عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - اسعد صوما

صفحات: [1]
1
لماذا كان أجداد الكلدان والآثوريين يصرحون بانهم سريان وآراميين

الجزء الأول

اسعد صوما
ستوكهولم

المقدمة:
[/size][/size][/color]
طرَحَ غبطة البطريرك الكلداني مار لويس ساكو مؤخراً مشروع ايجاد تسمية واحدة موحِدة للكلدان والسريان والاثوريين في العراق مقترحاً ثلاثة خيارات لانتقاء احدها وهي: الاسم الآرامي، أو تسمية سورايا، او الاسم الثلاثي  المركب.

استغرب الكثيرون من ابناء شعبنا، وهم الغالبية، وأخذهم العجب من وجود التسمية الآرامية بين مقترحات غبطة البطريرك. اقول ان هؤلاء الاخوة معهم كل الحق في اندهاشهم من التسمية الآرامية التي ربما لم يسمعوا بها سابقا،َ أو لم يعرفوا عنها الا الشيء اليسير. ان اندهاشهم من هذا المقترح ليس بسبب عدم وجود هذه التسمية، انما بسبب عدم معرفتهم بها وبحقيقة وجودها المستمر واستعمالها الدائم  في الادب السرياني دون انقطاع.

ان الكثيرين من ابناء شعبنا، وحتى المتعلمين منهم، لا يعرفون عن محتوى كتب اجداهم وتراثهم المدون إلا النزر اليسير، ولا يعرفون ماذا كتب اجدادهم عن انفسهم وعن انتمائهم، لذلك يعتقدون "بان التسمية الآرامية غريبة عن شعبنا".

 لقد قمتُ بكتابة هذه المقال كجواب بسيط للعنوان اعلاه، لأشرح فيه لماذا كان اجداد الكلدان والاثوريين يقولون عن أنفسهم سريان وآراميين في كتاباتهم المدونة باللغة السريانية الفصحى التي انتجوها على مدى العصور.
الجواب باختصار الكلام، لو جمعنا كل الكتابات التي دًوِنت باللغة السريانية الفصحى، منذ القرن الثاني الميلادي ولغاية نهاية القرن التاسع عشر، وقمنا بتفتيشها صفحة صفحة لنعلم ماذا كان كتّاب شعبنا على مر العصور يسمون شعبهم ولغتهم، لتوصلنا الى امر واضح جدا وهو ان ان النخبة المثقفة من ابناء شعبنا على مر العصور كانوا يسمون شعبنا بالسرياني ܣܘܪ̈ܝܝܐ "سوريايى" ويسمون لغتنا باللغة السريانية ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ "لشانا سوريايا"، كما انهم كتبوا بانهم ينحدرون من الآراميين ܐܪ̈ܡܝܐ "آرامايى". لذلك نرى في كتابات الكثيرين من كُتَّاب شعبنا القدماء التعابير: "الاراميون هم السريان" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܗ̇ܢܘܢ ܐܪ̈ܡܝܐ؛ "السريان اي الاراميين" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܘܟܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ؛ "السريان الاراميون" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ؛ "نحن السريان الآراميون" ܚܢܢ ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ؛  "اللغة السريانية الآرامية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ ܐܪܡܝܐ "لشانا سوريايا آرامايا"؛ اللغة السريانية اي الآرامية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ ܐܘܟܝܬ ܐܪܡܝܐ؛ وغيرها من التعابير التي تربط الاسمين السرياني والآرامي معاً كاسم اثني لهذا الشعب الذي حمَّلته الايام الصعبة عدة اسماء اخرى فأثقلت كاهله، واصبحت عبئاً على وحدته المنشودة اليوم.

لذا، ان تسمية "سريان" ليست ملك "طائفة السريان" الحالية فقط، بل هي ملك جميع طوائف ومكونات هذا الشعب كالكلدان والاثوريين والموارنة والملكيين، وربما كان اجداد هؤلاء اكثر سريانية من باقي السريان. لكن ظروف مجرى التاريخ التي تتحرك باستمرار، والتي لا يمكن ان يتحكم بها الانسان كما يشاء، هي التي تنتج الظواهر وتغير الامور وتبدل الاحوال والاسماء، فنتعجبُ من بعضها، ونذم بعضها، ونفتخر ببعضها الاخر.

فاذا كان بعض الاخوة لا يعرفون هذه الحقيقة البديهية "كوننا جميعاً سريان"، فهذه مشكلتهم الشخصية مع المعرفة، ولدّتها لهم الظروف المتقلبة والاحوال المتبدلة. لكن اجدادهم لم يكن لديهم هكذا مشكلة بخصوص اسمهم السرياني، لانهم كانوا يعرفون بانهم سريان قومياً وحضارياً، وكتبوا في مؤلفاتهم بانهم سريان. ان الحل البسيط لمشكلة هؤلاء الاخوة من الكلدان والاشوريين الذين فعلاً لا يعرفون بانهم "سريان"، يكمن في الرجوع الى كتب اجدادهم السريانية (وحتى العربية) ليقرأوا ويروا ان اجدادهم قالوا دائما عن نفسهم بانهم "سريان" ولغتهم سريانية وتراثهم سرياني وهويتهم القومية سريانية، كما انهم وضعوا اسمهم الآرامي جنبا الى جنب اسمهم السرياني. فاذا كان اجدادي واجدادك واجداده قالوا عن نفسهم "سريان" و "آراميين" فلماذا نخجل انا انت من هذا الانتماء، ولماذا نحاول ان نغلّط اجدادنا ونقاطعهم ونتمرد عليهم وعلى هويتهم التي كانت مبعث فخرهم؟ لمصلحة من هي ثورة الجهل هذه التي يقودها البعض ضد كتابات الاجداد والاباء وانتمائهم السرياني؟

عندما يسال الشخص الكلداني أو الاشوري بقوله كيف يكون هذا وأنا منذ ان ولدتُ وكبرتُ اعرف بانني "كلداني" او "اشوري" او "ماروني"؟ اقول له، نعم انتَ محق ايها الاخ الحبيب. ان سؤالك بمكانه. لكن لا تعتقد ابداً بان "ما لا تعرفه ليس موجوداً"، ولا تعتقد ابداً بان "ما تعرفه هو عين الحقيقة قبل ان تتحرى عن الحقيقة"؛ وتيقن بان "ما تعرفه هو اقل بكثير مما لا تعرفه". فدعنا نستفيد من خبرات ومعارف بعضنا البعض وان نسلط الانوار على ما لا نعرفه لتزداد معرفتنا به، "ولا ترفض ابدا الامر الذي لا تعرفه، ولا تكرهه"، "لأن ما تجهله قد يكون هو الحقيقة الضائعة منك أو المحجوبة عنك"، لكن ابدأ اولاً بالبحث للتعرف على ما لا تعرفه، وعندما تجده وتتعرف عليه، خذ قرارك حينها برفضه او بقبوله. لكن إن قبلته فيجب ان تعلم لماذا قبلته، وان رفضته فيجب ايضا ان تعلم لماذا رفضته.

سنحاول في الاجزاء القادمة ان نغوص في بعض جوانب التاريخ لنقرأه معاً، ونستشف منه كيف جرى التحول من المراحل القديمة الى المرحلة السريانية في المنطقة البابلية في وسط العراق والكلدانية في جنوبه والاشورية في شماله بعد سقوط دولهم الشهيرة. وسنسلط الضوء على صفحات التاريخ السريانية التي يجهلها الكثير من ابناء شعبنا، لنرى كيف ان اجداد شعبنا العراقي كانوا يقولون عن نفسهم بانهم "سريان" و "آراميين" بفخر واعتزاز على مدى القرون.

انتهى هذا الجزء الذي هو مقدمة الموضوع ويتبع الجزء الثاني قريباَ
اسعد صوما[/size][/color]
[/size]
[/right]

2
عالم كلداني وراء اقدم مخطوطة للقرآن في العالم
اعداد: اسعد صوما

1.مقدمة:
تداولت الصحافة العالمية البارحة واليوم خبر اكتشاف شذرات لاقدم نسخة من القرآن في العالم. فخلقت في الاجواء العلمية حماساً اكاديمياَ وفي الاجواء الاسلامية فرحاً ايمانياً. إذ بعد تحليل الشذرات القرآنية التي نحن بصددها واخضاعها الى عملية تقدير العمر والزمن المعروفة بطريقة الفحص "كربون 14" أو "راديوكربون"، التي تمت في مخابر جامعة اوكسفورد، تبيّن ان هذه الوريقات من القرآن تعود الى ايام رسول الاسلام ذاته، أو بعد وفاته بسنوات قليلة.

المخطوطة: المخطوطة محفوظة في مكتبة جامعة برمنكهام في بريطانيا منذ قرابة مائة عام، وتتكون من صفحتين من جلد الحيوانات (الغنم او الماعز) وتعود  الى الفترة بين العامين 568-645 م. وتضم بعض الاجزاء من السور 18 و 20 مكتوبة بالخط الحجازي.
أما كاتب المخطوطة فحسب العلماء البريطانيين الذين درسوا هذه المخطوطة بان كاتبها ربما كان معاصرا لمحمد، وربما شاهده أو سمعه او حضر مواعظه الدينية. لذا كل هذه الامور تزيد من قيمة المخطوطة.
وكانت المخطوطة معروفة لجميع علماء القرآن والدراسات الاسلامية، ومحفوطة مع غيرها من الوثائق الشرقية القديمة في جامعة برمنكهام، لكن لم يكن احد يعلم انها قديمة الى هذا الحد (حوالي 1400 - 1300 سنة) قبل فحصها الاخير.
وكان العلامة الكلداني الفونس منكانا هو الذي  اشترى هذه المخطوطة واعتنى بها ونسقها في بداية قرن العشرين وكتب عنها حينها. 

والمخطوطة هي واحدة من المخطوات التي تسمى "مجموعة منكانا" التي تضم مخطوطات شرقية باللغات السريانية والعربية وغيرها.

مجموعة مخطوطات منكانا:
تضم مجموعة منكانا حوالي 3000 مخطوطة باللغات الشرقية المختلفة: فالقسم السرياني منها يضم 662 مخطوطة سريانية وكرشونية منها اناجيل وكتب الطقوس الكنسية واشعار. وتحتل مخطوطات "مجموعة منكانا"المرتبة الثالثة من حيث العدد والكمية في اوروبا بعد مجموعات مخطوطات المكتبة البريطانية ومكتبىة الفاتيكان؛
اما القسم العربي المسيحي فيضم 270 مخطوطة ومنها نسخة قديمة تضم بعض اعمال مار افرام مترجمة الى العربية حتل ايضا المرتبة الثالثة بعد مكتبة الفاتيكان؛
كما هناك 2000 مخطوطة عربية اسلامية ومنها نصوص قرآنية وشروحات للقرآن والحديث وغيرها؛
وتضم المجموعة مخطوطات باللغات الارمنية والجيورجية واليونانية والعبريو والفارسية والسامرية والسنسكريتية.

2.   لكن من هو منكانا الذي تسمى اقدم مخطوطة للقرآن على اسمه ولماذا؟
منكانا هو شخص كلداني عاش في بريطانيا في بداية قرن العشرين وكان من العلماء الشهيرين في مجال الدراسات السريانية والاسلامية. وان مخطوطة القرآن القديمة المذكورة هي ضمن مجموعته للمخطوطات الشرقية التي يطلق عليها اسمه.
ولد الفونس منكانا الكلداني عام 1878 في قرية "شرانش" بجوار زاخو في العراق من عائلة كلدانية لها ثمانية اطفال (ستة صبيان وابنتين) وكان هو اكبرهم سناً وسمي هرمز، وكان والده بولس كاهناً في الكنيسة الكلدانية.
انتسب الفونس الى معهد مار يوحنا للدومينيكان في الموصل عام 1891 كما اصبحت احدى اخواته راهبة. وتعلم في هذا المهعد السريانية على يد العلامة الكلداني يعقوب اوكين منا مؤلف القاموس السرياني العربي الشهير "دليل الراغبين في لغة الآراميين"، كما تعلم لغات أخرى. عام 1902 رسم كاهنا على يد البطريرك الكلداني عمانوئيل توما (1900-1947) وغيّر اسمه من هرمز الى الفونس. ولما ارتسم معلمه في السريانية العلامة اللغوي أوكين منا مطراناً عام 1902 (وكان قد ارتسم معه في نفس الوقت مطرانان آخران هما أدي شير واسطيفان غبري)، تعيّن الفونس معلماً للسريانية في المعهد بدلاً من معلمه يعقوب اوكين منا. وفي 1903-1910 تعين الفونس مدققاً ومصححاً للمطبوعات السريانية والعربية التي اصدرتها المطبعة الدومينيكانية في الموصل.
 عام 1905 طبع في الموصل كتابه الهام بالفرنسية عن قواعد السريانية لطلابه، ولا زال من اهم كتب القواعد السريانية، يحمل الكتاب اسم:
 
Clef de la langue araméenne, ou Grammaire compléte et pratique des deux dialectes syriaques occidental et oriental (Mosul: Dominican Press, 1905)
اي "مفتاح اللغة الآرامية: أو كتاب القواعد العملي والشامل للهجتين السريانيتين الغربية والشرقية"، 
وجاء اهداء هذه الطبعة الى "الارساليات الدومينيكانية والى المعهد الكلداني السرياني في الموصل، كعلامة شكر واخلاص".

وفي نفس السنة طبع مجلدين ضخمين يضمان معظم ميامر الشاعر السرياني الكبير "مار نرساي" (399-502) بعنوان:
Narsai doctoris syri homiliae et carmina prime edita, cura et studio D Alphonsi Mingana, cum praefatione editoris(Mosul: Dominican Press, 1905).
اي: ميامر وقصائد الملفان السرياني نرساي، الطبعة الاولى... الموصل 1905

لكن بسبب ما كتبه منكانا عن حياة "مار أداي" الرسول فقد حصلت له مشكلة كبيرة مع بطريركه الذي طلب منه ان يحذف جملة في الصفحة 78 من كتاب "تاريخ اربيل" الذي نشره، كتب فيها "بان قصة حياة مار أداي ومار ماري هي اسطورية" وحاول ايقاف طباعة الكتاب؛ وقد ذكر الاب يوسف تفنكجي الكلداني الذي كان صديق وتلميذ منكانا في المعهد، ذكر بان الراهب الفونس حصلت له بعض المشاكل الكبيرة مع البطريرك الكلداني عندما كتب في تحليله لكتاب تاريخ أربيل بان "اصل بطريركية الكلدان هي من انطاكية". وثارت عليه المشاكل، فاضطر منكانا ان يهجر السيمينار عام 1910 (ويُقال بانه طُرد منه)؛ ثم لحقه الاب يوسف تفنكجي ايضاً، كما ان البطريرك حنق على المطران العلامة "أدي شير" ايضاً لأنه صادق على طبعة الكتاب المذكور.

وبعد ثلاث سنوات اي 1913 انسحب منكنانا من الكنيسة الكلدانية، وغادر العراق متوجهاً الى بريطانيا ليستقر بها وهو في ريعان الشباب وقطع علاقته مع الجميع، ولم يرجع الى وطنه لكنه قام بثلاث رحلات علمية للشرق الاوسط لتجمييع المخطوطات السريانية والشرقية:
كانت الرحلة الاولى في ربيع عام 1924 الى لبنان وسوريا والعراق حيث جمع 22 مخطوطة عربية وبعض المخطوطات السريانية،
والرحلة الثانية في خريف 1925 الى سوريا والعراق جمع فيها الكثير من المخطوات السريانة وبعض العربية،
والرحلة الثالثة والاخيرة عام 1929 الى دير القديسة كاترينا في شبه جزيرة سيناء وكذلك الى مصر العليا جلب فيها مخطوطات عربية وقبطية ويونانية.

واثناء رحلته الثانية كتب رسالة الى ادوارد كدبري رئيس مجلس ادارة كلية سلي اوك وهو ممول الرحلة جاء فيها "اقتنيت 100 مخطوطة سريانية في الاسبوع الماضي، وقد اجتمع لدي الان 250 مخطوطة... من المؤكد بان وودبرووك ستكون اغنى مكتبة بالمخطوطات في اوروبا بعد المكتبة (المتحف) البريطانية..."

 وفي عام 1914 تعرّف الفونس منكانا على الفتاة النروجية "إمّا- صوفي فلور" من مدينة ستفانغر Stavanger  في النرويج، حيث كانت تقيم حينها في بريطانيا في Selly Oak لتحسّن لغتها الانكليزية، وكانت قد أمضت قبلها سنة واحدة في فرنسا تدرس الفرنسية. فنشأت علاقة حب بينهما، وخطبها لنفسه وتزوجا في 14 تموز 1915 ورزقا طفلاً عام 1916 أسموه "جون" وطفلة عام 1918 اسموها "ماري".

عاش منكانا في عدة اماكن في بريطانيا مثل برمنغهام، وودروك، وكامبردج، ومانشستر، لكنه مكث في مانشستر فترة طويلة حيث الف هناك معظم مؤلفاته وعلم هناك في جامعتها.

 لقد روت "ماري منكانا" ابنة الفونس منكانا، بان والدها الفونس كان عاتباً على كل العراقيين الشرقيين وقد قاطعهم. ومن بين كل العراقيين كان له صديق واحد في الشرق وهو بطريرك السريان الارثوذكس أفرام برصوم الموصلي. إذ لما كان أفرام برصوم مطراناً زار عدة دول اوروبية وبينها بريطانيا في 1920/1919 ماكثاً فيها عدة اشهر، وقد حضر مؤتمر السلام في باريس ممثلا طائفة السريان الارثوذكس والقى فيه كلمة نارية باللغة الفرنسية طالب فيها حقوق السريان بعد مجازر الابادة "سيفو" التي تعرضوا لها مع بقية السريان. وفي عام 1933 سيم بطريركا على السريان الارثوذكس.

 كان المطران افرام برصوم قد زار منزل صديقه الفونس منكانا مرتين في "مانشستر"، وكانا يناقشان القضايا السريانية العلمية وكانت زوجة الفونس تشاركهما في النقاش. وقالت "ماري منكانا" بان المطران أفرام برصوم ووالدها الفونس منكانا لم يتكلما العربية معاً، بل كانا يتكلمان بالفرنسية في حضرة والدتها زوجة منكانا السيدة "إمّا صوفي" لتشاركهما في النقاش.
وعندما الف البطريرك افرام برصوم كتابه الهام عن تاريخ الادب السرياني والمسمى "اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والاداب السريانية" ذكر فيه صديقه الفونس منكانا كأحد علماء اللغة والثقافة السريانية. لكنه ذكره بين العلماء المستشرقين وليس بين الشرقيين. ويبدو انه بسبب موقف منكانا من الشرقيين وقطعه علاقته معهم كلياً فقد ذكره البطريرك أفرام برصوم واعتبره من  العلماء المستشرقين.
وكان بين الاثنين مراسلات عديدة يناقشون فيها بعض القضايا العلمية. وعندما توفي الفونس منكانا ارسل البطريرك افرام برصوم رسالة الى ارملة منكانا إما صوفي يعزيها بموت زوجها وصديقه.

  توفي العلامة السرياني الفونس منكانا عام 1937 وعمره 59 سنة فقط وهو في قمة العطاء، فكانت وفاته خسارة للعلوم السريانية لا تعوض. وتوفت زوجته "إمّا صوفي"  في برمينغهام عام 1974. أما ابنه "جون" فقد تزوج مع "ماري كورتيس" وانجب اربعة اطفال: ”بيتر" و"آندرو" و"جانيت" و"لاين". وتوفي "جون" الفونس منكانا في حادث عام 1970. ولا زال احفاد منكانا يعيشون في بريطانيا وواحد في كندا.

3.   الفونس مينكانا والقرآن:
اثناء رحلاته التي قام بها الى الشرق الاوسط لشراء وتجميع المخطوطات الشرقية، اشترى منكانا الكثير من المخطوطات السريانية والعربية والاسلامية الاخرى وبينها الكثير من النسخ القرآنية الكاملة او شذرات فقط منها. وقد عمل دراسات عنها واصدر جدولا للتعريف بهذه المخطوطات التي شكلت مجموعة عرفت باسم مجموعة منكانا Mingana Collection وتضم حوالي 3000 مخطوطة صغيرة وكبيرة.
كان الفونس منكانا رائداً في موضوع الدراسات الاسلامية والقرآنية وقد درس التاثير السرياني على القرآن ووضع جدولا للالفاظ السريانية التي في القرآن. وهنا سنذكر بعضها من جدوله.
ومن دراساته الهامة عن القرآن نذكر البحوث التالية:
 
بعض دراساته ومؤلفاته عن القرآن:
Mingana, "The Transmission Of The Qur'an", Journal of The Manchester Egyptian and Oriental Society, 1916.
كيف انتقل القرآن عبر الازمنة

A.   Mingana, "Syriac Influences On The Style Of The Kur'an", Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1927, Volume II
تأثير السريانية على القرآن

A. Mingana, "An Ancient Syriac Translation Of The Kur'an Exhibiting New Verses And Variants", Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1925, Volume IX.
ترجمة سريانية قديمة للقرآن

A. Mingana & A. S. Lewis (eds.), Leaves From Three Ancient Qur'âns Possibly Pre-‘Othmânic With A
List Of Their Variants, 1914, Cambridge: At The University Press.
بعض الاوراق من ثلاثة قرآنات قديمة ربما قبل عهد عثمان

4. وهنا نقتبس بعض ما كتبه في بحثه عن التأثير السرياني في القرآن:
يقول منكانا: "بما أننا نعتقد أن القرآن كان الكتاب العربي الأول،  فمن الضروري أن يكون مؤلفه قد أضطر إلى مواجهة صعوبات جمّة. لقد اضطر إلى تبني كلمات وتعابير جديدة لأفكار جديدة، وذلك في لغة لم تضبط بعد بأي قواعد أو نحو معجمي. وقد منعته احتمالية عدم فهم ما يعنيه من أن يصوغ العديد من الكلمات الجديدة. وكانت أفضل وسيلة لإيصال أفكاره الجديدة هي استخدام كلمات مفهومة من قبل سامعيه و موجودة في لغة (السريانية) قريبة للغته والتي قد أصبحت لغةً كنسية ودينية لقرون قبل ولادته وقد انتشر أتباعها في محيطه وفي كل اتجاه في مجتمعات منظمة جدا وهي الأبرشيّات والأديرة. وهذا سبب كون أسلوب القرآن مختلف عن أسلوب أي كتاب عربي كلاسيكي  آخر."

ويقول ايضاً: " في ما يخص الكتّاب المسلمين،  فإن عدد من تعامل منهم مع موضوع الكلمات القرآنية المتفرقة ذات الأصل الأعجمي ليس بالقليل، وليس هنالك حاجة لذكرهم بالاسم. ومن بين الذين حاولوا جمع مثل هذه الكلمات بأسلوب منظم نوعا ما سنشير إلى تاج الدين السبكي وأبي الفضل ابن حجر. إلا أن  ناقد الديانة الإسلامية الأفضل-جلال الدين السيوطي، والذي خصص فصلا خاصا للموضوع في كتابه الشهير الإتقان في علوم القرآن قد طغى بشهرته عليهما. وقد كتب في الموضوع رسالة قصيرة ودقيقة بعنوان "متوكّلي". ويجب أن نشير إلى أن المعرفة الضيقة التي يمتلكها الكتّاب المسلمون باللغات الساميّة الأخرى غير العربية قد أدت إلى أن تكون استنتاجاتهم غير معتمد عليها بشدة ومضللة. ويجب على الناقد أن يتخذ جانب الحذر في تعامله مع مؤلفاتهم، والتي هي على الأفضل جيدة فقط كمقدمة تاريخية للموضوع الذي هو تحت الفحص."

ويقول: "أنا على اقتناع من أن دراسة متعمقة في نص القرآن بشكل مستقل عن المعلّقين المسلمين سوف تثمر عن حصاد وافر ومعلومات جديدة. المطلب الوحيد هو أن يكون الناقد متسلحا بقدر كبير من المعرفة بالسريانية والعبرانية والأثيوبية. مع ذلك، وفي رأيي أن السريانية  هي أكثر فائدة من العبرانية أو الأثيوبية وذلك لأن السريانية، على ما يبدو، لها تأثير أكبر على أسلوب القرآن . التأثير العبراني الوحيد على النص القرآني والذي استطعت اكتشافه يحمل علامات العبرانية الكتابية والتي هي موجودة مسبقا في البشيطا السريانية. كما أن من حقنا أن نبالغ في تقصّينا، من خلال الدراسات القرآنية، عن العناصر الكتابية الأسطورية النابعة من التراث الشعبي اليهودي فنلتفت إلى فكرة أن هذه القصص كانت موجودة مسبقا في بعض الكتب الأبوكريفية المنتشرة بين أتباع الكنيسة السريانية في جنوب سوريا وفي الجزيرة العربية. وفي هذا الربط نستطيع أن نقول ببعض الثقة انه لو وضعنا الرقم مئة كسلم للتأثيرات الأجنبية على أسلوب ومصطلحات القرآن فأن الإثيوبية ستمثل حوالي 5%  والعبرانية حوالي 10%، واللغات اليونانية واللاتينية حوالي 10%، والفارسية حوالي 5% ولكن السريانية حوالي 70%".

ويقول: "يمكن تحديد التأثير السرياني على أسلوب الكلام في القرآن تحت عناوين ستة منفصلة:
أ-   أسماء الأعلام
ب-   المصطلحات الدينية
ت-   الكلمات الشائعة
ث-   قواعد الإملاء
ج-   تركيب الجمل
ح-   الإشارات التاريخية لأحداث خارجية.

 لقد اشتقت كل المصطلحات الدينية الموجودة في القرآن تقريبا من السريانية. وتحت هذا الصنف سوف نُضمِّن المصطلحات والكلمات التالية التي هي من اصل سرياني.

كاهن: (الصور: 29 والحاقة: 42).
مسيح:  (آل عمران: 45 وما بعدها)
قسّيس: (المائدة: 82)
دين: (الفاتحة: 4 وما بعدها)
سَفَرة : (عبس: 15)

فرقان: بمعنى تخليص (البقرة: 3, وما بعدها)
طاغوت: بمعنى خطأ أو خيانة ( البقرة: 256 وما بعدها)
ربّاني: بمعنى مدرك، مختص ( المائدة: 44 و 63)
قربان: بمعنى أضحية (المائدة: 27 وما بعدها)
قيامة: مستخدم بكثرة في القرآن.
ملكوت: بمعنى مملكة السماء (الأنعام: 75 وما بعدها)
جنّة: بمعنى الحديقة و من ثم السماء. مستخدم بكثرة في القرآن.
ملاك: تستخدم بشكل مفرد أو جمعا وبكثرة.
روح القدس: (البقرة: 87)
نفس:  مستخدم بكثرة في القرآن.
وقر: بمعنى تمجيد الله (الفتح:9)
آية:  بمعنى علامة، جملة. (مستخدم بكثرة في القرآن)
الله: (اللفظ النسطوري القديم كان ألّاها  allaha ويبدو أن الكلمة قبل الإسلامية المستخدمة للإشارة إلى المعبود تظهر بالشكل" إله".)
صلّى: ومشتقتها "صلاة" 
صام: ومشتقتها " صيام" 
خطئ: ومشتقتها " خطية"
كفر: بمعنى أنكر الإيمان.
ذِبْح: بمعنى تضحية.(الصافات: 107)ٍ
تجلّى: بمعنى أظهر نفسه.(الأعراف:143)
سبَّح: بمعنى مجّد الله..
قدّس: بمعنى مجّد الله (البقرة: 30)
حَوب: بمعنى جريمة (النساء: 2)
طوبى: بمعنى ليتبارك! حالة بركة ونعمة (الرعد: 29)

  -3 : الكلمات العامة:

قرآن: كلمة سريانية تقنية معناها عظة ونص من النصوص المقدّسة للقراءة، أو  قراءة
حسبان: من   بمعنى تعداد (الأنعام: 96, الكهف: 40 و الرحمن: 5)
مهيمن: بمعنى مؤمن (المائدة: 48، الحشر: 23)
نون: بمعنى سمكة (الأنبياء: 87)
طور: بمعنى جبل(طه: 80 وأمثلة أخرى)
تبر: بمعنى  غَلَب، دَمَّر(الفرقان: 39)
شانئ : بمعنى كاره (الكوثر: أيضا المائدة: 2)
برية في ما يتعلّق بالخلق (البينة: 6، و7)
أقنى: بمعنى يسبب، يتملّك  (النجم: 48)
حنان: بمعنى لطف (مريم: 13)
أم القرى بمعنى حاضرة المطرانية (الأنعام: 92)
"الرحمن"
كما هنالك كلمات عديدة في القرآن يفضح إملاؤها تأثيرا سريانيا
 " يوجد في القرآن جمل عديدة تكون فيها الكلمة العربية المستخدمة غير ملائمة للمعنى المطلوب ضمنا، ولكن عند المقارنة مع ما يقابلها في السريانية يصبح معناها الصحيح واضحا، مثال على ذلك: تقول السورة الفتح: 12: وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً. لقد ترجمت كلمة "بور" الى "تافه، مغشوش" أو " أناس لا يُحسَبون" وهذه الترجمة لا تصلح للنص. ولكن ألا تصلح الترجمة السريانية لكلمة "بور" والتي تعني "جاهل، طائش"؟ و يبدو أن نفس المعنى يلائم كلمة "بور" في سورة الفرقان: 18.

ويقول ايضاً: "ليس هنالك في بالي الكثير من الشك إن كانت الكلمة قرآن قد نبعت من "قريان kiryan"  أم لا . كل النصوص الكتابية والقراءات الانجيلية التي يجب أن تقرأ في الكنائس تسمّى من قبل السريان "قريان". لذلك سمى النبي كتابه ببساطة بكلمة سريانية مستخدمة لتسمية حواشي النصوص الموحى بها في الكنائس المسيحية في وقته. سوف نتذكر أيضا أنه في أقدم مخطوطات القرآن، تكتب الكلمة ببساطة بصيغة "قرن" والتي قد، بل قد كانت، تقرأ قرآن أو قران بدون همزة. أشك في أن هذه القراءة للكلمة بلا همزة قد تكون بقية للفظ أبكر هو "قُريان" أو "قِريان" (مع ياء) وأن التلفظ بالهمزة هو قراءة متأخرة تم تبنيها لجعل الكلمة أكثر عربية وذات تناسق مع جذر الفعل "قرأ".

5. خاتمة:
في الثلاثين سنة التي عاشها الفونس منكانا في بريطانيا ألف ونشر عشرات الكتب والدراسات العلمية الهامة في موضوع الدراسات السريانية والعربية والاسلامية/القرآنية، منها جدوله الشهير عن المخطوطات السريانية Catalogue of the Mingana Collection of manuscripts. عدا انه علم السريانية والعربية والعبرية. كما ان دراساته اللغوية عن تأثير السريانية في القرآن تعتبر رائدة في هذا المجال قبل ان يطرق هذا الموضوع اليوم عالمان سريانيان معاصران على مستوى عالمي. وقد عقد صداقات وعلاقات مع معظم علماء السريانيات في بريطانيا حينها مثل رندل هاريس، الاخوات آغنس سميث  لويس ومارغريت دنلوب جيبسون، دافيد مرغليوت، الخ. وتعاون مع بعضهم في تأليف واصدار بعض الدراسات والكتب.

 لقد ترك الفونس منكانا معهده في الموصل (أو طرد منه) وترك كنيسته الكلدانية وترك الكهنوت وهاجر وطنه وحل في بريطانيا ليعيش فيها بقية حياته، فتفتقت هناك موهبته العلمية العظيمة فانتج اعماله الفكرية الجليلة التي بلغت حوالي التسعين كتابا ودراسة، فاصبح فخراً للامة السريانية جمعاء...

ان نسخة القرآن القديمة التي تحدثت عنها كل تلفزيونات العالم تحمل بصمات عالمنا الكبير الفونس منكانا لانها ضمن مجموعة مخطوطاته التي تسمى Mingana Collection وكان قبل حوالي مائة سنة قد اشترى هذه المخطوطة القرآنية ودرسهاواستنتج بانها قديمة. واليوم بعد مرور حوالي القرن من الزمن اثبتت التحاليل العلمية ان منكانا كان على حق لكن ليس في هذه المخطوطة فقط انما في تقدير عمر الكثير من المخطوطات التي اصاب عين الحقيقة بتقديراته. فهنيئاً للامة التي فيها هكذا علماء.
انتهى المقال
اسعد صوما



3
مفسر شهير من كنيسة المشرق
 ثيودور بَركوني وكتابه التفسيري الهام

اعداد: اسعد صوما
ستوكهولم
[/b]
مقدمة:
تعرفتُ اليوم بواسطة اخي نينوس صوما على رابط في موقع عنكاوا يضم نقاشاً حول احد الكتب السريانية القديمة من تأليف الاديب ܬܐܘܕܘܪܘܣ ܒܪܟܘܢܝ "ثيودور بركوني" بدأه الاستاذ موفق نيسكو واستشهد فيه بكتاب "آباؤنا السريان" لغبطة البطريرك الكلداني مار لويس ساكو.
وطلب مني اخي ان ادلو بدلوي حول موضوع الكتاب المذكور الذي هو تفسير الكتاب المقدس. فلبيتُ طلبه لأن الشروحات السريانية للكتاب المقدس هي ضمن اختصاصاتي السريانية، فكتبتُ هذه المقالة المبسطة لأسلط فيها بعضاً من الضوء على أهمية هذا المؤلِف السرياني وكتابه الشهير في تفسير الكتاب المقدس والمسمى سريانياً ܐܣܟܘܠܝܘܢ اي التفسير (الكلمة مستعارة من اليونانية)، ويسمى باللاتينية Liber Scholariorum.

قبل حوالي عشرين سنة كنتُ قد اجريتُ دراسة شاملة عن معظم الكتب السريانية القديمة التي تعني بتفسير وشرح الكتاب المقدس، وبينها كتاب افرهاط المعروف باسم ܬܚܘ̈ܝܬܐ "البيّنات"، وتفاسير مار افرام المتنوعة (خاصة ܦܘܫܩܐ ܕܣܦܪܐ ܕܒܪܝܬܐ "تفسير سفر التكوين" و ܬܘܪܓܡܐ ܕܡܦܩܢܐ "شرح سفر الخروج" واشعاره التفسيرية وبينها مداريشه الشهيرة)، واشعار مار يعقوب السروجي ومار نرساي، وتفسير المزامير لدانيال الصلحي، وتفسير ايام الخليقة الستة ليعقوب الرهاوي ܫܬܬ ܝܘ̈ܡܐ، وتفسير ثيودور بركوني، وتفسير يشوع برنون، وتفسير ايشوعداد المروزي، وبعض تفاسير موشى بركيفو وابن الصليبي، وابن العبري.
وقد قمتُ بتأليف عدة كتب ودراسات علمية حول التفاسير السريانية.

الكاتب والكتاب:
ليس لدينا معلومات عن حياة كاتبنا ܬܐܘܕܘܪܘܣ ܒܪܟܘܢܝ "ثيودور بركوني" اكثر من الشذرات والاشارات والمعلومات القصيرة المشتتة عنه لدى بعض الكتبة القدماء. فقد ذكره الاديب السرياني عبديشوع الصوباوي ܥܒܕܝܫܘܥ ܕܨܘܒܐ (توفي 1318) في الجدول الذي صنفه عن المؤلفين السريان المشارقة حيث قال عنه:
ܬܐܘܕܘܪܘܣ ܒܲܪܟܘ̇ܢܝܼ    ܥܒܲܕ ܟܬܒܐ ܕܐܣܟܘܠܝܼܘܢ
ܘܐܝܬ ܠܗ ܐܦ ܩܠܣܣܛܝܼܩܐ   ܘܡܠܦܢܘ̈ܬܐ ܘܒܘ̈ܝܐܐ

ومعناه "لقد وضع ثيودور بركوني كتاب التفسير، وله ايضا تاريخ كنسي ومباحث تعليمية وخطب تعازي". لقد عاش كاتبنا على الارجح في القرن الثامن الميلادي (اي بعد مجيء الاسلام بقرن) وكتابه الاسكليون ܐܣܟܘܠܝܘܢ هو شرح لآيات مختارة من الكتاب المقدس بعهديه انتقاها ربما بسبب غموضها واهميتها الفيلولوجية والمعرفية وربما لصعوبتها على طلاب الكليات السريانية.
كان ثيودور معلماً في كلية كشكر السريانية الشهيرة في اقليم ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (العراق). وقد الف كتابه بصيغة سؤال وجواب ليكون كتاباً مدرسياَ لمنفعة الطلاب في مادة التفسير. ويبدو ان المؤلف جمع كتابه من المادة التعليمية التي كان يقوم بتعليمها وكانت محط اهتمام الطلاب السريان واسئلتهم. كما انه يقوم في نهاية كل فصل بشرح الكلمات السريانية الصعبة ليسهّل على الطلاب فهم مضمونها اللغوي والثقافي. وسرعان ما انتشر الكتاب في الاوساط المهتمة وتحوّل الى كتاب مدرسي يُدرس في معظم الكليات السريانية التابعة للسريان المشارقة في مادة تفسير الكتاب المقدس، واصبح مع الزمن مصدراً للمفسرين السريان.
ان اسم الكتاب ܐܣܟܘܠܝܘܢ "اسكوليون" يوناني في صيغته ومعناه، حيث يعني "تفسير" خاصة تفسير الكتاب المقدس. والكلمة موجودة في اللغة الانكليزية ايضاً بصيغة scholion.

ناشر الكتاب وترجمته:
نطرا لاهمية الكتاب القصوى كان المطران الشهيد ادي شير (1867-1915) قد نشره في باريس في مجلدين طُبع الاول عام 1910 والثاني عام 1912، ويحمل المجلد الاول رقم 55 والثاني 69 من سلسلة المطبوعات المسيحية الشرقية التي تسمى باللاتينية:
 Corpus Scriptorum Christianorum Orientalium (Scriptores Syri)
ويحمل الكتابان الرقمين 19 و 26 بموجب التسلسل السرياني للسلسلة المذكورة، ورقمي 65-66 بموجب السلسلة الثانية.
وكان المطران الكلداني العلامة ادي شير على علاقة جيدة مع العلماء الاوروبيين المتخصصين باللغة والثقافة والتاريخ والتراث السرياني لانه كان عالماً مثلهم، لذلك حقق الكتاب ونشره في باريس مدينة العلم حينها وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى التي دفع حياته ثمنها.
كان المطران ادي شير من اثقف رجالات عصره في تلك الفترة الحالكة من الجهل والظلم والتعصب الديني والمجازر والاضطهادات المستمرة بحق شعبنا في منطقة الشرق الاوسط، ولا ينتمي الى مجتمعه المتخلف وعصره المظلم لانه كان احد امراء الثقافة السريانية. إذ ألف ونشر العشرات من الكتب الهامة في العربية والتركية والفرنسية، وأحد الكتب السريانية الهامة التي نشرها كان كتاب سكوليون من تأليف ثيودور بركوني الذي نحن بصدده.
وكان المطران ادي شير يعشق المخطوطات السريانية فاشتغل في تجميعا وتنسيقها وتأليف عدة جداول (كاتالوكات) لهذه المخطوطات السريانية الموجودة في كل من سعرت (مركز ابرشيته) وفي البطريركية الكلدانية بالموصل والمطرانية الكلدانية في ماردين الخ. وكان شخصياً يملك في دار مطرانيته في سعرت عددا كبيرا جداً من المخطوطات السريانية الهامة التي اُتلِفت جميعا اثناء مجازر الابادة "سيفو" التي تعرض لها شعبنا بمختلف طوائفه على يد العثمانيين وحلفائهم من العشائر الكردية المتخلفة عام 1915، حيث سقط المطران ادي شير نفسه شهيداً للايمان على يد المجرمين عام 1915. (ملاحظة: قبل اكثر من عشرين سنة قمتُ بنشر قصة استشهاد المطران ادي شير كما رواها شهود عيان على قتله، ونشرناها بالعربية في مجلة آرام العدد السادس لعام 1993 في الصفحات 45-53. ثم قمتُ بنشرتُها بالانكليزية ايضاً في مجلة الدراسات السريانية The Harp في المجلد 8-9 لعام 1995- 1996 في الصفحات 209-220.

طبعات اخرى لنص كتاب اسكوليون مع ترجمته:
بعد مرور حوالي سبعين سنة على طبعة المطران ادي شير لكتاب سكوليون السرياني، قام الباحث "روبرت هسبل" بنشر كتاب الاسكليون مجددا وترجمته الى الفرنسية، فنشر النص السرياني والترجمة الفرنسية في مجلدين في لوفان عام 1981 وعام 1988 في نفس سلسلة الكتب المذكورة اعلاه
 Corpus Scriptorum Christianorum Orientalium (Scriptores Syri)
تحت رقم  431 و 432 (وحسب التسلسل السرياني رقم 187 و 188).
ثم عاد روبرت هسبل فنشر الكتاب ثانية في لوفان عام 1983 بالاستناد الى مخطوطة اورميا، وترجمها الى الفرنسية. وطبع النص والترجمة في السلسلة المذكورة اعلاه في العددين 447 و 448، (السلسلة السريانية رقم  193- 194).
ثم قام بنشر وترجمة الكتاب مجددا حسب نسخة اخرى عام 1984 ونشره في لوفان في نفس السلسلة بارقام 464-465.
وكان روبرت هسبل بالاشتراك مع العلامة "رينيه دراغيه" قد انجزا ترجمة الفصل الاول لغاية الفصل الخامس من الكتاب بالاعتماد على نسخة سعرت، وطُبعت الترجمة المذكورة عام 1981 تحت رقم 431 من نفس السلسلة. ثم ترجما معاً بقية الكتاب من نفس نسخة سعرت، وطُبعت الترجمة عام 1982 تحت رقم 432 من نفس السلسلة.
كما كان الباحث الامريكي سيدني غريفيث المتخصص في الجدال المسيحي الاسلامي قد ترجم الفصل العاشر من الكتاب الى الانكليزية ونشره عام 1981، وهو الفصل الذي  يتناول فيه المؤلف الدفاع عن المسيحية .

فصول الكتاب ومحتوياتها:
يقع كتاب الاسكليون في 11 فصلاً تسمى بالسريانية ܡܐܡܪ̈ܐ "ميمرِى" وهي مقسمة عل النحو التالي:
 يضم كل من الفصل الاول والثاني أسئلة حول مواضيع من التوراة (التوراة هي فقط اسفار موسى الخمسة أي اسفار التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، وتثنية الاشتراع، وقد اعتاد الناس ان يسموا العهد القديم كله بكتاب التوراة، وهذا خطأ).
ويضم الفصل الثالث شرحاً لبعض المواضيع من التوراة وكذلك اسفار: يشوع برنون، القضاة، صموئيل، والملوك.
ويضم الفصل الرابع مواضيع من الانبياء: اشعيا، الانبياء الاثني عشر، حزقيال، وإرميا.
ويضم الفصل الخامس مواضيع من كتاب الامثال وسفر ابن سيراخ (بالسريانية  ܒܪ ܐܣܝܪܐ)، وسفر الجامعة (بالسريانية ܩܘܗܠܬ)، ايوب، دانيال، المزامير، راعوث، يهوديث، واستير.
ويضم الفصل السادس لغاية التاسع بعض المواضيع من العهد الجديد.
ويضم العاشر موضوع الدفاع عن المسيحية موجه للمسلمين.
أما الفصل الحادي عشر والاخير فيضم وصفاً لبعض البدع والتعاليم الاخرى المتنوعة.

اسلوب الكاتب وطريقته الانطاكية في الشرح:
ان طريقة عمل كاتبنا ثيودور بركوني في كتابه تقوم على شرح آيات مختارة من الكتاب المقدس ثم يعقبها بشرح للالفاظ السريانية الصعبة التي تضمها. فمثلا ان الفصل الثالث يضم جدولاً يحتوي على شرح 85 كلمة سريانية "صعبة" من سفر الملوك.
 ويتبع في شرحه للكتاب المقدس اسلوب المدرسة الفلسفية الانطاكية التفسيرية القائمة على الشرح الواقعي والتاريخي لنص الكتاب المقدس والذي نسميه بالسريانية ܣܘܥܪܢܝܐ "سوعرانايا" وبالانكليزية Factual، وكذلك الشرح الحرفي ܓܘܫܡܢܝܐ "غوشمَنايا" literal and corporeal دون اعتبار المعنى الروحي ܪܘܚܢܝܐ  Spiritual والمجازي ܦܠܐܬܢܝܐ "فِلاثنايا" allegorical  الذي تخصصت به المدرسة الاسكندرانية في الشرح، لذلك نراه يرفض الشروحات المجازية والايحاءات الموجودة في العهد القديم التي قال عنها الاباء بانها تدل على احداث من العهد الجديد متبعاً خطى ثيودور المصيصي.
كان ثيودور المصيصي ܬܐܘܕܘܪܘܣ ܕܡܡܦܣܘܣܛܝܐ (392-428) أحد كبار المفسرين الانطاكيين، وقد اعتبرته الكنيسة السريانية الشرقية في سينودها المنعقد عام 544 في المدائن (المعروف بسينودس مار آبا الاول) مفسرها الاكبر ومعلمها الاول، وقد كررت هذا الموقف في مجمعيها لعام 576 و 585. ولهذا تبنت طريقته التفسيرية القائمة على رفض التفسير الروحي. كما ان اغلب المفسرين السريان المشارقة تأثروا به وبافكاره النسطورية الواضحة وبطريقة شرحه الكتاب المقدس القائمة على المعنى الحرفي والواقعي ورفض المعنى الروحي.
لكن السينودس الكنسي الخامس المنعقد في القسطنطينية عام 553 م  رفض ونبذ مؤلفات ثيودور المصيصي وتقاليده التفسيرية التي كانت تدرس في جامعة الرها السريانية التي كانت حينها مركزا علميا قويا للفكر اللاهوتي والتفسيري للكنيسة السريانية الشرقية النسطورية، وبسبب الجدالات اللاهوتية العقيمة اضطر القيصر "زينو" ان يقوم باغلاق هذه الجامعة العريقة عام 489 ليكافح الفكر النسطوري، فهاجر معظم افراد السلك التعليمي من هذه الكلية الى جامعة نصيبين السريانية الواقعة ضمن الحدود الفارسية. لكن تقاليد ثيودر المصيصي التفسيرية عاشت في الكنيسة السريانية الشرقية في الدولة الفارسية واستمرت بعدها.
 وبالاضافة الى تأثره بطريقة ثيودور المصيصي في التفسير فقد تأثر كاتبنا بركوني بالمفسر السرياني حنانا الحديابي ܚܢܵܢܵܐ ܚܕܲܝܲܒܵܝܵܐ ايضاً (توفي حوالي 612) مدير كلية نصيبين السريانية بقبوله بعض التفاسير الروحية المحدودة التي لا تؤثر على اسلوب التفسير الانطاكي الرافض للتفاسير الروحية.
كان السريان المشارقة (اجداد الكلدان والاثوريين) يتبعون التفسير الانطاكي القائم على شرح النص الكتابي للعهد القديم كما هو دون الغوص الى ما بين السطور وتحت الكلمات او ربط آياته باحداث من العهد الجديد ألا نادراً جداَ. ولهذا اعطوا قيمة عالية للحدث ونص الرواية ولغتها مع تقديم بعض الشروحات اللغوية اثناء عملية التفسير. وكل هذا على خلاف التفسير الاسكندراني الذي كان يقول بانه يجب ان نغوص الى ما تحت الكلمات والاسطر لنرى الرسالة الروحية المخبأة بين كلمات وأسطر الايات وعلى المفسر التقاطها وتقديمها للناس.
وعلى خلاف السريان المشارقة فقد تبع السريان الارثوذكس المدرسة الاسكندرانية الفلسفية في شرح الكتاب المقدس رغم كونهم تابعين لانطاكية. كما ان هذا الاختلاف في اتباع  منهجين مختلفين في شرح الكتاب المقدس ساهم كثيرا في اختلافات السريان وانقسامهم الكنسي في القرنين الخامس والسادس.

ومع مرور الزمن تحول كتاب "الاسكوليون" لثيودور بركوني الى مصدرهام استفاد منه معظم المفسرين السريان الذين اتوا بعده وشرحوا الكتاب المقدس ومنهم على سبيل المثال المفسر الكبير ايشوعياب المروزي (القرن التاسع) بين السريان المشارقة والمفسر العملاق ابن العبري (توفي 1286) بين السريان المغاربة. حيث نرى بعض الجمل والشروحات التي اوردها بركوني في كتابه موجودة في تفاسير هذين الاديبين السريانيين الشهيرين.
وسأورد هنا مثالاً يظهر لنا كيف ان ابن العبري استعمل بركوني في مصادره. ففي سفر الملوك لوحده نرى ابن العبري في كتابه السرياني الضخم ܐܘܨܪ ܐܪ̈ܙܐ  "مخزن الاسرار" (وهو بمثابة قاموس الكتاب المقدس) يستعمل 22 آية شرحها بركوني واستعان بها ابن العبري منها على سيل المثال:
يقول بركوني في شرحه للفظة ܐܪ̈ܓܘܒܠܐ الواردة في سفر الملوك الثاني عدد 5:18 بقوله: ܐܪ̈ܓܘܒܠܐ ܡܬܪ̈ܨܝ ܦܣܝ̈ܠܬܐ اي "ارغوبلى تعني مقومي الحجارة الكبيرة المنحوتة.
ويشرح ابن العبري نفس اللفظة بطريقة مشابهة بقوله: ܐܪ̈ܓܘܒܠܐ ܗܢܘ ܒܢܝ̈ܝ ܦܣܝ̈ܠܬܐ
ونورد مثالا اخرا يشرح فيه بركوني عبارة ܟܘ̈ܐ ܫܛܝ̈ܦܬܐ وهي وصف الشبابيك في قصر سليمان فيقول ܟܘ̈ܐ ܫܛܝܦܬ̈ܐ ܕܡܢ ܠܒܪ ܩܛܝ̈ܢܢ ܘܡܢ ܠܓܘ ܦܬ̈ܝܢ اي "انها الشبابيك الضيقة من الخارج والعريضة من الداخل". ويشرحها ابن العبري بطريقة مشابهة فيقول: ܟܘ̈ܐ ܫܛܝ̈ܦܬܐ ܗ̇ ܕܪ̈ܘܝܚܢ ܡܢ ܠܓܘ ܘܐܠܝܨ̈ܢ ܡܢ ܠܒܪ اي "انها الشبابيك الواسعة من الداخل والضيقة من الخارج" اي ان الكلام نفسه لكنه يستعمل كلمات سريانية اخرى مرادفة تحمل نفس المعنى.
ومن يعرف السريانية يكتشف بسهولة العلاقة بين الكاتبين. والملفت للنظر ان كلمة ܐܪ̈ܓܘܒܠܐ "ارغوبلى Arguble" ليست كلمة سريانية اصيلة لانها مستعارة loan word  من اللغة الآكادية، ومعناها في النص الكتابي ليس واضحا تماماً لذلك اعتبرت من الكلمات الصعبة ولزم شرحها.  ولا بد ان ننوه بان السريانية تحتوي على بعض الكلمات المستعارة من اللغات السومرية والآكادية والفارسية واليونانية، لكن عدد الألفاظ اليونانية المستعارة يفوق جميعها معاً.

كلمة اخيرة:
ان كتُبنا السريانية القديمة هي تراثنا المدون ومبعث فخرنا، وهي كنز ثمين خلفه لنا اجدادنا السريان، اي اجداد الكلدان والسريان والاشوريين والموارنة والروم، الذين يُطلق عليهم في علم السيرولوجيا Syrology  اسم "الآباء السريان" ويُسمون كذلك آباء "الحضارة الآرامية المسيحية".  فهل نهتم بهذا التراث العظيم لنستمد منه قوة في مسيرة حياتنا الثقافية والقومية والكنسية أم نتركه في حالة الاهمال؟

ان لغتنا السريانية الفصحى توحدنا، وهي احدى العوامل الهامة جداً التي تجعلنا نشعر باننا شعب واحد رغم العوامل الكثيرة التي تفرقنا، وهي المفتاح الذهبي لكتب اجدادنا وتاريخهم، وهي وعاء حضارتنا وعنوان مجدنا بين الامم ورمز هويتنا. لكن لغتنا تسير بخطى واثقة على طريق الزوال بسبب جهلنا وموقفنا الخائن تجاهها حيث اننا عملياً نفضل كل لغات العالم عليها.

ان كتاب اسكوليون هو احد كتبنا القديمة القيمة الذي اهتم بها اجدادنا فنقلوها جيلا بعد جيل واوصلوها لنا بامانة، فهل نستطيع ان نكمل مسيرتهم لننقلها الى ابنائنا واحفادنا؟ الجواب لديك ايها القارىء اللبيب.
واخيراً ارجو انني قد توفقت في القاء بعض الضوء على هذا الكتاب وعلى كاتبنا السرياني القدير ثيودور بركوني.

انتهى المقال
اسعد صوما
ستوكهولم

4
كتاب كلداني هام جداً لكنه غير معروف

اعداد: اسعد صوما
ستوكهولم


اسم الكتاب: تاريخ اضطهادات المسيحيين الأرمن والآرامين في ماردين وآمد وسعرت والجزيرة ونصيبين التيي حصلت عام 1915.
تأليف: المطران اسرائيل اودو


1.   مقدمة:
ظهر على الساحة مؤخرا كتاب بالسريانية في غاية الاهمية يبحث في المجازر التي نفذت بحق المسيحيين في الدولة العثمانية عام 1915 وذلك في مناطق ماردين، ومديات، وطورعابدين، وسعرت، ودياربكر، وجزيرة ابن عمر، ونصيبين وغيرها من المناطق المجاورة في جنوب وشرق تركيا الحالية.
مؤلف الكتاب هو "اسرائيل أودو" الذي كان مطراناً على الطائفة الكلدانية في مدينة ماردين اثناء وقوع المجازر عام 1915.
أما مخطوطة الكتاب فهي محفوظة ضمن مجموعة مخطوطات الكنيسة الكلدانية في بغداد. وقد استطعنا بعد جهد الحصول على نسخة مصورة عنها. وكل ما نذكره في مقالنا هذا من معلومات ودراسة وتحليل فهو مستند على صورة المخطوطة المذكورة التي بحوزتنا، وكذلك فان ارقام الصفحات التي نستشهد بها فهي ارقام صفحات المخطوطة.

2.   كتاب كلداني هام جدا لكن غير معروف:
 ورغم اهمية الكتاب القصوى في موضوع المجازر التي تعرَّض لها شعبنا في بداية القرن العشرين وابيد الكثير منه، ورغم كون مؤلفه احد اعلام الكنيسة الكلدانية، الا ان الكتاب مجهول تماماً لدى غالبية الكلدان وبقية افراد شعبنا لكونه مكتوب باللغة السريانية الفصحى التي يجهلها اليوم معظم ابناء شعبنا وخاصة من الطوائف الكلدانية والاشورية والمارونية. ان غالبية افراد شعبنا فقدوا الاهتمام بكتب اجدادهم وبمخطوطاتهم السريانية القديمة والحديثة، وهذا جاء كنتيجة مباشرة لهجرانهم السريانية الفصحى وعدم التعاطي بها كما فعل اجدادهم على مر الاجيال. وامام هذه التحديات اضحت هذه اللغة المسكينة لغة يتيمة ومهجورة، واصبحت كتبها القديمة وتراثها الكتابي الغني ومخطوطاتها منسية على رفوف خزائن الكتب بعد ان تجمَّع عليها غبار النسيان والتناسي والاهمال، فليس لها اليوم لا قرّاء ولا كتَّاب ولا من يهتم لحالها الا في حالات نادرة.
وعندما يتعرف ابناء شعبنا على شيء من تراثنا المدون فانهم يتعرفون عليه من خلال ترجماته الى لغات اخرى يتقنونها. لكن كتابنا المذكور عن المجازر ليس مترجماَ الى العربية او الى اية لغة اخرى ليتعرف عليه القارىء العام الذي لا يعرف السريانية الكلاسيكية لذلك بقي نسياً منسيا.

وبما ان هذه السنة 2015 تصادف الذكرى المئوية الاولى للمجازر المروعة التي تعرض لها شعبنا عام 1915 لذلك اراها مناسبة موفقة الان لتقديم الكتاب ومحتواه لجميع القراء الاعزاء ليتعرفوا عليه فيدركون اهميته، وربما يلجأوا اليه ليستعملوه كمرجع عن موضوع مجازر الابادة بحق شعبنا.

ومساهمة متواضعة مني في إحياء الذكرى المئوية لشهداء شعبنا الذين سقطوا في مجازر الابادة عام 1915، فانني اقوم الان بترجمة الكتاب المذكور الى ثلاث لغات معاً وبينها العربية، وانشاء الله ستصدر طبعة ترجمتي السويدية في نهاية الصيف 2015.

3.   محتوى الكتاب:
يفتتح سيادة المؤلف كتابه بمقدمة يقدم لنا فيها وجهة نظره عن سبب اضطهاد وهلاك الارمن عام 1915 ويلخصها ان المجازر حصلت بسبب مساعي الارمن  وطلبهم للحرية والحقوق (ص 5). ويشرح لنا كيف ان جميعة الاتحاد والترقي التركية وعدت الارمن بالحرية والحقوق، لكن ما ان وصل اعضاء هذه الجمعية للسلطة وعزلوا السلطان عبدالحميد الذي كان قد وجه ضربة عنيفة للارمن واقاموا اخيه رشاد بدلا عنه انقلبوا بعدئذ على الارمن وبدأوا حرب الابادة ضدهم وضد باقي المسيحيين.
ثم يقدم لنا المؤلف مقدمة ثانية عنوانها "سبب اضطهاد الآراميين الكلدان اي السريان" (ص 26)،  ويوجه فيها السؤال التالي ܡܢܐ ܗܘܬ ܥܠܬܐ ܕܪܕܘܦܝܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ اي "ماذا كان سبب اضطهاد الآراميين"؟ ويجيب عن سؤاله بقوله "لا انا ولا غيري يستطيع مهما اجهد نفسه ومهما بحث في الماضي والحاضر ان يجد خطيئة ما او عصيانا او خلافا او حماقة ما قام بها هذا الشعب ضد الدولة ..." (ص 27). ويضيف قائلاً: "اية عداوة بمقدوره ان يقوم بها هذا الشعب الذي منذ عهود سحيقة لا بل منذ بداية المسيحية ولغاية الان يُضطهد ويُسحق، وهو مثل الغنم بين الوحوش الكاسرة ومثل الخراف بين الذئاب. فلا الغريب ولا القريب الذين يسكن معهم ومنتشر بينهم منذ القدم يستطيع ان يقيم حجة مهما صغرت ضد الشعب الآرامي" (ص 27).
ويقدم لنا رأي بعض القيادات العثمانية عن سبب مقتل المسيحيين بقوله: "ان البعض من الامراء والحكام الذين لا يملكون الحجة لتبرئة انفسهم من هذه الجريمة يقولون: ان سكان المدن تبددوا بسبب خطأ القوّاد وغلطهم، واما سكان القرى فان الاكراد بسبب وحشيتهم المعروفة قتلوهم لما كنا منهمكين في الحرب. لكن هذه حجة ضعيفة وسقيمة وتستحق السخرية ولا يؤمن بها الطفل الصغير" (ص  28).
ثم يبدأ المؤلف اولا في سرد اخبار مجزرة نُفذت بآمد بحق 85 عائلة كلدانية اقتيدوا وقتلوا (ص 29).
ثم يبدأ اسرائيل اودو بسرد موضوع المجازر في كل بلدة وقرية ويبدأ باخبار اضطهاد مسيحيي ماردين (ص 30). ولضيق المكان سنكتفي بذكر عناوين الفصول والمحتوى ومنوهين الى رقم صفحاتها حسب المخطوطة.
عن تهجير القافلة الاولى (ص 40)؛
عن انقراض اليعاقبة (ص 44)؛
عن مزايا يعاقبة ماردين (ص 46)؛
عن تهجير القافلة الثانية (ص 48)؛
اسماء الكهنة الذي ذبحوا (ص 53)؛
عن انواع العذابات التي قاسها البعض (ص 56)؛
الكوميسر ممدوح ينهب البيوت  (ص 64)؛
تهجير النساء في القافلة الاولى (ص 67)؛
تهجير القوافل (ص 74)؛
عن تهجير النساء واسر الرهبان الافراميين للسريان الكاثوليك (ص 78)؛
ايضا عن تهجير النساء (ص 81)؛
ايضا عن تهجير النساء والرجال (ص 83)؛
عن هروب البعض الى جبل سنجار (ص 87)؛
عن قافلة النساء من ارمينيا من ارزروم وما يجاورها ومن المدن الاخرى (ص 92)؛
عن قوافل النساء الاربع من آمد (ص 96)؛
عن مقتل مسيحيي نصيبين ودارا وعن القس حنا شوحا الشهيد (ص 101)؛
عن قتل المسيحيين في مديات وقراها (ص 112)؛
عن اسر عينورد وأنحل وعن الشدة التي احتملها القس كيوركيس بهلوان (ص  119)؛
عن القتل الذي حصل حوالي ماردين (ص 124)؛
عن مقتل مسيحيي الجزيرة (ص 133)؛
نبذة عن المطران مار يعقوب اسقف الجزيرة (ص 139)؛
عن مقتل المسيحيين في سعرت والقرى المجاورة وعن الاسقفين ادي شير وتوما رشو الكلدانيين (ص 140)؛
نبذة عن مار ادي شير مطران سعرت (ص  146)؛
عن مقتل الاسقف توما رشو (ص  150)؛
المحبة الجميلة تستهزأ بالموت (ص 151)؛
عن هروب القس يوسف تفنكجي الى جبل سنجار وعودته واسره (ص  153)؛
عن تهديم كنيسة الكلدان في ماردين (ص  160)؛
عن الانتقام والعدالة الالهية (ص 164)؛
نبذة عن ابرشية امد (ص  166)؛
نبذة عن المطران مار سليمان برصباعي مطران آمد (ص 170)؛
عن القرى والكنائس بجوار آمد (ص  174)؛
عن ميفرقط (ص 177)؛
عن القس حنا ملوس (ص  182)؛
عن قرية بوشاط (ص  183)؛
نبذة عن مدينة الرها (ص  185)؛
عن مصادرة كنائس واديرة جميع المسيحيين عدا اليعاقبة (ص 187)؛
انتقام الهي من الاكراد لقساوة قلوبهم (ص 188)؛
عن القس بنيامين المرجي (ص  190)؛
عن الارمن الغريغوريين في آمد (اي دياربكر) وجوارها (ص 191)؛
عن الارمن الكاثوليك في آمد وجوارها (ص  196)؛
عن السريان الكاثوليك في آمد (ص  198)؛
عن اليعاقبة في آمد وجوارها (ص  199).

هذا وتضم المخطوطة قصيدة سريانية مطولة عن المجازر تشمل الصفحات 202-230 من المخطوطة، وكذلك ملحق مفيد عن المجازر (صفحة 231-262). وتتبعها قصيدة سريانية اخرى عن مريم العذراء (صفحة 263-265) الفها لما كان كاهنا في البصرة.
وفي النهاية ترد نبذة عن حياة اسرائيل اودو كتبها هو عن نفسه (صفحة 266-269).


4.   مخطوطة الكتاب:
ان مخطوطة كتاب المجازر، التي نملك نسخة مصورة عنها، مذكورة في جدول المخطوطات السريانية التابعة للكنيسة الكلدانية في بغداد والمسمى "المخطوطات السريانية والعربية في خزانة الرهبانية الكلدانية في بغداد، تأليف الاب "المرحوم" بطرس حداد (1937-2010) والمطران جاك اسحق، صدر في بغداد عام 1988، الجزء الاول هو عن المخطوطات السريانية والجزء الثااني عن المخطوطات العربية. واسم جدول المخطوطات بالسريانية هو ܟܬܝ̈ܒܬܐ ܣܘܪ̈ܝܝܬܐ ܘܥܪ̈ܒܝܬܐ ܕܒܝܬ ܐܪ̈ܟܐ ܕܕܝܪܝܘܬܐ ܕܟܠܕܝ̈ܐ ܒܒܓܕܕ ، اما اسمه بالانكليزية
Syriac and Arabic Manuscripts in the Library of the Chaldean Monastery in Baghdad, Part I: Syriac Manuscripts, by Petrus Haddad and Jacque Isaac, Iraqi Academy Press, 1988, 

ويرد اسم مخطوطة كتابنا المذكور في الصفحة 220 من جدول المخطوطات هذا تحت اسم "مخطوطات آرامية" وتحمل الرقم 573.
ان قياس مخطوطة كتاب "مجازر الأرمن والآراميين" هو    20x   15 سم وتقع في201 صفحة، وحوالي 18 سطرا في كل صفحة. كما ان المخطوطة تتضمن بعض اشعار المطران اسرائيل وهي ايضا عن المجازر.
أما لغة المخطوطة فهي السريانية الفصحى ومدونة بالقلم السرياني الشرقي المعروف بالكلداني و النسطوري. لكن جودة الخط متوسطة لان الناسخ/الكاتب كتبها بسرعة دون الالتفات الى جمال الخط حيث وردت فيه بعض الحروف مثل حرف الشين بشكل غريب، كما ان نظام التنقيط المتبع في نهاية الجمل واشباه الجمل ليس جيداً.

أما اسم مخطوطة الكتاب في السريانية حسب جدول المخطوطات فهو ܡܟܬܒܢܘܬܐ ܥܠ ܪ̈ܕܘܦܝܐ ܕܟܪ̈ܣܛܝܢܐ ܐܪ̈ܡܢܝܐ ܘܐܪ̈ܡܝܐ ܒܡܪܕܐ ܘܐܡܕ ܘܣܥܪܕ ܘܓܙܪܬܐ ܘܢܨܝܒܝܢ ܕܗܘܐ ܫܢܬ 1915، أي "تاريخ اضطهادات المسيحيين الأرمن والآراميين في ماردين وسعرت والجزيرة ونصيبين التي حصلت عام 1915"، لكن حسب  نسخة اخرى للمخطوطة فهو "تاريخ اضطهادات المسيحيين في ماردين وامد وسعرت والجزيرة ونصيبين التي حلت بالارمن عام 1915".

ان المخطوطات السريانية بشكل عام تضم صفحة في نهايتها تسمى في الاوساط الاكاديمية "كولوفون" ويدوِّن فيها ناسخ المخطوطة اسمه وتاريخ نسخه المخطوطة واسم بلدته ومكان نسخه المخطوطة وعلى اية مخطوطة اعتمد في نسخ مخطوطته، كما يذكر بعض الاحداث الهامة المعاصرة كنسية كانت ام سياسية.
لكن في حال مخطوطتنا المذكورة فان "الكولوفون" مختصر جداً ليس فيه اية معلومات غير اسم كاتب المخطوطة الذي هو  ܗܘܪܡܝܙܕ ܟܕܘ ܐܠܩܘܫܝܐ "هرمز كادو الالقوشي"، وقد كتبها يوم الثلاثاء في الثالث والعشرين من شهر نيسان لسنة  1968 ميلادية.

وحسب علمنا هناك مخطوطات اخرى مختلفة لنفس الكتاب لكن بسبب ضيق الوقت لم يسعفنا الحظ للحصول على نسخ منها  لنطلع عليها ومقارنتها ببعضها لنحقق النص تحقيقا علميا وطباعته اي ما نسميه  بلغة العلم critical edition لكن ربما في المستقبل قد نفعل ذلك.


5.   مؤلف الكتاب شاهد عيان:
مؤلف الكتاب كاهن كلداني يتحدر من احدى ارقى العائلات الكلدانية الالقوشية التي لها الكثير من الخدمات والافضال على اللغة السريانية والكنيسة الكلدانية ألا وهو المطران إسرائيل أودو الالقوشي الكلداني (1859-1941) الذي كان مطرانا على ابرشية ماردين (في جنوب شرق تركيا) اثناء فترة المجازر 1915، فكتب عن المجازر التي حصلت في مدينة مادردين مركز ابرشيته وكذلك عن المجازر في باقي المدن القريبة والبعديدة.
وكل ما كتبه اسرائيل اودو في كتابه عن المجازر كان قد شاهده بأم عينه او سمعه من شهود عيان كما صرح كقوله مثلا: ܘܒܥܝܢܝ̈ܢ ܚܙܝܢ ܕܡܢ ܫܘܩ̈ܐ ܘܡܢ ܚܢܘ̈ܬܐ ܘܡܢ ܕܪ̈ܬܐ ܢܓܕܝܢ ܠܟܠܕܝ̈ܐ ܘܠܣܘܪ̈ܝܝܐ ܟܢܫܝ̈ܢ ܟܢܫܝ̈ܢ. ܘܡܢ ܥܕ̈ܬܐ ܡܦܩܝܢ ܠܟܗܢ̈ܐ ܘܠܡܫܡܫܢ̈ܐ ܘܡܥܪܡܝܢ ܒܒܝܬ ܐܣܝܪ̈ܐ. ܘܒܬܪ ܕܣܒܠܝܢ ܬܡܢ ܢܓܕ̈ܐ ܘܒܙܚ̈ܐ ܕܙܢܝ̈ܢ ܙܢܝ̈ܢ܆ ܕܒܪܝܢ ܠܗܘܢ ܒܦܘܩܕܢ ܡܕܒܪܢܐ ܕܐܝܬܘܗܝ ܡܢ ܒܢ̈ܝ ܡܕܝܢܬܐ ܘܪܫ ܟܪܟܐ ܘܩܛܠܝܢ.  (ص 28-29 من المخطوطة).  "وقد شاهدنا بام اعيننا كيف كانوا يسحبون الكلدان والسريان من الاسواق والدكاكين والبيوت، ويخرجون الكهنة والشمامسة من الكنائس ويرموهم في السجون. وبعد ان يشبعوهم هناك ضرباً وتعذيباً باشكال متنوعة، كانوا يسوقوهم بأمر المدبر الذي كان من ابناء المدينة ورئيس البلدية، ويقتلوهم). وكذلك قوله: ܠܐ ܐܪܗܛܬ ܩܢܝܐ ܒܟܬܘܒܘܬ ܗܢܐ ܣܦܪܐ ܐܠܐ ܥܠ ܗܘ ܡܐ ܕܚܙ̈ܝ ܥܝܢ̈ܝ  ܘܫܡܥ̈ܝ ܐܕܢ̈ܝ ܚܬܝܬܐܝܬ. ܘܡܢ ܪܘܪܒܐ ܣܓܝ ܐܬܪܚܩܬ. ܫܡܥܐ ܕܝܢ ܕܠܐ ܒܨܬܐ ܘܒܘܚܢܐ ܣܟ ܠܐ ܩܒܠܬܗ ܐܦܠܐ ܪܫܡܬܗ "لم المس القلم في تدوين هذا السفر إلا عما رأته عيناي وسمعته اذناي، ولقد ابتعدت كثيرا عن المبالغة في القول، حيث ان الاخبار التي لم اتحقق من صحتها او التحري عنها فانني لم اقبلها ولم ادونها" (ص 3).
وفي موضع اخر يستشهد بالمصدر الذي زوده ببعض المعلومات عن دياربكر فيقول ܟܠܡܐ ܕܟܬܒܢ ܗܪܟܐ ܥܠ ܐܝܟܢܝܬ ܪ̈ܕܘܦܝܐ ܕܡܫܝܚܝ̈ܐ ܕܐܡܝܕ ܘܕܩܘܪ̈ܝܐ ܕܚܕܪ̈ܝܗ̇ ܡܢ ܦܘܡ ܟܗܢܐ ܟܠܕܝܐ ܐܡܝܕܝܐ ܩܫܝܫܐ ܛܝܡܬܐܘܣ ܦܨܠܝ ܬܩܢܐ ܫܡܥܢܝܗܝ ܘܡܗܝܡܢܐܝܬ ܟܬܒܢܝܗܝ ܒܠܥܕ ܬܘܣܦܬܐ ܐܘ ܒܘܨܪܐ... "ان كل ما قمنا بتدوينه هنا عن اضطهادات المسيحيين في آمد والقرى التي حولها، فاننا سمعناه من فم الكاهن الكلداني القس طيمثاوس فضلي، وقد دوناه بامانة بدون زيادة او نقصان" (ص  201).

والمؤلف "اسرائيل أودو" هو ابن القس هرمز شقيق البطريرك الكلداني يوسف السادس أودو (1792- 1878) وشقيق العلامة اللغوي الشهير المطران الشهيد توما أودو (1855-1918) مطران اورميا الذي وقع نفسه ضحية المجازر اثناء مساعدة شعبه المتعرض للفناء في اورميا، والعلامة اللغوي توما اودو هو مؤلف القاموس السرياني الشهير ܣܝܡܬܐ ܕܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ "كنز اللغة السريانية" الذي يعتبر اوسع واشهر قاموس سرياني سرياني، وقد طبع لأول مرة في مطبعة الدومينيكان في الموصل عام (1897)، وثم اعيدت طباعته في السويد عام (1979) وفي هولندا عام (1985). ولهذا القاموس فضل علينا شخصيا لاننا نعود اليه كلما  دعت الحاجة الى استقصاء كلمة سريانية ما.

ولد "اسرائيل اودو" في القوش في الخامس من آب عام 1859، ودرس في المدرسة الكهنوتية في الموصل وارتسم كاهنا في الثاني من ايار عام 1886 على يد البطريرك الكلداني ايليا الثاني. وانتقل بعدها الى بغداد للخدمة الكهنوتية ثم الى البصرة. عام 1898 سافر الى بومباي وملبار في الهند للاستجمام وعاد بعدها الى البصرة ومكث فيها 17 سنة، وبنى فيها كنيسة على اسم مار توما وقد سدد معظم نفقاتها من ماله الخاص، ثم بنى مدرسة. كما بنى كنيسة باحدى القرى بجوار البصرة على اسم السيدة مريم وشيد فيها مدرسة ايضا. عام 1910 اختير لاسقفية ماردين وارتسم فيها في 22 من شهر شباط على يد البطريرك الكلداني مار عمانوئيل الثاني (1900-1947) في كنيسة مسكنتا مقر الكرسي البطريركي انذاك. وسافر الى ابرشيته في ماردين فوصلها في 19 اذار من نفس السنة  فشمرعن ساعد الجد والعمل 1910.  خدم ابرشيته احدى وثلاثين سنة، وقد عانى كثيرا بعد قتل الكثير من ابناء رعيته وكهنتها، حيث يخبرنا بانه بقي وحيدا لم يجد من يتحدث اليه . توفي عام 1941 في ماردين ودفن فيها.
لقد دوَّن المؤلف قصة حياته بالسريانية بايجاز شديد في نهاية كتابه مبتدئا "ولدتُ انا اسرائيل اودو مطران ماردين... (صفحة 266 من مخطوطة الكتاب).

6.   اهمية كتاب مجازر الأرمن والآراميين:
تبرز اهمية كتاب مجازر الارمن والآراميين في عدة محاور منها:
أولاً: اهميته في موضوع المجازر التي يوثقها لنا، وخاصة ان هذه السنة 2015 تصادف ذكرى مرور مئة سنة كاملة عل المجازر.
ثانياً: أهميته في اعتباره الكلدان والسريان والاشوريين شعباَ واحداً.
ثالثاً: أهميته باطلاقه تسمية قومية واحدة موحدة على الكلدان والسريان والاشوريين، وهي تسمية "آراميين".

