنوات الماضية، وكلّما كانت فرصة للقاء، خصوصاً إذا انفرد أحدنا بالآخر، فنبدأ وكأننا انتهينا يوم أمس عن أحداث العام 1959، والأخطاء والارتكابات التي حدثت وعمليات الإرهاب الفكري، ومن المسؤول عن فشل جبهة الاتحاد الوطني، وعن خطيئة إعدام رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي، على حدّ تعبيره.
وهكذا نتوغّل لنصل إلى الانشقاقات داخل الأحزاب الكبرى، وغياب الديمقراطية، والرأي والرأي الآخر: من الحزب الشيوعي إلى حزب البعث، ومن الحركة القومية العربية إلى الحركة القومية الكردية، وكان وميض يملك خزيناً كبيراً من المعرفة بكل الفسيفساء السياسية العراقية، وكل ألوان الطيف السياسي العراقي، ليس على صعيد نظري فحسب، بل إن العديد من قيادات الموازييك العراقي، كانت تعتبره صديقاً لها وهو صديق حقيقي.
لقد حاول وميض طيلة حياته السياسية والثقافية والأكاديمية كسر الأسوار الوهمية، وهدم الحواجز المفتعلة التي بنتها الجماعات المتشدّدة داخل الأحزاب فيما بينها، دون إهمال الخلافات الحقيقية، لكنه كان داعية حوار ومصالحة وسلام، في إطار منافسة شريفة بالبرامج وتقديم ما ينفع الناس، ويدافع عن مصالحها.
وبهذا المعنى كان وميض واحداً من الرجال الكبار الذين تساموا على الحزبوية والتوجّهات السياسية الضيّقة والأنانية، واحتفظ بمسافة واحدة من جميع الفرقاء، وكان في الوقت نفسه صديقاً حقيقياً للجميع، على الرغم من قناعاته الخاصة، فالصداقة حسب وجهة نظره هي إحدى وسائل التقريب في المواقف والآراء، وهي جسر تواصل، فما بالك إذا كانت صداقة حقيقية ومعها ثقة تتعزّز مع مرور الأيام، ولكن شريطة أن تستمر مع النقد.
حين التقينا لأوّل مرة في العام 1964، لم نكن قد شفينا بعد مما أصابنا، إثر انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، ومعنا كان وميض مصدوماً بما حصل، على الرغم من الانفراج النسبي الذي حدث بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963، الذي قاده عبد السلام عارف، وحلّ الحرس القومي. لم تكن ظروفنا يسيرة، سواء على المستوى الشخصي أو العام. كنّا ثلاثة إضافة إليه: أحمد سنجر، أو كما تلقّب لاحقاً (أحمد السنجري)، وكان قد وجد عملاً كمترجم في السفارة البلغارية، وحسن شعبان الذي ظلّ مختفياً لتسعة أشهر ونيّف، وحوكم بتهمة سابقة، وصدر الحكم بالإفراج عنه، وأغلق ملف القضية (كبس منشورات شيوعية لديه في زمن قاسم، جرى تغييرها إلى منشورات قومية ضد الحكم السابق). وخرج ليرى العالم تغيّر، ولم يعد بإمكانه ممارسة مهنة المحاماة التي بدأها قبل انقلاب 8 شباط (فبراير)، فذهب إلى الكويت للحصول على عمل وعاد خائباً بعد بضعة أشهر، رغم المعارف الكثيرين هناك، بمن فيهم أقارب متنفّذين، ولكن الطيف الأحمر كان مخيفاً وهو معروف ومعتقل سابق، وأنا كنتُ قد عدتُ للدراسة بعد تسوية موضوع فصلي للعام السابق، وأدّيت الامتحانات النهائية بنجاح وقُبلت في جامعة بغداد، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
أما وميض الذي عاد من القاهرة بعد فترة لجوء ونشاط وانشقاقات وتصدعات واعتقال، فإنه استقرّ على ممارسة العمل الفكري والثقافي والكتابة، وكانت الأبواب مفتوحة أمامه والدولة وقياداتها تستقبله، لكنه كان يعتبر نفسه واحداً منّا، حتى وإن اختلفت المواقع، أو هكذا كان يشعرنا بكل أريحية وصفاء، ودائماً ما يعرض علينا ما يمكن أن يقدّمه لنا.
في تلك الأجواء كانت اللقاءات أحياناً تمتاز بالحدّة. أما اللقاء مع وميض فله نكهة مميّزة. وإن كنّا نحسب حكم عبد السلام عارف امتداداً لحكم البعث، على الرغم من أنه قريب منه، ولكنه في الوقت نفسه كان ناقداً له، وتلك سمة "وميضية"، فالنقد لا يفارقه في الإيجاب وفي السلب. وكنّا نقدّر كل لقاء مع وميض على اعتباره لقاءً صداقياً ومعرفياً في الآن. وفي كل مرة كان وميض يوفّر لنا خزيناً من المعلومات المفيدة عن الحكم وخفاياه وخباياه وصراعاته وأجنحته، مما لم نكن نعرفه أو نطّلع عليه، وهو من داخل المؤسسة، يستطيع أن ينقل صورة حيّة عما يجري.
- V -
في تلك الجلسة الأولى أتذكّر أن موضوعين كانا محطّ النقاش، وهو ما كان مثار جدل ونقاش واسعين في أوساط بعض القوميين والبعثيين، وخصوصاً بعد انهيار تجربة 8 شباط العام 1963، وكان في المقدمة منهم وميض نظمي، الذي كان يريد أن يدفع القوميين باتجاه البرنامج الاجتماعي للشيوعيين واليساريين، وفي الوقت نفسه يدفع الشيوعيين واليساريين عموماً باتجاه المنهج الوحدوي العروبي للقوميين والبعثيين، وهو اتجاه برز فيه، في تلك الفترة مفكرون مثل ياسين الحافظ، كما أن انتقادات الياس مرقص ومراجعاته النظرية، كانت مطروحة بقوة داخل الحركة الشيوعية والتي توّجها في وقت لاحق ملاحظات "العلماء السوفييت" على برنامج الحزب الشيوعي السوري 1969 – 1971 والذي أدى إلى انشقاقه ولم تستطع إطفاء الحرائق داخله، وأخذت تنفتح نقاشات حادة بشأنها، وإنْ اعتبر البعض تلك الاتجاهات الجديدة "تحريفية" أو خروجاً على الخط السائد.
الموضوع الأول الذي أخذ جانباً من تلك الجلسة هو مقالة كتبها وميض نظمي في "مجلة الكاتب" المصرية، التي كان رصيدها كبيراً في أوساط النخب الثقافية في العراق والتي كان رئيس تحريرها أحمد عباس صالح، مؤلف كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" والذي نشر على حلقات في مجلة "الكاتب"، ثم جمعها لتصدر في كتاب مستقل، وقد حدثني أديب ديمتري أنه كتب نصاً بهذا المعنى في السجن، وسلّمه إلى أحمد عباس صالح، ليعيد قراءته وتنقيحه والإضافة عليه، خصوصاً وأنه كانت لديه أفكار متقاربة، ويعود السبب في عدم نشره باسمه إلى خشيته من مناقشة مسائل حساسة في الإسلام، وهو المسيحي، الشيوعي، السجين السابق، وفضل أن "يتبرع" بجهده ليصدر باسم أحمد عباس صالح الذي ذاعت شهرته أكثر بسبب نشر الكتاب.
وكان وميض قد تطرّق في مقالته المشار إليها إلى موضوع "الاشتراكية العلمية" وإيمانه بوجود اشتراكية واحدة مع تطبيقات مختلفة، على ما أتذكّر. وعاد إلى ذكر ذلك في مداخلة في جامعة النهرين في اللقاء الفكري لمناقشة كتاب: تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف، حين قال: "وبودي أن أشير أن لا وجود لخط مستقيم في النضال، كما لا توجد مقولات صالحة لكل الأزمان ولكل الأقوام، فقد حاول ماوتسي تونغ وتيتو وكاسترو وعبد الناصر إيجاد طرقهم الخاصة إلى الاشتراكية، عبر محاولة تكييفها طبقاً لظروف بلدانهم الخاصة وتطوّر مجتمعاتهم وتاريخها وخصوصياتها، وهو الأمر الذي يمكن أن ينسحب أيضاً على الحركات الإسلامية والقومية، فكلّها لها تجارب قابلة للنقاش والأخذ والرد، فضلاً عن الخصوصية ومحاولات التقليد".
وأجد في هذا الاستنتاج تلخيصاً لما كان يؤمن به وميض نظمي منذ الستينات وتعمّق مع مرور الأيام، وخصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط جدار برلين وتفكيك الاتحاد السوفييتي.
وهذا دليل جديد لموقف وميض المتقدّم والجريء على القوى والجماعات القومية الأخرى، التي كانت تميّز نفسها عن الشيوعيين والماركسيين بالحديث عن الاشتراكية العربية، وهو ما ظلّ مثار نقاش وجدل كبيرين، ليس بشأن المصطلحات، ولكن الأمر يتعلّق بالخصوصية الوطنية والقومية مع الأخذ بنظر الاعتبار القوانين العامة وتكييفها في كل بلد تبعاً لظروفه وتاريخه وتكوينه الثقافي ودرجة تطوّره، ففي حين كان الشيوعيون يميلون للتحليق باتجاه الأممية والتقليل من شأن الخصوصيات، بل واستصغارها، لا سيّما بتبني "الموديل السوفييتي"، كان القوميون يتجهون صوب المحلية والخصوصية لدرجة الانغلاق أحياناً.
وكان طاقم مجلة الكاتب المصرية، إضافة إلى طاقم "مجلة الطليعة" التي كان رئيس تحريرها الماركسي العريق لطفي الخولي، والتي صدرت في مطلع العام 1965، من الشيوعيين واليساريين المصريين السابقين، بعد أن حلّ الحزب الشيوعي المصري والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" الشيوعية نفسيهما في العام 1964، وانخرط العديد من أعضائهما بالاتحاد الاشتراكي العربي، إثر تنظيرات المفكرين السوفييت والمسؤولين عن الصلة بالأحزاب الشيوعية من أمثال سوسلوف وبوناماريوف و"ألسكندر شيليبين رئيس جهاز الكي جي بي"، حول ما سمّي بـ"التطوّر اللاّرأسمالي" وإمكانية تحقيق الاشتراكية بغير الطبقة العاملة وحزبها الماركسي في البلدان النامية، حيث راجت فكرة حل الأحزاب الشيوعية وقام السوفييت بمحاولة إقناعها لحلّ نفسها والانخراط في أطر هيكلية وتنظيمية مع الديمقراطيين الثوريين لبناء الاشتراكية عبر طريق التطوّر اللاّرأسمالي، وكان لقاء خروشوف عبد الناصر واحداً من المعالم التي مهّدت لهذا التحوّل.
جدير بالذكر هنا أن أحد أبرز قادة الحركة الشيوعية العربية كان قد وقف ضد "الوصفة السوفييتية"، ونعني به خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري، كما عارض فكرة "التطور اللاّرأسمالي" التي كان السوفييت يروّجون لها.
وفي العراق، وإنْ لم يصل الأمر إلى الحد الذي يدعو إلى تبنّي فكرة حلّ الحزب، لكن دعوات بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي طارت هنا وهناك، مصحوبة بتقييمات عالية جداً لبعض الإجراءات التي اتخذتها سلطة انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963.
وكانت تلك "المهادنات" أو المساومات غير المفهومة إزاء سلطة عارف أو حسب تعبير ملطّف "المرونة الزائدة"، قد لقيت معارضة شديدة من القاعدة الحزبية الشيوعية المجروحة، وهو الأمر الذي جعل أفكار ما يسمى خط آب العام 1964، تتراجع لاحقاً، ثم استبدل ذلك التوجّه في العام 1965 برفع شعار "إسقاط السلطة"، بعد جدلٍ حزبي داخلي حول فكرة العمل الحاسم أو الانتفاضة الشعبية. وقد وُصِف خط آب خلال الصراع الحزبي بـ"التصفوي الذيلي"، ولا سيّما بعد انشقاق القيادة المركزية للحزب الشيوعي بزعامة عزيز الحاج في 17 أيلول (سبتمبر) العام 1967.
لو قُرىء الأمر باعتباره تراجعاً تكتيكياً بسبب ضعف الحزب ومحاولته تضميد جراحه واستعادة أنفاسه ولملمة صفوفه، فسيكون الموضوع مختلفاً، وهو ما كان بحاجة إلى تهيئة، ولربما لفترة مناسبة، مع مراعاة المزاج الحزبي، لا سيّما إذا كانت الرؤية والتوجّه واضحين، أما حين يصبح الأمر تنظيراً باعتباره سمة العصر، وتجري محاولات للتفتيش عن "نتفٍ" في مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفييتي أو مؤتمرات الكومنترن، ولا سيّما (العام 1928 أو العام 1935)، بظروف وأوضاع مختلفة، فهذا شأن آخر ولم يكن ذلك سوى النكوص والتراجع غير المنظّمَين، وفي الواقع فإن الأمر ليس بعيداً عن إملاءات سوفييتية مفروضة في ظل تكوين قيادي جديد وهش بعد اغتيال قيادة سلام عادل.
الموضوع الثاني خط "حزيران" – "آب" الذي استُقِرّ على تسميته "خط آب" العام 1964، وكان النقاش يدور حول الاتحاد الاشتراكي والعضوية الواسعة فيه، وهل هناك من سعي حقيقي للتقارب في ضوء التجربة المصرية؟
كنّا الثلاثة، السنجري وحسن شعبان وكاتب السطور، نشكّك في إمكانية أن يكون العراق مثل مصر، وفي كون الاتحاد الاشتراكي "العراقي" مثل الاتحاد الاشتراكي "المصري"، فضلاً عن الاختلافات الجوهرية في تجربة البلدين، وتطوّر الحركة الثورية فيهما، وتجذّر الحزب الشيوعي في الحياة الثقافية والسياسية العراقية.
فحتى ذلك الوقت كان الآلاف من الشيوعيين في المعتقلات، وكان سجنا "الحلة" و"نقرة السلمان" لوحدهما يحتويان على أكثر من ألفي شيوعي، وكان الآلاف من المفصولين أو مسحوبي اليد منهم لا يزالون خارج دائرة العمل بسبب قرارات الفصل السياسي أو سحب اليد، ناهيك عن الملاحقة المستمرة.
وكانت الحرب قد بدأت مجدّداً في كردستان، إضافة إلى ارتفاع نزعة التفرّد التي بدت صارخة في الحكم من خلال هيمنة عبد السلام عارف، التي شكا منها القوميون العرب أنفسهم، وبعد حين أخذ الاتحاد الاشتراكي نفسه بالتشقّق والانشطار. أما "قرارات التأميم" أو ما سمّي بـ"القرارات الاشتراكية"، فخلقت حالة من الركود الاقتصادي والحذر الشديد من جانب البرجوازية الوطنية، وكان تأييدنا له ملتبساً ومأخوذاً بالخطوط العامة التي كان الترويج لها قائماً من المركز الأممي وأطروحاته حول "سمة العصر" ودور حركة التحرّر الوطني والبلدان المتحرّرة وقياداتها، باعتبارها أحد روافد الحركة الثورية العالمية، إضافة إلى المعسكر الاشتراكي وفي طليعته الاتحاد السوفييتي وحركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، فضلاً عن أن تأييدنا لفكرة التأميم ذاتها، باعتبارها إجراءً "ثورياً" من الناحية النظرية، في حين أن مردوداتها لم تكن إيجابية من الناحية العملية.
كان وميض دائماً يشعر بالمغايرة والتميّز والاجتهاد، وفي هذا الإطار كان يناقش بحماسة أطروحاته الجديدة التي عبّر فيها عن تطوّر أفكاره وجرأته في طرحها ومناقشتها سواء عبر ما أخذ يكتبه في صحيفة الثورة العربية التي كان يرأس تحريرها حازم مشتاق أو على منابر أخرى. وقد ظلّت تلك الصفات لصيقة بوميض نظمي، بل هي جزء لا يتجزّأ منه، فلم يعرف المداهنة أو التملّق أو الانتهازية، فما يعتقد فيه يقوله ويدافع عنه وإن غيّر موقفه، سيقول الأسباب، وتلك إحدى سجايا وميض التي ظل يسعى للمحافظة عليها في حياته الخاصة والعامة.
عروق كثيرة تشابكت في شخصية وميض، فهو الخارج من معطف ميشيل عفلق (حيث عمل في حزب البعث منذ العام 1956)، والمرتدي بدلة الناصرية، خصوصاً حين أيّد الحزب الانفصال العام 1961، وقد ازداد تأثره بجمال عبد الناصر كرمز للقومية العربية الصاعدة، لا سيّما بتجذّر برنامجه الاجتماعي، مثلما كان قريباً من فؤاد الركابي، الذي أسّس الحركة العربية الواحدة، بعد أن كان أميناً عاماً سابقاً لحزب البعث، والذي اغتيل في السجن العام 1971. وكان وميض مناضلاً متحمّساً لقيام النظام الجمهوري، على الرغم من تحدّره من عائلة أرستقراطية، عملت في إدارات ووزارات في العهد الملكي، فجدّه عمر نظمي كان وزيراً، ووالده جمال نظمي كان وزيراً.
وثمة جذر آخر لوميض نظمي، وهو يتصل بانخراط أعمامه (كمال وبديع عمر نظمي) في إطار الحركة الشيوعية العراقية، اللّذان أصبحا من كادراتها الأساسية، وكان لهما تأثير عليه. وينقل إبراهيم الحريري أن سلام عادل، سكرتير عام الحزب الشيوعي الذي قتل تحت التعذيب في العام 1963، في قصر النهاية، كان يبيت ليلته عشية 14 تموز (يوليو) العام 1958 في بيت كمال نظمي، وقد اصطحبه الأخير بالسيارة ليلة الثورة ليذهب بنفسه ويستكشف وزارة الدفاع، حيث مرّا من أمامها ذهاباً وإياباً، وحي الصالحية حيث محطة الإذاعة والتلفزيون وبيت نوري السعيد في كرادة مريم، الذي كانت فيه الأنوار مطفأة، عدا مصباح أو اثنين فوق الباب الخارجية، التي يوجد أمامها شرطي يغالب النعاس، وكأن سلام عادل يريد الاطمئنان على أن الأمور سائرة كما هو مخطط لها.
وفي رواية أخرى يقول عامر عبد الله (في حواره مع الكاتب): إن سلام عادل وجمال الحيدري باتا ليلة 13 /14 تموز (يوليو) العام 1958 في بيت ناظم الطبقجلي في حي الصليخ، وعلى سطح الدار بانتظار الإعلان عن الثورة. قد تكون الرواية الأولى صحيحة، لأن من نقلها هو كمال نظمي لشقيق سلام عادل واسمه "مهدي أحمد الرضي" حين كان في سجن نقرة السلمان بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
مثلما قد تكون الرواية الثانية صحيحة أيضاً، فقد يكون سلام عادل، قضى جزء من الليل في بيت الطبقجلي، وبصحبته جمال الحيدري، والجزء الثاني في بيت كمال نظمي، أو بات يوم 12 / 13 في بيت الطبقجلي ويوم 13 /14 في بيت كمال نظمي.
أعتقد أن الرافد العروبي "البعثي" الأول في ثقافة وميض، امتزج بروافد أخرى بينها رافد قومي آخر عروبي وناصري لاحقاً، هو بتأثير خاله باسل الكبيسي أحد مؤسسي حركة القوميين العرب وزعيمها الأول في العراق، والذي كان يخطط لعملية اغتيال للملك فيصل الثاني، وبعض أقطاب الحكم العام 1957، حيث اعتقل، ولولا تدخّلات ونفوذ عائلته لكان مصيره في خبر كان، لكن القضية تم لفلفتها، وأبعد إلى الخارج. ومن المفارقات الغريبة أن تقوم الموساد الإسرائيلي باغتياله في باريس العام 1973، ويمكنني أن أضيف أن تأثير الرافد الماركسي عليه لم يكن قليلاً، لكن قراءته له لم تكن تقليدية، بل كانت نقدية.
إن الروافد الثلاث التي اجتمعت في شخص وميض، تعايشت وتكاملت واتّحدت في جامع أساسه الوحدة والصراع، وساهم ذلك في إكساب المرونة والانفتاح على شخصية وميض، الذي اجتمعت فيها كل هذه المتناقضات، لتؤلف هارموني إنساني شديد الحساسية، أساسه هو قلق وميض نظمي، المعرفي وعدم استقراره عند فكرة محدّدة، وبحثه المستمر عن الجديد.
وفي التناقض ثمة تجاذب (وحدة وصراع الأضداد)، وكل ذلك جعل وميض خزّاناً لتفاعل كيميائي غريب وعجيب، فأنتج شخصية مؤثّرة ومحبّبة وحيويّة ومتفاعلة لكل من عرفه، وبقدر ما كان يصغي ويستمع ويسأل، كان حين يتحدّث يفرض على الآخر الإصغاء إليه، لأن ما كان يقوله كان عميقاً وصميمياً، إضافة إلى ذلك أنه يملك ثراءً وتنوّعاً وتعدّديةً، وربما أكثر من هويّة سياسية في شخصه، وتلك إحدى سمات الاستنارة والتميّز، حيث كان حواره مع النفس مستمراً في إطار مونولوج داخلي.
وفي الحوار مع النفس، يستمر الإنسان في طرح الأسئلة على نفسه وعلى الآخر، والسؤال يولّد سؤالاً، وهكذا كان وميض مزدحماً بالأسئلة، ومملوءً بالقلق الإنساني الذي لم يبارحه ولو ساعة واحدة، فهو لا يعرف الهدوء أو الاستقرار، وكلّما لمعت برأسه فكرة أعاد طرحها لتلمع بعدها فكرة ثانية، فقد كان في رحلة دائمة ومضنية للبحث عن الحقيقة، ومع كل بحث كانت أسئلته تزداد وقلقه يتعمّق.
- VI -
كان وميض نظمي مع الشيوعيين، يبدو قومياً عروبياً وحدوياً راسخاً، ومع القوميين والبعثيين، كان أقرب إلى الماركسي المؤمن بالصراع الطبقي وبنظرية التطور التاريخي وتعاقب المراحل وفائض القيمة وبالجدلية الماركسية. ومع الأكراد هو العروبي المتمسّك بالدعوة للوحدة العربية كركن أساس من أركان المشروع النهضوي العربي، إلاّ أنه في الوقت نفسه مؤمن بحق تقرير المصير للشعب الكردي، وداعية حوار مع ممثليه، وربطته علاقات وطيدة مع بعض قيادييه ومثقفيه.
 وفي سنواته الأخيرة بدا ذلك العروبي، اليساري، متأثراً بالجو السائد، أقرب إلى إعادة قراءة الإسلام قراءة حداثية جديدة لاستلهام التراث وضمّه إلى المنظومة المعرفية المؤمنة بالإسلام كقيم عليا، والذي يعتبر الإسلام أحد المراجع الأساسية للدستور. وإذا كان ما هو حداثي وليبرالي يتصدر منظومته الفكرية الملقحة بالعدالة الاجتماعية، فإن ذلك لم يمنعه من الإقرار بمرجعية الإسلام، وهو ما لمسته منه وبقناعة عند إعداد الدستور المنشود العام 2005 في إطار تكليف من مركز دراسات الوحدة العربية، بالتعاون مع يحيى الجمل وخليل الكبيسي، وعصام نعمان ووميض نظمي (نفسه) وكاتب السطور (المقرر والمحرّر الأساسي للنص).
كان وميض يشعر بالتكامل مع الآخر وليس بالتفاضل، وبالتكافؤ وليس المغالبة، ويبحث عن الإيجابيات لدى الآخر وليس عن السلبيات وحدها، وإن شخّصها فالهدف هو تحويلها كيما تصبح إيجابيات، والتخلّص منها لكي يحصل الاقتراب، فهو حيثما عمل لم يفكّر بالتباعد، قطعاً، وكان يعتقد أن من يبحث عن التنافر والتصادم لا بدّ أن يكون ضعيفاً، وعلى العكس من ذلك، فمن يبحث عن التقارب والتعاون هو الأقوى، وكان وميض من المجموعة الثانية، حيث يشعر بقوّة المنطق وقوة الحجة وقوة الحق لديه، لذلك كان ميّالاً للسلم والحوار واللاّعنف.
- VII -
حين قرّر وميض الدراسة في إنكلترا، فهناك عدّة أسباب، أوّلها: أنه أراد أن يتفرّغ للعمل الأكاديمي والبحث العلمي، خصوصاً بعد الإحباط العام الذي أصاب الحركة السياسية العراقية، إثر صراعاتها غير المبدئية، وثانيها أن الانشقاقات التي ظهرت في الساحة السياسية ضربت الجميع بلا استثناء، وكان ذلك مدعاة لتشاؤمه، وهو "تشاؤم الواقع"، وإن كان غرامشي قد ربطه بـ"تفاؤل الإرادة"، بهدف تجاوز الواقع، وذلك ما يذكرني بمقولة الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونّوس، الذي قال وهو يصارع مرض السرطان: "إننا محكومون بالأمل".
كان وميض يفرش خريطة الأحزاب السياسية أمامه ليعلّق "إننا نرى الشيء وضده" ويبدأ بطريقته النقدية المحبّبة في الحديث عن انشقاق حزب البعث إلى يسار ويمين حسب الاصطلاحات السائدة، بعد سلسلة من التشكيلات: قيادة تنظيم القطر، حزب العمال الثوري العربي، حركة الكادحين العرب (ولاحقاً المنظمة العمالية التي التحق معظم كادراتها بالقيادة المركزية للحزب الشيوعي)، ولكن الأبرز في ذلك كان تنظيم القيادة القومية (ميشيل عفلق – وعراقياً الرئيس البكر – صدام حسين) والتنظيم "اليساري" الموالي لسوريا (محمد عمّار الراوي – فؤاد شاكر – أحمد العزاوي لاحقاً).
ثم الحزب الشيوعي (اللجنة المركزية) والقيادة المركزية (عزيز الحاج) وخلالهما كتلة إبراهيم علاوي، وقبلهما تنظيم اللجنة الثورية (سليم الفخري). أما الحركة الكردية فقد كانت منشطرة إلى (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني والمكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد – جلال الطالباني).
أما التنظيم القومي (الاتحاد الاشتراكي) فقد تشظّى إلى عدّة جماعات: الرابطة القومية (يوسف الخرسان – هشام الشاوي)، مؤتمر القوميين الاشتراكيين (إياد سعيد ثابت) حزب الوحدة الاشتراكي (صبحي عبد الحميد – رشيد محسن)، الحركة الاشتراكية العربية التي انقسمت إلى حزب العمل الاشتراكي العربي (فؤاد الركابي – هاشم علي محسن)، ومجموعة عبد الإله النصراوي، التي استمرت على اسم  الحركة، إضافة إلى شخصيات قومية لها ثقلها مثل أديب الجادر وخير الدين حسيب وعبد الكريم فرحان وآخرين.
في ظل هذه الأجواء وبعد فشل قيام جبهة وطنية، لا سيّما بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967، وعدم نجاح الإضراب الطلابي الذي قادته أربع قوى أساسية في تحقيق أهدافه، والقوى هي: الشيوعيون (وبالدرجة الأساسية مجموعة القيادة المركزية) والبعث السوري (اليساري) والحركة الاشتراكية العربية (قبل انشطارها) وبقية القوى القومية، والحركة الكردية بجناحيها، كلّ هذه الأجواء كانت ضاغطة على وميض، فقرّر السفر إلى لندن، تخلّصاً من أي مواجهات قد لا تحمد عقباها، وخصوصاً بعد انقلاب العام 1968.
في مطلع السبعينات كان وميض كتلة متحركة على جميع الصعد، للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وفي دعم قضايا التحرّر العربي وصمود مصر وسوريا بوجه العدوان وسياسة الاستنزاف، إضافة إلى الدفاع عن القضايا المهنية للطلبة العرب وحقوقهم والاعتراف بهم، ولهذه الأسباب اقتنعت جميع الأطراف بترشيحه لرئاسة اتحاد الطلاب العرب في المملكة المتحدة. وكانت فترته، كما كنت أتابع الفترة الذهبية التوحيدية الجامعة للاتحاد على الصعيد السياسي والثقافي والفكري والمهني.
وفي العام 1972 (ربما أواخر العام) كتب لي وميض رسالة إلى براغ، سألني فيها ما إذا بإمكانه الدفاع عن أطروحته (وهي عن ثورة العشرين)، في إحدى جامعات براغ الرصينة، وقد أمهلته عدة أسابيع لأجري الاتصالات اللاّزمة، وفعلاً قمت بما يجب، حيث اجتمعت مع أستاذتي للعلاقات الدولية المشرفة على أطروحة الماجستير التي كنت أقدّمها في ذلك الوقت الدكتورة هيبنروفا (عضو مجلس السلم والتضامن التشيكوسلوفاكي آنذاك) وأحالتني إلى قسم الأجانب، وراجعت بصفتي رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين، القسم وسألت عن الموضوع، وطلبوا الاختصاص والامتحانات التي أدّاها وعنوان الأطروحة وسبب المشكلة، إضافة إلى التزكية السياسية، وكتبت له بهذا الخصوص بعد تبادل الرسائل بيننا، وفي آخر رسالة أخبرني بأن المشكلة التي حدثت مع أستاذه بخصوص بعد استنتاجات الأطروحة تم تسويتها، ولم تعد هناك حاجة للاستمرار بالإجراءات.
وكنت قد أبلغته أنه من المحتمل مجيئي إلى بريطانيا، خلال مهرجان جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة (السنوي)، وصادف ذلك في أبريل (نيسان) العام 1973 في مدينة توركي Torquay، واتفقنا على اللقاء، وقال إن اتحاد الطلبة العرب يدعوك لإلقاء محاضرة، وحدّدنا العنوان على ما أتذكر، وقبل سفري بثلاثة أسابيع كتبت له أعلمه بموعد وصولي، ولكن للأسف حدث ما لم يكن بالبال، ففي 6 نيسان (أبريل) اغتيل خاله باسل الكبيسي في باريس على أيدي عملاء الموساد الإسرائيلي، واضطرّ هو للسفر إلى هناك، وقد سافر مع الجثمان إلى بغداد، وذهبت للمشاركة في المهرجان وفي الإشراف على جمعية الطلبة العراقيين في إنكلترا، ولكن لم ألتقِ وميض.
تراسلنا بعدها وأرسلت له رسالة تعزية، ثم حان موعد سفره إلى العراق العام 1974 بعد أن دافع عن أطروحته المتميّزة، وودّع حسبما علمت من الأخ سعيد سطيفان مسؤول منظمة الحزب الشيوعي في بريطانيا، بأحسن توديع يستحقه.
أعود إلى أطروحة وميض "ثورة العشرين – الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية الاستقلالية" والتي طبعها بهذا الاسم، مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت العام 1984، والتي تناولت بناء الدولة العراقية، فقد أبرز فيها دور رجال الدين الشيعة على نحو جلي، إضافة إلى إضاءته موضوع الوحدة الوطنية العراقية، دينياً مذهبياً وقومياً، وهو ما ظل يدافع عنه باستمرار.
وخلال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 - 1988 نشر مقالات في مجلة "المستقبل العربي" التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية بإدارة مؤسِّسه الدكتور خير الدين حسيب، عن عروبة الشيعة ودورهم في الحركة الوطنية، الأمر الذي أثار عليه ردود فعل داخلية بالأساس وأمنية بالدرجة الأولى، حيث ظل يعيش قلقاً لبضعة أشهر، كما أخبرني خلال لقاءاتنا المتكررة، خصوصاً وقد راجت خلال تلك الفترة دعوات مفادها أن إيران عدو دائم، وأن الصراع معها تاريخي وتناحري، وهو ما جرى التنظير له خلال الحرب التي أطلق عليها اسم "القادسية الثانية"، تيمّناً بالقادسية الأولى.
ربما لا يزال البعض مستمراً ومقتنعاً حتى الآن، بمثل تلك الأطروحات، التي زادها حساسية صعود "الشيعية السياسية" الموالية لإيران وتسلّمها مقاليد الحكم في العراق بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003، إضافة إلى تعاظم النفوذ الإيراني، لكن ذلك شيء ومحاولة ربط شيعة العراق العرب بإيران شيء آخر، وهو ما يذهب إليه بعض المتعصّبين إلى درجة "تعجيمهم" للشيعة العرب، والتعامل معهم بالجملة باعتبارهم "طابوراً خامساً"، باستثناءات محدودة، وهو رأي يعارضه بشدة وميض، استناداً إلى قراءة مختلفة لخريطة الصراع الدولي وذيولها الإقليمية، وخصوصاً الصراع العربي – الإسرائيلي.
انقطعت الصلات بيننا فهو في بغداد وأنا في براغ، حتى عدت إلى بغداد، بعد دفاعي عن أطروحتي للدكتوراه وتخرجي في العام 1977. وفي بغداد، ولا سيّما خلال السنة الأولى وقبل التحاقي بالخدمة الإلزامية، دعانا حسن شعبان بحضور غضبان السعد وكاظم السماوي ووميض نظمي وعدد آخر من الأصدقاء إلى بيته، كما أقام محمد حسين رؤوف دعوة لي في بيته، دعا لها ماجد الرضا وحسن شعبان ووميض وعدد آخر من الأصدقاء، وكان رؤوف قيادياً في الحركة الاشتراكية، وقد أرسل لي أوراقه للحصول على قبول 1971، وقدمنا له زمالة دراسية في العام 1971 – 1972، ولكنه بعد عدّة أشهر قرر العودة إلى سوريا ومنها إلى بغداد، تاركاً العمل السياسي، حتى أطيح بالنظام العام 2003 واحتل العراق، فقرر معاودة نشاطه، لكن قتل بعد سنتين ونيّف من الاحتلال.
وكانت الدعوة الكبيرة قد أقامها لي وميض في نادي نقابة المحامين، وأتذكر أنه سألني من يمكن أن يدعوه من الطلبة السابقين في إنكلترا، فقلت له: إن لبيد عبّاوي وصل قبل أيام وكذلك رائد جاهد فهمي كان قد عاد. ودعوت حميد برتو كما دعا وميض، حسن شعبان وعدد آخر من الأصدقاء.
ومن الطرائف أن وميض كان ناقداً للممارسات السلبية للنظام القائم آنذاك وهو أستاذ في جامعة بغداد، في حين كان بعض رفاقنا مدافعين أشدّاء حتى عن الأخطاء والممارسات السلبية، وهكذا انطبق علينا المثل الذي يقول: "ملكيون أكثر من الملك".
- VIII -
خلال الجلسة أسرّني وميض بأن ضغوطاً تمارس عليه للعودة إلى حزب البعث، وينقلون لهم كلاماً على لسان السيد النائب صدام حسين حينها، وكان هو بمثابة صديق شخصي له، فقد استقبله عند هروبه إلى القاهرة، وقام بإسكانه معه لعدّة أيام لحين توفير سكن خاص له، وظلّت العلاقة تقوم على الاحترام المتبادل، بغض النظر عن المواقع، وهو ما لم يحاول استغلاله حين أصبح النائب رئيساً، وكان بإمكانه لو أراد أن يصبح وزيراً أو سفيراً، لكنه فضّل العمل الأكاديمي والاستقلالية على جميع الامتيازات التي كان يتهافت عليها كثيرون، بل إن بعضهم أقل شأناً منه حصل عليها.
وفي لقاء خاص بعد هذه الجلسة، قال لي وميض: ماذا تقول في العرض وكيف لي التهرّب منه؟ قلت له ممازحاً: أعتقد لو وافقت لكان الأمر أحسن، وأجابني مستغرباً: أأنت تقول ذلك؟ قلت: نعم، ولكن بشروط، فقال: ما هي الشروط التي أشترطها عليهم؟ قلت له: الشرط الأول: أن تحتسب مدّة الانقطاع مستمرة لأغراض "الترفيع"، وبهذا المعنى يحق لك أن تكون عضواً في القيادة القطرية، وكثيرون ممن هم في القيادة آنذاك كانوا قد انقطعوا عن العمل لسنوات، بل إن بعضهم كان موقعه ضعيفاً.
أما الشرط الثاني، فهو أنك تستطيع حماية ثلاثة أشخاص من الملاحقة؟ فسألني من هم؟ قلت: اثنان أنت تختارهم والثالث أنا، وضحكنا كثيراً، وكان يستعيد تلك الشروط "الجهنمية" كما يسمّيها حين نلتقي، وهو ما استعدناه في جلسة على الغداء د

427
قراءة ثانية لقانون جاستا الأمريكي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
أثار ما عُرف بقانون (جاستا Justice Against Sponsors of Terrorism Act) والذي ترجم بـ"قانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب"، جدلاً قانونياً وسياسياً:
أولاً – حول قانونية القانون، خصوصاً وأنه تجاوز على قواعد قانونية دولية، تتعلّق بمبادىء السيادة.
وثانياً – حول الإجراء الذي اتّخذه الكونغرس الأمريكي بغرفتيه، مجلس النّواب ومجلس الشيوخ، برفض فيتو الرئيس أوباما، وهو بحد ذاته سابقة خطيرة في السُلّم القانوني الأمريكي.
وثالثاً – حول التداعيات التي سيتركها على علاقة الولايات المتحدة مع بعض الدول التي يمكن أن تتّهم برعاية الإرهاب، وهي صديقة لواشنطن، الأمر الذي سيعكّر العلاقات فيما بينها ويضعف الثقة الضرورية لإرسائها وتطويرها.
ورابعاً – تأثيره على الولايات المتحدة نفسها، التي يمكن ملاحقة جنودها ودبلوماسييها وشركائها لاتّهامهم الضلوع بالإرهاب، وهو ما حذّر منه الرئيس أوباما.
صحيح أن القانون لم يذكر دولة بعينها، ولكنه يصنّف بعض الدول الحليفة لواشنطن، كدول راعية للإرهاب، الأمر الذي سيثير ارتباكاً ليس على صعيد علاقة واشنطن بهذه الدول، بل على صعيد العلاقات الدولية، خصوصاً وأنه يتجاوز على  قاعدة راسخة من العلاقات الدولية، تتعلّق بالحصانة السيادية للدول، وذلك بحدّ ذاته سيشيع الفوضى القانونية، لا سيّما إذا شُرّعت قوانين مماثلة لقانون جاستا من الدول المتضرّرة أو التي يمكن أن تتضرّر، كما فعلت في وقت سابق كوبا وإيران، حيث أقيمت مئات الدعاوى القضائية ضدّ الولايات المتحدة، لأنها هي الأخرى أقامت الدعاوى عبر مواطنيها على الدولتين، وهناك مطالبات بمليارات الدولارات بالتعويض من الجهتين.
وقد سمح القانون لعائلات قتلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 بمقاضاة دول ينتمي إليها المهاجمون، الأمر الذي سيعني أن دولة مثل المملكة العربية السعودية ستكون أول المقصودين، لا سيّما وأن 15 من المهاجمين الذين بلغ عددهم 19 كانوا ينتمون إليها، على الرغم من أن قضايا عدّة رفعت ضدّها، لكنه لم يثبت تورّطها بموجب الأحكام التي أصدرتها المحاكم الأمريكية ذاتها، فماذا سيعني ذلك؟ وكيف يمكن النظر إليه من زاوية المستقبل؟
   حسب القوانين الأمريكية، فإن سابقة واحدة تكفي أن تدرج إلى جانب 100 أو 200 أو حتى 1000 أو 2000 قضية صدر الحكم فيها بالبراءة، وستشكّل هذه السابقة التي ستنضم إلى السوابق الأخرى سلباً أو إيجاباً، جزءًا من خلفيات الحكم الذي يتطلّب من القاضي أخذها بنظر الاعتبار في أي قضية.
   وكان تقريراً أمريكياً قد صدر عن لجنة التحقيق العام 2004 يقضي بعدم مسؤولية المملكة العربية السعودية، لكن جزءًا منه ظلّ سرّياً، وقد تمّ رفع السرّية عنه مؤخّراً في يوليو (تموز) العام الجاري 2016، ويتعلّق هذا الجزء باحتمال أن يكون منفّذي الهجمات، ربما حصلوا على مساعدة من بعض المسؤولين السعوديين. وهو ما يمكن استثماره اليوم كنقطة ضعف لإقامة دعاوى جديدة كيدية لابتزاز المملكة والضغط عليها لدفع التعويضات.
   وبالفعل، فما أن أصبح قانون جاستا نافذاً حتى أقامت السيدة ستيفاني روس دي سيموني، أرملة أحد ضحايا هجمات سبتمبر /أيلول الإرهابية دعوى قضائية ضدّ المملكة العربية السعودية، زعمت فيها أن المملكة قدّمت دعماً مادياً لتنظيم القاعدة، وزعيمه أسامة بن لادن، كما جاءت دعواها نيابة عن ابنتها، حيث كانت حاملاً بها عندما لقي زوجها الضابط البحري باتريك دون حتفه في هجمات سبتمبر /أيلول العام 2001.
ويسمح القانون بالنظر في قضايا تتعلّق بـ"مطالبات ضدّ أي دولة أجنبية، فيما يخص الإصابات أو القتل أو الأضرار التي تحدث داخل الولايات المتحدة، نتيجة عمل إرهابي يرتكب في أي مكان من قبل دولة أو مسؤول أجنبي". وعلى أساس ذلك، يمكن رفع دعوى مدنية ضدّ أي دولة أجنبية أو مسؤول أجنبي في القضايا المذكورة والناجمة عن الإرهاب الدولي، حيث يخوّل قانون جاستا المحاكم الفيدرالية بممارسة الولاية القضائية الشخصية وفرض محاسبة لأي شخص يرتكب مثل هذه الأفعال أو يقدّم المساعدة أو يحرّض أو يشرع في ارتكاب أي عمل من أعمال الإرهاب الدولي ضدّ أي مواطن أمريكي".
وفي مسألة محاسبة الدول الأجنبية نص القانون على ما يأتي: "لا يجوز لدولة أجنبية أن تكون بمأمن من اختصاص المحاكم الأمريكية في قضية من القضايا التي تطالب بتعويضات مالية ضدّ دولة أجنبية جراء إصابات جسدية لشخص أو ممتلكات أو حوادث قتل تحدث في الولايات المتحدة". وهكذا اعتبرت واشنطن دول العالم أجمع ولايات تابعة لها، وتصرّفت من موقع الهيّمنة وكأنّها السيّد بلا منازع، لا سيّما بإلغاء الحصانة السيادية التي تحمي الدول ككيانات من القضايا المدنية أو الجنائية، وهو ما يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة التي تقوم على احترام المساواة في السيادة والحقوق.
ولهذا فإن قانون جاستا يعتبر سابقة في تاريخ العلاقات الدولية، وخرقاً لاتفاقية "فيينا" حول قانون المعاهدات لعام 1969، ولاتفاقيتي "فيينا" حول العلاقات الدبلوماسية لعام 1961 والعلاقات القنصلية لعام 1963 التي لا تجيز لأي محاكم أجنبية بمقاضاة دولة أخرى، الأمر الذي يضع القانون في مخالفة صريحة للقانون الدولي، ناهيك عن تعارضه الصارخ مع  اتفاقية الولايات المتحدة الموقّعة مع الأمم المتحدة بخصوص حصانة الدول وممتلكاتها لعام 2004، وهي استمرار لاتفاقيات سابقة بهذا الخصوص.
جدير بالذكر أن قانون جاستا يتجاوز أيضاً على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي تحرم امتداد الجريمة لغير فاعلها، فالجريمة والعقوبة شخصية لمن ارتكب الفعل المخالف للقانون، ولا يحق طبقاً لذلك تحميل الدولة ككيان المسؤولية الجنائية، تحت ذريعة أن أحد مواطنيها ارتكب جرماً، ولذلك يمكن الدفع بعدم الاختصاص القضائي للمحاكم الأمريكية استناداً إلى تعارض قانون جاستا مع قواعد القانون الدولي واتفاقية "فيينا" حول الحصانة السيادية التي وقعت عليها الولايات المتحدة نفسها.
أعتقد أن صدور قانون جاستا جاء تحت ضغوط سياسية وإعلامية ومالية لجهات ولوبيات متنفّذة داخل الولايات المتحدة، فلا صياغته القانونية جاءت سليمة ولا الإجراءات التي اعتمدها، وهو أقرب إلى تدبير أو إجراء سياسي هدفه الابتزاز والتسيّد، وهو بعيد عن روح العدالة وجوهرها التي وضعت في عنوان القانون، وعلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، فضلاً عن الدول المتضرّرة أن تقول رأيها فيه، وأن تتّخذ الإجراءات المناسبة للتعامل بالمثل، بما يعيد التوازن لنظام العلاقات الدولية ومبادىء السيادة، وهو ما دعا الاتحاد الأوروبي لرفض القانون واعتباره مخالفاً لمبادىء الأمم المتحدة ومبادىء المساواة، وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف قد قال خلال زيارته لأنقرة أن الاستهداف واضح ولا يختلف عليه اثنان... لكن المهم أن نحصّن أنفسنا قدر الإمكان.
ويستوجب الأمر وقفة جديّة للمراجعة ولوضع حلول ومعالجات من شأنها إبطال مفعول هذا القانون الجائر، الذي أخذ بعض أعضاء الكونغرس التنصّل منه، إضافة إلى الإدارة الأمريكية، وهناك دعوات لإعادة النظر ببعض فقراته ولتحجيمه أو تقليص نطاقه القانوني، لكن ذلك لن يتم، ولا سيّما إلغائه دون ضغط دولي واسع تساهم فيه منظمات المجتمع المدني، وأوّله ينبغي أن يكون ضغطاً عربياً وإسلامياً.



428
المنبر الحر / صفاقس وتجديد الفكر
« في: 20:36 19/10/2016  »
صفاقس وتجديد الفكر
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   كان الإعلان عن اختيار صفاقس المدينة التونسية الثانية (تبعد نحو 300 كم عن مدينة تونس) عاصمة الثقافة العربية حدثاً مهمّاً، ليس على صعيد تونس فحسب، بل على الصعيد العربي أيضاً، لما تتميّز به المدينة من فاعلية ثقافية وحيوية اجتماعية واقتصادية.
   وقد تسنّى لي زيارة المدينة مرّتين، الأولى بُعيد ربيع الياسمين، والثانية بتنظيم لقاء لي مع نخبة متميّزة من المثقفين والأكاديميين والأدباء الصفاقسيين، بصحبة الأكاديمي والمثقف الدكتور خالد شوكات.
   واكتشفتُ المدينة وعوالمها ومساحات التواصل والتجاذب بينها وبين مدن أخرى، وقد يكون التبادل التجاري والثقافي أحد وجوه تلك العلاقة. ولا أذيع سرّاً إذا قلتُ إنني استمتعت واستفدت من أجواء اللّقاء الذي خصّص لمناقشة  تجديد الفكر العربي المعاصر، مثلما في كل مرة كنت أنبهر بالغابات الشاسعة لأشجار الزيتون، التي قلت عنها: إنها بحر بلا ضفاف، في كتاب نشرته يؤرّخ للثورة التونسية بعنوان: "الشّعب يريد: تأمّلات فكرية في الربيع العربي".
   أتفهّم حجم الانفجار الذي حصل بالبلاد، لكن الدولة على الرغم من بعض مظاهر الفوضى والعنف بعد الثورة، حافظت على نفسها وعلى هيبتها، وإذا كانت سفينتها لم ترسُ بعد، لأن رياحاً مختلفة تتجاذبها، إلاّ أنها تتّجه نحو الشاطىء، وبالرغم من المنعرجات والتحدّيات التي واجهتها التجربة، لكنها هي الأنجح على المستوى العربي حتى الآن، ويتوقف على استمرارها وتقدّمها ارتفاع منسوب التغيير في العالم العربي، خصوصاً إذا ما ترسّخ عبر حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء وتعزيز الحرّيات وحقوق الإنسان.
   كان اللقاء قد طرح سؤالاً ظلَّ يتكرّر منذ عهد النهضة قبل قرن ونيّف من الزمان وإلى الآن، ونعني به مسألة التجديد والمساحات المتاحة للمشترك الجامع بين التيارات الفكرية، وأول الفلسفة سؤال كما يُقال: ما الفكر وكيف يمكننا تجديده؟ ثم ما هي العقبات التي تعترض ذلك؟ وماذا نريد؟ وما هي التحدّيات التي تواجهنا؟
   وقبل هذا وذاك، هل هناك فكر عربي معاصر واحد وموحّد، أم أننا أمام حزمة من التيارات الفكرية المتضاربة والمتقاربة، المتشدّدة والمرنة، الشمولية والليبرالية، التقدمية والرجعية، اليسارية واليمينية؟
   وهذه التوجّهات والمرجعيات بعضها ينتمي إلى التيار الإسلامي، وهذا هو الآخر ينقسم إلى إسلامي متنوّر وإسلامي محافظ وإسلامي إرهابي "متأسلم"، حسب بعض التصنيفات، فضلاً عن الفيروس الطائفي الذي ضرب بعض الجماعات الإسلامية، فهذا إسلام سني وذاك إسلام شيعي، وهناك "إسلام" تكفيري "داعشي"، وأحياناً تلتقي بعض هذه الفِرَق في إطار الإسلاملوجيا والمقصود "الإسلام ضدّ الإسلام" بتقديم قراءات خاطئة وتفسيرات مشوّهة للإسلام، كقيم إنسانية بما يعاكسها، ولكن باسم الإسلام، أفلا تقوم "داعش" بالذبح والقتل والتفجير والتفخيخ والعمليات الانتحارية باسم الله وترفع مصحفه المقدّس فوق الرؤوس؟
   والأمر ينطبق كذلك على التيار القومي العربي، فبعضه لا يزال متمسكاً بلغته الخشبية التي عفا عليها الزمن، ولا يزال متشبثاً حتى بارتكابات أنظمته وجرائمها، والفريق الآخر حتى وإن حاول التجديد، لكنه لم يمتلك أدواته وظلّ محافظاً وينتمي في الغالب إلى الماضي. وبقيت قراءته للحاضر مشوّشة واختزالية. وباستثناءات محدودة، لم يتمكن التيار القومي العربي تقديم صورة حضارية للعروبة كرابط جامع، فضلاً عن الأنظمة التي حكمت باسمه، ولم تكن سوى أنظمة استبداد وتسلّط، وعلى أقل تقدير معادية للديمقراطية، وقدّمت مفهوماً مشوّهاً لها، وفي الممارسة كانت بالضد منها.
   أما التيار الاشتراكي، الماركسي، واليساري عموماً، فقد نضب خزينه الفكري بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأخذ بالتشظّي إلى حدود كبيرة، ناهيك عن تخبّطه وتحالفاته غير المفهومة، ولم يتمكّن من تقديم قراءة جديدة للواقع، وفي حين أنه ترك المنهج الجدلي، إلاّ أنه تمسّك ببعض النّصوص والشّعارات الأقرب إلى الأدعية والتعاويذ.
   وقد لعبت الاتّكالية الفكرية والكسل النظري دوراً كبيراً فيما وصل إليه، خصوصاً بعد أن ضاعت بوصلته، وقاده الفشل والأزمات المتكرّرة إلى الاستمرار في تبعيته وذيليته للعديد من القوى القومية والإسلامية، وعلى أقل تقدير تاه بعضه، فلم يعدّ يفرّق بين التحرير والاحتلال، وبين معاهدة استرقاقية ومعاهدة تعاون وصداقة، وأصبحت الإمبريالية "المجتمع الدولي"، تحت ذرائع عدم الانعزال، والانفتاح بدلاً من الانغلاق.
   وعلى الرغم من عدم وجود تيار ليبرالي ديمقراطي واضح المعالم، مثل التيارات الأخرى بسبب الانقلابات العسكرية وهيمنة الفكر الشمولي، فإن من أراد العمل باسمه في بعض البلدان العربية، وإنْ كان ينتمي إليه بالاسم، لكنه في الواقع كان جزءًا من التيار النيوليبرالي، وبرّر الاستتباع والقابلية على الاستعمار حسب مالك بن نبي، بالعولمة وشروطها، في حين كان التيار الليبرالي في السابق يدعو إلى إعلاء شأن الفرد والفردانية، والتمسّك بالحرّية كقيمة إنسانية عليا.
   ويبدو التناقض شديداً داخل كل تيار من التيارات التي وردت الإشارة إليها، فالتيار الإسلامي لا يزال يتصارعه اتّجاهين رئيسيين، الأوّل: موغل في التناقض بين التقليد والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة، والثّاني: تتنازعه الدعوة للدولة الإسلامية أم للدولة المدنية؟ وظلّ التيار الإسلامي في غالبيته يعيش في الماضي، وجلّ أطروحاته ترتبط به دون أن يأخذ بنظر الاعتبار ما حصل من تطورات على الصعيد الكوني، مع وجود استثناءات محدودة.
   أما التيارات الشمولية، القومية العربية أو اليسارية والماركسية، فإنها تعيش في مرحلة ضياع البوصلة وضبابية الرؤية، بين عملية التغيير والانشداد إلى الماضي، وأحياناً تسلك سبيل مسايرة اتجاه الريح، لكن الكثير من تأثيرات الماضي ما تزال فاعلة فيها، لدرجة التخدير أحياناً.
   إن الخطوة الأولى في التجديد تبدأ من مراجعة الماضي ونقده، وقراءة التطورات على جميع الصُّعُد الفكرية والسياسية والاجتماعية، لمجتمعاتنا وحاجاتها والاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، مع حفاظنا على خصوصياتنا التي لا تعني الانغلاق، مثلما لا يعني انفتاحنا الانفلات والتحلّل من خصوصياتنا، وفي الحالين، فالخصوصية ينبغي أن تكون عامل إضافة ورفد، أما الكونية فينبغي أن تكون عامل تفاعل وإثراء، وليس استتباع وهيمنة.


429
تضاريس التنوّع الثقافي
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
إذا كانت موجة اللجوء والهجرة التي اجتاحت أوروبا بشكل خاص والغرب بشكل عام في الفترة الأخيرة قد طرحت مسألة التنوّع الثقافي مجدداً وعلى نحو حاد ، ارتباطاً مع صعود ظاهرة الإرهاب الدولي واستشراء العنف، فإن زاوية النظر إليها تختلف باختلاف  المجتمعات الغربية ذاتها، وتعاطيها مع هجرات سابقة منذ أواسط القرن الماضي، بانتقال أفراد ومجموعات إليها من الدول المستعمَرة سابقاً، الأمر الذي خلق احتكاكاً وتناقضاً يتراوح بين الاندماج والإقصاء، وبين الشمولية الثقافية السائدة، والخصوصية التي تريد الحفاظ على مكوّناتها وهوّيتها.
لكن الخصوصية والهوّية الفرعية في العديد من الدول الغربية، كانت هي الأخرى محطّ نقاش وجدل طويلين، وشدّ وجذب قبل موجة الهجرة واللجوء، ففي كندا شهدت حركة الدفاع عن اللغة والثقافة الفرنسية في مقاطعة الكيبك، نشاطاً هدفه تأكيد سياسة الاعتراف بالتعدّدية الثقافية. وفي الولايات المتحدة نشطت حركات اجتماعية وسياسية مناهضة للتمييز العنصري، بالترافق مع حركة الحقوق المدنية التي قادها القس مارتن لوثر كينغ، والتي اضطرّت واشنطن إلى الاعتراف بها في العام 1964. وفي البلدين لا تزال قضية الهنود الحمر قائمة على الرغم من إعلان الأمم المتحدة حول " حقوق الشعوب الأصيلة" الصادر العام 2007 عن الأمم المتحدة، والأمر ذاته بخصوص الأبوريجان في استراليا، والمورو في نيوزيلاندا والسام في إسكندينافيا.
ومنذ انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات بدأت قضايا الحق في الاختلاف والهوّية والتسامح والمواطنة تظهر على خارطة السياسة الدولية ارتباطاً بحقوق الإنسان، وارتفع رصيد فكرة المساواة في الحقوق، وبين الهوّيات صغيرها وكبيرها، على أساس احترام الخصوصيات، وهكذا بدأت ملامح جديدة داخل المجتمعات الأوروبية والغربية تبرز بحكم وجود مشكلات قائمة مثل: كاتالونيا والباسك في إسبانيا واسكتلندا في بريطانيا والصراع بين الوالونيين والفلامانيين في بلجيكا ومشكلات التنوّع الثقافي في جنوب فرنسا وإيطاليا وغيرها.
الإشكالية بالتدرّج أصبحت واقعاً يحتاج إلى تسيير التعدّد وإدارة الاختلاف والتنوّع للجماعات الإثنية والثقافية وتقنين الأسس والقواعد الناظمة للعلاقات، بإقرار حق كل جماعة في التعبير الحر وواجب الدولة حماية وتنمية وتطوير هذا الاختلاف والتنوّع، وإذا كان الخلاف قد استمرّ، فإنه حول سبل الإدارة والصيغ القانونية الكفيلة بحلّه سلمياً، من خلال البرلمانات والاستفتاءات وحشد الرأي العام، كما إن النظر إليه وإنْ كان ينطلق من زاوية  حقوق الإنسان (الفرد)، ولاسيّما حقه في الكرامة، إلاّ أنه يتجسّد في إطار مجموعة ثقافية ذات هوّية، وبالطبع فإن مثل هذا الأمر يحتاج إلى إقرار قاعدة المساواة.
وجرّاء هذا التطور ذهب البعض لإبداء تخوّفه بخصوص التعارض بين قيم الليبرالية والتعدّدية الثقافية، باعتبار الأولى تختص بالفرد، في حين إن الثانية تندرج في إطار المجاميع الثقافية، وذلك لأن المجتمعات التي نتحدّث عنها هي مجتمعات متعدّدة الثقافات والهوّيات، مع وجود هوّية جامعة، الأمر الذي يقتضي تأكيد مبادئ المساواة انسجاماً مع العدل.
ويذهب كاتب مثل ويل كيميليكا إلى الدعوة لتغيير بعض عناصر النظرية الليبرالية من موضوع المواطنة، التي تميّز بين الفضاء الخاص والفضاء العام، فالأول يمتاز بالحرّية الكاملة ولا يحق لأحد التدخل فيه والمقصود الفرد، في حين إن الفضاء الثاني يتعلق بالعموم، وهو حقل الممارسة السياسية، والفرد الحر يصبح فيه مواطناً، له موقع قانوني وحقوق وواجبات، ويتمتع بالمساواة مع المواطن الآخر. وبهذا المعنى فلا يوجد تمييز صريح وفاصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام في المواطنة، لإن وضع هذا التمايز سيؤدي إلى تهميش المجاميع الثقافية وإنكار التعدّدية وإلغاء التنوّع الديني والإثني واللغوي، تلك التي تستصغرها الثقافة المهيمنة، خصوصاً باتباعها سياسة آحادية، لاسيّما في مجال التربية والتعليم والثقافة واللغة وغيرها.
الفرد دائماً موجود في سياق ثقافي، ولا يمكن فصله حسب هذا التوجّه عن مواطنة ثقافية تعدّدية معينة، وأي فصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص يلحق ضرراً بالمجاميع  الثقافية الأخرى غير "السائدة" في الدولة، فالدولة حسب وجهة النظر هذه، مُلكٌ للجميع وليست لفئة أو مجموعة ثقافية معينة، وبالتالي لا ينبغي لها إقصاء أو تهميش أحد من المجاميع الثقافية الأخرى، التي تفترض التعامل معها على أساس المساواة، باللغة والثقافة والتاريخ والهوّية، وقد كان ثمن الإنكار فادحاً ليس في العام الثالث الذي شهد حروباً ونزاعات مسلحة، بل في الغرب أيضاً ومنها أوروبا الشرقية.
فما أن تفكّكت الكتلة الاشتراكية، حتى انقسم الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15 دولة،  وانشطرت يوغسلافيا إلى ستة دول، وانشقت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين، وشهدت الجمهوريات المنقسمة، باستثناء تشيكوسلوفاكيا السابقة، حروباً ونزاعات وتوترات لا حدود لها ولا تزال بعضها مستمرة.
ولعلّ عدم الاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية سيكون فادحاً، بارتفاع منسوب اللجوء والهجرة وتدفق مئات آلاف جديدة إلى أوروبا والغرب، وهذا سيضع مسألة التعدّدية الثقافية في الميزان على نحو جديد، وخصوصاً في فرنسا التي تواجه مطالب التعدّدية والتنوّع بتصلّب شديد، في حين إنها وجدت بعض الحلول في بلدان أخرى كما هي بريطانيا والبلدان الانكلوساكسونية على أساس الاندماج، والتعامل مع اللاجئين كبشر لهم حقوق وليسوا دخلاء- حتى وإن نشطت مجاميع يمينية بالضد من ذلك- ولاسيّما بالتوازن بين ما هو كوني وشامل وبين ما هو وطني وخاص، وبين هوّية عامة وهوّيات فرعية.


430
ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة "الإقليم السنّي" للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية، كما أنها تسعى للحصول على دعم إقليمي، ولا سيّما من بلدان الخليج العربي، وتركيا بهدف التوازن مع الدعم الإيراني للشيعية السياسية كما تبرّر، وهكذا فإن مثل هذا التجاذب يستمر، بل يتصاعد. وكانت لقاءات الدوحة (أيلول/ سبتمبر/2015) تعبيراً عن المخاوف إزاء تطور الأوضاع الراهنة في العراق، وخصوصاً في المناطق الغربية منه، ولا سيّما بعد احتلال داعش الموصل وتوغله في مناطق غرب العراق.
وإذا كان الأمريكان، قد باشروا باستقبال جماعات وكتل وقوى سياسية عراقية في إطار الاستماع إلى وجهات نظرها، وخصوصاً لمرحلة ما بعد "داعش"، شملت رؤساء عشائر ومجموعات سنيّة وأوساط كردية وبعض الشخصيات وغيرها، فإن ما ترشّح منها يؤكّد أن واشنطن تريد تقليص دور إيران والمجموعة الشيعية المتحالفة معها، لكنها سوف تلجأ إلى ذلك بشكل تدرّجي وهي تنتظر انتخابات العام 2018، وخصوصاً بعد دحر "داعش" وتحرير الموصل، ومن ثم البحث في مسألة الأقاليم التي يبدو أن الأمريكان أخذوا يميلون إليها أو يرجّحونها للتطبيق بعد أن كادت مجرد أفكار أو سيناريوهات، وخصوصاً أن هناك أوساطاً من السنيّة السياسية تشجّع عليها، إضافة إلى تحالفهم الفرعي مع إقليم كردستان وتسليح وتمويل البيشمركة، الذين يؤيّدون إقامة الإقليم السّني أو نظام الأقاليم بشكل عام.
ويعبّر الكرد عن مشروعهم بوضوح أكبر بدعوتهم إلى إقامة كيانية خاصة، بمعنى الانفصال في دولة مستقلة عبر إجراء استفتاء لسكان إقليم كردستان، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير، ومع أن مشكلات داخلية تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الحزبية والسياسية الكردية – الكردية، وخصوصاً بين جناح الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وبين جناح الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني الذي تحالف مؤخراً مع كتلة كوران "التغيير" بقيادة نوشيروان مصطفى، إلاّ أن الفكرة أو التلويح بها ما زال يشكّل هاجساً للكرد يتم استثماره في الصراعات السياسية الداخلية من جهة، وبين بغداد وإربيل من جهة ثانية.
وفي حين يقترب البارزاني من أنقرة، ويبتعد عن بغداد، فإن كتلة مناوئيه والمقصود كوران والاتحاد قريبة من طهران ومن بغداد في الآن، يضاف إلى ذلك أن هناك تحفظات إقليمية ودولية بخصوص فكرة الدولة المستقلة، وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة في 3/5/2015.
 وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص "دولة" سوف يبقى عنصر إشغال وإهدار للدولة العراقية، إن لم يتم التفاهم مع ممثلي الشعب الكردي للتوصل إلى حلول سلمية ووطيدة، وهذا يحتاج إلى ظروف طبيعية بحيث يستطيع الشعب العراقي اختيار ممثليه الحقيقيين أيضاً.
أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، فضلاً عن وقوعهم في منطقة حساسة لتضارب المصالح، ولا يزال المسيحيون (الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم من مناطقهم في الموصل وبعض قرى وقصبات سهل نينوى وترتفع نسبة الهجرة في أوساطهم، ناهيك بتعرضهم لعنف وإرهاب مستمرين منذ الاحتلال وإلى الآن.
وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق.
مستقبل الدولة: التحدّيات والسيناريوهات
إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:
1-   تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، سواء باستخدام القوة العسكرية أو لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات "سلام" استسلامية مع "إسرائيل" وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية "فلسطين" وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا "الإسرائيلية"، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي.

2-   تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولا سيّما أن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، إما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، وإما بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانته هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها إلى التعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانته.
وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، ولا سيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، وخصوصاً علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الانقسام إلى احترابات وتكفير، إذ أن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم "طائفيون بلا دين"(1) على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.
إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية "الإرهابية" سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو داعش أو جبهة النصرة أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش.
خامساً: الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة
وضعت الأزمة العراقية الأخيرة، الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق للتفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد، وخصوصاً إذا ما توافرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟
1 – سيناريو التفتّت(1)
أ - التفتّت الواقعي (Defacto fragmentation)، وذلك بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات أو مناطقيات لا يربطها رابط وثيق فيما بينها سواءٌ كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً.
ب - التفتّت الرسمي Dejure Fragmentation) ( وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.
ج - الانضمام والإلحاق (Joining and Annex)، وهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.
ومن العوامل التي تسهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الإرهاب وأعمال التفجير والمفخخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة الوطنية والتخلّي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن بشحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.
ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، وخصوصاً فيما إذا تم القضاء على داعش، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السلطة، وقد يقود إلى حروب أهلية مصغّرة، محلية، وليس بالضرورة أن تكون بين الشيعية السياسية والسنية السياسية، بل داخل السّنية السياسية ذاتها، وداخل الشيعية السياسية، وداخل الإقليم الكردستاني (بين إربيل والسليمانية)، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح.
2 – سيناريو استمرار الحال
وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه من دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، وخصوصاً أن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرأ وزير الدفاع خالد العبيدي على كشف محاولات ابتزازه، وصفّق له الشارع طويلاً، بغض النظر عن شبهات الفساد التي تحيط وزارته، عاقبه مجلس النواب بسحب الثقة منه، فمن بعد ذلك سيغامر ويكشف ملفات الفساد أو التعرض للفاسدين.
وإذا توقّف مشروع الإصلاح وهو متعثّر فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وأن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها. ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، (وكاد الأمر يحصل لولا ضغوط الولايات المتحدة المتوافقة مع إيران بهذا الخصوص). وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين؛ فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟
هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً، ثم الذهاب إلى انتخابات؟

3 – سيناريو التوحيد
إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب في شأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزءًا من أسباب الخراب التي تعانيها البلاد.
إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلّى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار"، ولا سيّما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءًا منها، والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، لذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.
كما أن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل تضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.
وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة التي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها. يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، وخارجها، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلاً عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجّعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك بفايروس الإرهاب.
وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن تجاوزها، وأولها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العدالة، ولا سيّما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهويّة الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية.










431
حلقة نقاشية مغلقة
مركز دراسات الوحدة العربية
بيروت
الإثنين 29 آب (أغسطس) 2016


الأزمة العراقية الراهنة:
مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة


عبد الحسين شعبان(*)



مـقــدّمــة
يمكن القول إن الدولة العراقية المعاصرة عانت مشكلات أساسية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) العام 1921 (أي منذ تسعة عقود ونصف من الزمان)، وظلّت هذه المشكلات تتراكم وتتفاقم، بحيث أصبحت بؤراً مستديمة للصراع، وعقداً مستحكمة تركت تأثيراتها في المجتمع العراقي والحياة السياسية عموماً.
لكن الأزمة الراهنة التي تعانيها الدولة، هي من نوع آخر مختلف، لأن الأمر يتعلّق بمستقبلها: هل تبقى دولة موحّدة أم أنها صائرة إلى زوال بعد تفتيت وتفكيك وتشظٍّ، ومثل هذه الإشكاليات المحورية هي من إفرازات الاحتلال الأمريكي للعراق منذ العام 2003، الذي وضع مستقبل الدولة لا على بساط البحث فحسب، بل أدخلها في دوامة لا تكاد تستفيق منها، فكل أزمة تلد أزمات أخرى، وهكذا بدأت السبل تتباعد أمام وحدتها، الأمر الذي عرّضها من الناحية العملية لتصدّعات كبيرة، وهو ما يضع اليوم عدداً من السيناريوهات المحتملة بخصوص مستقبلها، فلم تعد المسألة تتعلّق بمشكلة الحكم والتمثيل السياسي والاجتماعي، وبما له علاقة بالقضية الكردية، وبعض قوانين التمييز في الجنسية والمواطنة المنقوصة وغيرها، فالمسألة تجاوزت ذلك، ولامست عمق الدولة، بعد أن تغلغلت في جميع مفاصلها.
وكان المسمار الأوّل الذي دقّه الاحتلال لتحطيم الدولة ومؤسّساتها، وليس السُّلطة، هو حلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي بجميع فروعهما، والشروع بالتأسيس لعملية سياسية قائمة على صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأليف مجلس الحكم الانتقالي في تموز (يوليو) العام 2003، ولا سيّما بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي الشيعة و5 أعضاء لما سمّي السنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين.
وعرفت الدولة "الجديدة" التي تأسّست على أنقاض الدولة القديمة، باسم "دولة المكوّنات"، التي ورد ذكرها ثماني مرّات في الدستور. أما "دولة المواطنة" التي كان العراقيون يتطلّعون إليها بعد انقضاء حقبة الحكم الشمولي – الاستبدادي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، ولا سيّما بعد إقرار صيغة المحاصصة، المستندة إلى الغنائمية وفقاً للنظام الزبائني، وإلى التخادم المتبادل، الذي نَعُمَ المشتركون في العملية السياسية بفوائده وجدواه، عاملين على استمرارها من جهة، وعلى التنافس في إطارها لتوسيع دائرة الامتيازات من جهة ثانية، وهو ما عمل الاحتلال عليه منذ اليوم الأول، ولا يزال هو الحبل السري الذي يربط القوى المشاركة بالعملية السياسية.
إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها، وخصوصاً في ما يتعلّق بفلسفة الدولة والقانون بوجه عام والدستور بوجه خاص. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال، فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.
أولاً: دستور نوح فيلدمان
كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية)(1) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 أيار/مايو 2003 – 28 حزيران (يونيو) 2004) في 8 آذار (مارس) العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى، وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل، بإعداد مسوّدته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وتباعد وتناحر. وعلى أساس قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية صيغ الدستور الدائم، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2005(1).
وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن المشكلات والصراعات التي عانتها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، حيث يدور النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الاستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، وخصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي.
ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.
ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأ الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك بأصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.
وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً ما دامت تتحكّم في الملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف، مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر.
ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً أن المال السائب يغري بالسرقة كما يُقال، ولا سيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب به.
ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً من مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي - الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني(1)، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه. وقد أصبح مجرد الاقتراب من مؤسسة الفساد يعني الدخول في منطقة الخطر، وإلاّ كيف نستطيع أن نفسّر أن وزير الدفاع الذي استجوب في البرلمان العراقي وسعى لكشف محاولات ابتزازه مؤشراً إلى شبهات بالفساد طالت رئيساً و3 من أعضاء البرلمان، هو من تمت إقالته، في حين كان الشارع يهتف ضد الفساد والمفسدين.
ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءٌ الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، ما دامت الدولة غير قادرة على حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟(1).
وقد عمل الاحتلال حتى قبل الوصول إلى العراق على إضعاف الشعور بالمواطنة في العراق، ليس فقط للتأثير في قوى سياسية محدّدة ودعمها بمختلف الوسائل، بل لاستدراج قوى أخرى، حتى إنه ورّط عشرات المثقفين العراقيين، وبعضهم من أصول شيوعية ويسارية، بتوقيع عقود عمل مع البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية، وكان الهدف من ذلك، الذي اتّضح على نحو جليّ، هو تحويل هؤلاء المتعاونين إلى أصحاب مصلحة معه، ومن خلال العملية السياسية التي دعمها هو بنفسه، سواء لقوى تعاونت معه أو تواطأت أو نشأت لها مصالح مع المحتل في وقت لاحق، وارتبطت بوجوده وباستمرار العملية السياسية.
لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، ولا سيّما أن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية(2)، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.
إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين أن جميع المرجعيات سواءٌ كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية ينبغي أن تخضع للدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار السلاح واستخدامه والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، ومن دون إخضاع المرجعيات الأخرى لها فلا تصبح والحالة هذه دولة.
وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، فإن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوافر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه الحقيقيين في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.
ثانياً: سياقات الأزمة ودوائرها
سأتوقف لمناقشة ثلاث دوائر تتحرّك في إطارها الأزمة العراقية الرّاهنة بما له علاقة بفكرة المواطنة والهويّة، سواء بجانبها الدستوري والحقوقي أو بجانبها المجتمعي والانتمائي والشعوري، فالدائرة الأولى تتمثّل في حركة الاحتجاج الأخيرة ومطالبها، سواءٌ الآنية العاجلة أو المستقبلية الآجلة، التي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقّق أهدافها ، ولا سيّما البعيدة.
أما الدائرة الثانية فترتبط بفكرة الأقاليم، ومعنى الفيدرالية ومبناها، سواء كمفهوم عام أو ما ورد بخصوصها في الدستور الذي أثار الكثير من التنازع في شأن الاختصاصات والصلاحيات ما بين السلطة الاتحادية وسلطة إقليم كردستان، والأمر له علاقة بما هو راهن حيث تروّج فكرة الإقليم السّني، ولا سيّما بعد احتلال داعش للموصل، وتمدّده في نحو ثلث الأراضي العراقية، على الرغم من الهزائم التي مُني بها مؤخّراً.
وتندرج الدائرة الثالثة بموضوع مستقبل الدولة العراقية وآفاقها، حيث تعاني التفكّك والتفتّت إلى درجة يصعب لملمة شتاتها، فانتقلت الدولة من مركزية صارمة وأحادية التوجه والأداء، إلى دولة لامركزية، أقرب إلى التبعثر والتبدّد، وتغيّرت طبيعتها من دولة بسيطة كما تسمى في القانون الدستوري إلى دولة مركّبة، سمّيت اتحادية "فيدرالية"، مع أنه حتى الآن لا يوجد "مجلس اتحادي"، وانتقلت الدولة من دولة عميقة إلى دولة رخوة، ومن دولة صارمة القيود، على الرغم من بعض الاختراقات والامتيازات، إلى دولة غنائمية تقوم على نظام الزبائنية.
1 – حركة الاحتجاج
إذا كانت حركة الاحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة حسب المفكر الماركسي غرامشي، فإن الواقع لا يزال يشي بالتشاؤم، على الرغم من أن التململ أخذ يكبر وهاجس التغيير ازداد عمقاً، وخصوصاً أن كتلاً بشرية ضخمة أخذت تنضم إلى المتظاهرين من شتى الفئات والتوجّهات اليسارية واليمينية، الدينية والعلمانية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن جميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذين تجمعهم أهداف ومطالب مشتركة، ولا سيّما حياة الناس وحاجتهم الماسّة إلى الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، فلم يعد السكوت عنها ممكناً.
إذا راجعنا شعارات التظاهرات العارمة والمندلعة في مختلف أنحاء العراق منذ تموز (يوليو) العام 2015 ولحد الآن  سنلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وهذه تتلخص بـ:
أ – تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولا سيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة وإيجاد فرص عمل متكافئة وتلك أمور آنية ومستعجلة، إضافة إلى تقديم الفاسدين إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، بما فيهم المقصّرون وعديمو الشعور بالمسؤولية والمستهترون بالمال العام، وقد تفشّت ظاهرة الفساد ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، بعيداً من الكفاءة والخبرة والنزاهة.
ب – محاسبة المسؤولين عن سقوط الموصل، بيد داعش في 10 حزيران (يونيو) 2014 واستمرار الأمر حتى الوقت الحاضر، بل وتمدّدها إلى مناطق أخرى من العراق بلغت نحو ثلث الأراضي العراقية، وتهديدها العاصمة بغداد، على الرغم من تحرير محافظتي صلاح الدين والأنبار، وانتظار معركة تحرير الموصل الحاسمة، لكن خطر داعش لا يزال ماثلاً إنْ لم يتم استئصال جذوره الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والطائفية، وتجفيف منابع تمويله، وإعادة تأهيل البيئة التي احتضنته.
ولعلّ مطلب المحاسبة يحتوي على التمسك بالوحدة الوطنية العراقية ومواجهة مظاهر تفكّك الدولة ومساءلة المقصرين عن التفريط بها.

ج – إلغاء نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية، الأمر الذي يستوجب نبذ الطائفية وخطرها قانوناً وردّ الاعتبار لمرجعية الدولة وهيبتها ومكانتها، واعتماد مبادئ المواطنة التامة والمساواة الكاملة أساساً للحصول على الوظائف العليا وإلغاء التمييز الطائفي والإثني والديني والعشائري والمناطقي وغير ذلك. وبسبب فشل محاولات تديين الدولة أو تطييفها أو مذهبتها، انطلقت بعض الدعوات إلى قيام الدولة المدنية.
وقد ألقى مثل هذا الاشتباك والاندغام بين الدين والسياسة بثقله على المجتمع لدرجة أصبحت الحياة الشخصية مهدّدة ويتم انتهاكها كل يوم تحت حجج ومزاعم شتى، ناهيكم عن بتجييش الكثير من أبناء الطوائف وشحنهم بالكراهية والانتقام من الآخر. لذلك ارتفعت بعض الشعارات التي تعبّر عن أمنيتها لقيام دولة مدنية، ولا سيّما الشعار الذي ظلّ الصوت فيه مرفوعاً وعالياً "سلمية.. سلمية.. دولة دولة مدنية"، وبغض النظر عن إمكان تحقيق هذه الشعارات الآن، بسبب اختلال توازن القوى، فإن مجرد رفعه والتذكير به وترداده على ألسنة آلاف الناس، يؤكّد انبثاق وعي جديد بحاجة إلى رعاية وتنمية وتوجيه.
إن أهمية تلك الشعارات والدعوات تكمن في نزع القدسية عن رجال الدين، والتعامل معهم كبشر يخطئون ويصيبون، وإذا ما أرادوا تقديم أنفسهم "كمرجعية" لطائفة أو مجموعة منها، فعليهم أن يكفّوا عن التعاطي بالسياسة ويتصرفوا خارج نطاق اللعبة السياسية، باعتبارهم وعاظاً أو مرشدين جامعين وغير مفرّقين، ولا سيّما بعدم الانحياز لهذا الفريق أو ذاك وتحت عناوين مصلحة المذهب أو الطائفة، فالمصلحة الوطنية والولاء للوطن هي التي ينبغي أن تتقدّم على جميع الولاءات الدينية والإثنية والمذهبية والسلالية واللغوية والعشائرية والمناطقية، مثلما يكون الاحتكام إلى القانون والخضوع لسيادته هو الأساس، بوصفه المرجعية التي تفصل علاقات الناس ببعض وبالدولة، وليس لأي قواعد أو أنظمة أخرى دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية أو غيرها.

2 – فكرة الأقاليم والفيدرالية: الدستور وبعض مشكلاته
الفيدرالية حسب الدستور العراقي، جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة، وإذا ما حصل خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الأول يخضع للثاني ولا العكس، كما هي الحال في الأغلبية الساحقة من فيدراليات العالم، وليس بمستطاع قيادة الجيش، بمن فيه القائد العام للقوات المسلحة، نقل أو تحريك قطعات عسكرية أو حتى جندي واحد من الأقاليم وإليها، إلاّ بموافقتها. وبحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية.

وبالقراءة القانونية(1)، فإن مثل هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل الدولة بغض النظر عن النيات، ما دامت هناك امتيازات وصلاحيات، فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها ستكون "حقوقاً" مكتسبة، وخصوصاً أن الدستور قد تضمنها، وليس بعيداً عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة. وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، ولم تجد طريقها إلى الحل حتى الآن، على الرغم من محاولات نزع فتيل الأزمة. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي في المادتين 111 و112، اللتان تنصّان على:
مادة 111 – النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كلّ الأقاليم والمحافظات .
 مادة 112 – أولاً: – تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المُستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المُنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصّة لمدّة محدّدة للأقاليم المتضرّرة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضرّرت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً : – تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار .
   وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات وتأويلات مختلفة ومتنوّعة، بل ومتناقضة ولإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها(1).
إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيدرالية أو "الأقاليم" إمّا وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة وذكرياتها المؤلمة، وخصوصاً للكرد، ولا سيّما في فترة النظام الاستبدادي السابق، ولكنها قد تؤدي في الواقع العملي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، أو فزّاعة مرعبة وبعبعاً مخيفاً، بوصفها طريقاً للانفصال والانقسام، الأمر الذي سيُبقي على المركزية الشديدة الصارمة، وهو ما سارت عليه الدولة منذ تأسيسها، ولا سيّما خلال فترة النظام السابق، بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيدرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق وقد يكون موحىً به أو مدفوع الثمن من جهات خارجية مشبوهة. وهكذا يتعامل الفرقاء مع الفيدرالية حسب أهوائهم التي تتراوح بين المقدّس والمدنّس. وهذا ينم عن عدم ثقة وعدم وجود فهم مشترك وقناعات موحّدة حول الفكرة الفيدرالية معنًى (أي مضموناً) ومبنًى (أي صياغة)، وترتفع درجة الشكوك في ظلّ وجود هيمنة طائفية وتمييز وتهميش، ناهيك بالرغبة في الحصول على المزيد من المكاسب على حساب الآخر وتحت تبريرات مختلفة.
الفيدرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينيات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية بشكل عام، كانت تطويراً لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينيات "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، وذلك في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره في إطار الوحدة الوطنية العراقية كما اختارها، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، وظهرت مشكلات قديمة وجديدة، بعضها عويص، خصوصاً ما يتعلق بكركوك أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها، والتي ورد ذكرها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته(1).
وكان الدستور الدائم امتداداً لقانون إدارة الدولة التي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئاً بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين إن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحًى مختلفاً. ولذلك وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق والديمقراطية التوافقية خارج اللعبة الانتخابية (كقدر دائم لا مردّ له)، ولكن ما أن تدبّ الخلافات فيتذكّر كل طرف الدستور حتى وإن كان يتعارض تماماً مع ما يقول، لكنه يحاول الاستناد إليه من باب الزعم بتمسّكه باعتباره "أبو القوانين"، حتى وإن كان الأمر شكلياً، ثم يُصار بعد ذلك للعودة لما يسمى بالتوافق دون أي اعتبار لصندوق الانتخاب وإرادة الناخبين.

إذا كانت الفيدرالية الكردية تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة ولها ما يبرّرها، وإن النظام الفيدرالي هو صيغة متطورة أخذت بها نحو 40% من سكان الكرة الأرضية، وشملت أكثر من 30 دولة، وأصبحت جزءًا من تطور النظام السياسي العالمي، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء السياسيين من المشاركين بالعملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم، خصوصاً وإن العراق عانى من مركزية صارمة وشديدة المراس، وبحاجة اليوم إلى لا مركزية وتوزيع الصلاحيات، لكن تفسيرات وتطبيقات وتأويلات هذه الفيدرالية جاءت متناقضة وملتبسة من جانب العديد من الجماعات السياسية.
إن القوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيدرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل وتهميش السنّة، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال، وفكرة الأقاليم بما فيها "الإقليم السنّي" التي عارضتها وتحفّظت عنها الكثير من القوى، بدت وكأنها "مقبولة"، حيث أعيد طرحها بعد احتلال داعش الموصل، وخصوصاً بعد تشكيل الحشد الشعبي ودخوله المناطق ذات الأغلبية السنّية وما ترك ذلك من اتهامات له بانتهاكات وردود أفعال ومخاوف في شأن مستقبل هذه المناطق.
والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيدرالية بعد الاحتلال(1)، بدأت تتحفّظ عنها لا في المبدأ فحسب، بل في التطبيق أيضاً، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الأغلبية العربية السنية المطالبة بالفيدرالية، وكيف كانت النتائج: هيمنة داعش وجزع فئات واسعة من السكان دفعها إلى عدم اتخاذ موقف من استيلاء داعش على الموصل وكأن الأمر لا يعنيها، ولكن بعد حين شعرت هذه الفئات بخذلانها، في إثر هيمنة داعش وفرضها نظاماً سياسياً واجتماعياً ودينياً متشدداً ومتعصباً خاصاً بها وخارج سياق التطور التاريخي.
أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كيانيتهم المستقلة، ويريدون قبل ذلك تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانهم، وخصوصاً إذا ما توفّرت اللحظة المناسبة، وحصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً أن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي.
وإذا كانت دولة ما قبل الاحتلال تتّسم بالشمولية والواحدية والإطلاقية واحتكار الحقيقة وتمجيد الفرد ونهج التسلّط، فإن دولة ما بعد الاحتلال انتقلت من التعثر في وحدتها إلى استفحال الأزمة بخصوص حاضرها ومستقبلها، ولا سيّما في ظل الارتفاع السريع في وتيرة عوامل التفكيك والتشظي والتفتّت.
وشهدت البلاد احترابات داخلية وإرهاب وعنف منفلت من عقاله، ناهيك عن استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2008، مع إن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية العام 2011 باءت بالفشل، إلاّ أن النفوذ الأمريكي لا يزال واسعاً ومتحكّماً ويظهر دوره في الأزمات والمنعطفات التي تمرّ بها البلاد، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية مجحفة وغير متكافئة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول "قانون المعاهدات" لعام 1969(1)، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي. وفي ضوء الاتفاقية وتحت مبررات مكافحة الإرهاب الدولي والتصدي لداعش بدأت الولايات المتحدة بإرسال جنود لها إلى العراق مجدداً بلغ عددهم أكثر من أربعة آلاف وستمائة جندي، إضافة إلى خبراء واستراتيجيين ومدربين وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم، وهذا النفوذ لم يعدّ خافياً أو مستتراً لا من جانب بعض القوى العراقية، ولا من جانب إيران،، فخط دفاع طهران كانت بغداد منذ احتلال العراق العام 2003، وإيران كانت ولا تزال تلعب دوراً إقليمياً كبيراً في العراق ولدى بعض دول المنطقة، وقد يتعاظم هذا الدور بعد التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني بعد مفاوضات دامت 12 عاماً وعرفت باسم (5+1)، على الرغم من محاولة تطويقه عربياً ودولياً من جانب بعض دول الخليج العربي والولايات المتحدة والغرب عموماً.
3 – الدولة: من المركزية إلى التفكّك
من مظاهر أزمة الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، هو عجزها عن حماية الاستقلال الوطني للبلاد، أو استعادته كاملاً وغير منقوص، وذلك بالاضطرار إلى توقيع على اتفاقيات مجحفة ومذلّة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وذلك بالضد من اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات" لعام 1969 التي تفترض التكافؤ والمساواة وعدم الإكراه أو الإرغام عند عقد أية اتفاقية، وإلاّ ستكون مثل هذه الاتفاقية مخالفة لقواعد القانون الدولي، وذلك لأنها ستكون مشوبة بأحد عيوب الرضا التي تُبطلها قانونياً وشرعياً(1).
وبسبب ضعف العراق، اضطرّ إلى السكوت عن تدخّلات وتجاوزات لحدوده وأراضيه واختراق سيادته في أكثر من موضع ومجال، وهو الأمر الذي يحصل مع إيران الذي لها اليد الطولى، ومع تركيا يومياً بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك أحد مظاهر أزمته.
كذلك عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة المستقلة بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية وغيرها، ولعلّ التظاهرات المندلعة منذ أسابيع مطالبة بمساءلة الفاسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالب، خير دليل على فشل الدولة، فضلاً عن هدر أكثر من 700 مليار دولار هي واردات النفط خلال الفترة المنصرمة منذ الاحتلال وحتى الآن من دون أي منجزات تُذكر، بل ذهبت جميعها تقريباً هباءً منثوراً، بسبب سوء الإدارة وهدر المال العام وعدم الشعور بالمسؤولية واستشراء الفساد المالي والإداري، المتمثّل بالسرقات وعمليات التزوير والامتيازات غير المشروعة وغير ذلك. ولا يزال العراق منذ 13 عاماً يصنّف من جانب منظمة الشفافية الدولية، في أسفل سلّم الهرم بالنسبة إلى الفساد المالي والإداري.
من مظاهر الأزمة أيضاً عدم إحراز أي تقدّم في ميدان العدالة الاجتماعية، حيث ازداد التفاوت الطبقي والاجتماعي على نحو شديد وارتفعت نسبة الفئات الفقيرة التي زادت فقراً، ويوجد نحو 8 ملايين إنسان دون خط الفقر في بلد من أغنى بلدان العالم، ولكن شعبه يعيش بحالة مدقعة من الفقر، بل إن هناك بلداناً فقيرة يعيش سكانها بطريقة أفضل من العراق بسبب نسبة قليلة من الإدارة الرشيدة والوحدة الوطنية.
ومن مظاهر الأزمة الأخرى هو تقليص دائرة المشاركة السياسية والشعبية وعدم تحقيق المصالحة الوطنية، على الرغم من المشاريع الكثيرة الفاشلة، والسبب يعود إلى عدم توافر إرادة سياسية، فالكل يعلن عن رغبته في التوافق، لكن التوافق الذي يفهمه لا يعني سوى الامتثال إلى رأيه لدى أي خلاف، ومثل هذا الأمر زعزع الثقة الهشّة والتفاهم المهلهل أصلاً وقاد إلى المزيد من التباعد والتمترس، وخصوصاً في ظل ارتفاع نزعات الهيمنة والثأر والكيدية والانتقام، ليس ضد النظام السابق وكبار موظفيه فحسب، بل ضد القوى المشاركة بالعملية السياسية بعضها ضد البعض الآخر، حيث يتم اقتناص الفرص لإيقاع كل فريق بالآخر.
أما المظهر الأخطر للأزمة، فهو حالة التفتّيت والانشطار العمودي التي تعيشها الدولة منذ الاحتلال وحتى الآن، والتي تنذر بعواقب وخيمة ليس بعيداً عنها مشروع جو بايدن لعام 2007 لتقسيم العراق إلى 3 دويلات (تحت عناوين فيدراليات) ووضع نقاط تفتيش Check point بينها وتخصيص 300 ألف جندي لمراقبة حدودها وإصدار هويّات Identity أقرب إلى جوازات سفر للتمييز بين أبناء المناطق المختلفة حسب سكنهم والأماكن التي يقطنونها.
وسيكون ذلك جزءًا من تطهير طائفي وإثني جديد، وخصوصاً أن هناك مناطق يستعصي تجييرها لطائفة أو مجموعة طائفية كبغداد العاصمة على سبيل المثال، على الرغم من التطهير الطائفي الذي تعرّضت له منذ الاحتلال ولحد الآن، وباختصار، إن الزعم بأن التقسيم سيكون حلاًّ أو حتى آخر الحلول السيئة ليس سوى محاولة لفرض الأمر الواقع على العراقيين ليصبح ذلك واقعاً في المستقبل.
التقسيم سيكون كارثة جديدة على العراق الذي سيختفي من الخريطة السياسية، وخصوصاً إذا ما استمر الاحتراب والصراع، بل إن صراعه سيكون مصارعة على الطريقة الرومانية، حيث سينهك الجميع ويصلون إلى حافة الموت.
ويذكّرنا مشروع جو بايدن بسؤال طرحه غراهام فولر(1) الدبلوماسي والسياسي في مؤسسة راند Rand الأمريكية (المقرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA) هل سيبقى العراق موحداً العام 2002؟ وعاد وكتب دراسة في العام 2002 عنوانها "العام الأخير لصدام حسين"!(2)، وكان ذلك تمهيداً لاحتلال العراق، وجزء من نظرية التفتيت التي اشتغلت عليها مؤسسات الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، وتروست الأدمغة ومجمّع العقول لصالح المجمّع العسكري والصناعي، منذ اندلاع الحرب العراقية –الإيرانية، باعتبار الصراع في المنطقة هو بين سنّة وشيعة، وبين فرس وعرب وبين دولتين نفطيتين، وليس القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية وإن الصراع العربي – الإسرائيلي هو الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ما أريد الترويج له والعمل على أساسه لتفتيت دول المنطقة ، والعراق كان بروفتها الأولى.
لعلّ غراهام أي فولر لم يكن خيالياً عندما كتب "هل سيبقى العراق لغاية العام 2002" خصوصاً باستمرار الحصار والنظام حينها!؟ ننقل هذه الفقرة الجوهرية التي يريد الوصول اليها: دولة على درجة عالية من الاستبداد للحيلولة دون التفسخ، ولكن من شأن هذه الدولة الاستبدادية، أن تحرم البلاد من الاستقرار السياسي والمرونة اللازمة، الأمر الذي يغرق البلاد بالمقاومة الداخلية وعمليات التمرد والتدخلات الخارجية، وربما يغريها للسعي للمقاومة الخارجية للتعويض عن ضغطها الداخلي.
وضمن هذا السيناريو يمضي فولر: لقد شهدنا بالفعل تلك التجربة عندما شنّ العراق حربين ضد جيرانه خلال عقد واحد من الزمن. ثم يواصل فولر حبكته الدرامية بالاستنتاج التالي "ومما يدعو للمفارقة أن التدخل الخارجي ربما يكون السبيل الوحيد لإنقاذ وحدة العراق، لأن استمرار نظام الحكم البعثي، سيؤدي بالتأكيد إلى تعميق الخلافات الطائفية والدينية القائمة والتي يصعب التوفيق بينها داخل العراق".
ويفصح أكثر وعلى نحو لا لبس فيه ولا غموض عن استراتيجيته الولايات المتحدة إزاء العراق، التي عبّر عنها أكثر من مرّة الرئيس كلينتون وآل غور نائبه وكريستوفر وليك وإضرابهم بالقول " فالسياسة الأمريكية تجاه العراق تنطوي على مسائل تتجاوز كثيراً مصير دولة معتدية لحقت بها الهزيمة، بل إنها تشمل على العديد من القضايا ذات الاهتمام الدولي. ويعددها على النحو التالي:
1-   يعتبر العراق واحداً من أخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة التدميرية وهو "مصدر قلق"!
2-   العراق هو الدولة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تم دحرها وترويضها عسكرياً بموجب النظام العالمي الجديد (الدور الجديد للأمم المتحدة).
3-   ستظل "الوحدة الاقليمية" للعراق ليس موضع شك حسب، بل ربما يتقرر استمرار وحدتها جزئيا بسياسات المجتمع الدولي(1).

وإذا كان كريستوفر قد صرّح بما يلي "إني قلق بشأن الذين سيخلفون (الرئيس) صدام حسين بقدر قلقي منه... فإن العامل الخارجي الذي يبرر التآكل التدريجي للدولة العراقية، يلتقي مع العوامل الداخلية، التي تؤدي الى ذبولها إذا جاز التعبير وبالتالي انهيارها(2).
ولكي نتعرف على طبيعة الدولة العراقية، لا بدّ من العودة ولو بصورة سريعة الى قراءة بعض عناوين ومحطات قيام هذه الدولة وما وصلت إليه البلاد في الوقت الراهن.
لقد عانت الدولة العراقية منذ تأسيسها من أزمة حادة، استفحلت مع مرور الأيام بوجود "حكم أقلي" وابتعاد القاعدة الاجتماعية الواسعة عن المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وبالتالي تقليص دائرة الحكم، حتى إن دستور العام 1925 "القانون الأساسي" الذي بدا متقدماً حين صدوره، أهمل بالتدرج وتقلّصت هوامش الحريّات، وخصوصاً حرية التعبير، وازداد النفوذ الأجنبي، ومنذ ثورة 14 تموز (يوليو) ولغاية الاحتلال العام 2003 حُكم العراق من قبل أنظمة شمولية ارتفعت وتيرة العنف مع مرور الأيام، خصوصاً في ظل ادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة.
لقد أقيم العراق الحديث بلبنته الاولى في اتفاقية سايكس – بيكو السرّية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا. وضم هذا البلد خليطاً من قوميات وعناصر متنوعة. وإذا كان العنصر العربي الأساس في المجتمع العراقي، خصوصاً في الوسط والجنوب وغرب البلاد وجزء من شمالها وبمحيطه العربي الأوسع، فإن العنصر الكردي تفوّق في كردستان (شمال العراق)، إضافة إلى وجود عرب وتركمان وآشوريين وغيرهم.
وضمّ العراق المتنوع قومياً، تنوّعاً دينياً، فإضافة الى المسلمين بطائفتيهم الرئيسيتين الشيعة والسنّة، هناك أقليات دينية متعايشة، خصوصاً المسيحيين بطوائفهم وصابئة وإيزيديين وأرمن وغيرهم. والجميع يؤلفون نسيج الوحدة الوطنية العراقية بفسيفسائها وتمايز ألوانها.
وإذا كان التنوّع من خلال التعايش والوحدة الوطنية دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس – مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920). فلم يكن من وجهة نظرهم ومصالحهم، سوى نوعاً من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة العريضة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار.
ومع أن الملك فيصل الأول حاول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود من الزمان وبعد خبرة في الحكم دامت نحو 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهج لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924، الذي قسّم العراقيين إلى فئة أ و فئة ب فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وإنسابهم إلى الفئة (ب)، في حين أن الفئة ( أ ) نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس).
وإذا كان هذا موقف رأس الدولة في العام 1932 الذي صاغه على نحو جريء وصريح محللاً حقيقة أزمة الدولة العراقية، فما بالك بما يجري في الواقع الفعلي، وهو ما أثار تداعيات وتساؤلات كثيرة بصدد تجليات الأزمة، وذلك من خلال معرفة الخلفيات وإجراء مقارنات ضرورية، كلما تطلب الأمر(1).
الدولة حسب ابن خلدون تبدأ من "الرأس فما تحت" وهي بحاجة إلى سلطة رادعة (وازع) وقائد عصبية أو تضامن من شعب يتحد معه لتنظيم أمور المجتمع. ويرى الدكتور علي الوردي الباحث والمفكر الاجتماعي: إن فكرة الدولة هي الأساس في نظرية ابن خلدون الاجتماعية وهو ما ذهب إليه الدكتور طه حسين، حين ركّز على موضوع القيم الحضرية.
أما ساطع الحصري فقد ركّز على موضوع العصبية، أي أنه أعار اهتماماً كبيراً لموضوع " القيم البدوية" في المنهج الخلدوني، كما يحلّل وليد نويهض في مقال له في صحيفة الحياة(2).
(وحسب هوبز ولوك وسبينوزا وروسو تنشأ الدولة بموجب " عقد اجتماعي" بين الحكام والمحكومين (وإن اختلفت شروطه). أما عند كارل ماركس ولينين فالدولة أداة قمع للسيادة الطبقية، فهي والحالة هذه أداة لتنظيم سيادة طبقة على أخرى.
وإذا كان الإجبار سمة من سمات الدولة حسب ابن خلدون، لتأتي بعدها المظالم، فالدولة أيضاً نتاج تحريضي لما يحدث بين الناس من إكراه على التعاون في سبيل الإنتاج الحضاري(1).
الدولة سواء ابتدأت من "رأس" أو كانت بموجب "عقد" أو "تخويل" أو "سيادة لطبقة" فلا بدّ من قوانين تنظيم شؤون البلاد والعباد وفقاً لدرجة التطور الاجتماعي. وإذا كان العراق بعد إحراز استقلاله السياسي، يمرّ بمرحلة انتقالية، فإن انتماءه إلى المجتمع الدولي، كدولة ذات سيادة "عصبة الأمم عام 1932" ودخوله الأمم المتحدة، كعضو مؤسس وموقع على الميثاق عام 1945، قد جعلت مكانته الإقليمية والدولية تكبر، خصوصاً ما يمثله من موقع استراتيجي وموارد هائلة وخيرات ومعادن وتاريخه الحضاري العريق.
وشهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، استقراراً نسبياً وعمراناً تجسّد بمشاريع تنموية كبرى وسعياً لتحديث الإدارة وبناء مؤسسات ومرافق اقتصادية، وخصوصاً بتأسيس مجلس الإعمار العام 1950، لكن ربط العراق بمشاريع دولية للهيمنة وفي إطار الصراع السياسي والآيديولوجي، فترة "الحرب الباردة" كحلف بغداد عام 1955، والعديد من المعاهدات والاتفاقيات مع بريطانيا والولايات المتحدة، أدى إلى المزيد من التباعد بين الحكم وقاعدته التي ضاقت إلى حدود كبيرة، وكانت تتّسع باستمرار لدرجة لم يعد بالإمكان ردمها إلاّ بعملية قيصرية بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة وفي إطار المساواة وعدم التمييز، بما يعالج الفجوة الكبيرة والهائلة بين قاعدة الدولة وقمة الهرم، وهو ما كانت تأمل منه حركة التغيير والمعارضات السياسية.
لقد استهدفت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 معالجة موضوع اختلال التوازن في الدولة، بالسعي لتوسيع قاعدة الحكم وتحرير الإرادة الشعبية والتخلص من النفوذ الأجنبي الاستعماري، ومن مظاهر تزييف الحياة البرلمانية وقيود العشائرية والمحسوبية والمنسوبية والاضطهاد الشوفيني، ونهج العزل والتمييز واللاّمساواة، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، أكثر ضيقاً وتدريجياً بدأت ملامح الحكم العسكري تحكم قبضتها على البلاد وتفرض نوعاً جديداً أشد قسوة من الهيمنة ومصادرة حق الآخر والتدخّل بشؤون المجتمع المدني والاستحواذ على مؤسساته، لدرجة أن البلاد دخلت دوامة الانقلابات العسكرية المتكررة ودارت في حلقة الأنظمة الشمولية التوتاليتارية المتعاقبة، حيث تمت السيطرة على الحياة العامة وأُخضعت الأنشطة والفاعليات السياسية والنقابية والمهنية والاجتماعية للدولة، التي ألحق بها كل شيء، فانقطع خط التطور التدريجي وازدادت قمة الهرم ضيقاً وتباعدت عن قاعدته الاجتماعية.
ثالثاً: من برسي كوكس – مس بيل، إلى بريمر –
زلماي خليل زاده، نغروبونتي
أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده نغروبونتي، فإنها توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها.
ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم.
 فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر وتحت تسميات "الحشد الشعبي"(1) الذي هو جيش موازي للجيش النظامي من الناحية العملية وإن كان خاضعاً رسمياً لرئاسة الوزراء ومرتبطاً برئيس الوزراء، نقول إن الشيعية السياسية ولاسيّما المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش.
ويضم الحشد الشعبي الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وكتائب حزب الله وهي من التنظيمات التي قاومت الاحتلال، وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي، وجماعات أخرى صُنِّعت لتدخل في إطار الحشد الشعبي لتشكيل قوة ضاربة أخرى، إضافة إلى القوى الموجودة. وبقيت مجموعة الصدر "سرايا السلام" خارج دائرة الحشد الشعبي.
إن نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى 3  ركائز أساسية:
الركيزة الأولى – هي التحالف مع إيران والترحيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أو في الدفاع عن المذهب، حتى التدخل العسكري في سوريا، هو بالدرجة الأساس عن المقامات المقدسة، وخصوصاً في السيدة زينب.
أما الركيزة الثانية – فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحؤول دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي، ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، وخصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق العام 2003، (وقد صوّت البرلمان العراقي على قانون جديد تحت عنوان "قانون حظر حزب البعث" في 3 آب /أغسطس/ 2016).
الركيزة الثالثة – هي الوقوف ضد الخطر الوهابي، الذي يجري أحياناً تهويله لدرجة كبيرة. وهذه الركائز الاستراتيجية الثلاث تعمل عليها قوى الشيعية السياسية وإيران بصورة  متداخلة ومتكاملة، وهي ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى، له ركن سياسي وآخر مذهبي، يتعلق بالمصالح والصراعات الإقليمية، إضافة إلى ركن اقتصادي وتجاري ومالي.
أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية والسنّة العرب عموماً من:
1 –"الخطر الشيعي"، وخصوصاً محاولات انفراد الشيعية السياسية بالحكم وتهميشها الطائفة السنية، بحجة الأغلبية .
2 – التدخل الإيراني وما تطلق عليه "التمدّد الصفوي" بهدف التعبئة ضد الخصوم السياسيين والنفوذ الإيراني بوجه عام، سواء كان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وترتكز في مشروعها السياسي على:
أ – اعتبار دول الخليج وتركيا حليفاً للسنيّة السياسية، مقابل تحالف إيران مع الشيعية السياسية، وذلك بهدف إحداث توازن نوعي في ميزان القوى الداخلي.
ب – عادت بعض المجموعات من السنية السياسية بمن فيها قوى ورؤساء عشائر وشخصيات إلى التعويل أكثر من قبل على واشنطن والتقرّب منها مباشرة أو عبر دول الخليج وتركيا، بهدف كسبها للوقوف ضد النفوذ الإيراني من جهة ومن جهة ثانية ضد حلفاء إيران من الشيعية السياسية الحاكمة.
ولذلك وتحت ضغط الواقع والشع

432
قانون "جاستا" غير القانوني!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
   في تطوّر سريع، وبعد يومين فقط من دخول قانون "جاستا" حيّز التنفيذ، أقامت السيدة ستيفاني روس دي سيموني، أرملة أحد ضحايا هجمات سبتمبر /أيلول الإرهابية دعوى قضائية ضدّ المملكة العربية السعودية، زعمت فيها أن المملكة قدّمت دعماً مادياً لتنظيم القاعدة، وزعيمه أسامة بن لادن، كما جاءت دعواها نيابة عن ابنتها، حيث كانت حاملاً بها عندما لقي زوجها الضابط البحري باتريك دون حتفه في هجمات سبتمبر /أيلول العام 2001.
   وكان الكونغرس الأمريكي صوّت بغرفتيه ضدّ فيتو الرئيس أوباما لمنع تطبيق القانون الذي سبق أن أصدره مجلس النواب في الكونغرس وأجازه مجلس الشيوخ في مايو/ أيار الماضي 2016، علماً بأن البيت الأبيض لم يتّخذ الإجراءات الكفيلة، وسكت حين قدّم مشروع القانون قبل ست سنوات.
   ولعلَّ اسم القانون "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب" يدلّ على الاستهداف الواضح لبعض الدول بعينها، بإضعاف المعيار الدولي للحصانات السيادية، حيث يمنع القانون الدولي مقاضاة حكومات بسبب قيام بعض أفرادها بأعمال تخلّ بالقوانين الدولية أو الوطنية، وبسبب ذلك ارتفعت حمّى الجدل القانوني والدبلوماسي، داخل الولايات المتحدة وخارجها، حول "قانونية القانون"، فالقانون الذي صدر ليس قانوناً، وإنما هو أقرب إلى إجراء سياسي مبيّت وتدبير إداري يقصد دولاً بعينها، ويستهدف ابتزازها لدفع أموال بعنوان تعويضات للضحايا، وهو ما يذكّر بمحاكمة لوكربي التي جرت في هولندا ووفقاً للقانون الاسكتلندي، وعلى الرغم من الإدانة الجزئية إلاّ أنه لم يتم التوصّل إلى الفاعل الحقيقي بارتكاب الجريمة، لكن التسوية السياسية قادت إلى إطلاق سراح عبد الباسط المقرحي، ودفع تعويضات ضخمة، لم تكن الدولة مسؤولة عنها، وذلك باستغلال سوء سمعتها على المستوى الدولي وقيامها بقضايا أخرى، يمكن اتهامها بالإرهاب الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان.
   وبالرغم من أن قانون "جاستا" هو قانون وطني أمريكي في داخل الولايات المتحدة، إلاّ أنه يشكّل سابقة قانونية في التعامل مع الدول الأخرى، وفي ذلك مخالفة للقوانين الجنائية التي تلتزم بمبدأ شخصانية العقوبة، أي أن كل شخص مسؤول عمّا ارتكبه من جرائم دون امتداد أثر الجريمة إلى أشخاص آخرين أو إلى الدولة التي يعتبر أحد مواطنيها، ويخالف هذا القانون قواعد القانون الدولي الجنائي وقرارات محاكم نورنمبرغ وطوكيو العسكريتين، حيث تمت محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم ولم تحاكم دولهم، علماً بأن قرارات الحرب وجرائمها والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، كانت بعلم وتخطيط أعلى المستويات في الدولتين.
   ويتعارض قانون "جاستا" مع قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً احترام مبدأ السيادة الوطنية للدولة، وهو ما حذّر منه الرئيس أوباما نفسه، خصوصاً أنه يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدَّين، كما يمكن أن يضرّ بالمصالح الأمريكية ذاتها، إذْ يمكن أن تستخدمه دول وأفراد وجماعات ضدّ الولايات المتحدة ذاتها، بتهمة تورّط بعض جنودها ودبلوماسييها وشركاتها في عمليات إرهابية، وهو أمر ليس مستبعداً، وباختصار فإنه قد يفسح في المجال لفوضى قضائية.
   إن دخول القانون حيّز التنفيذ سيفتح الباب لدعاوى متقابلة، تطبيقاً لقاعدة المعاملة بالمثل، حيث سيكون لكل دولة الحق في تشريع قوانين مثل قانون "جاستا"، ومن ثم يمكن ملاحقة المتهمين الأمريكيين الذين تسببوا بقتل الآلاف من الأبرياء في العالم، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن ضحايا هيروشيما وناكازاكي وغيرها.
   وكان كيرت برادلي أستاذ القانون الدولي، عبّر عن رؤيته في صحيفة "نيويورك تايمز" بقوله: نحن ما زلنا نرى أن مشروع القانون من شأنه أن يخلق استثناء كبيراً على الحصانة السيادية، التي من شأنها أن تشكّل انتهاكاً للقانون الدولي، وتدعو إلى الانتقام المتبادل ضدّ الولايات المتحدة، واقترح خيارات أخرى منها: تقديم تعويض إضافي مباشرة لأسرى الضحايا في أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كما يمكن تسوية المسائل العالقة بشأن الهجوم نفسه، وتفويض الأمر للمدّعين العامّين الخاصين والمحاكم الاتحادية غير المنتخبة، لتجنّب كل ما هو غير مألوف لمسؤولية الكونغرس التي من شأنها أن تلحق ضرراً كبيراً بالولايات المتحدة في العديد من المجالات في الخارج.
   إن إزالة الحصانة السياسية يمكن أن يمتد إلى مساءلة الولايات المتحدة عن احتلال أفغانستان والعراق، كما يمكن بموجبه رفع حصانة "إسرائيل" بدعاوى الحرب على غزة، إضافة إلى حصارها غير القانوني وغير الشرعي منذ العام 2007، خصوصاً وأن المساءلة يمكن أن تشمل الإصابات الشخصية والخسائر في الأرواح والممتلكات، من قبل أي من الأفراد، سواء كانوا أفغاناً، أو عراقيين أو فلسطينيين في حالة "إسرائيل".
   والشيء بالشيء يُذكر، فلدى كوبا وإيران تشريعات مشابهة لقانون جاستا ترفع حصانة الولايات المتحدة السيادية في محاكمها، ردّاً على تشريعات أصدرتها واشنطن ضدّهما سمحت بصدور أحكام ضدهما في المحاكم الأمريكية، وبالمقابل فقد رفعت دعاوى في البلدين ضدّ الولايات المتحدة وتواجهها أحكاماً افتراضية بمليارات الدولارات نتيجة ذلك، ويمكن للمملكة أو دول خليجية  وعربية أخرى قد تكون مشمولة بقانون جاستا، تشريع قوانين ترفع الحصانة السيادية، لكن ذلك سيدخلها في الوقت نفسه والعالم أجمع في صراعات لا حدود لها، ويعطل اتفاقيات ومعاهدات عقدتها مع الولايات المتحدة، وقد تكون غير مهيّأة لإبطالها، مثلما هو سحب أرصدتها، فالمملكة لوحدها تملك نحو 750 مليار دولار. علماً بأن تنفيذ قانون جاستا قد يذهب إلى حجز أموال أو عقارات أو استثمارات أو صناديق أو شركات أو طائرات عائدة للدولة التي سيتم تجريمها.
   وكان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قد أبدى اعتراضه على القانون، وطلب إجراء تعديلات جذرية عليه، وذلك خلال لقائه مع بوب كروكر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، ووعد الأخير بإمكانية ذلك من خـلال تقيـيد سريانه على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول فقط، إضافة إلى إمكانية تغيير العتبات القانونية الواردة فيه، بإنشاء عملية قضائية منفصلة، لكن ذلك حسب اعتقادي لن يتم سريعاً ويحتاج إلى وقت طويل للمراجعة خلال الولاية الجديدة للرئاسة، فيما إذا تم الاتفاق عليه.
   جدير بالذكر أن لجنة التحقيق كانت قد أصدرت تقريرها في العام 2004 مؤكّدة فيه أنه لا يوجد دليل على تورّط المملكة العربية السعودية (كدولة) ولا أي من المسؤولين الكبار في الحكومة، قاموا بتمويل تنظيم القاعدة، لكن جزءًا من التقرير ظل سرّياً لسنوات طويلة، حتى تم رفع السرّية عنه في يوليو /تموز 2016، ويشير هذا الجزء إلى أن منفّذي الهجمات ربما حصلوا على مساعدة من بعض المسؤولين السعوديين، وكانت المملكة قد نفت في السابق والحاضر مسؤوليتها عن الهجمات التي كان 15 من بين 19 إرهابياً نفذوها يحملون جنسيتها.
   القانون الذي حظي بشبه إجماع في الكونغرس، عاد البعض وتراجع عنه، وهو ما يفتح المجال لتراجعات أكبر، لأنه بقدر ما يحرج دولاً معينة، فإنه سيحرج الولايات المتحدة.



433
عن الديمقراطية والسوق
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
هل ثمّة علاقة بين الديمقراطية والسوق؟ ثم ما هي عناصر هذه العلاقة وأركانها إن وُجدت؟ وبعد ذلك هل تزدهر الديمقراطية بازدهار السوق، أم أن السوق يزدهر بالديمقراطية؟ ولعلَّ مثل هذه الأطروحات لاقت رواجاً كبيراً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، حيث ارتفعت الدعوات إلى حرية السوق و"الخصخصة" بتفكيك القطاع العام، ارتباطاً مع نهج الانفتاح و"الدمقرطة"، وإعلان فشل سياسات التخطيط الموجّه، وغير ذلك من المبرّرات التي كان بعضها صحيحاً، لكن الهدف أريد به باطل، حيث السعي المحموم لإثبات ظفر النيوليبرالية على المستوى العالمي، وبالتالي التسليم بوحدانيتها كخيار اجتماعي لا مفرّ منه للتنمية.
وقد حاول النيوليبراليون (الليبراليون الجدد) تأكيد هذا التوجّه بالتعكّز على أربعة أضلاع أساسية، زعموا أنها ستكون مفضية لمد الجسور والقناطر بين السوق والبناء الديمقراطي، وهذه الأضلاع هي:
1 – تحرير قطاعي التجارة والمال (من القطاع العام وتأثيرات الدولة).
2 – السماح للأسواق (والمنافسة) بتحديد الأسعار (والمقصود بذلك تصحيح الأسعار حسب وجهة النظر النيوليبرالية).
3 – القضاء على التضخّم (أي تحقيق الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكليّ).
4 – خصخصة المنشآت الحكومية (أي تفكيك القطاع العام بزعم فشله).
ووفقاً لهذه الوضعية، على الحكومة لكي تكون ديمقراطية ومقبولة أن تتنحّى جانباً لحساب حركية السوق وارتباطاته العالمية.
ويذهب المفكّر الأمريكي نعوم تشومسكي لتحليل ذلك في كتابه "الربح مقدّماً على الشعب" مع عنوان فرعي يمثّل جوهر فكرة الكتاب "النيوليبرالية والنظام العالمي"، ويركّز على ظاهرة "السوق الحرّة"، أو حسبما يسمّيها تلميذه وكاتب مقدمة كتابه روبرت دبليو ماك تشيزني "أسطورة" السوق الحرّة، تلك الترتيلة الباعثة على التفاؤل المقحمة عنوة في رؤوسنا حسب تعبيره، والقائلة إن الاقتصاد بطبيعته "تنافسي وعقلاني" وهو أيضاً "كفوء وعادل"، وهو الأمر الذي يدحضه تشومسكي، فالسوق تهيمن عليه شركات عملاقة تتمتّع بسيطرة هائلة وتزيح أي منافسة جدّية أمامها، حتى ولو كانت ضئيلة جداً.
وتشومسكي هو من رافضي الحرب على فيتنام في سبعينات القرن الماضي ومن منتقدي السياسة الأمريكية، وخصوصاً النيوليبرالية، التي نشطت في عهد الرئيس رونالد ريغان وبالتعاون مع رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، وكذلك من المندّدين بمبدأ الرئيس بيل كلينتون، القاضي بسيادة التجارة الحرّة وسيلة مهيمنة على العالم عبر شركات عابرة للقارات، وهذه الشركات العملاقة تعمل وفق نظام إداري تراتبي متسلّط وأوامرية فوقية، الأمر الذي سيعني أن حرية السوق حسبما ينظر لها أصحاب المذهب النيوليبرالي، لا تنسجم مع الدعوة لإقامة أنظمة ديمقراطية، وهكذا فإن التعارض سيكون شاسعاً بين متطلّبات السوق ومستلزمات الديمقراطية.
خلال صعود الفاشية والنازية في الثلاثينات من القرن الماضي، أطلق البعض عليهما وصف "الرأسمالية بلا قفازات"، لمعارضتهما حقوق الإنسان والديمقراطية، وانحيازهما للدكتاتورية والشمولية، وهو ما يخالف الفكرة الرأسمالية الليبرالية الكلاسيكية، تلك التي تعلي من شأن الفرد والفردانية، وترفع من قدر الحريّة كقيمة عليا سامية، إضافة إلى تقديس "حرية السوق"، وفقاً لشعار المفكر الاقتصادي البريطاني آدم سميث "دعه يعمل، دعه يمرّ".
فهل تنطبق تلك المواصفات على النيوليبرالية، أم أن هذه الأخيرة تمثّل مرحلة جديدة صعدت فيها قوى البزنس لتصبح أكثر شراسة وعدوانية، وهي تحاول إزاحة أي قوة أمامها تعارض ما يسمّى بحريّة الأسواق أو الأصح "دكتاتورية السوق"، حتى وإن كانت نظاماً ديمقراطياً لا فرق في ذلك عندها، لأن هدفها هو الهيمنة والحصول على الأرباح، لكنها قد تجد في "ديمقراطية" شكلية قائمة على الانتخابات مثالاً "جيداً"، لتحقيق أهدافها حيث يلعب الإعلام دوراً مؤثراً في كسب الناخب، وتحويل اهتمامه من المشاكل الجوهرية إلى مسائل ثانوية وربما أقل تأثيراً، بما يحافظ على هيمنة الشركات الكبرى المحميّة من الاحتكارات العالمية.
وقد حاولت النيوليبرالية إطاحة أنظمة وفرض أخرى للحجة ذاتها "الديمقراطية وحريّة السوق"، فالحكومات التي تعارض حرية السوق حسب النيوليبرالية هي حكومات غير ديمقراطية، حتى لو كانت تحظى بدعم شعبي، وكوبا مثالاً على ذلك، فقد استمر الحصار عليها ما يزيد عن خمسة عقود ونظّمت مئات محاولات التدخل للإطاحة بنظامها، وحكومة الليندي في تشيلي التي أطيح بها في العام 1973، كانت قد جاءت عبر انتخابات شرعية، ولكنها من وجهة نظر البزنس هي حكومة غير ديمقراطية، لأنها تعارض "حريّة الأسواق" التي تعني حريّة الولايات المتحدة في التدخل بشؤون الغير، بإعطاء الشرعية لنفسها للإطاحة بأي نظام يعارض توجهاتها، باعتباره يهدد "الأمن القومي"، حتى وإن بَعُد آلاف الأميال عنها.
وحسب النيوليبرالية يعتبر الفلسطينيون مهدّدين لحرية السوق وللديمقراطية، طالما يرفضون الانصياع للسياسة "الإسرائيلية"، وهي وإن كانت عدوانية وتتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، لكنها تنسجم مع وصفة واشنطن ذات الأضلاع الأربعة، وحسب أضلاعها هذه، فالتجربتان الأفغانية والعراقية بعد الاحتلال الأمريكي للبلدين، "ديمقراطية" لأنها تنسجم مع حرية الأسواق، والمقصود حرية واشنطن في التدخل ونهب الثروات.
وتحت مبرّرات العولمة تحاول النيوليبرالية عقد الصفقات التجارية والاتفاقيات الدولية، لتجعل مجتمع البزنس والشركات الكبرى، وكبار الأغنياء مسيطرين على اقتصاديات الأمم، وذلك عبر منظمة التجارة العالمية، خصوصاً بتسويق أوهام ضرورية ليبدو غير المنطقي مرغوباً، بالإيحاء أنه يعمل للصالح العام، وذلك عبر جهاز دولي واسع لصناعة "فكرة القبول" أو القدرة على الإقناع، ليصبح حسب المفكر الجزائري مالك بن نبي القابلية على الرضا أو الموافقة التي يقابلها الخضوع، حيث يعمل فيه ويسخّر له مفكّرون وإعلاميون ومؤسسات مجتمع مدني وقوى وأحزاب ووكلاء مباشرون وغير مباشرين.
ومنذ نهاية الحرب الباردة راجت نظريات ما سمّي بـ"نهاية التاريخ" حسب فرانسيس فوكوياما، أو "صدام الحضارات" حسب صمويل هنتنغتون وغيرها، سعياً وراء اختراع عدوّ جديد بعد القضاء على الشيوعية سمّي "بالإرهاب الدولي" الذي وضع مرادفاً له "الإسلام"، مع تسويق فكرة عدم وجود بديل أفضل من النيوليبرالية وتركيباتها الفرعية، واستبعاد أي فكرة جوهرية للتغيير أو لديناميات جديدة تُفضي إليه وتقف بوجه العولمة وتسعى للتقليل من تأثيراتها السلبية.


434
"نحتاج إلى عدالة انتقالية للترميم، لإعادة البناء، للتأسيس لمرحلة جديدة"
تونس - ليبيا المستقبل - مريم الشاوش:

   محاورة الدكتور عبد الحسين شعبان، الكاتب والمفكر والحقوقي العراقي، ليست أمراً يسيراً.. فالخلفية الثقافية والفكرية والفلسفية الكبيرة التي يحملها الرجل تجعل منه إحدى القامات العالية في النخب العربية.. ولد الدكتور عبد الحسين شعبان بمدينة النجف في العراق يوم 21 مارس 1945 لأسرة عربية عريقة من عشيرة آل شعبان.. بدأ دراسته في مسقط رأسه ثم تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بغداد.. نال درجتي الماجستير والدكتوراه من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية في براغ..
   ليبيا المستقبل التقت الدكتور عبد الحسين شعبان على هامش تكريمه من عدد من منظمات المجتمع المدني في تونس، وأجرت معه الحوار التالي:
   - مرحبا بك دكتور في هذا الحوار مع صحيفة "ليبيا المستقبل"، لنبدأ حوارنا بالحديث عن المجال الحقوقي، في البلدان التي شهدت ثورات عربية، يرى البعض إعطاء الأولوية للأمن والاستقرار، ثم في مرحلة موالية حقوق الإنسان. كيف تقيمون هذا الرأي؟
   • لا يمكن تقديم حق على حق، الحق في الأمن والحق في الاستقرار هو حق أكيد وثابت، مثل الحق في الحياة، والحق في الأمن والاستقرار يبدأ من حق الحياة، وهو جزء من حقوق الإنسان، وبالتالي هو مكمل للحقوق الأخرى. هناك علاقة عضوية ما بين الأمن والكرامة، وما بين الأمن والحرية، لذلك لا بد من إيجاد توازن وتناسب وتناظر  ما بين الأمن والاستقرار من جهة ومابين الحقوق والحريات من جهة أخرى. وكلها حقوق وهي مثل السبيكة الذهبية، ولا يمكن أن نقتطع جزءًا منها ونرميه بحجة أن وقته غير مناسب، آو أنه ليس ذهبا، هو جزء من الذهب وهكذا هي الأمور. هذه الحقوق متفاعلة ومتداخلة ومكتملة مع بعضها، وإلاّ ستبدو ناقصة ومبتورة إنْ فضّلنا حقاً على حق آخر.
   - نبقى في نفس الإطار البلدان العربية التي شهدت ثورات.. العدالة الانتقالية ما دورها في تعزيز حقوق الإنسان؟
"أحد العوامل الأساسية في تدهور  الوضع في ليبيا، هو التدخل الخارجي"
   • أعتقد أن مسألة العدالة الانتقالية في التجارب الديمقراطية، هي مسألة مهمة خصوصا عندما يتم الانتقال من نظام حكم إلى آخر، من نظام استبدادي دكتاتوري إلى نظام يتجه نحو الديمقراطية، فلا بدّ من عدالة انتقالية.
   العدالة الانتقالية تتنازعها مسألتان أو منطلقان أساسيتان: الأول الذي يقوم على فقه القطيعة، أي قطع مع الماضي كليا، وهذا يؤدي إلى ردود أفعال ويؤدي أحيانا إلى ارتكاسات، و ارتفاع وتيرة العنف، والفعل ورد الفعل. الثاني يتطلّب معالجة من نوع آخر والذي أدعوه بفقه التواصل، بمعنى من المعاني أن نأخذ بعين الاعتبار بعض الارتكابات والانتهاكات التي حصلت ونخضعها لسياقها التاريخي على أمل أن نتواصل في إطار منظومة حقوقية جديدة، نستند إليها في تقييم الماضي وفي استشراف المستقبل.
   العدالة الانتقالية تقوم على خمس مبادئ أساسية: المبدأ الأول هو مبدأ المساءلة، والمبدأ الثاني كشف الحقيقة، أي ما الذي حصل؟ كيف حصل؟ من قام بالفعل؟ من ارتكب؟ ومن استند إلى كذا؟ هذه الأمور لا بد أن نأخذها بنظر الاعتبار. المبدأ الثالث هو جبر الضرر المادي والمعنوي على جميع الصعد. والمبدأ الرابع هو تعويض الضحايا، تعويضاً مادياً ومعنوياً، وهناك علاقة بين جبر الضرر والتعويض، الأول يتعلّق بالعام، أي  إطلاق أسماء شوارع، إطلاق أسماء مدارس، على أسماء الضحايا تخليداً لهم، إقامة نصب... والثاني التعويض المادي والمعنوي للضحايا أو لعوائلهم. المبدأ الخامس والأخير، وهو مبدأ مهم، ونعني به إصلاح الأنظمة القانونية والأمنية والقضائية، التي تؤدي إلى عدم تكرار ما حصل وتمنعه. هذه مسألة على غاية من الأهمية لابد أن تؤخذ بالنظر.
"نحتاج إلى عدالة انتقالية للترميم، لإعادة البناء، للتأسيس لمرحلة جديدة"
   هدف العدالة الانتقالية هو المصالحة أي والوصول إلى المصالحة، والوصول إلى التفاهم المجتمعي، والوصول إلى التصالح السياسي والمجتمعي. الهدف الأبعد للعدالة الانتقالية هو تهيئة أجواء مناسبة للتحول الديمقراطي.
   لماذا عدالة انتقالية؟ لأنها مؤقتة، أي أنها تمرّ بظرف خاص لأن جزءًا منها قضائي وقانوني والجزء الآخر سياسي واجتماعي وثقافي وتربوي وديني.. كل هذه الأمور لا بد أن تؤخذ بنظر الاعتبار، عند التفكير بموضوع العدالة الانتقالية.
   للتجارب الفتية التي تريد التوجه نحو الديمقراطية، سواء خروج من تحت احتلال، أو خروج من هيمنة نظام استبدادي ودكتاتوري، أو بانفراط الأنظمة القانونية وسقوط هذه الأنظمة بحيث يؤدي إلى غياب سلطة القانون، نحتاج إلى عدالة انتقالية للترميم، لإعادة البناء، للتأسيس لمرحلة جديدة، ما بعد الانتقال الديمقراطي.
   يمكن نحدد العدالة الانتقالية بخمس سنوات أو عشر أو خمس عشر سنة، (ولا يمكن أن تكون مفتوحة بلا نهاية)، لكن هي مرحلة انتقالية مؤقتة محكومة بهذه القواعد، على أمل أن ننتقل إلى المرحلة القادمة وأقصد بذلك مرحلة التحول الديمقراطي. وعندما أقول التحول الديمقراطي، فإننا نحتاج إلى إعادة نظر بالقوانين والأنظمة وفقاً لدستور ديمقراطي ووفقاً لاستقلال القضاء وفصل السلطات وإطلاق الحريات العامة، تحقيقاً لأربعة قضايا رئيسية تستند إليها المواطنة، وعندما أقول مواطنة أعني بذلك الحريات، والمساواة بما فيها المساواة بين الجنسين بالنسبة لي، والعدالة وخصوصاً العدالة الاجتماعية، إذ ستكون المواطنة مبتورة وناقصة مع الفقر. ثم هناك مبدأ الشراكة والمشاركة أي عدم التمييز في اعتلاء المناصب العليا أو في تولي الوظائف أو على أي نطاق نتحدث عنه.
   - في هذا الإطار دكتور.. المرأة العربية، كيف ترون حقوقها ودورها؟
"مازال السائد الاجتماعي والقانوني يشكل عائقا أمام حقوق المرأة وأمام دورها وأمام تطورها"
   • المرأة العربية مهدورة الحقوق، ودورها مازال محدوداً، بسبب عوامل الكبح الاجتماعية، والثقافية والموروث والتقاليد والعادات واستخدام الدين على نحو مسيء، الذي ينتقص من المرأة وينتقص من قدرها وينتقص من كرامتها الإنسانية خلافا للقرآن الكريم الذي يقول بالكرامة الإنسانية. دورها ما زال محدوداً بسبب هذه العوامل، علما بأنها تقوم بأدوار غير منظورة كما فعلت بالثورات التي حصلت بعديد البلدان العربية، وليبيا تجربة مهمة على هذا الصعيد، وتونس أيضا تجربة مهمة ومصر أيضا، واليمن كانت تجربة مهمة، ولكن للأسف الشديد مازال السائد الاجتماعي والقانوني يشكل عائقا أمام حقوق المرأة وأمام دورها وأمام تطورها.
   - الطائفية ومساهمتها في تفكك المجتمعات العربية كالعراق وسوريا واليمن، وما تشهده هذه البلدان من صراعات أدت إلى كوارث إنسانية. ما هي السياسة التي يمكن انتهاجها للحد من هذه الظاهرة؟
   • الطائفية، فيروس خطير، ضرب المجتمعات العربية، وسرى على نحو بطيء ثم استفحل وظهرت تأثيراته الخطيرة. للأسف الشديد نحن كمثقفين عرب، وأنا انطلق من النقد والنقد الذاتي، لم نعي خطر هذا الفيروس ولم نتعامل معه بالجدية اللازمة، بل ترفعنا عن التعاطي معه، لأننا كنا نطرح الشعارات الكبرى والقضايا الكبرى والتغيير الكبير، في حين أن هذه كانت تسري، مثلما تسري النار في الهشيم على نحو تدريجي، فظهر خطرها الآن وجرى تحريكها من قبل قوى خارجية، التي لعبت دور في تأجيجها لكن أساسها داخلي وهو موجود.
   القضاء على الطائفية يحتاج قوانين لتحريم الطائفية، ويحتاج إلى توعية اجتماعية، ويحتاج إلى دور للفاعلين السياسيين والثقافيين والمثقفين بشكل خاص، وكنت قد اقترحت قانونا لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة.
   مقابل تحريم الطائفية نحتاج إلى تعزيز المواطنة، وتحدثت عن أركان المواطنة، المواطنة السليمة، المتساوية، هي الفضاء الذي يحاصر الطائفية مجتمعيا بعد أن نكون قد حاصرناها قانونياً وسياسياً وثقافياً.
   للأسف الشديد، بعض رجال الدين استثمروا في الطائفية ووظفوها لمصالحهم الخاصة، مثلما وظفتها قوى سياسية ركبت الموجة الطائفية باسم الإسلام السياسي، واستطاعت أن تتصدر الموجة التغييرية بهدف التسيّد، سواء بادعاء الأفضلية أو بزعم تمثيل المظلومين، كل ذلك دفع إلى الارتكاس المجتمعي، وإلى النكوص الذي حصل في الوضع الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي على المستوى العربي.
   - دكتور قبل الحديث على إرساء القوانين واستعمال الوسائل الردعية للحد من هذه الظاهرة، ألا يمكن الحديث أولا عن دور المثقفين، عن دور النخب في تغيير الفكر والعقل العربي؟
"المثقفين قسم منهم تخلوا عن قضيتهم الأساسية، إما أصبحوا بضاعة تباع وتشترى في السوق أو وظف بعضهم نفسه لخدمة الأنظمة الدكتاتورية"
   • المشكلة هنا أيضا، أن المثقفين قسم منهم تخلّوا عن قضيتهم الأساسية، إمّا أصبحوا بضاعة تباع وتشترى في السوق أو وظف بعضهم نفسه لخدمة الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، آو بعضهم استمرأ التعامل مع الخارج، الأمر الذي جرى تسخيره ضد وطنه أحيانا، سواء بقبول الاحتلال بقبول الغزو، بقبول استخدام العنف ضد بلده، والإرهاب.. إلخ. أو أن بعضهم تخلى عن وظيفته مترفّعاً بدعوة أنه تقني وأنه أكاديمي، وأنه مهني وأنه لا يريد التدخل بالسياسة.
   وأدى هذا إلى تراجع النخب الفكرية والثقافية والسياسية على هذه الصعد. ثم بعضهم حاول أن يبيع بضاعته لهذا وذاك، أصبح مثل التارزي الذي يخيط البدلة لهذا وذاك، وفقا للمقاسات التي يطلبها صاحب البدلة.
   بعضهم اشتغل مقاولاً ثقافياً ينظم ندوات وفعاليات لخدمة هذا الطرف وذاك، وأحيانا ينتقل من خدمة هذا النظام إلى نظام نقيض له، كما شاهدنا في فترة البترودولار، والتي استمرت إلى الآن. الآن العنصر الخارجي وما سمي بالدور الأمريكي كان له تأثير خطير على واقع المثقفين ونكوصهم عن وظيفتهم الثقافية والفكرية.
   - ما تشهده الساحة الليبية من صراعات سياسية وقبلية وجهوية وانهيارات أمنية، ألا تعتقدون أن التدخل الإقليمي والدولي في ليبيا هو أحد العوامل المساهمة في مزيد تعميقها؟
   • نعم إنه أحد العوامل الأساسية في تدهور  الوضع في ليبيا، هو التدخل الخارجي سواء عن طريق القصف عام 2011 أو ما بعدها، حاليا هناك اشتباكات وتعاقدات وتعاهدات وتواصلات ما بين المخابرات الدولية والأجهزة الدولية والقوى الدولية في ليبيا، من فرنسا إلى الولايات المتحدة ومن دول إقليمية إلى غيرها كل لعبت دورا في تعقيد الوضع الليبي، بالطبع هناك سبب آخر مهم هو النظام الاستبدادي السابق، ألغى السياسة وأمم الحياة العامة لصالحه ولصالح المجموعة الحاكمة، مما ساهم في تعقيد الوضع السياسي خصوصا الفوضى التي أعقبت النظام السابق، ثم هناك انهيار الدولة.
   القذافي ألغى الدولة لحساب السلطة، السلطة ابتلعت الدولة، في حين أن الدولة باقية والسلطة هي المتغير، وحاول أن يطوع الدولة لحساب السلطة ولذلك تماهت عمليات الدولة بالسلطة، فما إن انهارت السلطة انهارت الدولة، وكان للفعل الخارجي أن أجج الصراعات القبلية والجهوية والمناطقية، ولذلك بدأنا نسمع عن تقسيمات وعن مشاريع، عن فدراليات وعن نوايا تناحرية، في حين أن انهيار النظام السابق كان يمكن أن يعطي فرصة لليبيا للانتقال والتحول الديمقراطي لو سلك طريق العدالة الانتقالية ولو جرى التفاهم ما بين الفرقاء السياسيين، ولو استخدمت وسيلة المصالحة السياسية أسلوبا للانتقال نحو الديمقراطية.
   - ما دمنا نتحدث عن ليبيا، منصور الكيخيا، الداعية الحقوقي الليبي، ماذا تحمل ذاكرة الدكتور عبد الحسين شعبان عنه؟
"منصور الكيخيا، رجل حوار وهو داعية سلم وهو مثقف كبير، رجل يصلح للمجتمع المدني"
• هذه ذكرى عزيزة وأليمة في نفس الوقت، آخر مرة التقيت فيها منصور الكيخيا كان عام 1993، التقينا في مؤتمر في القاهرة، بعدها غادرت وبعدها بثلاثة أيام كان قد اختطف من القاهرة، والقصة معروفة كنت قد رويت أجزاء منها في كتابي "الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجا" وجزء من الكتاب باللغة العربية وجزء آخر بالانجليزية. نظمنا أربع ندوات.
   الأخ حسن الأمين والأخ محمد المخلوف والأخ علي زيدان يعرفون جميعاً الجهد الذي قمنا به للدفاع عن منصور الكيخيا. وأصدرت هذا الكتاب في العام 1997 - 1998 وجرت عدة ندوات عن هذا الكتاب، في لندن وفي القاهرة وفي برلين وفي واشنطن، وفي مناطق أخرى خصوصاً وأن الكثيرين كانوا مع المعارضة الليبية، وكانوا مطاردين.
   وقد كان صدور هذا الكتاب بالإضافة إلى أن دفاعنا عن حقوق الإنسان قد ساهم في الترويج للقضية الليبية، وفي فضح وتعرية الانتهاكات التي كان يقوم بها النظام السابق (وقد أنتجنا فيلماً بعنوان: اسمي بشر، من إخراج الفنان والإعلامي محمد مخلوف).
   منصور الكيخيا، رجل حوار وهو داعية سلم وهو مثقف كبير، رجل يصلح للمجتمع المدني، لديه علاقات مع الحقوقيين والمحامين العرب. كان إنساناً لاعنفياً، وقد جرى استثمار إيمانه بالحوار من جانب القوى الإرهابية التي استدرجته وقامت باختطافه ونقله من القاهرة إلى طرابلس، ثم جرت تصفيته ووفاته في العام 1997، بقي أربع سنوات في السجن وجرى التحقيق معه، كان قد تجاوز الستين ولديه مرض القلب وضغط الدم والسكري، الأمر الذي أدى إلى وفاته.
   اكتشفت الجثة بعد الثورة إثر الحصول على الحمض النووي الذي تم فحصه في سرايفو. ثم أقيم له احتفال كبير في نهاية العام 2012، وقد استدعيت إلى هذا الاحتفال وألقيت كلمة فيه، بحضور رئيس الوزراء علي زيدان ورئيس المؤتمر الوطني، محمد المقريف ونائب رئيس المؤتمر الوطني جمعة عتيقة. وكان هؤلاء جميعا ممن عملوا في المعارضة أيام زمان. وكان محمد المقريف عضواً في اللجنة العليا التي تم تشكيلها في لندن دفاعا عن منصور الكيخيا بمبادرة مني وكان رئيسها الشاعر الكبير الأستاذ بولند الحيدري.
   - لنتحدث قليلا عن الكتابة، من المفترض بعد الثورات العربية أن الأقلام تحررت ومن المفترض أن يكون الإنتاج أكثر، ما يلاحظ أن الانتاج على المستوى الكمي متوفر ولكن على المستوى النوعي متوسط أو حتى ضعيف كيف تفسرون ذلك؟
   • الكتاب بشكل عام في أزمة، والثقافة في أزمة، بسبب أولا الوضع الاقتصادي من جهة وبسبب انصراف الناس إلى الاستهلاك، خصوصا في ظل صعود تيارات دينية، أقرب إلى الفاشية أحيانا، وتيارات تعصبية متطرفة، وأظن أن نموذج داعش وتجربة تنظيمات القاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات التي تتحرك بطريقة زئبقية من المغرب العربي ليبيا وتونس والمغرب والجزائر لتضرب في العراق وسوريا وغيرها من البلدان العربية. هذا الأمر تسبب في انحسار الدائرة الثقافية وفي انحسار الهم الثقافي وفي انحسار المنجز الثقافي والمردود الثقافي.
   المثقف ليس هرقل الجبار، هو إنسان وبالتالي يحتاج إلى أن يعيش إلى أن يأكل أن يمارس حياته الطبيعية، إن لم تأتيه موارد من الثقافة سيبحث عن وسائل أخرى، أو قد يضطر أحيانا للتواطؤ مع نفسه على حساب ثقافته، وهذا ربما أشد أنواع التواطؤ التي تحصل للإنسان.
نُشر هذا الحوار في جريدة "ليبيا المستقبل" بتاريخ 30/9/2016 وقد أجرت معه هذا الحوار الصحافية "مريم الشاوش" في تونس على هامش تكريمه من المعهد العربي للديمقراطية والجامعة الخضراء ومنتدى الجاحظ.



