عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Abdelouahid hammoudan

صفحات: [1]
1

هل وصلت الأزمة السورية إلى نقطة اللارجوع ؟

حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا

   في الواقع، ليس هناك من شيء أعقد من الأزمة السورية ! فإذا كان الجميعُ متفقًا على أنها لن تدوم حتى ولو طالت أكثر مما كان يُعتقَد، فمِمّا لا شك فيه أن لا أحد يعرف كيف ستنتهي: هل على الطريقة اليمنية أم على الطريقة المصرية ؟ على الطريقة التونسية أم الليبيّة ؟ أم أن هناك طريق آخر، لم يخطر بحسبان أحد ؟ والجميع أيضاً عاجزون عن معرفة متى يمكن لهذه الأزمة التي يستفحل خطرُها أكثر فأكثر ويتجرّع السوريون مرارَتها أن تجد لها مخرجا.
   ما الذي يمنع سوريا من تخطّي مشكلتها العويصة هذه ؟
   الجواب موجود بطبيعة الحال في الأبعاد التي اتخذتها الأزمة في سوريا والتي جعلت من السوريّين وليمة يتكالبُ عليها لاعبون سياسيون عديدون. كانت أهداف المحتجين في بداية الانتفاضة السورية قبل عام لها علاقة بمطالب حقوقية وسياسية تنادي بالإصلاح والتغيير، واحترام الحريات والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد الاداري وتحقيق المساواة .. لكنْ، بعد تعامل النظام مع المتظاهرين بالقمع والعنف، أصبحت اليوم مطالبُ هؤلاء " ضحية " استغلال سياسي واضح تلعب فيه قوى محلية وإقليمية ودولية أدوارًا مختلفة.
   في الحقيقة، تعقدت الأمورُ مع تقدّم الزمن فأصبحت الجرائمُ التي يتعرّض لها السوريون يوميا لا تعدو أن تكون- من جراء مماطلات النظام ومناوراته المتكرّرة، واستمرار انقسامات المعارضة وانشقاقاتها وأيضا تزايد عدد فرقها– مجرد أخبار عادية، تتشابه في مضامينها يوما بعد يوم، ويتخذ عرضُها صياغات وأشكالا تستعمل تقريباً نفسَ الكلمات والصور.. ولم يَعُد الشارعُ العربي (الذي لا يتوفّرُ على العناصر الموضوعية اللازمة لتقييم واقع المواجهة بوضوح، ويفتقر للأدوات الابستمولوجية النظرية والتحليلية الضرورية لقراءة الأسباب الحقيقيّة للفخّ الذي سقطت فيه الأطرافُ المتحاربة) يتجاوبُ مع الأزمة السورية بنفس القوة والوتيرة إذ أصابه المللُ وبدأ اليأسُ يُقوّض أحلامَه الثورية ويتسرّب شيئا فشيئا إلى نفسيته وفكره فينال من مطالبه الإصلاحية والديمقراطية، فيدفعه إلى التقاعس والتراجع بل والاعتقاد بأن لا شيء ينفع ضدّ قهر واستبداد النظام.. وهذا ما تترجمه نتائجُ بعض استطلاعات الرأي (أنظر مثلا العرب أونلاين من 01-04-2012  إلى  15-04-2012) حول النهاية التي ستؤول إليها الأزمة السورية (انتصار النظام– نجاح الضغوط– توسع الفوضى) حيث نُفاجَأ بكون 98.6 °/°من مجموع 173694 من المصوّتين يعتقدون بأن النظام سينتصر في النهاية. قد يقول قائل إنّ قيمة استطلاع رأي تبقى علميًّا وموضوعيًّا نسبية أو إنّ المشاركين فيه متحيّزون أو مدفوعون من طرف الجهات الرسمية للدفاع عن الأنظمة، لكن هذا لا ينفي كون الخطر الكبير الذي يتربّص بالسوريّين هو خطر السطاتيكو   Statu quoفي المشهد السياسي السوري والشعور بالروتين عند المواطن العربي والإسلامي. مِمّا قد يؤدّي إذا ما دام الحالُ على ما هو عليه إلى لامبالاة عربية جماعية وتخلي الشعوب والمجتمع المدني عن السوريين وتركهم يواجهون قدرَهم ومصيرَهم وحدهم بالأسلحة والعنف والقتل والدمار. وقد عبّر أخيراً كوفي عنان نفسُه عن هذا "الملل".
   ماذا يريد طرفا المواجهة في سوريا ؟ هدف النظام هو البقاء في السلطة، وهدف المعارضة هو إسقاط النظام. ويبدو أنّ هذا الأخير لا ولن يقبل بتَرْك السلطة لغيره، وهو مستعد لكلّ شيء حتى ولو اقتضى الحالُ القضاءَ على كلّ الذين يُطالبونه بالتنحّي عن كرسي الحكم.
    ورغم توقيع وزارة الخارجية السورية الاتفاقَ الأولي مع الامم المتحدة، يوم الخميس 19-4-2012 ، القاضي بوقف إطلاق النار وفق عدد من الشروط .. رغم هذه الفرصة لدخول مسار الأحداث في منعطف ربما يؤدّي إلى تحقيق "عملية الانتقال السياسي" التي هي هدف بدء الحوار بين الحكومة والمعارضة كما تنصّ على ذلك خطّةُ عَنان للسلام .. ورغم نداء هذا الأخير بالوقف النهائي لاستعمال الاسلحة الثقيلة وقصف الأحياء السكنية، فإنّ لغة العنف والقتل ما زالت مستمرة.
   ما الذي يحول دون وقف إطلاق النار والدخول في حوار بين الحكومة والمعارضة ؟
   المشكلة متعدّدة الأوْجُه ومعقّدة في عناصرها. أولا: لا يعترف طرفا النزاع ببعضهما، ولا توجد ثقة بينهما، ويريد كلّ واحد منهما إقصاءَ الآخر وإنهاءه. الشيء الذي يجعل من الجلوس إلى طاولة الحوار شيئا صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلا. ثانيا: كلا الطرفيْن يتّهم الآخرَ برفض الحوار. فحسب صحيفة لوموند الفرنسية 17-4-2012 في مقال بعنوان"أسانج يحاور زعيم حزب الله على التلفزة الروسية" يؤكد حسن نصر الله على أن حركته حاولت تشجيع الحوار بين المعارضة السورية والنظام. وحسب أقواله فإنّ النظام كان منذ البداية مستعداً لإدخال إصلاحات والقبول بالحوار، لكن المعارضة لم تكن مستعدة، لا لقبول الإصلاحات ولا للحوار. من جهة أخرى، تتهم المعارضةُ النظامَ بأنه يتصرّف بطريقة لا تشجّع على الحوار. إنّه متشبّث بتسميّتها "مجموعات إرهابية" و"عصابات" تعمل لحساب جهاتٍ خارجية عدوّة، وهذا فيه نفيٌ للاعتراف بوجودها ومطالبها. فكيف يمكن لِمن يُنْكِر شرعية وجود الآخر أن يقبلَ نظريًا وفعلياً بالتفاوض معه ؟ ثالثا: يقول النظامُ وأنصارُه وكلّ المدافعين عنه أنه يُمَثّلُ قطبَ الممانعة والمقاومة والوحدة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي ومشروع تدمير الدولة وتفتيت النسيج الاجتماعي والديني، ويؤكدون أن سوريا تتعرض منذ بداية الاحتجاجات لحملة إرهاب لها روابط بعدّة جهات دولية (أنظر بالفرنسية: الإرهاب ضد سوريا وشبكته الدولية، روبير مانياني، موقع ميديا بارط 16-4-2012). ويقدّم النظامُ بهذا الصدد تفسيراً للأزمة السورية يبعدها عن المواجهة بين السوريين أي بين النظام والمعارضة، ليجعلَ منها دفاعًا من النظام ليس عن بشار والأسرة الحاكمة بل عن سيادة الدول العربية والإسلامية والصمود في وجه مشاريع التدمير التي تستهدفها. وهذا ما جاء في تصريحات حسّون مفتي سوريا لمّا قال: "إنّ المخطط للأمة العربية والإسلامية أن لا تبقى هناك دولة قوية وأن يقتل أبناءُ الأمّة بعضُهم بعضا(..) وإنّ ما يحدُثُ في سورية اليوم هو ليس عملية إسقاط نظام إنّما عملية إدخال سورية في تفتيت ديني ثقافي عرقي يبقي مئة سنة من الفوضى في العالم العربي". ثمّ أضاف بأنّ بشار الاسد "مستعِدّ للتخلي عن الحكم في حال استطاعت المعارضة أن تأتي ببرنامج مُقنِع للشعب ودخلت في الحوار وقالت (له) إنّنا جئنا بهذا البرنامج والشعب رضي به إما ان تزول وإما ان نحاربك فإن الرئيس الاسد سيتنحى ويذهب ليتابع علمه وعمله "(القدس العربي 25-4-2012). وينفي المعارضون صحة هذه التفسيرات ويردّون على الاتهامات الموجهة إليهم بأنّ موقفهم تؤطّره مطالبٌ منبثقة من الشعب نفسه، ويؤكدون أنهم يسعون لوقف آلة القتل ضدّ الضعفاء والمواطنين، وأنّ حركتهم تبرّرها ضرورةُ حماية المظلومين ونصرتهم، وشرعيةُ الدفاع عن النفس والأهل والأطفال، وهو"الحق البديهي والغريزي الذي تمارسه حتى الحيوانات، عندما تتعرّض لاعتداء يُهدّد حياتَها"، حسب جريدة الحياة اللندنية 29 – 4-2012.
       ورغم كلّ هذه التفسيرات والتبريرات والاتهامات المتبادلة، وانعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة وعدم الاعتراف بالآخر، نُذَكّر ببعض البديهيات بخصوص الحوار، وهو الهدف من خطة عنان للسلام: 1. إمكانيةُ الحوار تبقى رهينة في عمقها بالإيمان بضرورته والاعتقاد بجدواه وفعّاليته. وهنا توجد أمّ الإشكاليات في نظرنا، إذ يستحيل على الأطراف المتنازعة أن تؤمن بجدوى الحوار إذا لم تتوفّر سلفًا على وعيٍ شامل وثاقب بالظروف الجيوستراتيجية واللحظة التاريخية التي تُخاضُ فيها المواجهة. مِمّا يعني بالضرورة وجودَ تفكير نوْعي وناضج قادر على تقييم شروط الوضع الراهن ومعطياته والتلاؤم معها بصورة تعطي الأولويةَ للقضايا المستعجلة والرئيسية . ولابُدّ، لكلّ مَنْ يَسعى لتحقيق هذا المطمح، مِن رؤيةٍ سياسية واضحة، وإرادة تنموية حقيقيّة، ومشروع ديموقراطي حضاري بَيّنٌ في منطلقاته ومعالمه وغاياته. 2. الحوار لا يكون بين الأصدقاء والأحباب ! الحوار يكون بين الأعداء أو جهات متصارعة لا تجمعها نفسُ الأفكار والقيم، والمشاريع والأهداف، وتختلف في المصالح ولا تفكر بنفس الطريقة. 3. لا يعني الجلوسُ إلى طاولة الحوار هزيمة طرف فيها أو غضَّ النظر عن مظالمه أو التقليلَ من جرائمه أو حتى الاعتراف به، وإنّما القبول بوسيلة عقلانية وبراغماتية، ذكية وسلمية تسمح لكلّ واحد بتقديم رؤاه وشروط تحقيقها وموازنتها برؤى وشروط الآخر مما قد يؤدّي إلى فكّ الأزمة أو يدفع بإحدى الجهتين أو كلتيهما بالتنازل عن بعض المطالب أو تعديلها لِتتلائم مع معطيات الظروف المستجدة وتتفادى التدخل الاجنبي والحرب الأهلية ..
   المشكلة في الواقع تكمن في التعنّت أو التطرف الرافض لكل تفاوض أو حوار لأنه يرى فيه ضعفًا وتخاذلا وتراجعاً، وليس ورقة تنتمي لمحيط الإمكانيات السياسية، والخطط البديلة أو الترتيبات الاستثنائية، ويمكنها أن تكون رابحة. ما من شكّ في أنّ الحوار– خصوصا لما يقترب الوضعُ من نقطة اللارجوع- يبقى ملاذًا يرافقه دائماً بصيصٌ من الأمل، وإنّ إقصاءه بالمطلق من الاستراتيجيات والطاكتيكات البديلة، والتمسك فقط بلغة العنف والسلاح، والاعتقالات والتعذيب، والقصف والتفجيرات، والانقسامات والفوضى، لهو ترجمة عن رؤية ضيقة ومنغلقة على ذاتها، غير واعدة ومُكَرّسة لفشل الوضع الراهن المسدود الأفق. وهذا معناه بوجه من الوجوه تغييبُ المصلحة العامة لفائدة المصالح الخاصة، الحزبية أو الطائفيّة أو الإيديولوجية ..
   المسؤول الأول عن احترام وقف إطلاق النار وتطبيق خطة عنان للسلام هو النظام، وهو يعرف أنّ لغة القصف والقتل والدمار، ومطاردة المتظاهرين وترهيبهم لم تعد تنفع، بل على العكس تزيد من تمسك المعارضين بمطالبهم والتعاضد فيما بينهم، ولن تدفعهم إلى التراجع أو التنازل عن شيء. وله من هذا المنطلق مصلحة في وقف آلة الحرب والعنف فهي لم تَعُد تخيف أحدًا وقد أصبح واضحًا بما فيه الكفاية أنّ حاجز الخوف قد سقط مع اندلاع الثورات في العالم العربي. وهذا يعني أنّ الاستمرار في استعمال الأسلحة الثقيلة ولغة القمع هو خيار خاطىء وفاشل ، وقد ينتهي بانهيارٍ وانتحارٍ لن ينجو منه أحد.. وستكون بدايتُه تفعيل المادة 7 من وثيقة هيئة الأمم المتحدة. فقد أثار الغربيّون– أمريكا وفرنسا مثلا– إمكانية اللجوء إلى هذه المادة التي ستسمح للتدخل الدولي في الشأن السوري أن يأخذ بعداً يتخطى بكثير حدود المادة 6 التي اتخذت هيئة الأمم بموجبها قراريْ إرسال بعثة أولى من ثلاثين مراقبين، تتبعها بعثة ثانية من ثلاثمائة. فإذا كانت المادة 6 تقول بالعمل على أيجاد حل سلمي باتفاق وتفاهم مع الدولة المعنية بالأزمة، فإنّ المادة 7 كما يشرح ذلك جان باتيسط جانجين فيلْمِر J-B Jeangène Vilmer تسمح بتجاوز وخرق سيادة هذه الدولة28-4-2012)  (Le Point.fr .
   أما الاعتماد على الموقفيْن الصيني والروسي الرافضيْن لأي تدخل أجنبي في سوريا والمتمتعيْن بحق الفيتو في مجلس الأمن، فهو صادر عن رؤية سياسية تغفل أو تتناسى الدورَ الفعّال الذي يلعبُه تبادلُ المصالح بين القوى الكبرى في اتخاذ القرارات وتعديلها أو تغييرها. فيما يخص الصين، فقد تلقّى المجلسُ الوطني السوري برئاسة برهان غليون دعوةً من معهد السياسة الخارجية للشعب الصيني لزيارة بكين من 6 ماي إلى 9 من نفس الشهر حيث سيلتقي بالعديد من المسؤولين في وزارة الخارجية وسيكون موضوعُ عدم عرقلة التدخل الأجنبي، بشكلٍ من الأشكال، في سوريا هو الطلب الذي ستتقدّم به المعارضةُ للصين. ويُحتمَل أن يقع تراجعٌ ما في الموقف الصيني في الأيام أو الاسابيع الآتية مقابل عدم التدخل في شؤونها الداخلية من طرف أمريكا، والمسّ بمصالحها في السودان وبعض الدول الإفريقية مثلا. أمّا فيما يخصّ موسكو، فكما يقول جان بيير برّان في ليبيراثيون 27-4-2012 "بالتأكيد سيأخذ التغيرُ في موقف روسيا بعض الوقت، لكنه سيكون رهينا بتنازلات أمريكا لموسكو، أثناء قمة أوباما– بوتين في 20 ماي، ويُحتمَل أن تتعلق بنظام الدرع الصاروخي".
   هذه حقائق لا غبار عليها، ولابُدّ للنظام أولا والمعارضة ثانيا، إن كانا فعلا يفكّران في المصلحة الجماعية لسوريا ويريدان الخير لوطنهما، من أخذها بعين الاعتبار والدخول في حوار فعلي وشامل تلعب فيه هيئةُ الأمم دورَ الوسيط المؤطّر المسهّل حتى يُمكنَ للسوريّين تفادي أخطار التأويلات والتفسيرات العديدة التي ستخضع لها المادة 7 من إعلان هيئة الأمم إنْ بدأ العملُ بها ودخلت حيّزَ التنفيذ. فهل سيستجيب أبناءُ سوريا الذكية لصوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان ؟