أولاً: أهمية الكتاب عن موضوع الـمـجـازر بحـق شعـبـنـا:
لقد تعرض شعبنا بمختلف طوائفه لمجازر بشعة تقشعر لها الابدان اوصلته الى حد الفناء، نفذها به الاتراك وبعض الاكراد في المنطقة الواقعة جنوب شرق تركيا عام 1915 فذهب ضحيتها مئات الالاف من شعبنا معظمهم من طائفة السريان.
وكان مؤلف الكتاب مطرانا على الكلدان في مدينة ماردين اثناء وقوع المجازر وكان شاهدا لما جرى بحق شعبنا. فكتب مما شاهده، كما انه جمع بعض الاخبار من الاشخاص الذين عاينوا المجازر وعاشوها ونجوا منها. لذلك ما دونه يعتبر كلاما هاما من شاهد عيان ورجل مسؤل يعرف خفايا الامور وما يجري خلف الكواليس كونه مطران وفي قلب الحدث. وقد صرح بقوله ܥܠ ܗܘ ܡܐ ܕܚܙ̈ܝ ܥܝܢ̈ܝ ܘܫܡܥ̈ܝ ܐܕܢ̈ܝ اي انه كتب فقط "ما شاهدته عيناي وسمعته اذناي" (صفحة 3).
لكن صورة المجازر الاجمالية التي نفذت بحق شعبنا ناقصة لدى كل من كتب عنها حينها بسبب صعوبة الاحاطة بكل جوانب الموضوع وذلك لفقدان الاخبار ووسائل الاعلام والتواصل والتنقل السريع انذاك، بالاضافة الى المخاطر الجمة التي التي كانت تنتظرهم. كما لا توجد ارقام صحيحة عن عدد الشهداء الذين سقطوا من ابناء شعبنا في كل طائفة.
والجدير ذكره ان مجازر الابادة هذه طالت جميع طوائف شعبنا. وحتى ابناء شعبنا من الطائفة المارونية في جبل لبنان طالتهم الابادة رغم بعدهم، وذلك عندما اوقف المجرم جمال باشا الامدادات التموينية عن جبل لبنان فتعرض شعبنا هناك الى مجاعة رهيبة سقط على اثرها ثلث سكان الجبل ضحية التجويع.

وكتاب "مجازر الأرمن والآراميين" لاسرائيل اودو ليس الوحيد في موضوعه عن المجازر التي تعرض لها شعبنا. فقد ظهرت حينها عدة كتب وألفت بعض الاشعار عن هذا الموضوع منها الكتاب الهام "القصارى في نكبات النصارى" بالعربية من تأليف الاب العلامة اسحق أرملة المارديني (1879-1954)، طبع في بيروت عام 1919، واعيد طبعه 1970، وكذلك كتاب ܕܡܐ ܙܠܝܚܐ "الدم المسفوك" بالسريانية من تأليف أمير اللغة السريانية في القرن العشرين الملفونو عبدالمسيح قرباشي (1903-1983). طبع الكتاب عام 1997، وترجم الى العربية وطبع عام 2005، وترجم الى الالمانية وطبع عام 1997،

كما ظهرت بعض الدراسات العلمية الحديثة عن موضوع المجازر ومن اهمها:
Sebastian de Courtois, The Forgotten Genocide: Eastern Christians, The Last Arameans, New Jersey  2004.

David Gaunt, Massares, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in eastern Anatolia during World War I, New Jersey 2006.



لكن كتاب المطران اسرائيل أودو مهم كونه ايضا شاهد عيان للمجازر بالاضافة ما جمعه من خلا ما سمع وقرأ ودوَّن. لذلك حان الوقت لخروج هذا الكتاب الى النور وترجمته.

ثانياً: أهمية الكتاب في اعتباره الكلدان والسريان والاشوريين شعباَ واحداً،
كان المطران اسرائيل اودو يعرف ان الكلدان والسريان والاشوريين هم شعب واحد باثنيته ولغته وتراثه المدون. ويبدو انه  كانت لديه نظرة وحدوية حينما كتب عن الكلدان والسريان والاشوريين معتبرا اياهم شعبا واحداً رغم انقساهم كنسيا طالما ان السفاح الذي قتلهم لم يكن يميز بينهم الا ما ندر. ففي الكثير من المدن والقرى التي تعرضت للمجازر مثل دياربكر وغيرها سكن فيها الكلدان والاشوريون الى جانب السريان. ورغم كون اسرائيل اودود كاهنا كلدانيا كاثوليكيا ورغم التحيز لكنيسته وطائفته ومذهبه الى انه اعتبر الكل شعبا واحدا.


ثالثاً: أهمية الكتاب في اطلاقه تسمية قومية واحدة موحدة على الكلدان والسريان والاشوريين، ألا وهي تسمية "آراميين".
لقد اطلق مؤلفنا اسرائيل اودو تسمية "آراميين" على الكلدان والسريان والاشوريين. وباطلاقه تسمية "آراميين" عليهم فان المؤلف اسرائيل اودو ساهم ولو اسميا في توحيد شعبنا في تسمية واحدة مستقاة من تراثه المدون، وهذه باعتقادي نظرة قومية جيدة وخطوة توحيدية رائدة  خطاها في ذلك الوقت الطائفي، وهذا يشبه الى حد كبير ما يحاول غبطة البطريرك الكلداني الحالي مار لويس ساكو في مسعاه الان باختيار التسمية الارامية كاحدى الحلول لتوحيد التسمية لدى الكلدان والسريان والاشوريين وتوحيدهم ولو اسمياً.
فعندما يتحدث اسرائيل اودو عن المجازر التي طالت كل فئات شعبنا فانه يسميه بالشعب الارامي او الامة الارامية، لكن عندما يذكر ما حل باحدى طوائف شعبنا فانه يستعمل اسم الطائفة والكنيسة فيذكر اسم الكلدان مثلا او السريان. لكن عندما يقصد الجميع فيسميهم آراميين. وقد أورد الاسم الارامي الى جانب الاسم الارمني لتشابهما اللفظي كقوله المجازر بحق "الامة الارمنية والامة الآرامية"، وكذلك قوله "اضطهادات الارمن والآراميين".
وقد استعمل المؤلف اسرائيل اودو العديد من التعابير والجمل التي اطلق فيها التسمية الارامية على الكلدان والسريان والاشوريين، منها بقوله ܥܡܐ ܐܪܡܝܐ ܕܥܡܪ ܒܣܥܪܕ ܘܒܐܡܝܕ ܘܒܓܙܪܬܐ ܘܡܪܕܐ ܘܚܕܪ̈ܝܗܝܢ اي "الشعب الارامي الساكن في سعرت ودياربكر والجزيرة وماردين وما حولهما" (صفحة 2 من المخطوطة التي اعتمدت عليها)؛
 وكذلك ܡܘܒܕܢܘܬ ܢܦ̈ܫܬܐ ܕܠܐ ܡܢܝܢ ܡܢ ܥܡܐ ܕܐܪ̈ܡܢܝܐ ܘܥܡܗܘܢ ܥܡܐ ܐܪܡܝܐ اي  "اهلاك نفوس كثيرة لا تحصى من الشعب الارمني ومعه الشعب الآرامي" (صفحة 3 من المخطوطة)؛
 وكذلك ܪܕܘܦܝܐ ܡܪܝܪܐ ܕܬܪ̈ܬܝܗܝܢ ܐܡܘ̈ܢ ܕܐܪ̈ܡܢܝܐ ܘܐܪ̈ܡܝܐ اي "اضطهاد الأمتيين الأرمنية والآرامية" (صفحة 4 من المخطوطة)؛
ويقول ايضا ܐܬܓܪܦ ܙܪܥܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ ܕܒܛܘܪ̈ܝ ܩܪܕܘ ܕܒܡܢܬܐ ܥܠܝܬܐ ܕܒܝܬ ܢܗܪܝܢ ܙܪܝܥ اي "ابيد نسل الآراميين في جبال جودي في بلاد ما بين النهرين العليا" (صفحة 141 من المخطوطة)؛
وكذلك ܡܢܐ ܗܘܬ ܥܠܬܐ ܕܪܕܘܦܝܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ اي "ماذا كان سبب اضطهاد الآراميين" (صفحة 27 من المخطوطة)؛
وفي الفصل الذي يتناول فيه الاضهادات والمجازر ضد الكلدان يقول: ܥܠܬܐ ܕܪܕܘܦܝܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ ܟܠܕ̈ܝܐ ܟܐܡܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ اي "سبب اضطهاد الكلدان الآراميين اي السريان" (صفحة 26  من المخطوطة).

ان الغالبية العظمى من افراد شعبنا اليوم ليس لهم ثقافة ومعرفة بتاريخنا وبتراثنا المدون لذلك عندما يسمعون الاسم الآرامي فانهم يندهشوا ويعتبروه غريباً عنهم ويرفضوه. لكن معظم كتّاب شعبنا من مختلف الطوائف والذين ظهروا على مر العصور كتبوا دائما ذاكرين الانتماء الارامي في كتاباتهم السريانية، وهذا الامر معروف لدى العلماء من اهل الاختصاص باللغة السريانية الفصحى وتراثها. الا ان شعبنا البسيط لا يعرف هذه الحقيقة لانه لا يعرف قراءة كتب اجداده القديمة وما تتضمنه.  فعجباً لامر هذا الشعب الذي بسبب جهله يعادي ما كتبه اجداده.

لقد كان المطران اسرائيل اودو كاهناً مثقفاً وعارفاً بتاريخنا وتراثنا لذلك اطلق الاسم الآرامي على الكلدان والسريان والاشوريين مثلما يحاول غبطة البطريرك مار لويس ساكو ان يفعل الان لانه ايضا عالم جليل بتاريخنا وتراثنا ويعلم جيدا ان معظم علمائنا القدماء استعملوا الاسم الآرا مي في كتاباتهم وقالوا عن انتماء شعبنا الى الامة الآرامية.

ولا يخفى على القارىء ما للتسمية الارامية من محاسن كثيرة وقوة تجميعية لكونها حيادية طائفيا وكنسيا، اي لعدم وجود كنيسة من كنائس شعبنا تسمى بالارامية، ولعدم وجود طائفة أو مجموعة دينية او اثنية تسمى آرامية  على غرار طائفة الاشوريين وطائفة الكلدان وطائفة السريان وطائفة الروم.

7.   لغة الكتاب السريانية:
ان لغة الكتاب السريانية من الدرجة الجيدة، وهذا ليس غريباً كون مؤلف الكتاب كاهن مثقف درس هذه اللغة منذ صغره وكبر عليها وعلى كتبها ومخطوطاتها.  كما انه من "القوش" التي كانت احدى المراكز الهامة للغة السريانية الفصحى في القرون الماضية، حيث دونت فيها العديد من المخطوطات السريانية وبرزت فيها بعض العائلات التي اشتهرت في خدمتها للغة السريانية والتراث السرياني كعائلة اسرائيل الالقوشي وعائلة اودو. ان مقدرة المؤلف اسرائيل اودود باللغة السريانية ليست اقل من مقدرة اخيه الذائع الصيت المطران الشهيد توما اودو (توفي 1918) مؤلف اكبر واوسع قاموس سرياني سرياني، وله الفضل في الحفاظ على السريانية من الاندثار.  ويعتبر اسرائيل اودو مع اخية المطران توما أودو من عمالقة اللغة السريانية. فلغته جملية للغاية وفيها الكثير من التعابير والصور والمصطلحات الجميلة.  كما ان الكتابة بالسريانية عن مواضيع سياسية ليس بالامر السهل ومع ذلك استطاع مؤلفنا ان يطاوع السريانية لتكون اداة ممتازة لتدوين افكاره.

وفي كتابه يُعتبر اسرائيل أودو من باعثي مجد السريانية ومجدديها حيث صاغ عدة تعابير سريانية جديدة وترجم بعض العبارات واسماء الوظائف والاحزاب من التركية والعربية الى السريانية فاغناها مثل عبارة "جمعية الاتجاد والترقي التركية" حيث ترجمها الى ܟܢܘܫܬܐ ܕܚܘܝܕܐ ܘܕܥܠܝܐ.


8.   بعض الكتب الاخرى عن المجازر التي نفذت بحق شعبنا:
وختاما لهذا الموضوع الشيق عن المجازر التي اقترفت بحق شعبنا المسالم فلا بد ان نذكر بعض الكتب والدراسات التي كتبت عن هذه المجازر. وهذه بعضها:
1.    القصارى في نكبات النصارى، تأليف اسحق أرملة (بالعربية)، طبع في بيروت 1919. تُرجم الى السويدية وطبعه في السويد جان بيث صاووعى عام 2005.
2.    مجازر الأرمن والآراميين ܪ̈ܕܘܦܝܐ ܕܟܪ̈ܣܛܝܢܐ ܐܪ̈ܡܢܝܐ ܘܐܪ̈ܡܝܐ، للمطران الكلداني اسرائيل أودو (بالسريانية) طبع في السويد 2004.
3.    الدم المسفوك ܕܡܐ ܙܠܝܚܐ، تأليف عبدالمسيح قرباشي (بالسريانية) طبع في السويد عام 1997، ترجمه الى العربية المطران جورج صليبا وطبعت الترجمة في بيروت 2005.
4.    كتاب عن مجازر المسيحيين بالفرنسية بعنوان "المسيحيون يُلقون الى الوحوش"  تأليف جاك ريطورِه (بالفرنسية)، ترجمه الى السويدية إينغفار ريدباري بعنوان Turkarnas heliga krig mot kristna i norra Mesopotamien 1915 طبعه في السويد جان بيث صاووعى عام 2008.
5.    كتاب Svärdets år "سنة السيف" بالسويدية، تأليف برتيل بنكتسون، طبع في السويد عام 2004.
6. كتاب بالفرنسية وترجم للانكليزية من تاليف سبسطيان دى كورتوا بعنوان The Forgotten Genocide: Eastern Christians, The Last Arameans "الابادة المنسية..." طبع الترجمة في نيو جوزي جورج كيراز عام 2004.
6.    كتاب بالانكليزية بعنوان Massares, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in eastern Anatolia during World War I, "مجازر ومقاومة وحماية..." تاليف دافيد غاونت، طبع في نيو جرزي عام 2006.
7.    كتاب أين شوكتك سفر برلك، من تأليف أفرام نجمة (بالعربية)، طبع في لبنان 1995.
8. كتاب سرياني  ܓܘ̈ܢܚܐ ܣܘܪ̈ܝܝܐ "غونحى سوريويى" (مآسي سريان طور عابدين) تأليف الخوري شليمون حنو، طبع في هولندا 1987.
9. كتاب سرياني ܨܘ̈ܠܬܐ ܩܫܝ̈ܬܐ"صولفوثو قشيوثو" (الضربات القاسية) تأليف الملفونو اسمر خوري، طبع في السويد 1998.
10. كتاب بالسريانية المحكية "سيفو بطورعابدين" تأليف جان بيث صاووعى، طبع في السويد عام 2006.

10.    كما هناك بعض الكتب والدراسات الاخرى عن موضوع الابادة منها كتب جاك ريطورِه، وآرنولد توينبي، وجوزف يعقوب ، ويونان شهباز، وبول شمعون، وهنري مورغنثاو، وجون جوزف،  ويوجين غريسل، ويوسف اليخوران، الخ.

انتهى المقال
الدكتور اسعد صوما


5
البطريرك الراحل زكا الاول وكنيسته: ما قبله وما بعده
[/b]

اسـعـد صومـا
ستوكهولم
[/b]

في يوم تنصيب البطريرك زكا الاول 14 أيلول 1980، كانت سوريا تعاني من قلاقل ومشاكل سياسية واغتيالات يومية وفقدان حبل الامن بسبب تمرد الاخوان المسلمين على الحكم ومساعيهم للاطاحة بالسلطة. واليوم، بعد 34 سنة على كرسي البطريركية، يغادر البطريرك زكا هذا العالم وسوريا تعاني ليس فقط من مشاكل سياسية وقلاقل اكبر من تلك التي كانت تعاني منها اثناء تنصيبه، بل من حرب طاحنة وتهجير مخطط للمسيحيين في مجمل بلدان الشرق الاوسط.  لكن حياته بين التنصيب والموت حافلة شهدت استقرارا كبيرا لابناء طائفته في كل المجالات فازدهرت الطائفة والكنيسة كثيراً.

توفي بطريرك الكنيسة السريانية الارثوذكسية زكا الاول في صباح الخميس 20 آذار في المانيا وهو في زيارة طبية للعلاج هناك، فنقل جثمانه الى دير مار يعقوب السروجي مركز ابرشية السريان الارثوذكس في المانيا لحين نقله الى لبنان ودمشق ودفنه هناك في مقبرة البطاركة كما اوصى الراحل الكبير.
وفور انتشار خبر الوفاة هرعت الوفود السريانية للدير من كافة الدول الاوروبية للوداع والتبرك والمشاركة في مراسيم تشييعه هناك والتي تمت صباح الاحد بحضور حوالي عشرة مطارنة للطائفة بالاضافة الى مطارنة اخرين من الكنيسة القبطية والكنيسة الاثيوبية لشراكة الايمان بين هذه الكنائس الارثوذكسية، بالاضافة الى عدد كبير من القساوسة والشمامسة.
سينقل جثمان الفقيد الى لبنان غداً الثلاثاء وستجري له مراسيم الوداع والتشييع والتجنيز هناك ايضا يوم الخميس، ومن هناك سينقل الى دمشق ليجنز ويدفن يوم الجمعة المقبل في المقبرة البطريركية في دير مار افرام خارج دمشق بمراسيم رسمية تليق برحيل البطاركة.

فور وصول خبر الوفاة الى البطريركية في دمشق، وحسب قوانين الكنيسة في هكذا وضع، قام المطران المعاون البطريركي بدمشق بحضور مطارنة وكهنة اخرين في دمشق باغلاق ابواب البطريركية السريانية وخاصة جناح اقامة البطريرك بالشمع الاحمر، لصيانة جميع ممتلكاته دون ان يمسها احد لغاية اجتماع المطارنة وفتحها معا واحصاء كل ما فيها امام الجميع لأنها املاك الكنيسة. وحسب قوانين الكنيسة السريانية الارثوذكسية لا يجوز للبطريرك ان يمتلك شيئا خاصاً به، بل كل ممتلكاته هي ممتلكات عامة للكنيسة.

كان زكا الاول البطريرك الـ 122 في تعداد البطاركة القانونيين المتسلسلين الذين جلسوا على كنيسة السريان الارثوذكس، وهو ثالث بطريرك سرياني ارثوذكسي من العراق ممن جلسوا على كرسي البطريركية في في القرن العشرين. إذ كان قد نشأ منذ شبابه لدى البطريركين الذين سبقاه يعقوب الثالث البرطلي (1957-1980) وافرام الاول الموصلي (1933-1957) وعمل سكرتيرا لهما في عهد رهبنته فخدمهما وتعلم منهما الصفات الجميلة في تضحية الذات ومحبة المسيح والكنيسة والتراث واللغة السريانية فأكمل مسيرتهما الى ان غادر العالم اليوم.

ولكي نفهم خلفيات الامور التي عاشها البطريرك زكا لا بد ان نقدم نبذة عن وضع كنيسته في قرن العشرين وانجازات البطريركين الذين سبقوه على الكرسي.

ما قبل البطريرك زكا:
خرجت الكنيسة السريانية الارثوذكسية من اشداق الحرب العالمية الاولى مكسورة ومحطمة ومطعونة في الصميم بجرح لا زال ينزف لغاية اليوم. فرغم انها لم تشارك بالحرب أو يكن لها اية علاقة بالحرب والمتحاربين الا انها دفعت الثمن غاليا جداً ربما اكثر من اية مجموعة اخرى. إذ انها خرجت مثخونة بالجراح ومصعوقة بهول المصيبة التي حلت بها وبابنائها بعد ان أباد المتطرفون الاسلاميون من الاكراد والاتراك اكثر من نصف اتباعها في مجازر جماعية وفردية مروعة معروفة باسم "سيفو" والتي تحل ذكرتها السنوية المئوية في هذا العام 2014 (يقوم الاتحاد السرياني/الآرامي العالمي World Congress of Arameans الان باعداد فيلم حول هذا الموضوع على يد مخرجين عالميين سيتم في نهاية هذا العام 2014 احتفاء بالذكرى المئوية لمجازر سيفو).

لكن سرعان ما أخذت هذه الكنيسة المنكسرة تلملم جراحاتها وتداوي نفسها وتنظم بقايا ابرشياتها المحطمة والفارغة من السريان بعد ان دُمر اغلبها في المنطقة الواقعة جنوب شرق تركيا الحالية وابيد سكانها السريان الارثوذكس، وابيدت معهم اللغة السريانية والثقافة في تلك المنطقة، حيث دمرت عشرات الكنائس والاديرة واصبحت خربة مهجورة يسكنها الغراب وينعق فيها البوم. كما فرغت معها عشرات القرى والبلدات السريانية وتغيرت خارطتها الديموغرافية بعد ان اتى الاخرون وسكنوها واستملكوها.

بعد ان فاقت الكنيسة من هول المصيبة حاولت النهوض من كبوتها وبدأت بالعمل للدفاع عن نفسها والمطالبة بحقوقها ومعاقبة المجرم الذي اوصلها الى حد الابادة تقريباً من خلال مشاركتها بالمؤتمر الذي عقد من اجل السلام.
إذ بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى عقدت المؤتمرات لدراسة نتائج الحرب ولتسوية الاوضاع. وقد ارسلت الكنيسة السريانية الارثوذكسية مندوباً عنها لتقديم الشكوى بما حل بها. ففي عام 1919 شارك المطران (البطريرك بعدئذ) افرام برصوم في مؤتمر السلام في باريس الذي عقده المنتصرون في الحرب، والقى خطابا شهيراً بالفرنسية افتتحه بالآية الانجيلية الذهبية "طوبى لصانعي السلام" مقرظاً عمل السلام ومطالباً حقوق السريان ومعاقبة الجناة المجرمين.
لقد قدم المطران افرام للسياسيين الاوروبيين مذكرة تتضمن جدولاً عن خسائر السريان الارثوذكس من الارواح والكنائس والاديرة في مجازر الابادة، وانتقد تركيا نقدا لاذعاً ونعتها بابشع الالفاظ لما حل بالشعب السرياني المنكوب. وقد عاداه اعضاء الوفد التركي المشارك في المؤتمر وهددوه قائلين: له "لا تحلم بانك سترى تركيا بعد اليوم"، فأجابهم البطريرك بذكائه وعنفوانه قائلا: "لا اريد ان ازور بلداً لا يحمي سكانه". وجرى تماماً كما قيل له. فالمطران افرام برصوم لم يذهب الى تركيا لغاية وفاته عام 1957. وعندما انُتخب هذا المطران بطريركاً قام بنقل الكرسي البطريركي لكنيسته من دير الزعفران في تركيا الى مدينة حمص في سوريا لأن تركيا ممنوعة عليه لدخولها. ولا زال الكرسي البطريركي للسريان الارثوذكس في سوريا لغاية اليوم.

وفي مذكرته التي قدمها للسياسيين الاوروبيين يتهم افرام برصوم الاكراد والاتراك بتفيذ مجازر الابادة بحق السريان، ويقول بان حوالي مئة الف سرياني ارثذوكسي في جنوب شرقي تركيا قد قتل بحد السيف، وحوالي نفس العدد قُتل من النساطرة والكلدان ايضاً. (هكذا ذكرهم في مذكرته) وفي الفقرة الثالثة من مذكرته المرفوعة يطالب بتحرير ولايات دياربكر، بتليس، خربوط، واورفا من النير التركي وحفظها كوطن للسريان. ويطالب الدول بالاعتراف بالمجازر واجبار مرتكبيها على دفع التعويضات المقررة.
لكن كل جهود هذا المطران السرياني الشاب ذهبت ادراج الرياح لان الدول الاوروبية الكبرى وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا لم تكن مهتمة بمصير السريان ومستقبلهم لتدعم فكرة وطن سرياني، وبسبب لامبالاتهم لم ينجح السريان تحقيق حلمهم بدولة سريانية، فاخذ بعدها داء الهجرة يتفشى بينهم. وقد عانى الكثير من السريان من عواقب عدم انجاز المطالب السريانية فهاجروا وتشتتوا تحت كل كوكب.

عام 1933 انتخب المطران افرام برصوم للكرسي البطريركي فاخذ يهتم لتثبيت استقرار السريان المهاجرين بعد المآسي التي حلت عليهم فنجح بذلك، فانشأ لهم المساكن والكنائس والمؤسسات وعمل على تخفيف مآسيهم. كان هذا البطريرك من اعظم العلماء الذين انجبهم الشرق. فقد امضى حياته كلها ومنذ صباه في البحث والدرس والتمحيص والكتابة فألف مجموعة كبيرة من الكتب في التاريخ الكنسي والتراث السرياني. ولولا كتبه العديدة لما اضطلع السريان على التراث السرياني الغني المكتنز في خزانات الاديرة التي زارها وتفحص ودرس مخطوطاتها السريانية التي كانت بالالاف قبل ان تبيد صروف الزمن الكثير منها، وكان قد عمل ثلاثة كتلوكات ضخمة للمخطوطات التي شاهدها. إذ كان منذ عهد رهبنته، بدأ يقرأ تاريخ الادب السرياني ويبحث عنه في مطاوي تلك المخطوطات المهملة في الاديرة السريانية العديدة. فجمع كنزأ عظيما من المعلومات وصاغها في كتابه الهام اللؤلؤ المنثور في تاريخ الادب السرياني، الذي لا زال قراء الادب السرياني يستعملونه وينهلون منه.

عندما مات هذا البطريرك افرام برصوم الموصلي عام 1957 كان هناك مطرانان عراقيان مرشحان للبطريركية، وهما المطران العلامة بولس بهنام من بغديدا والمطران العلامة سويرويس يعقوب من برطلى. ونجح سويريوس يعقوب باخذ غالبية اصوات المنتخبين وسمي البطريرك يعقوب الثالث، فشمر عن ساعد الجد والعمل.

فاذا كان البطريرك افرام برصوم قد دافع عن حقوق السريان في المحافل السياسية الدولية واستخرج تاريخ السريان والكنيسة السريانية والادب السرياني واظهره للجميع حيث الف مجموعة كبيرة من الكتب وطبع جانباً هاماً منها، فان البطريرك يعقوب الثالث الذي خلفه كان رجل المواقف والعلاقات والتاريخ الكنسي والعنفوان الشرقي، حيث عمل جاهداً واخرج الكنيسة السريانية الارثوذكسية من عزلتها بعد مصائبها الكبيرة، حيث نج بتعريف العالم الغربي عليها وعلى تاريخها وابائها وتراثها وايمانها، وذلك من خلال اتصالاته المسكونية مع الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية والانكليكانية والانجيلية. فقد اوفد سكرتيره الراهب زكا (البطريرك زكا بعدئذ) في اول خطوة من نوعها ليمثل الكنيسة السريانية الارثوذكسية في المجمع الفاتيكاني الثاني في دوراته لعام 1962 و 1963 فعقد هذا الراهب علاقات وصداقات مع قيادات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وعرّفهم بلاهوت كنيسته وتعاليمها. وبينما هو حاضر في المجمع الفاتيكاني انُتخب مطراناً لابرشية الموصل ووصله الخبر للعودة لرسامته مطراناً، فاقامت سكرتارية المجمع الفاتيكاني حفلا على شرف انتخابه مطراناً.
بالاضافة لعلاقاته المسكونية كان البطريرك يعقوب الثالث موسوعة في التاريخ الكنسي، اذ كان يحفظ على ظهر قلبه ادق تفاصيل تاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية وبقية الكنائس السريانية وخاصة تاريخها القديم لغاية القرن الثامن او التاسع، والف بعض الكتب في هذا المجال، وكان يلفت النظر دائما الى المصادر السريانية القديمة التي كان يستعملها. ولم يكن باستطاعة اي شخص عالم بالتاريخ الكنسي ان يصمد امامه في النقاشات التاريخية. كما كان هذا البطريرك من اشهر الرجالات في الوعظ والخطابة، وقد الف مجموعة كبيرة من الكتب في التاريخ الكنسي والوعظ.

وكان البطريرك يعقوب الثالث قد التقى مع باباوات روما ودرسا معا ما جرى في مطاوي التاريخ واصدرا وثائق ايمان مشتركة، والتقى ايضا مع بطاركة الروم واليونان والاقباط والحبش وبطاركة الكنائس الشرقية وغيرها، وعقد صداقات مع علماء السريانيات الاوروبيين فكلفوه لالقاء محاضرات. كان البطريرك يعقوب حجة في التاريخ الكنسي فاذا تحدث عن حدث تاريخي فكان الاخرون يصغون ويتحذرون من ادلاء برأيهم المخالف خوفا من افحامهم.
في نهايات شهر حزيران عام 1980 بينما كنت في الصباح الباكر مسافرا في القطار من حلب الى القامشلي وأقرأ الجريدة اليومية، وإذا بي اقرأ خبراً محزناً للغاية مفاده ان البطريرك يعقوب الثالث توفي. فامتلكني الحزن والاسف عليه ونظرت حوالي وكل الركاب من الاخوة المسلمين وليس هناك من يمكن ان اتحدث معه بهذا الموضوع المحزن، فتناولتُ القلم وكتبتُ قصيدة سريانية مؤثرة حول الموضوع لا زلتُ اتذكر مطلعها:
ܐܘܡܬܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ܒܓܘܢܚܐ   ܕܣܝܦܐ ܠܛܝܫܐ ܒܗܘܢ ܡܚܐ
ܫܓܝܫ ܡܥܪܒܐ ܘܒܟܬ ܡܕܢܚܐ   ܡܘܬܐ ܠܪܒܢ ܕܪ ܘܕܚܐ


المطران زكا يصبح بطريركاً على السريان الارثوذكس:
بعد وفاة البطريرك يعقوب اخذ يتردد على لسان كل ابناء طائفة السريان الارثوذكس بان البطريرك المقبل هو المطران زكا. وهكذا كان، لأن اعمال المطران زكا وانجازاته في مختلف المجالات كانت سفيره ورسوله الى قلوب السريان الارثوذكس فارادوه بطريركا عليهم.

قال البطريرك زكا في خطابه التاريخي يوم رسامته بطريركا بانه جاء ليَخدُم وليس ليُخدَم، وانه شخصياً يفضل تعليم المؤمنين الصغار الصلاة الربية على كتابة مجلد في الفلسفة واللاهوت. فكانت الرسالة واضحة من عنوانها هذا. البطريرك الجديد يريد ان يركز على الصلاة والروحانية وتعليم الناشئة. وهكذا فعل في طول حياته البطريركية لغاية انتقاله.

لكن ما اتعس حظ هذا البطريرك، اذ جاء الى الكرسي البطريركي وعاصمة الكرسي البطريركي (سوريا) كانت تأن وتنزف وأجوائها ملبدة بغيوم المشاكل والقتل، واليوم يغادر الكرسي وعاصمة الكرسي تأنُّ وتبكي يوميا والقتل لا يرحم والخوف مخيم في ساحاتها والموت ينعق في اسواقها، والسريان يهربون ويهاجرون دون رجعة.

جاء هذا الكاهن العراقي الى سوريا ليدير دفة كنيسته العريقة، فاستقبلته باصوات ازيز الرصاص ليس فرحا كعادة الشرقيين بل على اصوات رصاص القتل، واليوم تودعه على اصوات المدافع والمعارك. تعساً لك ياسوريا للاستقبال والتوديع الذين اعددتيهما لهذا الضيف العراقي الكبير الذي اختاركِ مسكناً ليرعى خرافه من عاصمتك التي احبها. ما أتعسكِ، فقد اسقبلتِ هذا البطريرك الضيف بمشاكلكِ، والان تودعيه بمشاكل اكبر وعلى صوت القتل ورائحة الموت المنبعثة في هوائك.

انتُخب البطريرك زكا الاول في صباح يوم الجمعة 11 تموز 1980 في كنيسة مارجرجس في دمشق. بعد ان جلس المطارنة اعضاء المجمع  كل في مكانه لاختيار بطريرك، القى غبطة مفريان الهند مار باسيليوس بولس الثاني (وهو رنيس الكنيسة السريانية الارثوذكسية في الهند، ومرتبة المفريان اكبر من المطران واصغر من البطريرك) كلمة بالسريانية اظهر فيها مكانة الكرسي الانطاكي، ثم تلاه القائمقام البطريركي، وبعد صلاة استدعاء الروح القدس بدأ المطارنة بالانتخاب، بدأها المفريان وثم تبعه كل المطارنة حيث توجه كل واحد منهم نحو المذبح وكتب اسم مرشحه بالسريانية ووضعه في كأس في المذبح كما هو العرف في الانتخاب البطريركي.. وعند فرز الاصوات تبين ان الاباء المطارنة قد انتخبوا بالاجماع المطران مار سويريوس زكا ليكون بطريركاً. فبادر المطران ملاطيوس برنابا القائمقام البطريركي واستجوب المطران المُنتَخب قائلا له: "ان المطارنة انتخبوك بطريركاً فهل انت راض بأن تكون اباً عاماً وبطريركاً لانطاكيا؟"، فاجاب المطران زكا بكل تواضع وخشوع قائلا: "انا راضِ". فخفقت القلوب لهذه البشرى السارة وعمت فرحة كبرى. وتقدم المطارنة جميعاً يقدمون له التهاني، ثم البسوه حلته الكهنوتية ووضعوا عصا الرعاية بيده، وبعد السجود والصلاة، القى البطريرك المُنتخب كلمة بالسريانية الفصحى شكر المطارنة ووعد بانه سيصون الامانة. بعدها خرج القائمقام البطريركي الى باحة الكنيسة حيث جموع السريان بانتظار نتائج الانتخاب واعلن عن فوز المطران زكا، فهلل الشعب السرياني المتواجد واستبشر الجميع خيراً. ثم اصطف جميع المطارنة وفي وسطهم البطريرك المنتخب وخرجوا الى باحة الكنيسة التي كانت تعج بالسريان فعلت اصوات الفرح والهتافات بحياته. بعدها اجتمع البطريرك المنتخب مع المطارنة وقرروا تعيين 14 ايلول 1980 موعدا لرسامته.


لكن رغم الاضطرابات في سوريا حينها كانت حفلة تنصيبه بطريركا على الكنيسة السريانية الارثوذكسية في 14 ايلول 1980 رائعة ونادرة وتاريخية. فقد حضرتها انا ايضا، إذ كنتُ لا زلت حينها اعيش في سوريا في مدينة القامشلي التي شاركت في حفل تنصيبه بوفد كبير جداً من السريان.
لقد انطلقت عدة باصات كبيرة من مدينة القاشلي تحمل وفداً كبيراً من العاملين في المؤسسات الكنسية متوجهة الى دمشق مركز البطريركية السريانية الارثوذكسية للمشاركة باحتفالات الرسامة. وكانت مدينتا حلب وحماة تعانيان من قلاقل بسبب تمرد الاخوان المسلمين، والخوف منتشر على كل ارجاء الطرق في سوريا بسبب المشاكل والاغتيالات اليومية التي تتم هنا وهناك. وكنا نعي حجم المخاطر التي تحفُّ بطريق السفر الى دمشق. لذلك كانت قوات الجيش السوري تحمي قافلتنا الكبيرة على الطريق، حيث كانت دبابات الجيش السوري تسير في مقدمة ومؤخرة وجوانب القافلة الكبيرة الى ان وصلنا مدينة دمشق بعد ان استغرق الطريق ضعف الوقت الاعتيادي، لكن وصلت قافلتنا بسلامة، فكانت الفرحة مضاعفة، وكذلك جرى في طريق العودة.

بعد صلاة القداس التي ترأسها غبطة مفريان الهند وبمشاركة مطارنة الكنيسة، قام المطران القائمقام البطريركي ووجه كلامه الى البطريرك المُنتخَب قائلاً: "روح القدس يدعوك لتكون بطريركاً على انطاكيا" فاجاب المُنتخَب: "انني راض وقابل". واعلن القائمقام: "لقد نُصبَ اليوم في كنيسة الرب مار اغناطيوس زكا الاول بطريركا للكرسي الانطاكي الرسولي". فقام جميع المطارنة واجلسوه على الكرسي البطريركي ورفعوه هاتفين ثلاث مرات "اكسيوس، اكسيوس، اكسيوس، يستحق ابونا مار اغناطيوس"، فعلت اصوات الفرح والهتافات في الكنيسة للحدث التاريخي.

لقد احب السريان الارثوذكس البطريرك زكا منذ ان كان مطراناً، فاختاروه بالاجماع وانتخبوه بطريركاً.

لقد جلس هذا البطريرك على الكرسي البطريركي مدة 34 سنة امضاها جاهداً في الخدمة والعمران والصلاة ونشر الحياة الروحية والثقافية ورسامة المطارنة والكهنة وتقديم المسيح لابناء طائفته.

ومن ابرز صفاته اهتمامه بعالم المسكونيات. فمنذ مؤتمر القدس المنعقد بين 15-16 نيسان 1959 وهو يحضر اكثر المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات ممثلا الكنيسة السريانية الارثوذكسية كمراقب او بصفة عضو في لجانها ويلقي كلمات حول لاهوت كنيسته وتاريخها. فقد حضر وهو راهب المجمع الفاتيكاني الثاني لدورتين متتاليتين بصفة مراقب. وقد مثل الكنيسة وهو مطران في مؤتمر اروس في الدنمارك في صيف 1964. ومؤتمر بريستول 1967. ومؤتمر اديس ابابا في اثيوبيا عام 1965 للكنائس الارثوذكسية الشرقية (وبين الحضور كان الامبراطور هايلا سيلاسي). وعام 1968 حضر مؤتمر لامبث في لندن.
ثم تتالت المؤتمرات واللقاءات فاخذ يوفد بعض مطارنته لهذه المؤتمرات ليقوي العلاقات المسكونية العالمية والخاصة بكنائس الشرق الاوسط او تلك الخاصة بالكنائس الاورثوذكسية. وفتح حوارا مسكونيا مع الاسلام حيث عقد صداقات متينة مع القيادات الاسلامية الدينية.
وقد التقى بمعظم قيادات كنائس العالم من باباوات وبطاركة ورؤساء اساقفة. كما كان يلتقي بشكل دوري مع بطاركة الكنائس الرثوذكسية الشرقية

امتاز البطريرك زكا بالروحانية وبكثرة الصوم والصلاة الدائمين في حياته، وبمحبة الجميع وخاصة الفقراء والارامل، وبالتواضع الزائد والاهتمام بالمدرسة الاكليريكية والرهبان ومحبته الكبيرة للغة السريانية والتراث السرياني. كان اباً للايتام والارامل والفقراء.

رسم البطريرك زكا خلال بطريركيته حوالي خمسين مطراناً نصفهم للهند، وهو رقم لم يسبقه اليه بطريرك في القرون المتاخرة، كما رسم عدداً كبيرا جداً من الكهنة والشمامشة، واسس رهبنة للنساء نمت وازدهرت كثيراً.
فاذا تذكر الناس والتاريخ البطريرك زكا الاول فسيتذكروه ككاهن روحاني من الدرجة الاولى ورجل الوحدة المسيحية من الدرجة الممتازة.

ما بعد البطريرك زكا:

ينص دستور الكنيسة السريانية الارثوذكسية على انه اثناء رقاد البطريرك، يتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق والمسؤولون في ديوان الكتابة بالبطريركية ومن حضر من المطارنة مجتمعين القيام بعدة اجراءات منها:
ـ إعلام غبطة المفريان في الهند وجميع مطارنة الكنيسة للاشتراك في مراسم وصلوات رتبة الدفن.
ـ إبلاغ السلطات المدنية العليا في البلد الذي فيه المقام البطريركي ورؤساء الكنائس.
ـ  حفظ وختم تركة البطريرك الراقد، شاملاً ذلك النقود وسائر الأموال المنقولة، والدفاتر والسجلات والملفات وكل ما يعود إليه بالشمع الأحمر، وكذلك تختم مكتبته وجناح إقامته.
ـ بعد ختام مراسم وصلوات رتبة الجناز والدفن، يتولى المذكورن بحضور لجنة من أصحاب النيافة المطارنة، جرد وتحديد موجودات التركة بموجب محضر رسمي يوقّعه الحضور، وبعد ختم هذه الموجودات تسلّم من قبل اللجنة المذكورة إلى البطريرك المنتخب.
وقد تمت الفقرات الثلاث الاولى وستتم الرابعة ايضاً بعد مراسيم الدفن يوم الجمعة.

 وتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق وبالسرعة الممكنة دعوة غبطة المفريان، والمطارنة إلى الحضور إلى دار البطريركية، وسيجتمعون برئاسة غبطة المفريان وفي حال غياب المفريان يجتمعون برئاسة أقدم المطارنة الحاضرين رسامة، وينتخبون قائمقاماً بطريركياً بأغلبية الأصوات وذلك في مهلة أسبوع ومن لا يمارس حقه في الحضور أو الكتابة خطياً يسقط صوته ويعلن اسم القائمقام المنتخب ويبلّغ ذلك فوراً.

وكذلك سيتولّى المعاون البطريركي والنائب البطريركي بدمشق جمع الأجوبة الواردة وإثبات مضمونها بمحضر رسمي بحضور المطارنة المتواجدين، ويعلن اسم المطران الحاصل على الأكثرية ليكون قائمقاماً، ويبلّغ ذلك فوراً.

وبعد انتخاب القائمقام البطريركي ينبغي أن يحضر إلى مقر الكرسي الرسولي بالسرعة الممكنة، وإذا استنكف أو توفي يتولى مكانه من يليه بعدد الأصوات. وإذا تساوت الأصوات بين اثنين، يرجَّح المطران الأقدم سيامة، وفي كل الأحوال يجب إعلام السلطات المدنية المختصَّة في سوريا مقر الكرسي البطريركي باسم القائمقام المنتخب.

ويجب على القائمقام البطريركي ان لا يبرح المقرّ البطريركي إلاّ لضرورة ماسَّة. ولا يحق له أن يغيّر شيئاً في المركز البطريركي أو الدوائر والمؤسسات التابعة له. ولا أن يعزل أو يرقي أحداً من رجال الإكليروس أو غيرهم، كما لا يحق له أن يبيع أو يشتري أو يستبدل أوقافاً أو يأذن بذلك لأحد في الأبرشيات.

وثم يدعو القائمقام البطريركي غبطة المفريان والمطارنة أعضاء المجمع المقدَّس لانتخاب بطريرك جديد في مدّة أقصاها ثلاثون يوماً، وعليهم أن يلبّوا الدعوة في الموعد المحدد، وإذا تعذّر حضور أي منهم لسبب مشروع، عليه أن يرسل صوته برسالة رسمية سرية مختومة، ينتخب فيها من يشاء وإلاّ يسقط حقه في الانتخاب.

وحسب القوانين الكنسية يشترط فيمن ينتخب بطريركاً أن يتَّصف بالتقوى وحسن الإدارة وأن يكون حائزاً على العلوم اللاهوتية والكنسية، ويجيد السريانية الاضافة الى احدى اللغات الأجنبية الحية، مبرهناً في سيرته السالفة على التزامه بإيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وأن يكون قد أحسن خدمة رتبة المطرنة سبع سنوات على الأقل.
وينص الدستور الكنسي بانه لا ينتخب بطريركاً من لم يبلغ الأربعين من عمره.

ويشترك في الانتخاب جميع مطارنة الأبرشيات والمطران المعاون البطريركي، والمطارنة النواب البطريركيون المسندة إليهم أبرشيات في مختلف البلدان. أما المطران الذين ليس له ابرشية وكذلك المطران المتقاعد فلا يحق لهم الانتخاب.

وتنص القوانين بانه ينبغي ان يشترك في انتخاب البطريرك خمسة مطارنة فقط من الهند وهم: غبطة المفريان ومطران أبرشية الكناعنة ومطران كنائس الكرسي الرسولي الأنطاكي بالهند ومطران أبرشية أميركا الشمالية الملنكارية ومطران الجمعية التبشيرية في الهند، لكن لا يُنتخَبون.



عملية انتخاب البطريرك الجديد:
يدعو القائمقام البطريركي إلى جلسة مغلقة تعقد برئاسة مفريان الهند ويحضرها المطارنة أعضاء المجمع الكنسي. وبعد تلاوة من طقس العنصرة، واستلهام الروح القدس، يجري الانتخاب سرّاً على قوائم مكتوبة بالسريانية تحمل أسماء المطارنة الذين تتوافر فيهم شروط الترشيح، فيأخذ الناخب ورقة من رئيس الجلسة بعد أن يوقّع بتسلّمها ويصعد إلى درج المذبح ويؤشر بعلامة صليب بالقلم الأحمر إلى جانب الاسم الذي يختاره، ويضع الورقة في الكأس الموضوعة على مائدة المذبح. حينئذ يضبط المفريان ومعه القائمقام البطريركي واثنان من المطارنة الأقدم رسامة عدد أوراق الانتخاب، وبعد ذلك تتم قراءة مضمونها علناً بعد فحص صحّتها، ويسجّل كشف بالأسماء وتحرق أوراق الانتخاب بعد ضبط محضر الجلسة. إنما تحفظ الرسائل المتضمّنة أصوات الأحبار الغائبين للاستفادة منها إذا أعيد الانتخاب. ويسجّل حدث الانتخاب في دفتر محاضر جلسات المجمع المقدَّس.

ثم يسأل رئيس الجلسة المطران الذي الذي نجح في الانتخاب بغالبة الاصوات فيما إذا كان راضياً بانتخابه بطريركاً، فإذا وافق يُعلن اسمه مباشرة وحينئذ يقوم جميع المطارنة من كراسيهم ويؤدّون له واجب الخضوع والاحترام، وتنظم اللجنة المشرفة على الانتخاب محضراً، يوقّع عليه المطارنة الناخبون، ويختمونه ويُعلِن رئيس الجلسة اسم المنتخب إلى جمهور المؤمنين وتقرع اجراس الكنيسة وتقام صلاة الشكر التي يختمها المنتخب بمنح البركة.


وينص دستور الكنيسة السريانية الارثوذكسية بانه  يتعهّد المُنتخَب قبل تنصيبه بصك مصدّق لدى الكاتب بالعدل، ينص أن كل ما يملكه من مال منقول وغير منقول أينما كان خلال بطريركيته هو ملك للكرسي البطريركي بعد رقاده وليس لأحد حق الادعاء بشيء فيه مطلقاً.

ثم يعيّن المجمع الكنسي أقرب عيد رئيسي أو يوم أحد بعد صلاة الأربعين للبطريرك الراحل لإجراء مراسم تنصيب البطريرك الجديد، ويُعلن ذلك للأبرشيات لحضور حفلة التنصيب، كما يُشعر السلطات المدنية المختصَّة ورؤساء الطوائف الدينية. ويحتفل بالقدّاس الإلهي غبطة المفريان إن كان حاضراً، وإلاّ فالقائمقام البطريركي أو أقدم المطارنة سيامة ويشترك في ذلك المطارنة، وخلال القداس يجري تنصيب البطريرك المنتخب بحسب الطقس السرياني الارثوذكسي الأنطاكي.

ويتسلّم قداسة البطريرك الجديد تركة سلفه من لجنة تحرير التركة بعد جردها ومطابقتها مع محضر الجرد، وذلك بموجب محضر رسمي.


مقترحات لمجمع المطارنة:
انني اقترح على مطارنة الكنيسة السريانية الارثوذكسية الذين سيجتمعون لانتخاب بطريرك جديد:
كتابة برنامج شامل لحياة الكنيسة وتطويرها من كل ناحية والاتفاق عليه من قبل جميع المطارنة ليكون دستورا في يد البطريرك الجديد يعمل على تنفيذه.
التركيز على اللغة السريانية في كل المجالات الكنسية والعمل على تعليمها في كل مكان. وتحفيض نسبة اللغة العربية واللغات الاخرى في الصلوات والطقوس الى حد كبير.
توحيد استعمال الطقوس السريانية في كل الكنائس.
تقوية وتجديد العلاقات المشتركة مع كل الكنائس السريانية الشرقية والغربية.
تنظيم تداول الاموال في جميع الابرشيات
العمل لاعطاء رواتب لجميع الكهنة
سحب كل الرهبان من مختلف البلدان وخاصة من اوروبا، واسكانهم في الدير البطريركي ليعيشوا فيه حياة روحية جماعية.

واخيرا نتنمى ان يختار المطارنة بطريركا قويا لهذه المرحلة العصيبة بعد ان تشتت السريان الارثوذكس في اصقاع العالم.

اسعد صوما
ستوكهولم

6
ماذا تعني كلمة سريان؟ شرح بسيط غير اكاديمي
الجزء الثاني

آراء مختلفة حول أصل كلمة "سريان":
اسعد صوما

 
تمهيد:
ان تعابير ܣܘܪܝܝܐ (سوريايا) "سرياني" Syrian، وܣܘܪܝܐ  (سورايا) "سوري/ سرياني"، و ܣܘܪܝܐ (سورِيّا) "سوريا/سورية" Syria مترابطة ومتلاحمة، والواحد مشتق من الآخر، كما ان لفطة ܐܬܘܪ (آثور) Assyria  "آشور" ايضاً متداخلة ومرتبطة معهم لغوياً.
لذلك عندما نبحث عن جذر لفظة "سريان" فان هذا يمس مباشرة لفظة "سوريا" ويمس احياناً لفظة "آشور" ايضاً.

ان التعابير "سوريا" Syria و "سريان" Syrian قديمة ظهرت أولاً لدى اليونانيين منذ حوالي 2500 سنة، أي انها ظهرت لدى اليونانيين القدماء قبل السريان بحوالي ألف سنة، وان السريان تعلموا كلمة "سريان" من اليونانيين واخذوها منهم واطلقوها على انفسهم الى جانب اسمهم القديم، ثم انفردوا باستعمالها بعد حوالي عشرة قرون من ظهورها لدى اليونانيين.

 ان تسمية "سريان" ܣܘܪܝܝܐ مشتقة من تسمية "سوريا" الجغرافية " Toponym وهي النسبة اللغوية منها مثلما نشتق كلمة مصري من مصر وعراقي من العراق ولبناني من لبنان، الخ. لذا ان كلمة "سريان" تعني في الاساس "سكان سوريا". وتعبير سوريا كان يشمل منطقة جغرافية كبيرة تمتد من البحر المتوسط لغاية فارس، ومن جنوب تركيا لغاية شمال فلسطين/اسرائيل. لذا ان تسمية "سريان" شملت كل هذه المنطقة المذكورة. وقد بدأ سكان هذه المنطقة يستعملون تسمية "سريان" على انفسهم ويسمون لغتهم "سريانية" منذ بداية القرن الخامس الميلادي، في حين كان اليونانيون يطلقون عليهم هذا الاسم السرياني منذ حوالي الف سنة قبلهم.

بعد ان تبنى السريان اسمهم السرياني من اليونانيين، والتحموا به التحاماً عضوياً لا يقبل الانفصال، واستعملوه كاسمهم واسم هويتهم ولغتهم ووعاء حضارتهم وثقافتهم وكنيستهم، نجد ان كل كتابات السريان القدماء (نساطرة ويعاقبة) تستعمله بالاجماع وتنصّ بشكل بديهي على انهم سريان.

لكن ماذا كان السريان يسمون انفسهم قبل ان يقبلوا كلمة "سريان" اليونانية ويسموا انفسهم بها؟ كي نجيب على هذا السوؤال يجيب ان نعود الى المصادر السريانية القديمة (اي التي كانت في القرن الخامس الميلادي وما قبله).
ان هذه المصادر السريانية تخبرنا ان السريان كانوا يسمون انفسهم "آراميين" ولغتهم "آرامية" قبل ان يسموا انفسهم "سريان"، وان الاسم السرياني حلَّ على الاراميين حيثما كانوا.

أما اصل تسمية "سوريا" التي اشتُق منها اسم السريان فهناك عدة آراء حولها حاول اصحابها شرحها ومصدر اشتقاقها اللغوي، لذلك سأستعرض هنا وباختصار شديد جداً الاراء الدارجة حول اشتقاق اسم "سوريا".

 منذ حوالي قرن ونصف ظهر على الساحة العلمية نقاش بين العلماء حول هذه التسمية وأصلها وتطورها. فبينما أجمع الكتاب السريان القدماء باشتقاق لفظة "سوريا/سريان" من اسم "سيروس" Syrus، رفض الغربيون هذا الاشتقاق وقالوا باراء مختلفة.
 ففي العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر كتب المستشرق الالماني الكبير "نولدِكِه" عن اشتقاقها من "آشور"، لكن عالم الدراسات الآرامية الكبير "فرانس روزنثال" اعترض على "نولدكه" ورفض فكرة اشتقاقها من آشور؛
ثم كتب الباحث "شفارتس" وقال ايضاً باشتقاقها من آشور، فقام بعده الباحث "تفندتس" ورفض اشتقاقها من آشور وقال باشتقاقها من "سوري" المصرية، وبعده بحوالي عشر سنوات كتب الباحث السويدي الاصل "فراي" وجدد فكرة اشتقاقها من آشور، فقام بعده البرفسور جون جوزف المتخصص بالسريان النساطرة ونقض نتائج "فراي" مشككاً في هذا الاشتقاق؛
ومؤخراً كتب الباحث "رولينغر" في الموضوع مركزاً على اشتقاق لفظة "سوريا" من "آشور".
 
وهنا نستعرض باختصار شديد جداً الاراء الدارجة حول اشتقاق اسم "سريان".
 
أولاً: ان الكتّاب السريان القدماء شرقيين (نساطرة) وغربيين (يعاقبة وروم) أجمعوا على ان اسم "سوريا" مشتق من اسم ملك "آرامـي" قديم اسمه Syros "سورس/سيروس" حكم المنطقة فتسمت باسمه ومنها اشتقت لفظة "سريان"؛ ومن الكتّاب السريان القدماء الذين قالوا بهذا الرأي نذكر مثلاً إيشوع برعلي السرياني النسطوري (القرن التاسع) في قاموسه السرياني الشهير، طبعة غوتهَيل 1908 روما، الجزء الثاني والقسم الاول صفحة 155؛ وأغابيوس قسطنطين السرياني الملكي "من طائفة الروم" (القرن التاسع) في "كتاب العنوان" طبعة اليسوعيين 1907، صفحة 26)؛ وابن الصليبي السرياني اليعقوبي (القرن الثاني عشر) في كتابه "الجدال" الفصل 14. ان الكتّاب السريان القدماء نقلوا هذا الرأي عن الكتّاب اليونانين القدماء الذين قالوا بهذه المقولة.
 
ثانياً: عام 1862 كتب البرفسور جورج رولينصون (1812-1902) وهو من مؤسسي علم الاشوريات، (وهو الشقيق الاصغر ل هنري رولنصون الذي نجح في فك رموز الكتابة المسمارية فسُمي "أبو الاشوريات")، كتب في تاريخه الموسوعي الضخم، ج 4، 52) ان اسم "سوريا" مشتق من اسم مدينة "صور" Sur اللبنانية فتبعه البعض بهذا الرأي، (انظر ايضاً Smith’s Bible Dictionary, page 669.).
وربط آخرون هذا الرأي بالمسيحية لمرور تلاميذ المسيح بمدينة صور (سفر الاعمال 21:3-7)، فقيل عنهم بالسريانية صورايى/سورايى (Suraye/Suroye) اي مسيحيين، وكل من تبعهم وانضم الى الدين الجديد سُمى ايضاً بهذا الاسم ܨܘܪ̈ܝܐ "صورويى/صورايى/سورايى" اي مسيحي، (لا زال سريان طور عابدين يطلقون بلهجتهم الارامية المحكية لفظة ܨܘܪ̈ܝܐ "صوروية" على المسيحيين قاطبة [لاحظ ان الاسم لديهم هو بحرف الصاد وليس بحرف السين]).
 
ثالثاً: كتب الباحث وينكلر ان اسم "سوريا" مشتق من "سور" Sur  (يلفظ ايضاً Sura  و Suri) الذي كان اسم إله الشمس في الاناضول. (أنظر تعليقه على لفظة "سوري" suri المنشور عام 1907)؛ وكذلك لمّح هوكينز في بحثه Assyrians and Hittites  المنشور في مجلة العراق Iraq العدد 36 لعام 1974؛ (حاشية 6، صفحة 68) وكذلك كان الباحث شتراسماير قد سبقهم بهذا القول عام 1884.
 
رابعاً: أرجع بعض العلماء أصل تسمية سوريا وسريان الى "آشور"، وقالوا بانها صيغة متطورة منها؛ ومنهم على سبيل المثال الباحث إدوارد شفارتز الذي كتب عام 1932 ان اسم سوريا مشتق من اسم آشور Ashshur (انظر بحثه الالماني ("حول آشور وسوريا"، المنشور في Philologus العدد 87 لعام 1932، الصفحات 261-263).

خامساً: نشر الباحث جون تفدتنس مقالاً بالانكليزية بعنوان "أصـل اسم سوريا" نشره في (Journal of Near Eastern Studies) العدد 40 عام 1981، صفحات 139-140) ذكر فيه بانه لا علاقة للالفاظ "آشور" و"سوريا" ببعضها البعض. ويرى تفدتنس ان أصل تسمية سوريا وسريان يعود الى لفظة Suri "سوري" المصرية، والتي كان المصريون القدماء يطلقونها بلغتهم على الحوريين في شمال سوريا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ثم اصبحت المنطقة تسمى باسمهم فسميت "سوريا".

 
كما هناك آراء أخرى عن الموضوع مثل اشتقاق سوريا Syria من Sirion "سيريون" المذكورة في الكتاب المقدس (تثنية الاشتراع 9:3 حيث وردَ: "الصيدونيون يدعون حرمون سيريون")، أو اشتقاقها من "سوبرتو" الاكادية، أو من "سوري" الآرامية وغيرها؛ كما ان لكل رأي من هذه الاراء اصحابه وأنصاره، وان البحوث التي تظهر من وقت لآخر عن التسمية تدعم هذا الرأي أو ذاك.

لكن باختصار الموضوع كل القرائن تدل على اشتقاق لفظة "سريان" من "سوريا".

يتبع الجزء الثالث حول اشتقاق اسم "السريان".
اسعد صوما


[/size]
[/size]

7
ماذا تعني كلمة سريان؟ شرح بسيط غير اكاديمي

اسعـد صومـا
ستوكهولم
[/color][/size][/b]
الجزء الاول

إذا اردتَ ايها القارىء اللبيب ان تعلم ماذا تعني كلمة "سريان" و من هم "السريان"، فاقول بكل بساطة: ان كلمة "سريان" ܣܘܪ̈ܝܝܐ (سوريايى/سورايى) هي اسم لمجموعة من البشر تضم الكثير من الافراد والجماعات والمؤسسات التي تنتمي اليها. وهذا ليس غريباً لأن جميع الناس يُقسمون الى مجموعات بشرية تتكون منها القبائل والشعوب والامم كبيرة كانت ام صغيرة، وان لكل شعب اسمه الخاص الذي يعرف به، وكذلك السريان ايضاً، فهم ليسوا استثاء من هذه القاعدة، بل هم "شعب" مثل غيرهم من الشعوب ولهم اسمهم السرياني هذا.

وكما ان لكل شعب بعض الامور الهامة المنظورة وغير المنظورة المشتركة بينه والتي تربط افراده ببعضهم برباط ووشائج متميزة قد تميزه عن غيره من الشعوب كاللغة والاثنية المشتركة والدين والتاريخ والثقافة والعادات، الخ. كذلك للسريان ايضاً بعض الامور المشتركة التي تربط افرادهم ومجموعاتهم ببعضهم بروابط عديدة، منها مادية ومنظورة وقد يعيها ويعلمها، ومنها معنوية وغير منظورة قد لا يعيها ولا يعلمها الفرد لكنها موجودة وتلبسه حلته السريانية التي تعطيه خواصه التي يتميز بها وتميزه عن غيره من الشعوب.

كان الموطن الاصلي لهذه المجموعة البشرية التي تُسمى بالسريان يشمل منطقة كبيرة من الشرق الاوسط ممتدة من البحر المتوسط لغاية فارس ومن اواسط تركيا الحالية لغاية منتصف فلسطين. حيث كان السريان يشكلون الغالبية العظمى من السكان في ديارهم هذه لغاية وقوعها في قبضة العرب المسلمين الذين احتلوا المنطقة في القرن السابع الميلادي.
 
كان السريان في القرون المسيحية الاولى يقسمون سياسياً ومناطقياً الى سريان مشارقة (تقريباً في العراق الحالي) واقعين تحت حكم الفرس، وسريان مغاربة (تقريبا في سوريا الحالية) تحت سلطة البيزنطيين، لكن عند احتلال العرب المسلمين للشرق الاوسط زال الانقسام من المنطقة السريانية واصبحت تحت سلطة حاكم واحد. وبزوال الحدود السياسية بين السريان اصبح معظمهم مواطنين في دولة واحدة هي "الدولة العربية المسلمة"، لكن القسمة الكنسية والطائفية واللغوية استمرت بينهم لغاية اليوم، لذلك بامكاننا ان نتحدث اليوم عن "فرق سريانية" و "كيانات سريانية" يتكون منها "الشعب السرياني".

ورغم الانقسام الطائفي والكنسي الذي ضرب السريان قديماً، ورغم الصراع اللاهوتي الحاد والمقيت بينهم في القرون التي تلت انقسامهم، إلا ان نخبة مثقفيهم من فلاسفة واطباء من السريان المشارقة والمغاربة ممن كانوا يعيشون في العاصمة بغداد اثناء حكم العباسيين، كانوا يلتقون بشكل طبيعي في الحلقات الدراسية الشهيرة حينها في دراسة المنطق والفلسفة، كما كانوا يدرسون على بعضهم، ويحضرون محاضرات بعضهم ويناقشون رسائل بعضهم، بغض النظر عن اختلافاتهم الكنسية القائمة. وكان الحكام العرب والخلفاء ينظرون الى السريان على انهم "شعب" سرياني "واحد" رغم انتماءاتهم الكنسية المتباينة، وكانوا يسمون جميعهم باسم السريان، (والملفت للنظر انه لم يكن حينها يطلقون على احد منهم اسم "عرب" كما يفعل الحكام اليوم في سياستهم التعريبية).

ونجد في بعض كتب التراث العربي القديمة بأن تسمية سريان تطلق ايضاً على بعض الحكماء والاطباء من طائفتي "الصابئة" و"اليهود" من سكان العراق القديم، فمثلا يقول ابن ابي اصيبعة في كتابه "طبقات الاطباء" عن ماسرجويه متطبب البصرة بانه "كان يهودي المذهب سريانياً" (طبعة بيروت، صفحة 232) وهذا إن كان صحيحاً وإن دل على شيء فانه يدل على ان الاسم السرياني حينها كان فيه تعددية دينية وطائفية، وهنا تسقط المقولة الهشة التي تدعي ان لفظة السرياني كانت تعني مسيحي. بل استعمل السريان ثلاث كلمات للدلالة على المسيحي: اثنتان سريانيتان وهي ܡܫܝܚܝܐ (مشيحايا) و ܡܗܝܡܢܐ (مهَيمنا) والاخرى يونانية وهي ܟܪܝܣܛܝܢܐ (خريسطيانا)، لذلك لم يكونوا بحاجة حينها ليستعملوا اسمهم بمعنى مسيحي.
لكن منذ القرن الخامس عشر وبعدها وبسبب ما حل بالمنطقة على يد جحافل تيمورلنك وقعت بلادنا في بحر العزلة والانغلاق، وأخذت المجموعات السريانية تسبح في مستنقع الجهل والتخلف، فأخذ اسم السريان في "التقليد الشفهي" يتقوقع عل ذاته ليعني ايضاً مسيحي الى جانب معناه السرياني التقليدي. ونفس الشيء حدث لكل المجموعات البشرية حيث ارتبط اسمها بدينها وبمذهبها وتلاحم الاسمان معاً. أما في التقليد الكتابي فلا نجد في النصوص السريانية بان كلمة سرياني كانت تعني مسيحي. أما اذا كانت لفظة سرياني "سورايا" تعني مسيحي اليوم، فهذا ليس شاذاً بالقياس عما حلَّ باسماء بقية شعوب المنطقة (فاسم الكردي "قوردايا" يوحي ايضاً الى الاسلام). ان التطور الذي حصل في استعمال لفظة "سورايا" ادى بها الى ان تحمل المعنيين معاً، اي انها الى جانب معناها "السرياني" الاصلي، فقد تولد فيها "معنى اخر" هو المسيحي وارتبط بها بقوة لغاية اليوم. وكل من ادعى من الكتّاب القدماء والمحدثين بان كلمة سرياني لا تدل على شعب او قومية، فان كل المصادر السريانية القديمة وبالاجماع تفنّد هذا القول "السياسي" الملغوم.


من هم سريان اليوم؟
[/color][/size]

ان الجواب على السؤال "من هم سريان اليوم؟" بسيط للغاية لدى العارفين وعلماء الدراسات السريانية، لكنه قد يكون "صعباً" نوعاً ما لدى العامة من الناس والقراء. ولكي نجيب على السؤال المذكور نقول: ان سريان اليوم يُقسمون الى قسمين: القسم الاول يضم سريان الشرق الاوسط والقسم الثاني يضم "سريان الهند".

1.   أما سريان القسم الأول أي سريان الشرق الاوسط، فهم ابناء وأحفاد السريان القدماء، الذين يسمون انفسهم اليوم باسم "سريان واشوريين وكلدان وموارنة". وقد كان اجداد هؤلاء جميعاً يُعرفون باسم "سريان" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ويُسمون انفسهم بهذا الاسم السرياني بشكل طبيعي وبدون تعقيد وارتباك بل بفخر واعتزاز. وهذا واضح في جميع كتبهم السريانية. كما ان العرب المسلمين بعد قدومهم الى بلادنا واختلاطهم بشعبنا استعملوا بدورهم كلمة "سريان" واطلقوها على السريان. وكان هذا الاسم السرياني هو الاسم "الرسمي" الوحيد الذي أطلقه العرب علينا بعدئذ، وكمثال بسيط حول الموضوع احيلك ايها القارىء الى احد الكتب التراثية العربية التي بحثَتْ في تاريخ الحضارة والفلسفة والطب وهو كتاب "عيون الانباء في طبقات الاطباء" لمؤلفه "ابن ابي اصيبعة" ويحتل الحديث عن اجدادنا السريان حيزاً كبيرا من الكتاب، حيث خصص المؤلف الباب الثامن من كتابه عن اطبائنا وفلاسفتنا ويسمى هذا الفصل "طبقات الاطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العباس"، لكن فصول الكتاب الاخرى ايضا تحتوي على الكثير من اخبار فلاسفتنا واطبائا السريان الذين عاشوا اثناء حكم العرب وخاصة اثناء حكم الدولة العباسية. ولو راجعتَ كتاب "الفهرست" لابن النديم، وكتاب "اخبار العلماء" للقفطي، و"طبقات الاطباء والحكماء" لابن جلجل، وغيرها من الكتب،  ستجد كتبهم مليئة بذكر علماء وحكماء وفلاسفة واطباء وتراجمة السريان. والسريان الذين يتحدثون عنهم هم اجداد جميع الذين يسمون انفسهم اليوم بالكلدان والسريان والاشوريين.

أما اسماء "اشوري" و"كلداني"، فللأسف، لم تكن موجودة حينها في هذه الفترة التي نتكلم عنها، ولم يكن احد يعرفها إلا من خلال ذكرها في العهد القديم. ولو كانت هذه الاسماء موجودة، لاستعملها الكتّاب دون اي تردد.


2.   أما القسم الثاني من السريان فهم "سريان الهند"، أي "الهنود المسيحيون" الذين يعيش معظمهم في ولاية كيرالا في جنوب الهند. ويُسمون سرياناً لأنهم ينتمون الى الكنائس السريانية الهندية ارثذوكسية كانت أم كاثوليكية أم بروتستانتية أم نسطورية. وتلتحق معظم الكنائس السريانية الهندية بالكنائس السريانية التي في الشرق الاوسط وتستعمل طقوسها ولغتها السريانية وتتبع تقاليدها الكنسية.

ويوجد بين المسيحيين الهنود اقلية متميزة لها تقاليدها الخاصة بها تصرّ على انها تنحدر من "اصل سرياني"، وتقول انها قدمت الى الهند من منطقة الشرق الاوسط، وخاصة من الرها ومن العراق. ان غالبية اعضاء هذه الاقلية "السريانية المتميزة" يتبعون كنيسة السريان الارثوذكس ولهم مكانة خاصة متميزة في هذه الكنيسة ويتمتعون بحقوق اكثر من اشقائهم الاخرين من ابناء كنيسة السريان الارثوذكس في الهند ممن هم هنود اصلاً، إذ يحق لهم بالمشاركة في اختيار بطريرك الكنيسة السريانية الارثوذكسية، بينما ابرشيات الكنيسة السريانية الارثوذكسية الهندية الاخرى لا يحق لها بالمشاركة في اختيار البطريرك اثناء انتخابه لأنها ليست من أصل سرياني.
 
وينقسم سريان الهند الى مجموعتين تُعرف الاولى باسم Syro Malabar  "سيرو مالابار" اي السريان الملاباريين ومعظمهم كاثوليك ويستعملون ويتبعون الطقس الكنسي "السرياني الشرقي" ويستعملون الفرع الشرقي للغة السريانية كما يلفظها الكلدان واغلبهم تابع للكنيسة الرومانية، واقلية صغيرة تتبع الكنيسة الاشورية.
وتُعرف المجموعة الثانية باسم Syro Malankara "سيرو مالانكارا" ويستعملون الفرع الغربي للغة السريانية كما يلفظها السريان والموارنة، ويتبعون في طقوسهم وتقاليدهم والبسة كهنتهم السريان الارثوذكس. كما ان اغلبهم ارثوذكس مع وجود مجموعة كاثوليكية هامة ضمن هذا التقليد واخرى مرتبطة مع الكنيسة الانكليكانية.

اي ان جميع الهنود المسيحيين ممن يرتبطون عضوياً أو تراثياً بكنائسنا السريانية والكلدانية والاشورية هم "سريان" ويسمون انفسهم "سريان" ويُطلق عليهم اسم "سريان". كما انهم يطلقون اسم السريان حتى على مؤسساتهم ومنشآتهم ليس فقط الكنسية والثقافية منها، بل حتى على مؤسساتهم الاجتماعية والاقتصادية والمالية والصناعية، فمنها على سبيل المثال "البنك السرياني الكاثوليكي" الذي هو من اشهر البنوك في ولاية كيرالا في جنوبي الهند.

وبالمناسبة ان اتباع "الطقس الكلداني" في الهند لا يسمون انفسهم "كلداناً" ولا يسمون كنيستهم كلدانية، بل يسمون انفسهم "سريان" ويسمون كنيستهم "سريانية ملابارية"، كما ان اتباع الكنيسة الاشورية في الهند لا يسمون انفسهم "آشوريين" ولا كنيستهم آشورية، بل يسمون انفسهم "سريان" وكنيستهم باسم "سريانية كلدانية".

إذاً، ان النساطرة في الهند (اتباع الكنيسة الاشورية) يسمون كنيستهم باسم "سريانية كلدانية"، بينما اتباع الطقس الكلداني هناك لا يسمون اسم كنيستهم بهذا الاسم الكلداني.

ويبلغ عدد جميع اتباع الكنائس السريانية الهندية اكثر من عشرة ملايين، وحوالي نصفهم يتبع تقاليد الكنيسة السريانية الارثوذكسية ويمارسون طقوسها واعيادها وتقاليدها الكنسية، ويستعمل الباقي تقاليد وطقوس كنيسة المشرق.

اما الكنيسة النسطورية في الهند والتي تسمى رسمياً الكنيسة الكلدانية السريانية، فهي من اصغر الكنائس في الهند ويبلغ عدد اتباعها اليوم حوالي 25 الفاً فقط.

كما ان كل الكنائس السريانية في الهند تستعمل اللغة السريانية في طقوسها لكن بنسب متفاوتة. لكن كنيسة السريان الارثوكس تستعمل اللغة السريانية اكثر من باقي الكنائس الهندية السرياية الاخرى.

النتيجة:
[/size][/color]
إذاً، وكما رأينا ان السريان ينقسمون اثنياً وجغرافياً الى قسمين: الاول هو الشعب السرياني الذي هو سرياني الانتماء والاصالة واللغة والحضارة في منطقة الشرق الاوسط ويضم السريان والكلدان والاثوريين، والثاني هو الشعب الهندي المسيحي الذي هو هندي الانتماء والحضارة  لكنه سرياني الكنسية لأنه ينتمي الى الكنائس السريانية بتقاليدها ولغتها منذ اعتناقه المسيحية ولغاية الان.

والخلاصة ان مسيحيي الشرق الاوسط عدا الاقباط والارمن هم بالاساس "سريان" اثنياً وحضارياً، وكذلك فإن مسيحيي جنوب الهند هم "سريان" لكن كنسياً وطقسياً.

قريباً سأنشر القسم المتبقي من المقال وهو "حول أصل واشتقاق لفظة سريان".

أسعد صوما[/size]
[/size]

8
كتاب جديد حول الفلسفة السريانية

تأليف الدكتور اسعد صوما

ستوكهولم
[/size][/color]


واخيرا صدر كتابي الموسوم: (الفيلسوف السرياني ابن العبري في كتابه الفلسفي ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ "حديث الحكمة)، وأسمه بالسريانية:
ܦܝܠܘܣܘܦܐ ܣܘܪܝܝܐ ܡܪܝ ܓܪܝܓܘܪܝܘܣ ܒܪܥܒܪܝܐ ܒܟܬܒܗ ܕܦܝܠܘܣܘܦܝܐ «ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ»
 

الكتاب هو باللغتين العربية والسريانية الفصحى. ولقد درستً فيه الفلسفة الارسطوطالية والمنطق لدى الفيلسوف السرياني الشهير العلامة غريغوريوس ابن العبري (1226-1286) الذي له عدة كتب سريانية في الفلسفة والمنطق بالاضافة الى كتبه الكنسية العقائدية المبنية على الفلسفة والمنطق. وقد حصرت دراستي فقط حول كتابه الفلسفي الهام ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ  Swodh Sufiya)  وبالسريانية الشرقية Swadh Sopiya)"حديث الحكمة" الذي قمتً بدراسته وتحليله وتقديم نصه السرياني مع ترجمته الى العربية. وكي لا يفقد القارىء متعة قراءة الكتاب فلن اتكلم عن محتواه اكثر مما اقدمه هنا.

ولا يخفى على القارىء اللبيب ان موضوع الفلسفة السريانية ليس سهلاً وخاصة للقارىء العادي غير المضطلع على الفلسفة، وان لغة النصوص السريانية الفلسفية صعبة ولا تنقاد لاصحاب المعرفة القليلة بهذه اللغة العريقة التي هي خزانة تراثنا السرياني الغني، إذ لم يعد هناك بين السريان اليوم من يقرأ هكذا نصوص سريانية هامة لعدم معرفتهم باللغة السريانية كما يجب، فاصبحت الكتابات الفلسفية السريانية القديمة كالطلاسم في هذا الموضوع، حيث ينفر منها ابناؤها وورثتها وأحفاد هؤلاء الفلاسفة السريان الذين ساهموا في كتابة اسم السريان بحروف ذهبية في سجل الحضارة العالمية.

لقد عالجنا موضوعنا في دراسة فلسفة ابن العبري من الداخل اي من خلال دراستنا النص السرياني لكتاب ابن العبري الفلسفي، ودوّنا النتائج التي توصلنا اليها في تحليلنا للفلسفة الارسطوطالية باللغة السريانية.
ويعتبر كتابنا هذا الخطوة الاولى في مشروع مكوّن من خمسة كتب حول الفلسفة السريانية ندرس فيها النصوص الفلسفية لبعض الفلاسفة السريان ممن اشتهروا اكثر من غيرهم في هذ المجال الثقافي والترف الفكري، وسيكون آخرها تصنيف قاموس سرياني للالفاظ والمصطلحات السريانية الفلسفية، حيث جمعنا منذ فترة الكثير من مواده ومواد الكتب الذي يحتويها مشروعنا هذا. وانشاء الله سوف تصدر هذه الكتب تباعاً في الاعوام القادمة لتكون معينة للقراء الاحباء في التعرف على ثقافة اجدادهم باسلوب سهل.

ولأجل تعريف بسيط بالكتاب انشرً هنا التمهيد الذي افتتحتً به كتابي المذكور.

تمهيد
[/size][/color]

يضم هذا الكتاب النص السرياني للكتاب الفلسفي "حديث الحكمة" ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ وترجمته العربية، للفيلسوف السرياني الشهير والعلامة الموسوعي مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1226-1286)، الذي كتب وألّف في جميع حقول المعرفة التي كانت معروفة في القرون الوسطى.
ويضم الكتاب ايضا مقدمة مطولة تشمل ثلث الكتاب، وهي عبارة عن دراسة عامة عن السريان وتاريخ الفلسفة السريانية واسهامات بعض الفلاسفة السريان وفضلهم في خلق الفلسفة والمنطق باللغة العربية في بغداد عاصمة العباسيين حينها. وتضم المقدمة ايضاً موضوع الفلسفة لدى فيلسوفنا ابن العبري وذكر كتبه الفلسفية، وخاصة كتابه ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ "حديث الحكمة" الذي قمنا بتقديمه والتعريف به بالتفصيل كونه محور الكتاب هذا، وذَكرنا مخطوطاته السريانية العديدة المنتشرة شرقاً وغرباً، وبينها مخطوطة الكتاب التي اعتمدنا عليها.