435
المفكر العراقي د. عبد الحسين شعبان
لـ «المغرب»:
 نحتاج إلى رؤية جديدة تقبل التنوع وتقرّ بالحقوق المتساوية
بقلم روعة قاسم
  27/09/2016
 
   د. عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكّر عراقي من الجيل الثاني للمجدّدين العراقيين، يساري النشأة والتوجّه، وله أكثر من مئة مؤلف ودراسات متنوّعة في القانون والسياسة الدولية وقضايا الفكر والثقافة والأدب وغيرها، إضافة إلى عديد الترجمات، وحاصل على جوائز وأوسمة عديدة. وتمّ تكريمه مؤخراً في تونس من قبل المعهد العربي للديمقراطية، بالتعاون مع منتدى الجاحظ والجامعة الخضراء، وعدد من منظمات المجتمع المدني. اعتبر في حديثه لـ"المغرب" على هامش زيارته إلى تونس أن ما يحصل في العالم العربي من حروب واقتتال هو جزء من مخطط دولي من أجل تقسيم المنطقة إلى تكوينات متصارعة، مشيراً إلى أن خطر التقسيم يمكن أن يطال كل الدول في الشرق الأوسط، مؤكداً أن النخب العربية ليست بمستوى المسؤولية بحكم أزماتها الداخلية، والتراجع الذي حدث في وضعها الخاص. ودعا المفكر العراقي إلى نبذ العنف واستخدام الوسائل المدنية والحضارية للتعبير عن الاختلاف في الرأي .

•  كيف ترون الوضع اليوم في المنطقة وهل نحن قادمون على تقسيمات جديدة؟

   ما يحصل هو جزء من مخطط دولي ولا أتردّد في أن أقول إن هناك مخططاً دولياً لأنه معلن، وأقصد بذلك "سايكس بيكو 2" الذي أصبح مطروحاً على طاولة البحث، فالعراق مرشّح للتفتيت ثم للانشطار، خصوصاً بعد صراعات قد تكون دامية، وما يجري الحدث عنه هو مجموعة من الأقاليم "ثلاثة أو أكثر" لكنها ستكون متصارعة ومتعادية.
   أما سوريا فهي مهيأة للتقسيم إلى 6 أقسام، دولتان سنيتان في دمشق وحلب، ودولة درزية، ربما سترتبط مع لبنان بالجبل، ودولة علوية في اللاذقية والساحل، ودولة كردية في عفرين والقامشلي. أما عن دير الزور فجزء منه قد يلتحق بمحافظة الأنبار لتأسيس دولة أخرى جديدة على حدود الأردن والعراق.
   وهذا أمر مطروح أيضاً بالنسبة للبنان وليبيا واليمن، وربما يكون أبعد من ذلك، فدول الخليج هناك من يسعى لوضع مشرط التقسيم عليها، حيث يجري الحديث وراء الكواليس عن تقسيمات للسعودية ودول الخليج، وسيُجرى تغيير في بعض خرائطها، الأمر الذي يضع العالم العربي كله على شفا حفرة. وبالطبع، فإن الدور الإسرائيلي ليس بعيداً عن ذلك، خاصة في موضوع التقسيم الحاصل بين الضفة والقطاع.
   كل ذلك جزء من مشروع كوني، كان قد طرحه سابقاً برنارد لويس منذ العام 1979 وكرره عام 1982 داعياً إلى تقسيم العالم العربي إلى 41 كيانا أو دويلة أو إقليماً أو فيدرالية. وهنا أستذكر مقولة كسنجر عام 1975 "لنقيم وراء كل بئر نفط إمارة"، وهذا يلخّص ما يحصل في المنطقة الآن، إذ أننا أمام مرحلة جديدة ملامحها واضحة. وللأسف فإن النخب العربية والمثقفين العرب والقوى التقدمية والقومية العربية ليست بمستوى المسؤولية بحكم أزماتها الداخلية والتراجع الذي حدث في وضعها الخاص، إضافة إلى ذلك فإن قسماً منها أصيب بالتحجر والتكلس، لدرجة أنه لم يعد يميز بين شعارات الأمس وأفق المستقبل . هذا الأمر بحاجة إلى نقد ذاتي ورد اعتبار للهوية الوطنية والقومية العربية بأفقها الاجتماعي. ولا بدّ من الجمع بين النضال الوطني والاجتماعي والنضال على المستوى الداخلي وضد التهديد والمشروع الخارجي الذي يستهدف المنطقة، خصوصاً المشروع الصهيوني الذي من مصلحته أن يرى العالم العربي مفتتاً ومنقسماً بل متشظياً .

•  بالنسبة للوضع في العراق لو تعطينا مقاربتك للوضع اليوم في ظل استفحال الازمة السياسية والطائفية والأمنية؟

   الوضع في العراق هو استمرار للسنوات السابقة، خصوصاً ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وإلى الآن، فالعديد من التحديات واجهت الوضع الجديد في العراق، لعلّ أهمها هو الطائفية التي أصبحت باعتراف الجميع عقبة أمام تطوّر الوضع السياسي والاستقرار. كما عانى العراق من الإرهاب الذي نما وانتشر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بل إنه في عملية تفريخ وازدياد وانتشار، وخصوصاً بعد احتلال داعش للموصل وأخذ ثلث مساحة العراق.
   صحيح أنه تقهقر في الأنبار وصلاح الدين، لكن تأثيراته لا تزال مستمرة والموصل ما زالت بيده وهي ثاني أكبر محافظة عراقية. وترك احتلال داعش للعراق تأثيرات ثقافية واجتماعية ونفسية كبيرة. أولاً صار هناك نوع من عدم الثقة بالدولة العراقية وبالجيش العراقي الذي تراجع. وقد وجدت مشكلة جديدة تتعلق بالنزوح، فهناك أكثر من ثلاثة ملايين نازح من محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك والموصل، أيضاً في سياق ضرب المجموعات الثقافية، وهنا على سبيل المثال، أذكر ما حصل من سبي لليزيديين وتنكيل للمسيحيين وإجبارهم على التـأسلم الداعشي أو دفع الجزية أو الرحيل.
   هذا الأمر أحدث نوعاً من التفكّك والرعب والهجرة من الموصل إلى خارج العراق أو النزوح إلى إربيل وغيرها من المناطق. التحدّي الثالث والكبير الذي يواجهه العراق ومستمر حتى الآن هو تحدي الفساد المالي والإداري وهو الوجه الآخر للإرهاب، واحد أهم الشرايين التي تغذيه، خصوصاً مع ارتفاع الفساد السياسي والإداري والمالي، مما أدى إلى وجود ميليشيات خارج القانون، لأنها تغذت وحصلت على أموال سواء على المستوى الشخصي أو العام من الدولة وبأشكال مختلفة، وأصبحت هذه الميليشيات قوة كبيرة، حتى أن البعض صرح أنها أصبحت أقوى من الدولة العراقية. فالحشد الشعبي صحيح أنه جزء من القوات الرسمية العراقية، لكن له قيادات خاصة وله امتدادات حزبية وسياسية تؤثر على مهنية الجيش وحرفيته وعلى عقيدته العسكرية. وغالبية عناصر الحشد الشعبي هم من القوى السياسية الشيعية، وقد خلق هذا رد فعل من جماعات السنية السياسية، سواء من المشتركة بالحكم أو من خارجه. التحدّي الآخر المهم هو التحدي الإقليمي، فالأرض العراقية الآن مستباحة. هناك قوات عسكرية تركية تدخل وتخرج دون إذن الحكومة العراقية، لان السيادة العراقية معدومة. وهناك أذرع إيرانية داخل الأراضي العراقية تقصف أحياناً بعض القوى كما حصل مؤخراً في كردستان ولديها نفوذ سياسي بالتعاون مع القوى الشيعية السياسية.
   وهناك أيضاً وجود أمريكي له نفوذ كبير حيث عاد مجدداً، وتتحدث التقارير عن وجود أكثر من أربعة آلاف جندي أمريكي في قواعد عسكرية بالقرب من الموصل وصلاح الدين والأنبار، وهذه كلها عودة إلى احتلال ثان على نحو جديد للعراق. ويجري تبرير ذلك في إطار اتفاق موقع بين العراق والولايات المتحدة منذ 2008، يجيز للولايات المتحدة التدخل العسكري والسياسي لحماية مصالحها، وهي بذلك تخضع الوضع العسكري والأمني العراقي لنفوذها تحت عناوين مختلفة منها الحفاظ على التجربة والتعاون لتطوير الحقول والقطاعات المختلفة، وغير ذلك.
   هذا الوضع كله أدى إلى أن يدخل العراق في أزمة ليخرج منها إلى أزمة أخرى وصولاً إلى ما نحن عليه، إذ تمت إقالة عدد من الوزراء ومحاسبتهم عبر البرلمان كما حصل مع وزير المالية العراقي هوشيار زيباري مؤخراً، وخالد العبيدي وزير الدفاع قبل أسابيع من هذا التاريخ. وهناك توجّه لمحاسبة وزراء آخرين منهم إبراهيم الجعفري وعدد من الوزراء الآخرين من الشيعية السياسية، لكن كل ذلك يضعف المعركة مع داعش ويعصف بثقة المواطن بالحكومة والدولة العراقية، فهي الآن في أسوأ حالاتها، وفي خضم تنامي الأطماع التركية في العراق واستمرار النفوذ الإيراني والأمريكي، ترتفع فرضيات التقسيم .

•  إذن إلى أين ستسير الأمور برأيكم في العراق وهل من أفق لحل ما؟

   لا بدّ من العودة إلى تعزيز دور الدولة العراقية، وهذا يتطلب وجود نخب مؤمنة بذلك من التيارات والاتجاهات، كما يتطلّب من هذه النخب أن تتعاون مع بعضها البعض لرد الاعتبار للمواطنة وجعلها فوق الانتماءات الضيقة، الطائفية والدينية والعشائرية والمناطقية وغيرها.
   والحديث عن المواطنة يتطلب فسحة جديدة من الحريات، خصوصا حرية الاعتقاد والتعبير وحرية تشكيل الأحزاب والمنظمات المهنية الحقوقية والنقابية والاجتماعية، والحق في المشاركة وعدم التمييز، وهذا يتطلب المساواة الكاملة. لا يوجد حديث عن المواطنة دون مبدأ المساواة، وهذا يتطلب شيئا من العدالة الاجتماعية، إذ أن المواطنة ستكون ناقصة ومبتورة نتيجة الفقر، ولا بدّ من توفير الحد الأدنى من العيش الكريم. للأسف نجد أن العراق هو أغنى بلدان المنطقة بينما شعبه أفقر الشعوب حاليا والبطالة تصل إلى حدود 25 بالمئة ونسبة الأمية تزيد عن ذلك باعتراف هيئات دولية مستقلة.
   هنا أهمية تفعيل مبدأ الشراكة والمشاركة، ولكي تكتمل المواطنة نحتاج إلى شراكة بغض النظر عن الانتماء الديني والسياسي والانحدار القومي أو الإثني أو اللغوي. نحتاج إلى بناء طويل الأمد، لكن المهم وقبل كل شيء ينبغي أن يكون هناك وعي بأهمية استعادة هيبة الدولة وفرض سلطانها وقوانينها على الجميع دون تمييز. وقد عبرت عن خشيتي من ان تندلع حرب شيعية - شيعية بين القوى الشيعية المسيطرة على السلطة والنفوذ والمال، وقد تندلع حرب سنية - سنية بين القوى الموجودة داخل العملية السياسية أو خارجها، وقد تندلع حرب كردية - كردية في اطار الصراع بين القوى الكردية المتنافسة على سلطات الاقليم والنفوذ والثروة .
•  ما تعليقكم على اغتيال الصحافي الأردني ناهض حتر؟
   هو جزء من هجمة ظلامية ضد المثقفين - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهات النظر - فالمثقف له رأي ولا بد من محاججة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة، لا أن يواجه الرأي بالسلاح والمسدسات والمفخخات. وهذا ما عمله "الإسلام الداعشي" أو "الإرهاب باسم الإسلام" الذي بدأته تنظيمات إسلاموية منذ عقود من الزمان ثم تطور ليصبح تنظيم القاعدة. ومن بعد أصبحت داعش وجبهة النصرة وأخواتهما هي المعبّر عن هذا الشكل من أشكال حل الصراع السياسي بالوسائل العنفية. أنا من دعاة اللاّعنف وأدعو إلى الحوار باستخدام جميع الوسائل المشروعة واللاّعنفية لإثبات صحة أو عدم صحة هذا الرأي بالوسائل المدنية الحضارية، وبما تسمح به القوانين والأنظمة المرعية، وعلينا أن نناضل سلمياً ولا عنفياً لوضع قوانين جديدة، تضمن الرأي والرأي الآخر والحق في الاختلاف وتحترم وجهات النظر والآراء على اختلاف أنواعها. إذن لا يمكن أن يحرز العالم العربي تقدماً بالرأي الواحد والذوق الواحد والزعيم الواحد، وهذه أصبحت كلها من إرث الماضي ومخلفاته.
   ونحتاج إلى رؤية جديدة تقبل التنوع وتعترف به وتحترم وتقر بالحقوق المتساوية، وخصوصاً حقوق الإنسان بغض النظر عن كل الانتماءات السياسية والدينية والسياسية والعرقية وغيرها.


436
"إسرائيل" الأفريقية
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
كانت القاهرة قبلة حركة التحرّر الوطني الأفريقية في الخمسينات والستينات، ولم يصادف أن يمرّ شهر من دون أن يزورها أحد زعمائها سراً أو علناً ويلتقي مسؤولين فيها، ويحظى بدعمها، فقد انتهجت مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر سياسة تضامنية مع شعوب أفريقيا وآسيا منذ مؤتمر باندونغ التاريخي العام 1955، الذي مثّل حضوراً لافتاً لزعماء وقادة كبار، مثل سوكارنو ونهرو وتيتو وعبد الناصر. وقد حدثني محمد فايق مسؤول الملف الأفريقي ووزير الإعلام المصري الأسبق، الذي أصدر أكثر من كتاب عن علاقة مصر بشكل خاص والعرب بشكل عام بأفريقيا، من بينها ما كتبه وهو في السجن، والموسوم "عبد الناصر والثورة الأفريقية"، أنه التقى لمهمات مختلفة ومتعدّدة مع باتريس لومومبا ونيلسون مانديلا وكوامي نيكروما وأحمد بن بلة، وعدد كبير من القادة الأفارقة، سواء قبل أن تتحرّر بلادهم أو بعد نيلها الاستقلال في الستينات، خصوصاً بصدور قرار الأمم المتحدة رقم 1514 في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960، والقاضي بتصفية الكولونيالية.
لكن أفريقيا التي كانت عمقاً استراتيجياً للعرب، لم تعد كذلك، الأمر الذي شجّع "إسرائيل" على التغلّغل بمختلف الوسائل النّاعمة والصّلبة داخل القارة السوداء، فبعد أن كانت أفريقيا بشكل عام تقف إلى جانب العرب وتؤيّد حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وتندّد بسياسة "إسرائيل"، فإذا بها تقيم أوثق العلاقات معها، بما فيها على حساب العرب وأمنهم القومي.
هكذا حلّ رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو ضيفاً مميزاً على أفريقيا، وقام بجولة أفريقية شملت أربع بلدان في منطقة حوض النيل هي: كينيا وأوغندا ورواندا وإثيوبيا، ولعلّ هذه الزيارة هي الأولى منذ أواسط السبعينات لمسؤول "إسرائيلي" رفيع المستوى، وخلال زيارته الأفريقية عقد نتنياهو قمة في أوغندا (يوليو/ تموز/ 2016)، التقى فيها مسؤولين عن سبع دول أفريقية، فإضافة إلى رؤساء الدول الأربع، انضمّ مسؤولين في ثلاث دول أخرى إلى القمة، وهم رئيس جنوب السودان، ورئيس زامبيا، ووزير خارجية تنزانيا.
اللاّفت في زيارة نتنياهو، هو توقيتها الذي له دلالة رمزية، حيث تصادف زيارته مرور 40 عاماً على مقتل شقيقه الكولونيل جوناثان نتنياهو في عملية عينتيبي (يوليو/ تموز 1976)، التي أشرف عليها التنظيم المسلّح التابع للجبهة الشعبية (جناح وديع حداد)، حيث تمّ اختطاف طائرة "إيرفرانس" وهي في طريقها إلى باريس من مطار رام الله "الإسرائيلي"، وقام الفريق المهاجم بتوجيه طاقم الطائرة للنزول في مطار عينتيبي (أوغندا)، ولكن "إسرائيل" تمكّنت من إنقاذ الرهائن بالتواطؤ مع كينيا، واعتقلت بعض المهاجمين الذين أطلق سراحهم في عملية تبادل كبرى في العام 1986 ولقي ضابط "إسرائيلي" واحد حتفه هو شقيق نتنياهو.
كما تأتي هذه الزيارة، تتويجاً لنشاط محموم قامت به "إسرائيل" في القارة السوداء منذ عقود، مستغلة الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمعقّدة التي تعيشها، وحاجتها إلى المساعدة التكنولوجية لتطوير الزراعة واستثمار الأخشاب واستصلاح الأراضي ونصب شبكات كهرباء وري، خصوصاً أن العديد من البلدان الأفريقية تعاني من المجاعة والتصحّر والأمراض والأمّية والتخلّف، ومن هذا الباب دخلت "إسرائيل" وتغلّغلت بحجّة مد يد العون لشعوبها.
وتشعر "إسرائيل" بأن سمعتها الدولية في تدهور مستمرّ، خصوصاً بعد عدوانها على لبنان العام 2006، وكذلك بعد حصار غزة منذ العام 2007، وعدوانها المتكرّر عليها في عملية عمود السحاب (أواخر العام 2008 وبداية العام 2009)، وعملية الرصاص المصبوب في العام 2012، وعملية الجرف الصامد في العام 2014، إضافة إلى مداهمة أسطول الحرية وقتل عدد من أفراده، بينهم 9 أتراك.
وقد تعهّد رؤوساء الدول الافريقية الذين التقاهم نتيناهو مؤخراً، بإعادة "إسرائيل" كعضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، وقد كانت في السابق عضواً مراقباً في منظمة الوحدة الأفريقية لغاية العام 2002، وتأتي العودة "الإسرائيلية" بعد انحسار الدور العربي، فبعد أن كانت أفريقيا تتطلع إلى العلاقة مع العرب ودعمهم وتضامنهم، فإذا بها تنفتح أمام النفوذ الصهيوني الذي حاول الرئيس عبد الناصر قطع الطريق عليه، بمشاركته في تأسيس منظمة التضامن الأفرو – آسيوي العام 1957، ليوكل إليها مهمّات التضامن الدولي والإقليمي. ولا ننسى ما قامت به الجزائر في حينها بعد استقلالها، وكذلك الدعم الليبي والسوداني من أجل استمرار شعار المقاطعة لـ"إسرائيل"، وإنْ أصبحت نبرته خافتة، خصوصاً بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد العام 1978 – 1979، وفيما بعد توقيع اتفاقية أوسلو العام 1993 بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين"، الأمر الذي استغلّته "إسرائيل" لتعزيز علاقاتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بدول وسط أفريقيا ومنابع النيل، بما فيها بناء 3 سدود كبرى في إثيوبيا.
وعلى الرغم من استمرار دعم الاتحاد الأفريقي لحقوق الشعب العربي الفلسطيني وتضامنه من أجل تحقيق مصيره وإقامة دولته المستقلة، ودعوة السلطة الوطنية الفلسطينية لحضور اجتماعاته، لكن ذلك لم يمنع دولاً أفريقية عديدة من تعزيز علاقاتها مع "إسرائيل" التي استغلّت حاجة الكثير منها لتفرض شروطها السياسية وتستثمر علاقاتها لأغراض أمنية واستخبارية. وتملك "إسرائيل" حالياً علاقات مع 40 دولة أفريقية (ولديها 10 سفارات، ويوجد 15 سفارة أفريقية في تل أبيب)، وهو أمر لا يمكن تصوّره بعد عدوان "إسرائيل" على البلدان العربية العام 1967 وحرب تشرين التحرّرية العام 1973، حيث قطعت خلال تلك الفترة نحو 30 دولة أفريقية علاقتها مع "إسرائيل".
ولعلّ أحد أهداف زيارة نتنياهو لأفريقيا تكمن في محاولة الظهور بمظهر من يريد تقديم الدعم لمكافحة الإرهاب، وهو بذلك يحاول تسويق "إسرائيل" باعتبارها ضحية  للإرهاب "الفلسطيني"، بقوله "ليس لدى أفريقيا أي صديق أفضل من دولة "إسرائيل" خارج أفريقيا، خصوصاً عندما تكون هناك حاجة لأمور عملية مثل الأمن والتنمية". إذاً فالأسباب الأمنية والاستخبارية، إضافة إلى الرغبة في الحصول على دعم أفريقي في المحافل الدولية لصالح "إسرائيل"، هو من أهداف هذه الزيارة التي جرى الاستعداد والتحضير لها على نحو دقيق خلال الفترة الماضية، فـ"إسرائيل" تريد القول إنها موجودة في أفريقيا، وأن وجودها سيكون على حساب العرب.



437
قمّة هانغتشو وطريق الحرير
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
حين أُعلن أن قمّة دول العشرين ستنعقد في مدينة هانغتشو، وهي رابع المدن الكبرى في الصين، استعدتُ قراءاتي التاريخية عن طريق الحرير أيام العصر الذهبي للعرب والمسلمين، والمدينة ذاتها التي كانت مركز "بيت الحرير"، وكانت في القرنين الثاني والثالث عشر (م) عاصمة سلالة الصونغ التي حكمت الصين آنذاك، وكان الرحّالة العربي ابن بطوطة قد زار الصين في العام 1348 (م).
هانغتشو المدينة التاريخية، هي اليوم المدينة الأولى في الصين في العلوم المعلوماتية، إضافة إلى مكانتها الاقتصادية والسياحية، وهي تضاهي أكبر المدن الاقتصادية والعلمية في الولايات المتحدة والعالم. من يتصوّر أن المدن الصينية في الخمسينات والستينات التي كانت تعاني من الفقر والجوع، أنها سترتدي من جديد أثواب الحرير وتتجول فيها السيارات الفارهة، لدرجة المبالغة أحياناً، بعد أن كانت الدراجات الهوائية ترفاً.
استعدت بهذه المناسبة، مؤتمراً للحوار العربي – الصيني تم تنظيمه في بكين في العام 2010، وزرنا فيه المدينة الصينية العملاقة شنغهاي، بدعوة من المعهد الصيني للدراسات الدولية، وذلك عبر منتدى الفكر العربي، وشارك فيه ممثلون عن الأردن واليمن ومصر والإمارات والعراق والكويت وفلسطين، بصفتهم الأكاديمية والفكرية والثقافية بما فيهم مسؤولون سابقون، ومن الجانب الصيني، باحثون ومختصون بالشؤون العربية وإعلاميون بارزون، إضافة إلى عدد من الدبلوماسيين الذين عملوا في البلدان العربية.
انصبّت بعض المناقشات العربية، على الرغبة في أن تلعب الصين دوراً أكبر في العلاقات الدولية لتعديل ميزان القوى العالمي، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية تحديداً، وذلك بعد التفرّد الأمريكي في العلاقات الدولية ومحاولات الهيمنة على مقدرات الأمم المتحدة، وكان جواب الصينيين (فرادى وجماعات) أنهم ليسوا الاتحاد السوفييتي السابق، ولا يريدون أن يلعبوا مثل هذا الدور، وزادوا على ذلك أنهم دولة نامية، لا تزال تعاني من مشكلات غير قليلة، وهناك نحو 150 مليون صيني بحدود خط الفقر، لكنهم لن يتوانوا من لعب دور اقتصادي، من خلال علاقات اقتصادية وتجارية، مع بلدان العالم كافة.
ويبدو أن الصين تاريخياً لم ترغب في العمل خارج بلادها حتى عندما كانت تمثل قطباً في الصراع الآيديولوجي بينها وبين السوفييت في أواخر الخمسينات والستينات، وقد يعود ذلك لأسباب تاريخية تتعلق بالعزلة التي فرضتها على نفسها وفُرضت عليها، سواء قبل الثورة الشيوعية العام 1949 وبالتحديد في القرن التاسع عشر، أو ما بعدها بسبب طبيعة نظامها السياسي، حيث ظل الغرب يعترف بالصين الوطنية، وحتى الأمم المتحدة لم تعيد مقعد الصين كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي إلاّ في العام 1971 بالقرار رقم 2758.
لكن التمدّد الاقتصادي يجلب معه، سواء أراد أو لم يرد، تمدّداً جغرافياً وعسكرياً وسياسياً، وتلك قاعدة لا يمكن مخالفتها، هكذا وبسرعة خاطفة أصبح للصين وجود في البحر المتوسط، حيث توجد لديها قاعدة قرب طرطوس الميناء السوري، وهناك كلام عن احتمال بناء قاعدة في جيبوتي بالقرب من القاعدتين الأمريكية والفرنسية، وكانت قد بنت قاعدة عسكرية على جزيرة اصطناعية في جنوب بحر الصين بعيداً عن حدودها الإقليمية، ولديها علاقات واسعة من السودان ومع أفريقيا بشكل عام، الأمر الذي يعني أن الوفرة المادية والرخاء الاقتصادي، جلبا معهما نفوذاً عسكرياً وسياسياً، لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وحدها والقوى الكبرى، بل إنها بشراء سندات للخزينة الأمريكية أصبحت يدها طويلة للغاية، الأمر الذي يثير قلق واشنطن.
الصين وهي تدخل الحلبة الدولية بثقة كبيرة، أعادت تحالفها مع روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند، وشكّلت دول البريكس التي اتبعت سياسة مغايرة للسياسة الأمريكية، وكانت دول البريكس قد عقدت اجتماعاً قبيل انعقاد قمة هانغتشو لتنسيق مواقفها، بحيث تبدو أكثر تماسكاً في اجتماع العشرين، كما تنشط الصين في بلورة المشروع الأوراسي الذي يقوم على ربط أوروبا بآسيا، وخلق أسواق لمنافسة الأسواق الأمريكية، وحسبما هو مترشح حتى الآن، فإنه خلال العشرين عاماً القادمة أن هذه السوق ستفوق الأسواق الأمريكية بأضعاف، وقد تشمل 64 دولة، ويستفيد منها 4 مليار و400 مليون إنسان.
القراءة الأولى لهذه المشاريع، واحتمالات التحاق دول أخرى في جنوب شرقي آسيا، حيث يزداد النفوذ الصيني، إضافة إلى الحضور الوازن في أفريقيا، تشير إلى احتمال تراجع الولايات المتحدة ونفوذها الجيوسياسي الاقتصادي، وهو الأمر الذي نجد صداه في إطار المنافسة الحامية بين الجمهوريين (دونالد ترامب) والديمقراطيين (هيلاري كلينتون) في حملاتهما الانتخابية، حيث ترتفع الأصوات، لإعادة جبروت الولايات المتحدة أو تأكيده.
لم تعد إذاً اليد الطولى لواشنطن فوق الجميع، والسبب بالطبع، هو النفوذ العالمي للصين والدور الروسي الجديد، إضافة إلى ارتفاع نبرة العداء لواشنطن في العالم الثالث الذي عانى من سياساتها ونهب ثرواتها، وقد كان الحضور السعودي والتركي لافتاً في القمة العشرينية ولقي اهتماماً صينياً متميزاً، ولعلّ من أسباب انحسار الدور الأمريكي هو احتلالها لأفغانستان العام 2001 وللعراق العام 2003، وما آلت إليه سياساتها التدميرية للشعبين، وانعكاساتها على دول الإقليم عموماً، ناهيك عن استمرار سياساتها الممالئة "لإسرائيل" المتنكّرة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وفي قمة دول العشرين كانت الصين ومعها روسيا المبادرة إلى إطلاق دعوات لإصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الأمر الذي يخص البلدان النامية بشكل خاص واقتصادياتها وأسواقها، وإنْ كانت هناك مصاعب جدية تعترض ذلك، بسبب التسيّد الأمريكي، لكن ذلك يمثل بداية وعي جديد وإصرار من جانب دول البريكس ومعها العديد من البلدان النامية المتضررة من السياسة الاقتصادية الأمريكية لإصلاح المؤسسات الاقتصادية الدولية.
الصين التي ظلّت تصرّ على أنها دولة نامية تقدّمت الميدان بهدوء وتسلّلت إلى مقاليد القيادة، وهو الأمر الذي بدا واضحاً منذ قمة العشرين في العام 2014، فهي ليست دولة كبرى فحسب، بل قوة عظمى، سواء أرادت أو لم ترد، لأنها مركز بيت الحرير في التجارة والصناعة والزرعة، إضافة إلى المعلوماتية الجديدة على المستوى العالمي، وهو ما أظهرته قمة هانغتشو، عبر طائفة من المتغيّرات الدولية والإقليمية، تراكمت بالتدرج منذ انتهاجها سياسة جديدة بعد وفاة الرئيس ماوتسي تونغ العام 1976، وتقنين العنف الذي انفلت على نحو لا مثيل له في الثورة الثقافية طيلة عقد من الزمان.



438
المنبر الحر / إسلام ومسلمون
« في: 21:10 08/09/2016  »
إسلام ومسلمون
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عربي
   ليس بوسع المرء أن يتحدّث عن الإسلام في منطقتنا ما لم يتكلّم عن المسلمين أنفسهم حضوراً، أو فعلاً سياسياً أو وعياً لأنفسهم إزاء الدّين من زاوية، وإزاء الآخرين من زاوية أخرى، متدينين أو غير متدينين، بقدر ما له من صلة بالمشترك الإنساني الذي يجمع البشر.
والأمر يمتدّ إلى بعض الممارسات العنفية وبعض الأعمال الإرهابية التي استشرت في المنطقة العربية على نحو مريع، وبعض أمثلتها ما قامت به تنظيمات "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها، فضلاً عن توجّهات متعصّبة ومتطرّفة تحمل يافطة الإسلام.
ندرة من الإسلاميين تفرض عليك قولاً آخر، بالاستجابة إلى ركب التقدّم الحضاري والرقي الإنساني، في حين تغرق الأغلبية السّاحقة، لا سيّما من النخب الدينية في التموقع الطائفي والاصطفاف المذهبي، خارج دائرة الوطن والمواطنة والوطنية، سواء بزعم المظلومية تارة، أو بادعاء الأغلبية في أخرى، وفي ثالثة، التشبث بالأفضليات على الآخر، سواء التغنّي بالعقدة "الأقلوية" أو "الأغلبوية" أو الاستغراق في الماضي، بزعم العودة للأصول.
لا تزال عقلية الأسوار والخنادق مهيمنة على الكثير من الإسلاميين، وهي امتداد لثقافة الحرب الباردة، بشكلها الأكثر بشاعة، من خلال ما هو محرَّم وما هو محلَّل، وما هو مقدَّس وما هو مدنَّس، وأساس ذلك التفريق بين مواطن وآخر تبعاً لدينه أو طائفته أو مذهبه أو عرقه أو لغته أو جنسه أو أصله الاجتماعي. وإذا لم يتم تغيير النظرة والممارسة التي تأخذ على الناس هويّاتهم الفرعية وخصوصياتهم، فلن تستطيع مجتمعاتنا إحراز التقدم المنشود الذي يقوم على مبادىء المواطنة والشراكة والمشاركة، التي تتعزّز بارتفاع قيم الحريّة والمساواة والعدل، وذلك عبر قوانين وتشريعات ومؤسسات وقضاء مستقل ومساءلات ضرورية في إطار من الشفافية.
وإذا كانت المساواة في الكرامة الإنسانية من قيم الإسلام، لكنها ليست بالضرورة سلوكاً يومياً وأخلاقياً بالنسبة إلى المسلمين، خصوصاً أن قسماً غير قليل منهم يشعر بالتسيّد والتفوّق بزعم كونه "الأغلبية"، في حين يشعر الآخر بالتمييز وعدم المساواة، إنْ لم يكن بالاضطهاد، لا سيّما من أتباع الديانات الأخرى مثل المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم.
ومثل هذا الشعور بالاستعلاء وادعاء احتكار الحقيقة يمتدّ إلى داخل الدين الواحد، الذي ينقسم إلى طوائف، وتتحوّل فيه الاجتهادات إلى صراع مذهبي، وقد شهدنا منذ الثورة الإيرانية في العام 1979، صراعاً محموماً طابعه طائفي اتّخذ من السنّة والشيعة في العديد من بلدان المنطقة وقوداً لا قرابات لها، ذيولها وامتداداتها الإقليمية.
إذا كنا نؤمن بقول الخليفة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وهو ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد نحو 1400 عام، حين نصّ "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق"، فعلينا احترام اختيار الناس الأحرار، الذين بإمكانهم أن يهتدوا أو أن يضلّوا، بغضّ النظر عن مذهبهم كما يقول المطران جورج خضر، وسواءً كان الناس من اليمين أو من اليسار، فهم أحرار في اختياراتهم وحقهم في التعبير عنها دون خوف أو محاكم تفتيش للضمائر والقلوب والعقول.
ومن هذا المنطلق ننظر إلى معاناة المسيحيين في بلدان الشرق، والمشاكل الحقيقية التي واجهوها في العالم العربي، وهي بالأساس ناجمة من فهم مغلوط أولاً لمعنى المساواة القانونية وثانياً لمبادىء الشراكة والمشاركة الفعلية وثالثاً لاحترام الخصوصية والهويّة ورابعاً للمواطنة وقيمها الأساسية في الحرية والعدالة.
وتعرّض المسيحيون إلى حملات تنكيل وتقتيل وتهجير، ارتفع منسوبها خلال السنوات الأخيرة، على نحو لم يشهده العالم العربي في تاريخه القديم والحديث، وحصل مثل هذا الأمر في العراق منذ الاحتلال العام 2003، حيث استمرّ نزيف الهجرة، مثلما شهدت كنائس وأديرة وتجمعات المسيحيين أعمال تفجير وعنف وإرهاب. وفي سوريا لاقى المسيحيون منذ العام 2011 استهدافات بذرائع مختلفة، واضطر قسم كبير منهم إلى الهجرة. وقبل ذلك في فلسطين التي أجلي المسيحيون عنها، فقد كان عددهم يزيد على 20% من السكان قبل الاحتلال "الإسرائيلي" وقيام "إسرائيل"، لكنه تراجع إلى أقل من 1.5% وفي القدس وحدها كان في العام 1948 أكثر من 50 ألف مسيحي، لكنهم اليوم أقل من 5 آلاف فقط، بسبب تعرّضهم إلى التهجير، والأمر يشمل أيضاً لبنان التي هاجر منها خلال الحرب الأهلية، وما بعدها ما يزيد على 700 ألف مسيحي، كما يشمل مصر والسودان، حيث كانت تمارس ضغوط واسعة على المسيحيين، الذين ظلوا يشعرون بالتمييز وعدم المساواة.
المسيحيون في كل تاريخهم المشرقي لم يمارسوا العنف، وكذلك المسيحية المشرقية بشكل عام كانت سلمية في علاقتها بالأديان الأخرى، مثلما رفضت، وقاومت محاولات فرض الهيمنة من جانب الغرب في ما سمّي بالحروب الصليبية خطأ، في حين أنها "حروب الفرنجة" ضد الشرق لفرض الاستتباع والسيطرة على المنطقة، بمسلميها ومسيحييها.
وقد أدرك المسيحيون خطر الصهيونية أبكر من غيرهم، فوضعوا الكتب ضدها منذ مطلع القرن العشرين، وهم من أبدع المفهوم الحضاري الثقافي للعروبة، وقاموا بعلمنته بهدف توحيد دنيا العرب مساهماتهم في حركة التنوير والانبعاث الحضاري، فضلاً عن جهدهم المثابر والدؤوب في الحفاظ على اللّغة العربية، وقد يكون قول السيد المسيح هادياً لهم "وتعرفون الحق والحق يحرّركم".
وإذا كان ثمّة شعائر يؤدّيها المسلمون، فهناك شعائر يؤدّيها المسيحيون أيضاً، وهي متوارثة وجزء من طقوس تاريخية، وهو ما يفرض احترامه وحفظه قانوناً، كحق للمسلم والمسيحي، ولغيرهما، مثلما هو حق للمؤمن ولغير المؤمن، ﴿فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر﴾؛ (سورة الكهف: الآية 29). حسب ما جاء في القرآن الكريم.
والإنسان دائماً مأخوذ بين الشك واليقين، وهذا بحدّ ذاته يستوجب احترام الآخر على أساس "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" حسب الإمام الشافعي، وإذا كان لكل منّا مقدّساته، فلا بدّ من احترامها، علماً بأن ما هو مقدس لدينا، قد لا يكون مقدساً لغيرنا والعكس صحيح، الأمر الذي استوجب احترام حريّة التعبير، وحق التفكير والضمير. وحقّ لنا أن نتأمل مقولة الشيخ محمد عبده حين قال: "ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين، ولكن لم أجد إسلاماً"، وقد كان يقصد وجود حريّات ومواطنة واحترام الخصوصية والهويّة الفرعية.



439
المنبر الحر / عن سُلطة المثقف!
« في: 19:36 05/09/2016  »
عن سُلطة المثقف!
عبد الحسين شعبان
غالباً ما يطرح السؤال هل للمثقف سلطة "خاصة به"؟ ثم ما هي عناصر هذه السلطة إن وجدت؟ وبعد ذلك ما هي العلاقة بين سلطة المثقف والآيديولوجيا والقمع؟ وأخيراً كيف يمكن التعبير عن جدلية الثقافة والوعي؟
يمكن القول إن سلطة المثقف هي ثقافته والثقافة معرفة، وهو ما يطلق عليه فرنسيس بيكون سلطة. أما عناصر هذه السلطة فهي ما يمكن أن نحدّدها بالعلم والتجربة الذاتية للمبدع بما فيها من خيال (فنتازيا)، إضافة إلى الإرادة والوجدان والضمير. وهذه السلطة لا تسود بالقمع أو بالمال، بل تتعزّز وتتوطّد وتغتني في ظل وعي يتلازم، وخصوصاً في أجواء الحرية أو الحد الأدنى منها، بحيث تكون أرضية مناسبة لتطوّرها، خصوصاً بتوفّر ضمانة لحمايتها ولتعميق الوعي بأهمية الثقافة.
لسلطة المثقف حرمة، مثلما للمعرفة حرمة، وهي حرمة لدى صاحبها أولاً، ومن لا يحترم وسيلته الإبداعية لا يحترم حرمته، ولهذا فإن نكوص المثقف عن سلطته، أي تنازله عنها يعني عدم احترام ثقافته وبالتالي معرفته. والسبيل لتعزيز سلطة المثقف وتحريره مما يحول بينه وبين الإبداع، يكمن في إشاعة الحريّات، ولا سيّما حريّة الفكر والإبداع واحترام حقوق الإنسان، ففي أوضاع كتلك تتعمّق وتتعزّز سلطة المثقف وتزداد رقابته إزاء نفسه، وتنحسر استعداداته لحالات الضعف والمداهنة، خصوصاً لما تريده السلطة أو الجماعة السياسية أو الدينية أو الطائفية أو العشائرية أو بعض مفاصل القوة في المجتمع من تبرير وتسويغ لخطابها ونهجها وعقيدتها وممارساتها.
خلال حقب زمنية وفي ظل تسويغات فكرية وإبداعية للخطاب السياسي ولا سيّما في ظلّ أنظمة شمولية سواء كانت اشتراكية أو قومية أو إسلامية امتُهِنتْ الثقافة بشكل عام، ووظّفت جميع وسائل التعبير فيها، مثل الكتابة والريشة واللوحة والمسرح والسينما والموسيقى وغيرها من الفنون والآداب لتبرير بعض الأعمال ذات الطابع الاستبدادي. وحاولت الطبقات والفئات الحاكمة والجماعات السياسية والدينية تقديم نفسها باعتبارها  ممثلة لكل الشعب، وذلك بوصفها " الأب الروحي" الذي يفكّر نيابة عن جميع المواطنين، وسعت لتسويق فكرها عبر الأجهزة الآيديولوجية والإعلامية الخاضعة لها باعتباره فكر كل المجتمع، والتعبير المصطفى عن نخبه وتطلّعاته.
ولكي يتم كسر شوكة المثقف فقد استخدمت بحقه ثلاث وسائل وهي: القمع والآيديولوجيا والإغراء بالمال، فعبر الأولى يتم فرض السلطة المادية (البوليسية) وفي الثانية يتم بسط النفوذ الفكري الذي قد يقترب من غسل الدماغ أحياناً، أما الثالثة فيتم ترويضه ويضطر هو إلى المداهنة أو السكوت، إنْ لم يوظف وسيلته الإبداعية، لصالح جهة المال والقرار. وفي أحيان غير قليلة يتحوّل القمع الى نوع من "الأدلجة" لإجبار ليس المواطن فحسب، بل المثقف على قبول فكر السلطة أو الجماعة السياسية أو الدينية أو الطائفية باعتباره الفكر الوحيد والمقبول والمسموح به، أو هو ما يبرره لنفسه.
لقد واجه المثقفون وسائل متنوعة استهدفت جميعها، الحطّ من دور الثقافة والمثقف، سواء بالتبديد المبرمج أو بالتدمير المبعثر، وسواء كان الإجهاز على الثقافة والمثقف منهجياً أو عشوائياً، فإن الهدف منه هو أما محاربة الثقافة وتحجيم دور المثقف أو استخدامها وتوظيفه لمصلحة الحاكم وصاحب القرار، أياً كان وأياً كانت آيديولوجيته لتبرير مشروعه السياسي أو الديني أو الطائفي أو الإثني.
في مواجهة سلطة المثقف، استخدمت سلطة التحريم بشكل عام، ابتداء من مقص الرقيب ولجم حرّية التعبير وإلى السجن وكاتم الصوت. مثلما استخدمت ضده سلطة الدين، والأدق سلطة توظيفه للحد من نفوذه وتأثيره، وخصوصاً المثقف الحداثي، التنويري، الداعي إلى التغيير، لا سيّما في مواجهته ثقافة ماضوية. ولعلّ الجدل في مجتمعاتنا لا يزال قوياً ومؤثراً، خصوصاً بين من يدعي النطق باسم " الدين" أو من يزعم تمثيل هذه الطائفة أو تلك وبين سلطة المثقف وثقافته، وهؤلاء وأولئك حاولوا تسييس الدين لأغراضهم ومصالحهم الخاصة، وأحياناً انعقد الحلف بين الحاكم  أو السياسي، ورجل الدين، فالأول يضفي القدسية على رجل الدين ويترك له أمور الفتوى، والثاني يطلب تأييد الحاكم أو السياسي ونهجه بغض النظر عن صلاحه أو فساده.
وهناك سلطة التقاليد والعادات الاجتماعية، بكل ثقلها وتزمّتها، حتى وإن كان بعضها قد أصبح بالياً، ولم يعد يتناسب مع روح العصر، لكن هناك من يوظفها ويستخدمها لمواجهة المثقف، في ظلّ محرّمات وتابوات بهدف منعه من مشروعه التغييري والإبقاء على المجتمع في سكونية وخمول، أما سلطة المال فهي دائماً تحاول إغراءه وتظل تضغط عليه من زوايا ووجوه مختلفة، سواء بالاقتناع أو بالاقتلاع، وغالباً ما يتم غلق الأبواب بوجهه وعدم إتاحة الفرص أمامه، الأمر الذي يؤدي إلى اختلالات كبيرة في حياته ظل حاجات ومتطلبات معيشية  ضرورية وأساسية.
وتقوم الآيديولوجيا السائدة بمهمة أو وظيفة منح القمع "المشروعية"، باعتباره شرطاً لا غنى عنه لاستمرار السلطة وفكرها عبر قوانين ومؤسسات ولوائح وإجراءات تبرّر إنزال العقاب بالمعارضين وغير المروّجين لسياساتها، حتى إذا التزموا الصمت ولاذوا بالسكوت وابتعدوا عن الأضواء وأحجموا عن النشر أو ممارسة النشاط الثقافي.
لقد تعاظمت هذه الظاهرة لدرجة أصبحت مألوفة في عالمنا العربي، وخصوصاً بارتفاع عائدات النفط وامتداد نفوذ السلطة إلى خارج حدودها واتساع أجهزتها الآيديولوجية والإعلامية الأخرى ولا فرق هنا بين أنظمة ثورية أو أنظمة محافظة، لتشكّل بُعداً وتأثيراً بالمال والمغريات في محاولة لنشر ثقافتها وفكرها عن طريق بعض المثقفين، في حين ساد نوع من الخوف لدى البعض الآخر وانتشر اليأس وعدم المبالاة لدى جماعات أخرى من المثقفين، ولجأت السلطة إلى سحق من يقف في طريقها أو من يحاول أن يفكر ويدعو إلى رأي آخر، كما استطاعت إرهاب آخرين ودفعتهم إلى الانزواء والعزلة.
إن عملية تدجين المثقف بهدف توظيف طاقاته الإبداعية لصالح السلطة أو الجهاز البيروقراطي مرّت وتمرّ بوسائل متنوّعة، متدرّجة ومتداخلة، فإضافة إلى ما ذكرناه، فهناك وسائل أخرى لا تقلّ قسوة لترويض المثقف، عبر حرب نفسية وإشاعات ومحاولة لتشويه السمعة وغيرها.
وقد سعت السلطة والجماعة السياسية لإلحاق المثقف بها والعمل على دمجه بجهازها البيروقراطي ومؤسساتها الثقافية، بالإغداق عليه أو إغراقه كي لا يغنّي خارج السرب. وفي كل الأحوال تحرص على عدم خروجه من الفلك الذي تريده أن يدور فيه، بهدف الإبقاء على الصوت الواحد وتطويع وسيلته، كي لا يشكّل نقطة جذب، خصوصاً عندما يتمتّع بقدر من الاستقلالية في الاجتهاد والمعالجة والموقف.



440
"الترامبية": مجابهة الإرهاب بمثله
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
هل شكّلت أفكار دونالد ترامب المرشّح الجمهوري للرئاسة الأمريكية وآرائه، نظرية سياسية، بحيث يمكن أن نطلق عليها "الترامبية"؟ أم ثمّة مبالغة في الأمر، فظهور نظرية سياسية، يحتاج إلى حقبة زمنية تتبلور فيها، وسياسات رسمية تعتمدها، سواء كان المنظّر أو الداعية لها زعيماً أو قائداً أو رئيساً. وإذا أردنا ألاّ نحصر الأمر بالفلسفات والنظريات الكبرى، كالليبرالية والماركسية والفاشية والنازية وغيرها، فإن هناك نظريات وآراء تتعلق بالاستراتيجية الأمريكية، وخصوصاً تلك التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تبنّاها رؤساء أمريكان، وهو ما ندرج فيه الترامبية، حتى وإن لم تتبلور بعد، لكن بعض أساساتها موجود في المجتمع الأمريكي.
وقد كان مذهب ترومان قد تبلور في بداية الحرب الباردة، وهو يقوم على "فكرة القوة الضاربة" في المواجهة الاستراتيجية العسكرية ضد الاتحاد السوفييتي، وقد تلقّفه ونستون تشرشل الزعيم البريطاني الذي أطلق صرخته ضد الشيوعية.
أما مبدأ آيزنهاور فقد تشكّل حول "فكرة ملء الفراغ"، وجاء بعده مبدأ نيسكون الذي قام على "نظرية الدركي بالوكالة"، وأعقبه مبدأ كارتر المعروف بـ"التدخل السريع والمباشر"، طبقاً لما عناه بريجنسكي "قوس الأزمات والعمليات الصاعقة"، وعلى أساسه تحدّدت "استراتيجية الحرب ونصف الحرب"، وبالتدرّج كانت أوروبا أولاً والشرق الأقصى ثانياً والشرق الأوسط ثالثاً.
وفي غمرة الصراع الآيديولوجي في الثمانينات نشأ مبدأ ريغان الذي قام على "نظرية الحربين ونصف الحرب"، فالحرب الأولى في أوروبا ، والثانية في الخليج ونصف الحرب أو حروب صغيرة في أمريكا اللاتينية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإقامة ما يسمى بـ"النظام العالمي الجديد" تم الترويج لمبدأ بوش الأب الذي استند إلى فكرة "الاستخدام الأوسع لنظرية القوة المسلحة"، والذي طبقه لاحقاً في أفغانستان والعراق، وحين جاء الرئيس كلينتون من بعده قدّم خطوة وأخّر أخرى في ظل سياسته الموسومة بـ"الاحتواء المزدوج". والإبقاء على هيمنة واشنطن، وقد سار الرئيس بوش الابن، مديات أوسع في فكرة استخدام القوة، مقدّماً الوسائل العسكرية على الوسائل السلمية والدبلوماسية.
أما الأوبامية فهي وإن بدت استمراراً للاستراتيجية الأمريكية بخطوطها العامة، إلاّ أنها وتحت ضغط الفشل في العراق والأزمة المالية والاقتصادية، انكفأت وحاولت عدم التورط بإرسال قوات عسكرية إلى الخارج. فهل يمكن أن نقول إن ترامب حتى قبل أن يصبح رئيساً جاء ونظريته معه؟ فما بالك لو أصبحت سياسته رسمية؟
صحيح أن ترامب رجل أعمال، وليس له خبرة سياسية، لكن الآراء التي قال بها وروّج لها، وإنْ كانت غريبة عن مسار رؤوساء الولايات المتحدة السابقين، إلاّ أنها حاكت توجّهات قوى داخل المجتمع الأمريكي، وهي أفكار موجودة، بل ومنتشرة لدى أوساط واسعة، فجاء ترامب ليحرّكها، ويبث فيها روح المجابهة.
يستخفّ البعض بمحدودية تفكير ترامب ونظرته الضيّقة إلى العالم والعلاقات الدولية والإنسانية بين الأمم والشعوب، ويعتبر حضوره ضعيفاً، وهو لا يحظى حتى الآن حسب استطلاعات الرأي على 25% من أصوات الناخبين، وقد خسر في الولايات الكبرى،  لكن أجواء الكراهية والعدائية والعنصرية ضد الآخر موجودة لدى فئات واسعة من السكان، بل تكاد تتفاقم سواء نجح ترامب أم لم ينجح.
وإذا كانت الولايات المتحدة في كل تاريخها المعاصر تشن الحروب وتحيك الدسائس والمؤامرات وتتدخّل بشؤون الدول الأخرى، ولكن الحجة دائماً كانت "حماية قيم العالم الحر" والدفاع عن الحرّيات وحقوق الإنسان ورعاية الديمقراطية، وهي الذرائع التي اتبعها جميع رؤساء أمريكا بشكل عام، لكنها أصبحت أكثر خطورة بعد تفرّد واشنطن بالهيمنة على نظام العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لا سيّما وهي تزعم الآن أن مسؤوليتها في قيادة العالم تتجلّى بمكافحة الإرهاب والعنف والتطرّف، الأمر الذي يجعل شخصية مثل ترامب تجاهر بعدائيتها وكراهيتها للعالم. والسؤال: هل يمكن مكافحة التطرّف والتعصّب والعنف والإرهاب، بمثله؟ ترامب يجيب على ذلك بنعم، ولا يتورّع أن يدعو له علناً، بحيث يريد توظيف كل قدرات الولايات المتحدة لذلك.
ويدرك ترامب أن تصريحاته على ما فيها من فجاجة وضحالة، إنما تتناغم مع سايكولوجية شرائح غير قليلة من المجتمع الأمريكي، ولذلك فهو يضرب عصفورين بحجر واحد، الأول – كدعاية انتخابية، والثاني – كتعبير عن فكر عنصري متطرّف، وهو الأمر الذي قد يقوده إلى سدّة الرئاسة، خصوصاً إذا استغلّ خلال الشهرين والنيّف المقبلين بعض أخطاء هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية فضلاً عن فضائح الـ15 ألف رسالة ألكترونية المختفية حتى الآن، والتي استخدمتها عندما كانت وزيرة للخارجية في حكومة الرئيس أوباما خلال ولايته الأولى.
إن استمرار ظواهر الإرهاب والعنف على المستوى العالمي وتنامي الجماعات الإرهابية، يجعل مخاطبة المزاج العام الأمريكي مسألة مؤثرة في الدعاية الانتخابية، وهو ما يحاول ترامب العزف عليه، فهل يعقل بعد إعلان ثلاث رؤساء هم كلينتون وبوش الابن وأوباما: أن حلّ الدولتين هو الأفضل للنزاع العربي – الإسرائيلي، حتى وإن كانت النبرة خافتة، أن يأتي مرشّح للرئاسة ليعلن أن سفارة بلاده ستكون في القدس، وهو الإجراء الذي أعلن عنه قبل عدّة سنوات، ولقي ردود فعل عالمية كثيرة، لأن القدس حسب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 467 والصادر في 30 يونيو (حزيران) العام 1980، قرر بطلان ضم القدس وعدم شرعيته، كما أن قواعد القانون الدولي لا تجيز ضم الأراضي بالقوة أو إحراز أي مكاسب سياسية بسبب الحرب.
هل يعقل أن يقول "مرشح للرئاسة" لأكبر دولة في العالم، "إنه سيمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة" (أي يمنع مليار وأكثر من 500 مليون إنسان)، وهم يشكّلون قوام سكان أكثر من 57 بلداً، ومعهم مسلمون من دول أخرى يحتلون فيها نسبة وازنة؟ وهل يصدّق حين يدعو إلى بناء جدار عازل مع المكسيك، في الوقت الذي تتألف الولايات المتحدة من إثنيات ولغات وشعوب متعدّدة ومختلفة؟
إذا كان البعض لا يتصوّر صعود ترامب إلى دست الرئاسة، فإن كاتباً مثل جوناثان فريدلاند يكتب في صحيفة "الغارديان" مقالة بعنوان "مرحباً بكم في عصر ترامب"، وحتى لو كان الأمر من باب الإثارة أو الاستفزاز، فإن الترامبية لديها جذور في المجتمع الأمريكي، سواء فاز ترامب أو لم يفزْ.


441
المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى
عبد الحسين شعبان
(بيروت: دار بيسان للنشر والتوزيع، 2016). 316 ص
هيثم الناهي
مدير عام المنظمة العربية للترجمة
- 1 -
لنكن منصفين قبل الولوج في عمق الكتاب وما حواه من فصول خمسة جاءت في 316 صفحة من القطع الكبير، أن الكاتب الدكتور قد طرق في مسعاه هذا قضية يرى كثيرون أن هناك حرجاً في خوضها. فالكاتب العربي حين يشرح ويحلل مناصاً وتناصاً مسألة فكرية ثقافية، كثيراً ما يكون في نهاية أمره منحازاً سلباً بتطرف، أو إيجاباً بهيام يبلغ حد الوله. فعملية التفريق ما بين الداعية السياسي العربي والمثقف التي استهل بها الكاتب حديثه قبل التمعن والغوص في متاهات الفكر الذاتي للكتاب، كان لها نكهة قد تكون نابعة من الذات المتلوية والمتألمة لما حدث في تاريخنا الحديث. ويبدو أن النضج الفكري الذي اتسم به التفريق كان نابعاً من مسيرة وخبرة عاشها الكاتب ما بين الأبعاد السياسية ومآلاتها وبين الثقافة وتطورها التي عشقها الكاتب لأكثر من ستة عقود مؤلمة مرت. على أي حال، وصف الداعي السياسي باستخدامه الوسائل للتبشير بأفكاره والترويج لسياسة جماعته، قد نعتبره معبراً نقدياً لفحوى الإيمان الأعمى لما يُؤمر به وعليه تنفيذ مرام إيمانه السياسي من دون الالتفات إلى الأمام، بل الاستمرار بالنظر إلى الأمام. وسعيه في وصف المثقف بأنه صاحب وظيفة نقدية، يعني أنه كسياسي سابق أراد من ذلك أن يتقمص واقعه الثقافي الغزير في سبر غور المقارنة بين ما لا بد أن يكون وما يمكن أن يكون. فهو وضع نفسه منذُ البدء في جدلية علمية أراد من خلالها رغم الأدبيات السياسية، أن يبتعد عن السردية ويصطف بجانب الفعل النقدي لتصحيح المسار المتعلق بمستقبل وظيفة المثقف، في يوم أصبح فيه المثقف الناقد المنصف مختفياً كاختفاء الثلاثين من شباط/فبراير من أجندتنا السنوية اليومية.
إن حركة الفكر وعلاقاتها بالمجتمع لا يمكن أن تنحصر في دائرة ضيّقة برأينا، ولكن لا بد لها من أن تكون ضمن دائرة التطور المجتمعي، لكون التاريخ وجدلياته هو الذي يرفد الحركة المجتمعية المستمرة والمتنقلة، مهما كانت الاختلافات السياسية والثقافية. وضمن هذا الإطار يجد الكاتب أن هناك ضرورة إلى تسليط الضوء على القيم التاريخية المؤثرة في حركة تطور المجتمع السياسي لدراسة الكفاية المحتومة للأخطاء والنواقص. لكنه لم يؤكد على ضرورات التفاعل المجتمعي مع الثقافة وانعكاساتها على المثقف. ولو أباح لنفسه خوض الجوانب الفكرية المؤثرة على الإيمان المطلق بالفكر السياسي ومدى تناقضه مع حاجات المجتمع في حركة التطور التاريخي، لوجد الكاتب أن العمق المعرفي في ذاتية المثقف سوف ينعكس من دون أي عوائق على الفكر السياسي المجرد، وسوف ينعكس على رفض الداعية السياسي للإيمان المطلق بقرارات قد يرسمها مَن هو أقل فطنةً أو ثقافةً منه.
ومع ذلك فما قاله عن الشمولية السياسية واتجاهاتها القومية والشيوعية والإسلامية، التي استشهد فيها ببعض الحركات التي عاصرها كانت لبنة أساسية للدخول في شروحات قضايا التاريخ النابضة بالداعية السياسي والمثقف الناقد. وعليه نجده في الفصل الأول (القسم الأول: القراءة والنقد والأزمة) حين ناقش أزمة المثقف الشيوعي يتساءل، هل حركة التحرّر الوطني في أزمة أم ثمة مصاعب ونواقص تعانيها؟ ورغم أنه بذل جهداً لوضع مقاصد الأزمة الحقيقة عند إعادة قراءة الوقائع والنصوص المكتوبة، وتمكنه من وضع أسس للقراءة المعرفية المنعزلة عن الفضاء العام، لتخصصها في معرفة مقاصد الأزمة، فقد وجد الكاتب نفسه محاصراً فقهياً بين الثقافة المتجذرة في عنف الأزمة وبين إيمانه النقدي الثقافي. ويبدو أن الذاكرة الحسيّة التي استوحاها في مشاعره الفكرية قد غلبت بعض الشيء على الذاكرة المنظمّة التي أعطاها بعداً أفضلياً لعمق مادتها الأولية. ولعل التألم لما حدث في الواقع العربي وفشل الحركة الاعتيادية للمسار الثقافي وفعل المثقف الناقد في عمق التاريخانية المجتمعية، هي التي دفعته لحالة استرجاعية منصفة في الذاكرة الحسية. لكونه يؤمن بأن المعرفة مستمرة وذات ارتباطات علائقية ما بين ثقافة زمن الحاضر المبني على أسس التراكمية المعرفية التاريخية، سواء كانت للنقد السياسي أو للمثقف الناقد.


- 2 -
إن الانتقال في الكتاب إلى القسم الثاني الموسوم بـ"المثقف والموقف الآخر" يوحي منذ البدء أن الكاتب أراد منه أن يضع تجربته السياسية أمام تحدي الإيمان بالواقع، حتى ولو كانت نتائجه عصيبة. فرغم سرده بعض التراجم عن بعض الشخصيات الموالية والمناوئة له، إلا أنه جنح في طوفانه الفكري نحو وضع المواقف الوطنية التي يؤمن بها، في نافذة تتسع للنقد الذاتي والتواصلية التاريخية والواقع الحقيقي لعمق المبدأ. حيث وجد أن التوافق مع هذه العناصر قد يؤدي إلى وقوع المثقف في واحة نقد نفسه قبل أن ينقد واقع الأمة أو الداعية السياسي. ويبدو أن الكاتب عند هذه المرحلة التي لا تتعدى سنوات ثمانينيات القرن العشرين حاول ربط وطنيته العراقية بأفق لا يمكن أن يقف عند النظرة الحكومية، بل تتعدى إلى فتح الآفاق التي من خلالها يمكن أن يؤدي واجبه تجاه شعب وأمة وليس تجاه حزب وموقف سلطة. وهذه بالنسبة إلى السياسي المثقف الناقد قد تعتبر انتحاراً فكرياً، لأنها ستخوض الاختراق الفكري المعاكس، ومحاسبة الذات عن استمرارية الثقافة التاريخية وعلاقتها بالفكر السياسي. فهو وقع في هذا الفصل في عمق الاحتكار السياسي والوفاء للحزب، فتراه قد يسأل نفسه هل تمكن من الوفاء للشيوعية أم لا؟ وهل هناك وجود لعقدة احتكار الشيوعية؟ وكلا السؤالين تمكن من خوض فلسفتها ووضع تحدياتها السلبية والإيجابية ليخرج في صورة جميلة في الحديث عن العقل التركيبي، الرافض والموالي في آن واحد لحالاتين متناقضتين. ولو أضاف الكاتب العمق العقلي المتوفر في المجتمع المتسم بالعقل التعويلي والتلفيقي والأدائي لكانت صورة الحالة التي رسمها للعقل التركيبي واضحة المعالم لعلائقية المثقف الناقد ضمن سلطة الاستبداد، واستبدادية السلطة. لكنني وجدته بلا ريب، معبراً عن آرائه ومواقفه وفق ما تمليه عليه شخصيته الثقافية الناقدة لا ما تمليه عليه شخصيته السياسية الداعية. وهو ما يفسر مواقفه المعلنة الرافضة لضرب العراق واحتلاله رغم إسهام الحزب الشيوعي العراقي بالاحتلال وحكوماته ومجلس نوابه منذُ الدقائق الأولى التي حددت مصير العراق البائس.
- 3 -
إن الشبهات التي يروّجها الداعية السياسي على المثقف الناقد، لم تكن محصلة ناتجة من الموقف، بقدر ما هي نتاج الحركة التاريخية الحزبية وصراعاتها مع حركة الثقافة المجتمعية المستقلة القرار. وعليه كثيراً ما كانت الأحزاب السياسية التواقة للسلطة والاستبداد تعتبر المثقف رقماً صعباً في مسيرتها المؤدلجة والمرسومة وفق معطيات لا يمكن تغييرها.
القسم الثالث: المثقف والرقم الصعب، عالج الاختزالات السياسية عند المثقف بالاعتماد على المحطات الشخصية وعلاقتها تارة بالمثقف ومرة بالقيادات الحزبية. ورغم خوضه في المعالجات المنهجية للعمل الحزبي ووضعه بعض المشاهدات وسماتها لبعض الوقائع والشخصيات، فإن الذي يهمنا هنا هو انطلاقها من محدودية الثقافة الوطنية المتسلط عليها، إلى الثقافة العربية في المهجر وحريتها. فتلك الثقافة التي وجدت أرضاً خصبة للتعبير على الرأي، وإن تأثرت بالفكر الغربي، إلا أنها تحررت من الاستبدادية. هذه الاستبدادية تجعلنا نتفق مع الكاتب، أنها قد حررت المثقف نفسياً ولو بعد حين، لينظر إلى العوامل التاريخية خارج متاهات التنافر. ومع كل ذلك، استمر المثقف في المهجر، أسير معاناته الثقافية، كنتيجة لعدم فك الارتباط مع الوطن الأم، وتسيير الثقافة باتجاه الخلاص من الاستبدادية. وهنا لا أتفق مع الكاتب، بتحرير المثقف وتوجه نقده بحرية، وذلك لأن الأبعاد الوطنية والقومية واسعة جداً لكونه في عمق الحدث اليومي، وتغير في انتقاله للمهجر بتوجيه جهوده نحو التخلص من الاستبداد. وهو ما وظف الشعر والقصة والنثر والفلسفة والفكر والتاريخ وحتى الدراسات الاجتماعية والنفسية، كأسلحة للخلاص من السلطة. في حين كان الواجب أن يستفيد المثقف الناقد من هذه الحالة للتخلص من العوالق المتراكمة والاتجاه نحو الثقافة المفتوحة، وتوظيفها لخلق جيل مثقف ناقد عربي، بدلاً من خلق مثقف ناقد داع سياسي ضيق. ولكنه في القسم الرابع حول "المثقف وأزمة الثقافة" نراه استدرك بصورة جميلة للحديث عن ضرورة الوعي، خصوصاً في حديثه عن "أدلجة القمع وجدلية الثقافة والوعي". ولعلّ الإبداع كان أكثر في الحديث عن الحرية واعتبارها نسجاً تكوينياً في ذات المثقف، وليس اكتساباً من لدن عوامل مجتمعية تاريخية. فهو يميز بين وحدة التكامل الثقافي عند المثقف وبين اكتساب الحرية كأداة للتنفيس عن استبدادية السلطة.
- 4 -
نهاية المطاف، ينهي عبد الحسين شعبان كتابه بقسم خامس موسوم بـ "المثقف وثقافة الأزمة"، وكان بودي أن يكون الحديث عن المثقف وأزمة الثقافة، لكون المجتمع التسلطي المزين بالحرية والشرعية الدولية الزائفة هو الذي يبني الآن مسار المثقف، ويضعه ضمن سياقات تؤهله ليكون داعياً سياسياً أكثر من مثقف ناقد. المرحلة الحالية وما سبقها من عقد وما سيأتي من بضع سنين ستكون ضمن مسار الوقع التكنولوجي ومؤثراته وانعدام الثقافة. قد أكون أردد شيئاً لم يكن يرومه الكاتب، وهذا من حقه، لكن الحق يقال إن معالجته لحالة المثقف ضمن أزمة التحرر الوطني قد رسمت الملامح الواقعية لضرورات التحرر الذاتي أولاً للوصول إلى التحرر الوطني. نحن نتفق معه، بأن المثقف لا يمكن أن يكون في عمق التحرر الوطني ما لم يحرر ذاته ويوجه ذاتيته بتجرد نحو القضية التي يؤمن بها المجتمع وليس التي تؤمن بها ذاته. وحسب قوله، إنهما علاقاتان متلازمتان للتخلص من ذاتية الحزب ومصالح الاستبدادية في توجيه الأمة وإزالة التاريخ الحقيقي والترويج لتاريخ مزيف. وهو منحىً قد سلكه الكاتب، لا يسعني القول إنه قد انفرد في تحديد ملامحه وساقه فكرياً ليكون منبعاً لمسار جديد. هذا المسار لا بد أن يكون فيه حتمية أمة مبنية على حتمية تاريخ وتغير ضمن مصالح أفراد المجتمع لا ضمن مصالح الحزب الأوحد ومنجزاته التي أضاعت أمة وساقت أعرافاً خارجة عن نقد المثقفين لواقعهم التحرري والصادق لبناء ذات مجتمعية تخلق شعباً واعياً وليس مسيراً بشعارات فارغة لا تؤدي إلا لمساق تفتيتي ضيق لا يتعدى محدودية العاملين ضمن الأطر التنظيمية ولربما لا يتمتعون بمؤهلات قيادية مجتمعية.
- 5 -
خلاصة القول، رغم أن الكاتب له مؤلفات عديدة لا يمكن حصرها لعددها الكبير، إلا أن هذا الكتاب ذو توجه ونكهة خاصة، بدت لنا أنها نابعة من معاناة حقيقية عاشها الكاتب لحقب متعددة. هذه الحقب التي عاشها كانت مشتعلة بالأحداث والمواقف والقرارات على المستوى الشخصي والحزبي، فوجد نفسه بين خيارين كلاهما عسير، إما أن يكون داعياً سياسياً أو مثقفاً ناقداً، فاختار أن يكون ضمن الخيار الثاني لإحساسه بواقع الأمة ومعاناة الشعب والأمل بإنقاذ حالة تجعل مما نصبو إليه ممكناً ولو بعد حين، فأصاب وأجاد في وضع صورة ما نواجهه اليوم.



442
"... ولات ساعة مَنْدمْ"!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
قال الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، في تصريح لوكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك"، إنه لم يندم إلاّ على شيء واحد، وهو زوال الاتحاد السوفييتي، وقد أثارت تلك التصريحات عاصفة من التكهّنات والتقديرات حول الانقلاب العسكري الذي أراد الإطاحة به، قبل ربع قرن من الزمان (19 – 21 أغسطس/ آب/ 1991)، خصوصاً ما له علاقة بمصير الاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان آخر رؤسائه، والذي ضمّ 15 جمهورية اتّحدت على دفعات، واستمرّ لنحو 70 عاماً في ظلّ نظام «اشتراكي».
وقد اعترف غورباتشوف بمسؤوليته عن انهيار الاتحاد السوفييتي، وقال في وقت سابق في موسكو (أبريل/ نيسان/ 2016) بمناسبة صدور كتابه "غورباتشوف في الحياة": لا أستطيع أن أعفي نفسي من المسؤولية مشيراً إلى أنه لم يتمكّن من مقاومة المحيطين به، وخصوصاً بوريس يلتسين.
جدير بالذكر أن غورباتشوف احتـجز في منـتجعه على البحـر الأسود، لأنّـه – كما نقلت الرواية – رفض التوقيع على مرسوم إعلان حالة الطوارىء بعد الانقلاب العسكري، ولكنّه عاد بعد فشله وسلَّم مقاليد الأمور إلى بوريس يلتسين، في خريف العام ذاته، وهذا الأخير سلَّم السُّلطة بعد ثماني سنوات ونيّف من الزمان إلى فلاديمير بوتين (31 ديسمبر /كانون الأول 1999).
وظلّ الانقلاب العسكري منذ ذلك الحين وإلى الآن أقرب إلى لغزٍ، يحيطه الكثير من الغموض والإبهام، فضلاً عن عناصر الشكّ والإثارة في الوقت نفسه، ناهيك عن أسئلة حائرة حول ما حصل، وكيف حصل، ثم كيف انهار الاتحاد السوفييتي بعد ذلك، برمشة عين وحتى دون عاصفة تُذكر؟ وقبل ذلك لماذا أخذ بالانحلال لدرجة أن 6 جمهوريات خرجت منه، وكأنها أوراق أشجار تساقطت خلال الخريف؟
بعض التقديرات والتسريبات تقول: إن مدبّر الانقلاب ومخرجه، وواضع سيناريوهاته، هو أعلى هرم في السُّلطة والحزب في الاتحاد السوفييتي، والمقصود به غورباتشوف، في حين أن من نفّذه هم فريق من الصقور، الذي أراد التخلّص منهم بزعم الحفاظ على الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك بمثابة فخٍ لهم، حيث قاد الانقلاب وزير دفاعه ديمتري بازوف ووزير داخليته بوريس يوغو ورئيس استخباراته فلاديمير كريتشوف.
لم يكن سرّاً أن غورباتشوف تعرّض بسبب سياسته المعلنة «البيريسترويكا والغلاسنوست» (إعادة البناء والشفافية) إلى ضغوط كثيرة، من الطرفين المتصارعين، والمقصود بذلك فريق الصقور، أي الجناح المحافظ والمتشدّد والتقليدي، والذي كان متحفّظاً ومعرقلاً للتغيير والإصلاح، وفريق الليبراليين الذي اعتقد أن خطوات غورباتشوف بطيئة وغير حاسمة أو جذرية بما فيه الكفاية، وكان يريد منه الإسراع بالتغيير والانفتاح، بزعم العصرنة والتحديث والديمقراطية، تأثراً بالطريقة الغربية التي لا يمكن تطبيقها في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية مختلفة، خصوصاً إذا كان الأمر "استنساخاً" و«تقليداً».
إذا كان غورباتشوف قد ندم على سياساته التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن ندمه جاء متأخّراً، فقد حصل المحذور، والأمر ليس خطأً صميمياً يتعلّق بالاجتهاد، بل كان الخطأ استراتيجياً، وهو خطيئة بكل معنى الكلمة، ومن الخطورة بمكان على مستوى النظرية والتطبيق، حين تمّ تسهيل مهمّة العدوّ الخارجي للانقضاض على الاتحاد السوفييتي وتدميره، وبالتالي تحطيم التجربة الاشتراكية العالمية.
صحيح أن الاتحاد السوفييتي كان بحاجة إلى إصلاحات جذرية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية، بإقرار التعدّدية والتنوّع وإطلاق الحرّيات، وخصوصاً حرّية التعبير، واتباع أساليب عصرية في الإدارة والإنتاج، والاستفادة من منجزات الثورة العلمية – التقنية، وإصلاح الأنظمة والقوانين والمناهج، وتأكيد حقوق الشعوب والمجاميع الثقافية، والتعامل معها على أساس المساواة وعدم التمييز، وهو ما تضمنه برنامج غورباتشوف، لأنه كان يعاني من الركود الاقتصادي، بل إن اقتصاده مرّ بأزمات حادّة وخانقة، ناهيك عن بيروقراطية حكومية وحزبية سافرة وضعف روح المبادرة والفردانية، فضلاً عن شحّ الحريّات وهدر حقوق الإنسان، لكن مثل تلك الإصلاحات لو اتسمت بالتدرجية وتهيئة الظروف المناسبة لها، ليست بالضرورة تقود إلى الإطاحة بالدول السوفييتية، والتجربة الاشتراكية الكونية.
لقد أوقع غورباتشوف بسياسته المتعجّلة وغير المتسقة مع التطوّر التاريخي، البلاد في  أزمة جيوسياسية اقتصادية سوسيوثقافية فوق أزمته التاريخية، وهذه الأزمة قادت إلى تفكيكه، خصوصاً وأن الفريق الذي اعتمد عليه لم يكن جديراً بالإصلاح، كما أنه باشر بالإصلاح السياسي قبل أن يهيّىء الظروف المناسبة لتغييرات اقتصادية ومعاشية وثقافية تسبقه، ناهيك عن تهيئة كوادر على مستوى الدولة والحزب والمنظّمات الجماهيرية والمدنية لإنجازه.
حين حصل الانقلاب كان الاتحاد السوفييتي على شفا حفرة – كما يُقال – فقد انسلخت من منظومته كل من بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وكان جدار برلين فاصلة بين مرحلتين، ونتذكّر حين خاطب الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، غورباتشوف قائلاً: حطّم جدار برلين (يونيو/ حزيران 1987) وهو ما حصل في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1989، وكان ذلك بمثابة قصّ أجنحة الاتحاد السوفييتي، وكشف ظهره.
وخلال تلك الفترة برزت شخصيات وصولية طامعة بالسُّلطة مثل بوريس يلتسين، الذي لقي دعماً من الغرب لإزاحة غورباتشوف نفسه، الذي تم الترويج له هو الآخر، وكان الهدف هو القضاء على ما تبقى من الاشتراكية، حتى وإن كانت بصفحتها الرديئة، وكانت الخطوة الأخرى والمهمّة للتفكيك هي خروج (روسيا) و(أوكرانيا) و(بيلاروسيا) من الاتحاد السوفييتي، بقرار اتخذه ممثلوها، وهم شيفارنادزه وكرافتشوك وشوشكرفيتش، دون العودة إلى الأطر الدستورية التي يحاول غورباتشوف اليوم التذكير بها بعد 25 عاماً، ولكن بعد فوات الأوان.
ولم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي بمعزل عن الصراع الآيديولوجي بين المعسكرين، حيث نظّم الغرب على مدى أربعة عقود ونيّف من الزمان (أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945) برنامجاً للقضاء على الشيوعية، وذلك عبر ما سمّي "مجمّع العقول" أو (تروست الأدمغة) الذي عمل بمعيّة كنيدي والرؤساء من بعده، حيث عمل فيه كيسنجر وبريجنسكي ومادلين أولبرايت وستيفن هادلي وكونداليزا رايز وآخرون.
وقد راجت عدّة نظريات للإطاحة بالاشتراكية، ولعلّ أهمها نظرية بناء الجسور التي قال عنها الرئيس جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والسوّاح والأفكار، تلك التي سنمدّها لتحطيم الاتحاد السوفييتي من داخله. وكان سارتر على حق، وبنظرة متقدّمة حين وصف الدول الاشتراكية، بقوله: إنها قلاع محصّنة، ويصعب اقتحامها من الخارج، لكنها هشّة وخاوية من الداخل، وهزمت كل المحاولات للإطاحة بالأنظمة الاشتراكية من الخارج، لكن العدوّ كان داخلياً وبامتياز، وهو إكراه الناس والأمم والمجتمعات (السوفييتية) ومحاولات فرض موديل واحد عليها بالقوّة وينبغي على الجميع الخضوع له.



443
الشيزوفرينيا السياسية في العراق والمربع صفر!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

بعد تطوّرات دراماتيكية عاصفة، تمكّن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي مؤخّراً من إمرار تعيين خمسة وزراء قيل إنهم «تكنوقراط»، وحصل على موافقة البرلمان، لكن الوزراء المعنيين لم يكونوا بعيدين عن ترشيحات الكتل السياسية وبعضهم محسوب عليها، الأمر الذي سيعني أن مرجعيتهم ستكون لهذه الكتل ذاتها، ورؤسائها بالتحديد، وليس مرجعية مجلس الوزراء.
ولم يخفِ المجلس الإسلامي الأعلى ترشيحه لوزيرين من وزراء «التكنوقراط»، هما وزيرا النفط جبار لعيبي، والنقل كاظم فنجان الحمامي، في حين رشّح حزب الدعوة يوسف الأسدي لحقيبة وزارة التجارة الذي لم يحصل على تصويت البرلمان لصالحه، كما أن وزارة الصناعة عادت إلى ترشيح كتلة الصدر، ويبحث رئيس الوزراء تعيين وزير تركماني، وظلّت منظمة بدر في أخذ وردّ بشأن وزارة الداخلية التي هي من «استحقاقها» كما تقول بعد استقالة محمد الغبّان، وطرحت اسماً بديلاً عنه هو قاسم الأعرجي، أما قائمة إياد علاوي (الوطنية) فأخذت تطالب استحقاقها بتعيين وزير لها بعد اتهام وزيرها السابق ملاس عبد الكريم بالفساد من جانب هيئة النزاهة منذ أكثر من عام، وهكذا عدنا إلى لعبة المحاصصة.
كثرة من أعضاء البرلمان الذين صفّقوا بحرارة لوزير الدفاع خالد العبيدي، في جلسة الاستجواب المثيرة، لكشفه للفساد، عاد بعضهم لجمع التواقيع لسحب الثقة منه، (63 نائباً) الأمر الذي سيعني إسكات المطالبين بمحاسبة الفاسدين، إذْ من سيجرؤ بعد إقالة وزير الدفاع في الحديث عن الفساد، فقد يكون هو الضحية القادمة، سواء كان وزير الدفاع متورطاً بالفساد أم لا؟ لكن ذلك لن يغيّر من الواقع شيئاً، فالفساد أصبح أقرب إلى مؤسسة لها أخطبوطات مختلفة وقوى ضاربة، وسيعني الاقتراب منها مغامرة حقيقية.
هكذا أخذت الأزمة الدورية التي تضرب العملية السياسية بين الفينة والأخرى منذ الاحتلال الأمريكي العام 2003 ولحدّ الآن، تزداد تفاقماً، وترتفع وتيرتها بصورة طردية بفعل استمرار ظواهر الإرهاب والعنف والمحاصصة الطائفية – الإثنية والفساد ووجود الميليشيات، لكنها بدت هذه المرّة أشدّ عمقاً، فخلال أقلّ من نصف عام، ينفرط عقد مجلس النواب مرتين وتتناثر كتله وجماعاته إلى شظايا وأجزاء، وتختلط فيه الأوراق لدرجة كبيرة، بحيث لم يعد بالإمكان التمييز بين من يدعو للإصلاح «قناعة»، وبين من هو فاسد ويزاود على الإصلاح.
لقد انتقل الصراع بين الكتل والتحالفات إلى داخلها، فالاتّهامات شملت الكيانات ذاتها التي ينتمي إليها المتّهِم والمتّهَم (العبيدي والجبوري – اتحاد القوى وهو تحالف ضم بعض قوى السنيّة السياسية). أما كتلتي مقتدى الصدر (الأحرار)، والمواطن (عمار الحكيم)، إضافة إلى كتل شيعية أخرى، فهما الأشدّ انتقاداً لحزب الدعوة الحاكم، وجميعهم أعضاء في ما سمّي بـ«التحالف الوطني» الذي يضم قوى الشيعية السياسية.
وكشفت جلسة الاستجواب أن أزمة العملية السياسية بنيويّة، ولا يمكن تجاوزها إلاّ بتغيير جذري يطالها من الأساس، فالتسوية التي حصلت لمنع انحلال البرلمان عادت إلى الظهور بقوة، وهكذا بدا المشهد صمغياً أكثر من أي وقت مضى، فرئيس البرلمان الذي أقيل ثم عاد، أعلن هو عن انسحابه هذه المرّة لغاية تبرئة ساحته من جانب القضاء، وبعد جلسة استماع لم تستغرق سوى 40 دقيقة قال القضاء كلمته: أن لا وجود من دلائل كافية تؤكّد شبهة الفساد، وبالتالي لا يمكن اتخاذ إجراءات قانونية بحقه، وهو الأمر الذي استغرب منه رئيس الوزراء، الذي ردّ عليه الجبوري، بعدم التدخّل بشؤون السُّلطة القضائية من جانب السلطة التنفيذية.
لقد عدنا إلى المشهد ذاته على الرغم من الشدّ والجذب، أي الإبقاء على ما هو قائم وعدم التحرّش بالرئاسات الثلاث، لأنها أساس المحاصصة و«التوازن» الغنائمي لنظام الزبائنية السياسي. وكان وزير الخارجية الأمريكية جون كيري خلال زيارته إلى بغداد في 8 أبريل (نيسان) من العام الجاري قد أبلغ «القيادات العراقية»، بأن أي تغيير لا ينبغي أن يطال ما سمّي بالرئاسات الثلاث، وهو ما أكّده آشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي خلال زيارتيه للعراق في 17 أبريل (نيسان)، و11 يوليو (تموز) 2016، وتوّج جو بايدن نائب الرئيس القرار الأمريكي ذلك، على نحو حاسم خلال زيارته المفاجئة إلى بغداد أيضاً في 28 أبريل (نيسان) من العام الحالي.
وإذا كان الأمريكان، قد باشروا باستقبال جماعات وكتل وقوى سياسية عراقية في إطار الاستماع إلى وجهات نظرها، خصوصاً لمرحلة ما بعد «داعش»، شملت رؤساء عشائر ومجموعات سنيّة وأوساط كردية وبعض الشخصيات وغيرها، فإن ما ترشّح منها يؤكّد أنهم يريدون تقليص دور إيران والمجموعة الشيعية المتحالفة معها، لكنهم سوف يلجأون إلى ذلك بشكل تدريجي وينتظرون انتخابات العام 2018، وخصوصاً بعد دحر «داعش» وتحرير الموصل، والبحث في مسألة الأقاليم التي يبدو أنهم أخذوا يميلون إليها أو يرجّحونها، خصوصاً وأن هناك أوساطاً من السنيّة السياسية تشجع عليها، إضافة إلى تحالفهم الفرعي مع إقليم كردستان وتسليح وتمويل البيشمركة، الذين يؤيّدون إقامة الإقليم السني أو نظام الأقاليم بشكل عام.
سيظلّ المشهد القائم يُظهر عكس ما يُبطن ويطالب بدلاً من أن يستجيب، ويبوح بقدر ما يخفي، ذلك أن جميع أركان العملية السياسية يطالبون بالإصلاح ومحاربة الفساد ويكيلون الشتائم للطائفية ونظامها، ويعتبرونها مسؤولة عن كوارث البلد، ويتشبثون «بوحدة العراق»، على الرغم من دعوات تقترب من الانفصالية بزعم تنازع الصلاحيات وتقاسم السّلطات، ويدافعون عن وزراء ووكلاء ومدراء فاسدين محسوبين عليهم، ويعتبرون أي اتهام لهم إنما هو مكيدة مدبّرة واستهداف سياسي لا أخلاقي، ويقرّ الجميع بالدستور ويطالبون بالالتزام به، وحين تتعارض مصالحهم يرفعون الصوت بتبريرات وتفسيرات لا دستورية ولا قانونية، والكل يزعم تمسّكه بالقضاء واستقلاله ونزاهته، وإذا حكم لصالحه صفق له، وإذا حكم ضد فساده اتهمه بالانحياز، والكل يتبرؤون من الميليشيات ومن أعمال الانتهاك والتجاوزات، لكن للجميع أذرعاً مسلّحة وأظافر عنفية، تستخدم عند الحاجة وبأشكال مختلفة، ولتذهب مسألة حقوق الإنسان إلى الجحيم.
في ظل هذا الوضع المعقّد، يصبح الإصلاح بعيد المنال والقضاء على الفساد صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، خصوصاً وأن الجميع متورطون به، والخلاص من الإرهاب والعنف غير ممكن بغياب المصالحة السياسية واستمرار إجراءات العزل الاستثنائية، تلك هي الشيزوفرينيا السياسية التي هيّمنت على المشهد السياسي على نحو لفّته مثل شرنقة يصعب الخروج منها، إلاّ بتمزيقها، ومعنى ذلك العودة إلى المربع صفر.

نُشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 25/8/2016

444
لـ تيسير قبّعة "اسم الـوردة"!
د. عبد الحسين شعبان

حين شرعت بإعداد كلمتي هذه، سألت نفسي: تُرى ما الذي سأطلقه على تيسير قبّعة، غير ما كنّا نفضل أن نناديه بـ"أبو فارس". قلت لنعد إلى أحبّ وصف للعراقيين حين يصفون به من يحبونهم بـ(الوردة)، "وكانت الوردة اسماً، ونحن لا نملك إلاّ الأسماء"، تلك هي العبارة التي قالها الروائي امبرتو ايكو، والتي يمكن أن تُنقش في حضرة تيسير قبّعة. إذا كان اسم الوردة ينطبق عليه، فهنا الوردة، فلنرقص هنا، حسب ماركس.
واسم تيسير قبّعة، له وقع خاص في ذاكرتي، التي علق فيها ولم يغادرها منذ نكسة حزيران (يونيو) العام 1967. وارتبط الاسم بنوع من الكتمان والبوح في آن، فقد كانت رسالةً قد وصلتنا من براغ إلى بغداد (أواخر العام 1967)، هي عبارة عن لفافة ورق خفيف، كنّا نستخدمه في العمل السرّي، تُعلمنا بأن تيسير قبّعة رئيس الاتحاد العام لطلبة فلسطين، تسلّل إلى الأرض المحتلّة واعتقل هناك، وعلينا تنظيم حملة تضامن معه.
حين أنهى تيسير قبّعة محكوميته التي دامت ثلاث سنوات في سجن المسكوبية بالقدس، أُبعد إلى الأردن. تسرّب الخبر إلينا فأبرقنا إلى «الحكيم»، لكي يمكّن قبّعة من حضور المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي، الذي انعقد في مدينة براتسلافا. وخلال أيام وصل تيسير قبّعة فعلاً، وكان النجم الفدائي الساطع في ذلك المؤتمر التاريخي، وطال العناق والشوق، واستمرّ منذ اللقاء الأول في (كانون الثاني/ يناير العام 1971).
سأظلّ أتذكّر ذلك الاسم وتلك الصورة، التي ارتسمت في ذاكرتي منذ نحو نصف قرن من الزمان وأستعيدهما باستمرار، وأستحضر تلك السجايا التي استجمعتها من علاقة مديدة، لأن تيسير قبّعة قامة وقيمة. قامة لأنه ظلّ مرتفعاً، ولم يهبط حيث الصغائر، وقيمة لأنه مثّل قيماً سامية، وخصوصاً في فترات التراجع والانكسار وتبديل الأسماء والصور.
حارب تيسير قبّعة في ثلاث دوائر: الدائرة الأولى كانت الدائرة الفلسطينية، لتعزيز دور اليسار وتوطيد توجهه، وإعادة النظر ببعض مواقف اليسار التقليدي من القضية الفلسطينية، والثانية كانت الدائرة العربية، لتأكيد وتعزيز الدور الفلسطيني المستقل لينسجم مع شعار «مركزية القضية الفلسطينية»، والثالثة هي الدائرة العالمية، حيث حشد جهوداً كبيرة لكسب الأصدقاء للشعب الفلسطيني وللأمة العربية، لا سيّما من اليسار العالمي، فإضافة إلى الحركة الشيوعية، كان يسار آسيا وأفريقيا، إضافة إلى يسار أمريكا اللاتينية وأوروبا شغلاً شاغلاً له، ولا سيّما حركات السلم والتضامن.
وبقدر ما هو فلسطيني، فهو عروبي، لأنه يعرف القوّة الكامنة في الوحدة المصيرية للنهوض الحضاري العربي، وبقدر ما كان عربياً، فهو أممي يعرف معنى التضامن، وقد لمس ذلك من خلال تأثير حملة التضامن معه، مثلما كان يدرك أهمية البعد الإنساني للعلاقات النضالية.
كان تيسير قبّعة يحمل الكثير من عناصر القوّة في شخصه، سواء جوانبها المعنوية والروحية أو في جوانبها المادية، خصوصاً بتوفّر الإرادة والوعي، وبقدر ما كان ثورياً وفدائياً وصلباً وحازماً، فقد كان في الوقت نفسه دافئاً وحميماً ورقيقاً ومرناً، وإذا كان له خصوم كثيرون، فلم يكن له سوى عدوّ واحد هو العنصرية الصهيونية. لقد كان تيسير قبّعة واضحاً في حبّه وفي كرهه، غير مخادع أو مخاتل، وكان من أكثر الصفات التي يمقتها هي الغدر والجحود، وتلك فروسية المقاتل الأصيل ونبل الفارس الحقيقي.
الاسم والصورة ازدادا إشراقاً. وكلّما تعرّفت على تيسير قبّعة أكثر وجدته صاحب مروءة ووفاء، فما قيمة مناضل دون مروءة ووفاء؟ ثم ما قيمة الأفكار دون ذلك؟ كان سخياً وكريماً على نحو تلقائي وعفوي، لأنه شجاع، وكلّ كريم شجاع، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بكبريائه وكرامته الشخصية والوطنية، وفي الوقت نفسه كان متواضعاً وغير متكلّف، لكنه كان من السهل الممتنع.
تيسير قبّعة حتى وإن اختلف أو تخاصم أو أخطأ، فإنه صاحب ضمير حي ووجدان يقظ، وهو ما كان هادياً لبوصلته على المستويين الخاص والعام، والشخصي والوطني.
ومنْ لم يخف عقب الضمير      فمــن ســواه لــن يــخافـا
كما يقول الشاعر الجواهري، "إذْ يتوجّب على الإنسان الشريف أن يكافح الجميع، ويتجرّع كل أنواع السموم التي يقدّمها الأصدقاء والأعداء" حسب كازانتزاكي.
كان تيسير قبعة سياسياً أكثر ممّا هو حزبي، وفلسطينياً أكثر مما هو فصائلي، وعربياً بالانتماء والهويّة، حيث الشعور الطبيعي، وقد لقّح عروبته المنفتحة بالنزعة الأممية  الإنسانية، وتلك عناصر اتّحدت في شخصيته على نحو متّسق بنضوج تجربته، واغتناء معرفته، واتّساع علاقاته، وتنوّع أنشطته.
وإذا كانت الأرض "الولود" قد أنجبت تيسير قبعة، وكوكبة لامعة من المتميّزين والمبدعين، فإنها على الرغم من كل النكبات والنكسات والآلام والمآسي، لا تزال مثل أزهار شقائق النعمان بقدر ما فيها من رقة وجاذبية، ففيها من الصلابة والعناد الشيء الكثير، إنها تأبى إلاّ أن تشقّ الصّخر، وتفلق الحجر، لتزهر، حتى وإن "هطلت الحجارة" فيها على الصحراء، فإنها تستصلحها لتثمر تيناً وزيتوناً، على حدّ تعبير إميل حبيبي.
الحزن المبجّل والصبر الجميل لعائلة تيسير قبّعة، لزوجته ابتسام نويهض، وولده فارس وكريماته رانيا ورُلى وديمة، ولرفاقه في الجبهة الشعبية ولأصدقائه الفلسطينيين والعرب، فقد أوجعنا من الأعماق غياب تيسير قبعة، وكما قال الشريف الرضي:
مــا أخــطأتـــــــك النائــبا      تُ إذا أصابتْ من تُحبُّ
لقد عاش تيسير قبّعة حياة حقيقية جداً وواضحةً جداً وحالمةً جداً، عاش بكبرياء ورحل بكبرياء أيضاً، وظلّت بوصلته قلقيلية دائماً.
تيسير قبعة، اسمح لي، باسم نخبة من المثقفين واليساريين العراقيين الذين افتقدوك صديقاً وفياً ومناضلاً مقداماً، ألاّ نقول لك وداعاً... تيسير قبعة نحن نقول لك اشتياقاً... وسنظلّ نقول اشتياقاً.
كلمة ألقيت في الحفل التكريمي لتيسير قبعة بذكرى أربعينيته، والذي شارك فيه نخبة لامعة من المثقفين والمناضلين العرب. (في 25 أغسطس /آب 2016) في فندق غولدن توليب – بيروت.


445
المنبر الحر / في ثقافة الاحترام
« في: 22:11 22/08/2016  »
في ثقافة الاحترام
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

لا يزال المجتمع الدولي يبحث في سبل تعزيز الحقوق والحرّيات، سواء ما هو موجود منها، أي «مقنّن»، لوضعه موضع التطبيق أو تطويره ليتواءم مع التطوّر الدولي في هذا الميدان، أو ما يتم النقاش بشأنه لإيجاد قواعد جديدة لرفد القواعد النافذة، بتوسيع دائرة الاعتراف به، وتعميم الاحترام له على أساس القبول بالآخر، والإقرار بالتعدّدية والتنوّع.
وبغض النظر عن مصالح الدول، وخصوصاً الكبرى، الأنانية الضيقة، ومحاولاتها تطبيق تلك المبادىء على نحو فيه ازدواجية بالمعايير وانتقائية بالممارسات، فإن التطور الفقهي – النظري يبقى عامل إثراء، لأن حاجات الإنسان وتطلّعاته لا حدود لهما، مثلما هي حقوقه وحرّياته التي تتطوّر وتتقدّم تاريخياً.
ثلاث مناسبات تتعلّق بثقافة الاحترام تدعوني للكتابة:
أوّلها – في 9 – 10 يناير (كانون الثاني) العام 2016 حضرت مع نخبة متميّزة اجتماعاً لمناقشة موضوع «الحق في التضامن الدولي»، وذلك بالتحضير لمشروع قرار كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تنوي وضعه بعد الاستماع إلى رأي الخبراء. والهدف هو رفد القواعد العامة لميثاق الأمم المتحدة، وتعميق محتوى القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الإنساني بهذا المبدأ الجديد.
والتأم الاجتماع في الدوحة، وضمّ نحو 20 – 25 خبيراً وموظفاً دولياً، عمّقوا الفكرة وناقشوا ضماناتها والعقبات التي تعترض طريق تطبيقها على المستوى الدولي، وميّزوا بينها وبين موضوع التدخّل بالشؤون الداخلية، وبينها وبين مسألة التدخل العسكري والحصار الدولي، وبينها وبين التدخّل لأغراض إنسانية. ومن المفترض أن تناقش الجمعية العامة في نهاية هذا العام التقرير الذي ستقدمه اللجنة المكلفة بمبدأ الحق في التضامن الدولي برئاسة السيدة فيرجينيا داندان Virginia Dandan المكلّفة بذلك.
وثانيها – في 10 – 11 فبراير (شباط) المنصرم 2016 ناقش فريق خبراء موضوع تجديد إعلان القاهرة لحقوق الإنسان الصادر في 5 أغسطس (آب) العام 1990، بدعوة من رئيس الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان لمنظمة التعاون الإسلامي السفير عبد الوهاب، ورفعوا مجموعة توصيات للاجتماع الذي عقدته منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول 15 أبريل (نيسان) 2016، وذلك ضمن محاولة لتطوير توجّه الدول الإسلامية وتكييفه لينسجم مع التطوّرات الدولية في مسألة حقوق الإنسان، مع مراعاة الخصوصية الثقافية.
المواءمة لا تستهدف إخضاع الخاص للعام، أو جعل الخاص يذوب في إطار العام، كما لا تستهدف بالطبع التحلّل من الالتزامات الدولية بحجّة الخصوصية، لأن قيم حقوق الإنسان واحدة ولا يمكن تجزءتها أو تفضيل قسم على آخر، أو التعامل معها بصورة انتقائية.
الخصوصية لا تعني الانغلاق والانعزال وعدم التفاعل مع الآخر، مثلما لا تعني الكونية إخضاع الآخر أو التسيّد أو فرض قيم الغير عليه، بزعم أنها القيم العالمية، فلكلّ مجتمع قيمه، وإنْ كانت هناك قيماً عامة وشاملة وإنسانية تخص بني البشر، وهي التي نطلق عليها المشترك الإنساني، بغض النظر عن اختلافاتهم وثقافاتهم ولغاتهم وأصولهم العرقية وأديانهم واتجاهاتهم السياسية وأصولهم الاجتماعية.
وثالثها – اجتماع انعقد في باريس بدعوة من اليونسكو لمناقشة حق التعبير وحق الاحترام، وذلك في 17 – 18 مارس (آذار) 2016، والأمر يتعلّق بثنائية تبدو منسجمة بقدر ما هي مختلفة، والاختلاف والتمايز ناجم من مرجعيات مختلفة وتفسيرات متعارضة، فنظرة الغرب تختلف عن نظرة ما تزال سائدة في العالمين العربي والإسلامي، اللذان يفرّقان بين حرّية التعبير، وبين احترام المقدّسات والرموز الدينية، وعدم التجاوز عليها أو المساس بها، لأنها جزء من ذهنية شعوب المنطقة وتطورها التاريخي.
في العالمين العربي والإسلامي يُنظر إلى التجاوز على الرموز الدينية، باعتباره مساساً بالمقدّسات، في حين أن الغرب لا يعترف بمبدأ التقديس أصلاً، وإن كان يقدّس «حقاً» أو فكرة أو مفهوماً، وبالتالي فهو يعتبر أي تناول للرموز الدينية يندرج في إطار مفهومه للنقد، وحرّية التعبير، الواردة في المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حين أنها تثير حساسيات وردود فعل تصادمية في المجتمعات العربية والإسلامية، فما بالك إذا جاءت من ثقافات أخرى، تستهدف التسيّد.
إن استخفاف الغرب بفكرة «تقديس» الرموز الدينية، هو الذي كان وراء محاولات الإساءة للإسلام، تلك التي شهدت أشكالاً مختلفة من إلصاق التهم به، إلى الإساءة للرسول محمد (ص) من خلال الرسوم الكاريكاتورية في الدانيمارك وغيرها. وقد ارتفعت وتيرة العداء والكراهية ضد الإسلام وقيمه السمحاء تحت عناوين مختلفة، من نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما إلى صدام الحضارات لهنتنغتون وغيرها، وتفشّت على نحو واسع  لدى أوساط يمينية وعنصرية، خصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية العام 2001، مصحوبة بالعداء للأجانب واللاجئين العرب والمسلمين منهم بشكل خاص. وفي الوقت الذي يرفض الغرب تقديس الرمز (الإنسان) يذهب إلى تقديس «حق»، والحق وإنْ كان «مقدّساً» ويفرض احترامه، فالرمز حسب الثقافة العربية والإسلامية السائدة لا ينبغي المساس به، وكل مساس يلحق ضرراً بالمشترك الإنساني.
وكان «الحق في الاحترام» مثار اهتمام شخصيات عربية وإسلامية تعيش في الغرب وبعضها يعمل في إطار منظمات دولية، الأمر الذي دعاها إلى مناقشة اقتراح ورد من السفير زياد الدريس، وبدعم من المجموعة العربية في اليونسكو بهدف تنظيم مشروع قرار بعد مناقشته مع مجموعة خبراء لتقديمه للمجلس التنفيذي للمنظمة، والذي تم اعتماده مؤخراً. وحسب كلمة الدريس: أن الأمر استغرق 3 دورات وأكثر من عام ونصف، لوجود تحفّظات غربية عليه، وتلك مفارقة جديدة، فإذا كان المقصود بحق الاحترام: عدم الإساءة للغير، مثلما رفض إساءة الآخر، فلماذا يتم التحفظ عليه؟ وهو الأمر الذي يدعو إلى تعميم ثقافة الاحترام، ابتداءً من النشء الجديد وإلى الكبار، ومن التربية إلى الإعلام، للوقوف ضد التعصّب والتطرّف والفتن الدينية والطائفية بين الشعوب والثقافات.
إن حق الاحترام يشكّل خلفية لحقوق أخرى، مثل الحق في السلام، والحق في التعدّدية والتنوّع، والحق في التطوّر المستقل، والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية – التقنية، والحق في التواصل والتعاون الإنساني لإنماء الدول والشعوب، وهي حقوق مدوّنة في ميثاق الأمم المتحدة.
وهكذا نكون أمام ثلاث مبادىء دولية جديدة هي:
أولها – الحق في التضامن الدولي.
وثانيها – الحق في التنوّع والتعددية.
وثالثها – الحق في الاحترام.
وجميعها تندرج ضمن المشترك الإنساني والتفاعل بين الثقافات والحضارات.

نشرت في صحيفة الخليج «الإماراتية» بتاريخ 17 أغسطس (آب) 2016


446
والدوري إلى صداقة حميمة.
لن أكون منصفاً وعادلاً إذا اختزلت ذلك على بعض الأسماء أو تعدادها، الأمر يحتاج إلى حفز جديد للذاكرة، ووقت ميسور، ومناسبة أخرى للحديث أو الكتابة عن شخصيات ثقافية وفكرية ومهنية، عراقية وعربية، كان لها حضور بارز في براغ، كلٌّ في مجال اختصاصه، ولكن ذلك سيكون مؤجلاً وهو على ذمّتي لمناسبة أخرى، فما أن تضيء النجوم الفضية المشرقة، سماء الذاكرة، حتى يرنّ جرسي الداخلي فأبادر لوضعها على الورق، كي لا تفلت أو تختفي، أو يتسلّل الوهن والضعف إلى الذهن فيتشتّت.
حين أستعيد ذلك مع براغ، كأنّي أهمس على نحو لذيذ بأُذن المعشوقة، لأسمع نبضها وأتحسّس رقّة مشاعرها، وكأنها تخاطبني بما كان جلال الدّين الرومي يقوله:
اخفض صوتك: فالزهر ينبته المطر، لا الرعد
براغ كانت حمولة كاملة لمخاض طويل تجمّعت فيه مثلما هي الذاكرة، قطرات نور تقبل بالمفاجىء الذي يتكىء أحياناً على الحلم، ويحق لنا الاقتباس من الشاعر الكردي المبدع شيركو بيكسه قوله الذي أتمثّله وكأنه يقوله في عشق براغ:
الريح تنحني للخريف
الخريف ينحني للعاشق
باحترام
العاشق للعشق
العشق للخيال
والخيال لي
وأنا للشعر

____________
* الأصل في هذه المادّة، محاضرة ألقاها الباحث في براغ، بدعوة من النادي الثقافي العراقي، بتاريخ 8 يونيو (حزيران) 2016.
** أكاديمي وأديب عراقي.



447
بــــــــــــــــراغ... وثـــمّة عـشـــــــــق*!!


عبد الحسين شعبان**


حين دعاني "النّادي الثقافي العراقي" في براغ لإلقاء محاضرة، اخترتُ "العِشق" عنواناً لحديثي، بما له من مدلولات وألغاز وأسرار، خصوصاً حين نكون في حضرة براغ، حيث الثقافة وسرديّاتها المكتوبة والبصرية والمرويّة، تلك التي تجمّع بعضها في زوايا الذاكرة المُتعبة. قلت: لكنّها ليست محاضرة، بل هي بضعة خواطر مبعثرة ومتناثرة عن معشوقة، ظلّ العاشق يحتفظ بمنديلها المعطّر، فيشمّه كلّما شعر بالشوق إليها، ليستحضر صورتها  ويستذوق طعمها ويلامس وجوهها المتعدّدة.
حاولت أن أستفزّ الذّاكرة لتخرج على غير نظام من زواياها، ولم أنتظر أنْ تكون لها منهجية أو تخطيطاً، فالمحاضرة تحتاج إلى قراءة ومراجعة واستحضار وكتابة، بما فيها من مقدّمة ومتن واستنتاجات واقتباسات وتدقيق ومناظرة ومصادر.
إذاً، فلنؤجل الحديث عن الهويّة وفرعياتها، والنجف وخصوصياتها، كما كنت قد وعدت من دعاني لإلقاء محاضرة لأكثر من مرّة، لمناسبة أخرى، وهو ما ذكرته في استهلالي "البراغي"، ولنترك الحديث ينساب عن براغ، فثمّة عشق معتّق.
وهكذا جاءت الأحاديث بعفويّة وبساطة، تكاد تكون أقرب إلى الارتجال والشفوية، لقناعتي أن الكلام عن براغ يخفّف من غلواء القسوة الماثلة أمامنا بكل جوانبها، وثانياً أنه يقرّبنا من بعضنا، حين يعيد استذكار الحميميّة العفوية الشبابية الأولى، وثالثاً أنه يسترجع تاريخاً يكاد يكون متّفقاً على خطوطه العريضة، وإنْ احتوى ألغاماً من الأسئلة، ورابعاً أنه تشجيع على البوح، فلكلّ من الحاضرين قصّته الخاصة عن المعشوقة "براغ"، التي يلتقي في حبها كثيرون، دون أن يشعر أحدهم بالغيرة من الآخر، ودون أن تعطي هي نفسها لواحد منهم، لأنها ملكٌ للجميع، ولكن بشروط العشق التي تحرص على مراعاتها، هكذا تقترب المعشوقة مِن كل مَن عشقها.
وأخيراً، إن المناسبة اجتماعية ثقافية، وهي أقرب إلى "احتفالية"، استجبتُ إليها، وأنا الذي أتردّد في قبول دعوات إلاّ باتفاقات وتهيئة مناسبة، ولذلك قلت: لا ينبغي الإثقال على الأصدقاء بمواضيع ذات طبيعة إشكالية، سواء بمعناها الأكاديمي أو الفكري أو السياسي، ولا بدّ لي من الاكتفاء بخبطة ثقافية، هي تصوير بانورامي عن لقاء العاشق بالمعشوق.
*   *   *
في براغ تستحضر معك:
الدهشة،
الإبداع،
الحميمية،
عبق التاريخ،
فكلّ شيء في المدينة يدلّك على حضورها البهيّ وجلال قدْرِها وجمال روحها وحُسن محيّاها وعظمة تاريخها. إنها مدينة مفتوحة، ساحرة وفاتنة، تُظهر بقدر ما تُخبّىء، وتبوح بقدر ما تكتم، وتتكلّم بقدر ما تصغي، وتسأل بقدر ما تُجيب.
هكذا هي براغ "المعشوقة"، حتى وإنْ كان طقسها مكفهّراً أحياناً وربما باكياً، وأبنيتها قديمة وأزقّتها ضيّقة وحاراتها متعرّجة، ولكن على الرغم من أن الطقس يبعث أحياناً نوعاً من التبرّم والكآبة، إلاّ أن الإنسان الذي يدخلها باكياً بصورتها الأولى، يخرج منها باكياً أيضاً، وهذه المرّة على فراقها، بعد أن يكون قد تعرّف على خباياها وخفاياها، ودخل في تفاصيل حياتها ونسائها وخمورها وأطايبها وعوالمها.
بصوتها ذات النّبرة الشاميّة المدهشة صاحت شيرين، حينها: "يا الله... العمى، تئبرني": ما أروع الخريف في براغ، لاحظْ ألوان الأشجار كيف تتغيّر كل يوم؟ الأشجار بلون البرتقال والورد والتوت والرمّان والكرز والمشمش... وأضافت كنت أعتقد أن الجمال في الربيع، ولكن خريف براغ هو ربيعها أيضاً، أما الصيف، فقلت لها: تبدأ المدينة فيه بالتحلّل من أثقال الشتاء وتخلع ملابسها قطعة قطعة، لتعود حوّاء كما خلقها الباري، وهي تقضم تفاحة آدم. أما الشتاء، فهناك الشلالات الفضيّة والسنديانات وأشجار البلوط، حيث تفيض براغ بالإبداع والثلج، تلك هي الطبيعة أمُّنا الحنونة.
وفي وصف براغ يقول الجواهري الكبير، (براها باللّغة التشيكية):
قف على "براها" وجب أرباضها / وسل المصطاف والمرتبعا
أعلى الحُسنِ ازدهاءً وقعت / أم عليها الحُسن زهواً وقعا؟
واستعرْ منها عيوناً جمّة / وتملَّ الناس والمجتمعا
وسل الخلاّق هلْ في وسعه / فوق ما أبدعه أن يُبدعا
وفي قصيدة أخرى حملت اسم براها، يقول:
(براها) سلامٌ كلّما خفق الصباحُ على الهضاب
وفي السهل الممتنع للجواهري عن براغ يقول:
أطلت الشوط من عمري / أطال الله من عمرك
ولا بُلّغت بالسوء / ولا بالشرِّ في خبرك
حسوت الخمر من نهرك / وذقت الحلو من ثمرك
ألا يا مزهر الخلد / تغنّى الدّهر في وترك
وقصائد الجواهري الخمسة عشر (15 قصيدة) عن براغ وحدها تكفي أن تكون ألبوماً لحياة براغ، ومن أبرز ما كتبه "يا غادة التشيك"، و"بائعة السمك"، و"آهات"، و"مونيكا"، وهناك مقطوعات شعرية في مجالسة مظفر النواب، وسميح القاسم، وهي تعدّ من الشعر "الإخواني؟!
وفي براغ نظم الجواهري قصائده الخالدة: يا دجلة الخير، وكردستان موطن الأبطال، وأبا زيدون، وبيروت ابنة الدهر، ووارشو النجمة التي تتلألأ، وقصيدته في تخليد جمال عبد الناصر، وقصيدة زوربا، وقصيدة الأرق، كما كتب قصيدته الرائعة:
لُمّي لهاتيكِ لمّا / وقرّبي الشفتينِ
كنت أتحدّث عن براغ في جمع يعيش فيها وقسم منهم قرّر ألاّ يغادرها، فخاطبتهم أنتم أدرى منّي بفنون براغ وعلومها، فأهل مكّة أدرى بشِعابِها، ولا يُفتى ومالك في المدينة، ومع ذلك فلكلّ منّا زاوية نظره لهذه المعشوقة، وهو ما أحاول أن أستعيده وأنا أزور براغ، ففيه شيء من استذكار واستحضار لمونولوج داخلي، إنه نوع من الحوار مع النفس، وكل حوار مع النفس، حوار مع الآخر، وهكذا تكون "الأنا" و"الأنت" و"الآخر"، في حوار لا ينقطع. أكرّر هذه الاستعادة مرّات عديدة في ذاكرتي، لتنفتح أمامي كتلة من ضوء باهر، أحاول الإمساك به، لكنه يتحرّك سريعاً، فكأنما أقبض على الريح، وريح براغ التي في ذاكرتي، هي خفيفة ومنعشة مثل تلك التي تسبق المطر.
حين أفقت من غيبوبتي، شعرت أن ضباباً كثيفاً يلفّني، فهل عدت إلى الحياة يا تُرى؟ أم أنني في العالم الآخر؟ كان ثمّة حنو ورأفة، هي مزيج من حنان عطوف ومشاعر بالرعاية تغمرني على نحو شديد، وتخيّلت، ولربما رأيت ثمّة ثلوج بيضاء فوق الجبال، تتوزّع على الحقول، وغيوم فضيّة تعلو السماء الزرقاء والداكنة، تتجوّل ببطء لينفرج بعدها صفاء لا حدود له. مرّ الأمر سريعاً تاركاً لي شيئاً أقرب إلى رائحة العشب، قلت مع نفسي وبين اليقظة والغيبوبة، لقد شممت مثل تلك الرائحة من قبل، فجاءني جواب من بعيد، تذكّر!!
وحاولت ثم غبت، وأفقتُ وغبتُ مرّات ومرّات، وبعدها أدركت أنَّ ذلك الشعاع الذي داهمني وسط زحام من العتمة كان بخيوط الفجر التي تأتي مع نور الشمس، وأن تلك الرائحة المحفّزة كانت تتسلّل إلى أنفي بعد تلك الارتعاشة العظيمة والآسرة، إنها المدينة التي تسهر معي لتطمئن على صحتي، لأنها تعرف مدى عشقي، وتعلّقي بها.
*   *   *
منحتني براغ هدايا كثيرة، ووهبتني عطايا عديدة، وأهم من كل ذلك صاحبتني طيلة عقود، ومعها وفيها وإليها كان ثمّة حلم طويل، يأتي ويذهب، متواصلاً ومتقطّعاً، مباشراً ومتعرّجاً، لا زلت أعيش هذا الحلم ومعه، وأجد كل يوم له تفسيراً جديداً، بل أحياناً أترك الأمور بلا تفسير، ويأتي الحلم بلا مواعيد أو إخبار، يطلّ برأسه من بعيد، حيث:
التحقّق،
والامتلاء،
والمعنى،
والدلالة،
وتلك علامات العشق وهذا له أحكامه. والعشق بقدر ما هو يقين فهو حيرة أيضاً، ولا هدى إلاّ بعد حيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة، حسب ابن عربي.
براغ عاظمت من حيرتي وجعلتني أطرح السؤال بعد السؤال دون أن أجد الجواب، وكلّما ازدادت أسئلتي، زاد قلقي وارتفع منسوب حيرتي، ودائماً يظلّ الجواب عصيّاً عن الحضور، "هذا زمن تتقدّم فيه الأسئلة، وينهزم الجواب" حسب أدونيس.
مثلما للمكان دور، فللزمان دور آخر. "والزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد" على حدّ تعبير ابن عربي أيضاً. في المكان الذي نجلس فيه (اتحاد الطلاّب العالمي سابقاً)  رمزية خاصة في ذاكرتي الأولى، فما بالك حين يجتمع بالزمان، وباجتماع الزمان بالمكان تنبجس حقيقة. "الزمكان" – تاريخ وحقائق، مثلما هو أحداث وقراءات وتأويلات وزوايا نظر.
كان ذلك أول لقاء لي بالمكان. وحين وصلت كانت ثمّة ندف ثلجية تنهمر من أعماق السماء. أما الزمان والمناسبة، فقد كانت للتحضير لمئوية عبقرية خلطت الفكر بالممارسة فأنتجت رؤية، وهذه الرؤية تحوّلت إلى فعل، والفعل استهدف التغيير، وهذا أصبح واقعاً، حتى وإنْ انقلب بعد حين، وليس أمامنا في قراءة الواقع التاريخي سوى التقويم وإعادة القراءة بتوسيع دائرة المعرفة، وتقليب وجهات النظر: إيجاباً وسلباً، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكننا استعادته، إنه مضى وإنْ ترك شيئاً فينا، لا يمكننا اقتلاعه، لأنه جزء منّا، فلنحسن إذاً التبصّر والاعتبار لما فيه من دروس وخبرات ومراجعات ونقد.
   المكان هو المكان، والزمان غير زمان. كنّا نلتقي سابقاً في "نادي الصداقة" والمقصود الصداقة بين الشعوب، أما الآن فنحن نجلس تحت عنوان "الأقليّات".    والأقليّة مفهوم ملتبس يحمل معنى التسيّد من جهة والاستتباع من جهة أخرى، وذلك لم يكنْ اختلاف الزمان فحسب، بل اختلاف رؤيا وتعاكس منظور وصراع في بطن صراع، وهكذا عاشت براغ موزّعة بين زمانين.
وكنتُ قد انتقدت إعلان حقوق الأقليّات لعام 1992 وإعلان حقوق الشعوب الأصلية لعام 2007 على ذات الأسباب الملتبسة التي تستبطن اختلال العلاقة بين مجموعة ثقافية وأخرى، بزعم "الأكثريّة" و"الأقليّة"، لأن المسألة لا تتعلّق بالعدد والحجم، بقدر ما تتعلّق بمفهوم المساواة والتكافؤ، فهو يندرج في موضوع الهويّة، وعلاقة الهويّات مع بعضها،  فلا هويّة صغيرة وأخرى كبيرة، وهويّة عُلوية وأخرى سفلية، وهويّة تابعة وأخرى متبوعة.
فالهويّات ينبغي أن تكون متكافئة في الحقوق والواجبات، وهكذا ينبغي أن يتم التعامل معها قانونياً ومن منظور حقوقي، وإنساني، باعتبارها تعبيراً عن مجموعة ثقافية، سواء كانت إثنية أو دينية أو لغوية أو سلالية أو غير ذلك، أي أنها ينبغي أن تكون على قدر المساواة مع المجاميع الثقافية الأخرى، بغض النّظر عن حجمها وعددها، طالما هي تمثّل هويّة لها طابعها الخصوصي، والهويّة أياً كانت عامة أو خاصّة، شاملة أو فرعية ينبغي احترام حقوقها المتساوية، وفي التطوّر المستقلّ، والتّعبير عن ذاتها.
أتوقّف عند زاوية أخرى، في علاقتي الخاصّة، باستذكار المدينة، وهذه الزاوية لها علاقة بزمن الإيمانية – التبشيرية – اليقينية، أي زمن الوعد والشعارات الكبرى والحتميات، فقد كانت براغ بالنسبة لي، إحدى محطّات التأمّل والتّفكير والمراجعة نحو العقلانية التساؤلية الوضعية النقديّة، وإن ظلّت اليقينية تسير موازية للتساؤلية، ولكن كان ذلك لحين، حيث تراجعت الوثوقية التبشيرية بتغليب الثانية، خصوصاً بارتفاع موجة الأسئلة، وكلّما كانت هذه الموجة تعلوّ، كان السبيل يتعزّز لبناء المنظومة المعرفية.
ويقود طريق المعرفة إلى الكشف. وهي وإنْ كانت شقاء، فالجهل بؤس، والصراع بين المعرفة والجهل يتّخذ أحياناً طابع الصراع بين الشقاء الذي يكتظّ بالأسئلة والشكّ والبحث المضني عن الحقيقة، وبين البؤس الذي يحمل الاستكانة والخضوع والانحياز المسبق.
كانت براغ بالنسبة لي محطّة لتدقيق العلاقة بين المرئي واللاّمرئي، والمنظور والمستور، والحالم والواهم، والتبشير والتفكير، والأسئلة التي تلد أخرى وتظل تستفهم، والأجوبة المعلّبة والجاهزة، وهكذا يشتبك السكون بالحركة، واليقين بالشك، الأمر الذي يزيد من حجم الحيرة ويعاظم من القلق.
*   *   *
المدن مثل النّساء، وبراغ مدينة لأكثر من امرأة، هي جمع من النّساء، حيث يلتقي الذكاء والجمال والفتنة والإثارة والثقافة والعذوبة في بساتينها العامرة وفي حدائقها الساحرة، مثلما هي جمع من العشق يأتي عناقيداً ويتوزّع أغصاناً وثماراً وبذوراً. ومهما زعمت معرفتك بالنساء، لكن دهشتك تزداد مع كل جديد، ولهذا لكل مدينة مثلما لكل امرأة رائحتها ومذاقها، بوحُها وسرّها، سحرها وغموضها، روحها وشكلها. ومثلما المرأة لا تكشف أسرارها بسهولة، فإن براغ لا تستسلم من أول لقاء، وهي لا تبوح لك بأسرارها وتفسيرات ألغازها إلاّ بعد حين وبالتدرّج، إنها لا تعطي نفسها دفعة واحدة، بل تتأكد أن ثمة حبل سري أخذ يشدّها بالعاشق، بعد أن رمت بشباكها فاصطادته، حينها تفتح لك صدرها وقلبها وعقلها وتحتضنك بذراعيها بقوّة وحنان.
أحببت مدناً كثيرة، مثلما أحببت نساءً كثيرات، وقلت إنّني لا أستطيع العيش دون عشق، سأتحوّل إلى شجرة بلا ماء. "لا أتذكر قلبي إلاّ إذا شقّهُ الحبُّ نصفين، أو جفَّ من عطش الحب"، كما يقول محمود درويش. والإنسان بدون العشق يصبح خاوياً وكئيباً، بل ويفقد توازنه، فالعشق ضدّ الرتابة والنمطية. وإذا كان مارك توين قد قال: عندما تحاول اصطياد الحب: قامر بقلبك لا بعقلك، لكن كل مقامرة بالقلب، هي شكل من أشكال المقامرة بالعقل أيضاً، بحكم علاقة الجذب والتبادل بينهما.
مدن أحببتها وعشت تفاصيل عشقها ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، سواء كنت قريباً منها أو بعيداً عنها:
النجف مسقط رأسي،
وحسب الروائي محمود البياتي،  – عاشق براغ الآخر –: كانت بغداد مسقط رأسه، أما براغ فمسقط حبّه.
وبغداد، حيث النّشأة والتكوّن والأسئلة الأولى.
وبراغ، حيث الاكتشاف والدهشة والقلق المعرفي.
ودمشق، حيث التنوّع والاغتناء.
وبيروت، الأفق واللاّحدود.
وكل تلك المدن مرتبطة بنساء كثيرات، وكل واحدة منهنّ تتلوّن بألوان قوس قزح المدينة وتستحم في نهرها أو بحرها وتتعطّر بعطرها، ومثلما تقرأ المدينة، تكون هي قد قرأتك، من خلال المرأة التي تضفي عليك شيئاً منها، حيث الدهشة الأولى وشاطىء النّهر والأحلام والشوارع الخلفية والزهور والياسمين.
من عاش في براغ أو استمهلته بالبقاء ولم يعشقها، فلا قلب له، وبراغ لها حقوق علينا، وهل للمدن حقوق؟ نعم.
الحق في الأمل
والحق في العشق
والحق في الجمال
والحق في الحلم
والحق في السلام
والحق في البيئة،
إضافة إلى منظومة الحقوق الإنسانية الكاملة. إنها حقوق السعادة، وأعني حق "التأنسن" الإنساني، أي "أنسنة" ما في الإنسان، بمعنى جعله أكثر جمالاً وأكثر عدلاً وأكثر حرّية وأكثر شراكة وأكثر تسامحاً.
بيني وبين براغ علاقة سرّية فيها الكثير من البوح، حتى وإنْ كان صامتاً أحياناً، بعضه يأتي مثل إشارات، وآخر أقرب إلى إيحاءات وثالث يشبه إيماءات ورابع فيه ثمة تلميحات وخامس يعطيك دلالات أقرب إلى التصريح مثل "إعلان حالة حب"، وهو ما اقتفيت إثره.
كلّما تبتعد عن المعشوقة، وتشتاق إليها وتقترب منها، وكلّما تقترب منها تكتوي بنار الشوق أيضاً، فالشوق معها والشوق وأنت بعيد أو غائب عنها. وحين نكتب عن براغ، تخطّها يراعنا لغة أقرب إلى لغة الثلج والمطر والريح في الشتاء، ولغة الغابات في الخريف، ولغة الزّهور في الربيع، ولغة الضوء في الصّيف.
هناك شيفرة في غاية الغموض تجمعني مع براغ، هي في أحد وجوهها لغز باهر لا أستطيع حلّه، وفي وجه آخر سرٌّ مقدّس أحتفظ فيه لنفسي، كأنّه الشعر، والشعر احتفاء بالحياة وبالوجود.
التساؤل جاءني بعد المعاينة والكشف، فزعزع شيئاً من إيماني التقليدي وصارعني، حتى انتصر الإيمان بالعقل، والإيمان بالسؤال، والإيمان بالنقد، والإيمان بالمعرفة، والإيمان بالرأي، والإيمان بالاستقلالية، والإيمان بالاستعداد لتحمّل الخطأ، أي الإيمان بالاجتهاد. والإيمان بدون العقل تعصّب، وهذا يقود إلى تطرّف، ناهيك عمّا فيه من تبعية وروتينية وترهّل وتقليدية وإذعان، لأنه سيكون أقرب إلى الجهل والاستكانة وعدم التفكير والخضوع.
والإيمان دون الضمير يقود في الكثير من الأحيان إلى عصبوية وانحياز مسبق وتأييد أو رفض أعمى، بما فيه أحياناً من تبرير للانتهاكات والتجاوزات، قد يصل إلى الدفاع عن الظّلم، سواء بزعم امتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات، وإخضاع كل شيء لتحقيق الأهداف المرسومة، وقد يقود إلى تدنيس الآخر، فالآخر سواء كان عدوّاً أو خصماً أو حتى من الموقع ذاته، لكنه يمثل وجهة نظر مغايرة، فإنه سيكون مخالفاً ومعارضاً أو حتى مشبوهاً، أو مرذولاً، في حين ننسب إلى "النحن" وللجماعة التي نتغنّى بالانتساب إليها كل الفضائل والمقدّسات والشّرف والإيثار.
ومهما كانت المبرّرات والمزاعم سواء بحسن نيّة أو بسوء نيّة، فالنتيجة واحدة، هي الاستقواء على الإنسان، والاستعلاء على الآخر، "المختلف" واستصغار شأنه، حتى وإنْ قاد ذلك إلى مجافاة الحقيقة والافتراق عن الضمير الذي هو الخط الفاصل بين الإيمانية العمياء والتفكيرية التساؤلية، لأن التفكير يأخذ باحتمال الخطأ والصّواب، فهو اجتهاد إنساني، وللمجتهد حسنتان إنْ أصاب، وإن أخطأ فله حسنة الاجتهاد، كما قال جدّنا الأقدم الإمام الشافعي.
وإذا كان رأسي مستودعاً للقلق، فإن براغ ألهمتني حباً صافياً ورقيقاً غلّف روحي بوهج لؤلؤي، وهكذا كان الضوء والهدوء ملازمين لي في نافورة العشق المتدفق، فالهدوء يوصلك، أو لنقلْ يفتح الأفق أمامك للسؤال والبحث عن الحقيقة حيث اللاّنهايات، والضوء يضعك في اتصال حميم مع الحقيقة في إطار عذوبة غامضة ومضنية.
و(كما يقول الجواهري) بخصوص الضمير:
ومن لم يخفْ عقب الضمير / فمن سـواه لـن يـخافا
الفارق كبير بين العارف وغير العارف، بين المؤمن بالعقل وبين المؤمن بدونه، وصدق ما جاء في القرآن الكريم (في سورة الزُّمر): (... قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون...؟)، فأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وذلك معيار التبصّر والتطهّر.
إذا كانت المعرفة شقاء وقلق وصراع، فإن الجهل بؤس وتخلف وخنوع، والفارق كبير بين البؤس والشقاء، وتلك مفارقة المؤمن العارف والمؤمن غير العارف، والمعرفة تأتي بالهمّ والأرق واللاّقناعة واللاّيقين واللاّاستقرار أحياناً، لكنها تفسح أمامك في المجال لطريق التفكير والسؤال بحثاً عن الحقيقة، في حين يأتي بك الجهل إلى التّسليم بما هو قائم أو رفضه ليس بالبعد أو القرب من الحقيقة، بل لأسباب تتعلّق بالجمود وعدم التفكير، ويكتفي البعض بتبرير "السير مع القطيع والهتاف مع الجميع"، خشية من العزلة، أي التصرّف بسلوك الجماعة التي ينتمي إليها دون تفكير، وإلاّ سيكون وحيداً خارج "مجتمع المؤمنين"، فذلك طريق "السلامة" بالنسبة إليه، وهو الذي اعتبره الجواهري "أرذل السبل"، وتلك لحظة تأمّل وتفكّر وتذكّر.
*   *   *
كل شيء في براغ معمِّر، وحتى لو ترك الزمن آثاره، يبقى ثمة خلود، للبشر والحجر، والشجر، وكل ما أنتجه الإنسان، تتم المحافظة عليه. تلك سمة حضارية وتقدمية، بالشعوب والأمم التي تحترم نفسها وتحترم تاريخها وتحترم مبدعيها. فهل نستطيع استبدال الشقاء بالبؤس، وأيّهما سيكون مطهّراً للنفس، وعلى أي الجانبين يقف الوهم والعذاب؟ وحسب ابن خلدون، فالخراب بالظلم، والعمران بالعدل، وحتى وإنْ كان الأمر يحمل بعض التناقض، ولكن لحين، فسرعان ما يتّخذ المسار أحد الخيارين.
غالباً ما كان السؤال يكبر: أيّهما نقدّم الإنسان أم الفكر؟ وهو السؤال الفلسفي التاريخي والتقليدي حول أيّهما أسبق: المادة أم الوعي؟ وفي حين يذهب أصحاب المذهب المثالي إلى اعتبار الفكر يتقدّم على المادة، يقول الماديون لا سيّما الجدليون، إن وجود المادة يسبق الفكر، وهذا الأخير انعكاس للواقع.
وقد أخضعنا الإنسان لتجارب وعرضنّاه لتحديّات بزعم إثبات صحة الفكر، علماً أن لا فكر صحيح، دون البراكسيس، وحتى لو سوّغ آيديولوجيون من شتى الأصناف وفلاسفة ورجال دين، أن هدفهم خدمة الإنسان والارتقاء به إلى حيث السعادة والرفاه في الدنيا والآخرة، لكن المعيار يظل هو الإنسان ابتداءً وانتهاءً.
وبقدر ما تكون الغاية شريفة، فالوسيلة ينبغي أن تكون كذلك، لأنه لا انفصال بينهما، مثلما لا تنفصل البذرة عن الشجرة حسب المهاتما غاندي، فإننا لاحظنا وشهدنا كيف انهارت أنظمة كانت مثل القلاع المحصّنة على حد تعبير جون بول سارتر لا يمكن اقتحامها من الخارج، لكنها في حقيقة الأمر، كانت خاوية وهشّة من الداخل، حتى ظهرت وكأنها صُنعت من ورق باستعارة تعبير ماوتسي تونغ، عندما كان يصف الأنظمة الإمبريالية بأنها "نمور من ورق"، فالغاية الشريفة تتطلب وسيلة شريفة وهذه الأخيرة هي جزء لا يتجزأ من الغاية ذاتها.
 لقد انهارت جميع التبريرات والحجج الواحدة بعد الأخرى، تلك التي قدّمت ما هو طارىء على ما هو استراتيجي، وما هو استثناء على ما هو قاعدة، وما هو مصلحي على ما هو إنساني، ولم يعد الحديث عن العدوّ الخارجي وحده مقنعاً، وإنْ كان موجوداً ومؤثراً، لكن العدوّ كان يتربّع في الداخل، وعلى أعلى المواقع. وهل يستطيع عدوّ خارجي أن يتمكّن من تحطيم تجارب وإطاحة أنظمة، لولا وجود العدوّ الداخلي المتلبّس بلبوس شتى، لتبرير نهج هيمنته وانفراده وتسلّطه، وبالتالي فشله، دون أن يعني التقليل من شأن العدوّ الخارجي؟
أليس في الأمر ثمة استغفال؟ وأكثر من ذلك حين يبرّر محق الإنسان لكي تنتصر "الآيديولوجيا"، تلك التي سادت كذريعة باعتبارها "الهادي" و"المرشد"، في حين أنها شدّت الإنسان بأكثر من وثاق وقيّدته بأكثر من قيد وأغرقته في بحرها، وهكذا تعطل العقل التساؤلي النقدي ليحلّ محلّه العقل التبشيري الإيماني السكوني، وننسى أن الإنسان هو الأساس، وهو مقياس كل شيء، حسب الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس، وصدق كارل ماركس حين قال: الإنسان أثمن رأسمال. ومهما قيل من تبريرات أو حجج لانتهاك كرامة الإنسان، تحت أي سبب كان، فإنها لا تصمد أمام حقيقة سمو الإنسان، الذي لأجله قامت الأديان وتبلورت الفلسفات وتأسست النظريات، إنه الهدف وينبغي أن يكون الوسيلة.
*   *   *
في براغ:
الكشف، والفيض، والإلهام،
هناك تجد نقطة البداية التي توصلك إلى نقطة النهاية، لأنها تقوم على بُنية دائرية، فثمة مركز وثمة أطراف، ومن حيث تبدأ تصل إلى النهاية، تصل إلى الذروة والتّحقق، وتلك علاقة العلّة بالمعلول، والعاشق بالمعشوق!
لمجرد سماع اسم براغ سيكون أمامك:
يوليوس فوتشيك الذي خاطب الغزاة الألمان وهم يريدون مساومته قائلاً لهم: ستكون براغ أجمل بدونكم، وهم يحاولون من على قلعة براغ أن يستثيروا غرائزه الإنسانية، كي يتنازل، لكنه اختار طريق الشرف والتضحية، دفاعاً عن وطنه وأفكاره، وهو القيادي الصحافي ورئيس تحرير صحيفة الرودي برافو "الحقيقة الحمراء". نستذكر "سكّة الغابات" والمقاومة، واللحن الذي يردّده البراغيون (خلال الحرب العالمية الأولى): نحن "البراغيون" لن نسلّم براغ.
ولا ننسى كيف قرأنا فرانز كافكا: المسخ، والمحاكمة، والقلعة؟ وكيف استهوانا هذا الروائي المبدع ورائد الرواية الكابوسية؟ على الرغم من محاولة التقليل من شأنه بزعم فردانيته وسوداويته المخالفة للواقعية الاشتراكية "الجدانوفية". وكنّا في صراع مستمر بين ما هو سائد وما هي رغباتنا ومشاعرنا، والإنسان في داخلنا.
لم نكن نستطع – أقصد من داهمتهم عاصفة الشّك والسّؤال وخرق الولاء والطاعة العمياء – أن نهضم لماذا يهمّش كاتباً بهذا الوزن؟ لذلك أقبلنا على قراءته كجزء من الرفض التساؤلي والشك الوجودي والتمرّد الأول، والشغب "المشاكس"!
كان كافكا من جلاّس مقهى سلافيا Slavia الذي كنّا نرتاده في أوائل السبعينات من القرن الماضي، أي بعد نحو ستة إلى سبعة عقود على ارتياد كافكا. والمقهى الذي افتتح في العام 1863، يطلّ على نهر الفلتافا ويقابل مبنى المسرح الوطني "الشهير"، ويواجه في الوقت نفسه قلعة براغ التي تنتصب فوق الجبل، هو قريب من الجسر الحجري المعروف باسم "جسر جارلس"، وهو من أقدم جسور أوروبا.
كما كان من رواّد المقهى الشاعر والكاتب راينر ماريا ريلكه البوهيمي النمساوي الذي كتب بالألمانية والمولود في براغ والمتوفي في مونترو  في سويسرا، والموسيقار دفورجاك والموسيقارة سميتانا، والشاعر ياروسلاف سيفرت (الحائز على جائزة نوبل العام 1984)، وطائفة من الفنانين والفنانات والأدباء والمسرحيين، وكان يترددّ عليه عندما يزور براغ الشاعر التركي ناظم حكمت، كما كان الشاعر الجواهري يرتاده أيضاً، وخصوصاً في الثمانينات، ومن رواده المشهورين الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل الذي أصبح رئيساً للجمهورية، بعد التغييرات التي حصلت في خريف العام 1989.
حين أستحضر براغ بعد غياب، أستمتع بقراءة ميلان كونديرا: الذي لجأ إلى فرنسا العام 1975 وأخذ يكتب بلغتها لاحقاً: خفّة الكائن التي لا تحتمل، الضحك والنّسيان، البطء، فالس الوداع، فأية مواهب طُردت وأية كفاءات هاجرت وأية مظالم ارتكبت؟
قرأت براغ الأخرى من خلاله، براغ التحتانية وليس براغ الفوقانية، براغ السرّية وليس براغ العلنية، براغ الشعبية، وليس براغ الرسمية، وكنتُ كثير الفضول لمعرفة ما يدور في الخفاء. وبعد إنهاء دراستي وقبل مغادرتي براغ العام 1977، كنت قد قرأت Charter 77. تداولته وتناقلته مع صديقات وأصدقاء بحذر شديد، وقد لا أكون متفقاً مع كل ما جاء فيه، خصوصاً بنزع روح الاشتراكية، لكنني كنت أرغب في معرفة خفايا حركة تمرّد واحتجاج، كان هناك الكثير من التعتيم عليها، بل وازدرائها لدرجة اتّهام أي صوت معارض أو مختلف بشتى التهم المسيئة، ودون تمييز أحياناً، في حين كان الغرب كثير التهويل فيها، وهو ما كانت إذاعة أوروبا الحرّة التي تشرف عليها الـ CIA تبث عنها في إطار دعاية سوداء وصراع آيديولوجي إلغائي، وفقاً لنظرية "بناء الجسور" التي صمّمها تروست الأدمغة (مجمّع العقول) الذي يعمل بمعيّة الرؤساء الأمريكان لتحطيم البلدان الاشتراكية من داخلها.
لم تكن الأخطاء والخطايا مخفية، بل كانت مظاهرها تفاجئك حتى إذا كنت عابراً، فما بالك حين تعيش وتعرف وتتكوّن لك صداقات. هكذا سقطت التجربة مثل "التفاحة الناضجة" بالأحضان، وكانت قد تركت تأثيرات فكرية وعملية على الحركة الاشتراكية الماركسية بمجملها منذ وقت مبكر، وأعني بذلك الحراك الذي عرف باسم "ربيع براغ" الذي أثار انشغالاً عالمياً (العام 1968) وآراء متعارضة ومواقف متناقضة.
وكنت قد كتبت قبل عقدين ونيّف من الزمان عن تأثيراتها الشخصية عليّ، تلك التي ترافقت مع عدوان الخامس من يونيو (حزيران) العام 1967، وما تركه من مرارات وخيبات، وهو ما أعدت قراءته في أوقات لاحقة، خصوصاً فكرة الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، من منظورين نقديين: الأول من منظور التوظيف الإمبريالي الغربي، والثاني من منظور "التدخل" العسكري والسياسي السوفييتي، والمواقف المتطابقة معه، بل والمغالية أحياناً في تبنّي توجهاته، ناهيك عما له علاقة بالحرّيات، ولا سيّما حرّية التعبير، إضافة إلى بطء عملية التنمية وتعثّرها والاختناقات الاقتصادية التي صاحبتها، ولعلّ تلك رؤية ثالثة أخذت ببعضها أحزاب شيوعية واشتراكية أوروبية، وهو ما تحدثت عنه في محاضرة لي في لندن، بديوان الكوفة، ولاحقاً بكرّاس صدر لي بعنوان: بعيداً عن أعين الرقيب – بين الثقافة والسياسة 1994.
ولعلّ التوقّف عند المعلن والمستتر والظاهر والمخفي، ولا سيّما بعد التغيير، يعطينا تصوّراً أكثر واقعية عن ازدواجية "الإنسان" في ظل الأنظمة الشمولية تلك، التي لا تترك مساحة فارغة إلاّ وحاولت أن تسدّها، سواء بطبعتها الأصلية أو بنسختها الفرعية العالمثالثية بما فيها العربية، بشكل عام والعراقية بشكل خاص.
نستذكر بعض دراسات الاستشراق: مثل بيتراجيك، الذي ترجم القرآن إلى اللغة التشيكية، ومعهد الاستشراق، ونأسف لماذا لم نستثمر ذلك، بما كان لدينا من طاقات وإمكانات كعرب وكماركسيين (ماديين جدليين). وقد اكتفينا بما هو سائد ورسمي من العلاقات، وبالنتيجة حتى العلاقات القديمة لم نستثمرها على نحو جيد، وهو ما كان حديثي مع رفاق عراقيين وفلسطينيين وسوريين.
نعيد اسم كارل غوت المغني الجميل والصوت العذب، رحل إلى المنفى ثم عاد. من يستمع إليه يغنّي يشعر أن براغ كلها أصبحت مُلكه، بل هو أصبح مثل طائر يحلّق فوقها ليبسط جناحيه على أبراجها الذهبية وهضابها وتلالها المكتظة ونهرها الفلتافا العريض والمتدرج وجسورها الممتدة وحاناتها الأنيقة.
نستحضر الموسيقار دفورجاك وسمفونياته، وخصوصاً سمفونيته التاسعة "العالم الجديد"، وأسماء أخرى لسمفونياته التي أبدعها حيث وُلد في بوهيميا التابعة حينها لإمبراطورية النمسا 1841 ودرس في براغ، وقدّم أعماله في لندن ونيويورك وبلدان أخرى، وتوفي في العام 1904، تاركاً وراءه تراثاً موسيقياً ضخماً، هو امتداد وتواصل "لِـ" و"مع" موسيقاريين كبار مثل بتهوفن وموزارت وباخ وتشايكوفسكي وآرام ختشادوريان، وغيرهم.
للمبدعين العراقيين مكانة في نفسي "البراغية"، وقد رويت جزءً منها في كتابي عن "الجواهري – جدل الشعر والحياة"، ولو كتب الجواهري قصيدة "يا دجلة الخير" لوحدها، لكان الشاعر الأكبر، فما بالك حين يوجد له 20 ألف بيت، بل عمارة من الشعر.
"حيّيت سُفحكِ عن بعد فحيّيني       يا دجلة الخير يا أمّ البساتين"
وفي حواراتي معه، كثيراً ما جئنا على براغ، ومعشوقاته، وكان قد أهدى إليّ مذكراته وكتاب الجمهرة، ومعها أبيات كتبها في براغ:
أبا ياسر وأنت نعم الصحيب / وقلّ الصحاب ونعم الخدين
لقد كنت في محضر والمغيب / ذاك الوفي وذاك الأمين
وفي ذكرياتي كنت الصميم / سمير المعنّى وسلوى الحزين
ورويت في كتابي عن أبو كاطع "شمران الياسري" – "على ضفاف السخرية الحزينة"، مقاطع من حياته البراغية، قبل عودتي إلى العراق، وكان قد جاء "لاجئاً" غير سياسي على حد تعبيره. كتب فيها حكاية موت الكلبة مرزوكة، وقصة "بائع عرق السوس"، وحاول استكمال قاموسه الشعبي، وأكمل الجزء الأول من قضية "الحمزة الخلف"، وكتب حكاية "حدث هذا في مملكة الضبع الأكبر". وأعاد نشر يا شجرة التفاح.
ومن اللقطات التي لا أنساها، حين شاهدتُ أبو كاطع، وهو يتكىء على الحائط في الممرّ المقابل، لقاعة الدفاع عن أطروحتي للدكتوراه 13/9/1977 (كلية الحقوق – جامعة جارلس)، فحين عانقني، قال: كان التأجيل أوجب، "وهي حسجة عراقية"، وفهمت أنه لا يرغب في مغادرتي براغ إلى بغداد، خصوصاً وأنني كنت مطلوباً لأداء الخدمة الإلزامية، وحاول معي كثيراً، لكن موّال العودة كان برأسي وهو منسجم مع موقعي، فكيف لرئيس الطلبة الذي يعلن ليل نهار "التفوق العلمي والعودة للوطن"، أن يتخلّف عن تنفيذه، وهو الشعار الذي كنّا نرفعه. وكان أبو كاطع  قد عاد هو الآخر "بقرار حزبي" قبل عودتي، وغادر على مسؤوليته، حين كان مُحالاً إلى "محكمة الثورة"، بتهمة "المتاجرة بالأسلحة".
وكيف أنسى محمود صبري وواقعية الكم. كنتُ قد قدّمته إلى الجمهور في نادي الصداقة العام 1972، بعد انقطاع أو غياب أو تغييب، والمحاضرة كانت بعنوان: فن جديد لعصر جديد، بشّر فيها بنظريته حول واقعية الكم، وقد طلب منّي الصديق رواء الجصاني أن أكتب عنه بعد رحيله وفي ذكراه، وهو ما وضعته في برنامجي، وأرجو أن يسعفني الوقت، لكي أفي بالتزامي الأخلاقي والثقافي، إزاء رموز وشخصيات نافذة، خصوصاً من الذين عرفتهم عن قرب وارتبطت مع بعضهم بصداقات متينة وفي مقدمتهم الفنان محمود صبري.
وأتذكّر لقائي مع مظفر النواب في براغ، بعد وصولي إليها ببضعة أشهر "خريف العام 1970" واحتفالنا به في مطعم "أوفليكو U Fleků" الشهير، الذي تعود واجهته الأمامية إلى القرن الثاني عشر، وهو مطعم يقدّم البيرة السوداء. وألقى النواب بعضاً من قصائده في جلسات خاصة، وصاحبه في الغناء لقصائده الصحافي جعفر ياسين.
وكان مظفر النواب قد التقى بالجواهري في مقهى سلوفانسكي دوم، الذي كان "مقراً" للجواهري، يرتاده كل يوم تقريباً، وهناك دارت الكؤوس حيث تزدان مدينة براها "براغ" وكأنها "حلم العذراء في يقظتها" جامعة كل الفصول والجمال والحُسن والفتنة. وقصة لقاء الجواهري بالنواب من الطرافة بمكان، وكنت قد رويتها في كتابي "الجواهري – جدل الشعر والحياة"، كما نشرت القصيدة الموسومة "محمد المصباح"، والمقصود مظفر النواب، والمعنونة "فاتنة ورسام"، في كتاب "الجواهري في العيون من أشعاره" العام 1986.
وفي سلوفانسكي دوم ومن مشارفها كتب الجواهري قصيدته المملّحة إلى الفريق صالح مهدي عماش الذي جمعته به صداقة حميمة (أيار / مايو 1969) وكان حينها وزيراً للداخلية، والقصيدة "الرسالة" هي تعبير عن وجهة نظر مغايرة واحتجاج "شجاع"، إزاء حملة الأجهزة الأمنية على ما سمي حينها "الميني جوب" وميوعة الشباب، بحجة مجافاة ذلك للأخلاق، وجاء في مطلعها:
وفّى لها نذراً فوافى / وسعى بها سبعاً وطافا
إلى أن يقول:
أ"أبا هدى" شوقٌ يُلحُّ / ولاعجٌ يُذكي الشِّعافا
نُبئـتُ أنّكَ توسع الـ / أزياء عَتّاً، واعتسافا
تقفو خطى المتأنقا / تِ كسالكِ الأثرِ اقتيافا
وتقيس بالأفتار أر / ديةً بحجّة أن تَنافى
ماذا تُنافي؟ بـل وما / ذا ثمَّ من خلُقٍ يُنافى؟
حوشيتَ، أنت أرقَّ حا / شيةً، ولطفاً، وانعطافا
وأشدُّ لِصقاً بالحجى / وألدُّ بالعدل اتصافا
أترى العفاف مقاس أقـ / ـمشة؟ ظلمتَ إذن عفافا
هِوَ في الضمائر لا تخا / ط ولا تقصُّ، ولا تكافى
وفي زيارتي الأولى إلى براغ في العام 1969 قبل أن أستقر بها بعد عام ونيف، زرت الجواهري في صومعته في سلوفانسكي دوم، وكانت القصيدة "الرسالة المملّحة" قد سرت في بغداد مثل النار في الهشيم – كما يقال –، خصوصاً  لدى النّخب الثقافية، ومن متذوقي شعر الجواهري، وحدثته عن تأثيرها المعنوي الشديد الأهمية، وعن تردّد ثم تراجع السلطات لاحقاً عن إجراءاتها التعسفية المتعلقة بالحريّات الشخصية، وكم كان وجهه مشرقاً وعيناه تلمعان وهو يستمع إلى تلك الأخبار التي قد يكون لديه الكثير منها، لكنني نقلتها بعفوية واعتزاز مصحوبة بالإعجاب الشبابي وروح التحدّي.
جدير بالذكر أن الجواهري بدأ بكتابة تلك القصيدة على قصاصة ورق لفاتورة حساب صغيرة، صباح أحد الأيام في براغ، ثم اكتملت القصيدة في عصر ذلك اليوم، حتى أرسلت بالبريد المسجل إلى الفريق عمّاش، وقد نشرت القصيدة في "جريدة النور" في 11 أيار (مايو) 1969.
وكان الجواهري قد أحيط باهتمام كبير ورعاية خاصة من فريق الحكم الجديد، في بداية عودته إلى العراق من المنفى، وخصوصاً من الفريق عمّاش وعبد الله سلوم السامرائي وزير الإعلام وخلفه صلاح عمر العلي والشاعر شاذل طاقة، والشاعر شفيق الكمالي، والصحافي حسن العلوي، وغيرهم ممن كانوا يتصدرون الواجهة الثقافية الرسمية، ثم خصص له مجلس قيادة الثورة راتباً تقاعدياً، وذلك بمرسوم جمهوري. وقد أقيم له احتفال كبير في بغداد يوم 3 كانون الثاني (يناير) 1969 في "كازينو صدر القناة"، وألقى قصيدته الشهيرة:
أرح ركابك من أين ومن عثر / كفاك جيلانِ محمولاً على خطرِ
كفاك موحشُ دربٍ رُحتَ تقطعهُ / كأن مغبرَّهُ ليلٌ بلا سَحر
ويا أخا الطير في وردٍ وفي صدر / في كلِّ يوم له عشٌ على شجر
عُريانَ يحملُ منقاراً وأجنحة / أخفَّ ما لمَّ من زادٍ أخو سفرِ
وافتتح وزير الداخلية صالح مهدي عمّاش الاحتفال بقصيدة على وزن هذه القصيدة، التي يقول فيها:
أرحْ ركابكَ من أين ومن عثر / هيهات مالك بعد اليوم من سفرِ
فما كان من الجواهري أن مازح صديقه عمّاش بقوله: يعني هل ستستخدم صلاحياتك لمنعي من السفر؟ وتلك شجون وشؤون ثقافية أخرى لا مجال للتوسّع فيها.
وفي براغ تعزّزت علاقتي مع الجنرال غضبان السعد، وهي علاقة عائلية بالأساس، وكان قد زارها لمرّتين متتاليتين، وصادفت زيارته مع زيارة والدي الذي كثيراً ما كان يستأنس بصحبته، كما أعطى اهتماماً خاصاً بأخي حيدر، وكان يدعوه بالزميل، على الرغم من تفاوت السن بينهما، وكان حينها حيدر في السابعة عشر من عمره، وكثيراً ما كانا يترافقان ويسهران معاً، وكان يمزح ويعلّق "دع أخوك للكتب" حيث كنت مستغرقاً بكتابة أطروحة الدكتوراه، و"دع الحاج للعبادة والتأمل" و"دع لنا الحياة". وقد تألّم كثيراً حينما علم لاحقاً في الشام أن حيدر وقع أسيراً، واستمر يسأل عنه كلما التقينا، وعندما عرف أن شقيقتي سلمى تمكّنت من زيارته خلال فترة أسره التي استمرت ثمان سنوات، حمّلها تمنياته وقال لها: أبلغيه أن "الزميل" بانتظاره.
يعتبر العقيد غضبان السعد من العسكريين القلائل الذين يتمتعون بثقافة موسوعية، حيث كان يجيد عدّة لغات ويتمتّع بعقل نقدي، ورؤية استراتيجية، كما كان لمّاحاً وسريع البديهة، وقد كتب وترجم العديد من الكتب والمؤلفات، إضافة إلى عشرات الدراسات ومئات المقالات وكان بعضها قد أخذ طريقه إلى النشر في جريدة "طريق الشعب" في السبعينات، وبعضه قدّمه إلى مركز الدراسات الفلسطينية في الشام، ومنظمات فلسطينية أخرى.
وفي زيارته الثانية سكن معي في المبنى الذي أسكن فيه، كنّا أبو كاطع الذي جاء من بغداد، وأنا نسكن في الطابق الثالث، وكان السعد في الطابق الثاني، وصاحبة المبنى السيدة "كلودوفا Kloudova" في الطابق الأول "الأرضي"، وكان نقاشنا يومياً يدور حول الوضع في العراق. وكان رأيه أنه يميل إلى التدهور سريعاً، وهو ما كان رأينا أيضاً.
أما بخصوص التجربة التشيكية، فكان السعد كثير الملاحظات ودقيق التشخيصات للنواقص والثغرات والعيوب التي تعاني منها، وكثيراً ما كان يردّد بسخرية تعليقاً على كلام الزعيم السوفييتي خروشوف الذي اشتهر في حينها بحديثه عن "اشتراكية الكولاج"، إذ كان قد استكثر على الشعب الهنغاري "أكلة الكولاج"، التي اعتبرها دليلاً للرفاه والسعادة. وكانت أجهزة الدعاية الصينية و"وكالة شينخوا" بشكل خاص قد ضجّت بتقريع "اشتراكية خروشوف" ذات الطبيعة الكولاجية.
في الشام كان غضبان السعد يستعيد معي أيام براغ، ونستذكر بعض حكايات أبو كاطع. وكان يختم حديثه أحياناً بالقول: "بلابوش دنيا". وحين رحل عن دنيانا بعد حياة من العذاب والألم، كتبت عنه كلمة رثائية بعنوان: "يا سيد الحزن والورد"، نشرتها في مجلة "الهدف" الفلسطينية في 3/12/1989، كما نشرت المادة مجلة "لدنيا" اللبنانية، وأعادت نشرها نشرة "مرافىء" العراقية التي تصدرها رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين العراقيين.
وكان السعد قد فُصل من الجيش ثلاث مرات، الأولى في العام 1941، والثانية في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، حيث كان قد سجن، ثم غادر إلى النمسا – فيينا  لدراسة الطب ووصل إلى السنة الرابعة، ولكنه عاد بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وعيّن ملحقاً عسكرياً في موسكو، وعند انقلاب شباط (فبراير) 1963 فصل من الجيش للمرة الثالثة، وسجن أيضاً. والتحق بعدها بقوات الأنصار لغاية العام 1970. واضطرّ إلى مغادرة العراق في أواخر العام 1978، وعاش في المنفى حياة زهد أقرب إلى العوز، ومات وهو يصارع السرطان، لكن الابتسامة والسخرية لم تفارقه.
وأشعر شخصياً أنني في صحبتي البراغية مع غضبان السعد والتي امتدت إلى بغداد ودمشق استفدت من آرائه ووجهات نظره ومعلوماته. وفي الشام التقيته لأكثر من مرة مع عبد الرزاق الصافي، وفي كل زيارة لنعمان سهيل التميمي "ملازم خضر" – (أبو رائد) وأحمد الجبوري، كنّا نلتقيه ونستمتع بأحاديثه وانتقاداته وسخرياته.
ونتذكّر لقاءات حميمة مع الشاعر اللبناني ميشال سليمان، وأنطولوجيا الشعر، وقصة "المملكة الزندية"، التي استلهمها موسى أسد الكريم "أبو عمران" من اسم ولقب "عصام الحافظ الزند"، وذلك حين سأله عن علاقته بكريم خان الزند "الملك العادل"، فأجابه أنه جده السادس، وهنا راح خياله ينسج حكايات وقصص وتنبؤات عن الإطاحة بشاه إيران محمد رضا بهلوي، وانبعاث "الدولة الزندية" الثانية، بتنصيب عصام الزند سليل الأسرة الزندية الشرعي ملكاً مصوناً غير مسؤول، وكان أبو عمران قد قدّم عصام الزند إلى الشاعر ميشال سليمان بقوله: أقدم لكم حفيد كريم خان الزند، فما كان من سليمان وبحركة مسرحية، أن رحّب بالزند قائلاً: "مولانا هذا شرف عظيم أن تشرفنا وأن يعود العرش إلى أصحابه الشرعيين".
ثم كلف ميشال سليمان بكتابة (البيان رقم 1) الذي سمي "الرقيم الأرقم"، وكان محتواه "نحو التطوّر اللاّبهلوي صوب المملكة الزندية" وهي مشاكلة مع فكرة "التطوّر اللارأسمالي صوب الاشتراكية" الذي كان مطروحاً بقوة شديدة في تلك الأيام. وزادت التعليقات والتخيّلات والسخريات بين الممكن والمستحيل، التي جاءت على لسان أبو كاطع ومجيد الراضي ومحمود البياتي وعلي كريم وعصام الزند وكاتب السطور. 
وإذا أردتُ أن أتوقف قليلاً عند موسى أسد الكريم الذي سبق أن ذكرته عدّة مرات وفي مناسبات مختلفة، فهو شخصية أثيرة، لا يمكن لزائري براغ من الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية الكبرى في تلك الأيام، إلاّ أن يلتقوه أو يلتقيهم، فقد كان بحيويّته وحبه للمساعدة وقدرته في بناء العلاقات، وجهاً مألوفاً ومقبولاً وله حضور كبير. وأبو عمران واسع المعارف والاطّلاع ويهتم بالأشياء والقضايا من أصغرها حتى أرقاها، وهو يمتلك صداقات واسعة ولغات عدّة، وقلماً رشيقاً، وتجارب حياتية لا حدود لها.
وفي براغ جمعتني هيئة واحدة مع الشاعر الشعبي زاهد محمد، وتطوّرت إلى صداقة، وكان هو الآخر قد درس وتخرّج من براغ، وامتاز بالظرافة وخفّة الظل، كما كان  سريع البديهة، وحلو المعشر، لا يترك فرصة إلاّ ويمرّر فيها بعض مملّحاته حتى في الاجتماعات التي ضمتنا، والتي شملت: خضير عباس "أبو سهيل" وكريم حسين، وحميد برتو، وصباح محمود شكري، وجبار الريحاني، ومهدي الحافظ، وكاتب السطور، إضافة إلى مشاركاته في المناسبات المختلفة، ومنها "مناسبة وثبة كانون" التي شارك فيها أيضاً عبد الستار الدوري، الملحق الثقافي حينها والسفير لاحقاً، بكلمة مؤثرة نالت إعجاب الجميع.
كان زاهد محمد، صاحب رأي حتى وإن كان صادماً أحياناً، وسواءً اختلفت أو اتفقت معه، فإن حبل الودّ لن ينقطع، وكان من المتحمسين للتحالف مع حزب البعث الحاكم، وعبّر عن تلك القناعات بشكل صريح وواضح، في كونفرنس حزبي، مثل ما كان خطيباً ذرب اللسان، وقد عمل في الإذاعة التشيكية القسم العربي في حينها، كما عمل في التسعينات في الإذاعة السعودية الموجهة نحو العراق بعد مغادرته، وتعزّزت علاقتي به في المنفى الجديد، خصوصاً خلال زياراته المتكرّرة إلى لندن والتي استقرّ فيها قبيل رحيله، ولا زلت أحتفظ بالعديد من رسائله ومملّحاته.
وقد عرفتُ أن القصيدة التي ألقيتها، حين حملني المتظاهرون، وأنا فتى صغير متأثراً بأجواء العائلة اليسارية، في تظاهرة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي، كانت من نظمه، وأنا الآن أستعيدها بعد ستة عقود من الزمان، ويقول فيها:
ناضل يا شعب واحقد على العدوان
تجلي من الشعيبة وقلعة الذبّان
وامحي هالعبيد الباعوا الأوطان
والغي للأبد صك العبودية
*   *   *
ليش الشعب جايع ما يحصل القوت
والكادح أطفاله من المجاعة تموت
أنابيب النفط ملك الشعب وتفوت
كل أرباحها بجيب الحراميه
*   *   *
يا جيش السلم ومحطّم العدوان
يا حامي الشعوب وحارس الأوطان
ذكرك من يمرّ يبعث ثقة وإيمان
مية مرحبه باسمه وطاريّه
*   *   *
كل احنه نناضل لاجل الاستقلال
أحرار الشعب والفلح والعمال
وبالجبهة يخوتي نحطّم الأغلال
ونحرر شعبنه من العبودية
وفي براغ تعرّفت على محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي ومبدعين فلسطينيين ومن قيادات شتى وزعماء ورؤساء وسياسيين ونقابيين من ذلك الزمان، عراقيين وعرب وأجانب، بينهم ثلاث سفراء عراقيين ربطتني بهم علاقة طيبة وهم: محسن دزئي ونعمة النعمة وعبد الستار الدوري، وتطوّرت العلاقات مع دزئي وال