2


كلّ الحُبّ في حَبّها ، أرضي طُولُ يومها ...


حمّودان عبدالواحد / فرنسا


إلى فلسطين ... ، شجاعة وقويّة بأبنائها المخلصين رغم أنف الجبناء  !




الحَبْلُ لم يَتمزّق !
ولنا فيه رباطٌ وخلاصٌ
نحن معشرَ الأحياء...
الحبلُ سماءٌ في حَبّ أرضي...
الحَبُّ أهلُها والحُبّ ماؤُها ،
طُولُ يَوْمِها بحرٌ يتَدَفّق !

*******

في البدء كانت ملحمةُ أرضي
سرّاً في العرش على الماء...
تجرّأت
تمرّدتْ
على السديم والظلمات
بَزَغَتْ مع الفجر الأبدي
طَلعَتْ مِنَ الحرف الأولي
لفعل الوجود
قبل نهاية الكلمة ،
روحاً ورياحاً ...
بدأت يومَها
في انسيابٍ وهبوب...

*******

قدرُ اللقاء  بين الأمّ وأبناءها
إرادةُ الرّبْط بين الكاف والنّونِ...
يانحن ، ياأرضنا كوني !


*******

ياأطْوَلَ يومٍ يجري في الأنهار
يايَوْمًا أطولَ من الزمان
يايومًا مقداره الملكوتُ
وكلّ شكلٍ صغير
من الحياة وكبير...
يايوماً مساحتُه الحُبُّ
في المكان وما وراء ...
كلّ الحُبّ في حَبّها ،
أرضي طُولُ يومها...

*******

ديكُ صياحكِ
 لم ينقطعْ
يُرْعِبُ الغُزاةَ
يوقظ النيّامَ
يطرد الخُفّاشَ
كأنّه النّافخُ في الصورِ
القابضُ أنفاسَ الليل
في كلّ دفعةٍ من صَدْرِهِ ،
مَوْتَةُ العقيم الغبيّ ،
عَوْدةُ الصباح الأبدي...

*******

الديكُ خيطٌ من نور
صَنَعَ من جلدِ أرضي حذاء
فَتَلَتْ حَبْلَه ملايينُ الأقدام...
حذاؤكِ أقوى من السنين ،
من صدمة النكبةِ ،
وطول مشقة الطريق...
خُطْواتكِ ما زال الثرى
يحتفِظ بِرَسْمها
طفلةً خفيفة
شابّةً سريعة
كهلةً عميقة
لم تمسحها رياحُ الشمالْ
لم يطمسها غبارُ الدّجالْ
تسمعها الحقولُ والتلالْ
راجعةً راقصة مُنْشِدة :
" ياحَبُّ ياحُبُّ يارَبُّ !
أرضي ومائي
بحري وقدسي...
ياحَبّ ياحُبّ يارَبّ !
حِنّاءُ أمّي
سرير بيتي
نخيلُ حَوشي
كُرومُ حقلي
حمار شغلي
جذورُ لوزي
عروقُ تيني
زيوتُ أرضي
ياحَبّ ياحُبّ يارَبّ ! "

*******

مفتاحُ  منزلكِ الجليلُ
صامدٌ لم يقهره الصدأُ
جديدٌ وجميلُ
في يد الأطفال...
واقفٌ صامدُ
مُوَجّهٌ فُوهتَهُ الكبيرة
صَوْبَ السارق المُصادِر
حارسٌ كلّ الأبواب والمداخل
شاهدٌ على الأسلاك والجرائم
تعضّ أسنانُه ضميرَ الإنسان...
مفتاحُ الاجداد والأجيال
كابوسٌ يُرْعِب المغتصِب
مُكَسّرَ الأقفال ،
يقُضّ مضجعَه
فلا يفتح عيْنَهُ
ولا ينام ...

*******

بنتي وطفلي، زيتي وعسلي
عمّي وجاري ، فرني وداري
عودي ونايي ، حطْبي وناري
حُلوي ومُرّي ، نحلي ونملي
.........................
كلنا جاهزون ،
واقفون على رموش سمائكِ
ننتظر طلقةَ الغوْصِ
في ماء عيونكِ الصافيةِ
حالمينَ راجعينَ
داخلين ساجدينَ
وجبينُنا بين يَدَيْ ترابكِ ينضح نورا...
ما أنْعَشَ وجهك! ياقدس طين !
ياأرَيْحِيّتنا ! ياسلامنا الوحيد !
إليكِ نَحْبو وحليبَ ثديك نريدُ...
إليكِ نَصبو وشيبُ هَمّكِ نَشيدُ...

*******
ياحِلمَنا وياحُلمنا
يانُورَنا ويانَوْرنا
ليتكِ عنّا ترضى !
ياثيرانَ ثَوْرِنا ثوري !
ياحَلَمةَ البذورِ ،
يابذورَ البدرِ ..
يابسمةَ الوعودِ ،
ياوعودَ الرعدِ ..
ياثِقاب عُودنا اِشتعلي !

*******

يارُمّانتي
ياحرارة قلبي
ياشرارة عشقي !
اِنْفَلِقي اِنفلقي
في وجه كلّ عُقابٍ وغُرابْ !
تَفَرْقَعي تفرقعي
حبّاتٍ من شعاعٍ ، تقفِزْ ،
تُذْعِرُ الوَحْشَ الْوَباءْ
المُتَرَبّصَ بالحياةْ
في مُعَسْكَرِ الليل الجَبانْ !
اِنْدَلِعي اِندلعي
حمراءً من جمارٍ ، تظفر !