ان مخطوطة كتاب "حديث الحكمة" التي اعتمدتُ عليها ونقلتُ النص السرياني منها هي حديثة. وقد اخترتها لأنها تمثل تواصل التقليد السرياني الثقافي في دراسة الفلسفة السريانية بشكل خاص، ودراسة كتب ابن العبري بشكل عام. وقد قمتُ بكتابة النص السرياني على الكومبيوتر ووضعتُ حركات التشكيل لكل كلمات النص بشكل كامل، لتسهيل عملية القراءة السريانية الصحيحة. كما انني وضعت كل صفحة من الترجمة العربية مباشرة مقابل ما يعادلها من الاصل السرياني لتسهيل المقارنة بين النصين، او الاعتماد على الترجمة العربية لفهم النص السرياني بشكل جيد، او العكس.

لقد ترجم الفلاسفة السريان القدماء الكثير من النصوص الفلسفية اليونانية ووضعوا لها الشروحات والتعليقات والملاحق والجوامع والتفسيرات، وقدموها للقارىء والدارس مادة علمية جاهزة للدرس. لكن معظم تلك الترجمات والشروحات والجوامع الفلسفية التي انجزوها ضاعت، ولو لم تلعب بها ايدي الزمن ويضيع معظمها، لملأت مكتبة.

ان الغاية من كتابنا هذا هو التعريف بفيلسوفنا السرياني العلامة ابن العبري وفلسفته وكتبه الفلسفية السريانية، وخاصة كتابه الفلسفي "حديث الحكمة" وتقديمه مادة جاهزة للقارىء الكريم. وكذلك توضيح انجازات بعض الفلاسفة السريان القدماء، وتبيان دورهم الهام في خلق الفلسفة والمنطق في الدولة العباسية، وفضلهم على فلاسفة العرب والمسلمين الذين كانوا تلامذة السريان في هذا المجال. كما يمكن استعمال نص الكتاب لتعلّم اللغة السريانية من خلال قراءة كل جملة سريانية مع ترجمتها العربية مباشرة.

فعسانا ان نكون قد توفقنا فى غايتنا هذه خدمة للثقافة واللغة السريانية واصحابها السريان من مشارقة ومغاربة، للتعرف على كتب وثقافة اجدادهم الغنية الذين كان اسمهم مرتبطاً بالثقافة ويوحي اليها.

ان نادي الرها (Edessa) السرياني في ياكوبسباري ضاحية ستوكهولم هو المسؤل عن هذا الكتاب.
ولمزيد من المعلومات بخصوص الكتاب الاتصال برئيس النادي السيد عزيز القس (قاشيشو).
تلفون: 0736376453
بريد الكتروني: azizkashicho@yahoo.se

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم



9
هل وردت كلمة "سريان" في الكتاب المقدس؟[/size][/b][/color]
الدكتور: اسعد صوما
[/size]

هل وردت تسمية "سريان" في الكتاب المقدس؟ موضوع جذب اهتمام بعض القراء مؤخراً.

تمهيد:[/color]
ان ورود اسم ܣܘܪܝܝܐ "سوريايا" (سريان) أو اي اسم آخر في الكتاب المقدس او عدم ذكره، لا ينقص أو يزيد من قيمته ولا يؤكد او ينفي وجوده. لأن الكتاب المقدس ليس كتاباً عن تاريخ الشعوب القديمة رغم ان الكثير من تلك الشعوب مذكورة فيه مباشرة او في سياق المواضيع الاخرى. لكن ذكر اي شعب في الكتاب المقدس يدل على ان تسمية ذلك الشعب إما كانت مستعملة اثناء تدوين النص الذي وردت فيه، أو انها كانت معروفة من خلال مصادر اخرى كانت في حوزة الكتّاب الذين دونوا النص المذكور. كما ان ذكر أي اسم  في الكتاب المقدس يدل على ان عمر ذلك الاسم يعود على الاقل الى زمن تدوين الكتاب المقدس.
وقبل ان نبحث عن كلمة "سريان" في الكتاب المقدس سنقدم لمحة موجزة عن نص الكتاب المقدس وبعض ترجماته القديمة، وخاصة السريانية منها، لانها على علاقة مباشرة بموضوعنا، وكي نفتش في كل واحدة منها عن كلمة "سريان".

أولاً: تسمية "سريان" في العهد القديم:
لقد كُتِب العهد القديم اولاً باللغة العبرية (التي هي لهجة كنعانية)، باستثناء بعض الفصول من اسفار عزرا ودانيال فانها كتبت بالارامية (تسمى آرامية الكتاب المقدس). ان العهد القديم بلغته الاصلية، اي العبرية، لا يحتوي لا على كلمة "سريان" ܣܘܪܝܝܐ "سوريايا" ولا على  عبارة "لغة سريانية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ "لشانا سوريايا" وهذا امر معروف.

1.   النص العبري للكتاب المقدس.
لقد وصل العهد القديم الى مختلف الشعوب القديمة بواسطة ترجمته من لغته العبرية الاصلية. أما اقدم ترجمة للعهد القديم قبل المسيح كانت من العبرية الى اللغة اليونانية، لكن في القرون المسيحية الاولى ظهرت عدة ترجمات الى الآرامية ومنها السريانية، واللاتينية وغيرها. كما ظهرت ترجمات يونانية اخرى غير الترجمة اليونانية القديمة.
ان النص العبري الحالي للعهد القديم ثبت نصه بصيغته الحالية وبلغته العبرية، دون استعمال حركات لتشكيل الكلمات، في القرن الاول الميلادي. وكان هناك حينها عدة قراءات مختلفة وصيغ لغوية متباينة في مختلف المخطوطات العبرية قبل تثبيت النص الحالي. وقد اهتم به علماء اليهود في مختلف مدارسهم في فلسطين وبابل بدقة متناهية خلال التاريخ، فحافظوا عليه، وقاموا بعملية تشكيله مقلدين الطريقة السريانية في تشكيل الكلمات لتثبيت القراءة الصحيحة، فاستقر وضعه اللغوي النهائي في اللفظ والقراءة، كما هي عليه الآن، في القرن الحادي عشر الميلادي.
ان النص العبري الحالي وصلنا من مخطوطات ليست قديمة، بل ان اقدم المخطوطات التي تضم النص العبري كاملاً هي "مخطوطة القاهرة" وتعود الى عام 895م، وتليها في القدم مخطوطة حلب وتعود الى القرن العاشر الميلادي، وتليها "مخطوطة لينينغراد" من بداية القرن الحادي عشر. وهناك ايضا "المخطوطة السامرية" من القرن الحادي عشر، والتي اكتشفت في دمشق. (السامريون طائفة يهودية قديمة تعترف فقط باسفار موسى الخمسة من العهد القديم. ويختلف نص مخطوطتهم بحوالي 6000 موضع مع النص العبري اليهودي المعروف، لكن الاختلافات بسيطة للغاية اغلبها في طريقة كتابة الكلمات وغيرها، لكنها لا تغيّر معنى النص. بقي اليوم فقط بضع مئات من السامريين، فهم على طريق الزوال).
ان العهد القديم العبري لا يحتوي لا على كلمة "سريان" ܣܘܪܝܝܐ "سوريايا" ولا على  عبارة "لغة سريانية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ "لشانا سوريايا".

2.   ترجمات آرامية يهودية (الترجوم):
كان اليهود في زمن السيد المسيح والقرون الاولى التي تلته قد فقدوا لغتهم العبرية في الكلام اليومي المحكي، إذ لم يعد يفهمون لغتهم العبرية التي اندثرت من الاستعمال اليومي منذ عدة قرون، لأنهم اصبحوا يتكلمون الآرامية في بيوتهم. فكان الكاهن في الكنيست مضطراً اثناء الصلاة الى ان يترجم الكلام من العبرية الى الآرامية المحكية بشكل عفوي وشفهي، وكانت هذه الطريقة شاقة ومتعبة للكهنة. وهذه الترجمة تسمى "الترجوم" (وهي كلمة آرامية تعني الترجمة). وبعد ردحة طويلة من الزمن في ممارسة هذه الترجمة الآرامية الشفهية، كتب بعض علماء اليهود هذه الترجمة الآرامية الشفهية فأصبحت سفرا مكتوباً في متناول اليهود في الكنيست والبيت.
لكن هذه الترجمة ليست ترجمة بما تعنيه كلمة ترجمة من معنى، بل هي بشكل ادق شرح حرفي للنص العبري كما كان اليهود يفهمونه في زمن ترجمة/تاليف الترجومات. لذلك ليس لها هناك قيمة كبيرة من وجهة نظر النقد اللغوي للنص الكتابي للكتاب المقدس.
وهناك مجموعنان للترجومات تضم كل واحدة  منهما اسفاراً مختلفة من الكتاب المقدس: وهي الترجومات الفلسطينية والترجومات البابلية.

3.   الترجمة اليونانية السبعينية:
ان اول ترجمة للعهد القديم نعرفها هي الترجمة التي تسمى بالترجمة "السبعينية" (من العبرية الى اليونانية). وتسمى "سبعينية" لأنه حسبما ينص عليه التقليد اليهودي والكنسي ان "اثنين وسبعين" عالماً يهودياً خبراء باللغات العبرية والارامية واليونانية قاموا بترجمتها، لذلك تسمى اصطلاحاً "سبعينية" بالنسبة لعدد المترجمين الذين شاركوا في انشاء هذه الترجمة. وقد اختير هؤلاء التراجمة من الاسباط اليهودية بالتساوي، اي ستة علماء من كل سبط يهودي. ويقول مؤرخنا العلامة ابن العبري (توفي عام 1286) بان هذه الترجمة انجزت بناء على أمر الملك المثقف "بطليموس فيلادلفوس"؛ حيث وضعوا كل اثنين من التراجمة في بيت في جزيرة "فوروا" لينجزا ترجمتهما، وهكذا انجز التراجمة ستة وثلاثين نسخة/ترجمة.  وعندما قوبلت النسخ كلها مع بعضها فَوُجِدت مطابقة لم تتخالف لفظاً ولا معنىً، فاعتمد على صحة النقل (انظر "تاريخ مختصر الدول" لأبن العبري، طبعة صالحاني، بيروت 1983، صفحة 99). وإن صحت هذه القصة أم لا، فان الترجمة السبعينية، وخاصة لسفر التكوين، هي اول واقدم ترجمة للنص العبري. ان هذه الترجمة "السبعينة" (من العبرية الى اليونانية) انجزت في مدينة الاسكندرية في مصر في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.
ان الاسم "السرياني" يرد هنا في هذه الترجمة اليونانية "السبعينية". وقد استعمله التراجمة هنا بدلاً من الاسم "الآرامي" الموجود في النص العبري.

4.   الترجمة السريانية البسيطة:
لقد انجزت هذه الترجمة السريانية "البسيطة" للعهد القديم مباشرة من الكتاب المقدس العبري وذلك في القرن الاول الميلادي ولغاية القرن الثالث، واطلق عليها علماء السريان في القرون اللاحقة اسم الترجمة/النسخة "البسيطة" ܦܫܝܛܬܐ "فشيطتو/بشيطتا" ليميزوها من غيرها من الترجمات السريانية للكتاب المقدس، ونسميها باللغات الاوروبية باسم Peshitta . بعد انجاز هذه الترجمة اخذ جميع السريان في كل مكان، من كنائس وكهنة وجميع المؤمنين، يستعملون هذه الترجمة السريانية " البسيطة" ܦܫܝܛܬܐ للكتاب المقدس في حياتهم المسيحية والكنسية اليومية، واستمروا يستعملوها لغاية اليوم مهملين الترجمات السريانية الاخرى للعهد القديم.
أما من عمل هذه الترجمة واين فهناك عدة آراء بهذا الخصوص. لكنني استطيع التأكيد بان عدة اشخاص لهم خلفيات دينية وثقافية مختلفة اشتركوا في ترجمتها، فمنهم من كانوا مسيحيين، ومنهم مسيحيين من خلفية يهودية، ومنهم من كانوا من اليهود. ونصرح بهذا لان اللغة السريانية في هذه الترجمة "البسيطة" تتميز بشيء من الخصوصيات من سفر الى آخر. ورغم كونها لغة سريانية واحدة في جميع اسفارها، إلا ان بعض الاسفار تتميز في الاسلوب والتنوع في اللغة تميزها عن غيرها من اسفار هذه الترجمة مما يدل على ان عدة تراجمة مختلفين ساهموا في ترجمتها. كما ان بعض اسفارها متأثرة بالترجمات الآرامية اليهودية المعروفة باسم "ترجوم".
أما مكان الترجمة فهناك آراء مختلفة بهذا الخصوص تتراوح بين مملكة حدياب الآرامية في شمال العراق، وذلك بناءً على طلب العائلة المالكة التي كانت تعتنق اليهودية، وبين مملكة الرها الآرامية (اورفا في تركيا). إلا اننا نرجح الرها في هذا الموضوع كون الاهتمام اللغوي والثقافي بين ابناء هذه الدولة قديم، وان الرها كانت موطن هذه الفرع من اللغة الآرامية التي ترجم اليها الكتاب المقدس وعرفت لاحقاً باسم اللغة "السريانية"، وانها اصبحت مركزاً هاماً جداً لمجمل الثقافة السريانية، ولأن الرها ومدن الجوار كانت ايضا تحتضن جاليات يهودية مما يوضح لنا تاثير الترجومات اليهودية على بعض اسفار هذه الترجمة السريانية "البسيطة".
وحتى بعد انقسام السريان الى مشارقة (نساطرة) ومغاربة (يعاقبة) استمر الفريقان السريانيان باستعمال هذه الترجمة السريانية "البسيطة" في كل الامور الدينية والكنسية وكانت كتابهم المقدس الوحيد.
إلا ان علماء السريان القدماء المتبحرين في الكتاب المقدس لم يرتاحوا جدا الى هذه الترجمة البسيطة، لذلك عملوا ترجمات سريانية اخرى بعد ان احسوا بالفارق الذي بين النص اليوناني "السبعيني" وبين النص السرياني "البسيط" الذي في متناول يدهم. فأنجزت لاحقاً ترجمات سريانية اخرى قريبة من النص اليوناني. منها الترجمة الفيلوكسينية التي اشرف عليها وانجزها العلامة فيلوكيسنوس المنبجي (توفي عام 523)، والترجمة السريانية "السبعينية" المعروفة ب "سيروهكسابلا".
ان الاسم السرياني لا يرد في هذه النسخة السريانية "البسيطة" من الكتاب المقدس.

5.   الترجمة السريانية السبعينية.
ان علماء السريان من اللغويين واللاهوتيين في العصور الذهبية، لم يكونوا مرتاحين جداً من نص الترجمة السريانية "البسيطية"، لذلك انجزوا في القرون اللاحقة ترجمات سريانية اخرى للعهد القديم ناقلين اياها من النص اليوناني "السبعيني" المذكور اعلاه. وقد اطلق على هذه الترجمة السريانية الجديدة اسم ܫܒܥܝܢܝܬܐ "شبعينيتو/شبعينيتا" (السبعينية) لأنها ترجمت من النص "اليوناني السبعيني" الذي ترجم بدوره من العبرية في القرن الثالث قبل الميلاد.  
وكان العلامة السرياني بولس التلي قد انجز هذه الترجمة السريانية السبعينية من اليونانية في الاسكندرية حوالي عام 615، وذلك اثناء غزو الفرس المنطقة وهروب بولس التلي من ابرشيته تل موزلت (اليوم في جنوب شرق تركيا) الى مصر. وسرعان ما انتشرت هذه الترجمة بين العلماء السريان (وخاصة المغاربة) واستعملوها في دراساتهم عن الكتاب المقدس وفضلوها في امور كثيرة على الترجمة السريانية القديمة، اي الترجمة "البسيطة".
كان بولس التلي (مطران تل موزلت بين ماردين والرها) قد انجز ترجمته السريانية المذكورة من النص اليوناني المتوفر في موسوعة العلامة "أوريجينس" لنصوص الكتاب المقدس. حيث انجز هذا العالم الكبير أوريجينس حوالي عام 250 ميلادي في مدينة الاسكندرية بخط يده كتابة خمسين مجلداً ضخماً تضم مختلف الترجمات من العهد القديم، مقسمة الى ستة عواميد متوازية: يحتوي العمود الاول النص العبري، والعمود الثاني النص العبري مكتوباً بالحرف اليوناني، اما بقية العواميد فيحتوي كل عمود على ترجمة يونانية مختلفة للعهد القديم. فالعمود الثالث يحتوي على ترجمة اقولاس، والرابع ترجمة سوماخوس، والخامس الترجمة السبعينية، والسادس ترجمة ثيوديطون. وقد وفر أوريجنس بعمله الكبير هذا اكبر خدمة لعلماء الكتاب المقدس حينها للدراسات اللغوية المقارنة.
وقد ترجم علامتنا بولس التلي الترجمة السبعينة الموجودة في "العمود الخامس" من مجموعة اوريجينس المذكورة.
ومن خلال ترجمة هذه النسخة السبعينة اليونانية الى السريانية في مدينة الاسكندرية، تصبح مدينة الاسكندرية أهم منطقة في التاريخ قدمت خدمة للعهد القديم: ففيها ترجمت الترجمة السبعينة من العبرية الى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، وفيها انجز العلامة اوريجينس تجميع مختلف الترجمات في مجلده العملاق حوالي عام 250 ميلادي، واخيرا فيها انجز عالمنا بولس التلي ترجمة النسخة السبعينة اليونانية الى السريانية في بداية القرن السابع الميلادي,
ان اسم السريان ܣܘܪܝܝܐ "سوريايا" يرد في هذه الترجمة "السريانية السبعينية". وقد اتت كلمة "سوريايا" فيها كترجمة للاسم "الارامي" الموجود في النص العبري. إذ لما كان نص العهد القديم السرياني السبعيني مترجم عن النص اليوناني السبعيني وفيه كلمة "سرياني"، لذلك كان من الطبيعي ان يحتفط بها الترجمان السرياني ويدخلها في النص السرياني ايضاً ويكتبها بصيغة ܣܘܪܝܝܐ "سوريايا" (سرياني).

6.   الترجمة اللاتينية "فولغاتا":
مثلما تُرجمت الترجمة "اليونانية السبعينية" الى السريانية في الترجمة "البسيطة" "فشيطتو/بشيطتا"، كذلك تُرجمت النسخة اليونانية "السبعينية" الى اللغة اللاتينية ايضاً في النسخة المعروفة ب "الترجمة اللاتينية القديمة" واستعملت فيها تسمية "سريان".

لقد كانت الثقافة المسيحية في الكنائس في المناطق اللاتينية الرومانية تُمارس باللغة اليونانية وتستعمل الكتاب المقدس باليونانية. لكننا نجد ظهور ترجمة لاتينية لأول مرة في شمال بلاد "الغال" وكذلك في شمال افريقيا التي كانت احد اجزاء العالم الروماني. فمثلا ان القديس ترتليانوس الذي نشط في قرطاجة حوالي عام 160 ميلادي كان يعرف هذه الترجمة اللاتينية وربما يستعملها، يعتقد اصحاب الاختصاص ان النص اللاتيني الذي كان متداولا في شمال افريقيا، كان يختلف الى حد ما عن النص اللاتيني المتداول في اوروبا حينها. لكن هذه "الترجمة اللاتينية القديمة" ازيحت من الاستعمال لصالح ترجمة لاتينية اخرى وهي "الترجمة اللاتينية الرسمية" والتي تسمى "فولغاتا" والتي انجزها القديس "هيرونيموس" (ولد في دالماتيا حوالي عام 340م وتوفي في فلسطين حوالي 420م) وذلك بناء على طلب شخصي من البابا "دماسوس" الاول عام 382 ميلادي.
كان هيرونيموس من "دالماتيا" وقام برحلات عدة منها للشرق، واستقر في فلسطين وتعلم العبرية، وبدأ عام 386 عمله بالترجمة في احد الاديرة في بيث لحم. قام بترجمة المزامير اولاً من "النسخة اليونانية السبعينية" ولا زالت نسخة المزامير هذه تستعمل في الليتورجية في كنيسة القديس بطرس في روما. وثم قام بترجمة المزامير ثانية لكن من النص اليوناني السبعيني المتوفر في العمود الخامس في موسوعة "اوريجينس" المسماة "هكسابلا" (السباعية) وهي مستعملة في كل الكنائس الكاثوليكية، ثم تابع هيرونيموس وترجم كل العهد القديم من العمود الخامس للنسخة السبعينية في موسوعة "اوريجنس". لكم معظم كتب هذه الترجمة فقدت.
وبعد تمكنه من اللغة العبرية قام هيرونيمس بترجمة كل العهد القديم من العبرية، لكن من نسخة عبرية لا نعرفها على وجه التحديد، الا انه استنادا الى الترجمة يشبه ذاك النص العبري الى حد كبير النص الموجود الان. كما اننا نعلم انه اعتمد ايضا على النص "اللاتيني القديم" وعلى الترجمة "اليونانية السبعينية" والترجمات اليونانية الاخرى المتوفرة في "سباعية" اوريجينس.
وقد خضعت ترجمة هيرونيموس هذه الى عملية تنقيحح وتعديل لغوي في القرنين الثامن والتاسع. كما ان "السينودس الترنديتي" لاساقفة الكنسية الكاثوليكية لعام 1546 في مدينة "ترينت" في ايطاليا، أقر ان هذه الترجمة اللاتينية هي الوحيدة الشرعية في كل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وفي نهاية عام 1589 طُبعت هذه الترجمة بمساعي البابا سيكستوس الخامس (فسميت الطبعة على اسمه)، وتبعه البابا اقليمس الثامن فطبعها مجددا عام 1593 وتسميت طبعته ايضاً باسمه.

في هذه النسخة اللاتينية يرد اسم "سرياني و"لغة سريانية" بدلا من "آرامي" ولغة "آرامية"، لكون هذه الترجمة اللاتينية التي ترجمت من العبرية، قد اعتمدت على النسخة "اليونانية السبعينية" ايضاً، لكن استعمالها للاسم "السرياني" اتى في الدرجة الاولى تمشياً مع العادة الدارجة في الثقافتين اليونانية واللاتينية بان يطلقوا على "الآراميين" اسم "السريان"، وعلى اللغة "الآرامية" اسم "الغة "السريانية" في الزمن الذي تمَّت فيه الترجمة.


7.   العلماء السريان القدماء يفضلون الترجمة السبعينية للكتاب المقدس:
ولقد نظر علماء الكتاب المقدس القدماء، نظرة تقدير للترجمة اليونانية "السبعينية" واعتبروها افضل من النص العبري الذي كان معاصراً لهم، لأن النص العبري القديم الذي تُرجمت منه النسخة "السبعينية" في القرن القالث قبل الميلاد ضاع ويختلف لغويا الى حد ما عن النص العبري الحالي الذي وصلنا منذ القرن الاول الميلادي. لذلك يرى علماء العهد القديم ان النص اليوناني السبعيني يمثل نصاً أقدم للكتاب المقدس من النص العبري الحالي الذي وصلنا. وفضّل علماؤنا السريان القدماء، وبينهم علامتنا الكبير ابن العبري، النص "السبعيني" اليوناني وترجمته السريانية على النص العبري وترجمته السريانية "البسيطة". يقول ابن العبري: "وهذا النقل السبعيني هو المعتبر عند علمائنا" (تاريخ مختصر الدول، صفحة 100). ويقول ايضا في كتابه قواعد اللغة السرياني ܟܬܒܐ ܕܨ̈ܡܚܐ بقوله: ܕܡܦܩܬܐ ܦܫܝܛܬܐ ܕܒܐܝܕ̈ܝ ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܫܚܝܡܐ: ܘܫܒܥܝܢܝܬܐ ܕܒܐܝܕ̈ܝ ܝܘ̈ܢܝܐ ܘܫܪܟܐ ܕ̈ܥܡܡܐ ܒܚܝܪܐ أي "ان الترجمة البسيطة الموجودة بين يدي السريان بسيطة، أما الترجمة السبعينية المتداولة لدى اليونانيين وبقية الشعوب مضبوطة" (انظر كتابه ܟܬܒܐ ܕܨ̈ܡܚܐ طبعة المستشرق السويدي آكسل موباري عام 1922، صفحة 238) وفي شرحه لسفر القضاة عدد 18، رقم 1، من للكتاب المقدس يقول ابن العبري ܗܢܐ ܦܬܓܡܐ ܠܐ ܬܪܝܨ ܒܣܘܪܝܝܐ "هذه الجملة ليست صحيحة في النص السرياني" (انظر كتابه الموسوعي ܐܘܨܪ ܐܪ̇ܙܐ "مخزن الاسرار" في شرحه لسفر القضاة عدد 18:1)؛ ويقول ايضا ܡܢ ܗܪܟܐ ܝܕܝܥܐ ܠܐ ܚܬܝܬܘܬ ܡܦܩܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ "من هنا يتضح عدم دقة الترجمة السريانية "البسيطة" (نفس الكتاب في شرهه لسفر القضاة 18:30)؛ وقوله ايضا ܒܡܦܩܬܐ ܦܫܝܛܬܐ ܛܥܘ̈ܢܐ ܒܕܘܟ ܕܘܟ ܡܫܬܟܚܝܢ اي "هناك زلات "لغوية" ترد في بعض الاماكن من الترجمة البسيطة" (انظر كتابه القواعدي ܨ̈ܡܚܐ "صمحى"، صفحة 3).
إذأً، كان العلماء السريان القدماء يفضلون الترجمة السبعينية على الترجمة البسيطة. لكن رغم علو كعب الترجمة "السبعينية" وبساطة الترجمة "البسيطة"، فان الترجمة "البسيطة" تحولت الى رمز ثقافي وديني سرياني يدل على السريان بمختلف فرقهم.

8.   كلمة "سريان" في النسخة السبعينية للكتاب المقدس:
لقد اوضحنا اعلاه اهمية الترجمة "السبعينية" اليونانية التي انجزت في مدينة الاسكندرية في مصر في القرون الاولى قبل الميلاد، وكيف ان العلماء السريان القدماء فضّلوا هذه الترجمة السبعينية اليونانية وترجمتها السريانية على الترجمة "البسيطة" التي  هي من اوائل ترجمات الكتاب المقدس في الفترة المسيحية.
ان كلمة "سريان" و عبارة "لغة سريانية" لا ترد في الكتاب المقدس العبري ولا في ترجمته السريانية المعروفة باسم "بسيطة"، لكننا نرى هذه التسمية "سريان" واردة في اقدم ترجمة للكتاب المقدس اي في الترجمة اليونانية المعروفة باسم "السبعينية" التي ترجمت، كلها او بعضها، في القرن الثالث قبل الميلاد.
لكن كيف ترد هنا كلمة "سريان" في الترجمة اليونانية "السبعينية" وهي غير موجودة في النص العبري الاصلي للكتاب المقدس؟ فمن اين اتت هذه التسمية ودخلت في الترجمة المذكورة؟
ان كلمة "سريان" موجودة في عدة اماكن من التوراة "السبعينية"، وقد وردت في معظم الاماكن التي يستعمل فيها النص العبري اسم "آرامي". ففي اغلب الاماكن التي وردت فيها كلمة "آرامي" في نص التوراة العبرية، ترجمها التراجمة الى "سرياني" في التوراة اليونانية "السبعينية" المذكورة. ونفس الشي فعلوا مع "عبارة لغة آرامية" حيث ترجموها الى عبارة "لغة سريانية".
والسؤال هنا هل ترجم التراجمة فقط كلمة "آرامي" الى "سرياني" أم ترجموا كلمة "آشوري" ايضاً الى "سرياني"؟ الجواب هو: فقط كلمة "آرامي" تُرجمت الى "سرياني"، أما لفظة "آشوري" وغيرها من الاسماء فلم تترجم الى "سرياني" البتة.
إذاً، لا يوجد في النص العبري ذكر لكلمة "سريان"، لكن عندما ترجموا النص العبري الى اليونانية وردت في الترجمة لفظة "سرياني" بدلا من "آرامي".
وهنا ربما تخطر ببال القارء الكريم عدة اسئلة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه قبل غيره هو هل هذا "عمل أمين" قام بها التراجمة عندما ترجموا لفظة "آرامي" الى "سرياني"؟ ولماذا فعلوا هكذا اي ترجموا اسم "آرامي" الى "سرياني"؟ بل من أين جلبوا تسمية "سرياني" وادخلوها في النص؟ ألا يوجد في اللغة اليونانية كلمة لتسمية "آرامي" ليكتبوها في الترجمة اليونانية، فاستبدلوها بلفظة "سرياني"؟.
كل هذه الاسئلة محقة بأن يطرحها القارىء الكريم. لكن الجواب على هذه الاسئلة بسيط للغاية. وهو كالتالي: كانت قد درجت عادة شهيرة لدى اليونانيين بان يطلقوا على الآراميين تسمية "سريان" وعلى "اللغة الآرامية" تسمية "اللغة السريانية"، وكلما وجدوا كلمة "آرامي" دوّنوها بصيغة "سرياني". وبهذا الخصوص صرح المؤرخ اليوناني القديم سترابون (ولد حوالي عام 63 قبل الميلاد وتوفي حوالي 24 ميلادي) بقوله: "ان الذين يطلق اليونانيون عليهم تسمية سريان فانهم يسمون انفسهم بالآراميين" (انظر كتابه:  (Geography, book I, 34). وكذلك فعل المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس الذي عاش مباشرة بعد المسيح (ولد حوالى عام 37 ميلادي ومات حوالى سنة 100 للميلاد) بقوله: "يطلق اليونانيون على الآراميين اسم السريان" (انظر كتابه: ( Antiquities of the Jews, Book I, Chapter 6)

لقد بدأ اليونانيون يطلقون على المنطقة التي تضم سوريا والعراق ولبنان وشمال فلسيطين اسم "سوريا"، وعلى شعبها اسم "سريان" وعلى لغتها اسم "سريانية". لكنهم ضموا في هذا الاسم الجديد الفينيقيين ايضا. لكن منذ القرن الثالث قبل الميلاد اطلقوا لفظة "سريان" فقط على الآراميين" حصراً. وتحول الموضوع لديهم  الى عادة بديهية. فكل كاتب يوناني كتب عن الآراميين حينها، لم يستعمل اسم "آراميين" بل سماهم "سريان" ولغتهم "سريانية".  لكن الاراميين استمروا يسمون انفسهم "آراميين" رغم تسمية اليونان لهم بالسريان. وفي هذا المجال يقول المؤرخ والفيلسوف اليوناني بوسيدونيوس ( حوالي 135 ق. م. – 51 قبل الميلاد) "ان السريان يطلقون على انفسهم اسم الآراميين" (انظر:
 Posidonius, (Cambridge Classical Texts and Commentaries 1988), vol. 2, pp. 955-956.
لذلك عندما قام التراجمة بترجمة الكتاب المقدس من العبرية الى اليونانية، حافظوا في ترجمتهم على التقاليد والعادة الدارجة لديهم في اطلاق اسم "سريان" على الآراميين.
وهكذا لا نجد تسمية "سريان" في العهد القديم العبري، لكننا نجدها في ترجمته اليونانية المعروفة بالسبعينية، لانها انجزت في الفترة التي كان فيها اليونانيون يسمون الآراميين بالسريان، فترجموا لفظة "آرامي" الى "سرياني" حسب ما تقتضيه العادة الدارجة في اليونانية.
وقد جرى تبديل الاسم "الآرامي" الى "سرياني" ليس فقط في هذه الترجمة اليونانية التي تسمى "السبعينية"، بل استبدل ايضاً في الترجمات اليونانية الاخرى التي انجزت في القرون التي تبعتها. وخاصة ترجمة "اقولاس" اليونانية (انجزت حوالي عام 130 ميلادي)، وترجمة "سوماخوس" اليونانية (انجزت حوالي عام 170 ميلادي)، وترجمة "ثيودطيون" اليونانية (انجزت في نهاية القرن الثاني الميلادي).
ففي جميع الترجمات اليونانية ترد كلمة "سرياني" ولفظة لغة "سريانية" كبديل لتسمية "آرامي" ولغة "آرامية" حفاظاًعلى التقليد اليوناني المتبع.
إذاً، الترجمات اليونانية القديمة للعهد القديم والتي انجزت من العبرية، بدءأً من الترجمة "السبعينية" ونزولاً الى القرون الاولى بعد المسيح، تحتوي على اسم "سريان" ولغة "سريانية" كبديل للاسم "الآرامي" الاقدم عهداً. والترجمات الاخرى التي تمت من "السبعينية" الى اللاتينية والسريانية وغيرها حافظت بدورها ايضا على تسمية سريان فيها.

9.   هل يحتوي الكتاب المقدس "السرياني" على كلمة سريان؟
ان العهد القديم ترجم الى السريانية من النص العبري مباشرة، ويُطلق على هذه الترجمة اسم ܦܫܝܛܬܐ "فشيطتو/بشيطتا" (البسيطة)، ربما لتركهم البلاغة في نقلها (على حد قول ابن العبري في تاريخ مختصر الدول، صفحة 100). وقد تحولت هذه الترجمة السريانية "البسيطة" الى الكتاب المقدس الرسمي "القومي" لدى جميع الفرق/الكنائس السريانية لغاية اليوم لان الجميع يستعملوها. وهذا يدل على ان هذه الترجمة السريانية ܦܫܝܛܬܐ "فشيطتو/بشيطتا" (البسيطة) انجزت قبل انقسام السريان الى كنائس لذلك قبولوها، وان جميعهم يتفق على استعمالها لأنها ليست ترجمة خاص بكنيسة سريانية دون اخرى.
ففي هذه الترجمة السريانية "البسيطة" لا يرد فيها لا اسم "سريان" ولا عبارة "لغة سريانية"، وذلك انسجاماً مع النص العبري الذي بدوره لا يحتوي على هذه الالفاظ.
كما ان الترجمة السريانية الحديثة الى اللغة المحكية (السورث) والتي طبعتها Mission of Babylon عام 1893 في امريكا، والتي كانت قد ترجمت من هذا النص السرياني "البسيط"، لا تحتوي هي بدورها على كلمة "سريان" ܣܘܪܝܝܐ. وكذلك في ترجمة "البسيطة" الى الانكليزية التي انجزها الدكتور جورج لمسا (1892-1975) (وهو سرياني من الكنيسة الشرقية) لا يرد فيها اسم "سرياني"، لانه ترجمها ايضاً من النسخة السريانية "البسيطة".
لكن في الترجمة السريانية "السبعينية" فترد فيها تسمية "سريان".


ثانياً: تسمية "سريان" في العهد الجديد:
أما في العهد الجديد من الكتاب المقدس فالوضع مختلف. ان كلمة "سرياني" ترد في انجيل لوقا (4:27) على لسان السيد المسيح عندما يذكر حدثاً مهماً من العهد القديم (من سفر الملوك الثاني 5) عن "نعمان الآرامي" الذي كان قائداً للجيوش السريانية التابعة للملك الآرامي برحدد في دمشق  (ربما من القرن الثامن او التاسع ) قبل الميلاد. ان "نعمان" المذكور كان آرامياً وقائداً للجيش الآرامي، وكان قد اصابه مرض جلدي (البرص)، فعندما استشهد به السيد المسيح لم يطلق عليه لقب "نعمان الآرامي" بل سماه "نعمان السرياني" ܣܘܪܝܝܐ (سوريايا). أي ان الاسم "الآرامي" من العهد القديم تحول الى "سرياني" في العهد الجديد. نحن نشك ان كان السيد المسيح بنفسه قد سماه "نعمان السرياني" لان السيد السيح كان يتكلم الآرامية، وفي الآرامية لم يحصل تبديل الاسم "الآرامي" الى "سرياني"، لكن كاتب الانجيل لوقا الانجيلي سماه باليونانية "نعمان السرياني" وليس "الآرامي"، لأن اطلاق تسمية "سرياني" على الآرامي كانت عادة دارجة في اللغة اليونانية وليس في الآرامية. والمعروف عن السيد المسيح انه تكلم الآرامية وليس اليونانية لذلك لم يستعمل المسيح التقليد اليوناني بل الآرامي اليهودي.
 وهكذا بسبب لغة الانجيل اليونانية تسرب التقليد اليوناني الى الانجيل، وتحوّل لقب "نعمان الآرامي" من العهد القديم الى "نعمان السرياني" في العهد الجديد.
 أما النص السرياني من الترجمة السريانية "البسيطة" للعهد القديم المنقول عن العبري فيقول عن نعمان المذكور "نعمان الآرامي" ܢܥܡܢ ܐܪܡܝܐ "نعمان ارامايا" وليس "السرياني"، تماماً كما ورد الاسم في التوراة العبرية اي "نعمان الأرامي".
لكن في الترجمة السريانية "السبعينية" للعهد الجديد المنقولة عن اليونانية، يسمى نعمان ܢܥܡܢ ܣܘܪܝܝܐ "نعمان سوريايا" (اي نعمان السرياني).

الخاتمة:
وهكذا لا نجد تسمية "سريان" في العهد القديم العبري، لكننا نجدها في ترجمته اليونانية المعروفة بالسبعينية، لانها انجزت في الفترة التي كان فيها اليونانيون يسمون الآراميين بالسريان، فترجموا لفظة "آرامي" الى "سرياني" حسب ما تقتضيه العادة الدارجة في اليونانية. ومن الترجمة السبعينية اليونانية تسرب الاسم "السرياني" الى الكتاب المقدس السرياني اثناء ترجمة هذه النسخة السبعينية الى السريانية .
أما في العهد الجديد ولأنه كتب باليونانية فترد به كلمة "سريان" في قصة "نعمان الآرامي" المذكورة في العهد القديم.

ولما قام تراجمة الكتاب المقدس بترجمة اسم "آرامي" الى "سرياني" فهذا يقودنا ال القول ان الاسمين "آرامي" و "سرياني" كانا يدلان على بعضهما بشكل مترادف، لذلك حل الاسم السرياني بدل الآرامي كاسم رديف وبديل له.
كما ان جميع الكتّاب السريان من مشارقة ومغاربة استعملوا في كتاباتهم في المرحلة المسيحية الاسمين "الآرامي" و "السرياني" بشكل مترادف ايضاً.


انتهى المقال
الدكتور اسعد صوما
السويد


[/size][/b]

10
هل نكتب بالسريانية الفصحى أم بالعامية؟
اسعد صوما
ستوكهولم

نشرتُ قبل يومين مقالة هنا عن "اللغة السريانية الفصحى"،  وهذا الرابط اليها:
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,710963.0.htm
فقام بعض الاخوة بالتعليق عليها: منهم بشكل ايجابي ومنهم بشكل سلبي. وقام الاستاذ "ابراهام قشو" بالتعليق عليها كاتباً رسالته بلغته الآرامية التي يتكلمها في بيته ففرحتُ بها جداً بسبب اللغة المكتوبة بها. فكتبتُ له جواباً بالسريانية الفصحى شاكراً وطالباً منه ان يكتب رسالته وتعليقه بلغتنا السريانية الفصحى ويرسلها لي ثانية، لافهم كل تفاصيلها بدقة كي لا يصبح هناك اي سوء تفاهم وخاصة من عدم فهم بعض الالفاظ الخاصة بها. لكن الاستاذ ابراهام قشو عاد وكتب لي رسالة اخرى بلغته الآرامية المحكية ولم يكتب بالسريانية الفصحى كما طلبتُ منه.
ان السيد ابراهام قشو يتكلم "الآرامية الحديثة الشرقية" التي يسميها اهلها "سورث" (اي سريانية)، ودوّن رسالته المذكورة بها (وهذه ميزة هامة جداً يُشكر عليها ونتمنى ان يكون مثلا يُحتذى به في هذا الموضوع الهام).
أما انا فاتكلم "الآرامية الحديثة المتوسطة" واتمكن من السريانية الفصحى "الكلاسيكية" كتابة وتكلماً بشكل جيد.
ولا يخفى على احد ان الفرق بين هذين الفرعين: اي "الآرامية الحديثة الشرقية" و"الآرامية الحديثة المتوسطة" من لغتنا الآرامية كبير جداً الى درجة ان السريان الذين ينطقون بهذين الفرعين الآراميين لا يفهمون بعضم الا القليل جداً، "أو ربما لا يفهمون شيئا على الاطلاق"، وانهم يستعملون لغة اخرى "ثالثة" في الحديث مع بعضهم البعض اذا التقوا وتحدثوا معاً. لذلك طلبتُ من الاستاذ ابراهام قشو ان يكتب رسالته باللغة السريانية الفصحى ويرسلها لنا ثانية ليتمكن كل عارف للغتنا الفصحى من السريان المشارقة والمغاربة على حد سواء، ان يفهم فحواها دون ان يحصل التباس في الفهم. لكن الاستاذ ابراهام قشو لم يفعل ذلك، بل استمر وكتب تعليقا آخراً بلغته الارامية المحكية.

ومع احترامنا للاستاذ ابراهام قشو على رسالته السريانية وتقديرنا لهذه الخطوة الجيدة، ورغم انني لا اريد ان اعلق على مضمونها كون الكثير من محتواها غير علمي كقوله مثلاً <ان ملوك دولة الرها كانوا آشوريين>،  لكن اصراره على الكتابة لي بلغته الآرامية المحكية، وجوابي له بالسريانية الفصحى يجعلنا ان نفكر باهمية لغتنا بشقيها "الفصحى" و"العامية" على المستوى القومي الثقافي والاجتماعي العملي على حد سواء.

ان اللغة السريانية الفصحى كانت اللغة التي يتعاطى بها اجدادي واجداد الاستاذ ابراهام قشو واجداد جميع السريان بالكتابة والتأليف والمراسلة والطقوس الكنسية. فكانت اللغة التي تجمعهم وتوحد كلمتهم وتعطيهم قوة في ارتباطهم بها وبالتاريخ السرياني والتراث السرياني المدوّن، وتقوي احساسهم القومي بكونهم ينتمون الى امة سريانية واحدة لها تراث جامع لكل ابنائه من مختلف الكنائس. وقد بدأ السريان يكتبون بالسريانية الفصحى منذ فجر المسيحية حيث ترجموا اليها الكتب المقدسة واصبحت وعاء حضارتهم الذهبي. واستمرت هذه "السريانية الفصحى" بين جميع السريان واتباع الحضارة السريانية على مدى جميع العهود المسيحية، واصبحت لغتهم القومية على مر الزمن، يكتبون بها عصارة فكرهم حتى وان كانوا يتكلمون في بيوتهم لغات اخرى، فانتجوا بها ادباً غنيا جداً. ولازالت آلاف المخطوطات السريانية المدونة في هذه اللغة والمنتشرة في مكتبات الغرب والشرق، تروي ملحمة عظمة هذه اللغة ولكن قصة مأساتها الحقيقية ايضا.

أما "الآرامية الحديثة الشرقية" التي يتتكلمها الاستاذ ابراهام قشو فهي ايضا مهمة جداً، خاصة في التواصل اليومي وربط الناطقين بها ببعضهم البعض، فيشعرون بانهم شعب واحد له لغته التي تخلق له خصوصيته التي تميزه عن جيرانه من الشعوب الاخرى. وهذه اللهجة الآرامية ايضاً قديمة، لأن كل فروع الآرامية الكتابية والشفهية قديمة جداً ولم تتولد حديثاً، رغم ان اهل الاختصاص يسمون آرامية الكلام الشفهي "آرامية حديثة" Neo-Aramaic لكن ليس بمعنى انها تولدت حديثاً لكن لتميزها من بقية الفروع الارامية في مختلف مراحل حياتها.

وقد استمرت هذه اللهجة الآرامية الشرقية، يحكي بها معظم سريان العراق وايران بمختلف فرقهم وكنائسهم على مر العصور دون انقطاع وهم يسموها بالاسم المحلي "سورث" والتي تعني حرفياً "سريانياً". لكن الناطقين بهذه اللهجة الآرامية لم يكتبوا بها بل كتبوا بالسريانية الفصحى مثلما فعل بقية السريان ممن يتكلمون لهجات آرامية اخرى مختلفة في كل منطقة الشرق الاوسط. وهكذا فالسريان المشارقة والمغاربة يمارسون في حياتهم ثنائية اللغة Diglossia وكانوا دائما ثنائيي اللغة bilingual، فهم يتراوحون بين لغة الكلام ولغة الكتابة من لغتهم الآرامية. ان لغة الكلام مختلفة لدى الفرق الآرامية، وخاصة السريان المشارقة والسريان المغاربة والسريان الملكيين من أهل معلولا. لكن اللغة الفصحى لدى السريان المشارقة والمغاربة هي لغة واحدة رغم الاختلافات البسيطة.

وكان هناك محاولات شبه جدية لتدوين الآرامية الشرقية "السورث" قام  بها المبشرون البروتسنانت والكاثوليك وخاصة في منطقة أورميا. وقد لفتوا النظر لهذه اللغة المحكية وحاولوا تدوينها، فترجموا اليها الكتاب المقدس وشجعوا اصحابها على استعمالها في المجال الكتابي، ليسهل عليهم التعاطي مع اصحابها وتعليم اولادهم ورفع مستواهم الاجتماعي والادبي من جهة، وليتمكن الناطقون بها من فهم الكتاب المقدس والشعائر الدينية والطقوس الكنسية. وكان المبشر الامريكي جستين بركينز قد ترجم اليها (وخاصة الى لهجه اورميا) الكتاب المقدس وطبع عام 1852، فاقتنت هذه اللهجة شيئاً من الاهمية الكنسية ونالت منزلة اجتماعية افضل. وقام بعض الادباء السريان المشارقة من الكنيستين الكلدانية والنسطورية ايضا بتأليف بعض الكتب والاعمال بهذه اللهجة الغنية وكثيرة التنوع اللغوي. لقد اخبرنا صديقنا الدكتور جيفري كان (وهو اكبر مرجع علمي يعمل على تجميع وتدوين وحفظ هذه اللغة) بان هناك حوالي 150 لهجة صغيرة وكبيرة متميزة ضمن هذه اللغة "الارامية الحديثة الشرقية"، بعضها مات حديثاً وبعضها الاخر سائر الى الموت.

اليوم لدينا عشرات المدارس السريانية في شمال العراق وجميعها تعلّم هذه اللهجة الآرامية "السورث"، بالاضافة الى شيء يسير من لغتنا السريانية الفصحى. لكن كيف تم اختيار لغة التعليم فيها؟ ومن اختارها؟ وعلى اي اساس اعتمدوا في اختيارهم؟

لا شك ان لغة الاستاذ ابراهام قشو المحكية التي اختارها ليكتب لي بها هي "الارامية الشرقية المحكية" (السورث) وهي دون شك مهمة جداّ، حيث يتكلمها جزء هام جداً من شعبنا في العراق (وقليلا في ايران)، لكن بقية ابناء شعبنا في العراق وبقية دول منطقة الشرق الاوسط لا يعرفوها، بل ان قسماً منهم يتحدث بلهجات آرامية اخرى لا يعرفها شعبنا من ناطقي السورث وبينهم الاستاذ ابراهام قشو نفسه. وهنا تخطر لنا الآسئلة التالية والمهمة جداً:
 طالما هناك تنوع لغوي كبير بين ناطقي الآرامية، "فبأية لغة يجب على مختلف فرق السريان من الناطقين بهذه اللهجات الارامية المختلفة ان يكتبوا الى بعضهم؟
اية لغة يجب ان تكون لغة التعليم في مدارسنا السريانية في العراق وسوريا؟ أهي اللهجات الآرامية المحكية (السورث وارامية طورعبدين ولغة معلولا)؟  أم السريانية الفصحى؟ أم لغة اخرى غريبة عن قوميتنا؟


اعتقد هنا تظهر اهمية السريانية الفصحى لكل افراد شعبنا برمته وبمختلف كنائسه لأنها الجسر اللغوي الذي يوصلهم ببعضهم البعض ويربطهم قومياً وتراثياً مع بعضهم البعض. لأن السريانية الفصحى هي المفتاح الذهبي الذي يستطيع فتح خزانة تراثهم السرياني الغني المدوّن. وباتقانهم السريانية الفصحى يستطيع افراد شعبنا فتح خزائن اجدادهم والتعرف عليها وعلى محتواها، وبجهل هذه اللغة "السريانية الفصحى" يصبح افراد شعبنا غرباء عن اجدادهم وتاريخهم وتراثهم الذي هو مصدر فخرهم ومنبع هويتهم وحضارتهم.

لذلك اقترح ان تكون لغة التعليم في مدارسنا السريانية اينما كانت على مرحلتين: للطلاب الصغار (من صف الحضانة ولغاية الصف السادس) ان يكون التعليم بلغتنا المحكية المحلية والتي يتداولها شعبنا هناك. لكن منذ الصف السادس وصعوداً يجب ان تكون لغة التعليم بلغتنا السريانية الفصحى. وهكذا نكون قد تمسكنا بلغتينا القوميتين ونمشي بهما بالتوازي لأهمية الاثنتين: لغة الشعب المحكية الهامة جداً، ولغة تراثنا القومي الجامعة لكل السريان والهامة جداً.

اسعد صوما


11
اللـغـة السريانـيـة

الدكتور: اسعـد صومـا
متخصص في اللغة والحضارة السريانية

المقصود بالسريانية هنا هو "اللغة السريانية الفصحى" التي يسميها السريان المغاربة ܣܘܪܝܝܐ ܟܬܒܢܝܐ اي "السريانية الكتابية"، ويسميها السريان المشارقة ܠܫܢܐ ܣܦܪܢܝܐ "اللغة الادبية" وكذلك ܠܫܢܐ ܥܬܝܩܐ "اللغة القديمة" و ܠܫܢܐ ܐܪܡܝܐ "اللغة الارامية".(1) وقد كانت هذه اللغة السريانية في الاساس، اللغة الارامية المحكية في الرها ونصيبين والمناطق المجاورة في بيث نهرين ܒܝܬ ܢܗܪܝܢ.(2 )

لكن السريانية هي احدى فروع اللغة الآرامية، والآرامية(3) بحد ذاتها لغة قديمة وعريقة وسلسة وغنية، وتضم مجموعة كبيرة من اللهجات المتشابهة والفروع المتقاربة، بعضها دوّن، والبعض الآخر لم يدوّن. كما وان العديد من فروعها ولهجاتها مات، لكن بعض لهجاتها الاخرى لا زال حياً لغاية اليوم.(4) ومن اللهجات الآرامية المكتوبة والتي وصلتنا من القرون المسيحية الاولى، نذكر مجموعتين، غربية وشرقية.

تضم المجموعة الغربية: (5)
1.   الآرامية اليهودية الفلسطينية
[/b][/color]: وتشمل هذه الآرامية اليهودية الفلسطينية ثلاثة فروع صغيرة وهي: آرامية الجليل، وآرامية اليهودية، وآرامية  شرقي الاردن. إذ بعد طرد اليهود من اورشليم وشمال اليهودية اثر تمردهم عام 135 ميلادية، انتقل الكتاب اليهود الى جنوب الجليل وانتقل مجمعهم من جبل الكرمل الى طبرية وانتجوا هناك شيئاً من الادب. ان أقدم الكتابات الجليلية تعود الى عام 200 لغاية 700 ميلادي وهي نقوش على القبور، وتعرف هذه اللهجة كونها لغة السيد المسيح؛  واقدم كتابات لهجة اليهودية تعود الى القرن الثالث الميلادي لغاية القرن السابع من منطقة جنوب اليهودية بين حبرون وبيرشبا بعد فرار قسم من اليهود اليها؛ اما لهجة شرقي نهر الاردن فوصلتنا منها بعض النقوش من منطقة اعالي نهر الأردن تعود الى القرن الثالث الميلادي لغاية السادس. والفرق بين الفروع الثلاثة لهذه اللهجة بسيط جداً. كتابات هذه اللهجة كانت بالأبجدية الآرامية المربعة.

2.   الآرامية السامرية
: كانت اللهجة الآرامية السامرية لغة الطائفة السامرية اليهودية في فلسطين التي تؤمن فقط باسفار موسى الخمسة من العهد القديم، ويًعتقد بانها اصبحت لغة كتابة منذ زمن المسيح. بعد سيطرة العربية تحولت لغة هذه الطائفة تدريجيا الى العربية خاصة في القرن العاشر الميلادي. وصلتنا منها بعض النقوش من القرن السادس لغاية الرابع عشر، وبعض الكتابات الادبية أقدمها دوّنت في القرن الرابع.  كتابات هذه اللهجة كانت بالأبجدية الآرامية المربعة.

3.   الآرامية المسيحية الفلسطينية
: ازدهرت هذه اللهجة الآرامية المسيحية الفلسطينية في القرن الرابع الميلادي في فلسطين وتلاشت من الكلام في القرن الثامن حيث تحولت الى لغة طقسية فقط. ان هذه اللهجة المتأثرة باللغة اليونانية كانت لغة الكنيسة المسيحية في فلسطين؛ وقد وصلتنا منها بعض النقوش من منطقة عمان والقدس تتراوح بين القرنين السادس الميلادي والحادي عشر الميلادي، ورسالة من القرن الثامن، وبعض المخطوطات الطقسية من القرنين العاشر والحادي عشر اغلبها مترجمة من اليونانية، حيث ترد فيها تسمية يسوع بالصيغة اليونانية "يسوس". كتبت هذه اللهجة بالخط السرياني.

أما المجموعة الشرقية (6) فتضم:
1.الآرامية المندائية: الارامية المندائية هي اللهجة الآرامية التي يستعملها المندائيون (أو أصح "المندعيون"، اي المعرفيون) المقيمون في جنوب العراق وخوزستان في ايران في أدبهم وكتبهم الدينية والطقسية العديدة. وتكتب هذه اللهجة بابجدية آرامية متطورة حيث حوّلوا الحركات الى حروف تكتب في جسم الكلمات. واقدم كتاباتهم تعود الى القرن الثالث الميلادي. لا زال المندائيون في ايران بعددهم القليل يتحدثون المندائية الحديثة.

2. آرامية التلمود البابلي: كانت ارامية التلمود البابلي لغة يهود بابل المحكية في الالف الاولى بعد الميلاد؛ وتسمى "آرامية التلمود البابلي" لكتابة هذا التلمود الذي استعمله يهود بابل بهذه اللهجة الآرامية في مدارسهم اللاهوتية الشهيرة في البلدات "سورا"، و"بومبديثا" و "نهردعا" الواقعة في بلاد بابل؛ وقد تم جمع نصوص التلمود البابلي في المئة الخامسة الميلادية وطبع اول مرة في البندقية في ايطاليا 1520-1523؛ ان ادب هذه اللهجة الآرامية مدون بالخط الآرامي المربع الذي يستعمله اليهود.

3.الآرامية السريانية: هي اللغة التي يدور محور هذه المقالة عنها.

وقد كانت الآرامية اللغة المحكية المسيطرة على منطقة الهلال الخصيب في القرون الاولى قبل الميلاد واستمرت الى زمن السيد المسيح وبعده، لغاية القرن السابع الميلادي حيث جاءت العربية فاخذت تنافسها وتزيحها من مواقعها.
ان اللهجة الآرامية التي كانت مستعملة في مدينة الرها Edessa (تسمى اليوم أورفا) تطورت هناك لغةً وكتابةً بشكل مستقل عن الفروع الآرامية الاخرى، واصبحت ما يعرف اليوم باللغة "السريانية الفصحى" Classical Syriac. وقد تميزت "السريانية الفصحى" ببعض خصائصها المعروفة مثل استعمالها حرف "النون" في بداية الفعل المستقبل مع الضمير الغائب بدلاً من حرف "الياء" الموجود في معظم الفروع الارامية الاخرى، كقولنا ܢܩܛܘܠ "سيقتل" بدلا من ܝܩܛܘܠ، واستعمالها الحالة التوكيدية Status Emphaticus في الاسماء والصفات بدلاً من الحالة المطلقة Status Absolutus في الاستعمال العام مثل ܡܠܟܐ "ملكا"  Malka بدلاً من ܡܠܟ Mlekh، وعدم استعمالها اداة للتعريف، واستعمالها الخط الآرامي السطرنجيلي الخاص بها.

وقد نالت السريانية مكانة رفيعة، وتطورت، وانتشرت بسرعة لظروف سياسية وتجارية ودينية خاصة بدولة الرها السريانية ودور ملوكها الآراميين (السريان) في سياسة المنطقة منذ القرن الثاني قبل الميلاد ولغاية القرن الثالث الميلادي، وكذلك لتحوّل هذه السريانية الى لغة رسمية للكنيسة المسيحية المحلية والمشرقية ولا زالت، ولكون الرهبان والتجار السريان ايضاً وايضاً حملوها معهم في تبشيرهم وفي رحلاتهم، فاوصلوها الى الهند والصين(8) وآسيا الوسطى، ولا زالت السريانية مستعملة في الكنائس السريانية في جنوبي الهند لغاية اليوم. ويبدو ان اللغة السريانية الفصحى ظلت مستعملة في موطنها، اعني الرها، كلغة أدبية ومحكية حتى نهاية القرن الثالث عشر الى ان بطل استعمالها في الكلام، لكنها استمرت كلغة ادبية في الكتابة والتأليف والتعليم وغيرها من المجالات الادبية. كما انها لا زالت مستمرة لغاية اليوم في مختلف كنائس الطوائف(8) السريانية في ممارسة طقوسها وتلاوة صلواتها في كل مكان فيه سريان وكنائس سريانية، وبشكل يسير في التعليم والتأليف ايضاً.

وانني اقسم اللغة السريانية الى ثلاث مراحل:
    أولاً، مرحلة اللغة السريانية الكلاسيكية: وتبدأ منذ ظهور هذه اللهجة واستعمالها في القرن الثاني قبل الميلاد وتنتهي في القرن الخامس او السادس الميلادي. وهنا كانت السريانية في اوج قمتها، حيث كانت لغة دولة الرها السريانية ܐܘܪܗܝ Edessa ولغة ملوكها(10) وحكوماتها وموظفيها وجنودها وارشيفها وقضاتها ومدارسها ومعاهدها العلمية؛ وكانت لغة شعبها السرياني الأبي بمختلف فئاته المثقفة وغير المثقفة، بها كان أبناؤها يخاطبون بعضهم البعض، بها كانت الام السريانية تناجي طفلها ورضيعها، بها وضعت ترجمات الكتاب المقدس المختلفة، وبها وضع الكتّاب والفلاسفة والادباء السريان مؤلفاتهم وافكارهم، وبها كانت الفرق السريانية الغنائية والفنية والتمثيلية تقدم عروضها وابداعاتها. كما انها كانت لغة عمالقة الشعر والنثر السرياني مثل ܡܪܐ ܒܪ ܣܪܦܝܘܢ "مارا بر سرافيون" (المئة الاولى بعد الميلاد)، و ܒܪܕܝܨܢ  "برديصان" (145-222)، و ܡܪܝ ܐܦܪܝܡ "مار افرام" (306-373) وتلامذته، و ܡܪܝ ܢܪܣܝ "مارنرساي" (توفي 502)، و ܡܪܝ ܝܥܩܘܒ ܕܣܪܘܓ "مار يعقوب السروجي" (توفي 521)، و ܡܪܝ ܦܝܠܠܘܟܣܝܢܘܣ ܕܡܒܘܓ "مار فيلوكسينوس المنبجي" (توفي 523)، وغيرهم، حيث وضعوا فيها عصارة فكرهم ونبوغهم وخلاصة شاعريتهم الملهمة. وكتابات هذه المرحلة كلها كانت في الخط السرياني السطرنجيلي  ܐܣܛܪܢܓܠܝܐ الخاص بها دون استعمال حركات تشكيل.

    ثانياً، مرحلة اللغة السريانية المتوسطة: وفيها تكرس انقسام السريانية على مستوى المورفولوجيا الى شرقية وغربية؛ وانقسم الخط السرياني وظهر الخط الشرقي الخاص بالسريان المشارقة والخط المعروف بالـ ܣܪܛܐ "سرطو" الخاص بالسريان المغاربة، كما ظهر نظام التشكيل الذي يعتمد النقاط في السريانية الشرقية، ونظام حركات التشكيل المعروف في السريانية الغربية؛ واصبحت نصيبين ܢܨܝܒܝܢ موطناً للفرع السرياني الشرقي والرها ܐܘܪܗܝ موطناً للفرع السرياني الغربي. ان القسمة تطورت بشكل تدريجي، فابتعدت السريانية الغربية عن الشرقية في طريقة اللفظ،(11) اذ تخلّت الغربية عن لفظ الشَدة (التشديد على لفظ الحرف)،(12) واختلطت فيها الحركات الطويلة والقصيرة، وتساهلت تدريجياً في قراءة الحروف اللينة (المركخة). وكانت النتيجة ان ابتعدت السريانية الغربية عن السريانية الكلاسيكية وعن السريانية الشرقية في اللفظ والكتابة وبعض القواعد. واصبحت السريانية الغربية اداة للتعبير عن فكر ولاهوت الكنائس السريانية الغربية من أهل الطبيعة والطبيعتين، واصبحت السريانية الشرقية اداة للتعبير عن فكر السريان المشارقة ولاهوتهم النسطوري. وقد استمرت السريانية في هذه المرحلة كلغة محكية لغاية القرن الثالث عشر، لكنها استمرت بعدئذ كاداة الكتابة والتعبير لغالبية الكتّاب والمؤلفين السريان ولغة الكنائس السريانية المنشرة من الهند الى مصر.

   ثالثاً واخيراً، مرحلة اللغة السريانية الحديثة: (13) وتبدأ منذ القرن التاسع عشر أو ربما قبله بقرنين ولغاية اليوم. فبالاضافة الى التطور اللغوي الذي حصل في المرحلة الثانية، طرأت في هذه المرحلة الثالثة تغييرات على تركيب الجملة السريانية وموقع الفعل والفاعل فيها واستعمال حروف الجر، وتطور استعمال الالفاظ بهدف تحديثها خاصة في قرن العشرين، فابتعدت احياناً عن دقة المعاني التي تتضمنها في مفرداتها وجسم مصطلحاتها كما كانت في مرحلتها الكلاسيكية والنصف الاول من مرحلتها الثانية.(14) وتأثرت السريانية في هذه المرحلة باللهجات الآرامية المحكية، فتأثرت السريانية الشرقية الفصحى بلهجة "السورث" التي يتكلمها السريان المشارقة في العراق، وتأثرت السريانية الغربية بآرامية طورعبدين التي يتكلمها قسم من السريان المغاربة، كما انها تأثرت بغيرها من اللغات في الاسلوب الكتابي والتعبيري. واصبح مثلاً الاستعمال المتزايد لفعل الكون ܐܝܬ (to be)   من ابرز مزاياها، فبدلاً من ان يُقال ܗܢܐ ܟܬܒܐ "هذا كتاب" أصبح يُقال ܗܢܐ ܐܝܬܘܗܝ ܟܬܒܐ (هذا هو كتاب)، وكذلك نقص جداً استعمال حالة اضافة الاسماء لبعضها مثل ܟܬܳܒ ܡܠܦܢܐ اي "كتاب المعلم"، واستُبدل بحالة الاضافة بواسطة حرف الدال، فيقال ܟܬܒܐ ܕܡܠܦܢܐ. وكل هذا واضح في أغلب الكتب السريانية الحديثة التي تطبع اليوم.

لكن هذا لا يعني ان السريانية الفصحى اصبحت ثلاث لغات بسبب تقسيمها الى ثلاث مراحل، انما هي ذات اللغة بمراحلها الثلاث. لكن في كل مرحلة ظهرت فيها بعض المزايا اللغوية بسبب ما اصابها من تطور. وقد اجرينا هذا التقسيم لكشف شخصية هذه اللغة السريانية والسمات التي لوّنت كل مرحلة من حياتها الطويلة.

وبعد تاسيس الدول الحديثة في الشرق الاوسط انخفض مستوى استعمال السريانية في هذه المرحلة الثالثة الى حد كبير جداً، وخاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين حيث شحت الساحة السريانية من عارفي هذه اللغة والكتّاب فيها، وقل استعمالها في الكنائس السريانية بشكل مرعب، وهي تتقهقر الى الوراء بانحدار شديد نحو مصير اسود ينتظرها. فالموت حليفها إن لم يجتمع جميع السريان من كل الطوائف لدراسة وضعها واتخاذ الاجراءت المناسبة.

في عام 1972 كانت حكومة احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين في العراق قد اصدرت قراراً تاريخياً تحت رقم 251 بعنوان "منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية من الاثوريين والكلدان والسريان"(15) من ثمان فقرات. وقد ركز هذا القرار التاريخي على اللغة السريانية وضرورة تعليمها في المدارس والجامعة وبثها في التلفزيون والمجلات ودعم الادباء السريان. ولاهمية هذا القرار بخصوص اللغة السريانية نعرض فقراته وهي:
1.   تكون السريانية لغة التعليم في كافة المدارس الابتدائية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بهذه اللغة.
2.   تدرس اللغة السريانية في المدارس المتوسطة والثانوية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بهذه اللغة.
3.   تدرس اللغة السريانية في كلية الاداب بجامعة بغداد.
4.   استحداث برامج خاصة باللغة السريانية في اذاعة الجمهورية العراقية ومحطتي تلفزيون كركوك ونينوى.
5.   اصدار مجلة شهرية باللغة السريانية من قبل وزارة الاعلام.
6.   انشاء جمعية للادباء والكتاب الناطقين باللغة السريانية.
7.   مساعدة المؤلفين والكتّاب والمترجمين الناطقين باللغة السريانية ماديا ومعنويا، ونشر انتاجهم الثقافي والادبي.
8.   تمكين الموظفين الناطقين باللغة السريانية من فتح النوادي الثقافية وتشكيل الفرق الفنية والمسرحية لاحياء وتطوير التراث والفنون الشعبية.


لا شك ان هذا القرار كان الاول من نوعه في العالم العربي والاسلامي منذ خروج العرب من جزيرتهم واحتلالهم الشرق الاوسط. لكن يبدو ان الاستفادة من هذا القرار لم تكن بالحجم المطلوب.
اليوم هناك تعليم باللغة السريانية في المدارس السريانية في العراق وسوريا ولبنان لكن نأمل ان يكون التعليم بشكل جدي ليعطي النتيجة المرجوة منه.

لكن المؤسف حقاً ان المنطقة التي كانت موطن اللغة السريانية الكبير والذي يشمل تركيا والعراق وسوريا ولبنان، الخ، لم نجد فيه اليوم شخصاً سريانياً واحد متخصصاً بهذه اللغة بشكل اكاديمي، فهناك الالاف من الاكاديميين من افراد شعبنا ممن لهم شتى الاختصاصات الاكاديمية، لكن للاسف ولا واحد متخصص بلغتنا وكأنهم قرروا هجرها لتموت. ولكن الانكى من هذا اننا لا نجد ولا جامعة واحدة في هذه البلاد التي كانت موطن اللغة السريانية فيها فرع خاص للسريانية، أو تعلِّم السريانية على مستوى متقدم لتمنح شهادات الماجستير والدكتورا بها، وهذا ما يوجعنا فعلاً.

ان اللغة السريانية الفصحى هي لغة جميع السريان بمختلف كنائسهم والجميع يستعملوها بدرجات متفاوتة ومعظمهم بمستوى ضيعف. لكن يحتل ابناء الكنيسة السريانية الارثوذكسية مركز الصدارة بين جميع السريان في اهتمامهم واستعمالهم السريانية الفصحى والكتابة بها. فمثلا ان معظم كنائس السريان الارثوذكس ونواديها في السويد واوروبا وعددها كبير جداً فيها تعليم السريانية للاطفال دائما.

وفي النهاية أود ان اقول بمحبة وتواضع بانني ايضاً قدمت خدمات متواضعة لهذه اللغة. فبالاضافة الى انني متخصص فيها من جامعة اوبسالا في السويد، حيث تعلّم السريانية فيها منذ اكثر من 400 سنة باستمرار،  فقد قمتُ قبل اربع سنوات وبرفقة اثنين من اصدقائي بافتتاح مدرسة سريانية ابتدائية في ستوكهولم/السويد اسميناها مدرسة الرها، وبالسويدية Edessa skola بهدف تعليم لغتنا السريانية لتلاميذنا. وهذه المدرسة مدرسة رسمية سويدية بنظامها وبرنامجها وموادها التعليمية التي هي كباقي المدارس السويدية، لكننا نعلّم فيها السريانية يومياً. ومدرستنا السريانية هذه هي اول مدرسة سريانية في اوروبا، ولا نعلم بوجود غيرها في اي بلد اوروبي. وقد تعلّم تلاميذنا اللغة السريانية بشكل جيد، وان وافاهم الحظ ان يكملوا تعلم السريانية لاحقاً، ننتظر منهم ان يصبحوا في المستقبل معلمين للسريانية وادباء وشعراء بها. فنكون قد حققنا احد اهدافنا من افتتاح هذه المدرسة، وساهمنا ولو جزئياً في تأمين استمرار هذه اللغة في الحياة. وشكراً.

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم[/size]


(ملاحظة: هنا تبدا الحواشي)[/b]

(1)   أما اللغة/اللهجة الآرامية التي يتكلمها السريان المشارقة والمغاربة فتصنيفها العلمي هو "آرامية حديثة"، ولا يحق تسميتها بالسريانية رغم انهم في حديثهم اليومي يسمونها سريانية، لأن السريانية في العرف العلمي لدى أهل الاختصاص هي فقط السريانية الفصحى اي الكتابية.

(2)   كان التعبير السرياني ܒܝܬ ܢܗܪܝܢ "بيث نهرين" أو "بين النهرين" يشمل في الاساس المنطقة الآرامية الواقعة حوالى الروافد العليا لنهر الفرات؛ وكانت الرها وحران من مدنها الهامة. وفي الكتاب المقدس ترد الصيغة اولاً بشكل "آرام نهرين" (سفر التكوين 24:10) قبل ان تتطور الى "بيث نهرين". وحينما تًرجم العهد القديم الى اليونانية تًرجمت تسمية "آرام نهرين" الى اليونانية فاصبحت Mesopotamia (بين النهرين، أو بين الأنهر). والتسمية مذكورة في اماكن عديدة من الكتاب المقدس، انظر سفر يهوديت 5:7 "وكانوا سابقاً يقيمون بين النهرين...."، وايضاً يهوديث 8:26 "تذكروا كيف امتحن ابراهام واسحق، وما جرى ليعقوب بين النهرين من سوريا حين كان يرعى غنم خاله لابان". ثم شمل تعبير "بيث نهرين" بالاضافة الى الرها وحران كل من أمد (دياربكر) وطورعابدين ونصيبن ودارا والرقة والجزيرة السورية؛ ان عراق اليوم من شماله الى جنوبه لم يكن يقع في "بيث نهرين".

(3)   ان أقدم نقش آرامي وصلنا من الآرامية يعود الى القرن التاسع قبل الميلاد.

(4)   ومن اللهجات الآرامية الحية والتي لا زالت محكية في عدة مناطق مختلفة من الشرق الاوسط نذكر: الآرامية الحديثة الشرقية (منها "السورث" في العراق)، والآرامية الحديثة المتوسطة (آرامية طور عبدين في تركيا وسوريا)، والآرامية الحديثة الغربية (آرامية معلولا بجوار دمشق في سوريا).

(5)   نعني بالغربية المنطقة الواقعة الى غرب نهر الفرات وخاصة اللهجات الآرامية في فلسطين.

(6)   نعني بالشرقية المنطقة الواقعة شرقي نهر الفرات اي الجزيرة وبلاد الرافدين (العراق).

(7)   يسمي يعقوب السروجي (توفي 521) ابجر ملك الرها "ابن الاراميين" ܒܪ ܐܪ̈ܡܝܐ وعن الرها يقول "ابنة الاراميين" ܒܪܬ ܐܪ̈ܡܝܐ (في قصيدته الشهيرة عن الرها، انظر انظر المجلد الخامس لاشعار السروجي، طبعة بولس بيجان في باريس عام 1910، الصفحات 738، و 741). واثناء حكم ملوك الرها لم يكن السريان حينها يسمون سرياناً، بل آراميين.

(8)   قبل حوالي عشرين سنة كنا قد زرنا هذا النقش الهام في الصين واجرينا دراسة عن محتواه (انظر مجلة ارام الصادرة في ستوكهولم، العدد الثامن (عام 1994)، الصفحات 163-167).

(9)   ان اكثر طائفة سريانية تستعمل السريانية الفصحى في حياتها وكنائسها هي طائفة السريان الارثوذكس، لذلك تستحق الثناء.

(10)   جلس على عرش مملكة الرها السريانية الشهيرة قرابة ثلاثين ملكاً حكموا حوالى 375 سنة. كان اول ملك فيها يسمى "أرْيو" (الأسد) حيث حكم من عام 132 ق.م لغاية 127 ق.م. وجلس على عرش الرها عشرة ملوك  يحملون اسم "أبجر" Abgar من ابجر الاول لغاية ابجر العاشر، والاخير الذي حكم من 243 لغاية 249 ميلادي. وكان "ابجَر الخامس" المعروف بـ  ܐܒܓܪ ܐܘܟܡܐ "ابجر الاسود" معاصرا للمسيح. كما جلس على عرشها تسعة ملوك باسم "مَعْنو".

  (11)  تلفظ السريانية الغربية نهاية الاسماء والصفات في الحالة التوكيدية بالضم، او بشكل ادق مثل صوت حرفO  الانكليزي كقولنا ܡܠܟܐ Malko "ملك"، بينما الشرقية تلفظها مثل الصوت A فتصبح الكلمة Malka. ودمجت الغربية صوتي حرف الواو فتحول لفظ الاثنين الى U، بينما حافظت الشرقية على الصوتين  O و U في لفظ حرف الواو كما في الكلمة السريانية ܓܡܘܕܘܬܐ حيث يلفظها السريان المغاربة  gomudhutho، بينما يلفظها السريان المشارقة gaamodhutha، اي ان حرف الواو الاول الذي بعد الميم يلفظ O  لدى المشارقة و  U لدى المغاربة.

  (12) كما في كلمة ܩܒܠ "قبل" حيث تلفظها الشرقية  بشكل qabbel مشددة على حرف الباء، بينما تلفظها الغربية qabel بدون شدة.

 (13) لا نقصد هنا بعبارة "اللغة السريانية الحديثة" اللغات التي يتكلمها السريان اليوم في سوريا ولبنان وتركيا والعراق وغيرها من البلدان، لان هذه اللغات المحكية اليوم تُسمى "آرامية حديثة" Neo-Aramaic وليست سريانية حديثة.

 (14)  فعلى سبيل المثال فقد استعمل بعض الكتّاب السريان المحدثين في قرن العشرين كلمة ܐܦܬܐ بمعنى "استراحة" rest  break, وهذا خطأ جسيم، لأن اللفظة تعنى "فرصة" opportunity, occasion وليس استراحة.

  (15) رغم ظهور قرار مجلس قيادة الثورة في العراق بمنح الحقوق الثقافية واللغوية للمواطنين "الناطقين بالسريانية" عام 1972، ورغم حدوث شيء من الاهتمام باللغة والتفكير بمستقبلها في العراق حينها، الا ان السريان في العراق لم ينتجوا شيئاً يذكر بالسريانية الفصحى، ولم يولوها الاهتمام المطلوب لنشرها وتعزيزها، رغم الامكانيات المتوفرة والوضع الملائم. يوجد اليوم عشرات المدارس السريانية في شمال العراق، لكن لغة التعليم فيها هي الآرامية المحكية "السورث"، أما السريانية الفصحى فتدرس فيها بشكل بسيط كاحدى المواد التدريسية وهذا لا يشفي غليلا.  يبدو ان تعليم السريانية في كل مكان ليس جدياً كما ينبغي.