448
حرّية التّعبير في العراق.. تأجيل المؤجّل!

عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

بعد نقاشات حامية في مجلس النّواب العراقي، واحتجاجات شعبية عارمة، لا سيّما من جانب منظمات المجتمع المدني والعديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية والفكرية والسياسية، اضطرّ المجلس أخيراً إلى تأجيل التّصويت على قانون «حرّية التّعبير»، وأحاله إلى لجان مختصّة لإعادة صياغته، الأمر الذي قد يستغرق أعواماً عدّة أخرى للتوصّل إلى توافقات بشأنه، مثله مثل قانون الأحزاب وتعديلات الدستور «المنتظرة»، تلك التي تقرّرت منذ أكثر من عشرة أعوام، لكنها لم تتحرّك قيد أنملة، وظلّ الوضع على ما هو عليه ساكناً، بسبب الاختلافات السياسية، وتعارضات الكتل الانتخابية، وبالطبع بسبب تنازع المصالح، الذي يعود إلى نظام الغنائمية الذي صمّمه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الاحتلال (13 مايو/ أيار 2003 – 28 يونيو / حزيران 2004) والذي يقوم على المحاصصة الطائفية –  والإثنية باعتماد الطرائق الزبائنية.
وكانت ساحة التّحرير في بغداد، قد شهدت تظاهرة متميّزة ومحدّدة الأهداف، دعت إليها منظمات المجتمع المدني في 17 يوليو (تموز) 2016، هدفها منع إمرار مشروع القانون الذي يقيّد حرّية التعبير عن الرأي، والحق في التظاهر السلمي، اللذان كفلهما دستور العام 2005 (الدائم)، على الرغم من احتوائه على الكثير من الألغام، وتعطّل الكثير من مواده التي اشترطت صدور قوانين لاحقة لتنظيمها، ولكنها لم تصدر، وهكذا بقيت نحو 50 مادة دستورية عائمة، ولم يتم تحريك إلاّ العدد القليل منها، خصوصاً في ظلّ احتدامات المشهد السياسي.
وتضمن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك العهد الدولي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1966، والداخل حيّز التنفيذ العام 1976، حق التعبير والحق في الحصول على المعلومات وتبادلها ونشرها بحرّية، وهو ما حاول مشروع القانون الخاص بحرّية التعبير في العراق، تقليص فسحة الحرّية فيه، الأمر الذي يعدّ تضييقاً صريحاً وواضحاً لحرّية التعبير، وتناقضاً مع ما جاء به الدستور العراقي، من إقرار لهذه الحرّية، فضلاً عن أن توقيت المناقشة والتصويت يأتي على خلفية حركة الاحتجاج الشعبية الواسعة، منذ يوليو (تموز) العام 2015، والتي وصلت لذروتها في ربيع العام الجاري (مارس/ آذار – أبريل /نيسان)، تلك التي أثارت قلقاً لدى الجهات المتنفّذة في الحكومة وفي مجلس النّواب، الأمر الذي استهدف مشروع القانون تقليصه، بوضع عقبات وروادع إزاء حق التعبير، حيث يمكن أن يتّهم أي إنسان بالتجاوز أو الانتهاك للقانون عند تشريعه، لمجرد قول رأي حر، يمكن تفسيره بتأليب الصراع.
لم يكن تأجيل البت في مشروع القانون بإرجاء التصويت عليه، أمراً سهلاً، لكن الرفض الشعبي من جهة والتجاذبات داخل البرلمان، من جهة ثانية أدّيا إلى ذلك، خصوصاً وقد انضمّ عدد من النّواب إلى المحتجين، فاعتبروا مشروع القانون مخالفاً للدستور وللمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما حدا ببعض الأوساط المندفعة لتشريع القانون إلى التراجع والقبول بتأجيل التصويت على المشروع، لكي لا يزداد الموقف توتّراً وقتامة، خصوصاً بعد الهزّات التي تعرّض لها البرلمان بإقالة رئيسه وتعويم اجتماعاته، وكانت اللجنة القانونية واللجنة الثقافية وبعض رؤساء الكتل قد أبدوا تحفّظات على مشروع القانون.
أراد البعض من المتحمسين للقانون والذين لا ترضيهم حركة الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح والتغيير وكشف رموز الفساد، ومعالجة قضايا التزوير والاستهتار بالمال العام وهدر موارد الدولة، التعكّز على نص المادة 38 من الدستور التي اشترطت ممارسة حرّية التعبير عن الرأي، بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلام والإعلان والنشر وحرّية الاجتماع والتظاهر السلمي، بما لا يخلّ بالنظام العام والآداب.
وهذا «الذيل» الأخير من المادة المذكورة، جاء عاماً ومطّاطاً ويحتوي على الغموض والإبهام، وله تفسيرات مختلفة، تتعلّق بالزمان والمكان، وتتبدّل الأحكام وفقاً لتبدّل الأزمان كما يُقال، وقد يكون سلوك ما مخالفاً للآداب في مكان، لكنه غير مخالف في مكان آخر، مثلما توجد اختلافات في التقييم بين منطقة وأخرى، إذْ لا يمكن وضع مدينة الصدر «الثورة» سابقاً، على نفس الدرجة مع منطقة المسبح أو مدينة المنصور مثلاً، ناهيك عن تفسيرات تستوجب التحديد، وهو ما كان يفترض من المشرّع أن يتوقّف عندها، لا بغرض التقييد، بل بهدف مواءمتها مع القواعد الدولية العامة والمبادىء الدستورية للدولة العصرية وشرعة حقوق الإنسان الدولية، خصوصاً مع المادة 19 التي تمت الإشارة إليها.
إن الميل إلى التضييق والتقييد، إنما هو مخالفة لنص المادة 46 من الدستور العراقي، التي ذهبت إلى: «أن التحديد والتقييد القانوني لممارسة أي حق من الحقوق والحرّيات الواردة في الدستور، ينبغي أن لا يمسّ جوهر الحق والحرية»، وبالتالي، فإن الاعتراض على القانون يتعلّق بمساسه بصميم مستقبل الحقوق والحريات والقواعد الديمقراطية والالتزامات الدولية.
لقد شهد العراق في تاريخه المعاصر أنماطاً مختلفة من التقييد على حرّية التعبير قانونياً وعملياً، كلّها تندرج بصيغة العزل السياسي، فتارة بزعم مكافحة «الأفكار الهدّامة» وأخرى تحت مسمّى «مصلحة الثورة»، وثالثة لا حرّية لأعداء الشعب أو لا حرّية لأعداء الحرّية وأعداء الديمقراطية، ولا حرّية لأعداء العملية السياسية، وهكذا من إجراءات العزل، إضافة إلى أن تقييد حرّية التعبير كإجراء يفرضه خطاب الحرب والمعركة ضد العدوّ، وفقاً لتفسيرات خاصة كلّها تصبّ في تقليص حرّية التعبير.
 وإذا كانت حرّية التعبير قد انفلتت ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، فإنها بسبب الفوضى واستشراء ظواهر العنف والإرهاب والفساد، ناهيك عن الصراعات السياسية والمصالح الحزبية والمشاريع الطائفية، عادت إلى التقييد.
وقد شهد حق التعبير إجراءات جديدة من التضييق على الحرّيات، فبدأت محاكم النشر والدعاوى المتبادلة بالقذف والسب والشتم، إضافة إلى متابعات وملاحقات، وراح ضحية تلك الفوضى وعدم الإيمان بحرّية التعبير نحو 360 صحفياً وكاتباً، وزاد الأمر هيمنة داعش على الموصل، ونحو ثلث الأراضي العراقية، الأمر الذي كبّل المكبّل وقيّد المقيّد.
ويبدو أن مشروع القانون على الرغم من احتوائه على مبادىء عامة بشأن حرّية التعبير، لكن نزعة الخوف «الراهنة» والخشية من تطور الأحداث، دفعت المشرّع للتفكير بما هو طارىء ومؤقت، على حساب ما هو استراتيجي وبعيد المدى، وهو ما ينبغي أن تأخذ به صياغة النصوص التشريعية والقانونية، ولذلك تراه يقدم خطوة ويؤخر أخرى بخصوص تدخّلات المؤسسات الدينية، والعوائق التي وضعها بشأن التظاهرات وغيرها من المسائل التي تثير اعتراضات كبيرة وتتعارض مع نص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

نشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 10 أغسطس (آب) 2016


449
قانون الإقصاء "الإسرائيلي"
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

تبنّى الكنيست "الإسرائيلي" مشروع قانون يقضي بإقصاء النواب في حالة تحريضهم على "العنصرية" وتأييدهم "الكفاح المسلح" ضد "إسرائيل". والهدف الحقيقي من هذا القانون هو إقصاء الأعضاء العرب من المعارضين لسياسة "إسرائيل" العنصرية من البرلمان، ومنعهم من الانتصار للضحايا، والدفاع عن الفلسطينيين الذين يعانون من السياسات التمييزية والعنصرية وعدم المساواة في جميع مجالات الحياة.
ويأتي هذا القانون على خلفية جدل واسع أثارته زيارة 3 نواب عرب في الكنيست إلى أقرباء منفذي هجمات فلسطينيين قتلتهم القوات "الإسرائيلية"، ورفضت تسليم جثامينهم إلى أهاليهم. وكان النواب الثلاثة وهم: حنين الزعبي وباسل غطاس وجمال زحالقة، قد تعرّضوا إلى ضغوط مختلفة، وشنّت عليهم أجهزة الدعاية الصهيونية حملة شعواء، ومُنعت حينها الزعبي من المشاركة في نقاشات الكنيست واللجان المنبثقة عنه لأربعة أشهر، ومُنع غطاس وزحالقة من المناقشة لمدة شهرين.
واشترط القانون، إقصاء النواب بعد الحصول على دعم 90 نائباً من أصل 120، أي ثلاثة أرباع أعضاء الكنيست. ولمن يعرف حقيقة تركيبة الكنيست والقوى المتنفذة فيه، يدرك أن الحصول على هذا العدد ليس أمراً صعباً، خصوصاً في ظل ارتفاع حرارة الجو العنصري ضد العرب، لدرجة أن مجرد بث الإذاعة "الإسرائيلية"، قصائد لمحمود درويش، وهو نادر الحدوث بسبب الهيمنة الصهيونية على توجهاتها، كان قد أثار ردود فعل رسمية وغير رسمية، ندّدت بتلك الخطوة، فما بالك حين يتعلّق الموضوع بإقصاء نواب يتم اتهامهم بالدفاع عن "إرهابيين" في أعراف وقوانين الدولة العنصرية، وهم مقاومون يستخدمون جميع الأساليب للدفاع عن حقهم في البقاء في وطنهم وفي إلغاء الطابع العنصري التمييزي للدولة حيث يعيشون، كما لا يمكن حرمانهم من أحلامهم في وطن حر ومستقل ودولة فلسطينية عاصمتها القدس، وحق أخواتهم وإخوانهم في العودة إلى وطنهم، وتعويضهم عما لحق بهم من غبن وأضرار.
وكان أول تعليق لرئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو على القانون قوله: إنه يضع حدّاً للسخافة، وأضاف: إن أولئك الذين يدعمون الإرهاب ضد دولة "إسرائيل" ومواطنيها لا يمكنهم أن يكونوا أعضاء في الكنيست، واعتبر من حق الديمقراطية "الإسرائيلية"، بل إن من واجبها الدفاع عن نفسها، وهكذا تتحوّل الديمقراطية في الفكر الصهيوني والممارسة الفعلية إلى إقصاء وإلغاء وتهميش، بدلاً من المشاركة والمساواة والإقرار بالحقوق.
جدير بالذكر أن إقصاء النواب يستهدف إقصاء شعب بكامله، إذْ يبلغ عدد السكان الفلسطينيين ما يقارب من مليون ونصف المليون نسمة، وهم يشكّلون أكثر من 17.5 من مجموع السكان، وهؤلاء يشكون من التمييز أساساً بأشكاله المختلفة: في المواطنة بجوانبها السياسية والمدنية والحقوقية والقانونية، وفي الجانب الاجتماعي والاقتصادي: العمل والسكن والتعليم والصحة والخدمات، وفي الجانب الثقافي والتربوي، حيث الثقافة الصهيونية العنصرية هي السائدة بصورة رسمية، إضافة إلى التمييز القانوني.
واستهدف الإقصاء الناخبين أساساً لأنهم من يصوّت للنواب العرب، وبالتالي، فإنه استهدف حقهم في التعبير والاختيار وحقهم في المشاركة، وهي حقوق أساسية للإنسان وفقاً للشرائع الدولية. وكانت الأحزاب العربية قد حصلت على 13 مقعداً في البرلمان في انتخابات مارس (آذار) 2015، وهي تمثل القوة الثالثة في الكنيست، فكيف يتم تبرير الإقصاء إن لم يكن محاولة للتمييز والعنصرية؟.
ولهذه الأسباب يمكن القول إن القانون يندرج في إطار القوانين العنصرية التي تستهدف قمع الحريات والتجاوز على حقوق الإنسان، وإسكات المعارضة المناهضة لسياسات الصهيونية والجرائم التي ترتكبها، والتي ترفض وجود هويّات أخرى بجوارها، حتى وإن كان أصحابها من سكان البلاد الأصليين. ويتزامن ذلك مع ارتفاع وتيرة القتل وأعمال العنف بشكل عام من جانب المستوطنين ضد الفلسطينيين وزيادة نسب التطرّف والتعصّب في مؤسسات "الحكم الإسرائيلي" وخارجه، الأمر الذي سيشكل خطراً حقيقياً على التمثيل السياسي، وسيكون عاملاً من عوامل كبت المعارضة، في ظل طغيان التوجه الصهيوني.
وإذا كانت ثمّة قناعات لدى بعض الأوساط الغربية، بخصوص "ديمقراطية إسرائيل" أو ثمّة أوهام لدى بعض العرب، من إمكانية تسوية سلمية شاملة مع "إسرائيل"، فإن مثل ذلك القانون وقبله "قانون الولاء لدولة إسرائيل" وسواهما من القوانين والممارسات العنصرية، يبدّد من تلك الاحتمالات التي تبدو أقرب إلى الأوهام.
وبعد وصول اتفاقيات أوسلو إلى طريق مسدود، وبدلاً من إنجاز المرحلة النهائية كما هو مقرّر، لجأ "الإسرائيليون" إلى المزيد من أعمال القمع والإرهاب، سواء بالتنكّر لفكرة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، أو لتغييب حق العودة أو تحديد الحدود أو إنهاء الاستيطان، بل زاد الأمر تعقيداً العدوان المتكرر على قطاع غزة المحاصرة منذ العام 2007 ولحد الآن، ورفض المبادرة العربية الصادرة عن مؤتمر القمة العربية في بيروت العام 2002، والتعامل مع قيادة الدولة الفلسطينية بنوع من الاستهتار والاستخفاف، ومؤخراً رفض المبادرة الفرنسية، وليس ذلك سوى الوجه الآخر لحقيقة الديمقراطية ذات الوجه العنصري، إذ كيف تستقيم الديمقراطية مع العنصرية؟.
ويجسّد هذا القانون محاولة لإملاء رأي ما يسمى "بالأغلبية" السياسية على "الأقلّية"، داخل الكنيست لما يمثّل من انتهاكات فظّة لأسس التشريعات البرلمانية ولمبادىء المساواة، وهو ما تفتقده "إسرائيل"، التي لا تمتلك دستوراً، حتى الآن، لأن أي دستور عصري وديمقراطي يفترض أن يقرّ مبادىء المساواة، كما يفترض تحديد حدودها طبقاً للدستور، وهذا سيمنعها بالطبع من التوسّع وشنّ الحروب والعدوان، فالدستور سيحدّد ذلك طبقاً للقواعد العامة في القانون الدولي التي لا تجيز الاحتلال أو العدوان أو ضم الأراضي أو طرد سكانها أو إجراء أي تعديلات من شأنها أن تؤدي إلى تغيير طبيعتها طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها للعام 1977.
إن تشريع قانون الإقصاء يمثّل درجة عليا من العنصرية المنهجية التي تعتمدها "إسرائيل" على نحو مبرمج ليس ضد النواب، بل ضد الجمهور الذي انتخبهم، وهو موجّه ضد عرب فلسطين وحقوقهم الثابتة والمشروعة التي يطالبون بها كجزء من شعبهم الموزع في الداخل الفلسطيني وفي الضفة والقطاع، إضافة إلى نحو 6 ملايين فلسطيني في الشتات، من الذين يعملون ليل نهار من أجل حقهم في العودة وتقرير المصير، ومعهم أوساط واسعة من المجتمع الدولي، الذي بات اليوم يعرف حقيقة عنصرية الممارسات "الإسرائيلية"، ذلك أن قوانين الإقصاء والتمييز ذات الصفة الجماعية لم يعد لها وجود في العالم أجمع باستثناء "إسرائيل"، وفي حين أخذ العالم يميل إلى تعديل ما تبقى منها إو إلغائه، تقوم "إسرائيل" بإصدار تشريعات جديدة.

نشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 3 أغسطس (آب) 2016


450
منبر تنوير عروبى بأفق عالمى وتعبر عن هموم الناس ومشكلاتهم

المفكّر العربى الدكتورعبد الحسين شعبان:

أعتقد أن طه حسين هو الذي وصف الأهرام ولربما الصحافة «صاحبة الجلالة» بشكل عام بأنها «ديوان الحياة العصرية»، بمعنى أنها تعبّر عن هموم الناس ومشاكلها، وبالرغم من التغيرات في الأوضاع السياسية وتبدّل أنظمة، من السيطرة العثمانية إلى الاحتلال البريطاني، ثم الحكم الملكي إلى الجمهورية الأولى بقيادة عبد الناصر، وبعده الجمهورية الثانية بقيادة السادات، والجمهورية الثالثة بقيادة مبارك، والجمهورية الرابعة بعد التغييرات التي أطلق عليها الربيع العربي، وقيادة السيسي حالياً، فإن الأهرام حافظت إلى حدود غير قليلة على مهنيتها وتوازنها.

لقد لعبت جريدة الأهرام دوراً تنويرياً مهمّاً على مدى تاريخها الطويل، فقد ساهمت منذ صدور العدد الأوّل لها في 5 أغسطس (آب) 1876 في المنشية بالإسكندرية ولحتى الآن، في تعزيز اللُّحمة العربية، من خلال التواصل والتفاعل، وهي كما أعتقد المنبر التنويري المعمّر وربما الوحيد المتواصل منذ قرن وأربعة عقود ونيّف من السنوات، وكانت بحق الجريدة الأولى المؤثرة والمقروءة في العالم العربي، ولا تزال تحتفظ بمكانتها المتميّزة.

تأسَّست الأهرام كجريدة أسبوعية بادىء الأمر (بأربع صفحات) ثم أصبحت جريدة يومية ومؤسسة كبرى، تصدر 3 طبعات يومياً إلى جانب طبعة دولية في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وطبعة عربية في دبي والكويت، وطبعة إلكترونية متاحة لقرّاء شبكة الإنترنت.

وقد أسَّسها شقيقان لبنانيان هما بشارة وسليم تقلا، وتحوّلت الجريدة الأسبوعية التي لقيت ترحيباً من النخب الفكرية والثقافية إلى جريدة يومية، وكانت منذ البداية توزّع في مصر وبلاد الشام: سوريا ولبنان وفلسطين، أي أن فضاء الكلمة فيها كان عروبياً.

أدركت الأهرام وظيفتها التنويرية العروبية منذ اليوم الأول، وهو ما حرص عليه مؤسساها، اللّذان اهتمّا بسلامة اللغة العربية، فضلاً عن التمسّك بأخلاق الصحافة ومهنيتها وحرفيتها قدر الإمكان، خصوصاً توخي الدّقة في نشر المعلومات وعدم الإساءة أو التعرّض بالطعن إلى أحد، وقد ساهمت ثقافتهما الفرنسية الراقية، إضافة إلى ثقافتهما العربية في إرساء تقاليد متميّزة للأهرام، التي جمعت منذ البدايات التراث والمعاصرة، والأصالة والتجديد.

وهكذا كانت ولا تزال جريدة حداثية، دون أن تكون بعيدة عن التراث العربي – الإسلامي. وامتازت بلغة سليمة في الكتابة الصحافية، لا سيّما بالابتعاد عن الأساليب التقليدية بالكتابة التي تميل إلى الإطناب والإنشاء والتزويق، وبقدر اهتمامها بالمضمون فقد راعت الشكل أيضاً.

ومنذ مطلع الستينات كنت حريصاً على متابعة صحيفة الأهرام، وخصوصاً زوايا الثقافة والأدب وإصدارات الكتب، وكنتُ دائماً ما أتوقف عند مقالات محمد حسنين هيكل «بصراحة»، المثيرة للجدل والاختلاف، والتي تعلّمنا منها أسلوب القص والحكاية والمعلومة وطريقة توظيفها في المقالة السياسية، فضلاً عن لغة التحليل والتنظير وجدارة اتخاذ المواقف، وأتذكّر قبل أن تصل الأهرام إلى العراق، كنت في كل زيارة إلى لبنان أو مصر أحرص على اقتناء الأهرام، حتى أننا في العام 1965 كنّا قد نظمنا سفرة إلى القاهرة وزرنا مبنى الأهرام، وتجولنا في أقسامه، وحين تمت استضافتي مؤخرا في الأهرام ليوم حواري معي بعد مرور عام على احتلال العراق العام 2003، أشرت إلى ذلك بحضور العديد من الأصدقاء مسئولي الأقسام وهيئة التحرير، إضافة إلى طلبة دراسات عليا ومتدربين.

وفي الأعوام 1964 – 1968 كانت الأهرام حاضرة في الشارع البغدادي، مثل الصحف العراقية، بل إن الإقبال عليها كان أكثر من الصحف الرسمية، لما تحتويه من مادة تنويرية وحداثية، ولما تتمتع به من رؤية، ناهيك عن أسلوب التحرير والإخراج واستخدام الصور وحقول الثقافة والأدب والفن والنقد، فقد كانت، إضافة إلى الصحافة اللبنانية، والخليجية في وقت متأخر، متميّزة في كل شيء، وتمثل رسالة متقدمة للصحافة العربية في حينها.

لم تكن جريدة الأهرام في السابق أو الحاضر مصرية: بل كانت عربية بكل ما تعني الكلمة، بل هي أفريقية وآسيوية أيضاً، مثلما هي مصر التي احتضنت منظمة التضامن الأفرو آسيوي (آبسو AAPSO)  منذ العام 1957، وهي باعتبارها صحيفة قومية كانت تعبّر حركة التحرّر الوطني أو بعض فصائلها الأساسية، لا سيّما أيام ازدهارها انطلاقاً من القاهرة التي كانت تُعتبر مركز هذه الحركة في حينها، فليس عبثاً أن يكون حاضراً فيها أحمد بن بلّة وجيفارا وقبلهما لومومبا ونيلسون مانديلا ونهرو وتيتو وياسر عرفات، وجمع غفير من الشخصيات التي لعبت أدواراً مهمّة في تحرير بلدانها وكفاح شعوبها.

وقد لعبت الأهرام دوراً مهمّاً في تعميق الوعي العربي والعالمي، بالقضية الفلسطينية من خلال تحولها بالتدريج من قضية لاجئين كما كان مطروحاً حتى العام 1952، إلى قضية شعب له حقه في تقرير المصير، خصوصاً أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وموجة القومية العربية، ولا سيّما بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، حيث ارتفعت مكانة مصر وقيادة عبد الناصر. وكانت الأهرام صوتاً مهماً في دعم منظمة التحرير الفلسطينية، وكفاح الشعب العربي الفلسطيني من أجل حقوقه العادلة والمشروعة .

صحيفة الأهرام "المصرية" الجمعة 5 أغسطس (آب) 2016 (تصريحات أدلى بها د. شعبان إلى صحيفة الأهرام بمناسبة مرور 141 عام على تأسيسها).


451
استقالة أم "إقالة" لـ6 وزراء عراقيين؟!

عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

لم تعرف السياسة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 وإلى اليوم، حالة استقالة تُذكر، لأسباب تتعلّق بالاحتجاج على ممارسة ما، أو فشل في توجّه ما، أو تعارض في تدابير أو إجراءات ما، مثلما لم تعرف إقراراً بالإخفاق أو عدم القدرة على تحقيق ما تم الوعد به، أو جرّاء حدث كبير بحاجة إلى سياسة جديدة، وهذه بالتالي تحتاج إلى إدارة جديدة، وهو ما فعله دايفيد كاميرون حين أعلن عن استقالته في اليوم الثاني لإعلان نتائج استفتاء بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي في 24 يونيو (حزيران) 2016، واستقالة أليكس سالموند رئيس وزراء اسكتلندا الذي فشل في تحقيق وعده باستقلال اسكتلندا عبر الاستفتاء عن المملكة المتحدة، في 18 سبتمبر (أيلول) 2014.
ولم ينتظر الزعيمان تقديم أي مسوّغات أو تبريرات لفشلهما، بل اعترفا بالهزيمة بروح رياضية، وبادرا إلى الاستقالة من دون أن يتشبثا بمواقعهما، أو يلقيا باللوم والاتهامات على الآخرين، خصوصاً الزعم بوجود "مؤامرة كبرى"، أو أن "جهات خارجية" تقف وراء ذلك، وهو الأمر كثير الحدوث في البلدان العربية والعالمثالثية، فحتى الخطأ الذي ينبغي على الجهة المسؤولة تحمّله، فإنها تلقيه على خصومها وأعدائها، في محاولة للتمترس في المواقع التي تعتّقت فيها رؤوس البعض.
وثقافة الاستقالة لا تقتصر على أحداث كبرى من هذا النوع، بل إنها تشمل أحياناً أحداثاً أدنى مستوى: تفجير مثلاً، أو تزوير، أو فضيحة أخلاقية، أو خروقات أمنية، أو مخالفة لقواعد الدستور، أو غير ذلك، الأمر الذي يضطر فيه المسؤول إلى تقديم استقالته احتراماً لنفسه وللجمهور.
وباستثناء استقالة وزير حقوق الإنسان الدكتور عبد الباسط تركي في أبريل (نيسان) 2004، احتجاجاً على ممارسات منافية لحقوق الإنسان من جانب القوات الأمريكية، وإن مرّت الاستقالة بهدوء وعدم إثارة ضجة، فإن ثقافة الاستقالة لم تصل بعد إلى الطاقم السياسي العراقي الحاكم، الذي بدا أكثر لهاثاً ومحمومية على المواقع والمراكز، حتى قيل على لسان مسؤولين، إن لكل موقع ومركز ثمنه الذي يبلغ ملايين عدّة من الدولارات.
هكذا تُباع وتُشترى المواقع والمراكز، في ظل نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية الذي جاء به بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق في مجلس الحكم الانتقالي (العام 2003)، والذي استمرّ حتى الآن مكرّساً أعرافاً في إطار نصوص دستورية تساعد على تعزيز مثل هذا التوجّه المحاصصاتي، بزعم تمثيل المكوّنات، وهو ما ورد ذكره في الدستور ثماني مرّات.
وبعد أخذٍ وردّ، وشدّ وجذب، لمدّة عام أو يزيد قليلاً، قدَّم 6 وزراء استقالتهم لرئيس الوزراء التي قبلها على جناح السرعة، وهم يمثلون التحالف الوطني (الشيعي). وباستثناء محمد الغبّان وزير الداخلية، الذي كان قد أعلن تقديم استقالته قبل ذلك، وحمّل رئيس الوزراء مسؤولية الاختراقات في الملف الأمني، وآخرها تفجيرات الكرادة، التي عجّلت حسبما قال في قرار استقالته، لما تركته من أثر نفسي فيه، فإن الاستقالات الأخرى كانت أقرب إلى الإقالات، وهي ليست مُسبَّبة.
ولأن ثقافة الاستقالة غائبة أو محدودة جداً، فإن الاستقالات الأخيرة، بدت وكأنها تحصيل حاصل، لضعف الشعور بالمسؤولية أولاً، وعدم تحمّل نتائج الخطأ، أو النقص، أو التقصير والاعتراف به، لأنه غير متداول أو مألوف في التقاليد السياسية، بل هو غير موجود في قاموس السياسة العراقية، ففي السابق لم يكن بإمكان الوزير في ظل نظام شمولي الاستقالة، وأن ما مسموح به فقط هو قبوله "الإقالة"، وعليه الانصياع، وإلاّ فإن النتائج ستكون وخيمة، واليوم فإن الكتلة التي ينتمي إليها الوزير هي التي تقرّر بقاءه أو تغييره، وليس المهم أن يكون كفوءًا أو نزيهاً، أو ناجحاً، بل يكفي أن يكون موالياً، فالولاء هو الأساس وليس الكفاءة.
وفي الغالب الأعم، تُفضّل الكتلة بقاء "وزيرها"، لأن وجوده مكسب له، وفرصة لتوسيع دائرة نفوذها وامتيازاتها، حتى ولو على حساب الوطن، وإلاّ لماذا تعاني الدولة ملاكات فاسدة وتزويراً يزكّم الأنوف، وهجرة للكفاءات؟ أليس أحد الأسباب الأساسية في ذلك هو نظام المحاصصة؟
إذاً ما الذي دفع الوزراء لتقديم استقالة شبه جماعية، وهم من كتلة واحدة تقريباً؟ هناك من يقول إن العبادي كان سيقرّر البدء بكتلته لامتصاص النقمة، ولهذا بادروا هم بتقديم الاستقالة، أو باتفاق معهم قبل إقالتهم. وهناك من يزعم أن الأمريكان هم من قرروا إعفاء هؤلاء الوزراء من مناصبهم لقربهم من إيران، وقد ازداد تأثير واشنطن في السياسة العراقية بعد احتلال "داعش" للموصل، خصوصاً بعد إرسالها جنوداً بصفة خبراء، بلغ عددهم أكثر 4.600، وسينضم إليهم نحو 560 آخرون، كما أعلن وزير الدفاع آشتون كارتر في 11 يوليو (تموز) الجاري، وأن قاعدة القيّارة الاستراتيجية القريبة من الموصل وضعت تحت تصرّفهم، ولربما ستكون قاعدة ثابتة، إضافة إلى قواعد أخرى.
وإذا كان القرار بإقالتهم يأتي منسجماً مع رغبة حركة الاحتجاج، فإن هناك وزراء آخرون متهمون بالفساد وضعف الكفاءة، والفشل في إدارة وزاراتهم، لا يزالون مستمرون في مواقعهم، وتأتي الإقالة من جهة أخرى، في إطار نشاط جديد يقوم به نوري المالكي رئيس الوزراء السابق، الذي ظل يطمح لولاية ثالثة، الأمر الذي شعرت إيران عند غيابه بضعف رأس الدولة الذي كان يمكن الإبقاء عليه في المدار الإيراني.
المالكي يسعى لإقامة تحالف جديد، قد يطيح بالعبادي من داخل حزب الدعوة، ولهذا السبب ذهب إلى السليمانية، وهو الذي اتهم أربيل بالتواطؤ في إسقاط الموصل، فضلاً عن اتّهامه الكرد بمحاولة فرض نفوذهم على كركوك لضمّها إلى كردستان (أي تكريدها)، والاستحواذ على نفطها، ولكن مثل هذا الأمر قد يكون مطروحاً للحلحلة فيما إذا تم الاتفاق على تركيب سياسي جديد.
الإشكالية الآن في ما بعد الاستقالات، أو الإقالات، تتلخّص في: أي المعايير التي سيعتمدها العبادي، هل معيار الاستحقاق الانتخابي؟ أي العودة إلى نظام المحاصصة، أم معيار وزراء التكنوقراط طبقاً للمواصفات الأمريكية؟ وهل بإمكانه فعل ذلك، وماذا لو أقدم عليه، فهل سيؤجّج الحملة مجدداً ضده لسحب الثقة منه، وهو ما يلوّح به بعض خصومه، بمن فيهم السيد الصدر، أم أن ثمة تغييرات ستدور في الفلك الأمريكي أبعد من ذلك بعد فشل العملية السياسية، في محاولة لتحجيم الدور الإيراني، خصوصاً بتقليص نفوذ الحشد الشعبي، ولا سيّما بعد تحرير الموصل، أم أن العبادي سيلقى معارضة شديدة من كتلته، خصوصاً وهو لا يملك عدداً كافياً من المقاعد البرلمانية التي تؤهله للبقاء في الموقع، وقد يكون حصاد كلّ ذلك هو انتخابات العام 2018.

نُشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 28/7/2016

452
ميونخ وصورة أخرى للإرهاب!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

مساء الجمعة 22 يوليو (تموز) الجاري، وقف العالم أجمع مذهولاً أمام هجوم إرهابي على مركز أولمبيا التجاري في ميونخ، (عاصمة بفاريا، وثالث أكبر مدن ألمانيا)، وأصيب بالحادث الإجرامي أكثر من 27 شخصاً، بينهم 10 قتلى وعدد من الجرحى، 3 منهم في حال حرجة، وعُثر على جثة رجل على مسافة كيلومتر من موقع الحادث، قيل إنه المهاجم، الذي فضّل الانتحار على تسليم نفسه إلى الشرطة. وقالت الشرطة الألمانية إن المهاجم هو ألماني من أصل إيراني ويبلغ من العمر 18 عاماً، وقد استخدم مسدساً لإطلاق النار العشوائي.
ويعيد هذا الحادث الإجرامي إلى الأذهان، القاتل النرويجي أندرس بهرنغ بريفيك، الذي قام بهجوم مماثل في أوسلو قتل فيه نحو 92 شخصاً في 22 يوليو (تموز) 2011.
الشاب الذي تعرّفت إليه الشرطة بعد مصرعه، لم يكن معروفاً لديها من قبل، وليس له سوابق. وقالت إنه كان يتلقى علاجاً نفسياً من مرض الكآبة. أمّا دوافع الهجوم، فهي حتى الآن لا تزال غامضة وغير واضحة، فهل هناك علاقة له بالإرهاب الدولي، سواء بتنظيم داعش أو القاعدة أو غيرهما؟ أي هل تم تجنيد "المهاجم" من جماعات إرهابية؟ أم أن الأمر له علاقة بأوضاع نفسية واجتماعية وسلوكية دفعته لارتكاب هذه الجريمة؟ حتى الآن ليس هناك قول فصل في هذا الموضوع، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث الإرهابي – الإجرامي.
ويأتي هجوم مدينة ميونخ بعد أيام من الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة نيس الفرنسية يوم 14 يوليو (تموز) الجاري، وراح ضحيته 84 شخصاً، حين قام سائق شاحنة بدهس الناس المحتفلين في اليوم الوطني الفرنسي، كما يأتي بعد أسابيع من العمل الإرهابي الذي أودى بحياة 50 إنساناً في ملهى ليلي بمدينة أورلاندو في الولايات المتحدة في 12 يونيو (حزيران) 2016.
 وفي الحالات الثلاث إضافة إلى حادثة أوسلو، فإن الإرهابيين لم يستخدموا وسائل تقليدية، مثل السيارات المفخخة أو المتفجّرات أو الأحزمة الناسفة أو غيرها، بل تم استخدام أسلحة خفيفة، إضافة إلى شاحنة عادية، وهو ما يذكّر باستخدام سكاكين وأمواس حلاقة حين تم خطف طائرتين لصدم برجي التجارة العالمية في نيويورك العام 2001، الأمر الذي يعني أن الوسائل الإرهابية من التنوّع بمكان لدرجة لا يمكن حصرها، وبالتالي، فإنه إذا أريد مكافحة الإرهاب حقيقة، فالأمر يتجاوز الوسائل الأمنية والعسكرية، ويحتاج إلى وسائل أخرى غير تقليدية.
وكانت الشرطة الألمانية قد نفت وجود دلائل تثبت تورّط "مسلمين" في حادث إطلاق النار في ميونخ، وهو ما تردّد في بداية الأمر، ونقلت بعض المصادر أن أحد المسلحين الثلاثة (اتضح أنه واحد) كان قد ردّد عبارة: الله أكبر، وهو يقوم بإطلاق النار، ولم يكن ذلك سوى دعاية سوداء جاهزة واتهامات مسبقة الصنع، يُراد لها توجيه الأنظار والسخط إلى العالم العربي والإسلامي، باعتباره منبع الإرهاب، فما أن يحدث أي شيء في العالم، إلاّ ويكون وراءه "مسلمون" أو عرب من البلدان الإسلامية والعربية أو من الجاليات المسلمة والعربية في الخارج، مثلما تصوّر الدعاية المعادية، ونتذكّر حين تم اتهام المسلمين بتفجيرات أوكلاهوما في  19 أبريل (نيسان) العام 1995 في الولايات المتحدة، الأمر الذي اتّضح زيفه وتلفيقه، لكن الاتهام ذهب بعيداً وحلّق في كل الأماكن.
وعلينا من باب الاعتراف بالحقيقة القول إن الإرهاب كظاهرة عالمية موجود في كل مكان، وأن العالم العربي والإسلامي، ليس استثناء، ففيه "إرهابيون" وقام هؤلاء بأعمال إجرامية، كما حدث في هجوم 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001، أو الهجوم على أنفاق إسبانيا  (مدريد) في 11 مارس (آذار) 2004، أو تفجيرات بريطانيا (لندن) في 7 يوليو (تموز) 2005، أو في الحوادث المتكرّرة في فرنسا كما حصل الاعتداء على مقرّ صحيفة شارلي إيبدو في باريس 7 يناير (كانون الثاني) 2015، وبعدها هجمات باريس الإرهابية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، والتي شملت إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن.
وإذا كان الإرهاب خطرٌ أخذ يهدّد أوروبا، فإن العالم العربي والإسلامي عانى منه الأمرّين على مدى عقود من الزمان، سواء كان إرهاباً دولياً "حكومياً" أو جماعياً أو فردياً، ولا يزال الشعب العربي الفلسطيني يدفع الفاتورة كل يوم، حيث يعاني الاحتلال والعدوان، ويُحرم من أبسط حقوقه، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره. وما زال العراق يعاني من تأثيرات الاحتلال الأمريكي العام 2003 ولحد الآن، حيث بدأ بيض المنظمات الإرهابية يفقّس فيه، وخصوصاً تنظيم القاعدة وتنظيم دولة الخلافة "داعش" وأخوانهما، تلك التي تمتد إلى سوريا، وخصوصاً في الرقة ودير الزور.
ومنذ احتلال الموصل في 10 يونيو (حزيران) 2014، فإن الإرهاب اتسعت رقعته وامتدت جغرافيته، ناهيك عن انتشاره بطريقة زئبقية من المشرق العربي إلى المغرب العربي، ومنه إلى الجنوب العربي، ومن ليبيا ومروراً بتونس ومصر وصولاً إلى عدن وصنعاء. وشهدت المملكة العربية السعودية ثلاث هجمات إرهابية مؤخراً في 29 رمضان الماضي (4 يوليو / تموز الجاري)، في المدينة المنوّرة والقطيف وجدّة، مثلما تزامن ذلك مع الحادث الإرهابي المروّع الذي شهدته منطقة الكرادة ببغداد.
الإرهاب لا وطن له ولا جنسية ولا لغة ولا دين ولا منطقة جغرافية. إنه يضرب في جميع أنحاء العالم، وألحق ضرراً كبيراً بشرياً ومادياً ومعنوياً بالسكان والتنمية والعلاقات الإنسانية، وهو ظاهرة مستمرّة، على الرغم من صدور 3 قرارات دولية بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001، و4 قرارات دولية بعد احتلال داعش للموصل، ونحو 13 اتفاقية وتصريح دولي منذ العام 1963 وحتى أحداث 11 سبتمبر. (العام 2001)، لمكافحته، لكنه ينتعش حين يجد تربة خصبة يتغذى عليها، وقد ارتفعت خطورته، باستخدامه نتائج الثورة العلمية – التقنية وتكنولوجيا الإعلام والاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتال" ومواقع التواصل الاجتماعي.
إن تجفيف منابع الإرهاب والقضاء على مصادره واجتثاث جذوره، بما فيها الفقر والعنصرية والتمييز بكل أشكاله وعدم المساواة، يتطلّب أولاً وقبل كل شيء البحث في أسبابه ودوافعه، خصوصاً الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والدينية والتربوية والنفسية، وغيرها.
وبعد كل ذلك، فالإرهاب لا يقتصر على أصوليات "إسلامية" متطرّفة ومتعصّبة، كما تذهب إلى ذلك الدعاية الصهيونية والإمبريالية، بل يشمل أصوليات دينية أخرى، يهودية ومسيحية وغيرها، وفي جميع المجتمعات والبلدان والأديان والقوميات، وهو ما ينتعش اليوم في أوروبا والغرب عموماً، في موجة العداء للاّجئين والأجانب بزعم تهديد الحضارة الغربية، حتى قيل إن الإرهابي كان يردّد عبارات ضد الأتراك وهو يطلق النار. وسواء كان الأمر صحيحاً أو نُسب إليه، فإن ذلك قد يكون وجهاً آخر للإرهاب.

نُشرت في صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 27/7/2016

453
أمريكا تبحث عن "حصة في الانتصار" العراقي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
بدأ وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر زيارته إلى بغداد في 11 يوليو (تموز) الجاري، ولم يُعلن عن تلك الزيارة من قبل، وهو ما جرت العادة عليه منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حين يصل فجأة المسؤولون الأمريكيون إلى المطار، ليهرع إلى ملاقاتهم بعد ذلك بعض المسؤولين العراقيين، ولم يتغيّر شيء من ذلك التقليد المُـتّبع هذه المرّة، فحطّت طائرة آشتون كارتر في بغداد، وكان باستقباله عدد من طاقم السفارة الأمريكية، ثم جاءه المسؤولون السياسيون والعسكريون العراقيون، على جناح السرعة، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء حيدر العبادي ووزير الدفاع خالد العبيدي.
تأتي زيارة كارتر بعد استعادة القوات العراقية قاعدة القيّارة الجوية (تبعد 58 كيلومتراً عن الموصل)، وهي موقع استراتيجي شديد الأهمية، وكذلك بعد معركة تحرير الفلوجة ذات الرمزية الخاصة، الأمر الذي سيفتح الآفاق باتجاه تحرير الموصل. وبالطبع، لا يريد الأمريكان تجيير كل ذلك للقوات العراقية، بل يسعون للحصول على "نصيب" مما تحقق باعتبارهم "حلفاء" و"شركاء".
وقال كارتر إن بلاده سترسل 560 جندياً إضافياً إلى العراق استعداداً لمعركة الموصل التي يجري عزلها والضغط عليها، مشيراً إلى أن بعض جنوده سيذهب إلى قاعدة القيّارة، وأنها ستوفر أنشطة لدعم القوى الأمنية العراقية، بما فيها البنى التحتية والقدرات اللوجستية في القاعدة الجوية "القيّارة"، خصوصاً بعد السماح للقوات الأمريكية بالوجود فيها.
ويتردّد سؤال في الأوساط السياسية والدبلوماسية: ماذا يستهدف الأمريكان من الوجود العسكري الجديد في القيّارة؟ هل يريدون العودة إلى العراق وهم الذين اضطروا إلى الانسحاب منه العام 2011 بعد خسائر قدّرت بنحو 4800 جندي، وأكثر من 26.000 جريح ومعوّق، فضلاً عن حالات انتحار وأمراض نفسية؟ وفوق كل ذلك خسرت الولايات المتحدة سمعتها وزادت أعباءها المالية، حيث قدّرت المبالغ التي أنفقتها على الحرب ما يزيد عن تريليوني دولار أمريكي، الأمر الذي انفجر على نحو صارخ خلال الأزمة المالية والاقتصادية التي اندلعت في العام 2008 ولا تزال تأثيراتها مستمرة، ناهيك عن ضغط الرأي العام الأمريكي والعالمي، فلماذا تريد واشنطن العودة من الشّباك بعد أن خرجت من الباب؟
واشنطن لا تخفي قلقها من الوجود العسكري والاستخباري الإيراني في العراق، وهذا الأخير يحظى بتأييد "أصدقاء" إيران من التحالف الوطني (الشيعي)، ولا سيّما الحشد الشعبي، ولذلك فهي تسعى لمنع طهران من نشر مستشاريها العسكريين في مواقع ذات أهمية استراتيجية، ولا سيّما القاعدة الجوية في القيّارة، التي تعتبر منطقة تقاطع حساسة جغرافياً واستراتيجياً بين إيران والعراق وصولاً إلى سوريا، وهو ما يخشاه الأمريكان، حتى وإنْ كان الهدف هو محاربة داعش، لكنها تحسب حساباً لما بعد داعش.
ولهذا السبب لا يستبعد بعض المراقبين أن يتحوّل هذا الطلب بالوجود الأمريكي في قاعدة القيّارة، إلى أمر دائم، أي أن تكون قاعدة أمريكية بحكم تدفّق المستشارين، الذي يعطي انطباعاً أن مهمتهم ليست تحرير الموصل، بقدر ما قد تكون رغبة من جانب واشنطن في إعادة الانتشار من خلال مواقع استراتيجية جديدة تسهّل عمل القوات الأمريكية في هذه المعركة وفي المستقبل لضبط إيقاع أي حركة في المنطقة.
وتعتقد واشنطن أن قاعدة القيّارة الوسطية والمتقدّمة هي قاعدة مثالية، فهي قريبة من حلفائها الكرد وبعض العشائر العربية السنية التي انتظم بعضها في الحشد العشائري، إضافة إلى قوات الجيش العراقي التي لديها نفوذ كبير فيه، في إطار اتفاقية الإطار الاستراتيجي الذي وقعته بغداد مع واشنطن العام 2008. ومن جهة أخرى، فإن القيّارة بعيدة عن مناطق نفوذ الحشد الشعبي التقليدي، وبالتالي، فهي في مأمن من احتمالات هجوم مفاجىء لداعش. يضاف إلى ذلك أن منطقة القيّارة منطقة خالية نسبياً من السكان، مما يجعل الحركة الأمريكية منها وإليها بعيدة عن التهديدات التي يقوم بها داعش أو التنظيمات القريبة منه.
وستقيم القوات الأمريكية منصّة انطلاق ومركزاً لوجستي في القيّارة، لاستخدامهما في المعركة لتحرير الموصل. وأشار كارتر إلى أن القوات الأمريكية مستعدّة لمرافقة القوات العراقية إذا تطلّب الأمر أثناء تحرّكها باتجاه الموصل، ولكي يضمن مثل هذا الحضور الأمريكي الجديد، أجرى كارتر اتصالاً هاتفياً برئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني. وكانت واشنطن قد تعهّدت بدعم قوات البيشمركة وتقديم مساعدات تبلغ 415 مليون دولار، وذلك خلال زيارته السابقة.
جدير بالذكر أن قاعدة القيّارة كانت قد استُخدمت من قبل القوات الأمريكية، كمعسكر لها بعد الاحتلال، وقامت بترميم المدرج وبرج المراقبة، وهي تعرف قيمة موقعها الاستراتيجي، وقد سلّمتها في العام 2010 إلى القوات العراقية، واستمرّت بيدها، حتى احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014، حين سقطت القاعدة دون قتال. وحسب مسؤول عراقي، فإن قاعدة القيّارة ستستخدم لتقديم الاسناد الجوي للوحدات البرية، كما أن تحريرها سيفصل بين مواقع داعش في الموصل ومواقعه في بقية المناطق سواء في الشرقاط والحويجة، وغيرها.
إن زيارة كارتر الثانية إلى بغداد (في غضون أقل من ثلاث أشهر)، هي خطوة جديدة قد تعقبها خطوات أخرى لإعادة ترتيب أوراق واشنطن إزاء العراق، بعد فشل سياساتها السابقة، فقد كان كارتر قد وصل العراق قبل ذلك في 18 أبريل (نيسان) 2016، لمنع حدوث فراغ سياسي، حيث كانت حركة الاحتجاج قد وصلت ذروتها والمطالبات ارتفعت بتغيير الرئاسات الثلاث، وترافق مع تلك الزيارة زيارتين خلال ثلاثة أسابيع، الأولى لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري في 8 أبريل (نيسان)، والثانية لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في 28 أبريل (نيسان)، والزيارتان كانتا لنفس الأسباب ولذات الأهداف، وهي الأهداف التي بلورها اليوم آشتون كارتر بصورة عملية إثر التطور العسكري الذي حصل بعد تحرير الفلوجة واستعادة قاعدة القيّارة الجوية، موجّهاً رسالة جديدة تقضي بعدم السماح بإجراء تغييرات جوهرية، من شأنها تصديع العملية السياسية.
ولهذا أرادت واشنطن مثل هذا الحضور، كي لا تتوسع إيران في نفوذها، وكي لا يخرج العبادي من السيطرة لتحويل نتائج نصر الفلوجة وهرب داعش من القيّارة لصالحه وحده، فضلاً عن إحداث نوع من التوازن والحيلولة دون وقوع صدامات محتملة، في المناطق المتنازع عليها، أو التي سيتم تحريرها، وفي الوقت نفسه سيكون قاعدة للإجهاز على داعش من "الجبهة" العراقية، لكي لا ينفرد الروس وحدهم في جني مكاسب النصر على داعش في سوريا.


454
تقرير تشيلكوت وماذا بعد؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
في السادس من يوليو (تموز) الحالي صدر تقرير لجنة تشيلكوت الذي يطلق عليه أحياناً تحقيق تشيلكوت Chilcot Inguiry، أما اسمه الرسمي فهو The Iraq Inguiry، وهو عبارة عن لجنة تحقيق بريطانية مستقلة منوطة بالتحقيق حول المشاركة البريطانية بالحرب على العراق العام 2003، وكان قد تم الإعلان في لندن يوم 15 يونيو (حزيران) العام 2009 من قبل رئيس الوزراء السابق غولدون براون عن إطلاق التحقيقات الخاصة بالحرب على العراق. وضمّت اللجنة إضافة إلى تشيلكوت، السير لورنس فريدمان، والسير مارتن غيلبرت، والسير روديك لين، والبارونة أوشا بارشر.
ويغطّي التقرير كما أعلن عنه السير جون تشيلكوت رئيس اللجنة، الفترة الواقعة بين صيف العام 2001، وحتى نهاية يوليو (تموز) من العام 2009. وقد تمّ اختيار أعضاء اللجنة من قبل رئيس الوزراء البريطاني السابق، لتضمّ عدداً من الخبراء بينهم كبار موظفي الخدمة المدنية ومؤرخين عسكريين ودبلوماسيين وأعضاء في لجنة حقوق الإنسان. واللافت أنه لم يكن أي محامٍ أو قاضٍ أو رجل قانون بين اللجنة التي تم اختيارها للتحقيق، فضلاً عن تبعية اللجنة لمجلس اللوردات، ناهيك عن محدودية صلاحيتها وعدم قدرتها على الاطلاع على الوثائق والتقارير السرّية، وظلّت جميع جلساتها سرّية باستثناء جلسات الاستماع إلى شهادات بعض الأشخاص مثل رئيس الوزراء الأسبق توني بلير.
وتستهدف اللجنة كشف الملابسات والأسرار التي وقفت وراء اتخاذ القرار البريطاني المشاركة في احتلال العراق، علماً بأن تشكيلها جاء في أعقاب ضغوط واحتجاجات مارسها ذوو الجنود البريطانيين الضحايا الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية التي قام بها التحالف الدولي عند غزو العراق وما بعده، أي منذ الاحتلال وحتى الانسحاب.
استمعت اللجنة إلى 150 شاهداً من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين البريطانيين، وفي مقدمتهم توني بلير وخلفه غولدن براون. وكان من المفترض أن ينشر التقرير في العام 2012، ولكنه تأخّر حتى العام الجاري، وفي العام (2014) طالب ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الحالي، اللجنة بنشر تقريرها قبل نهاية العام لعدم وجود مبرّر لتأخيره، لكنه لم ينشر حتى تم الإعلان عن نشره في ظرف عصيب تعيشه بريطانيا التي انقسمت بين مؤيّدين ومعارضين، الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما ترتّب على نتائج الاستفتاء الذي أجري في 23 يونيو (حزيران) 2016، لصالح الانسحاب.
جدير بالذكر أن التقرير كلّف أكثر من 10 ملايين باوند استرليني (ما يعادل: 13.5 مليون دولار)، وقد أحيل إلى الأمن الوطني لفحصه، خصوصاً ما له علاقة بالمراسلات بين بوش وبلير، لا سيّما ما جاء في تقارير الاستخبارات بين البلدين. وقد أثار ردود فعل متباينة، على الرغم من أن ما ورد فيه لم يكن جديداً بالكامل، وخصوصاً على المتابعين والمهتمين بمسألة غزو العراق، لكن ما جاء فيه وعلى الرغم من لغته الدبلوماسية الناعمة، فإنه يشكّل إدانة كاملة للمسؤولين عن رسم خطط الحرب والمنفذين لها والمشاركين فيها.
وأهم ما جاء في لجنة تشيلكوت، أن العراق (في عهد نظام صدام حسين) لم يشكّل خطراً على بريطانيا ومصالحها، وأن مسألة امتلاكه أسلحة دمار شامل غير صحيحة، ومبنية على معلومات استخبارية مغلوطة، وأن قرار الحرب كان مستعجلاً وأن الخيارات الدبلوماسية مع بغداد كانت متاحة.
 وإذا كانت بعض الأدلّة تنشر لأول مرّة، من قبيل فشل الأجهزة الاستخبارية وفشل الحكومة البريطانية، التي كان يديرها توني بلير بطريقة تشير إلى العواقب المحتملة والممكنة للتدخل العسكري في العراق الذي لم يدرس على نحو مناسب على الإطلاق، فإن السلوك الذي اتبعه رئيس الوزراء توني بلير لإمرار وجهة نظره ودفاعه عن عدم الحاجة إلى قرار دولي جديد بخصوص غزو العراق، بزعم أن صدام حسين لا يتعاون مع لجنة التفتيش الدولية، يكشف النوايا المبيّتة مسبقاً منذ العام 2001 على شن الحرب لغرض نظام عالمي جديد حسب زعم بلير وبوش، وهو ما ذهبت إليه كونداليزا رايس وزير خارجية الولايات المتحدة خلال الحرب على لبنان في يوليو (تموز) العام 2006 عندما تحدثت عن شرق أوسط جديد بعد الشرق الأوسط الكبير.
وكان أول ردّ فعل من بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق 13 مايو (أيار) 2003 / 28 يونيو (حزيران) 2004 قوله "ولكن بالرغم من موافقتي على كثير مما كتبه تشيكلوف إلاّ أنني أختلف معه في نقطتين...". الأولى – زعمه بخطأ حل الجيش العراقي، وبسبب ذلك حصل التمرّد (المقاومة)، وينتقد تشيلكوت بتأكيده أنه يقلل من وحشية تاريخ الجيش في عهد صدام حسين، ومن الآثار المدمّرة التي كان سيسبّبها استخدامه (لو لم يُحل). والثاني – أنه لا يُشارك تشيلكوت حول افتراض أن "استراتيجية الاحتواء" كانت كافية لمواجهة التحديّات التي طرحها عراق صدام حسين، وبناء على هذا الاستنتاج، فإن الحرب غير ضرورية، ويعيد بريمر نفس المزاعم التي كانت تتكرّر قبل الحرب من احتمال امتلاك الإرهابيين أسلحة الدمار الشامل واستخدامها ضد الولايات المتحدة (لا سيّما ما أثارته أحداث 11 سبتمبر/ أيلول/ 2001)، وأن العراق دولة راعية للإرهاب، وكانت لديها برامج للأسلحة النووية والبيولوجية والكيمياوية، وأن صدام حسين على الرغم من سياسة الاحتواء وقرارات مجلس الأمن استمر في التملّص من تأثيراتها، وهو الإصرار ذاته الذي ظلّ توني بلير يتبنّاه حتى بعد اعتذاره عن بعض الأخطاء التي ارتكبت بسبب التقارير الاستخبارية، لكنه بكل عنجهية وعدم الشعور بالمسؤولية إزاء الضحايا والكارثة المستمرة، قال: لو أعيد الزمن، فإنني سأكرر نفس التجربة.
التقرير سيوفر الأدلّة الظاهرية التي تسمح لعوائل الجنود البريطانيين إقامة الدعاوى المدنية، لأن القرار خاطىء ومضلل أساساً، وسيسمح لهم التقاضي بعد ذلك من جانب القضاء الدولي وإقامة دعاوى جنائية في حالة توفر أدلّة وقرائن وشهادات عن ارتكابات، الأمر الذي قد يتم البدء بتحقيق جنائي، وكان رئيس حزب العمال جيريمي كوربين، قد اعتذر من الشعب العراقي نيابة عن الحزب، علماً بأنه تعرّض إلى انتقادات شديدة من فريق الصقور المؤيّد للحرب على العراق.
وأشار التقرير إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة لم تكن تمتلكا رؤية حقيقية لعراق ما بعد صدام، ما فاقم من تكاليف الحرب، وكان بلير قد أكّد لبوش أنه سيكون معه مهما كلّف الأمر، أي أن القرار بالمشاركة بالحرب والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، كان قد اتخذ سواء بوجود مبررات مشروعة أم بعدم وجودها، بما فيها التعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً عدم تفويض ما يسمى بالشرعية الدولية لواشنطن ولندن بشن الحرب، بعد القرار رقم 1441 الذي صدر في العام 2002، ولم تنتظر العاصمتان صدور قرار جديد، حيث كان من المتعذر صدوره بدون موقف روسيا والصين وفرنسا، أعضاء مجلس الأمن الدائمين، إضافة إلى ألمانيا ودول أخرى، الأمر الذي دفعهما إلى شنّ الحرب بقرار خاص لما يسمّى بالتحالف الدولي بقيادة واشنطن.
وقد قتل في الحرب وبعد الاحتلال نحو 200 جندي بريطاني، إضافة إلى وجود مئات من المعوّقين والمرضى نفسياً، ناهيك عن أن سمعة بريطانيا نزلت إلى الحضيض، كما أن مزاعم قيام ديمقراطية على أعقاب الدكتاتورية، لم تبوء بالفشل فحسب، بل تحوّلت إلى كوابيس عراقية حقيقية، حيث قتل نحو 150 ألف عراقي حتى العام 2009، إضافة إلى نزوح الملايين داخل العراق واللاجئين خارج العراق بسبب الفتنة الطائفية أعوام 2006 – 2007، وهي الفترة التي يغطيها التقرير، علماً بأن الهجرة والنزوح تضاعفا، خصوصاً بعد هيمنة "داعش" واحتلالها الموصل وأجزاء من العراق، الذي تحوّل إلى دولة رخوة وكيان هش.
تزامن صدور التقرير مع التفجيرات المروّعة التي وقعت في حي الكرادة ببغداد عشية عيد الفطر والتي تعتبر الأشد هولاً منذ الاحتلال إلى اليوم، الأمر الذي يؤكد أن كل ما قيل عن مبرّرات شن الحرب بهدف الإطاحة بالدكتاتورية، وإقامة نظام جديد بدلاً عنها، لم يكن سوى أضاليل لم تصمد أمام الحقائق، فالنظام السابق استبدل بنظام آخر وضع أركانه المحتلّ عبر صيغة مجلس الحكم الانتقالي، حتى وصلت البلاد إلى حافة الهاوية، وتحوّلت الدولة الشديدة الصرامة والمركزية إلى دولة فاشلة ومفكّكة تضرب الفوضى أطنابها، ويسودها الفساد الذي يتغذى على نظام المحاصصة، وهكذا أصبح نظام الغنائم الذي يقوم على الزبائنية الطائفية والإثنية المتقابلة والمتبادلة هو السائد، ولعلّه الأسوء فيما عرفه العراق، الذي أصبح حاضنة للإرهاب، حيث اندلع العنف والتطهير الطائفي والإثني على نحو لا مثيل لهما، وزاد الأمر التدخل الإقليمي وارتفاع نفوذ إيران بعد الانسحاب الأمريكي نهاية العام 2011.
التوقيت الذي صدر فيه التقرير يثير أكثر من علامة استفهام، فبريطانيا لا تزال غارقة في همومها ومشاكلها وخلافاتها، نتيجة الاستفتاء بالخروج من الاتحاد الأوروبي، لا سيّما الصراع داخل حزب المحافظين لانتخاب زعيم جديد بعد استقالة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، إضافة إلى المشاكل والتعارضات داخل حزب العمال، خصوصاً الاتجاه لإطاحة رئيسه جيريمي كوربين. وقد احتوى التقرير على 12 مجلداً، وضمّ مليونين وستمائة ألف كلمة، وتتطلب قراءته أياماً، أما دراسته فتحتاج إلى أسابيع، وكان قد حصل على إذن بنشر وثائق عن مكاتبات واتصالات هاتفية بين بلير وبوش.
لم يوجّه تشيلكوت أي إدانات "قضائية"، وليس من وظيفته ذلك، وسيكون دوره توجيه انتقادات وتشخيص أخطاء وتحديد الدروس التي يراها للإفادة منها في أي قرار قد تتّخذه حكومة مستقبلية للمشاركة في أي حرب، وهي بمثابة إدانة أدبية ومعنوية وأخلاقية. وعلى الرغم من أن التقرير لا يرتّب أي حكم قضائي، إلاّ أنه بالتأكيد يفتح الباب لمن يُحسن استخدامه في المجال القضائي والسياسي، وخصوصاً في بريطانيا سواء من المعارضة السياسية، أو من عوائل الجنود البريطانيين القتلى والمعوّقين وعموم ضحايا الحرب.
أما الضحايا من العراق، فيمكن مطالبة واشنطن ولندن بدفع تعويضات مادية ومعنوية بسبب عدوانهما على العراق، طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 الصادر في 22 مايو (أيار) 2003، الذي اعتبر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دولتا احتلال، وكان عليهما تطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقها لعام 1977، وهو ما أكّده قرار مجلس الأمن رقم (1546) الصادر في 8 يونيو (حزيران) العام 2004، وبهذين القرارين يصبح لزاماً عليهما دفع تعويض للعراق مادياً ومعنوياً، لأن مسوّغاتهما وتبريراتهما للحرب لم تكن قانونية، وهي ليس مشروعة بالطبع، وهي تتعارض مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، لأنهما شنّا حرباً وعدواناً ضد دولة مستقلة، بما أدى إلى تهديد خطير للسلم والأمن الدوليين، وفتح الباب على مصراعيه لتفشي ظاهرة الإرهاب الدولي.
الأمر يتطلّب أيضاً من القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني والمراكز البحثية والأكاديمية والنقابات والاتحادات وغيرها، التعاون ليس لفضح الرياء والتضليل فحسب، وإدانة المسؤولين عنه والمتسبّبين في الكارثة، بل لتحضير ملفّات وتوكيل محامين والاستعانة بقضاة دوليين سابقين ومن أصحاب الخبرة، للمطالبة بالتعويضات، وكذلك التعاون مع جهات عربية وإقليمية ودولية على هذا الصعيد استناداً إلى تقرير تشيلكوت، فعراق ما بعد الحرب هو أسوء من عراق ما قبله.
نُشرت في صحيفة الشروق "الخليجية" العدد (1267 – 1279) 18 – 24/2016

455
حقائق تقرير تشيلكوت ودلالاته..!!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
كشف تقرير تشيلكوت الخاص بدور المملكة المتحدة في احتلال العراق، تفاصيل مشاورات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مع رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش، من خلال رسائل بعثها بلير إلى بوش. وقال بلير في إحدى رسائله مخاطباً بوش (يوليو/ تموز/ العام 2002): "سوف أقف إلى جانبك مهما كلّف الأمر"، وفي رسالة أخرى خاطبه: "علينا وضع خطة ذكية" لإطاحة الرئيس العراقي صدام حسين، وكان قد أعلن عن استعداده المشاركة في الحرب في رسالة بتاريخ 4 ديسمبر (كانون الأول) 2001.
والمبررات التي زعم بلير أنها تقف خلف توجّهه هي إقامة نظام عالمي جديد حقيقي في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، والوقوف بوجه الإرهاب الدولي المنبعث من المنطقة، والقضاء على دكتاتور مجرم بيده أسلحة دمار شامل، ونشر قيم الديمقراطية والحريّة والتسامح. وكان صقرا الحرب قد تبنّيا سياسة مفادها إقامة ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير أو الشرق الأوسط الجديد، وهو ما عبّرت عنه كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة عقب حرب يوليو (تموز) على لبنان العام 2006.
لم يدرك قائدا مرحلة النيوامبريالية، أن الأمر ليس بهذه السهولة، فبلدان وشعوب المنطقة ليست لعبة شطرنج أو دومينو يتم التحكّم بها، على الرغم من الضعف والتّشتت الذي أصابها وشحّ الحريات وانهيار خطط التنمية وتراجع المشاريع السياسية التحرّرية عموماً.
وقد قادت طائفة من الوقائع بعد فترة وجيزة من احتلال العراق إلى التصريح أن الأمور خرجت عن السيطرة، الأمر الذي اضطر واشنطن للاعتراف بأنها "قوة احتلال" وليس "قوة تحرير"، خصوصاً بصدور القرار 1483 في 22 مايو (أيار) العام 2003، وبدلاً من تطبيق اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977 وقواعد القانون الدولي الإنساني، خصوصاً مسؤوليتها في حماية أرواح وممتلكات المواطنين، فإنها لجأت إلى تغيير قوانين البلد، وحلّت الجيش والمؤسسات الأمنية بما فيها شرطة النجدة وشرطة مكافحة الجريمة وشرطة الحدود وغيرها من مؤسسات الدولة، وتركت البلاد لفوضى عارمة بحيث عادت به إلى مرحلة ما قبل الدولة، باستشراء الموجة الطائفية – الإثنية التي ترسخّت في مجلس الحكم الانتقالي والحكومات التي أعقبته.
أياً كانت التقديرات، فإن الوقائع التي يعرضها تقرير تشيلكوت تؤكّد عدداً من الحقائق والدلالات، من أهمها:
أولاً – التضليل الذي مارسه بلير ومعه بوش وقادة التحالف الغربي ضد العراق، فقد شنّوا حرباً إعلامية وآيديولوجية وثقافية، قبل الغزو وخلال فترة الحصار الدولي، والهدف هو "أبلسته"، حيث روّجوا لفريّة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل، بل جاؤوا بمن لفّقوه من "العراقيين" لخدمة أغراضهم، مثلما "اخترعوا" العلاقة بالإرهاب الدولي وتنظيم القاعدة، وهو ما اتضح زيفه وكذبه، على الرغم من حجم الخداع والمكر اللذان استخدما جميع أساليب الدعاية السوداء لإثبات فرضياتهما، لكنه بعد أن تم مسح العراق شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، اضطرا للإعلان (العام 2005) أن لا وجود لأسلحة دمار شامل، وما كان في بداياته تم تدميره، طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 687 الذي صدر في 3 أبريل (نيسان) العام 1991 بعد هزيمة الجيش العراقي في الكويت وانسحابه منها.
ثانياً – الإصرار على مشروعية الحرب "المقدسة" على العراق، على الرغم من عدم حصولها على قرار لما يسمى بالشرعية الدولية، وامتناع الأمم المتحدة تفويض واشنطن أو غيرها بمهمة شنّ الحرب، لكن بلير وبوش ومعهما عدد من قادة دول التحالف بينهم جون هاورد رئيس وزراء استراليا الأسبق، لا زالوا يصرّون باقتناع، أن العالم أفضل حالاً بدون صدام حسين، على الرغم مما جلبته الحرب من ويلات ومآسي وآلام وتدمير للعراق.
وعلى الرغم من أن بلير يعترف عشية الغزو بأن الرأي العام البريطاني والأوروبي لا يزال يعارض بشدّة التدخل العسكري في العراق، لكنه يؤكد عزمه على القيام بالغزو مهما كانت التكلفة والنتائج (من رسالة بلير إلى بوش في 9 فبراير (شباط) 2003)، أي قبل حوالي شهر من الغزو الفعلي. وكان قد أبدى غضبه من رئيس لجنة المفتشين الدوليين هانز بليكس واهتزاز ثقته به، لأنه كان قد أكّد على تعاون العراق بشكل أكبر مع اللجنة، واستمرّ بلير في تأكيده أن الغزو ضرورة ملحّة.
ثالثاً – المصالح ثم المصالح، وتلك حقيقة السياسة، فهي على مرّ التاريخ: صراع واتفاق مصالح، الأمر الذي تؤكّده يومياً السياسات الغربية، حتى وإن أكثرت من رطانة في حديثها عن القيم الديمقراطية. وإذا كان الهدف الإطاحة بدكتاتورية مجرم كما برّر بلير في رسائله، فقد كان النظام الذي أعقبه قد أوجد عدد من الدكتاتوريين الصغار، بأسماء رجال دين وزعماء طوائف وإثنيات وعشائر، ودفع البلاد كلها إلى التناحر والطائفية والعنف والإرهاب، وأدى إلى استشراء الفساد المالي والإداري ونهب المال العام، فأية قيم تلك التي تبرّر الإطاحة بدكتاتور، دعم عشرات الدكتاتوريين من الذين أوصلوا البلاد إلى حافة الانهيار والتشطير وغياب الحد الأدنى من معايير الدولة التي أصبحت معروضة للغنائم في إطار نظام زبائني طائفي وإثني، وهو السبب الذي كان وراء وقوع ثلث البلاد بيد داعش ولا تزال منذ عامين ونيّف غير قادرة على طرده واجتثاث جذوره وتجفيف منابعه.
رابعاً – خطأ التعويل على الخارج وخطره، فلهذا "الخارج" أجنداته الخاصّة التي قد تتعارض جوهرياً مع مصالح شعوبنا وتطلّعاتها، الأمر الذي سيعني "اقتناعاً" أو اضطراراً التسليم له بمقتضيات المستقبل بفعل دوره. ولعلّ تجربة المعارضة "الرسمية" العراقية التي تعاونت مع واشنطن خير دليل على ذلك، فهذه الأخيرة لم تتحكّم بها فحسب، بل تحكّمت بمصير البلاد بعد احتلاله. وتلك عبرة لمن يريد الاعتبار، سواء في مشروعه العراقي أو في مشروعه العربي أو في مشروعه الكردي أو في مشروعه الإسلامي.
إن استبدال الدكتاتور بمن هم أسوأ منه، إنما هو جريمة بكل ما تعني الكلمة، يتحمّلها صقور الحرب، لا سيّما بلير وبوش وأضرابهما، مثلما يتحمّلها من تعاون لتنفيذ هذا المشروع الجهنمي. وتبقى الحقيقة صارخة، حتى وإن تم تغطيتها بدثار من الأكاذيب والخدع، وحتى لو لم يتم التمكن من الوصول إلى المسؤولين عن جريمة الحرب ومحاسبتهم قانونياً على ما ارتكبوه بحق العراق، إلاّ أن سخط الرأي العام وسقوط السمعة وافتضاح زيف السياسات، هو وجه من وجوه المساءلة الأدبية والمعنوية والأخلاقية.


456
ماذا بعد نشوة النّصر في الفلّوجة؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عربي
مع تقهقر داعش في الفلّوجة، وانسحاب مقاتليه المفاجىء منها، تمكّنت أن العوائل المتبقية في الفلّوجة من الفرار، وحسب بيانات الامم المتحدة، فإن عدد النازحين الجدد بلغ 68 ألف شخص، وفي ذلك دليل جديد يؤكد على سيطرة القوات الحكومية المدعومة من قوات التحالف الدولي على المدينة، على الرغم من وجود جيوب وألغام ومحاولات للقيام بأعمال انتحارية وتفجيرات يائسة.
وتكاد معاناة الفلوجة التي احتلّها داعش في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، أي قبل احتلال الموصل بنحو ستة أشهر، هي الأكثر قسوة، حيث ظلّت المدينة محاصرة لنحو 9 أشهر، حتى بدأت العمليات العسكرية لتحريرها في 23 مايو (أيار) الماضي 2016، واستمرّت لنحو شهر تقريباً، أما موضوع عودة النازحين، فقد يطول ويأخذ وقتاً، خصوصاً وأن الأمن لم يستتب بعد، وأن هناك مباغتات يقوم بها داعش، كما حصل في مناطق أخرى من محافظة الأنبار، سواء في هيت أو الرمادي أو غيرها.
   ومع خسارة داعش مواقعه في الفلّوجة، لكن قلقاً أخذ يتعاظم بين النازحين منها، خصوصاً في بعض جوانبه الصحية، وقالت منظمة الصحة العالمية إن سكانها يعانون من أمراض جلدية وارتفاع ضغط الدم والإسهال وغير ذلك، وأطلقت حملة لتلقيح الأطفال من احتمال الشلل الذي قد ينتشر بينهم.
وإذا كان هذا في الجانب الصحي والبيئي، فهناك مشكلات كبرى تواجه النازحون، تتعلّق بإعادة الإعمار وبناء المدارس واستقبال الطلاب والطالبات، إضافة إلى إعادة البنية التحتية، ناهيكم عن إعادة الدوائر الحكومية المخرّبة وعودة الموظفين لمزاولة أعمالهم، بما فيهم قوى الأمن والشرطة، وضبط النظام والأمن العام وحماية أرواح وممتلكات الناس، الأمر الذي يحتاج إلى تفاهمات سياسية وتوافق محلي وتخصيص الحكومة الاتحادية المبالغ اللازمة لذلك، بما فيها لتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار.
أما على الجانب السياسي، فكلّما اقترب موعد تحرير ما تبقى من الأراضي العراقية بيد داعش، وخصوصاً الموصل، كلّما ارتفعت حدّة التوتر السياسي، خصوصاً في ظل غياب إرادة سياسية موحّدة، واستراتيجيات تتعلّق بمستقبل الدولة، فما زال الجدل يتّسع، ويتخذ بُعداً أكثر تطرفاً من السابق، في ظل عملية سياسية يقول الجميع عنها أنها وصلت إلى طريق مسدود، سواء من المشاركين فيها أو المعترضين عليها.
ولم تنفع معها الترقيعات والتسويات، بل إن الانشطار وصل داخل كل مجموعة من المجموعات، فالقوى الشيعية السياسية مثلاً، أصبح من العسير التئامها بعدما حصل بين أطرافها، وخصوصاً بين جماعة مقتدى الصدر من جهة الذي حرّض على الحكومة ودعا الحشود الجماهيرية لاقتحام المنطقة الخضراء، وبين حزب الدعوة، وقد اعترف رئيس الائتلاف الشيعي إبراهيم الجعفري بصعوبة التفاهم، وكان نوري المالكي رئيس الوزراء السابق أكثر تشاؤماً من الأول، كما أن إيران التي لعبت في السابق دوراً توفيقياً لمنع تصدع الائتلاف، ترى نفسها اليوم عاجزة من إعادة اللحمة إليه.
وإذا كان ما صنع الحداد بين الفرقاء من الشيعية السياسية، فإن نظراءهم من السنية السياسية، ليسوا بأحسن حال منهم، سواء من حيث التأثير الإقليمي أو التناحر السياسي، وبعضهم مشارك ومعترض، وآخرون أقرب إلى الحكومة من المجموعات السنية الأخرى، في حين هناك من يخوّن مثل هذه الشراكة، بين تابع ومتبوع، كما هي هيئة علماء المسلمين.
وكان الأكراد طيلة الـ 13 عاماً أكثر تماسكاً، لكن الخلافات دبّت بينهم، وتعطّل عمل البرلمان بسببها بحكم منع رئيسه من المجيء إلى إربيل، ويستمر رئيس الإقليم في موقعه، في الوقت الذي تطالبه كتل أخرى بالتنحي لانتهاء مدة انتخابه، وتدعو لتقليص صلاحيات رئيس الإقليم. وإذا كان الخلاف شديداً بين كتلتي التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني في السابق، فإنهما اليوم أكثر تقارباً في إطار تحالف جديد، إضافة إلى الجماعة الإسلامية، وهناك دعوة إلى لامركزية كردستانية، وخصوصاً من جانب السليمانية، لكن إربيل ترفضها وتعتبرها رغبة في التحلّل من سلطة الإقليم أو تسويفها، ومحاولة لإضعاف دور الحزب الديمقراطي الكردستاني.
في ظل هذه الأوضاع المعقدة والملتبسة، قال مسؤول كردي إن إلحاق الهزيمة بداعش يستوجب تقسيم العراق إلى 3 كيانات منفصلة (للشيعة والسنة والأكراد)، مبرّراً ذلك للحيلولة دون إراقة الدماء. وذهب مسرور البارزاني وهو رئيس الأمن الوطني إلى القول إن عدم الثقة وصل إلى مستوى لا يسمح ببقائهم تحت سقف واحد. وأشار إلى أن الفيدرالية لم تنجح، وبالتالي يمكن الذهاب إلى الكونفدرالية أو إلى الانفصال الكامل، لكنه رجّح قيام 3 كونفيدراليات ولها 3 عواصم متساوية، لا تعلو واحدة على أخرى، وليس بالضرورة العيش تحت سقف واحد، بل يمكن أن تجتمع تحت سقف حسن الجوار.
وجاء ذلك على خلفية دعوة مسعود البارزاني رئيس الإقليم إلى إجراء استفتاء على استقلال كردستان هذا العام. وإذا كان الاتفاق على الاستفتاء من جانب جميع القوى السياسية الكردية في السابق، فإنه اليوم يثير تحفظّات من جانب الكتل المعارضة، لرئيس إقليم كردستان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يأتي على خلفية انقسامات سياسية ونزاعات حزبية وأزمة مالية، ومشكلات مستعصية بين بغداد وإربيل، ووجهات نظر مختلفة إزاءها، إضافة إلى انعدام الثقة وضعف المؤسسات.
فهل ستؤدي نشوة النصر في الفلوجة أو حتى في الموصل إلى إعادة المخاوف القديمة، بخصوص وحدة العراق، خصوصاً والأمر لا يتعلق بالنصر العسكري، بل محاولة القوى المختلفة توظيفه لصالحها، الأمر الذي قد يسهم في زيادة التوتر القائم، بخصوص المادة 140 والمناطق المتنازع عليها، ويزداد الأمر اليوم تعقيداً بشأن المناطق التي يتم تحريرها، فهل ستكون من حصة إقليم كردستان، أم أنها تعود إلى السلطة الاتحادية؟
ومثل هذه القضايا كانت ولا تزال محط جدل ونقاش ساخنين حول صلاحيات الأقاليم والفيدراليات، فكردستان تريد المزيد من الاستقلال، والمناطق المنكوبة والمحتلة والتي تم تحريرها وسيتم، تريد المزيد من اللّامركزية والتفلّت من هيمنة بغداد. لكن ذلك كله يتم في ظل غياب فهم مشترك وموحد وبرنامج موحّد وآليات متفق عليها، الأمر الذي قد يحوّل نشوة النّصر إلى كارثة.


457
داعش والفلّوجة ودلالات الهزيمة..!؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

اكتسبت مدينة الفلّوجة (50 كيلومتراً تبعد عن بغداد)، مكانة خاصّة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، فهذه المدينة (المُحافِظة) التي يقدّر عدد نفوسها نحو 700 ألف نسمة (مركز القضاء والنواحي المحيطة به)، كانت أولى المدن التي انطلقت منها الشرارات الأولى للتمرّد ضد الاحتلال.
وأصبحت الفلّوجة فيما بعد معقلاً للمقاومة واكتسبت طابعاً رمزياً، خصوصاً ما تعرّضت له من قسوة على يد القوات الأمريكية المحتلّة من جهة، ومن جهة أخرى من الحكومات العراقية المتعاقبة، خصوصاً في ربيع العام 2004، حين تعرّضت لحصار دام لعدّة شهور، حتى خريف العام المذكور، وكانت قد نزفت دماً غزيراً.
وبالتدريج أصبحت الفلّوجة ملتقىً للمجموعات المسلّحة من شتّى الأصناف، حتى وإنْ اختلفت توجهاتها، لكن العنوان الأساسي "المعلن" على أقل تقدير كان رفض الاحتلال الأمريكي للعراق والتركيبات التي جاء بها، لا سيّما نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية، وكذلك رفض النفوذ الإيراني الذي أخذ يتعاظم بكثافة.
ووجدت القوى والعناصر الإرهابية في الفلّوجة بيئة خصبة لتفقيس بيض الإرهاب، لا سيّما في ظل سياسة الإقصاء والتهميش والشعور العام بالتمييز، لذلك أصبحت مرتعاً لتنظيم القاعدة ومن بعده ربيبه تنظيم دولة الخلافة "داعش"، وكان للفلّوجة بعد تشكيل الصحوات العام 2008 وما بعده دوراً مهماً في طرد تنظيم القاعدة وإلحاق هزيمة منكرة بالإرهابيين، لكن الآمال التي علّقها أهالي الفلّوجة والمناطق الغربية والشمالية من العراق لا سيّما ذات الأغلبية العربية - السنية، لم تتحقق، خصوصاً بعدم صدور عفو عام واستمرار وجود عشرات الآلاف من المعتقلين بموجب قانون الإرهاب والمادة الرابعة منه، وقانون المخبر السرّي، وغير ذلك من المطالب التي كانوا قد رفعوها خلال حركة الاحتجاج.
وتكمن أهمية الفلّوجة في تركيبة سكانها العشائرية العربية السنيّة، وغلبة الطابع الديني عليها لدرجة تسمى "مدينة المساجد"، فهي إضافة إلى قربها من بغداد، فإنها جزء من محافظة الأنبار الممتدة في الصحراء نحو الجنوب حتى صحراء السماوة ونحو الغرب باتجاه الأراضي السورية (أعالي الفرات) حيث الحاضرتين السوريتين: دير الزور والرقة، وبهذا المعنى فإن موقعها الجيوستراتيجي يعطيها أهمية مضاعفة.
وإذا كان تحرير الفلّوجة يمتلك دلالات مهمّة تتعلّق بالمستقبل، فذلك لأنها أولى المدن التي وقعت تحت سيطرة داعش، حيث دُبِّرَ أمرها بليل كما يُقال، ففي غفلة تامّة تقدّمت عدد من سيارات الدفع الرباعي (قادمة من عمق الصحراء) لتستولي على المدينة، ولم تحرك القوات المحلية الأمنية والعسكرية أي ساكن أو تقوم باعتراضها، وكأن الأمر يحدث في ظل نوع من التخدير أو خدعة من خدع أفلام هوليوود.
وهكذا أحكمت قوات داعش سيطرتها على المرافق الحكومية وأغلقت منافذ المدينة نحو العالم الخارجي، وأخذت المدينة أسيرة مغلوبة على أمرها، ولم يكن أمام سكانها الرافضين لمنهج داعش، إلاّ الرحيل، فبدأت هجرات متتالية شملت الغالبية الساحقة من سكانها. وحسب تقرير للأمم المتحدة مع بدء المعارك لتحريرها، كان عدد المتبقين من السكان نحو 90 ألف، وصل منهم كنازحين مؤخراً ما يقارب 68 ألف.
مرّ حدث احتلال الفلّوجة مرور الكرام، فلم يترك أثراً يُذكر أو ردود فعل لدى الحكومة العراقية يوازي ما حصل، بل إنها تعاملت معه كأمر واقع، حتى إن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ألقى باللّوم على المدينة وأخذ يردّد إنها "رأس الأفعى"، متعكّزاً على أن بعض شبابها ممّن تمَّ غسل أدمغتهم عملوا في صفوف داعش، ونسي أن غالبيتهم كانوا مع الصحوات ضد تنظيم القاعدة، مع الأخذ بالاعتبار معاناتهم من البطالة والتهميش.
الفاصل بين وقوع الفلّوجة بيد داعش ووقوع الموصل نحو ستة أشهر، فقد احتلّ داعش الفلّوجة يوم 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، وكان قد تمكّن من المدينة قبل ذلك، حيث تغلغل فيها بأساليب مختلفة، لا سيّما وقد وجد تربة خصبة لنشر أفكاره التكفيرية، وتجنيد بعض الشباب وإرسال السيارات المفخخة إلى بغداد ومناطق أخرى من العراق، إضافة إلى الأحزمة الناسفة والأعمال الانتحارية.
وعلى الرغم من فضيحة احتلال الفلّوجة، فلم تجرِ أي مساءلات أو محاسبات تُذكر، على الرغم من أن مجلس النواب ألقى باللاّئمة على حكومة المالكي في (أغسطس /آب 2015)، لكن سيناريو احتلال الفلّوجة تكرّر بحذافيره في الموصل، حين تمكّن داعش من احتلالها في 10 يونيو (حزيران) العام 2014.
لقد تأخّرت معركة الفلّوجة عامين ونيّف، وقد يعود الأمر للأزمة السياسية الطاحنة التي تعيشها البلاد، المترافقة مع أزمته الاقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط، إضافة إلى عدم جهوزية الجيش العراقي الذي وجد نفسه على حين غرّة مصدراً للشك والاتهام، وزاد الأمر تعقيداً التحاق قوات الحشد الشعبي به، ولكن الأهم من كل ذلك هو غياب رؤية لوحدة وطنية تمثّل معيار الحد الأدنى بسبب المصالح الأنانية الضيقة وانقسام المجموعات السياسية، فمقتدى الصدر ترك البيت الشيعي في حيرة من أمره، وانفرد بالشارع نذيراً وخفيراً، والسنيّة السياسية داخل الحكم وخارجه بينها ما صنع الحداد، وتتوزع ولاءاتها بين الحفاظ على ما هو قائم وبين الرغبة في التغيير مع خوف من المجهول.
أما التحالف الكردستاني فلديه مشاكل مستديمة مع بغداد، ابتداءً بالنفط وعقوده وتصديره ومروراً بالرواتب وحصص الإقليم، وليس انتهاءً بالمناطق المتنازع عليها، لا سيّما ما بعد التحرير، وزاد الأمر تعقيداً انقسامه مؤخراً بين كتلتين أساسيتين هما: السليمانية (التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني – المقرّبتان من طهران وبغداد) وإربيل (الحزب الديمقراطي الكردستاني – الأقرب إلى تركيا).
لم يكن من سبيل لحكومة حيدر العبادي وطهران والتحالف الدولي، لصرف الأنظار عن الاحتجاجات الشعبية المستمرة والتي كادت أن تطيح بالرئاسات الثلاث، في ظلّ استمرار خطر داعش، سوى تصويب الأنظار إلى الأزمة الخارجية، الأمنية والعسكرية، فكان لا بدّ من إعلان المعركة باستعادة الفلّوجة وتحريرها من داعش، وهي معركة ناجحة بكل المعايير، لأن العالم كلّه وقف مع العراق، خصوصاً إذا كان الهدف وضع حد لخطر داعش الممتد من سوريا إلى مصر ومنها إلى تونس وليبيا والمغرب العربي، وصولاً إلى أوروبا، على الرغم من الانتقادات التي صاحبت معركة الفلّوجة من جانب منظمات حقوقية دولية بشأن انتهاكات الحشد الشعبي.
ومن دلالات هزيمة داعش في الفلّوجة، هو أنه مهما بلغ من قوّة وجبروت ووحشية وشراسة، إلاّ أنه لا يستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية على "حكم" المناطق التي احتلّها بالقوّة، لأنه ضدّ منطق الحياة وضدّ التقدّم وضدّ القيم الإنسانية، حتى وإن امتلك جميع آليات التدمير، والحكم عمران لا خراب، على حدّ تعبير عبد الرحمن بن خلدون.
إن قدراً من الوحدة الوطنية للمعركة ضد الإرهاب يمكنه استنهاض الوطنية العراقية، العابرة للطائفية والإثنية، وهو ما أخذ الحديث يكثر عنه بعد فشل نظام الزبائنية والغنائم المحاصصاتية، وكان إلغاء نظام التقاسم الوظيفي هو المطلب الأساسي لحركة الاحتجاج التي شهدتها البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ولاستعادة هيبة الدولة لا بد من رد الاعتبار لمبدأ المساواة والمواطنة المتكافئة، واخضاع الجميع لحكم القانون.
وأكّدت معركة الفلّوجة أن الشعب يقف مع الجيش في المعارك الوطنية، بغض النظر عن رأيه بالحكم وممارساته، وأنه يمكن أن يسترخص الغالي والنفيس من أجل الوطن والزود عن حياضه، ولعلّ هذه إحدى الدروس التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في معركة تحرير الموصل القادمة، كما لاحظنا في الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988.
إن المعركة ضد الإرهاب هي معركة عالمية وإقليمية، وليست معركة عراقية خالصة، وبالتالي يمكن التوافق مع دول المحيط، ولا سيّما العربية والتعاون معها ومع دول المحيط الإقليمي أيضاً، مثلما يمكن الاستفادة من التحالف الدولي وجميع الدول التي يهمّها هزيمة الإرهاب، فالمعركة كونية وسبل مجابهتها ينبغي أن تكون بالتعاون مع الجميع لدحر الإرهاب وتجفيف منابعه.


458
الوجه الآخر لبريطانيا "الأوروبية"؟؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
أيّد البريطانيون انسحاب بلادهم من عضوية الاتحاد الأوروبي، وكانت نتيجة الاستفتاء 52% لصالح الانسحاب، في حين صوّت لصالح البقاء 48%، وبلغت نسبة التصويت 72% من الذين يحق لهم التّصويت، وهذه أعلى نسبة تشهدها بريطانيا، حيث شارك نحو 33 مليون شخص، كان 17 مليون منهم قد صوّتوا لصالح الخروج، و16 مليون صوّتوا لصالح البقاء.
الصراع المحموم الذي شهدته بريطانيا عشية الاستفتاء، شمل جميع نواحي الحياة، واستخدم فيه الفريقان كل ما يستطيعان لدعم وجهات نظرهما، وبلغ الأمر أن فقدت النائبة جو كوكس في مجلس العموم البريطاني حياتها، بسبب تأييدها البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث أطلق عليها النار أحد المتطرفين في الشارع. وتأتي حادثة الاغتيال السياسي هذه، كسابقة خطيرة لم تعرفها بريطانيا منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان.
الفريق المعارض للبقاء هو الأكثر يمينية واتّسمت مواقفه عموماً بالسلبية من اللاجئين والأجانب، وظل يعزف على وتر الخسائر التي تعرّضت لها بريطانيا بسبب انضمامها للاتحاد الأوروبي المشكوك في استمراره، وذهب نايجل فيراج زعيم حزب الاستقلال (اليميني المتطرّف) إلى اعتبار نتائج الاستفتاء بمثابة يوم استقلال، وخاطب البريطانيين "احلموا ببزوغ فجر مملكة متحدة مستقلة".
أما الفريق المؤيّد للبقاء، فظلّ يحذّر من النتائج الكارثية للانسحاب، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، بما له علاقة بالعمل الأوروبي المشترك. وعلى الرغم من أن زعماء مثل باراك أوباما وشي جين بينغ الرئيس الصيني، وأنجيلا ميركيل (المستشارة الألمانية) وحكومات حلف الأطلسي (الناتو) ودول الكومنولث البريطاني، حثوا الناخبين على التصويت لصالح البقاء تحت عنوان أن بريطانيا ستنعم داخله بقوة ونفوذ أكبر، إلاّ أن الناخبين كان لهم رأي آخر حين صوتوا لصالح الانسحاب. وتلك "نعمة" الديمقراطية، وربما "نقمتها".
بريطانيا "العظمى" اليوم منقسمة، لدرجة أنها جعلت أوروبا في حيرة، فكيف سيتم التعامل مع النتائج على صعيد المستقبل، فقد اختار الإنكليز والويلزيون التصويت بـ "لا"، أما من صوت بـ "نعم"، فقد كان سكان لندن (المدينة الكوزموبوليتية – ذات الطابع الأممي)، مثلما قالت اسكتلندا "نعم" بنسبة 62% وهدّدت بالانفصال بإعادة الاستفتاء ثانية بعد أن فشل الاستفتاء الأول من الحصول على الأغلبية، وقالت رئيسة وزرائها نيكولا ستورجيون، إنها ترى مستقبل اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي، وأن "خروجنا هو دون رغبة منّا، وهذا ما لا يمكن قبوله ديمقراطياً"، وكانت إيرلندا لصالح البقاء أيضاً، الأمر الذي سيترك تأثيراته على مستقبل بريطانيا لاحقاً.
وبغض النظر عن تراجع الأسواق المالية وانخفاض قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار واضطراب سوق الأسهم وتكبّد العديد من الشركات الأوروبية خسائر ضخمة، لكن التجربة الاستفتائية بكل ما لها وما عليها، تستحق التوقف عندها، من زاوية إرادة الناخبين، خصوصاً الفقراء منهم الذين أُثقلوا باستقطاعات كبيرة وساءت أوضاعهم المعيشية في السنوات الأخيرة، وتلك إحدى "ضرائب" الديمقراطية التي ينبغي تسديدها، فكلمة الأغلبية هي الفيصل في شرعية الحكم.
وإذا كان الشعب البريطاني بأغلبيته قد اتّخذ القرّار، فلا بدّ من الاستجابة لقراره والانصياع لمقتضياته، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون حين قال: "أعتقد أن البلاد تحتاج إلى قيادة جديدة تأخذ على عاتقها هذا الاتجاه". والمقصود ترتيب تفاصيل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، طبقاً لمعاهدة لشبونة لعام 2007، ولا سيّما المادة 50 منها التي وضعت مدّة عامين لتنفيذ ذلك، وقد بادر إلى تقديم استقالته، وأبلغ الملكة أليزابيث ألكسندرا ماري أنه سيسلّم السُلطة إلى رئيس وزراء جديد فور انتخاب حزب المحافظين زعيماً جديداً له في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، (كما تقتضي التقاليد الديمقراطية).
لست من المعجبين بالسياسة البريطانية، خصوصاً الخارجية، ولا سيّما إزاء قضايا الأمة العربية، فلندن هي المسؤولة عن وعد بلفور العام 1917، وهي التي دفعت الأمم المتحدة لإصدار قرار التقسيم 181 لعام 1947 بخصوص فلسطين، وهي التي سهّلت عملية هجرة اليهود ممالأة للصهيونية، وهي المشاركة الأساسية في العدوان الثلاثي (الأنكلو – فرنسي – "الإسرائيلي") على مصر العام 1956، وظلّت سياستها على الدوام لصالح "إسرائيل" ومشجّعة على عدوانها المستمرّ على الأمة العربية.
لكنّني لا أخفي إعجابي بالديمقراطية البريطانية العريقة، التي لم تكن منّة أو هبة من الحكّام بقدر ما كانت نتاج كفاح وتضحيات أجيال منذ العهد العظيم (العام 1215) والحركة الجارتية ابتداء من العام 1679 وما تبعها من تطورات نحو الملكية الدستورية طيلة ثلاث قرون ونيّف من الزمان، تلك التي أرست الحكم على قاعدة ديمقراطية باحترام إرادة الأغلبية واختيار الحكام واستبدالهم على نحو دوري، في ظلّ حكم القانون واستقلال القضاء والإقرار بالتعدّدية والتنوّع وتعزيز الحريّات، وخصوصاً حريّة التعبير، في إطار من الشفافية والمساءلة.
وحتى لو كانت إرادة الأغلبية خاطئة، فيمكن معالجة الخطأ بالمزيد من الديمقراطية، فالديمقراطية ليست بلا عيوب أو نواقص، وعن طريق كسب الناخبين يمكن التقليل من تأثيراتها السلبية وتصحيح مساراتها الخاطئة.
لقد حاول رئيس الوزراء ديفيد كاميرون استخدام وسائل متعدّدة لإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بما فيه حشد رأي عام وبمشاركة من رئيسي وزراء سابقين هما جون ميجر وتوني بلير وطاقم أساسي من حزب المحافظين، لكن محاولاته باءت بالفشل، فأقرّ بشجاعة وروح رياضية بالهزيمة، وأعلن استقالته مقراً بفوز خصومه، وتلك لعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والمنافسة المشروعة.
كم علينا التفكّر بالدرس البريطاني "الأوروبي"، دون أي مكابرات أو مزاعم أو ادعاءات أو تبريرات؟ ولنمعن النظر بمحايثات فريق الانسحاب كيف تصرف إزاء فريق البقاء "المنتصر والمهزوم"، فذلك هو الوجه الآخر لبريطانيا المؤسسات وحكم القانون والديمقراطية، وتلك حصيلة ثقافة مدنية سلمية وتراكم تقاليد وممارسات طويلة الأمد.
نُشرت على موقع صحيفة الخليج "الإماراتية" بتاريخ 6/7/2016

459
إن الحوار والجدل حول فكرة التربية على المواطنة لا ينبغي أن يقتصر على محافل فكرية محدودة، ولهذا ينبغي أن ينتقل إلى منابر متنوعة لاسيّما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية وخصوصاً من النساء ومن التكوينات الثقافية، وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام، لاسيّما   الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الانترنت والكومبيوتر، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة أولاً، ومن ثم كيف يمكن تنمية قدرات الأفراد والمجتمع عبر التربية وقيمها الجديدة وتعزيز أركانها وصولاً إلى ما نطلق عليه مفهوم المواطنة العضوية الذي يقوم على أربعة أركان أساسية هي: الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة كما تمت الإشارة إليه، في إطار تفاعل ديناميكي لا انفكاك بين عناصره ومكوناته أو انتقاص من أحدها لهوّيات متعدّدة ومتعايشة فرعية وعامة.
______________
(*) بحث قدّمه د. شعبان في مؤتمر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) والمركز الدولي لعلوم الإنسان – بيبلوس، جبيل – 3-5/9/2015، وهو المؤتمر العلمي الذي انعقد تحت عنوان: "المجتمعات المتعدّدة اللّغة والديمقراطية من خلال تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". وقد نُشر هذا البحث في كتاب أصدرته منظمة اليونيسكو بالتعاون مع المركز الدولي لعلوم الإنسان تحت عنوان: "حضارات في طور الانتقال"، بيروت، 2016.
(**) أكاديمي ومفكّر عراقي، له أكثر من 50 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والاجتماع السياسي والأديان والعلاقات الدولية، إضافة إلى مساهمات متميّزة في الثقافة الحقوقية، ولا سيّما في تطوير الفهم المتجدد لثقافة حقوق الإنسان والمجتمع المدني والحداثة، واللاّعنف والتسامح .
عضو المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب.
المدير العام للمركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني (عمان – بيروت).
مستشار في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية (بغداد).
عضو المجلس العلمي الاستشاري لدار الخبرة (بغداد).
عضو مجلس أمناء المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (بيروت).
نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان "أونور" (بيروت).
رئيس المعهد العربي للديمقراطية (تونس).




460
أما القاعدة الثالثة فهي تستند إلى فكرة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن تتحقق من خلال التنمية، وهو ما أُطلق عليه التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستندة إلى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات، لاسيّما التعليمية وتأمين حقوق المرأة والمجموعات الثقافية وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وتقوم القاعدة الرابعة على الحق في المشاركة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي، إذ  لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة والحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأي اعتبار كان.
وتتشكّل الهوّية الوطنية العامة  من خلال القواعد الأربعة المشار إليها، وعلى أساسها يمكن أن تتعايش هوّيات مصغرة (فرعية) في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق "الأغلبية" من جهة، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى على أساس التكامل والتكافؤ والتكافل والمساواة، أي التنوّع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب، فقد ظلّ الإتجاه السائد في الثقافة المهيمنة يميل إلى عدم احترام الخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوق المجموعات الثقافية، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو غير ذلك .
تعتبر الحرية قاعدة أساسية للجيل الاول لحقوق الانسان، لاسيّما اقترانها بفكرة المساواة في الكرامة والحقوق، وبخاصة الحق في الحياة وعدم التعرّض للتعذيب وحق اللجوء وحق التمتع بجنسية ما وعدم نزعها تعسفاً، وحق الملكية إضافة إلى الحقوق والحريات الأساسية.
وارتبط الجيل الثاني لحقوق الإنسان بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيّما المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص عام 1966 التي شملت حقوق العمل والضمان الاجتماعي والتعليم وحقوق المرأة والطفل والمشاركة في الحياة الثقافية والاستفادة من منجزاتها وغيرها .
أما الجيل الثالث لحقوق الإنسان فهو يستند إلى الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من الثورة العلمية – التقنية .
ويمكن اعتبار الجيل الرابع ممثلاً بالحق في الديمقراطية، والحق في التعددية والتنوّع الثقافي، لاسيّما بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكيك دولها وبخاصة الاتحاد السوفيتي. وكان مؤتمر باريس المنعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، قد وضع أساساً جديداً لشكل العلاقات الدولية ورسّخ هذا الاتجاه مؤتمر برلين (حزيران – يونيو) 1991 بعد حرب الخليج الثانية، بتأكيد: التعدّدية والتداولية وتشكيل مركز دائم لمراقبة الانتخابات وحرّية السوق، رغم أن القوى المتنفذة حاولت توظيف هذا التوجه العالمي الايجابي لمصالحها الأنانية الضيقة.
ولعلّ انكسار رياح التغيير التي هبّت على أوروبا في أواخر الثمانينيات عند شواطئ البحر المتوسط، كان بسبب سعي القوى الدولية المتسيّدة في توجيه الأحداث طبقاً لمآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية دون مراعاة لحقوق شعوب ودول المنطقة، الأمر الذي عطّل عملية التغيير، تلك التي جرت محاولات لفرضها من الخارج، ولكن على نحو مشوّه، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، ونجم عنها احتلال أفغانستان والعراق والحرب على لبنان بحجة مكافحة الإرهاب الدولي العام 2006 وكذلك الحرب على غزة بعد حصارها منذ العام 2007.
مثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين المواطنة وحقوق الإنسان، وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة المواطنة ببعدها الكوني وأساسها الحقوقي الإنساني قد اقتربت من المشترك الإنساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والإثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لاسيّما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الانسانية .
المواطنة تقوم وتستند إلى قاعدة المواطن – الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حرّيته الأساس في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتتعزز مبادئ المساواة والحرّية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوّع والتعددية من جهة أخرى ، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الإنساني والحقوق والواجبات وليس الانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزز من خلال الدولة ، فإنها تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد من جهة للإنتهاكات المتعلقة بالحرّية والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح وليس احتجاج حسب، بحيث يصبح شريكاً فعالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيّما إذا تحولّت الدولة من حامية إلى راعية  ، مرتقية لتعزيز السلم المجتمعي والأمن الإنساني، لاسيّما   بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار والمواطن كإنسان في ظل الحق والعدل.

2- الدولة العربية والمواطنة!
مثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب " دولتية " أو  ما يشابهها في العهد الراشدي الأول وما بعده أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسعت وتطورت في ظل الدولة العباسية، وفيما بعد الدولة العثمانية، خصوصاً في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لاسيّما   فكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية -الإسلامية، لاسيّما   فيما يتعلق بتحديد مسألة  الهوّية،  ناهيك عن الحقوق الإنسانية، فإن هذا الحق، تساوقاً مع التطور الفقهي على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، رغم النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً للتطور الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط  القرن العشرين خصوصاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 1966 والعديد من الوثائق الدولية ، التي أكدت : أن لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول .
ويستخدم في القانون الدولي، مصطلح المواطنة الذي يوازيه مصطلح الجنسية بالتبادل فيما بينهما، حين يتم الحديث عن منح الأشخاص الحق في حماية دولةٍ ما إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنية ، تلك التي تشكل ركناً أساسياً في هوّية الفرد – الإنسان، ويمكن تعريف المواطنة الحيوية أو العضوية بأنها " الحق في الحصول والتمتع بالحقوق  بصورةٍ عادلة ".
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي ، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي أكّدتها المادة 15من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، إلاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة ، بغض النظر عن أن حالات إنعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية  .
ولعلّ المثل الأكثر سفوراً في العالم العربي، هو تهجير الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقهم في وطنهم وبالتالي جعلهم عرضةً لحالات إنعدام الجنسية. ولا شكّ أن اتساع وانتشار حالات اللاجئين وأوضاعهم هي التي دفعت الأمم المتحدة إلى إنشاء مكتب للمفوضية السامية للاجئين كإحدى وكالات الأمم المتحدة المسؤولة عنهم وللحد من ظاهرة إنعدام الجنسية.
وقد عرف الوطن العربي حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة، سواءً من أفراد أو مجموعات بشرية وبهضم حقوقها أو انتزاع أو عدم حصولها على الحق في الجنسية، كما حصل للمهجرين العراقيين، لاسيّما عشية وخلال الحرب العراقية - الإيرانية ومعظمهم من الأكراد الفيليين، إذْ انتزعت منهم جنسيتهم وصودرت أملاكهم في العراق بحجة التبعية الإيرانية، ولم يعترف بهم في إيران أيضاً، فعاشوا بدون جنسية وبدون وطن ومواطنة، وكذلك حالات ما سمّي بالمكتومين من الأكراد السوريين الذين لم يحصلوا على الجنسية وبالتالي على حقوق المواطنة، وحالات البدون في الكويت وبعض دول الخليج التي حرمت عشرات الآلاف من حقوق المواطنة، إضافةً إلى الكثير من الحالات والإشكالات بسبب الزواج من فلسطينيين أو أشخاص بلا جنسية أو من جنسيات أخرى وحصول حالات طلاق، الأمر الذي جعل الأبناء بلا جنسية، إذْ أن الغالبية الساحقة من قوانين البلدان العربية لا تسمح بالحصول على الجنسية عن طريق الأم، الأمر الذي خلق مشاكل لا تتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية حسب، بل بالحق في التعليم والتطبيب والعمل وغير ذلك.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة عن الأفراد والجماعات الذين يمكنهم إثبات وجود علاقة حقيقية وفعالة بينهم وبين بلدهم، سواءً عن طريق رابطة الدم "البنوّة " للآباء رغم ان العديد من البلدان العربية ما زالت تحجب هذا الحق عن الانتساب إلى جنسية الأم، في حين إن القانون الدولي لحقوق الإنسان يعطي مثل هذا الحق، أو " طريق الأرض "، أي الولادة في الإقليم أو الحصول على جنسيته ومواطنته أو اكتساب الجنسية نظراً للإقامة الطويلة والمستمرة والتقدم بطلب إلى السلطات المسؤولة عن ذلك. 

3- النخب العربية وفكرة المواطنة
وإذا كان انشغال النخب العربية بفكرة "الأمة الإسلامية" أو "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر وربما في بدايات القرن العشرين، فإن الانبعاث القومي العربي بدأ يتعزز لاحقاً، حيث بدأت النخبة الثقافية والتنويرية الاسلامية والعلمانية، الاهتمام بالفكرة الحديثة عن الدولة التي تعتبر المواطنة أحد مظاهرها الأساسية، فالشعب والحكومة والارض والسيادة أركان الدولة وعناصر وجودها، التي تستقيم وتتعزز في ظل احترام الحقوق والحريات وتكريس مبدأ المساواة الكاملة والمواطنة التامة في إطار سيادة القانون.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة والأقلية، وهذه النظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فالأقلية قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو " مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الامور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لاسيّما  : الحقوق والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من التوجّه نحو المجتمع المدني ابتداءً بالانتقاص من مفهوم المواطنة إلى الضغوط الاجتماعية المسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة على بعض النخب "الأقلوية" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو " تسلطية"، لاسيّما بغياب مبادئ المساواة  وتهميش "المجموعات الثقافية الأخرى" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والإستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة!
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضد من تطوّر فكرة المساواة والحرية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة !!
في الثقافة والأدب، مثلما في علوم السياسة والاجتماع ثمت دلالات، وهذه لا تأتي الاّ بعد دراسة وتأمّل لتجارب وممارسات، وصولاً إلى نتائج، ولهذه الأخيرة معاني إيجابية وسلبية، لأنها تعتمد على مدى التحقّق، وهذا الأخير يكون مقاربة من الهدف ذاته، الذي يعني القدرة على الامتلاء، أي مدى التوازي بين الهدف والوسيلة، من خلال معيار، لا يأخذ بالتطابق بقدر سير التطبيق بموازاة النظرية، وكلّما اقتربت من ذلك، كلّما يمكن القول أن الدلالة تعني النجاح أو الفشل.
منذ العام 2011 كان الربيع العربي وتفرعاته هو الشغل الشاغل للحوار: الدولة المدنية وعلاقة الإسلام بالدولة، ودور الحركات الإسلامية والإسلام السياسي في مشروع الثورات وبرامجها ونتائجها الانتخابية، والإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام)، والإسلاملوجيا (استخدام الإسلام بالضد من تعاليمه السمحاء)، والأمن القومي العربي والسياسة الدولية والعامل الاقليمي، لاسيّما الصراع العربي- الإسرائيلي ودول الجوار الإيراني والتركي ومشروعيهما الإقليميين في ظل غياب أو ضعف المشروع العربي، وأمن الخليج وما يهدّده والمخاوف من الملف النووي الإيراني، والثقافة واللغة ودور التكنولوجيا والعلوم ووسائل التنمية والهوّية ومستجداتها والمواطنة وإشكالاتها.
ما دفعني لاستعراض ذلك هو النقاش الذي دار في إحدى حلقات البحث في مهرجان الجنادرية   (الثقافي)، التي ضمّت  المفكرين أبو يعرب المرزوقي ويوسف مكي وجمال سلطان وآخرين، وشارك في التعقيب والحوار عدد من الباحثين، لاسيّما وأن فكرة المواطنة حديثة في الأدب السياسي والقانوني، مثلما حداثة فكرة الدولة ذاتها، وإنْ كان للمسألتين علاقة بتاريخنا، لكن الفكرة المعاصرة وتجلّياتها تختلف عن إدارة اجتماع سياسي لمجموعة من البشر، ضمن المفاهيم التي جاءت بها الثورة الفرنسية وما تعمّق بعد الثورة الصناعية، وصعود الطبقة الوسطى، من تداولية السلطة سلمياً وإجراء انتخابات دورية وفصل السلطات وسيادة القانون وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان.
وإذا كان ثمت واقعية في موضوع المواطنة، باعتبارها ركناً أساسياُ للدولة العصرية، لا غنى عنه لتقدّمها ورفاه شعبها، فإن هناك من يدعو لنموذج آخر " لمواطنة افتراضية"، أساسها آيديولوجي يقوم على الهوّية الدينية أو الطائفية أو القومية أو الأممية بحسب مصدر التوجه، فالإسلاميون بمختلف تياراتهم سواءً جزؤهم الحركي أو الساكن، قدّموا نموذجاً لمواطنة إفتراضية حين دعوا إلى "دار الإسلام" و"دار الشرك"، وهم وفقاً لهذا التقسيم افترضوا مواطنة عابرة للحدود والجنسيات والقوميات والطوائف، وذلك بتجاوز مشروع "الدولة الوطنية"، لاسيّما عندما يتم الحديث  عن مواطنة إسلامية.
ومثله التيار القومي العربي، فإنه لا يعترف بالحدود والكيانات التجزيئية، التي فرضها المستعمِر، ويتحدّث عن فكرة مواطنة عربية، وقد نجد هذه الفكرة الجنينية قد أخذت طريقها إلى التطبيق التمهيدي، مثل الحديث عن المواطنة المغاربية والمواطنة الخليجية، على الرغم مما حقق مجلس التعاون الخليجي من بعض النجاحات في التقارب والتنسيق، لكن ثمت عوائق أمام فكرة مواطنة خليجية أو كونفدرالية على هذا الصعيد، سواء تم توحيد العملة أو الاحتفاظ بها لحين، على طريقة الاتحاد الأوروبي. والماركسيون أيضاً يتجاوزون على فكرة "الدولة الوطنية"، وكان كارل ماركس هو الذي قال "ليس للعمال من وطن"، بمعنى تجاوز الطبقة العاملة لما هو قائم باتجاه مواطنة أممية لشغيلة العالم.
وسواءً كانت المواطنة الإسلامية أو المواطنة العروبية وربما الكردية غداً أو غيرها، أو المواطنة الأممية بنموذجها السوفييتي أو الكوبي الأمريكي اللاتيني، فإنها جميعها صيغ لمواطنة افتراضية، تقوم على الموقف السلبي من فكرة الدولة الوطنية، فهو الجامع بينها، علماً بأن الكثير من المشكلات القانونية والسياسية، تواجه مثل هذه الأفكار في ظل غياب صيغة قانونية مثل صيغة الاتحاد الأوروبي مثلاً، لكن هذه الصيغ ذات الطبعة الآيديولوجية الملوّنة، التي تأخذ اسماً دينياً (المواطنة الإسلامية) وإسما قومياً (المواطنة العروبية أو العربية) واسماً أممياً (المواطنة الأممية)، فإنها ترضع من ثدي واحد، فالأولى تسعى لقيام نظام إسلامي، والثانية تستهدف قيام نظام وحدوي قومي، والثالثة تريد بناء الاشتراكية، وفقاً لوحدة الطبقة العاملة على أساس مركز أممي وفروع مرتبطة به.
لعلّ الفكرة النظرية التي تروّج لها التيارات المختلفة تصطدم بعدد من الجوانب العملية، فيما يخص الدولة الوطنية وهويّتها، ناهيك عن عدد من الأسئلة الشائكة التي تواجهها مثل: تنازع القوانين، كيف السبيل للانتقال من دائرة المواطنة الوطنية إلى دائرة المواطنة الأوسع الإسلامية والعروبية والأممية؟ هل بإسقاط الرغبات على الواقع؟ علماً بأن ما طرحته موجة ما يسمى "الربيع العربي" وعموم موجات التغيير التي حصلت في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية، أدّت إلى انبعاث الهوّيات الفرعية، وقادت إلى حروب وانقسامات وتشكيل دول أو حتى دويلات.
أفكار من هذا النوع كانت محطّ نقاش وجدل لتيارات فكرية وسياسية خلال العقود الماضية، خصوصاً علاقة الدين كعقيدة، بالسياسة كممارسة ومساومة ومصالح، ومن جهة أخرى كانت فكرة الدولة المدنية حاضرة، لاسيّما باعتبارها "الكفيل بوضع حدّ لنزاعات القوة والهيمنة وتنظيم حياة الناس" بعيداً عن دينهم ولغتهم وعرقهم ولونهم وجنسهم ومعتقدهم وأصلهم الاجتماعي، وذلك بوجود مؤسسات ضامنة لحقوقهم في إطار سيادة القانون، وربّما هذا ما كانت تسعى إليه بعض حركات التغيير، حتى وإن هناك من حاول وضع العقبات في طريقها أو واجهها بتحدّيات، ناهيك عن المنعرجات التي صادفتها والخيبات التي اعترضتها، لكن ذلك هو الواقع بكل تعقيداته، وهو واقع وليس افتراضاً بكل الأحوال!!.

4-   المواطنة تاريخياً!
يعود جذر كلمة المواطنة إلى الوطن، وهذا الأخير يكاد يكون ملتبساً أو متماهياً مع مفهوم الدولة، فالدولة هي الإطار التنفيذي والمؤسساتي للوطن، وبالطبع فهي تختلف عن نظام الحكم أو الحكومة بمعنى السلطة.
الوطن هو " المتّحد" الجغرافي الذي تعيش فيه مجموعات بشرية، قومية ودينية وسلالية ولغوية متنوعة أحياناً ومختلفة، أي (شعباً) يسكن في أرض (الإقليم) ولديه سلطة أي (حكومة) ويتمتع بالسيادة أي بحقه في تقرير مصيره دون تسلّط، وهذا المفهوم أقرب إلى فكرة الدولة العصرية. والوطن ليس علاقة عابرة أو ظرفية أو مؤقتة، بل هو مجموعة العلاقات الإنسانية والعاطفية والثقافية والمادية المتحددة في إطار هوّية معينة عمودياً وأفقياً وكل إنسان يوجد في وطن أو يكون منتمياً إلى وطن، ولكن لا يولد المرء مواطناً، بل يكتسب هذه الصفة داخل مجتمعه، لاسيّما من خلال مشاركته واعتماداً على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة، والمواطنة في نهاية المطاف هي مجموع المعايير الحقوقية والقانونية المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تمكّن الفرد من الانخراط في مجتمع والتفاعل معه إيجاباً والمشاركة في إدارة شؤونه، وهو ما نطلق عليه مصطلح المواطنة العضويّة!
لم يظهر مفهوم الجنسية بوصفها رابطة قانونية وسياسية وأداة للتمييز بين الوطني والأجنبي إلا في وقت متأخر ويرجعه البعض إلى بداية القرن التاسع عشر  وقد تعاظم الاهتمام بذلك بتوفير الحماية الفعالة للأفراد.
وإذا كانت الرابطة بين الفرد والجماعة سابقاً تقوم على اعتبارات دينية أو تاريخية "انحدار من أصول معينة" أو الإقامة في رقعة جغرافية بصورة استقرار دائم، فإن العلاقة اتخذت شكلاً آخر في الدولة الحديثة، لاسيّما   في إطار فكرة المواطنة.
ففي العهود القديمة كانت الأسرة هي التي تمثل الخلية أو الوحدة التي يجتمع في نطاقها الأفراد، وعن طريق تجمع الأسر تنشأ العشيرة أو القبيلة التي تجمع الأصول العائلية والديانة والاستقرار.
أما مفهوم الأجنبي سابقاً فهو يختلف عن مفهوم الأجنبي حالياً، ففي تلك العهود كان مفهوم الاجنبي هو كل من لا يرتبط مع أفراد القبيلة أو العشيرة بالعوامل المذكورة، مما كان يمكن اعتباره عدواً يستحق القتل أو خصماً يستوجب ابعاده، وظلّت العوامل والأسس العرقية سائدة حتى بعد اجتماع العشائر أو القبائل في مدينة واحدة يحكمها شخص او مجموعة أشخاص كما هو شأن أثينا وسبارطة.
في كتاب " القوانين" يخضع أفلاطون القانون لصالح المجتمع أكثر مما يخضع للأخلاق السامية المجردة. أما أرسطو ففي كتابه " السياسة" يؤكد على ضرورة أن تكون القوانين رشيدة وتلائم "مجتمع الدولة"   .
كان المواطنون في بعض المدن اليونانية يتمتعون بحقوق المساواة أمام القانون Isnomia واحترام متعادل للجميع Isotimia وحقوق متساوية في التغيير Isogoria، وتلكم هي الحقوق الاساسية التي أصبحت معروفة في عالمنا المعاصر    .
لكن ذلك لم يمنع التمييز بين السادة (النبلاء) وهم المواطنون والعبيد وفئة ثالثة هي المحاربون أو الجند. إعتقد اليونانيون بتفوقهم على سائر الشعوب لذلك كانت الحروب والفتوحات هي أساس العلاقة مع الغير، الآخر، الاجنبي.
حاول الرواقيون الذين اهتموا بالكون والأخوة العالمية أن يربطوا هذه "الحقوق" بالعقل للكائن البشري، في محاولة لتحجيم التمييز.
أما في العهد الروماني فقد كان التمييز بين ثلاثة طوائف:
1-   المواطنون، وهم الرومان من سكان عاصمة الامبراطورية.
2-   الرومان خارج مدينة روما، ويطلق عليهم اللاتينيون، وإن كان لهم حق التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، الآّ أن الأمر يتوقف على تجنيسهم.
3-   البرابرة أو طائفة الأجانب، وهم سكان المناطق المحتلة الذين يخضعون للامبراطورية الرومانية، فهؤلاء يتبعون لقانون خاص بهم يسمى قانون الشعوب Jus Gentium وهو يعتبر استمراراً لفكرة القانون الطبيعي اليونانية التي اقتبسها شيشرون من الفلسفة الرواقية، بالتأكيد على مبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه  وفي الواقع فلم يكن رعايا الشعوب يتمتعون بأية حماية قانونية.
أما في القرون الوسطى وتفتّت المجتمع اليوناني- الروماني فقد لعبت الكنيسة بامكانياتها وتنظيمها دوراً كبيراً في تنظيم المجتمع، فقد قال القديس أوغسطين الذي عاش في القرن الخامس، وأنتج أعمالاً متميزة أن "العدالة الحقة" لا توجد في دولة ملحدة، مميزاً بين Concordia و Justicia أي بين " العدالة والحق".
خلال فترة هيمنة الاقطاع ازداد ارتباط الفرد بالارض بحيث أصبح الشخص تابعاً للاقطاعية التي يحكمها أمير أو سيد اقطاعي يملك الارض ومن عليها. ففي هذه الحالة اختفى التمييز الذي كان سائداً بين المواطن أو الوطني والاجنبي، حيث كانت سلطة الاقطاعي تنسحب على سكان المقاطعة بكاملها، وكان حكم كل أجنبي أن يغادرها خلال فترة محددة بموجب أمر من الاقطاعي، لكن الأمر اتخذ منحىً آخر بصعود الأنظمة الملكية التي ألغت النظام الاقطاعي وأصبح الأشخاص يرتبطون بالملك الذي يعتبر حاميهم والمدافع عنهم، في حين كانوا يدفعون له الضرائب ويؤدون الفروض العامة، مرتبطين بشخصه على نحو دائم وأبدي لا انفصام فيه. وقد اتسم عصر النهضة وبخاصة القرنين السادس عشر والسابع عشر باتساع ساحة الفكر السياسي والقانوني لمفكرين كبار مثل جان بودان في فرنسا وهوغو غروشيوس في هولندا وهوبز ولوك في انكلترا وغيرهم.
فقد اهتم بودان بفكرة السيادة في حين أعار غروشيوس اهتمامه للقانون الدولي ولفكرة الدولة والقانون، مؤكداً أن القانون الوضعي يخضع للقانون الطبيعي، أما هوبز فقد أكد على تلازم الحرية والضرورة وعلى الحاكم أن يسد احتياجات الرعية.
أما جان جاك روسو الذي هيأت أفكاره للثورة الفرنسية وبخاصة كتابه " العقد الاجتماعي" ومونتسكيو  وكتابه " روح القوانين" فقد اتخذ اتجاهاً آخر، فحسب روسو في نظرية العقد الاجتماعي، أن للأفراد حقوق قبل أن يكونوا في مجتمع منظم، وأن بعض هذه الحقوق غير قابلة للتصرف وعلى الدولة مراعاتها ليس بسبب شروط العقد حسب، بل بسبب طبيعة الإنسان.
أما مونتيسكيو فقد دعا إلى فصل السلطات باعتباره حجر الزاوية في توفير الحرية مؤكداً على الرقابة على السلطات، في حين أكد روسو على مفهوم سيادة الشعب، وإذا كان الناس يولدون غير متساوين، فإنه بموجب العقد الاجتماعي يصبحون متساوين. وقد ذهب الفيلسوف الألماني كانت إلى تأكيد مفهوم الحرية الأخلاقية للإنسان ودور العقل مشيراً إلى إلزام الفرد ببعض التقييدات على حريته تامينا لحرية الغير  .