3
هل يوجد شيء أسوأ من ضربة عسكرية ضدّ إيران ؟
حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا
       إذا كانت قيمةُ المبتدأ في بِنية اللغة العادية التي يتكلم الناس بها في حياتهم اليومية تكمن في خَبَره ، فإنّ العكس هو ما يحصل في اللغة السياسية ، إذ أنّ أهمّيّة الخبر في نَحْوِ هذه اللغة تُسْتَمَدّ بالأساس من المبتدأ ، ومن الشكل الذي يتخذه على وجه التحديد : لا يمكن للخبر بمفرده أن يفيَ بالغاية المقصودة من وراء كلّ خطاب سياسي ، إنّه بحاجة قوية إلى مبتدأ يكون أحياناً على صيغة سؤال يثير فضولَ المتلقي ويحمّسه لمعرفة ما ينطوي عليه وما يرمي إليه.
       من هنا الأهمية الكبيرة للسؤال التالي : هل يمكن تصوّرُ وجود شيء هو أسوأ وأخطر وأشرّ من القيام بعمليّة عسكرية ضدّ المنشآت النووية في إيران ؟ هذا السؤال طرحه المسؤولون السياسيون في إسرائيل وأمريكا ، وكرّره أكثر من مرّة ، كلّ على طريقته وحسب ألفاظه ، عددٌ من قادة الرأي وزعماء الأحزاب ورؤساء الحكومات في الغرب عموما. ولم يبذل هؤلاء جهداً ما للبحث عن جواب لهذا السؤال ، لأنّهم كانوا يعرفون كلّ عناصره مسبّقاً ولهذا السبب طرحوا السؤال !
       حين يواجهُ مسؤولٌ سياسي إسرائيلي أو أمريكي مثلا جماهيرَ القاعات المجتمعة لسماع كلامه، أو ميكروفونات وآلات التسجيل وكاميرات الصحافيّين ، ويخاطبهم قائلا : هل تعرفون الشيء الأخطر على العالم من هجوم عسكري نقوم بها ضدّ إيران ؟  ثمّ يمرّ في سرعة الضوء – أيْ دون الوقوف على الأوجه السوداء ، وما أكثرها ! ، لهذه" الضربة العسكرية " في شتّى الميادين والمجالات – إلى تقديم الجواب ، وأيّ جواب ! ، فإنّ هذا يعني أنّه يعرف مسبّقاً أنّه لن يستطيع إقناعَ المخاطَبين بالأدلّة الواقعية والعقلية، فيلجأ إلى مراوغة شكلية تلعب بالكلمات آمِلاً أن يغيّبَ السامعون تحكيمَ العقل والتفكيرَ السليم الحكيم ويستسلموا للغة العواطف والانفعالات...
    وحتى لا نكون مثل هؤلاء ، وقبل أن نُفْصِح عن خبر أو جواب السؤال أعلاه ، نرى من الأنسب أن نقول كلمة بصدد " الضربة العسكرية " تهدف إلى استيعاب خفايا السؤال المطروح ونواياه.
       يؤكّدُ أغلبُ الخبراء و المحللين والمراقبين السياسيين ، شرقيين وغربيين على حدّ سواء ، أنّ القيام بعملية عسكرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية هو إقدامٌ على مغامرة ستكون تداعياتُها دون شكّ كارثية على الجميع ، على المنطقة العربية والإسلامية ، وبعض الدول الأسيوية والغربيّة ، وعدد من الأنحاء في بقية العالم ..
       ولن تقتصرَ العواقبُ الوخيمة لهذه المغامرة اللاعقلانية على المجال العسكري وما سوف يَترتّب عنه من دمار وعنف وقتل وسفك للدماء وإهدار للأرواح البشرية ، بل ستتعدّاه ، حسب نفس المحللين ، إلى مجالات أخرى - يأتي على رأسها كلّ من المجال الاقتصادي والمالي والثقافي - ستحصل لها أضرارٌ ضخمة وعميقة ستدفع ثمنَها غاليا الملايينُ من مواطني عدد كبير من الدول في العالم  من الطبقات الفقيرة والوسطى على وجه الخصوص..
       في ضوء هذا الإنذار الأحمر من تبعات الضربة العسكرية ضدّ إيران إنسانيا واقتصاديا وماليا وثقافيا ، يحسن بنا أن نعيد صياغة السؤال المطروح أعلاه حتى يدرك القارىءُ حجمَ وهولَ الزلزال الإقليمي والعالمي الذي ينتظرُ العربيَ وغير العربي ، المسلمَ وغير المسلم : هل يوجد فعلا شيءٌ أبشع وأشرّ من " الكارثة المأساوية اليقينية " التي ستنتج عن مهاجمة إسرائيل بالمعونة الأمريكية – مباشرة أو غير مباشرة – لإيران ؟ هل العالم مستعدّ لمواجهة اشتعال المنطقة العربية والإسلامية بكاملها، ودخولها في دوامة من العنف أو تعرّضها لردود فعل هزّات الزلزال العسكري ؟ هل فكّرنا بجدّية في إمكانية سقوط أعداد كثيرة تُقدّرُ بالآلاف من الضحايا الأبرياء ( أكانوا من العرب والمسلمين ، أو من اليهود وغيرهم .. كلّ نفس بشرية بريئة تبقى مقدّسة كيفما كان أصلُها ودينُها ) والجرحى ؟ هل سنكون مستعدّين لرؤية البُنى التحتية ، هنا وهناك ، مدمرة بشكل يرجع ببعض الدول والمجتمعات إلى القرون الوسطى ؟ هل سنكون قادرين على الصمود في وجه الأزمات المالية والاقتصادية التي ستنتج لا محالة من اندلاع الحرب بين إيران وحلفائها ، وإسرائيل وأصدقائها ؟ هل نقبل بالدخول في نزاعات وفتن واشتباكات دينية وثقافية بين المسلمين - الذين لن يروا بعين الرضا والمتفرج ما ستتعرض له إيران كدولة إسلامية على أيدي تحالف يهودي مسيحي – وبين الآخر المنتمي إلى قوى هذا التحالف ؟
       تُخفّف إسرائيل من كلّ هذه العواقب وتهوّن من شأنها ، وكذلك تفعل الإدارةُ الأمريكية ، ويتبعهما في هذا الموقف بعضُ الزعماء الغربيّين الذين يقللون على سبيل المثال من ردود أفعال المسلمين ويعتقدون أنّ النزاعَ السياسي بين السنة والشيعة كفيلٌ بردع العالم السني عن التجاوب السلبي مع الهجوم على إيران ، بل يراهنون على ردود فعل إيجابية نظرًا – حسب رويتهم للأشياء – لما ستؤدي إليه العمليةُ العسكرية من شلّ النفوذ الشيعي والحدّ من تقدّمه في العالم الإسلامي .. وحتى إذا ما سلّمنا بصحّة هذا الأمر فإنّه ينطبق فقط على الأنظمة الحاكمة ، أما الشارع العربي الإسلامي فلا يشاطر حكامَه هذا الموقف بل يرفضه ويُحذّر منه. أمّا المشهد الإيراني الداخلي فسيعرف تكتلَ القوى السياسية كلّها ، قوى السلطات والمعارضة ، واتحادها في وقفة رجل واحد ، جنباً إلى جنبٍ مع الشعب الإيراني برمّته  ضدّ العدوان الخارجي !
      لا يعرف أحدٌ بالضبط ما الذي سيحدث إثر الضربة العسكرية ، لكن الردود والتداعيات ستكون عنيفة جداً ومؤلمة على جميع المستويات ، وبعض الوزراء في إسرائيل ( ليبرمان) يعترفون صراحة بأنّ حربًا ضدّ إيران ستكون كابوساً على الجميع ، ومع ذلك يتجاهل متخذو القرارات من المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل وأمريكا كلّ التحذيرات . لماذا ياتُرى ؟ لأنّ الثمن الغالي الذي تتطلبه التكاليفُ الباهظة للهجوم على إيران لا يرقى في تقييماتهم إلى مستوى " هدف الأهداف " الذي يُرادُ تحقيقه ..
هذا الهدف له علاقة وثيقة بإرادة تتجاوز بكثير ظروفَ السياسة من انتخابات وتحالفات حزبية وقواعد أخرى من قواعد اللعبة الديمقراطية. إنّها إرادة من طبيعة عقدية وإيديولوجية راسخة في تصوّر إسرائيل لوجودها وأمنها ومستقبلها... وهو تصور يقول بحتمية و" قداسة " تفوّقها العسكري على المسلمين والعرب ، وبضرورة خدمة مصالحها بنفسها انطلاقا من قيمها ومبادئها القائمة على عنصريْ " النخبة المختارة " و " الوعد الإلهي " ، وما يترتّب عنهما من الحق الديني والتاريخي في الهيمنة والتوسع والاستعمار .. ولا يخفى على أحد أنّ هذه الرؤية للأشياء لا تعترف بالقانون الدولي لأنّه من صنع البشر ويمشي في اتجاه ينفي الإرادة الإلهية ، كما أنّها تقرّ بعدم مساواة البشر ( أفرادا وجماعات ودولا ) أمام القانون ، لهذا تتعامل إسرائيل مع القرارات الدولية وبنود الهيئات والمؤسسات الأممية بغطرسة واحتقار...
       إنّ موقف الغرب من برنامج إيران النووي يندرج في إطار علاقاتها السياسية ومواقفها التوسعية الامبريالية من القضايا العربية والإسلامية ...وهذا الموقف الذي تمثله خير تمثيل الفرنسية طِريز دِلْبِش Thérèse Delpech ( المديرة السابقة للشؤون الاستراتيجية لوكالة الطاقة الذرية ) ينبع ، كما يقول باسكال بونيفاس Pascal Boniface  في كتابه الأخير " المثقفون الملفِّقون : الانتصارُ الإعلامي لِخُبراء الكذب " ( طبعة ج.ك. كاوسيفيتش ، 2011، ص 120 ) ، من عقيدة شبه رسمية راسخة عند أغلب ساسة العالم الغربي تقول بأنّ الغرب له قيم كونية إنسانية وينظم حياتَه السياسية وفق إطار ديمقراطي لا تشاطره فيها معظمُ بقية بلدان العالم الذي تحكمه أنظمة استبداديّة أو ديكتاتورية معادية للغرب. لذلك على الغرب أن يظل حذرًا ويسعى إلى حماية نفسه من كلّ من هو ضدّ القيم الكونية الإنسانية ، وذلك بكل الوسائل حتى ولو كانت عسكرية.
       وانطلاقا من هذه الفكرة ، يدّعي هؤلاء ، بل ويسلّمون ، بأنّ السلاح النووي لمّا يكون في أيديهم وأيدي إسرائيل ، هو شيء مقبول لأنهم يحكّمون الديمقراطية في شؤونهم وما استجدّ من مشاكل في العالم   !لكن لمّا يتعلق الأمرُ بالآخرين، فإنّهم يجزمون بأنْ لا حقّ لهم في امتلاك هذا السلاح بدليل أنّ مراجعَهم اللاديمقراطية غير موثوق بها ومن شأنها ليس فقط أن تسمح باستعماله بل أن تُسَهّل تسريبَه إلى الخارج وتصديرَه إلى الجماعات " الإرهابية ".
       ولا فائدة من التدليل هنا على أنّ عدداً هائلا من الخبراء والمثقفين ورجال السياسة الغربيين يروّجون لهذه العقيدة ، ويسخّرون لخدمتها كلَّ جهد ووقت ، وفكر ومال ، ودعاية كاذبة وتلفيقات ( لا يجب علينا أن ننسى كذبة أسلحة الدمار الشامل في عراق الرئيس الراحل صدام حسين التي لم يعثر عليها أحد حتى اليوم )... وهؤلاء يحذّرون في تدخلاتهم وأنشطتهم وأعمالهم وتقاريرهم من إغفال واقع البحوث العلمية النويية في الدول العربية والإسلامية ، وإهمال ما توصلت إليه من نتائج والتطورات التي حصّلت عليها ... وهم يمارسون كثيرا من الضغوط على كل الهيئات والمؤسسات الدولية المكلفة بمتابعة ما يحدث في هذا المجال حتى تسرع في التدخل وتذعن لرغباتهم وأهدافهم. ولهذا لم يندّدوا بقتل العلماء الإيرانيّين ، بل ربّما وجدوا في ارتكاب هذه الجريمة الخطيرة التي يحارب أصحابُها العلمَ والمعرفة والعقل شيئا يدعو إلى الارتياح...
        ويبدو أنّ الشعوب العربية والإسلامية ليست ساذجة إلى درجة أن يغيب عنها ما يحرّك الساسة الغربيين في التعامل مع قضاياها : إنّها لا تشكّ لحظة واحدة في أنّ بواعث أخرى كإرادة الهيمنة على أراضيها والسطو على ثرواتها من بترول وغاز مثلا تقف وراء تجنيد كلّ ما بوسع الغرب للحيلولة دون انتشار العلوم في صفوف مواطني المجتمعات العربية والإسلامية ، واقتناء الوسائل التقنية الضرورية للقيام بالتجارب في المختبرات وتطوير سبل البحث ومناهج الاستكشافات ...
       وترى هذه الشعوب أنها كلما حققت نجاحًا مرموقاً أو تقدمًا ملموسًا على مستوى المعرفة العملية والتكنولوجية  في الميدان الذرّي والفزيائي والكميائي.. ، إلا وشكّكت القوى السياسية الغربية فيه ورمت بظلال الريبة حول الأهداف منه... وعلى الرغم من نفي إيران أن تكون لها قنبلة نووية أو تفكّر في صنعها وأن تكون أهدافها من تطوير برنامجها النووي عسكرية ، فإنّ القوى الغربيّة ( الليبراليية - الانتهازية ، المصنّعة للأسلحة الفتاكة بكلّ أنواعها ... ) لا تتّسع عقولُها لتصوّر وجود علم تجريبي وإنجازات علمية عند المسلمين والعرب ، لها علاقة بالطاقة والبيئة ، من أجل أهداف مدنية وسلمية ...
       فلا غرابة إذن أن نرى العالمَ الغربي يعير كبيرَ اهتماماته إلى كلّ البرامج العلمية في المنطقة العربية والإسلامية ويفرض عليها رقابة وشروطا تتوسل دائما بالقوانين والعقود الدولية كعلل لفرض حذر عليها ومحاولة إيقافها أو تجميدها ومنعها.
      في ضوء هذا السياق، لا نظنّ أنّ القارىءَ سيتفاجأ بالجواب على السؤال المطروح في بداية هذه الورقة. يُعْزى للسيناتور الأمريكي McCain   John جون مكاين تصريحٌ مشهور - يُرجَعُ إليه وكأنّه برهان قاطع على صحة الموقف ونزاهة الرأي - يقول فيه : " الشيء الوحيد الذي يمكن له أن يكون أسوأ وأشرّ من العملية العسكرية ضدّ إيران هو إيران النووية " !
     ياله من جواب وياله من أسلوب إقناع ! يالها من عملية بهلوانية ، وياله من مشهد سحري ! المهرّج التعب الهرم يفاجأ المنبهرين بحركاته الميكانيكية الإصطناعية في سيرك اللغة الإنشائية بالكشف عن كلمات لم يكن ينتظرها أحد ! برافو عليك يامكين ، لقد برهنتَ على أنّك تُجيد بامتياز ممارسةَ أسلوب الأدبيات الرخيصة التي تستهزىء بالعقل الإنساني وتشتم جانبَ الذكاء فيه بكلّ وقاحة !
    أنْ يكذبَ الإنسانُ على الناس من أجل تضليلهم فهذا شيء فيه شرّ كبير ، لكن أن يكذب الإنسانُ على نفسه فهذا هو الشرّ بعينه  !