 انتهى المقال
الدكتور اسعد صوما

12
 
السريان واللغة السريانية
[/b]
الدكتور اسعد صوما
متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم
(ستوكهولم)
[/b]


(ملاحظة: يتكون هذا المقال من جزئين صغيرين. الأول عن السريان واصلهم، والثاني عن اللغة السريانية. نبدأ اليوم بالحديث عن السريان، وفي المقال القادم سنتحدث عن اللغة السريانية. كما نلفت النظر ان جميع الحواشي موجودة في نهاية المقال وقد وضعناها ضمن اقواس)

1.   لمحة عن السريان واصلهم:

سريان اليوم  جزء صغير من العائلة السريانية الكبيرة التي تتكون من اتباع كل الطوائف المسيحية الموجودة في بلاد الشام والعراق وما يجاورها (1)  عدا الاقباط والارمن. وقد عاش السريان في مواطنهم التقليدية في الشرق الاوسط منذ حوالى 3000 سنة دون انقطاع، حيث طبعوا المنطقة بثقافتهم وحضارتهم ومآثر لغتهم، وقدموا بعض الانجازات الهامة في مجرى التاريخ شملت مساحة واسعة من العالم القديم وخاصة على المستوى الثقافي واللغوي. وكانت قوافلهم التجارية ناشطة جداً على طول مسالك طريق الحرير التجاري الشهير في عالم الشرق القديم، فانتشرت معهم ثقافتهم ولغتهم وابجديتهم بين شعوب عديدة.
ان لغتهم الآرامية السهلة النطق والكتابة كانت قد انتشرت حينها انتشاراً واسعاً جداً بسبب سهولتها وغناها ومرونتها وبساطة كتابتها، فغدت لغة الاتصالات والدبلوماسية والتجارة في الشرق القديم، كما ان ابجديتهم الارامية السهلة والمكونة من 22 حرفاً  كُتِبَتْ بها العديد من اللغات، وأصبحت مصدراً لكثير من أبجديات لغات العالم ايضاً. لكن منذ القرن الثالث الميلادي، خسر السريان دويلاتهم العديدة ونفوذهم السياسي.

ينقسم سريان اليوم الى عدة مجموعات كنسيّة: بعضها لا زال يحمل الاسم السرياني مثل السريان الارثوذكس والسريان الكاثوليك. أما المجموعات السريانية الاخرى فقد خسرت هذا الاسم كلياً أو جزئياً خلال معمعة التطور التاريخي، ولها اليوم اسماء محلية كنسية خاصة تُعرف بها، مثل الموارنة والروم والاشوريين والكلدان. (2)  وهذه المجموعات الكنسية كلها هي بكل حق ورثة اللغة السريانية الآرامية، وورثة الحضارة السريانية والتراث السرياني العريق الذين انتجهما اجدادهم على مر العصور. (3)

يتحدر السريان من الآراميين الذين كانوا يشكلون في القرون الاولى قبل الميلاد وبعده، الغالبية العظمى لسكان منطقة بلاد الشام والعراق، حيث وحدوها بوجودهم البشري الكثيف وبلغتهم الآرامية وبعوامل حضارتهم وثقافتهم. وقد اطلق اليونانيون تسمية "سريان"(4)  على الآراميين في القرون الاولى قبل الميلاد وخاصة منذ القرن الثالث قبل الميلاد. لكن "السريان" استمروا حينها يسمون أنفسهم بالآراميين (5)  لغاية بداية القرن الخامس الميلادي؛ وبعد ذلك بدأ الآراميون المسيحيون بدورهم يستعملون تسمية "سريان" ܣܘܪ̈ܝܝܐ الى جانب أسمهم الآرامي ܐܪ̈ܡܝܶܐ فقالوا عن أنفسهم "سريان آراميين" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ، وعن لغتهم "اللغة السريانية الآرامية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ ܐܪܡܝܐ. واستمرت التسمية السريانية الجديدة في الانتشار أكثر، وعمت سائر المنطقة الآرامية، وثم انفردت في الاستعمال بعدما انزاحت التسمية الآرامية من الاستعمال اليومي.(6)

كان الآراميون القدماء يتبعون في دولهم وكياناتهم السياسية نظام المدينة الدولة، فكان لهم العديد من الدويلات المنتشرة في منطقة الهلال الخصيب. وكان البعض من دولهم يحمل اسم "آرام" الى جانب اسمها المحلي مثل "آرام دمشق"، "آرام صوبا"، "آرام معكة"، الخ؛ كما ان بعضها حمل ايضاً اسم "بيث" الى جانب اسمها مثل "بيث عديني"، بيث حالوفي"، "بيث ياكين"، الخ. وقد عاش الآراميون خلال تاريخهم الطويل بجوار شعوب أخرى لها لغاتها وحضاراتها مثل الاشوريين والكنعانيين والحتيين وغيرهم فتأثروا بهم وأثروا عليهم، إلا ان تلك الشعوب القديمة اختفت لاحقاً من مسرح التاريخ، واختفت معها لغاتها وحضاراتها، وزالت كلياً بعدما ذابت بقاياها ضمن الآراميين. أما هم فقد استمروا في الحياة لغاية اليوم باسم سريان، محافظين على بقايا وجودهم البشري وعلى شيء يسير من حضارتهم ولغتهم التي هي مبعث قوتهم.
وفي القرنين الأولين بعد الميلاد كان للآراميين عدة كيانات سياسية، قام البعض منها على الاثنية الآرامية والبعض الآخر على اللغة الآرامية. وكانت معظم المدن الكبيرة في منطقة الهلال الخصيب آنذاك تشكل كيانات سياسية آرامية تعتمد نظام "المدينة الدولة"، منها بترا (في الاردن)؛ دمشق، وحمص، وحماة، وحلب، وتدمر (كلها في سوريا)؛ حطرا، وحدياب، وسنجار، وميسان (كلها في العراق)؛ الرها، وآمد (دياربكر)، ونصيبين، وماردين، وطورعابدين (في تركيا)، الخ. وقد انتهى النفوذ السياسي لمعظم هذه الممالك والامارات والاقطاعات الآرامية في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، لكن الشعب الآرامي استمر في الوجود على ارضه لغاية اليوم رغم تقلص عدده بشكل كبير جداً.

وكان اليونانيون منذ القرن الثالث (7)  قبل الميلاد قد أخذوا يطلقون تسمية "سريان" على الآراميين، فعمد الآراميون الى تبنيها تدريجياً واستعمالها الى جانب اسمهم الآرامي. وهناك شواهد قديمة كثيرة حول هذا الموضوع منها المؤرخ والفيلسوف اليوناني بوسيدونيوس (135 ق. م. – 51 قبل الميلاد) الذي كان من مدينة أفاميا على نهر العاصي في سوريا حيث كتب: "يطلق السريان على انفسهم اسم الآراميين...8 (8) وكذلك المؤرخ اليوناني سترابو (63 قبل الميلاد – 24 ميلادي) بقوله: (9)  "ان الذين يطلق اليونانيون عليهم تسمية سريان فانهم يسمون انفسهم بالآراميين". (10)  
وفي النسخة السبعينية السريانية للعهد القديم ܡܦܩܬܐ ܫܒܥܝܢܝܬܐ والتي تُرجمت من العبرية الى اليونانية في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، ومن اليونانية الى السريانية في الاسكندرية حوالى عام 615 ميلادي، نرى ان الاسم "السرياني" اصبح في الترجمة السبعينية بديلاً عن الاسم "الآرامي" الاقدم منه ومرادفاً له. أي ان المترجمين (11)  قاموا بترجمة تسمية "آرامي" من النص العبري للعهد القديم الى لفظة "سرياني" في النص السبعيني اليوناني وثم السرياني. فعلى سبيل المثال نرى ان تعبير מלך ארם "ملك آرام" (12)  في التوراة العبرية قد تُرجم في النسخة السبعينية السريانية الى صيغة ܡܠܟܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ”ملك السريان"، وعبارة רץין מלך ארם "رَصين ملك آرام" ترجمت الى ܪܨܢ ܣܘܪܝܝܐ (13)  "رَصين السرياني".
وفي زمن مار افرام (القرن الرابع الميلادي) لم يكُ السريان يسمون انفسهم سرياناً بعد، بل آراميين، وهذا واضح من الكتابات السريانية التي وصلتنا من ذلك العصر، وبينها كتابات مار أفرام الذي لا يستعمل تسمية سريان ولغة سريانية، بل يستعمل تسمية "آراميين" و"لغة آرامية". (14)  وهناك العديد من الشواهد في كتاباته النثرية والشعرية، منها قوله: ܐܪ̈ܡܝܐ ܒܣܘ̈ܟܝܗܘܢ ܫܒܚܘܗܝ اي "مجده الآراميون باغصانهم"، (15)   وقوله عن الفيلسوف "برديصان" الرهاوي (توفي عام 222م) بانه "فيلسوف الآراميين" كما في الشاهد التالي: ܓܘܚܟܐ ܕܝܢ ܥܒܕ ܢܦܫܗ ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ ܘܝܘ̈ܢܝܐ ܦܝܠܘܣܦܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ "ان فيلسوف الآراميين (برديصان) جعل نفسه اضحوكة في أعين اليونانيين والآراميين"؛ (16)   كما ان مار أفرام يسمي اللغة السريانية بالآرامية كما في قوله: ܟܬܝܒ ܒܐܪܡܝܐ "كُتب بالآرامية". (17)  

وبعد وفاة مار أفرام بفترة قصيرة بدأت التسمية السريانية تتغلغل بين الآراميين الذين راحوا يستعملونها الى جانب التسمية الآرامية. ونرى ذلك لدى الشاعر الكبير مار يعقوب السروجي الذي توفي عام 521 م، حيث وصف مارَ أفرام ملقباً أياه "تاج الامة الآرامية وبليغ السريان" بقوله: ܗܢܐ ܕܗܘܐ ܟܠܝܠܐ ܠܟܠܗ̇ ܐܪܡܝܘܬܐ: ܗܢܐ ܕܗܘܐ ܪܗܛܪܐ ܪܒܐ ܒܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ، اي "ان مار افرام أصبح تاجاً للامة الآرامية جمعاء، وبليغاً عظيماً لدى السريان". (18)   ان الكاتب يعقوب السروجي استعمل هنا التسميتين الآرامية والسريانية معاً في قصيدته كإسمين على المسمى نفسه. ولقد سمى الشاعر يعقوب السروجي فتيات مدينة الرها بالآراميات، بقوله عن تلميذات مار افرام: ܝܒܒܝ̈ ܗ̱ܘ̈ܝ ܓܝܪ ܥܒܪ̈ܝܬܐ ܒܦܠܓܝܗ̈ܝܢ: ܘܗܪܟܐ ܡܫܒܚ̈ܢ ܐܪ̈ܡܝܬܐ ܒܡܕܪ̈ܫܝܗܝܢ،(19)  اي "لقد رَنّمت الفتيات العبرانيات بدفوفهن، أما الفتيات الآراميات فتمجد (الرب) هنا بمداريشهن".(20) كما انه يسمي كنيسة الرها ܒܪܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "ابنة الآراميين"، ويسمي ملكها ابجر  ܒܪ ܐܪ̈ܡܝܐ "ابن الآراميين".

ومنذ حينها استعمل الكتّاب السريان على مر العصور التسميتين السريانية والآرامية بشكل متلاحم ومترادف، وأصبح هذا تقليداً دارجاً لدى الكتّاب، فكتبوا بانهم "سريان آراميون" وان لغتهم هي "السريانية الآرامية". وهذا واضح لكل من يطالع الكتب والنصوص السريانية القديمة، فعلى سبيل المثال، نستشهد بأحد أكبر العلماء والمؤرخين السريان، يعقوب الرهاوي (المتوفي عام 708 ميلادي) بقوله: ܚܢܢ ܐܪ̈ܐܡܝܶܐ (21)  ܐܘܟܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ "نحن الآراميون اي السريان".(22)   وكذلك بقوله: ܠܘܬܢ ܐܪ̈ܡܝܐ، اي  "عندنا نحن الآراميين"،(23)  وكذلك ايضاً في حديثه عن اجداد السريان بقوله: ܥܬ̈ܝܩܐ ܒܢܝ̈  ܐܪܐܡ، اي " أبناء آرام القدماء".(24)  
أما كون السريان يتحدرون من الآراميين، فهناك شواهد سريانية كثيرة على ذلك من المؤرخين والكتاب السريان القدماء. مثلاً، يقول العلامة اللغوي السرياني الشرقي (النسطوري) بربهلول (من القرن العاشر) في قاموسه السرياني الموسوعي الشهير: ܡܢ ܩܕܝܡ ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ ܡܬܩܪܝܢ ܗܘܘ، اي "كان السريان قديماً يسمون آراميين".(25)  وكذلك فعل المؤرخ والعلامة السرياني يعقوب ابن الصليبي (توفي 1117) بقوله:  ܚܢܢ ܓܝܪ ܒܢܝ̈  ܐܪܡ ܐܝܬܝܢ: ܘܥܠ ܫܡܗ ܡܬܩܪܝܢ ܗ̱ܘܝܢ ܒܙܒܢ ܐܪ̈ܡܝܐ، أي "نحن أبناء آرام وعلى اسمه كنا نسمى سابقاً آراميين".(26)   وكذلك ايضاً فعل العلامة السرياني الشرقي النسطوري سليمان مطران البصرة (توفي حوالي 1240) في كتابه السرياني  ܕܒܘܪܝܬܐ، أي "النحلة"  بقوله: ܐܪ̈ܡܝܐ ܐܘܟܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ "الآراميون اي السريان"، كما انه سمى أبجر ملك الرها بالآرامي بقوله في المصدر نفسه: ܟܕ ܫܡܥ ܐܒܓܪ ܡܠܟܐ ܐܪܡܝܐ ܕܒܝܬ ܢܗܪ̈ܝܢ܆ ܐܬܠܚܡ ܥܠ ܥܒܪ̈ܝܐ ܘܒܥܐ ܕܢܘܒܕ ܐܢܘܢ، اي "عندما سمع أبجر الآرامي ملك بيث نهرين غضب...".(27)   وهناك اثباتات كثيرة على ذلك، لكن نكتفي منها بهذا القدر من الشواهد السريانية القديمة.

وفي القرون الاولى من الفترة المسيحية، اعتنقت غالبية الآراميين الديانة المسيحية تدريجياً؛ ومنذ القرن الخامس الميلادي، ثبتت عليهم التسمية السريانية التي اطلقها عليهم اليونان.  وحسب التقليد السرياني، هناك "قصة" ممتعة تقول ان ابجر الخامس "أوكاما" ܐܒܓܪ ܐܘܟܡܐ ملك الرها الآرامي اصيب بمرض وعجز عن معالجته الاطباء، فسمع عن يسوع الناصري بانه يشفي المرضى فكتب اليه ليأتي ويشفيه. فأجابه يسوع بانه سيرسل له احد اتباعه ليشفيه. وفعلاً ارسل له ادى الرسول الذي نجح في شفاء الملك ابجر وتنصيره. فاعتنقت مملكة الرها المسيحية واصبحت المعقل الاول للمسيحية الناطقة بالآرامية، مثلما كانت انطاكية معقل المسيحية الناطقة باليونانية. وأصبحت لغة الرها الآرامية لغة الكنيسة السريانية الرسمية، وانتشرت مع انتشار الكنيسة السريانية في كل مكان. وكانت الرسائل المتبادلة بين ابجر الملك والسيد المسيح والمحفوظة في آرشيف الرها، قد عظّمت قيمة الرها ولغتها السريانية بين جميع الاوساط المسيحية في الشرق والغرب، كما انها أعطت أهمية لشعبها الآرامي حينها. كما ان التقليد التوراتي(28)  ينص على آرامية ابرهام وابنه اسحق وحفيده يعقوب، ان هذه الشخصيات الدينية الهامة دخلت الى مختلف الطقوس الكنسية السريانية وأصبحت محوراً لكثير من الموضوعات الدينية والكنسية.
ولقد انطلق المبشرون السريان يبشرون بالمسيحية في مختلف الاصقاع القريبة والبعيدة ناقلين معهم لغتهم السريانية الآرامية والطقوس الكنسية، حيث بشروا هناك في الهند والصين ومنغوليا، الخ. ولغاية اليوم، يوجد حوالي عشرة ملايين(29)  من السريان المسيحيين في جنوب الهند ينتمون الى مختلف الكنائس السريانية والمذاهب المسيحية، ويستعملون اللغة السريانية في طقوسهم الكنسية.

لكن في الفترة نفسها التي دخلت فيها التسمية السريانية على الآراميين المسيحيين، دخلت ايضاً بعض التعاليم والافكار الفلسفية والدينية الجديدة وتسربت الى الكنيسة،(30)  مما ادى الى انعقاد مجامع كنسية لتثبيت العقيدة المسيحية، لكنها سبّبت ايضاً في انقسامات كنسية. ولغاية القرن الثامن الميلادي، كان الآراميون المسيحيون ينقسمون الى اربع كنائس هي: السريان المشارقة (النساطرة)،  السريان الملكيين (الروم)، السريان الارثوذكس (اليعاقبة)،(31)  والسريان الموارنة؛ لكن منذ القرن السادس عشر ولاحقاً خرجت مجموعات من تلك الكنائس وأسست لها فروعاً كاثوليكية، وبعدها بروتستانتية، فتضاعف عدد الكنائس السريانية في المنطقة.
وفي فترة تاريخهم المسيحي تعرض السريان لاضطهادات منوعة أدت الى تناقص اعدادهم بشكل مروع، كما ان غالبيتهم اضطروا الى هجر لغتهم الآرامية، الا ان مجموعات هامة منهم في العراق وسوريا وغيرها، لا زالت تتحدث بلغتهم الآرامية لغاية اليوم.

2.   انقسام السريان الى مشارقة ومغاربة:

لقد انقسم السريان مع مرور الزمن الى كتلتين بشريتين في منطقتين جغرافيتين، فتسموا بالسريان المشارقة والسريان المغاربة. وتشبه الحدود السورية العراقية اليوم، الى حد ما، الحدود التي كانت تفصل بين السريان المشارقة (في العراق وايران)(32)  والسريان المغاربة (في سوريا وتركيا ولبنان اليوم). لقد صادف انقسام السريان في بداية القرن الخامس الميلادي، وكانت القسمة على محاور عدة: سياسية ولاهوتية وكنسية ولغوية ومناطقية؛ فسياسياً كان السريان المشارقة يتبعون دولة الفرس، والسريان المغاربة بيزنطة؛ ولاهوتياً تبع السريان المشارقة الفكر النسطوري في تحليل لاهوت المسيح وناسوته ورفضهم لقب مريم "والدة الله" ܝܠܕܬ ܐܠܗܐ؛ ولغوياً استعمل السريان المشارقة في الكتابة والادب والطقوس الكنسية الفرع الشرقي من اللغة السريانية الفصحى التي تسمى لديهم ܠܫܢܐ ܥܬܝܩܐ "لشانا عتيقا" (أي، اللغة القديمة) و ܠܫܢܐ ܣܦܪܢܝܐ "لشانا سفرانايا" (أي، اللغة الادبية)؛(33)  وتكلموا ولا زالوا يتكلمون لغاية اليوم اللغة "الآرامية الشرقية الشمالية الحديثة" North-Eastern Neo-Aramaic.(34)  واستعمل السريان الغربيون اللغة السريانية الفصحى بلهجتها الغربية حيث يسمونها ܣܘܪܝܝܐ ܟܬܒܢܝܐ "سوريويو كثوبونويو" (أي، اللغة الكتابية، بمعنى اللغة الفصحى) وتكلموا بفروع آرامية مختلفة، فمنهم من يتكلم اللغة "الآرامية الغربية الحديثة"(35)  Western Neo-Aramaic، ومنهم "الآرامية المتوسطة الحديثة"(36)  Central Neo-Aramaic.(37)  وكنسياً تأسس من  السريان المشارقة الكنيسة السريانية الشرقية(38)  تحت سلطة اسقف المدائن والذي سُمي بعدئذ جاثليق/بطريرك، بينما كان السريان المغاربة تحت سلطة اسقف/بطريرك كنيسة انطاكيا قبل انقسامها؛ ومناطقياً تمركز السريان المشارقة حول "المدائن" عاصمة الفرس على نهر دجلة ضمن حدود الدولة الفارسية، وأما السريان المغاربة فتمركزوا حول عاصمتهم الروحية "انطاكيا" ضمن حدود الامبراطورية البيزنطية. وبالرغم من ان السريان المغاربة انقسموا بعد عام 451 لاهوتياً وكنسياً الى فرقتين، وفي القرن السابع الى ثلاث فرق، فقد كانت غالبيتهم من رعايا الدولة البيزنطية.
بعد سيطرة العرب المسلمين على منطقة الشرق الاوسط تحول معظم السريان المشارقة والمغاربة الى رعايا في الدولة العربية المسلمة الفتية، وزالت الحدود السياسية القديمة من بينهم. الا ان القسمة الكنسية واللاهوتية واللغوية استمرت بين السريان وما زالت ليومنا هذا. ورغم ان غالبية السريان الآراميين(39)  قد فقدوا لغتهم الآرامية الأم من التخاطب اليومي، الا انه ما زال العديد منهم يتكلم الآرامية  كل بحسب لهجة منطقته وخاصة في العراق وسوريا، ولا زالت كنائسهم تستعمل السريانية الفصحى في عبادتها وطقوسها.

(يتبع في المقال القادم عن موضوع "اللغة السريانية")

ملاحظة: هنا تبدأ حواشي المقالة:

(1)   اي في العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، ما يجاورها من البلدان الحديثة مثل تركيا وايران ومصر وبلدان الخليج وارمينيا وغيرها التي فيها اقليات سريانية.
  (2) منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت هذه المجموعات السريانية تهجر الاسم السرياني تدريجياً وتقطع نفسها من التواصل معه في مرحلة انفلات وابتعاد عن الاصل والتراث، لتبتعد عن اسمها السرياني المتوارث من الأجداد للأباء والأبناء بحثاً عن عوامل تبرز خصوصياتها المجموعاتية والطائفية من جهة، وابعاد نفسها عن اخوتها السريان المحافظين على التسمية السريانية من جهة اخرى.  فشكلت مرحلة الانفلات لدى بعض الطوائف السريانية ضياعاً في هويتهم السريانية التقليدية المنقولة لهم عبر تاريخ اجدادهم الموثق، وحلت مرحلة التفكك من الجسم السرياني، وربما معاداته ايضاً.
  
  (4) منذ القرن الثالث قبل الميلاد درجت عادة عند اليونانيين بان يطلقوا تسمية "سوريا" على بلاد آرام، وتسمية سريان على الآراميين، و"لغة سريانية" على اللغة الآرامية.
  (5) إن كان اليونانيون يسمون الآراميين بالسريان فهذا ليس حدثا فريداً، بل يشبهه حال بعض الدول الاوروبية اليوم. فاليونانيون مثلاً يسمون انفسهم "إلينس" ونحن نسميهم يونان، وإسم "الألمان" الاصيل بلغتهم هو "دويتش" Deutcher  لكننا نسميهم نحن "ألمان"؛ والنمساويون لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم (نمساويين) بل "اوستررايشر";&ouml;sterreicher وكذلك السويديون فهم يسمون أنفسهم "سفنسكار" svenskar، بينما نحن نسميهم "سويديين". وهناك امثلة أخرى كثيرة مشابهة في العالم.
(6)   رغم ان التسمية الارامية انزاحت من الاستعمال اليومي، الا انها بقيت في الاستعمالين الكتابي والادبي لدى مختلف الكتّاب السريان على مر العصور، فنرى مثلا الكاتب السرياني "يشوع بركيلو" (توفي عام 1309) يستعمل التسمية الآرامية في رسائله بقوله، ان كتبتَ لكاهن فاكتب ما يلي: ܠܟܗܢܐ ܕܐܬܓܒܝ ܫܪܓܐ ܠܥܡܐ ܐܪܡܝܐ: "الى الكاهن الذي اختير سراجاً للشعب الارامي". انظر كتاب رسائله طبعة اسحق ارملة في بيروت 1928، الفصل الاول صفحة  22.
  (7) رغم انهم كانوا احياناً يطلقون عليهم التسمية السريانية بشكل غير متواصل وغير منتظم منذ القرن السادس قبل الميلاد.
[
left][left
](8)
 Posidonius, (Cambridge Classical Texts and Commentaries 1988), vol. 2, pp. 955-956[/left][/left]
(9)  Strabo, Geography, book I, 34
[/left]
(10)  وكذلك فعل المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس الذي عاش مباشرة بعد المسيح (ولد حوالى عام 37 ميلادي ومات حوالى سنة 100 للميلاد) بقوله: "يطلق اليونانيون على الآراميين اسم السريان" (انظر كتابه:  Antiquities of the Jews, Book I, Chapter 6
  (11) كان هؤلاء التراجمة من علماء اليهود المتمرسين باللغات العبرية واليونانية والارامية.
  (12) انظر التوراة السبعينية السريانية، سفر الملوك الثاني 12:17
  (13) انظر التوراة السبعينية السريانية، سفر الملوك الثاني 15:37
(14)   أما لماذا لقب مار أفرام بالسرياني في ذلك الوقت الذي كان يُسمى آرامياً، فان اليونان هم الذين سموه بالسرياني لانهم كانون يطلقون على الآراميين تسمية "سريان"؛ ومن اليونانية دخل لقب "افرام السرياني" الى السريانية بواسطة الترجمة لاحقاً، فأصبح مار أفرام يُعرف في كل الاوساط باسم "أفرام السرياني".
(15)  E. Beck, Des heiligen Ephraem des syrers Hymnen de Virginitate, (CSCO vol. 223/Syr 94), Louvain 1962, p. 70.
(16)  C.W. Mitchell, St Ephrem’s Prose Refutations of Mani, Marcion and Bardaisan, (2 vols; London & Oxford 1912 & 1921), vol. II, p. 7.
(17)  Ibid., vol. I, p. 122.
(18)  P. Bedjan, Acta martyrum et sanctorum, vol. III, Paris 1892, p. 677.
(19)  Ibid. P. 668.
 (20) "المدراش" ܡܰܕܪܳܫܳܐ  هو أحد انواع الشعر السرياني ويكون على شكل قصيدة جدلية للغناء، وهو على نقيض "الميمر" ܡܺܐܡܪܳܐ الذي هو قصيدة للقراءة. تتميز "المداريش" السريانية بتنوع اوزانها الشعرية التي تبلغ اكثر من خمسين وزناً شعرياً.
(21)   لقد كتب المؤلف كلمة آراميين السريانية بهذه الصيغة اعلاه، اي وضع حرف الألف بعد حرف الراء، كي يلفظ الكلمة بصيغة oromoye/aramaye
(22)   Patrologia Orientalis, vol. 29, p. 196.
 

(23)   انظر كتاب يعقوب الرهاوي المسمى ܫܬܬ ܝܘ̈ܡܐ "الايام الستة"، طبعة المطران يوليوس جيجك في هولندا 1985، صفحة 60.
(24)   نفس المصدر، صفحة 60.
(25)   انظر قاموس بربهلول السرياني طبعة روبنس دوفا ل في باريس عام 1888، عمود 1324.
  (26) انظر الفصل 14 من كتابه  ܐܪܘܥܘܬܐ.
(27)  Solomon of Basra, The Book of the Bee, ed.  E. A .W. Budge, London 1886, page 99.
 (28) انظر سفر تثية الاشتراع 26:5 حيث يقول: "آرامياً تائهاً كان أبي".
  (29) نعتقد بان عددهم اكثر من عشرة ملايين؛ بعض الكنائس السريانية الهندية تستعمل اللغة السريانية وبعضها الاخر اهملها كلياً. أما اللغة السريانية في الهند فتستعمل بلهجتيها الشرقية والغربية حسب الكنيسة والطائفة.
  (30) مثل تعاليم "مرقيون" و"ماني" و"برديصان" و"قوق" و"أريوس" وغيرهم من اصحاب التعاليم الفلسفية والدينية والغنوصية التي وسمتها الكنيسة بالهرطوقية.
(31)   رفض السريان الارثوذكس مقررات مجمع خلقيدونيا الذي عُقد عام 451 ونص على ان للسيد المسيح "طبيعتين متحدتين" لاهوتية وبشرية. وقد فضّل السريان الارثوذكس مع الاقباط حينها صيغة "ان للمسيح طبيعة واحدة مكونة من طبيعتين متحدتين". وقد حارب الفريقان بعضهما البعض ونعتوا بعضهم بألقاب سلبية بعدئذ، فأطلق مناصرو مقررات خلقيدونيا على رافضيها تسمية "اليعاقبة"، وهؤلاء بدورهم اطلقوا تسمية "مَلْكيين" على الذين قبلوها. أما كلمة "يعاقبة" فهي النسبة من اسم يعقوب البرادعي الذي جدد الاعتقاد بالطبيعة الواحدة بعد ان اوشك على الاندثار على يد ملوك بيزنطا. أما استعمال اللفظة اليونانية "اورثوذكس" على الكنيسة السريانية فهي ترجمة حرفية للعبارة السريانية ܬܪܝܨܬ ܫܘܒܚܐ اي "الأعتقاد القويم"، الموجودة في اسم هذه الكنيسة بالسريانية ܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܬܪܝܨܬ ܫܘܒܚܐ "الكنيسة السريانية ذات الاعتقاد القويم".
  (32) يوجد في العراق لغاية اليوم عدد هام من "السريان المغاربة"، ويشكلون هناك الطائفة المسيحية الثانية من حيث الحجم بعد الكلدان. وهؤلاء السريان المغاربة هم من آراميي العراق الاصليين منذ القديم، ويتحدثون بالآرامية الشرقية الحديثة لكنهم يستعملون السريانية الفصحى الغربية في طقوسهم الكنسية.
  (33) وهي غير الارامية التي يتحدثون بها ويسمونها "سورث".
(34)   ويسمونها "سورث".[/size][/b]-
__________

انتهى الجزء الاول ويتبعه الجزء الثاني قريباً
الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم


13
ثلاثة اشهر على خطف المطرانين
اسعد صوما اسعد
ستوكهولم
(ملاحظة: نعيد نشر الموضوع معدلاً كي نلفت النظر الى خطف المطرانين)


ها قد مضت ثلاثة اشهر بالتمام ولا زال المطران مار غريغوريوس يوحنا ابراهام في اسره، ومعه صديق الخدمة والرعاية والزنزانة، المطران بولس يازجي. لقد مرت هذه الاشهر الثلاثة بسرعة وببطىء شديدين: بسرعة بسبب تتابع الاحداث السريعة والمتغيرات الكبيرة التي ضربت وتضرب المنطقة باستمرار، وببطىء لان كل يوم في السجن والاسر طويل جدا بليله وظلامه ومعاناته وكأنه سنة كاملة. ومطراننا الاسير يستنكف ظلام ليل سجنه الطويل ويردد مع الشاعر امرؤ القيس شكواه عن طول الليل وثقله بقوله:
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ    عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي
فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ    وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ
ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي    بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
فَــيَــا لَــكَ مَــنْ لَــيْــلٍ كَــأنَّ نُــجُــومَــهُ    بــكــل مُــغــار الـفــتـل شُــدّت بـيـذبل
كَـأَنَّ الـثُـرَيّــا عُـلِّـقَــت فـي مَـصـامِــهـا    بِــأَمْــرَاسِ كَــتَّـانٍ إِلَــى صُــمِّ جَــنْــدَل ِ

نعم، في زحمة كوابيس هذا الليل الثقل، نتذكر اليوم ايضا خطف الكاهنين الحلبيين اسحق محفوظ وميشال كيال، حيث مضى على خطفهما حوالي ستة اشهر، ولا يوجد اي خبر لا عن المطرانين ولا عن الكاهنين. كل ما هناك اخبار متضاربة غير مؤكدة.

لقد سمع عن قصة خطف المطرانين الجليلين كل من القاصي والداني نظراً لمكانتهما ولدورهما الرائد في الحياة الكنسية والثقافية والاجتماعية والتعايشية والوطنية في سوريا. ويعتبر خطف المطرانين حلقة في سلسلة طويلة من عمليات الخطف التي طالت مؤخراً بعض الاشخاص من كل القوميات والطوائف وشرائح المجتمع السوري التعددي اثنياً ودينياً وطائفياً.
لكن الغريب في عملية خطف المطرانين المذكورين انها لا تشابه حالات الخطف الاخرى التي حدثت وتحدث منذ سنوات في العراق ومصر، وحديثاً في سوريا. وقد علمتنا احداث الشغب والعنف والخطف والقتل في الشرق الاوسط، بان الخاطف اينما كان موقعه، فهو ينتمي الى واحدة من ثلاث مجموعات: اما سياسية، او اسلامية متطرفة، او عصابة اجرامية. والدارج في عمليات الخطف ان الخاطف يقوم بالاعلان عن نفسه بعد الخطف بفترة قصيرة ليفصح عن هدفه من عملية الخطف وثم يحدد مطالبه ومواقفه.
لكن الاكثر غرابة في الموضوع ان مَن خطفَ المطرانين المذكورين لم يعلن عن نفسه حتى الان، ولم يكشف عن هدفه وغايته من الخطف، ولم يحدد مطالبه مقابل اطلاق سراحهما. وهذا بالفعل أمر غير طبيعي يفسح المجال امام العديد من التساؤلات التي لا جواب لها.
فاذا كان الخاطف من اهل السياسة فانه والحالة هذه يستعمل ضحيته المخطوفة للضغط على الحكومة او على جهة سياسية ما للحصول على مكاسب سياسية، او ربما مقايضة المخطوف بأسير او سجين من حزبه او حركته؛ وان كان الخاطف من حركة اسلامية متطرفة فانه يعادي اصحاب الديانات والطوائف الاخرى وربما يمارس القتل بحقهم، فيخطف منهم ويفتخر بقتل المخطوفين مكبراً، وربما ينشر عملية القتل في الانترنت لترعيب الاخرين؛ وان كان الخاطف مجرماً هدفه الابتزاز فانه يتصل لاحقا باهل المخطوف ويطلب فدية مالية مقابل فك اسر المخطوف.
لكن في حالة خطف المطرانين فانه حتى زمن كتابة هذه السطور لم يعلن الخاطف عن نفسه ويحدد اهدافه ومطالبه. فالخاطف هنا ربما ينتمي الى مجموعة جديدة غير المجموعات الثلاث المذكورة اعلاه، وربما له اهداف غير الاهداف المذكورة اعلاه؟ من يدري؟

لقد تدخل في قضية الخطف الكثير من رجال السياسة والدين والفكر من اعلى المستويات شرقا وغرباً، ووجه النداء تلو النداء الى الخاطفين لفك اسر المطرانين لانهما رسل محبة وسلام، لكن لم يصدر اي جواب ولا اية اشارة من الخاطفين لغاية هذه الساعة. وقد قامت معظم القيادات المسيحية في العالم بالصلاة لاجل الافراج عنهما وعودتهما سالمين، وبينهم بابا الفاتيكان، لكن دون جدوى، يبدو ان الرب لم يستجب لصلاتهم ودعواتهم.
وكان بطريرك السريان الارثوذكس "زكا الاول" في كلمته بمناسبة عيد الفصح قد صرح بعض الكلام الهام جدا في تعليقه على حادثة الخطف، حيث دعا "مسيحيي الشرق وخاصة في سوريا الى التشبث بتراب الوطن"، قائلاً: "انه ميراثنا الشرعي من أجدادنا وابائنا الذي ليس لاحد غيرنا أي حق فيه"، واضاف قائلاً: "هذا وطننا ونحن فيه قبل مجيء المسيح وبعد مجيئه، وجذورنا فيه عميقة لا يمكن اقتلاعها، وسنظل راسخين فيه الى نهاية العالم". انظر الرابط رقم ( 1):                              
ومن بين الاشخاص المسلمين المهمين في العالم ممن وجهوا نداء الى الخاطفين للافراج عن المطرانين، السيد "احسان اوغلو" الامين العام لمنظمة التعاون الاسلامي في العالم، ففي بادرة جميلة منه اصدر بيانا  بتاريخ 27 نيسان دعا فيه إلى ضرورة الإفراج الفوري عن المطرانين دون أية شروط، قائلا: "أن هذا التصرّف يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي والمكانة التي يوليها الإسلام لرجال الدين المسيحي". انظر الرابط رقم (2):

 وكذلك وجه الامير الاردني "الحسن بن  طلال" رئيس منتدى الفكر العربي نداء قال فيه: "ان اختطاف صديقَي العزيزين مطران السريان الارثوذكس يوحنا ابراهيم ومطران الروم الارثوذكس بولس اليازجي، لدليل اخر على انحدار خطير نحو تدمير للذات في انحاء البلاد والمجتمعات التي طالما عاش فيها اتباع الديانات الابراهيمية معاً". ودعا الامير الى اخلاء سبيل المطرانين، وختم قائلاً: "اطلب منكم اليوم الانضمام الينا للعمل من اجل اطلاق سراح المطرانين، وللحوار كوسيلة لحل الاختلاف ووقف العنف بين الاخوة." انظر الرابط رقم (3):

لكن كل هذه النداءات والدعوات لاجل اطلاق سراح المطرانين من هؤلاء الاشخاص المهمين أكانوا مسلمين او مسيحيين، لم تنفع بل ذهبت ادراج الرياح.
 
ان المطران يوحنا ابراهام علم من اعلام الدين المسيحي في الشرق الاوسط الذين يعملون مع المفكرين المسلمين من اجل التعايش بين الاديان ولخلق ارضية مشتركة للسلم الاهلي لكل المواطنين. وقد اشترك في الكثير من المؤتمرات حول الحوار الاسلامي المسيحي والعيش المشترك وقدم فيها محاضرات ومداخلات. ومنها اشتراكاته ومساهماته في المؤتمرات التي نظمها الامير الحسن بن طلال المهتم بالثقافة والفكر والعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، واشترك معه في عدة ندوات عالمية هامة حول الحوار الاسلامي المسيحي. اقرا عنها في الرابط رقم (4):  ومنها مؤتمر مؤتمر صيانة العيش المشترك في العالم العربي: انظر الرابط  رقم (5)
واللقاء الحواري مع الامير حسن انظر الرابط رقم (6)، والرابط رقم (7)، وكذلك مؤتمر أهميّة استمراريّة الوجود المسيحي في الشرق، الرابط (8).  
لكن للاسف ان حضوره ومشاركاته مع القيادات العربية والاسلامية في هذه المؤتمرات الودية لم تنفعه لأن يد الغدر طالته دون وازع اخلاقي، ودون اي تقدير لدوره في ارساء التعايش بين الطوائف في المنطقة. واختطف مع صديقه المطران يازجي دون اي اعتبار كما يختطف اي شخص عسكري او سياسي مشارك في النزاع الدائر.

المطران يوحنا ابراهام والمطران بولس يازجي وكنيستهم الانطاكية:
المطران يوحنا ابراهام كاهن في كنيسة السريان الارثوذكس والمطران بولس يازجي كاهن في كنيسة الروم الارثوذكس. وان هاتين الكنيستين: كنيسة السريان الارثوذكس وكنسية الروم الارثوذكس، انفصلتا عن بعضهما البعض عام 451 ميلادي. وكانت الغالبية الساحقة لشعب الكنيستين المذكورتين في الشرق قبل انفصالهما وبعده تتكون من الاراميين ولغتهم الارامية. لكن على اثر انعقاد المجمع الكنسي في خلقيدونية عام 451 م والاختلاف على تحديد طبيعة المسيح، ادى الى انقسام كنسي كبير بين المؤيدين للقول بان للسيد المسيح "طبيعتين متحدتين" وبين المؤيدين للقول بان للسيد المسيح "طبيعة واحدة متحدة من طبيعتين". وقد تأسس من القائلين بالطبيعتين كنيسة الروم الارثوذكس ومن القائلين بالطبيعة الواحدة كنيسة السريان الارثوذكس. وكان معظم قياصرة الروم يساندون الكنيسة القائلة بالطبيعتين ويضطهدون احياناً الكنيسة القائلة بالطبيعة الواحدة. ان كنيسة الروم المذكورة اهملت استعمال لغتها السريانية تدريجيا، لتستبدلها اخيراً بالعربية التي وفدت مع المسلمين الذين احتلوا سوريا والعراق في القرن السابع الميلادي. بينما حافظت الكنيسة السريانية على اللغة السريانية في طقوسها وهويتها واصالتها لغاية اليوم.
لذا فالمطران ابراهام والمطران يازجي هما في الاساس كهنة في كنيسة واحدة انطاكية، انقسمت الى اثنتين قبل حوالي 1500 سنة، ثم ومع مرور الزمن انقسمت كل واحدة بدورها الى فروع اخرى كاثوليكية وبروتستانية.

المطران المخطوف:
والمطران يوحنا ابراهام رجل عالم وعامل، وهو مطران منذ حوالي 35 سنة. ولد في القامشلي ودرس في مدارسها السريانية المراحل الابتدائية والاعدادية، ثم انتسب الى كلية مار افرام اللاهوتية في زحلة، ثم انخرط منذ صباه في سلك الرهبنة، وفي عام 1973 درس في المعهد الشرقي في جامعة روما وحاز على ليسانس في الدراسات الشرقية، وبكالوريوس في الحق الكنسي الشرقي عام 1976، ثم انتسب بعدها الى جامعة لوفان الشهيرة لنيل الدكتورا (وهو اول اكليركي سرياني ارثوذكسي يدرس في معهد كاثوليكي في روما، لذلك كان يقول عنه الاصدقاء مازحين بانه سفير الكنيسة السريانية الارثوذكسية لدى الفاتيكان، وممثل الفاتيكان في الكنيسة السريانية الارثوذكسية، لكن إن دل هذا على شيء فيدل على علاقته المسكونية الممتازة). وقد خدم اثناء رهبنته في سوريا والعراق ولبنان واوروبا، لذلك اكتسب خبرة كبيرة وتجربة جيدة في العمل الكنسي، وتعرف على السريان من ابناء الابرشيات التي خدم فيها كراهب كاهن.

وقد اكتشف بطريرك كنيسته حينها، البطريرك العلامة المرحوم يعقوب الثالث (توفي عام 1980)، امكانياته الجيدة فتوسم به خيراً؛ فاستدعاه ورشحه لابرشية حلب. وبعد موافقة الابرشية قام البطريرك برسامته مطراناً في مدينة حلب وتوابعها في بداية آذار من عام 1979 وعمره حوالي الثلاثين سنة، خلفاً لمطران حلب المستقيل المرحوم "القديس" جرجس القس بهنام (توفي عام 1992). وكان يوم رسامة المطران يوحنا بهجه عارمة لكل السريان الارثوذكس لان الجميع كانوا يعرفونه ويعرفون دماثة اخلاقه وسمعته العاطرة. وتقديرا لابرشية حلب ومكانتها توجه البطريرك يعقوب بنفسه الى حلب ورسمه هناك. وبين المطارنة السريان الذين شاركوا في مراسيم رسامته ولا زالوا على قيد الحياة المطرانان مارغريغوريوس صليبا شمعون (مطران الموصل سابقا) ومار سويريوس حاوا (مطران بغداد والبصرة) وكلاهما من وفي العراق (امد  الله في عمرهما). وكان المطران المرتسم قد القى ايضا كلمة بالايطالية، اللغة التي درس فيها في روما، موجهة الى السفير الفاتيكاني والمطارنة والاشخاص الموفدين القادمين من روما ومن حاضرة الفاتيكان.

ومع مرور الزمن، وخاصة في الفترة الاخيرة، اصبح المطران يوحنا ابراهام اهم كاهن في كنيسة السريان الارثوذكس، وربما أهم مطران مسيحي في سوريا، وكذلك من اهم رجال الدين بين كل الطوائف والاديان في سوريا. ومن مزاياه الحميدة علاقته الجيدة مع معظم رجال الدين المسيحي في الشرق الاوسط، ومع الكثيرين من رجال الدين الاسلامي وقياداتهم، وصداقته مع معظم العلماء المتخصصين باللغة والثقافة السريانية في العالم، ومعرفته لمعظم ابناء طائفة السريان الارثوذكس في كل مكان. كل هذا اعطاه خبرة جيدة في العمل الكنسي والمؤسساتي والمسكوني.
ان محبته للتراث السرياني حملته على الاشتغال بهذا التراث الغني، فعمل على تأسيس دار نشر وطباعة عشرات الكتب حول هذا الموضوع، وشارك في الكثير من المؤتمرات والندوات حول هذا التراث، ومثل كنيسته في مؤتمرات عالمية مختلفة.
لقد نجح المطران يوحنا في حياته الكنسية والثقافية والاجتماعية بشكل جيد، فاصبحت حلب من أبرز وأهم الابرشيات السريانية الارثوذكسية في العالم مشحورة بحسن تتنظيمها وادارتها وامكاناتها ومكانتها.

وفي حمأة الحرب القذرة في سوريا، نجد المطران يوحنا على علاقة طيبة مع الحكومة السورية ومع كل اطراف النزاع وهو يتنقل بين مناطقهم مؤدياً خدمات انسانية للفقراء والمحتاجين والمرضى والمحتجزين عندما يتطلب منه العمل الانساني ذلك؛ انه يسخّر شبكة علاقاته الطيبة لخدمة كل المحتاجين من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وكم من مرة تنقل بين جبهات القتال بحثاً عن مخطوف ما  لاقناع الخاطفين باطلاق سراحه، أو لنقل قتيل من الخطوط القتالية لتسليمه لاهله لدفنه.
نعم، ان اطراف النزاع في سوريا يعرفون المطران يوحنا ويقدرون دوره الانساني الذي اشتهر به من بين كل الكهنة المسيحيين في سوريا. كما ان نجاحه عدة مرات في البحث عن مخطوفين ومحتجزين ومتضررين، ضاعف في رصيد محبة الناس له وتقديرهم لاعماله الانسانية الهامة. لكن ان يحصل ما حصل له، لم يكن يخطر في بال انسان على الاطلاق.

وحتى كنيسة السريان الارثوذكس في حلب وبعض مؤسساتها الكنسية تعرضت للقصف عدة مرات، كان اخرها بضعة ايام فقط بعد خطف رئيس الابرشية واسره. فقد سقطت ليلة الثلاثاء 7/ 5/ 2013 قذيفة هاون على سطح دار مطرانية السريان الارثوذكس الجديدة بالسليمانية في حلب، وقد أدت إلى حدوث أضرار مادية في الطابق السادس منها، كما سقطت قذائف أخرى بمحيطها. وهذه هي المرة الثانية التي تسقط فيها قذائف في أيام مختلفة منها أمام باب كاتدرائية مار أفرام يوم الثلاثاء 23/ 4/ 2013، وأدت أيضاً إلى حدوث أضرار مادية في الباب الخارجي، وتكسير في زجاج النوافذ في الطوابق. وكأن هذه الهجمات رسالة موجهة من خاطفي المطران يوحنا ابراهام لا نعلم مغزاها، انطر رابط (9) ورابط (10).
وفي اذار 2012 حصل انفجار ارهابي هائل في احد الاحياء المسيحية في حلب بقرب مطرانية السريان الارثوذكس، وكان المطران يوحنا في نفس اللحظة مستقلا سيارته في الطريق بجوار مكان الانفجار، لكن العناية الربانية احاطت به ونجا من التفجير دون اذى، انظر رابط (11).

كنتُ اعتقدُ شخصياً، إن كان هناك شخصية واحدة في سوريا لن يصيبها اي مكروه من الطرفين: أكان من الحكومة او من مقاتلي المعارضة، فهو المطران يوحنا ابراهام. لكن تناقاضات الحياة والزمن السيء كثيرة ولا تطاق، حيث يقع فاعل السلام ومحامي الانسانية المنكوبة ضحية لعمله الانساني الكبير فيصبح رهينة بيد من اراد لهم الخير والسلام، فيربطون يديه بالسلاسل عوضاً عن تقليده سلسلة ذهبية على صدره، ويرموه اسيراً في غرفة تعيسة مظلمة بدلاً من تقديره وتكريمه. وهذا يذكرني  بمقولة الفيلسوف السرياني مارا بن سرافيون (من المئة الثانية بعد الميلاد) عندما اخذه الرومان اسيراً وسجنوه، فسأله احد الاصدقاء عندما رآه ضاحكا في سجنه فقال له: "قل لي بحياتك يا مارا، ما الذي يضحكك؟ فاجابه الفيلسوف: اني اضحك من الدهر الذي يرد علي شراً لم اباديه به".
انني منذ سماعي خبر اختطاف المطران يوحنا ولغاية اليوم، احاول الدخول الى الموقع الالكتروني لكنيسة السريان الارثوذكس في حلب عدة مرات يومياً، متمنياً ومتأملاً في كل مرة ان اقرأ خبراً مفرحاً باطلاق سراح صديقنا وحبيبنا المطران يوحنا ابراهام. وسأظل يومياً اتابع اخباره الى ان اقرأ خبر اطلاق سراحه لتتم الفرحة بعودته وعودة المطران بولس الى كنائسهم سالمين.

الكنيسة وموقفها السلبي:
ان للسريان الارثوذكس ثقل لا باس به في اوروبا في جميع المجالات ومنها السياسية، فمثلا يوجد في السويد ستة اشخاص سريان ارثوذكس هم اعضاء في البرلمان السويدي يمثلون مختلف الاحزاب السويدية، بالاضافة الى عشرات السياسيين السريان الذين هم في مجالس المحافظات والبلديات، لكن للاسف الشديد لم يستغل هذا الثقل كما ينبغي في قضية المطران يوحنا ابراهام. كما يوجد ثمانية مطارنة للسريان الارثوذكس في اوروبا يرأسون ابرشيات سريانية في مختلف الدول الاوروبية، ولم نجد هولاء المطارنة يعملون ما ينبغي عمله لاجل المطران المخطوف بالرغم من كونهم معنيين مباشرة للدفاع عن اخيهم الكاهن. ان تقصيرهم بالعمل المطلوب في قضية المطران يوحنا كانهم يشمتون به وبخطفه، فاذا كان هذا صحيحاً فتعساً لهم. كان ينبغي ان تتوقف كل المراسيم والطقوس في الكنائس السريانية بعد خطفه، وان تتخصص جميع الصلوات يوميا لاجل المطران المخطوف، وان تكون المواعظ في كل الكنائس حول هذه المناسبة الى ان يطلق سراح المطرانين المخطوفين.

كما كان يجب على التلفزيونات السريانية في اوروبا ان تخصص كل برامجها خدمة لهذه القضية المأساوية، وان لا تغيب صورة المطرانين من شاشاتها ليلاً نهاراً. لان ما حصل ليس حالة افرادية بل له قيمة معنوية ورمزية عالية، لانه يمس الوجود المسيحي برمته في سوريا ويزعزع مستقبل المسيحيين فيها، خاصة عند خطف رموز مسيحية بثقل المطران يوحنا وصديقه المطران بولس. فتباً لجميع المؤسسات الكنسية والمدنية المقصرة على لا مبالاتها.

ان المطران يوحنا والمطران بولس يازجي هما في الاساس راهبان وهبا زهرة حياتهما لعبادة الله ومحبته، وكرسا وجودهما لخدمة الرب والانسان كائناً من كان. ان الراهب قطع نفسه عن مباهج الحياة وملذات العالم، وليس لديه عائلة وابناء، لكن كل البشرية هي عائلته وكل الناس ابناء له بالروح، فهو يصلي لخير البشرية جمعاء لتنعم بالسلام والامان.

ايها الكاهن المحترم انت دائماً في عقولنا وقلوبنا، ولا نستطيع ان ننساك وننسى ما اصابك، "طوبى لك لأنك من صانعي السلام، وطوبى لك اذا عيروك وقالوا لك اية كلمة سوء لاجل ما تمثله".
اسعد صوما اسعد
ستوكهولم

الروابط:
http://www.aljoumhouria.com/news/index/70609  رابط (1)
رابط (2) http://arabic.rt.com/news/614155/ :
 رابط (3) http://jordanzad.com/index.php?page=article&id=120258
رابط (4)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3225
رابط (5)  http://www.youtube.com/watch?v=8ZmrJlkFeBE
رابط (6)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3209
رابط (7)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3209
 رابط (8)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3216
 رابط (9)   http://new.alepposuryoye.com/topic/3784
 رابط (10)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3279
 رابط (11)  http://new.alepposuryoye.com/topic/3089

14
المطران المخطوف وشعبه المنكوب
اسعد صوما اسعد
ستوكهولم

قبل حوالي اسبوعين خُطف سيادة المطران مار غريغوريوس يوحنا ابراهام رئيس كنيسة السريان الارثوذكس في حلب ومعه سيادة المطران بولس يازجي رئيس كنيسة الروم الارثوذكس في حلب ايضاَ. وقد سمع عن خطفهما القاصي والداني  نظراً لمكانة هذين الكاهنين الجليلين ولدورهما الرائد في الحياة الكنسية والثقافية والاجتماعية والتعايشية والوطنية في سوريا. ويعتبر خطف المطرانين حلقة في سلسلة طويلة من عمليات الخطف التي طالت مؤخراً بعض الاشخاص من كل القوميات والطوائف وشرائح المجتمع السوري التعددي.
لكن الغريب في عملية خطف المطرانين المذكورين انها لا تشابه حالات الخطف الاخرى التي حدثت وتحدث منذ سنوات في العراق ومصر، وحديثاً في سوريا. وقد علمتنا احداث الشغب والعنف والخطف والقتل في الشرق الاوسط، بان الخاطف اينما كان موقعه، فهو ينتمي الى واحدة من ثلاث مجموعات: اما سياسية، او اسلامية متطرفة، او عصابة اجرامية. والدارج في عمليات الخطف ان الخاطف يقوم بالاعلان عن نفسه بعد الخطف بفترة قصيرة ليفصح عن هدفه من عملية الخطف وثم يحدد مطالبه ومواقفه.

لكن الاكثر غرابة في الموضوع ان مَن خطفَ المطرانين المذكورين لم يعلن عن نفسه حتى الان، ولم يكشف عن هدفه وغايته من الخطف، ولم يحدد مطالبه مقابل اطلاق سراحهما. وهذا بالفعل أمر غير طبيعي يفسح المجال امام العديد من التساؤلات التي لا جواب لها.
فاذا كان الخاطف من اهل السياسة فانه والحالة هذه يستعمل ضحيته المخطوفة للضغط على الحكومة او على جهة سياسية ما للحصول على مكاسب سياسية، او ربما مقايضة المخطوف بأسير او سجين من حزبه او حركته؛ وان كان الخاطف من حركة اسلامية متطرفة فانه يعادي اصحاب الديانات والطوائف الاخرى وربما يمارس القتل بحقهم، فيخطف منهم ويفتخر بقتل المخطوفين وربما ينشر عملية القتل في الانترنت لترعيب الاخرين؛ وان كان الخاطف مجرماً هدفه الابتزاز فانه يتصل لاحقا باهل المخطوف ويطلب فدية مالية مقابل فك اسر المخطوف.
لكن في حالة خطف المطرانين فانه حتى زمن كتابة هذه السطور لم يعلن الخاطف عن نفسه ويحدد اهدافه ومطالبه. فالخاطف هنا ربما ينتمي الى مجموعة جديدة غير المجموعات الثلاث المذكورة اعلاه، وربما له اهداف غير الاهداف المذكورة اعلاه؟ من يدري؟

لقد تدخل في قضية الخطف الكثير من رجال السياسة والدين والفكر من اعلى المستويات شرقا وغرباً، ووجه النداء تلو النداء الى الخاطفين لفك اسر المطرانين لانهما رسل محبة وسلام، لكن لم يصدر اي جواب ولا اية اشارة من الخاطفين لغاية هذه الساعة. وقد قامت معظم القيادات المسيحية في العالم بالصلاة لاجل الافراج عنهما وعودتهما سالمين، وبينهم بابا الفاتيكان، لكن دون جدوى، يبدو ان الرب لم يستجب لصلاتهم ودعواتهم.

وكان بطريرك السريان الارثوذكس زكا الاول في كلمته بمناسبة عيد الفصح قد صرح بعض الكلام الهام جدا في تعليقه على حادثة الخطف، حيث دعا "مسيحيي الشرق وخاصة في سوريا الى التشبث بتراب الوطن"، قائلاً: "انه ميراثنا الشرعي من أجدادنا وابائنا الذي ليس لاحد غيرنا أي حق فيه"، واضاف قائلاً: "هذا وطننا ونحن فيه قبل مجيء المسيح وبعد مجيئه، وجذورنا فيه عميقة لا يمكن اقتلاعها، وسنظل راسخين فيه الى نهاية العالم". انظر الرابط:                               http://www.aljoumhouria.com/news/index/70609

ومن بين الاشخاص المسلمين المهمين في العالم ممن وجهوا نداء الى الخاطفين للافراج عن المطرانين، السيد احسان اوغلو الامين العام لمنظمة التعاون الاسلامي في العالم، ففي بادرة جميلة منه اصدر بيانا  بتاريخ 27 نيسان دعا فيه إلى ضرورة الإفراج الفوري عن المطرانين دون أية شروط، قائلا: "أن هذا التصرّف يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي والمكانة التي يوليها الإسلام لرجال الدين المسيحي". انظر الرابط:
http://arabic.rt.com/news/614155/ :
 وكذلك وجه الامير الاردني حسن بن  طلال رئيس منتدى الفكر العربي نداء قال فيه: "ان اختطاف صديقَي العزيزين مطران السريان الارثوذكس يوحنا ابراهيم ومطران الروم الارثوذكس بولس اليازجي، لدليل اخر على انحدار خطير نحو تدمير للذات في انحاء البلاد والمجتمعات التي طالما عاش فيها اتباع الديانات الابراهيمية معاً". ودعا الامير الى اخلاء سبيل المطرانين، وختم قائلاً: "اطلب منكم اليوم الانضمام الينا للعمل من اجل اطلاق سراح المطرانين، وللحوار كوسيلة لحل الاختلاف ووقف العنف بين الاخوة." انظر الرابط:
http://jordanzad.com/index.php?page=article&id=120258
لكن كل هذه النداءات والدعوات لاجل اطلاق سراح المطرانين من هؤلاء الاشخاص المهمين أكانوا مسلمين او مسيحيين، لم تنفع بل ذهبت ادراج الرياح.
 
ان المطران يوحنا ابراهام علم من اعلام الدين المسيحي في الشرق الاوسط الذين يعملون مع المفكرين المسلمين من اجل التعايش بين الاديان ولخلق ارضية مشتركة للسلم الاهلي لكل المواطنين. وقد اشترك في الكثير من المؤتمرات حول الحوار الاسلامي المسيحي والعيش المشترك وقدم فيها محاضرات ومداخلات. ومنها اشتراكاته ومساهماته في المؤتمرات التي نظمها الامير الحسن بن طلال المهتم بالثقافة والفكر والعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، واشترك معه في عدة ندوات عالمية هامة حول الحوار الاسلامي المسيحي. اقرا عنها في الرابط:                                                                   http://new.alepposuryoye.com/topic/3225
ومنها مؤتمر مؤتمر صيانة العيش المشترك في العالم العربي: انظر الرابط  http://www.youtube.com/watch?v=8ZmrJlkFeBE
واللقاء الحواري مع الامير حسن انظر: http://new.alepposuryoye.com/topic/3209
وكذلك http://new.alepposuryoye.com/topic/3209
وكذلك مؤتمر أهميّة استمراريّة الوجود المسيحي في الشرق  http://new.alepposuryoye.com/topic/3216

لكن للاسف ان حضوره ومشاركاته مع القيادات العربية والاسلامية في هذه المؤتمرات الودية لم تنفعه لأن يد الغدر طالته دون وازع اخلاقي، ودون اي تقدير لدوره في ارساء التعايش بين الطوائف في المنطقة. واختطف مع صديقه المطران يازجي دون اي اعتبار كما يختطف اي شخص عسكري او سياسي مشارك في النزاع الدائر.

المطران يوحنا ابراهام والمطران بولس يازجي وكنيستهم الانطاكية:
المطران يوحنا ابراهام كاهن في كنيسة السريان الارثوذكس والمطران بولس يازجي كاهن في كنيسة الروم الارثوذكس. وان هاتين الكنيستين: كنيسة السريان الارثوذكس وكنسية الروم الارثوذكس، انفصلتا عن بعضهما البعض عام 451 ميلادي. وكانت الغالبية الساحقة لشعب الكنيستين المذكورتين في الشرق قبل انفصالهما وبعده تتكون من الاراميين ولغتهم الارامية. لكن على اثر انعقاد المجمع الكنسي في خلقيدونية عام 451 م والاختلاف على تحديد طبيعة المسيح، ادى الى انقسام كنسي كبير بين المؤيدين للقول بان للسيد المسيح "طبيعتين متحدتين" وبين المؤيدين للقول بان للسيد المسيح "طبيعة واحدة متحدة من طبيعتين". وقد تأسس من القائلين بالطبيعتين كنيسة الروم الارثوذكس ومن القائلين بالطبيعة الواحدة كنيسة السريان الارثوذكس. وكان معظم قياصرة الروم يساندون الكنيسة القائلة بالطبيعتين ويضطهدون احياناً الكنيسة القائلة بالطبيعة الواحدة. ان كنيسة الروم المذكورة اهملت استعمال لغتها السريانية تدريجيا، لتستبدلها اخيراً بالعربية التي وفدت مع المسلمين الذين احتلوا سوريا والعراق في القرن السابع الميلادي. بينما حافظت الكنيسة السريانية على اللغة السريانية في طقوسها وهويتها لغاية اليوم.
لذا فالمطران ابراهام والمطران يازجي هما في الاساس كهنة في كنيسة واحدة انطاكية، انقسمت الى اثنتين قبل حوالي 1500 سنة، ثم ومع مرور الزمن انقسمت كل واحدة بدورها الى فروع اخرى كاثوليكية وبروتستانية.

المطران المخطوف:
والمطران يوحنا ابراهام رجل عالم وعامل، وهو مطران منذ حوالي 35 سنة. ولد في القامشلي ودرس في مدارسها السريانية المراحل الابتدائية والاعدادية، ثم انتسب الى كلية مار افرام اللاهوتية في زحلة، ثم انخرط منذ صباه في سلك الرهبنة، وفي عام 1973 درس في المعهد الشرقي في جامعة روما وحاز على ليسانس في الدراسات الشرقية عام 1976، وبكالوريس في الحق الكنسي الشرقي، ثم انتسب الى جامعة لوفان لنيل الدكتورا (وهو اول اكليركي سرياني ارثوذكسي يدرس في معهد كاثوليكي في روما، لذلك كان يقول عنه الاصدقاء مازحين بانه سفير الكنيسة السريانية الارثوذكسية لدى الفاتيكان وممثل الفاتيكان في الكنيسة السريانية الارثوذكسية). وقد خدم اثناء رهبنته في سوريا والعراق ولبنان واوروبا، لذلك اكتسب خبرة كبيرة وتجربة جيدة في العمل الكنسي، وتعرف على السريان من ابناء الابرشيات التي خدم فيها كراهب كاهن.
وقد اكتشف بطريرك كنيسته حينها، البطريرك العلامة المرحوم يعقوب الثالث، امكانياته الجيدة فتوسم به خيراً؛ فاستدعاه ورشحه لابرشية حلب. وبعد موافقة الابرشية قام البطريرك برسامته مطراناً في مدينة حلب وتوابعها في بداية آذار من عام 1979 وعمره حوالي الثلاثين سنة، خلفاً لمطران حلب المستقيل المرحوم "القديس" جرجس القس بهنام. وكان يوم رسامة المطران يوحنا بهجه عارمة لكل السريان الارثوذكس لان الجميع كانوا يعرفونه ويعرفون دماثة اخلاقه وسمعته العاطرة. وتقديرا لابرشية حلب ومكانتها توجه البطريرك يعقوب بنفسه الى حلب ورسمه هناك. وبين المطارنة السريان الذين شاركوا في مراسيم رسامته ولا زالوا على قيد الحياة المطرانان مارغريغوريوس صليبا شمعون (مطران الموصل سابقا) ومار سويريوس حاوا (مطران بغداد والبصرة) وكلاهما من وفي العراق (امد  الله في عمرهما). وكان المطران المرتسم قد القى ايضا كلمة بالايطالية، اللغة التي درس فيها في روما، موجهة الى السفير الفاتيكاني والمطارنة والاشخاص الموفدين القادمين من روما ومن حاضرة الفاتيكان.

ومع مرور الزمن، وخاصة في الفترة الاخيرة، اصبح المطران يوحنا ابراهام اهم كاهن في كنيسة السريان الارثوذكس، وربما أهم مطران مسيحي في سوريا، وكذلك من اهم رجال الدين بين كل الطوائف والاديان في سوريا. ومن مزاياه الحميدة علاقته الجيدة مع معظم رجال الدين المسيحي في الشرق الاوسط، ومع الكثيرين من رجال الدين الاسلامي وقياداتهم، وصداقته مع معظم العلماء المتخصصين باللغة والثقافة السريانية في العالم، ومعرفته لمعظم ابناء طائفة السريان الارثوذكس في كل مكان. كل هذا اعطاه خبرة جيدة في العمل الكنسي والمؤسساتي والمسكوني.
ان محبته للتراث السرياني حملته على الاشتغال بهذا التراث الغني، فعمل على طباعة عشرات الكتب حول هذا الموضوع، وشارك في الكثير من المؤتمرات والندوات حول هذا التراث، ومثل كنيسته في مؤتمرات عالمية مختلفة.
لقد نجح المطران يوحنا في حياته الكنسية والثقافية والاجتماعية بشكل جيد، فاصبحت حلب أبرز ابرشية سريانية ارثوذكسية في العالم بحسن تتنظيمها وادارتها وامكاناتها ومكانتها.

وفي حمأة الحرب القذرة في سوريا، نجد المطران يوحنا على علاقة طيبة مع الحكومة السورية ومع كل اطراف النزاع وهو يتنقل بين مناطقهم مؤدياً خدمات انسانية للفقراء والمحتاجين والمرضى والمحتجزين عندما يتطلب منه العمل الانساني ذلك؛ انه يسخّر شبكة علاقاته الطيبة لخدمة كل المحتاجين من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وكم من مرة اقتحم جبهات القتال بحثاً عن مخطوف ما  لاقناع الخاطفين باطلاق سراحه، أو لنقل قتيل من الخطوط القتالية لتسليمه لاهله لدفنه.
نعم، ان كل اطراف النزاع في سوريا يعرفون المطران يوحنا ويقدرون دوره الانساني الذي اشتهر به من بين كل الكهنة المسيحيين في سوريا. كما ان نجاحه عدة مرات في البحث عن مخطوفين واقناع الخاطفين لاطلاق سراحهم، ضاعف في رصيد محبة الناس له وتقديرهم لاعماله الانسانية الهامة. لكن ان يحصل ما حصل له، لم يكن يخطر في بال انسان على الاطلاق.

ومع كل هذه فإن كنيسة السريان الارثوذكس في حلب وبعض المؤسسات الكنسية تعرضت للقصف عدة مرات كانت اخرها قبل اربعة ايام فقط بينما رئيس الابرشية مخطوف واسير. فقد سقطت ليلة الثلاثاء 7/ 5/ 2013 قذيفة هاون على سطح دار مطرانية السريان الارثوذكس الجديدة بالسليمانية في حلب، وقد أدت إلى حدوث أضرار مادية في الطابق السادس منها، كما سقطت قذائف أخرى بمحيطها. وهذه هي المرة الثانية التي تسقط فيها قذائف في أيام مختلفة منها أمام باب كاتدرائية مار أفرام يوم الثلاثاء 23/ 4/ 2013، وأدت أيضاً إلى حدوث أضرار مادية في الباب الخارجي، وتكسير في زجاج النوافذ في الطوابق. وكأن هذه الهجمات رسالة موجهة من خاطفي المطران يوحنا ابراهام لا نعلم مغزاها.
http://new.alepposuryoye.com/topic/3784
http://new.alepposuryoye.com/topic/3279

وفي اذار 2012 حصل انفجار ارهابي هائل في احد الاحياء المسيحية في حلب بقرب مطرانية السريان الارثوذكس، وكان المطران يوحنا في نفس اللحظة مستقلا سيارته في الطريق بجوار مكان الانفجار، لكن العناية الربانية احاطت به ونجا من التفجير دون اذى. http://new.alepposuryoye.com/topic/3089

كنتُ اعتقدُ شخصياً، إن كان هناك شخصية واحدة في سوريا لن يصيبها اي مكروه من الطرفين: من الحكومة او من مقاتلي المعارضة فهو المطران يوحنا ابراهام. لكن تناقاضات الحياة والزمن السيء كثيرة ولا تطاق، حيث يقع فاعل السلام ومحامي الانسانية المنكوبة ضحية لعمله الانساني الكبير فيصبح رهينة بيد من اراد لهم الخير والسلام، فيربطون يديه بالسلاسل عوضاً عن تقليده سلسلة ذهبية على صدره، ويرموه اسيراً في غرفة تعيسة مظلمة بدلاً من تقديره وتكريمه. وهذا يذكرني  بمقولة الفيلسوف السرياني مارا بن سرافيون (من المئة الثانية بعد الميلاد) عندما سجنه الرومان فسأله احد الاصدقاء عندما رآه ضاحكا في سجنه فقال له: "قل لي بحياتك يا مارا، ما الذي يضحكك؟ فاجابه الفيلسوف: اني اضحك من الدهر الذي يرد علي شراً لم اباديه به".

انني منذ سماعي خبر اختطاف المطران يوحنا ولغاية اليوم، احاول الدخول الى الموقع الالكتروني لكنيسة السريان الارثوذكس في حلب عدة مرات يومياً، متمنياً ومتأملاً في كل مرة ان اقرأ خبراً مفرحاً باطلاق سراح صديقنا وحبيبنا المطران يوحنا ابراهام. وسأظل ازاول هذا الاجراء الى ان اقرأ خبر اطلاق سراحه لتتم الفرحة بعودته وعودة المطران بولس الى كنائسهم سالمين.

وتعاطفاً مع المطرانين المخطوفين كنت قد احجمتُ عن الاحتفال بعيد الفصح كما يجب، ولم ارسل عبارت المعايدة للاهل والاصدقاء تضامناً معهما الى ان يطلق سراحهما.

الكنيسة وموقفها السلبي:
ان للسريان الارثوذكس ثقل لا باس به في اوروبا في جميع المجالات ومنها السياسية، فمثلا يوجد في السويد ستة اشخاص سريان ارثوذكس هم اعضاء في البرلمان السويدي يمثلون مختلف الاحزاب السويدية، بالاضافة الى عشرات السياسيين السريان الذين هم في مجالس المحافظات والبلديات، لكن للاسف الشديد لم يستغل هذا الثقل كما ينبغي في قضية المطران يوحنا ابراهام. كما يوجد ثمانية مطارنة للسريان الارثوذكس في اوروبا يرأسون ابرشيات سريانية في مختلف الدول الاوروبية، ولم نجد هولاء المطارنة يعملون ما ينبغي عمله لاجل المطران المخطوف بالرغم من كونهم معنيين مباشرة للدفاع عن اخيهم الكاهن. ان تقصيرهم بالعمل المطلوب في قضية المطران يوحنا كانهم يشمتون به وبخطفه، فاذا كان هذا صحيحاً فتعساً لهم. كان ينبغي ان تتوقف كل المراسيم والطقوس في الكنائس السريانية، وان تتخصص جميع الصلوات يوميا لاجل المطران المخطوف، وان تكون جميع المواعظ في كل الكنائس حول هذه المناسبة فقط الى ان يطلق سراح المطرانين المخطوفين.

كما كان يجب على التلفزيونات السريانية في اوروبا ان تخصص كل برامجها خدمة لهذه القضية المأساوية، وان لا تغيب صورة المطرانين من شاشاتها ليلاً نهاراً. لان ما حصل ليس حالة افرادية بل له قيمة معنوية ورمزية عالية، لانه يمس الوجود المسيحي برمته في سوريا ويزعزع مستقبل المسيحيين فيها، خاصة عند خطف رموز مسيحية بثقل المطران يوحنا وصديقه المطران بولس. فتباً لجميع المؤسسات الكنسية والمدنية المقصرة على لا مبالاتها.

ان المطران يوحنا والمطران بولس يازجي هما في الاساس راهبان وهبا زهرة حياتهما لعبادة الله ومحبته، وكرسا وجودهما لخدمة الرب والانسان كائناً من كان. ان الراهب قطع نفسه عن مباهج الحياة وملذات العالم، وليس لديه عائلة وابناء، لكن كل البشرية هي عائلته وكل الناس ابناء له بالروح، فهو يصلي لخير البشرية جمعاء لتنعم بالسلام والامان.


ايها الكاهن المحترم انت دائماً في عقولنا وقلوبنا، ولا نستطيع ان ننساك وننسى ما اصابك، "طوبى لك لأنك من صانعي السلام، وطوبى لك اذا عيروك وقالوا لك اية كلمة سوء لاجل ما تمثله".
اسعد صوما اسعد
ستوكهولم

15
حـقـيـقــة ما يسـمـى بالأنجيـل الـقـديـم
الدكـتـور: اسعـد صومـا
ستـوكهولـم


تردد مؤخراً بين الاوساط المهتمة بالشأن الثقافي السرياني حديث عن اكتشاف "انجيل" سرياني قديم جداً يبلغ عمره اكثر من 1500 سنة. وقد شغل هذا "الخبر المفرح" الكثير من الناس وتحمس "كتّابنا الاعزاء" للكتابة عنه ونشرتْ بعض المواقع الالكترونية "خبر اكتشافه الهام" لتزف البشرى للجميع فخلقوا ضجيجاً صاخباً فتذكرت القول الانكليزي Much ado about nothing ،
لان هذا الكتاب الذي روّج له البعض وسمّوه "انجيل" هو كتاب "مزيّف" ولمعرفة الحقيقة تابع قراءة هذا المقال.

قصتي مع هذا الكتاب:
قبل عدة سنوات اتصل بي كاهن فاضل ليعلمني ويستشيرني بموضوع هام للغاية بان السفارة الفاتيكانية في ستوكهولم مقبلة على شراء انجيل سرياني قديم جداً، وطلبوا مني ان افحص هذا الانجيل السرياني قبل عملية الشراء لكوني "خبيراً" في اللغة السريانية وآدابها.
وعلمتُ بان الاشخاص الذين يريدون ان يبيعوا هذا "الانجيل" هم اكراد من العراق، ويدعون بانهم اكتشفوه ضمن وعاء معدني قديم جداً في خرائب احدى القرى المهجورة في شمال العراق.
فطلبتُ من مندوب السفارة ان يجلب لي هذا "الانجيل" لاقوم بفحصه. فكان الجواب بان هذا غير ممكن. فطلبتُ ان احصل على صورة لبعض صفحات هذا الكتاب تؤخذ من مقدمته وبعضها من منتصفه وبعضها من نهايته. وبالفعل حصلتُ على صور حوالي عشر صفحات منه ارسلت بالطريقة الالكترونية.
وبالاعتماد على خبرتي الواسعة في مجال اللغة السريانية وتراثها، ومعرفتي بنشأة الكتاب المقدس السرياني بعهديه وبترجماته السريانية المختلفة وبمخطوطاته السريانية القديمة، وبعد دراسة عميقة لمضمون الصفحات المرسلة وتحليل لغتها السريانية حرفاً حرفاً، توصلت الى نتيجة وهي "ان هذا الكتاب ليس انجيلاً." وللحال أخبرتُ السفارة الفاتيكانية عن نتيجية تحليلي للكتاب المذكور فرفعتْ السفارة يدها عنه وصرفتْ اصحابه بعد ان كانت قد قطعت معهم عدة اشواط والاتفاق على سعر الشراء الذي كان مبلغاً كبيراً جداً.
بعد كشف حقيقة "المخطوطة" ورفض السفارة شراء الكتاب انتهى امره عند هذا الحد ولم نسمع عنه شيئاً حينها.