5- المواطنة في الإسلام
إذا كانت هذه المقدّمات ضرورية للتفريق بين حقوق المواطن وحقوق الأجنبي في موضوع الجنسية والمواطنة، فلا بدّ من وقفة سريعة عند تطور مفهوم المواطنة في الإسلام، خصوصاً في إطار الدولة العربية - الإسلامية، فالدولة في عهد النبي محمد (ص) بلورت وبخاصة عبر القرآن الكريم قواعد جنينية سياسية ودينية وقضائية لتنظيم المجتمع في عهد وساهمت السنّة أي أحاديث الرسول (ص) في الإجابة على الكثير من الأسئلة التي كان يطرحها المجتمع الإسلامي.
وتطوّر الأمر في عهد الخلافة الراشدية وبخاصة في عهد الخليفة أبو بكر(رض) التي دامت نحو سنتين. وترسّخت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، سواءً ما يتعلق بقضية العطاء في الغنائم وامتيازات المواطنة، وبخاصة المحاربين حيث اعتمد الخليفة الاول مبدأ المساواة دون اعتبار للقدم إلى الدخول في الإسلام أو القرابة من النبي (ص) أو البلاء في الحرب من أجل الإسلام، الأمر الذي خلق إحساساً اسمياً بالمساواة، شجع العديد من العرب على الالتحاق بالجيش الإسلامي  .
أما أمور القضاء فقد جرى تقاسمها مع الخليفة عمر بن الخطاب (رض) واستحدث منصب مسؤول بيت المال، وسن عمر (رض) في عهده عدة قرارات منها مراتبية إعطيات وإيجاد ديوان للجند مشدّداً على مبدأ القدم في الإسلام والبلاء في خدمته والإنتماء العربي كمعيار للمواطنة أو لمفهوم الجنسية المعاصر.
واتّخذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) التصنيف الذي اتبعه عمر بن الخطاب (رض) دليلاً للانتماء والمواطنة، بل زاد في تضييقه خصوصاً بشأن دور قريش التي نالت حصة الأسد في إعادة التعيينات السياسية والعسكرية، وهو النهج الذي حاول الإمام علي (رض) التوقف عنده، إلاّ أن اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين معاوية قد أثر في عناصر الاستقطاب والولاء، وقد شعر بعض الموالين بالغبن الشديد بالرغم مما قدّموه للإسلام فقد جرى " التمييز" في حقهم، في حين دعا الإسلام ويدعو إلى المساواة وفقاً لقول الرسول (ص) " لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" و" الناس سواسيه كأسنان المشط"، فرغم " إسلامهم وإسهامهم في دفع الديات والمشاركة في القتال وفي الأمور العامة فقد أغلقت دونهم في القرن الأول للإسلام على الأقل الوظائف، التي تعني الولاية على الغير كالامارة والقيادة والقضاء، وأن تولّى بعضهم القضاء، فقد ندر من تولّى مناصب إدارية وعسكرية هامة"  .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً يسعى لبسط نفوذه على العالم أجمع، الآّ أنه رغم نزعته الإنسانية فقد كان ينظر إلى العالم في علاقاته الدولية إنه منقسم إلى قسمين، الأول دار الإسلام والثاني دار الحرب، فالدار الأولى تعني الأقاليم التي يبسط المسلمون عليها ولايتهم، وتضم إلى جانب المسلمين أشخاصاً من غير المسلمين، وهم الذميون والمستأمنون. الذميون هم أهل الكتاب، فضلوا الاحتفاظ بديانتهم الأصلية مقابل دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتعون بالحماية والعيش بأمان، ولكن بشروط في كنف الدولة الإسلامية.
أما المستأمنون، فهم القادمون من دار الحرب إلى دار الإسلام أي انهم "أجانب" دخلوا إلى دار الإسلام بإذن من الدولة الإسلامية سواءً كان لغرض التجارة أو غيرها  . أي ان هناك فرقاً بين الذمي والمستأمن، فالذمي من رعايا الدولة الإسلامية، احتفظ بدينه مقابل الجزية والأمان، أما المستأمن فهو الذي جاء من دار الحرب لظرف خاص أو طارئ او مؤقت، والمستأمنون ليسوا مواطنين أو من رعايا الدولة الإسلامية.
أما دار الحرب فهي التي لا تمتد إليها الولاية الإسلامية، ولا تُطبق فيها الشريعة الإسلامية، بل لها نظامها الخاص وقد انعقدت بين دار الإسلام ودار الحرب معاهدات سلام أو هدنات وأطلق عليها (متعاهدة) أو تكون في حالة حرب مع الدولة الإسلامية.
وإذا كانت هذه المقاربة لمفهوم وتطور الجنسية كوجهة نظر معاصرة لفكرة المواطنة أو الرعوية أو غيرها، فإن المفهوم الحديث للجنسية في العالم العربي، لم يظهر الاّ في سنوات متأخرة بفعل الاحتكاك مع اوروبا وبقصد التمييز بين مواطني الدولة الإسلامية وغيرهم من الاجانب. وإذا كان مصطلح " المواطنة" و" المواطن" citizen ( أي الفرد المشارك في الشؤون المدنية والسياسية بحرية) غريباً تماماً في الإسلام على حد تعبير برنارد لويس فلم تعرفه اللغات العربية والفارسية والتركية، حيث يرجع ذلك إلى غياب فكرة المشاركة للمواطنة، وفكرة المشارك للمواطن، فإن الباحث السوداني عبد الوهاب الأفندي يعتبر وجود المسلم رديفاً لكلمة المواطن الحديث، وهو المصطلح الإسلامي الذي يعني انتماء الفرد في بدايات المجتمع الإسلامي والتمتّع بعضوية كاملة وفورية في المجتمع السياسي بالمعنى الايجابي للمواطنة النشطة على كونه مسلماً  . وكان الإسلام الأول وبخاصة في عهد النبي (ص) يولي اهتماماً كبيراً لرأي المسلمين، الذين كانوا يعبّرون في لقاءاتهم اليومية لخمس مرّات (أوقات الصلاة) في مقر الحكومة أو البرلمان في الجامع (بمشاركة نسوية ملحوظة) عن تبادل الرأي والاستماع إلى رأي المسلمين والرد على تساؤلاتهم.
وكان بمقدور أي فرد إثارة أية قضية يرغب فيها، لكن توسع وانتشار الدولة الإسلامية وامتداد سلطانها إلى أقاليم بعيدة وبخاصة العراق ومصر، اضطر هؤلاء إلى تصريف أمورهم بأيديهم بعيداً عن الرأي اليومي والحوار المستمر بين مركز الدولة وقيادتها العليا وبين المواطن، وتدريجياً بدأت البيروقراطية والمؤامرات السياسية تبعد المواطن (المسلم) عن المشاركة في تصريف أمور الدولة  .
وظلت فكرة التمييز بين حقوق " المسلم" و" الغريب" أو " المقيم" من غير المسلمين مستمرة حتى العصر الحديث حيث تداخلت ايجابيا لصالح الاخير بفعل ضغوط غربية للحصول على ما يسمى بنظام الامتيازات Capitulation من الدولة العثمانية للاجانب وبخاصة للمسيحيين، الذين كان الغرب يعلن الرغبة في توفير حماية خاصة لهم ورعاية مصالحهم الدينية والسياسية، وهو ما أعطى انطباعاً أحياناً بأن غير المسلمين الذين حظوا بدعم الغرب تجاوزوا خط الدفاع عن مبدأ المواطنة الكاملة أو المتساوية مع غير المسلمين، إلى الحصول على امتيازات تحت حماية القوى الأجنبية.
ربما يعود جزء من ذلك إلى أن بعض المواقف الإسلامية لم تكن " توافق" أو تؤيد فكرة إقرار مبدأ المواطنة الكاملة صراحة لغير المسلمين، وهو الموقف الذي انعكس لدى البعض من موضوع القوميات و"الأقليات" الدينية والإثنية واللغوية والمذهبية أحياناً، ولعلّ موقف بعض القوى التقليدية المتشدّدة كان الأقرب إلى هذه المواقف، ونعني بها الموقف الملتبس والذي لا يقر مبدأ المساواة التامة والاعتراف بحقوق الغير وحقهم في المواطنة الكاملة ضمن القواعد المعترف بها في القانون الدولي ولوائح ومواثيق حقوق الإنسان .
حدث تطور بطيء باتجاه إقرار حق المواطنة الكاملة لدى بعض المفكرين الإسلاميين، رغم أن المسألة لا ترتقي إلى الحق الدولي المنصوص عليه في لوائح حقوق الإنسان، يمكن على هذا لصعيد الإشارة إلى المفكرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي وطارق البشري وسليم العوّا وأحمد كمال أبو المجد وراشد الغنوشي ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله   وغيرهم.
ورغم محاولات التجديد فإن الاتجاه الإسلامي السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة،التي يقصرها على الانتساب الديني والإقامة، فالمسلمون غير المقيمين في الدولة الإسلامية وغير المسلمين المقيمين فيها لا يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، وربما يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، لكنهم لا يصبحون مواطنين بالكامل ولا يحق لهم تسلم مناصب رئيسية في الدولة مثل رئاسة الدولة ورئاسة القضاء ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش وغيرها  .
أما التجربة الإسلامية، فقد حققت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 انعطافاً جديداً في الفكر الإسلامي، وأنشأت مؤسسات تساوقاً مع الموجة  "الديمقراطية": برلمان وانتخابات رئاسة ومنذ انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية خرجت من مرحلة الثورة، لتدخل مرحلة الدولة، ولم يكن ذلك بمعزل عن صراع سياسي وفكري حاد داخل أوساط التيار الديني، وقوفاً ضد التيار الإصلاحي الذي قاده السيد محمد خاتمي، في ظل تصاعد موجة شديدة للتيار المحافظ الذي يحاول إحباط خطط التغيير والإصلاح...الخ، لكن شرط الدستور على التحدّر الفارسي واجه انتقاداً شديداً لاستثنائه المسلمين غير الفرس في الترشّح لرئاسة الجمهورية، ناهيكم عن الشروط الخاصة بولاية الفقيه أو حكم العلماء، وهو ما ينتقص من مبدأ المواطنة والمساواة.
أما التجربة الثانية فهي التجربة السودانية التي جاءت إلى الحكم عام 1989 وقد سارت نحو تقليص التعدّدية السياسية والفكرية والدينية واللغوية عملياً، لكن الدستور الجديد نظر للمشاركة من زاوية أخرى، منذ العام 1998 في محاولة انفتاحية باتجاه اقرار مبدأ المواطنة، بغض النظر عن الدين، لكنه ظل محافظاً من حيث الجوهر على الخصائص العامة لتوجهات الحكم الإسلامي، وهو على غرار دستور إيران يحتوي على بعض الشروط الإسلامية التي تقر بصيغة للمساواة النظرية دون أن ترتقي إليها فعلياً أو تقاربها  (18).
ويمكن القول: إن المحاولات الإسلامية في إعادة تعريف المواطنة ما زالت لم تبلغ حتى الآن المدى المقبول، فهي في بداية الطريق ويلزم مبدأ المشاركة منح المواطنين غير المسلمين الحقوق نفسها التي يتوقع منحها من قبل المواطنين في الجانب الآخر، وهذا يعني عدم أخذ الانتساب الديني كلياً عند التفكير بهذه القضية.

1-   المواطنة والتربية
يعتبر موضوع التربية على المواطنة موضوعاً جديداً في الفكر العربي المعاصر، خصوصاً بضعف أو شحّ وجود حركة مواطنة في العالم العربي وإنْ وجدت فما تزال جنينية أو هي أقرب إلى الارهاص منه إلى تأسيس " كيانية حقوقية" ذات أهداف محددة وواضحة في إطار آليات معلومة، بحيث تتحوّل المفاهيم إلى حقوق، وهذه الأخيرة إلى تشريعات وقوانين في إطار مؤسسات وبرلمانات، مثلما يتطلّب الأمر وجود قضاء عادل ومستقل يحميها من التجاوز والانتهاك، في ظل تطبيقات وممارسات بحاجة إلى نقد وتطوير مستمرين، لاسيّما   في ظل دور متميز للمجتمع المدني!!
إن فكرة التربية على المواطنة، هي جزء من فلسفة تربوية سسيو ثقافية حقوقية عقلانية مدنية عابرة للأديان والطوائف والتكوينات القومية والإثنية واللغوية والسلالية وغيرها، وهي مسألة حديثة في عالمنا العربي، حداثة فكرة المواطنة، وحداثة فكرة الدولة.
ولذلك فإن التربية على المواطنة له دلالات كثيرة:
فالدلالة الاولى أن عالمنا العربي ما زال في أول السلّم على الصعيد العالمي إزاء المفهوم السليم للمواطنة وحقوقها، حيث تزداد الحاجة لإثارة حوار وجدل حول الفكرة وأبعادها وغاياتها وسياقاتها، وحشد قوى وطاقات حكومية وغير حكومية، سياسية وفكرية وثقافية ودينية واجتماعية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني لمقاربة للمفهوم الذي ارتبط بفكرة الدول العصرية الحديثة، وبالتقدّم الذي حصل في هذا الميدان، لاسيّما   في الدول الغربية المتقدمة، حيث هناك تصالحاً بين الدولة والمواطن، سواءً في نظرة الدولة إلى المواطن أو في نظرة الأخير إلى الدولة، فمسؤولية الدولة لم تعد الحماية حسب، بل أصبحت الدولة "دولة رعاية" واجبها ووظيفتها الأساسية خدمة المواطن وتحسين ظروف عيشه وتوفير مستلزمات حريته ورفاهه، وبالمقابل فإن نظرة المواطن للدولة أصبحت إيجابية هي الأخرى، من حيث احترامه للقوانين والأنظمة وعلاقته بالمرافق العامة وحفاظه على البيئة وواجبه في دفع الضرائب وغير ذلك.
أما في البلدان العربية فإن نظرة السلطات إلى المواطن ظلّت نظرة تشكيكية ارتيابية في الغالب، إنْ لم تكن عدائية، وبالمقابل فإن نظرة الفرد للدولة استمرت نظرة سلبية، متربصة، تعارضية، بما فيها إزاء الخدمات والمرافق العامة، خصوصاً في ظل ضعف الحرية والتمييز وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص وعدم احترام الحق في المشاركة.
الدلالة الثانية تكمن بانشغال بعض المهتمين على صعيد الفكر وحقوقيين وناشطين بفكرة حركة للمواطنة، باعتبارها فكرة راهنية ومطروحة على صعيد البحث من جهة، وعلى صعيد الواقع العملي من جهة أخرى، خصوصاً الأسئلة الشائكة التي تواجهها والتطبيقات المختلفة التي تقف أمامها في مفترق طرق عديدة وخيارات بين مرحلتين:
المرحلة الاولى ونموذجها الأنظمة الشمولية التي تكاد تكون انتهت أو تلاشت على الصعيد العالمي، خصوصاً التشبث باحتكار الحقيقة والدين والسلطة والمال والاعلام، لكنها ما تزال قوية ومؤثرة في مجتمعاتنا العربية بأنظمته المختلفة.
أما المرحلة الثانية، فنحن ما زلنا عند بواباتها وكثيراً ما تحدثنا عنها وبصوت عال أحياناً، لكننا ما زلنا متردّدين من الدخول في صومعتها، خصوصاً إن حركة الإصلاح والدمقرطة في العالم العربي ما تزال تتقدم خطوة وتتأخر خطوتين، ناهيك عمّا تركته حركة الاحتجاج والتغيير التي ابتدأت في العالم العربي منذ العام 2011، من بعض المخاوف إزاء انفلات العنف واستشراء الفوضى وزعزعة أركان الدولة الوطنية لتيار الإسلام السياسي، لاسيّما وأن الكثير من الكوابح تعترض طريقها، سواءً  كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، فضلاً عن ذلك تواجه تحديات مختلفة خارجية وداخلية، مثل الاحتلال والحصار والعدوان، إضافة الموروث الاجتماعي والاستخدام والتوظيف السلبي للتعاليم الدينية على نحو متعصّب ومتزمّت ومغالي، ناهيكم عن الفقر والجهل والمرض والتوزيع غير العادل للثروة.
وما تزال فكرة المواطنة في عالمنا العربي تتعرض إلى تجاذبات داخلية وخارجية، خصوصاً ارتباطها على نحو وثيق بمسألة  الهوّية  ومستقبلها، لذلك فإن الحوار والجدل بقدر إجلائهما بعض التشوش والغموض إزاء مستقبل بلداننا، فهما يساعدان في الوقت نفسه في نشر ثقافة المواطنة ويعمقان الوعي الحقوقي بأهميتها وضرورتها وفداحة نكرانها أو الانتقاص منها أو تعطيلها أو تعليقها تحت أية حجة أو ذريعة، وهو بالقدر نفسه يطرح أسئلة ساخنة حول سبل التربية على المواطنة، بما يثير من اختلاف وصراع.
الدلالة الثالثة تتعلق بالالتباس النظري والعملي بشأن فكرة المواطنة، ولاسيّما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، الأمر الذي يضع تكوين تصوّرِ مشترك حولها من جهة وحول الطريق التربوية القويمة والأساليب التعليمية الصحيحة لتعميق فكرة المواطنة، في إطار المبادئ الدستورية للدولة العصرية التي تستند على سيادة القانون ومبدأ المساواة، مسألة ملّحة وضرورة حيوية، لا يمكن اليوم احراز التقدم والتنمية المنشودتان بدونها، وهو الأمر الذي يغتني بمساحة الحرية والمشاركة والعدالة، باعتبارها متلازمات ضرورية للمواطنة.
الدلالة الرابعة ترتبط باشكالات المواطنة والهوّية، والتحدّيات التي تواجههما، فقد بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوّية، بحيث يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما أنها تدخل في صلب المشكلات التي تواجه المصير العربي، ومعها يصبح جدل   الهوّيات   أساساً للتعايش والتكامل والتطور السلمي للمكوّنات المختلفة، بدلاً من أن يكون مادة للتناحر والانغلاق والتعصب، وهذه المسألة تتطلّب الإقرار بالتنوّع والتعددية والمشترك الإنساني كشرط لا غنى عنه للهوّية الجامعة، مع تأكيد الحق في الاحتفاظ بالهوّيات الفرعية الجزئية، الدينية أو القومية أو الثقافية أو غيرها!
الدلالة الخامسة تتعلق بالعلاقة الجدلية بين فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة  في الحقوق، وبالأخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة وحق تقلّد الوظائف العليا دون تمييز لأي سبب كان سواءً  التمييز الديني أو القومي أو المذهبي أو الاجتماعي أو اللغوي أو الجنسي أو بسبب اللون أو غير ذلك. ويأتي حق المشاركة، في إطار الحقوق الأساسية ونعني بها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم، ولعلّ هذه الإشكالية هي التي تشكل جوهر فكرة المواطنة، خصوصاً إذا ما اقترنت بالعدل، إذ أن غيابه سيؤول إلى الانتقاص من حقوق المواطنة، ولا تستقيم مواطنة كاملة مع الفقر ومع الأمية والتخلف وعدم التمتع بمنجزات الثقافة والعلم والتكنولوجيا وغيرها.
ليس تجنّياً إذا قلنا أن الفكر العربي ما يزال يعاني من نقص فادح فيما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة إلى مبدأ المساواة قائمة، إضافة إلى الموقف السلبي من حقوق "الأقليات" على الرغم من أنني أفضل استخدام مصطلح التنوّع الثقافي والتعددية الدينية والقومية والسلالية واللغوية والفكرية والاجتماعية وغيرها كما تمت الإشارة إليه، فهي عندي أكثر تعبيراً عن حقوق ما قصدته الأمم المتحدة في اعلانها العام 1992 الخاص بحقوق "الاقليات"، وأجد في تعبير " الأقليات "إحراجاً" أو "انتقاصاً " من حقوق أديان أو قوميات، يفترض أن يكون لها القدر نفسه من الحقوق استناداً إلى مبادئ المساواة، وكذا الحال يشمل حقوق المرأة التي ما تزال الثقافة السائدة، إضافة إلى منظومة القوانين النافذة بما فيها قوانين الأحوال الشخصية في الغالبية الساحقة من البلدان العربية، تنتقص منها.
وما يزال الكثير من التيارات والاتجاهات السائدة في السلطة والمجتمع تتمسك بالنظرة التسلّطية لعلاقة الدولة بالمواطن، الفرد، الإنسان، الذي هو شخص وكيان له أهلية قانونية، ففي الكثير من الأحيان يُنظر إلى حقوق المواطنة، أما باعتبارها هبة أو منّة أو مكرمة من الحاكم، يكون الأفراد عنده هم رعايا لا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. ومثل هذه المسألة ترتبط بأفكار ماضوية لعلاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تم تبريرها تارة على أساس نظرية التفويض الإلهي وأخرى على أساس وراثي كما هي الأنظمة الملكية لاسيّما   المطلقة وثالثة باسم الشرعية الثورية المستندة إلى الدين أو الطبقة أو القومية والدفاع عن مصالح الثورة والأمة بوجه أعدائهما، على حساب الشرعية الدستورية وسيادة القانون ومبدأ المساواة.
الدلالة السادسة إرتباط فكرة المواطنة ارتباطاً عضوياً بالمفهوم الحديث للتنمية، ولعل أحد الأركان الأساسية للتنمية يقوم على نشر التعليم وثقافة المساواة وعدم التمييز والقضاء على الفقر وغيرها من الحقوق، ولذلك تصبح التربية جزءًا لا غنى للمواطنة من جهة مثلما هي عنصر حيوي للتنمية من جهة أخرى، الأمر الذي يحتاج إلى مفاهيم تربوية جديدة وأساليب حديثة، لاسيّما   في ظل قيم المواطنة.
إن الحوار والجدل حول فكرة التربية على المواطنة لا ينبغي أن يقتصر على محافل فكرية محدودة، ولهذا ينبغي أن ينتقل إلى منابر متنوعة لاسيّما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطا

461
جدلية الهوّية والمواطنة !
في مجتمع متعدّد الثقافات(*)

د.عبد الحسين شعبان(**)
المقدّمة

يشغل موضوع  الهوّية  والمواطنة حيّزاً غير قليل في الثقافة والفكر وفي دراسات علوم السياسة والقانون والاجتماع، خصوصاً في ظل الجدل الذي ارتفعت وتيرته منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان، سواءً على المستوى الداخلي أو الدولي، في إطار مجتمعات متعدّدة التكوينات والهوّيات أو في إطار احتدامات لمصالح دولية وإقليمية.
وكان لانهيار الأنظمة الشمولية، وبخاصة في أوروبا الشرقية أثره الكبير في احتدام الصراع بين "هوّيات كبرى وصغرى"، وهوّيات "تابعة ومتبوعة" وهوّيات "عليا ودنيا"، وهوّيات "قوية وضعيفة"، رغم ميلي إلى تسميتها "هوّيات فرعية" أي خاصة، وهوّيات "كلية" بمعنى عامة أو شاملة، الأمر الذي عرّض بعض الكيانات الكبرى (الدول المتعدّدة التكوينات) إلى التصدّع والتآكل، خصوصاً بتبلور بعض خصوصيات الهوّيات الفرعية، التي وجدت الفرصة مناسبة للتعبير عن كيانياتها بعد طول انتظار وكبت وشعور بالغبن والحرمان، ناهيك عن ضعف المواطنة بسبب سياسات الإقصاء والتمييز والتهميش.
وأدّى هذا المتغيَّر إلى انقسام دول وانفصال كيانات ظلّت " متّحدة" لسنوات طويلة أو هكذا بدت الصورة، ولعبت العولمة دوراً مهماً في تشجيع ذلك، وبخاصة إذا كانت الكيانات الكبرى عامل تحدٍّ للقوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، وهو ما وفّر ظروفاً موضوعية، وإنْ كانت لأغراض خاصة، لبروز الهوّيات الفرعية، وخصوصاً في ظل ارتفاع رصيد فكرة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة، وهو ما كان غائباً في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
وأصبح الإقرار بالتعددية والتنوّع الثقافي والقومي والديني واحترام حقوق الهوّيات   الفرعية وخصوصياتها مسألة كونية، شجّعت "الأقليات" ونقصد بذلك المجموعات الثقافية في مجتمعات متعددة التكوينات الدينية والإثنية، على المطالبة بحقوقها وكيانياتها الخاصة، من خلال بيئة دولية داعمة وظروف مناسبة موضوعياً وذاتياً، ولذلك فإن جدل الهوّيات وصراعها أحياناً، ارتقى إلى مصاف نزاعات كبرى وحروب أهلية، وترك ندوباً وجراحات وحواجز تاريخية ونفسية، ازدادت حدّة وتنافراً في السنوات الأخيرة، على الرغم من وجودها في السابق، إلاّ أنها كانت غير منظورة في ظل الدولة المركزية "الصارمة" والنظام الشمولي، العمودي، ذو الصلاحيات التي تكاد تكون مطلقة، فالاتحاد السوفييتي السابق وحده إنقسم إلى 15 جمهورية لا تزال تداعياتها وآثارها تبرز بين الحين والآخر، ولعل الأزمة الأوكرانية حالياً ومشكلة جزيرة القرم ذات الكثافة السكانية من أصول روسية، ليست بعيدة عنها، إضافة إلى حروب جورجيا وجمهوريات آسيا السوفيتية السابقة.
أما يوغسلافيا السابقة فقد تمزّقت إلى 6 كيانات وجرت بينها حروب وصراعات وعمليات إبادة بعضها لم يندمل على صعيد العلاقات التاريخية بين مكوّناتها الدينية والإثنية والاجتماعية، أو  تداخلاتها الدولية، ناهيك عن هدر حقوق الإنسان كما حصل في كوسوفو، إضافة إلى البوسنة والهرسك. وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى كيانين بطريقة مخملية، هما جمهورية التشيك (تشيخيا) وجمهورية سلوفاكيا)، والسودان انفصل جنوبه باستفتاء شعبي العام 2010 بعد احترابات طويلة استنزفت موارد البلد وطاقاته منذ العام 1956 حين نال السودان استقلاله، وتشكّل إقليم تيمور الشرقية بقرار دولي بانفصاله عن أندونيسيا لاعتبارات تتعلق بالهوّية أيضاً وارتباطها بالمواطنة وهكذا .
ولعلّ الحديث عن أكثر من "عراق" أصبح مبحثاً يكاد يكون دائماً على طاولة التشريح الدولي منذ عقود من الزمان، سواءً بحكم الأمر الواقع في إطار مشاريع جديدة، كان قد جرى تسويقها تحت عناوين مختلفة، أو امتداداً لمشاريع قديمة، وهذه وتلك اتخذت مبرّرات جديدة باسم " الواقعية السياسية" أو لإنهاء العنف، أو مبرّرات سياسية قومية أو طائفية.
وتستهدف جميع تلك المشاريع إلى تقريب فكرة التقسيم حتى من خلال رسم صورة متخيّلة عن الوضع العراقي أمنياً، سواءً للتخلص من النظام السابق أو ما بعد الإطاحة به، مثل مشروع جوزيف بايدن، (نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما) أو قبله تساؤل غراهام فولر (من مؤسسة راند Rand الأمريكية المقرّبة من الـCIA) حول: هل يبقى العراق موحداً حتى العام 2002؟  أو قبلها ما تم ترويجه خلال الحرب العراقية- الإيرانية، لاسيّما في سنواتها الأخيرة حول تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية، وهو ما راود بعض السياسيين الطموحين، ولكن القصيري النظر لاحقاً، والذي جاء دور الحديث عنها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ويتجدد الأمر على نحو كثيف منذ احتلال تنظيم الدولة الإسلامية  "داعش" للموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 وتمدّدها لعدد من المحافظات، بحيث سيطرت على نحو ثلث الأراضي العراقية، إضافة إلى ما يزيد عن ثلث الأراضي السورية.
إن ما طرحه فولر من تساؤل بعد غزو الكويت وفرض الحصار الدولي على العراق منذ العام 1992 له أكثر من دلالة، لاسيّما   بعد احتلال العراق، ومن ثم انفجار العنف والتطهير الطائفي والمذهبي والإثني، الأمر الذي انعكس على الهوّية والمواطنة في العراق، خصوصاً بعد احتدام المشهد السياسي عقب تفجيرات مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء العام 2006.
والأمر مطروح اليوم بحدّة في سوريا من جانب الأوساط الدولية المتنفّذة بغض النظر عن أهداف حركة الاحتجاج والمطالب الشعبية العادلة والمشروعة التي ابتدأت سلمية في 15 آذار (مارس) العام 2011، والتي دخلت عليها عناصر مختلفة، بما فيها قوى إرهابية مثل "تنظيم القاعدة" وأخواتها، سواءً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بحيث تحوّل الصراع عنفياً ودموياً، وبدت الحرب التي تستمر منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذا البحث وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية، لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الفريقين المتصارعين، ووصل الآخر درجة من الإعياء تقترب من الموت.
يستهدف الباحث من مناقشة هذه الإشكاليات الفكرية والسياسية تقريبها إلى الواقع، بعيداً عن الأدلجة والنظرة المسبقة، وسيقسّم البحث إلى قسمين الأول يبحث في الهوّية والثاني سيبحث في المواطنة.
القسم الأول – في الهوّية
1-    الهوّية والثقافة
تعتبر الهوّية موضوع جدل في الأدب السياسي، خصوصاً بجانبه الفكري والاجتماعي والثقافي  ، وقد احتدم هذا الجدل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتحلّل المنظومة السوفيتية، الأمر الذي دفع شعوباً وأمما وجماعات لتخوض صراعاً حاداً باسم الدين أحياناً وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى، وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمراً ملازماً لكل حديث عن الهوّية، إذْ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز، في مجتمعات كانت الصورة الواحدية تطغى عليها.
لعلّ واحداً من أسباب "انتعاش" مسألة الهوّية إذا جاز التعبير هو تفكّك الأنظمة الشمولية، وشعور بعض الكيانات الخاصة "بالانعتاق" وتطلّعها ليكون لها شكلاً من أشكال الاستقلالية والخصوصية التي تجمعها وتعطيها كيانها الخاص، لاسيّما بعد تهميش وإلغاء ومحاولات صهر بمزاعم شتى، الأمر الذي قد يكون وراء اندفاع الكيانات والهوّيات   الفرعية، الجزئية، في البحث عن طريق جديدة لتحقيق ذاتها والتشبّث بخصوصياتها بعد طول "عداء" أو شعور "بالاستصغار" أو "فوقية" و"استعلاء" عانت منه، وقد تسبّب الفعل ومن ثم ردّ الفعل، في خلق فتن ونشوب حروب أهلية وتهجير قسري وإبادات، تارة بحجة الحفاظ على الهوّية التي يُراد اختراقها، لاسيّما الهوّيات الكبرى، وتارة بزعم تحقيق الهوّية  والتمسّك بها، لاسيّما للهوّيات الفرعية، التي يراد تذويبها أو إخضاعها!
وإذا كانت تحدّيات الهوّية داخلياً أساساً مستمراً لاحتدام الجدال والسجال والصراع، فإن التحدّيات الخارجية لم تكن بعيدة عن ذلك، خصوصاً تداخلاتها وتأثيراتها المختلفة، حيث ظلّ الموقف من الحقوق والحريات، وبخاصة من مبدأ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية، هو العامل الحاسم في الاحتدام والصراع والتناحر أحياناً، وذلك ما استثمره العنصر الخارجي في إثارة النعرات وتأليب البعض على البعض الآخر، والتدخّل بحجة حماية هذا الفريق أو ذاك، لاسيّما للكيانات الفرعية، خصوصاً إذا شكّلت الكيانات الأساسية ذات الصفات العامة، عنصر تحدٍّ للقوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، التي بإمكانها التأثير عليها، وذلك بالعزف على هذا الوتر الحسّاس للهوّيات الفرعية، التي ستضعف الكيانات الكبرى، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " كلام حق يراد به باطل"!، لاسيّما إذا تعرّضت وحدة الدولة للتمزّق والمجتمع للتشظي!.
ولكن هل يمكن الحديث عن هوية ثابتة أو متكاملة أو دون تغيير، باعتبارها معطىً ساكناً وسرمدياً، حتى وإن كانت بعض عناصر الهوّية  قابلة للثبات مثل الدين أو اللغة؟ أم أن  الهوّية  بشكل عام تخضع لنوع من التغيير في الفهم أولاً وفي التفسير ثانياً، وحتى لو بقيت الأصول قائمة، فان بعض عناصر  الهوّية  مثل العادات والفنون، فإنها تتطوّر وتكون أكثر عرضة للتغيير حذفاً أو إضافة، لاسيّما علاقتها مع الثقافات والهوّيات الأخرى، تأصيلاً أو استعارة، وهذه لا تأتي دفعة واحدة بالطبع، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدرّجية، تراكمية، طويلة الأمد، والأمر ينطبق على تفاعل وتداخل الهوّيات، خصوصاً من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
لقد ازداد جدل وصراع الهوّيات، في زمن العولمة، لاسيّما بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة لاعب أساسي في العلاقات الدولية، ولعلّ الشعور بالاستهداف كان فادحاً، من جانب الهوّيات الفرعية أو الصغرى، في حين شعرت بعض الهوّيات الكبرى، العامة، وكأن هيبتها بدأت تتصدع بحكم الثقافة الاستعلائية السائدة، أو من حاول توظيفها لخدمة أغراضه السياسية الفوقية، سواءً كانت دينية أو اثنية أو طائفية أو غير ذلك، الأمر الذي ساعد على الانكفاء من جهة والتشرنق أو التعصب والانغلاق وضيق الأفق من جهة أخرى، إزاء الآخر، خصوصاً بتفكك الدولة أو هشاشة وحدتها الوطنية في ظل المعادلات الجديدة، وبخاصة للتكوينات المختلفة.
وبدلاً من طلب الاستكانة أو الخضوع أو محاولة التسيّد من جانب الهوّيات الكبرى أو من يدعي تمثيلها من الفئات المهيمنة على الهوّيات الفرعية، الذي كان ناجماً عن الشعور بالتفوق أو الأغلبية أو ادعاء الأفضليات، فإن نزعات رفض التعايش وعدم الرغبة في التواصل كانت قد تمت بالمقابل، جرّاء سياسة عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، وتتجه مثل هذه السياسة وردود أفعالها صوب العزلة والقطيعة، بدلاً من التعايش والمشترك الإنساني.
الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوّية، وهي التي تعبّر عن الشعور بالانتماء، فالثقافة هي توالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة مع الآخر أيضاً، لاسيّما   إنسانياً، ومع التقاليد والعادات، التي تعكس سلوك وحياة الناس،
كما أنها مثل الكائن الحي الذي يخضع لقوانين التطوّر الحياتية ذاتها، وهي تمثّل رؤية شاملة للعالم تتجلى أو تتجسّد فردياً أو مجتمعياً في المفاهيم والقيم وظواهر السلوك والممارسات المعنوية والعملية والحياتية، توحّدها اللغة، وإن تنوّعت تنوّع فئات المجتمع من حيث مواقفها الاجتماعية والفكرية، بما يشكل الخصوصية الثقافية والقومية العامة في المجتمع .
   بهذا المعنى فالثقافة هي مجمل أساليب المعيشة في حياة الشعب اليومية، التي تشمل عناصرها المترابطة في نسيج متكامل، الرؤية العامة، والقيم والمبادئ، والمفاهيم، والتقاليد، والعادات، والمعتقدات، والمقاييس والمعايير، والممارسات ، والأعراف، والقوانين، والأمثال، والمروّيات، والمناقب الأخلاقية، والقواعد السلوكية اليومية  .
   قد يكون الاهتمام بالهوّية في ربع القرن الماضي ناجماً من تراجع دور الآيديولوجيات، لاسيّما بعد انخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي منذ نهاية عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، أو تحوّله من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وصعود الإسلام كعدو تقليدي للغرب بعد سيادة عهد "الليبرالية" الجديدة سياسياً واقتصادياً، التي ارتبطت موجتها الجديدة بظاهرة العولمة، لاسيّما في ظل الثورة العلمية- التقنية، خصوصاً في مجال تقنيات الاتصال والمعلومات، وسعت للهيمنة على السوق الدولية على مستوى الكرة الأرضية.
ولعلّ هذا التوّجه ارتبط بفكرة النظام العالمي الجديد، الذي اتّسم بمنطق السوق وتسليع مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية ، وإزالة الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال والسلع وخصخصة المؤسسات الاقتصادية وإلغاء ملكية الدولة لها، وتحكّم الشركات " فوق القومية" في السياسة الاقتصادية الدولية، وسعي المحافظون الجدد في الولايات المتحدة إلى جعل سلطة السوق مقدسة، وتحطيم كل العوائق التي تعترض طريقها، سواء كانت دولاً أم حكومات، مجتمعاً مدنياً ومنظمات غير حكومية، أو غيرها   .
 وهكذا أخذ دور الثقافة يتعاظم سواءً على الفرد أو الشعب أو الأمة أو الدولة، ويزداد تأثيرها على السياسة والاقتصاد على حد سواء، خصوصاً بعد أن سعت العولمة لتسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم الخاصة ب  الهوّيات   الأصغر الفرعية، بعد سيادة   الهوّيات   الكبرى أو  الهوّية  الأكبر من خلال تعميم نمط الاستهلاك والفردانية، خصوصاً العلاقة بين القوى المتسيّدة والنافذة في العلاقات الدولية وبين الأمم والشعوب والدول الصغيرة.

2-    الهوّية  والعولمة!

ربّ سائل يسأل، كيف تتشكّل الهوّية؟ هل هي ثابتة وكاملة وبالتالي مقفلة غير قابلة للتطور أم متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف!؟ واستكمالاً لهذا السؤال يلوح دور الارادة للفعل أو للمعطى التاريخي الذي يقبل التطور والتراكم والتفاعل مع غيره، حيث تتمثل  الهوّية  في عناصر معرفية ونسق معتقدات وقيم ومعايير، وعلى الرغم من محاولات العولمة تحويل الثقافة إلى سلعة يتم تداولها على نطاق واسع، وخاضعة لسوق العرض والطلب والاحتكار، فإنه يمكن القول أن هناك ثلاث مستويات لتشكيل الهوّية، فهناك المستوى الأول- الفردي، فلكل فرد هوّيته وخصوصيته، وهناك المستوى الثاني- الجماعي أو المجتمعي أو الجمعي "الجمعوي" كما تسمى مغاربياً، وهي تمثّل المشترك للجماعة الإنسانية، أما على المستوى الثالث فهو المستوى الوطني والقومي، وفي كل الأحوال فان هذه المستويات الثلاث تتحدّد بنوع المواجهة، اتفاقا أو اختلافاً مع الآخر، لاسيّما   الذي تواجهه قرباً أو بعداً، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري   .
نجم صراع الهوّيات عن نزاعات اجتماعية- اقتصادية، لاسيّما   في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً علاقة البلدان المتقدمة صناعياً بالدول النامية، حيث تحاول الأولى ترويضها وتطويعها ونهب مواردها، وأحياناً يتخذ احتدام   الهوّيات   شكل صراع متنوّع، فيما يتعلق بنمط الحياة والسلوك ومنظومة القيم، حتى وإنْ اتّخذ شكلاً دينياً أو لغوياً أو قومياً، لكنه يُمثّل من حيث الجوهر محاولات لفرض الاستتباع وإملاء الإرادة من جانب القوى الكبرى، ومقاومة وممانعة من القوى الصغرى.
   وهناك نوع آخر من الاحتدام في الهوّيات، ينجم عن نزاعات إثنية أو دينية، وأحياناً تتداخل هذه النزاعات التي تكاد تكون سائدة حالياً في المجتمعات المتخلفة أو البلدان النامية أو ما يمكن أن يطلق عليه مجتمعات الأطراف أو بلدان الجنوب الفقير، بسبب ضعف الدولة المركزية من جهة وشحّ الحقوق والحريات وعدم تحقيق المساواة التامة والمواطنة الكاملة من جهة أخرى، لاسيّما في دول متعددة الأعراق والقوميات والإثنيات والأديان والطوائف، فسرعان ما تندلع الصراعات بين من يدعي تمثيل القومية الكبرى أو الدين السائد أو النافذ أو الطائفة الأكبر من موقع السلطة ومن خارجها أحياناً، وبين أقليات أو فئات مُستبعدة أو مهمّشة، فيستعين كل طرف بثقافته السائدة، عندها يندلع العنف ويحتدم الصراع وتتباعد الكيانات وتكبر الهوّيات.
   يمكن القول بأن الصراع بين الهوّيات يكاد يختفي في المجتمعات المتقدمة، وخصوصاً الذي اتّخذ بُعداً (استئصالياً واقصائياً) عنفياً وعسكرياً ومسلحاً، حتى لو بقيت بعض ظلاله أو استحضر تاريخه، فإنما يتم ذلك على صعيد الفكرة والسياسة والتاريخ والمصالح الاقتصادية، لاسيّما بعد إسدال الستار على جوانبه المأسوية، حيث شهدت أوروبا، اتحاداً متميزاً ونافذاً أساسه المصالح الاقتصادية والمنافع المتبادلة وثقافة التسامح والتعايش والتعاون، بعد اعتماد مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً في البلدان النامية، وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، دون أن يعني إلغاء أشكال جديدة له في الدول الرأسمالية المتقدّمة.
إن المجتمعات اللاّديمقراطية وبخاصة في البلدان النامية شهدت احتدامات حادة ومعارك كبرى تحت راية الهوّية وهو ما حدث في أمريكا اللاتينية ويحدث في آسيا وأفريقيا، واستمر على نحو حاد في العراق والسودان والصومال وأفغانستان ولبنان حيث تتقدم   الهوّيات   الفرعية على الهوّية الجامعة، وقد استشرى الأمر في العراق بعد الاحتلال، رغم الدثار السميك من القوة والقمع الذي تغلّف به في السابق، لكنه سرعان ما انفجر، وبخاصة عند إقرار القسمة الطائفية- الإثنية التي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد أيار (مايو) 2003.
وباستثناء ما حصل من معارك البوسنة والهرسك والصراع بين الصرب والكروات والمسلمين والمسيحيين، وما حصل بين روسيا والشيشان وفي جورجيا وألبانيا وهي كلها خرجت من عباءة الأنظمة الشمولية، فإن تعايش الهوّيات أمرٌ معترف به ومصان قانوناً وممارسة، وأخذ يشكل جزءًا من الثقافة المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية، وبخاصة فيما بينها، حتى أن انفصالاً مخملياً كان قد حصل بين التشيك والسلوفاك، بعد وحدة أو اتحاد دام عقوداً من الزمان، وذلك باتفاق الطرفين في 1 كانون الثاني (يناير) العام 1993 بعد أكثر من 3 سنوات من انهيار النظام الشمولي الاشتراكي السابق.
 الهوّية  إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات "إنها معرفتنا.. بما ، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة"!؟  .
    الهوّية  بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثّل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عما سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور  الهوّية  بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر  .
   الهوّية بهذا المعنى ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً ،  والتغيير هو الذي يطبع  الهوّية  وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، ولا يتعلّق الأمر بالقضايا السياسية حسب، بما فيها المواطنة وحقوقها، بل إن المسألة تمسّ بالصميم الجانب الثقافي، وهذا الأخير بقدر كونه معطىً مرتبطاً بالماضي والمستقبل، فإن الجانب السياسي له علاقة بالحاضر، الراهن، القائم، أما جوانب  الهوّية  الخصوصية الثلاث فلها علاقة بالأرض والتاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان) مثل علاقتها بالثقافة المشتركة السائدة في الأمة، وأخيراً علاقتها بالكيان القانوني لوحدة الوطن والأمة (اتحادهما في دولة مثلاً).
   وفي كتابه" الثقافة العربية والعولمة" يعرض الدكتور محمد البرغثي تعريفات وتفصيلات عن الهوّية والعولمة والثقافة، فيتوصل إلى أن الهوّية لا تعدّ منجزاً مكتملاً، أي أنه ينزع عنها صفة التقديس، لاسيّما حين يضعها في حالة من التطوّر والتغيير، خصوصاً بالتفاعل مع الآخر، معتبراً مثل تلك العلاقة التفاعلية – التبادلية مع الغير إثراءً للهوية، وليس إلغاءً لها.   وهو ما يذهب إليه هول ستيوارت الذي يعتبر الهوّية في حالة تحوّل دائم، فهي ليست معطىً منجزاً متكاملاً لا ينتهي  .
إن جدل الهوّيات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة صراع واتحاد، احتدام واحتواء، وعلاقة تمثل وتعلّم، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف، إنها حالة نفور وتكامل أحياناً، ومثل هذا التنوّع في العلاقة، لاسيّما الاختلاف، يؤكد التلازم بين الثقافة من جهة، والتعددية والتنوّع من جهة أخرى. فهوّية طالبان مثلاً وفقاً لمنطقه حسب أدونيس: ليس إمكاناً وإنّما هي المتحقق، وهي جاهزة مسبقاً، مكتملة، ومغلقة، كأنها شيء بين الأشياء: حجر، أو فأس أو سيف ... هكذا تريد القوى المتعصّبة أن تضع هوّية الإنسان وراءه وليس أمامه، هوّية مغلقة وليست مفتوحة، متكوّنة وكاملة، وليست قابلة للإضافة والحذف، أي أنها أقرب إلى الثبات وعدم التغيير، فلا وجود للتراكم والتطور ووفقاً لهذا المنطق، فإن الآخر لا وجود له، غائب، عدو .
   لعلّ السؤال الذي يواجه البشر منذ الخليقة فردياً وجماعياً: من أنا أو من نحن؟ ثم يستكمل هذا السؤال من خلال أسئلة أخرى تتعلق بالعمل والمشروع، الذي يمثله الإنسان، نشأة وانتماءً كمعطى أول، وفيما بعد عملاً وصيرورة، كمعطىً ثاني الأول سيكون معطىً دون خيار، أما الثاني فهو خيار أي أنه تفضيل بين خيارات، وبالتالي سيكون خياراً واعياً ومكتسباً، من خلال وعي وعملية خلق. وإذا كان الأول طبيعياً، فإن الثاني يعبّر عن الإرادة البشرية والتدخّل الإنساني لإكساب الهوّية شكلاً جديداً مفتوحاً قابلاً للتطور .
وبهذا المعنى فالهوّية لا تتكون بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهي عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة.
وكلّما كانت هوّية " الأنا" غير ملتبسة، كلما استطاع الدخول في حوار متكافئ مع الآخر على المستوى الثقافي، أما إذا كانت  الهوّية  محطّ إشكاليات، فإنها ستكون معلّقة أو مرجأة أو متأرجحة حسب تعبير أدونيس الذي يقول: إنه لا يستطيع أن يعطيها وصفاً: الولادة، المواطنة، الجنسية، اللغة، الإبداع والتميّز، فردياً أو جماعياً.
 الهوّية الفردانية حتى وان كان يُنظر إليها بارتياب في عالمنا العربي باعتبارها مصدر شك، حيث يتقدم عليها ويلغيها أحياناً الهوّية الأساس، كما تسمّى ونعني بها "هوّية الأمة" كما يقال، وعلى هذا المعيار الكلاّني الشمولي، يُنظر إلى "الأقليات" في دولة متعدّدة القوميات أو الأديان، بتخطّي وتجاوز أي حديث عن الخصوصية، التي ستعني حسب هذا المنطق، المساس بهوّية الأمة، الجماعة البشرية السائدة.
وقد تختلف أولويات هذه الجماعة باختلاف الآيديولوجيات والأفضليات، فتارة باسم القومية وأخرى باسم الدين وثالثة باسم المذهب ورابعة باسم الآيديولوجيا، وهكذا، فالمختلف لا يستحق سوى الإبعاد والإقصاء والنبذ، وما عليه الاّ الرضوخ والاستكانة وقبول حكم الأغلبية أو الجهة المهيمنة، وحسب أدونيس، فالأمر ليس نفياً للآخر بقدر ما هو نفي للذات في الآن، وبقدر انفتاح الذات على الآخر، فإن  الهوّية  تزداد غنىً، وبقدر ما تنكمش الذات وتتقلص في انتمائيتها، نشأة ومواطنة، تزداد فقراً، ولا يمكن طمس التغاير والتنوّع والتعدّد جزئياً أو كلياً.
   يمكن القول إن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهوّية  من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح معه  .
الثقافة تشمل طريقة حياتنا كلّها، وأخلاقنا، ومؤسساتنا، وأساليب عيشنا، وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به  .
العالم، لاسيّما في ظل العولمة أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية- الإسلامية) لكنه كان ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: البابلية، والأشورية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والتركية، والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوّعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدّد، وتآخت اللغة العربية مع اللغات الأخرى وتفاعلت واقتبست منها، فناً وأدباً وفكراً، إذ كان " العقل اليوناني" أحد مرتكزات الفكر الفلسفي العربي زائداً "النقل الإسلامي"، ولعبت الترجمة دوراً مهماً في توسيع دائرة الثقافة العربية، المتعدّدة، محل الواحدية، وكانت الأندلس امتداداً خلاّقاً لبغداد .
لقد تغيّرت خصائص الثقافة اليوم بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فالتلفزيون والكومبيوتر والإنترنيت ساهمت مساهمة كبيرة في هذا التغيير، ولعلّه بقدر التقارب الذي أحدثه، فقد جعلت التمايز والخصوصيات، سمة مميزة للهوّيات والثقافات المختلفة، حيث تسعى الشعوب لاكتشاف أساطيرها ورموزها وترسيخ ذاكرتها وتعزيز لغتها الخاصة، وبالخصوص عندما تخشى من التذويب أو الإقصاء، وقد حفّزت العولمة مثل هذا التهديد، خصوصاً عندما جعلت العالم كله "قرية واحدة" هي أقرب إلى "سوق" واحدة، فالهوّيات الطرفية (العالمثالثية) وقفت ضد هوّيات الهيمنة، والهوّيات الفرعية في الدولة الواحدة، سعت للتشبّث بخصوصياتها إزاء محاولات الإقصاء والتهميش.
يتعذّر الحفاظ على الهوّية بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، وبدلاً من الانفتاح والتواصل والتعدّد، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء والتقوقع، ومثلما لكل إنسان لغته، فله هوّيته التي تتعزّز بالانفتاح مع الآخر، فرداً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هوّية، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني ، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هوّيته العامة عراقية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هوّية مكتسبة.
وكنت قد أجبت على سؤال بخصوص الهوّية الذي كان محاوري قد وجّهه إليّ عندما قال: إن سؤال الهوّية يلحّ عليك دائماً.. أين أنت؟ فأجبت: هل يكفي رفع شعار الحفاظ على الهوّية في المنفى لكي نتمسك بالهوّية؟ أليس ثمة همّ إنساني يتشكّل بمعزل عن الإرادة وبخاصة للجيل الثاني؟؟ ونقلتُ حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط، في أكتوبر (تشرين الأول) العام 2000 وحضرته نخبة متميزة من المثقفين، حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لظاهرة الازدواجية في الهوّية: حين أكون في المغرب أشعر بأنني مغربي عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي، وهنا يُثار تساؤل مشروع: وهل المكان هو الذي يحدد الهوّية؟ أم أن الهوّية  التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل حيث اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى تتعزز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!
وإذا كان مثل هذا الأمر يواجه النخبة، خصوصاً من تكوّن وترعرع ثم انتقل ليواصل ويندمج في مجتمع جديد، فالأمر مختلف باختلاف درجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج وبالتالي حمل الثقافتين ومواصلة الاستفادة من النبع الأول، بالقدر الذي تتم فيه الاستفادة من المصادر الجديدة، المضافة.
وإذا أردت أن أتحدث عن تجربتي الشخصية، فأنني كنت أواجه بشكل شبه يومي ومنذ ما يزيد عن ربع قرن حالات تعدّ بالآلآف بخصوص المهاجرين والمنفيين واللاجئين العراقيين والعرب، ناهيكم عن ذلك فقد عشت تجربة النفي لعقدين كاملين من الزمان وإنْ كنتُ على اتصال مستمر بالوطن وضمن الفسح والمساحات المتاحة سواءً في الماضي أو الحاضر، فإنني أدرك إشكاليات الهوّية، وبخاصة في أوضاع المنفى واضطرابها فيما يتعلّق بالأسباب السياسية أو الآيديولوجية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية أو غيرها، التي تكاد تطغى أحياناً، مسببة نوعاً من الالتباس.
الثقافة العليا التي تمحو الثقافات الأدنى أو تهّمشها هي ثقافات غير إنسانية، ولا هوّية خارج الإنسان، حيث يتحدّد أفق الهوّية بالانفتاح والتقدّم بلا حدود أو نهايات، وهو أفقٌ مفتوح للتحرّر من قيود الواقع، وهو أفقٌ رمزي، يوحّد بين البشر، على أساس المشترك الإنساني.
وإذا كان الإلحاح على الهوّية العمودية في ظروف تاريخية معيّنة أمراً مشروعاً، وضمن حدود التحرّر من الإستعمار والهمينة الخارجية، إلاّ أن الاستمرار في هذا الإلحاح خارج تلك الظروف، يصبح خطراً على  الهوّية  ذاتها، حيث يؤدي إلى الانكماش والانكفاء والانزواء، فالتعدّدية والتآلف من سمات الهوّيات المفتوحة التي ترفض الصهر والاستتباع مثلما ترفض الهيمنة والتسيّد، وتتشبث بالمعرفة وليس الهيمنة، بالموضوعية والعقلانية ، وليس الانعزالية والانغلاقية، هي التي ينبغي أن تطبع سجال الهوّيات وهو ما استهدفه الباحث عندما شرع بكتابة كتابه " جدل الهوّيات في العراق" ، حيث وضع الواقع أمامه وحاول نقدياً ومن خلال قراءة جدلية للمكوّنات والكيانات الموحدة، المتعددة، العامة والفرعية، صياغة علاقة أساسها المشترك الإنساني، باقتراح حلول حقوقية- إنسانية، من خلال فكرة المواطنة ونبذ الطائفية .

3-   الهوّية: بعيداً عن التبشير!

في كتابه " موسيقى الحوت الأزرق"   يناقش أدونيس فكرة  الهوّية  ويستهل حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسها على حد تعبيره، وأعني بها "التعارف"، أي الحركة بين الإنفصال والإتصال في آن، من خلال " روية الذات، خارج الأهواء" وبخاصة الآيديولوجية، ويمكن أن نضيف الدينية والقومية وغيرها، بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية.
وبعد أن يستعرض أدونيس آركيولوجية الغياب المعرفي العربي على خارطة المعرفة الإنسانية، وهو ما أشارت إليه على نحو صارخ تقارير التنمية البشرية في العقد الماضي، لاسيّما شحّ المعارف ونقص الحرّيات واستمرار الموقف السلبي من حقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة  والمجاميع الثقافي، الدينية واللغوية والسلالية والإثنية وغيرها، يطرح سؤالاً حول سبل الخروج من هذا الغياب، ويسأل أيضاً ولِمَ هذا الغياب؟ لاسيّما بتمثّل ذلك نقدياً ومعرفياً، من خلال معرفة الآخر بمعرفة ذاتنا معرفة حقيقية، ولعلّ الخطوة الأولى التي ظل يركّز عليها في كتابه الممتع والعميق، هو كيف يمكن أن يصغي بعضنا إلى بعض!؟
هذه الرؤية تستند إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محل الفكر التبشيري- الدعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يشارك فيها الجميع رغم تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً، وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً، إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر ثانياً، وثالثاً يكشف لنا إنّ الهوّية  ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر.
هل الهوّية  جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها في إطار المشترك الإنساني، الأمر الذي يتخطّى بعض المفاهيم السائدة، ذات المسلّمات السرمدية السكونية لدرجة التقوقع، وينطلق إلى خارج الأنساق والاصطفافات الحتمية، من خلال قراءات مفتوحة تأخذ التطور بنظر الاعتبار عناصر تفعيل وتعزيز وتحوّل في الهوّيات   الخاصة والعامة.
بهذا المعنى لا يكون اختلاف الهوّيات أمر مفتعل حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، ناهيكم اختلاف   الهوّيات   الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية.
ولعلّ هناك علاقة بين الشكل والمعنى التي تتكوّن منها الهوّيات الفرعية – الجزئية الخاصة وبين الهوّيات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهوّيات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوّية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدّد وليس آحادي، فمن جهة يمثل هوّية جامعة ومن جهة أخرى يؤلف هوّيات متعدّدة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميّزة، أما دينياً أو لغوياً أو إثنياً أو غير ذلك، فالشكل ليس مسألة تقنية، حسب أدونيس، وإنّما هو مسألة رؤية.
   إن الحديث عن هوّيات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات المتعصبة دينياً أو قومياً، فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوّية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب آيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولّي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فهي تصبح في الواقع العملي "مؤامرة" ضد الأمة والدين، تقف خلفها جهات إمبريالية- استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية – الإسلامية، وبهذا المعنى لم تسلم حتى حقوق بعض المبدعين في التميّز والاستقلالية والتفكير الحر، واعتبرت بمثابة "انشقاق" وخروج على الجماعة، أما في معارضة تفكيرها، فالأمر قد يستحق العقاب والتحريم والتجريم.
ولعلّ مثل هذه الممارسات، لاسيّما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعها للانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهوّيتها، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلالات.
وقد تجد هناك من يدعو لعدم نشر الكلام الذي ينتقد أوضاعنا العربية، لأنه يتحدّث عن المساوئ  لكي لا يستفاد منها العدو، تحت مبرّر عدم نشر الغسيل الوسخ، ولكي لا نسيء إلى صورتنا أمام الآخرين، وينسى هؤلاء المبشّرون أن إخفاء المرض لا يشعر المرء بالطمأنينة على صحته ولا يعيد له العافية، كما أن التغلّب على العدو يحتاج إلى تشخيص لنقاط ضعفنا والتخلص من بعض النزعات العنصرية إزاء الآخر في داخلنا بل إزاء بعضنا البعض كما يتطلّب قراءة واقعنا موضوعياً بروح النقد والنقد الذاتي والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية وبالهوّيات المتعدّدة في مجتمعاتنا المتنوّعة، وعدم تجميل صورتنا أمام أنفسنا، خصوصاً إذا كانت صورة البعض كالحة.
وما زال الموقف من المجموعات القومية والدينية قاصراً في الكثير من الأحيان، وحتى الاعتراف ببعض الحقوق يأتي كمنّة أو مكرمة أو هبة أو حسنة، حيث تسود تصوّرات مخطوءة عنها، بل إن الكثير من السائد الثقافي يعتبرها، خصماً أو "عدواً " محتملاً أو أن ولاءها هشاً وقلقاً وسرعان ما يتحوّل إلى الخارج، دون أن نعي أن هضم حقوقها، تارة باسم مصلحة الإسلام وأخرى مصلحة العروبة والوحدة وأحياناً بزعم الدفاع عن مصلحة الكادحين، والقوى العلمانية والمدنية وقيم النضال المشترك وغير ذلك، هو السبب الأساسي في مشكلة المجموعات الثقافية وليس نقصاً في ولائها أو خروجها على  الهوّية  الوطنية العامة التي تصبح لا معنى لها بسبب معاناتها، وبسبب نقص المواطنة الفادح والنظر إلى أفرادها كرعايا لا مواطنين من الدرجة الأدنى، وإنْ كان المواطنون ككل مهضومي الحقوق، فإن العبء الذي سيقع على كاهل المجموعات الثقافية سيكون مركباً ومزدوجاً ومعاناتها كذلك. 
إن الموقف من المجموعات الثقافية ودلالاتها لا يقوّم الإنسان بوصفه إنساناً، له حقوق وواجبات معروفة في الدولة العصرية، بحقوق المواطنة، وإنما يقيّمه بوصفه "انتماءً "، أي هو يحوّل الإنسان إلى سياسي برأس إثني أو قومي أو ديني أو مذهبي، وهكذا يتحوّل الإنساني إلى سياسي، وهذا الأخير إلى حقل من الحروب تبعاً للمصالح السياسية والمادية، فتهيمن الأهواء والنزعات على العقول وتظهر الوحشية عند الممارسة، ويغيب كل ما هو إنساني، وأحياناً كثيرة تستخدم القوى الخارجية هذه الثغرات والعيوب والنظرة الاستعلائية القاصرة للنفاذ منها لتشتيت الهوّية الجامعة، والعزف على الهوّيات الخاصة لدرجة التعارض والتصارع مع المشترك الإنساني.
ولنتأمل الحرب الأهلية اللبنانية، فبعد دماء غزيرة وخراب استمر 15 عاماً، غسل الجميع أيديهم وتعانقوا وكأن شيئاً لم يكن، وظلّت الهوّيات الصغرى طاغية، والهوّية  الجامعة هشّة، قلقة، مقصاة وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، اندلع العنف والإرهاب على نحو لم يسبق له مثيل ليحصد أرواح عشرات ومئات الآلاف من العراقيين من جميع الطوائف والقوميات والاتجاهات، تحت شعارات التفوق الطائفي والإثني أحياناً، وهو ما كانت له بعض الأسباب في التاريخ، لاسيّما المعاصر وبخاصة الاتجاهات التمييزية السائدة، رغم إن المحاصصة والتقاسم المذهبي والإثني كانتا تشكلان أساساً قام عليه مجلس الحكم الانتقالي وما بعده، ولكن ظل جميع  الفرقاء والفاعلين السياسيين من جميع الاتجاهات، يعلنون أن لا علاقة لهم بالطائفية والمذهبية، بل هم يستنكرونها ويعلنون البراءة منها، لكنهم عند اقتسام المقاعد والوظائف يتشبّثون بها، ويحاولون الظهور بمظهر المعبّر وربما الوحيد عنها، دون تخويل من أحد.
   إن مثل هذه الاعتبارات هي التي دفعت الباحث لاقتراح مشروع لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق  وهو إذّ يعرضه على جميع الفرقاء، يأمل أن يثير نقاشاً وحواراً واسعاً لدى الجميع، آملاً أن تتبنّاه القوى السياسية الوطنية وفاعليات المجتمع المدني، التي لا تؤمن بالطائفية وتدعو إلى تحريمها ومحاسبة كل من يمارسها أو يدعو ويروّج لها أو يتستر عليها، واعتماد مبادئ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، فذلك هو السبيل لتعزيز  الهوّية  الوطنية العراقية وتأمين حقوق الهوّيات الفرعية القومية والدينية وغيرها. وبقدر ما يصلح القانون عراقياً، فإنه  يتضمن خطوطاً عريضة لمبادئ تحريم الطائفية عربياً.
ولا بدّ من إقرار ذلك دستورياً، خصوصاً إذا تمكّن البرلمان، لاسيّما   في ظروف سلمية وطبيعية من اعتماد مشروع القانون، الذي لن يكون بالإمكان التخلص من المحاصصات والتقسيمات الطائفية، دون إقرار ذلك قانونياً وعملياً. وبدلاً من التبصّر والتعامل مع المشكلة بالتحليل والبحث والتساؤل، يتم إلقاء الخطابات الرنانة والكلمات الحماسية والعناقات الفارغة والحديث عن مصالحات سميّت "وطنية" وهي مصالحات سياسية محدودة جداً في ظل نزعات الهيمنة وادعاء الأفضليات وإقصاء الآخر أو الانتقاص من دوره، دون نسيان توزيع الاتهامات وتحميل الآخر المسؤولية كلّها، سواءً الآخر الخصم والعدو أو الآخر التكفيري، الإجرامي.
إن الفكر اليقيني المطلق، هو فكر إمحائي لا يؤمن بالآخر، ويريد إلغاء الفروق داخل المجتمع بكياناته ومكوّناته وأفراده وسجن التعددية وإقصاء الخصوصيات وتطويق ومحاصرة التنوّع، والأكثر من ذلك يريد إلغاء تاريخ مكوّنات بحيث يلعب فيها مثل كرة عمياء تتدحرج في طريق أعمى وبأيد عمياء. 
إن التعصّب والعصبية هما اتجاهان إلغائيان لمن لا يتعصّب لهما، ولعلّ جدل   الهوّيات يكشف إن اختيار الصراع بدل التعايش، والصدام بدل الحلول الإنسانية، سيكون ضاراً وخطيراً على   الهوّيات   الكبرى مثل الهوّيات الصغرى، وهذه الأخيرة إنْ لم يتم احترامها وتأمين حقوقها المتساوية ستكون عنصر ضعف كبير ويتّسع باستمرار على مستوى  الهوّية  والدولة العراقية، إذ لا بدّ من اتباع طريق المعرفة وشراكة الناس في المسؤولية والبحث عن الحقيقة وعن المعنى، سواءً عبر الهوّيات الفرعية- الجزئية أو من خلال الهوّيات الأوسع والأكبر، ولكن بانسجام مع  الهوّية  العامة التي لا تستقيم كينونتها وحقوقها الاّ باحترام الهوّيات الفرعية وخصوصيتها على مستوى الجماعات أو الأفراد   .


القسم الثاني- في المواطنة

1-    المواطنة العضوية   
لم تترسّخ، فكرة المواطنة في الدولة العربية الحديثة بعد، سواءً على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة)، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كأعظم منجز بشري، لاسيّما   في إطار المنتظم الاجتماعي لحماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة ارتبطت بالدولة الحديثة أو أخذت أبعادها الفكرية والحقوقية منها، ناهيك عن أساسها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن.
اعتمدت فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر بالدرجة الأساس على بناء الدولة، لاسيّما بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد والحرية والسوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من  الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطوّر مفهوم الديمقراطية الناشئ وقبول مبدأ الاقتراع العام.
    أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد التطور الذي حصل بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، لاسيّما الحقوق المدنية والسياسية، ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر خصوصاً بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية.
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمةٍ في طريق تأمين الحقوق والحرّيات المدنية والسياسية وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحرّيات بالعدالة، وهو الأمر الذي نطلق عليه " المواطنة العضويّة "، أي المواطنة التي تقوم على قاعدة المساواة أولاً في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً ، قاعدة الحرّية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها،  فهي المدخل والبوّابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملك والتنقل وعدم التعرّض إلى التعذيب ... الخ .
أما القاعدة الثالثة فهي تستند إلى فكرة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن تتحقق م

462
تيسير قـبّعة
غيمة فضيّة في فضاء الذاكرة
عبد الحسين شعبان

سبقته شهّرته.

لم أكن قد تعرّفت عليه شخصيّاً، لكنّني كنت قد سمعت عنه وقرأت بعض أخباره، بصفته رئيساً للاتحاد العام لطلبة فلسطين. مرّ الاسم عليّ أكثر من مرّة، وخصوصاً بعد عدوان حزيران (يونيو) العام 1967. بعد أشهر قليلة وصلتنا من براغ (رسالة) عن طريق الحزب الشيوعي، وهي عبارة عن لفافة ورق خفيف ملصقة بشريط، وهو ما كنّا نستخدمه في العمل السرّي. ربّما كان التاريخ في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1967، أو أنّ الرسالة مذيّلة بهذا التاريخ (أواخر كانون الأول/ ديسمبر/ 1967).
مضمون الرسالة الموجّه إلى سكرتارية اتحاد الطّلبة العام في الجمهورية العراقية، يبلغنا باعتقال المناضل الطلابي تيسير قبّعة، الذي ألقت السلطات الإسرائيلية القبض عليه خلال "تسلّله" للأرض المحتلة لمهمّات نضالية. وكان قبّعة، إضافة إلى مسؤولياته المهنية، عضواً قيادياً في حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لاحقاً حين تم تشكيلها بعد العام 1967.
 كانت براغ حينها مقرّاً لاتحاد الطلاّب العالمي، بل تكاد تكون مركز تنسيق للحركة الشيوعية، حيث يوجد فيها أيضاً، اتحاد نقابات العمال العالمي، واتحاد الصحفيين العالمي، ومجلة "الوقت"، التي سمّيت لاحقاً مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، وهي المجلة النظرية للأحزاب الشيوعية والعمّالية.
بقي لاسم تيسير قبّعة رنين خاصّ في ذاكرتي، جزء منه هو لمعان سواعد شبّان وشابات المقاومة، والأحلام الكبيرة التي حملناها. وبحكم مسؤولياتي المتواضعة في العمل المهني آنذاك، قرّرنا تنظيم حملة لجمع تواقيع للمطالبة بإطلاق سراحه وإدانة العدوان الإسرائيلي، خصوصاً وأن النقاش كان داخلنا يفور لدرجة الغليان: هل شعار "كلّ شيء إلى الجبهة" هو الذي يستحقّ أن نعمل تحت لوائه، أو شعار "كل شيء من أجل المعركة"، ولم يكن ذلك بمعزل عن نقد أو حتى بعض تشكّك بموقف الاتحاد السوفييتي، واستعادة لمواقف سابقة، وخصوصاً موقفه من قرار التقسيم العام 1947، ولعلّ الفارق بين الشعارين كان واضحاً، وكنّا قد دخلنا في سجالات وحوارات متنوّعة ومفتوحة بعد 5 حزيران (يونيو)، شجّع عليها أجواء الانفراج النسبي، وتطوّع عدد منّا مع المقاومة الفلسطينية، حيث أقمنا علاقات طيبة معها وبمختلف توجّهاتها.
ولم يكن الجدل والنقاش الدائر، المباشر منه وغير المباشر، بمعزل عن قراءات انتقادية وتساؤلات معرفية ومراجعات تاريخية وتوتّرات بين بعضنا البعض، وبيننا وبين قوى أخرى قومية، ومنها سلطة عبد الرحمن عارف التي كانت تحتفظ بمئات الشيوعيين خلف القضبان، بمن فيهم عدد من العسكريين الذين تطوّعوا خلال العدوان الإسرائيلي واندلاع المعارك بإرسالهم إلى جبهات القتال، وتعهّدوا بإعادتهم بعد الانتهاء منها إلى السجون، وتلك واحدة من مفارقات الوضع السياسي في العراق، ومن مآثر الشيوعيين ونكران ذاتهم أيضاً.
وركّزنا في حملتنا لإطلاق سراح تيسير قبّعة، على إدانة العدوان الإسرائيلي والتشديد على حماية حياته، وإبداء القلق بشأن مصيره، وتحميل السلطات الإسرائيلية عن أي أذى قد يلحق به، وعن أية مخاطر قد يتعرّض لها.
لا أتذكّر كم من التواقيع جمعنا حينها، فقد أردنا إرسالها على عجل إلى براغ، كما كنّا آنذاك في سباق محموم مع مجموعة أخرى من الزملاء كانت قد أخذت الغالبية الساحقة من تنظيمات الاتحاد والتنظيمات الحزبية معها، فضلاً عن أن موقفها كان أكثر راديكالية من موقفنا في عُرف تلك الأيام. والمقصود بذلك هو مجموعة القيادة المركزية، حيث انشطر الحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) العام 1967 إلى جناحين، الأول حمل اسم اللّجنة المركزية والثاني حمل اسم القيادة المركزية.
نجحنا بمعاناة وجهد، وليس دون أخطاء ارتكبناها، وفشلنا في مواقع أخرى في جرّ أوساط أخرى إلى جانبنا، وكانت علاقاتنا الوطنية والعربية، إضافة إلى العالمية جيّدة، قياساً إلى ضعفنا على مستوى التنظيم الذي انحاز إلى الطرف الآخر، ناهيك عن الجمهور الذي كانت حماسته تزداد لجانبه.
حملتنا لإطلاق سراح تيسير قبّعة، قرّبت قوى قومية عربية منّا، فنحن كنّا من بادر، ونحن كنّا من قام بمخاطبة الجهات العربية والعالمية، بما فيها اتحاد الطلاب العالمي، واستجابة إلى ندائه، وكان حينها نوري عبد الرزاق لا يزال أميناً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي، ولذلك فإنّ عملاً من هذا النّوع، إضافة إلى كونه تضامناً مطلوباً وواجباً سياسياً وأخلاقياً ووفاء لعلاقات الصداقة، فإنه في الوقت نفسه، كان عملاً نضالياً إنسانياً، منحنا حضوراً أكبر، بل أظهرنا أحياناً أكبر من حجمنا بكثير، وعلى الرغم من كوننا مجموعة صغيرة، إلاّ أن حماستنا وتحدّينا وطموحنا، كان كبيراً، مع قلّة تجربتنا.
ربّما كانت مثل هذه العلاقات، ولا سيّما العربية، تعويضاً عن ضعفنا في جوانب أخرى، لكنها كانت توجّهاً صحيحاً لقي التفاتاً من جانب الأصدقاء العرب. وأتذكّر أننا في كل مناسبة كنّا نقيمها كان عدد من الشخصيات العربية، والطلابية بشكل خاص يحضر معنا، ويشارك في فعاليتنا على الرغم من الظروف السريّة، سواء في جزيرة أم الخنازير أو في بساتين صفوك الجبوري (والد الرفيق طه صفوك) في الراشدية، أو حتى في بعض البيوت، حين استضفنا فتحي الفضل الأمين العام لاتحاد الطلاب العالمي من السودان، وكتجمن من ألمانيا الديمقراطية نائب الرئيس، في اجتماع في أحد البيوت، في بغداد الجديدة، خلال زيارتهما إلى بغداد كبعثة لتقصّي الحقائق بشأن الانتخابات الطلابية، وقد رافـقناهما طيلة فترة وجودهما حميد برتو وأنا.
***   ***   ***
حكم على تيسير قبّعة ثلاث سنوات، قضاها في السجون الإسرائيلية، وحكى لي ماذا حصل له عند لقائنا الأول في براغ، ثم في براتسلافا، حينما حضرنا المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي.
كنت قد وصلت إلى براغ بعد رحلة مضنية، حيث اضطررت قبلها للاختفاء بعد صدور أمر إلقاء القبض بحقي العام 1970، في الوقت الذي كنت رئيساً للوفد المفاوض في مجالين: الطلبة والجمعية العراقية للعلوم السياسية التي انضمت جمعية إلى الحقوقيين العراقيين لاحقاً. كانت وجهتي الأولى بيروت، ومن البصرة اخترت الطريق البريّ عبر سفوان إلى الكويت بوسائل مختلفة وبمساعدة فنيّة، ومنها إلى دمشق فبيروت، ومن هناك كتبت رسالة إلى ماجد عبد الرضا على عنوان مجلة الثقافة الجديدة، (الشارع المتفرّع من شارع سينما الخيام في الباب الشرقي)، حسب الاتفاق باسم: عمر محمود، أبلغته فيها أن العلاج جيّد والوالد بخير، واستبعد الأطباء العملية، وهي الرسالة التي اتفقنا عليها.
اتصلتُ بالحزب الشيوعي اللبناني، وكان عندي تلفون الرفيق نديم عبد الصمد، فأبلغوني أنه في الجبل، وكلّمني قائلاً إنه سيعود بعد ثلاثة أيام، والتقيت به بعد عودته، وكان قد طلب مني التنسيق مع خليل الدبس وخليل نعّوس لحين اللقاء به. وزرتُ صحيفة الأخبار الأسبوعية (خلف سينما ريفولي في ساحة الشهداء)، وكان الحزب الشيوعي اللبناني يصدر إضافة إليها صحيفة النداء اليومية (4 صفحات)، والرفيق الدبس كان من قيادة الحزب الشابة آنذاك، أما نعّوس، فهو من قيادة منظمة بيروت، وعمل في جمعية الصداقة اللبنانية ـ البلغارية، واغتيل في 20 شباط (فبراير) العام 1986، وقد اغتيل بعده بأربعة أيام المفكر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة، وكان حينها عضواً في المكتب السياسي ورئيساً لتحرير جريدة النداء.
وقام الرفيقان "الخليلان" كما أسميّتهما بمرافقتي وتأمين اتّصالاتي، واستمعا مني إلى تفاصيل الوضع في العراق، وتدهور العلاقة مع حزب البعث، ودوّن أحـد الصحفيـين، - ولا أتذكر اسمه - المعلومات والأخبار التي نقلتها، وفي اليوم التالي ولبضعة أيام، كانت النداء اليومية والأخبار الأسبوعية، قد حملت باقة أخبار جديدة عن الوضع في العراق، وبشكل خاص عن ملاحقات الشيوعيين، ونسبت الأمر إلى مصادر خاصة من داخل العراق.
ثم أجرت معي صحيفة الراية التي كانت تمثّل الاتجاه القريب من تنظيم حزب البعث السوري، وفيما بعد مجموعة (صلاح جديد)، مقابلة مطوّلة نشرتها على عددين ليومين متتاليين، ووضعت العنوان على الصفحة الأولى: "هارب من العراق يروي قصص رهيبة عن قصر النهاية"، وقد أخذت العددين معي، وسلّمتهما إلى مهدي الحافظ في براغ بعد وصولي إليها، واطّلع عليها آرا خاجادور الذي استقرّ في براغ بسبب تدهور العلاقات مع الحزب الحاكم.
طلبت من الحزب الشيوعي اللبناني، تأمين اللّقاء مع غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وكنت قد قرأت له بعض كتبه ودراسات في الستينات، أتذكر منها: تعريفه بشعراء المقاومة، وخصوصاً محمود درويش، وسميح القاسم، وعن الأدب الصهيوني، إضافة إلى روايته الشهيرة "رجال في الشمس"، وبادر بإهدائي روايته "أم سعد"، وهي من الكتب التي أعتزّ بها، وبقيت معي في براغ، وحين عودتي حملتها في حقيبتي اليدوية، ولم أضعه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتها إلى بغداد، وقد تمّ مصادرتها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنت قد أعددتها للطبع من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، بعد احتلال منزلي ومكوثهم فيه لخمسة أيام، في حين كنت قد غادرت العراق قبل ذلك. وكان همّي الأول بعد شرح طبيعة تعقيدات الوضع في العراق، هو السؤال عن تيسير قبّعة.
استقبلني غسّان كنفاني بابتسامة عريضة في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكر، طمأنني أنّ تيسير قبّعة بخير وتوشك مدّة المحكومية على الانتهاء، ولذلك يتطلّب الأمر استمرار الحملة لإطلاق سراحه، خوفاً من أن السلطات الإسرائيلية قد تحتفظ به أو تحاول المداورة بتوجيه تهم جديدة له. طلب من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّن بعض ما أقوله. لا أتذكّر إن كان قد نشر شيء بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنه على ما أذكر جيداً، كان يتمنى أن تنصب جهود الوطنيين واليساريين لمواجهة العدوان الصهيوني والمخططات الامبريالية.
ذكّرني الأخ صلاح صلاح، وهو الصديق العزيز الذي تستمر صداقتنا لعقود من الزمان، أنه سمع أول مرة عنّي من غسّان كنفاني، وقبل أن يلتقيني، إضافة إلى قيادات فلسطينية لاحقاً، حيث جاء اللّقاء الأوّل بيننا بعد ذلك بسنوات، لكننا كنّا نعرف بعضنا قبل هذا التاريخ، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.
كم حزنت لفقدان ذلك المبدع اللاّمع وهو في ربيع عمره وفي أوج عطائه، فلم يتجاوز السادسة والثلاثين (36 عاماً)، خصوصاً وقد استكمل أدواته الفنية، ونضجت تجربته، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) كانت له بالمرصاد، حيث تجرأت على تفجير سيارته في منطقة الحازمية في 8 تموز (يوليو) العام 1972، وكانت تلك واحدة من الصدمات التي صُعقت بها، وما زاد ألمي هو محاولة اغتيال العقل الفلسطيني والمثقف الفلسطيني والإبداع الفلسطيني. والفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل مبدعين كبار مثل غسّان كنفاني، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، وإميل حبيبي، وغيرهم.
وقد أعقب كنفاني في مهمّة رئاسة تحرير مجلة الهدف بسّام أبو شريف، الذي كنت قد تعرفّت عليه في المؤتمر المذكور، ثم التقيته كثيراً، وإذا بطرد ملغوم يُرسل إليه لينفجر بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزء من سمعه، وبقيت بعض شظاياه "تطرّز" صدره، ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده عليها بصفته نائب رئيس اتحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادث التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني.
وكانت الأجهزة الاستخبارية والأمنية الإسرائيلية تنشط في بيروت لملاحقة القيادات الفلسطينية لاغتيالها، ففي 28 كانون الأول (ديسمبر) العام 1968 قام الطيران الإسرائيلي بقصف مطار بيروت وتدمير 13 طائرة مدنية، بزعم الردّ على المقاومة. وفي 10 نيسان (أبريل) 1973 استهدف الكوموندوس الإسرائيلي في عملية قرصنية كمال عدوان عضو المجلس الوطني الفلسطيني ومسؤول الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، مع زميليه الشاعر  كمال ناصر وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمد يوسف النجار (أبو يوسف).
طلب مني مهدي الحافظ كتابة تقرير شامل عن نشاطي ليرسله إلى المكتب السياسي، وكتبت تفاصيل لقاءات أخرى لا مجال لذكرها. وكان من المؤمل أن أصل إلى روستوك (ألمانيا الديمقراطية)، حيث وصل عامر عبد الله لحضور المهرجان، لكنّني لم أتمكّن من الوصول لبقائي نحو شهر ونصف في بيروت، وفي الطريق الطويل حتى وصولي إلى براغ، حيث مكثت في إسطنبول، ثم صوفيا ومنها إلى براغ.
تحدّثت مع اليوغسلاف أثناء زيارتي لدبروفنيك لحضور ندوة طلابية عن ضرورة تشديد التضامن مع طلبة وشعب فلسطين، وذكرت اسم تيسير قبّعة الذي يعرفونه جيداً، كان معي ضمن الزيارة علي الخالدي، طالب الطب النشيط حينها والذي يدرس في بلغراد. وقد حصلت معنا مفارقة طريفة أودُّ روايتها، وإنْ كانت خارج السياق، فحين كتبت مذكرة تطالب بوقف الحملة الإرهابية في العراق، وقّع عليها 39 منظمة، بضمنها ممثلون عن طلبة يوغسلافيا، وفي اليوم التالي فتحوا الحوار مجدّداً معنا وطلبوا شطب توقيعهم، ونصحونا بعدم نشر المذكرة، لأنها سوف تحرجهم أمام المسؤولين، نظراً لعلاقة العراق مع يوغوسلافيا.
حاولنا أن نقنعهم بأننا أشد حرصاً على علاقة البلدين والشعبين، بما فيه الحكومتين، لكن الأمر يتعلق بحملة تعرّضنا لها وكل مطالبتنا هو وقفها، وذكرت اسم عضو مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة وعضو الوفد المفاوض لؤي أبو التمنّ، الذي تعرّض للاعتقال والتعذيب، وهو من كان قد مُنح عضوية شرف لنضاله الوطني والمهني، من جانب الاتحاد الوطني لطلبة العراق، لكن السياسة والأحزاب الشمولية لها قوانينها وشروطها، لا سيّما في تلك المرحلة.
عشية انعقاد المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي، وكنّا نستعدّ له، وقبله لاجتماع اللجنة التنفيذية، اضطررت بتكليف إلى تلبية دعوة لزيارة للقاهرة لحضور مؤتمر بمناسبة ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر بعد وفاته بنحو 4 أشهر، على الرغم من صدور قبول بمباشرتي لدراسة الدكتوراه، وقدمت بحثاً فيه بعنوان: عبد الناصر وحركة التحرّر الوطني.
بعد انتهاء أعمال المؤتمر الذي انعقد في جامعة القاهرة، كان من المقرّر تنظيم سفرة لنا لزيارة سدّ أسوان. وحدّد موعد السفر، وتم تهيئة الحافلة لنقلنا إلى هناك، وقد وضعت حقائبي في السيارة المخصصة لذلك، وكنت جالساً بجانب الصديق محمد الحبوبي (رئيس الطلبة في مصر آنذاك وهو من المجموعات الناصرية)، وفوجئت بمجيء عامل الفندق راكضاً، لتسليمي برقية تقول: حاول المجيء إلى براغ لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية، وكان التوقيع باسم مهدي الحافظ.
أنزلت حقائبي ووضعتها في الفندق، وتوجّهت إلى شركة الطيران التشيكية التي تعرف اليوم بـČeské aerolinie ، وبالإنجليزية Czech Airlines في شارع 26 يوليو فاستبدلت، تذكرتي ودفعت الفرق، وكانت العودة عن طريق لارنكا، ومنها إلى براغ، وبسبب الثلوج نزلت الطائرة في براتسلافا، وانتظرنا لبضع ساعات، ثم توجّهت إلى براغ، بعد أن فضّل عدد من الركاب خيار الذهاب بالقطار.
***   ***   ***
حين وصولي إلى براغ، عرفت أن نوري عبد الرزاق سيصل ضيفاً على المؤتمر بحكم وظيفته السابقة، وأن أعضاء الوفد هم خليل الجزائري (من موسكو) وعدنان الجلبي (من لندن) وناظم الجواهري (من بغداد). وكان وفد جمعية الطلبة الأكراد قد ضمّ نوزاد نوري وترأسه طارق عقراوي. رسمنا خطة للتحرّك، ولكن ما كان يقلقنا هو: هل سنحتفظ بالموقع (الأمين العام)؟ أم أن هناك ثمّة تطوّرات ومفاجئات؟ بدأت أشعر بها خلال اجتماعات اللجنة التنفيذية، وسألت مهدي الحافظ: هل تعتقد أنك ستبقى أو أن الاتحاد سيبقى في هذا الموقع الدولي؟ الذي كان أيضاً سبباً لخلاف مع الاتحاد الوطني خلال مفاوضاتنا في العراق؟ لم يكن متأكّداً، ولكنه كان قد تلمّس قبل غيره، عدم الرضا السوفييتي، فضلاً عن ثمة مشاكل داخلية، والأهم من ذلك هو تغيّر الموقف السياسي لصالح السودان بدلاً من العراق، (قبل إعدام عبد الخالق محجوب ورفاقه في انقلاب هاشم العطا. تموز / يوليو  1971)، والأمر ليس بمعزل عن علاقة موسكو مع بغداد.
حين وصل نوري عبد الرزاق، وبعد سويعات، جاء بالخبر: صاحبنا (طار)، لأن السوفييت لا يرغبون باستمراره، وكان ذلك يتم في الكواليس، وكان مازن الحسيني وهو ممثل الأردن آنذاك (وقيادي لاحقاً في الحزب الشيوعي الفلسطيني)، قد عبّر بصورة غير مباشرة عن احتمال إجراء تغييرات في قمّة الهرم الاتحادي، وهو ما فهمنا أنه من المحتمل أن يشمل زميلنا الحافظ. ومثل ذلك المشهد الانتظاري بقي عالقاً بذهني، وعرفت بالملموس أن تلك المنظمات الدولية، إنما يحرّكها السوفييت مثلما يحرّكون البيادق في إطار صراع محموم مع الإمبريالية، خلال فترة الحرب الباردة.
أتذكّر أطول جلسة في المؤتمر استمرت 22 ساعة قادها الروسي ساشا، وكان يمثّلهم في الاتحاد هو فلاديمير (فلوديا)، وكنّا قد ذهبنا ونمنا واستيقظنا والجلسة مستمرة، وهو لا يزال على المنصّة، بسبب خلافات مع الرومان وأحد أعضاء الوفد المغربي وآخرين.
عند وصول نوري عبد الرزاق أبلغنا بأنه تم إطلاق سراح تيسير قبّعة، وسألنا عن رأينا فيما إذا كنّا نؤيّد إرسال برقية إلى جورج حبش للطلب منه تهيئة المستلزمات لوصول تيسير إلى المؤتمر، أيّدنا ذلك بحرارة، وكنت على شغف كبير للتعرّف عليه، وهو ما كان الوفد الفلسطيني قد فعله قبل ذلك.
بعد أيام قليلة وقبيل انعقاد المؤتمر في براتسلافا التي انتقلنا إليها بعد اجتماع اللجنة التنفيذية، وصل تيسير قبّعة، وكان معي في الفندق نفسه "يوفانتوس" الذي التقينا فيه أكثر من مرّة، ولدينا ذكريات حميمة فيه، في براتسلافا التحق بالوفد الفلسطيني، وكان الوفد برئاسة أمين الهندي على ما أتذكر (فتح) ومشاركة محمد صُبيح، ومنى الشابة الفلسطينية الجميلة التي ألهبت حماس المؤتمر، وشريف الحسيني وبسام أبو شريف وصادق الشافعي وآخرين - لا أتذكرهم - وكان الوفد الفلسطيني من الوفود الكبيرة جداً.
ولكن معظم وقت تيسير قبّعة كان مع الوفد العراقي، وعندما لم يرشَّح العراق إلى منصب الأمين العام، طلب تيسير الكلام وتم منحه استثناءً، لأنه خلال الترشيح والتحضير لعملية التصويت لا يجوز التعليق أو تقديم مداخلة، وحسب نظام إدارة الجلسات (نظام روبرت رولز Robert Rules)، فإن الرئاسة لا تعطي حق الكلام في مثل هذه الأوقات إلاّ بالقدر الذي يذهب إلى التثنية على المرشحين، فحيّا اتحاد الطلبة ونضال العراقيين، وقال إنهم الأكثر جدارة على تحمّل المسؤولية، وأنه يطالب بتوجيه تحية خاصة لهم في نضالهم القاسي، وكان الوحيد الذي تحدّث، وشعر بحزن شديد. يومها كان الجميع ينظرون إلى قبّعة كبطل خارج من زنازين الاحتلال، صامداً ومتحدّياً.
عند وصول تيسير قبّعة إلى المؤتمر، طلب مني نوري عبد الرزاق أن أضعه بصورة ما يجري في العراق، وعلاقتنا مع الجهة الشعبية، والتي كان مسؤولها "أبو وائل" الذي ربطتني به علاقة طيبة، وقدّم لنا بعض المساعدات في حينها، وكنّا نتبادل الرأي باستمرار باجتماعات دورية معه في المكتب، وفي الغالب مع إيهاب نافع ومع غسان، (نسيت الاسم الثاني ـ اللقب). وكان يوسف سريّة قد تم اعتقاله وحكم عليه لأسباب أخرى. مَسَكني نوري عبد الرزاق بيده اليسرى، ووضع يده اليمنى على كتف تيسير قبّعة وخاطبه قائلاً: هذا هو جيل غوسير Gusir الجديد (أي اختصاراً لاسم اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية) وهم من قاموا بتنظيم حملة إطلاق سراحك.
فتح تيسير قبّعة عينيه الواسعتين اللّتـان تزدادان اتّساعاً بالدهشة والتأمّل، وفيهما شيء من الاحمرار، ووضع يده اليمنى على رقبته، وقال سأبقى ما حييت مديناً للعراقيين، وحيثما أتمكّن سأكون معكم، فأنا مدين لكم ولا بدّ لي من إيفاء هذا الدين.
***   ***   ***
روى لي تيسير قبّعة ما حصل له ومعه، قال: بعد نحو شهر من الاعتقال والتعذيب كنت أنكر اسمي، لأن وثيقة السفر التي كنت قد استخدمتها هي باسم "محمد زياد تيسير" والإسرائيليون كانوا يقولون لي إن اسمك تيسير قبّعة، وأنا كنت أنكر.
قرّروا نقلي إلى سجن آخر "المسكوبية"، ثم اقتادوني إلى السيارة، خلعوا الكلبشة من يدي، وقال لي الضابط: اتفضل أستاذ تيسير. نظرت إليه بشرز، وقلت له: أنا محمد زياد، وفكّرت مع نفسي، والحديث لتيسير قبّعة، إن الإسرائيليين الذين كانوا يعذبونني جسدياً وعلى نحو أشد نفسياً ومعنوياً، ما الذي جرى لهم وأخذوا ينادونني أستاذ، لعلّ في ذلك خطة لتصفيتي، وقد وصلت إلى النهاية، واعتقدت أنهم في الطريق إلى المسكوبية، سيطلقون النار عليّ ويبرّرون ذلك بهروبي من السجن أو سيارة السجن أو محاولة الاعتداء على الحرّاس.
ويمضي قبّعة في حكايته الدرامية المثيرة فيقول: وصلت إلى السجن، ولكي أعرف العرب من اليهود، سلّمت بصوت عالي على الحاضرين بعبارة "السلام عليكم"، فردّ عليّ اثنان، عرفت أنهما عربيان، فأجلساني على فراشهما، وتحدّثا معي بلطف، ولكن أحدهما همس في أذني: ألست تيسير قبّعة؟ يقول تيسير قبّعة: امتعضت وعبّست في وجهه قائلاً: أينما أذهب يسألونني عن تيسير قبّعة، ويفسّر ذلك بقوله: كنت أعتقد أنهم دسّوا أحد المتعاونين مع الأجهزة الإسرائيلية، لاستدراجي لقول اسمي، ويبدأ بعدها مسلسل الاعتراف، كما يظنّون.
يقول قبّعة: أمهلني السجين قليلاً، فرفع غطاء فراشه وأخرج من تحته صحيفة سريّة كانت تسمّى "الجماهير" يصدرها الحزب الشيوعي الأردني، وإذا بصورتي فيها، وعنوان النداء الذي عمّمه اتحاد الطلاب العالمي لإطلاق سراحي. ويواصل تيسير قبّعة حديثه: قلت عملوها العراقيون، لأنني كنت أعرف قدراتهم التنظيمية والتعبوية، فضلاً عن إمكاناتهم وتجاربهم بشأن تنظيم حملات التضامن.
ويمضي قبّعة قائلاً: إذا كنتُ حريصاً على إخفاء اسمي وهويّتي قبل ذلك، فلم يعد بالإمكان الآن، ولكن ربّ ضارة نافعة، فقد امتنع الإسرائيليون بعد ذلك من معاملتي بتلك الفظاظة، وأخذوا يستجيبون لمطالبي السجنية، بما فيها أوقات الرياضة والتعرّض للشمس والزيارات وغيرها. منذ ذلك الوقت عرفت قيمة التضامن الدولي، وعرفت قيمة الوفاء، ووجه خطابه إليّ لا تتردّدوا أن تطلبوا منّا أي شيء نستطيع تقديمه لكم.
مضت الأيام سريعة، التقيته في بيروت بعد ذلك، وعدّة مرّات في براغ، وكان يحبّ مطعم الراعي الذي كنّا نلتقي فيه مع منيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي في السبعينات، وفي أواخر الثمانينات، كنا نلتقي مع طارق محمود مسؤول الجبهة الشعبية وزوجته ليدا في براغ ومحمود البياتي وياسمين عمر وآخرين. كما التقيته في بغداد في إحدى زياراته في أواخر السبعينات عند عودتي، ولكن العلاقة تعزّزت في دمشق لاحقاً في الثمانينات، حين كنت أعمل في مجال العلاقات، وعرفت كم يتمتّع تيسير قبّعة بصفات متميّزة، وهو ما يحتاجه المناضل الحقيقي، فقد كان شجاعاً غير هيّاب، وصاحب مروءة وشهامة عاليتين، وله رأي في الكثير من الأحداث، ويتصرّف بصورة أقرب إلى الاستقلالية في إطار الخطوط العامة للجبهة الشعبية، لكن فلسطين تسكن ضميره وتحتلّ عقله.
***   ***   ***
كنت ملتزماً مع الهدف، بكتابة مادة أسبوعية، استمرت العلاقة على نحو متواصل لأكثر من ثلاث سنوات، إضافة إلى تكليفات وأبحاث ومحاضرات لإعداد كوادر. (وأتواصل مع الهدف إلى الآن على نحو متقطع)، وكنت قد نشرت مادة لفتت انتباه "حكيم الثورة" كما سمّاه فؤاد مطر في كتابه المهم. وقد رويت بعض محطات العلاقة مع الدكتور جورج حبش، وسأحاول اقتباس جزء من النص الذي نشرته في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 1 شباط (فبراير) 2008 بعد رحيله، لعلاقته بالموضوع، وهي بعنوان: جورج حبش - الاستثناء في التفاصيل أيضاً، وجاء فيها ما يلي:
"أعددت نصّاً كان قد كتبه ييرجي بوهاتكا بعنوان: "عندما تحدّث في يومياته..."، نشر في حينها في مجلة «المنبر» أو المنصّة العام 1974، في براغ على أربع حلقات، وكانت إحدى المستشرقات قد لفتت انتباهي إليه، وقمت في وقتها بترجمته (ولستُ بمترجم)، على أمل نشره، لكنه سرعان ما ضاع بين أوراقي في العراق التي عبثت بها يد القدر.
وبعد خروجي إلى المنفى مرّة أخرى استعدتُ النصّ، وقمت بإعداده، وكتبت مقدّمة له، ووضعت له عنواناً جديداً وهو "مذكرات صهيوني" وقد صدر بكرّاس لاحقاً عن دار الصمود العربي 1985، ونشرته على خمس حلقات في مجلة الهدف، التي تربطني بها صداقة حميمة منذ أن تعرّفت على غسان كنفاني في بيروت في العام 1970، وفيما بعد بسّام أبو شريف في العام ذاته، وصابر محيي الدين رئيس التحرير في حينها.
بعد استكمال نشر المادة، هاتفني الأخ والصديق تيسير قـبّعة، وقال لي: "الحكيم بدّو يشوفك" والتقيت به، واستفسر عن إمكانية الحصول على نص المذكرات التي تعود الى إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية "مكابي هاكير" الذي كان معتقلاً في معسكر أوشفيتز (أشهر معسكرات النازية)، والذي تعاون مع جهاز الغاستابو (1940 – 1944).
وقد توقّف الدكتور جورج حبش عند المعلومات التي وردت في المذكرات والتي كتبها إيغون ردليخ في المعتقل، الذي أعدم في العام 1944، والتي هي عبارة عن صفقة لا أخلاقية بين النازية والصهيونية، فمقابل إرسال الآلاف من اليهود إلى أفران الموت النازية، يُرسل بضع عشرات أو مئات من القيادات والمتموّلين الصهاينة إلى فلسطين، وقد تمّ العثور على تلك المذكرات في سقف لأحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف بعد أكثر من عقدين من الزمان.
جدير بالذكر، أن المذكرات كُتبت بطريقة حذرة خوفاً من وقوعها بيد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من الخبايا والخفايا حول التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية، فيما يتعلق بمأساة اليهود، ناهيكم عن أنها تكشف عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك.
وبسؤال "الحكيم" عن إمكانية الحصول على نص المذكرات، توقعت أن العملية سهلة ويسيرة، ولكن بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه تأمين نسخة من نص المذكرات، فاجأني محدثي من براغ بعد أسبوع أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط مسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في "تشيكوسلوفاكيا" أقيل من منصبه العام 1968، ثم سُمح له الكتابة باسم مستعار، والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحات بعد وفاته بعامين، وحاول الحصول على نسخة من المذكرات حتى وإنْ دفع ثمنها، وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنها رفضت الاستجابة لطلبه ثم امتنعت عن الحديث في الموضوع.
واستفسرتُ من الصديق حسين العامل العراقي المخضرم في براغ فيما إذا كان لديه معلومات عن الرجل، وبعد تدقيق أبلغني أن ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتاباً عن النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية، واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في حينها، وقام بتصحيح المسوّدات، واطّلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعاً في المطبعة، لكن الكتاب اختفى قبل يومين (من صدوره)، ونقلت تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهول مثلي وربما أكثر منّي، لا سيّما أن ذلك جرى في ظل النظام الاشتراكي السابق.
***   ***   ***
في بيروت، وفيما بعد في الشام، لم يبخل معنا تيسير قبّعة، وقدّم كل ما يستطيع بصفته مسؤولاً عن العلاقات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفيما بعد بصفته عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (نائب رئيس) أو في منظمة التضامن الإفرو – آسيوي (AAPSO) أو في عضويته بمجلس السلم العالمي، فقد دعم طلبنا حين تقدّمنا باسم اللجنة الوطنية للسلم والتضامن للانضمام إلى المجلس، وخصوصاً بعد إعادة تركيبها في مطلع الثمانينات، ومفاتحة شخصيات سياسية وثقافية مهمّة للانضمام إليها، مثل الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، وغيرهم.
وأذكر حين نشب الخلاف داخل الحزب الشيوعي، وتعرّض العديد من المناضلين إلى الفصل، واستخدمت بحقهم وسائل عديدة للإذلال، مثل قطع المخصّصات، وما يتفرّع عنها، من علاج ودراسة للأولاد، ووثائق سفر (جوازات) وتزكيات أمنية وغير ذلك، بادر تيسير قبّعة إلى مساعدة الكثيرين، وبطيبة خاطر.
وأتذكّر بعد فصل ماجد عبد الرضا من الحزب، تم قطع مخصص تفرّغه والامتناع عن تسديد علاج ابنته التي كانت في إحدى المصحّات اللبنانية، وتوفيت لاحقاً، وكان عليه تسديد إيجار ثلاثة أشهر، فقررنا فيها مفاتحة تيسير قبّعة بالأمر، وكان بحضور مهدي الحافظ، الذي جاء من فيينا بزيارة عمل إلى الشام، ولم نكد ننتهي من عرض المسألة على قبّعة، حتى قال عليه الذهاب إلى مجلة الهدف لاستلام راتبه الشهري، وسأبلّغ الحكيم بما حصل، (لأنه كان مسافراً).
خصَّصت الهدف أعلى راتب لماجد عبد الرضا، قياساً لما كانت تدفعه للمحرّرين الأساسيين، ولم تطلب منه الكتابة، وتعاملت معه باحترام شديد، وكان ذلك جزء من أخلاقيات صابر محيي الدين أيضاً، الذي تسنّى لي التعامل المباشر معه لفترة طويلة، وليس بمعزل عن توصية قيادات الجبهة وخصوصاً تيسير قبّعة وجورج حبش. فضّل ماجد عبد الرضا الكتابة، ولم يرغب باستلام راتب دون عمل، وكان قد كتب عدداً من المقالات في المجلة، لكن كتاباته كانت مطوّلة ومُسهبة، وبعضها ليست محلّ اهتمامهم، أو ليس لها طابع راهني، وهو ما كان يحرج رئاسة التحرير، التي لا تريد ردّ طلب لماجد عبد الرضا، ولكنها كانت تراعي الجانب المهني في الوقت نفسه. ومن رهافة حسّ رئيس تحرير وذوقه وتواضعه عمّم كتاباً، جاء فيه: إن المقالات الأسبوعية لا ينبغي أن تزيد عن 700 كلمة، أما الأبحاث والدراسات، فهي إما أن تتم بتكليف خاص للأعداد الخاصة أو للعدد السنوي، أو لبعض الملفّات، الأمر الذي ينبغي مراعاته من الجميع، وهو ما كنّا قد اتفقنا عليه معه.
أذكر حادثة ثانية لها دلالة مهمّة، كيف وقف تيسير قبّعة مع محمود البياتي في محنته في براغ، يوم تعرّض إلى مساءلات وضغوطات وتهديدات بخصوص علاقته مع "المنبر"، (المجموعة الشيوعية التي اتخذت مواقف مختلفة عن قيادة الحزب الشيوعي، ولا سيّما بخصوص الحرب العراقية – الإيرانية، وتطوّرت إلى اتجاه فكري ينحى نحو التجديد)، حيث تم تهديده بالطرد، وحرمت زوجته ياسمين من العمل في الإذاعة التشيكية (القسم العربي) بعد أن كانت قد أدّت اختباراً ونجحت فيه، لكنه لم يتم تعيينها بسبب رفض المسؤول عن التنظيم الحزبي إعطاء موافقة الحزب، وقد روى محمود البياتي تفاصيل ذلك بمرارة في أكثر من مناسبة، وكان يعدّ لرواية خاصة، لهذه الحادثة، وما تعرّض له من اتهامات وتحقيقات، وكذلك لحوادث أخرى مماثلة، استغلّ فيها المسؤولون نفوذهم مع الدول المضيفة، للتنكيل بخصومهم والنيل منهم.
قام تيسير قبّعة بالاتصال بمنظمة التضامن التشيكية، وقال لهم: يمكنكم اعتبار محمود البياتي على ملاك الجبهة الشعبية، أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى اعتباره فلسطينياً، فهو يقوم بمهمات استشارية لمندوبنا ولسفارتنا. وزكّى عامر عبد الله ونوري عبد الرزاق، ما قاله تيسير قبّعة إلى التشيك، بشرح جوانب من الخلافات الدائرة آنذاك، وبعض التصرفات اللاّإنسانية.
كانت الفيز للدول الاشتراكية، وبخاصة إلى تشيكوسلوفاكيا، تشترط بالمتقدّم أن يصرّف يومياً مبلغاً من المال بالعملة الصعبة، وهي مبالغ كبيرة ضمن حسابات تلك الأيام، ولأن الحصول على الفيز كان يتم عبر الحزب، فإن ممثليه امتنعوا، بل وجّهوا كتاباً إلى سفارات الدول الاشتراكية ببعض الأسماء، لكي لا يتم منحهم الفيز بزعم أنهم يقومون بمهمات تخريبية ضد الحزب. وقد اعتذر سمساروف السفير البلغاري في دمشق شخصياً لرفيقنا ماجد عبد الرضا عن منحه فيزا في وقتها، الأمر الذي طلبنا له جوازاً خاصاً (خدمة) من اليمن، لكي يعفى من مسألة التصريف والفيزا التي تمنح له في المطار، حسب اتفاق بين الدولتين، وقام نوري عبد الرزاق بكتابة رسالة إلى "محسن" (محمد سعيد عبد الله) لتسهيل الأمر وتسريعه.
وكنتُ دائماً ما ألتجىء إلى تيسير قبّعة، فأطلب منه ذلك لبعض الرفاق أو المرضى، ولم يردّ لي طلباً، فقد كان يتعامل بكل سخاء إنساني مع تلك الاحتياجات، وقد قدّر لي أن أحصل على الفيزا لعدد من الرفاق، كما طلبت منه عدداً من جوازات سفر يمنية، فلم يتردّد لحظة، إضافة إلى هويّات باسم الجبهة الشعبية وفرص عمل لعدد من الرفاق، وغير ذلك من التسهيلات، بما فيها لدى الحكومة السورية، وكان قد وضع توصية إلى صالح... عضو مكتب العلاقات لمساعدتنا وتلبية طلباتنا حين يكون مسافراً. وأعرف أنه كان يرسل مبلغاً شهرياً لأحد الرفاق في أوروبا وآخر في إحدى البلدان العربية.
قال تيسير قبّعة: إن التجويع ليس سياسة، بل هو انتقام، وهو ليس شجاعة، بل جبن، وهو ليس مواجهة، بل كيدية وثأر، إنه باختصار طريقة لا أخلاقية في التعامل مع المناضلين وفي الاختلاف. قال ذلك أمام عامر عبد الله، وأمام مهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، ولذلك كان قد قرّر تخفيض الدعم المقدّم إلى الجهة الرسمية بالحزب، لكي يستطيع أن يعوّض بعضها للمناضلين كي لا ينتهوا.
أذكر ذلك الآن، لأن تيسير قبّعة الإنسان السخي والكريم، يتم التعامل معه انتقاماً بسبب الرأي، بل مع الجبهة ككل، فتقطع مخصصاته، وهو في آخر العمر ويعاني من أمراض شتى. أعرف أنّ حديثاً من هذا القبيل قد لا يرضي تيسير قبّعة، وربما يزعجه، فكم هو أبيٌ ومفعم بكبرياء عالية، ومع ذلك أكتبه لأنه يريح ضميري، وأستطيع أن أتكهّن أنه سيرضي الآلاف، بل عشرات الآلاف من المناضلين، الذين ينظرون إلى تيسير قبّعة كرمز شجاع اختلفوا أو اتفقوا معه. وكل كريم وسخي نقيض للجبن والشّح، فالشجاعة صفة لصيقة بكرم الأخلاق والقدرة على العطاء والاستعداد للتضحية، في حين أن البخل والشّح ملازمة للجبن والأنانية.
كان بعض الرفاق يعتقدون أن الفيز التي نحصل عليها هي بمساعدة دوشان أولجيك رئيس اتحاد الطلاب العالمي السابق، والسفير في دمشق لاحقاً، وفيما بعد الأمين العام لاتحاد الصحفيين العالمي، وكان أحد الرفاق القياديين قد سألني مباشرة، لكن الحقيقة وعلى الرغم من علاقتي به، لكنني لم أطلب منه ولا مرّة أية مساعدة، وكنت ألتجىء إلى تيسير قبّعة وأصدقاء آخرين، أذكرهم الآن باعتزاز: قيس السامرائي (أبو ليلى)، وخالد عبد المجيد (الأمين العام لجبهة النضال الشعبي)، وعاطف أبو بكر، وفي براغ كنا نستعين بسميح عبد الفتاح (فتح)، وطارق محمود (الجبهة الشعبية) وآخرين. ولا أريد أن أتحدث عن دور أبو عمّار وماجد أبو شرار وعبد الله حوراني، ممن قدّموا لنا مساعدات لا حدود لها.
***    ***    ***
وخلال عقد الثمانينات كنت ألتقي مع تيسير قبّعة في مؤتمرات في دمشق والقاهرة وطرابلس وعدن وأثينا وبراغ وغيرها، سواء في إطار مؤتمر الشعب العربي أو منظمات التضامن والسلم أو في عدد من الندوات الفكرية والمؤتمرات حول الإرهاب والصهيونية أو في ما يتعلق باشتراكي البحر المتوسط، وقد رويت مؤخراً لابتسام نويهض (زوجة تيسير قبّعة) ما حصل في إحدى المرّات في طرابلس مع تيسير قبّعة، فلم تكن تعرف ذلك وكذلك ابنته رانية.
كان الحوار في طرابلس حول الأزمة في حركة التحرر الوطني، (أعتقد أنه في النصف الثاني من الثمانينات)، وكانت الدعوة قد شملت القوميين بمختلف توجهاتهم، وكذلك الماركسيين بمختلف ألوانهم. وكان الحاضرون يمثّلون نخبة متميّزة، مثل كامل الزهيري ومحمد فايق وتيسير قبّعة وعوني صادق وأحمد سالم وإنعام رعد ونجاح واكيم وعبد الله الساعف، وعصمت سيف الدولة، ومبدر الويس وعبد الرحمن النعيمي وميلاد مهذبي وعمر الحامدي والحضيري وجورج حاوي وجورج البطل وعربي عوّاد وأديب ديمتري ومصطفى القباج وناجي علوش وعبد الله العياشي وعمر علي وإلياس مرقص وعبد الحسين شعبان، وقيادات من حركة المقاومة بمختلف فصائلها وممثليها في طرابلس.
وكنت أقدّم بحثي الموسوم: الأزمة في حركة التحرر الوطني: هل هي استعصاء دائم أم مجرد مصاعب مؤقتة؟ (وقد أدرجت هذا البحث الذي يعود إلى نحو ثلاثة عقود من الزمان في كتابي الموسوم: المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى، دار بيسان، بيروت، 2016). وكان رئيس الجلسة تيسير قبّعة، وإذا بها مفاجأة تحدث من العيار الثقيل، حين قام أحد الموجودين في القاعة، بالوقوف مخاطباً المنصّة: أنت.. إسمع: الماركسية سقطت.. نعم الماركسية سقطت.. فاعتقدت أن الأمر يخصّني، وإذا به يوجّه كلامه إلى تيسير قبّعة، قائلاً أنت يا تيسير الماركسية سقطت، خلّيكم قوميين.. لكن المفاجأة الأكبر حين لم يردّ عليه تيسير، وأنا أعرف أنه لا يتقبّل مثل هذا التحدّي أمام الجمع الكبير من المثقفين والمفكرين العرب.
كان تيسير يعرف أن موعد وصول العقيد القذافي أو الرائد عبد السلام جلّود قد أوشك، فانتظر، وبعد لحظات دخل جلّود، فقام تيسير ورحّب به وطلب منه القدوم إلى الصف الأول، بل ألحّ عليه، وحين استقرّ جلّود في مقعده، استأذن تيسير من الباحث، لكي يرحب بجلود، وإذا به يطلب من الشخص الذي تهجّم عليه الوقوف، قائلاً: "سباطّي عليه وعلى..."، نحن لا نقبل أن يزاود علينا أحد، نحن في الشعب العربي الفلسطيني لدينا شهداء يفوق عددهم سكان دول، نحن في الجبهة الشعبية نحسن الاختيار، ونعرف أين مصالحنا والأفكار التي تخدمنا والتي نتبنّاها بعد حوار ونقاش، انسجاماً مع أهداف شعبنا.
واحتدم الموقف وقام جلّود وجورج حاوي والآخرون لتهدئة الأجواء، ولاحظنا أن الذي كان قد تهجّم قبل مجيء جلّود اختفى تماماً، وذاب وكأنه فص من الملح، ولا أحد يعرف من أين أتى؟ ومن دعاه؟ ومن يقف خلفه؟ وبالطبع، فالأمر لم يكن بعيداً عن أجهزة أمنية وردود فعل للنقاشات بين الماركسيين والقوميين العرب بخصوص إشكالات حركة التحرّر الوطني، وهي إشكالات مطروحة بحدّة في تلك الأيام، لا سيّما من يقول إنها مجرد مصاعب وأخطاء ونواقص، في حين هناك من كانت تشخيصاته تقول إنها أزمة بنيوية تتعلّق بالفكر والممارسة والقيادة وأساليب العمل، تحتاج إلى مراجعة ونقد وتصويب وتعديل في الوجهة.
وحين دعاني لاستكمال إلقاء البحث الذي لم يتبقى منه إلاّ القليل، قلت له لقد أكملت، إذْ لم يكن من المعقول عندي استمرار إلقاء البحث في تلك الأجواء، وفي ظلّ الوجوم الذي اعترى الجميع، وخيّم على القاعة.
أستعيد الآن ذلك المشهد الدرامي، وكأنّه مرّ يوم أمس: كان تيسير كلّما يصعّد في الموقف ويعلو صوته، كنت أضغط بأصبعي على ركبته من تحت الطاولة لكي يخفّف، لكن تعنيفاته وتحدّياته كانت في تصاعد، واضطررت أن أضغط على حذائه لإلفات نظره أكثر، لأنني شعرت أن المسألة قد تأخذ بُعداً آخر، بعد انتهاء هذه "الحفلة"، سألت تيسير، ألا كنت تشعر أنني أحاول تنبيهك إلى ضرورة التهدئة؟ فقال لي: نعم، كنت أحسّ بما تقوم به، ولكنني دون استخدام مثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يستمع إليك "هؤلاء"، ويقصد بعض المهووسين الذين يريدون الانتقاص من المناضلين أو المثقفين، وأظنّه كان على حق، فهو صاحب تجربة وخبرة طويلة في التعامل مع مثل هذه الأوساط، وهو ما اتّضح حين اعتذر له "الجميع" والمقصود هنا المسؤولون الرسميون.
***    ***    ***
مؤخراً حين دعتني الإعلامية والشاعرة العربية السورية نوال الحوار، للحديث مع صديق قديم عبر الهاتف، لم أكن أعرف أنه سيكون تيسير قبّعة. وبحميميّته المعتادة باشرنا فوراً بالسؤال عن الأحوال وجرّنا الحديث إلى الأهوال، وكان للأصدقاء وبعض عتب مملّح حضور في ذلك. كنت قد التقيت قبل ذلك ابنته رانية وتبادلنا الحديث عنه وأرسلت عبرها سلامات إليه، وحاولت خلال تردّدي إلى عمان الاتصال به، فأحياناً يكون خارج الأردن، أو أن زيارتي قصيرة لم تسمح للقاء، والاكتفاء أحياناً بالهاتف.
كان اللقاء في بيروت مزيجاً من مراجعات واستعادات لصداقات وأسماء ومواقف وذكريات، فقد استعاد معي بعض علاقات وخصوصيات مع عامر عبد الله وفاروق رضاعة وماجد عبد الرضا وآرا خاجادور ومنيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي وآخرين. بعضهم رحل عن دنيانا وبعضهم الآخر حدثته عنهم.
وأعاد لي اللقاء الأخير بحضور مفكرين وفنانين ومثقفين، ستينات القرن الماضي، حين كنّا شباباً، وكان كل منّا يشعر أنه يستطيع أن ينزل القمر أو يلعب بالشمس كما يريد. لم نعاني حينها من أمراض أو عقد، ولم يكن يَدُر بخلدنا أن الحياة هكذا مملوءة بالغدر والخديعة. كنّا نحلم ونشعر بقوّة الأجساد والعقول والإرادات، وكان الحق مصدر الإلهام الأساسي لدينا.
كان الدخان يملأ الشقة الصغيرة الأنيقة وغناء خفيف يأتي من غرفة داخلية إلى الصالون، وكؤوس النبيذ أحمرها وأبيضها ترتفع وتنزل، وغير ذلك من الدنان العتيقة، تصب في الأقداح الأنيقة، شربت من كل قلبي بصحة تيسير قبّعة، وتمنيت له عمراً مديداً، بكرمه وسخائه وشجاعته ومروءته.
أوَيوجد رأسمال أثمن من ذلك أو أقيم منه؟ إنه رأسمال الكبير الذي امتلكه ماركس حين خاطبته والدته: أفضل لك أن تجمع المال لا أن تكتب المؤلفات عن الرأسمال، لكن ماركس وغيره من الذين عملوا للمستقبل، بل إن نصف عقولهم كانت له: كانوا أصحاب رأسمال كبير: هو سعادتهم في النضال من أجل إلغاء استغلال الإنسان وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومع تيسير قبّعة كان أمل التحرير ودحر الصهيونية واستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً حقه في تقرير المصير وحق العودة، المدخل لأي تحرّر من الاستغلال ولتحقيق العدالة والمساواة.
كم كان تيسير قبّعة متابعاً لنشاطنا في اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، "اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وكنت أتشرف بتواضع كوني أميناً عاماً لها، وكان قبّعة داعماً للجنة ونشاطاتها سواء بدعوتنا للمؤتمرات والفعاليات العربية والدولية، أو حين يطلب مني أحياناً إعداد بعض الأبحاث والدراسات عن طبيعة الصهيونية والصراع العربي – الصهيوني، وخصوصاً من الزوايا القانونية الدولية.
***   ***   ***
ابن قلقيلية الحالم بموعد تحت ظلال شجرة الزيتون وعلى ضفة الشاطىء، حيث الدهشة الأولى، لرجال صادقوا أحزانهم، في أرض الأنبياء والقدّيسين، يستحضرون التاريخ لعهود سالفة، حيث شهدت تلك البقعة مقام النبي يامين والنبي شمعون والنبي إلياس، مثلما عرفت مسجد محمد الفاتح والجامع العمري (نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب) ومسجد حجة الذي يعود إلى العهد المملوكي... لا زال يتهجّى دروس المقاومة برومانسيتها الأولى ويستعيد أبجديات الثورة بإشراقاتها، لكي تبقى القضية طازجة وطريّة لا يلفّها النسيان، أو تحفظ في الأدراج، لأنها ليست قضية لاجئين، بل هي قضية شعب له الحق في تقرير المصير.
وتشير بطاقة ابن قلقيلية إلى أنه وُلِد في 20 آب (أغسطس) 1938 وتخرّج من مدرستها الثانوية، والتحق بجامعة دمشق، واعتقل بعد الانفصال، وأُبعد إلى القاهرة، حيث أكمل دراسته في التاريخ ونال درجة الماجستير. وبعد اعتقاله وسجنه في القدس العام 1967، أبعد إلى الأردن عبر صحراء النقب في مطلع العام 1971، وانتخب عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف)، وظلّ أبو فارس على صلة وثيقة باليسار العربي، وبشكل خاص باليسار اللبناني والعراقي، وبأوساط يسارية دولية في أميركا اللاتينية وأوروبا.
لتيسير قبّعة الحق كل الحق أن يفخر أنّه فلسطينيّ، فهذه الأرض حتى وإن "هطلت الحجارة" فيها على الصحراء، فإنها تستصلحها لتثمر تيناً وزيتوناً على حد تعبير إميل حبيبي، فما بالك إذا تآخى مع التمرّد وتحالف مع الحلم، وعقد معاهدة مع المستقبل، حتى وإن كان غامضاً أو بعيداً.
وتيسير قبّعة على الرّغم من كل الأحزان والمرارات والخيبات والانكسارات، في الوطن والشّتات، فإن فلسطينه الواقعية والمتخيلة، قلب بلاد الشّام وأمّة العرب، ظلّت حاضرة في عقله، يراها كلّما فتح عينيه أو أغمضهما، فصاحب العينين الواسعتين والصوت المميّز والرأي الشّجاع، ظلّت قبلته قلقيلية، وكل شيء يدلّه على قلقيلية، وأينما اتّجه تكون بوصلته قلقيلية، وحين يتذكّر قلقيلية تكبر ابتسامته وتزداد إشراقاً.





463
عامر عبد الله وزوايا النّظر المختلفة
الدكتور مهدي السعيد
كاتب وصحافي - لندن
أثار صدور كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان عن "عامر عبد الله" – النار ومرارة الأمل، عاصفة من النقد والتقييم، بسبب إشكالية شخصية عامر عبد الله، على الصعيدين الشخصي والسياسي، فضلاً عن التعارض لدرجة التأييد أو التنديد، بموافقة إيجاباً أو سلباً، وذلك بحكم حساسية الأوضاع السياسية، واختلاف مواقف الشيوعيين منها، ولا سيّما الحرب العراقية – الإيرانية وقضايا التطوّر اللاحق، سواء الموقف من الحصار الدولي أو من الاحتلال الأمريكي.
لعلّ إحدى الإشكاليات حول رؤية الكاتب وطريقة عرضه تقديمه لعامر عبد الله، فلم يكتفِ بإبداء الإعجاب حول بعض مواقفه، ولكنه في الوقت نفسه شدّد على نقد بعضها الآخر، لا سيّما في السنوات الأخيرة، ولهذا اختلف الفرقاء بشأن الكتاب وكاتبه، فالبعض اعتبره ترويجاً لعامر عبد الله، ذا التاريخ اليميني بحسب مصطلحات التنافس بين الشيوعيين، وامتداداً لذلك موقفه من الحرب العراقية – الإيرانية، وهو ما يؤكّده شعبان، بإطلاق صفة "العروبي" على عامر عبد الله، والبعض الآخر اعتبره تجنّياً على عامر عبدالله، بإبراز بعض مواقفه من الحصار الدولي ومن التدخل الأمريكي، وهو ما جاء الكاتب على نقدها.
وأياً كان الموقف والتقييم، فعامر عبد الله حسب الكاتب جزء لا يتجزأ من تاريخ الحركة الشيوعية، بل إنه فصل ساخن من فصولها حسب العنوان الفرعي للكتاب.
 وعند صدور الكتاب، سألني بعض الأصدقاء عنه بحكم قربي من عامر عبد الله، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، ولم أكن فيها قد اطّلعت على الكتاب، وكان ردّي، أنني أريد قراءته أولاً، لأتفحص تفاصيله مع ثقتي التامة بمنهجية الكاتب وموضوعيته ودقته المحايدة قطعاً في معظم الكتب التي سبق له أن ألّفها وأصدرها تباعاً، حيث أغنى المكتبة العربية بالعديد من الكتب الفكرية والسياسية والحقوقية والقانونية.
وتأكيداً على تلك الثقة المتناهية بقدرة الدكتور عبد الحسين شعبان في اعتراض الواقعة أو الحدث وتفكيكه وتشريح معالمه، أسديت الكثير من الإشارات التي تثبت حالة اليقين هذه، حيث أشرت إلى معرفتي الشخصية به منذ صباي عام 1959، حينما التقينا وتعارفنا في بغداد بعد قدومه من مدينة العلم والمعرفة "النجف".
والدافع الذي جعل هذا البعض يتساءل حول صدقية ما جاء في الكتاب من وقائع وأحداث وتطورات تتعلّق بحياة واحد من ألمع السياسيين والمثقفين العراقيين، وهو المرحوم عامر عبد الله "أبو عبد الله"، إنما الريادة التي شكّلت العنصر الفصل في توجهات المؤلف، الذي أثار في كتابه هذا، موجة عارمة من التساؤلات في الوسط السياسي والثقافي العراقي، وهي ريادة لكاتب وريادة للمكتوب عنه.
على كل حال موهبة التأليف والبحث التي لازمت الدكتور شعبان طوال المرحلة السياسية السابقة واللاّحقة، جعلته رغم حدّة التناقضات في الآراء العامة والخاصة يولج من عين الإبرة، ليناطح بها معيقات الحياة والزمن المرّ، فيخترق كتلاً ثابتة وحجرية، فاتحاً نافذة مضيئة في عالم الظلم، متّكأً على التسامح والتواصل مع الآخر واحترام الغير، وتلك سمات يقرّها خصومه قبل أصدقائه ورفاقه.
وحين اطّلعت على الكتاب وقرأته بتمعّن كبير، وجدت فيه مادة غنية ومنصفة، لا بخصوص عامر عبد الله، بل بتاريخ العراق السياسي وشخصياته المؤثرة، خصوصاً وأنني كنت على متابعة لكثير من الأحداث، فضلاً عن معرفة فيما يتعلّق بحياة المناضل "عامر عبد الله" الشخصية والعامة، ولا سيّما في لندن  التي جاءها لاجئاً.
الكتاب عبارة عن تلخيص مكثف ونقدي لحياة الكبير عامر عبد الله، ويعتبر وثيقة شاملة تتناول معظم محطات سيرة المرحوم عامر عبد الله والحزب الشيوعي وتاريخ الحركة الوطنية، وفيه استنتاجات في غاية الأهمية، ودروس وعبر على الحركة اليسارية بشكل عام، الاستفادة منها، كما أن فيه نقد ذاتي، لم يتوان الكاتب من الوقوف عنده بكل جرأة.
ويمتاز الكتاب بمنهج وتسلسل تاريخي للمرحلة السياسية من الخمسينات، حيث يؤطر معظم الوقائع بوثائق بعضها كتبها عامر عبد الله في ظروف مختلفة بما فيها رسائل إلى السوفييت إزاء الأزمة في الحزب الشيوعي مع عدد من الشيوعيين. إنه يضيف أيضاً عرضاً شمولياً لمعظم الأحداث السياسية التي مرّ بها العراق طوال المراحل التي شغل عامر عبد الله موقعاً بارزاً في أحداثها، مستشهداً برأي خصومه، مثلما برأي مريديه، مجتهداً في تقديم قراءته الخاصة، وهو ما يميّز شعبان الذي كان على الدوام مجتهداً، وهو ما عرفته عنه منذ أيام قيادة العمل الطلابي في بغداد في الستينات.
إن أهم ما في الكتاب هو العرض المتعلق بالانقسام السياسي بين القوى الوطنية التي تحاربت كثيراً، وفقدت مجتمعة أمل بناء عراق ديمقراطي متحرّر من العوائق السلبية في التطوّر أو التنمية، إضافة إلى النمطية والبيروقراطية، في علاقات الحزب الداخلية، وشح مستوى التفكير وضعف الاستقلالية، ناهيك عن عدم الكفاءة أحياناً.
ولعلّ ذلك بعض الأسباب التي يعرضها المفكّر شعبان بخصوص الحسد والغيرة والمنافسة اللّامشروعة ضد عامر عبد الله دون أن يهمل تذبذب بعض مواقفه وأخطائه، ولكن عامر عبد الله يتميّز عن غيره بحدّة الذكاء والقدرة على اتخاذ القرار ومستوى التنظير والتحليل ودرجة من استقلالية الرأي، وهو ما يفتقر إليه معظم الكادر القيادي،  ولكن الزمن الرديء عارضه في أحيان كثيرة، ولم يساعده في تحقيق أحلامه التي تكسّرت، حين اضطرّ أن يطلب اللجوء من البلد الذي كان أحد أبرز الشخصيات التي قاومت نفوذه في العراق.
الكتاب يقدّم رؤية نقدية للماضي، مثلما يقدم رؤية استشرافية للمستقبل، قد لا يرتضي بها بعض المتنفذين، خصوصاً حين يركّز الكاتب على الجانب الأخلاقي في سيرة الراحل عامر عبد الله والتي بدأ بها الكتاب وختم بها أيضاً، مع ما تخلّله من نقد إيجابي وسلبي.
وكما يقول عبد الحسين شعبان: لم يكن عامر عبد الله "شيوعياً مسلكياً متقوقعاً في منصبه الحزبي، بل كان سياسياً بارعاً وصاحب نظرة ثاقبة، جمع بين الصلابة الفكرية والمرونة التكتيكية، وكان متمكّناً من فن الحوار والسجال، وقد امتلك قدرة كبيرة على الإقناع، وكانت مواصفاته القيادية تتجلى في معرفته ومبادراته وقدرته على اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، دون أن نغفل إمكاناته على المداورة والمناورة وبراعته في التراجع، وفي كل ذلك كان شجاعاً وواضحاً"، سواء أصاب أم أخطأ؟
إن هذا التوصيف حقيقة يبرزها الكاتب ويبرّر انحيازه لها، وربما كانت تلك من أسباب اعتراض بعض القيادات السابقة ونقمتهم عليه، لكنه يدافع عنها، سواء كانت قد جاءت بثمارها كما حصل حين اتفاقه وانسجامه مع قيادة سلام عادل في الخمسينات حين تحققت وحدة الحزب واستطاع عقد كونغرسه الثاني العام 1956 بتوجه سياسي جديد، وصولاً لثورة 14 تموز (يوليو) 1958، أو فيما بعد عند الاختلاف معه، وما ترك ذلك من ندوب على الحزب وسياسته التي اتّسمت بشيء من التذبذب، خصوصاً في ظل التكتلات التي شهدتها قيادته "بما فيها كتلة الأربعة" كما يقول الكاتب، حيث تمكّن انقلابيو 8 شباط (فبراير) العام 1963 الإجهاز على الحزب وتصفية سلام عادل والعديد من كادراته القيادية.
ويمكن أن أضيف سمة أخرى على شخصية عامر عبد الله، هي مروءته ذات الجذور الريفية التي تربّى عليها منذ طفولته التي عاشها في مدينته الجاثمة على الفرات "عانة" فقد كانت لحظات سعادته تبدو على محيّاه حينما يقدم ثمة مساعدة ما للآخرين، كما أشار إلى ذلك الصديق شعبان الذي وصفه بأنه معطاء وكريم وذو أخلاق راقية للغاية، وتلك من سمات الشجاعة كما يقول.


464
الفساد والوجه الآخر لمعركة الفلّوجة..!

عبد الحسين شعبان

الحسم العسكري في معركة الفلّوجة أصبح واقعاً، حتى وإنْ بقيت بعض الجيوب والألغام، واحتمالات القيام بأعمال انتحارية يائسة، إلاّ أن الأمر قد قضي، لكن النصر لم يتحقّق بعد، حتى وإن تمّت هزيمة داعش عسكرياً، ما لم يتم تجفيف المنابع الفكرية والثقافية والتربوية والدينية للإرهاب لاجتثاثه من جذوره، ناهيك عن قطع طرق إمداده وتمويله وملاحقة قياداته لتقديمها للعدالة.
والنّصر لكي يكون وطيداً يحتاج إلى إدامة وأمن وإعادة إعمار ووحدة وطنية ومصالحة سياسية وخطوات عاجلة للتنمية وإعادة النازحين، وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار، سواء في الفلّوجة بشكل خاصّ أو لأهالي الأنبار عموماً، وكذلك لأبناء محافظة صلاح الدين، وكركوك وديالى، ناهيك عن التهيئة لتحرير الموصل التي طال ليل احتلالها.
وإذا كانت الحرب هي الوجه الآخر للسياسة، أو حسب الاستراتيجي النمساوي كلاوزفيتز "هي استمرار للسياسة بوسائل عنفية"، فإنها سياسة أولاً وأخيراً، وكثيراً ما تبدّدت انتصارات عسكرية بسبب سياسات خاطئة ما بعد انتهاء الحروب، وأحياناً تنفتح ثغرات جديدة، يتمكّن العدوّ التسلّل منها مرّة أخرى، وهكذا يجد له موطىء قدم بعد هزيمته العسكرية، وهو الأمر الذي حدث مع تنظيم القاعدة وربيبه تنظيم داعش، بعد الهزيمة العسكرية الماحقة التي لحقت به في العام 2008 وما بعده، لكنه عاد وتسلّل إلى مناطق طُرد منها، لأنه ظل يتغذّى من بنية الفساد المالي والإداري المستشري، إضافة إلى سياسات الإقصاء والتهميش، حيث تمّ في جنح الظلام وصول أعداد من سيارات الدفع الرباعي وبضعة مقاتلين من تنظيم داعش قادمين من عمق الصحراء، ليتمكّنوا بكل "ارتياح" ودون مقاومة تُذكر من احتلال الفلوجة، وكأننا أمام فيلم من أفلام هوليوود.
الفساد وفّر البيئة المناسبة لعودة الإرهاب، وكان ولا يزال الوجه الآخر له، يعيش منه وعليه، وهكذا تم احتلال الموصل في 10 يونيو (حزيران) 2014، بعد احتلال الفلّوجة قبلها بنحو 6 أشهر في 2 يناير (كانون الثاني) 2014، وتمدّد داعش إلى محافظتي صلاح الدين والأنبار، وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، ولكن مرّة أخرى، وبسبب الفساد تمَّ التستر على المسؤولين الذين لم تتم محاسبتهم حتى الآن.
لقد أصبح الفساد بفعل استحكاماته والحصانات المعروفة وغير المعروفة التي يتمتع بها من حُماته، أقرب إلى مؤسسة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وترافق ذلك مع المباشرة بنظام المحاصصة الطائفية – الإثنية، الذي دشّنه بول بريمر بمجلس الحكم الانتقالي، بحيث تتكوّن زبائنية معتمدة ومتناظرة للجماعات والكتل السياسية.
وإذا كانت الطائفية تمثّل أحد أبرز الإشكاليات الخطيرة التي واجهت الدولة، فإن الفساد وصنوه الإرهاب، شكّلا معولين أساسيين في تدميرها، حيث استفحلا بوجود ميليشيات ومسلّحين وتقاسم وظيفي، سواء كانوا ضمن تشكيلات تعود لأيام المعارضة مثل لواء بدر والبيشمركة التي تحوّلت إلى جزء من الجيش النظامي، أو تشكيلات جديدة، حيث تم تأسيس  جيش المهدي كما هي في البداية، ثم تأسست قوات الصحوات ولاحقاً الحشد الشعبي وأبناء العشائر، علماً بأن بعض القوى الجديدة هي امتدادات لكتل وجماعات انشقّت عن بعضها وشكّلت ميليشياتها الخاصة بها.
ومع وجود جماعات مسلّحة خارج نطاق حكم القانون، فإن الفساد استشرى، لا سيّما وأن الحكومة والبرلمان والقضاء والجهات الرقابية هي الأخرى متّهمة به. وقد وصف تقرير بريطاني صدر مؤخراً البرلمان العراقي بأنه أفسد مؤسسة في العالم، بسبب كثرة الأموال والامتيازات التي يحصل عليها عضو البرلمان دون تقديم ما يقابل ذلك من جهد وعمل. وحسب صحيفة ديلي ميل: إن عضو البرلمان يحصل على 80% من راتبه حين يترك عضويته في البرلمان، واعتبرت ذلك قانوناً مفبركاً للتقاعد.
ولا تتناسب رواتب أعضاء البرلمان أو الدرجات الخاصة أو المستشارين وكبار الموظفين، ناهيك عن الوزراء ووكلائهم، والرئاسات الثلاث مع متوسط الدخل الذي يحصل عليه الموظف الحكومي، إضافة إلى الامتيازات المنظورة وغير المنظورة، الأمر الذي أجّج الشارع العراقي، فقام باقتحام المنطقة الخضراء ودخول البرلمان.
لقد بدّد بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، وحده وخلال عام واحد (13 مايو/ أيار 2003- 28 يونيو/ حزيران 2004) أكثر من 8 مليارات دولار، وكانت الحكومتان اللتان أعقبته قد أهدرت ما يزيد على 20 مليار دولار خلال أقل من عامين، ولم تسلم حتى مؤسسات المجتمع المدني من الفساد الذي قال بريمر إنه وزع عليه ما يزيد على 780 مليون دولار دون أن يعرف أحد أين ذهبت ووفقاً لأي اعتبار تم توزيعها؟.
وبلغت ميزانية العراق بين العام 2006 ولغاية العام 2014 ما يقارب 700 مليار دولار، لكنه على الرغم من ذلك، فما زالت الخدمات متدنّية مثل الكهرباء والماء الصافي، إضافة إلى الخدمات الصحية والتعليمية، والبيئية والسياحية، وغيرها، إلى تدهور البنية التحتية ومياه الصرف والمجاري، بحيث تكفي زخّات مطر لسويعات كي تغرق بعض أجزاء العاصمة بغداد والكثير من المدن العراقية.
وبسبب طبيعة نظام المحاصصة، فإن الكثير من ملفّات الفساد لا تزال معطّلة، بما فيها ملاحقة المفسدين، ويوجد أكثر من 1000 موظف حكومي رفيع المستوى، بمن فيهم أكثر من 15 وزيراً وعدد من النواب متّهمين بالفساد، لكنه لم تمتد إليهم يد العدالة أو تطالهم المساءلة.
ولأن الحلول التي لجأت إليها الدولة لا تزال قاصرة، ولاسيّما على المستوى السياسي، فإن ظاهرة الإرهاب استمرت مع ظاهرة الفساد، خصوصاً في ظل نهج التهميش والإقصاء. واليوم وحتى لو تمت هزيمة داعش في الفلوجة وغداً في الموصل، وهو أمر حاصل لا محال، لأنه ضد منطق الحياة والتطوّر، إلاّ أن النصر السياسي الحقيقي والمستمر، لن يتحقق دون وضع حد لتأثيراته الفكرية والسياسية.
إن ظاهرتي الإرهاب والفساد ظاهرتان سياسيتان مرتبطتان بضعف الدولة وعدم قيامها بواجباتها المطلوبة، ومن أهمها حماية النظام والأمن العام والحفاظ على أرواح وممتلكات الناس بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية وانحداراتهم الدينية والقومية والمذهبية. ولم تستطع الدولة بالحلول الأمنية أو بالوسائل العسكرية لوحدهما من القضاء على الإرهاب واجتثاث العنف من واقع البلاد، دون معالجات سياسية، تنموية اقتصادية واجتماعية شاملة وطويلة الأمد لاجتثاث هذه الظاهرة، خصوصاً بتوفير فرص عمل وتقليص البطالة وتحسين الخدمات، وإشعار الناس بأنهم أمام مواطنة متساوية ومتكافئة وبلا تمييز.