4
هل تستحق الصورة الإعلامية أن نخاطر بحياتنا من أجلها ؟
حمّودان عبدالواحد / كانب عربي يقطن بفرنسا
       بعد مقتل الصحافيّين رامي السيد وماري كولفان Marie Colvin وريمي أوشليك Rémi Ochlik أثناء ممارسة عملهم ، ازداد وعيُ  مُراقبي المواقع الإعلامية ، ومبعوثي وكالات الأخبار والصحف والقنوات الفضائيات بارتفاع ثمن التضحية الجسدية والنفسية الذي ما زالوا يؤدّونه في تغطية أحداث المواجهة بين النظام والمعارضة في سوريا ...
       إلى درجة أنّ متابعة ما يحدث في هذا البلد العربي ، من خلال شهادات المراقبين وعدسات الكاميرات أصبح ، في مدينة حمص مثلا من جراء القصف الشديد الذي يتعرّض له حيُّها " بابا عمرو " وانقطاع الاتصالات فيها ، شبه مستحيل اليوم. هكذا، فوجىء فاتحو المواقع الإخبارية بعنوانين من مثل " عندما توَقّف مراقبونا في حمص عن التوثيق " ( فرانس 24 بتاريخ 24-02-2012 ) ، وكان السبب في ذلك ، حسب هذا المصدر ، واضحًا جدّا : " إنّ الناشطين الذين اعتادوا تصويرَ ما يحدث في المدينة لم يتجرؤوا على الخروج من منازلهم ...، وكل المشاهد اقتصرت على بعض الجرحى صُوِّروا داخل إحدى مباني الحي ".
       وفي خِضِمّ هذه الأحداث المأساوية ، وبعد أن بدأ الخوفُ ينال من شجاعة عددٍ من متابعي  المشكلة السورية من صحافيين ومراقبين ومبعوثي الوكالات الإعلامية والقنوات الفضائية ... ترَكّزَ النقاشُ مباشرة حول عمل الصحافيين ، وخاصة مصوّري الروبورتاجات الذين يضطرّون للذهاب إلى قلب الأحداث ( الاختلاط بالناس في المظاهرات والالتقاء بالمعارضين أثناء قصف النظام لهم... ) فيعرّضون أنفسَهم للخطر ... خطر الإصابة بالجراح ! خطر الخطف والسجن والتعذيب ! خطر الموت الذي يطوف حولهم في كلّ لحظة !
       وهذا ما عالجه برنامجُ " أسرار المصادر " في القسم الأوّل منه ، بتاريخ 25-02-2012 ، على إذاعة راديو فرانس كولتور France Culture  ، حيث تناول مُنَظّمُ البرنامج ، جان مارك فور ، موضوعَ " سوريا : الموت من أجل الشهادة الإخبارية " من خلال مثال مدينة حمص التي أصبحت شبيهة ، في مأساتها وما تتعرّض له من حصار وقصف مدفعي ورصاص قناصي النظام ، ببعض المدن الأوربية  في فترات تاريخية دموية كستالينغراد وسراييفو ...
       وكان الضيفان المَدْعُوّان لمناقشة هذا الموضوع هما باطريك شوفِل Patrick Chauvel وباطريك باز Patrick Baz  ، باعتبارهما يعملان في ميدان الصحافة المتخصّصة في هذا الميدان ، إذ أنّ باطريك شوفل هو مراسل الحروب ومصور الروبورتاجات التي غطّت عدداً كبيراً من الأحداث والخلافات في العالم منذ أربعين سنة ، أمّا باطريك باز فهو الرئيس المسؤول عن قسم الصور في مكتب الشرق الأوسط لوكالة فرانس بريس...
       وجاء نقاشُ إشكالية الموضوع ، في أوجهه المختلفة ونقطه المتشابكة ،  متقاطعًا مع الواجب المهني الذي يهدف إلى " الإخبار والإعلام " من جهة ، والخوف من الموت كشعور إنساني يكمن في الحرص على الحياة من جهة أخرى . وكان السؤالُ الرئيسي المطروح بهذا الصدد هو التالي : هل تستحق الصورة الإعلامية ( أكانت فوطوغرافية أم فيديوها مباشرا ... ) أن نخاطر بحياتنا من أجل التقاطها أو تسجيلها ؟
       أمّا الأسئلة المتفرّعة عنه ، فقد كُرّس َالجزءُ الأكبر منها للتّفكير حول قيمة الصورة الإعلامية وثقلها وأهميتها على المستوى المهني والسياسي والإنساني والتاريخي  : أين تكمن هذه القيمة ، هل في أنها تستجيب للشروط التقنية والموضوعية التي تجعل منها أن تكون صالحة لأن تنشر في صحيفة أو على موقع ... وكفى ؟ أم لأنها تُلتَقَط في قلب الأحداث الساخنة وتطلع شاهدة بما يقترفه النظام من جرائم ضدّ المدنيّين وتكون عندئذ كمُندّدة واقفة تُحاول قطع الطريق أمام من لا يريدون أن تصل أصواتُ المحاصَرين إلى العالم طالبة المساعدة والنجدة  ؟ أم في كونها نتيجة فعل ثنائي متماسك ومتزامن تقوم به عينُ الصحافي والعدسة بدرجة عالية من الفطنة والتركيز وقوة الحضور ، حيث لا تكتفي بتسجيل الحدث بل تُوَثّق مرئيا وسمعيا بدايةَ تغيّرٍ ما أو تحوّلٍ مُفاجِىء في الحياة السياسية وطبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع ؟ أوَ لا يُمكن تلخيص القيمة الحقيقية للصورة الإعلامية التي تشتغل في إطار تغطية الثورات والاحتجاحات في أنّها قد تُخلّد لحظة حاسمة في قدر أُمّة وتاريخ شعب ؟
       مهما كان الجواب ، فإنّ هذه الأسئلة تحيل ، في رأيي ، إلى بعض الوظائف التي تؤدّيها الصورة الإعلامية ، والغالب أنّها قادرةٌ في مجموعها أن تشرحَ بعض الجوانب المهمة في الدور التوثيقي لهذه الأخيرة... إلا أنّ القيمة الكبرى للصورة التي لا يُحفّزها شيءٌ آخر غير السعي إلى نقل ما يحدث في مكان ما وإخبار الناس به ، أنّها توثق الوقائعَ انطلاقا من وجهة نظر تنبثق - قبل كلّ اعتبارٍ مسبّق وموقفٍ مُتّخَذ - من داخل الحدث وقلب المواجهة دون أن تهمل السياق العام الذي يُوَلِّدُ الأحداث ... إنها الصورة التي تساعد كل من يراها على فهم الواقع الذي تحيل إليه والعناصر المكونة له والمحيطة به أيضاً...
       من هنا ، كما يقول باطريك شوفل ، يتحوّل الصحافيُ المصور من مجرّد شاهد على ما يحدث إلى مصدر الخبر ... وهذا ما يفسّر في رأيه كراهية الأنظمة الديكتاتورية لعمل الصحافيين والنظر إليهم كأعداء لها ... ولهذا السبب يعتقد أنّ النظام السوري يمنع خروج العاملين على تغطية الأحداث في حمص من الخروج من المدينة...
       وإذا كان النظامُ يخاف من الصحافيين والصورة الإعلامية الشاهدة والموثقة فإنّ الوعي بالخطر والموت المحتمل أو الممكن في أية لحظة هو حاضر دائما في عمل هؤلاء الصحافيين الذين يقبلون بهذا الواقع الممقوت ويؤكّدون ، عكس ما يظنّه الكثيرُ من الناس ، أنّ مُهمّتهم ليست نزهة أو جولة سياحية...
       صحيح أنّ الخوف من الموت لا يفارق مصوّري الحروب والخلافات بين الجهات المتصارعة ، لكن خوفا من نوع آخر ، يخصّ عدم التقاط الصورة المناسبة في الوقت المناسب ، يبقى هو أيضاً حاضرًا بقوّة ، بالإضافة إلى الخوف من السقوط في مصائد الخدع والمناورات وتزوير الحقائق...
       هنا يذكّرُ باطريك شوفل بضرورة الحفاظ على " المسافة اللازمة " بين الصحافي والأفراد والجماعات التي تستجيب لأسئلته أو تسمح له بالدخول إلى ميدان أنشطتها ومرافقتها في تحرّكاتها ... حتى يتسنى لعمله أن يتحقق في الشروط الموضوعية المنشودة ويوفّرَ لأبحاثه واستفساراته ما يحتاج إليه من حيطة وحذر ، كأن يتجنّب السقوطَ في شباك مُقلّبي الحقائق وألاعيب من يُتْقِنون التمثيليات العاطفية مِمّن يحبّون الظهورَ أمام عيون الكاميرات وعدسات المصوّرات ويريدون الإدلاء بشهاداتهم بخصوص ما يزعمون أنهم عاشوه بأنفسهم أو رأوه بأعينهم أو سمعوه من أشخاص موثوقين ...
       وأجدُني في هذا السياق حريصاً ومشدوداً إلى إثارة نقطة من الأهمية بمكان تتعلّق بتحذيرٍ وجّهَه باطريك شوفل إلى زملائه الصحافيين من ظاهرة خطيرة سمّاها " السرعة " في التعامل مع الصور الملتقطة أو المسجلة ... ولتوضيح موطن الخطر في الصور التي تنشر بسرعة فائقة اليوم ، قام في عُجالة بتقديم حكاية بليغة المعاني وقعتْ له ( لم يذكر تاريخَها ) لما كان في جنوب لبنان ( ربما أيام الحرب الأهلية ) لتغطية الأحداث آنذاك هناك... لنتركه إذن يروي هذه الحكاية ( التي تصرّفنا في أسلوبها ) ولنستمع إليه باهتمام كبير لعلنا نستفيد من الرسالة التي تحملها تجربتُه الطويلة :
       كنت برفقة مسيحيين فبدأ حريقٌ يأخذ في كنيسة كان وراءه جماعةٌ من المسلمين ... لم يتحمّل رجلُ دين ماروني كان يلبس جُبّة الكاهن - السوطان - رؤية هذا ، فأخذ رشاشةَ وشرع يطلق الرصاص ( في الهواء ؟ صوب أحد ؟ لا يحدّد شوفل هذه النقطة ) ... اغتنمتُ هذه الفرصة والتقطت صورةً للرجل وهو في حالة يطبعها تواجدُ عنصريْن نقيضيْن أي زيّ الصلاة والعبادة والسلام ، وسلاح الرشاش الدال على العنف والموت والحرب... فكانت الصورة " ممتازة " ... قمت توّا بعد ذلك بإرسالها إلى وكالة الصحيفة التي كنت أعمل لها قصد النشر في فرنسا... لكن ، بعد أربع ساعات ، جاءني الراهبُ الذي يظهر على الصورة ليفاجئني بطلب عدم نشر الصورة وتمزيقها... فلما استفسرتُه  عن سبب هذا الطلب مع العلم أنها تعكس في نظري ما حدث في الواقع ، أجاب أنها لا تعكس إلا موقفه هو حين " استسلم لحالة جنون أخذه " ... وقال لي : " إنها لا تعكس الحقيقة ! " . فلما سألته عن هذه الحقيقة التي لا أعرفها أجابني بأنّ المسلمين في المنطقة يحترمون رجال الكنائس ولم يقتلوا راهبا واحدا على الرغم من الخلاف بينهم ... وأضاف قائلا في قلق : " ماذا ستكون ردودُ أفعالهم لمّا يروا هذه الصورة ؟ "
       يقول باطريك شوفل في هذه اللحظة أنّه أدْرَك الخطأَ الكبير الذي وقع فيه لما " أسرع " في الحكم على الصورة الملتقطة باعتبارها تنقل خبرا يقينيا وسليما ، فاتصل بعد ذلك بمكتب صور الجريدة التي يعمل لها وطلب من المسؤولين فيه أن لا يَعْرضوا الصورة للنشر ... لكنهم اعترضوا على طلبه ، وعبّروا عن دهشتهم من موقفه حيث ذّكروه بأنّ هذه الصورة  هي حقاً " سوبليم " أي عظيمة وجليلة ! واعترف باطريك شوفل بما قالوه وأنّها من جنس الصور التي يجري وراءها المصورون لأنها مثيرة للانفعالات والمشاعر وتُتوّج عادة الصفحاتِ الرئيسية للصحف العالمية الكبرى... لكنّه أعاد على مسامعهم أنها مخالفة للحقيقة ولا يحق للصحيفة أن تنشرها لأنها إنْ فعلتْ ستقع في تعارض صارخ مع أخلاقيات مهنة الصحافة... وبعد أخذٍ وردّ ، نال في النهاية ما كان يطلبه ، ولم تُنْشر الصورة !
       ماذا يمكن أن نقول بعد قراءة هذه الحكاية ، وما الذي يمكن أن نستنتجه من خيوطها  ؟
       أوّلا ، لو كانت صورة الرجل الديني الماروني - وهو في لباسه الكنائسي ويحمل رشاشة - قد التُقِطَتْ في زمننا هذا - زمن الإنترنت والسرعة المذهلة - وأُرسِلت للنشر لاستحال بعد ذلك سحبُها أو تمزيقُها ، ولكانت فعلتْ من دون شك فعلَ الأسلحة الفتاكة في صفوف اللبنانيين وغيرهم من العرب والمسلمين في البلدان الأخرى ، بل وحتى خارج العالم العربي !
       ثانيا ، أنّ هذه الحكاية هي فريدة وقيّمة لأنها مليئة بالمعاني والدروس لكلّ من يسكنه هاجسُ الحقيقة من الصحافيين والمثقفين ونشطاء الإنترنت – الفيسبوكيين والمغرّدين التويتريّين وغيرهم... بطريقة أخرى ، المطلوب هنا من كلّ صحافي له وعيٌ مهني بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه ، لا يتعلق فقط بالحذر اللازم عند التقاط الصور وتسجيلها، بل  كيف يتعامل معها بحكمة وتعقّل أي لابُدّ من التأنّي والفحص الشامل لسياقها وحيثياتها قبل أن يأخذ قرارَه بعرضها على الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من أجل النشر. وعليه أنْ يبقى متمسكا بالقاعدة الذهبية رقم واحد في ممارسة عمله : لا بُدّ مِن تبنّى الحذر والاحتياط اللازميْن فيما يخصّ الواقعَ الذي تحيل إليه هذه الصورُ ، وطبيعةَ العلاقة الموجودة بين هذا الواقع وعناصر الحقيقة التي تحيط به .
       وهنا تكمن – فيما يبدو لي - الرسالةُ المركزية التي تنطق بها حكايةُ باطريك شوفل. إنّها تقول بكلّ بساطة أنّ الصورة الإعلامية التي قد تسْتحقّ من الصحافي أن يخاطر بحياته من أجلها هي التي تنطلق من قناعة متينة بشرف المهنة ومسؤولية الصحافي ، وتنشأ من رغبة عميقة في الشهادة بالحقيقة... وهي تبعاً لذلك الصورة التي لا تُنشَر إلا بعد التأنّي وإعمالِ النظر والفحص الموضوعي لكلّ العناصر المكوّنة لمضمونها المرئي و / أو السمعي ، والتي تدخل في روابط تكاملية  مع عناصر أخرى سياقية لا تظهر فيها ولا نسمعها لكنّ الإحاطة بها شيءٌ ضروري لفهم ما يحدث بالفعل ، وتجنّب الوقوع في الخطأ وكلّ ما يترتب عن هذا من تبعاتٍ قد تؤدّي إلى إحداث أو تعميق الكراهية والحقد والرفض بين الأفراد والمجتمعات والدول ، وربما اندلاع العنف والمواجهات بينها...



5




نريدكِ الآنْ دائماً في كلّ مكانْ !


حمّودان عبدالواحد / فرنسا






(1)


كُناّ نبحث عنكِ ...
 ونسمعكِ من بعيدٍ
وراء الحدود والتخومِ
في عمق الذاكرةِ
تبرقين وتضحكينَ
كما في أحلام النجومِ
ضحكة اللاعبين من الصغار
كما الحصى والمحار
تجرفهما المياهُ في جداول مُقهقِهه...

(2)

كنا نبحث عنكِ...
ونرمقك من بعيدٍ
أمام السدود والرسومِ
وكأنك وجهُ النادرةِ                
تلعبينَ وترقصينَ
كما في أوجاع الجنون
رقصة الفارّين من الشجار
كما الأسى والنوار
تحملهما الرياحُ على أجنحة مُرفرفه...

(3)

كُناّ برُموشنا التعبى
نناديكِ
كنا بعظامنا الجوعى
نناجيكِ
كنا بعروقنا العطشى
نستسقيكِ
ونضربُ على الجدار بكفّ السجين
لتعرفَ أنّنا ما زلنا وراء القضبان...

(4)

كنا نحسّكِ معنا
ولم نرَ أبداً عينيْكِ ، ولا نعليْكِ ...
نترقبكِ في الأفق
نتنشّقكِ مع هبوب الريحْ ...
قيل لنا تمشين حافية
وحيدة وشبه عارية
مُمَزقة الثيابِ
منفوشة الشعَر
وَلهى من الشرودِ
وكل يومٍ تعمّقين في البُعدِ ...

(5)

نريدُكِ نلمَسُكِ
نبوسكِ نرْبتكِ
نفرككِ
نعْجنكِ
نضغط عليكِ
بحرارة الأشقياءِ
وسذاجةِ الأبرياءِ
وبلاهةِ الحمقى والهائمينْ...

ياليتنا أكلناكِ حتى الفناءْ ... !

ونَحِنّ ، آهٍ ثم آهٍ منكِ ، إليكِ !
ما زلتِ بعيدة... وكم  كنتِ  !

(6)

نريدكِ الآنْ
نريدكِ !
دوماً في الحالْ
نريدكِ !
وفي كلّ مكانْ !

(7)

كفرَ السدنة بالدمِ
لطّخوا الكلمه
رموكِ بالخطيئه
في السجونْ
قذفوكِ باللقيطه
بالجنونْ
همُ الحكماءْ...
وبالكذب اتهموكْ
همُ الجبناءْ...
قالوا جاحدينَ خائفينْ
أنتِ " مستحيله "...

(8)

كثُرَ الجريُ واللغط ُ
وعلا اللغوُ والشططُ !
وألحّ الخوارُ
يدورُ ويخورُ
إذ جرّكِ العجلُ وهو بخورُ
ونحن نشكو ونثورُ
إلى مِنصّة محرابْ
إلى تراتيل وتهديدْ :
الرميُ والهدمُ والحرقُ...
القتل والذبح والسلخُ ...
الخنق والشنق والسحقُ...

(9)

لكني لم أسمع إلا صوتكِ وهو يرتفعُ !
صوتُكِ المنطلقُ كالسهم في سَدادْ
- صوتُكِ الجريحُ كانت نقلته الرياحُ
إلى قلب الغيومْ -
حشدٌ خطيرٌ من رمياتْ
ينزل حجارةً من الفضاءْ...

(10)

لن ينجُوَ أبرهة ُ الجديدُ
سيقِفُ فيلُه الأطلنْطِيّ ُ على حافةِ الطريقِ
وعينُه تُحَذِق في أسهم السحابِ
تخاف من صقور المطر
تهاب سِجّيلَ اللعنةِ الصاعقه...