لكن ما هو هذا الكتاب ان لم يكن انجيلاً؟
بالاستناد الى الصفحات التي قمتُ بتحليلها اقول ان الكتاب الذي نحن بصدده مدون باحرف سريانية لكن لا مضمون له. ان الذين صنعوه ليس لهم معرفة جيدة باللغة السريانية، ولا بخطوطها ولا بنظام التنقيط المستعمل في المخطوطات السريانية القديمة للكتاب المقدس. وليس في هذا الكتاب جملة مفيدة صحيحة. لان كل جملة أو كلمة فيه تقريباَ لا علاقة لها بالكلمة التي بعدها. ان الذين كتبوه خلطوا الخط السرياني الشرقي مع شيء من الخط السرياني الغربي (السرطو) لكن بطريقة سيئة تكشف بانهم نقلوا كلاماته السريانية من كتبٍ اخرى قلدوها دون ان يتوفقوا في تقليدهم.
اعتقد ان الذين كتبوا محتوى هذا الكتاب هم سريان مشارقة لان فيه اجزاء جمل من السريانية الشرقية (الفصحى) بالخط السرياني الشرقي الذي يستعمله السريان المشارقة من نساطرة وكلدان، مختلطة مع اجزاء جمل والفاظ من الارامية المحكية في العراق والمعروفة بالسورث. كما ان النظام الارثوغرافي المتبع فيه يميل الى الشرقي لكنه سيء يكشف عن ضعف ثقافة الكاتب بالنصوص والخطوط السريانية، أو انه تعمّد ان يكتب هكذا ليشوّش القارىء.
ان هذا الكتاب ليس لا "انجيل" ولا اي "كتاب آخر" وليس له مضمون خاص به. أما جمله فمتقطعة وفيه بعض الالفاظ الانجيلية لكن فيه عبارات على شكل طلاسم سحرية نراها في النقوش السريانية السحرية المتوفرة في الطاسات السحرية والتي نسميها بالانكليزية Bowls. ويبدو ان مؤلف الكتاب لا يتقن اللغة السريانية (الفصحى) كما يجب فخلطها مع الارامية المحكية التي ربما تكون لغته المحكية الأم.
ويتضمن الكتاب الكثير من الصور والرموز منها كنسية ومنها لا علاقة لها بالرموز المسيحية.

اما الجلد المستعمل في المخطوطة فيبدو انه قديم، أو ان الذين صنعوه ربما صنعوه بهذه الطريقة ليعطوه سِمة العتق والقدم. لكن ان كان الجلد قديماً وكتبوا عليه فهذا يعني بان هناك طبقة من الكتابة تحت الكتابة الحالية مُسحتْ، لكن بامكان العلماء وبوسائلهم العلمية قراءة تلك الطبقة التحتية الممحية إن وجدتْ.
كما ان الصندوق المعدني الذي يضم الكتاب يبدو بانه قديم ايضاً، لكن بامكان اصحاب الاختصاص ان يفحصوه ويكشفوا حقيقته ايضاً.
هذا ما اتذكره عن الكتاب حسبما تسعفني ذاكرتي بعد هذه السنوات التي مضت على تحليل حوالي عشر صفحات منه. واكيد اني نسيت اشياء كثيرة عنه.

وعلى العموم ان الخطوط السريانية الشرقية والغربية ليست قديمة جداً ولم تكن موجودة لتُستعمل في القرون الاولى من ازدهار الكنيسة في تدوين الكتب المقدسة. إذ حتى بعد انقسام السريان الى مشارقة ومغاربة بعدة قرون وظهور كل من الخط الشرقي والغربي، استمر الفريقان السريانيان يخطون الاناجيل بالخط السرياني القديم أي الاسطرنجيلي. وان كل المخطوطات السريانية التي يتراوح عمرها بين 1200-1500 سنة مدونة بالخط السرياني القديم المعروف بالاسطرنجلي Estrangelo. فاذا كان عمر هذا الكتاب 1500 سنة حسب ما يروج له في المواقع فكان ينبغي ان يكون بالخط السرياني الاسطرنجيلي، وهذا غير متوفر في الكتاب.
أما اللغة الآرامية المحكية في العراق والتي تسمى "سورث" Surath/Sureth فكان هناك محاولات أولية بسيطة لكتابتها منذ حوالي 500 سنة تقريبا، لكن ترجمة الكتاب المقدس الى هذه اللهجة الآرامية عام 1836 على يد الارسالية الامريكة في منطقة "أورميا" اعطاها قوة لتتحول تدريجياً الى لغة كتابية لدى البعض من السريان المشارقة في المئة سنة الأخيرة.
ولو افترضنا ان هذا الكتاب الذي نحن بصدده مدون بالآرامية المحكية "سورث" بشكل فاسد،  أو دون فيها مع تخريب متعمد للغة والكتابة لإبعادها عن صيغتها المعروفة ولمنحها سمة مبهمة غريبة، فان عمر هذه المخطوطة في الحالتين لن يكون حينها اقدم من عمر تلك المحاولات الاولية التي جرت في القرون القليلة الماضية لتدوين هذه اللهجة الارامية.

ان اقدم مخطوطة سريانة للعهد القديم من الكتاب المقدس نعرفها تعود لعام 459 ميلادي وتتضمن سفر اشعيا ناقصاً، واخرى تعود لعام 463 الميلادي تتضمن سفر التكوين وسفر الخروج، وهي بالخط السرياني الاسطرنجيلي وموجودة في المكتبة البريطانية. وحتى مخطوطة العهد الجديد السريانية المعروفة باسم بوكنان في جامعة كامبريدج، والعائدة للقرن الثاني عشر مدونة بالخط الاسطرنجيلي.
كما يوجد عدد كبير من المخطوطات السريانية القديمة التي تتضن بعض الاسفار من العهد القديم منها 27 مخطوطة سريانية تعود الى القرن السادس الميلادي وكذلك 32 مخطوطة من القرن السابع، وحوالي عشر مخطوطات من القرن الثامن الميلادي، و 12 مخطوطة من القرن التاسع، و 23 مخطوطة من القرن العاشر،الخ. ومعظمها في مكتبة الفاتيكان وفي المكتبة البريطانية.
لكن هناك مجموعة كبيرة جداً من المخطوطات السريانية للعهد الجديد بمختلف ترجماته السريانية. أما اقدم المخطوطات السريانية للعهد الجديد حسب ترجمته المعروفة "بالبسيطة" والتي هي النص الرسمي للكتاب المقدس المتدوال بين جميع الطوائف السريانية، فتعود الى القرن الخامس الميلادي، كما هناك مجموعة اخرى من مخطوطات العهد الجديد تعود الى بداية القرن السادس الميلادي منها مخطوطة "رابولا" الشهيرة والتي كتبت عام 586 ميلادي والمحفوظة في مكتبة فلورنسا، وتشتهر باحتوائها على العديد من الصور والنقوش تزين نص الكتاب المقدس.

وفي القرون المتأخرة برزت بلدة "القوش" في العراق كمركز  ثقافي سرياني هام لتدوين المخطوطات السريانية، وبرز فيها عدد من كتاب المخطوطات السريانية منهم افراد عائلة اسرائيل الالقوشي الذين زاولوا هذا الفن ضمن العائلة لعدة قرون وكتبوا العديد من المخطوطات السريانية منذ القرن السادس عشر؛ ومنهم ايضاً عيسى بر اشعيا بر قرياقوس الالقوشي في القرن التاسع عشر الذي دوّن ايضاً عددا كبيراً من المخطوطات السريانية، وكذلك كبرئيل برحذبشابا الالقوشي الذي نسخ العديد من المخطوطات بين اعوام 1803-1829، وكذلك كيوركيس بر ياقو يوحنا الالقوشي في نهاية القرن الثامن عشر. وقد اطلعنا شخصياً على العديد من هذه المخطوطات السريانية التي دُونت في القوش.
الا ان "ملك" الخط السرياني الاسطرنجيلي الجميل كان صديقنا المرحوم الملفونو اسمر الخوري (1916-1992) حيث كتبَ بخطه الجميل عدداً كبيراً جداً من المخطوطات السريانية منها اناجيل ومنها كتب طقسية موجودة في الكنائس السريانية. وكان قبل وفاته قد كتبَ مخطوطة سريانية من الكتاب المقدس مزوقة بالنقوش والتصاوير الجميلة حيث تعد آية في الجمال Masterpiece   طُبعت بعد وفاته وهي متداولة في الكنائس وفي متناول الجميع.

الكتاب يظهر من جديد:

بعدما كشفنا امر الكتاب الذي نحن بصدده وتراجع سفارة الفاتيكان عن شرائه، اختفى بعدها امره ولم نسمع عنه شيئاً حينها.

لكن بعد ذلك بحوالي سنتين واذ بي اقرأ خبراً عن "اكتشاف انجيل سرياني قديم في جزيرة قبرس"، وهو من اقدم الاناجيل. وعندما شاهدتُ صورته في المواقع علمتُ للحال بانه نفس الكتاب الذي نحن بصدده. ويبدو ان اصحابه لم يتوفقوا ببيعه حتى في قبرس.

 بعد مرور عدة سنوات اتصل بي احد اقاربي من تركيا يعمل في صياغة الذهب والمجوهرات في مدينة اسطنبول اخبرني بوجود كتاب سرياني قديم جدا ويرغب اصحابه ان يبيعوه، فاخذوه الى سوق الصاغة في اسطنبول يعرضوه على الصيّاغ السريان لانهم اغنياء جداً ويطلبون به عدة ملايين من الدولارات. وطلب مني ان افحص لهم الكتاب. فأرسل لي صفحة من الكتاب على البريد الالكتروني لافحصه. وقمت بفحصها فكانت المفاجأة بانه نفس الكتاب الذي فحصته قبل عدة سنوات حينما اراد اصحابه بيعه لسفارة الفاتيكان. فاخبرته للحال عن الكتاب وقصته. فاغلقت سوق الصاغة في اسطنبول ابوابها امام الكتاب هذا، ولم ينجح اصحابه لبيعه في اسطنبول.

واليوم نقرأ من جديد خبر ظهور هذا الكتاب مجدداً في تركيا وانه موضوع في متحف في اسطنبول. الغريب في امر الاتراك بانهم في منتهى البساطة لانهم صدقوا امر الكتاب. يبدو ان المسؤلين الاتراك الذين اخذوا الكتاب للمتحف لا يهمهم ان كان صحيحاً او مزوراً فهو بالنسبه لهم حدث هام يجلب السواح لزيارة المتحف.

ان بعض المواقع ومنها موقع عنكاوا كتبت عن هذا الكتاب ووضعته على صفحاتها الرئيسية ليتعرف عليه الجميع فانتشر الخبر بين كل القراء. انظر الرابط:
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,562571.0.html

كما قرأنا في موقع العربية خبراً بمنتهى الجهل نُشر في 26 فبراير/شباط عنوانه "العثور على إنجيل يحوي نبوءة عيسى بالنبي محمد تعود إلى ما قبل 1500 عام وتم إخفاؤها 12 عاماً وطلب بابا الفاتيكان معاينتها". وهم يقصدون نفس المخطوطة، فضحكت من جهل الكاتب الذي لا يعلم شيئاً عن الكتاب. الخبر موجود على الرابط:
http://www.alarabiya.net/articles/2012/02/26/197120.html

وقد اطلق بعض الكتاب والمعلقين في موقع ايلاف العنان لخيالهم مدعين بان هذا الكتاب هو ما يسمى "انجيل برنابا" دون ان يشاهدوه او يعلموا شيئاً عن محتوياته، ولا نعلم من اين اتوا بهذا الكلام الذي لا علاقة له بالموضوع. لكن اذا كان اصحاب هذا الكتاب هم الذين اتوا بهذا الادعاء اي ان الكتاب هو "انجيل برنابا" فهدفهم بالتأكيد هو ان يتمكنوا من بيعه لبعض المسلمين الذين يصدقون هذه الخرافة. وهذا يعني انهم بعد ان فشلوا في بيعه لأشخاص أو مؤسسات مسيحية خلقوا قصة سيصدقها البعض من المسلمين حالاً لانها "عزيزة على قلوبهم" وهي بان هذا الكتاب هو "انجيل برنابا" ليستطيعوا بيع الكتاب لهم وربما بمبلغ كبير.


نطلب من المسؤلين في مواقع عنكاوا والعربية وايلاف وغيرها من المواقع التي كتبت عنه سحب هذا الخبر لانها تضلل القرّاء.

للاسف ان الضجيج الذي اثير حول هذا "الكتاب" يشبه ضجيج المطحنة الفارغة من الطحين، حيث يدور دولابها ويولد صخباً عالياً يُسمع عن بعد، لكن دون ان يطحن شيئاً.

الدكتور اسعد صوما
متخصص في اللغة والتاريخ والحضارة السريانية
السويد

16
اللغــة الآرامـيــة: لهجاتها وفروعـهــا

الدكــتــور: أسـعــد صــومــا  أسعد
(باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم)


ان مصطلح "اللغة الآرامية" هو تعبير يشمل مجموعة من اللهجات والفروع الآرامية المكتوبة وغير المكتوبة، حيث يُطلق على كل واحدٍ منها تعبير "آرامية"، لكن الكثير منها لها اسماء "محلية" ايضاً. ونشبِّه الآرامية بعنقودٍ من العنب، حيث ان كل حبات العنقود هي آرامية لكن لكل حبة اسمها المحلي بالاضافة الى اسمها الآرامي.

تنفرد اللغة الآرامية بين جميع شقيقاتها في مجموعة اللغات الساميّة كونها اللغة الساميّة الوحيدة التي لا زالت متداولة على قيد الحياة منذ ثلاثة آلاف سنة على الاقل دون انقطاع في الاستعمال لا في الكلام ولا في الكتابة. وهذا يجعلها واحدة من أقدم لغات العالم التي لا زالت حية لغاية الآن، وهذا بحد ذاته فخر لها ولاصحابها. كما انها عاشت في بعض مراحلها ولا زالت تعيش بفضل قوتها الذاتية الكامنة فيها وليس بقوة أي دولة أو اي نظام يحميها.

واللغات السامية التي تنتمي اليها الآرامية هي مجوعة كبيرة من اللغات المتصلة ببعضها والمتقاربة حيث تشكل عائلة لغوية على غرار العائلات اللغوية الاخرى كالعائلة الجرمانية والعائلة اللاتينية وغيرها. بعض اللغات السامية لا زالت على قيد الحياة مثل الآرامية والعربية والعبرية والأمهرية وغيرها، وبعضها ماتت واندثرت منذ عهد سحيق ولا يوجد من يتحدث بها اليوم كالأمورية والاشورية والكنعانية وغيرها.

تقسم اللغات الساميّة الى مجموعات ولكل مجموعة عدة فروع، لكنني أفضِّل ان أقسمها الى:
1- اللغات الساميّة الشرقية الشمالية (تمثلها الاكادية بفرعيها البابلي والاشوري)؛
 2- اللغات الساميّة الشرقية الجنوبية (وتمثلها لغات الحبشة مثل الجعز والامهرية والتيغرينية، بالاضافة الى لغات جنوب الجزيرة العربية كالقتبانية والحضرمية وغيرها)؛
 3- اللغات الساميّة الغربية الجنوبية (وتمثلها العربية الكلاسيكية  "الفصحى"، واللهجات العربية العديدة الموجودة اليوم)؛
 4- اللغات الساميّة الغربية الشمالية (وتمثلها الآرامية والكنعانية، والعبرية وغيرها).
ولغات كل مجموعة قريبة جداً من بعضها.

وقد عاصرت الآرامية مجموعة من اللغات الأخرى القديمة وعاشت معها جنباً الى جنب وتأثرت بها وأثرت فيها، إلا ان الكثير من تلك اللغات ماتت وزالت عبر مسيرة التاريخ لكن الآرامية بقيت وعاشت شامخة الرأس لغاية اليوم.

ولما عاشت الآرامية هذه الفترة الطويلة (موثقة منذ حوالي 3000 سنة) فمن الطبيعي ان يطرأ عليها التغيير الذي تفرضه سنّة الحياة ويقتضيه التطور الذي يصيب اللغات، مما ولّد فيها الكثير من اللهجات الآرامية أو الفروع الآرامية.
بعض اللهجات الآرامية التي دوّنت اصبحت لغات معروفة كآرامية الرها وآرامية التلمود وآرامية الكتاب المقدس. وبعضها الأخرى استمرت شفهية ولم تدون فبقيت لهجات محكية منها ماتت ولم تُعرف، ومنها ما زالت حية تُحكى ولا تُكتب مثل آرامية طور عابدين وآرامية معلولا وآرامية اليهود وآرامية السريان المشارقة (السورث المدونة حديثاً). ومنها ما هو حي لكنه على طريق الموت والزوال كاللهجات الآرامية التي يتكلمها اليهود في اسرائيل وآرامية "ملحثو" (بجوار دياربكر) وغيرها.

كان الوضع اللغوي الآرامي في الشرق الاوسط في زمن السيد المسيح يشبه الى حد ما وضع اللغات العربية في العالم العربي اليوم. إذ كانت اغلب منطقة الشرق الاوسط تتكلم الآرامية وكان لكل مدينة وكل مجموعة بشرية لهجتها المحلية تماماً مثلما يوجد اليوم مئات اللهجات العربية، حيث ان كل مدينة لها لهجتها، لا بل كل حي في المدينة له "لهجته" الخاصة.

وبسبب العمر المديد للآرامية فاننا نميّز في حياتها أربع مراحلٍ زمنية، وتتميز كل مرحلة عن التي قبلها وبعدها ببعض الخواص اللغوية التي نشأت فيها.

مراحل اللغة الآرامية:

1.   الآرامية القديمة: بدأت هذه المرحلة منذ ظهور الآرامية على مسرح الحياة حيث كانت لغة الآراميين ودولهم الآرامية العديدة المنتشرة في منطقة الهلال الخصيب، واستمرت هذه المرحلة لغاية سقوط الدول الآرامية، أو حوالي 700 قبل الميلاد. ومن خواص الآرامية في هذه المرحلة انها كانت تستعمل الاسماء والصفات بالحالة الاساسية التي نسميها Absolute state اي الحالة التي لا تنتهي بحرف الالف.

2.   الآرامية الرسمية: وتمتد منذ 700 قبل الميلاد لغاية حوالي 300 قبل الميلاد. ونسميها رسمية لانها استُعملت كلغة رسمية في ثلاث امبراطوريات وهي على التوالي: الامبراطورية الاشورية في نهاية حياتها، الامبراطورية البابلية والامبراطورية الاخمينية الفارسية. وتنتهي هذه المرحلة بمجيء اليونان بقيادة اسكندر المكدوني الى المنطقة. وهنا استُعملت الآرامية ليس فقط من قبل أصحابها الآراميين انما استعملتها شعوب أخرى ايضاً لأنها اصبحت لغة عالمية في ميدان السياسة والتجارة والعلاقات، كما انها خرجت من منطقتها التقليدية، ووصلت مع الامبراطوريات المذكورة الى مناطق جديدة تمتد من مصر الى وادي الهندوس.

3.   الآرامية المتوسطة: وتمتد منذ مجيء اليونان للمنطقة حوالي 300 قبل الميلاد لغاية المسيح او لغاية مجي الرومان للمنطقة. وفي هذه المرحلة انتشرت اليونانية وبدأت تنافس الآرامية وتزاحمها على مكانتها في التدوين في المنطقة الى ان كُتب لها الغلبة. لكن استمرت الآرامية في الكلام والتخاطب الشفهي في البيت والمجتمع. وعلى أثر استعمال اليونانية في الادارة والدواوين والتأليف وتقهقهر الآرامية على المستوى الكتابي أخذ يظهر في الآرامية التنوّع اللفظي وتتكرس فيها اللهجات المحلية. ويبدو ان الحالة القواعدية للاسماء والصفات والتي تنتهي بحرف الالف والتي نسميها الحالة التوكيدية Emphatic state بدأت بالانتشار والاستعمال الكبير في هذه المرحلة على حساب الحالة الاساسية التي تقلص استعمالها.

4.   الآرامية المتأخرة: وتبدأ منذ زمن المسيح وتستمر لغاية القرن الثالث عشر الميلادي. وفي هذه المرحلة تطورت الآرامية في دولة الرها السريانية والمناطق المجاورة لها لغاية نصيبين وازدهرت وانتشرت بسرعة. ومنذ بداية القرن الخامس الميلادي بدأت آرامية الرها تسمى "سريانية" (وتسمى اليوم لدى اصحابها بالسريانية الفصحى ايضا). وقد انتشرت "السريانية" على حساب الفروع الآرامية الاخرى بعد ان تحولت الى لغة الكنيسة المسيحية المشرقية وانتشرت معها ووصلت مع المبشرين السريان الى الهند والصين وغيرها من الاماكن في آسيا الوسطى. وقد دوّن بالسريانية مجمل الادب السرياني وكافة الطقوس الكنسية التي لا زالت حية لغاية اليوم. ان الادب الذي دوّن في السريانية (آرامية الرها) فاق بحجمه وبنوعيته كل الآداب التي دوّنت في مختلف الفروع الآرامية الاخرى.
ومن المزايا اللغوية المميزة في السريانية (اي آرامية الرها) ان تولد فيها حرف النون بدلا من الياء كأداة في بداية افعال الزمن المستقبل، اذ ان الفروع الآرامية الاخرى المدونة تستعمل حرف الياء للفعل المستقبل. كما حلَّّ استعمال الحالة التوكيدية في الاسماء والصفات وأخذت مكان الحالة الاساسية واختفى معناها التوكيدي، كما أختفى استعمال الحالة الاساسية من اللغة لكنه بقي في حالات نادرة جداً. إن السريانية لا تتضمن أداة للمعرفة.

وبسبب الانتشار الهائل لآرامية الرها المعروفة بالسريانية فقد تطورت واعتراها شيء من التغيير. انني اقسم  السريانية (ارامية الرها) الى ثلاث مراحل:
السريانية الكلاسيكية، لغاية القرن السادس الميلادي، وقبل ان تنقسم الى شرقية وغربية.
السريانية المتوسطة، من القرن السابع الميلادي ولغاية القرن التاسع عشر (انقسمت السريانية هنا الى سريانية شرقية يستعملها السريان المشارقة اي النساطرة والكلدن، وغربية يستعملها السريان المغاربة اي السريان الارثوذكس والسريان الموارنة والسريان الكاثوليك). وهناك فروقات مورفولوجية وأورثوغرافية بين السريانية الشرقية والغربية.
السريانية الحديثة، المستعملة اليوم في الادب؛ تختلف السريانية الحديثة عن السريانية الكلاسيكية الى حد ما في تركيب الجملة وفي المعاني المستحدثة.
 (لاحظ ان ما نسميه بـ"السريانية الحديثة" ليست اللغة المحكية "السورث" أو لهجة "طورعابدين" أو غيرها، لكنها السريانية الفصحى التي نستعملها اليوم في الكنيسة والكتابة؛ ونسميها "سريانية فصحى حديثة" لانها تطورت الى حد ما وتولدت فيها بعض السمات الخاصة التي تميزها عن "السريانية الفصحى القديمة"). إنني لمستغرب جداً عندما يطلقون في العراق على الآرامية المحكية "السورث" اسم السريانية ويطلقون على السريانية الفصحى اسم "الآرامية"، فيختلط الحابل بالنابل لأن العكس هو الصحيح. "السريانية" في الاوساط الاكاديمية هي فقط اللغة الفصحى وليست المحكية، اما المحكية فتصنيفها العلمي هي آرامية حديثة.

5.   الآرامية الحديثة: وتشمل الفروع الآرامية التي يتكلمها الآن السريان واليهود وغيرهم، ونسميها آرامية حديثة Neo-Aramaic ليس لانها تولدت حديثاً انما لنميزها عن بقية المراحل الآرامية الاخرى المذكورة. وتنتشر الآرامية الحديثة في تركيا وسوريا ولبنان والعراق وايران، وانطلقت مع البعض من ناطقيها الى روسيا وجورجيا وارمينيا واوروبا وامريكا واستراليا. والذين يتكلمون الآرامية الحديثة يتوزعون على اربعة اديان ففيهم من المسيحيين واليهود والمسلمين والصابئة.
وتقسم الارامية الحديثة بدورها الى: شرقية (في العراق وايران) ومتوسطة (في جنوب شرق تركيا والجزيرة السورية) وغربية (قرب دمشق).
والآرامية الحديثة الشرقية East Neo-Aramaic وهذه المجموعة هي أكبر مجموعة في اللغة الآرامية الحديثة. وتنقسم بدورها الى شمالية وجنوبية، الآرامية الشرقية الشمالية هي التي يتحدث بها المسيحيون السريان واليهود في شمال العراق وأيران مع اختلافات وتنوعات كبيرة ضمن المجموعة الواحدة، اما الآرامية الشرقية الجنوبية فهي آرامية الصابئة التي يتحدثون بها في أيران.  
اما الآرامية الحديثة المتوسطة Central Neo-Aramaic فتمثلها آرامية طورعابدين وآرامية "ملحثو" بجوار دياربكر في تركيا.
والآرامية الحديثة الغربية West Neo-Aramaic هي اللغة المحكية في ثلاث قرى بجوار دمشق وهي: معلولا وجبعدين وبخعة. سكان جبعدين وبخعة هم من المسلمين السنة اما غالبية سكان معلولا فهم من المسيحيين (من طائفة الروم).
ومن الخصوصيات القواعدية في الآرامية الحديثة ان اختفى منها الفعل الماضي وحل استعمال اسم المفعول بدلاً منه، كما انها تستعمل اسم الفاعل للزمن المستقبل.

ان الآرامية الحديثة (السورث ولهجة طورعابدين وغيرها من اللهجات المحكية) لم تنبثق عن السريانية الفصحى كما يعتقد بعض الاخوة السريان، انما الآرامية المحكية والسريانية الفصحى شقيقات تولدت من تطور آرامية اقدم عهداً منهن.
يبلغ عدد الناطقين بمختلف فروع الارامية المحكية حوالي المليون ونصف نسمة، اما عدد الذين يستعملون الارامية (خاصة السريانية) في طقوسهم الدينية فيبلغ اكثر من عشرة ملايين نسمة. (هناك اليوم حوالي خمسة تلفزيونات سريانية تبثُّ بالآرامية الحديثة: اثنان يبثان بالآرامية الحديثة المتوسطة (لهجة طورعابدين)، وثلاثة يبثون بالآرامية الحديثة الشرقية الشمالية (السورث)، بالاضافة الى قنوات أخرى محلية).

الدكتور اسعد صوما أسعد
السويد

17
[size=16pt]دور اللـغـة والثقافة الآرامية في سـقـوط الدولة الآشــورية[/size]

الدكتـور اسعـد صومـا اسعـد
ستوكهولـم
[/color]

(مهداة للدكتور دنحا طوبيا)
هذه نسخة معدلة من المقال

كان الاشوريون القدماء شعباً مقاتلاً شديد البأس استطاع في فترات متفرقة ان يغزو الدول المجاورة وان يحتل بعض المناطق البعيدة مؤسساً امبراطورية عظيمة رغم صغر حجم الامة الاشورية.

كانت قومية الامة الآشورية تقوم بالاساس على هوية الدولة السياسية والادارية. وكانت الدولة الآشورية تضم، الى جانب شعبها الاشوري، مجموعة من الشعوب المختلفة، التي رغم حفاظها على اصولها واثنياتها الخاصة، إلا ان الهوية السياسية لجميع هؤلاء الشعوب كانت الآشورية والكل يتمتع "بالمواطنة" في الدولة الاشورية (وهذا يشبه الى حد ما المفهوم الحديث للقوميات والدول القومية National states، اي ان حدود الدولة هي حدود قومية للامة بغض النظر عن اثنيات الشعوب التي تتكون منها هذه الامة).

 كان الاشوريون يعتمدون في سياستهم التوسعية على تهجير الشعوب المغلوبة وجلب أعداد كبيرة منها واسكانها في المدن الآشورية، لإخضاعها ووضعها تحت رقابتها من جهة والاستفادة من خدماتها في الاعمار والصنائع والجيش والحروب من جهة أخرى، لذلك امتلات آشور بمجموعات عديدة من الشعوب المهجرة. وكان الآراميون يشكلون نسبة كبيرة جداً من هؤلاء المهجّرين والمسبيين المقيمين في آشور، وأصبحوا نسبة كبيرة جداً من سكان ورعايا الدولة الاشورية. وكانت نسبة عالية من الاراميين تقيم في العواصم الاشورية وتشارك في الحياة السياسية والثقافية والعسكرية. "ومنذ القرن التاسع قبل الميلاد كان سكان العواصم الاشورية الحديثة النشئة مثل كالح، ودورشاروكين ونينوى يتكونون على الأغلب من الشعوب المهّجرة من منطقة غرب الفرات، أي من الدول الارامية والحثية الجديدة، وكذلك من الفينيقيين والاسرائليين واليهود، وايضاً من الفلسطينيين الذين ذابوا في البوتقة السامية" لكن نسبة الاراميين كانت هي السائدة وكانت لغتهم هي الجامعة والرابطة بينهم وبين تلك الشعوب.

منذ القرن التاسع قبل الميلاد كانت المنطقة الاشورية الاساسية، وهي المنطقة الواقعة ضمن المثلث الاشوري (بين دجلة والزابين)، قد اصبحت محاطة من التجمعات الارامية الهائلة، حتى ذكر احدهم بان اشور اصبحت اسيرة الاراميين في هذه المرحلة. إذ تدفق الآراميون باعداد هائلة الى آشور، منهم مَن قدم من جنوب ووسط العراق ومنهم مِن الجزيرة السورية ومنطقة الفرات من الغرب. ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت بابل قد بدأت تتحول الى منطقة آرامية لطغيان العنصر الارامي فيها فسيطر بعضهم على عرش الدولة. وكانت القبائل الارامية العديدة الساكنة على اطراف المثلث الاشوري في حالة ازدياد وتكاثر: وبعض هذه القبائل الآرامية كانت مدنيّة ومنها بدوية ومنها نصف بدوية تعتمد الرعي وثم تتحول الى حياة السكن المستقر urban life بعد ان تترك البداوة.

وهناك وثائق "حوليات" آشورية هامة تصف لنا تدفق الآراميين وتقدمهم في آشور منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، منها لوح طيني اشوري باللغة الاكادية يسمى "تاريخ تغلتفلاسر" Chronicle of Tiglat Pileser يصف العلاقات بين الآراميين والآشوريين في السنوات الاخيرة من حكم الملك تغلاتفلاسر الاول (1115-1076). يقول اللوح الطيني الآشوري "لقد ازداد الآراميون مثل مياه الفيضانات المدمرة، فنهبوا محاصيل آشور، واحتلوا عدة مدن محصنة في آشور. وأكل الناس في آشور لحم بعضهم البعض لينقذوا حياتهم من الهلاك، وهربوا نحو جبل هبروري للنجاة.  لقد سلب الآراميون ذهب الاشوريين وفضتهم وامتعتهم، ودمروا جميع محاصيل آشور. لقد ازدادت القبائل الارامية  حول ضفاف دجلة  بكثرة، منتشرة...".
[/size]

[/color]ففي عشية سقوط الدولة الآشورية كان الآراميون قد اصبحوا الغالبية السكانية في الدولة  الاشورية[/color]، والغالبية العظمى في العراق القديم حينها، واصبحت لغتهم الآرامية اللغة الوطنية في معظم مقاطعات العراق القديم وذلك منذ القرن السابع قبل الميلاد ولغاية مجيء العرب في القرن السابع الميلادي. لقد كان الآرامي في الدولة الاشورية يتحدث بلغته الآرامية ويتمتع بقوميته الآرامية وبنفس الوقت كان ينتمي سياسياً الى الدولة الاشورية "العالمية" ويتمتع بحقوق المواطنة وقوميتها الاشورية التي تمثلت في انتماء الدولة الاشورية بمختلف الاثنيات الموجودة فيها الى الهوية السياسية الآشورية. إذ كانت معظم البلدات والقرى والمزارع في المناطق المحيطة بعواصم آشور تتشكل من الاراميين المهجرين، بالاضافة الى اخوانهم من القبائل الارامية المقيمة هناك. ناهيك عن الاراميين في المدن والعواصم الاشورية، فكل هؤلاء كانوا آراميين اثنياً ولغوياً، وآشوريين سياسياً وادارياً، اي يتمتعون بهويتين: بهويتهم الآرامية القومية وبهوية الدولة الآشورية.
ففي غزوات ملوك الاشوريين لمنطقة غرب الفرات كانوا يجلبون كل مرة اعداداً هائلة من العساكر الذين استسلموا لهم. ففي القرن التاسع قبل الميلاد جلب آشورناصيربال الثاني الكثير من الخيالة وفرسان المركبات والجنود المشاة، وقد كرر هذا العمل سركون الثاني في القرن الثامن. ومنذ حينها اصبحت عادة ثابتة بان يُدعم الحرس الملكي الاشوري (يسمى بالاشورية: كيسير شرروتي) بالجنود الاسرى والمهجرين وأغلبهم من الاراميين. واستمرت هذه العادة حتى اثناء حكم سنحاريب واسرحدون واشوربانيبال.
 ان بعض الموظفين في دولة آشور، في مرحلتها الاخيرة قبل سقوطها، استعملوا الآرامية ايضا في تدوين الوثائق الى جانب لغتهم القومية الاشورية (الاكادية)، لقد وصلتنا لوحة آشورية هامة من الملك الاشوري تغلاتفلاسر الثالث يقف فيها كاتبان يدوِّنان مغانم الحرب: احدهم يدون بالأشورية على لوح طيني وبالكتابة المسمارية من اليسار الى اليمين، والثاني يدوّن بالآرامية على الجلد أو البردي من اليمين الى اليسار. وهناك مكتشفات تشير الى وجود وظيفة
"كاتب آرامي" في البلاط الاشوري يسمى بالاشورية "طوبشررو ارامايا" اي الكاتب الآرامي.


 وكانت اللغة الآرامية قد بدأت تتغلغل الى آشور تدريجياً؛ وأخذت تنافس لغة الآشوريين الأكادية وذلك لسهولتها ونظامها الابجدي البسيط المكون من 22 حرفا بالقياس مع اللغة الاشورية (الاكادية) الصعبة ونظام كتابتها المسماري المعقد والمكون من مئات المقاطع والرموز. وهناك وثائق مكتشفة تدل على ان الارامية كانت قد بدأت تقتحم آشور منذ القرن الثامن قبل الميلاد، واستمر هذا الغزو الآرامي اللغوي يقتحم قلب آشور الى ان كتب له الانتصار النهائي.
وبسبب الوجود الآرامي الكبير في آشور ووجود اللغة الآرامية فيها واستعمالها حتى في جهاز الدولة بجوار الأكادية،
فان التأثير الآرامي السكاني واللغوي على آشور كان كبيراً جداً مما جعل الثقافة الاشورية ان تتراجع امام انتشار الثقافة الارامية. ومن خلال التطور الثقافي الذي حصل في آشور في المائة سنة أخيرة قبل سقوطها كان الكثير من رعايا الدولة قد أصبحوا ثنائيي اللغة bilingual  يتكلمون الأكادية والآرامية، وكان الكثيرون من المواطنين الذين يتكونون من المهجرين يتكلمون الارامية فقط. "وقد وضّح احد كبار علماء الاشوريات بان "شريحة هامة من المجتمع الاشوري كانت شريحة الجنود الناطقين بالارامية الذين كانوا يعملون كجنود في الجيش الاشوري وذلك منذ زمن تغلتفلاسر الاول الذي احتل المناطق الآرامية وجلب الكثير من الجنود الاراميين من المناطق الارامية المحتلة".

ان الكثير من رعايا دولة آشور في العواصم آشور ونينوى كانوا من الآراميين بسبب كثرة الآراميين الذين سباهم الاشوريون وجلبوهم من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور، حتى ان [/color] "قلب آشور قبل سقوطها كان قد أصبح شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات. وهذا ما سهٌل سقوط آشور وسارع في عملية ذوبان الاشوريين بين الآراميين.

يقول علماء الآشوريات اليوم
"لقد أثّر الآراميون ولغتهم الآرامية بشكل كبير على ثقافة الامبراطورية الاشورية، أي أثّر الآراميون المغلوبون على ثقافة أسيادهم الغالبين. وقد تم هذا بفضل مئات الآلاف من الأسرى الآراميين الذين جلبهم الآشوريون المنتصرون واسكنوهم في المجتمعات الاشورية، فاندمجوا في المجتمع تاركين تأثيرا عظيماً على هذه الامة الاشورية المحاربة والصغيرة العدد".[/b]

لقد قدم لنا علماء الاشوريات دراسات مستفيضة عن الالفاظ الاكدية التي قرضتها الارامية من الاكادية، هناك حوالي 220 لفظة من الاسماء والافعال اغلبها من عالم السياسة والمصطلحات القانونية أخذتها الآرامية من الاكادية (أخبرني العلامة كوفمن صاحب احدى هذه الدراسات ان العدد ربما يكون اكبر من هذا بكثير في المستقبل)،  بينما قدم لنا العلامة "فون صودن" (1908-1996) جدولاً ناقصاً ي
ضم 250 لفظة قرضتها الاكادية بلهجتها الآشورية والبابلية من الآرامية. وقد روى لي المرحوم "ح. تدمر" (توفي عام 2005، وكان أكبرعالم للاشوريات في وقته) بان هناك مجموعة كبيرة جداً من الالفاظ الارامية استعملتها الاكادية، وهي بحاجة الى البحث والدرس والتمحيص.

ان ازدياد انتشار الارامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الارامي اللغوي والثقافي وأضعف الهوية الاشورية، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية كان قد أصبح آرامياً، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهوية الارامية والمحيط الارامي بعد سقوط آشور بفترة قصيرة. وقد ذهب احد العلماء ابعد من ذلك ليقول بانه: ينغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها [/b] "دولة آشورية آرامية مشتركة" لكثرة الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور. حتى ان بعض الملوك الآشوريين كانوا متزوجين من نساء آراميات، مثل الملكة ناقية-زاكوتو زوجة الملك سنحاريب ووالدة  الملك اسرحدون، وكل هذا ساهم في حمل اللغة الآرامية ان تشق طريقها الى قصور الملوك.

نختم مقالنا بمقولة احد علماء الآشوريات بقوله"
The Arameans gradually transformed the cultural face of the Assyrian Empire and were to outlive Assyria by serving as the link with the succeeding Empires[/color][/center[b
"لقد غيّر الاراميون تدريجياً الوجه الثقافي للامبراطورية الاشورية، وقد عاشوا  حتى الى ما بعد زوال آشور يقومون بدور الرابط مع الامبراطوريات المتعاقبة"

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم
[/font][/size][/b][/b]

18
الآراميون والآرامية في آشور عشــيـة سقوطها
 
الدكتور اسعد صوما
السويد
 
قبل سقوط آشور بفترة قصيرة من الزمن كانت هذه الدولة العظمى والراقية تسير ببطىء نحو نهايتها التراجيدية المؤلمة بسبب ما كانت تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات وقلاقل. وكان لاضعاف آشور اسبابه الخارجية والداخلية، ومن الاسباب الخارجية: الاحداث السياسية الكبيرة التي أصابتها وأثرت عليها: حيث تحررت مصر من نفوذ آشور (ثم اصبحت حليفة الآشوريين بعدئذ)، وثارت بابل بزعامة نابوبلاصر القائد الكلداني-الآرامي، وانسلخت فلسطين عن الامبراطورية الاشورية، كما رفضت فينيقيا الخضوع لسيطرتها، واستقل الميديون عنها وأخذوا يحضرون انفسهم لشن هجوم كاسح على آشور.
 
ومن الاسباب الداخلية القوية التي أضعفت آشور كانت سياسة الاشوريين في تهجير الشعوب المغلوبة وخاصة تهجير الآراميين واسكانهم في القرى والمدن والعواصم الاشورية. ان هذه السياسة كانت قد غيّرت من خريطة الوضع السكاني في الدولة الآشورية وأضعفت قوميتها الاشورية، لأن الآراميين المهجّرين كانوا قد اصبحوا باعداد كبيرة جداً في المدن الاشورية وفي قلب آشور، حتى "ان عدد الآراميين في الدولة الآشورية فاق مع الزمن عدد الاشوريين بكثير" على حد قول أحد علماء الاشوريات المعاصرين. ولا غرو فان الشعب الاشوري كان شعباً صغير العدد لكنه كان مقاتلاً ممتازاً. بينما كان الآراميون يتميزون بين كل الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير في كل منطقة "الهلال الخصيب". وقد استطاع علماء الاشوريات خلال العقود القليلة الماضية كشف الكثير من الحقائق الباهرة فيما يخص الوجود الارامي في قلب آشور فتغيرت المفاهيم القديمة عن ديموغرافية الدولة الاشورية وعن هويتها وعن دور الاراميين فيها، حيث كان الاراميون في المدن الاشورية باعداد هائلة، وكان منهم وحدات عسكرية في الجيش الاشوري تبلغ عشرات الالاف، كما كان منهم الكثير من الموظفين الكبار في البلاط الملكي يشاركون في تسيير دفة الدولة باعلى المستويات، كما كان منهم الكثير من الصنّاع، الخ. الشيء الذي حمل السلطة الاشورية الى الاعتراف باللغة الآرامية واضطرت الى استعمالها الى جانب الاشورية (الاكادية) الصعبة.
عام 2004 كتب العالم "اندرِه لومير" وهو من كبار الباحثين المتخصصين في قراءة النقوش القديمة معلقاً على سياسة الملوك الاشوريين في توطين الاراميين في آشور بقوله:
 En fait, en intégrant dans leur empire une aussi nombreuse population araméenne, les rois assyriens le transformèrent en un Empire assyro-araméen. "بالحقيقة، لقد حوّل الملوك الاشوريون دولتهم الى امبراطورية آشورية-آرامية عندما دمجوا فيها أعداداً كبيرة من الآراميين".
(أنظر بحثه بعنوان:
 Les Araméens, un peuple, une langue, une écriture, au-delà des empires
 
وكانت اللغة الآرامية التي بدأت تتغلغل الى المدن والعواصم الاشورية من أهم العوامل الداخلية التي ساهمت في سقوط آشور. ان دولة آشور في الفترة الاخيرة من عمرها قبل سقوطها وزوالها استعملت اللغة الآرامية ايضا في وثائقها الى جانب لغتها الاشورية (الاكادية)، وفرضت الآرامية نفسها فاضطرت آشور الى استعمالها لان الكثيرين من المواطنين في آشور ونينوى كانوا آراميين وخاصة بعد تحويل الكثير من المناطق الآرامية عند الفرات والخابور وضمّها annexed الى الدولة الاشورية. كما ان بسبب كثرة الآراميين الذين رحَّلهم الاشوريون من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور "كان قلب آشور قد تحول الى شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات (راجع مثلا بحث العلامة المرحوم " ح. تدمر": "كيف اصبحت آشور آراميةً" The Aramaization of Assyria
 
كان الآراميون يتميزون بين كل اخوتهم من الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير جداً كالبحر المتلاطم في كل منطقة "الهلال الخصيب" بدءاً من شطآن الخليج الفارسي/العربي وصعوداً مع نهري الدجلة والفرات وروافدهما العلوية، وثم نزولا مع مع طول المنطقة المحاذية للبحر المتوسط في الداخل السوري/اللبناني /الفلسطيني، وكان فيهم المتمدنين سكان المدن urban وانصاف المتمدنين rural وانصاف البدو Semi nomads والبدو الذين يعيشون على اطراف المدن ويتنقلون مع مواشيهم (راجع كتابنا السويدي Efrem Syriern: hans liv och skrifter صفحة 55-57 وشرحنا عنهم على أطراف مدينة الرها (أورفا) السريانية في القرون الاولى قبل وبعد الميلاد) .
 
ان انتشار الآرامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الآرامي اللغوي والثقافي كثيراً وأضعف الهوية الاشورية لدى المواطنين، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية حينها كان قد أصبح آرامياً في قلب آشور نفسه، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهويّة الارامية والمحيط الارامي المتلاطم بعد سقوط آشور بفترة قصيرة وخضوع منطقتهم لحكم الكلدان-الاراميين، الذين أكملوا مسيرة انتشار اللغة الآرامية، فأصبحت الآرامية كالبوتقة التي  ذابت فيها ثقافات شعوب المنطقة ولغاتها وقومياتها وتحولت مع الزمن الى جزء لا يتجزء من القومية الآرامية الحضارية الشاملة. وعند كشف هذه الحقائق أخذ بعض علماء الاشوريات المعاصرين يقولوا بانه "ينبغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة"، لكثرة أعداد الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور.
 
سـقـوط آشــور
وأعلن البابليون والميديون الحرب على آشور ليس لاخضاعها سياسياً بل لتحطيمها نهائياً كما دلت اعمالهم الوحشية الفظيعة ضدها لاحقاً. واستطاع القائد الكلداني "نابوبلاصر" ان يربح المعركة الاولى مع آشور عام 616 قبل الميلاد، إلا انه اضطر الى التراجع بعد وصول الجيش المصري حليف آشور، ثم قام بهجوم آخر في السنة التالية لكنه مُني بالفشل. وفي عام 614 نجح "كيأخسار" ملك الميديين باحتلال العاصمة آشور (وهي المرة الاولى التي تقع فيها عاصمة آشورية بيد المحتلين)،  فانتشر الرعب بين الاهالي وارتكب الجنود الميديون اعمالاً فظيعة إذ نهبوا المدينة الجميلة، وارتكبوا المجازر المروعة بحق الاشوريين واقتادوا من تبقى منهم وباعوهم كالعبيد بعد ان "خربوا المدينة عن بكرة ابيها" كما تذكر المصادر. لكن ظلت نينوى بشموخها صامدة أمام ضربات الاعداء تنتظر مصيرها الاسود، (لمدينة نينوى علاقة مباشرة مع انبياء من العهد القديم مثل النبي يونان الذي ارسله الرب ليعظ النينويين، ومن هنا يأتي صوم نينوى ܒܥܘܬܐ ܕܢܝܢܘ̈ܝܐ أو ܨܘܡܐ ܕܢܝܢܘܐ والموجود لدى جميع الطوائف السريانية وعند الارمن والاقباط والحبش، وكذلك النبي ناحوم الألقوشي الذي تنبأ عن سقوطها؛ كما للأنبياء حزقيال ودانيال وعزرا علاقة مباشرة مع بابل). وشنّ نابوبلاصر الكلداني وكيأخسار الميدي عام 612  هجومهم الكاسح على نينوى وحاصروها، فاستنجد الاشوريون بالاسقوثيين، غير ان الاسقوثيين انضموا الى جيش كيأخسار الميدي لأنه وعدهم بالمزيد من الغنائم والاسلاب. وبعد حوالي شهرين من الحصار في صيف 612 سقطت نينوى بيد الاعداء، فاهتز العالم القديم لسقوطها. وتفشى فيها الذعر، وعمَّت الفوضى، ودمّروا المدينة وحوّلوها الى "أكداس من الخراب" كما جاء في سجل الاحداث البابلية، وتعرضت هذه المدينة الجميلة الى ابشع انواع النهب والسلب والحرق والقتل والمجازر، فسارت فيها الدماء في الطرقات، وتحولت الى خراب ينعق فيها البوم كما ذُكر. وكان البعض من الجنود والسياسيين والاداريين "الاشوريين" قد هربوا ليتحصنوا في حران التي كانت قاعدة آرامية مقتدرة مرتبطة بآشور، فشنّ عليهم نابوبلاصر الكلداني هجوما فسحقهم هناك ودك المسمار الاخير في نعش الدولة الاشورية.
وهكذا أفل نجم دولة آشور العظيمة فسقطت من علياء مجدها، وزالت عن الوجود. وأخذ من خلص من القتل والمجازر يذوب تدريجياً ضمن الاراميين بفضل اللغة الآرامية التي كانت في آشور. وبعد مرور ردحة من الزمن لم يبقَ هناك من يسمي نفسه "آشورياً" أو ينتمي للآشوريين اثنياً وقومياً، لقد اصبح الجميع "آراميين" لغوياً وثقافيا وقومياً.
 
لقد سقطت آشور وزالت، لكن أخبارها القديمة بقيت حيّة في ذكريات الشعوب وذاكرتها. وقد كتب الكاتب التوراتي العراقي ناحوم الألقوشي نبوةَ عن سقوط نينوى، وربما شاهد ذلك بعينه، فوصف الحرب المروعة على آشور وسقوط نينوى وتحولها الى مستنقع للدم بطريقة شعرية بقوله :
"خيلٌ تخب ومركبات تقفز، وفرسان تنهض، ولهيب السيف وبريق الرمح، وكثرة جرحى ووفرة قتلى ولا نهاية للجثث، ويعثرون بجثثهم". ويسمي نينوى بعد سقوطها بانها اصبحت/ستصبح "مدينة الدماء"، ...
و ان ما بقي/سيبقى من نينوى بعد سقوطها على حد قوله هو " فراغٌ، وخلاءٌ، وخرابٌ، وقلبٌ ذائب".
فيتعجب هذا الكاتب من المصير المروع الذي تعرضت له هذه المدينة العظيمة الجميلة وما حل بشعبها من مجازر فظيعة فيقول: "أين مأوى الاسود ومرعى أشبال الاسود؟ اشبالكِ يأكلها السيف واقطع من الارض فرائسكِ (سفر ناحوم 3:1-3)".
 
  وبعد سقوط دولة آشور عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف الكلدان (الآراميين) والميديين وانتهاء الدولة من الوجود، وذوبان الشعب الاشوري بين الاراميين، استمرت الآرامية كلغة قومية للاراميين ولجميع الذين ذابوا في البحر الارامي، كما استمرت كلغة الثقافة والدبلوماسية في معظم الشرق الاوسط.
وفي نفس الوقت، وبعد سقوط آشور وذوبان البقية من الاشوريين في البوتقة الآرامية وتحولهم الى الانتماء الآرامي، بقي الاسم الاشوري  مستمراً في الاستعمال لدى جيرانهم الفرس والارمن واليونان يطلقونه على المنطقة الجغرافية التي كانت تضم مدينة "آشور" القديمة، لذلك فان مدينة الموصل تسمى بالمصادر السريانية القديمة "آثور" ܐܬܘܪ. كما كانوا يطلقون هذا الاسم احياناً على اشخاص انحدروا من ذلك الاقليم لتعني "موصلي" بغض النظر عن قومية الشخص الموصلي لأن المصادر السريانية القديمة أطلقت لفظة "آثوري" (اي موصلي) على العرب والسريان والاكراد سكان الموصل، مثلما اطلقت بالسريانية لفظة ܒܒܠܝܐ̈ "بابليين" على سكان بغداد من عرب وسريان وغيرهم. وبامكاننا ان نستشهد بالنقش السرياني المزبور عام 1893على باب مذبح كنيسة مار الياس في قرية باقسيان (باقسيونِه) في طور عابدين اثناء ترميمها حيث يثبت لنا ان اسم "آثوري" يعني "موصلي" (ܒܝܘ̈ܡܝ ܐܒܐ ܕܝܠܢ ܪܘܚܢܝܐ ܦܛܪܝܪܟܐ ܦܛܪܘܣ ܡܘܨܠܝܐ ܐܘܟܝܬ ܐܬܘܪܝܐ) أي رُممت "بأيام أبينا الروحي البطريرك بطرس الموصلّي أي الآثوري". كما ان المطلعين على المصادر السريانية القديمة يعرفون هذه الامور البديهية.
و كانت حينها معظم منطقة العراق في القرون المسيحية الاولى تسمى بالمصادر السريانية  ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (اي وطن الآراميين أو بلاد الآراميين).
 
الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم



19
الآراميون والآرامية في آشور عشــيـة سقوطها

الدكتور اسعد صوما
السويد

قبل سقوط آشور بفترة قصيرة من الزمن كانت هذه الدولة العظمى والراقية تسير ببطىء نحو نهايتها التراجيدية المؤلمة بسبب ما كانت تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات وقلاقل. وكان لاضعاف آشور اسبابه الخارجية والداخلية، ومن الاسباب الخارجية: الاحداث السياسية الكبيرة التي أصابتها وأثرت عليها: حيث تحررت مصر من نفوذ آشور (ثم اصبحت حليفة الآشوريين بعدئذ)، وثارت بابل بزعامة نابوبلاصر القائد الكلداني الآرامي، وانسلخت فلسطين عن الامبراطورية الاشورية، كما رفضت فينيقيا الخضوع لسيطرتها، واستقل الميديون عنها وأخذوا يحضرون انفسهم لشن هجوم كاسح على آشور.

ومن الاسباب الداخلية القوية التي أضعفت آشور كانت سياسة الاشوريين في تهجير الشعوب المغلوبة وخاصة تهجير الآراميين واسكانهم في القرى والمدن والعواصم الاشورية. ان هذه السياسة كانت قد غيّرت من خريطة الوضع السكاني في الدولة الآشورية وأضعفت قوميتها الاشورية، لأن الآراميين المهجّرين كانوا قد اصبحوا باعداد كبيرة جداً في المدن الاشورية وفي قلب آشور، حتى "ان عدد الآراميين في الدولة الآشورية فاق مع الزمن عدد الاشوريين بكثير" على حد قول أحد علماء الاشوريات المعاصرين. ولا غرو فان الشعب الاشوري كان شعباً صغير العدد لكنه كان مقاتلاً ممتازاً. بينما كان الآراميون يتميزون بين كل الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير في كل منطقة "الهلال الخصيب". وقد استطاع علماء الاشوريات خلال العقود القليلة الماضية كشف الكثير من الحقائق الباهرة فيما يخص الوجود الارامي في قلب آشور فتغيرت المفاهيم القديمة عن ديموغرافية الدولة الاشورية وعن هويتها وعن دور الاراميين فيها، حيث كان الاراميون في المدن الاشورية باعداد هائلة، وكان منهم وحدات عسكرية في الجيش الاشوري تبلغ عشرات الالاف، كما كان منهم الكثير من الموظفين الكبار في البلاط الملكي يشاركون في تسيير دفة الدولة باعلى المستويات، كما كان منهم الكثير من الصنّاع، الخ. الشيء الذي حمل السلطة الاشورية الى الاعتراف باللغة الآرامية واضطرت الى استعمالها الى جانب الاشورية (الاكادية) الصعبة.
عام 2004 كتب العالم "اندرِه لومير" وهو من كبار الباحثين المتخصصين في قراءة النقوش القديمة معلقاً على سياسة الملوك الاشوريين في توطين الاراميين في آشور بقوله:
 En fait, en intégrant dans leur empire une aussi nombreuse population araméenne, les rois assyriens le transformèrent en un Empire assyro-araméen. "بالحقيقة، لقد حوّل الملوك الاشوريون دولتهم الى امبراطورية آشورية-آرامية عندما دمجوا فيها أعداداً كبيرة من الآراميين".
(أنظر بحثه بعنوان Les Araméens, un peuple, une langue, une écriture, au-delà des empires اي "الآراميون شعب ولغة وكتابة خارج حدود الامبراطوريات".

وكانت اللغة الآرامية التي بدأت تتغلغل الى المدن والعواصم الاشورية من أهم العوامل الداخلية التي ساهمت في سقوط آشور. ان دولة آشور في الفترة الاخيرة من عمرها قبل سقوطها وزوالها استعملت اللغة الآرامية ايضا في وثائقها الى جانب لغتها الاشورية (الاكادية)، وفرضت الآرامية نفسها فاضطرت آشور الى استعمالها لان الكثيرين من المواطنين في آشور ونينوى كانوا آراميين وخاصة بعد تحويل الكثير من المناطق الآرامية عند الفرات والخابور وضمّها annexed الى الدولة الاشورية. كما ان بسبب كثرة الآراميين الذين رحَّلهم الاشوريون من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور "كان قلب آشور قد تحول الى شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات (راجع مثلا بحث العلامة المرحوم " ح. تدمر": "كيف اصبحت آشور آراميةً" The Aramaization of Assyria
كان الآراميون يتميزون بين كل اخوتهم من الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير جداً كالبحر المتلاطم في كل منطقة "الهلال الخصيب" بدءاً من شطآن الخليج الفارسي/العربي وصعوداً مع نهري الدجلة والفرات وروافدهما العلوية، وثم نزولا مع مع طول المنطقة المحاذية للبحر المتوسط في الداخل السوري/اللبناني /الفلسطيني، وكان فيهم المتمدنين سكان المدن urban وانصاف المتمدنين rural وانصاف البدو Semi nomads والبدو الذين يعيشون على اطراف المدن ويتنقلون مع مواشيهم (راجع كتابنا السويدي Efrem Syriern: hans liv och skrifter صفحة 55-57 وشرحنا عنهم على أطراف مدينة الرها (أورفا) السريانية في القرون الاولى قبل وبعد الميلاد) .

ان انتشار الآرامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الآرامي اللغوي والثقافي كثيراً وأضعف الهوية الاشورية لدى المواطنين، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية حينها كان قد أصبح آرامياً في قلب آشور نفسه، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهويّة الارامية والمحيط الارامي المتلاطم بعد سقوط آشور بفترة قصيرة وخضوع منطقتهم لحكم الكلدان-الاراميين، الذين أكملوا مسيرة انتشار اللغة الآرامية، فأصبحت الآرامية كالبوتقة التي  ذابت فيها ثقافات شعوب المنطقة ولغاتها وقومياتها وتحولت مع الزمن الى جزء لا يتجزء من القومية الآرامية الحضارية الشاملة. وعند كشف هذه الحقائق أخذ بعض علماء الاشوريات المعاصرين يقولوا بانه "ينبغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة"، لكثرة أعداد الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور.

20
إذا كـتـبـنـا تاريـخـاً فلـنكـتـب هـكـذا !
عـلـم كـتـابــة الـتـاريـخ

الـدكـتـور أسـعـد صومـا
سـتـوكـهـولـم
مـقـدمــة:
لقد كثر المؤرخون وكتاب التاريخ بين صفوف افراد شعبنا، وهذا مفرح للغاية وإن دل على شيء فانه يدل على اهمية التاريخ بالنسبة لشعبنا، وادراكه اهميته في تحديد ثقافتنا وهويتنا. وتُشكر غيرة الاخوة الكتاب الذين يبحثون عن ماضينا (تاريخنا) ويجهدون أنفسهم في تقديمه لافراد شعبنا ليصبح الركيزة التي تبنى عليه ثقافتنا الصحيحة وتطلعنا للمستقبل. لكن إن كتبنا شيئاً يتعلق بتاريخ اجدادنا فعلينا الرجوع للوثائق الهامة التي خلفها لنا أجدادنا لانها أهم مصدر  Main source لنا للكتابة عنهم بصدق وامانة وصحة. كما انه ينبغي ان نراجع كل البحوث العلمية الجديدة التي أُجريت عنهم وهو ما نسميه في التعبير الاكاديمي بـــ  Secondary sources

ما هو الـتـاريــخ:
نعني بلفظة "تاريخ" ثلاثة أمور رئيسية: أولاً الماضي، ثانياً معرفة ذلك الماضي، وثالثاً إجراء ابحاث علمية منهجية عن عملية درس وكتابة ذلك الماضي وأحواله اي ما نسميه "بعلم كتابة التاريخ"  Historiography.

التاريخ علم مثل انواع العلوم الانسانية الاخرى له نظمه ومعايره التي تضبطه. وفي مادة "التاريخ" التعليمية هناك تفرعات ومجالات متنوعة، لكن المجال التاريخي الذي يهم مختلف فرق شعبنا اليوم هو "علم تاريخ السريان وحضارتهم" Syrology الذي يبحث في حضارة أجدادنا السريان من مشارقة ومغارية ويدرس تاريخنا ولغتنا السريانية (الفصحى) التي استعملها/يستعملها وكتب فيها تراثه وادبه ومعظم كتاباته، ويسمى المتخصص في هذا المجال  Syrologist  لكن بعض الجامعات تسميه  Syriac scholar.
وهنا ينبغي ألاّ نخلط بين الاختصاصين المختلفين  Syrology (علم السريانيات) و Assyriology (علم الاشوريات)، إذ بينما يبحث الاول في "السريان ولغتهم السريانية وحضارتهم"، يبحث الاختصاص الثاني في تاريخ السومريين والاكاديين والاشوريين والبابليين وغيرهم، اي هو تاريخ شعوب العراق القديم وحضاراتها ولغاتها المدونة بالخط المسماري (لاحظ ان علم "الاشوريات" ليس فقط تاريخ الاشوريين القدماء كما توحي تسمية "أسّيريولوجي"، إنما تاريخ الاشوريين القدماء وحضارتهم جزء منه فقط).

التاريخ هو علم دراسة الوثائق المكتوبة وتحليلها ومقارنتها لاستنطاق الاحداث الماضية التي تتحدث عنها، واستخلاص المجريات التاريخية المتعلقة بها، لاستنباط اسبابها ونتائجها بعد اعادة تركيب كل اجزاء الوقائع والاحداث التي ترويها الوثائق، ووضعها في إطارها التاريخي الصحيح ضمن الظرف المحدد للسياق العام للحدث، والزمن الذي وقعت فيه. كل هذا لأجل كتابتها مجدداً بصورة موضوعية "بكتاب تاريخ" يروي "حقيقة" وقوعها وظروف نشأتها، مستفيدين من المعلومات الجديدة التي قد نحصل عليها أيضاً من الاكتشافات الاثارية الحديثة.

يتعاطى التاريخ إذاً مع الماضي لمعرفة الواقع الماضي من خلال الآثار التي خلفها لنا الناس في ذلك الزمن الماضي، ودرسه ووصفه وإجراء بحوث ودراسات عنه.

إن آثار الماضي متنوعة تقتضي مناهج مختلفة لفهمها وشرحها وتفسير ملابساتها بشكل علمي، كما ان اهتمام الناس بمعرفة الماضي والوقوف على أحوال ماضيهم وماضي غيرهم من الشعوب قديم جداً. والاهتمام بالماضي كان ولا زال موجوداً لدى مختلف الشعوب والثقافات، حيث يظهر في اساطيرها وحكاياتها وملاحمها الشعبية ونصوصها الدينية وتقاليدها ورموزها التي خلفتها للأجيال العتيدة. كان التاريخ المبكر في عمر الانسان يحصل شفهياً، وظلت التقاليد الشفهية تروي اجزاء من تاريخ الشعوب. ولا يزال التاريخ الشفهي هاماً لدى بعض الشعوب التي تفتقد الى الكتابة أو لدى الاشخاص غير المتعلمين كما هو الحال لدى بعض الشعوب الافريقية. لكن أهم آثار الماضي لفهم ذلك الماضي هي الكتابات التي خلفها الانسان في الماضي، فأضحت أهم مصدر لمعرفة أحواله. وقد وصلتنا نصوص كتابية قديمة جداً تشكل مادة تاريخية في غاية الاهمية. ويبلغ عمر اقدم الكتابات المدونة حوالي خمسة آلاف سنة، خاصة تلك التي وصلتنا من منطقة الشرق الاوسط.

الوثائق التي يجب الاعتماد عليها في كتابة التاريخ:
وللتحري عن تاريخ أي حدث أو تاريخ شعب ما ينبغي دراسة ثلاث مجموعات من الوثائق إن توفرت:
1.   الوثائق التي خلفها الشعب ذاته عن نفسه مسجلاً أحداثاً هامة من تاريخه وأمجاده التي يعتز بها، محاولاً حفظها في مخزن ذاكرته المدونة والشفهية ليخلفها للأجيال اللاحقة. وفي هذه الحالة قد تكون هذه الوثائق مشحونة بالمبالغات في وصف الذات. ومن الكتابات الشهيرة في هذا المجال الكتابات العربية القديمة حيث تراها مليئة بالمبالغات والخرافات.
2.   الوثائق التي كتبها أعداء ذلك الشعب في حديثهم عن علاقتهم غير الودية معه، وقد تكون بعض هذه الوثائق مجحفة بحق ذلك الشعب لأنها ربما دونت للنيل منه، ولتنتقص من قيمته أو لتنتقم من انكساره وانهزامه في الوقائع الحربية والسياسية أو للشماتة به والتشفي منه.
3.   الوثائق التي دونتها الشعوب المحايدة عن ذلك الشعب في معرض حديثها العابر عنه أو ذكر أخباره كما سمعوها أو قرؤوا عنها، فكتبوا ما رأوه مناسباً من وجهة نظرهم.

وربما نصادف شيئاً من الكلام التاريخي في كتب أخرى جديدة تختص بمجالات آخرى من العلوم كاللاهوت، لكنها لا تعتبر من المراجع الرئيسية التي ينبغي الاستشهاد بها كمصدر اساسي، لكن يمكن الاستئناس بها لأنها مراجع ثانوية Secondary sources. كما ان الاقاويل والتعليقات الشفهية الشخصية المعاصرة عن موضوع تاريخي لا تعتبر من الوثائق ليستشهد بها ولا يهم ان كانت صحيحة أم لا.

نـقــد الـوثائــق التاريخية:
لكن المشكلة لا تنتهي عند ذلك، لأننا عند الرجوع الى الوثائق القديمة للاستشهاد بها قد نُصدم بعثرات كبيرة، منها أن بعض تلك الوثائق تتضمن الكثير من المبالغات في وصف الاشخاص والاحداث بشكل اسطوري خرافي، ومنها كتبت عمداً لتزوير الحقائق ولتختلق أحداثا متناقضة، لذلك ينبغي على كاتب التاريخ إخضاع تلك المصادر المدونة الى عملية نقد الوثائق العلمي الدقيق وهو ما نسميه Criticism of sources  تبعاً للمعايير المتعارف عليها بين المؤرخين العلماء. وهنا قد تسقط بعض الوثائق أو أجزاء من وثيقة معينة لأنها لم تصمد أمام هذا النقد العلمي، حينذاك على الكاتب والمؤرخ أن يحترس منها ويتحفظ في استعمالها.
والفرق بين المؤرخ المتخصص والكاتب الهاوي هو ان المتخصص يستعمل الوثائق ويحللها ويعرف كيف ينقدها ويستعملها بشكل صحيح، أما الهاوي قد لا تهمه قضية المصادر ونقدها انما يسترسل في الرواية.

وتاريخ اي شعب من شعوب العالم قد يضم بين دفتيه صفحات بيضاء ناصعة مشرقة يفتخر بها وأخرى سوداء قد يخجل منها. لكن عند كتابة ودراسة تاريخ شعب ما فان فإن هذه يتطلب ذكر تاريخه بصفحاته البيضاء والسوداء على حد سواء. إذ لا يعتبر التاريخ تاريخاً إن لم يضم كل فصول حكاية تاريخ ذلك الشعب بايجابياته وسلبياته. لكن الدراسة الحقيقية لتاريخ شعب ما أو أمة ما لا تكتمل بمعزل عن دراسة تواريخ الامم المجاورة التي تتداخل مع تاريخ هذه الامة. وقلما نجد دولة أو أمة ما يمكن الاكتفاء بدرس تاريخها بمفرده لنحصل على فكرة كاملة عن تاريخها الكلي، اي أننا لا نستطيع فهم الجزء إن لم نأخد الكل بعين الاعتبار.

حـيـاديــة الـمـؤرخ:
ولما كان التاريخ دراسة ما قد حصل ومضى، فلا يحق لكاتب التاريخ أبداً ان يدع تقييماته وأفكاره المسبقة وعواطفه وانتماءاته القومية أو السياسية أو الدينية أن تسيطر عليه وتستحود على تفكيره وتحليله للتاريخ، فيمدح من يشاء ويذم من يشاء. كما لا يحق له البتة أن يدين الاحداث التاريخية أو يبرئها لأنه ليس قاضياً لمحاكمة أحداث الماضي التي ليست من طبيعة عمله الموضوعي، بل إن عمله يجب ان يشبه عدسة المصور التي تلتقط الاحداث وتصورها تقريبا كما هي لا كما يرغب هو أن يراها أو يتمناها. وكل حدث نكتب عنه ينبغي إسناده الى وثائق تاريخية ومصادر علمية، وكل حدث غير مسند الى وثائق ومصادر مشكوك بأمره ولا يؤبه به.

المغالاة في الرجـوع الى الـتـاريـخ:
وأغلب الشعوب المتخلفة ذات الحاضر السيء والمستقبل الغامض تفكر كثيراً بتاريخها إن كان تاريخها غنياً حافلاً بالاخبار التي يعتز بها، فيكون الحنين إلى التاريخ واللجوء اليه وسيلة لتعزيتها عن واقعها السيء كما يفعل السريان. لكن الشعب الذي يفكر كثيراً بتاريخه ويحن اليه بشكل مفرط يبقى اسير شرنقة التاريخ، وهذا قد يعيقه عن التفكير بحاضره ومستقبله والتقدم مثلما تفعل الشعوب العربية. لأن المبالغة في اللجوء الى التاريخ تتركه يتقوقع على ذاته اكثر وتزيد من عزلته ومن حالة الهروب من واقعه "السلبي"، وهنا يصبح التاريخ عبئاً ثقيلاً ينهك أصحابه "المخذولين" لأنه يؤثر على حاضرهم وقد يقود مستقبلهم ايضاً فتصيبهم الاحباطات.

   أما الشعوب المتقدمة والمتحضرة، كالأمم الاوروبية مثلاً، فلا تفكر بتاريخها إلا ما ندر وبشكل عفوي وبسيط جداً. وتاريخها لا يؤثر مطلقاً على حاضرها ومستقبلها. لقد دخلت أوروبا في قرن العشرين في حربين طاحنتين كلفتها عشرات الملايين من الارواح البشرية وتغيرت معها معالم خارطتها السياسية وحدودها عدة مرات: لكننا نجد هذه الامم الاوروبية قد نسيت تاريخها العدائي تجاه بعضها البعض ودخلت في اتحاد للامم الاوروبية. كما ان شباب أوروبا لا يعرفون اليوم شيئاً عن تاريخ أمجاد أجدادهم وحروبهم وهذا مربط قوتهم ودافع تقدمهم. إن المغالاة في التفكير بالتاريخ قد تقود الى العنصرية البغيضة، وما أكثر الشعوب العنصرية التي تحب نفسها وتكره الاخرين وخاصة في دول العالم الثالث.

   وقد يتحول التاريخ الى أداة قمعية في يد حاكم طاغية لا يتورع عن سحق شعب آخر هيمن عليه واستعمره، وذلك بإدابة خصوصيات شخصيته وإلغائه عن طريق إلغاء تاريخه المغاير لتاريخ الحاكم وإعطائه قومية وتاريخ هذا الحاكم  بدلاً منه، كما فعل ويفعل بعض الحكام في الشرق الاوسط. وكل حاكم مستبد يقلقه تاريخ الشعب الاقدم في منطقته وبلده، فيعمل جاهداً لإذابة ذلك الشعب وإلغاء ذاكرته عن طريق إلغاء تاريخه وإعطائه تاريخ الحاكم بدلاً منه، فينسى هذا الشعب من كان ويصبح من قطعان الحاكم.

الدكتور اسعد صوما



21
نداء الى أهل القوش وكرمليس الاكارم!


قبل حوالي اسبوع نشرتُ في موقع عنكاوا العامر مقالاً بعنوان "كتاب تاريخ أربيل" الذي ظهر للحياة على يد العلامة الكلداني الفونس منكانا حيث قام بنشره بالسريانية وترجمته الى الفرنسية عام 1907.

 وفي مقالي هذا ذكرتُ فيه اسماء كاهنين كلدانيين عاشا في العقود الاولى من قرن العشرين هما الأب "ابراهام شمعون شكوانا"  الالقوشي  والاب  "توما بن حنا" من عائلة  "بطّوطا" من كرمليس.

انا بحاجة الى معلومات عن هذين الكاهنين وعن دورهما في "كتاب تاريخ أربيل" المذكور اعلاه.

الرجاء من أخوتي الكرام من أهالي القوش وكرمليس ومن كل من يعرف شيئاً عن كل من الأب "ابراهام شمعون شكوانا"  الالقوشي  وعن الأب  "توما بن حنا" من عائلة  "بطّوطا" من كرمليس، ان يكتب لي لأوجه اليه بعض الاسئلة عنهما لنكمل بحثنا عن الحقيقة بشأن دورهما في نسخ "كتاب تاريخ أربيل"  المذكور.

مع محبتي وشكري للجميع

أخوكم الدكتور اسعد صوما

22
كتـاب "تاريـخ أربيـل" السـرياني: أصيـل أم مـزوّر؟

الدكتـور اسـعد صـومـا
ستوكهـولـم

عام 1907 نشر العلامة السرياني الكلداني الاب ألفونس منكانا (1878-1937) كتاباً سريانياً في مدينة الموصل سمي بعدئذ "تاريخ أربيل" Chronicle of Arbela مع ترجمته الى الفرنسية. فتلقفه علماء السريانيات حينها بفرح واهتمام عظيم لأن هذا التاريخ يقدم لنا معلومات هامة جداً عن تاريخ الكنيسة الباكر في اقليم حدياب (شمال العراق) حيث كانت اربيل قاعدة هذا الاقليم.
ونَسَبَ الفونس منكانا تأليف هذا التاريخ الى المؤرخ السرياني "مشيحا زخا" ܡܫܝܚܐ ܙܟܐ المذكور في جدول المؤلفين السريان لعبديشوع الصوباوي (توفي 1318).

ان "تاريخ أربيل" كتاب سرياني يضم سيرة حوالي عشرين مطراناً جلسوا على كرسي ابرشية حدياب السريانية (شمال العراق) منذ القرن الثاني الميلادي لغاية منتصف القرن السادس. حيث يُذكر فيه أول مطران للاقليم باسم ܦܩܝܕܐ "فقيدا" وانه كان موجوداً في حوالي عام 100 ميلادي؛ وكان هذا المطران "فقيدا" تلميذاً لمار أداي رسول الرها المذكور في كتاب ܡܠܦܢܘܬܐ ܕܐܕܝ "تعاليم أداي".

وادّعى ألفونس منكانا بان مخطوطة هذا الكتاب السرياني تعود الى القرن العاشر الميلادي. وجاءت طبعته بالعنوان التالي:
Sources syriaques, Vol. I: Mshih Zkha: texte et traduction par A. Mingana [Mosul]-Leipzig 1907, p. 1-75.
وبعد نشر المخطوطة مباشرة  قام منكانا ببيعها الى المكتبة الوطنية في برلين بقيمة 3500 "فرنك فرنسي" على اساس انها قديمة من القرن العاشر، وصُنفت في المكتبة تحت رقم (or. fol. 3126) .

ومنذ طهور هذه المخطوطة استعملها العلماء كمصدر هام عن المسيحية لمشرقية وانطلاقتها وكذلك كمصدر هام عن تاريخ أيران في الفترة البارثية والساسانية. وخاصة ان منكانا حينها كان قد كتب في الصفحة السابعة من طبعته جملة في غاية الاهمية قال فيها بالفرنسية:
 «Le manuscrit dont nous donnons ici le texte et la traduction (...) nous permettra de redresser maintes erreurs ayant encore cours dans les travaux de nos syrologues modernes »
أي "ان المخطوطة التي نطبع الان نصها وترجمتها سوف تمكننا من تصحيح عدة اغلاط لا زالت متداولة بين علماء السريانيات المعاصرين". وبموجب هذا الاعلان الخطير فقد اُعتبر كتاب "تاريخ أربيل" حينها من اهم الاكتشافات الحديثة.

ونظراً لأهمية الكتاب قام العلامة الالماني "إدوارد سخاو" بترجمته الى الالمانية وطبع الترجمة في برلين عام 1915 بعنوان:
E. Sachau, Die Chronik von Arbela: ein Beitrag zur Kenntnis des &auml;ltesten Christentum im Orient, Berlin 1915.
ومن العنوان الالماني الذي منحه "سخاو" لطبعة ترجمته "تاريخ أربيل: مساهمة لمعرفة أحوال المسيحية الباكرة في الشرق" نفهم مدى اهمية هذا الكتاب حينها بين العلماء. وبعد حوال عشر سنوات تبعه العلامة "فرانس زورِل" فقام بترجمته الى اللاتينية وطبع الترجمة في روما 1927.

ومنذ صدور الكتاب درسه بعض العلماء ليقفوا على حقيقته، لكن الكتاب بحاجة الى المزيد من الدراسة والتحليل العلمي للوصول الى حقيقة أمره. ويعتقد العلماء الذين يؤمنون بمصداقية كتاب "تاريخ أربيل" بانه كُتب في القرن السابع معتقدين ان "مشيحا زخا" هو نفسه "إيشوع زخا" أو "زخا إيشوع" المذكور في كتاب "الرؤساء" للكاتب السرياني توما المرجي (من القرن التاسع).

لكن بعد تحليل علمي للمخطوطة في ستينات القرن العشرين تبين انها مخطوطة حديثة للغاية، وظهر ان منكانا كان قد اعطاها مظهرا قديماً بواسطة تشميعها ووضعها في النار وحرق جوانبها دون ان يمس نصها بضرر، كما صرح العلامة يوليوس أسفالغ في بحثه الالماني التالي عنها:
J. Assfalg, Zur Textüberlieferung der Chronik von Arbela: Beobachtungen zu Ms. or. fol. 3126, Oriens Christianus, volume 50 (Wiesbaden 1966), p. 19-36.