465
"إسرائيل" والخطيئة الجديدة!
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
حين يفوّض المجتمع الدولي "إسرائيل" بتولّي مسؤولية اللّجنة القانونية الدائمة في الأمم المتحدة، ولا تحصل منافستها السويد على الموقع المذكور، فهذا يعني أن ثمّة خللاً عضوياً وبنيوياً تعاني منه المنظمة الدولية، وهو يكاد يكون مرضاً عضالاً لا يمكنها الشفاء منه، وإلاّ كيف يمكننا تفسير "منح" هذا التفويض لدولة هي الأكثر انتهاكاً لقواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي، وحجبه عن دولة هي الأكثر احتراماً لحقوق الإنسان على المستوى العالمي؟
والأمر لا يتعلّق فقط بسيادة قانون القوة، بل بتدهور مستوى التفكير والممارسة القانونية، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الأخلاقي والإنساني، إذْ كيف يمكن تبرير انتخاب "إسرائيل" لرئاسة اللّجنة القانونية، وهي التي ترفض تطبيق عشرات القرارات الدولية المتخذة بموجب ما يسمى بالشرعية الدولية، ولا سيّما القرارات الخاصة بالأراضي المحتلّة وحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وحق اللاّجئين بالعودة وغيرها؟
إن انتخاب "إسرائيل" لرئاسة إحدى اللّجان الدائمة يحدث لأول مرّة منذ انضمامها المشروط للأمم المتحدة العام 1949، وتعهّدها باحترام حقوق الإنسان، وإذا كان للّجنة قيمة رمزية فلأنها مثل اللجان الأخرى الدائمة: لجنة نزع السلاح، واللجنة الاقتصادية والمالية، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة إنهاء الاستعمار، ولجنة ميزانية الأمم المتحدة؛ تعطي رئاستها دوراً في متابعة تفاصيل تطور الملف الدولي بهذا الشأن، فما بالك حين يكون الملف قانونياً؟ وهو أكثر ما يشغل "إسرائيل" لأنه يتعلّق بشرعية وجودها واستمرارها.
وكانت العادة قد جرت على نوع من التوافق لاختيار رئاسة اللّجان الدائمة، لكن رفض المجموعتين العربية والإسلامية، اختيار "إسرائيل" اضطرّ الجمعية العامة لإجراء انتخابات، حيث فازت بأغلبية مريحة، فحصلت على 109 صوتاً من أصل 193، وامتنع 23 دولة عن التصويت و14 دولة كان تصويتها غير قانوني، فألغيت أوراق تصويتها. وقال داني دانون وهو ممثل "إسرائيل" الذي تم انتخابه: إنه فخور بهذا الاختيار، وأن "إسرائيل" رائدة في القانون الدولي ومكافحة الإرهاب.
وفي الوقت الذي تم انتخاب "إسرائيل" لهذا المنصب، أقدمت على طائفة من العقوبات الجماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني. فباشرت بفرض طوق كامل على بلدة المتهمين بتنفيذ عملية تل أبيب (بلدة يطا) وهدم منزلي عائلتيهما، وسحب تصاريح العمل التي يحملها أقارب الشابين (نحو 204 تصريح) وإلغاء 83 ألف تصريح زيارة من الضفة الغربية وقطاع غزة خلال شهر رمضان، ومواصلة إكمال الجدار العازل العنصري (جنوب الضفة)، إضافة إلى عدد من القرارات السرّية، التي يُعتقد أنها تتعلّق باغتيالات ضد قياديين وناشطين فلسطينيين.
كل هذه الإجراءات التي اتخذتها "إسرائيل" عشيّة قرار انتخابها في 13 يونيو (حزيران) 2016، وهي منافية لأبسط القواعد القانونية، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، حيث تحرّم القواعد العامّة لجميع القوانين الجزائية، العقوبات الجماعية، فالعقوبة أساساً فردية وهدفها ليس انتقامياً أو ثأرياً.
فكيف للأمم المتحدة أن تبرّر انتخاب "إسرائيل"؟ وأين هي من قواعد القانون الدولي؟ "فإسرائيل" لا تزال حتى الآن بدون دستور، لأنها ترفض مبدأ المساواة، مثلما لا تعترف بحدود لها، لأنها تسعى للتوسّع على حساب الأراضي العربية، وفقاً لمشروعها الإجلائي الإحلالي من "النيل إلى الفرات".
ولهذه الأسباب، إضافة إلى سجل "إسرائيل" المنافي لحقوق الإنسان، اعتبرت جهات دولية حقوقية عديدة أن انتخابها لرئاسة اللّجنة القانونية استفزازاً للضمير العالمي وللمشاعر الإنسانية، وهو بمثابة مكافأة لها على خرقها للقواعد القانونية العامة من جهة، ولقواعد القانون الدولي والإنساني من جهة ثانية، وخصوصاً لاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977.
ومن جهة أخرى، فإنه إهانة لقيم العدالة وحقوق الإنسان، إذْ كيف يوكل أمر القانون الدولي لأكثر الدول انتهاكاً له؟ وكيف يوضع المُنتهِك حارساً عليه؟ مثلما كيف يحمي الظالم المظلوم؟ وهل بإمكان المحتل إقامة العدل؟ وهل بمقدور المعتدي تحقيق السلام؟ وأخيراً كيف يقيم الجاني العدالة.
إن انتخاب "إسرائيل" لرئاسة اللّجنة القانونية، ليست الخطيئة الأولى للأمم المتحدة، فمثل هذه الخطوة غير الإنسانية وغير الأخلاقية، قد سبق أن اتخذتها في سابقة خطيرة، هي الأولى من نوعها على الصعيد العالمي حين قررت تقسيم فلسطين العام 1947.
وفي سابقة أخرى ألغت قرارها رقم 3379 الذي اتخذته في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1975 حين اعتبرت بموجبه "الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". لقد عادت الأمم المتحدة عن قرارها التاريخي ذاك، في شهر ديسمبر (كانون الأول) لعام 1991 مبطلة مفعوله، الأمر الذي أثار تساؤلات خطيرة بمعناها القانوني والسياسي والأخلاقي، حول صدقية قرار الإلغاء، فهل غيّرت "إسرائيل" من طبيعتها العنصرية وممارساتها المغرقة بالتمييز ليتم إلغاء قرار دمغها بالعنصرية؟
وهل أخطأت الأمم المتحدة حين وصفتها بالعنصرية استناداً إلى تقارير دورية لانتهاكاتها السافرة لحقوق الإنسان، على نحو منهجي ومنظّم؟ وإذا كانت الأمم المتحدة قد تراجعت بفعل الضغوط الأمريكية التي مورست عليها، لكن الأمر لم يغيّر من نظرة أوساط واسعة من الرأي العام تدين نهج "إسرائيل" العنصري، فقد أعاد مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001، إلى الأذهان ذلك، حين أدانت نحو 3000 (ثلاثة آلاف) منظمة حقوقية دولية الممارسات "الإسرائيلية" ووصمتها بالعنصرية.
ومن مهمات اللّجنة التي تأسست طبقاً للقرار 1373 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 28 سبتمبر (أيلول) العام 2001: تجريم تمويل الإرهاب (الدولي) والقيام بتجميد أموال الأشخاص والجهات التي تشارك في دعم الإرهاب ومنع الجماعات الإرهابية من الحصول على دعم مالي، وعدم توفير ملاذ آمن للإرهاربيين، وتبادل المعلومات مع الحكومات الأخرى عن أية جماعات تمارس الإرهاب...
ولعلّ هذه "القواعد التجريمية" جميعها تنطبق على "إسرائيل" التي قامت على الإرهاب، حتى قبل تأسيسها، من جانب جماعات إرهابية مثلما هي الهاجانا واشتيرن وغيرهما من المنظمات التي أصبحت نواة لجيش الدفاع "الإسرائيلي"، وحتى بعد قيام الدولة في 15 مايو (أيار) العام 1948 إلى الآن، فإن جماعات مسلحة من المستوطنين تقوم بأعمال إرهابية بصورة روتينية تحت نظر وسمع السلطات المسؤولة دون مساءلة تُذكر، فكيف سيتعامل مندوب "إسرائيل" وهو رئيس اللجنة مع ملفّات مثل التقارير الدولية التي تدين "إسرائيل" مثلما هو تقرير غولدستون، فضلاً عن رفضها تطبيق القرارات الدولية بالانسحاب، ثم قضايا مثل شكاوى ضد تسيبي ليفني وزيرة الخارجية السابقة، وبن أليعازر وزير الدفاع الأسبق وغيره من الملاحقين دولياً؟


466
الأزمة العراقية الراهنة
الطائفية، الأقاليم،  الدولة

د. عبد الحسين شعبان *

•   مقدمة
أعادت الأزمة الراهنة الإشكاليات الأساسية التي عانت منها الدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، وخصوصاً موضوع الطائفية السياسية التي أصبحت ظاهرة متفشّية في مفاصل الدولة العراقية وأروقتها، بل إن التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني أصبح السمة الأبرز للحكم ما بعد الاحتلال.
ولم تستطع الدولة على الرغم من مرور 13 عاماً على الاحتلال من حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية، وما يتعلق بالبطالة والضمان الاجتماعي والمتقاعدين، بل إن هذه المعضلات تفاقمت على نحو شديد، وازدادت تعقيداً ممّا عمّق  الأزمة السياسية، وأضفى عليها بُعداً شعبياً أخذ بالاتّساع، خصوصاً وقد ترافق ذلك باستمرار انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة وعدم حلّ مشكلة المياه التي أخذت بالتفاقم، مما سبّب أمراضاً وأوبئة عديدة، ومنها انتشار مرض الكوليرا.
لقد قامت العملية السياسية على صيغة المحاصصة الطائفية- الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأسيس مجلس الحكم الانتقالي في تموز (يوليو) العام 2003، خصوصاً بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي بالشيعة و5 أعضاء لما سمّي بالسنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين. وعرفت الدولة الجديدة التي تأسست على أنقاض الدولة القديمة التي قامت في عشرينيات القرن الماضي، باسم "دولة المكوّنات"، التي ورد ذكرها ثمان مرّات في الدستور. أما "دولة المواطنة" التي كان العراقيون يتطلّعون إليها  بعد انقضاء حقبة الحكم الشمولي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، لاسيّما بعد تأسيس نظام المحاصصة.
إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.
كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 أيار/مايو 2003 - 28 حزيران (يونيو) 2004) في 8 آذار (مارس) العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل بإعداد صيغته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وليس مصدر اتفاق وتوافق.
وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن الإشكاليات والصراعات التي عانت منها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، وفي النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الإستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، خصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي.
ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.
ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأت الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك عن أصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.
وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً طالما هي تتحكّم بالملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر، الغريب المُريب، الخصم والعدو الذي يستحق الاستئصال. وبالطبع فالفساد لا يقتصر على شأن معين، بل يشمل الإدارة السياسية والاقتصاد والاجتماع والثقافة والمجتمع المدني وتزوير الشهادات والاحتيال والرشا وغير ذلك، لدرجة زكّمت الأنوف.
ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً وأن المال السائب يغري بالسرقة كما يُقال، لاسيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب فيه.
ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً عن مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي- الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه.
ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟.
لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما وأن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.
إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين إن جميع المرجعيات سواءً كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية ينبغي أن تخضع إلى الدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار واستخدام السلاح والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، وبدون إخضاع المرجعيات الأخرى إليها فلا تصبح والحالة هذه دولة.
وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه  لسنّ دستور أفضل، لكن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوفر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.

البحث كاملا انفر الرابط التالي
http://uploads.ankawa.com/uploads/146679160291.pdf

467
زيد الحلي:
حين يغمّس يراعه بحبر المودة *
             
بقلم عبد الحسين شعبان* *
يبدو الصحافي المخضرم زيد الحلي وهو يدلف أعوامه نحو السبعين، شاباً حيوياً مفعماً بالأمل، حتى وإن كان هذا الأمل غامضاً. وعلى الرغم من أنه قضى أكثر من ثلاثة أرباع عمره البيولوجي في خدمة "صاحبة الجلالة" كما يُقال عن الصحافة أو "مهنة المتاعب"، إلاّ أنه لا يكترث بكل ذلك العناء والألم، لأن شعوره مثل شعور العاشق الذي لا يرتوي، بل يزداد هيماناً كلّما التصق بمعشوقته، ولعلّ عشق زيد الحلي مثل ينبوع لا يكاد ينضب، فتراه يتدفق بقوّة وعنفوان، إنه عشق يتجدّد ويتفاعل ويتخالق ويتراكب ويتواصل في بحر شاسع حتى كأنه بلا نهاية.
كأن زيد الحلي يسبح في بحر بلا ضفاف، دون رغبة في الوصول إلى الشواطئ، لأنه لا يحب النهايات، فمنذ خمس عقود من الزمان يسير دون توقف أو محطة استراحة، رغم العواصف والزوابع وعاديات الزمن، لكنه يشعر أنه في بداية الطريق: يتعلّم ويجرّب ويُخطىء ويُصحّح، لأنه واثق كلّ الثقة أن الطريق الذي اختاره بشغف ورومانسية وبتحدٍّ لا يزال يستهويه حتى الثمالة، لدرجة الهيمان والاندغام، فالجمال بالعمل، والمتعة بالاكتشاف، والإبداع بالتجديد.
جرّب زيد الحلي كل أجناس العمل الصحافي مبتدئاً من نشر أخبار الرياضة والفن والفنانين إلى مدير قسم وسكرتير تحرير ورئيس تحرير، وتعلّم وهو فتىً كيف يكتب الخبر وكيف يُصاغ العنوان ويوضع المانشيت، مروراً بكتابة التحقيق والريبورتاج والتعليق والعمود والمقابلة والمقالة، وفي كل ذلك كان يمارس الكتابة كفنٍّ مهني يحتاج إلى تغذيته بالتجربة والتدريب والمهارة، حتى اكتسب الخبرة، وكان يفعل كلّ ما يتطلّبه العمل الصحافي باسترسال أقرب إلى العفوية، مستخدماً ذاكرته الطريّة من جهة، ومن جهة ثانية سلاح الوثيقة: الصورة والمعلومة والقصاصة والتعليق، ليس هذا فحسب، بل لا زال يكتب بذهن مفتوح ومائز، وكأنه يمارس طقساً يومياً، أشبه بالخشوع، فحضرة صاحبة الجلالة عشقه المستمر، مثل نسغ صاعد تتطلّب منه، مثل تلك الهيبة والاحترام والعطاء والتّفاني والحب.
لعلّ زيد الحلي في مذكراته وذكرياته، يحاول استعادة ذاته الكامنة فيما وراء السطور والشخصيات والمواقف، في نوع من التّصالح لدرجة الصداقة الحميمة مع النّفس ومع الآخر، غير مكترث بتدافع سنوات العمر، وتضاعيف المهنة ومتاعبها، ومشاكل الحياة وانقلاباتها وغدر البعض وجبنهم، والمهم عنده هو مدى الاقتراب أو الابتعاد عن أخلاقيات المهنة التي نذر لها نفسه، حتى وإن كان وسط زحام من الأخطاء والعيوب والتوجيهات الصّارمة والمحاذير الشّديدة والتابوات الكثيرة.
ولعلّ كتاب زيد الحلي "50 عاماً في الصحافة" هو محاولة للقفز فوق الموانع وعبور الألغام، وتجاوز الحواجز باتجاه الحقيقة، على الرغم من الضبابيات الكثيرة التي تغلّفها، والتشويهات الهائلة التي لحقت بها، والتداخلات الكبيرة التي طبعها الزمن على وجهها الكثير التجاعيد، لكن زيد الحلي وهو يدخل في صومعته ليمارس عمله الإبداعي بافتتان كبير تراه غير عابئ بكل ما حوله، لأنه يبحث عن الحقيقة، التي يريد أن يراها أو يتلمّس معالمها حتى وإن كان جزءها الآخر بعيداً أو غارقاً، وليس بمستطاعه أن يصله، لكنّه كان يريد أن يشعر به أو يحسّ بوجوده.
من حقّ زيد الحلي، ومن حقّنا أن نعتزّ بأربع سجايا كانت مرافقة له طيلة عقوده الخمسة التي قضاها في عمله الصحافي، مؤرخاً للّحظة على حد تعبير ألبير كامو:
الأولى - هي إخلاصه اللاّمتناهي للمهنة التي عشقها، حتى إنه لا يمكن تصوّر زيد الحلي بدونها، كما أنه لا يستطيع أن يتخيّل نفسه خارج دائرتها حتى لو أراد، فثمة حبل سرّي يشدّه إليها، خصوصاً وأنه تربّى في كنفها وعاش حياته كلّها وفياً لها، فمنحها أعزّ ما يملك، وكافح ونافح حسب ظروف معقّدة وملتبسة من أجلها، بل كاد أن يذهب ضحيّة بسببها "لا غير"، وعاش صراعاً عنيفاً مع النفس، واختار الأصعب وهو أن يبقى صحافياً كما هو، وصحافياً فقط، وكان ثمن ذلك تجميد عضويته في مجلس النقابة في ظروف لم يكن أحد يسأل فيها عن السبب، وكان صمته جواباً كافياً لمعرفة موقع أقدامه، فضلاً عمّن وقف معه بالتّشجيع أو بالإشارة أو بالإيماءة أو التقاء العيون، ومن تنكّر له بالقسوة أو بالإهمال أو بالجحود، وهي أمور كثيرة الحزن في فترة عصيبة أظْلَّمت فيها الدنيا أمامه.
والثانية - هي إخلاصه للأصدقاء وحبّه لهم، لدرجة أنه وهو يروي يحاول أن يجد أعذاراً أو مبرّرات لهذا الموقف أو ذاك، ولهذا التصرّف والسلوك أو ذاك، لكي لا يحرج أحداً أو يؤذي صديقاً، حتى بكلمة أو بوردة يرميها عليه، دون أن يعني ذلك أنه لا يسمّي الخطأ خطأ، والصواب صواباً، والحق حقاً، والباطل باطلاً، حسب الظروف والأحوال. ومع أنه حاول النأي بنفسه عن مشكلات السياسة ومضاعفاتها، حتى وإن شمله رذاذها، إلاّ أنه حاول أن يتناول عدداً من الشخصيات في ضوء القيم الإنسانية العامة والسجايا الأخلاقية، ما فوق السياسية أحياناً، وهو ما يستكمل الحديث عنها في هذا الكتاب.
والثالثة - تميّزه بروح التلمذة والرغبة في التعلّم، ولن ينسى ما فاته أحياناً أو ما لم يتعلّم منه، كما لا ينسى أن ينتقد نفسه، كلّما أخطأ على نحو عفوي أو مقصود، حتى عُـدّ الكتاب نقداً ذاتياً بشفافية عالية، وبقدر تعلّمه واستفادته من أخطائه، فهو حاول أن يعلّم أيضاً، وكان يقدّم ولا يزال عصارة تجربته، للأجيال القادمة مردّداً: إياكم والغرور، ولعلّ الكثير من الذين عملوا معه وتحت إمرته لم يجدوا لديه تلك الروح الأستاذية أو التّسلطية أو البيروقراطية، وكان يعاملهم باستمرار كزملاء مهنة.
وقد قدّم خلال تجربته أسماء فنية مهمّة يمكنك التعرّف عليها من خلال كتابه الشيّق مثل: الياس خضر وحسين نعمه وسعدي الحلي، والفنان المسرحي سامي قفطان والممثل والمخرج عوني كرومي، والممثلة المسرحية غزوة الخالدي، والطبيب الفنان التشكيلي علاء بشير وآخرين، ولم يتحدث عن ذلك منّة أو افتخاراً، بل يكتب ذلك بتواضع جمّ ولكلّ ظرفه، فقد وجد نفسه وجهاً لوجه أمام مسؤولية، قرّر أن يتحمّلها من وحي ضميره. 
الرابعة – وهي ما يمكنني إضافتها، حبّه للخير ورغبته في المساعدة، وهي ميزة إنسانية يحسّ بها من يقدّم مساعداته وخدماته للناس، لا سيّما إذا وجدهم في مواقع متقدّمة لاحقاً، ولعلّ الكثير من الأسماء الواردة كانت ممتنة جداً لفرصة قد تكون صدفة أتاحها لهم زيد الحلي، أو ساهم في إخراجها إلى دائرة النور.
كما كان زيد الحلي مدفوعاً بحب المغامرة، فقد حلّق في عمله المهني مدفوعاً بهديها، وهو فتى في السابعة عشر من عمره، ليتحمّل مسؤولية شيخ في السّتين، حيث كان يسهر حتى تخرج صحيفة العرب من "التنّور". من شارع حسان بن ثابت في بغداد الستينية من القرن الماضي.
واكتسب زيد الحلي خبرة جديدة، في الإذاعة من خلال عمله في صوت الجماهير، وهي خبرة مكّنته من التكثيف والاختزال، وكأنه يكتب برقيات أو يعرض عناوين، سواء في صناعة الخبر أو المقالة أو التعليق، وأتاحت له تلك الخبرة، في رشاقة القلم ودقّة التعبير وموسيقية اللّفظ، لا سيّما وأن المسموع غير المقروء، فالأوّل يحتاج إلى نوع من الشدّ والتشويق، مثلما هي الصورة في المنظور، ولذلك قيل الصورة خبر، ولعلّها تغني أكثر من عشرات ومئات المقالات، من خلال: كمية الضوء وكثافة اللون والمظهر الخارجي والإخراج والعرض والتعليق أو بدونه أحياناً، وتلك من حيثيات العولمة وفي ظلّ الثورة العلمية – التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل".
سبقني إلى تقديم كتابه الأول 50 عاماً في الصحافة، صحافيان كبيران ومبدعان، مَثّلا جزءًا مهمّاً من مدرسة الصحافة العراقية، هما الأستاذ فيصل حسون نقيب الصحافيين الأسبق، والأستاذ سجّاد الغازي الأمين العام الأسبق لاتحاد الصحافيين العرب، وهما تعرّفا على زيد الحلي في بدايات عمله الصحافي، وتلمّسا نباهته وموهبته المبكرة، ناهيك عن جرأته في اقتحام ميادين أو فتح أبواب، فالصحافي يحتاج إلى سرعة بديهة وقدرة على التقاط الجوهري من الأشياء، إضافة إلى طائفة من العلاقات التي تغذّيه بالمعلومات.
من يعرف العمل الصحافي يستطيع أن يقدّر مشقة الكتابة اليومية، وكم هي مسؤولية، خصوصاً بالتواصل مع جمهرة القرّاء، فقد تحتاج إلى كلمات محدودة ومركّزة، أقرب إلى البرقيات أو العناوين، وبقدر ما تكون نافذة، فإنها تصيب الهدف، فالصحافي الناجح من يستطيع الإيجاز دون إخلال بالمعنى أو افتئات على المضمون، سواء في الرسالة أو الخبر أو التفكير أو الاستعارة، دون أن ينسى التشويق والحبكة والمتعة والفائدة والمعلومة التي يقدّمها كطبق يومي إلى القارئ.
الكتابة أيضاً حوار مع النفس ومع الآخر، وكل حوار دون الآخر يرتدّ انعكاسياً، ولهذا يحتاج الصحافي إلى براعة ومقدرة لإيصال القارئ إلى شاطئ الحقيقة، حتى وإن ظلّ هو مبحراً. قد يحتاج لكي يقفل حبكته الدرامية إلى مثل شعبي أو حكاية أو أقصوصة أو استشهاد  ببضعة جمل أو مقاطع، حتى وإن بدت حالمة أو غامضة، لكنها لا ينبغي أن تترك القارئ تائهاً في درب الكلمات أو عند منتصف الطريق، إنها تؤثر عليه أو تستدل عليه، وقد تكون ثمّة طرق أو بدائل يمكن للصحافي اصطحاب القارئ إليها، في إطار صحبة حميمة ورفقة أنيسة.
التكثيف جهد مضنيّ بحدّ ذاته، لأنه يبلّور الرأي ويقدّم عصارة الفكر وعناء التّجربة، في صفاء ذهن وسلاسة أُسلوب ورقّة في التناول وهارموني في اللّفظ.
إن التكثيف هي حرفة الصحافي الناجح، وزيد الحلّي بأسلوبه الأنيق وقلمه الرشيق يعلّمنا تلك الحرفة بمسؤولية ومتعة، ليقدّم لنا الجميل والجديد على نحو شيّق لدرجة يشدّنا ونحن نقرأ عموداً كتبه أو خبراً نقله أو فكرة أراد أن يطرحها. وقد أشرت أكثر من مرّة حين انتظر كارل ماركس أن تأتيه رسالة من رفيق عمره فردريك انجلز، ليعلّق فيها على مخطوطة كان قد أرسلها إليه، أو ليكتب بضعة ملاحظات، ولكن الرسالة لم تصل وكاد صبره أن ينفذ، وإذا به وبعد بضعة أشهر تصله رسالة وكتاب جديد "مخطوطة لإنجلز" تعليقاً على مخطوطة ماركس مع رسالة قصيرة جاء فيها: آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة أو مركّزة، فكتبت هذا الكتاب "المخطوطة".
التكثيف هو جهد فكري، وليس أسلوباً فحسب، وهو واحد من مكوّنات عدّة الصحافي النّاجح، لأنه بحاجة إلى قراءة يومية ومتابعة وشبكة علاقات واسعة وجدارة في اختيار الموضوع والتقاط اللّحظة المناسبة، مع مراعاة ما يريد القارئ، بأسلوب فعّال في معالجة أعقد وأخطر القضايا.
يمكن احتساب زيد الحلّي على الجيل الثاني من الصحفيين العراقيين المتميّزين بعد جيل الروّاد للصحافيين الكبار متزامناً مع ما أُطلق عليه "جيل الستينيات- الروح الحيّة" وهو عنوان كتاب للشاعر والروائي والصحافي فاضل العزاوي، تلك الموجة التي عرفت إضافة إلى العزاوي، مؤيّد الراوي وشريف الربيعي وسركون بولص وأنور الغساني وعبد الرحمن مجيد الربيعي وابتسام عبدالله وعمران القيسي وحميد المطبعي وسلام خياط وسلوى زكّو وسالمة صالح وجليل العطية وقيس السامرائي وحسن العاني وآخرين، وهي امتداد لجيل ضم روفائيل بطي والجواهري وعبد المجيد لطفي وعبد الجبار وهبي وعبد الرحيم شريف وحسن العلوي ويوسف الصائغ ومحمد كامل عارف وشاكر علي التكريتي وقاسم حمودي وسجّاد الغازي وفيصل حسون وشمران الياسري "أبوﮔاطـع" ومدني صالح وسعد قاسم حمودي وإبراهيم الحريري وإن كان هناك تداخل بين الأجيال.
زيد الحلي كتب بوحي من ضميره، وكان حين يريد تجديد قلمه يغمسه بحبر المودّة!
تعالوا معي نقرأ كيف يقدّم شخصياته، من المبدعين في أجناس مختلفة من الكتابة والأدب والفن، فزيد الحلي مشغول بالثقافة وفروعها المختلفة، ويجد من واجبه تقديم ذلك لجمهرة القرّاء، وهو ما حرص عليه طيلة خمسة عقود من الزمان، سارت فيها تحت الجسور مياه كثيرة، وإذا كان أربعة رؤساء توالوا فيها على رئاسة البلاد وهم: عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدّام حسين ورئيسان بعد الاحتلال العام 2003 وهما: غازي الياور وجلال الطالباني، لكنه عاصر ما بعد اغتيال كينيدي رئيس الولايات المتحدة: جونسون ونيكسون وفورد وكارتر وريغان وجورج بوش الأب وكلينتون وجورج بوش الابن وأوباما، مثلما عاصر زعماء الاتحاد السوفييتي وبعدها روسيا، وهم خروتشوف وبريجينف وتشرننكو وآندروبوف وغورباتشوف ويلتسن ومدفيديف وبوتين .
زيد الحلّي يكتب بحبر المودّة.
3 أيلول/ سبتمبر 2013
                                                                                                    بيروت








_________________
* زيد الحلي "في الصحافة والثقافة والفنون والحياة"، كتاب صدر في بغداد وكتب مقدمته الدكتور عبد الحسين شعبان، ونُشرت المقدمة في صحيفة الزمان "العراقية"، بتاريخ الأربعاء 22/6/2016.
** مفكر وناقد، له الكثير من المساهمات الفكرية والثقافية. لديه أكثر من 50 كتاباً مطبوعاً. عمل في مؤسسات حقوقية وإعلامية عربية ودولية وساهم في تأسيس وترؤس العديد منها، كما شغل مواقع استشارية في العديد من المنابر الإعلامية والثقافية. (الناشر).

468
في الطريق إلى الموصل...
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي
لو كانت المعركة عسكرية في الفلّوجة، لقلنا إنّ النّصر وشيك، إذ إن داعش مهما بلغ من قوّة وجبروت وتوحّش إلاّ أنه لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية، سواء في الفلّوجة أو في الموصل أو في غيرها من مناطق العراق، أو في أي مكان آخر من البلدان العربية، لأنه ضدّ منطق الحياة والتطوّر وسمت العصر، لكن النّصر العسكري حتى وإن كان حاسماً، إلا أنه لن يكون دائماً ووطيداً دون نصر سياسي حقيقي.
 المعطيات المتوفّرة في معركة الفلّوجة باعتبارها بروفة أولى لتحرير الموصل تشكك بذلك، والصورة حتى الآن تكاد تكون مضببة، بل وملتبسة، والطريق وعرة وفيها الكثير من المنعرجات والتعقيدات السياسية حتى وإن تحقّق النصر عسكرياً، وهو أمر وارد للأسباب التي ذكرناها.
سنتان مرّتا على احتلال داعش مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق، حيث يبلغ عدد نفوسها أكثر من مليون وسبعمائة ألف نسمة. ومنذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014 تتكرّر مواعيد تحرير الموصل، لكن المعركة لم تبدأ بعد، في حين يستمر داعش في تدمير معالم المدينة وهدم آثارها التي لا تقدّر بثمن، ناهيك عن إعادة هيكلتها وفقاً لعقيدته الإرهابية التكفيرية.
وإذا كان الإعلان عن معركة الفلّوجة قد بدأ (23 مايو / أيار الماضي)، إلاّ أنها توقّفت أو تباطأت بإعلان من رئيس الوزراء حيدر العبادي، بعد أن تبيّن صعوبة اقتحام المدينة، بسبب مقاومة داعش غير المتوقّعة، على الرغم من خسائره وتدنّي معنوياته، لكنه لم يفقد زمام المبادرة، ناهيك عن توزيع قواه بين السكّان المدنيين وإلغامه المدينة ومرافقها الحيوية.
قد يكون الطريق الوعر لتحرير الفلّوجة مقدمة لتحرير الموصل، لا سيّما بعد تحرير محافظة صلاح الدين وعاصمتها تكريت، والقسم الأكبر من محافظة الأنبار وعاصمتها الرمادي، إضافة إلى مدن حديثة وكبيسة وهيت والقائم وغيرها، ولكن الفلّوجة حتى الآن تمثّل استعصاءً، حيث يختطفها داعش ويأخذ عشرات الآلاف من سكانها كرهائن، وتقدّر الأمم المتحدة عددهم بنحو 90 ألف شخص، وهم الذين لم يتمكّنوا من الهرب إلى خارجها، ويستخدم داعش بعض هؤلاء كدروع بشرية، فضلاً عن توظيفه بعض شبابها بغسل أدمغتهم في عمليات إرهابية، كجزء من عقيدة التنظيم وممارساته بالترغيب والترهيب.
مثلما يعتقد كثيرون أن الطريق إلى الموصل يمرّ عبر الفلّوجة، فإن داعش ذاته اعتقد ذلك، ولهذا السبب تسلّل في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، بأرتال من سيارات الدفع الرباعي، وهي ترفع الرايات السوداء، والقادمة من عمق الصحراء بعد احتلال الرقة ودير الزور (السوريتان) إلى مدينة الفلّوجة، حيث تمّ احتلالها دون أي اشتباك مع القوات الحكومية، أو تعرّض للقوات المحتلّة.
حدث ذلك قبل نحو ستة أشهر من احتلال مدينة الموصل، التي تكرّر فيها سيناريو احتلال الفلّوجة، بل إن أبو بكر البغدادي وصل على رأس قافلة من سيارات الدفع الرباعي، إلى الموصل بعد أيام من احتلالها، ليلقي خطاباً في جامع الموصل الكبير، وحصل الأمر مرّة أخرى دون ردّ فعل أو مقاومة، وكأنّنا أمام خدعة سينمائية، بحيث يتم تخدير قوات الطرف الآخر، وتتوقّف جميع أجهزة الاتّصال والأقمار الصناعية، لتمرّ قافلة داعش "المنتصرة" بكل فخر وكبرياء، وهو في واقع الحال "انتصار أشدّ عاراً من الهزيمة".
من الموصل تمدّد داعش إلى محافظة صلاح الدين ومحافظة الأنبار، وعدد من مدن محافظتي كركوك وديالى، بل إن ثقته بنفسه دفعته للتقدّم باتجاه محافظة إربيل عاصمة إقليم كردستان، لكنه عاد للتراجع بعدما شعر بحجم ردود الفعل الإقليمية والدولية، التي سارعت لحماية الإقليم وردّ داعش على أعقابه بعد أن وصل إلى نحو 20 كليومتراً من مدينة إربيل، فركّز هجومه على أطراف بغداد، وكانت معركة جرف الصخر حاسمة، خصوصاً بهزيمة داعش وقطع خط إمداداته مع الفلّوجة التي كان يعتبرها مقرّاً للقيادة الخلفية أو غرفة عمليات لإدارة معركته في بغداد، فالتجأ إلى إرباك الداخل العراقي بطائفة من عمليات التفجير والعمليات الانتحارية في بغداد والحلّة ومناطق أخرى. وزاد الأمر تعقيداً الانقسامات السياسية والتظاهرات الشعبية وصولاً إلى اقتحام المنطقة الخضراء وتعطّل البرلمان لبعض الوقت وتعويم الحكومة في بغداد بسبب الاختلاف حول المحاصصة الوزارية الطائفية ـ الإثنية الجديدة.
لم تفتح الحكومة العراقية حتى الآن تحقيقاً جاداً ومسؤولاً بما حصل في الفلّوجة قبل الموصل، ولو كانت قد حاسبت المسؤولين على وقوع الفلّوجة بيد داعش، لربما لم تقع الموصل هي الأخرى ضحية عدم الشعور بالمسؤولية أو التواطؤ أو التقصير، أو هذه الأسباب مجتمعة، ناهيك عن أن المزاج العام سواء في الفلّوجة أو الموصل أو المناطق الغربية والشمالية من العراق، حيث غالبيتها من العرب السنّة، هو ضد حكومة بغداد، لا سيّما لاتهامها بعد القوات الأمريكية، بممارسة الإذلال والتمييز والتهميش منذ احتلال العراق العام 2003 ولحد الآن، فضلاً عن عدم تلبية مطالبها الاحتجاجية وتعويض هذه المناطق عمّا لحق بها من غبن وأضرار، وخصوصاً بسبب غياب إرادة ومنهج للمصالحة الحقيقية وإصدار عفو عام وإطلاق سراح الأبرياء التي ظلّت السجون تغصّ بهم، إضافة إلى ردّ بعض الحقوق المهنية والوظيفية.
مع مرور الأيام وخلال السنتين ونصف المنصرمتين، كان داعش يُحكم قبضته على مدينة الفلّوجة، على نحو شمولي مستخدماً أبشع الأساليب لترويض السكان المدنيين، الأمر الذي اضطرّ نحو 90% من أهالي الفلّوجة إلى مغادرتها.
وظلّت بعض أطراف المدينة بعيدة عن هيمنة داعش، حيث توجد العشائر التي تحاول الدفاع عن نفسها وعن مناطقها، لكنها لوحدها لم يكن بإمكانها إلحاق الهزيمة بداعش، بسبب التسليح واختلال التوازن العسكري.
وخلال الفترة المنصرمة لم تتبلور خطة عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية للتصدّي لداعش ودحره، والسبب يعود لانقسام القوى السياسية، بسبب الخلاف حول "الحشد الشعبي" ودوره، الذي يتباين التقييم حوله من التقديس إلى التدنيس وإلى ضرورة أو عدم ضرورة تأسيس "الحرس الوطني" من أبناء المنطقة، ولا سيّما من رجال العشائر، وهو خلاف سياسي بين السنيّة السياسية والشيعية السياسية، ويمتد هذا الخلاف عمودياً، داخل المجموعة الواحدة، وداخل المنخرطين بالعملية السياسية وخارجها.
وبالطبع، فإنّ الخلاف يزداد بشأن دور العامل الإقليمي، وإيران تحديداً التي يتعاظم نفوذها ودور التحالف الدولي، والولايات المتحدة الأمريكية بالمقدمة، وذلك بين مؤيّد ومندّد، وبقدر ما للمسألة من جانب يتعلّق بالولاء والتّسليح والدّعم، فإنّ تعارضاته الداخلية شديدة، خصوصاً بين الكرد وإقليم كردستان من جهة، وبين المتنفّذين في حكومة بغداد من جهة أخرى، وذلك انعكاساً لصراعات حول المناطق المتنازع عليها بين الكرد والتركمان والعرب، وكذلك حول مستقبل المادة 140 من الدستور العراقي، ارتباطاً مع المناطق التي يتم تحريرها من جانب قوات البيشمركة، حيث تندلع صراعات إثنية، إضافة إلى الصراعات المذهبية والطائفية القائمة. وهناك تخوّفات وعدم ثقة من جميع الأطراف، لا سيّما ما حصل في سنجار قبل ذلك وفي طوزخورماتو وبعض مدن ديالى، من تطهير وأعمال انتقام وعنف، وهو ما حذّرت منه منظمات حقوقية عديدة، إضافة إلى الأمم المتحدة، خصوصاً بعد تعرّض الهاربين من مدينة الفلّوجة ومن قبضة داعش إلى انتهاكات واستجوابات طالت بضعة مئات، وهو ما شَكَت منه بعض العوائل التي هربت مؤخراً والتجأت إلى القوات الحكومية.
الطريق إلى تحرير الموصل عسكرياً، وإن مرّ بالفلّوجة، لكنّه يحتاج إلى خارطة طريق سياسية، بل نصر سياسي وهو الأول وهو المقدمة والمتن والخاتمة، فالنّصر العسكري لوحده يبقى ناقصاً ومبتوراً، وتأثيراته محدودة وآنية، واحتمالات عودة الإرهاب والإرهابيين التكفيريين قائمة، إن لم يتزامن معه نصر سياسي يهيّىء للمعركة ويرافقها ويعقبها، ولن يتحقّق ذلك بدون مصالحة وطنية وسياسية، وإلغاء أسباب التهميش والإقصاء الطائفية والسياسية، وذلك بإعادة نظر بالدستور والعملية السياسية ككل، ولا سيّما بنظام الزبائنية والغنائمية، وبما يعزّز روح المواطنة والمساواة والوحدة المجتمعية ومعالجة جذور التمييز والاستعلاء، خصوصاً جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
نُشرت على موقع "الجزيرة نت" بتاريخ 18/6/2016

469
هل يبقى العراق موحّداً!؟

عبد الحسين شعبان

سؤال كبير كان طرحه غراهام فولر من مؤسسة "راند Rand" الأمريكية المقرّبة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، منذ مطلع التسعينات. وهو سؤال لا ينمّ عن قدرات تنبؤية، بقدر ما يعكس ما يدور ويتردّد في أروقة الدبلوماسية الدولية، إضافة إلى مراكز الأبحاث والدراسات، وخصوصاً تروست الأدمغة الذي يعمل بمعي~ة الرئيس الأمريكي، واليوم كلّما نشبت أزمة في العراق، أعيد طرح السؤال على نحو أكثر إثارة، وهو ما كان قد تبنّاه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي في مشروعه الشهير العام 2007 والذي حظي بموافقة الكونغرس الأمريكي، وذلك بإقامة ثلاث كيانات أشبه بدويلات منفصلة.
في دراسات العلوم السياسية، وخصوصاً الدراسات المستقبلية، لا تندرج الوقائع والمتغيّرات في باب التشاؤم أو التفاؤل، بقدر ما يتم تحليل الأوضاع واستشراف صورة المستقبل من خلال احتمالات عديدة، وبالطبع، فإن دراسة الحاضر لا تتم بمعزل عن الماضي، لوضع صورة المستقبل بما يؤكد أو يعارض وجهة التطور، سواء استمر الحال على ما هو عليه أو تراجع أو اتخذ منحىً جديداً.
لقد دأبت العديد من الدراسات المستقبلية بخصوص العراق، ولا سيّما منذ الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980، على النظر إلى الدولة العراقية، باعتبارها كياناً مصطنعاً، تأسس في العام 1921، باتحاد ثلاث ولايات هي: بغداد العاصمة والبصرة في جنوب العراق والموصل في الشمال، وذلك بعد انحلال الدولة العثمانية، واحتلال بريطانيا العراق 1914 – 1918 خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد عدم التمكن من حكم العراق بصورة مباشرة، ولا سيّما بعد ثورة العشرين العام 1920، أُخضع  العراق للانتداب البريطاني لغاية العام 1932، حيث حصل على استقلاله، وانضم إلى عصبة الأمم.
الكيان العراقي الذي اتّخذ من النظام الملكي شكلاً للحكم واجهته منذ اللّحظات الأولى ثلاث إشكاليات أساسية، لا تزال باقية إلى الآن، وهي من أسباب أزمة الحكم البنيوية المعتّقة في العراق تاريخياً.
الإشكالية الأولى – تتعلّق بعدم إقرار حقوق الكرد، ولذلك ظلّوا مهمشين كشعب وهويّة، حتى وإن شاركوا كأفراد واحتلّوا أعلى المناصب.
الإشكالية الثانية – تخصّ البذرة الطائفية التي حاولت بريطانيا غرسها بسن قانون غريب للجنسية العام 1924، حيث يقسم فيه العراقيون إلى فئتين "أ" و"ب" تبعاً للأصول التاريخية، وذلك حتى قبل سنّ الدستور العراقي "القانون الأساسي" العام 1925.
الإشكالية الثالثة – ترتبط بهشاشة الهياكل والتراكيب "الديمقراطية" التي جاء بها الدستور، وهو وإن احتوى على قواعد قانونية إيجابية ومتقدّمة، إلاّ أن تطبيقاته كانت سلبية ووصلت إلى طريق مسدود في الخمسينات، حيث ضاقت هوامش الحرية إلى أبعد الحدود بحكم ارتباط العراق بحلف بغداد.
ولم يكن في مقدور دولة رخوة وقلقة وحملت نشأتها مثل هذه التناقضات الاستمرار في تلك الصيغة، حيث شهدت انقلابات عسكرية وتمرّدات وثورات، حتى أطيح بالنظام الملكي في ثورة العام 1958، وأقيمت الجمهورية العراقية.
لقد تأسّست الدولة العراقية كدولة بسيطة (مركزية) واستمرّت على هذا الحال إلى الاحتلال الأمريكي العام 2003، لكنّها اتّخذت شكلاً جديداً بعد ذلك، بموجب قانون إدارة الدولة لعام 2004، والدستور الدائم لعام 2005، فاتّجهت إلى اللاّمركزية، باعتبارها دولة مركّبة، اتحادية "فيدرالية". وعلى الرغم من الوحدة الظاهرية التي كانت قائمة إلاّ أنّها لم تكن دليل عافية، وكانت هناك الإشكاليات والعقد الثلاث تنخر في جسدها.
بعيداً عن التشاؤم المُحبط والتفاؤل المفرط، فقد تغيّر العراق كثيراً، والدولة التي نعرفها في السابق، لم تعد موجودة، وعدنا إلى مرجعيات ما قبلها: دينية وطائفية وإثنية وعشائرية ومناطقية وغيرها. وكان حلّ الجيش والقوى الأمنية من قبل بول بريمر، القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، خصوصاً بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أساس طائفية وإثنية.
إن صورة الدولة اليوم تختلف عن دولة الأمس بحكم:
1 – الانتقال من الحكم الشمولي المركزي الشديد الصرامة إلى انحلال وتآكل وتفتّت تدريجي وصولاً للانشطار الفعلي.
2 – انبعاث الهويّات الفرعية وبشكل خاص بعد الاحتلال الأمريكي وإضعاف الهويّة الوطنية العراقية الموحّدة، وهو ما حصل في أوروبا الشرقية وعلى المستوى العالمي، وذلك أحد نتائج العولمة.
3 – الانتقال من الدكتاتورية إلى دولة المحاصصة الطائفية – الإثنية، أي نظام الدولة الغنائمية – الزبائنية.
4 – التحوّل من نظام الحزب الواحد إلى فوضى الأحزاب، ومن إعلام مركزي موحّد، إلى إعلام منفلت.
5 – الانتقال من بلد مستقلّ إلى بلد محتلّ وتآكل الاستقلال الوطني، ومن وجود جيش وطني (جامع) إلى جيش أقرب إلى اتحاد ميليشيات وطوائفيات وتقاسم وظيفي، والانتقال من احتكار السلاح للدولة إلى انفلات السلاح واستخداماته، ومن بلد آمن أو شبه آمن، إلى بلد يعاني من الإرهاب والعنف على نحو ليس له مثيل.
6 – الانتقال من وجود فساد محدود غير ظاهر أو "مقنن"، وخصوصاً في فترة الحصار الدولي والعقوبات، إلى فساد منفلّت من عقاله، فمن بول بريمر إلى الآن بدّد الحكام حوالى 1000 مليار (أي تريليون) دولار.
7 – انثلام سيادة الدولة، ليس بفعل الاحتلال فحسب، بل بحكم سيطرة داعش على الموصل ونحو ثلث البلاد.
والسؤال مجدداً بعيداً عن الآمال والتمنيات، ماذا بشأن وحدة العراق ومستقبله، في ظل التعقيدات والتحديّات الراهنة؟
ويمكن للباحث أن ينظر إليها من زاويتين:
الزاوية الأولى – إن التطوّرات الراهنة على الرغم من وجهها السلبي، إلاّ أنها قد تسهم في استعادة وحدة الدولة، بعد هزيمة داعش، حيث تمرّست القوات العراقية في المعارك ضد الإرهاب واكتسبت خبرة وثقة بالنفس، يمكّنها من بسط سيطرتها على البلاد. ومن جهة أخرى، فإن مشاريع الانفصال أو التقسيم تواجهها عقبات جديّة ومشاكل إقليمية ودولية وصعوبات اقتصادية جوهرية، فضلاً عن تعقيدات إدارية وعملية، الأمر الذي قد يؤدي إلى استعادة لحمة الدولة في إطار نظام فيدرالي معدّل يوازن بين حقوق الدولة الاتحادية وحقوق الأقاليم، في ظل دستور جديد.
أما الزاوية الثانية، فإن التطوّرات التي يشهدها العراق قد تسهم في تفتيت الدولة، والتحديّات اليوم أكثر حدّة واستقطاباً من قبل، خصوصاً بعد فشل خطط الإصلاح والحراك الشعبي، وذلك بفعل: الطائفية والإرهاب والفساد المالي والإداري والميليشيات وضعف الدولة وتدهور هيبتها، لا سيّما بعد احتلال داعش، ويبرز ذلك من خلال الصراع على مناطق النفوذ، والصراع على المناطق المتنازع عليها، والصراع بخصوص المادة 140 ومستقبل كردستان، إضافة إلى الصراعات السياسية الشيعية – السنية، والصراعات داخل الشيعية السياسية والصراعات داخل السنية السياسية.


470
أيّ مخاض جديد للعراق بعد الفلّوجة؟
عبد الحسين شعبان
   جميع المؤشّرات السياسية والعسكرية، العراقية والدولية، تشير إلى أن هزيمة داعش في الفلّوجة ستكون محقّقة، فقد حوصرت المدينة منذ أكثر من 9 أشهر، وأن الغالبية السّاحقة من سكانها غادروها (بحدود 400 – 500 ألف نسمة)، وما تبقّى منهم بحدود 50 ألف نسمة، وهؤلاء لم يتمكّنوا من مغادرتها آنذاك، وهم اليوم يناشدون القوات العراقية والمجتمع الدولي لتأمين ممرّات آمنة لهم، علماً بأن قسماً منهم يتم استخدامهم من قبل داعش كدروع بشرية، كما قام داعش بتشكيل فرق للموت، لاغتيال العوائل التي تفرّ من الفلّوجة، وروت عوائل هاربة قصصاً مروّعة عن معاناة هذه المدينة المختطفة ومأساة أهلها، وهو ما أكّدته تقارير الأمم المتحدة التي ناشدت الجميع لحماية حياة المدنيين.
وتشير المعلومات إلى أنّ معنويات داعش متراجعة جداً، لا سيّما بعد الخسائر التي مُني بها في هيت وكبيسة وحديثة والقائم والرمادي، على الرغم من أنه لم يفقد زمام المبادرة كليّاً، لكنه قد يلتجىء إلى بعض ردود الفعل اليائسة، كما حصل في هجومه الأخير على هيت بعد تحريرها، أو سلسلة التفجيرات والعمليات الانتحارية الإرهابية التي قام بها في بغداد، ومناطق أخرى غداة المعركة لتحرير الفلّوجة.
   وإذا كادت هذه الصورة تلقى شبه إجماع من الخبراء الاستراتيجيين والمحلّلين السياسيين والمتابعين العارفين لظروف الصّراع في المنطقة، فإن الاختلاف بينهم واسعاً والبون شاسعاً والافتراق كبيراً، بالنّظر إلى مستقبل المنطقة ما بعد تحرير الفلّوجة أو حتى بعد تحرير الموصل الذي سيتمّ إنْ عاجلاً أو آجلاً، لأن داعش ضدّ منطق الحياة، وضدّ التطوّر، وأنه لا يمكنها حكم مدينة عريقة مثل الموصل بالنار والحديد إلى ما لا نهاية، كما أنه لا يمكن أن يواجه قوات التحالف الدولي والقوات العراقية وقوات البشمركة وقوات أخرى غير نظامية، بمن فيهم من أبناء المنطقة الذين تمّ تدريبهم وتسليحهم من جانب الولايات المتحدة.
   إن صورة الفلّوجة وحتى صورة الموصل، ما بعد التحرير ستكون متباينة لدرجة التعارض، ليس بخصوص المدينتين فحسب، بل بخصوص المخاض العراقي ككلّ، والذي ظلّ شديد التعسّر خلال الفترة الماضية، وسيكون الأمر مطروحاً بحدّة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، فكيف سيُدار العراق؟ وماذا عن العملية السياسية المحاصصاتية الطائفية – الإثنية؟ فهل سيتمّ تجاوزها أم العودة إليها؟ وهل هناك خريطة جديدة للعراق إذا كانت خريطة سايكس بيكو التي مضى عليها 100 عام، قد اهترأت، والمسألة لا تتعلّق بالعراق وحده، بل بدول المنطقة؟ وهو ما يستدعي السؤال مجدّداً: هل ستُرسم خرائط جديدة بعد التطوّرات الأخيرة، أم ستتمّ عودة القديم إلى قدمه؟
   وثمّة احتمالات حسب الدراسات المستقبلية، فإمّا أن يستمرّ الحال على ما هو عليه لفترة أخرى، مثلاً لمدة خمس أو عشر سنوات، حيث يبقى الوضع يدور في إطار المراوحة، أو أن يحدث تراجعاً باتجاه وحدة الدولة والحكم المركزي، فهناك من يقول إنه بعد تحرير الموصل وانتشالها من أيدي داعش، وتحرير بقية الأراضي العراقية، يمكن أن تتعزّز قدرات الجيش وإمكانات العراق ككلّ، لا سيّما إذا استطاع تجاوز أزمته الاقتصادية وتحلحل أزمته السياسية، وهناك احتمال ثالث هو أن التطوّرات الحاصلة والتنازع على مناطق النفوذ، تجعل من فكرة الأقاليم الاتحادية، تحصيل حاصل للتحلّل من قبضة بغداد، وبالتالي من هيّمنة الأحزاب الشيعية على مقاليد الأمر، بالنسبة للسنيّة السياسية، وكذلك بالنسبة للأكراد، فإن منسوب المطالبة بالاستقلال سيرتفع وصولاً إلى إعلان الدولة.
وإذا افترضنا بقاء الحال كما هو عليه، فإن سؤالاً يتفرّع عن هذا المحور: هل ستبقى الموصل والأنبار وصلاح الدين في إطار التقسيمات الإدارية السابقة، وماذا بشأن كركوك وديالى وحزام بغداد؟ أم أنها ستفكّر باتباع طريق اللاّمركزية والفيدرالية، حسبما قرّره دستور العام 2005؟ وهو الأمر الذي ظلّت بعض النخب من السنّية السياسية تدعو إليه تلميحاً أو تصريحاً، وأحياناً كردّ فعل على ممارسات للتسيّد الطائفي الشيعي للقوى الحاكمة. وقد يلقى هذا الأمر دعماً عربياً ودولياً ومن بعض القوى الإقليمية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
وبالترابط مع البحث في مستقبل المناطق الغربية – الشمالية ذات الأغلبية العربية – السنيّة الحاسمة، فالأمر أيضاً له علاقة باحتكاكات من نوع آخر عربية – كردية – تركمانية، والصراعات من هذا النوع تشكّل ألغاماً قد تنفجر في أي لحظة، وخصوصاً في محافظة كركوك وبعض مدن محافظة ديالى، ولا سيّما خانقين ومندلي وبعض أقضية ونواحي محافظة صلاح الدين، إضافة إلى محافظة الموصل ذاتها، سواء في المدينة وأطرافها أو قضاء تلعفر وغيره.
وقد شهدت بعض مدن ديالى وقضاء طوزخورماتو، مؤخّراً عمليات عنف وتفجيرات لأماكن العبادة واغتيالات وإجلاء سكاني وتطهير مذهبي في ظلّ هيّمنة ميليشيات ومسلّحين غير نظاميين، على الرغم من الصراع ضد داعش، الأمر الذي يعني أن الصراع على النفوذ، وما يسمّى المناطق المتنازع عليها يمكن أن يتأجّج، في ظل هشاشة الوضع الراهن، وكلٌ يغنّي على ليلاه – كما يُقال – وهو ما ينذر باحتمالات تصاعد حدّة العنف في هذه المناطق، إنْ لم يتم تطويق الخلافات واللّجوء إلى الحوار والحلول السلمية.
ولعلّ هذه اللّوحة المتداخلة المتصارعة هي التي تدفعنا للتساؤل: هل سيبقى العراق موحّداً؟ وكيف يمكن إدارته في ظلّ الأزمة السياسية الطاحنة التي تلفّه منذ عدّة أشهر، والتي أدّت من جانب كتل بشرية غاضبة، تذكّر بعصر المداخن، لاقتحام المنطقة الخضراء، والإطاحة بهيبة الدولة، ولولا دعم واشنطن وطهران لما تمكّنت العملية السياسية من الاستمرار في مواجهة العواصف الهائجة التي كادت أن تقتلعها.
   لقد وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، وهذا الأمر ليس استنتاجاً من جانب قوى وجهات إقليمية أو دولية أو محلية لا تقف على أرضية واحدة مع الحكومة العراقية والقوى المشاركة في العملية السياسية، ولكنه أمرٌ يقرّه أركان العملية السياسية ذاتها بلا استثناء، وإنْ كان كل واحد منهم يحاول أن يرمي مسؤوليتها على الآخر. والجميع يعترف بفشل نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية الذي قام على الزبائنية السياسية والغنائمية المذهبية.
فالكرد الذي يعتبرهم البعض مستفيدين، إلاّ أن العلاقة مع بغداد ازدادت صعوبة وتعقيداً في السنوات الأخيرة، سواء ما يتعلّق بملف النفط أو حصة الإقليم من الواردات. أما الجماعات والكتل الشيعية بما فيها حزب الدعوة الحاكم، فهو الآخر، ومن خلال رئيس الوزراء، يريد عبور نظام المحاصصة، ولكن بالطبع يسعى لإبقاء القدح المعلاّ بأيديه، وحتى نوري المالكي الذي حكم لدورتين 2006 – 2014، يعلن صراحة عن فشل هذا النظام، فما بالك بالقوى السنية – السياسية والمحافظات الغربية – الشمالية، التي تعرّضت إلى إذلال مزدوج، فمن جهة عليها القبول بكونها "أقلية"، وعليها من جهة ثانية تحمّل تبعات النظام السابق وانتهاكاته، فضلاً عمّا تعرّضت له من استباحات وأعمال قمع وإخضاع، بزعم أن مناطقهم بؤرة للإرهاب.
   لقد عاشت الفلّوجة قصة مرعبة طيلة السنوات الثلاثة عشر الماضية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حيث تعرّضت للتنكيل بعد مواجهتها لجنود أمريكيين، ثم قامت القوات الأمريكية باستباحتها بعد محاصرتها العام 2004، وحصل الأمر من جانب القوات الحكومية وبمساعدة أمريكية مرّة أخرى في أواخر العام ذاته، وتعرّضت للأذى خلال صراع الصّحوات ومواجهة تنظيم القاعدة، وبعد ذلك خلال حركة الاحتجاج التي شهدتها المناطق الغربية، ثم اختطفت المدينة في 2 يناير (كانون الثاني) 2014، أي قبل احتلال الموصل بنحو ستة أشهر.
ونُكبت الفلّوجة حين ترك الغالبية الساحقة من أهاليها منازلهم، وفرّوا هاربين في رحلة نزوح مروّعة، وعاشوا ظروفاً مأساوية مرعبة باعتراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، وسواء من وصل منهم إلى كردستان أو من اقترب من مشارف بغداد، فقد كانت ظروف حياتهم قاسية، والأسوأ من ذلك حين تم منعهم من الدخول إلى بغداد، والطلب إليهم تأمين كفلاء لهم، بزعم احتمال تسرّب بعض مقاتلي داعش عبرهم، وهم الهاربون من داعش، وتلك ليست سوى إحدى المفارقات الدرامية الكوميدية في الوضع العراقي.
وإذا كانت معاناة النازحين تتعلّق بتوفير سبل العيش وتحسين ظروف الحياة ووصول الرواتب للموظفين وحل بعض مشاكل التربية والتعليم للأبناء وقضايا الصحة، ومشكلات مثل البيئة الجديدة واللغة، فإن معاناة المتبقين تتعلق بحماية حياتهم وتوفير ممرّات آمنة لاستقبالهم وإيوائهم. ولعلّ هذا الجانب الإنساني والقانوني، لا بدّ من مراعاته حتى خلال المعارك طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، والمقصود بذلك حماية السكان المدنيين، طبقاً للبروتوكول الأول - الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني - الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
المخاض الذي ينتظر العراق ما بعد الفلّوجة، قد يكون طويلاً وقاسياً، ويتوقّف عليه إمّا فتح صفحة جديدة ما بعد التحرير، بتعزيز الوضع في بغداد ومعالجة المشكلات المتراكمة، بإجراء إصلاح جذري خارج نظام المحاصصة، وهو أمرٌ لا تتوفّر إرادة سياسية موحّدة له، ناهيك عن قناعة حقيقية به حتى الآن، أو أن يتفكّك الوضع تدريجياً باتجاه التقسيم الذي سيتمّ تبريره باعتباره "أحسن الحلول السّيـئة"، وخصوصاً إذا ما احتدم الصّراع بين الأطراف السياسية واتّخذ طابعاً عنفياً، عندها سيكون التّقسيم "أمراً واقعاً"، ولكن بعد أن تُنهك جميع الأطراف في سباقها الماراثوني الذي هو أقرب إلى المصارعة على الطريقة الرومانية، التي تنتهي بموت أحدهم، ووصول الآخر إلى حافة الموت بعد بلوغه درجة إعياء تفقده السيطرة على نفسه.


471
أي ثمن لتحرير الفلّوجة..!؟
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي

بعد انتهاء مهلة الـ 48 ساعة التي أعطاها رئيس الوزراء حيدر العبادي لاقتحام الفلّوجة، توقّفت العمليات العسكرية على نحو مفاجىء، واقتصرت على الضربات الجويّة التي تقوم بها قوّات التحالف الدولي.
   وجاء هذا التطوّر بعد أن اضطرّت قوات "النخبة" للانسحاب باتجاه جنوب الفلّوجة، حيث تعرّضت إلى هجوم مباغت، وكان داعش قد شنّ عملية عسكرية خاطفة ضد القوات العراقية "الخاصة"، من الخلف. وعلى الرغم من تأكيد العبادي أنّ المعركة لن تتوقف وأننا سنشهد قريباً ارتفاع العلم العراقي فوق الفلّوجة، فإنّ ما حصل من تراجع يؤكّد على محاولة داعش الإمساك بزمام المبادرة من جديد، بعد أن أصيب بخسائر كبيرة، إضافة إلى تدهور معنويات مقاتليه.
وكان داعش قد شنّ هجوماً على الجيش وقوات الحشد الشعبي وقتل منهم نحو 40 عنصراً، إضافة إلى قيامه بثلاث عمليات انتحارية شمال الفلّوجة (ناحية الصقلاوية)، واشتباكه بمحيط جامعة الفلّوجة (جنوب شرقها). علماً بأنه باشر بعددٍ من العمليات الانتحارية في بغداد عشية المعركة في الفلوجة.
وتقدّر بعض الجهات المراقبة أن عدد القتلى والشهداء من الجانب الحكومي بلغ 1000 شخص، منذ بداية عملية تحرير الفلّوجة وحتى الآن.
وعلى الرغم من الخسائر والتضحيات في المعركة ضدّ داعش ولتحرير الفلّوجة، فإن الجدل ما يزال محتدماً والنقاش مفتوحاً لدرجة الاتّهامات بين الفرقاء والكتل السياسية، فمنهم من يعتبر الحشد الشعبي لا يقل خطورة عن داعش، لا سيّما محاولة التطهير الطائفي والانتقام والثأر من مدينة الفلّوجة بالذات، التي يعتبرونها "رأس الأفعى" ومصدر "الإرهاب"، في حين هناك من يعظّم من شأن الحشد الشعبي ويقول: لولاه لما أمكن تحرير مناطق الأنبار وصلاح الدين، ووضع حد لتمدّد داعش التي كانت على مشارف بغداد، بل إنه سيكون له الفضل في القضاء عليه وتحرير الموصل.
وبغض النّظر عن الاستقطابات الحادّة في الوضع العراقي بشكل عام، وبخصوص الحشد الشعبي بشكل خاصّ، فثمّة أوساط عراقية من المشاركين بالعملية السياسية أبدت مخاوفاً من أن يتكرّر ما حصل في جرف الصخر وديالى وتكريت بعد تحريرها من أيدي داعش، من كيدية وأعمال عنف وحرق وتدمير، وهو ما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي.
وقد استدرك رئيس الوزراء العبادي بالتوقف عند تلك المشاهد بخطاب ألقاه في بداية المعركة ضدّ داعش في الفلّوجة ليلة 22 على 23 مايو (أيار) الماضي، بتأكيده أن المدينة ستعود إلى أهاليها ويرتفع فوقها العلم العراقي، في رد غير مباشر على الذين يتّهمون الحشد الشعبي.
من جهة أخرى، لم تنفِ أوساطاً شيعية متنفّذة من حدوث بعض الانتهاكات من جانب الحشد الشعبي، ولكنّها نسبتها إلى تصرّفات فردية، كما قال النائب في البرلمان العراقي علي العلاّق عن ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي. وكان أبو مهدي المهندس (نائب القائد العام لقوات الحشد الشعبي) قد اعترف بوجود خروقات مشيراً إلى أن بعض عناصر الحشد الشعبي قد اعتقل وأُودع في سجن تابع لمحكمة الجنايات المركزية في بغداد.
وبالطبع، فكلّما طال أمد المعركة وتأخّر التحرير، فإنّ القلق بخصوص السكان المدنيين الأبرياء العزّل يزداد، خصوصاً وأن داعش أغلق منافذ الخروج على المدينة بالجدران الكونكريتية، ولم يتمكّن من الهرب خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، أي منذ بدء المعارك أكثر من ألف شخص، وتعرّض بعضهم إلى الاغتيال، وكانت بعض العوائل قد سلكت طرقاً وعرة للغاية لتتمكّن من الفرار، وروت قصصاً مروّعة عن مجازر ارتكبها داعش وعن حرمانات وعذابات لا حدود لها، خصوصاً خلال فترة الحصار عليها.
وقالت منظمة اليونيسيف إن نحو 20 ألف طفل محاصرين، بعضهم يتم استخدامهم من جانب داعش كدروع بشريّة، كما أن العمليات العسكرية والقصف العشوائي أحياناً ألحق أضراراً بالغة بالسكان المدنيين، خصوصاً إذا ما عرفنا أن عناصر داعش تتوزّع على المناطق السكنية وتختبىء خلف السكان المدنيين، الأمر الذي يقتضي مراعاة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقَيها الأوّل الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية االمسلّحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية.
وإذا كان داعش يضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط ويدوس على القيم والمشاعر الإنسانية، بمحاولته الآيديولوجية لتقديم إسلام سياسي لا علاقة له بتعاليم الدين السمحاء، ويقوم بعمل منهجي لغسل الأدمغة وفرض نمط حياة بالضد من منطق التطوّر وسمة العصر وروح الإسلام، فإن على القوات العراقية (الرسمية) وقوات التحالف الدولي مراعاة ذلك بدقة، ومنع أي جهة رسمية أو غير رسمية (من الحشد الشعبي أو غيره) وتحت أي مبرّر، من انتهاك قواعد القانون الدولي المعاصر وقواعد القانون الإنساني الدولي، سواء خلال المعارك أو بعد الانتهاء منها.
ولا ينبغي أن يكون ثمن تحرير الفلّوجة، المزيد من المعاناة، حيث الجزء الأكبر لا يزال يعاني من النزوح ومشكلاته وتعقيداته، وما سيتركه نفسياً على الجيل الحالي وما يليه من تأثيرات سلبية. أما الجزء المتبقي وهو بحدود 50 ألف نسمة، فإنّه ذاق الأمرّين خلال السنتين ونيّف على أيدي داعش، أي منذ أن تمّ اختطاف المدينة في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، أي قبل احتلال الموصل بنحو ستة أشهر. وتعرّض ما تبقى من السكان إلى حصار دام تسعة أشهر، وهو الحصار الذي لم يعاني منه داعش بقدر ما كانت تأثيراته وخيمة على السكان الأبرياء.
هكذا كانت الفلّوجة تدفع أثماناً باهظة سواء حين حاول الأمريكان تركيعها وإهانتها، حيث قاموا باستباحتها بعد الاحتلال بزعم اغتيال جنود، ثم فرضوا حصاراً عليها منذ ربيع العام 2004 وإلى نهاية العام، حيث تعرّضت إلى قسوة وانتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان على أيدي قوات تابعة للحكومة العراقية وقوات أمريكية.
وبعد ذلك عانت من صدامات بين الصحوات وتنظيم القاعدة، وعوقبت واتّهمت خلال حركة الاحتجاج. وهي اليوم تنزف وتئنّ تحت ضربات المطرقة والسندان، فهل سيكون ثمن التحرير المزيد من المعاناة التي قد تؤدي إلى تفكيك البلاد تمهيداً لتقسيمها بزرع الفتنة الطائفية وتأجيج مشاعر العداء والكراهية والبغضاء، أم أنه بداية النهاية لوضع حد لمعاناة طال أمدها؟ خصوصاً وأن الفلّوجة ذاقت أنواع من القسوة والقهر ومحاولات الإذلال.


472
حوار ومثقّفون وأمم!
عبد الحسين شعبان

حين دُعيت من جمعية الصداقة الكردية – العربية، لإلقاء محاضرة في إربيل عن القضية الكردية، في ظلّ التطوّرات السياسية الأخيرة في المنطقة، اخترتُ عنواناً يتعلّق بالمستقبل، فكيف يمكن أن ننظر إليه في ظلّ المحيط العاصف والمضطرب الذي يحيط بالكرد وقضيّتهم، من زاويتها الإنسانية والقانونية، ولا سيّما في إطار المصالح الدولية والإقليمية؟
   والمستقبل يمثّل في بعض منه "الحلم" الذي عاش الكرد له وعليه طوال عقود من الزمان، ولعلّ ذلك ما دفع الروائي الروسي مكسيم غوركي وهو يتحدث عن أحد أبرز ثوريّي العهد الذي عاش فيه، بأن وصفه، أن نصف عقله يعيش في المستقبل، أي للحلم الذي أراد رعايته كي يزهر.
   وبالطبع ليست كل الأحلام وردية، فبعضها قد يكون كابوساً، الأمر الذي يُحسن بالثوريين أن يفرقوا بين الحلم والكابوس، باختيار اللحظة الثورية المناسبة، كي لا يتبدّد الحلم وينتحر، وكي لا يتم التقاعس بزعم عدم نضوج الظروف، فيتعرّض الحلم للنحر.
وإذا كان الحديث أمام جمع كردي في الغالب، فيصحّ لنا القول: لا يُفتى ومالك في المدينة، إلاّ أن حضوراً عربياً، بعضه من أساتذة جامعة وأكاديميين، كان في صلب مشهد الحوار وتبادل وجهات النظر، خصوصاً وأن بعضهم من النازحين من محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل.
● أربعة ملاحظات بمثابة مدخل إلى الموضوع:
الملاحظة الأولى: راهنية ومستقبلية المسألة الكردية، التي تدخلها في تقاطع المصالح الدولية والإقليمية والمحلية من جهة، ومن الجهة الأخرى ترابط الأهداف والوسائل،  وحسب المهاتما غاندي فإن الوسيلة إلى الغاية، هي مثل البذرة إلى الشجرة، فهما مترابطان عضوياً، ولا يمكن الانفصال بينهما، ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، فالوسيلة الشريفة هي جزء من الغاية الشريفة.
ولكل مرحلة وسائلها النضالية، فلم يعد العنف الخيار الراجح للدفاع عن الحقوق، بل أصبح  الحوار واللاّعنف وكسب العقول بعد كسب القلوب والركون إلى السلم والحلول السلمية، هو الغالب الأعم والشائع، باعتباره الأكثر نجاعة والأقل كلفة والأكثر رسوخاً، وذلك ضمن إطار مرحلة جديدة من الصراع من أجل الحقوق.
ويدخل في تاريخ العلاقة العربية – الكردية اليوم موضوع قديم – جديد، هو المصير المشترك، وقد تمّ التعبير عنه عملياً باستقبال مئات الآلاف من النازحين من محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار وغيرها، وهو ما يدخل في إطار التأثيرات المتبادلة، بين الشعبين العربي والكردي في العراق، على الرغم من وجود نعرات انعزالية وتعصبية، لكن واقع التعايش يفرض نوعاً من التسامح والتواصل الإنساني.
الملاحظة الثانية: ثقل العامل الدولي والإقليمي، وهو وإن كان مؤثّراً في السّابق، إلاّ أن تأثيره أصبح أكبر منذ انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، وبداية شكل جديد من الصرع الآيديولوجي. ولا يمكن اليوم الحديث عن حق تقرير المصير وإقامة دول وكيانات جديدة في المنطقة دون حساب مصالح العاملين الإقليمي والدولي، وتأثيراتهما وامتداداتهما.
الملاحظة الثالثة: دور العامل الاقتصادي، والمقصود به، تداخل وترابط العلاقات الاقتصادية والتجارية، خصوصاً وأن إربيل أصبحت مدينة عالمية، وفيها شبكة واسعة من تقاطع المصالح لشركات ودول وقنصليات ومؤسسات دولية وقطاعات مصرفية، ناهيك عن كون كردستان طريقاً تجارياً لإنتاج وتسويق النفط، الأمر ليس من السهولة بمكان تجاوزه من الأطراف الداخلية والخارجية.
الملاحظة الرابعة: مكافحة الإرهاب والأهمية الاستراتيجية والأمنية للمنطقة، ولنلاحظ ماذا حصل عند اقتراب داعش من حدود إربيل، فسرعان ما تحرّكت إيران والولايات المتحدة التي أسست تحالفاً على جناح السرعة لحمايتها، الأمر الذي دفعها للتخلي عن الفكرة والتوجه صوب بغداد.
وإذا كان هذا يخصّ الإقليم، فكيف ارتفع اسم كوباني في الفضاء الدولي، والأمر لا يتعلّق بها فحسب، بل باحتمال قيام كيان كردي في سوريا، وبالتالي علاقة ذلك بحزب العمال الكردستاني الـ PKK، ومن ثم بالمستقبل الكردي في تركيا، ناهيك عن مستقبلها في إيران، بما هو ظاهر وما هو مستتر.
وإذا عدنا للدراسات المستقبلية فهناك مدخلات ومخرجات، وذلك من خلال ثلاث احتمالات:
   الأول – بقاء الحال على ما هو عليه لخمس أو عشر سنوات أخرى، وهذا يعني المراوحة
   الثاني – عودة القديم إلى قدمه، أي التراجع باتجاه المركز، وإن كان احتمالاً ضعيفاً، لكنه قد يحصل فيما إذا حدثت تغييرات غير محسوبة الآن، منها تصدّع الكيان الكردي القائم وانقسامه، وإعادة النظر بجوهر العملية السياسية والدستور.
   الثالث – حدوث تغييرات جيوبوليتيكية باتجاه توسيع كيانية إقليم كردستان واختصاصاته، بالانتقال من الفيدرالية إلى:
      1 – كونفدرالية
      2 – دولة مستقلة
ويعني هذا الاحتمال الثالث عدم إمكانية المراوحة أو التراجع، وعملياً إعادة رسم خارطة جديدة للمنطقة تتجاوز معاهدة سايكس – بيكو. التي تجاهلت حقوق الكرد، وإن جرت عودة إليها جزئياً في معاهدة سيفر العام 1920، لكن معاهدة لوزان العام 1923 ساومت عليها مجدداً.
وفي إطار هذا المتغيّر المحتمل يطرح رئيس إقليم كردستان موضوع إجراء استفتاء عام بشأن حق تقرير المصير وإقامة الدولة الكردية، بقراءة تأخذ بنظر الاعتبار انبعاث الهويّات الفرعية، ومنها الهويّة الكردية، وذلك حتى قبل التغييرات التي حصلت في أواخر الثمانينات في أوروبا الشرقية، ويزداد جدل الهويّات وصراعها ومدلولاتها في ظلّ العولمة واحتمالات قيام دول جديدة، وهناك أمثلة لكيانات أنشأت بقرارات دولية أو أيّد قيامها المجتمع الدولي، مثل تيمور الشرقية وكوسوفو وجنوب السودان. ويتوقع الباحث الهندي – الأمريكي باراج خانا (من مؤسسة أمريكا الجديدة NAF) في كتابه كيف ندير العام؟ How to run the world، احتمال قيام دول جديدة ووصولها إلى 300 دولة خلال العقود الثلاثة القادمة.
وإزاء قيام كيان كردي ثمة ثلاث آراء متفاوتة في تأييدها أو معارضتها أو تحفظاتها لأسباب مبدئية أو تكتيكية أو مصلحية ظرفية أو طويلة الأمد. وتتوزّع القوى الإقليمية والدولية ومثقفي المنطقة بين هذه الخيارات الثلاثة التي تحتاج إلى حوار جاد ومسؤول من أجل الوصول إلى حلول ومعالجات سلمية مقبولة من جميع الأطراف، على أساس مصالح شعوب المنطقة وصداقتها وتعاونها وعيشها المشترك.
وكنت قد دعوت منذ أكثر من عقد من الزمان، وما أدعو إليه الآن بقوّة، هو الحوار بين مثقفي الأمم الأربعة، العربية والتركية والفارسية والكردية، وأعتقد أن طريق الحوار والسلم هو الطريق الأصوب والأكثر نجاعة، على أساس الاعتراف بالحقوق والإقرار بالتنوّع والتعددية في إطار المشترك الإنساني.


473
ماذا وراء غبار الحرب في الفلوجة؟

عبد الحسين شعبان


مع غبار المعارك التي بدأت لتحرير الفلوجة، ثار غبار من نوع آخر طائفي وسياسي، له أبعاد محلية وإقليمية ودولية، لا تتعلّق بالنقاش والجدل حول طبيعة المعركة مع داعش، فحسب، بل في جزء منه وهذا هو الأهم يتعلّق بمستقبل الفلوجة، بل مستقبل الأنبار ككل، ناهيك عن مستقبل غرب وشمال العراق، ولا سيّما محافظة صلاح الدين ومحافظة الموصل، وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى وما شهدتا من صراعات مؤخراً.
وإذا أردنا الذهاب أبعد من ذلك، فالأمر مطروح بخصوص مستقبل العراق ما بعد داعش. هل سيبقى موحداً؟ أم ثمّة عوامل ستؤدي إلى المزيد من تفكيكه؟ وبالتالي قد توصله إلى الانقسام الحقيقي، بعد أن شهد انقسامات فعلية بالتدرّج وبالتراكم وتحت عنوان "الأمر الواقع".
وكان الكثير من قيادات الجماعات الشيعية قد توافدت إلى الميدان، بعضهم ارتدى الملابس الزيتونية "العسكرية" التي تذكّر بملابس الجيش الشعبي التي كان يرتديها ما سمي بالمتطوّعين في النظام السابق، فهل يعيد التاريخ نفسه؟ وإذا حصل ذلك حسب ماركس، فقد يكون في المرّة الأولى كمأساة وفي المرةّ الثانية كملهاة.
للفلوجة بالطبع رمزية خاصة، فهي أول مدينة احتلّها داعش، وحصل ذلك في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014، وبعد ذلك بستة أشهر تقريباً تم احتلال الموصل في 10 يونيو (حزيران) من العام ذاته، ثم تمدّد باتجاه غرب العراق، ليحتل صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى، ويتوجّه صوب إربيل، لكن الإرادة الإقليمية والدولية أعاقا تقدّمه، فتوجّه نحو بغداد، وظلّ يشاغل عند أطرافها ومداخلها.
ورمزية المدينة تتأتّى من كونها وقفت بوجه الأمريكان بعد أشهر قليلة من احتلالهم العراق، وقد تمّت معاقبتها واجتياحها لعدّة مرّات، ونكّل بها على نحو شديد بهدف إذلالها ونزع روح المقاومة التي تلبّستها، لا سيّما جرأة أبنائها في تحدي القوات الأمريكية والانتصار عليها.
كما نُكبت الفلوجة لعدّة مرّات، حيث شهدت عمليات انتقام ومحاولة إخضاع من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة، بهدف تأديبها وتطويعها، وتعرّضت إلى استهدافات خلال الصراع بين الصحوات وتنظيم القاعدة، وبينها وبين بعضها البعض، لفرض الهيمنة عليها، كما عوقبت خلال حركة الاحتجاج التي شهدتها المناطق الغربية، ما بعد العام 2013، بل إن تعبير "رأس الأفعى" أصبح شائعاً عندما يتم الحديث عن الفلوجة، لدى بعض الأوساط الشيعية المتنفّذة، وبدون أدنى شك، فإن ما حصل دفع بعض أبنائها، حتى وإن كانوا قلّة قليلة، وكردّ فعل يائس إلى الالتحاق بتنظيم داعش، لشعورهم بالإذلال والتمييز.
وبعد احتلالها من جانب داعش، فرض عليها نظاماً صارماً، واضطرّ مئات الآلاف من أبنائها وما حولها إلى مغادرة المنطقة والنزوح، إمّا إلى بغداد أو باتجاه كردستان وخلال رحلتهم هذه تعرّضوا إلى صنوف شتى من العذابات والحرمانات، لعلّ أقلّها هو طلب التّعريف بهم من وكيل أو أكثر عند دخولهم إلى بغداد، الأمر الذي زاد من معاناتهم وعرّضهم في معسكرات النزوح إلى حالات إحباط وقنوط ويأس، ولا سيّما للشباب العاطل منهم.
وفي كردستان بدأت معاناة من نوع جديد، تنعكس بالعمل والرواتب ودراسة الأطفال وقضايا الصحة واللّغة والبيئة، وقبل كل شيء العوز المادي، حيث اضطروا إلى مغادرة مدينتهم على عجالة، ولم يتمكنوا إلاّ من حمل ما يمكن حمله من مال سرعان ما نفذ بعد حين، فضلاً عن الحاجة المادية وعدم وصول المساعدات التي وُعِدوا بها، بل إن بعضهم يشكّك فيها أصلاً.
معاناة الذين بقوا في المدينة والذين يقدّر عددهم بين 40 – 50 ألف إنسان مضاعفة، فهم مختطفون من داعش، وهم عرضة أحياناً إلى قصف عشوائي، خصوصاً وأن داعش يحاول أخذ العديد منهم كدروع بشرية، لا سيّما وأن الإرهابيين يتغلغلون في الأحياء السكنية، كما تم تلغيم العديد من الأماكن في المنطقة وبعض الطرق العامة والمباني الأساسية.
إن حياة هؤلاء وهم من المدنيين الأبرياء العزّل في خطر شديد، فهم بين المطرقة والسندان، فمن جهة قوات داعش، ومن جهة ثانية القصف الذي يمكن أن ينالهم إثر اندلاع المعارك، وحتى الذين حاولوا الهرب قُتل عدد منهم، ناهيك عن أن داعش شكّل فرقاً للاغتيال، فيما إذا حاولت العوائل الفرار من الفلوجة، وبعد كل ذلك فإنهم قلقون من الانتقام والكيدية باعتبارهم "متواطئين" مع داعش، حتى لو تحرّرت مدينتهم.
والخشية لدى بعض أهالي الفلوجة تتأتى من مخاوفهم بدخول قوات الحشد الشعبي مدينتهم والعبث بها، كما حصل في مدينة تكريت، فقد سبق وأن اتّهمت الميليشيات بارتكاب أعمال منافية لحقوق الإنسان بعد تحريرها، حيث تم تدمير وهدم وحرق بعض المنازل والمحال التجارية، ومثل تلك السابقة دفعت بعض القوى للاعتراض على مشاركة قوات الحشد الشعبي، وهو ما حذّر منه ناشطون وحقوقيون ومنظمات عربية ودولية.
وكانت منسّقة بعثة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق ليز غراند قد قالت: إن المدنيين في الفلوجة يعيشون ظروفاً معيشية "رهيبة"، وحتى الذين فرّوا عاشوا ساعات مروّعة قبل أن يصلوا إلى برّ الأمان، خصوصاً وأن الغذاء محدود ويخضع لسيطرة مشدّدة، والدواء نفذ، ناهيك عن المياه غير الصالحة للشرب.
وعلى الرغم من التطمينات التي قدمها رئيس الوزراء وما صرحت به مرجعية علي السيستاني من ضرورة التعامل بحذر ورفق مع السكان، إلاّ أن المخاوف لا تزال قائمة كلّما اقتربت ساعة تحرير الفلوجة، وتبقى معاناة أخرى تنتظر المدينة، وذلك عند عودة النازحين وهل سيتم تعويضهم على ما لحقهم من غبن وأضرار؟ فضلاً عن إعادة إعمار ما خربته داعش والحرب عليها.
خضعت الفلوجة لعامين ونصف تقريباً من حكم داعش وتعرّضت للحصار تمهيداً لتحريرها مدة نحو 9 أشهر، ولذلك ستكون معركتها ذات دلالة مهمّة، فمن جهة ستمهّد الطريق نحو الموصل بطرد داعش من المنطقة، ومن جهة ثانية يشارك بعض أبناء الفلوجة في المعركة، وفي ذلك عنصر تطمين لها، ولكن المعركة في وجهها الآخر قد يُراد لها صرف الأنظار عن الانقسامات الداخلية بين القوى الشيعية، والتي أدّت إلى اندلاع أزمة طاحنة للحكم وللعملية السياسية بمجملها، ولكن دون أدنى شك فالمعركة ليست قراراً داخلياً محضاً، وهي بالمحصّلة ليست بمعزل عن توافق أمريكي ـ إيراني، وهي تأتي بعد أزمة البرلمان والحكومة، وترافقت مع زيارات مسؤولين أمريكان أبرزهم جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، وإيرانيين وفي مقدمتهم قاسم سليماني، وهو ما يعيد السؤال: ماذا تعني الفلوجة؟ وأي رائحة تنبعث منها؟


474
علينا إخضاع الدّين والمسألة الدينية للمنهج الجدلي، لا سيّما فهم التناقضات في الظاهرة الدينية نفسها، ولا يمكن لأي جماعة ثورية أن تتجاهل الظاهرة الدينية، لأنها ظاهرة مجتمعية، وإلاّ فإن ذاتها لن تكون ثورية.
س 36 ـ هل الدين آيديولوجية؟
الدين أوسع من الآيديولوجيا، فضلاً عن توجّهه لمخاطبة فئات أوسع من السكان، لا سيّما الفئات الشعبية، الأمر الذي يصبح سلاحاً ذا حدّين، فهو من جهة بيد الحاكم، ومن جهة ثانية يمكن أن يكون بيد المحكوم. ووفقاً لذلك لا يكون هدف محاربة الدين ثورياً، وأيّ ماركسية تلك التي تتوجه إلى معارضة دين ومعتقدات الغالبية الساحقة من السكان؟ أظن أن في ذلك ضربٌ من الصبيانية وعدم الشعور بالمسؤولية، ناهيك عن الجهل، وفي أحسن الأحوال، فإنه سيبقى يدور في نخبوية ضيقة خارج الماركسية، لأن هذه الأخيرة مهمّتها نضالية تغييرية.
أستطيع القول إن ماركس لم يضع أطروحة كاملة حول المسألة الدينية، أو السيسيولوجيا الدينية (باستثناء الإشارات التي وردت في كتابه عن: المسألة اليهودية)، وإذا كان الاستغلال والقمع والاضطهاد بأوروبا قد ارتبط بالدّين وبرجال الدّين، لا سيّما في القرون الوسطى، فقد كان من المنطقي شن الكفاح على المستوى العملي والنظري ضد ذلك الاتجاه، خصوصاً على مستوى الثقافة والوعي لكي لا يُستثمر الدين ضد التقدم الإنساني.
وبقراءة تحليلية فإن البرجوازية التي توجهت لمحاربة الإقطاع في القرن الثامن عشر، فإنها في الوقت نفسه توجهت لمحاربة الكنيسة، لأن الإقطاع كان مرتبط بها، الأمر الذي اقتضى محاربة سلطتها ومنظوماتها السلوكية والعملية.
إن عبارة ماركس "الدين أفيون الشعوب" ينبغي أن تُفهم في سياقها التاريخي، فالأفيون في القرن التاسع عشر كان علاجاً طبياً وقانونياً، لا باعتباره مخدّراً سامّاً أو مدمّراً لجسم الإنسان، بل هو مسكّن مؤقت من الآلام والأوجاع.
س ـ 37 هل تتفق مع ماركس من أن الدين سينقرض؟
أختلف مع ماركس في أطروحته بشأن انقراض الأديان مهما حصل من تطوّر علمي، وأرى أنها ليست دقيقة، بل إن الحياة دحضتها. وقد حاول غرامشي إعادة النظر بالمسألة الدينية استناداً إلى البراكسيس، وهو ما وجدت نفسي أميل إليه باستنتاج سبق لي أن ذكرته في كتابي "الحبر الأسود والحبر الأحمر ـ من ماركس إلى الماركسية"، مفاده أن الظاهرة الدينية هي ظاهرة دائمة ترتبط بالوعي والثقافة الشعبية، وهي تعبير عن الإحساس المشترك الذي كان علينا إدراكه والتعامل معه من موقع نقدي وليس من موقف نفي.
س 38 ـ هذا يعني عدم إمكانية إلغاء الدين، أليس كذلك أو هكذا فهمت من كلامك؟
نعم، إن إلغاء الدين يعني إلغاء التاريخ، وهذا الأخير لا يمكن للحاضر أن يوجد من دونه، ولا يمكن البدء من الصفر، وهذا ما تبنّاه غرامشي على مستوى المنهج. الدين ليس نتاجاً للمجتمعات الطبقية فحسب، وليس محكوماً عليه بالاختفاء مع انتفاء الملكية الخاصة، وهذه جزء من أطروحات ماركس بشأن انقراض الدين، وأعتقد أن الحياة لم تزكّيها، على الرغم من تقدّم العلم، فالدين لم يتراجع أو يضمحل أو حتى يخفّ تأثيره.
إن ربط الدين بالملكية الخاصة، هو جزء من التفسير الأرثوذوكسي للماركسية التقليدية، بربط كل شيء بالاقتصاد والصراع بين البروليتاريا والبرجوازية الذي سينتهي بإزاحة الأخيرة والتقدم نحو مجتمع الشيوعية والذي بدوره سيؤدي إلى تلاشي دور الدين تدريجياً، وهي استنتاجات نظرية مجرّدة، ثم إن اعتمادها كمسلّمات للتعبير الثقافي بخصوص الظاهرة الدينية، ليس سوى افتراض، لا يمكن التدليل عليه.
الدين بذاته ولذاته كآيديولوجيا شاملة ليس رجعياً أو تقدمياً، وإنما يتلوّن باللون الذي تعطيه إياه القوى الاجتماعية الحاملة لذلك الوعي وتكييفه لمضامينها ومصالحها.
س 39 ـ هل توقّف الشيوعيون العرب لدراسة الظاهرة الدينية بجديّة لما لها تأثير في مجتمعاتنا؟
للأسف لم تولِ الحركة الشيوعية العربية، الظاهرة الدينية، الاهتمام الكافي، وانتقل بعضها في التعامل مع الحركة الدينية من موقع العداء والتجاهل، إلى موقع المهادنة والتزلف (كما حصل في العراق) ولا سيّما بعد الاحتلال العام 2003.
لو قاربنا جوهر فكرة ماركس حول الدين "الدين هو روح عالم بلا روح" بدلاً من عبارة جرى تفسيرها على نحو إغراضي أو عن جهل "الدين أفيون الشعوب"، لكنّا قد أغلقنا الباب بوجه رياح الفكرة المادية المبتذلة التي جرت محاولات لإلصاقها بالمنهج المادي الجدلي، سواء من الخصوم أو المريدين، تلك التي تقصر اهتمام الماركسية "المادية الجدلية" بالمادة والماديات، وليس بالروح والروحانيات، التي تتجسّد بالقيم الأخلاقية والإنسانية العليا. ويقصد ماركس من اعتبار الدين هو روح عالم بلا روح، هو أن الرأسمالية سلبت روح البشر، والروح هي الدين المتبقي، وكان يريد تحرير الروح بالقضاء على الهيمنة الرأسمالية الاستغلالية.
وإذا كان مثل هذا التوجّه صحيحاً وواقعياً، فقد كان ماركس في الوقت نفسه طوباوياً في استنتاجاته الخاصة بالدين، والقائلة بأنه بزوال المجتمعات الطبقية ستنتهي الحاجة إلى الدين، لا سيّما بزوال الظلم والاستغلال، الأمر الذي يتناقض مع الطبيعة البشرية، فألغاز البشر لا حصر لها، ولا يمكن الإجابة عنها بمثل هذه الاستنتاجات الخفيفة الوزن، من شخص جبار وبثقل ماركس. تبقى الحياة والموت والمخاوف الإنسانية من المجهول، وعدم القدرة على تفسير بعض الظواهر، تستوجب بقاء الحاجة إلى الدين، تلك الحاجة التي قد تكون أبدية.
س 40 ـ هل تنظر إلى الدين فلسفياً أم اجتماعياً؟
إن وظيفة الدين تتجاوز النظرة الفلسفية وتمتدّ إلى الجوانب الاجتماعية ـ العملية، إذ بإمكانه تعبئة طاقات واسعة وشرائح اجتماعية متنوّعة، نحو أهداف سياسية واجتماعية، وهذه تتموضع زمانياً ومكانياً، حسب موقعها وموقفها من الاستغلال والهيمنة، خصوصاً عندما تصبح سلاحاً بيد الطبقات المسحوقة.
س 41 ـ دائماً ما تطرح إشكالية الدّين والعلم.. كيف تنظر إلى ذلك؟
لقد حوّلت أوروبا الدين إلى مجرد تقليد أو محاكاة، ولا سيّما في عصر التنوير، وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن الله يمثّل القوّة الكامنة التي يُنسب إليها كل شيء، وأن الفرد والمجتمع بحاجة إلى التقرّب إليها، لكن الأمر، تدريجياً وفي ظلّ الحداثة، اتخذ بُعداً جديداً، بإضعاف دور الدين على حساب دور الدولة، التي حاولت التأثير على المؤسسات الدينية لتتساوق مع مؤسسات الدولة العليا.
كان اكتشاف إسحاق نيوتن قوانين الفيزياء الحركية وقوانين الجاذبية والميكانيك صدمة مؤثّرة لعالم الغيب، الأمر الذي وضع هذه القوانين في إطار الدراسة والفهم والتطوير، دون العودة أحياناً إلى نصوص دينية بإضفاء طابع التقديس عليها، وبالتالي جعلها فوق العالم وتجاربه.
ومع أن هذه القوانين لا تلغي الحاجة إلى الدين وإلى الروحانيات، فقد أخذ نجم العلم يرتفع عالياً، وقد ترافق هذا الأمر مع نظرية تشارلز روبرت داروين واكتشافاته، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي اعتبر فيها تطوّر الكائنات البشرية جاء من أصل واحد بسبب طفرات جينية ووراثية، الأمر الذي يتعارض مع الأطروحات الدينية التي تقول "كلّنا من آدم، وآدم من تراب"، وهكذا ارتفع رصيد العلم على حساب الدين.
لم يكن ماركس رأس الحربة في تبهيت صورة الدين، بل كان أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية، الذي نظر إلى الدين باعتباره استلاباً فكرياً. أما لودفيغ فيورباخ الذي تأثّر به ماركس في موقفه من الدين، فاعتبر الدين استلاباً أنثروبولوجياً (إنسانياً)، وذهب عالم النفس سيجموند فرويد إلى اعتباره استلاباً نفسياً، بل وهماً يُصنع في العقل الباطن مثل بقية الأوهام.
وحين قرّر كارل ماركس في كتابه "المسألة اليهودية" ملامسة موضوع الدين اعتبره استلاباً اقتصادياً واجتماعياً، لكن الضجّة حول ماركس كانت أسبابها سياسية، لأنه يمثّل حركة تغيير سياسي، عملت وفقاً لمنهجه المادي الجدلي، الأمر الذي يحتاج إلى مجابهتها بوسائل مختلفة، وكان الدين أحد تلك الوسائل ذات التأثير البالغ، لا سيّما اتهامها بالإلحاد.
ومثل هذه الوسائل استخدمت في الشرق، ولا سيّما في البلدان العربية والإسلامية، حيث تجد تربة خصبة بحكم الموروث الديني وعقائد الغالبية الساحقة من فئات المجتمع، ناهيك عن حالة التخلّف والأميّة والفقر، يضاف إليها بعض أخطاء الحركة الشيوعية واندفاعاتها الصبيانية أحياناً، بتحدّي الظاهرة الدينية وصدم مشاعر فئات واسعة.
ومع تطوّر العلم وازدهار العلوم، إلاّ أن الدين لم يختفِ أو ينقرض، سواء في الدول الاشتراكية السابقة أو في الغرب، مثلما بشّرت بعض الأطروحات، وعاد بقوّة أكبر أحياناً، كما ظهر في الاتحاد السوفيتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية، مثلما لعبت الكنيسة في أمريكا اللاتينية دوراً كبيراً فيما سمّي بـ"لاهوت التحرير"، فما بالك في الشرق؟ خصوصاً البلدان العربية والإسلامية، التي لا تزال بعيدة في الكثير من الأحيان عن الماديّات، حيث تهيمن الروحانيات، في مجتمعات لا تزال تعجز الأرض عن إيجاد حلول لمشكلات الفقر والمرض والبطالة والعيش الإنساني والحريّة، فلا بدّ من البحث عن معالجات لها في السماء، والوعد باليوم الآخر، فضلاً عن قلق الإنسان وهواجسه منذ الأزل، بشأن لغز الحياة والموت والولادة وأسرار الطبيعة والكون، التي تبقى قائمة ومستمرة مهما تقدّم العلم، فهناك مناطق فراغ لا تشفي غليل الإنسان ولا تطمئن روحه. وقد عزفت الجماعات الإسلامية على هذا الوتر، خلال ما سمّي بموجة "الربيع العربي" فتمكّنت بصورة مذهلة الهيمنة على الشارع وتوجيهه، سواءً في الانتخابات أو خارجها، ولم يكن بعيداً عن ذلك بعض التنظيمات الإرهابية، مثلما هو تنظيم القاعدة، وداعش، وجبهة النصرة، وأخواتهم الذين قدّموا تفسيرات ماضوية سلفيّة لا يربطها رابط مع روح العصر، ناهيك عن تعاليم الإسلام السمحاء.
س 42 ـ ماذا يعني أن تكون شيوعياً أو ماركسياً أو يسارياً؟
أفضل الانتساب إلى فلسفة بدلاً من الانتساب إلى شخص، حتى وإن كان ماركس العظيم، الحلقة الذهبية الأولى في الفلسفة المادية الديالكتيكية، لكنه ليس نهايتها، بل كان بدايتها، وإذا كان منهجه صحيحاً حتى الآن، فإن الكثير من أحكامه واستنتاجاته وفرضياته عفا عليها الزمن، أو أن الحياة لم تثبت صحتها.
إنني مادي جدلي والماديّة الجدليّة هي المُلهم لي في كل كتاباتي وأفكاري وممارساتي ونمط حياتي. وأقارب التحليل بأدوات عديدة منفتحاً على مدارس اجتماعية واقتصادية ونفسية متعدّدة وتيارات فكرية مختلفة، إضافة إلى التراث البالغ الأهمية للحضارة العربية ـ الإسلامية.
المادية الديالكتيكية تمثل نقطة الانطلاق الأساسية لي منهجياً وفكرياً، وهي مع المدارس الأخرى تزداد ثراءً وغنىً في التوجّه والتجارب.
أن تكون يسارياً يعني أنك لست مع أنصاف القيم: نصف الحقيقة أو نصف العشق أو نصف الصداقة أو نصف العدالة أو نصف الحرية أو نصف المساواة. القبول بالنصف سيضعك في مكان آخر، غير اليسار. الأمر لا علاقة له بالتكتيك أو توازن القوى، تلك غير حسابات المثقف الحالم. أنت كمثقف لا ينبغي أن تقبل بنصف الحب، أو نصف الحياة، أو نصف الجمال، فنصف الحب لا حب، ونصف الحياة موت، ونصف الجمال القبح.
أن تكون يسارياً يعني أن تكون مع حقوق الناس وحرياتهم، ومع حقوق المرأة كاملة ومع حقوق المجاميع الثقافية: الدينية والقومية واللغوية وغيرها، ومع حقوق الضعفاء والمهمّشين وأصحاب الاحتياجات الخاصة وحقوق الإنسان في بيئة نظيفة، ومع الحق في السلام واللاّعنف، ومع حق الإنسان في إلغاء الاستغلال وحقه في أن يكون له مستلزمات حياة مريحة وحرّة، ومع حق الشعوب في تقرير مصيرها والأوطان في التنمية وحماية نفسها.
س 43 ـ هل هذا برنامج جديد لليسار تطرحه؟
للأسف الشديد فإن الكثير من قوى اليسار أضاعت بوصلتها، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى في حركة الاحتجاج التي شهدها العالم العربي منذ العام 2011، لم يكن دورها مؤثّراً، مع أنه كانت لها فرصة في طرح برنامج جديد لاستقطاب أوساط كادحة ومحرومة وعاطلة عن العمل بما فيها بعض خريجي الجامعات، لكن اليسار ظلّ مثقلاً بأعباء الماضي، فهو من جهة مثخن بجراحات لم تندمل من القمع المزمن، ومن جهة أخرى، فإنه يعاني من أزمات وتطاحن وانشقاقات وحروب داخلية معلنة ومستترة، بما فيها مؤامرات ودسائس وأحقاد، ناهيك عن أن تبعيته السابقة للمركز الأممي، التي جعلت منه متلقياً في الغالب.
وقد لعبت الاتكالية الفكرية تلك دوراً كبيراً في سيادة الكسل والترهّل الذي عانت منه الأحزاب الشيوعية وقياداتها بشكل خاص، الأمر الذي شعرت بفراغ كبير لغياب "الأخ الأكبر" (الاتحاد السوفيتي). وبدلاً من البحث في الواقع وتضاريسه وجغرافيته وتنوّعه، مال الاتجاه السائد إلى توصيفه، في حين أن الحاجة كانت تزداد إلى تفسيره وتحليله ووضع معالجات جديدة، لتغييره.
لقد اعتاد اليسار طويلاً على العمل تحت مرجعيات وسقوف عالية، ولم يشعر بأنه بلغ سن الرشد، وأن مرجعيته ذاتها تآكلت، وكان عليه أن يبادر بتحمّل المسؤولية مباشرة، فلم تعد هناك مرجعية، وليس هناك تنظيرات جاهزة، ويقتضي الأمر اجتراح الحلول والمعالجات باجتهادات جديدة تنسجم مع التطوّرات الحاصلة في العالم على الصعيد الداخلي.
لكنه للأسف لم يفعل ذلك إلاّ باستثناءات محدودة، فذهب فريق منه صوب العولمة النيوليبرالية، بزعم قوانين السوق والخصخصة واندحار الاشتراكية، وعاش على أوهام نقل الديمقراطية عبر الطائرات والأساطيل الحربية، ووجد في ذلك "مرجعية" جديدة لتبرير الأمر الواقع.
أما الفريق الثاني فاتجه صوب الجماعات القومية والإسلامية، بخطاب تقليدي اجتراري ولغة خشبية، لا سيّما في النظر إلى مشكلات البلدان العربية والإسلامية، بالقفز على الداخل، للتوجّه نحو الخارج، تحت عنوان الصراع الأساسي والصراع الثانوي، طالما أن صراعنا مع الإمبريـالية هو الصراع الأساسي، فينـبغي تأجيل الصراعات الثانـوية مع الأنظمة الوطنية، ووفقاً لهذا الخطاب المزمن كان تبرير دعم الأنظمة الدكتاتورية والقمعية.
س 44 ـ ماذا يحتاج اليسار برأيك؟
ليس لديّ وصفة جاهزة لأسديها كنصيحة، وهي لا توجد في الكتب كما كان يقول لينين وعلينا البحث جميعاً في ما تفرزه الحياة من متغيرات وتطوّرات، لقراءة ما يمكن عليه أن يكون اتجاه اليسار. اليسار حسب متابعتي يحتاج إلى إعادة نظر بمناهجه وأساليب عمله مستفيداً من تجارب أمريكا اللاتينية، وكذلك تجارب بعض اليسار الأوروبي في اليونان والبرتغال وإسبانيا وغيرها، تلك البلدان التي حققت نجاحات مهمّة، مثلما عليه الحفاظ على استقلاله الفكري، بتمييز نفسه على التيارات الأخرى، مهما كانت قريبة أو بعيدة عنه، وعليه تجديد نفسه والتوجّه صوب الفقراء والكادحين والمهمشين في الريف والمدينة، وهؤلاء غالبيتهم الساحقة هم المادة الخام للإسلام السياسي وللجماعات الإرهابية، وهم بالأساس جمهوره، مثلما عليه الانفتاح على المثقفين والاستماع إليهم، والتخلّي عن النظرة القاصرة إلى دورهم.
ولكي يكون اليسار في الموقع المطلوب، عليه إعادة النظر بمفهوم الحزب ودور الطليعة والضوابط التنظيمية التي جاء بها لينين في كتابه ما العمل؟ الذي صدر في العام 1903، وينبغي فتح المنابر داخله وتوسيع دائرة الديمقراطية وقبول المعارضة العلنية في صفوفه.
التجديد كلمة يجري الحديث عنها كثيراً، ولكن ما نحتاجه إليه هو الشروع بتنفيذه ووضعه موضع التطبيق. وهو يحتاج إلى وضع استراتيجيات وتكتيكات جديدة تنسجم مع مقتضيات العولمة بما فيها من تطور لثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام. كما يحتاج إلى جيل جديد، بتقدير عمري مناسب، أما الكهول والشيوخ وكبار السن من المناضلين، فمكانهم محفوظ، وقد أدّى كل منهم دوره إيجاباً أو سلباً وقدّم عصارة جهده لخدمة توجهات اليسار بغض النظر عن نجاحها أو إخفاقها.
س 45 ـ وماذا عن المجتمع المدني؟
لكي يعمل اليسار في البيئة الجديدة، فعليه مدّ الجسور مع منظمات المجتمع المدني. وهنا لا بدّ من التمييز بين بعض المنظمات التي كانت الوعاء الذي سكبت فيه النيوليبرالية ماءها، وبين منظمات حقيقية شعرت بأهمية التحوّل الديمقراطي والدور المطلوب منها مع الأحزاب والقوى السياسية المؤمنة بالتغيير.
بعض المنظمات يعمل وفقاً لأوامر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات المانحة وهيئات التمويل، وبالطبع فإن مثل هذه الأجندات هي جزء من توجهات العولمة والجهات المموّلة التي كانت تغض الطرف عن مخالفة هذه المنظمات لأولويات العمل الديمقراطي كانتخاب الإدارات وتداول المسؤوليات بينها والعلاقة مع جمهرة أعضائها واستقلاليتها ودورها في عملية التنمية كقوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، إضافة إلى ضرورة الشفافية في الكشف عن تمويلها.
وفي كتاب بول بريمر "عام قضيته في العراق"  ورد ما مفاده أنه وزّع 780 مليون دولار على منظمات المجتمع المدني وجهات إعلامية، لكنه لم يعترف أحداً أنه تلقى مساعدات، الأمر الذي يحتاج إلى رقابة ومساءلة وإخضاع حسابات هذه المنظمات والجهات الإعلامية للمحاسبة القانونية.
س 46 ـ هل تكره وأنت المحب العاشق؟
لا أكره بشراً، قد لا أرتاح لشخص ما، لكنني لا أكرهه، حتى من اعتبر نفسه عدواً لي أو خصماً، أو أساء لي، وقد حاولت أن أمارس رياضة روحية للتخلّص من بعض ردود الفعل.
قد يكون لديّ خصوم كثيرون، وهو أمر طبيعي ككل صاحب رأي، فما بالك حين يتّسم الرأي بالنقد، وكل نقد جارح، ويثير شتى أنواع الضغائن والأحقاد، خصوصاً لمن لا يتقبّل النقد، بل يحوّله إلى عداوة، لكنني لا أعتبر أحداً منهم عدوّاً.
وإذا كان الطغاة والمستبدّون والظالمون يقترفون الجرائم، فلا ينبغي أن نحذو حذوهم، وكنت قد قلت إيماناً مني بالتسامح "رذيلتان لا تصنعان فضيلة" و"عنفان لا ينجبان سلاماً" و"جريمتان لا تصنعان عدالة"، كما يقول صديقنا المفكر اللاّعنفي وليد صليبي.
والكره لا يقابل بالكره، والحقد لا يواجه بالحقد، ولست مع القول الشائع "العين بالعين" و"السن بالسن"، لأننا سنكون أمام مجتمعات عوراء وأفواه بلا أسنان. البشر "خطاءون" وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بروح التسامح.
أكره بعض الصفات التي يتلبّسها بعض البشر مثل: الغدر والحقد والحسد والبخل، وكلّها صفات لا تتّسم بالفروسية والشجاعة التي تحدثنا عنها، وتكون أقرب إلى الشر منها الخير.
س 47 ـ كيف تجمع بين الأكاديمية وحقول أخرى، من بينها الكتابة والبحث في الأديان؟
لعلّ ميلي الأكاديمي ودراساتي لفروع مختلفة جعلتني كثير التدقيق في الإشكاليات ذات الطبيعة المتجاورة في كثير من الأحيان والمتضادة في أحيان أخرى. الأكاديمية تمنح الباحث فسحة أكثر شمولية لدراسة الظاهرة من مصادر مختلفة وقراءة مستجداتها بالاعتماد على مراجع ومناهج ومقارنات واستقراءات واستدلالات. دراساتي القانونية والدولية منحتني قدرة على تناول الكثير من الظواهر التي تواجهنا.
وما كتبته عن الإسلام "وهو أربعة كتب" وعن المسيحية "ثلاثة كتب" هو جزء من البحث عن الهوّية والحقوق الإنسانية والمواطنة، وهو دفاع عن هذه المفاهيم التي تغيب عن مجتمعاتنا العربية. وكل دراسة للقانون الدولي أو الدستوري أو غيره تتفرع منها فروع أخرى متجاورة مؤتلفة لدرجة الاشتباك أحياناً مثل الاقتصاد والسياسة والإدارة والأديان والمجتمع المدني وغير ذلك، فضلاً عن رغبة شخصية في مدّ القنوات بين هذه الفروع التي أشعر بانتماء إليها جميعها في دراساتي السيسيوتاريخية الثقافية.
الأكثر قرباً إلى نفسي هو الفلسفة والتاريخ، وإذا أردت ما هو قريب من قلبي فإنني مغرم بالأدب.
س 48 ـ كيف توفّـق بين القانون والأدب؟
قلت في حديث سابق إذا كان القانون زوجتي، فالأدب عشيقتي، وأنا أعني ما أقول، وإضافة إلى القانون والفكر السياسي، فإنني أكتب نصوصاً في النقد وفي النثر وفي السيرة وفي السيسيولوجية الثقافية، وبعض نصوص أدبية من جنس يتداخل فيه النثر بشيء من الشعر، إضافة إلى أنني أكتب عن ما انغمست به منذ مراهقتي من تجارب وأحداث، وهدفي هو إبراز المعاني والدلالات لتلك الأحداث والتجارب التي عشتها.
لم أجلس هكذا يوماً، لأفكر أنه ينبغي عليّ أن أكتب كتاباً عن الجواهري أو أبو كاطع "شمران الياسري" أو عامر عبد الله أو حسين جميل أو سعد صالح أو منصور الكيخيا أو عبد الرحمن النعيمي أو غيرهم. وهؤلاء جميعهم تقريباً عايشتهم وارتبطت بصداقة معهم أو بمعرفة لظروف حياتهم، مثلما كتبت عن عشرات آخرين نصوصاً نقدية لأدبهم وفنهم ومساهماتهم الفكرية والثقافية.
كتبت عن هادي العلوي ومصطفى جمال الدين والطيّب صالح ومحمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر وطالب شبيب وخضير ميري ومحمد بحر العلوم وعربي عواد وخالد علي الصالح والعربي أبو سلطان ومحمد السيد سعيد ومحمود البياتي ووليد جمعة وغضبان السعد وكامل الجادرجي وعبد اللطيف الراوي ومصطفى البارزاني وإبراهيم أحمد وعبد الوهاب سنادة وعبدالله عمران تريم وجاسم القطامي ومحمد حسين فضل الله وإنعام رعد وشاكر السماوي وعزيز السيد جاسم ونصر حامد أبو زيد وعلي كريم وبدر شاكر السياب وغائب طعمة فرمان ومظفر النواب، وغيرهم، وكانت الفكرة تأتيني، وأما الأسلوب والنصّ فهو جزء من المضمون، وقد يتنوّع أحياناً.
كل ما أكتبه هو نصّ أشعر بحاجة لأعبّر فيه عن قضية أو فكرة أو مفهوم أو هاجس يشغلني ويعنيني، فألجأ إلى سرديات تجمع بين الثقافة والتاريخ والسيسيولوجيا والنقد الأدبي في إطار فلسفة لنصوص تجمع أكثر من جنس أدبي، وأصارحك القول إنني أنحاز دائماً إلى مثل هذه النصوص، ربما أكثر من ميلي للنصوص والأبحاث الأكاديمية، لما فيها من طراوة وحكاية وحبكة درامية، في حين أن الدراسات الأكاديمية تكون أقرب إلى الجفاف والصلادة. ولكنني أحاول أن أطعّمها باستطرادات وأذيّلها بشروحات تضفي عليها ندى وخفّة دمّ، لكي لا يضجر منها أو يملّ القارىء غير المتخصص.

س 49 ـ كيف تكتب؟
الكتابة ينبغي أن تكون عقد زواج كاثوليكي مع الحقيقة، هي شكل من أشكال الصلاة حسب الروائي التشيكي فرانسيس كافكا. إنها مكافأة جميلة تمنحنا الحياة إيّاها على فقداننا أشياء كثيرة. قد نضطر أحياناً ألاّ نقول كل الحقيقة، ولكن علينا ألاّ نقول ما يخالفها. النصف يحرجنا أحياناً، لكن النصف الآخر غير ملغى أو محذوف، إنه قد يكون مؤجلاً أو بعيداً لحين، أما الحلم فهو الذي ينبغي أن يكون قائماً، وبدون أحلام سيغدو العالم كالحاً، الحلم يلوّن الحياة ويعطيها رونقاً ، لذلك مهما حصل لنا من خيبات ومرارات وعذابات، لا ينبغي أن ننكّس رايات أحلامنا.
أكتب لأنني أشعر بحاجة إلى أن أقول ما أفكّر به، وما أعتقد أنه سينفع الآخرين. الكتابة أحياناً فعل هجوم لاقتحام الساكن، وتحريك الراكد ونقد المألوف ومواجهة السائد، وهي في وجه من وجوهها دفاع عن النفس والحق والعدل والجمال.
لكي تكتب عليك أن تفهم أولاً وتحسّ ثانياً وتشعر ثالثاً، وتتجلّى في كل ذلك حماستك للمعرفة، وهو ما أراده المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي من المثقف الذي حلّل خطأه باعتقاده أنه يستطيع أن يعرف دون أن يفهم وهكذا. وكما قال ابن المقفع: من العِلمِ أن تعلمْ أنّك لا تعلم، أو كما قال سقراط: "كن حكيماً واعرف نفسك... أنك لا تعرف".
س 50 ـ ولمن تكتب؟
قد يبدو أحياناً أننا نكتب بلغة الحرير، لكن الريشة ستكون مغمّسة بالدم، لأنها كتابة من الروح.
إن شغل الكتابة مضنٍ وقاس، خصوصاً إذا أردت الوصول إلى الجمهور، وكلّ كاتب يطمح أن يصل إليه، حتى وإن توجّه إلى النخب، لكن ما هو أقسى حين تعرف أن القراءة في عالمنا العربي انحسرت على نحو كبير، وأن ثمّة قيود لا تزال مفروضة على انتقال الكتب والمطبوعات.
تتألم أحياناً حين يشار إليك ببرنامج تلفزيوني، على تمنعاتي الكثيرة واعتذاراتي المتكرّرة، لكن صدور نحو 60 كتاباً لك لا يعني شيئاً لجمهور منشغل عن القراءة بأمور أخرى. المبيعات من كل كتاب لا تصل إلى بضعة آلاف، وهذا حال القراءة في عالمنا العربي، وإن كان هناك مظاهر أخرى بعضها إيجابي.
أشعر بالحرج حين يصادفني طالب أو سيدة أو صاحب دكان أو عامل في مقهى أو صحفي في جريدة أو في إحدى القنوات التلفزيونية في العراق أو في لبنان أو في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ليلتقط معي صورة ويبدي إعجاباً أو يطرح سؤالاً عن كتاب أو مقالة، وكذلك حين يعرض عليّ طلباً للجوء أو مساعدة في قضية تتعلّق بحقوق الإنسان أو مسألة قانونية أو غير ذلك، وهذا يعني أن بعضهم قرأني أو سمع حديثي أو اطّلع على اسمي، وهذه الظاهرة الجديدة ليست بمعزل عن دلالات جديدة أخذت بالاتساع بفضل الانترنت، ففي موقع الحوار المتمدن وحده وهو موقع مرموق، كان قد خصّص لي موقعاً فرعياً، وهناك أكثر من ثلاثة ملايين ونيّف شخص دخلوا عليه، خلال السنوات القليلة الماضية، وهو رقم أدهشني عندما اطّلعت عليه.
أكتب لهؤلاء، وهؤلاء هم مادة التغيير.


475
عبد الحسين شعبان وحوار الفكر والثقافة
رذيلتان لا تنجبان فضيلة

أجرى الحوار: خيرية المنصور
المخرجة السينمائية والتلفزيونية
مديرة موقع الصدى الإعلامي

o   لا تصبح السياسة علماً إلاّ باقترانها بعنصر الخير.
o   الشرير ليس شجاعاً.
o   أنا ضد العنف سواءً الموجه ضد الآخر أو نحو الذات.
o   التسامح لا يعني المساومة.
o   لا تغيير حقيقي دون أن تستطيع النخب استعادة دورها.
o   كلّما اتّسعت نفس الإنسان للحب، اتّسع قلبه للتسامح وعقله للاّعنف.
o   نستفزّ الوردة برفق، لكي تتفتّح وتفوح رائحتها.
o   لم أشعر بتقدّم العمر إلاّ حين رحلت والدتي.
o   لا أتمنى أن أكون حاكماً كي لا أفقد دهشتي.
o   الدين ظاهرة اجتماعية، ليس رجعياً أو تقدمياً، وإنما يتلوّن بلون القوى الاجتماعية الحاملة.
o   جوهر الدين هو "روح عالم بلا روح".
o   كان ماركس طوباوياً، حين اعتقد أن زوال المجتمعات الطبقية سيؤدي إلى انقراض الدين!!
o   تطوّر العلم، لكن الحاجة إلى الدين ازدادت.
o   أن تكون يسارياً يعني أنك لست مع أنصاف القيم.
o   كيف تكون يسارياً وأنت تتجه صوب العولمة النيوليبرالية أو صوب اللغة الخشبية، للقوميين والإسلاميين.
o   لا أكره أحداً حتى من اعتبر نفسه خصماً لي أو عدوّاً أو أساء لي.
o   القانون زوجتي والأدب عشيقتي.
o   أكتب بلغة الحرير، لكن الريشة مغمّسة بالدم.
*   *   *   *   *
لا يهدأ المفكّر ولا يستريح، بل ينشغل لدرجة الانهمام بكل متغيّر أو مستجدّ، فيحاول أن يخضعه في مشغله للدراسة والتحليل. لا يسترخي ولا يتوقّف، لأنه يدرك أن مفاهيم الناس وحاجاتهم ووسائل تعبيرهم عنها، تتغيّر، وبالتالي يلاحق بديناميكية هذا التطوّر، كيما يجتهد في تفسيره واجتراح حلول لمشكلاته.
ومن البديهي أن مفكّراً كبيراً مثل عبد الحسين شعبان، يقرأ بعمق تطوّرات المجتمعات العربية وتشعباتها وخصوصياتها، بل ومفارقاتها، ويقاربها من زاويته اليسارية ومنهجه المادي ـ الجدلي، كما يقول متوقّفاً عند أسئلة جديدة، مثل السياسة ومفاهيمها والشجاعة واللاّعنف والتباسات المسألة القومية، والأغلبيات والأقليّات ومفاهيم الشرعية، والحزبي والسياسي بصورهما القديمة ـ الجديدة وسيكولوجية الرضوخ، لينتقل إلى حقول ليست مطروقة كثيراً، بل وغالباً ما يبتعد عنها المثقفون والمفكّرون، مثل الحب والمرأة والدّين، وإنْ قاربوها، فبالعموميات في غالب الأحيان، لكن شعبان يخوض فيها بجرأة وبكثير من البوح، معلياً من شأن الجانب الإنساني في فكره وحياته وسلوكه.
ليس هذا فحسب، بل يتحدّث بشفافية عن الصداقة والأصدقاء، والفن والأدب وروافده الروحية، ومقارباته الكتابية لأجناس أدبية مختلفة من النقد والسيسيولوجيا الثقافية والسيرة الفكرية والمحطات النضالية وغيرها.
الحوار مع شعبان متنوّع، فهو يخرجك من حقل ليدخلك في آخر، ولا يكتفي بالفلسفة والتاريخ، الذي يقول عنهما الأحب إليه، بل يظهر ميله إلى الأدب أكثر ممّا هو البحث الأكاديمي، المعروف به، وتكاد من الصعب أن تجمعه، فمن الدراسات القانونية الدولية والدستورية الرصينة، إلى الأديان والفكر الديني، وقضايا التسامح واللاّعنف، إلى ميدان حقوق الإنسان والمجتمع المدني، إلى الثقافة والأدب والنقد، إلى إضاءات لسيرة مبدعين كبار مثل الجواهري وشمران الياسري (أبو كاطع) وحسين جميل وسعد صالح وآخرين، إلى دراسات نقدية لـ: غائب طعمة فرمان ومظفر النواب ونصر حامد والطيّب صالح وهادي العلوي وعامر عبد الله، وغيرهم العشرات الذين ربطتهم به علاقات صداقة.
الحوار بحد ذاته هو دهشة الطفل الذي لا يزال يقبع في عبد الحسين شعبان، الذي يتحدّث عن الطفولة والحياة العائلية وقضايا شخصية، بكل أريحية وانفتاح ونقد للذات أيضاً.
في إطار منهجه النقدي المادي ـ الجدلي، ولا يقول الماركسي، أو لا يفضّل ذلك، لأنه ينتسب إلى فلسفة وليس إلى شخص، ينتقد شعبان اليسار بشكل عام واليسار العربي والعراقي بشكل خاص، وقد دأب على ذلك منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان بنقد التجربة من زاويتها الفكرية رابطاً ذلك بالبراكسيس كما يقول.
ونقده لليسار لا بهدف النقد، بل يطرح بلاتفورم أقرب إلى برنامج سياسي بعيد المدى لمراجعة فكرية عملية، للمفاهيم والعمل والتنظيمات، داعياً إلى علاقة من نوع جديد بين أطرافه وقواه. ومع كل النقد وقسوته أحياناً، فتراه شديد الاعتزاز بيساريته، تلك التي يريدها حرّة، لا تثقلها عقد الماضي، بل تسعى للاستفادة من إيجابياته للانفتاح على الآخر، بكل رحابة صدر، بما فيه نقده للآخر، من موقع استقلالي يشدّد في اعتماده، خارج ما هو معروف من التصنيفات القديمة.
الحوار معه شيّق ومثير، وهو يطرح أفكاراً وآراء تحتاج إلى المزيد من التأمل والقراءة الانتقادية، بل إنه يطرح أسئلة جديدة ومفتوحة لا تزال طازجة وطرّية.
   خيرية المنصور
مديرية موقع الصدى الإعلامي

س 1 ـ كيف ينظر المفكر الكبير عبد الحسين شعبان للحوار؟
للحوار دائماً نكهة خاصة ومذاق متميّز، خصوصاً إذا استطاع محاورك أن يستدرجك إلى فسحة أوسع للبوح، ليكشف عن جوانب غامضة، أو ليضيء على مساحات غير معروفة في شخصك أو تفكيرك. وبعد ذلك ففيه متعة ودلالة ومراجعة في الآن. إنه نوع من الاختبار لما تفكّر به، تعرضه للتقييم الذاتي، سيرة فكريّة أو مسار نظري أو اجتهاد معرفي أو غير ذلك.
س 2 ـ وماذا يعني بالنسبة لك؟
أحاول من خلاله أن أنسج ضوءًا آخر في منظومتي الفكرية وأستذكر أحلامي وأدقق في رؤياي، بل أُخضع بعضها للنقد والمراجعة. هذا هو شغل الباحث وهمّه الدائم. والحوار أصل الفلسفة، وكل فلسفة حوار وجدل وتوليد ونقد، وتلك هي مهمّة المثقف.
س 3 ـ وكيف يقول مفكر مثلك؟
لا زلت تلميذاً، بل في بداياتي الأولى، أحاول أن أجتهد، أخطىء وأصيب، وأراجع وأدقّق، وأقدّم نقداً ذاتياً أعتزّ به، بما فيه أخطائي، لأنها صميميّة، أي أنها نابعة عن قناعة واجتهاد، وإذا ما أرتني الحياة حقائق أخرى، أدق وأوضح، فسوف أغيّر رأيي وأنحاز إليها، ولا ينبغي أن نقف ضدّ إيقاع الحياة ومتغيّراتها.
أردّد دائماً مع الإمام الشافعي:
كلّما أدّبني الدّهْرُ
   