(11)

صوتُكِ يسمو بي كأقحوان طويلٍ
يناطِح العلوَ ويَرْبتُ على الغمامْ…


6
الثورة السورية : من " صمتكم يقتلنا " إلى " الله معنا "

حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا
----------------------------------------

" حياة الآلام طويلة وقد تصل إلى قرن ، أمّا الموت فمُدّته لحظة "
كريسّي جان باتيسط لويس ( 1709-1777 )

       تخلى العالم – شرقا وغربا – عمليا عن الوقوف الى جانب الشعب السوري الوحيد اليتيم المضطهد ، ورغم نداءات الاستغاثة المتتالية ودعوات النشطاء الحقوقيّين المتعددة لفعل ما يمكنه أن يضع حدّا لجرائم الأسد ، لم يهب أحد إلى نجدة شعب محاصر مطوّق يزداد نزيفُ دمه يوما بعد يوم... مما دفع بالشعب السوري إلى الشعور بأنه منسي فعبّرَ عن شعوره بالوحدة وخيبة أمله بشعار رفعه يوم الجمعة الماضي يقول : " صمتكم يقتلنا ". الشيء الذي يعني أنّ كل صامت ممن له القدرة على التدخل في مجريات الأحداث وتغييرها بالقول أو العمل أو معا ولم يفعل هو ، بوجه من الوجوه ، إمّا راض عن الجريمة أو متفق مع من ينفّذونها أو مشارك فيها أو مشجع عليها... وكيفما كان الحال ، فإنّ العبارة تنضح باتهام واضح لا يمكن للمرء أن يتجاهله ، وهذا الاتهام فحواه أنّ" تبني الصمت اتجاه القتل والبطش والتعذيب وكل ألوان الاضطهاد والعنف الأخرى التي يتعرض لها المدنيون في سوريا ، تجعل من صاحبه مسؤولا عن مأساتهم المريرة وآلامهم العميقة وما يترتب عنها من تبعات ونتائج تاريخية " ! وإذن ، إذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرسا ، فكم من الشياطين في العالم اليوم ؟ ومن هم ياترى ؟
     تابع النظام السفاح استعمالَ العنف بعد جمعة " صمتكم يقتلنا " ، بل زاد من حدّة القتل والتنكيل باستعمال الأسلحة الثقيلة والدبابات ضد المدنيين ، فأراد بحماقته وغباءه أن يعيد التاريخ ( إبادة جماعية في حماة سنة 1982 ذهب ضحيتها عشرات الآلاف ممن سماهم نظام حافظ الأسد آنذاك الإخوان المسلمين ) بارتكاب مجزرة جديدة في مدينة حماة سقط فيها ما يقرب من مائتي شهيد ، وهو لا يعرف أننا لا نستحم مرتين في نفس الماء وأنّ كل ما نفعله في هذه الحالة هو إعادة أخطاء الماضي وعدم الاستفادة منها. كان على بشار أن يصحح أخطاءَ أبيه ويتدارك الموقف بمحاولات استماع واقتراب من أبناء وأسر ضحايا مذبحة حماة القديمة ، فيلبي مطالبَهم الحقوقية ويحسّن أوضاعَهم الاجتماعية وأن لا يضع أصبعَه في موضع الجراح والالام ، غير أنه لم يفعل لأنه بليدُ الحس وفاقدٌ للحدس التربوي ولا يفقه شيئا في فلسفة أبعاد التاريخ ، وها هو ونظامه المتعطش للدماء - في حوار غريب مع المعارضين -  يشنّ "حربا " بالمفهوم الحقيقي للكلمة ضد  الشعب السوري، ليس في مدينة حماة ودير الزور ودرعا فقط، بل في سائر المناطق والمدن السورية. 
     لكن العالم لم يتعامل بفعالية وجدية مع مأساة الشعب السوري ، فاكتفى الغرب بتصريحات هنا وهناك ، ظهر على معظمها التردد وغلبت على بعضها  لغة الازدواجية في المعايير كما هو شأن فرنسا ، وتعاطى الجميع مع بشار الجزار بلغة الشجب والاستنكار والتحذير ليس إلا كما فعلت أمريكا وبريطانيا وألمانيا مثلا، وطلع مجلس الأمن بعد نقاش هادىء طويل وبطيء بين أعضاءه ببيان رئاسي غير ملزم يندّد بجرائم السلطة الحاكمة في سوريا ، ولا شيء غير ذلك...
    أما الحكام العرب والمسلمون فلم يُحرّكوا ساكنا بل ظلوا في سباتهم العميق ولزموا – وكأنهم وقعوا معاهدة بينهم – الصمت المطلق وكأن شيئا لم يحدث في بلد شقيق كما يدّعون. وكذلك تصرفت الجامعة العربية التي من المفروض عليها أن تسمع أصوات الشعوب العربية وتنحاز لجانبهم ، لا أن تكون مؤسسة تمثل الحكومات العربية وتذعن لأوامر حكامها ..، فصدقت على العرب بحق عبارة " صمتكم يقتلنا " !
     أيقن الشعب السوري في هذا السياق أن لا أمل له في الإعتماد على التحرك العربي أو انتظار المساعدة من أحد فأصيب بخيبة كبرى من تقاعس الشعوب العربية والاسلامية وتخليها عن المساهمة في مواجهة قدرها والقيام بما يفرضه عليها منطق الأشياء. وتساءل في حيرة : ألم تفهم هذه الشعوب أنّها معنية مباشرة بمأساتنا ؟ ألم تدرك بعدُ أننا أمام حتمية تاريخية موجودين في خندق واحد نخوض غمار نفس المعركة ؟ إنّ الشعوب التي تصل إلى هذا المستوى من الوعي التاريخي كما هو شأن المصريين والأتراك مثلا ، هي بحق شعوب عظيمة وهي وحدها القادرة على تجاوز تحديات المستقبل وخوض معركة التنمية الشاملة والبناء الحضاري الطويل...
      وبعد أن أصيب الشعب السوري بإحباط شديد وفقد ثقته بالمؤسسات الدولية السياسية وحار في تفسير المواقف المحدودة والخجولة للمجتمع المدني الغربي ، رفع في يوم جمعة  05-8-2011 شعاراً ذا دلالات كثيرة وبعيدة في مراميها : " الله معنا ".
      قبل تقديم العناصر المكونة للدلالة التداولية لهذا الشعار الثوري ، ندلي بهذه الملاحظة الأولية العامة : حين يختار السوريون المتظاهرون جملة " الله معنا " فهذا لا يعني أنهم يرفعون شعارات تمثل الاتجاه الإسلاموي القائم على " الفكر الديني " الذي يدعو الشاعرُ العربي الكبير أدونيس المعارضة إلى الإبتعاد عنه. رفعُ الاصوات ب " الله معنا " ليس هتافا بأفكار طائفية أو مذهبية ، أو ترديدا لتصوّر إيديولوجي ما متعارض مع مقولات إيديولوجية حزب البعث الاشتراكي الحاكم ، أو إيديولوجيات أخرى علمانية ويسارية وديموقراطية ... الشعار ليس من مطالبه " السلطة " ولا ينبثق ممّا يسميه محمّد عابد الجابري " العقل السياسي " الذي يقوم جوهره على البراغماتية أي الاعتبارات النفعية, بل هو وليد وعي اجتماعي وإنساني بتكامل المادي والمعنوي كضرورة لممارسة الحياة. وهذا ما لفت الأنظارَ إليه شعارٌ آخر رفعه المنتفضون يؤكدون فيه أنّ " الإنسان لا يعيش بالخبز وحده ، بل إنه بحاجة أيضا إلى الحرية والكرامة ".
      من هنا تنبع القيمة الثورية والتاريخية الفريدة لعبارة " الله معنا " إذ أنها تقف وجها لوجه مقابل " أنتم مع بشار " ، وتدخل في تضاد قوي واضح مع " الكلّ ضدّنا ". والحالة هذه ، ما هي الرسائل التي يريد أن يوصلها هذا الشعار ؟ وإلى من بالضبط تتوجه ؟
-   الرسالة الأولى تقصد مباشرة المتضامنين مع النظام أي مؤيديه الواقفين إلى جانبه
والمدافعين عن " وجوده وبقاءه " وممارساته القمعية وجرائمه. ولا يجدون ما يبرّرون به هذا الموقف إلا فكرة " الممانعة والمقاومة " ضد الاحتلال الإسرائيلي ، والتصدي للمؤامرة التي تتعرض لها وحدة الوطن ... وهم يصفون التظاهرات بأنها أعمال شغب وأن من حق الدولة قانونيا استعمال القوة لإعادة الأمن والاستقرار إلى الوطن. وأنصار النظام هؤلاء هم بصفة عامة كل المستفيدين من سخاء كعكته التي تشمل عائلات الجيش وأجهزة الأمن والشبيحة ، وطبقة الأغنياء ورجال الأعمال وأصحاب المقاولات ، وكل الذين يرون في الإصلاحات والتغييرات السياسية أو سقوط نظام بشار تهديدا مباشرا لمصالحهم...
-   " الله معنا " موجهة بالأساس أيضا إلى رجال الدين والفقهاء والعلماء، وخصوصا من
اختار منهم انتقاد المتظاهرين واعتبار ما يطالبون به من حقوق ما هو إلا أعمال شغب وفتح أبواب الفتنة على مصراعيه ، فقاموا بتبرير أعمال العنف والتقتيل التي ترتكبها السلطات في حق المدنيين، ودللوا على ذلك بضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار وإعادة الأمور إلى مجاريها الطبيعية... وياليت رجال الدين هؤلاء وفقهاء السلطة ، كانوا التزموا بالمقولة التاريخية " سلطان جائر سبعين سنة ، خير من أمة سائبة ساعة من نهار " في كليتها ، فاعترفوا على الأقل بظلم الطاغية بشار... بل ياليْتهم سكتوا ولم يتلفظوا - كما هو شأن البوطي الذي ذهب إلى القول بأن إسقاط النظام السوري معناه إسقاط الإسلام -  بما يعجز العقل الإسلامي عن فهمه.
-   " الله معنا " خطاب موجّه كذلك للحكام العرب والمسلمين والجامعة العربية وتتهمهم
بالتواطىء مع النظام القمعي السوري وتحملهم – أمام الله واهب حق الحياة وإرادة الحرية والكرامة للإنسان - مسؤولية إراقة كل قطرة دم سورية بريئة ظلما واستبدادا...
-   " الله معنا " رسالة استنكار تتكلم إلى كل من ترك من العرب والمسلمين المأساة تكبر
والفاجعة تستفحل باتخاذه موقفَ الصامت المحايد المتفرج المنتظر. وهم كثيرون ويأتي على رأسهم قادة الرأي والأحزاب السياسية ، والمثقفون ووسائل الاعلام ... ، وكل الناشطين العاملين في المنظمات الحقوقية والإنسانية داخل المجتمع المدني الذين لم يتعاملوا بطريقة جادة وفعالة مع مطالب الثورة في سوريا ونضالها السلمي من أجل الحرية والعدالة. لكن " الله معنا " تذكير بالخصوص للشعوب العربية والاسلامية التي تبدو أنها تخلت عن شعب سوريا الشقيق ونصرة قضيته الشرعية العادلة.
         أما الغرب ، فتؤكد الرسالة على خطيئته الأبدية التي تتلخص في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية بازدواجية المعايير. ففرنسا مثلا فاجأت الجميع بقولها إن الوضع في سوريا يختلف عن الوضع في ليبيا لكنها لم تقل أين يكمن هذا الاختلاف. هل في قيمة البترول الليبي الذي لا ترقى إلى مستواه دماء المدنيين السوريين أم في ثقل الماضي المفسر للغموض والتناقض الذين يطبعان مواقفها السياسية...؟
        صحيح أن " الله معنا " توحي بكل ما سبق ، وهي بالإضافة إلى ذلك تقول أنها لا تعوّل على المؤسسات والقوانين والاتفاقيات الدولية التي تحمي حقوق الانسان ... ومع كل هذا ، يبدو لي أن هذه العبارة – على عكس ما قيل هنا وهناك – لا تفض يدها بالمطلق من المجتمع العربي والدولي ، بل إنها ، بصورة أو بأخرى ، توجه نداء آخر أقوى وأشدّ من النداءات السابقة ، وكأنه الأخير ، إلى العالم وخصوصا القوى الفاعلة والعظمى ذات النفوذ السياسي والعسكري لوقف متابعة قتل المدنيين...
      وفعلا ، لم تتأخر ردود الأفعال وجاءت من العالميْن معا ، الشرقي والغربي ، وبدأت مسيرات الثورة السورية السلمية تعطي ثمارها على الخصوص في سوريا والعالم العربي ، فأصدرت رابطة العلماء السوريين بيانا تدين فيه " مجازر النظام وسلوكه الوحشي اتجاه المدنيين " ، وأعربت دول الخليج عن " أسفها " من استمرار عمليات العنف ودعت السلطات إلى وضع حد لإراقة الدماء وبداية الإصلاحات والتغييرات، وبدأ الشارع العربي يتجاوب مع الأحداث في سوريا ويتخذ موقفا لصالح المتظاهرين ( الكويت مثلا ),... والأمور تسير الآن في اتجاه إيجابي بالرغم من أنّ النظام السوري ما يزال يقتل شعبَه ولا يعبأ بكل التحركات الدولية لوقف نزيف الدم...
       نعم ، لا يبقى لمن تخلى عنه الناسُ من حكام ومؤسسات ، وشعوب وجمعيات ، إلا اللجوء إلى السماء التي لا تغلق أبوابَها في وجه المضطهدين والمظلومين والضعفاء...  إنّ السماء لآهلة بعيون ترى ما يجري فوق الأرض ، وهي كلها آذان صاغية تسمع بكاء الثكالى وعويل الأرامل ، وقد وصلتها بالتأكيد دموعُ وآلامُ أمّ الطفلة الشهيدة ليال عدنان عسكر... ولهذه الطفلة وأمّها أسماء أخرى كثيرة من الشهداء في سوريا اليوم ، سوريا الثائرة ! 
           كان نابوليون الأول يقول وهو يفكر في أوروبا المسيحية " الشعوب تمُرّ والعروش تسقط وتبقى الكنيسة " ، والجدير بمن يفكّر من العرب والمسلمين ، حكاما وشعوبا ، ويتأمل في عبر ودروس التاريخ أن يقول ، والفكر كله منصبّ على مستقبل الأوطان وحقوق المواطنين ورفاهيتهم : " الشعوب تفنى وكراسي الحكام تسقط وكلّ من وما على الأرض سائر إلى الزوال ، ويبقى وجهُ الله ذي السلطة الحقيقية والجلال " !
        أجل ، ما خاب من وضعَ ثقته في الحي القيوم الذي لا يغفل عن شيء ممّا يجري في مملكته الرحبة الواسعة ، هذا الكون بدون حدود ... واعتقدَ في إيمان قاطع عميق أن لا مفرّ للإنسان من الله إلا إليه ...
حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا

7

قتل أطفال الثورات العربية وتشويه جثثهم
( قراءة في المعاني الرمزية لمثال الشهيد السوري حمزة الخطيب )


حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا




       تناقلت مؤخرًا مواقع على الإنترنت خبرًا مفاده أنّ الشيخ العرعور دعا أتباعَه في سورية إلى أن يرفعوا من وتيرة القتل والاغتصاب ويركزوا على قتل الأطفال وتشويه جثثهم ثم يرموهم في أمكنة يسهل فيها إيجادُهم لنقلهم إلى المستشفيات من أجل كسب المزيد من التحريض ضد النظام. ويُختمُ هذا الخبرُ - حسب الرسالة التي نُسبَت إلى العرعور – بكلام يبرّر فيه دعوته المزعومة هاته : " فأنا أريد أن أشفي غليلي من هذا " الوحش " بما أنني لم أستطع أن أشفي غليلي من "والده ". وبغض النظر عن صحة هذا الخبر أو كذبه ، ومن هو مُحرّر نص الرسالة التي كان الغرض منها بكل وضوح هو الترويج لمحتواها ، فإنّ الموضوع الذي سنسلط الضوءَ عليه في هذه السطور ينبع من فكرة " التركيز على الأطفال وتشويه جثثهم " ، ومحاولة ربطها بالانتقام من والد بشار الأسد الرئيس الحالي لجمهورية سورية. لماذا التركيز على قتل الأطفال وتشويه جثثهم ؟ ما محل كلمة " الوالد " في الوعي السياسي واللغة الإيديولوجية للنظام الحاكم في سوريا ؟  سننطلق ، للكشف عن المستور والمخبوء في كلّ هذا ، من مثال الطفل الشهيد حمزة الخطيب.