لقد ميّز فيه ناشره ثلاثة مصادر وهي التاريخ الكنسي لاوسابيوس القيصري والتاريخ الكنسي لسقراط وتاريخ اقليميس الاسكندري. لكن المصدر الاخير قد لا يكون معقولاً لان اعمال اقليميس الاسكندري لم تكن مترجمة الى السريانية، كما ان معرفة اللغة اليونانية في فارس (والعراق جزء منها) في القرن السادس الميلادي كانت محدودة للغاية.  لكن أهم مصدر للكتاب وخاصة عن الفترة المبكرة عن حياة الكنيسة في حدياب هو كتاب غير معروف لمؤلفه هابيل ربما من القرن الرابع. كما هناك تقاليد شفهية اعتمد علها المؤلف بين مصادره.

بعد نشر الكتاب مباشرة كانت ردة فعل العلماء ومواقفهم بخصوص صحته متباينة. إذ بينما رحب به علماء امثال "إدوارد سخاو" و "أدولف فون هرنك" كمصدر قيّم ونادر لتاريخ الكنيسة في حدياب، وقف بعض العلماء الآخرين موقف المتشكك تجاهه، مثل العلماء "بول بيترس"، و"جان موريس فوستِه"، و"إغناطيوس دِه أوربينا"، وتبعهم ثم كل من "يوليوس أسفالغ" و"جان موريس فييه"، خاصة لما علموا ان كاتب المخطوطة كان القس "ابراهام شمعون شكوانا"  الالقوشي (1849-1931)، وان الملاحظة التي في المخطوطة والتي تعطينا اسم المؤلف كانت قد أُضيفت على المخطوطة بالخط السرياني الاسطرنجيلي على الصفحة 27  ܟܬܒܐ ܕܐܩܠܣܝܣܛܝܩܝ ܕܡܫܝܚܐ ܙܟܐ، وان عالم السريانيات الفرنسي "جان موريس فييه" كشف بان كاتب هذه الجملة كان الراهب الكلداني "توما بن حنا" من عائلة  "بطّوطا من كرمليس"، وقد كتب هذه الملاحظة بناءً على طلب الفونس منكانا نفسه كما ذكر "جان فوستِه" فيما كتبه في دراسته حول جدول منكانا  في:
J.M. Vosté, Alphonse Mingana: &aacute; propos du ”Catalogue of the Mingana Collection » Orientalia Christiana Periodica, volume 7 (Rome 1941), p. 514-518 .

وبعد هذا الكشف عن أمر المخطوطة الحديثة والتي اُعطي لها المظهر القديم، أخذت أصوات بعض العلماء ترتفع لاهمال هذا الكتاب واعتباره مزوراً، وطالبوا حذف كل المعلومات التي كانت قد استقيت من هذا الكتاب كمصدر، وخاصة تلك التي استقيت منه عن تاريخ أيران.

ان دراسة مقارنة لنص المخطوطة التي باعها منكانا لمكتبة برلين الوطنية مع النص الذي نشره منكانا وترجمه تكشفت عن بعض الاختلافات بينهما، إذ ان نص طبعة منكانا يحتوي على معلومات اضافية على مخطوطة برلين. وهذا يدل على انه ربما كان بحوزة منكانا مخطوطة اخرى لتاريخ أربيل غير مخطوطة برلين وهي غير معروفة لاحد، ولم يصرح عنها منكانا ربما لانها كانت هي ايضاً مخطوطة جديدة، وانه طبع نصه نقلا عنها.

كل هذا القى المزيد من الشك على مصداقية كتاب "تاريخ أربيل" السرياني ومخطوطته. والسؤال الذي طرح نفسه حينها: هل هذا التاريخ هو عمل قديم واصيل أم هو كتاب مزيف من تأليف الفونس منكانا نفسه ونسبه الى المؤرخ السرياني القديم مشيحا زخا؟ لقد اقتنع العلماء حينها بان هذا التاريخ مزوّر وهو من تأليف منكانا نفسه، وكان قد قاد هذا الرأي صديقنا العلامة المرحوم "جان موريس فييه". وبقي رأيه كحكم فاصل عن هذا الموضوع طوال الفترة لغاية 1978.

في عام 1978 اكتشفت المؤرخة المتخصصة بتاريخ الساسانيين البروفسورة "روث التهايم شتيل" الالمانية بأن تاريخ ارتقاء الساسانيين للسلطة في ايران في 28 من شهر نيسان عام 224 حسب ما يذكره تاريخ أربيل هو صحيح تماماً، لانه مطابق للتاريخ المذكور في النقش المدون بالبارثية والفارسية المتوسطى والذي اكتشفته البعثة الفرنسية في تنقيباتها في بيشابور عام 1935 و 1936. اي ان النقش المذكور أكد ما جاء في "تاريخ اربيل" بخصوص تاريخ ارتقاء الساسانيين للسلطة.

فاذا كان منكانا قد الف هو بنفسه هذا التاريخ ونسبه الى مشيحا زخا فكيف بامكانه ان يذكر تواريخ غير معروفة لاحد لكنها تأكدت من خلال اكتشافات لاحقة؟  لقد  نشر منكانا وطبع هذا الكتاب عام 1907 اي قبل حوالي ثلاثين سنة من اكتشاف نقش" بيشابور" الذي ذكر ايضا نفس تاريخ ارتقاء الملوك الساسانيين كما ذكرها كتاب "تاريخ أربيل". وعلى ضوء هذه المعلومة الهامة جداً بدأ بعض العلماء يغيرون رأيهم  عن كتاب "تاريخ أربيل" ويعتبرونه كتابا صحيحاً وأصيلاً، طالما ان نقش بيشابور ثبّت ما ذكره تاريخ اربيل سابقاً.
بالحقيقة ان كتاب تاريخ أربيل يتفق مع نقش بيشابور ليس فقط في ذكر سنة ارتقاء الساسانيين للسلطة، انما يتفق معه ايضا بذكر اليوم في الاربعاء 27/28 نيسان 224. وهنا ينال هذا التاريخ مصداقية جديدة وجذب اليه ثانية اهتمام العلماء فاخذوا ينشروه مجددا ويترجموه، إذ قام العلامة الالماني "بيتر كفارو" بطبعه من جديد من مخطوطة برلين مع ترجمة المانية عام  1985 بعنوان.
Die Chronik von Arbela, hrsg., übers. v. P. Kawerau (CSCO 467/468, SS 199/200), Lovanii 1985.

وبرغم حداثة مخطوطة هذا الكتاب وعدم تأكيد نسبه الى مشيحا زخا، الا ان ”تاريخ اربيل" وعلى ضوء المستجدات التي صادفته، فانه يبقى تاريخا سريانياً اصيلا. وان الدراسة السريعة التي قمتُ بها لتاريخ أربيل تبين لي ان اسلوب لغته شبيه باسلوب المخطوطات السريانية القديمة. فقد درست شخصياً عشرات المخطوطات السريانية من القرن السابع ولغاية السابع عشر، وان الجو العام لنص تاريخ اربيل شبيه بسريانية تلك المخطوطات، لذلك نعتقد ان هذا التاريخ فيه اصالة.

ناشر الكتاب العلامة الكلداني الفونس منكانا في سطور:

ولد هذا العالم الكبير عام 1878 في قرية "شرانش" بجوار زاخو من عائلة كلدانية لها ثمانية اطفال (ستة صبيان وابنتين) وكان هو اكبرهم سناً وسمي هرمز. كان والده بولس كاهناً في الكنيسة الكلدانية. انتسب الفونس الى معهد مار يوحنا للدومينيكان في الموصل عام 1891 كما اصبحت احدى اخواته راهبة. وتعلم في هذا المهعد السريانية على يد العلامة الكلداني اوكين منا مؤلف القاموس السرياني العربي الشهير (دليل الراغبين في لغة الآراميين)، كما تعلم لغات أخرى. عام 1902 رسم كاهنا على يد البطريرك الكلداني عمانوئيل توما (1900-1947) وغيّر اسمه من هرمز الى الفونس. ولما ارتسم معلمه في السريانية العلامة اللغوي أوكين منا مطراناً عام 1902 (وكان قد ارتسم معه في نفس الوقت مطرانان آخران هما أدي شير واسطيفان غبري)، تعيّن الفونس معلما للسريانية في المعهد بدلا من معلمه يعقوب اوكين منا. وفي 1903-1910 تعين الفونس مصححا للمطبوعات السريانية والعربية التي اصدرتها المطبعة الدومينيكانية في الموصل. عام 1905 طبع كتابا هاماً عن قواعد السريانية بالفرنسية تحت عنوان:
 Clef de la langue araméenne, ou Grammaire compléte et pratique des deux dialectes syriaques occidental et oriental (Mosul: Dominican Press, 1905)
اي (مفتاح اللغة الآرامية: أو القواعد العملي والشامل للهجتين السريانيتين الغربية والشرقية)،  كما طبع مجلدين ضخمين يضمان ميامر الشاعر الكبير "مار نرساي" بعنوان:
Narsai doctoris syri homiliae et carmina prime edita, cura et studio D Alphonsi Mingana, cum praefatione editoris (Mosul: Dominican Press, 1905).
وجاء اهداء هذا الطبعة الى "الارساليات الدومينيكانية والى المعهد الكلداني السرياني في الموصل، كعلامة شكر واخلاص".

لكن بسبب ما كتبه منكانا عن حياة مار أداي فقد حصلت له مشكلة كبيرة مع بطريركه الذي طلب منه ان يحذف جملة في الصفحة 78 مت تاريخ اربيل كتب فيها "بان قصة حياة مار أداي ومار ماري هي اسطورية"؛ وقد ذكر الاب يوسف تفنكجي الكلداني الذي كان صديق وتلميذ منكانا في المعهد، ذكر بان الراهب الفونس حصلت له بعض المشاكل الكبيرة مع البطريرك عندما كتب في تحليله لكتاب تاريخ أربيل بان "اصل بطريركية الكلدان هي من انطاكية". وبسبب هذه الجملة ثارت عليه المشاكل، فاضطر منكانا ان يهجر السيمينار عام 1910 (ويُقال بانه طُرد منه)؛ ثم لحقه الاب يوسف تفنكجي ايضاً.
وبعد ثلاث سنوات اي 1913 انسحب منكنانا من الكنيسة الكلدانية وسافر الى بريطانيا وهو شاب ولم يرجع الى الشرق لكنه قام بثلاث رحلات للشرق لتجمييع المخطوطات السريانية والشرقية.
وفي عام 1914 تعرّف منكانا على الفتاة النروجية "إمّا- صوفي فلور" من ستفانغر حيث كانت تقيم حينها في بريطانيا في Selly Oak لتحسّن لغتها الانكليزية، وكانت قد أمضت قبلها سنة في فرنسا تدرس الفرنسية. فنشأت علاقة حب بينهما، وخطبها وتزوجا في 14 تموز 1915 ورزقا طفلاً عام 1916 أسموه "جون" وطفلة عام 1918 اسموها "ماري". لقد عاش منكانا في عدة اماكن من بريطانا مثل برمنغهام، وودروك، كامبردج ومانشستر، لكنه مكث في مانشستر فترة طويلة حيث الف هناك معظم مؤلفاته وعلم هناك في جامعتها.
لقد روت "ماري منكانا" ابنة الفونس منكانا، بان والدها الفونس كان عاتباً على كل العراقيين الشرقيين وقد قاطعهم. ومن بين كل العراقيين كان له صديق واحد في الشرق وهو بطريرك السريان الارثوذكس أفرام برصوم الموصلي، إذ لما كان أفرام برصوم مطرانا زار عدة دول اوروبية وبينها بريطانيا في 1920/1919 ماكثا فيها عدة اشهر، والتقى بصديقه الفونس منكانا مرتين يتناقشان القضايا السريانية العلمية. وقالت ماري منكانا بان المطران أفرام برصوم ووالدها الفونس منكانا كانا يتكلمان بالفرنسية معاً في حضرة والدتها زوجة منكانا السيدة "إمّا صوفي" لتشاركهما في النقاش.
 توفي البرفسور الفونس منكانا عام 1937 وعمره 59 سنة فقط، فكانت وفاته خسارة لا تعوض. وتوفت زوجته إمّا صوفي  في برمينغهام عام 1974. أما ابنه جون فقد تزوج من مع ماري كورتيس وانجب اربعة اطفال: بيتر وآندرو وجانيت ولاين. وتوفي جون الفونس منكانا في حادث عام 1970. ولا زال احفاد منكانا يعيشون في بريطانيا وواحد في كندا.

وفي الثلاثين سنة التي عاشها الفونس في بريطانيا بعد مغادرته الموصل ألف ونشر عشرات الكتب والدراسات العلمية الهامة عن الدراسات السريانية والعربية والاسلامية/القرآنية، منها جدوله الشهير عن المخطوطات السريانية Catalogue of the Mingana Collection of manuscripts. عدا انه علم السريانية والعربية والعبرية. كما ان دراساته عن تاثير السريانية في القرآن تعتبر رائدة في هذا المجال قبل ان يطرق هذا الموضوع اليوم عالمان سريانيان معاصران على مستوى عالمي.

لقد ترك الفونس منكانا معهده في الموصل (أو طرد منه) وترك كنيسته الكلدانية وترك الكهنوت وهاجر وطنه وحل أخيراً في بريطانيا، فتفتقت هناك موهبته العلمية العظيمة فانتج اعماله الجليلة التي بلغت حوالي التسعين كتابا ومقالة، فاصبح فخر للامة جمعاء...
الدكتور
اسعد صوما


23
اللغــة الآرامـيــة: لهجاتها وفروعـهــا
الدكـتـور أسـعـد صـومـا
سـتوكـهـولـم


((نشرتُ في الاسبوع الماضي مقالة بعنوان "السريانية بين الآشورية والآرامية" في المنبر الحر من موقع عنكاوا، ورغم انها دراسة مفيدة جداً وتلقي الضوء على جوانب هامة من تاريخنا المجهول واستغرقت معي وقتاً طويلاً جداً في مراجعة العديد من المصادر والتحضير لها، إلا ان الموقع لم ينشرها في صفحته الرئيسية لاسباب لم أعلمها (أرجو انها ليست لاسباب فكرية عقائدية حزبية وإلا سيصبح الموقع كغيره من المواقع لا يبالي للرأي الآخر؛ وخاصة ان موقع عنكاوا عوّد السادة الكتّاب على نشر كتاباتهم بحرية تامة دون رقابة او تدخل، وكذلك عوّد القراء الكرام على سماع الرأي الآخر مهما كان مخالفاً لغيره). وعلى أثرها جائتني رسالة من احد الاخوة قراء عنكاوا يطلب مني ان أنشر بعض المعلومات عن اللغة الآرامية، فكتبتُ اليوم هذا المقال البسيط فعساه يفي بالغرض))

ان مصطلح "اللغة الآرامية" هو تعبير يشمل مجموعة من اللهجات والفروع الآرامية المكتوبة وغير المكتوبة، حيث يُطلق على كل واحدٍ منها تعبير "آرامية"، لكن الكثير منها لها اسماء "محلية" ايضاً. ونشبِّه الآرامية بعنقودٍ من العنب، حيث ان كل حبات العنقود هي آرامية لكن لكل حبة اسمها المحلي بالاضافة الى اسمها الآرامي.

تنفرد اللغة الآرامية بين جميع شقيقاتها في مجموعة اللغات الساميّة كونها اللغة الساميّة الوحيدة التي لا زالت متداولة على قيد الحياة منذ ثلاثة آلاف سنة على الاقل دون انقطاع في الاستعمال لا في الكلام ولا في الكتابة. وهذا يجعلها واحدة من أقدم لغات العالم التي لا زالت حية لغاية الآن، وهذا بحد ذاته فخر لها ولاصحابها. كما انها تعيش بقوتها الذاتية وليس بقوة أي دولة أو نطام يحميها.

واللغات السامية التي تنتمي اليها الآرامية هي مجوعة كبيرة من اللغات المتصلة ببعضها والمتقاربة حيث تشكل عائلة لغوية على غرار العائلات اللغوية الاخرى كالعائلة الجرمانية والعائلة اللاتينية وغيرها. بعض اللغات السامية لا زالت في الحياة مثل الارامية والعربية والعبرية والامهرية وغيرها، وبعضها ماتت واندثرت منذ عهد سحيق ولا يوجد من يتحدث بها اليوم كالامورية والاكادية والكنعانية وغيرها.
تقسم اللغات الساميّة الى مجموعات ولكل مجموعة عدة فروع، لكنني أفضِّل تقسيمها الى:
1- اللغات الساميّة الشرقية الشمالية (تمثلها الاكادية بفرعيها البابلي والاشوري)؛
 2- اللغات الساميّة الشرقية الجنوبية (وتمثلها لغات الحبشة مثل الجعز والامهرية والتيغرينة، بالاضافة الى لغات جنوب الجزيرة العربية كالقتبانية والحضرمية وغيرها)؛
 3- اللغات الساميّة الغربية الجنوبية (وتمثلها العربية الكلاسيكية  "الفصحى"، واللهجات العربية العديدة الموجودة اليوم)؛
 4- اللغات الساميّة الغربية الشمالية (وتمثلها الآرامية والكنعانية، والعبرية وغيرها). ولغات كل مجموعة قريبة جداً من بعضها.

وقد عاصرت الآرامية مجموعة من اللغات الأخرى القديمة وعاشت معها جنباً الى جنب وتأثرت بها وأثرت فيها، إلا ان تلك اللغات ماتت وزالت عبر مسيرة التاريخ لكن الآرامية بقيت وعاشت شامخة الرأس لغاية اليوم.
ولما عاشت الآرامية هذه الفترة الطويلة (موثقة منذ أكثر من 3000 سنة) فمن الطبيعي ان يطرأ عليها التغيير الذي تفرضه سنّة الحياة ويقتضيه التطور الذي يصيب اللغات، مما ولّد فيها الكثير من اللهجات الآرامية أو الفروع الآرامية البالغة بالعشرات.
بعض اللهجات الآرامية التي دوّنت اصبحت لغات معروفة كآرامية الرها وآرامية التلمود وآرامية الكتاب المقدس، وبعضها الأخرى استمرت شفهية ولم تدون فبقيت لهجات محكية منها ماتت ولم تُعرف، ومنها ما زالت حية تُحكى ولا تُكتب مثل آرامية طور عابدين وآرامية معلولا وآرامية اليهود وآرامية السريان المشارقة (السورث المدونة حديثاً). ومنها ما هو حي لكنه على طريق الموت والزوال كاللهجات الآرامية التي يتكلمها اليهود في اسرائيل وآرامية "ملحثو" وغيرها.

كان الوضع اللغوي الآرامي في الشرق الاوسط في زمن السيد المسيح يشبه الى حد ما وضع اللغات العربية في العالم العربي اليوم. إذ كانت اغلب منطقة الشرق الاوسط تتكلم الآرامية وكان لكل مدينة ومجموعة بشرية لهجتها المحلية تماماً مثلما يوجد اليوم مئات اللهجات العربية، حيث ان كل مدينة لها لهجتها، لا بل كل حي في المدينة له "لهجته" الخاصة.

وبسبب العمر المديد للآرامية فاننا نميّز في حياتها أربع مراحلٍ زمنية، وتتميز كل مرحلة عن التي قبلها وبعدها ببعض الخواص اللغوية التي نشأت فيها.

مراحل اللغة الآرامية:

1.   الآرامية القديمة: بدأت هذه المرحلة منذ ظهور الآرامية على مسرح الحياة حيث كانت لغة الآراميين ودولهم الآرامية العديدة في منطقة الهلال الخصيب، واستمرت هذه المرحلة لغاية سقوط الدول الآرامية، أو حوالي 700 قبل الميلاد. ومن خواص الآرامية في هذه المرحلة انها كانت تستعمل الاسماء والصفات بالحالة الاساسية التي نسميها Absolute state اي الحالة التي لا تنتهي بحرف الالف.

2.   الآرامية الرسمية: وتمتد منذ 700 قبل الميلاد لغاية حوالي 300 قبل الميلاد. ونسميها رسمية لانها استُعملت كلغة رسمية في ثلاث امبراطوريات وهي على التوالي: الامبراطورية الاشورية في نهاية حياتها، الامبراطورية البابلية والامبراطورية الفارسية الاخمينية. وتنتهي هذه المرحلة عند مجيء اليونان بقيادة اسكندر المكدوني الى المنطقة. وهنا استُعملت الآرامية ليس فقط من قبل أصحابها الآراميين انما استعملتها شعوب أخرى ايضاً لأنها اصبحت لغة عالمية في ميدان السياسة والتجارة والعلاقات، بعد ان خرجت من منطقتها التقليدية، ووصلت مع الامبراطوريات المذكورة الى مناطق جديدة تمتد من مصر الى وادي الهندوس.

3.   الآرامية المتوسطة: وتمتد منذ مجيء اليونان للمنطقة حوالي 300 قبل الميلاد لغاية المسيح او لغاية مجي الرومان للمنطقة. وفي هذه المرحلة انتشرت اليونانية وبدأت تنافس الآرامية وتزاحمها على مكانتها في التدوين في المنطقة الى ان كُتب لها الغلبة. لكن استمرت الآرامية في الكلام والتخاطب الشفهي في البيت والمجتمع. وعلى أثر استعمال اليونانية في الادارة والدواوين والتأليف وتقهقهر الآرامية على المستوى الكتابي أخذ يظهر في الآرامية التنوّع اللفظي وتتكرس فيها اللهجات المحلية. ويبدو ان الحالة القواعدية للاسماء والصفات والتي تنتهي بحرف الالف والتي نسميها الحالة التوكيدية Emphatic state بدأت بالانتشار في الاستعمال على حساب الحالة الاساسية التي تقلص استعمالها.

4.   الآرامية المتأخرة: وتبدأ منذ زمن المسيح وتستمر لغاية القرن الثالث عشر الميلادي. وفي هذه المرحلة تطورت الآرامية في دولة الرها السريانية والمناطق المجاورة لها لغاية نصيبين وازدهرت وانتشرت بسرعة. منذ بداية القرن الخامس الميلادي بدأت آرامية الرها هذه تسمى "بالسريانية" (وتسمى اليوم لدى اصحابها بالسريانية الفصحى ايضا). وقد انتشرت "السريانية" على حساب الفروع الآرامية الاخرى بعد ان تحولت الى لغة الكنيسة المسيحية المشرقية وانتشرت معها ووصلت مع المبشرين السريان الى الهند والصين وغيرها من الاماكن في آسيا الوسطى. وقد دوّن بالسريانية مجمل الادب السرياني وكافة الطقوس الكنسية التي لا زالت حية لغاية اليوم. ان الادب الذي دوّن في السريانية (آرامية الرها) فاق بحجمه وبنوعيته كل الآداب التي دوّنت في مختلف الفروع الارامية الاخرى.
ومن المزايا اللغوية المميزة في السريانية (اي آرامية الرها) ان تولد فيها حرف النون بدلا من الياء كأداة في بداية افعال الزمن المستقبل، اذ ان الفروع الآرامية الاخرى المدونة تستعمل حرف الياء. كما حلَّّ استعمال الحالة التوكيدية في الاسماء والصفات وأخذت مكان الحالة الاساسية واختفى معناها التوكيدي، كما أختفى استعمال الحالة الاساسية من اللغة لكنه بقي في حالات نادرة جداً. إن السريانية لا تتضمن أداة للمعرفة.
وبسبب الانتشار الهائل لآرامية الرها المعروفة بالسريانية فقد تطورت واعتراها شيء من التغيير. وبالامكان تقسيمها الى ثلاث مراحل:
السريانية الكلاسيكية، لغاية القرن السادس الميلادي، وقبل انقسامها الى شرقية وغربية.
السريانية المتوسطة، من القرن السابع ولغاية القرن التاسع عشر (انقسمت فيها الى سريانية شرقية يستعملها السريان المشارقة اي النساطرة والكلدن، وغربية يستعملها السريان المغاربة اي السريان الارثوذكس والسريان الموارنة والسريان الكاثوليك). وهناك فروقات مورفولوجية وأورثوغرافية بين السريانية الشرقية والغربية.
السريانية الحديثة، المستعملة اليوم في الادب؛ تختلفت السريانية الحديثة عن السريانية الكلاسيكية الى حد ما في تركيب الجملة وفي المعاني المستحدثة.
 (لاحظ ان السريانية الحديثة ليست اللغة المحكية "السورث" أو غيرها، لكنها السريانية الفصحى التي نستعملها اليوم ونسميها "حديثة" ). إنني لمستغرب جداً عندما يطلقون في العراق على الآرامية المحكية "السورث" اسم السريانية، فيختلط الحابل بالنابل. "السريانية" في الاوساط الاكاديمية هي فقط اللغة الفصحى وليست المحكية، اما المحكية فتصنيفها العلمي هي آرامية حديثة.

5.   الآرامية الحديثة: وهي الفروع الآرامية التي يتكلمها الآن السريان واليهود وغيرهم، ونسميها آرامية حديثة Neo-Aramaic ليس لانها تولدت حديثاً انما لنميزها عن بقية المراحل الآرامية الاخرى المذكورة. وتنتشر الآرامية الحديثة في تركيا وسوريا ولبنان والعراق وايران، وانطلقت مع البعض من ناطقيها الى روسيا وجورجيا وارمينيا واوروبا وامريكا واستراليا. والذين يتكلمون الآرامية الحديثة يتوزعون على اربعة اديان ففيهم من المسيحيين واليهود والمسلمين والصابئة.
وتقسم الارامية الحديثة بدورها الى: شرقية (في العراق وايران) ومتوسطة (في جنوب شرق تركيا والجزيرة السورية) وغربية (قرب دمشق).
فالآرامية الحديثة الشرقية East Neo-Aramaic تنقسم بدورها الى شمالية وجنوبية، الآرامية الشرقية الشمالية هي التي يتحدث بها المسيحيون السريان واليهود في شمال العراق وأيران مع اختلافات وتنوعات كبيرة ضمن المجموعة الواحدة، اما الآرامية الشرقية الجنوبية فهي آرامية الصابئة.  وهذه المجموعة هي أكبر مجموعة في اللغة الآرامية الحديثة.
اما الارامية الحديثة المتوسطة Central Neo-Aramaic فتمثلها آرامية طورعابدين وآرامية "ملحثو" بجوار دياربكر في تركيا.
والآرامية الحديثة الغربية West Neo-Aramaic هي اللغة المحكية في ثلاث قرى بجوار دمشق وهي: معلولا وجبعدين وبخعة. سكان جبعدين وبخعة هم من المسلمين السنة اما غالبية سكان معلولا فهم من المسيحيين (من طائفة الروم).
ومن الخصوصيات القواعدية في الآرامية الحديثة ان اختفى منها الفعل الماضي وحل استعمال اسم المفعول بدلاً منه، كما انها تستعمل اسم الفاعل للزمن المستقبل.

ان الآرامية الحديثة (السورث وغيرها من اللهجات المحكية) لم تنبثق عن السريانية الفصحى كما يعتقد بعض الاخوة السريان، انما الآرامية المحكية والسريانية الفصحى شقيقات تولدت من تطور آرامية اقدم عهداً منهن.
يبلغ عدد الناطقين بمختلف فروع الارامية المحكية حوالي المليون ونصف نسمة (هناك اليوم حوالي خمسة تلفزيونات سريانية تبثُّ بالآرامية الحديثة: اثنان يبثان بالارامية الحديثة المتوسطة (لهجة طورعابدين)، وثلاثة يبثون بالارامية الحديثة الشرقية (السورث)، بالاضافة الى قنوات محلية أخرى).

الدكتور اسعد صوما

24
السـريانـي بـيـن الآشـوري والآرامـي

الدكـتـور أسـعـد صـومـا
سـتـوكـهـولـم / السـويـد


مـقـدمــة:

كانت الدولة الاشورية دولة قوية وعملاقة تشبه في قوتها وهيبتها الدول العظمى اليوم. وكان مجرد اسمها يخيف خصومها واعدائها فيسرعون للاستسلام لها ويدفعون ما يترتب عليهم من الضرائب والعقوبات. كانت سياسة الدولة الاشورية في إخافة الاعداء تقوم على انزال اشد وابشع انواع العقوبات والعنف على هؤلاء الاعداء وتعذيب زعمائهم اثناء دحرهم في الحروب. لذلك كانت كل الدول القريبة والبعيدة حذرة من دولة آشور وتهابها بسبب سياستها التوسعية والعنف الذي تمارسها ضد الملوك المنهزمين الذين لا يستسلمون لها. وكانت الدول المجاورة تتحين الفرصة للانقضاض على آشور وإسقاطها للتخلص من نيرها، لذلك تعرضت للهجوم البابلي والميدي فسقطت أمام ضرباتهم وتعرضت لمجازر رهيبة. وعلى أثرها زالت الدولة الآشورية من الوجود ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، لكن الاسم الآشوري عاش بعد سقوط آشور مستمراً في مسيرة التاريخ لغاية اليوم لكنه نال في الفترة المسيحية معان جديدة بعيدة تماماً عن معناه الاصلي. وفي القرن التاسع عشر يعود الاسم الاشوري بمعناه القديم الى الحياة ثانية ويلتصق ثم بالسريان النساطرة. ومؤخراً ضمته الكنيسة النسطورية (فرع التقويم الغربي التابع للبطريرك دنخا) الى اسمها الرسمي مدعية ان السريان النساطرة هم ابناء الآشوريين القدماء.

عام 2006 نشر الباحث روبرت رولينغر مقالاً حول تسمية "سوريا" و"سريان" وجاء رأيه في صالح اشتقاق أسم "سوريا" من "آشور". وقد نشر مقاله الذي يحمل العنوان The Terms ‘Assyria’ and  ‘Syria’ Again  "التعابير آشور وسوريا مرة أخرى" في العدد الرابع من (مجلة الدراسات الشرق اوسطية حيث قال فيه باشتقاق اسم "سوريا" من لفظة "آشور". ولما انتشر مقال الدكتور روبرت رولينغر قرأه بعض ابناء شعبنا وأساء البعض فهمه، فاعتقد بعضهم ان رولينغر يتحدث عن أصل السريان واعتقد آخرون بانه "ينسب السريان الى الآشوريين"، الشيء الذي لا يذكره رولينغر في مقاله، لأنه لا يتحدث عن أصل الشعب السرياني انما يتحدث عن الاسماء Syria "سوريا" و Assyria "آشور"  فقط،، وعن العلاقة اللغوية الموجودة بين الاسمين المذكورين بقوله الواضح في مفتتح مقاله:
 A debate about whether there is a linguistic relationship between the words “Assyria” and “Syria” أي: (نقاش حول اذا كان هناك علاقة لغوية بين الكلمات "آشور" و"سوريا"). لذلك لا يجوز اعطاء اي بعد آخر لهذا الموضوع غير البعد اللغوي linguistic relationship الذي يتناول اشتقاق اسم سوريا من آشور وليس انحدار شعب من آخر.
 لكن البعض من الذين يجهلون تاريخ السريان "الصحيح" يستغلون "موضوع اشتقاق الاسماء" هذا ويعطونه بعداً غير بعده اللغوي الذي يشمله، ويدّعون قائلين "اذا كانت لفظة سريان تأتي من آشور فهذا يعني ان السريان يأتون من الاشوريين"، وبقناعتهم البسيطة هذه والمبنية على افتراض خاطىء يضعون انفسهم على نقيض من ابحاث العلماء عن أصل السريان وتاريخهم من جهة، ومن كتابات العلماء السريان القدماء من جهة اخرى.

 ان اشتقاق لفظة "سريان" شيء وموضوع اصل الشعب "السرياني" شيء آخر. فاذا كانت لفظة "سريان" مشتقة من "آشور" فليس من الضروري ان يكون الشعب السرياني منحدراً من الشعب الاشوري، والعكس صحيح. والرأي السائد بين علماء التاريخ السرياني هو ان السريان ينحدرون من الآراميين. فعلى سبيل المثال نستشهد بأحد كبار المستشرقين العلامة الألماني ثيودور نولدِكِه  (1836-1930) حيث كتب ان لفظة "سريان" مشتقة من "آشور" لكنه في نفس الوقت كتب بان السريان هم من الآراميين (انظر كتابه Compendious Syriac Grammar، صفحة 32). وفي بحثه الهام عن الموضوع كتب نولدكه: "ان غالبية سكان المناطق الممتدة من البحر المتوسط الى ما وراء نهر دجلة كانوا آراميين"
(أنظر بحثه الالماني: "Assurios Surios Suros" المنشور في:
( Zeitschrift für klassische Philologie, Berlin 1871, page 460)

منذ القرن القرن السابع ولغاية الرابع قبل الميلاد استعمل اليونانيون التعبيرين "آشور" و "سوريا" بشكل مشوّش ومتداخل، حيث أطلقوا لفظة آشور على كل منطقة الهلال الخصيب وعلى شعوبها المتعددة. لكن الألفاظ "آشور/آشوري/آثوري" و "سوريا/سوري/سرياني" تطورت مع الزمن، واستقلت بعدئذ، وتبلور استعمالهما لاحقاً ليدل على منطقتين وشعبين وليس على شعب واحد. ومنذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد وخاصة بعد مجيء اليونانيين بقيادة اسكندر المكدوني للمنطقة وتوسع معلوماتهم عنها وعن شعوبها ، بدأت لفظة "سوري/سرياني" تأخذ طريقاً خاصاً لتطلق على الآراميين دون غيرهم فسميوا "بالسريان" ولغتهم "بالسريانية"، بينما كان الاشوريون يُسمون بالآشوريين وليس بالسريان لغاية سقوط دولتهم المقتدرة في بداية القرن السابع قبل الميلاد، ولم يكتب أحد من الكتاب القدماء المعاصرين حينها بان دولة آشور كانت دولة سريانية. وهناك اثباتات من القرون الثلاثة قبل الميلاد عن ترابط الاسم السرياني بالارامي وتلاحمهما وترادفهما.
 وبعد سقوط دولة آشور وزوالها اخذت بقايا الشعب الآشوري تذوب ضمن الآراميين الذين كانوا يتميزون بين كل الشعوب السامية بكثرة عددهم وانتشارهم الكبير في كل منطقة "الهلال الخصيب"..

عشـيـة سـقـوط آشــور:

لكن قبل سقوط آشور بحوالي عقدين من الزمن كانت هذه الدولة العظمى تسير ببطىء نحو نهايتها التراجيدية المؤلمة بسبب ما كانت تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات وقلاقل. وكان لاضعاف آشور اسبابه الخارجية والداخلية، ومن الاسباب الخارجية: الاحداث الكبيرة التي أصابتها وأثرت عليها حيث تحررت مصر من نفوذ آشور (ثم اصبحت حليفة الآشوريين بعدئذ)، وثارت بابل بزعامة نابوبلاصر القائد الكلداني الآرامي، وانسلخت فلسطين عن الامبراطورية الاشورية، كما رفضت فينيقيا الخضوع لسيطرتها، واستقل الميديون عنها وأخدوا يحضرون انفسهم لشن هجوم كاسح على آشور.
ومن الاسباب الداخلية القوية كان سياسة الاشوريين في تهجير الشعوب المغلوبة وخاصة من الاراميين واسكانهم في العواصم الاشورية ضمن المثلث الاشوري، ان هذه السياسة أضعفت هذه الدولة وغيّرت من خريطة الوضع السكاني فيها لأن الاراميين المهجّرين كانوا قد اصبحوا باعداد كبيرة في قلب آشور.
وكانت اللغة الارامية التي بدأت تتغلغل الى العواصم الاشورية من أهم العوامل التي ساهمت في اسقاط آشور. ان دولة آشور في المئة السنة الاخيرة من عمرها قبل سقوطها وزوالها استعملت اللغة الارامية ايضا في وثائقها الى جانب لغتها الاشورية (الاكادية)، وفرضت الارامية نفسها فاضطر الاشوريون اليها لان الكثير من المواطنين في آشور ونينوى كانوا آراميين. وبسبب كثرة الاراميين الذين رحَّلهم الاشوريون من المناطق الآرامية المحتلة واسكنوهم في عواصم آشور "أصبح قلب آشور شبه آرامي Semi Aramean" على حد قول علماء الاشوريات ( انظر مثلا البحث الهام: "كيف اصبحت آشور آراميةً" The Aramaization of Assyria المنشور في المجلد "مسوبوتاميا وجيرانها" Mesopotamien und seine Nachbarn, p. 450
ان ازدياد انتشار الارامية في آشور ادى الى تقوية الجانب الارامي اللغوي والثقافي وأضعف الهوية الاشورية، وهذا يعني ان جزءأً هاماً من الهوية الآشورية أصبح آرامياً، مما سهّل ذوبان الاشوريين في الهوية الارامية والمحيط الارامي بعد سقوط آشور بفترة قصيرة. وقد ذهب بعض العلماء ابعد من ذلك ليقولوا بانه ينغي تسمية الدولة الاشورية في هذه المرحلة بانها "دولة آشورية آرامية مشتركة" لكثرة الاراميين فيها وكثرتهم في الاشتغال في الإدارة وتسيير دفة الدولة الاشورية، ولفرض لغتهم على آشور. وكان بعض الملوك الآشوريين متزوجين من نساء آراميات، والبعض كانت والداتهم آراميات مثل اسرحدون.

سـقـوط آشــور:

وأعلن البابليون والميديون الحرب على آشور ليس لاخضاعها سياسياً بل لتحطيمها نهائياً كما دلت اعمالهم الوحشية الفظيعة ضدها لاحقاً. واستطاع القائد الكلداني "نابوبلاصر" ان يربح المعركة الاولى مع آشور عام 616 قبل الميلاد إلا انه اضطر الى التراجع بعد وصول الجيش المصري حليف آشور، ثم قام بهجوم آخر في السنة التالية لكنه مُني بالفشل. وفي عام 614 نجح "كيأخسار" ملك الميديين باحتلال العاصمة آشور (وهي المرة الاولى في التاريخ حيث تقع عاصمة آشورية بيد المحتلين)،  فانتشر الرعب بين الاهالي وارتكب الجنود الميديون اعمالاً فظيعة إذ نهبوا المدينة الجميلة وارتكبوا المجازر المروعة بحق الاشوريين واقتادوا من تبقى منهم وباعوهم كالعبيد بعد ان "خربوا المدينة عن بكرة ابيها" كما تذكر المصادر. لكن ظلت نينوى بشموخها صامدة أمام ضربات الاعداء تنتظر مصيرها الاسود، (لمدينة نينوى علاقة مباشرة مع انبياء العهد القديم مثل النبي يونان الذي ارسله الرب ليعظ النينويين، ومن هنا يأتي صوم نينوى ܒܥܘܬܐ ܕܢܝܢܘ̈ܝܐ والموجود عند جميع الطوائف السريانية وعند الارمن والاقباط والحبش، والثاني هو ناحوم الألقوشي الذي تنبأ عن سقوطها، كما هناك ثلاثة أنبياء آخرون حزقيال ودانيال وعزرا لهما علاقة مباشرة مع بابل). وشنّ نابوبلاصر الكلداني وكيأخسار الميدي عام 612  هجومهم الكاسح على نينوى وحاصروها، فاستنجد الاشوريون بالاسقوثيين، غير ان الاسقوثيين انضموا الى جيش كيأخسار الميدي لأنه وعدهم بالمزيد من الغنائم والاسلاب. وبعد حصار حوالي الشهرين في صيف عام 612 سقطت نينوى بيد الاعداء فاهتز العالم القديم لسقوطها. وتفشى فيها الذعر وعمت الفوضى ودمّروا المدينة وحوّلوها الى "أكداس من الخراب" كما جاء في سجل الاحداث البابلية، وتعرضت هذه المدينة الجميلة الى ابشع انواع النهب والسلب والحرق والقتل والمجازر بحق الاشوريين فسارت فيها الدماء في الطرقات وتحولت الى خراب ينعق فيها البوم. وكان البعض من الاشوريين قد هربوا الى حران ليتحصنوا بها، فشنّ عليهم نابوبلاصر الكلداني هجوما فسحقهم وارتكب بحقهم اعمالا وحشية فظيعة. وهكذا أفل نجم دولة آشور فسقطت وزالت عن الوجود للأبد. وأما البعض من شعبها الذي خلص من القتل والمجازر فأخذ يذوب تدريجياً ضمن الاراميين بفضل اللغة الآرامية التي كانت في آشور، وبعد مرور ردحة من الزمن لم يبقَ هناك من يسمي نفسه "آشورياً" أو ينتمي للآشوريين اثنياً وقومياً، لقد اصبح الجميع "آراميين" لغوياً وثقافيا وقومياً.
لقد زالت آشور لكن أخبارها بقيت في ذكريات الشعوب وذاكرتها. وقد كتب الكاتب التوراتي العراقي ناحوم الألقوشي نبوةَ عن سقوط نينوى، وربما شاهد ذلك بعينه، فوصف الحرب المروعة على آشور وسقوط نينوى وتحولها الى مستنقع للدم بطريقة شعرية بقوله :
"خيلٌ تخب ومركبات تقفز، وفرسان تنهض، ولهيب السيف وبريق الرمح، وكثرة جرحى ووفرة قتلى ولا نهاية للجثث، ويعثرون بجثثهم". ويسمي نينوى بعد سقوطها بانها اصبحت/ستصبح "مدينة الدماء"، ...
و ان ما بقي/سيبقى من نينوى بعد سقوطها على حد قوله هو " فراغٌ، وخلاءٌ، وخرابٌ، وقلبٌ ذائب".
فيتعجب هذا الكاتب من المصير المروع الذي تعرضت له هذه المدينة العظيمة الجميلة وما حل بشعبها من مجازر فظيعة فيقول: "أين مأوى الاسود ومرعى أشبال الاسود؟ اشبالكِ يأكلها السيف واقطع من الارض فرائسكِ (سفر ناحوم 3:1-3)"
 وبعد سقوط دولة آشور عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف الآراميين البابليين والميديين وانتهاء الدولة من الوجود، وزوال الشعب الاشوري بعد ان ذابت بقاياه ضمن الاراميين، استمر الاسم الاشوري  مستمراً في الاستعمال لدى جيرانهم الفرس والارمن واليونان يطلقونه على المنطقة الجغرافية التي كانت تضم مدينة "آشور" القديمة، لذلك فان مدينة الموصل القديمة تسمى بالسريانية "آثور" ܐܬܘܪ. ويطلقون هذا الاسم احياناً على اشخاص انحدروا من ذلك الاقليم بغض النظر عن قوميتهم، لكن سكان جنوب ووسط العراق حينها كانوا يسمون انفسهم "آراميين" ويسمون معظم منطقة وسط العراق وجنوبه ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" (اي وطن الآراميين أو بلاد الآراميين).
ثم سقطت بابل الكلدانية الآرامية بدورها بيد الفرس الاخمينيين عام 539 قبل الميلاد، وكان الاخمينيون قد قسموا امبراطوريتهم الى ولايات واستعملوا الاسم الاشوري لتسمية احدى الولايات فأعطوا حياة جديدة لهذا الاسم. وكان "العراق الحالي" قد أصبح جزءاً من الدول الفارسية التي تتالت على المنطقة لغاية مجيء العرب في القرن السابع الميلادي باستثاء بعض المراحل القليلة التي حكم فيها اليونانيون. بينما تأسست بعض الدويلات والامارات الارامية في شمال العراق وجنوبه وعاشت في القرون الاولى قبل وبعد الميلاد.
 وفي المرحلة المسيحية كان العراق يشكل جزأً من الدولة الفارسية، وكانت المنطقة حوالي مدينة الموصل المسماة بالسريانية ܐܬܘܪ "آثور" والواقعة الى الشمال من اقليم  ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "بيث آرامايى" ( بلاد الآراميين) تضم إمارة فارسية اشتهرت لدى السريان بسبب قصة اعتناق ابناء حاكمها الفارسي، الامير  بهنام واخته الاميرة سارة، الديانة المسيحية على أثر شفاء الاميرة سارة على يد القديس مار متى الشيخ، فأمر والدهما الملك الفارسي المدعو "سنحريب" بقتلهما في القرن الرابع الميلادي فاصبحا شهيدا الايمان المسيحي، (سنكتب لاحقاً عن سنحريب الفارسي المذكور في هذه الرواية بعد إخضاعها للنقد العلمي).

الدكتور أسعد صوما
(يتبع)

25
جائزة الأدب السرياني لعام 2009
 للشاعر بشير الطوري من بغداد


في الرابع والعشرين من تشرين الاول 2009 منحت رابطة الاكاديميين الآراميين جائزتها السنوية للادب الآرامي لشاعر السريانية الدكتور بشير الطوري من بغداد / العراق.
وقد جاء قرار لجنة جائزة آرام شارحاً بان "الشاعر السرياني بشير الطوري يقرض الشعر السرياني على الطريقة السريانية الكلاسيكية ويستعمل الاوزان الشعرية الدارجة، وان اغراضه الشعرية متنوعة تدور بشكل أخص عن مواضيع الحب وعشقه للسريانية وعن الاشواق والاحلام وعن والوطن. كما ان لغته السريانية جميلة للغاية ويتمكن من ناصيتها ويتلاعب في الفاظها فيمزج الواقع المؤلم بالماضي المجيد في صور شعرية جميلة فيخلق اثراً شعرياً طيباً يرتاح اليه القارىء؛ وهناك تأثير واضح لشعر يعقوب السروجي وابن العبري على شعر بشير الطوري مما اكسب شعره غنى وأصالة". ومن خلال شعره يسد فراغاً قاتلاً في أدبنا المعاصر لأنه يكتب بالسريانية (الفصحى) على عكس الكثيرين من الشعراء السريان العراقيين الذين يكتبون بالارامية المحكية (السورث) والكثير منهم لا يتقنون السريانية.

لقد أصدر الشاعر بشير الطوري ديوانين من الشعر السرياني باللغة السريانية الفصحى: يسمى الاول ܓــܠܠــܝ̈  ܫܦܪܐ  (أمواج السَحَر)، منشورات المجمع العلمي العراقي في بغداد 2003، وصدر ديوانه الثاني حديثاً بعنوان ܥܘܩܣܝ̈ ܢܝܫܐ (مناخس الالم) 2009. 

وتثمن لجنة الجائزة اعمال الشاعر الثقافية إذ بالاضافة لاعماله الشعرية يقوم الدكتور بشير الطوري بتدريس السريانية في جامعة بغداد، ويناضل لاجل تثبيتها وارتقائها في جو مليء بالمصاعب، كما انه عضو في الهيئة السريانية المنبثقة من المجمع العلمي العراقي، وله مجموعة من الاعمال الادبية واللغوية السريانية المنشورة؛ وكما يشتهر بحبه العظيم لهذه اللغة وغيرته اللامتناهية عليها لنصرتها ورفع شأنها.

تُمنح جائزة آرام للادب الآرامي سنويا للكتّاب الذين يؤلفون وينتجون أدباً في احد فروع اللغة الآرامية وخاصة السريانية (الفصحى)، ولهم اعمالاً ادبية مطبوعة.

وقد مُنحت جائزة آرام سابقاً للادباء والشعراء التالية اسماؤهم:

1. مؤتمر السريانيات في جامعة كامبرديج (بريطانيا) 1992.
2. الشاعر الكبير الاب كوريان كَنيابرامبيل من الكنيسة السريانية الارثوذكسية كيرالا (الهند) 1993.
3. الشاعر الكبير دنحو (غطاس) مقدسي الياس، ساوباولو (البرازيل) 1994.
4. مؤتمر التراث السرياني في بيروت 1995.
5. الشاعر الاب ب. ك. فاركيس من الكنيسة النسطورية في كيرالا (الهند) 1996.
6. الشاعر الاب برصوم أيوب والاديب أبروهوم نورو من حلب (سوريا) 1997.
7. الشاعر الأب عمانوئيل ثلي من الكنيسة الكلدانية في كيرالا (الهند) 1998.
8. الاديب والباحث الاب البير ابونا من الكنيسة الكلدانية، بغداد (العراق) 1999.
9. الشاعر والاديب يوحانون قاشيشو من سودرتاليا ( السويد) 2000.
10. الشاعر والاديب أوكين بولس من رود آيلاند (أميركا) 2001.
11. الاديب والمترجم الى السريانية (الراهب بعدئذ) يوحانون سوان من سودرتاليا (السويد) 2002.
12. الاديب والناسخ السرياني المطران يوليوس يشوع جيجك من هولندا 2003.
13. الاديب ومعلم آرامية معلولة جورج رزق الله من معلولا (سوريا) 2004.
14. الشاعر المطران افرام بولس من بيروت (لبنان) 2005.
15. الشاعر المخضرم الاب يوسف سعيد من سودرتاليا (السويد)، 2006.
16. الشاعر والاديب المطران اسحق ساكا من برطلة (العراق) 2007.
17. الشاعر الدكتور يوسف متى اسحق من ستوكهولم (السويد) 2008.

مع أحر التهاني للشاعر بشير الطورلي لنيله جائزة آرام التقديرية لهذا العام.

عن لجنة الجائزة
الدكتور أسعد صوما
24 تشرين الاول 2009


26

آراء حول أصل كلمة "سريان"

الدكتور: أسعد صوما
 ستوكهولم


تمهيد:

((فجّر مؤخراً قرار برلمان اقليم كردستان بخصوص تسمية شعبنا فيضاً يومياً من الكتابات المتدفقة في المواقع الالكترونية وخاصة في عنكاوا (اسم بلدة عنكاوا القديم في السريانية هو عمكاباد) تتناول موضوع تسمية شعبنا في شمال العراق. وأدلى كل كاتب بدلوه في الموضوع محبة منه بان يقدم مساهمة تدل على وجهة نظره الشخصية أو الحزبية، معتقداً ان ما يقدمه قد يكون الحل الافضل والانفع. فهذا يؤمن بالتسمية الكلدانية أو الآشورية وذاك بالسريانية وآخر بالكلدانية والسريانية والاشورية، وغيره بالآرامية. ولتوضيح التسميات السريانية والآشورية والكلدانية والآرامية وتاريخها وملابساتها سأقوم بنشر بعض المقالات عن الموضوع كمحاولة متواضعة لتوضيحها مستعرضاً تاريخ ظهورها ومعانيها. راجين من القارىء الكريم ان يقرأها بهدوء وروية للاستفادة منها. ان هدفنا من نشر هذه الدراسة هو إنارة الطريق امام اخوتنا من المشاركين في النقاش وكذلك اخوتنا اصحاب القرار والنفوذ ليساعدهم في اتخاذ القرارات الصحيحة.))

وهنا نطرح الاسئلة لنجيب عنها تباعاً:
- متى ظهرت التسميات السريانية الكلدانية والاشورية؟
- ما هو أصل "السورايى" اي السريان؟
- هل تسمية سرياني مشتقة من آشوري؟
- هل السرياني آشوري أم الاشوري سرياني؟
وكي نعالج هذه النقاط الهامة قمنا بدراسة معظم الابحاث الجادة عن الموضوع. وسنقدم  في النهاية الاجوبة المنطقية والحلول المفيدة مستندين بالدرجة الاولى على كتابات اجدادنا السريان في تحديد هويتهم.
نبداً مقالنا بالبحث عن اصل تسمية سريان (ܣܘܪܝܝܐ) وعلاقتها بالتسمية الاشورية.

1.   آراء مختلفة حول أصل كلمة "سريان":

ان تعابير "سريان" Syrian و"سوريا" Syria مترابطة ومتلاحمة، والواحد مشتق من الآخر، كما ان لفطة "آشور" ايضاً متداخلة معهم. وحينما نذكر لفظة "سريان" فاننا نقصد بها جميع شعب "السورايى" Suraye/Suryaye بمختلف فرقه ونحله، وعندما نبحث عن جذر لفظة "سوريا" فان هذا يمس لفظة "سريان" ايضاً.
ان تعابير "سوريا" و "سريان" قديمة منذ حوالي 2500 سنة، كما انها ظهرت لدى اليونانيين القدماء قبل السريان، ويبدو ان السريان تعلموها منهم واستعملوها بعد قرون من ظهورها.
هناك عدة آراء حول أصل تسمية "سوريا" و "سريان" حاول اصحابها شرح هذه الالفاظ ومصدر اشتقاقها اللغوي.
ومنذ أكثر من مائة سنة هناك نقاش بين العلماء حول هذه التسمية، فبينما أجمع السريان القدماء باشتقاق لفظة "سوريا" من "سيروس"، رفض الغربيون هذا الاشتقاق؛ ففي العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر كتب المستشرق الالماني الكبير "نولدكه" عن اشتقاقها من آشور، لكن عالم الدراسات الآرامية الكبير "فرانس روزنثال" رفض فكرة اشتقاقها من آشور؛ ثم كتب الباحث "شفارتس" وقال ايضاً باشتقاقها من آشور، فقام بعده الباحث "تفندتس" ورفض اشتقاقها من آشور وقال باشتقاقها من "سوري" المصرية، وبعده بحوالي عشر سنوات كتب الباحث "فراي" وجدد فكرة اشتقاقها من آشور، فقام بعده البرفسور جون جوزف المتخصص بالسريان النساطرة ونقض نتائج "فراي" مشككاً في هذا الاشتقاق؛ ومؤخراً كتب الباحث "رولينغر" في الموضوع مركزاً على اشتقاق لفظة "سوريا" من "آشور".
وهنا نستعرض باختصار شديد الاراء الدارجة حول اشتقاق اسم "سريان".

أولاً: ان العلماء السريان القدماء شرقيين (نساطرة) وغربيين (يعاقبة وروم) أجمعوا على ان اسم "سوريا" مشتق من اسم ملك "آرامي" قديم اسمه Syros "سورس/سيروس" حكم المنطقة فتسمت باسمه ومنها اشتقت لفظة "سريان"؛ ومن الكتاب السريان القدماء الذين قالوا بهذا الرأي نذكر مثلاً إيشوع برعلي السرياني النسطوري (القرن التاسع) في قاموسه السرياني الشهير، طبعة غوتهايل 1908 روما، الجزء الثاني والقسم الاول صفحة 155؛ وأغابيوس قسطنطين السرياني الملكي (القرن التاسع) في "كتاب العنوان" طبعة اليسوعيين 1907، صفحة 26 )؛ ؛ وابن الصليبي السرياني اليعقوبي (القرن الثاني عشر) في كتابه "الجدال" الفصل 14.  ان الكنّاب السريان القدماء نقلوا هذا الرأي عن الكتّاب اليونانين القدماء الذين قالوا بهذه المقولة.

  ثانياً:  عام 1862 كتب البرفسور جورج رولينصون (1812-1902) وهو من مؤسسي علم الاشوريات، (وهو الشقيق الاصغر ل هنري رولنصون الذي نجح في فك رموز الكتابة المسمارية فسُمي "أبو الاشوريات")، كتب في تاريخه الموسوعي الضخم، ج 4، 52) ان اسم سوريا مشتق من اسم مدينة ܨܘܪ "صور" Sur اللبنانية (انظر ايضاً Smith’s Bible Dictionary, page 669.) فتبعه البعض بهذا الرأي. وربط آخرون هذا الرأي بالمسيحية لمرور تلاميذ المسيح بمدينة صور (سفر الاعمال 21:3-7)، فقيل عنهم بالسريانية صورايى/سورايى (Suraye/Suroye) اي مسيحيين، وكل من تبعهم وانضم الى الدين الجديد سُمى ايضاً بهذا الاسم ܨܘܪ̈ܝܐ "صورويى/صورايى/سورايى" اي مسيحي، (لا زال سريان طور عابدين يطلقون بلهجتهم الارامية المحكية لفظة ܨܘܪ̈ܝܐ "صوروية" على المسيحيين قاطبة).

ثالثاً: كتب الباحث وينكلر ان اسم "سوريا" مشتق من "سور" Sur  (يلفظ ايضاً Sura  و Suri) الذي كان اسم إله الشمس في الاناضول. (أنظر تعليقه على لفظة "سوري" suri المنشور عام 1907)؛ وكذلك لمّح هوكينز في بحثه Assyrians and Hittites  المنشور في مجلة العراق Iraq العدد 36 لعام 1974؛ (حاشية 6، صفحة 68) وكذلك كان قد كتب الباحث شتراسماير 1884.

 رابعاً: أرجعَ بعض العلماء أصل تسمية سوريا وسريان الى "آشور"، وقالوا بانها صيغة متطورة منها؛ ومنهم على سبيل المثال الباحث إدوارد شفارتز الذي كتب عام 1932 ان اسم سوريا مشتق من اسم آشور Ashshur (انظر بحثه الالماني ("حول آشور وسوريا"، المنشور في  Philologus  العدد 87 لعام 1932، الصفحات 261-263).

خامساً: نشر الباحث جون تفدتنس مقالاً بالانكليزية بعنوان "أصل اسم سوريا" نشره في (Journal of Near Eastern Studies) العدد 40 عام 1981، صفحات 139-140) ذكر فيه بانه لا علاقة للالفاظ "آشور" و"سوريا" ببعضها البعض. ويرى تفدتنس ان أصل تسمية سوريا وسريان يعود الى  لفظة Suri "سوري" المصرية، والتي كان المصريون القدماء يطلقونها بلغتهم على الحوريين في شمال سوريا  في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ثم اصبحت المنطقة تسمى باسمهم فسميت "سوريا".

كما هناك آراء أخرى عن الموضوع مثل اشتقاق سوريا Syria من Sirion "سيريون" المذكورة في الكتاب المقدس (تثنية الاشتراع 9:3 حيث وردَ: "الصيدونيون يدعون حرمون سيريون")، أو اشتقاقها من "سوبرتو" الاكادية، أو من "سوري" الآرامية وغيرها؛ كما ان لكل رأي من هذه الاراء اصحابه وأنصاره، وان البحوث التي تظهر من وقت لآخر عن التسمية تدعم هذا الرأي أو ذاك.

الدكتور اسعد صوما
(يتبع الجزء الثاني)


27
تعليق على مقالتي حول تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم / السويد

منذ أن بدأت بنشر اجزاء مقالتي " لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية" اخذت تردني بعض الرسائل الالكترونية من الاخوة القرّاء، منهم  يشكرونني على المقال والموضوع ويقدمون اقتراحات مفيدة، ومنهم من طلب ان اتابع الكتابة عن تاريخ الكنيسة لغاية اليوم، ومنهم من اقترح ان اطبع هذا المقال ككتاب، ومنهم من كتب مستأذناً ان ينسخ المقال على الورق ليوزعه على اصحابه،  كما وصلتني رسالة غريبة جداً من أحد الاخوة يتهجم ويشتم ويتهمني بانني زوّرت اسم الكنيسة لأنني سميت الكنيسة "سريانية" ولم اسميها "آشورية"، ومنهم من أقترح ان يبقى المقال لفترة اطول في الصفحة الرئيسية من الموقع.

 انني اشكر كل من كتب الي، وهذا ان إن دلّ على شيء فانه يدلُ على اهتمام افراد شعبنا بمؤسسته العريقة وتاريخها، اي الكنيسة، وهذا مفرح للغاية لان تاريخنا وتراثنا المدون مرتبط بالكنيسة بشكل عضوي، وان الكنيسة كانت خلال تاريخها الطويل المحور الذي دار حوله اهتمام شعبنا ونشاطه وابداعاته الثقافية واللغوية. فان ارادت فرق شعبنا العديدة اليوم ان تمد يدها لبعضها لتتقارب وتعمل سوية لأجل مستقبل أفضل، فما عليها إلا اكتشاف الاصل المشترك والتاريخ والتراث المشترك، وكل هذا موجود في تاريخ الكنيسة فقط ويتمكن منه رجالات كنائسنا لكن يجهله معظم العلمانيين من السريان.

ان دراسة تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية قبل انقسامها يفيد دون شك على اظهار حقيقة التاريخ والتراث الجامع لابناء هذه الكنيسة الذين ينتمون اليوم الى ثلاث كنائس متنازعة حيث ان اعرقها حفاظاً على التقاليد القديمة اصبحت أصغرها وربما أضعفها اليوم.

لقد انهيتُ سلسلة مقالاتي حول تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية وتوقفت عند القرن الخاس عشر. فلغاية هذا التاريخ كانت هذه الكنيسة كنيسة واحدة متحدة تحت سلطة بطريرك واحد قبل ان تنقسم على بعضها وتتحول الى كما هي عليه اليوم ثلاث كنائس مستقلة وهي: كنيسة المشرق القديمة (النسطورية) تحت سلطة البطريرك مار ادى، والكنيسة الكلدانية (الكاثوليكية) تحت سلطة البطريرك مار عمانوئيل دلي، وكنيسة المشرق الاشورية (النسطورية) تحت سلطة البطريرك مار دنخا.
كان هدفي من عدم الكتابة عن الكنيسة بعد القرن الخامس عشر هو إظهار بعض الجوانب الهامة من تاريخ هذه الكنيسة لما كانت واحدة، وكذلك كي يعلم الذين لا يعلمون بان آباء هذه الكنائس كانوا سابقاً عضواً واحدا قبل ان يتفرقوا. فعسى أن يستمد القارىء روحاً وحدوية للتعاون بين افراد هذه الكنائس مع احترام خصوصيات كل منها.

وللرد على بعض رسائل الاخوة القراء وأقتراحاتهم أقول:
1. اقترحَ البعض طباعة المقال بشكل كتاب، ان كان أحد ما او مؤسسة ما ترغب في طباعة المقال بشكل كتاب فانا مستعد لتقديمه هدية لها دون اي مقابل، وحينها سأضيف اليه كل المصادر والحواشي التي لم أذكرها في المقال.

2. البعض سأل عن المصادر. انني تعمدت ان لا أنشر مصادر البحث لأسباب منها تقنية لعدم إثقال المقال بها وتعجيز القارىء العادي وتشريد ذهنه.

3. أما عن تسمية الكنيسة ولماذا استعملنا تسمية سريان، أقول ان اسم هذه الكنيسة في الاوساط الاكاديمية المتخصصة هو "الكنيسة السريانية الشرقية". وفي الفترة التي كتبتُ عنها لم تكن الكنيسة الكلدانية قد تأسست بعد، كما لم تكن التسمية الآشورية قد ظهرت بعد. ومن الخطأ الفادح ان نسمي الكنيسة قبل القرن الخامس عشر بالكنيسة الكلدانية أو الكنيسة الاشورية. فبدايات الكنيسة الكلدانية هل منذ اعتناق البعض المذهب الكاثوليكي ورسامة سولاقا بطريركا كاثوليكيا عام 1553 تحت سلطة بابا روما. كما لا يصح تسمية هذه الكنيسة بالاشورية لأنها لم تحمل هذا الاسم خلال تاريخها، وكما يعلم جميع الاخوة بان الكنيسة "الاشورية" تبنت الاسم الاشوري قبل عدة سنوات فقط اثناء فترة رئاسة البطريرك مار دنخا الجالس سعيداً. كما ان هذا الاسم اصبح عامل تفرقة ابعدها عن شقيقتها "كنيسة المشرق" التي احتفظت بالاسم التقليدي. فلا يجوز مثلاً تسمية الكنيسة في القرن العاشر "بالكنيسة الاشورية" كما لا يجوز مثلاً تسمية البطريرك السرياني النسطوري يشوعياب الثاني (القرن السابع) بالآشوري، فلو فعلنا ذلك فسنقع في خطأً زمني، لأنه في زمن يشوعياب لم يكن هناك تسمية "آشوريين". انما نسمي هذه الكنيسة بالاشورية منذ أن بدأت تسمي نفسها بهذا الاسم وليس قبل ذلك.

4. رسالة واحدة سلبية. لقد استغربت فعلاً من هذا الشخص الذي تهجم دون اي سبب. فهو دون شك انسان جاهل لا يعرف تاريخه وتاريخ شعبه وتاريخ تسمية كنيسته، فلو كان لديه معرفة قليلة بالتاريخ لندم عما كتب لنا.

5. سأل احد الاخوة لماذا لا يتم ابقاء المقال فترة أطول في الصفحة الرئيسية من موقع عنكاوا ليتسنى لجميع الاخوة مطالعته. اننا نوافق مع الاخ الذي قدم سؤاله واقتراحه، إذ لا يجوز معاملة البحوث عن شعبنا كبقية المقالات السياسية والاجتماعية، لأن البحث مفيد كلما عدنا اليه لذلك يجب ان يكون متوفراً ومرئياً امام الجميع وان يمكث في الصفحة الرئيسية لفرة أطول من بقية المقالات. ان تحضير اي بحث يحتاج الى الكثير من الوقت والى قراءة العديد من المراجع والمصادر، بينما قد تستغرق كتابة اية مقالة عادية حوالي نصف ساعة تقريباً.

وحدة كنائسنا: وفي النهاية نتمنى ان نرى وحدة لفريقي الكنيسة النسطورية وعودتهما للاصالة والتقليد المشترك، ونتمنى من ثم ان نراها متحدة مع الكنيسة الكلدانية، وان تسمي نفسها "الكنيسة السريانية الشرقية المتحدة". كما اننا نتمنى وحدة الكنيستين السريانية الارثوذكسية والسريانية الكاثوليكية. وشكراً.

والى اللقاء في مواضيع أخرى شيقة
الدكتور أسعد صوما


 

28
تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (الجزء الاخير)
(الجزء الحادي عشر والاخير)


الدكتور: اسعد صوما
ستوكهولم / السويد

عندما جلس أرغون على عرش الدولة الإيلخانية المغولية عام 1281 فكر في استعادة القدس من يد مماليك مصر المسلمين والقضاء عليهم. وكان المماليك قبل حولي الربع قرن قد وقفوا في وجه عساكر جده هولاكو وكسروها في فلسطين عام 1260 وقتلوا قائدها المسيحي النسطوري. وفكر أرغون في التحالف مع الفرنجة (الصليبيين) للحصول على مساعدة عسكرية لتحقيق هدفه، لكن وضع الفرنجة في الشرق كان ضعيفاً للغاية في مواقعهم على الشاطىء السوري الفلسطيني، وكانت نهايتهم في المنطقة تقترب. لذلك فكر بواسطة البطريرك ياهبالاها ܝܗܒܐܠܗܐ ان يرسل وفداً برئاسة صديقه ومعلمه الربّان صَوما ܪܒܢ ܨܘܡܐ الى اوروبا لطلب المساعدة من امرائها المسيحيين ومن بابا روما.
وانطلق الوفد المذكور عام 1287 محملاً بالرسائل والهدايا من أرغون الملك الى ملوك اوروبا ومن البطريرك ياهبالاها الى البابا، واستغرقت الرحلة حوالي السنة. وقد زار الربان صوما ووفده مدينة القسطنطينية وروما وباريس، الخ. وقام امبراطور القسطنطينية وملوك فرنسا وانكلترا والبابا نيقولا الرابع باستقبال الربان صوما خير استقبال. إلاً ان رحلته هذه لم تسفر عن اية مساعدة عسكرية أوروبية للمغول لأن أوروبا لم تستجب لفكرة المغول في القضاء على المماليك وانتزاع القدس من المسلمين، وبذلك فشل المشروع الهام الذي خطط له كل من القائدين المغوليين: الملك أرغون والبطريرك ياهبالاها.

وبحلول الوفد في اوروبا كان قد جرى نقاش لاهوتي بين الربان صوما ورجال الكنيسة الكاثوليكية، حيث ورد في قصة الربان صوما والبطريرك ياهبالاها عبارة "عقيدته الانطاكية". والحقيقة ان عقيدته كانت "نسطورية" حيث كانت في نظر الكنيسة الكاثوليكية عقيدة "هرطوقية" مرفوضة. ولأن البابا نيقولا الرابع كان يأمل في حمل الربان صوما على اعتناق الكثلكة، ومن ثم ان تعتنقها كنيسته السريانية الشرقية النسطورية برمتها، فانه لم يعامل الربان صوما على انه "هرطوقي"، بل جامله وشاركه في خدمة القداس وتناول صوما القربان من يد البابا نفسه. وأخيراً ولأجل تشجيعهم على الانضمام الى الكنسية الرومانية، أرسل البابا الى البطريرك ياهبالاها هدايا ثمينة وفرماناً يمنح فيه ياهبالاها البراءة في ممارسة سلطته البطريركية على كل ابناء المشرق وكأنه تابع له. بينما لم تكن للبابا بالواقع اية علاقة أو سلطة على المسيحيين المشرقيين. يقول أحد كبار المؤرخين الكنسيين المعاصرين "ان هدف البابا الوحيد آنذاك كان ربط مختلف الكنائس الشرقية بالكنيسة الكاثوليكية وتحت سلطته، لذلك لم يهتم لمشروع التحالف العسكري الذي طرحة الخان أرغون، إنما انصبّ اهتمامه فقط على تحويل الكنيسة السريانية النسطورية الى المذهب الكاثوليكي. ولما كان البطريرك ياهبالاها على درجة من الذكاء فانه استجاب الى طلب البابا، لكن بعد ست عشرة سنة، إذ ارسل وثيقة ايمانه الى روما وتجنّب فيها ذكر الصيغ المخالفة للعقيدة الكاثوليكية مع اعترافه بسيادة البابا على جميع الشعب المسيحي قاطبة في كل مكان. غير ان هذا لم يؤدِ الى اي نوع من الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية، رغم ان ياهبالاها كان على أتم الاستعداد لربط كنيسته بالكنيسة الكاثوليكية وتمتين الروابط بينهما عساه أن ينال الدعم والحماية من أوروبا المسيحية.

كان مركز البطريركية الرسمي في بغداد، لكن ياهبالاها نقله الى مراغة حيث مركز الدولة الإيلخانية المغولية ليكون قريباً من ملوك المغول وبحمايتهم. وبنى هنالك كنيستين ومقراً بطريركياً فخماً لاستقبال ملوك المغول عند قدومهم لزيارته.

لكن الاوضاع بدأت تتدهور بالنسبة للبطريرك بعد فشل وفده الى اوروبا، إذ توفي والده الروحي وصديقه الربان صوما عام 1294، وكانت تلك ضربة قاصمة لياهبالاها عانى منها الكثير. وفي السنة التالية تبدأ حركات تمرد بين المغول والمسلمين تهزّ الدولة الايلخانية المغولية التي اصبح المسلمون يشكلون فيها قوة كبيرة حيث أخذ الاسلام بالانتشار السريع بين الشعب المغولي واعتنقه الكثير منهم، فأصبح هناك هوّة دينية كبيرة تُبعد بين الشعب المغولي وملوكه.
وُقتل الايلخان "غياختو" صديق المسيحيين، ولم يستمر خليفته على العرش أكثر من عدة أشهر ليخلفه أخيراً غازان ابن أرغون الذي أضطر الى الاعترف بالاسلام رسمياً كدين للدولة. فانتهز حينها مسلمو فارس الفرصة مستغلين الوضع الجديد الناشىء عن اسلمة ملكهم وبدأوا بمهاجمة المسيحيين وقتلهم عشوائيا دون اي سبب، ودمّروا الكثير من كنائسهم وحولوا بعضها الى جوامع، واقتحموا دار البطريركية في مراغة ونهبوها، واشبعوا البطريرك تعذيباً بعد نهب كل محتويات كنسيته. لكن رغم ذلك كله وبعد عودة الهدوء استطاع ياهبالاها من اتمام بناء دير كبير في مراغة وآخر في أربيل، لكن بعد انتهاء البناء مباشرة قام المسلمون بهدم الدير في اربيل.

وأصبحت الكنيسة في الشرق الاوسط منذ عام  1300، على حد قول المؤرخين الكنسيين، "كنيسة شعب لاحقته الاضطهادات والهجمات والنهب بشكل مستمر". واصبح بطريرك الكنيسة السريانية الشرقية مضطهداً، هارباً، غير مرغوب فيه من قبل المغول كما كان سابقاً. إلا ان خيبة الامل الكبرى التي تلقاها ياهبالاها كانت عندما اعتنق الملك المغولي "أولجيتو" الاسلام وبدأ بمعاداة المسيحيين (وهو المسيحي في طفولته حيث عمّده ياهبالاها نفسه، وحين كان في مقتبل العمر كان يتردد لزيارة البطريرك باستمرار). وقام ياهبالاها مرة بزيارة أوليجيتو فاستقبله ببرودة وبمنتهى اللامبالاة، فندم البطريرك على زيارته تلك وقرر بانه لن يزور قصر الملك ثانية، وكشف حقيقة مُرة بانه في وضع لا يُحسد عليه. وفي السنوات الخمس الاخيرة من حياة البطريرك، انزوى من مصاعب الحياة وسكن في ديره في مراغة وهو يعاني من وضع المسيحيين القاهر، الى ان وافته المنية في 15 تشرين الثاني عام 1317، حيث دفن في ديره المذكور. وكان قد رسم خمسة وسبعين مطراناً لابرشياته الممتدة من طرسوس والقدس في الغرب الى جنوب الهند والصين في الشرق. وقد عاصر حكم ثماية من ملوك الدولة الايلخانية المغولية. ويمكن القول في النهاية ان عهد ياهبالاها شهد فترة التحوّل في تاريخ هذه الكنسية العظيمة من القوّة والعظمة الى الانحدار والافول.

اندحار الكنسية السريانية الشرقية في الشرق الاقصى والاوسط:

ان الوضع الجيّد الذي كان المغول قد قدموه للمسيحيين لم يستمر كثيراً، إذ انتهى بدخول المغول في الاسلام، وخاصة منذ الخان المغولي غازان 1295-1304 الذي أسلم واتخذ الاسلام ديناً لدولته، وبدأ في معاملة المسيحيين بشدّة، فقد انتزع من البطريرك ياهبالاها القصر الذي يقيم فيه في بغداد حيث كان هولاكو قد منحه هدية للبطاركة اثناء اقتحامه بغداد. فاعتنم عندئذ المسلمون العرب والاكراد الفرصة وقاموا على الفور يقتلون جيرانهم المسيحيين النساطرة المسالمين في 1295-1296. وأثناء حكم الخانات الذين أسلموا وخاصة أوليجيتو (1304-1316) وأبو زيد (او سعيد؟) (1316-1325)، حصلت مجازو مروعة بحق المسيحيين.

وشهد القرن الرابع عشر اضطهدات عنيفة ومجازر مروعة بحق المسيحيين في اماكن عدة: ففي مراغة دمرت الكنائس والاديرة، وكذلك في أربيل، وفي آمد (دياربكر) هجم المسلمون على المسيحيين بغتة وقتلوا اثني عشر ألفاً منهم وعذبوا المطران غريغوريوس الى ان مات، وأحرقوا كنيسة العذراء الرائعة عام 1317. ازاء هذه الاضطهادات والمجازر اخذت الكنيسة تضعف يومياً. وفي النهاية يقوم تيمورلنك (1396-1405) وهو المسلم المتعصب (وهو شبه مغولي من قبيلة برلاس التركية)، وينتزع العرش من اسياده المغول ويركز وضعه في سمرقند. ويعمل على سحق المسيحية كلياً، فيوجه ضربة قاضية حاسمة إلى المسيحيين في الشرق الاقصى والاوسط ويقتلهم بضراوة في كل من خراسان وجرجان ومزندران وسجستان وافغانستان والهند وفارس وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا وسوريا والرافدين.
وقد سببت اعماله البربرية الوحشية تلك موجة من الرعب والهلع في الشرق وفي آسيا الغربية بأجمعها، ومن هذه الاعمال بناء اهرامات من جماجم القتلى وجثثهم من خصومه بعد كل معركة، كما فعل حينما فتح بغداد عام 1394، إذ اقام هرماً من تسعين الف جمجمة وآخر في اصفهان من سبعة آلاف جمجمة  (لو صدقت هذه الارقام).

نهاية الكنيسة النسطورية في الشرق الاقصى وآسيا:

كان الطاغية تيمورلنك قد ادّعى بانه من واجبه كمسلم مؤمن ومخلص لاسلامه أن يقوم باضطهاد المسيحيين. لذلك وجه ضربة قاضية للمسيحية، فأباد المجتمعات المسيحية ودمّر الكنائس وقتل الرهبان (قبل حوالي خمس سنوات كنتُ قد ذهبتُ مع طلابي الذين يدرسون السريانية برحلة الى منطقة طورعابدين في جنوب شرق تركيا لزيارة الاديرة وآثار المنطقة بحثاً عن النقوش السريانية فيها. ففي قرية "حاح" السريانية شاهدنا بأم أعيننا آثار الكنائس الضخمة المدمرة والتي دمرتها منجنيقات تيمورلنغ اثناء زحفه على طور عابدين، حيث لا زالت اكوام حجارة الكنائس الخربة تشهد على بربرية هذا الوحش البشري، تيمورلنغ). فكان ان اندثرت الكنيسة السريانية الشرقية في معظم مراكزها في الشرق الاقصى نتيجة لتلك الاعمال الوحشية الفظيعة التي قام بها تيمورلنغ، والتي لم يسمع بمثلها من قبل، حتى ان الكنائس في سوريا والعراق ذاقت الامرين على يديه ايضاً.