   أراني نَقْصَ عقْلي

وإذا ما إزددت عِلْماً
   
   زادني علماً بجهلي

س 4 ـ أنت عالم سياسة؟ ما هي السياسة؟
لست عالماً، بل أنا باحثٌ ودارسٌ، فقد درست الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد، والعلاقات الدولية في براغ، ثم توجّهت إلى دراسة الدولة والقانون في أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، ولا سيّما القانون الدولي والقانون الدستوري من خلال البحث في فلسفة القانون. وكرسّت جزءًا من جهدي الفكري والمهني لثقافة حقوق الإنسان والمجتمع المدني وقضايا الهويّة والمواطنة.
والسياسة بقدر ما هي علم، هي ممارسة وتجربة، وكل علم يخضع للتجارب بعضها سيكون ناجحاً والآخر فاشلاً، والناجح يتم البناء عليه والفاشل لا بدّ من الاستفادة من دروسه، وإذا ما كشفت الحياة عن حقائق جديدة فلا بدّ من تجارب جديدة، وفي الوقت نفسه، فالسياسة فن فيما يتعلّق بالإدارة، ونصف أي نجاح هو الإدارة، وهذه الأخيرة هي علم أيضاً، وهي كذلك بحاجة إلى تراكم وتجارب وإغناء، ولا يكفي أن تكون لديك معارف نظرية وخطط صحيحة، بل ينبغي أن تكون لديك إدارة ناجحة وأدوات مناسبة تستجيب لمتطلبات التطوّر بما فيها العلوم الأخرى.
س 5 ـ ما معنى السياسة إذاً؟
السياسة حسب حنّا أرنت تعني "الحرية"، ببساطة متناهية. أما لينين فقد اعتبرها: التعبير المكثّف عن الاقتصاد، وهي شكل من أشكال الصراع والاتفاق، وهي فن الممكن كما يقال، ووفقاً لابن خلدون فهي "صناعة الخير العام"، وهذا أمانة وتفويض ومحاسبة.
س 6 ـ ما هو مفهومك أنت لعلم السياسة؟
بالنسبة لي أرى أنها أقرب إلى "علم إدارة الدولة والمؤسسات التي خارجها"، وهذا ينبغي أن يقترن بالأخلاق، إضافة إلى عنصر الخير، وأقتربُ هنا من المفهوم الأرسطوي للسياسة، باعتبارها: نشاط إنساني يهدف إلى تحقيق الخير العام لجميع أفراد المجتمع. وإذا كان هذا جزء من المفهوم، فالأمر أعقد بكثير من ذلك، فمسألة الحرية، إضافة إلى المساواة، والعدالة، ولا سيّما الاجتماعية، إضافة إلى المشاركة والشراكة، ينبغي أن تكون حاضرة في مفهومنا للسياسة ببعدها السقراطي المتعلّق بالأخلاق.
وبالطبع، فإن هذه العناوين حتى وإن كانت بمسمّيات أخرى هي موجودة منذ القِدم، ولكن رؤيتنا إليها تطوّرت، وستبقى في تطوّر دائم لا حدود له بتطوّر الحقوق. وحصل الأمر على نحو كبير بعد حركة التنوير التي شهدتها أوروبا، ولا سيّما بعد الثورة الفرنسية في العام 1789، بالترافق مع الثورة الصناعية وتطوّر مفهوم الدولة ذاته.
س 7 ـ هل تميل إلى الثنائيات: خير وشر، ديني وعلماني، مقاوم ومساوم؟
الثنائيات بشكل عام سادت خلال فترة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي، بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وبسبب "الأدلجة" لم يرَ أياً من الفريقين إيجابيات ما لدى الآخر، لأن الصراع كان تناحرياً، إلغائياً، استئصالياً.
لقد حقّقت البلدان الاشتراكية السابقة نجاحات فيما يتعلّق بالتعليم والصّحة والخدمات العامة والرياضة والثقافة، لكنّها كانت تعاني من شحّ الحرّيات والاختناقات الاقتصادية والبيروقراطية وقلّة الأجور، أما الغرب فقد أصبح مستودعاً للعلوم والتكنولوجيا والآداب والفنون والعمران والجمال، وحقّقت الطبقة العاملة منجزات مهمّة، لكن غياب العدالة الاجتماعية والتفاوت الطبقي ونهب ثروات الشعوب الأخرى، كان سمة من سماته الأساسية.
 وإذا كانت فكرة التعايش السلمي قد انتعشت بعد ذلك، فلأن المواجهة كانت تعني الحرب النوويّة المدمّرة لكليهما، بل للعالم أجمع. كانت بعض ردود الفعل العاطفية هي السائدة في ساحة الفريقين والتي تلعب فيها المشاعر، وهذه تقوم بالتحشيد والشحن، ولم ير أياً من الفريقين الضلال ما بين الأسود والأبيض، فهناك درجات متعدّدة من الألوان الرمادية، تتراوح بينهما.
صحيح أنه ليس هناك مساواة بين العدل والظلم وبين السلام والحرب وبين التسامح والعنف، لكن الظواهر معقّدة ومركّبة، ولا ينبغي النظر إليها بتبسيط أو سطحية، ومن زاوية واحدة فقط، وإهمال زوايا النظر الأخرى.
لقد انقسمت النخبة العربية، بين استمرار الحصار على العراق أو إدانته، وبين ضرب العراق بزعم مخالفة حكامه السابقين لحقوق الإنسان ولممارساتهم الإرهابية، وهو صحيح، وبين رفض استخدام ذلك ذريعة، كما اتّسعت شقّة التباعد بين تأييد الاحتلال أو الوقوف ضده، وإذا كان رفض الحصار والقرارات الدولية لمعاقبة العراق والوقوف ضد الاحتلال، أمراً صحيحاً، لكن البعض حاول أن يوظّفه للدفاع عن الدكتاتورية، سواء عن قصد أو انساق إليه ببراءة، مثلما حاول البعض بزعم مواجهة الدكتاتورية استدعاء قوى دولية لاحتلال العراق، مؤيّداً كل مبرّراتها المزعومة بوجود أسلحة دمار شامل وغير ذلك. هكذا هي الظواهر معقّدة وزوايا النظر إليها تعطي صوراً مختلفة للمشهد الواحد أحياناً.
س 8 ـ هل ينسحب الأمر إلى مفهوم الإرهاب؟
بالطبع، فالبعض عدّ كل فعل مقاومة للاحتلال إرهاباً دولياً، في حين هناك من تواطؤ مع العمل الإرهابي بالسكوت أو تسهيل مهماته أو المداهنة والمهادنة، طالما هو ضد الحكومات التي تعاونت مع الاحتلال أو نشأت باعترافه أو إقراره بصيغة المحاصصة، أو الضغط للحصول على مكاسب لها.
س 9 ـ هل ينطبق الأمر على داعش أيضاً؟
نعم، فعند احتلال الموصل، تعاون معه حزب البعث، وحيّا عزت الدوري أمينه العام "المجاهدين"، وكان يعتقد أو يؤمل أنه بعد احتلال الموصل من قبل داعش يمكنهم الحصول على موطىء قدم والتمدّد أبعد من ذلك، بل والإطاحة برؤوس داعش، لكن داعش كانت أسرع منهم ولديها خططاً مُحكمة وبارعة، فقد "تغدّت بهم قبل أن يتعشوا بها".
قلت لأحد الشخصيات الكبرى من التنظيم القومي: أيعقل أنكم تتعاونون مع أكثر التنظيمات إرهابية ووحشية؟ أجابني: إن خطتهم كانت تقضي الانقلاب على داعش بعد نجاحها، كما حصل حين تم الانقلاب على عبد الرزاق النايف في 30 تموز (يوليو) 1968 بعد انقلابهم في 17 تموز (يوليو) العام ذاته.
ولم تكن تلك سوى تبريرات سمجة لتكتيكات قديمة ومشروخة، وضحك على الذقون واستهانة بالعقول، ومحاولة التذاكي بافتراض استغباء الآخر، إضافة إلى كونها دونية ولا أخلاقية. فالسياسة التي تتنصّل عن الأخلاق هي مثل بضاعة فاسدة ورديئة يتم الترويج إليها بطرق احتيالية، وهذا التصرّف ذكّرني بمقطع لقصيدة الراحل وليد جمعة يقول فيه: "يا ابن آوى، كلّنا مثلك ثعلب"، بمعنى أن هناك من يفكّر بالمؤامرة والمناورة والمداورة في إطار ذرائعي ضيق الأفق وبالضدِّ من مبادىء الأخلاق.
س 10 ـ أهي ميكافيلية؟
نعم، فلدى ميكافيلي وكتابه "الأمير"، الذي هو من أهم الكتب، وكان صدر في العام 1513 واحتفلت إيطاليا بمناسبة مرور خمسة قرون على صدوره، إن الغاية تبرر الوسيلة، لكن الوسيلة لا بدّ أن تكون جزءًا من الغاية، ولا غاية شريفة دون وسائل شريفة، والغاية هي حسب فيلسوف الهند العظيم المهاتما غاندي رائد المقاومة السلمية المدنية اللاّعنفية، هي مثل علاقة الشجرة بالبذرة فلا يمكن فصلهما، لعلاقتهما العضوية.
كان كتاب الأمير بمثابة وصايا للحكام في حقل التعامل السياسي، وقد لقي شهرة كبيرة، بسبب تأثّر الكثير من القادة والزعماء به، لدرجة هناك من كان يضعه بالقرب من سرير نومه، وكان يتعلّم منه الدرس بعد الآخر، بغض النظر عن الجانب الأخلاقي. وبالنسبة لي فإن السياسة بدون أخلاق ستعني تدليساً وخداعاً وتبريراً لأي فعل شنيع.
س 11 ـ ألا تلاحظ أن ثمّة انحدار في السياسة؟
هذا صحيح، ولذلك تزداد الحاجة للاهتمام بها كعلم، والسياسة لا تصبح علماً أي إدارة وتدبيراً وتنظيماً إلاّ باقترانها بعنصر الخير.
س 12 ـ وماذا عن الشر؟
السياسة العدوانية والعنصرية والفاشية مثلاً ليست سياسة في نظري، لأنها ترتبط بعنصر الشر، ولذلك لا نقول للإنسان العدواني أو العنصري أو الفاشي، إنه شجاع، لأن الشجاعة هي فضيلة من فضائل القلب، وسمة للإنسان القوي، ولن تكون الشجاعة "شجاعة" إذا استخدمت الشر، وسيكون الإنسان شريراً وليس شجاعاً، والشرير ليس شجاعاً، إنه شرسٌ وعنيف ومرتكب، لأنه يستخدم الشرّ وسيلة لتحقيق أغراضه.
س 13 ـ هل هذا يعني عدم وجود شرير، شجاع؟
نعم، لأن الشجاعة صفة للخير، أما الجبن فهي صفة الشرير حتى وإنْ تخاشن أو استشرس أو اقتحم أو دمّر الخصم أو العدوّ، لكنه لن يكون موضع إعجاب ولا ينبغي أن يكون، لأن ما يقوم به هو فعل شرّ. أما الشّجاع فهو موضع الإعجاب والتّقدير لأنه يدافع عن الخير وينتصر لقيم العدالة، ويسعى لوضع حد للظلم والعدوان واللاّمساواة. الشّجاعة بدون هذه القيم لن تكون شجاعة إنْ استُخدِمتْ في فعل الشرّ، وستنتهي إلى الجبن.
الشّرير ليس شجاعاً مهما واجه من مخاطر وتحدّيات لأن مآربه شريرة وليست خيّرة، في حين أن الشجاع يتحلّى بفضيلة إنسانية وهي دفاعه عن الخير والعدل، وهذه تمكّنه من الإمساك برباطة جأشه في الوقت المناسب.
الشجاعة تقتضي مقاومة الشر، وليس الاقتداء به، والشجاع هو نقيض الشرير، يقول المهاتما غاندي، وكذا الحال هي السياسة، كما أعتقد.
س 14 ـ أنت أحد روّاد اللاّعنف في العالم العربي.. كيف أصبحت؟
لا زلت أسعى للتخلّص من لوثة العنف التي هيمنت على ثقافتنا العربية، وأقصد اليسارية منها وعلى نفوسنا، وتوصّلت إلى قناعة أن العنف سوف يولِّد العنف، في دورة مجنونة جديدة، وذلك من خلال قراءة للتاريخ البعيد والقديم وللتجارب المعاصرة، بما فيها التي عشتها وعرفتها.
العنف ليس موجهاً ضد الآخر فحسب، بل إنه موجّه نحو الذات أيضاً، في الوقت نفسه، وبقدر ما تحاول إذلال الآخر وتحطيم مقاومته في الدفاع عن كرامته، فإنك تقتلع ما تبقّى من إنسانيته لديك، ولذلك فإنني ضد عنف الذات وعنف الآخر، وكلاهما يدمّران الإنسان وينزعان الإنسانية عنه. وعلى ذكر الهند، فقد تمكّن السياسي الأعزل أن يتفوق على ثعلب السياسة المدجج بالسلاح والمعرفة والتكنولوجيا والعلم، هكذا تغلّب غاندي اللاّعنفي السلمي والمقاوم المدني على ونستون تشرشل رجل الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس، والذي قال متهكّماً "سنقاتل حتى آخر هندي".
س 15 ـ هل هناك تجارب لاعنفية تعتد بها؟
نعم، إن سياسة اللاّعنف التي قادها مارتن لوثركنغ القس الأمريكي من أصول أفريقية، هي التي أدّت إلى انتصار الحقوق المدنية في أمريكا، فقد بدأ بالدعوة إلى مقاطعة الباصات الحكومية في العام 1955. وهكذا "بقوة المحبة" (المقصود السياسة اللاّعنفية) انتصرت حركة المجتمع المدني في نضال لاعنفي نموذجي، وتم إلغاء منظومة القوانين العنصرية في العام (1964) بعد قرون من الاستعباد.
وكانت فكرة اللاّعنف والتسامح هي التي فرضت على حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، إجراء انتخابات لكل الأعراق وعلى أساس المساواة، وقادت إلى انتصار الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا، وفتح هذا صفحة جديدة من التعايش واللاّعنف والمساواة وعدم الانتقام والثأر، عبر ما سمّي "بالعدالة الانتقالية"، التي تعني كشف الحقيقة ومعرفة ما جرى والمساءلة وجبر الضرر والتعويض وصولاً إلى المصالحة، لا سيّما بإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية.
وكان للمقاومة المدنية اللاّعنفية دوراً كبيراً في أوروبا ضد العدوان النازي، فيوم أقفل هتلر المدارس البولونية، نظم البولونيون تعليماً سرّياً خاصّاً، وكانت فكرة المقاومة اللاّعنفية وراء نقابة تضامن التي أطاحت بالنظام الشمولي في بولونيا.
ولعلّ "اللاّ" هي التي أطاحت بنظام الدكتاتور ماركوس في الفيليبين، وهي التي حطّمت معنويات الجنود الإسرائليين في انتفاضة الحجارة الأولى أواخر العام 1987 وامتدت لبضعة أعوام.
"واللاّ" اللاّعنفية هي التي أطاحت بأنظمة أوروبا الشرقية الشمولية (أواخر الثمانينات) وحقّقت بعض أنظمة أمريكا اللاتينية انتصارات باللاّعنف عبر ما عُرف "الثورة في صندوق الاقتراع"، حيث فاز اليسار في نحو 7 بلدان، مثلما كان اللاّعنف وراء انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، وظهرت تأثيراته بصورة جليّة في انتفاضة الياسمين ضد زين العابدين بن علي، وانتفاضة النيل ضد محمد حسني مبارك، ويعكس مسار الثورتين دور اللاّعنف في تطوراتهما. وقد انتقلت العدوى إلى بلدان أخرى عربية وغير عربية.
علينا تحديد استدلالات اللاّعنف وفهم معانيه الإنسانية وتحديد مبانيه ومعرفة جوانب القوة الخارقة الكامنة فيه.
س 16 ـ أليس ثمّة التباسات حول الموضوع؟
نعم، لا بدّ من نزع الالتباسات وتحديد المفاهيم وفاعليتها وإيجابياتها فيما يتعلق بالعدالة مثلاً، وعندما نقول باللاّعنف لا ينبغي أن ينصرف الذهن إلى الحلول الاستسلامية مثلاً والقبول بالمهادنة والتخلّي عن الحقوق، سواء فيما يتعلّق بفلسطين ومقاومة الاحتلال "الإسرائيلي" أو غيره.
إنني شخصياً أدعو للمقاومة وأقف معها، وأفضّل أن تكون مقاومة لاعنفية مدنية وسلمية، وأقول لا للعنف، ولكنني في الوقت نفسه أقول نعم للمقاومة، ضد العنصرية والإرهاب والاحتلال، سواء من دولة أو جماعة أو فرد، ولا بدّ من استراتيجيات ووسائل للعمل النضالي اللاّعنفي.
التسامح لا يعني هو الآخر المساومة مع العدوّ على حساب الحقوق، بل إنّ قيَمَهُ تفرض المقاومة، وهي قيم الحرية والمساواة والعدالة والشراكة، وهي قيمٌ إنسانية، لا مجال فيها للتنازل، لأنها لا تقبل التجزئة، وهي متكاملة ومتفاعلة بعضها مع بعض، ولا يمكن التفريط بجزء منها لحساب الآخر، فهي مثل السبيكة الذهبية، لا يمكن رمي قطعة منها أو الاستغناء عنه.
س 17 ـ هل هذا ما تقول به الأغلبية؟
مفهوم الأغلبية والأقلية عندي ليس هو الحاسم، فلا زالت الأغلبية في واد والنُخَب في واد، وحتى النخب تخلّى قسم كبير منها عن دوره التنويري ورضخ لمتطلبات السائد والمهيمن والمصلحي أحياناً. وبكل تواضع أقول لا تغيير حقيقي دون أن تستطيع النخب استعادة دورها وتعديل الميزان بحيث تؤثر بالأغلبية ويكون لها دوراً ريادياً وطليعياً.
وإذا كانت الديمقراطية مرتبطة بمبدأ الأغلبية، فهذه الأخيرة ليست على صواب دائماً، ولو كانت الأغلبية على حق دائماً لما تم انتخاب حكام فاسدين أو غير كفوئين، لكن العزاء أن يتم استبدالهم بوسائل ديمقراطية أيضاً، أي سلمية ومدنية ولاعنفية.
الأغلبية ليست على صواب دائماً، بدليل أن هناك أغلبية مضللة أو خاطئة، وفي هذه الحالة ستكون الشرعية الناجمة عن هذه الأغلبية "مزيفة" أو فاقدة بعض أركانها أو مبتورة أو ناقصة أو مشوّهة، أي أنها مشوبة بأحد العيوب الجوهرية، وهو التدليس والخداع وتزوير الإرادة، فما بالك إذا افتقدت لشرعية الإنجاز!؟
س 18 ـ هل تشكّك في مفهوم الشرعية السائد؟
"الشرعية" أحياناً تنتج الطغيان أو تجبر المواطنين على اتباع توجه خاطىء، وقد لا ينسجم مع قيم العدالة والمساواة والحرية، وهذه هي الأهم والمعيار الإنساني، وهدف أية شرعية هو الإنسان، الذي حسب الفيلسوف الإغريقي بروتو غوراس "الإنسان مقياس كل شي". لقد جاء هتلر إلى السلطة عن طريق انتخابات في العام 1933، ولكنه بالشرعية سبّب أكبر كارثة للعالم، حين فجّر الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) التي راح ضحيتها ملايين البشر.
حكّام عدد من البلدان العربية والإسلامية والعالمثالثية، جاءوا إلى السلطة بالانتخابات، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ إنه خراب ودمار وفساد على جميع المستويات. ألم يصل الحكام الفاسدون في العراق إلى السلطة عبر صندوق الانتخابات، بغضّ النظر عن دستور ملغوم ومحاصصة طائفية وإثنية فرضها المحتل؟
س 19 ـ ماذا تقصد بالأغلبية والأقلية؟
أقصد بهما المعنى السياسي، داخل الأحزاب وفي البرلمانات وفي هيئات المجتمع المدني، وليست الهويّات الإثنية والدينية واللغوية وغيرها.
وهنا لا بدّ من إزالة بعض الالتباسات التي لا تزال سائدة بالمفهوم، خصوصاً وأن العديد من القوى والجهات في الغرب عادت إلى خطابها القديم حول "حماية الأقليات" وهي تقصد بذلك المجاميع الثقافية الأخرى "غير السائدة"، التي تزعم الدفاع عنها، ومثلما في السابق، فهي الحاضر أيضاً، وربما على نحو أشد الآن، فهي تدقّ على الوتر الحسّاس وتريد التدخّل بشؤون دول المنطقة، من هذا الباب.
ولكن في مفهوم الأقليات والأغلبيات هناك ثلاث التباسات هي:
الالتباس الأول ـ هناك "أقليات" مضطهدة، مثلما هناك "أقليات" حاكمة، فكيف يستقيم الحديث عن حماية "الأقليات"؟
الالتباس الثاني ـ هناك "أغلبيات" مهمّشة أو مُبعدة عن موقع القرار، في حين هناك "أغلبيات" متحكّمة، إذا أخذنا بالمفهوم السائد.
الالتباس الثالث ـ إن حقوق "الأقليات" الحاكمة، هي غير حقوقها وهي مقموعة، كما أن حقوق "الأغلبيات" المتسيّدة هي غير حقوقها وهي مستبعدة أو مهمّشة، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة بناء هيكلية الدولة على أساس المساواة وعدم التميز، وفقاً لصيغة تشريعية جديدة، تمأسس مبادىء المساواة والمواطنة المتكافئة، دستورياً وقانونياً وسياسياً، ناهيك عن متابعة ذلك اجتماعياً بما يحفظ حقوق المجموعات الثقافية، في مجتمع متعدد الثقافات، خصوصاً باعتماد صيغة لامركزية الدولة، وحسب ظروف كل بلد، من حكم ذاتي إلى فيدرالي أو غيره، مع الحفاظ على وحدانية الدولة والمجتمع، في إطار التنوّع والتعدّدية، وحماية حقوق المواطنة، بما فيها الاعتراف بالهويّات الفرعية وما يرتبه ذلك من حقوق سياسيّة وإداريّة ولغويّة ودينيّة.
س 20 ـ هل تدعو إلى مفهوم جديد للشرعية؟
الأمر يحتاج إلى توسيع تطبيقات مبدأ الشرعية، بحيث يكون بعيداً عن التزوير أو التحريف أو التشويه على أساس سياسي أو مالي أو ديني أو غير ذلك، ولعلّ ذلك جدير بأبحاث العلوم السياسية الجديدة، فالشرعية أو عدم الشرعية بالنسبة لي هي الاقتراب أو الابتعاد عن القيم الإنسانية الأساسية، ذلك هو معيارها ووظيفتها وهدفها، ولا سيّما بتحقق شرعية الإنجاز وفاعلية المنجز.
أتذكّر أنني توقّفت طويلاً عند رد الرفيق فهد "يوسف سلمان يوسف" أمين عام الحزب الشيوعي السرّي على أسئلة الرفيق مقدام حول الشرعية، فيما عناه الأقليّة المصيبة (الصائبة) والأكثريّة الخاطئة (السؤال الرابع)، وكنت ولا أزال أستذكر جواب فهد دائماً، ففيه رؤيوية استراتيجية لمسائل العمل والتنظيم والحياة بعيدة المدى وعميقة الدّلالة. واستند فهد على التجربة الأمميّة، ففي حين كان الماركسيون اليساريون كما أسماهم يمثّلون أقليّة ضئيلة في مؤتمرات الأمميّة الثانية، بالنسبة للانتهازيين اليمينيين، وبالنسبة إلى متذبذبي الوسط، لكن موقف هذه الأقليّة كان صحيحاً من القضية القومية وقضية المستعمرات وقضية الحرب.
للأسف يأخذ البعض جانب التمجيد والتقديس بفهد، وتُهمل بعض أطروحاته المتقدّمة في حينها، ومنها كرّاسه الشهير "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية"، على أننا ينبغي أن نأخذ أفكاره بسياقها التاريخي، ومن خلال القراءة الانتقادية.
س 21 ـ ولكن تلك كانت مواصفات الحزبي السري فأين نحن الآن؟
لم تكن تلك المواصفات خاطئة كليّاً، ففيها جوانب مشرقة ومضيئة التضحية، التفاني، الصدقية، لا سيّما وأنها تحمل قيماً إنسانية هي نتاج ظرفها التاريخي، ونحن بحاجة اليوم إلى إعادة قراءتها بسياقاتنا التاريخية مقارنة مع الحاضر واستشرافاً للمستقبل، مع الأخذ بنظر الاعتبار التطوّرات العالمية على هذا الصعيد، خصوصاً موضوع الاعتراف بالآخر والإقرار بالتعدّدية والاحتكام إلى الرأي العام والتداولية في المواقع والإدارات وغيرها.
أما السياسي "الجديد" (المغلّف السليفون) والذي ظهر ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فإن صورته بدأت تختلف عن صورة السياسي في الخمسينات والستينات في الأحزاب الثورية والسرية في الغالب، التي عرفناها بما لها من إيجابيات وهي كثيرة، وما عليها من سلبيات وهي غير قليلة.
ومن مواصفات سياسي اليوم أن لا يكون لهم ماضي نضالي، وإن كان فإنه محدود وتجاربة شحيحة، وليس مطلوباً مستوى ثقافة ومعرفة معينين، والمهم أن يحتمي تحت سقف جماعة أو طائفة أو إثنية أو مجموعة عشائرية أو فئة سياسية كانت في المنفى.
هكذا ازدحمت الساحة بما يسمى "سياسيّ الصدفة" أو "القضاء والقدر" والبعض جيء به، باعتباره ممثلاً عن هذه الطائفة أو تلك، وتحت عناوين مختلفة، ليمثّل الداخل بشكل خاص، لا سيّما بعد أن تصدّرت جماعات الخارج المشهد السياسي السائد!!
إن مهمة "المثقف" اليوم أعقد من السابق بكثير كما أفترض، لأنه لم يعد يكفي رفع شعارات عامة لإقناع الناس كي تسير خلفك أو تمتثل لرأيك، حتى وإنْ كنتَ مدافعاً أميناً عنها، وإلاّ لماذا تسير هذه الحشود المليونية وراء قيادات بعضها بسيط لحد السذاجة، لكنها تستغل اسم الدين وتحرّك المشاعر والغرائز وتدفع هذه الجموع للانصياع لأوامرها حتى وإن كانت تلامس حقوقها كسراب.
هل يعقل أن تتظاهر نسوة ضد حقوقهنّ؟ قد يكون السؤال غريباً، لكن الأغرب حين أقول لك نعم: حصل هذا في العراق حين أريد جمع التأييد لإلغاء قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، في دورة مجلس الحكم الانتقالي التي تولاّها عبد العزيز الحكيم. تصوّر أن كل ذلك يجري في عهد العولمة والثورة العلمية ـ التقنية والانفجار الهائل في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال والمواصلات فيما نطلق عليه الثورة الرقمية "الديجيتيل"، وفي ظلّ فسحة الحقوق الواسعة التي حصلت عليها المرأة على المستوى العالمي.
س 22 ـ ما الذي تبقى من صورة سياسيّ الماضي إذاً؟
لقد بهتت صورة السياسي التقليدي وتلاشى بريقها تدريجياً، كما أن العمل السري منذ أواخر الستينات، حتى إذا ما وصلنا إلى أواخر السبعينات، شهد مرحلة تدجين وترويض، وإلاّ فإن الغياب والتلاشي صار هو السائد، وهكذا فإن المكابرة كانت ضرباً من المغامرة غير المحمودة العواقب، ولذلك اتجهت الأحزاب المعارضة إلى: إما الاتفاق مع الحكومة أو تعريض نفسها إلى التصفية الكاملة، أو اختيار الحل الثالث وهو الهجرة إلى المنافي، وحتى في المنافي لوحق السياسي المعارض بالقمع البوليسي من جهة والقمع الآيديولوجي من جهة ثانية، عبر حملات تشويه مستمرة، خصوصاً وأن بيئة المنفى تشجّع على ذلك، ناهيك عن الاختراقات الخارجية بأشكال مباشرة أو غير مباشرة.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض المعارضات بالاستقواء مع أجهزة الدول المضيفة، أصبحت سلطات تتحكّم بقوت المعارض ورزقه وعلاجه ودراسة أطفاله، فضلاً عن تزكيته، وإلاّ سيكون عرضة للمجهول، وكم ضاع من المناضلين في غمرة أعمال قمع وتطويع لمعارضات حسبت نفسها بديلاً عن السلطات، والأمر يشمل الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والبعثيين وغيرهم.
للأسف، فإن المنافي شهدت أمراضاً عديدة، سببها الغياب عن ساحة العمل النضالي، والترهّل والتأثيرات الخارجية وضعف اليقظة، والامتدادات الإقليمية والدولية، التي سعت لاحتواء المعارضات وجلبها إلى بيت الطاعة، وكان الهدف هو إدخالها جميعها إلى "الحظيرة" ليُمكن التحكّم بها.
وإذا كان هذا قد حصل للمعارضة العراقية، ولا سيّما في مطلع التسعينات، فإن معارضة اليوم ليست أحسن حالاً من معارضات الأمس.
لنلاحظ ما يحصل للمعارضات العربية أيضاً، فبعد أحداث ما سمّي بالربيع العربي، بدأت تدخّلات وتداخلات الخارج تبدو محمومة ومؤثرة وقوية، وقسم منها دفع أطرافاً في المعارضة إلى العسكرة، الأمر الذي جعل أوراقها بيد القوى الإقليمية والدولية.
وللأسف لم يستفد أحد من الدروس التي حصلت للمعارضة العراقية، وكرّر ذات الأخطاء ولا يزال، تلك التي وقعت فيها سابقاً المعارضة، والمبرّرات هي نفسها "وجود أنظمة دكتاتورية" لكن ما حصل في العراق وما هو منتظر في العديد من البلدان العربية، التي امتدت إليها يد الخارج، أدت إلى تدمير الدولة الوطنية وبنيتها التحتية ومرافقها الحيوية، وأوقعت البلاد تحت احتلال بغيض.
وإلاّ كيف نفسر أن يكون بول بريمر مرجعية إدارية لتعيين شيوعي في مجلس الحكم الانتقالي على أساس مذهبي؟ وكيف ينخرط "شيوعيون" في عقود عمل مع البنتاغون لرسم مستقبل العراق عشيّة الغزو؟ وذلك جزء من خطة الاحتلال ذاتها، وبعد ذلك كيف يدافع شيوعيون عن الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي والوزارات المنبثقة عنه على أساس طائفي وإثني؟ وأين العداء للإمبريالية والصراخ بسقوطها؟ وهل أصبح بول بريمر هو الذي يحقق مقولة: "وطن حرّ وشعب سعيد"؟.
ثم كيف لإسلاميين أمطرونا لعقدين من السنين بوابل من عبارات "الاستكبار العالمي" و"الموت لأمريكا" أن يكونوا أبناء مدلّلين لها لتنصّبهم حكّاماً مع آخرين على العراق، وذلك غير الأبناء "الشرعيين" المعروفين بالولاء التاريخي لها.
أما البعثيون الذين ملأوا الأرض شعارات حول العروبة وتحرير فلسطين، فإذا بهم ينتهون لقبول تنفيذ تعليمات داعش وخططه، ولعلّ تلك جزء من شيزوفرينيا السياسة.
وبعد ذلك كيف للقوى الكردية التنافس والابتزاز والاحتراب واستخدام حق تقرير المصير للشعب الكردي، وهو حق مشروع، وسيلة جديدة للتنافس والمكاسب الضيقة، سواء في علاقاتها مع بعضها البعض أو في العلاقة مع بغداد، ولا سيّما فيما يتعلّق بالمناطق المتنازع عليها.
س 23 ـ كيف تقيّم ذلك: هل هو سذاجة أم تواطؤ؟
لا أخوّن أحداً أو أتهمه، لكنني أقول إنه قصور ذاتي بالدرجة الأساسية، وبعض فشل وعزلة، وهذا يقود إلى الانحدار بالدرجة الأساسية، ولا يعرف البعض أنهم يتجهون إلى الهاوية، خصوصاً إذا ابتعدت السياسة عن الأخلاق والقيم، وأصبحت التكتيكات اليومية و"البراغماتية" ذريعة لكل تنازل أو تراجع أو تحوّل من ضفة إلى أخرى.
وعلى أحسن الأحوال وخارج نطاق الشكوك، فتلك هي نتائج عدم نضج وقلّة معرفة الإدارات السياسية التي تخلت عن الاستراتيجيات لحساب تكتيكات قصيرة النظر وبعضها مبتذل. ومن الصعوبة أن تحرّر السذّج من الأغلال التي يبجّلونها، يقول فولتير.
س 24 ـ وماذا عن الرضوخ؟
بحكم أنظمة اجتماعية وممارسات سياسية فوقية، تتولّد أحياناً سيكولوجية خاصة يمكن أن أطلق عليها سيكولوجية الرضوخ أو العبودية، أو القابلية على العبودية حسب المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار" أي القابلية على قبوله. وهذه هي الأخرى تظهر داخل الأحزاب الشمولية مهما كانت هويتها شيوعية أو إسلامية أو قومية عربية أو كردية أو غيرها.
سيكولوجية الرضوخ، تسفّه، بل وتستسخف بأية إمكانية للتغيير واستبدال ما هو قائم، بحجّة لا وجود لبديل، فمن أنت لكي تعارض الاحتلال أو تقف ضد نظام غاشم أو تواجه إدارة حزبية بيروقراطية؟ هكذا تطرح أسئلة هدفها جعل الخضوع للقوة مساراً مهيمناً، وأمراً واقعاً لا بدّ من الاعتراف به، وكما نعلم فإن امتلاك القوّة يوازي أحياناً استخدامها، وهكذا يصبح القمع مع تمجيد القوة والغطرسة واحتقار الضعيف، بل واعتبار أي تواضع ضعف، وهكذا يصل الشعور بالعجز لدرجة اليأس مسيطراً مكّبلاً لأي تفكير بالتغيير، الأمر الذي يؤدي إلى سيادة سيكولوجية الخضوع.
هكذا ترتبط القوة بالسلطة والمال والسلاح والعنف، وهي قوة التعسّف في مواجهة قوّة الحقّ وقوّة العدل وقوّة اللاّعنف، والأخيرة لا يمكنها مواجهة معادلات القوة الكبرى حسب نظرية الخـضوع، بل سينظر إليها باعتـبارها غير قادرة لإنتاج البديـل، وستكون بهذا المعنى ضرباً من العبث والمغامرة والانتحار، وهو ما يسعى إلى تعميمه مفهوم الرضوخ، وقد اعتاد بعض الحزبيين على الرضوخ لإدارات الحزب التي كانت تعتبر كل رأي مخالف بمثابة اعتراض يصل إلى درجة التخريب إذا ما جرى التعبير عنه بوسائل مختلفة.
س 25 ـ هل ننتقل إلى الحب؟
وهل يوجد أجمل منه؟ شيئان في الحياة يستحقان الصراع: وطن حنون وامرأة جميلة، حسب رسول حمزانوف، أن نحب الآخر يعني أن نجعل الحياة أكثر جدارة. والحب أممي بطبعه مثل الجمال، فهو يتخطّى الحدود والبلدان والأديان والقوميات واللغات وكل ألوان الطيف الاجتماعي.
لا يأتي الحب بقرار، إنه يدهشك أولاً ويحضر دون موعد أو تخطيط، يحتلّك فجأة ويهيمن عليك لدرجة لا تستطيع الفكاك منه. إنّه يرسل إشارات غامضة إلى قلبك فتنفتح له كل الأبواب من القلب إلى العقل إلى الوجدان. الحب يتغلغل فيك ويسري في عروقك.
القلب يتّسع لأكثر من حب، والحياة تسمح بأكثر من حب، والحب يتجدّد دائماً، قد يذبل الحب وقد ينتهي، لكنه لا ينبغي أن يتحوّل إلى عداء أو كراهية. يستطيع الإنسان أن يحب لأكثر من مرّة ويخوض أكثر من تجربة، ولكل تجربة خاصّيتها وتميّزها، وبالتالي ظروفها وسياقها التاريخي، كما يمكن للقلب أن يعشق مرّات كثيرات، وكلّما اتسعت نفس الإنسان للحب، اتّسع قلبه للتسامح وعقله للاّعنف.
س 26 ـ ماذا تعني المرأة بالنسبة إليك؟
المرأة بالنسبة لي كل شيء، وبدونها لا يمكنني العيش، أشعر مع وجودها بالتوازن والاعتدال، وبغيابها يصيبني شعور بالاختلال واللاّجدوى.
س 27 ـ هل يعني أن الحب مفروض عليك؟
كلاّ، الحب حالة من الوصل الإنساني الذي يأتي بصورة عفوية وتلقائية مصحوبة بإحساس عذب وآسر. ستكون روابطك مقطوعة مع العالم بدونه، ولذلك نشعر أننا بحاجة إليه، كي نوسّع قيم الجمال في داخلنا، وكي ننظر إلى العالم بمنظور أكثر إشراقاً بتحسّس ما هو إنساني في ذواتنا. نحن دائماً بحاجة إلى أن نستفز الوردة برفق لكي تتفتح ونشمّها برقّة كي تفوح برائحتها ويتدفّق عطرها.
س 28 ـ يقول عمر الشريف: إنه لم يحب سوى فاتن حمامة مع أنه عرف نساء كثيرات؟
أخالفه تماماً في هذا الرأي. لقد أحببت نساءً كثيرات، وكل واحدة منهنّ أعطتني شيئاً مميّزاً، بل إن كل واحدة كان لها طعمها الخاص وعطرها وخفاياها وخباياها. مع كل حب جديد أشعر أن روحي تتجدّد، وعلى إيقاعه تبدو الحياة أكثر بهاءً، والقمر أكثر نوراً، والبحر أكثر شفافية، والسماء أكثر صفاءً وزرقةً.
س 29 ـ أفي موقفك من المرأة ثمّة علاقة بحب الأطفال؟
هناك حبل سري يربطني بالطفولة، كلّما شعرت بتقدّم العمر ازددت طفولة، وكلّما لاحت مظاهر الشيخوخة: الشيب والوقار، أهرب إلى الطفولة، وأدير ظهري للزمن، وكنت قريباً جداً مع بناتي وأولاد شقيقاتي وشقيقي حين كانوا أطفالاً بشكل خاص، وكنت أرغب في مشاطرتهم بلعبهم وتمرّداتهم وخيالاتهم وأكاذيبهم ومقالبهم، وحتى حينما كبروا فهم يتذكّرون كيف كنت ألاعبهم بحميمية وطفولة.
الطفولة تشعرني بالبراءة، وكلّما كانت المشاكل تكبر والحياة تتعقّد، أستذكر الطفولة وأستعيد الأيام الجميلة الهانئة ورعاية الوالد والوالدة، اللذان تعرّضا بسببي لأنواع من الأذى. ولم ألتقي الوالدة ما يزيد على عشرين عاماً، في حين توفي الوالد متأثراً بحادث دهس واستجوابات عديدة.
قد لا تشعر بتقدّم السن، لكن هذا الإحساس يداهمك على نحو مفاجىء. وقد حصل هذا معي بعد وفاة والدتي، شعرت أنني أهرم على حين غرّة، فقد كنت حتى رحيلها أضع رأسي في حضنها وهي تعبث بشعري وتعدّ ما تبقى فيه من شعيرات سوداء. وهو ما كنت أفعله مع بناتي والأطفال الذين أحبهم، فأضع رؤوسهم في حضني وأداعبهم. وبالمناسبة إنّ الأطفال جميلون جميعهم دون استثناء.
كنت أقرأ لسوسن وسنا "الأمير الصغير"، وأناقش معهما أمور الحياة، وأدفعهما لتحمّل المسؤوليات، وأطلب منهما الاستمتاع بالحياة والعيش بحريّة واختيار ما هو مناسب من الأصدقاء، دون تدخّل أو إكراه، وكنت أحترم خيارتهما دائماً، حتى وإن لم أقتنع بها.
سوسن تعمل محامية، وهي متزوجة. وسنا أنهت دراسة الماجستير في الآداب والثقافة، وتعمل بصورة مؤقتة، على أمل الحصول على عمل مناسب. أتعامل معهما في إطار من الصداقة والاحترام لخصوصياتهما وعلاقاتهما وأستمتع حتى اللقاء بأصدقائهما.
أعود معهما أحياناً إلى الطفولة، فنستبدل المواقع، أنا الطفل وهنّ الكبيرات، وكثيراً ما يستمتعن بهذا الدور حين يصدرن التعليمات والقرارات لي، وأطلب منهنّ إقناعي لأمتثل لنصائح الطبيب أو تعليمات الغذاء والدواء.
س 30 ـ وماذا عن الصداقة؟
العلاقة مع المرأة أوّلها إعجاب وصداقة واحترام، وآخرها صداقة واحترام ومشتركات. تبدأ العلاقة بها وتنتهي أو تتواصل معها، أما شكل العلاقة وطبيعتها فهي التي تتغيّر من صداقة وحب إلى صداقة مع المودّة.
الصديق أمرٌ ضروري وحيوي وعظيم في الحياة وأعتزّ كثيراً بشبكة أصدقائي، وثروتي في هذا العالم صداقاتي، حسب مثل روسي. وقيل الكثير عن الصداقة والصديق، فهو قبل الطريق وهو عند الضيق وقيل أفضلهم "العتيق".
وكان أبو حيّان التوحيدي هو من قال: "إن فيلسوفاً سئل ذات يوم: من أطول الناس سفراً، فأجاب من سافر في طلب الصديق". علينا الاحتفاء بالصداقة والصديق، فهما ملح الذكريات والأحلام والتمرد.
س 31 ـ هل هذا هو سِفر الحياة؟
حسب ابن عربي: الأسفار ثلاثة:
سفر من عنده،
وسفر إليه،
وسفر فيه،
وهذا هو سفر التيه والحيرة،
وسفر التيه والحيرة لا معنى له.
تلك هي حيرة الإنسان الأبدية، والحيرة هي بداية الحكمة، وبالحيرة تبدأ الأسئلة وتتوالد، ولا أسئلة بدون شك، ولا شك من دون يقين ثم شك.
س 32 ـ هل بإمكانك لو أصبحت حاكماً أن تطبّق هذه المفاهيم؟
كلاّ، لأن الحكام بلا دهشة، وأنهم بدون مشاعر وأحاسيس في الغالب الأعم، لا أتمنى أن أكون حاكماً، لأنني سأفقد الدهشة، وأي إنسان يفقد الدهشة سينسى طفولته، أو ينزعها عن نفسه، والدهشة أجمل ما في الجمال والحب والطفولة، ولذلك أريد دائماً أن أفتح فمي وأشعر بالدهشة لأصيح من داخلي: ما أجمل الحياة! يا الله ما أروع الزهور والأشجار والطيور والعصافير والجبال والوديان والبحار والأنهار.
كلّها تستفز مشاعري وتحرّكني إلى مكامن الجمال المخفيّ والمعلن منه، والمستتر والظاهر، إنها الفتنة بالجمال المعتّق، وهو إحساس بالانتشاء بعد رشفة نبيذ من كأسٍ رقيق وإبريق أنيق، بحيث يكون الإنسان في كينونته الكبرى، متصالحاً مع نفسه والعالم، من خلال النقد.
س 33 ـ وماذا عن الفن؟
أنا متلقّي ومتذوّق لكل أنواع الفنّ: الأغنية أو قطعة موسيقية أو قصيدة أو فيلم سينمائي أو عرض مسرحي أو تمثال أو صرح معماري أو جدارية، أو أي عمل روائي أو قصصي، ودائماً ما أركّز علي الجمال والمتعة والتناسق والأثر الذي يمكن أن يتركه بحيث يجعلني أتسامى باللغز والرمز.
والفنّ هو الجسر الذي يربطني بالعالم ويحقق ذاتي في الآن، وللشعر مكانة خاصة في نفسي، إذ شكّل أحد الروافد الروحية التي ساهمت في تكويني الثقافي والأدبي والفكري، مثلما لعب القرآن دوراً آخراً في تكويني اللغوي والمخيّلي، بما احتواه من حكايات وقصص وأساطير، مثّلت دروساً وعبراً، ناهيك عن القيم التي تلقيتها وتشربت بها من خلاله، والتي عاشقتها لاحقاً بأفكار الماركسية واليسار والمفهوم المادي الجدلي للحياة والكون.
قد يكون البحث عن الجمال تعويضاً عما تعانيه شعوبنا من صدمات لواقع بائس وأوضاع بشعة، وحتى عندما أحدّق بالراهن، فأنا أحاول تجاوزه نحو المستقبل من خلال المضمون الجمالي الإنساني، فضلاً عن الشكل الفني والقدرة الذاتية على الخلق والإبداع والإنشاء والتشكّل والتعبير.
أهمس أحياناً للوردة كي تتفتح، وأسمع حركتها الداخلية وهي ترسل إشارات تعلن إظهار مفاتنها، وكأنها تتوثب، مثل نهد يشق طريقه إلى الشمس والحرية.
س 34 ـ هل أنت متديّن؟
الدّين ظاهرة اجتماعية تاريخية وعلى الباحث فهمها والتعاطي معها، لا معارضتها، لأن مهمّته تقتضي تحليل الظواهر. وللدّين قيمة علمية نظريّة وعمليّة، لأنه يشكّل أساس علاقة الفرد بالذات، خصوصاً إحساس الإنسان وعاطفته وسلوكه واعتناقه عقيدة معيّنة، ومن جهة أخرى، فإن الأشكال الاجتماعية التي يمثّلها الوعي كأنساق وتمثّلات هي في جوهرها مجموعة من الأفكار والنظريات والآراء.
وقد تكون هذه التمثّلات منسجمة مع الواقع أو متعارضة معه، حسب ماركس، بل وحتى وهميّة أو خياليّة، إلاّ أن هذا الخيال لا يمكن اعتباره مُفرغاً تماماً من الواقع، بل إنه يتجسّد ويتموضع في نتاج نشاط الناس. علينا فهم العلاقة بين الفكر الدّيني والخطاب الذي ينجم عنه من جهة، وبين الممارسة الاجتماعية "البراكسيس" من جهة أخرى.
س 35 ـ هل لا تزال أطروحة ماركس حول "الدّين أفيون الشعوب" صالحة وهل تؤمن بها؟
هناك التباسات وتأويلات بخصوص مقولة ماركس "الدّين أفيون الشعوب"، التي اقتبسها من الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، وقد وردت في كتابه "الدّين في حدود الفعل البسيط"، وقد قصد منها ماركس العلاقة الملموسة بين الدولة البروسية والكنيسة البروتستانتية في ألمانيا (القرنان السابع عشر والثامن عشر). وقد ظلّ لهذه الجملة رنين خاص بفعل استخداماتها من جانب أعداء الماركسية من جهة، ومن جهة ثانية من بعض أتباعها الذين فسّروها على نحو خاطىء، بل وضار، باعتبارها عداءً للدين. ويمكن للدّين أن يكون أفيوناً مثلما يمكن للفن والأدب والسياسة أن تكون أفيوناً، وهذا ما عبّر عنه كاسترو في حواره الطريف والعميق مع فراي بيتو رجل الدّين المسيحي لمجلة أتفيو.
لم يكن ماركس ضد الدين كدين، وقد تحدث عنه كما تحدث مثله انجلز ولينين، باعتباره عنصراً إيجابياً يمكن أن يسهم في دعم نضال الكادحين، ولا يهم إن كان الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن. وسواء كان غير مؤمن أو مؤمن فإن النضال ضد الاستغلال ومن أجل تحرير الإنسان وسعادته يبقى هو الأساس.
لقد بحث ماركس في وظيفة الدّين وأسباب البشر وحاجته إليه باعتباره "الزهرة الوهمية على قيد العبد" أو "زفرة المقهور"، وقد استفاد ماركس من فيورباخ ونظرته إزاء الدّين، ولم يكن له موقف عدائي مسبق منه. وأعتقد أن أي مواقف مسبقة من الدّين ستكون نقيضاً للمادية الجدلية، التي هي أداة لتحليل الظواهر لا نفيها، والدين ظاهرة اجتماعية، فكيف يمكن لماركس أن ينفيها؟
علينا إخضاع الدّين والمسألة الدينية للمنهج الجدلي، لا سيّما فهم التناقضات في الظاهرة الدينية نفسها، ولا يمكن لأي جماعة ثور

476
المنبر الحر / حقوق المدن
« في: 19:43 03/06/2016  »
حقوق المدن

عبد الحسين شعبان


كلّما زرت مدينة، بحثت عن ما يميّزها عن المدن الأخرى، فالمدن كما يُقال مثل النّساء، لكل مدينة عطرها ورائحتها ومذاقها، والمدينة ليست بيوتاً أو أبنية أو أشكال هندسية، بقدر ما هي بشر من لحم ودم وثقافة وفنون وعلاقات وتاريخ وعادات وبيوت عبادة، وطريقة عيش وملبس ومأكل، وهو ما يكوّن العقلية الجمعية وما يسمّى بالإنكليزية: Mentality.
والمكان بالطبع يؤرّخ للذاكرة، ويدلّ على الزمان، ففي حين تزدهر المدن بالسلام والعدل، تنكفىء وتتراجع بالحروب والطغيان. وحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قبل أكثر من سبعة قرون، ربط الظلم بالخراب، ومقابل ذلك ربط العدل والمساواة بالعمران والعكس صحيح، فالعدل هو أساس العمران، وبدونه لا يكون هناك أمن ولا استقرار، وحتى وإن كان لحين، فإنه سرعان ما يتدهور، بسبب غيابه.
حين بدأ داعش بعد احتلال الموصل بتدمير النمرود العظيم وإعدام الثور المجنّح وتجريف مدينة الحضر، أحسست بنوع من الغصّة، ألا يكفي إذلال البشر؟ ثم ما شأن التاريخ لكي يتمّ الانتقام منه؟ لكنّني أعدت قراءة المشهد راهنياً، فللبشر ذاكرة وحضارة وأماكن وعمران وتاريخ، وهو ما يُراد محوه أيضاً، أي استهداف البشر والشجر والحجر، وكل ما يدلّ على الحاضر من الماضي، وتلك وسيلة يستهدفها الإرهاب لغسل الأدمغة وتغيير خرائط التاريخ والحاضر، وهو ما استخدمته أيضاً بخصوص تدمير بعض معالم تدمر السورية وتحطيم بعض التماثيل تحت عناوين ماضويّة متخلّفة. ولعلّ المثال الأصرخ، هو ما تقوم به "إسرائيل" حين تسعى لتزييف التاريخ، وتشويه وقائعه وإنساب بعضها إلى غير أهلها، سواء بخصوص القدس الشريف أو عموم فلسطين.
المدن هي مستودع كبير للذاكرة، وهي أقرب إلى البارومتر الذي يُقاس من خلاله درجة ثقافة الشعوب والأمم، تحضّرها أو وحشيّتها، تقدّمها أو تخلّفها، قوتها أو ضعفها، غناها أو فقرها، وصعودها أو نزولها. ومثل هذا الخزّان التاريخي لا يخصّ الماضي فحسب، بقدر ما يتعلّق بالحاضر والمستقبل. والأمم الحيّة تدرك أهمية ذلك وتسعى إلى إحاطته بالرعاية ليكون أساساً للأجيال الحاضرة ولاستشراف المستقبل أيضاً.
في كلّ زيارة لمدينة إربيل الكردية أشعر أنّ هذه المدينة التاريخيّة الصغيرة، والتي هي من أقدم المدن المسكونة في العالم، وكنت قد عرفتها منذ الستينات، أصبحت مدينة مزدهرة وحديثة وفيها أسواق كبيرة، إضافة إلى الأسواق القديمة والقلعة التاريخية، وفيها الحدائق والفنادق والمطاعم والمعالم الثقافية، فلم يعد بالإمكان اجتياحها كما كان يتمّ في السّابق لملاحقة "متمرّدين" أو "ثوار" أو "عصاة" خارجين على القانون، وهو ما عبّرت عنه في محاضرة لي "عن جيبوليتيك المسألة الكردية من منظور مستقبلي"، بدعوة من جمعية الصداقة العربية - الكردية.
أصبحت إربيل مدينة التقاء مصالح وتقاطع سياسات داخلية وخارجية، إقليمية ودولية، وهناك شركات ومكاتب لمنظمات دولية وقنصليات أجنبية وامتدادات إقليمية ما لا يمكن شطبه بجرّة قلم، حتى إن داعش حين اقتربت منها أدركت خطورة الأمر، فتحرّك الجميع: الإقليميون والدوليون لحمايتها، لأنها تمثّل رمزياً مركز لقاء وتبادل مصالح.
المدن تمثّل السياسات الحضرية في الاقتصاد والتجارة والعمارة والثقافة، وهي مثل أية ظاهرة اجتماعية تنمو وتتطوّر ويكون لها هويّة، وهذه ستكون مفتوحة بالطبع، وليس كما كانت المدن في السابق، خصوصاً في ظل العولمة، فمدينة مثل دبي أصبحت عالمية بعد أن كانت أقرب إلى قرية في السبعينات. ويكفي أن تدخل مطارها وتقرأ اللوحات لمغادرة وقدوم الطائرات لتدرك أنك أمام مدن تتّسع للجديد وللتغيير وللتطوّر، خصوصاً مشاهد العمران والجمال وما خطّط له وما أنجزه الإنسان، أوَليس من دلالة لتأسيس وزارة باسم السعادة وأخرى باسم التسامح؟
في براغ تدرك عظمة الإنسان، فهذه المدينة التي بناها الملك الروماني تشارلز الرابع في القرن الرابع عشر الميلادي ، بنى معها صروحاً تاريخية مثل جسر تشارلز (الحجري) وكاتدرائية القديس فيتوس وجامعة تشارلز أقدم جامعة في أوروبا الوسطى. لا تزال بعض شوارع براغ وأزقّتها تهديك إلى عبق التاريخ، بحيث تشعر معها وكأنّك تعيش في ذلك الزمان، حيث الأبراج الذهبية التي تستعيد الماضي بازدهار الحاضر.
لم تعد المدن كما كانت في السابق مطوقة بالأسوار، وإن وجدت، فإنها للذكرى، حيث البوابات الكبيرة، لأنها أصبحت مفتوحة بحكم التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية والتفاعلات الثقافية، وهكذا أصبح أكثر من نصف سكان العالم يعيش في مدن وبلدات يرتفع فيها مستوى التوسّع الحضري عاماً بعد آخر.
وخلال ربع القرن الماضي زاد سكان الحضر ملياري نسمة، وقد يصبح خلال العام 2050 ما يعادل ثلثي سكان العالم يعيشون في المدن، الأمر الذي سيعني إغناء مستوى التفكير والتواصل والبحث عن سبل أحسن للعيش المشترك والشراكة في السلام والتنمية وقبول الآخر والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية والهويّأت الفرعية على أساس المساواة.
وبقدر الانبهار ببعض المدن مثل ريودوجانيرو وفيينا وبراغ وباريس وفينيسيا، والإعجاب بمدن أخرى مثل بودابست وكولون وجنيف وأمستردام ودبي وفاس وبيروت على الرغم من نكباتها، فإنّ الحزن سيكون شديداً على بغداد، المدينة التي كانت واعدة في الخمسينات والستينات ومفتوحة ومزدهرة وعامرة بالحدائق والجسور والعمران والمعارض والسينمات والمسارح، حيث التاريخ العربي القديم ممزوجاً بالحضارة العربية – الإسلامية لمدينة الرشيد، فإذا بالحروب العبثية والحصار وبعده الاحتلال، يسلب بغداد روحها، حتى لتغدو مدينة هرِمة كئيبة وحزينة ومكفهّرة، ناهيك عن تدهور الأمن وانفلاته. كيف أصبحت مدينة الحكمة والجامعة المستنصرية وجامع الإمام الأعظم (أبو حنيفة النّعمان) وحضرة الإمام موسى الكاظم، وعيون المها بين الرصافة والجسر، والرفاه والبهجة والأبهة، أسوء مدينة في سبل (العيش)، وليس عبثاً أن يتم تصنيفها كآخر مدينة في سلّم المدن.
حقوق المدن من حقوق الإنسان، وهي حقوق جماعية، لها علاقة بالتنمية والبيئة والسلام والاستفادة من الثورة العلمية - التقنية، وهي كلّها تندرج ضمن الجيل الثالث لحقوق الإنسان، وذلك بما له علاقة بحقوق الإنسان في المدينة، أي بتوفّر الأمن وسبل العيش الكريم من خدمات تعليمية وصحية وبلدية وإدارية وعمل وضمان، وغير ذلك. وأخيراً هل نستطيع إقامة مدينة حقوق الإنسان، أي المدينة التي تتوفّر فيها سيادة القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والحريّات العامّة والخاصّة واختيار المحكومين للحكام بصورة دورية وتغييرهم، أي مدينة هدفها الإنسان، مثلما هو وسيلتها للوصول إلى غاياتها النبيلة؟ ويبقى الإنسان غاية ووسيلة، هو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، ولأجله تُبنى المدن وتكون حقوقها من حقوقه.


477
VII
يتناول بشغف مشروعه لإصدار صحيفة الاتحاد، الحلم الذي كان يراوده كما يقول، وهي جريدة تعبّر عن القطاع الخاص، ويوم صدرت الموافقة كان معه شهاب التميمي. وقد كتب عكاب سالم الطاهر حكايته مع جريدة الاتحاد في صحيفة الزمان مؤخراً تحت عنوان " بعيداً عن الصناعة... بعيداً عن التجارة"، وكتب في جريدة الاتحاد وتعاطى معها أسماء لامعة مثل الشيخ جلال الحنفي وعلي الوردي وحسين علي محفوظ وحسين قاسم العزيز وأنور الناصري وحارث طه الراوي وخالص عزمي وسليم طه التكريتي وسلوى ساطع الحصري وآخرين.
وكانت هيئة التحرير تتألف من عبد القادر البراك وصادق الأزدي وخالد محسن اسماعيل ورفعت عبد الرزاق وسعيد الربيعي وحسين الكرخي وعبد الحميد المحاري.
ويذكر كيف استضافت الجريدة د. علي الوردي في محاضرة بدأها بإعلان تفوق جريدة الاتحاد، وفشل صحفنا ومجلاتنا، مشيراً إلى أن بعض المقالات كانت بمثابة "إعلانات" موضحاً الفرق الكبير بين الإعلام والإعلان، ومثل هذا القول في تلك الظروف شجاعة تكاد تكون خارقة.
ويسلّط ليث الحمداني ضوءًا  على كيفية التعاطي مع عدد من المبدعين على الرغم من الظروف القاسية واستجابتهم على الرغم من الممانعة والتردّد، لكنهم إذا شعروا أن من يقابلهم ويدعوهم للكتابة لا يفرض عليهم شيئاً، بل هو سيكون سعيداً بالهامش الذي يمكن أن يعبّروا فيه عن أفكارهم، على الرغم من الأجواء الخانقة، وتلك مهمة لم تكن سهلة، لكن ليث الحمداني الصحفي المهني والمحترف، وتهمّه الكلمة النظيفة، جعلها من أولوياته رغم الأجواء السائدة، ومن هؤلاء علي الوردي وعبد الحميد العلوه جي ومسعود محمد وأحمد فوزي وسليم طه التكريتي، وتم نشر أوراق مصطفى علي، أول وزير عدل بعد ثورة 14 تموز جواد وخليل كنه (وزير في العهد الملكي) وكذلك أوراق حسين جميل.
وبسبب من هذا النشاط الإعلامي تم استدعاء الحمداني إلى مديرية الأمن العامة عدّة مرّات، وواحدة منها كانت بسبب مقالة للسياسي عبد الغني الدلّي (الوزير والسفير في العهد الملكي) وأخرى بسبب معاذ عبد الرحيم الذي تم نشر مذكراته، ثم يقول إنه في مساء اليوم نفسه وبعد التحقيق معه إنه تلقى مكالمة من نوري نجم المرسومي وكيل وزارة الإعلام، بإيقاف نشر مذكرات معاذ عبد الرحيم بأمر من الوزير لطيف نصيّف جاسم.
عانى ليث الحمداني من تنازع اتجاهات شتّى، فالسلطة أو بعض من محسوب عليها تعتبر فتح صفحات الاتحاد لبعض عناصر حزب الدعوة العميل (المقصود عبد الغني الدلّي ويا للمفارقة؟)، أو بعض العناصر البعثية القديمة التي تريد تشويه تاريخ الحزب (المقصود معاذ عبد الرحيم) علماً بأنه شخصية قومية وكان من الرعيل الأول المؤسس لحزب البعث ومبرر ذلك ورود أسماء اثنين من البعثيين القدامى وهما أعضاء في حزب الدعوة لاحقاً.
وبعض أصدقائه اعتبروه يروّج لقوى رجعية عندما ينشر مذكرات خليل كنّه (شهاب التميمي وضياء حسن) ومن جهة أخرى فإن هناك من حاول أن يذكّره بماضيه الشيوعي، وهو الأمر الذي كان يتعرّض بسببه إلى ضغوط منظورة وغير منظورة، مباشرة أو غير مباشرة، وخصوصاً عندما عمل مع طارق حمد العبدالله وزير الصناعة والذي كانت علاقته به وطيدة، وكان عليه أن يتذكّر يومياً وكي لا يغلط بما يفسّر هواه الذي قد يوقعه في ورطة حقيقية.
الكتاب حافل بحكايات وسجالات ونقاشات ضمّها أسلوب أدبي رفيع، وهي لمن يريد دراستها يستطيع أن يعرف حقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في البلد، خلال الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها، وكذلك سنوات الحصار اللاحقة.
كان ليث الحمداني يأمل أن يحوّل جريدة الاتحاد بعد أن كبرت وقوي عودها إلى دار نشر، وكانت هذه الطموحات تلقى دعماً من طارق محمد العبدالله ومن عبد القادر عبد اللطيف وطلال طلعت، وفعلاً تم نشر الكتاب الأول لعبد القادر البراك، والكتاب الثاني لمدني صالح، والثالث لعزيز السيد جاسم، والرابع لمحمد أمين الحسيني، وكتاب مترجم، وكان ضمن خطته جمع مقالات علي الوردي وعبد الحميد العلوه جي، ولكن بعد اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وصدور قرارات بتقليص المطبوعات توقفت الاتحاد. وقبل ذلك، تم دمج القطاع الصناعي بالتصنيع العسكري، وتم اختيار الحمداني مديراً للإعلام من بين مدراء إعلام الوزارات المندمجة، وذلك بإعجاب من حسين كامل، وصدر حينها لجريدة الاتحاد أكثر من ملحق (الدنيا) و (الفلقة)، وعدد خاص يومي خلال المعرض الأول للتصنيع العسكري.
ويروي عن التناقض بين الوظيفة المهنية والسبق الصحفي والصراع السياسي والإداري، حتى إن حسين كامل أبلغه أنه أنقذه من بئر كان يحفرها له لطيف نصيّف جاسم،  بسبب نشر خبر عن " قتل الزانيات" وإلغاء العقوبات بحق من يقوم بذلك، وهو الخبر الذي أثار ضجة وصلت إلى الرئيس حينها، علماً بأن الخبر تم نقله عن صحيفة الوقائع العراقية. وبعدها تم إلغاء قرار مجلس قيادة الثورة وهو ما اعترف به صدام حسين حين قال إننا نتراجع عن أخطائنا. ولكن حلم ليث الحمداني كما يقول تحوّل إلى كابوس بسبب اجتياح صدام حسين للكويت... وما كل ما يتمنّى المرء يدركه.
يعود ليث الحمداني إلى مهنته ليصدر خمسة أعداد من مجلة الحضارة، ويتحدّث عن تجربته مع حسين كامل وتجربة العمل مع العسكر، وهي تجربة لا أريد أن اختزلها، لأن تلخيصها قد يشوّهها لما فيها من أبعاد إنسانية ونفسية واجتماعية وأخلاقية ومهنية غنيّة، تحتاج إلى قراءة متأنية، لاسيّما عن علاقة العسكري بالثقافي، والطاغية بمحيطه والجلاد بضحاياه، ناهيك عن دور الجيش في العالم الثالث، وتغوّل السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، إضافة إلى محاولة إخضاعه السلطة الرابعة، وأعني بها "الإعلام"، وتوظيفها لمصلحته، تحت عناوين آيديولوجية أو سياسية.
وإليكم تلخيص ليث الحمداني عن الوزراء الذين عمل معهم بسؤال من الوزير حسين كامل:مع كم وزير عملت في الصناعة يا ليث؟ (ولا بدّ هنا ملاحظة أجوبة الحمداني ذات الطبيعة الزئبقية، ولكنها لم تكن بعيدة عمّا يعتقد به، فقد حاول انتقاء الكلمات بدقة وحذر).
الجواب: من قريب مع خمسة وزراء ومن بعيد مع تسعة
ومن هو الأفضل؟
لكل واحد منهم خصوصية يا سيادة الوزير
ضحك وسألني: مثلاً؟
قلت له: الاستاذ طه الجزراوي كان يتعلم بسرعة ويعتمد على المختصين من حوله!!
فليح حسن الجاسم متواضع ويسعى وراء الأكاديميين، ويحاول أن يعرف الكثير مما فاته!!
ناجح محمد خليل، همّه إرضاء الحزبيين في الوزارة رغم أنه أكاديمي، ولكنه يعتمد على المنتمين أكثر من اعتماده على الأكفاء....
محمد عايش اعتمد على حزبيين أداروا له الوزارة، وكانوا الأكثر إيذاء للموظفين في زمنه.
طاهر توفيق (العاني) كان هو يقول عن نفسه إنه ليس مهندساً سوى بالاسم... ولكنه طيب القلب جداً.
طارق حمد العبد الله، كان أبرز الوزراء المتابعين ميدانياً، وكسب كلّ من حوله ببساطته وكياسته..
قاسم العريبي الأكفأ علمياً بين الجميع!!
حاتم عبد الرشيد يفهم عمله جيداً ولكنه مزاجي!!
يقول الحمداني بعد أن انتهى من تقييماته أمام حسين كامل، عاد هذا الأخير بكرسيّه إلى الخلف وقال لي: تقييماتك غير صحيحة مع أغلبهم، وخاصة قاسم العريبي. لا أعتقد أنه كان وزيرا ناجحاً !! وفهمت من اللقاء أن الرجل يبني مواقفه من خلال الآخرين، وليس من خلال الاحتكاك الشخصي والمعلومات الدقيقة...
ويذكر الحمداني أن الفريق عامر السعدي يتمتع بخلق عال ومتواضع ويترك أثراً طيباً في نفس من يعرفه ويشيد أيضاً بالوكيل الثاني (عامر العبيدي) الذي لا يقلّ أدباً وتواضعاً عن الأول، ويقول إن حسين كامل كان يكّن لهما احتراماً كبيراً، وكان ينصت لهما ويسمع التفاصيل منهما باهتمام.
ويقول ليث الحمداني أن لقاءاته ازدادت مع الوزير حسين كامل، فقد كان يحضر اجتماعاته  وتوثّقت علاقته به، ويشير إلى أمر طريف وهو إن كثيرين في وزارة التصنيع العسكري لا ينتمون إلى حزب البعث، ويذكر معلومة قد تكون صادمة للبعض وهي إن حسين كامل ( وخلال تعامله معه لمدة سنتين) ليس له أي توجّه طائفي أو عرقي أو انحياز حزبي. والأكثر من ذلك إنه لمس من حسين كامل كراهية واضحة لبعض التكارتة ومنهم خيرالله طلفاح.
ويتحدّث عن معاناته الشخصية، فيقول إنه كان يُستدعى في أية ساعة للعمل ويعاني من ضغوط، لاسيّما الدوام العسكري، وقد حاول الحصول على تقاعده، ولكن الفريق حسين كامل غضب وخاطبه بعد أن حاول التوسّط " لن تخرج من هذه الدائرة إلاّ حين نقرر نحن". ويروي طريفة عن حسين كامل الذي طلب منه تأمين كتب دستوفسكي له، وفعل ذلك، ويقول وبعد فترة انتهزتُ فرصة وجوده لوحده، فسألته عن مجموعة الكاتب الروسي، دستوفسكي، فأجاب وهو مستغرق بالضحك بعد أن فوجئ بالسؤال قبل ذلك: عن أية مجموعة تسأل؟ هل تعتقد بأن لديّ وقتاً لقراءة روايات؟ هذه الكتب لزوجتي أم علي (المقصود رغد ابنة صدام حسين).
يتحدّث عن شخصية حسين كامل القلقة، فهو حاد المزاج ويعاقب أقرب الناس إليه، كما ينقل تصرفاته الاستفزازية السمجة مع جهات دولية، مثلما هو لقاؤه مع مسؤول كبير في وزارة الخارجية اليابانية إبان احتجاز العراق لعدد من الأجانب، وكذلك اللقاء مع بريماكوف خلال زياراته المكوكية، وكان الحمداني قد حضر جزءًا من لقائه مع حسين كامل، وبعد تحذيرات من بريماكوف سمعها حسين كامل، خصوصاً بأن أمريكا تريد تدمير العراق، قال بانفعال " لتدخل أمريكا الحرب وسترى ..." ولم يكتفِ بذلك بل قال له " ... كل ما أطلبه منكم أن لا تطلبوا وقف إطلاق النار إذا بدأت الحرب" ولنتصوّر العقل الستراتيجي هذا الذي يخاطب به مسؤول في ثاني أكبر وأهم دولة في العالم آنذاك وهي الاتحاد السوفييتي.
لقد تلمستُ شخصياً مدى خفّة ورعونة وعدم اتزان حسين كامل واضطراب شخصيته، وكان قد اتصل بي بعد خروجه من العراق إلى الاردن وبعد مؤتمره الصحفي المعروف في 8/8/1995، مثلما اتصل بنحو 20 شخصية عراقية قال إنها مرموقة، مثلما هو صلاح عمر العلي وحامد الجبوري وهشام الشاوي وعامر عبدالله وآخرين، وتلك حكاية أخرى يأتي الوقت المناسب لروايتها. ولكن كل من يعرفه أو التقاه أو اتصل به يكاد يجمع على أنه شخص غير مستقر، وليس لديه الحد الأدنى من الثقافة السياسية، ناهيك عن السلوك الاجتماعي المرن، وكنت قد كتبت مقالة في جريدة الحياة بعد مقتله، أشرت بها إلى بعض الوقائع، وكانت بعنوان" ليس للجنرال من يهاتفه"، مع الاعتذار للروائي الأمريكي اللاتيني (الكولومبي) العالمي ماركيز.
تستمر معاناة الحمداني سواءً عشية الحرب أو خلالها، لكان معاناته الأشد كانت في ظروف العمل القاسية والقلق المصاحب له، وما إن اعتكف حسين كامل في مزرعته بعد إنجاز كإعادة بناء الجسر المعلّق، وقام الرئيس صدام حسين بتكريم حمود ذياب، وجد الحمداني ضالّته ليقول وداعاً للوظيفة، حيث قدّم في اليوم الثاني طلباً للتقاعد، وبعدها قابل الوزير الجديد عامر السعدي الذي اقتنع بمبرراته كما يقول.
وعلى الرغم من نقده الشديد لحسين كامل وتصرفاته وسلوكه ، لكن يقول بصراحة " لم ألمس أي توجّهات طائفية عند حسين كامل، وكان أقرب العاملين له هم من أسر شيعية"، ثم يتناول حقيقة أشيعت عبر دعاية صاخبة خلال الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) العام 1991 بعد هزيمة القوات العراقية للكويت، وهي قوله مخاطباً الإمام الحسين (ع) خلال قمع الانتفاضة " أنا حسين وأنت حسين، نشوف منو ينتصر"، ويعتبر ذلك ترويجاً ضدّه قام به خصومه، وفي مقدمتهم جماعة عُدي صدام حسين، الذي كان يكنّ له كُرهاً أعمى. وبالمناسبة فهناك بعض الأوهام التي ترسخت لدى المعارضة والسلطة على حد سواء، قد لا يكون لها علاقة بالواقع، بسبب الأفكار المسبقة التي يحاول كل فريق إسقاطها على الآخر أو على الواقع بصورة مسبقة، ومثل هذه التصوّرات والأوهام تستمر حتى يومنا هذا بين الموالاة والمعارضة، بسبب غياب الحوار وعدم الاعتراف بالآخر.
وفي قسم الملاحق ينشر الحمداني، ملحقين ، الأول تحت عنوان " حين لا ترى بعض العيون سوى السواد عن الصناعة في العراق" والثاني تمت الإشارة إليه وهو ما كتبه عكاب سالم الطاهر، ويدوّن الحمداني معلومات في غاية الأهمية عن سنوات السبعينات والثمانينات، حيث شهدت البلاد نهضة صناعية لا ينكرها سوى جاهل أو مؤدلج كما يقول، وهو ما دعاني وأنا أقرأ حجم المشاريع والمؤسسات الصناعية، إلاّ أن أعلن عن عدم معرفتي وشحّ معلوماتي في هذا الميدان المهم والحيوي، الذي كان علينا إيلاءه جزءًا من توجهنا ، وذلك ما استدعاني لمراجعة مواقفنا السابقة ومواقفنا الحالية. وأدعو القارئ ليس إلى قراءة كتاب الحمداني الذي هو سجل حافل بانطولوجيا الصحافة والصحافيين وهموم المهنة وتاريخ البلد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فحسب، بل تاريخ الصناعة العراقية، وخصوصاً فترة ازدهارها منذ أواخر الستينات وحتى الثمانينات، حيث شهدت تراجعاً لاحقاً بسبب الحروب العبثية التي دخلها العراق، وفيما بعد أثر الحصار الاقتصادي وقرارات العقوبات عليه وصولاً إلى الاحتلال العام 2003، حين تم تدمير ما تبقى منها، سواء تفكيك المعامل وتهريبها عبر الحدود، أو بيعها قبل ذلك للقطاع الخاص في ظروف، تتّسم بعدم الاستقرار واضطراب التوجّهات الاقتصادية .
وإذا لم يكن القارئ لديه الوقت أو الاهتمام الكافي لمعرفة انطولوجيا الصحافة، فيمكنه الاطلاع على هذا الجزء الملحق، من الكتاب، وقد أفلح الكاتب في عرضه بإبداع واتساق ورؤية نقدية جديرة بالاهتمام، وهو يصلح لأي دارس أو باحث أن يعتمده كأحد المراجع المهمة والمصادر الموثوقة بخصوص الصحافة والصناعة في آن، وبكل فروعهما، وأعتقد إن مثل هذا الجمع أو المزاوجة، كان بمثابة هارموني دقيق وحساس وصعب، لكن مُكنة ليث الحمداني وسعة أفقه ونظراته الشاملة، جعلته يلمّ بمثل هذه التفاصيل، ويتوقّف عند المنجز وعند العراقيل، العامة أو الخاصة.
كتاب ليث الحمداني، شهادة شفيفة على مرحلة كاملة بما فيها من تناقضات وصراعات وتنازعات مشروعة وغير مشروعة، ناهيك عن كونه عرض بانورامي لعدد من مفاصل الدولة المهمة وقطاعاتها المختلفة وعدد غير قليل من إدارتها ومسؤوليها وطريقة تفكيرهم وأساليب عملهم، لاسيّما خلال فترة عصيبة، سواء باتجاه الحكم تدريجياً نحو الانفراد بالسلطة وإقصاء خصومه أو منافسيه من القوى الأخرى أو من داخله، فضلاً عن الحرب العراقية- الإيرانية وما تركته من جراحات، زادها عمقاً وألماً مغامرة غزو الكويت وحرب قوات التحالف ضد العراق، حيث بدأ مسلسل الحصار الاقتصادي.
كتب ليث الحمداني شهادته مقلّباً بعض أوراقه ومستعيناً بتحفيز ذاكرته، وكان أميناً حين جمع ذلك في عنوان كتابه " أوراق عراقية من ذاكرة ليث الحمداني "، والذاكرة يمكن أن تكون انفعالية بحيث تأتي إرادوية، إمّا لتصفية حسابات أو تبرير مواقف أو صرف النظر عن أخرى أو تحميل المسؤولية إلى جهة وإعفاء أخرى أو تبرئة النفس عن أخطاء وممارسات، وأعتقد أن ذلك كان بعيداً عن هدف الحمداني من نشر أوراقه والتنقيب في ذاكرته.
أو أن تكون الذاكرة حسّية، وهي تعني القدرة على تذكّر واستذكار الأحوال والأهوال، التي عصفت بالحياة الشخصية والعامة، بحيث يتم توظيف المادة الخام أو إعادة عجنها حسب قراءة الشاهد أو المؤرخ أو المشارك وفقاً لتوجهاته ودرجة وعيه وموضوعيته، وهو ما حاول ليث الحمداني تقديمه من السطر الأول إلى السطر الأخير.
وهناك الذاكرة المنظّمة التي تعتمد على المادة الأولية، وتسعى لاستخلاص المعاني التي تتألف منها الوقائع وصولاً للدلالة، خصوصاً بفعل التحقق، وذلك بإضفاء تفسيرات وتأويلات على النص أو الحدث أو الواقع المعيش، حتى وإن كنّا نتحدث عن تاريخ مضى.
وقد تكون الذاكرة محفّزة، لاستعادة ما مرّ بعرض الوقائع وإعادة قراءتها بحيث يمكن تقديم رؤية جديدة لها قد تكون مختلفة عن القراءات الأولى، خصوصاً عندما يكتسب الإنسان معارف جديدة ودروس وعبر وفرتها تجاربه المختلفة، بحيث تكتنز ذاكرته ، إذ لا قيمة لإنسان بلا ذاكرة، فلا حاضر ولا مستقبل له، لأنه سيعيد أخطاءه ويكرّر سلبياته.
كتاب ليث الحمداني أقرب إلى رواية عن الحياة العراقية لنحو أربعة عقود من الزمان، بما لها وما عليها، وبكل مذاقاتها حلوّها ومرّها، وقد كتبها بيراع ماهرة وبأسلوب باهر، أقرب إلى السهل الممتنع، وقد سجّل ما عرفه وما خبره وما رآه واطلع عليه وسمعه في تلك الفترة، بأمانة تكاد تكون نادرة ، وبتجرد عال، ونقد ذاتي مقتدر، ودون أية تبجّحات أو إدعاءات أو بطولات زائفة، فقد كان واقعياً إلى أقصى حد، وواضحاً إلى أبعد ما يكون، ومنصفاً وكريماً بحيث لم يبخل بذكر إيجابيات، يلهج الجميع بتناول سلبياتهم ومساوئهم، لكنه تعامل بضمير يقظ ونفس توّاقة للحقيقة، وشجاعة فائقة، وهو ما أكسب الكتاب صدقية كبيرة ويمكن اعتباره وثيقة للصحافة العراقية للفترة من أواسط الستينات ولغاية أواسط التسعينات، حين اضطر للرحيل إلى المنفى. ولعلّ ذلك ذكّرني بما قرأته قبل فترة قصيرة عن الصحافة العراقية وهو كتاب لزيد الحلي الصحفي المخضرم أيضاً بعنوان " خمسون عاماً في الصحافة".
لا أريد أن أنغّص على القارئ متعة الاكتشاف والفضول والبحث عن الحقيقة، من وراء هذه السطور ومن داخلها وخارجها وما حولها وما له علاقة بها، ولكنني وجدت نفسي أتوقّف عند بعض الأحداث والمحطّات لكي أضيء عليها، لاستدرج القارئ لمشاركتي متعة قراءتها، بل والأكثر متعة البحث عن الحقيقة حتى وإن كانت صادمة، لكنها صادقة، كما قدّمها ليث الحمداني في طبقه الشهي، بحيث كلما قرأت إزدادت شهيتي.
إن قلماً نظيفاً مثل قلم ليث الحمداني يستحق التكريم، ولعلّ ذلك واجباً على نقابة الصحفيين العراقيين والمعنيين بالحرف والحق بشكل عام، وآن الأوان لتكريم مبدعينا في حياتهم، وهذا أقل ما يمكن أن نقدّمه لهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** نشرت هذه المقدمة في جريدة الزمان العراقية 29 و30 و31 أيار (مايو)  و1 حزيران (يونيو) 2016، وهي مستلّة من كتاب أوراق من ذاكرة عراقية، هوامش من سيرة صحفية، للكاتب والإعلامي ليث الحمداني، في كتابه الصادر عن مطابع دار الأديب، عمان – الأردن، ط 1، 2016
* باحث ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) ، بيروت. له أكثر من 60 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

478
انطولوجيا الصحافة ومرآة الحياة ونبضها
أوراق من ذاكرة ليث الحمداني العراقية*
د.عبد الحسين شعبان**
I
بأدبه المعهود وقلمه الرشيق طلب منّي الصحافي البارز ليث الحمداني تقديم كتابه "أوراق من ذاكرة عراقية"، وقبل أن تصلني المخطوطة، جاء صوته المعروف بنبرته العراقية الشجية، ليواصل السؤال عنّي بعد وعكتي الصحية، وليبلغني بأن كتابه سيكون جاهزاً للطبع ، وهو يرغب في أن أكتب له مقدمة، وهو ما أدخل السرور إلى قلبي، لسببين أساسيين:
الأول، لأن ليث الحمداني من الصحافيين المتمرّسين والذين خبروا المطبخ الصحافي بكل مذاقاته، حيث عمل في ميادين عدّة، وكانت العديد من الصحف والمجلات تخرج طازجة وساخنة من "تنوّره"، ويتلقّفها عشرات الآلاف من الناس، الذين كان بعضهم متلهّفاً لها، خصوصاً في تلك الأيام التي كانت للصحافة نكهتها الخاصة ونفوذها الكبير في صناعة الرأي العام أو التأثير عليه أو المساهمة فيه، فضلاً عن حضورها الفاعل في الوسط الثقافي والفني وفي أجواء الحوار الفكري والاجتماعي ودورها السياسي المؤثر.
كان ليث الحمداني من المواقع المختلفة التي شغلها عاشقاً حقيقياً للحرف ورائحة الورق وماكنات الطباعة من صفّ الحروف إلى الأوفسيت إلى أدوات الطباعة الحديثة وتكنولوجيا الإعلام لاحقاً. والصحافة الورقية التي اعتادت النخبة على اقتنائها لم تكن مصدر الخبر فحسب، بل كان فيها الجديد: من المعلومة إلى القصيدة والمقالة والدراسة والبحث، والنقد وصولاً إلى الكاريكاتير، وهكذا كانت حاضرة بقوّة في جميع مجالات الحياة.
وإذا كان المذياع " الراديو" قد بدأ يتسلّل إلى البيوت دون استئذان، ويستمع الناس إليه في المقاهي والسيارات والمحلاّت العامة، قبل انتشار التلفزيون، إلاّ أن تأثيره وإنْ كان كبيراً لكنه يختلف عن الصحافة ، فهو يعتمد على الصوت وسرعة إيصال المعلومة أو الخبر أو الرأي وقد لا يحتاج إلى التعمّق الضروري، كما لا يمكن إعادة ما تم إذاعته، فإنْ لم تسمع الخبر أو المعلومة أو الحكاية، فإنها ستكون قد فاتتك، وإن سمعتها ولم تتوقّف عندها، فلا تستطيع تدقيقها، في حين أن الصحافة فيها فسحة واسعة من التأمل والقراءة المتأنّية والمراجعة والاستذكار والتدقيق، كلّما استدعت الحاجة والضرورة إلى ذلك، وكذلك يمكن التوثيق من خلالها بالاحتفاظ بها  والعودة إليها أو إلى قرارات أو قوانين أو آراء أو وجهات نظر نشرتها، فضلاً عن أخبار أو حوادث احتوتها، سواءً لتأرختها أو لاستخدامها في البحث أو لقراءة دلالتها في سياقها التاريخي.
ومع إن الراديو ولاحقاً التلفزيون، وفي العقدين الماضيين الموبايل والانترنيت ووسائل الاتصال الحديثة الأخرى، بما فيها الطفرة الرقمية " الديجيتل"، أصبحت تأثيراتها خارقة على مئات الملايين من المتلقّين في ظل العولمة وثورة المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلاّ أن الصحافة الورقية وعلى الرغم من انتشار الصحافة الأليكترونية لم تفقد دورها أو تنتهي وظيفتها مثلما هو الكتاب، حتى وإن ضعف دورهما إلى حدود كبيرة جداً.
في تلك الأيام كان يكفي قصيدة أو مقالة تتناقلها الأيدي أو تنشرها الصحافة لتصبح وسيلة للتحريض والتعبئة، بل منظّماً أحياناً، مثلما كان برنامجاً ساخراً وجاداً في الآن ذاته يقدّمه من إذاعة بغداد الصحافي المعروف شمران الياسري " أبو كاطع" وعنوان برنامجه "إحجيه بصراحة يبو كَاطع" يفعل فعله، لدرجة إنه بعد عقود من الزمان أصبح الناس يرددون عنوان برنامجه "إحجيه بصراحة يبو كَاطع"،حتى وإن لم ينسبونه إليه، أو ربما لا يعرفون مصدره، وذلك لأنه استقرّ في الذاكرة الجماعية الشعبية، خصوصاً وكان خفيف الظل يمزج الأقصوصة والحكاية  بهموم الناس ويملّحها بشيء من السخرية، وإذا كان برنامج أبو كاطع في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، فإن عموده الصحفي " بصراحة أبو كَاطع" في صحيفة "طريق الشعب" الناطقة باسم الحزب الشيوعي في السبعينات، كان بمثابة بارومتر للأوضاع السياسية في العراق. وكان الناس يقرأون صحيفة طريق الشعب بالمقلوب، أي من الصفحة الأخيرة التي تنشر عموده.
ولهذا فالصحافة، وسواء كانت الورقية في الماضي أو الأليكترونية اليوم، تختلف عن  الراديو أو التلفزيون، حتى بعد العولمة وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات وتحوّل العالم إلى قرية كونية، ويبقى لها جمهورها ولا أعتقد إنها ستفقد دورها كلياً حتى وإن خَفَتَ لمعانها وضَعُفَ بريقها وانخفض رصيدها إلى حدود كبيرة، لكن تأثيرها كان كبيراً في الماضي حتى وإن كانت دائرة المتلقّين محدودة، والثقافة العامة شحيحة، باستثناء النخبة، التي ستكون مشغولة بالحرف والصورة والإخراج، وبالمعنى والمبنى كما يُقال.
وبحسب ألبير كامو، فالصحافي هو "مؤرخ اللحظة"، وما يكتبه يمكن أن يكون مادة أولية للمؤرخ والباحث السسيولوجي والسيكولوجي والقانوني والحقوقي والتربوي والثقافي والعلمي والتقني والرياضي والسياحي والمعرفي والصناعي والزراعي والتجاري والاقتصادي والمالي والبيئي والصحي، وفي جميع فروع المعرفة واختصاصاتها المختلفة.
لقد اشتغل ليث الحمداني في حقول كثيرة متخصصة في عمله الصحافي، ولذلك فقد اختزن خبرة مهنية ومعرفية كبيرة، حيث ابتدأ عمله كهاوي ومراسل ومنشغل بالفكاهة وفن الضحك أو السخرية، حتى وإن كانت حزينة، ثم انتقل إلى مواقع جادة وحسّاسة لها علاقة بالصناعة والاقتصاد والتنمية، لكن حسّ الفكاهة لم يفارقه وظلّت الفكاهة تعنّ عليه وأحياناً تطلّ برأسها حتى في كتابته الجادة، وحسبما يقول ماركس " إني أقف مما هو مضحك موقفاً جاداً" أو كما يقول الشاعر المتنبي: وماذا بمصر من المضحكات/ ولكنّه ضحك كالبكاء.
شغل ليث الحمداني مواقع مسؤولة متعدّدة مثل مدير التحرير أو مشرفاً أو رئيساً لقسم أو محرّراً أساسياً أو نائباً لرئيس التحرير أو رئيساً للتحرير. وفي كل تلك المواقع كان ليث الحمداني يعمل بذات المنهج وبنفس الحماسة، فالصحافة بالنسبة إليه تعني الحياة والكون، إنها عالمه الروحي الذي لا يمكنه العيش بدونه ، فهي حبل السرّة الذي يربطه بمحيطه الخارجي.
والسبب الثاني  الذي شعرت فيه بالارتياح لكتابة هذه المقدمة، هو إن تجربة ليث  الحمداني الجديدة في الصحافة الألكترونية بعد الصحافة الورقية، وبالترافق معها أيضاً، أكسبته خبرات جديدة ظلّ الكثير من صحفيّ ذلك الجيل يفتقرون إليها، بل إن البعض لم يقاربها، أما ليث الحمداني فقد قام بإصدار صحيفة البلاد من لندن أونتاريو في كندا (ورقياً وأليكترونياً)، حيث واصل القديم بالجديد، واستفاد من كل مخرجات الحداثة، بما فيها الكومبيوتر والإنترنيت، وساهم إطلاعه على الصحافة العالمية، بما فيها العربية التي تصدر في الخارج في صقل تجربته المتميّزة، خصوصاً وقد حمل في نفسه " القابلية على التطوّر" باستعادة عبارة الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، (الذي كتب عن بعض الشعوب التي لديها القابلية على الاستعمار، أي قبوله).
وكان الحمداني ميّالاً إلى التجديد، ولديه القدرة على استيعابه والتكيّف مع متطلّباته ومستلزماته، فضلاً عن توجّهه للاستفادة من كل تغيير يحصل على صعيد الطباعة وعلومها وفنونها، سواء على المستوى العلمي- التقني أو على المستوى الفني والجمالي، فضلاً عن المستوى الحقوقي والاجتماعي، وبالتأكيد على الصعيد المهني والأخلاقي، وتلك مواصفات تُحسب له وتميّز بها، وخصوصاً تمسكه بالجانب المهني والأخلاقي .
II
ما إن استلمت المخطوطة بالبريد الأليكتروني واستخرجتها على الورق لقراءتها والاستمتاع بها، حتى استلمتني هي ولم تتركني إلى أن انتهيت من قراءتها، واستكملتُ تكحيل عيناي بهذه الصورة القلمية الجديدة التي خطّتها يراع ليث الحمداني، وهو صورة غير نمطية، امتازت بالجدّة والموضوعية والجمال، خصوصاً وقد سال من حبرها نفحة أديب اعتنى بحرفه ورصف جملته برقّة ولطف، فجاءت شفيفة واضحة ومثيرة ووازنة في الآن. لكن ما قرأته زادني فضولاً وشغفاً، وأستطيع أن أقول إنه لم يشبعني، بل فتح شهيتي لمراجعة تجربتنا، من خلال تجربة ليث الحمداني، بما في بعضها من مشتركات.
لقد اكتشفتُ من خلال الكتاب الذي بين أيدينا مدى شحّ معلوماتنا، وحتى جهلنا أحياناً بمجريات الدولة ودواونيتها وآليات عملها، ومثل هذا الجهل وعدم المعرفة يطال الغالبية الساحقة من السياسيين، ولاسيّما الجدد منهم أو ما يطلق عليهم " سياسيو الصدفة" ، ليس هذا فحسب، وأنا أتحدّث عن الوسط الذي أعرفه، فالكثير من المثقفين والأكاديميين هم الآخرون لا يعرفون سير عمل الدولة أو لم يطّلعوا عليه بما فيه الكفاية، ولم نتوقّف في الكثير من الأحيان عند حيثيات أساسية وضرورية، لمعرفة الدولة من داخلها، بحيث نتمكّن من إعطائها الاهتمام المطلوب من الدراسة والبحث والتفكير، لرسم برامجنا وخططنا وسياساتنا من حيث الستراتيج والتاكتيك واستصغرنا التفاصيل مكتفين بالشعارات العامة، بل نشعر أحياناً بالزهو والتعالي على الآخرين، لأنهم يهتمّون بالتفاصيل أو بالمطالب الاحتجاجية لقطاعات انتاجية وخدمية وإدارية، في حين إن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال.
وغالباً ما كنّا نؤخذ مواقف مسبقة من قضايا وأحداث، أو يكون ردّ فعلنا عليها عبر تصنيفات جاهزة، في مسطرة آيديولوجية نُخضع لها الجميع، مدّعين الأفضلية على غيرنا وامتلاك الحقيقة التي تميل حيثما ملنا، وتلك مشكلة الآيديولوجيات الشمولية جميعها،  فالتيار الديني وفي الغالب ليس بعيداً عن الطائفية، يحرّم ويحلّل، وقد يخرجك من الدين أو من الطائفة لاعتراض أو لرأي، أو تصل به الأمور حتى لتكفّيرك، فإن دعوت إلى دولة مدنية دستورية، فقد تكون علمانياً، وحسب مفهومة العلمانية ضد الدين، لأنها تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، بل فصله عن السياسة، وقد أصبحت الطائفية شائعة ومتفشية لدى أوساط واسعة  حتى بين غير المتدينين، وعلى حدّ تعبير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي بوصف الظاهرة قوله" إنهم طائفيون بلا دين". ويقول الوردي أيضاً: "لقد ضعفت نزعة التديّن في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية، حيث صاروا لا دينيين، وطائفيين في آن واحد وهنا موضع العجب ".
أما التيارات الشمولية الأخرى الماركسية والقومية، فكل يزعم أن أفكاره وسياسته هي الصائبة التي تزكّيها الحياة، حتى وإن كانت تثبت كل يوم عن خطئها وخطل ممارساتها، خصوصاً محاولة قولبة المجتمع وإكراهه على السير في طريق محدّد بزعم مصالح الكادحين والحزب والثورة والعروبة وغير ذلك من الحجج، ولم تكن تلك سوى تبريرات للفكرة النسقية المهيمنة، والآيديولوجيا التي لا تقبل الآخر، وهي بهذا المعنى مثل الدين، أما أن تقبلها كلّها أو أنك ستكون معادياً أو كارهاً أو حاقداً.
لقد رفعنا أكثر الشعارات رنيناً وصخباً، وهي شعارات كبرى، ولم نكن نرتضي بأقل من إسقاط النظام، في حين تركنا المطالب البسيطة بنظرنا، لكنها الضرورية بنظر الناس مثل العمل والتعليم والصحة والخدمات، ولاسيّما الأمن والأمان، وكنّا نستخفّ بالاصلاحات  وننظر إليها بعين عدم الرضا على أقل تقدير، إنْ لم يكن الازدراء بسبب من أدلجتنا التي قادتنا إلى اعتبار تلك الاصلاحات يمينية وليست ثورية لأنها غير مطابقة للموديل الاشتراكي الذي كنّا نعتبره هو الأفضل والأرقى بل والمنزّه.
كنّا نريد انقلاباً حاسماً وسريعاً يغيّر كل شيء، وهو ما لم يتحقّق في أي مكان في العالم، بل وفي أي وقت، ونسينا إن أي تغيير حقيقي لن يحدث دون التراكم المطلوب،  والتدرّج والإضافة والتطوير، الذي قد يكون بطيئاً، لكنه سيكون مؤكّداً، كلّما كان ضمن سياقه التاريخي، وتلك أمور من طبيعة الأشياء، لكننا كنّا نجهلها أو لا نعرف حقيقة التطور التاريخي وكنهه وتعقيداته ومنعرجاته، بقدر ما نريد إسقاط رغباتنا على الواقع، على نحو إرادوي، مأخوذين بأحلام وردية، محلّقين فوق الواقع المتناقض، المتشابك، والمتفاعل، والذي يحتاج إلى معرفة وعلم وصبر وأناة لتغييره، لا بالشعارات بالعمل الطويل الأمد.
وبقدر فائدتي وكشف بعض نقاط ضعفي وأنا أقرأ كتاب الحمداني وأستمتع بمنهجه، إضافة إلى لمسته الإنسانية وحرصه على إظهار محاسن الناس وسجاياهم الإيجابية، فإنني تعرّفت من خلال كتابه على قطاعات عمل كانت مجهولة بالنسبة لي أو خافية عني، واطلّعت على منجزات لم تكن تحظى بمتابعتي، وتعرّفت على شخصيات مثيرة، بجوانبها الإيجابية والسلبية، وتلمّست مدى المعاناة الفائقة حين يعمل إنسان حساس مثل ليث الحمداني في مواقع من هذا النوع وفي بيئة فيها الكثير من الأحساد والضغائن والدسائس والمؤامرات والإيقاع بالآخر، والتزلّف والمداهنة والتملّق وغير ذلك.
وقد لمست منه على الرغم من كل تلك الأمراض السائدة مدى الحرص والإخلاص والنزاهة الأخلاقية في تناول أحداث الماضي، دون إساءة أو غمط حق أو مبالغة، ولكن بنقد موضوعي وبلغة شفافة وحرف أنيق وقاعدة أخلاقية، رصينة وبالغة الحساسية، ناهيك عن التقاطاته الذكية وعمق معرفته بسيكولوجية الشخصيات وسسيولوجية الواقع الاجتماعي بكل تناقضاته وتعقيداته بما هو معلن منه أو مستتر، فقد كان كثيراً ما يقلّب الأمور ويحاذر كثيراً، فالخطأ في ظل الأوضاع التي عاشها والمواقع التي شغلها يعني نهاية غير محمودة على أقل تقدير.
لقد كان الحمداني وفياً للصداقة إلى أبعد الحدود، وفي الوقت نفسه وفياً للحرف والمهنة، التي لم أصادف أحداً امتلك هذه الإمكانات الكبيرة وعمل في حقول مختلفة وتجوّل في مواقع عمل ومطبوعات كثيرة، وظلّ عند مواقعه يتحسّس الأرض التي يقف عليها، بواقعية مذهلة وقدرة عجيبة على شمّ المخاطر والتقاط الجوهري من الأشياء ومعرفة خفايا وخبايا وأسرار يحفل بها الكتاب، بل إنني حسبما  أعرف ، لم يعرفها كثيرون، حتى من المقرّبين لتلك الفترة والمرحلة، خصوصاً في أجواء السرّية المطبقة، فكل شيء، بما فيه معلومة بسيطة تصبح من أسرار الدولة وجزء من الأمن الوطني، فما بالك بمعلومات في غاية الخطورة .
تذكّرت وأنا أقرأ ما كتبه ليث الحمداني، مدى الرعب الذي كان يصيبني خلال آدائي للخدمة  العسكرية الإلزامية التي التحقت بها على الرغم من صدور أمر تعييني في جامعة بغداد، وكان هذا الرعب يتعاظم كلّما كنت أنجز عملاً جيداً ويتم تقييمه إيجابياً من جانب مديري الحقوقي أيضاً، وهو إنسان نبيل وفي غاية الأخلاق والنزاهة والعلم أيضاً، وأرجو أن تحين الفرصة المناسبة لإيفائه ولو بجزء يسير مما يستحقّه، ومهما فعلت فلم أستطع أن أفي حق الرجل الذي له فضل كبير على استمرار حياتي. وعندما التقيه الآن، هو من يبادر بشكري والتواصل معي، وكأنني أنا من ساهم في إنقاذ حياته، وعند كل مناسبة يبدأ الرجل بالإشادة والتمجيد، دون أية إشارة لما حصل لي وهو مطّلع عليه، ناسباً لي صفات قد لا أستحقها مثل الشجاعة والنزاهة والعلم والخلق، ودائماً ما كنت  أشاكله بقول الإمام الشافعي : وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة، وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا .
أتذكّر حالة الذعر والفزع التي أصابتني حين طُلب مني إعطاء رأي بخصوص موضوع شراء سلاح فاسد، من شركة هسبانا سويزا السويسرية والتي تم توقيع العقد معها في لندن، لشراء صواريخ نوع سورا 30 مليم، وكيف كانت هذه الصواريخ تنفجر في الجو، خلال الحرب على الأكراد بعد العام 1963، علماً بأن الاستلام كان في أحد الموانئ الإيطالية.
ولأن شبهة الفساد كانت قائمة لكنه لم يتم تحريكها، بل إنه بعد تغيير نظام الحكم في انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 تم شراء صفقة جديدة، ثم صفقة ثالثة عقب العام 1967 على ما أتذكّر، على الرغم من وقوع عدد من الطائرات بسبب الصواريخ التي كانت تنفجر وترتد على جهة الإطلاق ووفاة أكثر من طيار. وكانت الصفقة الرابعة قد تمت بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) العام 1968، ولكن التحقيق بدأ بخصوصها في العام 1969، ولا توجد شخصية عسكرية كبيرة في الدولة، لم يرد اسمها في الصفقة وذيولها، وفي التحقيقات لكشفها، سواء من جانب الرئيس أحمد حسن البكر أو من مدير الدائرة القانونية عبد الفتاح السلط، ووردت أسماء عشرات العسكريين الكبار، بما فيهم ملحقين عسكريين، اطلعوا أو أبدوا رأياً أو حققوا أو حقق معهم بخصوص الصفقة.
طُلب مني بعد فشل مكتب المحاماة البريطاني المعروف روتشيلد أن أقدّم تصوّراً وخلاصة، بعد عرض الموضوع. وكتبت 35 صفحة عرضاً لمطالعة دام العمل عليها أكثر من ثلاثة أشهر، وذلك لقراءة ملفات ضخمة كانت تغطّي ثلاث رفوف، أما الرأي فقد كتبته في 3 صفحات دون أن أقول إنه رأيي، بقدر ما كانت إحالتي إلى مواد قانونية، أو تلخيصاً لرأي قانوني بخصوص العقود والاتفاقيات. وكانت شركة هسبانا سويزا قد تم حلّها وانضمّت إلى شركة كارلتون، وأعلنت إن من لديه حقوقاً على الشركة مراجعتها خلال عام، وعند عدم مراجعته  ستسقط حقوقه، ونشرت ذلك في صحف عالمية، لكنه لم يراجع أحداً من الجانب العراقي، ولم يطالب بالحقوق.
وكان رأسمال الشركة الجديدة مليون جنيه استرليني فقط، وهو مبلغ لا يساوي مطالبتنا بالتعويض، وافترضتُ إن الخبرة القانونية بعد سقوط الحقوق، لا بدّ أن تتبع طريقاً دبلوماسياً وسياسياً، خصوصاً إذا كان بالإمكان التوصل إلى حل رضائي، وهو ما حصل وما لقي ترحيباً وتشجيعاً وتكريماً من جانب المسؤولين باقتراحي بدعوة الشركة إلى بغداد، وهو ما تم فعلاً، وقد تم التوصل معها على منح العراق تعويضاً عينياً (ثلاث طائرات) ثم أصبحت أربعة طائرات قبيل نهاية المفاوضات، مقابل شراء أسلحة جديدة، وهو ما كان قد ورد في النص الأصلي، لكنني قمت باستبدال كلمة "شراء"، بدراسة الجانب العراقي "إمكانية شراء" أسلحة جديدة من الشركة، وهو نص غير ملزم كما هو معروف، وهو ما تم تبنيه من الجانب العراقي، ولقي استحساناً.
إن ما تحقّق في هذا المجال جعلني أعيش في خوف حقيقي يومي، بل وفي كل ساعة لاعتقادي إن ذلك كان بمثابة كمين لي، خصوصاً وإن الكفاءة والنجاح سلطتا الأضواء عليّ وهو ما لم أرغب فيه، وتلك قصة يمكن روايتها في وقت آخر، لكن ما أعادني إليها هو حالة ليث الحمداني وهو في مواقعه العديدة، كيف كان كفاءته عاملاً في الحفاظ على  سلامته بقدر ما كانت مصدر حسد وغيرة، من بعض من حوله، وخوف ورعب يكادان يستوليان عليه، ويرتفع هذان العاملان، أي ثقة رؤوسائه به وفي الوقت نفسه محاولات الإيذاء والشغب من الوسط نفسه، فما بالك حين يتم استبدال رؤوسائه أو التضييق عليهم أحياناً.
III
وأنا أقرأ أوراق ليث الحمداني، استعدتُ حواراً دار بيني وبين عبد الرحمن اليوسفي رئيس وزراء المغرب (الوزير الأول) الشخصية الوطنية العروبية الحقوقية البارزة، وقد كان عضواً في عدد من المنظمات الحقوقية التي أنتسب إليها مثل اتحاد الحقوقيين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب وغيرها، وهو حوار دوّنته في كتابي عن: سعد صالح – الضوء والظل: الوسطية والفرصة الضائعة، والحوار تم في  (كازابلانكا) العام 1999، وذلك بعد قبول اليوسفي تكليفاً ملكياً بتولّي رئاسة الوزراء.
وكان اليوسفي قد طلب اللقاء مع نخبة من زملائه العاملين في الاطارات الثلاث، على دعوة عشاء نظمها الاستاذ عبد العزيز البنّاني في بيته، يومها تحرّك فيّ الهاجس الصحفي لسببين، الأول هو كيف يمكن لمعارض وطني قضى أكثر من ثلاثة عقود في المنفى أن يتبوأ رئاسة وزارة في عهد ما زال مستمراً وكان من أشد المعارضين له، بل داعياً لإلغائه؟ والثاني كيف يفهم السياسي الوطني معارضته من خلال هيكل الدولة وكيف يمكن التعامل معها؟
بادرت حينها الى إثارة النقاش بسؤال الوزير الأول: ألا تشعر أحياناً بالغربة أو الاغتراب، يا " دولة" سي عبد الرحمن وأنت في هذا الموقع؟ وكان جوابه، نعم والى حدود غير قليلة، لكن شفيعي أن جزءًا من خطابي ما زال معارضاً، وهو ما كنت ألمسه في أحاديثه وخطبه التي تابعتها لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بما فيها عندما أستقبل عدداً محدوداً من الذين يرتبطون بعلاقة أو معرفة معه في منزله، الذي رفض البقاء فيه رغم طلب الملك نفسه، لكنه عاد الى شقته التي كان يسكنها قبل توليه الوزارة، وبعدها أردف اليوسفي قائلاً: لقد كنّا نعارض الدولة من خارجها، وربما بعض معارضتنا الآن من داخلها، وهي تجربة اخترناها بالأغلبية رغم تحفظ بعض الأصوات ، وعلينا اجتيازها، نأمل ان تكون مفيدة وناجحة، وهي تجربة مفتوحة للزمن للمناقشة والتقييم.
وقال اليوسفي كنّا نعتقد إن بعض الملفّات يمكن أن نفتحها بيُسر وسهولة، وإذا بها مغلقة أمامنا، وبعضها اعتقدنا بصعوبة فتحها، وإذا بها مفتوحة أمامنا، بل أننا استطعنا المضي فيها إلى حدود كبيرة، بما فيها ملفّات التعذيب والمساءلة وجبر الضرر والتعويض، فضلاً عن إعادة النظر ببعض القوانين وتشريع قوانين جديدة.
   استذكرتُ أثناء حديثه سعد صالح، حيث كنت أنوي إعداد كتاب عنه، فسعد صالح عندما انتقل إلى المعارضة، جاء إليها من موقع الدولة والمسؤولية الوظيفية، وليس من خارجها، أي إنه انتقل إلى المعارضة وهو يختزن معرفة واسعة بشبكة علاقات الدولة ومؤسساتها المختلفة، المركّبة والمعقّدة، لاسيّما مواطن الخلل والضعف فيها. وبهذا المعنى لم تكن معارضته بالشعارات فحسب، بل كانت من خلال معطيات ومعلومات لمشاكل الدولة، وذلك عبر مقترحات وحلول ومعالجات واقعية وممكنة.
ولعلّ المعارضة ليست وظيفة دائمة، كما أن الحكم ليس هدفاً بحدّ ذاته أو وظيفة مستمرة، وعلى السلطة والمعارضة، فيما إذا توفّرت فرصة التناوب والتداول والانتخاب، سماع رأي الناس ببرامجهم ومشاريعهم السياسية، فذلكم هو ما ندعوه بـ"التجربة الديمقراطية" في الدول العصرية المتقدمة. التجربة إذاً معيار أساس في المعرفة ولفحص وتدقيق النظرية، والتأكد من صواب وصحّة ومدى انطباق الممارسة، وسيرها بخط متوازي مع النظرية.
   وإذا كان سعد صالح قد انتقل من موقع المسؤولية في الحكم إلى موقع المعارضة، فقد ترك بصمته وختمه على الحياة السياسية، فمن كان يتصوّر ان بإمكان مسؤول ما أن يبادر إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بإجازة أحزاب معارضة راديكالية وإلغاء السجون وإطلاق سراح المعتقلين، وإطلاق حرية الصحافة، لكن سعد صالح فعلها، وذلك حين قرأ الوضع الدولي جيّداً، لاسيّما بعد هزيمة الفاشية واتساع نطاق الأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبخاصة بعد إبرام ميثاق الأمم المتحدة العام 1945، وبالتساوق مع بعض إرهاصات الوضع الداخلي، لاسيّما بعد خطاب الوصي عبدالاله، الذي وعد بالانفراج.
هنا بادر سعد صالح إلى التقاط اللحظة التاريخية، في إطار علم السياسة التنبوئي وبخطوة واثقة جريئة، بحيث جعل الجميع أمام مسؤولياتهم، وذلك حين أصدر قرارات مهدّت للانفراج والاصلاح في فترة لم تزد عن 100 يوم، ولعلّ ذلك يفسّر  سبب إقالة الوزارة والاستدارة بالبلاد مرّة أخرى نحو التسلطية والتضييق على الحريات، تمهيداً لمصادرة الكثير من الهوامش، وبخاصة بعد قيام اسرائيل العام 1948 وبدء " الحرب" العربية المزعومة ضدها، وتحت حجة حماية مؤخرة الجيش جرى التشديد على القبضة الحديدية، لاسيّما بعد معاهدة بورتسموث العام 1948 ومحاولة الإطاحة بالحكومة، لاسيّما بالانتفاضة الشعبية.
IV
كان المشوار الأول لليث الحمداني مع الفكاهة وذلك لحبّه للكاريكاتير الذي لازمه منذ أن كان صبياً كما يقول، حيث كان قد إطلع على مجلات (الفكاهة) وروز اليوسف (المصرية) وقرندل (العراقية) والدبور (اللبنانية) والمضحك المبكي (السورية) والوادي (العراقية) ويلاحظ هنا التنوّع والتعدّدية والإتساع، بحيث توجد مثل هذا العدد من مجلات السخرية التي توزع عناقيد الضحك على الناس لتلطيف حياتهم وإعطائها معنى من خلال عرض مشكلاتهم وأحزانهم بطريقة ساخرة.
وقد جرّب الحمداني في بداياته أن يحذو حذو هذه المجلات فيكتب بلغة ساخرة، وهو عكس الغالب الشائع، فالمبتدئ عادة ما يبدأ بالقضايا الكبرى والعموميات، لأنه يجدها هي الأسهل، وكلّما تمرّس في عمله انتقل إلى المواضيع الأصغر وإلى قضايا التخصص، لكن ليث الحمداني بدأ من الأصعب والأعلى والأكثر غرابة، لهذا سرعان ما تمكّن من المهنة وطوّع الحرف ورصفه في جملة مبدعة، فقد بدأ ينشر في زاوية أسبوعية بعنوان (سينمائيات ) في مجلة الفكاهة، حيث تناول فيها السينما العراقية الناشئة على نحو ساخر. ويقول عن تجربته تلك وفي إطار النقد الذاتي: ولعلّي حين أعود اليوم لقراءة بعض ما كتبته فيها أجدني متجنّياً على ياسر علي الناصر وفالح الزيدي وصفاء محمد علي وبرهان الدين جاسم وغيرهم.
وفي مشواره الأول يلتقي الشاب الموصلي وهو قادم إلى بغداد بعشرات ومئات الأسماء التي تزدحم بها الذاكرة من أدباء وفنانين وصحافيين ومطربين ومخرجين ومسرحيين وسينمائيين وتشكيليين.
بدأ الحمداني حياته من التصحيح ، حتى رئاسة التحرير، وظلّ يردّد ما كان يقوله الصحافي شاكر حسن: الصحافة تبدأ من التصحيح، وليست منضدة وقلم وأوراق.ويشيد بفضله في اختيار العناوين واختصار المواد الطويلة.
ويمكنني اعتبار كتاب ليث الحمداني وأوراقه وذاكرته، آرشيفاً للصحافة وذاكرتها الإنسانية الحيّة، وهو آرشيف من رأس عاشق، حاول أن يضعه على الورق ليشاركنا فيه، إضافة إلى فهرست للصحف والمجلاّت طيلة ما يزيد عن أربعة عقود من الزمان، فضلاً عن ذلك فإن ما خصصه من حيّز للصحافة الساخرة يعتبر مسألة مهمة للدارسين والباحثين الذين بإمكانهم التوسّع فيه وتوثيقه.
لا يمكن بعد صدور كتاب الحمداني الحديث عن انطولوجيا الصحافة وسردية الحداثة الفنية دون الرجوع إليه كمصدر حي وتجربة معاشة، بفروعها المختلفة، يتحدث فيها عن صداقات مع فنانين وصحافيين وشخصيات عامة منهم حقي الشبلي أحد روّاد المسرح العراقي والمطرب رضا علي والملحن محمد غوشي والفنان عباس جميل والفنانة لميعة توفيق والموسيقار جميل بشير. ويتوقف عند حميد المحل الذي يدين له بالكثير.
ويستذكر أمين أحمد وصادق الأزدي، والعلاّمة مصطفى جواد والباحث فؤاد جميل وعالم الاجتماع علي الوردي وشاكر علي التكريتي وسليم التكريتي والفنان جعفر حسن وعزيز شلاّل وأديب القليه جي وجواد الشكرجي واسماعيل خليل والسياسي علي صالح السعدي، أمين عام حزب البعث سابقاً.
ومن الإعلاميين البارزين يذكر علاقاته مع فايق بطي وعبد المنعم الجادر وعبدالاله البزاز وسجاد الغازي وعبد العزيز بركات وفيصل حسون وحسن العلوي وجليل العطية وسامي مهدي، إضافة إلى بعض زملاء المهنة منهم قيس لفته مراد وزيد الحلي وآخرين.
وما لفت انتباهي وأحاول إضاءة هذه المسألة للقرّاء هو علاقته بالمسرح، وإذا كان الصحافي يرصد مسرح الأحداث، فإن رصده لحركة المسرح، سيعني رصداً للحياة ذاتها، ومن هنا علاقته مع فرقة المسرح الفني الحديث وفرقة 14 تموز وفرق الفنون المسرحية وفرقة المسرح الشعبي وغيرها.
لقد انتقل الحمداني من صحافة الفكاهة إلى صحافة السياحة، لكن التجربة الأهم والأخطر في حياته المهنية، بما فيها من مفارقات هي عمله مع عشرة وزراء في إعلام الظل، وتلك بحد ذاتها تجربة تستحق التوقّف، لما فيها من معاناة وآلام ورعب وفزع ومخاوف وقلق، وحسبما يقول الحمداني " ليس هناك قسوة أشدّ على الصحفي المحترف من العمل في وزارات الدولة ودوائرها بعيداً عن المطبخ الصحفي وبعيداً عن أجواء المهنة الصحفية"، خصوصاً عندما يتعامل مع موظفين ومسؤولين لا علاقة لهم بالإعلام.
وقد عمل في بداية الأمر في مجلة السمنت العراقي، ثم في مكتب إعلام وزارة الصناعة، منذ أواسط العام 1968، حيث عمل في مجلة الصناعة، وعاصر الوزراء التالية أسماءهم : طه الجزراوي وفليح حسن الجاسم وناجح محمد خليل ومحمد عايش وطاهر توفيق وطارق حمد العبدالله وقاسم أحمد العريبي وحاتم عبد الرشيد وحسين كامل وأخرهم عامر السعدي، وكما يقول كان لكل واحد من هؤلاء أسلوبه في التعامل مع الصحافة، وهو أسلوب ينمّ عن ثقافته وتربيته السياسية.
ولنتصوّر كيف ستكون علاقة الصحفي برجل قادم من محكمة خاصة ليكون وزيراً في قطاع يجهله، ويدير إعلاماً ليس على علاقة ودية معه؟ كان الجزراوي قد وصل إلى الوزارة بعد أن حكم على العشرات بأحكام غليظة بينهم سيدتان هما د. فاطمة الخرسان (وهي طبيبة ومن عائلة عريقة) وسعدية صالح جبر (شقيقة سعد صالح جبر كريمة ابن رئيس الوزراء الأسبق صالح جبر). لكن الصناعة العراقية شهدت حينها بداية نهضة، وذلك بعد صدور القانون رقم 90 لعام 1970، وشملت النهضة مجالات التصميم والإنشاء الصناعي والصناعات الإنشائية وصناعة الألبسة والجلود والسكاير والمواد الكيماوية والغذائية.
يتحدّث الحمداني عن معاناته حيث يقول كان مكتب الإعلام التابع للوزارة بين المطرقة والسندان، خصوصاً وأن الوزارة كانت تتعرّض لبعض الانتقادات، وكان يكلّف أحياناً هو بكتابة الردود، مثلاً على جريدة التآخي حينها، وفي ذلك حرج كبير فهو لا يستطيع أن يرفض ما يمليه عليه رئيسه في العمل، وفي الوقت نفسه لا يريد الإساءة إلى المهنة وزملائها وهما الأقرب إليه وإلى مزاجه وتفكيره، والأكثر من ذلك حين يعدّ الردّ لكن الوزير يقوم بتغييره أو تغيير عنوانه أو جعله أكثر تشدّداً.
ويقول الحمداني إن مرحلة طه الجزراوي في القطاع الصناعي شهدت أوسع حملة لتفكيك التنظيمات النقابية الشيوعية والقومية بأسلوب غير أخلاقي وغير إنساني. وقد خاض الجزراوي معركة مع جريدة طريق الشعب حيث كانت قد نشرت سلسلة مقالات عن أزمة الكهرباء.
ويقيّم الحمداني، الجزراوي بأنه تعلّم الكثير خلال وجوده في الوزارة من وكيل الوزارة الكفء نجم قوجه قصاب، ويقول رغم قوة الجزراوي كوزير وعضو قيادة، إلاّ أنه كان يقف عاجزاً أحياناً أمام الرأي الفني والخبرة. وقد أبعد الجزراوي من الوزارة إثر انعقاد ندوة انخفاض الانتاجية، التي أدارها لبضعة أسابيع نائب الرئيس حينها صدام حسين.
وبعد أن جاء فليح حسن الجاسم الذي يقارنه بمن سبقه فيقول كان نموذجاً متميّزاً يتعامل بهدوء مع انتقادات الصحافة لمنشآت الوزارة ولا ينفعل أو يتأثّر ويفضّل الردود الهادئة، وأعقبه ناجح محمد خليل، الذي كان له اهتمامات أكاديمي، خصوصاً بعد إقصاء فليح حسن الجاسم بسبب رفضه المصادقة على قرارات المحكمة الخاصة بأحداث "خان النص" (شباط/فبراير/1977)، وأعقبه محمد عايش الذي حوّل الوزارة إلى منظمة حزبية حسب تعبير الحمداني، وجلب إلى الإعلام شخصاً لا علاقة له بالمهنة من قريب أو بعيد. ويعتبر تلك المرحلة من أسوأ المراحل التي مرّت بها الوزارة.
وبعد إعدام محمد عايش جاء إلى الوزارة طاهر توفيق العاني الذي يسميه الحمداني بـ" الوزير الطيب والنزيه"، ولكن تلك الفترة شهدت مضايقات تعرّض لها الحمداني، وقد قرّر مغادرة العراق، وبعد أن وصل إلى براغ لم يستطع هضم فكرة البقاء في الخارج، وقرّر الذهاب إلى عمان للاستقرار، لكنه لم يتقبّل البقاء فيها أيضاً.
وعند وجوده في براغ قابل زكي خيري عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي حينها بمبادرة من صديقه رواء الجصاني، واستمع زكي خيري إلى حديثه عن موقف الحزب الملتبس من الحرب العراقية- الإيرانية ومشاعر الناس (كما يروي ذلك).
بعد بقائه بضعة أسابيع في براغ وعمّان قرّر العودة  إلى العراق، ويفرد الكاتب فصلاً خاصاً عن طارق محمد العبدالله، الذي يقول عنه إنه كان منفتحاً على الصحافة ولا ينفعل من النقد، وقد خوّله كمدير للإعلام صلاحيات واسعة لتسهيل مهمة الصحفيين وحركتهم في منشآت الوزارة والكتابة عن أية زاوية يريدون. ويسلط الكاتب فقرات عديدة على علاقته بطارق حمد العبدالله وما قام به الرجل قبل نحره أو انتحاره، حيث يسرد رواية كاملة عن الحادث الدرامي الذي هو أقرب إلى  أحد أفلام الرعب.
V
الفصل الخاص بطارق حمد العبدالله يعنونه بـ " طارق حمد العبدالله والرسالة القاتلة" ويتصدّره عنوان آخر أقرب إلى إهداء " إلى روح طارق حمد العبدالله: الإنسان الذي لن أنساه مهما مرّ الزمن" ويعتذر في هذا الفصل عن تأخّر هذه الصفحات لسنوات عديدة، قبل احتلال بغداد، حيث تجنب نشرها كي لا يسبّب أذى للكثيرين وبعد احتلالها يقول: تجنّبت نشرها مخافة أن يوظفها المحتلّون وأعوانهم في غير مكانها.
ويروي كيف إن علي حسن المجيد توجّه بعد خبر قتل أو انتحار طارق حمد العبدالله إلى منزله قائلاً لعائلته حسب مزهر الدليمي في كتابه " محطات الموت": إن انتحاره لأسباب نفسية، وأي حديث آخر سيكون شائعة مغرضة تستحق أقصى العقاب. وكجزء من الوفاء الشخصي يتناول الحمداني سيرة طارق حمد العبدالله ولقائه الأول به ورحلة العمل معه التي كانت رحلة الثقة، وكيف دافع عنه عند استدعائه لدائرة المخابرات (بسبب تقارير الوشاة) وكيف رافقه إلى بيت فاضل البراك وكيف حلّت المسألة. ويعتبر الحمداني وجوده بمعية طارق حمد العبدالله : العصر الذهبي، ويُشير إلى أن نجاحه وإنسانيته كانا وراء تصفيته.
يختتم هذا الفصل بتقرير يجمع بين القتل والانتحار، حين يقول" إن طارق حمد العبدالله لم ينتحر بمحض إرادته" بمعنى حتى لو أطلق هو النار على نفسه فقد كان مُكرهاً حيث وصل السيل الزُبى كما يقال ، ويستعيد أربعة حوادث طرق غريبة تعرّض لها، في الطريق الى البصرة قرب مرقد الرفاعي ومن الكوت إلى العمارة وقرب العمارة وفي ميناء أم قصر، لكن الرسالة التي قتلته هي التي وجهها إلى الرئيس صدام حسين، وفيها تلميحات إلى وقوفه إلى جانبه، وقد تم تلاوة أجزاء من هذه الرسالة في مجلس الوزراء في حين تم حجب أجزاء أخرى، وينشر الحمداني نص رسالة د. منى طارق حمد العبدالله، التي تؤكد أنها قالت لوالدها إذا أرسلت هذه الرسالة ستقتل، فكان ردّه إنه تَعِبَ ولا بدّ من الكلام...
ويتحدّث ليث  الحمداني عن جوانب إنسانية مهمة لدى طارق حمد العبدالله وتقواه ونزاهته ورغبته في مساعدة الفقراء، ويشيد كذلك بقاسم العريبي الرجل الهادئ والذي يتمتع بأخلاق عالية ثم أعقبه حاتم عبد الرشيد، وعلى الرغم من علاقته معه جيّدة إلا أنه يقول عند وصوله إلى الوزارة انقلب مزاجه إلى درجة كبيرة.
VI
يفرد الحمداني فصلاً عن جريدة "طريق الشعب" ويسمّيه " التجربة الحلوة... والمذاق المرّ" ويتحدّث عمن قابلهم في الجريدة، ابتداء من فخري كريم وفايق بطي ورواء الجصاني ومحمود حمّد وذياب كزار (أبو سرحان) ومظهر عبد العباس (المفرجي) وجمال وسامي العتابي وآخرين، ويتحدث عن مطبعة الحزب التي كان قد أخفاها الحزب أيام العمل السري بعد أن فكّكها وهي قديمة، حيث تم نصبها وتدرّب عليها طارق علي السامرائي.
ويتحدّث عن فرحته حين كان يشرب الشاي في مقهى (حسن كيتاوي) في الباب الشرقي، وهو يرى العدد صفر يتناوله بعض العمّال المتجهين إلى المسطر، وهو يوزّع مع جريدة الفكر الجديد، التي كان يتولى إخراجها حسام الصفار. وكان الحمداني قد تولى القسم الفني في الجريدة، ويقول إن محمد سعيد الصكار هو الذي أعدّ الماكيت الثابت، وقد أجرى عليه صادق الصائغ تغييرات لاحقاً، واختيرت عفيفة لعيبي كأول فنانة تشكيلية لتعمل متفرغة للجريدة، وكان الكاريكاتريست مؤيد نعمه قد بدأ يرسم كاريكاتيراً يومياً. وبعد أن كانت الجريدة التي بدأت في شقة أصبحت إدارتها لاحقاً في بناية مستأجرة قرب سينما بابل. وحينها تفرّغ الحمداني للعمل في الجريدة، بعد أن كان يشرف على مجلة "الصناعي" ومجلة "صوت المهندسين" ومجلة " الصناعيون" وكلّها مجلات فصلية.
وقد عمل في الأقسام المختلفة صحافيون مخضرمون مثل عبد المجيد الونداوي وشمران الياسري " أبو كاطع" ويوسف الصايغ وعزيز سباهي وصفاء الحافظ والفريد سمعان ورشدي العادل وقيس الياسري وصبحي حدّاد، ويستعرض عشرات الأسماء التي عملت معه في الأقسام المختلفة. ويتحدث عن الإمكانات الشحيحة المالية والفنية للجريدة، ولكنها استطاعت أن تحقق سبقاً مهنياً على الصحافة الرسمية مثل جريدة الثورة.
يقول عن ذكرياته " سأظل أذكر للراحل الكبير حسن العتابي وهو من الرعيل الأول من الشيوعيين الذين عملوا في الجريدة، الانضباطية العالية التي وصلت إلى حد محاسبة أحد أبنائه على أي تصرّف شخصي داخل الجريدة..."
يتطرّق إلى ماكنة الأوفسيت التي تم نصبها، وإلى حوار أيّده عبد الرزاق الصافي فيه، هو إننا نريد أن ننسى إننا نصدر صحيفة حزبية، وهكذا قفزت طريق الشعب فنياً، وأهم انطباعاته أن الجريدة تخلّصت إلى حد ما من التأثير الآيديولوجي على الجانب المهني الصحفي (وليس السياسي)، ولكن القسم الفني كان يتلقى نقداً من المكاتب الحزبية، والأمر يعود إلى تفاوت في المعايير الجمالية بين الحزبي والمهني.
ويتحدّث عن المشاكل السياسية بسبب نشر بعض المواضيع التي لا تروق للسلطة، ويذكر كيف تم سحب عمود "أبو كاطع" من المطبعة أكثر من مرة، أو سحب بعض المواد من الصفحات الثقافية، وكذلك وقف العمود اليومي "هموم الناس" الذي ابتدعه مخلص خليل كما يقول.
يؤكد الحمداني حقيقة قد يعرفها الجميع، لكنه يتحدّث عنها بالملموس، وهو إن السلطة لم تتحمل نقد جريدة "طريق الشعب"، فضلاً عن مشكلة تعاطي المصطلحات  الرسمية التي كان على الجريدة نشرها مثل : "الحزب القائد" و"الرئيس القائد"، ويشير إلى حادث تفجير في مطار بغداد اتهم به " النظام السوري"، وهو تعبير لم يكن متداولاً في الجريدة، وكانت السلطة قد اتهمت سوريا بحادث التفجير، وحين تم اختصار الخبر حصلت مشكلة في اجتماعات الجبهة الوطنية. ونود الإشارة إلى أن نائب الرئيس حينها صدام حسين كان قد استدعى ممثلي الحزب في الجبهة وأنبّهم على مثل هذا التصرّف وطلب منهم إصدار بيان يدين الحادث، وصدر هذا البيان باسم الجبهة بعبارات أشدّ، وقامت الجريدة في اليوم الثاني بنشره بالكامل، باعتباره خبراً ورد عن طريق وكالة الأنباء العراقية (واع).
ترك الحمداني "طريق الشعب" قبل أشهر من إغلاقها، ولكنه رفض العمل في صحف أخرى عرضت عليه مسؤولية الأقسام الفنية مثل جريدة الجمهورية، وعمل مع سجاد الغازي وخالد الحلي في ملحق الجمهورية (طب وعلوم) كمحرّر مشارك.
ومن استنتاجاته المهمة إن الصحافة الحزبية مهما بلغت من الكمال فإنها لا يمكن أن تحقّق تقدّماً مؤسسياً لأنها تدار في الغالب من كوادر حزبية لا تفهم من العمل المهني شيئاً، ومعيارها الوحيد هو الدرجة الحزبية والالتزام الحزبي، كما يقول.
ويتحدّث عن صدمة شخصية وسياسية بعد استدعائه لمديرية الأمن العام حين وجد أحد الأشخاص الذين جاء بهم أحد الكوادر القيادية للعمل في الإدارة، ليقوم بتشخيصهم، مؤكداً أنهم كانوا يعقدون الاجتماعات داخل الجريدة.
يتذكّر باعتزاز عبد المجيد الونداوي وعبد الرزاق الصافي ورشدي العامل وعامر عبدالله وأبو كاطع (شمران الياسري) وسامي حسن ومحمود حمّد ومصطفى حمّد لما قدموه من مساهمات، كل في مجاله ويأتي على ذكر آخرين.
ويتذكّر ممازحته مع أبو كاطع وكان " الحلفاء البعثيون" قد طلبوا إيقاف عموده، وذلك حين خاطبه: شنو (ما هو) رأيك لو تكتب هسّه عمود وندزّه (نرسله) للطبع بلا (رقابة الرفاق)؟ فضحك أبو كَاطع كما يقول، وأخذ القلم وبدأ يكتب قصة التحالف بأسلوبه الساخر على لسان خلف الدواح. .. وهي حكاية الواوي والبعير، المعروفة.
ومن خلال طريق الشعب يقول تعرّفت على الصحافة الشيوعية بسفره مع وفد برئاسة الصافي إلى هنغاريا ولبنان وبلغاريا، ويقول من خلال زيارتي تعرفت من أين تعلّم البعثيون تشكيل الجهات الوطنية الهامشية (جبهة بلغاريا وهنغاريا).
باعتزاز يعود لاستذكار "طريق الشعب" التي ستظل تجربة صحفية متميّزة تعلّم الجميع فيها، فلا يوجد أستاذ وتلميذ، لكنه بألم يقول بشأن إدارتنا وبكل أمانة كما يكتب " إننا معشر الشيوعيين يومها لو تسلّمنا السلطة في العراق وأدرناها بالأسلوب الذي أديرت فيها دار الرواد، لوضعنا الدولة في موقع لا يختلف كثيراً عما وضعها فيه حزب البعث، لأن الموقع الحزبي كان هو الأساس في الاختيار وليس الكفاءة أو الخبرة، وهذا الداء ابتليت به كل أحزابنا للأسف".

VII
يتناول بشغف مشروعه لإصدار صحيفة الاتحاد، الحلم الذي كان يراوده كما يقول، وهي جريدة تعبّر عن القطاع الخاص، ويوم صدرت الموافقة كان معه شهاب التميمي. وقد كتب عكاب سالم الطاهر حكايته مع جريدة الاتحاد في صحيفة الزمان مؤخراً تحت عنوان " بعيداً عن الصناعة... بعيداً عن التجارة"، وكتب في جريدة الاتحاد وتعاطى معها أسماء لامعة مثل الشيخ جلال الحنفي وعلي الوردي وحسين علي محفوظ وحسين قاسم العزيز وأنور الناصري وحارث طه الراوي وخالص عزمي وسليم طه التكريتي وسلوى ساطع الحصري وآخرين.
وكانت هيئة التحرير تتألف من عبد القادر البراك وصادق الأزدي وخالد محسن اسماعيل ورفعت عبد الرزاق وسعيد الربيعي وحسين الكرخي وعبد الحميد المحاري.
ويذكر كيف استضافت الجريدة د. علي الوردي في محاضرة بدأها بإعلان تفوق جريدة الاتحاد، وفشل صحفنا ومجلاتنا، مشيراً إلى أن بعض المقالات كانت بمثابة "إعلانات" موضحاً الفرق الكبير بين الإعلام والإعلان، ومثل هذا القول في تلك الظروف شجاعة تكاد تكون خارقة.
ويسلّط ليث الحمداني ضوءًا  على كيفية التعاطي مع عدد من المبدعين على الرغم من الظروف القاسية واستجابتهم على الرغم من الممانعة والتردّد، لكنهم إذا شعروا أن من يقابلهم ويدعوهم للكتابة لا يفرض عليهم شيئاً، بل هو سيكون سعيداً بالهامش الذي يمكن أن يعبّروا فيه عن أفكارهم، على الرغم من الأجواء الخانقة، وتلك مهمة لم تكن سهلة، لكن ليث الحمداني الصحفي المهني والمحترف، وتهمّه الكلمة النظيفة، جعلها من أولوياته رغم الأجواء السائدة، ومن هؤلاء علي الوردي وعبد الحميد العلوه جي ومسعود محمد وأحمد فوزي وسليم طه التكريتي، وتم نشر أوراق مصطفى علي، أول وزير عدل بعد ثورة 14 تموز جواد وخليل كنه (وزير في العهد الملكي) وكذلك أوراق حسين جميل.
وبسبب من هذا النشاط الإعلامي تم استدعاء الحمداني إلى مديرية الأمن العامة عدّة مرّات، وواحدة منها كانت بسبب مقالة للسياسي عبد الغني الدلّي (الوزير والسفير في العهد الملكي) وأخرى بسبب معاذ عبد الرحيم الذي تم نشر مذكراته، ثم يقول إنه في مساء اليوم نفسه وبعد التحقيق معه إنه تلقى مكالمة من نوري نجم المرسومي وكيل وزارة الإعلام، بإيقاف نشر مذكرات معاذ عبد الرحيم بأمر من الوزير لطيف نصيّف جاسم.
عانى ليث الحمداني من تنازع اتجاهات شتّى، فالسلطة أو بعض من محسوب عليها تعتبر فتح صفحات الاتحاد لبعض عناصر حزب الدعوة العميل (المقصود عبد الغني الدلّي ويا للمفارقة؟)، أو بعض العناصر البعثية القديمة التي تريد تشويه تاريخ الحزب (المقصود معاذ عبد الرحيم) علماً بأنه شخصية قومية وكان من الرعيل الأول المؤسس لحزب البعث ومبرر ذلك ورود أسماء اثنين من البعثيين القدامى وهما أعضاء في حزب الدعوة لاحقاً.
وبعض أصدقائه اعتبروه يروّج لقوى رجعية عندما ينشر مذكرات خليل كنّه (شهاب التميمي وضياء حسن) ومن جهة أخرى فإن هناك من حاول أن يذكّره بماضيه الشيوعي، وهو الأمر الذي كان يتعرّض بسببه إلى ضغوط منظورة وغير منظورة، مباشرة أو غير مباشرة، وخصوصاً عندما عمل مع طارق حمد العبدالله وزير الصناعة والذي كانت علاقته به وطيدة، وكان عليه أن يتذكّر يومياً وكي لا يغلط بما يفسّر هواه الذي قد يوقعه في ورطة حقيقية.
الكتاب حافل بحكايات وسجالات ونقاشات ضمّها أسلوب أدبي رفيع، وهي لمن يريد دراستها يستطيع أن يعرف حقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في البلد، خلال الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها، وكذلك سنوات الحصار اللاحقة.
كان ليث الحمداني يأمل أن يحوّل جريدة الاتحاد بعد أن كبرت وقوي عودها إلى دار نشر، وكانت هذه الطموحات تلقى دعماً من طارق محمد العبدالله ومن عبد القادر عبد اللطيف وطلال طلعت، وفعلاً تم نشر الكتاب الأول لعبد القادر البراك، والكتاب الثاني لمدني صالح، والثالث لعزيز السيد جاسم، والرابع لمحمد أمين الحسيني، وكتاب مترجم، وكان ضمن خطته جمع مقالات علي الوردي وعبد الحميد العلوه جي، ولكن بعد اجتياح

479
أسئلة ودلالات لحكايات النزوح العراقي

عبد الحسين شعبان


كشفت المنظمة الدوليّة للهجرة عن ارتفاع أعداد النازحين في العراق، إضافة إلى تردّي أحوالهم حيث بلغت في آخر مصفوفة (3.418.332 وهو ما يعادل 569.772 ألف أسرة) وهذه الأرقام تشمل الفترة من 1 يناير / كانون الثاني 2014 وحتى 31 مارس/ آذار 2016، وحسب إحصاءاتها فقد بيّنت أن 77% من النازحين هم من محافظتي الأنبار ونينوى (الموصل).
وقد لوحظ مؤخّراً تدفّـقاً متكّرراً للنازحين من هيت خلال شهري مارس وأبريل (آذار ونيسان) 2016 بما يزيد عن 30 ألف نازح، وقبله نزوح من الفلوجة، التي ظلّت محاصرة، كما أن هناك نزوحاً من جنوب غرب مخمور (محافظة الموصل ـ نينوى) وذلك بسبب العمليات العسكرية وصعود نبرة الحديث عن المعركة الفاصلة المقبلة.
إنّ عدم تحسّن الأوضاع الأمنية بصورة رئيسية يقف عائقاً أمام عودة النازحين، ناهيك عن أن مدنهم وقراهم ومنازلهم مهدّمة وتنعدم في بعضها أبسط مقوّمات الحياة، ففي مدينة الرمادي تم تدمير 80%، منها اعتماداً على سياسة "الأرض المحروقة" التي اتبعتها قوات التحالف الدولي.
لقد شهدت أوضاع النازحين جدلاً سياسياً وإدارياً، سواء على المستوى العراقي أو على المستوى الدولي، خصوصاً بارتفاع أعدادهم ونفاذ الموارد الإغاثية، علماً بأن القسم الأكبر منهم غادر منزله، ولم يستطعْ أن يحمل ما يتمكّن من المستلزمات الأوليّة لإعانته، فما بالك وأن الجزء الأكبر من النازحين لم تكن لديه أية إمكانية ماديّة أصلاً، لهذا فإن الجميع كانوا بحاجة إلى دعم شامل في جميع المجالات الصحيّة والتعليمـيّة والخدمية والمعيشية والعمل والسكن وقبل كل شيء توفير الأمن.
وحسب لقاءات مباشرة مع أعداد من النازحين الذين فرّوا إلى كردستان في أربيل، فإنهم لقوا دعماً من إدارة الإقليم وتضامناً من الأهالي، وهو ما حصل في مناطق أخرى من وسط وجنوب العراق بدرجات متفاوتة، في حين كانت بعض تصرفات الإدارة الحكومية غير مقبولة، الأمر الذي عاظم من معاناتهم، حيث احتجز بعضهم عند مشارف بغداد وبعض نقاط التّفتيش، بزعم عدم وجود كفيل ضامن لهم، و"حذراً" من تسلّل عناصر من داعش بين صفوفهم، وهم الهاربون أصلاً من ظلمها.
مضى عامان على احتلال داعش للموصل وتمدّده إلى محافظات صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى وبعض أطراف بغداد، إضافة إلى تداخلات مع محافظات أخرى، ومعاناة النازحين تكبر، وتزداد الحياة قسوة مع مرور الأيام، وإذا كان النازحون يؤمّلون أنفسهم بالعودة السريعة، فقد طالت مدّة النزوح وازدادت المعاناة، وخصوصاً للنساء والأطفال والشيوخ، واضطرّ بعضهم وخصوصاً الشباب للهجرة إلى الخارج، لفقدان الأمل وضياع المستقبل، وحتى الدول المانحة أوقفت مساعداتها للعراق في أغسطس (آب) 2015 نتيجة الفساد المستشري في المؤسسات العراقية، وهو ما جرى نقاش حوله بسبب الفضائح المتتالية التي تم كشفها مؤخراً، والتي عرفت بأوراق بنما، حول ملفات فساد وغسيل الأموال والتلاعب بالمبالغ المخصصة للنازحين، علماً بأن البرلمان الياباني وافق على تقديم دعم للنازحين مقداره 105 مليون دولار (أبريل / نيسان / 2016).
جدير بالذكر أن المنظمة الدولية للهجرة IOM، التي تأسست في العام 1951 ولديها مكتب إقليمي في القاهرة منذ العام 1991 يغطّي نشاطها في 13 بلداً عربياً، هي من المنظمات الإنسانية الدولية التي تقوم بمهمة مساعدة النازحين واللاجئين، وكان قيامها إثر هروب أعداد من اللاجئين إلى غرب أوروبا من الدول الاشتراكية السابقة، حيث كانت قد أبرمت الاتفاقية الدولية لحقوق اللاجئين لعام 1951، والتي كانت مصمّمة للاجئي أوروبا الشرقية تحديداً، لكنها أخذت تشمل اللاجئين والنازحين في العالم، وخصوصاً بعد صدور ملحق لها العام 1967.
يمكن القول إن هناك علاقة عضوية وطردية بين النزوح والتنمية، فكلّما عرف البلد نزوحاً بسبب الحروب أو النزاعات المسلّحة أو الاحترابات الأهلية أو انهيار سلطة القانون أو احتلال أو عدوان خارجي أو غير ذلك، فإن ما يقابله هو تعطّل عملية التنمية المستدامة، بمعناها الشامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقانوني والتربوي والتعليمي والصحي والبيئي وغير ذلك، إضافة إلى تدهور حال حقوق الإنسان ومنظومته الشاملة، وهو الأمر الذي يعاني منه العراق منذ الاحتلال الأمريكي العام 2003 ولحد الآن.
أربع مشكلات واجهها النازحون في العراق، من غير الجوانب السياسية وهي:
أولها - إدارة النزوح، وخصوصاً التصرّف بالأموال التي تُمنح للنازحين داخلياً أو عبر المساعدة الخارجية، فغالباً ما تُصرف الموارد المخصصة لإغاثتهم على أعمال الإدارة، ناهيك عن الاتهامات بالتلاعب وعدم الأمانة، إضافة إلى البيروقراطية المستشرية.
وثانيها - تيسير النزوح، وأعني به إمكانية توفير مساعدات إنسانية عاجلة مثل: السكن والصحة ووسائل العيش اليومي، إضافة إلى تهيئة المدارس الضرورية وفرص العمل، ونقل خدمات الموظفين من المناطق الأصلية إلى الأماكن المؤقتة، وغير ذلك.
وثالثها - تنظيم النزوح، والمقصود بذلك وضع حلول ومعالجات لاعتبار كل ما هو طارىء مستمر، وكل ما هو مستمر طارىء، أي جعل حياة النازح أكثر إنسانية ومقبولية.
ورابعها - معالجة الآثار النفسية والصحية والاجتماعية التي يسببها النزوح، خصوصاً انتشار أفكار التعصّب والتطرّف والثأر والانتقام، لا سيّما من تعرض منهم لاضطهاد داعش مباشرة، مثلما هن النازحات من النساء الإيزيديات، والمسيحيين، فلكل نازحة ونازح حكاية خاصّة، سيأتي اليوم الذي يتم التوقّف عندها، ومن يدري فقد تظهر أعمالاً إبداعية تعبّر عنها وتعكس حجم المأساة التي مرّ بها النازحون؟
وإذا كانت الدول والحكومات مسؤولة عن ضمان الوضع الإنساني للنازحين واللاجئين، فإن المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، هم كذلك مسؤولون عن حمايتهم وتوفير المستلزمات الأساسية لهم. ويحتاج الأمر إلى تعاون وطني وإقليمي ودولي لتأمين ذلك.
ولا بدّ من رسم سياسات محلية وتشريعات ضامنة بخصوصهم، طبقاً لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، كما يتطلّب مساهمة منظمات المجتمع المدني المحلية، لا سيّما في الجوانب ذات البُعد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وبالتالي وضع خطط وطنية تسهم فيها الدولة والمجتمع لاحتضان النازحين وللتخفيف عن معاناتهم، وإعادتهم بأسرع ما يمكن إلى مناطقهم الأصلية وإعادة إعمارها وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار.
وأنا أكتب عن النازحين أستعيد الشاعر الكبير الجواهري، وكأنّه يخاطبنا بقوله:
أمشرّدون وأرضهـــمْ ذهــــبٌ      ومـجــوّعـون ونـبتها عَــممُ
عن كلِّ ما يُقذي العُيون عَمى      وعن الّذي يلدُ الصدى صمَمُ


480
الطفولة المعذّبة في العراق: إلى أين؟
عبد الحسين شعبان

الأطفال هكذا يموتون في العراق. نعم بكل بساطة، فحياة الأطفال العراقيين هي الأسوأ في العالم، وليس هذا مجرّد تكهّن أو استنتاج لفريق ضد آخر، مما تعصف به الساحة السياسيّة من نقاشات وجدالات واتّهامات، بل هو استنتاج مدعوم بمعلومات موثّقة صدرت في دراسة أكاديمية نشرتها دروية سيرجري، ذكرت فيها: "أن واحداً من كل 6 أطفال، جرحى في العراق أصيبوا بسبب الحرب، مقارنة فقط بين كل 50 طفلاً مصاباً في العالم".
والرقم مخيفٌ وغريبٌ، وهو يعني أن سدس الأطفال هم من المصابين، فكيف يمكن تصوّر حال مجتمع يكون فيه الجيل الجديد "الفتيان والفتيات" الواعدين هم من المعوّقين والمرضى المعلولين جسدياً والمعطوبين نفسياً، إنّه من أسوء حالة للطفولة في العالم، حسب اعترافات لمنظمات دولية معنيّة بالصّحة والطفولة والأمومة والمرأة وحقوق الإنسان والثقافة والسّلام واللاّعنف والتّسامح على المستوى العالمي.
والأطفال لا يعانون من الحرب فحسب، فهناك نسبة تزيد عن 20% من الأمييّن بينهم، ويتم التّسرب من مقاعد الدرس، وخصوصاً في المراحل الأولى، وهو أمر يكاد يكون شائعاً بسبب أعمال الإرهاب ونزوح مئات الآلاف من مناطقهم بعد هيّمنة داعش عليها، وخصوصاً من أبناء الرمادي وصلاح الدين، إضافة إلى الموصل وديالى، وهناك عشرات الآلاف من أطفال الشّوارع ومن المتسوّلين، ومن الذين يتم تسخيرهم لأعمال تتنافى مع الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، مثل الاتجار بالبشر أو تعاطي المخدرات أو تجنيدهم لأعمال إرهابية أو في إطار مشاريع دينية أو طائفية، أو غير ذلك، من خلال عملية غسل أدمغة على نحو ممنهج، خصوصاً أجواء مشبّعة بالتعصّب والتطرّف وضدّ الآخر، وكل آخر غريب، وكل غريب مريب، وذلك في ظلّ دعاوى بالتأثيم والتّحريم والتّجريم، كما يتعرّض الكثير من الأطفال للاغتصاب الجنسي، ويضيع بعضهم بين المطارات والقاطرات وفي البحار وعلى أرصفة دول الجوار، وبلدان المنافي البعيدة، في هجرة نحو المجهول.
كل شيء في العراق يكاد يكون غريباً، فهو من أكثر البلدان في العالم فساداً مالياً وإداريّاً، وهو ما تؤكد منظمة الشفافية العالمية في تقاريرها السنوية. وهو من أكثر البلدان إرهاباً وعنفاً، ويكفي القول: إن تنظيم داعش الإرهابي لا يزال يحتلّ أجزاء مهمّة من الأرض العراقية. وهو من أكثر بلدان العالم طارداً للكفاءات، خصوصاً بعد اغتيال مئات العلماء والأكاديميين. وهو من أكثر البلدان التي تعرّض فيها الإعلاميون للاغتيال والخطف حسب اتحاد الصحفيين العالمي واتحاد الصحفيين العرب.
ليس هذا فحسب، بل هو من أكثر بلدان العالم في عدد اللاّجئين حسب المفوضية الدولية لشؤون اللاّجئين، وهو من أكثر الدول التي شهدت نزوحاً داخلياً، حيث بلغ عدد النازحين ما يزيد عن 3.400 (ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف نازح) من عدد من المحافظات أبرزها: الأنبار، والموصل، وصلاح الدين وديالى، وهو من أكثر البلدان انقساماً على مستوى السّلطة، فالبرلمان معطّل، وهو لا يزال يترنّح بين موالاة ومعارضة، في حين تشهد البلاد موجة جديدة من التفجيرات وأعمال العنف، والوزارة لا تزال عائمة، والطائفية تضرب أطنابها، والانقسام الإثني قائم على قدم وساق، وبغداد بعيدة عن إربيل حتى أن هناك تنازعاً حول عائدات بعض المناطق، حيث تتصدر المزاعم مطالب كل فريق.
وبعد ذلك، فبغداد هي من أكثر المدن تدنّياً في مستوى العيش، حسب التصنيف العالمي للمدن وفقاً لتقويم العام 2016، في حين احتفظت العاصمة النمساوية فيينا للعام السابع على التوالي بالصدارة، بينما احتلّت بغداد المرتبة الأخيرة. ويقيس التصنيف العالمي اختياره للمدن من خلال ضمان الأمن والاستقرار السياسي ومعدل الجريمة وتطبيق القوانين والعلاقات بين الدول المضيفة والدول الأخرى.
وجاء في دراسة سيرجري أن الأطفال المصابين بسبب الإرهاب والعنف، سواء بطلقات نارية أو متفجرات أو شظايا هم أكثر عرضة 10 مرات للوفاة والإعاقة مقارنة بالمصابين لأسباب أخرى. وكان فريق الدراسة قد أجرى مسحاً ميدانياً في بغداد العام 2014، بخصوص الإصابات وأنواعها بين الأطفال دون سن الثامنة عشر، إضافة إلى مدى توفر الرعاية الصحية التي حصلوا عليها والواجب الحصول عليها منذ العام 2003 والعام 2014.
والأرقام التي ذكرتها الدراسة تكاد تكون مرعبة:
فمن بين 900 عائلة يصل عدد أفرادها إلى 5148 شخصاً قال المشاركون، أن هناك 152 طفلاً مصاباً، أي 28% من مجموع الإصابات (في مناطق الصراع). ومن بين الأطفال المصابين بسبب الحرب بشكل مباشر كانت النسبة 15% (بسبب طلقات نارية أو شظايا أو متفجرات)، في حين أن النسبة العالمية للعنف بين الأطفال لا تزيد على 2%.
وبدلاً من توجّه الحكومة لمعالجة الأمر ووضع سياسة حمائية ووقائية من العنف والإرهاب، فإنها في ظلّ الصراعات المحتدمة أقدمت على إغلاق قناتين فضائيتين، قالت إنهما تحضّان على إذكاء التوتّرات الطائفية التي تؤدي إلى العنف، الأمر الذي اعتبرته بعض الجهات المعنية مساساً بحرّية التّعبير وانتهاكاً لها، تستخدمه القوى المتنفّذة في الحكومة العراقية، كلّما تعرّضت إلى أزمة أو شعرت بحجم الاحتجاج الشعبي.
صحيح أنّ بعض الجهات الإعلامية تلعب بطريقة غير مهنية على بعض الأوتار الطائفية الحسّاسة، لكنّ إجراءات المنع وحجب حرّية التّعبير، لا تعالج أصل الظاهرة وأسبابها، وهي ليست سوى هروباً من مواجهة المشاكل التي يعاني منها العراق، خصوصاً استمرار ضعف وتدهور هيبة الدولة، وفشل خطط الإصلاح وبقاء نظام المحاصصة الطائفية ـ الإثنية، إضافة إلى ظاهرة الفساد المالي والإداري المتفشّي، وكذلك استشراء ظاهرة الميليشيات وانتشار السلاح خارج المؤسسات الحكومية المسؤولة عنه، سواء باسم الحشد الشعبي أو غيره.
وكان كبير الباحثين لدراسة مجلة سيرجري آدم كوشنير من كلية جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة في بالتيمور قد قال: إن منظمات الإغاثة تميل إلى التركيز على المتفجرات والإصابات الكبيرة (العنيفة)، لكن الجهود ينبغي أن تبذل في مجال إعادة الإعمار وإصلاح الطرق وتوفير التوعية بشأن المصادر المحتملة للإصابات العارضة، وهنا لا بدّ من وضع استراتيجيات الوقاية من الإصابات والتدريب على الإسعافات الأولية وإعادة التأهيل.
وبالطبع، لا يمكن إنقاذ الطفولة من الوضع البائس الذي تعيش فيه، بدون إنقاذ العراق من وباء الطائفية ونظام المحاصصة ووضع حد لفايروس الإرهاب وحمّى العنف، والعمل على انتشاله من براثن الفساد والتشظّي، ناهيك عن التداخلات والاستقطابات الإقليمية والدولية التي تؤثر في وحدته ومستقبله.