       اللافت للإنتباه في حدث قتل هذا الطفل ، أنّ السلطات ، على عكس عادتها ، قد ردّت جثمانه إلى أهله.  ما هي الرسالة التي أرادت أن توصلها من خلال هذا التصرف ؟ ولمن بالضبط أرادت أن توجّهها ، ألأهل الجيزة فقط أم لكل الشعب السوري ؟ أللكبار أي الأمهات والأباء أم للأطفال خصوصا ، ومن شابَهَهُم من مراهقين وشباب ؟
       صحيح أنّ المعنى المباشر الذي يفرض نفسه هنا هو أنّ السلطات أرادت أن تمرّر، عن طريق تعذيب حمزة وبتر عضوه التناسلي وتشويه جثته وقتله رميا بالرصاص ، رسالة إرهابية مرعبة لكل من سوّلت له نفسه - من الكبار والصغار على السواء -  تحدّي النظام كما فعل الطفل القتيل ، لكن يحسن بكلّ من يبحث عن إجابات غير مباشرة للأسئلة أعلاه ، أن يبدأ بوقفة مع حمزة – شأنه شأن ما يقرب مائة طفل سقطوا شهداء في سوريا - في دلالته كطفل من جانب ، وفي علاقة طفولته بالثورة والشعب من جانب آخر. بمعنى آخر، لن يتسنى للباحث التعمق في مدلولات الثورة والشعب ما لم يطل التأمل والنظرفي ظاهرة الطفولة. لماذا ؟ لأنّ الطفل – على حد تعبير جول ميشلي  Jules Micheletفي وقوفه على الثورة الفرنسية - هو المفسِّر للشعب ، بل هو الشعب نفسه في حقيقته الأصليّة الأولى أي الطاهرة النقيّة ، قبل أن يطرأ عليه تغيّر وتحوّل ، وفيه تتجلى كل مظاهر الشعب الطبيعية. إنّ كلّ ما يصدر عن الطفل من مطالب وكلمات وسلوكات تعبّر عن نفسها في عفوية ، تجسيدٌ لأحلام الشعب وتطلعاته قبل أن يشل إرادته شعورُ الخوف أو يسيطر على فكره صنم الإيديولوجيا فيقع في فخ غسل الدماغ الجماعي.  الطفل هو الذي  " يُظهرُ للجميع كيف أنّ الشعب مضطرّ دون انقطاع للبحث عن لغته والحصول عليها ، وهما في الغالب يجدان ما يبحثان عنه عن طريق طاقة عجيبة مشحونة بالسعادة ". تأمل مثلا ما يشهد به الشاعرُالليبي عبدالسلام العجيلي حين يقول : " ثورة 17 فبراير لم تقم بها النخبة السياسية أو العسكرية، ولكن قام بها الصغار وتورط فيها الكبار، الشباب كسروا حاجز الخوف، (...) ، لأول مرة يسألني أطفالي عن معنى الوطن وليبيا، وقد أخرجوا الأطلس من تحت غبار المكتبة لمعرفة خريطة بلادهم : الزنتان ومصراتة والبريقة وأجدابيا وجبل نفوسة وككلة. وامتد اطلاعهم على مواقع مدن تعز وصنعاء في اليمن". وهذا البحث عن الوطن الحقيقي أي الليبي والعربي في نسخته الشعبية لا الرسمية ، وهذه الأسئلة التي يطرحها الصغارُ على الشاعر حول مفهوم الهوية هي التي مَكّنتْ هذا الأخير من الوصول إلى ما كان عاجزاً عن تحقيقه من قبل : " بدأت أخيرًا في العثور على نفسي وفهم ذاتي، أعيش حالة ممزوجة بالفرح الكبير الناقص ما دامت لدينا مدن ما زالت تحت حكم القذافي ".
       ولعله من المفيد ، ونحن بصدد الحديث عن الأطفال كصناع للثورة ، أن نُذكّر القارىء بقصة لتامر زكريا ، الكاتب السوري ذي اللغة الإيحائية والأسلوب الرمزي ، عنوانها " الصغار يضحكون " ، حتى يقفَ بنفسه على بعض بواذر الثورة ، والكيفية التي تبدأ بها ، وسرّ قوتها وعلاقتها الوثيقة بالأطفال. هذه القصة يُمْكن تلخيصها على النوع التالي : رأى ملكٌ ذات يوم أطفالا يلعبون وهم يضحكون ، فسألهم لماذا يضحكون ، فأجابوه - واحد تلو الآخر- لأنّ السماء زرقاء ، والاشجار خضراء ، والطيور تطير... ولمّا نظر الملكُ إلى السماء والأشجار والطيور وجدها لا تضحك فظنّ أنّ الأولاد كانوا يضحكون عليه... رجع الملك إلى قصره وأعلن قرارا يمنع الشعبَ من الضحك ، فأطاع الناسُ الكبار، أمّا الصغار فلم يهتمّوا بأمر الملك ، وظلوا يضحكون لأن السماء زرقاء والأشجار خضراء والطيور تطير...
          رفض الصغارُ في عفوية وتلقائية ودون هدف سياسي أو قصد إيديولوجي إلا أن يَتحَدّوا الملكَ لا لأنه لا يعجبهم أو لأنهم أرادوا أن يضحكوا عليه ... لا ، لا ، أبدا... بل لأنّ خيالهم الخصبَ الواسعَ يحلمُ باستمرار بزرقة صافية تسكن سماءَهم اللامتناهية ، ويرون بعيونهم الطبيعية كل الأشجار خضراء ، ولا يخطر على بالهم أبدا أن توجد طيور لا تطير... بل إنّهم يمزجون بين أنفسهم والشعور بالفرح ، وبين خضرة الطبيعة وزرقة السماء وتحليق الطيور... نحن أمام استعارة تتكلم من خلالها الحرّيّة ، والضحكُ الطبيعي والعفوي وجه ٌ من وجوهها المرفرفة ، جناحٌ من أجنحتها البيضاء ، والأطفال في كرْكرَتِهم الطليقة قلبٌ في حالة انفتاح ورديّ ، وصدرٌ في أجمل انشراح نفسي ، كالماء ينساب دون تعثر أو وقوف أمام عائق ما ، عذبا صافيا لا تقدر على إفساده أو تكديره قوّة ما...  أو كالريح في هبوبها التي لا يعرف أحدٌ متى ستقف وكيف ستنتهي !
         وهذه العلاقة القائمة بين الاشياء الموجودة في العالم الخارجي  وبين الأطفال هي علاقة ليست مادية ولا منطقية أو موضوعية ، إنّما هي نفسية وتنبع من واقع الخيال ... وكل شيء يصبح ممكنا بموجب هذا الجنس من العلاقة بين الذات والعالم الخارجي ! وهذا ما لم يفهمه الملك لأن العلاقة بينه وبين الاشياء وغير الأشياء بعيدة عن منطق القرب والإصغاء والانفتاح على الحياة لاستنشاق نبضها واستشفاف إرادتها .
        وهذه الإرادة الطبيعية ، إرادة الحرية والحياة الموجودة في الإنسان والنبات والطير والحيوان وسائر المخلوقات والكائنات هي التي عابها النظامُ السوري على حمزة ولم يغفرها له. لم يكن حمزة إرهابيا ولا معارضا سياسيا ولا محاربا للنظام يحمل السلاح ، إنّما كان طفلا لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر وقام بشيء بسيط للغاية هو ذهابه إلى درعا لنقل الطعام إلى أهلها المحاصرين ، وقد أوقِفَ حسب شهود من أهل الجيزة عند حاجز الأمن حيث بدأت مأساته المهولة. الحق أنّ الأبعاد الرمزية التي تحيط بحالة هذا الطفل القتيل ناتجة عن علاقات موجودة في عمق الوعي الباطني بين عدة عناصر تتفاعل وتتحرك في إبهام وغموض في نفسية المجرمين الذين قتلوه .
        الذي يسترعي النظرَ في حدث قتل هذا الطفل ، أنّ القاتل ( جمع بصيغة المفرد ) والمقتول لهما أسماء متقاربة من جهة الدلالة ، إذ أنّ معنى اسم حمزة في اللغة العربية هو الأسد ، مع إضافة " الشدة " كوصف رئيسي من أوصافه الكثيرة. هل هذا التقارب أو التناسب في عناصر دلالة التسمية هو مجرد صدفة أم أنّ هناك علاقة سرّيّة ذات بعد رمزي يمكنها تفسير هذا الشبه ؟ هل أراد الحاكم الشاب " بشار " مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أخيه " ماهر " وزبانيّتهما  من حبيشة وغيرهم أن " يبشر بمهارة " ناذرة محيطه العشائري وشعبَه المعبّد في آن واحد بموت " الأسد " الصغير الناقص التجربة - بالمقارنة مع " الأسد الوالد " -  فقام للتدليل على ذلك بقتل حمزة الخطيب أي الطفل الشبل الذي تمرّد – خارج السياسة لانه كطفل لا يعرفها - على الأسد فكان لتمرّده هذا زمجرة أدخلت الرعب على قلوب الأسود الكبار ؟  هل من الممكن القول بأنّ نظام الأسد أراد من خلال قتل حمزة أن يعلن ميلاد " زمن الأسد الكبير" الذي أصبح يتجاوز كما يفعل كبار الزعماء في العالم كل ما يُسمّونه " الأخلاقيات الصغيرة " ؟
       وفي هذا السياق بالضبط ، سياق مدلول كلمة الأسد ( مفرد يحيل على جمع ) يتدخل بعدٌ رمزيٌ آخر فحواه أنّ النظام لا يقبل بأن يكون في الشعب من يشارك رئيسَ الهرم السلطوي في اسمه أو وصف من أوصاف الأسد... الشعب لابد أن يخضع لمنطق الغنيمة والقطيع ، الشعب عليه أن يستسلم كما ترضخ الفريسة لمخالب الأسد... لهذا لا يُسمح لأي كان – حتى ولو كان الأمر يتعلق بالمعاني اللغوية " حمزة " - أن يكون الظل أو الند أو القرينَ للاسد ، ملك الغابة وحاكم الحيوانات...
         لا تحسبنّ أيها القارىء أنّ هذا النوع من التفسيرفيه مبالغة أو مجازفة ، إنّما هو اجتهاد يدخل في باب استكشاف المعاني ، وخصوصا البعيدة منها أي التي لا تسلم عناصرَها ولا اشتغالها بسرعة وسهولة ، وعلى الدارس أن يتحلى بالصبر وعمق النظر حتى يستخرجَها من الأفعال أو الأقوال وأنواع الخطابات الأخرى كما يُستخرَجُ الكنز الثمين من بطن الأرض أو عمق البحر... المهم في مسألة المعاني ما خفي منها لأنّ مستوى اشتغالها يوجدُ في البنية التحتية للغة التي يجب ، من أجل الوقوف عليها ، الغوصُ في أعماق الوعي التاريخي والانطروبولوجي للأفراد والمجتمعات على السواء.
        من هنا أهمية الإلتفات إلى عنصر آخر من عناصر الدلالة الرمزية يدعو بحق إلى الفضول
: حمزة هو اسم صحابي جليل ، مشهور جدا ويعرفه الكبير والصغير ، هو حمزة بن عبد المطلب ، وكان عمّا لرسول الله محمّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ، وعلامته من بين الصحابة الآخرين أنه " سيد شهداء الإسلام ". وحمزة هذا تذكره كتبُ تراجم الصحابة وسيرهم مقرونا بخاصيات الشدة والقوة ، والشجاعة والشدة ، وكانت هوايته - ويالها من صدفة ! - " صيد الأسود " في البراري والصحاري. والغريب في الأمر ، أنّ قتل حمزة الصغير وحمزة الكبير تمّ بشكل فيه تشابه يدعو للدهشة : كلاهما تعرض وهو جثمان هامد للتمثيل الهمجي والطعن الوحشي. فمثلما أنّ حمزة الصحابي الكبير قد فتحت هند بنت أبي سفيان صدرَه وأخرجت كبدَه فعضتها ونهشتها تعبيرا منها عن نار الحقد والانتقام التي كانت تلتهب في نفسها ، فكذلك عومل حمزة السوري الصغير فقد أفرغَ فيه السفاحون المجرمون كلّ ما يطبع ثقافة المتخلفين من جُبن وغباء وجهل وعمى وتجبّر وحيوانيّة ... ، فعَذبوه وقطعوا عضوَه التناسلي ورموه بالرصاص ومثلوا به شرّ تمثيل !

      بالإضافة إلى هذا ، لا نبالغ إذا أرجعنا قتل حمزة وأمثاله من الأطفال والمراهقين العرب الذين شاركوا في المظاهرات... ،  إلى عامل بعيد يكمن في التاريخ العربي الإسلامي الذي لا ريب أنّه حاضر ، من خلال الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية ، بشكل دائم في وعي السلطات العربية اليوم. كيف ذلك ؟ يخبرنا هذا التاريخ بأنّ " القطيعة بين السلطة والشباب كانت أقوى منها في الغالب بين السلطة وجيل الكهول والشيوخ ". وكانت هذه القطيعة تؤدّي عموما إلى قيام ثورات يكون وراءها شباب كما كان الحال مثلا مع ثورة " الفتوة " التي كانت سلمية. وهذه الانتفاضات حاضرة في  عمق الوجدان الشعبي العربي ، وفيما يخص الشام بالضبط ، تبقى حركات " الأحداث " - التي سمّاها المؤرخون هكذا نسبة إلى الشباب وحضور المراهقين وأحيانا الصغار فيها – مهيمنة بشكل مخيف على الوعي السياسي للسلطات العربية كتهديد محتمل الوقوع لكيانها ولا يمكن استبعاد خطره الافتراضي من الحسابات السياسية الحالية... ولا يمكن تفسير درجة القمع والعنف الوحشييْن الذيْن عاملت بهما قوات الأمن والجيش المتظاهرين
الشباب السلميّين إلا من زاويةٍ استراتيجيةٍ تحاول وأدَ انتفاضة الشعب ومنع وصولها إلى مرحلة الثورة .
       من جهة أخرى ، يمكن تفسير بتر العضو التناسلي للشهيد حمزة بعوامل نفسانيّة تتحرّك بشكل صامت وخفي لكن فتاك في لاوعي السلطات المجرمة. نعتقد هنا بالعلاقة اللاشعورية الموجودة بين العضو التناسلي للذكر وما يرمز إليه أي مبدأ الأب وشبحه القوي الدائم الحضور عند الأبناء. والحالة هذه، لا نستبعد أن يكون أبناءُ النظام ( بشار و ماهر وآخرون وهم كثيرون ) قد قاموا بقتل الأب ( حافظ ) في وعيهم الباطني ليتخلصوا من هيمنة صورته التي تلعب دورَ  المراقب الثقيل ، وسيطرة صوته أو أصداء أوامره ونواهيه التي تُذكّر بسلطانه وسلطويته. إنّه لمن المحتمَل جدا ، أن نكون هنا أمام تعبير مثالي عن الشعور بمسؤولية الإبن اتجاه الأب وفي نفس الوقت بالثورة عليه. قام نظام الأسد منذ جلوس بشار على كرسي الرئاسة باحترام وصية الأب ، لكنّه دخل منذ  انفجار غضب السوريّين - بعد أربعة عقود من استبداد الحزب الواحد - مرحلة تطبيقها بطريقة هستيرية جعلته يتجاوزها ويعلن أمام الجميع أنه ليس فقط المنفذ للوصية بل أكثر من ذلك أنه الثائر عليها بالزيادة عليها وكذلك بإحلال وصايا أخرى تعوضها وتحل محلها. هنا تظهر الحالة النفسية المبهمة من خلال ازدواجية الشعور اتجاه الأب : عن طريق نفس الفعل ( بتر العضو التناسلي لحمزة ) ، يهدي الإبن لوالده أكبردليل على حبّه له أو لأبوّته..، وفي نفس الوقت يحقق رغباتِه اتجاهه أي يصبح هو نفسُه أبًا في دائرة السلطة أو ينصب نفسه أبا في مكان والده.