ويوجه حفيده "أولوغ بك" الضربة القاضية الاخيرة للمسيحية في آسيا ويسحقها تماماً. فتختفي المسيحية السريانية كلياً من آسيا الوسطى حيث تموت الكنيسة السريانية هنالك بعد ان سجلت في التاريخ حركة تبشيرية عظيمة لا تضاهيها أية حركة مشابهة أخرى في القرون الوسطى. ولم تنجُ من الابادة إلاّ الكنيسة السريانية في الهند التي استطاعت أن تبقى على قيد الحياة لغاية اليوم.

ويبدو ان العامل الذي سهّل في زوال الكنيسة السريانية من آسيا الوسطى، كان الانتشار الجغرافي الواسع لرقعة امتداد الكنيسة الهائل حيث عمل على اضعاف الاتصال بين الابرشيات الموزعة في أنحاء الشرق الاقصى وبين مركز البطريركية، فانعدم الاتصال بالبعض وانقطعت الاخبار وانحلت هذه الابرشيات بفعل الضربات الثقيلة المتتالية عليها، واعتنق المسيحيون هناك الاسلام ليخلصوا. فعلى سبيل المثال ان الشعب الايغوري في الصين هو شعب مسلم اليوم،  لكنه كان مسيحياً سابقاً.
 ويلحق بهذا عامل آخر ساهم بدوره في اضعاف الكنيسة وهو المصاعب الجمة التي عانت منها قيادة الكنيسة في ادارة الشعوب المسيحية المتعددة المنضوية تحت قيادتها على اختلاف لغاتها وثقافاتها وعاداتها. كل هذا عمل على اضعاف الكنيسة كمؤسسة في دفاعها عن نفسها، بعد ان تخلى عنها حماتها المغول وانقلبوا عليها بعدئذ الى مضطهِدين؛ واصبحت هذه الكنيسة العريقة من ثم لقمة سائغة للاضطهادات والمجازر المتتالية على مدى العصور.
حتى ان الكنيسة في العراق ايضاً عانت جداً من الشدائد فتحولت بعدها الى كنيسة قائمة على رعاياها السريان فقط بعد التجائهم الى الجبال هرباً من المجازر المتلاحقة، وهم يشكلون اقلية مسيحية بين اغلبية مسلمة، بعد ان سجلت صفحة ناصعة في تاريخ المسيحية المشرقية.

الدكتور اسعد صوما
انتهى المقال

29
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 10)
(الجزء العاشر)

الدكتور: اسعد صوما
ستوكهولم / السويد


تحالف سرياني مغولي لأجل حماية السريان:

عندما توفي دنحا الاول بطريرك السريان النساطرة في شباط 1281، التأم مجمع اساقفة الكنيسة السريانية الشرقية لاختيار خلف له يرئس الطائفة والكنيسة معاً، فتباينت الاراء حول المرشحين.
كانت الكنيسة السريانية الشرقية كأخواتها الكنائس السريانية الثلاث الاخرى، أي السريان الارثوذكس والسريان الملكيين (الروم) والسريان الموارنة، تمر في أوضاع أمنية وسياسية صعبة في المنطقة. والسريان بشكل عام في الشرق الاوسط تصيبهم من وقت لاخر جملة شدائد واضطهادات اجتماعية وثقافية ودينية وقومية عنيفة فيعانون منها الكثير ويضطر البعض الى دخول الاسلام تخلصاً من الوضع المزدري أو حتى من القتل.
 فاين هو الخلاص؟ ومن هو ذلك القائد السرياني الفذ الذي يستطيع أن يحمل على كتفيه مطالب رعيته ليعمل على تحقيقها ويصون كنيسته وجماعته وتراثه الآرامي في ذلك الزمن الحالك؟ ويومذاك كانت منطقة الشرق الاوسط تحت وطأة قوى سياسية مختلفة وتعاني من حكم قبائل السلاجقة الاتراك، والايوبيين الاكراد، والمماليك التركمان، اما الساحل الشرقي من البحر المتوسط فكان بيد الفرنجة (الصليبيين؛ ملاحظة: ان المصادر العربية القديمة لم تستعمل تسمية "صليبيين" بل كانت تسميهم "الفرنجة").

ان المنفذ الذى سعى لتحقيقه قادة الكنيسة السريانية الشرقية كان مشروع تحالفهم مع المغول كقوة جديدة ضاربة بامكانها حماية المسيحيين وسط البحر الاسلامي المضطرب. ويبدو ان مشروع التقارب من المغول (وكثيرون منهم مسيحيون) كان يراود ايضاً مخيّلة إغناطيوس الرابع يشوع بطريرك السريان الارثوذكس (1264-1282) ومفريانه العلامة غريغوريوس ابن العبري (1226-1286) المقيم في شمال العراق يومئذ. الا ان الطرفين السريانيين، النسطوري واليعقوبي، لم يعملا معاً لانجاز هذا المشروع المصيري بالشكل المطلوب، رغم ان كل فريق منهما كان يفكر به ويرى فيه طريق الخلاص. ان الخلافات المذهبية الحادة انذاك بين السريان، والقهر التاريخي الذي كان يعمل مخالبه بهم، حال دون التعاون السرياني الهام بينهم، وخاصة قد مضى على انفصال الفريقين المذكورين وابتعادهما عن بعض ما يقارب الثمانية قرون.

يبدو ان البطريرك السرياني النسطوري دنحا الاول الذي رسم بطريركاً في خريف 1265 كان ثاقب البصيرة وقد ادرك اهمية الاكليروس المغولي لكنيسته في الصين والشرق الاقصى. ان دنحا الاول استوعب تماما الاهمية المزدوجة لهؤلاء الرهبان المغول من اعضاء كنيسته، الذين بامكانهم ان يلعبوا دورين في آن معاً، فالدور الاول سيكون بتأمين تبعية الشعب المغولي التركي لكنيسته من خلالهم، ومن جهة ثانية سيضمن بواسطتهم علاقته الجيدة مع الطبقة الحاكمة المغولية، التي ترعرعت المسيحية السريانية بين أفرادها. وكان لهؤلاء الرهبان اعتبار خاص لدى ملوك المغول، وخاصة الملك اباقا الذي كان يحكم آنذاك. لذلك كان دنحا الاول يأمل للإفادة من المغول المسيحيين بشكل خاص، ومن الشعب المغولي بشكل عام، كقوة تؤمن الحماية للسريان المسيحيين في بحر العالم الاسلامي المضطرب في الشرق الاوسط الذي كانت تتحكم فيه يومذاك الشوب التركية والايرانية (حيث يعيش السريان معاناة يومية). وكان دنحا الاول قد رسم الراهب المغولي الشاب مرقص مطراناً للصين وعين الراهب المغولي صوما سفير الكنيسة الى مختلف الاماكن في الصين والشرق الاقصى. (وقد اضطلعنا في أجزاء ماضية من هذا المقال على بعض الامتيازات التي نالها السريان اثناء احتلال هولاكو لبغداد وسوريا).  لذلك بعد وفاة دنحا الاول استمر اساقفة الكنيسة في العمل على دعم مشروع ربط وتقوية علاقة الكنسية مع المغول؛ ولتحقيق الهدف انتخبوا شخصاً مغولياً صينياً لمنصب البطريركية ليرئس هذه الكنيسة التي امتد انتشارها أكثر من اية كنيسة أخرى يومها. أما الشخص المنتخب فهو ياهبالاها الثالث المغولي الصيني، وكان شاباً لم يبلغ السادسة والثلاثين من عمره بعد ولم يمضي على رسامته مطرانا سنة واحدة. فهل عساه انقاذ الكنيسة وتأمين حمايتها؟

البطريرك النسطوري المغولي ياهبألاها الثالث وصديقه الربان صوما:

ولد ياهبالاها في مدينة كاوشانغ الصينية عام 1245، والمدينة يومذاك عاصمة الشعب الأونغي المغولي المسيحي الذي ينتمي اليه ياهبالاها. كان اسمه الاول مرقص. ونظراً للبيئة المسيحية التي تشأ فيها، حيث كان والده رئيساً للشمامسة، فان مرقص هذا احب الانضمام الى سلك الرهبنة. ولأجل تحقيق أمنيته هذه انطلق في رحلة طويلة نحو الشرق الى مدينة خانبليق (بكين "بيجينغ") استغرقت نحو خمسة عشر يوماً. وفي احدى المغاور الجبلية القريبة من خانبليق، كان يعيش الراهب المغولي النسطوري الشهير الربان صوما، صديق عائلة الفتى مرقص من ذات القبيلة والمدينة. فالتقاه الفتى مرقص وانضم اليه في صومعته ليترهب، واضعاً نفسه تحت رعايته الروحية ليلقنه مبادىء المسيحية ولاهوت كنيسته وسيرة آبائها وطقوسها السريانية. وبعد سنوات عدة من الدرس والتلمذة قرر الراهبان صوما ومرقص القيام برحلة طويلة الى العراق وسوريا وفلسطين. ففي العراق مقر كنيستهم السريانية الام، وان زيارتها ضرورية للتعارف ومن ثم التوجه نحو القدس لزيارة الاماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.

لقد تمت هذه الرحلة المهمة اثناء حكم ملك الملوك المغولي قوبلاي خان الذي عمل منذ تسلمه السلطة في عام 1260 على نشر الامن والاستقرار في جميع أرجاء دولته الواسعة الاطراف وعلى جميع طرقاتها التجارية.  لذا وصل الراهبان الى بغداد بسلام دون اية مصاعب وشاهدا في العراق بام أعينهما الوضع الصعب الذي تعيشه كنيستهم، فتباحثا مع الاساقفة السريان في وضع الكنيسة وكيفية حمايتها. غير أنهما، بسبب فقدان الامن في الشرق الاوسط وعلى الطرق المؤدية الى القدس (اورشليم)، فقد اضطرا الى تعديل مخطط رحلتها الى فلسطين والمكوث في بغداد لدى بطريركهم الحكيم دنحا الاول لمزيد من التشاور والدرس والتخطيط. هذان الراهبان المغوليان صوما ومرقص سيلعبان مستقبلاً دوراً عالمياً خطيراً في كنيستهم وفي المنطقة. إذ لما شاهد الجاثليق/البطريرك دنحا الاول ذكاء الراهبين المغوليين وحنكتهما واخلاصهما للكنيسة السريانية، توسم فيهما كلّ الخير لذلك قرر الاستعانة بهما. وأخذت تدغدغه أحلام تقوية علاقة كنيسته المسيحية مع الامبراطورية المغولية عسى أن يتمكن من تحسين وضعها، مع علمه بوجود الكثيرين من المسيحيين التابعين لكنيسته في صفوف المغول، وأنه شخصياً كان قد اختير برغبة المغول لسدة بطريركية كنيسته.

في عام 1280 قام البطريرك دنحا بتنصيب الراهب صوما "سفيراً عاماً" الى جميع المسيحيين من اتباع كنيسته في الشرق الاقصى. وهذه وظيفة رفيعة جداً، كما رسم الراهب الشاب مرقص مطراناً لأبرشية كاثاي ويونغ (اي ابرشية الصين) ومنحه لقباً سريانياً اثناء الرسامة وهو "ياهبالاها" يعني "عطاالله". وقد مكث كل من صوما وياهبالاها في بغداد ردحاً من الزمن وذلك لحدوث اضطرابات في منطقة اكسوس من جهة ولمزيد من التداول في أمور الكنيسة من جهة أخرى.

عند وفاة البطريرك دنحا الاول التأم مجمع مطارنة الكنيسة السريانية الشرقية لانتخاب بطريرك جديد خلفاً له، وقد وضع هذا المجمع نصب عينيه تنفيذ مشروع تقوية العلاقة مع المغول الذي كان قد تبناه البطريرك الراحل، فاتخذوا الخطوات الحكيمة الآيلة لتحقيقه. واختار المجمع المذكور "ياهبالاها" الرجل الصيني المغولي التركي المرتسم لتوه مطراناً ليكون بطريركاً جاثليقاً على الكنيسة السريانية الشرقية ورئيساً عاماً للسريان المشارقة، ليستعين بأهله المغول على حماية السريان. لقد انتخب المجمع ياهبالاها ليرئس الكنيسة رغم النقص الكبير في علومه الدينية والسريانية إلا انه بالمقابل كان متفوقاً وبارعاً في الامور الادارية والعلاقات، وسيكون مفتاحاً للوصول الى قادة المغول لتلبية مطاليب السريان. ورُسم بطريركاً في تشرين الاول عام 1281، وجلس على سدة البطريركية مدة 36 سنة باسم "ياهبالاها الثالث". أما ملك المغول الشهير أباقا ابن هولاكو فقد تلقى خبر رسامة صديقه ياهبالاها بطريركاً ورئيساً للكنيسة السريانية الشرقية ببالغ الفرح والسرور.

 وقد شاء اباقا بدوره، الاستعانة بصديقه ياهبالاها ووظيفته السامية لاستعادة نفوذ المغول وسلطتهم السياسية المباشرة في العالم الاسلامي بالشرق الاوسط. وربما كان هناك ثمة تفاهم بين مجمع اساقفة السريان المشارقة والملك اباقا، وربما يكون أباقا نفسه من اقترح رسامة صديقة ياهبالاها، لأنه قام بتسديد كافة نفقات حفلة التنصيب الرائعة في كنيسة المدائن.
وبعد الرسامة منح اباقا البطريرك الجديد الكثير من الامتيازات التي لم تمنه غيره من البطاركة، فمثلاً منحه حق تجميع الضرائب في العراق لصالح كنيسته لتظل قوية مادياً.

 وتجدر الاشارة هنا، ان السريان الارثوذكس ايضاً لم يكونوا بعيدين عن المغول، فالعلاقات كانت مستمرة بواسطة الرهبان السريان، كما ان بطريرك السريان الارثوذكس اغناطيوس الرابع يشوع (1264-1282) ومفريانه ابن العبري (1226-1286) كانا على علاقة طيبة مع ملوك المغول. فالبطريرك المذكور زار هولاكو في عاصمته ومن ثم قام بزيارة ابنه الملك اباقا. كما ام طبيب هولاكو الخاص كان راهباً سريانياً ارثوذكسياً يدعى الربّان شمعون يشوع، حيث كان يتمتع بنفوذ عظيم بسبب مكانته العالية بين المغول. وان هولاكو أثناء احتلاله الشرق الاوسط أمّن الحماية لجميع السريان دون تمييز بين مشارقة ومغاربة.

ان التعاون بين المغول والسريان لم يتحقق بسبب وفاة الملك اباقا وذلك بعد بضعة أشهر فقط من اعتلاء ياهبالاها الكرسي البطريركي. وبموت اباقا تلاشت كل تلك الاحلام وخاصة عند جلوس أخي اباقا، المدعو "نيقولاس" على العرش المغولي، وهو المسيحي في طفولته، الا انه أسلم وتسمى "أحمد" وأخذ يعادي المسيحيين ويعاملهم بقسوة حيث سجن البطريرك ياهبالاها لمدة شهر. وكان ذلك صدمة جرحت كرامة المسيحيين من المغول وخاصة أولائك الأمراء المتحمسين للمسيحية. ويبدو ان الحظ حالف المسيحيين ثانية إذ بعد مقتل الخان أحمد عام 1284، خلفه على العرش المغولي الخان أرغون وهو ابن أباقا صديق المسيحيين.

لقد اتصف الملك أرغون بحبه الكبير للمسيحيين، وقد زاره اغناطيوس الرابع بطريرك الارثوذكس وقدم له التهاني وشرح وضع السريان. وكان أرغون كأبيه محبّاً وصديقاً حميماً لسريان والمسيحيين. وفي عهده يظهر التعاون المتبادل ثانية.
 كان وضع السريان الأمني سيئاً للغاية يومذاك، إن غزوات المتمردين من الاتراك والاكراد المتكررة على نواحي الموصل وأربيل وطورعابدين لم تنقطع، وان بعض المتمردين المغول بتحالفهم مع بعض أمراء المسلمين يصبون جام غضبهم على المسيحيين عام 1288، حيث عذبوا الوجيه المسيحي تاج الدين بن مختار حاكم اربيل، والزعيم المسيحي المغولي مسعود برقوطي حاكم الموصل الى ان استشهدا. يقول المؤرخ السرياني المعاصر لتلك الاحداث، بان الاضطهادات والمصائب التي احتملها سريان الموصل يعجز اللسان عن وصفها. ويتابع المؤرخ حديثه عن مدينة طرابلس المسيحية قائلاً: "هجم مسلمو سوريا على طرابلس وحاصروها ثلاثة اشهر ثم فتحوها وأعملوا السيف في رقاب المسيحيين، وهدموا الكنائس والهياكل، وأسروا الشباب والصبايا باعداد هائلة، وقتلوا من الكهنة والرهبان والشمامسة والراهبات أعداداً لا حصر لها، وتركوا المدينة مهجورة". وفي السنه ذاتها، اي 1288، اجتمع مسلمون من سوريا وتوجهوا وعبروا حدود سنجار وهم يسبون وينهبون حتى وصلوا على مقربة من فشخابور على ضفة دجلة، وفي الليل عبروا النهر الى بلدة واسطو السريانية حيث هاجموها بغتة في الغسق، وهاجموا ثم سبع قرى سريانية مجاورة أخرى وقتلوا خلقاً كثيراً وسبوا النساء والصبايا والاطفال.

الدكتور اسعد صوما اسعد
(يتبع الجزء الحادي عشر)


30
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 9)
(الجزء التاسع)

الدكتور: اسعد صوما
ستوكهولم / السويد

لمحة موجزة عن المغول:

كانت منطقة غرب وشمال الصين منذ عدة قرون قبل الميلاد مقراً لسكنى شعبين متقاربين جنساً يعيشان جنباً الى جنب هما الاتراك والمغول. وفي القرنين السادس والسابع الميلاديين بدأت بعض مظاهر الشخصية التركية تتبلور في تلك المنطقة وذلك بعد تأثر القبائل التركية بالثقافات الايرانية والصينية، وبعضها بالثقافة السريانية المسيحية. وكان بعض الاتراك قد اندفعوا نحو الجنوب الغربي واستقروا في منطقة سميت بعدها باسمهم "تركستان". وقد أنشأ هؤلاء الاتراك كيانات سياسية مثل دولة كوك ترك وأويغور، بينما بقي انسباؤهم المغول، ويقال لهم ايضاً التتر نسبة الى احدى قبائلهم، في حالة ركود في وطنهم تلك الفترة.

كان المغول منقسمين الى عدة قبائل كبيرة جداً كانسبائهم الاتراك، مثل قبائل نيمان الاكثر تمدناً بين المغول، وقبائل كيرايت، ومركيت، وقبيلة يورتاس المتخلفة جداً. وكان معظم هذه القبائل وخاصة قبائل نيمان ومركيت وكيرايت قد اعتنقت المسيحية على يد السريان النساطرة حيث ساهمت المسيحية في تحسين وضع المغول الثقافي والنفسي والاجتماعي.

وفي القرن الثاني عشر بدأت قبائل المغول في التحرك والانتشار والتوسع في معظم الاتجاهات. وفي هذه المرحلة ظهر الفتى تيموجين الذي لقّب نفسه بعدئذ ب جنكيزخان، إذ كان يعيش وهو ابن عشر سنوات في بيت امير قبيلة كيرايت المغولي المسيحي. ولما بلغ جنكيزخان اقترن من اميرة مغولية مسيحية من تلك القبيلة. واستطاع ان يكسب دعم أمير قبائل الكيرايت ويتزعم قبيلة مانخول التي ينحدر منها. وقد تمكّن بفضل دهائه السياسي ان يجمع حوله كوكبة من المخلصين جداً وان يوسع دائرة نفوذه بمد سلطته على رقعة شاسعة. ثم نجح في توحد القبائل المغولية المسيحية التي اصبحت نواة دولته المغولية. لذا يعتبر بحق المؤسس الحقيقي للدولة المغولية حيث استطاع ان يجهزها وينظمها بسن جملة من القوانين التي تنظم علاقة الناس فيما بينهم وعلاقتهم مع الحكومة من جهة اخرى. وقد عُدّ المشرِّع القانوني الاول للأمة المغولية لانتشار قوانينه في كل منغوليا، إذ أدان الجريمة وعاقب المجرمين بصرامة وقسوة، وسنَّ نظاماً محكماً للضرائب أغنى خزينة الدولة، ونظم البريد بشكل متقدم حتى صار البريد والاخبار ترد بسرعة مذهلة. ونعلم من سيرة حياة العلامة السرياني غريغوريوس ابن العبري (1226-1286) بانه كان هناك طرقاً للتنقل السريع خاصة للعاملين في الدولة يحرسها الجنود، سافر عليها ابن العبري كطبيب يحمل ادوية لخدمة الملك.

وأخد جنكيزخان في التوسع نحو الصين وتغلغلت قواته فيها بنجاح باهر. ثم وجّه اهتمامه نحو الغرب، الى دولة خوارزم شاه القوية، التي تمكن منها واجتاحها بفضل تفوّق المغول العسكري وانضمام الاتراك الذين يخدمون في جيوش اعدائه بسبب روايط القربى. واحتل مدن خراسان، مرو، بخارى، وسمرقند. وكان مصير هذه المدن مروعاً لعدم استسلامها. وكان المغول بشكل عام شعباً طيباً، بسيطاً، وفياً وكريماً، يعتمد على الثقة بالوعود الشفهية، فان اعطوا وعداً سينفذوه مهما كلف الثمن. وكانوا قساة جداً مع الذين يخونونهم أو يتحدونهم، لكنهم كانوا يبجلون العلماء والادباء والكتاب والفنانين والحرفيين، حيث اهتموا بهم  في كل مدينة دانت لهم، كما انهم كانوا يحترمون النساء والشيوخ والاطفال في فتوحاتهم. إلا ان المصادر العربية لم تنصفهم بما كتب عنهم.

توفي جنكيزخان عام 1227 وكان قبل وفاته قد قرر ان تقسم مملكته بين أولاده الاربعة، مع رغبة ان يمارس أحد ابنائه السيادة على اخوته كحاكم أعظم. لذا عقدت الجمعية الوطنية العامة (تشبه البرلمان) عام 1229 لاجراء انتخابات حيث فاز بها الابن "أوقطاي" وتسلم القيادة العامة للدولة واصبح ملك الملوك، بينما اصبح اخوته الثلاثة الاخرون ملوكاً محليين على المناطق الجديدة التي اصبحت دولاً  مغولية. وكانت الاراضي المغولية الاساسية قد اصبحت من نصيب الابن الأصغر لجنكيزخان وهو "تولوي"، والاراضي الواقعة شمال وشمال شرقي نهر جيحون، المعروفة بالمصادر العربية بـ "بلاد ما وراء النهر"، من نصيب "جفتاي"، وأخذ "جوجي" المناطق الروسية.

في عام 1236 ميلادي تحركت جيوش مغولية لاخضاع أوروبا الشرقية ووصلت الى بولونيا وربما البلطيق ايضاً ((يوجد بالقرب من مدينة لوبلين البولونية موقع يسمى "مّيدانيك"، يُعتقد ان هذا الاسم هو من البقايا المغولية في بولونيا. كانت القوات النازية اثناء الحرب العالمية الثانية قد أقامت فيه مركزاً لتجميع اليهود من أوروبا لابادتهم هناك، فاحرقوا وقتلوا فيه مئات الالاف من اليهود لغاية سقوط هذا المركز على يد الروس وتحريرهم الاسرى الباقين. ولا زالت بقايا الضحايا اليهود في "مّيدانيك" مليئة في عدة برّاكاتٍ كبيرة في تشهد على كثرة عدد الضحايا هناك، كما ان افران المحرقة التي حرقوا فيها اليهود لا زالت قائمة وكذلك غرف القتل خنقاً بالغازات المسمومة. لقد تحوّل هذا المكان "ميدانيك" الى  متحف كبير للزوار، وكنا قد زرناه قبل حوالي 15 سنة فذهلنا بما شاهدناه من آثار المآسي وصعقنا من بقايا جرائم النازية ضد اليهود، وهذا جلب لبالنا المجازر العديدة التي ارتكبت بحق شعبنا عبر التاريخ)).

وفي عام 1241 توفي الخان الأكبر أوقطاي في العاصمة قراقوروم فاصبحت زوجته المدعوة "توراكينا" وصيّة على العرش، وهي أميرة مغولية مسيحية استطاعت بذكائها أن تؤمن الحكم لابنها "كيوك" الذي أظهر محاباة للمسيحيين طوال حياته. وكان اختيار كويوك يعني انتصاراً للمسيحيين، غير ان وفاته عام 1248 قضت على آمال وأحلام المسيحييين. وعهد بالوصاية ثانية الى ارملة الخان الاعظم وتدعى "أوغول جايميش". وتقرر في الانتخاب العام اختيار "منكو" ابن تولوي، الذي كان ذكياً وداهية في السياسة والادارة. وبفضل والدته المسيحية انتشرت الديانة المسيحية كثيراً بين المغول. وكان الخان منكو متسامحاً دينياً كبيراً ففي عهده أخذت الكنائس والمساجد والمعابد البوذية تتنافس فيما بينهما لكسب المغول الى صفوفها، وكنت ترى رجال اللاهوت من مختلف هذه الاديان يتناقشون معاً في حضرته، غير ان الخان الاعظم كان يفضل المسيحية دوماً ويحضر احتفالات المسيحيين في كنائسهم.

المغول في المنطقة السريانية:

كان الخليفة المسلم المستعصم بالله (1242-1258) آخر الخلفاء العباسيين ضعيف الشخصية وسيء الادارة، لذلك كان الوضع الداخلي في العراق مركز الخلافة يعاني من المشاكل والفتن المذهبية. فالخلاف الاسلامي بين أهل السنة في بغداد وأهل الشيعة في الكرخ كان عنيفاً للغاية. وكان الخليفة، وهو الامام الاعلى لجميع اهل السنة، يدعم السنة ضد المسلمين الشيعة، بينما كان وزيره مؤيد الدين بن العلقمي يدعم الشيعة في هذا الخلاف المذهبي. لذلك جرت بين الفريقين المتضادين منازعات وحروب، مما حمل الخليفة على ان يأمر جيوشه بضرب الشيعة في الكرخ، فضربوها ونكلوا بالشيعة وأمعنوا فيهم قتلاً ونهباً وسلباً. ولم يكن هذا الخلاف السني الشيعي حديثاً، بل كان قديماً قدم الخلافة العباسية، فمثلاً ان الخليفة المتوكل 851 م كان قد أمر بهدم قبر الحسين بن علي وان يبذر ويسقي موضعه، وان يمتنع الناس عن زيارته. ولأن الاضطراب الداخلي في العراق كان كبيراً فقد سبب في اضعاف الحكم والخلافة مما ادى الى سقوط مركز الخلافة سريعاً عند قدوم المغول الى العراق.

عندما نزل العاهل المغولي جنكيزخان في عساكره على مدينة بخارى قال للمشايخ وعلماء الاسلام: "بان الله ملك الكل وضابط الكل أرسلني لاطهّر الارض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة" (لاحظ التعبير المسيحي "الله ضابط الكل" كما ترد في قانون الايمان المسيحي). ففي عام 1256 بدأ المغول في فرض سيطرتهم على فارس وأخضعوا طائفة الحشاشين الاسماعيلية الباطنية المسلمة، وسيطروا على قلاع الاسماعيلية التي بلغ عددها نحو المائة قلعة. وبسبب العداوة المستحكمة بين السنة والشيعة هلّل المسلمون السنّة فرحاً لسقوط المعاقل الاسماعيلية المرعبة على يد المغول وخاصة قلعة "الموت" Almot الشهيرة. وكان المغول يومئذ يفضّلون الشيعة على السنّة بسبب المظالم التي كانت تحيق بأهل الشيعة. لذلك قدّر المغول أحد كبار علماء فرقة الاثني عشرية الشيعية، وهو نصير الدين الطوسي الذي دخل في خدمة المغول فكرّموه ونال حظوة رفيعة لديهم. وأثناء احتلال بغداد دار التنكيل بالسنة بينما اعطى المغول الحرية والامان للشيعة لبناء وترميم مساجدهم. (قبل سقوط صدام حسين القى خطاباً متذكرا فيه احتلال المغول لبغداد 1258 فسمى قوات التحالف "مغول العصر" وقال بانهم سيندحرون امام بغداد).

أما هولاكو فقد أعلن الحرب على الخليفة المستعصم بالله لأن أهل بغداد اهانوا رسله الى الخليفة. وان الخليفة رغم ضعف مركزه كان قد رفض الاستسلام والاعتراف بسيادة المغول عليه، مما اثار غضب هولاكو واعلن الحرب على الخليفة، فخاف الخليفة وسارع الى مهادنة هولاكو لاسترضائه بان ارسل وفداً اليه يفاوضه ويستأمن على حياة الخليفة وعائلته ويثنيه عن احتلال بغداد. وكان الخليفة يدرك مدى علاقة هولاكو بالمسيحيين السريان فاراد استغلالها. فقرر الخليفة ان يرسل في وفده الى هولاكو بطريرك السريان المشارقة مكيخا الاول (1257-1265) مع وزرائه ابن العلقمي ونجم الدين عبدالغني. وانطلق الوفد المذكور الى هولاكو محملاً بالهدايا الفاخرة والنفيسة، ووعد الخليفة بانه سيذكر اسم هولاكو في خطب ايام الجمعة وسيدعو له بالصلاة في كافة المساجد. غير ان هولاكو رفض كل ذلك واراد الانتقام من الاهانة التي لحقت برسله. وكان هجوم المغول على بغداد عام 1258. وأثناء فتح بغداد كانت بعض المجموعات والاقليات في المدينة تتفاوض سراً مع المغول، وبينهم أفراد الحامية التركية الذين اتصلوا باخوانهم الاتراك في جيش هولاكو وقرروا عدم مقاتلتهم. وأباد المغول جيوش الخليفة وذبحوا من أهالي بغداد بالالاف، حتى ان المؤرخين القدماء قدموا لنا ارقاماً بالغوا فيها كثيراً. ذكر أبو المحاسن ان حوالي ثمانيمائة الف نسمة قتلوا. وذكر ابو الفداء بان: النهب والقتل استغرق اربعين يوماً، وبعدها أشعلوا النيران في جامع الخليفة ومشهد موسى الجواد وقبور الخلفاء. وأضاف الهمذاني: أنهم قضوا على كل فرد وجدوه حياً من العباسيين.

وكان اغنياء بغداد من المسلمين يدركون المكانة التي يحتلها السريان لدى هولاكو لذا سارعوا الى وضع اموالهم أمانه لدى بطريرك السريان النساطرة لكي لا ينهبها جنود هولاكو، بينما كانت زوجة هولاكو المسيحية دوقوزخاتون تقوم برعاية المسيحيين في بغداد.
ولما كان المسلمون من السنّة والشيعة في العراق على خلاف، فقد شارك الشيعة في نهب بغداد واستفادوا من المناسبات الاخرى لتصفية حساباتهم القديمة مع أهل السنة المسلمين.

وقضى هولاكو على الخلافة العباسية في بغداد بقتل المسعتصم بالله آخر الخلفاء العباسيين وذلك عام 1258، بوضعه في كيس مربوط العنق والقضاء عليه ضرباً وركلاً بالاقدام حتى الموت. ويخبرنا المؤرخ السرياني المعاصر ابن العبري بان قتل الخليفة بهذه الطريقة كان بسبب خرافة شائعة بين المسلمين ومفادها انه اذا اريق دم الخليفة على الارض فستُلعن تلك الارض ولن ينزل عليها المطر ولن تزهر، لذلك لم يقتلوه بالسيف.

احتلال سوريا:

وتوجه المغول نحو سوريا الشمالية والداخلية حيث تقع عشرات المدن السريانية العريقة التي يتولاها حكام مسلمون. وكان المسيحيون في سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى ينتظرون مجيء المغول بفارغ الصبر حتى يتحقق أملهم بتحسين أحوالهم. وقد أسهموا بالسقوط السريع لكثير من المعاقل في شمال ما بين النهرين في يد المغول. واستولى المغول على أمد (دياربكر) ونصيبين وحران والرها (أورفا) وسروج وماردين وميافارقين ومنبج وحلب، منها ما كان صلحاً ومنها عنوة. وقد أرسل هولاكو رسالة الى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه الاستسلام، ونظراً لاهمية مضمونها فاننا ننقلها عن المؤرخ السرياني ابن العبري، ونص الرسالة:

رسالة المغول الى الملك الناصر ليستسلم:

"يعلم الملك الناصر اننا نزلنا بغداد...، وفتحناها بسيف الله تعالى، وأحضرنا مالكها وسألناه مسئلتين فلم يجب لسؤالنا فلذلك استوجب منا العذاب كما قال في قرآنكم ان الله لا يغير حتى يغيروا ما بانفسهم... لأننا قد بلغنا بقوة الله الارادة، ونحن بمعونة الله تعالى في الزيادة. ولا شك انا نحن جند الله في ارضه، خلقنا وسلطنا على من حلّ عليه غضبه. فليكن لكم فيما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. فالحصون بين ايدينا لا تمنع، والعساكر للقائنا لا تضر ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُستجاب ولا يُسمع. فاتعظوا بغيركم وسلموا الينا أموركم، قبل ان ينكشف الغطا ويحل عليكم الخطا، فنحن لا نرحم من شكا ولا نرق لمن بكا. قد اخربنا البلاد وافنينا العباد وايتمنا الاولاد وتركنا في الارض الفساد. فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من سهامنا مناص. فخيولنا سوابق وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق. وعقولنا كالجبال وعددنا كالرمال، ومن طلب منّا الامان سلم ومن طلب الحرب ندم. فان انتم اطعتم امرنا وقبلتم شرطنا كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وان انتم خالفتم أمرنا وفي غيّكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم ياظالمين، فهيئوا للبلايا جلباباً وللرزايا أتراباً. فقد أعذر من أنذر وانصف من حذّر. لأنكم اكلتم الحرام وخنتم الايمان، واظهرتم البدع واستحسنتم الفسق بالصبيان، فابشروا بالذل والهوان. فاليوم تجدون ما كنتم تعلمون، سيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون. فقد ثبت عندكم اننا كفرة، وثبت عندنا انكم فجرة. وسلطنا عليكم من بيده الامور مقدَّرة والاحكام مدبّرة. فعزيزكم عندنا ذليل وغنيكم لدينا فقير. ونحن مالكون الارض شرقاً وغرباً، واصحاب الاموال نهباً وسلباً، واخذنا كل سفينة غصباً. فميزوا بعقولكم طرق الصواب قبل ان تضرم الكفرة نارها، وترمي بشرارها. فلا تبقى منكم باقية وتبقى الارض منكم خالية. فقد ايقظناكم حين راسلناكم، فسارعوا الينا برد الجواب بتة قبل ان يأتيكم العذاب بغتة. وأنتم تعلمون".

وعندما لم تستسلم حلب حاصرها لمدة سبعة ايام ثم فتحها وأعمل السيف فيها قتلا وذبحاً. يقول ابو الفداء بان النهب والقتل فيها استغرق من يوم الاحد الى نهار الجمعة. ويقول المقريزي بانه أسر فيها حوالي مائة الف ثم دمر قلعتها الشهيرة.

وكان المؤرخ السرياني ابن العبري مطراناً على حلب في هذا الاثناء قد خرج الى معسكر المغول خارج حلب للقاء العاهل المغولي عند حلوله بقرب حلب، ليستعطفه بالمدينة لكن دون جدوى. وبسقوط حلب وقع الرعب في قلوب جميع الحكام المسلمين في سوريا فاسرعوا للاستسلام وتقديم فروض الطاعة والولاء للعاهل المغولي المظفر. وكانت المدن السورية حمص وحماة ودمشق قد استسلمت فدخلها المغول دون ان يمسوا أحداً بأذى. ويروي ابن العبري المعاصر للاحداث انه عندما وصل المغول الى دمشق خرج أعيان المدينة واستقبلوا الفاتح الجديد وسلموه المدينة، ولم يلحق باحد منهم أذى.

غير ان بعد وفاة ملك المغول الاعظم مونغا خان عام 1259 عاد هولاكو الى وطنه مع جيوشه الجرارة بعد ان ابقى في سوريا وفلسطين عشرة آلاف عسكري بقيادة أمير مغولي مسيحي اسمه "كتبوغا". ولما علم "قوطوز" التركماني المملوكي صاحب مصر بذلك، خرج بعسكر كثير وكسر المغول في فلسطين عام 1260 وقتل قائدهم. وعندما وصلت أنباء هزيمة المغول الى دمشق أنقض مسلموها على المسيحيين من ابناء المدينة حيث اشبعوهم نهباً وسلباً وقتلاً وتنكيلاً. يقول ابو الفداء المعاصر للاحداث بأن المسلمين في دمشق خرّبوا كنيسة مريم وكانت كنيسة عظيمة. ولما أكمل المماليك الاتراك زحفهم الى دمشق فان قائدهم ارتكب مجزرة مروّعة بحق السريان في "قارا" الواقعة بين دمشق وحمص. ولقد ذكر المقريزي خبر هذه المجزرة الرهيبة.

وكان القائد المغولي المسيحي كتبوغا بعد فتحه دمشق قد استرجع بعض الكنائس التي كان المسلمون قد اغتصبوها وحولوها الى جوامع، واعادها ثانية الى اصحابها السريان لأن هولاكو كان قد أقام من نفسه حامياً للمسيحيين. ويبدو أن المسيحيين السريان لغاية ذلك الوقت كانوا الاغلبية في المنطقة.

الدكتور اسعد صوما
(يتبع الجزء العاشر)




31
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 8):
المغول يحتفلون برأس السنة السريانية
(الجزء الثامن)

الدكتور: اسعد صوما
ستوكهولم/السويد


((ملاحظة هامة: في الجزء الماضي  من مقالنا هذا سقطت منه صورة النقش السرياني الصيني لسبب تقني في موقع عنكاوا، لكن من يرغب مشاهدة صورة النصب المذكور فبالامكان مشاهدته في موقع آخر نشر المقال موجود على الرابط  التالي))
http://www.aramaic-dem.org/Arabic/Tarikh_Skafe/Assad_Sauma_Assad/Assad_Sauma13.htm


المسيحية السريانية بين المغول والاتراك:

في بداية القرن الثالث عشر يظهر جنكيزخان المغولي على الساحة ويؤسس دولته جنوب بحيرة بايكال حيث تقطن قبيلة كيرايت المسيحية التي تربى فيها وهو طفل يتيم. وكان امير قبيلة نايمان المغولية قد اعتنق الديانة المسيحية في بداية القرن الحادي عشر، وكذلك انضمت الى المسيحية قبائل مركيت وأوبرات المغولية. ويقوم جنيزخان بتوحيد هذه القبائل المغولية-التركية المسيحية تحت امرته، فتشكل نواة الامبراطورية المغولية التي هزّت العالم بعدئذ. وعندما نقل امبراطور المغول الاعظم قوبلاي خان (1259-1294) مركز دولته من قراقوروم (عاصمة المغول) الى خانبليق (بكين) فتح الباب ثانية على مصراعيه لانتشار المسيحية في الصين مجدداً في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
 كانت المرحلة الاولى من المسيحية في الصين تتمثل بوجود رهبان واكليروس سرياني، أما المرحلة الثانية فتتميز بوجود شعب مغولي- تركي مسيحي يشكل الطبقة الحاكمة في الدولة.

 لقد ازدهرت المسيحية تحت سلطة المغول في كل مكان، إذ توفرت الحماية والامن للمراكز السريانية التجارية الثقافية الدينية المنتشرة على طول طريق الحرير التجاري، فقويت العلاقات بين الكنيسة المحلية هناك مع الكرسي البطريركي في بغداد. وازدهر التبشير مجدداً وخاصة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
 لكن عندما سيطرت سلالة مينغ على الصين، بعد انتزاعها الحكم من خلفاء قوبلاي خان عام 1369، قامت بإثارة موجة من الاضطهادات ضد الاديان الغريبة. وفي بداية القرن التالي تنحدر المسيحية كثيراً في الصين. ويقوم بعدها تيمورلنك المسلم المتعصب بتوجيه الضربة القاضية لسحقها تماماً هناك.

نجح المبشرون السريان في عملهم التبشيري في نشر مبادىء الديانة المسيحية بين قسم كبيرمن القبائل المغولية-التركية. ونتج عن هذا تأسيس  كنائس سريانية مغولية تركية وصينية في الشرق الاقصى، وعدة ابرشيات مطرفوليطية واسقفية يسوسها غالباً مطارنة واساقفة سريان، وكانت الكنيسة السريانية الأم ترسلهم لقيادة الكنيسة في تلك الاصقاع ونشر التعاليم المسيحية بطابعها السرياني النسطوري، وتقوية روابط الكنيسة الأم مع ابنتها كنيسة منغوليا والصين.

وقد نجح الرهبان والمبشرون السريان في نقل المسيحية السريانية الى بيوت المغول والعائلات الملكية الحاكمة، وكان بعض ملوك المغول قد احاطوا أنفسهم بحلقة من الرهبان السريان الذين يؤدون لهم مختلف الخدمات ويقومون بتهذيب وتعليم ابنائهم. فأصبح المغول بذلك تابعين للسريان دينياً وكنسياً وحتى ثقافياً ضمن امبراطورية كنسيّة سريانية واسعة الارجاء.

ان القبائل المغولية-التركية الشهيرة التي اعتنقت المسيحية على يد الرهبان السريان المشارقة هي: كيرايت، مركيت، أونغوي، أوبرات، ونايمان، وكانت القبائل الاكثر تمدناً بين المغول حيث شكل العمود الفقري في دولة جنكيزخان المغولية. وكان جنكيزخان قد تربى منذ طفولته في بلاط أحد الامراء المغول المسيحيين، حاكم قبائل كيرايت المسيحية. وعندما بلغ جنكيزخان تزوج من أميرة مسيحية مغولية من القبيلة المذكورة.

ملوك المغول يتزوجون من فتيات مسيحيات:

كانت المرأة في القبائل المغولية المسيحية تتمتع باستقلال واحترام كبيرين من قبل المجتمع. إذ أن نشاط المرأة المغولية بشكل عام لم يكن مقتصراً على ادارة الشؤون المنزلية فقط، بل كانت المرأة ترافق الجيش في حملاته وتهتم بالمحاربين. واثناء المعارك كانت النساء جاهزات في عربات خاصة بالمعسكرات، استعداداَ للمشاركة في القتال عند الضرورة أيضاً.
وكانت الفتيات المغوليات المسيحيات تتمتعن بمزايا عديدة وبمنزلة اجتماعية راقية مما جعل ملوك المغول العظماء يتزوجن منهن. إذ بعد ان تزوج جنكيزخان باحدهن تزوّج ابنه أوغدي ايضاً فتاة مسيحية من قبيلة مركيت، وكذلك الامبراطور غويوك بن أوغدي وحفيد جنكيزخان الذي كان مسيحياً حقيقياً حيث تعمّد وتهذب على يد راهب سرياني، وكان لديه أميران بمرتبة وزراء يدعى أولهما قداق والثاني جينقاي كانا يهتمان جداً بالمسيحيين. وبفضلهم زخر قصر الملك غويوك بالمطارنة والاساقفة والرهبان حتى صارت الدولة المغولية "دولة مسيحية" على حد قول المؤرخ المعاصر ابن العبري. وارتفع فيها شأن المسيحيين من الفرنج والروس والسريان والارمن وأصبحت تحية الناس اليومية العبارة السريانية "برخمر" ܒܪܟܡܪܝ  (باركني ياسيدي).
 وكان الابن الرابع لجنكيزخان والمدعو تولي قد تزوج ايضاً من فتاة مسيحية هي الاميرة المغولية "سرغوقطني" ابنة حاكم قبائل كيرايت. وكانت هذه الاميرة على درجة عالية في الذكاء وداهية في السياسية، إذ استطاعت بعد وفاة الخان غويوك أن تسيطر على الحكم وتضمنه لثلاثة من ابنائها الذين اصبحوا من اعظم ملوك المغول وهم: مونغا، قوبلاي، وهولاكو. وكانوا اسوة بوالدهم يحبون المسيحيين، لأنهم أنفسهم كانوا "شبه مسيحيين". وكانت سرغوقطني هذه تبجّل المطارنة والرهبان وتتقبل صلواتهم وبركاتهم، فكان أن علا صيتها بين السريان أجمعين. حتى ان معاصرها المؤرخ السرياني ابن العبري شبهها بالملكة هيلانة والدة قسطنطين الكبير (بداية القرن الرابع)، ووصفها ذاكراً قول الشاعر:
لو كان النساء كمثل هذه      لفضّلت النساء على الرجال.
وعند وفاة الاميرة المذكورة بكاها المسيحيون كثيراً وأخذوا يكرّمون صورتها لسنوات عديدة. وقد سلك ابناؤها نهجها في حبها للمسيحيين والسريان وتكريم رجال الكنيسة. وقد أكد ذلك الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو الذي كان يعمل في خدمة ابنها قوبلاي خان العظيم.
 وأن هولاكو، مؤسس الدولة الإلخانية لمغول فارس، تزوج ايضاً من اميرة مسيحية من قبيلة كيرايت وهي "دوقوزخاتون"، التي قال عنها الهمذاني، بانها عملت دائماً على مؤازرة المسيحيين وكانت حاضرة معه في احتلاله لبغداد. وان اباقا ابن هولاكو تزوج من ابنة ميخائيل الثامن باليولوغوس امبراطور بيزنطة انذك. وكان اباقا هذا يكنّ حباً كبيرا للمسيحيين والسريان. وكذلك ابنه أرغون حيث فضل المسيحيين في دولته كما فعل والده، وكان قد خطط لانتزاع القدس من المسلمين.

لكن منذ ايام الخان غازان الذي اسلم واعترف بالاسلام ديناً رسمياً لدولته، على خلاف ملوك المغول الذين سبقوه حيث كانوا متسامحين جداً مع كل الاديان، بدأ اضطهاد المسيحيين، إذ أخذ هذا الخان يعاملهم بقسوة وشدة كما فعل ابناؤه وخلفاؤه ايضاً من بعده، مع المسيحيين.

مؤثرات سريانية بين المغول:

وبفضل السريان العاملين في بيوت ملوك وامراء المغول فقد دخلت مؤثرات سريانية جمة الى لغة المغول وعاداتهم وثقافتهم، منها:
- استخدامهم التحية السريانية "برخمر" ܒܪܟܡܪܝ "باركني ياسيد" كتحية يومية عامة (مثلما تستعمل الشعوب المسلمة التحية العربية "السلام عليكم").
- تسمية اولادهم باسماء سريانية مثل "شوبحالماران" ܫܘܒܚܐܠܡܪܢ "قيوما" ܩܝܘܡܐ، الخ.
- استعمالهم الحروف السريانية لكتابة لغتهم ايضاً؛ ولقد خلف لنا المغول والاتراك بعض الكتابات السريانية على القبور، حيث تكشف عن تبنى المغول عند منطقة بحيرة ايسيك كول الخط السريانية الاسطرنجيلي في كتابة النقوش السريانية اضافة الى بعض النقوش التركية، كما ان شعب أونغوت استعمل الحروف السريانية لكتابة لغته التركية. كذلك ان الحروف الايغورية مشتقة من الآرامية.

- استخدامهم الالقاب الدينية المسيحية السريانية التي اتخذها المسيحيون منهم وغير المسيحيين من المغول، مثل ܡܪܝ ܚܣܝܐ "مار حسيا" (سيادة المطران).
- تبنيهم التقويم السرياني الشرقي في تأريخ الاحداث والذي يبدأ منذ عام 311 قبل الميلادي.
- تبنيهم عادة الاحتفال برأس السنة السريانية الشرقية التقليدية الكائنة في الاول من تشرين ((تقع رأس السنة السريانية في الاول من شهر تشرين كل عام؛ ان كلمة "تشرين" بالسريانية تعني البداية وفيها تقع بداية السنة السريانية. ان السنة السريانية لا علاقة لها برأس السنة الميلادية التي يحتفل بها العالم ومعهم السريان في 31 كانون الاول. من المؤسف ان الغالبية الساحقة من ابناء الكنائس السريانية الشرقية والغربية بمثقفيهم وأمييهم وبقياداتهم الروحية والسياسية لا يعرفون عن تاريخ السريان "الصحيح" وتفاصيل تراثهم السرياني إلا النذر اليسير، لذلك لا يعرفون اليوم شيئاً عن "رأس سنتهم السريانية" التي تمسك بها اجدادهم طيلة القرون المسيحية قبل ان يهملها الزمن وتبقى محفوظة فقط في هيكلية الطقوس السريانية. اليوم نرى بعض السريان وخاصة النساطرة قد تبنوا "سنة جديدة" استمدوها من تاريخ العراق القديم، حيث يحتفلون بها في الاول من نيسان أسموها " رأس السنة الآشورية"، وهذه ايضاً كالسنة الميلادية لا تمت بصلة الى السنة السريانية التي تمسك بها اجدادهم السريان ونقلوها معهم في حملاتهم التبشيرية وفرضوها على شعوب آسيا الوسطى ومنهم المغول)).
- احتفالهم بالاعياد المسيحية وتعطيلهم بها.
- تأثرهم في فن الرسم السرياني، وخير دليل على ذلك تلك الرسوم الجدارية المسيحية في واحة طورفان التي تعود الى حوالي عام 900 ميلادي حيث تذكرنا بنماذج الرسوم المسيحية والبيزنطية القديمة في الشرق الاوسط، وهي مختلفة تماماً عن اساليب التقاليد الفنية الصينية والهندية والايرانية.
- وقد شمل تأثير المسيحية السريانية ايضاً البوذيين، إذ اهتم الرهبان البوذيون بالتراث المسيحي في الشرق الاقصى بعد اندثار المسيحية هناك، واتخاذ بعض الرهبان البوذيين، لسكانهم ديراً مسيحياً مهجوراً قرب بكين في الصين. وفي منطقة تونهوانغ في غرب الصين تبنّى الرهبان البوذيون صورة أحد آباء السريان المشارقة واعتمدوها على انها صورة بوذيساتفا، واهتموا ببعض النصوص من الادب الصيني المسيحي  واحتفظوا بها في مكتبهم الشهيرة.

- نعتقد ان ثياب الرهبان البوذيين في التبت تحمل بعض المؤثرات من لباس رجال دين الكنيسة السريانية الشرقية (النسطورية) من حيث زيها وألوانها.

وقد ظهر حب المغول للسريان اثناء قدومهم للشرق الاوسط، اذ لما افتتحوا بغداد لم يمسوا اي سرياني باذى إلا في تكريت بعدئذ، بل ان هولاكو قام بتقديم احد قصور الخلفاء هدية لبطريرك السريان المشارقة ليجعله محل اقامة له. وان القائد العام للجيش المغولي الذي افتتح دمشق كان مسيحياً نسطورياً يدعى "كتبوغا". وكانت مدينتا تبريز ومراغة، حيث استقر الخان، عاصمتي الاقليم الجديد للدولة المغولية الإيلخانية، تعنيان الكثير بالنسبة للمسيحيين في شمال العراق الذين شعروا الان بان حاميهم أصبح قاب قوسين أو أدنى منهم.

وكان الخان غالباً ما يشارك في الاعياد المسيحية بنفسه ويحضر القداس. وقد أجاز بناء كنسية صغيرة في البلاط المكي، وأوقف الاوقاف لصالح الكنائس، كما فضّل المسيحيين على المسلمين في المعاملة. وقد تمتعت الطوائف المسيحية بعطف الحاكم وتضاعف نفوذهم وخاصة السريان النساطرة واليعاقبة والارمن وارثوذكس جورجيا. واصبح لهم الحق بالسير في مواكبهم الدينية علناً، وان يرمموا كنائسهم ويوسعوها. ويشهد ابن العبري المعاصر للأحداث بان الخان اباقا ابن هولاكو ذهب الى الكنيسة في همذان ليحتفل بالعيد مع المسيحيين اثناء عيد الفصح.

الدكتور اسعد صوما
(يتبع الجزء التاسع)



32
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 7)
(الجزء السابع)

الدكتور: اسعد صوما
(باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم)
ستوكهولم/السويد


المسيحية السريانية في الصين:
تذكر بعض التقاليد السريانية عن قيام توما الرسول بالتبشير في الصين ودخول الصينيين في الدين المسيحي، لكننا لا نستيطع الاخذ بهذا التقليد لضعفه.  لكن وصول السريان الى الصين بعدئذ وتبشيرهم بالدين المسيحي حقيقة ثابتة.
ان الطريق الذي سلكه المبشرون السريان الى الصين كان طريق الحرير التجاري الشهير في عالم الشرق القديم كما ذكرنا سابقاً، إذ سلكه هؤلاء من فارس الى مرو، ومنها الى الصين برفقة القوافل التجارية السريانية. وكانت المحطات التجارية السريانية المنتشرة على طول هذا الطريق قد استخدمها المبشرون السريان كمحطات دينية وثقافية ايضاً. وفي حدود عام 578 ميلادي حلّت عائلة مار سركيس السريانية في  لينتاوكانسو Lin-ta, ao, kan-su في الصين.

ان اقدم وثيقة مدوّنة عن تبشير السريان في الصين تعود الى عهد رئاسة الجاثليق السرياني يشوعياب الثاني (628-643). وهذا واضح من خلال نصب اثري صيني وسرياني عظيم  اكتشفه المبشرون اليسوعيون عام 1625 في سيانفو عاصمة سلالة تانغ الملكية الحاكمة آنذاك مقاطعة شنسي Shensi في وسط الصين. ان هذا النصب التذكاري يحمل كتابة بالسريانية والصينية، ويخبرنا عن وصول رهبان سريان الى الصين في عام 635 ميلادي.

وقبل نهاية القرن السابع كانت المسيحية قد انتشرت في عشر مقاطعات في الصين. ولقد تم اكتشاف آثار أخرى تشهد بدورها عن النشاط التبشيري السرياني في شانسي وفي شِنسي. ويخبرنا توما المرجي بان الجاثليق طيمثاوس الاول (780-820) قد رسم مطرفوليطاً للصين اسمه داويد.

لكن في القرن التاسع عانى المسيحيون النساطرة في الصين مع سائر الاديان الاخرى وتعرضوا الى سلسلة اضطهادات، وذلك عندما أصدر الامبراطور ووتسونغ (840-846) مرسوماً ملكياً يقضي بوجوب عودة الرهبان والقساوسة الى الحياة المدنية، وطرد الرهبان الاجانب من الصين.
 إلا انه رغم انحدار المسيحية كثيراً في الصين والتيبت وبين مختلف القبائل التركية المغولية، نتيجة لهذا الامر، الا انها لم تختفي نهائياً من الصين، بل عادت بعد حوالي قرنين لتنتشر بين عدة قبائل مغولية في جنوب بحيرة بايكال، حيث تحولت تلك المنطقة الى معقل كبير للمسيحية السريانية.

ان عدم انقراض المسيحية في الصين واضح من بعض الاشارات والملاحظات في المصادر السريانية والصينية والعربية. فمثلاً يخبرنا شاعر ايراني في بلاط الدولة لدى نصر الثاني أحمد البخاري (913-942) بأنه سافر عبر الصين وسجّل مشاهداته هناك وانه قابل مسيحيين ورأى عدة كنائس في عدة مدن صينية.
 ونعلم بانه في عام 1093 قام البطريرك سبريشوع الثالث بتعيين المطران كوركيس لمنطقة سِستان ومن ثم نقله الى كرسي خطاي في شمال الصين. كما شارك في حفلة تنصيب البطريرك دنحا الاول (1265-1281) في المدائن مطرانٌ من الصين هو يوحنان مطران ابرشية هامي أو قامول. وفي تلك الفترة كان هنالك ثلاث كنائس نسطورية في مدينة يانغتشاوفو، وزعيم مسيحي نسطوري يدعى مار سرجيوس كان حاكماً لاقليم كيانغسو في الصين. ونعلم بانه كان مقرباً كثيراً من الملك الصيني المغولي العظيم قوبلاي خان (1259-1292)، وفي عام 1278-1280 كان قد بنى حوالي سبعة اديرة.

ويحدثنا المبشرون والرحالة الاوروبيون الى الصين مثل ماركو بولو عن مشاهداتهم للمسيحيين وكنائسهم هناك. وكانت المسيحية السريانية النسطورية قد وصلت الى الكثير من المناطق النائية الاخرى ايضاً مثل جزيرة سوقطرة في المحيط الهندي. إذ نعلم أن مطرانها المدعو قرياقس كان حاضراً في حفل تنصيب البطريرك المغولي الصينيي النسطوري ياهبالاها الثالث في بغداد عام 1282 بطريركاً عاماً على الكنيسة السريانية الشرقية.


وصف النصب التذكاري الصينيي السرياني في سيانفو:
(قمتُ بزيارة الى الصين لأول مرة عام 1990 بحثاً عن هذا النصب الاثري السرياني لدراسته؛ وبعد جهد جهيد عثرتُ عليه في منطقة سيانفو "الفقيرة"، ووجدته مهملاً في متحف مكشوف يشبه مقبرة كبيرة جداً ولا أحد هناك يعرف قيمته فتألمتُ لذلك، لأن الشعب الايغوري الساكن في منطقة النقش مسلم وربما لا تهمه الاثار المسيحية، رغم ان معظم الايغوريين كانوا مسيحيين قبل تحولهم للاسلام. فاتصلتُ بالمسؤولين حينها لألفت نظرهم الى هذا الاثر المهم جداّ للاهتمام به. شاهد صورة النقش في الاسفل!)

النصب عبارة عن حجر اسود ضخم مستطيل الشكل، ارتفاعه حوالي ثلاثة امتار، وعرضه حوالي المتر، وسماكته حوالي 30 سم. وهو من حجر كلسي اسود يُعتقد بانه اقتلع من مقلع الحجارة الشهير فو بينغسين Fu-Pinghsien. (لا زالت الصين من الدول الشهيرة في تصدير انواع الحجارة الجميلة المستعملة في البناء)
النصب منقوش على الاغلب باللغة الصينية وقليلاً بالسريانية. وسريانية النقش هي بخط اسطرنجيلي جميل جداً. وفي قمة النصب هنالك صليب يشبه صليب ميلابور القديم في مدينة مدراس بالهند حيث دفن مار توما الرسول. وعلى النصب نقوش: صليب موضوع فوق غيمة وزهرة اللوتس، (ان الغيمة هي رمز الديانة الطاوية ووزهرة اللوتس رمز الديانة البوذية، وهذا يرمز الى فوقية المسيحة على هاتين الديانتين)، كما هناك أغصان شجرة.
 ومن النقش نعلم ان Alopen "ألوبن" حمل بشارة الانجيل الى تشانغم Changam. وان الامبراطور تاي تسونغ (627-650) أرسل وزيره دوكفانغ هسوان لينغ Duke-Fang Hsuan-Ling مع حرس الشرف لاستقبال الزائر الكريم. وقام الامبراطور شخصياً باستقباله عام 635، وبناء على طلبه ترجم الانجيل الى اللغة الصينية، وسمح بالتبشير في الصين.
وفي عام 638 ميلادي أصدر الامبراطور منشوراً ملكياً في تحبييذ الدين المسيحي والسماح بنشره في دولته. وبعد ثلاث سنوات صدر مرسوم يقضي ببناء دير لهذا الرجل المقدس "ألوبن" ولعشرين راهباً معه. وقد ورد هذا الاسم مدوناً في الجزء الثالث من موسوعة كامبريدج لتاريخ الصين بصيغة "روبن" Reuben.

أكتشفت لوحة سيانفو عام 1625 في الصين. وكانت الكنيسة النسطورية قد نصبتها هناك عام 781 في موقع اكتشافها الذي كان باحة دير نسطوري، وذلك على عهد البطريرك السرياني النسطوري حنانيشوع كما ينص، (لكن البطريرك حنانيشوع كان قد توفي قبل حوالي سنتين في بغداد عام 779 دون ان يعلم اتباعه في الصين بموته حينها). وقد نصب النقش ليخلّد اخبار البعثة التبشييرية السريانية لعام 635 ميلادي. ومن المحتمل ان الجماعة المسيحية في مقاطعة سيان كانت قد خبأت هذه اللوحة وطمرتها في الارض اثناء الاضطهادات بهدف انقاذها من الدمار في القرن التاسع أو العاشر الميلادي.

تعتبر هذه اللوحة احدى المصادر الرئيسية عن تاريخ الكنيسة النسطورية في الصين. عندما وصل الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو الى الصين عام 1279 لم يك هناك وقتذاك احد يعلم شيئاً عن هذه اللوحة. وحتى المؤرخ السرياني غريغوريوس ابن العبري (توفي 1286) الذي كانت تربطه علاقات طيبة مع بعض ملوك المغول وحل لديهم عدة مرات كطبيب واسقف، لم يك يعلم اي شيء عن هذه اللوحة.

وعندما وصل خبر اكتشاف اللوحة عام 1625 الى اوروبا، خلق في الاجواء العلمية الاوروبية حينها شعوراً بالفضولية للتعرف عليها، وحمل العلماء ورجالات الكنيسة الكاثوليكية على الاهتمام بالكنائس السريانية الشرقية وتاريخا، وازدادت رغبتهم لربط هذه الكنائس تحت سلطة البابا. كما ان اكتشافها خلق جوّاً ايجابياً لصالح المسيحية في الصين واصبح عاملاً مساعداً للمبشرين الاوروبيين، فازداد عدد الصينيين الذين اعتنقوا المسيحية.

يبدو ان الغاية من تشييد هذا النصب الاثري كانت لارضاء فضولية زوّار الدير. ويتضمن نقش اللوحة معلومات عن ممتلكات الكنيسة السريانية النسطورية في الصين بين عامي 638-781، وعرضاً موجزاً لبعض العقائد المسيحية الاساسية. ان الذي صنف هذا النقش وشيده هو راهب نسطوري يحمل اسماً صينياً تشينغ تشينغ Ching-ching، لكننا نفهم من القسم السرياني للنقش بان اسمه السرياني كان "آدم"، وبانه كان مطرفوليط (المطران الحاكم) الصين.

أستهل نقش سيان المذكور بالجملة الصينية التالية: "دُوِّن من قِبل الراهب تشينغ تشينغ من الدير السرياني". ثم تتبعها الجملة السريانية ܐܕܡ ܩܫܝܫܐ ܘܟܘܪܐܦܝܣܩܘܦܐ ܘܦܦܫ ܕܨܝܢܣܬܢ "آدم قس ومطران صينستان (اي الصين)". ان الملاحظات السريانية في نهاية النقش تشير الى رجل يسمى آدم وان جد آدم الذي مات عام 781 واسمه ميليس، كان قساً في مدينة بلخ في الاقليم الفارسي طخارستان، وكان ابوه والمسمى يزدبوزيد Jazedbouzid على ما يبدو اسقفاً لمنطقة تشانغان عام 781 وهو الذي قام بتسديد تكاليف تشييد النقش المذكور (ان اسم الاقليم الفارسي "طخارستان" ورد في السريانية بصيغة ܛܚܘܪܣܬܢ بالحاء "طحارستان"، وهذا يدل على ان كاتب النقش كان يتكلم الارامية المحكية الشرقية التي تسمى السورث، والتي في احد فروعها تُلفظ الحاء خاءً).
وفي اسفل الوجه الامامي من النصب وتحت الكتابة الصينية هناك كتابة سريانية في عواميد تقرأ من اليسار الى اليمين، وهي: ܒܫܢܬ ܐܠܦ ܘܬܫܥܝܢ ܘܬܪܬܝܢ ܕܝܘ̈ܢܝܐ: ܡܪܝ ܝܙܕܒܘܙܝܕ ܩܫܝܫܐ ܘܟܘܪܐܦܣܩܘܦܐ ܕܟܘܡܕܢ ܡܕܝܢܬ ܡܠܟܘܬܐ: ܒܪ ܢܝܚ ܢܦܫܐ ܡܝܠܝܣ ܩܫܝܫܐ ܕܡܢ ܒܠܚ ܡܕܝܢܬܐ ܕܛܚܘܪܣܬܢ؛ ܐܩܝܡ ܠܘܚܐ ܗܢܐ ܕܟܐܦܐ ܕܟܬܝܒܐ ܒܗ ܡܕܒܪܢܘܬܗ ܕܦܪܘܩܢ ܘܟܪܘܙܘܬܗܘܢ ܕܐܒܗ̈ܝܢ ܕܠܘܬ ܡܠܟ̈ܐ ܕܨ̈ܝܢܝܐ؛
وترجمتها:
"في سنة 1092 يونانية (تعادل سنة 780/781 ميلادية) أقام سيدي يزدبوزيد قس ومطران العاصمة كومدان، ابن المرحوم القس ميليس من مدينة بلخ في طخارستان، وشيّد هذا النصب الحجري الذي دوّنت فيه سيرة مخلصنا وكرازة ابائنا الى الملوك الصينيين".
((ملاحظة: ان استعمال طريقة التأريخ السرياني في النقش والمستند على اساس يوناني، إثبات على ان الذين قاموا بتشييد النصب كانوا سرياناً من الشرق الاوسط، وإلا لاستعملوا التأريخ الصيني وليس السرياني. تبدأ سنة التأريخ السريانية منذ عام 311/312 قبل الميلاد. وقد استمر استعمال هذا التاريخ لدى كل الطوائف السريانية لغاية بداية القرن العشرين حين استعيض عنه بالتقويم الميلادي. الا ان الكنائس السريانية المنضمة الى روما كانت قد تعلمت استعمال التقويم الميلادي من روما منذ حوالي القرنين من الزمن))
 
وتتبع في النقش الاسماء التالية: الرهب لينغفاو، الشماس آدم ابن الاسقف يزدبزيد، القس والاسقف مار سركيس. وتليها الجملة السريانية:
ܓܒܪܐܝܠ ܩܫܝܫܐ ܘܐܪܟܕܝܩܘܢ ܘܪܫ ܥܕܬܐ ܕܟܘܡܕܢ ܘܕܣܪܓ
"كبرئيل، قسيس وأرخدياقون ورئيس كنيسة كمدان وسرغ".

وعلى الجهة اليسارية من النصب وفي السطر الاول نقرأ الاسماء التالية:
مار يوحنا ’مطران‘، اسحق ’قس‘، يوئيل ’قس‘، ميخائيل ’قس‘، كوركيس ’قس‘، مهداد غوشناساب ’قس‘، مشيحاداد ’قس‘، أفريم ’قس‘، ابي ’قس‘، داويد ’قس‘، موسى ’قس‘".
وترد مجموعة اخرى من الاسماء في السطور الاخرى. وتبلغ اسماء المبشرين السريان المدونة في اسفل النصب 128 اسماً ومعظمها اسماء سريانية شرقية مسيحية صرفة.

صورة النصب الصيني السرياني:
 

الامبراطور يأمر باطلاق التسمية السريانية على الكنيسة في الصين:
ان التسمية الصينية للديانة المسيحية في النقش وردت بصيغة "التعليم السرياني المنير". ان هذا التعبير يظهر جليا في عنوان النقش باللغة الصينية وهو "لوحة انتشار التعليم السرياني المنير في الصين" وكان هذا هو المصطلح الدارج الذي استعمله الكتاب الصينيون للدلالة على المسيحية النسطورية في الصين.

عام 745 اصدر الامبراطور الصيني هسوان تسونغ مرسوماً ملكياً يأمر فيه بوجوب تسمية جميع الاديرة والكنائس في الصين باسم "الاديرة السريانية" بدلاً من التسمية القديمة "الاديرة الفارسية". ولقد أظهر هذا الامبراطور مودّة خاصة للسريان النساطرة وفضّلهم حينها على غيرهم من الاديان لانه على ما يبدو كان يستهدف نيل دعم المسيحيين في المناطق التي كان يحكمها المسلمون.
يقول نص المرسوم الملكي:
"عندما شيدتْ الاديرة سميناها في البداية "الاديرة الفارسية"، ولكي يُعرف أصل هذه الاديرة المسماة "فارسية" فاننا نسمي الان هذه الاديرة في العاصمتين "بالاديرة السريانية". ان هذه التسمية ينبغي ان تطلق على الاديرة في جميع المقاطعات والاقاليم الاخرى" .
إن اصدار هذا المرسوم الملكي جاء نتيجة لعمل الارسالية التبشيرية السريانية النسطورية التي وصلت من العراق الى تشانغان عام 744 واستقبلها الامبراطور الصيني بحفاوة. لقد سُميت الاديرة في البداية بالفارسية لان الكنيسة السريانية الشرقية (النسطورية) كانت تسمى ايضاً "بالكنيسة الفارسية" حيث كانت منتشرة حينها ضمن حدود الدولة الفارسية كما شاهدنا في الاجزاء الماضية من هذا المقال. لكن عندما احتل العرب بلاد فارس في القرن السابع وانهيار الدولة الفارسية وزولها وتحولها الى جزء من الامبراطورية العربية المسلمة، اصبح السريان المشارقة رعايا في الدولة العربية المسلمة، بعد ان كانوا من رعايا الدولة الفارسية. وبزوال الدولة الفارسية زال الاسم الفارسي السياسي والجغرافي Toponym من الكنيسة السريانية الشرقية، لكن بقي فيها اسمها الاصلي "القومي" فقط، أي السرياني، وذلك على اسم شعبها السرياني الذي كان يشكل الغالبية الساحقة فيها. لذلك أمَرَ الامبراطور الصيني هسوانغ تسونغ، وربما بناء على طلب السريان، ان تسمى الكنيسة النسطورية في دولته على اسم شعبها السرياني اي "الكنيسة السريانية".
 
راهب صيني يصبح بطريركاً على الكنيسة السريانية الشرقية:
 وفي نهاية القرن الثالث عشر يقع حدث فريد وهام للغاية في تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية فيحولها الى كنيسة عالمية، إذ ارتقى ولأول مرة في التاريخ راهب مغولي صيني الى الكرسي البطريركي باسم ياهبالاها الثالث (1281-1317)؛ وكان البطريرك دنحا الاول قد رسمه سابقاً مطرفوليطاً على خطاي ووانغ (أي ابرشية الصين)، وعيّن الراهب الصيني المغولي الناسك الربّان صوما زائراً عاماً للمجتمعات المسيحية في الشرق الاقصى.
 
أثناء فترة بطريركيته عاصر البطريرك ياهبالاها الثالث ثمانية ملوك مغول وقام برسامة 75 مطراناً. وكان قد عهد الى صديقه الصيني المغولي الراهب الناسك الربان صوما المولود في خانبليق (خانبليق هو الاسم المغولي للعاصمة بكين) بمهة سفير، وارسله عام 1285 بمهمة دبلوماسية خطيرة ممثلاً كنيسته والدولة المغولية الى كل من القسطنطينية وروما وباريس وغيرها، حيث اجتمع الى الامبراطور البيزنطي أندريكوس الثاني (1282-1328)، وفيليب الرابع ملك فرنسا (1285-1314)، وإدوارد الاول ملك انكلترا (1239-1307)، والبابا نيكولاس الرابع (1288-1292).


(يتبع الجزء الثامن)
الدكتور اسعد صوما




33


لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 5)
(الجزء الخامس)

الدكتور: اسعد صوما
ستوكهولم/السويد


عمل الكنيسة التبشيري في الشرق الاوسط وتوزيع كراسيها المطرانية

وصف أحد المؤرخين الكنسيين نشاط الكنسية السريانية الشرقية التبشيري بقوله: "كانت الكنيسة السريانية الشرقية الكنيسة الأكثر تبشيراً من كل الكنائس الاخرى". وقال مؤرخ كنسي آخر: "ان التاريخ الكنسي يمنح لقب "الكنيسة التبشيرية" الفخري للكنيسة السريانية الشرقية لأنها كانت الكنيسة الاكثر نجاحاً في القرون الوسطى".
 
ان المنطقة الرئيسية الواسعة التي كانت حقلاً للنشاطات التبشيرية السريانية في آسيا كانت تقع بين نهر أوكسوس  Oxus river (يسمى اليوم نهر أموداريا Amu Darya ) وبحر أورال في الغرب، وساحل الصين شرقاً، وجبال هيمالايا جنوباً، وسيبريا الجنوبية وبحيرة بلخاش في كازخستان وبحيرة بايكال (في سيبريا الوسطى) شمالاً. ان هذه المنطقة الشاسعة الارجاء من آسيا، بجبالها وهضابها وسهولها وصحاريها وأوديتها الخصبة وواحاتها تتطابق اليوم مع الصين (ضمنها التبت وسينكيانغ) وجمهورية منغوليا والجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفيتي سابقاً، وخاصة كازخستان وأوزبكستان.

ان المسيحية بلونها السرياني بدأت تقتحم تلك المناطق منذ القرون المسيحية الاولى. يذكر الفيلسوف "برديصان الآرامي" الرهاوي (154-222 ميلادي) في كتابه "شرائع البلدان ܢܡܘ̈ܣܐ ܕܐܬܪ̈ܘܬܐ" (طبعة هان دريفرس، صفحة 60) بعض المجتمعات المسيحية في صفوف الشعب الكوشي عند نهر أوكسوس الاعلى في الشرق الاقصى.  (ان القديس الشاعر مار أفرام يطلق على برديصان لقب  "الفيلسوف الآرامي ܦܝܠܣܘܦܐ ܐܪܡܝܐ" وكذلك يسميه "فيلسوف الآراميين ܦܝܠܣܘܦܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ" لأن السريان لغاية أيام مار أفرام في القرن الرابع  الميلادي لم يكن يسمّون أنفسهم ’ سرياناً ܣܘܪ̈ܝܝܐ ‘ بل ’آراميين ܐܪ̈ܡܝܐ‘ لكن اليونان كانوا يسمونهم سرياناً، (للاطلاع على رأي مار أفرام عن برديصان راجع كتابي الذي صدر لي باللغة السويدية في ستوكهولم عام 2005 بعنوان "مار افرام: حياته ومؤلفاته").
 ويعطينا التقليد السرياني فكرة عن انتشار المسيحية المبكّر بين القبائل الجيلانية جنوب غربي بحر قزوين بين قبائل الحاجوج والماجوج. وأنه كان في بلاد الديلم والجيلان كرسيان أسقفيان. ويذكر الكاتب السرياني توما المرجي (القرن التاسع) أسماء اساقفة هذين الكرسيّين.

كانت مدينة مرو منذ العصور المسيحية الاولى أهم مركز تجاري وثقافي ومسيحي للكنيسة  السريانية في جنوب نهر أموداريا، حيث كانت هذه المدينة تعدّ المحطة الاساسية التي انطلق منها المبشرون السريان مجتاجزين هذا النهر حتى وصولهم الى المواقع الهامة بخارى وسمرقند. وقد بشّروا بين الشعب الصوغدي الايراني الاصل وبين الشعوب التركية القديمة التي استوطنت هذه المنطقة. وكان ان تنصر البعض من هذه القبائل التركية والايرانية. وفي القرن الخامس وصل المبشرون السريان الى جزيرة سيلان (سريلانكا) وبلغوا اليابان وجزيرة جاوا الإندونيسية. ومن تأثير المبشرين السريان ان استعملت بعض الشعوب التركية والايرانية والمغولية الابجدية السريانة لكتابة لغاتها حينها.

تُحدِثنا أعمال المجمع الكنسي المعقود عام 424 عن وجود اسقفيات في مناطق أصفهان، الري، سجستان، نيشابور، هرات، مرو، أربشار، شوشتار، أصطخر، الخ. وان الكنسية السريانية الشرقية كانت تضم أثناء عقد أعمال المجمع ستاً وثلاثين أبرشية بادارة خمس مطرانيات تأتمر برئاسة الجاثليق. وفي اعمال مجمع عام 554 كان توزيع الكراسي المطرانية ܡܛܪܦܘܠܝܛܘܬܐ التي تدير الاسقفيات العديدة على النحو التالي:
 1. بيث هوزايى (خوزستان)
 2. نصيبين
 3. فرات ميشان
 4. حدياب
 5. بيث غرمايى
 6. ريوأردشير
 7. مرو (أنظر كتاب المجامع الشرقية المذكور سابقاً، صفحة 367).