481
العراق.. تدوير الزوايا ومعادلات القوّة
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي

بعد مخاض طويل كاد أن يكون عسيراً، وشدّ وإرخاء، جاء التغيير الوزاري في العراق، وكأنه لم يأتي بجديد، والتغيير إنْ لم يكن حفراً في العمق، فسيكون نقراً في السطح، على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ. لا أدري كيف استذكرتُ ديوان الشاعر عبد الوهاب البياتي "الذي يأتي ولا يأتي"، فالتغيير الذي حلم به العراقيون ووُعِدوا به، لا يزال بعيد المنال، أما ما حصل حتى الآن، فلم يكن سوى مداورة أقرب إلى المناورة، فليس استبدال وزير بآخر بتغيير، إنْ لم يكن تغيير مناهج وسياسات وإنْ لم يتّسم بمساءلات ومراجعات في إطار من الشفافية وتلبية احتياجات الناس.
إذا ظل التغيير فوقياً، فإنه سيكون إجراءً تجميلياً وليس علاجياً، أو دواءً ناجعاً لمعالجة الأمراض التي يعاني منها المجتمع العراقي مهما سيطلق عليه من تسميات، إنْ لم يذهب إلى الجوهر والمضمون والمحتوى والتّحقق والدّلالة، أي إلى شرعية الإنجاز، وليس الوعود والعبارات الإنشائية والتوافقات الشكلانية، والمهم ليس الحديث عن التغيير، بل السير في طريقه بخطىً حثيثة، وفي سياقات وخطط ومدّة زمنية محدّدة.
لم يكن في الأمر ثمّة مفاجأة فيما حصل، وجميع المؤشرات والتكهّنات، إضافة إلى التداخلات الدولية والإقليمية كانت ترجّح الإبقاء على ما هو قائم في العملية السياسية مع تدوير في الزوايا والمواقع والوزارات والمسؤوليات العليا بين الكتل والجماعات السياسية أو من ترشحهم لإشغالها، سواء كانوا بصفة "تكنوقراط" أو "مستقلين" أو "مهنيين" أو غير ذلك، ولكن المهمّ الإبقاء على علاقة الولاء لها، وهو الحبل السّري للعلاقة الزبائنية التي قامت عليها العملية السياسية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وحتى الآن ولم تشذ عنها جميع الوزارات.
ما أقدم عليه رئيس الوزراء حيدر العبادي من تقديم بعض الوزراء الجدد واستبدال آخرين، وما صادق عليه البرلمان وما تحفّظ عليه، استهدف بالدرجة الأولى امتصاص نقمة الشارع الذي كاد أن ينفجر وهدّد باقتحام المنطقة الخضراء، وكان لانضمام السيد مقتدى الصدر وقيادته للحراك الشعبي، ومن ثم انسحابه والعودة إلى تهديده، وبعد ذلك إلحاحه على التصويت للوزارة الموعودة في البرلمان أثراً كبيراً في دفع مبادرة الشارع باتجاه آخر، غير الوجهة التي أرادها في بداية التحرك الذي بدأ في يوليو (تموز) 2015، حيث ظلّ الحال على ما هو عليه، بل ازداد سوءًا، فالفساد والطائفية والإرهاب والعنف واستمرار داعش والحالة الأمنية وتدهور الوضع المعيشي وشحّ الخدمات الصحية والتعليميّة والبلديّة وتفشّي البطالة والجريمة المنظّمة، كلّها أصبحت من مفردات المشهد السياسي العراقي.
"وزارة الظرف المغلق" التي قدّمها العبادي إلى رئيس البرلمان سليم الجبوري والتي أدّت إلى انفجار الأزمة مارس / آذار ـ أبريل/ نيسان 2016 قادت بالتدرّج إلى اعتصام عدد كبير من النواب ومحاولتهم خلع رئيسهم، لأنّه لم يطلعهم على أسماء بعض الوزراء الذين يفترض أن يصوّتوا عليهم، واجتمعوا بعدها وقرّروا المضي بخطوة أعلى لاختيار رئيس مؤقت بتوفّر النصاب (164 عضواً، أي نصف عدد المجلس 328) في حين كان عددهم 173 عضواً، لكن هذا العدد أخذ بالتبخّر والتناقص بسبب ضغوط مورست عليهم وانسحاب بعضهم بقرارات من رؤساء الكتل، في حين اتخذت قرارات انضباطية بحق الذين استمرّوا في الاعتصام، ولم يبق منهم سوى 110 نائباً قالوا إنهم اتفقوا على تقديم طعن لدى المحكمة الاتحادية للنظر بشرعية رئيس البرلمان الجبوري ونائبيه.
لكن وزارة الظرف المغلق التي أثارت كل هذه الضجة داخل البرلمان وخارجه، والتي ظلّت تحمل غموضاً وسرّية، هي واللجنة التي اختارتها، تسرّبت إلى الإعلام، وبعد التئام البرلمان مجدّداً برئاسة سليم الجبوري باكتمال النصاب، ثم إبطال قرارات النواب المعتصمين، وعادت القائمة إلى الظّهور من جديد وبصورة أقوى من السّابق، وذلك حين انتقل البرلمانيون الموالون إلى الاجتماع في قاعة أخرى غير القاعة الرئيسية التي شهدت فوضى ومشاحنات وعراك وهرج ومرج، حيث تمّت المصادقة على أسماء الوزراء الذين اقترحهم العبادي، ولم يكونوا إلاّ أسماء وزارة الظرف المغلق.
وشكّل مقتدى الصدر لولب التحرّك والمايسترو الذي يحرّك الجموع ساحباً إيّاها معه منتقلاً من ضفةٍ إلى أخرى، لدرجة أطلق عليه "بيضة القبّان"، فهو الذي حرّض الجمهور على الوقوف عند بوابات المنطقة الخضراء، وما أن شعر بأنهم قد يكونوا قاب قوسين أو أدنى من وصولهم إليها، حتى أمرهم بالانسحاب والتراجع، بل استدار نحو مجلس النواب وطلب من النواب منح الثقة لوزراء العبادي (قائمة الظرف المغلق) وحين صوّت البرلمان لصالحها اعتبر ذلك انتصاراً، ثم عاد إلى التهديد والوعيد من أي تلكؤ من إتمام الإصلاحات. ولم يكن تغيير المواقف تلك بمعزل عن تراضي بين الصدر والعبادي والجبوري، فقد رجّح انسحاب نواب الصدر توافق العبادي ـ الجبوري، ولم يكن من بدّ للكتل الشيعية الأخرى باستثناء كتلة المالكي إلاّ التوافق وإن كان بعضها على مضضٍ، كما تمسكّت الكتلة الكردية ببقاء وزرائها، واعتبرت قائمة اتحاد القوى وما حولها من كتل سنيّة أن الأساس في التغيير هو التوافق والحفاظ على ما هو قائم وليس إلغاءه.
إن ما حصل من تطور على مستوى الشارع أو البرلمان يعكس توازن القوى الجديد، الذي يؤشر لتراجع كتلة المالكي الذي حكم البلاد 2006 ـ 2014 من جهة، وتقدّم كتلة الصدر التي ارتفع رصيدها شعبياً من جهة أخرى، مع عدم ثبات مواقفها وانتقالاتها السريعة، لكن الصدر في الوقت نفسه يمتلك قدرة تعبوية هائلة ونادرة على تحريك جموع غفيرة.
والسؤال الكبير الذي يواجه الباحث في الشأن العراقي: ماذا سيعني التغيير إن لم يعالج آثار الماضي حيث تم هدر نحو تريليون دولار وضياع ثلث البلاد التي احتلتها داعش، وتخريب 4 محافظات، وفي الوقت نفسه تراجع أسعار النفط بحيث أصبحت الحكومة لا تستطيع تأدية أبسط التزاماتها وهو ما لم يحدث في تاريخ الدولة العراقية، ونعني به عدم التمكّن من دفع رواتب الموظفين؟ فماذا ستفعل وزارة الظرف المغلق لتوفير الماء الصافي والكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية والبلدية؟ وكيف ستتصرف إزاء جيش العاطلين وضحايا الحروب والنزاعات، إنْ لم يكونوا مادّة للعنف وتربة خصبة لتفقيس بيض الإرهاب والحقد والكراهية؟
إذا لم يكن التغيير الذي هو فرض عين كما يقال جذرياً، فسيكون أقرب إلى تبادل أدوار وتغيير في معادلات القوة، بحيث يرضخ الجميع أمام حشود الصدر وتهديداته، ويرتضي كل بحصته من مغانم الدولة الزبائنية.



482
الزبائنية وما في حُكمها!!
عبد الحسين شعبان
بعد مخاضٍ عسير تمكّن البرلمان العراقي من عقد جلسة مشتركة، ثم عاد وانقسم على نفسه بين موالاة ومعارضة، وتمكّن برلمان الموالاة، الاجتماع بتوفّر النصاب (173 نائباً) في قاعة أخرى برئاسة سليم الجبوري، وباستضافة رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي قدّم أسماء وزارته الجديدة، والتي عُرفت سابقاً فيما سمّي بوزارة الظرف المغلق، وأثارت حينها عاصفة من الاحتجاجات داخل البرلمان وخارجه. وكان عدد من البرلمانيين قد اعتصموا، ثم قاموا بإقالة رئيس البرلمان، لكن تجمّعهم أخذ بالتصدّع بانسحاب عدد غير قليل منهم وانحيازه إلى الموالاة، ممّا مكّن مجموعة الموالاة من عقد جلسة نظامية بتوفر النصاب برئاسة الجبوري رئيسه المخلوع والمُعاد، معتبرين الإجراءات التي اتّخذت من قبل المعتصمين باطلة.
إن هذا التطوّر الذي حصل في المشهد السياسي العراقي يعيد طرح السؤال الإشكالي: هل نحن أمام تغيير وإلى أي حدود ووفقاً لأي سياقات؟ وهل المقصود بالتغيير بعض الوزراء أم ثمة تغييرات شاملة كما يريدها الجمهور؟ علماً بأن محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتحسين أوضاع الناس وحياتهم المعيشية، وتوفير الخدمات الضرورية التي يحتاجون إليها كانت المطالب الأساسية للتغيير، إضافة إلى تجاوز نظام المحاصصة الطائفية ـ الإثنية.
في سبتمبر (أيلول) 2014 تشكّلت الوزارة الجديدة برئاسة حيدر العبادي خلفاً للمالكي في عملية شبه قيصرية، وأعلن العبادي الذي حظي بدعم دولي وإقليمي، إضافة إلى دعم القوى المشاركة في العملية السياسية، برنامجاً للإصلاح، لكن هذا البرنامج لم يتحقّق شيئاً منه على الرغم من الوعود والآجال الزمنية لتنفيذه، الأمر دفع بالشارع إلى الاحتجاج منذ يوليو (تموز) العام 2015، خصوصاً وقد شهدت البلاد أزمة مالية حادة بسبب انخفاض أسعار النفط، لدرجة أن الحكومة تلكأت في دفع رواتب الموظفين، ناهيك عن عجزها في تقديم الخدمات الأساسية، التي هي متدهورة أصلاً.
لم يكن للعبادي الذي شعر بثقل تقييد الكتل السياسية له، إلاّ أن يطلق وعوداً جديدة، وذلك لكسب الشارع لصالحه بعد أن أخذت الكثير من الأصوات التشكيك في خطته الإصلاحية، وحدث ذلك بعد نحو عام من تربعه على سدّة الحكم (أغسطس/آب/2015)، فإضافة إلى الأزمة السياسية العاصفة التي على الرغم من مرور 13 عاماً عليها، فإنها لم تجد أفقاً لحلّها، فإن استمرار تهديد داعش، خصوصاً بعد الذي حدث لسكان الموصل عند احتلالها في 10 يونيو (حزيران) 2014، وما عاناه المسيحيون وما تعرّض له الإيزيديون، عاظم من انعدام الثقة بإمكانية معالجة تدهور الأوضاع، وزاد ذلك معاناة النازحين من محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى وغيرها التي أخذت تزداد حدّة مع مرور الأيام، ووصل عددهم نحو ثلاثة مليون نازح، وامتدّت الأزمة إلى الجانب الاقتصادي والمالي، بالتزامن مع حملة تقشف وإجراءات إدارية وضريبية تحت مبررات مختلفة.
وإزاء ارتفاع موجة الاحتجاج الشعبية، إضافة إلى المطالبة بتجاوز نظام المحاصصة الطائفية والإثنية شعر رؤوساء الكتل بقلق شديد، ذلك أن أي تغيير سيطيح بامتيازاتهم، فقد كانوا طوال السنوات الماضية يغضّون النظر الواحد عن الآخر، في إطار شبكة المصالح والزبائنية والتخادم الوظيفي والسياسي والطائفي والإثني، بحيث اندحرت الدولة ومؤسساتها إلى الهاوية، وأصبحت شبه مشلولة وفاشلة، بمعناها السياسي بسبب التقاسم الوظيفي بين الكتل التي هي حاصل جمع المتناقضات أحياناً من جهة، وبمعناها الاقتصادي والإداري بالسكوت عن الفشل المركّب ونهب المال العام من جهة أخرى.
والزبائنية تعني علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية غير متكافئة بين مجموعات من الفاعلين السياسيين، على أساس المحسوبية والمنسوبية، ويسمح للزبائن الاستفادة من الدعم المشترك لكون بعضهم يوازي البعض على أصعدة سياسية واجتماعية وإدارية، وعادة ما يتسّم مثل هذا النظام بالفساد والتخلّف ومخالفة قيم الشفافية والمساءلة. ويعود أصل نظام الزبائنية إلى روما القديمة، حيث كانت هناك علاقة خاصة بين "الراعي" وهو من لديه السلطة والمال، والزبون أو "العميل"، الأدنى الذي يستفيد من نفوذه وتأثيره وهو الأمر التي الذي ينطبق على الحالة العراقية.
لم يكن التغيير الوزاري بعيداً عن الضغوط التي مارستها الكتل السياسية على العبادي، وهكذا عدنا إلى نظام الزبائنية مجدداً، بل إننا لم نغادره أصلاً، بحيث يتحكّم رؤساء الكتل بمن يتم اختياره من قبلهم باعتبارهم "تكنوقراط"، ولكن ولاءهم سيكون لمن يختارهم، وهكذا يستمر النظام الزبائني، على الرغم من الدعوات الشعاراتية التي أطلقها السيد الصدر بإلغاء نظام المحاصصة.
إن وثيقة الإصلاح التي تم تقديمها يوم 11 أبريل (نيسان) 2016 أكّدت على استمرار نظام الزبائنية حين جاء فيها "تقدّم الكتل السياسية مرشحيها للتشكيلة الوزارية إلى رئيس مجلس الوزراء، ويكون له الحق باختيار الأسماء، بما يؤكد الشراكة الوطنية" وفي الواقع ليس ذلك سوى استمرار نظام المحاصصة تحت عناوين مراعاة التوازن في المكوّنات الذي هو في جوهره نظام للزبائنية، خارج نطاق الكفاءة والنزاهة والمهنية، بتقديم الولاء والانصياع للكتل والتبعية لرؤسائها.
التشكيلة الحكومية الجديدة لم تشذ كثيراً عن نمط الحكومات المحاصصاتية ـ الزبائنية التي اعتمدت منذ الاحتلال في العام 2003 وحتى الآن، ولعلّ مثل هذه النتيجة قد ترضي الأطراف الإقليمية والدولية (طهران وواشنطن بشكل خاص) اللتان تعلنان تأييدهما للعبادي وأولوياتهما لمحاربة داعش. أما المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد ظلّت عائمة ودون حسم مثل قانون المساءلة والعدالة (اجتثاث البعث سابقاً) والمادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، ومسألة المخبر السرّي ومستقبل الحشد الشعبي والحرس الوطني، إضافة إلى قانون مجلس الخدمة الاتحادي وقانون العفو العام وقانون النفط والغاز وقانون مجلس الاتحاد وقانون الأحزاب وغيرها.
ولعلّ سؤالاً وجيهاً يواجه الباحث، لماذا لا تريد الكتل السياسية التغيير الحقيقي، على الرغم من دعاواها ضد الفساد والمفسدين، والجواب بسيط جداً ويستبطنه السؤال، وهو الإبقاء على نظام الزبائنية، وربط الوزراء بها وضمان ولاءهم لها، وبذلك سيكون هناك عقداً سرياً أو علنياً بينها وبينهم، الأمر الذي سيعني بقاءهم في إطار شبكة العلاقات والمصالح والتخادم، وهذا ما قاد إلى أن تصبح الدولة غنيمة يُراد تقاسمها وفقاً لنظام الزبائنية التي لفّت شبكتها القوى المتعارضة والمتوافقة في الآن ذاته، وكل يريد حصة أكبر من الدولة على حساب الآخر.


483
مشروع التفكيك الجديد
عبد الحسين شعبان
هل يعتبر مشروع داعش جديداً بخصوص تفكيك دول المنطقة، أم أنه إحدى حلقات التفكيك الجديدة لمشروع قديم، ابتدأ منذ نحو قرن من الزمان؟ فخلال الحرب العالمية الثانية اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم المشرق العربي إلى دول وكيانات، وأبرمت في العام 2016 اتفاقية عُرفت باسم اتفاقية سايكس ــ بيكو، لكن ثورة أكتوبر الروسية العام 1917 كشفت هذه الاتفاقية السرّية والدبلوماسية التي تقف خلفها، والتي تسعى إلى فرض الهيمنة على المنطقة، محرجة كل من بريطانيا وفرنسا، وهو ما ظهر في مراسلات الشريف حسين ــ مكماهون.
والسؤال هل استنفد مشروع التفكيك القديم أغراضه؟ أم أن ثمة تغييرات وتطورات جديدة، تستوجب استكمال المشروع القديم أو الاستعاضة عنه بمشروع جديد يحقق الأهداف الاستراتيجية ذاتها؟ جدير بالذكر أن مشروع التفكيك الجديد يأتي مترافقاً مع الموجة الجديدة من الإرهاب الدولي والتطرّف والتعصب التي ضربت المنطقة، والتي ساهمت في زيادة تخلّفها وعزلتها، فضلاً عن ارتفاع منسوب العنف، تحت عناوين الدين والطائفية والإثنية وغيرها.
لقد اقتضت المرحلة الثانية ما بعد اتفاقية سايكس- بيكو إخراج مشروع «إسرائيل» إلى حيّز النور، بعد أن كان في الأدراج والمؤتمرات والكتب، وفي أحسن الأحوال عبر وعد منحه «من لا يملك لمن لا يستحق»، حسب تعبير جمال عبد الناصر، والمقصود بذلك وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا، الذي أعطى بموجبه لليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين العام 1917.
وقد عملت الصهيونية قبل ذلك وبالترافق معه، على احتلال العمل واحتلال السوق واحتلال الأرض لاحقاً، تمهيداً لقضمها بالتدرّج والتوسع منها لاحتلال كامل فلسطين وأجزاء من الأراضي العربية، في عدوان شامل ومستمر واجتياحات وغزو. وهو ما تم وضع خطته من جانب الصهيونية العالمية منذ مؤتمر بال العام 1897.
وحصل الأمر بالفعل، فقد أنشئت دولة «إسرائيل» بقرار من الأمم المتحدة، وبإخراج دولي ساهم فيه الغرب والشرق، بصدور ما سمي بقرار التقسيم رقم 181 العام 1947 وتأسست بالفعل في 15 مايو/‏‏أيار العام 1948. وتوسّعت «إسرائيل»على حساب العرب في إطار عدوان وقضم مستمرين ومشاريع حرب جاهزة، ابتداء من العدوان الثلاثي الانكلو- فرنسي «الإسرائيلي» على مصر العام 1956، وعدوان 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وحرب العام 1973، وإن ألحقت هزيمة عسكرية لأول مرة بالجيش «الإسرائيلي»، و«بإسرائيل» وحلفائها اقتصادياً باستخدام سلاح النفط، لكن نتائجها السياسية لم تكن تتوافق مع الانتصار العسكري، وغزو جنوب لبنان العام 1978 واجتياحه واحتلال العاصمة بيروت العام 1982، ثم عدوان العام 2006 ضد لبنان، والعدوان المتكرر على غزة المحاصرة منذ العام 2007.
وكان برنارد لويس الباحث والمستشار الأمريكي الجنسية، البريطاني الأصل، والصهيوني التوجّه، الذي عمل مستشاراً لوزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، قد بلور نظرية أخضعت للدراسة والمناقشة، بهدف بلورتها في إطار ما يُعرف «تروست الأدمغة» في عهد الرئيس جيمي كارتر 1977-1981، وهو المجمّع الفكري- الأكاديمي الإعلامي للعقول، الذي يقدّم خدماته للمجمّع الصناعي - الحربي وللرؤساء تحديداً، والذي ارتفعت مكانته منذ عهد الرئيس جون كينيدي الذي اغتيل في 22 تشرين الثاني/‏‏نوفمبر العام 1963.
وجوهر نظرية لويس يتعلق بتفكيك دول المنطقة، من خلال دفع شعوبها ودولها للاقتتال والاحتراب، ثم تأتي الخطوة اللاحقة لحصد النتائج ورسم الخرائط، من خلال تشطيرها إلى دول ومجاميع وكانتونات ودوقيات، عرقية ودينية ومذهبية وطائفية، وتحديد حدود كل مجموعة إثنية، أو دينية، أو مذهبية، ليتم التفكيك أولاً، وليصار إلى تقسيم المقسّم وهكذا. ولا شك في أن هناك عوامل داخلية تُمكن القوى الخارجية من الاستناد إليها لتنفيذ استراتيجياتها، ونقصد به شحّ الحريات، وعدم إقرار التعددية والتنوّع والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية، وعدم المساواة، فضلاً عن الفقر والأمية والتخلّف.
لا يحتاج المرء إلى كثير من التكهن ليعرف أنه سيتم القضاء على «داعش» إن آجلاً أو عاجلاً، لأنه ضد منطق الحياة، وضد الطبيعة الإنسانية، وضد التطور، ولكن ماذا بعد «داعش»؟ إنها الخشية الحقيقية إلى وصول مشاريع التفكيك إلى صيغتها التنفيذية، أي القبول بها باعتبارها أسوأ الحلول الممكنة، بعد احترابات دموية وصراعات عنفية وحروب ونزاعات عسكرية إقصائية وإلغائية.
drhussainshaban21@gmail.com



484
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
أعجبتني المراسلات المكتوبة بلغة شيقة بين الشاعرين حميد سعيد وسامي مهدي
الحلقة 5/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

وذلك لأنه يخشى من الاجتهاد ويتردّد من البوح باستنتاجاته، وهذا خلاف العلوي، فالعلوي حين تركبه فكرة، هو من يحاول أن يمتطيها والإقلاع بها، ليضعها بيد الناس، لفحصها وتدقيقها، وإذا ما اكتشف عدم دقتها، يتراجع عنها بجرأة.
إن حيويته وديناميكيته وجرأته واجتهاده والأكثر من ذلك ما منحه لنفسه من هذا القدر من الحرية، يجعله ريادياً وطليعياً ومجتهداً أصاب أم أخطأ، ففي الأولى له حسنتان وفي الثانية له حسنة الاجتهاد حسب الإمام الشافعي.العلوي مثير للجدل وهو شخصية إشكالية، وأي مفكر ينبغي أن يكون إشكالياً، وكل متميّز هو شخص إشكالي، لأنه منشق ومتمرد ومختلف عمّا هو سائد، والمثقف بطبيعته غير ميّال للسكونية لأنه قلق ومسكون بهاجس الإبداع والتغيير.
يمكنني المرور سريعاً ببعض الأسماء مثل جليل العطية، وهو جمع بين قلم المؤرخ والمحقق ولغة الإعلامي، وفايق بطي الذي له مساهمة كبيرة في جمع أرشيف الصحافة العراقية، وهناك أقلام مهمة مثل قلم يوسف العاني، الذي أرخ للمسرح وقلم الفنان التشكيلي محمود صبري صاحب نظرية واقعية الكم، وقلم هادي العلوي التراثي المجدد والجريء والذي يقول عن نفسه إنه سليل الحضارتين العربية – الإسلامية والفلسفة التاوية الصينية، وكل ذلك في إطار من النزاهة الأخلاقية والزهد الحقيقي.
ولا ننسى قلم عزيز السيد جاسم الذي مزج الفلسفة بالرواية والنقد بالسردية السياسية، في إطار لغة إعلامية مثيرة وسجالية. وكان فلك الدين كاكائي صحافياً متميّزاً وعميقاً ومطلعاً على التراث العربي والفارسي والتركي، إضافة إلى التراث الكردي. وحسبي هنا أن أذكر الصحافي محمد كامل عارف، وهو من أرخ لعلماء العراق ولكوكبة من الأكاديميين، ومن سلّط الضوء عليهم في منافيهم، وكذلك من لفت الانتباه إلى إبداعهم، بما فيهم المهندسة المعمارية اللامعة زها الحديد.
يجدر بنا تذكّر يوسف الصايغ وعموده الشهير " أبو الهيجا" ورشدي العامل، وقد أعجبتني المراسلات المكتوبة بلغة شفيفة وعميقة بين الشاعر حميد سعيد والشاعر سامي مهدي، وأتذكّر ما كان يكتبه الشاعر بلند الحيدري لمجلة المجلة الأسبوعية من ضوء على أحداث وقضايا ثقافية وفكرية وأدبية، وهو إلى جوار الروائي الطيب صالح صاحب العبارة الجذّابة والآسرة وظلّت روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" تثير فينا الكثير من الأسئلة والتداعيات منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان. وأشير هنا إلى سعد البزاز ومساهماته الإعلامية، وخصوصاً بعد صدور صحيفة الزمان في لندن وتأسيس قناة الشرقية، وقبل ذلك ألفت الانتباه إلى ما كتبه في صحيفة الشرق الأوسط.
لقد ورطتني في الحديث عن إعلاميين كبار وصحافيين معظمهم تربطني بهم علاقات صداقة وبالطبع فإن ذلك ما يحضرني الآن فقط وبهذه العجالة، وهناك جيل يعقبهم  يضم عشرات الأسماء المتميّزة مثل: سعود الناصري وزيد الحلي وليث الحمداني وفاضل الربيعي وجمعة الحلفي وأحمد عبد المجيد وحميد المطبعي وعبد المنعم الأعسم وآخرين. ومرّة أخرى أقول هذا ما تستحضره الذاكرة بلمحة خاطفة.
وعلى الرغم من إننا في اليسار كنّا ننتقد محمد حسنين هيكل، وكنّا أحياناً نتناقل إشاعات عنه، بما فيها رفض السوفييت في إحدى زيارات عبد الناصر إلى موسكو، السماح له بالدخول أحد المواقع المهمة، معتبرين ذلك حقائق سرمدية كجزء من الحرب الباردة بينا وبين القوميين، خصوصاً وإننا كنّا نصنّفه على الإتجاه اليميني، وتركز ممثل هذا الاعتقاد في صفوفنا. أقول على الرغم من ذلك، وما هو أقرب إلى يقينيات، لكنني كنت كثير الإعجاب بما يكتب وبأسلوبه ولغته، وازداد إعجابي به بعد أن انتقل من الكتابة الصحافية، إلى التأليف، فقرأت له بشغف " خريف الغضب" و"مدافع آيات الله: قصة إيران والثورة" و " لمصر لا لعبد الناصر" و"زيارة جديدة للتاريخ" . وأعتقد أنه أضاف الكثير إلى الصحافة العربية، مثله مثل مصطفى أمين وعلي أمين، وعلى مستوى لبنان ميشيل أبو جودة وغسان تويني وجريدة النهار العريقة وجريدة السفير منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان،  ولا ينبغي أن ننسى دور غسان كنفاني ورئاسته لمجلة الهدف وروايته "عائد إلى حيفا" وبرقوق نيسان ورجال في الشمس ، إضافة إلى بسّام أبو شريف وعشرات من الصحافيين البارزين.
لا زلت أعتبر أن أجمل عمود يكتب اليوم في الصحافة العربية، هو عمود سمير عطالله، ففيه من المعلومات خزين كبير ويكتبه بلغة بالغة الشفافية والتكثيف والأناقة، تلميحاً وتصريحاً. وكذلك عمود جهاد الخازن الذي يغنيك بالمعلومات والالتفاتات والانتقالات غير التقليدية، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية.

س :وفق ما يدور في الأوضاع المحلية والعربية والعالمية ماذا ترون هل أن سايكس بيكو جديدة مقبلة أم أن
الحراك الشعبي سيكون له كلمته لإيقاف التدهور في أوضاع المنطقة والعالم ولاسيما العراق ؟؟
ساهمت موجة التغيير في أوروبا الشرقية التي أطاحت بالأنظمة الشمولية بزيادة عدد الدول على صعيد العالم، ومثلما انتعشت الهوّيات الفرعية في الثمانينيات في أوروبا الشرقية وأدت إلى قيام دول جديدة، فإن إشارات واحتدامات غير قليلة بدأت تتجمّع في إطار جدل وصراع بين الهوّيات، الأمر الذي قد يدفع باتجاه انقسام العديد من دول المنطقة، وهي احتمالات تبقى واردة، بل أن هناك من يسعى إليها، ارتباطاً بظروف السياسة الدولية ومآلاتها ومصالح القوى الكبرى ومحاولاتها في فرض الاستتباع والهيمنة، خصوصاً لوجود عاملين أساسيين هما: "حماية أمن إسرائيل" و"تأمين الحصول على النفط"، وإذا كانت هناك مزاعم قديمة بمواجهة "الخطر الشيوعي"، فإن المزاعم الجديدة تركّزت على مواجهة " الخطر الإسلامي" المتمثل بالارهاب الدولي.
وقد لفت انتباهنا مؤخراً، ولاسيّما خلال موجة التغيير العربية، هو حجم التوقعات التي سبقته ولحقته، من خلال العديد من مراكز الأبحاث و" تروست الأدمغة " وعلى سبيل المثال لا الحصر هو ما يتوقعه الباحث الهندي الأمريكي باراج خانا من مؤسسة أمريكا الجديدة  New America Foundation في كتاب أصدره عشيّة التغييرات في العالم العربي بعنوان " كيف ندير العالم  How to Run The World"، حيث يذهب إلى احتمال وصول دول العالم إلى نحو 300 دولة خلال العقود القليلة القادمة، أي أنها ستزيد بأكثر من 100 دولة.
ولعلّ موجة الانشطار الأميبي المتوقّعة تلك كان قد أطلق عليها "مرحلة ما بعد الاستعمار" (الكولونيالية)، لأنه يعتبر العديد من البلدان نشأت من رحم مستعمرات قديمة، وشهدت منذ الاستقلال انفجاراً سكانياً هائلاً، كما عانت من الدكتاتوريات وفسادها، ومن صراعات عرقية ودينية وطائفية، ناهيكم عن بنية تحتية ومؤسسات متداعية، الأمر الذي سيدفعها إلى الانفصال.
ويعزو خانا أسباب الكثير من الصراعات الداخلية إلى الحدود القائمة اليوم (خارجية وداخلية)، وهو أمرٌ عانت منه الكثير من المجتمعات: اليمن وباكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ويعيش العراق اليوم أحد فصوله المأساوية، ولاسيّما بعد سيطرت داعش على الموصل وتمدّدها إلى مناطق واسعة لنحو ثلث العراق، وإلغاء الحدود مع سوريا وربط الرقة ودير الزور بالموصل بهدم حدود سايكس – بيكو، حيث ينفجر العنف على نحو جنوني، مثلما تعاني منه سوريا منذ تحوّل حركة الاحتجاج السلمية إلى نزاع مسلح، ومن خطر استمرار العنف المنفلت من عقاله من جانب داعش.
وكانت منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين عرضة للتقسيم الذي وجدت ضالته خلال الحرب العالمية الأولى، حين وقعت بريطانيا وفرنسا، على اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، وبموجبها، تم تقسيم الامبراطورية العثمانية ( حليفة ألمانيا ضد دول الحلفاء) بينهما، وقد كشفتها روسيا البلشفية ونشرت وثائقها بعد ثورة اكتوبر العام 1917.
ولكي يتكرس التقسيم، بل يتحوّل إلى أمر واقع، فقد عملت القوى الامبريالية والصهيونية، إنشاء "إسرائيل" في العام 1948، لتكون عائقاً في خاصرة أية وحدة أو اتحاد أو حتى تنسيق أو تقارب بين دول المنطقة، وهو الأمر الذي يفسّر توظيفها لكل الإمكانات والطاقات للاطاحة بالجمهورية العربية المتحدة، التي أقيمت في العام 1958، وقد حصل لها ما أرادت في الانفصال العام 1961.
كما بقيت العلاقات العراقية- السورية متدهورة منذ استقلال سوريا العام 1946 ولغاية الآن، باستثناء فترات قصيرة جداً، تم فيها تطبيع متعثر، مهما اختلفت الأنظمة: ملكية أو جمهورية، يسارية أو يمينية، بعثية أو غيرها، وعلى الرغم من وجود نظامين بعثيين خلال عقود من الزمان، يزعمان أنهما يؤمنان بالوحدة العربية، لكن قضية الوحدة صارت أقرب إلى الكابوس منها إلى الحلم على أيديهما.
وكان زبيغنيو بريجنسكي قد دعا في كتابه " بين عصرين- أمريكا والعصر التكنوتروني" الصادر في العام 1970 إلى إعادة تشكيل " الوطن العربي" على شكل كانتونات عرقية ودينية وطائفية، ففي ذلك وحده سيسمح للكانتون "الإسرائيلي" أن يعيش في المنطقة. وواصل برنارد لويس فكرة تقسيم الدول العربية، بحيث تضيع ملامح الفكرة العروبية، بصعود الهوّيات الفرعية " المصغّرة" للمكرو دويلة التي سينقسم إليها العرب.
وحسب الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، فليس من المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه وتنفصل هذه البلدان، فجنوب اليمن جاهز، والمملكة العربية السعودية وإنْ كانت شاسعة، فقد تشهد دولة للمنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وأخرى للأماكن المقدسة.
وتميل القوى الغربية إلى شرق أوسط متصارع ومنقسم، بل أقرب إلى التشظي، وهو ما تشجّع عليه الغرب، بل ستساهم فيه كما يقول خانا، وعندها ستكون "إسرائيل" قادرة على فرض قوتها ونفوذها في المنطقة بأسرها، ويواصل باراج خانا سيناريوهاته في مقالة أخرى بالتعاون مع فرانك جاكوبس التي قام بترجمتها مركز الزيتونة في بيروت، حيث يتم تناول سوريا التي لن تعود إلى سيرتها الأولى بعد " الاقتتال" الدائر فيها، ولربما ستصبح شبيهة بلبنان حيث الديانات تتنازع حقوقاً لمحتلي أملاك الغير، بسبب ضعف الحكومة المركزية.
يقول خانا وجاكوبس: قد تعود سوريا إلى التقسيم العرقي الذي وضعه الفرنسيون: دولة للدروز وأخرى للعلويين في الساحل والجبل ودول منفصلة في دمشق وحلب للسنّة، ويمتد الأمر إلى إيران وبقدر تمدّدها الخارجي، فهي عرضة لانهيار داخلي، وهناك 20 مليون اذربيجاني شمال إيران (مدينة تبريز) وقد يلتحقون باذربيجان أو يتحالفون مع تركيا بحكم أصولهم العرقية، وهو أمرٌ قد يقوّض هيمنة أرمينيا على إقليم ناغورني- كارا باخ المتنازع عليه.
وأفغانستان هي الأخرى يمكن أن تنقسم بعد الانسحاب الامريكي إلى باشتوستان وقد ينفصل شعب بلوشستان في دولة خاصة، في منطقة غنية بالغاز، وحسب رالف بيترز فإن ما تخسره أفغانستان غرباً لصالح إيران، يمكن أن تكسبه شرقاً من باكستان، وهكذا يتم عبور الحدود بحدود جديدة وبكل الاتجاهات.
وحسب هذه السيناريوهات، فإن خارطة الشرق الأوسط ستشهد دولاً جديدة لا تنشأ عبر الانفصال حسب، بل من خلال ولادات جديدة، بدلاً من الخصومات القديمة: ولكن بعضها سيكون معزولاً وبعيداً عن السواحل(جنوب السودان وفلسطين وكردستان)، الاّ إذا تم تجهيزها ببنية تحتية جيّدة تربطها بالأسواق العالمية، إلى جانب أنابيب النفط المتجهة إلى أوروبا أو عبر البحر المتوسط، حيث ستكون الروابط الخارجية، هي سياسة حمائية لتأمين عدم انقيادها للدول المجاورة، الأمر الذي يحتاج إلى بناء سلمي.
وإذا كانت سايكس بيكو الأولى في مرحلة الكولونيالية، فإن سايكس بيكو الثانية هي التعبير النموذجي عن مرحلة ما بعد الكولونيالية، وبغضّ النظر عن ما هو مضمر، فإن ما هو معلن، ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لكي لا نأتي بعد قرن من الزمان، ونتحدث عن سايكس بيكو ثالثة، لا سمح الله!



485
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الإعلام عنصر تغيير هائل وهؤلاء هم منابر الصحافة في العراق
الحلقة 4/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

س :الاحتلال الأمريكي بعد 2003 كرّس الطائفية وشلّ الذراع العسكري للبلاد بحل الجيش السابق والشرطة ..وإلغاء
وزارة الإعلام والصحف الآن منذ اثني عشر عاماً الحكومات التي تعاقبت تحاول بشتى الوسائل إسكات المنابر الإعلامية الحرّة المستقلة من التواصل ..كيف ترون مستقبل هذه الصحف والإعلام المستقل في العراق ؟

الاحتلال الأمريكي لم يقم بإسقاط النظام السابق، بل أطاح بالدولة العراقية، لاسيّما بحل الجيش والأجهزة الأمنية، بما فيها شرطة الحدود وشرطة مكافحة الجريمة وشرطة النجدة وغيرها، وعلى الرغم من افتضاح فريّة اتهام العراق بتخزين وإنتاج أسلحة دمار شامل وضلوعه بالإرهاب الدولي، وهو ما اعترف به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في وقت لاحق، فإن الاحتلال حاول تصميم عملية سياسية على هواه ووفقاً لمذاقه، وهو ما عملت عليه أجهزة أمنية أمريكية لمدة طويلة ومراكز أبحاث ودراسات، تلك التي كانت تعمل على إلغاء صفة العراقية عن العراقي وطمس هويته المشتركة وتغييب صفة الشعب بحيث يصبح العراقيون مجرد كيانات مذهبية وإثنية، فهم شيعة وسنّة وأكراد، وليسوا مواطنين لهم الحقوق والواجبات ذاتها كما تقول الأنظمة الديمقراطية.
وحتى عرب العراق وهم الذين يؤلفون أكثر من 80% من سكانه فإنه تم تغييب صفتهم وتوزيعهم على طوائف افترضوا تناحرها، والأكثر من ذلك حاولت هذه المراكز اعتبار العروبة صفة لصيقة بالنظام السابق، بمنحه هذا الامتياز، بل وتحميل العرب وزر ارتكاباته الصارخة وانتهاكاته السافرة لحقوق الإنسان، وساعد بعض المعارضين من الذين عملوا في تلك المراكز وبعقود خاصة مع البنتاغون بصفة مستشارين في بلورة مثل تلك الرؤية، وهو ما جاء دورهم في وقت لاحق بعد الاحتلال، ويتم اليوم تحضير الخط الثاني المتعاون مع الاحتلال بعد فشل مجموعة الخط الأول، الذين تدهورت سمعتها وطالبت  التظاهرات الشعبية بمحاسبتها، وتبرز اليوم بعض الوجوه وتردّد بعض الأسماء التي عملت في إطارات الأجهزة الأمريكية بصفة أكاديمية أو بحثية، وهي الظهير الآخر للقوى السياسية المتعاونة مع الاحتلال.
صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية كانت تعني وجود منابر إعلامية مختلفة، وفي البداية وبعد حل وزارة الإعلام وتسريح موظفيها ، مثلما تم تسريح نحو 250 قاضياً ومئات من أساتذة الجامعة ومن مراكز وظيفية حيوية في مفاصل الدولة، انفلت الإعلام ، وهو جزء من الفوضى الخلاقة التي أراد الأمريكان تعميمها، حتى إنهم موّلوا مراكز أبحاث (مزعومة) وصحف ومؤسسات إعلامية ودفعوا مبالغ لمؤسسات مجتمع مدني، قال بريمر نفسه إنه دفع في فترة حكمه 780 مليون دولار، لا أحد يعرف أين ذهبت؟
ولم تفصح لنا مفوضية النزاهة التي تشكّلت لاحقاً، مَنْ تعاطى منها مع المشاريع الخارجية واستلم المساعدات من بريمر وغيره وكيف تم صرفها، بل إن بريمر دفع لمؤسسات إعلامية على ما ينشره صحفيون بأسمائهم، وبالطبع لتبرير الاحتلال باعتباره أمراً واقعاً، ولابدّ من التعامل معه، وهو الأمر الذي أشار إليه في كتابه " عام قضيته في العراق".
الفورة الإعلامية الأولى لم تستمر لانقطاع بعض مصادر التمويل، كما إن الأمريكان أنفسهم لم يعودوا بحاجة إلى من يروّج لهم وقد ازدحمت الكثير من "المؤسسات" والشخصيات التي تطلب العون منهم، كما أنهم بدأوا يضعون خطوطاً حمراء على من يصنفونهم "أعداء الاحتلال" أو من "النظام السابق" ، أو إنهم يحملون أفكاراً قومية ويسارية ترفض الحداثة وما بعدها، والمقصود الاحتلال وذيوله.
وعلى الرغم من إن الكثير من المؤسسات والشخصيات تقوم بأعمال الدعاية لأطراف من الحكم وتروّج لهم، لكن فلسفة الحكم إزاء الإعلام الحر كانت غامضة وملتبسة، ثم تحوّلت إلى اعتبار أي نقد أو اختلاف في الرأي، عدائية وكراهية، لدرجة إن عقوبات أقدمت عليها ضد قنوات فضائية  ووسائل إعلامية مختلفة، ناهيك عمّا تعرّض له الإعلاميون من أعمال تصفية وقتل واختفاء قسري، لدرجة إن العراق خلال فترة ما بعد الاحتلال كان البلد الأكثر في العالم الذي يصنّف بعدم الأمان وخطورة العمل الإعلامي فيه، وخلال الفترة المنصرمة سقط أكثر من 400 إعلامي، واضطرّ مئات منهم إلى الهجرة، ناهيك بتعسّر أوضاع آخرين.
لقد انتهت فترة ما يسمى بالإعلام المركزي أو الإعلام الموجه أو الإعلام الدعائي، الذي يجعل المنابر الإعلامية خارجه في دائرة الاتهام أو الشك إنْ لم يكن الإدانة بالتخريب أو خدمة مخططات أجنبية، والمسألة لا تتعلّق بالرغبات، لأن ثورة المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل"، وبوجود الفضائيات والانترنيت والموبايل (الهاتف المحمول) أو التوتير أو غيره، جعلت من الإعلام زائراً لك بدون استئذان في كل ثانية، ولا يمكن حجب الخبر أو الصورة التي تصلك بعد لحظات أحياناً من وقوع الخبر. لذلك فإن محاولات حجب حق التعبير أو وقف قناة أو إنذار جريدة أو إغلاق منبر إعلامي، ليست ذا جدوى، وهي صيغة لا تمت إلى الحاضر، ومن يتبعها ينتمي إلى الماضي الذي لا يمكن إعادته، فالماضي مضى وليس بالإمكان استعادته  أو العيش فيه.
نحن في حاضر سريع الحركة بقدر سرعة الضوء وأكثر ، والإعلام عنصر تغيير هائل وهو ثورة حقيقية، وحتى الحروب الأخيرة، فإن الحرب الإعلامية كانت فيها حاسمة، بل إن لها اليد الطولى، ولذلك ينبغي المحاربة بلغة العصر وبسلاحه، بالكلمة والصورة والفكرة النظيفة والفن الراقي، وليس بأسلحة عفا عليها الزمن، أي من خلال وسائل الدعاية  السوداء وأعمال التضليل والخداع وبأشكال الترويج الآيديولوجي الممجوجة والمستهلكة.
وتوازي ميزانيات الإعلام في بعض الدول ما يخصص من ميزانيات للجيوش أو للتسليح، الأمر الذي يعني إن المعارك الحالية، هي معارك تخاض بالإعلام، وتبدأ به وتنتهي به، وهي التي تحدد مقدار النجاح والفشل في الميادين الأخرى. ولخطورة مثل هذا الأمر فلا بدّ من استخدام الوسائل الإعلامية بصورة ناجحة ودقيقة، بحيث تكون المدفعية الثقيلة نحو الهدف الأساس، وتأتي بعدها المعدّات الأخرى.
على أية سلطة تحترم نفسها، أن تحترم حرية الإعلام وحق التعبير باعتباره حق أساسي للإنسان، وذهب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتأكيد ذلك في المادة 19 منه بحق الحصول على المعلومات ونشرها وإذاعتها بالوسائل الممكنة، وهو ما أكده العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1976 باعتباره اتفاقية  دولية شارعة، أي منشئة لقاعدة قانونية جديدة أو مؤكدة لا، وقد تأسست منظمة للدفاع عن المادة 19 اسمها " Article 19".
الصحافة سلطة رابعة أو "صاحبة الجلالة" كما يطلق عليها، والإعلام اليوم مؤثر وهو يمثل جوهر الحقوق وأدائها في الآن، فحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر حرية التعبير التي أصبحت من مسلّمات أي نظام عصري وديمقراطي، وللأسف فإن بلادنا العربية والإسلامية لا تزال تعاني من شحّ الحريات، ولاسيّما حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات ونشرها وإذاعتها، وعلى الإعلامي (الصحافي) أن لا يتنازل عن سلطته، فهذه هي معرفته ومصدر معلوماته، والمعرفة هي الأخرى سلطة حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، وبالتالي فإن هذه الوسيلة الإبداعية المعرفية ينبغي توظيفها بالاتجاه الصحيح، وعدم تسخيرها لمصلحة أحد، سلطة أو جماعة أو حزب أو طائفة أو عشيرة، بقدر الإفادة منها لخدمة المجتمع وتطوّره ولكشف الحقائق والتأشير إلى مصادر الخلل والنقص والضعف والانتهاك.
الإعلامي مؤرخ اللحظة حسب البير كامو، وبالتالي فإنه ينبغي أن يكون أميناً على نقل الخبر وتلك مهمته الأولى، وهي المهمة التي ستكون أساساً للبحث والدراسة والقراءة السسيولوجية والسيكولوجية ، لما حصل وما يحصل، والخميرة الأساسية في ذلك هو عمل الإعلامي ودوره في نقل الخبر بحيادية ومهنية وموضوعية، خارج نطاق الصراع الآيديولوجي والاحتراب السياسي والديني والحزبي والطائفي وبقدر ما يكون الإعلامي أميناً على ذلك، يحظى بالصدقية والنزاهة ويسهم في علمية السلام الاجتماعي وتحقيق أهدافه في نشر قيم التسامح واللاعنف والمشترك الإنساني عن الحقوق والحريات.

س:كونكم عاصرتم ومن خلال نضالكم في مجالات السياسية والفكرية والإعلامية  من هي الشخصيات الإعلامية التي ترى أنها كانت مؤثرة في أقلامها ومواقفها الثابتة في كل العصور دون أن تغير من اتجاه أقلامها إلى أي جهة
كانت سواء بالإغراء أو التهديد ؟؟
شهد العراق صحفاً ومنابر إعلامية مؤثرة، مثلما عرف صحافيين مهنيين وأقلاماً حرّة وبسرعة خاطفة وعفوية أشير إلى إعلاميين كبار يحضروني الآن وفي مقدمتهم، رفائيل بطي رئيس تحرير وصاحب جريدة البلاد، الذي كان صحافياً يسيل من قلمه حبر الأديب كما يقال، وكان عبد المجيد الونداوي صحافياً متميزاً في صحيفة الأهالي التي أصدرها الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة الجادرجي، وكانت كلمة اليوم للصحافي أبو سعيد " عبد الجبار وهبي" في صحيفة اتحاد الشعب بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، صورة متميّزة بأسلوب مؤثر لصحافي موهوب، وكان عامر عبدالله، وهو القيادي الشيوعي، يمتلك قلماً نافذاً وجملته عميقة وموزونة، وهو وإن سرقته السياسة، لكن مقالاته الصحافية وكتاباته التي كانت تنشر ما بعد الثورة وحتى وفاته، تركت أثراً كبيراً في أسلوب معالجتها وفي طريقتها الشيقة، وهو ما حاولت إضاءته في كتابي عنه " عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل".
وكان أبو كَاطع " شمران الياسري" الصحافي والروائي الساخر الأكثر قراءة في أواخر الستينات في مجلة الثقافة الجديدة أو في صحيفة طريق الشعب، وكان مثل بارومتر يعكس درجة الحياة السياسية، وكان القراء يقرأون الصحيفة بالمقلوب، أي من عموده في الصفحة الأخيرة . وهو استمرار لبرنامجه الإذاعي المشهور: احجه بصراحة يبو كاطع. وأود أن أنوّه بالصحافي إبراهيم الحريري، وعموده الشهير " صديق حمدان" في صحيفة اتحاد الشعب، وما كتبه في صحيفة طريق الشعب باسم "زكّور"، وكتاباته تمتاز بالسلاسة وخفّة الظل.
ويجدر بي الإشارة بالدور الكبير الذي لعبه عميد الصحفيين سجاد الغازي على مدى عقود من الزمان، وهو من المطبخ الداخلي الملم بالصحافة بكل تفاصيلها. وكذلك بالصحافي اللامع والمخضرم والعميق فيصل حسّون.
وأتوقّف باعتزاز بالصحافي والكاتب والمؤرخ المفكر البارز حسن العلوي، وبكل ما كتبه، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا عليه، فأسلوبه رشيق ولغته جميلة وجملته أنيقة وفكره جوّال وكتاباته مثيرة. وأعتقد أن العلوي جمع أربع صفات أساسية في شخصه، فهو الإعلامي الذي يعرف معنى الخبر وكيف يصوغه ويضع عنواناً له وكيف يوظفه ومتى يبثه وأي طريقة يختار وأي وقت يقوم بتعميمه. وهو المؤرخ الذي ساهم في إعادة قراءة تاريخ الدولة العراقية، مقدماً استنتاجات مثيرة، لدرجة جعل الكثير يختلفون حولها إيجاباً أو سلباً، وتلك بحد ذاتها مسألة في غاية الأهمية، لأنه أثار مثل هذا النقاش، وهو نقاش حول كل ما يقوله ويتفوّه به وحتى لمن لم يقرأه فإن متابعة حواراته التلفزيونية تعطيه مثل هذا الانطباع، بحيث يختلف عليه الآخرون، وذلك انطلاقاً من كونه باحث سسيولوجي في علم السياسة.
العلوي حيوي ومبادر وجريء وشجاع، وتلك مواصفات المفكّر، ولا يوجد مفكر جبان، لأنه سوف يحجم عن قول الرأي ويتردّد باستنباط  الأحكام، وإن فعل ذلك فإنه سوف لا يتجرأ على تعميمها، وبهذا المعنى سيتقوقع ضمن دائرته التقليدية، تارة بحجة الانضباط وأخرى باسم عدم التدخل بالسياسة وثالثة تحت عناوين مدرسية باسم المهنية أو الأكاديمية المفرغة من محتواها الحقيقي.


486
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور
الحلقة 3/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

بمراجعة سريعة للحقبة الماضية نرى أن الأحزاب الشمولية جميعها فشلت، سواء كانت قومية أو ماركسية أو دينية، لأنها برّرت إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بالتعددية والإقرار بالتنوّع. فالأحزاب القومية ونموذجها حزب البعث الذي حكم العراق ثلاثة عقود ونصف من الزمان وهيمن على الحياة السياسية، حوّل قيادته للدولة والمجتمع من "الحزب القائد" إلى " الحزب الواحد"، ومن حزب يمثل الشعب أو الأمة كما يقول إلى حزب جهوي ومناطقي، وهكذا خضع حزب إلى قيادة العشيرة، ثم العائلة، وخصوصاً بعد استيلاء الرئيس صدام حسين على السلطة في العام 1979، وتربّع على رأسها ورأس الدولة بصلاحيات تكاد تكون مطلقة، فهو الأمين العام للحزب ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء.
وبزعم امتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضليات، بدأت مسارات الدولة والمجتمع تتّجه إلى الواحدية والإطلاقية والإجماع حتى وإن كان مصطنعاً، بتضييق وإلغاء أي اختلاف أو خلاف، وإلاّ كيف تفسّر أن يبتهج الحزب الحاكم بفوز رئيسه في استفتاء يحصل فيه على 100%  من الأصوات، ثم كيف يوقّع اتفاقية 6 آذار (مارس) المذلّة العام 1975 مع إيران وتحظى بالإجماع، ويلغيها بالإجماع في العام 1980 ويشن حرباً تستمر ثماني سنوات 1980-1988 ( بالإجماع) ويعود إلى اتفاقية 6 آذار (مارس) بالإجماع، وخصوصاً بعد التورط بغزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، برسالة من صدام حسين إلى الرئيس هاشمي رفسنجاني في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1990.
أليست تلك كوموتراجيديا، وهي سخرية أقرب إلى المأساة ، وحسب شكسبير أنها: سخرية القدر، أو كما يقول عنها ماركس: إنها سخرية التاريخ، وهي سخرية الزيف والمشاطرة واللاّ مبالاة حسب الكاتب الروائي الساخر أبو كاطع " شمران الياسري".
وبعد أن كان الحزب يحكم أصبح الحزب محكوماً من جانب جهاز مخابرات متعدّد المخالب والامتدادات، وهكذا ألغيت أية مظاهر يُشمّ منها رائحة معارضة أو اختلاف أو عدم توافق أو رضا، حتى وإن بالصمت، وتقلّصت الهوامش المحدودة لدرجة أقرب إلى التلاشي، وأحياناً كان التفتيش في ثنايا القصيدة أو ما وراء اللوحة أو مدلولات الكلمة ومقاصدها.
وهي استمرار للوصفة الجدانوفية (نسبة إلى جدانوف، الأيديولوجست ووزير الدعاية والمستشار المقرّب من الزعيم السوفييتي ستالين) التي حكمت الاتحاد السوفييتي وطبعت حياة الناس الثقافية، ومثلها كانت الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، سواء التجربة المصرية (الناصرية) أو البعثية (العراقية – السورية) أو اليمنية الجنوبية (حكم القبائل الماركسية) أو التجربة الليبية (القذافية) أو التجربة الجزائرية (البومدينية) أو التجربة السودانية (النميرية- الإسلاموية لاحقاً).
هذا هو ديدن الأحزاب الشمولية والفكر الشمولي عموماً، وهو ما سارت عليه البلدان الاشتراكية ، فعلى الرغم من بعض المنجزات التنموية التي تم تحقيقها في بعض البلدان الاشتراكية، فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتعدّدية والاعتراف بالتنوّع ومحاولات فرض الهيمنة بزعم قيادة الطبقة العاملة التي لم تكن سوى بيروقراطية الحزب والدولة، وبالأساس الأجهزة الأمنية التي هيمنت على كل شيء، الأمر الذي قاد إلى اختناقات وأزمات حادة، والشيء ذاته في التجارب المستنسخة لدول ما أطلقنا عليها العالم الثالث.
 وكانت الشعارات التي أطاحت بأنظمة أوروبا الشرقية بسيطة وعامة: نريد حواراً .. نريد تعددية.. ونريد مشاركة.. ونريد انتخابات حرّة، مثل شعارات حركة الاحتجاج الشعبية في ما سمي بالربيع العربي. وكذلك اليوم فيما يتعلق بحركة الاحتجاج المستمرة منذ عدّة أشهر في العراق والمطالبة بالتغيير فإن شعاراتها تدعو إلى محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتوفير الخدمات، وكانت حركة الربيع العربي قد طرحت شعارات من قبيل المطالبة بـ: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وإذا كانت الحركة الشيوعية وبلدان حركة التحرر الوطني وأنظمتهما قد وصلتا إلى طريق مسدود بعد نجاحات وإنجازات وإنْ كانت محدودة وتوقفت، بل وتراجعت، خصوصاً بتراجع الأفكار الآيديولوجية وانتهاء عهد الحرب الباردة، فإن الأحزاب الدينية على مختلف توجهاتها السياسية والمذهبية شيعية أو سنية، كانت تحمل معها فايروس فشلها منذ البداية، لأن أساسها تقسيمي وطائفي، خصوصاً بعد وصولها للسلطة أو اقترابها منها. يكفي أن نستعيد ردود الأفعال  التي أعقبت الثورة الإيرانية، التي كانت ثورة شعبية بامتياز، لكنها وبعد اختطاف التيار الديني لها ضاقت مساحة الرأي الآخر، لدرجة أصبح محرّماً على أي تيار سياسي حق العمل القانوني والشرعي، بل لوحقت جميع القوى والأحزاب المغايرة، في التوجه والفكر، وأصبح العمل السياسي والمهني حكراً على تيار واحد، بإلغاء التعددية والتنوّع في المجتمع، بل إن هناك نصوصاً دستورية تحدّد مذهب رئيس الجمهورية، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
والأمر على هذا المنوال سار النظام السوداني حيث تقلّصت قاعدته بالتدريج وكان من أسباب فشله هو عدم تمكّنه من حل مشكلة الجنوب، الذي انفصل في العام 2010 باستفتاء شعبي، في حين كانت هناك فرصة لحل المشكلة الجنوبية، لو استجابت الحكومة لبعض مطالب الحركة الجنوبية، واتسمت خطواتها بالعقلانية والحوار والتفاهم والتوصل إلى حلول مرضية بصيغة لا مركزية أو فيدرالية في إطار دولة موحدة.
وتجربة حكم حزب الدعوة والتيار الديني في العراق والقوى المشاركة معه منذ تأسيس العملية السياسية بعد الاحتلال كانت فاشلة، فليس هناك منجز واحد فيها يمكن الإشارة إليه بالبنان، لا على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الأمني أو السياسي أو القانوني أو التربوي أو الصحي أو العمراني أو الإنساني، ناهيك عن تكريسها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي جاء بها بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق (13 أيار /مايو/2003- 28 حزيران/ يونيو/2004)، ولا يزال التقاسم الوظيفي المذهبي والإثني مستمراً في ظل دستور حمل الكثير من الألغام، لدرجة أصبحت الدولة معطّلة ومشلولة بجميع مفاصلها ومن القمة حتى القاعدة.
وإضافة إلى الطائفية السياسية، هناك ظاهرة الفساد المالي والإداري التي وضعت البلاد في أسفل قائمة الدول التي تعاني منها. والعراق اليوم انتقل من نمط الدولة المستبدة إلى نمط الدولة الغنائمية  الفاشلة بكل معنى الكلمة، ويعاني من ذبول وانحلال مقوّمات الدولة، التي انهارت إلى حدود كبيرة، وخصوصاً وإن سيادتها معوّمة وكرامتها مجروحة، بفعل التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، وبفعل اقتطاع داعش والمنظمات الإرهابية محافظة الموصل والعديد من المناطق وتمدّدها إلى محافظات أخرى، واستمرار ظاهرة الإرهاب والعنف مستشرية على نحو صارخ. وفي كل هذه الأجواء تستمر الميليشيات خارج حكم القانون وتروج فكرة التقسيم من خلال استقطابات طائفية ونظرة قصيرة الأمد لما هو قائم.
كان بعض المعارضين في السابق غير مكترث بضرب العراق وتدميره وفرض حصار جائر عليه وقتل أطفاله وقطع خط تطوره التدريجي، بل كان يحرّض ويفتري ضد العراق ويطالب بفرض المزيد من العقوبات عليه، طالما كان الحاكم هو صدام حسين ظالماً ومستبداً، وهم غير قادرين على تغييره، فيعوّلون على الخارج ويدفعونه لشن الحرب، وهو الأمر الذي قاد إلى الاحتلال بذرائع واهية.
واليوم فإن البعض لا يهمّه إنْ تقسّم العراق أو تم تدمير وحدته الكيانية، بزعم حكم حزب الدعوة والميليشيات. وأولئك المعارضون والحاكمون اليوم، مثلما هؤلاء المعارضون الجدد وقسم منهم كان حاكماً بالأمس، والمشاركون الفعليون، ليس لديهم مشروع سياسي تغييري وليس لديهم نهج للحكم أو للتغيير، بل همّهم في السابق والحاضر هو السلطة، وهو ما قاد بلادنا من فشل إلى فشل أكبر.
وانكشف أمر تجارب الحكم الدينية على نحو شديد خلال حكم حزب الدعوة وشراكة التيارات الإسلامية من الشيعة والسنّة في العراق، وتجربة حكم الأخوان على قصرها في مصر وتجربة حكم حزب النهضة في تونس وكذلك تجربة السودان التي تعتقت فيها أنماط احتكار العمل السياسي بدعاوى مغلّفة بالدين وتجربة الجزائر التي أجهضت فيها الإرهاصات الأولى للتغيير، فما إن فازت الحركة الإسلامية بالانتخابات ، حتى قررت إعلان موقفها المناوئ للديمقراطية، ولعل استمرار العنف في الجزائر الذي حصد أرواح ما يزيد عن 100 ألف إنسان، كان من ذيول تلك التجربة وردود الفعل إزاءها.
 والحركة الإسلامية الليبية هي الأخرى كانت إحدى تحديات حركة التغيير التي كانت تنتظرها ليبيا، خصوصاً وقد لعب التدخل العسكري الخارجي دوراً سلبياً في توجهها، والأمر كذلك في سوريا التي كان للحركة الإسلامية دورها المؤثر في توجّه حركة الاحتجاج نحو العسكرة، الأمر الذي دفع الأمور باتجاهات أخرى فسحت المجال للتدخل الخارجي، وفتحت الباب على مصراعيه لشهيّة الوجود العسكري الإقليمي والدولي، وفي اليمن أيضاً فإن التجاذبات السياسية كان بعضها ذات بعد ديني، ولاسيما بالتداخل الإقليمي والذي وجد ضالته على أرض اليمن.
أعتقد إن ليس بإمكان الأحزاب الشمولية بصيغتها القديمة قدرة على إدارة الحكم بصورة سليمة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، مثلما ليس لديها الخبرة والتجربة، مهما رفعت من شعارات. والدولة بدواوينها  كيان يتطور ببطء ووفق سياقات تدرّجية وتراكمية ، وأية عملية انقلابية ستؤدي إلى الارتداد إن آجلاً أم عاجلاً، وأعتقد أن تجارب البلدان الاشتراكية وكذلك تجارب البلدان النامية أكدت هذه الحقيقة، إذ بدون التراكم الطويل الأمد لا يمكن إحداث التنمية المطلوبة، لأن التغيير في نهاية المطاف ينبغي أن يستجيب لدرجة تطور المجتمع الذي سيكون متقبّلاً له وراغباً فيه وحامياً لظهره، وإلاّ فإن أي تغيير سيلقى مقاومة معلنة أو مستترة، تبدأ تفعل فعلها حتى يتم الارتداد عليه أو التراجع عنه، وأحياناً يحدث هذا بردّات فعل حادة وسريعة يؤدي إلى عكس ما أراده التغيير من تسريع، فيعود القهقري، في حين كان يمكن إحداث نوع من التطوّر التدريجي الطبيعي غير الانقلابي.
وتتربّص القوى المخلوعة والمحافظة والتي تستهدفها عملية التغيير تارة بوضع العصي بعجلة التغيير، وأخرى باتخاذ موقف سلبي، وثالثة بانتهاز الفرصة المناسبة للعودة إلى المواقع الأمامية، وبعض هذا حصل في مصر وتونس وليبيا واليمن، وهو ما كان يطلق عليه اسم الثورة المضادة لمواجهة عملية التغيير الثوري.
وحتى الأفكار الثورية لا بدّ لها من سياق مؤسسي، فالتغيير لن يتم بالانقلابات العسكرية والمؤامرات وأعمال العنف أو باستخدام بعض أجهزة الدولة ضد الأخرى أو ضد الدولة، بل يمكن أن يتم عبر تطور في أداء المجتمع ذاته بفرض إجراء انتخابات حرّة وبقانون انتخابات يستجيب للتطور وفي إطار دستور يأخذ بمبادئ المساواة والمواطنة ويحترم حقوق الإنسان، وذلك من خلال قضاء مستقل يمكن الاحتكام إليه، وبالإقرار بالتعددية والتنوّع واحترام حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية، وبغير التطور السلمي المدني الطويل الأمد لا يمكن تحقيق أهداف أية حركة ولا يختلف في ذلك أكانت علمانية مدنية أو دينية أو قومية أو اشتراكية، إذْ ينبغي أن تكون في إطار حكم القانون وتؤمن بوجود الدولة ومرجعيتها التي تعلو على جميع المرجعيات الدينية والطائفية والسياسية والحزبية والعشائرية وغيرها.
وعلى هذه الأحزاب إجراء مراجعة حقيقية تستجيب لروح العصر إذا أرادت البقاء في إطار المشهد السياسي، وإلاّ فإن الزمن سيتجاوزها إنْ لم تُحدِث تغييراً حقيقياً في داخلها وفي عملها وأساليب تنظيمها وطريقة تفكيرها ومناهجها السياسية.


487
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور
الحلقة 3/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

بمراجعة سريعة للحقبة الماضية نرى أن الأحزاب الشمولية جميعها فشلت، سواء كانت قومية أو ماركسية أو دينية، لأنها برّرت إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بالتعددية والإقرار بالتنوّع. فالأحزاب القومية ونموذجها حزب البعث الذي حكم العراق ثلاثة عقود ونصف من الزمان وهيمن على الحياة السياسية، حوّل قيادته للدولة والمجتمع من "الحزب القائد" إلى " الحزب الواحد"، ومن حزب يمثل الشعب أو الأمة كما يقول إلى حزب جهوي ومناطقي، وهكذا خضع حزب إلى قيادة العشيرة، ثم العائلة، وخصوصاً بعد استيلاء الرئيس صدام حسين على السلطة في العام 1979، وتربّع على رأسها ورأس الدولة بصلاحيات تكاد تكون مطلقة، فهو الأمين العام للحزب ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء.
وبزعم امتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضليات، بدأت مسارات الدولة والمجتمع تتّجه إلى الواحدية والإطلاقية والإجماع حتى وإن كان مصطنعاً، بتضييق وإلغاء أي اختلاف أو خلاف، وإلاّ كيف تفسّر أن يبتهج الحزب الحاكم بفوز رئيسه في استفتاء يحصل فيه على 100%  من الأصوات، ثم كيف يوقّع اتفاقية 6 آذار (مارس) المذلّة العام 1975 مع إيران وتحظى بالإجماع، ويلغيها بالإجماع في العام 1980 ويشن حرباً تستمر ثماني سنوات 1980-1988 ( بالإجماع) ويعود إلى اتفاقية 6 آذار (مارس) بالإجماع، وخصوصاً بعد التورط بغزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، برسالة من صدام حسين إلى الرئيس هاشمي رفسنجاني في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1990.
أليست تلك كوموتراجيديا، وهي سخرية أقرب إلى المأساة ، وحسب شكسبير أنها: سخرية القدر، أو كما يقول عنها ماركس: إنها سخرية التاريخ، وهي سخرية الزيف والمشاطرة واللاّ مبالاة حسب الكاتب الروائي الساخر أبو كاطع " شمران الياسري".
وبعد أن كان الحزب يحكم أصبح الحزب محكوماً من جانب جهاز مخابرات متعدّد المخالب والامتدادات، وهكذا ألغيت أية مظاهر يُشمّ منها رائحة معارضة أو اختلاف أو عدم توافق أو رضا، حتى وإن بالصمت، وتقلّصت الهوامش المحدودة لدرجة أقرب إلى التلاشي، وأحياناً كان التفتيش في ثنايا القصيدة أو ما وراء اللوحة أو مدلولات الكلمة ومقاصدها.
وهي استمرار للوصفة الجدانوفية (نسبة إلى جدانوف، الأيديولوجست ووزير الدعاية والمستشار المقرّب من الزعيم السوفييتي ستالين) التي حكمت الاتحاد السوفييتي وطبعت حياة الناس الثقافية، ومثلها كانت الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، سواء التجربة المصرية (الناصرية) أو البعثية (العراقية – السورية) أو اليمنية الجنوبية (حكم القبائل الماركسية) أو التجربة الليبية (القذافية) أو التجربة الجزائرية (البومدينية) أو التجربة السودانية (النميرية- الإسلاموية لاحقاً).
هذا هو ديدن الأحزاب الشمولية والفكر الشمولي عموماً، وهو ما سارت عليه البلدان الاشتراكية ، فعلى الرغم من بعض المنجزات التنموية التي تم تحقيقها في بعض البلدان الاشتراكية، فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتعدّدية والاعتراف بالتنوّع ومحاولات فرض الهيمنة بزعم قيادة الطبقة العاملة التي لم تكن سوى بيروقراطية الحزب والدولة، وبالأساس الأجهزة الأمنية التي هيمنت على كل شيء، الأمر الذي قاد إلى اختناقات وأزمات حادة، والشيء ذاته في التجارب المستنسخة لدول ما أطلقنا عليها العالم الثالث.
 وكانت الشعارات التي أطاحت بأنظمة أوروبا الشرقية بسيطة وعامة: نريد حواراً .. نريد تعددية.. ونريد مشاركة.. ونريد انتخابات حرّة، مثل شعارات حركة الاحتجاج الشعبية في ما سمي بالربيع العربي. وكذلك اليوم فيما يتعلق بحركة الاحتجاج المستمرة منذ عدّة أشهر في العراق والمطالبة بالتغيير فإن شعاراتها تدعو إلى محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتوفير الخدمات، وكانت حركة الربيع العربي قد طرحت شعارات من قبيل المطالبة بـ: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وإذا كانت الحركة الشيوعية وبلدان حركة التحرر الوطني وأنظمتهما قد وصلتا إلى طريق مسدود بعد نجاحات وإنجازات وإنْ كانت محدودة وتوقفت، بل وتراجعت، خصوصاً بتراجع الأفكار الآيديولوجية وانتهاء عهد الحرب الباردة، فإن الأحزاب الدينية على مختلف توجهاتها السياسية والمذهبية شيعية أو سنية، كانت تحمل معها فايروس فشلها منذ البداية، لأن أساسها تقسيمي وطائفي، خصوصاً بعد وصولها للسلطة أو اقترابها منها. يكفي أن نستعيد ردود الأفعال  التي أعقبت الثورة الإيرانية، التي كانت ثورة شعبية بامتياز، لكنها وبعد اختطاف التيار الديني لها ضاقت مساحة الرأي الآخر، لدرجة أصبح محرّماً على أي تيار سياسي حق العمل القانوني والشرعي، بل لوحقت جميع القوى والأحزاب المغايرة، في التوجه والفكر، وأصبح العمل السياسي والمهني حكراً على تيار واحد، بإلغاء التعددية والتنوّع في المجتمع، بل إن هناك نصوصاً دستورية تحدّد مذهب رئيس الجمهورية، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
والأمر على هذا المنوال سار النظام السوداني حيث تقلّصت قاعدته بالتدريج وكان من أسباب فشله هو عدم تمكّنه من حل مشكلة الجنوب، الذي انفصل في العام 2010 باستفتاء شعبي، في حين كانت هناك فرصة لحل المشكلة الجنوبية، لو استجابت الحكومة لبعض مطالب الحركة الجنوبية، واتسمت خطواتها بالعقلانية والحوار والتفاهم والتوصل إلى حلول مرضية بصيغة لا مركزية أو فيدرالية في إطار دولة موحدة.
وتجربة حكم حزب الدعوة والتيار الديني في العراق والقوى المشاركة معه منذ تأسيس العملية السياسية بعد الاحتلال كانت فاشلة، فليس هناك منجز واحد فيها يمكن الإشارة إليه بالبنان، لا على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الأمني أو السياسي أو القانوني أو التربوي أو الصحي أو العمراني أو الإنساني، ناهيك عن تكريسها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي جاء بها بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق (13 أيار /مايو/2003- 28 حزيران/ يونيو/2004)، ولا يزال التقاسم الوظيفي المذهبي والإثني مستمراً في ظل دستور حمل الكثير من الألغام، لدرجة أصبحت الدولة معطّلة ومشلولة بجميع مفاصلها ومن القمة حتى القاعدة.
وإضافة إلى الطائفية السياسية، هناك ظاهرة الفساد المالي والإداري التي وضعت البلاد في أسفل قائمة الدول التي تعاني منها. والعراق اليوم انتقل من نمط الدولة المستبدة إلى نمط الدولة الغنائمية  الفاشلة بكل معنى الكلمة، ويعاني من ذبول وانحلال مقوّمات الدولة، التي انهارت إلى حدود كبيرة، وخصوصاً وإن سيادتها معوّمة وكرامتها مجروحة، بفعل التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، وبفعل اقتطاع داعش والمنظمات الإرهابية محافظة الموصل والعديد من المناطق وتمدّدها إلى محافظات أخرى، واستمرار ظاهرة الإرهاب والعنف مستشرية على نحو صارخ. وفي كل هذه الأجواء تستمر الميليشيات خارج حكم القانون وتروج فكرة التقسيم من خلال استقطابات طائفية ونظرة قصيرة الأمد لما هو قائم.
كان بعض المعارضين في السابق غير مكترث بضرب العراق وتدميره وفرض حصار جائر عليه وقتل أطفاله وقطع خط تطوره التدريجي، بل كان يحرّض ويفتري ضد العراق ويطالب بفرض المزيد من العقوبات عليه، طالما كان الحاكم هو صدام حسين ظالماً ومستبداً، وهم غير قادرين على تغييره، فيعوّلون على الخارج ويدفعونه لشن الحرب، وهو الأمر الذي قاد إلى الاحتلال بذرائع واهية.
واليوم فإن البعض لا يهمّه إنْ تقسّم العراق أو تم تدمير وحدته الكيانية، بزعم حكم حزب الدعوة والميليشيات. وأولئك المعارضون والحاكمون اليوم، مثلما هؤلاء المعارضون الجدد وقسم منهم كان حاكماً بالأمس، والمشاركون الفعليون، ليس لديهم مشروع سياسي تغييري وليس لديهم نهج للحكم أو للتغيير، بل همّهم في السابق والحاضر هو السلطة، وهو ما قاد بلادنا من فشل إلى فشل أكبر.
وانكشف أمر تجارب الحكم الدينية على نحو شديد خلال حكم حزب الدعوة وشراكة التيارات الإسلامية من الشيعة والسنّة في العراق، وتجربة حكم الأخوان على قصرها في مصر وتجربة حكم حزب النهضة في تونس وكذلك تجربة السودان التي تعتقت فيها أنماط احتكار العمل السياسي بدعاوى مغلّفة بالدين وتجربة الجزائر التي أجهضت فيها الإرهاصات الأولى للتغيير، فما إن فازت الحركة الإسلامية بالانتخابات ، حتى قررت إعلان موقفها المناوئ للديمقراطية، ولعل استمرار العنف في الجزائر الذي حصد أرواح ما يزيد عن 100 ألف إنسان، كان من ذيول تلك التجربة وردود الفعل إزاءها.
 والحركة الإسلامية الليبية هي الأخرى كانت إحدى تحديات حركة التغيير التي كانت تنتظرها ليبيا، خصوصاً وقد لعب التدخل العسكري الخارجي دوراً سلبياً في توجهها، والأمر كذلك في سوريا التي كان للحركة الإسلامية دورها المؤثر في توجّه حركة الاحتجاج نحو العسكرة، الأمر الذي دفع الأمور باتجاهات أخرى فسحت المجال للتدخل الخارجي، وفتحت الباب على مصراعيه لشهيّة الوجود العسكري الإقليمي والدولي، وفي اليمن أيضاً فإن التجاذبات السياسية كان بعضها ذات بعد ديني، ولاسيما بالتداخل الإقليمي والذي وجد ضالته على أرض اليمن.
أعتقد إن ليس بإمكان الأحزاب الشمولية بصيغتها القديمة قدرة على إدارة الحكم بصورة سليمة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، مثلما ليس لديها الخبرة والتجربة، مهما رفعت من شعارات. والدولة بدواوينها  كيان يتطور ببطء ووفق سياقات تدرّجية وتراكمية ، وأية عملية انقلابية ستؤدي إلى الارتداد إن آجلاً أم عاجلاً، وأعتقد أن تجارب البلدان الاشتراكية وكذلك تجارب البلدان النامية أكدت هذه الحقيقة، إذ بدون التراكم الطويل الأمد لا يمكن إحداث التنمية المطلوبة، لأن التغيير في نهاية المطاف ينبغي أن يستجيب لدرجة تطور المجتمع الذي سيكون متقبّلاً له وراغباً فيه وحامياً لظهره، وإلاّ فإن أي تغيير سيلقى مقاومة معلنة أو مستترة، تبدأ تفعل فعلها حتى يتم الارتداد عليه أو التراجع عنه، وأحياناً يحدث هذا بردّات فعل حادة وسريعة يؤدي إلى عكس ما أراده التغيير من تسريع، فيعود القهقري، في حين كان يمكن إحداث نوع من التطوّر التدريجي الطبيعي غير الانقلابي.
وتتربّص القوى المخلوعة والمحافظة والتي تستهدفها عملية التغيير تارة بوضع العصي بعجلة التغيير، وأخرى باتخاذ موقف سلبي، وثالثة بانتهاز الفرصة المناسبة للعودة إلى المواقع الأمامية، وبعض هذا حصل في مصر وتونس وليبيا واليمن، وهو ما كان يطلق عليه اسم الثورة المضادة لمواجهة عملية التغيير الثوري.
وحتى الأفكار الثورية لا بدّ لها من سياق مؤسسي، فالتغيير لن يتم بالانقلابات العسكرية والمؤامرات وأعمال العنف أو باستخدام بعض أجهزة الدولة ضد الأخرى أو ضد الدولة، بل يمكن أن يتم عبر تطور في أداء المجتمع ذاته بفرض إجراء انتخابات حرّة وبقانون انتخابات يستجيب للتطور وفي إطار دستور يأخذ بمبادئ المساواة والمواطنة ويحترم حقوق الإنسان، وذلك من خلال قضاء مستقل يمكن الاحتكام إليه، وبالإقرار بالتعددية والتنوّع واحترام حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية، وبغير التطور السلمي المدني الطويل الأمد لا يمكن تحقيق أهداف أية حركة ولا يختلف في ذلك أكانت علمانية مدنية أو دينية أو قومية أو اشتراكية، إذْ ينبغي أن تكون في إطار حكم القانون وتؤمن بوجود الدولة ومرجعيتها التي تعلو على جميع المرجعيات الدينية والطائفية والسياسية والحزبية والعشائرية وغيرها.
وعلى هذه الأحزاب إجراء مراجعة حقيقية تستجيب لروح العصر إذا أرادت البقاء في إطار المشهد السياسي، وإلاّ فإن الزمن سيتجاوزها إنْ لم تُحدِث تغييراً حقيقياً في داخلها وفي عملها وأساليب تنظيمها وطريقة تفكيرها ومناهجها السياسية.


488
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
تمنيت على الحزب الشيوعي إدانة المحتل أو مقاومته أو الدعوة لسحب قواته من العراق
الحلقة 2/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

والشيء الجيد آنذاك إن الحركة اليسارية كانت بإدارة عقلانية، بمعنى إنها لم تتعرّض إلى الدين كما حصل ما بعد عام 1958 من استعراضات أحيانا غير مبررة ومن طفولة يسارية، بل إن الذين قادوا اليسار، كان لهم تأثير على المواكب الحسينية في ذلك الوقت.
وقلت لأحد المتنفذين الحالين بالسياسة لا تغتروا، ولا يصيبكم الغرور، أجاب كيف وكان جوابي .. لقد أصابنا الغرور في عام 1959 عندما كنّا تعتقد أننا نحرك الشارع بإشارة منّا حيث أخرجنا تظاهرة كان عددها مليون في 1 أيار العام 1959 من الساعة السادسة صباحاً ولغاية السادسة صباحاً من اليوم الثاني، في دولة عدد سكانها سبعة ملايين ، وكنا نرفع شعارات كثيرة منها (حزب الشيوعي  بالحكم مطلب عظيمي عاش زعيمي عبد الكريم) و (لا حرّية لأعداء الحرية) و (لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية).
وعندما جاء حزب البعث في عام 1963 في انقلاب 8 شباط  خرجت الناس معهم وإن بالقوة أو بالأقساط ولكن بالمصالح أيضاً تحت شعار (سوّاها البعث وحدة ثلاثية) وكانت شعاراتهم استفزازية " فلسطين عربية فلتسقط الشيوعية" وهكذا احتكروا الشارع بغض النظر عن الارتكابات السافرة التي حصلت والانتهاكات الصارخة وغير ذلك، ثم عندما حُرمت الحركة السياسية، وبقي هناك تنظيم واحد اسمه الاتحاد الاشتراكي في عام 1964، واندفعت أوساط غير قليلة بهذا الاتجاه، وبالاتجاه الناصري.
وبعد عام 1968 فكّر حزب البعث بكسب الشارع، بعد أن حصل على السلطة حيث كان يذهب إلى مدينة الثورة آنذاك، ويعقد الندوات تحت عنوان (أنت تسأل والحزب يجيب) إلى أن تمكن بأساليب مختلفة من القمع والإغراء إلى بعض المكاسب من الاستحواذ على الشارع لدرجة إن الرئيس السابق صدام حسين حينما كان يزور مدينة الثورة، كانوا يرفعون سيارته على رؤوسهم ولكن بعد الثورة النفطية جاءت الحرب العراقية – الإيرانية، وحصدت أرواح عشرات آلالاف من شباب مدينة الثورة والمدن العراقية بشكل عام، وبدلاً من الرفاه الموعود، هيمنات التوابيت والأحزان والشهداء والأرامل والأيتام، فاتجه الناس إلى الدين وخصوصاً في فترة الحصار الاقتصادي الجائر في التسعينات، ولذلك فهؤلاء الذين يذهبون مشياً على الأقدام إلى كربلاء هم ليسوا جمهور أحد لا ينبغي أن ينغرّ بهم أحد لأنهم أنفسهم خرجوا مع الشيوعيين والبعثيين والقوميين والآن مع الإسلاميين.
الجنرال ديغول عندما سمع عن احتفالية أقيمت في منطقة قريبة من الحدود المتنازع عليها (الإلزاس واللورين) حيث حضر الاحتفالية المؤيدة لهتلر حوالي 750 ألف شخص ولكن بعد أشهر حدث التحرير وطرد الألمان. فطلب ديغول أن يقيم احتفالية في المدينة، التي جرى فيها احتفالية قبل التحرير، حيث قيل له إن هذه المدينة مغلقة، ولكنه أصرّ أن يكون الاحتفال بنفس المكان وجرى الاحتفال وبدلاً من أن يحضر 750 ألف شخص حضره مليون شخص هذه المرة. سُئل ديغول لماذا  الإصرار على الاحتفال في المدينة ذاتها، أجاب الناس هم الناس وهذه سيكولوجيتهم، دائماً وراء من بيده السلطة بحدود معينة، إلى أن تحدث متغيرات ومنقلبات ومنعرجات، فتتغير الوجهة، فهؤلاء الذين يسيروا على الأقدام إلى كربلاء أو بمناسبة زيارة الأربعين أو في عاشوراء ليسوا جمهور أحد، إن ذلك جزء من الطقوس والعادات والتقاليد والشعائر، وأحياناً لا علاقة لها بالدين أو بالإيمان أو بالطائفية، التي قال عالم الاجتماع علي الوردي عن بعض تصرفات الطائفيين، "إنهم طائفيون بلا دين"  لأنه يدرك إن المسلم الحقيقي والمؤمن الصادق والمتديّن السليم لا يمكنه أن يكون طائفياً.
في الخمسينيات كان اليسار الماركسي والقومي، يحرّك هؤلاء الذين يخرجون إلى الشارع، ويهتفون هتافات وطنية لا علاقة لها بالحركة الدينية، ولم تكن هناك حركة دينية أصلاً منظّمة، ولم يكن هناك حزباً دينياً، ورجال الدين الذين يكثرون الآن لدرجة الملل والسأم في الحديث بالسياسة لم يتطرّقوا إلى السياسة لا من بعيد ولا من قريب. إن هذا المتناقض هو جزء من الصيرورة الاجتماعية السياسية والاقتصادية النجفية و الدينية بشكل عام والعراقية بشكل أوسع من ذلك.
•   هل يعد الحزب الشيوعي بعد 2003 الفكر الوحيد في الساحة العراقية، وهل أنتم  راضون إلى ما وصل إليه الحزب من جماهير وقيادات في الدولة؟ لماذا هذا التقويض لهذا الفكر مقارنة بما موجود من تيارات دينية ومتطرّفة وغيرها؟
-   (أقول وباعتزاز إنني مادي جدلي بالتفكير والمنهج ما يصطلح عليه بالمعنى السائد ماركسي، لكنني أفضّل كلمة المادي الجدلي، لكي لا أنسب لشخص وإنما أنسب إلى فلسفة. وإذا كنت أعتز بالحزب وتضحياته وبطولاته، وبما أنجزه على صعيد التنوير والحداثة والدفاع عن الفقراء، ولكن لا بدّ من الحديث عن أخطائه ونواقصه وثغراته، وذلك قوة له وليس ضعفاً. إنني الآن ومنذ سنوات بعيد عن العمل السياسي المسلكي، اليومي، التنظيمي، الحزبي، لكن هذا لا يمنع أن أقول رأيي السياسي وأمارس السياسة وأرتكبها أحياناً بطريقة ثقافية وأقاربها من زاوية فكرية، كما أتي إلى الثقافة بطريقة سياسية وفكرية، خصوصاً ضمن منهج معين كنت قد وضعت مسافة بيني وبين العمل الروتيني المؤدلج، كما إنني بعيد عن التكتلات والكيانيات القائمة، سواء القديمة منها، أو المستحدثة، الطيّارة التي سرعان ما تتشكّل، ثم تختفي أو يختفي الحزب، ويبقى الأمين العام.
ومشكلة الحزبية عندنا أصبحت منفّرة وفقد الناس الثقة فيها، ولاسيّما إنها أصبحت وراثة، فالحركة الكردية تتواصل فيها العائلات بالوراثة، وكذلك الحركة القومية العربية والوطنية وراثة بل إن بعض القيادات مضى عليها "دهر" وتغيّرت أنظمة وزالت منظومات، ولكنها لم تتغيّر. أما في الحركة الدينية فهي بالوراثة أيضاً لذلك جرى تشويه لمعنى الحزبية، حتى قانون الأحزاب به الكثير من العيوب والألغام حالياً، ناهيك عن إنه يراد قيام أحزاب علنية، ولكن لا تعلن عن مصادر التمويل. وهناك أحزاب تمرّ عقود على قياداتها التي تتعتق في مواقعها ولا تريد مغادرتها، والكل يدعي إيمانه بالتعددية والشفافية والتغيير،بل ويطالب الآخر به، وتلك إحدى المفارقات السياسية المثيرة لدينا.
للأسف إن ثقافة الحرب الباردة والسرية لا تزال سائدة، إن حزب البعث الذي حكم العراق من عام 1968 إلى عام 2003، هو حزب سري، غير علني بكل معنى الكلمة، ولم يأخذ ترخيصاً من الدولة. صحيح أن هناك تقرير للمؤتمر القطري الثامن أعطاه منزلة فوق الدستور، لكنه من الناحية الفعلية، هو حزب سري، لا يُعرف عن اجتماعاته، ولا أسماء المنظمات، وكيف تدار الاجتماعات، إضافة إلى التمويل وليس هناك رقابة من خارج طبقاً للقانون.
إن الأحزاب الحالية من بعد 2003 إلى الآن هي أحزاب سرية وغير قانونية، كونها غير مرخّصة، ناهيك عن أنها لا تعلن عن مصادر تمويلها ولا علاقاتها ولا عدد أعضائها، ولا يمكن اللجوء إلى المحاكم، فيما إذا حدث خلاف بين الأطراف المتنازعة، حيث ما زال هذا المفهوم سائداً.
إن الحركة الشيوعية أساس وجودها ونشأتها هي كونها مناهضة لإلغاء الاستغلال وتناضل من أجل الأهداف الوطنية، كما ناضلت في السابق ضد المعاهدات الاسترقاقية المجحفة المذلة، سواء معاهدة العام 1922 أو معاهدة العام 1930 أو معاهدة بورتسموث العام 1948 أو المعاهدة البريطانية العراقية العام 1954، أو المعاهدة العراقية الأمريكية العام 1954، وكذلك حلف بغداد العام 1954-1955، وغيرها من الاتفاقيات غير المتكافئة. وهذا في الجانب الوطني من نضال الحزب الشيوعي، فكيف والحال هذه اتبعت سياسات مغايرة لتاريخها.
أما في الجانب الاجتماعي فمعروف مواقفها بالدفاع عن حقوق الناس ومصالح العمال والكادحين والفلاحين والفئات المهنية الأخرى، وللأسف الشديد نحن تنازلنا عن هذا الدور، الأمر الذي لم يعد هناك من تمايز وتميّز بيننا وبين الآخرين، ولاسيّما إن أحزاباً ناشئة مثل الوفاق وحزب المؤتمر أو أحزاب مختلفة آيديولوجياً مثل حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى والحركة الكردية باستثناء بعض الخصوصيات، وإذا كانت السياسة تجمع على أهداف مشتركة حتى وإن بقيت الاختلافات الآيديولوجية، لكننا اليوم لا نستطيع أن نفرق هذه الأحزاب عن الحزب الشيوعي، بالخطوط العامة، ولاسيّما إن الجميع يتحدّث بلغة واحدة من حيث الإيمان بالتعددية والنظام الفيدرالي والديمقراطية والانتخابات واستقلال القضاء وفصل السلطات والتوافقية، وهذا ليس برنامجاً، كأنك تقول، أنا مع ميثاق الأمم المتحدة، وكل شيء مفتوح وهذه من العموميات إذ يجب تحديد ماذا تريد الجميع يعلن عن أنه ضد الطائفية ولكن هذه القوى مجتمعة وافقت على نظام المحاصصة وقبلت بصيغة مجلس الحكم الانتقالي وانخرطت فيه، بل ودافعت عنه بأسنانها.
كنت أتمنى أن لا يدخل الحزب الشيوعي مجلس الحكم الانتقالي ولا يتورّط بصيغة المحاصصة الطائفية، ولا المصادقة على الدستور، ولا يدعو للتصويت عليه كونه مملوء بالألغام، ولا يؤيد المعاهدة الأمريكية- العراقية التي وقعت عام 2008، ولا يذهب إلى المطالبة باعتبار توقيع العراق على معاهدة جديدة، هو أفضل الحلول السيئة، لأنها مبرّرات لا ينبغي أن تقال من جانب طرف يساري ثوري حقيقي.
وبالطبع هذا لا يعبّر عن رأي كل الشيوعيين العراقيين، حتى وإن كان يمثل رأي الفصيل الأساسي في الحركة الشيوعية، الذي هو الحزب الشيوعي العراقي الرسمي والذي نحترمه ونقدّره، ولكن نتمنّى عليه أن يغيّر مواقفه، ويعيد النظر بمناهجه وتوجهاته وأن يتّخذ موقفاً آخر، وسيرى أنه سيحصل على دعم الشيوعيين بغض النظر عن اختلافاتهم، وكما كان يقول مظفر النواب " غلطتك صلّحه وتبقى كلشي".
وكنت أتمنى وهذا ما كتبته ونشرته وخاطبت به أعضاء قياديين بالحزب أن يتخذ موقفاً يدعو إلى مقاومة المحتل، ويطالب بطرد قوات الاحتلال، أو سحبها على الفور، وليس بالضرورة أن يتجه إلى المقاومة المسلّحة ولست واهماً أن ذلك يكلّفه وجوده وسيعني الأمر مغامرة له وهو موضوعياً وذاتياً لم يكن مهيئاً، لا هو ولا غيره، من هذه القوى، لكنه كان على الأقل أن يتبع أسلوب المقاومة المدنية السلمية اللّاعنفية، وأن يبلور مطالب الناس الوطنية والاجتماعية، في آن.
هذا الأمر لو اتخذه لكان قد كسب أوساطاً كثيرة ظلّت تنظر إليه باحترام وإلى مكانته التاريخية، وحتى الآن وعلى الرغم من مرور 13 عاماً من الخيبة والمرارة والعذابات والحرمانات والارهاب واستلاب حقوق الناس واستشراء الفساد والفوضى، يحتاج إلى موقف جديد يعلن فيه إنه مع المقاومة المدنية، ويؤيدها، ولكن على الصوت أن يرتفع، لا أن تكون النبرة خافته ومهادنة ومداهنة في موضوع المقاومة المدنية السلمية. ينبغي أن يغمض العين المفتوحة على السلطة ويوحّد النظر بعينيه حيث يوجد الناس، فوجود وزير واحد أو نائب واحد لا يغني ولا يسمن من جوع. عليه أن يتجه الآن إلى المعارضة السلمية وأن يشكل قطب الرحى فيها . وعليه أن يبقى بموقعه الطبيعي الثوري، لا يهم إنْ كانت السلطة معه أو ضده أو وإن كان له  ممثل فيها أو وإن كان خارجها.


489
تحيّة وداع إلى زها حديد
من جامعة أونور

وجّهت جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان (أونور AUNOHR) تحيّة وداع إلى المعمارية العالمية الريادية زها حديد، التي رحلت بشكلٍ مفاجئ وحزين صباح الخميس الفائت في 31 آذار إثر نوبة قلبية.

زها حديد صديقة اللاعنف، كانت الجامعة تتواصل مع مكتبها لغاية يومين قبل رحيلها، بغية تنظيم لقائها بمؤسِّسة الجامعة الدكتورة أوغاريت يونان وبنائب الرئيس المفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، لترتيب الاحتفال بانضمامها إلى المجلس العالمي للجامعة.
ويضمّ هذا المجلس مفكرين وفلاسفة وحاملي نوبل للسلام، أسعدهم تأسيس جامعة من أجل ثقافة اللاعنف لأول مرّة في العالم رسالة من المنطقة العربية وفي الظروف الحالية بالذات، وكانوا عبّروا عن تشرّفهم في أن تكون زها حديد معهم في هذا المجلس (بينهم الفيلسوف جان-ماري مولِّر، حفيد غاندي المفكر آرون غاندي، حامل نوبل للسلام من الأرجنتين أدولفو إسكيفيل، المدير العام الأسبق للأونيسكو البروفسور فديريكو مايور...).

لقد جسّدت زها حديد نموذجاً للمرأة الواثقة التي تقول لكلّ إمرأة "نعم تقدرين لأنك ذكية وموهوبة وقوية وقادرة على التغيير في حياة الآخرين"؛ ونموذجاً للإبداع الذي يخطّ طريقه خارج المألوف والتقليد، هي التي كانت تردّد "لا أحبّ كلمة مساومة"؛ ونموذجاً للقلب النابض بالفكر الإنساني الحرّ حيث كانت تؤكّد دوماً "العمارة يجب أن تفكّر في إيجاد مساحة جميلة لكلّ إنسان وليس للغني فقط القادر على هذه الأمور بل للأطفال وفي المدارس والأماكن العامة لكل الناس"؛ ونموذجاً لشخصية باتت ذائعة الشهرة عالمياً ومدرسة في مجالها، ولم تتوقّف عن القول "لا أريد أن أكون لافتة للاهتمام،أريد أن أكون إنسانة طيّبة".
نعم، "الحياة ليست أبداً سهلة لمن لديهم أحلام، يعملون ويبنون أكثر ممّا يتكلّمون..."، على حدّ قولها.

سيتذكّرها العالم وستتذكّرها جامعة "أونور"، إنسانة خلّاقة ومُحبّة، أضافت إلى تاريخ العديد من المجتمعات وإلى العلوم وإلى فن التصميم والعمارة، إسماً يعبّر عن ذاته من دون أيّ إضافة، زها حديد.

كلّ العزاء لعائلتها وفريق مكتبها ومحبّيها، ونخصّ قريبتها السيدة ريما شحادة عضو مجلس الأمناء في جامعة اللاعنف.
العراق ولبنان والمنطقة العربية، بقدر ما يُفرحها وجود هذه الشخصية الفريدة لإمرأة نموذج في العطاء والاحتراف، يُحزنها رحيلها المبكر وهي في عزّ إبداعاتها ومسيرة الحياة.


انتهى



للمتابعة:
السيدة رانيا ناصر، منسّقة العلاقات العامة في الجامعة 03.631816, university@aunohr.edu.lb

490
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
تمنيت أن يتّبع الحزب الشيوعي المقاومة المدنية السلمية اللاّعنفية
الحلقة 1/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..
وعن تاريخ مدينة النجف التي وصفها بملتقى للثقافات والحضارات والإثنيات وهي مدينة منفتحة ومفتوحة وتقبل الآخر، وكيف إن الشخصية النجفية منطبعة بالحوار والجدل وبالرغبة للتعرف على الآخر، والنجف مدينة غير منغلقة وغير طائفية  وبقدر ما هي متجانسة، فهي متناقضة لأن بيئتها مدنية بقدر ما هي تقع على طرف الصحراء وتمثل عاداتها وتقاليدها هذا التناقض  الاجتماعي.
البيئة النجفية عند عبد الحسين شعبان حلم وثيق وعميق في داخله، نشأ فيها وتشرّب من روافدها الفكرية الثقافية ويقول (رغم أنني غادرتها لكنها لم تغادرني تعيش وتكبر معي  أحاورها، ألومها أحيناً لكنني لا أستطيع الانفكاك عنها).
تطرّق إلى صفحات مهمة من تاريخ النجف ورفاق الأمس بأسمائهم ونشأة وتطوّر الفكر اليساري في النجف، وكيف كانت للعديد من الشعراء والمثقفين والأدباء والسياسيين مواقف تذكر في مراحل سياسية من تاريخ العرا ق منذ العشرينات في تلك المدينة العريقة.
تحدث عن رؤيته المستقبلية لخارطة الأحداث السياسية للوطن الجريح وكيف يجري تخطيط وتنفيذ محاولات تقسيم العراق منذ أن أعلنه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عام 1974 من أنه لا بدّ من وضع وراء كل بئر نفط إمارة، وكيف اقترح إقصاء العراق وما يمكن أن يخطط ضد سوريا واليمن الجنوبية حينها، ومنذ ذلك التاريخ ما تحقّق على الأرض في المنطقة هو مؤشرات لما قاله كيسنجر وأكمل أهدافه مشروع جو بايدن بتقسيم المنطقة إلى دويلات وما يجري من تحرّكات لهذه الكتلة السياسية أو تلك مع جهات دولية هي في الاتجاه نفسه.
وكان هذا الحوار  مع شعبان الذي ننشر نصه ..
•   الكثير من القراء يريدون معرفة من هو الكاتب والمفكر عبد الحسين شعبان مراحل مسيرته التي بدأت اولى خطواتها من مدينة النجف ؟
-   (شربت الثقافة والمعرفة منذ نعومة الأظافر في المنزل بالدرجة الأساس حيث كان الأسرة تقرأ وتهتم  بقضايا الثقافة والأدب والشعر، إضافة إلى القرآن الكريم، وسبق وأن أشرت إلى هكذا ملاحظة، من أن والدي كان يبدأ يومه صباحاً بقراءة القرآن بصوته الجهوري المؤثر، وهذا الأمر ترك في نفسي تأثيرات للروافد التي حفرت بذهني وذاكرتي ووجداني بالدرجة الأساس، إضافة إلى القرآن والأدب كان هناك ماركس بكل طلعته البهية كما يقال، كان حاضراً في المنزل.
لذلك أجد أن هناك ثلاثة روافد أسهمت في تكويني: رافد ديني الذي يمثّله القرآن والذي أعدت قراءته مرتين، مرة في عام 1978 وأخرى في 1982، قراءة معمقة مع التفاسير، ولذلك أشعر أن جزءًا من ثقافتي هي ثقافة دينية وأعتز بذلك، ورافد آخر ثقافي وأدبي  وكل ما يتعلّق بالأدب والشعر والرواية والقصة والسينما والمسرح والذاكرة البصرية أيضاً، وصور المشاهد الأولى من المواكب الحسينية إلى الاسترخاء عند نهر الفرات في مدينة الكوفة، والكوفة أيام زمان كانت ناحية جميلة حيث ينساب فيها نهر الفرات وتتوزّع على جانبيه البساتين وكثافة أشجار النخيل والأشجار المثمرة الأخرى.
أتذكر شجرة التوت وما زلت أشعر بحنين شديد إليها، بل إن طعم ذلك التوت ما زال تحت لساني ولم أتذوق طيلة حياتي مثل ذلك التوت اللذيذ. كانت الشجرة قريبة من قصر الملك في مدينة الكوفة، حيث كنّا نذهب دائماً إليها في مناسبات مختلفة، لقضاء أوقات ترفيهية بريئة أو في مناسبة عامة أو اجتماعات سرّية أحياناً.
أما الرافد الثالث فهو الرافد الفكري، والتأثر منذ وقت مبكر بالأفكار اليسارية والماركسية. ربما هذه مفارقة أن يكون عدد من أبناء الأسر الدينية انخرطوا مع التيار اليساري وتأثروا بالفكر اليساري الشيوعي، وساروا بدروب متواصلة في هذا الطريق.
كل هذه الأمور استطاعت أن تعجن شخصيتي في هذا الهارموني، وأن تسهم في تكويني الذي أنا عليه الآن، ولاسيّما إن البيئة التي عشت فيها  منفتحة، سواءً كانت على صعيد العائلة أو المدينة).
وأضاف (وعلى صعيد المدينة حيث تعد محافظة (قضاء) النجف ملتقى للثقافات والحضارات والإثنيات، ففيها الأفغاني والإيراني والباكستاني والهندي والتركي والتبتي ومن آسيا الوسطى، إضافة إلى العرب، واللبناني والسوري والخليجي، ولاسيّما إن النجف مدينة منفتحة ومفتوحة وتقبل الآخر، ولذلك نلاحظ إن الجدل في النجف كان بنبرة عالية حيث إن الشخصية النجفية بصورة عامة منطبعة بالحوار والجدل وبالرغبة للتعرّف على الآخر، وهي مدينة غير منغلقة وغير طائفية، ولا تعرفها لعدم وجود طوائف أخرى في المدينة، ولاسيّما أن الكل متساوون بهذا المعنى، والشيء الآخر إن النجف مدينة سياحية كبيرة وفيها سياحة دينية، إضافة إلى كونها مدينة تجارية وثقافية.
وفي حواري مع الشاعر محمد مهدي الجواهري كنت أقول له كيف سمعت بثورة أكتوبر؟ أجاب أن الصحف كانت تصل إلينا قبل أن تذهب إلى بغداد  أحياناً وتأتي من لبنان ومن سوريا ومن مصر، وكان البعض مشتركاً بها، بالإضافة إلى هذا الخليط الهائل الممزوج بالفسيفساء المتجانسة وغير المتجانسة من القوميات والسلالات واللغات، ففي النجف هناك من يتحدث بلغات من بلاد فارس وتركيا وأذربيجان وكازاخستان وأفغانستان والأردو وغيرها، وتوجد أسر عريقة من هؤلاء في النجف، ولكل مجموعة مهنتها الخاصة، حيث قسم منهم كرجال دين، والآخر يعمل في المخابز و الحلويات، فالنجف مختبر ومعهد علمي من جهة، مثلما هي سوق كبيرة ومزار كبير لضريح الإمام علي وهي تجمع في حناياها هذا الخليط فضلا عن تعدّد اللغات، على الرغم من انصهارها في إطار اللغة العربية والعروبة فيها طاغية لدرجة كبيرة.
ولذلك لا نستطيع أن نقول إن النجف مدينة دينية ونكتفي لهذا التوصيف حيث سيكون هذا نصف الحقيقية، لكون العلمانية قوية في النجف، والعلمانية والدينية يسيران بخط متواز، ولاسيّما إن النجف ترتكز على قاعدتين الأولى علمانية والأخرى دينية، حتى داخل أوساط الحوزة العلمية تجد هناك من يدعو للحداثة والمدنية ويؤيد التجدّد الحضاري، وفي المدينة هناك جدل، أيضاً ولذلك فإن هذا الجدل أبدع الكثير، وكان جدلاً حضارياً وسلمياً في الغالب، خصوصاً في سنوات الأربعينيات وحتى أواخر الخمسينيات.
•   ماذا عن بدايات القرن الماضي ؟
-   (بداية القرن الماضي تأسس في مدرسة الآخوند حلقة سميت (معقل الأحرار) ضمّت خمسة شخصيات، ونلاحظ أن كل من هذه الشخصيات  صار له شأن لاحقاً، وهم سعيد كمال الدين وسعد صالح جريو وعباس الخليلي وأحمد الصافي النجفي وعلي الدشتي، الذي  عاد إلى إيران عام 1918 بعد أن درس في الحوزة العلمية وأصبح مركز ثقل وتأثير كبير فكري وسياسي في إيران، ومن أهم ما كتب هو كتاب بعنوان "23 عاماً على السيرة المحمدية" في هذا الكتاب جدل حقيقي، فهو يقنعك ويشككك بكل شيء، حيث يدفعك إلى القراءة العقلية والتفكير والتأمل، لا النقلية  والنصّية والتلقي، بل قراءة النص وتأويله وتفسيره وإعادة قراءته وإعادة بناء استنتاجات جديدة على النص.
 ويذكّرني هذا الكتاب بكتاب الرصافي "الشخصية المحمدية" ولكن هذا الكتاب مكتوب بلغة أكثر حداثية . أما سعد صالح جريو فقد درس بالحوزة أيضاً وكان بنفس المدرسة وأصبح وزيراً للداخلية وهو أديب وشاعر ومثقف وله شعر رقيق وقد كتبت عنه كتاباً بعنوان  (سعد صالح الضوء والظلّ: الوسطية والفرصة الضائعة).
-   الشخصية الثالثة أحمد الصافي النجفي وهو شاعر مبدع ورقيق ومغترب ..عاش الاغتراب بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى بالاغتراب الروحي الداخلي والبدني الفسيولوجي الخارجي .أما سعيد كمال الدين فقد كان واحداً من الفقهاء إضافة إلى اهتماماته الأدبية والثقافية. وعباس الخليلي هو شقيق الروائي المعروف بجعفر الخليلي ). وتابع شعبان (عندما حدثت ثورة 1920 هرب سعد صالح وسعيد كمال الدين إلى الكويت، وكانا مشتركين بالثورة، أما النجفي والخليلي فقد هربا إلى إيران وبقيا فيها، وبعدها عاد صالح وكمال الدين بعد بضعة أشهر إلى العراق وحصلا على العفو، أما النجفي فقد بقي في إيران ثمانية أعوام، ترجم خلالها رباعيات الخيام، وأعتقد بأنها أفضل من ترجمة أحمد رامي والتراجم الأخرى التي عرفناها، ولا أدري إن اطلعتم على ترجمة أخرى جيّدة لصالح الجعفري، حيث كان يتقن الفارسية وهو أستاذ لغة عربية وشاعر، وأصوله تعود إلى آل كاشف الغطاء.
النجفي بعد ذلك انتقل إلى سورية ولبنان وكنت ألتقيه في مقهى عجاج بالشام ومقهى البحرين في بيروت في الستينات والسبعينات. وعاش مغترباً حتى عام 1976 وفي هذا العام جرح أثر تعرّضه لشظية، حيث بدأ  سعار الحرب اللبنانية يتصاعد، فاضطر العودة إلى العراق، ومن ثم توفّي في عام 1977، وحسناً فعلت وزارة الإعلام آنذاك بطبع مجموعاته والنتاجات الجديدة، وأول ما عاد إلى بغداد قال في قصيدته (يا عودةً للدارِ ما أقساها *** أسمعُ بغدادَ ولا أراها) .
•   هل الاتجاهات العلمانية تعكس تأثر هذه الشخصيات ؟
-   إن (معقل الأحرار) بذر بذرة، وبالطبع هذه البذرة، لها بعد ديني أيضاً، حيث كان هناك صراعاً بين المشروطة والمستبدة، ولاسيّما إن قسماً كبيراً من مثقفي النجف اتجهوا نحو المشروطة، والتي تعني وجود دستور والحكومة مقيدة على عكس من المستبدة، وكان كتاب الشيخ حسين النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) مؤثرٌ ومهم جداً في النجف، لما فيه من مناغاة لحركتي الدستورية في تركيا. وكان هذا جزء من التأثر بالثقافة الأوربية أو الإصلاحات الدستورية التي حصلت في اوربا. حيث كانت هذه بذرة العلمانية والدولة المدنية في العراق، علماً بأنه لا النائيني كرجل دين آنذاك يدعو وغيره أيضاً إلى دولة دينية بالمعنى الذي نعرفه اليوم.
تلقّف الشباب تلك الأفكار النهضوية الحدثية وانتعشت حركة جدل بفعل الثورة الروسية وعقبها ثورة العشرين ضد الإنكليز، وكان ممن تأثر بها من الأوائل حسين مروة الذي جاء إلى النجف، وكان آنذاك شاباً بعمر الـ 14 عاماً، فدرس بالحوزة العلمية بالنجف، وصولا إلى العام 1938 حيث درس نحو 14 عاماً أنهى مراحل الدراسة من المقدمات والسطوح وبحث الخارجي، لكنه انتفض وتمرّد واتجه للآخر، وكتب مقالاً في جريدة الهاتف عام 1938 التي كان رئيس تحريرها آنذاك جعفر الخليلي عنوانها (أنا وعمامتي) وقال لقد رميتها بالكناسة  وربما تأثّراً بما كتبه الجواهري حينها، وخصوصاً في قضية الرجعيون (العام 1929) بشأن معارضة بعض رجال الدين افتتاح مدرسة للبنات في النجف. أما محمد شرارة فقد جاء من لبنان ودرس في النجف، وتأثر بها وباليسارية وكلاهما أصبحا عضوين في الحزب الشيوعي، وكانت ابنتي محمد شرارة حياة وبلقيس عضويتين في الحزب الشيوعي وقد تزوجت بلقيس  من رفعت الجادرجي، وحياة تزوجت من محمد صالح سميسم، التي انتحرت مع ابنتها أيام الحصار إحتجاجاً، وكانت قد كتبت رواية عنوانها (وإذا الأيام أغسقت).
وبدأت الحركة اليسارية تنتعش في ذلك الوقت لأنها حركة تمرّد ضد الواقع حيث يعاني العراق من التبعية لبريطانيا ويرتبط باتفاقيات دولية مذلّة وغير متكافئة، والأمر أبعد من حدود اليسار، فالكثير من أبناء العوائل الدينية، الذين درسوا بالحوزة العلمية تمرّدوا ... الجواهري والخليلي، إضافة إلى تعاطف الكثير من العوائل الدينية مع أفكار اليسار التي تدعو للدفاع عن الحقوق وضد الظلم والتسلّط الأجنبي ومن أجل العدالة الاجتماعية، ثم بدأ الموضوع يأخذ بعداً آخر، ولاسيّما في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، لدرجة إن الكثير من أبناء العوائل الدينية انخرطوا في الحركة التنويرية والعقلانية واليسارية، التي كان للمدينة شأن كبير فيها، وتركت النجف والخلفية الدينية بصمتها على الثقافة المدنية العلمانية لاحقاً لدرجة التعقلن، بحيث حدّت من الاندفاعات الاغترابية، بحكم وجود التراث النجفي والعربي الإسلامي الأصيل.
في هذه البيئة نشأت وتربيت وتشربت كل تلك الروافد التي اختلطت بهذا الإطار، وبالتالي هي كوّنت شيء مما أنا عليه الآن، لذلك دائماً أكرر هذه النجف التي توشوشني، وباستمرار أسمع رنينها في أذني، غادرتها لكنها لم تغادرني، بقيت تعيش وتتربّى وتكبر معي، أحاورها، أنحني إليها ، ألومها أحيانا، لكنني لا أستطيع الانفكاك منها، بيني وبينها علاقة خاصة لا يستطيع أحد أن يفك طلاسمها، وهي أقرب إلى زواج كاثوليكي لا إنفصال بينهما .
•   ما دور مؤلفاتك وكيف كانت في النجف ؟
-   كتبت عدداً من الدراسات التي كنت أعود فيها إلى النجف، وذاكرتها، حاضرة معي، ولاسيّما إن البيئة النجفية، دائماً تصعد إلى قمة تفكيري، بل تتربع فيه، فجأة هكذا وتطفو لوحدها. في كتابي عن سعد صالح هناك فصل طويل عن النجف وآخر عن الحوزة النجفية، وكذلك دراسات أخرى عن النجف، وعلاقتها بالدولة، وهل هي على تصالح أم علاقة تعارض؟ حيث دائما أكرر أن النجف تآخت مع التمرّد بينها وبين التمرّد حلف وثيق وعميق لانفصال بينهما، قد تستكين أو تهدأ أو تجامل أو تتنازل، لكنها سرعان ما تستعيد وتيرتها بالتمرّد، ولاسيّما وأن التمرّد يعد جزءها العضوي .
إن المجتمع النجفي يمتلك العديد من المتناقضات، كونه مجتمع مدينة ومختلف الأجناس موجودة فيه، البدو والعشائر ورجال الدين والوجهاء من الحضر، من جهة ومن جهة أخرى هي قريبة من النهر ولكنها على طرف الصحراء،  فيها غزوات وقبائل ومللّ ونحلّ، كلها تلتقي بهذا المجمع الهائل ولاسيّما بالمدرسة النجفية التي تلاقحت فيها الكثير من القضايا بحيث أصبحت معلم من المعالم في بيئة المتناقضة.
هناك مادة كتبتها عن النجف عنوانها (مقهى ورواد ومدينة) وهي عبارة عن سردية بستين صفحة عن مقهى كان يرتاده بعض اليساريين وهو معلم من معالم المدينة، ومن خلاله تحدّثت عن سسيولوجيا المدينة وسيكولوجية أبناء المدينة، والحوار الداخلي والخارجي، وبين أبناء المدينة والقادمين إليها، وكيف يختلط هذا بهذا الهارموني، الذي أستطيع أن أصفه مجمعاً للمتناقضات، ولكن ضمن هرموني محبب، وتوقفت فيه عند بعض الشخصيات المؤثرة في النجف من الذين على ملاك الحزب الشيوعي مثل حسين سلطان ود. خليل جميل والشيخ محمد الشبيبي (والد الشهيد حسين) وصاحب الحكيم ومحمد موسى الذي استشهد العام 1963 ورضا عبد ننه وغيرهم.
•   كثير من الناس يتساءلون كيف تكون النجف جانبا روحيا ودينيا ويظهر فيها  افكار ماركسية يسارية  ؟
-   قال شعبان (من يعرف النسيج الاجتماعي والعلاقات الفسيفسائية الموزائيكية الخاصة في البيئة النجفية قد لا يستغرب، ولربما يكون الاستغراب خارجياً ولاسيّما أن أبناء العوائل الدينية، هم أنفسهم الذين توجهوا إلى اليسار، وعملوا معه، بل حتى كانوا قادة له وبشكل عام هناك عوائل غلبت عليه الانتماءات اليسارية أو على عدد كبير من أفرادها رجالاً وأحياناً نساءً أيضاً مثل آل الرفيعي (الكليدراية) وكذلك آل شعبان (سرخدمة- أي رؤساء الخدم في حضرة الإمام علي) وآل الحكيم وهم باستثناء بعض رجال الدين، فهم مع اليسار، بل أستطيع أن أقول إن بعض رجال الدين، من آل الحكيم كانوا مع اليسار، وهم في حضرة الإمام علي، وكذلك الحال لـ آل شعبان والرفيعي وآل الخرسان كذلك هم من الحضرة،  فضلا عن أن هناك عوائل كثيرة من خارج الحضرة منهم  آل الجواهري والشبيبي وآل بحر العلوم وآل سميسم وآل الزيردهام (المخزومي) والدجيلي وغيرهم وهؤلاء كلّهم عوائل دينية، ولكن كانت الحركة اليسارية متغلغلة في صفوفهم لدرجة كبيرة.


491
حوار الحضارات أم صدامها؟
الغرب وتنميط الإسلام !!
مقدمة كتاب عكاب سالم الطاهر

بقلم عبد الحسين شعبان *

   
كان كارل ماركس قد أرسل إلى فردريك إنجلز مخطوطة لقراءتها وكتابة ملاحظاته بخصوصها. وانتظر عدّة أسابيع، بل بضعة أشهر، ولم تصله الملاحظات، حتى وصلته رسالة من انجلز مع مغلّف. وعندما فتح المغلّف فوجئ ماركس بإن انجلز أرسل له مخطوطة موازية ضمّنها ملاحظاته، لكن المفاجأة الأكبر والأهم، كانت حين فضّ مظروف الرسالة المرفقة، فوجدها من ثلاثة أسطر، يتصدّرها الاعتذار وهي تقول: آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة ومركّزة، فكتبت هذه المخطوطة وآمل أن تفي بالغرض.
دلالة هذا القول المتواضع، إن التكثيف والكتابة المركّزة تحتاج إلى وقت وجهد وصفاء ذهن، وهي نتاج خزين معرفي وثقافي، بحيث يستطيع فيه المرء أن يعبّر عن أعقد القضايا وأدق التفاصيل على نحو مفهوم وواضح وبأقل قدر ممكن من التعبير، وهو أمر يحتاج إلى قدرة وبراعة لا يمتلكها سوى مفكرين من أمثال ماركس وانجلز اللذين نحن بصددهما، وهكذا ترى الجملة أنيقة والكلمة رشيقة والمعنى عميق، سواء كان مجلداً موسوعياً أو مادة للصحافة، فالكتابة فن بقدر ما هي قراءة وعلم ومران وموهبة أيضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   الدكتور عبد الحسين شعبان – دكتوراه فلسفة (مرشح علوم)  في العلوم القانونية من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ، معهد الدولة والقانون. أكاديمي ومفكر، باحث في قضايا الإنسانيات والحقوق والأديان والفكر السياسي، أستاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاعنف، له نحو 60 كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة.
I
تمهيد
لم أكن بعد قد تعرّفت مباشرة على الصحافي والكاتب الاستاذ عكاب سالم الطاهر، ولكنني كنت أعرفه من خلال عدد من الصحف والمجلات العراقية، وكنت قد قرأت له على نحو متباعد وغير متّصل، حتى هاتفني من دمشق مع رجاء أخوي بطلب تقديم كتابه عن حوارات الحضارات، وهو موضوع طالما شغل اهتماماتي، ولاسيّما في البحث عن قضايا ذات صلة بالفكر السياسي والقانوني الدولي والعلاقات الدولية والإسلام والتسامح، انطلاقاً من المشتركات والمختلفات الإنسانية، وهو الأمر الذي أصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، كما كان في السابق، بل إنه اضطرار وليس اختياراً فحسب، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة في العام 2001، والتي أدّت إلى تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، واستهدفت  مقار رسمية في واشنطن وبنسلفانيا، راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف إنسان بريء.
وكان الصديق العزيز الاستاذ صلاح عمر العلي قد أخبرني برغبة الطاهر بكتابة المقدمة، ولهذا أبديت استعدادي على الفور، على الرغم من ازدحام جدول عملي، لكن ثمة ظروف خاصة وربما طارئة وأسباب فنيّة هي التي حالت دون اكتمال الفكرة التي اشتغل عليها الطاهر في حينها، حتى نضجت  في وقت  لاحق وهو ما أخبرني به خلال تكريمي من جانب وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية في بغداد برئاسة السيد الدكتور نوفل أبو رغيف، بطبع كتابين لي: الأول عن الشاعر الكبير الجواهري والموسوم " جدل الشعر والحياة" والثاني: عن سعد صالح، الشخصية الوطنية السياسية والأدبية والمعنون " الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة"، وفي خضم هذا الجو الاحتفالي، تقدّم الاستاذ الطاهر ليطلب الكلمة من اللجنة المسؤولة وليفيض بالتحدّث عني بما أستحقه ولا أستحقه.

II
ما حول الضفاف وصاحبها
كان هذا قبل أن أطلّع على كتاب عكاب سالم طاهر والذي حمل عنواناً مثيراً " على ضفاف الكتابة والحياة" مع عنوان فرعي " الاعتراف يأتي متأخراً"، وهو الكتاب المطبوع من جانب مكتبة الدار العربية للعلوم في بغداد، في العام 2014.
وفي هذا الكتاب اكتشفت عكاب سالم الطاهر، ليس إعلامياً وكاتباً فحسب، بل مناضلاً وإنساناً ولديه من فضول المعرفة وشغب الحياة وشغفها، الشيء الكثير، على الرغم من أنه ينتمي لجيل عاش الكثير من الانكسارات والعذابات والمحن، خصوصاً في إطار صراعات ونزاعات وحروب لا عقلانية داخلية وخارجية، بل أستطيع القول أنها كانت  تدميرية للآخر وللذات، بسبب قصور النظر والرغبة في التسيّد والزعم باحتكار الحقيقة، وقد دفع العراق جرّاء ذلك النهج الثمن باهظاً، وما زال ينزف دماً غزيراً.
واكتشفت في عكاب سالم الطاهر إصراراً لا حدود له على الكتابة، ولعلّ الصحافة كانت  تسكنه لدرجة التغلغل، وحين يبتعد عنها اضطراراً وقهراً، يعيش حالة تيه لفقدان حبيبته، فما بالك إذا كانت هذه الحبيبة "صاحبة الجلالة".
والأكثر من ذلك وجدت فيه نباهة غير عادية حين يلتقط الجوهري من الأشياء، ويكون في ذلك قد أمسك بحكمة البير كامو الذي قال عن الصحافي " إنه مؤرخ اللحظة"، كهذا لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، فيحاول أن يدوّن ما هو ضروري ثم يبدأ باختيار المثير من العناوين، بحيث يستثمر كل شيء لخدمة الصحافة، عشيقته الأولى، بل عشيقته دائماً، فحقيبة سفره كانت تمتلئ وتفيض أحياناً بما هو جديد. وعرفت عن الطاهر الاجتهاد، ومحاولة لا يدّعيها في الاستقلالية حتى وإن تغلّفت تحت غطاء سميك، لأن الشجاعة لديه قيمة عليا رغم الظروف القاهرة والملابسات العديدة، وقد يكون المنبت الفلاحي أعطاه مثل هذا الهامش، ليجد فيه ملاذاً أحياناً وسبيلاً للزوغان من المساءلة، كما لمست في كتاباته توسلاً بسبل الحياة ومتعها، بقدر ما حمل من همومها ومشاكلها.
لعلّ المحطات التي جاء عليها في كتابه " على ضفاف الكتابة والحياة- الاعتراف يأتي متأخراً" هي جزء من تاريخ العراق السياسي المعاصر، خصوصاً نصف القرن الماضي، الذي شهد تحولات كبيرة عاشها المجتمع العراقي، من الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها ما يبرّرها على الاطلاق، إلى مغامرة غزو الكويت العام 1990، إلى حرب قوات التحالف العام 1991، إلى الحصار الدولي الجائر الذي دام نحو 13  عاماً، إلى الاحتلال العام 2003 وما أعقبه من صعود الموجة الطائفية ولغة المحاصصة والارهاب والعنف، وانعكاسات ذلك على الثقافة السائدة وعليه شخصياً، سواءً أيام فترة الحكم الواحدي الإطلاقي الشمولي، أو خلال انهيار الدولة وما أعقبها من احترابات مذهبية وإثنية.
لكن عكاب سالم الطاهر حاول السير بين الألغام أحياناً وقد لا يكون أمامه من طريق آخر ، متجنّباً هذا وغاضّاً الطرف عن ذاك، مثلما  ظلّ يصارع بقلمه في السابق من كوّة صغيرة في النقد، وفي الحاضر من شحّ الفرص والمحاذرة من التصنيف السياسي أو النمذجة الحزبية، و هي محنة جميع التنظيمات الشمولية في الماضي والراهن.
اكتشفت أيضاً لدى الطاهر وفاءً منقطع النظير لرفاقه وأصدقائه وزملائه في العمل، وحتى عندما يريد انتقاد أحدهم  فإنه يغمّس كلماته بشيء من المحبة، بحيث يأتي نقده مملحاً ومقبولاً، حتى وإن كان هو المجروح، بل يجد أحياناً الأعذار لمن يلمّح في نقده، وهكذا كانت معاركة ناعمة، بل تكاد تكون مخملية أحياناً، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد المهني، وهي علامة قوة وليس علامة ضعف، وتلك لعمري سمة إنسانية لا يتمتع بها سوى من يسعى للتطهّر ومراجعة الماضي بصدق، دون أن يعني ذلك ما في تلك النزعة من مجاملة تأتي أحياناً على حساب التجربة والتاريخ والحقيقة، بل والمغالبة مع الهوى الصعب والنفس الحزينة.
اكتشفت في " الضفاف" ظرافة لا أعرفها عن الطاهر، وتفكّهاً محبّباً واستلطافاً ممتعاً وسخرية جميلة، ربّما يعود بعضها إلى "الحسجة الجنوبية" والتوريات، بين الظاهر والباطن والمعلن والمخفي، والمعنى وضدّه أحياناً، وتلك ما نطلق عليه حمّال الأوجه كما يقال.

III
سليل حضارات
ربما بعض أسفار الطاهر، وهي التي يحتويها كتابه على ضفاف الكتابة والحياة، إضافة إلى أرشيفه من الصور، ولاسيّما التي ضمت شخصيات أجنبية كانت وراء اهتمامه وانشغاله بحوار الحضارات، وهو الذي خَبِر ما تركه تصرفات بعض الإسلامويين من صورة سلبية ومشوّهة على الصعيد العالمي، تلك التي تم استغلالها على نحو بشع، خصوصاً بعد ارتكابات تنظيم القاعدة وربيبته تنظيم الدولة " داعش" وأخواتها، وخصوصاً تأثيراتها في الغرب، فهذه الصورة الملتبسة والمشوشة أصلاً والتي تتنازع فيها الرغبة في الاستعلاء من جانب الآخر ومحاولات الهيمنة وفرض النفوذ والاستتباع، من جهة، ومن الجهة الأخرى، السعي لتأمين المصالح ونهب الخيرات وسرقة الموارد والاستعباد وغير ذلك بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة، أقول فهذه الصورة تزداد قتامة وقبحاً كلما ترافقت مع أعمال إرهابية إجرامية باسم الإسلام أو المسلمين!!.
لقد زار الطاهر عشرات البلدان واختلط بأمم وشعوب كثيرة والتقى بالعديد من الشخصيات الرسمية والشعبية، سواء كانت في مجال الاعلام أو السياسة أو الجانب الإنساني، لذلك كان اهتمامه صميمياً، بل ومسؤولاً بفكرة حوار الحضارات، وقد يعود ذلك لشعوره أنه سليل حضارة أور وحضارة بلاد الرافدين، بابل وآشور، والحضارة العربية- الإسلامية، تلك التي سعى الاحتلال لتدميرها أو سرقة آثارها، ناهيكم عن المخطوطات والكنوز التاريخية التي تم العبث فيها، وهو الأمر الذي جعله يفكّر بأهمية حوار الحضارات بعدما شاع من نظريات تدعو إلى حتمية الصراع، ولاسيّما بعد انهيار الشيوعية، حيث وجد الغرب ضالته بعدو جديد هو الإسلام، مبرراً ذلك بضرورة صناعة العدو.