       علاوة على هذا ،  يمكن القول أنّ " ذكر " حمزة يُمَثل في " ذاكرة " السلطات الخائفة من شبح الثورة " تذكارا " – كما التمثال - لكل ما من شأنه أن يكون واقفا منتصبا ، رافع الرأس  أي ذا حياة وإرادة في التعبير عن نفسه والنظر إلى الأفق و السعي إلى المطلق مثلما هي أصوات الثائرين المرتفعة ولافتات المطالب والرايات التي تعلو رؤوس المتظاهرين وأقلام المثقفين المناضلة وهي تكتب... وكأنّ الذين نفذوا عملية بتر العضو التناسلي لحمزة يقولون للفتى الذي تصرف كما يتصرف الرجال الحقيقيّون : " أنت لست رجلا ، وإذا كنت تحسب نفسك كذلك لأنّك تملك ذكرًا فها نحن نقطعه لك عِقابا لتحدّيك لنا ، نحن الرجال..." . هكذا ، أراد الزبانية أن ينفوا من دائرة الثورة عنصر " الطفولة " لأنها عندهم ليست " رجولة " ، لكنّهم – وهنا تظهر الهشاشة الكبرى لتصوراتهم للأشياء وانحرافهم الخطير عن المعاني الانسانية – بالتركيز على جزءية جنسية بالمعنى الضيق للكلمة من جسد الطفل ، خلطوا بين " الذكورة " و " الرجولة ". ولسنا نتعجب من هذا الخلط – و المجرمون يستعملون عادة في أزمنة الحروب مثلا اغتصاب النساء كسلاح لمحاربة الأعداء ، والسوريون منهم هم الذين وجّهوا هنا تهمة سخيفة وعبثية لحمزة تقول بأنّه حاول اغتصاب نساء جنود النظام ! - ، لأنّ احتمال وجودِه يأخذ أوجُهَه الغامضة في اللاشعور الجماعي للعرب كلما اقتربنا من دوائر السلطة المختلفة حيث تُسَيّرُ شؤونُ الرعية والمواطنين انطلاقا من مركز اسمه " الأبوّة " التي سرعان ما تتحول إلى " أبويّة " Paternalisme تحت تأثير السلطوية والاستبداد Despotisme. والحق أنّ محاولة حصر مفهوم " الرجولة " في خاصية " الذكورة " البيولوجية ، تتنافى مع محتوى" الرجولة " الرائج في الثقافة العربية وكما تفهمه الشعوبُ المنتمية إليها ، إذ هي مجموعة من القيم الشخصية والاجتماعية والانسانية كالشهامة والإباء والعفة والكرم والشجاعة والأمانة والوفاء بالعهود والذوذ عن المظلوم ومحاربة الظالم ، وقول الحق... إلخ.

       يمكن القول إذن أن قتل الطفل السوري حمزة بالطريقة الشنيعة والوحشيّة التي تعرض لها تعكس  على الأقل شيئين عميقين : - أولا ، هي في آن واحد ، محاولة من الأسد ، كعشيرة ونظام ، للتخلص من قرينه الذي يماثله في خاصية شبه ، لكن أيضاً رغبة باطنية غير مباشرة للفرار أمام ضغوط النفس والتحرّر منها ولو بقتلها... وكأن نظام الأسد يطلب بوضعه حَدّا لحياة حمزة - أي الأسد الطفل أي الأسد المواطن أي الأسد الشعب أي الأسد السوري - النجدة... هكذا نكون أمام نداء إغاثة ينبأ بنهاية وشيكة وحتمية لطالب النجدة... - ثانيا ، تحيل الطريقة التي تم بها وضع حد لحياة حمزة ( الشعب السوري الفتي الشجاع القوي المتدفق المندفع كما هو نداء الحياة في نموها الطبيعي... ) على مدى استفحال عقدة الكراهية المزدوجة التي يشعر بها الأسد - كنظام قمعي جبان - اتجاه ضعف شخصيته وعجزنفسه ، وجمود فكره وفقر خياله ، وفي نفس الوقت اتجاه القيم التي يملكها الآخرُ وتدفعه إلى المطالبة بحقوقه ، وهي قيم الشهامة والجرأة والإقدام التي توجد في حمزة...
        نعم ، ما من شكّ في أنّ هذا الشهيد هو رمز سوريا الفتية التي لا تنطفأ شعلة طفولتها وشبابها ، الناظرة نحو الأفق، الواثقة بالمستقبل ، الحالمة بغد تسطع فيه شموس الحرية ...، سوريا المتطلعة إلى ما وراء الحدود والحواجز، والسدود والقضبان ... نعم ، حمزة هو سوريا التي قررت بإرادة الحياة أي إرادة الرب الخالق واهب الحرية والكرامة للإنسان ...، أن تتكلم ، أن ترفع صوتها ، أن تعرّي عن صدورها ، أن تتحدى نيران زبانية السلطات ، أن تتنفس الصعداء بعد أزمنة الإهانة والاستبداد والاستعباد...
       وإني – صدّقوني – لأسمع من بعيد روح حمزة ، أميرالأشبال الشهداء ، وهي " تخطب " في الشعب السوري والشعوب العربية على السواء ، تدوّي في زمجرة رعدية تنبثق شرارات من عمق بركان ساكن في ذاكرة الشعوب العربية الغاضبة ، الكريمة الحرّة الأبيّة.. تُحَذرالأسد :

لا تحْقِرَنّ صغيرًا في معاملة    قد تُدْمي البعوضةُ مُقلة الأسدِ

         أما وأنك ذهبتَ بعيدًا في إهانتك للطفل حمزة ، رمز الشعب العظيم ، فأبشر يانظام بشار.. أبشر بنهاية الأسد... ذاك الحيوان المتسلط الظالم ، الفتّاك المفترس ، الراقد في رعين " الحزب الواحد " و " العشيرة " وأدغال " الشبيحة " !

        ولنتأمّل ، في النهاية ، الخطابَ الثالث الذي ألقاه بشار الأسد يوم الاثنين 20.06.2011 بجامعة دمشق لنتأكد من أنّ حمزة كان حاضرا بكل ثقله في لغة الخطاب والمكان الذي ألقيت فيه وردود الأفعال الرافضة له. - أولا ، وَصَفَ الأسد - بعد تصنيفه المتظاهرين إلى ثلاثة أنواع " أصحاب مطالب " و" المخربين " و" أصحاب فكر متطرف " ، وما تتعرّض له بلاده بمؤامرة – المتآمرين ب " الجراثيم التي تتكاثر في كل مكان ...".  وهي كائنات صغيرة الحجم لكن مفعولها فتاك وخطير على الصحة ... وهو ما عيبَ على حمزة الصغير ! - ألقى الأسد خطابَه في جامعة دمشق ، لكن أمام شخصيات من الناس الكبار والكهول والشيوخ ، أما الطلبة أي الشباب مستقبل سوريا فكانوا غائبين. - ثالثا ، مِن بين ردود الأفعال السلبية اتجاه الخطاب ، جاء تصريحٌ صحافي ذكي ، يعبّر عن وعي ونضج كبيريْن في تقييم المحتوى السياسي للخطاب :  " خطاب الأسد الثالث تعبير عن أزمة يعاني منها النظام، وأهمها أزمة فهم الواقع، وإدراك مطلب الشعب في الحرية ". هذا التصريح صدر عن "ائتلاف شباب الثورة السورية الحرة" ، وهو تنظيم سياسي ظهر منذ أيام قليلة... والكلمة المركزية فيه التي تذكّر بحمزة الخطيب ، رمز الأطفال والفتيان السوريّين الشهداء ، ويمكن اعتبارُها استمرارا لروحه الثائرة ... هي " شباب " !
       هذه الكلمة هي نفسها التي نجدها في " شباب ثورة تونس " و " شباب ثورة مصر " ، وتحيل - كما تشهد بذلك الوقائع في هذين البلدين – إلى نوع وعمق وقوة الخيال والخصوبة والحيوية والعقيدة والإرادة التي صنعت الثورة. وهي كلمة ترتعد لسماعها قلوبُ الصناديد وأفئدة
الطغاة ، وتسقط أمامها الأصنام !





8


صعلوكُ الرحمةِ أنا والحُبّ ... !


حمّودان عبدالواحد / فرنسا




كنتِ الجسدْ
ياسلطانه
فنجانَ قهوَه...
وكان شهوَه
يؤرّقهُ الزمنْ
فيحْتسيكِ
رشفة تلو رشفه...
يخشى نهايَةً تفنيهْ ،
فتعتريهِ فجأةَ نزوَه
تريدكِ نهايةً تفنيكْ...
هكذا بكل قسوَه
ياقهوَه... !
*******
وكنتُ الحبّ !
ذرّاتِ ربيع
وبُراقَ رحْله ،
هذه الشعابَ وتلك الدروبْ !
هذه الرياحَ وتلك الحُبوبْ !
هذه المياهَ وهذه التربه
هذا النسيمَ ودفءَ الجنوبْ...
وكلّ القرى الدافنة رأسها
في رَحِم السماء ،
تحتها الغيومُ
وفوقها تمْتدّ عذراءَ زُرْقه
صامتة بيضاءْ
صفحة خوفٍ وقلق وانتظارْ !
*******
أنظلّ ندورُ هاهُنا
كأسطوانة السلطانْ
في فراغ ؟
من يُغلي الماءَ
ويملأ الفنجانْ
بالنظرة والحنانْ
والزبدة والعسلْ ؟
*******
وكنتُ الحُلم !
حليبَ ترابٍ
وملحَ نهضه
أطلّ عليكما
من فوق ربْوه ،
يدايَ كفّتانِ
وأصْغرَيّ ميزانْ...
جذوة من جودٍ
وأيّ جذوَه...
نغمة من عودٍ
وأيّ نِعمه...
زهرة من آمالٍ
وأيّ بسمه...
حلماتِ نهودٍ
وورودَا
رمشاتِ وعودٍ
وعهودَا...

*******



ورأيتماني من بعيدٍ ،
وأنتما في وَرْطه
تسجدان للشفق والغروب
تنبَطِحان في غباء
تشربان الذهول
وتنفثان الخمول...

وقلتما في لحظه :
هذه هفوَه
تحسب نفسَها ثورَه ،
وصحتما : لِتحْيَ الشهوَه
في ظل الثروَه !

*******

أغلقتما أبوابَ القدر !
شرّعتما اجترارَ الأمسْ !
فرارٌ في تكرارْ
شجارٌ مع الأحياءِ
والتاريخ والخيالْ...
وسُمِعَ صراخُكما في وادٍ سحيق
من الويلْ...
أهو احتقارُ الإنسانِ لنفسهِ
أمِ انتحارْ ؟

*******

ونظرتُ إليكما بلهيبٍ من حسرَه
وأنتما تلعبان بالغدِ
في نشوَه
في غفله
وقلت لكما : أنا لست غيْرَه
أنا دمْعَه ، أنا... ، أنا حيْرَه !
وأقسمْتُ لكما... لستُ فِتنه ،
أنا رغبَةٌ
في خيمَه
مأوى الجياعْ
وملجأ المهمّشين وسقفَ العراة...
بسمة ولمسة وقبله
لكل مظلوم وعجوز وصغير...
أنا هذه الأمّ وهذا الطفل ،
أنا هذا الصوتُ هذا القلب ،
أنا هذه الإرادة هذا الشعب ،
أنا يقضانُ بن حيّ العربي  !

*******

أنا كِلمةٌ
حبلى بالجمارْ
أنا رحمةٌ
مُمَرّغةٌ بالرّمادْ
أنا المفاجأةُ أنا الفتُوّه
أنا احْذرا منّي
صعلوكٌ من سُلالة عُرْوَه !