ويبدو ان المطران ܡܛܪܦܘܠܝܛܐ المقيم في مرو (في تركمنستان الحالية) كان مسؤولاً عن كل اسقفيات الشرق الاقصى. وفي عام 498، لما خُلع الملك الفارسي المتسامح دينياً قواذ الاول (488-531) عن عرشه، فرّ الى تركستان مع حاشية تتضمن مطراناً وأربعة رهبان وشخصين علمانيين. وعى اثرها قامت الحاشية المذكورة بالتبشير بين الشعوب التركية حينها وحققت نجاحاً كبيراً بعد ان انضم اليها فريق سرياني نسطوري يضم بعض الكتاب والمعلمين والاطباء، مقدماً الدعم اللازم لهذا المشروع التبشيري.  وتحققت بعض النجاحات في اعتناق الكثير من الشعب الاويغوري التركي الاصل المسيحية (هناك نقش سرياني ضخم في سيانفو في الصين يتحدث عى وصول الرهبان السريان الى هناك وعملهم التبشيري "لقد زرتُ تلك المنطقة منذ حوالي  15 سنة وبحثتُ عن النقش السرياني المذكور وصورته واجريت عنه دراسة نشرتها حينها). ومن أعمال المجمع الكنسي عام 605 نعلم عن كيفية توزيع كراسي كنيسة المشرق السريانية ونعلم ان هنالك مطرانية في أذربيجان. لكن لا تتضمن اعمال هذا المجمع ذكراً لمطرانيات أو اسقفيات في آسيا الوسطى. ولعلّ مطران أذربيجان كان المسؤول عن آسيا الوسطى.

عندما تسلم الجاثليق السرياني يشوعياب الثاني (628-644) رئاسة كنيسة المشرق خطّط، ولأول مرة لتنفيذ برنامج تبشيري منظّم في الصين.

وفي عام 781 كتب احد ملوك الاتراك الى البطريرك طيمثاوس (778-820) طالباُ منه ان يعيّن لهم مطراناً ليدير شؤون شعبه التركي الروحية بعد تنصرهم معه. وكان هذا البطريرك مهتماّ جداّ بمشروع التبشير، إذ ارسل مطارنته ورهبانه بشكل منظّم جداً لم يسبقه اليه أحد للتبشير في مناطق مختلفة من الشرق الاقصى. يحدثنا الكاتب السرياني توما المرجي (النصف الاول من القرن التاسع) عن قيام الجاثليق طيمثاوس باختيار ثمانين راهباً ورسامة مطارنة وارسالهم بمهمة التبشير الى الشرق. وكان احد مبعوثي الجاثليق الى هناك ويدعى شوبحاليشوع (المجد ليسوع بالسريانية) يتقن اللغات التي يتكلمها الترك والتتر وغيرهم. وقد عيّنه طيمثاوس المذكور مطراناً على تركستان ليتمركز في سمرقند مع أسقفين يخضعان له في كل من بخارى (في اوزبكستان الحالية) وطاشقند (في تركستان الروسية اليوم).

كانت الارساليات السريانية تسلك الطريق التجاري القديم المعروف بطريق الحرير الشهير في عالم التجارة الشرقية القديمة، من بلاد فارس الى مرو، ومن هناك الى الصين برفقة التجار السريان الذين ساعدوهم في تحقيق رسالة التبشير. ويحدّثنا توما المرجي عن الاساقفة السريان الذين سافروا برفقة التجار سالكين طريق تجارة الحرير حيث كان للسريان عليه حركة تجارية ناشطة مستمرة. إذ أفلح الآراميون المسيحيون، المشهورون بالتجارة يومذاك، في تأسيس محطات تجارية ومراكز هامة على طول هذه الطريق. وكان هؤلاء التجار السريان يقومون بتقديم كل المساعدة والعون لاخوتهم السريان المبشرين في تحقيق رسالتهم. وكان المبشرون الذين يتوجهون نحو الشرق الاقصى يلتحقون عادة بقوافل التجار السريان المتّجهة نحو الصين مستخدمين في نفس الوقت تلك المحطات التجارية السريانية، كمراكز لنشاطهم الديني والثقافي ومنها ينطلقون الى اماكن أخرى.

ومن خلال هذه الطريق عبرت الارساليات السريانية وقطعت نهر تاريم ووصلت الى واحة طورفان في منطقة "أويغور" التركية شمال طريق الحرير حتى وصلت الى منطقة التبت حيث اعتنق الكثير الدين المسيحي. وفي القرن الثامن والتاسع كان هنالك مسيحيون عند الحوض الاعلى لنهر الهندوس ازاء المنطقة الحدودية الحالية ما بية الصين والهند. وقد تمّ العثور على شذرات أدبية مسيحية قرب بلاييق (Bulayiq)  بين الجدران المهدمة، والتي يعتقد انها آثار دير مسيحي قديم. وكان لمسيحيي طورفان مركز ديني آخر على الاقل خارج السور الشرقي لمدينة خوتجو (Idiqulshahri) Khotcho. وكان هنالك كنيسة صغيرة مزخرفة برسوم جدارية تعود الى عام 900 ميلادي.

ان الآثار المكتشفة باللغة الصوغدية (من اللغات الايرانية) والاويغورية (لغة تركية قديمة) تجعلنا نستنتج ان اعداداً من السكان المنحدرين من اصول ايرانية وتبتية كانوا قد اعتنقوا المسيحية وانهم استعملوا لغتهم المحلية الى جانب السريانية لغة الطقوس؛ واكتشفت بالسريانية بعض الكتابات في منطقة القبائل المنحدرة من الاصل التركي والمغولي، من القرن الحادي عشر لغاية القرن الرابع عشر. وكان المركز الرئيسي للمسيحيين في اقليم طورفان Turfan شمالي المدينة القديمة عند سفوح جبال تينسهان  Tienshan. غير ان طورفان كانت تخضع كنسياً لمطرانية هامي Hami أو ربما لمطرانية مدينة "المليق" Almaliq. ومن الكتابات الادبية والدينية المكتشفة في طورفان كتاباً طبياً باللغة المحلية لكن بحروف سريانية اسطرنجيلية.

ومن موقع المراكز الدينية والتجارية السريانية الهامة في مرو، وبخارى، وسمرقند، تقدم المبشرون السريان النساطرة شرقاً وبشروا بين قبائل التتر التي اعتنق بعضها المسحية السريانية في القرن العاشر والحادي عشر امثال قبائل كرايت، وأويغور، ونايمان، وماركيت، فكتب عبديشوع مطران مرو الى جاثليقه في حدود عام 1077 يبشّره بنبأ تنصير ملك قبائل كرايت المغولية واعتناقه المسيحية مع مائتي الف من شعبه.
(يتبع الجزء السادس)

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم / السويد



34
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 4)
(الجزء الرابع)

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم / السويد



توسع الكنيسة السريانية الشرقية وامتدادها:
التطور الهيكلي لكنيسة المشرق واستقلالها:

كانت المسيحية في بلاد المشرق حتى النصف الاول من القرن الخامس قد تأصلت وتوسعت دون تنظيم هيراركي يدير شؤونها مستقلاً عن انطاكية. لكن منذ نهاية القرن الخامس بدأت تنظم أمورها في كنيسة خاصة ضمن رقعة الحدود السياسية للدولة الفارسية. اذ كان هناك ما يقارب الثمانين أبرشية منظمة يتولاها أساقفة يخضعون إدارياً لستة مراكز متربوليتية، يديرها المتروبوليت "المطران الحاكم" في المدائن عاصمة الدولة الفارسية. ونظراً لموقع كرسيه في العاصمة وأهميته فانه ترأس جميع المراكز المتروبوليتية والاسقفية المذكورة ونال لقب "جاثليق". ويبدو ان هذه التنظيم الاداري في كنائس المشرق السريانية قد جاء نتيجة المجمع الكنسي المحلي الاول الذي عقدته هذه الكنائس عام 410 في المدائن برعاية اسحاق جاثليق المشرق وماروثا مطران ميفرقط، حيث سنّت فيه النظم والقوانين الكنسية، ودرست وظائف الكهنة وسيامتهم وتحديد مهام الاسقفية، وسلطة الجاثليق، واعتماد الاعياد المتداولة في كنيسة انطاكية (كتاب المجامع الشرقية طبعة جان باتيست شابو Synodicon Orientale, p. 262).

وهناك بالاضافة الى النظم الادارية التي أقرّها المجمع الكنسي المذكور، فانه حدد موضوع الايمان ايضاً، إذ قَبِل عقيدة الايمان المسيحي التي نُظّمت خلال المجمعين الكنسيّين المسكونيّين النيقاوي عام 325 والقسطنطيني عام 381. وهكذا اخذت كنيسة المشرق تدريجياً تنتظم إدارياَ لوحدها بمعزل عن سلطة كنيسة انطاكية. لكن هذه الاستقلال المعنوي عن انطاكية لم يمنع اساقفة هذه الكنيسة في خلافاتهم مع جاثليقهم من طلب المساعدة من بطريرك انطاكية، لأنه بنظرهم سلطة عليا نزيهة ومحايدة. لكن بسبب ضغوطات وممارسات الدولة الفارسية ومنفذيها فان المجمع الكنسي الذي عقد عام 424 حال دون طلب هذه المساعدات من البطريرك الانطاكي، اذ نصّ المجمع بعدم الاتصال بأية سلطة خارج حدود كنيسة المشرق تجنباً لغضب السلطة الفارسية السياسية التي أرادت أن تفهم المسيحيين السريان أنه لا ينبغي ان يكونوا أصدقاء بيزنطة عدوّة الفرس.  وبهذا القرار الذي اتخذ لاسباب سياسية فقد اصبحت كنيسة المشرق ذات استقلال ناجز تماماً بأمورها، يديرها رئيسها الجاثليق الذي اتخذ لنفسه بعدئذ اللقب المزدوج "جاثليق/بطريرك" (Synodicon Orientale, pp. 43-53). ان تبنّي هذا اللقب ايضاً مؤشر واضح في رغبة هذه الكنيسة باستقلالها التام.

ولإعلان المزيد من الولاء لحكّامهم الفرس كان السريان المشارقة قد اتخذوا في مجمع كنسي عقد عام 486 موقفاً واضحاً وصريحاً ضد لاهوت الغرب (انطاكية) يدعم  رأي "البطريرك نسطور" الذي قطعت انطاكية شركته من الكنيسة وحرمته في مجمع افسس عام 431. لكن رجال اللاهوت في كنيسة المشرق كانوا في الاساس وقبل ظهور قضية نسطور، على موقف لاهوتي يتّفق مع موقف نسطور. وهكذا فان قطع العلاقات مع انطاكية كان اسلوباً لنيل رضى الملوك والحكّام الفرس لإثبات الولاء واخلاصهم لهم من جهة، ولإزالة شبهات السلطة حولهم باتهامها لهم بانهم يتعاطفون مع بيزنطة المسيحية عدوة الفرس، فاضطروا للاثبات بانهم يختلفون في ايمانهم المسيحي عن اعداء فارس، فهذه انطاكية قد حرمت نسطور وهم الان يقبلوه. وأنهم بذلك أوجدوا عامل تفرقة وانفصال عن اخوانهم في سوريا. فكان ان استقلت الكنيسة السريانية الشرقية نتيجة لمبدأ الفعل ورد الفعل.

ونظراً لاضطهاد الفكر النسطوري في سوريا فقد لاذَ بالفرار البعض من معلمي اللاهوت المؤيدين للفكر النسطوري الى بلاد فارس، حيث تجمع فيها كوكبة من رجال اللاهوت النسطوري الذين أغنوا كنيسة المشرق. فعلى سبيل المثال كان هيبا الشهير الذي خلف رابولا كمطران على ابرشية الرها عام 435 والمتورط في المجالات اللاهوتية، يعلّم في كلية الرها داعماً العقيدة النسطورية حتى بعد أن حُرمَ نسطور ايضاً. إذ كان هيبا من اتباع ثيودوروس المصيصي الذي اصبحت مؤلفاته اساساً لتطوّر النسطورية، حيث ساهم "هيبا" في الترجمة الى السريانية كتب اساطين الفكر النسطوري ثيودوروس المصيصي وديودوروس الطرسوسي وثيودوريطس القورشي ونسطور، واعتمدت مؤلفاتهم كمواد للتدريس في الاكاديمية السريانية في الرها. كل هذه الحوادث المقصودة وغير المقصودة أدت في النهاية الى تطور محلي في الكنيسة الشرقية وعملت على تقوية طابعها وشخصيتها المستقلة حديثاً. حتى أصبحت هذه الكنيسة مؤسسة تامة بلاهوتها وطقسها وكهنوتها وادارتها.

أسباب توسع كنيسة المشرق:
بعد ان انتظم التسلسل الكهنوتي الهرمي بمختلف درجاته بشكل ثابت في كنيسة المشرق السريانية مع رسوخ العقيدة النسطورية، بدأت الكنيسة تفكر بتقوية نفوذها العلمي والمعنوي وتوسيع مجال عملها ونشاطها وحدود كرسيها وابرشياتها. كان هناك جملة عوامل داخلية وخارجية أدّت الى هذا التوسع والانتشار وأهمها:
1. تجمُّع الكثير من السريان المشارقة الذين اعتنقوا الفكر النسطوري في الدولة الفارسية (وضمنها العراق الحالي) واستقرارهم بعيداً عن الدولة البيزنطية، وبعيداً عن انطاكية والقسطنطينية، وبعيداً عن التأثير اللاهوتي والجدلي اليعقوبي والخلقيدوني، والنزاع الدائر ما بين الخلقيدوني واللاخلقيدوني، اي أنهم كانوا الى حد ما، في مأمن من الصراعات الفكرية التي ضربت كنيسة أنطاكية. وخاصة بعدما اغلق الامبراطور زينون كلية الرها السريانية عام 489 بسبب التعاليم النسطورية وأنشأ مكانها كنيسة سُميّت "كنيسة والدة الله" لان النساطرة كانوا يرفضون هذا اللقب للعذراء مريم وكانوا يفضلون بدلا عنه لقب "والدة المسيح"،  وعلى أثر ذلك هاجر الكثير من المعلمين الى داخل حدود الدولة الفارسية.
2. كانت الرقعة الجغرافية الكبيرة للدولة الفارسية مفتوحة أمامهم للتبشير والتوسع الكنسي دون عائق أو مانع يحول دون ذلك.
3. كانت "المدائن" (أي سلوقية وقطسيفون) عاصمة الدولة الفارسية، نقطة التقاء هامة لمختلف شعوب الدولة الفارسية، ومحطة عبور للقوافل التجارية العديدة القادمة من وسط آسيا والهند والصين، الخ. حيث تعرّف رجال الكنيسة السريانية الشرقية على تجّار وأغنياء من مختلف بلدان الشرقين الأدنى والأقصى، ونجحوا في عقد صداقات وعلاقات مودّة مع الكثيرين منهم أفادتهم أثناء حملات التبشير وخاصة على طريق الحرير التجاري الشهير.
4. السريان سكان المدن في الدولة الفارسية كانوا من شريحة التجّار والحرفيين الذين يتمتعون بوضع اقتصادي جيّد قياساً بفئات الشعب الاخرى. وقد احتلوا مكانة هامة في حياة المدن الايرانية، إذ شكلوا "تعاونيات" جماعية موحّدة كنوع من التنظيم الصناعي (تشبه نقابات العمال والتجار والموظفين اليوم)، حيث ترأس كل جمعية تعاونية شيخ أو معلّم يرعى هذه الحرفة أو تلك. وكانت جمعيات الحرفيين السريان هذه تقدم الدعم المالي للكنيسة لقاء الرعاية الأدبية والدينية والاجتماعية التي تقدّمها الكنيسة بدورها لهم. وكان رؤوساء الحرف والورشات الصناعية الكبيرة وتجّار المدن المنضوية في تلك الجمعيات التعاونية يضعون تواقيعهم وأختامهم في نهاية محاضر جلسات اجتماعات الكنسية. وبهذا الدعم المالي كان يسمح بتنفيذ المشاريع التبشيرية والتوسع.
5. الحماس الشديد لدى السريان المشارقة للإنتظام في سلك الرهبنة والاخلاص لنظامه المحكم حسب الدرجات الكهنوتية وطاعة الاصغر درجة للاكبر، والاستعداد النفسي العالي للعمل التبشيري لدرجة التضحية. كل هذا كان له دوره الهام في توجّه هذه الكنيسة لتوسع نشاط عملها متجاوزة حدود الدولة، وخاصة ان مجتمعات مسيحية مبعثرة في مناطق نائية بعيدة كانت موجودة منذ قرون المسيحية الاولى.
6. بعد سيطرة العرب المسلمين على المنطقة، وجد السريان المسيحيون المشارقة أنفسهم في وضع جديد حرج عليهم التأقلم معه وتطبيع عاداتهم تبعاً لذلك. فالاسلام تعامل مع السريان المسيحيين على انهم أهل ذمّة، اي انهم مواطنون من الدرجة الثالثة في المجتمع بعد العرب المسلمين وبعد الموالي المسلمين. وسنّت قوانين اسلامية، تدريجياً، تمنع التبشير والعمل على نشر الرسالة المسيحية. لذلك وجدت الكنيسة السريانية أنها بدأت تخسر مواقعها رويداً رويداً، وتنتقل من كونها أغلبية ساحقة في العراق لتتحوّل في النهاية الى اقلية. إزاء هذا الطوق الضارب حول الكنيسة الشرقية، فقد ارادت ان تحوّل البعض من نشاطها ذاك الى خارج حدود الدولة العربية المسلمة الجديدة، وأن تشرع في فتح مناطق جيدة تكون مصدر قوة لها.
7. كان اشتغال السريان بالثقافة السريانية خاصة والثقافات العالمية الاخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، قد حمل اكليروسهم ومثقفيهم على التفكير بالوصول الى مناطق مجهولة بعيدة عن مصادر الثقافات وذلك لتعليم شعوبها مبادىء الدين الجديد كتابة وقراءة. إذ كان هذا بمثابة التحدّي بين الثقافة والجهل، حين قبل السريان نداء التحدي النفسي هذا، في نشر ثقافتهم بين الامم المعدومة الثقافة كبلاد منغوليا.
(يتبع الجزء الخامس)

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم / السويد


35
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 3)
(الجزء الثالث)

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم / السويد

(مقدمة:
 تحدثنا في الجزء الاول من هذه المقالات عن الوضع السياسي العام في الشرق الاوسط عندما ظهرت تعاليم الديانة المسيحية وانطلاقتها الاولى، وتحدثنا عى الصراع بين الفرس والرومان واثره السلبي على السريان وعن الاضطهادات العنيفة التي واجهها المسيحيون في فارس. وفي الجزء الثاني تحدثنا عن الكنيسة بين القرن الخامس والسابع وعن بعض الاشخاص السريان الذين ساهموا في احلال السلم بين الفرس والرومان؛ وتحدثنا عن مجامع الكنيسة التي ساهمت في تنظيم الكنيسة وتحديد سلطة كراسيها المطرانية والاسقفية.)

الكنيسة السريانية الشرقية تحت حكم العرب المسلمين

المسيحية السريانية بين القبائل العربية قبل الاسلام:
كانت المسيحية السريانية منتشرة بين مختلف القبائل العربية في الجزيرة العربية وأطرافها. وكانت الدول العربية المتمدنة قبل الاسلام كدولة الغساسنة في جنوب سوريا ودولة المناذرة في جنوب العراق تدين بالمسيحية المرتبطة بالكنائس السريانية. وكانت هنالك  مجتمعات مسيحية عدة في  الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وذلك قبل قيام المذهب النسطوري. فمنذ بداية القرن الثالث كان هنالك اسقفية في بيث قطرايى ܒܝܬ ܩܛܪ̈ܝܐ إزاء البحرين. وقد انتشرت المسيحية بين قبائل حِمْيَر وغسان وتغلب وبني عقيل وبني شيبان (ثعلبة) وبني بكر بن وائل وتنوخ وطي وقضاعة وغيرها بفترة طويلة قبل الاسلام، ويذكر المؤرخ سوزمن (Sozomen, VI, 38) أن ملكة عربية مسيحية تدعى ماوية (ربما مارية) استقدمت اسقفاً كي يرعى شؤونها وعشائرها المسيحية.

يُعتقد ان المسيحية السريانية النسطورية وصلت الى الجزيرة العربية على يد المسيحيين السريان النساطرة الهاربين من اضطهاد شابور الثاني الفارسي (310-379) عند لجوئهم الى الاقاليم المجاورة لجنوب العراق. وفي القرن الرابع استحدثت عدة كنائس واسقفيات في سائر انحاء الجزيرة العربية. يحدثنا كتاب الحميريين عن المجازر الفظيعة التي تعرض لها العرب المسيحيون من نجران وحِمْيَر على يد الملك العربي اليهودي مسروق عام 523، ما حملهم على طلب النجدة من الحبشة. فيهب الاحباش المسيحيون لنجدتهم عام 525 ويُهزم مسروق. وفي القرن الخامس كان هنالك، على ما يُعتقد، ستة مطارنة في الجزيرة العربية والعديد من الكنائس في اليمن في صنعاء وعدن وظفار. وكان الملك اليمني العربي المسيحي أبرها الأشرم في النصف الثاني من القرن السادس قد بنى كاتدرائية في صنعاء وعمل على دعم المسيحية وتنشيطها كثيراً.


الكنيسة تحت الحكم الاسلامي:
أثناء ولاية الجاثليق السرياني الشرقي يشوعياب الثاني (628-644) خرج العرب المسلمون من جزيرتهم واحتلوا مدينة الحيرة عام 635. وعلى اثر معركة القادسية عام 636 واندحار الفرس سيطر العرب على المدائن عاصمة ملوك الفرس ومركز كرسي الجاثليق السرياني الشرقي. وقد اعتقد الجاثليق يشوعياب بان سيطرة العرب ليست الا مجرد غزوة، ولم يعلم ان معركة القادسية كانت مفصلاً تاريخياً في تاريخ العراق لأن العرب جاؤوا ليبقوا في المنطقة ويصلوا بعدها حتى الى الهند عام 642. لكنه بعد مرور عدة أشهر أيقن أن كنيسته قد دخلت فعلاً مرحلة جديدة بعدما أصبحت تحت حكم العرب المسلمين. وسرعان ما وردته الاخبار عن وقوع كنيسة انطاكية ايضاً في قبضة العرب المسلمين. كان الجاثليق يشوعياب حذراً من التغييرات السياسية في حدود كنيسته ويتوقع أن يسترد الفرس العراق. غير ان معركة نهاوند عام 641 كانت المعركة المصيرية والاخيرة مع الفرس حيث قررت نهائياً مصير دولتهم وتحولها بالتالي الى جزء من الامبراطورية العربية الاسلامية الجديدة.

لم يكن العرب المسلمون مختلفين كثيراً عن السريان المسيحيين. إذ قبل ظهور الاسلام كان المسيحيون من العرب تحت ادارة الكنائس السريانية، وبعد ظهور الاسلام أصبح جميع السريان اتباعاً في دولة العرب المسلمين. ولغة العرب في الاساس قريبة جداً من اللغة السريانية الآرامية. ودين العرب الجديد قائم على تعاليم الايمان بالله كدين السريان المسيحيين. وكانت المسيحية موجودة في مكّة والمدينة، وحتى أن رسول العرب محمد كان على علاقة طيبة مع المسيحيين.

بعد حكم الخلفاء الراشيدين الذي استغرق حوالي الثلاثين سنة  من 633 لغاية 661، والحكم الاموي في دمشق ما يقارب التسعين سنة من 661-750، سيطر العباسيون على الخلافة واسسوا عاصمة جديدة لهم في بغداد، وقد دام حكمهم خمسة قرون تقريباً من 750 لغاية 1258.

أثناء الاحتلال العربي الاسلامي كانت الغالبية المطلقة من سكان سوريا والعراق من الآراميين المسيحيين (السريان): اليعاقبة والملكيين في سوريا، والنساطرة في العراق. وقد اعتمد عليهم العرب في تسيير دفة حكمهم وخاصة في مجالات الادارة والشؤون المالية وجباية الضرائب والتجارة ومهام القضايا العلمية والطبية نظراً لافتقار العرب الى شتى هذه المجالات. وقد حدد القرآن علاقة الاسلام مع غير المسلمين وخاصة أهل الذمة وأهل الكتاب من المسيحيين واليهود وغيرهم. وقد فضّل القرآن المسيحيين على باقي الاديان اذ اعتبرهم أقرب الناس الى الاسلام.

كان سكان البلاد الاصليين من السريان والفرس الذين، على حد قول المؤرخين قد "حُملوا عن طريق القوة أو الضغط آو الاضطهاد على اعتناق الاسلام وتمتعوا اسمياً بحقوق الرعوية الاسلامية. وكان دأبهم ان يلتحقوا ببعض القبائل العربية عن طريق الولاء ليعتبروا من أفرادها ويحسبوا من مواليها، فعرفوا بالموالي. وشكلوا الطبقة الاجتماعية الدنيا في المجتمع الاسلامي. ولهذا امتعضوا من وضعهم وانحازوا الى الشيعة في العراق والخوارج في فارس. وكان منهم من أصبح من أقوى دعاة دينه الجديد وأشدهم اضطهاداً لأبناء دينه السابق. وعن طريق هؤلاء الموالي انتقلت ايضاً علوم وفنون وآداب قومهم الى ابناء دينهم الجديد|" (فيليب حتي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ج2، ص 97-98).
وقد اعتبر القرآن المسيحيين "أهل الذمة" أي أهل الكتاب وشملهم بالامان في عدة سور قرآنية (مثل سورة التوبة 29، وسورة البقرة 99، وآل عمران، الخ)، لكن فرضت عليهم ضريبتا الجزية والخراج المشابهة لتلك التي كان قد فرضها ملوك الفرس على المسيحيين لقاء منحهم قسطاً من الحرية الدينية.

كان الاسلام بشكل عام دين العرب، لذا أُجبرت القبائل العربية المسيحية مع مرور الزمن على اعتناقه، فمثلاً ان الوليد بن عبدالملك قتل أمير قبيلة تغلب المسيحية لامتناعه عن اعتناق الاسلام (كتاب الاغاني للاصفهاني، ج1، ص 99). وكان المهدي العباسي (775-785) قد تعجب عندما علم بانه لا زالت هناك قبائل عربية تدين بالمسيحية وتقيم بجوار حلب، فخيّرهم بين الاسلام والموت، فاعتنقوا الاسلام وهدم كنائسهم وأحرق كتبهم.

ان وضع المسيحيين كان بشكل سلبي منتظماً الى حد ما في الدولة الاسلامية الى أن جاء الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز الذي فرض عليهم قوانين التمييز العنصري المهينة للانسان والمعروفة لدى الجميع "بالشروط العمرية" الجائرة. كما ان بعض التقاليد السريانية النسطورية تفيد بأن الجاثليق السرياني النسطوري يشوعياب الثاني كان قد قابل نبي العرب محمداً فنال منه وثيقة تمنح السريان النساطرة جملة من الامتيازات، وان الخليفة عمر بن الخطاب قد جدد هذه الوثيقة. إلا اننا لا نستطيع الاخد بهذا التقليد الضعيف الذي لا يستند الى وقائع ثابتة. لكن يمكن القول اجمالاً ان معاملة الخلفاء المسلمين للمسيحيين كانت تقريباً معتدلة الى حد ما وتتسم باحترام رجال الدين، لكن معاملة الحكام والولاة كانت متقلبة تخضع لأهوائهم ونزواتهم. لذلك كان التعدي على المسيحيين واضطهادهم والتنكيل بهم يتكرر بين الحين والآخر خلال مسيرة التاريخ الاسلامي.

ولما كانت القوانين الاسلامية قوانين دينية فحسب فلم تشمل بالتالي في خصوصياتها غير المسلمين، لذلك بقيت قوانين ونظم غير المسلمين سارية المفعول بين أهل الذمة. وبموجب هذه القوانين الاسلامية أصبح المسلمون يمثلون الطبقة العليا في المجتمع بينما غير المسلمين كانوا يمثلون الطبقة الدنيا. وقد زوّد الخلفاء رؤساء الكنائس والاديان بوثائق تؤكد سلطتهم الرعوية على رعاياهم وكنائسهم، وبالمقابل كان هؤلاء يضمّنون وعظاتهم مدح الحكام والاشادة بسياستهم.

لقد اعترف العرب بفوقية الثقافة السريانية العالية وحاولوا الاستفادة منها في معاهدها العلمية وجامعاتها في جنديسابور ومرو والرها ونصيبين وقنشرين وغيرها. وليس غريباً ان تكون حاشية أكثر الخلفاء العلمية والطبية على الاغلب من السريان. ان كتب التاريخ العربية والسريانية زاخرة باخبار العلماء والادباء السريان (نساطرة ويعاقبة) الذين ساهموا فعلاً في بناء الحضارة العربية الاسلامية.
يتبع الجزء الرابع

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم/ السويد


36
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (ج 2)
(الجزء الثاني)


الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم / السويد

(ملاحظة: ربما تساعده هذه الدراسة الاشوريين والكلدان اليوم على اكتشاف الأصل المشترك والتاريخ والتراث المشترك فيتلاشى الانغلاق السلبي على الذات، وتخف حدة الاصولية، وتزول الكثير من مشاكل اليوم)
(لقد قمتُ باستعمال تسمية "الكنيسة السريانية الشرقية" لان هذا هو اسم الكنيسة العلمي الذي نستعمله في الاوساط الاكاديمية، كما ان بقية الاسماء والاصطلاحات هنا اوردناها كما كانت مستعملة في زمن وقوع الاحداث)


الكنسية في القرن الخامس:
كان هناك تنظيم وتوثيق لكنيسة المشرق منذ القرن الخامس ولغاية الثامن من خلال المجامع الكنسية المحلية التي عقدتها منذ عام 410 ولغاية عام 775 وعددها ثلاثة عشر مجمعاً. ويُعتقد بان الذي عمل على جمع أعمال المجامع المذكورة هو الجاثليق طيمثاوس الاول (780-823). وقد قام عالم السريانيات جان باتيست شابو الفرنسي بنشر هذه المجامع تحت اسم المجامع الشرقية Synodicon Orientale عام 1902. مثلما نشر نظيره العلامة الاستلندي مجامع الكنيسة السريانية الارثوذكسية  1975-1976.

في مستهل القرن الخامس كان هناك شخصان لعبا دوراً قيادياً وتنظيمياً هاماً في حياة كنيسة المشرق وهما مار ماروثا أسقف ميافرقين (توفي 420) ومار اسحاق جاثليق المشرق (توفي 410) حيث ترأس الاثنان معاً أول أهم مجمع كنسي مشرقي عقد عام 410 ويعرف بمجمع مار اسحاق.

لكن يبدو ان ماروثا بالاضافة الى مهامه الكنسية والاسقفية كان رجلاً سياسياً كبيراً بدلالة قيامه بمهام سياسية رفيعة المستوى ادّت الى نشر السلام بين الفرس والرومان. ذاك ان علو كعبه في العلوم اللاهوتية والكنسية وتمرسه في مهنة الطب واتقانه اللغات الفارسية واليونانية بالاضافة الى لغته الام السريانية وخبرته العالية في الادارة قد مكنته ليقوم بدور الوسيط بين هاتين الدولتين. لقد حل مرتين في البلاط الفارسي كسفير يمثل القسطنطينية وملوكها الاباطرة أركاديوس (395-408) وثيودوسيوس الثاني (408-450) لدى الملك الفارسي يزدجرد الاول (399-421). وكان في مهمته الاولى الدبلوماسية يمثّل الامبراطور أركاديوس في حضور مراسيم تسلّم يزدجرد عرش دولته، واما تمثيله الدبلوماسي الثاني فكان عام 408 لإبلاغ يزدجرد بتسلم ثيودوسيوس عرش دولته ( (Socrates, VII, 8 ، وكان خلال احدى مهامه السياسية قد عالج الملك الفارسي من مرض خطير ألم به. ومع الوقت توطدت بينه وبين يزدجرد صداقة متينة انعكست خيراً على حياة الكنيسة. وقد نجح مار ماروثا حلال مساعيه السياسية في انهاء اضطهاد الفرس للكنسية، واعتراف الملك الفارسي بسلطة الجاثليق مار اسحاق كرئيس روحي عام لجميع المسيحيين في الدولة الفارسية، وفي اعادة تنظيم ترميم واصلاح الكنائس التي دمرت اثناء الاضطهادات السابقة، وتأمين حرية وسلامة تنقل الاكليروس المسيحي ضمن حدود الدولة. واستغل مار ماروثا السرياني (اسمه بالسريانية ܡܪܘܬܐ يعني السيادة والجلالة) فرصة وجوده في الدولة الفارسية فقام بتجميع أخبار شهداء الاضطهادات.

وبفضل ماروثا انتظت الكنيسة في سلطة مركزية بادارة مطران العاصمة الفارسية الذي حمل لقب جاثليق وثم جاثليق بطريرك. وخلال سفره الى الدولة الفارسية كان ماروثا قد حمل معه رسالة موقعة من بعض مطارنة سوريا وبالاخص أساقفة انطاكية وحلب والرها وتلا وآمد يحثون فيها كنيسة المشرق ان تتبنى القوانين والنظم السائدة في الكنسية الانطاكية. وعرضت الرسالة على الملك يزدجرد فوافق على عقد مجمع لاساقفة الشرق عام 410 ضم أربعين اسقفاً، وحضره ممثلان عن الملك، حيث اعلنا باسم الملك انتهاء الاضطهاد والاعتراف بسلطة مار اسحاق ودعم سياسة ماروثا ومار اسحاق.

كان هذا المجمع هاماً جداً في حياة كنيسة المشرق لانه تبنى قانون الايمان المسيحي ܩܢܘܢܐ ܕܗܝܡܢܘܬܐ الذي صاغه اللاهوتيون في مجمعي نيقية 325 والقسطنطسنية 381. واقر المجمع الاحتفال بالاعياد الرئيسية في نفس المواعيد والاوقات المعمول بها في الكنيسة في سوريا. كما سن المجمع 21 قانوناً هاماً كانت اساساً في تنظيم حياة الكنيسة واكليروسها واسقفياتها وادارتها وتقسيم المطرانيات. وربما اهم قوانين هذه المجمع كان قانون رقم 13 الذي يتضمن توحيد الاعياد مع كنيسة الغرب، وكذلك القانون 21 الذي عمل على تقسيم الكنيسة الى مطرانيات واسقفيات وهي:
1.الكرسي الاول وهو كرسي المدائن، يترأسه الجاثليق الذي هو رئيس المطارنة والاساقفة، ويساعده في مهمته أسقف كشكر.
2. اسقف بيث لافاط  وهو مطران مقاطعة بيث هوزايى (خوزستان)
3. اسقف نصيبين وهو مطران اقليم بيث عربايى
4. اسقف فرات وهو مطران اقليم ميشان (منطقة البصرة الان)
5. اسقف اربيل وهو مطران منطقة حدياب
6. اسقف كرخ سلوخ وهو مطران اقليم بيث غرمايى.
وفي نهاية جدول الاساقفة هنالك ذكر لأساقفة في مناطق نائية في فارس وجزر الخليج الفارسي وفي ميديا وميديا العليا وحتى في خوزستان. ويتصدر جدول التواقيع اسماء مار اسحاق ومار ماروثا، وبينهم تواقيع اربعة مطارنة و 32 اسقفاً.

لقد خلف ماروثا في مهامه السياسية بين الفرس والبزنطيين مار ياهبالاها ܝܗܒܐܠܗܐ الذي انطلق حوالي عام 418 على رأس وفد الى القسطنطينية ممثلاً يزدجرد لدى الامبراطور البيزنطي. ثم تلاه في نفس المهمة السياسية أقاقيوس مطران آمد الذي أرسل كسفير ممثلاً الامبراطور البيزنطي ثاودوسيوس الثاني.  ويعتقد ان أقاقيوس قد لعب دور الوسيط السياسي في المفاوضات لانهاء الحرب بين الفرس والرومان عام 422. وذكر سقراط المؤرخ بان أقاقيوس قد افتدى سبعة آلاف من الاسرى المحتجزين لدى البزنطيين بعد ان باع امتعة الكنيسة وافتداهم وأرسلهم الى ديارهم في الدولة الفارسية ( (Socrates, VIII, 21
أما في المجمع الذي عقد عام 420 فنفهم من مجرياته بان سلطة الجاثليق كانت تشمل 28 كرسياً اسقفياً. وقد درج في جدول اعمال هذا المجمع طلب للتمسك بالقوانين الخاصة بكنيسة الغرب (سوريا) والعمل بها بناء لمقررات مجامجع أنقرة وقيصرية الجديدة وغنغرة وأنطاكية ولاذقية فريجيا.
أما في مجمع عام 424 فكان هنالك 36 اسقفاً بالاضافة الى الجاثليق، وقد ركز هذا المجمع على استقلالية هذه الكنيسة في معالجة أمورها بنفسها دون طلب مساعدة من اساقفة بيزنطا. وفي هذا المجمع نسمع عن اساقفة على ابرشيات بعيدة في آسيا مثل مرو، وهرات، وسجستان، واصفهان، واصطخر، الخ. هذا كله يدل دون شك على مدى توسع هذه الكنيسة العظيمة وانتشارها في آسيا.

وفي مجمع ساليق 486 دُرست قضية رهبان أقليم  بيث آرامايى ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ (وسط وجنوب العراق) وتجوالهم ونشرهم التعاليم المخالفة لما هو معمول به في الكنيسة. وكذلك جاءت مقررات المجمع في تفضيل زواج الاكليروس كله استاداً الى رسالة. طيموثاوس الاولى 3:1-5 بأن المطران ينبغي ان يكون متزوجاً. ويعتقد ان هذا قد جاء بناء لطلب برصوما مطران نصيبين الذي كان متزوجاً. وفي مجمع عام 497 جاء تأكيد على زواج الاكليروس المسيحي بدءاً من الجاثليق ونزولاً لأصغر رتبة كهنوتية. وكان هذا تكراراً لافكار برصوما مطران نصيبين. وجاء في كتاب المجامع الشرقية (Synodicon Orientale, p. 321) بان الملك الفارسي أمر بعقد مجمع للنظر في مسألة زواج الاكليروس.

كان القرن الخامس مسرحاً لتصارع الافكار اللاهوتية المتنافسة. وكانت المجامع "المسكونية" المنعقدة بين عام 431 و 451 في الكنيسة الانطاكية محطات متباينة متميزة في تاريخها وفكرها اللاهوتي وخاصة بعد ان تبنت كنيسة المشرق عقيدة الايمان النيقي سابقاً. والآن أخذت الصراعات الفكرية المسيحية الدائرة في كنسية انطاكية تؤثر على كنيسة المشرق ايضاً وخاصة في قضية الطبيعة الواحدة والطبيعتين في السيد المسيح.
كان المثقفون في كنيسة المشرق قد تخرجوا غالباً من الكليات السريانية في الرها ونصيبين. وكان هؤلاء يدعمون الفكر اللاهوتي النسطوري. وبعد تخرجهم تسلموا المناصب الكنسية العليا في كنيسة المشرق عمدوا الى نشر هذا الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق. ومن هؤلاء نذكر أقاقيوس المدرّس في  معهد ساليق الذي أصبح رئيساً لكنيسة المشرق عام 485، ويوحنا الكرخي وبرصوم النصيبيني وبولص من بيث ليدن، ومعنو من بيث أردشير، وابراهام من بيث ماداي، ونرساي المدرس من كلية نصيبين. لقد كان فكر هؤلاء خلقيدونياً يؤمنون بالطبيعتين، الا انهم كانوا يرفضون شجب نسطور.

الكنسية في القرن السادس والسابع:
أخذت الكنيسة في مستهل القرن السادس تعاني من انشقاق في هيكلية ادارتها على أثر قرار الجاثليق شيلا (505-523) بأن يخلفه على سدة الرئاسة صهره إليشع الطبيب المشهور يومذاك رغم القوانين المرعية الاجراء في الكنيسة، ومعارضة الاساقفة لهذا القرار. وعيّن الاساقفة مرشحاً من قبلهم هو نرساي من خوزستان فاصبح للكنيسة بذلك رئيسان إليشع ونرساي وكل واحد يلاقي دعماً وتأييداً من طرف أو أكثر.

في عام 540 خرق خوسرو الفارسي السلم المعقود بين الفرس والرومان بتجديده الحرب ضد بيزنطا في اغارته على سوريا. ثم تلت ذلك فترات من السلم التي اعقبها سلسلة حروب أخرى. وقد تميزت هذه الحروب بنجاح الجيوش الفارسية في جلب الكثير من الاسرى المسيحيين من المناطق السورية ونقلهم الى فارس. وكذلك لم تخلُ ولاية خوسرو من بعض الاضطهادات والتعسفات ضد الكنيسة. وفي عام 544 عقد مجمع في كنيسة المشرق وافق الاساقفة على قبول واستعمال مؤلفات وشروح ثيودور المصيصي عن عقيدة الايمان النيقاوي (يعتبر ثيودور المصيصي بطل الفكر اللاهوتي النسطوري). وفي مجمع عام 554 ينال الجاثليق لقب بطريرك، وهذا بحد ذاته يعتبر حدثاً هاماً في استقلالية كنيسة المشرق.

كانت علاقة خوسرو الثاني (591-628) جيدة مع الامبراطور البيزنطي موريقي (موريس) (انظر ابن العبري، مختصر الدول، طبعة صالحاني، صفحة 154) لمساعدته ضد منافسه بهرام، قد انعكست خيراً وارتياحاً على كنيسة المشرق السريانية. وكان لزوجتي الملك خوسرو المسيحييتين "شيرين الآرامية ومريم الرومية" كما تسميهما المصادر السريانية، دور في موقفه الايجابي من المسيحيين. لكن علاقة خوسرو تسوء مع البيزنطيين فيستعدي المسيحيين في دولته، وخاصة أثناء حكم هرقل وحربه مع خوسرو عام 612، الشيء الذي ساهم في سقوط الدولتين بيد العرب المسلمين بعد حوالي عقدين من الزمن. لكن موقف خوسرو يعود الى ما كان عليه من ايجابية نحو المسيحيين بعدئذ.

وعندما تسلم الملك الفارسي قواذ الثاني عرش الدولة عام 628 منح الحرية التامة لمسيحيي دولته، وهذا ما افسح في اجتماع مجمع الاساقفة وانتخاب جاثليق للكنيسة هو يشوعياهب الثاني المتخرج من جامعة نصيبين، وكان مطراناً متزوجاً. وأثناء حكم الملكة بوران الفارسية (629-630) انطلق الجاثليق النسطوري يشوعياب على رأس وفد متوجهاً الى حلب لملاقاة الامبراطور البيزنطي هرقل، وذلك كتعبير ودّي من الملكة الفارسية بوران للامبراطور البيزنطي هرقل اثناء وجوده في سوريا في صيف عام 630 (اي خمس سنوات قبل احتلال العرب لسوريا عام 635). ومن خلال اللقاء اللاهوتي اقتنع القيصر بارثوذكسية الكنيسة السريانية الشرقية. واشترك كل من الامبراطور والجاثليق في تناول القربان معاً. كما يقول الكاتب السرياني توما المرجي (كتاب الرؤساء، 2، 2، 4، صفحة 123-127). وقد عمد احد أعضاء الوفد الى سرقة وعاء ذخائر الرسل ونقله معه الى دير عابي (توما المرجي في نفس المصدر، صفحة 127).
كان السريان المسيحيون في العراق وسوريا مضطهدين بشكل عام من قبل الفرس والرومان، كما ان الكنيسة البيزنطية كانت تنظر لهم شزراً على انهم هراطقة، لكن رغم هذا فانهم لم يستسلموا بل كانت الافكار النسطورية واليعقوبية قوة دافعة لهم لمقاومة الاحتلال السياسي والديني؛ وعلى حد تعبير المؤرخ البرفسور جون جوزف (وهو سرياني نسطوري مقيم في امريكا) بقوله: "ان المسيحيين السريان الآراميين تحدّوا الكنيسة الرومانية الاغريقية في سوريا باسم النسطورية واليعقوبية"، انظر كتابه:
John Joseph, Moslem-Christian Relations and Inter-Christian Rivalaries in the Middle East, New York 1983, page 9.

(يتبع الجزء الثالث)

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم/ السويد

37
لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية
(الجزء الاول)

الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم/السويد

(اقوم بنشر هذه الدراسة المتواضعة هنا بعدة اجزاء، لأسلط الضوء على عظمة هذه الكنيسة عندما كان ابناؤها جسماً واحداً متحداً قبل ان ينقسم الى كلدان وآشوريين، حيث صنعوا امبراطورية كنسية عظيمة امتدت من الشرق الاوسط الى سنترال آسيا والصين والهند.  الآشوريون والكلدان اليوم هم احفاد هؤلاء الأبطال الذي تلمذوا عشرات الشعوب وادخلوها في المسيحية عندما كانوا كنيسة واحدة وشعباً واحداً، فهل هناك اية فرصة لهم للتعاون والتآلف والتقارب وربما الاتحاد؟ ربما تساعدهم هذه الدراسة على اكتشاف الأصل المشترك والتاريخ المشترك فيتلاشى الانغلاق على الذات، وتخف حدة الاصولية وتزول الكثير من مشاكل اليوم)
(ملاحظة: قمتُ باستعمال تسمية "الكنيسة السريانية الشرقية" لان هذا هو اسمها العلمي الذي نستعمله في العالم الاكاديمي، كما ان بقية الاسماء والاصطلاحات هنا اوردناها كما كانت مستعملة حينها)

أثناء ظهور التعاليم المسيحية كانت البلاد السريانية وهي سوريا القديمة والعراق ترزح تحت حكم امبراطوريتين كبيرتين متنافستين هما الامبراطورية الرومانية (البيزنطية بعدئذ) في الغرب والامبراطورية الفرثية Parthia  (أو الفارسية الساسانية منذ القرن الثالث الميلادي) في الشرق، باستثناء بعض القطاعات والجيوب التي كات تشغلها بعض الدويلات والامارات الارامية المتفاوتة الحجم والاهمية ومنها: الرها (أورفا) وأمد (دياربكر، في تركيا)، الحضر Hatra وسنجارا (في العراق)، وتدمر وحمص ودمشق (في سوريا)، ودولة النبط (في الاردين)، الخ، يحكمها امراء آراميين أو عائلات برجوازية ذات تبعية سياسية للفرس أو الرومان.

وكانت العداوة المستحكمة بين هاتين القوتين الجبارتين الفرس والرومان، قد أثّرت سلباً على المنطقة السريانية الى حد كبير. فالحدود بينهما غير مستقرة وكثيرا ما كانت عرضة للتغيير بين مد وجزر عند تخوم نصيبين والقامشلي في الجزيرة السورية وشرقي تركيا الحالية، التي كانت تشكل ساحة المعارك والصدامات بين الفرس والرومان، والتي كانت تخلف وراءها في كل مرة الخراب والدمار وسفك دماء الشعب السرياني الذي لم تكن له يد في تلك الحروب المدمرة على اراضيه.

وقد اثرت تلك الحدود مع مرور الزمن بين الرومان والفرس على السريان الآراميين الى حد كبير جداً لانها عملت على تجزئتهم وتقسيمهم. وما زالت نتائج ذلك تتفاعل ليومنا هذا. ذاك ان تلك الحدود قسمتهم جغرافياً الى سريان شرقيين (تقريبا في العراق الحالي وايران) وسريان غربيين (الى الغرب منها ولغاية البحر المتوسط في سوريا)، وسياسياً خضعوا لدولتين متعاديتين الفرس في ايران والرومان البيزنطيين في سوريا، ودينياً الى كنيستين (على الاقل)، ولغوياً الى لهجتين آراميتين (على الاقل). وابعدتهم عن بعضهم وزرعت في عقولهم انتماءين وشخصيتين متباينتين. ان تلك الحدود التي عملت على تقسيم السريان  تشابه الى حد ما الحدود الحالية ما بين دولتي سوريا والعراق.

ولقد ازدادت العداوة بين الامبراطوريتين بعد ان أصدر قسطنطين الكبير مرسوم ميلانو الشهير عام 312م حين أطلق الحرية الدينية معترفاً بشرعية الديانة المسيحية التي اعتنقها بعدئذ وجعلها دين الدولة الرسمي، مخلفاً بذلك نتائج سلبية في المسيحية لاحقاً.

المسيحية في الشرق:
ان تاريخ انطلاق المسيحية في المشرق يكتنفه الغموض تماماً. فلا نعرف بالضبط متى دخلت المسيحية تلك المناطق، لان المصادر التاريخية التي بين ايدينا شحيحة في هذا المجال ولا تزودنا بما يفي الموضوع حقه. إلا ان التقاليد السريانية الشرقية (النسطورية والكلدانية) تفيد بانه منذ القرن الاول الميلادي بدأت المسيحية تنتشر في المشرق على يد الرسل الذين بشروا هناك واسسوا بعض الكنائس والمجتمعات المسيحية. وتحدثنا التقاليد السريانية  عن المجوس الذين زاروا الطفل يسوع في بيت لحم، وعددهم حسب التقاليد المعروفة اثناعشر، كانوا في ثلاث مجموعات حيث آمنوا به ونشروا التعاليم عنه اثناء عودتهم الى المشرق. وتحدثنا كذلك التقاليد عن توما الرسول ونشاطه التبشيري ورحيله الى الهند وكذلك عن الرسول أداي وتلميذيه آجاي وماري.
ويُعتقد ان بعض التجار السريان المسيحيين الذين كانوا يقومون برحلات تجارية الى بعض المناطق والمدن السريانية الشهيرة مثل الرها ونصيبين قد نشروا معلومات عن الدين الجديد الذي ظهر في فلسطين سوريا ومهدوا الطريق امام المبشرين من الرسل والتلاميذ أو سواهم من المبشرين. ففي تعاليم آداي ܡܠܦܢܘܬܐ ܕܐܕܝ نفهم ان أداي كان في الرها ونصر هناك بعض الرهاويين وبنى كنائس. وعند وفاته تبعه في الاسقفية آجاي، وان بيث نهرين سمعت البشارة من آداي.

كما هناك جملة من الكتابات والنصوص القديمة، واغلبها بالسريانية، تعتبر مصدرا هاماً عن انطلاق البشارة المسيحية في المشرق. غير انها تتراوح بين اشارة خاطفة ولمحة عابرة الى ذكرِ موجز تفيد المؤرخين الكنسيين كمصدر هام عن دخول المسيحية الى المشرق ولكنها لا تفي الغرض حقه، منها كتاب تعاليم آداي المذكور، وقصة ذكر فيضان نهر ديصان في الرها، وكتاب شرائع البلدان لبرديصان الرهاوي وغيرها.

القرن الثالث:
نعلم من خلال الوثائق القديمة بانه كان هنالك ذكراً لمجتمعات مسيحية متفرقة في عدة مدن ومقاطعات من بلاد ما بين النهرين، التي كانت ترزح تحت حكم البارثيين. لقد دخلت المسيحية اليها في فترات مختلفة منذ القرن الاول الميلادي وتوسع الانتشار في القرن الثاني، لكن لا تتوفر لديننا معلومات دقيقة في هذا الشأن.
ان المجامع الكنسية لكنيسة بلاد الفرس، وأولها مجمع عام 410 م وثقت تاريخ هذه الكنسية منذ نهاية القرن الخامس فصاعداً، وقدمت لنا معلومات دقيقة عن انتشارها الجغرافي وتنظيمها وكراسي اسقفياتها. لكن تاريخ هذه الكنيسة قبل مجمع 410 م غامض بل غير معروف بشكل دقيق. كانت الكنيسة السريانية في بلاد الفرس في القرون الاولى الاربعة جزءاً من المسيحية السريانية الملحقة حول بطريركية انطاكية. وان هذه الكنيسة أخذت الكثير من مقومات وجودها من الكنيسة الانطاكية مثل نظامها الاسقفي وليتورجيتها المصاغة على نموذج انطاكي وكذلك رهبنتها ولاهوتها وقوانينها. كانت هذه الكنيسة اثناء حكم الساسانيين في حالة دفاع عن النفس إزاء المجوس الذين كانوا يطالبون الملوك باضطهاها، لذلك كانت تنمو ببطء لكن بثبات. أما رعيتها الاولى بالاضافة الى السريان فكانت فيها ايضاً مجموعات من المتنصرين الوثنيين والزرداشتيين ومن اسرى الحروب من العالم الروماني.

كان الملكان أردشير الاول وابنه شابور الاول متسامحين دينياً. إذ أن شابور سمح للأسرى من سوريا الرومانية حينها وخاصة من أنطاكية، ومعظمهم من المسيحيين، بممارسة طقوسهم الدينية بحرية في عام 256-260 م. لكن في نهاية حكم شابور قويت سلطة الكاهن الاعلى الزرداشتي وبلغ نفوذه الذروة أثناء حكم هرمز الاول (272-273) وبهرام الثاني (276-293). وترجم ذلك الى اضطهادات شنيعة ضد المسيحيين في تلك الفترة. وفي عداد الشهداء الذين سقطوا "قنديرا" زوجة الملك بهرام الثاني المسيحية. (تم كشف حوالي ستين قبراً على الضفة المرجانية لجزيرة "خرج" مقابل البحرين في الخليج الفارسي تحمل نقوشاً سريانية. يعتقد العلماء ان هذه القبور تعود لمسيحيين سقطوا ضحية الاضهادات في القرن الثالث الميلادي، ويُعتقد ان هؤلاء الشهداء المسيحيين دفنوا هنالك بعيداً عن رقابة الكهنة الزرداشتيين).

كان القرن الثالث هادئاً نسبياً في حياة الكنيسة عدا بعض حوادث الاضطهادات التي اثارها رئيس الكهنة الزرداشتي الاعلى. وكان لأسرى المسيحيين الذين اتى بهم ملوك الفرس من سوريا دور بارز وهام في نشر وتقوية تعاليم المسيحية في العراق وفارس. لقد احتل شابور الاول انطاكية مرتين، الاولى عام 256 م والثاني عام 260، وفي كلتا المرتين كان يجلب معه اعداداً كبيرة من الاسرى المسيحيين واليهود والوثنيين. وكانت مجموعة من الاسرى الاولى تضم في عدادها ديمتريانوس اسقف انطاكية والذي بمساعيه اصبحت كنيسة بيث لافاط كرسياً اسقفياً هاماً في بلاد فارس. وكان اغلب الاسرى الانطاكيين من المسيحيين السريان وقلة من اليونانيين، قد استوطنوا في عدة مناطق مثل فارس وبارثيا وخوزستان وغيرها. وهذا ما يؤكده التاريخ السعرتي (Chronique se Seert, in: Patrologia Orientalis 4, pp. 221-222) حيث يروي بشكل رومانسي بان الاسرى قد منحوا أراض للحراثة ومنازل للسكن، وان هؤلاء الاسرى أصبحوا طاقة بشرية هائلة بتصرف الدولة الفارسية لتحقق بهم مشاريع عمرانية ضخمة كبنيانهم سد شوستار. ولقد سار شابور الثاني على نسق شابور الاول عندما احتل سنجارا عام 360 جالباً الاسرى الى فارس، وكذلك لما احتل بيث زبداي حيث وقع في الاسر مطران المنطقة ايضاً.
ان الاسرى المسيحيين، عندما كانت تسنح لهم الظروف الملائمة، كانوا يتّصلون بالمسيحيين من ابناء المنطقة مما ساعد على تقوية المسيحية ورسوخها في بلاد فارس. ويشير التاريخ السعرتي الى اديرة وكنائس منها كنيستان في أردشير، احداهما تعتمد اللغة اليونانية في ليتورجيتها والاخرى اللغة السريانية.
ومن الاساقفة التي وصلتنا اسماؤهم "حيران الأربيلي" ( من أربيل) (225-258 م)  الذي كان من اقليم بيث آرامايى ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ  "بلاد الآراميين" الواقع في وسط وجنوب العراق، وكذلك الاسقف "شحلوفا الأربيلي" (258-273) وكان ايضا اصله من اقليم بيث آرامايى Beth Aramaye، وكذلك "أحادابوي الأربيلي" (273-291) حيث يرد في قصته "بان الشعب اختار بالاجماع فافا الآرامي عام 310   لانه كان رجلاً حكيماً وفطناً" (القصة منشورة في Sources Syriaques، المجلد الاول، صدر في لايبزيغ عام 1908، صفحة 119).

القرن الرابع:
لا شك ان المعلومات قليلة ايضا عن الكنيسة في القرن الرابع، غير أن الذي نعلمه بالتفصيل هو خبر الاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون بامر شابور الثاني وبهرام الرابع، حيث تردد صداها في الغرب (سوريا). ان الوضع السياسي العام وخاصة علاقة الروم مع الفرس كانت تؤثر سلباً او ايجاباً على المواطنين المسيحيين في المشرق الفارسي. إذ كانت العلاقة بين قسطنطين الكبير وشابور الثاني (309-379) ودية وطيبة، لذلك كان السلام يسود المنطقة. ولما علم قسطنطين بوجود مسيحيين في الدولة الفارسية كتب الى شابور يطلب منه حماية المسيحيين في دولته وان يشملهم برعايته وانسانيته، غير ان اهتمام قسطنطين بمسيحيي المشرق سبب لهم الكثير من المتاعب والاذى لأن مستشاري شابور أوهموه بان مسيحيي دولته يجدون في قسطسنطين بطلاً للمسيحيين، وان ولاءهم للعرش الساساني هو موضع شك. لذلك وبعد وفاة قسطنطين عام 337 م بدأ شابور باضطهاد الكنسية في حدود دولته وقد استمر هذا الاضطهاد طوال عهده وذلك تحت تأثير النفوذ السياسي المتزايد للمجوس.

بدأ الاضطهاد عام 340 م في سلوقية بصدور الامر بتوقيف مار شمعون برصباعي اسقف سلوقية-قطسيفون وهو ثاني جاثليق للمسيحيين في الدولة الفارسية. ثم عرض عليه اطلاق سراحه شرط ان يجمع الضرائب من رهبانه ومن المسيحيين في أقليم بيث آرامايى ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ الذي كان يشمل وسط العراق وجنوبه (وكان فيه كثافة آرامية عالية لذلك سمي باسمهم "بلاد الاراميين") كما ورد في التاريخ السعرتي (ص. 300). ولما رفض مار شمعون هذا الشرط قطعوا راسه عام 341 (او 344؟). ثم أعلن الملك اضطهاداً عاماً على جميع المسيحيين، وتقول قصة استشهاد مار شمعون "ان شابور وجّه امره برسالة من خوزستان الى حكام اقليم بيث آرامايى بهذا الخصوص" (مخطوطة المكتبة الفاتيكانية Vat. Syr رقم  161، عدد 3، صفحة A20)، إلا انه عاد وخفف الاضطهاد وجعله وقفاً على الاكليروس المسيحي. وقد تباينت قسوة الاضطهاد من اقليم الى آخر وذلك تبعاً لرغبات الحكام المحليين ونزواتهم. لكن اكثر المناطق التي اصابها الضرر كانت بيث غرماي ܒܝܬܓܪܡܝ و حدياب ܚܕܝܒ وذلك بسبب الوجود المسيحي الكثيف فيها. وقد ذهب ضحية الاضطهاد بعض افراد حاشية الملك والوجهاء والقادة الكنسيين. ففي العاصمة وحدها أعدمت السلطة 120 شخصاً من أفراد الاكليروس. يقول المؤرخ سوزومٍن (ص 14،2) بان عدد الضحايا كان ستة عشر الفاً.

كان الجاثليق مار فافا الآرامي Papa the Aramean اسقف سلوقية يدرك أهمية مركزية كنيسة المشرق واستقلالها، لذلك تزعم حركة لتحقيق هذا الهدف الا انه أُقيل من منصبه في مجمع 315م فالتجأ الى كنيسة انطاكية التي ابطلت عزله وأُعيد الى منصبه. وكان مار شمعون بر صباعي قد مثله في المجمع الكنسي النيقاوي 325م ثم خلفه على الكرسي بعد وفاته. وعند استشهاد مار شمعون خلفه مار شاهدوست الذي استشهد ايضاً عام 342، ثم استشهد خليفته مار بربعشمين عام 346 كذلك.
يتبع الجزء الثاني

38
كلنا "سريان" بالولادة

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم/ السويد

عندما يتحدث الكلداني والسرياني والآشوري بلغته الأم فانه يسمي نفسه سريانياً (ܣܘܪܝܐ/ܣܘܪܝܝܐ سورايا/سوريايا)، لكنه عندما يتحث بلغات اخرى غريبة فان الكلداني يسمي نفسه كلدانياً والآشوري آشورياً، أما السرياني فلا يغير اسمه بل يستمر في تسمية نفسه بالسرياني.

 لكن لماذا هذا التغيير في الاسم عند تغيير لغة التحدث؟ مَن مِن هذه المجموعات هو الاصح في تسمية نفسه؟ هل هو الكلداني أم الآشوري أم السرياني؟ الكلداني سريانيٌ بالسريانية وكلدانيٌ بالعربية وغيرها، والآشوري سريانيٌ بالسريانية وآشوريٌ بالعربية وغيرها، لكن السرياني سريانيٌ بالسريانية و سريانيٌ بالعربية وسريانيٌ في غيرها من اللغات. فمن هو على صواب؟ أهو الكلداني أم الآشوري أم السرياني؟

ولما كان الكلداني يسمي نفسه بلغته سريانياً والآشوري يسمي نفسه بلغته سريانياً، فهذا يعني ان تسمية سرياني ليست غريبة  لا على هذا ولا على ذاك. ويحق عندها ان نسمي الكلداني بانه "كلداني سرياني"، وان نسمي الآشوري بانه "آشوري سرياني". وهل هناك تناقض في هذا؟ لا.

لكن كيف سنفهم هذه الازدواجية في التسمية؟ لماذا ازدواجية "كلداني سرياني"، وازدواجية "آشوري سرياني"؟ هل هناك خطأ في هذه المعادلة؟ وهل هناك خطأ في آشورية الآشوري وخطأ في كلدانية الكلداني؟ لا ، ليس هناك اي خطأ. لكن هناك نقص في التسمية الكلدانية لوحدها، ونقص في التسمية الآشورية لوحدها. نعم، ان تسمية كلداني غير قادرة على ضم جميع السورايى تحت لوائها، وكذلك تسمية آشوري فانها فشلت في في ضم الجميع تحت رايتها، وما نراه الان من خلافات حادة وما نقرأه من نقاشات حامية خير دليل وبرهان على ذلك. وما على الفهيم إلا قراءة الارض والواقع قراءة صحيحة لاستنتاج العِبَر والوصول الى النتائج المعقولة!!!

إذاً التسمية السريانية مرتبطة بالكلدان والاشوريين ايضاً وليست محصورة فقط بالسريان. وهذا يعني ان السريانية تربط الكلداني والاشوري ببعضهما من جهة وبالسرياني والماروني من جهة أخرى. فهي  إذاً رابط وجامع وجسر. فهل تنفع لتكون بديلاً عن بقية التسميات الاخرى لتجمع شمل القطعان المبددة والكثيرة مسالكها؟ البعض من اخوتنا السريان يصرون دائماً على ان الاسم السرياني أصح وأنفع، واشمل وأوسع.
وهل هذا هو السر في تحبيذ المؤسسات القومية والسياسية لتسمية "كلداني سرياني آشوري"؟ اي هل هذا هو السر في ادخال التسمية السريانية مع التسميتين الكلدانية والاشورية رغم غياب السريان عن معركة التسميات في العراق وضعف صوتهم في هذا الموضوع؟ شرح لي احد الاخوة السريان عن موقف شريحته السريانية اللامبالي من هذا الموضوع بقوله لكن "لا يصح إلا الصحيح".

ان اتباع الغالبية الكلدانية والاقلية الاشورية يدركون في قرارة نفسهم بانهم ايضاً "سريان" مثل بقية السريان، انهم "سريان" بلغتهم الأم قبل ان يتسموا كلداناً أو آشوريين. وهل هناك لغة أهم من لغة الأم؟ وهل هناك لغة مرتبطة بالمشاعر والاحلام أكثر من لغة الأم؟ فهي مثل حبل السرة الذي يربط الجنين بامه. اذا كانت لغة الأم هي اول لغة يتعلمها الطفل من فم امه المقدس فان ما يتعلمه فيها ومنها فيه أصالة وثبات. ان "الكلداني والاشوري يولد سريانياً" لكنه عندما يكبر يصبح كلدانياً وآشورياً. انه منذ طفولته الباكرة يتعلم بانه سرياني ܣܘܪܝܝܐ، يتعلم هذا دون اي قرار سياسي يملى عليه، ودون اية مدرسة فكرية تعلمه، ودون اية احزاب وتنطيمات قومية تفرض عليه ما تريد. يتعلم هذا من أمه ومن ابيه ومن جده ومن جدته. لكنه عندما يكبر ربما تفسده المؤسسات، لأنها تعلمه ان يدافع عن اسم آخر يبعده عن بقية اخوته.

في ساحة اللاوعي واللاشعور لدى الكلداني والاشوري تسكن شخصيته السريانية التي اخذها عن أمه اثناء طفولته. لماذا يقبلها وهو طفل ويرفضها وهو بالغ؟ هل هناك خطأ في الموضوع؟ أم هناك خطأ في استيعاب الموضوع؟ أم ان الخطأ يكمن في انه يبحث عن هوية في كتابٍ غير كتاب أمه وجدته المطبوع في ضميره، لكنه غير مدون في دفاتره الحزبية؟

مَن مِنَ الكلدان والاشوريين يستطيع ان يثبتَ لي بان اجداده قبل ألف سنة مثلاً كانوا يسمون أنفسهم "كلدانا"ً أو "آشوريين"؟ الجواب في غاية البساطة، لا أحد يستطيع ان يفعل ذلك. فمهما اتيتَ من العلم والفهم لا تستيطع ان تفعل ذلك. لأنك لو قلتَ لي بانك تستطيع ان تثبت ذلك، فان كتب اجدادك ستنفي ذلك كلياً لأنها شاهد ضدك. إن كتابات اجدادك لا تسميك إلا سريانياً فلماذا تخجل انت من ذلك؟ "لقد ولدنا كلنا سرياناً".

 لكن من اين أتت تسمية سريان ومتى ظهرت؟ وهل تصلح كوعاء ليلم شملنا؟ وهل يوجد قومية سريانية؟ وهل السرياني آشوري أم ان الاشوري هو سرياني؟ هذا موضوع نتركه لمقال آخر قادم.

الدكتور أسعد صوما
ستوكهولم/ السويد

39
الاشوريون والكلدانيون والسريانيون:
شعب واحد أم ثلاثة شعوب؟
أسئلة هل سيجيب عليها برلمان كردستان؟

الدكتور اسعد صوما
السويد/ ستوكهولم

هل الاشوريون والكلدانيون والسريانيون شعب واحد بثلاثة اسماء أم انهم ثلاثة شعوب باسم واحد؟
من يستطيع ان يجيب على هذا السؤال؟ أو من المعني بالموضوع ويملك الكفاءة والمعرفة الصحيحة ليجيب على السؤال؟ هل هم الاكراد من خلال برلمانهم في اقليم كردستان، أم اصحاب العلاقة نفسهم، أم الحقيقة والتاريخ؟
اذا كان الكلدان والسريان والاشوريون  شعباً واحداً فمتى كانوا شعباً واحداً؟ وان لم يكونوا شعباً واحداّ فهل هم ثلاثة شعوب؟ فان كانوا شعباً واحداً فأين المشكلة؟ لكن ان كانوا شعباً واحداً وانقسم الى ثلاثة فمتى كانوا شعباً واحدا قبل ان ينقسم؟ ومتى انقسم هذا الشعب وماذا كان اسمه قبل ان ينقسم؟ ولماذا ثلاثة اسماء؟
وان كانوا ثلاثة شعوب فما هي المقومات التي يرتكز عليها كل واحد منهم؟ وهل لهم ثلاث لغات مختلفة، أم لغة واحدة بلهجات متقاربة؟ وان كانوا ثلاثة شعوب يتقاسمون ذات المرتكزات ويشتركون في معظم المقومات، فهل يرغبون بالتعاون ولم شمل جهودهم لتقوية وجودهم؟ واذا كانت مقومات كل فريق منهم هي ذات مقومات الفريقين الاخرين فهل يرغبون حماية هذه المقومات باقامة حدود مشتركة حول ثلاثتهم؟ هل كل فريق منهم مستعد للذهاب أبعد من ذلك؟ هل يرغبون ان "يتحدوا" مع بعضهم؟ فان اتحدوا فاي اسم سيختارون؟ هل الكلداني مستعد للتنازل عن اسمه لاجل الوحدة؟ هل السرياني مستعد للتضحية باسمه لأجل الوفاق؟ هل الاشوري مستعد ليهجر اسمه والغائه الى الابد ليركب قطار الوحدة مع اخوته؟ هل جميعهم مستعدون ليخلعوا عنهم انسانهم القديم ويلبسوا انساناً جديداً متحرراً من العقد والاوهام الكثيرة التي تكبلهم؟  هل هم مستعدون ليتعمدوا بمعمودية الاصالة والفكر والثقافة ليخعلوا عنهم ثوبهم البالي وغير المناسب ويلبسوا ثوباً جديداً يزيد على جمالهم جمالاً وعلى وجودهم هيبة وجلالاً؟

هل الاشوريون والكلدانيون والسريانيون شعب واحد بثلاثة اسماء أم انهم ثلاثة شعوب باسم واحد؟ اسئلة لا بد منها.
لكن ان كانوا شعباً واحداً فماذا يريدون؟ وان ارادوا فماذا يريدون؟ وهل يريدون ان يكونوا أو لا يكونوا؟ وإن ارادوا ان يكونوا فماذا يريدون ان يكونوا؟ وان ارادوا ان لا يكونوا فماذا يريدون ان لا يكونوا؟
وان كانوا ثلاثة شعوب فماذا يريد كل واحد منهم؟ وما يريده لنفسه هل يتمناه لغيره؟
إذا قالوا بانهم شعب واحد فماذا سيربحون؟ وان قالوا بانهم ليسوا شعباً واحداً فماذا سيخسرون؟
اذا قال الاشوري بان الكلدان والسريان هم آشوريون فماذا سيربح الاشوري؟ وماذا سيخسر الكلداني والسرياني ان قبل ان يكون آشورياً؟ وماذا سيربح لو قبل بذلك؟
وان قال الكلداني بانه آشوري فهل سيخسر؟ وما هو هذا الشيء الذي سيخسره هذا الكلداني ان قال بانه آشوري؟ لكن ان قال بانه ليس آشورياً فهل سيخسر شيئاً؟ وما هو الشيء الذي سيخسره الكلداني ان قال انه كلداني فقط؟ وما هو الشيء الذي سيربحه لو قال انه كلدني؟

ان الاحزاب والتنظيمات والمؤسسات التي تحمل هذه الاسماء الثلاثة أو واحداً منها والتي فرحت مؤخراً لاستعمال برلمان كردستان التسمية المثلثة بدون "واوات"، هل يعلم اتباع هذه المؤسسات لماذا فرحت لقرار برلمان كردستان؟ وأما المؤسسات الاخرى التي حزنت لذات القرار، فهل يعلم اتباعها لماذا حزنت؟
هل المؤسسات التي تدعم التسمية المثلثة تستعملها هي في اسمها وفي دستورها وانظمة حزبها وخطابها وعلمها؟ فان لم تكن تستعملها وتسمي نفسها بها فهل يحق لها دعمها او التحدث عنها؟

هل المشكلة هي عند الاشوري الذي هو أحد محاور القضية ؟ من هو إذاً هذا الاشوري الذي اسمه هو اساس المشكلة؟ ومنذ متى هو آشوري؟ هل آشوريو اليوم هم ابناء الاشوريين القدماء؟ من يستطيع ان يثبت ذلك؟ لكن ان لم يكونوا ابناء الاشوريين القدماء فابناء من هم؟ واذا كانوا ابناء الاشوريين القدماء فلماذا يتحدثون بلغة اخرى غير لغة الاشوريين القدماء؟ كيف يعرف الاشوري بانه آشوري؟ ومن قال لهه بانه آشوري؟ ماذا كتب اجداده عن هذا الموضوع؟ ومن من الاشوريين يعلم ما كتبه اجدادهم عن هذا الموضوع؟ بل من منهم يستطيع ان يقرأ كتب اجداده؟ عند معرفة الاجوبة تبطل الاصولية الاشورية عند الافراد والمؤسسات.

وماذا عن الصابئة المندائيين المهملين؟ اليسوا هم ايضاً فريق من فرق هذا الشعب المنكوب؟ لماذا لا نسمع عنهم في النقاشات "القاصرة" المطروحة المطروحه على الساحة؟ هل تخلينا عنهم؟

من هو الكلداني ومن هو الاشوري ومن هو السرياني؟ هل يوجد شعوب بهذا الاسماء؟ اذا كان يوجد شعوب بهذه الاسماء فهل تمت بصلة القرابة لبعضها؟ وان ارادات هذه الشعوب ان تتقارب من بعضها وان تتوحد فمن له الحق ليقرر هذا؟

وماذا يريد الموافقون والرافضون على حد سواء؟ فان اراداوا ان يكونوا فماذا يريدون ان يكونوا؟ وان عرفوا ماذا يريدون ان يكونوا فلماذا يريدونه؟ وان ارادوه فكيف سيريدونه؟
فان ارادوا ان يتحدوا فلماذا سيتحدوا وكيف سيتحدوا؟ ومن هو الذي سيقرر على وحدتهم؟ وان اتحدوا فماذا تنفعهم الوحدة؟ وان لم يريدوا ان يتحدوا فلماذا لا يريدون ان يتحدوا؟ وماذا ستنفعهم عدم الوحدة؟ وان عرفوا لماذا لا يريدون ان يتحدوا فهل ما يعرفوه صحيح؟ وهل ما يعرفوه كاف لتثبيت عدم وحدتهم؟ وان لم يكونوا يعلموا فهل جهلهم يساعدهم على الوحدة او التفرقة؟ فان ساعدهم جهلم على تفرقتهم فهل ستساعدهم معرفتهم على اتحادهم؟ وان ساعدتهم معرفتهم على الاتحاد فمن هو العارف ومن هو الجاهل ليقرر بذلك؟
"كلداني سرياني اشوري" أم "كلداني وسرياني واشوري" من سيختار الصيغة ومن له الحق ان يختارها؟ هل سيختارها اصحابها أم سيختارها الغريب لهم؟
كان على البرلمان الكردستاني ان يشكل لجنة من العلماء المتخصصين بالموضوع ليقدموا دراسة علمية حول موضوع التسمية وتاريخها وملابساتها لتقدم ثم للبرلمان لدراستها والاستنارة بها، وثم مناقشتها في جلسة خاصة كما هي العادة في البرلمانات الاوروبية، ومن ثم التصويت والبت واخد القرار الصحيح.
هل فعل البرلمان الكردستاني هكذا؟ هل صوت عضو البرلمان على التسمية عن دراية ومعرفة تامة عن موضوع التسمية؟ ام ان البرلماني الكردي صوت على الصيغة الفلانية للتسمية لان صديقه الكلداني يرغب هكذا، أو لان الحركة الاشورية الفلانية التي له علاقة باعضاء منها تفضل الصيغة الفلانية وترفض الفلانية؟ لكن هل للكردي اساساً الحق في ان يختار لنا اسماً؟ ومتى وكيف له هذا الحق؟

هل الاشوريون والكلدانيون والسريانيون شعب واحد بثلاثة اسماء أم انهم ثلاثة شعوب باسم واحد؟
من هو المعني والقادر ليقدم الاجوبة، هل هو الكلداني الاشوري السرياني أم الكردي؟ اترك الجواب لك ايها القارىء اللبيب.
اليوم تتجاذبك أهواء وتيارات متضارية، منها الحق والباطل، ومنها الاصيل والزائف. عايشتها وجهاً لوجه وربما اختبرتها، وكان القرار قرارك، ليس في اختيار التسمية لكن في تحرير ذاتك واحتضان الحق والاصالة من اجل مستقبل افضل لك ولأولادك على أرض أجدادك.

الدكتور اسعد صوما اسعد
ستوكهولم

صفحات: [1]