IV
صناعة العدو
هناك من قال في الغرب: إذا لا يوجد لنا عدو، فإننا سنخترعه أو نلفّقه، هكذا كان فرانسيس فوكوياما يفكّر في نظريته "نهاية التاريخ" التي بدأ بالتنظير لها في العام 1989 عشية انهيار النظام الاشتراكي العالمي ونهاية الحرب الباردة، وذلك حين بشّرنا بظفر الليبرالية التاريخي، وحين وقعت أحداث أيلول (سبتمبر) العام 2001 اعتبر ما حدث هو تأكيد لما ذهب إليه سابقاً، إذْ لا بدّ من تشديد الصراع لإحراز النصر النهائي وتحقيق "العالم الما بعد تاريخي" وإعلان انتصار الليبرالية (الجديدة) كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي على مستوى العالم.
أما صموئيل هنتغتون فقد دعا إلى تأصيل فكرة "صدام الحضارات" و"صراع الثقافات" التي بلورها في بحثه المنشور في مجلة الشؤون الدولية، وعاد وطوّرها في كتاب مستقل اشتهر به لاحقاً بالاسم ذاتها، حيث ذاع صيته ككتاب أو نظرية باسم The clash of Civilization ، فالصدام حسب وجهة نظره أمر محتوم ، خصوصاً وأن الإسلام بتراثه يعتبر العدو الجاهز الذي يقف عائقاً حيال سيادة الليبرالية، مثلما هي البوذية والكونفوشيوسية التي تواجه الحضارة المسيحية – اليهودية الغربية.
ويقول هنتنغتون " أن غياب العدو الشيوعي لا يعني زوال التهديد بالنسبة للولايات المتحدة والغرب. ولكي تحتفظ واشنطن بزعامة العالم، وجب عليها البقاء على أهبة الاستعداد، كقوة ضاربة للدفاع عن حضارة الغرب، ولهذا يتطلّب البقاء على القدرة الدفاعية والأمنية والمخابراتية والفضائية". ويتوصل هنتنغتون إلى استنتاج مفاده أن الصدام آت لا ريب وسيكون صدام حضارات وليس نهاية للتاريخ!.
إن هنتنعتون يختلف عن مجايليه بطرح الإشكالية، بكونها ثقافية حضارية، ولهذا فالصراع سيكون حضارياً ثقافياً بين الغرب والحضارة العربية الإسلامية. ويدرك هنتنغتون أن الثقافة هي سياج الهوّية، وبما أن الإسلام يمثّل ركناً هاماً في هوّية المسلمين، فإنه سيكون قادراً على التعبئة والتحريك الشاملين من المغرب إلى باكستان، بسبب تلك الهوّية، ولذلك اقتضى وضع حدّ له، ومنع تأثيره.
ويعزو هنتنغتون أسباب الصراع الحالي بين الغرب والإسلام إلى الصحوة الإسلامية، خصوصاً في أجواء العزلة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم الإسلامي، والهوّة السحيقة التي تفصله عن وسائل الاتصال والتقارب العالمي، بما يؤدي إلى انتشار ظاهرة التطرّف والظلامية والأصولية والإرهاب.
للأسف الشديد لم يميّز هنتنغتون أو فوكوياما بين الإسلام كدين وحضارة وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية،وهي موجودة في كل المجتمعات، وهي لا دين لها ولا لغة ولا جنسية ولا قومية ولا منطقة جغرافية تمثلها، فالحركات الإرهابية والمتطرّفة ترضع من ثدي واحد أساسه التعصب وإنكار الآخر والرغبة في التسيّد بغض النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، أو حتى بدون دين، وهو ما حاولت الأفكار الفاشية والشمولية اعتماده وسيلة لإرغام الآخر، عبر ممارسات وأنظمة سلطوية.
ومثلما في بلاد المسلمين توجد حركات متطرّفة، فإنها في الغرب كذلك. وكانت بعض المنظمات الإرهابية الصهيونية قد تأسست حتى قبل تأسيس " دولة اسرئيل" في العام 1948، ومارست أعمالاً إرهابية وعنفية ضد العرب، مثلما هي منظمة الهاغانا التي تأسست في القدس العام 1921 والتي تحوّلت إلى "جيش الدفاع الإسرائيلي" لاحقاً و"منظمة الأرغوان" واختصارها " اتسل" (التنظيم العسكري القومي) التي أسسها مناحيم بيغن العام 1943 وحركة كاخ التي أسسها مائير كاهانا المهاجر من الولايات المتحدة إلى "إسرائيل" بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967.
إن الحضارة العربية- الإسلامية باعتبارها وعاءً ثقافياً للعرب والمسلمين وأحد أسس هوّيتهم، فإن هناك من يعتبرها نقيضاً للحضارة الغربية النصرانية واليهودية، ولهذا السبب فهي تهديد للغرب وللعالم المسيحي حسب وجهة النظر هذه، وينسى هؤلاء أن الحركات الإسلامية المتطرفة والمنغلقة والارهابية، شكّلت تهديداً لدولها ومجتمعاتها قبل أن تشكل تهديداً للغرب، بحكم احتدام الصراع السياسي والاجتماعي وضعف احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبخاصة حرية التعبير وحق المعتقد والحق في التنظيم السياسي والمهني وضعف أو انعدام المشاركة السياسية في إدارة شؤون الحكم في الكثير من الأحيان.
وقد مارست تلك الحركات أعمال عنف منفلتة من عقالها ضد العديد من البلدان والشعوب العربية والإسلامية، بل إن القوى الغربية استخدمتها خدمة لمصالحها سواءً باسم المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي أو فيما بعد ، ناهيكم عن دعمها للقوى الإسلاموية ضد النظام السوري وفي أماكن أخرى من العالمين العربي والإسلامي.
يقول هنتنغتون " إن الفرق بين الحضارات ليس فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم بالدين" ثم يمضي إلى القول ليؤكد هذا التمايز والصراع والصدام، وبخاصة عند الحديث عن الإسلام عندما يقول " ليس صحيحاً أن الإسلام لا يشكّل خطراً على الغرب، وأن المتطرفين الإسلاميين هم الخطر. إن تاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها، خصوصاً المسيحية".
فأي فكرة استئصالية إلغائية تلك، التي يدعو لها هنتنغتون؟ أليس مثل تلك الفكرة استمرار في  التعكّز على إبقاء نار الصراع مشتعلة ومستمرة، بزعم إن الصراع تناحري ودائم ولا حلّ له إلاّ بالاستئصال والقضاء على الآخر؟ وبما أن الصراع كذلك فهي لا تريد البحث في المشتركات الإنسانية للتعايش والتواؤم، فضلاً عن إيجاد حلول للمختلفات، التي تعود أسبابها إلى منهج الاستعلاء وفرض الوصاية وعدم المساواة في العلاقات الدولية، ناهيكم عن هضم الحقوق، على صعيد الطغيان الخارجي والاستبداد الداخلي.
إن هنتنغتون يدعو إلى سيادة الغرب، خصوصاً وأنه " نجح في الإمساك بناصية المؤسسات الدولية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، مجلس الأمن.." ويضيف إلى ذلك " إن أي أمر يخدم مصالح الغرب تستجيب له هذه المؤسسات، وفي الأمر شواهد كثيرة: الحرب على العراق، العقوبات ضد ليبيا..." مما يؤكد الاتهامات العربية والإسلامية إزاء هذه المؤسسات التي أصبحت أكثر فأكثر " أداة" بين واشنطن في إملاء سياساتها وابتزاز دول العالم كافة، وبخاصة البلدان العربية والإسلامية.
وبهذا المعنى فإن هنتنغتون لا يدمغ أعمال المقاومة باعتبارها رديفاً للإرهاب فحسب، بل يعمم ذلك على الإسلام كدين والعرب كأمة، فهما رديفان للإرهاب أيضاً، ولذلك ليس عبثاً أن يتصدّر مصطلحاً جديداً السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة ويشمل الدول الإسلامية، التي يطلق عليها  "الدول الشريرة" أو "المارقة" Rogue states أي الدول غير المطيعة، أو التي لا تستجيب للمطالب الأمريكية، ولربما اعتبرت حُصناً جامحة لا بد من ترويضها وإعادتها إلى الحظيرة!.
V
التواصل والتفاعل أم التناقض والتعارض؟
ولمناقشة هذه الأطروحات فإن كاتبنا الطاهر بعد دحض  مثل هذه الأطروحات لا يذهب إلى النقيض أي بتأكيدها عبر تبنّي نقيضها، بل يحاول تفنيد أسسها الفكرية والثقافية، باحثاً عن المشتركات وكل ما هو جامع، بدلاً مما هو مفرّق، لاسيّما وأن الحاجة للتعاون والمصالح المشتركة هي التي تشكل القاسم الأعظم والذي ينبغي أن يسود في العلاقات الدولية، ولاسيّما عبر الحوار، بدلاً من صدام الحضارات وصراع الثقافات.
ويمكن القول، إن ثمة دواعي كثيرة تخصّ العالمين العربي والإسلامي، إضافة إلى الغرب تدعوهما إلى الحوار والتفاعل، بدلاً من الصدام والصراع، فكل منهما يحتاج إلى الآخر،وعالمنا الحالي لا يمكن العيش فيه بعزلة أو ارتيابية أو عدوانية وكأنه جزيرة منعزلة ونائية مهما كانت القدرات والإمكانات والخيرات المادية، إنه يحتاج إلى التنمية وإصلاح نظم الحكم والإقرار بالتعددية واحترام حقوق الإنسان، مثلما يحتاج إلى الاستقرار والسلام والتقدم، والخروج من دائرة التخلف، واختيار الطرق المناسبة لاستثمار الموارد والخيرات، كما يحتاج إلى الغرب الصناعي المتقدّم وإلى التكنولوجيا ومنجزات العلم ووسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، ولن يجد ذلك سوى في الغرب الذي هو المستودع الكبير للعلوم والتكنولوجيا والأدب والفن والعمران والحداثة والجمال.
كما أن الغرب هو الآخر بحاجة إلى موارد العرب وطاقاتهم وأسواقهم، ولن يتم ذلك عبر الازدراء أو النزعات الاستعلائية أو الإقصاء أو التهميش ومحاولات فرض الإرادة والهيمنة وإخضاع العالمين العربي والإسلامي، بل يمكن أن يتم ذلك باحترام الآخر والتعايش والتعاون والحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وفي وضع يتسم باحترام الخصوصية والحقوق، مثلما يتطلب الأمر إيجاد حلول عادلة لمشكلات مستعصية في المنطقة وأساسها للقضية الفلسطينية، التي لن تجد حلاً عادلاً وسلمياً دون تأمين حق تقرير المصير للشعب العربي وعودة اللاجئين وتعويضهم وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس، وذلك كمعيار للحد الأدنى ضمن توازن القوى الدولي، ومثل هذه الحلول تساعد على تصحيح مسار جزء من العلاقات الدولية والانحيازات المسبقة لإسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة.
إن الحوار وهو مظهر حضاري ينسجم مع التعاليم الإسلامية، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدلّ عليه، فضلاً عن السيرة النبوية، كما إنه يشكّل ركناً مهماً من الثقافة الغربية التي تؤمن باحترام الآخر والتعددية والتنوّع، وغيرها من قيم الحداثة والعقلانية، إضافة إلى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، الأمر الذي يقتضي التعاون والتعايش والسلام الحقيقي.
إن الحوار يعكس رغبة في التفاهم، كما أنه لا يلغي عنصر الاختلاف والتمايز والخصوصية. وكانت نزعات الصدام وسباق التسلح وخيمة على البشرية، حيث تم فيها هدر مليارات الدولارات والموارد والطاقات البشرية في ماراثون جنوني للهيمنة وفرض الإرادة، ودفعت الشعوب ثمناً باهظاً بسبب الحرب الباردة، فلو صرفت تلك المبالغ التي خصصت للتسلح، لكانت الكثير من الأمراض قد اختفت والفقر والأمية قد تقلّصت وحياة الناس قد تحسّنت، والرفاهية قد عمّت، ولأمكن إيجاد حلول ومعالجات لأمراض الإيدز وقضايا البيئة والتصحر ولبذل الجهد أكثر لاكتشاف الفضاء ودخول عالمه على نحو كبير .
إن الخصوصية القومية والثقافية والدينية للعرب والمسلمين بالقدر الذي ينبغي مراعاتها وتعزيزها بوجه محاولات " الإلغاء" و" التهميش" و"الإلحاق" بحجة " الشمولية" و" العالمية"، لكنها لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقاص من المعايير الدولية، خصوصاً في القضايا الأكثر راهنية وإلحاحاً بما أبدعه الفكر الإنساني وما توصلت إليه البشرية، من مثل وقيم تخص الإنسان وحقوقه.ولعلّ ذلك ما حاولنا معالجته في كتابنا الموسوم " الإنسان هو الأصل" الصادر في القاهرة في العام 2002.
فالخصوصية تعني، التنوّع الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي والتاريخي لأمة ما أو مجتمع ما أو جماعة قومية أو أثنية، كما أنها تعني العقلية Mentality والتقاليد بين شعوب وبلدان وتفاعل ثقافات وأمم وأقوام، وهي بقدر تناغهما مع الفكر العالمي، الشمولي، الكوني، تستطيع التعبير عن تمايزها وتفرّدها وخصائصها كشعب أو أمة  أو مجتمع ، ففكرة حقوق الإنسان حيكت من نسيج الفكر البشري وبمصادره المختلفة، وهي ليست محصورة بقارة أو حضارة أو أمة أو شعب. وبهذا المعنى فالخصوصية لا تستهدف الانغلاق أو التصادم مع الحضارات الأخرى والارتياب منها، كما أن الحداثة والتواصل الحضاري، لا يعني قبول منطق الوصاية أو التبعية الفكرية.
إن التفاعل يمدّ جسوراً بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة، بين ما هو خاص وما هو عام وبين ما هو عربي وإسلامي وما هو عالمي وشمولي، ولن يكون ذلك بنهاية التاريخ أو بصراع الحضارات ، بل الانفتاح وإعادة ربط المصالح بروح من التسامح والبعد الإنساني وروح المشاركة الدولية في صنع المستقبل الإنساني.
وفي ظل نظريات " صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" التي ناقشناها في كتابنا الموسوم " الإسلام والإرهاب الدولي- ثلاثية الثلاثاء الدامي: الدين ، القانون والسياسة" الصادر في لندن، العام 2002 والمطبوع في عمان طبعة ثانية في العام 2008، تعمّقت وتعززت فكرة الإسلامفوبيا،"الرهاب من الإسلام"، بل إنها أصبحت الآن ظاهرة مثيرة في الغرب، لاسيّما بعد بعض الأعمال الإرهابية، وبهذا المعنى أخذت ترتفع موجة التعصّب والتطرّف في الغرب من الجماعات الفاشية واليمينية لتدمغ عموم المسلمين بالإرهاب والعنف ولإشاعة جو مشحون بالكراهية، وهي جزء من كراهية الأجانب في الغرب المعروفة باسم الزينوفوبيا Xenophobia، وهو ما يعود بنا إلى هنتنغتون الذي اعتبر الصراع ينشأ على امتداد خطوط مجابهة قائمة تاريخياً.
وبالمناسبة فقد أدان مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) حول العنصرية العام 2001 ، فكرة كراهية الأجانب، مثلما أدان الممارسات "الإسرائيلية" ودمغها بالعنصرية، لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي وقعت بعد أيام، حوّلت الاهتمام إلى ملف الإرهاب خصوصاً وأن المتهم الأساسي كان  تنظيم القاعدة وأن المنفذين كانوا يحملون جنسيات عربية.
إن هنتنغتون الذي يفيض في أطروحاته عن خطر الإسلام، مغلفاً أفكاره بآيديولوجيا سياسية عن الأصولية الإسلامية، وهي الفزّاعة التي حاول أن يلوّح بها دليلاً على إرهاب العالم الإسلامي كله، لا نراه يتحدّث شيئاً عن الأصولية المسيحية، وبخاصة في أمريكا، ولا عن الأصولية اليهودية في إسرائيل وخارجها.
وإذا كانت الأصولية الإسلامية بمعنى التطرّف والتعصّب وإقصاء الآخر في عداء مع فكرة الحداثة والعلمانية باعتبارهما، ضمانتين للحرية واحترام حقوق الإنسان، وشرطاً من شروط حماية حقوق الفرد بوجه تغوّل السلطات، فإن الأصولية المسيحية واليهودية لا تقلان عداءً وتطرفاً وتعصباً، بل وإلغاءً للآخر وتحريمه وتأثيمه، وقد أظهرت هذه الأصولية في أوروبا عداءً سافراً للعرب والمسلمين باستغلال أحداث شارلي إيبدو التي وقعت في باريس  يوم  7 كانون الثاني (يناير) العام 2015، مثلما كانت ضالتها في فلسطين عبر عمليات تهجير وإجلاء لتحويل " إسرائيل" إلى دولة يهودية نقية.
VI
أبلسة الإسلام و"الآخر"
ويحاول الطاهر مناقشة التوجهات السائدة في الغرب والتي تشكل سياسات رسمية لدول وحكومات سعت لتجريم العالم العربي والإسلامي وشعوباً وأمماً بكاملها سواءً تحت يافطة " الشيطان الأحمر" سابقاً، أو " الشيطان الأصفر" لاحقاً أو " الشيطان الأخضر" حالياً بتبنّي أطروحات  أو مبرّرات يمكن بموجبها الاستنجاد بالمنقذ الأمريكي – الصهيوني بوجه محور الشر والإرهاب، تلك الرقصة الأثيرة التي على إيقاعها جرى احتلال العراق في العام 2003.
هكذا إذن يكون العالم الإسلامي بما فيه من تنوّع واختلاف وتناقض مثلما هو الغرب أيضاً، كله عدائياً ويستحق المجابهة والتذويب أو الاقتلاع. فالعداء لم يشمل بعض الحركات والتيارات المتطرفة والمتعصبة، بل يشمل شعوباً مسلمة بالكامل أو القسم الأكبر منها، وهو ما دعا مستشار مارغريت تاتشر الفريد شيرمان أن يكتب عام 1993 مقالة بعنوان " الزحف الإسلامي الجديد على أوروبا" ملوّحاً بما يسمّى بـ " الخطر الإسلامي"، وهو الأمر الذي يتجدد اليوم بعد حادث شارلي إيبدو واغتيال 12 صحافياً فرنسياً في حادثة مروعة، إضافة إلى تمدّد داعش وتلويحها بالقيام بأعمال إرهابية في عدد من البلدان الغربية .
يقول شيرمان " هناك خطر إسلامي على أوروبا المسيحية، إنه يتطور ببطأ وما زال بالإمكان لجمه ولكن سياسات القوى الغربية فعلت كل ما يمكن تقريباً لمساعدته على التنامي" ، ثم يحدد العوامل التي أوجدت هذا الخطر ويجملها بأربعة، هي :
1-" سياسات هجرة لا مسؤولة تماماً في أوروبا الغربية والوسطى خلقت بسرعة أقلية متزايدة التطرف، من قبل 15 مليون مسلم هنا، ولذلك ترتفع اليوم أصوات اليمين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد والدانيمارك وهولندا وبلجيكا وغيرها تدعو إلى مواجهة الإسلاميين ومنع الهجرة.
2- استبعاد تركيا من الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية.
3- سياسة ألمانيا لمجابهة البلقان، لتفكيك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وإخماد صربيا.
4- دعم الفاتيكان لهذه السياسة وغزل البابا المتواصل مع الدول العربية، والمقصود من ذلك الموقف التاريخي الإيجابي من حقوق الشعب العربي الفلسطيني  من جانب الفاتيكان.
ويرد الباحث والمفكر البريطاني الفريد هاليداي في كتابه المعنون " الإسلام والغرب: خرافة المواجهة" الصادر في العام 1997، وفي كتابه "ساعتان هزتا العالم" الصادر في العام 2002، على الأطروحات التي تريد التهويل من خطر الإسلام، خصوصاً تلك التي أعطت حيزاً كبيراً لنظرية هنتنغتون وللأحكام التبسيطية التي تتوصل إليها باستحضارات الثقافة باعتبارها موضوع جدل والاختلاف المتأصل بين الشرق والغرب وبين الدول باعتبار ذلك أمر حتمي بالقول:" إن هذه النظرة عن العالم ليست وليدة عداء الغرب للإسلام أو أنها وصمة ألصقها ( الغرب) بالمسلمين فحسب، إذ أن هناك البعض، بل هناك كثيرين في العالم الإسلامي وبين المسلمين في أوروبا الغربية، ممن يعتنقون هذه الديماغوجية، وقد سارعوا للاستجابة بهذه الروح ذاتها لأحداث الثلاثاء، وهم يرحّبون بتحليلات صموئيل هنتنغتون التبسيطية، كما يرحّب بها الكثير من القوميين في الغرب ..."
وهو ما دعا إليه أيضاً فرانسيس فوكوياما وهو ما يمكن الإضاءة عليه، لاسيّما بتقسيم العالم إلى قسمين: عالم التاريخ وعالم ما بعد التاريخ. والأخير هو عالم الدول الصناعية المتقدمة. ويطرح فوكوياما مشكلات النفط والإرهاب واللاجئين باعتبارها المشاكل الرئيسة التي تواجه العالم " الجديد".
إن اللاجئين الذين ينتقلون من عالم التاريخ " الدول المتخلفة" إلى عالم ما بعد التاريخ "الدول المتقدمة" هو انتقال من الجنوب " الفقير" إلى الشمال " الغني" ومعهم ينتقل "فايروس" الإرهاب. ويعتقد فوكوياما أن عالم ما بعد التاريخ، هو الذي يحقق العدالة والإنسانية بفضل قوته الصناعية وتقدّمه. وما على الآخرين إلا التسّليم لهذا العالم الما بعد تاريخي، والانخراط به إذا كا يريدون السير في درب التقدم والحضارة.
ويتوصل فوكوياما إلى استنتاج مفاده: ظفر الغرب والليبرالية  السياسية والاقتصادية، كخيار إنساني ووحيد، وشكل أخير من أشكال إدارة المجتمع البشري، معلناً الهزيمة المطلقة للخيارات الأخرى، مشدّداً أننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو أية مرحلة من مراحل التاريخ، بل " نهاية للتاريخ".
وإذا كان فوكوياما قد دحض الخيارات الأخرى، خصوصاً الخيار الاشتراكي أو الماركسي إلاّ أنه استعار فكرة نهاية التاريخ منه، وذلك بإمكانية وضع حد للاستغلال في المرحلة الشيوعية التي هي نهاية تعاقب المراحل التاريخية، كما إن هيغل، هو الآخر استخدم مفهوم نهاية التاريخ، حيث آمن بوصول التاريخ إلى الذروة في لحظة مطلقة، تلك التي يطلق عليها "انتصار الشكل العقلاني النهائي للمجتمع والدولة".
وهكذا فإن فوكوياما يستخدم عدسة ماركس، ويستعير نظارة هيغل، ليثبت نظريته "بنهاية التاريخ" بعد أن يحاول إبطال المفاهيم التي سبقته، خصوصاً الحتميات الهيغلية- الماركسية، التي شكلت جزءًا مهماً من المتاع الثقافي في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وما بعدها لأوساط واسعة، بل إنها طبعت الصراع الآيديولوجي وفترة الحرب الباردة بطابعها.
ويقرّر فوكوياما حتميته الجديدة، بعد أن يجهز على الحتميات القديمة، بوصف شكل الدولة التي ستظهر في نهاية التاريخ والتي يطلق عليها اسم الدولة الليبرالية، لأنها " ستعترف وتحمي قانونياً: حقوق الإنسان العامة، بالحرية والديمقراطية، ولأنها لا يمكن أن توجد إلا بموافقة أولئك الذين تحكمهم"...ولكي تسود حتمية فوكوياما فقد دعا إلى نقل البندقية من الكتف اليسرى إلى الكتف اليمنى، والبقاء على أهبة الاستعداد، فأمريكا زعيمة الليبرالية قد تخلصت من عدوها التقليدي، ممثلاً "بالشيوعية الدولية" إلاّ أن الخطر كل الخطر في أن تخلد إلى الراحة أو الاسترخاء (هي وحلفاؤها بالطبع) لأن هذا سيولد نوعاً من الفراغ، الذي عليها أن تملأه ببديل إذا ما أريد للتاريخ أن يظل مملوءًا أو فاعلاً، فالتاريخ كالطبيعة يموت في الفراغ، والإسلام سيثقل ويعطل النهاية الحتمية للتاريخ، وبداية عهد ما بعد التاريخ.
إن فوكوياما الذي أثار جدلاً كبيراً حول نظرية " نهاية التاريخ" فإنه عاد في كتابه الجديد " Our Posthuman Future: Consequences of the Biotechnology Revolution " (مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية) الصادر العام 2002 إلى اعتبار أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدم سريع ومذهل، حيث أشار ردّاً على صحيفة الهيرالدتربيون: إن أيسر طريقة لفهم أطروحته الجديدة هي إدراك الجانب السياسي للتكنولوجيا. وإذا كانت التكنولوجيا والمعلومات قد أضفت قدراً كبيراً من التأثير على الديمقراطية السياسية والليبرالية، فإن التكنولوجيا الحيوية من الممكن أن توفّر مجموعة أدوات للسيطرة والهيمنة في السلوك الاجتماعي.
وذهب فوكوياما إلى اعتبار الأدوية الجينية التي يتم إنتاجها لحقن أثر التفاعلات المناعية لكل مريض على حدة تحقق تقدّماً واعداً في المستقبل، وقال أن العالم سيشهد خلال عشر سنوات قادمة ظهور العديد من الأدوية المختلفة التي من خلالها يتم تحسين الذاكرة وزيادة الذكاء.
VII
أسئلة في بطن أسئلة
يحاول عكاب سالم الطاهر أن يجيب على أسئلة طرحها على أنفسه وعلى القرّاء، حول معنى الخلاف والاختلاف، وهل الحوار مناظرة؟ إضافة إلى إضاءته على مخاطر صدام الحضارات ، ثم لماذا هذا الصدام؟ وبعد ذلك كيف نتجنّب الصدام؟ ويسلّط الضوء حول طبيعة الصراع في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإذا كان الصراع قومياً بمعنى نشوء الدولة القومية والصراع آيديولوجياً عقائدياً في القرن العشرين، لاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية عهد الحرب الباردة، فإنه يردّ على اتجاهات الغرب بأن الصراع أصبح حضارياً بمعنى دينياً حسب فوكوياما وهنتنغتون، لأنه في كل الأحوال صراع مصالح، أما الأديان أو أتباعها وهو الصحيح، فإن مجال علاقاتها يقع في مكان آخر، وحتى ما يسمى بالحروب الصليبية  لم تكن حروباً دينية بقدر ما هي حروب اقتصادية وعسكرية، وأن هدفها هو المصالح، ولذلك نطلق عليها اسم "حروب الفرنجة" وليست الحروب الصليبية.
إن " إسرائيل" التي تدعو لدولة يهودية نقية تريد تصوير الصراع الدائر في المنطقة، باعتباره صراعاً دينياً بين يهود وهم بضعة ملايين، وأقلية محاطة ببحر من المسلمين، يقدّر عددهم بنحو مليار ونصف المليار ، يريدون ابتلاعها، وما على الغرب باعتبارها جزء من حضارته الاّ حمايتها، على الرغم من أنها هي التي تشن العدوان والحروب ضد العرب منذ قيامها في العام 1948 ولحد الآن.
وتسعى "إسرائيل" وتشجع على هجرة المسيحيين سواء من فلسطين، أو من البلدان العربية من العراق وسوريا ولبنان ومصر، لكي تقول أن العالم العربي – الإسلامي لم يتحمّل حتى المسيحيين أهل البلاد الأصليين، وأقدم من المسلمين على هذه الأرض، فما بالك باليهود، ولهذا فهي تشجّع على تقسيم العالم العربي باعتباره كياناً مصطنعاً إلى أديان وطوائف وشعوب وإثنيات، لا يجمعها جامع، وكانت هي أكثر من روّج لأطروحة برنارد لويس الذي دعا إلى تقسيم العالم العربي إلى 41 كياناً دينياً ومذهبياً وإثنياً وجغرافياً، ولفكرة هنري كيسنجر الذي قال في سبعينيات القرن الماضي: علينا أن نخلق دويلة وراء كل بئر نفطي، وقد وجدت في تلك الأطروحات ضالتها لاسيّما وأن مقارباتها كانت قد طُرحت من جانب دايفيد بن غوريون أول رئيس وزراء "لإسرائيل" وأحد آباء الحركة الصهيونية المعاصرة.
ولعلّ "دولة داعش" اليوم هي الوجه الآخر لفكرة الدولة الدينية النقية، بل إننا لا يمكن أن نهمل رواج دعوة الدولة النقية اليهودية في الوقت الذي تحركت فيه الدولة الإسلاموية " داعش"، لتعلن الخلافة وتطالب الآخرين بالبيعة والولاء .
وإذا كانت الدولة اليهودية النقية تريد طرد العرب الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم من فلسطين، وهم سكان البلاد الأصليون الذين يؤلفون اليوم 20% من السكان،  فإن الدولة الداعشية هي الأخرى لا تقبل بالآخر ، مهما كان دينه أو مذهبه حتى وإن كان من المسلمين من أي صنف أو فرقة أخرى، وتطالب الجميع بالولاء والطاعة والبيعة، فما بالك بالمسيحيين والإيزيديين والشبك، إضافة إلى التركمان والعرب والكرد، فأتباع الديانات عليهم جميعاً أما التأسلم حسب الطريقة الداعشية أو دفع الجزية أو الرحيل وإلاّ فإن التوابيت تنتظرهم.
بهجرة المسيحيين من فلسطين، فإن "إسرائيل" تريد إرسال رسالة تقول فيها لاحظوا أن الصراع دينياً بين اليهود والمسلمين، وهي بذلك تهدف إلى  عزل المسيحيين والدروز عن الكفاح من أجل حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وحق اللاجئين بالعودة والتعويض مسلمين أو مسيحيين أو دروز أو غير ذلك، وإن الصراع هو وطني من أجل الحقوق، ولاسيّما الأرض والسيادة والإنسان، وليس صراعاً دينياً بين يهود ومسلمين.
VIII
في جذر الصدام
يحاول عكاب الطاهر ردّاً على أطروحات الصدام أن يعتبر الحضارات جزءًا مكملاً الواحد للآخر، فيدعو إلى تعارفها وتفاعلها، متوقّفاً عند أمم عملاقة قامت في مواجهة  أوروبا المدنية، مندّداً بالصيغة الواحدية، باحثاً في الاستشراق بشكل عام والروسي بشكل خاص والاستعمار وتبعاته التاريخية، داعياً للاعتذار والتعويض واسترداد الثروات وبناء أسس جديدة للعلاقات الدولية، وذلك ما يختم به فصوله السبعة، بفصل ثامن عن حوار الحضارات، مع فصل تاسع للعرض والتحليل، لكل ما تقدّم ذكره.
إضاءات
كتاب عكاب سالم الطاهر احتوى على إضاءات مهمة لفكرة حوار الحضارات وصدامها، وبقدر محاولته الإجابة على عدد من الأطروحات والإشكاليات، فإنه أثار أسئلة أخرى تحتاج إلى المزيد من التبصّر والتفكّر والتدبّر، خارج اليقينيات التقليدية والانحيازات المسبقة والمسلّمات الجاهزة. إنه كتاب يمنحك قدرة على التأمل بهدوء ولكن بمسؤولية.

492
.. وماذا عن سد الموصل؟


عبد الحسين شعبان
هل فعلاً أن سدّ الموصل معرّض للانهيار أم ثمة مبالغات سياسية بتهويل الأمر؟ وما هي حقيقة الواقع الفنّي للسد وسط تطيّرات مقابل تطمينات، الأولى هي تحذيرات، في حين إن الثانية قد تكون تخديرات، وما بين التخدير والتحذير هناك اختلافات في الدوافع والأهداف، وغالباً ما وقفت الحكومة وراء التطمينات التي تريد التهوين من حجم المشكلة التي تعترف بها، في حين إن الجهات الخارجية والداخلية التي تقف وراء التحذيرات تستهدف وضع هذا التحدّي الجديد بمواجهة الحكومة العراقية، وبين التطيّر والاسترخاء تضيع الحقيقة أحياناً، فما هي قصّة سد الموصل؟
تعود الحكاية إلى مطلع الخمسينات عندما قرر مجلس الإعمار بناء السدّ على نهر دجلة في موقع يبعد عن مدينة الموصل بما يزيد على 40 كم شمالها. وقد تأخر بناء السدّ إلى العام 1984، بسبب بعض التجاذبات السياسية وتعدّد واختلاف المقترحات الفنية.
ويعتبر سدّ الموصل أكبر سدّ في العراق مقارنة بسدّي دوكان والثرثار، وهو من حيث الحجم بعد مشروع سدّ الكاب التركي وسدّ أسوان المصري وسدّ الأسد السوري. واعتبر حينها إنجازاً مهماً حيث تم استكماله خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في العام 1980.
ومنذ البداية فقد كان هناك اختلاف حول بناء السدّ ومدى صلاحية الأرض التي يقام عليها. وفي حينها رجّحت الدراسات السوفييتية عدم صلاحية المكان لبناء مثل هذا السدّ العملاق الذي يبلغ طوله 3.4 كيلومترات وارتفاعه 113 متراً، لأن الأرض التي يقف عليها كلسية وتتكون من صخور، وهي قابلة للذوبان والتحلّل، خصوصاً وإن كمية المياه المخزونة تبلغ 12 مليار متر مكعب، ما يؤدي إلى ظهور تصدّعات وتشكيل فراغات أسفل جسم السدّ، بحيث تنهار الطبقات التي تعلوها.
أطلق على سدّ الموصل اسم «سدّ صدام»، وبعد احتلال العراق لم يلتفت إليه أحد باستثناء بعض أعمال الصيانة التقليدية التي أخذت تتراجع، في حين إن وضع السدّ بدأ بالتردي ومنذ العام 2007 وبشكل خاص بعد العام 2010 كانت هناك تحذيرات متواترة، لكنها لم تلقَ آذاناً صاغية وقد شكّكت الحكومات العراقية المتعاقبة بتلك الآراء ووجهات النظر واعتبرت القلق مبالغاً فيه، حيث كان الجميع منشغلاً بالانتخابات ونتائجها وتوزيع الحصص والحقائب الوزارية والمناصب العليا في الدولة، بينما كانت أوضاع السدّ تنذر بأخطار جسيمة واحتمالات وخيمة.

وكان الأمريكان وهم يلملمون ذيولهم وينسحبون من العراق قد أعلنوا أن سدّ الموصل هو «أخطر سدّ في العالم» دون أن يتحملوا مسؤوليتهم كقوة احتلال بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 تلك التي كانت تفرض عليهم حماية السدّ الذي بُني على تربة هشّة تحتاج إلى دعم مستمر منعاً للانهيار، وتفجّر المياه التي يبلغ ارتفاعها 20 متراً، خصوصاً إذا ما تسرّبت باتجاه سكان المدن المجاورة وهو كاف لتدميرها وإغراقها بما فيها مدينة الموصل التي يبلغ عدد سكانها مليوناً و700 ألف نسمة، وذلك خلال ثلاث ساعات فقط، كما يمكن تدمير مدينة تكريت وسامراء في محافظة صلاح الدين، جنوب الموصل وصولاً إلى مشارف بغداد التي يمكن للسدّ أن يدمّر قسماً كبيراً منها.
وإذا كان رأي الخبراء السوفييت، إن بناء السد في هذا المكان غير صالح، فلماذا تم الشروع ببنائه؟ وعلى الرغم من أننا نتحدث اليوم بعد مرور ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان، فالأمر لا يخلو من حاجة ماسة أولاً لعلاج مؤقت وليس طويل الأمد آنذاك، مثلما هناك حاجة سياسية أيضاً لتحقيق إنجاز في النمو الاقتصادي على حساب التنمية المستدامة، وهي طريقة اتبعتها الأنظمة التي تؤخذ بشرعية الإنجاز على حساب الشرعية المجتمعية.

بوجه الآراء السوفييتية، كان هناك رأي سويسري وآخر فرنسي، وكلاهما كان يؤكد أن بناء السدّ ممكن، وكل ما يحتاج إليه فقط إجراء تعديلات بسيطة على الأرضية وعلاجها بمواد خاصة. ولهذا السبب تم البدء بتنفيذ المشروع ولم يتوقف حتى بعد أن تأكدت صحة تقديرات الخبراء السوفييت، حيث حدثت تشقّقات وانجرافات في التربة، مما اضطرّ الشركات المتعهّدة للقيام بحقن التربة أسمنتياً بشكل مستمر.

وحين سيطر «داعش» على الموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014، ارتفعت موجة القلق والخوف على السدّ، يضاف إلى ذلك إهمال صيانته، فضلاً عن احتمال تفجيره، وأدلى عدد من الخبراء المحليين والدوليين بآرائهم من احتمال انهيار السدّ، وتهديد ملايين العراقيين، بما يخلّف خسائر على طول أكثر من 300 كم باتجاه مجرى النهر، عدا الأضرار المستدامة على مستقبل التربة والبيئة والزراعة والصناعة للمنطقة.

وعلى الرغم من أن قوات البيشمركة بمساعدة قوات التحالف والغطاء الجوّي الأمريكي تمكّنت من استعادة السدّ، لكن كابوس الانهيار ظلّ قائماً ومهيمناً، بل ازدادت عوامل الهلع والرعب لدى العراقيين، خصوصاً بعد النقاش الذي شهده الإعلام العراقي وداخل مجلس النواب وفي أوساط الحكومة العراقية، فضلاً عن آراء خبراء وملاحظات بعض مؤسسات المجتمع المدني، من احتمال انهياره.
إن التدهور السريع الذي أصاب السدّ خلال السنتين الماضيتين، جاء بسبب انخفاض أسعار النفط العام 2015 وتفاقم الوضع الأمني والانقسام السياسي والمعارك العسكرية مع «داعش»، فضلاً عن الاختلالات التاريخية.
وكانت صحيفة «الواشنطن بوست» قد ذكرت أن مشاكل السد بدأت منذ العام 1986 حين تم ملؤه بالماء، في حين نفت ثم قلّلت الحكومة العراقية من حجم المشاكل والتحديات والمخاطر. وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد صرّح أن احتمال انهيار السد ضئيل.
ومع تفاقم الوضع اعترفت بغداد بأن السدّ يتعرّض إلى مخاطر، الأمر الذي دفعها لتوقيع اتفاقية مع شركة تريفي الإيطالية بقيمة 296 مليون دولار لتدعيم السدّ وإجراء أعمال الصيانة خلال 18 شهراً. ويشمل العقد إرسال 450 جندياً لحمايته بسبب قربه من أراضي تخضع لتنظيم «داعش»، إضافة إلى أهمية توفير الماء والكهرباء لنحو مليون إنسان. وتقول الحكومة لتطمين الناس، إنها استخدمت أجهزة إنذار مبكّر ومتابعة دقيقة بتسجيل مؤشرات السدّ بشكل يومي يقدّم لمجلس الخبراء ولكنها طلبت من السكان القريبين إخلاء منازلهم على سبيل الاحتياط.
وبخصوص الاتفاقية الإيطالية يقول نصرت آدامو وهو أحد الخبراء الذين عملوا على مشروع السد عند بنائه «إن الخطة الإيطالية هي عملية تجميلية لا تفي بالغرض» كما أن تجهيزها للعمل يحتاج إلى ثلاثة شهور، الأمر الذي يعني استمرار المخاطر والتهديدات.
وإذا كان رأي الخبراء إن بقاء الحال على ما هي عليها غير ممكن وإن الترقيعات غير مفيدة، فما هو المطلوب؟ الأمر يحتاج إلى معالجات سريعة بحيث يتم: 1- إصلاح بوابات السدّ بعد ارتفاع مياه البحيرة أمامه و2- استكمال عملية التحشية أو الحقن، وهي وإنْ كانت عملية إنعاش مؤقتة، لكنها ضرورية في الوقت الحاضر لمنع الانهيار. وقد يحتاج الأمر إلى بناء سد مواز أو محاذ لاحتواء الأزمة، وهو رأي كان قد طُرح قبل سنوات، لكن الحكومات العراقية اعتذرت بحجة أن تكاليفه قد تصل إلى ملياري دولار.
للأسف فإن العقل السياسي لا يستمع إلى العقل الفني للخبراء على الرغم من كثرة الحديث هذه الأيام عن حكومة التكنوقراط ودورهم، والسياسيون غالباً ما يؤخذون بالإنجاز السريع، وليس بالإنجاز الطويل الأمد.
وعلى أهمية نبل الفكرة أحياناً، فإن النتائج المستقبلية تكون كارثية، فمثلاً تم بناء مدينة الثورة (مدينة صدام ثم مدينة الصدر حالياً) لإسكان الفقراء الذين يعيشون في أكواخ وعشوائيات، وكان النظام الجديد يريد كسب قلوبهم مثلما يسعى لكسب عقولهم، وهكذا على عجالة تم بناء 60 ألف مسكن دون بنية تحتية أساسية كافية ومن دون مجاري ومياه صرف، وهو الأمر الذي أخذ يتفاقم مع مرور الأيام، بازدياد السكان وشحّ الخدمات في مدينة تطفو على بحيرة من النفط كما قيل، وأصبح من الصعب إصلاح الوضع حيث يعيش فيها أكثر من مليوني إنسان.
الخراب يتفاقم منذ الاحتلال، لأسباب تتعلق بنظام المحاصصة والفساد المالي والإداري، وهذا شمل التعليم والخدمات الصحية والبلدية وغيرها، واليوم فإن سد الموصل هو أقرب إلى تسونامي تهدد بكارثة اقتصادية وبيئية وإنسانية.


493
حوار الحضارات أم صدامها؟
الغرب وتنميط الإسلام !!
مقدمة كتاب عكاب سالم الطاهر

بقلم عبد الحسين شعبان *

   
كان كارل ماركس قد أرسل إلى فردريك إنجلز مخطوطة لقراءتها وكتابة ملاحظاته بخصوصها. وانتظر عدّة أسابيع، بل بضعة أشهر، ولم تصله الملاحظات، حتى وصلته رسالة من انجلز مع مغلّف. وعندما فتح المغلّف فوجئ ماركس بإن انجلز  أرسل له مخطوطة موازية ضمّنها ملاحظاته، لكن المفاجأة الأكبر والأهم، كانت حين فضّ مظروف الرسالة المرفقة، فوجدها من ثلاثة أسطر، يتصدّرها الاعتذار وهي تقول: آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة ومركّزة، فكتبت هذه المخطوطة وآمل أن تفي بالغرض.
دلالة هذا القول المتواضع، إن التكثيف والكتابة المركّزة تحتاج إلى وقت وجهد وصفاء ذهن، وهي نتاج خزين معرفي وثقافي، بحيث يستطيع فيه المرء أن يعبّر عن أعقد القضايا وأدق التفاصيل على نحو مفهوم وواضح وبأقل قدر ممكن من التعبير، وهو أمر يحتاج إلى قدرة وبراعة لا يمتلكها سوى مفكرين من أمثال ماركس وانجلز اللذين نحن بصددهما، وهكذا ترى الجملة أنيقة والكلمة رشيقة والمعنى عميق، سواء كان مجلداً موسوعياً أو مادة للصحافة، فالكتابة فن بقدر ما هي قراءة وعلم ومران وموهبة أيضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   الدكتور عبد الحسين شعبان – دكتوراه فلسفة (مرشح علوم)  في العلوم القانونية من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ، معهد الدولة والقانون. أكاديمي ومفكر، باحث في قضايا الإنسانيات والحقوق والأديان والفكر السياسي، أستاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاعنف، له نحو 60 كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة.
I
تمهيد
لم أكن بعد قد تعرّفت مباشرة على الصحافي والكاتب الاستاذ عكاب سالم الطاهر، ولكنني كنت أعرفه من خلال عدد من الصحف والمجلات العراقية، وكنت قد قرأت له على نحو متباعد وغير متّصل، حتى هاتفني من دمشق مع رجاء أخوي بطلب تقديم كتابه عن حوارات الحضارات، وهو موضوع طالما شغل اهتماماتي، ولاسيّما في البحث عن قضايا ذات صلة بالفكر السياسي والقانوني الدولي والعلاقات الدولية والإسلام والتسامح، انطلاقاً من المشتركات والمختلفات الإنسانية، وهو الأمر الذي أصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، كما كان في السابق، بل إنه اضطرار وليس اختياراً فحسب، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة في العام 2001، والتي أدّت إلى تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، واستهدفت  مقار رسمية في واشنطن وبنسلفانيا، راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف إنسان بريء.
وكان الصديق العزيز الاستاذ صلاح عمر العلي قد أخبرني برغبة الطاهر بكتابة المقدمة، ولهذا أبديت استعدادي على الفور، على الرغم من ازدحام جدول عملي، لكن ثمة ظروف خاصة وربما طارئة وأسباب فنيّة هي التي حالت دون اكتمال الفكرة التي اشتغل عليها الطاهر في حينها، حتى نضجت  في وقت  لاحق وهو ما أخبرني به خلال تكريمي من جانب وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية في بغداد برئاسة السيد الدكتور نوفل أبو رغيف، بطبع كتابين لي: الأول عن الشاعر الكبير الجواهري والموسوم " جدل الشعر والحياة" والثاني: عن سعد صالح، الشخصية الوطنية السياسية والأدبية والمعنون " الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة"، وفي خضم هذا الجو الاحتفالي، تقدّم الاستاذ الطاهر ليطلب الكلمة من اللجنة المسؤولة وليفيض بالتحدّث عني بما أستحقه ولا أستحقه.

II
ما حول الضفاف وصاحبها
كان هذا قبل أن أطلّع على كتاب عكاب سالم طاهر والذي حمل عنواناً مثيراً " على ضفاف الكتابة والحياة" مع عنوان فرعي " الاعتراف يأتي متأخراً"، وهو الكتاب المطبوع من جانب مكتبة الدار العربية للعلوم في بغداد، في العام 2014.
وفي هذا الكتاب اكتشفت عكاب سالم الطاهر، ليس إعلامياً وكاتباً فحسب، بل مناضلاً وإنساناً ولديه من فضول المعرفة وشغب الحياة وشغفها، الشيء الكثير، على الرغم من أنه ينتمي لجيل عاش الكثير من الانكسارات والعذابات والمحن، خصوصاً في إطار صراعات ونزاعات وحروب لا عقلانية داخلية وخارجية، بل أستطيع القول أنها كانت  تدميرية للآخر وللذات، بسبب قصور النظر والرغبة في التسيّد والزعم باحتكار الحقيقة، وقد دفع العراق جرّاء ذلك النهج الثمن باهظاً، وما زال ينزف دماً غزيراً.
واكتشفت في عكاب سالم الطاهر إصراراً لا حدود له على الكتابة، ولعلّ الصحافة كانت  تسكنه لدرجة التغلغل، وحين يبتعد عنها اضطراراً وقهراً، يعيش حالة تيه لفقدان حبيبته، فما بالك إذا كانت هذه الحبيبة "صاحبة الجلالة".
والأكثر من ذلك وجدت فيه نباهة غير عادية حين يلتقط الجوهري من الأشياء، ويكون في ذلك قد أمسك بحكمة البير كامو الذي قال عن الصحافي " إنه مؤرخ اللحظة"، كهذا لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، فيحاول أن يدوّن ما هو ضروري ثم يبدأ باختيار المثير من العناوين، بحيث يستثمر كل شيء لخدمة الصحافة، عشيقته الأولى، بل عشيقته دائماً، فحقيبة سفره كانت تمتلئ وتفيض أحياناً بما هو جديد. وعرفت عن الطاهر الاجتهاد، ومحاولة لا يدّعيها في الاستقلالية حتى وإن تغلّفت تحت غطاء سميك، لأن الشجاعة لديه قيمة عليا رغم الظروف القاهرة والملابسات العديدة، وقد يكون المنبت الفلاحي أعطاه مثل هذا الهامش، ليجد فيه ملاذاً أحياناً وسبيلاً للزوغان من المساءلة، كما لمست في كتاباته توسلاً بسبل الحياة ومتعها، بقدر ما حمل من همومها ومشاكلها.
لعلّ المحطات التي جاء عليها في كتابه " على ضفاف الكتابة والحياة- الاعتراف يأتي متأخراً" هي جزء من تاريخ العراق السياسي المعاصر، خصوصاً نصف القرن الماضي، الذي شهد تحولات كبيرة عاشها المجتمع العراقي، من الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها ما يبرّرها على الاطلاق، إلى مغامرة غزو الكويت العام 1990، إلى حرب قوات التحالف العام 1991، إلى الحصار الدولي الجائر الذي دام نحو 13  عاماً، إلى الاحتلال العام 2003 وما أعقبه من صعود الموجة الطائفية ولغة المحاصصة والارهاب والعنف، وانعكاسات ذلك على الثقافة السائدة وعليه شخصياً، سواءً أيام فترة الحكم الواحدي الإطلاقي الشمولي، أو خلال انهيار الدولة وما أعقبها من احترابات مذهبية وإثنية.
لكن عكاب سالم الطاهر حاول السير بين الألغام أحياناً وقد لا يكون أمامه من طريق آخر ، متجنّباً هذا وغاضّاً الطرف عن ذاك، مثلما  ظلّ يصارع بقلمه في السابق من كوّة صغيرة في النقد، وفي الحاضر من شحّ الفرص والمحاذرة من التصنيف السياسي أو النمذجة الحزبية، و هي محنة جميع التنظيمات الشمولية في الماضي والراهن.
اكتشفت أيضاً لدى الطاهر وفاءً منقطع النظير لرفاقه وأصدقائه وزملائه في العمل، وحتى عندما يريد انتقاد أحدهم  فإنه يغمّس كلماته بشيء من المحبة، بحيث يأتي نقده مملحاً ومقبولاً، حتى وإن كان هو المجروح، بل يجد أحياناً الأعذار لمن يلمّح في نقده، وهكذا كانت معاركة ناعمة، بل تكاد تكون مخملية أحياناً، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد المهني، وهي علامة قوة وليس علامة ضعف، وتلك لعمري سمة إنسانية لا يتمتع بها سوى من يسعى للتطهّر ومراجعة الماضي بصدق، دون أن يعني ذلك ما في تلك النزعة من مجاملة تأتي أحياناً على حساب التجربة والتاريخ والحقيقة، بل والمغالبة مع الهوى الصعب والنفس الحزينة.
اكتشفت في " الضفاف" ظرافة لا أعرفها عن الطاهر، وتفكّهاً محبّباً واستلطافاً ممتعاً وسخرية جميلة، ربّما يعود بعضها إلى "الحسجة الجنوبية" والتوريات، بين الظاهر والباطن والمعلن والمخفي، والمعنى وضدّه أحياناً، وتلك ما نطلق عليه حمّال الأوجه كما يقال.

III
سليل حضارات
ربما بعض أسفار الطاهر، وهي التي يحتويها كتابه على ضفاف الكتابة والحياة، إضافة إلى أرشيفه من الصور، ولاسيّما التي ضمت شخصيات أجنبية كانت وراء اهتمامه وانشغاله بحوار الحضارات، وهو الذي خَبِر ما تركه تصرفات بعض الإسلامويين من صورة سلبية ومشوّهة على الصعيد العالمي، تلك التي تم استغلالها على نحو بشع، خصوصاً بعد ارتكابات تنظيم القاعدة وربيبته تنظيم الدولة " داعش" وأخواتها، وخصوصاً تأثيراتها في الغرب، فهذه الصورة الملتبسة والمشوشة أصلاً والتي تتنازع فيها الرغبة في الاستعلاء من جانب الآخر ومحاولات الهيمنة وفرض النفوذ والاستتباع، من جهة، ومن الجهة الأخرى، السعي لتأمين المصالح ونهب الخيرات وسرقة الموارد والاستعباد وغير ذلك بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة، أقول فهذه الصورة تزداد قتامة وقبحاً كلما ترافقت مع أعمال إرهابية إجرامية باسم الإسلام أو المسلمين!!.
لقد زار الطاهر عشرات البلدان واختلط بأمم وشعوب كثيرة والتقى بالعديد من الشخصيات الرسمية والشعبية، سواء كانت في مجال الاعلام أو السياسة أو الجانب الإنساني، لذلك كان اهتمامه صميمياً، بل ومسؤولاً بفكرة حوار الحضارات، وقد يعود ذلك لشعوره أنه سليل حضارة أور وحضارة بلاد الرافدين، بابل وآشور، والحضارة العربية- الإسلامية، تلك التي سعى الاحتلال لتدميرها أو سرقة آثارها، ناهيكم عن المخطوطات والكنوز التاريخية التي تم العبث فيها، وهو الأمر الذي جعله يفكّر بأهمية حوار الحضارات بعدما شاع من نظريات تدعو إلى حتمية الصراع، ولاسيّما بعد انهيار الشيوعية، حيث وجد الغرب ضالته بعدو جديد هو الإسلام، مبرراً ذلك بضرورة صناعة العدو.

IV
صناعة العدو
هناك من قال في الغرب: إذا لا يوجد لنا عدو، فإننا سنخترعه أو نلفّقه، هكذا كان فرانسيس فوكوياما يفكّر في نظريته "نهاية التاريخ" التي بدأ بالتنظير لها في العام 1989 عشية انهيار النظام الاشتراكي العالمي ونهاية الحرب الباردة، وذلك حين بشّرنا بظفر الليبرالية التاريخي، وحين وقعت أحداث أيلول (سبتمبر) العام 2001 اعتبر ما حدث هو تأكيد لما ذهب إليه سابقاً، إذْ لا بدّ من تشديد الصراع لإحراز النصر النهائي وتحقيق "العالم الما بعد تاريخي" وإعلان انتصار الليبرالية (الجديدة) كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي على مستوى العالم.
أما صموئيل هنتغتون فقد دعا إلى تأصيل فكرة "صدام الحضارات" و"صراع الثقافات" التي بلورها في بحثه المنشور في مجلة الشؤون الدولية، وعاد وطوّرها في كتاب مستقل اشتهر به لاحقاً بالاسم ذاتها، حيث ذاع صيته ككتاب أو نظرية باسم The clash of Civilization ، فالصدام حسب وجهة نظره أمر محتوم ، خصوصاً وأن الإسلام بتراثه يعتبر العدو الجاهز الذي يقف عائقاً حيال سيادة الليبرالية، مثلما هي البوذية والكونفوشيوسية التي تواجه الحضارة المسيحية – اليهودية الغربية.
ويقول هنتنغتون " أن غياب العدو الشيوعي لا يعني زوال التهديد بالنسبة للولايات المتحدة والغرب. ولكي تحتفظ واشنطن بزعامة العالم، وجب عليها البقاء على أهبة الاستعداد، كقوة ضاربة للدفاع عن حضارة الغرب، ولهذا يتطلّب البقاء على القدرة الدفاعية والأمنية والمخابراتية والفضائية". ويتوصل هنتنغتون إلى استنتاج مفاده أن الصدام آت لا ريب وسيكون صدام حضارات وليس نهاية للتاريخ!.
إن هنتنعتون يختلف عن مجايليه بطرح الإشكالية، بكونها ثقافية حضارية، ولهذا فالصراع سيكون حضارياً ثقافياً بين الغرب والحضارة العربية الإسلامية. ويدرك هنتنغتون أن الثقافة هي سياج الهوّية، وبما أن الإسلام يمثّل ركناً هاماً في هوّية المسلمين، فإنه سيكون قادراً على التعبئة والتحريك الشاملين من المغرب إلى باكستان، بسبب تلك الهوّية، ولذلك اقتضى وضع حدّ له، ومنع تأثيره.
ويعزو هنتنغتون أسباب الصراع الحالي بين الغرب والإسلام إلى الصحوة الإسلامية، خصوصاً في أجواء العزلة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم الإسلامي، والهوّة السحيقة التي تفصله عن وسائل الاتصال والتقارب العالمي، بما يؤدي إلى انتشار ظاهرة التطرّف والظلامية والأصولية والإرهاب.
للأسف الشديد لم يميّز هنتنغتون أو فوكوياما بين الإسلام كدين وحضارة وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية،وهي موجودة في كل المجتمعات، وهي لا دين لها ولا لغة ولا جنسية ولا قومية ولا منطقة جغرافية تمثلها، فالحركات الإرهابية والمتطرّفة ترضع من ثدي واحد أساسه التعصب وإنكار الآخر والرغبة في التسيّد بغض النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، أو حتى بدون دين، وهو ما حاولت الأفكار الفاشية والشمولية اعتماده وسيلة لإرغام الآخر، عبر ممارسات وأنظمة سلطوية.
ومثلما في بلاد المسلمين توجد حركات متطرّفة، فإنها في الغرب كذلك. وكانت بعض المنظمات الإرهابية الصهيونية قد تأسست حتى قبل تأسيس " دولة اسرئيل" في العام 1948، ومارست أعمالاً إرهابية وعنفية ضد العرب، مثلما هي منظمة الهاغانا التي تأسست في القدس العام 1921 والتي تحوّلت إلى "جيش الدفاع الإسرائيلي" لاحقاً و"منظمة الأرغوان" واختصارها " اتسل" (التنظيم العسكري القومي) التي أسسها مناحيم بيغن العام 1943 وحركة كاخ التي أسسها مائير كاهانا المهاجر من الولايات المتحدة إلى "إسرائيل" بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967.
إن الحضارة العربية- الإسلامية باعتبارها وعاءً ثقافياً للعرب والمسلمين وأحد أسس هوّيتهم، فإن هناك من يعتبرها نقيضاً للحضارة الغربية النصرانية واليهودية، ولهذا السبب فهي تهديد للغرب وللعالم المسيحي حسب وجهة النظر هذه، وينسى هؤلاء أن الحركات الإسلامية المتطرفة والمنغلقة والارهابية، شكّلت تهديداً لدولها ومجتمعاتها قبل أن تشكل تهديداً للغرب، بحكم احتدام الصراع السياسي والاجتماعي وضعف احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبخاصة حرية التعبير وحق المعتقد والحق في التنظيم السياسي والمهني وضعف أو انعدام المشاركة السياسية في إدارة شؤون الحكم في الكثير من الأحيان.
وقد مارست تلك الحركات أعمال عنف منفلتة من عقالها ضد العديد من البلدان والشعوب العربية والإسلامية، بل إن القوى الغربية استخدمتها خدمة لمصالحها سواءً باسم المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي أو فيما بعد ، ناهيكم عن دعمها للقوى الإسلاموية ضد النظام السوري وفي أماكن أخرى من العالمين العربي والإسلامي.
يقول هنتنغتون " إن الفرق بين الحضارات ليس فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم بالدين" ثم يمضي إلى القول ليؤكد هذا التمايز والصراع والصدام، وبخاصة عند الحديث عن الإسلام عندما يقول " ليس صحيحاً أن الإسلام لا يشكّل خطراً على الغرب، وأن المتطرفين الإسلاميين هم الخطر. إن تاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها، خصوصاً المسيحية".
فأي فكرة استئصالية إلغائية تلك، التي يدعو لها هنتنغتون؟ أليس مثل تلك الفكرة استمرار في  التعكّز على إبقاء نار الصراع مشتعلة ومستمرة، بزعم إن الصراع تناحري ودائم ولا حلّ له إلاّ بالاستئصال والقضاء على الآخر؟ وبما أن الصراع كذلك فهي لا تريد البحث في المشتركات الإنسانية للتعايش والتواؤم، فضلاً عن إيجاد حلول للمختلفات، التي تعود أسبابها إلى منهج الاستعلاء وفرض الوصاية وعدم المساواة في العلاقات الدولية، ناهيكم عن هضم الحقوق، على صعيد الطغيان الخارجي والاستبداد الداخلي.
إن هنتنغتون يدعو إلى سيادة الغرب، خصوصاً وأنه " نجح في الإمساك بناصية المؤسسات الدولية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، مجلس الأمن.." ويضيف إلى ذلك " إن أي أمر يخدم مصالح الغرب تستجيب له هذه المؤسسات، وفي الأمر شواهد كثيرة: الحرب على العراق، العقوبات ضد ليبيا..." مما يؤكد الاتهامات العربية والإسلامية إزاء هذه المؤسسات التي أصبحت أكثر فأكثر " أداة" بين واشنطن في إملاء سياساتها وابتزاز دول العالم كافة، وبخاصة البلدان العربية والإسلامية.
وبهذا المعنى فإن هنتنغتون لا يدمغ أعمال المقاومة باعتبارها رديفاً للإرهاب فحسب، بل يعمم ذلك على الإسلام كدين والعرب كأمة، فهما رديفان للإرهاب أيضاً، ولذلك ليس عبثاً أن يتصدّر مصطلحاً جديداً السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة ويشمل الدول الإسلامية، التي يطلق عليها  "الدول الشريرة" أو "المارقة" Rogue states أي الدول غير المطيعة، أو التي لا تستجيب للمطالب الأمريكية، ولربما اعتبرت حُصناً جامحة لا بد من ترويضها وإعادتها إلى الحظيرة!.
V
التواصل والتفاعل أم التناقض والتعارض؟
ولمناقشة هذه الأطروحات فإن كاتبنا الطاهر بعد دحض  مثل هذه الأطروحات لا يذهب إلى النقيض أي بتأكيدها عبر تبنّي نقيضها، بل يحاول تفنيد أسسها الفكرية والثقافية، باحثاً عن المشتركات وكل ما هو جامع، بدلاً مما هو مفرّق، لاسيّما وأن الحاجة للتعاون والمصالح المشتركة هي التي تشكل القاسم الأعظم والذي ينبغي أن يسود في العلاقات الدولية، ولاسيّما عبر الحوار، بدلاً من صدام الحضارات وصراع الثقافات.
ويمكن القول، إن ثمة دواعي كثيرة تخصّ العالمين العربي والإسلامي، إضافة إلى الغرب تدعوهما إلى الحوار والتفاعل، بدلاً من الصدام والصراع، فكل منهما يحتاج إلى الآخر،وعالمنا الحالي لا يمكن العيش فيه بعزلة أو ارتيابية أو عدوانية وكأنه جزيرة منعزلة ونائية مهما كانت القدرات والإمكانات والخيرات المادية، إنه يحتاج إلى التنمية وإصلاح نظم الحكم والإقرار بالتعددية واحترام حقوق الإنسان، مثلما يحتاج إلى الاستقرار والسلام والتقدم، والخروج من دائرة التخلف، واختيار الطرق المناسبة لاستثمار الموارد والخيرات، كما يحتاج إلى الغرب الصناعي المتقدّم وإلى التكنولوجيا ومنجزات العلم ووسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، ولن يجد ذلك سوى في الغرب الذي هو المستودع الكبير للعلوم والتكنولوجيا والأدب والفن والعمران والحداثة والجمال.
كما أن الغرب هو الآخر بحاجة إلى موارد العرب وطاقاتهم وأسواقهم، ولن يتم ذلك عبر الازدراء أو النزعات الاستعلائية أو الإقصاء أو التهميش ومحاولات فرض الإرادة والهيمنة وإخضاع العالمين العربي والإسلامي، بل يمكن أن يتم ذلك باحترام الآخر والتعايش والتعاون والحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وفي وضع يتسم باحترام الخصوصية والحقوق، مثلما يتطلب الأمر إيجاد حلول عادلة لمشكلات مستعصية في المنطقة وأساسها للقضية الفلسطينية، التي لن تجد حلاً عادلاً وسلمياً دون تأمين حق تقرير المصير للشعب العربي وعودة اللاجئين وتعويضهم وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس، وذلك كمعيار للحد الأدنى ضمن توازن القوى الدولي، ومثل هذه الحلول تساعد على تصحيح مسار جزء من العلاقات الدولية والانحيازات المسبقة لإسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة.
إن الحوار وهو مظهر حضاري ينسجم مع التعاليم الإسلامية، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدلّ عليه، فضلاً عن السيرة النبوية، كما إنه يشكّل ركناً مهماً من الثقافة الغربية التي تؤمن باحترام الآخر والتعددية والتنوّع، وغيرها من قيم الحداثة والعقلانية، إضافة إلى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، الأمر الذي يقتضي التعاون والتعايش والسلام الحقيقي.
إن الحوار يعكس رغبة في التفاهم، كما أنه لا يلغي عنصر الاختلاف والتمايز والخصوصية. وكانت نزعات الصدام وسباق التسلح وخيمة على البشرية، حيث تم فيها هدر مليارات الدولارات والموارد والطاقات البشرية في ماراثون جنوني للهيمنة وفرض الإرادة، ودفعت الشعوب ثمناً باهظاً بسبب الحرب الباردة، فلو صرفت تلك المبالغ التي خصصت للتسلح، لكانت الكثير من الأمراض قد اختفت والفقر والأمية قد تقلّصت وحياة الناس قد تحسّنت، والرفاهية قد عمّت، ولأمكن إيجاد حلول ومعالجات لأمراض الإيدز وقضايا البيئة والتصحر ولبذل الجهد أكثر لاكتشاف الفضاء ودخول عالمه على نحو كبير .
إن الخصوصية القومية والثقافية والدينية للعرب والمسلمين بالقدر الذي ينبغي مراعاتها وتعزيزها بوجه محاولات " الإلغاء" و" التهميش" و"الإلحاق" بحجة " الشمولية" و" العالمية"، لكنها لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقاص من المعايير الدولية، خصوصاً في القضايا الأكثر راهنية وإلحاحاً بما أبدعه الفكر الإنساني وما توصلت إليه البشرية، من مثل وقيم تخص الإنسان وحقوقه.ولعلّ ذلك ما حاولنا معالجته في كتابنا الموسوم " الإنسان هو الأصل" الصادر في القاهرة في العام 2002.
فالخصوصية تعني، التنوّع الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي والتاريخي لأمة ما أو مجتمع ما أو جماعة قومية أو أثنية، كما أنها تعني العقلية Mentality والتقاليد بين شعوب وبلدان وتفاعل ثقافات وأمم وأقوام، وهي بقدر تناغهما مع الفكر العالمي، الشمولي، الكوني، تستطيع التعبير عن تمايزها وتفرّدها وخصائصها كشعب أو أمة  أو مجتمع ، ففكرة حقوق الإنسان حيكت من نسيج الفكر البشري وبمصادره المختلفة، وهي ليست محصورة بقارة أو حضارة أو أمة أو شعب. وبهذا المعنى فالخصوصية لا تستهدف الانغلاق أو التصادم مع الحضارات الأخرى والارتياب منها، كما أن الحداثة والتواصل الحضاري، لا يعني قبول منطق الوصاية أو التبعية الفكرية.
إن التفاعل يمدّ جسوراً بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة، بين ما هو خاص وما هو عام وبين ما هو عربي وإسلامي وما هو عالمي وشمولي، ولن يكون ذلك بنهاية التاريخ أو بصراع الحضارات ، بل الانفتاح وإعادة ربط المصالح بروح من التسامح والبعد الإنساني وروح المشاركة الدولية في صنع المستقبل الإنساني.
وفي ظل نظريات " صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" التي ناقشناها في كتابنا الموسوم " الإسلام والإرهاب الدولي- ثلاثية الثلاثاء الدامي: الدين ، القانون والسياسة" الصادر في لندن، العام 2002 والمطبوع في عمان طبعة ثانية في العام 2008، تعمّقت وتعززت فكرة الإسلامفوبيا،"الرهاب من الإسلام"، بل إنها أصبحت الآن ظاهرة مثيرة في الغرب، لاسيّما بعد بعض الأعمال الإرهابية، وبهذا المعنى أخذت ترتفع موجة التعصّب والتطرّف في الغرب من الجماعات الفاشية واليمينية لتدمغ عموم المسلمين بالإرهاب والعنف ولإشاعة جو مشحون بالكراهية، وهي جزء من كراهية الأجانب في الغرب المعروفة باسم الزينوفوبيا Xenophobia، وهو ما يعود بنا إلى هنتنغتون الذي اعتبر الصراع ينشأ على امتداد خطوط مجابهة قائمة تاريخياً.
وبالمناسبة فقد أدان مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) حول العنصرية العام 2001 ، فكرة كراهية الأجانب، مثلما أدان الممارسات "الإسرائيلية" ودمغها بالعنصرية، لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي وقعت بعد أيام، حوّلت الاهتمام إلى ملف الإرهاب خصوصاً وأن المتهم الأساسي كان  تنظيم القاعدة وأن المنفذين كانوا يحملون جنسيات عربية.
إن هنتنغتون الذي يفيض في أطروحاته عن خطر الإسلام، مغلفاً أفكاره بآيديولوجيا سياسية عن الأصولية الإسلامية، وهي الفزّاعة التي حاول أن يلوّح بها دليلاً على إرهاب العالم الإسلامي كله، لا نراه يتحدّث شيئاً عن الأصولية المسيحية، وبخاصة في أمريكا، ولا عن الأصولية اليهودية في إسرائيل وخارجها.
وإذا كانت الأصولية الإسلامية بمعنى التطرّف والتعصّب وإقصاء الآخر في عداء مع فكرة الحداثة والعلمانية باعتبارهما، ضمانتين للحرية واحترام حقوق الإنسان، وشرطاً من شروط حماية حقوق الفرد بوجه تغوّل السلطات، فإن الأصولية المسيحية واليهودية لا تقلان عداءً وتطرفاً وتعصباً، بل وإلغاءً للآخر وتحريمه وتأثيمه، وقد أظهرت هذه الأصولية في أوروبا عداءً سافراً للعرب والمسلمين باستغلال أحداث شارلي إيبدو التي وقعت في باريس  يوم  7 كانون الثاني (يناير) العام 2015، مثلما كانت ضالتها في فلسطين عبر عمليات تهجير وإجلاء لتحويل " إسرائيل" إلى دولة يهودية نقية.
VI
أبلسة الإسلام و"الآخر"
ويحاول الطاهر مناقشة التوجهات السائدة في الغرب والتي تشكل سياسات رسمية لدول وحكومات سعت لتجريم العالم العربي والإسلامي وشعوباً وأمماً بكاملها سواءً تحت يافطة " الشيطان الأحمر" سابقاً، أو " الشيطان الأصفر" لاحقاً أو " الشيطان الأخضر" حالياً بتبنّي أطروحات  أو مبرّرات يمكن بموجبها الاستنجاد بالمنقذ الأمريكي – الصهيوني بوجه محور الشر والإرهاب، تلك الرقصة الأثيرة التي على إيقاعها جرى احتلال العراق في العام 2003.
هكذا إذن يكون العالم الإسلامي بما فيه من تنوّع واختلاف وتناقض مثلما هو الغرب أيضاً، كله عدائياً ويستحق المجابهة والتذويب أو الاقتلاع. فالعداء لم يشمل بعض الحركات والتيارات المتطرفة والمتعصبة، بل يشمل شعوباً مسلمة بالكامل أو القسم الأكبر منها، وهو ما دعا مستشار مارغريت تاتشر الفريد شيرمان أن يكتب عام 1993 مقالة بعنوان " الزحف الإسلامي الجديد على أوروبا" ملوّحاً بما يسمّى بـ " الخطر الإسلامي"، وهو الأمر الذي يتجدد اليوم بعد حادث شارلي إيبدو واغتيال 12 صحافياً فرنسياً في حادثة مروعة، إضافة إلى تمدّد داعش وتلويحها بالقيام بأعمال إرهابية في عدد من البلدان الغربية .
يقول شيرمان " هناك خطر إسلامي على أوروبا المسيحية، إنه يتطور ببطأ وما زال بالإمكان لجمه ولكن سياسات القوى الغربية فعلت كل ما يمكن تقريباً لمساعدته على التنامي" ، ثم يحدد العوامل التي أوجدت هذا الخطر ويجملها بأربعة، هي :
1-" سياسات هجرة لا مسؤولة تماماً في أوروبا الغربية والوسطى خلقت بسرعة أقلية متزايدة التطرف، من قبل 15 مليون مسلم هنا، ولذلك ترتفع اليوم أصوات اليمين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد والدانيمارك وهولندا وبلجيكا وغيرها تدعو إلى مواجهة الإسلاميين ومنع الهجرة.
2- استبعاد تركيا من الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية.
3- سياسة ألمانيا لمجابهة البلقان، لتفكيك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وإخماد صربيا.
4- دعم الفاتيكان لهذه السياسة وغزل البابا المتواصل مع الدول العربية، والمقصود من ذلك الموقف التاريخي الإيجابي من حقوق الشعب العربي الفلسطيني  من جانب الفاتيكان.
ويرد الباحث والمفكر البريطاني الفريد هاليداي في كتابه المعنون " الإسلام والغرب: خرافة المواجهة" الصادر في العام 1997، وفي كتابه "ساعتان هزتا العالم" الصادر في العام 2002، على الأطروحات التي تريد التهويل من خطر الإسلام، خصوصاً تلك التي أعطت حيزاً كبيراً لنظرية هنتنغتون وللأحكام التبسيطية التي تتوصل إليها باستحضارات الثقافة باعتبارها موضوع جدل والاختلاف المتأصل بين الشرق والغرب وبين الدول باعتبار ذلك أمر حتمي بالقول:" إن هذه النظرة عن العالم ليست وليدة عداء الغرب للإسلام أو أنها وصمة ألصقها ( الغرب) بالمسلمين فحسب، إذ أن هناك البعض، بل هناك كثيرين في العالم الإسلامي وبين المسلمين في أوروبا الغربية، ممن يعتنقون هذه الديماغوجية، وقد سارعوا للاستجابة بهذه الروح ذاتها لأحداث الثلاثاء، وهم يرحّبون بتحليلات صموئيل هنتنغتون التبسيطية، كما يرحّب بها الكثير من القوميين في الغرب ..."
وهو ما دعا إليه أيضاً فرانسيس فوكوياما وهو ما يمكن الإضاءة عليه، لاسيّما بتقسيم العالم إلى قسمين: عالم التاريخ وعالم ما بعد التاريخ. والأخير هو عالم الدول الصناعية المتقدمة. ويطرح فوكوياما مشكلات النفط والإرهاب واللاجئين باعتبارها المشاكل الرئيسة التي تواجه العالم " الجديد".
إن اللاجئين الذين ينتقلون من عالم التاريخ " الدول المتخلفة" إلى عالم ما بعد التاريخ "الدول المتقدمة" هو انتقال من الجنوب " الفقير" إلى الشمال " الغني" ومعهم ينتقل "فايروس" الإرهاب. ويعتقد فوكوياما أن عالم ما بعد التاريخ، هو الذي يحقق العدالة والإنسانية بفضل قوته الصناعية وتقدّمه. وما على الآخرين إلا التسّليم لهذا العالم الما بعد تاريخي، والانخراط به إذا كا يريدون السير في درب التقدم والحضارة.
ويتوصل فوكوياما إلى استنتاج مفاده: ظفر الغرب والليبرالية  السياسية والاقتصادية، كخيار إنساني ووحيد، وشكل أخير من أشكال إدارة المجتمع البشري، معلناً الهزيمة المطلقة للخيارات الأخرى، مشدّداً أننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو أية مرحلة من مراحل التاريخ، بل " نهاية للتاريخ".
وإذا كان فوكوياما قد دحض الخيارات الأخرى، خصوصاً الخيار الاشتراكي أو الماركسي إلاّ أنه استعار فكرة نهاية التاريخ منه، وذلك بإمكانية وضع حد للاستغلال في المرحلة الشيوعية التي هي نهاية تعاقب المراحل التاريخية، كما إن هيغل، هو الآخر استخدم مفهوم نهاية التاريخ، حيث آمن بوصول التاريخ إلى الذروة في لحظة مطلقة، تلك التي يطلق عليها "انتصار الشكل العقلاني النهائي للمجتمع والدولة".
وهكذا فإن فوكوياما يستخدم عدسة ماركس، ويستعير نظارة هيغل، ليثبت نظريته "بنهاية التاريخ" بعد أن يحاول إبطال المفاهيم التي سبقته، خصوصاً الحتميات الهيغلية- الماركسية، التي شكلت جزءًا مهماً من المتاع الثقافي في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وما بعدها لأوساط واسعة، بل إنها طبعت الصراع الآيديولوجي وفترة الحرب الباردة بطابعها.
ويقرّر فوكوياما حتميته الجديدة، بعد أن يجهز على الحتميات القديمة، بوصف شكل الدولة التي ستظهر في نهاية التاريخ والتي يطلق عليها اسم الدولة الليبرالية، لأنها " ستعترف وتحمي قانونياً: حقوق الإنسان العامة، بالحرية والديمقراطية، ولأنها لا يمكن أن توجد إلا بموافقة أولئك الذين تحكمهم"...ولكي تسود حتمية فوكوياما فقد دعا إلى نقل البندقية من الكتف اليسرى إلى الكتف اليمنى، والبقاء على أهبة الاستعداد، فأمريكا زعيمة الليبرالية قد تخلصت من عدوها التقليدي، ممثلاً "بالشيوعية الدولية" إلاّ أن الخطر كل الخطر في أن تخلد إلى الراحة أو الاسترخاء (هي وحلفاؤها بالطبع) لأن هذا سيولد نوعاً من الفراغ، الذي عليها أن تملأه ببديل إذا ما أريد للتاريخ أن يظل مملوءًا أو فاعلاً، فالتاريخ كالطبيعة يموت في الفراغ، والإسلام سيثقل ويعطل النهاية الحتمية للتاريخ، وبداية عهد ما بعد التاريخ.
إن فوكوياما الذي أثار جدلاً كبيراً حول نظرية " نهاية التاريخ" فإنه عاد في كتابه الجديد " Our Posthuman Future: Consequences of the Biotechnology Revolution " (مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية) الصادر العام 2002 إلى اعتبار أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدم سريع ومذهل، حيث أشار ردّاً على صحيفة الهيرالدتربيون: إن أيسر طريقة لفهم أطروحته الجديدة هي إدراك الجانب السياسي للتكنولوجيا. وإذا كانت التكنولوجيا والمعلومات قد أضفت قدراً كبيراً من التأثير على الديمقراطية السياسية والليبرالية، فإن التكنولوجيا الحيوية من الممكن أن توفّر مجموعة أدوات للسيطرة والهيمنة في السلوك الاجتماعي.
وذهب فوكوياما إلى اعتبار الأدوية الجينية التي يتم إنتاجها لحقن أثر التفاعلات المناعية لكل مريض على حدة تحقق تقدّماً واعداً في المستقبل، وقال أن العالم سيشهد خلال عشر سنوات قادمة ظهور العديد من الأدوية المختلفة التي من خلالها يتم تحسين الذاكرة وزيادة الذكاء.
VII
أسئلة في بطن أسئلة
يحاول عكاب سالم الطاهر أن يجيب على أسئلة طرحها على أنفسه وعلى القرّاء، حول معنى الخلاف والاختلاف، وهل الحوار مناظرة؟ إضافة إلى إضاءته على مخاطر صدام الحضارات ، ثم لماذا هذا الصدام؟ وبعد ذلك كيف نتجنّب الصدام؟ ويسلّط الضوء حول طبيعة الصراع في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإذا كان الصراع قومياً بمعنى نشوء الدولة القومية والصراع آيديولوجياً عقائدياً في القرن العشرين، لاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية عهد الحرب الباردة، فإنه يردّ على اتجاهات الغرب بأن الصراع أصبح حضارياً بمعنى دينياً حسب فوكوياما وهنتنغتون، لأنه في كل الأحوال صراع مصالح، أما الأديان أو أتباعها وهو الصحيح، فإن مجال علاقاتها يقع في مكان آخر، وحتى ما يسمى بالحروب الصليبية  لم تكن حروباً دينية بقدر ما هي حروب اقتصادية وعسكرية، وأن هدفها هو المصالح، ولذلك نطلق عليها اسم "حروب الفرنجة" وليست الحروب الصليبية.
إن " إسرائيل" التي تدعو لدولة يهودية نقية تريد تصوير الصراع الدائر في المنطقة، باعتباره صراعاً دينياً بين يهود وهم بضعة ملايين، وأقلية محاطة ببحر من المسلمين، يقدّر عددهم بنحو مليار ونصف المليار ، يريدون ابتلاعها، وما على الغرب باعتبارها جزء من حضارته الاّ حمايتها، على الرغم من أنها هي التي تشن العدوان والحروب ضد العرب منذ قيامها في العام 1948 ولحد الآن.
وتسعى "إسرائيل" وتشجع على هجرة المسيحيين سواء من فلسطين، أو من البلدان العربية من العراق وسوريا ولبنان ومصر، لكي تقول أن العالم العربي – الإسلامي لم يتحمّل حتى المسيحيين أهل البلاد الأصليين، وأقدم من المسلمين على هذه الأرض، فما بالك باليهود، ولهذا فهي تشجّع على تقسيم العالم العربي باعتباره كياناً مصطنعاً إلى أديان وطوائف وشعوب وإثنيات، لا يجمعها جامع، وكانت هي أكثر من روّج لأطروحة برنارد لويس الذي دعا إلى تقسيم العالم العربي إلى 41 كياناً دينياً ومذهبياً وإثنياً وجغرافياً، ولفكرة هنري كيسنجر الذي قال في سبعينيات القرن الماضي: علينا أن نخلق دويلة وراء كل بئر نفطي، وقد وجدت في تلك الأطروحات ضالتها لاسيّما وأن مقارباتها كانت قد طُرحت من جانب دايفيد بن غوريون أول رئيس وزراء "لإسرائيل" وأحد آباء الحركة الصهيونية المعاصرة.
ولعلّ "دولة داعش" اليوم هي الوجه الآخر لفكرة الدولة الدينية النقية، بل إننا لا يمكن أن نهمل رواج دعوة الدولة النقية اليهودية في الوقت الذي تحركت فيه الدولة الإسلاموية " داعش"، لتعلن الخلافة وتطالب الآخرين بالبيعة والولاء .
وإذا كانت الدولة اليهودية النقية تريد طرد العرب الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم من فلسطين، وهم سكان البلاد الأصليون الذين يؤلفون اليوم 20% من السكان،  فإن الدولة الداعشية هي الأخرى لا تقبل بالآخر ، مهما كان دينه أو مذهبه حتى وإن كان من المسلمين من أي صنف أو فرقة أخرى، وتطالب الجميع بالولاء والطاعة والبيعة، فما بالك بالمسيحيين والإيزيديين والشبك، إضافة إلى التركمان والعرب والكرد، فأتباع الديانات عليهم جميعاً أما التأسلم حسب الطريقة الداعشية أو دفع الجزية أو الرحيل وإلاّ فإن التوابيت تنتظرهم.
بهجرة المسيحيين من فلسطين، فإن "إسرائيل" تريد إرسال رسالة تقول فيها لاحظوا أن الصراع دينياً بين اليهود والمسلمين، وهي بذلك تهدف إلى  عزل المسيحيين والدروز عن الكفاح من أجل حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وحق اللاجئين بالعودة والتعويض مسلمين أو مسيحيين أو دروز أو غير ذلك، وإن الصراع هو وطني من أجل الحقوق، ولاسيّما الأرض والسيادة والإنسان، وليس صراعاً دينياً بين يهود ومسلمين.
VIII
في جذر الصدام
يحاول عكاب الطاهر ردّاً على أطروحات الصدام أن يعتبر الحضارات جزءًا مكملاً الواحد للآخر، فيدعو إلى تعارفها وتفاعلها، متوقّفاً عند أمم عملاقة قامت في مواجهة  أوروبا المدنية، مندّداً بالصيغة الواحدية، باحثاً في الاستشراق بشكل عام والروسي بشكل خاص والاستعمار وتبعاته التاريخية، داعياً للاعتذار والتعويض واسترداد الثروات وبناء أسس جديدة للعلاقات الدولية، وذلك ما يختم به فصوله السبعة، بفصل ثامن عن حوار الحضارات، مع فصل تاسع للعرض والتحليل، لكل ما تقدّم ذكره.
إضاءات
كتاب عكاب سالم الطاهر احتوى على إضاءات مهمة لفكرة حوار الحضارات وصدامها، وبقدر محاولته الإجابة على عدد من الأطروحات والإشكاليات، فإنه أثار أسئلة أخرى تحتاج إلى المزيد من التبصّر والتفكّر والتدبّر، خارج اليقينيات التقليدية والانحيازات المسبقة والمسلّمات الجاهزة. إنه كتاب يمنحك قدرة على التأمل بهدوء ولكن بمسؤولية.

494
المنبر الحر / الحق في الأمل
« في: 18:55 22/03/2016  »
الحق في الأمل

عبد الحسين شعبان
بقدر ما كان سيجموند فرويد عالم النفس النمساوي واقعياً، فقد كان في الوقت نفسه تجريبياً، ومع دراسة وقائع وحالات مرضية، كانت محاولته لتفسير الأحلام إحدى وسائل العلاج وأدواته للشفاء، وذلك ببعث الأمل، فقد كان يدرك أن لا أمل حقيقياً إلاّ بالأمن الروحي والنفسي، ولذلك جعله موازياً للكرامة الإنسانية، وأحياناً يزيد عليها، خصوصاً في ظل اندلاع الحروب والنزاعات الأهلية واحتدامات الصراع، حيث يهيمن العنف والإرهاب على المشهد العام، ويغيب أو يضعف الحفاظ على الأمن، الذي تصبح إعادته وتحقيقه لها الأولوية حتى على الكرامة ذاتها، إذْ لا يمكن تأمينها دون تحقيق الأمن.
ولهذا يقال لا كرامة حقيقية بانعدام الأمن، ومن دون الكرامة سيصبح الأمن نوعاً من التسلّط والاستبداد، وبالأمن يرتفع منسوب الأمل الذي يمكن للإنسان بواسطته مواصلة كفاحه من أجل حقوقه، وحسب فرويد فإن الحق في الأمل يتقدّم على بقية الحقوق.
استعدتُ ذلك لمناسبة الإعلان عن وزارة للتسامح وأخرى للسعادة في دولة الإمارات، وأجدني منشداً في هذه المقالة إلى الخلفية الفكرية الذي تأسست عليها هذه المبادرة الحيوية، ذلك أن تحقيق السعادة لأي فرد أو مجتمع يتعلّق بالأمل في تحسين أوضاعه وظروف حياته الفردية والجماعية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيّما حرّياته وحقوقه الأساسية، بحيث يصبح «الحق في الأمل» هدفاً يتطلّب بلوغه تجاوز الشر، والشرّ حسب ابن سينا هو «العدم»، في حين كان الفارابي ينظر إلى الأمل بكونه وسيلة وهدفاً لبلوغ سعادة الإنسان.
في واقعنا الراهن فإن الأمن الإنساني هو طريق الأمل للوصول إلى السعادة، لأن الإنسان هو محور وغاية أي نشاط اجتماعي أو فاعلية بشرية، أياً كانت التسمية التي نطلقها عليها، سواء كانت فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية أو نفسية أو تربوية أو دينية أو غير ذلك.
وإذا كان الإنسان حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس «مقياس كل شيء» وهو هدف أي دين أو فلسفة أو نظام اجتماعي، فإن كل ما يتعارض معه، سيتعارض مع فكرة الخير والسعادة التي يسعى للوصول إليها، والأمن بقدر ما هو حاجة إنسانية، فإن المجتمعات التي تنعم به تجده الطريق نحو السعادة ربطاً بالكرامة، وهذه لن تتأتّى من دون سيادة قيم التسامح «والحق في الدفاع عن الحق» والتمسّك به، من خلال الاعتراف بالآخر والإقرار بالتعدّدية والتنوّع، وذلك يشكّل جوهر التسامح وفرضياته الأساسية، خارج نطاق الإجماع المصطنع.
هذه المعادلة وجدت طريقها للتقنين في دولة الإمارات العربية المتحدة، حين تم جمع ثلاثة عناصر في مبادرة واحدة: السعادة وهي الحلم الذي ظلّت البشرية تسعى إليه على مختلف العصور ويقاس درجة قبول ورضا المجتمع بتوفّر أركانها المادية والمعنوية. والتسامح وهو إحدى الوسائل للوصول إلى السعادة، من خلال إقرار الحقوق والواجبات، فلم تعد الفكرة ذات بعد أخلاقي فحسب، بل اكتسبت طابعاً حقوقياً وقانونياً، وضمن ضوابط محددة، وسيعني تجاوزها أو انتهاكها خرقاً للحقوق التي تستوجب الالتزام، أما المستقبل فقد تجلّى بتعيين وزراء شباب، وفي تلك الأركان الثلاثة عناصر جديدة للدولة الفتية الشابة.
وإذا كانت بعض مستلزمات السعادة تفترض توفير مستلزمات مادية ومعنوية ضرورية، فإن تحقيقها والوصول إليها من خلال التنمية المستدامة، لا يمكن إلاّ أن يتجلّى بمساهمة الشباب ودوره الريادي، لاسيّما وهو يمثّل نصف المجتمعات الشابة، ومن دونه لا يمكن إحداث التنمية المنشودة. ولكي يحصل التقدم الحقيقي، فالأمر بحاجة إلى وضع منظومة التسامح وتعليمه وممارسته في باقة من القوانين والسياسات والمناهج والمبادرات التربوية والمدنية.
والتسامح يعني الوقوف ضد ثقافة الكراهية والتعصّب والتطرف وجميع أشكال التمييز بين أي شخص يقيم في دولة الإمارات ومن يكون مواطناً فيها، كما جاء في كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وهي فكرة وجدتها متقدمة قانونياً: بمساواة الأجنبي بالمواطن، ولها دلالات إنسانية مهمة ليس على صعيد الحاضر فحسب، بل على صعيد المستقبل، الذي يحتاج إلى حزمة قرارات لوضعها موضع التنفيذ، وهو ما يذكّرنا بحلف الفضول من العام 590-595 ميلادية، حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبدالله بن جدعان واتفقوا على ألا يدعوا مظلوماً من أهلها (أي مواطن) أو من دخلها من سائر الناس (أي أجنبي) إلاّ ونصروه وأعادوا الحق إليه من ظالمه، وقد ألغى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جميع أحلاف الجاهلية واستبقى على حلف الفضول وحده.
يقول الشيخ محمد بن راشد: لذلك عيّنا وزيراً للتسامح، أي وزير لجعل المساواة واقعاً فعلياً قائماً. ويضيف بتعميم نظري مهم: لا مستقبل لهذه المنطقة دون إعادة إعمار الفرد وترسيخ قيم التسامح والتعدّدية والقبول بالآخر، فكرياً وثقافياً وطائفياً ودينياً. وأعتقد أن فكرة من هذا النوع جديرة بالاهتمام، الأمر الذي قد نحتاج فيه إلى عقد عربي للتسامح، لتعميم قيمه والتربية عليه وعلى ثقافة السلام واللّاعنف.
لقد قرأت الكلمة المهمة التي كتبها الشيخ محمد بن راشد مؤخراً ردّاً على الكثير من الاستفسارات لماذا وزراء للسعادة والتسامح والمستقبل في حكومة الإمارات؟ ووجدت فيها أفكاراً تستحق المناقشة منها: فكرة عدم الحاجة إلى «قوى عظمى خارجية» لوقف الانحدار في منطقتنا. وأكثر من ذلك الإشادة ب «القوى العظمى الداخلية»، التي هي جديرة وبإمكانها ومستطاعها التغلب على موجة الكراهية والتعصّب التي تضرب نواحي الحياة في الكثير من دول المنطقة (العربية والإسلامية).
الأمر يحتاج حسب كلمة الشيخ محمد بن راشد إلى مبادرات وبرامج على جميع القطاعات الحكومية والمدنية، وخصوصاً إذا ما تحوّل العمل المدني إلى قوة اقتراح للقوانين والأنظمة والبرامج والسياسات وفي الوقت نفسه للرصد والمراقبة، أي الشراكة في اتخاذ القرار والتنفيذ، ولعلّ تعيين وزير للمتابعة سيكون له أثر كبير في عملية التطور والتغيير. إن المبادرة الإماراتية الجديدة والجريئة لها أركان ثلاثة أولها - التشجيع على تنمية منظومة القيم الإنسانية والمادية والروحية وثانيها - الإيمان بدور الشباب اللّامحدود وطاقاتهم الخلاقة في الإدارة والتنفيذ وثالثها- نشر ثقافة التسامح واللّاعنف وثقافة الاعتراف بالآخر ونبذ الكراهية والإقصاء والتهميش لتهيئة بيئة حاضنة، وذلك كلّه يسير في سلّم السعادة المتصاعد والذي ليس له ضفاف.
الاستجابة لتطلّعات الشباب أمرٌ في غاية الأهمية، وهو ما أكدته التجربة الإنسانية الكونية وتجربة «الربيع العربي» مؤخراً، فكم كان التنكّر فادحاً من جانب الدول التي أدارت ظهرها لهم وسدّت الأبواب بوجههم، الأمر الذي كان يعني سدّ نوافذ الأمل، فانغلاقها يؤدي إلى الاحتقان والعنف والفوضى والإرهاب، وهو ما شهده عددٌ من البلدان العربية.
drhussainshaban21@gmail.com

495
العراق.. الأزمة تعيد إنتاج نفسها

عبد الحسين شعبان
ما زال المتابع للشأن العراقي يشعر بالحيرة، فكلما تنتهي أزمة حتى تعاود بالظهور مرة أخرى، وأحياناً على نحو أشد وأكثر تعقيداً، فالأزمات المتوالدة والمتناسلة، على الرغم من تشابهها، فإن لكلّ منها خصوصيتها أحياناً، وإذا كان الاحتلال يمثل جوهر الأزمة منذ عام 2003، فإنه جاء بعد حصار دولي وحروب لا مبرّر لها ونظام استبدادي لنحو ثلاثة عقود من الزمان.
ولد نظام الاحتلال، المحاصصة الطائفية والإثنية التي من نتائجها تأسيس الميليشيات واندلاع العنف والإرهاب، الذي وجد ضالته بالفساد المالي والإداري، وهكذا كلّما كان العراق يخرج من أزمة أو يحاول الخروج منها، كانت هناك شرنقة من الأزمات تلفّه وتكاد تعصف بكيانه، وقد تكون الأزمة الراهنة اليوم في ذروتها، والتي تتمثّل في المطالبة بإجراء حزمة من الإصلاحات وعد بها رئيس الوزراء ولكن يده لا تزال مغلولة لأن نظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني لا يزال فاعلاً.
والوجه الآخر للأزمة هو استمرار «داعش» في احتلال الموصل وأجزاء أخرى من العراق منذ 10 يونيو (حزيران) عام 2014 وحتى الآن هل سيتحقق التغيير؟ وكيف سيتم تحرير الموصل؟ وهذان سؤالان يواجهان العراق ودول الإقليم، حيث سيتوقف عليهما العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك: موضوع سوريا والعلاقة الإيرانية - الخليجية، فضلاً عن مستقبل تنظيم «داعش»، بل والإرهاب الدولي ككل؟
أما بخصوص القضية الأولى- الإصلاح والتغيير المنشود، فبالقدر الذي يجمع السياسيون المشاركون في العملية السياسية، على إن الإصلاح ضرورة لا غنى عنها، وأنه لا مناص لإحداث التغيير دون تحقيق عملية إصلاح شاملة وفي جميع الميادين، فإنهم في الوقت نفسه يضعون شروطاً عليها، هي أقرب إلى العراقيل التي تعترض طريقه. وإذا كان الجميع يعترفون صراحة وجهاراً نهاراً، بفشل نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، فإنهم لا يريدون مغادرتها أو التخلي عنها، لأنها ستؤدي إلى تقليص نفوذهم، ولهذا فإنهم يتشبثون بها بأسنانهم، حتى وإن كانت ألسنتهم تلهج ليل - نهار بلعنها.
هل الإصلاح والتغيير الذي يطالب به الجميع سيكون مجرد «نقر في السطح» أم إنه «حفر في العمق»، إذ ما قيمة أي إصلاحات شكلية وفوقية، خصوصاً وأن التظاهرات الشعبية رفعت شعار التغيير الجذري ومساءلة الفاسدين؟ ثم ما معنى التغيير مع استمرار العملية السياسية التي أثبتت فشلها وكانت السبب الأساسي في الفساد المالي والإداري؟ وهذا الأخير أصبح «مؤسسة»، وهي الوجه الآخر للإرهاب والعنف، اللذين يتغذيان على مائدة الفساد المغرية والحافلة بأصناف متنوعة مما يسيل له اللعاب. والفساد والإرهاب، هما نتاج الطائفية والشحن المذهبي، وهذه الأخيرة انتعشت بعد الاحتلال وازدهرت وارتفع سعرها وكثر روّادها وأسواقها، بفعل هيمنة أمراء الطوائف واستحواذهم على المشهد السائد.
وهناك ثلاث احتمالات: الأول: أن يقوم رئيس الوزراء بتعيين من يراه مناسباً من التكنوقراط كما قال، بغض النظر عن رأي الكتل السياسية. والثاني: أن يلتزم بما تقدمه له الكتل السياسية كممثلين لها أو يعبرون عن وجهات نظرها، سواء كانوا تكنوقراط مستقلين أو ينتمون إليها. والثالث: أن يعيد ترتيب بعض الوزارات على أن تستبدل الكتل السياسية وزراءها بآخرين جدد.
والاحتمالات الثلاثة تصب في هدف واحد، وهو امتصاص النقمة الشعبية، وإن كان الأمر مؤقتاً، لأن إصلاحاً من هذا النوع سيبقى شكلياً، وإن الأزمة تعيد إنتاج نفسها، علماً أن التظاهرات المطالبة بالإصلاح بدأت منذ عام 2010 واستمرت على نحو متقطع، حتى اندلعت بصورة متواصلة في يوليو (تموز) عام 2015 وهي مستمرة إلى الآن ومتواصلة، ودخل عليها عنصر جديد، هو نزول جماعة مقتدى الصدر إلى الميدان بثقله الشعبي ونفوذه المعنوي ومطالبته الجريئة بالإصلاح.
الأيام المقبلة ستكشف عن حقيقة التغيير في العراق، فحتى الآن، لا يوجد هدف يراد الوصول إليه وليست هناك آلية معينة يتم الركون إليها والاحتكام عندها. هل يُقصد تغيير الوزراء الفاسدين أو الفاشلين أو كليهما؟ وهل سيتم تعيين وزراء أكفاء وأفضل منهم، أم ثمة مناقلات حزبية وسياسية سيجري اعتمادها في ظل الضغوط التي يتعرض إليها رئيس الوزراء نفسه؟ وحيث تجري مطالبات بإقالته، أو تقديم استقالته من حزب الدعوة، إذا أريد الإتيان بوزارات للكفاءات خارج نطاق المحاصصة، فهو الآخر نتاج التقاسم الوظيفي والسياسي والحزبي.
أما القضية الثانية - فهي تتعلق بتحرير الموصل وطرد «داعش»؟ فهل هناك خطة معتمدة؟ وهل كانت خطة محافظة الأنبار ومركزها الرمادي بشكل خاص ناجحة؟ وهل سيتم اعتمادها؟ ومعروف أن خططاً عسكرية عراقية وبدعم من الحشد الشعبي وقوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والمحلية وبعض رجال العشائر، قامت بتحرير صلاح الدين، وتم الحفاظ على المدينة، علماً أنه جرى تدمير بعض محال السكن وبعض الأماكن التجارية بعد تحريرها، الأمر الذي أثار السخط على الحشد الشعبي على الرغم من الدور المهم الذي قام به.
ولكن ماذا عن تحرير الموصل؟ الأمريكان يقولون إن استعادتها سيكون صعباً، وحسب مجلة «ديفينيس ون» الأمريكية فإن معركة الموصل ستكون أكبر عملية تخوضها الولايات المتحدة في العراق، منذ انتهاء الحرب في عام 2003. وتستهدف الخطة الأمريكية تقطيع أوصال «داعش»، ولاسيما الطريق الذي يربط الرقة السورية بالموصل، وحسب الاستراتيجية الأمريكية، فإن «داعش» مثل السرطان الذي لا بد من القضاء عليه، وإلا فإنه سيستفحل ويدمر كل ما حوله من دول الإقليم ويعود بالضرر على الغرب وعلى العالم أجمع.

لقد نشرت إدارة الرئيس أوباما قوات خاصة لاستهداف التنظيم وقادته، ومؤخراً قالت إنها ألقت القبض على أبو داوود «سليمان داوود البكار»، وقد تم تسليمه للحكومة العراقية، إضافة إلى إرسال آلاف المستشارين الذين ينخرطون في تدريب قوات عراقية تعود إلى السلطة الاتحادية وقوات بيشمركة كردية وقوات تابعة للسكان المحليين من رؤساء العشائر السنية، علماً أن هؤلاء يرفضون مشاركة قوات الحشد الشعبي، التي قال عنها رئيس الوزراء العبادي، لا أحد يستطيع منع أحد من المشاركة في تحرير جزء محتل من أراضيه. كما ترفض مجموعة تحالف القوى العراقية مشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل.
الخطة الأمريكية هي الأخرى تعرضت إلى انتقادات أمريكية وليس من جانب بعض القوى العراقية، وفي مقدمتها قوى الحشد الشعبي، فقد قوبلت بانتقادات لاذعة من بعض الدبلوماسيين الأمريكيين وجنرالات عسكريين متقاعدين وزعماء جمهوريين ومرشحين رئاسيين سابقين، وهؤلاء جميعاً يريدون تدخلاً عسكرياً أمريكياً أكبر، من شأنه إلحاق هزيمة تكسر شوكة داعش وتحرر الموصل. وبالمقارنة ما بين الموصل والرمادي، فإن هؤلاء يؤكدون أن الأمر يحتاج إلى قوات أكبر. وبالمناسبة فسكان الموصل يصل عددهم إلى نحو مليون و700 ألف إنسان، وهي ثاني أكبر مدن العراق، وهناك حاجز طبيعي يحول دون اقتحامهما بسهولة، وهو وجود نهر دجلة، وسد الموصل يوشك على الانهيار، وهناك خوف حقيقي من احتمال حدوث ذلك، سواء بفعل طبيعي وهو أمر متوقع حسب الخبراء، أو بفعل عمل تخريبي.
بعض العسكريين يميلون إلى أن العمليات العسكرية ستبدأ من أطراف الموصل، ولاسيما من تلعفر، وسيتم تحديد 13 مخرجاً، للسكان لمغادرة مدينة الموصل، حيث ستقوم قوات التحالف بعمليات جوية مع تقدم وقصف داخل المدينة. حتى الآن، العملية العسكرية طي الكتمان، وعلى الرغم من الحديث عن قرب بدء العملية، لكن هناك من يحاول، إما إيحاءً أو تمويهاً الإعلان عن عدم استكمال شروطها ومقومات نجاحها، لأن الفشل ستكون نتائجه كارثية. قد يكون عنصر المباغتة قائماً وهو أمر معروف في الحروب، ولكن هناك نوعاً من التناقض بين الخطط العراقية والأمريكية.

drhussainshaban21@gmail.com



496
كيف نقرأ لوحة الانتخابات الإيرانية؟

عبد الحسين شعبان

يعتقد البعض أن الانتخابات الإيرانية مجرد شكل مظهري لا قيمة له، لأنها سوف لا تغير من طبيعة النظام الشمولي، مثله مثل الأنظمة الشمولية الاشتراكية سابقاً، التي كان فيها انتخابات ودساتير وبرلمانات، ولكنها لم تتغير إلا بحراك شعبي وظرف تاريخي دولي يكاد يكون استثنائياً. في حين هناك من يعتقد أن التغيير لكي يصل إلى مرحلة الحسم، أو ما يسمى «باللحظة الثورية»، بحاجة إلى مران وتراكم وتطور وطول نفس. وحتى ما يبدو الآن «نقراً في السطح»، فقد يصل بالتدريج إلى «حفر في العمق». والمطلوب هو تغيير نمط التفكير والعلاقات وطبيعة النظام وتوجهاته الأساسية.
بين التشاؤم المحبط، والتفاؤل المفرط، فإن صخرة الواقع تبقى صلدة، وهي التي تشير إلى أن التغيير حاصل، وذلك من طبيعة الأشياء، سواءً كان آجلاً أو عاجلاً، جزئياً أو كلياً، من داخل المؤسسة الحاكمة أو من خارجها، سريعاً أو بطيئاً، لكنه سيحدث لا محال، إذْ إن بقاء الحال على ما هو عليه والقديم على قدمه غير ممكن، بفعل الحراك الشعبي الداخلي.
يكفي أن نشير إلى تبلور تدريجي لتيار إصلاحي معارض للتوجهات السائدة، وهذا التيار ساهم في وصول محمد خاتمي إلى الحكم في انتخابات رئاسية لدورتين 1997-2001 و2001-2005 وقد تنبّه التيار المحافظ الذي يقبض على السلطة السياسية، ممثلة بالجيش والحرس الثوري والقضاء، فوجه ضربة له، بإبعاد مير حسين موسوي الذي شكل تحدياً حقيقياً لما هو قائم في انتخابات العام 2009، والذي فرضت عليه الإقامة الجبرية في العام 2011 وإلى الآن.
أربعة مجالس وفوقها الولي الفقيه من يستطيع أن يمنع عجلة التغيير من الدوران، وإن كان لحين، أو أن يعطلها كلما أرادت أن تدور بسرعة أكثر من المطلوب، وإن كان الصراع يجري حول هذه المجالس أيضاً بين التيارين. المجالس الأربعة هي: مجلس الشورى، وعدد أعضائه 290 ومهمته أقرب إلى المهمة البرلمانية في التشريع والرقابة. وقد فاز الإصلاحيون بنحو ثلث المقاعد فيه، ولاسيما في طهران العاصمة التي حصلوا فيها على 30 مقعداً. ومن المؤشرات المهمة هي خسارة نحو 70 من المحافظين المتشددين مثل غلام عادل، رئيس مجلس الشورى السابق، علماً بأن المرشد الأعلى علي خامنئي متزوج من ابنته، ومهدي كوجك زاده. كما خسر في الانتخابات محمد يزدي ومحمد تقي مصباح يزدي، والأخير هو من كان يقف ضد دعوات التسامح والانفتاح في فترة حكم خاتمي ووزير ثقافته عطالله مهاجراني، ويعتبر يزدي منظراً لأحمدي نجاد الرئيس السابق. وعلى الرغم من فوز المحافظين بما يزيد على ثلث مقاعد مجلس الشورى، إلاّ أن نسبة الإصلاحيين ومعهم المستقلين وبغض النظر عن خلافاتهم، تساوي نحو ثلثي أعضاء المجلس.
المجلس الثاني هو مجلس الخبراء الذي يضم 88 عضواً وينتخب كل 8 سنوات، أي أن الانتخابات المقبلة ستكون في العام 2024، ولهذا المجلس دور مؤثر، وقد حاول الإصلاحيون إحراز فوز فيه، لكنهم لم يتمكنوا، وحصلوا على نحو ثلث المقاعد، في حين أن الثلثين ذهبت إلى خانة المحافظين المتشدّدين.
ويُدعى المجلس الثالث «مجلس صيانة الدستور» وتتلخص مهمته في التدقيق بأهلية المرشحين للمجالس وفقاً للدستور وبالمصادقة على نتائج الانتخابات. وقد قام في الانتخابات الأخيرة بمنع نحو 6 آلاف مرشح من الترشح للانتخابات «الشوروية»، وهذا الرقم يعادل نصف المرشحين المتقدمين للانتخابات، كما قام برفض نحو 70% من المتقدمين للترشيح لمجلس الخبراء، بمن فيهم حفيد الخميني (حسن الخميني).
ويسمى المجلس الرابع «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، وهو أقرب إلى مجالس «قيادة الثورة» في أنظمة دول التحرر الوطني كما كنا نطلق عليها، و«المكتب السياسي» في الأحزاب الشيوعية، ولاسيما الحاكمة في أوروبا الشرقية، فهو الذي يختار المرشد الأعلى، أي ولي الفقيه، المطلق الصلاحية، وبالمناسبة فقد تقدم خامنئي بطلب لاختيار منصب نائب الولي الفقيه من الآن، لكي يحل محله فيما إذا غاب لأي سبب كان، خصوصاً أن وضعه الصحي ليس على ما يرام، كما يُقال، مع أن مثل هذا الأمر يمكن أن يتغير في اللحظة الأخيرة، كما حصل عقب رحيل الإمام الخميني، حيث استبعد نائب الولي الفقيه آية الله حسين علي منتظري وفرضت عليه الإقامة الجبرية، وتم اختيار خامنئي (إمام جمعة طهران سابقاً).
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن الولي الفقيه يعتبر نائباً عن الإمام الغائب «الحجة» أو «صاحب الزمان»، ونائبه هو نائب النائب، وحكمه ينبغي أن تخضع له المراتب السياسية والدينية والاجتماعية في الدولة وخارجها، ولكل من يعتقد بالتبعية لهذه النظرية، ومع ذلك فالسياسة هي السياسة، تلعب فيها المصالح والأهواء وتوازن القوى، وليس المبادئ والقيم والجوانب الإنسانية.
إن عودة التيار الإصلاحي إلى الواجهة بعد هزيمة موسوي في العام 2009 يعني تصاعد الصراع في مرحلته الجديدة ما بعد تسوية موضوع الملف النووي، وهذا التيار سبق له أن دعا إلى الثورة الخضراء، أي الانتقال السلمي والمدني واللاعنفي، حتى إن لم يقصد إلى ضفة أخرى، لكن مسار الأحداث لا أحد يستطيع أن يتحكّم فيه، فالثورة عندما تبدأ لا أحد يستطيع التكهن باتجاهها. وعندما تندلع وتعم، لا أحد يستطيع التنبؤ كيف، ومتى، وأين ستحط رحالها. وهكذا هي عمليات التغيير والانتفاضات والثورات في كل مكان.
التغيير في إيران يحتاج إلى تراكم داخلي طويل بالدرجة الأساسية والحاسمة، ومدني وسلمي بالدرجة الأولى، وهذا يعتمد على سكان المدن، خصوصاً طهران التي تضم نحو 20% من سكان إيران البالغ عددهم 80 مليون إنسان، فالريف لا يزال مرتعاً للمحافظين والمتشدّدين، والمجاميع الثقافية غير الفارسية حتى إن كانت مقموعة، سواء إثنياً أو طائفياً، فإن التغيير لا يبدأ منها، وإنْ كان سيشملها وسيكون دورها مهماً فيه، علماً بأن أغلبيتها تعيش على الحدود أو خارج الحواضر الأساسية: مثل العرب والآذريين والتركمان والبلوش والأكراد وغيرهم. وهؤلاء مع وجود ما يزيد على 10% من السنة يشعرون بالتهميش، لكن التغيير سيأتي من المدن.
ومع كل انتخابات تزداد ملامح الصراع الداخلي وضوحاً، ولعل انتخابات الرئاسة التي ستجري بعد 15 شهراً (في العام 2017) ستكون مؤشراً جديداً على تبلور الصراع بين التيارين الإصلاحي والمحافظ.
من يعتقد إن بالإمكان حسم الصراع سريعاً في إيران، فقد يكون متفائلاً أكثر من اللازم، كما أن من يعتقد إن التغيير مستحيل فقد يكون متشائماً. التغيير قادم لكنه بطيء وتدريجي ويحتاج إلى المزيد من التراكم، والأزمة قد تكون طويلة وممتدة ومتشعبة ومعقدة، فإضافة إلى التحديات الداخلية، هناك التحديات الخارجية متمثلة ب: ما بعد الملف النووي والتدخل في سوريا، والدور الإيراني في لبنان، والهيمنة في العراق، والنفوذ المتعاظم في اليمن، والعلاقة السلبية مع دول الخليج، ولاسيما المملكة العربية السعودية، الأمر الذي يدعو الكثير من دول العالم، ولاسيما في الغرب إلى القلق من تعاظم الدور الإيراني، الذي يعتبر عنصر توتر وعدم استقرار في المنطقة، إضافة إلى العناصر الأخرى، مثل الصراع العربي - «الإسرائيلي» المعتق، حيث لا تزال سياساتها متشددة ولديها طموحات أيديولوجية ومذهبية غير خافية، وبقدر ما تبدو عقائدية فهي سياسة براغماتية، وهي واقعية بقدر ما هي تطلب المستحيل، لأنها نموذج للدهاء والمكر والدبلوماسية التي تجمع التناقضات، وتُظهر غير ما تُبطن.
drhussainshaban21@gmail.com



497
اللاجئون واتفاقية شينغن
عبد الحسين شعبان
أخذت مأساة اللاجئين تزداد تعقيداً، خصوصاً بإقفال الحدود اليونانية- المقدونية وبقاء الآلاف منهم في الظروف الطبيعية القاسية، معلقين بحبل الأمل للعبور إلى دول أوروبا الأخرى الأكثر رفاهاً وغنى.
وقد انعكست مأساة اللاجئين على العلاقات الأوروبية- الأوروبية بين دول الاتحاد الأوروبي، الموقعة على اتفاقية شينغن التي تؤكد حرية التنقل، ولكن بسبب تدفق الأعداد غير المسبوقة من اللاجئين وظروف بعض البلدان الاقتصادية السيئة، جرى تعويم الاتفاقية ذاتها تحت عنوان «حكم الضرورة»، وذلك استناداً إلى المادة الثانية منها (الفقرة الثانية) التي تنص على «إذا تطلب الأمر حماية النظام العام أو الأمن القومي، يجوز للدولة العضو، بعد التشاور مع الأطراف المتعاقدة الأخرى، اتخاذ قرارها ولفترة محدودة، باستعادة السيطرة على الحدود الداخلية مع الدول الأوروبية الأخرى، وإن إعادة السيطرة على الحدود تبقى استثناء عن القاعدة».
وعقد مؤخراً اجتماع في بروكسل لوزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي لمناقشة مقترحات توزيع اللاجئين بين الدول الأوروبية، وهي الخطة التي كانت ألمانيا من مؤيديها، في حين إن دولاً كانت تنتمي إلى الكتلة الاشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية وقفت ضدها صراحة، وكانت هنغاريا على لسان رئيس وزرائها فيكتور أوربان قد أعلنت أن تدفق اللاجئين إلى أوروبا يهدد الجذور المسيحية للقارة. ووقفت هي وتشيكيا وسلوفاكيا وليتوانيا ورومانيا، إضافة إلى اليونان وإيطاليا ضد استقبال اللاجئين.
وبسبب عدم التوصل إلى اتفاق بخصوص توزيع اللاجئين بين وزراء الداخلية، فمن المحتمل عقد قمة أوروبية طارئة وهو ما صرح به رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، بأن عدم التوصل إلى اتفاق وخطط مشتركة لتنظيم واستيعاب الهجرة المليونية، سيؤدي إلى القضاء على اتفاقية شينغن للحدود المفتوحة، وهو ما كان محط آمال دول أوروبا الشرقية سابقاً، والتي هي اليوم من أشد المعارضين لتوزيع حصص اللاجئين.
والأمر لا يتعلق باتفاقية شينغن فحسب، بل إنه سيعيد ترتيب البيت الأوروبي على نحو جديد، بين الجماعات اليمينية والمتطرفة التي تنشط بالدعاية العنصرية ضد استقبال اللاجئين، وضد الأجانب بشكل عام، وبين جماعات مؤيدة لاستقبالهم، وذلك ضمن أنشطة لأحزاب الخضر وبعض أحزاب اليسار ومنظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان، وبضغوط من منظمات دولية إنسانية.
وحتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعرضت إلى انتقادات حادة، ليس من اليمين فحسب، بل حتى من أوساط داخل حزبها، الأمر الذي دفعها إلى تغيير مواقفها من تأييد استقبال اللاجئين ومد يد العون والإنقاذ لهم، إلى الحزم والتشدد إزاءهم، الأمر الذي بدد آمال الكثير من اللاجئين الذين ظلوا وما زالوا يعلقون على مواقف ألمانيا بالذات بشأن حل مشكلتهم، والضغط لفتح الحدود أمامهم.
لقد اتخذ قرار فرض رقابة على الحدود للحد من تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين القادمين من البلقان مروراً بهنغاريا والنمسا، وهو الأمر الذي أثار أزمة داخلية في ألمانيا ذاتها. كما قررت سلوفاكيا والنمسا وتشيكيا إعادة فرض رقابة على الحدود، وعلقت بحكم الأمر الواقع ومن دون إعلان اتفاقية شينغن، بل إن النمسا نشرت جيشاً على الحدود مع هنغاريا، وقال مستشارها فيرنر فايمان إن بلاده ستستدعي الجيش فوراً لمساندة الشرطة في مواجهة تدفق اللاجئين الذين يصلون بمعظمهم عبر هنغاريا.
إن هذه الإجراءات وضعت الاتحاد الأوروبي أمام أزمة حقيقية، وهي الأزمة الثانية الكبرى بعد أزمة اليورو، وهما منجزان أساسيان من منجزات الاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال:
1- إن تعليق اتفاقية شينغن سيؤدي إلى «فراغ قانوني»، ولهذا لا بد من التوصل إلى خطة عملية ومرنة لتقاسم عبء اللاجئين، مع تكثيف الإجراءات التي تتخذها الدول منفردة، وإلا فإن حالات انفلات قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بالجميع.
2- إن دول الاتحاد الأوروبي تواجه سؤالاً كبيراً: هل لا تزال ملتزمة بالاتفاقية الدولية بحقوق اللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967، أم أن هذه الاتفاقية هي الأخرى وضعت على الرف وسيتم تعويمها؟ الأمر الذي سيطرح عليها تساؤلات داخلية ودولية، بخصوص احترامها حقوق الإنسان ومدى التزامها بالمعاهدات والاتفاقيات الأوروبية والدولية.
3- إلى متى سيستمر تعليق اتفاقية شينغن؟ وإذا كان حسب الاتفاقية على نحو استثنائي باتخاذ قرار مسبق ومنظم عند حدوث أزمات، فإن أزمة من هذا النوع قد تستمر بضع سنوات، خصوصاً وهي مرتبطة بحروب وبصراعات مسلحة ونزاعات أهلية، ليس لها حدود منظورة حتى الآن، فهل يكفي القول بوجود تهديد خطر في الوضع العام داخل فضاء شينغن؟
اللاجئون هم ضحايا حروب ونزاعات وأعمال قمع وتمييز، فروا من بلادهم طلباً للجوء السياسي، الذي هو حق لهم وواجب استقبالهم يقع على الدول الموقعة على اتفاقية حقوق اللاجئين والاتفاقيات الإقليمية ، إضافة إلى ما تنصّ عليه والدساتير المحلية .
4- إن إجازة استخدام القوة العسكرية ضد مهربي اللاجئين والمهاجرين في البحر المتوسط، سيصبح نافذاً اعتباراً من مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وللسفن الحربية الأوروبية اعتراض وتفتيش ومصادرة المراكب التي يشتبه في أن المهربين يستخدمونها والقيام بعمليات اعتقال شرط عدم دخول المياه الإقليمية الليبية.
والأمر لن يقتصر على العمل في المياه الدولية لمراقبة الشبكات الإجرامية الدولية التي تقوم بإرسال مراكب غير صالحة للاستخدام محملة بالمهاجرين، وذلك بالتوجه إلى إيطاليا انطلاقاً من السواحل الليبية، بل إنه سيصطدم بأعداد هائلة من اللاجئين ترى نفسها مجبرة على التعاون مع هؤلاء لعدم وجود وسطاء أفضل أو وسائل أحسن.
إن عملية «فاف فور ميد» التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) 2015 ستستكمل بالملاحقة في عرض البحر من خلال سفن حربية وفي المياه الدولية. وقد قامت المفوضية الأوروبية بإنشاء خفر سواحل وحرس حدود، وتتسع دائرة الدول التي أخذت تبني قواعد مراقبة على حدودها لتشمل: بلجيكا والدانمارك وألمانيا وهنغاريا والنمسا وسلوفينا والسويد والنرويج وبعضها أعضاء في الاتحاد لكنها ليست أعضاء في اتفاقية شينغن. وقد قدرت إجراءات المراقبة بين 5 مليارات و18 مليار يورو سنوياً.
جدير بالذكر إن اتفاقية شينغن تم التوقيع عليها في 14 يونيو (حزيران) العام 1985 من خمس دول أبرزها ألمانيا وفرنسا، ثم بلغ عدد الموقعين عليها 26 دولة عضو في الاتحاد وأربعة دول من خارجه هي: سويسرا وليخشناين والنوريج وآيسلندا.
5- إن أسباب إخفاق اتفاقية شينغن يعود إلى عدم التعاون والتنسيق بين دولها الأعضاء بخصوص تنظيم الهجرة واستقبال اللاجئين، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة الأزمة ذاتها وليس مظهرها، أي ينبغي الذهاب إلى السبب لا النتيجة، وخصوصاً الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية لاندلاع الحروب والنزاعات في دول الإقليم، كما أن تعليق الاتفاقية أو إلغاءها سيعود بالضرر على دول الاتحاد ذاتها، وليس على اللاجئين فحسب، خصوصاً تسهيل عبور السلع والبضائع والأشخاص عبر الحدود.
6- إن اتفاقية شينغن ترتبط بشكل أساسي بمعاهدة دبلن العام 1990 التي تنظم تدفق طالبي اللجوء بين الدول الأعضاء واتفاقية ماسترخت العام 1991، الأمر الذي يعني أن الأزمة ستمتد إلى معاهدة دبلن واتفاقية ماسترخت وليس لاتفاقية شينغن وحدها.
drhussainshaban21@gmail.com



498
العقد العربي للمجتمع المدني

عبد الحسين شعبان
أُعلن في احتفالية خاصة بالقاهرة عن انطلاق «العقد العربي لمنظمات المجتمع المدني» 2016-2026 برعاية جامعة الدول العربية وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وكانت «الجامعة» قد بدأت التحضير لهذا العقد منذ العام 2014، وذلك بهدف تعزيز قدرات المجتمع المدني ومشاركته مع الحكومات في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة (العام 2030) عن طريق خلق بيئة مناسبة وبناء آليات تعاون ناجحة بين منظمات المجتمع المدني والدول العربية والمنظمات الإقليمية والدولية.
تحضيراً للعقد العربي لمنظمات المجتمع المدني عقدت «الجامعة» عدداً من الاجتماعات التشاورية، واجتماعاً لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية «العرب» في شرم الشيخ، لإطلاق العقد العربي، وقامت بدورها بعرض المشروع على الاتحاد الأوروبي والمؤسسات التابعة له، لعقد شراكات لتحقيق أهدافه. وفي الاجتماع الاحتفالي بالعقد العربي لمنظمات المجتمع المدني كرمت «الجامعة» الرباعي التونسي الفائز بجائزة نوبل للسلام على جهوده المثمرة ورعاية وإنجاح الحوار الوطني في تونس. ويضم الرباعي التونسي كلاً من: الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس وتم منحه جائزة نوبل بتاريخ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2015.
جدير بالذكر أن مؤسسة الفكر العربي كانت قد عقدت مؤتمرها السنوي (14) في القاهرة بالتعاون مع جامعة الدول العربية، وكان أحد المحاور الأساسية الذي ناقشه اجتماع الخبراء تحضيراً للمؤتمر (سبتمبر/ أيلول- ديسمبر/ كانون الأول 2015) هو: موضوع المجتمع المدني وجامعة الدول العربية - شؤون وشجون، وهو بحث في الواقع والمرتجى، وذلك بتسليط الضوء على ما هو قائم وتقديم رؤية استشرافية مستقبلية لدوره، وخصوصاً باقتراح تعديل ميثاق «الجامعة» من جهة وإقرار الدول العربية مجتمعة وكل على انفراد بأهمية مشاركته لتحقيق أهداف التنمية، وذلك بالارتباط بموضوع الدولة الوطنية والهوية والثقافة والأبعاد الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وقد كان لكاتب السطور الشرف في إعداد البحث الذي تبناه المؤتمر واعتمد في التقرير العربي الثامن للتنمية الثقافية والموسوم «التكامل العربي: تجارب، تحديات، وآفاق»، وسبق له أن وضع كتاباً بعنوان: جامعة الدول العربية والمجتمع المدني: الإصلاح والنبرة الخافتة (2004).
ويعتبر إطلاق عقد لمنظمات المجتمع المدني تطوراً والتزاماً بدور المجتمع المدني من جانب «الجامعة»، ويأتي ذلك في جزء منه انعكاساً أيضاً للتطور الذي حصل في نظرة العديد من البلدان العربية للدور الذي لعبته على الصُعد المختلفة، خصوصاً وقد تم تقييم هذا الدور عالمياً من خلال الرباعي التونسي الذي بذل جهداً قيماً في احتواء الموقف والحيلولة دون اندلاع الصراع وانزلاق البلاد نحو العنف، لاسيما وأن المنظمات الإرهابية، بدأت بعمليات اغتيال وتفجير وتسلل عبر الحدود، الأمر الذي بادرت فيه منظمات المجتمع المدني للضغط على جميع الأطراف لتحقيق التوافق والاتفاق لنزع فتيل الأزمة ومنع حدوث الانفجار.
وإذا كان ميثاق «الجامعة» قد خلا من أية إشارة إلى المجتمع المدني أو إلى فكرة حقوق الإنسان، فإن التطور الدولي في هذا الميدان، وخصوصاً منذ المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا لعام 1993، اتجه إلى المزيد من توسيع دائرة الاعتراف بالمجتمع المدني، الأمر الذي أحدث استجابة عربية له تجلت في استحداث منصب «المفوض العام للمجتمع المدني» في العام 2002، وقد تولاه حينها طاهر المصري رئيس وزراء الأردن الأسبق، كما كان للمجتمع المدني حضور فاعل في مؤتمر قمة الكويت العربية للتنمية العام 2009، وكذلك للقمة التي أعقبتها في شرم الشيخ العام 2011، والقمة الثالثة التي تلتها في الرياض العام 2013.
وقد أعلنت هذه القمم التنموية الثلاث عن دعمها لتعزيز وتقوية دور المجتمع المدني وتمكينه من لعب دور الشريك الفاعل للحكومات العربية بهدف تنمية وتطوير المجتمعات العربية. وأكد مؤتمر القمة العربية المنعقد في شرم الشيخ في مارس/ آذار 2015 هذا الدور الذي ترجمته «الجامعة» بإعداد وثيقة العقد العربي استكمالاً للجهود الدولية الرامية إلى تقديم نموذج تنموي يستند إلى مقاربات حقوقية من جهة وشراكات دولية من جهة ثانية.
وقد ركزت وثيقة العقد العربي على الأولويات العربية للتنمية، وأهمية إبراز قيم التسامح والحوار والتشاور والثقة والتضامن والمعاملة بالمثل بما يعزز القيم المدنية والديمقراطية.

إن خطوة من هذا النوع تقتضي شراكة استراتيجية فعالة وطويلة الأمد، ونظرة انفتاحية بين منظمات المجتمع المدني و«الجامعة»، خصوصاً وأن الجميع في مركب واحد لمواجهة الإرهاب والعنف والتطرف والمحافظة على السلم والأمن الوطني والقومي، باتجاه تعزيز المزيد من التعاون والتنسيق وصولاً لاتحاد عربي، تلعب فيه مؤسسات المجتمع المدني دوراً شريكاً، على صعيد تمكين المرأة وإقرار حقوقها وحقوق المجاميع الثقافية (المعروفة باسم الأقليات) والمساهمة في أعمال الإغاثة للاجئين والنازحين ودعم الجهود في مجالات التعليم والتدريب والصحة وتمكين الفقراء وذوي الدخل المحدود وذوي الاحتياجات الخاصة، وخلق فرص عمل للشباب والعمل على محو الأمية وغيرها من الأنشطة والبرامج التي تسهم في نهوض المجتمعات ورفعة وترقية أفرادها، وهو ما جاء على ذكره أمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي.
وإذا كان مثل هذا التطور قد حصل على صعيد التنظيم الإقليمي العربي (الجامعة) فإنه من المفترض أن يتساوق معه تطور مواز على صعيد كل بلد عربي، إذْ ما زالت بعض التحفظات قائمة وتنظر لمنظمات المجتمع المدني على نحو سلبي، بل وتعتبرها «اختراعاً مشبوهاً» لتنفيذ مآرب خارجية، خصوصاً وأن بعضها يتلقى تمويلاً أجنبياً، الأمر الذي يثير بعض الشكوك وعلامات الاستفهام، في حين أن هناك اتجاهاً آخر ينظر بعين التقديس لكل ما تقوم به منظمات المجتمع المدني، بغض النظر عن بعض النواقص والثغرات والعيوب التي تعانيها بعضها .
وبين التنديد والتأييد، فإن الرأي الثالث يأخذ بخصوصية مجتمعاتنا العربية من دون عزل نفسه عن التطور الدولي في هذا الميدان، حيث يمكن للمجتمع المدني في إطار الدولة وحكم القانون أن يسهم بصورة فعالة وإيجابية وحيوية، في دعم برامج التنمية والمشاركة فيها باتخاذ القرار وفي التنفيذ، وبالتعاون مع القطاع الخاص، وهو القطاع الذي لا غنى عنه في المشاركة في التنمية.
ويتطلب ذلك من المجتمع المدني نفسه الحفاظ على استقلاليته ووضع مسافة واضحة بينه وبين العمل السياسي، وهي ذات المسافة التي ينبغي وضعها بين السلطة والمعارضة، وبين الموالاة والممانعة، من خلال موقف مستقل وغير منحاز، الأمر الذي يعني أهمية وضرورة التعامل بمهنية وشفافية كاملة دون لبس أو غموض، سواء بالدفاع عن مصالح الفئات التي يمثلها أو من خلال الدفاع عن مصالح عموم المجتمع والدولة الوطنية.
وبقدر ما يُفترض الإقرار للمجتمع المدني بحق العمل القانوني والشرعي ومزاولة أعماله بحرية وشفافية، فمن جانبه يقتضي تأكيد عدم لجوئه إلى العمل السري مهما كانت الظروف والأسباب، واتباع الوسائل السياسية والسلمية في الدفاع عن أهدافه ومطالبه، اللجوء إلى العنف أو تشجيعه أو تبرير استخدام السلاح من أية جماعات خارج القانون، وتحت أية مبررات أو مسوغات.
وبهذا المعنى لا بد من التزام آليات تقود إلى تعزيز مرجعية الدولة باعتبارها المرجعية العليا، التي لا تضاهيها أية مرجعية أخرى دينية أو طائفية أو سياسية أو حزبية أو إثنية أو عشائرية أو مناطقية، وبالدولة وعبر حكم القانون، يمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدني باعتبارها منظمات طوعية وتطوعية واختيارية وسلمية الدور المطلوب منها والمنوط بها، فهي لا تطمح بأي شكل من الأشكال الوصول إلى السلطة، ولا تسعى لتكون جزءاً من كيان سياسي أو ديني، بل هي منظمات مهنية يتم الانتساب إليها أو الخروج منها بإرادة المنتسبين دون أي إكراه أو إلزام، وتعمد الأساليب الديمقراطية داخل هيئاتها وبين هذه الهيئات والأعضاء، وتلزم نفسها بإجراء انتخابات نزيهة وبإشراف جهات قانونية معتمدة لتداولية الإدارة.
وفقاً لهذه الرؤية نظر العالم إلى منظمات المجتمع المدني بعيداً عن التوقير أو التحقير، لأن الشراكة المجتمعية تتطلب أجهزة للرقابة والرصد بحيث يتحول المجتمع المدني من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح، لمشاريع القوانين والأنظمة، إذْ لا يمكن تقدم أي مجتمع وأية دولة دون العلاقة العضوية المتبادلة والمتوافقة بين قطاعات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وأكدت أحداث حركة الاحتجاج التي شهدتها العديد من الدول العربية منذ العام 2011 وسميت بالربيع العربي بغض النظر عن الفوضى التي أعقبتها: أن شح الحريات من جهة وعدم إشراك المجتمع المدني، ساهما في تغذية نزعات التطرف الديني والتعصب المذهبي، اللذين قادا إلى أعمال الإرهاب والعنف، وهو ما حاولت وتحاول القوى الدولية والإقليمية استثماره لأهدافها الخاصة، بما في ذلك توظيف بعض المنظمات أو العاملين فيها لخدمة الأجندات الخارجية.

ولذلك فإن العقد العربي لمنظمات المجتمع المدني سيكون له دلالات كبيرة من حيث الاعتراف القانوني بدور هذه المنظمات والحاجة الماسة إليه للمشاركة في عملية التنمية وفي اتخاذ القرارات وتنفيذها، وبالطبع سيكون ذلك عامل تعزيز للسلم الأهلي والمجتمعي الذي يوفر الأرضية المناسبة للفرد والمجتمع، في مواجهة التطرف والتعصب والغلو.
drhussainshaban21@gmail.com



499
كيف ستدور عجلة التغيير في العراق؟
عبدالحسين شعبان
تحيط الشكوك بمدى نجاح أية خطوة منتظرة للتغيير في العراق، فمنذ أن شكل رئيس الوزراء حيدر العبادي وزارته في العام 2014، أعلن برنامجاً عاماً للإصلاح ومحاربة الفساد والمُفسدين، وهي مطالب عامة كانت وراء حركة الاحتجاج الشعبية التي تستمر منذ عدّة شهور.
كانت الرغبة في الإصلاح قد حظيت بتأييد فئات المجتمع العراقي كافة واعتُبرت ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسة بعد أن تدهورت الأوضاع على نحو شديد، وضاقت الناس ذرعاً بالفساد المالي والإداري، الذي أصبح مثل غول ينهش المجتمع، لدرجة أن لا أحد يستطيع وضع حد له، بل أخذ بالتدريج شكلاً منظماً، اقترب إلى المؤسسة، خصوصاً وإن جميع القوى المشاركة بالعملية السياسية متورطة فيه، وتحاول كل مجموعة التستر على عناصرها لإبعادهم عن المساءلة، معتبرة ذلك مساساً بهيبتها وانتقاصاً من كرامتها واستهدافاً لنفوذها، سواء كان طائفياً أو إثنياً أو حزبياً أو عشائرياً أو غير ذلك.
وفي الحديث عن التغيير هناك ثلاثة مستويات: المستوى الأول - الذي يريد تشكيل حكومة تكنوقراط، باستبدال بعض الوزراء بآخرين أكثر مهنية وكفاءة ومن المستقلين، كي لا يكونوا جزءًا من المحاصصة التي تعيد إنتاج نفسها. أما المستوى الثاني - فهو الذي يريد استبدال وزراء من الكتلة ذاتها، وذلك تطميناً لها، وضماناً لاستمرار تمثيلها. ويقع المستوى الثالث - من الرغبة في التغيير، باستبدال رئيس الوزراء نفسه لأنه فشل في إجراء الإصلاحات، بعد أن مُنح فترة ما يزيد على سنة، لكنه لم يفعل شيئاً، ولذلك بدلاً من تغيير بعض الوزراء، فإن بعض القوى أخذت تطالب بتغييره واستبداله، للإتيان بوزارة جديدة.
لقد ازداد المجتمع العراقي تشاؤماً وقنوطاً لدرجة تقترب من اليأس أحياناً، فهو منح تأييده للتغيير والإصلاح، وظل ينتظر، فازدادت الأوضاع سوءاً، فمن جهة يرى الفاسدين في أماكنهم، بل يستبدلون بعضهم بعضاً، وتدهورت أحواله المعيشية، بانخفاض أسعار النفط والأزمة المالية والاقتصادية التي يعانيها. ورجال الدين المتنفّذين في النجف، وفي مقدمتهم السيد علي السيستاني، قرأوا نبض الشارع فأيدوا الإصلاح والتغيير، ولكن بعد وصول الأمر إلى طريق مسدود، انسحبوا من الميدان، وتخلوا عن دعمهم لحكومة العبادي، وانقطع ممثلوهم عن خطبة الجمعة التي تعكس مشاركتهم بمسار الأحداث، بل امتنع رجال الدين الكبار عن مقابلة المسؤولين الحكوميين، بعد أن ساهموا في دعم تشكيل حكومة برئاسة العبادي، حين تعسرت الأمور بسبب تشبث نوري المالكي بموقعه ورفض غالبية القوى السياسية.
وحتى الولايات المتحدة وإيران اللتان أيدتا العبادي ولا تزالان تدعمانه في خطة الإصلاح، تقفان حائرتين أمام صخرة الواقع الصلدة، فمن جهة استمرار «داعش» في احتلال الموصل منذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014، وأجزاء من محافظة الأنبار على الرغم من الخسائر التي لحقت بها، لكنها من الناحية الفعلية لا تزال تمثل تهديداً حقيقياً للوضع في العراق، سواء لحكومة بغداد أو لحكومة إربيل، ولا تزال تملك بعض الأوراق التي تلعب بها، بامتدادها بين الرقة ودير الزور السورية والموصل وأجزاء من محافظة الأنبار العراقية، إضافة الى اختراقاتها المتكررة للأمن في البلدين ومواجهتها تحالفات دولية وإقليمية كبرى.
ومن جهة ثانية فإن المشاكل بين بغداد وإربيل لم تسو حتى الآن، على الرغم من الزيارات المكوكية بين العاصمتين، فضلاً عن أن مشاكل إربيل تعاظمت مع السليمانية، معقل حركة التغيير «كوران» والاتحاد الوطني الكردستاني، وزادها تعقيداً عدم دفع الرواتب للموظفين منذ بضعة أشهر، بل وتخفيضها، الأمر الذي ألقى بثقله على المواطنين الذين زادت أعباءهم، وخصوصاً باستمرار التجاذب حول رئاسة الإقليم وصلاحيات الرئيس والتوتر والتشنج الحاصل بين الكتل الكردستانية، فضلاً عن موضوع الاستفتاء على استقلال كردستان الذي طرحه مسعود البارزاني رئيس الإقليم، والذي واجه بعض التحفظات بسبب توقيته، والمسألة تعود إلى مواقف القوى الإقليمية والدولية كذلك.
وهناك مشكلة أخرى من متفرعات الوضع العراقي الراهن، ونعني بها الحشد الشعبي الذي بقدر جهوده في التصدي لـ«داعش»، فإنه أثار ردود فعل كبيرة، ترافقت مع بعض الانتهاكات والتجاوزات والارتكابات، التي نُسبت إليه في محافظة صلاح الدين، وخصوصاً عند تحرير تكريت.
وتطرح هذه الجزئية مسألة في غاية الأهمية ونعني بها مسألة الإقليم السني الذي يجري الحديث عنه علناً أو همساً، سواء بالنسبة لمحافظة الموصل، أو لمحافظتي الأنبار وصلاح الدين، وسواء كان الأمر إقليماً واحداً أو أكثر، فإنه أحد «الاستحقاقات» التي ستواجه الوضع العراقي ما بعد «داعش».
ولعل بناء خنادق من جانب حكومة الإقليم وباتفاق مع شركة فرنسية وأخرى أمريكية تمتد من ربيعة على الحدود السورية وتستمر حتى خانقين على الحدود الإيرانية، عاظم من الهواجس التي راودت العديد من الأوساط التركمانية والعربية في المناطق المختلطة، معتبرة ذلك محاولة لترسيم حدود الإقليم ما بعد القضاء على «داعش». ويقابل ذلك بناء سور حول بغداد بطول نحو 240 كم، وهو أمر يثير القلق المتعاظم والمخاوف المستمرة من جانب الكثير من الأوساط في المناطق السنية في حزام بغداد التي أخذت تساورها الشكوك، بأن الهدف الحقيقي من بناء السور ليس التحصن ضد الإرهاب وهجمات «داعش»، بل اقتطاع أو ضم جزء من تلك المناطق إلى بغداد، في محاولة لتغيير خرائط المحافظات، لأسباب طائفية وسياسية وحزبية، والأمر يتعلق بانعدام أو ضعف الثقة بين الأطراف السياسية وفقدان الحد الأدنى من التوافق، وخصوصاً في ظل المتغيرات الجديدة.
الإصلاح المعلن عنه ظل فوقياً وبطيئاً وبدا متعثراً أو متلكئاً أو حتى شكلياً ويفتقر إلى دينامية حركية وآلية عملية، فضلا عن أن الإصلاح بحاجة إلى إصلاحيين، فكيف يمكن لمن شارك في الفساد، وأصبح جزءًا منه أن يقدم على خطوات إصلاحية جذرية، وحتى وإن كان لدى العبادي رغبة في تحقيقه، فهناك عقبات تقف أمامه، أهمها نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، واستمرار وجود الميليشيات، حتى وإن اندمجت جماعات الحشد الشعبي بوزارة الدفاع وتحت إشرافه، لكنه لا هو ولا غيره، بقادر على ردع بعض التصرفات اللاإنسانية التي قامت بها بعض الجماعات المنفلتة. يضاف إلى ذلك ملف النازحين الذي أخذ يتضخم، وبلغ نحو ثلاثة ملايين نازح غير قادرين على العودة حتى إلى مناطقهم التي تم تحريرها، فضلاً عن اندلاع حساسيات قديمة في أوساطهم وتنازع على مناطق النفوذ.
السؤال هل يستطيع العبادي إحداث هزة في بناء العملية السياسية التي تم تصميمها بعد الاحتلال العام 2003، بحيث يتجاوز الكتل السياسية ويعين وزراء تكنوقراط؟ وهل سيحصل على تأييد البرلمان الذي هو مؤلف من ممثلي هذه الكتل؟ أم أنه سيضحي بمستقبله السياسي.
وعكس ذلك فالأمر يحتاج إلى مغامرة من العيار الثقيل، ولكن هل يستطيع العبادي خوضها وتحمل نتائجها؟ إنها باختصار وحسب صلاحياته الممنوحة وفقاً للدستور، أن يلجأ إلى تعطيل الدستور وحل البرلمان وفرض الأحكام العُرفية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، خصوصاً وإن ثلث البلاد لا تزال تحت هيمنة «داعش»، لمدة عامين مثلاً، على أن يتم إجراء انتخابات بعدها. ولا شك إن مثل هذا القرار ستتم معارضته من القوى السياسية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المترهل والمنخور، ولكن مغامرة من هذا النوع قد تستحق التضحية فهي ستحظى بدعم الناس، وحتى هزيمتها ستكون مشرفة.
التغيير المطلوب ليس ترشيداً للوزارات أو ترشيقاً للطاقم الوزاري أو تغييراً جزئياً أو محدوداً أو شكلياً، فذلك ليس سوى عملية تجميلية، سرعان ما تظهر ما تخفيه من أخاديد وتجاعيد تركها الزمن. إنه يحتاج إلى عملية جذرية شاملة ولجميع المرافق وخطة طويلة الأمد، وقبل كل ذلك إلى إرادة سياسية صلبة. وإذا ضاعت الفرصة اليوم، فإن مستقبل العراق قد يضيع أيضاً في منعطف تاريخي خطر باستمرار «داعش» أو بهزيمتها، لاسيما باندلاع صراعات تتعلق بأمراء الطوائف وأصحاب الامتيازات، الذين لا يريدون التخلي عنها، بل سيقاتلون ضد أي تغيير أو إصلاح يحد منها، فما بالك إذا استهدف التغيير القضاء عليها.
drhussainshaban21@gmail.com



500
كيسنجر والتاريخ والفلسفة
عبد الحسين شعبان

حين عاد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق إلى جامعة هارفاردبعد انقطاع دام أربعة عقود من الزمن، وردا على سؤال لأحد الطلبة، عما يمكن أن يدرسه شخص ما يأمل الحصول على وظيفة مثل وظيفة كيسنجر، أجاب "التاريخ والفلسفة"، فهما بالنسبة له أساسان ضروريان لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.

تماما كما كان الزعيم البريطاني ونستون تشرشل يعتقد أنه كلما "أمعنت النظر إلى الماضي، كلما أحسنت النظر إلى المستقبل".

التاريخ والفلسفة كانا ركيزتين اعتمد عليهما كيسنجر، وهو يتقدم الصفوف في "مجمع العقول" أو ما يسمى بـ"تروست الأدمغة" العامل بخدمة القطاعين المهيمنين الصناعي والحربي. وأصبح لتروست الأدمغة الذي ضم أكاديميين بارزين شأن كبير في عهد الرئيس جون كيندي الذي قتل في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، حيث ارتقى فيه سلمَ الدبلوماسية والأمن القومي العديدُ من الرجال والنساء مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت وكوندليزا رايس وغيرهم.
يقول كيسنجر -الذي أصبح مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس ريشارد نيكسون من 20 يناير/كانون الثاني 1969 ولغاية 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، ثم أصبح وزيرا للخارجية في عهد الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد- عندما دخلت مكتبي، أدخلت معي كتب الفلسفة التي اعتمدت فيها على دراسة التاريخ، ويذكر نيل فيرغسون مؤلف كتاب سيرة كيسنجر ((1968-1923 نقلا عن أحد زملاء كيسجنر المدعو جون ستوسنجر، أن كيسنجر عندما كان طالبا في السنة الأولى في جامعة هارفارد، كان يؤكد على أهمية الالتزام بالتاريخ بكل قوة.

وكان كيسنجر يستشهد بالمؤرخ اليوناني القديم ثيوسيديدز الذي يقول "في حين لا يكرر الزمن الحاضر الماضي بالضبط، فإنه يجب أن يشبهه حتما، وبالتالي ينبغي أن يكون المستقبل كذلك".

ويعتقد كيسنجر أن دراسة التاريخ تستهدف رؤية أسباب نجاح الأمم والرجال وأسباب فشلهم. لا ينظر كيسنجر إلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل من: أن التاريخ ماكر ومخادع، إلا من زاوية البحث في الأخطاء لعدم تكرارها، وإلا فإن التاريخ لا يعيد نفسه. وحسب ماركس، ففي المرة الأولى سيكون على شكل مأساة وفي المرة الثانية، سيكون على شكل ملهاة.

لعل كتاب سيرة كيسنجر الذي أعده فيرغستون، يمثل مناسبة للبحث في السياسة الخارجية الأميركية ودبلوماسيتها في عهد كيسنجر، وهو وقفة أخرى للتاريخ وفنونه، لاسيما في الحكم والإدارة، من خلال الممارسة والتطبيق وليس الأمور النظرية وحدها، وهو ما حاول كيسنجر مقاربته عبر قراءات تاريخية مقارنة، ليس بغرض الاستنساخ أو التقليد أو النقل الحرفي أو الآلي، وسحب ظروف الماضي على أوضاع الحاضر، بل من خلال عمل حيوي وعبر مهارات ومعارف تكونت لديه وساهمت في خلق شخصيته وتميزه، ولاسيما بدبلوماسيته التي عُرفت في الشرق الأوسط بالخطوة - خطوة Step by Step، وهو ما دعا الرئيس السادات أن يطلق على الثعلب الماكر صفة "الساحر"، لقدرته على تفكيك الأزمات وإعادة تركيبها من خلال إدارة مفاصلها والحوار بين أطرافها.

ولم تخلُ وسائل كيسنجر في إدارة الحكم والدبلوماسية من الخيال والسعي لتحويله إلى واقع لرسم خطط وخرائط، منها ما يتعلق بالعلاقات الصينية الأميركية، حين تمكن من كسر الجليد بين بكين وواشنطن، وكأنه يعبر سور الصين العظيم الذي هو من عجائب الدنيا السبع، حيث يبلغ طوله 2400 كم، والهدف من ذلك هو الضغط على الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت نفسه تصعيد سباق التسلح مقابل إجباره على التخلي عن بعض أنواعه، والتوقيع على اتفاقيات خاصة بذلك (سالت1 وسالت2)، وصولا إلى حرب النجوم في العام 1983التي خصصت لها الولايات المتحدة تريليوني دولار، الأمر الذي لم يكن بإمكان موسكو مجاراتها في ذلك.
وكان الهدف هو ممارسة سياسة أسماها كيسنجر "بناء الجسور"، وهي نظرية قال عنها الرئيس جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والسياح والأفكار لتحطيم الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من داخلها، برفع درجة الأزمة الاقتصادية التي وصلت حد الاختناق مع شح الحريات، وهذا ما قاد إلى انهيار جداربرلين وإسقاط النظام الاشتراكي العالمي وتفكك الاتحاد السوفييتي لاحقا.

وبخصوص دول المنطقة، عمل كيسنجر على إحداث نوع من التصدع في العلاقات بين دولها، تمهيدا لما وصفه "خلق إمارة وراء كل بئر نفط"، ومنع سوريا من اللقاء مع العراق، وإطاحة اليمن الجنوبية ونظامها المتأثر بالماركسية، وذلك بعد تجويف التجربة الناصرية وتسويفها وإطفاء شعلتها التحررية على المستوى العربي، خصوصا بعد سياسة الانفتاح الساداتية التي وضعت 99% من أوراق الحل بيد الولايات المتحدة، وهو ما دعا الرئيس السادات مخاطبة كيسنجر "بالصديق العزيز".

كثيرا ما يعود كيسنجر للتاريخ، لكن التاريخ بالنسبة إليه "ليس كتاب طبخ" لإعداد أنواع من الطعام يقدمها كوصفات سابقة ليتم تذوقها، بل ينظر إليه كيسنجر ليستفيد منه بالقياس، والعبرة ليست بالأقوال المنثورة، بل بالدروس والتجارب وخلاصاتها، تلك التي يمكن الإضاءة عليها، لدراسة حالات مماثلة، وعلى كل جيل أن يكتشف بنفسه أي الحالات التي يمكن مقارنتها.

ووفقا لذلك يدرس كيسنجر: لماذا استدار الرئيس شارل ديغول نحو أوروبا بعيدا عن أميركا، ليقول إنه حاول استلهام النموذج البسماركي الألماني الذي حاول استعادة مكانة بروسيا بهدف الحفاظ على التوازن، وهو ما سعى إليه ليصل إلى نتيجة مفادها أن ديغول على المستوى العالمي سبق واشنطن للاعتراف بالصين الشيوعية العام 1964، وهو الأمر الذي أخذه كيسنجر بعين الاعتبار عند دراسة التاريخ المعاصر.

وببراغماتية كبيرة حاول كيسنجر -وإن كان عدوا لدودا للشيوعية- أن ينتقد إجراءات السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي العام 1953 ضد الشيوعيين والمثقفين بشكل خاص في مجالات الأدب والفن والإعلام وغيرها، مقارنا ذلك بإجراءات هتلر بعد تسلمه السلطة بنحو 6 سنوات حينما شن حملة واسعة ضد الشيوعيين، بل وضد العالم أجمع بإشعاله حربا ضروسا، ولم تكن إجراءاته ضد الآخرين فحسب، بل ضد بلاده أيضا. ووفقا لهذه المقارنة، فهو يعتقد أن خطوات مكارثي هي ضد المحافظين الحقيقيين، وهي تفرض معارضته، لأنها ستحدث خللا في سياسة الولايات المتحدة.
وبخصوص التوازن وخلال الحرب الباردة التي بدأت في العام 1947، وفي سنوات الستينات حاول كيسنجر أن يستعيد التوازنات بين المعسكرين في إطار الحرب الباردة، بالتوازن الذي ساد بعد مؤتمر فيينا العام 1815، فالسلام حسب كيسنجر هو تفادي كارثة كان يمكن أن تحصل. ولو فكرت واشنطن بمآلات أفغانستان والعراق بعد احتلالهما في العام 2001 و2003 على التوالي، فلربما لم تكن قد أقدمت على مثل تلك المغامرتين.

وكان الرئيس جورج دبليو بوش هو من صرح بأن المعلومات التي كانت لديه خاطئة ومغلوطة، ولو توفرت لديه معلومات أخرى غيرها لما أقدم على غزو العراق، وقد سبق لكيسنجر أن وصف اختيارات سياسات البيت الأبيض بالسيئة.

ومثل هذا الأمر يحتاج اليوم حسب أطروحة كيسنجر إلى التوقف عنده، والنظر بعمق إزاءه، فيما يتعلق بالموقف مما يحصل في سوريا، إضافة إلى ما يسمى الإرهاب الدولي، ولاسيما احتمال امتلاك داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) أسلحة متطورة وحتى نووية، وكذلك تنظيم القاعدة وأخواتها، إذ يقتضي الأمر تعبئة جميع الجهود لكي لا تنفلت هذه التنظيمات وتشن هجوما كاسحا مثل هجوم 11 سبتمبر/أيلول الإرهابي الإجرامي الذي حصل في الولايات المتحدة في العام 2001.

إن رؤية كيسنجر تلك تمتد إلى برلين وكوبا والصراع في فيتنام وروسيا السوفيتية، وهو وإن كان أكاديميا، لكنه براغماتي وميكافيلي بامتياز لا يتورع عن استخدام أسوأ الوسائل وأكثرها دونية لتحقيق أهدافه.

التاريخ يحتاج إليه ليس لمعرفة ما حصل فقط، بل أيضا لمعرفة ما يمكن أن يحصل مستقبلا، وبه وبالفلسفة يمكن التسلح لمواجهة الحاضر، وذلك جزء من من صلب نظرية كيسنجر التي حاول توظيفها لمصالح بلاده الإستراتيجية، صحيح أن أهداف الرجل وغاياته كانت توسعية وإمبريالية وغير إنسانية، ولكن استلهام التاريخ ودراسة الفلسفة والتعمق فيهما، يمكن أن يعطياننا أساسا لما هو راهن من سياسات ومواقف وما يمكن أن يؤشر إلى ذلك مستقبلا.



صفحات: [1] 2 3