9

الثورات العربية : صعوبة القراءة وهاجس الحقيقة

حمّودان عبدالواحد / فرنسا

  ثمّة سؤال حارق يحيّرُ اليوم كلّ قارىء عربيّ حرّ ونزيه أمام الثورات العربيّة وما تفرزه من أحداث ووقائع وأقوال وردود أفعال...، يمكن تلخيصه فيما يلي : " كيف يمكنُ قراءةُ ما يحدث وما نراه ونسمعه بطريقة موضوعية تسمح لنا أن نقفَ إلى جانب الحقيقة " ؟
       إنّ كلّ إجابة عن هذا السؤال باستعمال عبارات من قبيل " يكفي أنْ... " أو " ما عليك إلا أنْ..." تتعامل معه وكأنّه واضحٌ وبيّنٌ وسهلُ المتناوَل ، هي إجابة ليست فقط خاطئة ، بل هي بالخصوص مُضلّلة ويمكنها أن تقود القارىءَ الحائر المتسائل إلى اتخاذ مواقفَ من شأنها أن تقف إلى جانب من يتلاعبون بالحقائق ويسمحون لأنفسهم بتحريفها  وتزييفها ...
       المسألة تتعلق بكيفية قراءة الثورات العربية بطريقة موضوعية ، وهي مسألة شائكة ومعقدّة وتعترض طريقها العديدُ من الصعوبات ، ولا نساعد القارىءَ ، حين نقول له مثلا : " اِسمع صوتَ عقلك ولا تترك مجالا للقلب والعواطف " ، على تجنّب الوقوع في الخطأ واتخاذ موقفا لصالح الحقيقة. العقل وحده لا يكفي للتعامل بوضوح وصواب مع هذه الصعوبات ، وإلا فكيف سيمكنه معالجة الكمّ الهائل من الأسئلة التي تنحدر من السؤال السابق ؟ ومنها على وجه التحديد : " هل من الممكن التعاملُ مع ما يمرّ به العالمُ  العربي اليوم - من احتجاجات وانتفاضات وثورات ، وما يرافقها من قمع وإراقة للدماء ، والمآسي والفتن والانقسامات المترتبة عنهما - بموضوعية الإنسان الذي لا تحرّكه حوافزٌ سياسية وحزبية أو دوافعٌ إيديولوجية وفكرية أو نعراتٌ مذهبية وطائفية أو انتماءاتٌ اجتماعية وطبقية أوميولاتٌ غربيّة... ؟  هل يوجد من هو قادر على تغييب كلّ هذه العوامل وأخرى مثل المصالح الشخصية والمنافع العائلية أو القبلية والزبونية ، وعدم تفعيلها حين يتكلمُ عن الآخر أو يكتبُ عنه ، حين يتعاملُ معه أو يُصْدِرُ أحكاماً عليه ؟  ما العمل وكيف التعامل مع مبدأ " اتخاذ المواقف " وقد اختلطت الأشياءُ علينا ولم نعد قادرين على أن نفرّق بين الصحيح والخاطىء منها ، بين الحقيقي والمزوّر أو الكاذب منها ؟
       لابُدّ ، من أجل تناول هذا الموضوع بما يلزم من العقلانية والموضوعية ، من منهجية. لهذا من الضروري عدم إهمال الملاحظات الأساسية الآتية :
      - صحيح أنه من المستحيل إقصاء الذاتية في اتخاذ المواقف من الأحداث وإصدار الأحكام على أفعال الناس ، لأنّ الموضوعية لا تعني نفيَ الذات عن الموضوع  أو تصورَ إمكانيةِ وجودِ رأي أو تحليلٍ يتحلّى في معالجته لقضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية أو غيرها بالعلمية المطلقة. فكما أنّه لا وجود على الإطلاق لما يسمّى بالطبيعة الإنسانية كمادّة فطريّة معطاة سلفا ، فكذلك لا وجود للإنسان ككائن علميّ أو عقلانيّ صرف. وهذا يعني أنّ الإنسان كائنٌ ذو طبيعة اجتماعية مكتسبة وأنّ تكوينَه يخضع أساساً لتأثير التاريخ. ( أنظر مثلا ما يقوله عالم النفس الاجتماعي لوسيان مالسون Lucien Malson  في كتابه Les enfants sauvages  )

        - إن اشتغالَ العالم محكومٌ بالضرورة بنفس القانون العام الذي يُحَفّز وينظّم ويوجّه كلّ الخطابات اللغوية وغير اللغوية . وهذا القانون يَظهر في اختباء أناة المخاطِب أو ذاتية المتكلم في نصّ الموضوع ، وتدخل إرادة المرسِل ونيّتِه في أداة ومادة ورسالة الخطاب. فكما أنّ كلّ خطاب هو في الحقيقة تعبيرٌ عن ذاتية الفاعل المتكلم أي الكاتب والمبدع والمفسِّروالصحافي والخطيب...، فكذلك العالم والقوى المتصارعة فيه فيما بينها ، كلّ واحدة منها تحاول أوتريد إماّ اقتراح وإماّ فرض نوع السياسة أو الحكم أو النظام أوالقوانين التي تراها جديرة بالدفاع عن مصالحها ، وتحقيق مشاريعها الثقافية أو الإقتصادية أو السياسية أو العسكريّة .

      - انطلاقا من النقطة السابقة ، لا يخفى على أحد أنّ علاقاتِ القوة بين الدول والأنظمة في العالم غيرُ متوازنة ومتكافئة. فبمقدار ما تتوفر عليه دولة ما من كثرة وقوّة الوسائل المادية والتكنولوجية والعلمية ، والأدوات الفكرية ، والقنوات الثقافية ، والعلاقات الديبلوماسية... ، يكون مقدارُ قدرتها على التدخل في الأحداث الخارجية وتوجيهها فيما من شأنه أن يساعدَها على إرساء الأرضيات المناسبة لخدمة مصالحها... وخير من يمثل هذا في الشرق الأدنى والأوسط  خصوصاً هو دولة إسرائيل ، أمّا عالميا فواضح للجميع أنّ أمريكا تحضى بحصّة الأسد.

     - أمام هذا الواقع ، وفي عصر العولمة ، تزداد مشكلة القارىء العربي الحرّ المتطلع إلى معرفة الحقيقة في التعقيد ، بفعل الاستغلال المكثف الشديد للإنترنت من طرف الدول والقوى المتنافسة فيما بينها قصْدَ الترويج لسياساتها الإقليمية والعالمية وصناعة " الرأي " المتفق معها أوالمساند لها. المشكلة تكمن بالأساس، إذن ، في كوننا نعيش عالما فُتِحَتْ فيه أبوابُ الأخبارعلى مصراعيْها إلى درجةٍ أن أصبحنا يومياً وباستمرارعرضة وابلٍ مكثفٍ وغزير من المعلومات والصور والفيديوهات...،  تقدّم لنا أحداثا ووقائع ووضعيات وحالات ، من الكثرة والاختلاف والتنوع والتناقض ما يجعلنا نكون غيرَ مُستعِدّين ولا قادرين على التعامل معها بكفاءة ولا بموضوعية ، بل تضُرّ بنا وتُسَبّب لكثير منا حالاتِ إحباطٍ ويأس...

         بعد هذه الملاحظات ، أحاول – بسرعة - الإجابة عن السؤال الجوهري الملحاح ، الذي يفرض اليوم نفسَه في العالم العربي لأنّ الأمر يتعلق بمسؤولية كبيرة مُلقاة على عاتق المثقفين والمفكرين والباحثين والصحافيّين الأحرار ومن سار على دربهم : كيف أقرأ كلّ ما يصلني من الأخبار بحذر واحتياط حتى لا أقعَ في فخ الكذب أو التزوير أو تلاعب ومناورات المتصارعين فيما بينهم حول تحقيق أهدافهم ومصالحهم ؟ كيف أعرف أن الخبر صحيص وأن الموضوع أو الحدث المعروض عليّ في الإنترنت هو قضية عادلة أو مسألة تستحق الوقوفَ إلى جانبها والذوذ عنها ؟

        أكتفي هنا بتقديم نقطتيْن هامّتيْن جداّ :

- أوّلا ، على القارىء التخلص من الاعتقاد بمركزية ذاته أي بأنّه القطب الجوهري في الوجود وأن كلّ مجرّات الكواكب وأنظمة الأفكار والحقائق تدور حوله... وهذا الشرط ضروري للتحرّر من ثقل القيود التي تمنع من الانفتاح في الرؤية والوضوح في النظر، وهو وراء إعطاء آذاننا للآخرين ، نسمع لهم وهم يُعَبّرون عن وجهات نظرهم ويعرضون الاسباب التي تدفعهم إلى الاعتقاد بسلامتها وصحّتها أو بواقعيتها.

-  ثانيا ، على القارىء التمييز والتفريق بين نوعيْن من المواضيع ، التي تقبل التأويل والتي لا تقبل التأويل. فالأولى طبيعتها نظرية وقابلة للأخد والردّ ، والجدل ، وتأخذ أصلها من عالم الأفكار وهدفُها التعبيرُ عن رأي في مسألةٍ ما أو قضيةٍ من القضايا ( ما معنى الثورة ؟ ما الحرية ؟  ما هي أسباب الثورة ؟  هل من علاقة بين الدين والثورة ؟ الدين والحرية ؟  الاسلام والديموقراطية ؟ الحرب والسلام ؟... إلخ ). كلّ واحد منّا له فكرة خاصة أو رؤية شخصيّة حول كل مسألة من هذه المسائل ، ويمكنه أن يكون مع أو ضدّ هذه الفكرة أو تلك ، وهو من أجل الدفاع عن وجهة نظره يَسوق دلائلَ وأمثلة تشهد بصحّتها أو جدّيّتها ... ويمكن لهذا النوع من المواضيع أن يتخذ شكل وثيقة مكتوبة ( مقال مثلا )  أو شفهية ( خطبة مثلا ) ، أو مرئية سمعية ( فيلم أو شريط فيديو مثلا ).
         أمّا الصنف الثاني من المواضيع فلا يعبّر عن رأي ، بل يقدّم حدثا وقعَ بالفعل ، ويمكن التأكدُ منه ، إمّا بالمشاهدة ورؤية العين ، وإمّا بالملاحظة والتجربة ، فمأساة عبير يوسف سكافي - الطفلة الفلسطينيّة التي ماتت متأثرة بصدمة عصبية جرّاء منعها من احتضان والدها الأسير في سجن بئر السبع الإسرائيلي  أثناء زيارته - شيء لا يقبل التأويلَ لأنه واقعة حدثتْ بالفعل. ونفس الشيء ينطبق على خطف ناشط السلام الإيطالي فيتّوريو أرّيغوني وضربه وقتله شنقا من طرف جماعة سلفيّة جهاديّة ، كما ينطبق أيضاً على كلّ القتلى الذين سقطوا في سوريا برصاص النظام الحاكم ، وفي بلدان عربيّة أخرى كاليمن وليبيا... إلخ.  القتلى هنا حقيقيّون أي بشر من لحم وعظم ودم ، استُحِِلت حياتُهم تسلطاً ونُهِبَتْ منهم أرواحُهم بعنف وهمجيّة. القتلى ليسوا شخصيات خياليّة تُتابعها وتضع نهاية لحياتها ، في لامبالاة وكبرياء ، قوّاتُ الكوموندو الأمريكية البطلة التي تروّج - داخل برنامج لعب إلكتروني يتسلى به الصغارُ والكبارُ وكل من يبحث عن قتل الوقت بأي وسيلة على الإنترنت – لأفكارها وتصوّرها للعربي المتخلف أو المسلم الإرهابي . قتلى مدينة درعا السوريّة ، مثلا ، التي قطع النظامُ السوري عن سكانها الخبزَ والماء والكهرباء والاتصالات وعن أطفالها الرضع الحليب ، هم حقيقيّون وإنْ كانوا يشبهون شخصيات برامج الألعاب الإلكترونيّة في عمليّات الحصار والمتابعة والتقتيل المفروضة عليهم من طرف قوّات الكوموندو أو الجيش. حذار إذن ، أيّها القارىء ، ليس من الخلط بين الواقع والخيال فأنت لستَ غبيّا كما يظنّ المقامرون بالقيم واللاعبون بأقدار الناس ، وإنّما من نسيان هذه الحقيقة !

       وعلينا هنا أن نحتاط من عدد من الفيديوهات المتعلقة بانتفاضات وثورات العالم العربي التي نشاهدها على الإنترنت ، فهي على الرغم من كونها مرئية ملموسة تراها العينُ ، تخضع لعملية المونتاج ، الشيء الذي يعني أنّ الحلقات المكونة لمادة الفيديو تنتظم فيما بينها بفعل إرادة صانع المونتاج أي أنها تخضع للأغراض التي يرمي من وراءها ... كما أنّ عددا منها – ولا أعطي إحالات مرجعية لبعض منها احتراما لذكاء القارىء وحتى لا اُتّهَمَ بالإنحيازية أيضاً ، وهي موجودة بكثرة - يحمل عناوينَ لا تتناسبُ إلا قليلا مع محتوياتها ، وبعضاً منها يتكلم عن أشياء لا نشاهدها على الشريط. وهي بذلك لا تقنع القارىءَ بل تدفعه إلى التشكيك في مصداقيتها وجدّيتها ، ويدلّ على هذا أنّ تعليقات القرّاء عليها غالبا ما تَسْترسِل في محاولاتِ شرح وتفسير ما جاء فيها دون إقناع من لا يشاطرونهم نفسَ القراءة ، كما أنّ الكثير منهم ينتقدُ هذه الفيديوهات ويرسل الشتائمَ إلى أصحابها فتجيء ردودٌ من قراء آخرين لا يَتفِقون مع المنتقدين فيرمونهم بالغباء أو العمالة أو الوقوف إلى هذه الجهة أو تلك... 

         الحق أنّ الشيطان يوجد في التفاصيل وما أن نبدأ في معالجتها ومناقشتها حتى تقفز إلى الظهور العديدُ من الصعوبات فنتردّد ويصعب علينا الحسمُ في الأمور... لهذا من الأحسن التثبت بالمبادىء الأخلاقية العامة والقيم العليا وحقوق الإنسان التي لا يختلف عليها إثنان والانطلاق منها...فإذا ما اختلطت على المرء الاشياءُ والحقائقُ فلا يعرف ما يفعل وأيّ موقفٍ يتخذ فهناك معيارٌ يمْكِنه أن يُجنّبه الكثيرَ من الأخطاء ، فليحاول أن يلقيَ نظرة فاحصة متأنية على واقع علاقات القوة بين الجهات المتخاصمة أوالمتنازعة ، سيعرف حينئذ من هو القوي ومن هو الضعيف ، من هو المظلوم ، من يستعمل العنف ومن يتظاهر بطريقة سلمية ، من يسجن ويعذب ومن هو الضحية ، من هو القاتل ومن هو المقتول...

      أنا شخصيا اخترتُ أن أكون إلى جانب الضحايا ، المظلومين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة. اخترتُ جانبَ الطفلة الفلسطينيّة الشهيدة عبيرالبريئة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الذي لا قلب له ، جانبَ فيتوريو الانساني ضد قاتليه الحاقدين المتهوّرين ، جانبَ أبناء الشعوب العربية – القابعين من معتقلي الرأي في السجون والمعذبين والمحرومين من حريّتهم والمطالبين بحقوقهم وكرامتهم ، وأترحّم على الذين سقطوا شهداء برصاص جنود أوطانهم - ضدّ جلاديهم وقاتليهم من الحكام وأجهزة الأمن الفتاكة...

       لكن من حقي أن أشكّ في موقف الغرب الذي ، بعد ألف حساب ، قرّر أن يسرق الثورة من المنتفضين في ليبيا ، فاتخذت منعطفا آخر... كما قرّر أن يعامل الثورات بمكياليْن ... والكلّ يعرف أنّ القوى الغربيّة لا تقدّم المساعدة حُبّا في جمال عيون الشعوب العربيّة ، وإنّما انطلاقا من فلسفتها البراغماتية ودائما في إطار " الخطاب " الذي تمثله ، وهوخطابٌ تمتدّ جذورُه بعيداً في التاريخ ...

     وتبقى معرفةُ هذا التاريخ والوعيُ بمدى مفعوله وتأثيره في اتخاذ المواقف والقرارات السياسية الكبرى شيئا ضروريّا لفهم ما يحدث اليوم في العالم العربي والإسلامي ... وهذا موضوع آخر !


حمّودان عبدالواحد / دكتور في علم اللسانيات / أستاذ وباحث يقطن بفرنسا


صفحات: [1]